بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب : البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ( نسخة محققة )
المؤلف : أحمد بن محمد بن المهدي بن عجيبة الحسني الإدريسي الشاذلي الفاسي أبو العباس
القرن : الثالث عشر
الناشر : الدكتور : حسن عباس زكى
مكان الطبع : القاهرة
سنة الطبع : 1419 هـ
تحقيق : أحمد عبد الله قرشى رسلان
عدد الأجزاء / 6
[ ترقيم الشاملة من أول الكتاب وحتى نهاية الجزء الخامس موافق للمطبوع ومذيل بالحواشى وأما من أول سورة الرحمن وحتى آخر سورة الناس فالترقيم أسفل الصفحات }
*************
تنبيه :
نظرا لعدم اكتمال هذه النسخة فقد تم الاعتماد من أول سورة الرحمن وحتى آخر سورة الناس على طبعة دار الكتب العلمية ـ بيروت
الطبعة الثانية / 2002 م ـ 1423 هـ
عدد الأجزاء / 8(1/4)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 5
[المجلد الأول ]
مقدمة المحقق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على آلائه ، والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه ، وعلى آله وصحبه وأوليائه. وبعد ، ، ، فهذا كتاب «البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد» للإمام البارع ، والعالم المتقن ، شيخ الطريقين وعمدة الفريقين «أبى العباس أحمد بن عجيبة الحسنى المغربي» المتوفى فى عام 1224 ه.
وهو كتاب فريد فى بابه ، ولم ينسج أحد على منواله ، تشوف له أرباب القلوب والأحوال طويلا ، سلك فيه صاحبه مسلك العلماء الراسخين فى تفاسيرهم ، وزاد عليهم بما يذكره من معان إشارية دقيقة ، استشفها من آيات القرآن ، الذي لا تنقضى عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد.
حفل هذا التفسير بالأحاديث والآثار ، وتناول القراءات القرآنية وتوجيهها ، واشتمل على مسائل الفقه والأصول ، وجمع الكثير من القضايا اللغوية واللطائف الأدبية. وتميز بحسن الترتيب ، وحلاوة العبارة ، ودقة التصوير ، وسهولة الأسلوب.
ومن أهم ما يميز هذا التفسير هو هذه المعاني الإشارية ، التي بسط المفسر الحديث فيها عن آداب السلوك ، والمقامات كالإخلاص ، والصدق ، والصبر ، والورع ، والزهد ، والرضا ، والتوكل ، والشكر ، والحب ، والكشف ، والإلهام ، والكرامات ... وغير ذلك مما يطول ذكره ، وقدّم لنا ابن عجيبة من خلال هذه الإشارات منهجا تربويا صوفيا إسلاميا متكاملا ، يسلكه من أراد أن تصفو روحه وتزكو نفسه ويحيا قلبه ، ويحظى بنور معرفة الحق تعالى.
وعلى الجملة فنحن أمام موسوعة قرآنية تفسيرية صوفية كبيرة وقيّمة ، تعد دليلا واضحا للحائرين ، ومنهجا كريما للسالكين.
ولا غرابة فى ذلك ، فابن عجيبة عالم تضلع من علوم الشريعة واللغة ، ورسخت قدمه فيها ، وخاض فى علوم التصوف ذوقا وحالا ومقاما ، وصحب أهل الأذواق والقلوب ، وسلك مسلكهم ، حتى انجلت عين بصيرته ، وتفجرت ينابيع الحكمة فى قلبه ، وكان له فى هذا المقام مدد واسع وفيض لا ينقطع.
ولأهمية هذا الكتاب ، وتفرده فى بابه ، فقد توفرت على استخراجه من أصوله ، وتحقيقه تحقيقا علميا ، وإظهاره فى صورة تكشف روائعه وتبرز كنوزه ، ومكثت فى هذا العمل خمس سنوات ، مواصلا الليل والنهار ، كنت سعيدا خلالها بما حبانى اللّه من شغل فى هذا العمل الشريف ، رغم أن التحقيق عمل شاق جدا ، ولا يعرف ذلك إلا من مارسه وقام به. والواقع أن كل جهد يبذل فى خدمة هذا التفسير يهون بالنسبة لقيمته العظيمة.(1/5)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 6
فالحمد لله الذي يسر وأعان على إتمام هذا العمل وإخراجه فى هذه الصورة الطيبة ، وأرجو اللّه جلت قدرته أن يجعل جزائى عنده على ما بذلت من جهد فيه ، جزاء من بذل الوسع وأفرغ الطاقة ، ولم يدخر شيئا كان فى مكنته أن يبذله ، إنه سبحانه ولى الجزاء وهو حسبنا ونعم الوكيل.
ومن أوجب الواجبات علىّ أن أشكر هنا هذه المأثرة ، التي تفضل بإسدائها فرع الدوحة النبوية ، الأستاذ الدكتور/ حسن عباس زكى ، وزير الاقتصاد الأسبق ، والداعية الإسلامى الكبير ، والعلم الصوفي الشهير. فقد تفضل - حفظه الله - بتحمل نفقات طبع هذا الكتاب ، كدأبه فى سائر المشروعات العلمية ، حرصا من سعادته على العلم ، ورغبة فى نشر الآثار الدينية القيمة ، وغيرة على ذخائر العلماء من أن تأتى عليها يد الضياع أو الإهمال. شكر اللّه له ، وكتب له هذه اليد الكريمة فى سجل الباقيات الصالحات - آمين.
وأثنّى بشكر عظيم وتقدير صادق لكل من قدّم لى عونا ومساعدة ، وأخص بالذكر أستاذى الكبير والعالم القرآنى ، الأستاذ الدكتور/ جودة محمد المهدى ، عميد كلية القرآن الكريم» فقد لازم العمل من بدايته حتى نهايته ، بكل ما عرف عنه من النشاط والدأب وتحرى الدقة ، وكذلك أستاذى الكريم ، الأستاذ الدكتور/ على جمعه ، أستاذ أصول الفقه بجامعة الأزهر ، فقد كانت له نظرات واعية فى التقويم والتوجيه ، كما ذلل اللّه على يديه كثيرا من الصعاب ، متّع اللّه الأمة بهذين الرجلين العلّامتين العارفين البركتين ، وجزاهما اللّه عن العلم وأهله خير الجزاء.
كما أرفع أسمى آيات الشكر والتقدير لوالدى ، السيد الشريف ، والعالم العارف ، الأستاذ الشيخ/ عبد اللّه القرشي ، لقاء ما أسدى من نصح وبذل من توجيهات ، وما عملى فى هذا الكتاب إلا أثر من آثار فضله وعلمه منحه اللّه العافية ورضى عنه. كما أشكر الأخ الكريم الدكتور/ عثمان رسلان ، على ما بذله من جهد ، وما أبداه من ملاحظات وإشارات ، فبارك اللّه فيه وأثابه.
وبعد فإننى أقدم هذا الكنز الثمين ، داعيا اللّه العلى القدير أن يجعله عملا خالصا لوجهه الكريم ، وأن ينفع به.
ربّ إنى أبرأ إليك من الحول إلا بك ، وأسألك المزيد من فضلك ومعونتك ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، ، ، أحمد عبد الله القرشي رسلان(1/6)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 7
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
بقلم الأستاذ الدكتور/ حسن عباس زكى نحمدك اللهم ، فاتح كنوز الغيب للصفوة من عبادك ، مانح فيض علمك للخلاصة من خلقك ، فاستودعت قلوبهم خفىّ سرك ، وأشهدت أرواحهم حقيقة أمرك ، فكانوا أعرف عبادك بمضمرات إشاراتك ، وأفهمهم لمعانى كلامك ، فإن نطقوا فهم تراجمة لوحيك ، وإن عبّروا فهم ألسنتك تخبر بمرادك ، وإن فاهوا فإنما يفصحون عن بديع حكمك. أعززتهم بما توجتهم من العلم والعرفان ، فعزّوا على الناس بما خصوا به من أسرار معجم القرآن ، وحلّهم لطلاسم ورموز الفرقان.
ولمّا لم يسعف العقل بعض الناس بفهم تلك الإشارات ، ولم يحيطوا بإدراك تلك المذاقات ، أنكروا مقالهم ، وجحدوا حالهم ، وغاب عنهم اختصاصهم ، وفاتهم أن الحق هو المتكلم فيهم ، وأنهم مشيرون به ، أو هو المشير بهم ، «فاذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشى بها ، وإن سألنى أعطيته ، ولئن استعاذنى لأعيذنّه» «1» ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ «2».
ونصلى ونسلم عليك يا عين الحقائق ، ويا قرآن جمع العلم والمعلوم ، ويا فرقان الشرائع والعلوم ، أنزل عليك ربك كتابا فى عالم الظهور ، أنت سره وحقيقته ، فكنت تعاجل جبريل به قبل النزول ، كتابا منه آيات محكمات ، هن أم الكتاب ، يفهمها الخصوص والعموم ، وأخر متشابهات ، يختص بفهمها أولو العلم الراسخون. صلى الله عليك وعلى آلك وأحبابك مشارق شموس العرفان ، ومطالع كواكب الحقائق. المتبرءون من الأوهام والظنون ، ما كرّت الأيام ومرت الدهور والسنون.
(أما بعد) : فإن القرآن كلام الله ، وكلام الله صفته النفسية ، والصفة تدل دلالة واضحة على الموصوف ، وكما أن الموصوف - وهو الحق سبحانه - لا تدرك حقيقته فكذلك صفته .. لهذا وقفنا أمام كلام الله حائرين ، لا نجزم بتحديد مراميه ، ولا نقطع بأن ذلك التفسير عين مراد الحق منه لأن كلام الله القديم ، إنما يفسره المفسرون بلغتنا
___________
(1) الحديث أخرجه بطوله البخاري فى (الرقاق ، باب التواضع) من حديث أبى هريرة رضى اللّه عنه.
(2) من الآية 269 من سورة البقرة.(1/7)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 8
العربية المحدثة ، بناء على مدركات عقولهم البشرية. واللغة العربية من صنع المخلوق ، وكلام المخلوق محدود لأنه يعبّر عن محدود ، ومحال أن يحيط بالتعبير صنع المخلوق المحدود عن كلام اللّه وصفته ، التي لا تحدها الحدود.
وإذا كان أساطين اللغة والأدب يرون أن اللغة العربية على كثرة مترادفاتها ، وضخامة معاجمها ، وغزارة ما تحتويه من ألفاظ ، واحتشاد تراثها بالمجازات والكنايات ، عاجزة عن التعبير عن مشاعر الإنسان وأحاسيس البشر ، فإنها - والقياس غير جائز - لعن تحديد المراد من كلام اللّه وقرآنه أعيى وأعجز.
ومن هنا كان القرآن حمالا لوجوه عدة من المعاني ، وكان أمرا طبيعيا ما يتجدد فيه كل يوم من فهوم ، وستظل تلك المعاني تتجدد إلى ما شاء اللّه ، وسيبقى القرآن معها كما هو ، لا تبلى جدته ، ولا يكشف عن حقيقة مراده.
وليس غريبا بعد ذلك أن يذهب المسلمون مذاهب شتى فى تأويله ، فالمفسرون من علماء الشريعة يقفون عند ظاهر اللفظ ، وما دل عليه الكلام من الأمر والنهي ، والقصص والأخبار ، والتوحيد وغير ذلك. وأهل التحقيق ، أو الصوفية ، يقرون تفسيرهم هذا ، ويرونه الأصل الذي نزل فيه القرآن. ولكن لهم فى كلام اللّه - مع الأخذ بهذا التفسير الظاهري - مذاقات لا يمكنهم إغفالها لأنها بمثابة واردات ، أو هواتف من الحق لهم.
فلا ينبغى أن نقف القرآن على تفسير معين على أنه المراد ، فلا نقول كما يقول البعض : إن التفسير الظاهري وحده هو المقصود ، كما لا يرى أهل التحقيق أن تفسيرهم وحده هو المراد ، لأن القول بالتفسير الظاهري وحسب ، تحديد (لكلام اللّه) غير المحدود ، وإخضاع القرآن للغة التي مقياسها العقل المحدود ، والوقوف فى تفسير كلام اللّه عند العقل المحدود عقال عن الانطلاق فيما وراء الغيوب ، وإغلاق الباب لمذاقات ليس العقل مجالها ، لأنها لا تخضع لمقاييسه وإنما تخضع لشىء آخر فوقه ، وتدرك بلطيفة أخرى سواه.
إذن فهناك ما فوق العقل ، ألا وهو القلب.
وليس المقصود بالقلب قطعة اللحم الصنوبرية ، وإنما المراد به تلك اللطيفة النورانية الربانية.
إنه القلب الذي لا تحده الحدود ، لأنه عرش استواء تجليات الرب على مملكة الجسم. قال رب العزة فى حديثه القدسي : «ما وسعني سمائى ولا أرضى ولكن وسعنى قلب عبدى المؤمن» «1» وهو القلب الذي اختصه الله
___________
(1) أخرجه الديلمي (الفردوس 3/ 174 ح 4466) من حديث أنس بن مالك ، بلفظ : «لا يسعنى شىء ، ووسعني قلب عبدى المؤمن اللين ...» الحديث ، وانظر : إتحاف السادة المتقين ، للزبيدى (7/ 234) وكشف الخفاء للعجلونى : (2/ 195 ح 2257).(1/8)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 9
بالأسرار ، والذي يجب أن يستفتيه الإنسان إذا حار. سأل وابصة بن معبد رسول الله صلى اللّه عليه وسلّم عن البر والإثم ، فقال :
«يا وابصة استفت قلبلك ، البر ما اطمأنت إليه النفس ، واطمأن إليه القلب ، والإثم ما حاك فى القلب وتردد فى الصدر ، وإن أفتاك الناس وأفتوك» «1».
ذلك هو القلب المراد ، وله لغته ، كما أن للعقل لغته. وإذا كانت لغة العقل تدرك بالألفاظ ، ويعبّر عنها بالكلمات ، فلغة القلب تدرك بالذوق لأنه لا يحيط بالتعبير عنها اللفظ. ولنقرب إلى الفهم فلغة القلب مثل التفاحة .. فلن يستطيع من أكلها وأحس حلاوتها أن يترجم باللفظ أو يعبّر بالوصف لمن لم يأكلها قبل عن طعمها ومذاقها. وهكذا لا تدرك لغة القلب بوصف أو بلفظ ، وإنما يدركها ذو قلب متذوق. ولذلك لا تحيط بالتعبير عن لغة القلب العبارة ، وإنما يعبّر عنها بالإشارة. فالإشارة ترجمان لما يقع فى القلوب من تجليات ومشاهدات ، وتلويح لما يفيض به الله على صفوته وأحبابه ، من أسرار فى كلام الله وكلام رسوله.
ومن هنا كانت مذاقات الصوفية وأهل التحقيق فى قرآن الله الكريم وكلامه القديم .. وهم لا يرون أن تلك المذاقات وحدها هى المرادة ، وإنما يأخذونها إشارات من الله لهم ، بعد إقرار ما قاله أهل الظاهر من تفسير باعتباره أصل التشريع.
وجلى بعد ذلك أنه لا مجال لمعترض ممن ينكر عليهم مذاقاتهم ، ويراها ميلا بكلام الله عن مجراه ، ماداموا لا يأخذون بمذاقاتهم وحدها ، وإنما يأخذون بها مع إقرارهم لتفسير أهل الشرع. فلا يعنينا من ذى جدل أن يقول عن هذه الإشارات : إنها إحالة لكلام الله عز وجل ، وتغيير لسياقه ومجراه لأن ذلك يصدق لو قالوا : إنه لا معنى للآية إلا هذا ، وهم لا يقولون ذلك ، بل يقرون الظواهر على ظواهرها ، ويفهمون عن اللّه ما أفهمهم.
وذلك مصداق الحديث الشريف : «لكل آية ظاهر وباطن وحدّ ومطلّع» «2» فالباطن لا يعارض الظاهر ، والظاهر لا يعارض الباطن ... وذلك النهج بعيد كل البعد عما نادى به (الباطنية) من الأخذ بباطن القرآن لا ظاهره ، وقصرهم معانى القرآن على ما ادعوه من تفسيراتهم دون غيره ، لأنهم بذلك لا يقرون الشريعة ويبطلون العمل بها. وهم لا يخضعون دعواهم للنص القرآنى ، بل يخضعون النص القرآنى لدعواهم.
وهنا يزول ما التبس على البعض من أن مذاقات الصوفية فى القرآن الكريم نزعة باطنية ، فبينهم وبينها آماد وأبعاد ، بل إنهم لبريئون منها ، وينكرونها كل الإنكار ، وواضح ذلك من أنهم يأخذون بالباطن بعد الأخذ بالظاهر ،
___________
(1) أخرج حديث وابصة ، الإمام أحمد فى المسند (4/ 228).
(2) أخرجه الطبري فى تفسيره (1/ 22) وابن حبان (الإحسان 1/ 146 ح 75) والبزار (كشف الأستار ، باب كم أنزل القرآن فى حرف 3/ 90 ح 1312) من حديث عبد اللّه بن مسعود. وعزاه السيوطي فى الجامع الصغير (ح 2727) للطبرانى فى الكبير.
وأخرجه البغوي فى شرح السنة (ح 122) عن الحسن البصري مرسلا.(1/9)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 10
ويقرون الحقيقة بعد الأخذ بالشريعة. ويرون أن الحقيقة نفسها أساسها الشريعة ، فالفرق ثمة كبير ، والبون شاسع وعظيم.
ولا مجال بعد هذا الإيضاح لإنكار من ينكر على الصوفية مذهبهم فى الإشارات ، وما يختصهم الله به فى كلامه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسرار والفيوضات.
على أن تلك الإشارات أمر مشروع ، أقره الحديث المذكور آنفا : «لكل آية ظاهر وباطن وحد ومطلع» ، فأربابها متبعون لا مبتدعون ، اختصهم الله بأسراره فى آياته ، ليكونوا مصابيح الهدى فى غسق الدجى ، كما أقره عمد الدين ، وذوو العلم من المؤلفين.
قال سعد الدين فى شرح العقائد النسفية : «وأما ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص على ظواهرها ، ومع ذلك فهى إشارات خفية إلى حقائق تنكشف لأرباب السلوك ، يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان». وقال الشيخ زروق رضى الله تعالى عنه : «نظر الصوفي أخص من نظر المفسر وصاحب فقه الحديث ، لأن كلا منهما يعتبر الحكم والمعنى ، ليس إلا ، وهو يزيد بطلب الإشارة بعد إثبات ما أثبتاه».
فإذا دار المفسرون فى حدود اللفظ القرآنى ، واستنبط منه الفقهاء ما استنبطوا من أحكام ، فلأولى الألباب وذوى البصائر فيه بعد ذلك من الأسرار والحقائق ، ما لا ينكشف لسواهم ، ولا يدركه غيرهم. وذلك لتجدد واردات الحق عليهم ، ودوام تنزل الفيوضات على قلوبهم ، لأنهم أهله ومحبوه.
ثم إن فيض الله المتجدد فى كلامه لهم لمما يزيد فى كمال إعجاز القرآن ، ويؤكد أن إعجازه أسمى من أن يكون فى فصاحة لفظه ، وقوة أسره ، وبلاغة أسلوبه ، وإنما إعجازه فوق ذلك فى أسراره ومعانيه ، ومراده ومراميه. وأهل الله أولى الناس بتفهم مراده ومعرفة مرامى كلامه ، ومن ثمّ كان ما ينكشف لهم فى كلام الله من أسرار بمثابة إشارات لهم - وحدهم لأن الإشارة لغة المحب مع المحبوب ، والإشارة بعد ذلك تلويح للمراد ، لا إفصاح عنه ، لعدم قدرة الألفاظ على تحمل المراد؟ لأن العبارة تحدد ما يشيرون إليه ، وما يشيرون إليه إنما يكون عن مشاهدة. وما يشاهدونه ليس بمحدود إذ هو من عالم الغيوب ، فلا اللفظ قادر على تحديد المراد ، ولا قابليات العقول تطيق ذلك. ومن ثمّ سميت مذاقاتهم فى القرآن إشارات ، ولم تسم تفسيرا.
وقد تحلى القرآن الكريم بمثل تلك الإشارات من رموز الحواميم و«الم» و«طسم» ... إلخ ، وهى إشارات بين الحق ورسوله ، أو «شفرات» - بالتعبير الحديث - بين المحبوب وحبيبه ، ولا يعرف حلها إلا من لديه مفتاحها.
ومفتاح تلك «الشفرات» وفهم تلك الإشارات فى حوزة من لديه الفهم لمراد المشير ، وهم - بعد الرسول صلى اللّه عليه وسلّم - ورثته(1/10)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 11
من العلماء باللّه وأوليائه. نقل عن الصالحين أن اللّه تعالى لمّا أنزل على سيد العالمين صلى اللّه عليه وسلّم قوله تعالى : (كهيعص) قال جبريل عليه السّلام : (ك) قال النبي - اللهم صلى عليه - : عرفت قال جبريل عليه السّلام : (ه) ، قال : - اللهم صلى عليه وآله - عرفت ، قال جبريل : (ى) ، قال : عرفت ، قال : جبريل : (ع) قال : عرفت ، قال جبريل : (ص) ، قال النبي :
عرفت ، قال جبريل : عرفت وأنا لم أعرف ، سبحان من أعطاك. ومن هنا فهم أبو بكر الصديق رضى اللّه عنه وحده مقالة الرسول - عليه الصلاة والسلام - حين نظر إليه ، وقال : (أتذكر يوم لا يوم)؟ فقال نعم ، ولم يفهمها غيره من الصحابة الحاضرين. ولما سئل الصديق رضى اللّه عنه عن ذلك ، قال : «إنه يوم الميثاق».
ولا عجب فيما ينكشف لأرباب الإشارات من فيوض فى قرآن الله ، أو حديث رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فمازال المفسرون يتجدد لهم فى كلام الله كل يوم معان لم تسبق ، لا ينكرها الناس ، بل إليها يستريحون ، ففيم الإنكار على أرباب الإشارات ، وهم عن الله مشاهدون ، ولهم منازلات ومقامات ، فيتكلمون بما يشاهدون فى منازلاتهم ، وينطقون عما يرون فى مقاماتهم؟
أجل : معذور من ينكر عليهم ، لأنه لم يذق ما ذاقوا ، فلو ذاق لعرف ، وينبغى ألا يغيب عنه أن تلك الإشارات بمثابة اصطلاح يفهمه أهل التحقيق ، ولا يجدر أن يعارضهم فى اصطلاحهم اصطلاح جماعة أخرى مادام لكلّ اصطلاحه.
فالحق أن كلام الله نور يرسل إلى القلوب ، وهى أوعية يتلون ذلك النور بلونها .. وكلّ يرسل بتفسيره شعاعا حسب استعداده وقابليته وما استودع فيه.
على أن أهل التحقيق لا يدعون أنه محال على غيرهم ما يفاض به عليهم ، ولكنهم يعتقدون أن كل إنسان لديه الاستعداد لما عندهم ، غير أنهم فتحوا عيون قلوبهم ، فاطلعوا على ما اطلعوا من أسرار ، وغيرهم فتحوا نوافذ تفكيرهم فوقعوا فى الحيرة والوهم ، وقاسوا بعقولهم مذاقات تلك القلوب فأنكروها ، ولو أن عيون قلوبهم كأهل الله ، لكان ما استغربوه أمرا عاديا ، بل لاعتقدوا اعتقادا جازما ما أنكروه.
فليع كلّ ذى لب قدر هؤلاء الصفوة من أهل التحقيق ، وليدرك أنهم ملهمون إن نطقوا فلا ينطقون بأنفسهم ، وإن أشاروا فمحرّك الإشارة فيهم مولاهم. وارجع إلى الصدر الأول من عصر المسلمين الزاهر ، تجد أن من أئمة هؤلاء الملهمين سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، والذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن من أمتى مكلمين ومحدثين ، وإن عمر منهم».
ومنهم الإمام على بن أبى طالب رضى الله عنه ، الذي أشار إلى صدره بعد أن تأوه مرتين ، ثم قال : «إن هاهنا علوما جمة .. لو وجدت لها حملة!!». ويروى عنه أنه قال : (لو شئت لأوقرت من تفسير الفاتحة سبعين بعيرا) ، أولئك هم(1/11)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 12
علماء الله بحق ، الذين عناهم رسول الله صلى اللّه عليه وسلّم بقوله : «إن من العلم كهيئة المكنون ، لا يعلمه إلا العلماء بالله تعالى ، فإذا نطقوا به لا ينكره إلا أهل الغرة بالله عز وجل».
ذلك نذر يسير مما عليه أهل الإشارات من مكانة ، وقدر ضئيل مما شرفهم الله به من منزلة. ونستطيع بعد ذلك أن نعرض من مميزات وخصائص علم الإشارات ما يأتى :
1 - علم الإشارات لا ينظر إلى قصص الأنبياء فى القرآن الكريم على أنها قصص انتهت بانتهاء أممهم ، وأن تلاوتها الآن للعظة والاعتبار ، فحسب ، وإنما يرون مع ذلك أن الخطاب بها مازال قائما ، يوجه إلى الإنسان فى كل عصر وأوان ، باعتباره مملكة الله الصغرى ، التي انطوى فيها العالم كله ، فمثلا يرمزون لموسى بالقلب أو الروح ، وإلى فرعون بالنفس.
وبذلك يكون القرآن فى حالة تجدد نزول ، لم ينته الخطاب بانتهاء زمانه ، باعتباره كلام الله وصفته القائمة بذاته ، وتظل بذلك صفة الكلام قائمة غير معطلة ، لم تنته بنزول الكتب السماوية ، فمازال الحق سبحانه متكلما أبدا.
2 - علم الإشارات يكشف عن صدق أهله مع ربهم ، وأمانتهم عند الحديث عن كلامه ، فكل ما قاله القرآن وما تناولته ألفاظه من أداء ، هو فى مذهبهم حقيقة ، لا يعرفون مجازا ، ولا يلجئون إلى كناية ، لأنهم بما شاهدوا وذاقوا يدركون هذه الحقائق. ولمّا كانت تلك مواجيد وأذواق لا يمكن نقلها إلى الغير بعبارة رمزوا لها وأشاروا ، ومن هنا أنكر عليهم من أنكر ، أمّا من شاهد مثلهم فقد عرف ما عرفوا ، بل ربما تجدد له من ذلك مشهد أو حقيقة أو مذاق.
وهكذا نرى أن أهل الله أمناء على كلامه دفعتهم غيرتهم على محبوبهم ، وعظيم احترامهم لجنابه ، وإكبارهم لكلامه ، ألا يميلوا عن منطوق ألفاظه إلى مجاز أو كناية ، خشية البعد عن مراده. ولم اللجوء إلى المجاز مادام للحقيقة عندهم مخلص؟ فهم لا يرون فى قوله سبحانه : وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «1» أن السؤال لأهلها فحسب ، بتقدير مضاف ، كما قيل ، أي : واسأل أهل القرية ، وإنما السؤال للقرية بكل ما فيها ، ومن فيها ، ماداموا يشاهدون تسبيح الجماد ونطق الحيوان. واقرأ إن شئت قوله تعالى : وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ «2» وقوله : يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ «3» وقوله فى حق السماء والأرض : قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ «4» فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ «5» إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث. وعلى ذلك فلا يكون سؤال القرية قاصرا على أهلها ، لأنه سؤال لما فيها ومن فيها. والمخاطب بذلك لو كانت لديه الخصوصية لخاطب القرية بكل ما تحتويه من كائنات.
___________
(1) من الآية 82 من سورة يوسف.
(2) من الآية 42 من سورة الإسراء.
(3) من الآية 10 من سورة سبأ.
(4) من الآية 11 من سورة فصلت.
(5) من الآية 29 من سورة الدخان.(1/12)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 13
وثمة مثال ثان : فهم لا يعترفون بأن كلمة فى القرآن وضعت مكان كلمة أخرى أو بمعناها ففى قوله جل شأنه :
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ «1» لا يرون أن «عن» بمعنى «من» تمشيا مع إنابة حروف الجر بعضها عن بعض ، وإنما ينظرون إلى منطوق اللفظ نفسه ، وهو «عن ، » ففى اللغة تفيد معنى المجاوزة ، ويكون المراد - والله أعلم - : أن الحق يقبل التوبة متجاوزا عن عباده فى توبتهم لعدم خلوصها ، رحمة منه بهم ، وذلك المعنى لا شك أبلغ وأفصح.
على أن فى مذهب أهل الإشارات حلا لكل العقد ، وحسما للخلافات ، وزوالا للشبه والريب من مسائل الكسب والاكتساب ، والجبر والاختيار ، والنعيم والعذاب للجسم أو للروح .. إلخ.
كل هذا وغيره من خلافات أهل علم الكلام والعقائد لا ظل له عندهم ، لأنهم اطلعوا على سر الله فى أقضيته ومقدراته ، وتحققوا بذلك ، فاستراحوا ، وملأت قلوبهم السكينة ، وأفئدتهم الطمأنينة ، فاستشعروا فى حياتهم من السعادة ما لم يذقه غيرهم. ذلك لأنهم فتحوا عيون قلوبهم ، ولم يقيسوا بعقولهم ، لأن العقل مجاله محدود ، لا يكشف مهما كانت قدرته عما وراء الغيوب ، وإلا فبم يعلل العقل رؤية نبينا لموسى - عليهما الصلاة والسلام - مرتين فى قصة الإسراء والمعراج مرة ببيت المقدس ، وهو يصلى وراءه ، وأخرى فى السماء ، وهو يراجعه فى أمر الصلاة ، مع أن موسى لم يترك قبره ، ولم يفارق مثواه. والعقل يحار أيضا أمام حديث سجود الشمس تحت العرش كل يوم ، وأنها لا تطلع حتى يؤذن لها بالطلوع ، مع أنها لا تغيب عن الكون لحظة. وشبه ذلك كثير من الأمثلة.
هذا وفى سوق الواقعة الآتية ما يجعلك تلمس أن أهل التحقيق هم الذين يفهمون عن الله ورسوله ما لا يفهمه غيرهم ، وأنّ من رحمة الله بعباده أن يكونوا بينهم ، وإليك الواقعة :
اشتكى رجل مرضا حار فيه «نطس» الأطباء ، فرأى رسول الله صلى اللّه عليه وسلّم يرشده إلى أن يأخذ من ثمرة شجرة (لا ولا) ويستعملها ففيها شفاؤه. وحار الرجل فى تفسير رؤياه ، وحار معه فى حل رمزها علماء العصر ، حتى شاء الله له الخير ، فالتقى برجل من أهل التحقيق ، فأجابه على الفور : أمرك يسير ، علاجك فى شجرة الزيتون فهى التي يقول الله فيها : لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ «2».
تلك - أيها القارئ - ومضة خاطفة من قبس أنوار أهل التحقيق ، ومكانتهم عند ربهم ، وجولة سريعة فى علم الإشارات ، ومذهب أهله ، عرضناها عليك. ألمعنا بها إليك كتمهيد للسفر الجليل والكنز الثمين الذي نحن بصدد الحديث عنه ، والذي ظل طىّ الكتمان ودفين النسيان ، حتى قيّض الله له باحثنا أمينا ، له فى هذا العمل ، من الشباب القوة ، ومن الشيوخ الخبرة ، فأخرجه إلى النور ، وهيأه للنشر والظهور.
والآن يسعدنى أن أقدم للمسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها عامة ، ولذوى الألباب والبصائر خاصة ، ولكل باحث متصوف : تفسير القرآن ، للعالم والداعية الكبير «ابن عجيبة» وهو نموذج من نماذج فيوضات أهل التحقيق ،
___________
(1) من الآية 25 من سورة الشورى.
(2) من الآية 35 من سورة النور.(1/13)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 14
ومذاق من مذاقات أولى الإشارات ، وأرباب السلوك ، وأصحاب الطريق. ففيه تذكير بأن ما عزب عن الأفهام دركه من أسرار التفاسير الصوفية الأخرى الدسمة ، لا يمسها بالعيب والطعن لقصور العقل عن النهوض باستشراق ما أطلع عليه أهلها من أسرار ، فكم من مذاقات تناولها بالعقل متناولوها فمسخوها ، ووصلوا بأهلها إلى الحلول والإلحاد ، وهم بعقائدهم النقية أبعد الناس عن ذلك ، ومن الجور الفادح أن نلبسهم بذلك ثياب الملحدين ، ونرميهم بالكفر أو الانحراف عن سواء السبيل.
ومن مميزات ذلك التفسير أنه يكشف عن مشارب القوم ، ونهج الصوفية فى استمدادهم من الحق تعالى ، فى كل ما يأتون من مواجيد ، فهو يدلّل خلال قراءته - فى وعى - على أن كل صغيرة وكبيرة من مفاهيم الصوفية لها أصل من القرآن أو سند من السنّة لأن قلوبهم مرايا صافية ، يسطع عليها نور الحق ، ومحال أن تعكس ما لا يرضى الحق. فليس الصوفية فى الواقع إلا روافد تستقى من ينبوع الشريعة ومعينها الطيب ، غاية الأمر أنهم ملهمون بتجلى اللّه عليهم فى كلامه ، بالجديد من أسرار ، وتجليات الله لا تتناهى. ووقف غيرهم عند المسطور المتوارث ، فداروا فى نطاقه ، ولم يتجاوزوا حدوده.
هذه نبذة عاجلة عن الكتاب وبعض مميزاته. أما عن المؤلف فقد تناول محقق التفسير ما فيه الكفاية والغنى عن البيان. وأبرز استعداده الفطري وحافظته الواعية ، وذكاءه النادر ، ما كان سبيلا إلى أن يحصل من دراسته الأدب والعلوم العقلية والنقلية ، دينية وغير دينية ، ما جعله كنزا للعلوم والآداب ، عدا موهبة سخية فى نظم الشعر ، وتذوق الأسلوب العربي ، وعقيدة نقية فى تمسكه بمذهب أهل السنة ، لم يشبها ما خاض فيه من علم الكلام وخلافات أهله.
فالمؤلف - رحمه اللّه كان مؤهلا أن يدرس الأسلوب القرآنى ، ويستخرج منه ما يستخرج من إشاراته. والحق أن تلك الإشارات ليست وليدة دراسة العقول ، وإنما هى وليدة الإلهامات بعد فتح عيون القلوب. وفيما سبق من توضيح ذلك ما يغنى عن تكرار التبيان.
فإن كان لإمامنا ابن عجيبة ما سبق من شهرة علمية ودينية وأدبية ولغوية وعقيدية ، فذلك سمة من السمات الدالة على أن رجال الله يعدّهم قبل أن يختارهم لحضرته ، ليعزهم بعزته ، ويكونوا خلفاءه - بحق - فى أرضه ، يخاطبون كلّا حسب استعداده ، فتملأ هيبتهم كلّ فراغ ، ويكونون فرسان الحلبة فى كل ميدان ومجال.
على أن تلك الكنوز العلمية المكتسبة التي اشتهر بها إمامنا «ابن عجيبة» ليست شرطا فيمن يختارهم الله من رجاله ، فمن شاءه وليا ، وأراده له حبيبا علّمه من علمه اللدني ، حتى ولو كان أميا. وسيدى «عبد العزيز التباغ» صاحب الإبريز المشهور ، وسيدى «على الخواص» شيخ الإمام الشعراني وغيرهما من فحول الصوفية ، خير مثال لذلك ، وبذلك تصدق المقولة المشهورة : (ما اتخذ الله من ولى جاهل ، ولو اتخذه لعلمه).
والآن أعدك أيها القارئ الكريم لذلك الكتاب العظيم لتدرك بنفسك نفائسه ... وأختم حديثى تيمنا - بترديد الكلمة المباركة التي كانت أول خطاب من الله لرسوله - عليه الصلاة السلام - أول بعثته فأقول لك : اقْرَأْ.
د. حسن عباس زكى(1/14)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 15
كلمة أ. د./ جودة محمد أبو اليزيد المهدى
عميد كلية القرآن الكريم بطنطا الحمد للّه الذي أنزل من حضرة ربوبيته على قلب أعظم رسله هذا القرآن العظيم ، هدى ونورا ، وجعله معجزة المعجزات ، وجامع حقائق حضرات الذات والصفات والأسماء والأفعال ، فسطرت فيه أسرار الوجود تسطيرا.
والصلاة والسلام على أكمل خلق اللّه ، سيدنا محمد ، الذي تجلى عليه مولاه باسم (الرحمن) ، فعلّمه القرآن ، وأرسله بالحق بشيرا ونذيرا ، وداعيا إلى اللّه بإذنه وسراجا منيرا. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وورثته القرآنيّين ، الذين أشربوا حب القرآن ، وتدبروا آياته ، وغاصوا فى بحار معانيه ، واستخرجوا جواهر حقائقه ، ودرر أسراره ، فنالوا فضلا كبيرا. رضى اللّه عنهم ، وسلك بنا مسلكهم ، وحشرنا فى زمرتهم ، ولقّانا بهم نضرة وسرورا.
أما بعد :
فقد أدرك الفقهون عن اللّه تعالى أن ذروة الفضل ، وذؤابة الشرف ، وجوهر السعادة فى التعلق بكتاب اللّه تعالى ، الذي هو حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وهو مأدبة اللّه تعالى ، ودستوره الخالد ، والمحيط الجامع لأنواع العلوم والمعارف ، والمنهاج الأعظم للتربية والتحقق ، ومن ثمّ تبتلت قلوبهم فى محراب التنزيل ، وعكفوا على تدبر آياته واستكناه أسراره لاستخلاص حقائق الوجود من مشكاة عرفانه.
لقد أذعنوا لقول الحق تعالى : ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ «1». ولقوله عز من قائل : وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ «2». وأيقنوا بمقولة حبر الأمة ، سيدنا عبد اللّه بن عباس - رضى اللّه تعالى عنهما - :
«جمع اللّه فى هذا الكتاب علوم الأولين وعلوم الآخرين ، وعلم ما كان وعلم ما يكون ، والعلم بالخالق - جل جلاله - فى أمره وخلقه» «3».
وقد تعددت وتنوعت منازع ومناهج المشتغلين بتفسير كتاب اللّه تعالى.
___________
(1) سورة الأنعام/ 38.
(2) سورة النحل/ 89. [.....]
(3) انظر : جامع الأصول لابن الأثير : 8/ 464 : حديث رقم/ 6233.(1/15)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 16
فمنهم من توفرت هممهم على جمع المأثور فى تفسيره من السنة النبوية ، وأقوال السلف الصالح ، من الصحابة والتابعين وتابعيهم ، دون إعمال للرأى ، أو مع إعماله بضوابطه. ومنهم من صرف وكده فى تفسيره إلى الجانب اللغوي ، فبرزت إلى الصعيد التفسيري مدارس التفسير اللغوي ، والنحوي ، والبلاغى ، والبياني بألوانها الشائعة المعطاءة. ومنهم من آثر المتجه الكلامى العقدى ، فحفل تفسيره بخوض عباب المباحث العقدية ، ونصرة مذهبه على المذاهب الأخرى ، فى شتى القضايا الكلامية ، فكانت موسوعات تفسيرية فى هذا الجانب. ومنهم من جنح فى تفسيره إلى الجانب الفقهي المذهبى ، فكان اللون المعروف بتفاسير الأحكام ، وكل منها فى مذهب بعينه ، وقد استخدمت فيه القواعد الأصولية. ومنهم من غلب عليه الطابع القصصى ، فتوسع فى الروايات والآثار فى معالجة قصص القرآن الكريم ، ما بين صحيح ودخيل.
وهكذا اتخذ المشتغلون بالتفسير طرائق قددا ، ومنازع شتى ، ومناهج متنوعة ، ما بين تحليلي ، وموضوعى ، ومقارن ، وتاريخى ، واستقرائى. وكلها حقق للمكتبة التفسيرية ثراء حافلا فى تناول كتاب اللّه الخاتم ، لم ينله ولم يدن منه فى تاريخ الوجود توفر على كتاب سواه ، وذاك من لوازم حقيّته ومصداقيته وإعجازه.
بيد أنه - مع كل ذلك - لا يبلغ البناء التفسيري كماله وتمام مصداقيته فى تحقيق وفاء معانى التنزيل بتفسير حقائق الوجود بأسرها إلا بإعمال المنهج الصوفي الإشارى فى التفسير ، وإحراز نتاج (علم الموهبة) الذي اعتده أساطين علوم القرآن الكريم وتفسيره علما أساسيا ومصدرا رئيسا للمفسر ، ضمن العلوم الخمسة عشر التي يحتاج إليها المفسر ، حيث ذكره الإمام السيوطي - رضى اللّه تعالى عنه - فى ختامها - بالإتقان - قائلا : (الخامس عشر :
علم الموهبة : وهو علم يورثه اللّه تعالى لمن عمل بما علم ، وإليه الإشارة بحديث «1» : «من عمل بما علم ورثه اللّه علم ما لم يعلم» - ثم قال : قال ابن أبى الدنيا : وعلوم القرآن وما يستنبط منه : بحر لا ساحل له.
قال : فهذه العلوم - التي كالآلة للمفسر - لا يكون مفسرا إلا بتحصيلها ، فمن فسر بدونها : كان مفسرا بالرأى المنهي عنه ، وإذا فسر مع حصولها لم يكن مفسرا بالرأى المنهي عنه) «2».
أجل : إن التفسير القرآنى بدون الوقوف على الجانب الإشارى ، الذي يسبر باطن العبارة القرآنية بالكشف الذوقى العرفانى ، ليفتقد تلك الثمرة اليانعة ، والروعة الرائعة ، التي يمتن بها الحق تعالى على أوليائه العارفين ، الذين طهرت قلوبهم وأرواحهم ، بعد إماتة نفوسهم بسيف الجهاد الأكبر ، فعلمهم الحق من لدنه علما ، وأتاح لطلاب
___________
(1) أخرجه الحافظ أبو نعيم ، عن سيدنا أنس رضى اللّه عنه ، وخرّجه عنه العجلونى فى كشف الخفاء ص 365.
(2) الإمام الحافظ : سيدى جلال الدين السيوطي - رضى اللّه تعالى عنه : الإتقان فى علوم القرآن. بتحقيق : محمد أبى الفضل إبراهيم : (4/ 188) ط/ المشهد الحسيني.(1/16)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 17
المعرفة وعشاق الحقيقة أن ينهلوا من رحيقه ، بالمثول فى رحابهم ، واقتطاف الأزاهير من بساتينهم ، فيكتمل المفاد التفسيري بإحراز التعرف إلى الباطن القرآنى - بالمفهوم السنّى لا الشيعي للباطن - إلى جانب معرفة الظاهر والحد والمطلع ، فتلك روافد العطاء المعرفى للقرآن الكريم ، كما بيّنها الرسول الأعظم صلى اللّه عليه وسلّم بقوله : «إن للقرآن ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا» «1».
فالمراد بالظهر : ما يظهر من معانى التنزيل لأهل العلم بالظاهر. والمراد بالباطن : ما يتضمنه من الأسرار التي اطلع اللّه تعالى عليها أرباب الحقائق. فالبطن روح الألفاظ ، أي : الكلام المعتلى على المدارك الآلية بجواهر الروح القدسية. والحد : مراد به : أن لكل حرف من القرآن منتهى فيما أراده اللّه تعالى من معناه. والحد : إما بين الظهر والبطن ، وإما بين البطن والمطلع ، فيرتقى به من البطن إليه عند إدراك الرابطة بين الصفة والاسم ، واستهلاك صفة العبد تحت تجليات صفة المتكلم جل شأنه. والمطّلع - بضم الميم وفتح الطاء المشددة واللام - : هو مكان الاطلاع من الكلام النفسي إلى الاسم المتكلم ، المشار إليه بقول الصادق : «لقد تجلى اللّه تعالى فى كتابه لعباده ولكن لا يبصرون» ومن ثمّ فالمطلع : ما يصعد إليه منه فيطلع على شهود الملك العلام «2». جعلنا اللّه تعالى من أهل ذاك المقام ، بجاه سيد الأنام ، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.
وهكذا نجد أن السنة النبوية الشريفة - بحديث : «إن للقرآن ظهرا وبطنا» ونظائره «3» - تعاضد القرآن العظيم فى تأصيل التفسير الفيضي ، أو الإشارى فى نحو قوله تعالى : أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «4» وقوله سبحانه : فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً «5» ، ففيهما الإشارة الثاقبة إلى التفسير الإشارى. ومن ثمّ روى عن باب مدينة العلم. سيدنا على كرم اللّه وجهه أنه قال : «لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من فاتحة الكتاب» وقال : «من فهم القرآن فسر به جمل العلم» «6».
ولتجسّد أصالة التفسير الصوفي الإشارى وحتمية وجوده لتجلية حقائق القرآن المستنبطة منه بفهم أهل اللّه تعالى : فقد اعتد أساطين علماء التنزيل به ، وضمنوه تفاسيرهم ، ووضعوا له التعريف العلمي بضوابطه التي تخرج عنه ما يلتبس به عند غير ذوى العلم ، مما يعرف بالتفسير الباطني الذي يقصر دلالة النص القرآنى على تأويلات الباطنية من الشيعة المنحرفة ، فهذا لا علاقة له بالتفسير الصوفي على الحقيقة.
من ثمّ عرف التفسير الصوفي الفيضي الإشارى بأنه : تأويل آيات القرآن الكريم على خلاف ما يظهر منها بمقتضى إشارات خفية ، تظهر لأهل السلوك ، ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة «7».
___________
(1) أخرجه ابن حبان ، فى صحيحه ، عن سيدنا عبد اللّه بن مسعود رضى اللّه عنه ، وأخرجه عنه الحافظ العراقي فى (المغني عن حمل الأسفار. بتحقيق ما فى الإحياء من الأخبار) بحاشية الإحياء (1/ 88).
(2) انظر روح المعاني لشيخنا الإمام الآلوسى النقشبندي ، عليه رضوان اللّه تعالى (1/ 7).
(3) من نظائر هذا الحديث الشريف : ما أخرجه الديلمي عن سيدنا عبد الرحمن بن عوف رضى اللّه عنه مرفوعا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلّم أنه قال :
(القرآن تحت العرش له ظهر وبطن يحاج العباد).
(4) سورة (محمد) صلى اللّه عليه وسلّم : الآية/ 24.
(5) سورة النساء/ 78.
(6) انظر إحياء علوم الدين ، للإمام الغزالي رضى اللّه عنه ، (1/ 260) ط/ العثمانية.
(7) انظر - مع الإتقان للإمام السيوطي 4/ 198 - : التفسير والمفسرون للدكتور محمد حسين الذهبي 3/ 18.(1/17)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 18
وعلى ذلك : فقد اعتمد علماء القرآن الكريم التفسير الصوفي الإشارى بشروط أربعة لقبوله :
أولها : عدم منافاته لمقتضى اللغة ولظاهر النظم القرآنى الكريم.
وثانيها : أن يكون له شاهد شرعى يؤيده من الكتاب أو السنّة أو سائر الأصول المعتمدة.
وثالثها : ألّا يكون له معارض شرعى قطعى.
ورابعها : ألّا يدعى أن هذا التفسير الإشارى هو وحده المراد دون الظاهر ، بل لا بد من إقرار التفسير العبارى الظاهر أولا ثم الأخذ بالمعنى الإشارى «1».
هذا : ومن المفسرين الأعلام من جرد همته للتفسير الظاهر - كالزمخشرى مثلا - ولم يعن بالتفسير الإشارى ، وليس كذلك البيضاوي ، خلافا لما ذكره الدكتور الذهبي ، حيث قرنه بالزمخشرى فى الاقتصار على الظاهر. وقد حققنا الاتجاه الصوفي عند القاضي البيضاوي فى بحث مستقل «2».
ومن أعلام المفسرين من صرف جل وكده للتفسير الظاهر ، مع تعرضه للجانب الإشارى بقدر ، كما نراه فى تفاسير الإمام الفخر الرازي والإمامين النيسابورى والآلوسى - رضى اللّه تعالى عنهم أجمعين.
ومنهم من غلب عليه الطابع الإشارى ، ولم يحفل بالتفسير إلا قليلا ، كالإمام سهل بن عبد اللّه التستري (ت سنة 200 ه) رضى اللّه تعالى عنه ، وتفسيره وجيز جليل القدر.
ومنهم من اقتصر على الجانب الإشارى تماما كالإمام أبى عبد الرحمن السلمى (ت 412 ه) - رضوان اللّه عليه - فى كتابه : (حقائق التفسير).
ومنهم من جمع بين التفسير الظاهر وبين التفسير الإشارى ، فى توازن بينهما ، وإشباع علمى فى كلا الجانبين ، فجاء تفسيره متكاملا بالجواهر والدرر ، كالعلامة إسماعيل حقى الإسلامبولى الحنفي (ت 1137 ه) رضى اللّه عنه فى تفسيره (روح البيان) ، وكالإمام العلامة العارف باللّه تعالى الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى (1160 - 1224 ه) رضى اللّه عنه صاحب هذا التفسير الفريد المسمى (البحر المديد في تفسير القرآن المجيد) ، وهو الذي نقدم له بهذه السطور ، فقد جاء هذا التفسير آية رائعة فى التفسير القرآنى ، الجامع بين تفسير أهل الظاهر بمعطياته وملكاته وأدواته ، وإشارة أهل الباطن - بالمدلول السنّى للباطن - مستوفيا ضوابطه وشروطه ، حافلا بأزهاره وثماره ، حتى إنه ليعد موسوعة قرآنية فى الحقائق وعلم السلوك.
وأسأل اللّه - عز وجل - أن يتقبل هذا العمل ، وأن يحشرنا به فى زمرة أهل القرآن الذين هم أهل اللّه وخاصته.
وصلى اللّه تعالى على أعظم رسله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أ. د. جودة محمد أبو اليزيد المهدى عميد كلية القرآن الكريم بطنطا وعضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية
___________
(1) انظر : المرجع الأخير مع زيادة تحرير فى العبارة : 3/ 43.
(2) حوليه كلية أصول الدين والدعوة الاسلامية بطنطا : العدد الثالث سنة 1412 ه سنة 1991 م ص 7 - 57.(1/18)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 19
ترجمة الإمام ابن عجيبة «1»
اسمه :
هو الإمام العلامة المفسر «أحمد بن محمد بن المهدى بن الحسين بن محمد» المعروف بابن عجيبة ، والمكنى بأبى عباس ، الحسنى نسبا ، التطوانى دارا ، الفاسى تعلما ، المالكي مذهبا ، الشاذلى طريقة ، أعجوبة زمانه ، وعديم النظير فى أمثاله ، مؤلف التآليف العديدة ، ومفيد العلوم المفيدة. العالم العلامة ، والصوفي الفهامة ، والعارف المحقق ، الشيخ الكامل الجليل ، الشريف البركة.
مولده
ولد الإمام ابن عجيبة فى قرية (أعجبيش) ، من قبيلة (أنجرة) ، التي تسكن الجبال المحيطة بمدينة تطوان «2» ، الواقعة فى أقصى شمال المغرب ، على مسافة عشرة كيلومترات ، من ساحل البحر الأبيض المتوسط. وكان مولده رحمه الله ، حسبما أورد فى فهرسته - سنة ستين أو إحدى وستين ومائة وألف هجرية «3» ولا خلاف بين المصادر الأخرى التي أوردت تاريخ ولادته ، وإن كانت قد اقتصرت على ذكر إحدى السنتين. ويرجع عدم جزم شيخنا بإحدى السنتين إلى أن مولده لم يؤرخ بالسنين ، بل أرخ بحادث حصار (المستضيء بن إسماعيل) لتطوان ، وكان ذلك بين سنتى ستين وإحدى وستين «4».
أسرته : ولد الشيخ من أبوين صالحين ، كلاهما من آل بيت النبوة ، يرجع نسبهما إلى الإمام الحسن بن على رضى الله عنه والسيدة فاطمة - رضى الله عنها - بنت سيد الكونين ، وصخرة العالمين ، حبيب الرحمن ، من قدمه فوق رؤوسنا شرف لنا ، ومن إذا انتسب إليه أحد نسبا فاز بالمنى.
والمستطلع لتاريخ آبائه يدرك صلاحهم وتقواهم ، ومدى ما كانوا عليه من خشية للّه وشرف هاشمى. فجد جده «عبد الله بن عجيبة» ولى مشهور ، وقبره مزار بقبيلة أنجرة ، كما أن جد والده «الحسين الحجوجى» صاحب كرامات عديدة ومآثر حميدة ، أما جده «المهدى» فكان كما يقول شيخنا : (رجلا صالحا صموتا خلويا - أي :
يحب الخلوة - مغفلا عن أمور الدنيا ، ولا نجده إلا وحده ، تاليا ، أو مصليا ، أو مشتغلا بما يعنيه) «5» وأبوه
___________
(1) أخذت ترجمة الشيخ ابن عجيبة عن (العسكري ، مخطوط طبقات أصحاب الدرقاوى) ورقة 142 وما بعدها ، عبد القادر الكوهن مخطوط : (إمداد ذوى الاستعداد) ورقة 20 ، مخلوف : شجرة النور الزكية ص 400 ، الأزهرى اليواقيت الثمنية ج 1/ ص 70 ، الكتاني : فهرس الفهارس ج 2/ ص 854 ، الحسن الكوهن : طبقات الشاذلية ص 164 وما بعدها ، سركيس : معجم المطبوعات 1/ 169 الزركلى : الأعلام ج 1/ ص 245 ، رضا كحالة : معجم المؤلفين 1/ 63 ، تيمور : فهرس التيمورية 3/ 197 ، د/ درنيقة :
الطريقة الشاذلية وأعلامها/ 92 - 94 وذلك فضلا عن الفهرسة للشيخ المفسر.
(2) عبد المجيد الصغير ، إشكالية إصلاح الفكر الصوفي 1/ 126. [.....]
(3) ابن عجيبة : الفهرسة ص 16.
(4) انظر المصدرين السابقين.
(5) الفهرسة ص 27.(1/19)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 20
«محمد بن المهدى» كان رجلا صالحا ، لا يجلس فى الغالب إلا وحده ، فقيرا من الدنيا ، يبت يقرأ القرآن. توفى رحمه الله سنة «1196 ه» - «1».
نشأته العلمية :
نشأ الشيخ ابن عجيبة فى بيت صلاح وتقوى ، وأقبل على حفظ القرآن وهو فى سن مبكرة ، وقد تميز الشيخ بالقدرة على التركيز العلمي ، وتوقد القريحة ، ورحل إلى مدينة القصر الكبير ، وأقام فيها نحوا من عامين ، اجتهد خلالهما فى تحصيل العلم ، حتى قال عن نفسه : (أهملت نفسى ، ونسيت أمرها ، وكنت أقرأ سبعة مجالس ، بين الليل والنهار) «2».
ولم يقنع الطالب بما حصّل فى مدينة القصر الكبير ، بل زاده شغفا فى القدوم إلى تطوان ، وهى موئلا للعلم والحكمة ، ومهبط كثير من العلماء ، فقدمها ابن عجيبة وهو ابن العشرين ، وأقام فيها ، وأقبل على تحصيل العلم فى شتى الأبواب بكل جد ، وتنوعت مجالسه بين أئمة الفقه ، والتفسير ، والحديث ، واللغة ، والنحو ، والصرف ، والمنطق ، أقبل على هؤلاء وهؤلاء ، يستمع منهم ، ويقرأ عليهم ، ويأخذ عنهم ، وأقبلوا عليه يعطونه كل ما عندهم لما وجدوا فيه من حسن الإعداد والاستعداد ، فواصل الليل بالنهار.
وسرعان ما ظهرت ثمار هذا الجد والاجتهاد ، فلم يبلغ شيخنا تسعا وعشرين سنة ، حتى بزغ نجمه وعلا شأنه ، وجلس للتدريس فى مساجد تطوان ومدارسها ، ولكن ذلك لم يمنعه من مواصلة العلم فى مظانه ، فالظمآن إلى المعارف لا يرتوى مهما نهل ، ولعله كلما نهل استطاب العلم فازداد إليه ظمأ ، والعلم ليس له نهاية له وليس له حدود. يقول شيخنا بعد جلوسه للتدريس : (فكنت فى العلم الظاهر نتعلم ونعلّم فما تركت العلم قط بعد التصدر للتعليم ، نعلم من تحتنا ونأخذ عمن فوقنا) «3».
ولهذا شدّ الرحال إلى فاس ، وهو فى سن الأربعين ، فسمع من علمائها ، وأخذ عنهم ، وقد توفر له فيها أساطين العلم فى مختلف الفروع ، فأخذ علم الحديث عن محدث عصره (التاودى بن سودة) ، ودرس التفسير والفرائض واللغة ، ومكث كذلك سنتين ، عاد بعدهما إلى تطوان ليتابع تدريسه وتأليفه.
يتحدث رضى اللّه عنه عما حصّله من علوم ، فيقول : و(الذي حصّلناه من علوم الأذهان (العقلية) : علم المنطق ، والكلام على مذهب أهل السنة ، والمهم من علم الهيأة (الفلك) ، ومن علم الأديان : علوم القرآن ، خصوصا التفسير ..
وحصّلنا الفقه بأنواعه ، وأصول الفقه ، وأصول الدين ، وحصّلت أيضا علم الحديث ، وعلم السير ، وعلم المغازي ، والتاريخ ، والشمائل ، ومن علم اللسان : علم اللغة والتصريف ، والنحو ، والبيان ، بأنواعه ، أما التصوف فهو علمى ومحط رحلى ، فلى فيه القدم الفالج ، واليد الطولى) «4» وهكذا كان حظه من ثقافة عصره حظا وافرا ، فقد أحاط بسائر علوم وقته ، وانعكس ذلك على تفسيره ، فجاء بحره مرآة لثقافته الواسعة.
___________
(1) المصدر السابق ص 23.
(2) الفهرسة/ 29.
(3) الفهرسة 76.
(4) الفهرسة/ 101(1/20)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 21
شيوخه :
تتلمذ شيخنا أبو العباس على كثير من علماء عصره ، وأثبت هنا تعريفا بأهم شيوخه ، الذين اتصل بهم أكثر من غيرهم ، واشتهر بالأخذ عنهم.
1 - الفقيه القاضي عبد الكريم بن قريش [ت - 1197 ه] «1» أول من تتلمذ عليه ابن عجيبة بتطوان ، ترجم له داود فى تاريخه قائلا : (الإمام العالم ، الفقيه المدرس ، الخطيب ، كان رحمه اللّه مشاركا فى كثير من الفنون ، وكان يستظهر مختصر خليل حفظا ، ودارت عليه الفتوى فى زمانه بتطوان. تولى قضاء طنجة قهرا ، فأظهر العدل وحمدت سيرته ، وكان كما يقول تلميذه ابن عجيبة : (ملجأ الناس فى الفتوى والشفاعة عند الولاة) مات فى الحجاز سنة (1197 ه) ويعتبر ابن قريش أحد الأساتذة الذين أكثر مفسرنا الأخذ عنهم «2».
2 - الفقيه الشيخ (أبو الحسن علي بن أحمد بن شطير الحسني) [ت - 1191 ه] «3» نعته داود نقلا عن أزهار البستان ، فقال : (الفقيه الإمام المحدث العالم النحرير ، كان رحمه اللّه فقيها نحويا محدثا ذا ورع تام) درّس البخاري والألفية ، ومختصر خليل ، وشمائل الترمذي ، بتطوان ، وكان كما يقول ابن عجيبة : (صابرا لإلقاء الدرس ، ذا عناية بالعلم ، متواضعا متقشفا ، يلبس الخشن من الثياب ، على طريقة السلف الصالح). أخذ عنه مفسرنا بتطوان ألفية ابن مالك ومختصر خليل ، وغير ذلك.
3 - الفقيه العلامة (أبو عبد الله محمد بن الحسن الجنوي الحسني) [1135 - 1200 ه]»
أحد أعلام تطوان وزهادها ، وأشهر أساتذة ابن عجيبة ، (الشيخ الإمام ، المحقق ، المتفنن ، الفهامة ، العارف باللّه الأمين المعروف بالصلاح والدين المتين) ، هكذا حلّاه مخلوف فى (شجرة النور) ، ووصفه تلميذه ابن عجيبة (بالإمام الحبر الهمام مفتى الأنام ، وأحد أئمة الإسلام ، وخاتمة المحققين ، وشمس المدققين). كان مشاركا فى الأصول والفروع يحرر المسائل ويدققها ، ولا يرضى بالتقليد فى شىء من علومه ، وكان ملجأ الناس فى حل المشكلات ، تأتى الفتاوى إليه من أقطار المغرب ، كما كان متبحرا فى علوم التصوف ، مطلعا على غالب فروعه ومسائله ، وكان يفر من الشهرة وملاقاة السلطان - لازمه شيخنا ابن عجيبة ملازمة تامة ، حتى توفى الجنوى سنة 1200 ه ، بعد أن أخذ عنه تفسير القرآن ، والبخاري مرتين ، سماعا ، وبعضه شرحا ، وكذلك مسلم ومختصر خليل السبكى ، وورقات الخطاب فى أصول الفقه للإمام الجويني ، وفى علوم التصوف أخذ عنه الرسالة القشيرية ، وحكم ابن عطاء ، وأصول الطريقة ، والنصيحة الكافية ، للشيخ زروق.
___________
(1) انظر في ترجمته : تاريخ تطوان 3/ 96 ومخطوط أزهار البستان في طبقات الأعيان ، لابن عجيبة/ 213 ، والفهرسة ، لابن عجيبة/ 11.
(2) راجع الفهرسة ، لابن عجيبة/ 11.
(3) انظر في ترجمته : تاريخ تطوان (3/ 95 - 96) والفهرسة/ 31.
(4) انظر : شجرة النور الزكية/ 775 ، تاريخ تطوان (3/ 96) مخطوط أزهار البستان/ 217.(1/21)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 22
4 - العلامة المحدث (أبو عبد الله محمد التاود بن الطالب بن سودة المري) [111 - 1209 ه] «1» الإمام الهمام ، شيخ الإسلام ، وعمدة الأنام ، وخاتمة المحققين الأعلام ، وهلال المغرب وقدوته وبركته. هكذا حلّاه صاحب شجرة النور ، وقال عنه الحافظ الزبيدي :
ومنهم محمد بن الطالب التاودى العدل ذو المواهب
رئيس فاس ، كاشف الغيوم وعالم المنطوق والمفهوم
إليه فى بلاده يشار عليه فى المعارف المدار
انفرد بالإمامة فى الحديث ، كما كان مقدّما فى التفسير ، والفقه ، والتصوف ، ، والكلام ، والمنطق ، ، والأصول ، قال عنه الكتاني فى فهرسته : (لا أعلم أحدا ممن ينتمى إلى العلم بالمغرب ، إلا وله عليه منة التعليم ، إما بواسطة أو بغير واسطة أو بهما معا) ، وحلّاه تلميذه ابن عجيبة فى أزهاره (بشيخ الجماعة ، وملحق الحفداء والأجداد) أخذ عن أحمد مبارك اللمطى ، وابن عبد السلام بنانى ، ومحمد جسوس ، وغيرهم ، ومن شيوخه بمصر ، الشيخ العيدروس ، وحسن الجبرتى ، وأبو الحسن العدوى. وكانت له رحلات لتدريس العلم بمصر والحجاز ، فأقرا بالأزهر الموطأ ، فتسارع - كما يقول كنون - الناس للأخذ عنه لما رأوا من حفظه وإتقانه ، وحضره أعيان المذاهب الأربعة ، وكبار مصر وصلحاؤها ، كالشيخ الدردير والحافظ الزبيدي.
ومن تآليفه المفيدة : (زاد المجد الساري إلى قراءة صحيح البخاري) فى نحو أربعة مجلدات ، وحاشية على تفسير ابن جزى ، وشرح الأربعين النووية و(المنحة الثابتة فى الصلاة الفائتة) و(طالع الأمانى على مختصر الشيخ الزرقانى) وغير ذلك كثير. أخذ عنه شيخنا ابن عجيبة صحيح البخاري وصحيح مسلم ، وحصل منه على إجازة مطلقة عامة «2».
5 - الحافظ أبو عبد الله الطيب بن عبد المجيد بن كيران (1172 - 1227 ه) «3» أحد أساتذة ابن عجيبة بفأس ، قال عنه مخلوف فى شجرة النور : (الإمام ، الحامل لواء المعارف والعرفان ، العلامة المتفنن فى العلوم ، الحامل راية المنثور والمفهوم) ، وقال عنه صاحب إمداد ذوى الاستعداد : (أعجوبة الزمان في الحفظ والتحصيل والإتقان) ، أخذ عن محدث عصره التاودى بن سودة ، وبنانى ، وجسوس ، وعنه أخذ عبد القادر الكوهن وغيره كثير ، وكان يحضر مجلسه السلطان فمن دونه ، درّس التفسير فى القرويين ، فكان يستحضر أقوال المفسرين جميعا ، ويقابل بينها ويناقشها ، ويرد الزائف منها بالدلائل القوية والحجج البينة ، كما كان له فى العربية باع طويل ، ونظم سديد ، له
___________
(1) انظر : شجرة النور/ 375 ، فهرس الفهارس 1/ 258 مخطوط أزهار البستان/ 218.
(2) نص الإجازة فى الفهرسة ص 35 - 36.
(3) انظر (فهرس الفهارس للكتانى (2/ 848) ، النبوغ المغربي لكنون 1/ 225 ، شجرة النور الزكية/ 376 ، مخطوط إمداد ذوى الاستعداد للكوهن/ 5. [.....](1/22)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 23
تآليف مختلفة منها : تفسير القرآن ، غير أنه لم يتمه ، قال عن تفسيره عبد القادر الكوهن : لو تم لكان تمام الأمنية ، لكن أخرمت مؤلفه المنية. له أيضا حاشية على كل من صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن النسائي ، وله شرح ألفية العراقي فى علم الحديث ، وشرح حكم ابن عطاء اللّه ، له كتب أخرى تنيف على العشرين.
