البحر المديد ، ج 1 ، ص : 472
نصف حظ الذّكر؟ ، فالجواب ، أنه بدأ بالذّكر لفضله ، ولأن القصد ذكر حظه ، ولو قال للأنثيين مثل حظ الذكر لكان فيه تفضيل للإناث. ه «1»
.
الإشارة : كما أوصى الله - تعالى - فى أولاد البشرية ، أوصى على أولاد الروحانية ، ويقع التفضيل فى قسمة الإمداد على حسب التعظيم والمحبة والعطف من الشيخ ، فبقدر ما يقع فى قلب الشيخ ، يسرى إليه المدد ، فقد يأخذ مثل حظ رجلين أو أكثر ، على حسب ما سبق فى القسمة الأزلية. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر حكم البنات إذا انفردن ، فقال :
قلت : أنّث الضمير فى (كن) باعتبار الخبر ، أو يعود على المتروكات ، وما قاله الزمخشري بعيد. ومن قرأ (واحدة) بالرفع ، ففاعل كان التامة ، ومن قرأ بالنصب ، فخبر كان.
يقول الحق جل جلاله : فإن كان المتروك من الأولاد نِساءً ليس معهن ذكور فَوْقَ اثْنَتَيْنِ أي :
اثنتين فما فوق ، فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ ، والباقي للعاصب ، وأخذ ابن عباس بظاهر الآية ، فأعطاهما النصف كالواحدة ، والجمهور على خلافه ، وأن لفظ فَوْقَ زائدة كقوله : فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وقيل : أخذ الثلثين بالسنة ، وإن كانَتْ بنتا واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ، والباقي للعاصب ، وفيه دليل على أن الابن يأخذ جميع المال إذا انفرد لأن له مثل حظ الأنثيين.
الإشارة : انظر البنت ، إذا انفردت أخذت النصف ، وإذا اجتمعت مع غيرها نقص لها ، كذلك أمداد الأشياخ ، من انفرد عندهم وحده ، أخذ أكثر مما إذا اجتمع مع غيره ، لانجماع نظر الشيخ إليه ، وكان شيخنا رضي اللّه عنه يقول له شيخه : ما زال يأتيك الرجال - أي : إخوانك من الفقراء - وكان وحده ، فيقول له : الله لا يجعل أحدا يأتى حتى نشبع.
وكذلك أيضا ، انفراد العبد بالعبادة ، فى وقت الغفلة ، مددها أعظم من كونه مع غيره ، كالمجاهد خلف الفارين.
وكذلك قال عليه الصلاة والسلام : «طوبى للغرباء» ، والله تعالى أعلم.
___________
(1) راجع تفسير ابن جزى.(1/472)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 473
ثم ذكر ميراث الأبوين ، فقال :
قلت : (السدس) مبتدأ ، و(لأبويه) خبر ، و(لكل واحد) ، بدل من (أبويه) ، ونكتة البدل إفادة أنهما لا يشتركان فى السدس ، ولو قال : لأبويه السدس لأوهم الاشتراك.
يقول الحق جل جلاله : إذا مات الولد ، وترك أبويه ، ف لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ذكرا أو أنثى ، واحدا أو متعددا ، للصلب أو ولد ابن ، فكلهم يردّون الأبوين للسدس ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فقط ، فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ، والباقي للأب ، فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ أي : أخوان فأكثر ، سواء كانوا أشقاء أو لأب أو لأم ، أو مختلفين ، فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ، والباقي للأب ، ولا شىء للأخوة معه.
وأخذ ابن عباس بظاهر الآية ، فلم يحجبها للسدس باثنين ، وجعلهما كالواحد ، واحتج بأن لفظ الإخوة جمع ، وأقله ثلاثة ، وأجيب بأن لفظ الجمع ، يقع على الاثنين كقوله : وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ ، إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ ، ولقوله صلّى اللّه عليه وسلم : «الاثنان فما فوقهما جماعة». وهذا كله ، بعد إخراج الوصية وقضاء الدين ، وإنما قدّم الحق - تعالى - الوصية على الدّين ، مع كون الدّين مقدما فى القضاء من رأس المال لأن أرباب الدّين أقوياء ، بخلاف الموصى لهم ، فقدمهم اعتناء بهم.
الإشارة : الروح كالأب ، والبشرية كالأم ، وعقد الصحبة مع الشيخ كالولد ، فإن كان الإنسان له صحبة مع شيخ التربية ، يعنى له ورد منه ، فالبشرية والروحانية سواء ، إذ كلاهما يتهذبان ويتنوران بالأدب والمعرفة الأدب للبشرية ، والمعرفة للروحانية ، إذا استمد بالطاعة الظاهر استمد الباطن ، وبالعكس ، وإن لم يكن عقد الصحبة موجودا كان ميراث البشرية من الحس أقوى كميراث الأم مع فقد الولد ، أو تقول : الإنسان مركب من حس ومعنى ، فالحس كالأم ، والمعنى كالأب ، لأن المعاني قائمة بالحس ، والروح تستمد منهما معا ، فهى كالولد بينهما ، فإن كانت الروح حية بوجود المعرفة ، استمدت منهما معا ، وإن كانت ميتة ، كان استمدادها من الحس أكثر ، كموت الولد فى ميراث الأم.
أو تقول : الإنسان بين قدرة وحكمة ، القدرة كالأب ، والحكمة كالأم ، والقلب بينهما كالولد ، فإن وجد القلب استمدت الروح من القدرة والحكمة ، واستوى نظرها فيهما. وإن فقد القلب غلب على الروح ميراث الحكمة ، كفقد(1/473)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 474
الولد فى ميراث الأم ، وإن كان للقلب إخوة من الأنوار والأسرار يتقوى بهما فللروح من ميراث الحكمة السدس ، والباقي كله للقدرة ، ولا يعرف هذا إلا من حقق معرفة القدرة والحكمة ، ذوقا وكشفا ، وإلّا .. فليسلم لأهل المعرفة.
والله تعالى أعلم.
ثم ذكر الحق تعالى حكمة تقسيم تركة الأب والابن على ما فرض ، وأن ذلك لا يعلمه إلا هو ، فقال :
آباؤُكُمْ ...
يقول الحق جل جلاله : قد بينت لكم ما يرث الأب من ابنه ، وما يرث الولد من أبيه ، ولو وكلت ذلك إليكم لأفسدتم القسمة لأنكم لا تدرون أيهم أقرب نفعا للآخر ، هل الأب أقرب نفعا لابنه ، فتعطوه الميراث كله دون ولد الميت ، أو الولد أقرب نفعا لأبيه ، من الأب لابنه ، فتخصونه بالإرث ، ففرضت ميراث الأب وميراث الولد ، ولم نكل ذلك إليكم. فَرِيضَةً حاصلة مِنَ اللَّهِ ، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بمصالح العباد حَكِيماً بما فرض وقدّر.
وقال ابن عباس : لا تدرون أيهم أطوع لله عز وجل من الآباء والأبناء ، وأرفعكم درجة يوم القيامة ، لأن الله تعالى يشفع المؤمنين فى بعضهم بعضا ، فيشفع الولد فى والديه ، إن كان أرفع درجة منهما ، فيرفعهما الله إليه ، ويشفع الوالدين فى ولدهما ، إن كانا أرفع درجة منه ، فيرتفع إليهما لتقر بذلك أعينهما. ه. بالمعنى.
الإشارة : الإنسان لا تقوم روحانيته إلا ببشريته ، وبشريته إلا بروحانيته ، فلا يدرى أيهما أقرب له نفعا ، لأن البشرية محل للعبودية ، والروحانية محل لشهود عظمة الربوبية ، ولا بد للجمع بينهما ، وكذلك الحس ، لا يقوم إلا بالمعنى ، والمعنى لا يقوم إلا بالحس ، فلا تدرى أيهما أقرب نفعا لك أيها المريد ، فتؤثره ، وإن كانت المعاني هى المقصودة بالسير ، لكن لا تقوم إلا بوجود الحس ، فلا بد من ملاحظته.
وقال الورتجبي هنا ما نصه : أشكل الأمر من تلك الطائفتين ، أيهم يبلغ درجة الولاية والمعرفة الموجبة مشاهدة الله وقربته ، التي لو وقعت ذرة منها لأحد من هذه الأمة لينجو بشفاعته سبعون ألفا بغير حساب ، أي : اخدموا آباءكم وارحموا أولادكم ، فربما يخرج منهم صاحب الولاية ، ليشفع لكم عند الله تعالى ، وحكمة الإبهام هاهنا ليشمل الرحمة والشفقة على الجمهور ، لتوقع ذلك الولي الصادق. ه. قلت : فسر الآباء والأبناء بالحسيين ، وتشمل الآية أيضا الآباء والأبناء المعنويين والروحانيين. والله تعالى أعلم.(1/474)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 475
ثم ذكر ميراث الزوج والزوجة ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 12]
وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
يقول الحق جل جلاله : وَلَكُمْ أيها الأزواج ، من ميراث أزواجكم نِصْفُ ما تركن إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ. فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ وارث ، ذكرا أو أنثى ، مفردا أو متعددا ، من بطنها أو من صلب بنيها أو بنى بنيها وإن سفل ، منكم أو من غيركم ، فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ ، بعد قضاء الدين وإخراج الوصية.
وَلَهُنَّ أي : الزوجات من ميراث الزوج الرُّبُعُ مما ترك إِنْ لَمْ يَكُنْ له ولد لاحق ، ذكرا أو أنثى ، على وزان ما تقدم فى الزوجة ، فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ تنفرد به إن كانت واحدة ، ويقسم بينهن إن تعددن ، ولا ينقص لأهل السهام مما فرض الله لهم إلا ما نقصه العول على مذهب الجمهور ، خلافا لابن عباس ، فإنه لا يقول بالعول.
فإن قيل : لم كرر قوله : مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ مع ميراث الزوج وميراث الزوجة ، ولم يذكره قبل ذلك إلا مرة واحدة فى ميراث الأولاد والأبوين؟ فالجواب : أن الموروث فى ميراث الزوج هو الزوجة ، والموروث فى ميراث الزوجة هو الزوج ، فكل واحدة قضية مستقلة ، فلذلك ذكر ذلك مع كل واحدة ، بخلاف الأول فإن الموروث فيه واحد ، ذكر حكم ما يرث منه أولاده وأبواه ، وهى قضية واحدة ، فلذلك قال فيه : مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ مرة واحدة.
قاله ابن جزى. قال البيضاوي : فرض للرجل بحق الزواج ضعف ما للمرأة كما فى النسب ، وهكذا قياس كل رجل وامرأة ، إذا اشتركا فى الجهة والقرب ، ولا يستثنى منه إلا أولاد الأم والمعتق والمعتقة. ه.
الإشارة : إذا ماتت النفس ، ولم تبق لها بقية ، وورثت الروح ما كان لها من العلوم الكسبية : النقلية والعقلية ، وأضافته إلى مالها من العلوم الوهبية ، فانقلب الجميع وهبيا ، قال بعض شيوخ أشياخا : (كنت أعرف أربعة عشر علما ، فلما دخلت علم الحقيقة سرطت ذلك كله ، فلم يبق إلا الكتاب والسنة) ، أو كما قال. وقال أبو سليمان الداراني :
إذا اعتقدت النفوس على ترك الآثام ، جالت فى الملكوت ، ثم عادت إلى صاحبها بطرائف العلوم ، من غير أن يؤدى إليها عالم علما.(1/475)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 476
فإن بقي للنفس بقية ، نقص ميراث الروح منها ، بقدر البقية ، كما أن الزوج ينقص ميراثه مع الفرع ، وكذلك إذا ماتت الروح بالرجوع عن طريق الجد ، ورثت النفس ما كان لها من العلوم الوهبية ، والمعاني والأسرار القدسية ، فتأكلها ، وتردها نقلية حسية ، بعد أن كانت وهبية ذوقية ، فتتحسس المعاني ، وتتكثف الأوانى. والعياذ بالله من السلب بعد العطاء ، إلا أن ميراث النفس من الروح أقوى ، فإن بقي للروح شىء من الحياة ، نقص ميراث النفس منها ، كنقص الزوجة مع الفرع من ميراث الزوج ، والله تعالى أعلم.
ثم ذكر ميراث الأخ للأخ ، فقال :
وَإِنْ كانَ رَجُلٌ ...
قلت : الكلالة : انقطاع النسل ، بحيث لم يبق للميت فرع ولا أصل ، لا ذكر ولا أنثى ، وهو مصدر من تكلّله النسب ، إذا أحاط به كالإكليل ، لأن ورثته أحاطوا به وليسوا منه. ونظم بعضهم معنى الكلالة ، فقال :
إن امرؤ يسأل عن كلالة هو انقطاع النّسل لا محالة
لا والد يبقى ولا مولود قد هلك الأبناء والجدود
فتحتمل أن تطلق هنا على الميت ، أو على الورثة ، أو على الوراثة ، أو على القرابة أو على المال. فإن كانت على الميت ، فإعرابه خبر كان ، و(يورث) صفة ، أو (يورث) خبر كان ، و(كلالة) حال من الضمير فى (يورث) ، أو «كان» تامة ، و(يورث) صفة و(كلالة) حال من الضمير. وإن كانت على الورثة ، فهو خبر كان ، على حذف مضاف أي : ذا كلالة ، وإن كانت الوراثة فهو مصدر فى موضع الحال ، وإن كانت القرابة ، فهو مفعول من أجله ، أي : يورث من أجل القرابة. وإن كانت للمال ، فهو مفعول ثان ليورث ، وكل من هذه يحتمل أن تكون «كان» تامة أو ناقصة. قاله ابن جزى. و(غير مضار) ، منصوب على الحال ، أو العامل فيه (يوصى) ، و(مضار) اسم فاعل ، ووصية : مصدر ليوصى ، أو مفعول (مضار).
يقول الحق جل جلاله : وإن كان الميت رجلا أو امرأة ، يورثان كلالة ، بحيث لا فرع لهما ولا أصل ، قد انقطع عمود نسبهما ، ولهما أخ أو أخت لأم فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ. فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ(1/476)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 477
، الذكر والأنثى سواء ، لأن الإدلاء للميت بمحض الأنوثة ، ومفهوم الآية : أنهما لا يرثان مع الأم والجدة ، كما لا يرثان مع البنت وبنت الابن ، إذ ليس حينئذ بكلالة ، وإنما قيدنا الأخ والأخت بكونهما للأم لأن الأخ الشقيق أو للأب سيأتى فى آخر السورة. والأخت تقدم أنّ لها النصف ، وأيضا : قد قرأ سعد بن أبى وقاص ، وابن مسعود : «وله أخ أو أخت لأم».
وهذا كله مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ حال كونه غَيْرَ مُضَارٍّ فى الوصية أو الدين ، كالوصية بأكثر من الثلث ، أو للوارث ، أو فرارا منه ، فإن علم أنه قصد الإضرار ، رد ما زاد على الثلث ، واختلف فى رد الثلث على قولين. قاله ابن جزى. وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ ، أي : نوصيكم وصية ، أو غير مضار وصية من الله. قال ابن عباس : (الإضرار فى الوصية من الكبائر). وَاللَّهُ عَلِيمٌ بمصالح عباده ، يقسم المال على حسب المصلحة ، حَلِيمٌ لا يعاجل بالعقوبة من خالف حدوده.
الإشارة : اعلم أن الأخوة فى الشيخ كالأخوة فى النسب ، لأنهم يرضعون من ثدى واحدة ولبن واحد ، فإن مات أحدهم ، ورث أخوه المدد الذي كان يأخذه من شيخه ، وكذا إذا رجع - فإنه موت - فينقلب المدد إلى أخيه ، ومثاله كماء فرّق على قواديس ، فإذا انسدت إحدى القواديس رجع الماء إلى الأخرى ، فإن كانوا أكثر من واحد فهم شركاء فى ذلك المدد ، والله تعالى أعلم.
ثم حذّر الحق - تعالى - من مخالفة ما حدّ فى الوصايا والمواريث ، فقال :
[سورة النساء (4) : الآيات 13 الى 14]
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14)
قلت : توحيد الضمير فى (ندخله) «1» مراعاة للفظ (من). وجمع الحال فى (خالدين) مراعاة للمعنى.
و(خالدين) و(خالدا) : حال مقدرة من ضمير (ندخله) ، كقولك : مررت برجل معه صقر صائدا به غدا ، وليسا صفتين لجنات ونارا ، وإلا لوجب إبراز الضمير لأنهما جرتا على غير من هما له.
___________
(1) قرأ نافع وابن عامر «ندخله» بالنون ، وقرأ الآخرون بالياء.(1/477)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 478
يقول الحق جل جلاله : تِلْكَ الأحكام التي شرعناها لكم فى أمر الوصايا والمواريث ، هى حُدُودُ اللَّهِ حدّها لكم لتقفوا معها ولا تتعدوها وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ فيما أمر به وحدّه ، وَرَسُولَهُ فيما شرّعه وسنّه يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها. وَذلِكَ هو الْفَوْزُ أي : الفلاح الْعَظِيمُ ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ فيما أمر ونهى ، وَرَسُولَهُ فيما شرعه ، وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ التي حدها ، فتجاوز إلى متابعة هواه ، يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ. وهذا إذا أنكر مشروعيتها فيكون كافرا ، وإلّا كان عاصيا فى حكم المشيئة ، ومذهب أهل السنة أنه لا يخلد ، وحملوا الآية على الكافر ، أو عبارة عن طول المدة ، كما فى قاتل النفس. والله تعالى أعلم.
الإشارة : قد حدّ الحق - جل جلاله - لأهل الشريعة الظاهرة حدودا قام ببيانها العلماء ، وحدّ لأهل الحقيقة - وهى سر الولاية - حدودا ، قام بها الأولياء ، فمن قام بحدود الشريعة الظاهرة كان من المؤمنين الصالحين ، ومن تعداها كان من العاصين الظالمين ، ومن قام بحدود الحقيقة الباطنية ، وصحب أهلها كان من المحسنين العارفين المقربين ، ودخل جنة المعارف ، ومن تعدّ حدود الحقيقة ، أو لم يصحب أهلها كان من عوام أهل اليمين ، وله عذاب الحجاب فى غم الحساب ، وقال فى الحاشية : فى حد حدوده إشارة للعبودية ، فى إخراج كل عن نظره واختياره ، ثم انقياده وذلته لحكم ربه ، والوقوف عند حدوده.
وقال الورتجبي : قيل : (تلك حدود الله) أي : الإظهار من الأحوال للمريدين على حسب طاقتهم لها ، فإن التعدي فيها يهلكهم ، وقال أبو عثمان : ما هلك امرؤ لزم حده ولم يتعد طوره. ه. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ولمّا فرغ الحق تعالى من الأمر بحفظ الأموال ، شرع فى الكلام على حفظ الأنساب ، وقدّم الكلام أولا على الزنى إذ به تختلط الأنساب ، ويختل نظام حفظها ، ثم تكلم بعد على النكاح وما يحرم من النساء وما يحل ، فقال :
[سورة النساء (4) : الآيات 15 الى 16]
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16)
يقول الحق جلا جلاله : وَالنساء اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ أي : الزنى ، سمّى فاحشة لفحش قبحه وبشاعة فعله شرعا ، مِنْ نِسائِكُمْ المسلمات ، فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أي : اطلبوا من رماهنّ بذلك أن يشهدوا(1/478)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 479
عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ ، أي : من عدول المؤمنين يرونهما كالمرود فى المكحلة ، وإنما جعلوا أربعة مبالغة فى الستر على المؤمن ، أو ليكون على كل واحد اثنان ، فَإِنْ شَهِدُوا عليهن بذلك فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ ، واجعلوه سجنا لهن حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أي : يستوفى أجلهن الموت ، أو يتوفاهن ملك الموت ، أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا كتعيين الحد المخلّص من السجن ، وكان هذا فى أول الإسلام ثم نسخ بما فى سورة النور من الحدود ، ويحتمل أن يراد التوصية بإمساكهن بعد أن يجلدن كى لا يعدن إلى الزنى بسبب الخروج والتعرض للرجال.
واكتفى بذكر حدّهن ، بما فى سورة النور ، وهذا الإمساك كان خاصا بالنساء بدليل قوله وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ أي : الزاني والزانية منكم ، (فآذوهما) بالتوبيخ والتقريع - (فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما) أي :
اقطعوا عنهما الأذى ، أو أعرضوا عنهما بالإغماض عن ذكر مساوئهما.
قيل : إن هذه الآية سابقة على الأولى نزولا ، وكان عقوبة الزنى الأذى ثم الحبس ثم الجلد ، وقيل ، الحبس فى المساحقات ، والإيذاء فى اللواطين ، وما فى سورة النور فى الزناة. والذي يظهر. أن الحكم كان فى أول الإسلام فى الزنا : الإمساك للنساء فى البيوت بعد الإيذاء بالتوبيخ ، فتمسك فى بيتها حتى تموت ، أو يجعل الله لها سبيلا بالتزوج بمن يعفها عنه. والإيذاء للرجال بالتعيير والتقريع والتحجيم حتى تتحقق توبته ، ثم نسخ ذلك كله بالحدود ، وهو جلد البكر مائة وتغريبه عاما ورجم المحصن. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ينبغى للعبد ، إذا طغت عليه نفسه ، وأرادت ارتكاب الفواحش ، أن يستشهد عليها الحفظة ، الذين يحفظون عليه تلك المعاصي ، فإن لم تستح ، فليعاقبها بالحبس فى سجن الجوع والخلوة والصمت ، حتى تموت عن تلك الشهوات ، أو يجعل الله لها طريقا بالوصول إلى شيخ يغيّبه عنها ، أو بوارد قوى من خوف مزعج أو شوق مقلق ، فإن تابت وأصلحت ، أعرض عنهاو اشتغل بذكر الله ، ثم يغيب عما سواه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر الحق تعالى وقت التوبة التي تقبل ، فقال :
[سورة النساء (4) : الآيات 17 الى 18]
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18)(1/479)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 480
يقول الحق جل جلاله : إِنَّمَا التَّوْبَةُ التي يستحق عَلَى اللَّهِ قبولها فضلا وإحسانا هى لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ أي : المعاصي متلبسين بِجَهالَةٍ أي : سفاهة وجهل وسوء أدب ، فكل من اشتغل بالمعصية فهو جاهل بالله ، قد انتزع منه الإيمان حتى يفرغ ، وإن كان عالما بكونها معصية ، ثُمَّ يَتُوبُونَ بعد تلك المعصية مِنْ قَرِيبٍ أي : من زمن قريب ، وهو قبل حضور الموت لقوله بعد : حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ، وقوله - عليه الصلاة والسلام - : «إنّ اللّه يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» وإنما جعله قريبا لأن الدنيا سريعة الزوال ، متاعها قليل وزمانها قريب ، فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ تصديقا لوعده المتقدم ، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بإخلاصهم التوبة ، حَكِيماً فى ترك معاقبة التائب ، إذ الحكمة هى وضع الشيء فى محله.
وعن الحسن : قال : قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : «لما أهبط إبليس قال : وعزتك وعظمتك لا أفارق ابن آدم حتى تفارق روحه جسده ، قال الله تعالى : وعزتى وعظمتى لا أحجب التوبة عن عبدى حتى يغرغر بها». وعن أبى سعيد الخدري أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : «إنّ الشيطان قال : وعزتك لا أبرح أغوى عبادك ، ما دامت أرواحهم فى أجسادهم. قال الله تعالى : وعزتى وجلالى وارتفاع مكانى لا أزال أغفر لهم ما استغفرونى».
قال ابن جزى : وإذا تاب العبد توبة صحيحة بشروطها ، فيقطع بقبول توبته عند جمهور العلماء. وقال أبو المعالي : يغلب ذلك على الظن ولا يقطع. ه.
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ مقبولة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ أي : بلغت الحلقوم قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ فلا توبة لهم ، أُولئِكَ أَعْتَدْنا أي : أعددنا وهيأنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ، قال البيضاوي : سوّى الحق تعالى بين من سوّف التوبة إلى حضور الموت من الفسقة ، وبين من مات على الكفر فى نفى التوبة للمبالغة فى عدم الاعتداد بها فى تلك الحالة ، وكأنه يقول : توبة هؤلاء وعدم توبة هؤلاء سواء. وقيل : المراد بالذين يعملون السوء : عصاة المؤمنين ، وبالذين يعملون السيئات : المنافقون لتضاعف كفرهم ، وبالذين يموتون : الكفار. ه.
الإشارة : توبة العوام ليست كتوبة الخواص ، إنّ الله يمهل العوام ترغيبا لهم فى الرجوع ، ويعاقب الخواص على التأخير على قدر مقامهم فى القرب من الحضرة ، فكلما عظم القرب عظمت المحاسبة على ترك المراقبة ، منهم من يسامح له فى لحظة ، ومنهم فى ساعة ، ومنهم فى ساعتين ، على قدر المقام ، ثم يعاتبهم ويردهم إلى الحضرة.
وقال شيخ شيوخنا سيدى عبد الرحمن الفاسى فى حاشيته : إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ أي : إنما الهداية بعد الذلة ، على الله لأنه الذي يخلص من قهره بكرمه الفياض وبرحمته التي غلبت غضبه ، كما قال تعالى : (1/480)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 481
كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ، ونبه على وقوع الذنب بهم قهرا ، ثم تداركهم بالهداية والإنابة ، فضلا على علمه بتربيتهم وتدريجهم لمعرفته بالعلم والحكمة بقوله : وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً. ه.
ثم شرع فى أحكام النكاح ، وبدأ بالعضل لأنه يتعذر معه العقد ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 19]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19)
قلت : أصل العضل : التضييق ، يقال : عضلت الدجاجة ببيضها إذا ضاقت ، ثم أطلق عرفا على منع المرأة من التزوج.
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يحل لكم أن تمنعوا النساء من النكاح لترثوا ما لهن كَرْهاً. قال ابن عباس : كانوا فى الجاهلية إذا مات الرجل ، وله امرأة ، كان قريبه من عصبته أحق بها من نفسها ومن غيره ، فإن شاء تزوجها من غير صداق ، إلا الصداق الأول الذي أصدقها الميت ، وإن شاء زوّجها غيره وأخذ صداقها ولم يعطها شيئا ، وإن شاء عضلها وضيّق عليها لتفتدى منه بما ورثت من الميت ، أو تموت فيرثها ، وإن ذهبت إلى أهلها قبل أن يلقى ولىّ زوجها ثوبه عليها فهى أحق بنفسها. فكانوا على ذلك فى أول الإسلام ، حتى توفى أبو قيس بن الأسلت الأنصاري ، وترك امرأته «كبشة بنت معن الأنصارية» ، فقام ابن له من غيرها فطرح ثوبه عليها ، ثم تركها ولم يقربها ، ولم ينفق عليها ، يضارّها لتفتدى منه ، فأتت إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أبا قيس توفى وورث نكاحى ابنه ، وقد أضرّ بي وطوّل علىّ ، فلا هو ينفق علىّ ولا يدخل بي ، ولا يخلى سبيلى ، فقال لها النبي صلّى اللّه عليه وسلم : «اقعدى فى بيتك حتى يأتى فيك أمر الله». قالت : فانصرفت وسمعت بذلك النساء فى المدينة فأتين النبي صلّى اللّه عليه وسلم وهو فى مسجد الفضيخ ، فقلن : يا رسول الله : ما نحن إلا كهيئة كبشة ، غير أنه لا ينكحنا الأبناء ، ونكحنا أبناء العم ، فنزلت الآية. فمعنى الآية على هذا : لا يحل لكم أن تجعلوا النساء يورثن عن الرجال كما يورث المال.
وقيل : الخطاب للأزواج الذين يمسكون المرأة فى العصمة ليرثوا مالها ، من غير غبطة بها ، وإنما يمسكها انتظارا لموتها ، وقيل : الخطاب للأولياء الذين يمنعون ولياتهم من التزوج ليرثوهن دون الزوج.
وَلا يحل لكم أيضا أيها الأزواج أن تَعْضُلُوهُنَّ ، أي : تحبسوهن من غير حاجة لكم فيهن لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ من الصداق افتداء فيه بإضراره. قال ابن عباس رضي اللّه عنه : (هى أيضا فى الأزواج الذين(1/481)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 482
يمسكون المرأة ويسيئون عشرتها حتى تفتدى بصداقها) ، إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ، كالنشوز وسوء العشرة وعدم العفة ، فيحل له حينئذ حبسها حتى تفتدى منه بصداقها ، فيأخذه خلعا على مذهب مالك. والله تعالى أعلم.
الإشارة : لا يحل للمريد أن يضيق على نفسه تضييقا يفضى إلى العطب ، فالنفس كالبهيمة : علفها واستخدامها ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : «لا يكن أحدكم كالمنبت ، لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى».
فبعض الناس يسمعون أن من ضيّق على نفسه أورثته العلوم ، فيضيق عليها تضييقا فاحشا ليرث ذلك منها كرها ، وإنما يمنعها من شهواتها الزائدة على قيام البنية ، إلا أن تأتى بفاحشة مبينة ، بحيث تطغى عليها ، فيضيق عليها بما لا يفضى إلى الهلاك ، وهذا كله إنما ينفعه إذا صح ملكه لها بالعقد الصحيح من الشيخ الكامل ، وإلّا كان تعبه باطلا ، كمن يريد أن يرى امرأة غيره أو دابة غيره. والله تعالى أعلم.
ثم أمر الحق تعالى بحسن العشرة مع النساء ، فقال :
وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ...
يقول الحق جل جلاله : وعاشروا النساء بِالْمَعْرُوفِ بأن تلاطفوهن فى المقال وتجملوا معهن فى الفعال ، أو يتزيّن لها كما تتزين له. قال الورتجبي : كونوا فى معاشرتهن فى مقام الأنس وروح المحبة ، وفرح العشق حين أنتم مخصوصون بالتمكين والاستقامة والولاية ، فإن معاشرة النساء لا تليق إلا فى المستأنس بالله ، كالنبى صلّى اللّه عليه وسلم وجميع المستأنسين من الأولياء والأبدال ، حيث أخبر صلّى اللّه عليه وسلم عن كمال مقام أنسه بالله ورؤيته لجمال مشاهدته حيث قال : «حبّب إلىّ من دنياكم ثلاث : الطيب ، والنساء ، وجعلت قرة عينى فى الصلاة.» «1»
ثم قال : عن ذى النون : المستأنس بالله يستأنس بكل شىء مليح ووجه صبيح ، وبكل صوت طيب وبكل رائحة طيبة. ثم قال : عن ابن المبارك : العشرة الصحيحة : ما لا يورثك الندم عاجلا ولا آجلا ، وقال أبو حفص : المعاشرة بالمعروف : حسن الخلق مع العيال فيما ساءك. ه.
فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فاصبروا فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً إما ولدا صالحا أو عاقبة حسنة فى الدين. قال ابن عمر : إن الرجل يستخير الله فيخار له فيسخط على ربه ، فلا يلبث أن ينظر فى العاقبة فإذا هو قد خير له. ه. حكى أن أبا الإمام مالك رضي اللّه عنه تزوج امرأة فدخل عليها فوجدها سوداء ، فبقى متفكرا
___________
(1) الحديث أخرجه أحمد والنسائي والحاكم وغيرهم : بدون لفظ : «ثلاث». وقال الحافظ ابن حجر. وليس فى شىء من طرقه لفظ «ثلاث». انظر : الفتح السماوي.(1/482)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 483
ولم يقربها ، فقالت له : هل استخرت ربك؟ فقال : نعم ، فقالت : أتتّهم ربك ، فدخل بها ، فحملت بالإمام مالك صاحب المذهب. وقال صلّى اللّه عليه وسلم : «لا يفرك مؤمن مؤمنة - أي لا يبغضها - إن سخط منها خلقا رضى منها آخر». قال الورتجبي : قيل : غيب عنك العواقب لئلا تسكن إلى مألوف ، ولا تفر من مكروه.
الإشارة : إذا طهرت النفس من البقايا ، وكملت فيها المزايا ، وانقادت بكليتها إلى مولاها ، وجب الإحسان إليها والصلح معها ومعاشرتها بالمعروف ، فإنما تجب مجاهدتها ما دامت كافرة فإذا أسلمت وانقادت وجب محبتها والإحسان إليها. فإن كرهتها فى حال اعوجاجها فجاهدتها ورضتها حتى استقامت كان فى عاقبة ذلك خير كثير ، وعادت تأتى إليك بالعلوم اللدنية تشاهد فيها أسرارا ربانية.
قال الورتجبي : كل أمر من الله - سبحانه - جاء على مخالفة النفس امتحانا واختبارا ، والنفس كارهة فى العبودية فإذا ألزمت عليها حقوق الله بنعت الرياضة والمجاهدة واستقامت فى عبودية الله ، أول ما يطلع على قلبك أنوار جنان القرب والمشاهدة ، قال الله تعالى : وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى ، وفى أجواف ظلام المجاهدة للعارفين شموس المجاهدات وأقمار المكاشفات. ه. المراد منه.
فإذا لم يصبر العبد على أذى زوجته ، وأراد فراقها ، فلا بد أن يؤدى إليها صداقها ، كما أشار إلى ذلك الحق جل جلاله ، فقال :
[سورة النساء (4) : الآيات 20 الى 21]
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21)
قلت : «بهتانا» : حال ، أو على إسقاط الخافض.
يقول الحق جل جلاله : وَإِنْ أَرَدْتُمُ أن تبدلوا زوجا مَكانَ زَوْجٍ أخرى بأن تطلقوا الأولى وتتزوجوا غيرها ، وقد كنتم أعطيتم إِحْداهُنَّ قِنْطاراً أو أقل أو أكثر ، فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً بل أدوه لها كاملا. ثم وبّخهم على ما كانوا يفعلون فى الجاهلية ، فقال : أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً ، أي : مباهتين وآثمين ، أو بالبهتان والإثم الظاهر ، والبهتان : الكذب الذي يبهت المكذوب عليه ، روى أن الرجل كان إذا أراد أن يتزوج امرأة(1/483)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 484
جديدة ، بهت التي عنده بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه فى تزوج الجديدة ، فنهوا عن ذلك.
ثم استعظم ذلك فقال : وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ بالمماسة والجماع حتى تقرر الصداق واستحقته بذلك ، وقد أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً وهو حسن الصحبة ، أو الإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان ، أو تمكينها نفسها منه ، فإنها ما مكنته إلا لوفاء العهد فى الصداق ودوام العشرة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : إذا كان العبد مشتغلا بجمع دنياه ، عاكفا على حظوظه وهواه ، ثم استبدل مكان ذلك الانقطاع إلى مولاه والاشتغال بذكر الله ، حتى أفضى إلى شهود أنوار قدسه وسناه ، فلا ينبغى أن يرجع إلى شىء خرج عنه لله.
ولا يلتفت إلى ما ترك من أمر دنياه ، فإن الرجوع فى الشيء من شيم اللئام وليس من شأن الكرام ، وتأمل ما قاله الشاعر :
إذا انصرفت نفسى عن الشيء لم تكن إليه بوجه آخر الدهر تقبل
وكيف تأخذ ما خرجت عنه لله ، وقد أفضيت إلى شهود أنوار جماله وسكنى حماه ، فاتحد عندك كل الوجود ، وكل شىء عن عين بصيرتك مفقود ، بعد أن أخذ عليك مواثيق العهود ، ألا ترجع إلى ما كان يقطعك عن حضرة الشهود ، وبالله التوفيق. وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم شرع يتكلم على ما يحرم من النساء ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 22]
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22)
قلت : أوقع «ما» على ما يعقل لقلة عقل النساء ، كما تقدم «1» ، أو مصدرية ، والاستثناء منقطع أو متصل على وجه المبالغة فى التحريم ، أي لا تنكحوا ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف لآبائكم إن قدرتم عليه ، فهو كقول الشاعر :
لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب «2»
يقول الحق جل جلاله : ولا تتزوجوا ما تزوج به آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ بالعقد فى الحرائر والوطء فى الإماء ، إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ فإن الله قد عفا عنكم بعد فسخه وردّه ، إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً عظيمة عند الله ،
___________
(1) راجع : تفسير قوله تعالى : وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى .. الآية (3) من هذه السورة.
(2) البيت للنابغة الزبيانى.(1/484)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 485
ما أحله لأحد من الأمم قبلكم ، وَمَقْتاً أي : ممقوتا فاعله عند الله وعند ذوى المروءات من عباد الله ، وكان يسمى ولد الرجل من امرأة أبيه مقيتا ومقتيّا. وَساءَ سَبِيلًا ، وبئس طريقا لمن يريد أن يسلكه بعد التحريم.
فالمراد بالنكاح فى الآية : العقد ، فعلى هذا لا تحرم المرأة على الولد إذا زنا بها أبوه على المشهور ، قال فى الرسالة :
ولا يحرم بالزنا حلال. ه.
الإشارة : ما جرى فى آباء البشرية يجرى فى آباء الروحانية من طريق الأدب لا من طريق الشرع ، فلا ينبغى للمريد أن يتزوج بامرأة شيخه ، مات عنها أو طلقها ، فإن ذلك قبيح ومقت عند أرباب الأدب ، وأما بنت الشيخ فإن قدر على القيام بتعظيمها فلا بأس ، وقد تزوج سيدنا على - كرم الله وجهه - بنت سيدنا رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم ، لكن السلامة فى الترك أكثر.
وهنا إشارة أخرى أرق ، وهى أن يشير بالنساء إلى الأحوال ، فلا ينبغى للفقير أن يتعاطى أحوال الشيخ ، ويفعل مثله. فإن الشيخ فى مقام وهو فى مقام ، فإذا رجع الشيخ إلى الأسباب وتعاطى العلويات ، فلا يقتدى به. إلا أن يدرك مقامه ، وكان شيخ شيخنا يقول : (لا تقتدوا بالأشياخ فى أفعالهم ، وإنما اقتدوا بهم فى أقوالهم ، فإن أقوالهم لكم ولهم ، وأفعالهم خاصة بهم). إلا ما قد سلف لهم من الأحوال فى حال سيرهم ، فخذوها وسيروا من حيث ساروا ، حتى تدركوا ما أدركوا ، وافعلوا ما شئتم. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر بقية المحرمات ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 23]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23)
قلت : «كتاب الله عليكم» : مصدر مؤكد. أي : كتب الله ذلك كتابا ، أو على الإغراء.(1/485)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 486
يقول الحق جل جلاله : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ من النساء أصناف : منها بالنسب ومنها بالرضاع ومنها بالمصاهرة : فأما التي تحرم بالنسب فهى أُمَّهاتُكُمْ ، وهى الأم ، والجدة من الأم ومن الأب ما علون ، وَبَناتُكُمْ وهى البنت وبنت الابن ، وبنت البنت ما سفلن ، وَأَخَواتُكُمْ وهى الأخت الشقيقة والتي للأب والأخت للأم ، (و عماتكم) وهى أخت الوالد وأخت الجد ما علت ، شقيقة أو لأب أو لأم ، وَخالاتُكُمْ وهى أخت الأم وأخت الجدة ما علت ، شقيقة أو لأب أو لأم ، وَبَناتُ الْأَخِ الشقيق ، أو للأب ، وما تناسل منهم. وَبَناتُ الْأُخْتِ ، فيدخل كل ما تناسل من الأخت الشقيقة أو للأب أو للأم.
والضابط فى ذلك : أنه يحرم على الرجل أصوله وإن علت ، وفصوله وإن سفلت ، وفصول أبويه ما سفلت ، وأول فصل من كل أصل متقدم على أبويه.
ثم ذكر ما يحرم بالرضاع ، فقال : وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ ذكر تعالى صنفين ، وحرمت السّنّة كل ما يحرم من النسب. قال صلّى اللّه عليه وسلم : «يحرم من الرّضاع ما يحرم من النّسب» فيدخل الأصناف السبعة ، وهى الأم من الرضاع والبنت والأخت والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت.
ثم ذكر ما يحرم بالمصاهرة ، فقال : وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ ، وتقدمت زوجة الأب ، وسيأتى حليلة الابن ، وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ لا مفهوم لهذا القيد ، لكنه جرى مجرى الغالب ، فهى محرمة ، كانت فى حجره أم لا ، على قول الجمهور ، وروى عن على رضي اللّه عنه أنه أجاز نكاحها إن لم تكن فى حجره. وأما قوله :
اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فهو معتبر إجماعا ، فلو عقد على المرأة ولم يدخل بها ، فله طلاقها ويأخذ ابنتها ، ولذلك قال : فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أن تنكحوهن.
وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ وهى التي عقد عليها الابن فحلت له ، فتحرم على الأب بمجرد العقد. والحاصل : أن زوجة الأب وزوجة الابن وأم الزوجة يحرمن بالعقد ، وأما بنت المرأة فلا تحرم إلا بالدخول بأمها ، فالعقد على البنات يحرم الأمهات ، والدخول بالأمهات يحرم البنات. وقوله تعالى : الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ احترز به من زوجة المتبنّى فلا تحرم حليلته ، كقضية زيد مع رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم.
وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ، شقيقتين أو للأب أو للأم ، وهذا فى النكاح ، وأما فى الملك دون الوطء فلا بأس ، أما فى الوطء فمنعه مالك والشافعي وأبو حنيفة ، وأجازه الظاهرية ، إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ أي : فى الجاهلية ، فقد عفا عنكم ، إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ، قال ابن عباس : (كانت العرب تحرم كل ما حرمت الشريعة إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين ، فلذلك ذكر الحق تعالى : إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ فيهما.(1/486)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 487
[سورة النساء (4) : آية 24]
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24)
وَحرم الله تعالى - الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ وهنّ اللاتي فى عصمة أزواجهن ، فلا يحل نكاحهن ما دمن فى عصمة الزوج ، إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من الغنيمة ، فإذا سبيت الكافرة ، ولها زوج ، جاز لمن ملكها أن يطأها بالملك بعد الاستبراء ، قال فى المختصر : وهدم السبي النكاح ، إلا أن تسبى وتسلم فى عدتها فهو أحق بها ، وقد بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم جيشا إلى أوطاس ، فأصابوا سبيا من العدو ، ولهن أزواج من المشركين فتأثموا من غشيانهن ، فنزلت الآية مبيحة لذلك ، كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي : كتب الله ذلك عليكم كتابا ، وهو ما حرّم فى الآية من النساء.
الإشارة : اعلم أن الإنسان لا يصير كاملا عارفا حتى يولد ثلاث مرات بعد الأم الحسية ، أولها : خروجه من بطن حب الدنيا الدنية ، ثم من الغفلة والشهوات الجسمانية ، ثم من ضيق الأكوان الظلمانية ، إلى فضاء المشاهدة والمعاينة ، وقال بعض الأولياء : (ليس منا من لم يولد مرتين) : فاعتبر الأولى والثالثة ، فإذا خرج الإنسان من هذه البطون حرّم الله عليه نكاحها والرجوع إليها.
وكذا يحرم عليه الرجوع إلى ما تولد منه من الزلات ، والأحوال الظلمانية ، وما كان ألفه وتواخى معه من البطالات والمألوفات ، وما وجد عليه أسلافه من التعصبات والحميات والرئاسات ، ولا فرق بين ما واجهه من ذلك من قبل الآباء والأمهات ، وكذلك ما ارتضع من ثدى الشهوات من لبان الغفلة ، وتراكم الأكنّات «1» ، فليبادر إلى نحريمها ، وفطام نفسه عنها ، قبل تحكمها ، كما قال البوصيرى رضي اللّه عنه :
والنّفس كالطّفل إن تهمله شبّ على حبّ الرّضاع وإن تفطمه ينفطم
وكذا يحرم عليه ، صحبة من ارتضع معه فى هذا الثدي قبل الفطام من الأخوة والأخوات ، وكذا أمهات الخطايا ، وهى حب الدنيا والرياسة والجاه ، وكذلك حرمت عليكم ربائب العلائق والعوائق ، لتدخلوا بلاد الحقائق ، فإن لم تكونوا من أهل الحقائق فلا جناح عليكم إذ كنتم من عوام الخلائق ، وكذلك يحرم عليكم ما حل لأبناء جنسكم من تعاطى الأسباب والاشتغال بها عن خدمة رب الأرباب ، وأن تجمعوا بين حب الدنيا ومحبة المولى. قال الشافعي رضي اللّه عنه : (من ادّعى أنه جمع بين حب الدنيا وحب خالقها ، فقد كذب).
إلا ما قد سلف فى أيام البطالة ، وكذا يحرم على المريد المتجرد المستشرف على المعاني تعاطى العلوم الظاهرة ، التي دخل بها أهل الظاهر وافتضوا بكارتها - إلا ما ملكه قبل التجريد ، فلا يضره إن غاب عنها فى أسرار التوحيد ، والله تعالى أعلم بأسرار غيبه.
___________
(1) الأكنات : الأغطية.(1/487)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 488
ثم ذكر الحق تعالى ما يحل من النساء ، فقال :
وَأُحِلَّ لَكُمْ ...
قلت : «وأحلّ» عطف على الفعل العامل فى «كتاب الله عليكم» أي : كتب الله عليكم تحريم ما ذكر ، وأحل ما سوى ذلك. ومن قرأ بالبناء للمفعول فعطف على «حرمت». و(أن تبتغوا) مفعول لأجله ، أي : إرادة أن تبتغوا. أو بدل من (وراء ذلكم). و(محصنين) حال من الواو. والسفاح : الزنا ، من السفح وهو الصب ، لأنه يصب المنى فى غير محله.
يقول الحق جل جلاله : وَأُحِلَّ لَكُمْ أن تتزوجوا من النساء ما سوى ذلكم المحرمات ، وما سوى ما حرمته السنة بالرضاع ، كما تقدم ، والجمع بين المرأة وعمتها ، وبين المرأة وخالتها ، فقد حرمته السنة ، وإنما أحل لكم نكاح النساء إرادة أن تطلبوا بأموالكم الحلال ، فتصرفوها فى مهور النساء .. حال كونكم مُحْصِنِينَ. أي : أعفة متحصنين بها من الحرام ، غَيْرَ مُسافِحِينَ أي : غير زناة ، تصبون الماء فى غير موضعه ، فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ أي : من تمتعتم به من المنكوحات فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي : مهورهن ، لأن المهر فى مقابلة الاستمتاع فَرِيضَةً ، أي : مفروضة مقدرة ، لا جهل فيها ولا إبهام ، وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ من زيادة على المهر المشروط ، أو نقص منه ، مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ ، التي وقع العقد عليها ، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بمصالح خلقه ، حَكِيماً فيما شرع من الأحكام.
وقيل قوله : فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ ... إلى آخره. نزل فى نكاح المتعة ، التي كانت ثلاثة أيام فى فتح مكة ، ثم نسخ بما روى عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه أباحه ، ثم أصبح يقول : «أيّها النّاس ، إنّى كنت أمرتكم بالاستمتاع من هذه النّساء ، ألا إنّ الله حرّم ذلك إلى يوم القيامة». وهو النكاح المؤقت بوقت معلوم ، سمى به لأن الغرض منه مجرد الاستمتاع. وتمتعها بما يعطى لها. وجوّزه ابن عباس رضي اللّه عنه ثم رجع عنه. والله تعالى أعلم.
الإشارة : يقول الحق جل جلاله من طريق الإشارة : إذا خرجتم من بطن الشهوات ، ورفضتم ما كنتم عليه من العوائد والمألوفات ، وزهدتم فيما يشغل فكرتكم من العلوم الرسميات ، حل لكم ما وراء ذلكم من العلوم اللدنية(1/488)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 489
والأسرار الربانية ، التي هى وراء طور العقول ولا تدرك بالطروس «1» ولا بالنقول ، وإليها أشار ابن الفارض رضي اللّه عنه حيث قال :
ولا تك ممّن طيّشته طروسه بحيث استخفت عقله واستفزّت
فثمّ وراء النّقل علم يدقّ عن مدارك غايات العقول السليمة
تلقّيته منّى وعنى أخذته ونفسى كانت من عطاء ممدّة
أردنا منكم أن تبتغوا ببذل أمواكم ومهجكم تلك العلوم المقدسة ، والأسرار المطهرة ، متحصنين من دنس الحس والهوى ، غير مباشرين لنجاسة الدنيا ، ولا مصطحبين مع أهلها ، لتتمتعوا بشهود أسرارنا ، وأنوار قدسنا ، فما استمتعتم به من ذلك ، فصونوه عن غير أهله ، ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من إعطائه لأهله ، من بعد حفظه عمن لا يستحقه ، والله تعالى أعلم.
ثم ذكر حكم من عجز عن صداق الحرة ، فقال :
[سورة النساء (4) : الآيات 25 الى 28]
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28)
قلت : الطول : الغنى والسعة ، ويطلق على العلو ، مصدر طال طولا ، وهو مفعول «يستطع» أو مصدر له - لتقارب معناهما ، و(أن ينكح) بدل منه على الأول ، أو مفعول به على الثاني ، أي : لأن ينكح ، و(محصنات غير مسافحات) ، حالان ، والعامل فيه : (انكحوهن) ، والخدن : الخليل.
يقول الحق جل جلاله : وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أي : لم يجد غنى يقدر به على نكاح الْمُحْصَناتُ ، أي : الحرائر الْمُؤْمِناتِ ، فليتزوج من ما ملكت أيمانكم ، من الإماء المؤمنات دون الكافرات ، فإن أظهرت الإيمان فاكتفوا بذلك ، وعلم الباطن لا يعلمه إلا الله ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ فلا يمنعكم من نكاحهن خوف المعرة ، فإنما أنتم جنس واحد ، ودينكم واحد ، بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فلا تستنكفوا من نكاحهن ،
___________
(1) الطروس : الصحف.(1/489)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 490
فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ، أي أربابهن ، حتى يعقدوا لكم نكاحهن ، وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ : أي : مهورهن ، وهن أحق به دون ساداتهن ، على مذهب مالك ، بِالْمَعْرُوفِ من غير مطل ، ولا نقص ، على ما تقتضيه السنة. حال كونهن مُحْصَناتٍ أي : عفيفات غَيْرَ مُسافِحاتٍ أي : غير زانيات وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ. أي : أصحاب يزنون بهن. وكان فى الجاهلية من النساء من تتخذ صاحبا واحدا تزنى معه خاصة ، ومنها من لا ترد يد لامس.
قال ابن جزى : مذهب مالك وأكثر أصحابه أنه لا يجوز للحر نكاح الأمة إلا بشرطين : أحدهما : عدم الطول وهو ألّا يجد ما يتزوج به حرة ، والآخر : خوف العنت وهو الزنا. لقوله بعد هذا : ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ، وأجاز ابن القاسم نكاحهن دون الشرطين ، على القول بأن دليل الخطاب لا يعتبر ، واتفقوا على اشتراط الإسلام فى الأمة ، لقوله : مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ إلا أهل العراق فلم يشترطوه. ه.
الإشارة : فمن لم يستطع أن ينكح أبكار الحقائق ، لكونه لم يقدر أن يدفع عن قلبه الشواغل والعلائق ، فليتنزل لنكاح العلوم الرسمية والأعمال الحسية ، بأخذها من أربابها ، ويحصنها بالإخلاص فى أخذها ، ويقوم بحقها بقدر الإمكان ، وهو بذلها لأهلها ، والصبر على نشرها ، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا ، فإن صح قصده ، وخلص عمله ، قيض الله له وليا من أوليائه يغنيه بالله ، حتى يصير من الأغنياء به ، فيتأهل لنكاح الحرائر ، ويلتحق بأولياء الله الأكابر ، (و ما ذلك على الله بعزيز).
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي اللّه عنه لما تكلم على ثمرات المحبة - قال : فترى النفس مائلة لطاعته ، والعقل متحصنا بمعرفته «1» ، والروح مأخوذة فى حضرته ، والسر مغمورا فى مشاهدته ، والعبد يستزيد [من حبه «2»] فيزاد ويفاتح بما هو أعذب من لذيذ مناجاته ، فيكسى حلل التقريب على بساط القربة ، ويمس أبكار الحقائق وثيبات العلوم. ه. فعلم الحقائق أبكار ، وما يوصل إليه من علوم الطريقة ثيبات حرائر ، وما سواها من علوم الرسوم إماء بالنسبة إلى غيرها ، والله تعالى أعلم.
ثم ذكر حدّ الأمة إذا زنت ، فقال :
قلت : أحصن الرجل - بفتح الهمزة وضمها - : صار محصنا بالفتح والكسر ، وهذا مما اتحد فيه البناء للفاعل والمفعول. وقيل بالفتح ، معناه : أسلم ، وبالضم : تزوج.
___________
(1) فى الأصول : بمعروفه ، والمثبت هو ما فى لطائف المنن للسكندرى.
(2) ما بين المعكوفتين من تدخل الشيخ المفسر فى النقل.(1/490)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 491
يقول الحق جل جلاله : إن الإماء إذا تزوجن فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ ، وهو الزنا ، فعليهن نصف ما على الحرة من الحد ، وهو خمسون ، لأن حد البكر مائة. ويفهم منه أنها لا ترجم لأن الرجم لا يتبعض. وكذلك الذكور من العبيد عليهم نصف الحدود كلها ، ولا رجم عليهم ، وسمى الحد عذابا ، كقوله : وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
الإشارة : بقدر ما يعلو المقام يشدد العقاب ، وبقدر ما يحصل من القرب يطلب الآداب ، فليست المعصية فى البعد كالمعصية فى القرب ، وليس يطلب من البعيد ما يطلب من القريب ، وانظر إلى أزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلم حيث قال تعالى لهن : يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ. وما ذلك إلا لحظوتهن وشدة قربهن من الله. ولذلك كان لا يدخل الحضرة إلا أهل الآداب والتهذيب ، بعد التدريج والتدريب ، وتأمل قضية الجنيد ، حيث قيل له فى المنام : مثلك لا يرضى منه هذا ، حيث خطر على قلبه الاعتراض على السائل ، غير أن المقربين يعاتبون ، ويردون إلى الحضرة ، وأهل البعد يزيدون بعدا ، ولكن لا يشعرون ، والله تعالى أعلم.
ثم ذكر شرط تزوج الأمة لعادم الطول ، فقال :
ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ ...
قلت : العنت : المشقة والضرر ، ولا ضرر أعظم من مواقعة الإثم ، ولا سيما بأفحش الفواحش وهو الزنا ، (يريد الله ليبين لكم) ، أي : لأن يبين ، واللام زائدة فى المفعول ، لتأكيد معنى الاستقبال اللازم للإرادة.
يقول الحق جل جلاله : ذلِكَ أي : نكاح الإماء إنما أبحته لمن خشى الوقوع فى الزنا ، الذي هو أقبح الفواحش ، فنكاح الأمة ، وإرقاق الولد يباع فى الأسواق أخف من الزنا. وَأَنْ تَصْبِرُوا عن نكاحهن ، مع التعفف عن الزنا ، خَيْرٌ لَكُمْ لئلا يرق أولادكم. وعن أنس قال : سمعت النبي صلّى اللّه عليه وسلم يقول : «من أراد أن يلقى الله طاهرا مطهّرا فليتزوّج الحرائر» وقال أبو هريرة : سمعته صلّى اللّه عليه وسلم يقول : «الحرائر صلاح البيت ، والإماء هلاك البيت «1»».
___________
(1) الحديث ضعفه السيوطي فى الجامع الصغير.(1/491)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 492
وَاللَّهُ غَفُورٌ لكم فيما سلف من المخالفة ، رَحِيمٌ بكم ، حيث رخّص لكم عند خوف الإثم نكاح الأمة ، يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ شرائع دينكم ، ومصالح أموركم ، وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي : مناهج من تقدمكم من أهل الرشد ، كالأنبياء والصالحين ، لتسلكوا مناهجهم ، كحفظ الأموال والأنساب ، وتحريم الأمهات والبنات والأخوات ، فإنهن محرمات على من قبلكم ، وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ أي : يغفر ذنوبكم الماضية ، أو يرشدكم إلى التوبة ، أو يمنعكم من المعاصي بالعصمة. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بما أسلفتم وما تستقبلونه من أفعالكم ، حَكِيمٌ بما دبر وأبرم.
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ كرره توطئة لقوله : وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا عن الحق مَيْلًا عَظِيماً بموافقتهم على اتباع الشهوات واستحلال المحرمات ، وكأنه تعالى يقول : إنا نريد توبتكم ورشدكم ، والذين يتبعون الشهوات يريدون ميلكم وإضلالكم ، والمراد بهم الزناة لأنهم يودون أن يكون الناس كلهم زناة ، وأمّا من تعاطى شهوة النكاح فى الحلال ، فإنه متبع للحق لا لهم ، وقد قال - عليه الصلاة والسلام - :
«تناكحوا تناسلوا ، فإنّى مباه بكم الأمم يوم القيامة». وقد كان سيدنا على - كرم الله وجهه - أزهد الصحابة ، وكان له أربع حرائر وسبع جوارى سرّيّات ، وقيل : سبع عشرة ، وقيل : المراد بهم اليهود والنصارى ، لأن اليهود يحلون الأقارب من الأب وبنات الأخ وبنات الأخت. وقيل : المجوس.
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ فلذلك شرع لكم الشريعة الحنيفية السمحة السهلة ، ورخص لكم عند المضايق فى نكاح الأمة. وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً فى كل شىء ، لأنه خلق من ضعف ، ويؤول إلى ضعف ، أسير جوعة ، صريع شبعة ، وخصوصا عن شهوة النساء ، فإنه لا يصبر عن الجماع ، ولا يكون فى شىء أضعف منه فى أمر النساء ، وعن عبادة ابن الصامت رضي اللّه عنه أنه قال : (ألا ترونى أنى لا أقوم إلا رفدا «1» ، ولا آكل إلا ما ليّن لى ، وقد مات صاحبى - يعنى ذكره - منذ زمان ، وما يسرنى أنى خلوت بامرأة لا تحل لى ، وأن لى ما تطلع عليه الشمس ، مخافة أن يأتينى الشيطان فيحركه ، على أنه لا سمع له ولا بصر.).
قال ابن عباس : ثمانى آيات فى سورة النساء ، هى خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت ، يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ، يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ، إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ ...
الآية ، إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ .... الآية ، إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ... ، وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ...
الآية ، ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ ... الآية. ه.
الإشارة : إنما ينزل المريد إلى العلوم الرسمية ، أو الأعمال الحسية ، إذا خشى الانمحاق أو الاصطلام فى بحر الحقائق ، وإن صبر وتماسك ، حتى يتقوى على حمل أعبائها ، فهو خير له ، لأن الرجوع إلى الحس ، لا يؤمن من
___________
(1) أي : إلّا بمعاونة غيرى.(1/492)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 493
الحبس ، والله غفور لمن تنزل لعلة ما تقدم ، رحيم حين جعل له الرخصة ، يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ سلوك الطريق إلى عين التحقيق ، ويهديكم طرق الوصول ، كما هدى من قبلكم ، ويتوب فيما خطر ببالكم ، من الفترة أو الوقفة ، والله يريد أن يتعطف عليكم ، لترجعوا إليه بكليتكم. وأهل الغفلة المنهمكون فى الشهوات ، يريدون ميلكم عن طريق الوصول إلى حضرة ربكم ، يريد الله أن يخفف عنكم ، فلا يحملكم من الواردات إلا ما تطيقه طاقتكم ، لأنكم ضعفاء إلا إن قوّاكم. اللهم قونا على ما نريد ، وأيدنا فيما تريد ، إنك على كل شىء قدير.
ولمّا ذكر ما يتعلق بحفظ أموال اليتامى وأموال النساء ، وانجر الكلام إلى ما يتعلق بهن من حدودهن ، وما يحل وما يحرم منهن ، ذكر ما بقي من حفظ أموال الرجال ، فقال :
[سورة النساء (4) : الآيات 29 الى 30]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)
قلت : الاستثناء منقطع ، وكان تامة لمن رفع ، وناقصة لمن نصب ، واسمها : ضمير الأموال ، على حذف مضاف ، إلّا أن تكون الأموال أموال تجارة.
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ الذي لا تجوزه الشريعة ، كالربا والقمار ، والغصب والسرقة ، والخيانة والكهانة والسحر وغير ذلك. إِلَّا أَنْ تَكُونَ ، أي : لكن إن وجدت تِجارَةً صحيحة عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ أي : اتفاق منكم على البيع ، وبه استدلت المالكية على انعقاد البيع بالعقد ولو لم يحصل تفرق بالأبدان.
وقال الشافعي : إنما يتم بالتفرق بالأبدان ، لقوله - عليه الصلاة والسلام : «البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا». وحمله مالك على التفرق بالكلام ، وقال أكثر المفسرين : التخيير ، هو أن يخير كل واحد منهما صاحبه بعد عقد البيع. وقد ابتاع عمرو ابن جرير فرسا ، ثم خيّر صاحبه بعد البيع ، ثم قال : سمعت أبا هريرة يقول : البيع عن تراض. قال البيضاوي :
وتخصيص التجارة من الوجوه التي يحل بها انتقال مال الغير ، لأنها أغلب وأوفق لذوى المروءات ، ويجوز أن يراد بها الانتقال مطلقا. وقيل : المقصود بالنهى : صرف المال فيما لا يرضاه الله تعالى ، وبالتجارة : صرفه فيما يرضى. ه.
الإشارة : لا تصرفوا أموالكم ولا أحوالكم فى غير ما يقربكم إلى الحق فإن ما سوى الحق كله باطل ، كما قال الشاعر :
ألا كلّ شىء ما خلا الله باطل وكلّ نعيم لا محالة زائل «1»
___________
(1) راجع التعليق على هذا البيت عند إشارة الآية [150] من سورة البقرة. [.....](1/493)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 494
إلا أن يكون صرفه فى تجارة رابحة ، تقربكم من الحبيب ، وتجلبكم إلى حضرة القريب ، فتلك تجارة رابحة وصفقة نافعة. والله تعالى أعلم.
ثم تكلم على بعض ما يتعلق بحفظ الأبدان ، وسيأتى تمامه فى قوله : (و ما كان لمؤمن ...) إلى آخر الآيات ، فقال :
وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ...
يقول الحق جل جلاله : وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ، بالخنق أو بالنخع «1» أو بالجرح ، الذي يؤدى إلى الموت ، أو بالإلقاء إلى التهلكة. وعن عمرو بن العاص رضي اللّه عنه قال : (بعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فى غزوة ذات السّلاسل ، فأجنبت فى ليلة باردة ، فأشفقت على نفسى وصليت بأصحابى صلاة الصبح بالتيمم. فلمّا قدمت ذكرت ذلك لرسول الله صلّى اللّه عليه وسلم ، فقال : «يا عمرو صلّيت بأصحابك وأنت جنب؟» قلت : نعم يا رسول الله ، أشفقت إن اغتسلت أن أهلك ، فذكرت قوله تعالى : لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ، فضحك النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، ولم يقل شيئا).
أو : ولا تقتلوا إخوانكم فى الإسلام ، فإن المؤمنين كنفس واحدة. قال البيضاوي : جمع فى التوصية بين حفظ النفس والمال - الذي هو شقيقها من حيث إنه سبب قوامها - استبقاء لهم. ه.
وإنما نهاكم عن قتل أنفسكم رأفة ، ورحمة بكم ، إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ، فقد أمر بنى إسرائيل بقتل أنفسهم ، وأنتم نهاكم عنه. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ القتل. أو جميع ما سبق من المحرمات عُدْواناً وَظُلْماً ، أي :
إفراطا فى التجاوز عن الحد ، وإتيانا بما لا يستحق ، أو تعديا على الغير وظلما على النفس ، بتعريضها للعقاب ، فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً أي : نحرقه ونشويه فيها. وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً.
وفى الحديث عنه صلّى اللّه عليه وسلم : «من قتل نفسه بشىء عذب به فى نار جهنّم خالدا مخلّدا فيها» وهو تغليظ ، أو لمن استحل ذلك. وهذا الوعيد الذي ذكره الحق هنا فى قتل الإنسان بيده ، أهون مما ذكره فى قتل الغير ، الذي يأتى ، لأنه زاد هناك الغضب واللعنة والعذاب العظيم ، أما قول ابن عطية : إنه أجمع المفسرون أن هذه الآية فى قتل بعضهم بعضا ، فليس بصحيح ، والله تعالى أعلم.
___________
(1) النخع : هو القتل الشديد ، مشتق من قطع النخاع.(1/494)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 495
الإشارة : ولا تقتلوا أنفسكم باتباع الشهوات وتراكم الغفلات ، فإنه يفوتها الحياة الحقيقية. وقال الفضيل بن عياض رضي اللّه عنه : (لا تغفلوا عن حظ أنفسكم ، فمن غفل عن حظ نفسه ، فكأنما قتلها). وحظ النفس هو تزكيتها وتحليتها بالكمالات ، أو قوتها من العلم اليقين ، والمعرفة وصحة التمكين ، والمراد بالنفس هنا الروح ، وأما ما اصطلحت عليه الصوفية من أن النفس يجب قتلها ، فإن مرادهم بذلك النفس الأمارة ، فإن الروح ما دامت مظلمة بالمعاصي والهوى سميت نفسا ، فإذا تطهرت وتزكت سميت روحا. وهو المراد هنا. سماها نفسا باعتبار ما كانت عليه. والله تعالى أعلم.
ثم إن قتل النفس من الكبائر ، فمن اجتنبه مع غيره من الكبائر غفرت له الصغائر ، كما أشار إلى ذلك ترغيبا فى اجتناب ما ذكر ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 31]
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31)
قلت : المدخل - بالضم : مصدر ، بمعنى الإدخال ، وبالفتح : المكان ، ويحتمل المصدر.
يقول الحق جل جلاله : إن تجتنبوا كبائر الذنوب التي تنهون عنها نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ الصغائر وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً وهو الجنة ، أو إدخالا مصحوبا بالكرامة والتعظيم ، واختلف فى الكبائر ، هل تعرف بالعد أو بالحد؟ فقيل : سبع ، وقيل : سبعون ، وقيل : سبعمائة ، وقيل : كل معصية فهى كبيرة. وعنه صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال : «اجتنبوا السّبع الموبقات : الإشراك بالله ، والسّحر ، وقتل النّفس بغير حقها ، وأكل الرّبا ، وأكل مال اليتيم ، والفرار من الزّحف ، ورمى المحصنات الغافلات المؤمنات».
قال ابن جزى : لا شك أن هذه من الكبائر لنص الشارع عليها ، وزاد بعضهم عليها أشياء ورد النص عليها فى الحديث أنها من الكبائر ، منها عقوق الوالدين ، وشهادة الزور ، واليمين الغموس ، والزنا ، والسرقة ، وشرب الخمر ، والنهبة ، والقنوط من رحمة الله ، والأمن من مكر الله ، ومنع ابن السبيل الماء ، والإلحاد فى البيت الحرام ، والنميمة ، وترك التحرّز من البول ، والغلول ، واستطالة الرجل فى عرض أخيه ، والجور فى الحكم.
وقيل فى حدها : كل جريمة تؤذن بقلة الدين ورقة الديانة ، وقيل : ذنوب الظاهر صغائر ، وذنوب الباطن كبائر.
وقيل : كل ما فيه حق الغير فهو كبائر ، وما كان بينك وبين اللّه تعالى صغائر ، واحتج هذا بقوله - عليه الصلاة والسلام - : «ينادى يوم القيامة مناد من بطنان العرش «1» : يا أمّة أحمد ، إنّ اللّه تعالى يقول : أمّا ما كان لى قبلكم فقد وهبته لكم ، وبقيت التباعات ، فتواهبوها ، وادخلوا الجنة».
___________
(1) بطنان العرش : أي من وسطه ، وقيل من أصله ، وقيل : البطنان جمع بطن. يريد من دواخل العرش. انظر النهاية.(1/495)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 496
الإشارة : كل ما يبعد العبد عن حضرة ربه فهو من أكبر الكبائر ، فمن اجتنب ذلك واتقى كل ما يشغله عن الله أدخله الله مدخلا كريما ، وهو حضرة الشهود والتلذذ برؤية المعبود ، والترقي فى أسرار الحبيب الودود. قال الورتجبي : قال أبو تراب : أمر الله باجتناب الكبائر ، وهى الدعاوى الفاسدة ، والإشارات الباطلة ، وإطلاق اللفظ بغير الحقيقة. ه.
ولما قسّم الله المواريث على ما تقدم ، قال بعض النساء : ليتنا استوينا مع الرجال ، أو يكون لنا سهمان لأننا أحوج منهم ، فأنزل الله :
[سورة النساء (4) : آية 32]
وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32)
يقول الحق جل جلاله : وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ من الميراث «1» بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ ، كتضعيف الذكر على الأنثى ، فللرجال نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا أي : مما أصابوا وأحرزوا فى القسمة ، وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ منه ، قلّ أو كثر ، فلتقنع بما قسم الله لها ، ولا تعترض على أحكام الشريعة ، ولكن سْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ يعطكم من غير الميراث ، هكذا فسرها ابن عباس.
وقال مجاهد : قالت أم سلمة : يغزو الرجال ولا نغزو ، فليتنا رجال نغزو ، ونبلغ ما يبلغ الرجال. فنزلت. فيكون المعنى : ولا تتمنوا ما فضل الله به الرجال على النساء كالغزو وغيره ، فللرجال نصيب مما اكتسبوا من ثواب الجهاد وسائر أعمالهم ، (و للنساء نصيب مما اكتسبن) من طاعة أزواجهن وحفظ فروجهن وسائر بقية أعمالهن.
والتحقيق أنها عامة فى جميع المراتب الدينية والدنيوية لأن ذلك ذريعة إلى التحاسد والتعادي ، ومعربة عن عدم الرضا بما قسم الله له. ، وإلى التشهي لحصول الشيء له من غير طلب ، وهو مذموم لأن تمنى ما لم يقدر له ، معارضة لحكمة القدر ، وتمنى ما قدر له بكسب ، بطالة وتضييع حظ ، وتمنى ما قدر له بغير كسب ، ضياع ومحال ، قاله البيضاوي. فللرجال نصيب من أجل ما اكتسبوا من الأعمال ، وتحملوا من المشاق ، فيعطيهم الله على قدر ما اكتسبوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ كذلك ، فلا فائدة فى تمنى ما للناس ، ولكن (اسألوا الله من فضله) يعطكم مثله ، أو أكثر من خزائنه التي لا تنفد. إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً وهو يعلم ما يستحقه
___________
(1) سيذكر الشيخ بعد أن الآية عامة.(1/496)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 497
كل إنسان ، فيفضّل من شاء بما شاء عن علم وبيان ، ومناسبة الآية حينئذ لما قبلها : أن تجنب الكبائر فضل من الله ونعمة ، وهو أفضل ممن يقع فيها ، لكن لا ينبغى تمنى ذلك من غير عمل ، ولكن يسأل الله من فضله حتى يلحقه بأهل العصمة. وبالله التوفيق.
الإشارة : قد وقع التفضيل فى مقامات الأولياء كالأنبياء ، لكن لا ينبغى تعيين الفاضل من المفضول ، لما يؤدى إليه من التنقيص فيؤدى إلى الغيبة ، والتفضيل يقع بزيادة اليقين وصحة التمكين ، والترقي فى أنوار التوحيد وأسرار التفريد. ويكون أيضا بهداية الخلق على يده ، وظهور إحسانه ورفده ، فإذا رأى العبد أنه لم يبلغ إلى مقام غيره فلا يتمنى ذلك المقام بعينه ، فقد يكون مقامه عند الله فى علمه أعظم ، وقد يكون أدون ، فيسىء الأدب ، فالخير كله فى العبودية والرضى بأحكام الربوبية ، فللأقوياء نصيب مما اكتسبوا بالقوة والمجاهدة التي خلق الله فيهم ، حكمة وفضلا ، وللضعفاء نصيب مما اكتسبوا قسمة وعدلا ، ولكن يسأل الله من فضله العظيم ، فإن الله بكل شىء عليم ، فقد يعطى بلا سبب ويبلّغ بلا تعب.
وفى الحديث عنه صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال : «سلوا الله من فضله فإنّ الله يحبّ أن يسأل». وفى حديث آخر : «من لم يسأل الله يغضب عليه». وقال الورتجبي : أمر بالسؤال ونهى عن التمني لأن السؤال افتقار ، والتمني ، اختيار. ه. والله تعالى أعلم.
ثم تكلم على ميراث الحليف على ما كان فى أول الإسلام ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 33]
وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33)
قلت : التنوين فى «كل» : للعوض ، و«مما ترك» بيان للمعوض منه ، أي : ولكل مال مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا موالى ، أي : ورثة ، وهم الذرية والعصبة يرثون من ذلك المال ، والوالدان على هذا فاعل ، ويحتمل أن يكون مبتدأ والتنوين عوض عن الميت الموروث ، أي : ولكل ميت جعلنا ورثة يرثون مما ترك ذلك الميت ، وهم الوالدان والأقربون فيوقف على (ترك) ، و(مما) يتعلق بمحذوف ، و(الذين) مبتدأ ، و(فآتوهم) خبر ، دخلت الفاء لما فى المبتدأ من العموم.
يقول الحق جل جلاله : ولكل ميت جعلنا ورثه يرثون مِمَّا تَرَكَ ذلك الميت ، وهم الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ، أو لكل تركة جعلنا لها مَوالِيَ أي : ورثة يرثون مما ترك الوالدان والأقربون ، وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ وهم موالى الحلف ، كانوا يتحالفون فى الجاهلية على النصرة والمؤازرة ، يقول الرجل لآخر : دمى دمك ، (1/497)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 498
وهدمى هدمك ، وثأرى ثأرك. فيضرب بعضهم على يد الآخر فى عقد ذلك الحلف. فلذلك قال : عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فكان فى أول الإسلام يرث من حليفه السدس ، وإليه أشار بقوله : فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ، ثم نسخ.
وقيل : نزلت فى المؤاخاة التي آخى رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار ، فكان يرث السدس ، ثم نسخ بقوله : وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ. وعن أبى حنيفة : لو أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يتعاقلا ويتوارثا صح وورث. وقال ابن عباس : آتوهم نصيبهم من النصرة التي تعاقدوا عليها ، فيوفى لهم بها ، فلا نسخ.
إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً ، هو تهديد لمن تعدى الحدود ، ونقض العهود. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ولكل زمان جعلنا أولياء كبراء ، يرثون مما ترك أشياخهم من خصوصية الولاية وسر العناية ، إلى يوم القيامة فالأرض لا تخلو ممن يقوم بالحجة ويظهر المحجة ، فيقال لهم : والذين عقدت أيمانكم فى الصحبة معكم ، فظهر صدقهم ، وبانت خدمتهم ، فآتوهم نصيبهم مما خصكم الله به من سر الولاية ولطف العناية ، (إن الله كان على كل شىء شهيدا) ، لا يخفى عليه من يستحق الخلافة ويرث سر الولاية. والله تعالى أعلم.
ثم بيّن حكمة تفضيل الرجال على النساء فى المواريث وغيرها ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 34]
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34)
قلت : (فالصالحات) مبتدأ ، وما بعده إخبار عنه ، وأتى بالفاء المؤذنة بالسببية والتفريع ، وكأنه تعالى يقول :
الرجال قوامون على النساء ، فمن كانت صالحة قام عليها بما تستحقه من حسن المعاشرة ، ومن كانت ناشزة عاملها بما تستحقه من الوعظ وغيره. وكل ما هنا من لفظ (ما) فهى مصدرية. إلا ما قرأ به أبو جعفر : [بما حفظ الله ] ، بالنصب ، فهى عنده موصولة اسمية ، أي : بالأمر الذي حفظ الله وهو طاعتها للّه فحفظها بذلك ، وقيل إنها مصدرية. انظر الثعلبي.
يقول الحق جل جلاله : الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ أي : قائمون عليهن قيام الولاة على الرعية ، فى التأديب والإنفاق والتعليم ، ذلك لأمرين : أحدهما وهبى ، والآخر كسبى فالوهبى : هو تفضيل الله لهم على(1/498)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 499
النساء بكمال العقل وحسن التدبير ومزيد القوة فى الأعمال والطاعات ، ولذلك خصوا بالنبوة ، والإمامة ، والولاية ، وإقامة الشعائر ، والشهادة ، فى مجامع القضايا ، ووجوب الجهاد والجمعة ونحوهما ، والتعصيب ، وزيادة السهم فى الميراث ، والاستبداد بالطلاق. والكسبي هو : (بما أنفقوا من أموالهم) فى مهورهن ، ونفقتهن ، وكسوتهن.
فيجب على الزوج أن يقوم بالعدل فى أمر نسائه ، فالمرأة الصالحة القانتة ، أي : المطيعة لزوجها ولله تعالى ، الحافظة للغيب ، أي : لما غاب عن زوجها من مال بيته وفرجها وسر زوجها ، حفظت ذلك بحفظ الله ، أي : بما جعل الله فيها من الأمانة والحفظ ، وبما ربط على قلبها من الديانة ، أو بحفظها حق الله ، فلما حفظت حقوق الله حفظها الله بعصمته ، لقوله - عليه الصلاة والسلام - : «احفظ الله يحفظك». فمن كانت على هذا الوصف من النساء فيجب على الزوج حسن القيام بها ، ومقابلتها فى القيام بما قابلته من الإحسان ، وعنه صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال : «خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرّتك ، وإن أمرتها أطاعتك ، وإن غبت عنها حفظتك فى مالها ونفسها». وتلا هذه الآية.
وأما النساء التي تَخافُونَ أي : تتيقنون نُشُوزَهُنَّ أي : ترفعهن عن طاعة أزواجهن وعصيانهن ، فَعِظُوهُنَّ بالقول ، فإن لم ينفع فاهجروهن فى المضاجع ، أي : لا تدخلوا معهن فى لحاف ، أو لا تجامعوهن ، فإن لم ينفع فاضربوهن ضربا غير مؤلم ولا شائن. قال صلّى اللّه عليه وسلم : «علّق السّوط حيث يراه أهل البيت». وعن أسماء بنت أبى بكر - رضى اللّه عنهما - قالت : (كنت رابع نسوة عند الزبير بن العوام ، فإذا غضب على إحدانا ، ضربها بعود المشجب ، حتى ينكسر). والمشجب : أعواد مركبة يجعل عليها الثياب.
فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ يا معشر الأزواج ، أو عقدن التوبة مما مضى ، فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أي : لا تطلبوا عليهن طريقا تجعلونه سبيلا لإيذائهن ، بل اجعلوا ما كان منها من النشوز كأن لم يكن ، (فإنّ التّائب من الذّنب كمن لا ذنب له). وقال ابن عيينة : أي لا تكلفوهن بحبكم. ه. وقال الورتجبي : إذا حصل منهن صورة طاعة الرجال فلا يطلب منهن موافقة الطباع ، فإن ذلك منازعة للقدر. قال تعالى : لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ، وذكر حديث : «الأرواح جنود مجنّدة».
ثم هدد الأزواج فقال : إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً فاحذروه ، فإنه أقدر عليكم منكم على من تحت ولايتكم ، أو : إنه على علو شأنه ، يتجاوز عن سيئاتكم ، فأنتم أولى بالعفو عن نسائكم ، أو : أنه يتعالى ويكبر أن يظلم أحدا أو ينقص حقه.(1/499)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 500
وسبب نزول الآية : أن سعد بن الرّبيع ، وكان من النقباء ، لطم امرأته حبيبة بنت زيد بن أبى زهير ، وكانت نشزت عليه ، فانطلق أبوها معها إلى رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم فقال : أفرشته كريمتى فلطمها ، فقال - عليه الصلاة والسلام - :
لتقتصّ منه ، فانصرفت لتقتصّ منه ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم : ارجعوا ، هذا جبريل أتانى وأنزل الله هذه الآية : الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ إلى آخرها ، فقال عليه الصلاة والسلام : «أردنا أمرا ، وأراد الله أمرا ، والّذى أراد الله خير» فرفع القصاص. وقيل : نزلت فى غيره ممن وقع له مثل هذا من النشوز. والله تعالى أعلم.
الإشارة : الرجال الأقوياء قوامون على نفوسهم قهارون لها ، بفضل القوة التي مكنهم الله منها ، وبما أنفقوا عليها من المجاهدات والرياضات ، فهم ينظرون إليها ويتهمونها فى كل حين ، فإن صلحت وأطاعت وانقادت لما يراد منها من أحكام العبودية ، والقيام بوظائف الربوبية ، عاملوها بالإكرام والإجمال ، ورفعوا عنها الآداب والنكال ، وإن نشزت وترفعت أدبوها وهجروها عن مواطن شهواتها ومضاجع نومها ، وضربوها على قدر لجاجها وغفلتها.
وكان الشيخ أبو يزيد يأخذ قبضة من القضبان ويذهب إلى خلوته ، فكلما غفلت ضربها ، حتى يكسرها كلها ، وكان بعض أصحابنا يأخذ خشبة ويذهب إلى خلوته ، فكلما غفل ضرب رأسه بها ، حتى يأتى رأسه كلّه مفلول.
ويلغنى أن بعض أصحابنا كان يدخل فى لحمة رجله سكينا كلما غفل قلبه ، وهذا إغراق ، وخير الأمور أوسطها.
وبالله التوفيق.
ولمّا تكلم على حكم المرأة الطائعة والناشزة ، تكلم على ما إذا أشكل الأمر ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 35]
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35)
قلت : الشقاق : المخالفة والمساورة ، وأضيف إلى الظرف توسعا كقوله : بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ ، والأصل : شقاقا بينهما ، والضمير فى (يريدا) للحكمين ، وفى (بينهما) للزوجين ، وقيل : للحكمين معا ، وقيل : للزوجين معا.
يقول الحق جل جلاله : إِنْ خِفْتُمْ يا معشر الحكام ، أي علمتم خلافا بين الزوجين ومشاورة ، ولم تدروا الظالم من المظلوم ، فَابْعَثُوا رجلين أمينين يحكمان بينهما ، يكون أحدهما من أهله والآخر من أهلها ، لأن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال ، وأطلب للإصلاح ، فإن بعثهما الحاكم أجنبيين صح ، وكذا إن أقامهما الزوجان.
وما اتفق عليه الحكمان لزم الزوجين من خلع أو طلاق أو وفاق. وقال أبو حنيفة : ليس لهما التطليق إلّا أن يجعل لهما ، وإذا اختلفا لم يلزم شىء ، ويستأنفان الحكم ، قال ابن جزى : ومشهور مذهب مالك : أن الحاكم هو الذي يبعث(1/500)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 501
الحكمين ، وقيل : الزوجان ، وجرت عادة القضاء أن يبعثوا امرأة أمينة ولا يبعثوا الحكمين ، قال بعض العلماء : هو تغيير للقرآن والسنة الجارية. ه.
فإن بعث الحكمان ، فإن أرادا إصلاحا بين الزوجين ، واتفقا عليه ، وفق الله بينهما ببركة قصدهما ، وفيه تنبيه على أن من أصلح نيته فيما يتحراه أصلح الله مبتغاه. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً بما فى الظواهر والبواطن ، فيعلم كيف يرفع الشقاق ويوقع الوفاق.
الإشارة : وإن خفتم ، أيها الشيوخ ، على صاحبكم منازعة النفس والروح فكانت النفس تجمح به إلى أسفل سافلين ، بمتابعة هواها وعصيان مولاها ، والروح تجنح به إلى أعلى عليين ، بجهاد هواها ومشاهدة مولاها ، فابعثوا له واردين قويين ، إما شوق مقلق يرحل الروح إلى مولاها ، أو خوف مزعج يزجر النفس عن هواها. فإن أراد الله بذلك العبد إصلاحا لحاله أرسلهما معا متفقين على تخليصه وارتفاعه ، فيتقدم الخوف المزعج ويستدركه الشوق المقلق ، فيلتحق بأهل التحقيق من أهل التوفيق ، وما ذلك على الله بعزيز ، وفى الحكم : «لا يخرج الشهوة من القلب إلا خوف مزعج ، أو شوق مقلق». والله تعالى أعلم.
ولما فرغ الحق جل جلاله من الكلام على حفظ الأموال ، وحفظ الأنساب ، وبعض حفظ الأبدان ، شرع يتكلم على حفظ الأديان ، وما يتعلق بذلك ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 36]
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36)
قلت : الجنب - بالضم - : البعيد ، يقال فيه : جنب وأجنب وأجنبى ، وسمى الجنب جنبا لأنه يبعد من المسجد وعن الصلاة وعن التلاوة ، و(مختال) اسم فاعل ، وأصله : مختيل ، بالكسر ، من الخيلاء وهو التكبر.
يقول الحق جل جلاله : وَاعْبُدُوا اللَّهَ أي : وحّدوه وأطيعوه وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً جليا أو خفيا فى اعتقادكم أو فى عبادتكم ، فمن قصد الحج والتجارة ، فقد أشرك مع الله فى عبادته ، وأحسنوا بالوالدين إحسانا حسنا ، وهو برهما والقيام بحقهما ، وَبِذِي الْقُرْبى ، أي : القرابة فى النسب ، أو الدين وَالْيَتامى لضعف حالهم ، وَالْمَساكِينِ لقلة ما بيدهم ، وقد شكى بعض الناس قساوة قلبه ، فقال له عليه الصلاة والسلام : «إن أردت أن يلين قلبك ، فأطعم والمسكين وامسح رأس اليتيم ، وأطعمه».(1/501)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 502
وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى الذي قرب جواره أو نسبه ، وَالْجارِ الْجُنُبِ الذي بعد مكانه أو نسبه ، وحدّد بعضهم الجوار بأربعين دارا من كل ناحية. وقال ابن عباس : الجار ذى القربى : الجار الذي بينك وبينه قرابة ، والجار الجنب : الجار من قوم آخرين. ه.
قيل يا رسول الله : ما حق الجار على الجار قال : «إن دعاك أجبته ، وإن أصابته فاقة عدت عليه ، وإن استقرضك أقرضته ، وإن أصابه خير هنأته ، وإن مرض عدته ، وإن أصابته مصيبة عزيته ، وإن توفى شهدت جنازته ، ولا تستعل عليه بالبنيان لتحجب عنه الريح إلا بإذنه ، ولا تؤذه بقتار قدرك - أي : بخارها - إلا أن تغرف له منها ، وإن ابتعت فاكهة فأهد له منها ، فإن لم تفعل فأدخلها سرا ، ولا يخرج ولدك منها بشىء فيغيظ ولده» ثم قال : «الجيران ثلاثة : فجار له ثلاثة حقوق : حق الجوار ، وحق القرابة ، وحق الإسلام ، وجار له حقان : حق الجوار ، وحق الإسلام ، وجار له حق واحد : وهو المشرك من أهل الكتاب».
وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ ، وهو الرفيق فى أمر حسن ، كتعلم وتصرف وصناعة وسفر ، فإنه صحبك بجنبك ، وعن على - كرم الله وجهه - (أنها الزوجة) ، فيتأكد فى حقها الإحسان زيادة على المعاشرة بالمعروف ، قال بعضهم : أول قدم فى الولاية كف الأذى وحمل الجفا ، ومعيار ذلك حسن معاشرة الأهل والولد ، وقال - عليه الصلاة السلام - : «خيركم خيركم لنسائه ، وأنا خيركم لنسائى». وَابْنِ السَّبِيلِ ، وهو الضيف أو المسافر لغرابته ، وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ، من الإماء والعبيد ، وكان آخر كلام النبي - عليه الصلاة والسلام - : «الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم».
إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا أي : متكبرا ، يأنف عن أقاربه وجيرانه وأصحابه ولا يلتفت إليهم ، فَخُوراً يتفاخر عليهم بماله وجاهه ، وما خوله الله من نعمه ، فهو جدير أن تسلب منه.
الإشارة : واعبدوا الله ، أي : بالقيام بوظائف العبودية ، ومشاهدة عظمة الربوبية ، وقال بعض الحكماء :
العبودية : ترك الاختيار ، وملازمة الذل والافتقار. وقيل : العبودية أربعة أشياء : الوفاء بالعهود ، والحفظ للحدود ، والرضا بالموجود ، والصبر على المفقود ، وعنوان ذلك صفاء التوحيد ، ولذلك قال : وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً أي :
لا تروا معه غيره ، كما قال القائل :
مذ عرفت الإله لم أر غيرا وكذا الغير عندنا ممنوع
وقال آخر : (لو كلفت أن أرى غيره ، لم أستطع ، فإنه لا غير معه حتى أشهده). فإذا حصلت العبودية فى الظاهر ، وتحقق التوحيد فى الباطن ، ظهرت عليه مكارم الأخلاق فيحسن إلى الأقارب والأجانب ، ويجود عليهم(1/502)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 503
بالحس والمعنى ، لأن الفتوة من شأن أهل التوحيد ، ومن شيم أهل التجريد ، كما هو معلوم من حالهم ، نفعنا الله بذكرهم ، وخرطنا فى سلكهم. آمين.
قال الورتجبي : «الوالدين» : مشايخ المعرفة. ثم نقل عن الجنيد ، أنه قال : أمرنى أبى أمرا ، وأمرنى السرى أمرا.
فقدمت أمر السرى على أمر أبى ، وكل ما وجدت فهو من بركاته. ه. وذوو القربى هم الأخوة فى الشيخ ، واليتامى : من قصدهم من المتفقرة الجاهلة ، والمساكين : ضعفاء اليقين من العامة ، أمر الله تعالى أهل الخصوصية بالإحسان إليهم والبرور بهم ، وهو أن يقرهم فى طريقهم ، ويحوشهم إلى ربهم.
والجار ذى القربى وهو جارك فى السكنى وأخوك فى النسبة ، فيستحق عليك زيادة الإحسان. والجار الجنب : من جاورك من العوام فتنصحه وترشده ، والصاحب بالجنب : من رافقك فى أمر من العوام ، كسفر وغيره ، وابن السبيل :
من نزل بأهل الخصوصية من الأضياف ، فلهم حق الضيافة عليهم حسا ومعنى ، وما ملكت أيمانكم : مالكم تصرف عليهم من الأهل والبنين والإماء والعبيد ، فتقربونهم إلى حضرة الملك المجيد. ثم أمرهم بالتواضع والإقبال على الخاص والعام. فقال : إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً. والله تعالى أعلم.
ثم بيّن حال أضداد هؤلاء ، فقال :
[سورة النساء (4) : الآيات 37 الى 39]
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39)
قلت : (الذين) بدل من : «من كان» ، أو منصوب على الذم ، أو مرفوع عليه ، أي : هم. أو مبتدأ حذف خبره ، أي : نعذبهم عذابا مهينا ، أو أحقاء بكل ملامة ، و(الذين ينفقون) : عطف على الأولى ، أو مبتدأ حذف خبره ، أي :
الشيطان قرينهم. والبخل فيه لغتان : البخل والبخل بحركتين.
يقول الحق جل جلاله : الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بأموالهم على أقاربهم وجيرانهم ، وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ من الغنى ، فيظهرون القلة والعيلة ، أو يكتمون العلم بصفة النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، هم أحقاء بكل لوم وعتاب. وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ منهم عَذاباً مُهِيناً يهينهم ويخزيهم ، نزلت فى اليهود ، كانوا يقولون(1/503)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 504
للأنصار : لا تنفقوا أموالكم ، فإنا نخشى عليكم الفقر ، وكتموا صفته - عليه الصلاة والسلام - . ووضع الظاهر موضع المضمر وكأنه يقول : وأعتدنا لهم ، إشعارا بأن من هذا شأنه فهو كافر بنعمة الله تعالى ، ومن كفر بنعمة الله وأهانها استحق عذابا مهينا.
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ طلبا لمدحهم وخوفا من ذمهم ، وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ، يتحرون بإنفاقهم مراضيه ، فالشيطان قرينهم لا يفارقهم ، وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً ، فلمّا كان الشيطان قرينهم زين لهم التهالك على الأموال والرياء فى الأعمال ، وإنما أشرك أهل الرياء مع البخلاء فى الوعيد من حيث إنهما طرفا تفريط وإفراط ، وهما سواء فى القبح واستجلاب الذم.
وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ أي : لا ملامة عليهم ولا تبعة تحيق بهم لو أخلصوا الإيمان وأنفقوا مما رزقهم الكريم المنان. قال البيضاوي : وفيه تنبيه على أن المدعو إلى أمر لا ضرر فيه ينبغى أن يجيب إليه احتياطا ، فكيف إذا تضمن المنافع. وإنما قدم الإيمان هاهنا وأخره فى الآية الأخرى : لأن القصد بذكره هنا التخصيص ، وثم التقليل. ه. وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً لا يخفى عليه شىء من أمورهم وقصدهم.
الإشارة : قال بعض الصوفية : (من أقبح كل قبيح صوفى شحيح) ، فالصوفية العارفون - رضى اللّه عنهم - الذين هم صفوة العباد متخلقون بأضداد ما وسم به الحق - تعالى - أهل العناد ، فهم يجودون بأنفسهم وما خصهم الله بهم من العلوم اللدنية والأسرار القدسية ، على من يستحقه من أهل التخلية والتحلية ، ويأمرون الناس بالسخاء ومكارم الأخلاق ، ويتحدثون بما منحهم الملك الخلاق ، ويظهرون الغنى بالله والاكتفاء به عن كل ما سواه ، وإذا بذلوا أموالهم أعطوها لله وبالله ومن الله وإلى الله وابتغاء مرضاة الله ، هجم عليهم اليقين ، وتمكنوا من شهود رب العالمين ، فلا يقرب ساحتهم الشيطان ، ولا يرون فى الدارين إلا الملك الديان ، تحبهم ملائكة الرحمن ، ويحن إليهم الإنس والجان. نفعنا الله بمحبتهم ، وخرطنا فى مسلكهم ، آمين.
ثم رغّب الحق - تعالى - فى الإنفاق مع الإخلاص ، الذي هو عنوان الدين الخاص ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 40]
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40)
قلت : الذرة : النملة الصغيرة الحمراء. وتطلق على جزء من أجزاء الهباء. ومن نصب (حسنة) فخبر كان.
وأنث الضمير باعتبار الخبر. أو لإضافة مثقال إلى ذرة ، فاكتسب التأنيث ، ومن رفع فهى تامة ، وحذف نونها على غير قياس ، تشبيها لها بحروف العلة. وضاعف وضعّف بمعنى واحد.(1/504)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 505
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ أحدا بحيث ينقص من ثواب عمله ، أو يزيد فى عقاب ما يستحقه ، ولو مثقال ذرة. بل يجازى كلا على قدر عمله. فإن كان صالحا ، ولو صغر قدره ، عظم أجره. وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها بعشر أمثالها إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة ، بحسب الإخلاص. قال أبو هريرة رضي اللّه عنه : سمعت النبي صلّى اللّه عليه وسلم يقول : «إنّ اللّه يعطى المؤمن على الحسنة ألفى ألف حسنة» ، ثم تلا إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ الآية.
وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ، وخيرا جسيما ، فضلا منه وإحسانا. قال صلّى اللّه عليه وسلم : «إنّ اللّه لا يظلم المؤمن حسنة ، بل يثاب عليها الرزق فى الدّنيا ويجزيه بها فى الآخرة. والكافر يعطيه بها فى الدّنيا ، فإذا كان يوم القيامة لم يكن له حسنة».
الإشارة : كما أن الحق تعالى لا يظلم طالبى الأجور ، بل يضاعف لهم فى زيادة الحور والقصور ، كذلك لا يبخس طالبى القرب والحضور ، ورفع الحجب والستور. بل كلما فعلوا من أنواع المجاهدات ضاعف لهم أنوار المشاهدات. وكلما نقص لهم من الحس - ولو مثقال ذرة - زادهم فى المعنى قدره وأكثر شهودا ونظرة. وكلما يقهر النفس ولو مقدار الفتيل ، شربوا مقداره وأكثر من خمرة الجليل ، وهذا كله مع صحبة المشايخ أهل التربية ، وإلّا فلا تزيده مجاهدته إلا حجبا وبعدا عن الخصوصية. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر الحق تعالى الموطن الذي تظهر فيه مقادير الأعمال ، فقال :
[سورة النساء (4) : الآيات 41 الى 42]
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42)
قلت : (كيف) إذا كان الكلام بعدها تامّا أعربت حالا ، كقولك : كيف جاء زيد؟ وإذا كان ناقصا ، كانت خبرا ، كقولك : كيف زيد؟ وهى هنا خبر ، أي : كيف الأمر إذا ... إلخ. وهى مبنية لتضمنها معنى الاستفهام ، والعامل فى (إذا) مضمون المبتدأ ، أو الخبر ، أي : كيف يستقر الأمر أو يكون إذا جئنا؟ ومن قرأ (تسوّى) بالشد ، فأصله تتسوى ، أدغمت الأولى فى الثانية ، ومن قرأ (لو تسوّى) بالبناء للمفعول فحذف الثانية.
يقول الحق جل جلاله : فَكَيْفَ يكون حال هؤلاء الكفرة واليهود إِذا قامت القيامة وجِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ يشهد عليها بخيرها وشرها ، وهو نبيهم الذي أرسل إليهم ، وَجِئْنا بِكَ أنت يا محمد عَلى هؤُلاءِ الأمة التي بعثت إليهم شَهِيداً عليهم ، أو على صدق هؤلاء الشهداء شهيدا ، تشهد على صدق رسالتهم وتبليغهم؟ لعلمك بعقائدهم واستجماع شرعك مجامع قواعدهم ، وقيل : عَلى هؤُلاءِ الكفرة المستفهم عن حالهم ، (1/505)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 506
وقيل : على المؤمنين لقوله : لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً. يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ أي : الذين جمعوا بين الكفر والعصيان يتمنون أن تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ فيكونون ترابا لما يرون من هول المطلع ، فإذا شهدت عليهم الرسل بالكفر قالوا : وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ، فينطق ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بشركهم فيفتضحون وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً واحدا ، لأنهم كلما هموا بالكتمان شهدت عليهم جوارحهم بالكفر والعصيان.
وقيل : إن القيامة مواطن ، فى موطن لا يتكلمون ولا تسمع إلا همسا ، وفى موطن يتكلمون ويقولون : والله ربنا ما كنا مشركين ، إلى غير ذلك من اختلاف أحوالهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة : لا بد أن يحصل الندم لمن فاته صحبة أهل الخصوصية ، حتى مات محجوبا عن مشاهدة أسرار الربوبية ، لا سيما إذا انضم إليهم كفرهم بخصوصيتهم والإنكار عليهم ، وذلك حين يكشف له عن مقامهم البهي وحالهم السنى ، مصاحبين للمقربين فى جوار الأنبياء والمرسلين ، وهو فى مقام أهل اليمين ، ثم يعاتب على ما أسر عليه من الكبائر ، وهى معاصى القلوب والضمائر ، وهذا إذا مات على الإسلام ، وإلا فالإنكار على الأولياء شؤمه سوء الخاتمة. والعياذ بالله من ذلك. وقد تقدم أن العارفين بالله يشهدون على العلماء ، والعلماء يشهدون على العموم ، ونبينا - عليه الصلاة والسلام - يزكى من يحتاج إلى التزكية. والله تعالى أعلم.
ثم تكلم على عماد الدين وهى الصلاة ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 43]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43)
قلت : جملة (و أنتم سكارى) : حال ، وسكارى : جمع سكران ، ويجمع على سكارى بالفتح ، وسكرى بالسكون ، و(لا جنبا) عطف على جملة الحال ، و(جنب) يستوى فيه الواحد والاثنان والجماعة والمذكر والمؤنث ، لأنه يجرى مجرى المصدر ، فلا يثنى ولا يجمع. و(إلا عابرى) مستثنى من عام الأحوال ، وأصل الغائط : الموضع المنخفض من الأرض ، ثم أطلق على الواقع فيه مما يخرج من الإنسان.(1/506)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 507
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى : لا تقوموا إليها وأنتم سكارى من خمر ، أو غلبة نوم ، أو شدة غفلة ، حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ فى صلاتكم ، وتتدبروا ما تقرءون فيها ، فالصلاة من غير حضور خاوية ، وعند الخصوص باطلة ، روى أن عبد الرحمن بن عوف صنع مأدبة ، ودعا إليها نفرا من الصحابة ، حين كانت الخمر مباحة ، فأكلوا وشربوا حتى ثملوا ، وجاء وقت صلاة المغرب ، فتقدم أحدهم ليصلى بهم ، فقرأ : أعبد ما تعبدون - من غير نفى - فنزلت الآية قبل تحريم الخمر ، ثم حرمت بآية المائدة.
ولا تقربوها حالة جنابتكم فى أي حال كان ، إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ أي : فى وقت سفركم ، حيث لم تجدوا ماء ، بدليل ما يأتى ، فيتيمم ويقرب الصلاة وهو جنب ، وفيه دليل أن التيمم لا يرفع الحدث ، قيل المراد بالصلاة مواضعها ، وهى المساجد فلا يدخلها الجنب إلا مارا ، وبه قال الشافعي - رضى اللّه عنه - وقال أبو حنيفة : لا يجوز المرور ، إلّا إذا كان فيه الماء والطريق. وقال مالك : لا يدخل إلا بالتيمم ولا يمر به أصلا.
فلا تقربوا الصلاة وأنتم جنب حَتَّى تَغْتَسِلُوا.
وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى تخافون ضرر الماء ، أو زيادته ، أو تأخر برء ، أو منع الوصول إلى الماء ، أَوْ عَلى سَفَرٍ لم تجدوه فيه ، أَوْ كنتم فى الحضر محدثين حيث جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ، أو البول ، أو بغيره من الأحداث ، أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ أي : مست بشرتكم بشرتهن ، بقصد اللذة أو عند وجدانها ، وبه قال مالك.
وقال الشافعي : ينقض مطلقا ، قصد أم لا ، وجد أم لا ، ولو بميتة ، وقال أبو حنيفة : إن كانت ملامسة فاحشة بحيث يحصل الانتشار نقضت ، وإلا فلا.
وقال ابن عباس والحسن البصري ومحمد بن الحسن : لا تنقض الملامسة مطلقا ، ويقاس على اللمس سائر نواقض الأسباب ، فتحصّل أن «أو» تبقى على أصلها من التقسيم ، فتكون الآية نصا فى تيمم الحاضر الصحيح ، وبه قال مالك ، ولا يعيد. وقال الشافعي : يصلى بالتيمم ويعيد ، وقال أبو حنيفة : لا يصلى حتى يجد الماء ، ومن قال : «أو» بمعنى الواو فخروج عن الأصل بلا داع.
ثم قيّد التيمم فى هذه الأحوال بفقد الماء ، فقال : فَلَمْ تَجِدُوا ماءً كافيا ، أو لم تقدروا على استعماله ، فَتَيَمَّمُوا أي : اقصدوا صَعِيداً طَيِّباً أي : طاهرا ، وهو ما صعد على وجه الأرض من جنسها كتراب ، وهو الأفضل ، وثلج وخضخاض «1» وحجر ومدر ، لا شجر وحشيش ومعدن ذهب وفضة ، وما التحق بالعقاقير ، كشب ، وملح ، وكبريت ، وغاسول «2» وشبهه ، فلا يجوز. وقال أبو حنيفة : بكل شىء من الأرض وما اتصل بها كشجر
___________
(1) الخضخاض درب من القطران أسود رقيق تطلى به الإبل الجربى.
(2) الغاسول : عشب ينبت فى الصحراء.(1/507)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 508
وكحل ، وزرنيخ ، وشب ونورة ، وجص ، وجوهر ، إلا منخالة الذهب والفضة والرصاص. وقال الشافعي : لا يجوز إلا بالتراب المنبت خاصة ، وبه فسر الطيب ، واشترط علوق التراب بيده ، ولم يشترطه غيره.
ثم علّم الكيفية فقال : فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ. قال مالك : اليد اسم للكف بدليل قطع السارق منه ، فجعل المسح إلى المرفق سنة. وقال الشافعي : فرض ، قياسا على الوضوء ، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً فلذلك يسّر عليكم ورخص لكم فى التيمم.
الإشارة : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا صلاة الحضرة القدسية ، وأنتم سكارى بحب الدنيا الدنية ، حتى يذهب عنكم سكر حبها ، وتعلموا ما تقولون فى مناجاة خالقها ، ولا جنبا من جنابة الغفلة ، إلا ما يمر بالخواطر على سبيل الندرة والقلة ، حتى تغتسلوا بماء الغيب ، الذي يحصل به طهارة الجنان ، ويغيب المتطهر به عن رؤية الأكوان.
وإليه أشار ابن العربي الحاتمي : كما فى طبقات الشعراني ، ونسبها غيره للجنيد - رضى الله عنهم أجمعين - وهو الأصح ، بقوله :
توضّأ بماء الغيب إن كنت ذا سرّ وإلّا تيمّم بالصّعيد أو الصّخر
وقدّم إماما كنت أنت إمامه وصلّ صلاة الظّهر فى أول العصر
فهذى صلاة العارفين بربّهم فإن كنت منهم فانضح البرّ بالبحر.
أي : إن لم تقدر على الطهارة الأصلية وهى الغيبة عن الأحداث الكونية ، فاقصد العبادة الحسية ، وقدّم الشريعة أو من قام بها من أهل التربية النبوية أمامك ، بعد أن كان يطلبك قبل أن تعرفه ، واجمع ظهر الشريعة لعصر الحقيقة ، فهذه صلاة العارفين ، فإن كنت منهم فانضح برّ ظاهرك بحقيقة باطنك ، فما كمن فى غيب السرائر ظهر فى شهادة الظواهر. لهذا أشار تعالى بقوله : (و إن كنتم مرضى) بحب الهوى ، (أو على سفر) فى عجلة شغل الدنيا ، أو جاء أحد منكم من غائط الحس ، أو لامستم العلوم الرسمية ، وانطبع صور خيالها فى قلوبكم ، ولم تجدوا من يسقيكم ماء الغيب ، وهى الخمرة الأزلية ، فاقصدوا الأعمال الحسية ، فلعلها توصلكم إلى الأعمال الباطنية ، (إن الله كان عفوا غفورا) ، وفى الحكم : «كيف يشرق قلب صور الأكوان منطبعة فى مرآته؟ أم كيف يرحل إلى الله وهو مكبل بشهواته ، أم كيف يطمع أن يدخل حضرة الله وهو لم يتطهر من جنابة غفلاته؟ أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته؟».(1/508)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 509
ثم نبه الحق تعالى على عداوة اليهود ، وأنّ من شأنهم إذا سمعوا عليكم مثل ما وقع من تحريف الآية الذي صدر من المصلى فى حال السكر فرحوا بذلك ، فحذّر المؤمنين من العود لمثل ذلك ، فقال :
[سورة النساء (4) : الآيات 44 الى 45]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45)
قلت : دخلت الباء على الفاعل فى (كفى بالله) ، لتضمنه معنى اكتف بالله وكيلا.
يقول الحق جل جلاله : أَلَمْ تَرَ يا محمد ، أو يا من يسمع ، ببصرك أو بقلبك ، إِلَى حال الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً يسيرا مِنَ علم الْكِتابِ أي : التوراة ، وهم أحبار اليهود ، يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ بالهدى ، أي :
يستبدلونها بها بعد تمكنهم منها عادة ، وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ أي : الطريق الموصلة إلى الحق ، أي :
يتمنون انحرافكم عنها ، فإذا سمعوا عنكم ما يحرفكم عنها فرحوا واستبشروا ، لأنهم انحرفوا عنها فحرفوا كتابهم وبدلوا ، فتمنوا أن تكونوا مثلهم ، فاحذروا ما يتوقع منكم أعداؤكم ، فإن الله أعلم بهم منكم ، فسيكفيكم الله أمرهم ، فثقوا به وتوكلوا عليه ، فكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا ، فسيتولى أمركم وينصركم على من عاداكم. وبالله التوفيق.
الإشارة : من شأن أهل الإنكار ، ولا سيما من سلف له فى أسلافه رياسة أو إظهار ، إذا سمعوا بأهل النسبة وقع لهم شىء من الأكدار ، فرحوا واستبشروا ، وودوا لو حادوا كلهم عن سبيل الحق ، والله مطلع على أسرارهم ، وكاف بأسهم وشرهم ، (و كفى بالله وليا) لأوليائه ونصيرا لأحبابه. والله تعالى أعلم.
ثم بيّنهم ، أو ذكر حال فريق منهم ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 46]
مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46)
قلت : (من الذين هادوا) : خبر عن محذوف ، أي : منهم قوم يحرفون ، أو بيان للذين قبله ، أو متعلق بأعدائكم.
يقول الحق جل جلاله : من اليهود قوم تمردوا فى الكفر وهم أحبارهم ، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ وهو التوراة عَنْ مَواضِعِهِ أي : يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها ، بإزالة لفظه أو تأويله. وقال ابن عباس :
(لا يقدر أحد أن يحرّف كلام الله ولكن يفسرونه على غير وجهه) ، وَيَقُولُونَ لمن دعاهم إليه ، وهو(1/509)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 510
الرسول صلّى اللّه عليه وسلم : سَمِعْنا قولك ، وَعَصَيْنا أمرك ، وَاسْمَعْ منا غَيْرَ مُسْمَعٍ قولك ، أي : لا نلتفت إليه ، أو دعاء بالصمم : أي : لا سمعت ، أو غير مسمع منا مكروها ، نفاقا ، ويقولون له مكان انظرنا : راعِنا قاصدين بذلك الشتم والسخرية ، من الرعونة ، وقد كان الصحابة يخاطبون به الرسول - عليه الصلاة والسلام - ومعناه :
انظرنا. أو راعنا بقلبك ، فوجد اليهود بها سبيلا إلى الشتم ، فنهاهم الله عن ذلك ، وبقيت اليهود تقولها شتما واستهزاء لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ ، أي : فتلا لها عن معناها ، من الانتظار إلى ما قصدوا من رميه بالرّعونة ، وَطَعْناً فِي الدِّينِ أي : استهزاء به ، وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا مكان سمعنا وعصينا ، وَاسْمَعْ منا فقط ، مكان : واسمع غير مسمع ، وَانْظُرْنا مكان راعنا ، لَكانَ قولهم ذلك خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وأعدل ، وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أي : طردهم وأبعدهم بسبب كفرهم ، فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا إيمانا قَلِيلًا لا يعبأ به وهو الإيمان بالبعض والكفر بالبعض من الآيات والرسل. والله تعالى أعلم.
الإشارة : والله ما ربح من ربح ، إلا بالأدب والتعظيم ، وما خسر من خسر إلا من فقدهما. قال بعضهم :
«اجعل عملك ملحا ، وأدبك دقيقا». وآداب الظاهر عنوان آداب الباطن ، ويظهر الأدب فى حسن الخطاب ، ورد الجواب ، وفى حسن الأفعال ، وظهور محاسن الخلال. والله تعالى أعلم.
ثم دعاهم إلى الإيمان بعد أن وسمهم بالعصيان ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 47]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47)
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود آمِنُوا بِما نَزَّلْنا من القرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ من التوراة مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً أي : نغير صورها ونمحو تخطيط أشكالها ، فلا تبقى عين ولا أنف ولا حاجب ، فَنَرُدَّها عَلى هيئة أَدْبارِها من الأقفاء ، أو ننكسها إلى ورائها فى الدنيا ، أَوْ نَلْعَنَهُمْ أي : نخزيهم بالمسخ ، كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ ، فمسخناهم قردة وخنازير ، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ، لا مرد له ، ولعله كان مشروطا بعدم إيمان بعضهم ، أو يراد بطمس الوجوه ما يكسوها من الذلة والصغار. ويراد باللعن حقيقته ، أي : نلعنهم على لسانك كما لعنوا على لسان داوود وعيسى بن مريم.(1/510)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 511
وهذه الآية كانت سبب إسلام كعب الأحبار ، سمعها من بعض الصحابة فأسلم فى زمن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه. والمسخ جائز على هذه الأمة ، كما وقع فى الأمم السابقة ، بدليل ما فى كتاب الأشربة من البخاري أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : «ليكوننّ من أمّتى أقوام يستحلّون الحر والحرير ، والخمر والمعازف ، ولينزلنّ أقوام إلى جنب علم ، يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم لحاجة ، فيقولون : ارجع إلينا غدا ، فيبيّتهم الله ، ويضع عليهم العلم ، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة».
الإشارة : حملة الشريعة يخاطبون بالإيمان بأهل الحقيقة ، لأنها لبها وصفاؤها ، فإن امتنعوا من الإيمان بها ومن الإذعان لأهلها ، طمس الله وجوه قلوبهم ، وملأها خوفا وجزعا وحبّا للدنيا ، وردها على أدبارها ، فلا تفهم أسرار الكتاب ولا تفقه إشارة الخطاب ، فإن قصّروا عن حقوق الشريعة ، وغيّروا أحكامها مسخوا قردة وخنازير. وفى نوادر الأصول بسنده إلى رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم قال : «تكون فى أمّتى قزعة «1» ، فيصير النّاس إلى علمائهم ، فإذا هم قردة وخنازير».
قال الترمذي الحكيم : فالمسخ : تغيير الخلقة عن جهتها ، فإنما حل بهم المسخ لأنهم غيّروا الحق عن جهته ، وحرفوا الكلم عن مواضعه ، فمسخوا عن أعين الخلق ، وقلوبهم عن رؤية الحق. فمسخ الله صورهم وبدّل خلقتهم ، كما بدلوا الحق باطلا. ه. وبالله التوفيق.
ولما دعاهم إلى الإيمان ، أخبرهم أنهم إن داموا على الكفر لا مطمع لهم فى الغفران ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 48]
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ لأنه بتّ الحكم على خلود عذابه ، لأن الله تعالى غيور لا أحد أغير منه. كما فى الحديث ، ومن عادة الملوك إذا خرج أحد من رعيته ونصر غيره لا يقبل منه إلا الرجوع أو الموت. ولا شفاعة تنفع فيه غير الرجوع عنه ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ الشرك لِمَنْ يَشاءُ من الكبائر والصغائر. تاب أم لا. فالعصاة إذا لم يتوبوا فى مشيئة الله ، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً ارتكب ما تستحقر دونه الآثام. وهو إشارة إلى المعنى الفارق بينه وبين سائر الذنوب ، والله تعالى أعلم.
___________
(1) فى الأصول «فزعة» بالفاء ، والمثبت هو الذي الجامع الكبير للسيوطى وكنز العمال. والقزعة : قطعة من الغيم وجمعها : قزع.
انظر النهاية فى غريب الحديث (قزع).(1/511)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 512
الإشارة : ولما رأت الصوفية أن الشرك لا يغفر ، ولا يسمح فى شىء منه ، جليّا أو خفيا ، حققوا إخلاصهم ، ودققوا معاملتهم مع ربهم ، وفتشوا على قلوبهم ، هل بقي فيها شىء من محبة غير مولاهم ، أو خوف من شىء دونه ، وطهروا توحيدهم من نسبة التأثير لشىء من الكائنات ، فتوجهوا إلى الله فى إزالة ذلك عنهم.
قال بعضهم : شربت لبنا فأصابنى انتفاخ ، فقلت ضرنى ذلك اللبن ، فلما كنت ذات يوم أتلو ، وبلغت هذه الآية قلت : يا رب أنا لا أشرك بك شيئا ، فقال لى هاتف : ولا يوم اللبن ، فبادرت إلى التوبة. أ. ه. بالمعنى. والله تعالى أعلم.
ثم عاتبهم على تزكية أنفسهم بالدعوى ، فقال :
[سورة النساء (4) : الآيات 49 الى 50]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50)
يقول الحق جل جلاله : أَلَمْ تَرَ يا محمد إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ، وهم اليهود ، قالوا : نحن أبناء الله وأحبّاؤه ، وقيل : طائفة منهم ، أتوا بأطفالهم إلى رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم فقالوا : هل على هؤلاء ذنب؟ قال : «لا».
قالوا : والله ما نحن إلا كهيئتهم ، ما عملنا بالنّهار يكفّر عنّا باللّيل ، وما عملنا باللّيل يكفّر عنّا بالنّهار ، فنزلت فيهم الآية. وفى معناهم : من زكى نفسه وأثنى عليها قبل معرفتها.
بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ لأنه العالم بخفيات النفوس وكمائنها ، وما انطوت عليه من قبيح أو حسن ، فيزكى من يستحق التزكية ، ويفضح المدّعين ، وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ، وهو الخيط الذي فى شق النواة ، يضرب مثلا لحقارة الشيء ، فإن الله لا يظلم مثقال ذرة ، انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فى زعمهم أنهم أبناء الله ، أو أنهم معغفور لهم ، وَكَفى بِهِ أي : بالافتراء ، إِثْماً مُبِيناً أي : ظاهرا لا يخفى على أحد.
الإشارة : قال بعض الصوفية : للنفس من النقائص ما لله من الكمالات ، فلا ينبغى للعبد أن يزكى نفسه ، ولو بلغ فيها من التطهير ما بلغ ، ولا يرضى عنها ولو عملت من الأعمال ما عملت. قال أبو سليمان الداراني : لى أربعون سنة وأنا متّهم لنفسى. وفى الحكم : «أصل كل معصية وغفلة وشهوة : الرضا عن النفس ، وأصل كل طاعة ويقظة وعفة : عدم الرضا منك عنها ، ولأن تصحب جاهلا لا يرضى عن نفسه خير من أن تصحب عالما يرضى عن نفسه فأىّ علم لعالم يرضى عن نفسه؟! وأي جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه؟!».(1/512)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 513
ثم وبخهم على سجودهم للأصنام. وشهادتهم لأهل الكفر بأنهم أهدى من أهل الإسلام ، فقال :
[سورة النساء (4) : الآيات 51 الى 52]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52)
قلت : الجبت فى الأصل : اسم صنم ، فاستعمل فى كل ما عبد من دون الله ، والطاغوت : كل باطل من معبود أو غيره ، أو الجبت : السحر ، والطاغوت : الساحر ، وبالجملة : هو كل ما عبد أو أطيع من دون الله ، وقال الجوهري :
الجبت : اسم لكل صنم ولكل عاص ولكل ساحر وكل مضلّ ، والطاغوت : الشيطان ، وأصله : طغيوت ، فعلوت ، من الطغيان ، ثم قلب فصار طيغوت ، ثم قلبت الياء ألفا.
يقول الحق جل جلاله : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ علم الْكِتابِ ، وهم أحبار اليهود يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ يقرون بصحة عبادتهما ، وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ الكفرة أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا طريقا ، نزلت فى اليهود - لعنهم الله - : كانوا يقولون : إن عبادة الأصنام أرضى عند الله مما يدعو إليه محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وقيل : فى حيى بن أخطب وكعب بن الأشرف ، خرجا فى سبعين راكبا إلى مكة يحالفون قريشا على محاربة رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم بعد وقعة أحد ، وينقضون العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم ، فنزل كعب على أبى سفيان ، فأحسن مثواه ، ونزلت اليهود فى دور قريش. فقال أهل مكة : أنتم أهل كتاب ، ومحمد صاحب كتاب ، ولا نأمن أن يكون هذا مكيدة منكم ، فإن أردتم أن نخرج معكم فاسجدوا لهذين الصنمين ، وآمنوا بهما ، ففعلوا ، فذلك قوله تعالى : يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ.
ثم قال أبو سفيان لكعب : إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ، ونحن أميون لا نعلم ، فأيّنا أهدى سبيلا وأقرب إلى الحق ، نحن أو محمد؟ قال كعب : اعرضوا علىّ دينكم ، فقال أبو سفيان : نحن ننحر للحجيج الكوماء - أي : العظيمة - من النوق - ونسقى الماء ، ونقرى الضيف ، ونفك العاني ، ونصل الرحم ، ونعمر بيت ربنا ، ونطوف به ، ونحن أهل الحرم ، ومحمد فارق دين آبائه ، وقطع الرحم وفارق الحرم ، فقال كعب : أنتم والله أهدى سبيلا. ه.
أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وأبعدهم وأسحقهم ، وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً ينصره من عذاب الله. فقد قتل هؤلاء كلهم شر قتلة ، وذهبوا إلى الهاوية. عائذا بالله.
الإشارة : قال الورتجبي : وبّخ الله تعالى أهل ظاهر العلم الذين اختاروا الرياسة ، وأنكروا على أهل الولاية ، وآثروا صحبة المخالفين ، يقبلون هواجس نفوسهم التي هى الجبت ، ويخطون على آثار الطاغوت ، التي هى إبليس. ه.(1/513)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 514
قلت : وينسحب التوبيخ على من فضّل أهل الظاهر على أهل الباطن ، وفضّل العلماء على الأولياء ، ويقولون :
هم أهدى منهم سبيلا. هيهات! بينهم من البون ما بين السماء والأرض.
والكلام إنما هو فى التفضيل بين العارفين بالله ، الذين جمعوا بين الفناء والبقاء ، وبين العلماء والأتقياء. وأما العبّاد والزهاد والصالحون فلا شك أن العلماء الأتقياء أفضل منهم ، وإليهم أشار صلّى اللّه عليه وسلم بقوله : «فضل العالم على العابد كفضلى على أدناكم». وكذلك الأحاديث التي وردت فى تفضيل العلماء. وأما العارفون بالله فهم أعظم العلماء ، لأن علمهم متعلق بذات الله كشفا وذوقا ، وعلماء الظاهر علمهم متعلق بأحكام الله. مفرقون عن الله ، بل هم أشد حجابا من غيرهم عن الله. قال بعض الأولياء : أشد الناس حجابا عن الله : العلماء ثم العباد ثم الزهاد. ه. لأن حلاوة ما هم فيه تمنعهم عن الانتقال عنه ، وقد تقدم الكلام عند قوله : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ «1» بأبلغ من هذا. والله تعالى أعلم.
ثم ردّ الحق تعالى على اليهود ، حيث ادعوا أن الملك سيصير إليهم ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 53]
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53)
قلت : «أم» : منقطعة ، بمعنى بل ، والهمزة للإنكار ، وهو إنكار وجحد لما زعمت اليهود من أنّ الملك سيصير لهم ، و(إذا) إن فصل بينها وبين المضارع ب - «لا» ففيها الإهمال والإعمال ، وقد قرئ : (و إذا لا يلبثوا) ، والنقير :
النقرة التي فى ظهر النواة ، وهو هنا كناية عن نهاية بخلهم.
يقول الحق جل جلاله منكرا على اليهود : أيحصل لهم نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ والرياسة؟ هيهات ، لا يكون هذا أبدا ، فكيف يكون لهم الملك وهم أبخل الناس؟. فإذا أوتوا شيئا من الملك لا يعطون الناس نقيرا ، فما بالك بأكثر ، والملك والنصر لا يكونان إلا لأجل الكرم والجود والشجاعة ، وإصابة الرأى وحسن التدبير ، وهم بعداء من هذه المكارم.
الإشارة : لا يمكن الله من العز والنصر والتصرف الظاهر أو الباطن إلا أهل السخاء والجود ، فمن جاد بماله حتى لا يبالى كم أعطى ولا لمن أعطى ، مكّنه الله من العز والتصرف الحسى ، ومن جاد بنفسه وجاهه ، وبذلهما فى مرضاة ربه ، مكّنه الله من العز والنصر والتصرف المعنوي يتصرف بهمته فى الوجود بأسره ، من عرشه إلى فرشه ، ويدوم عزه ونصره إلى أبد الأبد. والله تعالى أعلم.
___________
(1) راجع إشارة الآية 110 من سورة آل عمران.(1/514)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 515
ولمّا كان الحسد والبخل رذيلتين متناهيتين فى الذم وصفهم الحق - تعالى - أيضا به «1» ، فقال :
[سورة النساء (4) : الآيات 54 الى 57]
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57)
قلت : (أم) بمعنى بل ، و(سعيرا) تمييز.
يقول الحق جل جلاله توبيخا لليهود على الحسد : أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ ، أي : العرب حيث انتقلت النبوة إليهم ، وقد كانت فى أسلافهم ، عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ، وهو ظهور النبوة فيهم ، أو رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم لأنه اجتمع فيه ما افترق فى سائر الناس ، حسدوه على ما آتاه الله من فضله ، من النبوة وغيرها ، وقالوا - لعنهم الله - : ماله همّ إلا النساء ، ولو كان نبيا لشغله أمر النبوة عن النساء.
فكذّبهم الله - تعالى - وردّ عليهم بقوله : فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ وهم : يوسف وداود وسليمان ، الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ أي : النبوة ، وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً ، فقد اجتمع لداود عليه السّلام مائة امرأة. ولسليمان - عليه السّلام - ألف امرأة : ثلاثمائة مهيرة ، - أي بالمهر - وسبعمائة سرية ، فقال لهم - عليه الصلاة والسلام - حين نزلت الآية : ألف امرأة عند رجل ، ومائة امرأة عند آخر ، أكثر من تسع نسوة ، فسكتوا «2».
فَمِنْهُمْ أي : اليهود ، مَنْ آمَنَ بِهِ أي : بمحمد - عليه الصلاة والسلام - كعبد الله بن سلام وأصحابه ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ أي : أعرض عنه ، أو : من آل إبراهيم من آمن بإبراهيم ، ومنهم من صد عنه ، ولم يكن فى ذلك توهين لقدر إبراهيم ، فكذلك لا يوهن كفر هؤلاء أمرك ، أو : من أسلافهم من آمن بما أوتى آل إبراهيم من الكتاب والحكمة والملك ، ومنهم من صد عنه ، كما فعلوا مع سليمان وغيره. وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً لمن كفر بما جاء به أحد من الرسل ، أي : فإن لم يعاجلوا بالعقوبة فقد كفاهم ما أعد لهم من سعير جهنم.
___________
(1) أي بالحسد ، فقد ذكر البخل فى الآية السابقة.
(2) راجع تفسير البغوي.(1/515)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 516
ثم بيّن مآل من كفر ، فقال : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا المنزلة على رسلنا ، أو الدالة على وحدانيتنا ، سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً أي : نحرقهم بها ونشويهم ، كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ أي : لانت واحترقت بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها ، قال صلّى اللّه عليه وسلم : «تبدّل فى ساعة مائة مرّة». وقال الحسن : (تأكلهم النار فى كل يوم سبعين ألف مرة ، كلما أكلتهم وأنضجتهم قيل لهم : عودوا فيعودوان كما كانوا). وقال مجاهد : (ما بين جلده ولحمه دود ، لها جلبة - أي حركة - وهرير كجلبة حمر الوحش). روى أبو هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : «غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعا ، وضرسه مثل أحد».
وإنما بدلت جلودهم لِيَذُوقُوا ألم الْعَذابَ ، أي : يدوم لهم ذلك بخلق جلد آخر مكانه ، والعذاب فى الحقيقة للنفس العاصية لا لآلة إدراكها ، فلا محذور ، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً لا يمتنع عليه ما يريد ، حَكِيماً يعاقب على قدر حكمته.
ثم ذكر مقابل هؤلاء فقال : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ مما يستفذر وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا أي : دائما لا تنسخه شمس ، ولا يصحبه برد. قدّم وعيد الكفار على وعد المؤمنين ، لأن الكلام فيهم ، وذكر المؤمنين بالعرض. والله تعالى أعلم.
الإشارة : الحسد خلق مذموم ، لا يتطهر منه إلا الصديقون ، وكل من بقي فيه بقية من الحسد لا يشم رائحة المعرفة ، إذ لو عرف الله لم يجد من يحسد ، وقد قيل : الحسود لا يسود. وفى الحديث عنه صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال : «الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النّار الحطب». وقال سفيان : (بلغني أن الله تبارك وتعالى يقول : الحاسد عدو نعمتى ، غير راض بقسمتي التي قسمت بين عبادى). وأنشدوا :
ألا قل لمن كان لى حاسدا أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله فى فعله إذا أنت لم ترض لى ما وهب
جزاؤك منه الزيادة لى وألّا تنال الذي تطلب
وقال آخر :
إن تحسدونى فإنى غير لائمكم قبلى من الناس أهل الفضل قد حسدوا
فدام لى ولهم ما كان بي وبهم ومات أكثرنا غيظا بما يجد(1/516)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 517
ثم إن الحسود لا تزول عداواته ، ولا تنفع مداواته ، وهو ظالم يشتكى كأنه مظلوم. ولقد صدق القائل :
كل العداوة قد ترجى إزالتها إلا عداوة من عاداك من حسد
وقال حكيم الشعراء :
وأظلم خلق الله من بات حاسدا لمن بات فى نعمائه يتقلّب
وقال آخر :
إنى لأرحم حاسدىّ لفرط ما ضمّت صدورهم من الأوغار
نظروا صنيع الله فى فعيونهم فى جنّة وقلوبهم فى نار
قال بعض الحكماء : (الحاسد يضرّ نفسه ثلاث مضرات : إحداها : اكتساب الذنوب لأن الحسد حرام. الثانية :
سوء الأدب مع الله - تعالى - فإنّ حقيقة الحسد : كراهية إنعام الله على غيره ، واعتراض على الله فى فعله. الثالثة :
تألم قلبه وكثرة همه وغمه). عافانا الله من ذلك كله ، فالحاسد لا ينفك عن نار الحجاب وغم الحساب ، والمتطهر منه يدخل جنة الرضى والتسليم فى جوار الحبيب ، وهو محل الراحة والأمن فى الدارين ، وهو الظل الظليل. والله تعالى أعلم.
ولمّا كان حفظ نظام الدين لا يقوم إلا بالجهاد ، ولا ينتظم الجهاد إلا بنصب الإمام ، تكلم الحق - جل جلاله - على ما يتعلق بالأمراء ، ثم بعد ذلك يتكلم على الجهاد ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 58]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58)
قلت : «ما» فى (نعمّا) تمييز أو فاعل ، والمخصوص محذوف ، أي نعم شيئا شىء يعظكم به ، أو نعم الذي يعظكم به ذلك الأمر ، وهو رد الأمانات والعدل فى الحكومات.
قال زيد بن أسلم وشهر بن حوشب : نزلت الآية فى شأن الأمراء. ه قلت : وإن نزلت فى شأن عثمان بن طلحة - سادن الكعبة فهى عامة. والمخاطب بذلك أولا الرسول صلّى اللّه عليه وسلم وهو سيد الأمراء ، أمره الحق - تعالى - أن يرد المفاتح إلى عثمان ، وذلك أن عثمان أغلق باب الكعبة يوم فتح مكة ، وأبى أن يدفعها إلى رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم ليدخل(1/517)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 518
الكعبة ، وقال : لو علمت أنه رسول الله «1» ما منعته ، فلوى علىّ يده ، وأخذها منه ، فدخل رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم وصلّى ركعتين ، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ، ويجمع له السّدانة والسّقاية ، فأمره الله - تعالى - أن يرده إليه ، فأمر عليّا بأن يردّه ويعتذر إليه ، وكان ذلك سببا لإسلام عثمان ، ونزل الأمر بأن السّدانة فى أولاده أبدا.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ ، يا معشر الأمراء ، أن تردوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها من أنفسكم ، أو من رعيتكم فتنصفوا المظلوم من الظالم ، حتى يؤدى ما ائتمن عليه من دين ، أو وديعة ، أو غصب ، أو سرقة ، أو غير ذلك من حقوق العباد ، بعضهم من بعض ، وأن تؤدوا الزكاة إلى من يستحقها ، وتصرفوا بيت المال فيمن يستحقه ، لا تظلموا أهلها ، ولا تضيعوا منها شيئا فى غير مستحقها.
وَيأمركم إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ فى من ينفذ عليه حكمكم ، إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ أي : إن الله يعظكم بأمر نعم ما هو ، إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً لا يخفى عليه أحكامكم ، ولا ما أخفيتم من أمانات غيركم.
الإشارة : أمر الحق - جل جلاله - شيوخ التربية أن يؤدوا السر إلى من يستحقه من الفقراء ، إذا تحققوا أهليتهم له ، بحيث تخلوا عن الرذائل ، كالحسد والكبر وغيرهما ، وتحلوا بالفضائل ، كسلامة الصدر وسخاوة النفوس وحسن الخلق ، وغير ذلك من أوصاف الكمال ، فإن تحققوا بالتخلية والتحلية ، استحقوا الاطلاع على أسرار الربوبية ، التي هى أمانات عند أهل الخصوصية ، وأمرهم أن يحكموا بين الفقراء بالعدل ، فيمدوا كلا على قدر صدقه وخدمته ، والله تعالى أعلم.
ثم أمر الحق تعالى بطاعة الأمراء الذين أمرهم بالعدل وأداء الأمانة ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 59]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)
أعاد العامل فى قوله : (و أطيعوا الرسول) ، إشارة إلى استقلال الرسول بالطاعة ، ولم يعده فى أُولِي الْأَمْرِ إشارة إلى أنه يوجد منهم من لا تجب طاعته ، ثم بيّنه بقوله : فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ كأنه قيل : فإن لم يعملوا بالحق فلا تطيعوهم ، وردوا ما تخالفتم فيه إلى حكم الله ورسوله. قاله الطيبي ، وسيأتى تحرير ذلك إن شاء الله تعالى.
___________
(1) أي : أنه مرسل من عند اللّه.(1/518)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 519
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ فيما أمركم به ونهاكم عنه ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ كذلك. وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ أي : من ولى أمركم. من ولاة العدل كالخلفاء والأمراء بعدهم ، تجب طاعتهم فيما أمروا به من الطاعة دون المعصية إلا لخوف هرج. قال عليه الصلاة والسلام : «إنّما الطّاعة فى المعروف» ، فإن لم يعدل : وجبت طاعته خوفا من الفتنة. وهذا هو الأصح. لقوله - عليه الصلاة والسلام - :
«سيليكم ولاة ، فيليكم البرّ ببره ، والفاجر بفجوره ، فاستمعوا لهم ، وأطيعوا فى كل ما وافق الحق ، فصلوا وراءهم ، فإن أحسنوا فلهم ، وإن أساءوا فلكم وعليهم». رواه أبو هريرة.
وفى حديث آخر : «لا أن تروا كفرا بواحا ، لكم عليه من اللّه برهان». أي : فيجب عزلهم. وقال أيضا صلّى اللّه عليه وسلم لما سأله أبو وائل فقال : يا رسول الله أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعوننا حقنا ويسألون حقهم؟. فقال صلّى اللّه عليه وسلم : «اسمعوا وأطيعوا ، فإنّ عليهم ما حمّلوا وعليكم ما حملتم».
وقال جابر بن عبد الله والحسن والضحاك ومجاهد : أولو الأمر هم الفقهاء والعلماء ، أهل الدين والفضل ، يعلّمون الناس معالم دينهم ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، دليله. قوله تعالى : وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ ... الآية. قال أبو الأسود : ليس شىء أعز من العلم ، الملوك حكّام على الناس ، والعلماء حكّام على الملوك. ه.
فَإِنْ تَنازَعْتُمْ أنتم وأولو الأمر ، أو بعضكم مع بعض - أي : اختلفتم فى حكم شىء من أمر الدين فلم تعلموا حكمه ، فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ أي : إلى كتاب الله ، وَإلى الرَّسُولَ فى زمانه ، أو سنته بعد موته ، فإن لم يوجد بالنص فبالقياس. فالأحكام ثلاثة : مثبت بالكتاب ، ومثبت بالسنة ، ومثبت بالرد إليهما على وجه القياس. وعن إبراهيم بن يسار قال : قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : «اعملوا بالقرآن : أحلّوا حلاله ، وحرّموا حرامه ، وآمنوا به ولا تكفروا بشىء منه ، وما اشتبه عليكم فردّوه إلى اللّه تعالى وإلى أولى العلم من بعدي ، كيما يخبرونكم به» ، ثم قال : «وليسعكم القرآن وما فيه من البيان فإنّه شافع مشفّع ، وما حلّ مصدّق «1» وإن له بكل حرف نورا يوم القيامة».
فردوا الأحكام إليه وإلى الرسول ، إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فإن الإيمان يوجب ذلك. ذلِكَ الرد خَيْرٌ لكم وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا من تأويلكم بالرأى من غير رد ، وأحسن عاقبة ومآلا ، والله تعالى أعلم.
___________
(1) ما حل مصدق : أي خصم مصدّق. والمعنى : أنه شافع لمن عمل بما فيه ، ومصدّق عليه فيما يرفع من مساويه إذا ترك العمل به. انظر النهاية.(1/519)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 520
الإشارة : أولو الأمر عند الصوفية ، هم شيوخ التربية العارفون بالله ، فيجب على المريدين طاعتهم فى المنشط والمكره ، وفى كل ما أمروا به ، فمن خالف أو قال : «لم» لم يفلح أبدا ، ويكفى الإشارة عن التصريح عند الحذاق أهل الاعتناء ، فإن تعارض أمر الأمراء وأمر الشيوخ ، قدّم أمر الشيخ إلا لفتنة فادحة ، فإن الشيخ يأمر بطاعتهم أيضا لما يؤدى من الهرج بالفقراء ، فإن تنازعتم يا معشر الفقراء ، فى شىء من علم الشريعة أو الطريقة ، فردوه إلى الكتاب والسّنة. قال الجنيد رضي اللّه عنه : طريقتنا هذه مؤيدة بالكتاب والسنة ، فمن لم يقرأ القرآن ويتعلم الحديث لا يقتدى به فى هذا الشأن. ه. ويكفى المهم من ذلك ، وهو ما يتوقف عليه أمر عبادته. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر الحق تعالى من أعرض عن حكم الله ورسوله ، ورضى بحكم غيرهما ، فقال :
[سورة النساء (4) : الآيات 60 الى 63]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63)
قلت : (رأيت المنافقين) ، وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالنفاق وذمّا لهم به. وكان القياس : رأيتهم ، و(صدودا) : مصدر ، أو اسم مصدر الذي هو الصد ، والفرق بينه وبين المصدر : أن المصدر اسم للمعنى الذي هو الحدث ، واسم المصدر اسم للفظ المحسوس ، و(يحلفون) حال. و(فى أنفسهم) يتعلق بقل ، وقيل ببليغا. وهو ضعيف لأن الصفات لا يتقدم عليها معمولها ، اللهم إلا أن يتوسع فى الظروف.
يقول الحق جل جلاله : أَلَمْ تَرَ يا محمد إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وهم المنافقون ، يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ، كعب بن الأشرف لفرط طغيانه.
وفى معناه كل من يحكم بالباطل ، وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ، ويؤمنوا بالله ويرضوا بحكمه. وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً ، بأن يصرفهم عن حكم الله ورسوله.(1/520)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 521
قال ابن عباس : إنّ منافقا خاصم يهوديا فدعاه اليهوديّ إلى النّبىّ صلّى اللّه عليه وسلم ، ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف ، ثم اختصما إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فحكم لليهودى بالحق فلم يرض المنافق ، وقال : نتحاكم إلى عمر ، فقال اليهودي :
نعم فذهبا إلى عمر رضي اللّه عنه فقال اليهودي : قضى لى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فلم يرض بقضائه وخاصم إليك. فقال عمر للمنافق : أكذلك؟. قال : نعم ، فقال : على رسلكما حتى أخرج إليكما ، فدخل وأخذ سيفه فخرج ، فضرب به عنق المنافق حتى برد «1» ، وقال : هكذا أقضى لمن لم يرض بقضاء اللّه وسوله ، فنزلت الآية .. وقال جبريل عليه السّلام : إن عمر فرّق بين الحق والباطل. فسمى الفاروق.
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ أي : بعضهم ، يَصُدُّونَ عَنْكَ غير راضين بحكمك صُدُوداً عظيما. فَكَيْفَ يكون حالهم إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ كقتل عمر المنافق ، بسبب ما قدمت أَيْدِيهِمْ من عدم الرضى بحكم اللّه ، ثُمَّ جاؤُكَ يطلبون ديّة صاحبهم ، يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا بالانصراف إلى عمر إِلَّا إِحْساناً منه بالخصمين ، وَتَوْفِيقاً بينهما ، قطعا للنزاع بينهما ، قال تعالى : أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ من النفاق ، فلا يغنى عنهم الكتمان والحلف الكاذب من الله شيئا ، أو يعلم الله ما فى قلوبهم من الطمع فى الدية ، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ، أي : عن قبول معذرتهم ولا تمكنهم من طمعهم ، وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ ، أي : خاليا بهم قَوْلًا بَلِيغاً يبلغ إلى قلوبهم ، ويؤثر فيهم ، لينزجروا عن طلب دم صاحبهم ، وإنما أمر أن يعظهم خاليا بهم لأن النصح فى ذلك أنجح ، وأقرب للقبول ، ولذلك قيل : من نصحك وحدك فقد نصحك ، ومن نصحك مع الناس فقد فضحك. والله تعالى أعلم.
الإشارة : كل من دخل تحت ولاية شيخ التربية ، وجب أن يرد حكوماته كلها إليه ، ويرضى بما قضى عليه ، وترى بعض الفقراء يزعمون أنهم فى تربية الشيخ وتحت أحكامه ، ثم يتحاكمون إلى حكام الجور وقضاة الزمان فى أمر الدنيا وما يرجع إليها ، فهؤلاء قد ضلوا ضلالا بعيدا. إلا أن يتوبوا ويصلحوا ما أفسدوا ، بإصلاح قلب الشيخ حتى يجبر كسرهم ، فالمريد الصادق لا يصل إلى الحاكم ، ولو ذهب ماله كله. فإن كان ولا بد. فليوكل عنه فى ذلك.
فكيف إذا أصابت هؤلاء مصيبة وهى ظلمة القلب ، وفتنة الدنيا بسبب ما قدمت أيديهم من تخطى حكم شيخهم إلى حكم غيره ، ثم جاؤوك يحلفون بالله ما أردنا إلا إحسانا وهو حفظ مالنا ، وتوفيقا بيننا وبين خصمنا ، فيجب على الشيخ أن يعرض عن عتابهم ويذكرهم حتى يتوبوا ، . فإن تابوا فإن الله غفور رحيم.
___________
(1) أي : مات.(1/521)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 522
ثم أعاد الأمر بطاعة الرسول وتحكيمه فى جميع الأمور ترهيبا وترغيبا ، فقال :
[سورة النساء (4) : الآيات 64 الى 68]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68)
قلت : (توابا رحيما) مفعولا (وجد) إن كانت علمية ، أو (توابا) حال ، و(رحيما) بدل منه ، أو حال من ضميره إن فسرت بصادف.
يقول الحق جل جلاله : وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ من لدن آدم إلى زمانك ، إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وأمره بطاعته ، فمن لم يطعه ولم يرض بأحكامه فهو كافر به. وَلَوْ أَنَّهُمْ أي : المنافقون حين ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالترافع إلى غيرك ، والتحاكم إلى الطاغوت جاؤُكَ تائبين فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ بالتوبة ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ حين اعتذروا إليه حتى انتصب لهم شفيعا ، لَوَجَدُوا اللَّهَ أي : تحققوا كونه تَوَّاباً رَحِيماً ، قابلا لتوبتهم متفضلا عليهم بالرحمة والغفران. وإنما عدل عن الخطاب فى قوله : وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ولم يقل : واستغفرت لهم ، تفخيما لشأنه ، وتنبيها على أن من حق الرسول أن يقبل اعتذار التائبين ، وإن عظم جرمهم ، ويشفع لهم ، ومن جلالة منصبه أن يشفع فى عظائم الذنوب وكبائرها.
ثم أقسم بربوبيته على نفى إيمان من لم يرض بحكم رسوله ، فقال : فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ إيمانا حقيقيا حَتَّى يُحَكِّمُوكَ أي : يترافعوا إليك ، راضين بحكمك ، فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ أي : اختلط بينهم واختلفوا فيه ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً أي : ضيقا وشكا مِمَّا قَضَيْتَ ، بل تنشرح صدورهم لحكمك لأنه حق من عند الله. وَيُسَلِّمُوا لأمرك تَسْلِيماً. أي : ينقادوا لأمرك ظاهرا وباطنا.
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ، توبة من ذنوبكم ، كما كتبناه على بنى إسرائيل ، أو فى الجهاد فى سبيل الله ، أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ كما خرج بنو إسرائيل حين أمرناهم بالهجرة من مصر ، ما فَعَلُوهُ(1/522)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 523
إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ
وهم المخلصون. قال أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه : (لو كتب ذلك علينا لكنت أنا أول خارج). قال ثابت بن قيس بن شماس : (لو أمرنى رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم أن أقتل نفسى لفعلت). وكذلك قال عمر وعمار بن ياسر وابن مسعود وناس من أصحاب رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم : لو أمرنا لفعلنا. فبلغ ذلك النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال : «إنّ من أمّتى رجالا :
الإيمان فى قلوبهم أثبت من الجبال الرّواسى». فهؤلاء من القليل.
وسبب نزول قوله : فَلا وَرَبِّكَ .. إلخ : قضية الزّبير مع حاطب فى شراج الحرّة «1» ، كانا يسقيان به النّخل ، فتخاصما إلى رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم فقال عليه السّلام : «اسق يا زبير وأرسل إلى جارك» ، فقال حاطب : لأن كان ابن عمتك.
فقال - عليه الصلاة والسلام - : «اسق يا زبير ، واحبس الماء حتّى يبلغ الجدر «2» واستوف حقك». وقيل : نزلت فى اليهودي مع المنافق المتقدم ، وهو أليق بالسياق.
وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ من طاعة الرسول ، والرضى بحكمه ، لَكانَ خَيْراً لَهُمْ فى آجلهم وعاجلهم ، وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً فى دينهم وقوة فى إيمانهم ، أو تثبيتا لثواب أعمالهم ، وَإِذاً لو فعلوا ذلك لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً يصلون بسلوكه إلى حضرة القدس ، ودوام الأنس ، ويفتح لهم أسرار العلوم ، ومخازن الفهوم ، قال صلّى اللّه عليه وسلم : «من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم». والله تعالى أعلم.
الإشارة : كما أمر الله بطاعة رسوله صلّى اللّه عليه وسلم فى حياته ، أمر بطاعة ورثته بعد مماته ، وهم العلماء الأتقياء الذين يعدلون فى الأحكام ، والأولياء العارفون الذين يحكمون بوحي الإلهام ، فالعلماء حكّام على العموم ، والأولياء حكام على الخصوص ، أعنى من تعلق بهم من أهل الإرادة ، فمن لم يرض بحكم العلماء ، ووجد فى نفسه حرجا مما قضوا به عليه ، ففيه شعبة من النفاق ، وخصلة من المنافقين. ومن لم يرض بحكم الأولياء فقد خرج من دائرتهم ، ومن عش تربيتهم ، لأن حكم الرسول - عليه الصلاة والسلام - وحكم ورثته هو حكم الله ، ومن لم يرض بحكم الله خرج عن دائرة الإيمان.
فلا يكمل إيمان العبد حتى لا يجد فى نفسه حرجا من أحكام الله ، القهرية والتكليفية ، ويسلم لما يبرز من عنصر القدرة الأزلية ، كيفما كان ، فقرا أو غنى ، ذلّا أو عزا ، منعا أو عطاء ، قبضا أو بسطا ، مرضا أو صحة ، إلى غير ذلك من اختلاف المقادير. ويرضى بذلك ظاهرا وباطنا ، وينسلخ من تدبيره واختياره إلى اختيار مولاه فهو أعلم بمصالحه ، وأرحم به من أمه وأبيه : وبالله التوفيق. وهو الهادي إلى سواء الطريق.
___________
(1) الشراج : جمع شرجة ، وهى مسيل الماء من الحرّة إلى السهل ، والحرة : هى الأرض ذات الحجارة السوداء.
(2) الجدر : أي : الجدار الذي يحيط بالمزرعة ، وهو أصغر من الجدار. [.....](1/523)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 524
ثم وعد المطيعين وعدا جميلا ، وخيرا جزيلا ، ترغيبا فى امتثال ما أمر به من طاعة الرسول ، فقال :
[سورة النساء (4) : الآيات 69 الى 70]
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70)
قلت : «رفيقا» : تمييز لما فى (حسن) من معنى التعجب أو المدح ، ولم يجمع لأن فعيلا يحمل على الواحد والجمع ، أو لأنه أريد حسن كل واحد منهم.
يقول الحق جل جلاله : وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ ويرضى بأحكامهما ويمتثل أمرهما ويجتنب نهيهما ، فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ، وهم أكرم الخلق عند الله وأعظمهم قدرا مِنَ النَّبِيِّينَ والمرسلين وَالصِّدِّيقِينَ وهم من كثر صدقهم وتصديقهم وعظم يقينهم وهم الأولياء العارفون بالله ، وَالشُّهَداءِ الذين ماتوا جهادا فى سبيل الله ، وَالصَّالِحِينَ وهم العلماء الأتقياء ، ومن صلح حاله من عامة المسلمين.
قال البيضاوي : قسمهم أربعة أقسام ، بحسب منازلهم فى العلم والعمل ، وحث كافة الناس على ألّا يتأخروا عنهم.
وهم : الأنبياء الفائزون بكمال العلم والعمل ، المتجاوزون حد الكمال إلى درجة التكميل. ثم الصديقون الذين صعدت نفوسهم تارة بمراقى النظر فى الحجج والآيات ، وأخرى بمعارج التصفية والرياضات إلى أوج العرفان ، حتى اطلعوا على الأشياء وأخبروا عنها على ما هى عليها. ثم الشهداء الذين أدى بهم الحرص على الطاعة والجد فى إظهار الحق ، حتى بذلوا مهجهم فى إعلاء كلمة الله ، ثم الصالحون الذين صرفوا أعمارهم فى طاعته ، وأحوالهم فى مرضاته. ولك أن تقول : المنعم عليهم هم العارفون بالله ، وهؤلاء إما أن يكونوا بالغين درجة العيان ، أو واقفين فى مقام الاستدلال والبرهان ، والأولون إما أن ينالوا مع العيان القرب ، بحيث يكونون كمن يرى الشيء قريبا ، وهم الأنبياء ، أو لا ، فيكونون كمن يرى الشيء بعيدا ، وهم الصديقون ، والآخرون إما أن يكون عرفانهم بالبراهين القاطعة ، وهم العلماء الراسخون الذين هم شهداء الله فى أرضه. وإما أن يكون بأمارات وإقناعات تطمئن إليها نفوسهم ، وهم الصالحون. انتهى كلامه.
وفيه نظر من وجهين : أحدهما : أنه أطلق على أهل الاستدلال أنهم عارفون ، ولا يقال عند الصوفية فيه عارف ، حتى يترقى عن مقام الاستدلال ، وإلا فهو عالم فقط ، والثاني : أنه جعل الصديقين بمنزلة من يرى الشيء بعيدا ، (1/524)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 525
وأهل الفناء لم يبق لهم بعد ، بل غابوا فى القرب حتى امتحى اسمهم ورسمهم. فأىّ بينونة وأىّ بعد يبقى للعارف؟
لو لا فقدان الذوق ، ولكن لكلّ فن أربابه ، وسيأتى فى الإشارة تحقيق ذلك إن شاء الله.
ثم قال جل جلاله : وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً أي : ما أحسنهم رفقا فى الفراديس العلى ، فهم يتمتعون فيها برؤيتهم وزيارتهم والحضور معهم ، وإن كانوا أعلى منهم ، فلا يلزم من كونه معهم أن تستوى درجته معهم ، قال فى الحاشية : وتعقل مرافقة من دون النبي فى المدانات من حاله وكشفه ، بحيث لا يحجب عنه ، وإن كان لا مطمع له فى منزلته ، واعتبر برؤية البصائر له وعدم غيبته عنهم وأنسهم به والاستفادة منه ، وروى عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : «يزور الأعلون من أهل الجنة الأسفلين ، ولا يزور الأسفلون الأعلين ، إلا من كان يزور فى الله فى الدنيا ، فذلك يزور فى الجنة حيث شاء».
روى أن ثوبان مولى رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم أتاه يوما وقد تغيّر وجهه ونحل جسمه ، فسأله عليه الصلاة والسلام عن حاله ، فقال : ما بي وجع ، غير أنّى إذا لم أرك اشتقت إليك ، واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك ، ثمّ ذكرت الآخرة فخفت ألا أراك هناك لأنى عرفت أنك ترفع مع النّبيّين. وإن دخلت الجنّة ، كنت فى منزل أدون من منزلك ، وإن لم أدخل الجنّة فذلك حرىّ ألا أراك أبدا. فنزلت الآية وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ ... إلخ.
ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ إشارة إلى ما للمطيعين من الأجور ، ومزيد القرب والحضور ، وأنه فضل تفضل على عباده ، وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً بمقادير الأعمال والمقامات ، فيجازى كلّا على حسب مقامه. والله تعالى أعلم.
الإشارة : اعلم أن الطاعة التي توجب المعية الحسية فى النعيم الحسى الجسماني هى الطاعة الظاهرة الحسية.
والطاعة التي توجب المعية المعنوية فى النعيم الروحاني هى الطاعة الباطنية القلبية. فالمعية الحسية صاحبها مفروق ، والمعية المعنوية صاحبها مجموع ، لا يغيب عن حبيبه لحظة. هؤلاء هم الصديقون المقربون. وفوقهم الأنبياء ، وتحتهم الشهداء والصالحون.
وبيان ذلك أن العلم بالله تعالى : إما أن يكون عن كشف الحجاب وانقشاع السحاب ، أعنى سحاب الأثر ، وهم أهل الشهود والعيان. وإما أن يكون من وراء الحجاب ، يأخذون أجرهم من وراء الباب ، يستدلون بالآثار على المؤثر. وهم أهل الدليل والبرهان. والأولون إما أن يرتقوا إلى مكافحة الوحى ورؤية الملائكة الكرام. وهم الأنبياء والرسل - عليهم الصلاة والسلام - ، وإما أن يقصروا عن درجة الوحى ويكون لهم وحي إلهام ، وهم الصديقون أهل الحال والمقام ، فقد اشتركوا فى مقام العيان. لكن مقام الحضرة فضاؤه واسع ، والترقي فى معارج أسرار التوحيد غير(1/525)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 526
متناه ، فحيث انتهى قدم الولي ابتدأ ترقى النبي ، وأما أهل الحجاب فإما أن يكون علمهم بالله بالبراهين القطعية والدلائل السمعية ، وهم العلماء الراسخون ، وهو مقام الشهداء ، وإما أن يكون علمهم بالرياضات والمجاهدات وتواتر الكرامات ، وهم العباد والزهاد. وهو مقام الصالحين ، ويلتحق بهم عوام المسلمين ، لأن كل مقام من هذه المقامات فيه درجات ومقامات لا يحصرها إلا العالم بها. والله تعالى أعلم.
ثم رغّب فى الجهاد الذي هو المقصود ، فقال :
[سورة النساء (4) : الآيات 71 الى 74]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74)
قلت : الحذر والحذر واحد ، كالشّبه والشّبه ، وبطأ يستعمل لازما بمعنى ثقل ، ومتعديا - بالتضعيف - أي : بطّأ غيره ، و(لمن ليبطئن) اللام الأولى للابتداء ، والثانية للقسم ، أي : وإنّ منكم - أقسم بالله - لمن ليبطئن. وجملة :
(كأن لم يكن) : اعتراضية بين القول والمقول ، تنبيها على ضعف عقيدتهم ، وأن قولهم هذا قول من لا مواصلة بينكم وبينه.
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تأهبوا واستعدوا لجهاد الأعداء ، وخُذُوا حِذْرَكُمْ منهم بالعدّة والعدد ، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، ولا حجة فيه للقدرية لأن هذا من الأسباب التي ستر الله بها أسرار القدرة. وقد قال لنبيّه - عليه الصلاة والسلام - : قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا وقال - عليه الصلاة السلام - :
«اعقلها وتوكل». وفى ذلك طمأنينة للقلوب التي لم تطمئن وتشريعا للضعفاء ، فإذا تأهبتم واستعددتم فَانْفِرُوا أي : اخرجوا إلى الجهاد ثُباتٍ أي : جماعات متفرقة ، سرية بعد سرية ، أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً أي : مجتمعين مع نبيكم ، أو مع أميركم.
وَإِنَّ مِنْكُمْ يا معشر المسلمين لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ الناس عن الجهاد ، أو ليتثاقلن ويتخلفن عنه ، وهو عبد الله بن أبىّ المنافق ، وأشباهه من المنافقين ، فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ كقتل أو هزيمة قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ(1/526)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 527
حين تخلفت إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً فيصيبنى ما أصابهم. وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ ، كنصر وغنيمة ، لَيَقُولَنَّ لفرط عداوته : يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً ، بالمال والعز. كأن ذلك المنافق ، لم يكن بينكم وبينه مودة ولا مواصلة أصلا ، حيث يتربص الدوائر ، يفرح بمصيبتكم ويتحسر بعزكم ونصركم.