6 - العلامة أبو عبد الله محمد بن أحمد بن بنيس الفاسى (دارا ومنشأ) [1160 - 1213 ه] «1» (الحافظ العمدة المحقق ، الجامع لشتات العلوم والمعارف والمنطوق والمفهوم) هكذا حلّاه صاحب شجرة النور ، وقال عنه تلميذه ابن عجيبة فى أزهاره : (له مشاركة فى الفنون ، واختص بعلم الفرائض ، وكان الملجأ بفأس فى حل مشكلاته) أخذ عن الشيخ محمد جسوس ، وعبد الرحمن المنجرة ومحمد عبد السلام الفاسى ، وحج ولقى أعلاما واستفاد وأفاد ، وأخذ عنه السلطان «سليمان» وحمدون بن الحاج ، وعبد القادر الكوهن ، وغيرهم كثير. له مؤلفات طيبة منها : (بهجة البصير فى شرحفرائض مختصر خليل) و(لوامع أنوار الكوكب الدري فى شرح همزية البوصيرى). و(تحصيل ما للأئمة الأعلام فى مسائل الحيازة الدائرة بين الحكام). أخذ عنه شيخنا ابن عجيبة علم الفرائض وكتاب التسهيل لابن مالك ، وحصل منه على إجازة عامة «2».
7 - العامة الصالح أبو عبد الله محمد بن علي الورزازي «3» من شيوخ ابن عجيبة بتطوان ترجم له صاحب فهرس الفهارس قائلا : (الفقيه العلامة الحجة البركة العارف باللّه). أخذ عنه شيخنا تلخيص المفتاح فى البيان ، وجامع الجوامع فى الأصول ، وقد حصل منه ابن عجيبة على إجازة مطلقة «4» ولم تذكر المصادر تاريخ وفاته إلا أن إجازته لابن عجيبة مؤرخة فى سنة 1214 ه.
عقيدة ابن عجيبة :
قيّض اللّه - عز وجل - لشيخنا له بيئة طيبة ، نشأ فيها على عقائد أهل السنة والجماعة ، فشيخنا سنى العقيدة ، يؤمن بكل ما كان عليه السلف الصالح ، ويبرأ من كل ما يخالف ما كانوا عليه. وفى أكثر من موضع من مؤلفاته يقرر رضى الله عنه : (أن أحسن المذاهب فى الاعتقاد هو مذهب السلف ، من اعتقاد التنزيه ، ونفى التشبيه ، وتفويض المتشابه ، والوقوف مع ما ورد كما ورد ، ما لم يحتج إلى تقييد ، بما ينفى شبهته من غير زائد) «5».
___________
(1) انظر : اليواقيت الثمنية للأزهرى/ 254 سلوة الأنفاس 1/ 204. شجرة النور/ 374 أعلام الزركلى 6/ 15. مخطوط أزهار البستان/ 219.
(2) نص الإجازة فى الفهرسة ص/ 36.
(3) انظر فهرس الفهارس 2/ 1112.
(4) نص الإجازة فى الفهرسة/ 37.
(5) الفتوحات الإلهية فى شرح المباحث الأصلية - 83.(1/23)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 24
وفى تفسيره مواقف تبرز عقيدته السنية ، ومن ذلك رده القوى على الفرق المخالفة ، ودحض آرائهم ، كلما عرضت مسألة من المسائل الخلافية ، وإبراز رأى أهل السنة فيها.
وقد خص رضى اللّه عنه إحدى رسائله ببيان ما يدين به ، وهى (رسالة العقائد) ، ومن أقواله فى هذه الرسالة لأحد مريديه : (عليك أن تعتقد أن اللّه موجود قبل الأكوان ، قديم لا أول له ، أزلى لا بداية له ، مستمر الوجود لا آخر له ، أبدى لا نهاية له .. وأنه ليس بجسم مصور ، ولا جوهر محدود مقدر ، وأنه لا يماثل الأجسام ، لا فى التقدير ولا فى قبول الانقسام ، وأنه ليس بجوهر ، ولا تحله الجواهر ، ولا بعرض ، ولا تحله الأعراض ، بل لا يماثل موجودا ، ولا يماثله موجود ، وليس كمثله شىء ، ولا هو مثل شىء ، وأنه لا يحده المقدار ولا تحويه الأنظار ، ولا تحيط به الجهات. هو أقرب إلى العبد من حبل الوريد ، وهو على كل شىء شهيد ، لا يماثل قربه قرب الأجسام ، كما لا تماثل ذاته ذوات الأجسام ، وأنه لا يحل فيه شىء ، ولا يحل فيه شىء ، تعالى عن أن يحويه مكان ، كما تقدس عن أن يحده زمان ..) «1» وفى قضية الاستواء على العرش يقول : (عليك أن تعتقد أن اللّه مستو على العرش ، على الوجه الذي قاله ، وبالمعنى الذي أراده ، استواء منزها عن المماسة والاستقرار ، والتمكن والحلول والاشتغال ، لا يحمله العرش بل العرش ، وحملته محمولون بلطائف قدرته ، ومقهورون فى قبضته ، وهو فوق العرش وفوق كل شى ء) «2».
تصوفه
بعد أن نال الشيخ ابن عجيبة الحظ الأوفر ، والنصيب الأكبر من علوم عصره العقلية والنقلية ، وحصّل منها ما جعله حائزا لرئاسة العلم فى بلاده ، حبب إليه سلوك طريق التصوف ، وواكب فى هذا الوقت ظهور حركة الشيخ العربي الدرقاوى ، مجدد الطريق الشاذلى فى الألف الثاني ، ووجد الشيخ ابن عجيبة فى الدرقاوى شيخا استجمع آداب الرائد المربى ، فاتصل بالشيخ محمد البوزيدى الغمارى ، التلميذ للشيخ الدرقاوى ، وأخذ عنه الطريقة الدرقاوية الشاذلية. وقد عقد شيخنا رضى الله عنه فصلا كاملا فى فهرسته «3» ، سجل فيه تجربته الفريدة فى تصوفه ومجاهداته ، وهى مجاهدات لا يطيقها إلا الصادقون المخلصون ، وسرعان ما أثمرت مجاهداته المخلصة. وفاضت بحار علومه ، وأشرقت فى صدره أنوار العرفان ، ووقع له الفتح الكبير ، والمدد الصافي الغزير.
وأعطى شيخنا مرتبة الإمامة والاقتداء ، والتربية ، والتكميل ، وكان له فى ذلك باع طويل. يقول عنه الشيخ الكوهن : (كان نظره إكسيرا ، إذا أتاه أو التقى معه من يعرفه ، يرقيه فى ميدان حسنات الأبرار سيئات المقربين ، حتى كثرت على يديه الأتباع والمريدون ، وحصل لهم تنوير الباطن ، ونالوا مقامات العارفين) «4». ويقول عنه العسكري : (كان حجة الطائفة الدرقاوية مبينا لأحكامها ، وناشرا لأعلامها ، سبر على علومها حتى صار ينبوعا لشموسها ، وأقمارها ونجومها) «5».
___________
(1 ، 2) مخطوط رسالة العقائد ص 81 - 82.
(3) انظر الفهرسة ص 53 وما بعدها.
(4) جامع الكرامات العلية - 163.
(5) م. طبقات أصحاب الدرقاوى - 142.(1/24)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 25
ويقول الكوهن أيضا : (لقد نال ما نال وتكلم على أسرار أهل الكمال ، فأبدى علوما غريبة ، وأسرارا عجيبة ، وأجمعت على ولايته أهل المغرب بأسرها ، ) «1» وفى موضع آخر يقول : (.. أعطى ناطقة أسرار أهل اللّه ، وأدرك مقامات العارفين بربهم حتى عد قطب الزمان ، وأوحد الأوان ، وتكلم بما أبهر عقول الأعيان ..) «2».
شيوخ ابن عجيبة في التصوف :
سلك ابن عجيبة الطريق الصوفي على يد رجلين :
الأول : الشيخ الدرقاوى «3» : وهو (أبو المعالي العرب بن أحمد الحسنى) الشهير (بالدرقاوى) نسبة إلى جده محمد بن يوسف الملقب بأبى درقة (لدرقة كبيرة كانت له يتوقى بها فى الحروب). وصفه الكوهن (بقدوة أهل الكمال ومرشد السالكين إلى أعلى المقامات والأحوال ، الإمام الهمام) ، وحلّاه العسكري (بالعارف الأكبر ، والقطب الأشهر) وقال عنه صاحب السلوة : (كان من العارفين باللّه ، الدالين بأقوالهم وأفعالهم وجميع أحوالهم على الله ، جامعا لمحاسن الشيم والأخلاق). وقال عنه الأزهرى : (و كان آية فى المعرفة باللّه) ولد رضى اللّه عنه عام «1550 ه» بقبيلة بنى زروال بشمال المغرب ، واشتغل بقراءة العلم بفأس ، ثم لقى الشيخ على الجمل وسلك على يديه.
أسس الطريقة الدرقاوية الشاذلية ، وتخرج على يديه عدد لا يحصى من الشيوخ ، أرباب التمكين والرسوخ ، قال الشيخ (ابن سودة المري) : ما توفى مولانا العربي ، حتى خلف نحوا من الأربعين ألف تلميذ ، كلهم متأهلون للدلالة على الله سبحانه). توفى رحمه الله فى صفر الخير من عام 1239 ه وله من المؤلفات :
- الرسالة ، وتسمى (بشور الهدية فى مذهب الصوفية) قال عنها ابن إدريس الكتاني : (رسائله نفعنا الله به من أنفع الرسائل للمريد ، وأدلها على كيفية السلوك والتجريد ، لا يستغنى عن مطالعتها سالك).
- جواهر القرطاس. - مناقب الشيخ على الجمل.
الثاني : الشيخ البوزيدى «4» : هو «محمد بن الحبيب أحمد البوزيدي الحسنى» من قبيلة غمارة ، بشمال المغرب ، والتي ينتسب إليها أيضا. أبو الحسن الشاذلى ، التقى بالدرقاوى ، ولازمه مدة ست عشرة سنة ، ويعد البوزيدى أقرب أتباع الدرقاوى إليه. كان رضى اللّه عنه أميا لا يكتب ولا يقرأ ، ومع ذلك أعطاه اللّه ما لا يخطر بالبال من العلوم والأسرار ، وله كتاب «الآداب المرضية فى طريق الصوفية» ، يقول الكوهن عن كتابه هذا «من يطلع عليه
___________
(1 ، 2) الحسن الكوهن ، طبقات الشاذلية/ 240.
(3) انظر : فى ترجمته (مخطوط سلوة الأنفاس 1/ 172 اليواقيت الثمينة/ 254 مخطوط ، أصحاب الدرقاوى ص 61 ، طبقات الشاذلية/ 203 ، الطريقة الشاذلية وأعلامها/ 129).
(4) انظر فى ترجمته : طبقات الشاذلية للكوهن/ 240 ، مخطوط أصحاب الدرقاوى/ 125 ، إشكالية إصلاح الفكر الصوفي 1/ 48.(1/25)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 26
يحكم بأن البوزيدى واحد الزمان ، وشيخ أهل العرفان» وله أيضا القصيدة التائية فى السلوك ، والتي شرحها تلميذه ابن عجيبة ، توفى رحمه الله فى (1229 ه) ومقامه فى (مستغانم) من بلاد وهران بالجزائر.
تخرج على يديه عدد كثير من فضلاء أهل الله ، يقول الكوهن : «ولو لم يكن من تلاميذه إلا سيدى ابن عجيبة الحسن لكفى. مع أنه تخرج من تلاميذه جملة فضلاء من أهل الله ، لا يحصرهم عدد ، كلهم على قدم المعرفة وفى غاية التمكى» ومن أقواله رضى الله عنه لاكرامة أعظم من الاستقامة ظاهرا وباطنا لأن الكرامات الحسية تكون عند استقامة الظاهر دون استقامة الباطن ، أما بعد استقامة الباطن والظاهر ، فلا يكون إلا الكرامات المعنوية ، وكل من ظن أن الولاية شىء زائد على الاستقامة فهو جاهل بالولاية) «1».
على مثل هذه التعاليم نشأ شيخنا أو العباس ، وبين الدرقاوى والبوزيدى عاش حياته الصوفية العملية ، حتى فتح له على أيديها ، ونال ما نالت الرجال ، وفى ذلك يقول : (و الله ما عرفنا قلوبنا ولا ذقنا حلاوة المعاني حتى صحبنا الرجال أهل المعاني) «2».
ثناء العلماء عليه :
يحظى شيخنا فيما كتب عنه من تراجم بألقاب وأوصاف ، تنم عن تقدير له ، عرفان بفضله ، وتشير إلى ما بلغه من مقام رفيع فى العلم ، ومرتبة عالية فى المعرفة باللّه ، وتشهد بما رزقه اللّه من معارف إلهامية ، أدهشت العقول وأثارت الإعجاب ، فيصفه الكوهن فى جامع المرامات ب (الشريف الحسيب ، قطب دائرة الولاية الكبرى ، ومنبع أسرار أهل الحقيقة ، شيخ الطريقين ، وعمدة الفريقين ، ولى اللّه الأكبر ، وغوثه الأشهر ، كان رضى اللّه عنه من أهل التمكين) «3».
أما العسكري فيصفه ب (العلم المفرد ، يتيمة هذا العقد ، عديم النظير فى أمثاله. جبل النية والصحبة والصدق ، وخرق العادات والسير الحميدة ، الذي لا يوجد فى وقته من نسيج - واللّه - على منواله ، مؤلف التآليف العديدة ، ومقيد العلوم الغربية المفيدة ، العالم العلامة ، الصوفي المشارك ، الفهامة العارف المحقق الجليل ، الشيخ الكامل الجليل ، الشريف البركة ، ولى اللّه تعالى ..) «4».
وذكره الأزهرى فى (اليواقيت الثمينة فى أعيان مذهب عالم المدينة) وحلاه بقوله : (العالم الحجة الفهامة البارع الصوفي ، الجامع بين الشريعة والحقيقة) «5» كذلك ذكره مخلوف فى (شجرة النور الزكية فى طبقات المالكية) ، وأعلى شأنه ، ووصفه بقوله : (العلامة ، المؤلف ، المحقق ، الفهامة ، البارع ، المدقق) «6».
___________
(1) إشكالية إصلاح الفكر 1/ 49.
(2) إيقاظ الهمم/ 413. [.....]
(3) جامع الكرامات العلية 163.
(4) مخطوط طبقات أصحاب الدرقاوى ورقة 142.
(5) اليواقيت الثمينة 1/ 70.
(6) شجرة النور/ 400.(1/26)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 27
مؤلفاته
يقول الكوهن عن مؤلفات ابن عجيبة : (تآليفه - عليها لوائح نفثات أهل المعرفة الكمّل ، فإنه أعطى ناطقة أسرار أهل اللّه ، وكلامه عال ، أحل مشكلات القوم ، وفك طلاسم أسرارهم ، وتكلم بما أبهر عقول الأعيان) «1».
وقد ألف رضى اللّه عنه فى التفسير والحديث والفقه واللغة ، أما أكثر مؤلفاته ففى التصوف. وتبلغ حصيلة ما كتبه ما يزيد على خمسة وأربعين تأليفا ، بعضها كبير فى مجلدات ، وبعضها متوسط ، وبعضها صغير الحجم غزير العلم ، وجل ذلك لا زال مخطوطا ، لم يعرف نور الطباعة بعد.
وأورد فيما يلى ثبتا بأسماء مؤلفاته ، مرتبة حسب الموضوع الرئيس للكتاب ، مع تعريف موجز به ، وأماكن وجوده ، وتاريخ تأليفه ، ما أمكن ذلك «2».
أولا - التفسير والقراءات :
1 - البحر المديد في تفسير القرآن المجيد. وسأفرد له الكلام فيما بعد.
2 - التفسير الكبير للفاتحة : يقع فى (268) صفحة ، وقد صنف هذا التفسير قبل تصنيفه للبحر المديد ، كما هو واضح من كلامه ، فى آخر تفسير الفاتحة الكبير ، حيث قال : (و يتلو إن شاء الله تفسير سورة البقرة) ، ولكن ناسخ المخطوطة قال فى تعقيبه : قد جعل صاحب هذا التفسير رضى الله عنه تفسيره هذا - أي : التفسير الكبير للفاتحة - تفسيرا مستقلا ، ثم أنشأ تفسيرا آخر مختصرا ، بنى عليه تفسيره (البحر المديد). وقد انتهى نسخه فى عام 1233 ه ، على يد عبد الغفور بن التهامي.
3 - التفسير الوسيط للفاتحة : ذكر صاحب الإصلاح «3» أنه يقع فى 17 صفحة ، وتوجد منه نسخة تحت رقم (148 ك) خزانة الرباط ، تم تحريرها سنة 1213 ه.
4 - التفسير المختصر للفاتحة : توجد منه مخطوطة بدار الكتب المصرية ، ويقع فى ورقتين ، وانتهى ابن عجيبة منه فى يوم الثلاثاء ، خامس ربيع الثاني سنة 1219 ه.
5 - الدرر المتناثرة في توجيه القراءات المتواترة : وهو تأليف - كما قال ابن عجيبة - «4» يشتمل على آداب القراءة ، والتعريف بالشيوخ العشرة ورواتهم ، وتوجيه قراءة كل واحد منهم ، وفيه عشرون كراسة.
___________
(1) الحسن الكوهن : جامع الكرامات العلية/ 164.
(2) اعتمدت فى حصر مؤلفات الشيخ ابن عجيبة على المصادر الآتية : الفهرسة/ 38 - 39 ، التصور والتصديق للشيخ أحمد الصديق/ 21 ، فهرس المخطوطات العربية المحفوظة فى الخزانة العامة بالمغرب (القسم الثالث ، الجزء الأول) ، الموسوعة المغربية للأعلام البشرية والحضارية ، لعبد العزيز بن عبد اللّه (2/ 45 ، وما بعدها) ، إصلاح الفكر الصوفي للأستاذ/ محمد الصغير (1/ 174 - 184) فهرس المخطوطات بدار الكتب المصرية ، فهرس معهد المخطوطات (2/ 45) (1/ 177).
(3) إصلاح الفكر الصوفي 1/ 177.
(4) الفهرسة/ 38.(1/27)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 28
6 - الكشف والبيان في متشابه القرآن : قال العلامة داود - الذي وقف على أوراق من هذا الكتاب - إنه آخر كتاب ألفه ابن عجيبة ، بناء على ما ذكره ناسخ المخطوط ، ولذلك لم يتم تأليفه.
ثانيا - الحديث والأذكار النبوية :
7 - حاشية على الجامع الصغير للسيوطي : فرغ من تأليفها : أواسط شعبان عام 1224 ه ، وتوجد منه نسخة خطية بالخزانة العامة بالمغرب ، تحت رقم (1831 د) تم كتابتها فى عام 1251 ه.
8 - أربعون حديثا في الأصول والفروع والرقائق : ذكره فى الفهرسة.
9 - الأنوار السنية في الأذكار النبوية : فرغ من تحريرها سنة 1205 ه ومنها مخطوطة بمكتبة تطوان تحت رقم 853 م ، ونسخة أخرى بالخزانة العامة بالمغرب تحت رقم (2134 د).
10 - الأدعية والأذكار الممحقة للذنوب والأوزار : فرغ من تحريرها سنة (1222 ه) ومنها مخطوطة بتطوان تحت رقم (274 ق. م).
ثالثا - الفقه والعقائد :
11 - حاشية على مختصر خليل : ذكر ابن عجيبة أنه لم يتمه.
12 - رسالة في العقائد والصلاة : منها مخطوطة بدار الكتب المصرية تحت (مجاميع شنقيطى 7/ 4) ، فرغ منها سنة (1199 ه) ، وهى رسالة صغيرة الحجم ، لا تتعدى عشر صفحات ، ولكنها غزيرة العلم.
13 - تسهيل المدخل لتنمية الأعمال بالنية الصالحة عند الإقبال : وهو تأليف فى النية وأحكامها. فرغ منه سنة (1196 ه) منه نسخة بتطوان تحت (872 ق. م).
14 - سلك الدرر في ذكر القضاء والقدر : ألفه الشيخ زمن الوباء الذي اجتاح تطوان فى عام (1214 ه) ويقع فى 28 صفحة ، وانتهى الشيخ من تأليفه : زوال يوم الجمعة ، ثالث شوال (1214 ه.) ومنه مخطوطة بالخزانة العامة بالمغرب تحت (1148 ك).
رابعا - اللغة :
15 - الفتوحات القدوسية في شرح المقدمة الأجرومية : وهو مؤلف شرح فيه شيخنا مقدمة ابن آجروم النحوية ، شرحا جمع فيه بين النحو والتصوف ، فيذكر عبارة المؤلف ، ويشرحها بمقتضى علم النحو ويتبعها بالمعنى(1/28)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 29
الإشارى ، فيندهش القارئ - كما يقول العلّامة (عبد الله الصديق) «1» - لحسن تنزيل عبارة المتن على المعاني الصوفية ، ويخيل إليه أن ابن آجروم ، ألف مقدمته فى علم التصوف. توجد منه نسخة تحت رقم (2004 د/ 1 : ق. م الخزانة العامة بالرباط ، عدد صفحاتها (219) ووافق الفراغ من تأليفه بعد ظهر الإثنين (18 ربيع النبوي عام 1223 ه).
وقد قام الشيخ عبد القادر بن أحمد الكوهن ، المتوفى بالمدينة عام (1254 ه) بتجريده مما يتعلق بالنحو ، واقتصر على الإشارات الصوفية ، وسماه : (منية الفقير المتجرد وسمير المريد المتفرد) وقد طبع هذا التجريد بإستانبول عام 1315 ه.
خامسا - التراجم :
16 - أزهار البستان في طبقات الأعيان : ذكره مخلوف فى شجرة النور تحت عنوان : (أزهار رياض الزمان فى طبقات الأعيان) ، وذكره صاحب الإصلاح تحت عنوان : (أزهار البستان فى طبقات العلماء والصلحاء والأعيان) ، وقد ترجم فيه الشيخ لأرباب المذاهب الفقهية ، والتعريف بمشاهير أصحاب مذهب الإمام مالك ، من زمانه إلى زمان ابن عجيبة ، على ترتيب وجودهم ، كل قرن على حدة ، ثم أتبعهم بذكر النحويين والمحدثين وبعض الصوفية. وقد ذكر ابن عجيبة أنه لم يتمه رغم حجمه الكبير ، وهو مؤلف جدير بالنشر ، توجد منه نسخة مخطوطة فى خزانة الرباط تحت رقم (286 ك) ومنه صورة فى معهد إحياء المخطوطات بالقاهرة ، تحت رقم (1352 تاريخ).
وقد استفدت كثيرا من هذه الصورة فى ترجمة بعض أساتذة المفسر ، إلا أن كثيرا من صفحاتها فاسدة التصوير لا تقرا.
17 - الفهرسة : وهى سيرة الشيخ الذاتية ، انتهى من تنقيحها سنة (1224 ه) وإن كان قد بدأ تأليفها قبل ذلك بمدة. رأت نور الطباعة أول مرة باللغة الفرنسية ، حيث ترجمها المستشرق الفرنسى المسلم «جان لوى ميشون» ، ثم صدرت بمصر باللغة العربية سنة 1990 م ، بتحقيق د/ عبد الحميد صالح.
سادسا - التصوف :
18 - الأنوار السنية في شرح القصيدة الهمزية : منها نسخة مخطوطة بتطوان تحت رقم (131) وتتكون من (230) صفحة ، وفرغ من تأليفها عام (1199 ه).
19 - الفتوحات الإلهية في شرح المباحث الأصلية : وهو شرح كبير لمنظومة ابن البنا السرقسطي ، فى آداب وقواعد الصوفية ، فرغ من تبييضه أواسط رمضان سنة (1211 ه). وقد طبع الكتاب أكثر من مرة ، آخرها طبعة عالم الفكر 1983 م. بتحقيق الأستاذ عبد الرحمن حسن محمود.
___________
(1) فى كتابه بدع التفاسير ، ص 222.(1/29)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 30
20 - اللوائح القدسية في شرح الوظيفة الزروقية : فرغ من تأليفها سنة (1196 ه) ومنها نسخة مخطوطة تحت (301 م تطوان) ، وفى الهيئة العامة للكتاب بمصر نسخة مخطوطة كتبت سنة (1200 ه) تحت رقم (816/ 1 م مجاميع) باسم اللوافح القدسية.
21 - إيقاظ الهمم فى شرح الحكم : أشهر كتب الشيخ ، وأشهر شروح حكم ابن عطاء الله ، انتهى من تبييضه :
ثامن جمادى الأولى سنة (1211 ه) وقد طبع أكثر من مرة فى مصر وسوريا ، ومنها طبعة دار المعارف بمصر سنة 1985 م بمراجعة وتقديم محمد أحمد حسب الله.
22 - ديوان قصائد في التصوف : فيه ما يقرب من خمسمائة بيت ، ما بين قصائد طويلة ومقطوعات ، والديوان ملحق بكتاب الفهرسة المطبوع بتحقيق د/ عبد الحميد صالح.
23 - رسالة في ذم الغيبة ومدح العزلة والصمت : توجد منها نسخة مخطوطة بالهيئة العامة للكتاب بمصر تحت رقم (3299 ج) فرغ من تأليفها سنة (1198 ه).
24 - شرح أسماء الله الحسنى : ذكرها ابن عجيبة فى فهرسته وقال : (أفردت لكل اسم بابا كما فعل القشيري فى التحبير ، توجد منه نسخة خطية بخزانة القرويين تحت رقم (1511).
25 - شرح بردة الأبوصيري : فرغ منه سنة (1203 ه) ، وذكر العلامة داود ، أنه يقع فى 238 صفحة.
26 - شرح الحزب الكبير للشاذلي : منه نسخة مخطوطة بتطوان ، ضمن مجموعة رقم (301) ، ويقع فى 145 صفحة ، وفرغ منه فى عام 1200. ه.
27 - شرح كتاب الحصن الحصين من كلام سيد المرسلين : لابن الجزري ، المتوفى سنة 739 ه ، ذكر ابن عجيبة أنه لم يكمله.
28 - شرح القصيدة الخمرية لابن الفارض : أولها : (شربنا على ذكر الحبيب مدامة) ، منه نسخة مخطوطة ، بالخط المعتاد ، بالهيئة العامة للكتاب بمصر ضمن مجموعة رقم (3299 ج) ، وكان الفراغ من تبييضه : يوم الإثنين ، أواسط رمضان سنة (1213 ه).
29 - شرح القصيدة المنفرجة لابن النحوي : تاريخ التحرير (1201 ه) مخطوطة تحت (457/ 6 م تطوان) ويقع فى 40 صفحة) 30 - شرح القصيدة الهائية في التصوف للرفاعي :
وأولها :
(يا من تعاظم حتّى رقّ معناه ولا تردّى رداء الكبر إلّا هو)(1/30)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 31
منه نسخة مخطوطة تحت رقم (1974 د/ 9 ق) الرباط ، فرغ منه عام (1213 ه.) ، ويقع فى 31 صفحة.
31 - شرح الكواكب الدرية في مدح خير البرية : منه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية تحت (1117/ شعر تيمور).
32 - شرح تائية البوزيدي : منه نسخة تحت (1736 د/ 11 ق/ الرباط) ، وأيضا تطوان (845) ويقع فى 95 صفحة ، وفرع منه فى يوم الجمعة سادس عشر رمضان (1221 ه) وأول القصيدة.
أيا من فى بهاء جماله وسرّ كماله وعزّ ورفعة.
33 - شرح آخر (مطول) علي تائية البوزيدي : كان الفراغ من تمامه صحوة : يوم الأربعاء 14 من ذى القعدة الحرام سنة (1222 ه) نسخه فى جمادى الأولى سنة (1235 ه.) على يد عبد الغفور التهامي. ويقع فى 125 صفحة.
34 - شرح على تائية الشيخ علي بن مسعود الجعيدي التطواني :
وأول القصيدة :
(بدأت باسم الله من بعد حمده على نعم لا تحصى جلت ودقت)
ألفه سنة (1196 ه) ، ويقع فى 35 صفحة ، كما ذكر صاحب الإصلاح ، نقلا عن داود فى تاريخ تطوان.
35 - شرح رائية البوزيدي فى السلوك :
فرغ منه سنة (1214 ه) كما ذكر صاحب الإصلاح ، نقلا عن داود ويقع فى حوالى 30 صفحة.
36 - شرح صلاة ابن العربي الحاتمي : منه نسخة خطية بمكتبة د/ حسن عباس زكى ، ويقع فى عشر صفحات ، وكان الفراغ من تبييضه : يوم الخميس خاتمة جمادى الأولى سنة (1219 ه) وقد طبع هذا الشرح بالمغرب سنة 1402 ه.
37 - شرح صلاة عبد السلام بن مشيش : توجد نسخ منه تحت أرقام (1736 د/ الرباط).
38 - شرح على أبيات (توضأ بماء الغيب إن كنت ذا سر) : المنسوبة للإمام الجنيد ، وتنسب أيضا إلى الشيخ ابن عربى الحاتمي. منه نسخة خطية تحت رقم (1736/ د الرباط) وهذا الشرح مثبت فى كتاب (إيقاظ الهمم فى شرح الحكم). ص 45 : 48 39 - شرح على مقطعة في محبة الله ، للششتري : مطلع المقطعة : (صحّ عندى الخبر وسرى فى سرى) منه نسخة خطية بدار الكتب المصرية ضمن مجموعة رقم (3299 ج) فرع منها فى صفر 1214 ه.(1/31)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 32
40 - شرح نظم ما يدل عليه لفظ الجلالة للششتري :
أوله :
ألف قبل لامين وهاء قرة العين
منه نسخة خطية بالهيئة العامة للكتاب ، ضمن مجموعة رقم (3299 ج). انتهى منه يوم الخميس أواسط صفر (1214 ه).
41 - شرح نونية الششتري :
مطلع القصيدة :
(أرى طالبا منّا الزيادة لا الحسنى بفكر رمى سهما فعدّى به عدنا)
منه نسخة خطية بالرباط تحت رقم (1736 د/ 7) ويقع فى 63 صفحة. فرغ منه الشيخ سنة (1220 ه).
42 - كشف النقاب عن سر لب الألباب :
فرغ من تبييضه فى (18 من ذى القعدة سنة 1219 ه) يقع فى 9 صفحات. منه نسخة خطية فى دار الكتب ، ضمن مجموعة (3299/ ح) ، كتبت سنة 1335 ه.
43 - معراج التشوف إلى حقائق التصوف : وهو فى مصطلحات الصوفية جمع فيه الشيخ نحوا من مائة مصطلح ، وفصّل موضوعاتها ، فرغ منه 1221 ه ، وقد طبع الكتاب فى دمشق عام 1355 ه 1937 م بمطبعة الاعتدال ، بتعليق محمد بن أحمد الحسنى ، كما ترجمه المسيو (ج. ل. ميشون) إلى الفرنسية.
وفاته :
بعد عمر قضاه فى العلم والعمل ، توفى الشيخ - رحمه الله - فى السابع من شوال سنة 1224 ه.
وكانت وفاته فى قبيلة (بنى سلمان) بغمارة ، حيث كان ابن عجيبة فى زيارة لشيخه البوزيدى ، فأصابه وباء الطاعون ، فتوفى فى دار شيخه ، متأثرا بهذا الوباء فغسله شيخه وصلى عليه ودفن بغمارة ، ثم نقل إلى تطوان. ولئن وارى القبر جسده الطاهر الكريم ، فما وارى علمه وفضله ومعارفه ، فلمثل هذا فليعمل العاملون.(1/32)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 33
منهج ابن عجيبة فى التفسير
سار ابن عجيبة فى تفسيره على منهج واضح المعالم ، فهو يبدأ فى تفسير السورة ببيان مكان نزولها ، وعدد آياتها ، ويذكر الاختلاف فى عدد الآيات - إن وجد - مع ذكر مناسبة السورة لما قبلها ، وسبب نزولها ، - إن وجد - وفضائلها ، ومضمونها الإجمالى ، ثم يشرع فى تفسير الآيات فيبدأ بالشرح اللغوي للكلمات الغريبة ، ذاكرا الإعراب ، ثم يبين المعنى المراد معتمدا فى ذلك على القرآن والأحاديث والآثار ، وأقوال المفسرين المتقدمين.
وهذه أهم معالم منهج الإمام ابن عجيبة فى تفسيره بإيجاز :
1 - تفسير القرآن بالقرآن :
ومن ذلك ما جاء عند تفسيره لقوله تعالى : فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ .. «1» فينقل الشيخ - أن الكلمات التي تلقاها آدم هى قوله تعالى : رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ «2» 2 - القراءات :
اهتم الشيخ ابن عجيبة بذكر القراءات المختلفة فى الآية ، مسجلا المعنى المترتب على ذلك ، وهو فى أغلب ذلك ينسب القراءة لصاحبها ، وأحيانا يغفل ذلك ، فيبهم ، ويقول : «وقرئ بكذا». كما أنه يذكر أحيانا بعض القراءات الشاذة.
3 - أسباب النزول :
من الواضح فى تفسير ابن عجيبة استناده إلى أسباب النزول ، ليستعين بها على فهم الآيات. انظر ما ذكره عند تفسير قوله تعالى : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ «3» ، وكذلك قوله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا .. «4» والأمثلة كثيرة جدا مما يجعل هذا التفسير من أمهات المراجع فى علم أسباب النزول.
4 - السنة والآثار :
اعتماد ابن عجيبة على السنة الشريفة فى تفسيره للقرآن الكريم سمة واضحة ، ومن ذلك ما جاء عند تفسير قوله تعالى : أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ .. «5» يستشهد الشيخ على أن إسماعيل عدّ من آباء يعقوب مع أنه عمه ، بقوله صلى اللّه عليه وسلّم : «عم الرجل صنو أبيه» ، وقال فى العباس : «هذا بقية آبائي».
كذلك جاء تفسير ابن عجيبة حافلا بنقل الأجلاء من الصحابة والتابعين - رضى الله عنهم - ، وحين تتعدد الروايات عن الصحابة فى تفسير كلمة أو آية ، فإنه يذكرها ، ولا يرجح بعضها على بعض ، أو يقدح فى شىء منها ، وذلك إشارة منه إلى أن معنى الآية يحتمل جميع المعاني.
___________
(1) الآية 37 من سورة البقرة.
(2) الآية 23 من سورة الأعراف.
(3) الآية 198 من سورة البقرة.
(4) الآية 204 من سورة البقرة.
(5) الآية 133 من سورة البقرة. [.....](1/33)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 34
والمتتبع لما أورده المفسر فى تفسيره من أحاديث وآثار يتبين :
- أن المفسر لا يلتزم غالبا بتخريج الأحاديث ونسبتها إلى مصادرها.
- من الأحاديث ما أدرجه فى سياق الكلام دون أن ينبه إلى أنه من السنّة.
- يكتفى أحيانا بالقول : وقد ثبت فى الصحيح. ويأتى بمعنى الحديث.
- يذكر أحيانا بعض الإسرائيليات ، مثل ما ذكره عند تفسير قصة هاروت وماروت. وقد نقل الشيخ هذه الأخبار تأسيا بمن نقلها من المفسرين السابقين ، وهو مقل منها بالنسبة لغيره ، وما يذكره من ذلك يصدره غالبا بلفظ «روى» أو «قيل» مما يشعر بضعف الرواية ، وبعدها عن الصحة ، وحبذا خلوّ تفسيره من هذه الأخبار.
5 - اللغة والنحو : يلاحظ فى البحر المديد - عناية المفسر بالإعراب. وإذا كانت الآية تحتمل أوجها من الإعراب ، فإنه يذكرها ، ويذكر المعنى على اختلاف الأعاريب.
- كثيرا ما يتوسع المفسر فى الكلام على مسألة نحوية يوضح ويبين ، ومن ذلك كلامه الذي عقده لبيان الفرق بين (بلى) و(نعم) عند تفسير قوله تعالى : بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً ...»
.
- عنايته ببيان معنى المفردات القرآنية.
- الاستشهاد بالشعر : اعتمد ابن عجيبة كثيرا على الشعر فى بيان المعاني اللغوية ، مثل ما جاء عند تفسير قوله تعالى : وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ «2». يقول الشيخ : والأسباب العهود والوصل التي كانت بينهم فى الدنيا ، يتوادون عليها ، وأصل السبب : كل شىء يتوصل به إلى شىء ، ومنه قيل للحبل الذي يصعد به : سبب ، وللطريق : سبب ، قال الشاعر :
ومن هاب أسباب المنية يلقها ولو رام أسباب السماء بسلم
ويلاحظ فى البحر المديد أن الشيخ يذكر النص الشعرى مجردا من اسم قائله ، باستثناء بعض الأبيات.
6 - الفقه :
نلحظ أن الشيخ يتعرض للأحكام الفقهية ، إذا مر فى تفسيره بآيات الأحكام ، وهو فى ذلك.
- لا يكتفى غالبا بذكر رأى مذهبه المالكي ، بل يقدم رأيا يخالف مذهبه ، بناء على قوة الأدلة والحجج.
- أحيانا يكتفى برأى الإمام مالك ، ولا يذكر رأى المذاهب الأخرى.
___________
(1) الآية 81 من سورة البقرة.
(2) الآية 166 من سورة البقرة.(1/34)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 35
مصادره فى التفسير :
تعد المصادر التي يعتمد عليها المفسر اللبنة الأولى لوضع تفسيره ، وأهم مصادر الشيخ ابن عجيبة فى تفسيره هى :
- تفسير : أنوار التنزيل للإمام البيضاوي. - تفسير الكشف والبيان لأبى إسحاق الثعلبي.
- تفسير مدارك التنزيل لأبى البركات النسفي. - تفسير المحرر الوجيز للإمام ابن عطية.
- تفسير التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزى الأندلسى. - تفسير إرشاد العقل السليم للعلامة أبى السعود.
- حاشية السيوطي على تفسير البيضاوي ، المسماة «نواهد الأبكار وشوارد الأفكار».
- حاشية أبى زيد الفاسى على تفسير الجلالين.
مصادره فى الحديث :
- صحيحا البخاري ومسلم. سنن أبى داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغير ذلك من كتب السنن.
- شروح كتب السنة كفتح الباري ، وشرح مختصر ابن جمرة وغيرهما
مصادره فى اللغة :
- الألفية ، والكافية الشافية لابن مالك ، والتسهيل لابن هشام.
- كتب معانى القرآن ، ككتاب معانى للفراء والزجاج.
- كتب المعاجم كالصحاح للجوهرى والأساس للزمخشرى.
التفسير الإشارى
يعرف الشيخ الزرقانى التفسير الإشارى بأنه : (تأويل آيات القرآن بغير ظاهره ، بإشارات خفية تظهر لأرباب السلوك والتصوف ، ويمكن التطبيق بينها وبين الظاهر) «1».
مفاهيم القرآن لا تتناهى :
يرتكز السادة الصوفية فى ذكرهم لهذا الإشارات والأذواق على أن القرآن الكريم فيه أسرار لا تتناهى ، ومعان لا تحد ، وإشارات وراء الظاهر ، يفتح الله بها على من يشاء من عباده ، ببركة العمل بكتابه ، فإنّ من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم. ومن المنقول عن الشيخ سهل بن عبد الله - رضى الله عنه - قوله : لو أعطى العبد لكل حرف من القرآن ألف فهم لما بلغ نهاية ما جعل الله فى آية من كتاب الله تعالى من الفهم لأنه كلام الله ، وكلام الله صفته «2». وكما أن صفات الله لا تتناهى ، فكذلك مفاهيم كلماته لا تتناهى ولا يمكن أن يحيط بها مخلوق. قال تعالى : وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ .. الآية «3» كما
___________
(1) مناهد العرفان 2/ 78.
(2) انظر اللمع للطوسى/ 107.
(3) الآية 27 من سورة لقمان.(1/35)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 36
يستند الصوفية فى ذكرهم لهذا الإشارات إلى الحديث النبوي الشريف : «لكل آية ظهر وبطن ولكل حرف حد ولكل حد مطلع».
وتعددت أقوال العلماء فى معنى الظاهر والباطن «1» وكلها لا تشير إلى أن للقرآن حقيقتين ، إحداهما ظاهرة ، والأخرى باطنة ، بل تعنى أن القرآن له حقيقة واحدة ، ولكن هذه الحقيقة تتنوع وتختلف بالنسبة للناس. فالناس طبقات منهم الكافر الذي لا يزيده القرآن إلا خسارا ، ومنهم المنافق الذي لا يزداد إلا مرضا ، ومنهم المسلم الذي يواجه القرآن الفهم بسيط ، ومنهم المؤمن الذي يقرأه بفكر دقيق ووعى عميق ، ومنهم المحسن الذي يعبد الله كأنه يراه ، فيقرأ القرآن كأنه يسمعه من ربه. وهناك من يقف عند ظاهر اللفظ ، وهناك من يطلعه الله على ما تضمنه هذا الظاهر من أسرار وإشارات.
ولقد كان باطن اللفظ القرآنى المخزون فى ظاهر اللفظ شيئا معروفا لدى الصحابة ، فى زمن الرسول ، صلى اللّه عليه وسلّم ، ومن ذلك : قصة سيدنا عمر بن الخطاب ، مع سيدنا عبد الله بن عباس وجلة الصحابة - رضى الله عنهم أجمعين - فى سؤاله لهم تفسير سورة النصر ، وفهم ابن عباس أن ذلك فيه إشارة إلى نعى الرسول - صلى الله عليه وسلم «2».
الفرق بين مذهب الباطنية ومذهب الصوفية :
فرق كبير جدا بين مذهب السادة الصوفية الراشدين ، فى فهم إشارات القرآن ، وبين ما يقول الباطنية ، فالباطنية ومن والاهم يجعلون المراد من النص ليس لفظه الظاهر بمعناه القريب ، ولكنهم يعتقدون أن المراد بالذات من النص إنما هو الإشارة التي ينطوى عليها النص ، وبذلك تأولوا القرآن ، واستخرجوا لأنفسهم أحكاما وعقائد ليست من الإسلام فى شىء على الإطلاق.
أما (السادة الصوفية فهم يعتقدون أن النص على ظاهره مرادا به حقيقته الظاهرة ، ولا يحيلون كلام الله تعالى عن وجهه المجمع عليه من الأمة ، ولكنهم يرون أن الله يفتح على بعض خواصه بأسرار ودقائق ، تزيد على المفهوم العام من النص ، ولا تتعارض معه ، بل هى تؤيده ، وتعتبر إضافة من شرائف المعاني التي تزيد من شرف الظاهر ، فهى فتوحات ، لا تبطل شيئا من الأمر والنهى ، ولكنها تضفى عليه زينة وجمالا) «3».
ولنستمع إلى صوت حجة الإسلام الغزالي فى هذا الشأن إذ يقول : (فالنقل والسماع لا بد منه فى ظاهر التفسير أولا ، ليتقى به مواضع الغلط ، ثم بعد ذلك يتسع التفهم والاستنباط ... ولا يجوز التهاون بحفظ الظاهر أولا ، ولا مطمع فى الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر ، ومن ادعى فهم أسرار القرآن ولم يحكم التفسير الظاهر فهو كمن يدعى البلوغ إلى صدر البيت قبل مجاوزة الباب ..) «4».
___________
(1) انظر فى بيان معانى الظاهر والباطن (تفسير الآلوسى 1/ 7 ، التفسير والمفسرون للدكتور الذهبي 2/ 240)
(2) أخرج القصة البخاري فى (التفسير ، سورة وإذا جاء نصر اللّه والفتح).
(3) مجلة المسلم عدد ربيع الأول عام 1395 ه. مقال «معالم التفسير الصوفي» للإمام الرائد محمد زكى إبراهيم.
(4) إحياء علوم الدين 1/ 343.(1/36)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 37
ويقول العلامة الآلوسى عند تفسير قوله تعالى : يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ .. «1» ليس ما نحن فيه - أي :
التفسير الإشارى - من هذا القبيل - أي : من قبيل التفاسير الباطنية - كما يزعمه المحجوبون لأن ذلك إنما يكون بإنكار أن يكون الظاهر مرادا لله تعالى ، وقصر مراده سبحانه على هذه التأويلات ، ونحن نبرأ إلى الله عز وجل من ذلك ، فإنه كفر صريح ، وإنما نقول : المراد هو الظاهر ، وبه تعبد الله تعالى خلقه ، لكن فيه إشارة إلى أشياء أخر لا يكاد يحيط بها نطاق الحصر ، يوشك أن يكون ما ذكر بعضا منها) «2». وسنقرأ فى مقدمة تفسير البحر المديد قول الشيخ ابن عجيبة (و لا يصح ذكره - أي التفسير الإشارى - إلا بعد تقرير الظاهر ..).
هل الإشارات تفسير؟
التفسير بالمصطلح العلمي التقليدى لا يمكن تطبيقه على إشارات السادة الصوفية لأن الإشارات غير مرتبطة بالخط المنهجى للتفسير ، والصوفي نفسه لا يقول بأن ما وقع له من مواجيد ومعان هو تفسير للقرآن ، ولكنه قبس من إشراق ، وفيض من فتح ، لا يتعلق به حكم ولا يرتبط به واجب ، ومن ثمّ فقد أطلق الصوفية على هذه المعاني (إشارات) كما فعل العلامة (ابن عجيبة) والعلامة الآلوسى. وإطلاق تسمية (التفسير) عليها يعتبر من قبيل العرف والمجاز. يقول الزركشي فى البرهان : (كلام الصوفية فى تفسير القرآن ، قيل : إنه ليس بتفسير ، وإنما هو معان ومواجيد يجدونها عند التلاوة) «3».
الإشارات في البحر المديد :
أفصح الشيخ عن مراده من تفسيره حين قال : (مرادنا تربية اليقين بكلام رب العالمين). وقد بسط المفسر الحديث فى إشاراته عن آداب السلوك ، والأخلاق ، والمقامات ، والثمرات ، وقدّم لنا من خلال ذلك منهجا تربويا صوفيا إسلاميا متكاملا ، يسلكه من أراد أن تصفو روحه ، وتزكو نفسه ، ويحيا قلبه بنور معرفة الحق تعالى.
- ويلاحظ أن الشيخ ابن عجيبة لا ينظر إلى الخطابات الواردة فى القرآن على أنها موجهة إلى أقوام مخصوصين فحسب ، وإنما يرى مع ذلك أن الخطاب بهذه الآيات مازال قائما ، يوجه إلى الإنسان فى كل عصر وأوان ، يقول الشيخ رضى اللّه عنه : (إذا توجه الخطاب إلى طائفة مخصوصة ، حمله أهل الفهم عن اللّه على عمومه ، فإن الملك إذا عاتب قوما بمحضر آخرين كان المراد بذلك تحذير لكل سامع).
- والشيخ ابن عجيبة باعتباره صوفى يدعو إلى مقام الإحسان ، فإن له قاعدة فى إشارته ، يقول الشيخ عنها :
(اعلم أن قاعدة تفسير أهل الإشارة هى أن كل عتاب توجه لمن ترك طريق الإيمان ، وأنكر على أهله ، يتوجه مثله لمن ترك طريق مقام الإحسان ، وأنكر على أهله).
___________
(1) الآية 41 من سورة المائدة.
(2) روح المعاني 6/ 147.
(3) راجع مناهل العرفان للزرقانى 2/ 78.(1/37)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 38
وهاكم بعض الأمثلة من إشارات الشيخ :
عند قوله تعالى وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ «1». يقول الشيخ فى إشارة الآية : اعلم أن كثيرا من الناس يعتمدون على صحبة الأولياء ، ويطلقون عنان أنفسهم فى المعاصي والشهوات ، ويقولون : سمعنا من سيدى فلان يقول : من رآنا لا تمسه النار ، وهذا غلط وغرور ، وقد قال عليه الصلاة والسلام لابنته : «يا فاطمة بنت محمد لا أغنى عنك من الله شيئا اشتر نفسك من الله» وقال للذى قال : ادع الله أن أكون رفيقك فى الجنة ، فقال له «أعنى على نفسك بكثرة السجود».
وعند قوله تعالى : قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ «2».
يقول الشيخ فى إشارة الآية : كل من أقامه الحق فى وجهة ، ووجهه إليها ، فهو عامل لله فيها ، قائم بمراد الله منها ، وما اختلفت الأعمال إلا من جهة المقاصد ، وما تفاوت الناس إلا من جهة الإخلاص ، فالخلق كلهم عبيد للملك المجيد ، وما وقع الاختصاص إلا من جهة الإخلاص ، فمن كان أكثر إخلاصا لله كان أولى من غيره بالله ، وبقدر ما يقع للعبد من الصفاء يكون له من الاصطفاء ، فالصوفية والعلماء والعبّاد والزهاد وأهل الأسباب على اختلاف أنواعهم ، كلهم عاملون لله ، ليس أحد منهم بأولى من غيره بالله ، إلا من جهة الإخلاص وإفراد القلب لله. فمن ادعى الاختصاص بالله من غير هذه الوجهة فهو كاذب ، ومن اعتمد على عمل غيره فهو مغرور ، يقال له : تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ.
وقد جاءت إشارات الإمام ابن عجيبة جامعة لدرر من المنظوم والمنثور ، فقد ضمنها الشيخ أقوال مجموعة كبيرة من كبار الصوفية ، كأبى يزيد البسطامي ، والجنيد ، والقشيري ، والشاذلى ، وأبى العباس المرسى ، وابن عطاء السكندرى ، وزروق ، والدرقاوى ، والبوزيدى ، وغيرهم. كما أنه ذكر كثيرا من أشعارهم ، كشعر ابن الفارض والجيلي والششترى ، ونقل حكما كثيرة من حكم ابن عطاء السكندرى وغيره ، كما نقل فى مواضع عديدة عن لطائف الإشارات للقشيرى ، وعرائس البيان للشيرازى ، وإحياء علوم الدين للغزالى ، وغيث المواهب العلية لابن عباد ، وبالتالى فقد حفل هذا التفسير بتراث جم من الفكر الصوفي.
___________
(1) الآية 8 من سورة البقرة.
(2) الآية 139 من سورة البقرة. [.....](1/38)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 39
وصف النسخ
اعتمدت فى التحقيق على ثلاث نسخ :
النسخة الأولى : محفوظة فى مكتبة السيد الفريق/ حسن التهامي. ومنها صورة بدار الكتب المصرية تحت رقم (26246) مصورات خارج الدار ، وهى نسخة قيمة ، وتقع فى (2009) صفحة. وتتكون من أربعة أجزاء كبيرة :
الأول : من أول مقدمة المفسر حتى آخر تفسير سورة الأنفال - ويقع فى (520) صفحة ، وسقطت من هذا الجزء ملزمة من تفسير سورة الأعراف من (ص 156) إلى (ص 187). ورقم ميكروفيلم هذا الجزء بدار الكتب :
(43188).
الثاني : من أول تفسير سورة التوبة حتى آخر تفسير سورة المؤمنون. ويقع فى (537) صفحة ، ورقم ميكروفيلم هذا الجزء (43185).
الثالث : من أول تفسير سورة النور حتى آخر تفسير سورة فصلت. ويقع فى (454) صفحة ورقم الميكروفيلم (43187).
الرابع : من أول تفسير سورة الشورى حتى تفسير سورة الناس. وعدد صفحاته (498) ورقم الميكروفيلم (43187).
وتعتبر هذه النسخة الأم لكل النسخ الأخرى ، فقد كتبت فى عهد المفسر ، وكان الفراغ من تبييضها كاملة فى :
السادس من ربيع الأول عام (1221 ه). ووردت استدراكات على هامش هذه النسخة ، مما يفيد أن الشيخ المفسر قد راجعها ، وقد أدرجت هذه الاستدراكات فى صلب النسخ الأخرى.
وناسخ هذه المخطوطة هو الشيخ «عبد الغفور التهامي» ناسخ جل كتب الشيخ المفسر. والمخطوطة بخط مغربى حسن وواضح ، ومقاس صفحتها 20 30 سم. والصفحة تشتمل على 31 سطرا.
النسخة الثانية : محفوظة فى مكتبة الأستاذ الدكتور/ حسن عباس زكى. وتتكون من أربعة أجزاء كاملة.
الأول : من أول مقدمة المفسر حتى آخر تفسير سورة الأنعام ، ويقع فى 429 صفحة.
الثاني : من أول تفسير سورة الأعراف حتى آخر تفسير سورة الكهف. ويقع فى 418 صفحة.
الثالث : من أول تفسير سورة مريم حتى آخر تفسير سورة الصافات. ويقع فى 411 صفحة.
الرابع : من أول تفسير سورة «ص» حتى آخر سورة الناس. ويقع فى 490 صفحة.(1/39)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 40
وهذه النسخة أقل وضوحا من النسخة الأولى. وقد تعددت فيها مواطن التحريف وسقوط الكلمات ، وغير ذلك من تصحيف وتحريف.
النسخة الثالثة : محفوظة فى دار الكتب المصرية تحت رقم (541) تفسير تيمور ، وتتكون من أربعة أجزاء ، إلا أن الجزء الرابع غير كامل.
الجزء الأول : من أول مقدمة المفسر حتى تفسير قوله تعالى : ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ..
الآية 147 من سورة النساء. ويقع هذا الجزء فى (241) لوحة ، وكل لوحة تشتمل على صفحتين. ورقم ميكرو فيلم هذا الجزء بدار الكتب (27286).
الجزء الثاني : أوله : تفسير قوله تعالى : لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ .. الآية 148 من سورة النساء ، وآخره :
تفسير قوله تعالى : لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى .. الآيتان 91 - 92 من سورة التوبة ، ويقع هذا الجزء فى (200) لوحة. ورقم الميكروفيلم (38066).
الجزء الثالث : أوله تفسير قوله تعالى : إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ .. الآية 93 من سورة التوبة. وآخره : آخر تفسير سورة الكهف ويقع فى (247) لوحة. ورقم الميكروفيلم (37286).
الجزء الرابع : أوله : تفسير قوله تعالى : وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ .. الآية 46 من سورة العنكبوت إلى آخر سورة الصافات. ثم من أول سورة الشورى ، حتى تفسير قوله تعالى : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الآية 9 من سورة الزخرف. وبين هذا الجزء وبين سابقه سقط كبير وملازم مفقودة.
ويقع الموجود من هذا الجزء فى (161) لوحة. ورقم الميكروفيلم (29172) ونسخت هذه المخطوطة عام (1299 ه) ، ومقاس صفحتها 12 18 سم ، والصفحة تشتمل على 28 سطرا. وكتبت بخط مغربى. كما كتبت الآيات وأسماء الأعلام بلون مخالف. لم يظهر فى التصوير. وهذه النسخة مثل سابقتها فى تعدد مواطن التحريف والنقص والتصحيف.(1/40)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 41
منهج التحقيق
(1) اعتمدت فى التحقيق على ثلاث نسخ. وبعد دراستها ، والتزام المقابلة بينها جميعا بكل دقة ، اعتمدت النسخة المحفوظة بمكتبة السيد الفريق/ حسن التهامي أصلا ، وذلك للاعتبارين الآتيين :
- أنها نسخة المؤلف. - أنها أكثر النسخ ضبطا ودقة ووضوحا وتماما.
ومن ثم حررت النص ، بحيث يظهر على صورة مطابقة للنسخة المذكورة.
(2) تغاضيت عن الإشارة إلى الفروق الموجودة فى النسخ الأخرى ، كالسقط والتصحيف ، وذلك لئلا أثقل الكتاب بكثرة الهوامش التي لا ضرورة لها ، ولئلا يتضخم حجم الكتاب. أما الفروق الجوهرية فأشرت إليها ، وهى قليلة جدا.
(3) حرصت أشد الحرص على تدبر النص ، مستعينا بأصول المؤلف ومصادره فى تفسيره. ونبهت فى الهامش على ما إذا كان النقل بالمعنى ، أو كان هناك اختلاف فى بعض العبارات.
(4) راعيت إثبات قراءة حفص فى الهامش ، فى كل موضع جاءت القراءة فيه على غير هذه القراءة ، مع تخريج القراءات من مصادرها.
(5) بداية من المجلد الثاني خرّجت الآيات القرآنية ، بإرجاعها إلى سورها ، وذكر أرقامها فى تلك السور كما عملت على تخريج ما أومأ إليه المفسر من آيات ، وحرصت على ذكر نص الآيات بالهامش.
(6) بداية من المجلد الثاني خرّجت الأحاديث النبوية والآثار ، بإرجاعها إلى مصادرها. فإن كان الحديث فى الصحيحين أو أحدهما اقتصرت عليه ، وإن كان فى غيرها توسعت فى التخريج قدر الإمكان ، ونبهت إلى النص الأصلى للحديث ، كلما كان إيراده بالمعنى. كما عزوت أسباب النزول إلى مظانها ، من كتب الحديث وكتب التفسير الأخرى ، كالطبرى والبغوي والدر المنثور للسيوطى.
(7) ضبطت بالشكل ما يشتبه من الألفاظ والأسماء وغيرها.
(8) شرحت بعض الألفاظ بالرجوع إلى معاجم اللغة المشهورة.
(9) علّقت باختصار على بعض المسائل التي تحتاج إلى تعليق.
(10) وزعت النص توزيعا فنيا ، ييسر الاطلاع عليه والانتفاع منه.
(11) أثبت فى أعلى كل صفحة اسم السورة ، ورقم الآية ، ورقم الجزء ، تيسيرا للاستفادة ، وتوفيرا للوقت على القارئ ، عند البحث عن تفسير آية معينة.(1/41)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 42
ولا يفوتنى فى هذا المقام أن أذكر : أنه ولا بد وأن يوجد فى هذا العمل بعض النقص والهفوات ، التي يسبق إليها القلم ، أو يذهل عنها الفكر ، والكمال لله وحده.
وأسأل الله أن يتقبل هذا العمل ، ويجعله خالصا لوجهه الكريم ، وأن يثيبنى عليه بما يثيب به عباده الصالحين ... والحمد لله رب العالمين.
أحمد عبد الله القرشي رسلان المدرس المساعد بقسم التفسير بكلية أصول الدين - بطنطا جامعة الأزهر بنها فى 27 - رمضان - 1419 ه(1/42)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 43
الصفة الأولى من المجلد الأول ، من النسخة المحفوظة بمكتبة السيد/ حسن التهامي «مصورات خارج الدار بالهيئة العامة للكتاب تحت رقم 226246»(1/43)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 44
الصفحة الأخيرة من المجلد الرابع ، من النسخة المحفوظة بمكتبة السيد/ حسن التهامي(1/44)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 45
الصفحة الأولى من المجلد الأول ، من النسخة المحفوظة بمكتبة الدكتور/ حسن عباس زكى(1/45)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 46
اللوحة الأولى من المجلد الأول ، من النسخة التيمورية(1/46)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 47
الصفحة الأخيرة من المجلد الرابع ، من النسخة المحفوظة بمكتبة الدكتور/ حسن عباس زكى(1/47)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 48(1/48)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 49
مقدمة المؤلف
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
(وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم)
قال الشيخ الإمام الحبر الهمام ، العارف الرباني والقطب الصمداني ، قدوة السالكين ومنار الواصلين ، بحر العرفان ، ومشرق شمس العيان ، مهيع الطريقة ، الجامع بين الشريعة وبحر الحقيقة ، أبو العباس أحمد بن محمد بن عجيبة الحسنى - رضى اللّه عنه وأرضاه - آمين :
نحمدك يا من تجلّى لعباده فى كلامه ، بكمال بهائه وجماله ، وفتق ألسنة العلماء النحارير لاستخراج درره ولآلئه ، وفجّر قلوبهم بينابيع الحكم المؤيدة بأصوله ومبانيه ، واستفادوا عند غوصهم فى تياره من فرائده ومثانيه ، فدحضوا بآياته الباهرة ، وحججه الظاهرة القاهرة شبه من يناويه ويعانيه ، والكلّ معترف بالتقصير ، مغترف على حسب الفهم والتيسير ، من بحر أسراره ومعانيه ، فهو البحر الطام الذي لا يدرك له قعر ، والروض المونق الذي لا يعدم منه زهر ولا نور ، وكيف لا ، وهو كلام مولانا العالم بالخفيات ، وبما كان وما هو الآن وما هو آت؟!.
والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد ، مظهر الرحمات ، المبعوث بخوارق العادات ولوامع البينات ، وعلى آله وأصحابه أولى النّدى والسماحة ، وجبال اليقين فى اشتداد الأزمات وتفاقم المعضلات.
وبعد ... فإن علم تفسير القرآن من أجلّ العلوم ، وأفضل ما ينفق فيه نتائج الأفكار وقرائح الفهوم ، ولكن لا يتقدم لهذا الخطر الكبير إلا العالم النّحرير ، الذي رسخت أقدامه فى العلوم الظاهرة ، وجالت أفكاره فى معانى القرآن الباهرة ، بعد أن تضلّع من العلم الظاهر ، عربية وتصريفا ولغة وبيانا ، وفقها وحديثا وتاريخا ، يكون أخذ ذلك من أفواه الرجال ، ثم غاص فى علوم التصوف ذوقا وحالا ومقاما ، بصحبة أهل الأذواق من أهل الكمال ، وإلا فسكوته عن هذا الأمر العظيم أسلم ، واشتغاله بما يقدر عليه من علم الشريعة الظاهرة أتم.
واعلم أن القرآن العظيم له ظاهر لأهل الظاهر ، وباطن لأهل الباطن ، وتفسير أهل الباطن لا يذوقه إلا أهل الباطن ، لا يفهمه غيرهم ولا يذوقه سواهم ، ولا يصح ذكره إلا بعد تقرير الظاهر ، ثم يشير إلى علم الباطن بعبارة رقيقة وإشارة دقيقة ، فمن لم يبلغ فهمه لذوق تلك الأسرار فليسلّم ، ولا يبادر بالإنكار فإنّ علم الأذواق من وراء طور العقول ، ولا يدرك بتواتر النقول.
قال فى لطائف المنن : اعلم أن تفسير هذه الطائفة - يعنى الصوفية - لكلام اللّه وكلام رسوله صلى اللّه عليه وسلّم بالمعاني الغريبة ليس إحالة للظاهر عن ظاهره ، ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جاءت الآية له ودلت عليه فى حرف اللسان ، (1/49)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 50
وثمّ أفهام باطنة تفهم عند الآية والحديث لمن فتح اللّه قلبه ، وقد جاء أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : «لكل آية ظاهر وباطن وحدّ ومطّلع». فلا يصدّنك عن تلقى المعاني الغريبة منهم أن يقول لك ذو جدل ومعارضة : هذا إحالة لكلام اللّه - عز وجل - وكلام رسوله صلى اللّه عليه وسلّم فليس بإحالة ، وإنما يكون إحالة لكلام اللّه لو قالوا : لا معنى للآية إلا هذا ، وهم لا يقولون ذلك. بل يقرّون الظواهر على ظواهرها ومراداتها وموضوعاتها ، ويفهمون عن اللّه ما أفهمهم. ه.
وقال سعد الدين فى شرح عقائد النسفي - بعد إبطال الإلحاد - : (و أمّا ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص على ظواهرها ، ومع ذلك ففيها إشارات خفية إلى حقائق تنكشف لأرباب السلوك ، يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة ، فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان) وقوله : يمكن التطبيق ... إلخ ، أي : يمكن أن يشار إليها فى باطن الخطاب بحيث لا ينبو عنها سرّ الخطاب ، ولا يبعد اللفظ عنها كل البعد حتى يكون تحريفا.
وقال الشيخ زرّوق رضى الله عنه : نظر الصوفي أخص من نظر المفسر وصاحب فقه الحديث ، لأن كلا منهما يعتبر الحكم والمعنى ليس إلا وهو يزيد بطلب الإشارة بعد إثبات ما أثبتاه. وإلّا فهو باطني خارج عن الشريعة فضلا عن المتصوفة. واللّه أعلم. ه.
وقوله عليه الصلاة والسلام : «لكل آية ظاهر وباطن وحدّ ومطّلع» فالظاهر لمن اعتنى بظاهر اللفظ ، كالنحاة وأهل اللغة والتصريف ، والباطن لمن اعتنى بمعنى اللفظ ، وما دلّ عليه الكلام من الأمر والنهى والقصص والأخبار والتوحيد ، وغير ذلك من علوم القرآن ، وهو نظر المفسرين. والحدّ لمن اعتنى باستنباط الأحكام منه ، وهم الفقهاء ، فهم ينتهون إلى ما يدل عليه اللفظ وسيق لأجله ، دون زيادة عليه. والمطّلع لأهل الحقائق من أكابر الصوفية ، لأنهم يطلعون من ظاهر الآية إلى باطنها ، فيكشف لهم عن أسرار وعلوم وغوامض ، تتجلى لهم عند استعمال الفكرة فيها.
قال فى الصّحاح : فى الحديث : «من هول المطّلع» ، شبّه ما أشرف عليه من أمر الآخرة بالمطّلع وهو المأتى.
يقال : أين مطلع هذا الأمر؟ أي : مأتاه ، وهو موضع الاطلاع من إشراف إلى انحدار. ه لأن أهل الحقائق يشرفون من ظاهر الآية إلى أسرار باطنها ، ويغوصون فى لجج بحرها. واللّه تعالى أعلم.