فإن تثاقل هذا عن القتال أو بطّأ غيره ، فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أهل الإخلاص والإيمان الَّذِينَ يَشْرُونَ ، أي : يبيعون الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ ، فيؤثرون الآخرة الباقية على الدنيا الفانية ، وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء كلمة الله فَيُقْتَلْ شهيدا أَوْ يَغْلِبْ عدوه وينصره الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ، وإنما قال تعالى : فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ تنبيها على أن المجاهد ينبغى أن يثبت فى المعركة ، حتى يعز نفسه بالشهادة ، أو الدين بالظفر والنصر. وألا يكون قصده بالذات القتل ، بل إعلاء الحق وإعزاز الدين. قاله البيضاوي.
الإشارة : يا أيها الذين آمنوا إيمان الخصوص خذوا حذركم من خدع النفوس ، لئلا تعوقكم عن حضرة القدوس ، فانفروا إلى جهادها ثبات أو جماعة «فإن يد الله مع الجماعة» ، فالصحبة عند الصوفية شرط مؤكد وأمر محتم. والله ما أفلح من أفلح إلا بصحبة من أفلح ، فالنفس الحية لا تموت مع الأحياء ، وإنما تموت مع الأموات ، فهى كالحوت ما دامت فى البحر مع الحيتان لا تموت أبدا ، فإذا أخرجتها وعزلتها عن أبناء جنسها ماتت سريعا.
كما قال شيخنا رضي اللّه عنه.
وإن من نفوسكم لمن ليبطئنكم عن السير إلى حضرة قدسكم ، تفر من مواطن الشدة والمحن ، وفى ذلك حياتها لو تعقل وتفطن ، فإن أصابتكم - أهل النسبة - نكبة ، أو تعرف من التعرفات ، ولم يصادفها فى ذلك الوقت شىء من تلك النكبات ، قال : قد أنعم الله علىّ إذ لم أكن معهم شهيدا ، ولئن أصابكم بعد ذلك فضل من الله كنفحات ربانية وخمرات أزلية ، قالت : يا ليتنى كنت معهم فأفوز كما فازوا ، فليجاهد نفسه فى سبيل الله من أراد الظفر بحضرة الله ، يقدمها إلى المكاره ، وهو كلّ ما يثقل عليها ، ويجنبها الشهوات ، وهو كل ما يخف عليها ، هكذا يسير معها ويقاتلها ، حتى يموت أو يغلبها ويظفر بها.
قال بعض المشايخ : انتهى سير السائرين إلى الظفر بنفوسهم. فإن ظفروا بها وصلوا. ه. وحينئذ تذهب عنه المتاعب والأنكاد ، وتصير الأزمنة كلها عنده مواسم وأعياد ، ويقال له حينئذ :
لك الدهر طوع والأنام عبيد فعش كلّ يوم من أيّامك عيد(1/527)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 528
ويقال له أيضا :
بدا لك سرّ طال عنك اكتتامه ولاح صباح كنت أنت ظلامه
فأنت حجاب القلب عن سرّ غيبه ولولاك لم يطبع عليه ختامه
إذا غبت عنه حلّ فيه وطنّبت «1» على موكب الكشف المصون خيامه
وجاء حديث لا يملّ سماعه شهىّ إلينا نثره ونظامه
إذا سمعته النفس طاب نعيمها وزال عن القلب المعنّى غرامه «2»
ثم عاتب العباد على عدم النهوض إلى الجهاد ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 75]
وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75)
قلت : (ما) مبتدأ. و(لكم) خبر. و(لا تقاتلون) حال ، و(المستضعفين) عطف على اسم الجلالة ، أي : أىّ شىء حصل لكم حال كونكم غير مجاهدين فى سبيل الله وفى تخليص المستضعفين؟ و(الظالم) نعت للقرية ، وإنما ذكّر ولم يؤنث ، لأنه أسند إلى المذكر ، واسم الفاعل إذا جرى على غير من هو له أجرى مجرى الفعل ، فيذكر ويؤنث باعتبار الفاعل.
يقول الحق جل جلاله : وَما لَكُمْ يا معشر المسلمين لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وفى تخليص إخوانكم الْمُسْتَضْعَفِينَ بمكة ، الذين حبسهم العدو أو أسرهم ومنعهم من الهجرة مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ ، فهم فى أيديهم مغللون ممتحنون. قال البيضاوي : وإنما ذكر الولدان مبالغة فى الحث وتنبيها على تناهى ظلم المشركين بحيث بلغ أذاهم الصبيان ، وأن دعوتهم أجيبت بسبب مشاركتهم فى الدعاء ، حتى تشاركوا فى استنزال الرحمة واستدفاع البلية. ه.
ثم ذكر دعاءهم فقال : الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ أي : مكة الظَّالِمِ أَهْلُها بالشرك والطغيان حتى تعدى إلى النساء والصبيان. وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يصوننا عن أذاهم ، وَنَصِيراً يمنعنا
___________
(1) الطنب - بضمتين - : الحبل الذي تشد به الخيمة ونحوها.
(2) الأبيات لأبى العباس العريف ، أنظر : إيقاظ الهمم.(1/528)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 529
من التخلف عن الهجرة إلى رسولك صلّى اللّه عليه وسلم ، فاستجاب الله دعاءهم بأن يسّر لبعضهم الخروج إلى المدينة ، وجعل لمن بقي منهم أعظم ولى وناصر ، بفتح مكة على نبيه صلّى اللّه عليه وسلم ، فتولاهم ونصرهم ، واستعمل عليهم عتّاب بن أسيد ، فحماهم وأعزهم حتى صاروا أعزاء أهلها ، كما هى عادته سبحانه فى إجابة دعاء المضطرين.
الإشارة : ما لكم يا معشر العباد ، وخصوصا المريدين من أهل الجد والاجتهاد ، لا تجاهدون نفوسكم فى طريق الوصول إلى الله ، كى تنالوا بذلك مشاهدة جماله وسناه ، وتخلصوا ما كمن فى نفوسكم من الأسرار ، وما احتوت عليه من العلوم والأنوار. فإن قرية البشرية قد احتوت عليها وأسرتها بظلمات شهواتها ، واستضعفتها بتراكم غفلتها وتكثيف حجاب حسها. فمن جاهدها استخلص جواهر تلك العلوم والأسرار من صدفها. وفى ذلك يقول ابن البنا فى مباحثه :
ولم تزل كلّ النّفوس الأحيا علّامة دراّكة للأشيا
وإنما تعوقها الأبدان والأنفس النزع والشّيطان
فكلّ من أذاقهم جهاده أظهر للقاعد خرق العاده
وقال أيضا :
وهى من النفوس فى كمون كما يكون الحبّ فى الغصون.
فالرجال : الأسرار والأنوار ، والنساء : العلوم والأذكار ، والولدان : الحكم بنات الأفكار. فكل هؤلاء مستضعفون تحت قهر البشرية الظالم أهلها. من الأنفس النزع والشياطين المغوية ، فكل من جاهد هؤلاء القواطع أظهر تلك العلوم والأنوار السواطع ، واستخلص روحه من أسر حجاب الأكوان ، وأفضى إلى فضاء الشهود والعيان. وبالله التوفيق. وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم حثّ أولياءه من أهل الإيمان أن يقاتلوا أولياء الشيطان ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 76]
الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76)
يقول الحق جل جلاله فى مدح المخلصين : الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وابتغاء مرضات الله ، وإعلاء لكلمة الله ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا ، من أهل مكة وغيرهم ، يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ وهو(1/529)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 530
الشيطان ، فَقاتِلُوا يا أولياء الله أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ ولا يهولكم كيده إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً ، وكيد الله للكافرين كان قويا متينا ، فلا تخافوا أولياءه ، فإنهم اعتمدوا على أضعف شىء وأوهنه ، وأنتم اعتمدتم على أقوى شىء وأمتنه.
الإشارة : كل ما سوى الله طاغوت ، فمن قصد بجهاده أو عمله رضى الله والوصول إلى حضرته دون شىء سواه ، كان من أولياء الله ، ومن قصد بجهاده أو أعماله حظا دنيويا أو أخرويا خرج من دائرة الولاية ، فإما أن يكون مع عامة أهل الإيمان ، أو من أولياء الشيطان. قال صلّى اللّه عليه وسلم : «إنّما الأعمال بالنيات ، وإنما لكلّ امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه». وقال فى الحكم : «لا ترحل من كون إلى كون ، فتكون كحمار الرحى ، يسير والذي ارتحل منه هو الذي ارتحل إليه ، ولكن ارحل من الأكوان إلى المكوّن ، وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى ».
ثم عاتب الحقّ جل جلاله قوما طلبوا فرض الجهاد ، فلما فرض عليهم خطر ببالهم شىء من طبع البشر ، الذي هو الخوف من الموت ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 77]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77)
قلت : (أو أشد) عطف على الكاف النائبة عن المصدر ، أي : خشية مثل خشية الله أو أشد ، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول ، أي : مثل خشيتهم الله.
يقول الحق جل جلاله : أَلَمْ تَرَ يا محمد إِلَى الَّذِينَ طلبوا منك فرض الجهاد حرصا على أن يجاهدوا ، فقيل لهم على لسان الرسول : كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ عنه إلى أوان فرضه ، واشتغلوا بما أمرتم به من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ دخلهم الخوف إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ أي : (1/530)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 531
الكفار ، أن يقتلوهم مثل خشية عقاب اللَّهِ أو أشد خشية منه. وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ فى هذا الوقت لَوْ لا : هلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نتمتع فيه بحياتنا أو إلى أن نموت بآجالنا. قلت : والظاهر أنهم قالوا ذلك فى نفوسهم ، خواطر خطرت لهم ، ولم يفوهوا به ، إن نزلت فى الصحابة - رضي اللّه عنهم - ، وإن كانت فى المنافقين فيمكن أن ينطقوا بها.
قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وعيشها ذليل ، وأجلها قريب ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى ، وحياتها خير وأبقى ، وستقدمون على مولاكم ، فيكرم مثواكم ، ويوفيكم جزاء أعمالكم ، وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا من ثواب أعمالكم ، ولا تنقصون من أيام أعماركم ، جاهدتم أو قعدتم.
[سورة النساء (4) : آية 78]
أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78)
أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ عند انقضاء آجالكم ، وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ عالية محصنة.
فإن كان الموت لا بد منه ففى الجهاد أفضل ، لأنه حياة لا موت بعده. قال الكلبي : نزلت فى قوم من الصحابة ، منهم : عبد الرحمن بن عوف ، والمقداد وقدامة بن مظعون وغيرهم ، كانوا يؤذون بمكة ، ويستأذنون النبي صلّى اللّه عليه وسلم فى القتال ، فيقول لهم : كفوا أيديكم حتى يؤذن فيه لكم ، فلما هاجروا إلى المدينة وأمروا به ، كرهه بعضهم كراهية الطبع البشرى ، فخطر ببالهم شىء مما حكى اللّه عنهم. فلما كانوا فى عين العناية ومحل القرب والهداية عوقبوا على تلك الخواطر ، ولو كان غيرهم من أهل البعد لسومح له فى ذلك ، وقيل : نزلت فى قوم من المؤمنين أمروا بالجهاد فنافقوا من الجبن ، وتخلفوا عن الجهاد ، وهذا أليق بما بعده من قوله : إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ. والله تعالى أعلم.
الإشارة : نرى بعض الفقراء يبطشون إلى مقام التجريد ومجاهدة نفوسهم قبل كمال يقينهم ، فإذا أمروا بذلك ، ورأوا ميادين الحروب واشتعال نيران قتل النفوس ، وأمروا بالصبر على المكاره ، من مواجهة الإنكار ولحوق الذل والافتقار ، جبنوا وكلّوا ورجعوا القهقرى ، فيقال لهم : متاع الدنيا قليل وعزيزها ذليل ، وغنيها فقير ، وكبيرها حقير ، وما تنالون من الله فى جزاء مجاهدتكم خير وأبقى ، ولا تظلمون فتيلا من مجاهدتكم لنفوسكم ، فلو صبرتم لفزتم بالوصول إلى حضرة ربكم ، فلما جبنتم ورجعتم ، كان جزاؤكم الحرمان ، عما ظفر به أهل العرفان.
وفى مثل هؤلاء يقول ابن الفارض رضي اللّه عنه :
تعرّض قوم للغرام وأعرضوا بجانبهم عن صحّتى فيه واعتلوّا
رضوا بالأمانى ، وابتلوا بحظوظهم وخاضوا بحار الحبّ ، دعوى ، فما ابتلّوا
فهم فى السّرى لم يبرحوا من مكانهم وما ظعنوا فى السير عنه ، وقد كلّوا(1/531)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 532
ثم حكى مقالتهم الدالة على نفاقهم ، فقال :
وَإِنْ تُصِبْهُمْ ...
يقول الحق جل جلاله فى وصف أهل النفاق : وإنهم إن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ كخصب ورخاء ونعمة ظاهرة ، قالوا : هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، ونسبوها إلى الله بلا واسطة ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ كقحط وجوع وموت وقتل ، قالوا للرسول - عليه الصلاة والسلام - : هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ بشؤم قدومك أنت وأصحابك ، كما قالت اليهود - لعنهم الله - : منذ دخل محمد المدينة نقصت ثمارها وغلت أسعارها.
قلت : بل زكت ثمارها ، ورخصت أسعارها ، وأشرقت أنوارها ، ولاحت أسرارها ، وقد دعا صلّى اللّه عليه وسلم للمدنية بمثل ما دعا إبراهيم لمكة ، وأضعاف ذلك ، فما زالت الخيرات تترادف إليها حسّا ومعنى إلى يوم القيامة ، وهذه المقالة قد صدرت ممن كان قبلهم فقد قالوا لسيدنا صالح عليه السّلام : قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ ، وقال تعالى : وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ ، ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ. قال تعالى مكذبا لهم : قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الحسنة بفضله ، والسيئة بعدله. ثم عيرهم بالجهل فقال : فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً فهم كالبهائم أو أضل سبيلا ، أو لا يفقهون القرآن ويتدبرون حديثه ، ولو تدبروا لعلموا أن الكل من عند الله ، وأنه خالق كل شىء ، المقدّر لكل شىء.
ثم علّمنا الأدب بنسبة الكمالات إليه سبحانه بلا واسطة ، ونسبة النقائص إلى شؤم ذنوبنا ، فقال : ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ أي : نعمة فَمِنَ اللَّهِ فضلا وإحسانا ، وأما طاعة العبد فلا تفى بشكر نعمة واحدة ، ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام - : «لن يدخل أحدكم الجنة بعمله» ، قيل : ولا أنت يا رسول اللّه؟ قال : «ولا أنا ، إلّا أن يتغمدنى اللّه برحمته».
[سورة النساء (4) : الآيات 79 الى 80]
ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80)
وَما أَصابَكَ أيها الإنسان مِنْ سَيِّئَةٍ أي : بلية فَمِنْ نَفْسِكَ أي : شؤم ذنبك ، وعنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : «ما من خدش بعود ولا اختلاج عرق ولا غيره إلا بذنب ، وما يعفو اللّه عنه أكثر». فلا ينافى قوله : قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فإن الكل منه إيجادا واختراعا ، غير أن الحسنة إحسان ، والسيئة مجازاة وانتقام. كما قالت عائشة - رضى الله عنها - : «ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب ، حتى الشوكة يشاكها ، وحتى انقطاع شسع نعله ، إلا بذنب ، وما يعفو اللّه عنه أكثر».(1/532)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 533
وفى مصحف ابن مسعود : (قالوا ما أصابك من حسنة فمن الله) الآية ، فتكون حينئذ من مقالة المنافقين ، والآيتان كما ترى لا حجة فيها للمعتزلة. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : ثلاث خصال لا ينجو منها إلا القليل كما فى الحديث : الطيرة ، والحسد ، والظن. فقال - عليه الصلاة السلام : «إذا تطيّرت فامض ، وإذا حسدت فلا تبغ ، وإذا ظننت فلا تحقّق». فيتأكد على المريد أن يتطهر من هذه الخصال ، ويصفى مشربه من التوحيد ، فلا يرى فى الوجود إلا مولاه ، ولا ينسب التأثير إلى شىء سواه ، إذا رأى نعمة به أو بغيره ، قال : من الله ، وإذا رأى مصيبة كذلك تأدب مع الله ، فيعتقد فى قلبه أنها من قدر الله ، يقول :
قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وينسب النقص إلى نفسه وهواه ، فالنفس والشيطان مناديل الحضرة ، تمسح فيهما أوساخ الأقدار ، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ. والله تعالى أعلم.
ثم شهد جل جلاله لرسوله بالرسالة ، تحريضا على تعظيمه وحثا على طاعته ، وترهيبا من سوء الأدب معه ، كما صدر من المنافقين ، فقال :
وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ ...
قلت : إن تعلق الجار بالفعل كان (رسولا) حال مؤكدة ، وإن تعلق بالاسم كان حالا مؤسسة تفيد العموم أي أرسلناك رسولا للناس جميعا ، و(حفيظا) حال من الكاف.
يقول الحق جل جلاله : وَأَرْسَلْناكَ يا محمد لِلنَّاسِ رَسُولًا تعلمهم التوحيد وتدلهم على الأدب ، فالتوحيد محله البواطن ، فلا يرى الفعل إلا من الله ، والأدب محله الظواهر فينسب بلسانه النقص إلى نفسه وهواه. وإذا شهد الحق - جل جلاله - لرسوله بالرسالة أغنى عن غيره ، وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً. وشهادة الحق له بالمعجزات الواضحات ، والبراهين القطعيات ، والدلائل السمعيات ، فإذا ثبتت رسالته وجب على الناس طاعته ، ولذلك قال : مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ لأنه مبلغ عن الله لا ينطق عن الهوى. روى أنه صلّى اللّه عليه وسلم قال :
«من أطاعنى فقد أطاع اللّه ، ومن أحبنى فقد أحب اللّه» فقال بعض المنافقين : ما يريد هذا الرجل إلا أن نتخذه ربّا ، كما اتخذت النصارى عيسى. فنزل : مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى وأعرض فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً تحفظ عليهم أعمالهم ، وتحاسبهم عليها ، إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب.(1/533)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 534
الإشارة : كما شهد الحق - جل جلاله - لرسله بالرسالة ، بما أظهر لهم من المعجزات ، شهد لأوليائه بالولاية بما منحهم من الكرامات. والمراد بالكرامة : هى تحقيق العرفان ، ومعرفة الذوق والوجدان ، واستقامة الظواهر والبواطن ، وتهذيب الأخلاق وهداية الناس على يديه إلى العليم الخلاق ، فهذه الكرامة المعتبرة عند المحققين ، فمن أطاعهم فقد أطاع الله ، ومن أعرض عنهم فقد أعرض عن معرفة الله ، ومن أحبهم فقد أحب الله ، ومن أبغضهم فقد أبغض الله لأنهم نور من أنوار الله ، وعين من عيون الله ، إذ لم يبق فيهم بقية مما سوى الله ، أقدامهم على قدم رسول الله ، «إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله». فافهم ، والله تعالى أعلم.
ثم ذكر أحوال أهل النفاق ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 81]
وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81)
قلت : (طاعة) : خبر ، أي : أمرنا طاعة ، وأصله النصب على المصدر ، ورفع للدلالة على الثبوت ، وبيّت الشيء : دبّره ليلا وأضمره فى نفسه.
يقول الحق جل جلاله فى شأن المنافقين : وَيَقُولُونَ لك إذا حضروا معك : أمرنا وشأننا طاعَةٌ لك فيما تأمرنا به ، فَإِذا بَرَزُوا أي : خرجوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أي : دبّرت ليلا وأخفت من النفاق غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ لك من قبول الإيمان وإظهار الطاعة ، أو زوّرت خلاف ما قلت لها من الأمر بالطاعة ، وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ أي : يثبته فى صحائفهم فيجازيهم عليه ، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ولا تبال بهم ، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ يكفك شرهم ، وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا عليهم ، فسينتقم لك منهم.
الإشارة : هذه الخصلة موجودة فى بعض العوام إذا حضروا مع أهل الخصوصية أظهروا الطاعة والإقرار ، وإذا خرجوا عنهم بيّتوا الانتقاد والإنكار ، فلا يليق إلا الإعراض عنهم ، والغيبة فى الله عنهم ، فإن الله يكفى شرهم بكفالته وحفظه. والله تعالى أعلم.
ثم دلّهم على ما فيه دواء مرض قلوبهم ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 82]
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)(1/534)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 535
يقول الحق جل جلاله : أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون الْقُرْآنَ ، وينظرون ما فيه من البلاغة والبيان ، ويتبصّرون فى معانى علومه وأسراره ، ويطلعون على عجائب قصصه وأخباره ، وتوافق آياته وأحكامه ، حتى يتحققوا أنه ليس من طوق البشر ، وإنما هو من عند الله الواحد القهار ، وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً بين أحكامه وآياته ، من تفاوت اللفظ وتناقض المعنى ، وكون بعضه فصيحا ، وبعضه ركيكا ، وبعضه تصعب معارضته وبعضه تسهل ، وبعضه توافق أخباره المستقبلة للواقع ، وبعضه لا يوافق ، وبعضه يوافق العقل ، وبعضه لا يوافقه ، على ما دل عليه الاستقراء من أن كلام البشر ، إذا طال ، قطعا يوجد فيه شىء من الخلل والتناقض.
قال البيضاوي : ولعل ذكره للتنبيه على أن اختلاف ما سبق من الأحكام ليس للتناقض فى الحكم ، بل لاختلاف الأحوال من الحكم والمصالح. ه. قال ابن جزى : وإن عرضت لأحد شبهة وظن اختلافا فى شىء من القرآن ، فالواجب أن يتّهم نظره ، ويسأل أهل العلم ويطالع تآليفهم ، حتى يعلم أن ذلك ليس باختلاف. ه.
الإشارة : تدبر القرآن على حسب صفاء الجنان ، فبقدر ما يتطهر القلب من حب الدنيا والهوى تتجلى فيه أسرار كلام المولى ، وبقدر ما يتراكم فى مرآة قلبه من صور الأكوان ، ينحجب عن أسرار معانى القرآن ولو كان من أكابر علماء اللسان. فلما كان القرآن هو دواء لمرض القلوب ، أمر الله المنافقين بالتدبر فى معانيه لعل ذلك المرض ينقلع عن قلوبهم ، لكن الأقفال التي على القلوب منعت القلوب من فهم كلام علام الغيوب ، فحلاوة كلام الله لا يذوقها إلا أهل التجريد ، الخائضون فى تيار بحار التوحيد ، الذين صفت قلوبهم من الأغيار ، وتطهرت من الأكدار ، يتمتعون أولا بحلاوة الكلام ، ثم يتمتعون ثانيا بحلاوة شهود المتكلم. والله تعالى أعلم.
ومن مساوئ المنافقين إفشاء أسرار المؤمنين ، كما قال تعالى :
[سورة النساء (4) : آية 83]
وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83)
قلت : استنبط الشيء : استخرجه من غيره ، وأصل الاستنباط : إخراج النبط ، وهو الماء ، يخرج من البئر أول ما يحفر ، والجار فى (منهم) : إما بيان للموصول ، أي : لعلم المستنبطون الذين هم أولوا الأمر ، أو يتعلق ب (علم) ، أي :
لعلمه الذين يستخرجونه إلى الناس من أولى الأمر.(1/535)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 536
يقول الحق جل جلاله : فى ذم المنافقين أو ضعفة المسلمين : وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ أي : خبر عن السرايا الذين توجهوا للغزو ، من نصر وغنيمة وأمن أو خوف ، وقتل وهزيمة ، أَذاعُوا بِهِ أي : تحدثوا به ، وأشهروه ، وأرجفوا به قبل أن يصل إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - وأكابر الصحابة ، الذين هم أولو الأمر وأهل البصائر ، فيعرفون كيف يتحدثون به.
ولو ردوا ذلك إِلَى الرَّسُولِ وأخبروه به سرا ، أو سكتوا حتى يصل إليه ، أو يردوه إِلى أُولِي الْأَمْرِ من أكابر الصحابة ، لعلمه الذين يسخرجونه إلى الناس مِنْهُمْ ، فينقلونه على وجهه ، ويعرفون كيف يتحدثون به من غير إرجاف ولا تخويف ، أو لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ وهم أولو الأمر أولا ، ثم يعلم الناس ، فلا يكون فيه إرجاف ولا سوء أدب. أو : وإذا جاءهم أمر من وحي السماء : من تخويف أو تأمين ، أذاعوا به قبل أن يظهره الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، ولو سكتوا وردوا ذلك إلى الرسول حتى يتحدث به للناس ، ويظهره أولو الأمر من أكابر أصحابه ، لعلمه الذين يستخرجون ذلك الوحى من أصله ، وهو الرسول - عليه الصلاة السلام - وأكابر أصحابه ، كما فعل عمر رضي اللّه عنه : إذ سمع أن رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم طلق نساءه ، فدخل عليه فقال : أطلقت نساءك؟ قال :
«لا» ، فقام على باب المسجد ، فقال : إن رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم لم يطلق نساءه ، فأنزل الله هذه القصة ، قال : وأنا الذي استنبطته. والله تعالى أعلم.
الإشارة : قالت الحكماء : قلوب الأحرار قبور الأسرار ، وهذه الخصلة التي ذمّها الله تعالى توجد فى كثير من العوام مهما سمعوا خبرا : خيرا أو شرا ، بادروا إلى إفشائه ، ولا سيما إذا سمعوه على أهل النسبة أو أهل الخصوصية ، وقد توجد فى بعض الفقراء ، وهى غفلة ونوع من الفضول ، فالفقير الصادق غائب عن أخبار الزمان وأهله ، وقد ترك الناس وما هم فيه ، وقد تغلب عليه الغيبة فى الله حتى تغيب عنه الأيام ، وأما الفقير الذي يتسمع الأخبار ويبحث عنها فلا نسبة له فى الفقر ، إلا اسم بلا مسمى ، وقد ترى بعض الفقراء ، يبلّغ مساوئ إخوانه إلى المشايخ ، وهو سبب الطرد ، والعياذ بالله. وقد كان صلّى اللّه عليه وسلم يقول : «لا تبلغونى مساوئ أصحابى» «1» لأن ذلك يسؤوهم ، والخير كله فى إدخال السرور على قلوب المشايخ.
وتنسحب الآية على من يفشى أسرار الربوبية ، ويطلع الفقراء على الحقيقة ، ولو ردوا ذلك إلى شيخهم حتى يكون هو الذي يطلعهم لكان أحسن ، لأن الحقيقة إذا أخذت من الشيخ كان فيها سر كبير ، بخلاف ما إذا أخذت من غيره ، إلّا إذا كان مأذونا له فى ذلك فكأنه هو. والله تعالى أعلم.
___________
(1) الحديث لم أقف عليه بهذا اللفظ ، وورد عنه صلّى اللّه عليه وسلم : «لا يبلغنى أحد من أصحابى عن أحد شيئا فإنى أحب أن أخرج إليكم سليم الصدر».
أخرجه أبو داود فى (الأدب ، باب رفع الحديث من المجلس) والترمذي فى (المناقب ، باب فضل أزواج النبي) من حديث ابن مسعود.(1/536)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 537
وقال الورتجبي : قال أبو سعيد الخراز : إن له عبادا يدخل عليهم الخلل ، ولو لا ذلك لفسدوا وتعطلوا ، وذلك أنهم بلغوا من العلم غاية ، صاروا إلى علم المجهول ، الذي لم ينصّه كتاب ، ولا جاء به خبر ، لكن العقلاء العارفون ، يحتجون له من الكتاب والسنة ، بحسن استنباطهم ومعرفتهم ، قال الله تعالى : لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ. ه.
قلت : ومعنى كلامه : أن الله - تعالى - أشغل علماء الظاهر بتقرير علم الفرق ، ولو لا اشتغالهم بذلك لتعطلوا وتبطلوا ، إذ لا قدرة لهم على عمل القلوب من الفكرة والنظرة ، لكن العارفون يقرون لهم ذلك ، ويحتجون لهم بما فى نشر العلم من الأجور ، من الكتاب والسنة ، لأنهم قاموا بنظام علم الحكمة ورفعوا علم الشريعة ، ولولا قيامهم بذلك لتعين على أهل الباطن ، فتتشوش عليهم قلوبهم ، وكان شيخ شيوخنا سيدى على الجمل العمراني رضي اللّه عنه يقول :
جزاهم الله عنا خيرا رفعوا لنا علم الشريعة ، نحن نغرق فى البحر ، ثم نرفع رأسنا فنرى العلم قائما ، ثم نرجع إلى البحر. ه. بالمعنى ، والله تعالى أعلم.
ثم إن الهداية بيد الله ، قوم أقامهم فى الفرق ، وقوم هداهم إلى الجمع ، كما قال تعالى :
وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ ...
يقول الحق جل جلاله : لو لا أن الله تفضل عليكم ورحمكم بنبي الرحمة ، وأنقذكم من متابعة الشيطان وعبادة الأوثان ، لبقيتم على كفركم وضلالكم ، ولا تبعتم الشيطان فيما يأمركم به من الكفر والعصيان ، إلا قليلا ممن اهتدى قبل بعثته ، كقس بن ساعدة ، وزيد بن نفيل ، وورقة بن نوفل ، رزقهم الله كمال العقل فنظروا وتكفروا بعقولهم فوجدوا الله واعتزلوا ما كان يعبد آباؤهم وإخوانهم. أما قس فاعتزل قومه ، وعبد الله وحده ، وكان يخطب على الناس ويأمرهم بالتوحيد ، ويعيب عليهم عبادة الأصنام. وعاش سبعمائة عام. وأما زيد فتعلق بالحنيفية ، دين إبراهيم ، حتى مات قبل البعثة. وأما ورقة - فأخذ بدين النصرانية التي لم تغيّر ، وأدرك أول البعثة ، وآمن بالرسول قبل أن يؤمر بالإنذار. قال - عليه الصلاة والسلام - : «رأيته فى الجنة عليه ثياب خضر».
والله تعالى أعلم.
الإشارة : لو لا فضل الله عليكم بأن بعث لكم من يدلكم على الله ويعرفكم بالله ، ورحمته بأن أخرجكم من ضيق الفرق ، إلى فضاء الجمع ، لا تبعتم الفرق علما وعملا ، لكن الله تعالى بفضله ورحمته غيبكم عن شهود الفرق بشهود الملك الحق. إلا فرقا قليلا تقيمون به رسم العبودية ، وتظهرون به الآداب مع الربوبية.(1/537)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 538
قال الورتجبي : الفضل والرحمة منه للعموم ، ومحبته للخصوص ، الذين هم مستثنون بقوله : «إلا قليلا». ه. قال القشيري : وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ مع أوليائه لهاموا فى كل واد من التفرقة كأشكالهم فى الوقت. ه. فخصّ الإشارة بالأولياء ، وعليه فقوله : إِلَّا قَلِيلًا أي : إلا تفرقة قليلة تعرض لهم ، تربية لهم ، وإبقاء لرسمهم ومناط تكليفهم.
والله تعالى أعلم. قاله فى الحاشية.
ولا يظهر هذا كله إلا بالجهاد الأكبر والأصغر ، كما قال تعالى :
[سورة النساء (4) : الآيات 84 الى 86]
فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86)
قلت : (نفسك) : مفعول ثان ، والأول نائب ، أي : لا يكلفك الله إلا نفسك.
يقول الحق جل جلاله : فَقاتِلْ يا محمد فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولو وحدك إن تثبطوا عن الجهاد ، لا نكلفك إلا أمر نفسك ، وَلكن حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ على الجهاد ، إذ ما عليك إلا التحريض. فجاهدوا حتى تكون كلمة الله هى العليا. عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بجهادكم بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ويبطل دينهم الفاسد. وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً منهم وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا أي : تعذيبا لهم. وقد حقّق الله ذلك ففتح الله على نبيه قبائل العرب ، فلم يبق فيهم مشرك ، ثم فتح على الصحابة سائر البلاد ، وهدى الله بهم جميع العباد ، إلا من فرّ من الكفار إلى شواهق الجبال.
وإنما أمرتك بالتحريض على الجهاد لأن الدال على الخير كفاعله ، وذلك كالشفاعة بين الناس ودلالتهم على إصلاح ذات البين ، فمن يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً بأن ينفع المشفوع له ، بدفع ضرر أو جلب نفع ، ابتغاء وجه الله ، يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها ، أي : حظ كبير من الثواب لأنه دل المشفوع عنده على الخير ، وأوصل النفع إلى المشفوع له ، فله من الأجر مثل ما لهما ، ومنها : الدعاء بظهر الغيب ، فقد قال عليه الصلاة والسلام : «من دعا لمسلم بظهر الغيب استجيب له ، وقال له الملك : لك مثل ذلك».
وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً ، يريد بها فسادا بين الناس كنميمة وزور وإحداث بدعة ، يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ أي :
نصيب مِنْها أي : من وزرها ، وفى الحديث : «من سنّ سنة حسنة ، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم(1/538)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 539
القيامة ، ومن سنّ سنّة سيّئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة». وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً أي : مقتدرا من أقات على الشيء : إذا قدر عليه ، أو شهيدا حافظا فيجازى على قدر الأعمال.
ومن هذا أيضا : السلام ، فإنه سبب فى ثواب الرد ، لذلك ذكره الحق فى سلك الدلالة على الخير فقال : وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها بأن تقولوا : وعليكم السلام والرحمة والبركة ، أَوْ رُدُّوها بأن تقولوا :
وعليكم السلام.
وفى الخبر : «من قال لأخيه المسلم : السّلام عليكم ، كتب الله له عشر حسنات ، فإن قال : السّلام عليكم ورحمة الله ، كتب الله له عشرين حسنة ، فإن قال : وبركاته ، كتب الله ثلاثين» ، وكذلك لمن ردّ ، فإن اقتصر على السلام ، فعشر ، وهكذا .. فإن ذكر المسلم الرحمة والبركة ، قال الرادّ : وعليكم ، فقط ، إذ لم يبق ما يزاد ، ورد السلام واجب على الكفاية ، حيث يكون مشروعا ، فلا يرد فى الخطبة ، وقراءة القرآن ، والذكر والتفكر ، والاعتبار ، ونظرة الشهود والاستبصار ، لأنه يفتر ويشوش ، وفى الحمام إذا كانوا عراة ، وفى حال الجماع والأكل والشرب وغيرها من المسائل المستثناة. وقد نظمه بعضهم ، فقال :
ردّ السّلام واجب إلا على من فى الصّلاة أو بأكل شغلا
أو شرب أو قراءة أو أدعيه أو ذكر أو خطبة أو تلبيه
والسلام من تحية أهل الإسلام ، خاصّ بهم. لذلك استغرب الخضر - عليه السلام - سلام سيدنا موسى عليه السّلام فقال له : «وأنّى بأرضك السّلام» ، وكذلك خليل الله إبراهيم عليه السّلام ، إنما أنكر الملائكة حيث سلموا عليه بتحية أهل الإسلام لأنه كان بين أظهر قوم كفار ، أما سلام أبى ذر على النبي صلّى اللّه عليه وسلم بتحية أهل الإسلام ، قبل أن يسلم ، فلعله سمعه من بعض الصحابة قبل أن يسلم ، أو إلهام من الله. والله تعالى أعلم.
إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً يحاسبكم على التحية وغيرها. وبالله التوفيق.
الإشارة : فجاهد أيها الإنسان نفسك فى سبيل الله ، لا تكلف إلا إصلاحها وتزكيتها ، وحرض من يسمع قولك من المؤمنين على جهاد أنفسهم ، عسى الله أن يكف عنهم القواطع والعلائق ، فيتأهلون لإشراق قلوبهم بأنوار الحقائق ، فإن الله لا يغلبه شىء ، فمن ذكّر عباد الله ، ودسهم إلى حضرة الله كان حظه كبيرا عند الله. ومن دلهم على غير الله فقد غشهم وكان مهانا عند الله ، وإذا وقع السلام على الفقراء فإن كانوا سالكين غير مشتغلين بالذكر(1/539)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 540
وجب عليهم الرد بأحسن ، وإذا كانوا ذاكرين أو متفكرين أو سكارى فى شهود الحبيب سقط عنهم السلام ، وكذلك إذا سلم عليهم اختبارا وتعنيتا لم يجب الرد. والله تعالى أعلم.
ولما ذكر أمر الحساب ذكر وقته ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 87]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87)
قلت : (الله) : مبتدأ ، و(لا إله) : خبر ، أو اعتراض ، و(ليجمعنكم) : خبر ، وهو أوفق بالسياق ، و(لا ريب فيه) حال ، أو صفة لمصدر ، أي : جمعا لا ريب فيه.
يقول الحق جل جلاله : اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي : لا مستحق للعبادة إلا هو ، والله لَيَجْمَعَنَّكُمْ أي :
ليحشرنكم من قبوركم إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ للحساب الذي وعدكم به ، لا شك فيه ، فهو وعد صادق ، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً ، أي : لا أحد أصدق من الله حديثا ، لأن الكذب نقص ، وهو على الله محال.
الإشارة : الحق تعالى واحد فى ملكه ، فلا يذوق وحدانيته إلا من كان واحدا فى قصده وهمه ، فكل من وحّد قلبه وقصده وهمته فى طلبه ، وانجمع بكليته إليه ، جمعه الله لحضرته ، ونعّمه بشهود ذاته ، وعدا حقا وقولا صدقا ، لا ريب فيه ولا اشتباه ، إذ لا أحد أصدق من الله.
ثم رجع إلى الكلام مع المنافقين ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 88]
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88)
قلت : (فئتين) : حال ، والعامل فيه : الاستقرار فى الجر ، وأركس الشيء : نكّسه.
يقول الحق جل جلاله معاتبا الصحابة حين اختلفوا فى إسلام بعض المنافقين ، فقال : فَما لَكُمْ افترقتم فِي شأن الْمُنافِقِينَ فرقتين ، ولم تتفقوا على كفرهم ، والحالة أن الله - تعالى - أَرْكَسَهُمْ ، أي : نكّسهم وردهم إلى الكفر بعد أن أظهروا الإسلام بسبب ما كسبوا من الآثام. أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ، وسبق لهم الشقاء فى علم الله؟ ومن يضلل الله فلن تجد له طريقا إلى الهدى. قال ابن عباس - رضى الله عنهما - : (نزلت فى قوم كانوا بمكة من المشركين ، فزعموا أنهم آمنوا ولم يهاجروا ، ثم سافر قوم منهم بتجارات إلى الشام ، فاختلف(1/540)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 541
المسلمون ، هل يقتلونهم ليغنموا تجارتهم ، لأنهم لم يهاجروا ، أو يتركونهم لأنهم مؤمنون؟). وقيل : فى قوم أسلموا ثم اجتووا المدينة «1» ، وأستأذنوا رسول صلّى اللّه عليه وسلم فى الخروج إلى البدو ، فلما خرجوا لم يزالوا راحلين مرحلة حتى لحقوا بالمشركين ، فاختلف المسلمون فى إسلامهم.
[سورة النساء (4) : الآيات 89 الى 90]
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90)
ثم حكم بكفرهم فقال وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ أي : يتمنون كفركم كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ معهم سَواءً فى الضلال والكفر.
الإشارة : من دخل فى طريق المخصوصين الأبرار ، ثم لم تساعده رياح الأقدار ، فلا ينبغى الكلام فيه ، ولا الخوض فى شأنه ، لأن أمره بيد ربه ، (من يهده الله فلا مضل له) ، ومن يضلل فلا ناصر له. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم نهى عن موالاتهم ، فقال :
فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ ...
قلت : (حصرت) : أي : ضاقت ، والجملة حال من الواو ، بدليل قراءة يعقوب (حصرة).
يقول الحق جل جلاله : فَلا تَتَّخِذُوا من هؤلاء الكفرة أَوْلِياءَ وأصدقاء حتى يتحقق إيمانهم ، بأن يهاجروا من دار الكفر إلى دار الإسلام فِي سَبِيلِ اللَّهِ وابتغاء مرضات الله ، لا لحرف دنيوى ، فَإِنْ تَوَلَّوْا عن إظهار الإيمان بالهجرة فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَخُذُوهُمْ أسارى وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ كسائر الكفرة ، وجانبوهم وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً أي : لا تستعينوا بهم فى جهادكم ، إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عهد ، ومِيثاقٌ أي : مهاندة ، فلهم حكم المعاهدين الذين وصلوا إليهم ، ودخلوا معهم فى الصلح ، فلا تقتلوهم ولا تأسروهم.
___________
(1) أي أصابهم الجوى : وهو المرض وداء الجوف إذا تطاول. وذلك إذ لم يوافقهم هواؤها ، واستوخموها ، ويقال : اجتويت البلد : إذا كرهت المقام فيه ، وإن كنت فى نعمة. انظر النهاية فى غريب الحديث (جوا).(1/541)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 542
وكانت خزاعة وادعت النبي صلّى اللّه عليه وسلم وعقدت معه الصلح ، فجاء بنو مدلج فدخلوا معهم فى الصلح ، فنهى الله عن قتالهم ماداموا معهم ، فالقوم الذين بين المسلمين وبينهم ميثاق هم خزاعة ، والذين وصلوا إليهم هم بنو مدلج.
فالاستثناء على هذا منقطع ، لأن بنى مدلج حينئذ كانت مظهرة للكفر لا منافقة ، ويحتمل أن يكون متصلا ، أي : إلا الذين يصلون منهم ... إلخ ، فتأمل. وكان هذا فى أول الإسلام ، ثم نسخ بقوله : فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ الآية.
ثم ذكر قوما آخرين نهى عن قتالهم ، فقال : أَوْ جاؤُكُمْ أي : إلّا قوما جاءوكم ، قد حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أي : ضاقت عن أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ يعنى أنهم كرهوا قتالهم ، وكرهوا قتال قومهم الكفار ، فلا تقتلوهم أيضا ، لأن الله كفّ شرهم عنكم ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ بأن قوّى قلوبهم وأزال رعبهم فَلَقاتَلُوكُمْ ولم يكفوا عنكم ، فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ ولم يتعرضوا لكم وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ أي : الاستسلام والانقياد فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا أي : طريقا إلى قتالهم.
الإشارة : نهى الله تعالى عن مساكنة النفوس وموالاتها ، حتى تهاجر عن مواطن شهواتها إلى حضرة ربها ، فإن تولت عن الهجرة وألفت البطالة والغفلة فليأخذها ليقتلها حيثما ظهرت صورتها ، ولا يسكن إليها أبدا أو يواليها ، إلّا إن وصلت إلى حضرة الشيخ ، وأمره بالرفق بها ، أو كفت عن طغيانها ، أو كفى الله أمرها بجذب أخرجها عن عوائدها ، أو وارد قوّى دفع شهواتها ، فإنه يأتى من حضرة قهار ، لا يصادم شيئا إلا دمغه ، وهذه عناية من الرحمن ، ولو شاء الله تعالى لسلطها على الإنسان يرخى لها العنان ، فتجمح به فى ضحضاح النيران ، فإن كفت النفس عن شهواتها ، وانقادت إلى حضرة ربها ، فما لأحد عليها من سبيل ، وقد دخلت فى حمى الملك الجليل.
والله تعالى أعلم.
ثم ذكر صنفا آخر من المنافقين ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 91]
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91)(1/542)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 543
يقول الحق جل جلاله : سَتَجِدُونَ قوما آخَرِينَ منافقين ، وهم أسد وغطفان ، قدموا المدينة ، وأظهروا الإسلام نفاقا ورياء إذا لقوا النبي صلّى اللّه عليه وسلم قالوا : إنا على دينك ، يريدون الأمن ، إذا لقوا قومهم ، وقالوا لأحدهم : لما ذا أسلمت ، ومن تعبد؟ فيقول : لهذا القرد ولهذا العقرب والخنفساء ، يُرِيدُونَ بإظهار الإسلام أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ ، كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها ، أي : كلما دعوا إلى الكفر رجعوا إليه أقبح رد ، فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ أي : ولم يلقوا إليكم المسالمة والصلح ، ولم يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ بأن تعرضوا لكم وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي : وجدتموهم ، وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً ، أي : تسلطا مُبِيناً ظاهرا ، لظهور كفرهم وثبوت عداوتهم.
الإشارة : النفوس على ثلاثة أقسام : قسم مطلقة العنان فى الجرائم والعصيان ، وهى النفوس الأمارة ، وإليها الإشارة بالآية قبلها ، والله أعلم. وقسم مذبذبة تارة تظهر الطاعة والإذعان ، تريد أن يأمنها صاحبها ، وتارة ترجع إلى الغى والعصيان ، مهما دعيت إلى فتنة وقعت فيها ، فإن لم تنته عن ذلك ، وتكف عن غيها ، فالواجب جهادها وقتلها حتى تنقاد بالكلية إلى ربها ، وأما النفس المطمئنة فلا كلام معها لتحقق إسلامها ، فالواجب الكف عنها وحبها. والله تعالى أعلم.
ولمّا فرغ من حفظ الأديان تكلم على بقية حفظ الأبدان ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 92]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92)
قلت : (و ما كان لمؤمن) النفي هنا بمعنى النهى ، كقوله : وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ ، و(إلا خطأ) : استثناء منقطع ، و(خطأ) : حال ، أو مفعول من أجله ، أو صفة لمصدر محذوف ، أي : لا يحل له أن يقتل مؤمنا فى حال من الأحوال ، لكن إن وقع خطأ فحكمه ما يأتى. وقيل : متصل. انظر ابن جزى. أو : إلا قتلا خطأ ، و(إلا أن يصدقوا) : حال ، أي : إلا حال تصدقهم ، و(توبة) : مفعول من أجله ، أي : شرع ذلك لأجل التوبة. أو ، مصدر ، أي : تاب عليكم توبة.(1/543)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 544
يقول الحق جل جلاله : وَما كانَ ينبغى لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً مثله ، أي : هو حرام عليه ، إِلَّا أن يقتله خَطَأً بأن ظنه كافرا ، أو رمى غيره فصادفه. والآية نزلت بسبب قتل عياش بن ربيعة للحارث بن زيد ، وكان الحارث يعذبه على الإسلام ، ثم أسلم الحارث ، وهاجر ، ولم يعلم عياش بإسلامه ، فقتله.
ثم ذكر حكمه فقال : وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي : فعليه تحرير رقبة مُؤْمِنَةٍ سالمة من العيوب ، ليس فيها شوب حرية ، تكون من مال القاتل ، وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ أي : مدفوعة إِلى أَهْلِهِ وهى على العاقلة كما بيّن الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، وهى عند مالك : مائة من الإبل على أهل الإبل ، وألف دينار شرعية على أهل الذهب ، واثنا عشر ألف درهم ، على أهل الورق ، مقسطة على ثلاث سنين ، فإن لم تكن العاقلة فعلى بيت المال ، وتقسم على أهله ، على حسب المواريث ، إلا أن يتصدقوا بالدية على القاتل فتسقط ، أي : تسمح فيها الورثة أو القتيل قبل موته.
فَإِنْ كانَ المقتول مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ أي : محاربين لكم ، وَهُوَ أي : المقتول مُؤْمِنٌ فعلى القاتل تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ولا دية لأنهم محاربون فيتقووا بها على المسلمين ، ورأى مالك أن الدية فى هذا واجبة لبيت المال ، وَإِنْ كانَ المقتول مؤمنا وهو مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أي : عقد الصلح أو الذمة ، فعلى القاتل دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ ، وعليه أيضا تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ كفارة لخطئه. فإن كان غير مؤمن فلا كفارة فيه. وفيه نصف دية المسلم ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الرقبة ، أو لم يقدر عليها فعليه فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ عوضا من العتق ، جعل الله ذلك تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ على القاتل لتفريطه. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بما فرض ، حَكِيماً فيما قدّر ودبّر. والله تعالى أعلم.
الإشارة : اعلم أن الحق - جل جلاله - قد رغّب فى إحياء النفوس ، حسا ومعنى ، ونهى عن قتلها حسا ومعنى ، وما ذلك إلا لخصوص محبة له فيها ، ومزيد اعتناء له بشأنها فليس فى الوجود أعز عند الله من مظهر هذا الآدمي إن استقام فى العبودية لربه ، فهو قلب الوجود ، ومن أجله ظهر كل موجود ، وهو المنظور إليه من هذا العالم السفلى ، والمقصود بالخطاب التكليفي : جزئى وكلى ، فهو المقصود من بيت القصيد ، وهو المحبوب إليه ، دون سائر العبيد ، قال تعالى : وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي.(1/544)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 545
ومعنى إحيائها حسا : انقاذها من الهلاك الحسى ، ومعنى إحيائها معنى : إنقاذها من الهلاك المعنوي كالجهل والغفلة ، حتى تحيا بالعلم والإيمان واليقظة ، ومعنى قتلها حسا : إهلاكها ، ومعنى قتلها معنى : إيقاعها فى المعاصي والكفر وحملها على ذلك ، وكذلك إهانتها وذلها ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام - : «لعن المؤمن كقتله». فأمر من قتله خطأ أن يحيى نفسا أخرى فى مقابلتها بإخراجها من موت إهانة الرق ، فإن لم يقدر ، فليحى نفسه بقتل صولتها بالجوع حتى تنكسر ، فتحيا بالتوبة واليقظة ، ويجبر كسر أهل المقتول بالدية المسلّمة.
هذا كله فى تفريطه وقلة حزمه حتى قتل خطأ ، وأما إن قتله عمدا ، فأشار إليه الحق جل جلاله بقوله :
[سورة النساء (4) : آية 93]
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93)
يقول الحق جل جلاله : وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً مستحلا لقتله فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ أي : طرده وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً ، وقولنا : مستحلا لقتله ، هو أحد الأجوبة عن شبهة المعتزلة القائلين بتخليد عصاة المؤمنين فى النار. ومن جملتهم : قاتل النفس.
ومذهب أهل السنة : أنه لا يخلد إلا الكافر ، ويؤيد هذا الجواب سبب نزول الآية ، لأنها نزلت فى كافر ، وهو (مقيس بن ضبابة الكناني) وجد أخاه هشاما قتيلا فى بنى النجار - وكان مسلما - فذكر ذلك للنبى صلّى اللّه عليه وسلم فأرسل معه رجلا من بنى فهر ، وقال له : «ائت بنى النّجار ، وقل لهم : إن علمتم قاتل هشام فادفعوه لمقيس يقتصّ منه ، وإن لم تعلموا فادفعوا إليه الدّية». فقالوا : سمعا وطاعة ، لم نعلم قاتله ، فجمعوا مائة من الإبل ، فأخذها ، ثم انصرفا راجعين إلى المدينة ، فوسوس إليه الشيطان ، وقال : أىّ شىء صنعت؟ تقبل دية أخيك فتكون عليك سبّة ، اقتل الرجل الذي معك فتكون نفس مكان نفس وفضل الدّية ، فقتله وأخذ الدّية ، فنزلت فيه الآية.
أو يكون الخلود عبارة عن طول المكث ، والجمهور على قبول توبته ، خلافا لابن عباس ، ونقل عنه أيضا قبولها ، ولعله تعالى استغنى عن ذكر التوبة هنا اكتفاء بذكرها فى الفرقان ، حيث قال : وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً ثم قال : إِلَّا مَنْ تابَ. وأما من قال : إن تلك منسوخة بهذه فليس بصحيح لأن النسخ لا يكون فى الأخبار. أو فجزاؤه إن جوزى ، ولا بدع فى خلف الوعيد لقوله : وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ لأن الوعيد(1/545)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 546
مشروط بعدم العفو ، لدلائل منفصلة اقتضت ذلك كما هو مشروط بعدم التوبة أيضا ، والحاصل : أن الوعد لا يخلف لأنه من باب الامتنان ، والوعيد يصح إخلافه بالعفو والغفران ، كما فى بعض الأخبار عن رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم قال :
«من وعده الله - عز وجل - على عمل ثوابا فهو منجزه له لا محالة ، ومن أوعده على عمل عقابا فهو بالخيار ، إن شاء عفا عنه ، وإن شاء عاقبه». ه. ذكره فى القوت.
فتحصّل أن القاتل لا يخلّد على المشهور إلّا إذا كان مستحلا ، وهذا أيضا ما لم يقتص منه ، وأما إذا اقتص منه فالصحيح أنه يسقط عنه العقاب لقول النبي صلّى اللّه عليه وسلم : «من أصاب ذنبا فعوقب به فى الدنيا فهو له كفّارة». وبه قال الجمهور ، وكذلك إذا سامحه ورثة الدم لأنه حق ورثوه. والله تعالى أعلم.
الإشارة : الإيمان محله القلوب ، فالقلب هو المتصف بالإيمان حقيقة. فالمؤمن الحقيقي هو القلب ، فمن قتله بتتبع الشهوات ، وتراكم الغفلات ، فجزاؤه نار القطيعة فى سجن الأكوان ، والبعد عن عرفان الشهود والعيان ، وفى الحكم : «سبب العذاب وجود الحجاب ، وإتمام النعيم بالنظر إلى وجهه الكريم». والله تعالى أعلم.
ثم إن اللسان ترجمان القلب ، فمن أظهر الإيمان حرم التعرض له ، كما أشار إلى ذلك الحق جل جلاله بقوله :
[سورة النساء (4) : آية 94]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94)
قلت : (السّلم) بالقصر : الانقياد والاستسلام ، وبالمد : التحية. وجملة (تبتغون) : حال من الواو ، مشعرة بما هو الحامل على العجلة.
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ أي : سافرتم وسرتم تجاهدون فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَتَبَيَّنُوا الأمور وتثبتوا فيها ولا تعجلوا ، فإن العجلة من الشيطان ، وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ أي : الانقياد والاستسلام ، أو سلّم عليكم تحية الإسلام ، لَسْتَ مُؤْمِناً إنما فعلت ذلك متعوذّا خائفا ، فتقتلونه طمعا فى ماله ، تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وحطامها الفاني ، فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ وعدكم بها ، لم تقدروا الآن عليها ، فاصبروا وازهدوا فيما تشكّون فيه حتى يأتيكم ما لا شبهة فيه ، كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ(1/546)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 547
هذه الحال ، كنتم تخفون إسلامكم خوفا من قومكم ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بالعز والنصر والاشتهار ، فَتَبَيَّنُوا وتثبتوا ولا تعجلوا ، وافعلوا بالداخلين فى الإسلام كما فعل الله بكم ، حيث حفظكم وعصمكم ، ولا تبادروا إلى قتلهم ظنا بأنهم إنما دخلوا فيه اتقاء وخوفا ، فإن إبقاء ألف كافر أهون عند الله من قتل مؤمن ، وتكريره تأكيد لتعظيم الأمر. ثم هدّدهم بقوله إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً مطلعا على قصدكم ، فلا تتهافتوا فى القتل ، واحتاطوا فيه.
روى أن سرية لرسول الله صلّى اللّه عليه وسلم غزت أهل فدك فهربوا ، وبقي مرداس ثقة بإسلامه ، لأنه كان مسلما وحده ، فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل «1» ، وصعد عليه ، فلما تلاحقوا وكبّروا ، كبّر ونزل يقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، السلام عليكم ، فقتله أسامة ، واستاق غنمه ، فنزلت الآية. فلما أخبر - عليه الصلاة والسلام - وجد وجدا شديدا ، وقال لأسامة : «كيف بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟!» قالها ثلاثا ، حتى قال أسامة : ليتنى لم أكن أسلمت إلا يومئذ ، ثم استغفر له بعد ، وقال له : «أعتق رقبة» ، وقيل : نزلت فى المقداد ، مرّ برجل فى غنمه فأراد قتله ، فقال : لا إله إلا الله ، فقتله وظفر بأهله وماله ، وقيل : القاتل : محلّم بن جثامة ، والمقتول : عامر بن الأضبط. والله تعالى أعلم.
الإشارة : يستفاد من الآية : الترغيب فى خصلتين ممدوحتين وخصوصا عند الصوفية :
الأولى : التأنى فى الأمور والرزانة والطمأنينة ، وعدم العجلة والخفة والطيش. وفى الحديث : «من تأنّى أصاب أو كاد ، ومن استعجل أخطأ أو كاد». ولا يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه ، ويفهم عن الله أنه مراد الله فى ذلك الوقت.
والثانية : حسن الظن بعباد اللّه كافة ، واعتقاد الخير فيهم ، وعدم البحث عما اشتمل عليه بواطنهم ، فقد قال عليه الصلاة والسلام : «أمرت أن أحكم بالظواهر واللّه يتولى السرائر» «2» وقال لأسامة : «هلا شققت عن قلبه» ، حين قتل من قال : لا إله إلا الله ، أو لغيره. وفى الحديث : «خصلتان ليس فوقهما شىء من الخير : حسن الظن بالله ، وحسن الظنّ بعباد الله ، وخصلتان ليس فوقهما من الشر شىء : سوء الظن بالله ، وسوء الظن بعباد الله». والله تعالى أعلم.
___________
(1) أي : منعطف من الجبل.
(2) لم يرد بهذا اللفظ. راجع كشف الخفا 1/ 221 والمقاصد الحسنة/ 91.(1/547)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 548
ولما نهى عن العجلة نهّضهم إلى الجهاد لئلا يتوهم أنها مذمومة حتى فى الجهاد ، فقال :
[سورة النساء (4) : الآيات 95 الى 96]
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96)
قلت : (من المؤمنين) : حال من (القاعدين) ، و(غير) بالرفع : صفة للقاعدين ، وبالنصب : حال ، وبالجر : بدل من المؤمنين ، و(درجة) : نصب على إسقاط الخافض ، أو على المصدر ، لأنه متضمن معنى التفضيل ، أو على الحال ، أي : ذوى درجة. و(أجرا عظيما) : مصدر لفضّل ، لأنه بمعنى أجرا ، أو مفعول ثان لفضّل ، لأنه بمعنى أعطى ، أي : أعطاهم زيادة على القاعدين أجرا عظيما ، و(درجات) وما بعده ، كل واحد بدل من (أجرا) ، و(درجات) : نصب على المصدر ، كقولك : ضربته أسواطا ، و(أجرا) : حال ، تقدمت عليها لأنها نكرة ، و(مغفرة ورحمة) : على المصدر بإضمار فعلهما.
يقول الحق جل جلاله ترغيبا فى الجهاد : لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ عن الجهاد مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مع المجاهدين فى سبيل الله فى الدرجة والأجر العظيم. ولما نزلت أتى ابن أم مكتوم وعبد الله بن جحش ، وهما أعميان فقالا : يا رسول الله ذكر اللّه فضيلة المجاهدين على القاعدين ، وحالنا على ما ترى ، ونحن نشتهى الجهاد ، فهل من رخصة؟ فأنزل الله : غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ، فجعل لهم من الأجر ما جعل للمجاهدين لزمانتهم وحسن نياتهم.
ثم ذكر فضل من خرج على من قعد لعذر فقال : فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ ، مواساة للمجاهدين ، وَأَنْفُسِهِمْ ببذلها فى سبيل رب العالمين ، عَلَى الْقاعِدِينَ لعذر ، دَرَجَةً واحدة ، لمزيد مشقة السفر والغزو والخطر بالنفس للموت ، وَكُلًّا من القاعدين لعلة والمجاهدين فى سبيل الله ، وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي :
المثوبة الحسنى ، وهى الجنة. وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ من غير عذر أَجْراً عَظِيماً وخيرا جسيما. وفى البخاري : «إنّ للّه مائة درجة أعدّها اللّه للمجاهدين فى سبيل اللّه ، ما بين الدرجتين كما بين السّماء والأرض». الحديث. ثم بيّنها بقوله دَرَجاتٍ مِنْهُ أي : من فضله وإحسانه ، وَمَغْفِرَةً لذنوبه ، وَرَحْمَةً تقرّبه إلى ربه ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لما عسى أن يفرط منه ، رَحِيماً بما وعد له.(1/548)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 549
الإشارة : لا يستوى القاعد مع حظوظه وهواه ، مشتغلا بتربية جاهه وماله وتحصيل مناه ، غافلا عن السير إلى حضرة مولاه ، مع الذي سلّ سيف العزم فى جهاد نفسه وهواه ، وبذل مهجته وجاهد نفسه فى طلب رضاه ، حتى وصل إلى شهود أنوار جماله وسناه ، هيهات هيهات ، لا يستوى الأحياء مع الأموات ، فإن قعد مع نفسه لعذر يظهره ، مع محبته لطريق القوم وإقراره لأهل الخصوصية ، فقد فضّل الله عليه المجاهدين لنفوسهم بدرجة الشهود ومعرفة العيان للملك الودود ، وإن قعد لغير عذر مع الإنكار لأهل الخصوصية ، فقد فضّل الله عليه المجاهدين أجرا عظيما ، درجات منه بالترقي أبدا ، ومغفرة ورحمة ، وفى البيضاوي : التفضيل بدرجة فى جهاد الكفار ، وبدرجات فى جهاد النفس لأنه الأكبر للحديث. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر حكم من تخلف عن الهجرة والجهاد حتى مات ، فقال :
[سورة النساء (4) : الآيات 97 الى 99]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ تتوفاهم الْمَلائِكَةُ أي : ملك الموت وأعوانه ، يعنى : تقبض أرواحهم ، ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ بترك الهجرة ومرافقة الكفرة ، قالُوا أي : الملائكة فى توبيخهم : فِيمَ كُنْتُمْ أي :
فى أي شىء كنتم من أمر دينكم : أعلى الشك أو اليقين؟ أو : فى أي بلد كنتم : فى دار الكفر أو الإسلام؟ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ فعجزنا عن الهجرة وإظهار الدين خوفا من المشركين ، قالُوا أي : الملائكة تكذيبا لهم وتبكيتا : أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها إلى قطر آخر ، كما فعل المهاجرون إلى الحبشة والمدينة ، لكن حبستكم أموالكم ، وعزّت عليكم أنفسكم ، فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ لتركهم الهجرة الواجبة فى ذلك الوقت ، ومساعدتهم الكفار على غزو المسلمين ، وَساءَتْ مَصِيراً أي : قبحت مصيرا جهنم التي يصيرون إليها.
نزلت فى ناس من أهل مكة تكلموا بالإسلام ولم يهاجروا ، فخرجوا يوم بدر مع المشركين فرأوا قلة المسلمين ، فقالوا : غرّ هؤلاء دينهم ، فقتلوا ، فضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم ، كما يأتى ، فلا تجوز الإقامة تحت حكم الكفر مع الاستطاعة ، بل تجب الهجرة ، ولا عذر فى المقام ، وإن منعه مانع فلا يكون راضيا بحاله مطمئن النفس بذلك ، وإلا عمّه البلاء ، كما وقع لأهل الأندلس ، حتى صار أولادهم كفارا والعياذ بالله ، وكذلك لا تجوز الإقامة فى موضع تغلب فيه المعاصي وترك الدين.(1/549)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 550
قال البيضاوي : فى الآية دليل على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن فيه الرجل من إقامة دينه ، وعن النبي صلّى اللّه عليه وسلم : «من فرّ بدينه من أرض ، ولو كان شبرا من الأرض ، استوجب الجنة ، وكان رفيق إبراهيم ومحمد - عليهما الصلاة والسلام». «1» قلت : ويدخل فيه - على طريق الخصوص - من فرّ من موضع تكثر فيه الشهوات والعوائد ، أو تكثر فيه العلائق والشواغل ، إلى موضع يقلّ فيه ذلك ، طلبا لصفاء قلبه ومعرفة ربه ، بل هو أولى ، ويكون رفيقا لهما فى حضرة القدس عند مليك مقتدر. والله تعالى أعلم.
ثم استثنى من تحقّق إسلامه وحبسه العذر ، فقال : إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ أي :
المماليك والصبيان ، وفيه إشعار بأنهم على صدد وجوب الهجرة ، فإنهم إذا بلغوا وقدروا على الهجرة ، فلا محيص عنها ، وأن قومهم يجب أن يهاجروا بهم متى أمكنت الهجرة. قال ابن عباس - رضى الله عنهما - : «كنت أنا وأبى وأمي ممن استثنى الله بهذه الآية».
ثم وصفهم بقوله : لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً أي : قوة على ما يتوقف عليه السفر ، من ركوب أو غيره ، وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا أي : لا يعرفون طريقا ، ولا يجدون دليلا ، فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ. وعبّر بحرف الرجاء إيذانا بأنّ ترك الهجرة أمر خطير ، حتى إن المضطر من حقه أن لا يأمن ، ويترصد الفرصة ، ويعلّق بها قلبه ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً فيعفو ويغفر لمن غلبه العذر. وبالله التوفيق.
الإشارة : كل من لم يتغلغل فى علم الباطن ، مات ظالما لنفسه ، أي : باخسا لها لما فوّتها من لذيذ الشهود ، ومعرفة الملك المعبود ، ولا يخلو باطنه من الإصرار على أمراض القلوب ، التي هى من أكبر الذنوب ، فإذا توفته الملائكة على هذه الحالة ، قالت له : فيم كنت حتّى لم تهاجر إلى من يطهرك من العيوب ، ويوصلك إلى حضرة علام الغيوب؟ فيقول : كنت من المستضعفين فى علم اليقين ، ولم أقدر على صحبة أهل عين اليقين وحق اليقين حبسنى عنهم حبّ الأوطان ، ومرافقة النساء والولدان. فيقال له : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجر فيها إلى من يخلصك من الحجاب ، وينفى عنك الشك والارتياب؟ فلا جرم أن مأواه سجن الأكوان ، وحرمان الشهود والعيان ، إلّا من أقر بوجود ضعفه ، واضطر إلى مولاه فى تخليصه من نفسه ، فعسى ربه أن يعطف عليه ، فيوصله إلى عارف من أوليائه ، حتى يلتحق بأحبابه وأصفيائه. وما ذلك على الله بعزيز.
ثم رغّب فى الهجرة ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 100]
وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100)
___________
(1) أخرجه الثعلبي فى التفسير من حديث الحسن مرسلا. انظر الفتح السماوي 2/ 515.(1/550)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 551
قلت : المراغم : المهرب والمذهب. قاله فى القاموس. وقال البيضاوي : يجد متحولا ، من الرغام وهو التراب.
وقيل : طريقا يراغم قومه بسلوكه فيها ، أي : يفارقهم على رغم أنوفهم ، وهو أيضا من الرغام.
يقول الحق جل جلاله : وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء كلمة الله وإقامة دينه ، يَجِدْ فِي الْأَرْضِ فضاء كثيرا ، ومتحولا كبيرا يتحول إليه ، وسعة بدلا من ضيق ما كان فيه ، من قهر العدو ومنعه من إظهار دينه ، أو سعة فى الرزق ، وبسطا فى المعيشة ، فلا عذر له فى المقام فى مكان مضيّق عليه فيه فى أمر دينه ، وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وجهاد فى سبيله ، ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ قبل وصوله فقد ثبت أجره ، ووجب على الله - وجوب امتنان - أن يبلغه قصده بعد موته ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لما سلف له من عدم المبادرة ، رَحِيماً به ، حيث بلّغه مأموله.
نزلت فى جندع بن ضمرة ، وكان شيخا كبيرا مريضا ، فلما سمع ما نزل فى شأن الهجرة قال : والله ما أنا ممن استثنى الله ، ولى مال يبلغنى المدينة ، والله لا أبيت الليلة بمكة ، اخرجوا بي ، فخرجوا به على سريره حتى أتوا به التنعيم ، فأدركه الموت بها ، فصفّق بيمينه على شماله ، وقال : اللهم هذه لك وهذه لرسولك ، أبايعك على ما بايعك عليه رسولك ، فمات حميدا. فقال الصحابة : لو وافى المدينة ، كان أتم أجرا ، وضحك المشركون ، وقالوا : ما أدرك ما طلب. فنزلت : وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ .. إلخ.
وقيل : نزلت فى خالد بن حزام ، فإنه هاجر إلى أرض الحبشة ، فنهشته حيّة فى الطريق ، فمات قبل أن يصل. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ومن يهاجر من وطن حظوظه وهواه ، طلبا للوصول إلى حضرة مولاه ، يجد فى أرض نفسه متسعا للعلوم ، ومفتاحا لمخازن الفهوم ، وسعة الفضاء والشهود ، حتى ينطوى فى عين بصيرته كلّ موجود ، ويتحقق بشهود واجب الوجود. ومن يخرج من بيت نفسه وسجن هيكله إلى طلب الوصول إلى الله ورسوله ، ثم يدركه الموت قبل التمكين ، فقد وقع أجره على الله ، وبلّغه الله ما كان قصده وتمنّاه ، فيحشر مع الصديقين أهل الرسوخ والتمكين ، التي تلى درجتهم درجة النبيين ، وكذلك من مات فى طلب العلم الظاهر ولم يدركه فى حياته ، حشر مع العلماء ، قال عليه الصلاة والسلام : «من جاءه أجله وهو يطلب العلم لم يكن بينه وبين النبيين إلا درجة واحدة». قلت :
وهذه الدرجة التي بينه وبين النبوة هى درجة الصديقين المتقدمة قبله.
وكل من مات فى طلب شىء من الخير ، أدركه بعد موته بحسن نيته ، كما فى الأحاديث النبوية ، قال القشيري : المهاجر فى الحقيقة ، من هاجر نفسه وهواه ، ولا يصح ذلك إلا بانسلاخه عن جميع مراداته وقصوده ، (1/551)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 552
فمن قصده - أي قصد الحق تعالى - ثم أدركه الأجل قبل وصوله ، فلا ينزل إلا بساحات وصله ، ولا يكون محط رفقته إلا مكان قربه. ه. وفى بعض الآثار : الهجرة هجرتان : هجرة صغرى ، وهجرة كبرى ، فالصغرى : انتقال الأجسام من وطن غير مرضى إلى وطن مرضى ، والكبرى : انتقال النفوس من مألوفاتها وحظوظها إلى معرفة ربها وحقوقها. ه.
ثم ذكر ما يتعلق بالسفر من قصر وغيره ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 101]
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101)
يقول الحق جل جلاله : وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ، أي : سافرتم للجهاد أو غيره من السفر المباح ، أو المطلوب ، فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ الرباعية إلى ركعتين ، ونفى الجناح يقتضى أنها رخصة ، وبه قال الشافعي ، ويؤيده أنه - عليه الصلاة والسلام - أتم فى السفر ، وأن عائشة - رضى اللّه عنها - قالت :
يا رسول الله قصرت وأتممت ، وصمت وأفطرت؟ فقال : «أحسنت «1» يا عائشة». وأوجبه أبو حنيفة لقول عمر رضي اللّه عنه : (السفر ركعتان تمام غير قصر ، على لسان نبيكم). ولقول عائشة : (أول ما فرضت الصلاة ركعتان ، فأقرت صلاة السفر ، وزيدت فى الحضر).
وقال مالك رضي اللّه عنه : القصر سنة لكونه - عليه الصلاة والسلام - دام عليه فى كل سفر ، ولم يتم إلا مرّة لبيان الجواز.
وقوله تعالى : إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ظاهره أن الخوف شرط فى القصر ، وبه قالت عائشة وعثمان - رضى اللّه عنهما - ، والجمهور على عدم شرطه ، وإنما ذكره الحق - تعالى - لكونه غالبا فى ذلك الوقت ، فلا يعتبر مفهومه ، أو يؤخذ القصر فى الأمن من السّنة. ويؤيد هذا حديث يعلى بن أمية ، قلت لعمر بن الخطاب : إن الله يقول : إِنْ خِفْتُمْ ، وقد أمن الناس؟. فقال : عجبت مما تعجبت منه. فسألت رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم فقال : «صدقة تصدّق بها الله عليكم ، فاقبلوا صدقته». وقد ثبت أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قصر الصلاة وهو آمن.
وليس فى الآية ما يدل على تحديد المسافة التي تقصر فيها الصلاة ، بل ذكر مطلق السفر ، ولذلك أجاز الظاهرية القصر فى كل سفر ، طال أو قصر. ومذهب مالك والشافعي : أن المسافة أربعة برد ، واحتجوا بآثار عن ابن عمر وابن عباس. وقال أبو حنيفة : ستة برد ، وكذلك لم يقيد الحقّ السفر بمباح ولا غيره ، ولذلك أجاز أبو حنيفة القصر
___________
(1) فى الأصول : سننت.(1/552)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 553
فى كل سفر. ومنعه مالك فى سفر المعصية. ومنعه ابن حنبل فى المعصية والمباح. والمراد بالفتنة فى قوله : إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ : الجهاد والتعرض لما يكره ، وعداوة الكفار معلومة.
الإشارة : وإذا ضربتم فى ميادين النفوس ، وتحقق سيركم إلى حضرة القدوس ، فلا جناح عليكم أن تقتصروا على المهم من الصلاة الحسية ، وتدوموا على الصلاة القلبية ، التي هى العكوف فى الحضرة القدسية ، إن خفتم أن تشغلكم عن الشهود حلاوة المعاملة الحسية. قال بعض العارفين : اتقوا حلاوة المعاملة ، فإنها سموم قاتلة. وكذلك قال القطب ابن مشيش فى المقامات كالرضا ، والتسليم : أخاف أن تشغلنى حلاوتها عن الله. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر صلاة الخوف ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 102]
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102)
يقول الحق جل جلاله : وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ أيها الرسول فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ ، أي : صلاة الخوف ، وكذلك الأمراء النائبون عنه ، فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ ، وطائفة تقف وجاه العدو للحراسة ، وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ أي : المصلون معك ، فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا أي : الطائفة الحارسة مِنْ وَرائِكُمْ ، فإذا صلّت نصف الصلاة مع الإمام ، قضت فى صلبه ما بقي لها وذهبت تحرس.
وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ النصف الباقي ، فإذا سلمت ، قضوا ما بقي لهم ، فإذا كانت ثنائية : صلّى بالأولى ركعة ، وثبت قائما ساكتا أو قارئا ، ثم تصلى من صلت معه ركعة وتسلم ، وتأتى الثانية فتكبر ، فيصلى بها ركعة ويسلم وتقضى ركعة. وإذا كانت رباعية ، أو ثلاثية صلى بالأولى ركعتين ، ثم تقوم الأولى فتصلى ما بقي لها وتسلم وتأتى الثانية فتكبر وتصلى معه ما بقي له ، ثم تقضى ما بقي لها. هكذا قاله مالك والشافعي.
وقال أبو حنيفة : يصلى بالأولى ركعة ، ثم تتأخر وهى فى الصلاة ، وتأتى الثانية فيصلى بها ركعة ، فإذا سلّم ذهبت مكان الأولى قبل سلامها ، فتأتى الأولى فتصلى ركعة ثم تسلّم ، وتأتى الثانية فتصلى ركعة ثم تسلّم. وفى(1/553)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 554
صلاة الخوف عشرة أقوال على حسب الأحاديث النبوية ، لأنها تعدّدت منه صلّى اللّه عليه وسلم ، فكل واحد أخذ بحديث ، وما قاله مالك والشافعي هو الذي فعله - عليه الصلاة والسلام - فى غزوة ذات الرقاع.
ثم أمر الطائفة الحارسة بأخذ السلاح ، والحذر من العدو فقال : وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ، ثم ذكر علّة الحذر فقال : وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً أي :
تمنوا أن ينالوا منكم غرة ، فيشدون عليكم شدة واحدة فيستأصلونكم.
روى أن المشركين لما رأوا المسلمين صلوا صلاة الظهر ندموا أن لو كانوا أغاروا عليهم فى الصلاة ، ثم قالوا :
دعوهم فإن لهم صلاة هى إليهم أحب من آبائهم وأبنائهم - يعنون صلاة العصر - ، فلما قام النبي - عليه الصلاة والسلام - لصلاة العصر نزل جبريل بصلاة الخوف.
ثم رخّص لهم فى وضع السلاح ، لعذر فقال : وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أي : لا إثم إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ منهم بالحراسة. روى أنها نزلت فى عبد الرحمن بن عوف ، مرض فوضع سلاحه ، فعنّفه أصحابه ، فنزلت الآية.
ثم هوّن شأن الكفار بعد أن أمر بالحذر منهم فقال : إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً فى الدنيا والآخرة.
قال البيضاوي : وعد المؤمنين بالنصرة على الكفار ، بعد الأمر بالحذر ، ليقوى قلوبهم ، وليعلموا أن الأمر بالحذر ليس لضعفهم وغلبة عدوهم ، بل إن الواجب أن يحافظوا فى الأمور على مراسم التيقظ والتدبير. ه.
الإشارة : إذا كنت فى جند الأنوار ، وأحدقت بك حضرة الأسرار ، ثم نزلت إلى سماء الحقوق أو أرض الحظوظ فلتقم طائفة من تلك الأنوار معك ، لتحرسك من جيش الأغيار وجند الأكدار ، حتى يكون رجوعك إلى الآثار مصحوبا بكسوة الأنوار وحلية الاستبصار ، فيكون رجوعك إليها بالله لا بنفسك ، فإذا سجد القلب فى الحضرة كانت تلك الأنوار من ورائه والأسرار من أمامه ، وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ ، ولتأت طائفة أخرى لم تصل هذه الصلاة لأنها لم تبلغ هذا المقام ، فلتصل معك اقتباسا لأنوارك ، لكن تأخذ حذرها وتستعد من خواطر الأشغال ، كى لا تميل عليهم فتفتنهم عن الحضور مع الكبير المتعال ، فإن كان مريض القلب بالهوى وسائر العلل ، فلا يكلف من الحضور إلا ما يطيقه ، لأن القط لا يكلف بحمل الجمل. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر ما يعين على الحضور ، ويتحصن به من العدو الكفور وهو ذكر الله ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 103]
فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103)(1/554)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 555
يقول الحق جل جلاله : فإذا فرغتم من الصلاة فَاذْكُرُوا اللَّهَ فى جميع أحوالكم قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ إن أردتم حراسة قلوبكم ، والنصر على عدوكم ، أو إذا أردتم قضاء الصلوات وأداء فرضها ، وأنتم فى المعركة ، فصلوا كما أمكنكم ، قِياماً راجلين أو على خيولكم إيماء ، وحلّ للضرورة حينئذ مشى وركض وطعن وعدم توجه ، وإمساك ملطخ ، وتنبيه وتحذير ، هذا للصحيح ، وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ ، للمريض أو الجريح ، هكذا قال جمهور الفقهاء فى صلاة المسايفة «1». وقال أبو حنيفة : لا يصلى المحارب حتى يطمئن.
فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ وذهب الخوف عنكم فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ على هيأتها المعلومة ، واحفظوا أركانها وشروطها ، وأتوا بها تامة ، إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً أي : فرضا محدود الأوقات ، لا يجوز إخراجها عن وقتها فى شىء من الأحوال. قال البيضاوي : وهذا دليل على أن المراد بالذكر الصلاة ، وأنها واجبة الأداء ، حال المسايفة ، والاضطراب فى المعركة ، وتعليل للأمر بالإتيان بها ، كيف أمكن.
الإشارة : إذا فرغتم من الصلاة الحسية ، فاستغرقوا أحواكم فى الصلاة القلبية ، حتى تطمئن قلوبكم فى الحضرة القدسية ، فإذا اطمأننتم فى الحضرة ، فأقيموا صلاة الشهود والنظرة ، وهى الصلاة الدائمة ، قال تعالى : الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ. وقال الورتجبي : إذا كنتم فى حالة التمكين وامتلأتم من أنوار ذكره ، فينبغى أن تخرجوا من أبواب الرخص ، والاستراحة فى سعة الروح ، وترجعوا إلى مقام الصلاة ، فإن آخر سيركم فى ربوبيتى : أول بدايتكم فى عبوديتى. ه.
ثم حذرهم من الوهن فى أمر الجهاد ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 104]
وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104)
قلت : الوهن : الفشل والضعف.
يقول الحق جل جلاله : ولا تضعفوا فى طلب الْقَوْمِ ، أي : الكفار ، فتجاهدوهم فى سبيل الله ، فإن الحرب دائرة بينهم وبينكم ، قد أصابهم مثل ما أصابكم ، فإن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ ، أي : تتوجعون من الجراح ، فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ ، وأنتم ترجون من الله النصر والعز فى الدنيا ، والدرجات العلا فى الآخرة ، وهم لا يرجون
___________
(1) المسايفة : المبارزة بالسيوف.(1/555)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 556
ذلك ، فحقكم أن تكونوا أصبر وأرغب فى الجهاد منهم ، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بأعمالكم وضمائركم ، حَكِيماً فيما يأمركم به وينهاكم.
الإشارة : لا تهنوا عن طلب الظفر بنفوسكم ، ولا تفشلوا عن السير إلى حضرة ربكم ، فإن كنتم تألمون حال محاربتها ومخالفة شهواتها ، فإنها تألم مثلكم ، ما دامت لم ترتض فى حضرة ربكم ، فإذا ارتاضت وتحلت صار المر عندها حلوا ، وذلك إنما يكون بعد موتها وحياتها ، فدوموا على سياستها ورياضتها ، فإنكم ترجون من الله الوصول ، وبلوغ المأمول ، وهى ترجو الرجوع إلى المألوفات وركوب العادات ، فاعكسوا مراداتها ، حتى تطمئن فى حضرة ربها ، فتأمن غوائلها ، فليس بعد الوصول رجوع ، ولا إلى العوائد نزوع ، والله غالب على أمره.
ثم ذكر ما يتعلق بحفظ اللسان ، وهو الأمر الخامس من مضمون السورة ، فقال :
[سورة النساء (4) : الآيات 105 الى 109]
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109)
قلت : أرى ، هنا عرفانية ، لا علمية ، فلذلك لم تتعد إلى ثلاثة.
يقول الحق جل جلاله لنبيه - عليه الصلاة والسلام - حين همّ أن يخاصم عن طعمة بن أبيرق ، وذلك أنه سرق درعا من جاره قتادة بن النعمان ، فى جراب دقيق ، فجعل الدقيق يسقط من خرق فيه ، وخبّأها عند يهودى ، فالتمس الدرع عند طعمة ، فلم توجد ، وحلف ما أخذها ، وما له بها علم ، فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها ، فقال اليهودي : دفعها إلىّ طعمة ، وشهد له ناس من اليهود ، فقال رهط طعمة من بنى ظفر : انطلقوا بنا إلى رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم فنسأله أن يجادل عن صاحبنا ، وقالوا : إن لم يفعل هلك وافتضح ، وبرئ اليهودي ، فهمّ رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم اعتمادا على ظاهر الأمر ، ولم يكن له علم بالواقعة ، فنزلت الآية : (1/556)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 557
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي : ملتبسا بالحق لِتَحْكُمَ بما فيه من الحق بَيْنَ النَّاسِ بسبب ما أَراكَ أي : عرّفك اللَّهُ بالوحى ، أو بالاجتهاد ، ففيه دليل على إثبات القياس ، وبه قال الجمهور. وفى اجتهاد الأنبياء خلاف. وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً أي : عنهم للبرآء ، أو لأجلهم والذّبّ عنهم.
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ مما هممت به ، إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ، وفيه دليل على منع الوكالة عن الذمي ، وبه قال ابن شعبان. وقال ابن عات : لعله أراد الندب. وقال مالك بن دينار : كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينا للخونة.
والوكالة من الأمانة ، والمصطفى - عليه الصلاة والسلام - لم يقصد شيئا من ذلك ، ولا علم له بالواقعة ، لو لا أطلعه تعالى ، فلا نقص فى اهتمامه ، ولا درك «1» يلحقه. وبالجملة ، فالآية خرجت مخرج التعريف بحقيقة الأمر فى النازلة.
ثم نهاه عن الذب عنهم ، فقال : وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
وهم رهط ابن أبيرق السارق ، قال السهيلي : هم بشر وبشير ومبشر وأسير ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً
أي : كثير الخيانة ، أَثِيماً
أي :
مصرا عليها ، روى أن طعمة هرب إلى مكة ، وارتدّ ، ونقب حائطا بها ليسرق أهله ، فسقط الحائط عليه فقتله.
ويستفاد من الآية امتناع الجدال عمن علمت خيانته بالأحرى ، أو كان مظنة الخيانة ، كالكافر ونحوه. وكذا قال ابن العربي فى أحكام القرآن فى هذه الآية : إن النيابة عن المبطل المتهم فى الخصومة لا تجوز ، بدليل الآية. ه.
ثم فضح سرهم ، فقال : يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ
أي : يستترون منهم ، وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
وهو أحق أن يستحيا منه ويخاف وَهُوَ مَعَهُمْ
لا يخفى عليه شىء ، فلا طريق للنجاة إلا ترك ما يستقبح ، ويؤاخذ عليه سرا وجهرا. إِذْ يُبَيِّتُونَ
أي : يدبرون ويزوّرون ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ
من رمى البريء ، والحلف الكاذب ، وشهادة الزور ، وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً
لا يفوته شىء ، ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
ودفعتم عنهم المعرة ، فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ
أي : من يدافع عنهم عذابه يَوْمَ الْقِيامَةِ ، أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا
يحميهم من عقاب الله ، حين تفضح السرائر ، ولا تنفع الأصحاب ولا العشائر.
الإشارة : فى الآية عتاب للقضاة والولاة إذا ظهرت صورة الحق بأمارات وقرائن ، ثم تجمدوا على ظاهر الشريعة ، حمية أو رشوة ، فإن القضاء جلّه فراسة ، وفيها عتاب لشيوخ التربية ، إذا ظهر لهم عيب فى المريد ستروه عليه حياء أو شفقة ، ولذلك قالوا : شيخ التربية لا تليق به الشفقة ، غير أنه لا يعيّن ، بل يذكر فى الجملة ، وصاحب العيب يفهم نفسه ، وفيها عتاب للفقراء إذا راقبوا الناس ، وأظهروا لهم ما يحبون ، وأخفوا عنهم ما لا يرضون ، لقوله -
___________
(1) الدرك : التبعة.(1/557)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 558
سبحانه - : يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ ...
الآية ، بل ينبغى أن يكونوا بالعكس من هذا ، قال بعضهم : إن الذين تكرهون منى ، هو الذي يشتهيه قلبى. والله تعالى أعلم.
ثم حضّهم على التوبة ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 110]
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110)
يقول الحق جل جلاله : وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
أي : ذنبا قبيحا يسوء به غيره ، أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
بذنب يختص به ، أو من يعمل سوءا بذنب غير الشرك ، أو يظلم نفسه بالشرك ، أو من يعمل سوءا بالكبيرة ، أو يظلم نفسه بالصغيرة ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ
بالتوبة يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً
لذنوبه رَحِيماً
بقبول توبته ، وفيه حث لطعمة وقومه على التوبة والاستغفار.
الإشارة : ومن يعمل سوءا بالميل إلى الهوى ، أو يظلم نفسه بالالتفات إلى السوي ، أو من يعمل سوءا بالهفوات والخطرات ، أو يظلم نفسه بالغفلات والفترات ، أو من يعمل سوءا بالوقوف مع الكرامات وحلاوة الطاعات ، أو يظلم نفسه بالقناعة من الترقي فى الدرجات والمقامات ، ثم يستغفر الله من حينه يجد الله غفورا رحيما ، حيث لم يخرجه من حضرته ، ولم يتركه مع غفلته.
ثم عاتب رهط السارق على رميهم الغير بالسرقة ، فقال :
[سورة النساء (4) : الآيات 111 الى 112]
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112)
يقول الحق جل جلاله : وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً
كسرقة أو يمين فاجرة ، أو رمى غيره بجريمة ، فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ
لا يتعدى ضررها إلى غيره ، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً
بسرائر عباده حَكِيماً
فى إمهالهم وسترهم ، وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً
أي : جريمة تتعدى إلى ضرر غيره ، أَوْ إِثْماً
يختص بنفسه ، ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
منه ، كما رمى طعمة زيدا اليهودىّ ، فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً
وهو أن يبهت الرجل بما لم يفعل ، وَإِثْماً مُبِيناً
أي : ذنبا ظاهرا ، لا يخفى قبحه وبشاعته.
الإشارة : الإثم : ما حاك فى الصدر وتلجلج فيه ، ولم ينشرح إليه الصدر ، وضده البر وهو ما ينشرح إليه الصدر ويطمئن إليه القلب ، فكل من فعل شيئا قد تلجلج قلبه منه ولم يقبله نقص من نوره ، وأظلم قلبه منه ، وإليه(1/558)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 559
الإشارة بقوله : (و من يكسب إثما ..) الآية ، أي : فإنما يسوّد به نور نفسه وروحه ، ومن تلبّس بذنب أو عيب ، ثم يرم به غيره من باب سوء الظن (فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا) لأن الواجب على المريد السائر أن يشهد الصفاء من غيره ، ويقصر النقص على نفسه ، والواصل يرى الكمال فى كل شىء لمعرفته فى كل شىء. والله تعالى أعلم.
ثم شهد لرسوله بالهداية والعناية ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 113]
وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)
قلت : الجارّ فى قوله : (من شى ء) ، فى موضع نصب على المصدر ، أي : لا يضرونك شيئا من الضرر.
يقول الحق جل جلاله : وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ
بالعصمة ورحمته بالعناية ، لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ
وهم رهط السارق أَنْ يُضِلُّوكَ
عن القضاء بالحق ، مع علمهم بالقصة ، لكن سبقت العناية ، وحفت الرعاية ، فلم تخرج من عين الهداية. وليس المراد نفى همهم لأنه وقع ، إنما المراد نفى تأثيره فيه ، وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
لعوده عليهم ، وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ
لأن الله عصمك ، وما خطر ببالك من المجادلة عنهم ، كان اعتمادا منك على ظاهر الأمر ، وإنما أمرت أن تحكم بالظواهر ، والله يتولى السرائر.
وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ
أي : القرآن ، وَالْحِكْمَةَ
ما نطقت به من الحكم ، وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
من خفيات الأمور ، التي لم تطلع عليها ، أو من أمور الدين والأحكام ، وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
ولا فضل أعظم من النبوة ، لا سيما وقد فضّله على كافة الخلق وأرسله إلى كافة الناس ، وهدى اللّه على يديه ما لم يهد على يد أحد من الأنبياء قبله ، إلى غير ذلك من الفضائل التي تفوت الحصر.
الإشارة : لو لا أن الله تفضّل على أوليائه بسابق العناية ، وحفّت بهم منه الكلاءة والرعاية ، لأضلتهم العموم عن عين التحقيق ، ولأتلفتهم القواطع عن سلوك الطريق ، لكن من سبقت له العناية لا يصيبه سهم الجناية ، فثبّت أقدامهم على سير الطريق ، حتى أظهر لهم معالم التحقيق ، فكشف عن قلوبهم رين الحجاب ، حتى فهموا أسرار الكتاب ، ونبع من قلوبهم ينابيع الحكم والأسرار ، واطلعوا على علوم لم يحط بها كتاب ولا دفتر ، فحازوا فى الدارين خيرا جسيما ، وكان فضل الله عليهم عظيما.(1/559)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 560
ولما ظهرت السرقة على طعمة ، كثر فى شأنه التناجي والخوض فيما لا يعنى ، فنهاهم الحقّ عن ذلك فقال :
[سورة النساء (4) : آية 114]
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114)
قلت : إن كان المراد بالنجوى الكلام الخفي فالاستثناء منقطع ، وقد يكون متصلا على حذف مضاف أي : إلا نجوى من أمر ... إلخ. وإن كان المراد بالنجوى الجماعة المتناجين ، فالاستثناء متصل. قاله ابن جزى.
يقول الحق جل جلاله محرضا على الصمت : لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مما يتناجون به فى شأن السارق أو غيره ، بل لا خير فى الكلام بأسره إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ واجبة أو تطوعية ، فله مثل أجره ، أَوْ مَعْرُوفٍ وهو : ما يستحسنه الشرع ، ويوافقه العقل ، كالقرض ، وإغاثة الملهوف ، وتعليم الجاهل ، وإرشاد الضال ، وغير ذلك من أنواع المعروف. أو أمر بإصلاح بَيْنَ النَّاسِ ، أي : إصلاح ذات البين ، كإصلاح بين طعمة واليهودي وغيرهما.
قال مجاهد : (هى عامة للناس) ، يريد أنه لا خير فيما يتناجى فيه الناس ، ويخوضون فيه من الحديث ، إلا ما كان من أعمال الخير.
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي : الصدقة ، والمعروف والإصلاح ، ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي : مخلصا لله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً وخيرا جسيما. قال البيضاوي : بنى الكلام على الأمر ، ورتّب الجزاء على الفعل ، ليدل على أنه لما دخل الآمر فى زمرة الخيرين كان الفاعل أدخل فيهم ، وأن العمدة والغرض هو الفعل ، واعتبار الأمر من حيث إنه وصلة إليه. وقيد الفعل بأن يكون لطلب مرضاة الله لأن الأعمال بالنيات ، وأن من فعل خيرا رياء وسمعة ، لم يستحق بها من الله أجرا ، ووصف الأجر بالعظم تنبيها على حقارة مافات فى جنبه من أغراض الدنيا. ه.
الإشارة : فى الآية حث على الصمت ، وهو ركن قوى فى طريق التصوف ، وهو أحد الأركان الأربعة التي هى : العزلة والجوع والسهر ، فهذه طريق أهل البداية ، ومن لا بداية له لا نهاية له ، وقالوا : بقدر ما يصمت اللسان يعمر الجنان ، وبقدر ما كان يتكلم اللسان يخرب الجنان. وقالوا أيضا : إذا كثر العلم قلّ الكلام ، وإذا قل العلم كثر الكلام. وقالوا أيضا : من عرف اللّه كلّ لسانه. وقيل لبعض العلماء : هل العلم فيما سلف أكثر ، أو اليوم أكثر؟ قال :
العلم فيما سلف أكثر ، والكلام اليوم أكثر.
وفى قوله : وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ .. إشارة إلى أن العمل أشرف من العلم بلا عمل. والله تعالى أعلم.(1/560)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 561
ثم نزل فى شأن طعمة ، لما هرب وارتد مشركا :
[سورة النساء (4) : الآيات 115 الى 116]
وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116)
قلت : المشاقة : المخالفة والمباعدة ، كأن كل واحد من المتخالفين فى شقّ غير شقّ الآخر.
يقول الحق جل جلاله : وَمَنْ يخالف الرَّسُولَ ويتباعد عنه مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى أي :
بعد ما تحقق أنه على الهدى بالوقوف على المعجزات ، فيترك طريق الحق وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ أي : يسلك غير ما هم عليه ، من اعتقاد أو عمل. نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى أي : نتركه مع ما تولى ، ونجعله وليا له ، ونخلّى بينه وبين ما اختاره من الضلالة ، وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ أي : ندخله فيها ، ونشويه بها ، وَساءَتْ مَصِيراً أي : قبحت مصيرا جهنم التي يصير إليها. والآية تدل على حرمة مخالفة الإجماع ، لأن الله رتّب الوعيد الشديد على مشاقة الرسول ، واتباع غير سبيل المؤمنين ، وكل منهما محرم ، وإذا كان اتباع غير سبيلهم محرما كان اتباع سبيلهم واجبا ، انظر البيضاوي.
ثم نزل فى طعمة لما ارتد مشركا : إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وقيل : كرر للتأكيد تقبيحا لشأن الشرك ، وقيل : أتى شيخ إلى رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم فقال : إنى شيخ منهمك فى الذنوب إلا أنى لم أشرك باللّه شيئا منذ عرفته وآمنت به ، ولم أتخذ من دونه وليا ، ولم أوقع المعاصي جرأة ، وما توهمت طرفة عين أنى أعجز الله هربا ، وإنى لنادم تائب ، فما ترى حالى عند الله؟ فنزلت. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ ، فَقَدْ ضَلَّ عن الحق ضَلالًا بَعِيداً لأن الشرك أقبح أنواع الضلالة ، وأبعدها عن الثواب والاستقامة ، وإنما ذكر فى الآية الأولى. فَقَدِ افْتَرى لأنها متصلة بقصة أهل الكتاب ، ومنشأ شركهم نوع افتراء ، وهو دعوى الشيء على اللّه.
قاله البيضاوي.
الإشارة : كل من خالف شيخه ، وسلك طريقا غير طريقه ولاه الله ما تولى ، واستدرجه من حيث لا يشعر ، وقد تؤخر العقوبة عنه فيقول : لو كان هذا فيه سوء أدب مع الله ، لقطع الإمداد وأوجب البعاد ، وقد يقطع عنه من حيث لا يشعر ، ولو لم يكن إلا وتخليته وما يريد. وبالجملة : فالخروج عن مشايخ التربية والانتقال عنهم ، ولو إلى من هو أكمل فى زعمه ، بعد ما ظهر له الفتح والهداية على يديه طرد وبعد ، وإفساد لبذرة الإرادة ، فلا نتيجة له أصلا. والله تعالى أعلم. وبالله التوفيق.(1/561)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 562
ثم قبّح شأن الشرك ، وشنّع قبحه ، فقال :
[سورة النساء (4) : الآيات 117 الى 121]
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121)
قلت : المريد والمارد هو الذي لا يعلق بخير ، وأصل التركيب للملابسة ، ومنه : صرح ممرّد ، وغلام أمرد ، وشجرة مردى ، أي : سقط ورقها. قاله البيضاوي. ه. وقيل : المريد : الشديد العاتي ، الخارج عن الطاعة.
يقول الحق جل جلاله : إِنْ يَدْعُونَ : ما يعبدون مِنْ دُونِهِ تعالى إِلَّا إِناثاً ، كاللات والعزى ومناة ، فإن ألفاظها مؤنثة عندهم ، أو لأنها جوامد لا تعقل ، فهى منفعلة لا فاعلة ، ومن حق المعبود إن يكون فاعلا غير منفعل ، أو يريد الملائكة لأنهم كانوا يعبدونها ، ويزعمون أنها بنات الله ، وما يعبدون فى الحقيقة إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً عاصيا ، لأنه هو الذي أمرهم بها ، وأغراهم عليها ، وكان يكلمهم من أجوافها.
ثم وصفه بأوصاف توجب التنفير عنه فقال : لَعَنَهُ اللَّهُ أي : أبعده من رحمته ، وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً أي : مقطوعا فرضته لنفسى ، من قولهم : فرض له فى العطاء ، أي : قطع ، وَلَأُضِلَّنَّهُمْ عن الحق وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ الأمانى الباطلة ، كطول الحياة ، وألّا بعث ولا عقاب ، وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ أي : يشقونها لتحريم ما أحل الله ، وهى عبارة عما كانت العرب تفعل بالبحائر والسوائب ، وإشارة إلى تحريم كل ما أحل الله ، ونقص كل ما خلق الله كاملا بالفعل أو بالقوة ، وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ، صورة ، أو صفة ، فيندرج فيه خصاء العبيد والوشم ، والتنمص - وهو نتف الحاجب - .
زاد البيضاوي : واللواط ، والمساحقه ، وعبادة الشمس والقمر ، وتغيير فطرة الله التي هى الإسلام ، واستعمال الجوارح والقوى فيما لا يعود على النفس كمالا ولا يوجب لها من الله زلفى. وعموم اللفظ يقتضى منع الخصاء مطلقا ، لكن الفقهاء رخصوا فى خصاء البهائم للحاجة ، والجمل الأربع حكاية عما ذكره الشيطان نطقا ، أو أتاه فعلا. ه.(1/562)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 563
ثم حذّر منه فقال : وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ باتباعه فيما أمره به دون ما أمر الله به ، فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً واضحا حيث ضيع رأس ماله ، وأبدل بمكانه من الجنة مكانه من النار. يَعِدُهُمْ أي : الشيطان ، أمورا لا تنجز لهم ، وَيُمَنِّيهِمْ أمانى لا تعطى لهم ، وَما يَعِدُهُمُ أي : الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً ، وهو إظهار النفع فيما فيه الضرر ، فكان يوسوس لهم أنهم على الحق وأنهم أولى بالجنة ، إلى غير ذلك من أنواع الغرور ، أُولئِكَ المغرورون مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ أي : هى منزلهم ومقامهم ، وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً أي : مهربا ولا معدلا. من حاص يحيص : إذا عدل.
الإشارة : ما أحببت شيئا إلا كنت له عبدا ، فاحذر أن تكون ممن يعبد من دون الله إناثا ، إن كنت تحب نفسك ، وتؤثر هواها على حق مولاها ، أو تكون عبد المرأة أو الخميصة «1» أو البهيمة ، أو غير ذلك من الشهوات التي أنت تحبها ، واحذر أيضا أن تكون من نصيب الشيطان بإيحاشك إلى الكريم المنان ، وفى الحكم :
«إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك ، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده». فاشتغل بمحبة الحبيب ، يكفيك عداوة العدو ، فاتخذ الله وليا وصاحبا ، ودع الشيطان جانبا ، غب عن الشيطان باستغراقك فى حضرة العيان.
وبالله التوفيق.
ثم ذكر ضد أهل الشرك ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 122]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122)
قلت : (وعد الله) مصدر ، مؤكد لنفسه ، أي : وعدهم وعدا ، و(حقا) مؤكد لغيره ، أي : لمضمون الجملة قبله.
انظر البيضاوي.
يقول الحق جل جلاله : وَالَّذِينَ آمَنُوا بالله ووحدوه ، وَعَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ التي كلفوا بها سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وعدهم بذلك وعدا حقا ، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا أي : لا أحد أصدق من الله فى قوله. والمقصود من الآية معارضة المواعيد الشيطانية الكاذبة لقرنائه ، بوعد الله الصادق لأوليائه ، ترغيبا فى تحصيل أسبابه. والله تعالى أعلم.
___________
(1) الخميصة : ثوب خز ، أو صوف.(1/563)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 564
الإشارة : والذين جمعوا بين توحيد عظمة الربوبية والقيام بوظائف العبودية سندخلهم جنة المعارف ، تجرى من تحتها أنهار العلوم ، خالدين فيها أبدا ، وعدا حقا وقولا صدقا. ومن أصدق من الله قيلا؟
وهذا الوعد لا ينال بالأمانى مع البطالة والتواني وإنما ينال بالأعمال الصالحة والمقاصد الخالصة ، كما قال تعالى :
[سورة النساء (4) : آية 123]
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123)
قلت : اسم ليس ضمير الأمر ، أي : ليس الأمر بأمانيكم.
يقول الحق جل جلاله : لَيْسَ هذا الوعد الذي ذكرت لأهل الإيمان ينال بِأَمانِيِّكُمْ أي : تمنيكم أيها المسلمون ، ولا بأمانى أَهْلِ الْكِتابِ ، أي : لا يكون ما تتمنون ولا ما يتمنى أهل الكتاب ، بل يحكم الله بين عباده ويجازيهم بأعمالهم. روى أن المسلمين وأهل الكتاب تفاخروا ، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، ونحن أولى بالله منكم ، وقال المسلمون : نحن أولى منكم ، نبينا خاتم النبيين ، وكتابنا يقضى على الكتب المتقدمة ، فنزلت. وقيل : الخطاب مع المشركين ، وهو قولهم : لا جنة ولا نار ، أو قولهم : إن كان الأمر كما يزعم هؤلاء لنكونن خيرا منهم وأحسن حالا.
وأمانى أهل الكتاب : قولهم لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ ولَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى ثم قرر ذلك فقال : مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ عاجلا أو آجلا لما روى أنه لما نزلت قال أبو بكر :
من ينجو مع هذا يا رسول الله ، إن كنا مجزيين بكل سوء عملناه؟ فقال له - عليه الصلاة والسلام - : «أما تحزن؟
أما تمرض؟ أما يصيبك اللأواء؟ «1» قال : بلى يا رسول الله ، قال : هو ذلك». فكل من عمل سوءا جوزى به ، وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا يليه ويدفع عنه ، وَلا نَصِيراً ينصره ويمنعه من عذاب الله.
الإشارة : لا تنال المراتب بالأمانى الكاذبة والدعاوى الفارغة ، وإنما تنال بالهمم العالية ، والمجاهدات القوية ، إنما تنال المقامات العالية بالأعمال الصالحة ، والأحوال الصافية ، وأنشدوا :
___________
(1) اللأواء : الشدة وضيق العيش.(1/564)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 565
بقدر الكدّ تكتسب المعالي من أراد العز سهر الليالى
تريد العزّ ثم تنام ليلا يغوص البحر من طلب اللآلى
ولما نزل قوله تعالى : لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ ... الآية. قال أهل الكتاب : نحن وأنتم سواء ، فأنزل الله تعالى :
[سورة النساء (4) : الآيات 124 الى 126]
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126)
قلت : (من ذكر أو أنثى) : حال من الضمير فى (يعمل) ، وكذا قوله : وَهُوَ مُؤْمِنٌ و(حنيفا) ، حال من (إبراهيم) لأنه جزء ما أضيف إليه.
يقول الحق جل جلاله : وَمَنْ يَعْمَلْ شيئا مَنْ الأعمال الصَّالِحاتِ وهو المهم من المكلف به ، إذ لا طاقة للبشر على الإتيان بكلها. حال كون العامل مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى إذ النساء شقائق الرجال فى طلب الأعمال ، والحالة أن العامل مُؤْمِنٌ لأن الإيمان شرط فى قبول الأعمال ، فلا ثواب على عمل ليس معه إيمان.
ثم ذكر الجواب فقال : فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ أي : يتصفون بالدخول ، أو يدخلهم الله الجنة ، وَلا يُظْلَمُونَ أي : لا ينقصون من ثواب أعمالهم نَقِيراً أي : مقداره ، وهو النقرة فى ظهر النواة. قال البيضاوي : وإذا لم ينقص ثواب المطيع فبالأحرى ألا يزيد فى عقاب العاصي ، لأن المجازى أرحم الراحمين. ه.
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أي : لا أحد أحسن دينا ممن انقاد بكليته إلى مولاه وَهُوَ مُحْسِنٌ أي : موحّد أحسن فيما بينه وبين الله ، وفيما بينه وبين عباد الله ، وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً بأن دخل فى الدين المحمدي الذي هو موافق لملة إبراهيم بل هو عينه ، فمن ادعى أنه على ملة إبراهيم ولم يدخل فيه فقد كذب.
ثم ذكر ما يحث على اتباع ملته ، فقال : وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا أي : اصطفاه وخصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله ، وإنما أعاد ذكره ولم يضمر تفخيما له وتنصيصا على أنه الممدوح ، وسمى خليلا لأنه قد تخللت محبة الله فى جميع أجزائه.(1/565)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 566
روى أن إبراهيم عليه السّلام كان يضيف الناس ، حتى كان يسمى أبا الضيفان ، وكان منزله على ظهر الطريق ، فأصاب الناس سنة ، جهدوا فيها ، فحشد الناس إلى باب إبراهيم ، يطلبون الطعام ، وكانت الميرة كل سنة تصله من صديق له بمصر ، فبعث غلمانه بالإبل إلى الخليل الذي له بمصر يسأله الميرة ، فقال لغلمانه : لو كان إبراهيم يريد لنفسه احتملت له ذلك ، ولكنه يريد للأضياف ، وقد أصابنا ما أصاب الناس ، فرجع الرسل إليه ، ومرّوا ببطحاء لينة ، فملأوا منها الغرائر حياء من الناس ، وأتوا إبراهيم فأخبروه ، فاهتم إبراهيم لمكان الناس ببابه ، فنام ، وكانت سارة نائمة فاستيقظت ، وقالت : سبحان الله! أما جاء الغلمان؟ فقالوا : بلى ، فقامت إلى الغرائر فإذا فيها أجود الحوّارى - أي : الخالص من الدقيق - فخبزوا وأطعموا؟ فاستيقظ إبراهيم ، وشم رائحة الخبز ، فقال : يا سارة ، من أين هذا؟
فقالت : من عند خليلك المصري ، فقال : هذا من عند خليلى الله - عز وجل - ، فحينئذ سماه الله خليلا «1».
قال الزجاج : ومعنى الخليل : الذي ليس فى محبته خلل ، أو لأنه ردّ خلته ، أي : فقره إلى الله مخلصا. ه.
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وخلقا وعبيدا ، فالملك له ، والعبيد عبيده ، يختار ما يشاء كما يشاء من خلة ومحبة وخدمة ، وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً علما وقدرة ، فيجازى كلّا على قدر سعيه وقصده. والله تعالى أعلم.
الإشارة : على قدر المجاهدة والمكابدة تكون المعاينة والمشاهدة ، على قدر البدايات تكون النهايات ، من أشرقت بدايته أشرقت نهايته ، والجزاء على العمل يكون على قدر الهمم ، فمن عمل لجنة الزخارف متع بها ، ومن عمل لجنة المعارف تنعم بها ، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ، فمن انقاد بكليته إلى مولاه فلا أحد أحسن منه عند الله ، ومن تمسك بالملة الحنيفية ، وهى الانقطاع إلى الله بالكلية - فقد استمسك بالعروة الوثقى ، وكان فى أعلى ذروة أهل التقى ، من تخلق بخلق الحبيب كان أقرب إلى الله من كل قريب. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ومما يتعلق بحفظ اللسان الفتوى بما يطابق الحق ، ولذلك ذكره بعد الأمر بالحكم بالعدل ، وما بينهما اعتراض انجرّ الكلام إليه ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 127]
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127)
___________
(1) قال ابن كثير : فى صحة هذا ووقوعه نظر. وغايته أن يكون خبرا اسرائيلى ، لا يصدق ولا يكذب ، وإنما سمى خليل الله لشدة محبته لربه - عز وجل - مما قام له به من الطاعة ، التي يحبها ويرضاها.(1/566)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 567
قلت : و(ما يتلى) : عطف على (الله) ، أي : يفتيكم الله ، والمتلو عليكم فى الكتاب ، أي : فى القرآن. وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ حذف الجار ، وهو فى أو عن ، ليصدق النهى بالراغب فيها إذا كانت جميلة ، والراغب عنها إذا كانت دميمة ، والْمُسْتَضْعَفِينَ عطف على (يتامى النساء) أي : والذي يتلى فى المستضعفين من الولدان ، وهو قوله تعالى : يُوصِيكُمُ اللَّهُ ... إلخ ، أو على الضمير فى (فيهن) أي : يفتيكم فيهن وفى المستضعفين ، و(أن تقوموا) عطف على (المستضعفين) ، أو منصوب بمحذوف ، أي : ويأمركم أن تقوموا ... إلخ.
يقول الحق جل جلاله : وَيَسْتَفْتُونَكَ يا محمد فِي شأن النِّساءِ من الميراث وغيره ، قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ، فيأمركم أن تعطوهن حقهن من الميراث ، وَيفتيكم أيضا فيهن ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فى أول السورة إذ قال : لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ثم بيّنه فى تقسيم الميراث فى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ، وقال فى اليتامى : وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى ... الآية ، فقد أفتاكم فى اليتامى اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ من الصداق وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ بدون صداق مثلهن ، فأمركم أن تنكحوا غيرهن ، ولا تنكحوهن إلا أن تقسطوا لهن فى الصداق ، إذا كانت جميلة ، أو لها مال ، أو ترغبون عن نكاحهن إذا كانت دميمة ، فتعضلوهن لترثوهن ، فلا تفعلوا ذلك ، بل تزوجوها أو زوجوها ، وكانوا فى الجاهلية ، إذا كانت اليتيمة ذات مال وجمال ، رغبوا فيها وتزوجوها بدون صداقها ، وإن كانت دميمة ولا مال لها رغبوا عنها وعضلوها ، أو زوجوها غيرهم. فنهى الله تعالى الفريقين معا.
وَيفتيكم أيضا فى الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وهم الصغار ، أن تعطوهم حقهم من الميراث مع الكبار ، وكانوا لا يورثونهم ، روى أن عيينة بن حصن أتى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال : أخبرنا أنك تورث النساء والصبيان ، وإنما كنا نورث من يشهد القتال ويحوز الغنيمة؟ فقال له صلّى اللّه عليه وسلم : «كذا أمرت» ، فنزلت الآية.
وَيفتيكم أيضا ويأمركم أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ أي : العدل. وهو خطاب للأئمة أن ينظروا لهم بالمصلحة ويستوثقوا حقوقهم ، ويحتاطوا لهم فى أمورهم كلها. ثم وعدهم بالثواب على ذلك فقال : وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً ، فيجازيكم على قدر إحسانكم. والله تعالى أعلم.
الإشارة : يستفتونك عن نساء العلوم الرسمية ، وعن يتامى العلوم القلبية ، وهن نتائج الأفكار ، وهى العلوم اللدنية ، والأسرار الربانية التي هى من علوم الحقيقة ، ولا تليق إلا بالمستضعفين عند الخليقة ، وفى الخبر : «ألا أخبركم بأهل الجنّة؟ هو كل ضعيف متضعّف ، لو أقسم على اللّه لأبرّه فى قسمه». أو كما قال صلّى اللّه عليه وسلم. قل الله يفتيكم فيهن فيأمركم أن تأخذوا من العلوم الرسمية ما تتقنون به عبادة ربكم ، وترغبوا فى علم الطريقة ، التي هى علم(1/567)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 568
القلوب ، ما تحققون به عبوديتكم ، ومن نتائج الأفكار ما تشاهدون به عظمة ربكم ، ويأمركم أن تقوموا بالعدل فى جميع شئونكم ، فتعطوا الشريعة حقها والطريقة حقها ، وتحفظوا أسرار الحقيقة عن غير مستحقها ، والله لا يضيع أجر المحسنين.
ثم أمر بالصلح بين الزوجين عند خوف النشوز ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 128]
وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128)
قلت : امرأة : فاعل بفعل يفسره ما بعده ، وأصل (يصّالحا) : يتصالحا ، فأدغمت ، و(صلحا) مصدر. وقرأ الكوفيون : يصلحا من الرباعي ، فتنصب صلحا على المفعول به ، أو المصدر ، و(بينهما) ظرف ، أو حال منه ، وجملة (الصلح خير) : معترضة ، وكذا : وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ، ولذلك اغتفر عدم تجانسهما.
يقول الحق جل جلاله : وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ وتوقعت من زوجها نُشُوزاً أي : ترفعا عن صحبتها ، وتجافيا عنها ، كراهية لها ، ومنعا لحقوقها ، أَوْ إِعْراضاً عنها ، بأن يترك مجالستها ، ومحادثتها ، فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أن يتصالحا بَيْنَهُما صُلْحاً بأن تحط له من مهرها ، أو من قسمها مع ضرتها ، أو تهب له شيئا تستميله به.
نزلت فى سعد بن الربيع ، تزوج على امرأته شابة ، وآثرها عليها. وقيل : فى رجل كبرت امرأته ، وله معها أولاد ، فأراد طلاقها ليتزوج ، فقالت له : دعنى على أولادى ، واقسم لى فى كل شهرين أو أكثر ، أو لا تقسم. فذكر ذلك للنبى صلّى اللّه عليه وسلم فقال له : «قد سمع الله ما تقول ، فإن شاء أجابك» ، فنزلت. وقيل : نزلت فى سودة زوج النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، لما كبرت ، أراد - عليه الصلاة والسلام - أن يفارقها ، فقالت : أمسكنى فى نسائك ولا تقسم لى ، فقد وهبت نوبتى لعائشة ، فإنى أريد أن أبعث فى نسائك.
ثم رغّب فى الصلح فقال : وَالصُّلْحُ خَيْرٌ من المفارقة ، أو من سوء العشرة والخصومة ، أو خير فى نفسه ، ولا يكون إلا مع ترك بعض حق النفس من أحد الخصمين ، فلذلك ثقل على النفس فشحت به ، وإليه أشار بقوله :
وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ أي : جعلته حاضرا لديها لا يفارقها ، لأنها مطبوعة عليه ، فالمرأة لا تكاد تسمح للزوج من حقها ، ولا تسخو بشىء تعطيه لزوجها ، والزوج لا يكاد يصبر على إمساكها وإحسان عشرتها إذا كرهها ، (1/568)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 569
وَإِنْ تُحْسِنُوا العشرة وَتَتَّقُوا النشوز والإعراض ونقص حق المرأة مع كراهة الطبع لها ، فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً لا يخفى عليه إحسانكم ولا نشوزكم ، فيجازى كلّا بعمله ، وفى بعض الأثر : «من صبر على أذى زوجته أعطاه الله ثواب أيوب عليه السلام». وكذلك المرأة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : اعلم أن النفس كالمرأة حين يتزوجها الرجل ، فإنها إذا رأت من زوجها الجد فى أموره والانقباض عنها ، هابته وانقادت لأمره ، وإذا رأت منه الليونة والسيولة استخفت بأمره وركبته ، وسقطت هيبته من قلبها ، فإذا أمرها ونهاها لم تحتفل بأمره ، وكذلك النفس إذا رأت من المريد الجد فى بدايته والصولة عليها ، هابته وانقادت لأمره وكانت له سميعة مطيعة ، وإذا رأت منه الرخو والسهولة معها ، ركبته وصعب عليه انقيادها وجهادها ، فإذا صال عليها وقهرها فأرادت الصلح معه على أن يسامحها فى بعض الأمور ، وتساعفه فيما يريد منها ، فلا جناح عليهما أن يصالحا بينهما صلحا ، والصلح خير ، فإن دوام التشديد قد يفضى إلى الملل ، وإن تحسنوا معها بعد معرفتها ، وتتقوا الله فى سياستها ورياضتها حتى ترد بكم إلى حضرة ربها ، فإن الله كان بما تعملون خبيرا.
ثم أمر بالعدل بين النساء ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 129]
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129)
يقول الحق جل جلاله : وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا ، يا معشر الأزواج ، أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ العدل الكامل التام فى الأقوال والأفعال والنفقة والكسوة والمحبة ، وَلَوْ حَرَصْتُمْ على ذلك لضعف حالكم ، وقد خففت عنكم ، وأسقطت الحرج عنكم ، فلا يجب العدل فى البيت فقط ، وكان صلّى اللّه عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ويقول : «اللهمّ هذه قسمتى فيما أملك ، فلا تؤاخذني فيما لا أملك» ، يعنى : ميل القلب ، وكان عمر رضي اللّه عنه يقول : (اللهم قلبى فلا أملكه ، وأما سوى ذلك فإنى أرجو أن أعدل) ، وأما الوطء فلا يجب العدل فيه ، إلا أن تتحرك شهوته ، فيكف لتتوفر لذته للأخرى.
فَلا تَمِيلُوا إلى المرغوب فيها لجمالها أو شبابها ، كُلَّ الْمَيْلِ بالنفقة والكسوة والإقبال عليها ، وتدعوا الأخرى كَالْمُعَلَّقَةِ التي ليست ذات بعل ولا مطلقة ، كأنها محبوسة مسجونة ، وعن النبي صلّى اللّه عليه وسلم : «من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما ، جاء يوم القيامة ، وأحد شقّيه مائل» ، وَإِنْ تُصْلِحُوا ما كنتم تفسدون فى أمورهن بالعدل بينهن ، وَتَتَّقُوا الجور فيما يستقبل ، فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ، يغفر لكم ما مضى من ميلكم.(1/569)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 570
الإشارة : من شأن العبودية : الضعف والعجز ، فلا يستطيع العبد أن يقوم بالأمور التي كلف بها على العدل والتمام ، ولو حرص كل الحرص ، وجدّ كل الجد ، فلا يليق به إلا التحقق بوصفه والرجوع إلى ربه ، فيأتى بما يستطيع ولا يحرص على مالا يستطيع ، فلا يميل إلى الدعة والكسل كل الميل ، ولا يحرص على مالا طاقة له به كل الحرص ، فإن التعقيد ليس من شأن أهل التوحيد ، بل من شأنهم مساعفة الأقدار ، والسكون تحت أحكام الواحد القهار ، فلا تميلوا إلى التعمق والتشديد كل الميل ، فتتركوا أنفسكم كالمعلّقة ، أي : المسجونة ، وهذا من شأن أهل الحجاب ، يحبسون فى المقامات والأحوال ، تشغلهم حلاوة ذلك عن الله تعالى. فإذا فقدوا ذلك الحال أو المقام سلبوا وأفلسوا. وأهل الغنى باللّه لا يقفون مع حال ولا مقام ، هم مع مولاهم ، وكل ما يبرز من عنصر القدرة قبلوه ، وتلونوا بلونه ، وهذا مقام التلوين بعد التمكين.
وفى إشارة أخرى : اعلم أن القدرة والحكمة كالزوجين للقلب ، يقيم عند هذه مدة ، وعند هذه أخرى ، فإذا أقام عند الحكمة كان فى مقام العبودية من جهل وغفلة وضعف وذلة ، وإذا أقام عند القدرة كان فى مقام شهود الربوبية فيكون فى علم ويقظة وقوة وعزة. ولا قدرة له على العدل بينهما ، فلا يميل إلى إحداهما كل الميل بل يسير بينهما ، ويعطى كل ذى حق حقه ، بأن يعرف فضلهما ، ويسير بكل واحد منهما. وإن تصلحوا قلوبكم وتتقوا ما يشغلكم عن ربكم ، فإن الله كان غفورا رحيما يغفر لكم ميلكم إلى إحدى الجهتين والله تعالى أعلم.
فإذا تعذر الإصلاح بين الزوجين ، وأراد الفراق ففى الله الغنى عن كل شىء ، كما أشار إلى ذلك بقوله :
[سورة النساء (4) : آية 130]
وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130)
يقول الحق جل جلاله : وَإِنْ يَتَفَرَّقا أي : يفارق كل واحد منهما صاحبه ، يُغْنِ اللَّهُ كل واحد منهما عن صاحبه ، ببدل أو سلو يقوم بأمره من رزق أو غيره ، من سعة غناه وكمال قدرته ، وَكانَ اللَّهُ واسِعاً بقدرته حَكِيماً أي : متقنا فى أحكامه وأفعاله. ثم بيّن معنى سعته فقال : وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي : كل ما استقر فيهما فهو تحت حكمه ومشيئته ، قائما بحفظه وتدبيره ، يعطى كل واحد ما يقوم بأمره ويغنيه عن غيره. والله تعالى أعلم.
الإشارة : اعلم أن الروح ما دامت مسجونه تحت قهر البشرية ، محجوبة عن شهود معانى الربوبية ، كانت فقيرة جائعة متعطشه ، تتعشق إلى الأكوان وتفتقر إليها ، وتقف معها ، فإذا فارقت البشرية وانطلقت من سجن هيكلها ، (1/570)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 571
وخرجت فكرتها من سجن الأكوان ، أغناها الله بشهود ذاته ، وأفضت إلى سعة فضاء الشهود والعيان ، وملكت جميع الأكوان ، «أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون ، فإذا شهدت المكون كانت الأكوان معك» ، وكذلك البشرية يغنيها الله عن تعب الخدمة وتستريح فى ظل المعرفة ، فلما تفرقا أغنى الله كلا من سعة فضله وجوده ، لأنه واسع العطاء والجود ، حكيم فى تدبير إمداد كل موجود.
[سورة النساء (4) : الآيات 131 الى 133]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133)
وفى قوله : وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إشارة إلى أن من كان بالله ، ووصل إلى شهود ذاته ، ملّكه الله ما فى السموات وما فى الأرض ، فيكون خليفة الله فى ملكه ، (و ما ذلك على الله بعزيز).
ولمّا جرى الكلام على شأن النساء ، وهن حبائل الشيطان ، تشغل فتنتهن عن ذكر الرحمن ، حذّر الحق تعالى من فتنتهن ، كما هو عادته تعالى فى كتابه عند ذكرهن ، وأمر بالتقوى التي هى حصن من كل فتنة ، فقال :
وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ...
قلت : (من قبلكم) : يتعلق بأوتوا أو بوصينا ، و(إياكم) : عطف على الذين ، و(أن اتقوا) : على حذف الجار ، أي :
بأن اتقوا ، أو مفسرة لأن التوصية فى معنى القول ، و(إن تكفروا) على حذف القول ، أي : وقلنا لهم ولكم : وإن تكفروا ... إلخ.
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الأمم المتقدمة الذين أنزلنا عليهم الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ كأهل التوراة والإنجيل والزبور ، وغيرهم من الأمم ، ووصيناكم أنتم أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ بأن تمتثلوا أوامره ، وتجتنبوا نواهيه ، ظاهرا وباطنا ، وقلنا لهم ولكم : وَإِنْ تَكْفُرُوا فإن الله غنى عن كفركم وشكركم فقد استقر له ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وعبيدا ، فله فيهما من الملائكة من هو أطوع منكم ، فلا يتضرر بكفركم ، كما لا ينتفع بشكركم وتقواكم ، وإنما أوصاكم رحمة بكم ، لا لحاجة إليكم ، ثم قرر ذلك بقوله : وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً أي : غنيا عن الخلق وعبادتهم ، محمودا فى ذاته ، حمد أو لم يحمد.(1/571)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 572
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ كرره ثالثا للدلالة على كونه غنيا حميدا ، فإن جميع المخلوقات تدل بحاجتها على غناه ، وبما أفاض عليها من الوجود ، وأنواع الخصائص والكمالات على كونه حميدا.
قاله البيضاوي. وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي : حافظا ومجيرا لمن تعلق به من أهل السموات والأرض. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ إن لم تتقوه ، ويأت بقوم آخرين ، هم أطوع منكم وأتقى ، وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً أي : بليغ القدرة لا يعجزه مراد.
قال البيضاوي : وهذا - أي قوله : (إن يشأ يذهبكم ..) - أيضا تقرير لغناه وقدرته ، وتهديد لمن كفر وخالف أمره ، وقيل : هو خطاب لمن خالف الرسول صلّى اللّه عليه وسلم من العرب ، وهو معنى قوله : وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ لما روى : أنّها لما نزلت ضرب رسول صلّى اللّه عليه وسلم يده على ظهر سلمان وقال : «إنّهم قوم هذا».
الإشارة : التقوى أساس الطريق ومنهاج أهل التحقيق ، عليها سلك السائرون ، وبها وصل الواصلون ، قد وصّى بها الحق تعالى المتقدمين والمتأخرين ، وبها قرّب المقربين وشرّف المكرمين. ولها خمس درجات : أن يتقى العبد الكفر وذلك بمقام الإسلام ، وأن يتقى المعاصي والمحرمات وهو : مقام التوبة ، وأن يتقى الشبهات وهو مقام الورع ، وأن يتق المباحات ، وهو مقام الزهد ، وأن يتقى شهود السّوى والحس وهو مقام المشاهدة.
ولها فضائل مستنبطة من القرآن ، وهى خمس عشرة : الهداية لقوله تعالى : هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ، والنصرة لقوله : إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا ، والولاية لقوله : وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ والمحبة لقوله : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ، وتنوير القلب لقوله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً ، والمخرج من الغم والرزق من حيث لا يحتسب ، لقوله : وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ، وتيسير الأمور لقوله : وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً وغفران الذنوب وإعظام الأجر لقوله : وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً ، وتقبل الأعمال لقوله : إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ والفلاح لقوله : وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ والبشرى لقوله : هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
، ودخول الجنة لقوله : إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ، والنجاة من النار لقوله : ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا. ه. من ابن جزى.(1/572)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 573
ومما ينسب للقطب ابن مشيش رضي اللّه عنه :
عليك بتقوى الله فى السرّ والجهر ذا شئت توفيقا إلى سبل الخير
لأن التّقى أصل إلى البرّ كلّه فخذه تفز بكلّ نوع من البرّ
وخير جميع الزاد ما قال ربّنا فكن يا أخى لله ممتثل الأمر
ولمّا قرر أن الملك كله بيده ، رغّب الناس فى رفع حوائجهم إليه ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 134]
مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134)
قلت : (من) : شرطية ، وجوابها محذوف دل عليه الكلام ، أي : من كان يريد ثواب الدنيا فليطلبه منه ، فعند الله ثواب الدنيا والآخرة ، أو من كان يريد ثواب الدنيا فلا يقتصر عليه خاصة ، فعند الله ثواب الدنيا والآخرة.
يقول الحق جل جلاله : مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا والتوسع فيها ، فليطلبه منا فعند الله ثواب الدارين ، أو من كان يريد ثواب الدنيا ، فليطلب مع ذلك ثواب الآخرة أيضا ، وليقل : رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ، فيعطيهما معا لمن طلبهما ، والثاني أنهض من الأول ، وأكمل منهما من أعرض عنهما وطلب مولاه ، وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً ، لا يخفى عليه مقاصد خلقه ، فيعطى كلّا على حسب قصده.
الإشارة : الهمم ثلاثة : همة دنية تعلقت بالدنيا الدنية ، وهمة متوسطة تعلقت بنعيم الآخرة ، وهمة عالية تعلقت بالكبير المتعال. والله تعالى يرزق العبد على قدر همته ، وبالهمم ترفع المقادير أو تسقط ، فمن كانت همته دنية كان دنيا خسيسا ، ومن كانت همته متوسطة كان قدره متوسطا ، رحل من كون إلى كون ، كحمار الرحا ، يسير ، والذي ارتحل منه هو الذي عاد إليه ، ومن كانت همته عالية كان عالى المقدار ، كبير الشأن ، حاز الكونين بما فيهما ، وزاد مشاهدة خالقهما. جعلنا الله منهم بمنّه وكرمه.
ولما أمر بالعدل بين النساء أمر بالعدل فى الأحكام كلها ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 135]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135)(1/573)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 574
قلت : (شهداء) : خبر ثان لكان ، أو حال ، (فالله أولى) : علة للجواب أي : إن يكن المشهود عليه غنيا عليه فلا تمتنعوا من الشهادة عليه تعظيما له ، وإن يكن فقيرا فلا تمتنعوا من الشهادة عليه إشفاقا عليه ، فإن الله أولى بالغنى والفقير منكم ، والضمير فى (بهما) راجع إلى مادل عليه المذكور ، وهو جنسا الغنى والفقير ، لا إليه وإلا لوحّد لأن «أو» لأحد الشيئين. و(أن تعدلوا) : مفعول من أجله ، ومن قرأ : تلوا - بضم اللام - فقد نقل ضم الواو إلى اللام وحذف أحد الواوين ، وقيل : من الولاية.
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ أي : مجتهدين فى إقامة العدل مواظبين على الحكم به ، وكونوا شُهَداءَ لِلَّهِ بالحق تقيمون شهادتكم لوجه الله ، وابتغاء مرضاته ، بلا طمع أجر ولا عوض ، وهذا إن تعينت عليه ، ولم يكن فى تحملها مشقة ، وإلا أبيح له أجر تعبه ، فأدوا شهاداتكم وَلَوْ كانت عَلى أَنْفُسِكُمْ بأن تقروا بالحق الذي عليها ، لأن الشهادة بيان الحق ، سواء كان عليها أو على غيرها ، أَوِ كانت الشهادة على الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ، فلا تمنعكم الشفقة والتعظيم من إقامة الشهادة عليهما ، وأحرى غيرهما من الأجانب ، إِنْ يَكُنْ المشهود عليه غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فلا تميلوا عن الشهادة بالحق عليهما ، تعظيما للغنى أو شفقة للفقير ، فإن فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما وبالنظر لهما ، فلو لم تكن الشهادة عليهما صلاحا لهما ما شرعها ، فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى فتميلوا مع الغنى أو الفقير ، فقد نهيتكم إرادة أَنْ تَعْدِلُوا فى أحكامكم ، فتكونوا عدولا ، أو كراهية أن تعدلوا عن الحق أي : تميلوا ، وَإِنْ تَلْوُوا ألسنتكم عن شهادة الحق أو حكومة العدل أَوْ تُعْرِضُوا عن أدائها فتكتموها فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ، فيجازى الكاتم والمؤدى.
قال صلّى اللّه عليه وسلم عند نزولها : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقم شهادته على من كانت ، ومن كان يؤمن باللّه واليوم الآخر ، فلا يجحد حقا هو عليه ، وليؤده عفوا ، ولا يلجئه إلى السلطان وخصومته ، ليقتطع بها حقه ، وأيما رجل خاصم إلىّ فقضيت له على أخيه بحق ليس له عليه ، فلا يأخذه ، فإنّما أقطع له قطعة من النار».
الإشارة : قد أمر الحق تعالى عباده بإقامة العدل فى الأمور كلها ، ونهى عن مراقبة الخلق فى الأشياء كلها ، فيتأكد على المريد ألّا يراقب أحدا من الخلق وإنما يراقب الملك الحق ، فيكون قويا فى الحق ، يقيمه على نفسه وغيره ، فلا تجتمع مراقبة الحق مع مراقبة الخلق ، من راقب الحق غاب عن الناس ، ومن راقب الناس غاب عن الحق ، وعاش مغموما من الخلق ، ولله در القائل حيث قال :
من راقب الناس مات غمّا وفاز باللذات الجسور(1/574)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 575
وكان شيخ شيخنا رضي اللّه عنه يقول : (مراقبة الخلق عند أهل الظاهر شىء كبير ، وعدم المراقبة عند الباطن أمر كبير). فإقامة العدل على النفس ألّا يتركها تميل إلى الرخص والتأويلات ، وإقامته على الوالدين تذكيرهما بالله ودلالتهما على الله بلطف ولين ، وإقامته على الأقربين بنصحهم وإرشادهم إلى ما فيه صلاحهم ، كانوا أغنياء أو فقراء ، وإقامته على الأجانب كذلك. وبالله التوفيق.
ولما فرغ مما يتعلق بحفظ اللسان ، تكلم على حفظ الإيمان ، وهو الأمر السادس مما تضمنته السورة ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 136]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136)
يقول الحق جل جلاله : مخاطبا من أسلم من اليهود - وهو عبد الله بن سلام وأسد وأسيد ابنا كعب ، وثعلبة بن قيس ، وسلّام بن أخت عبد الله بن سلام ، وسلمة ابن أخيه ويامين - قالوا يا رسول الله ، نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزّير ، ونكفر بما سواه من الكتب؟ فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : «آمنوا بالله ورسوله محمد صلّى اللّه عليه وسلم وبكتابه القرآن ، وبكل كتاب قبله» ، فنزلت الآية.
فقال لهم جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد ، بعد أن آمنوا بموسى آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ القرآن وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ أي : جنس الكتاب ، فتدخل الكتب المتقدمة كلها ، وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي : ومن يكفر بشىء من ذلك فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً أي : أخطأ خطأ بعيدا لا يكاد يعود إلى الطريق ، فلما نزلت قالوا : يا رسول الله إنا نؤمن بالجميع ، ولا نفرق بين أحد منهم ، كما فرقت اليهود والنصارى.
وقيل : الخطاب للمنافقين ، أي : يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم آمنوا بقلوبكم ، كما آمنتم بألسنتكم ، وقيل : للمؤمنين ، أي : دوموا على إيمانكم ، واثبتوا عليه.
الإشارة : أمر الحق جل جلاله ، أهل الإيمان أن يجددوا إيمانهم ، فيثبتوا على ما هو حاصل ، ويسترشدوا إلى ما ليس بحاصل ، فإن أنوار الإيمان تتزايد وتترادف على القلوب بحسب التصفية والنظر ، وبقدر الطاعة والتقرب ، فلا يزال العبد يتقرب إلى الله ، وأنوار التوجه تتوارد عليه ، حتى تشرق عليه أنوار المواجهة وهى أنوار الشهود ، فشروق الأنوار على قدر صفاء الأسرار ، وورود الإمداد على حسب الاستعداد ، فبقدر التفرغ من الأغيار ترد على(1/575)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 576
القلوب المواهب والأسرار ، وهذا كله لمن صحب العارفين وأخذ عنهم ، وملّك زمام نفسه لهم ، وإلا فحسبه الإيمان بالغيب ، ولو عمل ما عمل ، وبالله التوفيق.
ثم ذكر وعيد من ارتد عن الإيمان ، فقال :
[سورة النساء (4) : الآيات 137 الى 139]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثم تكرر منهم الإيمان والكفر ، ثم أصروا على الكفر وهم المنافقون ، لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ لما سبق لهم من الشقاء ، أو إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بموسى ثُمَّ كَفَرُوا بعبادة العجل ثُمَّ آمَنُوا حين تابوا ثُمَّ كَفَرُوا بعيسى ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ، لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ ، وهم اليهود ، والأول أظهر لأن الكلام بعده فى المنافقين ، فقال تعالى فى شأنهم : لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا أي : طريقا توصلهم إلى الحق ، إذ يستبعد منهم أن يتوبوا ، فإن قلوبهم أشربت الكفر ، وبصائرهم عميت ، لا ينفع علاجها ، لا أنهم لو أخلصوا الإيمان لم ينفعهم ، وقد يكون إضلالهم عقابا لسوء أفعالهم.
ثم ذكر وعيدهم فقال : بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً. وهم الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ أي : أحبابا وأصدقاء مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ، وقد كان الكفار قبل ظهور الإسلام لهم الصولة والجاه ، فطلب المنافقون أن ينالوا بولايتهم ومصادقتهم العزّ منهم ، فردّ الله عليهم بقوله : أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ بولايتهم؟ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ولرسوله ولأوليائه ، ولا عزة لغيره إذ لا يعبأ بعزة لا تدوم ويعقبها الذل.
الإشارة : من كان ضعيف الاعتقاد فى أهل الخصوصية ، ضعيف التصديق ، تراه تارة يدخل وتارة يخرج ، وتارة يصدق وتارة ينكر ، لا يرجى فلاحه فى طريق الخصوص ، فإن ضم إلى ذلك صحبة أهل الإنكار وولايتهم ، فبشره بالخيبة والخسران ، فإن تعزز بعزهم أعقبه الذل والهوان ، والعياذ بالله من الخذلان ، فالعز إنما يكون بعز التوحيد والإيمان ، وعزة المعرفة والإحسان ، وبصحبة أهل العرفان ، الذين تعززوا بعز الرحمن ، فمن تعزز بعز يفنى مات عزه ، ومن تعزز بعز يبقى دام عزه ، والشبكة التي يصطاد بها العزّ هو الذل لله ، يظهره بين عباد الله. قال بعضهم : والله ما رأيت العز إلا فى الذل. وقال الشاعر :
تذلّل لمن تهوى لتكسب عزّة فكم عزّة قد نالها المرء بالدّلّ
وبالله التوفيق.(1/576)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 577
ثم نهى عن صحبة أهل الخوض ، فقال :
[سورة النساء (4) : الآيات 140 الى 141]
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)
قلت : (أن) مخفف : نافية ، فاعل نزّل ، و(يكفر) و(يستهزأ) ، حالان من الآيات ، وضمير (معهم) : يعود على الكفار المفهوم من (يكفر) ، وضمير (غيره) يعود على الكفر والاستهزاء ، وهما شىء واحد.
يقول الحق جل جلاله فى التحذير من مجالسة أهل الكفر والمعاصي : وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ يا معشر المسلمين فى القرآن فى سورة الأنعام ، أنه إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ حال كونها يُكْفَرُ بِها ، وَيُسْتَهْزَأُ بِها ، فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ بل قوموا عنهم ، إن لم تقدروا أن تنكروا عليهم ، والآية التي فى سورة الأنعام قوله تعالى :
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ الآية. فما داموا في الخوض فاعرضوا عنهم حتى يخوضوا فى حديث غير الخوض ، فإن جلستم معهم فى حال الخوض فإنكم إِذاً مِثْلُهُمْ فى الإثم ، إن لم ترضوا ، أو فى الكفر ، إن رضيتم بخوضهم.
نزلت فى قوم من المنافقين كانوا يجلسون إلى أحبار اليهود ، فيسخرون من القرآن ، ويكذبون به ويحرفونه ، فنهى المسلمين عن مجالستهم ، قال ابن عباس : ودخل فى هذه الآية كلّ محدث فى الدين ومبتدع إلى يوم القيامه. ه.
الإشارة : أولياء الله آيات من آيات الله : فمن استهزأ بهم فقد استوجب المقت من الله ، وكل موطن يقع فيه الإنكار عليهم أو الغض من مرتبتهم ، يجب الفرار منه ، لأنه موطن الغضب ومحل الهلاك والعطب ، فإن لحوم الأولياء سموم قاتلة ، واللعنة على من يقع فيهم حاصلة ، فمن جلس مع أهل الخوض من غير عذر ، كان من الخائضين ، ومن فرّ منهم كان من الناجين ، ومن أنكر على من يقع فيهم كان من المجاهدين. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر وعيد الخائضين ومن رضى بخوضهم ، فقال :
إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ(1/577)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 578
قلت : (الذين) : صفة المنافقين ، أو نصب على الذم ، و(نستحوذ) : نغلب ، استحوذ : غلب ، جاء على أصله ، ولم يعلّ كاستعاذ والقياس : استحاذ ، يستحيذ ، كاستعاذ يستعيذ ، لكنه صحح تنبيها على الأصل.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ اللَّهَ سيجمع الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ ، أي : الخائضين والقاعدين معهم ، فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً خالدين فيها. الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ أي : ينتظرون بكم الدوائر ، أي : ما يدور به الزمان والدهر عليكم ، وهم المنافقون ، فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ كالنصر والغنيمة قالُوا للمؤمنين : أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ على دينكم ، فأعطونا مما غنمتم ، وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ دولة أو ظهور على المسلمين ، قالُوا لهم : أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ أي : نغلبكم ونتمكن من قتلكم ، وأبقينا عليكم فمنعناكم من قتل المسلمين لكم ، بأن خذلناهم بتخييل ما ضعفت به عزيمتهم عليكم ، وتوانينا فى مظاهرتهم عليكم ، فأشركونا مما أصبتم. وإنما سمى ظفر المسلمين فتحا ، وظفر الكافرين نصيبا لخسة حظه ، فإنه حظ دنياوى ، استدراجا ومكرا ، بخلاف ظفر المسلمين ، فإنه إظهار الدين ، وإعانة بالغنيمة للمسلمين.
فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فيدخل أهل الحق الجنة ، ويدخل أهل الخوض النار ، وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا أي : حجة ، أو غلبة فى الدنيا والآخرة ، وفيه دليل على عدم صحة ملك الكافر للمسلم ، فيباع عليه إن اشتراه ، ويفسخ نكاحه إن تزوج مسلمة. والله تعالى أعلم الإشارة : (المرء مع من أحب) من أحبّ قوما حشر معهم ، فمن أحب أهل الخوض حشر مع الخائضين ، ومن أحب أهل الصفا حشر مع المخلصين ، وإن كان مذبذبا يميل مع كل ريح حشر مع المخلطين ، وهو من خف عقله وضعف يقينه ، إن رأى بأهل النسبة من الفقراء عزا ونصرا وفتحا انحاز إليهم ، وقال : ألم نكن معكم ، وإن رأى لأهل الإنكار من العوام صولة وغلبة رجع إليهم ، وقال : ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من دعاء الصالحين عليكم ، فما لهذا عند الله من خلاق. وفى الحديث : «ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها». فالله يحكم بينهم يوم القيامة ، فيرفع أهل الصفا مع المقربين ، ويسقط أهل الخوض مع الخائضين ، وليس لأهل الخوض من أهل الإنكار سبيل ولا حجة على أهل الصفا من الأبرار ، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ.
ثم ذكر أحوالهم الشنيعة ، فقال :
[سورة النساء (4) : الآيات 142 الى 143]
إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143)(1/578)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 579
قلت : جملة : (و لا يذكرون الله) حال من واو (يراءون) ، وكذلك (مذبذبين) أي : يراءون حال كونهم غير ذاكرين مذبذبين ، أو منصوب على الذم ، والمذبذب : المضطرب المتردد.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ
بإظهار الإيمان وإخفاء الكفر ، وَهُوَ خادِعُهُمْ
، أي : مجازيهم على خداعهم بأن يظهر لهم يوم القيامة نورا يمشون به على الصراط ، كما يعطى المؤمنين ، فإذا مضوا به طفئ نورهم وبقي نور المؤمنين ، فينادونهم : انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً ، فيتهافتون فى النار. فسمى هذه العقوبة خداعا تسمية للعقوبة باسم الذنب.
وكانوا إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى
أي : متثاقلين ، لا يريدون بها وجه الله ، فإن رءاهم أحد ، صلوا ، وإلّا انصرفوا ، فلم يصلوا ، يُراؤُنَ
بأعمالهم النَّاسَ
أي : المؤمنين ، وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
لأن المرائى لا يذكر إلا بحضرة الناس ، وهو أقل أحواله ، أو لا يذكرونه فى صلاتهم إلا قليلا ، لأنهم لا يذكرون إلا التكبير والتسليم ، وقال ابن عباس : إنما ذلك لأنهم يفعلونها رياء وسمعة ، ولو أرادوا بذلك وجه الله تعالى لكان كثيرا.
وقال قتاده : إنما قل ذكرهم ، لأنه لم يقبل ، فكل ما ردّ من العمل فهو قليل ، وكل ما قبل فهو كثير.
وكانوا أيضا مُذَبْذَبِينَ أي : مترددين ومتحيرين بين الكفر والإيمان ، لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ أي : لا صائرين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين. قال قتادة : ما هم بمؤمنين مخلصين ، ولا مشركين مصرّحين بالشرك ، هكذا سبق فى علم الله ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا أي : طريقا إلى الهدى ، ومثله قوله تعالى : وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ.
الإشارة : كل من أحب أن يرى الناس محاسن أعماله وأحواله ، ففيه شعبة من النفاق وشعبة من الرياء ، وعلامة المرائى : تزيين ظاهرة وتخريب باطنه ، يتزين للناس بحسن أعماله وأحواله ، يراقب الناس ولا يراقب الله ، وكان بعض الحكماء يقول : يقول الله - تعالى - : «يا مرائى : أمر من ترائى بيد من تعصيه». فمثل هذا أعماله كلها قليلة ، ولو كثرت فى الحس كالجبال الرواسي ، وأعمال المخلصين كلها كثيرة ولو قلّت فى الحس ، وأعمال المرائين كلها قليلة ولو كثرت فى الحس. قال فى القوت : وصف اللّه تعالى ذكر المنافقين بالقلة ، لكونه غير خالص ، كما قيل فى تفسير قوله تعالى : ذِكْراً كَثِيراً أي : خالصا ، فسمى الخالص كثيرا. ه.
قوله تعالى : مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ : هذه صفة أهل الدعوى ، المستشرفين على الحقيقة بالعلم ، ليسوا من الخصوص ولا من العموم ، مترددين بين الفريقين ، ومن يضلل الله عن طريق التحقيق ، فلن تجد له سبيلا.(1/579)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 580
ثم نهى المؤمنين عن موالاة الكفار لئلا يتشبهوا بالمنافقين ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 144]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144)
قلت : اتخذ ، يتعدى إلى مفعولين ، و(من دون) : حال.
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تتشبهوا بالمنافقين فتتخذوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ وأصدقاء مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ لأن الله أعزكم بالإيمان والنصر ، فلا تطلبوا العز من أحد سواه ، أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً أي : حجة واضحة على تعذيبكم وسببا فى عقابكم.
الإشارة : قد تقدم فى كثير من الإشارات النهى عن موالاة أهل الإنكار على الأولياء ، وعن مخالطة أهل الدنيا وصحبتهم ، فإن ذلك حجة واضحة على الرجوع إليهم ومصانعتهم ، وهو عين النفاق عند المخلصين.
والله تعالى أعلم.
ثم ذكر وعيد المنافقين ، فقال :
[سورة النساء (4) : الآيات 145 الى 147]
إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147)
قلت : الدرك : والدرك لغتان ، كالظعن والظعن ، والنهر والنهر ، والنشر والنشر ، وهى الطبقة السفلى ، وسميت طبقاتهم دركات لأنها متداركة متتابعة ، وهى ضد الدرجات ، فالدرجات للعلو ، والدركات للسفل.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ أي : فى الطبقة السفلى فى قعر جهنم لأنهم أخبث الكفرة ، حيث ضموا إلى الكفر الاستهزاء بالإسلام وخداع المسلمين. قال ابن مسعود رضي اللّه عنه :
(هم فى توابيت من النار مقفلة عليهم فى النار ، مطبقة عليهم). وعن ابن عمر رضي اللّه عنه : (إن أشد الناس عذابا يوم القيامة ثلاثة : المنافقون ، ومن كفر من أصحاب المائدة ، وآل فرعون لقوله : إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ(1/580)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 581
مِنَ النَّارِ
وقال فى أصحاب المائدة : فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ. وقال : أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ ، وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً يمنعهم من ذلك العذاب. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا عن النفاق وَأَصْلَحُوا ما أفسدوا فى سرائرهم وأعمالهم فى حال النفاق ، وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ أي : وثقوا به وتمسكوا به ، دون أحد سواه ، وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ لا يريدون بطاعته إلا وجه الله ، لا رياء ولا سمعة فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فى الدين. قال الفرّاء : من المؤمنين ، وقال العتبى : حاد عن كلامهم غيظا عليهم ، ولم يقل هم المؤمنون. ه. قلت :
إنما قال : مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ولم يقل : منهم ، لأن التخلص من النفاق صعب ، ولا يكون من المؤمنين ، حتى يتخلص من جميع شعبه ، وهو عزيز ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : «ثلاث من كنّ فيه فهو منافق ، وإن صام وصلّى وزعم أنه مسلم ، من إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان».
وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ المخلصين أَجْراً عَظِيماً فيساهمونهم فيه إن تابوا وأصلحوا ، فإن الله غنى عن عذابهم ، ولذلك قال : ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ أي : لا حاجة له فى عذابكم ، فلا يشفى به غيظا ولا يدفع به ضررا ، أو يستجلب به نفعا لأنه غنىّ عن المنافع ، وإنما يعاقب المصر بكفره ، لأن إصراره عليه كسوء المزاج يؤدى إلى مرض ، فإن زال بالإيمان والشكر ، ونقّى منه قلبه ، تخلص من تبعته. وإنما قدم الشكر لأن الناظر يدرك النعم أولا فيشكر شكرا مبهما ، ثم يمعن النظر حتى يعرف المنعم فيؤمن به. قاله البيضاوي. وقال الثعلبي : فيه تقديم وتأخير ، أي إن آمنتم وشكرتم ، لأن الشكر لا ينفع مع عدم الإيمان. وَكانَ اللَّهُ شاكِراً لأعمال عباده ، يقبل اليسير ويعطى الكثير ، عَلِيماً بحقيقة شكرهم وإيمانهم ، ومقدار أعمالهم ، فيضاعفها على قدر تخليصها. والله تعالى أعلم.
الإشارة : لا شىء أصعب على النفس من الإخلاص كلما اجتهد العبد فى قطع الرياء نبت على لون آخر ، فلا يتطهر العبد منها إلا بتحقيق الفناء والغيبة عن السوي بالكلية. كما قال الششترى رضي اللّه عنه :
طهّر العين بالمدامع سكبا من شهود السّوى تزل كلّ علّه
قال بعضهم : [لا ينبت الإخلاص فى القلب حتى يسقط من عين الناس ، ويسقط الناس من عينه ]. والإخلاص من أعمال القلوب ، فلا يطّلع عليه إلا علّام الغيوب. فلا يجوز أن يحكم على أحد بالرياء بمجرد ما يرى عليه من الإظهار ، وقد تدخل الرياء مع الإسرار ، وتتخلص من القلب مع الإظهار ، وفى الحكم : «ربما دخل الرياء عليك حيث لا ينظر الخلق إليك». فإذا تخلص العبد من دقائق الرياء ، وأصلح ما بينه وبين الله ، واعتصم به دون شىء سواه ، كان مع المخلصين المقربين فيكون عمله موفورا ، وسعيه مشكورا. وبالله التوفيق.(1/581)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 582
وقد تكلم فى الإحياء على هذه الآية فقال : إنما كان المنافقون فى الدرك الأسفل لأنهم جحدوا بعد العلم ، وإنما تضاعف عذاب العالم فى معصيته لأنه عصى عن علم. قلت : وافهم منه قوله صلّى اللّه عليه وسلم فى أبى طالب : «ولو لا أنا لكان فى الدّرك الأسفل من النّار». وذلك لإعراضه مع العلم. وقال فى الإحياء أيضا : شدّد أمر المنافقين لأن الكافر كفر وأظهر ، والمنافق كفر وستر ، فكان ستره لكفره كفرا آخر ، لأنه استخف بنظر الله إلى قلبه ، وعظّم أمر المخلوقين. ه. والحاصل : أن التشديد فى الرياء والنفاق لما فى ذلك من تعظيم نظر الخلق على نظر الخالق ، فكان أعظم من الكفر الصريح. ه. من الحاشية.
ومن علامة تصفيته الباطن من الرياء والنفاق تلبس الظاهر بأحسن الأخلاق ، ولذلك ذكره بإثره ، فقال :
[سورة النساء (4) : الآيات 148 الى 149]
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149)
قلت : (إلا من ظلم) : استثناء منقطع ، أي : لكن من ظلم فلا بأس أن يشكو بظالمه ويدعو عليه ، وليس المراد أن الله يحب ذلك منه ، إذ العفو أحسن كما يقوله بعد ، وقرئ : (إلا من ظلم) بالبناء للفاعل ، أي : ولكن الظالم يفعل مالا يحبه الله.
يقول الحق جل جلاله : لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ أي : الإجهار بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ لأنه من فعل أهل الجفاء والجهل إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فلا بأس أن يجهر بالدعاء على ظالمه ، أو بالشكوى به. نظيرها : وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ. قال مجاهد : هذا فى الضيف النازل إذا لم يضف ومنع حقه ، أو أسىء قراه ، فقد رخص له أن يذكر ما صنع به. وزعم أن ضيفا تضيّف قوما فأساءوا قراه ، فاشتكاهم ، فنزلت الآية رخصة فى شكواه. وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً لدعاء المظلوم ، ورده على الظالم ، فلا يحتاج إلى جهره ، عَلِيماً بالظالم فيعاقبه على قدر جرمه.
ثم رغّب فى العفو فقال : إِنْ تُبْدُوا خَيْراً : طاعة وبرا كحسن الخلق ولين الجانب ، أَوْ تُخْفُوهُ أي :
تفعلوه سرا ، أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ بأن لا تؤاخذوا به من أساء إليكم ، وهذا هو المقصود بالذكر ، وإنما ذكر إبداء الخير وإخفاؤه سببا ووسيلة لذكره ، ولذلك رتب عليه فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً أي : كثير العفو عن العصاة ، مع كمال قدرته على الانتقام ، فأنتم أولى بذلك ، وهو حث للمظلوم على العفو ، بعد ما رخّص له فى الانتصار ، حملا على مكارم الأخلاق.(1/582)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 583
الإشارة : اعلم أن الباطن إذا كمل تطهيره وتحقق تنويره ظهر أثر ذلك على الظاهر من مكارم الأخلاق ، ولين الجانب ، وحسن الخطاب ، وترك العتاب ، فما كمن فى غيب السرائر ظهر فى شهادة الظواهر وما كمن فيك ظهر على فيك ، وهذه أخلاق الصوفية - رضى الله عنهم وأرضاهم - وبذلك وصفهم القائل فيهم ، فقال :
هيّنون ليّنون أيسار بنو يسر سوّاس مكرمة أبناء أيسار
لا ينطقون بغير الحقّ إن نطقوا ولا يمارون إن ماروا بإكثار
من تلق منهم تقل هذاك سيّدهم مثل النّجوم التي يهدى بها السّار
ومن شأن الحضرة التهذيب والتأديب ، فلا يبقى معها لغو ولا تأثيم ، لأنها جنة معجلة ، قال تعالى :
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً.
وأيضا أهل الحضرة حصل لهم القرب من الحبيب ، فهم فى حضرة القريب على بساط القرب على الدوام ، ولا يتصور منهم الجهر بالكلام ، وهم فى حضرة الملك العلّام. قال تعالى : وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً ، فرفع الصوت عند الصوفية مذموم شنيع ، يدل على بعد صاحبه كيف ما كان ، وتأمل قضية الصّدّيق حيث قال له - عليه الصلاة والسلام - : «مالك تقرأ سرا؟» فقال : (إن الذي نناجيه ليس ببعيد). أو كما قال ، وإنما قال له صلّى اللّه عليه وسلم : «إرفع قليلا» إخراجا له عن مراده ، تربية له. والله تعالى أعلم.