هذا ... وقد ندبنى شيخى العارف الرباني سيدى محمد البوزيدى الحسنى ، وكذلك شيخه القطب الجامع شيخ المشايخ مولاى العربي الدرقاوى الحسنى ، أن أضع تفسيرا يكون جامعا بين تفسير أهل الظاهر وإشارة أهل الباطن ، فأجبت سؤالهم وأسعفت طلبتهم ، رجاء أن يعمّ به الانتفاع ، ويكون ممتعا للقلوب والأسماع. مقدّما فى كل آية ما يتعلق بمهمّ العربية واللغة ، ثم بمعاني الألفاظ الظاهرة ، ثم بالإشارات الباطنة. متوسطا فى ذلك بين الإطناب(1/50)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 51
والاختصار. منتظرا فى ذلك كله ما يفتح علىّ من خزائن الكريم الغفار .. وسميته (البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد) نسأل اللّه أن يكسوه جلباب القبول ، وأن يبلغ فيه القصد المأمول ، إنه على ما يشاء قدير ، وبالإجابة جدير ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلى العظيم. وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
وقد ذكرت فى تفسير الفاتحة الكبير عشر مقدمات تتعلق بأصول العلوم وتفاريعها ، وعلوم القرآن وأصل منابعها ، فلينظرها من أرادها. وباللّه التوفيق.(1/51)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 52
سورة الفاتحة
مكية. ولها عشرة أسماء : الفاتحة والوافية والكافية والشافية ، والسبع المثاني لأنها سبع آيات عند الشافعي منها البسملة ، وأسقطها مالك وجعل السابعة : غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ الآية ، أو تثنى فى كل صلاة ، أو لاشتمالها على الثناء على اللّه. وأمّ القرآن لأنها مفتتحه ومبدؤه ، أو لأنها اشتملت على ما فيه إجمالا على ما يأتى ، وسورة الحمد والشكر ، وسورة تعليم المسألة ، وسورة الصلاة لتكريرها فيها ، وأساس القرآن لأنها أصله ومبدؤه ويبنى سائره عليها.
[سورة الفاتحة (1) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
واتفقت المصاحف على افتتاحها ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ واختلف الأئمة فيها ، فقال مالك : ليست آية لا من الفاتحة ولا من غيرها إلا من النمل خاصة ، وقال الشافعي : هى آية من الفاتحة فقط ، وقال ابن عباس : هى آية من كل سورة.
فحجة مالك : ما فى الصحيح عنه صلى اللّه عليه وسلّم قال : «أنزلت علىّ سورة ليس فى التوراة ولا فى الإنجيل ولا فى الفرقان مثلها ، ثم قال : الحمد للّه رب العالمين) ولم يذكر البسملة. وكذلك ما ورد فى الصحيح أيضا أن اللّه يقول : «قسمت الصّلاة بينى وبين عبدى نصفين. يقول العبد : الحمد للّه ربّ العالمين» فبدأ بها دون البسملة.
وحجة الشافعي : ما ورد فى الصحيح «أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم كان يقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم. الحمد للّه رب العالمين». وحجة ابن عباس : ثبوت البسملة مع كل سورة فى المصحف ، مع تحرّى الصحابة ألا يدخلوا فى المصحف غير كلام اللّه ، وقالوا : ما بين الدفّتين كلام اللّه.
وإذا ابتدأت أوّل سورة بسملت إلا براءة ، وسيأتى الكلام عليها. وإذا ابتدأت جزء سورة فأنت مخير عند الجمهور.
وإذا أتممت سورة وابتدأت أخرى فاختلف القرّاء فى البسملة وتركها.
وأما حكمها فى الصلاة ، فقال مالك : مكروهة فى الفرض دون النفل ، وقال الشافعي : فرض تبطل الصلاة بتركها ، فيبسمل - عنده - جهرا فى الجهر وسرا فى السر ، وعند أبى حنيفة كذلك إلا أنه يسرّها مطلقا ، وحجة مالك أنها ليست بآية : ما فى الحديث الصحيح عن أنس أنه قال : (صلّيت خلف النبي صلى اللّه عليه وسلّم وأبى بكر وعمر وعثمان ، فكانوا يستفتحون بالحمد للّه رب العالمين) لا يذكرون البسملة أصلا. وحجة الشافعي أنها عنده آية : ما ورد فى الحديث من قراءتها كما تقدم.(1/52)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 53
ولم تكن البسملة قبل الإسلام ، فكانوا يكتبون : باسمك اللهم ، حتى نزلت بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها فكتبوا بِسْمِ اللَّهِ حتى نزل : ... أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ فكتبوا : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ حتى نزل : ... وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، فكتبوها.
وحذفت الألف لكثرة الاستعمال ، والباء متعلقة بمحذوف ، اسم عند البصريين ، أي : ابتدائى كائن بسم اللّه ، فموضعها رفع. وفعل عند الكوفيين ، أي : أبدأ أو أتلو. فيقدّر كل واحد ما جعلت البسملة مبدأ له ، فموضعها نصب ، ويقدر مؤخرا لإفادة الحصر والاختصاص. وهو مشتق من السّموّ عند البصريين ، فلامه محذوفة ، وعند الكوفيين من السّمة ، أي : العلامة ، ففاؤه محذوفة ، ودليل البصريين : التصغير والتكسير ، فقالوا : أسماء ، ولم يقولوا أوسام ، وقالوا :
سمى ، ولم يقولوا : وسيم.
و(اللّه) علم على الذات الواجبة الوجود ، المستحق لجميع المحامد ، وهل هو مشتق أو مرتجل؟ قولان يأتى الكلام عليهما فى (الحمد للّه) ، وكذلك (الرحمن الرحيم).
قال الحق جل جلاله :
[سورة الفاتحة (1) : الآيات 2 الى 4]
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
قلت : (الحمد) مبتدأ ، و(للّه) خبر ، وأصله النصب ، وقرئ به ، والأصل : أحمد اللّه حمدا ، وإنما عدل عنه إلى الرفع ليدل على عموم الحمد وثباته ، دون تجدده وحدوثه ، وفيه تعليم اللفظ مع تعريض الاستغناء. أي : الحمد للّه وإن لم تحمدوه. ولو قال (أحمد اللّه) لما أفاد هذا المعنى ، وهو من المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة لا تكاد تذكر معها. والتعريف للجنس أي : للحقيقة من حيث هى ، من غير قيد شيوعها ، ومعناه : الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد أن الحمد ما هو. أو للاستغراق إذ الحمد فى الحقيقة كلّه للّه إذ ما من خير إلا وهو موليه بواسطة وبغير واسطة. كما قال : وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وقيل : للعهد ، والمعهود حمده تعالى نفسه فى أزله.
وقرئ (الحمد للّه) بإتباع الدال للام «1» ، وبالعكس «2» ، تنزيلا لهما من حيث إنهما يستعملان معا منزلة كلمة واحدة.
ومعناه فى اللغة : الثناء بالجميل على قصد التعظيم والتبجيل ، وفى العرف : فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعما. والشكر فى اللغة : فعل يشعر بتعظيم المنعم ، فهو مرادف للحمد العرفي ، وفى العرف : صرف
___________
(1) فى الكسر - وهى قراءة شاذة.
(2) أي : اتباع اللام الدال فى الضم ، وهى قراءة شاذة أيضا.(1/53)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 54
العبد جميع ما أنعم اللّه عليه من السمع والبصر إلى ما خلق لأجله وأعطاه إياه. وانظر شرحنا الكبير للفاتحة فى النّسب التي بيناها نظما ونثرا.
و(اللّه) اسم مرتجل جامد ، والألف واللام فيه لازمة لا للتعريف ، قال الواحدي : اسم تفرّد به الباري - سبحانه - يجرى فى وصفه مجرى الأسماء الأعلام ، لا يعرف له اشتقاق ، وقال الأقليشى : إن هذا الاسم مهما لم يكن مشتقا كان دليلا على عين الذات ، دون أن ينظر فيها إلى صفة من الصفات ، وليس باسم مشتق من صفة ، كالعالم والحق والخالق والرازق ، فالألف واللام على هذا فى (اللّه) من نفس الكلمة ، كالزاى من زيد ، وذهب إلى هذا جماعة ، واختاره الغزالي وقال : كل ما قيل فى اشتقاقه فهو تعسّف.
وقيل : مشتق من التّألّه وهو التعبد ، وقيل : من الولهان ، وهو الحيرة لتحيّر العقول فى شأنه. وقيل : أصله :
الإله ، ثم حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى اللام ، ثم وقع الإدغام وفخمت للتعظيم ، إلا إذا كان قبلها كسر.
و(رب) نعت (للّه) ، وهو فى الأصل : مصدر بمعنى التربية ، وهو تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا ، ثم وصف به للمبالغة كالصوم والعدل.
وقيل : هو وصف من ربّه يربّه ، وأصله : ربب ثم أدغم ، سمى به المالك لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه ، ولا يطلق على غيره تعالى إلا بقيد كقوله تعالى : ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ. قال ابن جزىّ : ومعانيه أربعة : الإله والسيد والمالك والمصلح ، وكلها تصلح فى رب العالمين ، إلا أن الأرجح فى معناه : الإله لاختصاصه باللّه تعالى.
و(العالمين) جمع عالم ، والعالم : اسم لما يعلم به ، كالخاتم لما يختم به ، والطابع لما يطبع به. غلب فيما يعلم به الصانع. وهو كل ما سواه من الجواهر والأعراض ، فإنها لإمكانها وافتقارها إلى مؤثّر واجب لذاته ، تدل على وجوده ، وإنما جمع ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة ، وغلّب العقلاء منهم فجمع بالياء والنون كسائر أوصافهم ، فهو جمع ، لا اسم جمع ، خلافا لابن مالك.
وقيل : اسم وضع لذوى العلم من الملائكة والثقلين ، وتناوله لغيرهم على سبيل الاستتباع ، وقيل : عنى به هذا الناس ، فإن كل واحد منهم عالم ، حيث إنه يشتمل على نظائر ما فى العالم الكبير ، ولذا سوّى بين النظر فيهما فقال :
وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ.(1/54)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 55
قلت : وإليه يشير قول الشاعر :
يا تائها فى مهمه عن سرّه انظر تجد فيك الوجود بأسره
أنت الكمال طريقة وحقيقة يا جامعا سرّ الإله بأسره
والرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اسمان بنيا للمبالغة ، من رحم ، كالغضبان من غضب ، والعليم من علم ، والرحمة فى اللغة : رقّة القلب ، وانعطاف يقتضى التفضل والإحسان ، ومنه الرّحم لانعطافها على ما فيها. وأسماء اللّه تعالى إنما تؤخذ باعتبار الغايات ، التي هى أفعال ، دون المبادئ التي هى انفعالات. و(الرحمن) أبلغ من (الرحيم) لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى ، كقطّع وقطع ، وذلك إنما يؤخذ تارة باعتبار الكمية ، وأخرى باعتباره الكيفية.
فعلى الأول : قيل : يا رحمن الدنيا لأنه يعمّ المؤمن والكافر ، ورحيم الآخرة لأنه يختص بالمؤمن ، وعلى الثاني قيل : يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا لأن النعم الأخروية كلها جسام ، وأما النعم الدنيوية فجليلة وحقيرة.
وإنما قدّم (الرحمن) - والقياس الترقي من الأدنى إلى الأعلى - لتقدّم رحمة الدنيا ، ولأنه صار كالعلم من حيث إنه لا يوصف به غيره لأن معناه المنعم الحقيقي البالغ فى الرحمة غايتها ، وذلك لا يصدق على غيره تعالى.
انظر البيضاوي. وسيأتى الكلام عليهما فى المعنى.
و(ملك) نعت لما قبله ، قراءة الجماعة بغير ألف من (الملك) بالضم ، وقرأ عاصم والكسائي بالألف ، من (الملك) بالكسر ، والتقدير على هذا : مالك مجئ يوم الدين ، أو مالك الأمر يوم الدين. وقراءة الجماعة أرجح ، لثلاثة أوجه :
الأول : أن الملك أعظم من مالك ، إذ قد يوصف كل أحد بالمالك لماله ، وأما الملك فهو سيد الناس ، والثاني : قوله :
وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ، والثالث : أنها لا تقتضى حذفا ، والحذف خلاف الأصل «1».
و(يوم الدين) ظرف مضاف إلى ما قبله على طريق الاتساع ، وأجرى الظرف مجرى المفعول به ، والمعنى على الظرفية ، أي : الملك فى يوم الدين ، أو ملك الأمر يوم الدين ، فيكون فيه حذف. وقد رويت القراءتان - أي :
القصر والمد - عن النبي صلى اللّه عليه وسلّم.
___________
(1) ينبغى ألا يكون ترجيح فى هذا المجال ، مع ورود القراءتين عن الرسول صلى اللّه عليه وسلّم والقراءتان - كما يقول الآلوسى - : فرسا رهان ، ومتى أردت الترجيح تعارضت الأدلة.(1/55)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 56
وقد قرئ (ملك) بوجوه كثيرة تركنا ذكرها لشذوذها. فإن قيل : ملك ومالك نكرة لأن إضافة اسم الفاعل لا تخصص ، وكيف ينعت به (الرحمن الرحيم) وهما معرفتان؟ قلت : إنما تكون إضافة اسم الفاعل لا تخصص إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال لأنها حينئذ غير محضة ، وأما هذا فهو مستمر دائما ، فإضافته محضة. قاله ابن جزىّ.
يقول الحق جل جلاله معلّما لعباده كيف يثنون عليه ويعظمونه ثم يسألونه : يا عبادى قولوا : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي : الثناء الجميل إنما يستحقه العظيم الجليل ، فلا يستحق الحمد سواه ، إذ لا منعم على الحقيقة إلا اللّه ، وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ. أو جميع المحامد كلّها للّه ، أو الحمد المعهود فى الأذهان هو حمد اللّه تعالى نفسه فى أزله ، قبل أن يوجد خلقه ، فلما أوجد خلقه قال لهم : الحمد للّه ، أي : احمدونى بذلك الحمد المعهود فى الأزل.
وإنما استحق الحمد وحده لأنه رَبِّ الْعالَمِينَ ، وكأن سائلا سأله : لم اختصصت بالحمد؟ فقال : لأنى ربّ العالمين ، أنا أوجدتهم برحمتي ، وأمددتهم بنعمتي ، فلا منعم غيرى ، فاستحققت الحمد وحدي ، منّى كان الإيجاد وعلىّ توالى الإمداد ، فأنا ربّ العباد ، فالعوالم كلها - على تعدد أجناسها واختلاف أنواعها - فى قبضتى وتحت تربيتى ورعايتى.
قال بعضهم : خلق اللّه ثمانية عشر ألف عالم ، نصفها فى البر ونصفها فى البحر. وقال الفخر الرازي : روى أن بنى آدم عشر الجن ، وبنو آدم والجن عشر حيوانات البر ، وهؤلاء كلّهم عشر الطيور ، وهؤلاء كلهم عشر حيوانات البحار ، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة الأرض الموكلين ببني آدم ، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة سماء الدنيا ، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة السماء الثانية ، ثم على هذا الترتيب إلى ملائكة السماء السابعة ، ثم الكلّ فى مقابلة الكرسي نزر قليل ، ثم هؤلاء عشر ملائكة السّرادق الواحد من سرادقات العرش ، التي عددها : مائة ألف ، طول كل سرادق وعرضه - إذا قوبلت به السموات والأرض وما فيهما وما بينهما - يكون شيئا يسيرا ونزرا قليلا. وما من موضع شبر إلا وفيه ملك ساجد أو راكع أو قائم ، وله زجل بالتسبيح والتهليل. ثم هؤلاء كلهم فى مقابلة الذين يجولون حول العرش كالقطرة فى البحر ، ولا يعلم عددهم إلا اللّه تعالى : وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ. ه.
وقال وهب بن منبّه : (قوائم العرش ثلاثمائة وست وستون قائمة ، وبين كل قائمة وقائمة ستون ألف صحراء ، وفى كل صحراء ستون ألف عالم ، وكل عالم قدر الثقلين).
فهذه العوالم كلها فى قبضة الحق وتحت تربيته وحفظه ، يوصل المدد إلى كل واحد وهو فى مستقرّه ومستودعه ، إما إلى روحانيته من قوة العلوم والمعارف ، وإما إلى بشريته من قوة الأشباح ، من العرش إلى الفرش ، (1/56)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 57
كلها مقدّرة أرزاقها محصورة آجالها ، محفوظة أشباحها ، معلومة أماكنها ، لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء وهو السميع العليم.
ثم هذه التربية التي ربى سبحانه بها خلقه إنما هى رحمة منه وإحسان ، لا لزوم عليه وإيجاب ، ولذلك وصله بقوله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، أي : الرحمن بنعمة الإيجاد ، الرحيم بنعمة الإمداد. «نعمتان ما خلا موجود عنهما ، ولا بد لكل مكوّن منهما : نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد ، أنعم أولا بالإيجاد ، وثنى بتوالي الإمداد». كما فى (الحكم) «1». فاسمه (الرحمن) يقتضى إيجاد الأشياء وإبرازها ، واسمه (الرحيم) يقتضى تربيتها وإمدادها. ولذلك لا يجوز إطلاق اسم (الرحمن) على أحد ، ولم يتسمّ أحد به إذ الإيجاد لا يصح من غيره تعالى ، بخلاف اسمه (الرحيم) فيجوز إطلاقه على غيره تعالى لمشاركة صدور الإمداد فى الظاهر من بعض المخلوقات مجازا وعارية.
أو : الرحمن فى الدنيا والآخرة ، والرحيم فى الآخرة لأن رحمة الآخرة خاصة بالمؤمنين. أو الرحمن بجلائل النعم والرحيم بدقائقها ، فجلائل النعم مثل : نعمة الإسلام والإيمان والإحسان ، والمعرفة والهداية ، وكشف الحجاب وفتح الباب والدخول مع الأحباب ، ودقائق النعم مثل : الصحة والعافية والمال الحلال ، وغير ذلك مما يأتى ذكره فى المنعم عليهم.
ثم من تحقق منه الإيجاد والإمداد استحق أن يكون ملكا لجميع العباد ، ولذلك ذكره بأثره فقال : مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ أي : المتصرف فى عباده كيف شاء ، لا رادّ لما قضى ولا مانع لما أعطى ، فهو ملك الملوك رب الأرباب فى هذه الدار وفى تلك الدار. وإنما خصّ يوم الدين - وهو يوم الجزاء - بالملكية لأن ذلك اليوم يظهر فيه الملك للّه عيانا لجميع الخلق ، فإن اللّه تعالى يتجلّى لفصل عباده ، حتى يراه المؤمنون عيانا ، بخلاف الدنيا فإن تصرفه تعالى لا يفهمه إلا الكملة من المؤمنين ، ولذلك ادّعى كثير من الجهلة الملك ونسبوه لأنفسهم. ويوم القيامة ينفرد الملك للّه عند الخاص والعام ، قال تعالى : لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ.
الإشارة : لما تجلّى الحق سبحانه من عالم الجبروت إلى عالم الملكوت ، أو تقول : من عالم الغيب إلى عالم الشهادة ، حمد نفسه بنفسه ، ومجّد نفسه بنفسه ، ووحّد نفسه بنفسه ، وللّه درّ الهروىّ ، حيث قال :
ما وحّد الواحد من واحد إذ كلّ من وحّده جاحد
___________
(1) لابن عطاء الله السكندرى.(1/57)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 58
توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد
توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لاحد «1»
فقال فى توحيد نفسه بنفسه مترجما عن نفسه بنفسه : (الحمد للّه رب العالمين) ، فكأنه يقول فى عنوان كتابه وسر خطابه : أنا الحامد والمحمود ، وأنا القائم بكل موجود ، أنا رب الأرباب ، وأنا مسبب الأسباب لمن فهم الخطاب ، أنا رب العالمين ، أنا قيوم السموات والأرضين ، بل أنا المتوحد فى وجودى ، والمتجلّى لعبادى بكرمى وجودى ، فالعوالم كلها ثابتة بإثباتى ، ممحوّة بأحدية ذاتى.
قال رجل بين يدى الجنيد : (الحمد للّه) ولم يقل : (رب العالمين) ، فقال له الجنيد : كمّلها يا أخى ، فقال الرجل : وأىّ قدر للعالمين حتى تذكر معه؟! فقال الجنيد : قلها يا أخى فإن الحادث إذا قرن بالقديم تلاشى الحادث وبقي القديم.
يقول سبحانه : يا من هو منى قريب ، تدبر سرّى فإنه غريب ، أنا المحب ، وأنا الحبيب ، وأنا القريب ، وأنا المجيب ، أنا الرحيم الرحمن ، وأنا الملك الديان ، أنا الرحمن بنعمة الإيجاد ، والرحيم بتوالي الإمداد. منّى كان الإيجاد ، وعلىّ دوام الإمداد ، وأنا رب العباد ، أنا الملك الدّيان ، وأنا المجازى بالإحسان على الإحسان ، أنا الملك على الإطلاق ، لو لا جهالة أهل العناد والشقاق ، الأمر لنا على الدوام ، لمن فهم عنا من الأنام.
قال فى الرسائل الكبرى «2» : لا عبرة بظواهر الأشياء ، وإنما العبرة بالسر المكنون ، وليس ذلك إلا بظهور أمر الحق وارتفاع غطائه وزوال أستاره وخفائه ، فإذا تحقق ذلك التجلي والظهور ، واستولى على الأشياء الفناء والدّثور ، وانقشعت الظلمات بإشراق النور ، فهناك يبدو عين اليقين ويحق الحق المبين ، وعند ذلك تبطل دعوى المدعين ، كما يفهم العامة بطلان ذلك فى يوم الدين ، حين يكون الملك للّه رب العالمين ، وليت شعرى أىّ وقت كان الملك لسواه حتى يقع التقييد بقوله : الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ وقوله : وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ؟! لو لا الدعاوى العريضة من القلوب المريضة. ه.
___________
(1) مضمون الأبيات كما يقول الشيخ ابن عجيبة فى إيقاظ الهمم : أن الحق تولى توحيد نفسه بنفسه. فكل من ادعى أنه وحده بنفسه فهو جاحد لوحدانيته ، حيث أشرك معه نفسه ، وكل من ينعته بنفسه فهو لاحد - أي : مائل عن الصواب. وهذا المعنى من المعاني التي ينبغى أن تفهم فى ضوئها هذه الأبيات ، وللأبيات محامل أخرى ذكرها العلامة ابن القيم. فلتنظر فى كتابه مدارج السالكين. وانظر أيضا : مدارج السلوك لأبى بكر بنانى.
(2) لابن عباد النفزي ، شارح الحكم.(1/58)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 59
ثم تنزل لبيان العبودية ، فقال :
[سورة الفاتحة (1) : آية 5]
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
قلت : (إياك) مفعول (نعبد) ، وقدّم للتعظيم والاهتمام به ، والدلالة على الحصر ، ولذلك قال ابن عباس :
(نعبدك ولا نعبد معك غيرك) ، ولتقديم ما هو مقدّم فى الوجود وهو الملك المعبود ، وللتنبيه على أن العابد ينبغى أن يكون نظره إلى المعبود أولا وبالذات ، ومنه إلى العبادة ، لا من حيث إنها عبادة صدرت عنه ، بل من حيث إنها نسبة شريفة إليه ، ووصلة بينه وبين الحق ، فإن العارف إنما يحقّ وصوله إذا استغرق فى ملاحظة جناب القدس ، وغاب عما عداه ، حتى إنه لا يلاحظ نفسه ولا حالا من أحوالها إلا من حيث إنها تجلّ من تجلياته ومظهر لربوبيته ، ولذلك فضل ما حكى اللّه عن حبيبه حين قال : لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا ، على ما حكاه عن كليمه حيث قال : إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ أي : حيث صرّح بمطلوبه ، و(إياك) مفعول (نستعين) وقدّم أيضا للاختصاص والاهتمام ، كما تقدم فى إِيَّاكَ نَعْبُدُ. وكرّر الضمير ولم يقل : إياك نعبد ونستعين لأن إظهاره أبلغ فى إظهار الاعتماد على اللّه ، وأقطع فى إحضار التعلق باللّه والإقبال على اللّه وأمدح ، ألا ترى أن قولك : بك أنتصر وبك أحتمى وبك أنال مطالبى - أبلغ وأمدح من قولك : بك أنتصر وأحتمى ... إلخ؟.
وقدم العبادة على الاستعانة ليتوافق رءوس الآي ، وليعلم منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة ، فإن من تلبّس بخدمة الملك وشرع فيها بحسب وسعه ، ثم طلب منه الإعانة عليها أجيب إلى مطلبه ، بخلاف من كلّفه الملك بخدمته ، فقال : أعطنى ما يعيننى عليها ، فهو سوء أدب ، وأيضا : من استحضر الأوصاف العظام ما أمكنه إلا المسارعة إلى الخضوع والعبادة ، وأيضا : لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك تبجحا واعتدادا منه بما يصدر عنه فعقبه بقوله : وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، دفعا لذلك التوهم.
والعبادة : أقصى غاية الخضوع والتذلل ، ومنه طريق معبّد ، أي : مذلل ، والاستعانة : طلب المعونة ، والمراد طلب المعونة فى المهمات كلّها ، أو فى أداء العبادات.
والضمير المستتر فى الفعلين للقارىء ومن معه من الحفظة وحاضرى صلاة الجماعة ، أو له ولسائر الموجودين.
أدرج عبادته فى تضاعيف عبادتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعلها تقبل ببركتها ويجاب إليها ، ولهذا شرعت الجماعة. قاله البيضاوي.(1/59)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 60
يقول الحق جل جلاله ، تتميما لتعليم عباده : فإذا أثنيتم على ومجدتمونى وعظمتمونى فأقروا لى بالربوبية ، وأظهروا من أنفسكم العبودية ، واطلبوا منى العون فى كل وقت وقولوا : إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، وكأنه - جل جلاله - لمّا ذكر أنه مستحق للمحامد كلها قديمها وحديثها لأنه رب العوالم وقيومها ، أصل الأصول وفروعها ، أنعم عليها أولا بالإيجاد ، وثانيا بتوالي الإمداد ، فهو مالكها على الإطلاق ، ذكر أنه لا يستحق أن يعبد سواه إذ لا منعم على الحقيقة إلا اللّه ، فهو أحقّ أن يعبد ، وأولى أن يفرد بالوجهة والقصد ، لأنه مستبد وغير مستمدّ ، والمادة من عين الجود ، فإذا انقطعت المادة انعدم الوجود.
قال البيضاوي : ثم إنه لما ذكر الحقيق بالحمد ، ووصف بصفات عظام تميّز بها عن سائر الذوات ، تعلّق العلم بمعلوم معين ، خوطب بذلك ، أي : يا من هذا شأنه نخصّك بالعبادة والاستعانة ، ليكون أدل على الاختصاص ، وللترقى من الغيبة إلى الشهود ، وكأن المعلوم صار عيانا ، والمعقول مشاهدا ، والغيبة حضورا. بنى أول الكلام على ما هو مبادئ حال العارف من الذكر والفكر والتأمل فى أسمائه ، والنظر فى آلائه ، والاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه وباهر سلطانه ، ثم قفى بما هو منتهى أمره ، وهو أن يخوض لجة الوصول ، ويصير من أهل المشاهدة ، فيراه عيانا ويناجيه شفاها. اللهم اجعلنا من الواصلين إلى العين دون التابعين للأثر. ومن عادة العرب التفنن فى الكلام والعدول عن أسلوب إلى آخر ، تطرية وتنشيطا للسامع ، فتعدل من الخطاب إلى الغيبة ، ومن الغيبة إلى التكلم ، كقوله : حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ ... ولم يقل (بكم) وقوله أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ ... أي : ولم يقل : فساقه .. انظر تمام كلامه.
والالتفات هنا فى قوله : إِيَّاكَ نَعْبُدُ ولم يقل : إياه نعبد لأن الظاهر من قبل الغيبة ، وحسنه أن الموصوف تعيّن وصار حاضرا.
قال الأقليشى : فهذه الآية هى التي قال فيها النبي صلى اللّه عليه وسلّم : «فإذا قال العبد : إياك نعبد وإياك نستعين ، يقول اللّه تعالى : هذه بينى وبين عبدى ولعبدى ما سأل». معناه : أي عبد توجّه إلى بالعبادة وسألنى العون عليها فعبادته متقبلة ، والعون منى له عليها حاصل حتى يوقعها على وجهها ، فالعبادة وصف العبد ، والعون من اللّه تعالى للعبد ، فلهذا قال : «فهذه بينى وبين عبدى».
قال ابن جزي : أي نطلب العون منك على العبادة وعلى جميع أمورنا ، وفى هذا دليل على بطلان قول القدرية والجبرية ، وأنّ الحق بين ذلك.(1/60)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 61
الإشارة : لمّا تجلى الحق جل جلاله من عالم الجبروت إلى عالم الملكوت ، وحمد نفسه بنفسه ، تجلى أيضا وتنزّل من عالم الملكوت إلى عالم الملك بقدرته وحكمته لإظهار آثار أسمائه وصفاته ، فأظهر العبودية وأخفى الربوبية ، أظهر الحكمة وأبطن القدرة ، فجعل عالم الحكمة يخاطب عالم القدرة ، ويخضع له ، ويتعبد ويستمد ، منه الإعانة والهداية ، ويتحرز من طريق الضلالة والغواية.
فعالم الحكمة محل التكليف ، وعالم القدرة محل التصريف ، عالم الحكمة عالم الأشباح ، وعالم القدرة عالم الأرواح ، فإياك نعبد لأهل عالم الحكمة ، وإياك نستعين لأهل عالم القدرة. ولذلك قال الشيخ أبو العباس المرسى رضى اللّه عنه : إِيَّاكَ نَعْبُدُ شريعة ، وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ حقيقة ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ إسلاما ، وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ إحسانا ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ عبادة ، وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ عبودية ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ فرق إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ جمع. ه.
وإن شئت قلت : إِيَّاكَ نَعْبُدُ لأهل العمل للّه وهم المخلصون ، وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لأهل العمل باللّه وهم الموحّدون ، العمل للّه يوجب المثوبة ، والعمل باللّه يوجب القربة ، العمل للّه يوجب تحقيق العبادة ، والعمل باللّه يوجب تصحيح الإرادة ، العمل للّه نعت كلّ عابد ، والعمل باللّه نعت كل قاصد ، العمل للّه قيام بأحكام الظواهر ، والعمل باللّه قيام بإصلاح الضمائر. قاله القشيري.
ثم إنّ الناس فى شهود القدرة والحكمة على ثلاثة أقسام : قسم حجبوا بالحكمة عن شهود القدرة ، وهم أهل الحجاب من أهل الغفلة ، وقفوا مع قوله : إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، وقسم حجبوا بشهود القدرة عن الحكمة ، وهم أهل الفناء ، وقفوا مع قوله : إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، وقسم لم يحجبوا بالحكمة عن القدرة ولا بالقدرة عن الحكمة ، أعطوا كلّ ذى حق حقّه ووفّوا كل ذى قسط قسطه ، وهم أهل الكمال من أهل البقاء ، جمعوا بين قوله : إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، وباللّه التوفيق.
ثم بيّن المقصود الأعظم وما هو المطلوب الأهم ، وهو طلب الهداية والتوفيق إلى عين التحقيق ، فقال :
[سورة الفاتحة (1) : آية 6]
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
قلت : الهداية فى الأصل : الدلالة بلطف ، ولذلك تستعمل فى الخير ، وقوله : فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ على التهكم ، والفعل منه (هدى) بالفتح ، وأصله أن يعدى باللام ، أو «إلى» ، فعومل هنا معاملة :
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ. والصراط لغة : الطريق ، مشتق من سرط الطعام إذا ابتلعه ، فكأنها تبتلع السابلة أي(1/61)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 62
المارّة به ، وقلبت السين صادا لتطابق الطاء فى الإطباق ، وقد تشمّ زايا لقرب المخرج ، و(المستقيم) : الذي لا عوج فيه ، والمراد به طريق الحق الموصلة إلى اللّه.
يقول الحق جل جلاله : معلما لعباده كيف يطلبونه ، وما ينبغى لهم أن يطلبوا ، أي : قولوا (اهدنا) أي : أرشدنا إلى الطريق المستقيم ، الموصلة إلى حضرة النعيم ، والطريق المستقيم هو السير على الشريعة المحمدية فى الظاهر ، والتبرّى من الحول والقوة فى الباطن ، أو تقول : هو أن يكون ظاهرك شريعة وباطنك حقيقة ، ظاهرك عبودية وباطنك حرية ، الفرق على ظاهرك موجود والجمع فى باطنك مشهود ، وفى الحكم : «متى جعلك فى الظاهر ممتثلا لأمره وفى الباطن مستسلما لقهره ، فقد أعظم المنّة عليك».
فالصراط المستقيم الذي أمرنا الحقّ بطلبه هو : الجمع بين الشريعة والحقيقة ، والمفهوم من قوله : إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، ولذلك وصله به ، فكأن الحق - سبحانه - يقول : يا عبادى احمدونى ومجدونى وأفردونى بالقصد وخصّونى بالعبادة ، وكونوا فى ظاهركم مشتغلين بعبادتي ، وفى باطنكم مستعينين بحولي وقوتى ، أو كونوا فى ظاهركم متأدبين بخدمتي ، وفى باطنكم مشاهدين لقدرتى وعظمة ربوبيتى.
وقال سيدنا على - كرّم اللّه وجهه - : (الصراط المستقيم هنا القرآن). وقال جابر رضي اللّه عنه : (هو الإسلام) يعنى الحنيفية السمحاء ، وقال سهل بن عبد اللّه : (هو طريق محمد صلى اللّه عليه وسلّم). يعنى اتباع ما جاء به. وحاصله ما تقدم من إصلاح الظاهر بالشريعة والباطن بالحقيقة ، فهذا هو الطريق المستقيم الذي من سلكه كان من الواصلين المقربين مع النبيين والصدّيقين.
فإن قلت : إذا كان العبد ذاهبا على هذا المنهاج المستقيم ، فكيف يطلب ما هو حاصل؟ فالجواب : أنه طلب التثبيت على ما هو حاصل ، والإرشاد إلى ما هو ليس بحاصل ، فأهل مقام الإسلام يطلبون الثبات على الإسلام ، الذي هو حاصل ، والترقي إلى مقام الإيمان الذي ليس بحاصل ، على طريق الصوفية ، الذين يخصون العمل الظاهر بمقام الإسلام ، والعمل الباطن بمقام الإيمان ، وأهل الإيمان يطلبون الثبات على الإيمان الذي هو حاصل ، والترقي إلى مقام الإحسان الذي ليس بحاصل ، وأهل مقام الإحسان يطلبون الثبات على الإحسان ، والترقي إلى مالا نهاية له من كشوفات العرفان وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ.
وقال الشيخ أبو العباس المرسى رضي اللّه عنه : اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ بالتثبيت فيما هو حاصل ، والإرشاد فيما ليس بحاصل ، ثم قال : عموم المؤمنين يقولون : اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي : بالتثبيت فيما هو(1/62)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 63
حاصل ، والإرشاد لما ليس بحاصل ، فإنه حصل لهم التوحيد وفاتهم درجات الصالحين ، والصالحون يقولون :
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ معناه : نسألك التثبيت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل ، فإنهم حصل لهم الصلاح وفاتهم درجات الشهداء ، والشهداء يقولون : اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي بالتثبيت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل ، فإنهم حصلت لهم الشهادة وفاتهم درجات الصديقين ، والصديقون يقولون : اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي : بالتثبيت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل ، فإنهم حصل لهم درجات الصديقين وفاتهم درجات القطب. والقطب يقول : اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ بالتثبت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل ، فإنه حصل له رتبة القطبانية ، وفاته علم ما إذا شاء اللّه أن يطلعه عليه أطلعه. ه.
وقال بعضهم : الهداية إمّا للعين وإما للأثر الدالّ على العين ، ولا نهاية للأولى. قلت : فالأولى لأهل الشهود والعيان ، والثانية لأهل الدليل والبرهان ، فالهداية للعين هى الدلالة على اللّه. والهداية للأثر هى الدلالة على العمل ، «من دلّك على اللّه فقد نصحك ، ومن دلك على العمل فقد أتعبك». وإنما كانت الأولى لا نهاية لها لأن الترقي بعد المعرفة لا نهاية له. بخلاف الدلالة على الأثر فنهايتها الوصول إلى العين ، إن كان الدالّ عارفا بالطريق.
قال البيضاوي : وهداية اللّه تتنوع أنواعا لا يحصيها عد وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها لكنها تنحصر فى أجناس مترتبة :
الأول : إفاضة القوى التي بها يتمكن المرء من الاهتداء إلى مصالحه ، كالقوة العقلية والحواس الباطنة والمشاعر الظاهرة.
الثاني : نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد ، وإليه الإشارة بقوله : وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ، وقال : فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى .
الثالث الهداية بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، وإياها عنى بقوله : وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ، وقوله :
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ.
الرابع : أن يكشف عن قلوبهم السرائر ويريهم الأشياء كما هى بالوحى والإلهام والمنامات الصادقة. وهذا يختص بنيله الأنبياء والأولياء ، وإياه عنى بقوله : أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ، وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا.(1/63)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 64
فالمطلوب : إما زيادة ما منحوه من الهدى والثبات عليه ، أو حصول المراتب المترتبة عليه ، فإذا قال العارف الواصل عنى بقوله : أرشدنا طريق السير فيك ، لتمحو عنا ظلمات أحوالنا ، وتميط غواشى أبداننا ، لنستضىء بنور قدسك فنراك بنورك. ه.
قلت : قوله الرابع ... إلخ ، فى عبارته قلق واختصار ، والصواب أن يقول : الرابع - أن يكشف عن قلوبهم الظلم والأغيار ، ويشرق عليها الأنوار والأسرار ، ويريهم الأشياء كما هى بالوحى والإلهام ، وباستعمال الفكرة فى عظمة الملك العلّام ، حتى تستولى أنوار المعاني على حسّ الأوانى ، ثم يقول : وهذا قسم يختص بنيله الأنبياء والأولياء.
وقوله : فإذا قال العارف .. إلخ ، الصواب أن يقول : فإذا قاله المريد السائر لأن الواصل انمحت عنه الظلمات كلها والغواشي وسائر الأكدار لأن اللّه تعالى غطّى وصفه بوصفه ونعته بنعته ، فلم يبق له وصف ظلمانى. وأيضا قوله : [أرشدنا إلى طريق السير] إنما يناسب السائر دون الواصل لأن الواصل ما بقي له إلا الترقي ، ولا يسمى فى اصطلاح الصوفية [السير] إلا قبل الوصول. واللّه تعالى أعلم.
ثم فسرّ الطريق المستقيم ، فقال :
[سورة الفاتحة (1) : آية 7]
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)
قلت : (صراط) بدل من الأول - بدل الكل من الكل - وهو فى حكم تكرير العامل من حيث إنه المقصود بالنسبة ، وفائدته : التوكيد والتنصيص على أن طريق المسلمين هو المشهود عليه بالاستقامة ، على آكد وجه وأبلغه لأنه جعله كالتفسير والبيان له ، فكأنه من البيّن الذي لا خفاء فيه ، وأن الصراط المستقيم ما يكون طريق المؤمنين ، وغَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بدل من (الذين) على معنى أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من الغضب والضلال.
أو صفة له مبيّنة أو مقيدة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة ، وهى نعمة الإيمان ، وبين السلامة من الغضب والضلال ، وذلك إنما يصح بأحد تأويلين : إجراء الموصول مجرى النكرة ، إذ لم يقصد به معهود كالمعرّف فى قوله :
ولقد أمرّ على اللئيم يسبنّى «1» ...
أو يجعل (غير) معرفة لأنه أضيف إلى ماله ضدّ واحد ، وهو المنعم عليه ، فيتعين تعين الحركة غير السكون ، وإلا لزم عليه نعت المعرفة بالنكرة. فتأمله.
___________
(1) هذا شطر بيت ، وتمامه : (فمضيت ثمة قلت لا يعنينى).(1/64)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 65
والغضب : ثوران النفس إرادة الانتقام ، فإذا أسند إلى اللّه تعالى أريد غايته وهو العقوبة ، و(عليهم) نائب فاعل ، و(لا) مزيدة لتأكيد ما فى (غير) من معنى النفي ، فكأنه قال : ولا المغضوب عليهم ولا الضالين ، وقرأ عمر رضي اللّه عنه (و غير الضالين) والضلال : العدول عن الطريق السوي عمدا أو خطأ ، وله عرض عريض والتفاوت بين أدناه وأقصاه كبير. قاله البيضاوي.
وإنما أسند النعمة إلى اللّه والغضب إلى المجهول تعليما للأدب ، ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ... الآية.
يقول الحق جل جلاله فى تفسير الطريق المستقيم : هو طريق الذين أنعمت عليهم بالهداية والاستقامة ، والمعرفة العامة والخاصة ، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، والمنعم عليهم فى الآية مطلق ، يصدق بكل منعم عليه بالمعرفة والاستقامة فى دينه ، كالصحابة وأضرابهم. وقيل : المراد بهم أصحاب سيدنا موسى عليه السّلام قبل التحريف. وقيل : أصحاب سيدنا عيسى قبل التغيير. والتحقيق أنه عام.
قال البيضاوي : ونعم اللّه وإن كانت لا تحصى كما قال اللّه : وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها تنحصر فى جنسين : دنيوى وأخروى.
فالأول : وهو الدنيوي - قسمان : موهبى وكسبى ، والموهبي قسمان : روحانى ، كنفخ الروح فيه وإشراقه بالعقل وما يتبعه من القوى ، كالفهم والفكر والنطق ، وجسمانى : كتخليق البدن بالقوة الحالة فيه والهيئات العارضة له من الصحة وكمال الأعضاء. والكسبي : كتزكية النفس عن الرذائل ، وتحليتها بالأخلاق الحسنة والملكات الفاضلة ، وتزيين البدن بالهيئات المطبوعة والحلي المستحسنة ، وحصول الجاه والمال.
والثاني : وهو الأخروى - : أن يغفر له ما فرط منه ويرضى عنه ويبوئه فى أعلى علّيين ، مع الملائكة المقربين أبد الآبدين ، والمراد القسم الأخير ، وما يكون وصلة إلى نيله من القسم الأول ، وأما ما عدا ذلك فيشترك فيه المؤمن والكافر. ه.
قال ابن جزى : النعم التي يقع عليها الشكر ثلاثة أقسام ، دنيوية : كالصحة والعافية والمال الحلال. ودينية :
كالعلم والتقوى والمعرفة. وأخروية : كالثواب على العمل القليل بالعطاء الجزيل. وقال أيضا : والناس فى الشكر على مقامين : منهم من يشكر على النعم الواصلة إليه ، الخاصة به ، ومنهم من يشكر اللّه عن جميع خلقه على النعم الواصلة إلى جميعهم. والشكر على ثلاث درجات : فدرجة العوام : الشكر على النعم ، ودرجة الخواص : الشكر على النعم والنقم وعلى كل حال ، ودرجة خواص الخواص : أن يغيب عن رؤية النعمة بمشاهدة المنعم. قال رجل(1/65)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 66
لإبراهيم بن أدهم رضى اللّه عنه : الفقراء إذا أعطوا شكروا وإذا منعوا صبروا ، فقال إبراهيم : هذه أخلاق الكلاب ، ولكن القوم إذا منعوا شكروا وإذا أعطوا آثروا. ه.
ثم احترس من الطريق غير المستقيمة ، فقال : غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ أي : غير طريق الذين غضبت عليهم ، فلا تهدنا إليها ولا تسلك بنا سبيلها ، بل سلّمنا من مواردها. والمراد بهم : اليهود ، كذا فسرها النبي صلى اللّه عليه وسلّم ، ويصدق بحسب العموم على كل من غضب اللّه عليهم ، وَلَا الضَّالِّينَ أي : ولا طريق الضالين ، أي : التالفين عن الحق ، وهم النصارى كما قال صلى اللّه عليه وسلّم. والتفسيران مأخوذان من كتاب اللّه تعالى. قال تعالى فى شأن اليهود :
فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ ، وقال فى حق النصارى : قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ.
واعلم أن الحق - سبحانه - قسم خلقه على ثلاثة أقسام : قسم أعدّهم للكرم والإحسان ، ليظهر فيهم اسمه الكريم أو الرحيم ، وهم المنعم عليهم بالإيمان والاستقامة. وقسم أعدّهم للانتقام والغضب ، ليظهر فيهم اسمه المنتقم أو القهار ، وهم المغضوب عليهم والضالون عن طريق الحق عقلا أو عملا ، وهم الكفار ، وقسم أعدّهم اللّه للحلم والعفو ، ليظهر فيهم اسمه تعالى الحليم والعفو ، وهم أهل العصيان من المؤمنين.
فمن رام أن يكون الوجود خاليا من هذه الأقسام الثلاثة ، وأن يكون الناس كلهم سواء فى الهداية أو ضدها ، فهو جاهل باللّه وبأسمائه إذ لا بد من ظهور آثار أسمائه فى هذا الآدمي ، من كرم وقهرية وحلم وغير ذلك. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : الطريق المستقيم التي أمرنا الحق بطلبها هى : طريق الوصول إلى الحضرة ، التي هى العلم باللّه على نعت الشهود والعيان ، وهو مقام التوحيد الخاص ، الذي هو أعلى درجات أهل التوحيد ، وليس فوقه إلا مقام توحيد الأنبياء والرسل ، ولا بدّ فيه من تربية على يد شيخ كامل عارف بطريق السير ، قد سلك المقامات ذوقا وكشفا ، وحاز مقام الفناء والبقاء ، وجمع بين الجذب والسلوك لأن الطريق عويص ، قليل خطّاره ، كثير قطّاعه ، وشيطان هذه الطريق فقيه بمقاماته ونوازله ، فلا بد فيه من دليل ، وإلا ضل سالكها عن سواء السبيل ، وإلى هذا المعنى أشار ابن البنا ، حيث قال :
وإنّما القوم مسافرون لحضرة الحقّ وظاعنون
فافتقروا فيه إلى دليل ذى بصر بالسّير والمقيل
قد سلك الطّريق ثمّ عاد ليخبر القوم بما استفاد(1/66)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 67
وقال فى لطائف المنن : (من لم يكن له أستاذ يصله بسلسلة الأتباع ، ويكشف له عن قلبه القناع ، فهو فى هذا الشأن لقيط لا أب له ، دعىّ لا نسب له ، فإن يكن له نور فالغالب غلبة الحال عليه ، والغالب عليه وقوفه مع ما يرد من اللّه إليه ، لم ترضه سياسة التأديب والتهذيب ، ولم يقده زمام التربية والتدريب) ، فهذا الطريق الذي ذكرنا هو الذي يستشعره القارئ للفاتحة عند قوله : اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ مع الترقي الذي ذكره الشيخ أبو العباس المرسى رضى اللّه عنه المتقدم ، وإذا قرأ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ استشعر ، أي : أنعمت عليهم بالوصول والتمكين فى معرفتك.
وقال الورتجبي : اهدنا مرادك منّا لأن الصراط المستقيم ما أراد الحق من الخلق ، من الصدق والإخلاص فى عبوديته وخدمته. ثم ، قال : وقيل : اهدنا هدى العيان بعد البيان ، لنستقيم لك حسب إرادتك. وقيل : اهدنا هدى من يكون منك مبدؤه ليكون إليك منتهاه. ثم قال : وقال بعضهم : اهدنا ، أي : ثبّتنا على الطريق الذي لا اعوجاج فيه ، وهو الإسلام ، وهو الطريق المستقيم والمنهاج القويم صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ أي : منازل الذين أنعمت عليهم بالمعرفة والمحبة وحسن الأدب فى الخدمة. ثم قال : غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ يعنى : المطرودين عن باب العبودية ، وَلَا الضَّالِّينَ يعنى المفلسين عن نفائس المعرفة ه.
قلت : والأحسن أن يقال : غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ هم الذين أوقفهم عن السير اتباع الحظوظ والشهوات ، فأوقعهم فى مهاوى العصيان والمخالفات ، وَلَا الضَّالِّينَ هم الذين حبسهم الجهل والتقليد ، فلم تنفذ بصائرهم إلى خالص التوحيد ، فنكصوا عن توحيد العيان إلى توحيد الدليل والبرهان ، وهو ضلال عند أهل الشهود والعيان ، ولو بلغ فى الصلاح غاية الإمكان.
وقال فى الإحياء : إذا قلت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فافهم أن الأمور كلها باللّه ، وأن المراد هاهنا المسمّى ، وإذا كانت الأمور كلها باللّه فلا جرم أن الحمد كله للّه ، ثم قال : وإذا قلت : الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فأحضر فى قلبك أنواع لطفه لتتفتح لك رحمته فينبعث به رجاؤك ، ثم استشعر من قلبك التعظيم والخوف من قولك : يَوْمِ الدِّينِ. ثم قال : ثم جدّد الإخلاص بقولك : إِيَّاكَ نَعْبُدُ. وجدّد العجز والاحتياج والتبرّى من الحول والقوة بقولك : وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، ثم اطلب اسم حاجتك ، وقل : اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ الذي يسوقنا إلى جوارك ويفضى بنا إلى مرضاتك ، وزده شرحا وتفصيلا وتأكيدا ، واستشهد بالذين أفاض عليهم نعم الهداية من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، دون الذين غضب عليهم من الكفار والزائغين واليهود والنصارى والصابئين.
ه. ملخصا.(1/67)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 68
وقال القشيري : قوله تعالى : اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ الأمر فى هذه الآية مضمر ، أي : قولوا : اهدنا.
والصراط المستقيم : طريق الحق ، وهو ما عليه أهل التوحيد ، أي : أرشدنا إلى الحق لئلا نتكل على وسائط المعاملات ، فيقع على وجه التوحيد غبار الظنون والحسابات لتكون دليلنا عليك. ثم قال : صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ أي : الواصلين بك إليك ، ثم قال : غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بنسيان التوفيق والتّعامى عن رؤية التأييد ، وَلَا الضَّالِّينَ عن شهود سابق الاختيار ، وجريان تصاريف الأقدار. ه.
تتمات :
الأولى : هذه السورة جمعت معانى القرآن كلّها ، فكأنها نسخة مختصرة منه ، ولذلك سميت أمّ القرآن ، فالإلهيات حاصلة من قوله : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، والدار الآخرة من قوله : مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، والعبادات كلّها من الاعتقادات والأحكام الظاهرة التي تقتضيها الأوامر والنواهي ، من قوله : إِيَّاكَ نَعْبُدُ والمقامات وأسرار المعاملات الباطنة - تخلية وتحلية - من قوله : اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ والأنبياء وغيرهم من قوله : الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ وذكر طوائف الكفار من قوله : غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.
وقال الشيخ ابن أبى جمرة رضى اللّه عنه فى بيان تضمنها لكتاب اللّه : إن لفظ (الحمد) يتضمن كل ما فى كتاب اللّه من الحمد والشكر لأن الحمد أعمّ من الشكر ، وأتى بالعام ليدل على الصفتين. ولفظة (اللّه) تدل على ما فى الكتاب العزيز من أسماء الترفيع والتعظيم لأنه قيل : إنه اسم اللّه الأعظم ، ولفظ : رَبِّ الْعالَمِينَ يدل على ما فيه من أسماء اللّه ، سبحانه ، وعلى العوالم وعلى اختلافها وخالقها والمتصرف فيها. ولفظ : الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يتضمن كل ما فى الكتاب من المغفرة والرحمة والإنعام والعفو والإفضال ، ولفظ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يدل على ما فيه من ذكر الآخرة وما فيه من الأهوال ، ولفظ إِيَّاكَ نَعْبُدُ يتضمن ما فيه من التعبّدات وإفراده بالألوهية ، ولفظ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يدل على ما فيه من طلب الاستعانة وذكر الاضطرار ، ولفظ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ يتضمن ما فيه من طلب الهداية إلى سبيل الخير ، ولفظ : صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ يتضمن ما فيه من ذكر الخصوص والمرضىّ عنهم والمعفوّ عنهم وأهل السعادة ، ولفظ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ يتضمن ما فيه من أنواع الكفر والمخالفات ومساوئهم ومآلهم فاستحقّت أن تسمى أمّا. ه.(1/68)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 69
وعن على - كرم اللّه وجهه - قال : (شرح موسى عليه السّلام التوراة فى سبعين سفرا ، ولو أذن لى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم لأوقرت على الفاتحة سبعين بعيرا). قلت : قوله (سبعين) تقريبا ، وإلا فهى قابلة لأكثر من ذلك ، وتفصيل ذلك يطول ، وقد ذكرنا أصول علومها فى شرحنا الكبير عليها. واللّه تعالى أعلم.
الثانية : قال ابن جزىّ : قولنا : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أفضل عند المحققين من (لا إله إلا اللّه) لوجهين :
أحدهما : ما أخرج النّسائيّ : عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم «أنه من قال : لا إله إلا اللّه ، كتبت له عشرون حسنة ، ومن قال :
الحمد للّه ربّ العالمين ، كتبت له ثلاثون حسنة». والثاني : أن التوحيد الذي تقتضيه (لا إله إلا اللّه) ، حاصل فى قولك : (رب العالمين) وزادت بقولك : الحمد للّه ، وفيه من المعاني ما قدّمنا. وأما قوله صلى اللّه عليه وسلّم : «أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلى : لا إله إلا اللّه» فإنما ذلك للتوحيد الذي تقتضيه ، وقد شاركتها (الحمد للّه رب العالمين) فى ذلك وزادت عليها. وهذا لمؤمن حقّق إيمانه وطلب الثواب ، وأما لمن دخل فى الإسلام فيتعيّن «لا إله إلا اللّه». ه.
قلت : والتحقيق أن كل ما يدل على التوحيد من الألفاظ يكفى فى الدخول فى الإسلام ، كما قال البنانىّ فى حاشيته.
الثالثة : قراءة الفاتحة فى الصلاة واجبة عند مالك والشافعي خلافا لأبى حنيفة ، وقد ذكرنا فى الشرح الكبير منشأ الخلاف.
الرابعة : التأمين عند ختم الفاتحة مطلوب للدعاء الذي فيها ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم : «ما حسدتكم اليهود على شىء ما حسدتكم على السّلام والتّأمين». رواه ابن ماجة. وقال أيضا صلى اللّه عليه وسلّم : «إن اللّه أعطانى خصالا ثلاثة :
أعطانى صلاة الصّفوف وأعطانى التحية ، وإنها لتحية أهل الجنة ، وأعطانى التأمين ، ولم يعطه أحدا من النبيين قبلى ، إلا أن يكون اللّه أعطاه هارون ، يدعو موسى ويؤمن هارون» رواه ابن خزيمة. وسمع عليه الصلاة والسلام رجلا يدعو ويلح فقال : «أوجب إن ختم» فقال بعض القوم : بأيّ شىء يختم؟ فقال : «يؤمن فإنه إن ختم بآمين فقد أوجب». قال أبو زهير - راوى الحديث - فإن آمين مثل الطّابع على الصحيفة. ولعلّه مرفوع إلى النبي صلى اللّه عليه وسلّم ، رواه أبو داود.
ولفظ آمِّينَ بالمدّ والقصر مخففا. وتشديد الميم لغة. قيل : هو اسم من أسماء اللّه تعالى .. وقيل معناه : اللهم استجب ، أو كذلك فافعل ، أو كذلك فليكن. قاله المنذرى فى الترغيب. قال البيضاوي : بنى على الفتح كأين لالتقاء الساكنين ، وجاء مدّ ألفه وقصرها. قال :
ويرحم اللّه عبدا قال آمينا «1»
___________
(1) هذا شطر بيت ، أوله : (يا رب لا تسلبنى حبها أبدا ...) ونسبه ابن منظور فى اللسان إلى عمر بن أبى ربيعة. قلت : وقد أغفل الشيخ المفسر ذكر مثال القصر. وهو كما فى أنوار التنزيل ولسان العرب :
تباعد منى فطحل ، إذ سألته أمين فزاد الله ما بيننا بعدا(1/69)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 70
وليس من القرآن اتفاقا ، ولكن يسنّ ختم السورة به لقوله عليه الصلاة والسلام : «علّمنى جبريل عليه السّلام آمين عند فراغى من قراءة الفاتحة». وقال : إنّه كالختم على الكتاب.
ويقوله الإمام ويجهر به فى الجهرية ، لما روى عن وائل بن حجر «أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا قرأ : وَلَا الضَّالِّينَ قال : آمين ، رفع بها صوته» وعن أبى حنيفة - رحمه اللّه - أنه لا يقوله. والمشهور عنه أنه يخفيه كما رواه عبد اللّه بن مغفل وأنس. قلت : ومشهور مذهب مالك أن الإمام لا يقوله فى الجهرية.
ثم قال : والمأموم يؤمن معه لقوله - عليه الصلاة والسلام - : «إذا قال الإمام ولا الضالين ، فقولوا : آمين ، فإن الملائكة تقول : آمين ، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدّم من ذنبه». وباللّه التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق. وصلى اللّه على سيدنا ومولانا محمد عين الحق والتحقيق ، وعلى آله وصحبه المطهرين بعده ، أعلام الطريق ، وسلّم تسليما.(1/70)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 71
سورة البقرة
قال سيدنا على - كرم اللّه وجهه - : (أول سورة نزلت بالمدينة سورة البقرة) «1». وفيها ستة آلاف ومائة وإحدى وعشرون كلمة ، ومائتان وست وثمانون آية ، وقيل : سبع وثمانون. قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم : «لكلّ شيء سنام ، وإنّ سنام القرآن سورة البقرة. من قرأها فى بيته نهارا لم يدخله شيطان ثلاثة أيام ، ومن قرأها فى بيته ليلا لم يدخله شيطان ثلاث ليال ، وفيها سيّدة آي القرآن ، وهى آية الكرسي». وإنما كانت سنام القرآن ، أي ذروته لأنها اشتملت على جملة ما فيه من أحوال الإيمان وفروع الإسلام.
وقال صلى اللّه عليه وسلّم : «أعطيت سورة البقرة من الذكر الأول ، وأعطيت طه والطواسين من ألواح موسى ، وأعطيت فاتحة الكتاب ، وخواتيم البقرة من تحت العرش».
ثم افتتح السورة برموز رمز بها بينه وبين حبيبه ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1)
وقد حارت العقول فى رموز الحكماء ، فكيف بالأنبياء؟ فكيف بالمرسلين؟ فكيف بسيد المرسلين؟ ، فكيف يطمع أحد فى إدراك حقائق رموز رب العالمين؟! قال الصديق رضى اللّه عنه : (فى كل كتاب سر وسر ، القرآن فواتح السور). ه.
فمعرفة أسرار هذه الحروف لا يقف عليها إلا الصفوة من أكابر الأولياء. وكل واحد يلمع له على قدر صفاء شربه.
وأقرب ما فيها أنها أشياء أقسم اللّه بها لشرفها. فقيل : إنها مختصرة من أسمائه تعالى ، فالألف من اللّه ، واللام من اللطيف ، والميم من مهيمن أو مجيد. وقيل : من أسماء نبيه صلى اللّه عليه وسلّم فالميم مختصرة إما من المصطفى ، ويدل عليه زيادة الصاد فى المص ، أو من المرسل ، ويدل عليه زيادة الراء فى المر. والر مختصرة من الرسول. فكأن الحق تعالى يقول : يا أيها المصطفى ، أو يا أيها الرسول ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ أوهذا كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ أو غير ذلك ، ويدل على هذا توجيه الخطاب إليه صلى اللّه عليه وسلّم بعد هذه الرموز. وكهيعص مختصرة من الكافي والهادي والولي والعالم والصادق ، وطه من طاهر ، وطس من يا طاهر يا سيد ، ويا محمد فى طسم ، إلى غير ذلك.
___________
(1) ذكره السيوطي فى الدر المنثور 1/ 46 عن عكرمة. وعزاه لأبى داود فى الناسخ والمنسوخ. ولم أقف عليه منسوبا إلى سيدنا على - كرم اللّه وجهه - .(1/71)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 72
وعند أهل الإشارة يقول الحق جل جلاله : ألف : أفرد سرّك إلىّ ، انفراد الألف عن سائر الحروف ، واللام : ليّن جوارحك لعبادتى ، والميم : أقم معى بمحو رسومك وصفاتك ، أزينك بصفاء الأنس والقرب منى. قاله الثعلبي.
قلت : والأظهر أنها حروف تشير للعوالم الثلاثة ، فالألف لوحدة الذات فى عالم الجبروت ، واللام لظهور أسرارها فى عالم الملكوت ، والميم لسريان أمدادها فى عالم الرحموت ، والصاد لظهور تصرفها فى عالم الملك.
وكل حرف من هذه الرموز يدل على ظهور أثر الذات فى عالم الشهادة ، فالألف يشير إلى سريان الوحدة فى مظاهر الأكوان ، واللام : يشير إلى فيضان أنوار الملكوت من بحر الجبروت ، والميم يشير إلى تصرف الملك فى عالم الملك ، وكأن الحق تعالى يقول : هذا الكتاب الذي تتلو يا محمد - هو فائض من بحر الجبروت إلى عالم الملكوت ، ومن عالم الملكوت إلى الرحموت ، ثم نزل به الروح الأمين إلى عالم الملك والشهادة ، فلا ينبغى أن يرتاب فيه ، ولذلك رتب عليه قوله تعالى :
ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ ...
قلت : الريب : تحرّك القلب واضطرابه بالشكوك والأوهام ، وتقابله الطمأنينة بالسكون إلى الحق على الدوام.
يقول الحق جل جلاله : يا أيها الرسول المصطفى والنبي المجتبى ذلِكَ الْكِتابُ الذي أنزلناه عليك من جبروت قدسنا وملكوت عزّنا لا رَيْبَ فِيهِ أنه من عندنا. فمن ارتاب فيه ، أو نسبه إلى غيرنا ، فقد استحق البعد من ساحة رحمتنا ، وحلت عليه شدائد نقمتنا ، ومن تحقق به أنه من لدنا ، وآمن بمن جاء به من عندنا ، فقد استحق دخول حضرة قدسنا حتى يسمع منا ويتكلم بنا ، فإذا أحببته كنت له ، فبى يسمع ، وبي يبصر ، وبي يتكلم ... الحديث.
فيكون من الصديقين المقربين مع النبيين والمرسلين ، وكان فى ذروة درجات المتقين ، الذين يهتدون بهدى القرآن المبين ، كما أشار إلى ذلك بقوله :
[سورة البقرة (2) : آية 2]
ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2)
قلت : (هدى) خبر عن مبتدأ مضمر ، أو مبتدأ بتقديم الخبر. أي : هو هاد للمتقين ، أو فيه الهدى لهم. والهدى :
هو الإرشاد والبيان ، ومعناه : الدلالة الموصلة إلى الحق. والمتقى : من جعل بينه وبين مقت اللّه وقاية ، وله ثلاث درجات :
حفظ الجوارح من المخالفات ، وحفظ القلوب من المساوئ والهفوات ، وحفظ السرائر من الوقوف مع المحسوسات ، (1/72)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 73
فالأولى لمقام الإسلام ، وإليه توجه الخطاب بقوله : فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، والثانية لمقام الإيمان ، وإليه توجه الخطاب بقوله : فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ ، والثالثة لمقام الإحسان ، وإليه توجه الخطاب بقوله : اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ.
يقول الحق جل جلاله : ذلِكَ الْكِتابُ الذي لا يقرب ساحته شكّ ولا ارتياب ، هو عين الهداية لأهل التقى من ذوى الألباب ، فلا يزالون يترقّون به فى المقامات والأحوال حتى يسمعوه من الكبير المتعال ، بلا واسطة تبليغ ولا إرسال ، قد انمحت فى حقهم الرسوم والأشكال ، وهذه غاية الهداية ، وتحقيق سابق العناية.
قال جعفر الصادق : (و اللّه لقد تجلى اللّه تعالى لخلقه فى كلامه ولكن لا يشعرون) وقال أيضا - وقد سألوه عن حالة لحقته فى الصلاة حتى خر مغشيا عليه ، فلما سرّى عنه ، قيل له فى ذلك فقال - : (ما زلت أردد الآية على قلبى حتى سمعتها من المتكلم بها ، فلم يثبت جسمى لمعاينة قدرته).
فدرجات القراءة ثلاث :
أدناها : أن يقرأ العبد كأنه يقرأ على اللّه تعالى واقفا بين يديه ، وهو ناظر له ومستمع منه ، فيكون حاله السؤال والتملق والتضرع والابتهال.
والثانية : أن يشهد بقلبه كأن اللّه تعالى يخاطبه بألفاظه ، ويناجيه بإنعامه وإحسانه ، فمقامه الحياء والتعظيم ، والإصغاء والفهم.
والثالثة : أن يرى فى الكلام المتكلم ، فلا ينظر إلى نفسه ولا إلى قراءته ، بل يكون فانيا عن نفسه ، غائبا فى شهود ربه ، لم يبق له عن نفسه إخبار ولا مع غير اللّه قرار.
فالأولى لأهل الفناء فى الأفعال ، والثانية لأهل الفناء فى الصفات ، والثالثة لأهل الفناء فى شهود الذات ، رضى اللّه عنهم ، وحشرنا على منهاجهم .. آمين.
ثم وصف المتقين ، الذين خصوا بهداية كتابه المبين ، بثلاثة أوصاف ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 3]
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
قلت : هذه الأوصاف تتضمن ثلاثة أعمال : الأول : عمل قلبى وهو الإيمان ، والثاني : عمل بدني ، وهو الصلاة ، والثالث : عمل مالى ، وهو الإنفاق فى سبيل اللّه ، وهذه الأعمال هى أساس التقوى التي تدور عليها.(1/73)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 74
أما العمل القلبي : فهو الإيمان أولا ، والمعرفة ثانيا ، فما دام العبد محجوبا بشهود نفسه ، محصورا فى الأكوان وفى هيكل ذاته فهو مؤمن بالغيب ، يؤمن بوجود الحق تعالى ، وبما أخبر به من أمور الغيب ، يستدل بوجود أثره عليه ، فإذا فنى عن نفسه وتلطفت دائرة حسه ، وخرجت فكرته عن دائرة الأكوان ، أفضى إلى الشهود والعيان ، فصار الغيب عنده شهادة ، والملك ملكوتا ، والمستقبل حالا ، والآتي واقعا ، وقد قلت فى ذلك :
فلا ترضى بغير اللّه حبّا وكن أبدا بعشق واشتياق
ترى الأمر المغيّب ذا عيان وتحظى بالوصول وبالتّلاقى
وفى الحكم : «لو أشرق نور اليقين فى قلبك لرأيت الآخرة أقرب من أن ترحل إليها ، ولرأيت بهجة الدنيا وكسوة الفناء ظاهرة عليها». وقال فى التنوير : ولو انهتك حجاب الوهم لوقع العيان على فقد الأعيان ، ولأشرق نور الإيقان فغطى وجود الأكوان. ه.
وإنما اقتصر الحق تعالى على الإيمان بالغيب لأنه هو المكلف به إذ هو الذي يطيقه جل العباد ، بخلاف المعرفة الخاصة فلا يطيقها إلا الخصوص ، واللّه تعالى أعلم.
وأما العمل البدني : فهو إقامة الصلاة ، والمراد بإقامتها إتقان شروطها وأركانها وخشوعها ، وحفظ السر فيها ، قال الشيخ أبو العباس المرسى رضى اللّه عنه : (كل موضع ذكر فيه المصلون فى معرض المدح فإنما جاء لمن أقام الصلاة ، إما بلفظ الإقامة ، وإما بمعنى يرجع إليها ، قال تعالى : الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ، وقال تعالى : أَقِمِ الصَّلاةَ ، وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ ، ولما ذكر المصلين بالغفلة قال : فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ ولم يقل : فويل للمقيمين الصلاة).
وأما العمل المالى فهو الإنفاق فى سبيل اللّه واجبا أو مندوبا ، وهو من أفضل القربات ، يقول اللّه - تبارك وتعالى - : «يا ابن آدم أنفق ، أنفق عليك» ، وفى حديث آخر : «أنفق ولا تخف من ذى العرش إقلالا» ، وقال صلى اللّه عليه وسلّم :
«إنّ فى الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها. قيل لمن هى يا رسول اللّه؟ قال : لمن أطعم الطعام ، وأفشى السلام ، وصلى باللّيل والناس نيام». وقال أيضا صلى اللّه عليه وسلّم : «إن اللّه - عز وجل - ليدخل باللقمة من الخبز والقبضة من التمر ومثله ممّا ينتفع به المسكين ثلاثة ، الجنة : رب البيت الآمر به ، والزوجة تصلحه ، والخادم(1/74)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 75
الذي يناوله المسكين». وقال أيضا : صلى اللّه عليه وسلّم «إنّ الصدقة لتسدّ سبعين بابا من السّوء». وقال أيضا صلى اللّه عليه وسلّم : «صنائع المعروف تقى مصارع السّوء ، وصدقة السرّ تطفئ غضب الربّ ، وصلة الرّحم تزيد فى العمر».
الإشارة : يا من غرق فى بحر الذات وتيار الصفات (ذلك الكتاب) الذي تسمعه من أنوار ملكوتنا ، وأسرار جبروتنا (لا ريب فيه) أنه من عندنا ، فلا تسمعه من غيرنا ، (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) ، فهو هاد لشهود ذاتنا ، ومرشد للوصول إلى حضرتنا ، لمن اتقى شهود غيرنا ، وغرق فى بحر وحدتنا ، الذي يؤمن بغيب غيبنا ، وأسرار جبروتنا ، التي لا تحيط بها العلوم ، ولا تسمو إلى نهايتها الأفكار والمفهوم ، الذي جمع بين مشاهدة الربوبية ، والقيام بوظائف العبودية ، إظهارا لسر الحكمة بعد التحقق بشهود القدرة ، فهو على صلاته دائم ، وقلبه فى غيب الملكوت هائم ، ينفق مما رزقه اللّه من أسرار العلوم ومخازن الفهوم ، فهو دائما ينفق من سعة علمه وأنوار فيضه ، فلا جرم أنه على بينة من ربه.
ولمّا ذكر الحق تعالى من آمن من العرب ، ذكر من آمن من أهل الكتاب ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 4 الى 5]
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
قلت : الموصول مبتدأ ، و(أولئك) خبره ، أو عطف على (المتقين) ، وحذف المنزل عليه فى جانب الكتب المتقدمة ، فلم يقل : وما أنزل على من قبلك إشارة إلى أن الإيمان بالكتب المتقدمة دون معرفة أعيان المنزل عليهم كاف ، إلا من ورد تعيينه فى الكتاب والسنة فلابد من الإيمان به ، أما القرآن العظيم فلابد من الإيمان أنه منزل على نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلّم ، فمن اعتقد أنه منزل على غيره كالروافض فإنه كافر بإجماع ، ولذلك ذكر المتعلق بقوله :
بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ.
يقول الحق جل جلاله : وَالَّذِينَ يصدقون بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يا محمد من الأخبار الغيبية والأحكام الشرعية ، والأسرار الربانية والعلوم اللدنية وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من الكتب السماوية ، والأخبار القدسية ، وهم يُوقِنُونَ بالبعث والحساب والرجوع إلينا والمآب ، على نعت ما أخبرت به فى كتابى وأخبار أنبيائى ، أُولئِكَ راكبون على متن الهداية ، مستعلون على محمل العناية ، محفوفون بجيش النصر والرعاية ، وَأُولئِكَ هُمُ الظافرون بكل مطلوب ، الناجون من كل مخوف ومرهوب ، دون من عداهم ممن(1/75)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 76
سبق له الخذلان ، فلم يكن له إيمان ولا إيقان ، فلا هداية له ولا نجاح ، ولا نجاة له ولا فلاح ، نسأل اللّه العصمة بمنّه وكرمه.
الإشارة : قلت : كأن الآية الأولى فى الواصلين ، والثانية فى السائرين ، لأن الأولين وصفهم بالإنفاق من سعة علومهم ، وهؤلاء وصفهم بالتصديق فى قلوبهم ، فإن داموا على السير كانوا مفلحين فائزين بما فاز به الأولون.
فأهل الآية الأولى من أهل الشهود والعيان ، وأهل الثانية من أهل التصديق والإيمان. أهل الأولى ذاقوا طعم الخصوصية ، فقاموا بشهود الربوبية وآداب العبودية ، وأهل الثانية صدقوا بنزول الخصوصية ودوامها ، واستنشقوا شيئا من روائح أسرارها وعلومها ، فهم يوقنون بوجود الحقيقة ، عالمون برسوم الطريقة ، فلا جرم أنهم على الجادة وطريق الهداية ، وهم مفلحون بالوصول إلى عين العناية. دون الفرقة الثالثة التي هى بالإنكار موسومة ، ومن نيل العناية محرومة ، التي أشار إليها الحق تعالى بقوله :
[سورة البقرة (2) : الآيات 6 الى 7]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)
قلت : (سواء) خبر مقدم ، و(أنذرتهم) مبتدأ لسبك همزة التسوية ، أي : الإنذار وعدمه سواء فى حق هؤلاء الكفرة ، والجملة خبر إن ، و(غشاوة) مبتدأ ، والجار قبله خبره ، والغشاوة : ما يغشى الشيء ويغطيه ، كنى به عن مانع قهرهم عن الإيمان.
يقول الحق جل جلاله : يا محمد إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بما أنزل إليك جهرا ، وسبقت لهم منى الشقاوة سرا ، لا ينفع فيهم الوعظ والإنذار ، ولا البشارة والتذكار ، فإنذارك وعدمه فى حقهم سواء ، لما سبق لهم منى الطرد والشقاء ، فالتذكير فى حقهم عناء ، والغيبة عن أحوالهم راحة وهناء ، لأنى ختمت على قلوبهم بطابع الكفران ، فلا يهتدون إلى إسلام ولا إيمان ، ومنعت أسماعهم أن تصغى إلى الوعظ والتذكير ، فلا ينجع فيهم تخويف ولا تحذير ، وغشيت أبصارهم بظلمة الحجاب فلا يبصرون الحق والصواب ، قد أعددتهم لعذابى ونقمتى ، وطردتهم عن ساحة رحمتى ونعمتى.
وإنما أمرتك بإنذارهم لإقامة الحجة عليهم ، وإنى وإن حكمت عليهم أنهم من أهل مخالفتى وعنادى فإنى لا أظلم أحدا من خلقى وعبادى ، قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ. فما ظلمتهم لأنى بعثت الرسل مبشرين ومنذرين ، ولكن ظلموا أنفسهم فكانوا هم الظالمين ، فحكمتى اقتضت الإنذار ، وقدرتى اقتضت(1/76)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 77
القهر والإجبار ، فالواجب عليك أيها العبد أن تكون لك عينان : عين تنظر لحكمتى وشريعتى فتتأدب ، وعين تنظر لقدرتى وحقيقتى فتسلم ، وتكون بين الأمن والرّهب ، فلا تأمن مكرى وإن أمّنتك ، ولا تيأس من حلمى وإن أبعدتك ، فعلمى لا يحيط به محيط ، إلا من هو بكل شىء محيط.
الإشارة : إن الذين أنكروا وجود الخصوصية ، وجحدوا أهل مشاهدة الربوبية من أهل التربية النبوية ، لا ينفع فيهم الوعظ والتذكير ، بما سبق لهم فى علم الملك القدير ، فسواء عليهم أأنذرتهم وبال القطيعة والحجاب ، أم لم تنذرهم لعدم فتح الباب ، قد ختم اللّه على قلوبهم بالعوائد والشهوات ، أو حلاوة الزهد والطاعات ، أو تحرير المسائل والمشكلات ، وعلى سمع قلوبهم بالخواطر والغفلات ، وجعل على أبصارهم غشاوة الحجاب ، فلا يبصرون إلا المحسوسات ، غائبون عن أسرار المعاني وأنوار التجليات ، بخلاف قلوب العارفين ، فإنها ترى من أسرار المعاني مالا يرى للناظرين ، وفى ذلك يقول الشاعر :
قلوب العارفين لها عيون ترى مالا يرى للناظرينا
وألسنة بأسرار تناجى تغيب عن الكرام الكاتبينا
وأجنحة تطير بغير ريش إلى ملكوت ربّ العالمينا «1»
فسبحان من حجب العالمين بصلاحهم عن مصلحهم ، وحجب العلماء يعلمهم عن معلومهم ، واختص قوما بنفوذ عزائمهم إلى مشاهدة ذات محبوبهم ، فهم فى رياض ملكوته يتنزهون ، وفى بحار جبروته يسبحون ، لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ.
ولما ذكر الحق - جل جلاله - من أعلن بالإنكار ، ذكر من أسرّ بالجحود وأظهر الإقرار ، فقال جل وعلا :
[سورة البقرة (2) : الآيات 8 الى 10]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10)
قلت : (من) موصوفة مبتدأ ، والخبر مقدم ، أي : ومن الناس ناس يقولون كذا ، والمخادعة : إظهار خلاف ما يخفى من المكروه ، وأصل الخدع : الإخفاء ، ومنه المخدع للبيت الذي يخبأ فيه المتاع. وقيل : الفساد لأن المنافقين
___________
(1) تنسب هذه الأبيات للحلاج ، كما تنسب لميمونة السوداء فى قصة مع إبراهيم بن أدهم .. راجع كتاب عقلاء المجانين.(1/77)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 78
يفسدون إيمانهم بما يخفون ، وجملة (و ما يشعرون) حالية ، أي : غير شاعرين ، والشعور : التفطن ، وفعله من باب كرم ونصر. وليت شعرى : أي : ليت فطنتى تدرك هذا ، وجملة (فى قلوبهم مرض) تعليلية للمخادعة ، والمرض :
الضعف والفتور ، وهو هنا مرض القلوب بالشك والنفاق. والعياذ باللّه.
يقول الحق جل جلاله : وَمِنَ النَّاسِ منهم مغموص عليهم بالنفاق كبعض اليهود والمنافقين ، يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم ، يقولون : آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وما هم فى عداد المؤمنين ، يُخادِعُونَ بزعمهم اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا بما يظهرون من الإيمان ، وَما يَخْدَعُونَ فى الحقيقة إِلَّا أَنْفُسَهُمْ لأن وبال خداعهم راجع إليهم ، وَما يَشْعُرُونَ أن خداعهم وبال عليهم ، وإنما حصلت لهم هذه المخادعة لأن فِي قُلُوبِهِمْ مرضا من الشك والحسد ، فقلوبهم مذبذبة ، وأنفسهم مغمومة ، فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً على مرضهم بما ينزل عليهم من الآيات التي تفضحهم ، وَلَهُمْ فى الآخرة - إذا قدموا على اللّه - عَذابٌ موجع بسبب تكذيبهم رسول اللّه أو كذبهم على اللّه. هذا مضمّن الآية.
افتتح الحق - جل جلاله - بذكر الذين أخلصوا دينهم للّه وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم ، ثم ثنى بالكافرين الذين محضوا الكفر ظاهرا وباطنا ، ثم ثلث بالمنافقين الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، وهم أخبث الكفرة لأنهم خلطوا بالكفر استهزاء وخداعا ، ولذلك كانوا فى الدرك الأسفل من النار.
الإشارة : ومن الناس من يترامى بالدعوى على الخصوصية ، ويدعى تحقيق مشاهدة الربوبية ، وهو فى الدرك الأسفل من العمومية ، يظهر خلوص الإيمان وتحقيق العرفان ، وهو فى أودية الشكوك والخواطر حيران ، وفى فيافى القطيعة والفرق ظمآن ، لسانه منطلق بالدعوى ، وقلبه خارب من الهدى ، يخادع اللّه بالرضا عن عيوبه ومساوئه ، ويخادع المسلمين بتزيين ظاهره ، وباطنه معمور بحظوظه ومهاويه ، يتزيه بزىّ العارفين ويتعامل معاملة الجاهلين ، ويصدق عليه قول القائل :
أمّا الخيام فإنّها كخيامهم وأرى نساء الحىّ غير نسائها «1»
وما يخادع فى الحقيقة إلا نفسه ، حيث حرمها الوصول ، وتركها فى أودية الأكوان تجول ، قلبه بمرض الفرق والقطيعة سقيم ، وهو يظن أنه فى عداد من يأتى اللّه بقلب سليم ، فزاده اللّه مرضا على مرضه حيث رضى بسقمه وعيبه ، وله عذاب الحرص والتعب فى ضيق الحجاب والنصب بسبب كذبه على اللّه ، وإنكاره على أولياء اللّه ، فجزاؤه البعد والخذلان ، وسوء العاقبة والحرمان ، عائذا باللّه من المكر والطغيان.
___________
(1) البيت نسبه القرطبي فى تفسيره لأبى بكر الشبلي ، فى قصة. وجاء فى ديوان الشبلي : قسم أشعار تمثل بها الشبلي.(1/78)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 79
ثم ذكر أقوالهم الشنيعة ، وأحوالهم الفظيعة ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 11 الى 12]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12)
قلت : «إذا» ظرف خافض لشرطه منصوب بجوابه ، أي : قالوا نحن مصلحون ، وقت قول القائل لهم : لا تفسدوا ، والجملة بيان وتقرير لخداعهم ، أو معطوفة على (من يقول آمنا) ، أي : ومن الناس فرقة إذا قيل لهم :
لا تفسدوا ، قالوا : إنما نحن مصلحون.
يقول الحق جل جلاله : وَإِذا قِيلَ لهؤلاء المنافقين : لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالمعاصي والتعويق عن الإيمان ، وإغراء أهل الكفر والطغيان على أهل الإسلام والإيمان ، وتهييج الحروب والفتن ، وإظهار الهرج والمرج والمحن ، وإفشاء أسرار المسلمين إلى أعدائهم الكافرين ، فإن ذلك يؤدى إلى فساد النظام ، وقطع مواد الإنعام ، قالُوا فى جوابهم الفاسد : إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ فى ذلك ، فلا تصح مخاطبتنا بذلك ، فإن من شأننا الإصلاح والإرشاد ، وحالنا خالص من شوائب الفساد ، قال تعالى : أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ هنالك ، ولكن لا شعور لهم بذلك.
قلت : فردّ اللّه ما ادعوه من الانتظام فى سلك المصلحين بأقبح رد وأبلغه ، من وجوه الاستئناف الذي فى الجملة ، والاستفتاح بالتنبيه ، والتأكيد بإن وضمير الفعل ، وتعريف الخبر ، والتعبير بنفي الشعور ، إذ لو شعروا أدنى شعور لتحققوا أنهم مفسدون.
وهذه الآية عامة لكل من اشتغل بما لا يعنيه ، وعوق عن طريق الخصوص ، ففيه شعبة من النفاق ، وفى صحيح البخاري : «ثلاث من كنّ فيه كان منافقا خالصا : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أؤتمن خان».
الإشارة : وإذا قيل لمن يشتغل بالتعويق عن طريق اللّه والإنكار على أولياء اللّه : أقصر من هذا الإفساد ، وارجع عن هذا الغى والعناد ، فقد ظهرت معالم الإرشاد لأهل المحبة والوداد. قال : إنما أنا مصلح ناصح ، وفى أحوالى كلها صالح ، يقول له الحق جل جلاله : بل أفسدت قلوب عبادى ، ورددتهم عن طريق محبتى وودادي ، وعوقتهم عن دخول حضرتى ، وحرمتهم شهود ذاتى وصفاتى ، سددت بابى فى وجه أحبابى ، آيستهم من وجود التربية ، وتحكمت على القدرة الأزلية ، ولكنك لا تشعر بما أنت فيه من البلية.(1/79)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 80
ولقد صدق من سبقت له العناية ، وأتحف بالرعاية والهداية ، حيث يقول «1» :
فهذه طريقة الإشراق كانت وتبقى ما الوجود باق
وقال أيضا :
وأنكروه ملا عوام لم يفهموا مقصوده فهاموا
فتب أيها المنكر قبل الفوات ، واطلب من يأخذ بيدك قبل الممات ، لئلا تلقى اللّه بقلب سقيم ، فتكون فى الحضيض الأسفل من عذابه الأليم ، فسبب العذاب وجود الحجاب ، وإتمام النعيم النظر لوجهه الكريم ، منحنا اللّه منه الحظ الأوفى فى الدنيا والآخرة. آمين.
ثم ذكر الحق تعالى استهزاءهم بالإسلام وامتناعهم منه ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 13]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13)
قلت : الكاف من كَما آمَنَ صفة لمصدر محذوف ، و(ما) مصدرية. أي : إذا قيل لهم آمنوا إيمانا خالصا من النفاق مثل إيمان المسلمين ، أو من أسلم من جلدتهم ، والسفه : خفة وطيش فى العقل ، يقال : ثوب سفيه ، أي : خفيف.
يقول الحق جل جلاله : وَإِذا قِيلَ لهؤلاء المنافقين من المشركين واليهود : اتركوا ما أنتم عليه من الكفر والجحود ، وراقبوا الملك المعبود ، وطهروا قلوبكم من الكفر والنفاق ، وأقصروا مما أنتم فيه من البعاد والشقاق وآمِنُوا إيمانا خالصا مثل إيمان المسلمين ، لتكونوا معهم فى أعلى عليين ، «من أحبّ قوما حشر معهم». «المرء مع من أحبّ» ، قالُوا مترجمين عما فى قلوبهم من الكفر والنفاق : أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ الذين لا عقل لهم ، إذ جلهم فقراء وموالى.
قال الحق تعالى فى الرد عليهم وتقبيح رأيهم : أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ لا غيرهم ، حيث تركوا ما هو السبب فى الفوز العظيم بالنعيم المقيم ، وارتكبوا ما استوجبوا به الخلود فى الدرك الأسفل من الجحيم وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ
___________
(1) القائل : ابن البنا السرقسطى فى المنظومة.(1/80)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 81
،
وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ، عبّر الحق فى هذه الآية ب لا يَعْلَمُونَ وفى الأولى ب لا يَشْعُرُونَ لأن الفساد فى الأرض يدرك بأدنى شعور ، بخلاف الإيمان والتمييز بين الحق والباطل فيحتاج إلى زيادة تفكر واكتساب علم. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : وإذا قيل لأهل الإنكار على أهل الخصوصية ، القاصدين مشاهدة عظمة الربوبية ، قد تجردوا عن لباس العز والاشتهار ، ولبسوا أطمار الذل والافتقار ، آمنوا بطريق هؤلاء المخصوصين ، وادخلوا معهم كى تكونوا من المقربين. قالوا : (أ نؤمن كما آمن السفهاء) ونترك ما نحن عليه من العز والكبرياء ، قال اللّه تعالى فى تسفيه رأيهم وتقبيح شأنهم : (ألا إنهم هم السفهاء) حيث تعززوا بعز يفنى ، وتركوا العز الذي لا يفنى ، قال الشاعر :
تذلّل لمن تهوى لتكسب عزّة فكم عزّة قد نالها المرء بالذّلّ
إذا كان من تهوى عزيزا ، ولم تكن ذليلا له ، فاقر السّلام على الوصل
فلو علموا ما فى طيّ الذل من العز ، وما فى طى الفقر من الغنى ، لجالدوا عليه بالسيوف ، ولكن لا يعلمون.
ثم بيّن الحق تعالى ما أضمروه من النفاق وأظهروه من الوفاق ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 14 الى 16]
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16)
قلت : اللقاء : المصادفة بلا قصد ، والخلو بالشيء أو معه : الانفراد به ، ضمنه هنا معنى رجع ، ولذلك تعدّى بإلى ، و(الشيطان) فيعال ، من شطن ، إذا بعد ، أو فعلان من شاط ، إذا بطل ، والاستهزاء بالشيء : الاستخفاف بحقه ، والعمه فى البصيرة كالعمى فى البصر.
يقول الحق جل جلاله فى وصف المنافقين تقريرا لنفاقهم : إنهم كانوا إِذا لَقُوا الصحابة أظهروا الإيمان ، وإذا رجعوا إِلى شَياطِينِهِمْ أي : كبرائهم المتمردين فى الكفر والطغيان ، قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ لم(1/81)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 82
نخرج عن ديننا إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ بهم ، ومستسخرون بشأنهم. نزلت فى عبد اللّه بن أبىّ - رأس المنافقين - كان إذا لقى سعدا قال : نعم الدين دين محمد ، وإذا خلا برؤساء قومه من أهل الكفر ، قال : شدوا أيديكم على دين آبائكم.
وخرج ذات يوم مع أصحابه فاستقبلهم نفر من الصحابة - رضوان اللّه عليهم - فقال عبد اللّه لأصحابه : انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم ، فأخذ بيد أبى بكر رضى اللّه عنه فقال : مرحبا بالصدّيق سيد بنى تيم ، وشيخ الإسلام ، وثانى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم فى الغار ، الباذل نفسه وماله لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم ، ثم أخذ بيد عمر ، فقال : مرحبا بسيد بنى عدى بن كعب ، الفاروق ، القوى فى دين اللّه ، الباذل نفسه وماله لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم ، ثم أخذ بيد علىّ فقال : مرحبا بابن عم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم وختنه «1» ، سيد بنى هاشم ، ما عدا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم ، فقال على رضى اللّه عنه : يا عبد اللّه ، اتق اللّه ولا تنافق ، فإن المنافقين شرّ خليقة اللّه ، فقال عبد اللّه : مهلا يا أبا الحسن ، أنى تقول هذا؟ واللّه إن إيماننا كإيمانكم ، وتصديقنا كتصديقكم ، فنزلت الآية «2».
ثم رد اللّه تعالى عليهم فقال : اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ أي : يفعل بهم فعل المستهزئ بأن يفتح لهم بابا إلى الجنة وهم فى النار ، ويطلع المؤمنين عليهم ، فيقول لهم : ادخلوا الجنة ، فإذا جاءوا يستبقون إليها وطمعوا فى الدخول ، سدّت عليهم ورجعوا إلى النار ، فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ الآية. وَيَمُدُّهُمْ أي : يمهلهم فِي كفرهم ، وطُغْيانِهِمْ يتحيرون إلى يوم يبعثون لأنهم اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى أي : استبدلوا بها رأس مالهم ، فضلا عن الربح ، إذ الإيمان رأس المال ، وأعمال الطاعات ربح ، فإذا ذهب الرأس فلا ربح ولذلك قال تعالى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ ، بل خسرت صفقتهم ، وَما كانُوا مُهْتَدِينَ إلى أسباب الربح أبدا ، لاستبدالهم الهدى - التي هى رأس المال - بالضلالة - التي هى سبب الخسران. وباللّه التوفيق.
وهاهنا استعارات وبلاغات يطول سردها ، إذ مرادنا تربية اليقين بكلام رب العالمين.
الإشارة : الناس فى طريق الخصوص على أربعة أقسام :
قسم : سبقت لهم من اللّه العناية ، وهبت عليهم ريح الهداية ، فصدقوا ودخلوا فيها ، وبذلوا أنفسهم وأموالهم فى سبيل اللّه ، فتجروا فيه وربحوا ، فعوضهم اللّه تعالى جنة المعارف ، يتبوءون منها حيث شاءوا ، فإذا قدموا عليه أدخلهم جنة الزخارف ، يسرحون فيها حيث شاءوا ، وأتحفهم فيها بالنظر إلى وجهه الكريم.
___________
(1) ختن الرجل : المتزوج بابنته أو بأخته.
(2) سند هذا الأثر واه جدا ، انظر : الفتح السماوي فى تخريج أحاديث البيضاوي ، وتنزيه الشريعة المرفوعة. [.....](1/82)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 83
وقسم : سبقت لهم من اللّه الهداية ، وحفتهم الرعاية ، فصدقوا وأقروا ، ولكنهم ضعفوا عن الدخول ، ولم تتعلق همتهم بالوصول ، فبقوا فى ضعفاء المسلمين لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ....
وقسم : أنكروا وأظهروا وجحدوا وكفروا ، فتجروا وخسروا ، «من عادى لى وليا فقد آذنته بالحرب».
وقسم رابع : هم مذبذبون بين ذلك إذا لقوا أهل الخصوصية قالوا : آمنا وصدقنا فأنتم على الجادة ، وإذا رجعوا إلى أهل التمرد من المنكرين - طعنوا وجحدوا ، وقالوا : إنما كنا بهم مستهزئين ، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ بما يظهر لهم من صور الكرامات والاستدراجات ، ويمدهم فى تعاطى العوائد والشهوات ، وطلب العلو والرئاسات ، متحيرين فى مهامه الخواطر والغفلات ، أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ عن طريق الخصوص من أهل الوصول ، بِالْهُدى الذي كان بيدهم ، لو حصل لهم التصديق والدخول ، فما ربحوا فى تجارتهم ، وما كانوا مهتدين إلى بلوغ المأمول. قال بعض العارفين : (التصديق بطريقتنا ولاية ، والدخول فيها عناية ، والانتقاد عليها جناية). وباللّه التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم ضرب مثل المنافقين ، زيادة فى توبيخهم وتقبيح شأنهم ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 17 الى 18]
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18)
قلت : (استوقد) يحتمل أن تكون للطلب ، أو زائدة بمعنى أوقد ، و(لما) شرطية ، وذَهَبَ جواب ، وإذا كان لفظ الموصول مفردا واقعا على جماعة ، يصح فى الضمير مراعاة لفظه فيفرد ، ومعناه فيجمع ، فأفرد فى الآية أولا ، وجمع ثانيا. ويقال : أضاء يضئ إضاءة ، وضاء يضوء ضوءا.
يقول الحق جل جلاله : مثل هؤلاء المنافقين من اليهود كَمَثَلِ رجل فى ظلمة ، تائه فى الطريق ، فاستوقد نارا ليبصر طريق القصد فَلَمَّا اشتعلت وأَضاءَتْ ما حَوْلَهُ فأبصر الطريق ، وظهرت له معالم التحقيق ، أطفأ اللّه تلك النار وأذهب نورها ، ولم يبق إلا جمرها وحرها. كذلك اليهود كانوا فى ظلمة الكفر والمعاصي ينتظرون ظهور نور النبي صلى اللّه عليه وسلّم ويطلبونه ، فلما قدم عليهم ، وأشرقت أنواره بين أيديهم كفروا به ، فأذهب اللّه عنهم نوره ، وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ الكفر والشك والنفاق ، لا يُبْصِرُونَ ولا يهتدون ، صُمٌّ عن سماع الحق ، (1/83)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 84
بُكْمٌ عن النطق به عُمْيٌ عن رؤية نوره ، فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ عن غيهم ، ولا يقصرون عن ضلالتهم.
الإشارة : مثل من كان فى ظلمات الحجاب قد أحاطت به الشكوك والارتياب ، وهو يطلب من يأخذ بيده ويهديه إلى طريق رشده ، فلما ظهرت أنوار العارفين ، وأحدقت به أسرار المقربين ، حتى أشرقت من نورهم أقطار البلاد ، وحيى بهم جل العباد ، أنكرهم وبعد منهم ، فتصامم عن سماع وعظهم ، وتباكم عن تصديقهم ، وعمى عن شهود خصوصيتهم ، فلا رجوع له عن حظوظه وهواه ، ولا انزجار له عن العكوف على متابعة دنياه ، مثله كمن كان فى ظلمات الليل ضالا عن الطريق ، فاستوقد نارا لتظهر له الطريق ، فلما اشتعلت وأضاءت ما حوله أذهب اللّه نورها ، وبقي جمرها وحرها ، وهذه سنة ماضية : لا ينتفع بالولى إلا من كان بعيدا منه. وفى الحديث : «أزهد النّاس فى العالم جيرانه» ، وقد مثّلوا الولي بالنهر الجاري كلما بعد جريه عمّ الانتفاع به ، ومثّلوه أيضا بالنخلة لا تظلّ إلا عن بعد. واللّه تعالى أعلم.
ثم ضرب لهم مثلا آخر ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 19 الى 20]
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
قلت : (أو) للتنويع ، أو بمعنى الواو ، و(الصيب) : المطر ، فيعل ، من صاب المطر إذا نزل ، وهو على حذف مضاف ، أي : أو كذى صيب ، وأصله : صيوب ، كسيد ، قلبت الواو ياء وأدغمت ، ولا يوجد هذا إلا فى المعتل كميت وهين وضيق وطيب. و(الرعد) : الصوت الذي يخرج من السحاب ، و(البرق) : النور الذي يخرج منه. قال ابن عزيز : روى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم أنه قال : «إنّ اللّه عزّ وجلّ ينشئ السّحاب فتنطق أحسن النطق ، وتضحك أحسن الضحك ، فنطقها الرعد ، وضحكها البرق». وقال ابن عباس : (الرعد ملك يسوق السّحاب ، والبرق سوط من نور يزجر به السّحاب). ه. والصواعق : قطعة من نار تسقط من المخراق الذي بيد سائق السحاب ، وقيل : تسقط من نار بين السماء والأرض ، واللّه تعالى أعلم.(1/84)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 85
يقول الحق جل جلاله : ومثل المنافقين أيضا كأصحاب مطر غزير فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وهدير أصابهم فى ليلة مظلمة وقفراء مدلهمة. فيه بَرْقٌ يلمع ، وصاعقة تقمع ، إذا ضرب الرعد وعظم صوته جعلوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ من الهول والخوف حذرا من موت أنفسهم ، وقد ماتت أرواحهم وقلوبهم ، وإذا ضرب البرق كاد أن يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ ، فإذا لمع أبصروا الطريق ، ومَشَوْا فِيهِ ، وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا متحيرين حائدين عن عين التحقيق ، وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ بصوت ذلك الرعد ، وَأَبْصارِهِمْ بلمعان ذلك البرق ، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لا يعجزه شىء.
هذا مثلهم فى تحيرهم واضطرابهم ، فيحتمل أن يكون من التشبيه المركب ، وهو تشبيه الجملة بالجملة ، أو من المفصّل ، فيكون المطر مثالا للقرآن ، وفيه ذكر الكفر والنفاق المشبّهين بالظلمات ، والوعد عليه والزجر المشبه بالرعد ، والحجج الباهرة التي تكاد أحيانا تبهرهم المشبهة بالبرق ، وتخوفهم ، وروعهم هو جعل أصابعهم فى آذانهم ، لئلا يسمعوا فيميلوا إلى الإيمان ، وفضح نفاقهم وتكاليف الشرع التي يكرهونها هى الصواعق. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : أهل الخصوصية إذا ظهروا بين العموم بأحوال غريبة وعلوم وهبية ، وأسرار ربانية وأذكار نورانية ، دهشوا منهم وتحيروا فى أمرهم ، وخافوا على أنفسهم ، فإذا سمعوا منهم علوما لدنية وأسرارا ربانية فروا منها ، وجعلوا أصابعهم فى آذانهم ، خوفا على نفوسهم أن تفارق عوائدها وهواها ، وإذا خاصمهم أحد من العموم ألجموه بالحجة ، فتكاد تلك الحجة تخطفه إلى الحضرة ، كلما لمع له شىء من الحق مشى إلى حضرته ، وإذا كرت عليه الخصوم والخواطر ، وأظلم عليه الحال ، وقف فى الباب حيران ، ولو شاء اللّه لذهب بعقله وسمعه وبصره ، فيبصر به إلى حضرته. من استغرب أن ينقذه اللّه من شهوته ، وأن يخرجه من وجود غفلته ، فقد استعجز القدرة الإلهية وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً.
فالصّيّب الذي نزل من السماء كناية عن الواردات والأحوال التي ترد على قلوب العارفين ، ويظهر أثرها على جوارحهم ، والظلمات التي فيها كناية عن اختفاء بعضها عن أهل الشريعة فينكرونها ، والرعد كناية عن اللهج بذكر اللّه جهرا فى المحافل والحلق ، والبرق كناية عن العلوم الغريبة التي ينطقون بها والحجج التي يحتجون بها على الخصوم ، فإذا سمعها العوام اشمأزت قلوبهم عن قبولها ، فإذا وقع منهم إنصاف تحققوا صحتها فمالوا إلى جهتها ، ومشوا إلى ناحيتها ، فإذا كرّت عليهم الخصوم قاموا منكرين ، ولو شاء ربك لهدى الناس جميعا وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ.(1/85)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 86
ولما ذكر الحق من تخلق بالإيمان ظاهرا وباطنا ، ومن تحلى به كذلك ، ومن أخفى الكفر وأظهر الإيمان ، دعا الكل إلى توحيده وعبادته ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 21 الى 22]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
قلت : جملة الترجي حال من الواو فى (اعبدوا) ، أي : اعبدوا ربكم راجين أن تنخرطوا فى سلك المتقين الفائزين بالهدى والفلاح ، المستوجبين جوار اللّه تعالى ، نبه به على أن التقوى منتهى درجات السالكين وهو التبري من كل شىء سوى اللّه تعالى - إلى اللّه تعالى.
و(الّذي جعل) صفة للرب ، و(فلا تجعلوا) معطوف على (اعبدوا) على أنه نهى ، أو منصوب بأن ، جواب له ، و(الأنداد) جمع ندّ ، بكسر النون. وهو الشبه والمثل ، و(أنتم تعلمون) حال من ضمير (فلا تجعلوا) أي : فلا تجعلوا للّه أندادا والحال أنكم من أهل العلم.
يقول الحق جل جلاله : يا عبادى اعبدوني بقلوبكم بالتوحيد والإيمان ، وبجوارحكم بالطاعة والإذعان ، وبأرواحكم بالشهود والعيان ، فأنا الذي أظهرتكم من العدم - أنتم ومن كان قبلكم - وأسبلت عليكم سوابغ النعم ، الأرض تقلكم والسماء تظلكم ، والجهات تكتنفكم ، وأنزلت من السماء ماء فأخرجت به أصنافا مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ ، فأنتم جوهرة الصدق ، تنطوى عليكم أصداف مكنوناتى ، وأنتم الذين أطلعتكم على أسرار مكنوناتى ، فكيف يمكنكم أن تتوجهوا إلى غيرى؟ وقد أغنيتكم بلطائف إحسانى وبرى ، أنعمت عليكم أولا بالإيجاد ، وثانيا بتوالي الإمداد ، خصصتكم بنور العقل والفهم ، وأشرقت عليكم نبذة من أنوار القدم ، فبى عرفتمونى ، وبقدرتي عبدتمونى ، فلا شريك معى ولا ظهير ، ولا احتياج إلى معين ولا وزير.
الإشارة : توجه الخطاب إلى العارفين الكاملين فى الإنسانية الذين يعبدون اللّه تعظيما لحق الربوبية ، وقياما بوظائف العبودية ، وفيهم قال صاحب العينية «1» :
هم الناس فالزم إن عرفت جنابهم ففيهم لضرّ العالمين منافع
___________
(1) وهو : الشيخ عبد الكريم الجيلي.(1/86)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 87
وقال قبل ذلك :
هم القصد للملهوف والكنز والرجا ومنهم ينال الصّبّ ما هو طامع
بهم يهتدى للعين من ضلّ فى العمى بهم يجذب العشّاق ، والرّبع شاسع
هم القصد والمطلوب والسؤل والمنى واسمهم للصّبّ فى الحبّ شافع
فعبادة العارفين : باللّه ومن اللّه وإلى اللّه ، وعبادة الجاهلين : بأنفسهم ومن أنفسهم ولأنفسهم ، عبادة العارفين حمد وشكر ، وعبادة الغافلين اقتضاء حظ وأجر ، عبادة العارفين قلبية باطنية ، وعبادة الغافلين حسية ظاهرية ، يا أيها الناس المخصوصون بالأنس والقرب دوموا على عبادة القريب ، ومشاهدة الحبيب ، فقد رفعت بينى وبينكم الحجب والأستار ، وأشهدتكم عجائب الألطاف والأسرار ، أبرزتكم إلى الوجود ، وأدخلتكم من باب الكرم والجود ، ومنحتكم بفضلي غاية الشهود ، لعلكم تتقون الإنكار والجحود ، وتعرفوننى فى كل شاهد ومشهود.
فقد جعلت أرض نفوسكم مهادا لعلوم الشريعة ، وسماء قلوبكم سقفا لأسرار الحقيقة ، وأنزلت من سماء الملكوت ماء غيبيا تحيا به أرض النفوس ، وتهتز بواردات حضرة القدوس ، فتخرج من ثمرات العلوم اللدنية ، والأسرار الربانية ، والأحوال المرضية ، ما تتقوت به عائلة المستمعين ، وتنتعش به أسرار السائرين ، فلا تشهدوا معى غيرى ، ولا تميلوا لغير إحسانى وبرى ، فقد علمتم أنى منفرد بالوجود ، ومختص بالكرم والجود ، فكيف يرجى غيرى وأنا ما قطعت الإحسان؟! وكيف يلتفت إلى ما سواى وأنا بذلت عادة الامتنان؟! منى كان الإيجاد ، وعلىّ دوام الإمداد ، فثقوا بي كفيلا ، واتخذوني وكيلا ، أعطكم عطاء جزيلا ، وأمنحكم فخرا جليلا.
ولمّا أمر عباده بعبادته وتوحيده ، أمرهم بتصديق كلامه والإيمان برسوله ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 23 الى 25]
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25)(1/87)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 88
فإن قلت : الريب فى القرآن قد وقع من الكفار قطعا ، فكيف عبّر بإن الدالة على الشك والتردد؟
قلت : (إن) جازمة للفظ الشرط أو محله ، موضوعة للشك فى الشرط. و«إذا» لا تجزم فى اللفظ ، وتدل على الجزم فى المعنى ، وفى ذلك يقول القائل :
أنا إن شككت وجدتمونى جازما وإذا جزمت فإننى لم أجزم
فإن قلت : الريب فى القرآن قد وقع من الكفار قطعا ، فكيف عبّر بإن الدالة على الشك والتردد؟ قلت : لما كان ريبهم واقعا فى غير محله - إذ لو تأملوا أدنى تأمل لزال ريبهم لوضوح الأمر وسطوع البرهان - كان ريبهم كأنه مشكوك فيه ومتردد فى وقوعه ، و(الشهداء) جمع شهيد بمعنى الحاضر ، أو القائم بالشهادة ، أو الناصر ، أطلق على الأصنام لأنهم يزعمون أنها تشهد لهم ، ومعنى (دون) : أدنى مكان من الشيء ، ثم استعير للرّتب فقيل : زيد دون عمرو أي : فى الشرف ، ثم اتسع فيه فاستعير لكل تجاوز حدّ إلى حد ، وتخطى أمر إلى آخر.
يقول الحق جل جلاله : وَإِنْ كُنْتُمْ يا معشر الكفار فِي شك مِمَّا نَزَّلْنا عَلى محمد عَبْدِنا ورسولنا المختار لسرّ وحينا ، فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ جنسه فى البلاغة والفصاحة ، مشتملة على علوم وأسرار ومغيبات كما اشتمل عليه كتابى ، وَادْعُوا من استطعتم ممن تنتصرون به على ذلك الإتيان ، من آلهتكم التي تزعمون أنها تشهد لكم يوم القيامة ، أو من حضركم من البلغاء والفصحاء ممن تنتصرون به مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فى أنها تنفعكم. فَإِنْ لَمْ تقدروا أن تَفْعَلُوا ذلك وَلَنْ تقدروا أبدا فأسلموا وأقرّوا بالحق ، فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أي : حجارة الكبريت ، فهما حطبها ووقودها أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ.
وَبَشِّرِ يا محمد ويا من يصلح منه التبشير الَّذِينَ آمَنُوا باللّه ورسوله ، وَعَمِلُوا ما كلفوا به من الأعمال الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي : من تحت قصورها ، وهى أنهار من ماء ، وأنهار من عسل ، وأنهار من لبن ، وأنهار من خمر لذة للشاربين. كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً أي : صنفا ، قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ فى دار الدنيا ، فإن الطباع تميل إلى المألوف ، فالصفة متفقة والطعم مختلف. أو فى الجنة ، قيل : هذا لما روى عنه صلى اللّه عليه وسلّم أنه قال : «والذي نفس محمد بيده إنّ الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هى واصلة إلى جوفه حتى يبدل اللّه تعالى مكانها مثلها» ، فلعلهم إذا رأوها على الهيئة الأولى قالوا(1/88)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 89
ذلك ، لفرط استغرابهم ، وتبجهم بما وجدوا من التفاوت العظيم فى اللذة والتشابه البليغ فى الصورة ، وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ أي : حور مُطَهَّرَةٌ من الحيض ، وسائر الأدناس ، ومن الأخلاق المذمومة ، والشيم الذميمة ، وَهُمْ فِيها خالِدُونَ فإن النعيم إذا كان يعقبه الفناء تنغّص على صاحبه ، كما قال الشاعر :
لا خير فى العيش مادامت منغّصة لذاته بادّكار الموت والهرم
الإشارة : وإن كنتم يا معشر العوام فى شك مما خصصنا به ولينا من الأنوار ، وما أنزلنا على قلبه من المعارف والأسرار ، وما ظهر عليه من البهجة والأنوار ، وما اهتدى على يديه من الصالحين والأبرار ، فأتوا أنتم بشئ من ذلك ، وانتصروا بما قدرتم من دون اللّه إن كنتم صادقين فى المعارضة. قال القشيري : وكما أن كيد الكافرين يضمحلّ فى مقابلة معجزات الرسول ، فكذلك دعاوى الملبسين تتلاشى عند ظهور أنوار الصديقين. ه.
فإن لم تفعلوا ما ذكرنا من المعارضة ، ولن تقدروا على ذلك أبدا ، فأذعنوا ، واخضعوا ، واتقوا نار القطيعة والحظوظ ، والطمع والهلع ، التي مادتها النفوس والفلوس إذ بهما هلك من هلك وفاز من فاز ، أعدت تلك النار للمنكرين الخصوصية ، الجاحدين لوجود التربية النبوية.
وبشّر الصديقين بوجود الخصوصية ، المنقادين لأهلها ، أن لهم جنات المعارف فى الدنيا ، وجنات الزخارف فى الآخرة ، تجرى من تحت قلوب أهلها أنوار العلوم والمعارف ، فإذا كشف لهم يوم القيامة عن أسرار ذاته ، قالوا :
هذا الذي عرفناه من قبل فى دار الدنيا ، إذ الوجود واحد والمعرفة متفاوتة ، وأتوا بأرزاق المعارف متشابهة لأن من عرفه فى الدنيا عرفه فى الآخرة ، ومن أنكره هنا أنكره يوم القيامة ، إلا فى وقت مخصوص على وجه مخصوص ، ولهم فى جنات المعارف عرائس المعارف والكشوفات ، مطهرات من أدناس الحس وعبث الهوى والشهوات ، وهم بعد تمكنهم من شهود الذات ، خالدون فى عشّ الحضرة ، فيها يسكنون وإليها يأوون.
وقال القشيري : كما أن أهل الجنة يجدد لهم النعيم فى وقت ، فالثانى عندهم على ما يظنون كالأول ، فإذا ذاقوه وجدوه غير ما تقدم ، كذلك أهل الحقائق : أحوالهم فى الزيادة أبدا ، فإذا رقى أحدهم عن محله ، توهم أن الذي سيلقاه فى هذا النّفس مثل ما تقدم ، فإذا ذاقه وجده فوق ذلك بأضعاف ، كما قال قائلهم :
مازلت أنزل من ودادك منزلا تتحير الألباب عند نزوله «1»
___________
(1) البيت ذكره البغدادي فى تاريخ بغداد 5/ 135 فى قصة مع أبى الحسن النوري.(1/89)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 90
ولما ضرب اللّه الأمثال فى القرآن للمنافقين وغيرهم تكلم فى ذلك بعض الكفار والملحدين ، بينّ الحق تعالى وجه ذلك فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 26 الى 27]
إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27)
قلت : الحياء : خلق كريم يمنع صاحبه من ارتكاب ما يعاب به ، وفى الحديث : «إنّ اللّه حيى كريم» ، و(مثلا) مفعول ، و(ما) نكرة ، صفته ، و(بعوضة) بدل ، والبعوضة : الذباب. وفى الحديث : «لو كانت الدّنيا تساوى عند اللّه جناح بعوضة ما سقى الكافر منها جرعة ماء» ، وقيل : صغار البقّ ، أي : إن اللّه لا يترك أن يضرب مثلا - أىّ مثل كان - بعوضة فما فوقها. أو (بعوضة) مفعول أول ، و(مثلا) مفعول ثان ، من باب جعل ، و(ماذا) إما مبتدأ وخبر ، على أن (ذا) موصولة ، أو مفعولة بأراد على أنها مركبة ، و(مثلا) حال أو تمييز. والفسق : الخروج ، يقال :
فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ اللَّهَ لا يترك ترك المستحيى أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا بالخسيس والكبير كالذباب والعنكبوت وغير ذلك. فأما المؤمنون فيتيقّنون أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ، وحكمته : إبراز المعاني اللطيفة فى قوالب المحسوسات ليسهل الفهم ، وأما الكفار فيعترضون ويقولون : ما ذا أَرادَ اللَّهُ بهذه الأمثال؟ فإن اللّه منزه عن ضرب الأمثال بهذه الأشياء الخسيسة ، قال اللّه تعالى فى الرد عليهم : أراد بهذا إضلال قوم بسبب إنكارها ، وهداية آخرين بسبب الإيمان بها ، وَما يُضِلُّ بذلك المثل إلا الخارجين عن طاعته ، الَّذِينَ نقضوا العهد الذي أخذ عليهم فى عالم الذّرّ ، أو مطلق العهد ، وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من الأنبياء والرسل والأرحام وغيرها ، وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالمعاصي والتعويق عن الإيمان ، أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الكاملون فى الخسران ، نعوذ باللّه من الخذلان.(1/90)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 91
الإشارة : إن اللّه لا يترك أن يظهر مثلا من أنوار قدسه بارزا بقدرته ، مرتديا برداء حكمته ، ملتبسا بأسرار ذاته ، مكسوّا بأنوار صفاته من الذرة إلى مالا نهاية له ، فالمتجلّى فى النملة هو المتجلى فى الفيلة ، فأما الذين صدّقوا بتجلى الذات فى أنوار الصفات ، فيقولون : إنه الحق فائض من نور الربوبية ، محتجبا برداء الكبرياء وسبحات الألوهية. وأما الجاحدون لظهور نور ذات الربوبية فينكرونه فى حال ظهوره ، ويقولون : ماذا أراد اللّه بهذه العوالم الظاهرة؟ فيقول الحق تعالى : أردت ظهور قدرتى وعجائب حكمتى ، ليظهر سر ربوبيتى فى مظاهر عبوديتى.
قال الشيخ أبو الحسن رضى اللّه عنه : «العبودية جوهرة أظهر بها الربوبية» وقيل لأبى الحسن النّورى : ما هذه الأماكن والمخلوقات الظاهرة؟ فقال : عز ظاهر وملك قاهر ، ومخلوقات ظاهرة به ، وصادرة عنه ، لا هى متصلة به ولا منفصلة عنه ، فرغ من الأشياء ولم تفرغ منه ، لأنها تحتاج إليه وهو لا يحتاج إليها. ه.
فأراد اللّه بظهور هذا الكون أن يضل به قوما فيقفون مع ظاهر غرّته ، ويهدى به قوما فينفذون إلى باطن عبرته. وما يضل به إلا الفاسقين الخارجين عن دائرة الشهود ، المنكرين لتجليات الملك المعبود ، الذين ينقضون عهد اللّه ، وهو معرفة الروح التي حصلت لها وهى فى عالم الذر ، ويقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل من الشيوخ العارفين ، الذين أهّلهم اللّه للتربية والترقية ، وهم لا ينقطعون ما دامت الملّة المحمدية ، ويفسدون فى الأرض بالإنكار والتعويق عن طريق الخصوص ، بتضييعهم الأصول ، وهى صحبة العارفين ، والتأدب لهم ، والتعظيم لحرمتهم. وباللّه التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم عجّب الحقّ تعالى خلقه من خفائه بعد شدة ظهوره ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 28]
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)
قلت : (كيف) حال لأنها وقعت قبل كلام تام.
يقول الحق جل جلاله : كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وتجحدون نعمه المتوالية ، وَالحالة أنكم كُنْتُمْ أَمْواتاً نطفا فى الأرحام ، فَأَحْياكُمْ بنفخ الروح فى أجسادكم ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقضاء آجالكم ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ عند البعث لحسابكم ، ثم يسكنكم دار القرار ، إما إلى الجنة وإما إلى النار. فهذه الآثار دالة على باهر قدرته وتمام حكمته ، فقد وضح الحق وظهر ، فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ.(1/91)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 92
الإشارة : كيف تنكرون ظهور نور الحق فى الأكوان ، وتبعدون عن حضرة الشهود والعيان ، وقد كنتم أمواتا بالغفلة وغم الحجاب ، فأحياكم باليقظة والإياب ، ثم يميتكم بالفناء عن شهود ما سواه ، ثم يحييكم بالرجوع إلى شهود أثره باللّه ، ثم إليه ترجعون فى كل شىء لشهود نوره فى كل شىء ، وقبل كل شىء ، وبعد كل شىء ، وعند كل شىء «كان اللّه ولا شىء معه ، وهو الآن على ما عليه كان».
ولمّا ذكر نعمة الإيجاد أتبعها بنعمة الإمداد ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 29]
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
قلت : جَمِيعاً حال مؤكدة من ما ، وثُمَّ للترتيب الذكرى لا الخارجي «1» لأن دحو الأرض مؤخر عن خلق السماء ، إلا أن يكون العطف على معنى الجملة ، والتقدير : هو الذي خلق لكم الأرض مشتملة على جميع منافعكم ، ثم استوى إلى السماء فخلقهن سبعا ، ثم دحا الأرض وبسطها.
والتسوية : خلق الأشياء سالمة من العوج والخلل ، و(سبع) : بدل من الضمير ، أو بيان له ، وجملة وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تعليل لما قبله. أي : ولكونه عالما بكنه الأشياء كلها خلق ما خلق على هذا النمط الأكمل والوجه الأنفع.
يقول الحق جل جلاله على لسان الواسطة : هُوَ الَّذِي خَلَقَ لأجلكم ما استقر فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً تنتفعون به فى الظاهر قوتا لأشباحكم ، ودواء لأبدانكم ، ومتعة لنفوسكم ، وتنتفعون به فى الباطن بالتفكر والاعتبار ، وزيادة فى إيمانكم وقوة لإيقانكم ، ثم قصد إِلَى السَّماءِ قصد إرادة ، فخلقهن سَبْعَ سَماواتٍ مستوية تامة ، ليس فيها تفاوت ولا خلل ، تظلكم بجرمها ، وتضيء عليكم بشمسها وقمرها وكواكبها ، وقد أحاط علمه بالأشياء كلها ، فلذلك خلقها على هذا النمط الغريب والإتقان العجيب.
الإشارة : يا عبادى خلقت الأشياء كلّها من أجلكم ، الأرض تقلكم ، والسماء تظلكم ، والجهات تكتنفكم والحيوانات تخدمكم ، والنباتات تنفعكم ، وخلقتكم من أجلى ، فكيف تميلون إلى غيرى ، وتنسون إحسانى وبرّى؟!! الأشياء كلها عبيدكم وأنتم عبيد الحضرة ، «أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكوّن ، فإذا شهدت المكوّن كانت الأكوان معك».
___________
(1) أي : ترتيب الإخبار ، لا ترتيب الأمر فى نفسه.(1/92)
البحر المديد ج 1 ، ص : 93
وفى بعض الكتب المنزلة يقول اللّه تعالى : (يا عبدى إنما منحتك صفاتى لتعرفنى بها ، فإن ادعيتها لنفسك سلبتك الولاية ، ولم أسلبك صفاتى ، يا عبدى : أنت صفتى وأنا صفتك ، فارجع إلىّ أرجع إليك ، يا عبدى : فيك للعلوم باب مفتاحه أنا ، وفيك للجهل باب مفتاحه أنت ، فاقصد أىّ البابين شئت ، يا عبدى : قربى منك بقدر بعدك عن نفسك وبعدي عنك بقدر قربك من نفسك ، فقد عرفتك الطريق ، فاترك نفسك تصل إلىّ فى خطرة واحدة ، يا عبدى : كل ما جمعك على فهو منى ، وكل ما فرقك عنى فهو منك ، فجاهد نفسك تصل إلىّ ، وإنى لغنى عن العالمين ، يا عبدى : إن منحتنى نفسك رددتها إليك راضية مرضية ، وإن تركتها عندك فهى أعظم بلية ، فهى أعدى الأعادى إليك فجاهدها تعد بالفوائد إليك).
وفى بعض الآثار المروية عن اللّه تعالى : «يا عبدى : أنا بدّك اللازم فالزم بدّك». «1» ويمكن أن يشار بالأرض إلى أرض العبودية ، وبالسماء إلى سماء الحقيقة ، وبالسبع سموات إلى سبع مقامات وهى الصبر والشكر والتوكل والرضى والتسليم والمحبة والمعرفة. واللّه تعالى أعلم.
ولما ذكر خلق العالم العلوي والسفلى ، ذكر كيفية ابتداء من عمّر العالم السفلىّ من جنس الآدمي ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 30 الى 33]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
لمّا أراد اللّه تعالى عمارة الأرض ، بعد أن عمر السموات بالملائكة ، أخبر الملائكة بما هو صانع من ذلك تنويها بآدم وتشريفا لذريته ، وتعليما لعباده أمر المشاورة ، فقال لهم : إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً يخلفنى فى أرضى وتنفيذ أحكامى ، قالُوا على وجه الاستفهام ، أو من الإدلال ، إن كان من المقربين ، بعد أن رأوا الجن قد أفسدوا وسفكوا الدماء : أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ، وشأن الخليفة الإصلاح ، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ، أي : نسبح ملتبسين بحمدك ، وَنُقَدِّسُ لَكَ ، أي : نطهر أنفسنا لأجلك ، أو ننزهك عما لا يليق بجلال قدسك ، فنحن أحق بالخلافة منهم.
___________
(1) أخرجه الديلمي فى الفردوس (5/ 230 ح 8040) عن أنس مرفوعا. ورواه الخطيب فى تاريخ بغد 9 اد 742/ 2 وقال : هذا الحديث موضوع المتن.(1/93)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 94
قال الحق جل وعلا : إِنِّي أَعْلَمُ ..... ما لا تعلمون فإني أعلم أنه يكون منهم رسل وأنبياء وأولياء ، ومن يكون مثلكم أو أعظم منكم ، ولما ألقى الخليل فى النار ضجت الملائكة وقالت : «يا رب هذا خليلك يحرق بالنار».
فقال لهم : «إن استغاث بكم فأغيثوه». فلما رفع همّته عنهم قال الحق تعالى : أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تعلمون.
ثم وجّه الحق تعالى استحقاقه للخلافة وهو تشريفه بالعلم ، فقال : وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ، أي : مسميات الأسماء بأن ألقى فى روعه ما تحتاج إليه ذريته من اللغات والحروف ، وخواص الأشياء ومنافعها ، ثم عرض تلك المسميات على الملائكة ، إظهارا لعجزهم ، وتشريفا لآدم بالعلم ، فَقالَ : أخبرونى بِأَسْماءِ هؤُلاءِ المسميات إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فى ادعائكم استحقاق الخلافة ، فلما عجزوا عن معرفة تلك الأسماء قالُوا سُبْحانَكَ أي : تنزيها لك عن العبث ، لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ بكل شىء ، الْحَكِيمُ لإتقانك كل شىء ، وهذا اعتراف منهم بالقصور والعجز ، وإشعار بأن سؤالهم كان استفهاما وطلبا لتفسير ما أشكل عليهم ، ولم يكن اعتراضا.
قال الحق جل جلاله : يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ ، وعيّن لهم اسم كل مسمى ، فلما أخبرهم بذلك بحيث قال مثلا : هذا فرس وهذا جمل ، وعين ذلك لهم ، وظهرت ميزته عليهم بالعلم حتى استحق الخلافة ، قال الحق تعالى : أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي : ما غاب ، وأعلم ما تظهرونه من قولكم :
أَتَجْعَلُ فِيها .. إلخ ، وما تكتمونه من استحقاقكم الخلافة ، وقولكم : لن يخلق اللّه تعالى أحدا أعلم منا لتقدمنا ، والفضل لمن صدق لا لمن سبق.
قال البيضاوي : اعلم أن هذه الآيات تدل على شرف الإنسان ، ومزية العلم وفضله على العبادة ، وأنه شرط فى الخلافة ، بل العمدة فيها ، وأن التعليم يصح إطلاقه عليه تعالى ، وإن لم يصح إطلاق المعلم عليه لاختصاصه بمن يحترف به ، وأن اللغات توقيفية - علمها اللّه بالوحى - ، وأن آدم عليه السّلام أفضل من هؤلاء الملائكة لأنه أعلم منهم ، والأعلم أفضل لقوله تعالى : هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ، وأن اللّه يعلم الأشياء قبل حدوثها. ه. باختصار.
وقال فى تفسير الملائكة : إنهم أجسام لطيفة قادرة على التشكل ، وهى منقسمة على قسمين : قسم شأنهم الاستغراق فى معرفة الحق والتنزه عن الاشتغال بغيره ، - وهم العليّون ، والملائكة المقربون - وقسم يدبرون الأمر من(1/94)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 95
السماء إلى الأرض على ما ثبت به القضاء وجرى به القلم الإلهى ، وهم المدبرات أمرا ، فمنهم سماوية ، ومنهم أرضية. ه. مختصرا.
الإشارة : اعلم أن الروح القائمة بهذا الآدمي هى قطعة من الروح الأعظم التي هى المعاني القائمة بالأوانى ، وهى آدم الأكبر والأب الأقدم ، وفى ذلك يقول ابن الفارض :
وإنّى وإن كنت ابن آدم صورة فلى فيه معنى شاهد بأبوّتى
فلمّا أراد الحق تعالى أن يستخلف هذا الروح فى هذه البشرية لتدبرها وتصرفها فيما أريد منها ، قالت الملائكة بلسان حالها : كيف تجعل فيها من يفسد فيها بالميل إلى الحظوظ والشهوات ، ويسفك الدماء بالغضب والحميات ، ونحن نسبحك وننزهك عما لا يليق بك؟ رأت الملائكة ما يصدر من بعض الأرواح من الميل إلى الحضيض الأسفل ، ولم تر ما يصدر من بعضها من التصفية والترقية ، فقال لهم الحق تعالى : إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ فإن منها من تعرج إلى عرش الحضرة ، وتعبدنى بالفكرة والنظرة ، وتستولى على الوجود بأسره ، وتنكشف لها عند ذلك أسرار الذات وأنوار الصفات وأسماء المسميات.
فيقول الحق تعالى للملائكة : هل فيكم من كشف له عن هذا السر المكنون ، والاسم المصون ، فقالوا : سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا من علم الصفات دون أسرار الذات إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ يقول الحق تعالى لروح العارف التي نفذت إلى بحر وحدة الذات وتيار الصفات : أنبئهم بما غاب عنهم من أسرار الجبروت ، وأسماء الملكوت ، فلما أعلمهم بما كوشف له من الأسرار ، وانفلق له من الأنوار ، أقروا بشرف الآدمي ، وسجدوا لطلعة آدم عليه السّلام فقال الحق لهم : أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟ أي : ما غاب فى سماء الأرواح من الأسرار وفى أرض النفوس من الأنوار ، وأعلم ما تظهرونه من الانقياد ، وما تكتمونه من الاعتقاد ، واللّه تعالى أعلم.
ولما تبين شرف آدم عليه السّلام وبان فضله أمرهم بالسجود له ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 34]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34)
قلت : (إذ) ظرف للماضى ، ضد إذا ، وهى معمولة لفعل مقدر ، يفسره قوله تعالى : وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ ، فحيثما وردت فى القرآن فيقدر له «اذكر» ، والاستثناء متصل إذا قلنا إبليس من الملائكة ، ومنقطع إذا قلنا من الجن. واللّه تعالى أعلم.(1/95)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 96
يقول الحق جل جلاله : واذكر إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ، لما تبينت فضيلة ، آدم أمرهم بالسجود ، فقال لهم : اسْجُدُوا لِآدَمَ سجود انحناء ، فَسَجَدُوا كلهم ، لأنهم شهدوا الجمع ولم يشهدوا الفرق ، فرأوا آدم قبلة ، أو نورا من أنوار عظمته ، إِلَّا إِبْلِيسَ أي : امتنع حيث نظر الفرق بحكمة الواحد القهار ، فاستكبر وَكانَ من جملة الْكافِرِينَ. وكفره باعتراضه على اللّه وتسفيه حكمه ، لا بامتناعه إذ مجرد المعصية لا تكفر. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : إذا كمل تصفية الروح ، وظهر شرفها ، خضع لها كل شىء ، وتواضع لها كل شىء ، وانقاد لأمرها من سبقت له العناية ، وهبت عليه ريح الهداية ، لأنها صارت آدم الأكبر ، إلا من أبلسته المشيئة ، وطردته القدرة ، فاستكبر عن تحكيم جنسه على نفسه ، وكان من الكافرين لوجود الخصوصية ، فجزاؤه حرمان شهود طلعة الربوبية ، وهبوطه إلى حضيض العمومية.
ثم ذكر الحق تعالى دخول آدم الجنة ، ونزوله إلى الخلافة التي أخبر الحق تعالى بها قبل ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 35 الى 37]
وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
قلت : (رغدا) : صفة لمصدر محذوف ، أي : أكلا رغدا واسعا ، و(تكونا) : منصوب ، جواب الأمر ، أو معطوف على (تقربا) ، و(أزلهما) : أوقعهما فى الزلل بسبب الأكل ، أو أذهبهما عن الجنة ، ويدل عليه قراءة حمزة :
«فأزالهما» ، وجملة (بعضكم لبعض عدو) : حالية ، أي : متعادين.
يقول الحق جل جلاله : وَقُلْنا يا آدَمُ حين سجدت له الملائكة ودخل الجنة : اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ حواء الْجَنَّةَ ، وكانت خلقت من ضلعه الأيسر ، وَكُلا من ثمار الجنة حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ : العنب أو التين أو الحنطة فَتَكُونا إن أكلتما منها مِنَ الظَّالِمِينَ لنفسيكما. فدخل إبليس خفية أو فى فم الحية «1» ، فتكلم مع آدم عليه السّلام فقال له آدم عليه السّلام : ما أحسن هذه الحالة لو كان الخلود. فحفظها إبليس ، ووجد فيها مدخلا من جهة الطمع ، فقال له : هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى فدله على أكل الشجرة ، وقال : ما نَهاكُما رَبُّكُما عنها إِلَّا كراهية
___________
(1) ليس لنا البحث عن كيفية وسوسة إبليس لآدم ، ولانقطع القول بلا دليل. وهذا من الإنصاف.(1/96)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 97
أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ. وأكلت حواء أولا ، ثم قالت له : قد أكلت ولم يضرنى ، ثم أكل آدم عليه السّلام من جنس الشجرة ، لا من عينها ، متأولا ، فطار التاج واللباس ، وأخرجهما مِمَّا كانا فِيهِ من رغد العيش والهناء ، وأهبطهما إلى الأرض ، للتعب والعناء ، ليكون خليفة على ما سبق به القضاء.
فقال لهم الحق تعالى : اهْبِطُوا آدم وحواء وإبليس والحية ، بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ استقرار وتمتع إِلى حِينٍ وفاتكم ، فتقدمون على فيجازى المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، فَتَلَقَّى أي أخذ آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ وهى : رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ، فَتابَ الحق تعالى عليه واجتباه لحضرته ، فإنه تواب كثير التوبة على عباده ، رحيم بهم ، أرحم من أبيهم وأمهم ، اللهم ارحمنا رحمة تعصمنا بها عن رؤية السّوى ، إنك على كل شىء قدير.