ولما قدّم أقبح الكفر ، وهو كفر المنافقين ، ذكر ما يليه ، وهو كفر اليهود ، فقال :
[سورة النساء (4) : الآيات 150 الى 151]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151)
قلت : (حقا) : مصدر مؤكد للجملة ، أو صفة لمصدر الكافرين ، أي : كفروا كفرا محققا يقينا. وأصل (أعتدنا) :
أعددنا ، أبدلت الدال تاء لقرب المخرج.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ بأن يؤمنوا بالله ويكفروا برسله ، وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ الأنبياء وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ ، كاليهود ، آمنوا بموسى(1/583)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 584
وعزير والتوراة ، وكفروا بعيسى ومحمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا ، أي : طريقا وسطا بين الإيمان والكفر ، ولا واسطة ، إذ الحق لا يختلف ، فإن الإيمان بالله إنما يتم برسله وتصديقهم فيما بلغوا عنه ، تفصيلا وإجمالا ، فالكافر بالبعض كالكافر بالكل فى الضلال. ولذلك حكم عليهم بصريح الكفر فقال : أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا أي : هم الكاملون فى الكفر حقيقة ، وإنما أكد كفرهم لأنهم تحكموا على الله ، واتخذوا إلههم هواهم ، حيث جعلوا الاختيار لهم دون الله ، وفى ذلك منازعة للقدر ، وتعطيل له ، وهو كفر وشرك ، ثم ذكر وعيدهم فقال : وَأَعْتَدْنا أي : هيأنا لِلْكافِرِينَ منهم عَذاباً مُهِيناً أي : يخزيهم ويهينهم ، حين يكرّم أولياءه ويرفع أقدارهم. جعلنا الله منهم. آمين.
الإشارة : الأولياء على قدم الأنبياء ، فمن فرّق بينهم حرم بركة جميعهم ، ومن صدّق بجميعهم وعظّمهم اقتبس من أنوارهم كلهم ، والله - تعالى - غيور على أوليائه ، كما كان غيورا على أنبيائه ، فطرد من فرّق بينهم ، فكذلك يطرد من يقع فى بعض أوليائه ويعظم البعض ، لأن البعض هو الكل. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر من لم يفرق ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 152]
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152)
قلت : (بين) : من الأمور النسبية ، فلا بد أن تدخل على متعدد ، تقول : جلست بين فلان وفلان ، وإنما دخلت هنا على (أحد) لأنه يقتضى متعددا لعمومه ، لأنه وقع فى سياق النفي. قاله البيضاوي.
يقول الحق جل جلاله : وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وما يجب له من الكمالات ، (و رسله) وما يجب لهم كذلك ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ بأن آمنوا بجميعهم ، وصدقوا بكل ما جاءوا به من عند ربهم ، أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ «1» أُجُورَهُمْ الموعودة لهم ، بأن نجلّ مقدارهم ، ونرفع مقامهم ، ونبوئهم فى جنات النعيم.
وتصديره بسوف لتأكيد الوعد والدلالة على أنه كائن لا محالة وإن تأخر وقته ، ولمّا كان العبد لا يخلو من نقص ، رفع الخوف عنهم بقوله : وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لما فرط منهم رَحِيماً بهم بتضعيف حسناتهم.
الإشارة : والذين صدقوا بأولياء الله ، وعظموا جميعهم ، واقتبسوا من أنوارهم كلهم ، أولئك سوف نؤتيهم أجورهم ، بأن أنعمهم فى جنات المعارف فى دار الدنيا ، فإن ماتوا أسكنّاهم فى الفراديس العلى (فى مقعد صدق عند مليك مقتدر). والله تعالى أعلم.
___________
(1) قرأ حفص عن عاصم (يوتيهم) بالياء ، وقرأ الباقون بالنون. [.....](1/584)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 585
ثم ذكر مساوئ اليهود فقال :
[سورة النساء (4) : الآيات 153 الى 154]
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154)
قلت : من قرأ : (لا تعدوا) بالسكون ، فماضيه : عدا ، ومن قرأ بتشديد الدال ، فماضيه اعتدى ، وأصله : لا تعتدوا ، فنقلت حركة التاء إلى العين وأدغمت التاء فى الدال ، ومن قرأ بالاختلاس أشار إلى الأصل.
يقول الحق جل جلاله : يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ ، وهم أحبار اليهود ، أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ جملة واحدة ، كما نزل التوراة ، أو كتابا بخطّ سماوى على ألواح كما كانت التوراة ، والمسائل هو كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازوراء وغيرهم ، قالوا للنبى صلّى اللّه عليه وسلم : (إن كنت نبيا فأتنا بكتاب من السماء جملة ، كما أتى به موسى) ، قال تعالى فى الرد عليهم : فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ وهو رؤية ذات الحق - تعالى - جهرا حسا. والمعنى : إن استعظمت ما سألوا منك فقد وقع منهم ما هو أعظم من ذلك.
وهذا السؤال ، وإن كان من آبائهم ، أسند إليهم لأنهم كانوا آخذين بمذهبهم تابعين لهديهم ، فما اقترحوا عليك ليس بأول جهالاتهم وتشغيبهم بل عرفهم راسخ فى ذلك ، فلا تستغرب ما وقع منهم.
ثم فسر سؤالهم بقوله : فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً أي : عيانا فى الحس ، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ ، بأن جاءت نار من السماء فأهلكتهم ، فماتوا ثم بعثوا بدعوة موسى عليه السّلام وذلك بسبب ظلمهم. وهو تعنتهم وسؤالهم لما استحيل فى تلك الحال التي كانوا عليها. وذلك لا يقتضى امتناع الرؤية مطلقا. وسيأتى فى الإشارة تحرير ذلك.
ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ على وحدانيته تعالى. وهذه جناية أخرى اقترفها أيضا أوائلهم ، فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ حين تابوا ، ولم نعاجلهم بالعقوبة ، وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً أي : تسلطا ظاهرا عليهم ، حين أمرهم أن يقتلوا أنفسهم ، توبة من اتخاذهم العجل إلها ، وحجة واضحة على نبوته كالآيات التسع.(1/585)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 586
وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ حين امتنعوا من قبول أحكام التوراة ، بسبب ميثاقهم الذي أخذناه عليهم ، وهو التزام أحكام التوراة ، وقلنا لهم على لسان موسى : ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً أي : باب بيت المقدس ، فدخلوا يزحفون على أستاههم عنادا واستهزاء ، وقلنا لهم : لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ على لسان داود عليه السّلام ، فاعتدوا فيه بالاصطياد ، فمسخناهم قردة وخنازير ، وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً على ذلك كله ، فنقضوا جميع ذلك ، أو ميثاقا غليظا فى التوراة لئن أدركوك ليؤمنن بك ، وليبينن صفتك للناس ، فنقضوا وكتموا. والله تعالى أعلم.
الإشارة : اقتراح الآيات وطلب الكرامات من الأولياء ، سنة ماضية ، لأنهم على قدم الأنبياء - عليهم السلام - ما يقال لهم إلا ما قيل للأنبياء قبلهم ، فلا تكاد تجد أحدا يصدق بولي حتى تظهر عليه الكرامة ، وهو جهل كبير لأن الكرامة قد تظهر على من لم تكمل له استقامة ، وقد تكون استدراجا ومكرا. وأىّ كرامة أعظم من العلوم اللدنية والأخلاق النبوية؟ كما قال شيخنا رضي اللّه عنه. وقد ظهرت الكرامات على المتقدمين ولم ينقطع الإنكار عليهم.
واعلم أن طلب الرؤية فى الدنيا ليس بممتنع ، وإنما عاقب الله بنى إسرائيل على طلبها لأنهم طلبوها قبل إبانها ، طلبوها من غير اتصاف بشروط حصولها ، وهو كمال التهذيب والتطهير من دنس الحس ، فمن كمل تهذيبه وتحقق تطهيره حصل له شهود الحق ، حتى لو كلف أن يشهد غيره لم يستطع ، وذلك حين تستولى البصيرة على البصر ، فيشهد البصر ما كانت تشهده البصيرة ، وذلك بعد كمال فتحها. ولذلك قال فى الحكم : «شعاع البصيرة يشهدك قرب الحق منك ، وعين البصيرة يشهدك عدمك لوجوده ، وحق البصيرة يشهدك وجود الحق» ... إلخ كلامه. وهذه المشاهدة لا تحصل إلا لمن اتصل بشيخ التربية ، وإلا فلا مطمع فيها. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر عقوبة اليهود حيث نقضوا العهود ، فقال :
[سورة النساء (4) : الآيات 155 الى 158]
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158)(1/586)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 587
قلت : (فبما) : صلة زيدت للتأكيد ، و(نقضهم) : مصدر مجرور بالباء ، وهى متعلقة بالفعل المحذوف ، أي :
بسبب نقضهم فعلنا بهم ما فعلنا ، أو بقوله : (حرمنا عليهم) ، ويكون (فبظلم) على هذا بدلا من قوله : (فبما نقضهم) ، فيكون التحريم بسبب النقض ، وما عطف عليه. والاستثناء فى قوله : (إلا اتباع الظن) منقطع إذ العلم يناقض الظن.
يقول الحق جل جلاله : فلما أخذنا على بنى إسرائيل العهد والميثاق خالفوا ونقضوا ، ففعلنا بهم ما فعلنا ، بسبب نقضهم ميثاقهم ، أو بسبب نقضهم وكفرهم حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ، وبسبب كفرهم أيضا بِآياتِ اللَّهِ القرآن ، أو بما فى كتبهم ، وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ أي : مغلفة لا تفقه ما تقول.
قال تعالى فى الرد عليهم : بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ ، فجعلها محجوبة عن العلم ، بأن خذلها ومنعها التوفيق للتدبر فى الآيات والتذكر بالمواعظ ، فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه ، أو إيمانا قليلا لا عبرة به لنقصانه ، وَبِكُفْرِهِمْ أيضا بعيسى عاقبناهم وطبعنا على قلوبهم ، وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً أي : نسبتها للزنى وبقولهم : إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ أي بزعمه ، ويحتمل أنهم قالوه استهزاء ، ونظيره : إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ، أو يكون استئنافا من الله بمدحه ، أو وضعا للذكر الحسن موضع قولهم القبيح. قاله البيضاوي.
ثم رد الله تعالى عليهم فقال : وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ، روى أن رهطا من اليهود سبوه هو وأمه ، فدعا عليهم ، فمسخوا قردة وخنازير ، فاجتمعت اليهود على قتله ، فقال لهم : يا معشر اليهود ، إن الله يبغضكم ، فغضبوا وثاروا ليقتلوه ، فبعث الله تعالى جبريل فأدخله خوخة فيها كوة فى سقفها ، ورفعه الله إلى السماء من تلك الكوة ، فأمر اليهود رجلا منهم يقال له : طيطانوس ، أن يدخل الخوخة ويقتله ، فلما دخل الخوخة ، لم ير عيسى ، فألقى الله تعالى شبه عيسى عليه ، فلما أبطأ عليهم دخلوا عليه ، فظنوه عيسى ، فقتلوه وصلبوه.
وقال قتادة : ذكر لنا أن عيسى عليه السّلام قال لأصحابه : أيكم يقذف عليه شبهى فيقتل؟ فقال رجل : أنا يا رسول الله ، فقتل ذلك الرجل ، ورفع عيسى عليه السّلام ، وكساه الريش وألبسه النور ، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وصار مع الملائكة ، فهو معهم فى السماء إنسيا ملكيا ، أرضيا سماويا.
وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ فقال بعض اليهود : إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان صاحبنا فأين عيسى؟ ويقال : إن الله تعالى ألقى شبه وجه عيسى على صاحبهم ، ولم يلق عليه شبه جسده ، فلما(1/587)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 588
قتلوه ونظروا إليه ، فقالوا : الوجه وجه عيسى والجسد جسد صاحبنا. ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ أي :
لا علم لهم بقتله ، لكن يتبعون الظن فقط. وَما قَتَلُوهُ قتلا يَقِيناً كما زعموا بقولهم : إنا قتلنا المسيح ، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ فهو فى السماء الثانية مع يحيى عليها السلام ، وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً أي : قويا بالنقمة على اليهود ، حكيما فيما حكم عليهم من اللعنة والغضب. والله تعالى أعلم.
الإشارة : نقض عهود الشيوخ من أسباب المقت والبعد عن الله ، وكذلك الإنكار عليهم والطعن فيهم ، وكذلك البعد عن وعظهم وتذكيرهم ، وضد هذا من موجبات القرب والحب من الله ، كحفظ حرمتهم ، والوقوف مع أوامرهم ، والذب عنهم حين تهتك حرمتهم ، والدنو منهم ، والسعى فى خدمتهم. وبالله التوفيق.
ثم ذكر نزول عيسى فى آخر الزمان ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 159]
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159)
يقول الحق جل جلاله : وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي : ما من يهودى ولا نصرانى ، أي : الموجودين حين نزوله إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بعيسى قَبْلَ مَوْتِهِ أي : عيسى ، وذلك حين نزوله من السماء ، روى أنه ينزل من السماء حين يخرج الدجال فيهلكه ، ولا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا ويؤمن به ، حتى تكون الملة واحدة ، وهى ملة الإسلام ، وتقع الأمنة حتى يرتع الأسود مع الإبل ، والنمور مع البقر ، والذئاب مع الغنم ، ويلعب الصبيان بالحيات ، ويلبث فى الأرض أربعين سنة ، ثم يتوفى ويصلى عليه المسلمون ويدفنونه.
وقيل الضمير فى (به) إلى عيسى ، وفى (موته) إلى الكتابي ، أي : وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن بعيسى بأنه عبد الله ورسوله ، قَبْلَ مَوْتِهِ أي : قبل خروج نفس ذلك الكتابي إذا عاين الملك ، فلا ينفعه حينئذ إيمانه ، لأن كل من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل. ويؤيد هذا قراءة من قرأ : ليؤمننّ به قبل موتهم بضم النون ، لأن (أحدا) فى معنى الجمع ، وهذا كالوعيد لهم والتحريض على معاجلة الإيمان به من قبل أن يضطر إليه ولم ينفعه إيمانه ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً يشهد على اليهود بالتكذيب ، وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن الله. والله تعالى أعلم الإشارة : عند الموت تتحقق الحقائق ، ويتميز الحق من الباطل ، ويحصل الندم ، ولا ينفع حين تزل القدم ، فالمطلوب المبادرة بتحقيق الإيمان ، وتحصيل مقام العرفان ، قبل أن يسقط إلى جنبه ، فينفرد رهينا فى قبره بذنبه.
والله تعالى أعلم.(1/588)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 589
ثم ذكر وبال ظلمهم وعدوانهم فقال :
[سورة النساء (4) : الآيات 160 الى 161]
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161)
يقول الحق جل جلاله : فبسبب ظلم مِنَ الَّذِينَ هادُوا وهو نقضهم الميثاق ، وكفرهم بآيات الله ، وقتلهم الأنبياء ، حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ كانت أُحِلَّتْ لَهُمْ كالشحوم ، وكل ذى ظفر ، وغير ذلك من لذيذ الطيبات ، وكانوا كلما ارتكبوا كبيرة حرّم عليهم شيئا من الطيبات ، وحرمنا ذلك أيضا عليهم بِصَدِّهِمْ عن طريق اللَّهِ صدا كَثِيراً ، أي : بإعراضهم عنه إعراضا كثيرا ، أو بصدهم عنه ناسا كثيرا كانوا يخذّلونهم عن الدخول فى دين الله ، وبأخذهم الربا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ ، فهو محرم عليهم وعلى الأمة المحمدية ، وبأكلهم أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ كالرشوة وما كانوا يأخذونه من عوامهم ، وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم عَذاباً أَلِيماً ، دون من تاب وآمن به.
الإشارة : اعلم أن كل غفلة ومعصية وسوء أدب يحرم مرتكبه بسببه من لذيذ الطاعات وحلاوة المشاهدات على قدره ، شعر أو لم يشعر ، وقد يبعده من الحضرة وهو لا يشعر ، مكرا واستدراجا ، فإذا أصر عليه سلب من مقام الولاية بالكلية ، ولا يزال ينقص إيمانه شيئا فشيئا ، حتى يتفلت منه ، والعياذ بالله ، وإذا بادر بالتوبة رجى قبوله ، وكل يقظة وطاعة وحسن أدب يوجب لصاحبه الزلفى والقرب من الحضرة ، ويزيده فى حلاوة المعاملة والمشاهدة على قدره ، فلا يزال يتقرب إليه بنوافل الخيرات ، حتى يحبه فيتولاه ، فيكون سمعه وبصره ، كما فى الحديث.
وبالله التوفيق.
ثم استثنى من تاب من اليهود ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 162]
لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162)(1/589)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 590
قلت : والمؤمنون عطف على الراسخين ، و(يؤمنون) : حال منهم. و(المقيمين) : نصب على المدح ، لأن العرب إذا تطاولت فى مدح شىء أو ذمه خالفوا بين إعراب أوله وأوسطه ، نظيره : وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ. وقالت عائشة رضي اللّه عنهما : هو لحن من الكتّاب «1» ، وفى مصحف ابن مسعود : (و المقيمون) بالرفع على الأصل.
يقول الحق جل جلاله : ليس أهل الكتاب كلهم كما ذكرنا ، لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ كعبد الله ابن سلام ، ومخيريق ، وغيرهما ممن له علم بالكتب المتقدمة ، وَالْمُؤْمِنُونَ منهم بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ، من عوامهم حال كونهم يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ أي : يؤمنون إيمانا كاملا بلا تفريق ، وأخص الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ ، المتقنين لها ، الْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ المفروضة ، وَالْمُؤْمِنُونَ منهم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، على صفة ما جاء به القرآن من البعث بالأجسام والحساب وغير ذلك مما هو مقرر فى السنة ، أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً ، فتكون الآية كلها فى أهل الكتاب.
أو يقول الحق جل جلاله : لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ من أهل الكتاب ، وَالْمُؤْمِنُونَ بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ، من العرب ، وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ منهم ، وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً.
الإشارة : كل من تحققت توبته بعد عصيانه ، وظهرت يقظته بعد غفلاته ، ورسخ فى العلم بالله وبصفاته وأسمائه التحق بالسابقين ، وحشر مع المقربين ، وكان ممن أوتى أجرا عظيما وخيرا جسيما ، والحمد لله رب العالمين.
ثم أجاب أهل الكتاب عن سؤالهم أن ينزل عليهم كتابا من السماء فقال :
[سورة النساء (4) : الآيات 163 الى 165]
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165)
___________
(1) رد العلماء والمفسرون على هذا الخبر ، ومنهم الإمام ابن جرير الطبري الذي قال : لو كان ذلك خطأ من الكاتب لكان الواجب أن يكون فى كل المصاحف غير مصحفنا الذي كتبه لنا الكاتب ، الذي أخطأ فى كتابه. وفى اتفاق مصحفنا ومصحف أبى فى ذلك ما يدل على أن الذي فى مصحفنا من ذلك صواب غير خطأ. مع أن ذلك لو كان خطأ من جهة الخط لم يكن الذين أخذ عنهم القرآن من أصحاب رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم يعلّمون من علموا ذلك من المسلمين على وجه اللحن ، ولأصلحوه ولقنوه الأمة تعليما على وجه الصواب. وفى نقل المسلمين جميعا ذلك قراءة على ما هو به فى الخط مرسوما ، أدل الدليل على صحة ذلك وصوابه ، وأن لا صنع فى ذلك للكاتب. انظر : تفسير الطبري بتعليق الشيخ شاكر - والإتقان للسيوطى ، وتفسير الرازي.(1/590)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 591
قلت : من قرأ (زبورا) بالفتح ، فالمراد به كتاب الزبور ، ومن قرأ بالضم ، فجمع «زبر» بكسر الزاى وسكون الباء ، بمعنى مزبورا ، أي : مكتوبا ، أي : آتينا داود كتبا متعددة ، و(رسلا) : منصوب بمحذوف دل عليه «أوحينا» ، أي : أرسلنا رسلا ، أو يفسره ما بعده ، أي : قصصنا عليك رسلا ، و(رسلا مبشرين) : منصوب على البدل ، أو على المدح ، أو بإضمار أرسلنا ، أو على الحال الموطئة لما بعده ، كقولك : مررت بزيد رجلا صالحا.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا محمد كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ولم يكن ينزل عليهم الكتاب جملة واحدة ، كما سألك أهل الكتاب تعنيتا ، بل كان ينزل عليهم الوحى شيئا فشيئا ، فأمرك كأمرهم. وقدّم نوحا عليه السّلام لأنه أبو البشر بعد آدم ، وأول نبى من أنبياء الشريعة ، وأول نذير على الشرك ، وأول رسول عذبت أمته بدعوته ، وأطول الأنبياء عمرا ، وجعلت معجزته فى نفسه ، فإنه عمّر ألف سنة ، ولم تنقص له سن ، ولم تنقص له قوة ، ولم تشب له شعرة ، ولم يبالغ أحد فى تأخير الدعوة ما بالغ هو عليه السّلام ، ولم يصبر أحد على أذى قومه ما صبر هو ، كان يشتم ويضرب حتى يغمى عليه.
ثم قال تعالى : وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ أي : الأحفاد ، وهم أنبياء بنى إسرائيل ، وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ ، وإنما خصهم بالذكر مع اشتمال النبيين عليهم تعظيما لهم ، فإن إبراهيم أول أولى العزم منهم ، وآخرهم عيسى عليه السّلام ، والباقون أشراف الأنبياء ومشاهيرهم ، وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً أي : كتاب الزبور ، أو زبورا أي : صحفا متعددة ، وأرسلنا رُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ أي : من قبل هذه السورة ، أو قبل هذا اليوم ، وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ، وفى الحديث :
«عددهم ثلاثمائة وأربعة عشر» ، وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً حقيقيا ، خصّ به من بين الأنبياء ، وزاد نبينا محمد صلّى اللّه عليه وسلم بالرؤية مع الكلام.
قال الورتجبي : بادر موسى عليه السّلام من بين الأنبياء لسؤال الرؤية ، فأوقفه الحق فى مقام سماع كلامه ، ومنعه من مشاهدة رؤيته صرفا ، وتحمل نبينا محمد صلّى اللّه عليه وسلم أثقال السر بمطايا أسراره ، ولم يسأل مشاهدة الحق جهرا بالانبساط ، فأوصله الله إلى مقام مشاهدته ، ثم أسمعه كلامه بلا واسطة ولا حجاب. قال تعالى : فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى
. ه. وقال ابن عطية : كلامه تعالى لموسى دون تكييف ولا تحديد ، وكما أن الله تعالى موجود لا كالموجودات معلوم لا كالمعلومات ، فكذلك كلامه لا كالكلام. ه.
ثم ذكر حكمة إرسال الرسل فقال : أرسلنا رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ بعث الرُّسُلِ فيقولون : لو لا أرسلت إلينا رسولا ينبهنا ويعلمنا ما جهلنا من أمر توحيدك والقيام بعبوديتك ، (1/591)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 592
فقطع عذر العباد ببعث الرسل ، وقامت الحجة عليهم ، وفى الحديث عنه - عليه الصلاة والسلام - : «ما أحد أغير من اللّه ، ولذلك حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وما أحد أحبّ إليه المدح من اللّه ، ولذلك مدح نفسه ، وما أحد أحبّ إليه العذر من اللّه تعالى ، ولذلك أرسل الرّسل وأنزل الكتب».
وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً لا يغلب ، فلا يجب عليه شىء ، حَكِيماً فيما دبر من النبوة ، وخص كل نبى بنوع من الوحى والإعجاز على ما يليق به فى زمانه. والله تعالى أعلم.
الإشارة : علماء هذه الأمة كأنبياء بنى إسرائيل ، العارفون منهم كالرسل منهم ، قال ابن الفارض رضي اللّه عنه :
فعالمنا منهم نبى ، ومن دعا إلى الحقّ منّا قام بالرسليّة «1»
وعارفنا فى وقتنا الأحمدىّ من أولى العزم منهم آخذ بالعزيمة
فإنهم يشاركونهم فى وحي الإلهام ، ويحصل لهم المكالمة مع المشاهدة ، فيسمعون من الحق كما ينطقون به. كما قال الششترى :
أنا بالله أنطق ومن الله أسمع
فتارة يسمعون كلامه بالوسائط ، وتارة من غير الوسائط ، يعرف هذا أهل الفن من أهل الذوق ، وشأن من لم يبلغ مقامهم : التسليم.
إن لم تر الهلال فسلّم لأناس رأوه بالأبصار
وفى الورتجبي : وإن الله تعالى إذا أراد أن يسمع كلامه أحدا من الأنبياء والأولياء يعطيه سمعا من أسماعه ، فيسمع به كلامه ، كما حكى - عليه الصلاة والسلام - عنه - تعالى - ، قال : (فإذا أحببته كنت سمعه ....) ، الحديث.
أسمعه كلامه ، وليس هناك الحروف والأصوات ، بل أسمعه بحرف القدرة وصوت الأزلية ، الذي هو منزه عن همهمة الأنفاس وخطرات الوسواس ، وليس فى ولاية الأزل من رسوم أهل الآجال شىء ، حتى هناك السامع والمسمع واحد من حيث المحبة ، لا من حيث الجمع والتفرقة. انتهى كلامه.
واعلم أن أهل الجمع لا يشهدون إلا متكلما واحدا ، قد انتفى من نظرهم التعدد والاثنينية ، غير أنهم يفرقون بين كلام القدرة وكلام الحكمة ، كلام القدرة يبرز من غير اختيار ، بل يكون المتكلم به مأخوذا عنه ، غائبا عن اختياره ،
___________
(1) فى الأصول : بالرسالة. قلت : والرسلية : تأدية الرسالة.(1/592)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 593
وكلام الحكمة معه ضرب من الاختيار ، وقد يسمعون كلام القدرة من الهواتف الغيبية ، ومن الجمادات على وجه الكرامة ، وكله بحرف وصوت. نعم ما يقع من الهواتف القلبية والتجليات الباطنية ، قد يكون بلا حرف ولا صوت ، وقد تحصل لهم المكالمة بالإشارة بلا صوت ولا حرف ، فقوله : (بل أسمعه بحرف القدرة وصوت الأزلية ...) إلخ.
إن أراد به التجليات الباطنية فمسلّم ، لكن ظاهره أن كلام الحق الذي يسمعه لأنبيائه وأوليائه محصور فى ذلك ، وأنه لا يكون إلا بلا حرف ولا صوت. وليس كذلك.
وقوله : (و ليس فى ولاية الأزل من رسوم أهل الآجال شى ء) إلخ ، معناه : لم يبق فى ولاية أهل مشاهدة الأزل من رسوم الحوادث شىء. قلت : لكنهم يثبتونها حكمة ، ويمحونها قدرة ومشاهدة ، ولا يلزم من محوها عدم صدور الكلام منها بالحرف والصوت فإن البشرية لا تطيق سماع كلام الحق بلا واسطة الحكمة ، كما هو معلوم.
والله تعالى أعلم.
ثم شهد لرسوله بالوحى والرسالة ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 166]
لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166)
قلت : (لكن) : حرف استدراك ، وهو عن مفهوم ما تقدم ، وكأنه قال : إنهم لا يشهدون بوحينا إليك. لكن الله يشهد بذلك.
يقول الحق جل جلاله فى الرد على اليهود لما قالوا للنبى صلّى اللّه عليه وسلم : لا نشهد لك بما أوحى إليك.
فقال تعالى : لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ إن لم يشهدوا به ، أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أي : متلبسا بعلمه الخاص به ، وهو العلم بتأليفه على نظم يعجز عنه كل بليغ. أو متلبسا بعلمه الذي يحتاج الناس إليه فى معاشهم ومعادهم. أو بعلمه المتعلق بمن يستأهل نزول الكتب إليه ، وَالْمَلائِكَةُ أيضا يشهدون بذلك. وفيه تنبيه على أن الملائكة يودّون أن يعلم الناس صحة دعوى النبوة ، على وجه يستغنى عن النظر والتأمل ، وهذا النوع من خواص الملك ، ولا سبيل للإنسان إلى العلم بأمثال ذلك ، سوى التفكر والنظر ، فلو أتى هؤلاء بالنظر الصحيح لعرفوا نبوتك ، وشهدوا بها كما عرفت الملائكة وشهدوا. قاله البيضاوي ، وقد يخلق الله العلم فى قلب الإنسان من غير تفكر ولا نظر ، بل هداية من المالك القدير. وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً لرسوله عن شهادة غيره.(1/593)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 594
الإشارة : كما شهد الحق تعالى لرسوله بالنبوة والرسالة ، شهد لمن كان على قدمه من ورثته الخاصة بالولاية والخصوصية ، وهم الأولياء العارفون بالله ، وشهادته لهم بما أظهر عليهم من العلوم اللدنية والأسرار الربانية ، وبما أتحفهم به من الأخلاق النبوية والمحاسن البهية ، وبما أظهر على أيديهم من الكرامات الظاهرة مع الاستقامة الشرعية ، لكن لا يدرك هذه الشهادة إلا من سبقت له العناية ، وكان له حظ فى الولاية. «سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه! ولم يوصل إليه إلا من أراد أن يوصله إليه» وبالله التوفيق.
ثم ذكر وعيد من أعرض عن هذه الشهادة ، فقال :
[سورة النساء (4) : الآيات 167 الى 169]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169)
قلت : (خالدين) : حال مقدرة.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بما أنزلت على رسولنا من اليهود أو غيرهم ، وَصَدُّوا الناس عن طريق الله الموصلة إليه ، قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً لأنهم جمعوا بين الضلال والإضلال ، ولأن المضل يكون أغرق فى الضلال وأبعد عن الانقلاع. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا الناس بصدهم عما فيه صلاحهم وخلاصهم ، أو ظلموا رسول الله بإنكار نبوته وكتمان صفته ، أو ظلموا أنفسهم بالانهماك فى الكفر ، لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً ، إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ، فجرى حكمه السابق ووعده الصادق على أن من مات على الكفر مخلد فى النار ، وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً لا يصعب عليه ولا يتعاظمه.
الإشارة : إن الذين كفروا بالخصوصية وأنكروا على أهلها ، وصدوا الناس عن القصد إليها والدخول فى حزبها قد ضلوا عن طريق الوصول ضلالا بعيدا ، إذ لا وصول إلى الله إلا على يد أولياء الله لأنهم باب الحضرة ، فلا بد من الأدب معهم والخضوع لهم. إن الذين كفروا بأولياء الله ، وظلموا أنفسهم حيث حرموها الوصول ، وتركوها فى أودية الخواطر تجول ، لم يكن الله ليستر مساوئهم ويقدس سرائرهم ، ولا ليهديهم طريق المشاهدة ولا كيفية المجاهدة ، وإنما يمكنهم من طريق التعب والنصب حتى يلقوا الله بقلب سقيم ، والعياذ بالله.(1/594)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 595
ولما قرر أمر النبوة ، وبيّن الطريق الموصل إلى العلم بها ، وأوعد من أنكرها ، خاطب الناس بالدعوة إليها فقال :
[سورة النساء (4) : آية 170]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170)
قلت : (فآمنوا خيرا لكم) ، و(انتهوا خيرا لكم) : قال سيبويه : هو منصوب بفعل مضمر ، تقديره : وائتوا خيرا لكم ، وقال الخليل : منصوب بآمنوا وبانتهوا على المعنى. أي : اقصدوا. وقال الفراء : صفة لمصدر ، أي : آمنوا إيمانا خيرا لكم. وقال بعض الكوفيين : هو خبر كان المحذوفة ، وتقديره : ليكن الإيمان خيرا لكم.
قلت : وهو أظهر من جهة المعنى ، وإن منعه البصريون ، قالوا : لأنّ (كان) لا تحذف مع اسمها إلا فى مواضع مخصوصة ، قال ابن مالك :
ويحذوفونها ويبقون الخبر وبعد إن ، ولو ، كثيرا ذا اشتهر
ولعل هذا الموضع أتى على غير المشهور تنبيها على الجواز.
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ وهو محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، فَآمِنُوا به يكن خَيْراً لَكُمْ مما أنتم فيه من الضلال ، وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وما تركبتا منه ، ملكا وخلقا وعبيدا ، فهو غنى عنكم ، لا يتضرر بكفركم ، كما لا ينتفع بإيمانكم ، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بأحوالكم ، حَكِيماً فيما دبر لكم.
الإشارة : الذي جاء به الرسول - عليه الصلاة والسلام - هو إتقان مقام الإسلام ، وتصحيح مقام الإيمان ، الذي من أركانه : الإيمان بالقدر خيره وشره ، حلوه ومره ، وتحقيق مقام الإحسان الذي هو مقام الشهود والعيان ، ولا يكمل هذا إلا بصحبة أهل العرفان ، الذين صححوا مقام الفناء ، وخرجوا إلى البقاء ، خاضوا بحار التوحيد ، وانفردوا بأسرار التفريد ، ورسخ فيهم مقام الرضى والتسليم ، فتلقوا المقادير كلها بقلب سليم ، فمن لم يصحبهم ويتأدب بآدابهم بقي إيمانه ناقصا ، وحقه العتاب ، فكأن الحق - تعالى - يقول على لسان الإشارة : قد جاءكم وليي ، وهو خليفة رسولى ، فآمنوا بخصوصيته ، وأذعنوا لأمره وتربيته ، يكن خيرا لكم مما أنتم فيه من المساوئ والأمراض ، لئلا تلقونى بقلب سقيم ، وبالله التوفيق.(1/595)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 596
ثم خص أهل الكتاب بالخطاب والعتاب ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 171]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171)
قلت : أصل الغلو : مجاوزة الحد فى كل شىء ، يقال : غلا بالجارية لحمها وعظمها ، إذا أسرعت إلى الشباب فجاوزت لداتها أي : أقرانها ، تغلو غلوا.
يقول الحق جل جلاله فى عتاب النصارى - بدليل ما بعده : يا أَهْلَ الْكِتابِ الإنجيل لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ فتجاوزوا الحد فيه باعتقادكم فى عيسى أنه الله ، أو ابن الله ، قصدوا تعظيمه فغلوا وأفرطوا ، وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ، وهو تنزيه عن الصاحبة والولد.
ثم بيّن الحق فيه فقال : إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ ، لا كما قالت اليهود : ليس برسول ، ولا كما قالت النصارى : إنه الله ، أو ابن الله ، وإنما هو عبد الله ورسوله ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ أي :
أوصلها إليها وحصلها فيها ، وهى كلمة : كن. فتكوّن بها فى رحم أمه فسمى بها ، وَرُوحٌ مِنْهُ وهو نفخ جبريل فى جيبها فحملت بذلك النفخ ، وسمى النفخ روحا لأنه ريح يخرج عن الروح ، فكانت روحه صادرة من روح القدس ، كما قال فى آدم : نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ، وقد قال : إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ، فنفخ جبريل فى الحقيقة لما كان بأمر الله صار هو نفخ الحق لأن الواسطة محذوفة عند المحققين ، فلذلك أضاف روحه إليه كروح آدم عليه السّلام.
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أي : وحدوا الله فى ألوهيته ، وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ أي : الآلهة ثلاثة : الله ، والمسيح ، ومريم ، انْتَهُوا عن التثليث يكن خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ فى ذاته وصفاته وأفعاله ، سُبْحانَهُ أي : تنزيها له أن يكون له ولد ، لأنه لا يجانس ولا يتطرقه الفناء ، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، ملكا وخلقا وعبيدا ، والعبودية تنافى البنوة ، وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا فلا يحتاج إلى ولد لأن الولد يكون وكيلا عن أبيه وخليفته ، والله تعالى قائم بحفظ الأشياء كاف لها ، مستغن عمن يعينه أو يخلفه لوجوب بقائه وغناه.(1/596)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 597
واعلم أن النصارى انقسموا على أربع فرق : نسطورية ، ويعقوبية ، وملكانية ، ومرقوسية ، ومنهم نصارى نجران ، فالنسطورية ، قالوا فى عيسى هو ابن الله ، واليعقوبية ، والملكانية ، قالوا هو الله ، والمرقوسية قالوا : هو ثالث ثلاثة ، وكلهم ضالون.
الإشارة : الغلو كله مذموم ، وخير الأمور أوساطها ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : «لا تطرونى كما أطرت النّصارى عيسى بن مريم ، ولكن قولوا : عبد اللّه ورسوله» ، ويرخص للفقير أن يتغالى فى مدح شيخه ، ما لم يخرجه عن طوره ، أو ينتقص غيره بمدحه ، وفى الإشارة حث على حفظ مقام التوحيد ، وتنزيهه تعالى عن الأضداد والأنداد. وفى ذلك يقول الشاعر :
أربّ وعبد ونفى ضد قلت له : ليس ذاك عندى
فقال ما عندكم؟ فقلنا : وجود فقد وفقد وجد
فإثبات العبودية مستقلة تضاد الربوبية ، ولذلك أنكرها الشاعر ، أي : أثبت ربا وعبدا ، وأنت تقول بنفي الضد عنه وفى الحكم : «الأكوان ثابتة بإثباته ممحوة بأحدية ذاته».
ولما قالت نصارى نجران للنبى صلّى اللّه عليه وسلم : إنك تعيب صاحبنا؟ فقال - عليه الصلاة والسلام - ومن صاحبكم؟ قالوا :
عيسى. قال : وأي شىء أقول؟ قالو : تقول إنه عبد الله. قال لهم - عليه الصلاة والسلام - «ليس بعار أن يكون عيسى عبدا للّه» ، أنزل الله تعالى :
[سورة النساء (4) : الآيات 172 الى 173]
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173)
قلت : أصل الاستنكاف : التنحية ، من قولهم : نكفت الدمع إذا نحيته بإصبعك كى لا يرى أثره عليك ، ثم أطلق على الأنفة ، والاستكبار دون الاستنكاف ، ولذا عطف عليه لأن الاستنكاف لا يستعمل إلا حيث لا استحقاق ، بخلاف الاستكبار فإنه يكون باستحقاق. قاله البيضاوي.(1/597)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 598
يقول الحق جل جلاله فى الرد على النصارى : نْ يَسْتَنْكِفَ
أي : لن يأنفْ مَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ
فإن عبوديته لله شرف يتباهى بها ، وإنما المذلة والاستنكاف فى عبوديته لغيره ، لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
لا يستنكفون أيضا أن يكونوا عبيدا لله ، بل ما كانوا مكرمين إلا بعبوديتهم لله ، واحتج بالآية من فضّل الملائكة على الأنبياء ، لأن المعطوف يقتضى أن يكون أرفع درجة من المعطوف عليه ، حتى يكون عدم استنكاف الملائكة كالدليل على عدم استنكاف المسيح.
والجواب : أن عطف الملائكة إنما أريد به التكثير والمبالغة ، كقولهم : أصبح الأمير اليوم لا يخالفه رئيس ولا مرؤوس ، والرئيس أفضل من المرءوس ، والتحقيق فى المسألة أن الأنبياء والرسل أفضل من خواص الملائكة كالمقربين ، وخواص الملائكة - وهم المقربون - أفضل من خواص البشر كالأولياء ، وخواص البشر أفضل من عوام الملائكة ، وعوام الملائكة أفضل من عوام البشر ، ولذلك قيل : من غلب عقله على هواه ، كان كالملائكة أو أفضل ، ومن غلب هواه على عقله ، كان كالبهائم أو أضل. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر وعيد من استنكف عن عبوديته - تعالى - فقال : مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً
فيجازيهم فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ولم يستنكفوا عن عبادته فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ مالا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا عن عبوديته وَاسْتَكْبَرُوا عن عبادته فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً أي : موجعا ، وهو النار ، وقال القشيري : العذاب الأليم : هو ألا يصلوا إليه أبدا بعد ما عرفوا جلاله ، إذ صارت معرفتهم ضرورية - أي قهرية - فحسراتهم حينئذ على ما فاتهم أشدّ عقوبة لهم. ه. وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً.
فإن قلت : هذا التفصيل أعم من المفصل ، لأن الحشر إنما ذكر للمتكبرين والتفصيل أعم ، فالجواب : أن عموم المفصل يفهم من قوة الكلام ، فكأنه قال : فسيحشرهم للمجازاة يوم يجازى عباده جميعا ، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا ...
إلخ ، نظيره : قولك : جمع الأمير كافة مملكته ، فأما العلماء فأكرمهم ، وأما الطغاة فقطعهم. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : العبودية أشرف الحالات وأرفع المقامات ، بها شرف من شرف ، وارتفع من ارتفع ، عند الله ، وما خاطب الله أحباءه إلا بالعبودية ، فقال تعالى : سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ، وقال : وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ، وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ، وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ ، نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ... إلى غير ذلك.(1/598)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 599
وأوصاف العبودية أربعة : الذل ، والفقر ، والضعف والجهل. ومقابلها من أوصاف الربوبية أربعة : العز ، والغنى والقوة والعلم ، فبقدر ما يظهر العبد من أوصاف العبودية يمده الحق من أوصاف الربوبية ، فبقدر ما يظهر العبد من الذل يمده من العز ، وبقدر ما يظهر من الفقر يمده بالغنى ، وبقدر ما يظهر من الضعف يمده من القوة ، وبقدر ما يظهر من الجهل يمده من العلم ، تحقق بوصفك يمدك بوصفه ، ولا يتحقق ظهور هذه الأوصاف إلا بين عباده لتمتحق بذلك أوصاف النفس.
ثم دعا الكل إلى كتابه والإيمان برسوله ، فقال :
[سورة النساء (4) : الآيات 174 الى 175]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175)
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وهو الرسول عليه الصلاة والسلام وما اقترن به من المعجزات الواضحات ، وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ على لسانه نُوراً مُبِيناً وهو القرآن. أو جاءكم برهان من ربكم : المعجزات الظاهرة ، وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً : القرآن العظيم ، أي : جاءكم دليل العقل وشواهد النقل ، فلم يبق لكم عذر ولا علة.
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ أي : وحدوه فى ربوبيته ، وَاعْتَصَمُوا أي : تمسكوا بدينه أو بكتابه ، فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وهى الجنة ، وَفَضْلٍ : النظر لوجهه الكريم ، قال البيضاوي : فِي رَحْمَةٍ أي : ثواب قدّره بإزاء إيمانه وعمله ، رحمة منه ، لا قضاء لحق واجب ، وفضل إحسان زائد عليهما. ه. وقال القشيري : سيحفظ عليهم إيمانهم فى المآل عند التوفى ، كما أكرمهم به وبالعرفان فى الحال. ه. وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ أي : إلى الوصول إليه ، صِراطاً مُسْتَقِيماً أي : يبيّن لهم الوصول إليه ، وهو طريق السير الذي لا عوج فيه العلم والعمل والحال ، وقال البيضاوي : هو الإسلام والطاعة فى الدنيا ، وطريق الجنة فى الآخرة. ه.
الإشارة : قد جاءكم من يعرفكم بالله ، ويدلكم على الله ، وهم أولياء الله ، ببرهان واضح لا يخفى إلا على من كان خفاشيا ، وأنزلنا إليكم من سر قدسنا ، وبحر جبروتنا ، نورا مبينا ، تشاهدون فيه أسرار الذات وأنوار الصفات ، وهو ما ظهر من التجليات من القبضة الأولية المحمدية ، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فى حال سيرهم إليه فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وهى حضرة القدس ، (و فضل) وهو الترقي فى أسرار المعارف إلى مالا نهاية له ، (1/599)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 600
ويهديهم إلى الوصول إليه ، وهو شهوده فى ذلك النور ، طريقا مستقيما توصل إليه فى أقرب زمان. ولعل الآية فيها تقديم وتأخير ، أي : فسيهديهم إليه طريقا مستقيما يسيرون فيه ، حتى يصلوا إليه ، ثم يدخلهم فى رحمة حضرته ، وفضل زيادة معرفته. والله تعالى أعلم.
ثم ختم السورة بميراث الكلالة ، لأن آخر أحوال الإنسان الموت فيورث ماله ، وكان المناسب ذكر يوصيكم هنا ، لكنه أدرجه فى حفظ الأموال لكونه أنسب ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 176]
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
قلت : (فى الكلالة) ، يتعلق بيفتيكم ، ويستفتونك ، فيكون من باب التنازع ، وأعمل الثاني على اختيار البصريين ، وعمل الأول فى الضمير المجرور حذف ، أي : يستفتونك فيها ، أو عمل الأول وحذف ضمير الثاني ، أو يكون يستفتونك مقطوعا فيوقف عليه ، أو حذف متعلقه لدلالة الجواب عليه ، أي : يستفتونك فى الكلالة ، وهو أظهر ، وتقدم تفسير الكلالة «1» ، إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ : ارتفع بفعل مضمر عند البصريين ، من باب الاشتغال فى المرفوع.
يقول الحق جل جلاله : يَسْتَفْتُونَكَ فى الكلالة ، والمستفتى هو جابر بن عبد الله ، كان مريضا فعاده رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم فقال : يا رسول الله. إنى كلالة ، فكيف أصنع فى مالى؟ فنزلت ، وهى آخر ما نزل من الأحكام.
قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ، ثم بيّن الفتوى فيها فقال : إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ ولا والد ، بل انقطع نسبه من الجهتين ، وَلَهُ أُخْتٌ شقيقة أو لأب فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ والباقي للعصبة ، ولا ميراث لها مع الأب أو الابن ، وَهُوَ يَرِثُها إن ماتت ولم يكن لها ولد ولا والد.
فإن استقل فله المال ، وإن كان معه ذو سهم أخذ الباقي ، فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فأكثر شقائق فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ ، وإن كانت شقيقة مع الأب أخذت الشقيقة النصف ، والتي لأب السدس تكملة الثلثين ، وإن كانت لأب
___________
(1) راجع تفسير الآية 12 من نفس السورة.(1/600)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 601
مع الشقيقتين فلا شىء لها ، وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً شقائق ، مات أخوهم ، فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، ولا شىء للأخوة لأب من الشقائق. يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الحق ، كراهية أَنْ تَضِلُّوا ، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فهو عالم بمصالح العباد فى المحيا والممات. اللهم أحينا حياة طيبة وأمتنا موتة حسنة ، فى عافية وستر جميل ، يا أرحم الراحمين ، يا رب العالمين.
الإشارة : الكلالة من الأولياء ، هو الذي مات ولم يخلف ولدا يرث حاله ، فإن لم تكن له تلاميذ ، فإن كان له أخ يقارب حاله ، ورثه ، وقد يرث سره أخته فى النسبة ، لكن لا تستوجب ذلك كله لحكمة الله تعالى. يشير إليه قوله تعالى : فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ، وإن ترك إخوة فى الشيخ اقتسموا سره كله ، كل على قدر صدقه ، والنساء الصادقات شقائق الرجال فى نيل أسرار الولاية. وقد تقدم أول السورة أن مدد الشيخ كنهر أو كبحر يصب فى القواديس ، فإذا انسدت قادوس انتقل ماؤها إلى الأخرى. والله تعالى أعلم.(1/601)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 602(1/602)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 603
فهرس المجلد الأول
تقديم المحقق 5 تقديم بقلم الأستاذ الدكتور/ حسن عباس زكى 7 كلمة الأستاذ الدكتور/ جودة محمد المهدى 15 ترجمة الإمام ابن عجيبة 19 منهج ابن عجيبة فى التفسير 33 وصف النسخ 39 منهج التحقيق 41 مقدمة المفسر 49 تفسير سورة الفاتحة 53 تفسير سورة البقرة 71 تفسير سورة آل عمران 321 تفسير سورة النساء 459(1/603)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 3
[المجلد الثاني ]
سورة المائدة
مدنية. وهى مائة وعشرون آية ، وألفان وثمان مائة وأربع كلمات ، وقرأها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فى حجة الوداع ، وقال :
«يا أيها الناس ، إن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا ، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها» «1». وقال ابن عمر : (أنزلت سورة المائدة والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم على راحلته ، فلم تستطع أن تحمله حتى نزل). وهى مكملة لما تضمنته سورة النساء من عقود الأحكام الستة ، ولذلك افتتحها بالتوصية على الوفاء بها ، فقال :
[سورة المائدة (5) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1)
أي : بالعهود التي عهدت إليكم أن تحفظوها ، وهى حفظ الأموال ، وحفظ الأنساب ، وحفظ الأديان ، وحفظ الأبدان ، وحفظ اللسان ، وحفظ الأيمان ، ثم مرّ معها على الترتيب ، فما ذكره هناك مستوفى ، لم يعد منه هنا إلا أصله ، وما بقي هناك فى أصل من الأصول الستة كمله هنا ، ولمّا ذكر فيما تقدم فى أول السورة حكم الأموال باعتبار الملك ، ولم يتكلم على ما يحل منها وما يحرم ، تكلم هنا على ذلك ، فقال : أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ...
قلت : إضافة (بهيمة الأنعام) : للبيان ، كثوب خزّ ، أي : البهيمة من الأنعام ، و(غير محلى الصيد) : حال ، قال الأخفش : من فاعل «أوفوا» ، وفيه معنى النهى ، وقال الكسائي : من ضمير (لكم) كما تقول : أحل لكم الطعام غير مفسدين فيه ، فإن قلت : الحال قيد لعاملها ، والحلّية غير خاصة بوقت حرمة الصيد؟ قلت : لمّا كانت الحاجة إليها فى ذلك الوقت أكثر ، خص الحلية به ليكون أدعى للشكر ، ويؤخذ عموم الحلّية من سورة الحج «2».
يقول الحق جل جلاله : أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ أي : الأنعام كلها ، وهى الإبل والبقر والغنم ، إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ بعد فى قوله : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ... الآية «3» ، حال كونكم غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ
___________
(1) أخرجه الحاكم فى المستدرك (التفسير 2/ 311) موقوفا على (أم المؤمنين عائشة) رضى اللّه عنها. وصححه ووافقه الذهبي.
وفى الفتح السماوي (2/ 552) نقلا عن الحافظ ابن حجر : لم نقف عليه مرفوعا.
(2) فى قول اللّه تعالى : أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ .. الآية/ 30.
(3) الآية الثالثة من السورة نفسها.(2/3)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 4
فى حال الإحرام ، ومعنى الآية فى الجملة : أحلت الأنعام كلها إلا ما يتلى عليكم من الميتة وأخواتها ، لكن الصيد فى حال الإحرام حرام عليكم ، إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ من تحليل أو تحريم.
الإشارة : يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود التي عقدتموها على نفوسكم فى حال سيركم إلى حضرة ربكم ، من مجاهدة ومكابدة ، فمن عقد عقدة مع ربه فلا يحلها ، فإن النفس إذا استأنست بحل العقود لم ترتبط بحال ، ولعبت بصاحبها كيف شاءت ، وأوفوا بالعقود التي عقدتموها مع أشياخكم بالاستماع والاتباع إلى مماتكم ، وأوفوا بالعقود التي عقدها عليكم الحق تعالى ، من القيام بوظائف العبودية ، ودوام مشاهدة عظمة الربوبية ، فإن أوفيتم بذلك ، فقد أحلت لكم الأشياء كلها تتصرفون فيها بهمتكم لأنكم إذا كنتم مع المكون كانت الأكوان معكم. إلا ما يتلى عليكم مما ليس من مقدوركم مما أحاطت به أسوار الأقدار ، «فإن سوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار» ، غير متعرضين لشهود السّوى وأنتم فى حرم حضرة المولى. واللّه تعالى أعلم.
ولمّا نهى عن التعرض للصيد فى الحرم ، نهى عن تغيير المناسك والتعرض للحجّاج لأنه من تعظيم حرمة الحرم ، فقال :
[سورة المائدة (5) : آية 2]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2)
قلت : الشعائر : جمع شعيرة ، وهى اسم ما أشعر ، أي : جعل علامة على مناسك الحج ومواقفه ، و(لا يجرمنكم) أي : يحملنكم ، أو يكسبنكم ، يقال : جرم فلان فلانا هذا الأمر ، إذا أكسبه إياه وحمله عليه. والشنآن : هو البغض والحقد ، يقال : بفتح النون وإسكانها ، و(أن صدوكم) مفعول من أجله ، و(أن تعتدوا) مفعول ثان ليجرمنكم. ومن قرأ : (إن صدوكم) ، بالكسر فشرط ، أغنى عن جوابه : (لا بجرمنكم).
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ أي : لا تستحلوا شيئا من ترك المناسك ، وذلك أن الأنصار كانوا لا يسعون بين الصفا والعروة ، وكان أهل مكة لا يخرجون إلى عرفات ، وكان أهل اليمن يرجعون من عرفات ، فأمرهم اللّه ألّا يتركوا شيئا من المناسك ، أي : لا تحلوا ترك شعائر اللّه وَلَا تحلوا(2/4)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 5
الشَّهْرَ الْحَرامَ بالقتال أو السّبى ، وهذا قبل النسخ ، وَلَا تحلوا الْهَدْيَ ، أي : ما أهدى إلى الكعبة ، فلا تتعرضوا له ولو من كافر ، وَلَا تحلوا الْقَلائِدَ أي : ذوات القلائد ، وهى الهدى المقلدة ، وعطفها على الهدى للاختصاص فإنها أشرف الهدى ، أي : لا تتعرضوا للهدى مطلقا. والقلائد جمع قلادة ، وهى : ما قلد به الهدى من نعل أو لحاء الشجر ، أو غيرهما ، ليعلم به أنه هدى فلا يتعرض له ، وَلَا تحلوا آمِّينَ أي : قاصدين البيت الحرام ، أي : قاصدين لزيارته ، يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً أي : يطلبون رزقا بالتجارة التي قصدوها ، ورضوانا بزعمهم لأنهم كانوا كفارا.
وذلك ، أن الآية نزلت فى الحطم بن ضبيعة ، وذلك أنه أتى المدينة ، فخلّف خيله خارج المدينة ، ودخل وحده إلى النّبى صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : إلام تدعو النّاس إليه؟ فقال له : «إلى شهادة أن لا إله إلا اللّه وإقام الصّلاة وإيتاء الزكاة».
فقال : حسن ، إلا أن لى أمراء لا أقطع أمرا دونهم ، ولعلى أسلم ، فخرج وغار على سرح المدينة فاستاقه ، فلما كان فى العام المقبل خرج حاجّا مع أهل اليمامة ، ومعه تجارة عظيمة ، وقد قلّد الهدى ، فقال المسلمون للنبى صلّى اللّه عليه وسلّم : هذا الحطم قد خرج حاجّا فخلّ بيننا وبينه؟ فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : «إنه قلد الهدى» ، فقالوا يا رسول اللّه : هذا شىء كنا نفعله فى الجاهلية - أي : تقية - ، فأبى عليهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، فنزلت الآية «1».
وقال ابن عباس : كان المشركون يحجون ويهدون ، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم ، فنهاهم اللّه تعالى بالآية.
وَإِذا حَلَلْتُمْ من الحج والعمرة فَاصْطادُوا ، أمر إباحة لأنه وقع بعد الحظر ، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ أي :
لا يحملنكم ، أو لا يكسبنكم شَنَآنُ قَوْمٍ أي : شدة بغضكم لهم لأجل أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ عام الحديبية أَنْ تَعْتَدُوا بالانتقام منهم بأن تحلوا هداياهم وتتعرضوا لهم فى الحرم. قال ابن جزى : نزلت عام الفتح حين ظفر المسلمون بأهل مكة ، فأرادوا أن يستأصلوهم بالقتل لأنهم كانوا قد صدوهم عن المسجد الحرام عام الحديبية ، فنهاهم اللّه عن قتلهم لأن اللّه علم أنهم يؤمنون. ه. ثم نسخ ذلك بقوله : فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. «2»
ثم قال تعالى : وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى كالعفو ، والإغضاء ، ومتابعة الأمر ، ومجانبة الهوى. وقال ابن جزى : وصية عامة ، والفرق بين البر والتقوى أن البر عام فى الواجبات والمندوبات ، فالبر أعم من التقوى ه.
وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ كالتشفى والانتقام. قال ابن جزى : الإثم : كل ذنب بين اللّه وعبده ، والعدوان : على الناس. ه. وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ فانتقامه أشد.
الإشارة : قد أمر الحق - جل جلاله - بتعظيم عباده ، وحفظ حرمتهم كيفما كانوا ، «فالخلق كلهم عيال اللّه ، وأحب الخلق إلى اللّه أنفعهم لعياله» ، فيجب على العبد كف أذاه عنهم وحمل الجفا منهم ، وألّا ينتقم لنفسه ممن آذاه
___________
(1) أخرجه ابن جرير عن عكرمة. وذكره الواحدي فى الأسباب ، عن ابن عباس.
(2) من الآية 5 من سورة التوبة.(2/5)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 6
منهم ، ولا يحمله ما أصابه منهم على أن يعتدى عليهم ولو بالدعاء ، بل إن وسّع اللّه صدره بالمعرفة قابلهم بالإحسان ، ودعا لعدوه بصلاح حاله حتى يأخذ اللّه بيده ، وهذا مقام الصديقية العظمى والولاية الكبرى ، وهذا غاية البر والتقوى الذي أمر اللّه - تعالى - بالتعاون عليه ، والاجتماع إليه ، دون الاجتماع على الإثم والعدوان ، وهو الانتصار للنفس والانتقام من الأعداء ، فإن هذا من شأن العوام ، الذين هم فى طرف مقام الإسلام. واللّه تعالى أعلم.
ثم بيّن ما وعد به فى قوله : إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ، فقال :
[سورة المائدة (5) : آية 3]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
يقول الحق جل جلاله : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ أي : ما ماتت حتف أنفها بلا ذكاة ، وَالدَّمُ المسفوح ، أي : المهروق ، وكانت الجاهلية يصبونه فى الأمعاء ، ويشوونها ، ورخص فى الباقي فى العروق بعد التذكية ، وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ، وكذا شحمه وسائر أجزائه المتصلة ، بخلاف الشعر المجزو ، وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي : رفع الصوت عليه عند ذبحه بغير اللّه ، كقولهم : باسم اللات والعزى ، وكذا ما ترك عليه اسم اللّه عمدا ، عند مالك وَالْمُنْخَنِقَةُ بحبل وشبهه حتى ماتت ، وَالْمَوْقُوذَةُ أي : المضروبة بعصا أو بحجر أو شبهه ، من : وقذته وقذا :
ضربته ، وَالْمُتَرَدِّيَةُ أي : الساقطة من جبل أو فى بئر وشبهه فماتت ، وَالنَّطِيحَةُ التي نطحتها أخرى فماتت ، فإن لم تمت فإن كان فى العصران الأعلى فكذلك ، لا فى الأسفل أو الكرش.
وَما أَكَلَ السَّبُعُ أي : أكل بعضه وأنفذ مقتله ، والسبع : كل حيوان مفترس كالذئب والأسد والنمر والثعلب والنمس والعقاب والنسر إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ أي : إلا ما أدركتم ذكاته وفيه حياة مستقرة من ذلك. قاله البيضاوي.
وقال ابن جزى : قيل : إنه استثناء منقطع ، وذلك إذا أريد بالمنخنقة وأخواتها : مامات من ذلك بالخنق وما بعده ، أي : حرمت عليكم هذه الأشياء ، لكن ما ذكيتم من غيرها فهو حلال ، وهذا ضعيف ، وقيل : إنه استثناء متصل ، وذلك إن أريد بالمنخنقة وأخواتها ما أصابته تلك الأسباب وأدركت حياته. والمعنى : إلا ما أدركتم حياته من هذه الأشياء ، فهو حلال ، واختلف أهل هذا القول هل يشترط أن يكون لم تنفذ مقاتله ، أم لا؟ فالأئمة كلهم على عدم الاشتراط إلا مالكا - رحمه اللّه - ، وأما من لم تشرف على الموت من هذه الأسباب ، فذكاتها جائزة باتفاق. ه.
وَحرم عليكم أيضا : ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ، وهى أحجار كانت منصوبة حول البيت ، يذبحون عليها ويعدون ذلك قربة ، وليست بالأصنام لأن الأصنام مصورة ، والنصب غير مصورة ، وقيل : (على) بمعنى اللام ، أي : وما ذبح للنصب ، والمراد : كل ما ذبح لغير اللّه.(2/6)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 7
وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ أي : تطلبوا ما قسم لكم فى الأزل من المقادير بالأزلام ، جمع زلم - بضم الزاى وفتحها - وهى الأقداح على قدر السهام. وكانت فى الجاهلية ثلاثة ، قد كتب على أحدها : افعل ، وعلى الآخر :
لا تفعل ، وعلى الثالث : مهمل ، فإذا أراد الإنسان أن يعمل أمرا جعلها فى خريطة ، وأدخل يده وأخرج أحدها ، فإن خرج له الذي فيه «افعل» فعل ما أراد ، وإن خرج الذي فيه «لا تفعل» ، تركه ، وإن خرج المهمل أعاد الضرب ، ويقاس عليه كل ما يدخل فى علم الغيب ، كالقريعة والحظ والنصبة والكهانة ، وشبهها.
ذلِكُمْ فِسْقٌ ، الإشارة إلى المحرمات المذكورة ، أو إلى الاستقسام بالأزلام ، وإنما كان فسقا لأنه دخول فى علم الغيب الذي انفرد اللّه به ، وفيه تجسس على سر الملك ، وهو حرام ، ولا يعارض ما ثبت جوازه من القرعة ، فى أمور مخصوصة كتمييز الأنصبة فى القسمة ، «وقد كان - عليه الصلاة والسلام - يقترع بين نسائه» ، وغير ذلك مما تفيد تطييب القلوب ، دون الاطلاع على علم الغيوب. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : حرمت عليكم يا معشر المريدين طلب الحظوظ والشهوات ، وما تموت به قلوبكم من الانهماك فى الغفلات ، وتناول ما أعطيكم لغير وجه اللّه ، وقبضتموه من غير يد اللّه ، بأن نظرتم حين قبضه إلى الواسطة ، وغفلتم عن المعطى حقيقة ، فمقتضى شريعة الخواص : إخراجه عن الملك ، وحرمان النفس من الانتفاع به ، كما وقع لبعض الأولياء ، ولا تتناولوا من الطعام إلا ما ذكيتموه بأن شهدتم فيه المنعم دون الوقوف مع النعمة ، ونزلتم إليه بالإذن ، دون قصد الشهوة والمتعة ، وهذا يحتاج إلى تيقظ كبير ومراقبة قوية. واللّه يتجاوز عن أمثالنا بحلمه وكرمه. آمين.
ولمّا حرّم اللّه تعالى هذه الأشياء حصل للمشركين الإياس من موافقة المسلمين لهم فى دينهم ، فلذلك ذكره الحق تعالى بإثر تحريمها ، فقال :
... الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ...
يقول الحق جل جلاله : الْيَوْمَ الذي أنتم فيه ، وهو يوم الجمعة ، ويوم عرفة فى حجة الوداع ، يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ أن يبطلوه ، أو يظهروا عليه بحصول المباينة لهم فى أمورهم كلها ، ولظهور الإسلام فيه وكثرة المسلمين ، قيل : إنه وقف معه صلّى اللّه عليه وسلّم فى هذه الحجة : مائة ألف وأربعة عشر ألفا ، ويحتمل أن يريد باليوم الزمان الحاضر ، وما يتصل به من الأزمنة الآتية ، فَلا تَخْشَوْهُمْ أن يظهروا عليكم ، وَاخْشَوْنِ وحدي فأمرهم بيدي.
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ بالنصر والإظهار على الأديان كلها ، أو بالتنصيص على قواعد العقائد ، والتوقيف على أحوال الشرائع وقوانين الاجتهاد ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بالهداية والتوفيق ، أو بإكمال الدين ، وبالفتح والتمكين ، بهدم منار الكفر ، ومحو علل الملحدين ، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً أي : اخترته لكم من بين الأديان ، الذي لا نرتضى غيره ولا نقبل سواه.(2/7)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 8
الإشارة : إذا حصل المريد على أسرار التوحيد ، وخاض بحار التفريد ، وذاق حلاوة أسرار المعاني ، وغاب عن شهود حس الأوانى ، وحصل له الرسوخ والتمكين فى ذلك ، أيس منه الشيطان وسائر القواطع ، فلا يخشى أحدا إلا اللّه ، ولا يركن إلى شىء سواه ، وأمن من الرجوع فى الغالب ، إلا لأمر غالب ، وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ. ولذلك قال بعضهم : (و اللّه ما رجع من رجع إلا من الطريق ، وأما من وصل فلا يرجع).
والوصول هو التمكين فيما ذكرنا ، فإذا حصل على كمال المعرفة ، ووقف على عرفة المعارف ، فقد كمل دينه واستقام أمره ، وظهرت أنواره ، وتحققت أسراره ، وما بقي إلا الترقي فى الأسرار أبدا سرمدا ، والسير فى المقامات كسير الشمس فى المنازل ، ينتقل فيها من مقام إلى مقام ، بحسب ما يبرز من عنصر القدرة ، فتارة يبرز معه ما يوجب الخوف ، وتارة ما يوجب الرجاء ، وتارة ما يوجب الرضا والتسليم ، وتارة ما يوجب التوكل ، وهكذا يتلون مع كل مقام ويقوم بحقه ، ولا يقف مع مقام ولا مع حال ، لأنه خليفة اللّه فى أرضه ، وقد قال تعالى : كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ «1» ، وهذا هو التلوين بعد التمكين. واللّه تعالى أعلم.
ثم استثنى من تلك المحرمات حالة المضطر ، فقال :
...
فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قال البيضاوي : هو متصل بذكر المحرمات ، وما بينهما اعتراض مما يوجب التجنب عنها ، وهو أن تناولها فسوق ، وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام المرضى. ه.
يقول الحق جل جلاله : فَمَنِ اضْطُرَّ إلى تناول شىء من هذه المحرمات فِي مَخْمَصَةٍ أي : مجاعة ، حال كونه غَيْرَ مُتَجانِفٍ أي : مائل للإثم وقاصد له ، بأن يأكلها تلذذا أو متجاوزا حد الرخصة ، قيل : هو سد الرمق ، وقال ابن أبى زيد : يأكل منها ويتزود ، فإن استغنى عنها طرحها. ه. فإن تناولها للضرورة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ له رَحِيمٌ به حيث أباحها له فى تلك الحالة.
الإشارة : قال بعض الحكماء : الدنيا كلها كالميتة ، لا يحل منها للذاكر إلا قدر الضرورة أكلا وشربا ، وملبسا ومركبا ، حتى يتحقق له الوصول ، فما بقي لأحد حينئذ ما يقول ، وعلامة الوصول : هو الاكتفاء بالله دون الاحتياج لشىء سواه ، إن افتقر اغتنى فى فقره ، وإن ذل عز فى ذله ، وإن فقد وجد فى فقده ، وهكذا فى تقلبات الأحوال لا يتضعضع ولا يتزلزل ، ولو سقطت السماء على الأرض. واللّه تعالى أعلم.
ولمّا ذكر ما حرّم عليهم ذكر ما أحل لهم ، فقال :
___________
(1) من الآية/ 29 من سورة الرحمن.(2/8)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 9
[سورة المائدة (5) : الآيات 4 الى 5]
يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5)
قلت : لم يقل ماذا أحل لنا لأن «يسألونك» بلفظ الغيبة ، وكلا الوجهين شائع فى أمثاله. قاله البيضاوي.
يقول الحق جل جلاله : يَسْئَلُونَكَ يا محمد عن الذي أُحِلَّ لَهُمْ من المآكل ، بعد الذي حرم عليهم من الخبائث ، فقل لهم. أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وهو عند مالك : ما لم يدل دليل على تحريمه من كتاب ولا سنة ، وعند الشافعي : ما يستلذه الطبع السليم ولم يفرّ عنه ، فحرم الخنافس وشبهها ، وَأحل لكم صيد ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ أي : الكواسب ، وهى الكلاب ونحوها ، مما يصطاد به ويكسب الصيد على أهله ، من سباع وذوات أربع ، وطير ، ونحوها ، حال كونكم مُكَلِّبِينَ أي : معلمين لها الاصطياد ، أي : مؤدبين لها ، تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ من الحيل وصدق التأديب ، فإن العلم بها إلهام من اللّه ، أو مكتسب بالعقل الذي هو منحة من اللّه لابن آدم.
وحد التعليم عند ابن القاسم : أن يفهم الجارح الإشلاء والزجر ، وقيل : الإشلاء أي : التسلط - فقط ، وقيل : الزجر فقط ، وقيل : أن يجيب إذا دعى.
فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ولم يأكل منه ، لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «وإن أكل ، فلا تأكل فإنّما أمسك على نفسه» «1».
وهو مذهب الشافعي ، وقال مالك : يؤكل مطلقا لما فى بعض الأحاديث : «وإن أكل فكل» «2» ، وقال بعضهم : لا يشترط ذلك فى سباع الطير لأن تأديبها إلى هذا الحد متعذر.
وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أي : على ما علمتم عند إرساله ، ولو لم ير المرسل عليه ، وكذا عند الرمي بالمحدد ونحوه ، فإن سمى على شىء معين ووجد غيره لم يؤكل ، أو التبس مع غيره ، وإن سمى على ما وجد أكل الجميع ، ولا بد من نية الذكاة عند الإرسال أو الرمي ، واختلف فى حكم التسمية ، فقال الظاهرية : إنها واجبة مطلقا ، فإن تركت عمدا أو سهوا لم تؤكل عندهم ، وقال الشافعي : مستحبة ، حملا للأمر على الندب ، فإن تركت عمدا أو سهوا أكلت عنده.
___________
(1) بعض حديث أخرجه البخاري في (الذبائح والصيد ، باب إذا أكل الكلب) ومسلم فى (الصيد والذبائح ، باب الصيد بالكلاب المعلمة) من حديث عدى بن حاتم.
(2) أخرجه ابو داود فى (الصيد ، باب فى الصيد) عن أبى ثعلبه الخشني.
وفى التوفيق بين الحديثين قال الخطابي فى معالم السنن : يجعل حديث أبى ثعلبه أصلا فى الإباحة ، وأن يكون النهى فى حديث عدى على معنى التنزيه دون التحريم. ويحتمل أن يكون الأصل فى ذلك : حديث عدى بن حاتم ، ويكون النهى على التحريم البات ، ويكون المراد بقوله : وإن أكل ، فيما مضى من الزمان وتقدم منه ، لا فى هذه الحال ، فكأنه قال : كل منه وإن كان قد أكل فيما تقدم ، إذا لم يكن قد أكل فى هذه الحالة. انظر معالم السنن على هامش سنن أبى داود 3/ 272 ، وانظر أيضا : فتح الباري 9/ 494.(2/9)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 10
وجعل بعضهم الضمير فى عَلَيْهِ ، عائدا على الأكل ، فليس فيها على هذا أمر بالتسمية على الصيد ، ومذهب مالك : أنه إن تركت التسمية عمدا لم تؤكل ، وإن تركت سهوا أكلت ، فهى عنده واجبة بالذكر ساقطة بالنسيان ، وهذا الخلاف جار فى الذكاة كلها.
وَاتَّقُوا اللَّهَ فى اجتناب محرماته ، إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ، فيؤاخذكم على ما جلّ ودق.
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ فيتناول الذبائح وغيرها ، ويعم أهل الكتاب اليهود والنصارى ، واستثنى علىّ - كرم اللّه وجهه - نصارى بنى تغلب ، وقال : (ليسوا على النصرانية ، ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر). ولا يلحق بهم المجوس فى ذلك ، وإن ألحقوا بهم فى الجزية ، لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «سنوا بهم سنة أهل الكتاب ، غير ألا تنكحوا نساءهم ، ولا تأكلوا ذبائحهم» «1» وكذلك المرتد مطلقا لا تؤكل ذكاته.
قال ابن جزى : وأما الطعام ، فهو على ثلاثة أقسام : أحدها : الذبائح ، وقد اتفق العلماء على أنها مرادة فى الآية ، فأجازوا أكل ذبائح اليهود والنصارى ، واختلفوا فيما هو محرم عليهم فى دينهم ، على ثلاثة أقوال : الجواز ، والمنع ، والكراهة ، وهو مبنى على : هل هو من طعامهم أم لا؟ فإن أريد بطعامهم ما ذبحوه ، جازت ، وإن أريد ما يحل لهم ، منع ، والكراهة توسط بين القولين. الثاني : ما لا محاولة لهم فيه ، كالقمح والفاكهة ، فهو جائز لنا اتفاقا. والثالث : ما فيه محاولة كالخبز وتعصير الزيت وعقد الجبن ، وشبه ذلك مما يمكن استعمال النجاسة فيه ، فمنعه ابن عباس لأنه رأى أن طعامهم هو الذبائح خاصة ، وأجازه الجمهور ، لأنه رأوه داخلا فى طعامهم ، وهذا إذا كان استعمال النجاسة فيه محتملا ، أما إذا تحققنا استعمال النجاسة فيه كالخمر والخنزير والميتة ، فلا يجوز أصلا ، وقد صنف الطرطوشى فى تحريم جبن النصارى ، وقال : إنه ينجس البائع والمشترى والآلة لأنهم يعقدونه على إنفحة الميتة. ه.
وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ، فلا بأس أن تطعموهم من طعامكم ، وتبيعوه لهم ، وأما ما حرم عليهم ، فلا يجوز بيعه منهم. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : يسألونك أيها العارف الرباني ماذا أحل للفقراء من الأعمال والأحوال ، قل لهم : أحل لكم الطيبات ، أي : الخالص من الأعمال ، والصافي من الأحوال ، والتلذذ بحلاوة المشاهدة والمكالمة ، وما اصطادت لكم أنفسكم من العلوم اللدنية والأسرار القدسية ، بقدر تزكيتها وتربيتها ، فكلوا مما أمسكن عليكم ، أي : تمتعوا بما أتت به لكم من
___________
(1) أخرجه مالك فى الموطأ (الزكاة ، باب جزية أهل الكتاب والمجوس) من حديث عبد الرحمن بن عوف ، بدون ذكر : (غير ألا تنكحوا نساءهم ولا تأكلوا ذبائحهم) وجاءت هذه العبارة بنحوها فى حديث أخرجه عبد الرزاق فى المصنف (6/ 69 ح 10028) والبيهقي فى الكبرى (9/ 192) عن الحسن بن محمد بن على قال : (كتب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام ، فمن أسلم قبل ، ومن أصر ضربت عليهم الجزية ، على أن لا تؤكل لهم ذبيحة ، ولا ينكح لهم امرأة).(2/10)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 11
أبكار الحكم وعرائس الحقائق ، فإن أتت بشىء من علوم الحس ، فاذكروا اسم اللّه عليه ينقلب معانى ، واتقوا اللّه أن تقفوا مع شىء سواه ، (إن اللّه سريع الحساب) فيحاسبكم على الخواطر والطوارق إن لم تعرفوا فيها. اليوم أحل لكم الطيبات ، أي : حين دخلتم بلاد المعاني ورسختم فيها ، أحل لكم التمتع بالمشاهدات والمناجاة ، وطعام العلوم الظاهرة حلّ لكم تتوسعون بها ، وطعامكم حل لهم ، أي : وتذكيركم بما يقدرون عليه حلّ لهم لأن العارف الكامل يسير كل واحد على سيره ، ويتلون معه بلونه ، يقره فى بلده ويحوشه إلى ربه. نفعنا اللّه بذكره. آمين.
ثم تكلم على ما بقي من حفظ الأنساب ، وهو جواز نكاح الكتابية إذ لم يتكلم عليه فى سورة النساء ، فقال :
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ يقول الحق جل جلاله : وأحل لكم الْمُحْصَناتُ أي : الحرائر مِنَ الْمُؤْمِناتِ دون الإماء ، إلا لخوف العنت ، أو العفيفات دون البغايا ، فإن نكاحها مكروه ، وَأحل لكم الْمُحْصَناتُ أي : الحرائر مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، فأحل اللّه نكاح اليهودية والنصرانية الحرتين دون إمائهم ، إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي :
أعطيتموهن مهورهن. فلا يجوز نكاح الكتابية إلا بصداق شرعى. حال كونكم مُحْصِنِينَ ، أي : متعففين عن الزنى بنكاحها ، غَيْرَ مُسافِحِينَ أي : مجاهرين بالزنى ، وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ أي : أصحاب تسرون معهن بالزنى ، والخدن : الصاحب ، يقع على الذكر والأنثى. والمعنى : أحللنا لكم نكاح الكتابيات ، توسعة عليكم لتتعففوا عن الزنى سرا وجهرا.
ولما نزل إباحة الكتابيات قال بعض الناس : كيف أتزوج من ليس على دينى؟ فأنزل اللّه : وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ أي : بشرائع الإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ ، ومن الكفر به إنكاره والامتناع منه.
الإشارة : قد تقدم أن علوم الحقائق أبكار ، لأنها عرائس مخدّرة ، مهرها النفوس ، وما سواها من العلوم ثيبات وإماء لرخص مهرها ، فإذا اتصل العارف بعلوم الحقائق ورسخ فيها أحل له أن ينكح المحصنات من علوم الطريقة - وهى مبادئ التصوف ، أي : التفنن فيها مع أهلها على وجه التركيز أو التعليم ، والمحصنات من علوم الشريعة إذا أعطاها مهرها من الإخلاص وقصد التوسع بها وتعليمها لأهلها ، وهذه العلوم كلها مشروعة ، والمشتغل بها متوجه إلى اللّه تعالى ، قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ ، فمن كفر بها فقد حبط عمله ، وهو عند اللّه من الخاسرين.(2/11)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 12
ثم تكلم على ما بقي من حفظ الأديان ، وهو الوضوء إذ لم يتكلم عليه فى النساء ، فقال :
[سورة المائدة (5) : آية 6]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
قلت : إِذا قُمْتُمْ : أردتم القيام ، كقوله : فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ «1» ، حذف الإرادة للإيجاز ، وللتنبيه على أن من أراد العبادة ينبغى أن يبادر إليها ، بحيث لا ينفك الفعل عن الإرادة ، وقوله : بِرُؤُسِكُمْ الباء للإلصاق ، تقول : أمسكت بثوب زيد ، أي : ألصقت يدى به ، أي : ألصقوا المسح برؤوسكم ، أو للتبعيض ، وهذا سبب الخلاف فى مسحه كله أو بعضه ، فقال مالك : واجب كله ، وقال الشافعي : أقل ما يقع عليه اسم الرأس ، ولو قلّ. وقال أبو حنيفة : الربع.
وَأَرْجُلَكُمْ ، من نصب عطف على الوجه ، ومن خفض فعلى الجوار ، وفائدته : التنبيه على قلة صبّ الماء ، حتى يكون غسلا يقرب من المسح. قاله البيضاوي. وردّه فى المغني فقال : الجوار يكون فى النعت قليلا ، وفى التوكيد نادرا ، ولا يكون فى النسق لأن العاطف يمنع من التجاور ، وقال الزمخشري : لمّا كانت الأرجل بين الأعضاء الثلاثة مغسولات ، تغسل بصب الماء عليها ، كان مظنة الإسراف المذموم شرعا ، فعطف على الممسوح لا لتمسح ، ولكن لينبه على وجوب الاقتصار فى صب الماء عليها ، وجىء فيهما بالغاية إماطة لظن من يظن أنها ممسوحة لأن المسح لم يضرب له غاية فى الشريعة. ه.
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا أردتم القيام إِلَى الصَّلاةِ ، وأنتم محدثون فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ من منابت شعر الرأس المعتاد إلى الذقن ، ومن الأذن إلى الأذن ، وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ أي : معها ، وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ أي : جميعها أو بعضها على الخلاف ، وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ العظمين الناتئين فى مفصلى الساقين ، فهذه أربعة فرائض ، وبقيت النية لقوله : وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ «2» ، ولقوله
___________
(1) من الآية : 98 من سورة النحل.
(2) من الآية : 5 من سورة البينة. [.....](2/12)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 13
عليه الصلاة السّلام - : «إنما الأعمال بالنيات». والدلك إذا لا يسمى غسلا إلا به ، وإلا كان غمسا ، والفور لأن العبادة إذا لم تتصل كانت عبثا. ولمّا عطفت بالواو ، وهى لا ترتب ، علمنا أن الترتيب سنة.
وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى لم تقدروا على الماء أَوْ عَلى سَفَرٍ ولم تجدوه ، أو فى الحضر وجاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ بالجماع أو غيره فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ أي : جميعه وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ، وقيد الحضر بفقد الماء دون السفر لأن السفر مظنة إعوازه ، فالآية نص فى تيمم الحاضر الصحيح للصلوات كلها. قال البيضاوي : وإنما كرره ، - يعنى مع ما فى النساء - ليتصل الكلام فى بيان أنواع الطهارة. ه.
ثم قال تعالى : ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ حتى يكلفكم بالطهارة فى المرض أو الفقد من غير انتقال للتيمم ، وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ أي : ينظفكم بالماء أو بدله ، أو يطهركم من الذنوب ، فإن الذنوب تذهب مع صب الماء فى كل عضو ، كما فى الحديث ، وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ بشرعه ، ما هو مطهرة لأبدانكم ، ومكفرة لذنوبكم ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمه فيزيدكم من فضله.
الإشارة : كما أمر الحق جل جلاله بتطهير الظاهر لدخول حضرة الصلاة ، التي هل محل المناجاة ومعدن المصافاة ، أمر أيضا بتطهير الباطن من لوث السهو والغفلات ، فمن طهر ظاهره من الأوساخ والنجاسات ، ولوّث باطنه بالوساوس والغفلات ، كان بعيدا من حضرة الصلاة إذ لا عبرة بحركة الأبدان ، وإنما المطلوب حضور الجنان.
قال القشيري : وكما أن للظاهر طهارة فللسرائر طهارة ، فطهارة الظاهر بماء السماء ، أي : المطر ، وطهارة القلوب بماء الندم والخجل ، ثم بماء الحياء والوجل ، ويجب غسل الوجه عند القيام إلى الصلاة ، ويجب - فى بيان الإشارة - صيانة الوجه عن التبذل للأشكال عند طلب خسائس الأغراض ، وكما يجب مسح الرأس ، يجب صونه عن التواضع لكل أحد - أي : فى طلب الحظوظ والأغراض - وكما يجب غسل الرجلين فى الطهارة الظاهرة ، يجب صونها - فى الطهارة الباطنة - عن التنقل فيما لا يجوز ه.
وقال عند قوله : وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا : وكما يجب طهارة الأعلى ، أي : الظاهر ، فيقتضى غسل جميع البدن ، فقد يقع للمريد فترة - توجب عليه الاستقصاء فى الطهارة الباطنية - فذلك تجديد عقد وتأكيد عهد ، وكما أنه إذا لم يجد المتطهر الماء ففرضه التيمم ، فكذلك إذا لم يجد المريد من يفيض عليه صوب همته ، ويغسله ببركات إشارته ، اشتغل بما ينشر له من اقتفاء آثارهم ، والاسترواح إلى ما يجد من سالف سيرتهم ، ومأثور حكايتهم. ه.
قلت : محصل كلامه أن من سقط على شيخ التربية ، كان كمن وجد الماء فاستعمل الطهارة الأصلية الحقيقية ، ومن لم يسقط على شيخ التربية ، كان كالمستعمل للطهارة الفرعية المجازية وهى التيمم ، وإلى ذلك أشار الغزالي ، لما سقط على الشيخ ، ولامه ابن العربي الفقيه على التجريد ، فقال :
قد تيممت بالصّعيد زمانا والآن قد ظفرت بالماء
من سرى مطبق الجفون وأضحى فاتحا لا يردّها للعماء(2/13)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 14
ثم قال ، لمّا طلع قمر السّعادة فى ملك الإرادة وأشرقت شمس الوصول على أفق الأصول :
تركت هوى ليلى وسعدى بمعزل وملت إلى علياء أول منزل
فنادتنى الأوطان أهلا ومرحبا ألا أيها السّارى رويدك فانزل
غزلت لهم غزلا رقيقا فلم أجد لغزلى نسّاجا فكسّرت مغزلى
ثم ذكّرهم الحق جل جلاله العهد الذي أخذه عليهم فى الجهاد والطاعة ، حين بايعوا نبيه - عليه الصلاة السّلام - فى العقبة وغيرها ، فقال :
[سورة المائدة (5) : آية 7]
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)
يقول الحق جل جلاله : وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بالهداية والعز والنصر ، وَاذكروا مِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ حين بايعتم نبيه فى بيعة العقبة وبيعة الرضوان على الجهاد وإظهار الدين ، وعلى السمع والطاعة فى المنشط والمكره ، حين قُلْتُمْ له : سَمِعْنا وَأَطَعْنا فيما تأمرنا به فى عسرنا ويسرنا ، فى منشطنا ومكر هنا ، وَاتَّقُوا اللَّهَ فى نقض العهود ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي : خفياتها ، فيجازيكم عليها ، فضلا عن جليات أعمالكم ، والمقصود : الترغيب فى الجهاد الذي هو من كمال الدين.
الإشارة : يقال للفقراء الذين منّ اللّه عليهم بصحبة شيوخ التربية ، وأخذوا عنهم العهد ألا يخالفوهم : اذكروا نعمة اللّه عليكم ، حيث يسّر لكم من يسيركم إلى حضرة ربكم ، ويعرفكم به ، وغيركم يقول : إنه معدوم ، أو خفى لا يعرفه أحد ، وهذا الكنز الذي سقطتم عليه ، قلّ من وجده ، واذكروا أيضا ميثاقه الذي واثقه عليكم ألا تخالفوهم ، ولو أدى الأمر إلى حتف أنفكم.
كان شيخ شيوخنا - سيدى العربي بن عبد اللّه ، يقول : الفقير الصادق ، هو الذي إذا قال له شيخه : ادخل فى عين الإبرة ، يقوم مبادرا يحاول ذلك ، ولا يتردد. وقال أيضا : (صاحبى هو الذي نقتله بشعرة) ، وقد تقرر أن من قال لشيخه : لم ، لا يفلح ، وهذا أمر مقرر فى علم التربية كما فى قضية الخضر مع سيدنا موسى - عليه السّلام - .
واتقوا اللّه فى اعتقاد مخالفتهم سرا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فإن الاعتراض سرا أقبح لأنه خيانة ، فليبادر المريد بالتوبة منه ويغسله من قلبه. واللّه تعالى أعلم.(2/14)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 15
ولما كان الجهاد لا يقوم إلا بنصب الإمام ، ذكر ما يتعلق به من العدل فى الأحكام ، فقال :
[سورة المائدة (5) : الآيات 8 الى 10]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10)
قلت : (وعد) : يتعدى إلى مفعولين ، وحذف هنا الثاني ، أي : وعدهم أجرا عظيما ، دل عليه الجملة بعده.
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عامّ أريد به خاص ، وهم أولوا الأمر منهم ، الذين يلون الحكم بين الناس ، وما تقدم فى سورة النساء «1» باق على عمومه ، أي : كُونُوا قَوَّامِينَ على من تحت حكمكم ، راعين لهم فإنكم مسئولون عن رعيتكم ، وكونوا مخلصين لِلَّهِ فى قيامكم وولايتكم ، شُهَداءَ على أنفسكم بالعدل ، تشهدون عليها بالحق إن توجه عليها ، ولا تمنعكم الرئاسة من الإنصاف فى الحق ، إن توجه عليكم ، أو على أقاربكم وأصدقائكم ، ولا على عدوكم وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ أي : ولا يحملنكم شَنَآنُ قَوْمٍ أي : شدة بغضهم لكم ، عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا فيهم ، فتمنعوهم من حقهم ، أو تزيدوا فى نكالهم ، تشفيا وغيظا.
اعْدِلُوا هُوَ أي : العدل أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ، قال البيضاوي : صرح لهم بالأمر بالعدل ، وبيّن أنه بمكان من التقوى بعد ما نهاهم عن الجور ، وبين أنه مقتضى الهوى. فإذا كان هذا العدل مع الكفار ، فما بالك مع المؤمنين؟.
ه وَاتَّقُوا اللَّهَ ولا تراقبوا سواه ، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ فيجازى كلّا على عمله ، من عدل أو جور.
ثم ذكر ثواب من امتثل ، فقال : وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ، وأفضل الأعمال : العدل فى الأحكام. قال عليه الصلاة السّلام : «المقسطون على منابر من نور يوم القيامة» «2» ... الحديث ، وهو من السبعة الذين يظلهم اللّه فى ظله.
ثم ذكر وعيد ضدهم ، فقال : وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ كما هو عادته تعالى ، يشفع بضد الفريق الذي يذكر أولا ، وفاء لحق الدعوة ، وفيه مزيد وعد للمؤمنين وتطييب لقلوبهم. وهذه الآية فى مقابلة قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ «3» وتكميل لها. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) فى قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ... الآية 135.
(2) أخرجه مسلم فى (الإمارة ، باب فضيلة الإمام العادل ..) من حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص.
(3) من الآية 58 من سورة النساء.(2/15)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 16
الإشارة : أمر الحق جل جلاله شيوخ التربية أن يعدلوا بين الفقراء فى النظرة والإمداد ، ولا يحملهم سوء أدب أحدهم ، أو قلة محبته وصدقه ، أن يبعده أو يمقته لأن قلوبهم صافية ، لا تحمل الكدر ، فهم يحسنون إلى من أساء إليهم من العوام ، فضلا عن أصحابهم فهم مأمورون بالتسوية بينهم فى التذكير والإمداد. واللّه تعالى يقسم بينهم على قدر صدقهم ومحبتهم ، كما قال صلّى اللّه عليه وسلّم : «إنما أنا قاسم واللّه معطى» أي : إنما أنا أبين كيفية التوصل إلى الحق ، واللّه - تعالى - يتولى إعطاء ذلك لمن يشاء من خلقه ، فالأنبياء والأولياء مثلهم فى بيان الطريق بالوعظ والتذكير ، كمن يبين قسمة التركة بالقلم ، والحاكم هو الذي يوصل إلى كل واحد من الورثة ما كان ينوبه فى التركة ، كذلك المذكّر والمربى ، يبين المقامات ، واللّه يعطى ذلك بحكمته وفضله. واللّه تعالى أعلم.
ثم أمر نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم بشكر نعمة حفظه ورعايته ، وتنسحب على الأمراء من بعده ، إذ لا يخلو أحد منهم من عدو أو حاسد ، فقال :
[سورة المائدة (5) : آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بحفظه إياكم من عدوكم إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أي : حين همّ الكفار أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بالقتل ، فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ، ولما كانت مصيبة قتل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم - لو قتل - تعمّ المؤمنين كلهم ، خاطبهم جميعا ، وهى إشارة إلى ما همت به بنو قريظة ، من قتله صلّى اللّه عليه وسلّم ، وذلك أنه صلّى اللّه عليه وسلّم أتى بنى قريظة ، ومعه الخلفاء الأربعة يستعينهم فى دية رجلين مسلمين ، قتلهما عمرو بن أمية الضمري ، خطأ ، يظنهما مشركين ، فقالوا : نعم يا أبا القاسم ، قد آن لنا أن نعينك فاجلس حتى تطعم ، فأجلسوه ، وهموا بقتله ، فعمد عمرو بن جحاش إلى رحى عظيمة ليطرحها عليه ، فأمسك اللّه يده ، ونزل جبريل فأخبره ، فخرج النّبى صلّى اللّه عليه وسلّم إلى المدينة ولحقه أصحابه ، وهذا كان سبب قتلهم فى غزوة بنى قريظة.
وقيل : نزلت فى قضية غورث ، وذلك أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان ببطن نخلة حاصرا لغطفان ، فقال رجل منهم : هل لكم فى أن أقتل محمدا فأفتك به؟ قالوا : وددنا ذلك. فأتى النبىّ صلّى اللّه عليه وسلّم متقلدا سيفه ، فوجد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم نازلا تحت شجرة قد تفرق أصحابه عنه ، وقد علق سيفه فى الشجرة ، فسله الأعرابى وقال : من يمنعك منى؟ وفى رواية : وجد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم نائما فاستل السيف ، فما استيقظ النبي إلا والسيف فى يد الأعرابى ، فقال : من يمنعك منى يا محمد؟ فقال : «اللّه» ، فأسقطه جبريل من يده ، وأخذه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : «وأنت ، من يمنعك منى؟» فقال : كن خير آخذ ، فعفى عنه - عليه الصلاة السّلام «1» - . زاد البيضاوي : أنه أسلم.
___________
(1) أخرجه القصة : البخاري فى (الجهاد ، باب من علق سيفه بالشجر) وفى مواضع أخرى ، ومسلم فى (الفضائل ، باب توكله صلّى اللّه عليه وسلّم على اللّه) عن جابر رضي اللّه عنه.(2/16)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 17
وقيل نزلت فى صلاة الخوف حين همّ المشركون أن يغيروا على المسلمين فى الصلاة. فالله تعالى أعلم.
ثم قال تعالى : وَاتَّقُوا اللَّهَ فلا تشهدوا معه سواه ، وتوكلوا عليه يكفكم أمر عدوكم ، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فإنه يكفيكم أمرهم جلبا ودفعا ، من توكل على اللّه كفاه.
الإشارة : ما جرى على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من قصد القتل والإذاية يجرى على خواص ورثته ، وهم الأولياء - رضى اللّه عنهم - والعلماء الأتقياء ، فقد همّ قوم بقتلهم وسجنهم وضربهم ، وإجلائهم من أوطانهم ، فكف اللّه أيديهم عنهم ، وكفاهم شرهم ، لمّا صححوا التوكل عليه ، وأخلصوا الوجهة إليه ، ومنهم من لحقه شىء من ذلك ، كما لحق بعض الأنبياء - عليهم السّلام - زيادة فى شرفهم وكرامتهم ، جمع اللّه لهم بين مقام الشهادة والصديقية ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
ثم ذكر وبال من نقض العهد ترهيبا وترغيبا ، فقال :
[سورة المائدة (5) : الآيات 12 الى 13]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
قلت : النقيب : هو كبير القوم والمقدّم عليهم ، ينقب عن أحوالهم ويفتش عليها. والخائنة : إما مصدر كالعاقبة واللاغية ، أو اسم فاعل ، والتاء للمبالغة ، مثل : راوية ونسّابة وعلّامة.
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ على أن يجاهدوا مع موسى - عليه السّلام - وينصروه ، ويلتزموا أحكام التوراة ، وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً اخترناهم وقدمناهم ، على كل سبط نقيبا ينقب عن أحوال قومه ، ويقوم بأمرهم ، ويتكفل بهم فيما أمروا به.
روى أن بنى إسرائيل لمّا خرجوا عن فرعون ، واستقروا بأوائل الشام ، أمرهم اللّه تعالى بالمسير إلى بيت المقدس ، وهى فى الأرض المقدسة ، وكان يسكنها الجبابرة الكنعانيون ، وقال : إنى كتبتها لكم دارا وقرارا ، فاخرجوا إليها ، وجاهدوا من فيها من العدو ، فإنى ناصركم. وقال لموسى عليه السّلام : خذ من قومك اثنى عشر نقيبا ، من كل(2/17)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 18
سبط نقيبا ، يكون أمينا وكفيلا على قومه بالوفاء على ما أمروا به. فاختار موسى النقباء ، فسار بهم حتى إذا دنوا من أرض كنعان ، وهى أريحا ، بعث هؤلاء النقباء يتجسسون الأخبار ، ونهاهم أن يحدثوا قومهم بما يرون ، فلما قربوا من الأرض المقدسة رأوا أجراما عظاما وبأسا شديدا ، فهابوا ورجعوا وحدثوا قومهم ، إلا كالب بن يوقنا - من سبط يهوذا - ويوشع بن نون - من سبط إفرائيم بن يوسف - ثم قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ إلى آخر ما يأتى من قصتهم. وأما ما ذكره الثعلبي هنا ، وغيره ، من قصة عوج بن عناق ، فقال القسطلاني : هى باطلة من وضع الزنادقة ، فلا يجوز ذكرها فى تفسير كتاب اللّه الصادق المصدوق.
وَقالَ اللَّهُ لبنى إسرائيل : إِنِّي مَعَكُمْ بالنصر والمعونة لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي التي أرسلت بعد موسى وَعَزَّرْتُمُوهُمْ أي : نصرتموهم وقويتموهم ، وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً بالإنفاق فى سبل الخير ، لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ أي : أستر عنكم ذنوبكم فلا نفضحكم بها ، وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ العهد المؤكد ، المعلق عليه هذا الوعد العظيم ، فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي : تلف عن وسط الطريق ، تلفا لا شبهة فيه ولا عذر معه ، بخلاف من كفر قبل أخذ العهد فيمكن أن تكون له شبهة ، ويتوهم له معذرة.
ثم إن بنى إسرائيل نقضوا المواثيق التي أخذت عليهم ، فكفروا وقتلوا الأنبياء ، قال تعالى : فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ أي : طردناهم وأبعدناهم ، أو مسخناهم ، وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً أي : يابسة صلبة لا ينفع فيها الوعظ والتذكير ، أو رديّة مغشوشة بمرض الذنوب والكفر.
ثم بيّن نتيجة قسوة قلوبهم فقال : يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ لفظا أو تأويلا. ولا قسوة أعظم من الجرأة على تغيير كتاب اللّه وتحريفه ، وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ أي : تركوا نصيبا واجبا مما ذكروا به من التوراة.
فلو عملوا بما ذكّرهم اللّه فى التوراة ما نقضوا العهود وحرّفوا كلام اللّه من بعد ما علموه ، لكن رين الذنوب والانهماك فى المعاصي ، غطت قلوبهم فقست ويبست ، وَلا تَزالُ يا محمد تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ أي : خيانة مِنْهُمْ أو على طائفة خائنة منهم ، لأن الخيانة والغدر من عادتهم وعادة أسلافهم ، فلا تزال ترى ذلك منهم إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ لم يخونوا ، وهم الذين أسلموا منهم ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ حتى يأتيك أمر اللّه فيهم ، أو إن تابوا وآمنوا ، أو إن عاهدوا والتزموا الجزية ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ إلى عباده كيفما كانوا. ومن الإحسان إليهم :
جبرهم على الإيمان بالسيف وسوقهم إلى الجنة بسلاسل الامتحان.
الإشارة : قد أخذ اللّه على هذه الأمة أن يلتزموا أحكام القرآن ، ويحافظوا على مراسم الإسلام والإيمان ، ويجاهدوا نفوسهم فى تحصيل مقام الإحسان ، وبعث من يقوم ببيان شرائع الإسلام والإيمان ، ومن يعرف الطريق إلى مقام الإحسان ، وقال اللّه لهم : (إنى معكم) بالنصر والتأييد ، لئن أقمتم شرائع الإسلام ، وحققتم قواعد الإيمان ، وعظمتم من يعرفكم بطريق الإحسان ، لأغطين مساوئكم ، ولأمحقن دعاويكم ، فأوصلكم بما منى إليكم من الكرم(2/18)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 19
والجود ، ولأدخلنكم جنة المعارف تجرى من تحتها أنهار العلوم وأنواع الحكم ، فمن لم يقم بهذا ، أو جحده فقد ضل عن طريق الرشاد ، ومن نقض عهد الشيوخ المعرفين بمقام الإحسان ، فقد طرد وأبعد غاية الإبعاد ، وقسا قلبه بعد اللين. وقد ذكرنا فى تفسير الفاتحة الكبير معنى النقباء والنجباء وسائر مراتب الأولياء ، وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ولما ذكر نقض اليهود ذكر نقض النصارى ، فقال :
[سورة المائدة (5) : آية 14]
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14)
يقول الحق جل جلاله : وأخذنا أيضا عهدا وميثاقا من النصارى ، الذين سموا أنفسهم نصارى ادعاء لنصرة عيسى عليه السّلام ولم يقوموا بواجب ذلك عملا واعتقادا ، أخذناه عليهم بالتزام أحكام الإنجيل ، وأن يؤمنوا بالله وحده لا شريك له ، ولا صاحبة ولا ولد ، وأن يؤمنوا بمحمد - عليه الصلاة والسّلام - إن أدركوه ويتبعوه ، فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ أي : نسوا ما ذكرناهم به ، وتركوا حظا واجبا مما كلفوا به ، فَأَغْرَيْنا أي : سلطنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ، فهم يقتتلون فى البر والبحر ، ويتحاربون إلى يوم القيامة ، فكل فرقة تلعن أختها وتكفرها ، أو بينهم وبين اليهود ، فالعداوة بينهم دائمة ، وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ بالجزاء والعقاب.
الإشارة : يؤخذ من الآية أن من نقض العهد مع اللّه بمخالفة ما أمره به أو نهاه عنه ، أو مع أولياء اللّه ، بالانتقاد عليهم وعدم موالاتهم ، ألقى اللّه فى قلب عباده العداوة والبغضاء له ، فيبغضه اللّه ، ويبغضه عباد اللّه ، ومن أوفى بما أخذه اللّه عليه من العهد بوفاء ما كلفه به ، واجتناب ما نهاه عنه ، وتودد إلى أوليائه ، ألقى اللّه فى قلب عباده المحبة والوداد ، فيحبه اللّه ، ويحبه عباد اللّه ، ويتعطف عليه أولياء اللّه ، كما فى الحديث : «إذا أحبّ اللّه عبدا نادى جبريل ، إنّ اللّه يحبّ فلانا فأحبّه ، فيحبّه جبريل. ثم ينادى فى الملائكة : إن اللّه يحبّ فلانا فأحبّوه.
فيحّبه أهل السّماء ، ثم يلقى له القبول فى الأرض» «1» ... الحديث.
___________
(1) أخرجه البخاري فى (الأدب ، باب المقة «المحبه» من اللّه) ومسلم فى (البر والصلة ، باب إذا أحب اللّه عبدا حببه إلى عباده) من حديث أبى هريرة رضى اللّه عنه.(2/19)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 20
ثم دعا أهل الكتابين إلى الإيمان برسوله صلّى اللّه عليه وسلّم ، فقال :
[سورة المائدة (5) : الآيات 15 الى 16]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
قلت : الضمير فى : (به) ، يعود إلى النور والكتاب ، ووحّده لأن المراد به شىء واحد ، لأن النور هو الكتاب المبين ، أو لأنهما جنس واحد.
يقول الحق جل جلاله : يا أَهْلَ الْكِتابِ اليهود والنصارى قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ كصفة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، وآية الرجم التي فى التوراة ، وكبشارة عيسى بأحمد التي فى الإنجيل ، وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ مما تخفونه وتحرفونه ، فلم يخبر به ، ولم يفضحكم ، حيث لم يؤمر به ، أو عن كثير منكم ، فلا يؤاخذه بجرمه وسوء أدبه معه.
قَدْ جاءَكُمْ يا أهل الكتاب مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ ، عطف تفسير ، فالنور هو الكتاب المبين ، أو النور : محمد - عليه الصلاة السّلام - والكتاب المبين : القرآن لأنه الكاشف لظلمات الشك والضلال ، والواضح الإعجاز والبيان ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ أي : من اتبع رضى اللّه بالإيمان به ، والعمل بما فيه ، سُبُلَ السَّلامِ أي : طرق السلامة من العذاب ، أو طرق اللّه الموصلة إليه ، وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ من ظلمات الكفر ، إلى نور الإسلام بِإِذْنِهِ أي : بإرادته وتوفيقه ، وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي :
طريق توصلهم إليه لاعوج فيها.
الإشارة : قد أطلع اللّه علماء الباطن على مقامات علماء الظاهر وأحوالهم وجل مساوئهم ، ولا سيما من كان عالما بالظاهر ثم انتقل إلى علم الباطن ، كالغزالى وابن عباد وغيرهما. فقد تكلم الغزالي فى صدر الإحياء مع علماء الظاهر ، ففضح كثيرا من مساوئهم. وكذلك ابن عباد فى شرح الحكم ، وعفوا عن كثير - فهم على قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وخواص ورثته ، لأنهم حازوا الوراثة كلها ، كما فى المباحث :
تبعة العالم فى الأقوال والعابد الزّاهد فى الأفعال
وفيهما الصّوفىّ فى السباق لكنّه قد زاد بالأخلاق(2/20)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 21
فالولى نور من نور اللّه ، وسر من أسراره ، يخرج به من سبقت له العناية من ظلمات الحجاب إلى نور الشهود ، ويهدى به من اصطفاه لحضرته تعالى طريق الوصول إليه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر مساوئ أهل الكتاب وضلالتهم ، تحريضا على قتالهم إن لم يسلموا أو يعطوا الجزية ، فقال :
[سورة المائدة (5) : آية 17]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
يقول الحق جل جلاله : لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ، والقائل بهذه المقالة هى الطائفة اليعقوبية من النصارى ، كما تقدم. وقيل : لم يصرح بهذه المقالة أحد منهم. ولكن لزمهم حيث قالوا بأن اللاهوت حل فى ناسوت عيسى - مع أنهم يقولون الإله واحد ، فلزمهم أن يكون هو المسيح ، ولزمهم الاتحاد والحلول فنسب إليهم لازم قولهم ، توضيحا لجهلهم ، وتقبيحا لمعتقدهم.
ثم رد عليهم بقوله : قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي : من يمنع من قدرته وإرادته شيئا ، إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ، وبيان الرد عليهم : أن المسيح مقدور ومقهور ، قابل للفناء كسائر الممكنات ، ومن كان كذلك فهو معزول عن الألوهية. ثم أزال شبهتهم بحجة أخرى فقال : وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يتصرف فيهما كيف شاء ، يَخْلُقُ ما يَشاءُ ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فقدرته عامة فيخلق من غير أصل كالسموات والأرض ، ومن أصل كخلق ما بينهما ، وينشىء من أصل ليس هو جنسه كآدم وكثير من الحيوانات ، ومن أصل يجانسه ، إما من ذكر وحده كحواء ، أو من أنثى وحدها :
كعيسى ، أو منهما كسائر الناس. قاله البيضاوي.
الإشارة : قد رمى كثير من الأولياء المحققين بالاتحاد والحلول كابن العربي الحاتمي ، وابن الفارض ، وابن سبعين ، والششترى والحلاج ، وغيرهم - رضى اللّه عنهم - وهم برءاء منه. وسبب ذلك أنهم لما خاضوا بحار التوحيد ، وكوشفوا بأسرار التفريد ، أو أسرار المعاني قائمة بالأوانى ، سارية فى كل شىء ، ماحية لكل شىء ، كما قال فى الحكم : «الأكوان ثابتة بإثباته ممحوة بأحدية ذاته» فأرادوا أن يعبروا عن تلك المعاني فضاقت عبارتهم عنها لأنها خارجة عن مدارك العقول ، لا تدرك بالسطور ولا بالنقول. وإنما هى أذواق ووجدان فمن عبّر عنها(2/21)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 22
بعبارة اللسان كفّر وزندق ، وهذه المعاني هى الخمرة الأزلية التي كانت خفية لطيفة ، ثم ظهرت محاسنها ، وأبدت أنوارها وأسرارها ، وهى أسرار الذات وأنوار الصفات ، فمن عرفها وكوشف بها. اتحد عنده الوجود ، وأفضى إلى مقام الشهود. وهى منزهة عن الحلول والاتحاد ، إذ لا ثانى لها حتى تحل فيه أو تتحد معه ، وقد أشرت إلى هذا المعنى فى تائيتى الخمرية ، حيث قلت :
تنزّهت عن حكم الحلول فى وصفها فليس لها سوى فى شكله حلّت
تجلّت عروسا فى مرائى جمالها وأرخت ستور الكبرياء لعزّتى
فما ظاهر فى الكون غير بهائها وما احتجبت إلا لحجب سريرتى
فمن كوشف بأسرار هذه الخمرة ، لم ير مع الحق سواه. كما قال بعض العارفين : (لو كلفت أن أرى غيره لم أستطع فإنه لا غير معه حتى أشهده). ولو أظهرها اللّه تعالى للكفار لوجدوا أنفسهم عابدة لله دون شىء سواه ، وفى هذا المعنى يقول ابن الفارض على لسان الحقيقة :
فما قصدوا غيره وإن كان قصدهم سواى وإن لم يظهروا عقد نيّة
والنصارى - دمرهم اللّه فى مقام الفرق والضلال - حملهم الجهل والتقليد الردىّ على مقالالتهم التي قالوا فى عيسى عليه السّلام.
ثم ذكر مقالة أخرى لليهود والنصارى ، فقال :
[سورة المائدة (5) : آية 18]
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
يقول الحق جل جلاله : وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ أي : أولاد بنيه فاليهود يقولون :
نحن أولاد عزير ، والنصارى يقولون : نحن أشياع عيسى. أو : فينا أبناء اللّه ونحن أحباؤه ، أو : نحن مقربون عند اللّه كقرب الولد من والده. وهذه دعوى ردّها عليهم بقوله : قُلْ لهم : فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ، وهل رأيتم والدا يعذب ابنه ، وقد عذبكم فى الدنيا بالمسخ والقتل والذل ، وقد اعترفتم أنه يعذبكم بالنار أياما معدودة ، بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ أي : ممن خلقه اللّه ، يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ بفضله وهو من آمن منهم بالله ورسله ، وَيُعَذِّبُ مَنْ(2/22)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 23
يَشاءُ
بعدله وهو من مات منهم على كفره ، فأنتم كسائر البشر يعاملكم معاملتهم ، لا مزية لكم عليهم ، وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما كلها سواء فى كونها ملكا وعبيدا اللّه - سبحانه - وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ، فيجازى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ، فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقى.
الإشارة : قوله تعالى : فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ
أي : فلو كنتم أحباءه لما عذبكم لأن الحبيب لا يعذب حبيبه ، حكى عن الشبلي رضى اللّه عنه أنه كان إذا لبس ثوبا جديدا مزقه ، فأراد ابن مجاهد أن يعجزه بمحضر الوزير ، فقال له :
أين تجد فى العلم فساد ما ينتفع به؟ فقال له الشبلي : أين فى العلم : فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ «1»؟
فسكت ، فقال له الشبلي : أنت مقرىء عند الناس ، فأين فى القرآن : إن الحبيب لا يعذب حبيبه؟ فسكت ابن مجاهد ، ثم قال : قل يا أبا بكر ، فقرأ له الشبلي قوله تعالى وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ، فقال ابن مجاهد : كأنى واللّه ما سمعتها قط. ه.
وفى الحديث : «إذا أحب اللّه عبدا لا يضرّه ذنب» ، ذكره فى القوت. وفى المثل الشائع : (من سبقت له العناية لا تضره الجناية). وفى الصحيح : «لعلّ اللّه اطّلع على أهل بدر فقال : افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم» «2» ، وسببه معلوم ، وفى القوت عن زيد بن أسلم : (إن اللّه - عز وجل - ليحب العبد حتى يبلغ من حبه له أن يقول له : اصنع ما شئت فقد غفرت لك). وفى القصد للشيخ أبى الحسن الشاذلى - رضي اللّه عنه - قال : يبلغ الولي مبلغا يقال له :
أصحبناك السلامة ، وأسقطنا عنك الملامة ، فاصنع ما شئت. ه.
وليس معناه إباحة الذنوب ، ولكنه لمّا أحبه عصمه أو حفظه ، وإذا قضى عليه بشىء ألهمه التوبة ، وهى ماحية للذنوب ، وصاحبها محبوب ، قال تعالى : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ. واللّه تعالى أعلم.
ثم دعاهم إلى اتباع رسوله - عليه الصلاة والسّلام ، فقال :
[سورة المائدة (5) : آية 19]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
قلت : جملة (يبين) : حال ، أي : جاءكم رسولنا مبينا لكم ، و(على فترة) : متعلق بجاء ، أي : جاءكم على حين فترة وانقطاع من الوحى ، و(أن تقولوا) : مفعول من أجله ، أي : كراهية أن تقولوا.
يقول الحق جل جلاله : يا أَهْلَ الْكِتابِ اليهود والنصارى قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم يُبَيِّنُ لَكُمْ ما اختلفتم فيه ، أو ما كتمتم من أوامر الدين ، أو مطلق البيان. جاءكم عَلى حين فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ
___________
(1) من الآية 33 من سورة (ص).
(2) حديث صحيح أخرجه البخاري فى (المغازي - باب فضل من شهد بدرا) ومسلم فى (فضائل الصحابة ، باب من فضائل أهل بدر) عن سيدنا على رضي اللّه عنه.(2/23)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 24
وانقطاع من الوحى ، أرسلناه كراهية أَنْ تَقُولُوا يوم القيامة : ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ ، فتعتذروا بذلك ، فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ فلا عذر لكم ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على الإرسال من غير فترة ، كما فى أنبياء بنى إسرائيل فقد كان بين موسى وعيسى ألف نبى ، وبينهما ألف وسبعمائة سنة ، وعلى الإرسال على الفترة كما بين عيسى ومحمد صلّى اللّه عليه وسلّم. كان بينهما ستمائة سنة ، أو خمسمائة سنة وتسع وستون سنة. قاله البيضاوي.
والذي فى الصحيح : أن الفترة ستمائة سنة «1» ، وفى الصحيح أيضا عنه - عليه الصلاة السّلام - : «أنا أولى النّاس بعيسى فى الأولى والآخرة وليس بيننا نبى» «2». وهو يرد ما حكاه الزمخشري وغيره : أن بينهما أربعة أنبياء : ثلاثة من بنى إسرائيل وواحد من العرب ، وهو خالد بن سنان العبسي لأن النكرة فى سياق النفي تعم. قاله المحشى.
الإشارة : ظهور أهل التربية بعد زمان الفترة ، وخمود أنوار الطريقة وأسرار الحقيقة ، حجة على العباد ، ونعمة كبيرة على أهل العشق والوداد ، من انتكب عنهم لقى اللّه بقلب سقيم ، وقامت بهم الحجة عليهم عند الملك الكريم ، ومن اتبعهم وحط رأسه لهم فاز بالخير الجسيم ، والنعيم المقيم حيث لقى اللّه بقلب سليم ، وقد ظهروا فى زماننا هذا بعد اندراس أنوار الطريقة ، وخمود أسرار الحقيقة ، فجدد اللّه بهم الطريقة ، وأحيا بهم أسرار الحقيقة ، منهم شيخنا أبو المواهب صاحب العلوم اللدنية والأسرار الربانية ، البحر الفياض ، سيدى محمد بن أحمد البوزيدى الحسنى ، وشيخه القطب الواضح ، والجبل الراسخ ، شيخ المشايخ ، مولاى العربي الدرقاوى الحسنى ، أطال اللّه بركاتهما للأنام ، فقد تخرج على أيديهما الجم الغفير من الأولياء. وليس الخبر كالعيان. وبالله التوفيق.
ثم ذكّرهم بالنعم على لسان نبيه موسى - عليه السّلام - فقال :
[سورة المائدة (5) : آية 20]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20)
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ : يا بنى إسرائيل اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ يسوسونكم ، كلما مات نبى خلفه نبى ، فقد شرفكم بهم دون غيركم ، إذ لم يبعث فى أمة ما بعث فى بنى إسرائيل من الأنبياء ، وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً أي : جعل منكم ملوكا ، وقد تكاثر فيهم الملوك تكاثر الأنبياء ، فكان كل نبى معه ملك ينفذ أحكامه ، فكانت دار النبوة ودار المملكة معلومة ، يخلف بعضهم بعضا فى النبوة والملك ، استمر ذلك لهم ، حتى قتلوا يحيى ، وهموا بقتل عيسى ، فنزع اللّه منهم الملك ، وأنزل عليهم الذل والهوان.
وقيل : لمّا كانوا مملوكين فى أيدى القبط ، فأنقذهم اللّه وجعلهم مالكين لأنفسهم ، سماهم ملوكا.
___________
(1) جاء ذلك فيما أخرجه البخاري فى (مناقب الأنصار - باب إسلام سلمان الفارسي رضي اللّه عنه) عن سلمان قال : (فتره بين عيسى ومحمد صلّى اللّه عليهما - ستمائة سنة).
(2) أخرجه البخاري فى (كتاب الأنبياء ، باب : واذكر فى الكتاب مريم) ومسلم فى (الفضائل ، باب فضائل عيسى عليه السّلام) عن أبى هريرة رضي اللّه عنه.(2/24)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 25
وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ من فلق البحر ، وتظليل الغمام ، وإنزال المن والسلوى ، ونحوها ، أو المراد عالمى زمانهم ، وعن أبى سعيد الخدري قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : «كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم وامرأة يكتب ملكا» «1». وقال ابن عباس : (من كان له بيت وخادم وامرأة فهو ملك) ، وعن أبى الدرداء قال : قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : «من أصبح معافى فى بدنه ، آمنا فى سربه ، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ، يكفيك منها ، يا ابن آدم ، ما سدّ جوعتك ، ووار عورتك ، فإن كان بيت يواريك فذاك ، وإن كانت دابة فبخ بخ ، فلق الخبز ، وماء الجر «2» وما فوق الإزار حساب عليك» «3».
وقال الضحاك : (كانت منازلهم واسعة ، فيها مياة جارية ، فمن كان مسكنه واسعا وفيه ماء جار ، فهو ملك).
وقال قتادة : كانوا أول من ملك الخدم ، وأول من سخر لهم الخدم من بنى آدم. ه.
الإشارة : كل من رزقه اللّه من يأخذ بيده ومن يستعين به على ذكر ربه ، فليذكر نعمة اللّه عليه ، فقد أسبغ اللّه عليه نعمه ظاهرة وباطنة. وكل من ملك نفسه وهواه ، وأغناه اللّه عما سواه ، فهو ملك من الملوك. وكل من خرجت فكرته عن دائرة الأكوان ، واتصل بفضاء الشهود والعيان ، فقد آتاه اللّه ما لم يؤت أحدا من العالمين. وقد كنت ذات يوم جالسا فى الجامع الأعظم من مدينة تطوان ، فانتبهت فإذا مصحف إلى جنبى ، فقال لى الهاتف :
انظر تجد مقامك ، فأعرضت عنه ، فأعاد علىّ الهاتف ثلاث مرات ، فرفعته ، ونظرت ، فإذا فى أول الورقة :
وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ ، فحمدت اللّه تعالى وأثنيت عليه.
ثم أمرهم بجهاد عدوهم ، فقال :
[سورة المائدة (5) : الآيات 21 الى 26]
يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25)
قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26)
___________
(1) عزاه السيوطي فى الدر المنثور لابن أبى حاتم ، عن أبى سعيد الخدري.
(2) الجرّ والجرار : جمع جرة : وهو الإناء المعروف من الفخار.
(3) أخرجه إلى قوله : (حيزت له الدنيا) البخاري فى الأدب المفرد (باب من أصبح أمنا فى سربه) والترمذي فى (الزهد باب 34) وابن ماجه فى (الزهد ، باب القناعة)(2/25)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 26
قلت : (فتنقلبوا) : منصوب بأن فى جواب النهى ، أو عطف على المجزوم ، و(ما داموا) : بدل من (أبدا) بدل بعض ، و(أخى) يحتمل النصب عطف على (نفسى) ، أو رفع عطف على (أن) مع اسمها ، أو مبتدأ حذف خبره ، أو جر عطف على ياء المضاف ، على مذهب الكوفيين.
يقول الحق جل جلاله حاكيا عن موسى - عليه السّلام - : يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ أرض بيت المقدس ، قدسها اللّه ، حيث جعلها قرار أنبيائه ومسكن المؤمنين. وفى مدحها أحاديث كثيرة. وقيل : الطور وما حوله ، أو دمشق وفلسطين ، أو الشام ، الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي : التي كتب اللّه فى اللوح المحفوظ ، أنها لكم مسكنا إن جاهدتم وأطعتم نبيكم ، وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ أي : لا ترجعوا مدبرين هاربين خوفا من الجبابرة ، أو : لا ترتدوا عن دينكم بالعصيان ، وعدم الوثوق بالله ، فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ الدنيا والآخرة. روى أنهم لما سمعوا حالهم من النقباء بكوا ، وقالوا : ليتنا متنا بمصر ، تعالوا نجعل علينا رأسا ينصرف بنا إلى مصر ، ثم قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ أقوياء متغالبين ، لا طاقة لنا بمقاومتهم ، وهم قوم من العمالقة ، من بقية قوم عاد ، وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها بأمر سماوى ، أو يسلط عليهم من يخرجهم من غيرنا ، فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ فيها.
قالَ رَجُلانِ كالب بن يوقنّا ، ويوشع بن نون - ابن اخت موسى وخادمه - مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ اللّه ، أو رجلان من الجبابرة أسلما وصارا إلى موسى ، وعليه قراءة يخافان بضم الياء ، أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بالإسلام والتثبت ، قالا : ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ أي : باب المدينة ، أي : باغتوهم بالقتال ، فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ أي : ظاهرون عليهم ، فإنهم أجسام لا قلوب فيها. يحتمل أن يكون علمهما بذلك من قبل موسى ، أو من قوله تعالى : الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ، أو من عادته سبحانه فى نصر رسله وأوليائه ، وما عهدا من صنيعه تعالى مع موسى من قهر أعدائه. ثم قال : وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ به ، ومصدقين لوعده.
قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها ، وهذا من تعنتهم وعصيانهم ، وأشنع منه قولهم :
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ، قالوه استهزاء بالله ورسوله وعدم مبالاة بهما ، وانظر فضيلة الأمة(2/26)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 27
المحمدية ، وكمال أدبها مع نبيها - عليه الصلاة والسّلام - فإن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال يوم الحديبية لأصحابه حين صد عن البيت : إنى ذاهب بالهدى فناحره عند البيت ، فقال المقداد بن الأسود : أما واللّه ما تقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ، ولكن نقاتل عن يمينك وشمالك ، ومن بين يديك ومن خلفك ، ولو خضت البحر لخضناه معك ، ولو تسنمت جبلا لعلوناه معك ، ولو ذهبت بنا إلى برك الغماد لتبعناك ، فلما سمعها أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم تابعوه على ذلك ، فسر صلّى اللّه عليه وسلّم بذلك وأشرق وجهه «1». ه.
ولما سمع موسى عليه السّلام مقالة قومه له غضب ، ودعا ربه فقال : رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي أي :
لا أثق إلا بنفسي وأخى ، ولا قدرة لى على غيرهما ، والرجلان المذكوران ، وإن كانا موافقين له ، لكنه لم يوثق عليهما ، لما كبد من تلوّن قومه ، ثم دعا عليهم فقال : فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ أي : احكم بيننا وبينهم بما يستحق كل واحد منا ومنهم ، أو بالتبعيد بيننا وبينهم ، وتخليصنا من صحبتهم.
روى أنه لما دعا عليهم ظهر فوقهم الغمام ، وأوحى اللّه إليه : يا موسى إلى متى يعصى هذا الشعب؟ لأهلكنهم جميعا ، فشفع فيهم موسى عليه السّلام فقال اللّه تعالى له : قد غفرت لهم بشفاعتك ، ولكن بعد ما سميتهم فاسقين ، ودعوت عليهم ، بي حلفت لأحرمنّ عليهم دخول الأرض المقدسة ، وذلك قوله تعالى : قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ يحتمل أن يكون «أربعين» متعلقا بمحرمة ، فيكون التحريم عليهم مؤقتا غير مؤبد فيوافق ظاهر قوله : الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ.
ويؤيد هذا ما روى أن موسى - عليه السّلام - لما خرج من التيه ، سار بمن بقي معه من بنى إسرائيل ، ويوشع على مقدمته ، ففتح بيت المقدس ، فبقى فيها ما شاء اللّه ، ثم قبض. ويحتمل أن يكون «أربعين» متعلقا ب (يتيهون) ، فيكون التحريم مؤبدا ، وعلى هذا لم يبق أحد ممن دخل التيه إلا يوشع وكالب ، ولم يدخل الأرض المقدسة أحد ممن قال له : (اذهب أنت وربك ...) ، بل كلهم هلكوا فى التيه ، وإنما دخلها أشياعهم.
روى أن موسى عليه السّلام لما حضره الموت فى التيه أخبرهم بأن يوشع بعده نبى ، وأن اللّه أمره بقتال الجبابرة ، فسار بهم يوشع ، وقاتل الجبابرة ، وكان القتال يوم الجمعة ، فبقيت منهم بقية ، وكادت الشمس أن تغرب ليلة السبت ، فخشى أن يعجزوه ، فقال : اللهم اردد الشمس علىّ ، وقال للشمس : إنك فى طاعة اللّه وأنا فى طاعته ، فوقفت مثل يوم حتى قتلهم ، ثم قتل ملوك الأرمانيين ، وقتل من ملوك الشام أحدا وثلاثين ملكا ، فصارت الشام كلها لبنى إسرائيل ، وفرّق عماله فى نواحيها ، وبقيت بنو إسرائيل فى التيه أربعين سنة يتيهون فى الأرض فى ستة فراسخ ، بين فلسطين وأيلة ، متحيرين ، يسيرون من الصباح إلى المساء جادين فى السير ، فإذا هم بحيث ارتحلوا عنه ، ثم
___________
(1) المشهور أن قول المقداد كان يوم بدر. وقال العلامة ابن كثير : وهذا - إن كان محفوظا يوم الحديبية - فيحتمل أنه كرر هذه المقالة يومئذ ، كما قاله يوم بدر. انظر : تفسير ابن كثير.(2/27)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 28
يسيرون بالليل كذلك فيصبحون حيث ارتحلوا ، وكان الغمام يظلهم من الشمس وعمود من نور يطلع بالليل فيضىء لهم ، وكان طعامهم المن والسلوى ، وماؤهم من الحجر الذي يحمله موسى ، واختلف فى الكسوة ، فقيل : أبقى اللّه كسوتهم معجزة لموسى ، وقيل : كساهم مثل الظفر. والأكثر أن موسى وهارون كانا معهم زيادة فى درجاتهما ، وكان عقوبة لقومهما وأنهما ماتا فيه ، مات هارون أولا ودفنه أخوه فى كهف ، وقيل : رفع على سرير فى قبة ، ثم مات موسى - عليه السّلام - ودفن بقرب من الأرض المقدسة ، رمية بحجر ، كما فى الحديث ، ثم دخل يوشع الأرض المقدسة بعد ثلاثة أشهر. واللّه تعالى أعلم.
ثم قال تعالى لموسى عليه السّلام : فَلا تَأْسَ أي : لا تحزن ، عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ ، خاطبه الحق تعالى بذلك لمّا ندم على الدعاء عليهم ، فقال له : إنهم أحق بذلك لفسقهم وعصيانهم.
الإشارة : يقول الحق جل جلاله للمتوجهين إليه من المريدين : ادخلوا الحضرة المقدسة التي كتب اللّه لكم ، إن دمتم على جهاد أنفسكم ، وصدقتم فى طلب ربكم ، وبقيتم فى تربية شيوخكم ، ولا ترتدوا على أدباركم بالرجوع عن صحبة شيوخكم من الملل مع طول الأمل ، فتنقلبوا خاسرين ، فإن حضرتى محفوفة بالمكاره ، والطريقة الموصلة إليها مرصودة للقواطع والعوائق ، فإن كان ممن لم يكتب له فيها نصيب ، قال : لن ندخلها أبدا مادام القواطع فيها ، ورجع على عقبيه ، يتيه فى مهامه شكوكه وأوهامه ، وإن كان ممن سبقت له العناية وحقت به الرعاية قال :
ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ ، وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، فيبادر إلى قتل نفسه ، من غير تأن ولا خوف ولا فزع ، فحضرة التحقيق لا ينالها إلا الشجعان ، ولا يسكنها إلا الأكابر من أهل العرفان ، وإلى ذلك أشار صاحب العينية بقوله :
وإيّاك جزعا لا يهولك أمرها فما نالها إلا الشّجاع المقارع
وقال الورتجبي فى قوله تعالى : لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي : من بلغ عين التمكين ملك نفسه وملك نفوس المريدين لأنه عرفها بمعرفة اللّه ، وقمعها من اللّه بسلطان سائس قاهر ، من نظر إليه يفزع من اللّه ، لا يطيق عصيانه ظاهرا وباطنا ، فأخبر عليه السّلام عن محلّ تمكينه وقدرته على نفسه ونفس أخيه ، وأعلمنا أن بينهما اتحادا ، بحيث إنه إذا حكم على نفسه صار «1» نفس أخيه مطمئنة طائعة لله بالانفعال. قال صلّى اللّه عليه وسلّم : «المؤمنون كنفس واحدة» «2». ه.
ثم تكلم الحق جل جلاله على بقية حفظ الأبدان ، فبيّن أول من سنّ القتل ووبال من تبعه ، فقال :
___________
(1) هكذا فى الأصول وكذا فى تفسير الورتجبي ، وأرى أنها (صارت). [.....]
(2) أخرجه مسلم فى (البر والصلة ، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم) عن النعمان بن بشير ، بلفظ : (المؤمنون كرجل واحد ..).(2/28)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 29
[سورة المائدة (5) : الآيات 27 الى 30]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30)
قلت : الضمير فى (عليهم) : لبنى إسرائيل لتقدم شأنهم ، ولاختصاصهم بعلم قصة ابني آدم ، ولإقامة الحجة عليهم بهمهم ببسط اليد إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
يقول الحق جل جلاله : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ أي : على بنى إسرائيل إذ الكلام كان معهم ، أو على جميع الأمة ، أو على جميع الناس ، إذ هو أول الكلام على بقية حفظ الأبدان - نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ وهو قابيل وهابيل بِالْحَقِّ أي :
تلاوة ملتبسة بالحق ، أو نبأ ملتبسا بالحق موافقا لما فى كتب الأوائل.
إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وهو هابيل ، وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ وهو قابيل ، وسبب تقريبهما القربان أن آدم - عليه السّلام - كان يولد له من حواء توأمان فى كل بطن : غلام وجارية ، إلا شيتا ، فإنه ولد منفردا ، وكان جميع ما ولدته حواء أربعين ، بين ذكر وأنثى ، فى عشرين بطنا ، أولهم قابيل ، وتوأمته أقليما ، وآخرهم عبد المغيث ، ثم بارك اللّه فى نسل آدم. قال ابن عباس : لم يمت آدم حتى بلغ ولده ، وولد ولده ، أربعين ألفا ، ورأى فيهم الزنا وشرب الخمر والفساد ، وكان غشيان آدم لحواء بعد مهبطهما إلى الأرض ، وقال ابن إسحاق عن بعض العلماء بالكتاب الأول : إن آدم كان يغشى حواء فى الجنة ، قبل أن يصيب الخطيئة ، فحملت فى الجنة بقابيل وتوأمته ، ولم تجد عليهما وحما ولا غيره ، وحملت فى الأرض بهابيل وتوأمته ، فوجدت عليهما الوحم والوصب والطلق والدم.
وكان آدم إذا كبر ولده يزوج غلام هذا البطن بجارية بطن آخر ، فكان الرجل يتزوج أىّ أخواته شاء إلا توأمته ، لأنه لم يكن نساء يومئذ ، فأمر اللّه تعالى آدم أن يزوج قابيل لوداء توأمة هابيل ، وينكح هابيل أقليما أخت قابيل ، وكانت أحسن الناس ، فرضى هابيل وسخط قابيل ، وقال : أختى أحسن ، وهى من ولادة الجنة ، وأنا أحق بها ، فقال له أبوه : لا تحل لك ، فأبى ، فقال لهما آدم : قربا قربانا ، فأيكما قبل قربانه فهو أحق بها.
وكان قابيل صاحب زرع ، فقرّب حملا من زرع ردىء ، وأضمر فى نفسه : لا أبالى قبل أو لا ، لا يتزوج أختى أبدا ، وكان هابيل صاحب غنم ، فقرّب أحسن كبش عنده ، وأضمر فى نفسه الرضا لله تعالى ، وكانت العادة حينئذ(2/29)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 30
أن تنزل نار من السماء فتأكل القربان المقبول ، وإن لم يقبل لم تنزل ، فنزلت نار من السماء فأكلت قربان هابيل ، وتركت قربان قابيل ، فحسذه ، وقال له : لَأَقْتُلَنَّكَ ، حسدا على تقبل قربانه دونه ، فقال له أخوه : إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ الكفر ، أي : إنما أوتيت من قبل نفسك بترك التقوى ، لا من قبلى ، فلم تقتلنى؟
قال البيضاوي : وفيه إشارة إلى أن الحاسد ينبغى أن يرى حرمانه من تقصيره ، ويجتهد فى تحصيل ما به صار المحسود محظوظا ، لا فى إزالة حظه ، فإن ذلك مما يضره ولا ينفعه ، وأن الطاعة لا تقبل إلا من مؤمن متقى. ه.
وفيه نظر : فإن تقوى المعاصي ليست شرطا فى قبول الأعمال بإجماع أهل السنة ، إلا أن يحمل على تقوى الرياء والعجب. انظر الحاشية.
ثم قال له أخوه هابيل : لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ أي : لئن بدأتنى بالقتل لم أبدأك به ، أو لم أدفعك عنى ، وهل تركه للدفع تورع ، وهو الظاهر ، أو كان واجبا عندهم ، وهو قول مجاهد؟ وأما فى شرعنا : فيجوز الدفع ، بل يجب ، قاله ابن جزى. وقال البيضاوي :
قيل : كان هابيل أقوى منه ، فتحرج عن قتله ، واستسلم له خوفا من اللّه ، لأن الدفع لم يبح بعد ، أو تحريا لما هو الأفضل. قال صلّى اللّه عليه وسلّم : «كن عبد اللّه المقتول ، ولا تكن عبد اللّه القاتل» «1». وإنما قال : (ما أنا بباسط) فى جواب (لئن بسطت) للتبرى من هذا الفعل الشنيع ، والتحرز من أن يوصف به ، ولذلك أكد النفي بالباء. ه.
ثم قال له هابيل : إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ أي : إنى أريد بالاستسلام وعدم الدفع أن تنقلب إلى اللّه ملتبسا بإثمى ، أي : حاملا لإثمى لو بسطت إليك يدى ، وإثمك ببسطك يديك إلىّ ، ونحوه قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «المستبّان ما قالا فعلى البادئ منهما ما لم يعتد المظلوم» «2». أو بإثم قتلى وبإثمك الذي لم يتقبل من أجله قربانك ، أو بسائر ذنوبى فتحملها عنى بسبب قتلك لى فإن الظالم يجعل عليه يوم القيامة ذنوب المظلوم ثم يطرح فى النار ، ولذلك قال : وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ ، يحتمل أن يكون من كلام هابيل ، أو استئناف من كلام اللّه تعالى ، أي : جزاؤهم يوم القيامة أن يحملوا أوزار المظلومين ، ثم يطرحون فى النار ، كما فى حديث المفلس.
ولم يرد هابيل بقوله : إِنِّي أُرِيدُ ، أنه يحب معصية أخيه وشقاوته ، بل قصد بذلك الكلام أنه إن كان القتل لا محالة واقعا فأريد أن يكون لك لا لى ، والمقصود بالذات : ألا يكون له ، لا أن يكون لأخيه. ويجوز أن يكون المراد بالإثم عقوبته. وإرادة عقاب العاصي جائزة. قاله البيضاوي.
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ أي : سهلت له ووسعته ولم تضق منه ، أو طاوعته عليه وزينته له ، فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ دينا ودنيا ، فبقى مدة عمره مطرودا محزونا. قال السدى : لما قصد قابيل قتل هابيل ،
___________
(1) أخرجه بنحوه أحمد فى المسند (5/ 110) من حديث خباب بن الأرت.
(2) أخرجه مسلم فى (البر والصلة ، باب النهى عن السباب) عن أبى هريرة رضي اللّه عنه ، ومعنى الحديث : أن إثم السباب الواقع من اثنين مختص بالبادىء منهما كله ، إلا أن يتجاوز الثاني قدر الانتصار فيقول للبادئ أكثر مما قاله له.(2/30)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 31
راغ هابيل فى رؤوس الجبال ، ثم أتاه يوما من الأيام ، فوجده نائما فشدخ رأسه بصخرة فمات ، وقال ابن جريج : لم يدر قابيل كيف يقتل هابيل؟ فتمثل له إبليس ، وأخذ طيرا فوضع رأسه على حجر ، ثم شدخه بحجر آخر ، وقابيل ينظر ، فعلمه القتل ، فوضع رأس أخيه على حجر وشدخه بحجر آخر. وكان لهابيل يوم قتل عشرون سنة ، وقبره قيل : عند عقبة حراء ، وقال ابن عباس : عند ثور ، وقال جعفر الصادق : بالبصرة ، فى موضع المسجد الأعظم.
الإشارة : قد تضمنت هذه الآية من طريق الإشارة ثلاث خصال ، يجب التحقق بها على كل مؤمن متوجه إلى اللّه تعالى : أولها : التطهير من رذيلة الحسد ، الذي هو أول معصية ظهرت فى السماء والأرض ، وقد تقدم الكلام عليه فى النساء «1» ، الثانية : التطهير من الشرك الجلى والخفي ، والتغلغل فى التبري من الذنوب التي توجب عدم قبول الأعمال ، ويتحصل ذلك بتحقيق الإخلاص ، والثالثة : عدم الانتصار للنفس والدفع عنها إلا فيما وجب شرعا ، فقد قالوا : (الصوفي دمه هدر ، وماله مباح) فلا ينتصر لنفسه ولو بالدعاء ، فإما أن يسكت ، أو يدعو لظالمه بالرحمة والهداية ، حتى يأخذ اللّه بيده اقتداء برسوله صلّى اللّه عليه وسلّم ، حيث قال : «اللهم اغفر لقومى فإنّهم لا يعلمون».
ولمّا قتل قابيل أخاه ، لم يدر ما يفعل به لأنه أول من مات من بنى آدم ، فعلّمه اللّه كيفية دفنه ، فقال :
[سورة المائدة (5) : آية 31]
فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
قلت : (ليريه) أي : يعلمه ، وضمير الفاعل يعود على «اللّه» أو الغراب ، و(كيف) : حال من الضمير فى (يوارى) والجملة مفعول ثان ليرى ، أي : ليعلمه اللّه ، أو الغراب ، كيفية مواراة أخيه ، و(يا ويلتا) : كلمة جزع وتحسر ، والألف فيها بدل من ياء المتكلم ، كيا حسرتا ويا أسفا ، و«أصبح» هنا بمعنى صار.
يقول الحق جل جلاله : فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ أي : يحفر فيها ، لِيُرِيَهُ أي : اللّه ، أو الغراب ، كَيْفَ يُوارِي أي : يستر سَوْأَةَ أَخِيهِ أي : جسده لأنه مما يستقبح أن يرى ، وخصت بالذكر لأنها أحق بالستر من سائر الجسد ، فعلّم اللّه قابيل كيف يصنع بأخيه لأنه لم يدر ما يصنع به ، إذ هو أول ميت مات من بنى آدم ، فتحير فى أمره ، فبعث اللّه غرابين فاقتتلا ، فقتل أحدهما الآخر ، فحفر له بمنقاره ورجليه ، ثم ألقاه فى الحفرة وغطاه بالتراب.
قال قابيل لما رأى ذلك : يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فأهتدى إلى ما اهتدى إليه ، فحفر لأخيه ودفنه فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ على قتله لما كابد فيه من التحير فى أمره ، وحمله على رقبته سنة أو أكثر ، وتلمذة الغراب له ، واسوداد لونه ، وتبرى أبويه منه ، إذ روى أنه لما قتله اسود وجهه ،
___________
(1) عند إشارة الآية 54.(2/31)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 32
فسأله آدم عن أخيه ، فقال : ما كنت عليه وكيلا. فقال : بل قتلته فلذلك اسود جسدك ، وتبرأ منه ، ومكث بعد ذلك مائة سنة لم يضحك ، وعدم الظفر بما فعله من أجله. قاله البيضاوي ، فانظره مع ما سيأتى عن الثعلبي.
واختلف فى كفره فقال ابن عطية : الظاهر أنه لم يكن قابيل كافرا ، وإنما كان مؤمنا عاصيا ، ولو كان كافرا ما تحرج أخوه من قتله ، إذ لا يتحرج من قتل كافر لأن المؤمن يأبى أن يقتل موحدا ، ويرضى بأن يظلم ليجازى فى الآخرة. ونحو هذا فعل عثمان رضي اللّه عنه لما قصد أهل مصر قتله مع عبد الرحمن بن أبى بكر ، لشبهة ، وكانوا أربعة آلاف ، فأراد أهل المدينة أن يدفعوا عنه ، فأبى واستسلم لأمر اللّه. قال عياض : منعه من الدفع إعلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بأن ذلك سبق به القدر. حيث بشره بالجنة على بلوى تصيبه ، كما فى البخاري «1» ، ونقل عن بعض أهل التاريخ : أن شيتا سار إلى أخيه قابيل ، فقاتله بوصية أبيه له بذلك ، متقلدا بسيف أبيه. وهو أول من تقلد بالسيف ، فأخذ أخاه أسيرا وسلسله ، ولم يزل كذلك حتى قبض كافرا. ه.
قلت : ولعل تحرّج أخيه من قتله لأنه حين قصد قتله لم يظهر كفره ، وظهر بعد ذلك ، فلذلك قاتله أخوه شيت بعد ذلك وأسره ، وذكر الثعلبي : أن قابيل لما طرده أبوه ، أخذ بيد أخته أقليما ، فهرب بها إلى أرض اليمن ، فأتاه إبليس فقال له : إنما أكلت النار قربان هابيل ، لأنه كان يخدم النار ويعبدها ، فانصب أنت أيضا نارا تكون لك ولعقبك ، فبنى بيت نار ، وهو أول من عبد النار. ه. فهذا صريح فى كفره. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : إذا كان الحق جل جلاله يدل العصاة من عباده إذا تحيروا على ما يزيل حيرتهم ، فكيف لا يدل الطائعين إذا تحيروا على ما يزيل شبهتهم ، إذا فزعوا إليه والتجئوا إلى حماه؟! فكل من وقع فى حيرة دينية أو دنيوية وفزع إلى اللّه تعالى ، مضطرا إليه ، فلا شك أن اللّه تعالى يجعل له فرجا ومخرجا من أمره ، إما بواسطة أو بلا واسطة. كن صادقا تجد مرشدا ، فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر وبال من قتل نفسا بغير حق ، كما فعل قابيل ، فقال :
[سورة المائدة (5) : آية 32]
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
قلت : (من أجل ذلك) : يتعلق بكتبنا ، فيوقف على ما قبله ، وقيل : بالنادمين ، فيوقف على (ذلك) ، وهو ضعيف ، قاله ابن جزى ، وأصل (أجل) : مصدر أجل يأجل ، كأخذ يأخذ ، أجلا ، أي : جنا جناية ، استعمل فى تعليل الجنايات ، ثم اتسع فيه ، فاستعمل فى كل تعليل.
___________
(1) انظر صحيح البخاري (كتاب أصحاب النبي ، باب مناقب عثمان بن عفان - رضى اللّه عنه - ).(2/32)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 33
يقول الحق جل جلاله : مِنْ أَجْلِ ذلِكَ القتل الذي صدر من قابيل لأخيه هابيل ، وما نشأ عنه من التجرؤ على الدماء والمفاسد ، حيث سنه أولا ولم يكن يعرفه أحد ، فاقتدى به من بعده ، كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ فى التوراة الذي حكمه متصل بشريعتكم ، أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أي : فى غير قصاص ، وبغير فساد فى الأرض ، كقطع الطريق والكفر ، فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً من حيث إنه هتك حرمة الدماء ، وسن القتل ، وجرأ الناس عليه.
وفى البخاري عن ابن مسعود قال : قال صلّى اللّه عليه وسلّم : «لا تقتل نفس مسلمة بغير حق إلّا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنّه أوّل من سن القتل» «1». أو من حيث إن قتل الواحد والجميع سواء فى استجلاب غضب اللّه والعذاب العظيم ، أو يكون الناس خصماءه يوم القيامة لأن هتك حرمة البعض كالكل.
وَمَنْ أَحْياها أي : تسبب فى حياتها بعفو أو منع من القتل ، أو استبقاء من بعض أسباب الهلكة كإنقاذ الغريق والحريق وشبه ذلك ، فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً أعطى من الأجر مثل ما لو أحيا الناس جميعا ، وفى البخاري : «من أحياها - أي من حرّم قتلها إلا بحق حيى الناس منه جميعا». قال ابن جزى : والقصد بالآية تعظيم قتل النفس والتشديد فيه ، ليزدجر الناس عنه وكذلك الثواب فى إحيائها كثواب إحياء الجميع لتعظيم الأمر والترغيب فيه. ه. فما كتبه اللّه على بنى إسرائيل هو أيضا شرع لنا. قال أبو سعيد : (و الذي لا إله إلا هو ما جعل دم بنى إسرائيل أكرم على اللّه من دمائنا).
وإنما خصهم بالذكر لأنهم أول أمة نزل الوعيد عليهم فى قتل النفس فى كتاب ، وغلظ عليهم بسبب طغيانهم ، ولتلوح مذمتهم. انظر ابن عطية. وعنه صلّى اللّه عليه وسلّم : «من سقى مؤمنا شربة ماء والماء موجود ، فكأنما أعتق سبعين رقبة ، ومن سقى فى غير موطنه فكأنّما أحيا الناس جميعا».
الإشارة : كل من صدّ نفسا عن إحياء قلبها وعوقها عن من يعرفها بربها فكأنما قتلها ، ومن قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا لأن المؤمنين كلهم كالجسد الواحد ، كما فى الحديث ، ومن أحياها بأن أنقذها من الغفلة إلى اليقظة ، ومن الجهل إلى المعرفة ، فكأنما أحيا الناس جميعا لأن الأرواح جنس واحد ، فإحياء البعض كإحياء الكل.
وبهذا يظهر شرف مقدار العارفين ، الدالين على اللّه ، الدعاة إلى معرفة اللّه ، الذين أحيا اللّه بهم البلاد والعباد ، وفى بعض الأثر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «والذي نفس محمد بيده لئن شئتم لأقسمنّ لكم : إنّ أحبّ عباد اللّه إلى اللّه الذين يحبّبون اللّه إلى عباده ، ويحببون عباد اللّه إلى اللّه ، ويمشون فى الأرض بالنصيحة».
___________
(1) أخرجه البخاري فى (كتاب الأنبياء ، باب خلق آدم) ومسلم فى (القسامة ، باب بيان إثم من سنّ القتل).(2/33)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 34
وهذه حالة شيوخ التربية : يحببون اللّه إلى عباده لأنهم يطهرون القلوب من دنس الغفلة حتى ينكشف لها جمال الحق فتحبه وتعشقه ، ويذكرون لهم إحسانه تعالى وآلاءه فيحبونه ، فإذا أحبوه أطاعوه فيحبهم اللّه ويقربهم ، واللّه تعالى أعلم. وقال الورتجبي : فيه إشارة لطيفة من الحق سبحانه أن النية إذا وقعت من قبل النفس الأمارة فى شىء ، وباشرته ، فكأنها باشرت جميع عصيان اللّه تعالى لأنها لو قدرت على جميعها لفعلت ، لأنها أمارة بالسوء ، ومن السوء خلقت ، فالجزاء يتعلق بالنية. وكذلك إذا وقعت النية من قبل القلب الروحاني فى خير ، وباشره ، فكأنه باشر جميع الخيرات لأنه لو قدر لفعل. قال صلّى اللّه عليه وسلّم : «نية المؤمن أبلغ من عمله».
وفيه إشارة أخرى أن اللّه سبحانه خلق النفوس من قبضة واحدة مجتمعة ، بعضها من بعض وصرّفها مختلفة ، وتعلقت بعضها من بعض من جهة الاستعداد والخلقة. فمن قتل واحدا منها أثّر قتلها فى جميع النفوس عالمة بذلك أو جاهلة ، ومن أحيا نفس مؤمن بذكر اللّه وتوحيده ، ووصف جلاله وجماله ، حتى تحب خالقها ، وتحيا بمعرفته ، وجمال مشاهدته ، فأثر حياتها وتزكيتها فى جميع النفوس ، فكأنما أحيا جميع النفوس. وفيه تهديد لأئمة الضلالة ، وعز وشرف وثناء حسن لأئمة الهدى. انتهى كلامه.
وقوله فى النفس الأمارة : (من السوء خلقت) ، فيه نظر فإن النفس هى الروح عند المحققين ، فما دامت الطينية غالبة عليها ، وهى مائلة إلى الحظوظ والهوى ، سميت نفسا ، فإن كانت منهمكة سميت أمارة ، وإن خف عثارها ، وغلب عليها الخوف ، سميت لوامة ، فإذا انكشف عنها الحجاب ، وعرفت ربها ، واستراحت من تعب المجاهدة ، سميت روحا ، وإن تطهرت من غبش الحس بالكلية سميت سرا ، وأصلها من حيث هى نور ربانى وسر لاهوتى.
ولذلك قال تعالى فيها : قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ، «1» فالسوء عارض لها ، لا ذاتى ، فما خلقت إلا من نور القدس. واللّه تعالى أعلم.
ثم عاتب بنى إسرائيل على سفك الدماء والإفساد فى الأرض ، بعد ما حرم ذلك عليهم فى التوراة ، فقال :
وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ أي : بنى إسرائيل ، رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ أي : بالمعجزات الواضحات ، ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ بسفك الدماء وكثرة المعاصي.
قال البيضاوي : أي : بعد ما كتبنا عليهم هذا التشديد العظيم من أجل إتيان تلك الجناية ، وأرسلنا إليهم الرسل بالآيات الواضحة تأكيدا للأمر وتجديدا للعهد ، كى يتحاموا عنها ، كثير منهم يسرفون فى الأرض بالقتل ولا يبالون ، وبهذا اتصلت القصة بما قبلها ، والإسراف : التباعد عن حد الاعتدال فى الأمر. ه.
___________
(1) من الآية 85 من سورة الإسراء.(2/34)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 35
الإشارة : قد قيض اللّه لهذه الأمة المحمدية من يقوم بأمر دينها ، ظاهرا وباطنا ، وهم ورثته فى الظاهر والباطن ، وفى الخبر : «علماء أمتى كأنبياء بنى إسرائيل» ، فلكل زمان رجال يقومون بالشريعة الظاهرة وهم العلماء ، ورجال يقومون بالحقيقة الباطنة ، وهم الأولياء ، فمن قصر فى الجهتين قامت عليه الحجة ، ولله الحجة البالغة ، فمن أسرف أو طغى أدبته الشريعة وأبعدته الحقيقة. وبالله التوفيق.
ثم ذكر وبال المسرفين من بنى إسرائيل وغيرهم ، فقال :
[سورة المائدة (5) : الآيات 33 الى 34]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
قلت : سبب نزول الآية عند ابن عباس : قوم من اليهود كان بينهم وبين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عهد ، فنقضوا العهد وقطعوا السبيل. وهو مناسب لما قبله ، وقال جماعة : نزلت فى نفر من عكل وعرينة ، أظهروا الإسلام بالمدينة ، ثم خرجوا وقتلوا راعى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأخذوا إبله ، فبعث فى إثرهم ، فأخذوا ، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم «1» ، فماتوا ، ثم حكمها جار فى كل محارب ، والمحاربة عند مالك : هى حمل السلاح على الناس فى بلد أو فى خارج عنه ، وقال أبو حنيفة : لا يكون المحارب إلا خارج البلد ، و(فسادا) : منصوب على العلة ، أو المصدر ، أو على حذف الجار.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ حيث حاربوا عباده. فهو تغليظ ومبالغة ، وَيحاربون رَسُولَهُ كما فعل العرينيون أو غيرهم ، وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً بالفساد كإخافة الناس ، ونهب أموالهم. قال ابن جزى : هو بيان للحرابة ، وهى درجات فأدناها : إخافة الطريق ، ثم أخذ الأموال ، ثم قتل النفس.
فجزاؤهم أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا ، فالصلب مضاف للقتل ، فقيل : يقتل ثم يصلب ، إرهابا لغيره ، وهو قول أشهب ، وقيل : يصلب حيا ويقتل فى الخشبة ، وهو قول ابن القاسم ، أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ ،
___________
(1) سمل أعينهم ، أي : فقأها بحديدة محماة ، أو غيرها.(2/35)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 36
فيقطع يده اليمنى ورجله اليسرى ، وإن عاد قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى ، وقطع اليد من الرسغ ، والرجل من المفصل كالسرقة ، أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ أي : ينفوا من بلد إلى بلد ، ويسجنوا فيه حتى تظهر توبتهم. وقال أبو حنيفة : يسجن فى البلد بعينه. ومذهب مالك : أن الإمام مخير فى المحارب بين ما تقدم ، إلا أنه قال : إن كان قتل فلا بد من قتله ، وإن لم يقتل فالأحسن أن يؤخذ فيه بأيسر العقاب.
أولئك المحاربون لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا : ذل وفضيحة ، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ لعظم ذنوبهم.
ظاهره أن العقوبة فى الدنيا لا تكون كفارة للمحاربين بخلاف سائر الحدود. ويحتمل أن يكون الخزي فى الدنيا لمن عوقب ، وفى الآخرة لمن لم يعاقب ، إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ بأن جاءوا تائبين فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، فيسقط عنهم حكم الحرابة ، واختلف : هل يطالب بما عليه من حقوق الناس كالدماء أم لا؟
فقال الشافعي : يسقط عنه بالتوبة حد الحرابة ، ولا يسقط حقوق بنى آدم ، وقال مالك : يسقط عنه جميع ذلك ، إلا أن يوجد معه مال رجل بعينه ، فيردّ إلى صاحبه ، أو يطلبه ولى دم بدم تقوم البينة فيه ، فيقاد به ، وأما الدماء والأموال التي لم يطالب بها ، فلا يتبعه الإمام بشىء منها.
وتقييد التوبة بالتقدم على القدرة ، يدل على أنها بعد القدرة لا تسقط الحد ، وإن أسقطت العذاب ، والآية فى قطّاع المسلمين لأن توبة المشرك تدرا عنه العقوبة قبل القدرة وبعدها. ه. قاله البيضاوي. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : فرق كبير بين من يرجع إلى اللّه بملاطفة الإحسان ، وبين من يقاد إليه بسلاسل الامتحان ، هؤلاء المحاربون لم يرجعوا إلى اللّه حتى أخذوا وقتلوا وصلبوا أو قطعت أيديهم وأرجلهم. وإن رجعوا إليه اختيارا قبلهم ، وتاب عليهم ورحمهم وتعطف عليهم ، وكذلك العباد : من رجع إلى اللّه قبل هجوم منيته قبله وتاب عليه ، وإن جد فى الطاعة قرّبه وأدناه ، وإن تقدمت له جنايات ، وقد خرج من اللصوص كثير من الخصوص ، كالفضيل ، وابن أدهم ، وغيرهما ، ممن لا يحصى ، سبقت لهم العناية فلم تضرهم الجناية. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم حضّ على التقوى التي هى مجمع الخير والفوز من كل شر ، فقال :
[سورة المائدة (5) : آية 35]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
يقول الحق جل جلاله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ، ولا تسلكوا سبيل بنى إسرائيل الذين جاءتهم الرسل ، فعصوا وأفسدوا وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ أي : اطلبوا ما تتوسلون به إلى رضوانه ، والقرب من جناب قدسه(2/36)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 37
من الطاعات ، وترك المخالفات ، وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ بمحاربة أعدائه الظاهرة والباطنة لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ بالوصول إلى اللّه والفوز بكرامته.
الإشارة : لا وسيلة أقرب من صحبة العارفين ، والجلوس بين أيديهم وخدمتهم ، والتزام طاعتهم ، فمن رام وسيلة توصله إلى الحضرة غير هذه فهو جاهل بعلم الطريق. قال أبو عمرو الزجّاجى رضي اللّه عنه : لو أن رجلا كشف له عن الغيب ، ولا يكون له أستاذ لا يجىء منه شىء.
وقال إبراهيم بن شيبان رضي اللّه عنه : لو أن رجلا جمع العلوم كلها ، وصحب طوائف الناس ، لا يبلغ مبلغ الرجال إلا بالرياضة من شيخ أو إمام أو مؤدب ناصح ، ومن لا يأخذ أدبه من آمر له وناه يريه عيوب أعماله ورعونات نفسه ، لا يجوز الاقتداء به فى تصحيح المعاملات. ه.
وقال الشيخ أبو العباس المرسى رضي اللّه عنه : كل من لا يكون له فى هذا الطريق شيخ لا يفرح به. ه. ولو كان وافر العقل منقاد النفس ، واقتصر على ما يلقى إليه شيخ التعليم فقط ، فلا يكمل كمال من تقيد بالشيخ المربى لأن النفس أبدا كثيفة الحجاب عظيمة الإشراك ، فلابد من بقاء شىء من الرعونات فيها ، ولا يزول عنها ذلك ، بالكلية ، إلا بالانقياد للغير والدخول تحت الحكم والقهر ، وكذلك لو كان سبقت إليه من اللّه عناية وأخذه الحق إليه ، وجذبه إلى حضرته ، لا يؤهل للمشيخة ، ولو بلغ ما بلغ ، والحاصل : أن الوسيلة العظمى ، والفتح الكبير ، إنما هو فى التحكيم للشيخ لأن الخضوع لمن هو من جنسك تأنفه النفس ، ولا تخضع له إلا النفس المطمئنة ، التي سبقت لها من اللّه العناية. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر ضد أهل التقوى ، فقال :
[سورة المائدة (5) : الآيات 36 الى 37]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37)
قلت : (لو أن لهم) : الجار متعلق بالاستقرار ، لأنه خبر «إن» مقدما ، والضمير فى (به) : يعود على ما ومثله ، ووحده باعتبار ما ذكر كقوله : عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ «1».