الإشارة : يقول الحق جل جلاله للروح ، إذا كمل تهذيبها ، وتمت تربيتها : اسكن أنت وبشريتك التي تزوجتها - قال تعالى : وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ - جنة المعارف ، وكلا من ثمار أذواقها وأنهار علومها ، وتبوّءا من قصور ترقّياتها ، أكلا واسعا ما دمتما متحليين بالأدب ، ولا تقربا شجرة المعصية وسوء الأدب (فتكونا من الظالمين) ، فلما سكنت جنة الخلود ، وشرهت إلى الخلود ، أهبطها اللّه إلى أرض العبودية ، وردها إلى البقاء لتستحق الخلافة ، وتقوم بحقوق الربوبية ، بسبب ما ارتكبه من المعصية ، وهى الشّره إلى دوام الحرية ، «أكرم بها معصية أورثت الخلافة!» ، فكل ما ينزل بالروح إلى قهرية العبودية ، فهو سبب إلى الترقي لشهود نور الربوبية ، وربما قضى عليك بالذنب فكان سبب الوصول ، فلما أراد الحق تعالى أن ينزلها إلى أرض العبودية بالسلوك بعد الجذب ، قال لها ولمن يحاربها من الشيطان والهوى والدنيا وسائر الحظوظ : اهبطوا بعضكم لبعض عدو ، ولكم - أيها العارفون بعد جهاد أعدائكم - فى أرض العبودية ، استقرار وتمتع بتجليات أنوار الربوبية ، إلى حين الملاقاة الحقيقية. فتلقت الروح من ربها كلمات الإنابة ، وهبّ عليها ، نسيم الهداية ، بما سبق لها من عين العناية ، فتاب عليها ، وقرّبها إلى حضرة الشهود ، ومعاينة طلعة الملك الودود ، إنه تواب رحيم جواد كريم.
ثم كرر الحق تعالى أمرهم بالهبوط ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 38 الى 39]
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39)(1/97)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 98
قلت : (إن) : شرط ، و(ما) زيدت لتقوية الشرط ، ولذلك دخلت نون التوكيد ، وعبر بإن دون (إذا) ، مع تحقق مجيئ الهدى لأنه غير واجب عقلا ، وجملة الشرط الثاني وجوابه ، الشرط الأول ، و(جميعا) حال مؤكدة أي :
اهبطوا أنتم أجمعون ، ولذلك لا يقتضى اجتماعهم على الهبوط فى زمان واحد.
ولما أمر الحق جلا جلاله آدم أولا بالهبوط من الجنة ، جعل يبكى ويتضرع ويقول : ألم تخلقنى بيدك؟ ألم تسجد لى ملائكتك؟ ألم تدخلنى جنتك؟ ثم ألهم الكلمات التي تلقاها من ربه ، فتاب عليه ورحمه ، فطمع آدم حين سمع من ربه قبول توبته فى البقاء فى الجنة ، فقال له الحق جل جلاله : يا آدم لا يجاورنى من عصانى ، وقد سبقت كلمتى بهبوطك إلى الأرض لتكون خليفتى بذريتك ، فكرر عليه الأمر بالهبوط ثانيا. فقال : اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً أنتما بما اشتملتما عليه من ذريتكما. فمهما يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً أي : بيان وإرشاد إلى توحيدى ومعرفتى ، على يد رسول أو نائب عنه ، فَمَنْ تَبِعَ ذلك الإرشاد ، واهتدى إلى معرفتى وتوحيدى ، وعمل بطاعتي وتكاليفى ، فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من لحوق مكروه وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ من فوات محبوب ، لأنى أصرف عنهم جميع المكاره ، وأجلب لهم المنافع ، وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على قدرتنا المنزلة على رسلنا ، واستكبروا عن النظر فيها ، أو عن الخضوع لمن جاء بها ، أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
الإشارة : إذا سكنت الأرواح فى عشّ الحضرة ، وتمكنت من الشهود والنظرة ، أمرها الحق تعالى بالنزول إلى سماء الحقوق أو أرض الحظوظ ، فتنزل بالإذن والتمكين ، والرسوخ فى اليقين ، لا لطلب جزاء أو لقضاء شهوة ، بل تنزل باللّه ومن اللّه وإلى اللّه ، فمن نزل منها على هذا الهدى الحسن فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ، ومن ركب بحر التوحيد مع غير رئيس عارف ، ولم يأو إلى سفينة الشريعة ، واستكبر عن الخضوع إلى تكاليفها لعبت به الأمواج ، فكان من المغرقين. أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لأن من تحقق ولم يتشرع فقد تزندق ، ومن تشرع ولم يتصوف فقد تفسق ، ومن جمع بينهما فقد تحقق ، جعلنا اللّه ممن تحقق بهما. وسلك على منهاجهما إلى الممات ، آمين.
ولما ذكر الحق تعالى شرف كتابه ، ونفى وجود الريب عن ساحته ، ثم دعا إلى توحيده ، ويرهن على وجوده ، بابتداء خلق العالم من عرشه إلى فرشه ، وذكر كيفية ابتداء عمارته ، خاطب بنى إسرائيل لأنهم أهل العلم بالأخبار المتقدمة ، وقد سمعوا هذه الأخبار من نبى أمّى لم يعهد بقراءة ولا تعلم ، فقامت الحجة عليهم ، وتحققوا أنه من عند اللّه. وما منعهم من الإسلام إلا الحسد وحب الرئاسة ، فلذلك أطال الحقّ الكلام معهم ، تارة يقرّعهم على عدم(1/98)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 99
الإيمان وما فعلوا مع أنبيائهم ، وتارة يذكرهم النعم التي أنعم اللّه على أسلافهم ، فقال تعالى :
[سورة البقرة (2) : الآيات 40 الى 43]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
قلت : (إسرائيل) : هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل - عليهم الصلاة والسلام - وهو اسم عجمى ، وبنو تميم تقول : «إسرائين» بالنون ، (و إسرا) بالعبرانية : عبد ، و(إيل) : اسم اللّه تعالى ، فمعناه : عبد اللّه ، وبنو إسرائيل :
هم أولاد يعقوب عليه السّلام ، و(بعهدي) من إضافة المصدر إلى فاعله ، وبِعَهْدِكُمْ إلى مفعوله ، و(إياى) منصوب بفعل مضمر ، يقدر مؤخرا. أي : إياى ارهبوا فارهبون. وحذف مفعول (ارهبون) لرءوس الآي ، وكذا قوله : (و إياى فاتقون) ، والرهبة : خوف مع تحرّز ، و(تكتموا) : معطوف على (تلبسوا) ، أو منصوب بأن مضمرة بعد النهى ، و(أنتم تعلمون) : جملة حالية.
يقول الحق جل جلاله : يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ التي خصصتكم بها ، بأن فضلتكم على أهل زمانكم ، وجعلت فيكم أنبياء ورسلا ، كلما انقرض نبى بعثت نبيّا آخر ، وجعلتكم ملوكا وحكاما على الناس ، قبل أن تفسدوا فى الأرض بقتل الأنبياء ، فتكفروا بهذه النعم ، فإن الإنسان حسود غيور بالطبع ، فإذا نظر إلى ما أنعم اللّه على غيره حمله الحسد والغيرة على السخط والكفران ، وإذا نظر إلى ما أنعم اللّه به عليه حمله حب النعمة على الرضا والشكر. فاذكروا ما أنعمت به عليكم ، وقيدوه بالشكر ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِي الذي عهدت إليكم ، وهو أنكم إن أدركتم محمدا صلى اللّه عليه وسلّم لتؤمنن به ولتنصرنه ، ولتبينن صفته التي فى كتابكم ، ولا تكتمونها ، أُوفِ بِعَهْدِكُمْ بأن أدخلكم جنتى ، وأبيح لكم النظر إلى وجهى ، وأحل عليكم رضوانى فى جملة عبادى ، ولا ترهبوا أحدا غيرى ، فإنه لا فاعل غيرى.
وبادروا إلى الإيمان بِما أَنْزَلْتُ على محمد رسولى ، من كتابى ، الذي هو مصدق لِما مَعَكُمْ من التوراة ، ومهيمن عليه ، وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ فريق كافِرٍ بِهِ ، فتبوءوا بإثمكم وإثم من تبعكم ، ولا تستبدلوا الإيمان الذي هو سبب الفوز فى الدارين ، بالعرض الفاني الذي تأخذونه من سفلتكم ، فإنه ثمن قليل يعقبه عذاب جليل وخزى كبير. ولا تخشوا أحدا سواى فإن النفع والضرر بيدي ، ولا تخلطوا الْحَقَّ الذي هو ذكر(1/99)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 100
محمد صلى اللّه عليه وسلّم وصفته التي فى كتابكم ، بِالْباطِلِ الذي تريدونه تحريفا وتأويلا ، وَلا تَكْتُمُوا الْحَقَّ الذي عندكم من ذكر محمد وصحة رسالته ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنكم محرفون ، ولابسون عنادا وحسدا ، فيحل عليكم غضبى وعقابى ، وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى . فإذا حصلتم أصول الدين ، وهو الإيمان ، فاشتغلوا بفروعه ، وهى الصلاة والزكاة وغيرهما ، فأدوهما على منهاج المسلمين. واجعلوا صلاتكم فى جماعة المؤمنين فإنّ صلاة الجماعة تفضل غيرها بسبع وعشرين درجة ، مع سريان الأسرار واقتباس الأنوار من الصالحين والأبرار ، وباللّه التوفيق.
الإشارة : إذا توجّه الخطاب إلى طائفة مخصوصة ، حمله أهل الفهم عن اللّه على عمومه لكل سامع ، فإن الملك إذا عاتب قوما بمحضر آخرين ، كان المراد بذلك تحذير كل من يسمع ، فكأن الحق جل جلاله يقول : يا بنى آدم اذكروا نعمتى التي أنعمت عليكم ، وتفكروا فى أصولها وفروعها ، واشكروني عليها بنسبتها إلىّ وحدى ، فإنه لا منعم غيرى ، فمن شكرنى شكرته ، ومن فيض إحسانى وبرى مددته ، ومن كفر نعمتى سلبته ، وعن بابى طردته ، وأوفوا بعهدي بالقيام بوظائف العبودية ، أوف بعهدكم بأن أطلعكم على أسرار الربوبية.
أو : أوفوا بعهدي بالقيام برسوم الشريعة ، أوف بعهدكم بالهداية إلى منار الطريقة ، أو : أوفوا بعهدي بسلوك منهاج الطريقة ، أوف بعهدكم بالإيصال إلى عين الحقيقة ، أو : أوفوا بعهدي بالاستغراق فى بحر الشهود ، أوف بعهدكم بالترقي أبدا إلى الملك الودود ، وخصونى بالرهب والرغب ، وتوجهوا إلىّ فى كل سؤال وطلب ، أعطف عليكم بعنايتى وودى ، وأمنحكم من عظيم إحسانى ورفدى ، وآمنوا بما أنزلت على قلوب أوليائى ، من مواهب أسرارى وآلائي ، تصديقا لما أتحفت به رسلى وأنبيائى ، فكل ما ظهر على الأولياء فهو معجزة للأنبياء وتصديق لهم ، ولا تبادروا بالإنكار على أوليائى ، فتكونوا سببا فى طرد عبادى عن بابى ، ولا يمنعكم حب الرئاسة والجاه عن الخضوع إلى أوليائى ، ولا ترقبوا أحدا غيرى ، فإنى أمنعكم من شهود سرى.
ولا تلبسوا الحق بالباطل ، فتظهروا شعار الصالحين وتبطنوا أخلاق الفاسقين ، تتزيوا بزى الأولياء ، وتفعلوا فعل الأغوياء ، وإذا تحققتم بخصوصية أحد من عبادى ، فلا تكتموها عن أهل محبتى وودادي ، وأقيموا صلاة القلوب بالخضوع تحت مجارى الأقدار ، وأدوا زكاة النفوس بالذل والانكسار ، وكونوا مع الخاشعين ، واركعوا مع الراكعين ، أمنحكم معونتى ونصرى ، وأفيض عليكم من بحر إحسانى وبرى ، أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلى.
ثم وبّخ الحق تعالى من عرف الحق وحرم نفسه منه من أهل الكتاب وغيرهم ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 44]
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44)
قلت : البر ، بالكسر : يجمع وجوه الخير وأنواع الطاعات ، والنسيان : الترك.(1/100)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 101
يقول الحق جل جلاله فى توبيخ أحبار اليهود ، كانوا إذا استرشدهم أحد من العرب دلوه على الإسلام ، وقالوا له : دين محمد حق ، وهم يمتنعون منه ، وقيل : كانوا يأمرون الناس بالصدقة وهم يبخلون ، فقال لهم : كيف تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ والإحسان ، وتتركون أَنْفُسَكُمْ فى الكفر والعصيان ، وأنتم تدرسون التوراة الصحيح ، وتعلمون أن ذلك من أقبح القبيح؟ ، أفلا عقل لكم يزجركم عن هذه الخصلة الذميمة؟ فإن من شأن العقل التمييز بين القبيح والحسن والنافع والضار ، فكل من تقدم لما فيه ضرره فلا عقل له.
الإشارة : كل من أشار إلى مقام لم يبلغ قدمه إليه ، فهذا التوبيخ متوجّه إليه ، وكل من ذكر غيره بعيب لم يتخلص منه ، قيل له : أتأمر الناس بالبر وتنسى نفسك خالية منه ، فلا يسلم من توبيخ هذه الآية من أهل التذكير إلا الفرد النادر من أهل الصفاء والوفاء.
وقال البيضاوي : (المراد بها حث الواعظ على تزكية النفس ، والإقبال عليها بالتكميل لتقوم فيقيم ، لا منع الفاسق عن الوعظ ، فإن الإخلال بأحد الأمرين المأمور بهما لا يوجب الإخلال بالآخر). فانظره. وتأمل قول القائل :
يا أيها الرجل المعلّم غيره هلّا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذى السقام وذى الضنا ومن الضنا وجواه أنت سقيم
وأراك تلقح بالرشاد عقولنا نصحا ، وأنت من الرشاد عديم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيّها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل إن وعظت ، ويقتدى بالقول منك ، وينفع التعليم
لا تنه عن خلق وتأتى مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
لكن من حصل له بعض الصفاء ، ذكر غيره ونفسه معهم ، وكان بعض أشياخنا يقول حين يذكر الفقراء : نحن إنما ننبح على نفوسنا.
ثم أشار الحق تعالى إلى الدواء ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 45 الى 46]
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46)(1/101)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 102
قلت : الصبر : هو حبس القلب على حكم الرب ، فيحتمل أن يراد به ظاهره ، أو يراد به هنا الصوم ، لأن فيه الصبر عن الشهوات. والخشوع فى الجوارح : سكونها وذلها ، والخضوع فى القلب : انقياده لحكم الرب.
يقول الحق جل جلاله : يا من ابتلى بالرئاسة والجاه ، واستكبر عن الانقياد لأحكام اللّه التي جاءت بها الرسل من عند اللّه ، استعن على نفسك بِالصَّبْرِ على قطع المألوفات ، وترك الحظوظ والشهوات ، وأصل فروعها حب الرئاسة والجاه ، فمن صبر على تركهما فاز برضوان اللّه. وفى الحديث : «وفى الصبر على ما تكره خير كثير». وقال الشاعر :
والصّبر كالصبر مرّ فى مذاقته لكن عواقبه أحلى من العسل
أو : وَاسْتَعِينُوا بالصوم وَالصَّلاةِ ، فإن فى الصوم كسر الشّهوة وتصفية النفس ، فإذا صفت النفس من الرذائل تحلت بأنواع الفضائل ، كالتواضع والإنصاف ، والخشوع وسائر سنى الأوصاف ، وفى الصلاة أنواع من العبادات النفسية والبدنية ، كالطهارة ، وستر العورة ، وصرف المال فيهما ، والتوجه إلى الكعبة ، والعكوف للعبادة ، وإظهار الخشوع بالجوارح ، وإخلاص النية بالقلب ، ومجاهدة الشيطان ، ومناجاة الرحمن وقراءة القرآن ، وكف النفس عن الأطيبين «1» ، وفى الصلاة قضاء المآرب وجبر المصائب ، ولذلك كان - عليه الصلاة والسلام - إذا حزيه أمر فزع إلى الصلاة ، وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ أي : شاقة على النفس لتكريرها فى كل يوم ، ومجيئها وقت حلاوة النوم ، إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ الذين سكنت حلاوتها فى قلوبهم ، وتناجوا فيها مع ربهم ، حتى صارت فيها قرّة عينهم.
الذين يتيقنون أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ فيتنعمون بالنظر إلى وجهه الكريم ، ويتيقنون أيضا أنهم راجعون إلى ربهم بالبعث والحشر للثواب والعقاب ، وإنما عبّر الحق تعالى هنا بالظن فى موضع اليقين إبقاء على المذنبين ، وتوفرا على العاصين ، الذين ليس لهم صفاء اليقين إذ لو ذكر اليقين صرفا لخرجوا من الجملة ، فسبحانه من رب حليم ، وجواد كريم. اللهم امنن علينا بصفاء المعرفة واليقين ، حتى لا يختلج قلوبنا وهم ولا ريب ، يا رب العالمين.
الإشارة : يا من رام الدخول إلى حضرة اللّه ، تذلل وتواضع لأولياء اللّه ، وتجرع الصبر فى ذلك كى يدخلوك حضرة اللّه ، كما قال القائل :
تذلل لمن تهوى فليس الهوى سهل «2» إذا رضى المحبوب صحّ لك الوصل
___________
(1) أي : الأكل والجماع. قاله الشهاب الخفاجي فى حاشيته على البيضاوي 451/ 2.
(2) أرى أن يكون : (تذلل لمن تهوى فما فى الهوى سهل).(1/102)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 103
فإن منعك من ذلك حب الرئاسة والجاه ، فاستعن على ذلك بالصبر والصلاة ، فإن الصبر عنوان الظفر ، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. فأدمن قرع الباب حتى تدخل مع الأحباب ، فالإدمان على عبادة الصلاة أمره كبير ، إلا من خلص إلى مناجاة العلى الكبير ، وتحقق بملاقاة الشهود والعيان ، ورجع إلى مولاه فى كل أوان ، فإن الصلاة حينئذ تكون له من قرة العين. وباللّه التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ولما أمرهم بالأصول والفروع ، ذكّرهم بالنعم ، وخوفهم بالوعيد على عدم شكرها ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 47 الى 48]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
قلت : العدل بالفتح : الفداء ، وبالكسر : الحمل ، وجملة لا تَجْزِي : صفة ليوم ، والعائد محذوف ، أي : لا تجزى فيه.
يقول الحق جل جلاله : يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ على آبائكم بالهداية وبعث الرسل ، وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ : أهل زمانكم ، فاذكروا هذه النعم واشكروني عليها بأن تتبعوا هذا النبي الجليل ، الذي تجدونه مكتوبا عندكم فى التوراة والإنجيل.
وخافوا يَوْماً لا تقضى فيه نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً بحيث لا تجلب لها نفعا ، ولا تدفع عنها ضررا ، ولا تقبل مِنْها شَفاعَةٌ إن وقعت الشفاعة فيها ، ولا يؤخذ منها فداء ، إن أرادت الفداء عنها ، ولا تنتصر فى دفع العذاب ، إن أرادت الانتصار بعشيرتها. فانتفى عنها وجوه الامتناع من العذاب بأى وجه أمكن فإن الإنسان إذا أخذ للنكال احتال على نفسه إما بالشفاعة ، أو بالفداء إن لم تقبل الشفاعة فيه ، أو بالانتصار بأقاربه ، والآية فى الكفار ، فلا حجة لمن ينفى الشفاعة فى عصاة المؤمنين ، واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قد يتوجّه العتاب إلى أهل الرئاسة والجاه ، من العلماء والصالحين ، وكل من خصّ بشرف أو خصوصية ، فيقول لهم الحق تعالى : اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ بالعلم أو السيادة أو الصلاح ، وبأن فضلتكم على أهل زمانكم ، وخصصتكم من أبناء جنسكم فقد روى : «أنّ العبد يحاسب على جاهه كما يحاسب على ماله». فمن صرفه فى طاعة اللّه ، وتواضع لعباد اللّه ، وسعى فى حوائجهم ، وأبلغ الجهد فى قضاء مآربهم ، كان ذلك شكرا لنعمة الجاه فقد روى فى الحديث : «من سعى فى حاجة أخيه المسلم ، قضيت أو لم تقض ، غفر له ما تقدم من ذنبه ، وكتب له براءتان : براءة من النار وبراءة من النفاق».(1/103)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 104
ولا يأخذ على ذلك أجرا ولا جعلا فإن ذلك سحت وربا ، ومن تكبر به وطغى ، أو أخذ على ذلك أجرا ، قيل له يوم القيامة : قد استوفيت أجرك فلا حظ لك عندنا ، فلا تنفعه شفاعة ، ولا يقبل منه فداء ، ولا يقدر أن ينتصر من موارد الهوان والردى ، ففى بعض الأخبار : يقول اللّه تعالى للفقراء الذين يعظمون فى الدنيا لأجل فقرهم : ألم أرخص لكم الأسعار؟ ألم أوسع لكم المجالس؟ ألم أعطّف عليكم عبادى؟ فقد أخذتم أجركم فى الدنيا. أو كما قال.
واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكّر الحق تعالى بنى إسرائيل بنعمة أخرى ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 49]
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
قلت : (إذ) : معمول لا ذكروا ، و(فرعون) : اسم لكل من ملك القبط ، كما أن قيصر اسم لمن ملك الروم ، وكسرى اسم لمن ملك الفرس ، واسم (فرعون) الذي كان فى زمن موسى عليه السّلام : «مصعب بن ريان» ، وقيل : ابنه الوليد.
وسام يسوم : طلب وبغى ، يقال : سامه خسفا إذا أولاه ظلما ، وجملة (يسومونكم) : حال من (آل فرعون) ، وجملة (يذبحون) : بيان لها. وسوء العذاب : أفظعه وأقبحه.
يقول الحق جل جلاله : يا بنى إسرائيل اذكروا نعمة أخرى أنعمت بها على أسلافكم ، وأنتم عالمون بها ، وذلك حين أنجيناكم من عذاب فرعون ورهطه ، يولونكم أقبح العذاب وأشنعه ، كانوا يستعبدون رجالكم ونساءكم فى مشاق الخدمة والمهنة ، ولمّا أخبره الكهان أنه سيخرج منكم ولد يخرّب ملكه ، جعل يذبح ذكوركم ويترك نساءكم ، وفى ذلكم محنة مِنْ رَبِّكُمْ وابتلاء عَظِيمٌ ، أو فى ذلك الإنجاء اختبار من ربكم عظيم ، فاذكروا هذه النعمة ، وتحصنوا بالإيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلّم من محنة أخرى ، ولا ينفع حذر من قدر ، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً.
وباللّه التوفيق.
الإشارة : لكل زمان فراعين وجبابرة يقطعون الناس عن الانقطاع إلى اللّه والدخول إلى حضرة اللّه ، (ضل سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) ، يقول الحق جل جلاله للذين تخلصوا منهم : اذكروا نعمتى التي أنعمت عليكم بها حيث أنجيتكم من فراعين زمنكم ، يسومونكم سوء العذاب وهو البقاء فى غم الحجاب ، والانقطاع عن الأحباب ، يقتلون ما ربيتم من اليقين فى قلوبكم والمعرفة فى أسراركم ، ويستحيون(1/104)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 105
شهواتكم وحظوظكم ، (و فى ذلكم بلاء من ربكم عظيم). قال تعالى : وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ .... وباللّه التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
[سورة البقرة (2) : آية 50]
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
ثم ذكّرهم الحق تعالى نعمة أخرى وهى فلق البحر وإغراق العدو ، فقال :
يقول الحق جل جلاله : واذكروا أيضا حين فَرَقْنا بسببكم الْبَحْرَ ، حين فررتم من عدوكم ، فسلكتم فيه اثنى عشر مسلكا يابسا ، حتى خلصتم إلى الشام ، فلما أدرككم عدوّكم ، واستتمّ دخوله فيه ، أطبقنا عليهم البحر فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وأنتم تعاينون غرقهم وهلاكهم ، فاشكروا هذه النعم التي أنعمت بها على أسلافكم ، واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم على نبى أمي ، لم يكن له علم بهذا ، حتى علمه بالوحى من ربكم.
الإشارة : قال بعض الحكماء : (الهوى بحر لا ساحل له إلا الموت). فلا يقطع بحر الحظوظ والعوائد ، إلا الخواص ، الذين منّ اللّه عليهم بسلوك الطريقة ، والغرق فى بحر الحقيقة ، على يد رجال جمعوا بين الشريعة والحقيقة ، فيقول الحق - جل جلاله - لمن تخلّص من بحر هواه ، وأفضى إلى مشاهدة مولاه : اذكروا نعمتى التي أنعمت عليكم حيث خلصتكم من بحر الشهوات والعوائد ، وأطلعتكم على أسرار العلوم وذخائر الفوائد ، وأغرقنا فيه من تكبر وطغى ، وأنت تنظرون ما فيه الناس من غم الحجاب وسوء الحساب ، فى بحر لجى يغشاه موج الذنوب ، من فوقه موج الحظوظ ، من فوقه سحاب الأثر ، إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل اللّه له نورا فما له من نور. وباللّه التوفيق.
ثم ذكّرهم نعمة التوراة التي أنزلها على موسى ، وفى ضمنه التوبيخ على عبادة العجل ، فقال جل جلاله :
[سورة البقرة (2) : الآيات 51 الى 53]
وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
قلت : (أربعين) : مفعول لواعدنا ، لا ظرف ، و(العجل) : مفعول أول ، والثاني محذوف ، أي : اتخذتموه إلها ، و(الفرقان) : معطوف على (الكتاب).(1/105)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 106
يقول الحق جل جلاله : واذكروا أيضا حين واعَدْنا مُوسى أن يصوم أَرْبَعِينَ لَيْلَةً بأيامها متواصلة ، وذلك حين طلبتم منه أن ينزل عليه الكتاب فيه بيان الأحكام ، ثم لما صامها ، وهى : ذو القعدة وعشر ذى الحجة ، وأتى إلى المناجاة ، كفرتم ، واتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ الذي صاغه السامري من الحلىّ ، الذي أخذته نساء بنى إسرائيل من القبط عارية ، ففروا به ظنا منهم أنه حلال ، فقال لهم هارون عليه السّلام : لا يحل لكم ، فطرحوه فى حفرة ، فصاغ منه السامري صورة العجل ، وألقى فى جوفه قبضة أخذها من تحت حافر فرس جبريل عليه السّلام حين عبر معهم البحر ، فجعل يخور ، فقال السامري : هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى ، وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ فى عبادته ، ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ بالتوبة وقتل النفس على ما يأتى ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ، فلا تعصون بنعمة ، وَاذكروا أيضا إِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ الذي طلبتم ، وهو التوراة ، وهو الْفُرْقانَ الذي فرقنا فيه بين الحق والباطل ، كى تهتدوا إلى الصواب فتنجوا من العذاب.
الإشارة : ما زالت الأشياخ والأولياء الأقدمون ينتحلون طريق سيدنا موسى عليه السّلام فى استعمال هذه الأربعين ، ينفردون فيها إلى مولاهم ، مؤانسة ومناجاة ، وفى ذلك يقول ابن الفارض رضى اللّه عنه :
وصرت موسى زمانى مذ صار بعضى كلّى
وقال :
صارت جبالى دكّا من هيبة المتجلّي
فيفارقون عشائرهم وأصحابهم فى مناجاة الحبيب ، والمؤانسة بالقريب ، فمن أصحابهم من يبقى على عهده فى حال غيبة شيخه ، من المجاهدة والمشاهدة ، ومنهم من تسرقه العاجلة فيرجع إلى عبادة عجل حظه وهواه فيظلم نفسه بمتابعة دنياه ، فإن بادر بالتوبة والإقلاع ، ورجع إلى حضرة شيخه بالاستماع والاتباع ، وقع عنه العفو والغفران ، ورجا ما كان يؤمله من المشاهدة والعيان ، وإلا باء بالعقوبة والخسران ، وكل من اعتزل عن الأحباب والعشائر والأصحاب ، طالبا جمع قلبه ، ورضى ربه ، فلا بد أن ترد عليه أسرار ربانية ومواهب لدنية ، من لدن حكيم عليم ، يظهر بها الحق ، ويدفع بها الباطل ، فيفرق بين الحق والباطل. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر الحق تعالى كيفية توبة من عبد العجل منهم ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 54]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
قلت : البارئ هو : المقدر للأشياء والمظهر لها.(1/106)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 107
يقول الحق جل جلاله : واذكروا يا بنى إسرائيل حين قالَ موسى لِقَوْمِهِ لما رجع من الطور ، ووجدهم قد عبدوا العجل : يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وبخستموها بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ إلاهكم ، فَتُوبُوا إِلى خالقكم الذي صوركم فى أحسن تقويم ، فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بهدم هذه البنية التي ركبتها فى أحسن صورة ، فبخستموها ، ولم تعرفوا قدرها ، فعبدتم أبلد الحيوان ، الذي هو البقرة. من لم يعرف حق النعمة فحقيق أن تسترد منه.
فذلكم القتل والمبادرة إلى التوبة خَيْرٌ لَكُمْ عند خالقكم ، لأنه يفضى إلى الحياة الدائمة والبهجة السرمدية ، فلما صعب عليكم القتل للشفقة على الأخ أو القريب ، ألقينا عليكم ضبابة حتى أظلم المكان ، فاقتتلتم من الغداة إلى العشى ، فدعا موسى وهارون - عليهما السلام - بالكشف عنهم ، فرفعت السحابة ، وقد قتل سبعون ألفا ، ففعلتم ذلك القتل ، فتاب الحق تعالى عليكم ، فقبل توبة من بقي منكم ، وعفا عمن مات إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ أي : كثير التوفيق للتوبة ، أو كثير قبولها ، الرحيم بعباده المؤمنين.
الإشارة : ما قاله سيدنا موسى عليه السّلام لقومه ، يقال مثله لمن عبد هواه ، وعكف على متابعة دنياه : يا من بخس نفسه بإرخاء العنان فى متابعة هواها ، حتى حرمها من مشاهدة جمال مولاها ، تب إلى ربك ، وانتبه من غفلتك ، واقتل نفسك بمخالفة هواها ، فلعلها تحيا بمشاهدة مولاها ، فما دامت النفس موجودة ، وحظوظها لديها مشهودة ، وآمالها ممدودة ، كيف تطمع أن تدخل حضرة اللّه ، وتتمتع بشهود جماله وسناه؟!
إن ترد وصلنا فموتك شرط لا ينال الوصال من فيه فضله «1»
وقال الحلاج فى هذا المعنى :
لم أسلم النفس للأسقام تتلفها إلّا لعلمى بأنّ الوصل يحييها
وقال أيضا :
اقتلوني يا ثقاتى إنّ فى قتلى حياتى
وحياتى فى مماتى ومماتى فى حياتى
أنا عندى : محو ذاتى من أجلّ المكرمات
وبقائى فى صفاتى من قبيح السيّئات
___________
(1) البيت للششترى.(1/107)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 108
وقال أيضا :
إن كان سفك دمى أقصى مرادكم فما غلت نظرة منكم بسفك دمى
وقال الشيخ أبو العباس المرسى رضى اللّه عنه : (لا يدخل على الله إلا من بابين ، أحدهما : الموت الحسى ، وهو الموت الطبيعي ، والآخر : الموت الذي تعنيه هذه الطائفة). ه. وهو موت النفوس ، فمن لم تمت نفسه لم تحيى روحه.
وقال بعض العارفين : (لا يحصل الدخول على الله حتى يموت أربع موتات : موت أحمر ، وموت أسود ، وموت أبيض ، وموت أخضر. أما الموت الأحمر فهو مخالفة الهوى ، وأما الموت الأسود فهو تحمل الأذى ، وأما الموت الأبيض فهو الجوع - أي : المتوسط - وأما الموت الأخضر فهو لبس المرقعات ، وطرح الرقاع بعضها على بعض).
قلت : ورأس الهوى وعنصره هو حب الجاه وطلب الرئاسة. فمن نزل إلى أرض الخمول ، وخرق عوائد نفسه فيه ، انخرقت له الحجب ، ولاحت له الأنوار ، وأشرقت عليه الأسرار فى مدة قريبة ، وباللّه التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم وبخهم الحق تعالى على طلب الرؤية قبل إبانها ، وقبل تحصيل شروطها ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 55 الى 56]
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)
قلت : (جهرة) : مصدر نرى لأنه نوع منه ، أي : نرى الله رؤية عيان ، أو حال من الفاعل أي : نراه معاينين له ، أو من المفعول أي : نراه معاينة.
يقول الحق جل جلاله : واذكروا أيضا ، يا بنى إسرائيل ، حين قلتم لموسى عليه السّلام لما رجع من الطور ، ووجدكم قد عبدتم العجل ، فأخذ منكم سبعين رجلا ممن لم يعبد العجل ، وذهب يعتذر ، فلما سمعتم كلامى أنكرتموه وحرفتموه ، وقلتم : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ أن هذا كلام اللّه حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ بسبب طلبكم ما لا طاقة لكم به ، فغبتم عن إحساسكم ، وذهبت أرواحكم ، وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ما فعل بكم ، فاستشفع فيكم موسى عليه السّلام وقال : يا رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا ، كيف أرجع إلى قومى بغير هؤلاء؟ ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ ، وعشتم زمانا بعد ذلك لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ هذه النعمة ، وتقومون بحسن الخدمة ، فتقروا بربوبيتي ، وتصدقوا برسلى ، فلم تفعلوا.(1/108)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 109
الإشارة : من شأن الأرواح الطيبة التشوق الى الحضرة ، والتشوف إلى العيان والنظرة ، فلا يحصل لها كمال التصديق والإيقان إلا بعد الشهود والعيان ، فلما علم الحق سبحانه من بعض الأرواح صدق الطلب ، رفع عنها الحجاب ، وفتح لها الباب ، فأخذتها صاعقة الدهشة والحيرة ، ولم تطق صدمة المشاهدة والنظرة ، فغابت عن الأشكال والرسوم فى مشاهدة أنوار الحي القيوم ، ثم منّ عليها بالبعث من موت الفناء إلى حياة البقاء ، فأمنت من الشقاء ، فحصلت لها الحياة الدائمة والسعادة السرمدية. فالصاعقة عند أهل الفن هى عبارة عن الغيبة عن النفس ، وفناء دائرة الحس ، وهى شهود عدمك لوجود الحق ، والبعث منها هو مقام البقاء ، وهو شهود الأثر باللّه. وهو مقام حق اليقين. وحاصله : شهود وجود الحق وحده ، لا عدمك ولا وجودك ، «كان الله ولا شىء معه ، وهو الآن على ما عليه كان». وبالله التوفيق.
ثم ذكّرهم الحق لطفه بهم فى حال التيه ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 57]
وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
قلت : (الغمام) : السحاب الرقيق ، و(المنّ) هنا : العسل ، و(و السّلوى) قيل : اللحم ، والأصح : أنه اسم طائر كالسمانى.
يقول الحق جل جلاله فى تذكير بنى إسرائيل ما أنعم به عليهم فى حال التيه : وَقد ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ يقيكم من الحر فى أيام التيه ، وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وهو عسل كان ينزل على الشجر من الفجر إلى الطلوع ، فيغرفون منه ما شاءوا ، وَأنزلنا عليكم السَّلْوى ، وهو طير كانت تحشره الجنوب ، فينزل عليهم ، فيأخذون منه ما شاءوا ، ولا يمتنع منهم ، فيذبحون ويأكلون لحما طريا ، فقلنا لهم : كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا بمخالفتهم أمر نبيهم وسوء أدبهم معه ، حيث قالوا : فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ، فعاقبهم بالتيه أربعين سنة ، يتيهون فى مقدار خمسة فراسخ أو ستة. وَلكِنْ ظلموا أنفسهم حيث أوقعوها فى البلاء والمحنة.
روى أنهم لما أمروا بجهاد الجبارين ، جبنوا وقالوا تلك المقالة ، فدعا عليهم سيدنا موسى عليه السّلام فوقعوا فى التيه بين مصر والشام ، فكانوا يمشون النهار فيبيتون حيث أصبحوا ، ويمشون الليل فيصبحون حيث أمسوا ، فقالوا(1/109)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 110
لموسى عليه السّلام : من لنا بالطعام؟ فأنزل الله عليهم المن والسلوى ، قالوا : كيف بحر الشمس؟ فظلل عليهم الغمام ، قالوا :
بم نستصبح بالليل؟ فضرب لهم عمود نور فى وسط محلتهم ، قالوا : من لنا بالماء؟ فأمر موسى عليه السّلام بضرب الحجر ، فقالوا : من لنا باللباس؟ فأعطوا ألا يبلى لهم ثوب ، ولا يخلق ، ولا يدرن ، وأن ينمو بنمو صاحبه ، وقيل :
كساهم مثل الظفر ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
الإشارة : لما انفصلت الأرواح من عالم الجبروت ، كانت على الطهارة الأصلية ، والنزاهة الأزلية ، عالمة بأسرار الربوبية وعظمة الألوهية ، لكن لم يكن لها إلا جنة الحرية ، دون جنة العبودية ، فلما أراد الحق تعالى أن يمتعها بجنتين عن يمين وشمال ، أمرها بالنزول إلى أرض العبودية ، فى ظلل من غمام البشرية ، فمن عليها بحلاوة المشاهدات وسلوان المناجاة ، وقال لها : كلوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ من طرائف العلوم ، وفواكه الفهوم ، هذا لمن اعتنى بروحه فاستكمل فضيلتها ، وخالف هواها ، فنفذت من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح ، فلم تنحجب بسحب الآثار إلى نفوذ شهود الأنوار ، بل غابت عن شهود الآثار بشهود الأنوار. أما من حجبت عن شهود الأنوار بالوقوف مع الآثار ، ووقعت فى شبكة الحظوظ والشهوات ، وربطت بعقال الأسباب والعادات ، فقد ظلمت نفسها ، وبخست حقها من مشاهدة مولاها ، حتى اتسعت عليها دائرة الحس ، ولم تنفذ إلى المشاهدة والأنس. وأنشدوا :
كمّل حقيقتك التي لم تكمل والجسم ضعه فى الحضيض الأسفل
أتكمّل الفاني وتترك باقيا هملا ، وأنت بأمره لم تحفل
فالجسم للنفس النفيسة آلة ما لم تحصّله بها لم يحصل
يفنى ، وتبقى دائما فى غبطة أو شقوة وندامة لا تنجلى
أعطيت جسمك خادما فخذمته أتملّك المفضول رقّ الأفضل؟
شرك كثيف أنت فى أحباله مادام يمكنك الخلاص فعجّل
من يستطيع بلوغ أعلى منزل ما باله يرضى بأدنى منزل!
ثم وبخهم على ما وقع منهم من المخالفة ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 58 الى 59]
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59)(1/110)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 111
قلت : (حطة) : خبر مبتدأ مضمر ، أي : أمرنا حطة ، أي : تواضع وانحطاط ، وقال هنا : (فكلوا) ، وفى الأعراف بالواو لأن الأكل مرتب على الدخول ، بخلاف السكنى ، فإنها تفارق الأكل ، فكأنه مأمور به.
يقول الحق جل جلاله : واذكروا يا بنى إسرائيل حين قلنا لأسلافكم بعد أن خرجوا من التيه : ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ أعنى بيت المقدس ، أو أريحا ، بعد أن تجاهدوا أهلها ، فَكُلُوا من نعم ما فيها أكلا واسعا لأنها مخصبة ، وَادْخُلُوا باب القرية راكعين ، تواضعا وشكرا ، وَقُولُوا فى دخولكم : شأننا حِطَّةٌ ، أي : شأننا الانحطاط والتواضع لله ، فإن فعلتم ذلك نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ ، وَسَنَزِيدُ من امتثل أمرنا ، وأحسن الأدب معنا ، خيرا كثيرا ، فى الدنيا والآخرة ، فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا منهم قولا غير الّذي أمروا به ، وقالوا مكان حطة : حنطة ، حبة فى شعرة ، فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً عذابا مِنَ السَّماءِ قيل : هو الطاعون ، فمات منهم سبعون ألفا فى يوم واحد ، بسبب فسقهم وتعديهم الحدود.
الإشارة : يقول الحق سبحانه للأرواح ، لما كمل تطهيرها من البقايا ، وتكاملت فيها المزايا : ادخلوا هذه الحضرة المقدسة ، وتنعموا فيها حيث شئتم بالمشاهدة ، والمكالمة ، والمواجهة ، والمساورة ، والمفاتحة ، والمناجاة ، وادخلوا بابها أذلاء صاغرين ، فلا دخول للحضرة المقدسة إلا من باب الذل والافتقار ، وأنشدوا :
وما رمت الدخول عليه حتّى حللت محلة العبد الذليل
وأغمضت الجفون على قذاها وصنت النفس عن قال وقيل «1»
وقيل لأبى يزيد : يا أبا يزيد ، خزائننا معمورة بالخدمة ، ائتني من كوة الذل والافتقار. وفى رواية قيل له : يا أبا يزيد : تقرب إلينا بما ليس عندنا ، فقال : يا رب وما الذي ليس عندك؟ فقال : الذل والافتقار. ه. وقال شيخ المشايخ القطب الجيلاني رضى اللّه عنه (أتيت الأبواب كلها ، فوجدت عليها الزحام ، فأتيت من باب الذل والافتقار ، فوجدته خاليا ، فدخلت منه ، وقلت : هلموا). أو كما قال. وقال الشاعر :
تذلل لمن تهوى فليس الهوى سهل «2» إذا رضى المحبوب صح لك الوصل
وقولوا عند دخولكم الحضرة : شأننا حطة أي : شأننا السفليات دون العلويات ، فالسلوك من باب السفليات واجب ، وإلا فلا وصول ، فكل من سلك من باب السفليات طهر من البقايا ، وتكاملت فيه المزايا ، فيصلح لدخول الحضرة ،
___________
(1) الأبيات للسرى السقطي ، كما فى زاد المسير لابن الجوزي.
(2) راجع التعليق على هذا الشطر ص 102.(1/111)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 112
وينخرط فى سلك أهل الشهود والنظرة ، فيكون من المحسنين المقربين ، فلا جرم أن الله يزيده ترقيا فى العلوم والأسرار ، فى هذه الدار ، وفى تلك الدار ، بخلاف من خالف ما أمر به من سلوك طريق السفليات ، وتعاطى الأمور العلويات ، قبل كمال التربية فإنه يرجع إلى غم الحجاب ، وسوء الحساب بسبب خروجه عن طريق الأحباب ، وسلوكه طريق أهل الغفلة والارتياب. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم ذكّرهم بنعمة الماء الذي سقاهم فى التيه ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 60]
وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
قلت : اسْتَسْقى : طلب السقي ، و«ال» فى الْحَجَرَ للعهد ، وهو الحجر الذي فرّ بثوبه ، أو حجر خفيف مربع مثل رأس الرجل ، أمر أن يحمله معه ، فكان يضعه فى مخلاته ، فإذا احتاج الماء ضربه ، قيل : كان من رخام ، وقيل : كان كذّان «1» ، كان فيه اثنتا عشرة حفرة ، تنبع من كل حفرة عين ماء عذب ، على عدد الأسباط ، فإذا أراد حمله ضربه فجف الماء منه ، وقيل : للجنس ، فكان يضرب أىّ حجر وجد ، فتنفجر منه عيونا ، ثم تسير كل عين فى جدول إلى سبط ، فقالوا : إن أفضينا إلى أرض لا حجارة فيها عطشنا ، فأوحى إليه : أن كلّمه يطعك لعلهم يعتبرون.
وفَانْفَجَرَتْ : معطوف على محذوف أي : فضرب فانفجرت ، والعثو : أشد الفساد ، عثا يعثو عثوا ، وعثى يعثى عثيا ، وعاث يعيث عيثا ، ومُفْسِدِينَ : حال مؤكدة لعاملها ، أو مقيدة ، إن قلنا : إن العثو أعم من الفساد ، لصدقه على القصاص ، فإنه عثو غير فساد. انظر البيضاوي.
يقول الحق جل جلاله : واذكروا يا بنى إسرائيل حين عطشتم فى التيه ، فطلبتم من موسى السقي ، فاستسقى لكم ، فَقُلْنَا له : اضْرِبْ بِعَصاكَ التي أخذتها من شعيب عليه السّلام ، وكانت من آس الجنة ، وورثت عن آدم عليه السّلام ، فيها عشرة أذرع ، فضرب فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً على عدد أسباطكم ، فكل عين تجرى إلى سبط قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ معينا ، لا يعدو أحد على أحد ، فقلنا لهم : كُلُوا من المن والسلوى ، وَاشْرَبُوا من الماء الذي رزقناكم ، ولا تطغوا بالنعم فتفسدوا فى الأرض بالمعاصي والذنوب ، فيكون ذلك كفرا مستوجبا للسلب بعد العطاء ، روى أنهم كانوا ستمائة ألف ، وسعة المعسكر اثنا عشر ميلا. والله تعالى أعلم.
___________
(1) الكذّان : جمع كذانة ، وهى حجارة فيها رخاوة ، وربما كانت نخرة. قلت : لا يبنى على تعيين هذا الحجر أمر دينى. والأسلم تفويض علمه إلى اللّه تعالى.(1/112)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 113
الإشارة : اعلم أن الأرواح إذا تطهرت من الأكدار ، وتحررت من الأغيار ، وأشرقت عليها الأنوار والأسرار ، وكمل تطهيرها ، وتمت تصفيتها ، كان صاحبها آية من آيات الله ، وحجة من حجج الله ، إذا ضرب بعصا همته القلوب القاسية أو الأنفس الأبية ، لانت وانفجرت بالعلوم القدسية ، كل واحد بما يليق به ، فمنها من تنبع بالعلوم الوهبية ، ومنها من تنبع بالعلوم الرسمية ، ومنها من تنبع بالكرامات وخوارق العادات ، ومنها من تنبع منها المكاشفات والاطلاعات ، قد علم كل أناس مشربهم ، على حسب ما سبق لهم ، فيقول الحق تعالى لهم : كلوا من ثمرات ما اجتنيتم من العلوم والمعارف التي أوليناكم ، واشربوا من مناهل المنازل التي فيها أقمناكم ، أو كلوا من ثمرات المعرفة ما تتقوى به معانيكم ، واشربوا من خمر الحبيب ما تغيبوا به عن وجودكم ، ولا تتعدوا أطواركم من القيام بوظائف العبودية ، ومعرفة عظمة الربوبية ، فتكونوا لسلب ما أولاكم متعرضين ، ولعقوبته مستحقين ، عائذا بالله من السلب بعد العطاء. آمين.
ولما سئموا من المن والسلوى ، استبدلوا غيرهما ، كما أشار إلى ذلك الحق تعالى ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 61]
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61)
قلت : المراد بالطعام الواحد : هو المن والسلوى. ووحّده لأنه لا يختلف ولا يتبدل ، كقولهم : طعام مائدة الأمير واحد ، والبقل : جميع الخضر ، كالنجم والكرنب والكراث وغير ذلك. والقثاء : جمع قثاءة ، وهى الخيار والفقوس والبطيخ وغير ذلك من الفواكه التي تستنبت ، والفوم قيل : الحنطة ، والأصح أنه الثوم. قال الشاعر :
وأنتم أناس لئام الأصول طعامكم الفوم والحوقل
أراد : الثوم والبصل. والعرب تعاقب بين الفاء والثاء فتقول : معافير ومعاثير ، وتقول للقبر : جدث وجدف.
والعدس : معلوم ، روى على - كرم الله وجهه - عن النبي صلى اللّه عليه وسلّم أنه قال : «عليكم بالعدس ، فإنه مبارك مقدس ، وإنه يرقق القلب ، ويكثر الدمعة ، وإنه بارك فيه سبعون نبيا ، آخرهم عيسى بن مريم» «1».
___________
(1) الحديث ذكره ابن الجوزي فى الموضوعات.(1/113)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 114
يقول الحق جل جلاله : واذكروا أيضا حين قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ حين مللتم من العسل واللحم ، وملتم إلى عكركم السوء ، أي : مألوفكم وشهواتكم السيئة ، لأنهم كانوا فلاحين ، فقلتم : فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ ، أي : من جنس ما ينبت اللّه فيها من البقل والقثاء والعدس والفوم والبصل ، قال موسى عليه السّلام : أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى وأخس من الثوم والبصل وغيرهما ، بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ من اللحم والعسل ، اهْبِطُوا إلى مصر من الأمصار ، تجدوا ما تشتهون ، إذ لا يوجد ذلك إلا فى القرى والأمصار ، أو اهْبِطُوا مِصْراً التي كنتم فيها أذلاء مستعبدين ، تجدوا حظوظكم وشهواتكم لأن الحظوظ والشهوات منوطة بالذل والهوان ، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ، أي : ألزموها لزوم الدرهم المضروب لضربه ونقشه ، فالذلة : ضرب الجزية ، والمسكنة : فقر النفس وإن كان موسرا.
وإنما ضربت عليهم الذلة والمسكنة لأنهم لم يرضوا بتدبير الحق ، ولم يقنعوا برزقه ، فكل من لم يقنع بقسمته وسلم من اتحاد رزقه ، خيف عليه من ضرب الذل والمسكنة ، وانقلبوا أيضا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ حيث نقضوا العهود ، وتعدوا الحدود ، فكفروا وطغوا وقتلوا الأنبياء بغير حق ، وسبب ذلك : تمردهم فى العصيان ، فإن المعاصي تجر بعضها إلى البعض حتى تنتهى إلى الكفر ، والعياذ باللّه من سخطه وغضبه.
الإشارة : كل من لم يقنع بالقسمة الأزلية ، ولم يقم حيث أقامته القدرة الإلهية ، بل جنح إلى حظوظه وهواه ، وحرص على تحصيل أغراضه ومناه ، قيل له : أتستبدل تدبيرك - الذي هو أدنى - بتدبير الحق - الذي هو خير - ؟
أتترك تدبير الحكيم العليم ، الرؤوف الرحيم ، إلى تدبير عقلك الضعيف الجاهل الخسيس اللئيم؟! فعسى أن تدبر شيئا يكون لك فإذا هو عليك. وعسى أن تأتيك المسار من حيث تعتقد المضار ، وتأتيك المضار من حيث ترتجى المسار.
ولله در القائل :
وكم رمت أمرا خرت لى فى انصرافه ، فلا زلت لى منى أبرّ وأرحما
عزمت على ألّا أحسّ بخاطر على القلب إلّا كنت أنت المقدّما
وألا ترانى عند ما قد نهيتنى لكونك «1» فى قلبى كبيرا معظّما
___________
(1) فى المخطوطات الثلاث (لأنك).(1/114)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 115
يا من لم يقنع بتدبير مولاه ، ومال إلى نيل حظه وهواه ، أهبط إلى أرض الحظوظ والشهوات تجد فيها ما ألفته نفسك من عوائدك السيئات. يا من أخلدت نفسه إلى الهوى ومتابعة الشيطان ، كيف تستبدل العز الدائم بالذل والهوان؟! وأنشدوا :
لا تتبع النفس فى هواها إنّ اتّباع الهوى هوان «1»
قال فى التنوير : (فائدة) اعلم أن بنى إسرائيل لما دخلوا التيه ، ورزقوا المن والسلوى ، واختار اللّه لهم ذلك رزقا ، رزقهم إياه ، يبرز من عين المنة ، من غير تعب منهم ولا نصب ، فرجعت نفوسهم الكثيفة لوجود ، العادة ، والغيبة عن شهود تدبير اللّه ، إلى طلب ما كانوا يعتادونه ، فقالوا : فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ الآية. قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ. اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ. وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ، وذلك لأنهم تركوا ما اختار اللّه لهم ، مائلين لما اختاروا لأنفسهم. فقيل لهم عن طريق التوبيخ : أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ؟ فظاهر التفسير : أتستبدلون الفوم والعدس والبصل بالمن والسلوى؟ وليس النوعان سواء فى اللذة ولا فى سقوط المشقة وسر الاعتبار ، أتستبدلون مرادكم لأنفسكم بمراد اللّه تعالى لكم؟ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى وهو ما أردتموه ، بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ، وهو ما أراده اللّه لكم؟ اهْبِطُوا مِصْراً فإن ما اشتهيتموه لا يليق إلا أن يكون فى الأمصار ، وفى سر الخطاب : اهبطوا عن سماء التفويض وحسن التدبير منا لكم ، إلى أرض التدبير والاختيار منكم لأنفسكم ، موصوفين بالذل والمسكنة لاختياركم مع اختيار اللّه ، وتدبيركم لأنفسكم مع تدبير اللّه. ه المراد منه.
ولما ذكّرهم الحق تعالى بالنعمة ، ووبّخهم على ارتكاب الآثام ، رغّبهم فى الإسلام ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 62]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
قلت : (إن) : ناصبة مؤكدة ، وخبرها : جملة (من آمن) أو (فلهم أجرهم). و(من آمن) : بدل من اسمها ، أو محذوف ، والموصول : مبتدأ أي : إن الذين آمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، والذين هادوا كذلك.
و(هادوا) : تهودوا ، أي : دخلوا فى اليهودية. وسموا يهودا إما نسبة لأبيهم الأكبر (يهوذا بن يعقوب) ، أو من هاد ، إذا تاب لأنهم تابوا من عبادة العجل.
___________
(1) البيت للإمام البرعى. [.....](1/115)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 116
والنصارى : جمع نصران ، وسموا بذلك إما لنصرهم المسيح عليه السّلام ، أو لسكناهم معه فى قرية يقال لها :
(نصران) ، والصابئون : طائفة من أهل الكتاب ، خرجوا عن دين اليهودية وعبدوا الكواكب ، يقال : صبا يصبو ، إذا مال وخرج من دين إلى دين.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم والذين آمنوا بموسى ، والذين آمنوا بعيسى - عليهما السلام - ، والذين خرجوا عن دينهم وصبوا ، مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وتبع محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم وعمل بشريعته ، فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إذا قدموا عليه بالنعيم المقيم ، والنظر إلى وجهه الكريم ، وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ حين يخاف الكفار ، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ حين يحزن المفرطون والأشرار إذ لا يلحقهم وبال ولا يفوتهم نوال. وباللّه التوفيق.
الإشارة : إن الذين آمنوا إيمانا لا يختلجه وهم ، ولا يطرق ساحته شك ولا ريب ، إما عن برهان قاطع ، أو عن شهود ساطع ، والذين تابوا عن هواجس الخواطر وغفلات الضمائر ، والذين نصروا الدين ، وشيدوا منار شريعة المسلمين ، والذين صبوا إلى الحبيب ، ومالوا عن كل بعيد وقريب ، فهؤلاء الذين سبقت لهم من اللّه العناية ، وهبت عليهم ريح الهداية ، جمعوا بين تزيين البواطن بأنوار الإيقان ، وتزيين الظواهر بأنواع الطاعة والإذعان ، فلا جرم أنهم ، إذا قدموا على ربهم ، أجلّ منصبهم ، وأجزل ثوابهم ، وأعلى مقامهم ، فأولئك أولياء اللّه الذين لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
فالمخصوصون بالعناية أربعة : قوم أقامهم الحق تعالى لتنمية الإيمان وتربية الإيقان ، إما عن دليل وبرهان - وهم أهل النظر والاعتبار ، - وإما عن شهود وعيان - وهم أهل الشهود والاستبصار - ، وقوم أقامهم الحق تعالى لتصفية نفوسهم وتزكية أحوالهم بالتوبة ، والإقلاع عن كل وصف مذموم ، وهم السائرون والطالبون ، وقوم أقامهم لنصرة الدين وإظهار شريعة المسلمين ، إما بتقرير قواعده أو جهاد معانده ، وهم العلماء والمجاهدون ، وقوم أقامهم لخدمته ، وملأ قلوبهم بهيبته ، وهم العباد والزهاد ، مالوا عن الشهوات وتأنسوا به فى الخلوات ، هجروا الأوطان وفارقوا الأحباب والإخوان ، صبوا إلى محبة الحبيب وتلذذوا بمناجاة القريب ، فهؤلاء المخصوصون بعين العناية ، المحفوظون بغاية الرعاية ، لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس. حققنا اللّه بمقام الجميع بمنّه وكرمه. آمين.
ثم وبّخهم على نقض العهود ، وعدم الوقوف مع الحدود ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 63 الى 66]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)(1/116)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 117
قلت : (لو لا) : حرف امتناع لوجود «1» ، تلزم الدخول على المبتدأ ، وخبرها واجب الحذف عند سيبويه ، أي :
لو لا فضل اللّه عليكم ورحمته موجودان ، وقال الكوفيون : فاعل بمحذوف : أي : لو لا أن ثبت فضل اللّه عليكم ورحمته ، و(لكنتم) : جوابها.
يقول الحق جل جلاله : واذكروا يا بنى إسرائيل حين أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ أن تقبلوا تكاليف التوراة ، وكانت شاقة عليهم ، فلما أبيتم قبولها ، قلعنا الطور ، ورفعناه فوقكم على مقدار عسكركم ، كالظلة ، وقلنا لكم :
خُذُوا ما آتَيْناكُمْ من التوراة بجد واجتهاد ، وَاذْكُرُوا ما فِيهِ من الوعظ والتذكير لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ اللّه ، فتفوزون بالخير الكثير ، فقبلتم ذلك كرها ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ وأعرضتم بعد ذلك ، فسفكتم الدماء ، وقتلتم الأنبياء ، فَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بتوفيقكم للتوبة ، وَرَحْمَتُهُ بقبولها منكم ، لخسرتم الدنيا والآخرة.
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ما جرى للذين اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فى زمن داود عليه السّلام ، وذلك فى قرية يقال لها : «أيلة» ، كانت على شاطىء البحر ، وقد نهوا عن الاصطياد يوم السبت ، فكانت الحيتان تخرج يوم السبت شرّعا ، فتخرج خراطيمها للبر ، فإذا كان يوم الأحد دخلت فى البحر ، فحفروا حياضا ، وشرعوا إليها جداول ، فكانت الحيتان تدخلها يوم السبت فيصطادونها يوم الأحد ، فلمّا لم يعاقبوا على ذلك أحلّوا يوم السبت ، فانقسمت القرية على ثلاث فرق : قوم نهوا ، وقوم سكتوا ، وقوم اصطادوا ، فمسخ من اصطاد قردة وخنازير الشّبان قردة ، والشيوخ خنازير ، فبقوا ثلاثة أيام وماتوا. فجعلنا تلك الفعلة التي فعلنا بهم - نَكالًا وزجرا لِما بَيْنَ يَدَيْها فى زمانها ، وما خلفها من يأتى بعدها ، وَمَوْعِظَةً : وتذكيرا لِلْمُتَّقِينَ من أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم.
الإشارة : اعلم أن المريدين إذا دخلوا فى يد شيخ ، وأخذوا عنه العهد ، حملهم من أعباء التكليف وخرق العوائد ما تموت به نفوسهم ، وتحيا به قلوبهم ، كذبح النفوس وحط الرؤوس ودفع الفلوس ، فإذا هموا بالتقصير ، ظلل عليهم جبل همته ، وأدار عليهم يد حفظه ورعايته ، ولذلك قال الشيخ أبو الحسن : (و اللّه لا يكون الشيخ شيخا حتى تكون يده مع الفقير أينما ذهب). والمراد باليد : الهمة والحفظ ، ولا يزال الشيخ يراسلهم بهذه التكاليف ، ويحضهم على الأخذ بها ، والاجتهاد فى العمل بها ، حتى تموت نفوسهم وتحيا قلوبهم ، وترسخ معرفتهم ، وتكمل تربيتهم ، فحينئذ ينتقلون إلى روح وريحان فى جنات الشهود والعيان.
___________
(1) أي : امتناع شىء لوجود غيره.(1/117)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 118
قلت : وقد كان شيخنا يرسل لنا البطاقات فى حال البدايات ، فما كنت أفتحها حتى ترتعد نفسى مما فيها ، لأنها تعلم أنه ما يرسل لها إلا ما فيه موتها ، فلو لا فضل اللّه علينا ورحمته - حتى قوانا على العمل بما فيها - لكنا من الخاسرين ، ولقد أخطأت العناية قوما ، فتعدوا حدود الشيوخ ، أو خرجوا عن دائرتهم قبل كمال تربيتهم ، فمسخت قلوبهم ، وانمحت من ديوان الولاية رسومهم ، جعل اللّه ذلك عبرة لغيرهم ، وزاجرا لمن حذا حذوهم ، نعوذ باللّه من السلب بعد العطاء ، وكفران النعم وحرمان الرضى ، وباللّه التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم وبّخهم بما فعل أسلافهم من قتل النفس والتشغيب على نبيهم ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 67 الى 71]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71)
قلت : الفارض : المسنة التي لا تلد ، يقال : فرضت البقرة تفرض فروضا ، إذا أسنت. والبكر : الصغيرة التي لم تلد ، العوان : المتوسطة بين المسنة والصغيرة ، والفاقع : الناصع الصفرة ، يقال : أصفر فاقع ، وأسود حالك : أي :
شديد السواد. وأصل شية : وشية ، كعدة ، حذفت فاؤها وعوض عنها التاء ، والوشي : الرقم.
يقول الحق جل جلاله : واذكروا يا بنى إسرائيل حين قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ لما تخاصموا إليه فى قتيل وجد فى قرية ولم يدر قاتله ، وذلك أن رجلا فقيرا من بنى إسرائيل قتل قريبا له كان موسرا ليرثه ، ثم رماه فى قرية أخرى ، ثم ذهب يطلب دمه ، فترافعوا إلى موسى عليه السّلام فقال لهم بوحي : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ، وأبهم الأمر عليهم ، قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً أي : مهزوءا بنا ، حيث نسألك عن بيان القاتل وأنت تأمرنا أن نذبح «1» بقرة ، وهذا من تعنتهم وسوء أدبهم. قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ إذ لا يستهزئ بأمر الدين إلا الجاهل.
___________
(1) فى الأصول : (نذبحوا).(1/118)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 119
فلما رأوا جدّه قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ ، هل هى كبيرة أو صغيرة أو متوسطة؟ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ أي : كبيرة ، وَلا بِكْرٌ أي : ولا صغيرة ، عَوانٌ متوسطة بين ما ذكر من الصغر والكبر ، فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ ، فإن اللّه يبين لكم القاتل ، قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها ، أهي حمراء أو سوداء أو صفراء؟ قالَ إِنَّهُ تعالى يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها ناصع صفرتها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ لسمنها وبهجة لونها ، قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ ، فإن البقر الصفر كثير ، وقد تشابه علينا أمرها؟ قالَ إِنَّهُ تعالى يقول : إنها مسلمة من العمل ليست ذلولا ، أي : مذللة بالعمل لا تُثِيرُ أي : تقلب الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ بالسانية «1». مُسَلَّمَةٌ من العيوب كلها ، لا شِيَةَ فِيها أي : لا رقم فيها يخالف الصفرة.
فلما تبين لهم الأمر قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ الواضح ، فوجدوها عند شاب كان بيد أمه ، قد استودعها له أبوه فى غيضة «2» ، فاشتروها منه بملء جلدها ذهبا ، أو بوزنها ، فَذَبَحُوها ، وضربوا القتيل بجزء منها ، فجلس وعروقه تسيل دما ، وقال : قتلنى ابن عم لى ، ثم رجع ، وَما كادُوا يَفْعَلُونَ لكثرة ترددهم ، أو لفحش غلوها. قال عليه الصلاة والسلام : «لو ذبحوا أدنى بقرة لكفتهم لكن شددوا فشدد اللّه عليهم».
ثم ذكر أول القصة ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 72 الى 73]
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
قلت : حق هذه الآية أن تتقدم قبل قوله : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ ... وإنما أخّرها الحق تعالى ليتوجه العتاب إليهم مرتين على ترك المسارعة لامتثال أمر نبيهم ، وعلى قتل النفس ، ولو قدمها لكانت قصة واحدة بتوبيخ واحد.
يقول الحق جل جلاله : وَاذكروا إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً حرصا على الدنيا فَادَّارَأْتُمْ أي : تدافعتم فى شأنها ، كل قرية تدفع عنها ، وَاللَّهُ تعالى مُخْرِجٌ ومبين ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ من القتل ، ومن قتله ، فَقُلْنا
: اضربوا القتيل أو قبره بِبَعْضِها
قيل : اللسان ، وقيل : القلب ، وقيل : الفخد أو الذنب ، فضربوه فحيى ، وأخبر بقاتله كما تقدم ، كَذلِكَ
أي : كما أحيا هذا القتيل ، يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
من قبورها وَيُرِيكُمْ آياتِهِ
الدالة على قدرته ، لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
فتعلمون أن من قدر على إحياء نفس واحدة يقدر على إحياء الأنفس كلها.
___________
(1) السانية : الساقية.
(2) الموضع الذي يكثر فيه الشجر.(1/119)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 120
واستدلت المالكية بالقصة على التدمية الحمراء «1» ، وهى قبول قول القتيل قبل موته بأن فلانا قتله ، وفيه نظر لأن هذا حيى بعد موته فلا يتطرقه الكذب ، واستدلت أيضا على حرمان القاتل من الإرث ، وفيه نظر لأن هذه شريعة من قبلنا يتطرقها النسخ ، لكن ثبت فى الحديث أنه لا يرث. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : إذا أمر الشيخ المريدين بذبح نفوسهم بخرق عوائدها ، فمن تردد منهم فى فعل ما تموت به نفسه ، كان ذلك دليلا على قلة صدقه وضعف نهايته ، ومن بادر منهم إلى قتلها دلّ ذلك على صدقه وفلاحه ونجح نهايته ، فإذا ماتت النفس بالكلية حييت روحه بالمعرفة والمشاهدة الدائمة ، فلا موت بعدها أبدا ، قال تعالى :
لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى ، وأما الموت الطبيعي فإنما هو انتقال من مقام إلى مقام ، ومن وطن ضيق إلى وطن واسع ، وأنشدوا :
لا تظنّوا الموت موتا إنه لحياة ، وهو غاية المنى
لا ترعكم هجمة الموت فما هو إلا انتقال من هنا
فاخلعوا الأجساد من أنفسكم تبصروا الحقّ عيانا بيّنا
قلت : والسيف الذي يجهز على النفس ويسرع قتلها هو الذل والفقر ، فمن ذل نفسه بين أبناء جنسه ، وخرق عوائد نفسه ، وزهد فى الدنيا ، ماتت نفسه فى طرفة عين ، وحييت روحه ، وظفر بقرّة العين ، وهى معرفة مولاه ، والغيبة عما سواه.