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا حين يشاهدون العذاب يتمنون الفداء ، فلو أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً من الأموال والعقار وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ
___________
(1) من الآية 68 من سورة البقرة.(2/37)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 38
ولا ينفعهم وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ لا خلاص لهم منه ، وهذا كما ترى فى الكفار ، وأما عصاة المؤمنين فيخرجون منها بشفاعة نبيهم - عليه الصلاة والسلام - ولا حجة للمعتزلة فى الآية ، خلافا لجهالة الزمخشري.
الإشارة : كل من مات تحت قهر الحجاب ، ونكّبته المشيئة عن دخول الحضرة مع الأحباب ، حصل له الندم يوم القيامة ، فلو رام أن يفتدى منه بملء الأرض ذهبا ما تقبل منه ، بل يبقى مقيما فى غم الحجاب ، معزولا عن رؤية الأحباب ، يتسلى عنهم بالحور والولدان ، وتفوته نظرة الشهود والعيان فى كل حين وأوان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
ثم ذكر حكم السارق الذي تقدم ذكره فى قضية طعمة بن أبيرق لما تقدم أن هذه السورة مكملة لما قبلها ، فقال :
[سورة المائدة (5) : الآيات 38 الى 40]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
قلت : (السارق) : مبتدأ والخبر محذوف عند سيبويه ، وهو الجار والمجرور ، أي : مما يتلى عليكم حكم السارق والسارقة ، وقال المبرد : الخبر هو جملة : (فاقطعوا) ، ودخلت الفاء لمعنى الشرط لأن الموصول - وهو «ال» - فيه معنى الشرط ، ومثله : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا «1» ، قلت : وهو أظهر ، فإن قلت : ما الحكمة فى تقديم المذكر فى هذه الآية ، وفى آية الزنا قدم المؤنث ، فقال : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي؟ فالجواب : أن السرقة فى الرجال أكثر ، والزنى فى النساء أكثر ، فقدّم الأكثر وقوعا. وقدّم العذاب هنا على المغفرة لأنه قابل بذلك تقدم السرقة على التوبة ، أو لأن المراد به القطع ، وهو مقدم فى الدنيا ، و(جزاء) و(نكالا) : علة أو مصدر.
يقول الحق جل جلاله : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما أي : أيمانهما من الرسغ ، بشروط ، منها : ألّا يكون مضطرا بالجوع ، على قول مالك ، فيقدم السرقة على الميتة ، إن علم تصديقه. ومنها : ألّا يكون السارق أبا أو عبدا سرق مال ولده أو سيده. ومنها : أن يكون سرق من حرز ، وأن يكون نصابا ، وهو ربع دينار ، أو ثلاثة دراهم ، أو ما يساويهما عند مالك والشافعي ، وقال أبو حنيفة : لا قطع فى أقل من عشرة دراهم ، وقال عثمان البتى : يقطع فى درهم فما فوق. وفى السرقة أحكام مبسوطة فى كتب الفقه.
___________
(1) من الآية 2 من سورة النور.(2/38)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 39
وعلة القطع : الزجر ، ولذلك قال : جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. فإن قلت : ما الحكمة فى قطعها فى ربع دينار ، مع أن ديتها إن قطعت ، خمسمائة دينار؟ قلت : ذل الخيانة أسقطت حرمتها بعد عز الصيانة. فافهم حكمة الباري.
فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ أي : بعد سرقته ، كقوله فى سورة يوسف : كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ «1» أي : السارقين ، وَأَصْلَحَ بأن ردّ ما سرق ، وتخلص من التبعات ما استطاع ، وعزم ألا يعود ، فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، فيتقبل توبته ، فلا يعذبه فى الآخرة ، وأما القطع : فهل يسقط ، وهو مذهب الشافعي لظاهر الآية ، أو لا يسقط ، وهو مذهب مالك ، لأن الحدود لا تسقط عنده بالتوبة إلا عن المحارب؟ .. قاله ابن جزى ، تبعا لابن عطية ، وفيه نظر ، فإن مشهور مذهب الشافعي موافق لمالك ، ولعله تصحف عنده الشافعي بالشعبي ، كما نقل الثعلبي عنه. واللّه أعلم.
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يتصرف فيهما كيف شاء ، فالخطاب للرسول - عليه الصلاة السّلام - أو لكل أحد ، يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ قال السدى : يعذب من مات على كفره ، ويغفر لمن تاب من كفره. وقال الكلبي : يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ على الصغيرة إذا أقام عليها وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ على الكبيرة إذا نزع منها ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لا يعجزه شىء.
الإشارة : كما أمر الحق - جل جلاله - بقطع سارق الأموال ، أمر بقطع سارق القلوب ، وهو الشيطان ، وجنوده الخواطر الردية فإن القلب بيت كنز السر - أي : سر الربوبية - لأن القلب بيت الرب ، والبصيرة حارسة له ، فإذا طرقه الشيطان بجنوده ، فإن وجد البصيرة متيقظة دفعته وأحرقته بأنوار ذكرها ، وإن وجدها نائمة فإن كان نومها خفيفا اختلس منها وفطنت له ، وإن كان نومها ثقيلا بتراكم الغفلات ، خرب البيت ولم تفطن له ، فيسكن فيه بجنوده الخواطر وهى نائمة. فالواجب على الإنسان حفظ قلبه ، قبل أن يسكنه الشيطان ، فيصعب دفعه ، وحفظه بدوام ذكر اللّه القلبي ، فإن لم يستطع فبدوام اللسان ، فإن لم يستطع فبالنية الصالحة. وربنا المستعان.
ثم تكلم على ما يتعلق باللسان ، وهو الأمر الخامس مما تضمنته السورة ، فقال :
[سورة المائدة (5) : آية 41]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41)
قلت : الباء فى : (بأفواههم) - متعلقة بقالوا.
___________
(1) من الآية 75.(2/39)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 40
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ صنع المنافقين ، الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ أي : يقعون فيه سريعا ، فيظهرونه إن وجدوا فرصة ، ثم بينهم بقوله : مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا ، قالوه بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ، فلا يهولنّك شأنهم ولا تحتفل بكيدهم ، فإن اللّه سيكفيك أمرهم.
الإشارة : من شأن العارفين بالله تذكير عباد اللّه ، ثم ينظرون إلى ما يفعل اللّه ، فلا يحزنون على من لم تنفعه الموعظة ، ولا يفرحون بسبب نجاح موعظتهم ، إلا من حيث موافقة رضا ربهم ، فهم فى ذلك على قدم نبيهم ، آخذين بوصية ربهم. واللّه تعالى أعلم.
ثم رجع إلى عتاب اليهود ، فقال :
[سورة المائدة (5) : الآيات 42 الى 43]
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
قلت : (و من الذين هادوا) : يحتمل أن يكون عطفا على (الذين قالوا) أي : لا يحزنك شأن المنافقين واليهود ، و(سماعون) : خبر ، أي : هم سماعون ، ويحتمل أن يكون استئنافا ، فيكون (سماعون) : مبتدأ على حذف الموصوف ، و(من) : خبر ، أي : ومن الذين هادوا قوم سماعون ، واللام فى : (للكذب) : إما مزيدة للتأكيد ، أو لتضمين السماع معنى القبول ، وجملة (لم يأتوك) : صفة لقوم ، وجملة (يحرفون) : صفة أخرى له.
يقول الحق جل جلاله : وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا صنف سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أي : كثيروا السماع للكذب والقبول له ، وهم يهود بنى قريظة ، سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ وهم يهود خيبر ، لَمْ يَأْتُوكَ أي : لم يحضروا مجلسك ، تكبرا وبغضا ، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أي : يميلونه عن مواضعه الذي وضعه اللّه فيها ، إما(2/40)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 41
لفظا أو تأويلا : يَقُولُونَ : أي : الذين لم يأتوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وهم يهود خيبر : إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ أي : إن أوتيتم هذا المحرّف وأفتاكم محمد بما يوافقه فخذوه ، وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ بأن أفتاكم بغيره فَاحْذَرُوا أن تقبلوا منه.
وسبب نزولها : أن شريفا من يهود خيبر زنى بشريفة منهم ، وكانا محصنين ، وكرهوا رجمهما ، فأرسلوا مع رهط منهم إلى بنى قريظة ليسألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وقالوا لهم : إن أمركم بالجلّد والتّحميم «1» فاقبلوا ، وإن أمركم بالرّجم فاحذروا أن تقبلوه منه ، فأتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالزّانيين ، ومعهما ابن صوريا ، فاستفتوه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فقال لابن صوريا :
أنشدك اللّه الذي لا إله إلا هو ، الذي فلق البحر لموسى ، ورفع فوقكم الطور ، وأنجاكم وأغرق آل فرعون ، والذي أنزل عليكم كتابه ، وأحلّ حلاله وحرّم حرامه ، هل تجد فيه الرّجم على من أحصن؟ فقال : نعم ، فوثبوا عليه ، فقال :
خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب ، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالزّانيين فرجما عند باب المسجد ، وفى رواية : دعاهم إلى التوراة فأتوا بها ، فوضع ابن صوريا يده على آية الرجم ، وقرأ ما حولها ، فقال له عبد اللّه بن سلام : ارفع يدك ، فإذا آية الرجم تلوح ، فرجما. وفى القصة اضطراب كثير. ولعل القضية تعددت.
قال تعالى : وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ أي : ضلالته أو فضيحته ، فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي : تقدر على دفعها عنه ، أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ من الكفر والشرك ، لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ أي :
هوان وذل بضرب الجزية والخوف من المؤمنين ، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ وهو الخلود فى النيران.
هم سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ، كرر للتأكيد ، وليرتب عليه قوله : أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ أي : الحرام ، كالرشا وغيرها ، وسمى سحتا لأنه يسحت البركة ويستأصل المال ، كما قال صلّى اللّه عليه وسلّم : «من جمع المال من نهاوش أذهبه اللّه فى نهابر» «2».
ثم خيّر نبيه - عليه الصلاة والسّلام - فى الحكم بينهم ، فقال : فَإِنْ جاؤُكَ متحاكمين إليك فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ، وقيل : نسخ بقوله : وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ «3». والجمهور : أن ما كان من باب التظالم والتعدي فإن الحاكم يتعرض بهم ويبحث عنه ، وأما النوازل التي لا ظلم فيها ، وإنما هى دعاوى ، فإن رضوا بحكمنا فالإمام مخير ، وإن لم يرضوا فلا نتعرض لهم ، انظر ابن عطية ، وقال البيضاوي : ولو تحاكم كتابيان إلى القاضي لم يجب عليه الحكم ، وهو قول الشافعي ، والأصح : وجوبه إذا كان المترافعان أو أحدهما ذميا ، لأنا التزمنا الذب عنهم ، ومذهب أبى حنيفة : يجب مطلقا. ه.
وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً لأن اللّه عصمك من الناس ، وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي : العدل الذي أمر اللّه به إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ، فيحفظهم ويعظم شأنهم.
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وهم لا يؤمنون بك ، وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ أي : والحال أن الحكم منصوص عليه فى الكتاب الذي هو عندهم ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ، أو ثم يتولون عن حكمك
___________
(1) التحميم : تسويد الوجه بالفحم.
(2) النهاوش : المظالم. والنهابر : المهالك والأمور المتبددة.
(3) من الآية 49 من السورة [.....](2/41)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 42
الموافق لكتابهم من بعد التحكيم ، وفيه تنبيه على أنهم ما قصدوا بالتحكيم معرفة الحق وإقامة الشرع ، وإنما قصدوا به ما يكون عونا لهم على هواهم ، وإن لم يكن حكم اللّه فى زعمهم ، وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ بكتابهم ولا بكتابك لإعراضهم عنه أولا ، وعنك ثانيا ، بل أولئك هم الفاسقون التابعون لأهوائهم. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : كل من تعرض للشيخوخة وادعى مقام التربية ، وهو يأمر أصحابه باتباع رخص الشريعة ، والبقاء مع العوائد ، ويقول لهم : (إن أوتيتم هذا فخذوه) ويزعم أنه سنة ، وإن لم تؤتوه ، ولقيتم من يأمركم بقتل النفوس ، وحط الرؤوس ودفع الفلوس ، وخرق العوائد فاحذروه. فمن كان حاله هذا ، فالآية تجر ذيلها عليه ، لأنه تعرض لفتنة نفسه بحب الجاه وغرور أولاد الناس ، وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ من الهوى ، ولا بصيرتهم من شهود السّوى لأن تطهير القلوب مشروط بقتل النفوس ، وقتل النفوس إنما يكون باتباع ما يثقل عليها من خرق عوائدها ، كالذل والفقر وغير ذلك من الأعمال الشاقة عليها ، ومن لم يطهر قلبه من الهوى يعش فى الدنيا فى ذل الحجاب مسجونا بمحيط انه ، محصورا فى هيكل ذاته ، وله فى الآخرة أشد العتاب ، حيث تعرض لمقام الرجال وهو عنه بمعزل ، ويقال لمن تبعه فى اتباع الرخص :
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ قال الشيخ أبو العباس المرسى رضى اللّه عنه : من كان من فقراء الزمان يسمع الغناء ، ويأكل أموال الظلمة ، ففيه نزعة يهودية ، قال تعالى : سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ. ه فإن جاءوك أيها العارف ، يستخبرونك ، ويخاصمونك فى الأمر بخرق العوائد ، ويزعمون أنهم موافقون للسنة ، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ، وهو الأخذ بكل ما يقتل النفوس ، ويجهز عليها ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ وكيف يحكمونك أو يخاصمونك ، وعندهم القرآن فيه حكم اللّه بذلك ، قال تعالى : وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا «1» ، ولا يكون جهاد النفس إلا بمخالفتها ، وقتلها بترك حظوظها وهواها. واللّه تعالى أعلم.
ثم قرر صحة كتابه التوراة ، ووبال من أعرض عنه من اليهود ، فقال :
[سورة المائدة (5) : آية 44]
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44)
___________
(1) من الآية 69 من سورة العنكبوت.(2/42)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 43
قلت : (للذين هادوا) : متعلق بيحكم ، أو بأنزلنا ، أو بهدى ونور ، و(الربانيون) : عطف على (النبيون) ، وهم العباد والزهاد منهم ، والأحبار : علماؤهم ، جمع حبر - بكسر الحاء وفتحها ، وهو أشهر استعمالا للفرق بينه وبين المداد ، و(بما استحفظوا) : سببية متعلق بيحكم ، أو بدل من (بها) والعائد إلى «ما» محذوف ، أي : استحفظوه.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً أي : ما يهدى إلى إصلاح الظواهر من النواهي والأوامر ، ونُورٌ تستنير به السرائر ، وتشرق به القلوب والضمائر ، من الاعتقادات الصحيحة والعقائد الراجحة ، والعلوم الدينية والأسرار الربانية. يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الذين أتوا بعد موسى - عليه السّلام - إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، وهم الَّذِينَ أَسْلَمُوا أي : انقادوا بكليتهم إلى ربهم ، ولم تبق بقية لغير محبوبهم ، وفيه تنويه بشأن الإسلام وأهله ، وتعريض باليهود فإنهم بمعزل عن دين الأنبياء واقتفاء هديهم ، حيث لم يتصفوا به ، يحكم بها لِلَّذِينَ هادُوا وعليهم ، وهم اليهود ، وَيحكم بها أيضا الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ أي : زهادهم وعلماؤهم السالكون طريقة أنبيائهم ، بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ أي : بسبب أمر اللّه تعالى لهم أن يحفظوا كتابه من التضييع والتحريف. وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ أي : رقباء ، فلا يتركون من يغيرها أو يحرفها ، ولما طال العهد عليهم حرفوا وغيروا ، بخلاف كتابنا ، حيث تولى حفظه الحق ربنا ، فلا يزال محفوظا لفظا ومعنى إلى قيام الساعة ، قال تعالى : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «1». فلله الحمد.
ثم خاطب الحكام ، فقال : فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ أي : فلا تداهنوا فى حكوماتكم خشية ظالم أو مراقبة كبير ، فكل كبير فى جانب الحق صغير ، وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا أي : لا تستبدلوا بالحكم بالحق ثمنا قليلا كالرشوة والجاه ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مستهينا به ومنكرا له فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ لاستهانتهم به.
قال ابن عباس : نزلت الثلاثة فى اليهود ، الكافرون والظالمون والفاسقون ، وقد روى فى هذا أحاديث عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقالت جماعة : هى عامة ، فكل من لم يحكم بما أنزل اللّه من اليهود والمسلمين وغيرهم ، إلا أن الكفر فى حق المسلمين كفر معصية ، وقال الشافعي : الكافرون فى المسلمين ، والظالمون فى اليهود ، والفاسقون فى النصارى ، وهو أنسب لسياق الكلام ، واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قد وصف اللّه تعالى القرآن بأعظم مما وصف به التوراة. قال تعالى : قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً «2» فجعل التوراة ظرفا للهداية والنور ، وجعل القرآن نفس النور والهداية. وربانيو هذه الأمة : أولياؤها العارفون بالله ، الذين يربون الناس ويرشدونهم إلى معرفة الشهود والعيان ، وأحبارها : علماؤها.
___________
(1) الآية 9 من سورة الحجر.
(2) الآية 174 من سورة النساء.(2/43)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 44
وقال الورتجبي : الرباني الذي نسب إلى الرب بالمعرفة والمحبة والتوحيد ، فإذا وصل إلى الحق بهذه المراتب ، واستقام فى شهود جلاله وجماله ، صار متصفا بصفات اللّه - جل جلاله - ، حاملا أنوار ذاته ، فإذا فنى عن نفسه وبقي بربه ، صار ربانيّا ، مثل الحديد فى النار ، إذا لم يكن فى النار كان مستعدا لقبول النار ، فإذا وصل إلى النار واحمر ، صار ناريا ، هكذا شأن العارف ، فإذا كان منورا بتجلى الرب ، صار ربانيا نورانيا ملكوتيا جبروتيا ، كلامه من الرب إلى الرب مع الرب ، ثم قال : العارف مخاطب من اللّه فى جميع أنفاسه ، وحركاته ، ينزل على قلبه من اللّه وحي الإلهام ، وربما يخاطبه بنفسه ، ويكلمه بكلامه ، ويحدثه بحديثه ، لقوله - عليه الصلاة السّلام - : «إنّ فى أمتى محدّثين أو مكلّمين وإنّ عمر منهم» «1». ه.
ثم بين الحق تعالى ما كتب على بنى إسرائيل فى التوراة ، فقال :
[سورة المائدة (5) : آية 45]
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
قلت : من نصب الجميع : فعطف على النفس ، وقصاص : خبر إن ، ومن رفع العين : فيحتمل أن يكون مستأنفا مرفوعا بالابتداء ، و«قصاص» : خبر ، من عطف الجمل ، أو يكون عطفا على موضع النفس لأن المعنى : قلنا لهم :
النفس بالنفس ، أو على الضمير المستكن فى الخبر ، ومن رفع الجروح فقط ، فعلى ما تقدم فى العين.
يقول الحق جل جلاله : وَكَتَبْنا على بنى إسرائيل ، أي : فرضنا وألزمنا عليهم فى التوراة أَنَّ النَّفْسَ تقتل بالنفس فى القتل العمد إن كان المقتول مسلما حرا ، فلا يقتل مسلم بكافر إلا إن قتله غيلة ، ولا حر بعبد ، للحديث ، وَالْعَيْنَ تفقأ بِالْعَيْنِ ، وَالْأَنْفَ تجدع بِالْأَنْفِ ، وَالْأُذُنَ تصلم بِالْأُذُنِ ، وَالسِّنَّ تقلع بِالسِّنِّ ، وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ يقتص من الجارح بمثل ما فعل ، إلا ما يخاف منه كالمأمومة «2» ، والجائفة ، وكسر الفخذ ، فيعطى الدية ، فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ أي : بالدم ، بأن عفى عن الجارح أو القاتل فلم يقتص ، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ أي للمقتول ، يغفر اللّه ذنوبه ويعظم أجره ، أو كفارة للقاتل أو الجارح ، يعفو اللّه بذلك عن القاتل لأن صاحب الحق قد عفا عنه ، أو كفارة للعافى لأنه مسامح فى حقه ، أو من تصدق بنفسه ومكنها من القصاص فهو كفارة له ، اقتص منه أو عفى عنه.
___________
(1) أخرجه البخاري فى (أحاديث الأنبياء ، باب 54) ومسلم فى (فضائل الصحابة ، باب فضائل عمر رضى اللّه عنه) عن أبى هريرة ، بلفظ :
«إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون وإنه إن كان فى أمتى هذه ، فإنه عمر بن الخطاب»
(2) المأمومة : هى الشجة التي تبلغ أم الرأس ، وهى الجلدة التي تجمع الدماغ.(2/44)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 45
وفيه دليل على أن الحدود مكفرة لا زواجر ، وزعم ابن العربي : أن المقتول يطالب يوم القيامة ، ولو قتل فى الدنيا قصاصا لأنه لم يتحصل للمقتول من قتل قاتله شىء ، وأن القصاص إنما هو ردع ، وأجيب بمنع أنه لم يتحصل له شىء ، بل حصلت له الشهادة وتكفير لذنوبه ، كما فى الحديث : «السيف محاء للخطايا» «1». ولو كان القصاص للردع خاصة لم يشرع العفو ، قاله ابن حجر ، وفى حديث البخاري : «من أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فى الدنيا ، فهو كفارة له ، وإن ستره اللّه فهو فى المشيئة».
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ من القصاص وغيره فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ المتجاوزون حدود اللّه ، وما كتب اللّه على بنى إسرائيل هو أيضا مكتوب علينا ، لأن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ ، ولا ناسخ هنا ، بل قررته السنة والإجماع. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : القصاص مشروع وهو من حقوق النفس لأنها تطلبه تشفيا وغيظا ، والعفو مطلوب ومرغب فيه ، وهو من حقوق اللّه ، هو طالبه منك ، وأين ما تطلبه لنفسك مما هو طالبه منك؟ ومن شأن الصوفية الأخذ بالعزائم ، واتباع أحسن المذاهب ، قال تعالى : الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ «2» ، ومن شأنهم أيضا : الغيبة عن حظوظ النفس ، ولذلك قالوا : (الصوفي دمه هدر ، وماله مباح) ، وقالوا أيضا : (الصوفي كالأرض ، يطرح عليها كل قبيح ، وهى تنبت كلّ مليح) ، - ومن أوكد الأمور عندهم عدم الانتصار لأنفسهم. وبالله التوفيق.
ولما فرغ من الكلام مع اليهود شرع يتكلم مع النصارى ، فقال :
[سورة المائدة (5) : الآيات 46 الى 47]
وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47)
قلت : (قفينا) : اتبعنا ، مشتق من القفا كأن مجىء عيسى كان فى قفا مجىء النبيين وخلفهم ، وحذف المفعول الأول ، أي : أتبعناهم ، وبِعِيسَى مفعول ثان ، وجملة : (فيه هدى ونور) : حال من «الإنجيل» ، و(مصدقا) : عطف عليه.
يقول الحق جل جلاله : وأتبعنا النبيين المتقدمين وجئنا على إثرهم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي : ما تقدم أمامه مِنَ التَّوْراةِ وتصديقه للتوراة إما لكونه مذكورا فيها ثم ظهر ، أو بموافقة ما جاء به من التوحيد والأحكام لما فيها ، أو لكونه صدّق بها وعمل بما فيها.
___________
(1) جزء من حديث أخرجه أحمد فى المسند 4/ 185. من حديث عتبة بن عبد السلمى.
(2) من الآية : 18 من سورة الزمر.(2/45)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 46
وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ فالهدى لإصلاح الظواهر بالشرائع ، والنور لإصلاح الضمائر بالعقائد الصحيحة والحقائق الربانية ، وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ بتقرير أحكامها ، والشهادة على صحتها ، وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ أي : وإرشادا وتذكيرا للمتقين لأنهم هم الذين ينفع فيهم الموعظة والتذكير ، دون المنهمكين فى الغفلة ، قد طبع اللّه على قلوبهم فهم لا يسمعون.
ثم أمر اللّه أهل الإنجيل بالحكم بما فيه ، فقال : وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ من الأحكام ، وقرأ حمزة : (و ليحكم) بلام الجر أي : وآتيناه الإنجيل ليحكم أهل الإنجيل بما فيه ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن طاعة الحق. قال البيضاوي : والآية تدل على أن الإنجيل مشتملة على الأحكام ، وأن اليهودية منسوخة ببعث عيسى عليه السّلام ، وأنه كان مستقلا بالشرع. وحملها على : وليحكموا بما أنزل اللّه ، فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة خلاف الظاهر. ه.
الإشارة : قد جمع اللّه فى هذه الأمة المحمدية ما افترق فى غيرها فى الأزمنة المتقدمة ، فعلماؤها وأولياؤها كالأنبياء والرسل ، كلما مات عالم أو ولى قفاه اللّه بآخر ، أما العلماء فأمرهم متفق وحالهم متقارب ، فمدار أمرهم على تحصيل العلوم الرسمية والأعمال الظاهرية ، وأما الأولياء - رضى اللّه عنهم - ، فأحوالهم مختلفة ، فمنهم من يكون على قدم نوح عليه السّلام فى القوة والشدة ، ومنهم من يكون على قدم إبراهيم عليه السّلام فى الحنانة والشفقة. ومنهم من يكون على قدم موسى عليه السّلام فى القوة أيضا ، ومنهم من يكون على قدم عيسى عليه السّلام فى الزهد والانقطاع إلى اللّه تعالى ، ومنهم من يكون على قدم نبينا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، وهو أعظمهم لجمعه ما افترق فى غيره ، وكل واحد يؤتيه اللّه نورا فى الباطن يجذب به القلوب إلى الحضرة ، وهدى فى الظاهر يصلح به الظواهر فى الشريعة. واللّه تعالى أعلم.
ثم شرع يتكلم مع الأمة الإسلامية المحمدية ، فقال :
[سورة المائدة (5) : آية 48]
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
قلت : (مهيمنا) أي : شاهدا ، والشرعة والمنهاج : قال ابن عطية : معناهما واحد ، وقال ابن عباس : أي : سبيلا وسنة. قلت : والظاهر : أن الشرعة يراد بها الأحكام الظاهرة ، وهى التي تصلح الظواهر ، والمنهاج يراد به علوم الطريقة الباطنية ، وهى التي تصلح الضمائر ، وهو مضمن علم التصوف.(2/46)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 47
يقول الحق جل جلاله : وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا محمد الْكِتابَ أي : القرآن ملتبسا بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من جنس الكتاب ، أي : مصدقا لما تقدمه من الكتب ، بموافقته لهم فى الأخبار والتوحيد ، وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ أي : شاهدا عليه بالصحة ، أو راقبا عليه من التغيير فى المعنى ، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ إليك وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ منحرفا عما جاءك من الحق إلى ما يشتهونه ، لكل نبى جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً ظاهرة يصلح بها الظواهر ، وَمِنْهاجاً أي : طريقا واضحا يسلك منها إلى معرفة الحق ، وهو ما يتعلق بإصلاح السرائر ، واستدل به على أنا غير متعبدين بالشرائع المتقدمة.
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً أي : جماعة واحدة متفقة على دين واحد ، وَلكِنْ عدد الشرائع وخالف بينها لِيَبْلُوَكُمْ أي : يختبركم فيما آتاكم من الشرائع المختلفة ، أيكم ينقاد ويخضع للحق أينما ظهر ، فإن اختلاف الأحوال وتنقلات الأطوار فيه يظهر الإقرار والإنكار ، فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أي : بادروا إلى الانقياد إلى الطاعات واتباع الحق والخضوع لمن جاء به أينما ظهر ، انتهازا للفرصة ، وحيازة لفضل السبق والتقدم ، إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فيظهر السابقون من المقصرين ، فَيُنَبِّئُكُمْ أي : يخبركم بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من أمر الدين بالجزاء الفاصل بين المحق والمبطل ، والمبادر والمقصر ، واختلاف الشرائع إنما هى باعتبار الفروع ، وأما الأصول كالتوحيد والإيمان بالرسل ، والبعث ، وغير ذلك من القواعد الأصولية ، فهى متفقة قال - عليه الصلاة السّلام - : «نحن أبناء علات ، أمهاتنا شتى وأبونا واحد» «1». يعنى التوحيد. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : اعلم أن نبينا - عليه الصلاة والسّلام - جمع اللّه له ما افترق فى غيره ، فذاته الشريفة جمعت المحاسن كلها ظاهرة وباطنة ، وكتابه جمع ما فى الكتب كلها فهو شاهد عليها ، وشريعته جمعت الشرائع كلها ، ولذلك كان الولي المحمدي هو أعظم الأولياء.
واعلم أن الحق - جل جلاله - جعل لكل عصر تربية مخصوصة بحسب ما يناسب ذلك العصر ، كما جعل لكل أمة شرعة ومنهاجا بحسب الحكمة ، فمن سلك بالمريدين تربية واحدة ، وأراد أن يسيرهم على تربية المتقدمين ، فهو جاهل بسلوك الطريق ، فلو كان السلوك على نمط واحد ما جدد اللّه الرسل بتجديد الأزمنة والأعصار ، فكل نبى وولى يبعثه اللّه تعالى بخرق عوائد زمانه ، وهى مختلفة جدا ، فتارة يغلب على الناس التحاسد والتباغض ، فيبعث بإصلاح ذات البين والتآلف والتودد وتارة يغلب حب الرياسة والجاه فيربى بالخمول وإسقاط المنزلة ، وتارة يغلب حب الدنيا وجمعها فيربى بالزهد فيها والتجريد والانقطاع إلى اللّه.
وهكذا فليقس مالم يقل. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) أخرجه بنحوه البخاري فى (أحاديث الأنبياء ، باب «واذكر فى الكتاب مريم ..») ومسلم فى (الفضائل ، باب فضائل عيسى عليه السّلام) عن أبى هريرة.(2/47)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 48
ولما قصدت اليهود أن يفتنوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بأن يحكم لهم بما يشتهون ، أنزل اللّه تعالى :
[سورة المائدة (5) : الآيات 49 الى 50]
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
قلت : (و أن احكم) : عطف على الكتاب ، أي : وأنزلنا إليك الكتاب والحكم بينهم بما أنزل اللّه ، أو على الحق ، أي : أنزلناه بالحق وبالحكم بما أنزل اللّه ، و(أن يفتنوك) : بدل اشتمال من الضمير ، أي : احذر فتنتهم ، واللام فى قوله : (لقوم) : للبيان ، أي : هذا الاستفهام لقوم يوقنون ، فإنهم هم الذين يعلمون ألّا أحسن حكما من اللّه.
يقول الحق جل جلاله لرسوله - عليه الصلاة والسّلام - : وَأمرناك أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ أي : بين اليهود بِما أَنْزَلَ اللَّهُ ، قيل هو ناسخ للتخيير المتقدم ، وقيل : لا ، والمعنى أنت مخير ، فإن أردت أن تحكم بينهم فاحكم بما أنزل اللّه وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ الباطلة ، التي أرادوا أن يفتنوك بها ، وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ، فيصرفوك عن الحكم به.
روى أن أحبار اليهود قالوا : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه ، فقالوا : يا محمد ، قد عرفت أنّا أحبار اليهود ، وأنّا إن اتبعناك اتبعتك اليهود كلهم ، وإن بيننا وبين قومنا خصومة ، فنتحاكم إليك ، فتقضى لنا عليهم ، ونحن نؤمن بك ونصدقك ، فأبى ذلك عليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وردّهم ، فنزلت الآية «1».
قال تعالى لنبيه - عليه الصلاة السّلام - : فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإيمان ، بل وأعرضوا عن اتباعك ، فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ فى الدنيا ، ويدخر جلّها للآخرة ، وقد أنجز اللّه وعده ، فأجلى بنى النضير ، وقتل بنى قريظة ، وسبا نساءهم وذراريهم ، وباعهم فى الأسواق ، وفتح خيبر ، وضرب عليه الجزية ، وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ خارجون عن طاعة اللّه ورسوله ، أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ أي : يطلبون منك حكم الملة الجاهلية التي هى متابعة الهوى ، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي : لا أحد أحسن حكما من اللّه تعالى عند أهل الإيقان لأنهم هم الذين يتدبرون الأمر ، ويتحققون الأشياء بأنظارهم ، فيعلمون ألّا أحسن حكما من اللّه عز وجل.
الإشارة : إذا كثرت عليك الخصوم الوهمية أو الواردات القلبية ، والتبس عليك أمرهم ، ولم تدر أيهما تتبع؟
فاحكم بينهم بالكتاب والسنة ، فمن وافق كتاب اللّه وسنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فاتبعه ، فإن من أمّر الكتاب والسّنة على نفسه نطق بالحكمة ، وإن وافق أكثر من واحد الكتاب أو السنة ، فانظر أثقلهم على النفس ، فإنه لا يثقل عليها إلا ما هو
___________
(1) أخرجه ابن جرير فى تفسير الآية ، والبيهقي فى دلائل النبوة (باب ما جاء فى دخول عبد اللّه بن سلام على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم) عن ابن عباس.(2/48)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 49
حق ، ولا تتبع أهواء النفوس والخواطر ، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل على قلبك من العلوم والأسرار ، فإن متابعة الهوى يعمى القلب عن مطالعة الأسرار ، إلا إن وافق السّنة.
قيل لعمر بن عبد العزيز : ما الدّ الأشياء عندك؟ قال : حق وافق هواى. وفى الحديث عنه صلّى اللّه عليه وسلّم «لا يؤمن أحدكم حتّى يكون هواه تابعا لما جئت به» ، وفى الحكم : «يخاف عليك أن تلتبس الطرق عليك ، إنما يخاف عليك من غلبة الهوى عليك».
فمن تولى عن هذا المنهاج الواضح ، وجعل يتبع الهوى ويسلك طريق الرخص ، فليعلم أن اللّه أراد أن يعاقبه ببعض سوء أدبه ، حتى يخرج عن منهاج السالكين ، والعياذ بالله ، أو يؤدبه فى الدنيا إن كان متوجها إليه.
ثم حذّر من صحبة أهل الأهواء ، فقال :
[سورة المائدة (5) : الآيات 51 الى 53]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53)
قلت : (يقول الذين آمنوا) قرىء بغير واو استئنافا ، وكأنه جواب عن سؤال ، أي : ماذا يقول المؤمنون حينئذ؟
فقال : يقول ... إلخ ، وقرىء بالواو والرفع عطف جملة على جملة ، وقرىء بالواو والنصب عطف على (فيصبحوا) أو (يأتى).
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ تنتصرون بهم ، أو تعاشرونهم معاشرة الأحباب ، أو تتوددون إليهم ، وأما معاملتهم من غير مودة فلا بأس ، ثم علل النهى عن موالاتهم فقال : هم بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي : لأنهم متفقون على خلافكم ، يوالى بعضهم بعضا لاتحادهم فى الدين ، وإجماعهم على مضادتكم ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ أي : من والاهم منكم فإنه من جملتهم.
قال البيضاوي : وهذا تشديد فى وجوب مجانبتهم ، كما قال صلّى اللّه عليه وسلّم «المؤمن والمشرك لا تتراءى نارهما» «1» أو لأن الموالين لهم كانوا منافقين. ه.
___________
(1) أخرجه أبو داود فى (الجهاد ، باب النهى عن قتل من اعتصم بالسجود) والترمذي فى (السير ، باب كراهة المقام بين أظهر المشركين) من حديث جرير : أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعث سرية إلى خثعم ، فاعتصم ناس بالسجود .. الحديث ، وفيه : وقال : أنا برىء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين ، قالوا : ولم؟ «لا تترأى نارهما».
ومعناه : لا ينبغى لمسلم أن يساكن الكفار حتى إذا أوقدوا نارا كان منهم بحيث يراها. أنظر معالم السنن للخطابى على هامش سنن أبى داود 3/ 105.(2/49)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 50
وقال ابن عطية : من تولهم بمعتقده ودينه فهو منهم فى الكفر واستحقاق النقمة والخلود فى النار ، ومن تولاهم بأفعاله من العضد ونحوه ، دون معتقد ولا إخلال بإيمان ، فهو منهم فى المقت والمذمة الواقعة عليهم وعليه. ه.
وسئل ابن سيرين عن رجل أراد بيع داره للنصارى يتخذونها كنيسة ، فتلا هذه الآية : وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ. ه. وفى أبى الحسن الصغير : أن بيع غير السلاح للعدو الكافر فسق ، وبيع السّلاح له كفر.
قلت : ولعله إذا قصد تقويتهم على حرب المسلمين ، وأما الفداء بالسلاح إذا لم يقبلوا غيره ، فيجوز فى القليل دون الكثير. وأجازه سحنون مطلقا ، إذا لم يرج فداؤه بالمال. انظر الحاشية.
إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي : ظلموا أنفسهم بموالاة الكفار.
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وهم المنافقون ، يُسارِعُونَ فِيهِمْ أي : فى موالاتهم ومناصرتهم ، يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ أي : يعتذرون بأنهم يخافون أن تصيبهم دائرة من الدوائر ، بأن ينقلب الأمر وتكون الدولة للكفار. روى أن عبادة بن الصامت قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : إن لى موالى من اليهود ، كثير عددهم ، وإنى أبرأ إلى اللّه ورسوله من ولايتهم ، فقال ابن أبى : إنى امرؤ أخاف الدوائر ، لا أبرأ من ولاية موالى ، فنزلت الآية ، قال تعالى ردا عليه : فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على أعدائه وإظهار المسلمين ونصرهم ، أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ ، يقطع شأفة اليهود ، من القتل والإجلاء ، فَيُصْبِحُوا أي : هؤلاء المنافقون ، عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ من الكفر والنفاق ، ومن مظاهرة اليهود نادِمِينَ.
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا حينئذ - أي : حين فتح اللّه على رسوله وفضح سريرة المنافقين - : أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ ، يقوله المؤمنون بعضهم لبعض ، تعجبا من حال المنافقين وتبجحا بما منّ اللّه عليهم من الإخلاص ، أو يقولونه لليهود لأن المنافقين حلفوا لهم بالمناصرة ، كما حكى تعالى عنهم وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ «1» قاله البيضاوي. وقوله : حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ. يحتمل أن يكون من كلام المؤمنين ، أو من قول اللّه تعالى ، شهادة عليهم بحبوط أعمالهم ، وفيه معنى التعجب ، كأنه قال : ما أحبط أعمالهم وما أخسرهم! واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قد تقدم مرارا النهى عن موالاة الغافلين ، وخصوصا الفجار منهم ، ويلتحق بهم القراء المداهنون وهم فسقة الطلبة الذين هم على سبيل الشيطان ، والفقراء الجاهلون وهم من لا شيخ لهم يصلح للتربية ، والعلماء المتجمدون ، فصحبة هؤلاء تقدح فى صفاء البصيرة ، وتخمد نور السريرة ، وكل من تراه من الفقراء يميل إلى هؤلاء خشية الدوائر ، ففيه نزعة من المنافقين. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) من الآية 11 من سورة الحشر.(2/50)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 51
ثم تكلم على بقية حفظ الإيمان ، فقال :
[سورة المائدة (5) : الآيات 54 الى 56]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56)
قلت : (من) : شرطية ، و(يرتدد) «1» : فعل الشرط ، فمن قرأه بالتفكيك فعلى الأصل ، ومن قرأه بالإدغام ففتحه تخفيفا. وجملة (فسوف يأتى) : جواب ، والعائد من الجملة محذوف ، أي : فسوف يأتى اللّه بقوم مكانهم .. إلخ.
و(أذلة) : نعت ثان لقوم ، جمع ذليل ، وأتى به مع على لتضمنه معنى العطف والحنو ، و(لا يخافون) : عطف على يجاهدون ، وجملة : (و هم راكعون) : حال ، إن نزلت فى علىّ رضى اللّه عنه ، أو عطف إن كانت عامة.
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ويرجع عنه بعد الدخول فيه ، فسيأتى اللّه بقوم مكانهم يُحِبُّهُمْ فيثبتهم على دينهم ، وَيُحِبُّونَهُ فيجاهدون من رجع عن دينه ، وهم أهل اليمن ، والأظهر أنهم أبو بكر الصدّيق وأصحابه ، الذين قاتلوا أهل الردة ، ويدل على ذلك الأوصاف التي وصفهم اللّه بها من الجد فى قتالهم ، والعزم عليه ، التي كانت من أوصاف الصدّيق ، وكذلك قوله : أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ فقد كان أبو بكر ضعيفا فى نفسه ، قويا فى ذات اللّه ، لم يخف فى اللّه لومة لائم ، حين لامه بعض الصحابة فى قتالهم.
وفى الآية إخبار بالغيب قبل وقوعه ، فقد ارتد من العرب فى أواخر عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثلاث فرق : بنو مدلج ، وكان رئيسهم الأسود العنسي ، تنبأ باليمن ، واستولى على بلادهم ، ثم قتله فيروز الديلمي ، ليلة قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من غدها ، وأخبر بموته الرسول - عليه الصلاة والسّلام - فسر المسلمون. وبنو حنيفة أصحاب مسيلمة الكذاب ، تنبأ باليمامة ، وكتب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : من مسيلمة رسول اللّه إلى محمد رسول اللّه ، أما بعد : فإن الأرض نصفها لى ونصفها لك ، فأجابه صلّى اللّه عليه وسلّم : «من محمد رسول اللّه إلى مسيلمة الكذاب ، أمّا بعد : فإنّ الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين» ، فحاربه أبو بكر بجند المسلمين ، وقتله وحشي قاتل حمزة ، وبنو أسد قوم طليحة ، تنبأ فبعث إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خالد بن الوليد فقاتله ، فهرب إلى الشام ، ثم أسلم وحسن إسلامه.
___________
(1) قرأ نافع وابن عامر (يرتدد) بدالين ، وقرأ الباقون (يرتد) بدال واحدة.(2/51)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 52
وفى عهد أبى بكر ، بنو فزارة قوم عيينة بن حصن ، وغطفان قوم قرة بن مسلمة ، وبنو سليم ، وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة ، وبعض تميم ، قوم سجاح المتنبئة زوجة مسيلمة ، وكندة قوم الأشعث بن قيس ، وبنو بكر بن وائل بالبحرين ، فكفى اللّه أمرهم على يديه. وفى مدة عمر رضى اللّه عنه غسان ، قوم جبلة بن الأيهم ، الذي ارتد من اللطمة.
فهؤلاء جملة من ارتد من العرب. فأتى اللّه بقوم أحبهم وأحبوه ، فجاهدوهم حتى ردوهم إلى دينهم. ومحبة اللّه للعبد : توفيقه وعصمته وتقريبه من حضرته. ومحبة العبد للّه : طاعته والتحرز من معصيته ، وسيأتى فى الإشارة الكلام عليها.
ثم وصفهم بقوله : أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي : عاطفين عليهم خافضين جناحهم لهم ، أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ شداد متغالبين عليهم ، وهذا كقوله فيهم : أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ، «1» يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ من ارتد عن دين اللّه ، وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ لصلابتهم فى دين اللّه ، وفيه إشارة إلى خطأ من لام الصّدّيق فى قتال أهل الردة ، وقالوا له : كيف تقاتل قوما يقولون : لا إله إلا اللّه؟ فقال : (و اللّه لنقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة) - فلم يلتفت إلى لومهم. ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ، الإشارة إلى ما خصهم اللّه به ، من المحبة والأخلاق الكريمة ، وَاللَّهُ واسِعٌ الفضل والعطاء عَلِيمٌ بمن هو أهله.
ولمّا نهى عن موالاة الكفار ذكر من هو أهل للموالاة فقال : إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا لم يقل : أولياؤكم بالجمع ، تنبيها على أن الولاية للّه على الأصالة ، ولرسوله وللمؤمنين على التبع ، ثم وصفهم بقوله :
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ أي : خاضعون للّه ، ولعباده متواضعون ، منقادون لأحكامه ، أو يتصدقون فى حال ركوعهم فى الصلاة ، حرصا على الخير ومسارعة إليه ، قيل : نزلت فى على - كرم اللّه وجهه - سأله سائل وهو راكع فى صلاة ، فطرح له خاتمه ، وقيل : عامة ، وذكر الركوع بعد الصلاة لأنه من أشرف أعمالها.
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ، أي يتخذهم أولياء ، فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ أي : فإنهم الغالبون ، ووضع الظاهر موضع المضمر ليكون كالبرهان عليه ، فكأنه قال : ومن يتول هؤلاء فهم حزب اللّه ، وحزب اللّه هم الغالبون ، وتنويها بذكرهم وتعظيما لشأنهم ، وتعريضا بمن يوالى غير هؤلاء ، فإنه حزب الشيطان ، وأصل الحزب : القوم يجتمعون لأمر حزبهم. قاله البيضاوي.
الإشارة : محبة الحق تعالى لعبده سابقة على محبته له ، كما أن توبته عليه سابقة لتوبته ، قال تعالى : يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ، ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا «2» ، قال أبو يزيد رضى اللّه عنه : غلطت فى ابتداء أمرى فى أربعة أشياء : توهمت أنى أذكره وأعرفه وأحبه وأطلبه ، فلما انتهيت ، رأيت ذكره سبق ذكرى ، ومعرفته تقدمت معرفتى ، ومحبته أقدم من محبتى ، وطلبه لى من قبل طلبى له. ه.
___________
(1) من الآية 29 من سورة الفتح.
(2) من الآية 118 من سورة التوبة. [.....](2/52)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 53
وفى الحكم : «أنت الذاكر من قبل الذاكرين ، وأنت البادئ بالإحسان من قبل توجه العابدين ، وأنت الجواد بالعطاء من قبل طلب الطالبين ، وأنت الوهاب ثم أنت لما وهبتنا من المستقرضين».
ومحبة اللّه لعبده : حفظه ورعايته ، وتقريبه واصطفاؤه لحضرته ، وقال القطب ابن مشيش - رضى اللّه عنه - :
المحبة أخذة من اللّه قلب من أحب ، بما يكشف له من نور جماله ، وقدس كمال جلاله ، وشراب المحبة : مزج الأوصاف بالأوصاف ، والأخلاق بالأخلاق ، والأنوار بالأنوار ، والأسماء بالأسماء ، والنعوت بالنعوت ، والأفعال بالأفعال.
قلت : ومعنى ذلك : غيبة العبد فى شهود الحق ، وهو مقام الفناء ، ثم قال رضى اللّه عنه : والشراب - أي : الشرب - سقى القلوب والأوصال والعروق من هذا الشراب ، حتى يسكر ، ويكون الشرب بالتدريب بعد التدريب والتهذيب ، أي يكون شرب الخمرة شيئا فشيئا ، ووقتا فوقتا ، حتى يتمكن من شهود المعاني بلا فترة ، فذلك الرّى ، وذلك بعد كمال التهذيب ، فيسقى كل على قدره ، فمنهم من يسقى بغير واسطة ، واللّه سبحانه يتولى ذلك منه ، (قلت : وهو نادر ، والغالب عليه الانحراف) ، ومنهم من يسقى من جهة الوسائط ، كالملائكة والعلماء والأكابر من المقربين ، (قلت :
قوله : كالملائكة ... تمثيل للوسائط ، فالملائكة للأنبياء ، والعلماء باللّه وأكابر المقربين لغيرهم) ، ثم قال : فمنهم من يسكر بشهود الكأس ، ولو لم يذق بعد شيئا ، فما ظنك بعد بالذوق ، وبعد بالشرب ، وبعد بالري ، وبعد بالسكر بالمشروب ، ؟! ثم الصحو بعد ذلك على مقادير شتى ، كما أن السكر أيضا كذلك. انظر بقية كلامه مع شرحه فى شرحنا لخمرية ابن الفارض.
وقال شيخنا البوزيدى رضى اللّه عنه : المحبة لها ثلاث مراتب : بداية ووسط ونهاية فبدايتها لأهل الخدمة ، كالعباد والزهاد والصالحين والعلماء المجتهدين. ووسطها لأهل الأحوال ، الذين غلب عليهم الشوق حتى صدرت منهم شطحات ورقصات وأحوال غريبة ربما ينكرها أهل ظاهر الشريعة ، فمنهم من يغلب عليه الجذب حتى يصطلم ، ومنهم من يبقى معه شىء من الصحو ، وهؤلاء تظهر عليهم كرامات وخوارق العادات ، ونهايتها لأهل العرفان ، أهل مقام الشهود والعيان ، الذين شربوها من يد الوسائط وسكروا بها ، وصحوا. ه. بالمعنى.
وفى الورتجبي ما حاصله : أن محبتهم بعد المشاهدة ، وإلا لم تكن محبة حقيقة لأن محبة الآلاء والنعماء معلولة ، ولا كذلك هذه ، لأن من رآه عشقه ، وكيف يرجع عنه من كان مسلوب القلب بعشقه لجماله؟ ولذلك لم يرتدوا عن دينهم الذي هو المحبة. ه.
وللمحبة علامات وثمرات ، ذكر بعضها الحق تعالى بقوله : أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي : متواضعين عاطفين عليهم ، أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ ، أي : القواطع ، غالبين عليهم ، يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي : (2/53)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 54
أنفسهم وأهواءهم ، وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ إذ لا يراقبون سوى المحبوب ، وليس للمحبة طريق إلا محض الفضل والكرم. ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ لكن صحبة المحبوبين عند اللّه من أسبابها العادية ، وهم أولياء اللّه الذين هم حزب اللّه ، فولايتهم والقرب منهم من أسباب القرب والمحبة ، ومن موجبات النظر والغلبة وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ ثم نهى عن صحبة ضدهم ، فقال :
[سورة المائدة (5) : الآيات 57 الى 58]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58)
قلت : (و الكفار) : من نصب عطف على الموصول الأول ، ومن جرّ فعلى الموصول الثاني.
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً من شدة كفرهم ، وغلبة سفههم مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ كاليهود والنصارى ، وَلا تتخذوا أيضا الْكُفَّارَ من المشركين أَوْلِياءَ وأصدقاء ، أو : لا تتخذوا من اتخذ دينكم هزوا ولعبا من أهل الكتاب ومن المشركين أولياء ، وَاتَّقُوا اللَّهَ فى موالاتهم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن الإيمان يقتضى الوقوف عند الأمر والنهى.
وكيف توالون من يستهزىء بدينكم ، وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ، روى أن نصرانيا بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول : أشهد أن محمدا رسول اللّه ، قال : أحرق اللّه الكاذب. فدخل خادمه ذات ليلة بنار ، وأهله نيام ، فطارت شرارة فى البيت ، فأحرقته وأهله). وفى الآية دلالة على مشروعية الأذان من القرآن. ثم قال تعالى : ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ فإن السفه يؤدى إلى الجهل بالحق والهزء به ، والعقل يقتضى المنع من الجهل والإقرار بالحق وتعظيمه. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قد حذّر الحق جل جلاله من صحبة الأشرار ، ويفهم منه الترغيب فى موالاة الأخيار ، وهم الصوفية الأبرار ، ففى صحبتهم سر كبير وخير كثير ، ولابن عباد رضى اللّه عنه فى نظم الحكم :
إنّ التّواخى فضله لا ينكر وإن خلا من شرطه لا يشكر
والشرط فيه أن تواخى العارفا عن الحظوظ واللحوظ صارفا
مقاله وحاله سيّان ما دعونا إلّا إلى الرحمان
أنواره دائمة السّراية فيك وقد حفّت به الرّعاية
وفى الحكم : «لا تصحب من لا ينهضك حاله ، ولا يدلك على اللّه مقاله». وباللّه التوفيق.(2/54)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 55
ثم وبخ أهل الكتاب ، فقال :
[سورة المائدة (5) : آية 59]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59)
قلت : نقم - بفتح القاف - ينقم - بالكسر - ، بمعنى : عاب وأنكر ، وانتقم إذا كافأه على إنكاره ، ويقال : نقم - بالكسر - ينقم - بالفتح - وقرىء به فى الشاذ ، و(أن أكثركم) : عطف على (آمنا) أي : ما تعيبون منا إلا أنا مؤمنون وأنتم فاسقون.
يقول الحق جل جلاله : قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا أي : ما تنكرون علينا وتعيبونه منا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ من الكتب كلها ، وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ خارجون عن هذا الإيمان ، وهذا أمر لا ينكر ولا يعاب ، ونظير هذا فى الاستثناء العجيب قول النابغة :
لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب.
الإشارة : أهل الخصوصية يقرون أحوال أهل الشريعة كلها ، ولا ينكرون على أهلها شيئا من أمورهم ، وأهل الشريعة ينكرون كثيرا من أحوال أهل الخصوصية ويعيبونها عليهم ، وهى من أفضل القربات إلى اللّه عندهم ، فيقولون لهم : هل تنقمون منا إلا أن آمنا بشريعتكم ، وأنتم خارجون عن حقيقتنا ورؤية خصوصيتنا ، لكن أهل الشريعة معذورون فى إنكارهم ، إذ ذاك مبلغهم من العلم ، فإن كان إنكارهم غيرة على ما فهموا من الدين فعذرهم صحيح ، وإن كان حسدا أو حمية فهم ممقوتون عند اللّه. واللّه تعالى أعلم.
ولما جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم جماعة من اليهود ، فقالوا يا محمد : أخبرنا بمن تؤمن من الرسل ، فتلا عليهم :
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ إلى قوله : وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى «1» فلما سمعوا ذكر عيسى قالوا : ما رأينا شرا من دينك ، فأنزل اللّه تعالى فى الرد عليهم :
[سورة المائدة (5) : آية 60]
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60)
قلت : مشاركة اسم التفضيل هنا باعتبار زعمهم واعتقادهم ، وإلا فلا مشاركة بين المسلمين وبينهم فى الشر والضلال ، و(مثوبة) : تمييز عن شر ، وضع موضع الجزاء ، وأصل المثوبة : فى الخير ، والعقوبة : فى الشر ، فوضع هذا المثوبة موضع العقوبة تهكما بهم ، كقوله :
تحيّة بينهم ، ضرب وجيع.
___________
(1) الآية 84 من سورة آل عمران.(2/55)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 56
و(من لعنة اللّه) : إما خبر ، أي : هو من لعنه اللّه ، أو بدل من شر ، ولا بد من حذف مضاف ، إما من الأول أو الثاني ، أي : بشر من أهل ذلك الدين من لعنه اللّه ، أو دين من لعنه اللّه.
ومن قرأ : (عبد) بفتح الباء ، ففعل ماض ، صلة لموصول محذوف ، أي : ومن عبد ، و(الطاغوت) : مفعول به ، ومن قرأ بضم الباء ، فاسم للمبالغة ، كيقظ ، أي : كثير اليقظة ، وهو عطف على القردة ، والطاغوت مضاف.
يقول الحق جل جلاله : قُلْ لهم : هَلْ أخبركم بأقبح من ذلك الدين الذي قلتم ما رأيتم شرا منه ، هو دين مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ ، أو نفس من لعنه اللّه ، أي : أبعده من رحمته وَغَضِبَ عَلَيْهِ بكفره وعصيانه ، وهم اليهود ، وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ أي : مسخ بعضهم قردة وخنازير ، وهم أصحاب السبت ، مسخ شبابهم قردة ، وشيوخهم خنازير ، وَجعل منهم أيضا من عَبَدَ الطَّاغُوتَ ، وهم عباد العجل ، أو الكهنة ، أو كل من أطاعوه فى معصية اللّه ، أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً أي : أقبح مكانا ، أي : أقبح مرتبة وأخس حالا ، جعل مكانهم شرا ، ليكون أبلغ فى الدلالة على شريتهم ، وَهم أيضا أَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ أي : عن وسط الطريق ، بل حادوا عنه إلى طرق تفريط أو إفراط ، حيث تركوا طريق الإسلام ، الذي هو الصراط المستقيم.
الإشارة : من كان متلطخا بالمعاصي والذنوب ، وباطنه محشو بالمساوئ والعيوب كالحسد والجاه وحب الدنيا وسائر أمراض القلوب ، ثم جعل يطعن فى طريق الخصوص ، يقال له : هل أنبئك بشر من ذلك ، هو من أبعده اللّه بسبب المعاصي والذنوب ، وغضب عليه بسبب أمراض القلوب ، ومسخ قلبه عن مطالعة أنوار الغيوب ، فهذا أقبح مكانا وأضل سبيلا ، فكل من أولع بالطعن على الذاكرين ، يمسخ قلبه بالغفلة والقسوة ، حتى يفضى إلى سوء الخاتمة. والعياذ باللّه.
ثم وسمهم الحق تعالى بالنفاق ، أي : اليهود ، فقال :
[سورة المائدة (5) : آية 61]
وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61)
قلت : جملة : (و قد دخلوا) ، وجملة : (و هم قد خرجوا) ، حالان من فاعل (قالوا) ، ودخلت (قد) على دخلوا وخرجوا تقريبا للماضى من الحال ، ليصح وقوعه حالا أي : ذلك حالهم فى دخولهم وخروجهم على الدوام ، وأفادت أيضا - لما فيها من التوقع - أن أمارات النفاق كانت لائحة عليهم.
يقول الحق جل جلاله فى ذكر مساوئ اليهود : وَإِذا جاؤُكُمْ ودخلوا عليكم ، أظهروا الوفاق لكم ، وقالُوا آمَنَّا بدينكم وَهم قَدْ دَخَلُوا عليكم ملتبسين بِالْكُفْرِ فى قلوبهم ، وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا أيضا بِهِ ، فلم ينفع فيهم وعظ ولا تذكير ، بل كتموا النفاق وأظهروا الوفاق ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ فيفضحهم على رؤوس الأشهاد.(2/56)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 57
الإشارة : من سبق له الطرد والإبعاد لا تنفعه خلطة أهل المحبة والوداد ، بل يخرج من عندهم كما دخل عليهم ، لا ينفع فيه وعظ ولا تذكير ، ولا ينجح فيه زاجر ولا نذير ، وأما من سبقت له العناية فلا يخرج من عندهم إلا مصحوبا بالهداية والرعاية ، إذا كان فى أسفل سافلين أصبح فى أعلى عليين لأنهم قوم لا يشقى جليسهم. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر بقية مساوئ اليهود ، فقال :
[سورة المائدة (5) : الآيات 62 الى 64]
وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
قلت : (لو لا) : إذا دخلت على الماضي أفادت التوبيخ ، وإذا دخلت على المستقبل أفادت التحضيض.
يقول الحق جل جلاله : وَتَرى يا محمد ، أو يا من تصح منه الرؤية كَثِيراً من اليهود يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ أي : فى الذنوب والمعاصي المتعلقة بهم فى أنفسهم ، وَالْعُدْوانِ المتعلقة بغيرهم ، كالتعدى على أموال الغير وأعراضهم وأبدانهم ، وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ : الحرام كالرشا والربا وغير ذلك ، لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي :
قبح عملهم بذلك ، وتناهى فى القبح.
لَوْ لا يَنْهاهُمُ أي : هلا ينهاهم الرَّبَّانِيُّونَ أي : عبّادهم ورهبانهم ، (و الأحبار) أي : علماؤهم وأساقفتهم ، عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ أي : الكذب ، وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ : الحرام ، لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ من السكوت عنهم ، وعدم الإنكار عليهم ، عبّر أولا بيعلمون وثانيا بيصنعون لأن الصنع أبلغ ، ولأن الصنع عمل بعد تدريب وتدقيق وتحرى إجادته وجودته ، بخلاف العمل ، ولا شك أن ترك التغيير والسكوت على المعاصي من العلماء وأولى الأمر أقبح وأشنع من مواقعة المعاصي ، فكان جديرا بأبلغ الذم ، وأيضا : ترك التغيير لا يخلو من تصنع ، فناسب التعبير بيصنعون ، وفى الحديث عنه صلّى اللّه عليه وسلّم : «ما من رجل يجاور قوما فيعمل بالمعاصي بين أظهرهم إلّا أوشك اللّه تعالى أن يعمّهم منه بعقاب». وقد قال تعالى : وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً «1» ، فالوبال الذي يترتب على ترك الحسبة أعظم من الوبال الذي يترتب على المعصية ، فكان التوبيخ على ترك الحسبة أعظم.
___________
(1) من الآية 25 من سورة الأنفال.(2/57)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 58
ثم نعى عليهم مقالاتهم الشنيعة ، التي هى من جملة قولهم الإثم ، فقال : وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ أي :
مقبوضة عن بسط الرزق. روى أن اليهود أصابتهم سنة جدبة بشؤم تكذيبهم للنبى صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا هذه المقالة الشنيعة ، والذي قالها فنحاص ، ونسبت إلى جملتهم لأنهم رضوا بقوله ، فغل اليد كناية عن البخل ، وبسطها كناية عن الجود ، ومنه : وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ «1».
ثم رد عليهم فقال : غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ، يحتمل أن يكون دعاء أو خبرا ، ويحتمل أن يكون فى الدنيا بالأسر والقبض ، أو فى الآخرة بجعل الأغلال فيها إلى عنقهم فى جهنم ، قال تعالى : بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ أي : نعمه مبسوطة على عباده ، سحاء عليهم ، الليل والنهار ، وإنما ثنيت اليدان هنا ، وأفردت فى قول اليهود ليكون أبلغ فى الرد عليهم ، ومبالغة فى وصفه تعالى بالجود والكرم ، كما تقول : فلان يعطى بكلتا يديه إذا كان عظيم السخاء ، أو كناية عن نعم الدنيا والآخرة ، أو عن ما يعطيه استدارجا وما يعطيه للإكرام. ثم أكده بقوله : يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ أي : هو مختار فى إنفاقه ، يوسع تارة ويضيق تارة أخرى ، على حسب مشيئته ومقتضى حكمته.
ولمّا عميت بصيرتهم بالكفر ، وقست قلوبهم بالذنوب ، كانوا كلما ازدادوا تذكيرا بالقرآن ، زادوا فى العتو والطغيان ، كما قال تعالى : وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً إذ هم متعصبون بالكفر والطغيان ، ويزدادون طغيانا وكفرا بما يسمعون من القرآن ، كما يزداد المريض مرضا من تناول الغذاء الصالح للأصحاء.
ومن مساوئهم أيضا : تفريق قلوبهم بالعداوة والشحناء ، كما قال تعالى : وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فلا تتوافق قلوبهم ولا تجتمع آراؤهم كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ أي : كلما أرادوا حرب الرسول - عليه الصلاة السّلام - وإثارة شر عليه ، ردهم اللّه ، وأبطل كيدهم ، بأن أوقع بينهم منازعة كف بها شرهم ، أو : كلما أرادوا حرب عدو لهم هزمهم اللّه ، فإنهم لما خالفوا حكم التوراة سلط عليهم بختنصر ، ثم أفسدوا فسلط عليهم فطرس الرومي ، ثم أفسدوا فسلط عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فسلط عليهم المسلمون. فكان شأنهم الفساد ، ولذلك قال تعالى فيهم : وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أي : الفساد بإثارة الحروب والفتن ، وهتك المحارم ، واجتهادهم فى الحيل والخدع للمسلمين ، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ أي : لا يرضى فعلهم فلا يجازيهم إلا شرا وعقوبة.
___________
(1) من الآية 29 من سورة الإسراء.(2/58)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 59
الإشارة : قال الورتجبي : فى الآية تحذير الربانيين العارفين باللّه وبحقوق اللّه ، والأحبار العلماء باللّه وبعذاب اللّه لمن عصاه ، وبثواب اللّه لمن أطاعه لئلا يسكنوا عن الزجر للمبطلين والمغالطين ، المائلين عن طريق الحق إلى طريق النفس ، وبيّن تعالى أن من داهن فى دينه عذب وإن كان ربانيا. ه. وفى بعض الأثر : «إذا رأى العالم المنكر وسكت ، فعليه لعنة اللّه». والذي يظهر أن نهى الربانيين يكون بالهمة والحال ، كقضية معروف الكرخي وغيره ، ونهى الأحبار يكون بالمقال ، وقد تقدم هذا. واللّه تعالى أعلم.
ثم ندبهم إلى الإسلام فقال :
[سورة المائدة (5) : الآيات 65 الى 66]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66)
يقول الحق جل جلاله : وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ اليهود والنصارى ، آمَنُوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وبما جاء به ، وَاتَّقَوْا ما ذكرنا من معاصيهم ومساويهم ، لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ المتقدمة ، ولم نؤاخذهم بها ، وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ مع المؤمنين ، وفيه تنبيه على أن الإسلام يجب ما قبله ولو عظم ، وأن الكتابي لا يدخل الجنة إلا أن يسلم.
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ بالإيمان بما فيهما ، وإذاعة علمهما ، والقيام بأحكامهما ، من غير تفريق بينهما ، وآمنوا بما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ ، يعنى : بسائر الكتب المنزلة ، ومن جملتها القرآن العظيم ، فإنهم لما كلفوا بالإيمان بها صارت كأنها منزلة عليهم ، فلو فعلوا ذلك لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ أي :
لوسعنا عليهم أرزاقهم ، وبسطنا عليهم النعم بأن يفيض عليهم بركات من السماء والأرض ، أو : لأكلوا من فوقهم بكثرة ثمرة الأشجار ، ومن تحت أرجلهم بكثرة الزروع ، أو من فوقهم ما يجنون من ثمار أشجارهم ، ومن تحت أرجلهم ما يتساقط منها ، والمراد : بيان علة قبض الرزق عنهم ، وأن ذلك بشؤم كفرهم ومعاصيهم ، لا لقصور القدرة عن ذلك.
ولو أنهم أقاموا ما ذكرنا لو سعنا عليهم ، ولحصل لهم خير الدارين ، مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ أي : جماعة عادلة غير غالية ولا مقصرة ، وهم الذين آمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ أي : قبح عملهم ، وفيه معنى التعجب ، أي : ما أسوأ عملهم! ، وهو المعاندة وتحريف الحق والإعراض عنه ، والإفراط فى العداوة. قاله(2/59)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 60
البيضاوي. قال فى الحاشية : وفى الآية شاهد لما ورد من افتراق أهل الكتابين على فرق ، كما أن شاهد افتراق هذه الأمة آية : وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ «1» ، وهذه هى الناجية من هذه الأمة ه. يعنى التي تهدى بالحق إلى الحق ، وتعدل به فى جميع الأمور.
الإشارة : كل من حقق الإيمان الكامل والتقوى الكاملة ، وسع اللّه عليه فى أرزاق العلوم ، وفتحت له مخازن الفهوم ، ودخل جنة المعارف ، فلم يشتق إلى جنة الزخارف ، وقال الورتجبي : لو كانوا على محل التحقيق فى المعرفة لأكلوا أرزاق اللّه باللّه من خزائن غيبه ، كأصحاب المن والسلوى والمائدة من السماء ، ويفتح لهم كنوز الأرض وهم على ذلك ، بإسقاط رؤية الوسائط. ه.
وقال القشيري : لو سلكوا سبيل الطاعات لوسعنا عليهم أسباب المعيشة ، وسهلنا لهم الحال ، إن ضربوا يمنة ، لا يلقون غير اليمن ، وإن ضربوا يسرة ، لا يجدون إلا اليسر. ه.
ثم أمر رسوله بالتبليغ من غير مبالاة بأهل التشغيب ، فقال :
[سورة المائدة (5) : آية 67]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67)
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ جميع ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ غير مراقب أحدا ولا خائف مكروها ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ بأن لم تبلغ جميع ما أمرتك وكتمت شيئا منه ، فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ أي :
كأنك ما بلغت شيئا من رسالة ربك لأن كتمان بعضها يخل بجميعها ، كترك بعض أركان الصلاة. وأيضا كتمان البعض يخل بالأمانة الواجبة فى حق الرسل ، فتنتقض الدعوة للإخلال بالأمانة ، وذلك محال. ولا يمنعك أيها الرسول عن التبليغ خوف الإذاية فإن اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ بضمان اللّه وحفظه ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ أي : لا يمكنهم مما يريدونه منك. وقد قصده قوم بالقتل مرارا ، فمنعهم اللّه من ذلك كما فى السير عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : «بعثني اللّه برسالته ، فضقت بها ذرعا ، فأوحى اللّه لى : إن لم تبلّغ رسالتى عذّبتك ، وضمن لى العصمة فقويت» «2».
___________
(1) من الآية 181 من سورة الأعراف.
(2) عزاه المناوى فى الفتح السماوي 2/ 574 لاسحاق بن راهويه فى مسنده من حديث أبى هريرة.(2/60)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 61
وعن أنس : كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يحرس ، حتى نزلت ، فأخرج رأسه من قبة أدم ، فقال : «انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمنى اللّه من الناس» «1». وظاهر الآية يوجب تبليغ جميع ما أنزل اللّه. ولعل المراد تبليغ ما يتعلق به مصالح العباد ، وقصد بإنزاله اطلاعهم عليه ، فإن من الأسرار الإلهية ما يحرم إفشاؤه. قاله البيضاوي.
الإشارة : قال الورتجبي : أمره بإبلاغ ما أنزل إليه من الذي يتعلق بأحكام العبودية ، ولم يأمرهم بأنه يعرفهم أسرار ما بينه وبين اللّه ، وما بين اللّه وبين أنبيائه وأوليائه. ثم قال : (و اللّه يعصمك) أي : يعصمك أن يوقعك أحد فى التمويه والغلط والحيل فى طريقك إلىّ ، وهذا لكونه مختارا بالرسالة ، وحقائق الرسالة فى الرسول : ظهور أنوار الربوبية فى قلبه ، وبيان أحكام العبودية فى سرّه. وقال الأستاذ ، يعنى القشيري : يقال فى قوله : (و اللّه يعصمك من الناس) أي : حتى لا تغرق فى بحر التوهم ، بل تشاهدهم كما هم وجودا بين طرفى العدم. انتهى نقل الورتجبي.
وقال القشيري أيضا : لا تكتم شيئا مما أوحينا إليك ملاحظة غير ، إذ لا غير فى التحقيق إلا رسوما موضوعة ، أحكام القدرة عليها جارية. ثم قال : (و اللّه يعصمك) أي : يعصم ظاهرك من أن يمسّك من أذاهم شىء ، فلم يتسلط عليه بعد هذا عدو ، أي : وما وقع له من الشج وغيره كان قبل ذلك ، وقيل : المراد عصمته من القتل ، ثم قال :
ونصون سرّك عنهم ، حتى لا يقع على إحساسهم. وقال شيخنا السلمى : قيل : يعصمك منهم أن يكون منك إليهم التفات ، أو يكون لك بهم اشتغال. انتهى.
قلت : صدق الباطن ، لا ينفك عنه من أول الأمر لأنه من ضروريات كونه رسول اللّه باللّه ، وهذا قد يتحقق للمأذون من أتباعه ، فضلا عنه ، والظاهر ما صدر به من عصمة ظاهره ، أو أن يقع خلل فى طريقه بتمويه أو غلط أو حيلة ، كما أشار إليه الورتجبي. فلله دره. قاله المحشى الفاسى. واللّه تعالى أعلم.
ثم أبطل دين من حاد عن رسالة نبيه ، فقال :
[سورة المائدة (5) : آية 68]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68)
يقول الحق جل جلاله : قُلْ يا محمد : يا أَهْلَ الْكِتابِ اليهود والنصارى ، لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ أي :
لستم على دين يعتد به ، حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ على لسان محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، ومن إقامتها الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم والإذعان لحكمه ، فإن الكتب الإلهية بأسرها ، أمرت بالإيمان والإذعان ، لمن صدقته المعجزة ، وهى ناطقة بوجوب الطاعة له ، والمراد بإقامة الكتابين : إقامة أصولهما وما لم ينسخ من فروعهما ، لا جميعهما. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) أخرجه الترمذي فى (التفسير ، سورة المائدة) والحاكم فى (التفسير 2/ 313) ، وصححه ، ووافقه الذهبي ، كما أخرجه البيهقي فى الدلائل (باب قول اللّه عز وجل : يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من حديث السيدة عائشة رضى اللّه عنها.(2/61)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 62
الإشارة : ما قيل لأهل الكتاب يقال لهذه الأمة المحمدية على طريق الإشارة ، فيقال لهم : لستم على شىء ، يعبا به من أعمالكم وأحوالكم ، حتى تقيموا كتابكم القرآن ، فتحلوا حلاله ، وتحرموا حرامه ، وتقفوا عند حدوده ، وتمتثلوا أوامره ، وتجتنبوا نواهيه ، وتقيموا - أيضا - سنة نبيكم فتقتدوا بأفعاله ، وتتأدبوا بآدابه ، وتتخلقوا بأخلاقه ، على جهد الاستطاعة ، ولذلك قال بعض السلف : ليس علىّ فى القرآن أشد من هذه الآية : قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ الآية. كما فى البخاري «1».
ثم ذكر عتو اليهود وطغيانهم ، فقال :
...
وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ يقول الحق جل جلاله : وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً من اليهود ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القرآن والوحى طُغْياناً وَكُفْراً على ما عندهم ، فلا تحزن عليهم بزيادة طغيانهم وكفرهم بما تبلغه إليهم ، فإن ضرر ذلك لا حق بهم ، لا يتخطاهم ، قال ابن عباس : جاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم رافع بن حارثة وسلام بن مشكم وملك بن الصيف ورافع بن حريملة فى جماعة من اليهود ، فقالوا : يا محمد ، ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ، وأنك مؤمن بالتوراة وبنبوة موسى ، وأن جميع ذلك حق؟ قال : بلى ، ولكنكم أحدثتم وكتمتم وغيرتم». فقالوا : إنا نأخذ بما فى أيدينا فإنه الحق ، ولا نصدقك ولا نتبعك ، فنزلت فيهم هذه الآية.
الإشارة : من شأن أهل المحبة والاعتقاد ، الذين سبقت لهم من اللّه العناية والوداد ، إذا ازداد على أشياخهم فيض علوم وأنوار وأسرار زادهم ذلك يقينا وإيمانا وعرفانا ، يجدون حلاوة ذلك فى قلوبهم وأسرارهم فيزدادون قربا وشهودا ، وأهل العناد الذين سبق لهم من اللّه الطرد والبعاد إذا سمعوا بزيادة علوم وأنوار على أولياء اللّه ، زادهم ذلك طغيانا وبعدا ، فلا ينبغى الالتفات إليهم ، ولا الاحتفال بشأنهم ، فإن اللّه كاف شرهم ، وباللّه التوفيق.
ثم رغب أهل الملل فى الإسلام ، فقال :
[سورة المائدة (5) : آية 69]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
قلت : (و الصابئون) : مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن باللّه واليوم الآخر فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، والصابئون كذلك. انظر البيضاوي وابن هشام.
___________
(1) القائل هو سيدنا سفيان بن عيينة ، وذكره البخاري فى (الرقاق - باب الرجاء والخوف).(2/62)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 63
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ : قوم بين النصارى والمجوس ، أو عباد الكواكب ، أو قوم بقوا على دين نوح - عليه السّلام - وَالنَّصارى : قوم عيسى ، مَنْ آمَنَ منهم بِاللَّهِ إيمانا حقيقيا بلا شرك ولا تفريق ، وآمن باليوم الآخر ، وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ، قال ابن عباس : نسخها : وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ «1» ، وقيل : إن هؤلاء الطوائف من آمن منهم إيمانا صحيحا فله أجره ، فيكون فى حق المؤمنين : الثبات عليه إلى الموت ، وفى حق غيرهم : الدخول فى الإسلام ، فلا نسخ. وقيل : إنها فيمن كان قبل بعث النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فلا نسخ أيضا. قاله ابن جزى.
الإشارة : الذي طلب اللّه من العباد ورغبهم فى تحصيله ، وجعله سببا للنجاة من كل هول فى الدنيا والآخرة ثلاثة أمور : أحدها : تحقيق الإيمان باللّه ، والترقي فيه إلى محل شهود المعبود ، الثاني : تحقيق الإيمان بالبعث وما بعده ، حتى يكون نصب عينيه ، ويقربه كأنه واقع يشاهده إذ كل آت قريب. والثالث : إتقان العمل إظهارا للعبودية ، وتعظيما لكمال الربوبية ، على قدر الاستطاعة من غير تفريط ولا إفراط ، وباللّه التوفيق.
ثم خص اليهود بالعتاب لعظم جرأتهم ، فقال :
[سورة المائدة (5) : الآيات 70 الى 71]
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71)
قلت : المضارع إذا وقع بعد العلم وجب إهمال (أن) معه ، فتكون مخففة ، وإن وقعت بعد الظن يصح فيها الوجهان ، فمن قرأ : (و حسبوا ألا تكون) بالرفع ، فأن مخففة ، ومن قرأ بالنصب فأن مصدرية. والفرق بين العلم والظن ، أن علم العبد إنما يتعلق بالحال ، و(أن) تخلص للاستقبال ، فلا يصح وقوعها بعد العلم ، فأهملت وكانت مخففة من الثقيلة ، بخلاف الظن فيتعلق بالحال والاستقبال ، فصح وقوع (أن) بعده. و(كلما) : ظرف لكذبوا أو يقتلون ، و(كثير) : بدل من فاعل عموا وصموا.
يقول الحق جل جلاله : لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ أن يعملوا بأحكام التوراة ، وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا يجددون العهد ويحثون على الوفاء به ، ثم إنهم طغوا وعتوا كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ من عند اللّه بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ من الشرائع التي تخالف أهواءهم ومشاق الطاعة ، فَرِيقاً منهم كذبوهم وَفَرِيقاً يقتلونهم ، أي : كذبوا فريقا كداود وسليمان ، وفريقا قتلوهم بعد تكذيبهم كزكريا ويحيى ، وقصدوا قتل عيسى عليه السّلام فليس ما فعلوا معك ببدع منهم ، فلهم سلف فى ذلك.
___________
(1) من الآية 85 من سورة آل عمران.(2/63)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 64
وَحَسِبُوا أي : ظنوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي : لا يقع بهم بلاء وعذاب بقتل الأنبياء - عليهم السّلام - ، وتكذيبهم ، فَعَمُوا عن أدلة الهدى ، أو عن الدين ، وَصَمُّوا عن استماع الوعظ والتذكير ، كما فعلوا حين عبدوا العجل ، ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لما تابوا ، ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا لما قتلوا الأنبياء وسفكوا الدماء ، واستمر على ذلك كَثِيرٌ مِنْهُمْ ، وقليل منهم بقوا على العهد وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ فيجازيهم وفق أعمالهم.
الإشارة : لقد أخذ اللّه العهد على جميع بنى آدم فى شأن حمل الأمانة ، التي حملها أبوهم آدم ، وبعث الأنبياء والأولياء يجددون العهد فى حملها ، ويعرفون الناس بشأنها ، وهى المعرفة الخاصة ، التي هى شهود عظمة الربوبية فى مظاهر العبودية ، وحملها لا يكون إلا بمخالفة الهوى وخرق عوائد النفوس ، ولا يطيقها إلا الخصوص ، فلذلك كثر الإنكار على الأنبياء والأولياء إذ لم يأت أحد بخرق العوائد إلا عودى وأنكر ، فكلما جاءهم رسول أو ولى بما لا تهوى أنفسهم فريقا منهم كذبوا وفريقا يقتلون ، وظنوا أن اللّه لا يعاقبهم على ذلك ، ولا تصيبهم فتنة فى قلوبهم على ما هنالك ، فعموا عن مشاهدة أنوار الحق ، وصموا عمن يذكرهم بالحق ، وقد تلمع لهم تارة قبس من أنوارهم ، فيتوبون ، ثم يصرّون على الإنكار. واللّه بصير بما يعملون.
ثم ذكر مساوئ النصارى ، فقال :
[سورة المائدة (5) : الآيات 72 الى 76]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
يقول الحق جل جلاله : لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ لما رأوا على يديه من الخوارق ، وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ المعنى : لقد كفر من اتخذ عيسى إلها مع أنه كان يتبرأ من هذا الاعتقاد ، ويقول لبنى إسرائيل : اعبدوا اللّه خالقى وخالقكم.(2/64)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 65
والمشهور فى الأخبار ، أن النصارى هم الذين اعتقدوا هذا الاعتقاد دون بنى إسرائيل ، نعم ، أصل دخول هذه الشبهة على النصارى من يهودى يقال له : بولس ، حسدا منه ، وذلك أنه دخل فى دينهم ، وفرق أموالهم ، وتأهب للتعبد معهم ، ثم سار إلى بيت المقدس وقطع نفسه تقربا عند قبرى مريم وعيسى - عليهما السلام - فى زعمهم ، وكان معه رجلان اسمهما : يعقوب وناسور ، فأخذ يعلمهما ذلك الفساد ويقول لهما : عيسى هو اللّه أو ابن اللّه ، فلما قطع نفسه صار الرجلان يفشيان ذلك عنه ، فشاع مذهب الرجلين ، وكان منهما الطائفة اليعقوبية والناسورية.
ثم هددهم على الشرك فقال ، أي : عيسى : إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فى عبادته ، أو فيما يختص به من الصفات والأفعال ، فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ أي : يمنع من دخولها لأنها دار الموحدين ، وَمَأْواهُ النَّارُ أي : محله النار ، لأنها معدة للمشركين ، وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ أي : وما لهم أحد ينصرهم من النار. ووضع المظهر موضع المضمر ، تسجيلا على أنهم ظلموا بالإشراك ، وعدلوا عن طريق الحق ، وهو يحتمل أن يكون من تمام كلام عيسى عليه السّلام ، أو من كلام اللّه تعالى.
ثم ذكر تعالى صنفا آخر منهم ، فقال : لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ أي : أحد ثلاثة ، عيسى وأمه وهو ثالثهم ، أو أحد الأقانيم الثلاثة ، الأب والابن وروح القدس ، يريدون بالأب الذات ، وبالابن العلم ، وبروح القدس الحياة ، لكن فى إطلاق هذا اللفظ إيهام وإيقاع للغير فى الكفر ، وهذه المقالة - أعنى التثليث ، هى قوله النسطورية والملكانية ، وما سبق فى قوله : إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ قول اليعقوبية ، القائلة بالاتحاد ، وكلهم ضالون مضلون ، وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ فى ذاته وصفاته وأفعاله ، لا شريك له فى ألوهيته ، متصلا ولا منفصلا ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ ، ولم يوحدوا لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي : ليمس الذين بقوا منهم على الكفر ولم يتوبوا ، عذاب موجع.
أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ أي : أفلا يرجعون عن تلك العقائد الزائفة والأقوال الفاسدة ، ويستغفرونه بالتوحيد والتوبة عن الاتحاد والحلول ، فإن تابوا غفر اللّه لهم ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وهذا الاستفهام :
تعجب من إصرارهم ، مع كون التوبة مقبولة منهم.
ثم رد عليهم بقوله : مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ بشر قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ، وخصه اللّه بآيات ، كما خصهم بها ، فإن كان قد أحيا اللّه الموتى على يديه ، فقد أحيا العصى ، وجعلها حية تسعى على يد موسى ، بل هو أعجب ، وإن كان قد خلقه اللّه من غير أب ، فقد خلق آدم من غير أب وأم ، وهو أغرب ، وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ فقط ، كسائر النساء اللاتي يلازمن الصدق أو التصديق ، كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ ويفتقران إليه افتقار(2/65)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 66
الحيوانات ، قال البيضاوي : بيّن أولا أقصى مالهما من الكمال ، ودل أنه لا يوجب لهما ألوهية لأن كثيرا من الناس يشاركهما فى مثله ، ثم نبه على نقصهما ، وذكر ما ينافى الربوبية ويقتضى أن يكون من عداد المركبات الكائنة الفاسدة ، أي : القابلة للفساد ، ثم عجب ممن يدعى الربوبية لهما مع أمثال هذه الأدلة الظاهرة ، فقال : انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي : كيف يصرفون عن استماع الحق وتأمله ، و(ثم) للتفاوت بين العجبين ، أي : أن بياننا للآيات عجب ، وإعراضهم عنها أعجب. ه ثم أبطل عبادتهم لعيسى عليه السّلام فقال : قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً بل هو عاجز عن صرفه عن نفسه وجلب الخير لها ، فكيف يقدر أن يدفعه عن غيره؟ وعبّر عنه بما ، دون (من) - إشارة إلى أنه من جنس ما لا يعقل ، وما كان مشاركا فى الحقيقة لجنس ما لا يعقل ، يكون معزولا عن الألوهية ، وإنما قدّم الضر لأن التحرز منه أهم من تحرى النفع ، ثم هددهم بقوله : وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ بالأقوال والعقائد ، فيجازى عليهما ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : ينبغى للعبد أن يصفى مشرب توحيده ، ويعتنى بتربية يقينه ، بصحبة أهل اليقين ، وهم أهل التوحيد الخاص ، فيترقى من توحيد الأفعال إلى توحيد الصفات ، ومن توحيد الصفات إلى توحيد الذات ، فنهاية توحيد الصالحين والعلماء المجتهدين تحقيق توحيد الأفعال ، وهو ألّا يرى فاعلا إلا اللّه ، لا فاعل سواه ، وثمرة هذا التوحيد :
الاعتماد على اللّه ، والثقة باللّه ، وسقوط خوف الخلق من قلبه ، لأنه يراهم كالآلات ، والقدرة تحركهم ، ليس بيدهم نفع ولا ضرر ، عاجزون عن أنفسهم فكيف عن غيرهم؟ ونهاية توحيد العباد والزهاد والناسكين المنقطعين إلى اللّه تعالى توحيد الصفات ، فلا يرون قادرا ولا مريدا ولا عالما ولا حيا ولا سميعا ولا بصيرا ولا متكلّما إلا اللّه ، قد انتفت عنه صفات الحدث وبقيت صفات القدم. وثمرة هذا التوحيد : الانحياش من الخلق والتأنس بالملك الحق ، وحلاوة الطاعات ولذيذ المناجاة. ونهاية توحيد الواصلين من العارفين والمريدين السائرين : توحيد الذات فلا يشهدون إلا اللّه ، ولا يرون معه سواه. قال بعضهم : لو كلفت أن أرى غيره لم أستطع ، فإنه لا غير معه حتى أشهده.
وقال شاعرهم :
مذ عرفت الإله لم أر غيرا وكذا الغير عندنا ممنوع
مذ تجمعت ما خشيت افتراقا فأنا اليوم واصل مجموع
وقال فى التنوير : أبى المحققون أن يشهدوا مع اللّه سواه لما حققهم به من شهود الأحدية وإحاطة القيومية. ه.
وفى الحكم : «الأكوان ثابتة بإثباته ، ممحوة بأحدية ذاته». وهؤلاء هم الصديقون المقربون. نفعنا اللّه بذكرهم ، وخرطنا فى سلكهم. آمين.(2/66)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 67
ثم نهى أهل الكتاب عن الغلو فى عيسى ، فقال :
[سورة المائدة (5) : آية 77]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77)
يقول الحق جل جلاله : يا أَهْلَ الْكِتابِ أي : النصارى ، لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وتقولوا قولا غَيْرَ الْحَقِّ وهو اعتقادكم فى عيسى أنه إله ، أو أنه لغير رشدة ، ولا تفرطوا ، وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ سلفوا قبلكم ، وهم أئمتكم فى الكفر ، قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ أي : من قبل مبعث محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، وَأَضَلُّوا أناسا كَثِيراً حملوهم على الاعتقاد الفاسد فى عيسى وأمه ، فقلدوهم وضلوا معهم ، وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ أي : عن قصد السبيل المستقيم ، وهو الإسلام بعد مبعثه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وقيل : الضلال الأول إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى العقل ، والثاني إشارة إلى ضلالهم عما جاء به الشرع. قاله البيضاوي.
الإشارة : الغلو كله مذموم كما تقدم ، وخير الأمور أوسطها ، كما تقدم. وقد رخص فى الغلو فى ثلاثة أمور :
أحدها : فى مدح النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فلا بأس أن يبالغ فيه ما لم يخرجه عن طور البشرية ، وهذا غلو ممدوح ، مقرب إلى اللّه تعالى ، قال فى بردة المديح :
دع ما ادّعته النّصارى فى نبيّهم واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
الثاني : فى مدح الأشياخ والأولياء ، ما لم يخرجهم أيضا عن طورهم ، أو يغض من مرتبة بعضهم ، فقد رخصوا للمريد أن يبالغ فى مدح شيخه ، ويتغالى فيه ، بالقيدين المتقدمين لأن ذلك يقربه من حضرة الحق تعالى.
والثالث : فى تعظيم الحق جل جلاله. وهذا لا قيد فيه ولا حصر. حدث عن البحر ولا حرج ، إذا كان ممن يحسن العبارة ويتقن الإشارة ، بحيث لا يوهم نقصا ولا حلولا. وباللّه التوفيق.
ولما ذكر مساوئ النصارى ذكر مساوئ اليهود ، فقال :
[سورة المائدة (5) : الآيات 78 الى 81]
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81)(2/67)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 68
يقول الحق جل جلاله : لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ
أي : لعنهم اللّه فى الزبور على لسان نبيه داود عليه السّلام ، وَلعنهم اللّه أيضا فى الإنجيل على لسان عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، فالأول :
أهل أيلة لما اعتدوا فى السبت لعنهم داود عليه السّلام ، فمسخوا قردة وخنازير ، والثاني أصحاب المائدة ، لمّا كفروا دعا عليهم عيسى ، ولعنهم ، فمسخوا خنازير ، وكانوا خمسة آلاف رجل ، ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ ذلك اللعن الشنيع المقتضى للمسخ بسبب عصيانهم واعتدائهم ما حرم عليهم.
كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ أي : لا ينهى بعضهم بعضا عن معاودة منكر فعلوه ، أو عن منكر أرادوا فعله وتهيأوا له ، أو : لا ينتهون عنه ولا يمتنعون منه ، لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ ، وهو تعجيب من سوء فعلهم مؤكد بالقسم.
تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ أي : من اليهود ، يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي : يوالون المشركين بغضا للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وللمؤمنين ، لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أي : لبئس شيئا قدموه ، ليردوا عليه يوم القيامة ، وهو أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ، وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ أي : بئس ما قدموا أمامهم ، وهو سخط اللّه والخلود فى النار ، والعياذ باللّه ، وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ أي : نبيهم كما يزعمون ، وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ من التوراة وغيره ، مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ لأن النبي لا يأمر بموالاة الكفار ، ولو آمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وما أنزل إليه - كما هو الواجب عليهم - ما اتخذوا الكفار أولياء ، وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ أي : خارجون عن دينهم ، أو خارجون عن الدين الحق الذي لا يقبل غيره ، وهو الإسلام.
الإشارة : ذكر الحق جل جلاله فى هذه الآية ثلاثة أمور ، وجعلها سببا للعن والطرد ، وموجبة للسخط والمقت ، أولها : الانهماك فى المعاصي والعدوان ، والإصرار على الذنوب والطغيان. والثاني : عدم الإنكار على أهل المعاصي والسكوت عنهم والرضا بفعلهم ، والثالث : موالاة الفجار والمودة مع الكفار ، ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو أزواجهم أو عشيرتهم ، وفى بعض الأخبار : (لو أن رجلا قام الليل وصام النهار ، ثم تودد مع الفجار لبعث معهم ، ولو أن رجلا عمل بالمعاصي ما عمل ، ثم أحب الأبرار لحشر معهم) ، أو كما قال صلّى اللّه عليه وسلّم ، ويعضده حديث : «المرء مع من أحبّ».
واللّه تعالى أعلم.
ثم بيّن تفاوت عداوة الكفار للمسلمين ، فقال :
[سورة المائدة (5) : الآيات 82 الى 86]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86)(2/68)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 69
قلت : القسيس : العالم ، والراهب : العابد ، و(مما عرفوا) : سببية ، و(من الحق) : بيان أو تبعيض ، وجملة :
(لا نؤمن) : حال ، والعامل فيها متعلق الجار ، أي : أي شىء حصل لنا حال كوننا غير مؤمنين ، و(نطمع) : عطف على (نؤمن) ، أو خبر عن مضمر ، أي : ونحن نطمع.
يقول الحق جل جلاله : لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً للمؤمنين اليهود والمشركين ، لشدة شكيمتهم وتضاعف كفرهم ، وانهماكهم فى اتباع الهوى ، وركونهم إلى التقليد ، وبعدهم عن التحقيق ، وتمرنهم على تكذيب الأنبياء ، ومعاداتهم وعدوانهم لا ينقطع إلى الأبد.
وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ، للين جانبهم ، ورقة قلوبهم ، وقلة حرصهم على الدنيا بالنسبة لليهود ، وكثرة اهتمامهم بالعلم والعمل ، وإليه أشار بقوله : ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ أي : علماء ، ومن جملة علمهم : علمهم بوصاية عيسى بالإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، وَرُهْباناً أي : عبادا ، وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن قبول الحق إذا عرفوه ، بخلاف اليهود لكثرة جحودهم ، وفيه دليل على أن التواضع والإقبال على العلم والعمل محمود ، وإن كان من كافر. قاله البيضاوي وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ محمد صلّى اللّه عليه وسلّم تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ من البكاء ، جعل أعينهم من فرط البكاء كأنها تفيض بأنفسها ، وإنما يفيض دمعها ، وذلك مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ حين سمعوه ، أو من بعض الحق ، فما بالك لو عرفوا كله؟ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا بذلك ، أو بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ بأنه حق ، أو بنبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، أو من أمته الذين هم شهداء على الأمم.
نزلت فى النجاشي وأصحابه ، حين دعوا جعفرا وأصحابه ، وأحضروا القسيسين والرهبان ، وأمره أن يقرأ عليهم القرآن ، فقرأ سورة مريم ، فبكوا وآمنوا بالقرآن. وقيل : نزلت فى ثلاثين أو سبعين رجلا من قومه ، وفدوا من عنده من الحبشة بأمره على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فقرأ عليهم سورة يس ، فبكوا وآمنوا ، فصدر الآية عام ، فالنصارى كلهم أقرب مودة للمسلمين ، من آمن ، ومن لم يؤمن ، وإنما جاء التخصيص فى قوله : وَإِذا سَمِعُوا ، فالضمير إنما يرجع إلى من آمن منهم ، كالنجاشى وأصحابه. وإنما جاء الضمير عاما لأن الجماعة تحمد بفعل الواحد. انظر ابن عطية.(2/69)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 70
ولما دخل الإيمان فى قلوبهم حين سمعوا القرآن ، عاتبوا أنفسهم على التأخر عن الإيمان فقالوا : وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنحن نَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ، وهى أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم التي هى أفضل الأمم ، وهذا منهم استفهام إنكار واستبعاد لانتفاء الإيمان مع قيام الداعي ، وهو الطمع فى الانخراط مع الصالحين ، والدخول فى مداخلهم ، فَأَثابَهُمُ اللَّهُ أي : جازاهم بِما قالُوا واعتقدوا ، جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ الذي اعتادوا الإحسان فى جميع الأمور ، أو الذين أحسنوا النظر وأتقنوا العمل.
ثم ذكر ضدهم فقال : وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ ، شفع بهم حال المؤمنين المصدقين ، جمعا بين الترغيب والترهيب ، ليكون العبد بين خوف ورجاء. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : أشد الناس إنكارا على الفقراء ، وأشدهم عداوة لهم ، من تقدم فى أسلافه رئاسة علم أو جاه أو صلاح أو نسبة شرف ، وأقرب الناس مودة لهم من لم يتقدم له شىء من ذلك ، فالعوام أقرب وأسهل للدخول فى طريق الخصوص من غيرهم. واللّه تعالى أعلم.
ولمّا تضمن الكلام مدح النصارى على ترهبهم ، والحث على حبس النفس ، ورفض الشهوات ، أعقبه بالنهى عن الإفراط فى ذلك والاعتداء عما حدّه اللّه بجعل الحلال حراما ، فقال :
[سورة المائدة (5) : الآيات 87 الى 88]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ أي : لا تحرموا ما طاب ولذ مما أحله اللّه لكم ، وَلا تَعْتَدُوا فتحرموا ما أحللت لكم ، ويجوز أن يراد : ولا تعتدوا حدود ما أحل لكم إلى ما حرم عليكم ، فتكون الآية ناهية عن تحريم ما أحل وتحليل ما حرم ، داعية إلى القصد بينهما ، والوقوف على ما حد دون التجاوز إلى غيره. روى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وصف القيامة يوما ، وبالغ فى إنذارهم ، فرقوا ، واجتمعوا فى بيت عثمان بن مظعون ، واتفقوا على ألا يزالوا صائمين قائمين ، وألا يناموا على الفرش ، ولا يأكلوا اللحم والودك «1» ، ولا يقربوا النساء والطّيب ، ويرفضوا الدّنيا ، ويلبسوا المسوح ، ويسيحوا فى الأرض ، ويجبّوا مذاكرهم ، فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فقال لهم : «إنى لم أومر بذلك ، إنّ لأنفسكم عليكم حقا ، فصوموا وأفطروا ، وقوموا وناموا ، فإنّى أقوم وأنام ، وأصوم وأفطر ، وآكل اللحم والدّسم ، وآتى النساء ، فمن رغب عن سنتى فليس منى» «2». ونزلت الآية.
___________
(1) الودك : دسم اللحم ودهنه الذي يستخرج منه.
(2) ذكره الواحدي فى أسباب النزول عن المفسرين ، بغير إسناد ، وبنحوه أورده الطبري فى التفسير عن السدى. وهو منتزع من أحاديث ، وأصله فى الصحيحين. راجع الفتح السماوي : (579 - 581).(2/70)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 71
ثم قال تعالى : وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً أي : كلوا ما حل لكم وطاب مما رزقكم اللّه ، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ فأحلوا حلاله واستعملوه ، وحرموا حرامه واجتنبوه.
الإشارة : طريقة العباد والزهاد : رفض الشهوات والملذوذات بالكلية ، زهدا وورعا وخوفا من اشتغال النفس بطلبها ، فيتعطل وقتهم عن العبادة ، وطريقة المريدين السائرين : رفض ما تتعلق به النفس قبل الحصول ، وتشره إليه رياضة وتعففا ، لئلا تتعلق هممهم بغير اللّه ، فما جاءهم من غير طلب ولا شره أكلوه وشكروا اللّه عليه ، ولا يقفون مع جوع ولا شبع. وطريقة الواصلين العارفين : تجنب ما يقبض من غير يد اللّه ، فإذا أخذتهم سنة حتى غفلوا عن التوحيد فقبضوا شيئا ، مع رؤية الواسطة ، أخرجوه عن ملكهم ، كما وقع لأبى مدين رضى اللّه عنه ويأخذون ما سوى ذلك قلّ أو كثر ، ولا يقفون مع أخذ ولا ترك ، وفى الحكم : «لا تمدن يديك إلى الأخذ من الخلائق ، إلا أن ترى أن المعطى فيهم مولاك ، فإن كنت كذلك فخذ - ما وافقك العلم».
ولما صدر من بعض الصحابة يمين على ترك ما تقدم ، ذكر لهم الكفارة ، وفيما تجب ، فقال :
[سورة المائدة (5) : آية 89]
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
قلت : (فى أيمانكم) : يتعلق باللغو ، أو بيؤاخذكم.
يقول الحق جل جلاله : لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وهو ما يصدر من الإنسان بلا قصد ، كقوله : لا واللّه ، وبلى واللّه. وإليه ذهب الشافعي ، وقيل : هو الحلف على ما يظن أنه كذلك ولم يكن ، وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة ، وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ عليه ، أي : بما جزمتم عليه بالنية والقصد ، فَكَفَّارَتُهُ أي : ما عقدتم عليه إذا حلفتم ، ويجوز التكفير قبل الحنث لظاهر الآية.
ثم بيّن الكفارة ، فقال : إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ ، فمن أطعم غنيا لم تجزه ، واشترط مالك أن يكونوا أحرارا ، وليس فى الآية ما يدل على ذلك ، ثم بيّن نوعه فقال : مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أي : من وسط طعام أهليكم فى القدر أو فى الصفة ، أما القدر فقال مالك : يطعم مدا لكل مسكين بمد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إذا كان فى المدينة(2/71)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 72
المشرفة ، وفى غيرها وسط من الشبع ، وقال الشافعي وابن القاسم : يجزىء المد فى كل مكان ، وقال أبو حنيفة : إن غذاهم وعشاهم أجزأه. قلت : وهو قول فى المدونة لمالك أيضا. وأما الصنف ، فاختلف : هل يطعم من عيش نفسه ، أو من عيش بلده وهو المشهور؟
فمعنى الآية على هذا : مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أيها الناس أَهْلِيكُمْ على الجملة أَوْ كِسْوَتُهُمْ فيكسو كل مسكين ما تصح به الصلاة ، فالرجل ثوب ، والمرأة قميص وخمار ، أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مؤمنة على مذهب مالك لتقييدها بذلك فى كفارة القتل. وأجاز أبو حنيفة عتق الكافر ، لإطلاق اللفظ هنا ، واشترط مالك أيضا أن تكون مسلّمة من العيوب ، وليس فى الآية ما يدل عليه ، فهذه الثلاثة بالتخيير.
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ واحدا من هذه الثلاثة ، ولم يقدر على شىء منها ، بحيث لم يفضل له عن قوته وقوت عياله فى يومه ما يطعم به ، فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ يستحب تتابعها ، واشترطه أبو حنيفة لأنه قرىء : (أيام متتابعات) ، والشاذ ليس بحجة ، ذلِكَ المذكور هو كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وحنثتم ، وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ أي : صونوا ألسنتكم عن كثرة الحلف ، فيكون اللّه عرضة لأيمانكم ، أو احفظوها بأن تبروا فيها ولا تحنثوا ، إلا إن كان فى الامتناع من الخير ، فالحنث فيها أحسن ، كما فى الحديث. أو احفظوها بأن تكفروها إذا حنثتم ، ولا تتهاونوا بها ، كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أي : مثل ذلك البيان يبين لكم أعلام شرائعه لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمة التعليم ، أو نعمه الواجب شكرها ، فإن مثل هذا التبيين يسهل لكم المخرج من ضيق اليمين ، فهو نعمة يجب شكرها. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : ليس التشديد والتعقيد من شأن أهل التوحيد ، إنما شأنهم الاسترسال مع ما يبرز من عنصر القدرة ، ليس لهم وقت دون الوقت الذي هم فيه ، قد حلّ التوحيد عقدهم ودكّ عزائمهم ، فهم فى عموم أوقاتهم لا يدبرون ولا يختارون ، وإن وقع منهم تدبير أو اختيار رجعوا إلى ما يفعل الواحد القهار ، لا يبشطون إلى شىء ولا يهربون من شىء ، إلا إن كان فيه مخالفة للشرع.
ولا يعقدون على ترك شىء من المباحات ولا على فعله ، لأنهم لا يرون لأنفسهم فعلا ولا تركا ، إن صدرت منهم طاعة شهدوا المنة للّه ، وإن وقعت منهم زلة أو غفلة تأدبوا مع اللّه ، وبادروا بالتوبة إلى اللّه ، وما صدر من الصحابة - رضوان اللّه عليهم - فلعل ذلك كان حالا غالبة عليهم ، قد أزعجهم وعظ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وأنهضهم حاله ، فلما رءاهم غلب عليهم الحال ردهم إلى حال الاعتدال ، ولعل الحق - جل جلاله - ، إنما جعل كفارة اليمين جبرا لخلل ذلك التعقيد ، الذي صدر من الحالف مع تفريطه بالحنث ، فكأنه حلف على فعل غيره ، ففيه نوع من التألى على اللّه. واللّه تعالى أعلم.(2/72)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 73
ولما أمر الحق جل جلاله بأكل الحلال الطيب أخرج ضده ، فقال :
[سورة المائدة (5) : الآيات 90 الى 92]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92)
قلت : (رجس) : خبر ، وأفرده لأنه على حذف مضاف ، أي : تعاطى الخمر ، أو خبر عن الخمر ، وخبر المعطوفات محذوف ، أي : كذلك.
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا تناول الْخَمْرُ وهو كل ما غيب العقل ، دون الحواس ، مع النشوة والطرب ، وَالْمَيْسِرُ وهو القمار وَالْأَنْصابُ وهو ما نصب ليعبد من حجارة أو خشب ، وَالْأَزْلامُ أي : الاستقسام بها ، وقد تقدم تفسيرها «1» ، رِجْسٌ قذر خبيث تعافه العقول السليمة ، مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أي : من تسويله وتزيينه ، فَاجْتَنِبُوهُ أي : ما ذكر من تعاطى الخمر ، وما بعده ، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي :
تفوزون بالرضوان والنعيم المقيم.
قال البيضاوي : اعلم أن الحق تعالى أكد تحريم الخمر والميسر فى هذه الآية ، بأن صدّر الجملة بإنما ، وقرنها بالأنصاب والأزلام وسماهما رجسا ، وجعلهما من عمل الشيطان ، تنبيها على أن الاشتغال بهما شر محض ، وأمر بالاجتناب عن عينهما ، وجعله سببا يرجى منه الفلاح ، ثم قرّر ذلك بأن بيّن ما فيهما من المفاسد الدنيوية والدينية المقتضية للتحريم فقال : إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ، وقد وقع ذلك فى زمن الصحابة ، وهى كانت سبب تحريمه ، وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ إنما خص الخمر والميسر بإعادة الذكر وشرح ما فيهما من الوبال تنبيها على أنهما المقصودان بالبيان. وذكر الأنصاب والأزلام للدلالة على أنّهما مثلهما فى الحرمة والشرارة لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «شارب الخمر كعابد الوثن» «2».
وخص الصلاة من الذكر بالإفراد للتعظيم والإشعار بأن الصاد عنها كالصاد عن الإيمان من حيث إنها عماده ، والفارق بينه وبين الكفر ، ثم أعاد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام مرتبا على ما تقدم من أنواع
___________
(1) راجع تفسير الآية 3 من السورة نفسها.
(2) أخرجه بلفظه البزار ، كشف الأستار (الأشربة ، باب فى شارب الخمر) من حديث عبد اللّه بن عمرو ، وأخرجه ابن ماجه فى (الأشربة باب مدمن الخمر) بلفظ : (مدمن الخمر).(2/73)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 74
الصوارف فقال : فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟ إيذانا بأن الأمر فى المنع والتحذير بلغ الغاية ، وأن الأعذار قد انقطعت. ه ولذلك لما سمعها الفاروق رضى اللّه عنه حين نزلت ، قال : (قد انتهينا يا ربنا).
وبهذا الآية وقع تحريم الخمر ، وقد كان حلالا قبلها ، بدليل سكوته صلّى اللّه عليه وسلّم على شربها قبل نزول الآية ، فإن قلت :
حفظ العقول من الكليات الخمس التي اتفقت الشرائع على تحريمها؟ قلنا : لا حكم قبل الشرع ، بل الأمر موقوف إلى وروده ، ولما طالت الفترة ، وانقطعت الشرائع عند العرب ، رجعت الأشياء إلى أصلها من الإباحة بمقتضى قوله تعالى : خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً «1» ، حتى جاءت الشريعة المحمدية فحرمتها كالشرائع قبلها ، فكانت حينئذ حراما ، ودخلت فى الكليات الخمس التي هى : حفظ العقول والأبدان والأموال والأنساب والأديان.
ثم أكد ذلك أيضا بقوله : وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فيما أمر ونهى ، وَاحْذَرُوا غضبهما إن خالفتم ، فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أو أعرضتم عن طاعتهما فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ لا تضره مخالفتكم ، إنما عليه البلاغ وقد بلغ.
الإشارة : المقصود هو النهى عن كل ما يصد عن اللّه أو يشغل العبد عن شهود مولاه ، وخص هذه الأربعة ، لأنها أمهات الخطايا ومنبع الغفلة والبلايا ، فالخمر فيه فساد العقل الذي هو محل الإيمان ، والميسر فيه فساد المال وفساد القلب بالعداوة والشحناء ، وفساد الفكر لاستعماله فى الهوى ، والأنصاب فيه فساد الدين الذي هو رأس المال ، والأزلام فيه الفضول والاطلاع على علم الغيب ، الذي هو سر الربوبية ، وهو موجب للمقت والعطب ، والعياذ باللّه.
ثم عفا عما سلف من الخمر والميسر قبل التحريم ، فقال :
[سورة المائدة (5) : آية 93]
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
يقول الحق جل جلاله : لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ أي : إثم فِيما طَعِمُوا من الخمر والميسر قبل التحريم ، إِذا مَا اتَّقَوْا أي : إذا اتقوا الشرك ، وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا المحرمات وَآمَنُوا أي : حققوا مقام الإيمان ، ثُمَّ اتَّقَوْا الشبهات والمكروهات وَأَحْسَنُوا أي : حصلوا مقام الإحسان ، وهو إتقان العبادة ، وتحقيق العبودية ، ومشاهدة عظمة الربوبية ، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ أي : يقربهم
___________
(1) من الآية 29 من سورة البقرة.(2/74)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 75
ويصطفيهم لحضرته ، روى أنه لما نزل تحريم الخمر ، قالت الصحابة - رضى اللّه عنهم - : يا رسول اللّه فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر؟ فنزلت.
ويحتمل أن يكون هذا التكرير باعتبار الأوقات الثلاثة ، أي : الماضي والحال والاستقبال ، أو باعتبارات الحالات الثلاثة. فيستعمل التقوى فيما بينه وبين نفسه بالتزكية والتحلية ، وفيما بينه وبين الناس بالكف عن التعرض لهم ، وفيما بينه وبين اللّه بامتثال أمره واجتناب نهيه والغيبة عن غيره ، ولذلك بدل الإيمان بالإحسان فى الكرة الثالثة ، أو باعتبار المراتب الثلاثة المبدأ والوسط والنهاية ، أو باعتبار ما يتقى فإنه ينبغى أن يتقى المحرمات توقيا من العقاب ، ثم يتقى الشبهات تحفظا من الحرام ، ثم يتقى بعض المباحات تحفظا للنفس عن خسة الشره ، وتهذيبا لها عن دنس الطبيعة ، قال معناه البيضاوي.
الإشارة : المقامات التي يقطعها المريد ثلاث : مقام الإسلام ، ومقام الإيمان ، ومقام الإحسان ، فما دام المريد مشتغلا بالعمل الظاهر من صلاة وصيام وذكر اللسان ، سمى مقام الإسلام ، فإذا انتقل لعمل الباطن من تخلية وتحلية وتهذيب وتصفية ، سمى مقام الإيمان ، فإذا انتقل لعمل باطن الباطن من فكرة ونظرة وشهود وعيان سمى مقام الإحسان ، وهذا اصطلاح الصوفية سموا ما يتعلق بإصلاح الظواهر : إسلاما ، وما يتعلق بإصلاح القلوب والضمائر : إيمانا ، وما يتعلق بإصلاح الأرواح والسرائر : إحسانا. وجعل الساحلى فى البغية كل مقام مركبا من ثلاثة مقامات ، فالإسلام مركب من التوبة والتقوى والاستقامة ، والإيمان مركب من الإخلاص والصدق والطمأنينة ، والإحسان مركب من مراقبة ومشاهدة ومعرفة. وأطال الكلام فى كل مقام ، لكن من سقط على شيخ التربية لم يحتج إلى شىء من هذا التفصيل. وباللّه التوفيق.
ثم تكلم على حرمة الصيد فى الإحرام تبيينا لقوله : غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ، فقال :
[سورة المائدة (5) : الآيات 94 الى 96]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)(2/75)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 76
قلت : (فجزاء) : مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : فعليه جزاء ، أو خبر عن مبتدأ محذوف ، أي : فواجبه جزاء ، و(مثل) : صفته ، و(من النعم) : صفة ثانية لجزاء ، أي : فعلية جزاء مماثل حاصل من النعم ، ومن قرأ (مثل) بالجر ، فعلى الإضافة ، من إضافة المصدر إلى المفعول ، أي : فعليه أن يجزى مثل ما قتل ، أو يكون (مثل) مقحمة كما فى قولهم : مثلى لا يقول كذا. وقرىء بالنصب ، أي : فليجزأ جزاء مماثلا. وجملة (يحكم) صفة لجزاء أيضا ، أو حال من ضمير الخبر.
و(هديا) : حال من ضمير (به) ، أو من جزاء لتخصيصه بالإضافة أو الصفة فيمن نون ، و(بالغ) : صفة للحال ، أو بدل من مثل باعتبار محله ، أو لفظه فيمن نصبه ، أو (كفارة) عطف على (جزاء) إن رفعته ، وإن نصبت جزاء فهو خبر ، أي : وعليه كفارة ، و(طعام مساكين) : عطف بيان ، أو بدل منه ، أو خبر عن محذوف ، أي : هى طعام ، ومن جرا طعاما فبالإضافة للبيان ، كقوله : خاتم فضة ، أو (عدل) عطف على (طعام) فيمن رفعه ، أو خبر فيمن جره ، أي : عليه كفارة طعام ، أو عليه عدل ذلك ، و(ليذوق) : متعلق بمحذوف ، أي : فيجب عليه الجزاء أو الطعام أو الصوم ليذوق سوء عاقبة فعله ، و(متاعا لكم) : مفعول من أجله ، و(حرما) : حال ، أي : ما دمتم محرمين ، أو خبر دام على النقص ، ويقال : دام يدوم دمت ، كقال يقول قلت ، ودام يدام دمت ، كخاف يخاف خفت. وبه قرىء فى الشاذ.
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ أي : واللّه ليختبرنكم اللَّهُ بِشَيْءٍ قليل مِنَ الصَّيْدِ يسلطه عليكم ويذلله لكم حتى تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ بالأخذ وَرِماحُكُمْ بالطعن لِيَعْلَمَ اللَّهُ علم ظهور وشهادة تقوم به الحجة ، مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فيكف عن أخذه حذرا من عقاب ربه ، نزل عام الحديبية ، ابتلاهم اللّه بالصيد ، كانت الوحوش تغشاهم فى رحالهم ، بحيث يتمكنون من صيده ، أخذا بأيديهم وطعنا برماحهم ، وهم محرمون ، وكان الصيد هو معاش العرب ومستعملا عندهم ، فاختبروا بتركه مع التمكن منه ، كما اختبر بنو إسرائيل بالحوت فى السبت.
وإنما قلله بقوله : بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ إشعارا بأنه ليس من الفتن العظام كبذل الأنفس والأموال ، وإنما هو من الأمور التي يمكن الصبر عنها ، فمن لم يصبر عنده فكيف يصبر بما هو أشد منه؟ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ الابتلاء بأن قتل بعد التحريم ، فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ فى الآخرة ، لأن من لا يملك نفسه فى مثل هذه فكيف يملكها فيما تكون النفس فيه أميل وعليه أحرص؟!.
ثم صرح بالحرمة ، فقال : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أي : محرمون جمع حرم ، والمراد من دخل فى الإحرام أو فى الحرم ، وذكر القتل ليفيد العموم ، فيصدق بالذبح وغيره ، وما صاده المحرم(2/76)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 77
أو صيد له ميتة لا يؤكل ، والمراد بالصيد المنهي عن قتله : ما صيد وما لم يصد مما شأنه أن يصاد ، وورد هذا النهى عن قتله قبل أن يصاد ، وبعده ، وأما النهى عن الاصطياد فيؤخذ من قوله : وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً ، وخصص الحديث : الغراب والحدأة ، والفأرة والعقرب والكلب العقور «1» ، فلا بأس بقتلهم ، فى الحل والحرم ، وأدخل مالك فى الكلب العقور كل ما يؤذى الناس من السباع وغيرها ، وقاس الشافعي على هذه الخمسة كل ما لا يؤكل لحمه.
ثم ذكر جزاء قتله فقال : وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ أي : فعليه جزاء مثل ما يماثله من النعم ، وهى الإبل والبقر والغنم ، ففى النعامة بدنة ، وفى الفيل ذات سنامين ، وفى حمار الوحش وبقره بقرة ، وفى الغزالة شاة ، فالمثلية عند مالك والشافعي فى الخلقة والمقدار ، فإن لم يكن له مثل أطعم أو صام ، يقوّم بالطعام فيتصدق به ، أو يصوم لكل مد يوما ، ومذهب أبى حنيفة أن المثلية : القيمة ، يقوم الصيد المقتول ، ويخير القاتل بين أن يتصدق بالقيمة أو يشترى بها من النعم ما يهديه. وذكر العمد ليس بتقييد عند جمهور الفقهاء ، خلافا للظاهرية بل المتعمد ، والناسي فى وجوب الجزاء سواء ، وإنما ذكره ليرتب عليه قوله : وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ، ولأن الآية نزلت فيمن تعمد ، إذ روى أنهم عرض لهم حمار وحشي ، فطعنه أبو اليسر برمحه فقتله ، فنزلت الآية.
ولا بد من حكم الحكمين على القاتل لقوله : يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ، فكما أن التقويم يحتاج إلى نظر واجتهاد ، فكذلك تحتاج المماثلة فى الخلقة والهيأة إليهما ، فإن أخرج الجزاء قبل الحكم عليه فعليه إعادته ، إلا حمام مكة فإنه لا يحتاج إلى حكمين ، ويجب عند مالك التحكيم فيما حكمت به الصحابة وفيما لم تحكم ، لعموم الآية.
وقال الشافعي : يكتفى فى ذلك بما حكمت به الصحابة ، حال كون المحكوم به هَدْياً بشرط أن يكون مما يصح به الهدى ، وهو الجذع من الضأن ، والثني مما سواه ، وقال الشافعي : يخرج المثل فى اللحم ، ولا يشترط السن ، بالِغَ الْكَعْبَةِ لم يرد الكعبة بعينها ، وإنما أراد الحرم ، وظاهره يقتضى أن يصنع به ما يصنع بالهدى من سوق من الحل إلى الحرم ، وقال الشافعي وأبو حنيفة : إن اشتراه فى الحرم أجزأه.
أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ مد لكل مسكين ، أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً يوم لكل مد ، عدد الحق - تعالى - ما يجب فى قتل الصيد ، فذكر أولا الجزاء من النعم ، ثم الطعام ، ثم الصيام ، ومذهب مالك والجمهور : أنها على
___________
(1) أخرج ذلك البخاري فى (جزاء الصيد ، باب ما يقتل من الدواب) ومسلم فى (الحجر ، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب فى الحل والحرام) من حديث السيدة عائشة رضى اللّه عنها. [.....](2/77)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 78
التخيير ، وهو الذي يقتضيه العطف بأو ، ومذهب ابن عباس أنها مرتبة. وقد نظم ابن غازى الكفارات التي فيها التخيير أو الترتيب فقال :
خيّر بصوم ثمّ صيد وأذى وقل لكلّ خصلة : يا حبّذا
ورتّب الظّهار والتّمتعا والقتل ثمّ فى اليمين اجتمعا
وكيفية التخيير هنا : أن يخير الحكمان القاتل فإن أراد الجزاء عينوا له ما يهدى ، وإن أراد الإطعام قوموا الصيد بالطعام فى ذلك المحل ، فيطعم مدّا لكل مسكين ، وإن أراد الصيام صام يوما لكل مدّ ، وكمل لكسره ، فإذا قوم بعشرة مثلا ونصف مدّ ، صام أحد عشر يوما.
ثم ذكر حكمة الجزاء ، فقال : لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ أي : فعليه الجزاء أو الإطعام أو الصيام ليذوق عقوبة سوء فعله ، وسوء هتكه لحرمة الإحرام ، عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ فى الجاهلية أو قبل التحريم ، وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ فى الآخرة ، وليس فيه ما يمنع الكفارة على العائد كما حكى عن ابن عباس وشريح. وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ ممن أصر على عصيانه.
ثم استثنى صيد البحر فقال : أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وهو ما لا يعيش إلا فى الماء ، وهو حلال كله لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم فى البحر : «هو الطّهور ماؤه ، الحلّ ميتته» «1». وقال أبو حنيفة : لا يحل منه إلا السمك ، وَطَعامُهُ أي : ما قذفه ، أو طفا على وجهه لأنه ليس بصيد إنما هو طعام. وقال ابن عباس : طعامه : ما ملّح وبقي مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ، الخطاب بلكم للحاضرين فى البحر ، والسيارة : المسافرون فى البر ، أي : هو متاع تأتدمون به فى البر والبحر ، وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ يحتمل أن يريد به المصدر ، أي الاصطياد ، أو الشيء المصيد ، أو كلاهما ، وتقدم أن ما صاده محرم أو صيد له : ميتة ، وحد الحرمة : ما دُمْتُمْ حُرُماً فإذا حللتم فاصطادوا ، وَاتَّقُوا اللَّهَ فى ترك ما حرم عليكم ، الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فيجازيكم على ما فعلتم.
الإشارة : إذا عقد المريد مع اللّه عقدة السير والمجاهدة ، قد يختبره اللّه - تعالى - فى سيره بتيسير الشهوات ، وتسليط العلائق والعوائق ليعلم الكاذب من الصادق ، فإن كف عنها وأعرض ، هيأه لدخول الحضرة ، وإن انهمك فيها ، واقتنص فى شبكتها ، بقي مرهونا فى يدها ، أسيرا فى قبضة قهرها ، فإذا نهض حتى دخل حرم الحضرة قاصدا لعرفة المعارف ، حرم عليه صيد البر ، وهو كل ما يخرج من بحر الحقيقة إلى شهود بر السّوى ، فرقا بلا جمع ، كائنا ما كان ، رسوما أو علوما أو أحوالا أو أقوالا ، وحلّ له صيد البحر وطعامه ، من أسرار أو أنوار أو حقائق ،
___________
(1) أخرجه مالك فى (الطهارة ، باب الطهور للوضوء) والبيهقي فى الكبرى (1/ 3) وأبو داود فى (الطهارة ، باب الوضوء بماء البحر) والترمذي فى (الطهارة ، باب ما جاء فى ماء البحر) والنسائي فى (الطهارة ، باب ماء البحر) وابن ماجه فى (الطهارة ، باب الوضوء بماء البحر) من حديث أبى هريرة رضى اللّه عنه.(2/78)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 79
متاعا لروحه وسره ، وللسيارة من أبناء جنسه ، يطعمهم من تلك الأسرار ، بالهمة أو الحال أو التذكار ، واتقوا اللّه فى الاشتغال بما سواه ، الذي إليه تحشرون ، فيدخلكم جنة المعارف قبل جنة الزخارف. واللّه تعالى أعلم.
ولما عظّم شأن الحرم عظّم شأن الكعبة ، فقال :
[سورة المائدة (5) : الآيات 97 الى 99]
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99)
قلت : (البيت الحرام) : عطف بيان على جهة المدح ، و(قياما) : مفعول ثان.
يقول الحق جل جلاله : جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ التي هى الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ أي : سبب انتعاشهم ، يقوم بها أمر معاشهم ومعادهم ، يلوذ به الخائف ، ويأمن فيه الضعيف ، ويربح فيه التجار ، ويتوجه إليه الحجاج والعمار ، أو يقوم به أمر دينهم بالحج إليه ، وأمر دنياهم بأمن داخله ، وتجبى ثمرات كل شىء إليه.
قال القشيري : حكم اللّه - سبحانه - بأن يكون بيته اليوم ملجأ يلوذ به كل مؤمّل ، ويستقيم ببركة زيارته كلّ حائد عن نهج الاستقامة ، ويظفر بالانتقال هناك كل ذى أرب. ه.
وَالشَّهْرَ الْحَرامَ جعله اللّه أيضا قياما للناس والمراد به ذو الحجة ، فهو قيام لمناسك الحج ، وجمع الوجود إليه بالأموال من كل جانب ، أو الجنس ، وهى أربعة : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، لأنهم كانوا يكفون عن القتال ، ويأمن الناس فيها فى كل مكان ، وَالْهَدْيَ لأنه أمان لمن يسوقه لأنه لم يأت لحرب ، وَالْقَلائِدَ ، كان الرجل إذا خرج يريد الحج تقلد شيئا من السمر «1» ، وإذا رجع تقلد شيئا من شجر الحرم ليعلم أنه كان فى عبادة ، فلا يتعرض له أحد بشر ، فالقلائد هنا : ما تقلده المحرم من الشجر ، وقيل : قلائد الهدى.
ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي : جعل ذلك الأمور ، قياما للناس لتعلموا أن اللّه يعلم تفاصيل الأمور ، فشرع ذلك دفعا للمضار وجلبا للمنافع ، وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لا يخفى عليه محل مصالح عباده ومضارهم ، وهو تعميم بعد تخصيص ، ومبالغة بعد إطلاق.
___________
(1) السمر - بضم الميم والراء : ضرب من الشجر ، صغار الورق قصار الشوك.(2/79)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 80
ثم قال تعالى : اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن عصاه ، وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن أطاعه وأقبل عليه ، وهو وعيد ووعد لمن انتهك محارمه ولمن حافظ عليها ، أو لمن أصرّ ورجع ، ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وقد بلّغ ، فلم يبق عذر لأحد ، وهو تشديد فى إيجاب القيام بما أمر ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ من تصديق وتكذيب وفعل وعزيمة.
الإشارة : كما جعل اللّه الكعبة قياما للناس ، يقوم به أمر دينهم ودنياهم ، جعل القلوب ، التي هى كعبة الأنوار والأسرار ، قياما للسائرين ، يقوم بها أمر توحيدهم ويقينهم ، أو أمر سيرهم ووصولهم. وفى الحديث : «إنّ فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه وإذا فسددت فسد الجسد كلّه ألا وهى القلب». وكما جعل الشهر الحرام والهدى والقلائد حرمة لأهلها ، جعل النسبة والتزيي بها حفظا لصاحبها ، من تزيا بزى قوم فهو منهم ، يجب احترامه وتعظيمه لأجل النسبة ، فإن كان كاذبا فعليه كذبه ، وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم ، وقد أخذ اللصوص بعض الفقراء ، وانتهكوا حرمته ، وأخذوا ثيابه ، فاشتكى لشيخه فقال له : هل كانت عليك مرقعتك؟ قال : لا ، فقال له :
أنت فرطت والمفرط أولى بالخسارة. ه. واللّه تعالى أعلم.
ولمّا كان مدار الأمر كله على صلاح القلوب وفسادها ذكره بإثره ، فقال :
[سورة المائدة (5) : آية 100]
قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
يقول الحق جل جلاله : قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ عند اللّه ، فى القلوب والأحوال والأعمال والأموال والأشخاص ، فالطيب من ذلك كله مقبول محبوب ، والرديء مردود ممقوت ، فالطيب مقبول وإن قلّ ، والرديء مردود ولو جلّ ، وهو معنى قوله : وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ، فالعبرة بالجودة والرداءة ، دون القلة والكثرة ، وقد جرت عادته - تعالى - بكثرة الخبيث من كل شىء ، وقلة الطيب من كل شىء ، قال تعالى :
وَقَلِيلٌ ما هُمْ «1» ، وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ «2» ، وفى الحديث الصحيح : «النّاس كابل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة» «3» ، وقال الشاعر :
إنّى لأفتح عينى حين أفتحها على كثير ولكن لا أرى أحدا
فأهل الصفا قليل فى كل زمان ، ولذلك خاطبهم بقوله : فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ أي : القلوب الصافية فى تجنب الخبيث وإن كثر ، وأخذ الطيب وإن قلّ ، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ بصلاح الدارين.
___________
(1) من الآية 24 من سورة ص.
(2) من الآية 13 من سورة سبأ.
(3) أخرجه البخاري فى (الرقاق باب رفع الأمانة) ومسلم فى (فضائل الصحابة ، باب قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : الناس كإبل مائة ..) من حديث ابن عمر رضى اللّه عنه ومعنى الحديث : أن الزاهد فى الدنيا ، الكامل فى الزهد فيها قليل جدا ، كقلة الراحلة فى الإبل.(2/80)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 81
الإشارة : لا عبرة بالأحوال الظلمانية وإن كثرت ، وإنما العبرة بالأحوال الصافية ولو قلّت ، صاحب الأحوال الصافية موصول ، وصاحب الأحوال الظلمانية مقطوع ، ما لم يتب عنها ، قال بعض الحكماء : (كما لا يصح دفن الزرع فى أرض ردية ، لا يجوز الخمول بحال غير مرضية).
والمراد بالأحوال الصافية : هى التي توافق مراسم الشريعة بحيث لا يكون عليها من الشارع اعتراض ، بأن تكون مباحة فى أصل الشريعة ، ولو أخلت بالمروءة عند العوام ، إذ المروءة إنما هى التقوى عند الخواص ، والمراد بالأحوال ، كل ما يثقل عل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ، مما نأمركم به : أن تقع شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ، وأراد الوصية فيحضر عدلان منكم ، فإن كنتم فى سفر وتعذر العدلان منكم ، فليشهد آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ممن ليس على دينكم ، ثم إن وقع ارتياب فى شهادتهما ، تَحْبِسُونَهُما بعد صلاة العصر فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ ما كتمنا ، ولا خنّا ، ولا نشترى بالقسم أو باللّه عرضا قليلا من الدنيا ، ولو كان المحلوف له قريبا منا ، وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً ، إن كتمنا ، لَمِنَ الْآثِمِينَ.
___________
(1) أخرجه الترمذي فى : (التفسير ، سورة المائدة) عن ابن عباس عن تميم الداري ، وقال الترمذي : ليس إسناده بصحيحه. وأخرجه مختصرا البخاري فى (الوصايا ، باب قول اللّه تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) عن ابن عباس قال : خرج رجل من بنى سهم مع تميم الداري وعدى بن بداء. وذكره مختصرا.(2/81)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 87
فإذا حلفا خلى سبيلهما ، فَإِنْ عُثِرَ بعد ذلك عَلى كذبهما وأَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً بسبب كذبهما ، فَآخَرانِ من رهط الميت يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ المال المسروق ، اللذان هم الْأَوْلَيانِ أي : الأحقان بالشهادة ، فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ فيقولان : واللّه لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما ، وأصدق ، وأولى بأن تقبل ، وَمَا اعْتَدَيْنا : وما تجاوزنا فيها الحق ، إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ، فإن حلفا غرم الشاهدان ما ظهر عليهما ، وتحليف الشهود منسوخ ، وهذا الحكم خاص بهذه القضية.
قال البيضاوي : الحكم منسوخ إن كان الاثنان شاهدين ، فإنه لا يحلف الشاهد ، ولا تعارض يمينه يمين الوارث ، وثابت إن كانا وصيين. ه. وكذا شهادة غير أهل الملة منسوخة أيضا ، واعتبار صلاة العصر للتغليظ ، وتخصيص الحلف فى الآية باثنين من أقرب الورثة لخصوص الواقعة. قاله السيوطي.
قال تعالى : ذلِكَ أي : تحليف الشهود ، أَدْنى أي : أقرب أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها كما تحملوها من غير تحريف ولا خيانة فيها ، أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ أي : أو أقرب لأن يخافوا أن ترد اليمين على المدعين بعد أيمانهم ، فيفتضحوا بظهور الخيانة واليمين الكاذبة ، وإنما جمع الضمير ، لأنه حكم يعم الشهود كلهم ، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا ما توصون به ، فإن لم تتقوا ولم تسمعوا كنتم قوما فاسقين ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أي : لا يهديهم إلى حجة أو إلى طريق الجنة.
الإشارة : أمر الحق - جل جلاله - فى الآية المتقدمة ، بالاعتناء بشأن الأنفس ، بتزكيتها وتحليتها وأمر فى هذه الآية بالاعتناء بشأن الأموال بحفظها ، والأمر بالإيصاء عليها ودفعها لمستحقها إذ كلاهما يقربان إلى رضوان اللّه ، ويوصلان إلى حضرته ، وقد كان فى الصحابة من قربه ماله ، وفيهم من قربه فقره ، وكذلك الأولياء ، منهم من نال الولاية من جهة المال أنفقه على شيخه فوصله من حينه ، ومنهم من نال من جهة فقره أنفق نفسه فى خدمة شيخه ، وقد روى أن سيدى يوسف الفاسى أنفق على شيخه قناطير من المال ، قيل : أربعين ، وقيل : أقل. واللّه تعالى أعلم.
ولما أمرهم بالتقوى ، ذكر اليوم الذي تجنى فيه ثمراتها ، فقال :
[سورة المائدة (5) : آية 109]
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109)
قلت : (يوم) : بدل من (اللّه) ، بدل اشتمال ، أي : اتقوا يوم الجمع ، أو ظرف لاذكر ، و(ماذا) : منصوب على المصدر ، أي : أىّ إجابة أجبتم.
يقول الحق جل جلاله : واذكر يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ والأمم يوم القيامة فَيَقُولُ للرسل : ما ذا أُجِبْتُمْ؟ أي : ما الذي أجابكم به قومكم ، هل هو كفر أو إيمان ، طاعة أو عصيان؟ والمراد بهذا السؤال توبيخ من(2/87)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 88
كفر من الأمم ، وإقامة الحجة عليهم ، فيقولون له فى الجواب : لا عِلْمَ لَنا مع علمك ، تأدبوا فوكلوا العلم إليه ، أو علمنا ساقط فى جنب علمك إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ لأن من علم الخفيات لا تخفى عليه الظواهر والبواطن ، وقرىء بنصب علام ، على أن الكلام قد تم بقوله : إِنَّكَ أَنْتَ أي : إنك الموصوف بصفاتك المعروفة ، وعلام نصب على الاختصاص أو النداء. قاله البيضاوي.
الإشارة : من حجة اللّه على عباده ، أن بعث فى كل أمه نذيرا يدعو إلى اللّه ، إما عارفا يعرف باللّه ، أو عالما يعلم أحكام اللّه ، ثم يجمعهم يوم القيامة فيسألهم : ماذا أجيبوا ، وهل قوبلوا بالتصديق والإقرار ، أو قوبلوا بالتكذيب والإنكار؟ فتقوم الحجة على العوام بالعلماء ، وعلى الخواص بالعارفين الكبراء ، أهل التربية النبوية ، فلا ينجو من العتاب إلا من ارتفع عنه الحجاب ، بصحبة العارفين وتعظيمهم وخدمتهم ، إذ لا يتخلص من العيوب إلا من صحبهم وأحبهم وملك نفسه إليهم. واللّه تعالى أعلم.
ثم خص عيسى عليه السّلام بتذكير النعم يوم الجمع توطئة لتوبيخ من عبده من دون اللّه ، فقال :
[سورة المائدة (5) : الآيات 110 الى 111]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111)
قلت : (إذ) : بدل من (يوم يجمع) ، أو باذكر ، وجملة (تكلم) : حال من مفعول (أيدتك).
يقول الحق جل جلاله : واذكر إِذْ يقول اللّه - جل وعز - يوم القيامة : يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ بالنبوة والرسالة ، وعلى أمك بالاصطفائية والصديقية ، وذلك حين أَيَّدْتُكَ أي : قويتك بِرُوحِ الْقُدُسِ ، وهو جبريل عليه السّلام كان لا يفارقك فى سفر ولا حضر ، أو بالكلام الذي تحيا به الأنفس والأرواح ، الحياة الأبدية. كنت تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ أي : كائنا فى المهد وَكَهْلًا أي : تكلم فى الطفولة والكهولة بكلام يكون سببا فى حياة القلوب ، وبه استدل أنه ينزل ، لأنه رفع قبل أن يكتهل ، وَاذكر إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ أي : الكتابة ، (2/88)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 89
وَالْحِكْمَةَ : النبوة وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ ، وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي ، وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ، وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وتقدم تفسيرها فى آل عمران. «1»
وكرر بِإِذْنِي مع كل معجزة إبطالا لدعوى الربوبية فيه ، إذ قد عزله عن قدرته ومشيئته مع كل معجزة. قال ابن جزى : الضمير المؤنث - يعنى فى «فيها» - يعود على الكاف ، لأنها صفة الهيئة ، وكذلك المذكور فى آل عمران.
فَأَنْفُخُ فِيهِ يعود على الكاف لأنها بمعنى مثل ، وإن شئت قلت : هو فى الموضعين يعود على الموصوف المحذوف الذي وصف به كهيئة ، فتقديره فى التأنيث : صورة ، وفى التذكير : شخصا ، أو خلقا وشبه ذلك. ه.
وَاذكر أيضا إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ حين هموا بقتلك ، إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي : ما هذا الذي جئتنا به إلا سحرا ، أو : قالوا فى شأنك حين جئتهم : ما هذا إلا ساحر مبين ، وَاذكر أيضا إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أي : ألهمتهم ، أو أمرتهم بأن آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي عيسى ، فامتثلوا ، وقالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ أي : منقادون ومخلصون.
الإشارة : قال الورتجبي : من تمام نعمة اللّه - تعالى - عليه صيرورة جسمه بنعت روحه فى المهد على شبابه بالقوة الإلهية ، بأن نطق بوصف تنزيه اللّه وقدسه وجلاله ، وربويته وفناء العبودية فيه ، وبقيت تلك القدرة فيه إلى كهولته ، حتى عرّف عباد اللّه تنزيه اللّه وقدس صفات اللّه وحسن جلال اللّه ، وهذا معنى قوله تعالى : تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ، وزاد فى وصفه بقوله : وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ ، تجلى بقدرته بيده حتى يخط بغير تعلم.
ه. فانظره ، مع ما ورد فى التاريخ أنه كان يذهب مع الصبيان للمكتب.
ثم ذكر معجزة المائدة ، فقال :
[سورة المائدة (5) : الآيات 112 الى 115]
إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115)
___________
(1) راجع تفسير الآية 49 من سورة آل عمران.(2/89)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 90
قلت : (يا عيسى ابن مريم) : ابن هنا بدل ، ولذلك كتب بالألف ، و(أن ينزل) : مفعول (يستطيع) ، ومن قرأ بالخطاب ، فمفعول بالمصدر المقدر ، أي : سؤال ربك إنزال مائدة ، و(لأولنا وآخرنا) : بدل كل ، من ضمير (لنا) ، لإفادته الإحاطة والشمول كالتوكيد ، و(ذلك) : شرط إبدال الظاهر من ضمير الحاضر ، وأعيدت اللام مع البدل للفصل ، وضمير (لا أعذبه) : ، نائب عن المصدر ، أي : لا أعذب ذلك التعذيب أحدا.
يقول الحق جل جلاله : واذكر إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ أي : هل يطيعك ربك فى هذا الأمر ، أم لا؟ فالاستفهام عن الإسعاف فى القدرة ، فهو كقول بعض الصحابة لعبد اللّه بن زيد : هل تستطيع أن ترينا كيف كان يتوضا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؟ مع جزمهم بأن عبد اللّه كان قادرا على تعليمهم الوضوء. فالحواريون جازمون بأن اللّه - تعالى - قادر على إنزال المائدة ، لكنهم شكوا فى إسعافه على ذلك.
قال ابن عباس : كان الحواريون أعلم باللّه من أن يشكوا أن اللّه تعالى يقدر على ذلك ، وإنما معناه ، هل يستطيع لك أي : هل يطيعك ، ومثله عن عائشة ، وقد أثنى اللّه - تعالى - على الحواريين ، فى مواضع من كتابه ، فدل أنهم مؤمنون كاملون فى الإيمان.
قال لهم عيسى عليه السّلام : اتَّقُوا اللَّهَ من أمثال هذا السؤال واقتراح الآيات ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بكمال قدرته وصحة نبوتى ، فإنّ كمال الإيمان يوجب الحياء من طلب المعجزة ، قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها أكلا نتشرف به بين الناس ، وليس مرادهم شهوة البطن ، وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا بانضمام علم المشاهدة إلى علم الاستدلال ، أي : نعاين الآية ضرورة ومشاهدة ، فلا تعرض لنا الشكوك التي فى الاستدلال ، وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا علما ضروريا لا يختلجه وهم ولا شك ، وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ أي : نشهد بها عند من لم يحضرها من الناس ، أو من الشاهدين للعين ، دون السامعين للخبر ، وليس الخبر كالعيان ، والحاصل : أنهم أرادوا الترقي إلى عين اليقين ، دون الاكتفاء بعلم اليقين.
قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مسعفا لهم لما رأى لهم غرضا صحيحا فى ذلك ، روى أنه لبس جبّة شعر ، ورداء شعر ، وقام يصلى ويدعو ويبكى ، وقال : اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا أي : لمتقدمنا ومتأخرنا ، يعود علينا وقت نزولها كل عام بالفرح والسرور ، فنتخذه عيدا نحن ومن يأتى بعدنا ، وَيكون نزولها آيَةً مِنْكَ على كمال قدرتك وصحة نبوتى ، وَارْزُقْنا المائدة والشكر عليها ، وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أي : خير من يرزق لأنه خالق الرزق ومعطيه بلا عوض ، ونسبة الرزق إلى غيره مجاز. قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ كما طلبتم ، فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ أي : من عالمى زمانهم ، أو مطلقا.(2/90)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 91
قال ابن عمر : (أشد الناس عذابا يوم القيامة : من كفر من أصحاب المائدة ، وآل فرعون ، والمنافقون.) روى أنها نزلت سفرة حمراء بين غمامتين ، وهم ينظرون إليها ، حتى سقطت بين أيديهم ، فبكى عيسى وقال : اللهم اجعلنى من الشاكرين ، اللهم اجعلها رحمة ، ولا تجعلها مثلة وعقوبة ، ثم قام وتوضأ وصلّى وبكى ، ثم كشف المنديل ، وقال :
بسم اللّه خير الرازقين ، فإذا سمكة مشوية ، تسيل دسما وعند ذنبها خل ، وحولها من أنواع البقول ما خلا الكراث ، وخمسة أرغفة ، على واحد منها زيتون ، وعلى الثاني عسل ، وعلى الثالث سمن ، وعلى الرابع جبن ، وعلى الخامس قديد. قال شمعون : يا روح اللّه أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة؟ قال : ليس منهما ، ولكنه اخترعه اللّه بقدرته ، كلوا ما سألتم ، واشكروا اللّه يمددكم ويزدكم من فضله ، فقالوا : يا روح اللّه ، لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى ، فقال :
يا سمكة : احيى بإذن اللّه ، فاضطربت ، ثم قال لها : عودى ، فعادت كما كانت ، فعادت مشوية ، ثم طارت المائدة ، ثم عصوا بعدها فمسخوا.
وقيل : كانت تأتيهم أربعين يوما ، غبّا «1» ، يجتمع عليها الفقراء والأغنياء والصغار والكبار ، يأكلون ، فإذا فرغوا ، طارت وهم ينظرون فى ظلها ، ولم يأكل منها فقير إلا غنى مدة عمره ، ولا مريض إلا برىء ولم يمرض أبدا ، ثم أوحى اللّه إلى عيسى : أن اجعل مائدتى فى الفقراء والمرضى دون الأغنياء والأصحاء ، فاضطرب الناس ، فمسخ منهم ثلاثة وثمانون. وقيل : لما وعد اللّه إنزالها بهذه الشريطة ، استغفروا وقالوا : لا نريد ، فلم تنزل. قلت : المشهور أنها نزلت ، ويحكى أن أرجلها باقية بجزيرة الأندلس. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : فى سؤال الحواريين لسيدنا عيسى عليه السّلام قلة أدب من وجهين : أحدهما : خطابه بقوله : (يا عيسى ابن مريم) وقد كانت هذه الأمة المحمدية تخاطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يا رسول اللّه ، يا نبى اللّه ، لكمال أدبها ، وبذلك شرفت وعظم قدرها ، فالأدب عند الصوفية ركن عظيم ، بل هو روح التصوف وقطب دائرته ، قال بعضهم : (اجعل عملك ملحا ، وأدبك دقيقا) ، والكلام فيه عندهم طويل شهير.
والوجه الثاني : ما فى قولهم : (هل يستطيع ربك) من بشاعة التعبير ، وسوء اللفظ ، حتى اتهموا بالكفر من أجله.
وقد تقدم تأويله ، وأما سؤالهم المائدة ، فقال بعض الصوفية : هى عبارة عن المعارف والأسرار الربانية التي هى قوت الأرواح السماوية ، فقوت الأشباح الأرضية ما يخرج من الأرض من الأقوات الحسية ، وقوت الأرواح السماوية ما ينزل من السماء من العلوم اللدنية والأسرار الربانية ، ينزل على قلوب العارفين ، ثم يبرز منها إلى قلوب عائلة المستمعين ، ولما طلبوها قبل إبانها وقبل الاستعداد لها ، قال لهم : اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، فلما ألحوا فى
___________
(1) أي : يوما بعد يوم ، ليكون أشهى وأحب - انظر حاشية الشهاب 3/ 302.(2/91)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 92
السؤال ، بيّن الحق لهم أن إنزالها سهل على قدرته ، لكن فيه خطر وسوء عاقبة ، لأن الحقائق قد تضر بالمريد إذا لم يكمل أدبه واستعداده ، فلما بينوا مرادهم من كمال الطمأنية واليقين دعا اللّه - تعالى - فوعدهم بالإنزال مع دوام الإيمان وكمال الإيقان ، فمن كفر بها ، ولم يعرف قدرها ، عذب بعذاب لم يعذبه أحد من العالمين ، وهو الطرد والبعد من ساحة حضرة رب العالمين. واللّه تعالى أعلم.
ثم وبخ من عبد عيسى من الكفرة ، فقال :
[سورة المائدة (5) : الآيات 116 الى 120]
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
قلت : (من دون اللّه) : صفة لإلاهين ، أو صلة (اتخذوني) ، و(أن اعبدوا) : تفسيرية للمأمور به ، أو بدل من ضمير به ، وليس من شرط البدل جواز طرح المبدل منه مطلقا لئلا يلزم منه بقاء الموصول بلا راجع ، أو عطف بيان له ، أو خبر عن مضمر ، أي : هو ، أو مفعول به ، أي : أعنى ، ولا يجوز إبداله من (ما) لأن المصدر لا يكون مفعولا للقول لأنه مفرد ، والقول لا يعمل إلا فى الجمل أو ما فى معناه.
(يوم ينفع) من نصب جعله ظرفا لقال ، أو ظرف ، مستقر خبر (هذا) والمعنى : هذا الذي مرّ من كلام عيسى ، واقع يوم ينفع ، إلخ ، وأجاز ابن مالك أن يكون مبنيا ، قال فى ألفيته :
وقبل فعل معرب أو مبتدا أعرب ، ومن بنا فلن يفندا «1»
ومن رفع ، فخبر ، وهو ظرف متصرف.
___________
(1) أنظر الألفية ، باب الإضافة.(2/92)
البحر المديد ج 2 ، ص : 93
يقول الحق جل جلاله : واذكر إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى بعد رفعه إلى السماء ، أو يقوله له يوم القيامة ، وهو الصحيح ، بدليل قوله : قالَ اللَّهُ هذا إلخ ، فإن اليوم الذي يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ هو يوم القيامة ، فيقول له حينئذ : أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ يريد به توبيخ الكفار الذين عبدوه وتبكيتهم ، وفيه تنبيه على أن من عبد مع اللّه غيره فكأنه لم يعبد اللّه قط ، إذ لا عبرة بعبادة من أشرك معه غيره.
قالَ عيسى عليه السّلام مبرءا نفسه من ذلك وقد أرعد من الهيبة : سُبْحانَكَ أي : تنزيها لك من أن يكون لك شريك ، ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ أي : ما ينبغى لى أن أقول ما لا يجوز لى أن أقوله ، إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ، وكل العلم إلى اللّه لتظهر براءته لأن اللّه علم أنه لم يقل ذلك ، تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ أي : تعلم ما أخفيته فى نفسى ، كما تعلم ما أعلنته ، ولا أعلم ما تخفيه من معلوماتك ، سلك فى اللفظ مسلك المشاكلة ، فعبّر بالنفس عن الذات. إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ لا يخفى عليك شىء من الأقوال والأفعال.
ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ
وهو عبادة اللّه وحده ، فقلت لهم : اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ، وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً أي : رقيبا عليهم ، أمنعهم أن يقولوا ذلك أو يعتقدوه. ما دُمْتُ فِيهِمْ ، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي بالرفع إلى السماء ، أي : توفيت أجلى من الأرض. والتوفى أخذ الشيء وافيا ، فلما رفعتنى إلى السماء كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ أي : المراقب لأحوالهم وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ : مطلع عليه مراقب له.
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وأنت مالك لهم ، ولا اعتراض على المالك فى ملكه ، وفيه تنبيه على أنهم استحقوا العذاب ، أي : لأنهم عبادك وقد عبدوا غيرك ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، فلا عجز ولا استقباح ، فإنك القادر والقوى على الثواب والعقاب بلا سبب ، ولا تعاقب إلا عن حكمة وصواب ، فإن عذبت فعدل ، وإن غفرت ففضل ، وعدم غفران الشرك مقتضى الوعيد ، فلا امتناع فيه لذاته ليمتنع الترديد والتعليق بإن.
قاله البيضاوي.
وقال ابن جزى : فيه سؤالان : الأول : كيف قال : إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ وهم كفار ، والكفار لا يغفر لهم؟
فالجواب : أن المعنى تسليم الأمر إلى اللّه ، وإنه إن عذب أو غفر فلا اعتراض عليه لأن الخلق عباده ، والمالك يفعل ما يشاء ، ولا يلزم من هذا وقوع المغفرة للكفار ، وإنما يقتضى جوازها فى حكمة اللّه وعزته ، وفرق بين الجواز والوقوع ، وأما على قول من قال : إن هذا الخطاب وقع لعيسى عليه السّلام حين رفعه اللّه إلى السماء فلا إشكال ، لأن المعنى : إن تغفر لهم بالتوبة ، وكانوا حينئذ أحياء ، وكل حيى معرض للتوبة.
السؤال الثاني : ما مناسبة قوله : الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لقوله : إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ ، والأليق إن قال : فإنك أنت الغفور الرحيم؟ فالجواب : أنه لما قصد التسليم له والتعظيم ، كان قوله : (فإنك أنت العزيز الحكيم) أليق ، فإن الحكمة(2/93)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 94
تقتضى التسليم ، والعزة تقتضى التعظيم ، فإن العزيز هو الذي يفعل ما يريد ، ولا يغلبه غيره ، ولا يمتنع عليه شىء أراده ، فاقتضى الكلام تفويض الأمر إلى اللّه فى المغفرة لهم أو عدمها لأنه قادر على كلا الأمرين لعزته ، وأيهما فعل فهو جميل لحكمته. وقال أبو جعفر بن الزبير : إنما لم يقل الغفور الرحيم لئلا يكون شفيعا لهم بطلب المغفرة ، فاقتصر على التسليم والتفويض ، دون الطلب ، إذ لا نصيب فى المغفرة للكفار. أنظر بقية كلامه.
قال التفتازانيّ : ذكر المغفرة ، يوهم أن الفاصلة : (الغفور الرحيم) ، لكن يعرف بعد التأمل أن الواجب هو العزيز الحكيم لأنه لا يغفر لمن يستحق العذاب إلا من ليس فوقه أحد يرد عليه حكمه ، وهو العزيز ، أي : الغالب ، ثم وجب أن يوصف بالحكمة على سبيل الاحتراس لئلا يتوهم أنه خارج عن الحكمة. ه.
قال اللّه تعالى : هذا أي : يوم القيامة يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ أي : هنا ينتفع الصادقون فى الدنيا بصدقهم ، ويفتضح الكاذبون على اللّه بكذبهم. والمراد بالصادقين أهل التوحيد ، الذين نزهوا اللّه تعالى عما لا يليق بجلاله وجماله ، فصدقوا فيما وصفوا به ربهم.
ثم ذكر ما وعدهم به ، فقال : لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ حيث رضوا بأحكامه القهرية والتكليفية ، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وهذا تنبيه على تكذيب النصارى ، وفساد دعواهم فى المسيح وأمه ، وإنما لم يقل : ومن فيهن ، تغليبا لغير العقلاء ، وإنما غلب غير أولى العقل للإعلام بأنهم فى غاية القصور عن معنى الربوبية ، وإهانة لهم وتنبيها على أنهم جنس واحد ، فمن يعقل منهم لقصور عقله ونظره كمن لا يعقل ، فيبعد استحقاقهم للألوهية التي تنبىء عن تمام الحكمة وإحاطة العلم. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : كل من صدّر نفسه للشيخوخة من غير إذن ، وأشار إلى تعظيمه بلسان الحال أو المقال يلحقه العتاب يوم القيامة فيقال له : أأنت قلت للناس عظمونى من دون اللّه؟ فإن كان مقصوده بالأمر بالتعظيم الوصول إلى تعظيم الحق تعالى ، والأدب معه فى الحضرة دون الوقوف مع الواسطة ، وبذل جهده فى توصيل المريدين إلى هذا المقام ، يقول : سبحانك ما يكون لى أن أقول ما ليس لى بحق ، إلى تمام ما قال السيد عيسى عليه السّلام ، فيقال له :
(هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم). وإن كان مقصوده بالتصدر للتعظيم والأمر به ، حظ نفسه ، وفرح بتربية جاهه والإقبال عليه ، افتضح وأهين بما افتضح به الكاذبون المدعون. نسأل اللّه تعالى الحفظ والرعاية بمنّه وكرمه ، وسيدنا محمد رسوله ونبيه - صلى اللّه عليه وسلم ، وعلى آله وصحبه وسلم - .(2/94)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 95
سورة الأنعام
مكية غير ست آيات أو ثلاث ، وقال الكلبي : الأنعام كلها مكية إلّا آيتين نزلتا بالمدينة فى فنحاص اليهودي ، وهى : قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى «1» مع ما يرتبط بهذه الآية.
وهى مائة وخمس وستون آية ، قاله البيضاوي. قال ابن عباس : (نزلت سورة الأنعام وحولها سبعون ألف ملك ، لهم زجل «2» يجأرون بالتسبيح). وقال كعب : (فاتحة الأنعام هى فاتحة التوراة الْحَمْدُ لِلَّهِ ... إلى ... يَعْدِلُونَ ، وخاتمة التوراة خاتمة هود وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ «3»). وقيل : خاتمتها : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ... «4» إلى ... تَكْبِيراً. وقال سيدنا على - كرم اللّه وجهه - : (من قرأ سورة الأنعام فقد انتهى فى رضا ربه). قاله ابن عطية.
ومناسبتها لما قبلها : الاستدلال على قدرته تعالى التي ختم بها ما قبلها ، ومضمنها : التعريف بالذات المقدسة ، دلالة وعيانا ، والاستدلال على وحدانيتها وما يجب لها من صفات الكمال ، والرد على طوائف المشركين ، وذم أحوالهم وأفعالهم ، ومدح أهل التوحيد من العارفين أو المؤمنين ، قال الشيخ زرّوق رضى اللّه عنه فى شرح الرسالة : ما ذكره الشيخ ابن أبى زيد ، فى عقائد رسالته ، هو ما تضمنته سورة الأنعام. ه. بالمعنى.
قال جل جلاله :
[سورة الأنعام (6) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
قلت : (ثم الذين كفروا) : عطف على جملة الحمد على معنى : أن اللّه حقيق بالحمد على ما خلقه ، نعمة على العباد ، ثم الذين كفروا بربهم الذي ربّاهم بهذه النعم ، يعدلون به سواه من الأصنام ، يقال : عدلت فلانا بفلان جعلته نظيره. أو عطف على «خلق ، وجعل» : على معنى أنه خلق وقدّر ما لا يقدر عليه غيره ، ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شىء. ومعنى (ثم) : استبعاد عدولهم بعد هذا البيان. والباء فى «بربهم» متعلقة بكفروا ، على الأول ، وبيعدلون على الثاني. قاله البيضاوي.
يقول الحق جل جلاله : الْحَمْدُ لِلَّهِ أي : جميع المحامد إنما يستحقها اللّه ، إذ ما بكم من نعمة فمن اللّه.
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ التي تظلّكم ، مشتملة على الأنوار التي تضىء عليكم ، ومحلا لنزول الرحمات والأمطار
___________
(1) الآية 91 من سورة الأنعام. [.....]
(2) زجل ، أي : صوت رفيع عال.
(3) الآية 123 من سورة هود.
(4) الآية 111 من سورة الإسراء.(2/95)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 96
عليكم ، وَخلق الْأَرْضَ التي تقلّكم ، وفيها نبات معاشكم فى العادة ، وفيها قراركم فى حياتكم وبعد مماتكم ، مشتملة على بحار وأنهار ، وفواكه وثمار ، وبهجة أزهار ونوار ، وَجَعَلَ الظُّلُماتِ التي تستركم ، راحة لأبدانكم وقلوبكم ، كظلمات الليل الذي هو محل السكون. وَجعل النُّورَ الذي فيه معاشكم وقوام أبدانكم وأنعامكم.
ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بعد هذا كله ، يَعْدِلُونَ عنه إلى غيره ، أو يعدلون به سواه ، فيسوونه فى العبادة معه.
قال البيضاوي : وجمع السموات دون الأرض وهى مثلهن لأن طبقاتها مختلفة بالذات ، متفاوتة الآثار والحركات ، وقدّمها لشرفها وعلو مكانها. ثم قال أيضا : وجمع الظلمات لكثرة أسبابها والأجرام الحاملة لها ، أو لأن المراد بالظلمة : الضلال ، وبالنور : الهدى. والهدى واحد والضلال متعدد. وتقديمها لتقدم الإعدام على الملكة. ومن زعم أن الظلمة عرض يضاد النور احتج بهذه الآية ، ولم يعلم أن عدم الملكة كالعمى ليس صرف العدم حتى لا يتعلق به الجعل. ه.
الإشارة : أثنى الحق - جل جلاله - على نفسه بإنشاء هذه العوالم ، التي هى محل ظهور عظمته وجلاله وجماله وبهائه. فأنشأ سموات الأرواح ، التي هى مظهر لشروق أنوار ذاته وصفاته ، ومحل لظهور عظمة ربوبيته ، وأنشأ أرض النفوس ، التي هى مظهر لتصرف أقداره ، ومحل لظهور آداب عبوديته ، وتجلى بين الضدين بين الظلمات والنور ، ليقع الخفاء فى الظهور ، كما قال بعض الشعراء :
... لقد تكاملت الأضداد فى كامل البها ثم بعد هذا الظهور التام ، عدل عن معرفته جل الأنام ، إلا من سبقت له العناية من الملك العلام. وبالله التوفيق.
ثم برهن على كمال قدرته ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : آية 2]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
قلت : (أجل) : مبتدأ. و(مسمى) : صفته. و(عنده) : خبر ، وتخصيصه بالصفة أغنى عن تقديم الخبر.
يقول الحق جل جلاله : هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ أي : ابتدأ خلقكم منه ، وهو آدم ، لأنه المادة الأولى ، وهو أصل البشر. ثُمَّ قَضى أَجَلًا تنتهون فى حياتكم إليه ، وهو الموت. وَأَجَلٌ مُسَمًّى معيّن للبعث ، لا يقبل التغيير ، ولا يتقدم ولا يتأخر ، عِنْدَهُ استأثر بعلمه ، لا مدخل لغيره فيه بعلم ولا قدرة ، وهو المقصود بالبيان ، ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ أي : تشكّون فى هذا الأجل المسمى الذي هو البعث.
وثُمَّ : لاستبعاد امترائهم بعد ما ثبت عنه أنه خالقهم ، وخالق أصولهم ومحييهم إلى آجالهم ، فإن من قدر على خلق المواد وجمعها ، وإيداع الحياة فيها وإبقائها ما شاء ، كان أقدر على جمع تلك المواد وإحيائها ثانيا. قاله البيضاوي.(2/96)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 97
الإشارة : القوالب من الطين ، والأرواح من نور رب العالمين ، فالطينية ظرف لنور الربوبية ، الذي هو الروح لأن الروح نور من أنوار القدس ، وسر من أسرار اللّه ، فمن نظّف طينته ولطّفها ظهرت عليها أسرار الربوبية والعلوم اللدنية ، وكشف للروح عن أنوار الملكوت وأسرار الجبروت ، وانخنست الطينية ، واستولت عليها الروح النورانية ، ومن لطّخ طينته بالمعاصي وكثّفها باتباع الشهوات ، انحجبت الأنوار واستترت ، واستولت الطينية الظّلمانية على الروح النّورانية ، وحجبتها عن العلوم اللدنية والأسرار القدسية ، بحكمته تعالى وعدله وظهور قهره. وبالله التوفيق.
ثم برهن على وحدانيته الخاصة ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : آية 3]
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3)
قلت : (هو) : مبتدأ ، و(اللّه) : خبره. و(فى السموات) : خبر ثان ، أي : وهو اللّه كائن أو موجود فى السموات وفى الأرض بنوره وعلمه. قال تعالى : اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «1». و(يعلم سركم وجهركم) : تقرير له.
يقول الحق جل جلاله : هذا الذي اختص بالحمد وأبدع الكائنات كلها - هُوَ اللَّهُ ظاهر فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ بنوره وقدرته وعلمه وإحاطته ، فلا شريك معه يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ من خير أو شر ، فيثيب عليه ويعاقب ، ولعله أراد بالسر والجهر ما يظهر من أحوال النفس ، وبالمكتسب أعمال الجوارح. فالآية الأولى دليل القدرة التي ختم بها السورة ، والآية الثانية دليل البعث ، والآية الثالثة دليل الوحدة.
الإشارة : قال بعض العارفين : الحق تعالى منزّه عن الأين والجهة ، والكيف ، والمادة ، والصورة ، ومع ذلك لا يخلو منه أين ، ولا مكان ، ولا كم ، ولا كيف ، ولا جسم ، ولا جوهر ، ولا عرض. لأنه للطفه سار فى كل شىء ، ولنوريته ظاهر فى كل شىء ، ولإطلاقه وإحاطته متكيف بكل كيف ، غير متقيد بذلك ، فمن لم يعرف هذا ولم يذقه ولم يشهده ، فهو أعمى البصيرة ، محروم من مشاهدة الحق تعالى. ولابن وفا :
هو الحقّ المحيط بكلّ شىء هو الرحمن ذو العرش المجيد
هو المشهود فى الأشهاد يبدو فيخفيه الشهود عن الشّهيد
هو العين العيان لكلّ غيب هو المقصود من بيت القصيد
جميع العالمين له ظلال سجود فى القريب وفى البعيد
وهذا القدر فى التّحقيق كاف فكفّ النّفس عن طلب المزيد
___________
(1) من الآية : 35 من سورة النور.(2/97)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 98
ثم ذم من أعرض عن دلائل توحيده ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 4 الى 5]
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5)
قلت : (من) الأولى : مزيدة للاستغراق ، والثانية للتبعيض.
يقول الحق جل جلاله : وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ دالّة على توحيد اللّه وكمال صفاته ، إلا أعرضوا عنها ، أي :
الكفار ، أو : ما تأتيهم معجزة من المعجزات الدالة على قدرة اللّه وصدق رسوله ، أو : ما تأتيهم آية من آيات القرآن تدل على وحدانيته وكمال ذاته ، إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ تاركين للنظر فيها ، غير ملتفتين إليها.
فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ وهو القرآن لَمَّا جاءَهُمْ ، وهو كالدليل لما قبله ، لأنهم لمّا كذبوا بالقرآن - وهو أعظم الآيات - فكيف لا يعرضون عن غيره من الآيات؟ ثم هدّدهم بقوله : فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ أي : أخبار ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي : سيظهر لهم ، عند نزول العذاب بهم فى الدنيا والآخرة ، ما كانوا يستهزئون به من البعث والحساب ، أو عند ظهور الإسلام وارتفاعه.
الإشارة : من سبق له الخذلان لا تنفعه الأدلة وتواتر البرهان ، ولا تزيده ظهور المعجزات أو الكرامات إلا التحاسد وظهور العداوات ، ولا يزيده الدعاء إلى اللّه والتناد ، إلّا الإعراض عنه والبعاد ، نعود بالله من الشقاء وسوء القضاء.
ثم أمر أهل الإنكار بالنظر والاعتبار ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : آية 6]
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6)
قلت : (كم) : خبرية ، مفعول «أهلكنا» ، أي : كثيرا أهلكنا من القرون ، والقرن مدة من الزمان تهلك أشياخها وتقوم أطفالها ، واختلف فى حدّها ، قيل : مائة ، وقيل : سبعون ، وقيل : ثمانون ، وقيل : القرن : أهل زمان فيه نبى أو فائق فى العلم ، قلّت المدة أو كثرت ، مشتق من قرين الرجل. والمطر المدرار هو الغزير ، وهى من أمثلة المبالغة ، كمذكار وميناث.
يقول الحق جل جلاله : أَلَمْ يَرَوْا ببصائرهم رؤية اعتبار ، كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ من أهل عصر مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أي : جعلناهم متمكنين فيها بالقرار والسكنى والطمأنينة فيها ، أو أعطيناهم من القوة والآلات(2/98)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 99
ما تمكّنوا بها من أنواع التصرف فيها فقد مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ يا أهل مكة ، فقد جعلنا لهم من السعة وطول المقام ما لم نجعله لكم ، أو أعطيناهم من القوة والسّعة فى المال والاستظهار على الناس بالعدّة والعدد وتهيّؤ الأسباب ما لم نجعله لكم ، .
وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ أي : المطر أو السحاب عَلَيْهِمْ مِدْراراً أي : مغزارا على قدر المنفعة بحسب الحاجة ، وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ أي : أجرينا الأودية من تحت ديارهم وأراضيهم ، فعاشوا فى الخصب والريف ، بين الأنهار والثمار ، فعصوا وطغوا وبطروا النعمة ، فلم يغن ذلك عنهم شيئا. فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا أي :
أحدثنا ، مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ بدلا منهم. والمعنى : أنه تعالى كما قدّر أن يهلك من تقدم من القرون ، بعد أن مكّنهم فى البلاد واستظهروا على العباد ، كعاد وثمود ، وأنشأ بعدهم آخرين عمّر بهم بلاده ، يقدر أن يفعل ذلك بكم يا معشر الكفار المعاصرين لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم.
الإشارة : النظر والاعتبار يوجب للقلب الرقّة والانكسار. وهى عبادة كبرى عند العباد والزهاد ، أولى العزم والاجتهاد. وفوقها : فكرة الشهود والعيان ، وهى الفكرة التي تطوى وجود الأكوان ، وتغيب الأوانى بظهور المعاني ، أو تريها حاملة لها قائمة بها ، فالأولى فكرة تصديق وإيمان ، والثانية فكرة شهود وعيان. وبالله التوفيق.
ثم ذكر عنادهم ، وأنهم لا تنفع فيهم المعجزة ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 7 الى 9]
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9)
يقول الحق جل جلاله : وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ يا محمد كِتاباً مكتوبا فِي قِرْطاسٍ أي : رقّ ، فرأوه بأعينهم ، ولمسوه بأيديهم ، حتى لا يبقى فيه تزوير ، لعاندوا ، ولَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا منهم بعد ذلك : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ تعنتا وعنادا ، وتخصيص اللمس لأن التزوير لا يقع فيه ، فلا يمكنهم أن يقولوا : إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا ، وتقييده بالأيدى لدفع التجوز ، فإنه قد يتجوز فيه فيطلق على الفحص كقوله : وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ «1».
ثم اقترحوا معجزة أخرى ، وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ يكلمنا أنه نبى ، فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أو شهيدا له بالرسالة ، روى أن العاص بن وائل والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود هم الذين سألوا ذلك. قال تعالى :
___________
(1) من الآية 8 من سورة الجن.(2/99)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 100
وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً ، كما طلبوا لَقُضِيَ الْأَمْرُ بهلاكهم ، فإنّ سنة اللّه جرت بذلك فيمن قبلهم مهما اقترحوا آية ، فظهرت ثم كفروا ، عجّل اللّه هلاكهم ، ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ أي : لا يمهلون بعد نزولها ساعة.
وعلى تقدير لو أنزلنا عليهم الملك - كما اقترحوا - فلا يمكن أن يظهر إلا على صورة البشر ليطيقوا رؤيته ، وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا ليتمكنوا من رؤيته ، كما مثّل جبريل فى صورة دحية ، فإن القوة البشرية لا تقوى على رؤية الملائكة. وإنما رأوهم كذلك الأفراد من الأنبياء ، لامتلاء أسرارهم بالأنوار القدسية ، فإذا ظهر على صورة البشر التبس الأمر عليهم فقالوا : إنما هو بشر لا ملك. فهذا معنى قوله : وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ أي : لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم وعلى ضعفائهم ، أو لفعلنا لهم فى ذلك فعلا ملبسا يطرق لهم إلى أن يلبسوا به على أنفسهم وضعفائهم فإن عادة اللّه فى إظهار قدرته أن تكون مرتدية برداء حكمته ليبقى سر الربوبية مصونا ، فمن سبقت له العناية خلق اللّه فى قلبه التصديق بها ، حتى علمها ضرورة ، وغيره يلبس الأمر عليه فيها. وبالله التوفيق.
الإشارة : كرامات الأولياء كمعجزات الأنبياء ، لا تظهر إلّا لأهل الصدق والتصديق ، ولا يتحقق بولايتهم إلّا من سبق له الوصول إلى عين التحقيق. «سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه ، ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه» ، فأهل الإنكار عليهم لا يرون إلا ما يقتضى البعد عنهم. وأهل الإقرار لا يرون إلا ما يقتضى القرب منهم والمحبة فيهم. واللّه تعالى أعلم.
ثم سلّى رسوله - عليه الصلاة السلام - فقال :
[سورة الأنعام (6) : آية 10]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10)
قلت : حاق يحيق حيقا ، أي : نزل وأحاط ، و(منهم) : يتعلق بسخروا ، و(ما كانوا) : الموصول اسمى أو حرفى.
يقول الحق جل جلاله فى تسلية رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم : وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ كثير مِنْ قَبْلِكَ فصبروا على أذى قومهم حتى أهلكهم اللّه ، فَحاقَ أي : أحاط بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي :
نزل بهم العذاب الذي كانوا يستهزءون به ويستبعدونه ، أو : نزل بهم وبال استهزائهم وهو الهلاك.
الإشارة : كل ما سليّت به الرسل تسلّى به الأولياء ، فما من ولى صدّيق إلا ابتلاه اللّه بتسليط الخلق عليه حتى ترحل روحه عن هذا العالم لضيقه عليها ، وتتمكن من شهود عالم الملكوت ، فإذا طهرت منه البقايا ، وكملت فيه المزايا ، ردّه إليهم غنيّا عنهم ، وغائبا عنهم ، جسمه مع الخلق وقلبه مع الحق. هذه سنة اللّه فى أوليائه ، فكل ولىّ يتسلى بمن قبله فى إيذاء الخلق له. غير أن أولياء هذه الأمة إذا كمل مقامهم صاروا على قدم نبيهم ، يكونون رحمة(2/100)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 101
للعباد ، من آذاهم لا يعاجل بالعقوبة غالبا ، كما كان نبيهم رحمة للعالمين ، فقال : «اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون». واللّه تعالى أعلم.
ثم جددّ الأمر بالاعتبار ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : آية 11]
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
قلت : قال الزمخشري : فإن قلت : أىّ فرق بين قوله : (فانظروا) ، وبين قوله : (ثم انظروا)؟ فالجواب : أنه جعل النظر مسبّبا على السير فى قوله : انْظُرُوا ، كأنه قال : سيروا لأجل النظر ، وأما قوله : قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا ، فمعناه : إباحة السير للتجارة وغيرها من المنافع ، وإيجاب النظر فى الهالكين. ه. ولم يقل : كانت لأن العاقبة مجاز تأنيثها.
يقول الحق جل جلاله : قُلْ لهم : سِيرُوا فِي الْأَرْضِ وجولوا فى أقطارها ، ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ قبلكم ، كعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين ، كيف أهلكهم اللّه بعذاب الاستئصال ، كى تعتبروا وتنزجروا عن تكذيب محمد - عليه الصلاة السلام - .
الإشارة : يقال لأهل التنكير على أهل الذكر والتذكير : سيروا فى الأرض ، وانظروا كيف كان عاقبة المنكرين على المتوجهين ، كانت عاقبتهم الخذلان ، وسوء الذكر بعد الموت والخسران كابن البراء وغيره من أهل التنكير.
نعوذ بالله من التعرض لمقت اللّه.
لكن الأمر كله بيد اللّه ، كما قال تعالى :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 12 الى 13]
قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
قلت : جملة (ليجمعنكم) : مقطوعة ، جواب لقسم محذوف ، وقيل : بدل من الرحمة ، وهو ضعيف لدخول النون الثقيلة فى غير موضعها. و«إلى» : هنا ، للغاية ، كما تقول : جمعت القوم إلى دارى. وقيل : بمعنى «فى» ، و(الذين خسروا) : مبتدأ ، وجملة : (فهم لا يؤمنون) : خبر ، و(له ماسكن) : عطف على (لله) ، وهو إما من السكنى فلا حذف ، أو من السكون ، فيكون حذف المعطوف. أي : ما سكن وتحرّك.(2/101)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 102
يقول الحق جل جلاله : قُلْ للمشركين يا محمد : لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خلقا وملكا وعبيدا؟. قُلْ لهم هو : لِلَّهِ لا لغيره ، والقصد بالآية : إقامة البرهان على التوحيد وإبطال الشرك. وجاء ذلك بصيغة الاستفهام لإقامة الحجة على الكفار ، فسأل أولا ، ثم أجاب عن سؤاله بنفسه لأنّ الكفار يوافقون على ذلك ضرورة ، فثبت أن الإله الحق هو الذي له ما فى السموات والأرض ، وإنما يحسن أن يكون السائل مجيبا إذا علم أن خصمه لا يخالفه فى الجواب الذي يقيم به الحجة عليه.
ثم دعاهم إلى الإيمان والتوبة بتلطّف وإحسان فقال : كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1» كما فى الآية الأخرى ، والكتابة هنا عبارة عن القضاء السابق ، وقد فسرها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بقوله : «إنّ اللّه كتب كتابا قبل أن يخلق السّموات والأرض فهو عنده» وفيه : «أنّ رحمتى سبقت غضبى» «2» وفى رواية : «تغلب غضبى» «3».
قال البيضاوي : كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي : التزمها تفضلا وإحسانا ، والمراد بالرحمة : ما يعمّ الدارين ، ومن ذلك : الهداية إلى معرفته ، والعلم بتوحيده ، بنصب الأدلة ، وإنزال الكتب والإمهال على الكفر. ه.
ثم ذكر محل ظهور هذه الرحمة ، فقال : واللّه لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي : ليجمعنكم من القبور مبعوثين إلى يوم القيامة فيجازى أهل التوبة والإيمان ، ويعاقب أهل الشرك والكفران ، لا رَيْبَ فى ذلك اليوم ، أو فى ذلك الجمع ، فيظهر أهل الخسران من أهل الإحسان ، ولذلك قال : الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بتضييع رأس مالهم ، وهو النظر الصحيح الموجب للإيمان والتوحيد فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ حتى أدركهم الموت فلا خسران أعظم من ذلك. ودخلت الفاء فى الخبر للدلالة على أن عدم إيمانهم مسبّب عن خسرانهم فإن إبطال النظر ، والانهماك فى التقليد واتباع الوهم ، أدّى بهم إلى الإصرار على الكفر ، والامتناع من الإيمان إلى الممات. فخسروا أولا بتضييع النظر ، فتسبب عنه عدم الإيمان.
ثم تمم جوابه فقال : وَلَهُ ما سَكَنَ أي : قل لهم : ما فى السموات والأرض للّه ، وله أيضا ما سكن فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي : ما استقر فيهما وما اشتملتا عليه ، أو ما سكن فيهما وتحرك ، وَهُوَ السَّمِيعُ لكل مسموع ، الْعَلِيمُ بكل معلوم فلا يخفى عليه شىء فى الليل والنهار ، فى جميع الأقطار.
___________
(1) الآية 54 من السورة نفسها.
(2) أخرجه البخاري فى (التوحيد ، باب قول اللّه تعالى : «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ») من حديث أبى هريرة.
(3) أخرجها البخاري فى (التوحيد ، باب قوله تعالى «وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ») ومسلم فى (التوبة ، باب : فى سعة رحمة اللّه) من حديث أبى هريرة.(2/102)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 103
الإشارة : إذا علم العبد أن الخلق كلهم فى قبضة اللّه ، وأمورهم كلها بيد اللّه ، أحاط بهم علما وسمعا وبصرا ، لم يبق له على أحد عتاب ، ولا ترتيب خطأ ولا صواب ، إلّا ما أمرت به الشريعة على ظاهر اللسان. بل شأنه أن ينظر إلى ما يفعل المالك فى ملكه ، فيتلقاه بالقبول والرضى ، وفى الحكم : «ما ترك من الجهل شيئا من أراد أن يظهر فى الوقت غير ما أظهره اللّه فيه» ، هذا شأن أهل التوحيد يدورون مع رياح الأقدار حيثما دارت ، غير أنهم يتحنّنون بقلوبهم إلى رحمة الكريم المنان ، وينهضون بهمتهم إلى مظانّ السعادة والغفران ، ويرجون منه الجمع عليه فى روح وريحان ، وجنة ورضوان ، بمحض فضل منه وإحسان. جعلنا اللّه منهم بفضله وكرمه. آمين.
ثم أقام الحجة على أهل الشرك ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 14 الى 18]
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
قلت : (فاطر) : نعت للّه ، ومعناه : خالق ومبدع. قال ابن عباس رضى اللّه عنه : (ما كنت أعرف معنى فاطر ، حتى أتانى أعرابيان يختصمان فى بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها بيدي). وجملة : (و هو يطعم) : حال ، وقرىء بعكس الأول ببناء الأول للمفعول ، والثاني للفاعل ، على أن ضمير (هو) راجع لغير اللّه ، وببنائهما للفاعل على معنى يطعم تارة ، ويمنع أخرى ، كقوله : يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ «1» ، وجملة (إن عصيت) : معترضة بين الفعل والمفعول ، والجواب : محذوف دل عليه ما قبله ، أي : إن عصيت فإنى أخاف عذاب يوم عظيم.
يقول الحق جل جلاله : قُلْ لهم يا محمد : أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا أي : معبودا أواليه بالعبادة والمحبة ، وأشركه مع اللّه الذي أبدع السموات والأرض ، وَهُوَ الغنى عما سواه ، الصّمدانى ، يُطْعِمُ عباده ولا يُطْعِمُ ولا يحتاج إلى من يطعمه ، فهو يرزق ولا يرزق ، وتخصيص الطعام لشدة الحاجة إليه. قُلْ لهم : إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ، وأنقاد بكلّيتى إلى هذا الإله الحقيقي ، الغنى بالإطلاق ، وأرفض كل ما سواه ، ممن عمّه الفقر ابتداء ودواما. فكان عليه الصلاة والسلام هو أول سابق إلى الدين. ثم قيل له : وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تنفيرا لغيره من الشرك ، وإلّا فهو مبرّأ منه - عليه الصلاة والسلام - .
___________
(1) من الآية : 245 من سورة البقرة.(2/103)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 104
قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بالشرك وغيره عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ، وهذه مبالغة أخرى فى قطع أطماعهم ، وتعريض لهم بأنهم عصاة ، مستوجبون للعذاب ، مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ ذلك العذاب ، يَوْمَئِذٍ أي : يوم القيامة ، فَقَدْ رَحِمَهُ أي : نجاه ، وأنعم عليه ، وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ أي : وذلك الصرف أو الرحمة هو الفلاح المبين.
ثم ذكر حجة أخرى على استحقاقه للعبادة والولاية ، فقال : وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ كمرض أو فقر ، فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ إذ لا يقدر على صرفه غيره ، وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ بنعمة ، كصحة وغنى ومعرفة وعلم ، فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، فهو قادر على حفظه وإدامته ، ولا يقدر أحد على دفعه ، كقوله تعالى : فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ «1» ، وَهُوَ الْقاهِرُ لجميع خلقه كلهم فى قبضته ، فَوْقَ عِبادِهِ بهذه القهرية والغلبة والقدرة ، وَهُوَ الْحَكِيمُ فى صنعه وتدبيره ، الْخَبِيرُ بخفايا أمور عباده ، لا يخفى عليه شىء من أحوالهم الباطنة والظاهرة.
الإشارة : فى الآية حضّ على محبة الحق ، وولايته على الدوام ، ورفض كل ما سواه ممن عمّه الفقر من الأنام ، وفيها أيضا : حث على المسابقة إلى الخيرات ، والمبادرة إلى الطاعات ، اقتداء بسيد أهل الأرض والسموات ، فكان - عليه الصلاة السلام - أول من عبد اللّه ، وأول من توجه إلى مولاه ، قال تعالى : قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ «2» ، فلو جاز أن يتخذ ولدا ، لكنت أنا أولى به ، لأنى أنا أول من عبده.
قال الورتجبي : قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ أي : أمرنى حين كنت جوهر فطرة الكون - حيث لم يكن غيرى فى الحضرة - أن أكون أول الخلق فى المحبة والعشق والشوق ، وأول الخلق له منقادا بنعت محبتى له ، راضيا بربوبيته ، غير منازع لأمر مشيئته. وقال بعضهم : أكون أول من انقاد للحق إذا ظهر. ه.
ولما قالت قريش للنبى صلّى اللّه عليه وسلّم : يا محمد : لقد سألنا عنك اليهود والنصارى ، فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة ، فأرنا من شهد لك؟ أنزل اللّه تعالى :
[سورة الأنعام (6) : آية 19]
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
قلت : (قل اللّه شهيد) : يحتمل المبتدأ والخبر ، أو يكون (اللّه) خبرا عن مضمر ، أو مبتدأ حذف خبره ، و«شهيد» :
خبر عن مضمر ، أي : قل هو اللّه ، أو اللّه أكبر شهادة ، وهو شهيد بينى وبينكم ، و(من بلغ) : عطف على مفعول ، «أنذر» ، أي : لأنذركم يا أهل مكة ، وأنذر من بلغه القرآن ، وحذف مفعول (بلغ).
___________
(1) من الآية : 107 من سورة يونس.
(2) من الآية : 81 من سورة الزخرف.(2/104)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 105
يقول الحق جل جلاله : قُلْ يا محمد للذين سألوك من يشهد لك بالنبوة : أَيُّ شَيْءٍ عندكم هو أَكْبَرُ شَهادَةً؟ فإن لم يجيبوا فقل لهم : هو اللَّهُ فإنه أكبر الشاهدين ، وهو الذي يشهد لى بالنبوة والرسالة بإقامة البراهين وإظهار المعجزات ، وهو شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ، وكفى به شهيدا.
وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ أي : لأخوّفكم به ، إن أعرضتم عنه ، وأبشّركم به إن آمنتم به ، واكتفى بذكر الإنذار عن ذكر البشارة لأنه مصرح به فى موضع آخر ، ولأن الأهم هنا هو الإنذار لغلبة الكفر حينئذ ، وأنذر به أيضا كل من بلغه القرآن من الأحمر والأسود ، والجن والإنس إلى يوم القيامة. وفيه دليل على أن أحكام القرآن تعم الموجودين وقت النزول ومن بعدهم ، وأنه لا يؤاخذ بها من لم تبلغه ، وهو نادر ، قال سعيد بن جبير : (من بلغه القرآن فكأنما رأى محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم).
الإشارة : فى الآية حث على الاكتفاء بعلم اللّه ، والاستغناء به عما سواه ، وعلامة الاكتفاء بعلم اللّه ثلاث :
استواء المدح والذم ، والرضى بالقليل والكثير ، والرجوع إلى اللّه وحده فى السراء والضراء.
واعلم أن الحق تعالى إذا شهد لك بالخصوصية ، ثم اكتفيت بشهادته فأنت من أهل الخصوصية ، وإن لم تكتف بشهادته ، وتطلعت إلى أن يعلم الناس بخصوصيتك ، فأنت كاذب فى دعوى الخصوصية. واطلاع الحق تعالى على ثبوت خصوصيتك هو شهادته لك ، فاقنع بعلم اللّه ، ولا تلتفت إلى أحد سواه ، لئلا ينزعها من قلبك ، حيث لم تقنع بعلم اللّه فيك. وبالله التوفيق.
ولمّا أتى قوم من الكفار إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فقالوا : يا محمد أما تعلم أن مع اللّه إلها آخر؟ أنزل اللّه تعالى :
أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ قلت : الاستفهام للإنكار والتوبيخ.
يقول الحق جل جلاله ، فى الإنكار على المشركين : أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى تستحق أن تعبد قُلْ لهم يا محمد : أنا لا أَشْهَدُ بما تشهدون به ، قُلْ لهم : إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ بل أشهد ألا إله إلا هو ، وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ به من الأصنام.(2/105)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 106
الإشارة : لم يبرأ من الشرك الخفي والجلى إلا أهل الفناء الذين وحدوا اللّه فى وجوده ، فلم يروا معه سواه. قال بعض من بلغ هذا التوحيد : (لو كلفت أن أرى غيره لم أستطع فإنه لا غير معه حتى أشهده) وقال آخر : محال أن تشهده وتشهد معه سواه. وقال شاعرهم :
مذ عرفت الإله لم أر غيرا وكذا الغير عندنا ممنوع
إلى غير ذلك من مقالاتهم الدالة على تحقيق وجدانهم. نفعنا اللّه بذكرهم ومحبتهم. آمين.
ولمّا قالت قريش : قد سألنا اليهود والنصارى عنك ، فلم يجدوا لك عندهم ذكرا ، ردّ اللّه عليهم ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 20 الى 21]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
يقول الحق جل جلاله الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ من اليهود والنصارى ، يَعْرِفُونَهُ أي : محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم بحليته المذكورة فى التوراة والإنجيل ، كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ أو أشد ، وإنما كتموه جحدا وخوفا على رياستهم .. الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ من أهل الكتاب حيث كذّبوا وكتموا ، ومن المشركين حيث كفروا وجحدوا ، فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ لتضييعهم ما به يكتسب الإيمان من النظر والتفكير والإنصاف للحق ، فقد ظلموا أنفسهم وبخسوها.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن كتم شهادة الحق ، وهى صفة الرسول - عليه الصلاة والسلام - أو ادّعاء الملائكة بذات اللّه ، وهؤلاء شفعاؤنا عند اللّه ، أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ كالقرآن والمعجزات وسمّوها سحرا ، أي : لا أحد أظلم ممن فعل هذا ، وإنما عبّر ب «أو» ، وهم قد جمعوا بين الأمرين تنبيها على أن كل واحد منهما وحده بالغ غاية الإفراط فى الظلم على النفس ، إِنَّهُ أي : الأمر والشأن لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ، فضلا عمّن لا أحد أظلم منه.
الإشارة : أقبح الناس منزلة عند اللّه ، من تحقق بخصوصية ولى من أولياء اللّه ، ثم كتمها وجحدها حسدا وعنادا ، وجعل ينكر عليه ، فقد آذن بحرب من اللّه ، فالتسليم عناية ، والانتقاد جناية ، والاستنصاف من شأن الكرام ، والتعصب من شأن اللئام. وباللّه التوفيق.(2/106)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 107
ثم ذكر وعيد أهل الشرك ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 22 الى 24]
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)
قلت : لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ، من قرأ بالرفع والتأنيث : ففتنة اسمها ، و(إلّا أن قالوا) : خبرها ، ومن قرأ بالنصب : فخبر مقدم ، والتأنيث لأجل الخبر ، ومن قرأ بالتذكير والنصب ، فخبر مقدم ، و(إلّا أن قالوا) : اسمها.
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر يا محمد يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ أي : المشركين ، جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ أي : آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله ، الَّذِينَ كُنْتُمْ تزعمونهم شركاء ، وتودونها وتنتصرون لها ، فيحال بينهم وبينها ، ويتبرأون منها ، كما قال تعالى : ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ أي : لم تكن عاقبة كفرهم الذي افتتنوا به ، إلا التبرؤ منه ، بعد الانتصار له والتعصب عليه ، أو : لم يكن جواب اختبارهم إلا التبرؤ من الشرك ، فيكذبون ويحلفون عليه ، مع علمهم بأنه لا ينفع من فرط الحيرة والدهشة.
فإن قلت : كيف يجحدون مع قوله : وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً «1» فالجواب : أن ذلك يختلف باختلاف الطوائف والمواطن ، فيكتم قوم ويقر آخرون ، ويكتمون فى موطن ويقرون فى موطن آخر لأن يوم القيامة طويل ، وقال ابن عباس لمّا سئل عن هذا : (إنهم جحدوا ، طمعا فى النجاة ، فختم اللّه على أفواههم وتكلمت جوارحهم ، فلا يكتمون حديثا).
قال تعالى : انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ بنفي الشرك عنها بعد تحققها به ونظيره قوله : يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ «2» وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ «3» أي : غاب عنهم ما كانوا يعبدونه من الشركاء افتراء على اللّه.
الإشارة : من أحب شيئا فهو عبد له ، ويوم القيامة يتبرأ منه ، ويرى وبال فتنته والاشتغال به ، فينبغى لمن أراد السلامة من الفتنة ، أن يفرد محبته لله ، ويتبرأ من كل ما سواه ، ويفرد وجهته لله ، ولا يشتغل ظاهرا ولا باطنا إلا
___________
(1) من الآية 42 من سورة النساء.
(2) من الآية : 18 من سورة المجادلة.
(3) من الآية : 42 من سورة يونس. [.....](2/107)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 108
بما يقربه من اللّه ويبعده عما سواه وفى الحديث : «تعس عبد الدّينار والدّرهم والخميصة ، تعس وانتكس ، وإذا شيك فلا انتقش» «1».
ثم ذكر أحوالهم فى الدنيا باعتبار الكفر والعناد ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 25 الى 26]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26)
قلت : «من» : لفظها مفرد ومعناها جمع ، فيجوز فى الضمير مراعاة اللفظ فيفرد ، كقوله هنا : وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ، ويجوز مراعاة المعنى فيجمع ، كقوله فى يونس : وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ «2» والأكنّة : الأغطية ، جمع كنان ، و(أن يفقهوه) : مفعول له أي : كراهية أن يفقهوه ، و(حتى) : غاية ، أي : انتهى التكذيب حتى وصلوا إليك يجادلونك ، والجملة بعدها : إمّا فى محل جر بها ويجادلونك جواب لها ، و(يقول) : تبيين لها ، وإما لا محل لها فتكون ابتدائية. والأساطير : جمع أسطورة ، أو أسطار جمع سطر ، فيكون جمع الجمع.
يقول الحق جل جلاله : ومن الكفار مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حين تقرأ القرآن ، والمراد : أبو سفيان والوليد والنضر وعتبة وشيبة وأبو جهل وأضرابهم ، اجتمعوا فسمعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقرأ ، فقالوا للنضر : ما تقول؟ فقال :
والذي جعلها بيننا وبينه ما أدرى ما يقول ، إلا أنه يحرك لسانه ، ويقول أساطير الأولين ، مثل ما جئتكم به. قال السّهيلى : حيث ما ورد فى القرآن : «أساطير الأولين» فإنّ قائلها هو النضر بن الحارث ، وكان قد دخل بلاد فارس وتعلّم أخبار ملوكهم ، فكان يقول : حديثى أحسن من حديث محمد ، فنزلت فيه وفى أصحابه.
وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أي : أغطية كراهة أَنْ يَفْقَهُوهُ لما سبق لهم من الشقاء ، وَجعلنا فِي آذانِهِمْ وَقْراً أي : ثقلا وصمما فلا يسمعون معانيه ، ولا يتدبرونها. وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ ومعجزة لا يُؤْمِنُوا بِها لفرط عنادهم ، واستحكام التقليد فيهم ، وسبق الشقاء لهم ، فلا يزال التكذيب والشك يعظم فيهم حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ أي : حتى ينتهى بهم التكذيب إلى أن يجيؤوك يجادلونك يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أي :
ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ أي : أكاذيب الْأَوَّلِينَ ، فإنّ جعل أصدق الحديث خرافات الأولين غاية التكذيب.
___________
(1) إذا شيك فلا انتقش : أي : إذا شاكته شوكة فلا يقدر على انتقاشها ، وهو إخراجها بالمنقاش ... والحديث أخرجه البخاري مطولا فى (الجهاد والسير ، باب الحراسة). من حديث أبى هريرة رضى اللّه عنه.
(2) من الآية : 42 من سورة يونس.(2/108)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 109
وَهُمْ أيضا يَنْهَوْنَ عَنْهُ أي : ينهون الناس عن القرآن ، أو عن الرسول والإيمان به ، وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ أي :
يبعدون عنه ، فقد ضلوا وأضلوا ، أو ينهون عن التعرض لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وينأون عنه فلا يؤمنون ، كأبى طالب ومن كان معه ، يحمى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو فى مكة. وفى (ينهون) ضرب من ضروب التجنيس من علم البلاغة.
قال تعالى : وَإِنْ أي : ما يُهْلِكُونَ بذلك إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ أن ضررهم لا يتعداهم إلى غيرهم.
الإشارة : اعلم أن القلب تحجبه عن تدبر كلام اللّه والتمتع بحلاوته أربعة حجب :
الأول : حجاب الكفر والشرك ويندفع بالإيمان والإسلام ..
والثاني : حجاب المعاصي والذنوب ، وينخرق بالتوبة والانقلاع.
والثالث : حجاب الانهماك فى الحظوظ والشهوات واتباع الهوى ، وينخرق بالزهد والورع والتعفف ونوع من الرياضة.
والرابع : حجاب الغفلة والخوض فيما لا يعنى ، والاشتغال بالبطالة ، وينخرق باليقظة والتوجه إلى الحق ، والانقطاع إلى اللّه بكليته ، فإذا انخرقت هذه الحجب عن القلب ، تمتع بحلاوة القرآن ، ومناجاة الحق على نعت القرب والمراقبة.
وبقي حجابان آخران ، إذا خرقهما العبد أفضى إلى مشاهدة المتكلم دون واسطة ، أولهما : حجاب حلاوة الطاعة والمعاملة الظاهرة ، والوقوف مع المقامات أو الكرامات ، فإنها عند العارفين سموم قاتلة. وثانيهما : حجاب الوهم والوقوف مع ظاهر الحس ، دون الوصول إلى باطنه ، فيقف مع الأوانى دون شهود المعاني ، وقد قال الششترى :
لا تنظر إلى الأوانى وخض بحر المعاني
لعلّك ترانى.
وقال الغزالي : الموانع التي تحجب القلب عن الفهم أربعة : الأول : جعل الفهم مقصورا على تحقيق الحروف بإخراجها من مخارجها ، فهذا يتولى حفظه شيطان وكلّ بالقراء ، يصرفهم عن معانى كلام اللّه تعالى. الثاني : أن يكون مقلدا لمذهب سمعه بالتقليد وجمد عليه ، من غير وصول إليه ببصيرة. الثالث : أن يكون مصرا على ذنب ، أو متصفا بكبر ، أو مبتلى بهوى فى الدنيا مطاع ، فإن ذلك سبب ظلمة القلب ، وهو كالخبء على المرآة ، فيمنع جلية الحق فيه ، وهو أعظم حجب القلب ، وبه حجب الأكثرون ، الرابع : أن يكون قد قرأ تفسيرا ظاهرا ، واعتقد أنه لا معنى لكلمات القرآن إلّا ما يتأوّل عن ابن عباس ، ومجاهد وغيرهما ، وأن ما وراء ذلك تفسير بالرأى منهى عنه ، فهذا أيضا من الحجب العظيمة ، فإن القرآن بحر لا ساحل له ، وهو مبذول لمن يغرف منه إلى يوم القيامة ، كل على قدر سعته وصفاء قلبه .. ه. بالمعنى.(2/109)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 110
ثم هددهم بما أعد لهم يوم القيامة ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 27 الى 28]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28)
قلت : (لو) : شرطية ، وجوابها محذوف : أي : لرأيت أمرا فظيعا هائلا ، وإنما حذف فى مثل هذا ليكون أبلغ ما يقدره السامع. و(لا نكذب) و(نكون) : قرىء بالرفع ، على الاستئناف والقطع عن التمني ، ومثّله سيبويه بقولك :
(دعنى ولا أعود) أي : وأنا لا أعود ، ويحتمل أن يكون حالا ، أي : غير مكذّبين ، أو عطفا على : (نرد) ، وقرىء بالنصب على إضمار «أن» - بعد واو المعية فى جواب التمني.
يقول الحق جل جلاله : وَلَوْ تَرى يا محمد ، أو : يا من تصح منه الرؤية ، حال الكفار إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ حين يعاينونها أو يطلعون عليها ، أو يدخلونها ، فيعرفون مقدار عذابها ، لرأيت أمرا شنيعا وهو لا فظيعا فَقالُوا حينئذ : يا لَيْتَنا نُرَدُّ إلى الدنيا ، وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، ندموا حين لم ينفع الندم ، وقد زلّت بهم القدم ، قال تعالى : بَلْ بَدا لَهُمْ أي : ظهر لهم يوم القيامة فى صحائفهم ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ فى دار الدنيا من عيوبهم وقبائح أعمالهم ، أو : بدا لهم حقيّة الإيمان وبطلان ضده ، عيانا ، لمّا وقفوا على التوحيد وعرفوه ضرورة ، وقد كانوا فى الدنيا يخفونه ويظهرون الشرك ، عياذا بالله. قال تعالى : وَلَوْ رُدُّوا إلى الدنيا بعد الوقوف والظهور ، لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ من الكفر والمعاصي لأنهم من قبضة الشقاء ، والعياذ بالله ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما وعدوا من أنفسهم من الإيمان وعدم التكذيب. وفى هذا : الإخبار بما لا يكون ، ولو كان كيف يكون ، وهو مما انفرد اللّه بعلمه.
الإشارة : يوم القيامة هو محل ظهور حقائق الأشياء على ما هى عليه ، فإن كانت حقا ظهرت حقيقتها وصحتها ، وإن كانت باطلة ، ظهر بطلانها عيانا ، لكن لا تنفع المعرفة حينئذ ، لرفع حجاب الحكمة وظهور القدرة ، فلم يبق غيب ، وإنما المزيّة فى الإيمان بالغيب ، والمعرفة فى النكران ، والشهود خلف رداء الكبرياء ، بشهود المعاني خلف الأوانى ، فإن ظهرت المعاني فلا إيمان ، وإنما يبقى العيان ، لأهل العيان ، والخيبة لأهل الخذلان.
قال الورتجبي : القوم لم يعرفوا حقائق الكفر فى الدنيا ، ولو عرفوه لكانوا موحدين ، فيظهر لهم يوم القيامة حقيقة الكفر ، ولا ينفعهم ذلك لفوتهم السير فى النكرات ، التي معرفتها توجب المعارف ، وذلك المقام فى أماكن صدورهم ، وهم كانوا يخفونه بمتابعة صورة الكفر وشهوة العصيان بغير اختيارهم لقلة عرفانهم به ، ولا يكون قلب من العرش إلى الثرى إلا ويطرقه هواتف الغيب ، بإلهام اللّه الذي يعرف به طرق رضى الحق ، وصاحبه يعلم ذلك ويسمع ويخفيه فى قلبه ، لأنه أدق من الشعرة ، وحركته أخفى من دبيب النمل ، ومع ذلك يعرفه من نفسه ، ولكن من غلبت شهوات نفسه عليه ، لا يتبع خطاب اللّه بالسر ، فأبدى اللّه لهم ما كانوا يخفونه ، تعييرا لهم وحجة عليهم. انتهى.(2/110)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 111
قلت : قوله : ولا يكون قلب ... إلخ ، حاصل كلامه : أن القلب من حيث هو لا بد أن يطرقه الخصم إن حاد عن الحق ، وهو المراد بهواتف الغيب ، لكنه أخفى من دبيب النمل فى حق الغافلين. فإن كان القلب حيا متيقظا تتبع ذلك الخصم حتى يزيله بظهور الحق ، وإن كان ميتا بغلبة الشهوات أخفاه حتى يموت ، فيبدو له ما كان يخفيه من قبل. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر اعتقادهم الفاسد ، وما أداهم إليه ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 29 الى 32]
وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32)
يقول الحق جل جلاله : وَقالُوا أي : الكفار فى إنكار البعث : إِنْ هِيَ أي : الحياة إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا لا حياة بعدها ، وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ، قال جل جلاله : وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ ، كناية عن حبسهم للسؤال والتوبيخ ، أو : وقفوا على قضاء ربهم بين عباده ، وعرفوه حق التعريف ، قال لهم الحق جل جلاله : أَلَيْسَ هذا الذي كنتم تنكرونه ، بِالْحَقِّ. قالُوا بَلى وَرَبِّنا إنه لحق ، ولكنا كنا قوما ضالين ، وهو إقرار مؤكد باليمين ، لانجلاء الأمر غاية الجلاء ، قال تعالى لهم : فَذُوقُوا أي : باشروا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي : بسبب كفركم.
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ ، حيث فاتهم النعيم ، واستوجبوا العذاب المقيم ، والمراد بلقاء اللّه : البعث وما يتبعه. فاستمروا على التكذيب حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أي : فجأة قالُوا يا حَسْرَتَنا أي : يا هلكتنا عَلى ما فَرَّطْنا أي : قصّرنا فِيها أي : فى الحياة الدنيا ، أو فى الساعة ، أي : فى شأنها والاستعداد لها ، وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ ، كناية عن تحمل الذنوب ، لأن العادة حمل الأثقال على الظهور ، وقيل : إنهم يحملونها حقيقة ، وقد روى : أن الكافر يركبه عمله ، بعد أن يتمثل له فى أقبح صورة ، وأن المؤمن يركب عمله ، بعد أن يتصور له فى أحسن صورة. قال تعالى فى شأن الكفار : أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ أي : بئس شيئا يزرونه ويرتكبونه فى الدنيا وزرهم هذا ، الذي يتحملونه على ظهورهم يوم القيامة.(2/111)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 112
وسبب هذا : الركون إلى دار الغرور ، ونسيان دار الخلود ، ولذلك قال تعالى بإثره : وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ أي : وما أعمالها إلا لعب ولهو ، تلهى الناس وتشغلهم عما يعقب منفعة دائمة ولذة حقيقية ، وما مدة بقائها مع ما يعقبها من الفناء إلّا كمدة اللعب واللهو ، إذ لا طائل تحته لمن لم يعمر أوقاتها بطاعة ربه ، وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ لدوامها وخلوص نعيمها وصفاء لذاتها ، أَفَلا تَعْقِلُونَ أىّ الأمرين خير ، هل دار الخراب والفناء ، أو دار النعيم والبقاء ، وفى قوله : لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ : تنبيه على أن ما ليس من أعمال المتقين كله لعب ولهو.
الإشارة : إذا كمل نور العقل حصل لصاحبه التمييز بين الحق والباطل ، وبين الضار والنافع ، فنظر بعين اعتباره إلى الدنيا ، فوجدها ذاهبة فانية ، ونظر إلى الآخرة ، فرآها مقبلة باقية دائمة ، فصدف عن الدنيا موليا ، وأعرض عن زهرتها مدبرا ، وأقبل بكليته إلى مولاه ، غائبا عن كل ما سواه ، فجعل الموت وما بعده نصب عينيه ، وخلف الدنيا وراء ظهره أو تحت قدميه. وفى الحكم : «لو أشرق نور اليقين فى قلبك ، لرأيت الآخرة أقرب من أن ترحل إليها ، ولرأيت الدنيا ، وكسفة الفناء ظاهرة عليها» وقال بعض الحكماء : (لو كانت الدنيا من ذهب يفنى ، والآخرة من طين يبقى ، لاختار العاقل ما يبقى على ما يفنى. ولا سيما والأمر بالعكس ، الدنيا من طين يفنى والآخرة من ذهب يبقى). فلا يختار هذه الدار إلا من لا عقل له أصلا. وفى الحديث عنه صلّى اللّه عليه وسلّم : «الدّنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، لها يجمع من لا عقل له ، وعليها يعادى من لا علم عنده» «1». أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
ثم سلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على ما لقى من قومه ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 33 الى 35]
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35)
قلت : «قد» للتحقيق ، وإنه ضمير الشأن ، وقرأ نافع : «يحزن» ، بضم الياء حيث وقع ، إلا قوله : لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ «2» والباقون : بفتح الياء ، وفيه لغتان : حزن يحزن ، كنصر ينصر ، وأحزن يحزن. والأول أشهر.
___________
(1) أخرجه بنحوه أحمد فى المسند 16/ 71 من حديث السيدة عائشة - رضى اللّه عنها.
(2) من الآية 103 من سورة الأنبياء.(2/112)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 113
ومن قرأ : «يكذّبونك» بالتشديد فمعناه : لا يعتقدون كذبك ، وإنما هم يجحدون الحق مع علمهم به ، ومن قرأ بالتخفيف فمعناه : لا يجدونك كاذبا ، يقال : أكذبت الرجل إذا وجدته كاذبا ، وقيل : معناهما واحد ، يقال : كذّب فلان فلانا ، وأكذبه ، بمعنى واحد ، وفاعل (جاءك) : مضمر ، أي : نبأ أو بيان ، وقيل : الجار والمجرور. وجواب (فإن استطعت) : محذوف ، أي : فافعل.
يقول الحق جل جلاله : قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ أي : الكفار فى جانبك من أنك شاعر أو كاهن أو مجنون أو كاذب ، فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ فى الحقيقة ، لجزمهم بصحة نبوتك ، ولكنهم يجحدون بآيات اللّه ، حسدا وخوفا على زوال الشرف من يدهم. نزلت فى أبى جهل ، قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : إنّا لا نكذّبك ، ولكن نكذّب بما جئت به «1». وقال الأخنس بن شريق : واللّه إن محمدا لصادق ، ولكنى أحسده على الشرف. ووضع (الظالمين) موضع المضمر للدلالة على أنهم ظلموا لجحودهم ، أو جحدوا لتمرنهم على الظلم.
ثم سلّاه عن ذلك ، فقال : وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا أي : صبروا على تكذيبهم وأذاهم ، حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا ، فاصبر كما صبروا حتى يأتيك نصرنا كما أتاهم ، وفيه إيماء بوعد النصر للصابرين ، ولذلك قيل : الصبر عنوان الظفر. وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ السابقة بنصر الصابرين ، كقوله تعالى :
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ «2» : الآية. وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ أي : من قصصهم ، وما كابدوا من قومهم حتى نصرهم اللّه ، فتأنس بهم وانتظر نصرنا.
وَإِنْ كانَ كَبُرَ أي : عظم وشق عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ عنك وعن الإيمان بما جئت به ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً أي : سربا فِي الْأَرْضِ فتدخل فيه لتطلع لهم آية ، أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ لترتقى فيه فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ حتى يعاينوها فافعل ، ولكن الأمر بيدي ، فإنما أنت نذير.
قال البيضاوي : المقصود : بيان حرصه البالغ على إسلام قومه ، وأنه لو قدر أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إسلامهم ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى أي : لو شاء اللّه جمعهم على الهدى لوفقهم للإيمان حتى يؤمنوا ، ولكن لم تتعلق به مشيئته. وفيه حجة على القدرية. أو : لو شاء اللّه لأظهر لهم أية تلجئهم إلى الإيمان ، لكن لم يفعل لخروجه عن الحكمة ، فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ أي : من الذين يحرصون على ما لم تجر به المقادير ، أي : دم على عدم كونك منهم ، ولا تقارب حالهم بشدة التحسر ه.
وقال فى نوادر الأصول : إن الخطاب به تربية له ، وترقية من حال إلى حال ، كما يربّى أهل التقريب وينقلون من ترك الاختيار ، فيما ظاهره بر وقربة. ه. قلت : تشديد الخطاب على قدر علو المقام ، كما هو معلوم
___________
(1) أخرجه الترمذي فى : (تفسير سورة الأنعام) عن سيدنا على - كرم اللّه وجهه -
(2) الآيتان : 171 - 172 من سورة الصافات.(2/113)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 114
من الأب الشفيق أو الشيخ الناصح ، وقد قال لنوح عليه السّلام : إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ «1». وهذا الخطاب أشد لعلو مقامه صلّى اللّه عليه وسلّم.
الإشارة : كل ما سلّيت به الرسل تسلّى به الأولياء لأنهم ورثتهم الخاصة ، وكل ما أمرت به الرسل تؤمر به الأولياء ، من الصبر وعدم الحرص ، فليس من شأن الدعاة إلى اللّه الحرص على الناس ، ولا الحزن على من أدبر عنهم أو أنكر ، بل هم يزرعون حكمة التذكير فى أرض القلوب ، وينظرون ما ينبت اللّه فيها ، اقتداء بما أمر به الرسول - عليه الصلاة السلام ، وما تخلق به ، فمن أصول الطريقة : الإعراض عن الخلق فى الإقبال والإدبار ، والرجوع إلى اللّه فى السراء والضراء. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر علّة إعراضهم ، وهو موت أرواحهم ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : آية 36]
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّما يَسْتَجِيبُ لك ، ويجيب دعوتك إلى الإيمان ، الَّذِينَ يَسْمَعُونَ سماع تفهم وتدبر ، وهو من كان قلبه حيا ، وأما الكفار فهم موتى لا يسمعون ولا يفقهون ، وَالْمَوْتى ، وهم الكفار الذين ماتت أرواحهم بالجهل حتى ماتوا حسا ، يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ، فيظهر لهم حينئذ الحق ، ويسمعون حين لا ينفع الإيمان ، أو يبعثهم اللّه فى الدنيا بالهداية ، أو الموتى حقيقة حسا ، يبعثهم اللّه للحساب ، ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ للجزاء.
الإشارة : إنما يستجيب لدعوة الخصوصية ، ويجيبون الدعاة إلى السير لشهود عظمة الربوبية ، الذين سبقت لهم العناية ، وأحيا اللّه قلوبهم بالهداية ، فيسمعون بسمع القلوب والأرواح ، ويترقّون من حضرة عالم الأشباح إلى حضرة عالم الأسرار والأرواح والموتى بالغفلة والجهل يبعثهم اللّه ببركة صحبة أهل اللّه ، فتهبّ عليهم نفحات الهداية لما سبق لهم من سر العناية ، ثم إليه يرجعون فيتنعمون فى حضرة الشهود ، فى مقعد صدق عند الملك الودود.
ثم عاتبهم على اقتراح الآيات ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 37 الى 38]
وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
___________
(1) من الآية 46 من سورة هود.(2/114)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 115
يقول الحق جل جلاله : وَقالُوا - حين سمعوا ذكر البعث والرجوع إلى اللّه - : لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ تدل على ما ادعاه من البعث والرجوع إلى اللّه ، وعلى أنه رسول من عند اللّه ، قُلْ لهم : إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً خارقة للعوائد ، يرونها عيانا ، وتضطرهم إلى الإيمان ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن إنزالها وبال عليهم لأنهم إن عاينوها ولم يؤمنوا عوجلوا بالعقاب ، أو : لا يعلمون أن اللّه قادر على أكثر مما طلبوا؟.
وهذا الطلب قد تكرر منهم فى مواضع من القرآن ، وأجابهم الحق تعالى بأجوبة مختلفة ، منها : ما يقتضى الرد عليهم فى طلبهم الآيات لأنهم قد أتاهم بآيات ، وتحصيل الحاصل لا ينبغى ، كقوله : قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ «1» ، أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ «2» ومنها : ما يقتضى الإعراض عنهم لأن الخصم إذا تبين عناده سقطت مكالمته. ويحتمل أن يكون منه قوله هنا : قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ ... الآية.
فإن قيل : كيف طلبوا آية وهم قد رأوا آيات كثيرة ، كانشقاق القمر ، وإخبارهم بالغيب ، وغير ذلك؟ فالجواب :
أنهم لم يعتدوا بما رأوا لأن سر الربوبية لا يظهر إلّا ومعه شىء من أردية القهرية ، وهم قد طلبوا آية يدركونها من غير نظر ولا تفكر ، وهو خلاف الحكمة.
ثم ذكر دلائل قدرته على البعث وغيره ، فقال : وَما مِنْ دَابَّةٍ تدبّ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ فى الهواء ، إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ مقدرة أرزاقها ، محدودة آجالها ، معدودة أجناسها وأصنافها ، محفوظة ذواتها ، معلومة أماكنها ، كلها فى قبضة الحق ، وتحت قدرته ومشيئته ، فدل ذلك على كمال قدرته وشمول علمه وسعة تدبيره ، فيدل على قدرته على أن ينزل آية ، وعلى بعثهم وحشرهم لأنه عالم بما تنقص الأرض منهم ، كما قال تعالى : ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ أي : اللوح المحفوظ ، مِنْ شَيْءٍ فإنه مشتمل على ما يجرى فى العالم من جليل ودقيق ، لم يهمل فيه أمر حيوان ولا جماد ، ظاهرا ولا باطنا ، أو القرآن فإنه قد اشتمل على كل ما يحتاج إليه من أمر الدين مفصلا ومجملا ، حتى قال بعض السلف : (لو ضاع لى عقال لوجدته فى كتاب اللّه) أي : باعتبار العموم وأصول المسائل.
قال تعالى : ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ أي : الأمم كلها ، فينصف بعضها من بعض. كما روى أنه يؤخذ للجمّاء من القرناء «3» وعن أبى هريرة رضى اللّه عنه أنه قال فى هذه الآية : (يحشر الخلق كلهم يوم القيامة : البهائم والدواب والطير وكل شىء ، فيبلغ من عدل اللّه تعالى أن يأخذ للجماء من القرناء ، ثم يقول : كونى ترابا ، فذلك حين يقول الكافر : ا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
«4». وفى المسألة اضطراب بين العلماء ، والصحيح هو حشرها ، كما قال تعالى :
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ «5» وعن ابن عباس رضى اللّه عنه : (حشرها موتها). واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) من الآية 118 من سورة البقرة.
(2) من الآية 51 من سورة العنكبوت.
(3) كما فى حديث : «لتؤدّون الحقوق إلى أهلها يوم القيامة ، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ، أخرجه مسلم فى (البر والصلة ، باب تحريم الظلم) من حديث أبى هريرة. والجماء : التي لا قرن لها.
(4) من الآية 40 من سورة النبأ.
(5) الآية 5 من سورة التكوير.(2/115)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 116
الإشارة : قد تقدم مرارا أن طلب الكرامات من الأولياء : لقلة الاعتقاد فيهم وقلة الصدق. وأكمل الكرامات :
الاستقامة على التوحيد فى الباطن ، وتحقيق العبودية فى الظاهر. وبالله التوفيق.
ثم قبّح شأن أهل التكذيب ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : آية 39]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
يقول الحق جل جلاله : وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على كمال قدرتنا وتحقيق وحدانيتنا ، أو بآياتنا المنزلة على رسولنا ، هم صُمٌّ لا يسمعون مثل هذه الآيات - الدالة على ربوبيته وكمال علمه وعظيم قدرته - سماعا تتأثر به نفوسهم ، وَهم أيضا بُكْمٌ لا ينطقون بالحق ، وهم فِي الظُّلُماتِ أي : خائضون فى بحر ظلمات الكفر والجهل ، وظلمة العناد ، وظلمة التقليد ، فوصفهم بالصمم والبكم والعمى ، ويؤخذ العمى من قوله :
فِي الظُّلُماتِ ، وهذا كله داخل تحت مشيئته وعلمه السابق مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ عدلا ، وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ بأن يرشده إلى الهدى ويحمله عليه ، فيتبع الطريق الذي لا عوج فيه.
الإشارة : أولياء اللّه فى أرضه آية من آيات اللّه ، فمن كذب بهم بقي فى ظلمة الجهل بالله وظلمة حجاب النفس وحجاب الأكوان ، محجوبا بمحيطاته ، محصورا فى هيكل ذاته ، قلبه أصم عن تذكّر الحقائق ، ولسانه أبكم عن النطق بحكم العلم والأسرار ، لم تسبق له فى مشيئة الحق عناية ، ولا هبّ عليه شىء من رياح الهداية ، عائذا بالله من سوء القضاء ودرك الشقاء.
ثم أقام لهم البرهان على توحيده ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 40 الى 41]
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41)
قال فى المشارق : أرأيتك : معناه : الاستخبار والاستفهام ، أي : أخبرنى عن كذا ، وهو بفتح التاء فى المذكر والمؤنث والواحد والجمع ، تقول : أرأيتك وأ رأيتكما وأ رأيتكم ، ولم تثن ما قبل علامة المخاطب ولم تجمعه ، فإذا أردت معنى الرؤية - أي البصرية - تثنيت وجمعت وأنثت ، فقلت : أرأيتك قائما ، وأ رأيتك قائمة ، وأ رأيتكما وأ رأيتموكم وأ رأيتيكن. ه. وقال فى الإتقان : إذا دخلت الهمزة على «رأيت» امتنع أن يكون من رؤية العين والقلب ، وصار المعنى : أخبرنى ، وهو خلاف ما قال فى المشارق ، فانظره وانظر الحاشية الفاسية.
قال البيضاوي : (أ رأيتكم) : استفهام تعجب ، والكاف : حرف خطاب ، أكد به الضمير للتأكيد ، لكن لا محل له من الإعراب ، لأنك تقول : أرأيتك زيدا ما شأنه ، فلو جعلت الكاف مفعولا - كما قاله الكوفيون - لعدّيت الفعل إلى ثلاثة(2/116)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 117
مفاعيل ، ولزم فى الآية أن يقول : أرأيتكموكم ، بل الفعل معلق ، أو المفعول محذوف ، وتقديره : أرأيتكم آلهتكم تنفعكم إذ تدعونها إن أتاكم عذاب اللّه ، ويدل عليه : (أ غير اللّه تدعون). ه. وجواب (إن) : محذوف أي : إن أتاكم عذاب اللّه أو أتتكم الساعة فمن تدعون؟ وجواب (إن كنتم) : محذوف أيضا أي : إنّ كنتم صادقين فى أنّ غير اللّه ينفعكم فادعوه ، ثم وصفهم بأنهم لا يدعون حينئذ إلا اللّه.
يقول الحق جل جلاله : قُلْ لهم يا محمد : أَرَأَيْتَكُمْ أي : أخبرونى إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ فى الدنيا كما أتى من قبلكم ، أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ وأهوالها ، أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ وتلتجئون إليه فى كشف ما نزل بكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أن الأصنام آلهة ، لا ، بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ وحده ، فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ أي : ما تدعونه إلى كشفه ، إِنْ شاءَ أن يتفضل عليكم بالكشف فى الدنيا ، وقد لا يشاء ، وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ أي : وتتركون آلهتكم فى ذلك الوقت لما ركز فى العقول من أنه قادر على كشف الضر دون غيره ، أو تنسون من شدة الأمر وهوله.
الإشارة : إنما يظهر توحيد الرجال عند هجوم الأحوال ، فإن رجع إلى اللّه وحده ولم يلتفت إلى شىء سواه ، علمنا أنه من الأبطال ، وإن فزع إلى شىء من السّوى ، علمنا أنه من جملة الضعفاء. وعندهم من جملة أصول الطريق : الرجوع إلى اللّه فى السراء والضراء ، فإن رجع إليه أجابه فيما يريد ، وفى الوقت الذي يريد ، وقد لا يريد على حسب إرادة المريد. واللّه تعالى أعلم.
ثم حضّ على الرجوع إليه فى حالة الضراء ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 42 الى 45]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45)
يقول الحق جل جلاله ، تخويفا لهذه الأمة : وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مضت مِنْ قَبْلِكَ رسلا فأنذروهم ، فكذبوا وكفروا فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ أي : الشدة ، كالقحط والجوع ، وَالضَّرَّاءِ كالأمراض والموت والفتن ، تخويفا لهم لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ أي : يتذللون ويتوبون من ذنوبهم ، فلم يفعلوا ، فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا أي : هلا تذللوا حين جاءهم البأس فنرحمهم ، وفيه دليل على نفع التضرع حين الشدائد ، وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ(2/117)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 118
أي : صلبت ولم تلن ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فصرفهم عن التضرع ، أي : لا مانع لهم من التضرع إلا قساوة قلوبهم ، وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم.
فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أي : تركوا الاتعاظ بما ذكروا به من البأساء والضراء ، ولم ينزجروا ، فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ من أنواع الرزق وضروب النعم ، مراوحة عليهم بين نوبتى الضراء والسراء ، وامتحانا لهم بالشدة والرخاء ، إلزاما للحجة وإزاحة للعلة ، أو مكرا بهم ، لما روى أنه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «مكر بالقوم ورب الكعبة» «1». حَتَّى إِذا فَرِحُوا أي : أعجبوا بِما أُوتُوا من النعم ، ولم يزيدوا على البطر والاشتغال بالنعم عن المنعم والقيام بحقه ، أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً أي : فجأة ، فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ متحيرون آيسون من كل خير ، فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي : قطع آخرهم ، ولم يبق منهم أحد ، وهى عبارة عن الاستئصال بالكلية ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على إهلاكهم ، فإن إهلاك الكفار والعصاة نعم جليلة ، يحق أن يحمد عليها من حيث إنه خلاص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم وأعمالهم. وبالله التوفيق.
الإشارة : المقصود من إظهار النقم الظاهرة ما يؤول الأمر إليه من النعم الباطنة ، فإن الأشياء كامنة فى أضدادها ، النعمة فى النقمة ، والرخاء فى الشدة ، والعز فى الذل ، والجمال فى الجلال ، إن وقع الرجوع إلى اللّه والانكسار والتذلل. «أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلى». فانكسار القلوب إلى علام الغيوب عبادة كبيرة ، توجب نعما غزيرة ، فإذا قست القلوب ولم يقع لها عند الشدة انكسار ولا رجوع ، كان النازل بلاء ونقمة وطردا وبعدا. فإنّ ما ينزل بالإنسان من التعرفات منها : ما يكون أدبا وكفارة ، ومنها : زيادة وترقية ، ومنها : ما يكون عقوبة وطردا ، فإن صحبها التيقظ والتوبة ، كان أدبا مما تقدم من سوء الأدب ، وإن صحبه الرضى والتسليم ، ولم يقع ما يوجب الأدب ، كان ترقية وزيادة ، وإن غضب وسخط كان طردا وبعدا. أعاذنا اللّه من موارد النقم.
ثم احتج عليهم بوجه آخر ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 46 الى 47]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)
___________
(1) لم أقف عليه مرفوعا. وذكره السيوطي فى الدر موقوفا على الحسن ، وعزاه لابن أبى حاتم. لكن روى أحمد فى المسند 4/ 145 والطبراني فى الكبير 17/ 331 وابن جرير فى التفسير ، من حديث عقبة بن عامر مرفوعا : (إن رأيت اللّه يعطى العبد فى الدنيا وهو مقيم على معاصيه ما يحب ، فإنما هو استدراج. ثم تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (فلما نسوا ما ذكروا به ...) الآية والتي بعدها).(2/118)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 119
يقول الحق جل جلاله : قُلْ لهم أيضا : أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ أي : أصمّكم وأعماكم ، وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ بأن غطى عليها بما يزول به عقلكم وفهمكم ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ أي : بذلك المأخوذ. انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أي : نكررها على جهات مختلفة ، كتصريف الرياح ، تارة من جهة المقدمات العقلية ، وتارة من جهة الترغيب والترهيب ، وتارة بالتنبيه والتذكير بأحوال المتقدمين ، ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ أي : يعرضون عنها ولم يلتفتوا إليها ، و(ثم) : لاستبعاد الإعراض بعد تصريف الآيات وظهورها.
وقُلْ لهم أيضا : أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً من غير مقدمة أَوْ جَهْرَةً بتقديمها ، فالبغتة : ما لم يتقدم لهم به شعور ، والجهرة : ما قدمت لهم مخايله ، وقيل : بغتة بالليل ، وجهرة بالنهار ، هَلْ يُهْلَكُ أي :
ما يهلك به هلاك سخط وتعذيب ، إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ بالكفر والمعاصي.
الإشارة : إنما خلق الأسماع والأبصار ، لسماع الوعظ والتذكار ، ولنظرة التفكر والاعتبار ، فمن صرفهما فى ذلك فقد شكر نعمتها ، ومن صرفهما فى غير ذلك فقد كفر نعمتهما ، ومن كفر نعمتهما يوشك أن تؤخذ منه تلك النعمة ، وكذلك نور العقل ، ما جعله اللّه فى العبد إلا ليعرفه به ، ويعرف دلائل توحيده ، ويتبصّر به فى أمره.
فإذا صرفه فى تدبير هواه وشهواته فقد كفر نعمته ، فيوشك أيضا أن يؤخذ منه ، .
وإذا أنعم اللّه عليه باستعمال هذه الحواس فيما خلقت لأجله فليكن على حذر من أخذ ذلك منه أيضا ، فلا يأمن مكر اللّه ، فإن الأسماع والأبصار والقلوب بيد اللّه ، يقلبها كيف شاء ، فإن أخذها لن يقدر على ردها ، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره ، ولا يكون مع غير اللّه قراره ، والعذاب الذي يأتى بغتة ، هو السلب بغتة ، أي : فقد القلب فى مرة واحدة ، والذي يأتى جهرة هو فقده شيئا فشيئا ، وسبب هذا الهلاك : هو ظلم العبد لنفسه ، إما بسوء أدب مع اللّه ، أو نقض عهد الشيوخ العارفين بالله. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم رغّب فى الإيمان بالرسل ، وحذّر من الكفر بهم ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 48 الى 49]
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49)
يقول الحق جل جلاله : وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ للمؤمنين بالنعيم المقيم ، وَمُنْذِرِينَ للكفار بالعذاب الأليم ، ولم نرسلهم ليقترح عليهم ويتلهى بهم ، فَمَنْ آمَنَ بهم ، وَأَصْلَحَ ما يجب إصلاحه على ما شرع لهم ، فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من العذاب ، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لفوات الثواب ، وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ(2/119)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 120
أي : يلحقهم ، جعل العذاب ماسّا لهم كأنه الطالب للوصول إليهم ، واستغنى بتعريفه عن توصيفه.
وذلك المس بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي : بسبب خروجهم عن التصديق والطاعة.
الإشارة : ما من زمان إلا ويبعث اللّه أولياء عارفين ، مبشرين لمن أطاعهم واتبعهم بطلعة أنوار الحضرة على أسرارهم ، ومنذرين لمن خالفهم بظهور ظلمة الكون على قلوبهم ، وانطباع الأكوان فى أسرارهم ، فمن آمن بهم وصحبهم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، بدليل قوله : أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ «1» ، ومن كذب بهم وبما يظهر على أيديهم من أسرار المعارف يمسهم عذاب القطيعة ، بما كانوا يفسقون ، أي : بخروجهم عن طاعتهم والإذعان إليهم.
وليس من شرط الداعين إلى اللّه ظهور المعجزات أو الكرامات ، كما قال تعالى :
[سورة الأنعام (6) : آية 50]
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50)
يقول الحق جل جلاله : قُلْ لهم يا محمد : أنا لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ فآتيكم منها بكل ما تقترحون علىّ من المعجزات ، بل خزائن مقدوراته تعالى فى علم غيبه ، ليس لى منها إلا ما يظهره منها بقدرته ، وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ حتى أخبركم بالمغيبات ، بل مفاتيح الغيب عنده ، لا يعلمها إلا هو ، إلا ما يوحى إلىّ منها ، وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ فأستغنى عن الطعام والشراب ، أو أقدر على ما يقدر عليه الملك ، إن أنا إلا بشر أوحى إلىّ أن أنذركم ، فأتبع ما يوحى إلىّ وأتبرأ من دعوى الألوهية والملكية ، وأدعى النبوة التي هى من كمالات البشر.
قُلْ لهم : هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى الذي هو ضال جاهل ، وَالْبَصِيرُ الذي هو مهتد عالم ، أو : هل يستوى مدعى المستحيل كالألوهية والملكية ومدّعى الحق ، كالنبوة والرسالة ، أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ فتميزوا بين ادعاء الحق والباطل ، فتهتدوا إلى اتباع الحق وتجنب الباطل.
الإشارة : ما قالته الرسل للكفار حين اقترحوا عليهم المعجزات ، تقوله الأولياء لأهل الإنكار ، حين يطلبون منهم الكرامات ، وتقول لهم : إن نتبع إلا ما أمرنا به ربنا وسنه لنا رسولنا ، فمن اهتدى وتبصر فلنفسه ، ومن عمى فعليها.
وقال الورتجبي - بعد قوله - : وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ : تواضع صلّى اللّه عليه وسلّم حين أقام نفسه مقام الإنسانية ، بعد أن كان أشرف خلق اللّه من العرش إلى الثرى ، وأظهر من الكروبيين والروحانيين على باب اللّه سبحانه ، خضوعا___________
(1) الآية 62 من سورة يونس. [.....](2/120)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 121
لجبروته ، وخنوعا فى أنوار ملكوته ، بقوله : وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ، وليس لى اختيار فى نبوتى ، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ. هل يكون من هذا وصفه ، بعد كونه بصيرا بنور اللّه ، ورأفته به ، كالذى عمى عن رؤية إحاطته بكل ذرة من العرش إلى الثرى؟ أفلا تتفكرون أن من ولد من العدم بصيرا بنور القدم ، ليس كمن ولد من العدم أعمى عن رؤية عظمته وجلاله. انتهى كلامه.
ثم أمره بالإنذار لمن ينتفع به ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : آية 51]
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)
قلت : الضمير فى (به) : يعود على (ما يوحى) ، وجملة (ليس) : حال من ضمير (يحشروا).
يقول الحق جل جلاله : وَأَنْذِرْ أي : خوّف بما أوحى إليك ، المؤمنين المقصرين فى العمل الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ بالبعث للحساب ، حال كونهم فى ذلك الوقت لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ ينصرهم من عذابه ، وَلا شَفِيعٌ يرده عنهم بشفاعته ، لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي : كى يصيروا بإنذارك متقين ، وإنّما خص الإنذار هنا بالذين يخافون لأنّه تقدم فى الكلام ما يقتضى اليأس من إيمان غيرهم ، فكأنه يقول : أنذر الخائفين لأنه ينفعهم الإنذار ، وأعرض عمن تقدم ذكرهم من الذين لا يسمعون ولا يعقلون ، أو : أنذر من يتوقع البعث والحساب ، أو يتردد فيه مؤمنا أو كافرا. قاله البيضاوي.
الإشارة : لا ينفع الوعظ والتذكير إلا من سبق له الخوف من الملك القدير إذ هو الذي ينهضه الخوف المزعج أو الشوق المقلق ، وأما من سوّدت قلبه الخطايا ، وانطبعت فى مرآته صور الأشياء ، فلا ينفع فيه زاجر ولا واعظ ، بل ران على قلبه ما اقترفه من المآثم ، والعياذ بالله.
ثم أمره بالدنو ممن ينفعه التذكير ، ونهاه عن ضده ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 52 الى 53]
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)(2/121)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 122
قلت : (فتطردهم) : جواب النفي ، و(فتكون) : جواب النهى ، أي : ولا تطرد فتكون من الظالمين ، فليس عليك من حسابهم شىء فتطردهم.
يقول الحق جل جلاله لنبيه - عليه الصلاة والسلام - ، حين طلب منه صناديد قريش أن يطرد عنه ضعفاء المسلمين ليجالسوه ، فهمّ بذلك طمعا فى إسلامهم ، فنزلت : وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ أي : يعبدونه بالذكر وغيره ، أو يدعونه بالتضرع والابتهال ، بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ أي : على الدوام. وخص الوقتين بالذكر لشرفهما.
وفى الخبر : «يا ابن آدم ، اذكرني أول النهار وآخره ، أكفك ما بينهما» «1». وقيل : صلاة الصبح والعصر ، وقيل :
الصلاة بمكة قبل فرض الخمس.
قال البيضاوي : بعد ما أمره بإنذار غير المتقين ليتقوا - أي : على التفسير الثاني فى الآية المتقدمة - أمره بإكرام المتقين وتقريبهم ، وألّا يطردهم ، ترضية لقريش ، روى أنهم قالوا : لو طردت هؤلاء الأعبد - يعنون فقراء المسلمين ، كعمّار وصهيب وخبّاب وبلال وسلمان - جلسنا إليك ، فقال : «ما أنا بطارد المؤمنين». قالوا : فأقمهم عنا ، قال : «نعم». [وروى أن عمر قال له : لو فعلت حتّى تنظر إلى ما يصيرون؟] قالوا : فاكتب بذلك كتابا ، فدعا بالصّحيفة وبعلىّ ليكتب ، فنزلت «2». ه. وفى ذكر سلمان معهم نظر لتأخر إسلامه بالمدينة.
ثم وصفهم بالإخلاص فقال : يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أي : يدعونه مخلصين طالبين النظر لوجهه ، وفيه تنبيه على أن الإخلاص شرط فى الأعمال ، ورتب النهى عليه إشعارا بأنه يقتضى إكرامهم ، وينافى إبعادهم ، ثم علل عدم طردهم فقال : ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ أي : أنت لا تحاسب عنهم ، وهم لا يحاسبون عنك ، فلأى شىء تطردهم؟ وقيل : الضمير : للكفار ، أي : أنت لا تحاسب عنهم ، وهم لا يحاسبون عنك ، فلا تهتم بأمرهم ، حتى تطرد هؤلاء من أجلهم ، فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ بطردهم ، لكنه - عليه الصلاة السلام - لم يفعل ، فلا ظلم يلحقه فى ذلك لسابق العناية والعصمة.
وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ أي : ومثل ذلك الاختبار ، وهو اختلاف أحوال الناس فى أمر الدنيا ، فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ أي : ابتلينا بعضهم ببعض فى أمر الدين ، فقدّمنا هؤلاء الضعفاء على أشراف قريش بالسبق إلى الإيمان لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أي : أهؤلاء من أنعم اللّه عليهم بالهداية والتوفيق دوننا ، ونحن الأكابر والرؤساء ، وهم المساكين والضعفاء ، فنحن أحق منهم به إن كان حقا ، وهذا إنكار منهم لأن يخص هؤلاء من بينهم بإصابة الحق والسبق إلى الخير ، كقولهم لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا «3». واللام فى «ليقولوا» : للعاقبة. قال تعالى
___________
(1) أخرجه أبو نعيم فى حلية الأولياء ، عن أبى هريرة .. انظر كنز العمال/ 1795.
(2) أخرجه بنحوه ابن ماجه فى : (الزهد ، باب مجالسة الفقراء) والطبراني فى الكبير (4/ 87 ح 9693) والواحدي فى أسباب النزول ، وابن جرير فى التفسير عن خباب ، بدون ذكر سلمان ، وكذلك بدون ذكر مشورة سيدنا عمر ، وقد جاء ذكر مشورة سيدنا عمر عند ابن جرير والواحدي عن عكرمة.
(3) من الآية 11 من سورة الأحقاف.(2/122)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 123
فى الرد عليهم : أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ أي : بمن يقع منهم الإيمان والشكر فيوفقهم ، وبمن لا يقع منه فيخذله. وبالله التوفيق.
الإشارة : فى صحبة الفقراء خير كثير وسر كبير ، وخصوصا أهل الصفاء والوفاء منهم ، وفى ذلك يقول الشيخ أبو مدين رضى اللّه عنه :
مالذّة العيش إلّا صحبة الفقرا هم السّلاطين والسّادات والأمرا
فاصحبهمو وتأدّب فى مجالسهم وخلّ حظّك مهما خلّفوك ورا
إلى آخر كلامه.
فلا يحصل كمال التربية والتهذيب إلا بصحبتهم ، ولا تصفو المعاني إلا بمجالستهم والمذاكرة معهم ، والمراد من دخل منهم بلاد المعاني ، وحصّل مقام الفناء فى الذات ، فالجلوس مع هؤلاء ساعة تعدل عبادة الثقلين سنين ، ومن شأن شيوخ التربية : العطف على الفقراء والمساكين وتقريبهم ، ولا يطردون أحدا منهم ولو عمل ما عمل ، اقتداء بما أمر به نبيهم صلّى اللّه عليه وسلّم. بل شأنهم الإقبال على من أقبل إليهم ، عصاة كانوا أو طائعين ، وإقبالهم على العصاة المذنبين أكثر ، جبرا لكسرهم ، وتألفا لهم ، وسوقا لهم إلى اللّه بملاطفة الإحسان. وبالله التوفيق.
ولما أمره بتقريب الضعفاء من المؤمنين ، أمره بإكرامهم بالسلام والبشارة بغفران الآثام ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : آية 54]
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
قلت : من فتح (أنه) جعله بدلا من الرحمة ، ومن كسره فعلى الاستئناف ، و(بجهالة) : حال ، ومن قرأ (فإنه) بالكسر فالجملة : جواب الشرط ، ومن فتح فخبر عن مضمر ، أي : فجزاؤه الغفران ، أو مبتدأ فالغفران جزاؤه.
يقول الحق جل جلاله : وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا وهم الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى ، خصهم بالإيمان بالقرآن ، بعد ما وصفهم بالمواظبة على الطاعة والإحسان ، فإذا أقبلوا إليك فَقُلْ لهم : سَلامٌ عَلَيْكُمْ تحية منى عليكم ، أو من اللّه أبلغه إليكم ، كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي : حتمها عليه فضلا منه ، وهى أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً أي : ذنبا بِجَهالَةٍ أي : بسفاهة وقلة أدب ، أو جاهلا بحقيقة ما يتبعه من المضار والمفاسد ، ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ أي : من بعد عمل السوء وَأَصْلَحَ بالتدارك والندم على ألا يعود إليه ، فَأَنَّهُ غَفُورٌ لذنبه ، رَحِيمٌ به بقبول توبته.(2/123)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 124
قال البيضاوي : أمره أن يبدأ بالتسليم ، أو يبلغ سلام اللّه ويبشرهم بسعة رحمته وفضله ، بعد النهى عن طردهم إيذانا بأنهم الجامعون لفضيلتى العلم والعمل ، ومن كان كذلك ينبغى أن يقرّب ولا يطرد ، ويعز ولا يذل ، ويبشّر من اللّه بالسلامة فى الدنيا وبالرحمة فى الآخرة ، وقيل : إن قوما جاءوا إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا : إنا أصبنا ذنوبا عظاما ، فلم يردّ عليهم ، فانصرفوا ، فنزلت. ه.
قال القشيري : أحلّه محل الأكابر والسّادات ، فإنّ السلام من شأن الجائى إلّا فى صفة الأكابر ، فإنّ الجائى والآتي يسكت لهيبة المأتى ، حتى يبتدىء ذلك المقصود بالسؤال ، فعند ذلك يجيب الآتي. ه.
الإشارة : من شأن الأكابر من الأولياء ، الداعين إلى اللّه ، إكرام من أتى إليهم بحسن اللقاء وإظهار المسرّة والبرور ، وخصوصا أهل الانكسار فيؤنسونهم ، ويوسعون رجاءهم ، ويفرحونهم بما يسمعون منهم من سعة فضل اللّه وكرمه.
كان الشيخ أبو العباس المرسى رضى اللّه عنه إذا دخل عليه أحد من أهل العصيان - كأرباب الدولة والمخزن - ، قام إليهم ، وفرح بهم ، وأقبل عليهم ، وإذا أتى إليه أحد من العلماء أو الناسكين لم يعتن بشأنهم ، فقيل له فى ذلك ، فقال :
أهل العصيان يأتوننا فقراء منكسرين من أجل ذنوبهم ، لا يرون لأنفسهم مرتبة ، فأردت أن أجبر كسرهم ، وهؤلاء أهل الطاعة يأتوننا أغنياء معتمدين على طاعتهم ، فلا يحتاجون إلى ما عندنا. أو كلاما هذا معناه ، ذكره فى لطائف المنن. واللّه تعالى أعلم.
ثم بيّن علّة ما تقدّم من النهى عن الطرد وغيره ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : آية 55]
وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
قلت : قرىء بتاء الخطاب ، ونصب السبيل على أنه مفعول به ، وقرىء بتاء التأنيث ورفع السبيل على أنه فاعل مؤنث ، وبالياء والرفع على تذكير السبيل لأنه يجوز فيه التذكير والتأنيث.
يقول الحق جل جلاله : وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي : ومثل ذلك التفصيل الواضح نفصل الآيات ، أي : نشرح آيات القرآن ونوضحها فى صفة المطيعين والمجرمين ، والمصرين والأوابين ، ليظهر الحق ، ولتستوضح يا محمد سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ فتعاملهم بما يحق لهم من الإبعاد إن بعدوا ، أو الإقبال إن أقبلوا. أو لتتبين طريقهم ويظهر فسادها ببيان طريق الحق.
الإشارة : سبيل المؤمنين من أهل اليمين ، هو التمسك بظاهر الشريعة المحمدية بامتثال الأمر واجتناب النهى ، والمبادرة إلى التوبة ، إن أخل بأحد الأمرين من غير تحرّ لما وراء ذلك ، وسبيل المتوجهين من السائرين والواصلين :
تصفية القلوب وتهيؤها لإشراق أسرار علم الغيوب بتخليتها من الرذائل وتحليتها بأنواع الفضائل لتتهيأ بذلك(2/124)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 125
لطلوع شموس العرفان ، والدخول فى مقام الكشف والعيان ، الذي هو مقام الإحسان ، وما خرج عن هذين السبيلين فهو سبيل المجرمين : إما بالكفر ، وإما بالإصرار على العصيان ، والعياذ بالله.
ثم نهى عن سلوك هذا السبيل - أعنى سبيل المجرمين - فقال :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 56 الى 58]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
يقول الحق جل جلاله : قُلْ يا محمد : إِنِّي نُهِيتُ أي : نهانى ربى أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ أي :
تعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ ، أو ما تدعونها آلهة أي : تسمونها بذلك ، وتخضعون لها من دون اللّه ، قُلْ لهم :
لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ الفاسدة وعقائدكم الزائغة ، قَدْ ضَلَلْتُ عن الحق إِذاً أي : إذا اتبعت أهواءكم ، وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ أي : ما أنا فى شىء من الهدى حتى أكون من عدادهم إن اتبعت أهواءكم ، وفيه تعريض بهم ، وأنهم ضالون حائدون عن طريق الهدى ، ليسوا على شىء منها.
قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ أي : طريق واضحة مِنْ رَبِّي توصلنى إلى تحقيق معرفته ، واستجلاب رضوانه ، أنا ومن اتبعنى ، وَأنتم كَذَّبْتُمْ بِهِ أي : بربي حيث أشركتم به وعبدتم غيره ، أو كذبتم بطريقه حيث أعرضتم عنها ، واستعجلتم عقابه فى الدنيا ، ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من العذاب أو المعجزات ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ فى تعجيل العذاب وتأخيره ، أو فى إظهار الآيات وعدم إظهارها ، يَقُصُّ القصص الْحَقَّ وهو القرآن ، أي : ينزله علىّ لأنذركم به ، أو يقضى القضاء الحق من تعجيل ما يعجل وتأخير ما يؤخر ، فيحكم بينى وبينكم إن شاء ، وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ أي : القاضين.
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي أي : فى قدرتى وطوقى ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من العذاب لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي : لأهلكتكم عاجلا غضبا لربى ، وانقطع ما بينى وبينكم ، ولكن الأمر بيد خالقكم الذي هو عالم بأحوالكم ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ أي : عالم بما ينبغى أن يؤخذ عاجلا ، وبمن ينبغى أن يمهل ، فمفاتح الغيب كلها عنده ، كما سيذكره.
الإشارة : قل ، أيها العارف ، المتوجه إلى اللّه ، المنقطع بكليته إلى مولاه ، الغائب عن كل ما سواه : إنى نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون اللّه من حب الدنيا ، ومن الرياسة والجاه. قل : لا أتبع أهواءكم لأنى قد اجتمعت(2/125)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 126
أهوائى فى محبوب واحد ، حين وصلت إلى حضرته ، وتنعمت بشهود طلعته ، فانحصرت محبتى فى محبوب واحد ، وفى ذلك يقول القائل :
كانت لقلبى أهواء مفرّقة فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائى
فصار يحسدنى من كنت أحسده وصرت مولى الورى مذ صرت مولائي
تركت للنّاس دنياهم ودينهم شغلا بذكرك يا دينى ودنيائى
وقال آخر :
تركت للنّاس ، ما تهوى نفوسهم من حبّ دنيا ومن عزّ ومن جاه
كذاك ترك المقامات هنا وهنا والقصد غيبتنا عمّا سوى اللّه
قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أي : بصيرة نافذة فى مشاهدة أسرار ربى ، فقد كذّبتم بخصوصيتى ، وطلبتم دلائل ولايتي ، ما عندى ما تستعجلون به من الكرامات ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ، يقضى القضاء الحق ، فيظهر ما يشاء ، ويخفى من يشاء ، وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ أي : الحاكمين بين عباده ، قل لو أن عندى ما تستعجلون به من نفوذ دعوتى فى إظهار كرامتى ، لقضى الأمر بينى وبينكم ، واللّه أعلم بالمكذبين بأوليائه.
ثم قال تعالى :
[سورة الأنعام (6) : آية 59]
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59)
قلت : (مفاتح) : جمع مفتح - بكسر الميم - مقصور ، من مفتاح ، وهو آلة الفتح ، وهو مستعار لما يتوصل به إلى الغيوب ، أو يفتحها ، وهو المخزن.
يقول الحق جل جلاله : وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ أي : علم المغيبات ، لا يعلمها غيره ، إلا من ارتضى من خلقه ، أو : عنده خزائن علم الغيوب لا يعلمها غيره ، والمراد بها الخمسة التي ذكرها الحق تعالى فى سورة لقمان :
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ «1» الآية لأنها تعم جميع الأشياء ، وسيأتى الكلام عليها إن شاء اللّه ، فقد اختص
___________
(1) الآية 34 من سورة لقمان.(2/126)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 127
سبحانه بعلم المغيبات لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ فيعلم أوقاتها وما فى تعجيلها وتأخيرها من الحكم ، فيظهرها على ما اقتضته حكمته وتعلقت به مشيئته ، وفيه دليل على أن اللّه تعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها ، وهو أمر ضرورى.
وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ من عجائب المصنوعات وضروب المخلوقات على اختلاف أجناسها وأنواعها ، حيها وجامدها ، فيعلم عددها وصفتها وأماكنها ، وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها كيف تسقط ، على ظهرها أو بطنها ، وما يصل منها إلى الأرض وما يتعلق فى الهواء ، وهو مبالغة فى إحاطة علمه بالجزئيات ، كما تعلق بالكليات ، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ من حبوب الثمار وبذور سائر النبات ، والرمل ، وغير ذلك من دقائق الأشياء وجلائلها ، وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ من الأشجار والنبات والحيوانات التي فيها الحياة والتي فارقتها ، فهى من جنس اليابس ، إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي : علم اللّه القديم ، أو اللوح المحفوظ ، فعلى الأول ، يكون بدلا من الاستثناء الأول ، بدل الكل من الكل ، وعلى الثاني : بدل اشتمال. وقرئت بالرفع ، على العطف على محل : مِنْ وَرَقَةٍ ، أو على الابتداء ، والخبر : فِي كِتابٍ مُبِينٍ.
الإشارة : مفاتح الغيب هى أسرار الذات وأنوار الصفات ، أو أنوار الملكوت وأسرار الجبروت ، لا يعلمها إلا هو ، فما دام العبد محجوبا بوجود نفسه ، محصورا فى هيكل ذاته ، لا يذوق شيئا من هذه الغيوب ، فإذا أراد الحق جل جلاله أن يفتح على عبده شيئا من هذه الغيوب ، غطى وصف عبده بوصفه ، ونعته بنعته ، فغيّبه عن وجود نفسه ، فصار هو سمعه وبصره وقلبه وروحه ، فيعلم تلك الأسرار به ، لا بنفسه ، فما علم تلك الأسرار غيره ، ويحيط بأسرار الأشياء كلها ، برها وبحرها لأنه يصير خليفة اللّه فى أرضه. وقال الورتجبي : غيبه ذاته القدسية ، وهى خزانة أسرار الأزل والآباد ، ومفاتحها : صفاتها الأزلية ، لا يعلم صفاته وذاته بالحقيقة إلا هو تعالى بنفسه ، فنفى الغير عن البين ، حيث لا حيث ولا بين. انظر تمامه فيه.
ومن جملة الغيوب التي اختص اللّه بها : انقضاء الأجل ، كما أشار إلى ذلك بقوله :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 60 الى 62]
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62)(2/127)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 128
يقول الحق جل جلاله : وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ أي : يقبض أرواحكم بِاللَّيْلِ إذا نمتم ، وفى ذلك اعتبار واستدلال على البعث الأخروى ، وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ أي : ما كسبتم من الأعمال بِالنَّهارِ. وخص الليل بالنوم والنهار بالكسب جريا على المعتاد ، ثُمَّ إذا توفاكم بالليل يَبْعَثُكُمْ فِيهِ أي : فى النهار ، لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى أي : ليبلغ المتيقظ آخر أجله المسمى له فى الدنيا ، وهو أجل الموت ، ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ بالموت ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيعاتب المسيء ويكرم المحسن.
روى : أن العبد إذا قبض عرجت الملائكة بروحه إلى سدرة المنتهى ، فيوقف به هناك ، فيعاتبه الحق تعالى على ما فرط منه حتى يرفض عرقا ، ثم يقول له : قد غفرت لك ، اذهبوا به ليرى مقعده فى الجنة ، ثم يردّ إلى السؤال.
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ بالقهر والغلبة ، وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ملائكة تحفظ أعمالكم ، وهم الكرام الكاتبون ، والحكمة فيه : أن العبد إذا علم أن أعماله تكتب عليه وتعرض على رؤوس الأشهاد ، كان أزجر له عن المعاصي ، ثم لا تزال الملائكة تكتب عليه أعماله حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا أي : ملك الموت وأعوانه ، وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ بالتواني والتأخير ، ولا يجاوزون ما حد لهم بالتقديم والتأخير. ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ أي : إلى حكمه وجزائه ، أو مشاهدته وقربه ، مَوْلاهُمُ الذي يتولى أمرهم ، الْحَقِّ أي : المتحقق وجوده ، وما سواه باطل ، أَلا لَهُ الْحُكْمُ يومئذ ، لا حكم لغيره فيه ، وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ يحاسب الخلائق فى مقدار حلب شاة ، لا يشغله حساب عن حساب ، ولا شأن عن شأن ، سبحانه لا إله إلا هو.
الإشارة : وهو الذي يتوفاكم ، أي : يخلصكم بليل القبض ، ويعلم ما كسبتم فى نهار البسط ، ثم يبعثكم من ليل القبض إلى نهار البسط ، وهكذا ليقضى أجل مسمى للإقامة فيهما ، ثم إليه مرجعكم بالخروج عنهما لتكونوا لله لا شىء دونه ، وفى الحكم : «بسطك كى لا يبقيك مع القبض ، وقبضك كى لا يتركك مع البسط ، وأخرجك عنهما ، كى لا تكون لشىء دونه».
وقال فارس رضى اللّه عنه : القبض أولا ثم البسط ، ثم لا قبض ولا بسط لأن القبض والبسط يقعان فى الوجود أي :
فى وجود النفس ، وأما مع الفناء والبقاء فلا. ه. أي : فلا قبض ولا بسط لأن العارف الواصل مقبوض فى بسطه ، مبسوط فى قبضه ، لا تؤثر فيه هواجم الأحوال لأنه مالك غير مملوك. واللّه تعالى أعلم.
ومن علم أن اللّه قاهر فوق عباده ، انسلخ من حوله وقوته ، وانعزل عن تدبيره واختياره لإحاطة القهرية به ، ومن تحقق عموم قهاريته تعالى ، علم أنه لا حجاب حسى بينه وبينه ، إذ لو حجبه شىء لستره ما حجبه ، ولو كان له ساتر لكان لوجوده حاصر ، وكل حاصر لشىء فهو له قاهر ، (و هو القاهر فوق عباده) ، وإنما المحجوب : العبد عن ربه بوجود وهمه وجهله ، ومن تحقق أن الملائكة تحفظ أعماله استحيا من ارتكاب القبائح ، لئلا تعرض على رؤوس الأشهاد.(2/128)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 129
ثم أمر بالرجوع إليه عند الشدائد ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 63 الى 64]
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
يقول الحق جل جلاله : قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ أي : يخلصكم مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي : من شدائدهما ، استعير الظلمة للشدة لمشاركتهما فى الهول ، فقيل لليوم الشديد : يوم مظلم ، أو : من الخسف فى البر والغرق فى البحر ، حال كونكم تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً أي : جهرا وسرا ، قائلين : لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ «1» الظلمة ، أي :
الشدة ، لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ بإقرارنا بوحدانيتك ، قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ أي : غم سواها ، ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ أي : تعودون إلى الشرك ولا توفون بالعهد ، وهذا شأن النفس اللئيمة فى وقت الشدة ترجع إلى الحق وتوحده ، وفى وقت السعة تنساه وتشرك معه ، كما قال تعالى : وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ «2».
الإشارة : ظلمات البر هو ما يخوض القلب ويظلمه من أجل ما يدخل عليه من حس الظاهر ، الذي هو بر الشريعة ، وظلمات البحر هو ما يدهش الروح ويحيرها من أجل ما يدهمها من علم الحقائق ، عند الاستشراف عليها ، أو ما يشكل عليها فى علم التوحيد ، فإذا رجع إلى اللّه فيهما ، وتمسك بشيخ كامل فى علم الحقائق - أنجاه اللّه منهما ، فإذا شكر اللّه وأفرد النعمة إليه دامت نجاته ، وإن التفت إلى غيره خيف عليه العود إلى ما كان عليه. وبالله التوفيق.
ثم هدد أهل الشرك ، أو : هم مع غيرهم ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 65 الى 67]
قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
يقول الحق جل جلاله : قُلْ يا محمد : هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ ، كما فعل بقوم نوح ولوط وأصحاب الفيل ، أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ، كما أغرق فرعون وخسف بقارون ، وقيل : من فوقكم :
___________
(1) قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر (أنجيتنا) بالياء والتاء بعد الجيم من غير ألف .. وقرأ الباقون (أنجانا) بألف بعد الجيم من غير ياء ولا تاء. انظر الإتحاف (2/ 16).
(2) الآية 33 من سورة الروم.(2/129)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 130
بتسليط أكابركم وحكامكم عليكم ، ومن تحت أرجلكم : سفلتكم وعبيدكم ، أَوْ يَلْبِسَكُمْ أي : يخلطكم شِيَعاً أي :
فرقا متحزبين على أهواء شتى ، فينشب القتال بينكم ، وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ، بقتال بعضكم بعضا.
وفى الحديث عنه صلّى اللّه عليه وسلّم : أنه لما نزلت : أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ قال : «أعوذ بوجهك» ، ولما نزلت :
أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قال أيضا : «أعوذ بوجهك» ، ولما نزلت : أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً قال : «هذا أهون» «1» ، فقضى اللّه على هذه الأمة بالقتل والقتال إلى يوم القيامة ، نعوذ بالله من الفتن.
قال تعالى : انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أي : نقلبها بورود الوعد والوعيد لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ما نزل إليهم.
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ أي : بالعذاب ، أو بالقرآن ، وَهُوَ الْحَقُّ أي : الواقع لا محالة ، أو الصدق فى أخباره وأحكامه ، قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أي : وكل إلىّ أمركم فأمنعكم من التكذيب ، أو أجازيكم ، إنما أنا منذر ، واللّه هو الحفيظ. لِكُلِّ نَبَإٍ أي : خبر بعذاب أو إيعاد به ، مُسْتَقَرٌّ أي : وقت استقراره ووقوعه ، يعرف - عند انقضائه - صدقه من كذبه ، وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ما يحل بكم عند وقوعه فى الدنيا والآخرة.
الإشارة : الخطاب للمريدين السائرين ، أو الواصلين. خوفهم بأن يحول بينهم وبين شهود عظمته الفوقية والتحتية ، فينزل عليهم عذاب الفرق من جهة العلو أو السّفل ، فلا يشهدون إلا الأكوان محيطة بهم ، أو يخالف بين وجوههم ويلبسهم شيعا ، فإذا تفرقت الوجوه تفرقت القلوب غالبا ، والعياذ بالله ، لأن الفتح والنصر مرتب على الجمع ، قال تعالى : قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ «2». قال القشيري : فيه إشارة إلى أن الجمع مؤذن بالفتح. ه. فينبغى للمريد أن يشهد الصفاء فى الجميع ، ويتودد إلى الجميع ، حتى لا يبقى معه فرق. واللّه تعالى أعلم.
ثم حذّر من صحبة أهل الخوض ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 68 الى 69]
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
___________
(1) أخرجه البخاري فى : (تفسير سورة الأنعام ، باب : قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا) من حديث جابر رضى اللّه عنه.
(2) الآية 26 من سورة سبأ.(2/130)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 131
قلت : وَلكِنْ ذِكْرى : مفعول بمحذوف ، أي : يذكرونهم ذكرى ، أو مبتدأ ، أي : عليهم ذكرى.
يقول الحق جل جلاله : وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا أي : القرآن بالتكذيب والاستهزاء بها والطعن فيها فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ولا تجالسهم ، بل قم عنهم حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ أي : غير القرآن ، وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ النهى عن مجالستهم ، وجلست نسيانا ، فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى أي : بعد أن تذكر النهى ، مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ، ونسبة النسيان إلى الشيطان أدبا مع الحضرة ، قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ «1» ، ووضع المظهر موضع المضمر ، أي : معهم ، للدلالة على أنهم ظلموا بوضع التكذيب والاستهزاء موضع التصديق والتعظيم.
وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ أي : ما على المتقين الذين يجالسونهم شىء من حسابهم ، بل عقابهم على الخوض خاصّ بهم ، وَلكِنْ عليهم ذِكْرى أي : تذكيرهم ووعظهم ومنعهم من الخوض إن قدروا ، وكراهية ذلك إن لم يقدروا ، فيعظونهم لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ، فيجتنبون ذلك الخوض حياء أو كراهية مساءتهم ، وإنما أبيح للمؤمنين القعود مع الكفار الخائضين ومخالطتهم لأن ذلك يشق عليهم ، إذ لا بد لهم من مخالطتهم فى طلب المعاش وفى الطواف ، وغير ذلك ، بخلافه - عليه الصلاة والسلام - لأن اللّه أغناه عنهم به ، فنهاه عن مخالطة أهل الخوض مطلقا.
[سورة الأنعام (6) : آية 70]
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)
ثم قال له : وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً أي : بنوا أمر دينهم على التشهّى ، وتدّينوا بما لا يعود عليهم بنفع ، عاجلا وآجلا ، كعبادة الأصنام واتخاذ البحائر والسوائب ، أو اتخذوا دينهم الذي كلفوا بالدخول فيه لعبا ولهوا ، حيث سخروا به ، أي : أعرض عنهم ولا تبال بأفعالهم وأقوالهم. ومن جعله منسوخا بآية السيف حمله على الأمر بالكف عنهم ، وترك التعرض لهم ، وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وزخرفها ، حتى نسوا البعث وأنكروه ، والعياذ بالله.
الإشارة : قد تقدم مرارا التحذير من مخالطة أهل الخوض وصحبة العوام ، وكل من ليس من جنس أهل النسبة ، فإن ألجأه الحال إلى صحبتهم - فليذكرهم ، ويعظهم ، وينهضهم إلى اللّه بمقاله أو حاله ما استطاع. وبالله التوفيق.
ثم أمر نبيه - عليه الصلاة والسلام - بالتذكير ، فقال :
___________
(1) من الآية : 78 من سورة النساء.(2/131)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 132
وَذَكِّرْ بِهِ ...
قلت : (تبسل) : تحبس وتسلم للهلكة ، وفى البخاري : «تبسل : تفضح ، أبسلوا : فضحوا وأسلموا» «1».
يقول الحق جل جلاله لنبيه - عليه الصلاة السلام - : وَذَكِّرْ بالقرآن الناس مخافة أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ أي : لئلا تحبس كل نفس وترتهن بما كسبت أو تسلم للهلكة ، أو لئلا تفضح على رؤوس الأشهاد بما كسبت ، لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ يدفع عنها العذاب ، وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ أي : وإن تفد كل فداء لا يُؤْخَذْ مِنْها أي : لا يقبل منها.
أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا أي : أسلموا للعذاب بسبب أعمالهم القبيحة وعقائدهم الزائغة ، أو افتضحوا بما كسبوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وهو الماء الحار ، وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ ، والمعنى : هم بين ماء مغلى يتجرجر فى بطونهم ، ونار تشعل بأبدانهم بسبب كفرهم ، والعياذ بالله.
الإشارة : لا ينبغى للشيخ أو الواعظ أن يمل من التذكير ، ولو رأى من أصحابه غاية الصفاء ، ولا ينبغى للمريد أن يمل من التصفية والتشمير ، ولو بلغ من تصفية نفسه ما بلغ ، أو أظهرت له من الاستقامة ما أظهرت ، قال تعالى : وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها.
قال أبو حفص النيسابورى رضى اللّه عنه : من لم يتّهم نفسه على دوام الأوقات ، ولم يخالفها فى جميع الأحوال ، ولم يجرها إلى مكروهها فى سائر أيامه ، كان مغرورا ، ومن نظر إليها باستحسان شىء منها فقد أهلكها ، وكيف يصح لعاقل الرضا عن نفسه والكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم ، يقول : وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ «2». وقال أيضا : منذ أربعين سنة اعتقادي فى نفسى - أن اللّه ينظر إلىّ نظر السخط ، وأعمالى تدل على ذلك. وقال الجنيد رضى اللّه عنه : لا تسكن إلى نفسك ، وإن دامت طاعتها لك فى طاعة ربك. وقال أبو سليمان الداراني رضى اللّه عنه : (ما رضيت عن نفسى طرفة عين). إلى غير ذلك من مقالاتهم التي تدل على عدم الرضى عن النفس وعدم القناعة منها بالتصفية التي أظهرت.
ويحكى عن القطب ابن مشيش أنه لما بلغ فى تلاوته هذه الآية ، تواجد وأخذه حال عظيم اقتطعه عن حسه ، حتى كان يتمايل ، فيميل الجبل معه يمينا وشمالا. نفعنا اللّه بذكرهم آمين.
___________
(1) أخرجه البخاري فى (تفسير سورة الأنعام) من قول ابن عباس. رضى اللّه عنه.
(2) من الآية 53 من سورة يوسف.(2/132)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 133
فإن قلت : العارف لم تبق له نفس يتهما لفنائه فى شهوده وانطوائه فى وجوده؟ قلت : العارف الكامل هو الذي لا يحجبه جمعه عن فرقه ، ولا فرقه عن جمعه ، فإذا رجع إلى شهود فرقه ، رأى نفسه عبدا متصفا بنقائص العبودية التي لا نهاية لها ، ولذلك قالوا : للنفس من النقائص ما لله من الكمالات. فلو تطهرت كل التطهير لم يقبل منها ، وإذا نظر إلى نعت جمعه رأى نفسه مجموعا فى الحضرة ، متصفا بالكمالات التي لا نهاية لها ، فيغيب عن شهود عبوديته فى عظمة ربوبيته ، لكنه لا يحجب بجمعه عن فرقه لكماله ، وإلى هذا المعنى أشار فى الحكم بقوله :
«لا نهاية لمذامك إن أرجعك إليك ، ولا تفرغ مدائحك إن أظهر جوده عليك». وبالله التوفيق.
ثم أمر نبيه - عليه الصلاة والسلام بالتبرؤ من الشرك مطلقا ، تشريعا ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 71 الى 73]
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
قلت : (و نردّ) : عطف على (ندعو) والهمزة للإنكار ، والرد على العقب : الرجوع إلى وراء ، لعلّة فى المشي ، واستعير للمعانى ، و(كالذى استهوته) : الكاف فى موضع نصب على الحال من الضمير فى (نردّ) أي : كيف نرجع مشبهين بمن استهوته الشياطين ، أو نعت لمصدر محذوف ، أي : ردا كرد الذي ... إلخ. واستهوى : استفعل ، من هوى فى الأرض إذا ذهب ، وقال الفارسي : استهوى بمعنى أهوى ، مثل استزل بمعنى أزل ، و(حيران) : حال من مفعول استهوى.
و«أن أقيموا» : عطف على «لنسلم» ، أو «أمرنا». «قوله الحق» : مبتدأ ، و«يوم يقول» : خبر مقدم ، أي : قوله الحق حاصل يوم يقول : كن فيكون ، وفاعل «يكون» : ضمير فاعل كن ، أي : حين يقول للشىء : كن فيكون ذلك الشيء ، و«يوم ينفخ» : ظرف لقوله : «الملك» ، كقوله : لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ «1».
___________
(1) من الآية 16 من سورة غافر.(2/133)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 134
يقول الحق جل جلاله : قُلْ لهم يا محمد أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أي : نعبد ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا من الأصنام الجامدة ، وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا أي : نرجع إلى الشرك بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ وأنقذنا ، ورزقنا الإسلام ، وهذا على الصحابة. وأما النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فلم يتقدم له شرك لعصمته ، أي : كيف نرد على أعقابنا ردا كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ ، أي : أضلته مردة الجن عن الطريق المستقيم ، فذهب فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ متحيرا ضالا عن الطريق ، لَهُ أَصْحابٌ أي : رفقة يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى أي : إلى الطريق المستقيم ، يقولون له : ائْتِنا وكن معنا لئلا تتلف. وهو مثال لمن ترك الإسلام وضل عنه.
قُلْ لهم : إِنَّ هُدَى اللَّهِ ، وهو الإسلام ، هُوَ الْهُدى وحده ، وما عداه ضلال. وَقد أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ نكون على الجادة من الهدى ، وَأمرنا أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ أي : أمرنا بإقامة الصلاة والتقوى ، روى أن عبد الرحمن بن أبى بكر دعا أباه إلى عبادة الأوثان ، فنزلت ، وعلى هذا أمر الرسول بهذا القول إجابة عن الصديق تعظيما لشأنه ، وإظهارا للاتحاد الذي كان بينهما. قاله البيضاوي. وقال ابن جزى : ويبطل هذا قول عائشة : ما نزل فى آل أبى بكر شىء من القرآن إلا برائتى. ه. قلت : ليس بحجة لصغر سنّها وقت نزول الآية بمكة ، والإسلام يمحو ما قبله. ثم قال جل جلاله : وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ يوم القيامة فيظهر من تبع الحق من الباطل.
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ، أي : قائما بالحق والحكمة ، فهو أحق بالعبادة وحده ، وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ أي : قوله العدل حاصل يوم يقول للبعث والحشر : كن فيكون ، وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ أي : انفرد الملك له يوم ينفخ فى الصور فيقول : لمن الملك اليوم؟ فلا يجاب ، فيقول : لله الواحد القهار ، عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي : هو عالم بما غاب وما ظهر ، وَهُوَ الْحَكِيمُ فى صنعه ، الْخَبِيرُ بأمر عباده.
الإشارة : إذا توجه العبد إلى مولاه ، وانقطع بكليته إلى اللّه ، طالبا منه معرفته ورضاه ، قد يمتحن بشىء من شدائد الزمان كالفاقة وإيذاء الخلق والأحزان ، فيقال اختبارا له : تعلق فى دفع ما نزل بك بشىء من السّوى ، فيجب عليه أن يقول : أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بالالتفات إلى غير ربنا ، بعد إذ هدانا اللّه إلى توحيده ومعرفته ، ونكون كالذى استهوته الشياطين فى الأرض ، حيران بالتفاته إلى غير الكريم المنان ، قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ أي : هدايته الخاصة ، وهى الانقطاع إليه وحده فى الشدائد ، هُوَ الْهُدى ، وقد أمرنا بالانقياد بكليتنا إلى ربنا ، وأمرنا إذا حزبنا شىء بإقامة الصلاة لأنها مفتاح الفرج ، وبالتقوى لأنها سبب النصر إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا ، وآخر أمرنا الموت والحشر إلى ربنا ، والاستراحة إلى الروح والريحان. وبالله التوفيق.(2/134)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 135
ثم ذكر قصة إبراهيم إبطالا لدعوى الشرك ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : آية 74]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74)
قلت : آزر : عطف بيان ، أو بدل من أبيه ، ومنع من الصرف للعلمية والعجمة. وقرأ يعقوب بالضم - على النداء ، وقيل : إن آزر اسم صنم لأنه ثبت أن اسم أبى إبراهيم تارخ. فعلى هذا يحتمل أن يكون لقب به لملازمته له ، وقيل : هما علمان له كإسرائيل ويعقوب.
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ ، حين دعاه إلى التوحيد : أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً تعبدها من دون اللّه ، وهى لا تنفع ولا تضر ، إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ : بيّن الضلالة ، ظاهر الخطأ.
الإشارة : كل من سكن إلى شىء دون اللّه ، أو مال إليه بالعشق والمحبة ، فهو صنم فى حقه ، فإن لم ينزع عن محبته ، ولم يقلع عن السكون إليه ، كان حجابا بينه وبين شهود أسرار التوحيد. وفى الحكم : «ما أحببت شيئا إلا وكنت عبدا له ، وهو لا يحب أن تكون لغيره عبدا». وفى الحديث : «تعس عبد الدينار والدرهم» ... أي : خاب وخسر ، فإذا اطلع الحق تعالى على قلب عبده فرآه مائلا لغيره ، حجب عنه أنوار قدسه ، وفى ذلك يقول الششترى رضى اللّه عنه :
لى حبيب إنما هو غيور ، يطلّ فى القلب كطير حذور ،
إذا رأى شيئا امتنع أن يزور.
وبالله التوفيق.
ثم ذكر احتجاج إبراهيم على قومه ، وتبصره بأمر ربه ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 75 الى 79]
وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)(2/135)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 136
قلت : الملك : ما ظهر فى عالم الشهادة من المحسوسات ، والملكوت : ما غاب فيها من معانى أسرار الربوبية ، والجبروت : ما لم يدخل عالم التكوين من أسرار المعاني الأزلية.
يقول الحق جل جلاله : وَكَذلِكَ أي : مثل ذلك التبصر الذي بصّرنا به إبراهيم حتى اهتدى للرد على أبيه ، نريه مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي : نكشف له عن أسرار التوحيد فيهما ، حتى يشاهد فيهما صانعهما ، ولا يقف مع ظاهر حسهما ، وإنما فعلنا له ذلك لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ بمعرفتنا ، عارفا بأسرار قدسنا.
ولما كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والكواكب والقمر والشمس ، أراد أن يرشدهم إلى التوحيد من طريق النظر والاستدلال فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ أي : ستره بظلامه ، رَأى كَوْكَباً وهو الزهرة أو المشترى ، قالَ هذا رَبِّي على سبيل التنزل إلى قول الخصم ، وإن كان فاسدا فإن المستدل على فساد قول يحكيه على ما يقوله الخصم ، ثم يكرّ عليه بالفساد لأن ذلك أدعى إلى الحق ، وأقرب إلى رجوع الخصم ، فَلَمَّا أَفَلَ أي : غاب ، قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فضلا عن عبادتهم فإن التغير بالاستتار والانتقال يقتضى الإمكان والحدوث وينافى الألوهية.
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً : مبتدئا فى الطلوع ، قالَ هذا رَبِّي ، فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. استعجز نفسه واستعان ربه فى درك الحق ، وأنه لا يهتدى إليه إلا بتوفيقه إرشادا لقومه ، وتنبيها لهم على أن القمر أيضا لتغيّر حاله ، لا يصلح للألوهية ، وأن من اتخذه إلها ، فهو ضالّ.
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي ، إنما ذكّر الإشارة لتذكير الخبر ، وصيانة للرب عن شبهة التأنيث هذا أَكْبَرُ لكبر النور وسطوعه أكثر ، فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ من الأجرام المحدثة المحسوسة ، المحتاجة إلى محدث يحدثها ، ومخصص يخصصها.
ولما تبرأ من عبادتها توجه إلى موجدها ومبدعها ، فقال : إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ أي : أبدع السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حال كونى حَنِيفاً أي : مائلا عن دنيكم وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مثلكم. وإنما احتج بالأفول دون البزوغ ، مع أنه تغير لأن الأفول أظهر فى الدلالة لأنه انتقال مع اختفاء واحتجاب. ولأنه رأى الكوكب الذي يعبدونه فى وسط السماء حين حاول الاستدلال. وقيل : إن هذا الاستدلال والاحتجاج كان فى حال طفولته قبل التكليف. فقد روى أنه لما ولدته أمه فى غار ، خوفا من نمرود إذ كان يقتل الأطفال لأن المنجمين أخبروه أن هلاكه على يد صبى يولد فى هذا العصر ، فكان يستدل بما رأى على توحيد ربه ، وهو فى الغار ، وهذا ضعيف لأن قوله : إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ يقتضى المحاجة والمخاصمة لقومه.
وقوله عليه السّلام : هذا رَبِّي مع قوله إِنِّي سَقِيمٌ «1» وفَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا «2» ، ليس بكذب للعصمة ، وإنما هو تورية. وفى الحديث : «ليس بكاذب من كاذب ظالما ، أو دفع ضررا ، أو رعى حقا ، أو حفظ قلبا». وفى
___________
(1) من الآية 79 من سورة الصافات.
(2) من الآية 63 من سورة الأنبياء. [.....](2/136)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 137
رواية أخرى : «ليس بكاذب ، من قال خيرا أو نواه». وأما اعتذاره فى حديث الشفاعة فلهول المطلع ، فيقع الحذر من أدنى شىء. والله تعالى أعلم.
الإشارة : لمّا كوشف إبراهيم بعالم الملكوت ، رأى اللّه فى الأشياء كلها ، كما ورد فى بعض الأثر : (ما رأيت شيئا إلا رأيت اللّه فيه). وإنما قال : لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ حذرا من الوقوف مع الحس دون شهود المعنى ، إذ بحر المعاني متصل دائم ليس فيه تغيير ولا انتقال. وإنما تتغير الأوانى دون المعاني ، فشمس المعاني مشرقة على الدوام ، ليس لها مغيب ولا تغير ولا انتقال ، ولذلك قيل :
طلعت شمس من أحب بليل واستنارت فما تلاها غروب
إنّ شمس النّهار تغرب بالليل وشمس القلوب ليس لها مغيب
أي : طلعت شمس نهار عرفانهم على ليل وجودهم ، فامتحت ظلمة وجودهم فى شهود محبوبهم ، وفى الحكم :
«أنار الظواهر بأنوار آثاره ، وأنار السرائر بأنوار أوصافه ، لأجل ذلك أفلت أنوار الظواهر ، ولم تأفل أنوار القلوب والسرائر».
قال الجوزي : لما بدا لإبراهيم نجم العلم ، وطلع قمر التوحيد ، وأشرقت شمس المعرفة - قال : إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ ... الآية. ه. قيل : لما نظر إبراهيم عليه السّلام بعيون رأسه إلى نور النجم والشمس والقمر الحسى ، نودى فى سره : يا إبراهيم ، لا تنظر ببصرك إلى الجهة الحسية ، وانظر ببصيرتك إلى الحقيقة المعنوية لأن الوجود كله عين الأحدية ، فافهم معانى الأسماء ، ولا تقف مع جرم الأرض والسماء ، فإن الوقوف مع الحس حجاب عن المعنى. فقال إبراهيم : إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. ه. وفى ذلك يقول الششترى أيضا :
لا تنظر إلى الأوانى وخض بحر المعاني
لعلّك ترانى.
ولما احتج إبراهيم عليه السّلام على قومه خاصموه فى ذلك ، كما قال تعالى :
[سورة الأنعام (6) : آية 80]
وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80)
يقول الحق جل جلاله : وَحاجَّهُ قَوْمُهُ أي : خاصموه فى التوحيد ، فقال لهم : أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ أي : فى وحدانيته ، أو فى الإيمان به ، وقد هدانى إلى توحيده وأرشدنى إلى معرفته ، فلا ألتفت إلى غيره ، ولا أعبأ بمن خاصمنى فيه ، والأصل : تحاجوننى ، فحذف نافع وابن عامر نون الرفع ، وأبقى نون الوقاية ، وقيل : العكس ، وأدغم الباقون إحدى النونين فى الأخرى.
الإشارة : مخاصمة العموم لأهل الخصوصية سنّة ماضية (و لن تجد لسنة اللّه تبديلا) لأنّ من أنكر شيئا عاداه ، فأهل الخصوصية يعذرون من أنكر عليهم لأن ذلك مبلغهم من العلم ، والعامة لا يعذرون أهل الخصوصية لخروجهم عن بلادهم فلا يعرفون ما هم فيه. واللّه تعالى أعلم.(2/137)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 138
ولما خاصموا إبراهيم عليه السّلام فلم يلتفت إليهم ، خوفوه بأصنامهم ، فقال لهم :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 81 الى 82]
وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
قلت : الاستثناء فى قوله : (إلا أن يشاء) : منقطع. قاله ابن جزى. وظاهر كلام البيضاوي : أنه متصل ، وهو المتبادر ، أي : ولا أخاف ما تشركون فى حال من الأحوال إلا أن يشاء ربى أن يصيبنى بمكروه من جهتها استدراجا لكم ، وفتنة. وقال الواحدي : لا أخاف إلا مشيئة ربى أن يعذبنى.
يقول الحق جل جلاله ، حاكيا عن خليله إبراهيم : وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ أي : لا أخاف معبوداتكم أن تصيبنى بشىء لأنها جوامد لا تضر ولا تنفع ، إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً يصيبنى بقدره وقضائه ، فإنه يصيبنى لا محالة ، لا بسببها ، وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ، كأنه علّة الاستثناء ، أي : لا أخاف إلا ما سبق فى مشيئة اللّه ، لأنه أحاط بكل شىء علما ، فلا يبعد أن يكون فى علمه وقدره أن يحيق بي مكروه من جهتها ، أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ فتميزوا بين الصحيح والفاسد والقادر والعاجز؟.
وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وهو جامد عاجز لا يتعلق به ضرر ولا نفع؟ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ وهو أحق أن يخاف منه كل الخوف ، لأنه القادر على الانتقام ممن أشرك معه غيره ، وسوّى بينه وبين مصنوع عاجز ، لا يضر ولا ينفع ، فأنتم أحق بالخوف لأنكم أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً أي : لم ينزل بإشراكه كتابا ، ولم ينصب عليه دليلا ، فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ : أهل التوحيد والإيمان ، أو أهل الشرك والعصيان؟ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما يحق أن يخاف منه.
ثم أجاب عن الاستفهام : الحق تعالى أو خليله ، فقال : الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا أي : يخلطوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أي : بشرك ، بل آمنوا بالله ولم يعبدوا معه غيره ، أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ فى الآخرة ، وَهُمْ مُهْتَدُونَ فى الدنيا. أما الطائع فأمنه ظاهر ، وأما العاصي فيؤمن من الخلود وتحريم الجنة عليه.
ولمّا نزلت الآية أشفق منها أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فقالوا : أينا لم يظلم نفسه؟ لأنهم فهموا عموم الظلم فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «ليس ما تظنون ، إنما هو ما قال لقمان لابنه : يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ» «1» ،
___________
(1) الآية 13 من سورة لقمان ... والحديث أخرجه البخاري فى (أحاديث الأنبياء باب قول اللّه تعالى «ولقد آتينا لقمان الحكمة ...)
ومسلم فى (الإيمان ، باب صدق الإيمان وإخلاصه) من حديث ابن مسعود رضى اللّه عنه.(2/138)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 139
وقد كان المشركون يقرّون بالصانع ويخلطون معه التصديق بربوبية الأصنام ، فقد آمنوا بوجود الصانع ، ولكنهم لبسوا إيمانهم بالشرك ، فلا أمن لهم ولا هداية. وبهذا يرد جهالة الزمخشري فى إنكاره الحديث الصحيح ، ولو بقي الظلم على عمومه - أي : ولم يخلطوا إيمانهم بمعصية - لصحّ ، ويكون المراد بالأمن أمنا خاصا وهداية خاصة ، لكن ما قاله - عليه الصلاة والسلام - يوقف عنده.
الإشارة : العارف بالله ، المتحقق بوحدانية اللّه ، لا يسكن خوف الخلق فى قلبه ، ولا ينظر إلا إلى ما يبرز من عند ربه ، فإن وعده بالعصمة أو الحفظ لم يترك بذلك التضرع والالتجاء إلى ربه لسعة علمه تعالى ، وقد يكون ذلك متوقفا على أسباب وشروط ، أخفاها الحق تعالى إظهارا لقهريته ، ولذلك قال الخليل عليه السّلام : وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً. وقال سيدنا شعيب عليه السّلام : وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً «1». فالعارف لا يزول اضطراره ، ولا يكون مع غير اللّه قراره ، وأما الأمن من التحويل والانقلاب ، فاختلف فيه فقال بعضهم : يحصل للولىّ الأمن ، إذا تحقق بمقام القرب ، وحصل له الفناء والبقاء ، متمسكا بقوله تعالى : الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ. وقال بعضهم : لا يحصل الأمن إلا للأنبياء - عليهم السلام - للعصمة.
قال الورتجبي : مقام الأمن لا يحصل لأحد ، مادام هو بوصف الحدثية ، وكيف يكون آمنا منه وهو فى رقّ العبودية ويعرف نفسه بها ، ويعرف الحق بوصف القدم والبقاء وقهر الجبروت؟ وقال تعالى : فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ «2». فإذا رأى اللّه تعالى بوصف المحبة والعشق والشوق ، وذاق طعم الدنو ، واتّصف بصفات الحق ، بدا له أوائل الأمن ، لأن فى صفة القدم لا يكون علة الخوف والرجاء ، لأن هناك جنة القرب والوصال ، وهم فيها آمنون من طوارق القهر ، وهم مهتدون ماداموا متصفين بصفاته ، وإن كانوا فى تسامح من مناقشة اللّه بدقائق خفايا مكره. ه.
فظاهر كلامه ، أن المتحقق بمقام الفناء والبقاء ، يحصل له الأمن من الشقاء ، وكذلك قال أبو المواهب : من رجع إلى البقاء أمن من الشقاء. وقال فى نوادر الأصول : من حظّه من أهل التقريب : الجلال والجمال ، وقد أقيم فى الهيبة والأنس ، قد غاب عن خوف العقوبة ، ولكنه يخاف التحويل والهوى والسقوط ، لما ركب فى نفوس بنى آدم من الشهوات ، فهن أبدا يهوين بصاحبهن عن اللّه إلى الإخلاد والبطء ، وإنما يسكن خوف التحويل إذا خلص إلى الفردانية وتعلّق بالوحدانية لتلاشى الهوى منه والشهوة بكشف الغطاء ، ولا يذهب خوف ذلك بالكلّية عنه ، وإن
___________
(1) الآية 89 من سورة الأعراف.
(2) الآية 99 من سورة الأعراف.(2/139)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 140
سكن لبقاء خيال ذلك فى حق غير الأنبياء. وأما هم فلم يبق لهم ظلّ الهوى ، فبشّروا بالنجاة فلم تغرهم البشرى لأنهم لم يبق لهم نفوس ، فتستبدّ وتجور إذا أمنت السقوط ، ومن بعدهم بقي لهم فى نفوسهم شىء فمنعوا البشرى ، وأبهم عليهم الأمر صنعا بهم ونظرا لهم ، لتكون نفوسهم منقمعة بخوف الزوال. هذا هو الأصل فافهمه. ه.
وحاصل كلامه : أن غير الأنبياء لا ينقطع عنه خوف التحويل ، بل يسكن خوفه فقط ، ولا يبشّر بالأمن إلا الأنبياء ، وهو الصواب ، لبقاء قهر الربوبية فوق ضعف العبودية ، قال تعالى : وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ «1».
واللّه تعالى أعلم.
ثم مدح خليله بما أظهر على يديه من الحجة والعلم ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : آية 83]
وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
قلت : (على قومه) : متعلق بحجتنا ، إن جعل خبرا عن (تلك) ، وبمحذوف ، إن جعل بدله ، أي : وتلك الحجة آتيناها إبراهيم حجة على قومه. ومن قرأ : «درجات : بالتنوين فمن نشاء : مفعول ، ودرجات : تمييز.
يقول الحق جل جلاله : وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ ، إشارة إلى ما تقدم من استدلاله على وحدانيته تعالى بأفول الكوكب والقمر والشمس ، واحتجاجه بذلك على قومه ، وإتيانه إياها : وإرشاده لها وتعليمه إياها ، قال تعالى : نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ فى العلم والحكمة ، أو فى اليقين والمعرفة ، إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ فى رفعه وخفضه ، عَلِيمٌ بحال من يرفعه ويخفضه ، وبحال الاستعداد لذلك.
الإشارة : رفع الدرجات فى جنات الزخارف يكون بالعلم والعمل وزيادة الطاعات ، ورفع الدرجات فى جنة المعارف يكون بكبر اليقين ، والترقي فى شهود رب العالمين. وذلك بحسب التبتل والانقطاع ، والتفرغ من شواغل الحس ودوام الأنس. واللّه تعالى أعلم.
ومما خصّ به إبراهيم عليه السّلام وكان زيادة فى درجته ، أن الأنبياء جلّهم من ذريته ، كما قال تعالى :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 84 الى 90]
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88)
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90)
___________
(1) من الآية 18 من سورة الأنعام.(2/140)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 141
قلت : الضمير فى (ذريته) لإبراهيم عليه السّلام لأن الحديث عليه ، أو لنوح عليه السّلام لذكر لوط ، وليس من ذرية إبراهيم ، لكنه ابن أخيه فكأنه ابنه ، و(داود) : عطف على (نوح) أي : وهدينا من ذريته داود ، و(من آبائهم : فى موضع نصب ، عطف على (نوح) أي : وهدينا بعض آبائهم ، والهاء فى (اقتده) : للسكت ، فتحذف فى الوصل ، ومن أثبتها راعى فيها خط المصحف ، وكأنه وصل بنية الوقف.
يقول الحق جل جلاله : وَوَهَبْنا لإبراهيم إِسْحاقَ ابنه ، وَيَعْقُوبَ حفيده ، كُلًّا منهما هَدَيْنا وَنُوحاً قد هديناه مِنْ قَبْلُ إبراهيم ، وعدّه نعمة على إبراهيم من حيث إنه أبوه ، وشرف الوالد يتعدّى إلى الولد ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ أي : إبراهيم ، داوُدَ بن أيشا ، وَسُلَيْمانَ ، وَأَيُّوبَ بن قوص بن رازح بن عيصو بن إسحاق وَيُوسُفَ بن يعقوب بن إسحاق ، وَمُوسى وَهارُونَ ابنا عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوى بن يعقوب. وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي : نجزى المحسنين جزاء مثل ما جازينا إبراهيم برفع درجاته وكثرة أولاده ، وجعل النبوة فيهم.
وَزَكَرِيَّا بن آذن بن بركيا ، من ذرية سليمان ، وَيَحْيى بن زكريا ، وَعِيسى بن مريم بنت عمران ، وفيه دليل على أن الذرية تتناول أولاد البنت ، وَإِلْياسَ بن نسى بن فنحاص بن إلعازر بن هارون.
وقيل : هو إدريس جد نوح ، وفيه بعد. كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ الكاملين فى الصلاح ، وهو الإتيان بما ينبغى والتحرز مما لا ينبغى.
وَإِسْماعِيلَ بن إبراهيم ، قد هدينا أيضا ، وهو أكبر ولد إبراهيم ، وهو ابن هاجر ، وَالْيَسَعَ بن أخطوب بن العجوز ، وقرىء : «والليسع» بالتعريف ، كأن أصله : ليسع ، و«أل» فيه : زائدة ، لا تفيد التعريف لأنه علم ، وَيُونُسَ بن متى ، اسم أبيه ، وهو من ذرية إبراهيم ، خلافا للبيضاوى. قال القرطبي : لم يبعث اللّه نبيا من بعد إبراهيم إلا من صلبه. ه. ويونس مثلث النون كيوسف ، يعنى بتثليث السين. وَلُوطاً هو ابن هاران أخى إبراهيم ، فهو ابن أخيه ، وقيل : ابن أخته ، فقد يطلق على العم أب مجازا ، وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ أي : عالمى زمانهم بالنبوة والرسالة. فكل واحد فضّل على أهل زمانه.(2/141)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 142
وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ أي : فضّلنا هؤلاء وبعض آبائهم وذرياتهم ، أو هدينا هؤلاء وبعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم ، وَاجْتَبَيْناهُمْ أي : اخترناهم للرسالة واصطفيناهم للحضرة ، وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ الذي يوصل إلى حضرة قدسنا. ذلِكَ هُدَى اللَّهِ أي : ذلك الدين الذي دانوا به هو هدى اللّه يَهْدِي بِهِ أي : بسببه ، مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ، تحذيرا من الشرك ، وإن كانوا معصومين منه.
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ أي : جنس الكتب ، وَالْحُكْمَ أي : الحكمة ، أو الفصل بين العباد ، على ما يقتضيه الحق ، وَالنُّبُوَّةَ الرسالة ، فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ : أهل مكة ، فَقَدْ وَكَّلْنا بِها أي : بالإيمان بها والقيام بحقوقها ، قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ وهم الأنبياء المذكورون ، وتابعوهم ، وقيل : الصحابة المهاجرون والأنصار ، وهو الأظهر. وقيل : كل مؤمن ، وقيل : الفرس. والأول أرجح لدلالة ما بعده عليه ، وهو قوله : أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ، الإشارة إلى الأنبياء المذكورين ، فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ أي : اتبع آثارهم ، والمراد بهديهم : ما توافقوا عليه من التوحيد وأصول الدين ، دون الفروع المختلف فيها ، فإنها ليست هدى مضافا إلى الكل ، ولا يمكن التأسّى بهم جميعا فليس فيه دليل على أنه عليه الصلاة السلام متعبّد بشرع من قبله. قاله البيضاوي.
قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي : التبليغ أو القرآن ، أَجْراً أي : جعلا من جهتكم ، كحال الأنبياء قبلى اقتداء بهم فيه ، فهو من جملة ما أمر بالاقتداء بهم فيه ، إِنْ هُوَ أي : ما هو ، أي : التبليغ أو القرآن ، إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ إلا تذكرة وموعظة لهم.
الإشارة : فضّل هؤلاء السادات على أهل زمانهم بما هداهم إليه من أنوار التوحيد وأسرار التفريد ، وبما خصهم به من كمال العبودية والآداب مع عظمة الربوبية. وفى قوله لحبيبه : فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ فتح لباب اكتساب التفضيل ، فكلّ من اقتدى بهم فيما ذكر شرّف على أهل زمانه ، وقد جمع فى حبيبه صلّى اللّه عليه وسلّم ما افترق فيهم ، وزاد عليهم بالمحبة ورفع الدرجات ، فكان هو سيد الأولين والآخرين ، فكل من اقتدى به فى أفعاله وأقواله وأخلاقه نال من السيادة بقدر اقتدائه ، وأمره سبحانه له بالاقتداء بهم ، إنما هو فى الآداب ، وكان ذلك قبل أن يترقّى عنهم إلى مقامه الذي خصّه اللّه به. فإن للأنبياء سيرا وترقّيا يليق بهم. كما للأولياء سير وترقّ يليق بهم.
قال الورتجبي : أمر حبيبه - عليه الصلاة والسلام - بالاقتداء بالأنبياء والرسل قبله فى آداب الشريعة ، لأن هناك منازل الوسائط ، فإذا أوصله بالكلّية إليه ، وكحّل عيون أسراره بكحل الربوبية ، جعله مستقلا بذاته مستقيما بحاله ، وخرج عن حدّ الإرادة إلى حد المعرفة والاستقامة ، وأمره بإسقاط الوسائط ، حتى قال : «لو كان موسى حيّا ما وسعه إلّا اتّباعى» ، وغير ذلك. ه. وقال الشاذلى رضى اللّه عنه : أمره بالاقتداء بهم فيما شاركوه فيه ، وإن انفرد عنهم بما خصّ به. ه.(2/142)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 143
ولمّا ذكر مشاهير الرسل ، وما أتحفهم به من الهداية وإنزال الوحى ، ردّ على من أنكر ذلك ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : آية 91]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
يقول الحق جل جلاله فى الرد على اليهود : وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي : ما عرفوه حق معرفته فى الرحمة والإنعام على العباد بالوحى وغيره ، إذ لو عرفوه لهابوا أن ينكروا بعثة الرسل ، أو ما جسروا على هذه المقالة ، أو ما عظموه حق تعظيمه. حيث كذّبوا رسله وأنكروا أن يكون أنزل عليهم كتابا ، إذ لو عظّموه حق تعظيمه لصدّقوا الرسول الوارد عنه ، وهو معنى قوله : إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ، والقائلون هم اليهود ، كفنحاص ومالك بن الصيف وغيرهما ، قالوا ذلك مبالغة فى إنكار إنزال القرآن ونبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، فردّ اللّه عليهم بما لا بدّ لهم من الإقرار به وهو إنزال التوراة على موسى فقال : قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ ، فالنور للبواطن ، والهداية للظواهر ، تَجْعَلُونَهُ أي : التوراة ، قَراطِيسَ أي :
تجزّؤونه أجزاء متفرقة ، ما وافق أهواءكم أظهرتموه وكتبتموه فى ورقات متفرقة ، وما خالف أهواءكم كتمتموه وأخفيتموه.
روى أنّ مالك بن الصّيف قاله ، لمّا أغضبه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بقوله : «أنشدك اللّه الذي أنزل التّوراة على موسى ، هل تجد فيها أنّ اللّه يبغض الحبر السّمين ، فأنت الحبر السّمين» ، فغضب ، وقال : ما أنزل اللّه على بشر من شىء ، فردّ اللّه عليه بما تقدّم «1». وقيل : القائلون ذلك : المشركون ، وإلزامهم بإنزال التوراة لأنه كان مشهورا عندهم يقرّون به ، ولذلك قالوا : أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ «2».
وَعُلِّمْتُمْ على لسان محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ ، زيادة على ما فى التوراة ، وبيانا لما التبس عليكم وعلى آبائكم الذين كانوا أعلم منكم. ونظيره : إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ «3» أو : وعلّمتم من التوراة ما لم تكونوا تعلّمتم أنتم ولا آباؤكم قبل إنزاله ، وإن كان الخطاب لقريش فالذى علّموه : ما سمعوا من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من القصص والأخبار.
___________
(1) أخرجه الطبري فى التفسير. وذكره الواحدي فى أسباب النزول ، عن سعيد بن جبير مرسلا.
(2) الآية 157 من السورة نفسها.
(3) الآية 76 من سورة النمل.(2/143)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 144
ثم أجاب عن استفهامه بقوله : قُلِ اللَّهُ أي : أنزله اللّه ، أو اللّه أنزله. قال البيضاوي : أمره بأن يجيب عنهم إشعارا بأن الجواب بهذا متعيّن لا يمكن غيره ، وتنبيها على أنهم بهتوا بأنهم لا يقدرون على الجواب ه.
ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ فى أباطيلهم. فلا عليك بعد التبليغ وإلزام الحجة ، وأصل الخوض فى الماء ، ثم استعير للمعانى المشكلة ، وللقلوب المتفرقة فى أودية الخواطر.
الإشارة : يفهم من الآية أنّ من أقرّ بإنزال الكتب وآمن بجميع الرسل ، فقد قدر اللّه حق قدره وعظّمه حق تعظيمه. وهذا باعتبار ضعف العبد وعجزه وجهله وإلّا فتعظيم الحق حق تعظيمه ، ومعرفته حق معرفته ، لا يمكن انتهاؤها ، ولا الوصول إلى عشر العشر منها. قال تعالى وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً «1» ، وقال : كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ «2» فلو بقي العبد يترقى فى المعرفة أبدا سرمدا ، ما عرف اللّه حق معرفته ، حتى ينتهى إلى غايتها ، ولو بقي يعبد أبد الأبد ما قام بواجب حقه.
وقوله تعالى : قُلِ اللَّهُ استشهد به الصوفية ، فى طريق الإشارة ، على الانفراد والانقطاع إلى اللّه ، وعدم الالتفات إلى ما عليه الناس من الخوض والاشتغال بالأغيار والأكدار ، والخروج عنهم إلى مقام الصفا ، وهو شهود الفردانية ، والعكوف فى أسرار الوحدانية. قال ابن عطاء اللّه - لما تكلم على أهل الشهود - قال : (لأنهم لله لا لشىء دونه ، قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ). وقد ينكر عليهم من لم يفهم إشارتهم تجمدا ووقوفا مع الظاهر ، وللقرآن ظاهر وباطن لا يعرفه إلا الربانيون. نفعنا اللّه بهم ، آمين.
ثم قرر صحة إنزال كتابه ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : آية 92]
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92)
يقول الحق جل جلاله : وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ أي : كثير البركة ، حسا ومعنى لكثرة فوائده وموم نفعه ، أو : كثير خيره ، دائم منفعته ، قال القشيري : مبارك : دائم باق ، لا ينسخه كتاب ، من قولهم : برك الطير على الماء. ه. مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب المتقدمة ، وَلِتُنْذِرَ أنت أُمَّ الْقُرى أي : مكة ،
___________
(1) من الآية 110 من سورة طه.
(2) الآية 23 من سورة عبس.(2/144)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 145
وَمَنْ حَوْلَها من المشرق والمغرب أو لينذر القرآن أمّ القرى ومن حولها أي : أنزلناه للبركة والإنذار ، وإنما سميت مكة أمّ القرى لأنها قبلة أهل القرى وحجهم ومجمعهم ، وأعظم القرى شأنا. وقيل : لأن الأرض دحيت من تحتها أو لأنها مكان أول بيت وضع للناس.
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ هم الذين يُؤْمِنُونَ بِهِ ، وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ لأنّ من صدّق بالآخرة ، وخاف عاقبتها ، تحرى لنفسه الصواب ، وتفكر فى صدق النجاة ، فآمن بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وصدّق بما جاء به ، وحافظ على مراسم الشريعة ، وأهمها : الصلاة لأنها عماد الدين وعلم الإيمان ، من حافظ عليها حفظ ما سواها ، ومن ضيّعها ضيّع ما سواها.
الإشارة : مفتاح القلوب هو كتاب اللّه ، وهو عنوان السير ، فمن فتح له فى فهم كتاب اللّه ، عند سماعه والتدبر فى معانيه ، فهو علامة فتح قلبه ، فلا يزال يزداد فى حلاوة الكلام ، حتى يشرف على حلاوة شهود المتكلم من غير واسطة وذلك غاية السير ، وابتداء الترقي فى أنوار التوحيد وأسرار التفريد ، التي لا نهاية لها. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر وعيد من كذّب به أو عارضه ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 93 الى 94]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
قلت : (كما خلقناكم) : بدل من (فرادى) ، أو حال ثانية ، و(لقد تقطع بينكم) من قرأ بالرفع ، فهو فاعل ، أي :
تقطع وصلكم ، ومن قرأ بالنصب ، فظرف ، على إضمار الفاعل ، أي : تقطع الاتصال بينكم ، أو على حذف الموصول لقد تقطع ما بينكم.
يقول الحق جل جلاله : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فزعم أنه يوحى إليه ، كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي ، أو : غيّر الدين ، كعمرو بن لحيى وأمثاله ، أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ كابن أبى سرح(2/145)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 146
ومن تقدم ، إلا من تاب ، كابن أبى سرح. وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ كالذين قالوا : لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا «1» كالنضر بن الحارث وأشباهه.
وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ من اليهود والكذابين والمستهزئين ، حين يكونون فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ : شدائده وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ لقبض أرواحهم ، أو بالضرب لوجوههم وأدبارهم ، قائلين لهم : أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ من أجسادكم تغليظا عليهم ، الْيَوْمَ وما بعده تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أي : الهوان ، يريد العذاب المتضمن للشدة والهوان ، وإضافته للهوان لتمكنه فيه. وذلك العذاب بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ، كادعاء النبوة كذبا ، وادعاء الولد والشريك لله ، وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ فلا تستمعون لها ، ولا تؤمنون بها ، فلو أبصرت حالهم ذلك الوقت لرأيت أمرا فظيعا وهولا شنيعا.
يقول الحق سبحانه لهم : وَلَقَدْ جِئْتُمُونا للحساب والجزاء ، فُرادى . متفرّدين عن الأعوان والأوثان ، أو عن الأموال والأولاد ، وهذا أولى بقوله : كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أي : على الهيئة التي ولدتم عليها من الانفراد والتجريد حفاة عزاة غرلا «2» وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ أي : تفضّلنا به عليكم من الدنيا فشغلتم به عن الآخرة ، وَراءَ ظُهُورِكُمْ ، فلم تقدموا منه شيئا ، ولم تحملوا معكم منه نقيرا ، وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ أي : أصنامكم الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ أي : أنهم شركاء مع اللّه فى ربوبيتكم واستحقاق عبادتكم ، لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ أي : تفرّق وصلكم وتشتت شملكم ، وَضَلَّ أي : غاب عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنهم شفعاؤكم ، أو لا بعث ولا حساب لظهور كذبكم.
الإشارة : كل من ادعى حالا أو مقاما ، يعلم من نفسه أنه لم يدركه ولم يتحقق به ، فالآية تجرّ ذيلها عليه. وفى قوله : وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى .. إلخ ، إشارة إلى أن الدخول على اللّه والوصول إلى حضرته ، لا يكون إلا بعد قطع العلائق والعوائق والشواغل كلها ، وتحقيق التجريد ظاهرا وباطنا إذا لا تتحقق الفردانية إلا بهذا.
وقال الورتجبي : ولى هنا لطيفة أخرى ، أي : ولقد جئتمونا موحّدين بوحدانيتى ، شاهدين بشهادتى ، بوصف الكشف والخطاب ، كما جئتمونا من العدم فى بدء الأمر ، حين عرّفتكم نفسى بقولي : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى «3» ، بلا إشارة التشبيه وغلط التعطيل ، كما وصفهم نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم : «كلّ مولود يولد على الفطرة» ، يعنى : على
___________
(1) من الآية 31 من سورة الأنفال.
(2) أي غير مختونين.
(3) من الآية 172 من سورة الأعراف(2/146)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 147
فطرة الأزل بلزوم سمة العبودية بلا علة الاكتساب ، عند سبق الإرادة. انتهى. قلت : وحاصل كلامه : أن مجيئهم فرادى ، كناية عن دخولهم الحضرة القدسية بعد تقديس الأرواح وتطهيرها ، حتى رجعت لأهلها ، كما خلقها أول مرة ، أعنى : مقدسة من شواهد الحس ، مطهرة من لوث الأغيار ، على فطرة الأزل ، فشبه مجيئها الثاني بعد التطهير ببروزها الأول ، حين كانت على أصل التطهير ، كأنه قال : ولقد جئتمونا فرادى من الحس وشهود الغير كما خلقناكم كذلك فى أول الأمر. واللّه تعالى أعلم.
وقوله تعالى : وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ أي : من العلوم الرسمية ، والطاعات البدنية والكرامات الحسية ، قال شيخ شيوخنا سيدى عبد الرحمن الفاسى العارف : كنت أعرف أربعة عشر علما ، فلما علمت علم الحقيقة سرطت ذلك كله ، فلم يبق لى إلا التفسير والحديث والمنطق. ه. وقوله تعالى : وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ إشارة إلى أنهم دخلوا من باب الكرم لا من باب العمل. واللّه تعالى أعلم.
ثم شرع يذكر دلائل توحيده وتعريف ذاته ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 95 الى 96]
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
قلت : (و مخرج) : معطوف على (فالق) ، على المختار لأنّ (يخرج الحي) - واقع موقع البيان له ، و(سكنا) :
مفعول بفعل محذوف ، أي : جعله سكنا ، إلا أن يريد بجاعل : الاستمرار ، فحينئذ ينصب المفعول.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى أي : يفلق الحب تحت الأرض لخروج النبات منها ، ويفلق النوى لخروج الشجر منها ، يُخْرِجُ الْحَيَّ أي : كل ما ينمو من الحيوان والنبات ليطابق ما قبله ، مِنَ الْمَيِّتِ مما لا ينمو كالنطف والحب. وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ أي : ومخرج الحب والنّطف من الحي ، ذلِكُمُ اللَّهُ أي : ذلكم المخرج والمحيي المميت هو اللّه المستحق للعبادة دون غيره ، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ تصرفون عنه إلى غيره.
فالِقُ الْإِصْباحِ أي : شاقّ عمود النهار عن ظلمة الليل ، وَجَعَلَ «1» اللَّيْلَ سَكَناً أي : يسكن فيه من تعب النهار للاستراحة ، وَجعل الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً أي : على أدوار مختلفة ، يعلم بها حساب
___________
(1) قرأ عاصم وحمزة والكسائي - وكذا خلف - : (جعل) فعلا ماضيا. وقرأ باقى السبعة (جاعل) باسم الفاعل مضافا إلى الليل.(2/147)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 148
الأزمنة والليل والنهار ، أو حسبانا كحسبان الرّحا يدور بهما الفلك دورة بين الليل والنهار ، ذلِكَ التسيير بالحساب المعلوم ، هو تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ الذي قهرهما بعزته ، وسيرهما على ذلك السير البديع بعلمه وحكمته.
الإشارة : إذا أحب اللّه عبدا فلق حبة قلبه بعشقه ومحبته ، وفلق نواة عقله بالتبصر فى عجائب قدرته ، فلا يزال قلبه يميل إلى حضرته ، وعقله يتشعشع أنواره بازدياد تفكره فى عجائب عظمته ، حتى تشرق عليها شمس العرفان ، فيفلق عمود فجرها عن ظلمة ليل وجود الإنسان ، فيصير حيا بمعرفته ، بعد أن كان ميتا بجهله وغفلته ، فيميته عن شهود نفسه ، ثم يحييه بشهود ذاته ، يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ، جاعل ليل العبودية سكنا ، وشمس العرفان وقمر الإيمان حسبانا ، تدور الفكرة بأنوارهما ، كما يدور الفلك بالشمس والقمر الحسّيين ، ذلك تقدير العزيز العليم.
ثم ذكر برهانا آخر ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : آية 97]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)
يقول الحق جل جلاله : وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها أي : ببعضها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي : فى ظلمات الليل فى البر والبحر ، وأضاف الظلمات إليهما لملابستها بهما ، أو فى مشتبهات الطرق فى البر والبحر ، وسماها ظلمات على الاستعارة ، قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ بيناها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فإنهم المنتفعون بها.
الإشارة : جعل الحق - جل جلاله - نجوم العلم يهتدى السائرون بها فى مشكلات أمور الشريعة وأمور الحقيقة ، فلبر الشريعة علم يسير به أهله إلى جنته ورضوانه ، ولبحر الحقيقة علم يسير به أهلها الطالبون لها إلى معرفة ذاته وصفاته ، وشهودها فى حال جلاله وجماله ، ولله در المجذوب رضى اللّه عنه ، حيث قال :
العلم مرايا من هند ، والجهل صندوق راشى من لا قرايش يعرف اللّه ما هو مبنى على شى «1»
ثم ذكر دليلا آخر ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : آية 98]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
___________
(1) زجل بلهجة مغربية. [.....](2/148)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 149
قلت : من قرأ (مستقر) بفتح القاف ، فمصدر ، أو اسم مكان ومن قرأه بالكسر فاسم فاعل ، وعلى كل - هو مبتدأ ، حذف خبره الجار والمجرور ، أي : لكم مستقر.
يقول الحق جل جلاله : وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ آدم عليه السّلام فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ أي :
فلكم استقرار فى الأصلاب أو فوق الأرض ، واستيداع فى الأرحام أو تحت الأرض ، أو موضع استقرار واستيداع فيهما ، أو : فمنكم مستقّر فى الأصلاب أو فى الأرض ، أي : قارّ فيهما ، ومنكم مستودع فى الأرحام أو تحت الأرض.
وقيل : الاستقرار : فى الأرحام ، والاستيداع : فى الصلب ، بدليل قوله : وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ «1».
قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ أي : يفهمون دقائق أسرار القدرة ، ذكر مع النجوم : يَعْلَمُونَ لأن أمرها ظاهر ، وذكر مع تخليق بنى آدم : يَفْقَهُونَ لأن إنشاءهم من نفس واحدة ، وتصريفهم على أحوال مختلفة ، دقيق يحتاج إلى زيادة تفهم وتدقيق نظر.
الإشارة : بعض الأرواح مستقرها الفناء فى الذات ، ومستودعها الفناء فى الصفات ، وهم العارفون من أهل الإحسان ، وبعضها مستقرها الفناء فى الصفات ، ومستودعها الاستشراف على الفناء فى الذات ، وهم أهل الإيمان بالغيب. وقال الورتجبي : بعض الأرواح مستقرها الصفات ، ومستودعها الذات ، بنعت البقاء فى الصفات ، والفناء فى الذات لأن القدم منزه أن يحل فيه الحدث. ه.
ثم ذكر برهانا آخر ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : آية 99]
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
قلت : الضمير فى (منه) : يعود على النبات ، و(خضرا) : نعت لمحذوف ، أي : شيئا خضرا ، و(قنوان) : مبتدأ ، و(من النخل) : خبر ، و(من طلعها) : بدل ، والطّلع : أول ما يخرج من التمر فى أكمامه ، والقنوان : جمع قنو ، وهو العنقود من التمر ، و(مشتبها) : حال من الزيتون والرمان ، أو من كل ما تقدم من النبات ، و(جنات) : عطف على (نبات كل شى ء). و(ينعه) أي : نضجه وطيبه ، يقال : ينعت الثمرة ، إذا أدركت وطابت.
___________
(1) من الآية 5 من سورة الحج.(2/149)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 150
يقول الحق جل جلاله : وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي : السحاب أو جانب السماء ، ماءً فَأَخْرَجْنا ، فيه الالتفات من الغيبة إلى التكلم ، بِهِ أي : بذلك الماء ، نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ أي : نبات كل صنف من النبات على اختلاف أنواعه ، فالماء واحد والزهر ألوان ، فَأَخْرَجْنا مِنْهُ أي : من النبات ، شيئا خَضِراً وهو ما يتولد من أصل النبات من الفراخ ، نُخْرِجُ مِنْهُ أي : من الخضر ، حَبًّا مُتَراكِباً وهو السنبل لأن حبه بعضه فوق بعض ، وكذلك الرمان والذرة وشبهها ، وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ أي :
ويخرج من طلع النخل عناقيد متدانية قريبة من المتناول ، أو ملتفة ، قريب بعضها من بعض ، وإنما اقتصر على المتدانى دون العالي لزيادة النعمة والتمكن من النظر فيه ، دون ضده.
وَأخرجنا أيضا بذلك الماء ، جَنَّاتٍ أي : بساتين ، مِنْ أَعْنابٍ مختلفة الألوان والأصناف وَأخرجنا به الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ على اختلاف أصنافها ، مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ أي : من النبات والثمار ما يشبه بعضه بعضا ، فى اللون والطعم والصورة ، ومنه ما لا يشبه بعضه بعضا ، وفى ذلك دليل قاطع على الصانع المختار القدير العليم المريد ، ولذلك أمر بالنظر والاعتبار فقال : انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ أي : انظروا إلى ثمرة كل واحد من ذلك إِذا أَثْمَرَ ، وَانظروا إلى يَنْعِهِ إذا ينع ، أي : طاب ونضج ، والمعنى :
انظروا إلى ثمره أول ما يخرج ضعيفا لا منفعة فيه ، ثم ينتقل من طور إلى طور ، حتى يينع ويطيب.
إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ دالة على وجود الحكيم ووحدانيته ، فإن حدوث الأجناس المختلفة والأنواع المتفننة ، ونقلها من حال إلى حال ، لا يكون إلا بإحداث قادر ، يعلم تفاصيلها ، ويرجّح ما تقتضيه حكمته مما يمكن من أحوالها ، ولا يعوقه عن فعله ند يعارضه ، أو ضد يعانده ، ولذلك عقبه بتوبيخ من أشرك فقال : وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ ... إلخ. قاله البيضاوي.