وكمال الوقت فى ذبح النفس أن تكون متوسطة بين الصغر والكبر ، فإن الصغيرة جدا لا يؤمن عليها الرجوع ، والكبيرة جدا قد يصعب عليها النزوع ، كاملة الأوصاف بحسن الزهد والعفاف ، تسر الناظرين لبهجة منظرها وحسن طلعتها ، وكذلك من كان من أهل الشهود والنظرة ، تسحر مشاهدته القلوب ، ويسوقها بسرعة إلى حضرة علام الغيوب ، لما أقيم به من مشاهدته الملكوت ، حتى إن من لا حظه تناسى أحوال البشرية ، واستولت عليه أنوار الروحانية ، وغاب فى ذكر الحبيب عن البعيد والقريب ، كما فى الحديث : «أولياء اللّه من إذا رؤوا ذكر اللّه» وتكون أيضا هذه النفس غير مذللة بطلب الدنيا والحرص عليها ، مسلمة لا عيب فيها ، ولا رقّ لشىء من الأثر عليها ، فحينئذ تصلح للحضرة ، وتتمتع بنعيم الشهود والنظرة ، لم يبق لخصم الفرق معها تدارؤ ولا نزاع ، بل أقر الخصم وارتفع النزاع.
___________
(1) التدمية الحمراء فى القتيل الذي به جرح أو أثر ضرب أو سم ، فإن لم يكن به فهى التدمية البيضاء.(1/120)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 121
ثم وبّخهم على عدم تأثير هذه المعجزة فى قلوبهم ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 74]
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
قلت : القسوة والقساوة : هى الصلابة واليبوسة ، كالشقوة والشقاوة ، يقال حجر قاس ، أي : يابس. قال الشاعر :
ولا أرى أثرا للذّكر فى جسدى والحبل فى الجبل القاسي له أثر
و(أو) للإضراب ، أو بمعنى الواو ، أو للتنويع ، فبعضها كالحجارة وبعضها أشد.
يقول الحق جل جلاله : ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ يا معشر اليهود ، ويبست فلم تلن ولم تخشع ، مع ما رأت من الآيات كانفجار الحجر بالماء فى التيه ، وإنزال المن والسلوى ، وتظليل الغمام ، وإحياء الميت وغير ذلك.
قال الكلبي : (أنكروا بعد ما رأوا ذلك ، وقالوا : ما قتلنا ، فما كانوا قط أعمى قلبا ، ولا أشد تكذيبا منهم لنبيهم عند ذلك) فقلوبهم كالحجارة ، بل أشد ، أو إن شبهتم قلوبهم بالحجارة أصبتم ، وبما هو أشد أصبتم ، بل فى الحجارة فضل عليها فى اللين ، فإن منها ما تتفجر مِنْهُ الْأَنْهارُ الكبار ، ومنها ما تشقق فَيَخْرُجُ مِنْهُ العيون الجارية ، ومنها ما تهبط من رأس الجبل مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. وفى بعض الأخبار : «كل حجر تردّى من رأس جبل فهو من خشية اللّه» ، وقلوبكم يا معشر اليهود لا تلين ولا تخشع ولا تأتى بخير. نسأل اللّه السلامة بمنّه وكرمه.
الإشارة : كل من أساء الأدب مع أستاذه ، أو خرج عن دائرته إلى غيره ، قسا قلبه ، وذهب حاله ولبه ، فإن رجع قريبا واستدرك ما فات ، لان قلبه ونهض حاله ، وإلا وقع فى مهاوى القطيعة ، ولم يأت منه شىء. وللقلب القاسي علامات : منها جمود العين ، وطول الأمل ، وعدم الحزن على ما فاته من الطاعات وما صدر منه من السيئات ، وعدم الفرح بما يصدر منه من الطاعات ، فإن المؤمن تسره حسناته وتسيئه سيئاته ، ودواؤه : صحبة الفقراء الذاكرين الخاشعين ، والجلوس بين يدى العارفين الكاملين ، وتعاهد الصيام ، والصلاة بالليل والناس نيام ، والتضرع إلى الحي القيوم الذي لا ينام ، وللشافعى رضي اللّه عنه :
ولما قسا قلبى وضاقت مذاهبى جعلت الرّجا منّى لعفوك سلّما
تعاظمنى ذنبى فلمّا قرنته بعفوك ربّى كان عفوك أعظما(1/121)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 122
قوله تعالى : وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ كذلك القلوب القاسية إذا لانت بالإنابة إلى ربها ، والرجوع عن مألوفاتها ، تتفجر منها أنهار العلوم ، وتشقق منها أسرار الحكم ، ومنها من تذوب من هيبة المتجلى لها ، فتندك جبالها ، وتزلزل أرض نفوسها ، كما قال القائل :
لو عاينت عيناك يوم تزلزلت أرض النفوس ودكّت الأجبال
لرأيت شمس الحقّ يسطع نورها حين التزلزل ، والرجال رجال
واللّه تعالى أعلم.
ثم آيس المؤمنين من الطمع فى إيمان من كان هذا وصفه فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 75 الى 77]
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77)
قلت : ضمن الإيمان معنى الإذعان والإقرار ولذلك عداه باللام ، وجملة (قد كان) حال من فاعل الإيمان ، و(إذا لقوا) عطف على (كان) ، والتقدير : أفتطمعون فى إيمانهم والحالة أن من سلف منهم كانوا يحرفون كلام اللّه ، ومن حضر منهم الآن ينافقونكم فى دين اللّه ، فلا مطمع فى إيمان من هذا وصفه.
يقول الحق جلا جلاله : أَفَتَطْمَعُونَ يا معشر المسلمين أن يذعن لكم أهل الكتاب ويصدقوكم وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ ، وهم السبعون الذين ذهبوا مع موسى للاعتذار ، يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ حين كلمهم وكلفهم بمشاق التوراة ، فحرفوا وقالوا : قال افعلوا ما استطعتم ، فإذا لم يحصل لهم الإيمان مع سماع الكلام بلا واسطة ، فكيف يؤمن لكم هؤلاء ، وهم إنما يسمعونه بواسطة الرسالة؟ أو يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ فى التوراة ثم يحرفونه ، محوا أو تأويلا ، كصفة سيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وآية الرجم وغير ذلك ، مِنْ بَعْدِ ما فهموه وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنه كلام اللّه ، أو وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنهم محرفون ومغيرون لكلام اللّه.(1/122)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 123
وكيف تطمعون أيضا فى إيمانهم وهم منافقون؟ إِذا لَقُوا المؤمنين قالُوا آمَنَّا ، وصفة نبيكم مذكورة فى كتابنا ، وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ لامهم من لم ينافق ، وقالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ من علم التوراة فتطلعونهم عليه لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ أي : يغلبوكم بالحجة عِنْدَ رَبِّكُمْ فى الدنيا والآخرة ، فيقولون : كنتم عالمين بنبوة نبينا فجحدتم وعاندتم ، أَفَلا تَعْقِلُونَ حتى تطلعوهم على ما فتح اللّه به عليكم. أو يقول الحق تعالى : أَفَلا تَعْقِلُونَ يا معشر المسلمين فتطمعون فى إيمانهم بعد هذه الخصال التي فيهم ، قال الحق جل جلاله :
أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ لا يخفى عليه شىء ، بل يَعْلَمُ ما يسرونه وما يعلنونه ، فيجازيهم على ما أخفوا وما أعلنوا.
الإشارة : من سبقت له المشيئة بالخذلان ، وحكم عليه القدر والقضاء بالحرمان ، يرجع إلى الدليل والبرهان ، بعد الاستشراف على الشهود والعيان ، فيرجع إلى مشاهدة الآثار والرسوم ، وينسى ما كان يعهده من دقائق العلوم ، سبب ذلك كلّه : الإخلال بالأدب مع المشايخ والأصحاب ، أو مفارقة الإخوان ، وعدم مواصلة أهل العرفان ، وضم إلى ذلك الإنكار على أولياء اللّه ، وتحريف ما سمعه منهم من مواهب اللّه ، فلا مطمع فى رجوعه وإيابه ، وقد بعد من الفتح وأسبابه ، لا سيما إذا اتصف بالنفاق ، إذا لقى أهل النسبة أظهر الوفاق ، وإذا خلا إلى العامة أظهر الشقاق ، فمثل هذا لا يرجى له فلاح ، ولا يسعد بصلاح ونجاح. نعوذ باللّه من ذلك.
ولمّا ذكر الحق تعالى رؤساء اليهود أتبعهم بذكر أتباعهم ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 78]
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78)
قلت : أمانى : جمع أمنية ، وهى فى الأصل : ما يقدرّه الإنسان فى نفسه من منى إذا قدّر ، ولذلك تطلق على الكذب ، وعلى ما يتمنى وما يقرأ «1» ، قاله البيضاوي. والاستثناء منقطع ، أي : لكن أكاذيب ، ويقال : تمنى الرجل ، إذا كذب واختلق الحديث ، ومنه قول عثمان رضى اللّه عنه : (و اللّه ما تمنّيت ولا تغنّيت منذ أسلمت).
يقول الحق جل جلاله : وَمِنْهُمْ أي : من اليهود عوام أُمِّيُّونَ لا يقرءون الكتاب ولا يفهمونه ، لكن يسمعون من أحبارهم أَمانِيَّ كاذبة ، وأشياء يظنونها من الكتاب ، ولا علم لهم بصحتها ، كتغيير صفته صلّى اللّه عليه وسلّم
___________
(1) لأن القارئ يتصور ويقدر أن كلمة كذا بعد كذا.(1/123)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 124
وغير ذلك ، أو مواعيد فارغة ، ومطامع خاوية ، سمعوها منهم ، من أن الجنة لا يدخلها إلا هم ، وأن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة ، وغير ذلك من أمنيتهم الفارغة وأمانيهم الباطلة. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : اعلم أن المنكرين على أهل الخصوصية ثلاث فرق : أهل الرئاسة المتكبرون ، والفقهاء المتجمدون ، والعوام المقلدون ، يصدق عليهم قوله تعالى : وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ إذ لا علم عندهم يميزون به المحق من المبطل ، وإنما هم مقلدون ، فوزرهم على من حرمهم بركة الاعتقاد ، وأدخلهم فى شؤم الانتقاد ، ولقد أحسن «ابن البنا» حيث قال فى شأن أهل الإنكار :
واعلم رعاك الله من صديق أنّ الورى حادوا عن التحقيق
إذ جهلوا النفوس والقلوب وطلبوا ما لم يكن مطلوبا
واشتغلوا بعالم الأبدان فالكلّ ناء منهم ودان
وأنكروا ما جهلوا وزعموا أن ليس بعد الجسم شىء يعلم
وكفّروا وزندقوا وبدّعوا إذا دعاهم اللّبيب الأورع
كلّ يرى أن ليس فوق فهمه فهم ولا علم وراء علمه
محتجبا عن رؤية المراتب علّ يسمى عالما وطالب
هيهات هذا كلّه تقصير يأنفه الحاذق والنّحرير
ثم توعّد أهل التحريف من الأحبار ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 79]
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
قلت : (ويل) : كلمة يستعملها كل واقع فى هلكة ، وأصلها العذاب والهلكة ، وهو فى الأصل مصدر لا فعل له ، وسوغ الابتداء به الدعاء ، وقال أبو سعيد الخدري عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : «الويل واد فى جهنّم» [لو سيرت فيه جبال الدنيا لانماعت ] «1».
___________
(1) انماعت : أي ذابت. قلت : والعبارة التي بين المعكوفتين ليست من الحديث المذكور ، بل هى من كلام عطاء بن يسار ، كما فى تفسير الطبري والواحدي ، أو من كلام أبى سعيد الخدري ، كما فى تفسير البغوي.(1/124)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 125
يقول الحق جلا جلاله : فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ تحريفا لكتاب اللّه ، ويَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خوفا من أن تزول رئاستهم ، وينقطع عنهم ما كانوا يأخذونه من سفلتهم ، نزلت فى أحبار اليهود لما قدم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة ، خافوا أن تزول رئاستهم ، فاحتالوا فى تعويق اليهود عن الإسلام ، وكانت صفة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فى التوراة : «حسن الوجه ، حسن الشعر ، أكحل العينين ، ربعة» ، فغيروها ، وكتبوا : طوالا ، أزرق ، سبط الشعر ، فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ، ويأخذون من سفلتهم ، فهو وإن كان كثيرا فى الحس فهو ، بالنسبة إلى ما استوجبوه من العذاب الأليم ، قليل.
الإشارة : ينزجر بهذه الآية صنفان : أحدهما : علماء الأحكام ، إذا أفتوا بغير المشهور ، رغبة فيما يقبضون على الفتوى من الحطام الفاني ، وكذلك القضاة إذا حكموا بالهوى ، رغبة فيما يقبضون من الرشا ، أو يحصلونه من الجاه ، فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ الثاني : أهل الرئاسة والجاه من أولاد الصالحين وغيرهم ، فإنهم إذا رأوا أحدا قام بولاية أو نسبة خافوا على زوال رئاستهم ، فيحتالون على الناس بالتعويق عن الدخول فى طريقته ، فيكتبون فى ذلك سفسطات وترهات ، ينفّرون الناس عن اتباع الحق ، وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ.
ثم ذكر الحق تعالى بعض أمانيهم الفارغة ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 80 الى 82]
وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82)
قلت : (بلى) : حرف جواب كنعم ، والفرق بينهما أن (بلى) لا يقع إلا فى جواب النفي ويصير إثباتا ، تقول : ألم يأت زيد؟ فتقول بلى. أي : أتى ، ومثله : قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ فقال تعالى : (بلى) أي تمسكم ، بخلاف نعم فإنها لتقرير ما قبلها نفيا أو إثباتا ، فإذا قيل : ألم يأت زيد؟ فقلت : نعم ، أي لم يأت ، وإذا قيل : هل أتى زيد فقلت :
نعم ، أي أتى. وقد نظم ذلك بعضهم فقال : (1/125)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 126
«نعم» لتقرير الذي قبلها إثباتا أو نفيا ، كذا قرّروا
«بلى» جواب النفي لكنه يصير إثباتا ، كذا حرّروا
يقول الحق جل جلاله : وَقالُوا أي : بنو إسرائيل فى أمانيهم الباطلة : لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً أربعين يوما مقدار عبادة العجل ، ثم يخلفنا فيها المسلمون. قال الحق جل جلاله : قُلْ لهم يا محمد : أَتَّخَذْتُمْ بذلك عهدا عند اللّه فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ - بَلى تمسكم النار وتخلدون فيها لأن مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً أي : كفرا ومات عليه ، وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ أي : أحدقت به ، واستولت عليه ، فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ - وَالَّذِينَ آمَنُوا بما نزل على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وَعَمِلُوا بشريعته المطهرة الأعمال الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ هذه عادته تعالى إذا ذكر فريقا شفع بضده ترغيبا وترهيبا وباللّه التوفيق.
الإشارة : اعلم أن كثيرا من الناس يعتمدون على صحبة الأولياء ، ويطلقون عنان أنفسهم فى المعاصي والشهوات ، ويقولون : سمعنا من سيدى فلان يقول : من رآنا لا تمسه النار. وهذا غلط وغرور ، وقد قال - عليه الصلاة والسّلام - لابنته : «يا فاطمة بنت محمّد ، لا أغنى عنك من اللّه شيئا ، اشترى نفسك من اللّه». وقال للذى قال : ادع اللّه أن أكون رفيقك فى الجنة فقال له : «أعنّى على نفسك بكثرة السّجود». نعم ، هذه المقالة : إن صدرت من ولى متمكن مع اللّه فهى حق ، لكن بشرط العمل ممن رآه بالمأمورات وترك المحرمات ، فإن المأمول من فضل اللّه ، ببركة أوليائه ، أن يتقبل اللّه منه أحسن ما عمل ، ويتجاوز عن سيئاته ، فإن الأولياء المتمكنين اتخذوا عند اللّه عهدا فلن يخلف اللّه عهده وهو أن من تعلق بهم وتمسك بالشريعة شفعوا فيه.
والغالب على من صحب أولياء اللّه المتمكنين - الحفظ وعدم الإصرار ، فمن كان كذلك لا تمسه النار ، وفى الحديث : «إذا أحبّ اللّه عبدا لم يضرّه ذنب» ، يعنى : يلهم التوبة سريعا ، كما قيل لأهل بدر : «افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم». ولا يتخذ عند اللّه العهد إلا أهل الفناء والبقاء ، لأنهم باللّه فيما يقولون ، فليس لهم عن أنفسهم إخبار ، ولا مع غير اللّه قرار ، وأما من لم يبلغ هذا المقام فلا عهد له لأنه بنفسه ، فمن تعلق بمثل هذا فهو على خطر ، وباللّه التوفيق.(1/126)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 127
قوله تعالى : بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً ، من اقتنى حب الدنيا أحاطت به أشغالها وعلائقها ، فهو فى نار القطيعة مقيم ، أحاط به سرادق الهموم والأكدار ، تلدغه عقارب الشكوك والأغيار ، بخلاف من أشرقت عليه أنوار الإيمان ، وصحب أهل الشهود والعيان ، فإنه فى روح وريحان وجنة ورضوان ، متعنا اللّه بذلك فى الدارين. آمين.
ثم قرّعهم على نقض العهد الذي أخذ عليهم ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 83]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
قلت : (لا تعبدون) : خبر فى معنى النهى ، كقوله تعالى : وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ ، وهو أبلغ من صريح النهى ، لما فيه من إيهام أن المنهي سارع إلى الانتهاء ، وقيل : حذفت «أن» ، وارتفع المضارع ، وهو على حذف القول ، أي : وقلنا لهم : لا تعبدون ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالغيب.
يقول الحق جل جلاله : واذكروا إذ أخذنا الميثاق على بنى إسرائيل وقلنا لهم : لا يتصور منكم شرك معى ولا ميل إلى غيرى ، فلا تعبدوا إلا إياى ، وأحسنوا بِالْوالِدَيْنِ إحسانا كاملا ، وأحسنوا بِذِي الْقُرْبى نسبا ودينا ، وأحسنوا باليتامى وَالْمَساكِينِ ، بالمواساة والملاطفة ، وَقُولُوا لِلنَّاسِ قولا حُسْناً أو ذا حسن ، وهو ما لا لغو فيه ، ولا تأثيم بل ما فيه نصح وإرشاد ، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ بإتقان شروطها وكمال آدابها ، وأدوا الزَّكاةَ لمستحقها ، ثُمَّ بعد ذلك تَوَلَّيْتُمْ ، وأعرضتم إِلَّا قَلِيلًا ممن أسلم مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ عن الحق بعد ظهوره.
ذكر الحق تعالى فى هذا العهد أربعة أعمال : عمل خاص بالقلب ، وهو التوحيد ، وعمل خاص بالبدن ، وهو الصلاة ، وعمل خاص بالمال ، وهو الزكاة ، وعمل عام وهو الإحسان ، ورتّبها باعتبار الأهم فالأهم ، فقدّم الوالدين لتأكيد حقهما الأعظم ، ثم القرابة لأن فيهم أجر الإحسان وصلة الرحم ، ثم اليتامى لقلة حيلتهم ، ثم المساكين لضعفهم ، واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : كل عهد أخذ على بنى إسرائيل يؤخذ مثله على الأمة المحمدية ، وهذا حكمة ذكر قصصهم لنا ، وسرد مساوئهم علينا لنتحرز من الوقوع فيما وقعوا فيه ، فنهلك «1» كما هلكوا ، وكل عهد أخذ على العموم باعتبار
___________
(1) فى الأصول : فنهلكوا.(1/127)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 128
الظاهر يؤخذ مثله على الخصوص باعتبار الباطن ، فقد أخذ الحق سبحانه العهد على المتوجهين إليه ألا تتوجه همتهم إلا إليه ، ولا يعتمدون بقلوبهم إلا عليه ، وأن يتخلقوا بالإحسان ، مع الأقارب والأجانب وكافة الإخوان ، وخصوصا الوالدين من قبل البشرية أو الروحانية ، وهم أهل التربية النبوية ، فحقوق أب الروحانية تقدم على أب البشرية ، لأن أب البشرية كان سببا فى خروجه إلى دار الفناء والهوان ، وأب الروحانية كان سببا فى دخوله إلى روح وريحان.
وأخذ العهد على المتوجهين أن يكلموا الناس بالملاطفة والإحسان ، ويرشدوهم إلى الكريم المنان ، ويقيموا الصلاة بالجوارح والقلوب ، ويؤدوا زكاة نفوسهم بتطهيرها من العيوب ، فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ، وعن دائرة الولاية خارجون.
ثم وبّخهم على نقض عهد آخر ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 84 الى 85]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِيُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)
قلت : (ثمّ أنتم هؤلاء) «أنتم» : مبتدأ ، و«هؤلاء» : خبر ، و«تقتلون» : حال ، كقولك : أنت ذلك الرجل الذي فعلت كذا وكذا ، أو «هؤلاء» : بدل ، و«تقتلون» : خبر أو منادى ، أي : يا هؤلاء ، أو منصوب على الاختصاص ، والعدوان : الإفراط فى الظلم ، و«أسارى» حال ، جمع أسير ، ويجمع على أسرى ، وقرئ به أي :
مأسورين ، و«هو» ضمير الشأن ، و«محرّم» خبر ، و«إخراجهم» مبتدأ مؤخر ، أو ضمير الإخراج فيكون مبتدأ ، و«محرّم» خبره ، و«إخراجهم» بدل من الضمير ، وهذه الجملة متصلة بقوله : وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ، وما قبلها اعتراض.
يقول الحق جل جلاله : وَاذكروا أيضا إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وقلنا لكم لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ أي : لا يسفك بعضكم دم بعض ، وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أي : لا يخرج أحدكم أخاه من داره(1/128)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 129
ويجليه عنها ، وجعلهم الحق نفسا واحدة ، وكذلك هو فى الحقيقة ، وفى ذلك يقول الشاعر :
عنصر الأنفاس منّا واحد وكذا الأجسام جسم عمّنا
ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ بهذا العهد والتزمتموه لأنفسكم وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ على أنفسكم بذلك ، ثُمَّ أَنْتُمْ يا هؤُلاءِ اليهود تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ أي : يقتل بعضكم بعضا ، وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ إجلاء عنها ، تتغالبون عَلَيْهِمْ بالظلم والطغيان ، وَإِنْ يَأْتُوكُمْ مأسورين تفدوهم بمالكم ، وذلك الإخراج محرم عليكم.
وحاصل الآية : أن اللّه تعالى أخذ على بنى إسرائيل العهد فى التوراة ألا يقتل بعضهم بعضا ، ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم ، وأيّما عبد أو أمة وجدتموه من بنى إسرائيل أسيرا فاشتروه بما كان من ثمنه وأعتقوه ، فكانت قريظة حلفاء الأوس ، والنضير حلفاء الخزرج ، وكانوا يقتتلون فى الحرب فيعين بنو قريظة حلفاءهم الأوس ، فيقاتلون بنى النضير فى قتالهم مع الخزرج ، فإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم منها ، فإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه ، فعيرتهم العرب ، فقالوا : تقاتلونهم وتفدونهم؟! فيقولون : قد أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم ، قالوا : فلم تقاتلونهم؟ فقالوا : إنا نستحى أن يذل حلفاؤنا ، فوبخهم اللّه على ذلك ، فقال :
أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وهو الفداء وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ وهو القتل والإخراج؟ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ أي : ذل وهوان فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وهو السبي والقتل لبنى قريظة ، والجلاء والإخراج من الوطن لبنى النضير ، أو الذل والجزية للفريقين إلى يوم القيامة ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ. وليس ما أصابهم تكفيرا لذنوبهم ، بل نقمة وغضبا عليهم ، وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
الإشارة : الناس على قسمين : قوم ضعفاء تمسكوا بظاهر الشريعة ولم ينفذوا إلى باطنها ، ولم يقدروا على قتل نفوسهم ، ولا على الخروج من وطن عوائدهم ، فيقول لهم الحق جل جلاله : لا تسفكون دماءكم فى محبتى لأنكم لا تقدرون على ذلك ، ولا تخرجون أنفسكم من دياركم فى سياحة قلوبكم ، فقد أقررتم بعجزكم وضعفكم ، ويقول للأقوياء : ثم أنتم يا هؤلاء تقتلون أنفسكم فى طلب معرفتى ، وتخرجون فريقا منكم من ديار عوائدهم فى طلب مرضاتى ، تتعاونون على نفوسكم بالقهر والغلبة ، وكذلك ورد فى بعض الأخبار : (أول ما يقول اللّه للعبد : اطلب العافية والجنة والأعمال وغير ذلك ، فإن قال : لا ، ما أريد إلا أنت ، قال له : من دخل فى هذا معى فإنما يدخل بإسقاط الحظوظ ، ورفع الحدث ، وإثبات القدم ، وذلك يوجب العدم) وأنشدوا : (1/129)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 130
من لم يكن فانيا عن حظّه وعن الفنا والأنس بالأحباب
فلأنّه بين المنازل واقف لمنال حظّ أو لحسن مآب «1»
ويقول أيضا للأقوياء الذين قتلوا أنفسهم وخرجوا عن عوائدهم : وإن يأتوكم أسارى فى أيدى نفوسهم وعوائدهم ، أو فى طلب الدنيا وشهواتها ، تفدوهم من أسرهم ، وتفكوهم من قيودهم ، وتدخلوهم فى حضرة مولاهم ، وفى بعض الآثار : (طالب الدنيا أسير ، وطالب الآخرة أجير ، وطالب الحق أمير) ه. والأمير هو الذي يفك الأسارى من أيدى العدو ، لأجل ما ملكه اللّه من القوة والاستعداد ، فإذا انفك العبد من هواه ، دخل فى حضرة مولاه ، فمن رام إخراجه منها بعد دخوله يقال له : وهو محرم عليكم إخراجهم ، فكيف تؤمنون بظاهر الشريعة وتنكرون علم الطريقة ، وأنوار الحقيقة؟ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزى فى الحياة الدنيا وهو الحرص والطمع ، والخوف والجزع وطول الأمل ، وعدم النهوض إلى العمل ، (و يوم القيامة يردون إلى أشد العذاب) ، وهو غم الحجاب وسوء الحساب ، (و ما اللّه بغافل عما يعملون).
ثم بيّن الحق تعالى وصفهم وذكر ما أعد لهم ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 86]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
يقول الحق جل جلاله : أُولئِكَ الناقضون للعهود المتعدون الحدود اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا وزخارفها الغرارة بِالْآخِرَةِ الباقية الدائمة ، فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ ساعة فى الدنيا بالذل والهوان ، وفى الآخرة بدخول النيران ، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ بالامتناع منه فى كل أوان.
الإشارة : أولئك الذين نظروا إلى غرة ظاهر الأكوان ، ولم ينفذوا إلى عبرة باطنها ، فلا ينقطع عنهم عذاب الوهم والحجاب ، ولا هم ينصرون من أليم العذاب.
ثم وبّخهم الحق تعالى على تكذيب الرسل وقتلهم إياهم ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 87]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87)
___________
(1) نسبهما الطوسي فى اللمع لأبى على الروذبارى.(1/130)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 131
قلت : (قفينا) : أتبعنا ، و(عيسى) عجمى معدول عن أيشوع فى لغة السريانية ، وهو غير منصرف للعلمية والعجمة ، و(مريم) : بمعنى الخادم ، ووزنه : مفعل لا فعيل ، و(أيدناه) أي : قويناه ونصرناه ، و(روح القدس) هنا جبريل عليه السّلام أي : الروح المقدسة - من إضافة الموصوف إلى الصفة - ، سمى به لطهارته من كدر الحس.
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى التوراة ، فما قمتم بحقها ولا عملتم بما فيها ، واتبعنا بعده الرسل كلما مات رسول بعثنا بعده آخر اعتناء بكم ، وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ المعجزات الواضحات كإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، والإخبار بالمغيبات ، والإنجيل ، وَأَيَّدْناهُ بجبريل عليه السّلام كان يسير معه حيث سار ، ورفعه إلى السماء حين أردتم يا معشر اليهود قتله ، أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ من مشاق الطاعات وترك الحظوظ والشهوات ، اسْتَكْبَرْتُمْ وامتنعتم من الإيمان به فَفَرِيقاً منهم كذبتموه كعيسى وسليمان ومحمد - عليهم السلام - ، وَفَرِيقاً تقتلونه كزكريا ويحيى - عليهما السلام - ؟ قال القشيري :
أصغوا إلى الداعين بسمع الهوى ، فصار معبودهم صفاتهم وهواهم. ه - .
الإشارة : كل ما قاله الحق جل جلاله لبنى إسرائيل فى فحوى الخطاب يقوله لهذه الأمة فى سرّ الخطاب ، فلقد آتانا الكتاب ، وبيّن فيه الرشد والصواب ، وقفّى بعد إنزاله بعلماء أتقياء ، وأولياء أصفياء ، يحكمون بحكمه ، ويهدون بهديه ، فإذا أمروا بالزهد فى الدنيا وترك الحظوظ والهوى رفضوهم وكذبوهم ، وربما كفّروهم وقتلوهم ، واستكبروا عن الإذعان لهم والانقياد لقولهم ، ففريقا كذبوا وفريقا يقتلون.
وفى الحديث قال صلّى اللّه عليه وسلّم : «لتتبعنّ سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه ، فقالوا : من يا رسول اللّه اليهود والنصارى؟ قال : نعم .. ومن إذن؟» أي : ومن تتبعون إلا هم؟. فالدعاة إلى اللّه لا ينقطعون ما دام الدين قائما ، فقوم يدعون إلى أحكام اللّه ، وقوم يدعون إلى معرفة اللّه ، فالأول : العلماء ، والثاني :
الأولياء ، فإذا أمروا بالخروج عن العوائد والشهوات ، رموهم بسهام العتاب والمخالفات ، إذ لم يأت أحد بمثل ما جاءوا به إلا عودى ، إلا من خصته سابق العناية ، وهبت عليه ريح الهداية ، فيتبع آثارهم ، وقليل ما هم.
ثم ذكر الحق تعالى مقالتهم الشنيعة ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 88]
وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88)
قلت : (غلف) : جمع أغلف ، كأحمر وحمر ، وأصفر وصفر ، وهو الذي عليه غشاوة ، أي : هى فى غلاف فلا تفقه ما تقول ، بمنزلة الأغلف ، وهو غير المختون ، وقيل : أصله (غلف) بضم اللام ، وبه قرأ ابن محيصن.(1/131)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 132
فيكون جمع غلاف ، كحجاب وحجب ، وكتاب وكتب ، ومعناه : قلوبنا أوعية لكل علم فلا نحتاج إلى علمك وكتابك.
و(قليلا) صفة لمحذوف أي : فإيمانا قليلا ، أو عددا قليلا يؤمنون ، أو ظرف لأنه من صفة الأحيان ، والعامل فيه ما يليه ، و(ما) لتأكيد القلة ، أي : فى قليل من الأحيان يؤمنون ، أو حال من الواو فى (يؤمنون) أي : فيؤمنون فى حال قلتهم.
يقول الحق جل جلاله : قالت اليهود استهزاء بما تدعوهم إليه : قُلُوبُنا مغلفة ومغشاة فلا نفقه ما تقول ، أو أوعية للعلوم فلا تحتاج إلى علمك ، قال اللّه تعالى : بَلْ لا غطاء على قلوبهم حسا ، بل هى على الفطرة لكن لَعَنَهُمُ اللَّهُ وطردهم وخذلهم بسبب بِكُفْرِهِمْ فأبطل استعدادها للعلم ، فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ أي : فإيمانا قليلا يؤمنون كإيمانهم ببعض الكتاب ، أو فلا يؤمن إلا قليل منهم كعبد اللّه بن سلام وأصحابه ، واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : إذا أمر الدعاة إلى اللّه أهل الدنيا بذبح النفوس وحط الرءوس ودفع النفوس ، ليتأهلوا به لدخول حضرة القدوس ، أو أمروهم بخرق العوائد ، لتخرق لهم العوائد «1» ، أنفوا وعنفوا وقالوا : قلوبنا فى أكنة مما تدعونا إليه ، فيقال لهم : بل سبق لكم من اللّه البعد والحرمان ، فأنكرتم أسباب الشهود والعيان ، لكن من سبقت له من اللّه العناية ، وهبّ عليه نسيم الهداية ، فلا تضره الجناية ، فقد يلتحق بالخصوص ، وإن كان من أعظم اللصوص ، وهو قليل بالنسبة إلى من جاهد نفسه فى طلب السبيل ، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً.
ثم وبخهم ولعنهم على عدم الإيمان بالقرآن مع إقرارهم به قبل الإتيان ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 89]
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89)
قلت : (لمّا) حرف وجود لوجود إذا وليها الماضي ، ولها شرط وجواب ، وهو هنا محذوف دل عليه جواب (لما) الثانية ، أي : ولما جاءهم كتاب من عند اللّه كفروا به ، أو (لما) الثانية تأكيد للأولى. والجواب : (كفروا به) ، أو فلما وجوابها جواب الأولى ، كقوله فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ ... الآية ، و(يستفتحون) ينتصرون ، وفى الحديث : «أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان يستفتح بصعاليك المهاجرين» ، الذين لا مال لهم.
___________
(1) خرق العوائد الأولى هى خرق الحجب ، من غفلة وظلمة قلب ، وغير ذلك ، وقد يعنى بها الكرامات ، وخرق العوائد الثانية هى خرق ما تعودته النفس وألفته حتى صعب خروجها عنه ، ككثرة الأكل والشرب ، وحب الجاه والرئاسة والمدح.(1/132)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 133
يقول الحق جل جلاله : وَلَمَّا جاءَهُمْ أي : اليهود ، القرآن مصدقا لِما مَعَهُمْ من التوراة ، أي :
موافقا له وشاهدا له بالصحة ، وقد كانوا قبل ظهوره يستنصرون على أعدائهم بالنبي الذي جاء به ، فيقولون : اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث فى آخر الزمان ، الذي نجد نعته فى التوراة ، وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين :
(قد أظلّ زمان نبى يخرج بتصديق ما قلنا ، فنقتلكم معه قتل عاد وإرم) ، فلما ظهر وعرفوه كّفّروا به فَلَعْنَةُ اللَّهِ عليهم ، فوضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أنهم لعنوا لكفرهم ، فاللام فى الْكافِرِينَ للعهد ، وهم كفار اليهود ، أو للجنس ، فتكون اللعنة عامة لكل كافر ، ويدخلون فيها دخولا أولياء ، واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : ترى كثيرا من الناس إذا ذكر لهم الأولياء المتقدمون أقروهم وصدقوهم ، وإذا ذكر لهم أولياء أهل زمانهم أنكروهم وجحدوهم ، مع كونهم يستنصرون بأهل زمانهم فى الجملة. فهذه نزعة يهودية ، آمنوا ببعض وكفروا ببعض.
والناس فى إثبات الخصوصية ونفيها على ثلاثة أقسام : قسم أثبتوها للمتقدمين ، ونفوها عن المتأخرين ، وهم أقبح العوام ، وقسم أقروها قديما وحديثا ، وقالوا : إنهم أخفياء فى زمانهم ، فحرمهم اللّه بركتهم ، وقوم أقروا الخصوصية فى أهل زمانهم ، وعرفوهم وظفروا بهم وعظموهم ، وهم السعداء الذين أراد اللّه أن يوصلهم إليه ويقربهم إلى حضرته.
وفى الحكم : «سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه ، ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه». وباللّه التوفيق.
ثم أشار الحق تعالى إلى تسفيه رأى اليهود حيث استبدلوا الإيمان بالكفر ، والربح بالخسران ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 90 الى 91]
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
قلت : بئس ونعم : فعلان جامدان مختصان بالدخول على ما يدل على العموم ، إما نكرة ، فتنصب على التمييز المفسر للضمير الفاعل ، أو معرف بأل الجنسية ، فيرتفع على الفاعلية ، تقول : بئس رجلا زيد ، وبئس الرجل زيد ، ويذكر بعد ذلك المخصوص : إما خبر عن مبتدأ مضمر ، أو مبتدأ والخبر مقدم. وإنما اختصّتا بالدخول على ما يدل على العموم لأن (نعم) مستوفية لجميع المدح ، و(بئس) مستوفية لجميع الذم. فإذا قلت : نعم الرجل زيد ، فكأنك قلت : استحق زيد المدح الذي يكون فى سائر جنسه ، وكذلك تقول فى بئس.(1/133)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 134
و(ما) المتصلة ببئس ونعم : نكرة منصوبة على التمييز ، أي : بئس شيئا اشتروا به أنفسهم ، وهو كفرهم ، أو معرفة تامة مرفوعة على الفاعل ، أي : بئس الشيء شىء اشتروا به أنفسهم. و(اشتروا) هنا بمعنى باعوا ، كشروا على خلاف الأصل ، وقد يمكن أن يبقى على أصله ، على ما يأتى فى بيان المعنى.
و(بغيا) مفعول من أجله ليكفروا ، و(يكفرون) حال من الفاعل فى (قالوا) ، و(وراء) فى الأصل : مصدر جعل ظرفا ، ويضاف إلى الفاعل ويراد به ما يتوارى به وهو خلفه ، وإلى المفعول فيراد به ما يواريه وهو قدامه ، ولذلك عد من الأضداد ، قاله البيضاوي.
يقول الحق جل جلاله فى شأن اليهود : بئس شيئا باعوا به حظ أنفسهم ، وهو كفرهم بما أنزل اللّه ، أو بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ بحسب ظنهم ، فإنهم ظنوا أنهم خلّصوا أنفسهم من العذاب بما فعلوا ، وهو كفرهم بما أنزل اللّه على محمد نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم بغيا وحسدا أن يكون النبي من غيرهم ، فانقلبوا بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ للكفر والحسد لمن هو أفضل الخلق ، أو لكفرهم بمحمد - عليه الصلاة والسلام - بعد عيسى عليه السّلام ، أو لتضييعهم التوراة ، وكفرهم بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ أي : يذلهم ويخزيهم فى الدنيا والآخرة ، بخلاف عذاب العاصي فإنه كفارة لذنوبه.
وَإِذا قِيلَ لهؤلاء اليهود : آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا من التوراة ، وهم يَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ أي : بما سواه ، وهو القرآن ، حال كونه مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ من التوراة ومهيمنا عليه. قُلْ لهم يا محمد : فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ هذا الزمان ، وهو محرم عليكم فى التوراة ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ به؟ فهذا يبطل دعواكم الإيمان بالتوراة إذ الإيمان بالكتاب يقتضى العمل به ، وإلّا كان دعوى ، وإن فعله أسلافكم فأنتم راضون به وعازمون عليه.
الإشارة : اعلم أن قاعدة تفسير أهل الإشارة هى أن كل عتاب توجه لمن ترك طريق الإيمان ، وأنكر على أهله يتوجه مثله لمن ترك طريق مقام الإحسان ، وأنكر على أهله. وكل وعيد توعد به أهل الكفران يتوعد به من ترك السلوك لمقام الإحسان ، غير أن عذاب أهل الكفر حسى بدني ، وعذاب أهل الحجاب معنوى قلبى.
فنقول فيمن رضى بعيبه وأقام على مرض قلبه وأنكر الأطباء ووجود أهل التربية : بئسما اشتروا به أنفسهم ، وهو كفرهم بما أنزل اللّه من الخصوصية على قلوب أوليائه بغيا وحسدا ، أو جهلا وسوء ظن ، أن ينزل اللّه من فضله على(1/134)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 135
من يشاء من عباده ، فباءوا بغضب الحجاب على غضب البعد والارتياب ، أو بغضب سقم القلوب على غضب الإصرار على المساوئ والعيوب. (من لم يتغلغل فى علمنا هذا مات مصرا على الكبائر وهو لا يشعر) كما قال الشاذلى رضي اللّه عنه ، ولا يصح التغلغل فيه إلا بصحبة أهله. وللكافرين بالخصوصية عذاب الطمع وسجن الأكوان ، وهما شجرة الذل والهوان.
وإذا قيل لهم : آمنوا بما أنزل اللّه من أسرار الحقيقة وأنوار الطريقة ، قالوا : نؤمن بما أنزل علينا من ظواهر الشريعة ، ويكفرون بما وراءه من أسرار الحقيقة ، ككشف أسرار الذات وأنوار الصفات ، وهو - أي : علم الحقيقة - الحق لأنه خالص لب الشريعة ، وللّه در صاحب المباحث الأصلية حيث قال :
هل ظاهر الشرع وعلم الباطن إلا كجسم فيه روح ساكن؟
وقال أيضا :
ما مثل المعقول والمنقول إلا كدرّ زاخر مجهول
حتى إذا أخر جه الغوّاص لم يك للدرّ إذن خلاص
وإنما خلاصه فى الكشف عن الغطاء حيث لا يستخفى
فالصّدف الظاهر ثم الدرّ معقوله والجهل ذاك البحر
وكان الشيخ عز الدين بن عبد السلام يقول : (هل ثمّ شىء غير ما فهمناه من الكتاب والسنة؟) ، كان يقول ذلك إذا قيل له : إن الشيخ الشاذلى فاض اليوم بعلوم وأسرار ، فلما التقى بالشيخ وأخذ بيده ، قال : (أي واللّه .. ما قعد على قواعد الشريعة التي لا تنهدم إلا الصوفية). ويقال لمن ادعى التمسك بالشريعة وأنكر ما وراءها : فلم تشتغل بجمع الدنيا واحتكارها وتخاف من الفقر ، وتهتم بأمر الرزق وتجزع من المصائب ، والشريعة تنادى عليك بذم ذلك كله إن كنت مؤمنا؟!! وباللّه التوفيق.
ثم نعى عليهم عبادة العجل بعد ما رأوا من الآيات البينات ، إبطالا لدعواهم الإيمان بالتوراة ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 92]
وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92)
قلت : جملة : وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ حال من (اتخذتم).(1/135)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 136
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بالمعجزات الواضحات : كالعصا واليد وفلق البحر ، ثم لم ينجح ذلك فيكم ، فاتخذتم العجل إلها تعبدونه من بعد ذهابه إلى الطور وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ فى ذلك ، فأين دعواكم الإيمان بالتوراة؟
الإشارة : ويقال لمن أقام على عيبه ، ورضى بمرض قلبه ، حتى لقى اللّه بقلب سقيم : لقد جاءتكم أوليائى بالآيات الواضحات ، ولو لم يكن إلا شفاء المرضى على أيديهم - أعنى مرضى القلوب - لكان كافيّا ، ثم اتخذتم الهوى إلهكم ، وعبدتم العاجلة بقلوبكم ، وعزّت عليكم نفوسكم وفلوسكم ، وأنتم ظالمون فى الإقامة على مساوئكم وعيوبكم ، مع وجود الطبيب لمن طلب الشفاء ، وحسّن الظن وشهد الصفاء. (كن طالبا تجد مرشدا) وباللّه التوفيق.
ثم عدّد الحق تعالى عليهم مساوئ تقدمت لأسلافهم تبطل دعوى إيمانهم ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 93]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
قلت : (إن كنتم) : شرط حذف جوابه ، أي : إن كنتم مؤمنين فبئس ما يأمركم به إيمانكم.
يقول الحق جل جلاله : وَاذكروا أيضا إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ أن تعملوا بالتوراة فأبيتم وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ جبل الطُّورَ وقلنا : خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ واجتهاد وَاسْمَعُوا ما أقول لكم فيه قالُوا بلسان حالهم : سَمِعْنا قولك وعَصَيْنا أمرك ، حيث لم يمتثلوا ، أو بلسان المقال لسوء أدبهم ، وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ حب الْعِجْلَ حتى صبغ فيها ورسخ رسوخ الصبغ فى الثوب ، لأنهم كانوا مجسّمة ، ولم يروا منظرا أعجب من العجل الذي صنعه السامري ، (قل) لهم يا محمد : بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ بالتوراة الذي ادعيتموه ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، لكن الإيمان لا يأمر بهذا فلستم مؤمنين.
الإشارة : يقول الحق جل جلاله لمن ادعى كمال الإيمان ، وهو منكر على أهل الإحسان ، مع إقامته على عوائد نفسه ، وكونه محجوبا بشهود حسه : وإذ أخذنا ميثاقكم ، بأن تجاهدوا نفوسكم ، وتخرقوا عوائدكم لتدخلوا حضرة(1/136)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 137
ربكم ، ورفعنا فوق رؤوسكم سيوف التخويف ، أو جبال التشويق ، وأوضحنا لكم سواء الطريق ، وقلنا لكم : خذوا ما آتيناكم من خرق العوائد ، واكتساب الفوائد ، بجد واجتهاد ، فأبيتم وعزّت عليكم نفوسكم ، وقلتم بلسان حالكم :
سمعنا وعصينا ، وأشربت قلوبكم حب العاجلة ، وآثرتم الدنيا على الآخرة ، بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين.
ومن جملة ما ادعاه اليهود اختصاصهم بالجنة ، فردّ اللّه عليهم بقوله :
[سورة البقرة (2) : الآيات 94 الى 95]
قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)
قلت : (خالصة) خبر كان ، و(عند) متعلق بكان على الأصح.
يقول الحق جل جلاله : قُلْ يا محمد لبنى إسرائيل الذين ادعوا أن الجنة خاصة بهم : إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ أي : فى غيبه ، خالِصَةً لكم مِنْ دُونِ سائر النَّاسِ ، أو من دون المسلمين ، فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فى اختصاصكم بها ، فإن العبد إذا تحقق أنه صائر إليها اشتاق إلى الموت الذي يوصل إليها ، كما قال عمار رضي اللّه عنه عند موته :
الآن ألاقى الأحبّه محمّدا وحزبه
وقال حذيفة رضي اللّه عنه حين احتضر : (جاء حبيب على فاقة ، لا أفلح من ندم). أي : على التمني ، أو على الدنيا.
قال تعالى : وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بسبب بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من الكفر والعصيان ، فما تمناه أحد منهم قط ، قال ابن عباس : (لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم فى النار). وقال فى الإحياء :
(دعا - عليه الصلاة والسلام - اليهود إلى تمنى الموت ، وأخبرهم بأنهم لا يتمنونه ، فحيل بينهم وبين النطق بذلك). وذكر غيره : أن بعضهم تمناه ، فما جاءت العشاء حتى أخذته الدّبحة فى حلقه فمات «1».
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ، فيه تهديد لهم وتنبيه على أنهم ظالمون فى دعوى ما ليس لهم ، ونفيه عمن هو لهم.
___________
(1) لم أقف على ما يفيد ذلك : ولو وقع لنقل واشتهر لتوافر الدواعي إلى نقله لأنه أمر عظيم. بل على العكس فالأخبار الواردة فى أنهم ما تمنوا بلغت مبلغ التواتر ، كما يقول الفخر الرازي.(1/137)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 138
الإشارة : فى هذه الآية ميزان صحيح توزن به الأعمال والأحوال ويتميز به المدعون من الأبطال ، فكل عمل يهدمه الموت فهو مدخول ، وكل حال يهزمه الموت فهو معلول ، وكل من فرّ من الموت فهو فى دعواه المحبة كذاب ، فمن ادعى الخصوصية على الناس يختبر بهذه الآية.
والناس فى حب البقاء فى الدنيا على أربعة أقسام :
رجل أحب البقاء فى الدنيا لاغتنام لذّاته ونيل شهواته ، قد طرح أخراه ، وأكبّ على دنياه ، واتخذ إلهه هواه ، فأصمه ذلك وأعماه ، إن ذكر له الموت فرّ عنه وشرد ، وإن وعظ أنف وعند ، عمره ينقص ، وحرصه يزيد ، وجسمه يبلى ، وأمله جديد ، وحتفه قريب ، ومطلبه بعيد ، فهذا إن لم تكن له عناية أزلية ، وسابقة أولية فيمسك عليه الإيمان ، ويختم له بالإسلام ، وإلا فقد هلك.
ورجل قد أزيل عن عينه قذاها ، وأبصر نفسه وهواها ، وزجرها ونهاها ، قد شمر ليتلافى ما فات ، ونظر فيما هو آت ، وتأهب لحلول الممات ، والانتقال إلى محلة الأموات ، ومع هذا فإنه يكره الموت أن يشاهد وقائعه ، أو يرى طلائعه ، وليس يكره الموت لذاته ، ولا لأنه هادم لذّاته ، لكنه يخاف أن يقطعه عن الاستعداد ليوم المعاد ، ويكره أن تطوى صحيفة عمله قبل بلوغ أمله ، وأن يبادر بأجله قبل صلاح خلله ، فهو يريد البقاء فى هذه الدار لقضاء هذه الأوطار ، فهذا ما أفضل حياته : وأطيب مماته! لا يدخل تحت قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «من كره لقاء اللّه كره اللّه لقاءه».
ورجل آخر قد عرف اللّه تعالى بأسمائه الحسنى ، وصفاته العليا ، وشهد ما شهد من كمال الربوبية ، وجمال حضرة الألوهية ، فملأت عينه وقلبه ، وأطاشت عقله ولبه ، فهو يحن إلى ذلك المشهد ، ويستعجل إنجاز ذلك الموعد ، قد علم أن الحياة الدنيوية حجاب بينه وبين محبوبه ، وستر مسدل بينه وبين مطلوبه ، فهذا من المحبين العشاق ، قد حن إلى الوصال والتلاق ، أحب لقاء اللّه فأحب اللّه لقاءه ، فما أحسن حياته ولقاءه! ورجل آخر قد شهد ما شاهد ذلك ، وربما زاد على ما هنالك ، لكنه فوض الأمر إلى خالقه ، وسلم الأمر لبارئه ، فلم يرض إلا ما رضى له ، ولم يرد إلا ما أريد به ، وما اختار إلا ما حكم به فيه ، إن أبقاه فى هذه الدار أبقاه ، وإن أخذه فهو بغيته ومناه ، فهذا من العارفين المقربين. جعلنا اللّه منهم بمنّه وكرمه. آمين.
[سورة البقرة (2) : آية 96]
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96)(1/138)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 139
قلت : (و من الذين أشركوا) : على حذف مضاف ، أي : وأحرص من الذين أشركوا ، فيوقف عليه ، و(لو يعمر) مصدرية ، أي : يود أحدهم تعمير ألف سنة. و(أن يعمر) فاعل لمزحزحه ، أي : وما هو بمزحزحه من العذاب تعميره.
يقول الحق جل جلاله : ولتجدن يا محمد اليهود أَحْرَصَ النَّاسِ على البقاء فى هذه الدار الدنية ، فكيف يزعمون أنهم أولى الناس بالجنة ، ولتجدنهم أيضا أحرص من المشركين على البقاء ، مع كونهم لا يقرون بالجزاء ، فدلّ ذلك على أنهم صائرون إلى النار ، فلذلك كرهوا اللفاء وحرصوا على البقاء ، يتمنى أحدهم لو يعيش أَلْفَ سَنَةٍ وليس ذلك بِمُزَحْزِحِهِ أي : مبعده من العذاب «1» ، بل زيادة له فى العقاب وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ : تهديد وتخويف.
الإشارة : يفهم من سر الخطاب أن كل من قصر أمله ، وحسن عمله ، وطيب نفسه للقاء الحبيب ، واشتغل فى هذه اللحظة القصيرة بما يقربه من القريب ، كان قربه من اللّه بقدر محبته للقائه ، وكل من طوّل أمله ، وحرص على البقاء فى هذه الدار الفانية ، كان بعده من اللّه بقدر محبته للبقاء ، إلا من أحب البقاء لزيادة الأعمال ، أو الترقي فى المقامات والأحوال ، فلا بأس به ، ويفهم منه أيضا أن من اشتد حرصه على الحياة الفانية كانت فيه نزعة يهودية.
واعلم أن الناس ، فى طول الأمل وقصره ، على قسمين : منهم من طوّل فى أمله فازداد فى كسله ، ودخله الوهن فى عمله ، وآخر قد قصر أمله وجعل التقوى بضاعته ، والعبادة صناعته ، ولم يتجاوز بأمله ساعته ، ومثل هذا قد رفع التوفيق عليه لواءه ، وألبسه رداءه ، وأعطاه جماله وبهاءه ، فانظر رحمك اللّه أىّ الرجلين تريد أن تكون ، وأي العملين تريد أن تعمل ، وبأى الرداءين تريد أن تشتمل؟ فلست تلبس هناك إلا ما تلبس هنا. وباللّه التوفيق.
ومن أشنع كفر بنى إسرائيل وأقبح مساوئهم ، بغضهم لجبريل عليه السّلام وإلى ذلك أشار الحق تعالى بقوله :
[سورة البقرة (2) : الآيات 97 الى 98]
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98)
___________
(1) لأن الإمهال بحسب الزمان وإن حصل ، لكنهم لاقترافهم المعاصي بالتعمير زاد عليهم من حيث شدة العذاب.(1/139)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 140
قلت : (من) شرطية وجوابها محذوف ، أي : فليمت غيظا ، أو (فإنه نزله) على معنى : من عادى منهم جبريل فقد خلع ربقة الإنصاف ، أو كفر بما معه من الكتاب لأنه نزل بكتاب مصدقا لما قبله من الكتب ، وجبريل فيه ثمانى لغات ، أربع قرئ بهن. وهى : جبرئيل كسلسبيل. وجبرئل كجحمرش ، وجبريل - بفتح الجيم - بلا همز ، وجبريل بكسرها ، وأربع شواذ : جبرال ، وجبرائيل ، وجبرائل ، وجبرين بالنون ، ومعناه : عبد اللّه. وفى ميكائيل أربع لغات : ميكائيل ممدود ، وميكائل مقصور ، وميكئل مهموز مقصور ، وميكال على وزن ميعاد.
يقول الحق جل جلاله فى الرد على اليهود ، كابن صوريا وغيره ، حيث قالوا للنبى صلّى اللّه عليه وسلّم : من الذي يأتيك بالوحى؟ فقال : جبريل ، فقالوا : ذلك عدونا من الملائكة لأنه ينزل بالشدة والعذاب ، ولو كان ميكائيل لاتبعناك لأنه ينزل بالخصب والسلم ، فقال تعالى : مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فليمت غيظا ، فإنه هو الذي نزّل القرآن عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب ، وهداية وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ ، فإن كان ينزل بالشدة والعذاب على الكافرين ، فإنه ينزل بالهداية والبشارة على المؤمنين.
ومن كان عدوا لجبريل فإنه عدو للّه ، إذ هو رسوله للأنبياء ، وصفيه من الملائكة ، وعدو أيضا لميكائيل فإنه وزيره ، وللرسل أيضا فإنه سفيرهم ، ومَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فإن اللّه عدو له.
وعطف جبريل وميكائيل من عطف الخاص على العام لزيادة شرفهما. ووضع الظاهر موضع الضمير فى قوله :
عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ ولم يقل : لهم ، تسجيلا عليهم بالكفر ، وبيان أن اللّه إنما عاداهم لكفرهم ، وأن عداوة الملائكة والرسل كفر ، عصمنا اللّه من موارد الردى. آمين.
الإشارة : إذا كانت معاداة الملائكة والرسل هى معاداة اللّه ، فكذلك معاداة أوليائه هى معاداة اللّه أيضا ، ولذلك قال تعالى : «من عادى لى وليّا فقد آذنني بالحرب». فالبعض هو الكل ، ويؤخذ بالمفهوم أن محبة الملائكة والرسل هى محبة اللّه. وكذلك محبة أولياء اللّه هى محبة اللّه ، وكذلك أيضا محبة عباد اللّه هى محبة اللّه ، ومعاداتهم معاداة اللّه. «الخلق عيال اللّه ، وأحبّ الخلق إلى اللّه أنفعهم لعياله». وكل من ادعى أنه يحب اللّه وفى قلبه عداوة لمسلم فهو كاذب ، وكل من ادعى أنه يعرف اللّه وفى قلبه إنكار على مخلوق فهو فى دعواه أيضا كاذب ، فالواجب على العبد أن يحب جميع العباد ، من كان طائعا فظاهر. ومن كان عاصيا أحب له التوبة والإنابة ، ومن كان كافرا أحب له الإسلام والهداية ، ولا يكره من العبد إلا فعله ، وللّه در القائل : (1/140)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 141
ارحم بنىّ جميع الخلق كلّهم وانظر إليهم بعين الحلم والشّفقه
وقّر كبيرهم وارحم صغيرهم وراع فى كلّ خلق حقّ من خلقه «1»
وباللّه التوفيق.
ولما قال ابن صوريا للنبى صلّى اللّه عليه وسلّم : يا محمد ما جئت بشئ نعرفه ، وما أنزل اللّه عليك من آية بينة فنتبعك لها فنزل قوله تعالى :
[سورة البقرة (2) : آية 99]
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99)
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا محمد آياتٍ واضحات ، مشتملة على علوم غيبية ، وأخبار نبوية ، وشرائع محكمة ، وأنوار قدسية ، وأسرار جبروتية ، وما يجحدها ويكفر بها إلا المتمرد فى الكفر والطغيان ، الخارج عن الطاعة والإيمان ، فالفسق ، إذا استعمل فى نوع من المعاصي ، دل على أعظمه وأقبحه ، وهو هنا الكفر ، والعياذ باللّه.
الإشارة : اعلم أن العبد إذا سبقت له من اللّه العناية ، ألقى اللّه فى قلبه التصديق والهداية ، من غير أن يحتاج إلى علامة ولا آية ، بل يكشف له الحق تعالى عن سر الخصوصية وأنوارها ، فيشهد سره لصاحبها بالتقويم ، وتخضع له روحه بالتعظيم ، فتبدو له أنوار الإيمان وتشرق عليه شموس العرفان ، من غير توقف على دليل ولا برهان ، بخلاف من سبق له الحرمان ، فلا ينجح فيه دليل ولا برهان ، والعياذ باللّه من الخذلان.
ولما ذكّر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم اليهود فى شأن العهد الذي أخذه اللّه عليهم فيه ، قال مالك بن الصيف : واللّه ما عهد إلينا فى محمد عهد ولا ميثاق ، نزل :
[سورة البقرة (2) : آية 100]
أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100)
قلت : الهمزة للإنكار ، والواو للعطف على محذوف تقديره : أكفروا بالآيات وكلما عاهدوا عهدا ، وكُلَّما منصوب على الظرفية ، وهى متضمنة معنى الشرط فتفتقر للجواب ، وهو العامل فيها. والنبذ : الطرح ، لكنه يغلب فيما ينسى ، قاله البيضاوي.
___________
(1) نسبهما الشيخ المفسر فى إيقاظ الهمم إلى الحسن الحراني.(1/141)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 142
يقول الحق جل جلاله فى شأن اليهود والإنكار عليهم : أَوَكُلَّما أعطوا عهدا وعقدوه على أنفسهم طرحه فَرِيقٌ مِنْهُمْ؟ فقد أعطوا العهد أنهم إن أدركوا محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم ليؤمنن به ولينصرنه ، فلما أدركوه نبذوا ذلك العهد ونسوه. وكذلك أعطوا العهد للنبى صلّى اللّه عليه وسلّم ألا يعاونوا المشركين عليه ، فنبذه بنو قريظة والنضير ، ولم ينقضه جميعهم بل فريق منهم ، وهم الأكثر ، ولذلك قال : بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ، فالأكثر هم الناقضون للعهود ، المجاوزون للحدود. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : نقض العهد مع اللّه أو مع عباده من علامة النفاق ، ومن شيم أهل البعاد والشقاق ، والوفاء بالعهد من علامة الإيمان ، ومن شيم أهل المحبة والعرفان. قال تعالى فى صفة المفلحين : وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ ، ولا سيما عهود الشيوخ أهل التمكين والرسوخ. فمن أخذ عقد الصحبة مع الشيخ الذي هو أهل للتربية فليحذر من حلّ العقدة بينه وبينه ، فإنّ ذلك يقطع الإمداد ، ويوجب الطرد والبعاد ، والالتفات إلى غيره تسويس لبذرة الإرادة ، وموجب لقطع الزيادة والإفادة ، ثم إن الانجماع على الشيخ ، وقطع النظر والالتفات إلى غيره هو سبب للكون - كذلك - مع اللّه ، فبقدر الانقطاع إلى الشيخ يحصل الانقطاع إلى اللّه ، وبقدر ترك الاختيار وسلب الإرادة مع الشيخ يحصل كذلك مع اللّه ، ويقدر الوفاء بعهود شيوخ التربية يحصل الوفاء بعهود حقوق الربوبية. فمن كانت غيبته فى الشيخ أقوى ، وانحياشه إليه أكثر ، وجمعه عليه أدوم ، كان كذلك مع ربه ، وكذلك التعظيم والأدب ، واللّه يعامل العبد على حسب ذلك.
قال الشيخ زرّوق رضي اللّه عنه : (و لا تنتقل عنه ، ولو رأيت من هو أعلى منه ، فتحرم بركة الأول والثاني) ، ولذلك كان المشايخ يمنعون أصحابهم من صحبة غيرهم ، بل من زيارتهم ، وأنشدوا :
خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به فى طلعة البدر ما يغنيك عن زحل
وحاصل أمر الزيارة لغير شيخه أن فيه تفصيلا : فمن كمل صدقه ، وتوفر عقله ، بحيث إذا زار لا يستنقص شيخه ، ولا الذي زاره ، جازله أن يزور من شاء ، ومن لم يكمل صدقه وعقله ، بحيث إذا زار : إما يستنقص شيخه ، أو الشيخ الذي زاره ، فليكف عن زيارة غير شيخه. وقال محيى الدين بن العربي : ويجب على المريد أن يعتقد فى شيخه أنه عالم باللّه ، ناصح لخلق اللّه ، ولا ينبغى له أن يعتقد فى شيخه العصمة. وقد قيل للجنيد : أيزني العارف؟
فقال : وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً. وصحب تلميذ شيخا ، فرآه يوما قد زنا بامرأة ، فلم يتغير من خدمته ، ولا أخل فى شىء من مرسومات شيخه ، ولا ظهر منه نقص فى احترامه. وقد عرف الشيخ أنه رآه ، فقال له يوما : (1/142)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 143
يا بنى قد عرفت أنك رأيتنى حين فسقت بتلك المرأة ، وكنت أنتظر فراقك عنى من أجل ذلك ، فقال له التلميذ :
يا سيدى الإنسان معرض لمجارى أقدار اللّه عليه ، وإنى من الوقت الذي دخلت فيه إلى خدمتك ما خدمتك على أنك معصوم ، وإنما خدمتك على أنك عارف بطريق اللّه تعالى ، عارف بكيفية السلوك عليه الذي هو طلبى ، وكونك تعصى أو لا تعصى شىء بينك وبين اللّه عز وجل ، لا يرجع من ذلك شىء علىّ ، فما وقع منك يا سيدى شىء لا يوجب نفارى وزوالى عنك ، وهذا هو عقدى ، فقال له الشيخ : وفقت وسعدت هكذا وإلا فلا ... فريح ذلك التلميذ ، وجاء منه ما تقرّ به العين من حسن الحال وعلوّ المقام «1». ه.
ولما وسمهم الحق تعالى بنقض العهود ، ذكر جزئية من ذلك ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 101]
وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101)
يقول الحق جل جلاله : وَلَمَّا جاءَهُمْ يعنى اليهود رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ محمد صلّى اللّه عليه وسلّم مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ من التوراة بموافقته له فى بعض الأخبار نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ، وهم من كفر من أحبار يهود ، كِتابَ اللَّهِ : التوراة ، وَراءَ ظُهُورِهِمْ ، حيث لم يعملوا بما فيه من الأمر بالإيمان بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وغيروا صفته التي فيه ، وكتموها ، فكأنهم طرحوه وراء ظهورهم ، وكأنهم لا علم لهم بشئ من ذلك.
قال البيضاوي : اعلم أن الحق تعالى دل بالآيتين على أن حال اليهود أربع فرق : فرقة آمنوا بالتوراة وقاموا بحقوقها كمؤمنى أهل الكتاب ، وهم الأقلون المدلول عليهم بقوله : بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ، وفرقة جاهروا بنبذ عهودها ، وتخطى حدودها ، تمردا وفسوقا ، وهم المعنيون بقوله تعالى : نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ ، وفرقة لم يجاهروا بنبذها ، ولكن نبذوا لجهلهم بها ، وهم الأكثرون ، وفرقة تمسكوا بها ظاهرا ، ونبذوها خفية ، عالمين بالحال بغيا وعنادا ، وهم المتجاهلون. ه. قلت : ولعلهم المنافقون منهم.
ولما نبذوا كتاب اللّه اشتغلوا بكتب السحر مكانه ، كما أبان ذلك الحق تعالى بقوله :
___________
(1) مغزى القصة : التنبيه على أن المريد ينبغى له ألا يعتقد العصمة فى الشيخ فإن الشيخ وإن كان على أكمل الحالات فليس بمعصوم. [.....](1/143)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 144
[سورة البقرة (2) : الآيات 102 الى 103]
وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103)
قلت : عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ على حذف مضاف ، أي : على عهد ملك سليمان ، أو «على» بمعنى «فى» ، وقوله : «وما أنزل» عطف على السحر ، عطف تفسير ، والفتنة فى الأصل : الاختبار ، تقول : فتنت الذهب والفضة إذا أدخلتهما النار لتعلم جودتهما من رداءتهما ، وقوله «لمثوبة» جواب «لّو» ، والأصل : لأثيبوا ، ثم عدل إلى الجملة الاسمية لتدل على الثبوت.