الإشارة : من كحّل عينه بإثمد التوحيد ، غرق الكائنات كلها فى بحر التوحيد والتفريد ، فكل ما يبرز لنا من المظاهر والمطالع ، ففيه نور من جمال الحضرة ساطع ، ولذلك قال ابن الفارض رضى اللّه عنه :
عينى لغير جمالكم لا تنظر وسواكم فى خاطرى لا يخطر
وقال الششترى رضى اللّه عنه :
انظر جمالى شاهدا فى كلّ إنسان
كالماء يجرى نافذا فى أس الأغصان
يسقى بماء واحد والزّهر ألوان(2/150)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 151
وقال صاحب العينية :
تجلّى حبيبى فى مرائى جماله ففى كلّ مرئى للحبيب طلائع
فلمّا تبدى حسنه متنوّعا تسمّى بأسماء فهن مطالع
فما برز فى عالم الشهادة هو من عالم الغيب على التحقيق ، فرياض الملكوت فائضة من بحر الجبروت ، (كان اللّه ولا شىء معه ، وهو الآن على ما عليه كان) ، ولا يعرف هذا ذوقا إلا أهل العيان ، الذين وحدوا اللّه فى وجوده ، وتخلصوا من الشرك جليه وخفيه ، الذي أشار إليه بقوله :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 100 الى 102]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)
قلت : (الجن) : مفعول أول لجعلوا ، و(شركاء) : مفعول ثان ، وقدّم لاستعظام الإشراك ، أو (شركاء) : مفعول أول ، و(للّه) : فى موضع المفعول الثاني ، و(الجن) : بدل من شركاء ، وجملة (خلقهم) : حال ، و(بديع) : خبر عن مضمر ، أو مبتدأ وجملة (أنّى) : خبره ، وهو من إضافة الصفة إلى مفعولها أي : مبدع السموات ، أو إلى فاعلها : أي : بديع سمواته ، من بدع إذا كان على نمط عجيب ، وشكل فائق ، وحسن لائق.
يقول الحق جل جلاله ، توبيخا للمشركين : وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ فى عبادته ، وهم الْجِنَّ أي :
الملائكة لاجتنانهم أي : استتارهم ، فعبدوهم واعتقدوا أنهم بنات اللّه ، أو الجن حقيقة ، وهم الشياطين لأنهم أطاعوهم كما يطاع اللّه تعالى ، أو : عبدوا الأوثان بتسويلهم وتحريضهم ، فقد أشركوا مع اللّه ، وَالحال أن اللّه قد خَلَقَهُمْ أي : الجن أي : عبدوهم وهم مخلوقون ، أو الضمير للمشركين ، أي : عبدوا الجن ، وقد علموا أن اللّه قد خلقهم دون الجن لعجزه ، وليس من يخلق كمن لا يخلق.
وَخَرَقُوا لَهُ أي : اختلفوا وافتروا ، أو زوروا برأيهم الفاسد له بَنِينَ كالنصارى فى المسيح ، واليهود فى عزير ، وَبَناتٍ كقول العرب فى الملائكة : إنهم بنات اللّه - تعالى اللّه عن قولهم - قالوا ذلك بِغَيْرِ عِلْمٍ أي : بلا دليل ولا حجة ، بل مجرد افتراء وكذب ، سُبْحانَهُ وَتَعالى أي : تنزيها له ، وتعاظم قدره عَمَّا يَصِفُونَ من أن له ولدا أو شريكا.(2/151)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 152
وكيف يكون له الولد أو الشريك ، وهو بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟. أي : مبدعهما ومخترعهما بلا مثال يحتذيه ، ولا قانون ينتحيه ، والمعنى : أنه تعالى مبدع لقطرى العالم العلوي والسفلى بلا مادة لأنه تعالى منزه عن الأفعال بالمادة. والوالد عنصر الولد ، ومنفصل بانتقال مادته عنه ، فكيف يمكن أن يكون له ولد؟. ولذلك قال :
أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ أي : من أين ، أو كيف يكون له ولد ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ يكون منها الولد ، فإن انتفاء الصاحبة مستلزم لانتفاء الولد ، ضرورة استحالة وجود الولد بلا والدة فى العادة ، وانتفاء الصاحبة مما لا ريب فيه ، وكيف أيضا يكون له ولد وَقد خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ، فكيف يتصور أن يكون المخلوق ولدا لخالقه؟ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي : أحاط بما من شأنه أن يعلم كائنا ما كان ، فلا تخفى عليه خافية مما كان ، ومما سيكون من الذوات والصفات ، ومن جملتها : ما يجوز عليه تعالى وما يستحيل كالولد والشريك.
ذلِكُمُ المنعوت بما ذكر من جلائل الصفات ، هو اللَّهُ المستحق للعبادة خاصة ، رَبُّكُمْ أي : مالك أمركم لا شريك له أصلا ، خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، مما كان وسيكون ، ولا تكرار مع ما قبله لأن المعتبر فيما تقدم خالقيته لما كان فقط ، كما تقتضيه صيغة الماضي ، بخلاف الوصف يصلح للجميع ، وإذا تقرر أنه خالق كل شىء فَاعْبُدُوهُ فإن من كان خالقا لكل شىء ، جامعا لهذه الصفات ، هو المستحق للعبادة وحده ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أي : هو متولى أمور جميع عباده ومخلوقاته ، التي أنتم من جملتها ، فكلوا أمركم إليه ، وتوسلوا بعبادته إلى جميع مآربكم الدنيوية والأخروية ، فإنه يكفيكم أمرها بقدرته وحفظه.
الإشارة : كل من خضع لمخلوق فى نيل حظ دنيوى ، إنسيا أو جنيا ، أو أطاعه فى معصية الخالق ، فهو مشرك به مع ربه ، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً «1» ، فلذلك عمل الصوفية على مجاهدة نفوسهم فى مخالفة الهوى لئلا تميل بهم إلى شىء من السّوى ، وتحرروا من رق الطمع ، وتوجهوا بهمتهم إلى الحق وحده ، ليتبرأوا من أنواع الشرك كلها ، جليها وخفيها. حفظنا اللّه بما حفظهم به. آمين.
ثم عرّف بذاته المقدسة ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : آية 103]
لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
يقول الحق جل جلاله : لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ أي : لا تحيط به ، ولا تناله بحقيقته ، وعن ابن عباس :
(لا تدركه فى الدنيا ، وهو يرى فى الآخرة) ، ومذهب الأشعرية : أن رؤية اللّه فى الدنيا جائزة عقلا ، لأن موسى عليه السّلام سألها ، ولا يسأل موسى ما هو محال ، وأحالته المعتزلة مطلقا ، وتمسكوا بالآية ، ولا دليل فيها لأنه ليس الإدراك مطلق الرؤية ، ولا النفي فى الآية عامّا فى الأوقات ، فلعله مخصوص ببعض الحالات ، ولا فى الأشخاص فإنه فى قوة قولنا : لا كل بصر يدركه ، مع أن النفي لا يوجب الامتناع. قاله البيضاوي.
___________
(1) الآية 116 من سورة النساء(2/152)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 153
ثم قال تعالى : وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ أي : يحيط علمه بها إذ لا تخفى عليه خافية ، وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ فيدرك ما لا تدركه الأبصار ، ويجوز أن يكون تعليلا للحكمين السابقين على طريق اللفّ ، أي : لا تدركه الأبصار لأنه اللطيف ، وهو يدرك الأبصار لأنه الخبير ، فيكون اللطيف مقابلا للكثيف ، لا يدرك بالحاسة ولا ينطبع فيها. قاله البيضاوي وأبو السعود.
الإشارة : اعلم أن الحق جل جلاله قد تجلى لعباده فى مظاهر الأكوان ، لكنه لحكمته وقدرته ، قد تجلى بين الضدين ، بين الأنوار والأسرار ، بين الحس والمعنى ، بين مظهر الربوبية وقالب العبودية. فالأنوار ما ظهر من الأوانى ، والأسرار ما خفى من المعاني ، فالحس ما يدرك بحاسة البصر ، والمعنى ما يدرك بالبصيرة. فالحس رداء للمعنى ، فمن فتح اللّه بصيرته استولى نور بصيرته على نور بصره ، فأدرك المعاني خلف رقة الأوانى ، فلم تحجبه الأوانى عن المعاني ، بل تمتحق فى حقه الأوانى ، ولا يرى حينئذ إلا المعاني. لذلك قال الحلاج ، لما سئل عن المعرفة ، قال : (استهلاك الحس فى المعنى) ، فإذا فنى العبد عن شهود حسّه بشهود معناه ، غاب وجوده فى وجود معبوده ، فشاهد الحقّ بالحق. فالعارفون لمّا فنوا عن أنفسهم ، لا يقع بصرهم إلا على المعاني ، فهم يشاهدون الحق عيانا. ولذلك قال شاعرهم :
مذ عرفت الإله لم أر غيرا وكذا الغير عندنا ممنوع
وقال فى الحكم : «ما حجبك عن الحقّ وجود موجود معه إذ لا شىء معه ، وإنّما حجبك توهّم موجود معه».
وقوله تعالى : لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ أي : الأبصار الحادثة ، وإنما تدركه الأبصار القديمة فى مقام الفناء. وقال الورتجبي : لا تدركه الأبصار ، إلا بأبصار مستفادة ، من أبصار جلاله ، وكيف يدركه الحدثان؟ ووجود الكون عند ظهور سطوات عظمته عدم. ه. أو لا تحيط به ، إذ الإحاطة بكنه الربوبية متعذرة. وعلى هذا حمل الآية فى نوادر الأصول ، قال : إدراك الهوية ممتنع ، وإنما يقع التجلي بصفة من صفاته.
وقال ابن عبد الملك فى شرح مشارق الصغاني ، ناقلا عن المشايخ : إنما يتجلى اللّه لأهل الجنة ، ويريهم ذاته تعالى ، فى حجاب صفاته ، لأنهم لا يطيقون أن يروا ذاته بلا حجاب مرتبة من مراتب الصفات. وقال الورتجبي :
التجلي لا يكون بكلية الذات ، ولا بكلية الصفات ، وإنما يكون على قدر الطاقات ، فيستحيل أن يقال : تجلى كل الهوى لذرة واحدة ، وإنما يتجلى لها على قدرها. ه.
وتتفاوت الناس فى لذّة النظر يوم القيامة على قدر معرفتهم فى الدنيا ، وتدوم لهم النظرة على قدر استغراقهم هنا ، فمن كان هنا محجوبا لا يرى إلا الحس ، كان يوم القيامة كذلك ، إلا فى وقت مخصوص ، يغيبه الحق تعالى(2/153)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 154
عن حسه ، فيشاهد معانى أسرار الربوبية فى مظاهر أنوار صفاته. ومن كان هنا مفتوحا عليه فى شهود المعاني ، كان يوم القيامة كذلك ، لا تغيب عنه مشاهدة الحق ساعة.
قال الغزالي فى كتاب الأربعين : إذا ارتفع الحجاب بعد الموت انقلبت المعرفة بعينها مشاهدة. قلت : ومعنى كلامه : أن ما عرفه به هنا من التجليات ، صار بعينه هناك مشاهدة لأن المعنى هناك غالب على الحس ، بخلاف دار الدنيا ، الحس فيها غالب ، إلّا لمن غاب عنه واستهلكه. ثم قال : ويكون لكل واحد على قدر معرفته ، ولذلك تزيد لذة أولياء اللّه تعالى فى النظر على لذة غيرهم ، ولذلك يتجلى اللّه تعالى لأبى بكر خاصة ، ويتجلى للناس عامة.
وقال فى الإحياء : ولمّا كانت المعرفة على درجات متفاوتة كان التجلي على درجات متفاوتة ، ثم ذكر حديث التجلي لأبى بكر المتقدم. ثم قال : فلا ينبغى أن يظن أن غير أبى بكر ، ممن هو دونه ، يجد من لذة النظر والمشاهدة ما يجده أبو بكر ، بل لا يجده ، إلا عشر عشره ، إن كانت معرفته فى الدنيا عشر عشره ، ولما فضل الناس بسر وقر فى صدره ، فضل لا محالة بتجلّ انفرد به.
وقال أيضا : يتجلى الحق للعبد ، تجليا يكون الكشاف تجلّيه ، بالإضافة إلى ما علمه ، كانكشاف تجلى المرئيات بالإضافة إلى ما تخيله - أي : إلى ما وصفه له الواصف. ثم قال : وهذه المشاهدة والتجلي هى التي تسمى رؤية ، ثم قال : المعرفة الحاصلة فى الدنيا هى التي تستكمل ، فتبلغ كمال الكشف والوضوح وتنقلب مشاهدة ، ولا يكون بين المشاهدة فى الآخرة والمعلوم فى الدنيا اختلاف ، إلا من حيث زيادة الكشف والوضوح. وقال أيضا : وبحر المعرفة لا ساحل له ، والإحاطة بكنه جلاله محال ، وكلما كثرت المعرفة وقويت كثر النعيم فى الآخرة ، وعظم ، كما أنه كلما كثر البذر وحسن كثر الزرع وحسن ، ولا يمكن تحصيل هذا البذر إلا فى الدنيا ، ولا يزرع إلا فى صعيد القلب ، ولا حصاد إلا فى الآخرة. ه.
قال شيخنا مولاى العربي رضى اللّه عنه : بل الرجال زرعوا اليوم وحصدوا اليوم. وفى تفسير الأقليشى لقوله : اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ «1» : ليس لهذه الهداية - مادام العبد فى الدنيا - نهاية ، حتى إذا حصل فى جوار الجبار ، ونظر إلى وجهه العظيم ، كان حظه من النعيم بقدر ما هداه فى الدنيا لصراطه المستقيم. ه. وقال فى نوادر الأصول : فى الحديث : «إنّ من أهل الجنّة من ينظر إلى اللّه عزّ وجلّ غدوة وعشيّا». وروى عن معاذ أنه قال : «صنف من أهل الجنّة من ينظر إلى اللّه عزّ وجلّ ، لا يستر الربّ عنهم ولا يحتجب» ثم قال : وذكر أن الرضوان آخر ما ينال أهل الجنة ، ولا شىء أكبر منه ، وكل عبد من أهل الجنة حظه من الرضوان هناك فيها على قدر جوده بنفسه على اللّه فى الدنيا. ه.
___________
(1) الآية 6 من سورة الفاتحة.(2/154)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 155
وقوله تعالى : وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ، قال الورتجبي : هو بلطف ذاته ممتنع عن مطالعة خلقه ، مع علو شأن علمه وإحاطته بجميعهم ، وجودا وعدما ، أي : وإنما يرى بنوره ، لا بالحواس الخفاشية ، فإنها تضعف عن مقاومة شعاعه ، وتنخنس عند انكشاف سبحانه. ه. على نقل الحاشية الفاسية. والله تعالى أعلم.
ولمّا كان الاطلاع على هذه الأسرار ، به تنفتح البصائر ، أشار إلى ذلك بقوله :
[سورة الأنعام (6) : آية 104]
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)
قلت : البصائر : جمع بصيرة ، وهى عين القلب ، كما أن البصر عين البدن ، فالبصيرة ترى المعاني القديمة ، والبصر يرى الحسيات الحادثة.
يقول الحق جل جلاله : قَدْ جاءَكُمْ أيها الناس بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ أي : براهين توحيده ، ودلائل معرفته ، حاصلة من ربكم ، تنفتح بها البصائر ، وتبصر بها أنوار قدسه ، فَمَنْ أَبْصَرَ الحق ، وآمن به ، واستعمل الفكر فيه حتى عرفه ، فَلِنَفْسِهِ أبصر ، ولها نفع ، وَمَنْ عَمِيَ عنها ، ولم يرفع بها رأسا ، وضل عن الحق ، فَعَلَيْها وباله وضرره ، ولا يتضرر بها غيره ، وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أرقب أعمالكم وأجازيكم ، وإنما أنا منذر ، واللّه هو الحفيظ عليكم ، يحفظ أعمالكم ويجازيكم عليها.
الإشارة : البصيرة كالبصر ، أدنى شىء يقع فيها يضرّ بناظرها ، وهى على أقسام : منها ما تكون عمياء ، والعياذ بالله ، وهى التي فسد ناظرها بفساد الاعتقاد ، كبصيرة الكفار ومن قاربهم ، ومنها ما تكون مريضة فقط ، لا تقاوم شعاع شمس التوحيد الخاص ، وهى بصيرة أهل الغفلة ، ومنها ما يخف مرضها فيكون لها شعاع ، تدرك قرب نور الحق منها وهى بصيرة المتوجهين من العباد والزهاد ونهاية الصالحين.
ومنها ما تكون قريبة البرء والصحة ، قد انفتحت ، لكنها حيرى لما فاجأها من النور ، وهى بصيرة المريدين السائرين من أهل الفناء ، ومنها ما تكون صحيحة قوية ، قد تمكنت من شهود الأنوار ، ورسخت فى بحر الأسرار ، وهى بصيرة العارفين المتمكنين فى مقام البقاء ، وقد أشار فى الحكم إلى الثلاثة فقال : «شعاع البصيرة يشهدك قرب الحق منك ، وعين البصيرة يشهدك عدمك لوجوده ، وحق البصيرة يشهدك وجود الحق لاعدمك ولا وجودك ، كان اللّه ولا شىء معه ، وهو الآن على ما عليه كان».
وذكر هذه الآيات ، سبب لضلال أهل الشقاء وهداية أهل العناية ، كما بيّن ذلك بقوله :
[سورة الأنعام (6) : آية 105]
وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)(2/155)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 156
قلت : تصريف الشيء : إجراؤه على أحوال متعاقبة وجهات مختلفة ، ومنه : تصريف الرياح لهبوبها من جهات مختلفة ، ولما كانت آيات القرآن تنزل على أنواع مختلفة فى أوقات متعاقبة ، شبهت ، بتصريف الرياح على أنحاء مختلفة ، (و ليقولوا) : متعلق بمحذوف ، أي : وليقولوا : درست ، صرفنا الآيات ، واللام للعاقبة ، وكذلك : (و لنبينه) :
المتعلق واحد.
يقول الحق جل جلاله : ومثل ذلك التصريف الذي صرفنا من الآيات ، من قوله : إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى «1» إلى قوله : قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ «2» - نُصَرِّفُ الْآياتِ فى المستقبل لتكون عاقبة قوم الشقاء بها بتكذيبهم إياها ، وَلِيَقُولُوا لك : دارست «3» أهل الكتاب ، وتعلمت ذلك منهم ، وليس بوحي ، أو دَرَسْتَ هذه الأخبار وعفت ، وأخبرت بها من إملاء غيرك عليك ، كقولهم : أساطير الأولين ، وليكون عاقبة قوم آخرين الاهتداء ، وإليهم الإشارة بقوله : وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي : وليتضح معناه عند قوم آخرين ، فيهتدوا به إلى معرفتى وتوحيدى ومحل رضوانى وكرامتى ، فالخطاب متحد ، والأثر مختلف على حسب السابقة.
الإشارة : ظهور الآيات على يد أهل الخصوصية - كالعلوم اللدنية والمواهب الربانية - لا يوجب لهم التصديق لجميع الخلق ، فلو أمكن ذلك لكان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أولى به ، بل لا بد من الاختلاف ، فقوم قالوا : هذه العلوم ... دارس فيها وتعلمها ، وقوم قالوا : بل هى من عند اللّه لا كسب فيها ، قال تعالى : وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ «4».
ثم أمر نبيه بالإعراض عن أهل الإنكار ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 106 الى 107]
اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
يقول الحق جل جلاله : اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ بالدوام على التمسك به ، والاهتداء بهديه ، ودم على توحيده ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فلا تصغ إلى من يعبد معه غيره ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ، فلا تحتفل بأقوالهم ، ولا تلتفت إلى رأيهم ، وهذا محكم ، أو : أعرض عن عقابهم وقتالهم ، وهو منسوخ بآية السيف ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا : لكن سبقت مشيئته بإشراكهم ، ولو أراد إيمانهم لآمنوا ، وهو حجة على المعتزلة ، وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً : رقيبا ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ تقوم بأمرهم ، وتلجئهم إلى الإيمان إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ «5».
___________
(1) الآية 95 من سورة الأنعام.
(2) الآية 104 من السورة نفسها.
(3) قرأ ابن كثير وأبو عمرو (دارست) بألف ، وقرأ ابن عامر ويعقوب (درست) أي : قدمت وبليت ، وقرأ الباقون (درست) أي : حفظت وقرأت .. انظر : إتحاف فضلاء البشر.
(4) الآية 118 من سورة هود.
(5) الآية 23 من سورة فاطر.(2/156)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 157
الإشارة : الإعراض عن الخلق والاكتفاء بالملك الحق ركن من أركان الطريق ، قال الشيخ زروق رضى اللّه عنه : أصول الطريقة خمسة أشياء : تقوى اللّه فى السر والعلانية ، واتباع الرسول فى الأقوال والأفعال ، والإعراض عن الخلق فى الإقبال والإدبار ، والرجوع إلى اللّه فى السراء والضراء ، والرضا عن اللّه فى القليل والكثير. ه.
ثم نهى عن التعرض لأصنامهم ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : آية 108]
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108)
يقول الحق جل جلاله : وَلا تَسُبُّوا أصنامهم الَّذِينَ يدعونها آلهة ، ويخضعون لها مِنْ دُونِ اللَّهِ أي : ولا تذكروا آلهتهم بسوء ، فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً أي : ظلما وتجاوزا عن الحق إلى الباطل ، بِغَيْرِ عِلْمٍ أي : على جهالة بالله تعالى ، وبما يجب أن يذكر به من التعظيم ، روى أنه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يطعن فى آلهتهم ، فقالوا : لتنتهين عن آلهتنا أو لنهجون إلهك ، فنزلت. وقيل : كان المسلمون يسبون آلهتهم ، فنهوا لئلا يكون سبهم سببا لسب اللّه تعالى ، واستدل المالكية بهذا على سد الذرائع. قال البيضاوي : وفيه دليل على أن الطاعة إذا أدت لمعصية راجحة وجب تركها ، فإنّ ما يؤدى إلى الشر شر. ه. وقال ابن العربي : وقاية العرض بترك سنة واجب فى الدنيا. ه.
قال تعالى : كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ من الخير والشر ، نحملهم على ما سبق لهم توفيقا أو تخذيلا ، أو يكون مخصوصا بالشر ، أي : زيّنا لكل أمة من الكفرة عملهم السوء كسب اللّه تعالى وغيره من الكفر ، ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من الخير فيجازيهم عليه ، أو من الشر فيعاقبهم عليه.
الإشارة : العارف الكامل لا ينقص شيئا من مصنوعات اللّه ، ولا يصغر شيئا من مقدورات اللّه ، بل يتأدب مع كل شىء لرؤية صنعة اللّه فى كل شىء ، وكذلك المريد اللبيب ، يتأدب مع كل من ظهر بالخصوصية فى زمنه ، كان صادقا أو كاذبا لئلا يؤدى إلى تنقيص شيخه ، حين يذكر غيره بنقص أو غض. وفى الحديث : «لعن اللّه من يسبّ والديه ، فقالوا :
وكيف يسبّ والديه يا رسول اللّه؟ قال : يسبّ أبا الرجل فيسب الرجل أباه وأمه» «1» أو كما قال صلّى اللّه عليه وسلّم.
ثم ردّ عليهم فى اقتراح الآيات ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 109 الى 110]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
___________
(1) أخرجه البخاري فى (الأدب ، باب : لا يسب الرجل والديه) ومسلم فى (الإيمان ، باب : بيان الكبائر) عن عبد اللّه بن عمرو.
ولفظ البخاري : «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه ، قيل : يا رسول اللّه وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال : يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه».(2/157)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 158
قلت : (جهد) : مصدر لعامل محذوف ، أي : واجتهدوا جهد أيمانهم ، وهو حال ، أي : وأقسموا جاهدين أيمانهم ، ومن قرأ : (أنها) بالفتح ، فهو مفعول بيشعركم ، أي : وما يدريكم أن الآيات إذا جاءت لا يؤمنون ، وقيل : (لا) :
مزيدة ، أي : وما يدريكم أنهم لا يؤمنون إذا رأوها ، وقيل : أن ، هنا ، بمعنى لعل. ومن قرأ بالكسر فهو استئناف ، وتم الكلام فى قوله : (و ما يشعركم) أي : وما يشعركم ما يكون منهم ، فعلى القراءة بالكسر ، يوقف على : (ما يشعركم) ، وأما على القراءة بالفتح ، فإن كانت أنّ - مصدرية لم يوقف عليه لأنه عامل فيها ، وإن كانت بمعنى : لعل ، فأجاز بعض الناس الوقف ، ومنعه بعضهم.
يقول الحق جل جلاله : وَأَقْسَمُوا أي : المشركون ، بِاللَّهِ واجتهدوا فى أيمانهم ، لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ ظاهرة يشاهدونها ، لَيُؤْمِنُنَّ بِها وبمن جاء بها ، قُلْ لهم : إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وفى قدرته وإرادته ، يظهرها حيث شاء ، وليس فى قدرتى منها شىء ، وَما يُشْعِرُكُمْ أي : وما يدريكم أيها المؤمنون ، أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ بها ، لما سبق لهم من الشقاء ، وقد كان المؤمنون يتمنّون إنزالها طمعا فى إيمانهم ، وفيه تنبيه على أنه تعالى إنما لم ينزلها لعلمه بأنها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ بها. وقيل : الخطاب للمشركين ، ويتأتى هذا على كسر «إن» ، أو على قراءة ابن عامر وحمزة : لا تؤمنون بتاء الخطاب ، وقرىء : وما يشعرهم بالغيبة ، فيكون إنكارا لهم على حلفهم.
ثم ذكر سبب عدم إيمانهم فقال : وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ عند نزول الآية ، أي : نصرف قلوبهم ونحولها عن الحق ، فلا يفقهون بها ، ونقلب أبصارهم عن النظر والتفكر ، فلا يبصرون بها الحق ، فيصرفون عن الإيمان بما أنزل إليك كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أي : بما أنزل من الآيات ، أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ أي :
فى كفرهم وجحدهم يَعْمَهُونَ أي : يتحيرون ، فلا نهديهم هداية المؤمنين.
الإشارة : سألنى بعض العوام ، فقال لى : ليس لكم ولا لأصحابكم كرامات تظهر فيمن آذاكم ، فقد كان أصحاب سيدى فلان وفلان يظهرون الكرامات ، وينفذون فى من آذاهم؟! فقلت له : نحن على قدم نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم ، أرسله اللّه رحمة للعالمين ، فقد أوذى وضرب ، فلما خيّره ملك الجبال فى أن يطبق عليهم الأخشبين - أي الجبلين - قال : «لا ، لعل اللّه تعالى يخرج منهم من يعبد اللّه» ، وقال حين أكثروا إيذاءه : «اللهمّ اغفر لقومى فإنّهم لا يعلمون» ، فالأولياء المحققون : رحمة للعباد ، يتحملون أذاهم ، ويتوجهون لمن آذاهم فى الدعاء له بالهداية والتوفيق ، فهم قوم لا يشقى جليسهم ، جالسهم بالإنكار أو بالإقرار ، وقد ظهرت الكرامات على بعض الأولياء ولم ينقطع عنهم الإنكار ، فإنّ الإيمان أو التصديق بالنبي أو الولي إنما هو محض هداية من الكبير العلى ، كما بيّن ذلك بقوله :
[سورة الأنعام (6) : آية 111]
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)(2/158)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 159
قلت : (قبلا) : بكسر القاف معاينة ، وبضمتين : جمع [قبيل ] «1» ، أي : ضمناء ، وهو حال.
يقول الحق جل جلاله ، فى الرد على المشركين ، حين أقسموا : لئن رأوا آية ليؤمنن بها ، فقال تعالى :
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ تشهد لك بالنبوة كما اقترحوا ، وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى كما طلبوا بقولهم : فَأْتُوا بِآبائِنا «2» ، وقالوا : إنّ قصيّا كان شيخ صدق ، فابعثه لنا يكلمنا ويشهد لك بما تدعى.
وَلو حَشَرْنا عَلَيْهِمْ أي : جمعنا عليهم ، كُلَّ شَيْءٍ من الحيوانات والجمادات ، معاينة ، أو ضمناء ، تشهد لك بالرسالة والنبوة ، ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بك فى حال من الأحوال ، إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إيمانهم فيمن لم يسبق له الشقاء ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ أنهم لو أوتوا بكل آية لم يؤمنوا ، فكيف يقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يعلمون؟! ، فالجهل بهذا المعنى حاصل لأكثرهم ، ومطلق الجهل حاصل لجميعهم ، أو : ولكن أكثر المسلمين يجهلون أنهم لا يؤمنون ، فيتمنون نزول الآية طمعا فى إيمانهم. قاله البيضاوي.
الإشارة : فى الآية تسكين لقلوب الأولياء الداعين إلى اللّه ، حين يرون الخلق قد حادوا عن باب اللّه ، وتعلقت هممهم بالدنيا الدنية ، وتشتتت قلوبهم ، وضاعت عليهم أعمارهم ، فيتأسفون عليها ، فإذا تفكروا فى هذه الآية وأمثالها سكنوا وردوا أمر عباد اللّه إلى مشيئته وإرادته ، فلو شاء اللّه لهدى الناس جميعا ، ولا يزالون مختلفين :
(ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء اللّه). وبالله التوفيق.
ومما تعلقت به المشيئة ، وجرت به الحكمة ، أنه لا بد أن يبقى للنبى من يحرّكه إلى ربه ، كما أبان ذلك بقوله :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 112 الى 113]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
قلت : (شياطين) : بدل من (عدو) إذ هو بمعنى الجمع ، أو مفعول أول لجعلنا ، و(عدوا) : مفعول ثان ، والضمير فى (فعلوه) : للوحى ، أو للعداوة ، و(غرورا) : مفعول له ، أو مصدر فى موضع الحال (لتصغى) : عطف على غرورا ، أو متعلق بمحذوف ، أي : فعلنا ذلك لتصغى ... إلخ.
يقول الحق جل جلاله ، فى تسلية نبيه - عليه الصلاة والسلام - : وكما جعلنا لك أعداء من الكفار ، جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا من شياطين الْإِنْسِ وَالْجِنِّ أي : من مردة الفريقين ، وشياطين الإنس أقبح لأنه يأتى فى
___________
(1) فى الأصول : قبل.
(2) كما جاء فى الآية 36 من سورة الدخان(2/159)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 160
صورة ناصح ، لا يدفع بتعوذ ولا غيره. يُوحِي أي : يوسوس ، بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ ، فيوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس ، ثم يوسوس شياطين الإنس إلى من يريد الحق اختباره وابتلاءه ، يلقى إليه ذلك الشيطان زُخْرُفَ الْقَوْلِ أي : أباطيله ، أي : قولا مزخرفا مزوّقا غُرُوراً أي : لأجل الغرور ، فإن أراد اللّه خذلان ذلك العبد غره ذلك الشيطان بزخرف ذلك القول فيتبعه ، وإن أراد توفيقه وزيادته أيده وعصمه ، وكل شىء بقدره وقضائه ، وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ هدايتهم ما فعلوا ذلك الوحى ، أو ما ذكر من المعاداة للأنبياء ، فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ على اللّه من الكفر وغيره ، فلا تهتم بشأنهم.
وإنما فعلنا ذلك الإيحاء لِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فيغتروا به ، وَلِيَرْضَوْهُ لأنفسهم ، وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ أي : وليكتسبوا من الإثم والكفر ما هم مكتسبون بسبب ذلك الوحى من الجن أو الإنس ، وفى الآية دليل لأهل السنة فى أن اللّه خالق الكفر والإيمان ، والطاعة والمعصية ، فالمعصية خلقها وقدرها ، ولم يرضها ، لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ «1».
الإشارة : كما جعل اللّه لكل نبى عدوّا من شياطين الإنس والجن جعل للأولياء كذلك تحويشا لهم إليه ، وتطهيرا لهم من البقايا ليصلحوا لحضرته ، قال فى الحكم : «إنما أجرى الأذى عليهم كى لا تكون ساكنا إليهم ، أراد أن يزعجك عن كل شىء حتى لا يشغلك عنه شى ء». وقال فى لطائف المدن : اعلم أن أولياء اللّه حكمهم فى بدايتهم أن يسلط الخلق عليهم ليطهروا من البقايا ، وتكمل فيهم المزايا ، كى لا يساكنوا هذا الخلق باعتماد ، أو يميلوا إليهم باستناد ، ومن آذاك فقد أعتقك من رق إحسانه ، ومن أحسن إليك فقد استرقك بوجود امتنانه ، ولذلك قال صلّى اللّه عليه وسلّم :
«من أسدى إليكم نعما فكافئوه ، فإن لم تقدروا فادعوا له». كل ذلك ليتخلص القلب من رق إحسان الخلق ، ويتعلق بالملك الحق. ه.
وقال الشيخ أبو الحسن رضى اللّه عنه : آذاني إنسان فضقت به ذرعا ، فرأيت يقال لى : من علامة الصديقية كثرة أعدائها ثم لا يبالى بهم. وقال بعضهم : الصيحة من العدو ، سوط من اللّه يزجر بها القلوب إذا ساكنت غيره ، وإلا رقد القلب فى ظل العز والجاه ، وهو حجاب عن اللّه تعالى عظيم. ه.
وقال شيخ شيوخنا سيدى على الجمل رضى اللّه عنه : (عداوة العدو حقا : اشتغالك بمحبة الحبيب حقّا ، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو نال مراده منك ، وفاتتك محبة الحبيب). وقال بعض أشياخ الشعراني فى بعض وصاياه له : لا تشتغل قط بمن يؤذيك ، واشتغل بالله يرده عنك فإنه هو الذي حركه عليك ليختبر دعواك فى الصدق ، وقد غلط فى هذا الأمر خلق كثير ، فاشتغلوا بأذى من آذاهم ، فدام الأذى مع الإثم ، ولو أنهم رجعوا إلى اللّه لردهم عنهم وكفاهم أمرهم. ه.
___________
(1) الآية 23 من سورة الأنبياء.(2/160)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 161
وهذا كله إنما يكون فى البدايات ، كما قال الشاذلى رضى اللّه عنه : (اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا) .. فإذا تمت أنوارهم وتطهرت من البقايا أسرارهم ، حكّمهم فى العباد ، وأذلهم لهم ، فيكون العبد المجتبى سيفا من سيوف اللّه ، ينتصر اللّه به لنفسه كما نبه على ذلك فى لطائف المنن. وذلك من أسرار عدم مشروعية الجهاد من أول الإسلام تشريعا لما ذكرنا ، وتحذيرا من الانتصار للنفس ، وعدم تمحض النصرة للحق. وعند الرسوخ فى اليقين ، والأمن من مزاحمة الصدق غيره ، وقع الإذن فى الجهاد ، هذا بالنسبة إلى الصحابة الكرام ، وأما النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فكامل من أول نشأته ، وإنما ذلك تشريع لغيره ، وترفيع لرتبته. واللّه تعالى أعلم.
ولما طلبوا من يحكم بينهم وبينه صلّى اللّه عليه وسلّم ، أنزل اللّه :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 114 الى 115]
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
قلت : (غير) : مفعول ، و(حكما) : حال ، وهو أبلغ من حاكم ، ولذلك لا يوصف به غير العادل ، و(صدقا وعدلا) : تمييز ، أو حال ، أو مفعول له.
يقول الحق جل جلاله : قل يا محمد : أَفَغَيْرَ اللَّهِ أطلب حَكَماً يحكم بينى وبينكم ، ويفصل المحق منّا من المبطل ، وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ أي : القرآن المعجز ، مُفَصَّلًا مبينا ، قد بيّن فيه الحق من الباطل ، بحيث انتفى به الالتباس ، فهو الحاكم بينى وبينكم ، فلا أطلب حاكما غيره ، وفيه تنبيه على أن القرآن بإعجازه مغن عن سائر الآيات. وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ كأحبار اليهود ، يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لتصديقه ما عندهم ، وموافقته له فى كثير من الأخبار ، فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فى أنهم يعلمون ذلك ، أو فى أنه منزل من ربك ، والمراد غيره - عليه الصلاة والسلام - ممن يطرقه ارتياب ، والمعنى : أن الأدلة تعاضدت على صحته ، فلا ينبغى لأحد أن يمترى فيه.
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ آيات القرآن ، بلغت الغاية فى التمام والكمال ، صِدْقاً وَعَدْلًا أي : من جهة الصدق والعدل ، صدقا فى الأخبار والمواعيد ، وعدلا فى الأقضية والأحكام ، فلا أصدق منها فيما أخبرت ، ولا أعدل منها فيما حكمت ، لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ أي : لا أحد يقدر أن يبدل منها شيئا بما هو أصدق وأعدل ، ولا أن يحرف شيئا منها ، كما فعل بالتوراة ، فهو ضمان من الحق لحفظ القرآن ، كما قال : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «1»
___________
(1) الآية 9 من سورة الحجر.(2/161)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 162
أو : لا نبى ولا كتاب بعدها ينسخها ويبدل أحكامها ، وَهُوَ السَّمِيعُ لكل ما يقال ، الْعَلِيمُ بكل ما يضمر ، فمن ألحد أو بدل فالله عليم به.
الإشارة : من قواعد أهل التصوف : الرجوع إلى اللّه فى كل شىء ، والاعتماد عليه فى كل نازل ، والتحاكم إلى اللّه فى كل أمر ، إن توقفوا فى حكم رجعوا إلى كتاب اللّه ، فإن لم يجدوه نصا ، رجعوا إلى سنة رسول اللّه ، فإن لم يجدوه ، استفتوا قلوبهم ، وفى الحديث عنه : «استفت قلبك وإن أفتاك المفتون وأفتوك». وفى بعض الآثار قالوا :
يا رسول اللّه أرأيت إن اختلفنا بعدك ، ولم نجد نصّا فى كتاب اللّه ولا فى سنة رسول اللّه؟ قال : «ردوه إلى صلحائكم ، واجعلوه شورى بينهم ولا تتعدّوا رأيهم». أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
ثم نهى عن الركون إلى الجهال ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 116 الى 117]
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
قلت : (من يضل) : موصولة ، أو موصوفة فى محل نصب بفعل دل عليه «أعلم» ، أي : يعلم من يضل ، فإن أفعل التفضيل لا ينصب المفعول به إجماعا. أو مبتدأ ، والخبر : «يضل» على أن (من) استفهامية ، والجملة : معلق عنها الفعل المقدر ، كقوله تعالى : لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى «1».
يقول الحق جل جلاله لرسوله - عليه الصلاة والسلام - ولمن كان على قدمه : وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ من الكفار أو الجهال أو من اتبع هواه يُضِلُّوكَ عَنْ طريق اللَّهِ ، الموصلة إلى معرفته ، وحلول رضوانه ، فإن الضال لا يأمر إلا بما هو فيه ، مقالا أو حالا. والمراد بهم : من لا يقين عندهم ، بل إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ، وهو ما استحسنته عقولهم ، إما تقليدا ، كظنهم أن آباءهم كانوا على الحق ، أو ما ابتدعوه برأيهم الفاسد من العقائد الزائفة والآراء الفاسدة ، وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أي : يكذبون على اللّه فيما ينسبون إليه كاتخاذ الولد ، وجعل عبادة الأوثان وصلة إلى اللّه ، وتحليل الميتة وتحريم البحائر ، أو يقدّرون فى عقولهم أنهم على شىء ، وكل ذلك عن تخمين وظن لا يقين فيه ، ثم قال لنبيه : إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي : هو عالم بالفريقين ، لا يخفى عليه أهل الحق من أهل الباطل.
الإشارة : مخالطة العموم والركون إليهم والمعاملة معهم سموم قاتلة ، قال بعض الصوفية : قلت لبعض الأبدال :
كيف الطريق إلى التحقيق والوصول إلى الحق؟ قال : لا تنظر إلى الخلق ، فإن النظر إليهم ظلمة ، قلت : لا بد لى ،
___________
(1) من الآية 12 من سورة الكهف. [.....](2/162)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 163
قال : لا تسمع كلامهم فإن كلامهم قسوة ، قلت : لا بد لى ، قال : فلا تعاملهم ، فإنّ معاملتهم خسران وحسرة ووحشة ، قلت : أنا بين أظهرهم ، لا بد لى من معاملتهم ، قال : لا تسكن إليهم فإن السكون إليهم هلكة ، قلت : هذا لعله يكون ، قال : يا هذا ، تنظر إلى اللاعبين ، وتسمع إلى كلام الجاهلين ، وتعامل البطّالين ، وتسكن إلى الهلكى ، وتريد أن تجد حلاوة المعاملة فى قلبك مع اللّه عز وجل!! هيهات ، هذا لا يكون أبدا. ه.
وفى الخبر المروي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «أخوف ما أخاف على أمتى ضعف اليقين» «1». وإنما يكون برؤية أهل الغفلة ومخالطة أرباب البطالة والقسوة ، وتربية اليقين وصحته إنما تكتسب بصحبة أهل اليقين واستماع كلامهم ، والتودد إليهم وخدمتهم. وفى بعض الأخبار : (تعلموا اليقين بمجالسة أهل اليقين) ، وفى رواية : «فإنّى أتعلّمه» ، والحاصل : أن الخير كله فى صحبة العارفين الراسخين فى عين اليقين. أو حق اليقين ، وما عداهم يجب اعتزالهم ، كيفما كانوا ، إلا بقصد الوعظ والتذكير ، ثم يغيب عنهم ، وإلى هذا أشار ابن الفارض رضى اللّه عنه بقوله :
تمسّك بأذيال الهوى واخلع الحيا وخلّ سبيل النّاسكين وإن جلّوا
وبالله التوفيق.
وأصل تنوير القلب باليقين والمعرفة : هو أكل الحلال وتجنب الحرام ، كما بيّنة الحق تعالى بقوله :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 118 الى 121]
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
يقول الحق جل جلاله : فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ عند ذبحه ، ولا تتورعوا منه ، إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ ، فإن الإيمان يقتضى استباحة ما أحل اللّه تعالى ، واجتناب ما حرمه ، وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أي : ما يمنعكم منه ، وأىّ غرض لكم فى التحرّج عن أكله؟. وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ فى الكتاب ،
___________
(1) ذكره بنحوه السيوطي فى الجامع الصغير ، وعزاه للطبرانى فى الصغير والبيهقي فى الشعب ، من حديث أبى هريرة ، وحسنّه.(2/163)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 164
أو فصّل الله لكم ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ مما لم يحرم بقوله : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ... الآية «1» إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ مما حرم عليكم فإنه حلال حال الضرورة.
وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بتحليل الحرام وتحريم الحلال بِأَهْوائِهِمْ أي : بمجرد أهوائهم بِغَيْرِ عِلْمٍ ولا دليل ، بل بتشهى أنفسهم ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ المجاوزين الحق إلى الباطل ، والحلال إلى الحرام ، وَذَرُوا أي : اتركوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ أي : سره وعلانيته ، أو ما يتعلق بالجوارح والقلب ، إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سرا أو علانية ، سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ يكتسبون.
ولما أمرهم بأكل الحلال نهاهم عن الحرام ، فقال : وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، بأن ترك التسمية عليه عمدا لا سهوا كما هو مذهب مالك وأبى حنيفة «2». وقال الشافعي : تؤكل مطلقا ، لقوله - عليه الصلاة والسلام - :
«ذبيحة المسلم حلال وإن لم يذكر اسم اللّه عليه» «3» ، وقال أحمد وداود : لا تؤكل إن تركت مطلقا ، عمدا أو سهوا.
وقال ابن جزى : إنما جاء الكلام فى سياق تحريم الميتة وغيرها مما ذبح للنصب ، فإن حملناه على ذلك لم يكن فيه دليل على وجوب التسمية فى ذبائح المسلمين ، وإن حملناه على عمومه كان فيه دليل على ذلك. وقال عطاء : هذه الآية أمر بذكر اللّه على الذبح والأكل والشرب. ه.
وَإِنَّهُ أي : الأكل مما لم يذكر اسم اللّه عليه لَفِسْقٌ أو : وإنه - أي : عدم ذكر اسم اللّه على الذبيحة ، لفسق ومن تزيين الشياطين ، إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ ليوسوسون إِلى أَوْلِيائِهِمْ من الكفار لِيُجادِلُوكُمْ بقولهم : إنكم تأكلون ما قتلتم أنتم وجوارحكم وتدعون ما قتله اللّه. وهذا يؤيد أن المراد بما لم يذكر اسم اللّه عليه هو الميتة ، وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ فى استحلال ما حرمت عليكم ، إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ مثلهم ، لأن من أحل ما حرم اللّه فقد كفر ، والجواب عن شبهتهم : أن الذكاة تطهير لخبث الميتة ، مع ضرب من التعبد.
الإشارة : ليس المراد من التسمية على الطعام أو غيره مجرد اللفظ ، وإنما المراد حضور المسمى ، وهو شهود المنعم فى تلك النعمة لأن الوقت الذي يغلب فيه حظ النفس ، ينبغى للذاكر المتيقظ أن يغلب فيه جانب الحق ،
___________
(1) الآية 3 من سورة المائدة.
(2) فرّق أبو حنيفة بين العامد والناسي.
(3) أخرجه أبو داود فى مراسيله (باب فى الضحايا والذبائح) من حديث الصلت السدوسي. وهذا المرسل يعضده ما رواه الدارقطني فى السنن : (الصيد والذبائح) عن ابن عباس قال : (إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم اللّه فليأكل ، فإن المسلم فيه اسم من أسماء اللّه).
ويؤيد ما ذهب إليه أيضا ما أخرجه البخاري فى : (الصيد والذبائح ، باب ذبيحة الأعراب) عن عائشة : أن ناسا قالوا : يا رسول اللّه ، إن قوما يأتوننا باللحم لا ندرى أذكر اسم اللّه عليه أم لا؟ قال : وسموا أنتم وكلوا». قالت : وكانوا حديثى عهد بالكفر. راجع تفسير :
القرطبي وابن كثير ..(2/164)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 165
فيكون تناوله لتلك النعمة بالله من اللّه إلى اللّه ، وهذا هو المقصود من الأمر بذكر اسم اللّه ، لأن الاسم عين المسمى فى التحقيق ، فإن كان الأكل أو غيره مما شرعت التسمية فى أوله ، على هذا التيقظ ، فهو طائع لله وعابد له فى أكله وشربه ، وسائر أحواله ، وإن كان غافلا عن هذا ، فأكله فسق ، قال تعالى : وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ، سبب ذلك : غلبة الغفلة. والغفلة من وحي الشيطان ، وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ.
أو : ولا تنظروا إلى الأشياء بعين الفرق والغفلة ، بل اذكروا اسم اللّه عليها وكلوها بفكرتكم وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عليه من الأشياء فإنه غفلة وفسق فى الشهود ، وقوله تعالى : وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ هو ما ظهر على الجوارح من الذنوب ، وقوله : وَباطِنَهُ هو ما كمن فى السرائر من العيوب. واللّه تعالى أعلم.
ثم حذر من الشرك والكفر ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : آية 122]
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122)
قلت : (كمن) : موصولة ، و(مثله) : مبتدأ ، و(فى الظلمات) : خبره ، وقيل : مثل - هنا - زائدة ، أي : كمن هو فى الظلمات ، و(ليس بخارج) : حال من الضمير فى الخبر.
يقول الحق جل جلاله : أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً «1» بالكفر والجهل فَأَحْيَيْناهُ بالإيمان والعلم ، وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً فى قلبه أي : نور الإيمان والعلم ، يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ، فيذكرهم بالله ، ويدلهم على اللّه ، كَمَنْ مَثَلُهُ غريق فِي الظُّلُماتِ فى ظلمة الكفر والجهل والتقليد والذنوب ، لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها أي : لا يفارق ضلالته بحال. كَذلِكَ أي : كما زين الإيمان لهؤلاء زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
قال البيضاوي : مثل به من هداه اللّه تعالى وأنقذه من الضلال ، وجعل له نور الحجج والآيات يتأمل بها فى الأشياء ، فيميز بين الحق والباطل ، والمحق والمبطل ، ثم قال : والآية نزلت فى حمزة وأبى جهل ، وقيل : فى عمّار وعمر وأبى جهل. ه. ولفظها أعم ، وفى الآية من أنواع البيان : الطباق فى قوله : مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ.
الإشارة : الروح تكون أولا على الفطرة التي فطرها اللّه عليها ، من العلم والإقرار بالربوبية ، فإذا بلغت قد تطرأ عليها موتات ، ثم تحيا من كل واحدة على حسب المشيئة ، فقد تموت بالكفر ، ثم تحيا بالإيمان ، وقد تموت بالذنوب والجرائم ، ثم تحيا بالتوبة ، وقد تموت بالحظوظ والشهوات ، ثم تحيا بالزهد والورع والرياضة ، وقد تموت بالغفلة والبطالة ثم تحيا باليقظة والإنابة ، وقد تموت برؤية الحس وسجن الأكوان والهيكل ، ثم تحيا برؤية المعاني وخروج الفكرة إلى فضاء الشهود والعيان ، ثم لا موت بعد هذا إلى أبد الأبد. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) قرأ نافع : «ميتا» بالتشديد ، وقرأ الآخرون : «ميتا» بالتخفيف.(2/165)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 166
وسبب هذه الموتات : صحبة الغافلين الموتى ، وطاعتهم حتى يمكروا بصاحبهم ، كما قال تعالى :
[سورة الأنعام (6) : آية 123]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123)
قلت : (جعلنا) بمعنى صيّرنا ، يتعدى إلى مفعولين ، و(مجرميها) : مفعول أول ، مؤخر ، و(أكابر) : مفعول ثان ، وفيه ضعف من جهة الصناعة لأن أكابر جمع أكبر ، وهو من أفعل التفضيل ، فلا يستعمل إلا بالإضافة ، أو مقرونا بمن. قاله ابن جزى. قلت : ويجاب بأنه لم يقصد به المفاضلة ، وإنما المراد مطلق الوصف ، أي : جعلناهم كبراء ، فلا يلزم إفراده ولا اقترانه بمن. فتأمله.
يقول الحق جل جلاله : وَكَذلِكَ أي : كما جعلنا فى مكة أكابر مجرميها ، ليمكروا فيها بأهلها ، جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها أي : مجرميها أكابر ، لِيَمْكُرُوا فِيها بمن فيها ، فيمكروا بالناس فيتبعوهم على ذلك المكر ، لأنهم أكابر تصعب مخالفتهم ، فيحملونهم على الكفر والعصيان ، ويخذلونهم عن الإسلام والإيمان ، وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ لأن وبال مكرهم راجع إليهم ، وَما يَشْعُرُونَ بذلك.
الإشارة : إذا أراد اللّه بقوم خيرا جعل الخير فى أكابرهم ، فيجعل أمراءهم عدولا حلماء ، وعلماءهم زهّادا أعفّاء ، وأغنياءهم رحماء أسخياء ، وصلحاءهم قانعين أغنياء ، وإذا أراد بهم شرا جعل الشر فى كبرائهم ، فيجعل أمراءهم فجارا يحكمون بالهوى ، وعلماءهم حراصا جامعين للدنيا ، وأغنياءهم أشحاء قاسية قلوبهم ، وصلحاءهم طماعين فى الناس ، منتظرين لما فى أيديهم ، فبهؤلاء يصلح الدين إذا صلحوا ، ويفسد إذا فسدوا ، وفى ذلك يقول ابن المبارك رحمه اللّه :
وهل أفسد الدّين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها
وقد تقدم تمامه فى تفسير سورة البقرة «1». وبالله التوفيق.
ثم بيّن حال تلك الأكابر المجرمين ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : آية 124]
وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124)
قلت (حيث) : مفعول بفعل مقدر ، لا بأعلم لأن أفعل التفضيل لا ينصب المفعول به ، أي : يعلم حيث يجعل رسالته ، أي : يعلم المكان الذي يصلح للرسالة ، إلا إن أوّل أفعل بما لا تفضيل فيه ، فينتصب المفعول به ، ويحتمل أن
___________
(1) راجع إشارة الآية (159) وما بعدها من سورة البقرة.(2/166)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 167
يكون هذا منه ، قال أبو حيان : ويحتمل أن تكون حيث على بابها من الظرفية المجازية ، ويضمّن أعلم معنى يتعدى إلى الظرف ، والتقدير : اللّه أنفذ علما حيث يجعل رسالته. انظر المحشى.
يقول الحق جل جلاله : وَإِذا جاءَتْهُمْ أي : هؤلاء المجرمين الأكابر ، آيَةٌ نزلت على نبى ، قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ بها حَتَّى نُؤْتى من النبوة مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ، فنكون أنبياء مثلهم ، والقائل لهذه المقالة أبو جهل ، قال : تزاحمنا : بنو عبد مناف الشرف مع بنى هاشم ، حتى إذا صرنا كفرسى رهان ، قالوا : منا نبى يوحى إليه ، واللّه لا نرضى به إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه ، فنزلت الآية. وقيل : فى الوليد بن المغيرة ، قال : أنا أولى بالنبوة من محمد «1». فرد اللّه على من قال ذلك بقوله : اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ. فعلم أن محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم أهل للرسالة ، فخصه بها ، وعلم أنهم ليسوا بأهل لها ، فحرمهم إياها ، فإن النبوة ليست بمجرد النسب والمال ، وإنما هى بفضائل نفسانية يخصّ اللّه بها من يشاء من عباده ، بل بمحض الفضل والكرم ، فيجتبى لرسالته من علم أنه يصلح لها ، وهو أعلم بالمكان الذي فيه يضعها.
ثم ذكر وعيد المنكرين ، فقال : سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ أي : ذل وحقارة يوم القيامة ، بعد تكبرهم وارتفاعهم فى الدنيا. روى «أنهم يبعثون فى صورة الذّرّ ، يطؤهم الناس فى المحشر». وَيصيبهم عَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ أي : بسبب مكرهم ، أو جزاء مكرهم. كما تدين تدان.
الإشارة : ما حرم الناس من الخير إلا خصلتان : التكبر والحسد ، فمن طهر قلبه من الحسد ، وتواضع لكل أحد ، نال الرفعة والشرف عند اللّه فى الدنيا والآخرة ، ولا يضع اللّه سر الخصوصية إلا فى قلب طاهر متواضع ، يحط صاحبه رأسه لأقدام الرجال ، ويذل نفسه لأهل الصفاء والكمال ، وفى ذلك يقول الشاعر :
يا من يلوم خمرة المحبّة قولوا له عنّى هى حلال
ومن يرد يسقى منها غبّا خدّ يضع لأقدام الرجال
رأسى حططت بكلّ شيبه هم الموالي سقونى زلال
فكما أن الحق تعالى علم حيث يجعل رسالته ، علم حيث يجعل سر ولايته ، وهى النفوس المتواضعة المتطهرة من رذائل النفوس كالحسد والكبر وسائر الأوصاف المذمومة.
___________
(1) ذكره البغوي فى التفسير عن مقاتل.(2/167)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 168
ثم ذكر علامة الهداية والشقاء ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 125 الى 126]
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)
قلت : من قرأ حَرَجاً بالفتح ، فهو مصدر وصف به للمبالغة ، ومن قرأ بالكسر ، فوصف ، أي : شديد الضيق ، ومن قرأ يَصَّعَّدُ بالشد والقصر ، فأصله : يتصعد ، أدغم التاء فى الصاد ، ومن قرأ : يصاعد فأصله : يتصاعد ، فأدغم أيضا.
يقول الحق جل جلاله : فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ أي : يعرّفه طريق الحق ويوفقه للإيمان يَشْرَحْ صَدْرَهُ أي : يوسعه لِلْإِسْلامِ ، فيتسع له ، ويقبله ، ويغتبط به ، ويبتهج ، فرحا وسرورا. والشرح :
كناية عن جعل النفس قابلة للحق ، مهيأة لحلوله فيها ، مصفاة عما يمنعها منه ، وإليه أشار النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، حين سئل عنه ، فقال : «نور يقذفه اللّه فى قلب المؤمن ، فينشرح له وينفسح ، قالوا : هل لذلك أمارة يعرف بها؟ قال : نعم ، الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزول» «1».
ثم ذكر ضدّه ، فقال : وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً شديد الضيق ، بحيث ينبو عن قبول الحق ، فلا يدخله الإيمان ، ولا ينشرح صدره له ، بل يفر منه ، ويثقل عليه كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ أي :
يتكلف الصعود فيه. شبهه - على وجه المبالغة - بمن يحاول ما لا يقدر عليه ، فإن صعود السماء غاية فيما يبعد عن الاستطاعة ، تنبيها على أن الإيمان تمنّع عليه كما يمتنع عليه الصعود إلى السماء ، كَذلِكَ أي :
كما يضيق صدر الكافر ويبعد قلبه عن الحق ، يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ أي : العذاب والخذلان ، عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ، ووضع الظاهر موضع المضمر للتعليل.
وَهذا البيان الذي جاء به القرآن ، أو ما سبق من التوفيق والخذلان ، صِراطُ رَبِّكَ أي : الطريق الذي ارتضاه ، إن قلنا : الإشارة للبيان ، أو عادته وطريقه الذي اقتضته حكمته ، إن قلنا ما سبق من التوفيق والخذلان ، حال كونه مُسْتَقِيماً لا عوج فيه ، أو عادلا مطردا لا جور فيه ، قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ أي : بينّاها لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ فيعلمون أن الفاعل هو اللّه وحده ، وأن كل ما يحدث من خير وشر ، أو إيمان وكفر ، بقضائه وخلقه ، فإنه عالم بأفعال العباد ، حكيم عادل فيما يفعل بهم من تقريب أو إبعاد.
___________
(1) أخرجه البيهقي فى شعب الإيمان (2/ 3/ 377) وابن جرير فى تفسير الآية ، والحاكم فى المستدرك (4/ 11) ، وسكت عنه وتعقبه الذهبي. من حديث ابن مسعود موصولا. وأخرجه مرسلا من حديث أبى جعفر : ابن جرير فى التفسير ، وابن المبارك فى الزهد/ 106 والبيهقي فى الأسماء/ 156.(2/168)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 169
الإشارة : فمن يرد اللّه أن يهديه لسر الخصوصية ونور الولاية يشرح صدره للدخول فى طريقها ، ويوفقه لبذل نفسه وروحه فى تحصيلها ، ويصبّره على حمل لأوائها «1» ، وينهضه إلى السير فى ميدانها ، بعد أن يسقطه على شيخ كامل عارف بطريقها ، فيحققه بخصوصيته ، ويطلعه على سر ولايته ، حتى يلقى القياد إليه بكليته ، فلا يزال يسايره حتى يقوله له : ها أنت وربك. ومن يرد أن يضله عنها يجعل صدره ضيقا عن قبولها ، حرجا عن الدخول فيها ، حتى يثقل عليه حمل أعبائها ، أو ينكر وجود أهلها ، كذلك يجعل اللّه رجس حجابه على الذين لا يؤمنون بطريق الخصوص ، فإنه طريق مستقيم يوصل إلى حضرة النعيم فى الدنيا والآخرة. وبالله التوفيق.
ثم ذكر ما أعدّ لأهل التوفيق ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : آية 127]
لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127)
يقول الحق جل جلاله : لَهُمْ دارُ السَّلامِ التي هى الجنة. والسلام اسم الحق تعالى ، وأضافها إلى نفسه تعظيما لها ، أو دار السلامة من المكاره ، أو دار التحية تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ «2» ، عِنْدَ رَبِّهِمْ ذخيرة لهم عنده حين يقدمون عليه ، لا يعلم كنهها غيره ، أو فى ضمانه وكفالته ، وَهُوَ وَلِيُّهُمْ أي : مولاهم وناصرهم فى الدارين ، بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي : بسبب أعمالهم ، أي : تولاهم بسبب أعمالهم الصالحة ، فيحفظهم فى الدنيا ، هم وذريتهم ، ويحفظهم فى الآخرة كذلك.
الإشارة : من هداه اللّه لطريق الخصوصية ، واستعمله فى الوصول إليها ، ووصله إلى من يسيره إليها ، فقد دخل دار السلام قبل موته ، فلله جنتان جنة المعارف وجنة الزخارف ، [من دخل جنة المعارف لم يشتق إلى جنة الزخارف ] «3» ، لأن اللّه تولاه وأغناه عما سواه.
ثم ذكر ما أعد لأهل الخذلان ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 128 الى 129]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129)
___________
(1) أي : شدتها.
(2) من الآية 10 من سورة يونس.
(3) وددت لو أن الشيخ المفسر - رحمه اللّه - ترك هذه العبارة المشعرة بدونية ما أطلق عليه جنة الزخارف. وهى الدار التي سماها اللّه عز وجل «دار السلام» وفيها يتحقق للمؤمن رؤية النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وفوق هذا : رؤية اللّه تعالى. فكيف لا يشتاق المؤمن إلى هذه الجنة؟!.(2/169)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 170
قلت : (خالدين) : حال مقدّرة من الكاف ، والعامل فيه : مَثْواكُمْ ، إن جعل مصدرا ، أو معنى الإضافة ، إن جعل مكانا.
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ «1» أي : الثقلين ، جَمِيعاً ونقول : يا مَعْشَرَ الْجِنِّ أي : الشياطين قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أي : من إغوائهم وإضلالهم ، أو استكثرتم منهم بأن جعلتموهم فى أتباعكم ، فحشروا معكم ، وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ الذين أطاعوهم فى الكفر : رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ أي : انتفع الإنس بالجن ، بأن دلوهم على الشهوات وما يتوصل به إليها ، وانتفع الجن بالإنس بأن أطاعوهم وحصّلوا مرادهم ، وقيل : استمتاع الإنس بهم أنهم كانوا يعوذون بهم فى المفاوز وعند المخاوف ، كان الرجل إذا نزل واديا يقول : أعوذ بصاحب هذا الوادي ، يعنى كبير الجن ، واستمتاعهم بالإنس : اعترافهم بأنهم يقدرون على إجارتهم ، وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا وهو الموت أو البعث والحشر ، وهو اعتراف بما فعلوا من طاعة الشياطين واتباع الهوى ، وتكذيب البعث ، وتحسر على حالهم ، وإظهار للاستكانة والضعف. أقروا بذنبهم لعله ينفعهم.
قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ : منزلكم ، خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إلا أوقات ، ينتقلون فيها من النار إلى الزمهرير ، وقيل : ليس المراد بالاستثناء هنا الإخراج ، وإنما هو على وجه الأدب مع اللّه وإسناد الأمور إليه. وسيأتى فى الإشارة تكميله إن شاء اللّه ، إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ فى أفعاله ، عَلِيمٌ بأعمال الثقلين.
وَكَذلِكَ أي : كما ولينا الشياطين على الكفرة ، نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً أي : نكّل بعضهم إلى بعض ، أو نجعل بعضا يتولى بعض فيقويهم ، أو : أولياءهم وقرناءهم فى العذاب ، كما كانوا قرناء فى الدنيا ، وذلك التولي والتسليط بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من الكفر والمعاصي.
الإشارة : ليست الآية خاصة بالكفار ، بل كل من عوّق الناس عن طريق الخصوص ، واستكثر من العموم بأن أبقاهم فى حزبه ، يقال له : يا معشر أهل الرياسة قد استكثرتم من العموم ، فيقول أهل اليمين من العموم : ربنا استمتع بعضنا ببعض فتبعناهم فى الوقوف مع الحظوظ والعوائد ، وتمتعوا بتكثير سوادهم بنا وتنعيش رياستهم ، مع ما يلحقهم من الارتفاق من قبلنا ، فيقول الحق تعالى : نار القطيعة والحجاب مثواكم خالدين فيها ، إلا وقت الرؤية مع عوام الخلق ، وهذه عادته تعالى : يولى بعض الغافلين بعضا بسبب غفلتهم.
وفى قوله تعالى : إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ - إرشاد إلى استعمال الأدب ، ورد الأمور كلها إلى رب الأرباب ، وعدم التحكيم على غيب مشيئته وعلمه ، وقوفا مع ظاهر الوعد أو الوعيد ، فالأكابر لا يقفون مع وعد ولا وعيد ،
___________
(1) قرأ حفص (يحشرهم) بالياء ، وقرأ الباقون (نحشرهم) بالنون.(2/170)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 171
كقول عيسى عليه السّلام : وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «1» ، وكقول إبراهيم عليه السّلام : وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً
«2» الآية ، وكقوله : وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «3» ، وكقول شعيب عليه السّلام : وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا «4» وكاستغفار نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم للمنافقين قبل نزول النهى ، وبعد نزوله ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً ... «5» الآية. وكقوله ، يوم بدر : «إن تهلك هذه العصابة لن تعبد» ، مع تقدم الوعد بالنصر ، وكخوف موسى بعد قوله : لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما ... «6» الآية.
ومنه : خوف الأكابر بعد تأمينهم لأن ظاهر الوعد والوعيد لا يقضى على باطن المشيئة والعلم ، ومثله يجرى فى سورة هود فى قوله : إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ «7» ، وفى سورة يوسف : وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا «8» بالتخفيف ، وغير ذلك مما ورد فى الكتاب والسنة ، وانظر الورتجبي. فقد انفرد بمقالة ، بعد حكاية اتفاق مذاهب المسلمين جميعا على عدم غفران الشرك ، ولكن قول عيسى عليه السّلام : وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ ... الآية ، يشير إلى ما أشار إليه ابن عباس وابن مسعود فى قوله تعالى : خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ قال «9» :
تؤمر النار أن تأكلهم وتفنيهم ، ثم يجدد خلقهم ، ويرجى من كرم اللّه ولطفه إدخالهم بعد ذلك الجنة ، قال : وهذا مرجو ، ليس بمعتقد أهل السنة. ه.
قال فى الحاشية : وهو يرجع عند التحقيق إلى طرح الأسباب وعدم الوقوف معها ، نظرا إلى أن الحق تعالى لا يتقيد فى وعيد ولا وعد ، فمن غلبه النظر إليه ، سرى إليه الرجاء فى عين التخويف ، كما أنه يسرى الخوف فى عين الرجاء ، لكونه اقتطع من الوقوف مع خصوص وصف ، ولما كانت تلك الحالة هى عين الأدب اللائق بالعبودية مع اللّه تعالى أرشد تعالى إليها بقوله : إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ ، إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ، وهو حال أهل الحقيقة ، والوقوف مع خصوص الوعد أو الوعيد حال أهل الشريعة. انتهى ببعض اختصار. وقد رد الثعالبي هذه المقالة التي حكاها الورتجبي.
ثم وبخهم على عدم الإيمان بالرسل ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 130 الى 134]
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)
___________
(1) الآية 118 من سورة المائدة.
(2) الآية 80 من سورة الأنعام. [.....]
(3) الآية 36 من سورة ابراهيم.
(4) الآية 89 من سورة الأعراف.
(5) الآية 80 من سورة التوبة.
(6) الآية 46 من سورة طه.
(7) من الآية 107.
(8) من الآية 110
(9) أي : الورتجبي.(2/171)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 172
قلت : (ذلك أن لم يكن ربك) : خبر عن مضمر ، وأن على حذف لام العلة ، أي : الأمر ذلك لأجل أن لم يكن ربك متصفا بالظلم.
يقول الحق جل جلاله ، يوم القيامة فى توبيخ الكفار : ا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
أي : من مجموعكم ، أو رسل الجن : نذرهم الذين يبلغون لهم شريعة الإنس إذ ليس فى الجن رسل على المشهور.
وروى الطبري من طريق الضحاك بن مزاحم إثبات ذلك ، واحتج بأن اللّه تعالى أخبر أن من الجن والإنس رسلا أرسلوا إليهم ، يعنى ظاهر هذه الآية. وأجاب الجمهور بأن معنى الآية : أن رسل الإنس رسل من قبل اللّه إليهم ، ورسل الجن يبلغون كلام رسل الإنس إليهم ، ولهذا قال قائلهم : إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى الآية «1» ، فالرسالة إلى الجن خاصة بنبينا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، أي : مع الإنس.
حال كون الرسل الذين أتوكم قُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا
يعنى يوم القيامة ، قالوا فى الجواب : هِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
بالكفر والعصيان ، وهو اعتراف منهم بما فعلوا.
قال تعالى : غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
ألهتهم بزخرفها عن النظر والتفكر ، شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ
، وهذا ذم لهم على سوء نظرهم وخطأ رأيهم ، فإنهم اغتروا بالحياة الدنيوية واللذات الفانية ، وأعرضوا عن الآخرة بالكلية ، حتى كان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام للعذاب المخلد تحذيرا للسامعين وإرشادا لهم. قاله البيضاوي.
ثم ذكر حكمة إرسال الرسل فقال : ذلِكَ الإرسال حكمته ل أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ أي : إنما أرسل الرسل لئلا يكون ظالما لهم بإهلاكهم بسبب ظلم فعلوه ، وهم غافلون عن الإنذار ، بحيث لم ينذرهم أحد ، أو : لم يكن مهلك القرى ملتبسا بظلم حيث أهلكهم من غير إنذار ، ففاعل الظلم ، على الأول : القرى ، وعلى الثاني : اللّه تعالى ، على تقدير إهلاكهم من غير إنذار. والأول يتمشى على مذهب المعتزلة ، والثاني على مذهب أهل السنة. انظر ابن جزى.
___________
(1) الآية 30 من سورة الأحقاف.(2/172)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 173
وَلِكُلٍّ من الإنس والجن دَرَجاتٌ مراتب ، مِمَّا عَمِلُوا من أجل أعمالهم بالخير والشر ، فهم متفاوتون فى النعيم والعذاب ، وظاهر الآية : أن الجن يثابون ويعاقبون لأنهم مكلفون ، وهو المشهور ، واختلف : هل يدخلون الجنة أم لا؟ فروى الطبري وابن أبى حاتم عن أبى الدرداء موقوفا : أنهم يكونون ترابا كسائر الحيوانات ، وروى عن أبى حنيفة مثله ، وذهب الجمهور - وهو قول الأئمة الثلاثة والأوزاعى وأبى يوسف ، وغيرهم أنهم يثابون على الطاعة ويدخلون الجنة. ثم اختلفوا ، هل يدخلون مدخل الإنس ، وهو الأكثر ، أو يكونون فى ربض الجنة ، وهو عن مالك وطائفته ، أو أنهم أصحاب الأعراف ، أو التوقف عن الجواب؟ فى هذا أربعة أقوال ، والله تعالى أعلم بغيبه. وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ فيخفى عليه عمل أو قدر ما يستحق عليه من ثواب أو عقاب.
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ عن العباد وعبادتهم ، ذُو الرَّحْمَةِ يترحم عليهم بالتكليف ، تكميلا ، ويمهلهم على المعاصي حلما ، وليس له حاجة فى طاعة ولا معصية ، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أيها العصاة ، وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ من الخلق ، كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ فأنشأكم قرنا بعد قرن ، لكنه أبقاكم رحمة بكم ، إِنَّ ما تُوعَدُونَ من البعث وما بعده ، لَآتٍ لا محالة ، وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ تعجزون قدرة الله الطالب لكم بالبعث والحساب.
الإشارة : كما أن الحق تعالى لم يعذب الكفار إلا بعد إرسال الرسل ، كذلك لا يعاقب أهل الإصرار إلا بعد بعث الأطباء وهم أهل التربية النبوية ، فكل من لم يصحبهم وينقد إليهم مات مصرا على الكبائر - أي : كبائر القلوب - وهو لا يشعر ، فيلقى الله بقلب سقيم ، فيعاقبه الحق تعالى على عدم صحبتهم ، ومعاتبته له : بعده عن مشاهدته وعن مقام المقربين ، فإذا رأى مقام المقربين وقربهم من الحضرة ، قال : غرتنا الحياة الدنيا وزخارفها ، وجاهها ورياستها ، وشهد على نفسه أنه كان غافلا.
فحكمة وجود الأولياء فى كل قرن لتقوم الحجة على أهل الغفلة ، فإذا وقع البعد لقوم لم يكن الحقّ ظالما لهم ، فالدرجات على حسب المقامات ، والمقامات على حسب الأعمال ، وأعمال القلوب هى التي تقرب إلى حضرة علام الغيوب ، بها يقع القرب ، وبالخلو عنها يقع البعد. وعليها دلت الأولياء بعد الأنبياء ، لأن الأنبياء جاءوا بالشريعة الظاهرة والحقيقة الباطنة ، فمن رأوه أهلا لسر الحقيقة دلّوه عليها ، فكان من المقربين ، ومن رأوه ضعيفا عنها دلوه على الشريعة ، فكان من أصحاب اليمين. وبالله التوفيق.
ثم أمره بتهديد قريش وتخويفهم ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : آية 135]
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)(2/173)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 174
قلت : مَنْ تَكُونُ : إما مفعول (تعلمون) ، أو مبتدأ ، وهى إما موصولة أو استفهامية ، والمكانة : التمكن أو الجهة ، يقال : مكان ومكانة كمقام ومقامة.
يقول الحق جل جلاله : قُلْ يا محمد : يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي : تمكنكم من هواكم وشهواتكم التي أنتم عليها ، أو على ناحيتكم وجهتكم التي أنتم عليها من الكفر والهوى ، والمعنى : اثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر والعداوة ، إِنِّي عامِلٌ على ما أنا عليه من المصابرة والثبات على الدين الحق. والتهديد بصيغة الأمر مبالغة فى الوعيد ، كأن الذي يهدده يريد تعذيبه لا محالة ، فيحمله بالأمر على ما يفضى به إليه ، وتسجيل بأن المهدد لا يأتى منه إلا الشر ، كالمأمور به الذي لا يقدر أن ينقضى عنه. قاله البيضاوي.
ثم صرح بالتهديد فقال : فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ أي : أيّنا تكون له العاقبة الحسنى التي خلق اللّه لها هذه الدار ، أي : وهى الدار الآخرة ، أو : فسوف تعرفون الذي تكون له عاقبة سكنى الدار الآخرة والنعيم المقيم ، أو : من تكون له عاقبة هذه الدار بالنصر والظهور على الأديان - أنا أو أنتم ، وفيه إنصاف فى المقال حال الإنذار ، وحسن الأدب ، وتنبيه على وثوق المنذر لأنه محق. قال تعالى إِنَّهُ ، أي : الأمر والشأن ، لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ، والظلم أعم من الكفر ، ولذلك وضع موضعه لعمومه.
الإشارة : إذا انكب الناس على الدنيا ، وأخذتهم الغفلة ، وغلب عليهم الهوى ، ثم وقع الوعظ والتذكير من أهل الإنذار ، فقابلوهم بالإبعاد والإنكار ، يقول لهم المذكر والواعظ : يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ ... الآية.
ثم ذكر جهالة الجاهلية وحمقهم ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : آية 136]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136)
يقول الحق جل جلاله : وَجَعَلُوا أي : مشركو العرب ، لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ أي : خلق ، مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً ، وهم حى من خولان ، يقال لهم : الأديم ، كانوا يجعلون من زروعهم وثمارهم وأنعامهم نصيبا ، فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ أي : بدعواهم من غير دليل ، وأكثر ما يستعمل الزعم فى الكذب ، وَهذا لِشُرَكائِنا ، فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ.(2/174)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 175
روى أنهم كانوا يعينون شيئا من حرث أو نتاج إلى اللّه ، فيصرفونه إلى الضيفان والمساكين ، وشيئا منها إلى آلهتهم ، فينفقونه على سدنتهم - أي : خدّامهم ، والقيام بأصنامهم ، ويذبحون عندها ، ثم إذا رأوا ما عينوا لله أزكى وأكثر ، بدلوه لآلهتهم وقالوا : اللّه غنى عنه ، وإذا رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه لها حبا لآلهتهم ، وإذا هبت ريح فحملت شيئا من الذي لله إلى الذي للأصنام أقروه ، وإن حملت شيئا من الذي للأصنام إلى الذي لله ردوه ، وإذا أصابتهم سنة ، أكلوا نصيب اللّه وتحاموا نصيب شركائهم ، تعظيما لها.
وفى قوله : مِمَّا ذَرَأَ : تنبيه على فرط جهالتهم ، فإنهم أشركوا الخالق فى خلقه ، جمادا لا يقدر على شىء ، ثم رجحوه عليه بأن جعلوا الزاكي له ، وفى قوله : بِزَعْمِهِمْ : تنبيه على أن ذلك مما اخترعوه ، ولم يأمرهم اللّه تعالى به. ساءَ أي : قبح ، ما يَحْكُمُونَ حكمهم هذا الذي اخترعوه من عند أنفسهم.
الإشارة : مما ينخرط فى سلك الآية ، وتجر ذيلها عليه ، ما يفعله بعض الناس من التساهل فى حقوق اللّه الواجبة ، والمسارعة إلى حقوق الناس التي ليست بواجبة عليه ، فترى بعض العوام يقدمون مد أبى العباس السبتي ، ويتساهل فى الزكاة ، وترى بعض الناس يسارع إلى إطعام الطعام وقرى الأضياف ، وهو لا يفى زكاته. وبعضهم يجعلون للصالحين شيئا من أموالهم لتصلح وتنمو ويعتنى بشأنها ، وقد لا يعتنى بزكاته ولا يخرجها ، وهذا كله شعبة من فعل أهل الشرك ، وعلامة اتباع الهوى. وبالله التوفيق.
ثم ذكر نوعا آخر من كفرهم ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : آية 137]
وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137)
قلت : قرأ الجمهور : زَيَّنَ بالبناء للفاعل ونصب قتل ، على أنه مفعول به ، وخفض (أولادهم) بالإضافة ، ورفع (شركاؤهم) فاعل (زين) ، فالشركاء على هذه القراءة هم الذين زينوا القتل ، وقرأ ابن عامر : بضم الزاى على البناء للمفعول ، ورفع «قتل» على النيابة عن الفاعل ، ونصب «أولادهم» على أنه مفعول بقتل ، وخفض «شركائهم» بالإضافة إلى قتل ، إضافة المصدر إلى فاعله ، أي : زين لهم أن يقتل شركاؤهم أولادهم ، ففصل بين المضاف والمضاف إليه بأولادهم ، وهو معمول للمصدر ، وهو جائز فى العربية ، قال ابن مالك فى الألفية :
فصل مضاف شبه فعل ما نصب مفعولا أو ظرفا أجز ، ولم يعب
وهذا من فصل المفعول ، فهو جائز فى السعة خلافا للزمخشرى ومن تبعه ، وقد شنّع عليه الشاطبي فى حرز الأمانى.(2/175)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 176
يقول الحق جل جلاله : ومثل ذلك التزيين الذي وقع لهم فى الحرث والأنعام ، زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ زين لهم ذلك شركاؤهم من الجن ، أو من السدنة ، وحملوهم عليه ، خوفا من الجوع أو من العار ، وكانوا يقتلون البنات دون البنين ، زينوا لهم ذلك لِيُرْدُوهُمْ أي : ليهلكوهم بالإغواء ، وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ أي : ليخلطوا عليهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل ، أو ما وجب عليهم أن يتدينوا ب ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ أي : ما فعل المشركون ما زين لهم ، أو ما فعل الشركاء التزيين ، أو الفريقان جميع ذلك ، فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ أي : اتركهم مع افترائهم ، أو : والذي يفترونه من الإفك ، وهذا قبل الأمر بالسيف ، ثم نسخ به.
الإشارة : مما ينخرط فى سلك الآية : إهانة البنات وتعظيم البنين ، وقد نهى الشارع - عليه الصلاة السلام - عن تخصيص الذكور بالوصية ، وقال للذى أراد أن يفعله : «لا تشهدنى على جور» ، وهنا إشارة أرق من هذا ، وهو أن يراد بالأولاد ما تنتجه الفكرة الصافية من العلوم والمواهب ، وقتلها : إهمال الفكرة عن استخراجها حتى ضاعت عليه ، والذي زين له ذلك هو شرك القلب ، واشتغاله برسوم الفرق ، حتى تعطلت الفكرة ، وماتت تلك العلوم من قلبه ، وقع ذلك التزيين بأهل الفرق ليسقطوهم عن درجة المقربين أهل العلوم اللدنية والأسرار الربانية ، وليلبسوا عليهم دينهم بالخواطر والشكوك ، والأوهام ، ولو شاء اللّه لهدى الناس جميعا.
ثم ذكر أيضا نوعا آخر من جهالتهم ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : آية 138]
وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138)
قلت : (حجر) : فعل ، بمعنى مفعول ، يستوى فيه الواحد والكثير ، والمذكر والمؤنث ، ومعناه : حرام ، و(افتراء) :
حال ، أو مفعول من أجله ، أو مصدر.
يقول الحق جل جلاله : وَقالُوا أيضا : هذِهِ الأشياء التي جعلوها لأصنامهم ، وهى أَنْعامٌ وَحَرْثٌ ، هى حِجْرٌ أي : حرام محجر ، لا يَطْعَمُها لا يأكلها إِلَّا مَنْ نَشاءُ ، وهم خدام الأوثان وسدنتها ، والرجال دون النساء. قالوا ذلك بِزَعْمِهِمْ وافترائهم من غير حجة ، وَأَنْعامٌ
أخرى حُرِّمَتْ ظُهُورُها وهى البحائر والسوائب والحوامي ، وَأَنْعامٌ أخرى لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا فى الذبح ، وإنما يذكرون عليها اسم آلهتهم افْتِراءً على اللّه ، لأنهم قسموا أموالهم على هذه القسمة ، ونسبوا ذلك إلى اللّه افتراء وكذبا ، سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ أي : بسببه فيعذبهم عليه.(2/176)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 177
الإشارة : ما عاب اللّه على المشركين إلا الشرك والتحكم على اللّه ، فالواجب على من أراد السلامة أن يوحد ربه ، وينفرد بكلّيته إليه ، ويخلص أعماله لله ، ويصرف أمواله فى مرضاة اللّه ، ويقف فى أموره كلها عند ما حدد له اللّه ، وبيّنه رسول اللّه يكون من أولياء اللّه. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر جهالة أخرى لهم ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : آية 139]
وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
قلت : خالِصَةٌ : خبر ل (ما) ، وأنثه حملا على المعنى ، لأن (ما) واقعة على الأجنة ، وذكّر (محرم) حملا على لفظ «ما» ، ويحتمل أن تكون التاء للمبالغة ، ومن قرأ : (تكن) بالتأنيث ، فالمراد : الأجنة ، ومن قرأ بالتذكير فراعى لفظ «ما».
يقول الحق جل جلاله : وَقالُوا ما استقر فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ ، يعنى : البحائر والسوائب ، من الأجنة ، خالِصَةٌ لِذُكُورِنا لا يشاركون فيه ، وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا أي : نسائنا ، يعنى : أن ما يولد للبحائر والسوائب ، قالوا هو حلال لذكورهم دون نسائهم ، هذا إن ولد حيا ، وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً بأن ولد ميتا فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ فالذكور والإناث سواء ، سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ أي : سيجزيهم على ما وصفوا وافتروا على اللّه من الكذب فى التحليل والتحريم ، فهو كقوله : وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ «1» ، إِنَّهُ حَكِيمٌ فى صنعه ، عَلِيمٌ بخلقه فيجزى كلا على قدر جرمه.
الإشارة : اعلم أن جيفة الدنيا اشترك النساء مع الرجال فيها ، لقوله تعالى : وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ ، والزهد فى النساء قليل بالنسبة إلى الرجال ، واعلم أيضا أن الحق تعالى يجازى عبده جزاء موافقا لوصفه ، فإن كان وصفه التعظيم لكل شىء عظمه اللّه ، ومن كان وصفه التصغير صغره اللّه ، ومن كان وصفه الإحسان أحسن اللّه إليه ، ومن كان وصفه الإساءة أساء اللّه إليه ، ومن كان وصفه الفرق فرقه اللّه ، ومن كان وصفه الجمع جمعه اللّه ، وهكذا : كما تدين تدان ، كما تقابل الأشياء تقابلك ، قال تعالى : سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ.
ثم شنّع عليهم قتل الأولاد ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : آية 140]
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140)
قلت : (سفها) : حال أو مصدر ، وكذلك : (افتراء).
___________
(1) من الآية 62 من سورة النحل.(2/177)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 178
يقول الحق جل جلاله : قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ يعنى : العرب الذين كانوا يقتلون بناتهم مخافة السبي أو الفقر ، بِغَيْرِ عِلْمٍ ولا دليل لخفة عقلهم وجهلهم بأن اللّه رازق أولادهم كما يرزقهم ، وليسوا هم الرازقين لهم ، وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ من البحائر والسوائب ونحوهما افْتِراءً عَلَى اللَّهِ من عند أنفسهم ، قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ إلى الحق والصواب.
الإشارة : قد خسر الذين ضيعوا قلوبهم فلم تنتج لهم شيئا من أبكار الحقائق وأسرار العلوم ، بل اشتغلوا بالسفه من القول والفعل ، بغير علم ولا بصيرة نافذة ، وحرموا ما رزقهم اللّه من العلوم والأسرار ، لو طهروا قلوبهم ، وخربوا ظواهرهم وخرقوا عوائدهم ، لكنهم حكموا على فعل ذلك بالتحريم ، تجمدوا على علم الرسوم وحفظ المروءة ، والمروءة إنما هى التقوى والدين ، كما قال الإمام مالك رضى اللّه عنه ، قد ضلوا عن طريق الوصول ، وما كانوا مهتدين إلى طريق الخصوص ، ما داموا على ما هم عليه من زى اللصوص.
ثم بيّن أن الأشياء كلها لله ، ليس لأحد فيها شىء حتى يحلل منها أو يحرم ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : آية 141]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
قلت : (مختلفا) : حال مقدّرة لأنه لم يكن كذلك عند الإنشاء ، . والضمير فى أُكُلُهُ : يعود على النخل ، والزرع مقيس عليه ، أو للجميع على تقدير : كل واحد منهما.
يقول الحق جل جلاله : وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ أي : خلق جَنَّاتٍ بساتين مشتملة على كروم - أي :
دوالى - مَعْرُوشاتٍ أي : مرفوعة بالعرشان والدعائم ، وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ أي : مبسوطة على وجه الأرض ، قيل : المعروشات : ما غرسه الناس فى العمران ، وغير المعروشات : ما أنبته فى الجبال والبراري.
وَأنشأ النَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ أي : ثمره الذي يؤكل منه ، واختلافه فى اللون والطعم والرائحة والحجم والهيئة والكيفية ، وذلك دليل على عظمة القادر المريد ، وَأنشأ الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ أي : تتشابه بعض أفرادهما فى اللون والطعم ، ولا يتشابه بعضها. كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ أي : من ثمر كل واحد منهما ، إِذا أَثْمَرَ وإن لم يطب ، قيل : فائدة الأمر بالأكل : رخصة المالك فى الأكل منه قبل أداء حق اللّه منه قبل الطيب ، أي : قبل أن تجب زكاته ، وأما إذا طاب فلا بد من التخريص «1».
___________
(1) خرص النخلة والكرمة يخرصها خرصا : إذا حزر ما عليها من الرّطب تمرا ، ومن العنب زبيبا ، فهو من الخرص أي : الظن لأن الحزر إنما هو تقدير بظن. انظر النهاية (مادة : خرص).(2/178)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 179
وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ يريد : ما كان يتصدق به يوم الحصاد ، لا الزكاة المقدرة لأنها فرضت بالمدينة ، وكان ذلك واجبا ثم نسخ بالعشر. وقيل : الزكاة حقيقة ، والآية مدنية ، وقيل : مكية ، ولم يعيّن قدرها إلا بالمدينة ، والأمر بإتيانها يوم الحصاد ليهتم به حينئذ ، حتى لا يؤخر عن وقت الأداء ، خلاف ما يفعله العامة من خزنها مع ماله ، حتى يدفعها فى نوائب المخزن «1» ، وليعلم أن الوجوب بالإفراك والطيب ، لا بالتصفية ، ولذلك شرع التخريص ، وَلا تُسْرِفُوا بصرفها فى غير محلها ، ولا تتعدوا ما أمرتم به فتجعلوا ما أنشأ اللّه للأصنام ، أو : لا تسرفوا فى التصدق بالكل ، كقوله : وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ «2» ، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ أي : لا يرضى فعلهم.
الإشارة : وهو الذي أنشأ جنات المعارف لمن خرق عوائده ، معروشات بشهود أسرار الجبروت ، وغير معروشات بشهود أنوار الملكوت ، أو معروشات بشهود المعاني مع الأوانى ، وغير معروشات بشهود الأوانى فقط ، أو معروشات بشهود المؤثر والأثر ، وغير معروشات بشهود المؤثر فقط ، وكلها ترجع لمعنى واحد ، والمعروش أرفع من غيره وأكمل ، والأول : مقام البقاء والصحو ، والثاني : مقام الفناء والسكر ، والنخل والزرع : الحقيقة والشريعة على اختلاف علومهما ، والزيتون والرمان : الأعمال والأحوال ، متفقة وغير متفقة ، وثمره : حلاوة الشهود ، فليأكل منها المريد إذا طاب وقته ، ولا تسرفوا فى الأحوال ، إنه لا يحب المسرفين.
ثم ذكر إنشاء الأنعام ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 142 الى 144]
وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
قلت : (حمولة وفرشا) : عطف على جنات ، وثَمانِيَةَ أَزْواجٍ : بدل من حمولة ، و(من الضأن اثنين) : بدل من ثمانية.
___________
(1) أي : جامع الضرائب.
(2) من الآية 29 من سورة الإسراء.(2/179)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 180
يقول الحق جل جلاله : وَأنشأ أيضا مِنَ الْأَنْعامِ أنعاما حَمُولَةً ما يحمل الأثقال ، كالكبار منها ، وَفَرْشاً ما لا يحمل ، كالصغار لدنوها من الأرض. أو حمولة للإبل ، وفرشا للغنم ، لأنها تفرش للذبح ، ويفرش ما ينسج من صوفها ، كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي : كلوا ما أحل اللّه لكم منها ، وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ فى التحليل والتحريم من عند أنفسكم ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة.
ثم فصلها فقال : ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ذكر وأنثى من كل صنف ، والصنف : ما معه آخر من جنسه يزاوجه ، ثم بيّنها فقال : مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ ذكر وأنثى كبش ونعجة ، وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ التيس وهو الذكر ، والعنز وهى الأنثى ، قُلْ لهم آلذَّكَرَيْنِ أي : ذكر الضأن والمعز ، حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ منهما؟ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ من الأجنة ، ذكرا كان أو أنثى؟ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ يدل على أن اللّه تعالى حرم شيئا من ذلك ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فى دعوى التحريم عليه.
وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ ذكر وأنثى ، وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ كذلك. قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أم حرم ما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ من الجنين مطلقا؟ وهذا تقسيم على الكفار حتى يتبين كذبهم على اللّه ، وتوبيخ لهم ، حيث حرموا بعض الذكور مرة وبعض الإناث مرة ، فألزمهم تحريم جميع الذكور ، إن كان علة التحريم وصف الذكورة ، أو تحريم جميع الإناث ، إن كانت العلة الأنوثة ، أو تحريم الجميع إن كان المحرم ما اشتملت عليه الأرحام ، ولا وجه للتخصيص ، فالاستفهام للإنكار ، وأكده بقوله : أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ حاضرين حين وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا التحريم ، ولا طريق لكم إلى معرفة هذا إلا المشاهدة والسماع ، وليس لكم شىء من ذلك ، وإنما أنتم مفترون على اللّه.
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فنسب إليه تحريم ما لم يحرم ، والمراد : كبراؤهم الأوائل كعمرو ابن لحى وأمثاله ، أي : لا أحد أظلم ممن كذب على اللّه ، لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ إلى مراشدهم ، أو إلى ما ينفعهم.
الإشارة : ومن الأحوال ما تحمل صاحبها إلى مقام الحرية ، بشهود الربوبية ، فيغلب عليه العز والاستظهار ، ومنها ما تحمله إلى مقام العبودية ، فيغلب عليه الذل والانكسار ، وإليه الإشارة بقوله : حَمُولَةً وَفَرْشاً ، فليتمتع المريد بما يظهر عليه منهما ، ولا يتبع خطوات الشيطان فيتعدى طوره ، ولا يعرف قدره.
وهذه الأحوال ثمانية أنواع : أربعة سفلية تناسب العبودية ، وأربعة علوية تناسب الربوبية. فالأربعة السفلية : الذل ، والفقر ، والعجز ، والضعف. والأربعة العلوية : العز ، والغنى ، والقدرة ، والقوة. فمن أراد التعلق بهذه الأوصاف فليناد من كوة الذل : يا عزيز من للذليل سواك؟ ، ومن كوة الفقر : يا غنى من للفقير سواك؟ ، ومن كوة العجز : يا قدير من للعاجز سواك؟ ومن كوة الضعف : يا قوى من للضعيف سواك؟ ، ير الإجابة طوع يديه ، ومن أراد التحقق بها ، فليتحقق بذله يمده بعزه ، وليتحقق بفقره يمده بغناه ، وليتحقق بعجزه يمده بقدرته ، وليتحقق بضعفه يمده بقوته ، «تحقق بوصفك يمدك بوصفه». وبالله التوفيق.(2/180)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 181
ثم بيّن ما حرم عليهم ليقفوا عنده ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : آية 145]
قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
يقول الحق جل جلاله : قُلْ لهم : لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ فى القرآن أو مطلق الوحى ، مُحَرَّماً أي : طعاما محرما ، عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ، أو يطعم منه غيره ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الطعام مَيْتَةً ، وفى قراءة بالتاء لتأنيث الخبر ، أَوْ يكون دَماً مَسْفُوحاً أي : مصبوبا كدم المنحر ، أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أي : خبيث ، قيل : إنه يورث عدم الغيرة بالخاصية أَوْ يكون فِسْقاً ، من صفته : أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي : ذبح لغير اللّه ، وذكر عليه اسم الصنم ، وإنما سمى فسقا لتوغله فى الفسق.
والآية تقتضى حصر المحرمات ، فيما ذكر ، وقد جاء فى السنة تحريم أشياء لم تذكر هنا ، كلحوم الحمر الإنسية والكلاب ، وغيرها ، فذهب قوم إلى أن السنة نسخت هذا الحصر. وذهب آخرون إلى أن الآية وردت على سبب ، فلا تقتضى الحصر ، وذهب آخرون إلى أن ما عدا ما ذكر : مكروه.
وقال البيضاوي : والآية محكمة لأنها تدل على أنه لم يجد فيما أوحى إليه إلى تلك الغاية محرما غير هذه ، ولا ينافى ورود التحريم فى شىء آخر ، فلا يصح الاستدلال بها على نسخ الكتاب بخبر الواحد ، ولا على حل الأشياء غيرها ، إلا مع الاستصحاب «1». ه.
ثم استثنى المضطر ، فقال : فَمَنِ اضْطُرَّ إلى تناول شىء من ذلك ، غَيْرَ باغٍ على مضطر مثله ، وَلا عادٍ أي : متجاوز قدر الضرورة ، فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لا يؤاخذه.
الإشارة : الأحوال كلها تتقوت منها الروح ، إلا ما كان غير مباح فى الشرع ، فلا سير فيه ، والمراد بالأحوال :
خرق عوائدها ، بكل ما يثقل عليها ، وأما ما كان محرما فى الشرع فلا بركة فى تناوله لأنه رجس ، وأجازه بعض الصوفية محتجا بقضية لص الحمام ، وفيه مقال ، فمن اضطر إلى تناوله ، لغلبة حال عليه ، غير قاصد لمخالفة الشرع ، فإن اللّه غفور رحيم ، وعليه حمل بعضهم قصة لص الحمّام «2». واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) الاستصحاب - اصطلاحا : هو الحكم بثبوت أمر فى الزمن الثاني ، بناء على ثبوته فى الزمان الأول. (التعريفات/ 44).
(2) راجع قصة لص الحمّام فى التعليق على إشارة الآية 267 من سورة البقرة. [.....](2/181)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 182
ثم ذكر ما حرّم على بنى إسرائيل ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : آية 146]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146)
قلت : الحوايا هى الأمعاء ، أي : المصارين التي فيها البعر ، وتسمى المباعر ، جمع حوية ، فعيلة ، فوزنها على هذا : فعائل ، فصنع بها ما صنع بهراوا ، وقيل : جمع حاوية ، فوزنها : فواعل ، كقوارب ، وهو عطف على ما فى قوله : إِلَّا ما حَمَلَتْ.
يقول الحق جل جلاله : وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ما له أصبع ، كالإبل والأوز والنعام ، وغيرها من الحيوان ، الذي هو غير منفرج الأصابع وله ظفر ، وقيل : كل ذى مخلب وحافر ، وسمى الحافر ظفرا مجازا وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما كالثروب وشحوم الكلى ، إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أي : إلا ما علق من الشحم بظهور البقر والغنم ، فهو حلال عليهم ، لكنهم اليوم لا يأكلونه ، حدثنى شيخى الفقيه الجنوى أنه سأل بعض أحبارهم : هل هو حرام فى كتابكم؟ فقال له : لا ، لكنهم قاسوه سدا للذريعة. ه. فلما شددوا شدد اللّه عليهم ، أَوِ الْحَوايا أي : ما احتوت عليه الأمعاء والحشوة مما يتحوى فى البطن من الشحوم ، فهو حلال عليهم أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ فى جميع الجسد ، فإنه حلال عليهم ، لكنهم شددوا فحرموا الجميع عقوبة من اللّه ذلِكَ التحريم جزاء جَزَيْناهُمْ به بسبب بغيهم ، أي : ظلمهم ، وَإِنَّا لَصادِقُونَ فيما أخبرنا به من التحريم ، وفى ذلك تعريض بكذب من حرّم غير ما حرم اللّه.
الإشارة : يؤخذ من الآية أن الذنوب والمعاصي تضيق على العبد لذائذ متعته ، وتقتر عليه طيب رزق بشريته ، وتضيق عليه أيضا حلاوة المعاملة فى قلبه ، ولذة الشهود فى روحه وسره ، لقوله تعالى : ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ ، وقال تعالى : وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ «1» ، وقال فى شأن القلب : إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً «2» ، أي : نورا يفرق بين الحق والباطل ، وقال تعالى : وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ «3» أي : علما لدنيا ، فالمعصية كلها تبعد العبد من الحضرة ، إن لم يتب ، والطاعة كلها تقرب من الحضرة. والتنعم إنما هو على قدر القرب ، ونقصانه على قدر البعد. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) الآية 96 من سورة الأعراف
(2) الآية 29 من سورة الأنفال.
(3) من الآية 282 من سورة البقرة.(2/182)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 183
ولمّا كانت المعصية توجب تعجيل العقوبة أخبر تعالى عن سعة حلمه ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : آية 147]
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
يقول الحق جل جلاله : فَإِنْ كَذَّبُوكَ يا محمد ، فَقُلْ لهم : رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ يمهلكم على التكذيب ، فلا تغتروا بإمهاله فإنه يمهل ولا يهمل. ولذلك أعقبه بقوله : وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ حين ينزل بهم ، أو ذو رحمة واسعة على المطيعين ، وذو بأس شديد على المجرمين ، فأقام مقامه :
وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ، لتضمنه التنبيه على إنزال البأس عليهم ، مع الدلالة على أنه لازب لا يمكن رده. قاله البيضاوي. وفى ابن عطية : ولكن لا تغتروا بسعة رحمته ، فإن له بأسا لا يرد عن القوم المجرمين. ه.
الإشارة : يؤخذ من تقديم الرحمة الواسعة على البأس الشديد أن جانب الرجاء أقوى من جانب الخوف لأن حسن الظن بالله مطلوب من العبد على كل حال ، لأن الرجاء وحسن الظن يستوجبان محبة العبد وإيحاشه إلى سيده بخلاف الخوف ، وهذا مذهب الصوفية : أن تغليب الرجاء هو الأفضل فى كل وقت ، ومذهب الفقهاء أن حال الصحة ينبغى تغليب الخوف لينزجر عن العصيان ، وحال المرض يغلب الرجاء إذ لا ينفع حينئذ ، فالصوفية يرون أن العبد معزول عن الفعل ، فليس له قدرة على فعل ولا ترك. وإنما ينظر ما تفعل به القدرة ، فهو كحال المستشرف على الموت. والفقهاء يرون أن العبد له كسب واختيار. واللّه تعالى أعلم.
ولا ينفع الاحتجاج بالقدر على كلا المذهبين ، كما قال تعالى :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 148 الى 150]
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
قلت : (هلم) : اسم فعل ، وهو عند البصريين بسيط ، وعند الكوفيين مركب. انظر البيضاوي.
يقول الحق جل جلاله : سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا فى الاحتجاج لأنفسهم : لَوْ شاءَ اللَّهُ عدم شركنا ما أَشْرَكْنا وَلا أشرك آباؤُنا ، وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ من البحائر وغيرها ، فلو لم نكن على حق مرضى عند اللّه ما أمهلنا ولا تركنا عليه فإمهاله لنا وتركه لنا على ما نحن فيه دليل على أنه أراده منا.(2/183)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 184
والجواب عن شبهتهم : أنه خلاف ما أنزل اللّه على جميع رسله ، والحق تعالى لم يتركهم على ذلك ، بل بعث لهم الرسل يكلفهم بالخروج عنه ، والإرادة خلاف التكليف ، وأيضا : قولهم هذا لم يصدر منهم على وجه الاعتذار وإنما صدر منهم على وجه المخاصمة والاحتجاج. ولا يصح الاحتجاج بالقدر. والحاصل أنهم تمسكوا بالحقيقة ورفضوا الشريعة ، وهو كفر وزندقة ، إذ لا بد من الجمع بين الحقيقة فى الباطن ، والتمسك بما جاءت به الرسل من الشريعة فى الظاهر ، وإلّا فهو على باطل.
ولذلك ردّ اللّه تعالى عليهم بقوله : كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الرسل ، فتمسكوا بالحقيقة الظلمانية ، حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا أي : عذابنا الذي أنزلناه عليهم بتكذيبهم قُلْ لهم : هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ يدل على أن اللّه أمركم بالشرك ، وتحريم ما أحل ، وأنه رضى ذلك لكم ، فَتُخْرِجُوهُ أي : فتظهروه لَنا ، بل إِنْ تَتَّبِعُونَ فى ذلك إِلَّا الظَّنَّ ولا تحقيق عندكم ، وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ تكذبون على اللّه تعالى ، وفيه دليل على أن الظن لا يكفى فى العقائد.
قُلْ لهم : فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ على عباده ، الْبالِغَةُ ، حيث بعث الرسل مبشرين ومنذرين ، وأمروا بتوحيد اللّه وطاعته ، فكل من خالفهم قامت الحجة عليه ، هذا باعتبار التشريع الظاهر ، وأما باعتبار باطن الحقيقة ، فالأمور كلها بيد اللّه يضل من يشاء بعدله ، ويهدى من يشاء بفضله ، فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ ولكن شاء هداية قوم وضلال آخرين ، لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ «1» فقول المشركين : فَلَوْ شاءَ الله ... إلخ ، حق فى نفسه ، لكنهم لم يعذروا لإهمالهم الشريعة.
قُلْ هَلُمَّ أي : أحضروا ، شُهَداءَكُمُ أي : كبراءكم وأئمتكم ، الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا ، استحضرهم ليلزمهم الحجة ، ويظهر بانقطاعهم ضلالهم ، وألّا متمسك لهم فى ذلك. ثم قال لنبيه - عليه الصلاة والسلام - : فَإِنْ شَهِدُوا بشىء من ذلك ، فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ أي : لا تصدقهم وبيّن لهم فساده وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ، والأصل أن يقول : ولا تتبع أهواءهم ، فوضع الظاهر موضع المضمر ، للدلالة على أن مكذب الآية متبع للهوى لا غير ، وأن متبع الحق لا يكون إلا مصدقا لها. وَتتبع أيضا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ كعبدة الأوثان ، وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ يجعلون له عديلا ومثيلا.
الإشارة : اعلم أن الحق جل جلاله كلف عباده فى هذه الدار ، بالقيام بوظيفتين : الشريعة والحقيقة ، الشريعة محلها الظواهر ، والحقيقة محلها البواطن ، الشريعة تقتضى التكليف ، والحقيقة تقتضى التعريف ، الشريعة شهود الحكمة ، والحقيقة شهود القدرة. وجعل الشريعة رداء الحقيقة ولباسا لها ، ثم جعل سبحانه فى القلب عينين ، وتسمى
___________
(1) الآية 23 من سورة الأنبياء.(2/184)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 185
البصيرة ، إحداهما تنظر للحكمة فتقوم بالشرائع ، والأخرى تنظر للقدرة فتقوم بالحقائق. فقوم فتحوا عين الحقيقة وأعملوا عين الشريعة ، وهم أهل الكفر والزندقة ، ولذلك قالوا : لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا ، وقوم فتحوا عين الشريعة وأهملوا عين الحقيقة ، وهم عوام المسلمين من أهل اليمين ، فلذلك طال خصمهم للمقادير الأزلية مع إقرارهم بها ، فإن أنكروها فقد عميت بصيرتهم.
وقوم أحبهم اللّه ، ففتح لهم عين الحقيقة ، فأسندوا الأفعال كلها إلى اللّه ولم يروا معه سواه ، فتأدبوا فى الباطن مع الأشياء كلها ، وفتح لهم عين الشريعة فقاموا بوظائف العبودية على المنهاج الشرعي ، وهم الأولياء العارفون بالله ، فمن تمسك بالحقائق العلمية دون الشرائع كان زنديقا ، ومن تمسك بالشرائع دون الحقائق كان فاسقا ، ومن تمسك بهما كان صدّيقا ، فمن رام التمسك بالشرائع ، ولم تسعفه الأقدار ، فإن كان عن سكر وجذب فهو معذور ، وإن كان عن كسل فهو مخذول ، وإن كان عن إنكار لها فهو مطرود معدود من حزب الشيطان ، والعياذ بالله.
ثم بيّن لهم ما حرم عليهم ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 151 الى 153]
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
قلت : (تعالوا) : أمر من التعالي ، وأصله : أن يقوله من كان فى علو لمن كان فى سفل ، فاتسع فيه بالتعميم فى كل أمر بالقدوم ، و(ألّا تشركوا) : فيه تأويلات أحدها : أن تكون مفسرة لا موضع لها ، و(لا) : ناهية جزمت الفعل ، أو تكون مصدرية فى موضع رفع ، أي : الأمر ألّا تشركوا ، و(لا) : نافية حينئذ ، أو بدل من «ما» و(لا) : زائدة ، أو على حذف الإغراء ، أي : عليكم ألا تشركوا.
قال ابن جزى : والأحسن أن يكون ضمّن حَرَّمَ معنى وصّى ، وتكون «أن» مصدرية ، و«لا» نافية ، ولا تفسد المعنى لأن الوصية فى المعنى تكون بتحريم وتحليل وبوجوب وندب ، ويدل على هذا قوله بعد ذلك : (2/185)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 186
ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ ولا ينكر أن يريد بالتحريم - الوصية لأن العرب قد تذكر اللفظ الخاص ، وتريد به العموم ، كما تذكر اللفظ العام وتريد به الخصوص ، فتقدير الكلام على هذا : قل تعالوا أتل ما وصاكم به ربكم ، ثم أبدل منه ، على وجه التفسير والبيان ، فقال : ألّا تشركوا ، ووصاكم بالإحسان بالوالدين ، وهكذا .. فجمعت الوصية ترك الإشراك وفعل الإحسان بالوالدين ، وما بعد ذلك. انظر بقية كلامه.
وإنما قال الحق سبحانه : (من إملاق) ، وقدّم الكاف فى قوله (نرزقكم) ، وفى الإسراء قال : خَشْيَةَ إِمْلاقٍ «1» ، وأخر الكاف لأن ما هنا نزل فى فقراء العرب ، فكان الإملاق نازلا بهم وحاصلا لديهم ، فلذلك قال : مِنْ إِمْلاقٍ ، وقدم الخطاب لأنه أهم. وفى الإسراء نزلت فى أغنيائهم ، فكانوا يقتلون خوفا من لحوق الفقر ، لذلك قال : خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ، وقدم الغيبة فقال : نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ حين نخلقهم وإياكم.
يقول الحق جل جلاله : قُلْ لهم : تَعالَوْا أي : هلموا ، أَتْلُ أي : أقرأ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ، واجتمعت عليه الشرائع قبلكم ، ولم ينسخ قط فى ملة من الملل ، بل وصى به جميع الملل ، هو أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً بل توحدوه وتعبدوه وحده ، وَأن تحسنوا بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ، ولا تسيئوا إليهما لأن من أساء إليهما لم يحسن إليهما. وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ أي : من أجل الفقر الحاصل بكم ، وكانت العرب تقتل أولادها خوفا من الفقر فنزلت فيهم ، فلا يفهم منه إباحة قتلهم لغيره ، نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ، فلا تهتموا بأمرهم حتى تقتلوهم.
وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ كبار الذنوب ما ظَهَرَ مِنْها للناس وَما بَطَنَ فى خلوة ، أو : ما ظهر منها على الجوارح ، وما بطن فى القلوب من العيوب ، وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ كالقود ، وقتل المرتد ، ورجم المحصن. قال صلّى اللّه عليه وسلّم : «لا يحلّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : زنى بعد إحصان ، وكفر بعد إيمان ، وقتل نفس بغير نفس» «2». ذلِكُمْ المتقدم ، وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ، فتتدبرون فيما ينفعكم وما يضركم وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي
بالخصلة التي هِيَ أَحْسَنُ
كحفظه وتثميره. والنهى عن القرب : يعم وجوه التصرف ، وفيه سد الذريعة لأنه إذا نهى عن القرب كان الأكل أولى ، حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
وهو البلوغ مع الرشد ، بحيث يعرف مصالح نفسه ويأمن عليه التبذير ، فيدفع له ، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ
بالعدل والتوفية ، لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
إلا ما يسعها ولا يعسر عليها ، ولمّا أمر بالقسط فى الكيل والوزن ، وقد علم أن القسط الذي لا زيادة فيه ولا نقصان مما يجرى فيه الحرج - أمر بالوسع فى ذلك وعفا عما سواه.
___________
(1) الآية 31 من سورة الأسراء.
(2) أخرجه البخاري فى (الديات ، باب قول اللّه تعالى : «أن النفس بالنفس») ومسلم فى (القسامة ، باب ما يباح به دم المسلم). عن ابن مسعود. رضى اللّه عنه.(2/186)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 187
وَإِذا قُلْتُمْ
فى حكومة ونحوها ، فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ
المقول له فى شهادة أو حكومة ذا قُرْبى
فيجب العدل فى ذلك ، وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا
أي : ما عهد إليكم من ملازمة العدل وتأدية أحكام الشرع ، أو ماعاهدتم مع عباده ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
تتعظون به.
وَأَنَّ هذا أي : ما تقدم فى السورة كلها ، صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ لأن السورة بأسرها إنما هى فى إثبات التوحيد ، والنبوة ، وبيان الشريعة ، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ الأديان المختلفة والطرق التابعة للهوى ، فإن مقتضى الحجة واحد ، ومقتضى الهوى متعدد لاختلاف الطبائع والعادات ، ولذلك تفرقت. والمراد بالطرق :
اليهودية والنصرانية وغيرهما من الأديان الباطلة ، ويدخل فيه البدع والأهواء ، وفى الحديث أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم خط خطا ، ثم قال : «هذا سبيل اللّه» ، ثم خط خطوطا عن يمينه وشماله ، ثم قال : «هذه سبل ، وعلى كلّ سبيل منها شيطان يدعو إليها» «1». ذلِكُمْ الاتباع وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الضلال والتفرق عن الحق. وبالله التوفيق.
الإشارة : قد وصى الحق - جل جلاله - على التخلص من الشرك ، جليه وخفيه ، ولا يكون إلا بتحقيق الإخلاص والتوحيد الخاص. وهو مطلب الصوفية ، وبالإحسان بالوالدين الروحانيين والبشريين ، أي : والد الأرواح - وهو الشيخ المربى - ووالد الأشباح ، ولا بد للمريد من طاعتهما ، إلّا أنه يقدم طاعة الشيخ ، كما تقدم عن الجنيد فى (سورة النساء).
ووصى بعدم قتل الأولاد ، وهم المواهب والعلوم بإهمال القلب فى الغفلة ، وعدم قرب الفواحش : الظاهرة الحسية ، والباطنية القلبية كالحسد ، والكبر ، وحب الجاه والدنيا ، وسائر العيوب. وعدم قتل النفس بالانهماك فى الهوى والغفلة حتى تموت بالجهل عن المعرفة. وعدم قرب مال اليتيم ، وهو الذي ليس له شيخ ، فإن الغالب عليه عدم المسامحة ، وسيأتى عند قوله تعالى : قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ «2» ، إشارة لها أرق من هذه ، وعلى التوفية فى الأمور كلها لأن الصوفي من أهل الصفاء والوفاء ، وعلى الصدق فى الأقوال والأفعال والأحوال. وعلى الوفاء بالعهد ، وأعظمها عهد الشيوخ المربين ، وعلى اتباع طريق السلوك الموصلة للحضرة وهى ما عينه الشيوخ للمريدين ، فلا يتعدى نظرهم ولو لحظة. وبالله التوفيق.
ولما ذكر ما وصى به هذه الأمة ، ذكر ما وصى به بنى إسرائيل ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : آية 154]
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)
___________
(1) أخرجه أحمد فى المسند 1/ 435.
(2) من الآية 143 من سورة الأعراف.(2/187)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 188
قلت : (ثم) : هنا للترتيب الإخبارى ، وقال ابن جزى : هذه الوصية قديمة لكل أمة على لسان نبيها ، فصح الترتيب. وقال البيضاوي : (أو) : للتفاوت فى الرتبة ، كأنه قيل : ذلكم وصاكم به قديما وحديثا ، ثم أعظم من ذلك :
أنا آتينا موسى الكتاب ... إلخ. وهو عطف على (وصاكم) ، و(تماما ، وتفصيلا) : حالان ، أو علتان ، أو مصدران.
يقول الحق جل جلاله : ثُمَّ نخبرك أنا آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التوراة ، تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ القيام به من بنى إسرائيل ، ويدل عليه قراءة : (أحسنوا) ، أي : تماما للنعمة على العاملين به ، أو تماما على موسى الذي أحسن القيام به ، أي : آتيناه الكتاب تفضلا وإتماما للنعمة جزاء على ما أحسن من طاعة ربه وتبليغ رسالته ، ففاعل أحسن : ضمير موسى. أو : تَماماً أي : إكمالا على ما أحسن اللّه به إلى عباده ، فالفاعل على هذا : ضمير اللّه تعالى ، وَتَفْصِيلًا أي : تبيينا لِكُلِّ شَيْءٍ يحتاجون إليه فى الدين. وَهُدىً أي : هداية للظواهر ، وَرَحْمَةً للقلوب ، لَعَلَّهُمْ أي : بنى إسرائيل ، بِلِقاءِ رَبِّهِمْ للجزاء ، يُؤْمِنُونَ إيمانا صحيحا ، وهو اللقاء بالأجسام والأرواح ، والنعيم أو العذاب للأشباح. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : كل من أحسن عبادة ربه فى الظاهر ، وحقق عبوديته فى الباطن ، أتم اللّه عليه نعمته بشهود ذاته وأنوار صفاته ، ووهب له علوما لدنية تفصل له ما أشكل ، يكون له هداية لزيادة الترقي ، ورحمة يتهيأ بها قلبه لوحى الإلهام والتلقي. وبالله التوفيق.
ثم ذكر فضل كتابه العزيز ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 155 الى 157]
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157)
قلت : (أن تقولوا) : مفعول له ، أي : كراهة أن تقولوا.
يقول الحق جل جلاله : وَهذا القرآن كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ كثير النفع فَاتَّبِعُوهُ فى الأصول والفروع ، وَاتَّقُوا الشرك والمعاصي ، لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ببركة اتباعه فتحيا به قلوبكم ، وتنتعش به(2/188)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 189
أرواحكم ، وإنما أنزلناه كراهة أَنْ تَقُولُوا يوم القيامة فى الحجة : إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا اليهود والنصارى ، وإنما خصهما بالذكر لشهرتهما دون الكتب السماوية ، وَإِنْ كُنَّا وإنه ، أي : الأمر والشأن ، كنا عَنْ دِراسَتِهِمْ أي : قراءتهم لَغافِلِينَ أي : كنا غافلين عن قراءة أهل الكتاب ، لا ندرى ما هى ولا نعرف مثلها ، أو لم ندرس مثل دراستهم ، ولم نعرف ما درسوا من الكتب ، فلا حجة علينا ، فقد قامت الحجة عليكم بنزول القرآن.
أَوْ كراهة أن تَقُولُوا أيضا : لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ كما أنزل إليهم ، لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ لحدة أذهاننا وثقابة أفهامنا ، ولذلك تلقفنا فنونا من العلم ، كالقصص والأشعار والخطب والأنساب ، مع كوننا أميين ، قال تعالى لهم : فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وهو القرآن حجة واضحة تعرفونها وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لمن تدبره وعمل به ، فَمَنْ أَظْلَمُ أي : لا أحد أظلم مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ بعد أن عرف صحتها ، وَصَدَفَ أعرض عَنْها ، سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ ألمه وقبحه ، بِما كانُوا يَصْدِفُونَ أي : يعرضون ويصدون عنها.
الإشارة : جعل اللّه رحمة القلوب وحياة الأرواح فى شيئين : فى التمسك بالقرآن العظيم وتدبر معانيه ، واتباع أوامره واجتناب نواهيه ، وفى التحصن بالتقوى جهد استطاعته ، فبقدر ما يتحقق بهذين الأمرين تقوى حياة قلبه وروحه وسره ، حتى يتصل بالحياة السرمدية ، وبقدر ما يخل بهما يحصل له موت قلبه وروحه ، والإنسان إنما فضل وشرف بحياة قلبه وروحه ، لا بحياة جسمه ، ولا حجة له أن يقول : كنت مريضا ولم أجد من يعالجنى ، ففى كل زمان رجال تقوم الحجة بهم على عباد اللّه ، فيقال لهم : قد جاءكم بينة من ربكم ، وهو الولي العارف ، وهدى ورحمة لأهل عصره ، لمن تمسك به وصحبه ، وأما من أعرض عنه بعد معرفته فلا أحد أظلم منه ، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها ... الآية.
ثم هددّ أهل الإعراض ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : آية 158]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
يقول الحق جل جلاله : هَلْ يَنْظُرُونَ أي : ما ينتظر أهل مكة إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ لقبض أرواحهم ، أو بالعذاب ، لأجل كفرهم ، وهم لم يكونوا ينتظرون ذلك ، ولكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظر شبهوا بالمنتظرين ، أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أي : أمره بالعذاب ، أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يعنى : أشراط الساعة.(2/189)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 190
وعن حذيفة والبراء بن عازب : كنا نتذاكر الساعة ، إذ أشرق علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فقال : ما تذاكرون؟ قلنا :
نتذاكر الساعة ، فقال : «إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات : الدجال ودابة الأرض ، وخسفا بالمشرق ، وخسفا بالمغرب ، وخسفا بجزيرة العرب ، والدخان ، وطلوع الشمس من مغربها ، ويأجوج ومأجوج ، ونزول عيسى ، ونارا تخرج من عدن» «1».
يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ، وهو طلوع الشمس من مغربها ، كما فى حديث الصحيحين «2» ، قال الأقليشى : وذلك أن اللّه تعالى ، إذا أراد طلوعها من مغربها ، حبسها ليلة تحت العرش ، فكلما سجدت واستأذنت لم يجر لها جواب ، حتى يحبسها مقدار ثلاث ليال ، فيأتيها جبريل عليه السّلام فيقول : إن الرب تعالى يأمرك أن ترجعى إلى مغربك فتطلعى منه ، وأنه لا ضوء لك عندنا ولا نور ، فتبكى عند ذلك بكاء يسمعها أهل السبع سموات ، ومن دونها ، وأهل سرادقات العرش وحملته من فوقها ، فيبكون لبكائها مما يخالطهم من خوف الموت ، وخوف يوم القيامة ، قال : فيبيت الناس ينتظرون طلوعها من المشرق ، فتطلع الشمس والقمر خلف أقفيتهم من المغرب ، أسودين مكدّرين ، كالقارتين ، ولا ضوء للشمس ولا نور للقمر ، فيتصايح أهل الدنيا ، وتذهل الأمهات عن أولادها ، والأحبة عن ثمرة قلوبها ، فتشتغل كل نفس بنفسها ، ولا ينفع التوحيد حينئذ. ه.
وهو معنى قوله تعالى : يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها كالمحتضر إذا صار الأمر عيانا ، وإنما ينفع الإيمان بالغيب ، وقد فات يومئذ ، فلا ينفع الإيمان نفسا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ ، ولا تنفع التوبة من المعاصي وترك الواجبات حينئذ لقوله : أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً أي : لا ينفع نفسا مؤمنة لم تكن كسبت خيرا قبل ذلك اليوم ، حيث كانت فرطت فيه قبل ، وينفع اكتسابه بعد.
والحاصل : أن طلوع الشمس من مغربها يغلق بعده باب التوبة فلا يقبل الإيمان من كافر ، ولا التوبة من عاص ، وأما الإيمان المجرد عن العمل ، إذا كان حاصلا قبل ذلك اليوم ، فإنه ينفع على مذهب أهل السنة ، وكذلك العاصي بالبعض ينفعه بعض الذي كان يعمله ، كالزانى مثلا ، إذا كان يصلى ، فتنفعه صلاته ويعاقب على العصيان ، وهكذا ، والمنفي قبوله : إنما هو الخير المتروك قبل ذلك اليوم ، فلا ينفع استدراكه بعد.
ثم قال تعالى : قُلِ انْتَظِرُوا إتيان أحد الثلاثة الملائكة بعذابكم ، أو أمر اللّه تعالى بإهلاككم ، أو بعض آياته ، إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ذلك ، لنا الفوز وعليكم الويل.
الإشارة : ما ينتظر الغافلون والمنهمكون فى اللذات والشهوات والإعراض عن اللّه إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم فجأة ، فيموتون على الغفلة ، فتنزل بهم الحسرة والندم ، وقد زلت القدم بهم ، أو يأتى أمر اللّه بطردهم والطبع على قلوبهم ، فلا ينفعهم وعظ ولا تذكير ، أو يأتى بعض آيات ربك مصيبة أو داهية تثقل قلوبهم عن
___________
(1) أخرجه بنحوه مسلم فى (الفتن ، باب فى الأمارات التي تكون قبل الساعة).
(2) عن أبي هريرة رضى اللّه عنه - قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعين ...» الحديث بطوله أخرجه البخاري فى (تفسير سورة الأنعام) ومسلم فى (الإيمان ، باب : إتيان الزمن الذي لا يقبل اللّه فيه الإيمان).(2/190)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 191
التوجه إلى الله ، وجوارحهم عن طاعة الله. فالغافل والعاصي بين هذه الثلاثة ، إن لم يقلع ويتب. والله تعالى أعلم.
ثم أمرهم بالإعراض عن أهل الإعراض ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : آية 159]
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ فآمنوا بالبعض وكفروا بالبعض ، وهم اليهود والنصارى ، وقيل : أهل الأهواء والبدع ، فيكون إخبارا بغيب ، وفى الحديث أن رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها فى النار إلا واحدة. قيل : يا رسول الله ، وما تلك الواحدة؟ قال : «من كان على ما أنا عليه وأصحابى».
وقرىء : «فارقوا ، أي : تركوا دينهم ، وَكانُوا شِيَعاً جمع شيعة ، أي : فرقّا متشيعة ، كل فرقة تتشيع لمذهبها وتتشيع إمامها ، أي : تنتسب إليه. لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ أي : أنت برىء منهم ، فلست فى شىء من السؤال عنهم وعن تصرفهم ، أو عن عقابهم ، وقيل : هو نهى عن التعرض لهم فيكون منسوخا بآية السيف ، إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ يتولى جزاءهم ، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ من التفرق فيعاقبهم عليه.
الإشارة : الافتراق المذموم ، إنما هو فى الأصول كالتوحيد وسائر العقائد ، فقد افترقت المعتزلة وأهل السنة فى مسائل منه ، فخرج من المعتزلة اثنان وسبعون فرقة ، وأهل السنة هى الفرقة الناجية ، وأما الاختلاف فى الفروع فلا بأس به ، بل هو رحمة لقوله - عليه الصلاة والسلام - : «خلاف أمتى رحمة» ، كاختلاف القراء فى الروايات ، واختلاف الصوفية فى كيفية التربية ، فكل ذلك رحمة وتوسعه على الأمة المحمدية ، إذ كل من أخذ بمذهب منها فهو سالم ، مالم يتبع الرخص. وقال بعضهم : ما دامت الصوفية بخير ما افترقوا ، فإذا اصطلحوا فلا خير فيهم. ومعنى ذلك : إنما هو فى التناصح والإرشاد والنهى بعضهم لبعض عما لا يليق فى طريق السير ، فإذا سكت بعضهم عن بعض مداهنة وحياء فلا خير فيهم ، وأما قلوبهم فلا بد أن تكون متفقة متوددة ، لا بغض فيها ولا تحاسد ، وإلا لم يكونوا صوفية. واللّه تعالى أعلم.
ثم رغّب فى الخير قبل فوات إبانه ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : آية 160]
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160)(2/191)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 192
يقول الحق جل جلاله : مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ قولية أو فعلية أو قلبية ، فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها من الحسنات ، فضلا من اللّه ، وهذا أقل ما وعد من الأضعاف ، وقد جاء الوعد بسبعين وسبعمائة ، وبغير حساب ، ولذلك قيل :
المراد بالعشر : الكثرة دون العدد ، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها قضية للعدل ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ بنفس الثواب وزيادة العقاب.
الإشارة : إنما تضاعف أعمال الجوارح وما كان من قبل النيات ، وأما أعمال القلوب فأجرها بغير حساب ، قال تعالى : إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ «1» ، وقال صلّى اللّه عليه وسلّم : «تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة». وقال الشاعر :
كلّ وقت من حبيبى قدره كألف حجّه
وقد تقدم هذا فى سورة البقرة «2».
ثم إن تضعيف الحسنات إنما يكون لمن تمسك بالدين القيم ، وهو الذي أشار إليه بقوله :
[سورة الأنعام (6) : آية 161]
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)
قلت : (دينا) : بدل من محل «صراط» لأن الأصل : هدانى صراطا مستقيما دينا قيما ، و(قيّما) : فيعل من القيام ، فهو أبلغ من مستقيم ، ومن قرأ بكسر القاف : فهو مصدر وصف به للمبالغة ، و(ملة إبراهيم) : عطف بيان لدين ، و(حنيفا) : حال من إبراهيم.
يقول الحق جل جلاله : قُلْ لهم : إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ بالوحى والإرشاد إلى ما نصب من الحجج والآيات ، دِيناً قِيَماً مستقيما يوصل من تمسك به إلى جوار الكريم ، فى حضرة النعيم ، وهو مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي : دينه ، حال كونه حَنِيفاً : مائلا عما سوى اللّه ، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، وهو تعريض لقريش ، الذين يزعمون أنهم على دينه ، وقد أشركوا بالله عبادة الأوثان.
الإشارة : قد أخذ الصوفية من هذا الدين القيم ، الذي هدى اللّه إليه نبيه - عليه الصلاة والسلام - خلاصته ولبابه ، فأخذوا من عقائد التوحيد : الشهود والعيان على طريق الذوق والوجدان ولم يقنعوا بالدليل والبرهان ، وأخذوا من الصلاة : صلاة القلوب ، فهم على صلاتهم دائمون مع صلاة الجوارح ، على نعت قوله :
___________
(1) الآية 10 من سورة الزمر.
(2) راجع إشارة الآية 197 من سورة البقرة.(2/192)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 193
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ «1» وأخذوا من الزكاة : زكاة نفوسهم بالرياضة والتأديب وإضافة الكل إليه. (العبد وما كسب لسيده) ، مع أداء الزكاة الشرعية لمن وجبت عليه. وكان الشيخ أبو العباس السبتي رضى اللّه عنه يعطى تسعة أعشار زرعه ، ويمسك العشر لنفسه.
وأخذوا من الصيام : صيام الجوارح كلها ، مع صيام القلب عن شهود السّوى. وأخذوا من الحج : حج القلوب إلى حضرة علام الغيوب ، فالكعبة تشتاق إليهم وتطوف بهم ، كما تقدم فى آل عمران. ومن الجهاد : الجهاد الأكبر ، وهو جهاد النفوس ، وهكذا مراسم الشريعة كلها عندهم صافية خالصة من الشوائب ، بخلاف غيرهم ، فلم يأخذ منها إلا قشرها الظاهر وعمل الأشباح ، فهى صور قائمة لا روح فيها لعدم الإخلاص والحضور فيها. واللّه تعالى أعلم.
ثم بيّن مقام الإخلاص ، فقال :
[سورة الأنعام (6) : الآيات 162 الى 164]
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)
قلت : (ربّا) : حال من (غير).
يقول الحق جل جلاله : قُلْ لهم يا محمد : إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي أي : عبادتى كلها ، وقرباتى أو حجى ، وَمَحْيايَ وَمَماتِي أي : وعملى فى حياتى ، وعند موتى من الإيمان والطاعة ، أو الحياة والممات أنفسهما ، لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، لا شَرِيكَ لَهُ أي : هى خالصة لله لا أشرك فيها غيره ، وَبِذلِكَ أي : بذلك القول والإخلاص ، أمرنى ربى ، وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ لأن إسلام كل نبى متقدم على إسلام أمته قُلْ لهم : أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا فأشرك مع اللّه ، وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ لأن كل شىء مربوب لا يصلح للربوبية. وهو جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم. وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ من شرك أو غيره إِلَّا عَلَيْها وزره ، فلا ينفعنى ضمانكم وكفالتكم من عقاب ربى ، وهو رد على الكفار حيث قالوا له : اعبد آلهتنا ونحن نتكفل لك بكل تباعة تتوقعها فى دنياك وأخراك ، ثم أوضح ذلك بقوله : وَلا تَزِرُ أي : تحمل نفس وازِرَةٌ أي : آثمة وِزْرَ نفس أُخْرى أي : لا يحمل أحد ذنوب أحد ، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ بالبعث والحساب ، فَيُنَبِّئُكُمْ ، أي : يخبركم بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من أمر الدين فيبين الرشد من الغى ، والمحق من المبطل.
الإشارة : الإخلاص سر من أسرار اللّه ، يودعه قلب من أحب من عباده ، وهو إخلاص العبودية لله وحده ، ولا يتحقق ذلك للعبد إلا بعد تحرره من رق الهوى وخروجه من سجن وجود نفسه ، وهذا شىء عزيز. ولذلك قيل
___________
(1) الآية 2 من سورة المؤمنون.(2/193)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 194
وقال الشيخ أبو طالب المكي رضى اللّه عنه : الإخلاص عند المخلصين : إخراج الخلق من معاملة الخالق ، وأول الخلق :
النفس ، والإخلاص عند المحبين : ألا يعمل عملا لأجل النفس ، وألّا يدخل عليه مطالعة العوض ، أو تشوف إلى حظ طبع ، والإخلاص عند الموحدين : خروج الخلق من النظر إليهم ، أي : لا يرون مع اللّه غيره فى الأفعال ، وترك السكون إليهم ، والاستراحة إليهم فى الأحوال. ه.
وبالإخلاص تتفاوت الدرجات ، كما أبان ذلك بقوله :
[سورة الأنعام (6) : آية 165]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
يقول الحق جل جلاله : وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ أي : يخلف بعضكم بعضا ، أو خلفاء اللّه فى أرضه تتصرفون فيها بإذنه على أن الخطاب عام ، أو خلفاء الأمم السابقة ، على أن الخطاب للمسلمين ، وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ فى الشرف والغناء والقوة والجاه ، وفى العلوم والأعمال والأحوال والإخلاص والمعارف ، وغير ذلك مما يقع به التفاضل بين العباد ، لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ أي : ليختبر شكركم على ما أعطاكم ، وأعمالكم فيما مكنكم فيه من الخلافة.
إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ لمن كفر نعمه ، إما فى الدنيا لمن عجل أخذه لأن كل آت قريب ، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن شكر نعمه وآمن وعمل بطاعته ، جمع بين التخويف والترجية ليكون العبد بينهما. وبالله التوفيق.
الإشارة : من شرف هذا الآدمي أن جعله خليفة عنه ، فى ملكه ، يتصرف فيه بنيابته عنه ، ثم إن هذا التصرف يتفاوت على قدر الهمم ، فبقدر ما ترتفع الهمة عن هذا العالم يقع للروح التصرف فى هذا الوجود ، فالعوام إنما يتصرفون فيما ملّكهم اللّه من الأملاك الحسية. والخواص يتصرفون بالهمة فى الوجود بأسره ، وخواص الخواص يتصرفون بالله ، أمرهم بأمر اللّه ، إن قالوا لشىء : كن - يكون بإذن اللّه ، مع إرادة اللّه وسابق علمه وقدره ، وإلا فالهمم لا تخرق أسوار الأقدار ، والحاصل : أن من بقي مع الأكوان شهودا وافتقارا ، كان محبوسا معها ، ومن كان مع المكون كانت الأكوان معه ، يتصرف فيها بإذن اللّه ، خليفة عنه فيها ، وهم متفاوتون فى ذلك كما تقدم.
وقال تعالى : وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ أي : خلفاء عنه تتصرفون فى الوجود بأسره بأرواحكم ، وأنتم فى الأرض بأشباحكم ، وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ من أقطاب وأوتاد ونجباء ونقباء وغير ذلك ، مما هو مذكور فى محله. خرطنا اللّه فى سلكهم ومنحنا ما منحهم ، بمنّه وكرمه ، وبسيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم حبيبه ونبيه. آمين - والحمد لله رب العالمين.(2/194)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 195
سورة الأعراف
هى مكية إلا ثمانى آيات ، من قوله تعالى : وَسْئَلْهُمْ إلى قوله تعالى : وَإِذْ نَتَقْنَا ، وقيل : إلى قوله : وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ. وآياتها : مائتان وخمس. قاله البيضاوي. ومضمنها : الحث على اتباع ما أنزله على نبيه من التوحيد والأحكام ، والتحذير من مخالفته ومتابعة الشيطان ، وذكر وبال من تبعه من القرون الماضية ، وما لحقهم من الهلاك فى الدنيا والعذاب فى الآخرة ، تتميما لقوله : إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ «1».
وافتتح السورة بالرموز التي بينه وبين حبيبه ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المص (1)
إما أن تكون مختصرة من المصطفى ، على عادة العشاق يرمزون إلى ذكر بعض حروف المحبوب ، اتقاء الرقباء ، أي : يا أيها المصطفى المختار لرسالتنا هذا كتاب أنزل إليك ، وإما أن تشير إلى العوالم الثلاثة : الجبروت والملكوت والملك. وزاد هنا الصاد ، إشارة إلى صدقه فيما يخبر به من علم الغيوب ، ولذلك ذكر هنا جملة من القصص والأخبار.
وقال الورتجبي : كان اللّه - تبارك وتعالى - إذا أراد أن يتكلم مع نبيه محمد صلّى اللّه عليه وسلّم بقصص الأنبياء ، وما جرى عليهم فى الدهور والأعصار ، وشأنه معهم فى الأسرار والحقائق والشرائع ، وأراد أن يخصه صلّى اللّه عليه وسلّم بشريعته ، وما يكون من طريقته الخاصة إلى حضرته ، ويخبره بما كان وما يكون ، أشار إلى هذه الأشياء بحروف التهجي ، وأعلمه سر ذلك بخفي الإشارة ولطيف الخطاب ، وعلم تعالى أنه عليه الصلاة والسلام يعرف بتلك الإشارة مراده من علم سابق ، ونبأ صادق ، وعلم تعالى أن عموم أمته لا تعرف تلك الإشارة ، فعبّر عنها بسورة طويلة من القرآن ليعرفوا مراده سبحانه من خطابه ، وخواص أمته ربما تطلع على سر بعضها ، كالصحابة والتابعين والمتقدمين من العلماء والأولياء ، كأنّ حروف المقطعات رموز ومعانى سور القرآن ، لا يعرف تلك الرموز إلا الربانيون والأحبار من الصديقين. ه.
___________
(1) من الآية 165 من سورة الأنعام. [.....](2/195)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 196
ثم ذكر حكمة إنزال الكتاب ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : آية 2]
كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
قلت : (كتاب) : خبر ، أي : هذا كتاب ، و(أنزل) : صفته ، والحرج : الضيق ، و(لتنذر) : متعلق بأنزل ، أو بلا يكن ، لأنه إذا أيقن أنه من عند اللّه جسر على الإنذار ، وكذا إذا لم يخفهم ، و(ذكرى) : يحتمل النصب بإضمار فعل ، أي :
لتنذر ولتذكر ذكرى ، والجر عطف على (لتنذر) ، أي : للإنذار والتذكير ، والرفع عطف على (كتاب).
يقول الحق جل جلاله : هذا كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ من ربك ، فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ أي :
ضيق وثقل من أجل تبليغه لمن يكذب به ، مخافة أن تكذّب فيه ، أو مخافة أن تقصر على القيام بتبليغه ، أو بحقوقه ، وتوجيه النهى إلى الحرج للمبالغة ، كقولك : لا أرينك هاهنا ، كأنه قال : فلا يحرج صدرك منه ، وإنما أنزلناه إليك لتنذر به من بلغه ، وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أي : وتذكيرا وموعظة للمؤمنين لأنهم هم المنتفعون بمواعظه.
الإشارة : تذكير أهل الإنكار ووعظهم يحتاج إلى سياسة كبيرة وحلم كبير وصبر عظيم ، لا يطيقه إلا الأكابر من أهل العلم بالله كالأنبياء والصديقين ، لسعة معرفتهم ، واتساع صدورهم لحمل الجفاء وتحمل الأذى ، ونهيه تعالى لنبيه - عليه الصلاة والسلام - عن ضيق صدره : تشريع لورثته من بعده الداعون إلى اللّه - عز وجل وإلّا فهو صلّى اللّه عليه وسلّم بحر واسع ، لا تكدره الدّلاء ، كما قال البوصيرى.
فهو البحر والأنام إضاء «1» واللّه تعالى أعلم.
ثم حضّ على الإتباع ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : آية 3]
اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3)
قلت : (قليلا) : صفة لمصدر ، أو زمان محذوف ، أي : تتذكرون تذكرا قليلا ، أو زمانا قليلا ، والعامل فيه :
تذكرون ، و(ما) : زائدة لتأكيد القلة.
___________
(1) الإضاءة : جمع إضاءة ، وهى : الغدران - جمع غدير. قلت : وهذا شطر بيت ، أوله : لا تقس بالنبيّ فى الفضل خلقا.(2/196)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 197
يقول الحق جل جلاله : اتَّبِعُوا أيها الناس ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ من أحكام القرآن والسنة إذ كله وحي يوحى ، وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى «1» ، وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أي : اللّه ، أَوْلِياءَ من الجن والإنس يضلونكم عن دينه ، أو : ولا تتبعوا من دون ما أنزل إليكم أولياء ، تتبعونهم فيما يأمرونكم به وينهونكم ، وتتركون ما أنزل إليكم من ربكم ، قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ : تتعظون حيث تتركون دين اللّه وتتبعون غيره ، بعد كمال إنذاره ووضوح تذكاره ، وذلك لانطماس البصيرة وعمى القلوب ، والعياذ بالله.
الإشارة : اتباع الحبيب فى أمره ونهيه يدل على صحة دعوى المحبة ، ومخالفته يدل على بطلانها.
تعصى الإله وأنت تظهر حبّه هذا محال فى القياس بديع
لو كان حبّك صادقا لأطعته إنّ المحب لمن يحبّ مطيع «2»
وجمع المحبة فى محبوب واحد يدل على كمالها ، وتفرق المحبة يدل على ضعفها ، ولذلك قال الشاعر :
كانت لقلبى أهواء مفرقة فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائى
فلا تجتمع المحبة فى محبوب واحد إلا بعد كمال معرفة المحبوب ، وشهود أنوار جماله وكمال أسراره. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر وبال من لم يتبع ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 4 الى 7]
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7)
قلت : (كم) : خبرية ، مفعول (أهلكنا) ، وهو على حذف الإرادة ، أي : فى الحال أردنا إهلاكها ، و(بياتا أو هم قائلون) : حالان ، أي : بائتين أو قائلين ، وأغنى الضمير فى (هم) عن واو الحال.
___________
(1) الآية 5 من سورة النجم.
(2) البيتان لعبد اللّه بن المبارك.(2/197)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 198
يقول الحق جل جلاله : كثيرا من القرى أَهْلَكْناها لما عصت أمرنا ، وخالفت ما جاءت به رسلنا ، فَجاءَها بَأْسُنا أي : عذابنا بَياتاً أي : ليلا ، كقوم لوط قلبت مدينتهم ، عاليها سافلها ، وأرسلت عليهم الحجارة بالسّحر ، أَوْ هُمْ قائِلُونَ نصف النهار ، كقوم شعيب ، نزلت عليهم نار فأحرقتهم ، وهو عذاب يوم الظلة ، وإنما خص الوقتين لأنهما وقت دعة واستراحة ، فيكون مجيىء العذاب فيهما أفظع.
فَما كانَ دَعْواهُمْ أي : دعاؤهم واستغاثتهم حين جاءهم بأسنا ، إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أي : إلا اعترافهم بظلمهم فيما كانوا عليه وبطلانه ، تحسرا ، أو : ما كان دعاؤهم إلا قولهم : .. يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ ، فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ «1» : ميتين ، فإذا أحييناهم وبعثناهم من قبورهم ، فو اللّه فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ عن قبول الرسالة وإجابة الرسل ، وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ عما أجيبوا به ، والمراد بهذا السؤال : توبيخ الكفرة وتقريعهم ، وأما قوله تعالى : وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ «2» فالمنفى : سؤال استعلام لأن اللّه أحاط بهم علما ، أو الأول فى موقف الحساب ، وهذا عند حصول العقاب.
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ أي : على الرسل والأمم ، فنقص على الرسل ما قوبلوا به من تصديق أو تكذيب ، وعلى الأمم ما قابلوا به الرسل من تعظيم أو إنكار ، أو فلنقص على الرسل ما علمنا من قومهم حين يقولون : لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ «3». نقص ذلك عليهم بِعِلْمٍ وتحقيق لاطلاعنا على أحوالهم ، وإحاطة علمنا بسرهم وعلانتيهم. وَما كُنَّا غائِبِينَ عنهم ، فيخفى علينا شىء من أحوالهم ، بل كنا حاضرين لديهم ، محيطين بسرهم وعلانيتهم.
الإشارة : ما أهلك اللّه قوما وعذبهم إلا بتضييع الشرائع أو إنكار الحقائق ، فمن قام بهما معا كان مصحوبا بالسلامة ، موصوفا بالكرامة فى الدارين ، ومن ضيعهما أو أحدهما لحقه الوبال فى الدارين ، فإذا لحقه إهلاك لم يسعه إلا الإقرار بالظلم والتقصير ، حيث فاته الحزم والتشمير ، فإذا ندم لم ينفعه الندم ، حيث زلت به القدم ، فالبدار البدار إلى التوبة والانكسار ، والتمسك بشريعة النبي المختار ، والتحقق بمعرفة الواحد القهار ، وصحبة الصالحين الأبرار ، والعارفين الكبار ، قبل أن تصير إلى قبرك فتجده إما روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار.
وكما أن الحق تعالى يسأل الرسل عما أجيبوا به ، يسأل خلفاءهم - وهم الأولياء والعارفون - عما إذا قوبلوا من تعظيم أو إنكار ، فيرفع من عظمهم فى أعلى عليين ، ويحط من أنكرهم فى محل أهل اليمين. وبالله التوفيق.
___________
(1) الآيتان 14 - 15 من سورة الأنبياء.
(2) الآية 78 من سورة القصص.
(3) من الآية 109 من سورة المائدة.(2/198)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 199
ثم ذكر مقادير الأعمال ووزنها ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 8 الى 9]
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9)
قلت : (الوزن) : مبتدأ ، و(يومئذ) : خبره ، و(الحق) : صفته ، أي : الوزن العدل حاصل يومئذ.
يقول الحق جل جلاله : وَالْوَزْنُ أي : وزن الأعمال ، على نعت الحق والعدل ، حاصل يوم القيامة ، حين يسأل الرسل والمرسل إليهم. والجمهور على أن صحائف الأعمال توزن بميزان له لسان وكفتان ، ينظر إليه الخلائق إظهارا للمعدلة وقطعا للمعذرة ، كما يسألهم عن أعمالهم ، فتعترف بها ألسنتهم ، وتشهد بها جوارحهم ، ويؤيده ما روى : «أن الرجل يؤتى به إلى الميزان ، فينشر عليه تسعة وتسعون سجلا ، كلّ سجلّ مد البصر ، فتخرج له بطاقة فيها كلمة الشهادة ، فتوضع السّجلّات فى كفة ، والبطاقة فى كفة ، فتثقل البطاقة ، وتطيش السّجلّات» «1».
وقيل : توزن الأشخاص لما روى عنه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : «إنّه ليأتى العظيم السّمين يوم القيامة لا يزن عند اللّه تعالى جناح بعوضة» «2». والتحقيق : أن المراد به الإهانة والتصغير ، وأنه لا يساوى عند اللّه شيئا لاتباعه الهوى.
ثم فصل فى الأعمال فقال : فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ أي : حسناته ، أو الميزان الذي يوزن به حسناته ، وجمعه باعتبار اختلاف الموزونات وتعدد الوزن ، فعلى الأول هو جمع موزون ، وعلى الثاني جمع ميزان ، فمن رجحت حسناته فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالنجاة والثواب الدائم ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بتضييع الفطرة السليمة التي فطروا عليها ، واقتراف ما عرضها للهلاك ، بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ حيث بدلوا التصديق بها بالتكذيب ، والعمل فيها بالتفريط. نسأل اللّه تعالى الحفظ.
الإشارة : العمل الذي يثقل على النفس كله ثقيل فى الميزان لأنه لا يثقل عليها إلا ما كان حقا ، والعمل الذي يخف على النفس كله خفيف لأنه فيه نوع من الهوى إذ لا يخف عليها إلا ما لها فيه حظ وهوى. وفى الحكم :
___________
(1) أخرجه بنحوه الإمام أحمد فى المسند 2/ 213 والترمذي فى (الإيمان ، باب فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا اللّه) وابن ماجه فى (الزهد ، باب ما يرجى من رحمة اللّه يوم القيامة) وصححه الحاكم 1/ 6 ، من حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص.
(2) أخرجه البخاري فى (تفسير سورة الكهف ، باب : «أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم ..») ومسلم فى (صفات المنافقين وأحكامهم ، باب صفة القيامة ..) من حديث أبى هريرة.(2/199)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 200
«إذا التبس عليك أمران ، فانظر أثقلهما على النفس فاتبعه فإنه لا يثقل عليها إلا ما كان حقا». وقال أبو بكر الصديق رضى اللّه عنه : والله ما ثقل ميزان عبد إلا باتباعه الحق ، وما خف إلا باتباعه الهوى. قال تعالى : وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ.
ه. بمعناه ، ذكره فى القوت. وهذا فى غير النفس المطمئنة ، وأما هى فلا يثقل عليها شىء ، وقد يثقل عليها الباطل ، ويخف عليها الحق ، لكمال رياضتها. واللّه تبارك وتعالى أعلم.
ثم ذكّرهم بالنعم ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : آية 10]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10)
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ تتصرفون فيها بالبناء والسكن ، وبالغرس والحرث والزرع ، وغير ذلك من أنواع التصرفات ، وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ : أسبابا تعيشون بها كالتجارة وسائر الحرف ، قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ على هذه النعم ، فتقابلون المنعم بالكفر والعصيان ، فأنتم جديرون بسلبها عنكم ، وإبدالها بالنقم ، لو لا فضله ورحمته.
الإشارة : نعمة التمكين فى الأرض متحققة فى أهل التجريد ، المنقطعين إلى اللّه تعالى ، فهم يذهبون فى الأرض حيث شاءوا ، ومائدتهم ممدودة يأكلون منها حيث شاءوا ، فهم متمكنون من أمر دينهم لقلة عوائدهم ، ومن أمر دنياهم لأنها قائمة بالله ، تجرى عليهم أرزاقهم من حيث لا يحتسبون ، تخدمهم ولا يخدمونها «يا دنياى اخدمي من خدمنى ، وأتعبى من خدمك». فمن قصّر منهم فى الشكر توجه إليه العتاب بقوله : وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ إلى قوله : قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ ، ومن تحقق شكره قيل له : وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ «1». واللّه تعالى أعلم.
ولما ذكر نعمة الإمداد أتبعه بنعمة الإيجاد ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 11 الى 18]
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)
قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
___________
(1) الآيتان : 5 - 6 من سورة القصص.(2/200)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 201
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ أي : خلقنا أباكم آدم طينا غير مصور ، ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ أي : صورنا خلقة أبيكم آدم. نزّل خلقه وتصويره منزلة خلق الكل وتصويره لأنه المادة الأصلية ، أي : ابتدأنا خلقكم ثم تصويركم بأن خلقنا أباكم آدم ، ثم صورناه ، ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ تعظيما له ، حيث وجد فيه ما لم يوجد فيهم ، واختبارا لهم ليظهر من يخضع ممن لم يخضع ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ لآدم.
قالَ له الحق تبارك وتعالى : ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ أي : أن تسجد ، فلا : زائدة ، مؤكدة معنى الفعل الذي دخلت عليه ، ومنبهة على أن الموبّخ عليه ترك السجود ، وقيل : الممنوع من الشيء كالمضطر إلى خلافه ، فكأنه قال : ما اضطرك إلى ترك السجود إِذْ أَمَرْتُكَ.
وفيه دليل على أن مطلق الأمر للوجوب والفور ، فأجاب بقوله : قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ، أي : المانع لى من السجود هو كونى أنا خير منه ، ولا يحسن للفاضل أن يسجد للمفضول ، فكيف يحسن أن يؤمر به ، فإبليس هو الذي سنّ التكبر ، وقال بالتحسين والتقبيح العقليين أولا ، وبهذا الاعتراض كفر إبليس إذ ليس كفره كفر جحود.
ثم بيّن وجه الأفضلية ، فقال : خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ، فاعتقد أن النار خير من الطين ، وقد غلط فى ذلك ، فإن الأفضلية إنما تظهر باعتبار النتائج والثمرات ، لا باعتبار العنصر والمادة فقط ، ولا شك أن الطين ينشأ منه ما لا يحصى من الخيرات كالثمار والحبوب وأنواع الفواكه.
قال البيضاوي : رأى الفضل كله باعتبار العنصر ، وغفل عما يكون باعتبار الفاعل ، كما أشار إليه بقوله تعالى : ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ «1» أي : بغير واسطة ، وباعتبار الصورة ، كما نبه عليه بقوله تعالى : وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي وباعتبار الغاية ، وهو ملاكه ، ولذلك أمر الملائكة بالسجود له لما تبين لهم أنه أعلم منهم ، وأنه له خواصا ليست لغيره. ه.
___________
(1) من الآية 75 من سورة ص.(2/201)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 202
ولما تبين عناده قال له تعالى : فَاهْبِطْ مِنْها أي : من السماء أو من الجنة ، فَما يَكُونُ لَكَ أي : فما يصح لك أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها وتعصى فإنها موطن الخاشع المطيع ، وفيه دليل على أن الكبر لا يليق بأهل الجنة ، فإنه تعالى إنما أنزله وأهبطه لتكبره لا لمجرد عصيانه ، فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ أي : ممن أهانه اللّه لتكبره. قال صلّى اللّه عليه وسلّم : «من تواضع للّه رفعه اللّه ، ومن تكبّر وضعه اللّه» «1».
ولما تحقق إبليس أنه مطرود ، سأل الإمهال فقال : أَنْظِرْنِي أي : أخرنى ، إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فلا تمتنى ، ولا تعجل عقوبتى ، قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ يقتضى أنه أجابه إلى ما سأل ، لكنه محمول على ما فى الآية الأخرى : إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ «2» وهو نفخ الصور النفخة الأولى ، قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي أي : بعد أن أمهلتنى لأجتهدن فى إغوائهم بأى طريق يمكننى ، بسبب إغوائك إياى ، واللّه لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ، وهو الطريق الذي يوصلهم إليك ، فأقعد فيه ، وأردهم عنه ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ فآتيهم من الجهات الأربع ، وذلك عبارة عن تسلطه على بنى آدم كيفما أمكنه.
قال ابن عباس : مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ : الدنيا يزيّنها لهم ، وَمِنْ خَلْفِهِمْ : الآخرة ينسيها لهم ، (و عن أيمانهم) :
الحسنات يثبطهم عنها ، وَعَنْ شَمائِلِهِمْ : السيئات يزينها فى أعينهم. ه. ولم يجعل له سبيلا من فوقهم ، ولا من تحت أرجلهم لأن الرحمة تنزل من أعلى ، فلم يحل بينهم وبينها ، والإتيان من تحت موحش ، وأيضا : السفليات محل للتواضع والخشوع ، فتكثر فيه الأنوار فيحترق بها. وقال الشيخ أبو العباس المرسى رضى اللّه عنه : (لأنّ فوق : التوحيد ، وتحت : الإسلام ، ولا يمكن أن يأتى من توحيد ولا إسلام).
ثم قال تعالى : وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ مطيعين ، قال بعض الصوفية : (لو كان ثم مقام أعظم من الشكر لذكره إبليس) فالشكر أعظم المقامات ، وهو الطريق المستقيم الذي قعد عليه إبليس ، والشكر : هو ألا يعصى اللّه بنعمه ، أو : صرف الجوارح كلها فى طاعة اللّه ، أو رؤية المنعم فى النعمة. وإنما قال إبليس ذلك ظنّا لقوله :
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُُ
«3» ، وسيأتى فى الإشارة حقيقته.
قالَ تعالى لإبليس : اخْرُجْ مِنْها من السماء أو الجنة ، مَذْؤُماً أي : مذموما ، من ذامه ، أي :
ذمه ، مَدْحُوراً أي : مطرودا. واللّه لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فى الكفر لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ أي :
منك وممن تبعك.
___________
(1) أخرجه البيهقي فى شعب الإيمان (الباب 57) من حديث سيدنا عمر بن الخطاب - رضى اللّه عنه - .
(2) الآية 38 من سورة الحجر.
(3) من الآية 20 من سورة سبأ.(2/202)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 203
تنبيه : ذكر الفخر الرازي ، فى تفسيره ، عن الشهرستاني أن إبليس جرت بينه وبين الملائكة مناظرة بعد الأمر بالسجود لآدم ، فقال لهم : إنى أسلم أن اللّه خالقى وموجدى ، وهو موجد الخلق ، ولكن لى على حكمته أسئلة : الأول :
ما الحكمة فى إيجاد خلقه ، لا سيما وكان عالما بأن الكافر لا يستوجب عند خلقه الآلام؟ الثاني : ما الفائدة فى التكليف ، مع أنه لا يعود عليه نفع ولا ضرر ، وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف؟ الثالث : هب أنه كلفنى بطاعته ومعرفته ، فلما ذا كلفنى بالسجود لآدم؟ الرابع : لما عصيته فلم لعننى وأوجب عقابى ، مع أنه لا فائدة له ولا لغيره فيه ، وفيه أعظم الضرر؟ الخامس : لما فعل ذلك فلم مكننى من الدخول إلى الجنة ووسوسة آدم؟ السادس : ثم لما فعل ذلك ، فلم سلطنى على أولاده ، ومكننى من إغوائهم وإضلالهم؟ السابع : ثم لما استمهلته بالمدة الطويلة فى ذلك فلم أمهلنى ، ومعلوم أن العالم لو كان خاليا من الشر لكان ذلك خيرا؟. ه. قال شارح الأناجيل : فأوحى اللّه إليه من سرادقات الكبرياء : إنك ما عرفتنى ، ولو عرفتنى لعلمت أنه لا اعتراض علىّ فى شىء من أفعالى ، فأنا اللّه لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل.
قال الشهرستاني : اعلم أنه لو اجتمع الأولون والآخرون ، وحكموا بتحسين العقل وتقبيحه لم يجدوا عن هذه الشبهات تخلصا ، أما إذا أجبنا بما أجاب به الحق - سبحانه - زالت الشبهات واندفعت الاعتراضات. ه. قلت : من تشمرت فكرته بنور المعرفة ، وعرف أسرار الحكمة والقدرة ، لم يصعب عليه مثل هذه الشبهات ، وسأذكر الجواب عنها على سبيل الاختصار :
أما الحكمة فى إيجاد خلقه فخلقهم ليعرف بهم. وفى الحديث القدسي : «كنت كنزا لم أعرف ، فأحببت أن أعرف ، فخلقت خلقا لأعرف بهم ، وليظهر بهم آثار قدرته وأسرار حكمته. وأما تعذيب الكافر بالآلام فليظهر فيه مقتضى اسمه المنتقم.
أما فائدة التكليف فلتقوم الحجة على العبيد ، وليتميز من يستحق الإحسان ممن يستحق العذاب ، فإذا عذبه لم يكن ظالما له وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً «1» ، ولتظهر صورة العدل فى الجملة. وأما تكليفه بالسجود لآدم فلأنه ادعى المحبة ، ومقتضاها الطاعة للحبيب فى كل ما يشير إليه ، ولا تصعب إلا فى الخضوع للجنس ، أو من دونه ، فأمره بالسجود لمن دونه فى زعمه ليظهر كذبه فى دعوى محبته ، وأما لعنه وطرده فهو جزاء من كذب
___________
(1) من الآية 49 من سورة الكهف. [.....](2/203)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 204
وعصى. وهذا الطرد كان فى علمه تعالى ، ولكن حكمته تعالى اقتضت ترتيب الأسباب وارتباطها بالمسببات ، فكان امتناعه واعتراضه سببا لإظهار ما سبق له فى علم اللّه ، كما كانت وسوسته لآدم سببا فى إظهار خروجه من الجنة السابق فى علم اللّه. وأما تمكينه من دخول الجنة فليتسبب عنه هبوط آدم الذي سبق فى علمه لأن الحكمة اقتضت أن لكل شىء سببا. أما تسلطه على أولاده ، فليكون منديلا تمسح به أو ساخ الأقدار إذ إن الكفر والإيمان والطاعة والعصيان إنما هو بمشيئة الواحد القهار ، ولا فعل لغيره ، لكن الحق تعالى علمنا الأدب ، فخلق الشيطان والنفس والهوى مناديل ، فما كان فيه كمال نسبه لله ، وما كان فيه نقص نسبه للشيطان والنفس أدبا مع الحضرة.
وأما إمهاله فليدوم هذا المنديل عندهم ، يمسحون فيه أوساخ المقادير التي تجرى عليهم إلى انقضاء وجودهم.
وقوله : (معلوم أن العالم لو كان خاليا من الشر لكان ذلك خيرا) ، مغالطة لأن حكمته تعالى اقتضت وجود الضدين : الخير والشر ، وبهما وقع التجلي والظهور ليظهر آثار أسمائه تعالى فإن اسمه المنتقم والقهار يقتضى وجود الشر ، فيما نفهم ، وليظهر انتقامه وبطشه للعيان ، ومعلوم أن الملك إذا وصف بوصف جلالى أو جمالى لا يظهر شرف ذلك الاسم إلا بظهور آثاره فى مملكته. وقوله : (إنك ما عرفتنى ..) إلخ .. يقتضى أنه لو عرف اللّه حق معرفته لفهم أسرار هذه الأشياء التي اعترض بها على ما بيناها. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : الأكوان ظاهرها أغيار ، وباطنها أنوار وأسرار ، فمن وقف مع ظاهرها لزمه الاعتراض والإنكار ، ومن نفذ إلى شهود باطنها لزمه المعرفة والإقرار ، ولعل إبليس لم ير - فى حال الأمر بالسجود - من آدم إلا الأغيار ، ولو رأى باطنه لكان أول ساجد للّه الواحد القهار.
ثم ذكر دخول آدم الجنة وخروجه منها ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 19 الى 25]
وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23)
قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25)(2/204)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 205
يقول الحق جل جلاله : وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ حواء الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما من ثمارها ، وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ التين أو العنب أو الحنطة ، فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ لأنفسكما بمخالفتكما ، فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ أي : فعل الوسوسة لأجلهما ، وهو الصوت الخفي ، لِيُبْدِيَ أي : ليظهر لَهُما ما وُورِيَ أي : ما غطى عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما أي : عوراتهما ، واللام : للعاقبة ، أي : فعل الوسوسة لتكون عاقبتهما كشف عورتهما ، وكانا لا يريانها من أنفسهما ، ولا أحدهما من الآخر. وفيه دليل على أن كشف العورة ، ولو عند الزوج من غير حاجة - قبيح مستهجن فى الطباع.
وَقالَ لهما : ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا كراهية أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ. واستدل به من قال بفضل الملائكة على الأنبياء ، وجوابه : أنه كان من المعلوم عندهما أن الحقائق لا تنقلب ، وإنما كانت رغبتهما فيما يحصل لهما من الغنى عن الطعام والشراب ، فيمكن لهما الخلود فى الجنة ، ولذلك قال : أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ الذين يخلدون فى الجنة.
ويؤخذ من قوله تعالى : ما نَهاكُما رَبُّكُما ، أن آدم عليه السّلام لم يكن ناسيا للنهى ، وإلا لما ذكره بقوله : ما نَهاكُما رَبُّكُما ، وقوله فى سورة طه : فَنَسِيَ ، أي : نسى أنه عدو له ، ولذلك ركن إلى نصيحته ، وقبل منه حتى تأول أن النهى عن عين الشجرة لا عن جنسها ، فأكل من جنسها رغبة فى الخلود ، ولكنه غره من حيث الأخذ بالظواهر وترك الاحتياط.
ولم يقصد إبليس إخراجهما من الجنة ، وإنما قصد إسقاطهما من مرتبتهما ، وإبعادهما كما بعد هو ، فلم يبلغ قصده ولا أدرك مراده ، بل ازداد سخينة عين ، وغيظ نفس ، وخيبة ظن. قال اللّه تعالى : ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى «1» ، فصار عليه السّلام خليفة لله فى أرضه ، بعد أن كان جارا له فى داره ، فكم بين الخليفة والجار؟
___________
(1) الآية 122 من سورة طه.(2/205)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 206
وَقاسَمَهُما أي : حلف لهما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ فيما قلت لكما. وذكر قسم إبليس بصيغة المفاعلة التي تكون بين اثنين مبالغة لأنه اجتهد فيه ، أو لأنه أقسم لهما ، وأقسما له أن يقبلا نصيحته.
فَدَلَّاهُما ، أي : أنزلهما إلى الأكل من الشجرة ، بِغُرُورٍ أي : بما غرهما به من القسم ، لأنهما ظنا أن أحدا لا يحلف بالله كاذبا ، فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ أي : وجدا طعمها ، آخذين فى الأكل منها ، بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما ، وتهافت عنهما ثيابهما ، فظهرت لهما عوراتهما أدبا لهما. وقيل : كان لباسهما نورا يحول بينهما وبين النظر ، فلما أكلا انكشف عنهما ، وظهرت عورتهما ، وَطَفِقا أي : جعلا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أي : أخذا يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة ليستترا به ، قيل : كان ورق التين. فآدم أول من لبس المرقعة ، وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ هذا عتاب على المخالفة ، وتوبيخ على الاغترار بالعدو. وفيه دليل على أن مطلق النهى للتحريم.
ثم صرحا بالتوبة فقالا : رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا حين صدّرناها للمعصية ، وتعرضنا للإخراج من الجنة ، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ وهذه هى الكلمات التي تلقاها من ربه فتاب عليه بها.
قال البيضاوي : فيه دليل على أن الصغائر يعاقب عليها إن لم تغفر ، وقالت المعتزلة : لا يجوز المعاقبة عليها مع اجتناب الكبائر ، ولذلك قالوا : إنما قالا ذلك على عادة المقربين فى تعظيم الصغير من السيئات ، واستحقار العظيم من الحسنات. ه.
قالَ اهْبِطُوا الخطاب لآدم وحواء وذريتهما ، أو : لهما ولإبليس ، وكرر الأمر له تبعا ليعلم أنهم قرناء له أبدا. حال كونكم بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أي : متعادين ، وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ أي : استقرار ، وَمَتاعٌ أي : تمتع ، إِلى حِينٍ انقضاء آجالكم ، قالَ فِيها أي : فى الأرض تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ للجزاء ، بالنعيم ، أو بالعذاب الأليم ، على حسب سعيكم فى هذه الدار الفانية.
الإشارة : قال بعض العارفين : كل ما نهى اللّه تعالى عنه فهو شجرة آدم ، فمن دخل جنة المعارف ، ثم غلبه القدر فأكل من تلك الشجرة - وهى شجرة سوء الأدب - أخرج منها ، فإن كان ممن سبقت له العناية ألهم التوبة ، فتاب عليه وهداه ، وأهبطه إلى أرض العبودية ليكون خليفة اللّه فى أرضه ، فأنعم بها معصية أورثت الخلافة والزلفى. وفى الحكم : «ربما قضى عليك بالذنب فكان سبب الوصول». وقال أيضا : «معصية أورثت ذلا وافتقارا ، خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا». وقال بعضهم : كل سوء أدب يثمر لك أدبا فهو أدب. واللّه تعالى أعلم.(2/206)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 207
ثم ذكّرهم بنعمة اللباس ، الذي عوضهم به فى الدنيا عن لباس الجنة ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : آية 26]
يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
قلت : من قرأ : (لباس) بالرفع فهو مبتدأ ، والجملة : خبر ، والرابط : الإشارة ، والريش : لباس الزينة ، مستعار من ريش الطير.
يقول الحق جل جلاله : يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً أي : خلقناه لكم بتدبيرات سماوية وأسباب نازلة ، ونظيره : قوله تعالى : وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ «1» ، وقوله تعالى : وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ «2». من صفة ذلك اللباس : يُوارِي أي : يستر سَوْآتِكُمْ التي قصد إبليس إبداءها ، ويغنيكم عن خصف الورق. روى أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ، ويقولون : لا نطوف فى ثياب عصينا اللّه تعالى فيها ، فنزلت. ولعل ذكر قصة آدم تقدمة لذلك حتى يعلم أن انكشاف العورة أول سوء أصاب الإنسان من الشيطان ، وأنه أغواهم فى ذلك كما أغوى أبويهم. قاله البيضاوي.
وَرِيشاً أي : ولباسا فاخرا تتجملون به وَلِباسُ أي : وأنزلنا عليكم لباس التَّقْوى وهى خشية اللّه تعالى ، أو الإيمان ، أو السمت الحسن ، واستعار لها اللباس كقولهم : ألبسك اللّه لباس تقواه ، وقيل : لباس الحرب. ومن قرأ بالرفع فخبره : ذلِكَ خَيْرٌ أي : لباس التقوى خير من لباس الدنيا لبقائه فى دار البقاء دون لباس الدنيا فإنه فإن فى دار الفناء ، ذلِكَ أي : إنزال اللباس من حيث هو خير مِنْ آياتِ اللَّهِ الدالة على فضله ورحمته ، لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فيعرفون نعمه ، فيشكرون عليها ، أو يتعظون فينزجرون عن القبائح.
الإشارة : اللباس الذي يوارى سوءات العبودية - أي : نقائصها - هى أوصاف الربوبية ونعوت الألوهية من عز وغنى ، وعظمة وإجلال ، وأنوار وأسرار ، التي أشار إليها فى الحكم بقوله : «لو كنت لا تصل إليه إلا بعد فناء مساوئك ، ومحو دعاويك ، لم تصل إليه أبدا ، ولكن إذا أراد أن يوصلك إليه غطى وصفك بوصفه ، ونعتك بنعته ، فوصلك بما منه إليك ، لا بما منك إليه». والريش هو بهجة أسرار المعاني التي تغيب ظلمة الأوانى ، أو بهجة الأنوار التي تفنى الأغيار ، ولباس التقوى هى حفظه ورعايته لأوليائه فى الظاهر والباطن مما يكدر صفاءهم أو يطمس أنوارهم.
واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) من الآية 6 من سورة الزمر.
(2) من الآية 25 من سورة الحديد.(2/207)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 208
ثم حذّرهم من الشيطان ، وأعلمهم بسابق عداوته ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : آية 27]
يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27)
يقول الحق جل جلاله : يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ بأن يشغلكم عما يقربكم إلى اللّه ، ويحملكم على ما يمنعكم من دخول جنته ، كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ بسبب غروره ، والنهى ، فى اللفظ ، للشيطان ، والمراد : نهيهم عن اتباعه. حال كون أبويكم يَنْزِعُ الشيطان عَنْهُما لِباسَهُما بسبب غروره لهما ، وإسناد النزع إليه : مجاز للسببية لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ ، وهو تعليل للنهى ، وتحذير من فتنته ، وقَبِيلُهُ : جنوده. ورؤيتهم إيانا من حيث لا نراهم فى الجملة لا يقتصى امتناع رؤيتهم وتمثلهم لنا ، وقد جاءت فى رؤيتهم أحاديث صحيحة فتحمل الآية على الأكثر والغالب. قال تعالى : إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بما أوجدنا بينهم من التناسب ، أو بإرسالهم عليهم ، وتمكينهم من خذلانهم ، وحملهم على ما سولوا لهم ، والآية هى مقصود القصة وفذلكة الحكاية. قاله البيضاوي.
الإشارة : الحكمة فى خلق الشيطان هى كونه منديلا تمسح فيه أوساخ الأقدار ، وكونه يحوش أولياء اللّه إلى اللّه ، كلما نخسهم بنزعه فزعوا إلى مولاهم ، فلا يزال بهم كذلك حتى يوصلهم إلى حضرته ، فحينئذ ينقاد إليهم ، ويخدمهم بأولاده. وفى الحكم : «إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك ، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده».
قال محمد بن واسع : تمثل لى الشيطان فى طريق المسجد ، فقال لى : يا ابن واسع ، كلما أردتك وجدت بينى وبينك حجابا ، فما ذاك؟ قال : أقرأ ، كلما أصبحت : اللهم إنك سلطت علينا عدوا من أعدائنا ، بصيرا بعيوبنا ، مطلعا على عوراتنا ، يرانا هو وقبيله من حيث لانراهم ، اللهم آيسه منا كما آيسته من رحمتك ، وقنطه منا كما قنطته من عفوك ، وباعد بيننا وبينه كما باعدت بين المشرق والمغرب - وفى رواية : كما باعدت بينه وبين جنتك - إنك على كل شىء قدير. ه.
ثم ذكر مساوئ أولياء الشيطان ، فقال : (2/208)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 209
[سورة الأعراف (7) : الآيات 28 الى 30]
وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
يقول الحق جل جلاله ، فى وصف المشركين : وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أي : فعلة متناهية فى القبح كعبادة الصنم ، وكشف العورة فى الطواف ، احتجوا بفعل آبائهم فقالوا : وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها فاعتذروا بعذرين باطلين : أحدهما : تقليد آبائهم ، والآخر : افتراؤهم على اللّه ، فأعرض عن الأول لظهور فساده ، ورد الثاني بقوله : قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ لأن اللّه تعالى جرت عادته على الأمر بمحاسن الأفعال ومكارم الخلال. ولا حجة فيه للمعتزلة. انظر البيضاوي.
والآية كأنها جواب سؤالين مترتبين كأنه قيل لهم : لم فعلتم هذه الفواحش؟ قالوا : وجدنا عليها آباءنا ، فقيل :
ومن أين أخذها آباؤكم؟ قالوا : اللّه أمرنا بها ، فكذبهم اللّه بقوله : إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ، أي : أتتقولون على اللّه ما لا علم لكم به إنكار يتضمن النهى عن الافتراء على اللّه.
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ أي : العدل ، وهو الوسط من كل أمر ، المتجافى عن طرفى الإفراط والتفريط ، وأمر بأن قال : وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي : افعلوا الصلاة فى كل مكان يمكن فيه السجود إذا حضرتكم ، ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم. والمعنى : إباحة الصلاة فى كل موضع ، فهو كقوله صلّى اللّه عليه وسلّم :
«جعلت لى الأرض مسجدا وطهورا». وقيل : المراد إحضار النية والإخلاص للّه فى كل صلاة بدليل قوله :
وَادْعُوهُ أي : اعبدوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي : الطاعة ، فلا تعبدوا معه غيره ، فإنكم راجعون إليه ، كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فيجازيكم على أعمالكم ، فاحتج على البعث الأخروى بالبدأة الأولى لاشتراكهما فى تعلق القدرة بهما ، بل العود أسهل باعتبار العادة ، وقيل : كما بدأكم من التراب ، تعودون إليه ، وقيل : كما بدأكم حفاة عراة غرلا ، تعودون ، وقيل : كما بدأكم مؤمنا وكافرا ، يعيدكم. قاله البيضاوي.
فَرِيقاً هَدى بأن وفقهم للإيمان ، وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ بمقتضى القضاء السابق ، أي : خذل فريقا حق عليهم الضلالة ، إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ يطيعونهم فيما يأمرونهم به ، مِنْ دُونِ اللَّهِ ، (2/209)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 210
وهذا تعليل لخذلانهم وتحقيق لضلالتهم ، وَيَحْسَبُونَ أي : يظنون أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ فهم على جهل مركب ، وفيه دليل على أن الكافر المخطئ والمعاند : سواء فى الذم واستحقاق العذاب إذ لا يعذر بالخطأ فى أمر التوحيد.
الإشارة : تقليد الآباء فى المساويء من أقبح المساويء ، واحتجاج العبد بتخليته مع هواه هو ممن اتخذ إلهه هواه ، إن اللّه لا يأمر بالفحشاء ، فإذا قال العبد - فى حال انهماكه : هكذا أحبنى ربى ، فهو خطأ فى الاحتجاج بل يجاهد نفسه فى الإقلاع ، ويتضرع إلى مولاه فى التوفيق فإن الحق تعالى إنما يأمر بالعدل والإحسان ، ودوام الطاعة والإذعان ، والخضوع للّه فى كل زمان ومكان ، والتحقق بالإخلاص فى كل أوان ، وإفراد المحبة والولاية للكريم المنان. وباللّه التوفيق.
ثم أمرهم بستر العورة فى الصلاة والطواف ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : آية 31]
يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
يقول الحق جل جلاله : يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ أي : ثيابكم التي تستر عورتكم ، عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ لطواف أو صلاة ، واحتج به من أوجب ستر العورة فى الصلاة ، ومن السّنة أن يأخذ الرجل أحسن ثيابه للصلاة ، وقيل : المراد بالزينة : زيادة على الستر ، كالتجمل للجمعة بأحسن الثياب وبالسواك والطيب ، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا أمر إباحة لما روى أن بنى عامر ، فى أيام الحج ، كانوا لا يأكلون من الطعام إلا قوتا ، ولا يأكلون دسما يعظمون بذلك حجهم ، وهمّ المسلمون بذلك ، فنزلت.
وَلا تُسْرِفُوا بتحريم الحلال ، أو بالتقدم إلى الحرام ، أو بإفراط الطعام والشره إليه ، وقد عدّ فى الإحياء من المهلكات : شره الطعام ، وشره الوقاع ، أي : الجماع. إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ لا يرتضى فعلهم. وعن ابن عباس رضى اللّه عنه : (كل ما شئت ، والبس ما شئت ، ما أخطأتك خصلتان : سرف ومخيلة) «1» أي : تكبر. وقال على بن الحسين بن واقد : جمع اللّه الطب فى نصف آية فقال : كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا.
الإشارة : إنما أمر الحق - جل جلاله - بالتزين للصلاة والطواف لأن فيهما الوقوف بين يدى ملك الملوك ، وقد جرت عادة الناس فى ملاقاة الملوك : التهيؤ لذلك بما يقدرون عليه من حسن الهيئة لأن ذلك زيادة تعظيم
___________
(1) أخرجه ابن أبى شبية فى المصنف (الأدب واللباس) موقوفا على ابن عباس رضى اللّه عنه. وأخرجه مرفوعا النسائي فى (الزكاة ، باب الاختيال فى الصدقة) وابن ماجه فى (اللباس ، باب البس ما شئت ما أخطأك سرف أو مخيلة) وأحمد فى المسند 2/ 181 عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم «كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا ما لم يخالطه إسراف أو مخيلة».(2/210)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 211
للملك ، وتزيين البواطن بالمحبة والوداد أحسن من تزيين الظواهر وخراب البواطن «إنّ اللّه لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ، وإنّما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» «1». وملاقاة الملك بالذل والانكسار أحسن من ملاقاته بالتكبر والاستظهار. واللّه تعالى أعلم.
ولما تعاهدت قريش ، ومن دان دينها ، أنهم لا يأكلون أيام الحج دسما ولا سمنا ولا أقطا ولا طعاما جاء من الحل ، ردّ اللّه عليهم بقوله :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 32 الى 34]
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
قلت : من قرأ : (خالصة) بالرفع ، فخبر بعد خبر ، أو خبر عن مضمر ، ومن قرأ بالنصب ، فحال.
يقول الحق جل جلاله : قُلْ لهم : مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ وهى ما يتجمل به من الثياب وغيرها ، الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ من النبات كالقطن والكتان ، أو الحيوان كالحرير والصوف والوبر ، والمعادن كالدروع والحلي ، وَقل أيضا : من حرم الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ أي : المستلذات من المآكل والمشارب ، ويدخل فيها المناكح إذ هى من أعظم الطيبات. وفيه دليل على أن الأصل فى المطاعم والملابس وأنواع التجملات : الإباحة لأن الاستفهام للإنكار ، وبه رد مالك - رحمه اللّه - على من أنكر عليه من الصوفية ، وقال له : اتق اللّه يا مالك بلغني أنك تلبس الرقيق ، وتأكل الرقاق ، فكتب إليه بالآية.
قال تعالى : قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، ويشاركهم فيها الكفار ، ويوم القيامة تكون خالِصَةً لهم دون غيرهم. كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي : كتفصيلنا هذا الحكم نفصل سائر الأحكام لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فينزلونها فى محلها بخلاف الجهال.
___________
(1) أخرجه مسلم فى (البر والصلة ، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره) من حديث أبى هريرة رضى اللّه عنه.(2/211)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 212
قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ وهى ما تزايد قبحها من المعاصي ، وقيل : ما يتعلق بالفروج ، ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ أي : جهرها وسرها ، أو ما يتعلق بالجوارح الظاهرة والعوالم الباطنية وهى القلوب ، وَالْإِثْمَ كقطع الرحم ، أو عام فى كل ذنب ، وَالْبَغْيَ وهو الظلم كقطع الطريق والغصب ، وغير ذلك من ظلم العباد ، أو التكبر على عباد اللّه وقوله : بِغَيْرِ الْحَقِّ : تأكيد له فى المعنى. وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً أي : حجة على استحقاق العبادة ، وهو تهكم بالمشركين ، وتنبيه على تحريم ما لم يدل عليه برهان.
وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من الإلحاد فى صفاته ، والافتراء عليه كقولهم : اللَّهُ أَمَرَنا «1» ، ولَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا «2».
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ أي : مدة ووقت لنزول العذاب بها إن لم يؤمنوا ، وهو تهديد لأهل مكة ، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ أي : انقرضت مدتهم ، أو دنى وقت هلاكهم ، لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً عنه وَلا يَسْتَقْدِمُونَ أي : لا يتأخرون ولا يتقدمون عنه أقصر وقت ، أو لا يطيقون التقدم والتأخر لشدة الهول ، وجعل بعضهم :
(و لا يستقدمون) استئنافا لأن الأجل إذا جاء لا يتصور التقدم ، وحينئذ يوقف على : ساعَةً ، ثم يقول : ولا هم يستقدمون عنه قبل وصوله.
الإشارة : قال شيخنا البوزيدى رضى اللّه عنه : زينة اللّه التي أظهر لعباده هى لباس المعرفة ، وهو نور التجلي ، والطيبات من الرزق هى حلاوة الشهود. ه. وهى لمن كمل إيمانه وصدقه فى الحياة الدنيا ، وتصفو له إلى يوم القيامة ، فهى حلال على أهل التجريد يتمتعون بها فى الدارين ، وإنما حرّم عليهم ما يشغلهم عن ربهم من جهة الظاهر ، وما يقطعهم عن شهوده من جهة الباطن ، وسوء الأدب مع اللّه ، والتعرض لعباد اللّه ، والشرك بالله بأن يشهدوا معه سواه ، وأن يقولوا على اللّه ما يوهم نقصا أو خللا فى أنوار جماله وسناه. واللّه تعالى أعلم.
ثم إن العباد والزهاد وأهل البداية من المريدين السائرين - ينبغى لهم أن يزهدوا فى زينة الدنيا وطيباتها لئلا تركن إليها نفوسهم ، فيثبط سيرهم ، وأما الواصلون فهم مع اللّه ، لا مع شىء سواه ، يأخذون من اللّه بالله ، ويدفعون بالله ، وقد اتسعت دائرة علمهم ، فليسوا مع لباس ولا أكل ولا شرب ولا جوع ولا شبع ، هم مع ما يبرز فى الوقت من المقدورات. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) من الآية 28 من سورة الأعراف.
(2) من الآية 148 من سورة الأنعام.(2/212)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 213
ثم وصاهم على الإيمان بالرسل ، عند ظهورهم ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 35 الى 36]
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36)
قلت : (إما) : شرط مؤكد بما ذكره بحرف الشك للتنبيه على أن إتيان الرسل جائز ، غير واجب ، كما ظنه المعتزلة ، وجوابه : (فمن اتقى ..) إلخ ، وإدخال الفاء فى الجواب الأول دون الثاني للمبالغة فى الوعد والمسامحة فى الوعيد. قاله البيضاوي.
يقول الحق جل جلاله : يا بَنِي آدَمَ مهما يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي الدالة على توحيدى ومعرفتى ، فَمَنِ اتَّقى الشرك والتكذيب ، وَأَصْلَحَ فيما بينى وبينه ، منكم ، بالعمل الصالح ، فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ، فمن كمال الإيمان : أن يقدر الإنسان نفسه أن لو كان فى زمان كل رسول ، لكان أول من تبعه ، ولكان من خواص أصحابه ، هكذا يسير بعقله مع كل رسول من زمان آدم عليه السّلام إلى مبعث رسولنا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم.
واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قد جعل اللّه لكل نبى خلفاء يخلفونه فى تبليغ أحكامه الظاهرة والباطنة ، وهم العلماء الأتقياء ، والأولياء العارفون الأصفياء ، فمن أراد أن يكون ممن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، فليتبع علماء أهل زمانه فى الشريعة ، وأولياء أهل عصره فى تربية الحقيقة. وبالله التوفيق.
ثم ذكر وعيد من استكبر ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : آية 37]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37)
يقول الحق جل جلاله : فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن نسب إليه الولد والشريك ، أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ التي جاءت بها الرسل من عنده ، أي : لا أحد أظلم منه ، أو : تقوّل على اللّه ما لم يقله ، وكذّب بما(2/213)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 214
قاله ، أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ أي : يلحقهم نصيبهم مما كتب فى اللوح المحفوظ من الأرزاق والآجال ، حَتَّى إِذا انقضت أعمارهم وجاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ أي : يتوفون أرواحهم ، قالُوا لهم توبيخا : أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي : أين الآلهة التي كنتم تعبدونها من دون اللّه لتدفع عنكم العذاب؟ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا غابوا عنا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ ، اعترفوا بأنهم كانوا ضالين فيما كانوا عليه ، وندموا حيث لم ينفع الندم ، وقد زلت بهم القدم.
الإشارة : كل من أعرض عن خصوص أهل زمانه ، واشتغل بمتابعة حظوظه وهواه ، ينال نصيبه من الدنيا الفانية وما قسم له فيها فإذا جاءت منيته ندم وتحسر ، وقيل له : أين ما تمتعت به وشغلك عن مولاك؟ فيقول : قد غاب ذلك وفنى وانقضى ، وكأنما كان برقا سرى ، أو طيف كرى ، والدهر كله هكذا لمن سدد نظرا ، وعند الصباح يحمد القوم السّرى ، وستعلم ، إذا انجلى الغبار ، أفرس تحتك أم حمار.
وقد قال صلّى اللّه عليه وسلّم فى بعض خطبه : «لا تخدعنّكم زخارف دنيا دنيّة ، عن مراتب جنّات عالية فكان قد كشف القناع ، وارتفع الارتياب ، ولا قى كل امرئ مستقرّه ، وعرف مثواه ومنقلبه». وفى حديث آخر : «من بدأ بنصيبه من الدنيا فاته نصيبه من الآخرة ، ولم يدرك منها ما يريد ، ومن بدأ بنصيبه من الآخرة ، وصل إليه نصيبه من الدنيا ، وأدرك من الآخرة ما يريد».
ثم ذكر عذاب أهل التكذيب ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 38 الى 39]
قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
يقول الحق جل جلاله : قالَ اللّه تعالى أي : يوم القيامة للكفار ، بواسطة ملك ، أو بغيرها : ادْخُلُوا فِي جملة أُمَمٍ كانوا من قبلكم مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ متفقين معكم فى الكفر والضلال ، فادخلوا مصاحبين معهم فِي النَّارِ. قال تعالى ، مخبرا عن حالهم : كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ منهم فى النار لَعَنَتْ أُخْتَها التي ضلت(2/214)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 215
بالاقتداء بها ، حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا أي : تداركوا وتلاحقوا ، فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ دخولا أو منزلة ، وهم الأتباع السفلة ، لِأُولاهُمْ وهم المتبوعون الرؤساء - أي : قالت لأجلهم لأن الخطاب مع اللّه لا معهم ، قالوا :
رَبَّنا هؤُلاءِ الرؤساء أَضَلُّونا حيث سنّوا لنا الضلال فاقتدينا بهم ، فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً أي : مضاعفا مِنَ النَّارِ لأنهم ضلوا وأضلوا. قالَ تعالى : لِكُلٍّ واحد منكم ضِعْفٌ أي : عذابا مضعفا ، أما القادة فلكفرهم وتضليلهم ، وأما الأتباع فلكفرهم وتقليدهم ، وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ ما لكم ، أو ما لكل فريق منكم.
وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ أي : المتبوعون للأتباع : فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فى الإيمان والتقوى توجب أن يكون عذابنا أشد من عذابكم ، حتى يتضاعف علينا العذاب دونكم فإنا وإياكم متساوون فى الضلال واستحقاق العذاب ، فَذُوقُوا أي : باشروا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ هو من قول القادة ، أو من قول اللّه - تعالى - لجميعهم.
الإشارة : إذا قامت القيامة تحققت الحقائق ، وتميزت الطرائق ، للخاص والعام ، فيرتفع المقربون فى أعلى عليين ، ويبقى أهل اليمين فى أسفل منازل أهل الجنة مع عوام المسلمين ، فيتعلق عوامهم بخواصهم ، فيقولون لهم :
أنتم رددتمونا عن صحبة هؤلاء ، وأنتم خذلتمونا عنهم ، ثم يقولون : ربنا هؤلاء أضلونا عن صحبة هؤلاء المقربين ، فآتهم حجابا ضعفا مما لنا ، قال : لكل ضعف من الحجاب ، هم بتضليلهم لكم عن صحبتهم ، وأنتم بتقليدكم لهم ، ولكن لا تعلمون ما أعددت للمقربين حين صبروا على جفاكم ، وتحملوا مشاق طاعتى ومعرفتى لأن كل آية فى الكفار تجر ذيلها على أهل الغفلة من المؤمنين. واللّه تعالى أعلم.
ثم حرّم على الكفار دخول الجنة ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 40 الى 41]
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
قلت : (سمّ الخياط) : عين الإبرة ، وفى السين : الفتح والكسر والضم ، والخياط : ما يخاط به ، على وزن حزام ، والتنوين فى (غواش) : للعوض عن الياء ، عند سيبويه ، وللصرف عند غيره.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عن : الإيمان بها ، لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ لأدعيتهم وأعمالهم فلا تقبل ، أو : لا تفتح لأرواحهم إذا ماتوا ، بل تغلق دونها إذا وصلت بها(2/215)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 216
الملائكة إليها ، فيطرحونها فتسقط من السماء ، بخلاف أرواح المؤمنين تفتح لهم أبواب السماء حتى يفضوا إلى سدرة المنتهى. وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ أي : يدخل ، الْجَمَلُ وهو البعير فِي سَمِّ الْخِياطِ أي :
فى ثقب الإبرة ، والمعنى : لا يدخلون الجنة حتى يكون ما لا يكون أبدا ، فلا يدخلون الجنة أبدا ، وقرأ ابن عباس (الجمل) بضم الجيم وسكون الميم ، وهو حبل السفينة ، الذي جمع بعضه إلى بعض حتى صار أغلظ ما يكون.
ثم قال تعالى : وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ أي : مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزى المجرمين ، لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ أي : فراش ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ أي : أغطية من النار. وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ عبّر عنهم بالمجرمين تارة ، وبالظالمين أخرى إشعارا بأنهم بتكذيبهم الآيات ، اتصفوا بالجرم والظلم ، وذكر مع الحرمان من الجنة : الجرم ، ومع التعذيب بالنار : الظلم تنبيها على أن الظلم أعظم الإجرام.
الإشارة : أهل التربية النبوية من الشيوخ العارفين : آية من آيات اللّه ، من كذّب بهم ، واستكبر عن الخضوع لهم ، لا تفتح لفكرته أبواب السماء ، بل يبقى مسجونا بمحيطاته ، محصورا فى هيكل ذاته ، ولا يدخل جنة المعارف أبدا ، بل يحيط به الحجاب من فوقه ومن أسفله ، فتنحصر روحه فى الأكوان ، ولم تفض إلى فضاء الشهود والعيان.
وفى الحكم : «الكائن فى الكون ، ولم تفتح له ميادين الغيوب ، مسجون بمحيطاته ، محصور فى هيكل ذاته».
وقال أيضا : «وسعك الكون من حيث جثمانيتك ، ولم يسعك من حيث ثبوت روحانيتك» ، فكل من لم تثبت له الروحانية : فهو محصور فى الكون ، وكل من ثبتت له الروحانية بأن استولى معناه على حسه ، لم يسعه الكون ، ولم يحصره عرش ولا فرش ، وكذلك الصوفي لا تظله السماء ولا تقله الأرض ، أي : لا يحصره الكون من حيث فكرته. واللّه تعالى أعلم.
ثم شفع بضدهم ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 42 الى 43]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)(2/216)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 217
قلت : جملة (لا نكلف) : معترضة بين المبتدأ والخبر للترغيب فى اكتساب النعيم المقيم ، بما تسعه طاقتهم ، ويسهل عليهم ، و(ما كنا لنهتدى) : اللام لتأكيد النفي ، وجواب «لو لا» : محذوف ، أي : لو لا هدايته إيانا ما اهتدينا.
يقول الحق جل جلاله : وَالَّذِينَ آمَنُوا
بالرسل ، وَعَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ على قدر طاقتهم ، لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي : ما تسعه طاقتها ، فمن فعل ذلك ف أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ أي : نخرج من قلوبهم كل غل وعدواة ، ونطهرها منه ، حتى لا يكون بينهم إلا التودد ، فيصيرون أحبابا وإخوانا ، وإنما عبّر بالماضي لتحقق وقوعه ، كأنه وقع ومضى ، وكذلك ما يجىء بعدها ، ثم وصف الجنة فقال : تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ أي : من تحت قصورهم ، الْأَنْهارُ من عسل وخمر وماء ولبن زيادة فى لذتهم وسرورهم ، فالقصور مرتفعة فى الهواء ، والأنهار تجرى تحتها.
وَقالُوا حينئذ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا أي : لما جزاؤه هذا النعيم من الإيمان فى الدنيا والعمل الصالح ، وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ بأنفسنا لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ بتوفيقه وإرادته ، لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فاهتدينا بإرشادهم ، يقولون ذلك اغتباطا وتبجحا بأن ما عملوه فى الدنيا يقينا ، صار لهم عين اليقين فى الآخرة ، وَنُودُوا أي : نادتهم الملائكة ، أو الحق تعالى : أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أي : هذه الجنة أُورِثْتُمُوها أي :
أعطيتموها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي : بسبب أعمالكم ، وهذا باعتبار الشريعة ، وأما باعتبار الحقيقة فكل شىء منه وإليه. ولذلك قال صلّى اللّه عليه وسلّم : «لن يدخل الجنّة أحدكم عمله ، قالوا : ولا أنت ، قال : ولا أنا ، إلّا أن يتغمّدنى اللّه برحمته» «1».
فالشريعة تنسب العمل للعبد ، والحقيقة تعزله عنه ، وقد آذنت بها الآية قبله بقوله : وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ ، فقد نطقوا بما تحققوا به يوم القيامة.
وقال القشيري : إنما قال : أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تسكينا لقلوبهم ، وتطييبا لهم ، وإلّا ، فإذا رأوا تلك الدرجات ، علموا أن أعمالهم المشوبة لم تبلغ تلك الدرجات. ه. وعن ابن مسعود أنه قال : (يجوزون الصراط بعفو اللّه ، ويدخلون الجنة برحمة اللّه ، ويقتسمون المنازل بأعمالهم). ه.
الإشارة : والذين آمنوا بطريق الخصوص ، وعملوا الأعمال التي تناسبها ، من خرق العوائد واكتساب الفوائد ، والتخلية من الرذائل والتحلية بأنواع الفضائل على حسب الطاقة أولئك أصحاب جنة المعارف ، هم فيها خالدون فى الدنيا والآخرة ، قد نزع اللّه من قلوبهم المساويء والأكدار ، وطهّرها من جملة الأغيار ، حتى صاروا إخوانا متحابين لا لغو بينهم ولا تأثيم ، تجرى من تحت أفكارهم أنهار العلوم ، وتفتح لهم مخازن الفهوم ، فإذا تمكنوا من
___________
(1) أخرجه البخاري فى (الرقاق ، باب القصد والمداومة على العمل) من حديث السيدة عائشة - رضى اللّه عنها.(2/217)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 218
هذه الحضرة (قالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدى لو لا أن هدانا اللّه) ، تحققوا أنهم محمولون بسابق العناية ، محفوفون بعين الرعاية ، فتحققوا بما جاءت به الرسل من عند اللّه ، وما نالوه على يد أولياء اللّه من الذوق والوجدان ، وكشف الغطاء عن عين العيان ، منحنا اللّه من ذلك حظا وافرا ، بمنّه وكرمه.
ثم ذكر تبجح أهل الجنة على أهل النار ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 44 الى 47]
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)
قلت : (أن) : فى هذه المواضع : مخففة من الثقيلة ، أو : تفسيرية ، وحذف مفعول : (وعد) الثاني استغناء بمفعول وعد الأول ، أو لإطلاق الوعد ، فيتناول الثواب والعقاب.
يقول الحق جل جلاله : وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا من النعيم حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ أنتم ما وَعَدَ رَبُّكُمْ من البعث والحساب حَقًّا ، إنما قال أهل الجنة ذلك تبجحا بحالهم ، وشماتة بأصحاب النار ، وتحسيرا لهم ، فأجابهم أهل النار بقولهم : نَعَمْ ، قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ بين الفريقين : أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الكافرين ، الَّذِينَ يَصُدُّونَ الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وهى الإسلام ، وَيَبْغُونَها أي : يطلبون لها عِوَجاً زيغا وميلا عما هو عليه من الاستقامة ، أو يطلبونها أن تكون ذات عوج ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ أي : جاحدون.
وَبَيْنَهُما أي : بين الفريقين حِجابٌ ، أو بين الجنة والنار حجاب ، يمنع دخول أثر أحدهما للأخرى ، وَعَلَى الْأَعْرافِ وهو السور المضروب بين الجنة والنار ، رِجالٌ طائفة من الموحدين استوت حسناتهم وسيئاتهم ، كما فى الحديث. وقال فى الإحياء : يشبه أن يكونوا من لم تبلغهم الدعوة فى أطراف البلاد ، فلم تكن لهم معرفة ولا جحود ولا طاعة ولا معصية ، فلا وسيلة تقربهم ، ولا جناية تبعدهم ، ولهم السلامة فقط ، لا تقريب ولا تبعيد. ه. قلت : لكن سيأتى أنهم يدخلون الجنة.(2/218)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 219
ثم وصفهم بقوله : يَعْرِفُونَ كُلًّا من أهل الجنة والنار ، بِسِيماهُمْ : بعلامتهم التي أعلمهم اللّه بها كبياض الوجوه فى أهل الجنة ، وسوادها فى أهل النار ، أو غير ذلك من العلامات. وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ ، إذا نظروا إليهم ، فقالوا لهم : أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ، أي : نادوهم بالسلام عليهم ، لَمْ يَدْخُلُوها أي : الجنة ، وَهُمْ يَطْمَعُونَ فى دخولها.
وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ أي : التفتوا إليهم على وجه القلة ، تعوذوا من حالهم ، قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فى النار.
الإشارة : إذا وصل أهل الجد والتشمير إلى حضرة العلى الكبير نادوا أهل البطالة والتقصير ، فقالوا لهم : قد وجدنا ما وعدنا ربنا من كشف الحجاب والدخول مع الأحباب ، حقّا ، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقّا كما وجدنا نحن؟ قالوا على وجه الدعوى والغلط : نعم ، فأذن مؤذن بينهم ، بلسان الحال : أن لعنة اللّه على الظالمين الذين بقوا مع حظوظ أنفسهم ، ولم يخرقوا شيئا من عوائدهم ، مع تراميهم على مراتب الرجال ، وادعائهم بلوغ غاية الكمال ، الذين يصدون عن طريق الخصوص ويبغونها عوجا ، وهم بالخصلة الآخرة - وهى إشراق نور الحقيقة على أهل التربية - هم كافرون ، وبينهما حجاب كبير ، وهو حجاب الغفلة ، فلا يعرفون أهل اليقظة ، وهم أهل مقام الإحسان ، بل بينهما مفاوز ومهامه «1» ، كما قال الشاعر :
تركنا البحور الزّخرات وراءنا فمن أين يدرى النّاس أين توجّهنا
وعلى الأعراف وهو البرزخ الذي بين الحقيقة والشريعة ، رجال من أهل الاستشراف ، يعرفون كلا من العوام والخواص بسيماهم ، ونادوا أصحاب الجنة أي : الواصلين إلى جنة المعارف : أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون ، لأنهم فى حالة السير ، وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار ، أي : نار الحجاب والتعب ، وهم العوام ، قالوا : ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين.
ثم ذكر شماتة أهل الأعراف بأهل النار ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 48 الى 49]
وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
___________
(1) المهامة : جمع مهمه : وهي المفازة البعيدة. انظر اللسان (مهه).(2/219)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 220
قلت : (ما أغنى) : استفهامية أو نافية ، و(ما كنتم) : مصدرية ، و(ادخلوا) : محكى بقول محذوف ، أي : قيل لهم ادخلوا ... إلخ.
يقول الحق جل جلاله : وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا من رؤساء الكفرة ، يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ بعلامة فيهم من سوء حالهم ، قالُوا لهم : ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ أي : كثرتكم ، أو جمعكم للمال ، شيئا أو أىّ شىء أغنى عنكم جمعكم ، وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ؟ أي : واستكباركم؟ أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ وهم ضعفاء المسلمين الذين كانت الكفرة تستحقرهم فى الدنيا ، ويحلفون أن اللّه لا يدخلهم الجنة ، قد قيل لهم : ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ. أو تقول الملائكة لأهل الأعراف : ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ، بعد أن حبسوا على الأعراف حتى أبصروا الفريقين وعرفوهم ، وقالوا لهم ما قالوا ، تفضل اللّه عليهم ، فقيل لهم : ادخلوا الجنة.
وقيل : لما عيّر أصحاب الأعراف أهل النار ، أقسموا - أي : أهل النار - أن أصحاب الأعراف لا يدخلون الجنة ، فقال لهم اللّه تعالى : أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ، ادْخُلُوا يا أهل الأعراف الْجَنَّةَ. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : أصحاب الأعراف : قوم من الصالحين حصل لهم محبة القوم ، ليسوا من عوام أهل اليمين ولا من خواص المقربين ، فإذا نظروا إلى أهل الطعن على الفقراء المتوجهين ، والترفع عليهم ، قالوا لهم : ما أغنى عنكم جمعكم واستكباركم ، أهؤلاء الذين كنتم تطعنون عليهم ، وأقسمتم أنهم ليسوا على شى ء؟ قد قيل لهم : ادخلوا جنة المعارف لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ، وأنتم حصل لكم الخيبة ، والحرمان ، والأسر فى أيدى النفوس ، والحصر فى سجن الأكوان. عائذا بالله من ذلك.
ثم ذكر استغاثة أهل النار بأهل الجنة ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 50 الى 53]
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53)(2/220)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 221
قلت : (هدى ورحمة) : حال من مفعول (فصّلناه) ، (فيشفعوا) : جواب الاستفهام ، (أو نرد) بالنصب : عطف عليه ، وبالرفع : استئناف ، فعلى الأول : المسئول أحد الأمرين إما الشفاعة أو الرد ، وعلى الثاني : المسئول الشفاعة فقط.
يقول الحق جل جلاله : وَنادى ، يوم القيامة ، أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا أي :
صبوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ ، وفيه دليل على أن الجنة فوق النار ، أو : صبوا علينا مما رزقكم اللّه من سائر الأشربة ، ليلائم قوله أَفِيضُوا ، أو : من الطعام على حذف الفعل ، أي : أو أعطونا مما رزقكم اللّه ، قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ ، أي : منعهما عنهم ، الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً كتحريم البحائر والسوائب ، والتصدية حول البيت ، والطواف به عريانا ، وغير ذلك مما أحدثوه ، واللهو : صرف القلب إلى ما لا يحصل به نفع أخروى. واللعب : طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب به لخلوه عن منفعة دينية ، وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا بأن أنستهم القيامة ، فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا ، والكاف : للتعليل ، أي : ننساهم لأجل نسيانهم لقاء يومهم هذا ، فلم يخطروه ببالهم ، ولم يستعدوا له ، وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ أي : نهملهم لأجل إهمالهم الاستعداد للقاء ، وإهمالهم آياتنا حتى جحدوا أنها من عند اللّه.
وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ أي : بيّنا معانيه من العقائد والأحكام والمواعظ ، مفصلة عَلى عِلْمٍ ، أي : عالمين بوجه تفصيله حتى جاء فى غاية الإتقان ، هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فإنهم المنتفعون بهدايته ورحمته دون غيرهم.
هَلْ يَنْظُرُونَ أي : ما ينتظر الكفار به إِلَّا تَأْوِيلَهُ ، أي : ما يئول إليه أمره من تبين صدقه ، بظهور ما نطق به من الوعد والوعيد ، بقيام الساعة وما بعدها ، يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ بظهور ما نطق به ، يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ ، ولم يؤمنوا به : قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ أي : قد تبين أنهم جاءوا بالحق ، وحصل لهم اليقين حيث لم ينفع ، ثم طلبوا من يشفع فيهم فقالوا : فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا اليوم ، أَوْ نُرَدُّ أي :
وهل نرد إلى الدنيا فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ فنستبدل الكفر بالإيمان ، والعصيان بالطاعة والإذعان ، أو :
فيشفعوا لنا فى أحد الأمرين : إما السلامة من العذاب ، أو الرد إلى الدنيا فنستبدل الكفر بالإيمان. قال تعالى :
قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أي : بخسوها بسوء أعمالهم وكفرهم ، وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي : غاب عنهم افتراؤهم فلم ينفعهم.(2/221)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 222
الإشارة : إذا وصل أهل الجد والتشمير إلى حضرة العلى الكبير ، وأفاض عليهم من ماء غيبه ، حتى امتلأت قلوبهم وأسرارهم ، فأثمر لهم العلوم اللدنية والأسرار الربانية ناداهم أهل البطالة والتقصير : أفيضوا علينا من الماء الذي سقاكم اللّه منه ، أو مما رزقكم من العلوم والمعارف. قالوا : إن اللّه حرمهما على البطالين الذين اتخذوا طريق القوم لهوا ولعبا ، وغرتهم الحياة الدنيا فقبضتهم فى شبكتها ، فيقول تعالى : فاليوم ننساهم من لذيذ مشاهدتى ، وحلاوة معرفتى ، كما نسوا لقائى بشهود ذاتى ، وأنكروا على أوليائى وأهل معرفتى ، وجحدوا وجود التربية وحجروا على قدرتى ، ولقد جئناهم بكتاب فصّلنا فيه كل شىء فقلنا فيه : ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها «1» إلى يوم القيامة ، هل ينظرون إلا تأويله؟ يوم يأتى تأويله بظهور درجات المقربين ، فى أعلى عليين ، حينئذ يحصل لهم اليقين بوجود المقربين ، أو بالتربية النبوية فى كل زمان وحين ، فيطلب الشفاعة فى اللحوق بهم ، أو يرد إلى العمل بعملهم .. هيهات! قد بعثر ما فى القبور ، وحصّل ما فى الصدور ، فخسر المبطلون ، وفاز المجتهدون السابقون. جعلنا اللّه منهم بمنّه وكرمه.
ثم عرّف الحق - جل جلاله - بنفسه ليعرفه من أراد معرفته فى الدنيا ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 54 الى 56]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
قلت : (حثيثا) أي : سريعا صفة لمصدر محذوف ، أي : طلبّا حثيثا ، أو حال من الفاعل ، أي : حاثا ، و(مسخرات) حال فيمن نصب ، وخبر فيمن رفع ، و(تضرعا وخفية) : مصدران ، حالان من الواو ، وكذلك (خوفا وطمعا).
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ رَبَّكُمُ الذي يستحق أن تعبدوه ، هو اللَّهُ وحده الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي : أظهرهما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي : مقدار ستة أيام من أيام الدنيا إذ لم يكن ثمّ شمس ، ولو شاء خلقهن فى لمحة ، والعدول إليه لتعليم خلقه التأنى والتثبت.
___________
(1) من الآية 106 من سورة البقرة.(2/222)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 223
ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ استواء يليق به ، والعرش : جسم عظيم محيط بالأكوان. سمى به لارتفاعه ، وللتشبيه بسرير الملك ، فالأكوان فى جوفه ممحوقة فقد استولى عليها ومحقها ، كذلك أسرار معانى الربوبية الأزلية قد استولت عليه ومحقته ، فيمكن أن يكون الحق تعالى عبّر بالاستواء عن هذا الاستيلاء ، وسيأتى فى الإشارة تمامه إن شاء اللّه.
وقال القشيري : ثم استوى على العرش ، أي : توحّد بجلال الكبرياء بوصف الملكوت ، وملوكنا إذا أرادوا التجلّى والظهور للحشم والرعية برزوا لهم على سرير ملكهم فى إيوان مشاهدتهم. فأخبر الحقّ - سبحانه وتعالى - بما يقرب من فهم الخلق ، بما ألقى إليهم من هذه الكلمات ، بأنه استوى على العرش ، ومعناه : اتصافه بعز الصمدية وجلال الأحدية ، وانفراده بنعت الجبروت وجلاء الربوبية ، وتقدّس الجبّار عن الأقطار ، والمعبود عن الحدود. ه.
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي : يغطى نور النهار بظلمة الليل ، يَطْلُبُهُ حَثِيثاً أي : يعقبه سريعا كالطالب له ، لا يفصل بينهما شىء ، وَخلق الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أي : بقضائه وتصريفه ، ومن عجائب تسخيرها أن جعلها مقرونة بأمور غيبية ، دالة على ظهور شىء منها.
والنهى عن النظر فى النجوم أو تصديق المنجمين إنما هو لمن اعتقد التأثير لها مستقلة بنفسها ، أو تصديقهم فى تفصيل ما يخبرون به لأنهم إنما يقولون ذلك عن ظن وتخمين وجهل ، فإنّ علم النجوم كان معجزة لبعض الأنبياء ، ثم اندرس ذلك العلم ، فلم يبق إلا ما هو مختلط ، لا يتميز فيه الصواب من الخطأ ، فاعتقاد كون الكواكب أسبابا لآثار يخلق اللّه - تعالى - بها فى الأرض ، وفى النبات والحيوان شيئا ، يعنى فى الجملة ليس قادحا فى الدين ، بل هو الحق ، ولكن دعوى العلم بتلك الآثار على التفصيل مع الجهل : قادح فى الدين ، فالكواكب ما خلقت عبثا ، ولهذا نظر عليه الصلاة والسلام إلى السماء ، وقرأ قوله تعالى : رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا ... الآية «1».
انظر : الإحياء للغزالى.
ثم قال تعالى : أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ أي : الإيجاد والتصرف بالأمر والنهى ، تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أي : تعاظم فى ألوهيته ، وتعالى فى ربوبيته ، وتفرد فى وحدانيته.
قال البيضاوي : (و تحقيق الآية - واللّه أعلم - أن الكفرة كانوا متخذين أربابا ، فبيّن لهم أن المستحق للربوبية واحد - وهو اللّه تعالى لأنه الذي له الخلق والأمر ، فإنه تعالى خلق العالم على ترتيب قويم ، وتدبير حكيم فأبدع الأفلاك العلوية ، والأجرام السفلية ، ثم بعد تمام خلق عالم الملك أخذ فى تدبيره كالملك الجالس على عرشه
___________
(1) الآية 191 من سورة آل عمران.(2/223)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 224
وسريره لتدبير مملكته ، فدبر الأمر من السماء إلى الأرض ، بتحريك الأفلاك وتسيير الكواكب ، وتكوير الليالى والأيام ، فله الخلق والأمر. وكذلك قال فى آية السجدة بعد ذكر الخلق : ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ «1» ، فربّ الخلائق : من هذا صفته ، لا غيره. انتهى بالمعنى.
ثم أمرهم بأن يدعوه ، متذللين مخلصين ، فقال : ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً أي : ذوى تضرع وخفاء فإن الإخفاء دليل الإخلاص ، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ المتجاوزين ما أمروا به فى الدعاء وغيره ، ونبه على أن الداعي ينبغى ألّا يطلب ما لا يليق به كرتبة الأنبياء ، وقيل : الاعتداء فى الدعاء ، هو الصياح به ، والتشدق ، أو اختراع دعوة لا أصل لها فى الشرع ، وعن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : «سيكون قوم يعتدون فى الدّعاء ، وحسب المرء أن يقول :
اللّهم إنّى أسألك الجنّة وما يقرب إليها من قول وعمل. ثم قرأ : إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» «2».
وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالكفر والمعاصي ، بَعْدَ إِصْلاحِها ببعث الأنبياء ، وشرع الأحكام ، أو :
ولا تفسدوا فى الأرض بالمعاصي الموجبة لفساد العالم بالقحط والفتن ، بعد إصلاحها بالخصب والأمان ، وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً أي : خوفا من الرد لقصور الأعمال ، وطمعا فى القبول بالفضل والكرم إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ المخلصين.
قال البيضاوي : هو ترجيح للطمع ، وتنبيه على ما يتوصل به إلى الإجابة ، وتذكير قريب لأن الرحمة بمعنى الترحم ، أو لأنه صفة محذوف أي : أمر قريب ، أو على تشبيه فعيل الذي هو بمعنى مفعول ، أو للفرق بين القريب من النسب ، والقريب من غيره. ه. قلت : والأحسن أنه إنما ذكره لأن المراد بالرحمة هنا : سر الخصوصية ، وهو مذكر ، فراعى معنى اللفظ ، كأنه قال : إن سر الولاية - وهى الخصوصية - قريب من المحسنين.
واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قوله تعالى : (فى ستة أيام) : قال الورتجبي : فى كل يوم من هذه الأيام : ظهور صفة من صفاته ا لست : أولها : العلم ، والثاني : القدرة ، والثالث : السمع ، والرابع : البصر ، والخامس : الكلام ، والسادس : الإرادة ، كملت الأشياء بظهور أنوار الصفات الستة ، ولما أتمها صارت الحدثان كجسد آدم بلا روح ، فتجلى من صفته السابعة -
___________
(1) الآية 4 من سورة السجدة.
(2) أخرجه أبو يعلى فى مسنده «2/ 71» من حديث سعد بن أبى وقاص. وصدر الحديث إلى قوله (فى الدعاء) أخرجه أبو داود فى (الطهارة ، باب الإسراف فى الماء) وابن ماجه فى (الدعاء ، باب كراهية الاعتداء فى الدعاء) والحاكم فى المستدرك «1/ 540» وصححه ووافقه الذهبي ، من حديث عبد اللّه بن مغفل.(2/224)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 225
وهى حياته القديمة الأزلية الباقية ، المنزهة عن همهمة الأنفاس والمشابهة والقياس - فقامت الأشياء بصفاته القائمة بذاته ، ويكون إلى الأبد لحياتها بروح حياته ، المقدسة عن الاتصال والانفصال. قلت : وهى المعبّر عنها بالمعاني القائمة بالأوانى. ثم قال : وفى أدق الإشارة : السموات : الأرواح ، والأرض : الأشباح ، والعرش : القلوب ، بدأ بكشف الصفات للأرواح ، وبدأ بكشف الأفعال للأشباح ، ثم بدأ بكشف الذات للقلوب لأن مناظر القلوب للغيوب ، والغيوب من القلوب محل تجلى استواء القدم ، استوى قهر القدم ، بنعت الظهور للعدم ، أي : فتلاشى العدم ، ثم استوى تجلى الصفات على الأفعال ، واستوى تجلى الذات على الصفات ، فاستوى بنفسه لنفسه ، المنزه عن المباشرة بالحدثان والاتصال والانفصال عن الأكوان. قلت : أي : إذ لا حدثان ولا أكوان لأنها لما قرنت بالقدم تلاشت ، وما بقي إلا نعت القدم.
ثم قال : خصّ السموات والأرض بتجلى الصفات ، وخص العرش بتجلى الذات. قلت : لأن المعاني المستولية على العرش باقية على أصلها ، وهى أسرار الذات لم تتردّ برداء الكبرياء ، وهو حجاب الحس الظاهر ، بخلاف المعاني القائمة بالأوانى ، وهى أنوار الصفات ، تجلت مرتدية بحجاب القهرية ، فقيل لها : تجلى الصفات.
ثم قال : السموات والأرض جسد العالم ، والعرش قلب العالم ، والكرسي دماغ العالم ، خص الجميع بالأفعال والصفات ، وخص العرش بظهور الذات لأنه قلب الكل ، وهو غيب الرحمن وعلمه وحكمته ، رأيته فى المكاشفة أنوارا شعشعانيا ، بلا جسم ولا مكان ولا صورة ، يتلألأ ، فسألت عن ذلك ، فقيل لى : هذا عالم يسمى عرشا. انتهى.
قلت : وأقرب من هذا كله : أن العرش قد استولى على ما فى جوفه من العوالم ، حتى صارت فى وسطه كلا شىء ، ومعانى أسرار الربوبية ، وهى العظمة الأصلية - قد استولت عليه ، وأحاطت به ، ومحت وجوده ، فعبّر الحق - جل جلاله - عن استيلاء هذه العظمة - التي هى أسرار الربوبية - على العرش بالاستواء. وإلى هذا أشار فى الحكم العطائية بقوله : «يا من استوى برحمانيته على عرشه ، فصار العرش غيبا فى رحمانيته ، كما صارت العوالم غيبا فى عرشه ، محققت الآثار بالآثار ، ومحوت الآثار - وهى العرش وما احتوى عليه - بمحيطات أفلاك الأنوار» وهى أسرار الذات المحيطات بالآثار ، من العرش إلى الفرش ، فعبّر عن المعاني المستولية على العرش بالرحمانية لأن الرحمانية صفة الذات ، والصفة لا تفارق الموصوف ، فافهم.
قلت : ومن كحل عينه بإثمد توحيد الذات لا يستبعد أن يكون الحق - جل جلاله - يتجلى بتجل خاص من أسرار ذاته وأنوار صفاته ، يستوى بتلك العظمة على العرش ، كما يتجلى يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده ، إذ تجلياته لا تنحصر ، بل كل ما ظهر فى عالم الشهادة فإنما هو نور من تجلى ذاته وصفاته. وهذا القدر كاف لمن شم شيئا(2/225)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 226
من أسرار التوحيد ، وقد تكلم ابن جزى هنا على الخوف والرجاء ، وأطال فيهما ، ولكنه يجنح لتصوف أهل الظاهر ، وقد تقرر فى محله.
وقوله تعالى : إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ : هو تقييد لقوله : يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ فالمختص بالرحمة هم المحسنون. انظر لفظ الحكم. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر الحق - جل جلاله - تصاريف قدرته المفهوم من قوله : (ألا له الخلق والأمر) ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 57 الى 58]
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
قلت : (نشرا) : حال من الرياح ، وهو جمع نشور ، بمعنى ناشر ، ومن قرأ بسكون الشين ، فهو تخفيف منه ، ومن قرأ بفتح النون ، فمصدر فى موضع الحال ، بمعنى : ناشرات ، أو مفعول مطلق فإن الإرسال والنشر متقاربان ، ومن قرأه بالباء وسكون الشين فهو جمع بشير ، مخفف ، و(أقلّت) : مشتق من القلة لأن الحامل للشىء يستقله ، و(ثقالا) :
جمع لأن السحاب جمع بمعنى السحائب.
يقول الحق جل جلاله : وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ أو الرياح نَشْراً أي : تنشر السحاب ، وتفرقه إلى الأرض التي أراد اللّه أن تمطر ، أو بشارة بالمطر «1» ، بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي : قبل نزول المطر ، فهى قدامه فإن الصبا تثير السحاب ، والشمال تجمعه ، والجنوب تذره ، والدبور تفرقه. قاله البيضاوي.
حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ أي : حملت سَحاباً ثِقالًا بالماء لأنها تحمل الماء فتثقل به ، سُقْناهُ أي : السحاب بما اشتمل عليه من الماء ، لِبَلَدٍ مَيِّتٍ أي : لإحيائه أو لسقيه بعد يبسه ، كأنه ميت ، فَأَنْزَلْنا بِهِ أي : بالبلد ، أو بالسحاب ، أو بالسوق ، أو بالريح ، الْماءَ الذي فى السحاب ، فَأَخْرَجْنا بِهِ أي : بالماء ، مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ من كل أنواعها وأصنافها ، كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى من القبور ، أي : كما نحيى البلد بإحداث القوة
___________
(1) هذا المعنى على قراءة «بشرا» ، جمع بشير ، وهى قراءة عاصم. وقرأ الباقون «نشرا» بالنون. راجع الإتحاف (2/ 52). [.....](2/226)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 227
النامية فيه وتطريتها بأنواع النبات والثمرات كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى من الأجداث ونحييها برد النفوس إلى مواد أبدانها بعد جمعها وتطريتها بالقوى الحسية. قاله البيضاوي.
وقال ابن جزى : هو تمثيل لإخراج الموتى من القبور بإخراج الزرع من الأرض ، وقد وقع ذلك فى القرآن فى مواضع منها : كَذلِكَ النُّشُورُ «1» وكَذلِكَ الْخُرُوجُ «2». ه. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فتعلمون أن من قدر على ذلك قدر على إحياء الموتى ، إذ لا فرق.
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ أي : الأرض الكريمة والتراب الجيد يَخْرُجُ نَباتُهُ بسهولة ، حسنا قويا نضرا ، بِإِذْنِ رَبِّهِ أي : بمشيئته وقدرته ، وَالَّذِي خَبُثَ من الأرض كالحرة والسبخة ، لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً قليلا عديم النفع ، أو عسيرا بمشقة ، كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ نكررها ونرددها لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ نعمة اللّه ، فيتفكرون فيها ، ويعتبرون بها.
قال البيضاوي : والآية مثل لمن تدبر الآيات وانتفع بها ، ولمن لم يرفع إليها رأسا ولم يتأثر بها ، ومثله فى البخاري فى حديث طويل «3». وقال ابن عباس وغيره : هو ضرب مثل للمؤمن والكافر. وقال ابن جزى :
يحتمل أن يكون المراد ما يقتضيه ظاهر اللفظ ، فتكون متممة للمعنى الذي قبلها فى المطر ، وأن تكون تمثيلا للقلوب فالطيب : قلب المؤمن ، والخبيث : قلب الكافر ، وقيل : هما للفهم والبليد. ه.
الإشارة : وهو الذي يرسل رياح الهداية ، تنشر سحاب الواردات الإلهية والنفحات الربانية ، بين يدى معرفته ، أو تبشر بها قبل وصولها ، حتى إذا أقلت سحابا ثقالا بالعلوم اللدنية ، سقناه لقلب ميت بالجهل والهوى ، فأنزلنا مما فيه من ماء ذلك الأمطار ، فأخرجنا به من ثمرات العلوم وأزهار الحكم ونوار اليقين. وفى الحكم : «لا تزكين واردا لم تعلم ثمرته ، فليس المقصود من السحابة الأمطار ، وإنما المقصود وجود الأثمار». (كذلك نخرج الموتى) أي :
نحى القلوب الموتى بالجهل ، (لعلكم تذكرون). والبلد الطيب ، وهو القلب الطيب ، إذا هبت عليه هذه الواردات ، ونزلت فيه أمطار النفحات ، يخرج نباته من العلوم والمعارف بإذن ربه ، والذي خبث من القلوب لا يخرج ما فيه إلا نكدا - أي : ضعيفا لعدم تأثره بالواردات والمواعظ.
وقال الورتجبي : ذكر - سبحانه - القلب الذي هو بلد اللّه الذي مطر عليه من بحر امتنانه ، ويخرج نبات ألوان الحالات والمقامات. ثم قال : وكل قلب بذره الهوى فنباته الشهوات. ه.
___________
(1) من الآية 11 من سورة ق.
(2) من الآية 9 من سورة فاطر.
(3) وذلك قول الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم : «مثل ما بعثني اللّه به من العلم والهدى كمثل الغيث الكثير ...» الحديث أخرجه البخاري فى (العلم - باب فضل من علم وعلّم) ومسلم فى (الفضائل - باب بيان ما بعث النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من الهدى والعلم) عن أبى موسى رضى اللّه عنه.(2/227)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 228
ثم شرع فى ذكر قصص الأنبياء مع أممهم ، تفصيلا لقوله : (و كم من قرية أهلكناها ..) ... الآية ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 59 الى 64]
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64)
قلت : (أو عجبتم) : الهمزة للإنكار ، والواو للعطف ، والمعطوف عليه محذوف ، أي : أكذبتم وعجبتم ، و(فى الفلك) : يتعلق بأنجينا ، أو بمن معه ، أو حال من الموصول.
يقول الحق جل جلاله : لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ، وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن إدريس ، نبىء بعده «1» ، بعث وهو ابن خمسين سنة أو أربعين ، وعاش ألفا وثلاثمائة سنة ، فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ يستحق أن يعبد ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ ، إن لم تؤمنوا وتوحدوا اللّه عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وهو يوم القيامة ، أو يوم نزول الطوفان.
قالَ الْمَلَأُ أي : الأشراف مِنْ قَوْمِهِ لأنهم يملأون العيون عند رؤيتهم ، قالوا له : إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي : فى خطأ بيّن عن الحق ، قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ أي : ليس بي شىء من الضلال ، بالغ لهم فى النفي كما بالغوا له فى الإثبات ، وعرض لهم به ، وتلطف لهم فى القول ، وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أي : لست فى ضلال كما اعتقدتم ، ولكنى فى غاية من الهدى لأنى رسول من رب العالمين ، أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي كما أمرنى ، وَأَنْصَحُ لَكُمْ جهدى ، وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من صفاته الجلالية والجمالية ومن رحمته وعذابه ، أو من قدرته وشدة بطشه ، أو أعلم من جهة وحيه أشياء لا علم لكم بها ، وجمع الرسالات لاختلاف أوقاتها ، أو لتنوع معانيها ، كعلم العقائد والمواعظ والأحكام.
___________
(1) أي : بعد إدريس - عليه السلام.(2/228)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 229
ثم قال لهم : أَوَعَجِبْتُمْ أي : أكذبتم وعجبتم من أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ أي : تذكير ووعظ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى لسان رَجُلٍ مِنْكُمْ أي : من جملتكم ، أو من جنسكم كانوا يتعجبون من إرسال البشر ويقولون :
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ «1» ، قال القشيري : عجبوا من كون شخص رسولا ، ولم يعجبوا من كون الصنم شريكا لله ، هذا فرط الجهالة وغاية الغواية. ه. وحكمة إرساله كونه جاءكم لِيُنْذِرَكُمْ عاقبة الكفر والمعاصي ، وَلِتَتَّقُوا اللّه بسبب ذلك الإنذار ، وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بتلك التقوى ، وفائدة حرف الترجي التنبه على أن التقوى غير موجب للترحم بذاته ، وإنما هو - أي : الترحم - فضل من اللّه ، وأن المتقى ينبغى ألا يعتمد على تقواه ، ولا يأمن من عذاب اللّه.
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ هو ومن آمن به ، وكانوا أربعين رجلا وأربعين امرأة ، وقيل : عشرة ، وقيل :
ثمانية ، حملناهم فِي الْفُلْكِ أي : السفينة ، وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بالطوفان إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ أي : عمى القلوب ، غير مستبصرين ، وأصله : عميين ، مخفف. قاله البيضاوي.
الإشارة : الشريعة المحمدية : سفينة نوح عليه السّلام ، فمن ركب بحر الحقائق وحاد عنها حال بينه وبينها الموج فكان من المغرقين فى بحر الزندقة والكفر ، ومن تمسك بها فى ذلك كان من الناجحين الفائزين.
ثم ذكر قصة هود عليه السّلام فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 65 الى 72]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
___________
(1) كما جاء فى الآية 24 من سورة (المؤمنون).(2/229)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 230
قلت : (أخاهم) : عطف على نوح ، و(هودا) : عطف بيان أو بدل ، وكذلك (أخاهم صالحا) وما بعده حيث وقع.
يقول الحق جل جلاله : وَأرسلنا إِلى قبيلة عادٍ أَخاهُمْ أي : واحد من قبيلتهم ، كقولهم :
يا أخا العرب ، فإنه هود بن عبد اللّه بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح ، وقيل : هو هود بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح ، فهو ابن عم أبى عاد ، وإنما أرسل إليهم منهم لأنهم أفهم لقوله ، وأعرف بحاله ، وأرغب فى اتباعه ، ثم وعظهم فقال : يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ عذاب اللّه ، قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ
، كان قومه أحسن من قوم نوح ، إذ كان من أشرافهم من آمن به كمرثد بن سعد ، ولذلك قيد الملأ بمن كفر ، بخلاف قوم نوح لم يكن أحد منهم آمن به ، فأطلق الملأ ، قالوا لهود عليه السّلام : إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ أي : متمكنا فى خفة العقل ، راسخا فيها ، حيث فارقت دين قومك ، وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ فى ادعاء الرسالة.
قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ ، وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي ، وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ ، يحتمل أن يريد أمانته على الوحى ، أو أنهم كانوا قد عرفوه بالأمانة والصدق قبل الرسالة. ثم قال :
أَوَعَجِبْتُمْ من أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ ، تقدم تفسيرها.
قال البيضاوي : وفى ذكر إجابة الأنبياء الكفرة عن كلماتهم الحمقاء بما أجابوا به والإعراض عن مقالتهم :
كمال النصح والشفقة ، وهضم النفس ، وحسن المجادلة ، وهكذا ينبغى لكل ناصح ، وفى قوله : وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ : تنبيه على أنهم عرفوه بالأمرين. ه.
ثم قال لهم : وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ فى مساكنهم ، أو خلفاء فى الأرض من بعدهم بأن جعلكم ملوكا ، فإن شداد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض ، من رمل عالج إلى بحر عمان ، خوفهم أولا من(2/230)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 231
عقاب اللّه ، ثم ذكرهم بإنعامه وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً أي : قامة وقوة ، فكانوا عظام الأجساد ، فكان أصغرهم : ستين ذراعا ، وأطولهم : مائة ذراع. فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ أي : نعمه ، تعميم بعد تخصيص ، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي : لكى يفضى بكم ذكر النعم إلى شكرها المؤدى إلى الفلاح ، ومن شكرها : الإيمان برسولهم.
قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام ، استبعدوا اختصاص اللّه بالعبادة والإعراض عما وجدوا عليه آباءهم انهماكا فى التقليد ، وحبا لما ألفوه مع اعترافهم بالربوبية ، ولذلك قال لهم هود عليه السّلام : قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ، بعد أن قالوا : فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فيه.
قالَ قَدْ وَقَعَ أي : وجب عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ عذاب وَغَضَبٌ إرادة الانتقام ، أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ أي : أتجادلونني فى عبادة مسميات أسماء ، ففى الكلام حذف. وأراد بقوله : سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ أي : جعلتم لها أسماء ، فدل ذلك على أنها محدثة ، فلا يصح أن تكون آلهة ، أو سميتموها آلهة من غير دليل ، وهو معنى قوله : ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي : حجة تدل على استحقاقها للعبادة ، فالمجادلة يحتمل أن تكون فى عبادتها ، أو فى تسميتها آلهة ، والمراد بالاسم - على الأول - المسمى ، وعلى الثاني : التسمية .. قاله ابن جزى. فَانْتَظِرُوا نزول العذاب ، الذي طلبتم حين أصررتم على العناد ، إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ نزوله.
قال تعالى : فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا عليهم. قال القشيري : لا رتبة فوق رتبة النبوة ، ولا درجة أعلى من درجة الرسالة ، وقد أخبر سبحانه : أنه نجىّ هودا برحمته ، وكذا نجىّ الذين آمنوا معه برحمته ، ليعلم أن النجاة لا تكون باستحقاق العمل ، وإنما تكون ابتداء فضل من اللّه ورحمة ، فما نجا من نجا إلا بفضل اللّه سبحانه وتعالى. ه.
وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي : استأصلناهم ، وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ ، تعريض بمن آمن منهم ، وتنبيه على أن الفارق بين من نجا وبين من هلك : هو الإيمان.
روى أنهم كانوا يعبدون الأصنام ، فبعث اللّه إليهم هودا فكذبوه ، وزادوا عتوا ، فأمسك اللّه عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ، وكان الناس حينئذ ، مسلمهم ومشركهم ، إذا نزل بهم بلاء توجهوا إلى البيت الحرام وطلبوا من اللّه الفرج ، فجهزوا إليه «قيل بن عنز» ، ومرثد بن سعد ، فى سبعين من أعيانهم ، وكان إذ ذاك بمكة العمالقة أولاد عمليق بن لاود بن سام ، وسيدهم : معاوية بن بكر ، فلما قدموا عليه ، وهو بظاهر مكة ، أنزلهم وأكرمهم ، وكانوا أخواله وأصهاره ، فلبثوا عنده شهرا يشربون الخمر ، وتغنى عليهم الجرادتان - قينتان له - فلما رأى ذهولهم عما(2/231)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 232
بعثوا له أهمه ذلك ، واستحيا أن يكلمهم فيه مخافة أن يظنوا به ثقل مقامهم ، فعلم المغنيتين بيتين من الشعر ، وأمرهما أن تغنيا به وهما :
ألا يا قيل ويحك ، قم ، فهينم لعلّ اللّه يسقينا الغماما
فيسقى أرض عاد ، إنّ عادا قد امسوا لا يبينون الكلاما
فلما غنيتا به أزعجهم ذلك ، فقال مرثد : واللّه لا يسقون بدعائكم ، ولكن إن أطعتم نبيكم ، وتبتم إلى اللّه ، سقيتم ، فقالوا لمعاوية : احبسه عنّا ، لا يقدمنّ معنا مكة فإنه فد اتبع دين هود ، وترك ديننا ، ثم دخلوا مكة ، فقال قيل : اللهم اسق عادا ما كنت تسقيهم ، فأنشأ اللّه سحابات ثلاثا بيضاء وحمراء وسوداء ، ثم ناداه مناد من السماء : يا قيل اختر لنفسك ولقومك. فقال : اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماء ، فخرجت إلى عاد من وادي المغيث ، فاستبشروا بها ، وقالوا : هذا عارض ممطرنا ، فجاءتهم ، فيها ريح عقيم ، فأهلكتهم ، روى أنها لما قربت من ديارهم حملت أنعامهم فى الهواء ، كأنها جراد ، فاستمرت عليهم سبع ليال وثمانية أيام ، شدخت رؤوسهم إلى الحجارة حتى هلكوا جميعا ، ونجا هود والمؤمنون معه ، فأتوا مكة وعبدوا اللّه حتى هلكوا. قاله البيضاوي وغيره.
وهاهنا بحث وهو أن البيت إنما بناه إبراهيم عليه السّلام حسبما فى الصحيح ، ولم تعمر مكة إلا بعد إنزال إسماعيل فيها ، وهود كان قبل إبراهيم ، والبيت حينئذ خرب ، كان خربه الطوفان ، فكيف يتوجهون إليه وهو لم يكن؟.
ويمكن الجواب : بأنهم كانوا يلتجئون إلى رسومه وخربته التي بقيت بعد الطوفان لأن أول من بناه آدم عليه السّلام فلما خربه الطوفان بقي أثره ، فكانوا يتبركون به ، وفى بعض التواريخ : أن العماليق بنوه قبل إبراهيم ، فكانوا يطوفون به ويتبركون ، ثم هدم ، وبناه بعدهم خليل اللّه إبراهيم. وبهذا - إن صح - يزول الإشكال. واللّه تعالى أعلم.
وأما من قال : إن هودا تعدد ، فغير سديد.
الإشارة : قد تضمنت موعظة هود عليه السّلام لقومه خصلتين ، بهما النجاة من كل هول وشر ، والفوز بكل خير ، وهما : التوحيد والتقوى ، وهى الطاعة لله ولرسوله فيما جاء به من أمر ونهى. فالتوحيد تطهير الباطن من الشرك الجلى والخفي ، والتقوى : حفظ الجوارح من المخالفة فى السر والعلانية ، وهاتان الخصلتان هما أساس الطريق ونهايته. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر قصة صالح عليه السّلام ، فقال : (2/232)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 233
[سورة الأعراف (7) : الآيات 73 الى 79]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
قلت : آيَةً : حال ، والعامل فيها : الإشارة ، وبُيُوتاً : حال من الجبال.
يقول الحق جل جلاله : وَأرسلنا إِلى ثَمُودَ قبيلة أخرى من العرب ، سموا باسم أبيهم الأكبر :
ثمود بن غابر بن إرم بن سام ، وقيل : سموا به لقلة ما بهم من التثميد ، وهو الماء القليل ، وكانت مساكنهم الحجر ، بين الحجاز والشام إلى وادي القرى ، وقد دخلها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه ، فقال لهم صلّى اللّه عليه وسلّم : «لا تدخلوا على هؤلاء المعذّبين إلّا أن تكونوا باكين مخافة أن يصيبكم مثل ما أصابهم» «1».
أرسلنا إليهم أَخاهُمْ صالِحاً ، وهو صالح بن عبيد بن أسف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود. وقال وهب بن منبه : بعث اللّه صالحا حين راهق الحلم. وقال الكواشي : إنه مات ابن ثمان وخمسين سنة ، وأقام فى قومه ينذرهم عشرين. ه.
___________
(1) أخرجه البخاري فى (أحاديث الأنبياء - باب قول اللّه تعالى : وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) ومسلم فى (الزهد - باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن أن تكونوا باكين) من حديث سيدنا عبد اللّه بن عمر رضى اللّه عنه.(2/233)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 234
قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ معجزة ظاهرة الدلالة على صحة نبوتى ، وهى : هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً لأنها جاءت من عند اللّه بلا وسائط وأسباب ، على ما سيأتى ، فَذَرُوها أي : اتركوها ، تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ العشب ، وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ ، نهى عن المس ، الذي هو مقدمة الإصابة بالسوء الجامع لأنواع الأذى مبالغة فى الأمر وإزاحة للعذر. قاله البيضاوي. فَيَأْخُذَكُمْ إن مستموها بسوء عَذابٌ أَلِيمٌ ، وهو الهلاك بالصيحة.
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ أي : هيأ لكم القرار فِي الْأَرْضِ أي : أرض الحجاز ، تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً أي : تبنون مما انبسط منها قصورا ، فالسهل ضد الجبل ، وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً أي : تنجرون بيوتا من الجبال ، وكانوا يسكنون القصور فى الصيف والجبال فى الشتاء. فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بالمعاصي والكفر.
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ عن الإيمان ، لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أي : للذين استضعفوهم واستذلوهم - أعنى لمن آمن منهم - : أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ؟ ، قالوه على وجه الاستهزاء ، قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ، لم يقولوا فى الجواب : نعم تنبيها على أن إرساله أظهر من أن يشك فيه عاقل أو يخفى على ذى رأى ، وإنما الكلام فيمن آمن ومن كفر فلذلك قال : قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ على المقابلة ، ووضعوا آمَنْتُمْ بِهِ موضع أُرْسِلَ بِهِ ردا لما جعلوه معلوما مسلما.
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ نحروها ، أسند إلى جميعهم فعل بعضهم كما يأتى لأنه كان برضاهم ، وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ أي : استكبروا عن امتثال أمره ، وهو ما بلغهم صالح بقوله : فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ ، وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي : صيحة جبريل ، فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ باركين على ركبهم ، ميتين.
روى : أنهم بعد عاد عمروا بلادهم وخلفوهم ، وكثروا ، وعمروا أعمارا طوالا لا تفى بها الأبنية ، فنحتوا البيوت من الجبال ، وكانوا فى خصب وسعة ، فعتوا وأفسدوا فى الأرض ، وعبدوا الأصنام ، فبعث اللّه إليهم صالحا من أشرافهم ، فأنذرهم ، فسألوه آية ، فقال لهم : أىّ آية تريدون؟ فقالوا : اخرج معنا إلى عيدنا فتدعو إلهك وندعو آلهتنا ، فمن استجيب له اتبع ، فخرج معهم ، فدعوا أصنامهم فلم تجبهم ، ثم أشار سيدهم «جندع بن عمرو» إلى صخرة منفردة يقال لها : «الكاثبة» ، قال له : أخرج من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء ، فإن فعلت صدقناك ، فأخذ(2/234)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 235
عليهم صالح مواثيقهم : لئن فعلت ذلك لتؤمنن؟ قالوا : نعم ، فصلى ، ودعا ربه ، فتمخضت الصخرة تمخّض النتوج بولدها ، فانصدعت عن ناقة عشراء ، جوفاء وبراء كما وصفوا ، وهم ينظرون ، ثم أنتجت ولدا مثلها فى العظم ، فآمن به جندع فى جماعة ، ومنع الناس من الإيمان : ذؤاب بن عمرو ، والحباب صاحب أصنامهم ، ورباب كاهنهم.
فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر ، وترد الماء غبّا ، فما ترفع رأسها من البئر حتى تشرب كل ما فيها ، ثم تنفحج «1» ، فيحلبون ما شاءوا حتى تمتلىء أوانيهم ، فيشربون ويدخرون ، وكانت تصيف بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم إلى بطنه ، وتشتو ببطنه فتهرب مواشيهم إلى ظهره فشق ذلك عليهم ، فزينت عقرها لهم «عنيزة أم غنم» وصدقة بنت المختار ، فعقروها واقتسموا لحمها ، وعاقرها : الأحمر ، واسمه قدار ، استعان برجل آخر ، فلما شربت اختبأ لها فى جانب تل ، فضربها صاحبه بالسهم ، وعقرها قدار بسيفه ، واقتسموا لحمها ، فرقى ولدها جبلا اسمه : قارة ، فرغى ثلاثا ، ودخل صخرة أمه ، فقال لهم صالح عليه السّلام : أدركوا الفصيل ، عسى أن يرفع عنكم العذاب ، فلم يقدروا عليه حيث دخل الصخرة بعد رغائه ، فقال لهم صالح عليه السّلام : تصبح وجوهكم غدا مصفرة ، وبعد غد محمرة ، واليوم الثالث مسودة ، ويصبحكم العذاب ، فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه ، فأنجاه اللّه إلى أرض فلسطين. ولما كان ضحوة اليوم الرابع : تحنطوا وتكفنوا بالأنطاع ، فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم فهلكوا.
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ، ظاهره :
أن توليته عنهم بعد أن أبصرهم جاثمين ولعله خاطبهم به بعد هلاكهم ، كما خاطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أهل قليب بدر ، وقال لهم : «قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقّا ، فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقا؟» «2» أو ذكر ذلك على سبيل التحسر عليهم. قاله البيضاوي.
الإشارة : كل ما قص علينا الحق - جل جلاله - من قصص الأمم الماضية ، فالمراد به : تخويف هذه الأمة المحمدية وزيادة فى يقينهم ، فالواجب على من أراد السلامة فى الدارين أن يتمسك بما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم من غير زيادة ولا نقصان ، ويتحرى فى ذلك جهده يقصد بذلك رضا اللّه ورسوله. وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «3» ، ومن سلك الطريق المستقيم وصل إلى النعيم المقيم. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) الفحج : تباعد ما بين الفخذين. انظر النهاية (فحج).
(2) جزء من حديث أخرجه البخاري فى (المغازي - باب قتل أبى جهل) عن ابن عمر رضى اللّه عنه.
(3) من الآية 101 من سورة آل عمران.(2/235)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 236
ثم ذكر قصة لوط عليه السّلام ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 80 الى 84]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
قلت : (شهوة) : مفعول له ، أو مصدر فى موضع الحال.
يقول الحق جل جلاله : وَأرسلنا لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ واعظا لهم : أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أي :
اللواط توبيخا وتقريعا على تلك الفعلة المتناهية فى القبح ، ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أي : ما فعلها أحد قبلكم ، وبخهم على أمرين : إتيان الفاحشة ، واختراعها أولا ، ثم قال لهم : إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ ، وصفهم بالشهوة البهيمية ، وفيه تنبيه على أن العاقل ينبغى أن يكون الداعي له إلى المباشرة :
طلب الولد وإبقاء النوع لا قضاء الوطر ، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ أي : عادتكم السرف فى كل شىء ، حتى تجاوزتم ما أحل الله لكم من النساء إلى ما حرم عليكم من إتيان الذكور ، وهو إضراب عن الإنكار إلى الإخبار بحالهم التي أدت بهم إلى ارتكاب أمثالها وهى اعتياد الإسراف فى كل شىء ، أو عن الإنكار عليها إلى الذم لهم على جميع معايبهم ، أو عن محذوف ، مثل : لا عذر لكم فيه ، بل أنتم قوم عادتكم الإسراف. قاله البيضاوي.
وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ له حين وعظهم ، إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ أي : لوط ومن آمن به ، مِنْ قَرْيَتِكُمْ أي : ما أجابوه بشىء يصلح للجواب ، لكن قابلوا نصحه بالأمر بإخراجه من قريتهم ، والاستهزاء بهم ، حيث قالوا : إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ من الفواحش.
قال تعالى : فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ أي : من آمن معه ، إِلَّا امْرَأَتَهُ فإنها كانت تسر الكفر كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أي : الباقين فى ديارهم فهلكوا وهلكت معهم.
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً أي : نوعا عجيبا من المطر ، بيّنه بقوله : وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ «1» ، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ.
___________
(1) الآية 74 من سورة الحجر.(2/236)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 237
روى أن لوط بن هاران بن تارح لما هاجر عمه إبراهيم إلى الشام ، ونزل بالأردن ، وكان هاجر هو معه ، أرسله الله تعالى إلى أهل سدوم ، ليدعوهم إلى الله ، وينهاهم عما اخترعوه من الفاحشة ، فلم ينتهوا عنها ، فقلع جبريل مدينتهم ، وجعل عاليها سافلها ، وأمطر الحجارة على ما قربهم من القرى ، وسيأتى فى سورة هود بقية قصتهم ، إن شاء الله. والله تعالى أعلم.
الإشارة : إنما أهلك اللّه قوم لوط حيث آثروا شهوة نفوسهم على عبودية ربهم ، وغلبهم الطبع البهيمى على مقتضى العقل الصافي ، وقد تقدم قول الغزالي : إن الشّره إلى الوقاع من جملة المهلكات. فعلى المريد أن يصفى قصده ، ولا ينزل إلى أرض الحظوظ إلا بالإذن والتمكين والرسوخ فى اليقين ، ولا ينزل بالشهوة والمتعة. وقد قال عليه السّلام :
«المؤمن يأكل بشهوة أهله» «1» فلا يأتى ما أحلّ اللّه له من متعة النّساء إلا قياما بحقّ الغير وطلبا للنسل. وبالله التوفيق.
ثم ذكر قصة شعيب عليه السّلام فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 85 الى 93]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89)
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93)
___________
(1) أخرجه الديلمي فى الفردوس (ح 6547) من حديث أبى أمامة الباهلي ، بلفظ «المؤمن يأكل بشهوة عياله ، والمنافق يأكل أهله بشهوته».(2/237)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 238
يقول الحق جل جلاله : وَأرسلنا إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً ، ومدين : قبيلة من أولاد مدين بن إبراهيم ، شعيب بن ميكائل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم الخليل ، على ما قيل. وقد تقدم فى البقرة أن مدين ومدان من ولد ابراهيم عليه السّلام ، وشعيب هذا يسمى خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه.
قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ، قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ يريد المعجزة التي كانت له ، وليس فى القرآن بيان ما هى معجزته. وحمل الواحدي البينة على الموعظة. وقال فى الكشاف : ومن معجزات شعيب : ما روى من محاربة عصا موسى التنين ، حين دفع إليه غنمه ، وولادة الغنم الدرع خاصة ، حين وعده أن يكون له الدرع من أولادها ، ووقوع عصا آدم فى يده فى المرات السبع ، وغير ذلك من الآيات. ه. وفيه نظر لأن هذ وقعت بعد مقالته لقومه ، وإنما كانت إرهاصات لموسى عليه السّلام ، وفى حديث البخاري : «ما بعث اللّه نبيّا إلّا وآتاه ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا ، وأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» «1». وهو صريح فى أنه لا بد من الآية لكل رسول ، ولعل اللّه تعالى لم يذكر معجزة شعيب وهود فى القرآن مع وجودها لظاهر الحديث.
ثم قال لهم : فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ ، وكانوا مطففين ، أي : فأوفوا المكيال الذي هو آلة الكيل ، أي : كبروها بدليل قوله : وَالْمِيزانَ الذي هو الآلة ، ويحتمل أن يريد بهما المصدر ، أي : الكيل والوزن.
وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ أي : لا تنقصوهم حقوقهم ، وإنما قال : أَشْياءَهُمْ ، للتعميم تنبيها على أنهم كانوا يبخسون الجليل والحقير ، والقليل والكثير ، وقيل : كانوا مكّاسين لا يدعون شيئا إلا مكسوه.
وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالكفر والظلم ، بَعْدَ إِصْلاحِها بإقامة الشرائع وظهور العدل ، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي : ذلك الذي أمرتكم به ونهيتكم عنه هو خير لكم من إبقائكم على ما أنتم عليه ، ومعنى الخيرية : الزيادة مطلقا إذ لا خير فيما هم فيه ، أو : فى الإنسانية وحسن الأحدوثة وجمع المال. قاله البيضاوي.
___________
(1) أخرجه بنحوه البخاري فى (فضائل القرآن ، باب كيف نزل الوحى) من حديث أبى هريرة رضى اللّه عنه.(2/238)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 239
وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ أي : طريق تُوعِدُونَ من أراد الإيمان بالعقوبة ، وكانوا يجلسون على الطرقات والمراصد ، يقولون لمن يريد شعيبا : إنه كذاب فلا يفتنك عن دينك ويوعدون من آمن ، وقيل : كانوا يقطعون الطريق.
وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي : تصدون الناس عن طريق اللّه ، وهو الإيمان به وبرسوله ، وهو الذي قعدوا لأجله فى كل طريق ، وقوله : مَنْ آمَنَ بِهِ من أراد الإيمان به ، أو من آمن حقيقة كانوا يصدونه عن العمل ، وَتَبْغُونَها عِوَجاً أي : وتطلبون لطريق اللّه عوجا بإلقاء الشّبه فيها ، أو بوصفها للناس بأنها معوجّة.
وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا عددكم وعددكم فَكَثَّرَكُمْ بالبركة فى النسل والمال ، وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ من الأمم قبلكم ، فاعتبروا بهم.
وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا أي : تربصوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا أي : بين الفريقين بنصر المحقين على المبطلين ، فهو وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين ، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ إذ لا معقب لحكمه ، ولا حيف فيه.
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ فى جوابه عن وعظه : لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا أي : ليكونن أحد الأمرين إما إخراجكم من القرية أو عودكم فى الكفر ، وشعيب عليه السّلام لم يكن فى ملتهم قط لأن الأنبياء - عليهم السّلام - لا يجوز عليهم الكفر مطلقا ، لكنهم غلّبوا الجماعة على الواحد فخوطب هو وقومه بخطابهم ، وعلى ذلك أجرى الجواب فى قوله : قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ. قاله البيضاوي. وقال ابن عطية : وعاد : قد يكون بمعنى صار ، فلا يقتضى تقدم ذلك المحال ، قلت : ويؤيده ما فى حديث الجهنميين : «قد عادوا حمما» «1» أي : صاروا.
ثم قال شعيب عليه السّلام : قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها أي : إن رجعنا إلى ملتكم بعد الخلاص منها ، فقد اختلقنا على اللّه الكذب ، وهذا كله فى حق قومه كما تقدم. وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا خذلاننا وارتدادنا ، وفيه تسليم للإرادة المغيبة ، والعلم المحيط ، فإن القلوب بيد اللّه يقلبها كيف يشاء. فإن قلت : هو معصوم فلا يصح فيه العود؟. قلت : قاله أدبا مع الربوبية ، واستسلاما لقهر
___________
(1) جزء من حديث طويل أخرجه البخاري فى (الرقاق - باب صفة الجنة والنار) ومسلم فى (الإيمان - باب معرفة طريق الرؤية) من حديث أبى سعيد الخدري رضى اللّه عنه.(2/239)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 240
الألوهية ، كقول نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم : «يا مقلّب القلوب ثبت قلبى على دينك» «1». وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي : أحاط علمه بكل شىء مما كان وما يكون منا ومنكم ، عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا فى أن يثبتنا على الإيمان ، ويخلصنا من الإشراك. رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا أي : احكم بيننا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ بالعدل ، بتمييز المحق من المبطل ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ أي : الفاصلين.
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً وتركتم دينكم إِنَّكُمْ إِذاً أي : إذا اتبعتموه لَخاسِرُونَ لاستبدالكم ضلالته بهداكم ، أو لفوات ما يحصل لكم من البخس والتطفيف. فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي : الزلزلة. وفى سورة الحجر. الصَّيْحَةُ ، ولعلها كانت من مبادئها ، فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ أي : فى مدينتهم جاثِمِينَ : باركين ميتين.
الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أي : استؤصلوا كأنهم لم يقيموا فيها ساعة. الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ دينا ودنيا ، بخلاف الذين صدقوه واتبعوه كما زعموا فإنهم الرابحون ، ولأجل التنبيه على هذا والمبالغة فيه كرر الموصول ، واستأنف الجملتين وأتى بهما اسميتين.
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ ، قاله بعد هلاكهم ، تأسفا عليهم ، ثم أنكر على نفسه فقال : فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ ليسوا أهلا للحزن عليهم ، لاستحقاقهم ما نزل بهم.
الإشارة : يؤخذ من قوله : وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها أن إقامة الشرائع ، وظهور الدين من علامة إصلاح الأرض وبهجتها ، وخصبها وعافيتها ، وترك الشرائع وظهور المعاصي من علامة فساد الأرض وخرابها.
ويؤخذ من قوله : وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ ... الآية ، أن حض الناس على الإيمان ودلالتهم على اللّه من أفضل القربات عند اللّه ، وأعظم الوسائل إلى اللّه.
ويؤخذ من قوله : وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أن الإنسان لا يقف مع ظاهر الوعد والوعيد ، ولعل اللّه تعالى علّق ذلك الوعد أو الوعيد بشروط وأسباب أخفاها ، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره ، ولا يكون مع غير اللّه قراره. وفى بعض الآثار القدسية : «يا عبدى لا تأمن مكرى وإن أمّنتك ، فعلمى لا يحيط به محيط». واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) أخرجه مطولا أحمد فى المسند (6/ 91) عن السيدة عائشة رضى اللّه عنها والترمذي فى (القدر - باب ما جاء أن القلوب بين أصبعى الرحمن) من حديث أنس رضى اللّه عنه. وفى (الدعوات ، باب 90) من حديث أم سلمة رضى اللّه عنها. [.....](2/240)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 241
ولما سرد قصص الأمم السالفة ذكر حاله معهم ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 94 الى 99]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99)
يقول الحق جل جلاله : وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ أي : رسول إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ أي : بالبؤس والضر ، كالقحط والأمراض ، لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ أي : يتضرعون ويتذللون ، ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ الحالة السَّيِّئَةِ الحالة الْحَسَنَةَ أي : أعطيناهم ، بدل ما كانوا فيه من البلاء والشدة ، السلامة والسعة ، حَتَّى عَفَوْا : كثروا عددا وعددا ، يقال : عفا النبات : إذا كثر ، ومنه : «اعفوا اللّحى» «1». وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ كفرا لنعمة اللّه عليهم ، ونسيانا لذكره ، واعتقادا بأنه من عادة الدهر يتعاقب فى الناس بين السراء والضراء ، فقد مس آباءنا منه شىء مثل ما مسنا ، فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً : فجأة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بنزول العذاب.
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى المتقدمة فى قوله : وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ وقيل : مكة وما حولها. وقيل :
مطلقا ، آمَنُوا وَاتَّقَوْا مكان كفرهم وعصيانهم ، لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لوسّعنا عليهم الخير ، ويسرناه لهم من كل جانب. وقيل : المراد : المطر والنبات. وَلكِنْ كَذَّبُوا بالرسل ، وكفروا النعم ، فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من الكفر والمعاصي.
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أي : أبعد ذلك أمن أهل القرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ؟ أي : ليلا ، فى حال نومهم. أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا أيضا ضُحًى ضحوة النهار وَهُمْ يَلْعَبُونَ من
___________
(1) جزء من حديث أخرجه البخاري فى (اللباس - باب إعفاء اللحى) من حديث ابن عمر رضى اللّه عنه.(2/241)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 242
فرط الغفلة ، أو يشتغلون بما لا ينفعهم ، أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ وهو أن يستدرجهم بالنعم حتى يأخذهم بغتة؟ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ الذين خسروا أنفسهم ، بترك النظر والاعتبار ، حتى هلكوا ، فلم ينفعهم حينئذ الندم.
الإشارة : إظهار المحن والمنن وتعاقبهما على الإنسان ، حكمتها : الرجوع إلى اللّه ، وتضرع العبد إلى مولاه ، فمن فعل ذلك كان معتمدا عليه فى الحالتين ، مغترفا من بحر المنة بكلتا اليدين ، ومن نزلت به المحن ثم أعقبته لطائف المنن ، فلم يرجع إلى مولاه ، ولا شكره على ما خوله من نعماه ، بل قال : هذه عادة الزمان يتعاقب بالسراء والضراء على الإنسان ، فهذا عبد منهمك فى غفلته ، قد اتسعت دائرة حسه ، وانطمست بصيرة قدسه ، يصدق عليه قوله تعالى : أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ «1».
وقال القشيري فى قوله تعالى : وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا ... الآية : أي : لو آمنوا بالله واتّقوا الشرك (لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) بأسباب العطاء ، فإن سبق بخلافه القضاء فأبواب الرضا ، والرضا أتم من العطاء. ويقال : ليس العبرة بالنعمة العبرة بالبركة فى النعمة. ه.
قوله تعالى : وَلكِنْ كَذَّبُوا أي : شكّوا فى هذا الوعد فلم يتقوا بالإيمان والتقوى حتى يتركوا الأسباب ، والشاك فى الصادق المصدوق مكذب. وقال الشيخ أبو العباس المرسى رضى اللّه عنه : للناس أسباب ، وسببنا الإيمان والتقوى ، ثم تلا هذه الآية : وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا ... الآية ، وقد تقدم عند قوله : الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ «2». ما يتعلق بالأمن من مكر اللّه.
ولما ذكر هلاك الأمم الماضية ، خوّف من خلفهم بعدهم إلى يوم القيامة ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 100 الى 102]
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102)
___________
(1) من الآية 179 من سورة الأعراف.
(2) الآية 82 من سورة الأنعام.(2/242)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 243
قلت : (أن لو نشاء) : «أن» مخففة ، وهى وما بعدها : فاعل (يهد) أي : أو لم يتبين لهم قدرتنا على إهلاكهم لو نشاء ذلك؟ وإنما عدى «يهدى» باللام لأنه بمعنى يتبين ، و(نطبع) : استئناف ، أي : ونحن نطبع على قلوبهم.
يقول الحق جل جلاله : أَوَلَمْ يَهْدِ أي : يتبين لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أي : يخلفون من قبلهم ويرثون ديارهم وأموالهم ، أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ أي : أهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ بسبب ذنوبهم ، كما أهلكنا من قبلهم ، لكن أمهلناهم ولم نهملهم ، وَنحن نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ بالغفلة والانهماك فى العصيان ، فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ سماع تدبر واعتبار.
تِلْكَ الْقُرى ، التي قصصنا عليك آنفا ، نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها من أخبارها ، أي : بعض أخبارها ، ولها أبناء غيرها لا نقصها عليك وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ : بالمعجزات ، فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا عند مجيئهم ، بها بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ مجيئها ، يعنى : أن ظهور المعجزات لم ينفعهم ، بل الشيء الذي كذبوا به قبل مجيئها ، وهو التوحيد وتصديق الرسل استمروا عليه بعد مجيئها.
أو : فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا مدة عمرهم بما كذبوا به أولا ، حين جاءتهم الرسل ، فلم تؤثر فيم دعوتهم المتطاولة والآيات المتتابعة. كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ فلا تلين شكيمتهم بالآيات والنذر.
وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ أي : لأكثر أهل القرى مِنْ عَهْدٍ ، بل جلّهم نقضوا ما عهدناهم عليه من الإيمان والتقوى بإنزال الآيات ونصب الحجج ، وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ أي : علمناهم لَفاسِقِينَ ، و«إن» مخففة ، واللام : فارقة.
الإشارة : ينبغى لمن فتح اللّه بصيرته أن ينظر بعين الاعتبار فيمن سلف قبله ، كيف تركوا الدنيا ورحلوا عنها ، ولم يأخذوا منها إلا ما قدموا أمامهم؟ قدموا على ما قدّموا ، وندموا على ما خلفوا ، ولم ينفعهم الندم وقد زلت بهم القدم ، فالدهر خطيب يسمع القاصي والقريب ، وهو ينادى بلسان فصيح ، عادلا عن الكناية إلى التصريح ، قائلا : أما حصل لكم الإنذار؟ أما كفاكم ما تشاهدون فى الاعتبار؟ أين من سلف قبلكم؟. أو ما كانوا أشد منكم أو مثلكم؟ قد نما ذكرهم وعلا قدرهم ، وخسف بعد الكمال بدرهم ، فكأنهم ما كانوا ، وعن قريب مضوا وبانوا ، أفضوا إلى ما قدموا ، وانقادوا قهرا إلى القضاء وسلموا ، فيا أيها الغافلون ، أنتم بمن مضى لاحقون ، ويا أيها الباقون أنتم إليهم تساقون ، قضاء مبرم ، وحكم ملزم ، ليس عنه محيد لأحد من العبيد.(2/243)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 244
ثم شرع فى قصص موسى عليه السّلام ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : آية 103]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)
يقول الحق جل جلاله : ثُمَّ بَعَثْنا من بعد الرسل المتقدمين مُوسى بن عمران بِآياتِنا :
بمعجزاتنا الدالة على صدقه ، إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها أي : طغوا بسببها ، وزادوا عتوا على عتوهم ، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ كيف غرقوا عن آخرهم ، وأكلهم البحر.
الإشارة : إذا أراد اللّه - تعالى - أن يهلك قوما بعث إليهم من يذكرهم ، فإذا زادوا فى العتو والطغيان عاجلهم بالعقوبة. ذكر الشعراني : أن مدينة بالمشرق صنعوا وليمة يتنزهون فيها ، فخرجوا إلى بستان ، فلما صنعوا الطعام دخل عليهم فقير ، فقال : أعطونى ، فأعطوه ، ثم قال : أعطونى فزادوه ، ثم قال : أعطونى ، فجروه حتى أخرجوه ، فأرسل عليهم من أخرجهم من تلك المدينة وخربها ، فهى خربة إلى اليوم. سبحان المدبر الحكيم الواحد القهار!.
ثم ذكر دعوة موسى إلى فرعون ، وما كان من أمره معه ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 104 الى 105]
وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105)
قلت : من قرأ : «علىّ» بشد الياء ، فحقيق : مبتدأ ، و«علىّ» : متعلق به ، و(ألّا أقول) : خبره ، أي : حقيق علىّ قول الحق. ومن قرأ : (على) بالتخفيف ، فحقيق : صفة لرسول ، و«على» : حرف جر ، و(ألّا أقول) : مجرور ، أي : إنى رسول حقيق على قول الحق ، وعدّاه بعلى لتضمنه معنى حريص ، أو تكون (على) بمعنى الباء أي : حقيق بقول الحق ، وقد يبقى على أصله لأمن الالتباس والمعنى : حقيق على قول الحق أن أكون أنا قائله ، لا يرضى إلا مثله ناطقا به. انظر البيضاوي.
يقول الحق جل جلاله : وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ، حَقِيقٌ واجب عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ لأننى معصوم من النطق بغيره ، فإن كذّبتنى فقد جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي :
بمعجزة واضحة ، تدل على صدقى ، وهى العصا. فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي : فخل سبيلهم ، حتى يرجعوا معى إلى الأرض المقدسة : التي هى وطن آبائهم ، وكان قد استعبدهم واستخدمهم فى الأعمال الشاقة وذلك أنه لما توفّى يوسف عليه السّلام غلب عليهم فرعون واستعبدهم حتى أنقذهم اللّه على يد موسى ، وكان بين اليوم الذي دخل فيه يوسف مصر واليوم الذي دخله موسى رسولا إلى فرعون : أربعمائة عام.(2/244)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 245
ثم طلب منه إظهار المعجزة ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 106 الى 112]
قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (110)
قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112)
قلت : يقال : أرجأ ، بالهمز ، يرجىء بمعنى أخر فمن قرأ بالهمزة فعلى الأصل ، ومن قرأه بغير الهمزة فيحتمل أن يكون بمعنى المهموز ، وسهلت الهمزة ، أو يكون بمعنى الرجاء ، أي : أطمعه ، وأما ضم الهاء وكسرها فلغتان ، وأما إسكانها فلغة أجرى فيها الوصل مجرى الوقف. وقد تتبع البيضاوي توجيه القراءات ، فانظره إن شئت.
يقول الحق جل جلاله : قالَ فرعون لموسى عليه السّلام : إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ من عند من أرسلك ، كما ذكرت ، فَأْتِ بِها وأحضرها ليثبت بها صدقك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فى دعواك ، فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ أي : ظاهر أمره ، لا يشك فى أنه ثعبان ، وهى الحية العظيمة.
روى أنه لما ألقاها صار ثعبانا أشعر ، فاغرا فاه ، بين لحييه ثمانون ذراعا ، وضع لحيه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر ، ثم توجه نحو فرعون ، فهرب منه وأحدث ، وانهزم الناس مزدحمين ، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا ، وصاح فرعون : يا موسى ، أنشدك الذي أرسلك خذه ، وأنا أومن بك ، وأرسل معك بنى إسرائيل ، فأخذه فعاد عصا. قاله البيضاوي.
ثم أظهر له معجزة أخرى : وَنَزَعَ يَدَهُ من جيبه ، أو من تحت إبطه ، فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ أي :
بيضاء بياضا خارجا عن العادة ، يجتمع عليها النظارة ، أو بيضاء للنظار ، لا أنها كانت بيضاء فى خلقتها ، بل كانت شديدة الأدمة كلون صاحبها. روى أنه كان شديد الأدمة فأدخل يده فى جيبه أو تحت إبطه ، ثم نزعها ، فإذا هى بيضاء نورانية ، غلب شعاعها شعاع الشمس.
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ ، قيل : قاله هو وأشراف قومه ، على سبيل المشاورة فى أمره ، فحكى عنه فى سورة الشعراء ، وعنهم هنا ، أو قاله هو ووافقوه عليه ، كعادة جلساء الملوك مع أتباعهم.
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بالحيل ، أو بالقتال ، أو بإخراج بنى إسرائيل ، وكانوا خداما لهم ، فتخرب البلد(2/245)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 246
من بعدهم ، لأنهم خدامها وعمارها. قال فرعون : فَما ذا تَأْمُرُونَ أي : تشيرون علىّ أن أفعل؟
قالُوا أَرْجِهْ أي : أخّره وَأَخاهُ أي : أخّرهما حتى تنظر فى أمرهما ، وقيل : أمروه بسجنهما ، وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ أي : مدائن عمالتك حاشِرِينَ يحشرون لك السحرة ، يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ.
ثم ذكر مجيئهم ، وما كان من أمرهم مع موسى عليه السّلام ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 113 الى 119]
وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117)
فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119)
قلت : من قرأ : (أئن) بهمزتين ، فهو اسم استفهام ، ومن قرأ بهمزة واحدة ، فيحتمل أن يكون خبرا ، كأنهم قالوا :
لا بد لنا من أجر ، أو استفهاما حذفت منه الهمزة ، والتنكير للتعظيم ، واستأنف الجملة ، كأنها جواب عن سائل قال :
فماذا قالوا إذ جاءوا؟ قالوا : إن لنا لأجرا ... إلخ ، و(إنكم) : عطف على ما سدّ مسده نعم ، من تمام الجواب ، كأنه قال :
نعم نعطيكم الأجر ونقربكم.
يقول الحق جل جلاله : وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ بعد ما أرسل الشرطة فى طلبهم ، قالُوا لما وصلوا إليه : إِنَّ أئن لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ لموسى؟ قالَ نَعَمْ إن لكم أجرا وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ إلىّ. فأنعم لهم بالأجر ، وزادهم التقريب منه والجاه عنده تحريضا لهم. واختلف فى عدد السحرة اختلافا متباينا ، من سبعين رجلا إلى سبعين ألفا ، وكل ذلك لا أصل له فى صحة النقل.
ولمّا خرجوا إلى الصحراء لمقابلته قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ خيّروا موسى مراعاة للأدب ، وإظهارا للجلادة ، ولكن كانت رغبتهم فى أن يلقوا قبله ، ولذلك عبّروا عن إلقاء موسى بالفعل وعن إلقائهم بالجملة الاسمية ، وفيه إشارة إلى أنهم أهل الإلقاء المتمكنون فيه. ولذلك أسعفهم ، قالَ أَلْقُوا أسعفهم كرما ومسامحة وازدراء بهم ، فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ ، بأن خيلوا إليها خلاف ما فى حقيقة الأمر ، وَاسْتَرْهَبُوهُمْ أي : خوفوهم بما أظهروا لهم من أعمال السحر ، وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ فى فنّه.
روى أنهم ألقوا حبالا غلاظا ، وخشبا طوالا ، كأنها حيات ، ملأت الوادي ، وركب بعضها بعضا.(2/246)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 247
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ ، فألقاها ، فصارت ثعبانا عظيما ، على قدر الجبل ، وقيل : إنه طال حتى جاوز النيل ، فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ أي : تبتلع ما يَأْفِكُونَ ما يزوّرونه من إفكهم وكذبهم. روى أنها لما ابتلعت حبالهم وعصيهم ، وكانت ملأت الوادي ، فابتلعتها بأسرها ، أقبلت على الحاضرين ، فهربوا وازدحموا حتى هلك منهم جمع عظيم ، ثم أخذها موسى فصارت عصا كما كانت ، فقال السحرة : لو كان هذا سحرا لبقيت حبالنا وعصينا.
فَوَقَعَ الْحَقُّ أي : ثبت بظهور أمره ، وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ أي :
صاروا أذلاء مبهوتين ، أو انقلبوا إلى المدينة مقهورين.
ولما رأى السحرة ذلك علموا أنه ليس من طوق البشر ، وليس هو من السحر ، فتحققوا أنه من عند اللّه ، فآمنوا ، كما أشار إليه بقوله :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 120 الى 126]
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)
قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126)
يقول الحق جل جلاله : وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ على وجوههم ساجِدِينَ لما عرفوا الحق وتحققوا به ، فآمنوا لأن الحق بهرهم ، واضطرهم إلى السجود بحيث لم يتمالكوا ، أو ألهمهم اللّه ذلك وحملهم عليه ، حتى ينكسر فرعون بالذين أراد بهم كسر موسى ، وينقلب الأمر عليه.
قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ. رَبِّ مُوسى وَهارُونَ أبدلوا الثاني من الأول لئلا يتوهم أنهم أرادوا به فرعون.
قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ أي : بالله أو بموسى ، قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ، إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ أي : إن هذه لحيلة صنعتموها أنتم وموسى فِي الْمَدِينَةِ فى مصر ، ودبرتموها قبل أن تخرجوا للميعاد لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها أي : القبط ، وتخلص لكم ولبنى إسرائيل ، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة ما صنعتم.(2/247)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 248
ثم فصّل ما هددهم به ، فقال : لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ من كل شق عضو ، كيد ورجل من كل واحد ، ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ تفضيحا لكم وتنكيلا لأمثالكم ، وليس فى القرآن أنه أنفذ ذلك ، ولكن روى عن ابن عباس وغيره أنه فعله. قيل : إنه أول من سنّ ذلك - أي : القطع من خلاف - فشرعه اللّه للقطاع تعظيما لجرمهم ، فلذلك سماه اللّه محاربة للّه ورسوله.
قالُوا أي : السحرة لما خوفهم : إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ بالموت ، فيكرم مثوانا ، فلا نبالى بوعيدك ، كأنهم اشتاقوا إلى اللقاء ، فهان عليهم وعيده ، أو إنا وأنت إلى ربنا منقلبون ، فيحكم بيننا وبينك ، وَما تَنْقِمُ مِنَّا أي : وما تعيب علينا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا ، وهو لا يعاب عند العقلاء ، لأنه خير الأعمال ، وأصل المناقب ومحاسن الخلال ، ثم فزعوا إلى اللّه فقالوا : رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أي : اصبب علينا صبرا يغمرنا ، كما يفرغ الماء على الشيء فيغمره ، وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ ثابتين على الإسلام. قال البيضاوي : قيل : إنه فعل بهم ذلك ، وقيل : إنه لم يقدر عليه ، لقوله : أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ «1». ه. وقد تقدم قول ابن عباس وغيره. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : انظر من سبقت له العناية ، هؤلاء السحرة جاءوا يحادون اللّه فأمسوا أولياء اللّه ، فكم من خصوص تخرج من اللصوص ، وانظر أيضا صبرهم وثباتهم على دينهم ، وعدم مبالاتهم بعدوهم ، هكذا ينبغى أن يكون من مراده مولاه ، لا يلتفت إلى شىء سواه ، وعند هذه التصرفات يفتضح المدّعون ويثبت الصادقون ، عند الامتحان يعز المرء أو يهان.
ثم قال تعالى فى تتمة قصة موسى عليه السّلام :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 127 الى 129]
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُم ْ قاهِرُونَ (127) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
___________
(1) من الآية 35 من سورة القصص.(2/248)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 249
يقول الحق جل جلاله : وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ أي : تتركهم يخالفون دينك لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أي : يخربوا ملكك بتغيير دينك ودعوتهم إلى مخالفتك ، وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ أي :
يترك موسى دينك ومعبوداتك التي تعبد ، قيل : كان يعبد الكواكب ، وقيل : صنع لقومه أصناما وأمرهم أن يعبدوها تقربا إليه. ولذلك قال : أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى «1». قال فرعون فى جوابهم : سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ أي : ذكورهم وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ أي : بناتهم ، كما كنا نفعل من قبل ، ليعلم أنّا على ما كنا عليه من القهر والغلبة ، ولا يتوهم أنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يديه. وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ غالبون ، وهم مقهورون تحت أيدينا.
قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ، قاله تسكينا لهم حين سمعوا قول فرعون وما هددهم به ، ثم قال لهم : إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وسيورثها لكم إن صبرتم وآمنتم. وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ، فتكون العاقبة لكم إن اتقيتم ، وهو وعد لهم بالنصر والعز ، وتذكير بما وعدهم من إهلاك القبط وتوريثهم ديارهم وملكهم.
قالُوا أي : بنو إسرائيل : أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا بقتل الأبناء ، وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا بإعادته ، فلم يرتفع عنا الذل بمجيئك ، قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ ، تصريحا بما كنّى عنه أولا ، لما رأى أنهم لم يتسلوا بذلك ، ولعله أتى بحرف الطمع ، أي : الترجي لعدم جزمه بأنهم المستخلفون بأعيانهم ، أو أولادهم ، وقد روى أن مصر إنما فتح لهم فى زمن داود عليه السّلام. قاله البيضاوي. فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ أي : فإذا استخلفكم يرى ما تعملون من شكر أو كفران ، أو طاعة أو عصيان ، فيجازيكم على حسب ما يوجد منكم من كفر أو إحسان.
الإشارة : ما وقع للأنبياء مع قومهم وقع مثله لأشياخ هذه الأمة وفقرائها مع أهل زمانهم ، ولما كثرت الأحوال من الفقر أو خرق العوائد ، وظهروا بتخريب ظواهرهم ، وقعت بهم الشكاية إلى السلطان ، وقالوا له : هؤلاء يخربون ملكك ، فآل على نفسه إن مكنه اللّه منهم لا يترك منهم أحدا ، فكفى اللّه بأسه ، فاستعانوا بالله وصبروا ، واشتغلوا بذكر اللّه ، وغابوا عمن سواه ، فكانت العاقبة للمتقين.
ثم ذكر ابتلاءه لقوم فرعون ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 130 الى 131]
وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131)
___________
(1) كما جاء فى الآية 24 من سورة النازعات.(2/249)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 250
قلت : عبّر فى جانب الحسنة بإذا ، المفيدة للتحقيق ، وعرّف الحسنة لكثرة وقوعها ، وعبّر فى جانب السيئة بإن المفيدة للشك ، ونكّر السيئة لندورها.
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ أي : بالجدب والقحط لقلة الأمطار والمياه ، وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ بكثرة العاهات ، لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي : لكى ينتبهوا أن ذلك من شؤم كفرهم ومعاصيهم ، ويتعظوا ، وترق قلوبهم بالشدائد ، فيفزعوا إلى اللّه ، ويرغبوا فيما عنده.
فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ من الخصب والسعة والرخاء ، قالُوا لَنا هذِهِ أي : قالوا : هذه لنا ولسعودنا ، ونحن مستحقون له. وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ : جدب وبلاء يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أي : يتشاءموا بهم ، ويقولون : ما أصابتنا إلا بشؤمهم ، وهذا إغراق فى وصفهم بالغباوة والقساوة فإن الشدائد ترقق القلوب ، وتذلل العرائك أي : الطبائع ، وتزيل التماسك ، سيما بعد مشاهدة الآيات ، وهى لم تؤثر فيهم ، بل زادوا عندها عتوا وانهماكا فى الغى.
قال تعالى : أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي : سبب طائرهم وشرهم عنده ، وهو حكمه ومشيئه ، أو سبب شؤمهم عند اللّه ، وهو أعمالهم المكتوبة عنده ، فإنها التي ساقت إليهم ما يسوؤهم. قال ابن جزي : أي : حظهم ونصيبهم الذي قدر لهم من الخير والشر عند اللّه ، وهو مأخوذ من زجر الطير ، ثم سمى به ما يصيب الإنسان ، ومقصود الآية : الرد عليهم فيما نسبوا إلى موسى من الشؤم. ه. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن ما يصيبهم من اللّه تعالى بلا واسطة ، أو من شؤم أعمالهم.
الإشارة : هذه الخصلة جارية أيضا في هذه الأمة ، أعني التطاير ، ترى العوام إذا نزل بهم بلاء أو شدة قالوا :
بظهور هؤلاء وقع بنا ما وقع ، ولقد سمعت ممن حكى لي هذه المقالة عن العامة وقت ابتداء ظهور الفقراء ، وذلك أنهم آذوهم أذى شديدا ، فأرسل اللّه عليهم كثرة الأمطار كادت أن تكون طوفانا ، فقالوا : ما أصابنا هذا إلا من شؤم هذه المرقعات التي ظهرت ، ولم يدروا أن ذلك منهم لإذايتهم أهل اللّه. واللّه تعالي أعلم.
ثم ذكر عتو آل فرعون ، وعقوبته لهم ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 132 الى 137]
وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136)
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137)(2/250)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 251
قلت : (مهما) : اسم شرط جازم ، و(تأتنا) : شرطها ، وجملة (فما نحن) : جوابها ، قيل : مركبة ، وأصلها : «ما» الشرطية ، ضمت إليها «ما» الزائدة ، نحو : أينما ، ثم قلبت الألف هاء ، والمشهور : أنها بسيطة ، ومحلها : رفع بالابتداء ، أو نصب بفعل يفسره : «تأتنا» ، والضمير فى : «به» عائد على «مهما».
يقول الحق جل جلاله : وَقالُوا أي : فرعون وقومه : مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ ، وإنما سموها آية على زعم موسى ، لا لاعتقادهم ، ولذلك قالوا : لِتَسْحَرَنا بِها أي : لتسحر بها أعيننا وتشبه علينا ، فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. وهذا من عظيم عتوهم وانهماكهم فى الكفر.
قال تعالى : فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وهو مطر شديد نزل بهم مع فيض النيل ، حتى هدم بيوتهم وكادوا يهلكون ، وامتنعوا من الزراعة ، وقيل : الطاعون ، وقيل : الجدري ، وقيل الموتان ، وَالْجَرادَ وهو المعروف ، أكل زروعهم وثمارهم ، حتى أكل ثيابهم وأبوابهم وسقف بيوتهم ، وَالْقُمَّلَ قيل : أولاد الجراد قبل نبات أجنحتها ، وقيل : البراغيث ، وقيل السوس ، والتحقيق : أنه صغار القراد ، دخل ثيابهم وشعورهم ولحاهم ، وقرىء : «القمل» بفتح القاف وهو القمل المعروف ، دخل ثيابهم وامتلأت منها ، وَالضَّفادِعَ ، وهى المعروفة ، كثرت عندهم حتى امتلأت بها فروشهم وأوانيهم ، وإذا تكلم أحدهم وثب الضفدع إلى فيه. وَالدَّمَ صارت مياههم دما ، فكان يستسقى من البئر القبطي والإسرائيلي في إناء واحد ، فيخرج ما يلي القبطي دما ، وما يلي الإسرائيلي ماء.
قال البيضاوي : روي أنهم مطروا ثمانية أيام في ظلمة شديدة ، لا يقدر أحد أن يخرج من بيته ، ودخل الماء بيوتهم حتى قاموا فيه إلي تراقيهم ، وكانت بيوت بني إسرائيل متصلة ببيوتهم ، فلم يدخل فيها قطرة ، وركب على أرضهم فمنعتهم من الحرث والتصرف فيها ، ودام ذلك عليهم أسبوعا ، فقالوا لموسى عليه السّلام : أدع لنا ربك بما عهد(2/251)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 252
عندك يكشف عنا ونحن نؤمن بك ، فدعا اللّه فكشف عنهم ، ونبت لهم من الكلأ والزرع والثمار ما لم يعهد مثله ، ولم يؤمنوا ، فبعث اللّه عليهم الجراد فأكلت زرعهم وثمارهم ، ثم أخذت تأكل الأبواب والسقوف والثياب ، ففزعوا إليه ثانيا ، فدعا ، وخرج إلي الصحراء ، وأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب ، فرجعت إلى النواحي التي جاءت منها ، فلم يؤمنوا ، فسلط عليهم القمل وأكل ما أبقاه الجراد ، فكان يقع في أطعمتهم ويدخل في ثيابهم وجلودهم فيمصها ، ففزعوا إليه فرفع عنهم ، فقالوا : قدتحققنا الآن أنك ساحر ، ثم أرسل اللّه عليهم الضفادع بحيث لا ينكشف ثوب ولا طعام إلا وجدت فيه ، وكانت تملأ مضاجعهم ، وتثب إلى قدورهم وهى تغلي وأفواههم عند التكلم ، ففزعوا وتضرعوا ، فأخذ عليهم العهود ودعا فكشف اللّه عنهم ، ثم نقضوا العهد ، فأرسل اللّه عليهم الدم ، فصارت مياههم دما ، حتى يجتمع القبطي مع الإسرائيلي على الماء ، فيكون ما يلي القبطي دما ، وما يلي الإسرائيلي ماء ، ويمص الماء من فم الإسرائيلي فيصير دما فى فيه ، وقيل : سلط عليهم الرعاف. ه.
آياتٍ أي : حال كون ما تقدم آيات مُفَصَّلاتٍ ، مبينات ، لا تشكل على عاقل أنها آيات اللّه ونقمته.
قيل : كان بين كل واحدة منها شهر ، وامتداد كل واحدة أسبوعا ، وقيل : إن موسى ثبت فيهم ، بعد ما غلب السحرة ، عشرين سنة يريهم هذه الآيات على مهل ، فَاسْتَكْبَرُوا عن الإيمان وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ أي :
عادتهم الإجرام.
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ يعنى : العذاب المفصل ، أو الطاعون الذي أرسله عليهم بعد ذلك ، قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي : بعهده عندك ، وهو النبوة ، أو بالذي عهده إليك أن تدعوه به فيجيبك كما أجابك فى آياتك. والمعنى : ادع اللّه متوسلا إليه بما عهد عندك من النبوة والجاه ، أو بدعائك إليه ووسائلك ، لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ : العذاب لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ أي : أقسمنا بعهد اللّه لئن كشفت عنا الرجز لنؤمن لك وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ كما طلبت ، قال تعالى : فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إلى حد من الزمان هم بالغوه ثم يهلكون ، وهو وقت الغرق أو الموت ، وقيل : إلى أجل عينوه لإيمانهم ، إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ جواب «لمّا» ، أي : فلما كشفنا عنهم جاءوا بالنكث من غير تأمل ولا توقف ، فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ أي : فأردنا الانتقام منهم ، فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ أي : البحر الذي لا يدرك قعره أو لجته ، بِأَنَّهُمْ أي : بسبب أنهم كَذَّبُوا بِآياتِنا التي أرسلناها عليهم. وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ أي : أغرقناهم بسبب تكذيبهم بالآيات وعدم فكرهم فيها حتى صاروا كالغافلين عنها.
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ بالاستبعاد وذبح الأبناء مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا يعنى :
أرض الشام ، ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة ، وتمكنوا من نواحيها الَّتِي بارَكْنا فِيها بالخصب وسعة العيش ، وهى أرض الشام. وزاد ابن جزي : ومصر.(2/252)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 253
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي : نفذت ومضت واستقرت ، والكلمة هنا : ما قضى فى الأزل من إنقاذهم من عدوهم ، وقيل : قوله : وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ «1» وكانت حسنى لما فيها من النصر والعز ، بِما صَبَرُوا أي : بسبب صبرهم على الشدائد وَدَمَّرْنا أي : خربنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ من القصور والعمارات ، وَما كانُوا يَعْرِشُونَ من البنيان المرتفع كصرح هامان ، أو ما كانوا يرفعون من الكروم في البساتين على العرشان ، فالأول من العرش ، والثاني من العريش.
الإشارة : قد جرت عادة اللّه فى خلقه أن يظهر الخواص من عباده ، فينكروا أو يستضعفوا ، حتى إذا طهّروا من البقايا وتمكنوا من شهود الحق ، منّ اللّه عليهم بالعز والنصر والتمكين ، فمنهم من يمكن من التصرف في الحس والمعنى ، ويقره الوجود بأسره ، ومنهم من يمكّن من التصرف فى الكون بهمته ، ولكنه تحت أستار الخمول ، لا يعرفه إلا من اصطفاه لحضرته ، وهذا من شهداء الملكوت ، ضنّ به الحق تعالى فلم يظهره لخلقه. واللّه تعالى أعلم وأحكم.
ثم ذكر نجاة موسى عليه السّلام وقومه من فرعون ، وخروجهم إلى الشام ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 138 الى 141]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
يقول الحق جل جلاله : وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ أي : قطعنا بهم الْبَحْرَ ، روى أنهم عبروه يوم عاشوراء ، بعد مهلك فرعون ، فصاموه شكرا ، فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ أي : مروا على قوم من العمالقة ، وقيل : من لخم ، يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ أي : يقيمون على عبادتها ، قيل : كانت تماثيل البقر ، وذلك أول شأن عبادة العجل ،
___________
(1) من الآية 5 من سورة القصص.(2/253)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 254
وهؤلاء القوم ، قيل : هم الجبارون الذين أمر موسى بقتالهم بعد وصوله إلى الشام ، ولما رآهم بنو إسرائيل قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً أي : مثالا نعبده كَما لَهُمْ آلِهَةٌ يعبدونها ، قالَ لهم موسى عليه السّلام :
إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ، وصفهم بالجهل المطلق ، وأكده بإن لبعد ما صدر منهم ، بعد ما رأوا من الآيات الكبرى.
قال البيضاوي : ذكر ما أحدثه بنو إسرائيل من الأمور الشنيعة بعد أن منّ اللّه تعالى عليهم بالنعم الجسام ، وآراهم من الآيات العظام ، تسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عما كان يرى منهم ويلقى من التشغيب ، وإيقاظا للمؤمنين حتى لا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم ومراقبة أحوالهم. ه. وذكر فى «القوت» أن يهوديا قال لعلى رضى اللّه عنه : كيف اختلفتم وضربتم وجوه بعضكم بالسيف ، ونبيكم قريب عهد بكم؟ فقال : أنتم لم تجف أقدامكم من ماء البحر حتى قلتم :
اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ. ه.
ثم قال لهم موسى عليه السّلام : إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ : مدمر هالك ما هُمْ فِيهِ يعنى : أن اللّه تعالى يهدم دينهم الذي هم فيه ، ويحطم أصنامهم ويجعلها رضاضا. وَباطِلٌ : مضمحل ما كانُوا يَعْمَلُونَ من عبادتها ، وإن قصدوا بها التقرب إلى اللّه تعالى ، وإنما بالغ فى هذا الكلام تنفيرا وتحذيرا عما طلبوا. قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ أطلب لكم إِلهاً أي : معبودا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ أي : والحال أنه قد خصكم بنعم لم يعطها غيركم ، وفيه تنبيه على سوء مقابلتهم حيث قابلوا تخصيص اللّه لهم بما استحقوه تفضلا ، بأن قصدوا أن يشركوا به أخس شىء من مخلوقاته وأبلده ، وهو البقر.
وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ أي : ، واذكروا صنعه معكم فى هذا الوقت حيث نجاكم من فرعون ورهطه يَسُومُونَكُمْ أي : يذيقونكم سُوءَ الْعَذابِ ، ثم بيّنه بقوله : يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ ذكوركم وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ أي : بناتكم ، وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ أي : وفى ذلك القتل امتحان عظيم ، أو فى ذلك الإنجاء نعمة عظيمة وامتنان عظيم.
الإشارة : من جاوز بحر التوحيد وحاد عنه ، ولم يغرق فيه ، لا يخلو من طلب شرك جلى أو خفى لأن النفس ما دامت لم تغرق فى بحر الوحدة ، ولم تسبها جمال المعاني ، قطعا تميل إلى شىء من جمال الحس ، لأن الروح فى أصلها عشاقة ، إن لم تعشق جمال الحضرة تعشق جمال الحس ، ومن ركن إلى شىء مما سوى اللّه فهو شرك عند الموحدين من المحققين ، ويؤخذ من الآية أن شكر النعم هو تلخيص التوحيد ، وانفراد الوجهة إلى اللّه تعالى لأن بنى إسرائيل لمّا أنعم اللّه عليهم بالإنجاء وفلق البحر قابلوا ذلك بطلب الشرك ، فسقطو من عين اللّه واستمر ذلهم إلى يوم القيامة. واللّه تعالى أعلم.(2/254)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 255
ولما استقر بنو إسرائيل بالشام طلبوا من نبيهم نزول الكتاب وتقرير الشرائع ، كما أشار إلى ذلك الحق تعالى بقوله :
[سورة الأعراف (7) : آية 142]
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
يقول الحق جل جلاله : وَواعَدْنا مُوسى لإنزال الكتاب ثَلاثِينَ لَيْلَةً من ذي القعدة ، وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ من ذي الحجة ، فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ بالغا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ، روى أنه عليه السّلام وعد بني إسرائيل ، بمصر ، أن يأتيهم بعد مهلك فرعون بكتاب من اللّه تعالى ، فيه بيان ما يأتون وما يذرون ، فلما هلك فرعون سأل ربه فأمره بصوم ثلاثين ، فلما أتم أنكر خلوف فيه فتسوك ، فقالت الملائكة : كنا نشم منك رائحة المسك فأفسدته بالسواك ، فأمره اللّه تعالى أن يزيد عليها عشرا ، ثم أنزل عليه التوراة.
وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ ، عند ذهابه إلى الطور للمناجاة : اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي أي : كن خليفتي فيهم وَأَصْلِحْ ما يجب أن يصلح من أمورهم ، أو كن مصلحا ، وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ أي : لا تتبع سبيل من يسلك الإفساد ، ولا تطع من دعاك إليه.
الإشارة : كل من انقطع إلى اللّه تعالى بكليته واعتزل عن الخلق ، وأخلى قلبه عما سوى الحق ، حصلت له المناجاة والمكالمة ، كما وقعت للكليم عليه السّلام ، وكل ما منحه اللّه للانبياء يكون منه نصيب للأولياء من هذه الأمة ، واللّه تعالى أعلم. وفى الحديث : «من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه» «1».
قال بعض الحكماء : والسر في ذلك أن اللّه تعالى أمر بطينة آدم فخمرت فى الماء أربعين يوما ، فتربى فيها أربعون حجابا ، فلو لا تلك الحجب ما استطاع المقام في الأرض ، فمن أيده اللّه على زوالها تشبه بالملأ الأعلى ، وخرقت له العوائد ، وأشرق النور من قلبه. ولهذا المعنى بقي داود عليه السّلام ساجدا أربعين يوما ، فقبلت توبته ، ومكث إبراهيم عليه السّلام في نار النمرود أربعين يوما ، فاتخذه اللّه خليلا ، وكان بعد ذلك يقول : ما رأيت أحلى من تلك الأيام ، فمن أخلص في عبادته وأزال تلك الحجب عن قلبه كان ربانيا. قال تعالى : وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ «2». انظر الشطيبى.
ويوخذ من الآية أن الشيخ إذا أراد أن يسافر من زاويته ينبغي له أن يخلف خليفة عنه ليقوم له بنظام الزاوية ، إذ لا خير فى قوم ليس فيهم من يعظهم فى اللّه. وبالله التوفيق.
___________
(1) أخرجه أبو نعيم فى الحلية ، بسند ضعيف عن أبى أيوب. ورواه أحمد بنحوه عن مكحول مرسلا. راجع كشف الخفاء (2/ 224).
(2) من الآية 79 من سورة آل عمران.(2/255)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 256
ولما سمع سيدنا موسى عليه السّلام كلام الحق بلا واسطة ، طمع فى الرؤية بلا واسطة ، كما قال تعالى :
[سورة الأعراف (7) : آية 143]
وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
يقول الحق جل جلاله : وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا الذي وقتنا له وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ من غير واسطة كما يكلم الملائكة. وفيما روى : أنه كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة ، وفيه تنبيه على أن سماع كلامه القديم ليس من جنس كلام المحدثين. قاله البيضاوي. وقال الورتجبي : أي : أسمع عجائب كلامه كليمه ليعرفه بكلامه لأن كلامه مفاتيح كنوز الصفات والذات. ه. وقال ابن جزي : لما سمع موسى كلام اللّه طمع في رؤيته ، فسألها ، كما قال الشاعر :
وأبرح ما يكون الشّوق يوما إذا دنت الديار من الدّيار.
قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ أي : أرني نفسك أنظر إليك ، بأن تكشف الحجب عني ، حتى أنظر إلى ذاتك المقدسة من غير واسطة ، كما أسمعتني كلامك من غير واسطة. قال البيضاوي : وهو دليل علي أن رؤيته تعالى جائزة في الجملة لأن طلب المستحيل من الأنبياء محال ، وخصوصا ما يقتضي الجهل بالله ، ولذلك رده بقوله تعالى : لَنْ تَرانِي دون لن أرى ولن أريك ، ولن تنظر إلىّ ، تنبيها على أنه قاصر عن رؤيته لتوقفها على حال في الرائي ، لم توجد فيه بعد ، وجعل السؤال لتبكيت قومه الذين قالوا : أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً «1» خطأ ، إذ لو كانت الرؤية ممتنعة لوجب أن يجهلهم ويزيح شبههم ، كما فعل بهم حين قالوا : اجْعَلْ لَنا إِلهاً «2» ، والاستدلال بالجواب على استحالتها أشد خطأ إذ لا يدل الإخبار عن عدم رؤيته إياه على أنه لا يراه أبدا ، وألا يراه غيره أصلا ، فضلا عن أن يدل على استحالتها. ودعوى الضرورة فيه مكابرة وجهالة بحقيقة الرؤية. ه.
وهو تعريض بالزمخشرى وردّ عليه ، فإنه هنا أطلق لسانه في أهل السنة - عفا اللّه عنه - . والتحقيق : أن رؤيته تعالى برداء الكبرياء - وهي أنوار الصفات - جائزة واقعة - ، وأما رؤية أسرار الذات - وهي المعاني الأزلية ، التي هى كنه الربوبية - فغير جائزة إذ لو ظهرت تلك الأسرار لتلاشت الأكوان واضمحلت ، ولعل هذا المعنى هو الذي طلب سيدنا موسى عليه السّلام ، فلذلك قال له : لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ عند تجلى هذه
___________
(1) من الآية 153 من سورة النساء.
(2) من الآية 138 من سورة الأعراف.(2/256)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 257
الأسرار له ، فَسَوْفَ تَرانِي ، فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ أي : أظهر له شيئا من أنوار الربوبية التي هى أسرار المعاني الأزلية ، جَعَلَهُ دَكًّا أي : مدكوكا مفتتا ، والدك والدق واحد. وقرأ حمزة : «دكاء» بالمد ، أي : أرضا مستوية ، ومنه : ناقة دكاء لاسنم لها. وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً مغشيا عليه من هول ما رأى ، فَلَمَّا أَفاقَ قالَ تعظيما لما رأى : سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ من الجرأة والإقدام على السؤال بغير إذن ، وقال بعضهم : تبت إليك من عدم الاكتفاء بقوله : لَنْ تَرانِي حتى نظر إلى الجبل ، وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ أنك لا ترى بلا واسطة نور الصفات ، أو أول أهل زمانى إيمانا.
الإشارة : رؤية الحق جائزة واقعة عند الصوفية فى الدارين ، ولكن لا ينالها فى هذه الدار إلا خواص الخواص ، ويعبّرون عنها بالشهود والعيان ، ولا يكون ذلك إلا بعد الفناء ، وفناء الفناء بعد موت النفس وقتلها ، ثم الغيبة عن حسها ورسمها ، تكون بعد التهذيب والتدريب والتربية على يد شيخ كامل ، لا يزال يسير به ويقطع به فى المقامات ، ويغيبه عن نفسه ورؤية وجوده ، حتى يقول له : ها أنت وربك ، وذلك أن الحق جل جلاله تجلى لعباده بأسرار المعاني خلف رداء الأوانى ، وهو حس الأكوان ، فأسرار المعاني لا يمكن ظهورها إلا بواسطة الأوانى ، أو تقول :
أسرار الذات لا تظهر إلا فى أنوار الصفات ، فلو ظهرت أسرار الذات بلا واسطة لاضمحلت الأشياء واحترقت ، كما فى الحديث : «حجابه النّور ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» «1».
فالمراد بالنور نور الصفات ، وهو الأوانى الحاملة للمعانى ، لو كشف ذلك النور حتى تظهر أسرار الذات لأحرقت كل شىء أدركه بصره. والواسطة عند المحققين هى عين الموسوط ، فلا يزال المريد يفنى عن عين الواسطة فى شهود الموسوط حتى يغيب عن الواسطة بالكلية ، أو تقول : لا يزال يغيب عن الأوانى بشهود المعاني حتى تشرق شمس العرفان ، فتغيب الأوانى فى ظهور المعاني ، فيقع العيان على فقد الأعيان ، «كان اللّه ولا شىء معه ، وهو الآن على ما عليه كان» ، «ما حجبك عن الحق وجود موجود معه ، إذ لا شىء معه ، وإنما حجبك توهم موجود معه».
والحاصل : أن الحق تعالى تكون رؤيته أولا بالبصيرة دون البصر ، لأن البصيرة تدرك المعاني ، والبصر يدرك الحسيات ، فإذا انفتحت البصيرة استولى نورها على نور البصر ، فلا يرى البصر حينئذ إلا ما تراه البصيرة. قال بعض العارفين : هذه المزية العظمى - وهى رؤية الحق تعالى - فى الدنيا على هذا الوجه : خاص بخواص الأمة
___________
(1) أخرجه مسلم فى (الإيمان - باب فى قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : إن اللّه لاينام) من حديث أبى موسى.(2/257)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 258
المحمدية - دون سائر الأمم - وراثة عن نبيهم صلّى اللّه عليه وسلّم ، فإنه خص بالرؤية دون غيره من الأنبياء. وإلى ذلك أشار ابن الفارض فى تائيته ، مترجما بلسان الحقيقة المحمدية ، حيث قال :
ودونك بحرا خضته ، وقف الألى بساحله ، صونا لموضع حرمتى
ولا تقربوا مال اليتيم إشارة لكف يد صدّت له ، إذ تصدّت
وما نال شيئا منه غيري سوى فتى على قدمي فى القبض والبسط ما فتى
قال شارحه القاشاني : أراد بهذا البحر : الرؤية التي منع منها موسى عليه السّلام ، وخص بها محمد - عليه الصلاة السلام - وأفراد من أتباعه. ثم قال : ورد فى الخبر : أنه لما أفاق موسى عليه السّلام من صعقته قيل له : ليس ذلك لك ، ذلك ليتيم يأتى من بعدك ، ثم قال : سبحانك تبت إليك عما تعديت لما ليس لى ، وأنا أول المؤمنين بتخصيص محمد صلّى اللّه عليه وسلّم بهذا المقام. ه.
وقيل فى قوله : فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ أي : جبل العقل ، بحيث طمس نوره بنور شمس العرفان ، وخر موسى صعقا ، أي : ذهب وجوده فى وجود محبوبه ، وحصل له الزوال فى مكان الفناء والسكر ، فلما أفاق ورجع إلى البقاء تمسك بمقام العبودية والأدب مع الربوبية فقال : سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ من رؤية جبل الحس قبل شهود نور المعنى ، وأنا أول المؤمنين بأن نور المعاني خلف رداء الأوانى ، لا يدرك إلا بعد الصعقة ، واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر نزول التوراة ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 144 الى 147]
قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147)(2/258)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 259
قلت : الرّشد والرّشد : لغتان ، قرىء بهما.
يقول الحق جل جلاله : قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ اخترتك عَلَى النَّاسِ الموجودين في زمانك ، وهارون ، وإن كان نبيا ، كان مأمورا باتباعه ، ولم يكن كليما ولا صاحب شرع. فقد اصطفيتك على أهل زمانك بِرِسالاتِي لك إليهم ، ومن قرأ بالجمع فالمراد : أوقات التبليغ بأنواع الأحكام أو أسفار التوراة ، وَخصصتك بِكَلامِي ، وقد شاركه نبينا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم مع زيادة الرؤية ، فَخُذْ ما آتَيْتُكَ أي : أعطيتك من الرسالة والتكليم ، واقنع بهما ولا تطلب غير ذلك ، وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ على هذه النعمة ، وفيه نوع تأديب له.
روى أن سؤال الرؤية كان يوم عرفة ، وأعطاه التوراة يوم النحر.
قال تعالى : وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يحتاجون إليه مَوْعِظَةً أي : تذكيرا وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ يتوقفون عليه في الأحكام والوعظ. واختلف في الألواح : هل كانت سبعة أو عشرة أو اثنين ، وهل كانت من زمرد أو زبرجد أو ياقوت أحمر ، أو خشب ، أو صخرة صماء ، شقها اللّه تعالى لموسى عليه السّلام فقطعها بيده ، وكان فيها التوراة.
قال تعالى لموسى عليه السّلام : فَخُذْها أي : الألواح أو الرسالة بِقُوَّةٍ أي : بجد واجتهاد ، وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها بأحسن ما فيها ، فإن فيها ما هو حسن وأحسن منه كالقصاص مع العفو ، أو بواجباتها ، فإن الواجب أفضل من المندوب ، وهذا كقوله في كتابنا : وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ «1» ، ويجوز أن يراد بالأحسن : البالغ في الحسن مطلقا ، لا بالإضافة إلى غيره ، كقولهم : الصيف أحر من الشتاء ، فيكون الأمر بأخذ كل ما فيها لأنه بالغ الحسن ، ثم بشرهم بخراب ملك عدوهم ، فقال : سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ أي : دار فرعون وقومه خاوية على عروشها ، أي : أريكم كيف أقفرت منهم لمّا هلكوا ، وقيل : منازل عاد وثمود ومن هلك من الأمم ، لتعتبروا بها ، وقيل : جهنم.
وقرأ ابن عباس : «سأورثكم» بالثاء المثلثة ، كقوله : وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ «2».
سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ المنصوبة فى الآفاق والأنفس الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا من عجائب المصنوعات فلا يتفكرون فيها ، أو القرآن وغيره من الكتب ، أصرف عنها الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بالطبع على قلوبهم فلا يتفكرون فيها ، ولا يعتبرون ، ولا يؤمنون بها ، عقوبة لهم على تكبرهم ، وقيل : الصرف : منعهم من إبطالها
___________
(1) من الآية 55 من سورة الزمر.
(2) من الآية 59 من سورة الشعراء.(2/259)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 260
وإطفاء نورها ، وإن اجتهدوا ، كما فعل فرعون وغيره ، فعاد عليهم بإعلائها وإظهار نورها ، وذلك التكبر صدر منهم بِغَيْرِ الْحَقِّ أي : تكبروا بما ليس بحق ، وهو دينهم الباطل.
وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ منزلة أو معجزة لا يُؤْمِنُوا بِها لعنادهم ، واختلال نظرهم ، بسبب انهماكهم في الهوى وحب الجاه ، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ أي : طريق الصواب والحق يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا لاستيلاء الشيطان عليهم ، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ أي : الضلال يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا أي : يسلكونه ويتبعونه ، لأن سجيتهم الضلال ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ أي : ذلك الصرف بسبب تكذيبهم وعدم تدبرهم الآيات.
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ أي : وبلقائهم الدار الآخرة ، أو : ما وعد اللّه فى الآخرة ، حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ لا ينتفعون بها ، هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي : لا يجزون إلا مقدار أعمالهم.
وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً «1».
الإشارة : كل من أقامه اللّه فى مقام من المقامات ، أو حال من الأحوال ، كيفما كان ، يقال له : خذ ما آتيتك ، واقنع بما أوليتك ، وكن من الشاكرين عليه ، وإلا سلبناك ما أعطيناك ، فالرضا بالقسمة واجب ، وطلب باب الفضل والكرم لازب ، والأمر مبهم ، والعواقب مغيبة ، ومنتهى المقام على التعيين لا يعلم إلا بعد الموت. وقوله تعالى :
فَخُذْها بِقُوَّةٍ أي : بجد واجتهاد. قال فى الإحياء : الأخذ بالجد أن يكون القارئ متجردا لله عند قراءته ، منصرف الهمة إليه عن غيره ، وهو يشير للحضور.
وقوله تعالى : يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها قال الورتجبي : يأخذون بأبينها لهم ، وهى المحكمات التي توجب العبودية ، ويأخذون بمتشابهها التي هى وصف الصفات بحسن الاعتقاد والتسليم فيها ، لأن علومها وحقائقها لا تكشف إلا للربانيين. قال تعالى : وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ... «2» الآية. ه. وقوله تعالى :
سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ. قال القشيري : سأحرم المتكبرين بركة الاتباع ، حتى لا يتلقوا الآيات التي يكاشفون بها بالقبول ، ولا يسمعوا ما يخاطبون به بسمع الإيمان. ه.
___________
(1) من الآية 49 من سورة الكهف. [.....]
(2) الآية 7 من سورة آل عمران.(2/260)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 261
ثم شرع فى ذكر مساوئ بنى إسرائيل فبدأ بعبادتهم العجل ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 148 الى 149]
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149)
قلت : «عجلا» : مفعول أول لاتخذ ، و«جسدا» : بدل منه ، وحذف الثاني - أي : «إلها» - لدلالة أوله ، و(له خوار) :
نعت له.
يقول الحق جل جلاله : وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ أي : من بعد ذهابه للميقات ، مِنْ حُلِيِّهِمْ التي كانوا استعاروها من القبط ، حين هموا بالخروج من مصر ، وإضافتها إليهم لأنها كانت تحت أيديهم ، فصنع لهم منها السامري عِجْلًا جَسَداً بلا روح ، فألقى فى جوفه من تراب أثر فرس جبريل ، فصار لَهُ خُوارٌ ، فقال لهم : هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى ، فعكفوا على عبادته ، واتخذوه إلها.
قال تعالى : أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا أي : ألم يروا ، حين اتخذوه إلها ، أنه لا يقدر على كلام ، ولا على إرشاد سبيل ، كآحاد البشر ، حتى حسبوا أنه خالق الأجسام والقوى والقدر ، وهذا تقريع على فرط ضلالتهم وإخلالهم بالنظر. قال تعالى : اتَّخَذُوهُ إلها وَكانُوا ظالِمِينَ فى اتخاذه ، وضعوا الأشياء فى غير محلها ، أي : كانت عادتهم الظلم ، فلم يكن اتخاذ العجل بدعا منهم.
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ كناية عن اشتداد ندمهم ، فإن النادم المتحسر يعض يده غما ، فتصير يده مسقوطا فيها. أو يسقط رأسه ، أي : يطأطئها لبعض يده. وقال الدميامينى : العرب تضرب الأمثال بالأعضاء ، ولا تريد أعيانها ، تقول للنادم : يسقط فى يده ، وفى الذليل : رغم أنفه. ه. أي : ولمّا ندموا على ما فعلوا ، وَرَأَوْا أي :
علموا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا باتخاذ العجل ، قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا بالتجاوز عن خطيئتنا ، لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ دنيا وأخرى.
الإشارة : كل من ركن إلى شىء وعكف على محبته من دون اللّه فهو فى حقه عجل يعبده من دون اللّه ، «ما أحببت شيئا إلا وكنت عبدا له ، وهو لا يحب أن تكون عبدا لغيره». عافانا اللّه من ذلك.(2/261)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 262
ثم ذكر رجوع موسى عليه السّلام من الطور ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 150 الى 153]
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)
قلت : (بئسما) : «ما» نكرة موصوفة : تمييز ، تفسير للضمير المستكن في (بئس) ، والمخصوص : محذوف ، أي :
بئس شيئا خلفتموني خلافتكم هذه ، و«ابن أم» : منادى مضاف ، منصوب بفتحة مقدرة قبل ياء المتكلم ، وأصله : ابن أمي ، فحذفت الياء ، وفتحت الميم تخفيفا.
يقول الحق جل جلاله : وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى من ميقاته إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ على قومه ، أَسِفاً أي : حزينا عليهم حيث ضلوا ، قالَ لهم ، أو لأخيه ومن معه من المؤمنين : بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أي : من بعد انطلاقى إلى المناجاة ، أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ أي : أسابقتم قضاء ربكم ووعده ، واستعجلتم إتيانى قبل الوقت الذي قدّر فيه ، أو أعجلتم عقوبة ربكم وإهلاكه لكم حيث عبدتم غيره.
وَأَلْقَى الْأَلْواحَ طرحها من شدة الغضب حمية للدين ، روى أن التوراة كانت سبعة أسفار فى سبعة ألواح ، فلما ألقاها انكسرت ، فرفع ستة أسباعها ، وكان فيها تفصيل كل شىء ، وبقي سبع كان فيه المواعظ والأحكام ، وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ : بشعر رأسه يَجُرُّهُ إِلَيْهِ توهما فى أنه قصّر فى زجرهم ، وهارون كان أكبر منه بثلاث سنين ، وكان حمولا ليّنا ، ولذلك كان أحبّ إلى بنى إسرائيل ، ولما رأى هارون ما يفعل به أخوه قالَ ابْنَ أُمَّ ، ذكر الأم ليرققه ، وكان شقيقا له ، إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي حين أنكرت عليهم ، فقد بذلت جهدى فى كفهم ، وقهرونى حتى قاربوا قتلى ، فلم أقصّر ، فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ فلا تفعل بي ما يشمتون بي ، أي :
يستشفون بي لأجله ، وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ معدودا فى عدادهم بالمؤاخذة ، أو نسبة التقصير.
قالَ موسى : رَبِّ اغْفِرْ لِي ما صنعت بأخى ، وَلِأَخِي إن فرّط فى كفّهم ، وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ بمزيد الإنعام علينا ، وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فأنت أرحم منا على أنفسنا.(2/262)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 263
قال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وهو ما أمرهم من قتل أنفسهم ، أو الطاعون الذي سلط عليهم ، وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وهى ضرب الجزية والهوان إلى يوم القيامة ، وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ على الله ، ولا فرية أعظم من فريتهم ، حيث فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى ، ولعله لم يفتر أحد مثلها قبلهم ولا بعدهم ، حيث جعلوا البقر إلههم وإله الرسول ، نسأل اللّه الحفظ.
ثم ذكر توبتهم ، فقال : وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ من الكفر والمعاصي ، ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها من بعد السيئات وَآمَنُوا واشتغلوا بما يقتضيه الإيمان من الأعمال الصالحات ، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها من بعد التوبة لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وإن عظم الذنب كجريمة عبدة العجل - وكثر كجرائم بنى إسرائيل.
الإشارة : الغضب للّه وبالله ، والأسف على دين اللّه ، من أمارة الغيرة على دين اللّه ، لكنّ صاحب هذا المقام مالك نفسه ، يظهر الغلظة ويبطن الرحمة ، قياما بشهود الحكمة والقدرة ، وأما ما صدر من سيدنا موسى - عليه السّلام - فتشريع لأهل التشريع ، لئلا يقع التساهل في تغيير المناكر. وساق الإمام الهروي هذه الآية في منازل السائرين في باب المراد ، وهو المخصوص من ربه بما لم يرده هو ولا خطر بباله ، والإشارة بذلك إلى الضنائن الذين ورد فيهم الخبر : «إنّ للّه ضنائن من خلقه ، ألبسهم النور السّاطع ، وغذاهم في رحمته ، وفعل بهم وفعل ...» أورده الإمام أبو نعيم في الحلية «1».
وحاصله : أن المرادين هم قوم مخصوصون ، ملطوف بهم ، محمول عنهم ، ومنه : وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ «2» فقد خص - عليه الصلاة والسلام - بما لم يخطر على باله قبل النبوة.
قال الهروي : والمراد : ثلاث درجات : الدرجة الأولى : أن يعصم العبد وهو مستشرف للجفا اضطرارا بتنغيص الشهوات وتعويق الملاذ ، وسد مسالك المعاطب عليه ، إكراما ، والدرجة الثانية : أن توضع عن العبد عوراض النقص ، ويعافيه من سمة اللائمة ، ويملكه عواقب الهفوات ، كما فعل لسليمان عليه السّلام فى قتل الخيل حمله على الريح الرخاء ، فأغناه عن الخيل ، وكما فعل لموسى عليه السّلام حين ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه لم يعتب عليه كما عتب على آدم ونوح وداود ويونس - عليهم السلام. ه.
قال شارحه الإمام عبد المعطي السكندري : وهذه الدرجة أتم في الحمل علي الأعمال وركوب الأهوال ، والتلطف في تعليم الإقبال مما قبلها ، فإن ما قبلها منع من الشهوات ، وصيانة عن الآفات جبرا وقهرا وحفظا ، وهذا حفظ عنها بإظهار صفح برفق وإكرام ولطف ، فتقوى المحبة في القلب ، فيحمل ذلك على سرعة الموافقة ، ومتى
___________
(1) الجزء الأول ص 6 بنحوه عن ابن عمر - مرفوعا.