يقول الحق جل جلاله فى شأن اليهود : ولما جاءهم كتاب من عند اللّه نبذوه وَاتَّبَعُوا ما تقرأ الشَّياطِينُ على الناس من السحر عَلى عهد مُلْكِ سُلَيْمانَ ، وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ويضمون إلى ما سمعوا أكاذيب ، ويلقونها إلى الكهنة ، وهم يدونونها ويعلمونها الناس ، وفشا ذلك فى عهد سليمان حتى قيل : إن الجن يعلم الغيب ، وإن ملك سليمان إنما قام بهذا ، وأنه به سخر الجن والإنس والريح ، فجمع سليمان ما دوّن منه ودفنه ، فاستخرجته الشياطين بعد موته ، فردّ اللّه تعالى قولهم بقوله : وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ باستعمال السحر لأنه تعظيم غير اللّه بالتقرب للشيطان ، والنبي معصوم ، وَلكِنَّ الشَّياطِينَ هم الذين كَفَرُوا باستعماله يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ إغواء وإضلالا ، ويعلمون ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ فى بلد بابل من سواد الكوفة ، وهما هارُوتَ وَمارُوتَ.
كانا ملكين من أعبد الملائكة ، ولما رأت الملائكة ما يصعد إلى السماء من أعمال بنى آدم الخبيثة فى زمن إدريس عليه السّلام عيروهم بذلك ، وقالوا : يا ربنا هؤلاء الذين جعلتهم خليفة فى الأرض يعصونك؟ فقال اللّه تعالى : لو أنزلتكم إلى الأرض ، وركّبت فيكم ما ركبت فيهم لارتكبتم ما ارتكبوا ، قالوا : سبحانك ما كان ينبغى لنا أن نعصيك.
فقال اللّه تعالى : فاختاروا ملكين من خياركم أهبطهما إلى الأرض. فاختاروا هاروت وماروت ، وكانا من أعبد(1/144)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 145
الملائكة ، فركّب اللّه تعالى فيهما الشهوة ، وأمرهما أن يحكما فى الأرض بين الناس بالحق ، ونهاهما عن الشرك والقتل بغير الحق ، والزنا وشرب الخمر ، فكانا يقضيان بين الناس يومهما ، فإذا أمسيا ذكرا اسم اللّه الأعظم وصعدا إلى السماء ، فاختصمت إليهما ذات يوم امرأة يقال لها الزهرة : وكانت من أجمل النساء من أهل فارس ، فأخذت بقلبيهما ، فراوداها عن نفسها ، فأبت ، ثم عاودت فى اليوم الثاني ، ففعلا مثل ذلك فأبت ، وقالت : إلا أن تعبدا ما أعبد ، وتصليا لهذا الصنم ، وتقتلا النفس وتشربا الخمر ، فأبيا هذه الأشياء ، وقالا : إن اللّه نهانا عنها ، فانصرفت ، ثم عادت فى اليوم الثالث ، فراوداها ، فعرضت عليهما ما قالت بالأمس ، فقالا : الصلاة لغير اللّه ذنب عظيم ، وأهون الثلاثة شرب الخمر ، فشربا ، وانتشيا ، ووقعا بالمرأة ، فلما فرغا رآهما إنسان فخافا أن يظهر عليهما فقتلاه.
وفى رواية عن سيدنا على - كرم اللّه وجهه - أنه قال : (قالت لهما : لن تدركانى حتى تخبراني بالذي تصعدان به إلى السماء ، فقالا : باسم اللّه الأعظم ، فعلماها ذلك ، فتكلمت به ، وصعدت إلى السماء فمسخها اللّه كوكبا). ولذلك كان عليه الصلاة والسلام إذا رأى سهيلا قال : «لعن اللّه سهيلا كان عشّارا باليمن ، ولعن اللّه الزهرة ، وقال : إنها فتنت ملكين».
قلت : قصة هاروت وماروت ذكرها المنذرى فى شرب الخمر ، وقال فى حديثها : رواه أحمد وابن حبان فى صحيحه من طريق زهير بن محمد ، وقد قيل : إن الصحيح وقفه على كعب. ه. وقال ابن حجر : قصة هاروت وماروت جاءت بسند حسن ، خلافا لمن زعم بطلانها كعياض ومن تبعه.
وتمام قصتهما : أنهما لما قارفا الذنب وجاء المساء همّا بالصعود ، فلم تطاوعهما أجنحتهما ، فعلما ما حل بهما ، فقصدا إدريس عليه السّلام ، فأخبراه ، وسألاه الشفاعة إلى اللّه تعالى فشفع فيهما ، فخيرهما اللّه تعالى بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا لانقطاعه ، فهما يعذبان فى بئر ببابل ، منكسان معلقان بالسلاسل من أرجلهما ، مزرقة أعينهما ، ليس بينهما وبين الماء إلا قدر أربعة أصابع ، وهما يعذبان بالعطش «1». ه.
فإن قلت : الملائكة معصومون فكيف يصح هذا من هاروت وماروت؟ قلنا : لما ركب اللّه فيهما الشهوة انسلخا من حكم الملكيّة إلى حكم البشرية ابتلاء من اللّه تعالى لهما ، فلم يبق لهما حكم الملائكة من العصمة.
___________
(1) أعلّ أهل العلم بالحديث هذه الروايات ، وحكم بوضعها ابن الجوزي فى الموضوعات ، وقال القاضي عياض : لم يرد فى ذلك شىء أصلا لا سقيم ولا صحيح. وردّ القصة جل المفسرين ، وقال الحافظ ابن كثير : ظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فيها. فنحن نؤمن بما ورد فى القرآن على ما أراده الله تعالى. انظر فى الموضوع : الشفا للقاضى عياض ، وتعليق الشيخ أحمد شاكر على مسند الإمام أحمد ، وتعليقه على تفسير الطبري ، وكتاب الاسرائيليات والموضوعات لأبى شهبة رحمه الله - .(1/145)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 146
وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ السحر حتى ينصحاه ويقولا : إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ لكم ، واختبار من اللّه تعالى لعباده ، ليظهر من يصبر عنه ومن لا يصبر ، وكان تعلمه فى ذلك الوقت كفرا. فيقولان له فَلا تَكْفُرْ بتعلّمه ، فكانوا يتعلمون مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وقدرته ، فلا تأثير لشئ إلا بإذن اللّه ، ويتعلمون منهما ما يَضُرُّهُمْ يوم القيامة وَلا يَنْفَعُهُمْ ، ولقد علم بنو إسرائيل أن من اشتراه واستبدله بكتاب اللّه والعمل بما فيه ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نصيب ، وَلَبِئْسَ ما باعوا به حظ أنفسهم من النعيم لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ، لكن لما لم يعملوا بعلمهم كانوا كمن لا علم عنده.
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا باللّه ورسوله وَاتَّقَوْا الكفر والسحر ، لأثيبوا ثوابا كبيرا ، وكان ذلك خيرا لهم مما استوجبوه من العقاب لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
الإشارة : كل من أكبّ على دنياه وتتبع حظوظه وهواه ، وترك العمل بما جاء من عند اللّه ، يصدق عليه أنه نبذ كتاب اللّه ، واشتغل بما سواه من حب الدنيا والرئاسة والجاه ، فالدنيا سحارة غرارة ، تسحر القلوب وتغيبها عن حضرة علام الغيوب وفى الحديث : «اتقوا الدّنيا فإنها أسحر من هاروت وماروت» ، ولا شك أنها تفرق بين الأحباب وبين العشائر والأصحاب. ولقد علم من أخذ الدنيا ونعيمها ، وأكب عليها ما له فى الآخرة من نصيب ، فبقدر ما يأخذ من نعيم الدنيا وشهواتها ينقص له من نعيم الآخرة. ولبئس ما شروا به أنفسهم - حيث آثروا الحياة الدنيا على الآخرة - لو كانوا يعلمون. ولو أنهم آمنوا باللّه ، واتقوا كل ما يشغل عن اللّه لكانوا من أولياء اللّه ، وتلك المثوبة - التي صاروا إليها - خير لو كانوا يعلمون.
قال عبد الواحد بن زيد : سمعت أن جارية مجنونة فى خراب الأبلّة تنطق بالحكم ، فطلبتها حتى وجدتها ، وهى محلوقة الرأس ، وعليها جبة صوف ، فلما رأتنى قالت : مرحبا بك يا عبد الواحد ، ثم قالت : يا عبد الواحد ما جاء بك؟
فقلت : تعظيننى ، فقالت : ووا عجبا لواعظ ، يوعظ ، يا عبد الواحد .. اعلم أن العبد إذا كان فى كفاية ، ومال إلى شىء من الدنيا ، سلبه اللّه حلاوة الزهد ، وظل حيرانا ولها ، فإن كان له عند اللّه نصيب عاتبه وحيا فى سره ، فيقول له :
عبدى أردت رفع قدرك عند ملائكتى ، وأجعلك دليلا لأوليائى ، ومرشدا لأهل طاعتى ، فملت إلى عرض الدنيا وتركتنى ، فأورثك ذلك الوحشة بعد الأنس ، والذل بعد العز ، والفقر بعد الغنى ، ارجع إلى ما كنت عليه ارجع إليك ما كنت تعرفه من نفسك. ثم انصرفت عنى وتركتنى وبقيت حسرتها فى قلبى. ه.(1/146)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 147
ولما كان المسلمون يقولون للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم : راعنا يا رسول اللّه وأرعنا سمعك ، يعنون من المراعاة والانتظار ، وهى عند اليهود سب من الرعونة ، ففرحت اليهود ، وقالوا : كنا نسب محمدا سرا ، فأعلنوا له بالشتم ، فكانوا يقولون : يا محمد راعنا ويضحكون ، نهى اللّه تعالى المسلمين عن هذه اللفظة ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 104]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104)
قلت : يقال راعى الشيء يراعيه مراعاة : انتظره أو التفت إليه. ويقال : رعى إلى الشيء ، وراعاه وأرعاه : إذا أصغى إليه واستمعه.
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم : راعِنا أي : انتظرنا أو أمهل علينا لأن فى ذلك ذريعة لسب اليهود ، أو قلة أدب ، وقولوا : انْظُرْنا أي : انتظرنا وَلِلْكافِرِينَ المؤذين لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عَذابٌ أَلِيمٌ أي : موجع.
الإشارة : حسن الخطاب من تمام الآداب ، وتمام الآداب هو السبب الموصل إلى عين الصواب ، فمن لا أدب له لا تربية له ، ومن لا تربية له لا سير له ، ومن لا سير له لا وصول له ، فمن لا يتربى على أيدى الرجال لا يربى الرجال ، وقد قالوا : من أساء الأدب مع الأحباب طرد إلى الباب ، ومن أساء الأدب فى الباب طرد إلى سياسة الدواب. وقالوا أيضا : اجعل عملك ملحا ، وأدبك دقيقا. وقال آخر : إن الإنسان ليبلغ بالخلق وحسن الأدب إلى عظيم الدرجات وهو قليل العمل ، ومن حرم الأدب حرم الخير كله ، ومن أعطى الأدب فقد مكن من مفاتيح القلوب.
قال أبو عثمان رضي اللّه عنه : الأدب عند الأكابر وفى مجالس السادات من الأولياء يبلغ بصاحبه إلى الدرجات العلا والخير فى الدنيا والعقبى. وقال أبو حفص الحداد رضي اللّه عنه : التصوف كله آداب ، لكل وقت أدب ، ولكل حال أدب ، ولكل مقام أدب ، فمن لازم الأدب بلغ مبلغ الرجال ، ومن حرم الأدب فهو بعيد من حيث يظن القرب ، مردود من حيث يرجو الوصول. وقال ذو النون المصري رضي اللّه عنه : (إذا خرج المريد عن استعمال الأدب فإنه يرجع من حيث جاء).
وقيل : من لم يتأدب لوقت فوقته مقت. وقيل : من حبسه النسب أطلقه الأدب ، ومن قل أدبه كثر شغبه. وقيل :
الأدب سند الفقراء ، وزينة الأغنياء. ه. وباللّه التوفيق.
ومن مساوئ اليهود أيضا الحسد والغل ، وإليه أشار الحق تعالى بقوله :
[سورة البقرة (2) : آية 105]
ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)(1/147)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 148
قلت : الود : محبة الشيء مع تمنيه ، و«من أهل الكتاب» بيانية كقوله : «لم يكن الّذين كفروا من أهل الكتاب» ، و«أن ينزّل» معمول يود ، و«من خير» صلة ، و«من ربّكم» ابتدائية.
يقول الحق جل جلاله : ما يتمنى الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إنزال خير عليكم مِنْ رَبِّكُمْ ولا المشركون حسدا منهم ، بل يتمنون أن تبقوا على ضلالتكم وذلّكم ، وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ كالنبوة والولاية مَنْ يَشاءُ من عباده. فلا يجب عليه شىء ولا يمتنع عليه ممكن ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ، فيمنّ بالنبوة أو الولاية على من يشاء فضلا وإحسانا.
الإشارة : فى الآية تنبيهان : أحدهما : أن من كان يحسد أهل الخصوصية وينكر عليهم ، فيه نزعة يهودية ، وخصلة من خصال المشركين ، والثاني : أن حسد أهل الخصوصية والإنكار عليهم أمر شائع وسنة ماضية ، فليوطن المريد نفسه على ذلك ، وليعلم أنه ما يقال له إلا ما قيل لمن قبله ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ، وما من نعمة إلا وعليها حسود.
وقال حاتم الطائي :
ومن حسد يجور علىّ قومى وأىّ الدهر ذو لم يحسدونى
وباللّه التوفيق.
ومن مساوئهم أيضا إنكار النسخ للأحكام ، فرد اللّه عليهم بقوله :
[سورة البقرة (2) : الآيات 106 الى 107]
ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107)
قلت : النسخ فى اللغة يطلق على معنيين أحدهما : التغيير والتحويل ، يقال : مسخه اللّه قردا ونسخه. قال الفراء : ومنه نسخ الكتاب ، والثاني : بمعنى رفع الشيء وإبطاله. يقال : نسخت الشمس الظلّ ، أي : ذهبت به وأبطلته ، وهو المراد هنا.
والإنساء هو الترك والإذهاب ، والنساء هو التأخر. و«ما» شرطية منصوبة بشرطها مفعولا به. و«نأت» جوابها.
يقول الحق جل جلاله : فى الرد على اليهود حيث قالوا : انظروا إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ، فأجاب اللّه عنهم بقوله : ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أي : نزيل لفظها أو حكمها أو هما معا ، نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها فى(1/148)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 149
الخفة أو فى الثواب ، أَوْ نُنْسِها من قلب النبي - عليه الصلاة والسلام - بإذن اللّه ، أو نتركها غير منسوخة ، أو نؤخر إنزالها أو نسخها. باعتبار القراءات ، نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ يا محمد أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لا يعجزه نسخ ولا غيره أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يتصرف فيهما كيف يشاء ، لا راد لما قضى ولا معقّب لما حكم به وأمضى ، ينسخ من شرائع أحكامه ما شاء ، ويثبت فيها ما شاء ، بحسب مصالح العباد ، وما تقتضيه الرأفة والوداد.
وهو جائز عقلا وشرعا ، فكما نسخت شريعتهم ما قبلها نسخها ما بعدها ، فمن تحكم على اللّه ، أو رد على أصفياء اللّه ممن اصطفاهم لرسالته ، فليس له مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يمنع من عذاب اللّه ، وَلا نَصِيرٍ ينصره من غضب اللّه.
والنسخ إنما يكون فى الأوامر والنواهي دون الأخبار ، لأنه يكون كذبا ، ومعنى النسخ : انتهاء العمل بذلك الحكم ، ونقل العباد من حكم إلى حكم لمصلحة ، فلا يلزم عليه البداء كما قالت اليهود ، والنسخ عندنا على ثلاثة أقسام : نسخ اللفظ والمعنى : كما كان يقرأ : «لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر» ، ثم نسخ ، ونسخ اللفظ دون المعنى : «كالشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة» ، ثم نسخ لفظه ، وبقي حكمه وهو الرجم ، ونسخ المعنى دون اللفظ : كآية السيف بعد الأمر بالمهادنة مع الكفار. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قال الشيخ أبو العباس المرسى رضي اللّه عنه فى تفسيرها : ما نذهب من بدل إلا ونأت بخير منه أو مثله. ه.
ومعناه : ما نذهب بولي إلا ونأت بخير منه أو مثله إلى يوم القيامة ، وبهذا يردّ على من زعم أن شيخ التربية انقطع فإن قدرة اللّه عامة ، وملك اللّه قائم ، والأرض لا تخلو ممن يقوم بالحجة حتى يأتى أمر اللّه.
قال فى لطائف المنن : وقد سئل بعض العارفين عن أولياء المدد : أينقصون فى زمن؟ فقال : لو نقص منهم واحد ما أرسلت السماء قطرها ، ولا أبرزت الأرض نباتها ، وفساد الوقت لا يكون بذهاب أعدادهم ، ولا بنقص إمدادهم ، ولكن إذا فسد الوقت كان مراد اللّه وقوع اختفائهم مع وجود بقائهم ، ثم قال : وقد قال علىّ - كرم اللّه وجهه - فى مخاطبته لكميل :
اللهم لا تخلو الأرض من قائم لك بحجتك ، أولئك الأقلون عددا ، الأعظمون عند اللّه قدرا ، قلوبهم معلقة بالمحل الأعلى.
أولئك خلفاء اللّه فى بلاده وعباده ، وا شوقاه إلى رؤيتهم.
وروى الترمذي الحكيم عن ابن عمر رضي اللّه عنه يرفعه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : «أمتى كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره». وباللّه التوفيق.(1/149)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 150
ولما سأل رافع بن حريملة اليهودي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يريه آية ، كتفجير ماء أو غيره ، نزل قوله تعالى :
[سورة البقرة (2) : آية 108]
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108)
قلت : (أم) للإضراب بمعنى بل وهو على قسمين : إما إضراب عن المعنى السابق ، أو لفظه فقط كما هنا ، انظر تفسير ابن عطية ، وإضافة الرسول إليهم باعتبار ما فى نفس الأمر. وهو نص فى إرساله إليهم كما أرسل إلى غيرهم. والضلال : التلف. وسَواءَ السَّبِيلِ : وسط الطريق.
يقول الحق جل جلاله : أتريدون يا معشر اليهود أن تقترحوا على نبيكم الذي أرسلت إليكم ، وإلى كافة الخلق من غيركم الآيات ، وتسألوه أن يريكم المعجزات ، كما سألتم موسى من قبل فقلتم : أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً تشغيبا وتعنتا ، وأبيتم عن الإيمان ، واستبدلتموه بالكفر والعصيان ، وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فقد تلف عن طريق الحق والسداد ، ومأواه جهنم وبئس المهاد.
الإشارة : لا يشترط فى الولي ظهور الكرامة ، وإنما يشترط فيه كمال الاستقامة ، ولا يشترط فيه أيضا هداية الخلق على يديه إذ لم يكن ذلك للنبى فكيف يكون للولى؟ قال تعالى : أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وقد سرى فى طبع العوام ما سرى فى طبع الكفار ، قالوا : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً الآية.
فكثير من العوام لا يقرون الولي حتى يروا له آية أو كرامة ، مع أن الولي كلما رسخت قدمه فى المعرفة قلّ ظهور الكرامة على يديه لأن الكرامة إنما هى معونة وتأييد وزيادة إيقان. والجبل الراسى لا يحتاج إلى عماد.
والحق هو ما قاله الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي اللّه عنه : (و إنهما كرامتان جامعتان محيطتان : كرامة الإيمان بمزيد الإيقان على نعت الشهود والعيان ، وكرامة العمل على السنة والمتابعة ، ومجانبة الدعاوى والمخادعة ، فمن أعطيهما ثم اشتاق إلى غيرهما فهو مفتر كذاب ، أو ذو خطأ فى العلم والفهم ، كمن أكرم بشهود الملك على نعت الرضى والكرامة ، ثم جعل يشتاق إلى سياسة الدواب وخلع الرضا) أو كما قال رضي اللّه عنه.
وقال شيخنا رضي اللّه عنه : (الكرامة الحقيقية هى الأخلاق النبوية والعلوم اللدنية). فمن أنكر أولياء أهل زمانه وطلب منهم الدليل غير ما تقدم فقد ضل سواء السبيل ، وبقي مربوطا فى سجن البرهان والدليل. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.(1/150)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 151
ولما ظهر حسد اليهود واجتهادهم فى الرد على الإسلام ، أمر الحق تعالى المسلمين بالعفو والصفح حتى يأذن فى قتالهم ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 109 الى 110]
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
قلت : لَوْ مصدرية مفعول «ودّ» ، وكُفَّاراً : مفعول ثان ، وحَسَداً : مفعول له ، علة لود ، أو حال من الواو ، ومِنْ عِنْدِ متعلق بود ، أي : يتمنوا ذلك من عند أنفسهم وتشهّيهم ، أو بقوله : «حسدا» ، فالوقف على قوله كُفَّاراً ، أي : حسدا حاصلا من تلقاء أنفسهم ، لم يستندوا فيه إلى شبهة ولا دليل ، والعفو : ترك العقوبة بالذنب. والصفح : الإعراض عن المذنب ، كأنه يولى عنه صفحة عنقه ، فهو أبلغ من العفو.
يقول الحق جل جلاله فى التحذير من اليهود وغيرهم من الكفار : تمنى الذين كفروا من أهل الكتاب وغيرهم لو يصرفونكم عن دينكم ويَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ بنبيكم كُفَّاراً ضالين ، كما كنتم قبل الدخول فيه ، وذلك حَسَداً مِنْ تلقاء أَنْفُسِهِمْ غيرة أن تكون النبوة فى غيرهم ، وذلك مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ وعرفوه كما يعرفون أبناءهم ، فَاعْفُوا عن عتابهم ، وأعرضوا عن تشغيبهم حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ فيهم بالقتل والجلاء. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، واشتغلوا بما كلفكم به من أداء حقوق العبودية ، والقيام بوظائف الربوبية ، كإتقان الصلاة وأداء الزكاة ، واعلموا أن الله لا يضيع من أعمالكم شيئا ، فما تقدموا لأنفسكم ليوم فقركم تجدوه عند الله خيرا وأعظم أجرا ، إن الله لا يخفى عليه شىء من أعمالكم وأحوالكم.
نزلت الآية فى عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان ، أتيا بيت المدراس «1» ، فألانوا لهم الكلام ، فطمعوا فى صرفهما عن دينهما ، ففضحهم الله ورد كيدهم فى نحرهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة : من جملة ما دبّ إلى بعض الطوائف المتجمدين على تقليد أشياخهم : التعصب والحمية على طريق أشياخهم ، ولو ظهر الحق عند غيرهم ، وخصوصا أولاد الصالحين منهم ، فإذا رأوا أحدا ظهرت عليه أنوار الولاية ،
___________
(1) المدراس - بتقديم الراء على الألف : البيت الذي يدرسون فيه. وقال فى النهاية : مفعال غريب فى المكان.(1/151)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 152
وأسرار الخصوصية ، تمنّوا أن يردوهم عن طريق الحق ، وبصرفوهم إلى مخالطة الخلق ، حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ، فيقال لمن توجه إلى الحق : فاعفوا واصفحوا حتى يظهر الحق ، ولا تلتفتوا إلى تشغيبهم ، ولا تشتغلوا قط بعيبهم فتكونوا أقبح منهم.
قال بعض العارفين : (لا تشتغل قط بمن يؤذيك واشتغل بالله يرده عنك ، وقد غلط فى هذا الأمر خلق كثير ، اشتغلوا بمن يؤذيهم فطال الأذى مع الإثم. ولو أنهم رجعوا إلى مولاهم لكفاهم أمرهم.). بل ينبغى لمن يحسد أو يؤذى أن يغيب عن الحاسد وكيده ، ويشتغل بما هو مكلف به من حقوق العبودية وشهود عظمة الربوبية ، فإن الله لا يضيع من التجأ اليه ، ولا يخيب مقصود من اعتمد عليه. وبالله التوفيق.
ومن جملة أمانى اليهود الفارغة : ادعاء اختصاصهم بالجنة ، كما أبان ذلك الحق تعالى بقوله :
[سورة البقرة (2) : الآيات 111 الى 112]
وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
قلت : وَقالُوا عطف على وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ، والضمير يعود على أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، أي : وقالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى ، وهُوداً : جمع هائد ، كبازل وبزل وحائل وحول ، والأمانى : جمع أمنية ، وهى ما يتمنى المرء ويشتهيه ، وأصله أمنوية كأضحوكة وأعجوبة ، فقلبت الواو ياء وأدغمت ، وهاتُوا : اسم فعل بمعنى الأمر ، ومعناه آت ، وأهمل ماضيه ومضارعه ، وأَسْلَمَ معناه : استسلم وخضع ، والخوف مما يتوقع ، والحزن على ما وقع.
يقول الحق جل جلاله : وقالت اليهود : لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إلا من كان يهوديا ، أي : على دينهم ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا ، وهذه دعاوى باطلة ، وأمانى فارغة ليس عليها بينة ، بل مجرد أمانيهم الكاذبة ، قُلْ لهم يا محمد : هاتُوا بُرْهانَكُمْ أنكم مختصون بالجنة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فى هذه الأمنية ، بل يدخلها غيركم من أهل الإسلام والإحسان ، فإن مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أي : انقاد بكليته إليه وَهُوَ مُحْسِنٌ فى أفعاله واعتقاده ، فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وهو دخول النعيم والنظر إلى وجهه الكريم ، وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من مكروه يتوقع وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على فوات شىء يحتاجون إليه لأنهم فى ضيافة الكريم تساق إليهم المسار وتدفع عنهم المضار ، وبالله التوفيق.(1/152)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 153
الإشارة : من جملة ما دخل على بعض الفقراء أنهم يخصون الخصوصية بهم وبمن تبع شيخهم ، وينفونها عن غيرهم ، وهذه نزعة يهودية ، وتحكم على القدرة الإلهية ، فيقال لهم : تلك أمانيكم الفارغة ، بل ينالها غيركم ، فمن قصد الله صادقا وجده ، وأنجز بالوفاء موعده ، فمن خضع لله وانقاد لأولياء الله ، فله أجره عند ربه ، وهو المعرفة به ، ولا خوف عليه من القطيعة ، ولا يحزن على فوات نصيبه من المعرفة. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ولمّا قدم نصارى نجران على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم سمعت بهم اليهود ، فجاءوا إليهم ، وتناظروا حتى تسابوا ، وكفر اليهود بعيسى وبملّته والإنجيل ، وكفر النصارى بموسى وبالتوراة ، فأنزل الله فى شأنهم :
[سورة البقرة (2) : آية 113]
وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
يقول الحق جل جلاله إخبارا عن مقالات اليهود والنصارى وتقبيحا لصنيعهم : وَقالَتِ الْيَهُودُ فى الرد على النصارى : لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ يعتد به ، وَقالَتِ النَّصارى فى سبّ اليهود : لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ يعتمد عليه ، والحالة أنهم يَتْلُونَ الْكِتابَ ، فاليهود يتلون التوراة وفيها البشارة بعيسى عليه السّلام ، والنصارى يتلون الإنجيل ، وفيه تقرير شريعة التوراة وصحة نبوة موسى عليه السّلام ، فقد كفرت كلّ فرقة بكتابها غضبا وتعصبا ، ومثل مقالتهم هذه قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ، وهم المشركون ، فقالوا : ليس المسلمون على شىء ، فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فيدخل أهل الحقّ الجنة وأهل الباطل النار. وبالله التوفيق.
الإشارة : كل ما قصه الحق تعالى علينا من مساوئ غيرنا فالمقصود به التنفير والتحذير من مثل ما ارتكبوه ، والتخلق بضد ما فعلوه ، فكل من تراه ينقص الناس ويصغّرهم فهو أصغرهم ، وكل من تراه يقول : أصحاب سيدى فلان ليسوا على شىء ، وأصحاب سيدى فلان ليس عندهم شىء ، فليس هو على شىء ، وقد ابتلى بعض المتصوفة بهذا الوصف الذميم ، ينصب الميزان على الناس ، فيسقط قوما ويرفع آخرين ، وهو يتلو كتاب الله ، ويسمع قوله تعالى : وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ... الآية.(1/153)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 154
وأكثر ما تجد هذا الوصف فى بعض الفقهاء المتجمدين على ظاهر الشريعة ، يعتقد ألا علم فوق علمه ، ولا فهم فوق فهمه ، كيف؟ والله تعالى يقول : وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ، وقد قال إمام الحرمين : (لأن أدخل ألف كافر فى الإسلام بشبهة خير من إخراج واحد منه بشبهة).
فالواجب على من أراد السلامة أن يحسن الظن بجميع المسلمين ، ويعتقد فيهم أنهم كلهم صالحون ، ففى الحديث : «خصلتان ليس فوقهما شىء من الخير : حسن الظن باللّه ، وحسن الظن بعباد الله ، وخصلتان ليس فوقهما شىء من الشرّ : سوء الظنّ باللّه ، وسوء الظنّ بعباد اللّه». وبالله التوفيق.
ثم وبخ الحق - تعالى - النصارى على منع الناس من بيت المقدس وإيذاء من يصلى فيه ، وطرح الأقذار فيه ، مع زعمهم أنهم على الحق دون غيرهم ، قاله ابن عباس ، أو كفار قريش حيث منعوا المسلمين من الصلاة فيه ، وصدوا رسول الله عن الوصول إليه ، قاله ابن زيد ، والتحقيق : أن الحق تعالى وبخ الجميع ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 114]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114)
قلت : مَنْ مبتدأ ، وأَظْلَمُ خبر ، وأَنْ يُذْكَرَ إما منصوب على إسقاط الخافض وتسلط الفعل عليه ، أي :
من أن يذكر ، أو بدل اشتمال من مَساجِدَ ، أو مجرور بالحرف المحذوف ، قاله سيبويه. وخائِفِينَ حال من الواو.
يقول الحق جل جلاله : لا أحد أكثر جرما ولا أعظم ظلما مِمَّنْ يمنع مَساجِدَ اللَّهِ من أَنْ يُذْكَرَ اسم الله فيها ، جماعة أو فرادى ، فى صلاة أو غيرها ، وَسَعى فِي خَرابِها حيث عطل عمارتها ، أُولئِكَ ما كانَ ينبغى لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إلا بخشية وخشوع ، فكيف يجترءون على تخريبها؟ أو ما كان الواجب أن يدخلوها إلا خائفين من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلا عن أن يمنعوهم منها ، أو ما كانَ لَهُمْ فى علم الله وقضائه أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ ، فيكون وعدا أنجزه الله لهم ، وقد فتح الله لهم مكة والشام ، فكان لا يدخل بيت الله الحرام كافر إلا خفية ، خائفا من القتل ، ولا يدخل نصرانى بيت المقدس إلا خائفا من المسلمين ، فنالهم فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وهو قتل الحربي ، وضرب الجزية على الذمي ، وخزى المشركين قتلهم يوم الفتح ، وإذلالهم بدخولها عليهم عنوة ، ولمن مات على الكفر فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ.
وهذه الآية - وإن نزلت فى الكفار - فهى عامة لكل من يمنع الناس من الذكر فى المساجد ، كيفما كان قياما أو قعودا ، جماعة أو فرادى. والله تعالى أعلم.(1/154)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 155
الإشارة : مساجد الله هى حضرة القلوب وحضرة الأرواح وحضرة الأسرار ، فحضرة القلوب لأهل المراقبة من أهل الإيمان ، وحضرة الأرواح والأسرار لأهل المشاهدة والمكالمة من أهل الإحسان ، فمن منع نفسه من الدخول فى هذه الحضرات الثلاث ، وسعى فى خراب باطنه باتباع الحظوظ والشهوات ، ومال إلى الدنيا وزخارفها الغرارات ، فلا أحد أظلم منه نفسا ، ولا أبخس منه صفقة. فلا ينجع فى هؤلاء إلا خوف مزعج أو شوق مقلق. فإن لم يكن أحد من هذين بقي على غيه حتى مخايل الموت ، فيحن إلى الدخول فيها خائفا ، ولا ينفع حينئذ الندم ، وقد زلت به القدم ، له فى الدنيا ذلك الفقر والجزع ، وله فى الآخرة غم الحجاب وسوء الحساب وحسرة العتاب ، نسأل الله العافية فى الدارين. آمين ، بمنه وكرمه.
وقال القشيري : نفس العابد وطن العبادة ، وقلب العارف وطن المعرفة ، وروح الواجد وطن المحبة ، وسر الموحّد وطن المشاهدة ، ولا أظلم ممن سعى فى خراب وطن العابد بالشهوات ، وفى وطن المعرفة بالمنى والعلاقات ، وفى وطن المحبة بالحظوظ والمساكنات ، وفى وطن الموحد بالالتفات إلى القربات. ه. وبالله التوفيق.
ولما ذكر الحق تعالى تعطيل بعض المساجد والمنع من الصلاة فيها ، وسع على عباده فى الصلاة حيث شاءوا ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 115]
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115)
قلت : (أينما) شرطية ، و(تولوا) شرطها ، وجملة (فثم) جوابها ، و«ولى» يستعمل بمعنى أدبر وبمعنى أقبل ، تقول : وليت عن كذا أو كذا ، والوجه هنا بمعنى الجهة ، تقول : سافرت فى وجه كذا ، أي فى جهة كذا. قاله ابن عطية.
يقول الحق جل جلاله : وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ، والجهات كلها له ، لا يختص ملكه بمكان دون آخر ، فإذا منعتم من الصلاة فى المساجد ففى أي مكان كنتم ووليتم وجهكم إلى القبلة التي أمرتم بالتوجه إليها فثم جهته التي أمر بها ، أو فثم ذاته المقدسة ، أي : عالم مطلع على ما يفعل فيه ، إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ بإحاطته بالأشياء ، أو برحمته يريد التوسعة على عباده ، عَلِيمٌ بمصالحهم وأعمالهم فى الأماكن كلها.
وعن ابن عمر : أنها نزلت فى صلاة المسافر على الراحلة حيثما توجهت به ، وقيل : فى قوم عميت عليهم القبلة فصلوا إلى أنحاء مختلفة ، فلما أصبحوا تبينوا خطأهم ، وعلى هذا : لو أخطأ المجتهد ثم تبين له الخطأ ، لم يلزمه التدارك. قاله البيضاوي.
الإشارة : اعلم ان الأماكن والجهات ، وكل ما ظهر من الكائنات ، قائمة بأنوار الصفات ، ممحوة بأحدية الذات ، «كان الله ولا شىء معه ، وهو الآن على ما عليه كان» إذ لا وجود لشئ مع الله ، فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ(1/155)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 156
وَجْهُ اللَّهِ
، محق الآثار بأفلاك الأنوار ، وانمحت الأنوار بأحدية الأسرار ، وانفرد بالوجود الواحد القهار ، ولله در القائل :
مذ عرفت الإله لم أر غيرا وكذا الغير عندنا ممنوع
مذ تجمعت ما خشيت افتراقا فأنا اليوم واصل مجموع
وقال آخر : «1»
فالكلّ دون الله إن حققته عدم على التفصيل والإجمال
من لا وجود لذاته من ذاته فوجوده لولاه عين محال
وقال صاحب العينية :
تجلّى حبيبى فى مرائى جماله ففى كلّ مرئى للحبيب طلائع
فلما تبدّى حسنه متنوعا تسمّى بأسماء فهنّ مطالع
وقال الششترى :
محبوبى قد عمّ الوجود وقد ظهر فى بيض وسود
قال بعض السلف : (دخلت ديرا فجاء وقت الصلاة ، فقلت لبعض النصارى : دلنى على بقعة طاهرة أصلى فيها ، فقال لى : طهر قلبك عما سواه ، وقف حيث شئت ، قال : فخجلت منه). ويحكى عن أبى يزيد رضي اللّه عنه أنه كان يصلى إلى أي جهة شاء ، ويتلو هذه الآية ، «2» فالوجه عند أهل التحقيق هو عين الذات ، يعنى أسرار الذات وأنوار الصفات. قال تعالى : كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ أي : كل شىء فان ومستهلك فى الحال والاستقبال إلا ذاته المقدسة ، وأنشدوا :
فالعارفون فنوا بأن لم يشهدوا شيئا سوى المتكبر المتعالي
ورأوا سواه على الحقيقة هالكا فى الحال والماضي والاستقبال
___________
(1) وهو الشيخ أبو مدين.
(2) التوجه نحو البيت الحرام شرط من شروط صحة الصلاة لقوله تعالى : «ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام».
وأما آية : «فأينما تولوا فثم وجه الله» ، فسبق أنها نزلت فى مناسبة مخصوصة ، وقيل : إنها منسوخة. وقيل : المعنى : أينما كنتم فى شرق وغرب فثم وجه الله الذي أمرنا باستقباله وهو الكعبة الشريفة. وما حكى عن أبى يزيد - إن صح - فهو من قبيل الشطحات فلا نأخذ بها.(1/156)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 157
وقلت فى تائيتى الخمرية فى وصف الخمرة الأزلية :
تنزّهت عن حكم الحلول فى وصفها فليس لها فى سوى شكله حلّت
تجلّت عروسا فى مرائى جمالها وأرخت ستور الكبرياء بعزّة
فما ظهر فى الكون غير بهائها وما احتجبت إلا لحجب سريرة
ولما قالت اليهود : عزيز ابن الله ، وقالت النصارى : المسيح ابن الله ، وقالت المشركون : الملائكة بنات الله ، ردّ الله تعالى عليهم بقوله :
[سورة البقرة (2) : الآيات 116 الى 117]
وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
قلت : هذه الجملة معطوفة على قوله : وَقالَتِ الْيَهُودُ ... إلخ ، ومن قرأ بغير واو جعلها مستأنفة ، و(بديع) :
بمعنى مبدع ، والإبداع : اختراع الشيء من غير تقدم شىء. وقوله : (كن فيكون) ، قدّره سيبويه : فهو يكون ، وقرأ ابن عامر بنصب المضارع ، ولحنه بعضهم لأن المنصوب فى جواب الأمر لا بد أن يصلح جوابا لشرطه ، تقول :
اضرب زيدا فيستقيم ، أي : إن تضربه يستقيم ، ولا يصلح أن تقول هنا : إن يكن يكن ، وقد يجاب بحمله على المعنى ، والتقدير : إن قلت كن يكن.
يقول الحق جل جلاله : وقالت اليهود والنصارى والمشركون : اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً تعالى الله عن قولهم ، وتنزه عن ذلك لأنه يقتضى الجنسية والمشابهة والاحتياج ، والحق منزّه عن ذلك. بل كل ما استقر فى السموات السبع والأرضين السبع ملكه وعبيده ، فكيف يكون العبد ولدا لمالكه؟. وأيضا كل ما ظهر فى الوجود كله قانت ، أي : خاضع ومطيع لله ، وعابد له ، ومقهور تحت حكمه ومشيئته ، وذلك مناف لحال البنوة.
وأيضا : كل ما دخل عالم التكوين فهو مبدع ومخترع لله ، ومصنوع من مصنوعات الله ، فلا يصح أن يكون ولدا ، وأيضا : الولد يحتاج إلى صاحبة ومعالجة ومهلة ، والحق تعالى أمره بين الكاف والنون ، بل أسرع من لحظ العيون ، فإذا قَضى أَمْراً أي : أراده ، فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ، ولا يتوقف على لفظة كُنْ ، وإنما هو كناية عن سرعة الاقتدار.(1/157)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 158
قال البيضاوي : واعلم أن السبب فى هذه الضلالة أن أرباب الشرائع المتقدمة كانوا يطلقون الأب على الله تعالى ، باعتبار أنه السبب الأول ، حتى قالوا : إن الأب هو الرب الأصغر ، والله تعالى هو الرب الأكبر ، ثم ظن الجهلة منهم أن المراد به معنى الولادة ، فاعتقدوا ذلك تقليدا ، ولذلك كفر قائله ومنع منه مطلقا حسما لمادة الفساد. ه.
الإشارة : اعلم أنك إذا نظرت بعين البصيرة ، أو بحق البصيرة ، إلى الوجود بأسره ، وجدته ذاتا واحدة ، ونسبته من الحق نسبة واحدة ، أنوار ظاهرة ، وأسرار باطنة ، حكمته ظاهرة ، وقدرته باطنة حسن ظاهر ، ومعنى باطن ، عبودية ظاهرة ، وأسرار معانى الربوبية باطنة إذ لا قيام للعبودية إلا بأسرار معانى الربوبية ، قال تعالى :
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا ، وقال تعالى : اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وقال فى الحكم : «الأكوان ظاهرها غرة وباطنها عبرة ، فالنفس تنظر إلى ظاهر بهجتها ، والقلب ينظر إلى باطن عبرتها». فأهل الفرق يثبتون الأشياء مستقلة مع الله ، وربما تغالى بعضهم فأشركها معه فى الألوهية ، فتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
قال محيى الدين الحاتمي : من رأى الخلق لا فعل لهم فقد فاز ، ومن رآهم لا حياة لهم فقد جاز ، ومن رآهم بعين العدم فقد وصل. ه. قلت : ومن أثبتهم بالله فقد تمكن وصاله ، وأنشدوا :
من أبصر الخلق كالسراب فقد ترقّى عن الحجاب
إلى وجود تراه رتقا بلا ابتعاد ولا اقتراب
ولم تشاهد به سواه هناك تهدى إلى الصواب
فلا خطاب به إليه ولا مشير إلى الخطاب. ه.
ولما قال رافع بن حريملة - من أحبار يهود - للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم : أسمعنا كلام الله إن كنت رسوله ، أو أرنا آية تصدقك ، ردّ الله تعالى عليه ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 118 الى 119]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119)(1/158)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 159
قلت : هذه المقالة صدرت من بعض اليهود والمشركين ، قالوا ذلك تعنتا وعنادا ، لا طلبا لليقين ، فلذلك نفى الله عنهم العلم رأسا ، والمقصود فى هذه الآيات كلها توبيخ اليهود.
يقول الحق جل جلاله : وَقالَ الَّذِينَ لا علم عندهم : هلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ حتى نسمع منه أنك رسوله ، أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ ظاهرة ، نراها جهرة تدل على رسالتك ، كما كانت لموسى - عليه السّلام - .
وهذه المقالة التي صدرت من اليهود ، تعنتا وعنادا ، قد صدرت ممن قبلهم من أسلافهم ، فقالوا : أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ، ومن النصارى فقالوا : هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ ، ومن المشركين فقالوا :
لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً الآية. فقد تماثلت قلوبهم فى الكفر والعناد ، وتشابهت فى العتو والفساد ، قد أوضحنا لك الآيات البينات ، تحقق رسالتك وتقرر اصطفائيتك ، لمن طلب مزيد الإيقان ، وكشف البيان على نعت العيان ، فأعظمها القرآن ، ثم ما أوضحته من شرائع الأحكام ، وما بينته من الحلال والحرام ، ثم ما أخبرت به من الغيوب ، وما كشفته عن القلوب من الكروب ، ثم نطق الجمادات والأحجار ، كحنين الجذع وانقياد الأشجار ، وتسبيح الحصى ، وتسليم الحجر ، وقد نبع الماء من بين أصابعه وانهمر ، إلى ما لا يعد ولا يحصى.
فقد أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ ، أي : متلبسا بالحق ومبينا له ، بَشِيراً لمن صدقك واتبعك بالنعيم المقيم ، ونَذِيراً لمن خالفك بعذاب الجحيم. فلا تسأل عن حالهم إذا أفضوا إليه ، فإنه أعظم من أن يذكر ، وأفظع من أن يسمع ، إذ لا يمكن تفسير حالهم ، ولا يستطيع أحد سماع أهوالهم ، فالله يعصمنا من موارد الردى ، ويوفقنا لاتباع الحق والهدى ، أو لا يسألك ربك عنهم فهو أعلم بحالهم ، وبالله التوفيق.
الإشارة : طلب الكرامات وظهور الآيات من طبع أهل الجهل والعناد ، وليس هو من شيم أهل الهداية والاسترشاد. فالطريق واضح لمن طلب السبيل ، والحق لائح لمن أبصر الدليل ، فمن كحل عين بصيرته بإثمد التوحيد الخاص ، لم يقع بصره إلا على الحق ، ولا يعرف إلا إياه ، ورأى الأشياء كلها قائمة بالله ، بل لا وجود لها مع الله ، ومن فتح الله سمع قلبه لم يسمع إلا من الحق ، ولا يسمع إلا به ، كما قال القائل : أنا بالله أنطق ومن الله أسمع.
وقال الجنيد رضي اللّه عنه : (لى أربعون سنة أناجى الحق ، والناس يرون أنى أناجى الخلق). فالخلق محذوفون عند أهل العلم بالتحقيق ، مثبتون عند أهل الجهل والتفريق. يقولون : لو لا يكلمنا الله أو تأتينا آية ، مع أنه يكلمهم فى كل(1/159)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 160
وقت وساعة ، كذلك قال من شاركهم فى الجهل بالله ، مع وضوح الآيات لمن عرف الله. والله يقول الحق وهو يهدى السبيل.
ولمّا قالت اليهود والنصارى لرسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم : اجعل بيننا وبينك هدنة نتبعك بعدها ، وأضمروا فى نفوسهم أنهم لا يتبعونه حتى يتبع ملتهم ، فضحهم الله تعالى ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 120]
وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120)
قلت : الملة هى الشريعة ، وهى ما شرع الله على لسان أنبيائه ورسله ، من أمللت الكتاب وأمليته ، إذا قرأته.
والهوى : رأى يتبع الشهوة.
يقول الحق جل جلاله لرسوله صلّى اللّه عليه وسلّم : وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وتتبع دينك أبدا ، وَلَا النَّصارى كذلك حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ على فرض المحال ، والمقصود قطع رجائه من إسلامهم باختيارهم لأن اتباعه ملتهم محال ، وكذلك إسلامهم. ولعله فى قوم مخصوصين. ثم زاد فى التنفير من اتباعهم فقال : وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ الباطلة فرضا وتقديرا بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ بالله وبأحكامه على المنهاج القويم ، ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يمنعك منا ، وَلا نَصِيرٍ ينصرك من غيرنا ، أي : لا ولى ولا نصير لك إلا نحن حيث واليتنا ، وأحببتنا ، وأظهرت ملتنا ، فنحن لك على ما تحب وترضى.
الإشارة : التماس رضى الناس من علامة الإفلاس ، ولن يرضى عنك الناس حتى تتبع أهواءهم ، ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما تحققت ما هم فيه ، إنك إذا لمن الظالمين ، فمن التمس رضى الناس وقع فى سخط الله ، ومن التمس رضى الله قطع يأسه من الناس. ولذلك قال بعضهم : كل ما سقط من عين الخلق عظم فى عين الحق ، وكل ما عظم فى عين الخلق سقط من عين الحق ، وقال آخر : إن الذي تكرهون منى هو الذي يشتهيه قلبى. ه.
وقال بعض الصالحين : (لقيت بعض الأبدال ، فقلت له : دلّنى على الطريق؟ فقال : لا تخالط الناس فإن مخالطتهم ظلمة ، فقلت : لا بد من مخالطتهم وأنا بين أظهرهم؟ فقال لا تعاملهم ، فإن معاملتهم خسران. قلت : لا بد من معاملتهم؟ فقال : لا تركن إليهم ، فإن فى الركون إليهم هلكة ، فقلت : هذا لعله يكون؟ فقال : يا هذا ، أتخالط البطالين ، وتعامل الجاهلين ، وتركن إلى الهلكى ، وتحب أن يكون قلبك مع الله؟ هيهات .. هذا لا يكون أبدا ، ثم غاب عنى ولم أره).(1/160)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 161
ولما عاتب الله بنى إسرائيل ووبخهم استثنى من آمن منهم ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 121]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121)
قلت : جملة (يتلونه) حال ، و(أولئك) خبر الموصول.
يقول الحق جل جلاله : الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ ، كعبد الله بن سلام وأصحابه ، حالتهم يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ غير محرّفين له ، ولا كاتمين ما فيه ، أُولئِكَ هم الذين يُؤْمِنُونَ بِهِ حقيقة ، وأما غيرهم ممن حرف وكتم صفة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم فقد كفر به ، وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أي : الكاملون فى الخسران ، حيث بخسوا أنفسهم من عزّ الدارين.
الإشارة : ما قيل فى التوراة وأصحابه يقال مثله فى القرآن وأهله فمن آتاه الله القرآن ، وتلاه حق تلاوته ، بحيث جوّد حروفه وتدبّر معانيه ، وعمل بما فيه ، فأولئك هم المؤمنون به حقا ، والفائزون بثمار معانيه حلاوة وذوقا ، ومن ترك التدبر فى معانيه فقد حرم نفسه ثمار حلاوته ، وذلك عين الخسران عند أهل الإيقان. وبالله التوفيق.
ثم رجع الحق تعالى إلى تذكيرهم بالنعم ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 122 الى 123]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
قلت : جملة (لا تجزى) : نعت ليوم ، وحذف العائد ، أي : لا تجزى فيه نفس ، قال المرادي : (إذا نعت بالجملة اسم زمان جاز حذف عائده) ثم استدل بالآية. وهل حذف برمته أو بالتدريج؟ قولان.
يقول الحق جل جلاله : يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ بأن جعلت الأنبياء تسوسكم ، والملوك منكم يدبرون أموركم ، وفَضَّلْتُكُمْ على عالم زمانكم ، فاشكروا هذه النعم بالإيمان بالرسول الذي أرسلته إليكم ، وخافوا أهوال يوم القيامة ، الذي لا تغنى فيه نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها فداء إن أرادت الفداء ، وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ شافع ، ولا يدفع عنها أهوال ذلك اليوم ولى ولا ناصر ، إلا من اتخذ يدا عند الملك القادر ، وبالله التوفيق. وتقدمت إشارة هذه الآية فى الآية الأولى.(1/161)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 162
ولما أراد الحق تعالى أن ينسخ القبلة ويردها إلى بيت الله الحرام بعد أن كانت إلى بيت المقدس ، ذكر خصوصية من بناه ، وكيفية بنائه ، وفى ضمن ذلك ذكر شرفه ليكون ذلك داعيا إلى الامتثال ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 124]
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
قلت : (ابتلى) اختبر ، و(ابراهيم) مفعول ، وفيه أربع لغات : إبراهام وإبراهوم وإبراهيم وبالقصر ، و(ربه) فاعل ، وقدم المفعول للاهتمام ، ولئلا يعود الضمير على ما بعده لفظا ورتبة ، و(عهدى) فاعل ، و(الظالمين) مفعول.
يقول الحق جل جلاله : واذكر يا محمد ، أو اذكروا يا بنى إسرائيل ، حين اختبر إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ أن يعمل بها ، وهى : تسليم بدنه للنيران ، وولده للقربان ، وطعامه للضيّفان ، أو عشر خصال : خمس فى الرأس :
المضمضة ، والاستنشاق ، وقص الشارب ، والسواك ، وفرق الرأس. وقيل : وإعفاء اللحية ، وخمس فى الجسد : تقليم الظفر ، وحلق العانة ، ونتف الإبط ، والاستنجاء بالماء ، والاختتان. أو مناسك الحج أو الخصال التي امتحن بها وهى :
الكوكب ، والقمر ، والشمس ، والنار. والهجرة ، والذبح ، والأحسن أنها ثلاث : الهجرة من وطنه ، ورمى ولده بمكة ، وذبح الآخر حين بلغ أن يسعى معه «1». فَأَتَمَّهُنَّ أي : وفىّ بهن ، فلما وفى بهن (قال) اللّه تعالى له : إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ، أي : قدوة بك فى التوحيد ، أو فى الأصول والفروع ، إذ لم يبعث بعده نبى إلا كان من ذريته ، ومأمور باتباعه.
ولمّا جعله اللّه إماما طلب ذلك لأولاده فقال : وَمِنْ ذُرِّيَّتِي فاجعل أئمة ، قالَ الحق تعالى : لا يَنالُ عَهْدِي أي : لا يلحق عهدى بالإمامة الظَّالِمِينَ منهم ، إذ لا يصلح للإمامة إلا البررة الأتقياء ، لأنها أمانة من اللّه وعهد ، والظالم لا يصلح لها ، وفيه تنبيه على أنه قد يكون من ذريته ظلمة لا يستحقون الإمامة ، وفيه دليل على عصمة الأنبياء قبل البعثة ، وأن الفاسق لا يصلح للإمامة. قاله البيضاوي.
الإشارة : إذا أراد اللّه تعالى أن يجعل وليا من أوليائه إماما يقتدى به ، وداعيا يدعو إليه ، ابتلاه ، فإن صبر ورضى اصطفاه ، ولحضرته اجتباه ، فيكون إماما يقتدى به ، وداعيا يهتدى به ، وهذه سنة اللّه تعالى فى أصفيائه
___________
(1) قوله : (و رمى ولده بمكة وذبح الآخر) ، يفيد أن الذبيح غير الذي ترك بمكة. وإذا كان الذي ترك بمكة هو إسماعيل - كما هو معروف - فإن الذبيح يكون إسحاق. وهذا ما ذهب إليه قلة من العلماء. والراجح أن الذبيح هو إسماعيل عليه السّلام ، وهذا هو المروي عن جمهرة الصحابة والتابعين - وعليه غالب المحدثين والمفسرين ، واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة. انظر : تفسير : الرازي وابن كثير ، والقول الفصيح فى تعيين الذبيح ، للسيوطى ، والإسرائيليات والموضوعات ، للدكتور أبى شهبة.(1/162)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 163
يبتليهم اللّه تعالى بتسليط الخلق عليهم وأنواع من البلايا ، فإذا نقوا من البقايا ، وتكلمت فيهم المزايا ، أظهرهم للخلق داعين إلى اللّه ومرشدين إلى طريق اللّه ، وقد تبقى الإمامة فى ذريتهم إن ساروا على هديهم ، ومن لم يسلك به هذا المسلك فلا يصلح للإمامة ، وإن توجه إليها كان ناقصا فى الدعوة ، ولذلك قال بعضهم : (من ادعى شهود الجمال قبل تأدبه بالجلال ، فارفضه فإنه دجال). ه. وكل من اتصف بشئ من ظلم العباد لا ينال عهد الإمامة فى طريق الإرشاد ، وباللّه التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم ذكر شرف البيت الذي هو المقصود ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 125]
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
قلت : (المثابة) : المرجع الذي يثوب الناس إليه كل سنة ، و(اتخذوا) : على قراءة الأمر ، محكى بقول محذوف ، أي : وقلنا اتخذوا ، وعلى قراءة الماضي : معطوف على (جعلنا) ، أي : جعلناه مثابة ، واتخذه الناس مصلّى.
يقول الحق جل جلاله : (و) اذكر يا محمد إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ الحرام ، أي : الكعبة ، مرجعا للناس يرجعون لزيارته والطواف به كل سنة ، وجعلناه محل أمن ، كل من دخله كان آمنا من عقوبة الدنيا والآخرة ، أما فى الدنيا فإنّ الناس يتخطفون من حوله ، وأهله آمنون ، وأما فى الآخرة فلأن الحج يجبّ ما قبله ، وهذا يدل على شرف البيت وحرمته.
وقلنا لهم : اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ ، وهو الحجر الذي فيه أثر قدميه ، مُصَلًّى تصلون إليه ، وهو الذي يصلون خلفه ركعتى الطواف ، وَعَهِدْنا أي : أوحينا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ ولده ، بأن قلنا لهما :
طَهِّرا بَيْتِيَ من الأدناس والأرجاس والأصنام والأوثان ، لِلطَّائِفِينَ به وَالْعاكِفِينَ أي : المقيمين فيه ، والمصلين فيه الراكعين الساجدين. فكان البيت مطهرا فى زمانهما وبعدهما زمانا ، ثم أدخلت فيه [الأصنام ] «1» فطهره نبينا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، وتبقى طهارته حتى يأتى أمر اللّه. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : القلب هو بيت الرب ، يقول اللّه تبارك وتعالى لبعض أنبيائه : «طهر لى بيتا أسكنه ، فقال : يا رب أي بيت يسعك؟ فقال له : لن تسعنى أرضى ولا سمائى ، ووسعني قلب عبدى المؤمن». فإذا تطهر القلب من الأغيار
___________
(1) ما بين المعكوفتين زيادة ليست فى الأصول.(1/163)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 164
وملئ بالأنوار ، وتمكنت فيه المعارف والأسرار ، كان مرجعا وملجأ للعباد ، كل من وصل إليه ، وطاف به ، كان آمنا من الزيغ والعناد ، ومن خواطر السوء وسوء الاعتقاد ، ومن دخله بالمحبة والوداد ، أمن من الطرد والبعاد ، وكان عند اللّه من أفضل العباد. ومقام إبراهيم - عليه السّلام - هو الاستغراق فى عين بحر الشهود ، ورفع الهمة عن ما سوى الملك المعبود.
وهذا المقام هو الذي اتخذه العارفون كعبة لصلاة قلوبهم ، وغاية لمنتهى قصودهم.
عباراتهم شتّى ، وحسنك واحد ، وكلّ إلى ذاك الجمال يشير
وقد عهد اللّه تعالى إلى أنبيائه وأصفيائه أن يطهروا قلوبهم من الأغيار ، ويرفضوا كل ما سواه من الأكدار ، لتتهيأ بذلك لطواف الواردات والأنوار ، ولعكوف المعارف والأسرار ، وتخضع لهيبتها ظواهر الأشباح ، وتنقاد لجمال بهجتها القلوب والأرواح ، وما ذلك على اللّه بعزيز.
ثم ذكر الحق تعالى دعاء إبراهيم الخليل لمكان البيت ، زيادة فى تشريفه ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 126]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
قلت : الإشارة تعود إلى المكان ، أو البلد ، أي : اجعل هذا المكان بلدا ذا أمن ، قال بعضهم : نكّر البلد هنا ، وعرّفه فى سورة إبراهيم ، لأن هذا الدعاء وقع قبل أن يكون بلدا ، وفى سورة إبراهيم وقع بعد أن كان بلدا فلذلك عرّفه ، وفيه نظر من جهة التاريخ ، وسيأتى تمامه هناك إن شاء اللّه.
وقوله : (من آمن) : بدل من (أهله) ، بدل البعض للتخصيص ، و(من كفر) : معطوف على (من آمن) ، على حذف المضارع ، أي : وارزق من كفر.
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ فى دعائه لمكة لما أنزل ابنه بها بواد غير ذى زرع ، وتركه فى يد اللّه تعالى : رَبِّ اجْعَلْ هذا المكان بَلَداً آمِناً يأمن فيه كل من يأوى إليه ، وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ أنواع الثَّمَراتِ ، كالحبوب وسائر الفواكه ، مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ الحق جل جلاله : بل وأرزق أيضا مَنْ كَفَرَ فى الدنيا ، فَأُمَتِّعُهُ زمنا قَلِيلًا ، أو تمتيعا قليلا. ثُمَّ ألجئه إِلى عَذابِ النَّارِ وبئس المرجع مصيره.(1/164)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 165
قاس إبراهيم الخليل الرزق على الإمامة ، فنّبه سبحانه وتعالى أن الرزق رحمة دنيوية ، تعم المؤمن والكافر ، بخلاف الإمامة ، والتقدم فى الدين ، فإنها سبب النعيم الأخروى ، ولا ينالها إلا أهل الإيمان والصلاح.
الإشارة : دعاء الأنبياء عليهم السلام ، كما يصدق بالحس يصدق بالمعنى ، فيشمل دعاء الخليل القلوب التي هى بلد الإيمان ، والأرواح التي هى معدن الأسرار والإحسان ، فتكون آمنة من طوارق الشيطان ، ومحفوظة من الوقوف مع رؤية الأكوان ، آمنة من الأكدار ، محفوظة من رؤية الأغيار ، فيرزقها اللّه من ثمرة العلوم ، ويفتح لها من مخازن الفهوم ، من آمن منهم بالشريعة الظاهرة ، وجاهد نفسه فى عمل الطريقة الباطنة ، حتى أشرقت عليه أنوار الحقيقة العيانية ، وأما من كفر بطريق الخصوص ، ووقف مع ظواهر النصوص ، فإنما يمتّع بعلم الرسوم الذي حدّ حلاوته اللسان ، ثم يلجأ إلى عذاب الحجاب ، وسوء الحساب ، ولم يفض إلى حلاوة الشهود والعيان ، التي يمتع بها الجنان حتى يفضى إلى نعيم الجنان ، فيتم النعيم بالنظر إلى وجهه الكريم ، منحنا اللّه من ذلك حظا وافرا بمنّه وكرمه.
ثم ذكر الحق تعالى كيفية بناء البيت ، وما كان شعارهما فى حالة بنائه ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 127]
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)
قلت : (القواعد) جمع قاعدة ، وهى الأساس ، وكأنه مأخوذ من القعود بمعنى الثبات ، وأما القواعد من النساء ، فجمع قاعد ، بلا تاء ، لأنه وصف خاص بالنساء ، فلا يحتاج إلى تمييز التاء ، و(ربنا) منصوب على النداء محكى بحال محذوفة ، أي : حال كونهم قائلين ربنا ... إلخ.
يقول الحق جل جلاله : واذكر وقت رفع إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ ، وبنائهما له ، بعد أن درس بالطوفان ، وكان بناء آدم عليه السّلام لما أهبط إلى الأرض بإعلام الملائكة. كان إبراهيم عليه السّلام يبنى ، وإسماعيل يناوله الحجارة ، فنسب البناء لهما لتعاونهما ، وقيل : كانا يبنيان كلّ فى ناحية ، حال كونهما قائلين :
رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا عملنا هذا ، إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ لدعائنا ، الْعَلِيمُ بنياتنا وسرائرنا.
الإشارة : ينبغى للعبد أن يرفع قواعد إسلامه ، ويشيد دعائمه بتحقيق أركانه ، كإتقان الشهادتين بتحقيق معانيها ، وإتقان الصلاة بإتقان أركانها الظاهرة والباطنة ، وإتقان الزكاة بإخلاص أدائها ، وإتقان الصيام بتحصيل آدابه ، وإتقان الحج بتحصيل مناسكه بعد وجوبه ، ويرفع أيضا قواعد إيمانه بتحقيق أركانه ، وهى : الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وبالقدر خيره وشره ، حلوه ومره ، اعتقادا وذوقا ، ويرفع أيضا قواعد إحسانه ، (1/165)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 166
بتحصيل مراتبه ، كتحقيق المشاهدة ، وهو أن يعبد اللّه كأنه يراه ، فإن لم يستطع فليعبده كأن اللّه يراه ، وإن شئت قلت : رفع قواعد الإسلام يكون بتحقيق التوبة والتقوى والاستقامة ، ورفع قواعد الإيمان يكون بتحقيق الإخلاص والصدق والطمأنينة ، ورفع قواعد الإحسان يكون بالمراقبة والمشاهدة والمعرفة ، كما قال الساحلى - رحمه اللّه - .
ثم ذكر الحق تعالى دعاءهم بعد البناء ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 128 الى 129]
رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
قلت : قال ابن عباس رضي اللّه عنه : لما فرغ إبراهيم وإسماعيل من بناء البيت ، دعوا بهذا الدعاء ، فقالا : (ربنا واجعلنا مسلمين لك) أي : منقادين لأوامرك الظاهرة ولأحكامك القهرية.
واجعل مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً أي : جماعة مُسْلِمَةً لَكَ. علما - بوحي أو إلهام - أنه يكون من ذريتهما من يكفر باللّه ، وَأَرِنا أي : عرفنا وعلمنا مَناسِكَنا فى الحج. والنّسك فى الأصل : غاية العبادة ، وشاع فى الحج لما فيه من المشاق والكلفة ، والبعد عن العادة. وَتُبْ عَلَيْنا مما لا يليق بحالنا ، فحسنات الأبرار سيئات المقربين ، فلكل مقام ما ينقصه وإن كان كاملا. ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يستغفر فى المجلس سبعين مرة. إذ ما من مقام إلا وقبله ما فيه نقص ، فإذا ترقى عنه استغفر منه ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ أي : كثير القبول والإقبال على التائبين.
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ أي : فى الذرية رَسُولًا مِنْهُمْ وهو مولانا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم قال - عليه الصلاة والسلام - :
«أنا دعوة أبى إبراهيم ، وبشارة عيسى» ، حال كونه يَتْلُوا عَلَيْهِمْ أي : يبلغهم آياتِكَ الدالة على توحيدك وصدق رسالتك ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ أي : القرآن وَالْحِكْمَةَ أي : الشريعة أو السنة. وقال مالك : هى الفقه فى الدين والفهم فيه ، أو نور يضعه فى قلب من شاء من عباده ، وَيُزَكِّيهِمْ أي : يطهرهم من لوث المعاصي وكدر الحس ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الغالب فى حكمه وسلطانه ، الْحَكِيمُ فى صنعه وإتقانه ، واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : تضمن دعاؤهما عليهما السلام ثلاثة أمور يطلب التماسها والتحقق بها من كل أحد أولها :
الانقياد للّه فى الظاهر والباطن ، بامتثال أمره والاستسلام لقهره ، حتى يسرى ذلك فى الأصل إلى فرعه ، وهى غاية المنة ، قال فى الحكم : «متى جعلك فى الظاهر ممتثلا لأمره ، وفى الباطن مستسلما لقهره ، فقد أعظم منته(1/166)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 167
عليك». والثاني : معرفته الطريق ، والسلوك على جادتها ، كارتكاب مشاق الطاعات ، ومعانقة مخالفة الهوى والشهوات ، ورؤية التقصير فى ذلك ، وطلب التوبة مما هنالك ، وهذه هى مناسك حج القلوب ، والطريق الموصل إلى عرفة حضرة الغيوب ، والثالث : الظفر بالداعي إلى اللّه والدال عليه ، وهو المعلم الأكبر ، صحبته تطهر من العيوب ، ورؤيته تغنى القلوب ، وتدخلها إلى حضرة الغيوب ، ظاهره قائم بوظائف الحكمة ، وباطنه مشاهد لتصاريف القدرة ، وهذا هو القائم بالتربية النبوية. وباللّه التوفيق.