(2) من الآية 86 من سورة القصص.(2/263)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 264
عرف العبد تقصيره في حق مولاه ، ورأى مع ذلك تجاوزه عنه ، وإحسانه إليه ، فضلا عن ترك مؤاخذته بما جناه ، انغرس في قلبه محبته ، وقوى بذلك نشاطه ، وخفت عليه الأعمال ، وقويت منه الأحوال ، فكلاهما محفوظ معان ، إلا أن الأول قهر مع تعلقه ، وهذا إكرام ولطف بعد جريان هفوته ، ثم ذكر الدرجة الثالثة ، فانظره. ه. بنقل المحشى.
ثم كمّل القصة ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : آية 154]
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
يقول الحق جل جلاله : وَلَمَّا سَكَتَ أي : سكن عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ لمّا كان الغضب هو الحامل له على ما فعل صار كأنه كان يأمره به ويغريه عليه ، حتى عبّر عن سكونه بالسكوت ، أي : لما سكن غضبه أَخَذَ الْأَلْواحَ التي ألقاها ، وَفِي نُسْخَتِها أي : وفيما نسخ فيها ، أي : كتب هُدىً وَرَحْمَةً أي : بيان للحق وإرشاد إلى الصلاح والخير ، لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ أي : للذين يخافون ربهم ويهابونه لأنهم هم المنتفعون بها ، ودخلت اللام فى المفعول لضعف العامل بتأخره.
الإشارة : الغضب لأجل النفس يفسد الإيمان ، كالحنظل مع العسل ، ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام - للذي قال له : أوصنى ، قال : «لا تغضب» ، ثم كرر عليه : أوصني ، قال : «لا تغضب» ، ثلاثا ، لأن الغضب المفرط يغطى نور العقل ، فيصدر من صاحبه أمور منكرة ، قد يخرج بها عن الإيمان بالكلية ، وقد يؤدى إلى قتل نفسه والعياذ بالله ، والغضب معيار الصوفية قال بعضهم : إذا أردت أن تعرف الرجل فغضبه وانظر ما يخرج منه ، إلى غير ذلك مما ورد فيه ، فإن كان غضبه لله أو بالله فلا كلام عليه ، وهو حال الأنبياء وأكابر الأولياء - رضى اللّه عنهم - .
ولما انقضت قضية العجل أراد سيدنا موسى عليه السّلام أن يذهب بقوم ، يعتذرون عن عبادة العجل ، كما قال تعالى :
[سورة الأعراف (7) : آية 155]
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155)(2/264)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 265
يقول الحق جل جلاله : وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ من قومه سَبْعِينَ رَجُلًا يعتذرون عن قومهم فى عبادة العجل ، لِمِيقاتِنا الذي وقتنا لهم يأتون إليه ، وقيل : إن اللّه تعالى أمره به بأن يأتيه فى سبعين من بني إسرائيل ، فاختار من كل سبط ستة ، فزاد على السبعين اثنان ، فقال : يتخلف منكم رجلان ، فتشاجروا ، فقال : إن لمن قعد أجر من خرج ، فقعد كالب ويوشع ، وذهب معه الباقون ، فلما دنوا من الجبل غشيه غمام ، فدخل موسى بهم الغمام وخروا سجدا ، فسمعوه يكلم موسى ، يأمره وينهاه ، ثم انكشف الغمام ، فأقبلوا إليه ، وقالوا : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً «1» ، فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي : الصعقة ، أو رجفة الجبل ، عقابا لهم على قولهم ، فصعقوا منها ، يحتمل أن تكون رجفة موت أو إغماء. والأول أظهر لقوله : ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ «2».
فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ موسى : رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ ، تمنى هلاكهم وهلاكه قبل ذلك الوقت ، لأنه خاف من تشغيب بني إسرائيل عليه ، إن رجع إليهم دون هؤلاء السبعين ، ربما قالوا : عرّضهم للهلاك ، أو يكون قال ذلك على وجه الاستسلام والانقياد للقضاء ، أي : لو شئت أن تهلكنا من قبل ذلك لفعلت ، فإنا عبيدك وتحت قهرك تفعل بنا ما تشاء ، أو يكون قاله على وجه التضرع والرغبة ، أي : لو شئت أن تهلكنا قبل اليوم لفعلت ، لكنك عافيتنا وأنقذتنا وأغرقت عدونا ، فافعل بنا الآن كما عودتنا ، وأحى هؤلاء الذين أمتهم ، إذ ليس ببعيد من عميم إحسانك ، أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا من العناد والتجاسر على طلب الرؤية ، أو بما فعل السفهاء من عبادة العجل.
إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ أي : ابتلاؤك حين أسمعتهم كلامك ، حتى طمعوا في الرؤية ، أو فتنتك لهم بأن أجريت الصوت من العجل حتى افتتنوا به ، وهذا اعتراف بالقدر ، ورجوع إلى قوله : فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ ... «3» الآية ، ولذلك قيل : إنه قال له تعالى : نعم هى فتنتى يا حكيم الحكماء. ه. أي : ما هذه الأمور كلها التي صدرت من بني إسرائيل إلا فتنتك تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ ضلالته ، باتباع المخايل ، وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ هدايته ، فيقوى بها إيمانه ، وهو اعتذار عن فعل السفهاء فإنه كان بقضاء اللّه ومشيئته.
أَنْتَ وَلِيُّنا القائم بأمرنا ، أو ناصرنا من الوقوع في أسباب المهالك ، فَاغْفِرْ لَنا ما قارفنا من الذنوب ، وَارْحَمْنا أي : اعصمنا من الوقوع فى مثله ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ تغفر السيئة وتبدلها بالحسنة ،
[سورة الأعراف (7) : الآيات 156 الى 157]
وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً أي : حالة حسنة من حسن معيشة وتوفيق طاعة ، وَفِي الْآخِرَةِ حسنة نعيم الجنة ، إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ أي : تبنا إليك ، من هاد يهود : إذا رجع ، أي : رجعنا إليك بالتوبة مما سلف منا.
___________
(1) من الآية 55 من سورة البقرة.
(2) من الآية 56 من سورة البقرة.
(3) الآية 85 من سورة طه.(2/265)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 266
الإشارة : السلامة من العطب هو في مقام الهيبة والأدب ، ولذلك قيل : قف بالبساط ، وإياك والانبساط. وأما مقام الإدلال فلا يصح إلا من أكابر الأنبياء ، والأولياء المحققين بمقام المحبوبية ، المتحفين بغاية الخصوصية ، ومنه قول سيدنا موسى عليه السّلام : أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا ، كما قال في الإحياء. والإدلال : هو انبساط يثور من مقام الأنس والتحقق بالمحبة الخاصة ، ولا يتفق إلا من محبوب مأخوذ عنه ، ليس عليه بغية من نفسه ، ولا شعور بوجوده وأنانيته ، وإلا ردّ في وجهه وكان سبب عطبه. ومن الإدلال : ما وقع لأبي الحسن الشاذلي رضى اللّه عنه فى حزبه الكبير ، من قوله : وليس من الكرم ألا تحسن إلا لمن أحسن إليك ... إلخ. وقد وقع لغيره من المحبوبين.
واللّه تعالى أعلم.
ثم أجاب الحق - سبحانه وتعالى - سؤال موسى عليه السّلام فى قوله : (و اكتب لنا فى هذه الدنيا حسنة) فقال :
قالَ عَذابِي أُصِيبُ ...
يقول الحق جل جلاله : فى جواب سيدنا موسى عليه السّلام : قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ ممن أخذته الرجفة وغيرهم ، وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فى الدنيا للمؤمنين والكافرين ، وفى الآخرة مخصوصة بالمؤمنين ، فَسَأَكْتُبُها كتابة خاصة لا تليق بكم يا بنى إسرائيل ، إنما تليق بالأمة المحمدية الموسومة بالآداب المرضية ، الذين يَتَّقُونَ الكفر والمعاصي ، وإن وقعت هفوة بادروا إلى التوبة ، وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ ، خصصها بالذكر لأنها كانت أشق عليهم. وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ فلا يكفرون بشىء منها ، بل يؤمنون بجميع الكتب والأنبياء ، وليس ذلك لغيرهم. ولذلك خصهم اللّه بهذه الرحمة فنصرهم على جميع الأمم ، وأعلى دينهم على جميع الأديان ، ومكّن لهم مالم يمكن لغيرهم.(2/266)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 267
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ صلّى اللّه عليه وسلّم النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ وهو نبينا ومولانا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، وكونه أميا شرف له ، إذ الكتابة وسيلة للعلوم ، وقد أعطى منها ما لم يعط أحد من العالمين ، من غير تعب تعلمها ، ولارتفاع الارتياب فى نبوته صلّى اللّه عليه وسلّم ، فهى من جملة معجزاته قال تعالى : وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ ... الآية «1». قال بعضهم : لما قال اللّه تعالى : وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ طمع فيها كل أحد ، حتى إبليس ، فلما قال : فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ يئس إبليس ، وبقيت اليهود والنصارى ، فلما قال : الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ يئس اليهود والنصارى. ه.
الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ اسما وصفة ، ونص ما فى التوراة على ما فى صحيح البخاري ، عن عبد اللّه بن سلام : «يا أيّها النبىّ إنّا أرسلناك شاهدا ومبشّرا ونذيرا ، وحرزا للأمّيين ، أنت عبدى ورسولى ، سمّيتك المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخّاب فى الأسواق ، ولا يجازى بالسّيّئة السّيّئة ، ولكن يعفو ويصفح ، ولن يقبضه اللّه حتّى يقيم به الملّة العوجاء بأن يقولوا : لا إله إلّا اللّه ، فيفتح بها أعينا عميا ، وآذانا صمّا ، وقلوبا غلفا» «2».
ومما فى التوراة أيضا ، وهو مما أجمع عليه أهل الكتاب ، وهو باق فى أيديهم إلى الآن أن الملك قد نزل على إبراهيم ، فقال له : فى هذا العام يولد لك غلام اسمه إسحاق ، فقال إبراهيم : يا رب ليت إسماعيل يعيش يخدمك ، فقال اللّه لإبراهيم : ذلك لك ، قد استجيب لك فى إسماعيل ، وأنا أباركه ، وأنميه ، وأكثره ، وأعظمه بماذماذ ، وتفسيره :
محمد صلّى اللّه عليه وسلّم.
ومن ذلك مما فى التوراة أيضا : أن الرب - تعالى - جاء من طور سيناء ، وطلع على «ساغين» ، وظهر من جبل فاران ، ويعنى بطور سيناء : موضع مناجاة موسى ، وساغين موضع عيسى ، وفاران هى مكة ، موضع مولد نبينا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، وفى التوراة أيضا : أن هاجر أم إسماعيل لما غضبت عليها سارة ، تراءى لها ملك ، فقال لها : يا هاجر ، أين تريدين ، ومن أين أقبلت؟ فقالت : أهرب من سيدتى سارة ، فقال لها : يا هاجر ، ارجعي إلى سارة ، وستحملين وتلدين ولدا اسمه إسماعيل ، وهو يكون عين الناس ، وتكون يده فوق الجميع ، وتكون يد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع. ه.
وهذا الذي وعدها الملك إنما ظهر بمبعث النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وظهور دينه وعلو مكانه ، ولم يكن ذلك لإسماعيل ولا لغيره من أولاده ، لكن الأصل يشرف بشرف فرعه ، وفى التوراة أيضا : أن اللّه أوحى إلى إبراهيم عليه السّلام : قد أجبت دعاءك فى إسماعيل ، وباركت عليه ، وسيلد اثنى عشر عظيما ، وأجعله لأمة عظيمة. وفى بعض كتبهم : لقد
___________
(1) الآية 48 من سورة العنكبوت.
(2) أخرجه البخاري فى (تفسير سورة الفتح ، باب : «إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا») من حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص.(2/267)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 268
تقطعت السماء من بهاء محمد المحمود ، وامتلأت الأرض من حمده ، لأنه ظهر بخلاص أمته. ه. ونص ما فى الإنجيل : أن المسيح قال للحواريين : إنى ذاهب عنكم ، وسيأتيكم الفارقليط ، الذي لا يتكلم من قبل نفسه ، إنما يقول كما يقال له. ه. والفارقليط بالعبرانية : اسم محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، وقيل معناه : الشافع المشفع.
وعن شهر بن حوشب - فى قصة إسلام كعب الأحبار ، وهو من اليمن من حمير - : أن كعبا أخبره بأمره ، وكيف كان ذلك ، وكان أبوه من مؤمنى أهل التوراة برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، قبل ظهوره ، قال كعب : وكان أبى من أعلم الناس بالتوراة وكتب الأنبياء ، ولم يكن يدخر عنى شيئا مما كان يعلم ، فلما حضرته الوفاة دعانى فقال : يا بنى ، قد علمت أنى لم أكن أدخر عنك شيئا مما كنت أعلم ، إلا أنى حبست عنك ورقتين فيهما ذكر نبى يبعث ، وقد أطل زمانه ، فكرهت أن أخبرك بذلك ، فلا آمن عليك بعد وفاتي أن يخرج بعض هؤلاء الكذابين فتتبعه ، وقد قطعتهما من كتابى ، وجعلتهما فى هذه الكوة التي ترى ، وطينت عليهما ، فلا تتعرض لهما حتى يخرج هذا النبي ، فإذا خرج فاتبعه وانظر فيهما ، فإن اللّه تعالى يزيدك بهذا خيرا ، فلما مات والدي لم يكن شىء أحب إلى من أن ينقضى المأتم حتى أنظر ما فى الورقتين ، فإذا فيهما : «محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، خاتم النبيين لا نبى بعده ، مولده بمكة ، ومهاجره طيبة ، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب فى الأسواق ، ولا يجزى بالسيئة السيئة ، ولكن يجزى بالسيئة الحسنة ، ويعفو ويغفر ويصفح ، أمته الحمّادون ، الذين يحمدون اللّه على كل شرف وعلى كل حال ، وتذلل ألسنتهم بالتكبير ، وينصر اللّه نبيهم على كل من ناوأه ، يغسلون فروجهم بالماء ، ويتأزرون على أوساطهم ، وأناجيلهم فى صدورهم ، ويأكلون قربانهم فى بطونهم ، ويؤجرون عليها ، وتراحمهم بينهم تراحم بنى الأم والأب ، وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم ، وهم السابقون المقربون ، والشافعون المشفع فيهم». «1». ثم أسلم على يد عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه.
قال الحق جل جلاله فى بقية أوصاف نبينا - عليه الصلاة السلام - : يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ مما حرم على اليهود كالشحوم وغيرها ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ كالدم ولحم الخنزير وسائر الخبائث ، أو كالربا والرشوة وغيرهما من المحرمات. قال ابن جزى : مذهب مالك أن الطيبات هى الحلال ، وأن الخبائث هى الحرام. ومذهب الشافعي : أن الطيبات هى المستلذات ، إلا ما حرمه الشرع منها ، كالخمر والخنزير ، وأن الخبائث هى المستقذرات كالخنافس والعقارب. ه.
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ أي : الثقل الذي عليهم ، وهو مثال لما كلفوا به - أي : بنو إسرائيل - فى شرعهم من المشقات كقتل الأنفس فى التوبة ، وقطع موضع النجاسة من الثوب ، وتعيين القصاص فى العمد والخطأ. «2»
___________
(1) أخرجه بنحوه مختصرا الدارمي فى (المقدمة - باب صفة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم) والبغوي فى تفسيره ، (3/ 289) وابن سعد فى الطبقات 1/ 360.
(2) من هنا يبدأ سقط كبير فى المخطوطة الأصلية سيستمر حوالي عشرين صفحة.(2/268)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 269
وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ عبارة عما منعت منه شريعتهم ، كتحريم الشحوم ، وتحريم العمل يوم السبت ، وشبه ذلك. فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ أي : منعوه وحفظوه من عدوه ، حتى لا يقوى عليه ، أو عظموه بالتقوية حتى انتصر ، وأصله : المنع ، ومنه التعزير ، وَنَصَرُوهُ حتى أظهروا دينه فى حياته وبعد مماته ، وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ وهو القرآن ، وإنما سماه نورا لأنه بإعجازه ظاهر أمره ومظهر غيره ، أو لأنه كاشف للحقائق مظهر لها. أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالرحمة الأبدية ، وهذا آخر جواب سيدنا موسى عليه السّلام.
الإشارة : قوله تعالى وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ، قال القشيري : لم يعلّقها بالمشيئة - يعنى : كما قال فى العذاب - لأنها نفس المشيئة ، ولأنها قديمة ، والإرادة لا تتعلق بالقديم ، فلمّا كان العذاب من صفات الفعل علّقه بالمشيئة ، بعكس الرحمة لأنها من صفات الذات. ويقال فى قوله تعالى : وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ : مجال لآمال العصاة لأنهم ، وإن لم يكونوا من جملة المطيعين العابدين والعارفين ، فهم «شى ء». ه.
قلت : وبهذا العموم تشبث إبليس فى قضية له مع سهل ، وذلك أنه لما تراءى له ، ضحك ، فقال له : كيف تضحك وقد أبلست من رحمة اللّه؟ فقال له : قال تعالى : وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ وأنا شىء ، فسكت سهل ، ثم تذكر تمام الآية ، فقال : قال تعالى : فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ، فهى مقيدة لا مطلقة ، فقال له : التقوى فعل العبد ، والرحمة صفة الرب ، ولا يتغير وصف الحق بفعل العبد ، فعجز سهل. قلت : والجواب : أن إبليس جاء من جهة الفرق ، ولو نظر للجمع لوجد الرحمة وصفه ، والتقوى فعله ، وفعله يغير وصفه ، والكل منه وإليه. واللّه تعالى أعلم.
وقال الورتجبي : جميع الخلائق مستغرقون فى بحر الرحمة ، لأن إيجاد الحق إياهم ، على أي وصف كانوا ، عين رحمته ، حيث دخلوا تحت نظره وسلطانه وربوبيته ، ومباشرة قدرته فيهم ، ثم إن الخلق بالتفاوت فى الرحمة فالجمادات مستغرقة فى نور فعله ، وهى الرحمة الفعلية ، والحيوانات مستغرقة فى نور صفاته ، وهى الرحمة الصفاتية ، والعقلاء من الجن والإنس والملائكة مستغرقون فى نور ذاته ، وهى الرحمة القديمة الذاتية من جهة تعريفهم ربوبيته ووحدانيته ، وهم من جهة الأجسام وما يجرى عليها ، فى الرحمة العامة ، ومن جهة الأرواح وما يجرى عليها ، فى الرحمة الخاصة ، وهم فيها بالتفاوت ، فبعضهم فى رؤية العظمة ذابوا ، وبعضهم فى رؤية القدم والبقاء تاهوا ، وبعضهم فى رؤية الجلال والجمال عشقوا وطاشوا ، ومن خرج من مقام الرحمة إلى أصل الصفة ، ومن الصفة إلى أصل الذات استغرق فى الراحم ، وفنى عن الرحمة ، فصار رحمة للعالمين ، وهذا وصف نبينا - عليه الصلاة والسلام - ، لأنه وصل بالكل إلى الكل ، فوصفه برحمة الكل بقوله : وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «1» ، ثم خص رحمته الخاصة الصفاتية ، بعد أن عم الكل برحمته العامة للمنفردين بالله عن غير اللّه ، القانتين بعظمته فى عظمة الذين بذلوا وجوههم لحق ربوبيته عليهم بقوله : فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ .... ه.
___________
(1) الآية 107 من سورة الأنبياء.(2/269)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 270
قال فى الحاشية : واعتبر قوله : فَسَأَكْتُبُها ، فإنه يقتضى كون الرحمة السابقة مطلقة ، والتغيير طارئ ، والطارئ لا ينافى الذات. ه. قلت : فتكون على هذا الرحمة التي وسعت كل شىء رحمة عامة ، إذ لا يخلو مخلوق من رحمته فى الدنيا والآخرة ، أما فى الدنيا فالخلق كلهم مرحومون إيجادا وإمدادا ، وأما فى الآخرة فما من عذاب إلا واللّه أشد منه فى قدرته ، والرحمة التي كتبت للمتقين رحمة خاصة ، ويدل على هذا ما فى القوت «1» على قوله : فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ، قال : معناه خصوص الرحمة وصفوها لا كلها ، إذا لا نهاية للرحمة ، لأنها صفة الراحم الذي لا حد له ، ولأنه لم يخرج من رحمته شىء ، كما لم يخرج من حكمته وقدرته شىء. ه.
وقال السيوطي : فسأكتبها فى الآخرة ، ووجه تخصيصها فى الآخرة بالمؤمنين : تمحضها هنالك من غير شوب بضد ، ولا كذلك فى الدنيا ، وإن كانت غالبة ، والكافر عمته فى الدنيا عموما ظاهرا ، وسلب منها فى الآخرة بحسب الظاهر ، وإن لم يخل عنها فى الجملة ، لأن غضبه تعالى لا حدّ له لو لا رحمته.
وحاصله : أنه لم تفى جهنم بغضبه ، لأنه لا يفى المتناهي بغير المتناهي ورحمته عمت الكافر فى الدنيا لإمهاله وبسط نعمه عليه ، وفى الإمهال فسحة فى الحال وأمل الإقلاع فى المآل ، وقد يتفق كثيرا ، أي : الإقلاع ، فلا يتعين أن يكون الإمهال استدراجا ، على أنه إنما يتجلى تجليا أوليا ذاتيا برحمة مطلقة من غير تفصيل ، إذ لا تعدد فى الذات ، وإنما يظهر التفصيل بالصفات ، وإن كان يسرى إليها من الذات ، ولكن الرحمة تظهر أولا من الذات ، مع قطع النظر عن الصفات لظهورها ، ولا تظهر النقمة إلا من الصفات ، وهى خفية فى تجلى الذات المطلق ، ولذلك قال : وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ، وعلق العذاب على المشيئة ، فخص به دونها. ه. من الحاشية مع زيادة بيان.
ثم أمره بالدعاء إلى الإيمان ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : آية 158]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)
يقول الحق جل جلاله : قُلْ يا محمد : يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الأحمر والأسود ، والعرب والعجم ، والإنس والجن ، خص بهذه الدعوة العامة ، وإنما بعثت الرسل إلى قومها خاصة. فادع الناس أيها الرسول إلى اللّه تعالى ، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يتصرف فيهما كيفما شاء ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لأن من ملك العالم كان هو الإله لا غير ، يُحيِي وَيُمِيتُ لعموم قدرته ونفوذ أمره ،
___________
(1) أي قوت القلوب لأبى طالب المكي.(2/270)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 271
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ أي : ما أنزل عليه وعلى سائر الرسل قبله من كتبه ووحيه. وإنما عدل عن التكلم إلى الغيبة ، أي : لم يقل : فآمنوا بالله وآمنوا لإجراء هذه الصفات عليه ، الداعية إلى الإيمان به واتباعه ، ولذلك قال : وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إلى طريق الحق والرشد ، جعل رجاء الاهتداء آثر الأمرين تنبيها على أن من صدّقه ، ولم يتابعه بالتزام شرعه فهو يعد فى خطط الضلالة. قاله البيضاوي.
الإشارة : لا غنى للمريد عن متابعة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، ولو بلغ ما بلغ ، لقوله تعالى : وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ، وغاية الاهتداء غير متناهية ، لأن أدب العبودية مقرون مع عظمة الربوبية ، فكما أن الترقي فى مشاهدة الربوبية لا نهاية له ، كذلك أدب العبودية لا نهاية له ، ولا تعرف كيفية الأدب إلا بواسطة تعليمه عليه الصلاة والسلام ، فواسطة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لا تفارق العبد ، ولو عرف ما عرف ، وبلغ ما بلغ. واللّه تعالى أعلم.
ثم رجع الحق تعالى إلى الكلام مع بنى إسرائيل ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : آية 159]
وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
يقول الحق جل جلاله : وَمِنْ قَوْمِ مُوسى ، يعنى بنى إسرائيل ، أُمَّةٌ طائعة يَهْدُونَ الناس بكلمة الحق ، أو متلبسين بِالْحَقِّ وهم الذين ثبتوا حين افتتن الناس بعبادة العجل ، والأحبار الذين تمسكوا بالتوراة من غير تحريف ، أو الذين آمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، وَبِهِ أي : بالحق يَعْدِلُونَ فى أحكامهم وقضاياهم.
قال البيضاوي : أتبع ذكرهم ذكر أضدادهم على ما هو عادة القرآن تنبيها على أن تعارض الخير والشر وتزاحم أهل الحق والباطل أمر مستمر. ه.
الإشارة : فى كل أمة ، وفى كل عصر ، أمة صالحة ، يبصرون الناس بالحق ، ويدعون إلى اللّه ، فمنهم من يهدى إلى تزيين الظواهر بالشرائع ، وهم العلماء الأتقياء ، ومنهم من يهدى إلى تنوير السرائر بالحقائق ، وهم الصوفية الأولياء ، المحققون بمعرفة اللّه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر أحوال بنى إسرائيل ، فقالوا :
[سورة الأعراف (7) : آية 160]
وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)(2/271)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 272
قلت : أسباطا : بدل لا تمييز لأن تمييز العدد يكون مفردا ، والتمييز محذوف ، أي : فرقة أسباطا. وقال الزمخشري : يصح تمييزا لأن كل قبيلة أسباط لاسبط. ه. فكأنه قال : وقطعناهم اثنتي عشرة سبطا سبطا. والسبط فى بنى إسرائيل كالقبيلة عند العرب ، و(أمما) : بدل بعد بدل على الأول ، وعلى الثاني بدل من أسباط.
يقول الحق جل جلاله : وَقَطَّعْناهُمُ أي : بنى إسرائيل ، أي : فرقناهم اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً اثنى عشر سبطا ، أُمَماً متميزة ، كل سبط أمة مستقلة ، وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ فى التيه ، أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ انفجرت ، إلا أن الانبجاس أخف من الانفجار ، أي : فضرب فانبجست ، وحذفه للإيماء إلى أن موسى لم يتوقف فى الامتثال ، وأن ضربه لم يكن مؤثرا يتوقف عليه الفعل من ذاته ، بل سبب عادى وحكمة جارية ، والفعل إنما هو بالقدرة الإلهية ، أي : نبعت مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً ، قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ كل سبط مَشْرَبَهُمْ ، وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ لتقيهم من حر الشمس ، وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ، وقلنا لهم : كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ سبق فى سورة البقرة ، وكذلك الإشارة «1».
ثم قال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 161 الى 162]
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162)
يقول الحق جل جلاله : وَاذكروا إِذْ قِيلَ لبنى إسرائيل : اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ بيت المقدس ، وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ ، وَقُولُوا : أمرنا حِطَّةٌ ، وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً سجود انحناء ، نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ التي سلفت ، سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ وعد بالغفران والزيادة عليه ، وإنما أخرج الثاني مخرج الاستئناف ، يعنى : سنزيد ، ولم يقل : وسنزيد للدلالة على أنه تفضل محض ، ليس فى مقابلة ما أمروا به ، فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ قالوا : حبة فى شعرة ، مكان حطة ، لأنهم حملوا الحطة على الحنطة. فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ قد مر تفسيره ، وإشارته ، فى سورة البقرة «2».
___________
(1) راجع تفسير الآية 60 من سورة البقرة.
(2) راجع تفسير الآية 58 من سورة البقرة. [.....](2/272)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 273
تنبيه : وقع اختلاف كثير فى اللفظ بين هذا الموضع من هذه السورة وبين سورة البقرة ، فى فَانْفَجَرَتْ وفَانْبَجَسَتْ ، وقوله : وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا ووَ إِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا ، وقوله هنا : وَكُلُوا ، وهناك فَكُلُوا. فقال الزمخشري : لا بأس باختلاف العبارتين ، إذا لم يكن هناك تناقض. ووجّه بعضهم الفرق بأن ما فى هذه السورة سيق فى محل الغضب والعقاب على عبادة العجل ، وما فى سورة البقرة سيق فى محل الامتنان ، فلذلك عبّر هنا بانبحست لأنه أقل من انفجرت ، وعبّر هنا بقيل مبنيا للمجهول تحقيرا لهم أن يذكر نفسه لهم ، وعبّر هنا بالسكنى لأنه أشق من الدخول ويستلزمه ، وعبّر هنا بالواو لأن السكنى تجامع الأكل ، بخلاف الدخول ، فإن الأكل مسبب عنه ، فعبّر بالفاء ، وزاد فى البقرة الواو فى : سَنَزِيدُ ، كأنه نعمة أخرى ، بخلاف هذا ، وزاد هنا مِنْهُمْ لتقدم ذكرهم فى قوله : وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ ، وعبّر هنا بالظلم لأنه أعم من الفسق وغيره. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر اعتداءهم فى السبت وما ترتب عليه ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 163 الى 166]
وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166)
قلت : (إذ يعدون) : بدل من (القرية) ، بدل اشتمال ، أو منصوب بكانت ، أو بحاضرة ، و(إذ تأتيهم) : منصوب بيعدون ، و(سبتهم) : مصدر مضاف للفاعل ، يقال : سبت اليهود سبتا : إذا عظم يوم السبت وقطع شغله فيه ، و(شرعا) : حال ، ومعناه : ظاهرة قريبة منهم ، يقال : شرع منه فلان إذا دنا منه.
يقول الحق جل جلاله : وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ أي : اليهود ، سؤال تقرير وتوبيخ على تقديم عصيانهم وعما هو من معلومهم ، الذي لا يعلم إلا بتعليم أو وحي ، وقد تحققوا أنك أمي ، فيكون ذلك معجزة وحجة عليهم ، عَنِ الْقَرْيَةِ أي : عن خبرها وما وقع لها ، الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ قريبة منه ، وهى «إيلة» ، قرية بين مدين والطور ، على شاطىء البحر ، وقيل : مدين ، وقيل : طبرية ، إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ : يتجاوزون حدود اللّه(2/273)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 274
بالاصطياد فى يوم السبت ، وكان حراما عليهم لاشتغالهم عنه بالعبادة ، إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً : ظاهرة على وجه الماء ، دانية منهم ، وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ بل تغوص كلها فى البحر ، كَذلِكَ أي : مثل هذا البلاء الشديد نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي : بسبب فسقهم. وقيل : «كذلك» : متصل بما قبله ، أي : لا تأتيهم مثل ذلك الإتيان الذي تأتيه يوم السبت.
ثم افترقت بنو إسرائيل ثلاث فرق : فرقة عصت بالصيد يوم السبت ، وفرقة نهت عن ذلك واعتزلت القوم ، وفرقة سكتت واعتزلت فلم تنه ولم تعص. وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ ، وهى التي لم تنه ولم تعص ، لمّا رأت مهاجرة الناهية وطغيان العاصية : لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ بالموت بصاعقة ، أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فى الآخرة؟ قالُوا : نهينا لهم مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ أي : عذرا إلى اللّه تعالى ، حتى لا تنسب إلى تفريط فى النهى عن المنكر ، وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فينزجرون عن العصيان ، إذ اليأس منهم لا يحصل إلا بالهلاك.
فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أي : تركوا ما وعظوا به ترك الناسي ، أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بالاعتياد ومخالفة أمر اللّه ، بِعَذابٍ بَئِيسٍ : شديد ، من بؤس يبؤس بؤسا ، وقرىء (بيئس) على وزن ضيغم ، و«بئس» بالكسر والسكون ، كحذر ، وبيس بتخفيف الهمزة ، ومعناها واحد ، أي : بما عاقبناهم بالمسخ ، بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي : بسبب فسقهم.
قال ابن عباس : لا أدرى ما فعل بالفرقة الساكتة؟ وقال عكرمة : لم تهلك لأنها كرهت ما فعلوه. ورجع إليه ابن عباس وأعجبه ، لأن كراهيتها تغيير المنكر فى الجملة ، مع قيام الفرقة الناهية به لأنه فرص كفاية. قال تعالى :
فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ تكبرا عن ترك ما نهوا عنه ، قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ أذلاء صاغرين.
قال البيضاوي : قُلْنا لَهُمْ كُونُوا ، هو كقوله : إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «1» ، والظاهر يقتضى أن اللّه تعالى عذّبهم أولا بعذاب شديد ، فعتوا بعد ذلك ، فمسخهم قردة وخنازير ، ويجوز أن تكون الآية الثانية تقريرا وتفصيلا للأولى.
روى أن الناهين لما أيسوا عن اتعاظ المعتدين ، كرهوا مساكنتهم ، فقسموا القرية بجدار فيه باب مطروق ، فأصبحوا يوما ولم يخرج إليهم أحد من المعتدين ، فقالوا : إن لهم شأنا ، فدخلوا عليهم فإذا هم قردة ، فلم يعرفوا أنسباءهم ، ولكن القردة تعرفهم ، فجعلت تأتى أنسباءهم وتشم ثيابهم ، وتدور باكية حولهم ، ثم ماتوا بعد ثلاثة أيام. ه.
الإشارة : المسخ على ثلاثة أقسام : مسخ الأشباح ، ومسخ القلوب ، ومسخ الأرواح ، فمسخ الأشباح هو الذي وقع لبنى إسرائيل ، قيل : إنه مرفوع عن هذه الأمة ، والصحيح : أنه يقع فى آخر الزمان ، ومسخ القلوب يكون بالانهماك
___________
(1) الآية 40 من سورة النحل.(2/274)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 275
فى الذنوب ، والإصرار على المعاصي ، وعلامته : الفرح بتيسير العصيان ، وعدم التأسف على ما فاته من الطاعة والإحسان ، ومسخ الأرواح : الانهماك فى الشهوات ، والوقوف مع ظواهر الحسيات ، أو تكثيف الحجاب ، والوقوف مع العوائد والأسباب ، دون مشاهدة رب الأرباب. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر عقوبة بنى إسرائيل فى الدنيا ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : آية 167]
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)
قلت : تأذن : أعلم ، وهى تفعل ، وهى من الإيذان بمعنى الإعلام ، كتوعّد وأوعد ، أو : عزم ، لأن العازم على الشيء يؤذن نفسه بفعله ، وأجرى مجرى القسم كعلم اللّه وشهد اللّه ، ولذلك أجيب باللام القسمية.
يقول الحق جل جلاله : وَاذكروا إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ أي : أعلم وأظهر ذلك فى عالم الشهادة ، لَيَبْعَثَنَّ على بنى إسرائيل ، أي : ليسلطن عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ كالإذلال وضرب الجزية ، وقد بعث اللّه عليهم بعد سليمان عليه السّلام بختنصر ، فخرب ديارهم ، وقتل مقاتلتهم ، وسبى نساءهم وذراريهم ، وضرب الجزية على من بقي منهم ، وكانوا يؤدونها إلى المجوس ، حتى بعث اللّه نبينا محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم ففعل بهم ما فعل ، فى بنى قريظة والنضير وخبير ، ثم ضرب اللّه عليهم الجزية إلى آخر الدهر ، إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ فعاقبهم فى الدنيا ، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن تاب وآمن ، وإنما أكد هنا الخبر باللام دون ما فى آخر الأنعام «1» ، لأن ما هنا فى اليهود ، وما فى آخر الأنعام فى المؤمنين ، فأكد ما هنا باللام ، فقال : لَسَرِيعُ الْعِقابِ زيادة فى توبيخهم ونكالهم.
الإشارة : مواطن الذل والهوان هو الانهماك فى المخالفة والعدوان ، وقد ينسحب ذلك فى الذرية إلى آخر الزمان ، فإن اللّه تعالى يقول : أنا الملك الودود ، أعاقب الأحفاد بمعاصي الجدود ، ومواطن العز والحرمة والأمان : هو الطاعة والتعظيم والإحسان ، ينسحب ذلك على الأحفاد ، إلى منتهى الزمان ، فإن اللّه تعالى يحفظ الأولاد ببركة الأجداد. وقد تذاكر بعض التابعين ما يكون فى آخر الزمان من الفتن والفساد ، فقال بعضهم : يا ليتنى كنت عقيما أو لم أتزوج ، فقال له من هو أكبر منه : ألا أدلك على ما يحفظ اللّه به عقبك؟ قال : نعم ، دلنى ، قال : قوله تعالى :
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً ... الآية «2». وبالله التوفيق.
___________
(1) فى قوله تعالى : إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ الآية الأخيرة من سورة الأنعام.
(2) الآية 9 من سورة النساء.(2/275)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 276
ثم قال تعالى فى شأن اليهود :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 168 الى 170]
وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
قلت : (أمما) : مفعول ثان لقطّعنا ، أو حال ، وجملة (منهم الصالحون) : صفة ، وجملة (يأخذون) : حال من فاعل (ورثوا) ، و(يقولون) عطف على (يأخذون) ، أو حال ، والفعل من (سيغفر) : مسند إلى الجار والمجرور ، أو إلى مصدر (يأخذون) ، و(أن لا يقولوا) : عطف بيلن من (ميثاق الكتاب) ، أو تفسير له ، أو متعلق به ، أي : لأن لا يقولوا ، و(درسوا) : عطف على (ألم يؤخذ) من حيث المعنى ، أي : ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ولم يدرسوا ما فيه ، أو حال ، أي : وقد درسوا ، و(الذين يمسكون) : مبتدأ ، وجملة : (إنا لا نضيع أجر المصلحين) : خبر ، والرابط :
ما فى المصلحين من العموم ، فوضع موضع الضمير تنبيها على أن الإصلاح كالمانع من التضييع ، أو حذف العائد ، أي : منهم ، ويحتمل أن يكوت عطفا على (الذين يتقون) أي : خير للمتقين والذين يتمسكون بالكتاب.
يقول الحق جل جلاله : وَقَطَّعْناهُمْ أي : فرقناهم فِي الْأَرْضِ أُمَماً : فرقا ، ففى كل بلد من البلدان فرقة منهم ، فليس لهم إقليم يملكونه ، تتمة لإذلالهم ، حتى لا تكون لهم شوكة قط ، مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وهو من تمسك بدين التوراة ، ولم يحرف ، ولم يفرق ، أو من آمن منهم بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم فى زمانه وبعده ، وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ أي : ومنهم ناس دون ذلك ، أي : منحطون عن الصلاح ، وهم كفرتهم وفسقتهم ، وَبَلَوْناهُمْ أي :
اختبرناهم بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ أي : بالنعم والنقم ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ينتبهون فينزجرون عمّا هم عليه.
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أي : فخلف ، من بعد الأولين ، خلف ، أي : بدل سوء ، وهو مصدر نعت به ، فالخلف ، بالسكون ، شائع فى الشر ، يقال : جعل اللّه منك خلفا صالحا. والمراد بالخلف فى الآية : اليهود الذين أدركوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وَرِثُوا الْكِتابَ التوراة ، من أسلافهم ، يقرؤونها ويقفون على ما فيها ، يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى حطام هذا الشيء الحقير ، من الدنو ، أو من الدناءة ، وهو ما كانوا يأخذون من الرشا فى الأحكام ، وعلى تحريف الكلام. وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا لا يؤاخذنا اللّه بذلك ويتجاوز عنه ، اغترارا وحمقا.(2/276)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 277
وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أي : يرجون المغفرة ، والحال أنهم مصرون على الذنب ، عائدون إلى مثله ، غير تائبين منه ، أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أي : فى الكتاب ، وهو التوراة ، أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ، وهو تكذيب لهم فى قولهم : سَيُغْفَرُ لَنا ، والمراد : توبيخهم على القطع بالمغفرة مع عدم التوبة ، والدلالة على أنه افتراء على اللّه ، وخروج عن ميثاق الكتاب ، وَدَرَسُوا ما فِيهِ أي : وقد درسوا ما فيه ، وعلموا ما أخذ عليهم فيه من المواثيق ، ثم تجرأوا على اللّه ، وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ مما يأخذ هؤلاء من العرض الفاني. أَفَلا يَعْقِلُونَ «1» فيعلموا ذلك ، ولا يستبدلوا الأدنى الحقير المؤدى إلى العقاب بالنعيم الكبير المخلد فى دار الثواب ، ومن قرأ بالخطاب فهو لهم ، من باب التلوين فى الكلام.
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ أي : يتمسكون بالتوراة ، وَأَقامُوا الصَّلاةَ المفروضة عليهم ، إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ منهم. وهذا فيمن مات قبل ظهور الإسلام ، أو : والذين يمسكون بالقرآن ، وَأَقامُوا الصَّلاةَ مع المسلمين ، إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ.
الإشارة : تفريق النسب فى البلدان ، إن كان فى الذل والهوان ، فهو من شؤم المخالفة والعصيان ، وإن كان مع العز وحفظ الحرمة ، فقد يكون لقصد الخير والبركة ، أراد اللّه أن ينمى تلك البلاد ، بنقل ذلك إليها ، كأولاد الصالحين والعلماء وأهل البيت. ويؤخذ من قوله : وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ، أن العبد مأمور بالرجوع إلى اللّه فى السراء والضراء ، فى السراء بالحمد والشكر ، وفى الضراء بالتسليم والصبر.
ويؤخذ من مفهوم قوله : وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ، أن من عقد التوبة وحل عقدة الإصرار غفر له ما مضى من الأوزار. وفى قوله : أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ ... الآية ، تحذير لعلماء السوء. وقوله : وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ ... الآية ، أي : والذين يمسكون بظاهر الكتاب وأقاموا صلاة الجوارح ، إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ مع عامة أهل اليمين ، والذين يمسكون بباطن الكتاب وأقاموا صلاة القلوب - التي هى العكوف فى الحضرة - حضرة الغيوب - إنا لا نضيع أجر المصلحين لقلوبهم ، وهو شهود رب العالمين مع المقربين ، فى حضرة الأنبياء والمرسلين ، جعلنا اللّه منهم وفى حزبهم ، آمين.
ولمّا ذكر من تمسك بالكتاب طوعا ، ذكر من تمسك به كرها من أسلاف اليهود ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : آية 171]
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
___________
(1) قرأ نافع وابن عامر وحفص وأبو جعفر ويعقوب «تعقلون» بالخطاب ، وقرأ الباقون بالغيب. انظر الإتحاف (2/ 68).(2/277)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 278
قلت : جملة (خذوا) : محكية ، أي : وقولنا لهم : خذوا.
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر إِذْ نَتَقْنَا أي : قلعنا ورفعنا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ أي : فوق بنى إسرائيل ، كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ أي : سقيفة ، والظلة : كل ما أظلك ، وَظَنُّوا أي : تيقنوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ أي : ساقط عليهم بسبب عصيانهم لأن الجبل لا يثبت فى الجو لأنهم كانوا يوعدون به ، وإنما عبّر بالظن لأنه لم يقع بالفعل حين الظن ، وسبب نتق الجبل أنهم امتنعوا من أحكام التوراة ، فلم يقبلوها لثقلها ، فرفع اللّه الطور فوقهم ، وقيل لهم :
إن قبلتم ما فيها وإلّا ليقعن عليكم ، فقلنا لهم حين الرفع : خُذُوا ما آتَيْناكُمْ من الأحكام بِقُوَّةٍ ، وَاذْكُرُوا ما فِيهِ بالعمل به ، ولا تتركوه كالمنسى ، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ قبائح الأعمال ورذائل الأخلاق.
الإشارة : من لم ينقد إلى اللّه بملاطفة الإحسان ، قيد إليه بسلاسل الامتحان ، عجب ربك من قوم يساقون إلى الجنة بالسلاسل.
ولما ذكر الميثاق الخاص ، ذكر الميثاق العام ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 172 الى 174]
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)
قلت : (من ظهورهم) : بدل من (بنى آدم) ، أي : من ظهور بنى آدم ، و(ذريتهم) : مفعول به ، و(بلى) : حرف جواب ، يجاب بها عن الهمزة إذا دخلت على منفى ، فخرجت عن الاستفهام إلى التقرير ، وهو حمل المخاطب على الإقرار بما بعد النفي ، نحو : أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ «1» ، فيجاب ببلى ، أي : شرحت ، وكذا نظائرها ، ومنه :
(أ لست بربكم ..) الآية.
وقد يجاب بها الاستفهام المجرد عن النفي ، كما فى الحديث : «أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قالوا :
بلى» «2». ولكنه قليل ، فلا يقاس عليه ، بل يوقف على ما سمع ، والكثير : أنها جواب للنفى ، ومعناها : إثبات ما نفى ، ورفع النفي ، لا إثباته وتقريره ، بخلاف «نعم» فإنها تقرر ما قبلها من إثبات أو نفى ، ولذا قال ابن عباس : (و لو قالوا : نعم ، لكفروا) ، وقد تقدم الفرق بينهما فى سورة البقرة ، «3» ثم الكثير : مراعاة صورة النفي ، فيجاب ببلى ، وقد
___________
(1) الآية الأولى من سورة الشرح.
(2) أخرجه مسلم فى (الإيمان - باب كون هذه الأمة نصف أهل الجنة) من حديث عبد اللّه بن مسعود - رضى اللّه عنه.
(3) راجع تفسير الآية 81 من سورة البقرة.(2/278)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 279
ينظر للمعنى وما يفيده الاستفهام الإنكارى من نفيه للنفى ، فيصير الكلام إيجابا ، فيصح الجواب بنعم فى الجملة ، لكن لمّا كان محتملا امتنع فى الآية. انظر المغني. وقوله : (أن تقولوا) : مفعول من أجله.
يقول الحق جل جلاله : وَاذكروا إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ من ظهور بنى آدم ذُرِّيَّتَهُمْ وذلك أن اللّه تعالى لمّا خلق آدم ، وأهبطه إلى الأرض ، أخرج من صلبه نسيم بنيه ، بعضهم من صلب بعض ، على نحو ما يتوالدون ، قرنا بعد قرن كالذر ، وكان آدم بنعمان ، وهو جبل يواجه عرفة ، وقال لهم حين أخرجهم : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ فأقروا كلهم ، وقالُوا بَلى أنت ربنا ، شَهِدْنا بذلك على أنفسنا ، لأن الأرواح حينئذ كانت كلها على الفطرة ، علّامة درّاكة ، فلما ركبت فى هذا القالب نسيت الشهادة ، فبعث اللّه الأنبياء والرسل يذكّرون الناس ذلك العهد ، فمن أقرّ به نجا ، ومن أنكره هلك ، ويحتمل أن يكون ذلك من باب التمثيل ، وأن أخذ الذرية من الظهر عبارة عن إيجادهم فى الدنيا ، وأما إشهادهم فمعناه : أن اللّه نصب لبنى آدم الأدلة على ربوبيته ، وشهدت بها عقولهم ، فكأنه أشهدهم على أنفسهم ، وقال : (أ لست بريكم)؟ وكأنهم قالوا بلسان الحال : أنت ربنا.
والأول هو الصحيح لتواتر الأخبار به ، فقوله : (شهدنا) : هو من تمام الجواب ، فهو تحقيق لربوبيته وأداء لشهادتهم بذلك ، فينبغى أن يوقف عليه ، وقيل : إنّ (شهدنا) : من قول اللّه أو الملائكة ، فيوقف على (بلى) ، لكنه ضعيف.
ثم ذكر حكمة هذا الأخذ ، فقال : أَوْ تَقُولُوا أي : فعلنا ذلك كراهة أن تقولوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ ، أو كراهية أن تقولوا : إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ فاقتدينا بهم ، أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ، يعنى : آباءهم المبطلين بتأسيس الشرك ، ولا بد من حذف كلام هنا لتتم الحجة ، والتقدير : أخذنا ذلك العهد فى عالم الأرواح ، وبعثنا الرسل يجددونه في عالم الأشباح ، كراهة أن تقولوا : إنا كنا عن هذا غافلين ، ويدل على هذا قوله تعالى : وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ... الآية «1». وقوله : رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ «2» ، ولا يكفى مجرد الإشهاد الروحاني فى قيام الحجة لأن ذلك العهد نسيته الأرواح حين دخلت فى عالم الأشباح ، فلا تهتدى إليه إلا بدليل يذكرها ذلك.
قال البيضاوي : والمقصود من إيراد هذا الكلام هاهنا : إلزام اليهود مقتضى الميثاق العام ، بعد ما ألزمهم بالميثاق المخصوص بهم ، والاحتجاج عليهم بالحجج السمعية والعقلية ، ومنعهم من التقليد ، وحملهم على النظر والاستدلال ، كما قال تعالى : وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ الدالة على وحدانيتنا سمعا وعقلا ، وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن التقليد واتباع الباطل.
___________
(1) الآية 15 من سورة الإسراء.
(2) الآية 165 من سورة النساء.(2/279)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 280
الإشارة : أخذ الحق جل جلاله العهد على الأرواح أن تعرفه وتوحده مرتين ، أحدهما : قبل ظهور الكائنات ، والثاني : بعد ظهورها. والأول أخذه عليها في معرفة الربوبية ، والثاني تجديدا له مع القيام بآداب العبودية. قال بعضهم : أخذ الأول على الأرواح يوم المقادير ، وذلك قبل السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، ثم أخذ الثاني على النفوس بعد ظهورها فى عالم الأشباح ، كما نبهت عليه الآية والأحاديث.
وقال ابن الفارض فى تائيته :
وسابق عهد لم يحل مذ عهدته ولا حق عقد جلّ عن حلّ فترة
قال القاشاني : أراد بالعهد السابق : ما أخذه اللّه على الأرواح الإنسانية المستخرجة من صلب الروح الأعظم ، الذي هو آدم الكبير ، فى صور المثل ، قبل تعلقها بالأشباح ، وهو عقد المحبة بين الرب والمربوب ، فى قوله سبحانه :
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ ... الآية. وبالعهد اللاحق : ما أخذه عليهم بواسطة الأنبياء ، من عقد الإسلام بعد التعلق بالأبدان ، وهو توكيد للعهد الأول ، وتوثيقه بالتزام أحكام الربوبية والتزامها. ه. وقال فى الحاشية : كلام ابن الفارض ينظر إلى العهد الأول ، الروحاني ، وكلام غيره ينظر إلى الثاني النفساني ، وهو ظاهر الآية. ه. قلت : وفيه نظر ، فإن كلام ابن الفارض مشتمل على العهدين معا ، الروحاني فى الشطر الأولى ، والنفساني فى الشطر الثاني.
والحاصل مما تقدم : أن العهد أخذ على الأرواح ثلاث مرات ، أحدها : حين استخرجت من صلب الروح الأعظم الذي هو آدم الكبير ، وهو معنى القبضة النورانية ، التي أخذت من عالم الجبروت. والثاني : حين استخرجت من صلب آدم الأصغر ، كالذر ، والثالث : حيث دخلت فى عالم الأشباح ، على ألسنة الرسل ، ومن ناب عنهم ، فالمذكور فى الآية هو الثاني ، وهو أحسن من حمل القاشاني الآية على الأول.
فالحاصل : أن الأخذ الأول كان على الأرواح مجردة عن مادة التطوير والتمثيل ، بإقرارها إقرار النفوس ، لا إقرار الألسنة ، والأخذ الثاني كان على الأرواح بعد خروجها من الوجود العلمي إلى الوجود العيني ، فتطورت الأرواح بصفاتها الذاتية ، من سمع وبصر ولسان وغيرها ، فى عالم المثال ، بصور مثالية لتبصر بها ظهور الرب ، وتسمع خطابه ، وتجيب سؤاله ، بإقرارها حينئذ إقرار الألسنة ، وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية. وأما العهد الذي أخذه بواسطة الأنبياء في ظهور عالم الأشباح فإنما هو تذكير للعهدين ، وتجديد لهما ، وهو الذي تقوم به الحجة عليها ، فلا بد من انضمامه إلى الأوّلين فى قيام الحجة ، كما تقدم.
فالموجودات ثلاث : علمى ، ثم خيالى مثالى ، ثم نوعى حسى. فأخذ على كل واحد عهد من الأولين بلا واسطة ، والثالث بواسطة الرسل. واللّه تعالى أعلم.(2/280)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 281
ثم ذكر وبال من نقض هذا العهد ، مع تمكنه من العلم به ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 175 الى 178]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178)
قلت : أتبعه الشيطان : أدركه ، يقال : أتبع القوم : لحقهم ، ومنه : فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ «1» أي : لحق بني إسرائيل. قاله فى الأساس.
يقول الحق جل جلاله : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ على اليهود نَبَأَ أي : خبر الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا علمّا بكتابنا ، فَانْسَلَخَ مِنْها بأن كفر بها ، وأعرض ، فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فأدركه فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ. قال عبد اللّه بن مسعود : هو رجل من بني إسرائيل بعثه موسى عليه السّلام إلى ملك مدين ، داعيا إلى اللّه ، فرشاه الملك ، وأعطاه الملك على أن يترك دين موسى ، ويتابع الملك على دينه ، ففعل وأضل الناس على ذلك.
وقال ابن عباس : هو رجل من الكنعانيين ، اسمه : «بلعم» ، كان عنده الاسم الأعظم ، فلما أراد موسى قتل الكنعانيين ، وهم الجبارون ، سألوه أن يدعو على موسى باسم اللّه الأعظم ، فأبى ، فألحوا عليه حتى دعا ألا يدخل المدينة ، ودعا موسى عليه. فالآيات التي أعطيها ، على هذا : اسم اللّه الأعظم ، وعلى قول ابن مسعود : هو ما علمه موسى من الشريعة. قيل : كان عنده من صحف إبراهيم. وقال عبد اللّه بن عمرو بن العاص : هو أمية بن أبى الصلت الثقفي «2» ، وكان قد أوتى علما وحكمة ، وأراد أن يسلم قبل غزوة بدر ، ثم رجع عن ذلك ومات كافرا ، وكان قد قرأ الكتب ، وخالط الرهبان ، وسمع منهم أن اللّه تعالى مرسل رسولا في ذلك الزمان ، فرجا أن يكون هو ، فلما بعث اللّه محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم حسده ، وقال : ما كنت لأؤمن لرسول ليس من ثقيف.
___________
(1) من الآية 90 من سورة يونس.
(2) أخرجه النسائي فى السنن الكبرى (التفسير - 6/ 348) والطبري فى تفسيره (9/ 120) ، قال أبو حيان فى البحر : والأولى فى مثل هذا - إذا ورد عن المفسرين - أن تحمل أقاويلهم على التمثيل ، لا على الحصر فى معين ، فإنه يؤدى إلى الاضطراب والتناقض(2/281)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 282
قال تعالى : وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ إلى منازل الأبرار بِها أي : بسبب تلك الآيات وملازمتها ، وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ أي : مال إلى الدنيا وحطامها ، أي : أخلد إلى أرض الشهوات ، وَاتَّبَعَ هَواهُ فى إيثار الدنيا واسترضاء قومه ، أو صيانة رئاسته وجاهه. قال البيضاوي : وكان من حقه أن يقول : ولكنه أعرض عنها ، فأوقع موقعه : أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ مبالغة وتنبيها على ما حمله عليه ، وأن حب الدنيا رأس كل خطيئة. ه.
فَمَثَلُهُ أي : فصفته التي هى مثل فى الخسة ، كَمَثَلِ الْكَلْبِ أي : كصفته فى أخس أحواله ، وهو إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ أي : يلهث دائما ، سواء حمل عليه بالزجر والطرد ، أو ترك ولم يتعرض له ، بخلاف سائر الحيوانات لضعف فؤاده ، واللهث : إدلاع اللسان من التنفس الشديد ، والمراد : لازم اللهث ، وهو نفى الرفع ووضع المنزلة.
قال ابن جزي : اللهث : هو تنفس بسرعة ، وتحريك أعضاء الفم ، وخروج اللسان ، وأكثر ما يعتري ذلك الحيوانات عند الحر والتعب ، وهى حالة دائمة للكلب ، ومعنى «إن تحمل عليه» : أن تفعل معه ما يشق عليه ، من طرد أو غيره ، أو تتركه دون أن تحمل عليه ، فهو يلهث على كل حال. ووجه تشبيه ذلك الرجل به أنه إن وعظته فهو ضال ، وإن لم تعظه فهو ضال ، فضلالته على كل حال. ه. وقال الواحدي : وذلك أنه زجر فى المنام عن الدعاء على موسى ، فلم ينزجر ، وترك عن الزجر ، فلم يهتد. ه. وقيل : إن ذلك الرجل خرج لسانه على صدره ، فصار مثل الكلب ، وصورته ولهثه حقيقة. ه. وفعل به ذلك حين دعا على موسى عليه السّلام. وفى ابن عطية : ذكر «المعتمد» أن موسى قتله.
قال تعالى : ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صفتهم كصفة الكلب في لهثه وخسته ، أو كصفة الرجل المشبه به ، لأنهم إن أنذروا لم يهتدوا ، وإن تركوا لم يهتدوا. أو شبههم بالرجل فى أنهم رأوا الآيات فلم تنفعهم ، كما أن الرجل لم ينفعه ما عنده من الآيات. وقال الواحدي : يعني : أهل مكة كانوا متمنين هاديا يهديهم ، فلما جاءهم من لا يشكّون فى صدقه كذبوه ، فلم يهتدوا لمّا تركوا ، ولم يهتدوا أيضا لما دعوا بالرسول ، فكانوا ضالين عن الرسول فى الحالتين. ه.
فَاقْصُصِ الْقَصَصَ المذكور على اليهود ، فإنها نحو قصصهم ، لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ تفكرا يؤدى إلى الاتعاظ ، فيؤمنوا به ، فإنّ هذه القصص لا توجد عند من لم يقرأ إلا بوحي ، فيتيقنوا نبوتك. ساءَ أي : قبح مَثَلًا مثل الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا حيث شبهوا بالكلاب اللاهثة ، وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ بتعريضها للهلاك. قال البيضاوي : إما أن يكون داخلا فى الصلة ، معطوفا على الَّذِينَ كَذَّبُوا ، بمعنى : الذين(2/282)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 283
جمعوا بين تكذيب الآيات وظلم أنفسهم ، أو منقطعا عنها ، بمعنى : وما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم ، فإن وباله لا يتخطاها ولذلك قدّم المفعول. ه.
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ، هو تصريح بأن الهدى والضلال بيد اللّه تعالى ، وأنّ هداية اللّه يخص بها بعضا دون بعض ، وأنها مستلزمة للاهتداء ، والإفراد فى الأول والجمع فى الثاني لاعتبار اللفظ والمعنى ، تنبيها على أن المهتدين كواحد لاتحاد طريقهم ، بخلاف الضالين. والاقتصار فى الإخبار عمّن هداه اللّه بالمهتدي : تعظيم لشأن الاهتداء ، وتنبيه على أنه ، في نفسه ، كمال جسيم ، ونفع عظيم ، لو لم يحصل له غيره لكفاه ، وأنه المستلزم للفوز بالنعم الآجلة والعنوان لها. قاله البيضاوي.
الإشارة : فى الحديث : «أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه علمه» «1». والعلم النافع هو الذي تصحبه الخشية والمراقبة والتعظيم والإجلال ، ويوجب لصاحبه الزهد والسخاء والتواضع والانكسار ، وهو علم التوحيد الخاص ، الذي هو مشاهدة الحق. وقال الورتجبي فى قوله : آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها : ذكر أنه تعالى أعطاه آياته ، ولو أعطاه قرب مشاهدته ما انسلخ منه ، لأن من رآه أحبه ، ومن أحبه استأنس به واستوحش مما سواه ، فمن ذلك تبين أنه كان مستدرجا بوجدان آياته ، وتصديق ذلك ما أخبر سبحانه من ارتداده عن دينه ، واشتغاله بهواه وعداوة كليمه بقوله : فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ ، ولو ذاق طعم حبه لم يلتفت إلى غيره ، مكر به فى الأزل ، فكان مكره مستداما إلى الأبد ، فالكرامات الظاهرة عارضة للامتحان بين الأزل والأبد ، وعند الأصل القديم لا يعتبر العرض الطارئ. ه.
وقال فى الإحياء : إن بلعم أوتى كتاب اللّه تعالى فأخلد إلى الشهوات ، فشبه بالكلب ، أي : سواء أوتى الحكمة أو لم يؤتها فهو يلهث إلى الشهوات. ه. وفى ذكر قصته تحذير لعلماء هذه الأمة وصلحائها. وقال الشيخ أبو الحسن رضى اللّه عنه : من أخلدت نفسه إلى أرض الشهوات ، وغلبته عن النهوض إلى الطاعات ، فدواؤه فى حرفين ، أحدهما : أن يذكر منّة اللّه عليه بنعمة الإيمان والإسلام ، ويقيد هذه النعمة بالشكر ، لئلا تفلت من يده ، والثاني : أن يتوجه إلى اللّه بالتضرع والاضطرار ، آناء الليل والنهار ، وفى رمضان راجيا الإجابة ، قائلا : اللهم سلّم سلّم. فإن أهمل هاتين الخصلتين فالشقاوة لازمة له. ه. بالمعنى لطول العهد به. وباللّه التوفيق.
___________
(1) أخرجه البيهقي فى الشعب (باب فى نشر العلم - ح 1778) وزاد السيوطي فى الجامع الصغير (ح 105) عزوه لابن عدى فى الكامل والطبراني فى الصغير عن أبى هريرة ، وضعّفه.(2/283)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 284
ثم ذكر علامة أهل الضلالة والخسران ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : آية 179]
وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179)
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ ذَرَأْنا خلقنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ كتبنا عليهم الشقاء فى سابق الأزل ، فهم من قبضة أهل النار ، كما قال : «هؤلاء إلى الجنة ولا أبالى ، وهؤلاء إلى النار ولا أبالى» «1».
ثم ذكر علامتهم فقال : لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها المواعظ والتذكير للأكنة التي جعلت عليها ، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها دلائل وحدانيتنا وكمال قدرتنا ، فلا ينظرون بها نظر اعتبار ، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها الآيات والمواعظ ، سماع تأمل وتدبر ، أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ فى عدم التفقه والاستبصار ، أو فى أن هممهم ومشاعرهم متوجهة إلى أسباب التعيش ، مقصورة عليها ، فهممهم فى بطونهم وفروجهم ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ من الأنعام ، لأنها تطلب منافعها وتهرب من مضارها ، وهؤلاء يقدمون على النار معاندة ، وأيضا : الأنعام رفع عنها التكليف فلا تعذب ، بخلاف الكافر ، وأيضا : البهائم تقبل الرياضة والتأديب لما يراد بها ، والكافر عاص على الدوام ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ الكاملون فى الغفلة المنهمكون فيها.
الإشارة : النار على قسمين : حسية ومعنوية ، كما أن الجنة كذلك ، فالنار الحسية لتعذيب الأشباح ، والنار المعنوية لتعذيب الأرواح ، والجنة الحسية لنعيم الأشباح ، والمعنوية لنعيم الأرواح. النار الحسية معلومة. والنار المعنوية هى نار القطيعة وغم الحجاب ، وأهلها هم أهل الغفلة ، وهم كثير من الجن والإنس ، ليس لهم قلوب تجول فى معاني التوحيد ، وليس لهم أعين تنظر بعين الاعتبار ، وليس لهم آذان تسمع المواعظ والتذكار ، إن هم إلا كالأنعام ، غير أن اللّه تعالى تفضل عليهم برسم الإسلام. والجنة الحسية هى جنة الزخارف ، والجنة المعنوية هى جنة المعارف ، وأعدها اللّه لقلوب تجول فى الأنوار والأسرار ، ولأعين تنظر بعين الاعتبار والاستبصار ، حتى تشاهد أنوار الواحد القهار ، ولآذان تسمع المواعظ والتذكار ، وتعي ما تسمع من الحكم والأسرار ، وبالله التوفيق.
___________
(1) أخرج أحمد في المسند (5/ 239) عن معاذ بن جبل : أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تلا هذه الآية : أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، فقبض بيديه قبضتين فقال : «هذه فى الجنة ولا أبالى وهذه فى النار ولا أبالى».(2/284)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 285
ثم عرّف بذاته بتعريف أسمائه ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : آية 180]
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180)
يقول الحق جل جلاله : وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى تسعة وتسعين ، فَادْعُوهُ بِها أي : سموه بها. قال ابن جزى : أي : سموه بأسمائه ، وهذا إباحة لإطلاق الأسماء على اللّه سبحانه ، فأما ما ورد منها فى القرآن والحديث فيجوز إطلاقه على اللّه إجماعا ، وأما ما لم يرد ، وفيه مدح ولا تتعلق به شبهة ، فأجاز أبو بكر بن الطيب إطلاقه على اللّه ، ومنع ذلك أبو الحسن الأشعري وغيره ، ورأوا أن أسماء اللّه تعالى موقوفة على ما ورد فى القرآن والحديث. وقد ورد فى حديث الترمذي عدتها «1» ، أعني : تعيين التسعة والتسعين.
واختلف أهل الحديث : هل هى مرفوعة أو موقوفة على أبى هريرة؟ والذي فى الصحيح : «إنّ للّه تسعة وتسعين اسما ، مائة إلا واحدا ، من أحصاها دخل الجنّة» «2». وهل الإحصاء بالحفظ أو بالعلم أو بالتخلق أو بالتعلق أو بالتحقق؟ أقوال. قلت : كونها موقوفة بعيد جدا إذ ليس هذا مما يقال بالرأى.
وسبب نزول الآية : أن أبا جهل سمع بعض الصحابة يقرأ ، فيذكر اللّه مرة ، والرحمن أخرى ، فقال : يزعم محمد أن الإله واحد ، وها هو يعبد آلهة كثيرة ، فنزلت الآية مبيّنة أن تلك الأسماء الكثيرة هى لمسمى واحد ، و(الحسنى) :
مصدر وصف به ، أو تأنيث أحسن ، وحسن أسماء اللّه هي أنها صفة مدح وتعظيم وتحميد ، وقيل : الدعاء بها :
التوسل بكل واحد منها.
قال تعالى : وَذَرُوا أي : اتركوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ أي : يميلون فِي أَسْمائِهِ عن الكمال إما بتعطيلها ، أو إنكار شىء منها ، وإما بزيادة فيها ، مما يوهم نقصا أو فسادا.
قال القشيري : الإلحاد : هو الميل عن القصد ، وذلك على وجهين : بالزيادة والنقصان فأهل التمثيل زادوا فألحدوا ، وأهل التعطيل نقصوا فألحدوا. ه. قال البيضاوي : أي : اتركوا تسمية الزائغين فيها ، الذين يسمونه بما لا توقيف فيه ، إذ ربما يوهم معنى فاسدا ، كقولهم : يا أبا المكارم ، يا أبيض الوجه ، أو لا تبالوا بإنكارهم ما سمى به نفسه ، كقولهم : ما نعرف إلا رحمان اليمامة ، أو : وذروهم وإلحادهم فيها بإطلاقها على الأصنام ، واشتقاقها منه كاللات من اللّه ، والعزى من العزيز ، فلا توافقوهم عليه ، أو أعرضوا عنهم ولا تحاوروهم. ه.
___________
(1) أخرج حديث الأسماء الحسنى الترمذي فى (الدعوات باب 83) من حديث أبى هريرة رضى اللّه عنه. [.....]
(2) أخرجه البخاري فى (الدعوات - باب لله مائة اسم غير واحد) ومسلم فى (الذكر والدعاء - باب فى أسماء اللّه تعالى وفضل من أحصاها). من حديث أبى هريرة - رضى اللّه عنه - مرفوعا.(2/285)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 286
قال ابن جزي : قيل : معنى (ذروا) : اتركوهم فلا تجادلوهم ولا تتعرضوا لهم ، فالآية ، على هذا ، منسوخة بالقتال ، وقيل : معنى (ذروا) للوعيد والتهديد ، كقوله : ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ «1» ، وهو الأظهر. ه. قلت : وهو أليق بقوله بعده : سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الإلحاد وغيره.
الإشارة : قال القشيري بعد كلام : ويقال إن اللّه سبحانه وقف الخلق بأسمائه ، فهم يذكرونها قالة ، وتعزّز بذاته ، والعقول - وإن صفت - لا تهجم على حقائق الإشراف إذ الإدراك لا يجوز على الحق ، فالعقول عند بواده الحقائق متقنعة بنقاب الحيرة عن التعرض للإدراك ، وطلبه فى أحوال الرؤية. والحق سبحانه عزيز باستحقاق نعوت التعالي متفرّد. ه.
قلت : وأسماء اللّه الحسنى كلها تتجلى فى مظاهر الإنسان ، وتتوارد عليه انفرادا واجتماعا ، وقد تجتمع فى واحد ، إذا كان عارفا ، كلها ، بحيث يتخلق بها ، غير أن تجلياتها تختلف عليه ، تارة ملكا قدوسا ، وتارة رحمانيا رحيما ، وهكذا. وقد تقدم بيان كيفية التعلق والتخلق والتحقق بها ، فى شرحنا : الفاتحة الكبير ، واللّه تعالى أعلم.
ولمّا ذكر فيما تقدم خواص قوم سيدنا موسى ، ذكر هنا خواص هذه الأمة المحمدية ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : آية 181]
وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)
يقول الحق جل جلاله : وَمِمَّنْ خَلَقْنا أي : ومن جملة ما خلقنا : أُمَّةٌ : طائفة يَهْدُونَ الناس بِالْحَقِّ ويحملونهم عليه ، وَبِهِ يَعْدِلُونَ فى حكوماتهم وقضاياهم. روي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : «هذه الآية لكم ، وقد تقدم مثلها لقوم موسى» «2».
قال البيضاوي : ذكر ذلك بعد ما بيّن أنه خلق للنار طائفة ضالين ، ملحدين عن الحق ، للدلالة على أنه خلق أيضا للجنة أمة هادين بالحق ، عادلين فى الأمر ، واستدل به على صحة الإجماع ، لأن المراد منه أن فى كل قرن طائفة بهذه الصفة لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «لا تزال من أمّتى طائفة على الحقّ ، إلى أن يأتى أمر اللّه» «3» إذ لو اختص بعهد الرسول أو غيره لم يكن لذكره فائدة ، فإنه معلوم. ه.
الإشارة : هذه الأمة التي خلقها اللّه لهداية خلقه ، وهى الطائفة التي لا تزال على الحق ، وهى مؤلفة من العلماء الأنقياء على اختلاف أصنافهم وعلومهم ، ومن الأولياء العارفين ، فالعلماء يهدون إلى التمسك بالشرائع وإتقانها ، والأولياء العارفون يهدون إلى التحقق بالحقائق وأذواقها ، فالعلماء داعون إلى أحكام اللّه ، والعارفون داعون إلى
___________
(1) الآية 11 من سورة المزمل.
(2) أخرجه بنحوه الطبري فى التفسير (9/ 135).
(3) أخرجه البخاري فى (الاعتصام - باب قول النبي : لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق) ومسلم فى (الإمارة - باب قول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق) من حديث المغيرة.(2/286)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 287
معرفة ذات اللّه ، العلماء لإصلاح الظواهر ، والأولياء لإصلاح البواطن ، ولا يقوم هذا إلا بهذا ، فالظاهر من غير باطن فسق ، والباطن من غير ظاهر إلحاد ، وسيأتى عند قوله : فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ ... «1» الآية ، تمثيل منزلتهم عند اللّه. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر ضدهم ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 182 الى 183]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)
قلت : أصل الاستدراج : الاستصعاد ، أو الاستنزال درجة بعد درجة ، ومعناه : نسوقهم إلى الهلاك شيئا فشيئا.
يقول الحق جل جلاله : وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ، وألحدوا فى أسمائنا ، سَنَسْتَدْرِجُهُمْ أي : ندرجهم إلى الهلاك شيئا فشيئا ، مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ما نريد بهم ، وذلك أن تتواتر النعم عليهم ، فيظنوا أنها لطف من اللّه بهم ، فيزدادوا بطرا وانهماكا فى الغي ، حتى تحق عليهم كلمة العذاب. وَأُمْلِي لَهُمْ أي : وأمهلهم ، أي :
وأمدهم بالأموال والبنين والعدة والعدد ، حتى نأخذهم بغتة ، إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أي : أخذي شديد ، وإنما سماه كيدا لأن ظاهره إحسان وباطنه خذلان.
الإشارة : قال الشيخ زروق رضى اللّه عنه : الاستدراج : هو كمون المحنة في عين المنة ، وهو من درج الصبى إذا أخذ فى المشي شيئا بعد شىء ، ومنه : الدرج الذي يرتقى عليه إلى العلو ، كذلك المستدرج هو الذي تؤخذ منه النعمة شيئا بعد شىء وهو لا يشعر. قال تعالى : سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ. ه. فالاستدراج ليس خاصا بالكفار ، بل يكون فى المؤمنين خواصهم وعوامهم.
قال في الحكم : «خف من وجود إحسانه إليك ، ودوام إساءتك معه ، أن يكون ذلك استدراجا لك سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ». وقال سهل بن عبد اللّه رضى اللّه عنه : نمدهم بالنعم ، وننسيهم الشكر عليها ، فإذا ركنوا إلى النعمة وحجبوا عن المنعم : أخذوا.
وقال ابن عطاء رضى اللّه عنه : كلما أحدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة ، وأنسيناهم الاستغفار من تلك الخطيئة. وقال الشيخ ابن عباد رضى اللّه عنه : الخوف من الاستدراج بالنعم من صفة المؤمنين ، وعدم الخوف منه مع الدوام على الإساءة من صفة الكافرين. يقال : من أمارات الاستدراج : ركوب السيئة والاغترار بزمن المهلة ، وحمل تأخير العقوبة على استحقاق الوصلة ، وهذا من المكر الخفي. قال تعالى : سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ أي : لا يشعرون بذلك ،
___________
(1) من الآية 122 من سورة التوبة.(2/287)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 288
وهو أن يلقى فى أوهامهم أنهم على شيء ، وليسوا كذلك ، يستدرجهم فى ذلك شيئا فشيئا ، حتى يأخذهم بغتة ، كما قال تعالى : فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ إشارة إلى مخالفتهم وعصيانهم ، بعد ما رأوا من الشدة ، فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ أي : فتحنا عليهم أسباب العوافي وأبواب الرفاهية ، حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا من الحظوظ الدنيوية ، ولم يشكروا عليها برجوعهم منها إلينا ، أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً أي : فجأة ، فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ «1» آيسون قانطون من الرحمة. ه.
ثم ندبهم إلى التفكر ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 184 الى 186]
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
قلت : (و ما خلق) : عطف على (ملكوت) ، و(أن عسى) : مخففة ، و(أن يكون) : مصدرية ، أو عطف على (ملكوت) أيضا.
يقول الحق جل جلاله : أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فى أمر محمد صلّى اللّه عليه وسلّم حتى يتحققوا أنه ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ يعنى : نبينا محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم. روى أنه صلّى اللّه عليه وسلّم لما أمر بالإنذار صعد الصّفا ، فدعاهم ، فخذا فخذا ، يحذّرهم بأس اللّه تعالى ، فقال قائلهم : إن صاحبكم لمجنون ، بات يصوت إلى الصباح ، فنزلت «2».
إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي : بيّن الإنذار واضح أمره ، لا يخفى على ناظر. أَوَلَمْ يَنْظُرُوا «3» نظر استدلال فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي : فى عظمتهما وما اشتملتا عليه من العجائب ، وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ أي : وينظروا فيما خلق اللّه من شىء من الأجناس التي لا يمكن حصرها ، لتدلهم على كمال قدرة صانعها ووحدة مبدعها ، وعظم شأن مالكها ومتولى أمرها ، ليظهر لهم صحة ما يدعوهم إليه.
وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ أي : أو لم ينظروا أيضا فى اقتراب أجلهم وتوقع حلول الموت بهم ، فيسارعوا إلى طلب الحق ، والتوجه إلى ما ينجيهم من عذابه ، قبل مفاجأة الموت ونزول العذاب. فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ أي : بعد القرآن ، يُؤْمِنُونَ إن لم يؤمنوا به ، وهو النهاية فى البيان؟ كأنه إخبار عنهم بالطبع
___________
(1) الآية 44 من سورة الأنعام.
(2) أخرجه الطبري فى التفسير ، (9/ 136) بإسناد صحيح إلى قتادة.
(3) إلى هنا ينتهى السقط الموجود فى المخطوطة الأصلية.(2/288)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 289
على القلوب والتصميم على الكفر ، بعد إلزام الحجة والإرشاد إلى النظر ، وقيل : هو متعلق بقوله : وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ كأنه قيل : لعل أجلهم قد اقترب ، فما لهم لا يبادرون بالإيمان بالقرآن ، وما ذا ينتظرون بعد وضوحه؟ وإن لم يؤمنوا به فبأى حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا به؟! .. قاله البيضاوي.
ثم بيّن أن أمرهم بيده ، فقال : مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ أصلا ، ولا يقدر أحد عليه ، وَنَذَرُهُمْ «1» فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ : يتحيرون. ومن قرأ بالياء فمناسب لقوله : (من يضلل) ، ومن جزمه فعطف على محل : (فلا هادى له) لأنه جواب الشرط.
الإشارة : قد أرشد الحق - تعالى - عباده إلى التفكر والاعتبار ، وقد تقدم الكلام عليه في «آل عمران» ، وقد علّم هنا أهل الاستدلال كيفيته وهو أن ينظر الإنسان فى أمر الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، وما ظهر على يديه من المعجزات وخوارق العادات ، وأعظمها القرآن العظيم ، ثم ما أتى به من العلوم اللدنية والأسرار الربانية ، وما نطق به من الحكم العجيبة ، وما أخبر به من قصص الأمم الدارسة والشرائع المتقدمة ، مع كونه أميا لم يقرأ ولم يكتب ، ولم يجالس أحدا ممن له خبرة بذلك ، فتطلع عليه شمس المعرفة به حتى لا يخالطه وهم ، ولا يخطر بساحته خاطر سوء ، ثم يتفكر فى عجائب ملكوت السموات والأرض ، وما اشتملتا عليه من ضروب المصنوعات ، وعجائب المخلوقات ، فيتحقق بوجود الصانع القادر على كل شيء ، هذا إن لم يجد شيخا يخرجه من سجن الدليل ، وإن وجده استغنى عن هذا بإشراق شمس العرفان ، والخروج إلى فضاء الشهود والعيان.
ثم ذكر أمر الساعة ، التي خوّفهم بها بقوله : وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : آية 187]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187)
قلت : إنما سميت القيامة ساعة : لسرعة حسابها ، أو وقوعها ، لقوله : وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ.
___________
(1) قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وابو جعفر (نذرهم) بنون العظمة ورفع الراء على الاستئناف ، وقرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب بالياء على الغيبة ورفع الراء ، وقرأ حمزة والكسائي بالياء وجزم الراء عطفا على محل قوله تعالى فَلا هادِيَ لَهُ راجع الإتحاف (2/ 70).(2/289)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 290
يقول الحق جل جلاله : يَسْئَلُونَكَ أي : قريش ، عَنِ السَّاعَةِ أي : قيام الناس من قبورهم للحساب ، أَيَّانَ مُرْساها أي : متى إرساؤها ، أي : ثبوتها ووقوعها؟ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي استأثر بعلمها ، لم يطلع عليها ملكا مقربا ، ولا نبيا مرسلا ، لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها أي : لا يظهرها عند وقت وقوعها ، إِلَّا هُوَ ، والمعنى أن إخفاءها يستمر إلى وقت وقوعها ، ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عظمت على أهلها من الملائكة والثقلين لهولها ، وكأنه إشارة إلى الحكمة فى إخفائها. أو ثقلت على السموات والأرض أنفسهما لتبدلهما وتغير حالهما ، لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً : فجأة على غفلة ، كما قال صلّى اللّه عليه وسلّم : «إنّ الساعة تهيج بالنّاس ، والرّجل يصلح حوضه ، والرّجل يسقى ما شيته ، والرّجل يقوّم سلعته فى سوقه ، والرّجل يخفض ميزانه ويرفعه». «1». والمراد :
النفخ فى الصور للصعق ، لأن الساعة مرتّبة عليه وقريبة منه.
يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها أي : عالم بها ، من حفى على الشيء : إذا سأل عنه ، فإنّ من بالغ في السؤال عن الشيء ، والبحث عنه ، استحكم علمه فيه ، أي : يسألونك عن وقت قيامها ، كأنك بليغ فى السؤال عنها فعلمتها ، وليس كما يزعمون ، وأما قوله : فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها «2» : فقيل : معناه : التعجب عن كثرة اهتمامه بالسؤال ، أي : فى أي شغل أنت من ذكراها والسؤال عنها؟ ولا يعارض ما هنا لأنه استغنى عن ذلك بتلك الآية ، وبعدها نزلت هذه ، واللّه أعلم.
وقيل : «عنها» : يتعلق ب (يسألونك) ، أي : يسألونك عنها كأنك حفى بهم ، أي : شفيق بهم ، قيل : إن قريشا قالوا :
إنّ بيننا وبينك قرابة ، فقل لنا : متى الساعة؟ فقال له الحق تعالى : قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ لا يعلمها غيره ، وكرره لتكرر «يسألونك». وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أن علمها عند اللّه لم يؤته أحدا من خلقه.
الإشارة : إذا أشرق نور اليقين فى القلب صارت الأمور المستقبلة حاصلة ، والغائبة حاضرة ، والآجلة عاجلة ، فأهل اليقين الكبير قدّموا ما كان آتيا ، فحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا ، ووزنوا أعمالهم قبل أن توزن عليهم ، وجازوا الصراط بسلوكهم المنهاج المستقيم ، ودخلوا جنة المعارف قبل حصول جنة الزخارف ، فالموت فى حقهم إنما هو انتقال من حال إلى حال ، ومن مقام إلى مقام ، ومن دار الغرور إلى دار الهناء والسرور. وفي الحكم : «لو أشرق لك نور اليقين فى قلبك ، لرأيت الاخرة أقرب إليك من أن ترحل إليها ، ولرأيت محاسن الدنيا قد ظهرت كسفة الفناء عليها».
___________
(1) أخرجه بهذا اللفظ ابن جرير فى التفسير ، (9/ 104) من حديث قتادة ، وفى البخاري ، عن أبى هريرة رفعه : «لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه». أخرجه البخاري فى (الرقاق - باب 4) وبنحوه مسلم فى (الفتن - باب قرب الساعة).
(2) الآية 43 من سورة النازعات.(2/290)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 291
قال الشيخ ابن عباد رضى اللّه عنه : نور اليقين تتراءى به حقائق الأمور على ما هى عليه ، فيحق به الحق ، ويبطل به الباطل ، والآخرة حق ، والدنيا باطل ، فإذا أشرق نور اليقين فى قلب العبد أبصر به الآخرة التي كانت غائبة عنه حاضرة لديه ، حتى كأنها لم تزل ، فكانت أقرب إليه من أن يرتحل إليها ، فحق بذلك حقها عنده ، وأبصر الدنيا الحاضرة لديه ، قد انكسف نورها وأسرع إليها الفناء والذهاب ، فغابت عن نظره بعد أن كانت حاضرة ، فظهر له بطلانها ، حتى كأنها لم تكن ، فيوجب له هذا النظر اليقيني الزهادة فى الدنيا والتجافي عن زهرتها ، والإقبال على الآخرة ، والتهيؤ لنزول حضرتها ، ووجدان العبد لهذا هو علامة انشراح صدره بذلك النور. كما قال النبي - صلى اللّه عليه وسلم - : «إنّ النور إذا دخل القلب انشرح له الصّدر وانفسح ، قيل يا رسول اللّه : هل لذلك من علامة يعرف بها؟ قال : نعم. التّجافى عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والاستعداد للموت قبل نزوله» «1». أو كما قال - صلى اللّه عليه وسلم - .
وعند ذلك تموت شهواته وتذهب دواعى نفسه ، فلا تأمره بسوء ، ولا تطالبه بارتكاب منهي ، ولا تكون له همة إلا المسارعة إلى الخيرات ، والمبادرة لاغتنام الساعات والأوقات ، وذلك لاستشعاره حلول الأجل ، وفوات صالح العمل ، وإلى هذا الإشارة بحديثي حارثة ومعاذ - رضى اللّه عنهما - . روى أنس بن مالك رضى اللّه عنه قال : بينما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يمشى إذ استقبله شاب من الأنصار ، فقال له النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : «كيف أصبحت يا حارثة؟ قال : أصبحت مؤمنا بالله حقا ، قال : انظر ما تقول ، فإن لكلّ قول حقيقة؟ فقال : يا رسول اللّه عزفت نفسى عن الدنيا فأسهرت ليلى وأظمأت نهارى ، وكأنى بعرش ربى بارزا ، وكأنى أنظر إلى أهل الجنّة يتزاورون فيها ، وكأنى أنظر إلى أهل النار يتعاوون فيها ، فقال : أبصرت فالزم ، عبد نور اللّه الإيمان فى قلبه ..» إلى آخر الحديث «2».
وروى أنس رضى اللّه عنه أيضا : أن معاذ بن جبل دخل على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهو يبكى ، فقال له : كيف أصبحت يا معاذ؟
فقال : أصبحت بالله مؤمنا ، قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : «إنّ لكل قول مصداقا ، ولكل حق حقيقة ، فما مصداق ما تقول؟» فقال :
يا نبىّ اللّه ، ما أصبحت صباحا قط إلا ظننت أنى لا أمسى ، ولا أمسيت قط إلا ظننت أنى لا أصبح ، ولا خطوت خطوة قط إلا ظننت أنى لا أتبعها أخرى ، وكأنى أنظر إلى كل أمة جاثية تدعى إلى كتابها ، معها نبيها وأوثانها التي كانت تعبد من دون اللّه ، وكأنى أنظر إلى عقوبة أهل النّار وثواب أهل الجنة. قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «عرفت فالزم». انظر بقية كلامه رضى اللّه عنه.
___________
(1) أخرجه البيهقي فى شعب الإيمان (7/ 362).
(2) سبق تخريج الحديث عند تفسير الآية 126 من سورة الأنعام.(2/291)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 292
ثم أمر نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم بالاعتراف بالتقصير عن علم الغيب ، الذي اختص اللّه به كعلم الساعة وغيرها ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : آية 188]
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
قلت : «وما مسنى السوء» : عطف على «استكثرت» ، أي : لو علمت الغيب لاستكثرت الخير واحترست من السوء ، أو استئناف ، فيوقف على ما قبله ، ويراد حينئذ بالسوء : الجنون ، والأول أحسن لاتصاله بما قبله ، و(لقوم) : يجوز أن يتعلق ببشير ونذير ، أي : أبشر المؤمنين وأنذرهم ، وخصهم بالبشارة والنذارة لانتفاعهم بهما ، ويجوز أن يتعلق بالبشارة وحدها ، فيوقف على (نذير) ، ويكون المتعلق بنذير محذوف ، أي : نذير للكافرين ، والأول أحسن. قاله ابن جزى.
يقول الحق جل جلاله : قُلْ لهم يا محمد : أنا لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا أي : لا أجلب لها نفعا ولا أدفع عنها ضررا ، إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ من ذلك ، فيعلمنى به ، ويوقفنى عليه ، وهو إظهار للعبودية والتبري من ادعاء العلم بالغيوب ، وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ أي : لو كنت أعلم ما يستقبلنى من الأمور المغيبة كشدائد الزمان وأهواله ، لاستعددت له قبل نزوله باستكثار الخير والاحتراس من الشر ، حتى لا يمسنى سوء ، إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ أي : ما أنا إلا عبد مرسل بالإنذار والبشارة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فإنهم المنتفعون بهما ، أو نذير لمن خالفنى بالعذاب الأليم ، وبشير لمن تبعني بالنعيم المقيم.
الإشارة : العبودية محل الجهل وسائر النقائص ، والربوبية محل العلم وسائر الكمالات ، فمن آداب العبد أن يعرف قدره ، ولا يتعدى طوره ، فإن ورد عليه شيء من الكمالات فهو وارد من اللّه عليه ، وإن ورد عليه شىء من النقائص فهو أصله ومحله ، فلا يستوحش منه ، وكان شيخنا يقول : إن علمنا فمن ربنا ، وإن جهلنا فمن أصلنا وفصلنا. أو كلام هذا معناه ، فالاستشراف إلى الاطلاع على علم الغيوب من أكبر الفضول ، وموجب للمقت من علام الغيوب. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر أصل النشأة ، ليدل على نقص العبد وجهله ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 189 الى 190]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)(2/292)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 293
يقول الحق جل جلاله : هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ آدم عليه السّلام ، وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها أي : خلق من ضلعها زوجها حواء ، سلها منه وهو نائم ، لِيَسْكُنَ إِلَيْها ليستأنس بها ، ويطمئن بها اطمئنان الشيء إلى جزئه أو جنسه.
فَلَمَّا تَغَشَّاها أي : جامعها حين ركبت فيه الشهوة ، حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً أي : خف عليها ، ولم تلق منه ما تلقى بعض الحبالى من حملهن من الأذى والكرب ، أو حملا خفيفا ، يعنى النطفة قبل تصورها ، فَمَرَّتْ بِهِ أي : ذهبت وجاءت به ، مخففة ، واستمرت إلى حين ميلاده ، فَلَمَّا أَثْقَلَتْ أي : ثقل حملها وصارت به ثقيلة لكبره فى بطنها ، دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما آدم وحواء ، قائلين : لَئِنْ آتَيْتَنا ولدا صالِحاً أي : سويا سالما فى بدنه ، تام الخلقة ، لَنَكُونَنَّ لك مِنَ الشَّاكِرِينَ على هذه النعمة المجددة.
فَلَمَّا آتاهُما ولدا صالِحاً كما سألا ، جعل أولادهما لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما ، فسموا عبد العزى وعبد مناف وعبد الدار. فالآية إخبار بالغيب فى أحوال بنى آدم ممن كفر منهم وأشرك ، ولا يصح فى آدم وحواء هذا الشرك لعصمة الأنبياء ، وهذا هو الصحيح. وقد يعاتب الملك الأب على ما فعل أولاده ، كما إذا خرجوا عن طاعته فيقول له : أولادك فعلوا وفعلوا ، على عادة الملوك.
وقيل : لما حملت حواء أتاها إبليس فى صورة الرجل ، فقال لها : وما يدريك ما فى بطنك لعله بهيمة أو كلب ، وما يدريك من أين يخرج؟ فخافت من ذلك ، ثم قال لها : إن أطعتينى ، وسميته عبد الحارث ، فسأخلصه لك ، وكان اسم إبليس فى الملائكة : الحارث ، وإن عصيتنى قتلته ، فأخبرت بذلك آدم ، فقال لها : إنه عدونا الذي أخرجنا من الجنة ، فلما ولدت مات الولد ، ثم حملت مرة أخرى ، فقال لها إبليس مثل ذلك ، فعصته ، فلما ولدت مات الولد ، ثم حملت مرة ثالثة ، فسمياه عبد الحارث طمعا فى حياته «1» ، فقوله : جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما أي : فى التسمية لا غير ، لا فى عبادة غير اللّه.
والقول الأول أصح ، لثلاثة أوجه : أحدها : أنه يقتضى براءة آدم وحواء من الشرك ، قليله وكثيره ، وذلك هو حال الأنبياء - عليهم السلام - . والثاني : أنّ جمع الضمير فى قوله : فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ، يقتضى أن الشرك وقع من أولادهما ، لا منهما. الثالث : أن هذه القصة تفتقر إلى نقل صحيح ، وهو غير موجود. انظر : ابن جزى.
الإشارة : قال الورتجبي : فى قوله لِيَسْكُنَ إِلَيْها : لم يجد آدم عليه السّلام فى الجنة إلاسنا تجلى الحق ، فكاد أن يضمحل بنور التجلي ، لتراكمه عليه ، فعلم اللّه - سبحانه - أنه لا يتحمل أثقال التجلي ، وعرف أنه يذوب فى نور
___________
(1) هذه القصة يظهر عليها أنها من آثار أهل الكتاب ، وقد أعلّها أهل الحديث ، رغم ورودها فى كتب الحديث وغيرها. راجع تفسير :
ابن كثير (2/ 275) ، والإسرائيليات والموضوعات للشيخ أبى شهبة (179). والآية تتحدث عن (نمط) فى السلوك البشرى ، وترسم نموذجا لأى زوجين بشريين يريدان الإنجاب من اللّه - بإلحاح ، وعند ما يعطيهما اللّه تعالى ما سألاه ، ينسبان ذلك لغير اللّه تعالى. [.....](2/293)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 294
حسنه ، وكل ما فى الجنة مستغرق فى ذلك النور ، فيزيد عليه ضوء الجبروت والملكوت ، فخلق منه حواء ليسكن آدم إليها ، ويستوحش بها سويعات من سطوات التجلي ، ولذلك قال صلّى اللّه عليه وسلّم لعائشة - رضي اللّه عنها - : «كلمينى يا حميراء». ثم قال : وقال بعضهم : خلقها ليسكن آدم إليها ، فلما سكن إليها غفل عن مخاطبة الحقيقة ، بسكونه إليها ، فوقع فيما وقع من تناول الشجرة. ه. فكل من سكن إلى غير اللّه تعالى كان سكونه بلاء فى حقه ، يخرجه من جنة معارفه. واللّه تعالى أعلم.
ثم ردّ على من أشرك من بنى آدم ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 191 الى 195]
أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195)
يقول الحق جل جلاله : أَيُشْرِكُونَ مع اللّه أصناما جامدة ، لا يخلقون شيئا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ، فهي مخلوقة غير خالقة. واللّه تعالى خالق غير مخلوق ، وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً أي : لا يقدرون أن ينصروا من عبدهم ، وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ فيدفعون عنها ما يعتريها ، فهي في غاية العجز والذلة ، فكيف تكون آلهة؟
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ أي : وإن تدعو الأصنام إلى الهدى لا تجيبكم ، فلا تهتدى إلى ما دعيت إليه لأنها جمادات ، أو : وإن تدعوهم إلى أن يهدوكم إلى الحق لا تجيبكم ، سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ عن دعائهم ، فالدعاء في حقهم وعدمه سواء ، وإنما لم يقل : أم صمتم ليفيد الاستمرار على عدم إجابتهم لأن الجملة الاسمية تقتضي الاستمرار.
ثم قال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي : تعبدونهم وتسمونهم آلهة من دون اللّه ، هم عِبادٌ أَمْثالُكُمْ من حيث إنها مسخرة مملوكة ، فكيف يعبد العبد مع ربه ، فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فى أنها تستحق أن تعبد ، والأمر للتعجيز لأن الأصنام لا تقدر أن تجيب فلا تستحق أن تعبد ثم عاد عليهم بالنقض فقال : أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها ، ومعناه : أن الأصنام جمادات عادمة للحس والجوارح والحياة ، ومن كان كذلك لا يكون(2/294)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 295 إلها ، فإنّ من وصف الإله الإدراك والحياة والقدرة. وإنما جاء هذا البرهان بلفظ الاستفهام لأن المشركين مقرون أن أصنامهم لا تمشي ، ولا تبطش ، ولا تبصر ، ولا تسمع ، فلزمتهم الحجة ، والهمزة في قوله : أَلَهُمْ : للاستفهام مع التوبيخ ، و(أم) ، فى المواضع الثلاثة : تضمنت معنى الهمزة ومعنى بل ، وليست عاطفة. قاله ابن جزى. قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ استعينوا بهم فى عداوتي ، ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ أي : لا تؤخرون ، فإنكم وأصنامكم لا تقدرون على مضرتى وكيدى ، ومفهوم الآية : الرد عليهم ببيان عجز أصنامهم وعدم قدرتها على المضرة.
الإشارة : كل ما سوى اللّه قد عمه العجز والتقصير ، فليس بيده نفع ولا ضر ، وفى الحديث : «لو اجتمع الإنس والجنّ على أن ينفعوك بشىء لم ينفعوك إلّا بشيء قد كتبه اللّه لك ، ولو اجتمعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضرّوك إلّا بشيء قدّره اللّه عليك». أو كما قال صلّى اللّه عليه وسلّم ، فالخلق كلهم فى قبضة القهر ، مصروفون بقدرة الواحد القهار ، ليس لهم أرجل يمشون بها ، ولا أيد يبطشون بها ، ولا أعين يبصرون بها ، ولا آذان يسمعون بها ، وإنما هم مجبورون فى قوالب المختارين ، فلا تركن إليهم أيها العبد فى شىء ، إذ ليس بيدهم شىء ، ولا تخف منهم فى شيء ، إذ لا يقدرون على شيء. قال ابن جزى : وفيها - أي : فى الآية - إشارة إلى التوكل على اللّه والاعتصام به وحده ، وأن غيره لا يقدر على شىء.
ثم أفصح بذلك ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : آية 196]
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)
يقول الحق جل جلاله : قل لهم أيضا يا محمد : إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ أي : هو ناصري وحافظي منكم ، فلا تضرونني ولو حرصتم أنتم وآلهتكم ، الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ أي : القرآن ، وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ أي : ومن عادته تعالى أن يتولى الصالحين من عباده فضلا عن أنبيائه ، فلا أخافكم بعد أن تولى حفظي منكم.
الإشارة : قال القشيري : من قام بحقّ اللّه تولّي أموره على وجه الكفاية ، فلا يحوجه إلى أمثاله ، ولا يدع شيئا من أحواله إلا أجراه على ما يريد بحسن إفضاله ، فإن لم يفعل ما يريده جعل العبد راضيا بما يفعله ، فروح الرضا على الأسرار أتمّ من راحة العطاء على القلوب. ه.
ثم قال تعالى :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 197 الى 198]
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198)(2/295)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 296
يقول الحق جل جلاله ، فى إتمام الرد على المشركين : وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي : تعبدونها من دونه ، لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ، فلا تبال بهم أيها الرسول ، وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا ، يحتمل أن يريد الأصنام ، فيكون تحقيرا لها ، وردا على من عبدها فإنها جماد موات لا تسمع شيئا ، أو يريد الكفار ، ووصفهم بأنهم لا يسمعون ، يعنى : سمعا ينتفعون به ، لإفراط نفورهم ، أو لأن اللّه طبع على قلوبهم ، وَتَراهُمْ أي : الأصنام ، يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ لأنهم مصورون بصورة من ينظر ، فقوله :
وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ : مجاز ، وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ حقيقة ، لأن لهم صورة الأعين ، وهم لا يرون بها شيئا ، هذا إن جعلناه وصفا للأصنام ، وإن كان وصفا للكفار فقوله : وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ حقيقة ، وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ مجاز ، لأن الإبصار وقع منهم فى الحس ، لكن لمّا لم ينفعهم لعمى قلوبهم ، نفاه عنهم كأنه لم يكن.
قال المحشي : شاهدوا بأبصار رؤوسهم ، لكنهم حجبوا عن الرؤية ببصائر أسرارهم وقلوبهم ، فلم يعتد برؤيتهم. ه.
الإشارة : فى الآية تحويش للعبد إلى الاعتماد على اللّه واستنصاره به فى جميع أموره ، فلا يركن إلى شىء سواه ، ولا يخاف إلا من مولاه ، إذ لا شيء مع اللّه.
وقوله تعالى : وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ ... الآية. قال المحشى : يقال : رؤية الأكابر ليست بشهود أشخاصهم ، لكن لما يحصل للقلوب من مكاشفة الغيوب ، وذلك على مقدار الاحترام وحضور الإيمان. ه.
يعني : أن النظر إلى الأكابر ، من العارفين بالله ، ليست مقصودة لرؤية أشخاصهم ، وإنما هى مقصودة لفيضان أمدادهم ، وذلك على قدر التعظيم والاحترام ، وصدق المحبة والاحتشام ، فكل واحد من الناظرين إليهم يغرف على قدر محبته وتعظيمه. روى أن بعض الملوك زار قبر أبى يزيد البسطامي ، فقال : هل هنا أحد ممن أدرك الشيخ أبا يزيد البسطامي؟ فأتى بشيخ كبير ، فقال : أنا أدركته ، فقال : ما سمعته يقول؟ فقال : سمعته يقول : (من رآنى لا تأكله النار). فقال الملك : هذا لم يكن للنبى - عليه الصلاة والسلام - فقد رآه كثير من الكفار فدخلوا النار ، فكيف يكون لغيره؟ فقال له الشيخ : يا هذا ، الكفار لم يروه صلّى اللّه عليه وسلّم على أنه رسول اللّه ، وإنما رأوه على أنه محمد بن عبد اللّه ، فسكت. واللّه تعالى أعلم.
ثم أمر نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم بمكارم الأخلاق ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 199 الى 200]
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)(2/296)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 297
يقول الحق جل جلاله لنبيه صلّى اللّه عليه وسلم : خُذِ الْعَفْوَ أي : اليسر من أخلاق الناس ولا تبحث عنها ، أو : خذ من الناس ، فى أخلاقهم وأموالهم ومعاشرتهم ، ما سهل وتيسر مما لا يشق عليهم لئلا ينفروا. فهو كقول الشاعر :
خذ العفو منّى تستديمي مودّتى «1» ....
أو : خذ فى الصدقات ما سهل على الناس من أموالهم وهو الوسط ، ولا تأخذ كرائم أموالهم مما يشق عليهم ، أو تمسك بالعفو عمن ظلمك ولا تعاقبه ، وهذا أوفق لتفسير جبريل الآتي ، وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أي : المعروف ، وهو أفعال الخير ، أو العرف الجاري بين الناس. واحتج المالكية بذلك على الحكم بالعرف الذي يجرى بين الناس.
وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ أي : لا تكافئ السفهاء على قولهم أو فعلهم ، واحلم عليهم. ولمّا نزلت سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم جبريل عنها ، فقال : «لا أدرى حتّى أسأل ، فعرج ، ثم رجع فقال : يا محمد ، إنّ اللّه يأمرك أن تصل من قطعك ، وتعطى من حرمك ، وتعفو عمّن ظلمك» «2». وعن جعفر الصادق : (أمر اللّه نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم فيها بمكارم الأخلاق) ، وهى على هذا ثابتة الحكم ، وهو الصحيح. وقيل : كانت مداراة للكفار ، ثم نسخت بالقتال.
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ ينخسنك منه نخس ، أي : وسوسة تحملك على خلاف ما أمرت به كاعتراء غضب ، ومقابلة سفيه ، فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ والتجئ إليه إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يسمع استعاذتك ، ويعلم ما فيه صلاح أمرك ، فالاستعاذة عند تحريك النفس مشروعة ، وفى الحديث : أن رجلا اشتد غضبه ، فقال صلّى اللّه عليه وسلّم : «إنّى لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما به أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم» «3».
الإشارة : كل ما أمر به الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم تؤمر به أمته ، وخصوصا ورثته من الصوفية ، فهم مطالبون بالتخلق بأخلاقه صلّى اللّه عليه وسلّم أكثر من غيرهم ، لأن غيرهم لم يبلغ درجتهم. وقال الورتجبي : خُذِ الْعَفْوَ : أي : فاعف عنهم من قلة عرفانهم حقك ، وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أي : تلطف عليهم فى أمرك ونهيك لهم ، فإنهم ضعفاء عن حمل وارد أحكام شرائعك وحقائقك ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ الذين ليس لهم استعداد النظر إليك ، ولا يعرفون حقوقك ، فإنّ منكر معجزات أنبيائى وكرامات أوليائى لا يبلغ إلى درجة القوم. قال بعض المشايخ - حين ذكر أهل الظاهر - : دع هؤلاء الثقلاء. ه. فوصف علماء الظاهر بالثقلاء لثقل ظهورهم بعلم الرسوم ، فلم ينهضوا إلى حقائق العلوم ودقائق الفهوم ، وفى تائية ابن الفارض :
___________
(1) هذا شطر بيت تمامه : (و لا تنطقى فى سورتى حين أغضب) وهو لحاتم ، راجع : تفسير أبى حيان (4/ 444).
(2) أخرجه الطبري فى التفسير (9/ 155) عن سفيان بن عيينه عن أبى المرادي ، وقال الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف : (هذا منقطع ، وأخرجه ابن مردويه موصولا من حديث جابر وحديث قيس بن سعد). انظر تفسير البغوي (3/ 316) مع حاشية المحقق.
(3) أخرجه بنحوه البخاري فى (بدء الخلق - باب صفه إبليس وجنوده) ومسلم فى (البر - باب فضل من يملك نفسه عند الغضب) من حديث سليمان بن صرد.(2/297)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 298
وجز مثقلا لو خف طفّ موكّلا بمنقول أحكام ومعقول حكمة
قال شارحه : أمره بالمجاوزة عن المثقلين بأثقال العلوم الظاهرة ، من الفقهاء ، والمتكلمين بأحكام المنقولات ، والفلاسفة الموكلين بالمعقولات والحكمة ، ووصف مثقلا بأنه : لو خف طفا ، أي : لأنه لو كان خفيفا بوضع الأثقال عنه كان طفيفا ، لا يرى لنفسه قدرا ، واللازم منتف فالملزوم مثله ه.
ثم إن البشر لا بد أن تعتريه أحكام البشرية ، كالغضب وشبهه ، كما بيّنه الحق تعالى بقوله :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 201 الى 202]
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202)
قلت : الطيف - بسكون الياء - : مصدر طاف به الخيال يطيف طيفا ، أو مخفف من طيّف كهين ولين وميت.
ومن قرأ (طائف) : فاسم فاعل ، والمراد به : لمّة الشيطان ووسوسته. وحذف مفعول (تذكروا) للعموم على ما يأتى فى المعنى. وقوله : (فإذا هم مبصرون) : أتى بإذا الفجائية ليقتضى سرعة تيقظهم ، وبالجملة الاسمية ولم يقل :
تذكروا فأبصروا ليفيد أنهم كانوا على البصري ، وإنما السّنة طرقتهم ثم رجعوا عنها.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك والمعاصي ، إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ أي :
لمّة منه ، كما فى الحديث : «إنّ للشّيطان لمّة وللملك لمّة ...» «1» إلخ ، فإذا أخذتهم تلك السنة وغفلوا تَذَكَّرُوا عقاب اللّه وغضبه ، أو ثواب اللّه وإنعامه ، أو مراقبته والحياء منه ، أو مننه وإحسانه ، أو طرده وإبعاده ، أو حجبه وإهماله ، أو عداوة الشيطان وإغواءه ، كلّ على قدر مقامه ، فلما تذكروا ذلك فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ بسبب ذلك التذكر ، أي : فإذا هم على بصيرة من ربهم التي كانوا عليها قبل المس ، أو : فإذا هم مبصرون مواقع الخطأ ومكائد الشيطان فيحترزون منها ، ولا يعودون إليها بخلاف المنهمكين فى الغفلة ، كما قال تعالى : وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ أي : وإخوان الشياطين ، الذين لم يتقوا ، يمدونهم ، أي : ينصرونهم ، ويكونون مددا لهم فى الضلال والغي بالتزيين والحمل عليه ، ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ لا يمسكون عن إغوائهم حتى يوردوهم النار ، أو : لا يقصر الكفار عن غيهم وضلالهم حتى يهلكوا.
الإشارة : البصيرة حارسة للقلب ، الذي هو بيت الرب ، فإذا نامت طرقها الشيطان ، فإن كان نومها خفيفا أحست به وطردته ، وهذه بصيرة المتقين ، الذين ذكرهم اللّه تعالى بقوله : إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا ، وإذا كان نومها ثقيلا سرق الشيطان ما فيها ، ولم تفطن به ، وهذه بصيرة الغافلين ، الذين هم إخوان الشياطين.
___________
(1) أخرجه الترمذي فى (تفسير سورة البقرة ، آية : الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ....) من حديث عبد اللّه بن مسعود. والمراد باللمّة :
النزول والقرب ، والمراد بها : ما يقع فى القلب بواسطة الشيطان أو الملك. فأما كان من خطرات الخير فهو من الملك ، وما كان من خطرات الشر فهو من الشيطان. راجع : النهاية (لمم 4/ 273).(2/298)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 299
قال القشيري : إنما يمس المتقين طيف الشيطان فى ساعات غفلتهم عن ذكر الله ، ولو أنهم استداموا ذكر الله بقلوبهم لما مسّهم طائف الشيطان ، فإن الشيطان لا يقرب قلبا فى حال شهوده الله لأنه يخنس عند ذلك ، ولكل عازم فترة ، ولكلّ عالم هفوة ، ولكل عابد شدة ، ولكل قاصد فترة ، ولكل سائر وقفة ، ولكل عارف حجبة. قال - عليه الصلاة والسلام - : «الحدّة تعترى خيار أمتى» «1». فأخبر بأن خيار الأمة ، وإن جلت رتبتهم ، لا يتخلصون عن حدة تعتريهم في بعض أحوالهم ، فتخرجهم عن دوام الحلم. ه. وكأنه يشير إلى أن طائف الشيطان يمس الواصلين والسائرين ، وهو كذلك بدليل أول الآية فى قوله : وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ ... الآية ، ومسه للسائر أو الواصل زيادة به ، وترقية له ، وتحويش له إلى ربه ، واللّه تعالى أعلم.
ثم ردّ اللّه على من طلب الآيات ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : آية 203]
وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
يقول الحق جل جلاله : وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ أي : الكفار ، بِآيَةٍ بمعجزة مما اقترحوا ، أو من القرآن حين يتأخر الوحى ، قالُوا لَوْ لا هلا اجْتَبَيْتَها أي : تخيرتها وطلبتها من ربك ، أو هلا اخترعتها وتقولتها من نفسك كسائر ما تقرأ؟ قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي فلا أطلب منه آية ، فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ «2» ، أو : لا أخترع القرآن من عند نفسى ، بل أتبع ما يوحى إلىّ من ربي.
هذا القرآن بَصائِرُ للقلوب مِنْ رَبِّكُمْ ، أي : من عند ربكم ، بها تبصر الحق وتدرك الصواب ، وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وإرشاد أو طمأنينة لقلوب المؤمنين.
الإشارة : قد تقدم مرارا ما فى طلب الآيات من ضعف اليقين ، وعدم الصدق بطريق المقربين ، وإنما على الأولياء أن يقولوا : هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بطريق المخصوصين. وبالله التوفيق.
ثم أمر بالإنصات للقرآن ، الذي هو أعظم الآيات ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : آية 204]
وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)
يقول الحق جل جلاله : وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ ، مطلقا ، فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لكى تعتبروا وتتدبروا ، فإنما نزل لذلك ، وهل على الوجوب أو الاستحباب - وهو الراجح؟ قولان ، وقيل : الاستماع المأمور به
___________
(1) أخرجه الطبراني فى الكبير (11/ 64) عن ابن عباس رضى اللّه عنه ، وضعفه السيوطي فى الجامع الصغير (ح 3808).
(2) من الآية 29 من سورة الكهف.(2/299)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 300
لقراءة الإمام فى الصلاة ، وقيل : فى الخطبة ، والأول الراجح ، لوجهين : أحدهما : عموم اللفظ ، ولا دليل على تخصيصه ، والثاني : أن الآية مكيّة ، والخطبة إنما شرعت بالمدينة. وقوله تعالى : لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي : بسبب ما تكتسبه القلوب من الرقة والخشية عند استماع القرآن ، قال بعضهم : الرحمة أقرب شىء إلى مستمع القرآن لهذه الآية. قاله ابن جزى.
الإشارة : الاستماع لكلام الحبيب أشهى للقلوب من كل حبيب ، لا سيما لمن سمعه بلا واسطة ، فكل واحد ينال من لذة الكلام على قدر حضوره مع المتكلم ، وكل واحد ينال من لذه شهود المتكلم على قدر رفع الحجاب عن المستمع ، واللّه تعالى أعلم.
ثم أمر بالذكر القلبي ، فقال :
[سورة الأعراف (7) : الآيات 205 الى 206]
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
يقول الحق جل جلاله ، لنبيه صلّى اللّه عليه وسلّم ولمن تبعه : وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ أي : فى قلبك بحركة لسان القلب ، أو فى نفسك سرا بحركة لسان الحس ، تَضَرُّعاً وَخِيفَةً أي : متضرعا وخائفا ، وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ أي : متكلما كلاما فوق السر ودون الجهر ، فإنه أدخل فى الخشوع والإخلاص ، ولا حجة فيه لمن منع الذكر جهرا لأن الآية مكية حين كان الكفرغالبا ، فكانوا يسبون الذاكر والمذكور ، ولما هاجر المصطفى - عليه الصلاة والسلام - إلى المدينة ، جهر الصحابة بالتكبير والذكر. فالآية منسوخة. انظر : الحاوي فى الفتاوي للإمام السيوطي. فقد أجاب عن الآية بأجوبة.
فقوله : بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ أي : فى الصباح والعشى ، حين تتيقظ من نومك الشبيه بالبعث ، وحين تريد النوم الشبيه بالموت ، وقيل : المراد صلاة العصر والصبح ، وقيل : صلاة المسلمين ، قبل فرض الخمس ، وقيل : للاستغراق ، وإنما خص الوقتين لأنهما محل الاشتغال ، فأولى غيرهما. وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ عن ذكر اللّه.
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يعنى ملائكة الملأ الأعلى ، لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ ينزهونه عما لا يليق به ، وَلَهُ يَسْجُدُونَ أي : يخصونه بالعبادة والتذلل ، لا يشركون به غيره ، وهو تعريض بالكفار ، (2/300)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 301
وتحريض للمؤمنين على التشبه بالملأ الأعلى ، ولذلك شرع السجود عند قراءتها. وعن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «إذا قرأ ابن آدم السجدة ، فسجد ، أعتزل الشيطان يبكى ، يقول : يا ويله أمر هذا بالسّجود فسجد فله الجنّة ، وأمرت بالسّجود فعصيت فلى النار» «1».
الإشارة : اعلم أن الذكر على خمسة أقسام : ذكر اللسان فقط لعوام المسلمين ، وذكر اللسان مع القلب لخواص الصالحين وأول المتوجهين ، وذكر القلب فقط للأقوياء من السائرين ، وذكر الروح لخواص أهل الفناء من الموحدين ، وذكر السر لأهل الشهود والعيان من المتمكنين ، وفى قطع هذه المقامات يقع السير للسائرين ، فيترقى من مقام ، إلى مقام ، حتى يبلغ إلى ذكر السر ، فيكون ذكر اللسان فى حقه غفلة.
وفى هذا المقام قال الواسطي رضى اللّه عنه : الذاكرون فى حال ذكره أشد غفلة من التاركين لذكره لأن ذكره سواه.
وفيه أيضا قال الغزالي : ذكر اللسان يوجب كثرة الذنوب. وقال الشاعر :
ما إن ذكرتك إلّا همّ يلعننى سرّى ، وقلبى ، وروحى ، عند ذكراك
حتّى كأنّ رقيبا منك يهتف بي : إيّاك ، ويحك ، والتّذكار إياك
أما ترى الحقّ قد لاحت شواهده وواصل الكلّ من معناه معناك
وقوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ ... الآية ، قال القشيري : أثبت لهم عندية الكرامة ، وحفظ عليهم أحكام العبودية كى لا ينفك حال جمعهم عن نعت فرقهم ، وهذه سنّة اللّه تعالى مع خواص عباده ، يلقاهم بخصائص عين الجمع ، ويحفظ عليهم حقائق عين الفرق ، لئلا يخلّوا بآداب العبودية فى أوان وجود الحقيقة. ه.
___________
(1) أخرجه مسلم فى (الإيمان - باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة) من حديث أبى هريرة - رضى اللّه عنه.(2/301)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 302(2/302)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 303
سورة الأنفال
مدنية. وآياتها : ست وسبعون آية ، نزلت كلها فى غزوة بدر الكبرى ، حين اختلف الصحابة - رضى اللّه عنهم - فى قسمة الغنائم ، وهى الأنفال. ووجه المناسبة لما قبلها : تحريض المؤمنين على الطاعة ، والانقياد في شأن الغنائم وغيرها حتى يتشبهوا بالملائكة فى سرعة الانقياد والخضوع لله تعالى ، فى قوله : إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ الآية «1».
قال الحق جل جلاله :
[سورة الأنفال (8) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
يقول الحق جل جلاله : يَسْئَلُونَكَ عَنِ قسمة الْأَنْفالِ وهى الغنائم ، سميت الغنيمة نفلا لأنها عطية من اللّه تعالى ، وزيادة فضل ، كما يسمى ما يشترطه الإمام للشجاع المقتحم خطرا ، نفلا لأنه عطية له زيادة على سهمه ، وكما سمى يعقوب عليه السّلام نافلة لأنه عطية زائدة على ولد إبراهيم عليه السّلام ، حيث كان حفيده. ثم أجابهم الحق تعالى فقال : قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أي : أمرها إلى اللّه ورسوله ، يقسمها رسول صلّى اللّه عليه وسلّم حيث يأمره اللّه تعالى ، وفى الوضع الذي يعينه له.
وسبب نزولها : اختلاف المسلمين في غنائم بدر كيف تقسم ، هل فى المهاجرين لفقرهم ، أو فى الأنصار لنصرهم ، أو فيهما معا. قال ابن جزى : وذلك أنهم كانوا يوم بدر ثلاث فرق : فرقة مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فى العريش تحرسه وتؤنسه ، وفرقة اتبعوا المشركين فقتلوهم وأسروهم ، وفرقة أحاطوا بأسلاب العدو وعسكرهم لما انهزموا ، فلما انجلت الحرب واجتمع الناس ، ورأت كل فرقة أنها أحق بالغنيمة من غيرها ، اختلفوا فيما بينهم. فنزلت الآية. ه.
___________
(1) الآية : 206 من سورة الأعراف.(2/303)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 304
وقيل : شرط رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لمن كان له غناء أن ينفله ، فتسارع شبابهم حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين ، ثم طلبوا نفلهم ، وكان المال قليلا ، فقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات : كنا ردءا لكم ، وفئة تنحازون إلينا ، فلا تختصوا بشيء دوننا ، فنزلت ، فقسمها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بينهم على السواء. ولهذا قيل : لا يلزم الإمام الوفاء بما وعد ، وهذا قول الشافعي رضى اللّه عنه.
وعن سعد بن أبى وقاص رضى اللّه عنه قال : لمّا كان يوم بدر قتل أخى عمير ، وقتلت سعيد بن العاص ، وأخذت سيفه ، وأتيت به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، واستوهبته منه ، فقال : «ليس هذا لى ، ولكن ضعه فى القبض «1»» ، فطرحته ، وفى قلبى ما لا يعلمه إلا اللّه من قتل أخى وأخذ سلبى ، فما جاوزتها إلّا قليلا حتى نزلت سورة الأنفال ، فقال لى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : «سألتنى السّيف وليس لى ، وإنّه قد صار لى فاذهب فخذه» «2».
فَاتَّقُوا اللَّهَ فى المشاجرة والاختلاف ، وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ أي : أصلحوا الحال التي بينكم بالمواساة والمواددة وسلامة الصدور ، والمساعدة فيما رزقكم اللّه ، وتسليم أمره إلى اللّه تعالى ورسوله ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيما يأمركم به إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن الإيمان يقتضى الاستماع والاتباع ، أو إن كنتم كاملى الإيمان فإن كمال الإيمان يقتضي التمسك بهذه الخصال الثلاث : امتثال الأوامر ، واجتناب النواهي ، وإصلاح ذات البين بالعدل والإحسان.
ثم ذكر شروط كمال الإيمان ، فقال : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الكاملون فى الإيمان : الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ خافت واقشعرت لذكره استعظاما له وهيبة من جلاله ، وقيل : هو الرجل يهم بالمعصية فيقال له : اتق اللّه ، فينزع عنها خوفا من عقابه ، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ القرآنية زادَتْهُمْ إِيماناً أي : يقينا وطمأنينة بتظاهر الأدلة التي اشتملت عليها ، أو بالعمل بموجبها. وهو دليل على أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، بناء على أن العمل داخل فيه ، والتحقيق : أن العمل خارج عنه ، لكن نوره يتقوى به وينقص بنقصانه أو بالمعصية ، وسيأتى فى الإشارة الكلام عليه.
ومن أوصاف أهل الإيمان : التوكل على اللّه والاعتماد عليه ، كما قال : وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وقد تقدم فى «آل عمران» الكلام على التوكل «3» ، ثم وصفهم بإقامة الدين فقال : الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ
___________
(1) القبض - بالتحريك : بمعنى المقبوض ، وهو ما جمع من الغنيمة قبل أن تقسم. انظر : النهاية (قبض).
(2) أخرجه أحمد فى المسند 1/ 180 وابن أبى شيبة (12/ 370) وسعيد بن منصور (2689) والطبرى فى التفسير ، وبنحوه أخرجه أبو داود فى (الجهاد ، باب فى النفل) والترمذى فى (التفسير - سورة الأنفال).
(3) راجع إشارة الآية 159 من سورة آل عمران.(2/304)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 305
فى الواجب والتطوع. أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لأنّهم حققوا إيمانهم بأن ضموا إليه مكارم أعمال القلب ، من الخشية والإخلاص والتوكل ، ومحاسن أعمال الجوارح التي هى العيار عليها ، كالصلاة والصدقة ، لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي : كرامات وعلو منزلة ، أو درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم ، وَمَغْفِرَةٌ لما فرط من ذنوبهم ، وَرِزْقٌ كَرِيمٌ أعده لهم فى الجنة ، لا ينقطع مدده ، ولا ينتهى أمده ، بمحض الفضل والكرم.
الإشارة : الأنفال الحقيقة هى المواهب التي ترد على القلوب ، من حضرة الغيوب من العلوم اللدنية والأسرار الربانية ، لا تزال تتوالى على القلوب ، حتى تغيب عما سوى المحبوب ، فيستغنى غناء لا فقر معه أبدا ، وهذه غنائم خصوص الخصوص ، وغنائم الخصوص : هى القرب من الحبيب ، ومراقبة الرقيب ، بكمال الطاعة والجد والاجتهاد ، وهذه غنائم العباد والزهاد ، وغنائم عوام أهل اليمين : مغفرة الذنوب ، والستر على العيوب ، والنجاة من النار ، ومرافقة الأبرار ، وفى الحديث عنه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : «من قال عند نومه : أستغفر اللّه العظيم الذي لا إله إلّا هو الحىّ القيّوم وأتوب إليه ، غفر اللّه ذنوبه ، وإن كانت مثل زبد البحر ، وعدد الرمال وعدد أيّام الدّنيا» «1».
قال الشيخ زروق : وهذه هى الغنيمة الباردة ، وهذه الأمور بيد اللّه وبواسطة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو معنى قوله :
قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ، ثم دل على موجباتها فقال : فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ ... الآية ، وقوله تعالى : زادَتْهُمْ إِيماناً : اعلم أن الإيمان على ثلاثة أقسام : إيمان لا يزيد ولا ينقص ، وهو إيمان الملائكة ، وإيمان يزيد وينقص ، وهو إيمان عامة المسلمين ، وإيمان يزيد ولا ينقص وهو إيمان الأنبياء والرسل ، ومن كان على قدمهم من العارفين الروحانيين الراسخين في علم اليقين ، ومن تعلق بهم من المريدين السائرين ، فهؤلاء إيمانهم دائما فى الزيادة ، وأرواحهم دائما فى الترقي فى المعرفة ، يزيدون بالطاعة والمعصية لتيقظهم وكمال توحيدهم ، وفى الحكم : «وربما قضى عليك بالذنب فكان سبب الوصول». وقال أيضا : «معصية أورثت ذلا وافتقارا خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا» واللّه تعالى أعلم.
ثم تكلم على الخروج إلى غزوة بدر ، فقال :
[سورة الأنفال (8) : الآيات 5 الى 6]
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)
___________
(1) أخرجه الترمذي فى (الدعوات - باب 17) من حديث أبى سعيد رضى اللّه عنه.(2/305)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 306
قلت : (كما أخرجك) : خبر عن مبتدأ محذوف ، أي : هذه الحال ، وهى عزلهم عن تولية الأنفال فى كراهتهم لها ، كحال إخراجك فى الحرب فى كراهتهم لها ، أو حالهم فى كراهية ما رأيت من تنفيلك للغزاة ، مثل حالهم فى كراهية خروجك ، أو صفة لمصدر الفعل المقدر فى قوله : لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ، أي : الأنفال تثبت لله وللرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، مع كراهتهم ، ثباتا مثل ثبات إخراجك ربك من بيتك ، يعنى المدينة لأنها مسكنه أو بيته منها ، وجملة : (و إن فريقا) :
حال من أخرجك ، أي : أخرجك فى حال كراهية فريق من المؤمنين.
يقول الحق جل جلاله لنبيه صلّى اللّه عليه وسلّم : قد كره أصحابك قسمتك للأنفال كما كرهوا إخراجك رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ لقتال العدو ، والحال أن فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ خروجك لذلك ، وتلك الكراهية من قبل النفس وطبع البشرية ، لا من قبل الإنكار فى قلوبهم لأمر اللّه ورسوله ، فإنهم راضون مستسلمون ، غير أن الطبع ينزع لحظه ، والعبد مأمور بمخالفته وجهاده.
وذلك الفريق الذي كره خروجك للقتال يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ أي : يخاصمونك فى إيثارك الجهاد لإظهار الحق ، حيث أرادوا الرجوع للمدينة ، وقالوا : إنا لم نخرج لقتال ، قالوا ذلك بَعْدَ ما تَبَيَّنَ لهم أنهم منصورون أينما توجهوا ، بإعلام الرسول لهم ، لكن الطبع البشري ينزع إلى مواطن السلامة ، كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ أي : يكرهون القتال كراهة من يساق إلى الموت ، وهو يشاهد أسبابه ، وكان ذلك لقلة عددهم وعدم تأهبهم ، إذ روى أنهم كانوا رجّالة ، وما كان فيهم إلا فارسان ، وذلك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لم يخرج لقصد الجهاد ، وإنما لملاقاة عير قريش ، لمّا سمع أنها قدمت من الشّام ، وفيها تجارة عظيمة ، ومعها أربعون راكبا ، فيهم أبو سفيان ، وعمرو بن العاص ، ومخرفة بن نوفل ، وعمرو بن هشام ، فأراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يتعرض لها ويأخذها غنيمة ، حيث أخبره جبريل بقدومها من الشام ، فأخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المسلمين ، فأعجبهم تلقيها ، لكثرة المال وقلة الرجال ، فلما خرجوا ، بلغ الخبر أبا سفيان ، فسلك بالعير طريق السّاحل ، واستأجر من يذهب إلى مكة يستنفرها ، فلما بلغهم خروج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لعيرهم ، نادى أبو جهل فوق الكعبة : يا أهل مكة ، النّجاء النجاء ، على كل صعب وذلول ، عيركم وأموالكم إن أصابها محمّد لن تفلحوا بعدها أبدا.
وقد رأت ، قبل ذلك بثلاث ليال ، عاتكة بنت المطلب ، رؤيا وهو أن رجلا تمثل على جبل قبيس فنادى :
يا آل لكع ، اخرجوا إلى مصارعكم ، ثم تمثل على الكعبة ، فنادى مثل ذلك ، ثم أخذ حجرا فضرب به ، فلم يبق بيت فى مكة إلا دخله شىء من ذلك الحجر ، فحدثت بها العباس ، وبلغ ذلك أبا جهل ، فقال : أما ترضى رجالهم أن يتنبؤوا حتى تتنبأ نساؤهم؟ لنتربص ثلاثا ، فإن لم يظهر ما تقول لنكتبن عليكم يا بنى هاشم أنكم أكذب بيت فى العرب ، فلما مضت ثلاث ليال جاء رسول أبى سفيان ليستنفرهم.(2/306)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 307
فخرج أبو جهل بجموع أهل مكة ، ومضى بهم إلى بدر ، وهو ماء كانت العرب تجتمع عليه لسوقهم يوما فى السنة ، وكان رسول صلّى اللّه عليه وسلّم بوادي ذفران ، فنزل عليه جبريل بالوعد بإحدى الطائفتين : إما العير وإما قريش ، فاستشار فيه أصحابه ، فقال بعضهم : ما خرجنا لقتال ولا تهيأنا له ، وردد عليهم وقال : إن العير قد مضت على ساحل البحر ، وهذا أبو جهل قد أقبل ، فقالوا : يا رسول اللّه ، عليك بالعير ودع العدو ، فغضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فقام أبو بكر وعمر فأحسنا ، ثم قام سعد بن عبادة فقال : انظر فى أمرك ، وامض ، فو اللّه لو سرت إلى عدن ما تخلّف رجل من الأنصار ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : امض يا رسول اللّه لما أمرك ربك ، فإنا معك حيثما أحببت ، لا نقول كما قالت بنو إسرائيل : فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ «1» ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فتبسم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فقال : أشيروا على أيها الناس ، يريد الأنصار لأنهم كانوا عددهم ، وقد شرطوا حين بايعوه بالعقبة أنهم برءاء من ذمامه حتى يصل إلى ديارهم ، فتخوف ألّا يروا نصرته إلا على عدو دهمه بالمدينة ، فقام سعد بن معاذ وقال : لكأنّك تريدنا يا رسول اللّه؟ فقال : أجل ، فقال : قد آمنّا بك وصدّقناك ، وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحقّ ، فأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السّمع والطّاعة ، فامض يا رسول اللّه لما أردت ، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلّف منّا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا ، وإنا لصبر عند الحرب ، صدق عند اللّقاء ، ولعلّ اللّه يريك منا ما تقرّ به عينك ، فسر بنا على بركة اللّه ، فنشّطه قوله ، ثم قال : «سيروا على بركة اللّه ، وأبشروا فإنّ اللّه قد وعدني إحدى الطائفتين ، واللّه لكأنّى أنظر إلى مصارع القوم».
ثم مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتى نزل بأصحابه آخر مياه من مياه بدر ، فبنى له هناك عريش ، فجلس فيه هو وأبو بكر ، فلما انتشب القتال أخذ قبضة من تراب فرمى بها وجوه القوم ، وقال : شاهت الوجوه ، فلم تبق عين من الكفار إلا وقع فيها شىء منها ، ونزلت الملائكة فى العنان ، أي : السماء ، فقتل منهم سبعون ، وأسر سبعون ، وقيل : إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لما فرغ من غزوة بدر ، قيل له : عليك بالعير ، فقال العباس - وهو فى وثاقه : لا يصلح ، فقيل له : لم؟
فقال له : لأن اللّه وعدك إحدى الطائفتين ، وقد أعطاك ما وعدك ، فكره بعضهم قوله ، ثم رجع صلّى اللّه عليه وسلّم إلى المدينة منصورا فرحا مسرورا ، وقد أنجزه اللّه ما وعده.
الإشارة : من حكمته تعالى الجارية فى عباده أن كل ما يثقل على النفوس ويشق عليها فى بدايته تكون عاقبته الفتح والنصر ، والهناء والسرور ، فكل ما تكرهه النفوس فغايته حضرة القدوس ، وما تحقق سير السائرين إلا
___________
(1) الآية 24 من سورة المائدة.(2/307)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 308
بمحاربة نفوسهم ومخالفة عوائدهم. وفى الحديث عنه صلّى اللّه عليه وسلّم ، قال لابن عباس فى حديث طويل : «وفى الصّبر على ما تكره خير كثير». واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر بقية قصة بدر ، فقال :
[سورة الأنفال (8) : الآيات 7 الى 8]
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)
قلت : (و إذ) : ظرف لا ذكر ، محذوفة ، و(أنها لكم) : بدل اشتمال من (إحدى الطائفتين) ، والشوكة : الحدة ، مستعارة من واحد الشوك ، وسميت الحرب شوكة لحدة سلاحها.
يقول الحق جل جلاله : وَاذكروا إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ قريشا ، أو عيرهم ، وعدكم أَنَّها لَكُمْ ، وَتَوَدُّونَ وتتمنون أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ أي : ذات الحرب تَكُونُ لَكُمْ وهى العير ، فإنها لم يكن فيها إلا أربعون رجلا ، وتكرهون ملاقاة النفير لكثرة عددهم وعددهم ، وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ أي : يظهر الحق ، وهو الإسلام ، بقتل الكفار وهلاكهم فى تلك الغزوة ، بِكَلِماتِهِ أي : بإظهار كلماته العليا ، أو بكلماته التي أوحى بها فى هذه الحال ، أو بأوامره للملائكة بالإمداد ، أو بنفوذ كلماته الصادقة بهلاكهم ، وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ أي : يستأصلهم ويقطع شوكتهم.
ومعنى الآية : أنكم تريدون أن تصيبوا مالا ولا تلقوا مكروها ، واللّه يريد إعلاء الدين وإظهار الحق ، وما يحصل لكم من فوز الدارين. وإنما فعل ما فعل من سوقكم إلى القتال لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ أي : ليظهر الدين ويبطل الكفر.
قال البيضاوي : وليس بتكرار لأن الأول لبيان المراد ، وما بينه وبين مرادهم من التفاوت ، والثاني لبيان الداعي إلى حمل الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم على اختيار ذات الشوكة وقصره عليها. ه. وقال ابن جزى : ليس تكرارا للأول لأن الأول مفعول يريد ، وهذا تعليل لفعل اللّه تعالى ، ويحتمل أن يريد بالحق الأول الوعد بالنصرة ، وبالحق الثاني الإسلام ، فيكون المعنى : أنه نصرهم ليظهر الإسلام ، ويؤيد هذا قوله : وَيُبْطِلَ الْباطِلَ أي : يبطل الكفر ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ذلك ، فإن اللّه لا بد أن يظهر دينه على الدين كله ، ولو كره الكافرون.(2/308)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 309
الإشارة : وعد الله المتوجهين إليه بالوصول إلى سر الخصوصية ، وهى الولاية ، لكن بعد المجاهدة والمحاربة للنفوس لأن الحضرة لا يدخلها إلا أهل التهذيب والتدريب ، وترى كثيرا من الناس يتمنون أن تكون لهم من غير حرب ولا قتال ، ويريد الله أن يحق الحق بكشف الحجب عن القلوب ، حتى لا يشاهدوا إلا الحق ، ويبطل الباطل ، وهو السّوى ، ولا يكون فى العادة إلا بعد موت النفوس وتهذيبها وتطهيرها بالرياضة على شيخ عارف. قال الششترى مترجما عن لسان الحقيقة :
إن ترد وصلنا فموتك شرط لا ينال الوصال من فيه فضله
ثم ذكر إمدادهم بالملائكة ، فقال :
[سورة الأنفال (8) : الآيات 9 الى 10]
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
قلت : (إذ) : بدل من (إذ يعدكم) ، أو متعلق بقوله : (ليحق الحق) ، أو باذكر.
يقول الحق جل جلاله : واذكروا حين كنتم تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ وتدعون بالغوث والنصر ، وذلك أن الصحابة - رضى الله عنهم - لمّا علموا ألّا محيص لهم عن القتال أخذوا يقولون : ربنا انصرنا على عدوك ، يا غياث المستغيثين أغثنا.
وعن عمر : رضى اللّه عنه (أنه صلّى اللّه عليه وسلّم نظر إلى المشركين وهم ألف ، وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة ، فاستقبل القبلة ومدّ يديه يدعوه : «اللهم أنجز لى ما وعدتني ، اللهمّ إن تهلك هذه العصابة لم تعبد فى الأرض» ، فما زال كذلك حتى سقط رداؤه ، فقال أبو بكر : يا نبىّ اللّه ، كفاك مناشدتك ربّك ، فإنه سينجز لك ما وعدك) «1». وقد تقدم أن الأنبياء وكبراء الأولياء لا يقفون مع ظاهر الوعد والوعيد ، لسعة دائرة علمهم ، بل لا يزول اضطرارهم ، ولا يكون مع غير الله قرارهم ، ولعل ذلك الوعد يكون متوقفا على شروط أخفاها الحق تعالى لتظهر قهريته وانفراده بالعلم المحيط.
ولما استغاثوا بالله وأظهروا الحاجة إليه أجابهم فقال : فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ مقويكم ومكثركم بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ يتبع بعضهم بعضا ، ويتبع المؤمنين ، فكانوا خلفهم ردءا لهم ، فمن قرأ بفتح الدال
___________
(1) أخرجه مسلم فى (الجهاد - باب الإمداد بالملائكة فى غزوة بدر). [.....](2/309)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 310
فهو اسم مفعول ، ومن قرأه بالكسر فاسم فاعل ، وصح معنى القراءتين ، لأن الملائكة المنزلين يتبع بعضهم بعضا ، فمنهم تابعون ومتبوعون ، ومن قرأ بالفتح فالمراد مردفين بالمؤمنين ، فكانوا مقدمة الجيش ، ومن قرأ بالكسر فالمراد مردفين للمؤمنين تابعين لهم ، فكانوا ساقة للجيش.
ثم ذكر حكمة الإمداد بقوله : وَما جَعَلَهُ اللَّهُ أي : الإمداد ، إِلَّا بُشْرى أي : بشارة بالنصر ، وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ فيزول ما بها من الوجل لقلتكم ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لا يتوقف على سبب ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يغلب ، حَكِيمٌ فى تدبير الأسباب وترتيبها رداء للقدرة الأزلية ، فإمداد الملائكة ، وكثرة العدد ، والتأهب ، وسائط ، لا تأثير لها ، فلا تحسبوا النصر منها ، ولا تيأسوا منه بفقدها ، فحكم الأزل جلّ أن يضاف إلى العلل.
الإشارة : إظهار الفاقة والابتهال لا يقدح فى صحة التوكل على الكبير المتعال ، بل هو شرف للإنسان ، وتقريب من الكريم المنان ، بل من شأن العارف الكامل الرجوع إلى اللّه فى كل شيء ، والتعلق به فى كل حال ، ولو وعده بالنصر أو الإجابة ، لا يقطع عنه السؤال ، عبودية وتملقا بين يدى الحبيب.
وقد اختلف الصوفية : أي الحالين أشرف : هل الدعاء والتضرع؟ أو السكوت والرضى تحت مجارى الأقدار؟ وقال بعضهم : يجب أن يكون العبد صاحب دعاء بلسانه ، صاحب رضى بقلبه ، ليجمع بين الأمرين. قال القشيري :
والأولى أن يقال : إن الأوقات مختلفة ، ففى بعض الأحوال الدعاء أفضل ، وفى بعض الأحوال السكوت أفضل ، وإنما يعرف ذلك فى الوقت لأن علم الوقت يحصل فى الوقت ، فإذا وجد فى قلبه إشارة إلى الدعاء فالدعاء منه أولى ، وإذا وجد إشارة إلى السكوت فالسكوت أتم. ه. وقد تقدم فى آل عمران إشارة الإمداد «1». وبالله التوفيق.
ثم ذكر تأمينهم ، فقال :
[سورة الأنفال (8) : الآيات 11 الى 12]
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12)
___________
(1) راجع إشارة الآية 125 من سورة آل عمران.(2/310)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 311
قلت : (إذ) : بدل ثان من (إذ يعدكم) ، أو متعلق بالنصر ، لما فى (عند اللّه) من معنى الفعل ، أو بإضمار اذكروا. ومن قرأ بضم الياء ، فهو من أغشى ، أي : غطى ، ومن قرأ بالتشديد ، فهو من غشى المضعف ، وكلاهما يتعدى إلى مفعولين ، الكاف الأول والنعاس الثاني ، ومن قرأ بالفتح والتخفيف ، فهو من غشى يغشى المتعدى إلى واحد ، و(أمنة) : مفعول من أجله.
يقول الحق جل جلاله : واذكروا إِذْ يُغَشِّيكُمُ ، أي : حين كان يغشيكم النُّعاسَ وأنتم فى القتال ، حين ينزل عليكم الأمن من العدو بعد شدة الخوف ، وذلك لأجل الأمن الذي نزل من اللّه عليكم بعد شدة خوفكم.
قال ابن مسعود رضى اللّه عنه : النعاس عند حضور القتال علامة أمن من العدو.
ثم ذكّرهم بمنة أخرى ، فقال : وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ من الحدث والجنابة ، وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ أي : وسوسته وتخويفه إياهم من العطش ، روى أنهم نزلوا فى كثيب رمل دهس ، تسوخ فيه الأقدام ، على ماء قليل ، وناموا فاحتلم أكثرهم ، فوسوس إليهم الشيطان ، وقال : كيف تنصرون وأنتم تصلون محدثين مجنبين ، وتزعمون أنكم أولياء اللّه وفيكم رسوله؟ ، فأشفقوا ، فأنزل اللّه المطر ، فمطروا ليلا حتى جرى الوادي ، فاتخذوا الحياض على عدوته ، وسقوا الركاب ، واغتسلوا وتوضؤوا ، وتلبد الرمل الذي بينهم وبين العدو ، حتى ثبتت عليه الأقدام وزالت الدهوسة ، وهذا معنى قوله : وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ أي : وليربط على قلوبكم بالوثوق على لطف اللّه وزوال ما وسوس إليهم الشيطان ، وذهاب الكسل عنها. وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ حتى لا تسوخ فى الرمل ، أو بالربط على القلوب حتى تثبت فى مداخص الحرب.
واذكروا أيضا : إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ أي : أثبت أقدامكم حين أوحي إلى الملائكة أنى معكم فى نصر المؤمنين وتثبيتهم ، فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا بتكثير عددهم ، أو بالبشارة لهم ، أو بمحاربة أعدائهم ، على قول من قال : إنهم باشروا القتال. سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ والجزع ، حتى لا يثبتوا لقتالكم ، يحتمل أن يكون من خطاب اللّه للملائكة ، أو استئناف إخبارا للمؤمنين عما يفعله بعدوهم عاجلا وآجلا.
ثم قال للملائكة أو للمؤمنين : فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ أي : أعاليها التي هى المذابح والرؤوس ، وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ أي : أصابعهم ، أي : جزوا رقابهم واقطعوا أطرافهم.
الإشارة : كان شيخ شيخنا يشير على الفقراء ، إذا كثرت عليهم الخواطر والهواجس ، بالنوم ، ويقول : من تشوش خاطره فليرقد حتى يشبع من النعاس ، فإنه يجد قلبه لأن النعاس أمنة من اللّه يذهب به رجز الشيطان وثقله ، ويربط على القلوب فى الحضرة لأنه زوال ، وإذا زال العبد ظهر الحق وزهق الباطل.(2/311)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 312
وقوله تعالى : وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً : هو ماء الغيب الذي يطهر القلوب من شهود السّوى ، ويذهب به رجز الشيطان ، وهى ظلمة الأكوان ، التي تنعقد فى القلب من حب الهوى الذي هو من تزيين الشيطان ، ويثبت به الأقدام ، حتى تثبت عند مصادمة أنوار الحضرة ، التي هى تجلى الذات ، فلا يثبت لها إلا الشجعان والأبطال وأكابر الرجال. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر علة أمرهم بقتل الكفار ، فقال :
[سورة الأنفال (8) : الآيات 13 الى 14]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14)
قلت : (ذلكم) : مبتدأ حذف خبره ، أي : ذلكم العقاب أو العذاب ، أو خبر ، أي : الأمر ذلكم ، أو منصوب بمضمر يفسره فذوقوه ، و(أن للكافرين) : عطف على (ذلكم) ، أو نصب على المفعول معه ، وقرىء بالكسر استئنافا.
يقول الحق جل جلاله : لِكَ
الضرب لأعناق الكفار ، أو الأمر به أَنَّهُمْ
بسبب أنهم اقُّوا
أي : خالفوالَّهَ وَرَسُولَهُ
، وصاروا كأنهم فى شق وهو فى شق مبالغة فى المخالفة والمباعدة ، مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
ويبعد عنهماإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
لكل من خالفه أو خالف رسوله ، وهو تقرير للتعليل ، أو وعيد بما أعد اللّه لهم فى الآخرة بعد ما حاق بهم فى الدنيا ، ذلِكُمْ العذاب فَذُوقُوهُ وباشروا مرارته ، وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ ، والمعنى : ذوقوا ما عجل لكم من النقمة فى الدنيا مع ما يحل عليكم فى الآخرة من عذاب النار ، ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أن الكفر سبب العذاب العاجل والآجل.
الإشارة : مخالفة اللّه ورسوله توجب الطرد والبعاد ، وموافقة اللّه ورسوله توجب القرية والوداد ، وهذه الموافقة التي توجب للعبد المحبة والوداد تحصل بخمسة أشياء : امتثال أمره ، واجتناب نهيه ، والإكثار من ذكره ، والاستسلام لقهره ، والاقتداء بنبيه صلّى اللّه عليه وسلّم والتأدب بآدابه ، والتخلق بأخلاقه ، وبأضداد هذه الأشياء يحصل للعبد المخالفة التي توجب طرده وبعده ، وهي مخالفة أمره ، وارتكاب نهيه ، والغفلة عن ذكره ، والتسخط عند نزول قهره ، وعدم الاقتداء بنبيه صلّى اللّه عليه وسلّم بارتكاب البدع المحرمة والمكروهة ، حتى يفضى به الحال إلى المشاققة والمباعدة ، مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
. وبالله التوفيق.(2/312)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 313
ثم نهى عن الفرار فى الحرب ، فقال :
[سورة الأنفال (8) : الآيات 15 الى 16]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
قلت : (زحفا) : مصدر ، وزحف الصبى إذا دب على مقعده قليلا قليلا ، سمى به الجيش المقابل للقتال لأنه يندفع للقتال شيئا فشيئا ، ونصبه على الحال من فاعل «لقيتم» ، أو «من الذين كفروا» ، و(متحرفا) و(متحيزا) :
حالان ، و(إلا) ملغاة ، ووزن متحيز : متفيعل ، لا متفعل ، وإلا لكان متحوزا لأنه من حاز يحوز.
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
زاحفين لهم ، تدبون إليهم ويدبون إليكم ، تريدون قتالهم متوجهين إليهم ، فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ بالانهزام عنهم ، فإنه حرام ، وهو من الكبائر ، ويفيد بألا يكون الكفار أكثر من ثلثى المسلمين ، فإن زادوا على ثلثى المسلمين حلّ الفرار ، وأن يكون المسلمون مسلحين ، وإلا جاز الفرار ممن هو بالسلاح دونه ، وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ ، وهو أن يكرّ راجعا أمام العدو ليرى عدوه أنه منهزم ثم يعطف عليه ، وهو من مكائد الحرب ، أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ أي :
منحازا إلى جماعة من المسلمين ليستعين بهم ، فإن كانت الجماعة حاضرة فى الحرب ، أو قريبة ، فالتحيز إليها جائز باتفاق ، واختلف فى التحيز إلى المدينة والإمام والجماعة إذا لم يكن شىء من ذلك حاضرا.
ويروى عن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه أنه قال : أنا فئة لكل مسلم. وروى عن ابن عمر : أنه كان فى سرية بعثهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، ففرّوا إلى المدينة ، فقلت : يا رسول اللّه ، نحن الفرّارون ، فقال : «أنتم الكرّارون ، وأنا فئتكم» «1».
فمن فرّ من الجهاد بالشرط المتقدم فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ، ومن هذا يفهم أنه من الكبائر. قال البيضاوي : وهذا إذا لم يزد العدو على الضعف ، لقوله : الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ ... «2»
الآية ، وقيل : الآية مخصوصة بأهل بيته والحاضرين معه فى الحرب. ه.
الإشارة : يقول الحق جل جلاله للمتوجهين إليه بالمجاهدة والمكابدة : إذا لقيتم أعداءكم من القواطع كالحظوظ ، والشهوات ، وسائر العلائق ، فاثبتوا حتى تظفروا ، ولا ترجعوا وتولوهم الأدبار فيظفروا بكم ، إلا متحرفا
___________
(1) أخرجه أحمد فى المسند (2/ 70) وأبو داود فى (الجهاد - باب فى التولي يوم الزحف) والترمذي وحسنه فى (الجهاد - باب ما جاء فى الفرار يوم الزحف).
(2) الآية 66 من سورة الأنفال.(2/313)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 314
لقتال بإيثار بعض الرخص ، ليقوى على ما هو أشد منها مشقة عليها ، أو متحيزا إلى جماعة من أكابر العارفين ، فإنهم يغنونه بالمشاهدة عن المجاهدة ، إذا ملكهم زمام نفسه ، وفعل كل ما يشيرون به عليه ، فإن ذلك يفضى به إلى الراحة بعد التعب ، والمشاهدة بعد المجاهدة ، إذ لا تجتمع المجاهدة فى الظاهر مع مشاهدة الباطن عند أهل الذوق.
قال القشيري - بعد كلامه على الآية : فالأقوياء من الأغنياء ينفقون على خدمهم من نعمهم ، والأصفياء من الأولياء ينفقون على مريديهم من هممهم يجبرون كسرهم وينوبون عنهم ، ويساعدونهم بحسن إرشادهم ، ومن أهمل مريدا وهو يعرف صدقه ، أو خالف شيخا وهو يعرف فضله وحقّه ، فقد باء من اللّه بسخط ، واللّه تعالى حسيبه فى مكافأته على ما حصل من قبيح وصفه. ه.
ثم عزلهم عن الحول والقوة ، فقال :
[سورة الأنفال (8) : الآيات 17 الى 18]
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18)
يقول الحق جل جلاله : فلم تقتلوا الكفار بحولكم وقوتكم وذلتكم ، وقلة عدتكم وعددكم ، وكثرة عدد عدوكم وعدتهم ، وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ بواسطة مباشرتكم ، حيث أيدكم وسلطكم عليهم ، وإمداد الملائكة لكم ، وإلقاء الرعب فى قلوب عدوكم.
قال البيضاوي : روى أنه لما أطلّت قريش من العقنقل - اسم جبل - قال صلّى اللّه عليه وسلّم : «هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها ، يكذّبون رسولك ، اللّهمّ إنّى أسألك ما وعدتني» ، فأتاه جبريل ، وقال له : خذ قبضة من تراب فارمهم بها ، فلمّا التقى الجمعان تناول كفا من الحصباء فرمى بها فى وجوههم ، وقال : «شاهت الوجوه» ، فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه ، فانهزموا. وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم ، ثم لما انصرفوا أقبلوا على التفاخر ، فيقول الرجل :
قتلت وأسرت ، فنزلت الآية ، وإلغاء جواب شرط محذوف ، تقديره : إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم ، ولكن اللّه قتلهم ، وَما رَمَيْتَ يا محمد رميا توصلها إلى أعينهم ، ولم تقدر عليه إِذْ رَمَيْتَ أي : حين ألقيت صورة الرمي ، وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى ، أتى بما هو غاية الرمي ، فأوصلها إلى أعينهم جميعا ، حتى انهزموا وتمكنتم من قطع دابرهم. ه. فالرمى ، حقيقة ، إنما وقع من اللّه تعالى ، وإن ظهر حسا من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم.(2/314)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 315
وإنما فعل ذلك ليقطع طرفا من الكفار ، ويحد شوكتهم ، وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً أي : ليختبر المؤمنين منه اختبارا حسنا ، ليظهر شكرهم على هذه النعمة ، أو لينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة ومشاهدة الآيات ، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لاستغائتهم ودعائهم ، عَلِيمٌ بنياتهم وأحوالهم. ذلِكُمْ أي : البلاء الحسن ، أو القتل ، أو الرمي ، واقع لا محالة ، أو الأمر ذلكم ، وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ أي : مضعف كيد الكافرين ، ومبطل حيلهم ، أي : المقصود بذلك القتل أو الرمي إبلاء المؤمنين ، وتوهين كيد الكافرين وإبطال حيلهم.
الإشارة : يقول الحق جل جلاله للمريدين المتوجهين لحضرة محبوبهم : فلم تقتلوا نفوسكم بمجاهدتكم إذ لا طاقة لكم عليها ، ولكن اللّه قتلها بالنصر والتأييد ، حتى حييت بمعرفته ، ويقول للشيخ : وما رميت القلوب بمحبتى ومعرفتى ، ولكن اللّه رمى تلك القلوب بشىء من ذلك ، وإنما أنت واسطة وسبب من الأسباب العادية ، لا تأثير لك فى شىء من ذلك.
حكى أن الحلاج ، لما كان محبوسا للقتل ، سأله الشبلي عن المحبة ، فقال : الغيبة عما سوى المحبوب ، ثم قال :
يا شبلى ، ألست تقرأ كتاب اللّه؟ فقال الشبلي : بلى ، فقال : قد قال اللّه لنبيه - عليه الصلاة والسلام - : وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى ، يا شبلى إذا رمى اللّه قلب عبده بحبّة من حبّه ، نادى عليه مدى الأزمان بلسان العتاب. ه. والمقصود بذلك : تخصيص أوليائه المقربين بالمحبة والمعرفة والتمكين ، وتوهين كيد الغافلين المنكرين لخصوصية المقربين. واللّه تعالى أعلم.
ولما أرادت قريش الخروج إلى غزوة بدر ، تعلقوا بأستار الكعبة ، وطلبوا الفتح ، وقالوا : اللهم انصر أعلى الجندين ، وأهدى الفئتين ، وأكرم الحزبين ، كما أشار إلى ذلك الحق تعالى بقوله :
[سورة الأنفال (8) : آية 19]
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
يقول الحق جل جلاله لكفار مكة على جهة التهكم : إِنْ تَسْتَفْتِحُوا أي : تطلبوا الفتح ، أي : الحكم على أهدى الفئتين وأعلى الجندين وأكرم الحزبين ، فَقَدْ جاءَكُمُ الحكم كما طلبتم ، فقد نصر اللّه أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين ، وهو محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وحزبه ، وَإِنْ تَنْتَهُوا عن الكفر ومعاداة الرسول ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لتضمنه سلامة الدارين وخير المنزلين ، وَإِنْ تَعُودُوا لمحاربته نَعُدْ لنصره ، وَلَنْ تُغْنِيَ تدفع عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ جماعتكم شَيْئاً من المضار وَلَوْ كَثُرَتْ فئتكم ، إذ العبرة بالنصرة لا بالكثرة ، وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ بالنصر والمعونة.(2/315)
البحر المديد ، ج 2 ، ص : 316
ومن قرأ بالفتح فعلى حذف الجار ، أي : ولأن اللّه مع المؤمنين ، وقيل : الخطاب للمؤمنين ، والمعنى : إن تستنصروا فقد جاءكم النصر ، وإن تنتهوا عن التكاسل فى القتال ، والرغبة عما يختاره الرسول ، فهو خير لكم ، وإن تعودوا إليه نعد عليكم بالإنكار ، أو تهييج العدو ، ولن تغنى ، حينئذ ، عنكم كثرتكم إذ لم يكن اللّه معكم بالنصر ، فإنه مع الكاملين فى إيمانهم. قاله البيضاوي.
الإشارة : إن تستفتحوا أيها المتوجهون ، أي : تطلبوا الفتح من اللّه فى معرفته ، فقد جاءكم الفتح ، حيث صح توجهكم وتركتم حظوظكم وعلائقكم ، لأن البدايات مجلاة النهايات ، من وجد ثمرة عمله عاجلا فهو علامة القبول آجلا ، وإن تنتهوا عن حظوظكم وعوائقكم فهو خير لكم ، وبه يقرب فتحكم ، وإن تعودوا إليها نعد إليكم بالتأديب والإبعاد ، ولن تغنى عنكم جماعتكم شيئا فى دفع التأديب ، أو البعد ، ولو كثرت ، وأن اللّه مع المؤمنين الكاملين فى الإيمان بالنصر والرعاية.
ثم أمر بالسمع والطاعة ، فقال :
[سورة الأنفال (8) : الآيات 20 الى 21]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21)
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ فيما أمركم به ونهاكم عنه ، وَرَسُولَهُ فيما ندبكم إليه ، من الجهاد وغيره ، وَلا تَوَلَّوْا أي : تعرضوا عن الرسول وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ القرآن يأمركم بالتمسك به ، والاقتداء بهديه. والمراد بالآية : النهى عن الإعراض عن الرسول. وذكر طاعة اللّه إما هو للتوطئة والتنبيه على أن طاعة اللّه فى طاعة الرسول ، لقوله : مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «1» ، ثم أكد النهى بقوله : وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا بآذاننا ، كالكفرة والمنافقين ، ادّعوا السماع ، وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ سماعا ينتفعون به ، فكأنهم لا يسمعون رأسا.
الإشارة : لما غاب عليه الصلاة والسلام بقي خلفاؤه فى الظاهر والباطن وهم العلماء الأتقياء ، والعارفون الأصفياء. فمن تمسك بهم ، واستمع لقولهم ، فقد تمسك بالرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، ومن أعرض عنهم فقد أعرض عنه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فمن تمسك بما جاءت به العلماء ، فاز بالشريعة المحمدية ، وكان من الناجين الفائزين. ومن تمسك بالأولياء العارفين ، واستمع لهم ، وتبع إرشادهم ، فاز بالحقيقة الربانية ، وكان من المقربين. ومن سمع منهم الوعظ والتذكير ،
___________
(1) من الآية 80 من سورة النساء.(2/316)