ولما قرر شرف إبراهيم عليه السّلام وجعله إماما يقتدى به ، حذر من ترك دينه والرغبة عن ملته ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 130 الى 132]
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
قلت : (من) : استفهامية إنكارية ، فيها معنى النفي ، مبتدأ ، و(يرغب) وما بعده خبر ، و(إلا) إبطال لنفيها الذي تضمنته ، و(من سفه) بدل من ضمير (يرغب) على المختار ، و(نفسه) مفعول «سفه» لتضمنه معنى جهل أو أهلك ، قاله الزجاج ، أو على التمييز قاله الفراء لأن الضمير فيه معنى الشيوع الذي فى (من) فلم يكسب التعريف ، أو على إسقاط الجارّ وإيصال الفعل إليه ، كقولهم : ضرب فلان الظهر والبطن. و(إذ) معمول لاصطفيناه ، وأوصى ووصى : لغتان ، إلا أن وصى فيه معنى التكثير. وضمير (بها) يعود على كلمة (أسلمت) ، أو الملة ، و(يعقوب) معطوف على «إبراهيم» ، و(بنى) محكى بحال محذوفة ، أي : قائلين يا بنى ، أو مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : قال يا بنى ... إلخ ، فيوقف على (بنيه).
يقول الحق جل جلاله : وَمَنْ هذا الذي يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ الواضحة إِلَّا من جهل قدر نَفْسَهُ وبخسها حقها؟ أو إلا من خف رأيه وسفهت نفسه؟ وكيف يرغب عاقل عنها وقد اخترناه إماما فِي الدُّنْيا يقتدى به أهل الظاهر والباطن؟ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ لحضرتنا ، والساكنين فى جوارنا.
وإنما اخترناه لذلك لأنه حين قالَ لَهُ رَبُّهُ : استسلم لحكمنا ، وانقد لأمرنا ، قال سريعا : أَسْلَمْتُ وجهى لِرَبِّ الْعالَمِينَ ، وانقدت بكلّيتى إليه. وَوَصَّى بهذه الكلمة أو الملة إِبْراهِيمُ ، عند موته ، بَنِيهِ ، وكانوا أربعة : إسماعيل وإسحاق ومدين ومدان. وكذلك حفيده يَعْقُوبُ أوصى بهذه الكلمة بنيه. وكانوا اثنى عشر ، على ما يأتى فى الأسباط ، قائلين فى تلك الوصية : يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اختار لكم الدِّينَ الحنيف الواضح المنيف ، فتمسكوا به ما عشتم ، ولا تموتن إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ متمسكون به.(1/167)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 168
الإشارة : ملة أبينا إبراهيم عليه السّلام هى رفع الهمة عن الخلق ، وإفراد الوجهة للملك الحق ، ورفض الوسائط والأسباب ، والتعلق برب الأرباب ، وفى ذلك يقول الشاعر ، وهو الششترى :
فرفض السّوى فرض علينا لأنّنا بملة محو الشّرك والشّكّ قد دنّا
ومن ملته أيضا : ترك التدبير والاختيار ، والاستسلام لأحكام الواحد القهار ، فمن تمسك بهذه الخصال على التمام ، ووصى بها من لقيه من الأنام ، جعله اللّه فى الدنيا إماما يقتدى بأقواله ويهتدى بأنواره ، وإنه فى الآخرة لمن الصالحين المقربين مع النبيين والمرسلين ، وأما من رغب عن هذه الملة الحنيفية فقد خسر الدنيا والآخرة. نسأل اللّه الحفظ بمنّه وكرمه.
ولما ادّعت اليهود أن اليهودية هى ملة إبراهيم عليه السّلام كذّبهم اللّه تعالى ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 133 الى 134]
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134)
قلت : (أم) منقطعة ، والاستفهام فيها للإنكار ، أي : ما كنتم حاضرين حين حضر يعقوب الموت ، وقال لبنيه ما قال ، فكيف تدعون اليهودية عليه ، و(إلها واحدا) بدل من (إله آبائك) ، وفائدته التصريح بالتوحيد ، ونفى التوهم الناشئ عن تكرير المضاف ، لتعذر العطف على المجرور ، والتأكيد ، أو نصب على الاختصاص أو الحال ، وعد إسماعيل من الآباء تغليبا ، أو لأنه كالأب لقوله - عليه الصلاة والسلام - : «عمّ الرجل صنو أبيه» وقال فى العباس : «هذا بقية آبائي». قاله البيضاوي.
يقول الحق جل جلاله فى توبيخ اليهود على زعمهم أن اليهودية كانت ملة إبراهيم ، وأن يعقوب عليه السّلام أوصى بها عند موته ، فقال : هل كنتم حاضرين عند يعقوب حين حضرته الوفاة حتى أوصى بما زعمتم؟ وإنما كانت وصيته أن قال لبنيه : ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي أي : أىّ شىء تعبدونه؟ أراد به تقريرهم على التوحيد وأخذ ميثاقهم على الثبات عليه ، (قالوا) فى جوابه : نَعْبُدُ إِلهَكَ المتفق على وجوب وجوده وثبوت ألوهيته الذي هو إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ من قبلك إِبْراهِيمَ وولده إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ الذي هو إله واحد. ونحن منقادون لأحكامه ، مستسلمون لأمره إلى مماتنا ، فلم يوص يعقوب إلا بما سمعتم ، فانتسابكم يا معشر اليهود إليهم لا يوجب انتفاعكم بأعمالهم ، وإنما تنتفعون بموافقتهم واتباعهم.(1/168)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 169
فتلك أُمَّةٌ أي : جماعة قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ من الخير ، وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ أنتم ، وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ فلا تؤاخذون بسيئاتهم ، كما لا تثابون بحسناتهم. وهذا كما قال صلّى اللّه عليه وسلّم لقريش : «لا يأتينى الناس بأعمالهم وتأتونى بأنسابكم».
الإشارة : يقال لمن حصر الخصوصية فى أسلافه ، ونفاها عن غيرهم : هل حضرتم معهم حين أوصوا بذلك؟ بل ما كانوا يوصون إلا بإخلاص العبودية ، وتوحيد الألوهية ، ومشاهدة عظمة الربوبية ، فمن حصّل هذه الخصال كانت الخصوصية معه أينما كان ، ومن حاد عنها ومال إلى متابعة الهوى انتقلت إلى غيره ، ويقال له : إن أسلافه قد جدّوا ووجدوا ، وأنت لا تنتفع بأعمالهم فى طريق الخصوصية ، (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ...) الآية. وباللّه التوفيق.
ولما أمر اليهود والنصارى المسلمين باتباع دينهم ، لأنه أقدم ، ردّ اللّه عليهم ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 135]
وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
قلت : الضمير فى (قالوا) لأهل الكتاب ، و(أو) للتفصيل ، أي : قالت اليهود : كونوا هودا ، وقالت النصارى :
كونوا نصارى. و(تهتدوا) جواب الأمر ، و(ملة) منصوب بفعل محذوف ، على حذف مضاف ، أي : بل نكون أهل ملة إبراهيم ، أو نتبع أو نلزم ملة إبراهيم ، و(حنيفا) حال من المضاف إليه ، لأنه كجزئه ، أي : مائلا عن الباطل إلى الحق.
يقول الحق جل جلاله : وقالت اليهود للمسلمين : كُونُوا معنا هودا تَهْتَدُوا فإن ديننا أقدم ، وقالت النصارى لهم أيضا : كونوا نَصارى معنا تَهْتَدُوا فإن ديننا أصوب ، قُلْ لهم يا محمد : بَلْ نلزم مِلَّةَ إِبْراهِيمَ الذي كان مائلا عن الباطل متبعا للحق ، ومشاهدا له وحده. ولم يكن من المشركين كما أشركتم بعزير وعيسى وغيرهما ، تعالى اللّه عن قولكم علوا كبيرا.
الإشارة : قد سرى هذا الطبع فى بعض المنتسبين ، يرغّبون الناس فى طريقهم ، ويحرصون على اتباعهم والدخول معهم ، وينقصون طريق غيرهم ، وهو وصف مذموم ، بل الواجب أن ينظر الإنسان بعين البصيرة ، فمن وجده يدل على اللّه ويغيب عما سواه ، ينهض حاله ويدل على اللّه مقاله ، اتبعه وحطّ رأسه له ، ولزم ملته وطريقه أينما كان ، وكيفما كان. ومن وجده على غير هذا الوصف ، أعرض عنه ، والتمس غيره ، وليس من شأن الدعاة إلى(1/169)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 170
اللّه الحرص على الناس ، أو الترغيب فى اتباعهم ، بل هم أزهد الناس فى الناس ، من أتاهم دلوه على اللّه ، ومن لقيهم نصحوه فى اللّه ، هم على قدّم الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وقد قال له الحق تعالى : أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ. ، لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ، فكان صلّى اللّه عليه وسلّم بعد ذلك يدل على اللّه وينظر ما يفعل اللّه. وباللّه التوفيق.
ثم بيّن الحق تعالى كيفية الإيمان الذي يجب اتباعه ، وأبطل ما سواه ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 136 الى 138]
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138)
قلت : الأسباط : الأحفاد ، والسّبط فى بنى إسرائيل بمنزلة القبيلة فى ولد إسماعيل ، والباء فى (بمثل) : يحتمل أن تكون زائدة كقوله تعالى : وجَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها ، أو (مثل) مقحم ، أي : فإن آمنوا بما آمنتم به ، كقوله تعالى :
وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ. والشقاق : المخالفة ، كأن كل واحد من المتخالفين فى شق غير شق الآخر ، و(صبغة اللّه) : مصدر مؤكد لآمنا لأن الإيمان ينصبغ فى القلوب ، ويظهر أثره على الجوارح ظهور الصبغ على المصبوغ ، ويتداخل فى قلوبهم تداخل الصبغ للثوب. أي : آمنا وصبغنا اللّه به صبغة.
وهى فطرة اللّه التي فطر الناس عليها ، وعبّر عنها بالصبغ للمشاكلة فإن النصارى كانوا يغمسون أولادهم فى ماء أصفر يسمونه المعمودية ، ويقولون : هو تطهير لهم ، وبه تحق نصرانيتهم ، فردّ اللّه تعالى عليهم بأن صبغة ، اللّه أحسن من صبغتهم وقيل : نصب على البدل من (ملة إبراهيم) ، أو على الإغراء ، أي : الزموا صبغة اللّه.
يقول الحق جل جلاله : قُولُوا يا معشر المسلمين فى تحقيق إيمانكم : آمَنَّا بِاللَّهِ أي : صدقنا بوجوده متصفا بصفة الكمال ، منزها عن النقائص ، وَبما أُنْزِلَ إِلَيْنا وهو القرآن ، وَبما أُنْزِلَ من الصحف إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ولد إسحاق ، وَالْأَسْباطِ أولاد يعقوب عليه السّلام وهم : روبيل وشمعون ولاوى ويهوذا وربالون ويشحر ، ودنية بنته ، وأمهم ليا ، ثم خلف على أختها راحيل ، فولدت له يوسف وبنيامين ، وولد له من سرّيّتين : دان ونفتالى وجاد وآشر.(1/170)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 171
قال ابن حجر : اختلف فى نبوتهم ، فقيل : كانوا أنبياء ، وقيل : لم يكن فيهم نبى ، وإنما المراد بالأسباط قبائل من بنى إسرائيل ، فقد كان فيهم من الأنبياء عدد كثير. ه. وممن صرح بنفي نبوتهم عياض وجمهور المفسرين.
انظر : المحشى الفاسى.
وقولوا : آمنا بما أنزل إلى مُوسى وهو التوراة ، وَعِيسى وهو الإنجيل ، وبما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ كلهم مِنْ رَبِّهِمْ من عرفنا منهم ومن لم نعرف ، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ وأحد مِنْهُمْ كما فرقت اليهود والنصارى ، فقد آمنا باللّه وبجميع أنبيائه وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي : منقادون لأحكامه الظاهرة والباطنة.
قال الحق جل جلاله : فَإِنْ آمَنُوا أي : أهل الكتاب إيمانا مثل إيمانكم ، فَقَدِ اهْتَدَوْا إلى الحق والصواب ، وإن أعرضوا عن ذلك فاتركهم حتى نأمرك فيهم ، فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ وخلاف لك ، فلا تهتم بشأنهم ، فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ أي سيكفيك شرهم وينصرك عليهم ، وَهُوَ السَّمِيعُ لدعائكم ، الْعَلِيمُ بإخلاصكم ، فالزموا صِبْغَةَ اللَّهِ التي صبغتم بها ، وهى الإيمان بما ذكرت لكم فإنه لا أحسن صبغة من صبغة اللّه ، وَقولوا : نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ.
الإشارة : كما أوجب اللّه تعالى الإيمان بجميع الرسل فى طريق العموم ، كذلك أوجب اللّه التصديق بكل من ثبتت ولايته فى طريق الخصوص ، فمن فرق بينهم فقد كفر بطريقهم ، ومن كفر بطريقهم طرد عن بابهم ، ومن طرد عن بابهم طرد عن باب اللّه ، لأن إسقاطه من الولاية إيذاء له «1» ، ومن آذى وليا فقد آذن اللّه بالحرب ، فالواجب ، على من أراد أن يرد مناهلهم ، أن يصدق بجميعهم ، ويعظم من انتسب إليهم ، حتى تنصبغ فى قلبه حلاوة الإيمان ، وتشرق عليه شموس العرفان ، فمن فعل هذا فقد اهتدى إلى الحق والصواب ، واستحق الدخول مع الأحباب ، ومن أعرض عن هذا فإنما هو فى شقاق ، وربما يخاف عليه من شؤم الكفر والنفاق ، فسيكفى اللّه أولياءه سوء شره ، واللّه غالب على أمره.
قال القشيري : فللقلوب صبغة ، وللأرواح صبغة ، وللسرائر صبغة ، وللظواهر صبغة ، فصبغة الأشباح والظواهر بآثار التوفيق ، وصبغة الأرواح والسرائر بأنوار التحقيق. ه. وقال الورتجبي : صبغة اللّه : صفته الخاصة
___________
(1) الولي لا ينظر إلى الخلق بل غايته رضا الله عنه - فانكار الناس ولاية ولى لا يؤذى الولي ، وإنما أذى الإنكار يعود على المنكر نفسه ، طبقا للحديث الوارد.(1/171)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 172
التي خلق آدم عليها ، وأورثت ذلك فى أرواح ذريته من الأنبياء والأولياء. ثم قال : وسقاها من شراب الزلفة ، وألهمها خصائص علوم الربوبية ، فاستنارت بنور المعرفة ، وخاضت فى بحر الربوبية ، وخرجت منها تجليات أسرار الوحدانية ، وتكونت بصبغ الصفات. ه. وباللّه التوفيق.
ولما ادعت اليهود والنصارى أنهم أولى الناس باللّه من غيرهم لتقدم دينهم ، رد اللّه عليهم ووبخهم فقال : (قل أتحاجوننا ...) الآية. وقيل : إن اليهود قالوا للنبى صلّى اللّه عليه وسلّم : الأنبياء كلهم منا ، فلو كنت نبيا لكنت منا ، فرد اللّه عليهم بقوله :
[سورة البقرة (2) : الآيات 139 الى 141]
قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141)
قلت : الذي يظهر أن (أم) منقطعة ، بمعنى بل ، على قراءة الخطاب والغيبة لأن المقصود إنكار وقوع الأمرين معا ، لا أحدهما.
يقول الحق جل جلاله : قُلْ يا محمد لأهل الكتاب : أتخاصموننا فِي اللَّهِ وتقولون : أنتم أولى به منا وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ ، لا يختص به واحد دون آخر ، وَلَنا أَعْمالُنا نتقرب بها إليه ، وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ تتقربون بها أيضا ، فكيف تختصون به دوننا وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ فى أعمالنا وقلوبنا دونكم فإنكم أشركتم به غيره ، فإن قلتم : إن الأنبياء كلهم منكم وعلى ملتكم فقد كذبتم ، أتقولون إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وأولاده الْأَسْباطَ كانُوا هُوداً على دينكم يا معشر اليهود ، أَوْ نَصارى على ملتكم يا معشر النصارى.
قُلْ لهم يا محمد : أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وقد نفى الأمرين معا عن إبراهيم فقال : ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وقال : وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ ، وهؤلاء المعطوفون عليه : أتباعه فى الدين ، فليسوا يهودا ولا نصارى ، فكيف تدعون أنهم كلهم منكم ، وعلى دينكم ، وأنتم تشهدون أنهم لم يكونوا على دينكم؟ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ ، وهى شهادة الحق(1/172)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 173
لإبراهيم بالحنيفية ، والبراءة من اليهودية والنصرانية ، أي : لا أحد أظلم منه ، وليس اللّه تعالى بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ، بل يجازيكم على النقير والقطمير ، فإن اعتمدتم على نسبكم إليهم فقد اغتررتم.
تِلْكَ أُمَّةٌ قد مضت ، لَها ما كَسَبَتْ لا ينتفع به غيرها ، وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ لا ينفعكم غيره ، ولا تسألون عن عملهم كما لا يسألون عن أعمالكم. قال البيضاوي : كرره للمبالغة فى التحذير ، والزجر عما استحكم فى الطباع من الافتخار بالآباء ، والاتكال عليهم ، وقيل : الخطاب فيما سبق لهم ، وفى هذه الآية لنا ، تحذيرا عن الاقتداء بهم ، وقيل : المراد بالأمة فى الأولى الأنبياء ، وفى الثانية أسلاف اليهود والنصارى. ه.
الإشارة : كل من أقامه الحق فى وجهة ، ووجهه إليها ، فهو عامل للّه فيها ، قائم بمراد اللّه منها ، وما اختلفت الأعمال إلا من جهة المقاصد ، وما تفاوت الناس إلا من جهة الإخلاص. فالخلق كلهم عبيد للملك المجيد ، وما وقع الاختصاص إلا من جهة الإخلاص. فمن كان أكثر إخلاصا للّه كان أولى من غيره باللّه ، وبقدر ما يقع للعبد من الصفاء يكون له من الاصطفاء ، فالصوفية والعلماء والعباد والزهاد وأهل الأسباب على اختلاف أنواعهم كلهم عاملون للّه ، ليس أحد منهم بأولى من غيره باللّه إلا من جهة الإخلاص وإفراد القلب للّه ، فمن ادعى الاختصاص باللّه من غير هذه الوجهة فهو كاذب ، ومن اعتمد على عمل غيره فهو مغرور ، يقال له : تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ.
ولمّا أراد اللّه تعالى أن ينسخ القبلة من جهة الشام ويردها إلى الكعبة ، أخبر أنه سينكرها قوم خفّت أحلامهم ، وفسدت بالتقليد الردى عقولهم ، وهم أحبار اليهود والمنافقون والمشركون ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 142]
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)
يقول الحق جل جلاله : سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ الذين لا عقل لهم ولا دين ، حين تحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة : ما صرفهم عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها ، فلو دام عليها لاتبعناه. قُلْ لهم يا محمد :
لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ لا يختص ملكه بمكان دون مكان بخاصية ذاتية تمنع من إقامة غيره مقامه ، بل الأماكن عند اللّه سواء : والخلق فى حقه سواء ، يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، ويضل من يشاء عن المنهاج القويم لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ، والصراط المستقيم : ما ترتضيه الحكمة وتفتضيه المصلحة من التوجه إلى بيت المقدس تارة ، والكعبة أخرى ، وفائدة تقديم الإخبار به : توطين النفس وإعداد الجواب. قاله البيضاوي.(1/173)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 174
قال بعض العارفين : (لى أربعون سنة ما أقامنى الحق فى شىء فكرهته ، ولا نقلنى إلى غيره فسخطته).
بخلاف السفهاء من الجهال ، فشأنهم الإنكار عند اختلاف الأحوال ، فمن رأوه تجرد عن الأسباب وانقطع إلى الكريم الوهاب ، قالوا : ما ولّاه عن حاله الذي كان عليه؟ وأكثروا من الاعتراض والانتقاد عليه ، وكذلك من رأوه رجع إلى الأسباب بعد الكمال ، قالوا : قد انحط عن مراتب الرجال. وهو إنما زاد فى مراتب الكمال. فالملك كله للّه ، يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم ، ويضل من يشاء بعدله الحكيم.
ثم شهد الحق تعالى لهذه الأمة بالعدالة والفضل ، فقال :
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ...
قلت : (الوسط) هو العدل الخيّر الفاضل ، وهو فى الأصل اسم للمكان الذي تستوى إليه المساحة من الجوانب ، ثم استعير للخصال المحمودة لوقوعها بين طرفى إفراط وتفريط ، كالجود بين الإسراف والبخل ، والشجاعة بين التهور والجبن ، ثم أطلق على المتصف بها مستويا فيه الواحد والجمع ، والمذكر والمؤنث. قاله البيضاوي.
يقول الحق جل جلاله : وكما جعلناكم مهتدين إلى الصراط المستقيم ، وجعلنا قبلتكم أفضل الجهات ، جعلناكم أمة أفضل الأمم ، خيارا عدولا مزكّين بالعلم والعمل ، لتصلحوا للشهادة على غيركم ، فتكونوا يوم القيامة شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ، ويزكيكم نبيكم فيشهد بعدالتكم.
قال البيضاوي : روى (أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء ، فيطالبهم اللّه ببينة التبليغ وهو أعلم بهم ، إقامة للحجة على المنكرين ، فيؤتى بأمة محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم فيشهدون ، فتقول الأمم : من أين عرفتم؟ فيقولون : علمنا ذلك بإخبار اللّه فى كتابه النّاطق على لسان نبيه الصّادق. فيؤتى بمحمّد صلّى اللّه عليه وسلّم فيسأل عن حال أمته فيشهد بعدالتهم).
وهذه الشهادة ، وإن كانت لهم ، لكن لمّا كان الرسول كالرقيب المهيمن على أمته عدّى بعلى ، وقدّمت الصلة للدلالة على اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم. ه.
الإشارة : التفاضل بين الرجال إنما يكون بالعلم والحال ، فمن قوى علمه باللّه كان أعظم قدرا عند اللّه ، والعلم الذي به الشرف عند اللّه هو العلم بذات اللّه وبصفاته وأسمائه ، وكذا العلم بأحكام اللّه إذا حصل معه العلم باللّه ، فكلما انكشف الحجاب عن القلب كان أقرب إلى الرب ، وانكشاف الحجاب يكون على قدر التخلية والتحلية ، فبقدر ما يتخلى القلب عن الرذائل ، ويبعد عن القواطع والشواغل ، ويتحلى بأنواع الفضائل ، ينكشف عنه الحجاب ويدخل مع(1/174)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 175
الأحباب ، وبقدر ما يتراكم على القلب من الخواطر والشواغل ، ويدخل عليه من المساوئ والرذائل ، يقع البعد عن اللّه ، ويطرد العبد عن باب اللّه ، فلا يدل على كمال العبد كثرة الأعمال ، وإنما يدل على كماله علو الهمة والحال ، وعلو الهمة على قدر اليقين ، وقدر اليقين على قدر المعرفة ، والمعرفة على قدر التوجه والتصفية ، والتوجه تابع للقسمة الأزلية. وذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء.
ثم إن العلماء بأحكام اللّه إذا لم يحصل لهم الكشف عن ذات اللّه يكونون حجة على عباد اللّه. والعلماء باللّه الذين حصل لهم الكشف عن ذات اللّه حتى حصل لهم الشهود والعيان يكونون حجة على العلماء بأحكام اللّه. فكما أن الأمة المحمدية تشهد على الناس ، والرسول يشهد عليهم ويزكيهم ، فكذلك العلماء يشهدون على الناس ، والأولياء يشهدون على العلماء ، فيزكون من يستحق التزكية ، ويردون من لا يستحقها لأن العارفين باللّه عالمون بمقامات العلماء أهل الظاهر ، لا يخفى عليهم شىء من أحوالهم ومقاماتهم ، بخلاف العلماء ، لا يعرفون مقامات الأولياء ، ولا يشمون لها رائحة ، كما قال القائل :
تركنا البحور الزاخرات وراءنا فمن أين يدرى الناس أين توجّهنا
قال القشيري : (جعل هذه الأمة خيار الأمم ، وجعل هذه الطائفة خيار هذه الأمة ، فهم خيار الخيار. وكما أن هذه الأمة شهداء على الأمم فى القيامة فهذه الطائفة هم المدار وهم القطب ، وبهم يحفظ اللّه جميع الأمة. وكل من قبلته قلوبهم فهو المقبول ، ومن ردّته قلوبهم فهو المردود. فالحكم الصادق لفراستهم ، والصحيح حكمهم ، والصائب نظرهم ، عصم جميع الأمة من الاجتماع على الخطأ ، وعصم هذه الطائفة من الخطأ فى النظر والحكم والقبول والرد ، ثم إن بناء أمرهم مستند إلى سنة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ، فكل من لا يكون له اقتداء بالرسول فهو عندهم مردود ، وصاحبه كلا شى ء). وباللّه التوفيق.
ثم ذكر الحق تعالى حكمة نسخ القبلة ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 143 الى 144]
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)(1/175)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 176
قلت : (جعل) تصييرية ، و(القبلة) مفعول أول ، و(التي) صفة للمفعول الثاني المحذوف ، أي : وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها وهى بيت المقدس ، ثم وجهناك إلى الكعبة إلا لنعلم الثابت على الإيمان من غيره ، أو : وما صيرنا القبلة الجهة التي كنت عليها بمكة وهى الكعبة ، فإنه كان - عليه الصلاة والسلام - يصلى إليها بمكة.
وقيل : كان يستقبل بيت المقدس ويجعل الكعبة بينه وبينها ، كما قال ابن عباس ، و(إن) مخففة ، واللام فارقة.
أي : وإنه ، أي : الأمر والشأن : كانت التحويلة لشاقة على الناس ، والرأفة : شدة العطف ، فهى أبلغ من الرحمة. واللّه تعالى أعلم.
يقول الحق جل جلاله : وما نسخنا حكم القبلة وجعلناها الجهة التي كنت عليها بمكة دون التي كانت بالمدينة ، وهى بيت المقدس ، إِلَّا لِنَعْلَمَ علم ظهور وشهادة مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ فى التحول إليها مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ لضعف إيمانه وقلة إيقانه ، فإن التحويلة عن القبلة الأولى والرجوع عنها إلى الثانية شاق على النفوس ، إلا من سبقت له الهداية وحفت به الرعاية ، فإنه يدور مع مراد اللّه أينما دار ، ويتبع رسوله أينما سار. ومن مات قبل التحويل إلى الكعبة فإن اللّه لا يضيع أجر عمله وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أي :
صلاتكم إلى بيت المقدس إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ.
الإشارة : الخروج عن العادات وترك الأمور المألوفات كلاهما شاق على النفوس ، إلا على الذين هدى اللّه ، ولذلك كان خرق العوائد هو الفصل بين الخصوص والعموم ، ومفتاح لمخازن العلوم والفهوم. فمن لم يخرق عوائد نفسه فلا يطمع أن يدخل حضرة قدسه. (كيف يخرق لك العوائد وأنت لم تخرق من نفسك العوائد). وهو الميدان الذي تحقق به سير السائرين. (لو لا ميادين النفوس ما تحقق سير السائرين). وهو عند شيوخ التربية ميزان يتميز به من يتبع الرسول ويلزم طريقه إلى الوصول ، ممن ينقلب على عقبيه ، فمن رأوه خرق عوائد نفسه ، وزهد فى ملبسه وجنسه ، تحققوا بدخوله حضرة قدسه ، إلا من سبق له الحرمان والعياذ باللّه من الخذلان ، ومن رأوه وقف مع العادات ، وركن إلى المألوفات ، ومال إلى الرّخص والتأويلات ، علموا أن مقامه مقام أهل الحجاب ، يأخذ أجره من وراء الباب ، ولا نصيب له فى الدخول مع الأحباب.
وأيضا عند تخالف الآثار وتنقلات الأطوار ، يظهر الإقرار من الإنكار. أهل الإقرار عارفون فى كل حال ، يدورون مع رياح الأقدار حيث سارت ، ويسيرون معها حيث سارت ، وأهل الإنكار جاهلون باللّه فى كل حال ، معترضون عليه عند اختلاف الأحوال ، نعوذ باللّه من الضلال.(1/176)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 177
ثم ذكر الحق تعالى كيفية ابتداء نسخ القبلة ، فقال :
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ...
قلت : التقلب : التردد ، وولّيت كذا : جعلته واليا له ، والشّطر هنا : الجهة.
يقول الحق جل جلاله لنبيه - عليه الصلاة والسلام - حين تمنى أن يحول إلى الكعبة ، لأنها قبلة أبيه إبراهيم وأدعى إلى إسلام العرب ، وهى أقدم القبلتين ، فكان ينظر إلى السماء ، ويقلب وجهه فيها انتظارا لنزول الوحى ، وهذا من كمال أدبه - عليه الصلاة والسلام - حيث انتظر ولم يطلب ، فقال له الحق تعالى : قَدْ نَرى أي :
ربما نرى تردد وَجْهِكَ فِي السَّماءِ انتظارا للوحى ، فلنعطينك ما تمنيت ، ونوجهك إلى قبلة تَرْضاها وتحبها لمقاصد دينية وافقت المشيئة ، واقتضتها الحكمة ، فَوَلِّ وَجْهَكَ أي : اجعله مواليا شَطْرَ أي : جهة الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ أيها المؤمنون أي فى أي مكان كنتم فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ جهته.
وإنما ذكر الحق تعالى شطر المسجد ، أي : جهته ، دون عين الكعبة لأنه - عليه الصلاة والسلام - كان فى المدينة ، والبعيد يكفيه مراعاة الجهة ، فإن استقبال عينها حرج عليه ، بخلاف القريب ، فإنه يسهل عليه مسامتة العين «1» ، وقيل : إن جبريل - عليه السّلام - عيّنها له بالوحى فسميت قبلة وحي.
روى أنه صلّى اللّه عليه وسلّم قدم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ، ثم وجّه إلى الكعبة فى رجب بعد الزوال قبل قتال بدر بشهرين ، وقد صلى بأصحابه فى مسجد بنى سلمة ركعتين من الظهر ، فتحول فى الصلاة ، واستقبل الميزاب ، وتبادل الرجال والنساء صفوفهم ، فسمى مسجد القبلتين. قاله البيضاوي.
الإشارة : فى الآية إشارة إلى أن ترك التصريح من كمال الأدب ، وفى الحكم : «ربما دلهم الأدب على ترك الطلب ، كيف يكون دعاؤك اللاحق سببا فى قضائه السابق؟! جل حكم الأزل أن يضاف إلى العلل». فإذا تمنيت شيئا وتوقفت على أمر فاصبر وتأدب واقتد بنبيك - عليه الصلاة والسلام - حتى يعطيك ما ترضى ، أو يعوضك منها مقام الرضا. وفى المسألة كلام ، والتحقيق أن ينظر إلى ما ينشرح به صدره فى الوقت ، فإن انشرح للدعاء دعا ، وإن انقبض عن الدعاء سكت. واللّه يرزق من يشاء بغير حساب ولا علة ولا أسباب.
___________
(1) سامته : قابله ووازاه وواجهه.(1/177)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 178
وإن شئت قلت : قد نرى فكرتك أيها العارف فى سماء المعاني ، غائبا فى شهود الأوانى ، فلنولينك قبلة ترضاها ، وتتلذذ بشهود جمالها وسناها ، وهى الحضرة المطهرة التي هى صلاة القلوب ، فول وجهك ووجهتك إلى تلك الحضرة ، وحيثما كنت فول وجهك شطره ، ودم على صلاة الفكرة والنظرة ، فهى صلاة العارفين ، ومنتهى أمل القاصدين ، وباللّه التوفيق.
ولمّا تحولت القبلة إلى الكعبة غضبت اليهود ، حيث ترك قبلتهم ، مكابرة وعنادا ، وقالوا : لو بقي على قبلتنا لرجونا أن يكون هو النبي المبعوث فى آخر الزمان فنتبعه ، فردّ اللّه عليهم وكذبهم فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 145 الى 147]
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
قلت : (و لئن) اللام موطّئة للقسم ، و(إن) شرطية ، و(أتيت) فعل الشرط ، و(ما تبعوا) جواب القسم المحذوف سد مسد جواب الشرط. قال فى الألفية :
واحذف لدى اجتماع شرط وقسم جواب ما أخّرت فهو ملتزم
يقول الحق جل جلاله : وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من أحبار اليهود لَيَعْلَمُونَ أن التحول إلى الكعبة حق مِنْ رَبِّهِمْ لما يجدون فى كتابهم أنه يصلى إلى القبلتين ، وأن عادته تعالى تخصيص كل أمة بشريعة ، وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ من التعنت والعناد ، وإنما يمهلهم ليوم المعاد ، واللّه لئن أتيتهم بكل حجة وبرهان على صحة التوجه إلى الكعبة ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ لأنهم ما تركوا قبلتك لشبهة تزيلها الحجة ، وإنما خالفوك مكابرة وعنادا. وقد طمعوا أن ترجع إلى قبلتهم ، ولست بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ أبدا ، بل لهم قبلتهم صخرة بيت المقدس ، وللنصارى قبلتهم مطلع الشمس ، وليس بعضهم بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ لتصلب كل حزب بما هو فيه ، وإن كان على خطأ وفساد لأن مفارقة العوائد هنا صعب على النفوس إلا من سبقت له العناية.(1/178)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 179
وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ الباطلة وآراءهم الزائفة فرضا وتقديرا مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ الواضح والوحى الصحيح إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ، لكنك معصوم ، فلا يتصور اتباعك لهم أبدا.
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ أي : اليهود يَعْرِفُونَهُ أي : الرسول - عليه الصلاة والسلام - وإن لم يتقدم ذكره لدلالة الكلام عليه أو القرآن أو التحويل ، كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ لا يشكّون فى صحة رسالته كما لا يشكون فى معرفة أبنائهم. وعن عمر رضي اللّه عنه أنه سأل عبد اللّه بن سلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : (أنا أعلم به منّى بابني ، قال له : ولم؟ قال : لأنّى لست أشكّ فى محمد أنه نبىّ اللّه. وأما ولدي فلعلّ والدته قد خانت).
وبعد حصول هذه المعرفة لهم جحدوه وكتموا صفته ، إلا من عصمه اللّه بالإيمان كعبد اللّه بن سلام وأصحابه - فقد كتم فريق منهم الحق وهم أحبارهم ، وهم يعلمون أنه حق حسدا وعنادا.
هذا الذي أنت عليه يا محمد هو الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ، فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي : من الشاكين فى أنه الحق ، أو فى كتمانهم الحق عالمين به. والخطاب مصروف للسامعين لا للنبى صلّى اللّه عليه وسلّم لأنه غير متوقع منه ، وإنما المراد تحقيق الأمر ، وإنه بحيث لا يشك فيه ناظر ، أو أمر الأمة باكتساب المعارف المزيحة للشك على الوجه الأبلغ. قاله البيضاوي.
الإشارة : مما جرت به سنة اللّه تعالى فى خلقه أن أهل الحقيقة منكورون عند أهل الشريعة ، أو تقول : علماء الباطن منكورون عند علماء الظاهر ، يقابلونهم بالإذاية والإنكار ، مع أنهم يعلمون أن الحقيقة حق من ربهم ، وأن علم الباطن حق لقوله - عليه الصلاة والسلام - : «إن من العلم كهيئة المكنون ، لا يعلمه إلا العلماء باللّه ، فإذا سمعه أهل الغرة باللّه أنكروه عليهم». أو كما قال - عليه الصلاة والسلام - ، وقال صلّى اللّه عليه وسلّم : «لكلّ آية ظاهر وباطن وحدّ ومطلع».
وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ فجزاؤهم الحرمان عن لذة الشهود والعيان ، فيقال لأهل الباطن : ولئن أتيتهم بكل آية وبرهان ما تبعوا وجهتك التي توجهت إليها لأنها منوطة بموت النفوس وحط الرؤوس ودفع الفلوس ، وخرق العوائد لاكتساب الفوائد ، ومفارقة الأوطان والغيبة عن الأهل والولدان ، وما أنت أيها المريد بتابع وجهتهم التي توجهوا إليها ، ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما ظهر لك من علم التحقيق : إنك إذا لمن الظالمين لنفوسهم.
الذين آتيناهم الكتاب من علماء الشريعة يعرفون علم الحقيقة ، كما يعرفون أبناءهم ، أي : يقرون به فى الجملة وينكرون وجود أهله مخصوصين ، وقد يتحققون به ويكتمون الحق حسدا ، وهم يعلمون وجود خصوصيته ، فيقال(1/179)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 180
للعارف : هذا الذي أنت عليه من سلوك جادة الطريق ، وعلم التحقيق ، هو الحق من ربك فلا تكونن من الممترين أنك على الحق المبين.
ثم بيّن الحق تعالى قبلة من بعد عن مكة ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 148 الى 149]
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)
قلت : التنوين فى (لكل) تنوين العوض ، أي ولكل أمة قبلة ، أو لكل قوم من المسلمين جهة وجانب من الكعبة ، و(وجهة) مبتدأ ، والخبر : المجرور قبله. و(هو) مبتدأ ، و(موليها) خبر مقصور ، و(ولى) يتعدى إلى مفعولين ، وهو هنا محذوف ، أي : موليها وجهه إن كان الضمير يعود على المضاف المحذوف ، ويحتمل أن يعود على اللّه تعالى ، أي : اللّه تعالى موليها إياه ، أي : يجعلها موالية له إن استقبل جهتها.
وقرأ ابن عامر : (هو مولّاها) بالبناء للمفعول ، فالنائب ضمير يعود على (هو) ، وهو المفعول الأول ، والثاني :
المضاف إليه تخفيفا ، وأصله : مولى إياها ، أي مصروفا إليها.
يقول الحق جل جلاله : ولكل فريق من المسلمين جهة من الكعبة يستقبلها ويوليها وجهه ، أينما كان وحيثما حل ، فأكثروا من الصلوات ، واستقبلوا الخيرات قبل هجوم هادم اللذات ، أَيْنَما تَكُونُوا فى مشارق الأرض ومغاربها ، يأتكم الممات ، ويأت بكم إلى المحشر حفاة عراة ، ولا ينفعكم حينئذ إلا صالح عمل قدمتوه ، أو فعل خير أسلفتموه ، نَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
، فلا يعجزه بعث العباد ، ولا جمعهم من أعماق الأرض وأقطار البلاد. وإذا علمت أن لكل قوم جهة يستقبلونها ، فمن حَيْثُ خَرَجْتَ وفى أي مكان حللت فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ، واللّه إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فبادر إلى امتثاله ، وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ من خير أو شر ، فيجازى كل واحد على ما أسلف.(1/180)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 181
ثم كرر الحق تعالى الأمر بالتوجه إلى الكعبة لعلة أخرى سيذكرها ، فقال : وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وحيثما حللتم فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ. قال البيضاوي : كرر هذا الحكم لتعدد علله ، فإنه تعالى ذكر للتحول ثلاث علل : تعظيم الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم بابتغاء مرضاته ، وجرت العادة الإلهية على أن يولّى أهل كل ملة وصاحب دعوة وجهة يستقبلها ويتميز بها ، ودفع حجج المخالفين على ما بينه ، وقرن كل علة بمعلولها ، مع أن القبلة لها شأن ، والنسخ من مظان الفتنة والشبهة ، فبالحرى أن يؤكد أمرها ويعاد ذكرها مرة بعد أخرى. ه.
ثم ذكر العلة الثالثة وهى دفع حجج المخالفين ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 150]
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
قلت : الاستثناء من (الناس) أي : لئلا يكون لأحد من الناس حجة عليكم إلا المعاندين منهم ، و(لأتم) متعلق بمحذوف ، أي : ولإتمام نعمتى عليكم وإرادة اهتدائكم أمرتكم بالتحول ، أو معطوف على محذوف أي : واخشوني لأحفظكم ولأتم نعمتى عليكم.
يقول الحق جل جلاله : وإنما أمرتكم بالتوجه إلى الكعبة دون الصخرة لتدفع حجج الناس ، فإن اليهود ربما قالوا : المنعوت فى التوراة قبلته الكعبة ، وهذا يستقبل الصخرة ، أو إن محمدا يخالف ديننا ويستقبل قبلتنا. والمشركون ربما قالوا : يدعى ملة إبراهيم ويخالف قبلته ، فأمرتكم باستقبال القبلة دفعا لحجج الناس ، إلا المعاندين منهم فلا ينقطع شغبهم ، فإنهم يقولون : ما تحول إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه ، وحبا لبلده ، أو بدا له فرجع إلى قبلة آبائه ، ويوشك أن يرجع إلى دينهم.
فلا تخافوهم ولا تلتفتوا إلى مطاعنهم ، فإنها لا تضركم ، وَاخْشَوْنِي أكفكم شرهم ، فإن من خافنى خاف منه كل شىء ، ومن لم يخشنى خاف من كل شىء ، وأمرتكم أيضا بالتوجه إلى قبلة جدكم لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ بإقرار عين نبيكم ، وإرادة اهتدائكم ، فاشكروا ما أوليتكم ، واذكروا ما به أنعمت عليكم أزدكم من فضلى وإحسانى ، وأسبغ عليكم إنعامى وامتنانى.
الإشارة : من حكمة المدبر الحكيم أن دبر ملكه العظيم ، ووجه كل فرقة بوجهة من مصالح عباده ، أفناه فيها وولاه إياها. فقوم اختصهم لمحبته واصطفاهم لحضرته وهم العارفون ، وقوم أقامهم لخدمته وأفناهم فى عبادته(1/181)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 182
وهم العباد والزهاد ، وقوم أقامهم لحمل شريعته وتمهيد دينه وهم العلماء العاملون ، وقوم أقامهم لحفظ كتابه رسما وتلاوة وتفهما وهم القراء والمفسرون ، قال تعالى : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ، وقوم أقامهم لتسكين الفتن ودفع المظالم والمحن وهم الحكام ومن يستعان بهم فى تلك الوجهة ، وقوم أقامهم لحفظ نظام الحكمة وهم القائمون بالأسباب الشرعية على اختلاف أنواعها وتعدد فروعها ، وقوم أعدهم لظهور حلمه وعفوه فيهم وهم أهل المعاصي والذنوب ، وقوم أعدهم للانتقام وظهور اسمه القهار وهم أنواع الكفار.
فكل وجهة من هؤلاء توجهت لحق شرعى أقامتها القدرة فيه ، وحكم بها القضاء والقدر ، إلا أن القسمين الأخيرين لا تقررهما الشريعة. فلو حسنت المقاصد لكان الكل عمالا للّه ، فيقال لهم : اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
بتحسين المقاصد والنيات ، وبادروا إلى الطاعات قبل هجوم هادم اللذات ، أينما تكونوا يجمعكم للحساب ، وتعاينوا جزاء ما أسلفتم من عذاب أو ثواب ، ومن حيث خرجت أيها العارف فولّ وجهتك وكليتك لمسجد الحضرة باستعمال الفكرة والنظرة ، فإنها حق وما سواها باطل ، كما قال الشاعر :
ألا كلّ شىء ما خلا اللّه باطل وكلّ نعيم لا محالة زائل «1»
وحيثما كنتم أيها العارفون فولوا وجوهكم إلى قبلة تلك الحضرة ، واعبدوا ربكم بعبادة الفكرة ، فإنها صلاة القلوب ، ومفتاح ميادين الغيوب ، وفى ذلك يقول القائل «2» :
يا قبلتى فى صلاتى إذا وقفت أصلّى
جمالكم نصب عينى إليه وجّهت كلّى
فإذا تحققتم بهذه الحضرة ، وتحصنتم بحصن الشهود والنظرة ، انقطع عنكم حجج خصيم النفس والجنس ، وتنزهتم فى رياض القرب والأنس ، إلا الخواطر التي تحوم على القلوب ، فلا تقدح فى مشاهدة الغيوب ، فلا تخافوا غيرى ، ولا تتوجه همتكم إلا لإحسانى وبرّى فإنى أتم عليكم نعمتى ، وأرشدكم إلى كمال معرفتى ، وأتحفكم بنصري ومعونتى.
___________
(1) نقل الحافظ ابن حجر فى الفتح 7/ 188 : (أن لبيدا أنشد من شعره (ألا كلّ شىء ما خلا الله باطل) ، فقال عثمان بن مظعون :
صدقت. فقال لبيد : (و كل نعيم لا محالة زائل). فقال عثمان : كذبت نعيم الجنة لا يزول ..).
(2) ابن الفارض.(1/182)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 183
ثم ذكر الحق تعالى نعمة الواسطة ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 151 الى 152]
كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152)
قلت : (كما) متعلق بأتم ، أي : ولأتم نعمتى عليكم فى شأن القبلة كما أتممتها عليكم بإرسال الرسول. أو باذكرونى ، أي : كما ذكرناكم بالإرسال ، فاذكرونى بالمقال والحال. وقدم هنا التزكية على التعليم ، باعتبار القصد لأن القصد من الإرسال والتعليم هو التطهير ، وأخره فى دعوة إبراهيم باعتبار الفعل ، لأن الإرسال والتعليم مقدم على التطهير ، وأعاد العامل فى قوله : وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ إيذانا بأنه جنس آخر شرفا له.
يقول الحق جل جلاله : يا عبادى اذكروا برى وإحسانى فقد أتممت عليكم نعمى وآلائي بإسعافكم فى تحويل القبلة ، كما أتممتها عليكم بأعظم النعم وأجلها ، وهو إرسال من يعلمكم رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا الموصلة إلى حضرتنا ، ويطهركم من المساوئ والعيوب ، وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ المشتمل على علم الغيوب ودواء القلوب ، ويعلمكم الْحِكْمَةَ وهى الشريعة المطهرة والسنة النبوية ، وَيُعَلِّمُكُمُ علوما غيبية لم يكن لكم بها علم ولا معرفة ، فَاذْكُرُونِي بالطاعة والإحسان أَذْكُرْكُمْ بالثواب ونعيم الجنان. قال صلّى اللّه عليه وسلّم : «من أطاع اللّه فقد ذكر اللّه ، وإن قلّت صلاته وصيامه وتلاوته القرآن. ومن عصى اللّه فقد نسى اللّه ، وإن كثرت صلاته وصيامه وتلاوته».
أو فاذكرونى بالجنان أذكركم بنعمة الشهود والعيان ، أو فاذكرونى بالقلوب أذكركم بكشف الحجب ، أو فاذكرونى بالتوحيد والإيمان أذكركم بالدرجات فى الجنان. قال الصّديق رضي اللّه عنه : (كفى بالتوحيد عبادة ، وكفى بالجنة ثوابا). أو فاذكرونى بالشكر أذكركم بالزيادة ، أو فاذكرونى على ظهر الأرض أذكركم فى بطنها. قال الأصمعى :
(رأيت أعرابيا واقفا يوم عرفة بعرفات ، وهو يقول : إلهى عجّت لك الأصوات بضروب اللغات يسألونك الحاجات ، وحاجتى إليك أن تذكرنى عند البلاء إذا نسينى أهل الدنيا).
أو : فاذكرونى فى الدنيا أذكركم فى العقبى ، أو : فأذكرونى بالطاعات أذكركم بالمعافاة ، يعنى يحييه حياة طيبة. أو : فاذكرونى فى الخلاء والملأ أذكركم فى أفضل الملأ ، دليله الحديث : «أنا عند ظنّ عبدى بي فليظنّ بي(1/183)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 184
ما شاء ، وأنا معه إذا ذكرنى ، فمن ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى. ومن ذكرنى فى ملأ ذكرته فى ملأ خير من ملئه ..» الحديث.
أو : فاذكرونى فى النعمة والرخاء أذكركم فى الشدة والبلاء ، أو : فاذكرونى بالتسليم والرضا أذكركم بحسن التدبير ولطف القضاء ، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أو : فاذكرونى بالشوق والمحبة أذكركم بالوصال والقربة. أو : فاذكرونى بالتوبة أذكركم بغفران الحوبة ، أو : فاذكرونى بالدعاء أذكركم بالعطاء ، أو : فاذكرونى بالسؤال أذكركم بالنوال ، إلى غير ذلك مما لا ينحصر.
واعلم أن الذكر ثلاثة أنواع : ذكر اللسان فقط وهو ذكر الغافلين «1» ، وذكر اللسان والقلب وهو ذكر السائرين ، وذكر القلب فقط ، وهو ذكر الواصلين ، والذكر هو أفضل الأعمال كما تقتضيه الأحاديث النبوية والآيات القرآنية ، وهو أقرب الطرق الموصلة إلى اللّه تعالى ، إذا كان بشيخ كامل ، واعلم أن الذكر على أنواع كثيرة من تهليل وتكبير وتسبيح وحمدلة وحسبلة وحوقلة وصلاة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، ولكلّ خاصية وثمرة ، وتجتمع فى ذكر المفرد ، وهو :
اللّه ، اللّه. فإن ثمرته الفناء فى الذات ، وهى الغاية والمنتهى. انظر ابن جزى.
قال الحق تعالى : واشكروا لى ما أوليتكم من إحسانى وبرى بأن تنسبوها لى لا لغيرى ، ولا تجحدوا إحسانى فأسلبكم ما خولتكم من إنعامى.
الإشارة : كما أنعم اللّه على الأمة المحمدية بأن بعث فيهم رسولا منهم يعلمهم الشريعة النبوية ، ويطهرهم من شهود الغيرية ، ويعلمهم العلوم اللدنية ، كذلك منّ اللّه تعالى على عباده من هذه الأمة فى كل زمان ، ببعث شيوخ التربية يطهرون الناس من العيوب ، ويدخلونهم حضرة الغيوب ، ويطلعونهم على شهود القدرة الأزلية والحكمة الإلهية ، ويعلمهم من غرائب العلوم ، ويفتح لهم مخازن الفهوم ، فيطّلعون على السر المصون ، ويعلمون ما لم يكونوا يعلمون ، فيقول لهم الحق جل جلاله : اذكروني بأرواحكم وأسراركم ، أذكركم بالغيبة عن رؤية أشباحكم ، اذكروني بالفكرة والنظرة أمتعكم بدوام شهود الحضرة ، واشكروا لى آلائي وبرى ، ولا تكفروا بالركون إلى غيرى فإنى أسلبكم من مزيد معونتى ونصرى.
___________
(1) الغفلة هنا باعتبار عدم موافقة القلب للسان فى الذكر.(1/184)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 185
ولمّا أمر عباده بالشكر أمرهم بمقام الصبر لأنه أخوه فى ضده إذ الشكر فى النعمة والصبر فى البلية ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 153 الى 157]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
قلت : (أحياء) و(أموات) خبران عن مبتدأ مضمر ، والابتلاء هو الاختبار ، حيثما ورد فى القرآن ، ومعناه فى حقه تعالى : أنه يظهر فى الوجود ما فى علمه لتقوم الحجة على العبد ، وليس كاختبار الناس بعضهم بعضا لأن اللّه علم ما كان وما يكون ، والصلاة هنا المغفرة والتطهير ، والرحمة : اللطف والإحسان.
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا على نيل رضوانى وبرّى وإحسانى بِالصَّبْرِ على مشاق الطاعات وترك المعاصي والهفوات ، وبالصلاة التي هى أم العبادات ، ومحل المناجاة ومعدن المصافاة ، فيها تشرق شوارق الأنوار ، وتتسع ميادين الأسرار ، وهى معراج أرواح المؤمنين ومناجاة رب العالمين ، فإن تجرعتم مرارة الصبر فإن اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ، وأعظم مواطن الصبر عند مفارقة الأحباب ، وذهاب العشائر والأصحاب ، فإن كان موتهم فى الجهاد فلا ينبغى لأجلهم أسف ولا نكاد لأنهم أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ، وكذلك من ألحق بهم من ذى هدم وغرق وحرق ونفاس وطاعون ، فلا تقولوا لمن يقتل فِي سَبِيلِ اللَّهِ من هؤلاء : هم أَمْواتٌ ، بَلْ هم أَحْياءٌ حياة روحانية لا بشرية ، وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ بحياتهم لأنهم مجرد أرواح ، وأنتم قد لبستم طلسم الأشباح ، فاختفى عنكم مقام الأرواح ، وكذلك أرواح المؤمنين كلهم أحياء.
وإنما خص الشهداء لمزيد بهجة وكرامة. وإجراء رزقهم عليهم دون غيرهم ، ففى الحديث : «أرواح الشّهداء فى حواصل طير خضر تعلق من ورق الجنة». أي : تأكل ، وفى حديث آخر : «يخلق اللّه الشهداء جسوما على صورة طير خضر ، فتكون فى حواصلها ، فتسرح بها فى الجنة ، وتأكل من ثمارها ، وتنال من خيراتها ونعيمها ، حتى تحشر منها يوم القيامة».(1/185)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 186
ولا يدخل الجنة أحد غيرهم إلى ميقاتها إلا الصدّيقون ، وهم العارفون ، فهم أعظم من الجميع لمزيد تصرف وإدراك وسعة روح وريحان ، وتحقق شهود وعيان ، فهم فى نعيم الجنان كالشهداء ، لكن الصديقين غير محصورين فى حواصل الطيور ، بل لهم هياكل وصور سرحوا بها حيث شاءوا. وكذلك من فوقهم من الأنبياء والرسل ، واللّه تعالى أعلم.
ثم قال الحق جل جلاله : ولنختبركم يا معشر المسلمين بِشَيْءٍ قليل مِنَ الْخَوْفِ لهيجان العدو وصولة الكفار ، وَالْجُوعِ لغلاء الأسعار وقلة الثمار ، وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ بموت الحيوان وتعذر التجارة أو الخسران ، وَالْأَنْفُسِ بالموت فى الجهاد ، وَالثَّمَراتِ بذهابها بالجوائح.
وعن الشافعي رضي اللّه عنه (الخوف خوف اللّه ، والجوع صوم رمضان ، والنقص من الأموال بالزكوات والصدقات ، ومن الأنفس بالأمراض ، ومن الثمرات موت الأولاد). وعن النبي صلّى اللّه عليه وسلم : «إذا مات ولد العبد قال اللّه للملائكة :
أقبضتم ولد عبدى؟ فيقولون : نعم. فيقول اللّه تعالى : أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون : نعم. فيقول اللّه تعالى : ماذا قال؟
فيقولون : حمدك واسترجع ، فيقول اللّه تعالى : ابنوا لعبدى بيتا فى الجنّة وسمّوه بيت الحمد».
وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ يا من تتأتى منه البشارة الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ فى بدن أو أهل أو مال أو صاحب قالُوا إِنَّا لِلَّهِ ملكا وعبيدا يحكم فينا بما يريد ، وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ فيجازينا بما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، فتغيب مصائب الدنيا فى جانبه.
وفى الحديث : «من أصابته مصيبة فقال : إنّا للّه وإنا إليه راجعون. اللهم أجرنى فى مصيبتى واخلف لى خيرا منها ، إلا أخلف اللّه له خيرا مما أصابه» قالت أم سلمة : فلما مات زوجى أبو سلمة قلت ذلك ، فأبدلنى اللّه برسوله صلّى اللّه عليه وسلّم.
أُولئِكَ الصابرون الراجعون إلى اللّه عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ أي : مغفرة وتطهير مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ أي :
عطف ولطف وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ لكل خير فى الدنيا والآخرة.
الإشارة : يا أيها الذين آمنوا بطريق الخصوص استعينوا على سلوك طريق حضرتنا ومشاهدة أنوار قدسنا بالصبر على ما تكره النفوس من ترك الحظوظ والشهوات ، والميل إلى العادات والمألوفات ، وبالصلاة الدائمة وهى صلاة القلوب بالعكوف فى حضرة الغيوب. إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ بالمعونة والتأييد ، وإشراق أنوار التوحيد ، ولا تقولوا لمن ترونه قتل نفسه بالذل والافتقار ، وخرق العوائد وخلع العذار : إنه قد مات ، بل هو حى لا يموت ، قال(1/186)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 187
اللّه تعالى : لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى فإذا ماتت نفس المريد. واستوى عنده الذل والعز والمدح والذم ، والغنى والفقر ، والموت والحياة ، فقد حييت روحه واتسع عليها فضاء الشهود ، وتمتعت بالنظرة إلى الملك المعبود. فلا يزيدها الموت الحسى إلا اتصالا وتمتعا وشهودا ، فهى فى الترقي أبدا سرمدا ، ولكن لا تشعرون بما هم فيه فى هذه الدار وفى تلك الدار.
ويقال لهم عند إرادة سلوكهم الطريق إلى عين التحقيق : واللّه لنبلونكم يا معشر المريدين بشئ من إذاية الخلق وتضييق الرزق ، وذهاب الأموال ، وضعف الأبدان بالمجاهدة ، وتأخير الفتح بظهور ثمرة المشاهدة ليظهر الصادق فى الطلب بالثبوت فى أحكام العبودية ، حتى تشرق عليه أنوار الربوبية ، من الكاذب بالرجوع إلى العوائد والشهوات ، والركون إلى الرخص والتأويلات ، وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الثابتين فى الطلب ، بالظفر بكل ما أمّلوا ، وبالوصول إلى ما إليه رحلوا ، الذين إذا أصابتهم نكبة أو وقفة تحققوا بضعف العبودية ، وتعلقوا بقوة الربوبية ، فرجعوا إلى اللّه فى كل شىء ، فآواهم إليه من كل شىء ، أولئك عليهم تحنّن من ربهم وتقريب ، وهم المهتدون إلى جوار الحبيب.
قال ابن جزى : (فائدة) ورد ذكر الصبر فى القرآن فى أكثر من سبعين موضعا وذلك لعظم موقعه فى الدين ، قال بعض العلماء : كل الحسنات لها أجر معلوم إلا الصبر ، فإنه لا يحصر أجره لقوله تعالى : إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ. وذكر اللّه للصابرين ثمانيا من الكرامات :
أولها : المحبة ، قال : وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ، والثاني : النصر : قال : إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ، والثالث : غرفات الجنة ، قال : يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا ، والرابع : الأجر الجزيل ، قال : إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ والأربعة الأخرى المذكورة فى هذه الآية ، فمنها البشارة قال : وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ، والصلاة والرحمة والهداية قال : أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ.
والصبر على أربعة أوجه : صبر على البلاء ، وهو منع النفس عن التسخط والهلع والجزع ، وصبر على النعم ، وهو تقييدها بالشكر وعدم الطغيان والتكبر بها ، وصبر على الطاعة بالمحافظة والدوام عليها ، وصبر على المعاصي بكف النفس عنها. وفوق الصبر التسليم ، وهو ترك الاعتراض والتسخط ظاهرا ، وترك الكراهية باطنا ، وفوق التسليم الرضا بالقضاء ، وهو سرور النفس بفعل اللّه ، وهو صادر عن المحبة ، وكل ما يفعل المحبوب محبوب. ه.(1/187)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 188
ولمّا ذكر الحق تعالى الكعبة ، وأمر بالتوجه إليها ، ناسب أن يذكر الصفا والمروة لقربهما منها ومشاركتهما لها فى أمر الدين. وذلك أن الصحابة تحرجوا أن يطوفوا بهما لأن الصفا كان عليه صنم يقال له إساف ، وعلى المروة صنم يقال له نائلة ، فخافوا أن يكون الطواف بينهما تعظيما لهما ، فرفع اللّه ذلك فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 158]
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
قلت : (الصفا) فى أصل الوضع : جمع صفاة ، وهى الصخرة الصلبة الملساء ، يقال : صفاة وصفا ، كحصاة وحصى ، وقطاة وقطا ، ونواة ونوى. وقيل : مفرد ، وتثنيته : صفوان ، وجمعه : أصفاء ، و(المروة) ما لان من الحجارة وجمعه مرو ومروات ، كتمرة وتمر وتمرات. والمراد هنا جبلان بمكة ، و(شعائر اللّه) : أعلام دينه ، جمع شعيرة أو شعارة ، والشعيرة : كل ما كان معلما لقربان يتقرب به إلى اللّه تعالى ، من دعاء أو صلاة أو أداء فرض أو ذبيحة.
والحج فى اللغة : القصد ، والعمرة : الزيارة ، ثم غلبا شرعا فى العبادتين المخصوصتين.
وقرأ الأخوان وخلف : (يطّوع) بلفظ المضارع ، مجزوم اللفظ ، وهو مناسب لقوله (أن يطوف) ، أصله : يتطوع ، أدغمت التاء فى الطاء لقرب المخرج ، والباقون بلفظ الماضي ، مجزوم المحل ، وهو مناسب لقوله : (فمن حج البيت). و(الجناح) : الإثم ، من جنح إذا مال ، كأن صاحب الإثم مال عن الحق إلى الباطل ، و(خيرا) : صفة لمصدر محذوف ، أو على إسقاط الخافض.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الطواف بين الصَّفا وَالْمَرْوَةَ من معالم دينه ومناسك حجه ، فَمَنْ قصد الْبَيْتَ للحج أو العمرة فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بينهما ، ولا يضره الصنمان اللذان كانا عليهما فى الجاهلية فإن اللّه محا ذلك بالإسلام ، وَمَنْ تَطَوَّعَ للّه بخير من حج أو عمرة أو صلاة أو غير ذلك ، فَإِنَّ اللَّهَ يشكر فعله ويجزل ثوابه. واختلف فى حكمه ، فقال مالك والشافعي : ركن لا يجبر بالدم ، وقال أبو حنيفة : فرض يجبر بالدم ، وقال أحمد : سنة ، واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : الصفا والمروة إشارة إلى الروح الصافية والنفس اللينة الطيبة ، فالاعتناء بتطهيرهما وتصفيتهما من معالم الطريق ، وبهما يسلك إلى عين التحقيق ، فمن قصد بيت الحضرة لحج الروح بالفناء فى الذات ، أو عمرة النفس بالفناء فى الصفات ، فلا جناح عليه أن يطوف بهما ويشرب من كأسهما ، حتى يغيب عن حسهما ، ومن تطوع خيرا ببذل روحه للّه ، والغيبة عنها فى شهود مولاه ، فإن اللّه يشكر فعله ، وينشر فضله ويظهر خيره ، ويتولى أمره ، واللّه ذو الفضل العظيم.(1/188)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 189
ولما ذكر الحق تعالى نسخ القبلة ردا على اليهود ، والمنكرين للنسخ ، رجع إلى معاتبتهم على كتمان الحق ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 159 الى 162]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)
قلت : الضمير فى (فيها) : يعود على اللعنة أو النار ، وإضمارها قبل الذكر تفخيما لشأنها ، وتهويلا لأمرها.
يقول الحق جل جلاله فى شأن أحبار اليهود حيث كتموا صفة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم : إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أنزلناه عليهم فى كتابهم من صفة محمد - عليه الصلاة السلام - من الآيات الواضحات فى شأنه ، وبيان صفته وبلده وشريعته ، وما يهدى إلى وجوب اتباعه ، والإيمان به ، مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فى التوراة ، أُولئِكَ الكاتمون يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ ويطردهم عن ساحة رحمته ، وَيَلْعَنُهُمُ الجن والإنس ، وكل من يتأتى من اللعن ، كالملائكة وغيرهم. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا من الكتمان ، وكل ما يجب أن يتاب منه ، وَأَصْلَحُوا ما أفسدوا من الدين بالتدارك ، وَبَيَّنُوا ما كتموا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وأرحمهم وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ أي : المبالغ فى قبول التوبة وإفاضة الرحمة ، وأما من مات على الكفر ولم يتب فأولئك عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ ، ومن يعتدّ بلعنته من الْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خالدين فى اللعنة أو فى النار لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ ساعة ، ولا هم يمهلون عنه ، أو لا ينتظرون للأعتذار أو الفداء.
الإشارة : ما قيل فى أحبار اليهود يقال مثله فى علماء السوء من هذه الأمة ، الذين ملكتهم جيفة الدنيا ، وأسرهم الهوى ، الذين يقبضون الرّشا على الأحكام ، فيكتمون المشهور الواضح ، ويحكمون بشهوة أنفسهم ، فأولئك يلعنهم اللاعنون ، وفى ذلك يقول ابن المبارك - رحمه اللّه - :
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها
وباعوا النفوس ولم يربحوا ولم تغل فى البيع أثمانها
لقد رتع القوم فى جيفة يبين لذى العقل إنتانها
وكان يحيى بن معاذ الرازي رضي اللّه عنه يقول لعلماء وقته : (يا معشر العلماء ، دياركم هامانيّة ، وملابسكم قارونية ، ومراكبكم فرعونية وولائمكم جالوتية ، فأين السنة المحمدية؟). إلا من تاب وأصلح ما أفسد ، وبيّن ما كتم ، فأولئك يتوب اللّه عليهم.(1/189)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 190
تنبيه : العلم باعتبار وجوب إظهاره وكتمه على ثلاثة أقسام :
قسم يجب إظهاره ، ومن كتمه دخل فى وعيد الآية ، وهو علم الشريعة الظاهرة ، إذا تعيّن على المسئول بحيث لم يوجد من يفتى فى تلك النازلة.
وقسم يجب كتمه ، وهو علم سرّ الربوبية ، أعنى التوحيد الخاص ، فهذا لا يجوز إفشاؤه إلا لأهله ، وهو من بذل نفسه وفلسه وخرق عوائد نفسه ، فهذا لا يحل كتمه عنه إذا طلبه.
وقسم يستحب كتمه ، وهو أسرار القدر المغيّبات ، فهذا من باب الكرامات يستحب كتمها ولا يجب ، واللّه تعالى أعلم.
هنا انتهى العتاب لبنى إسرائيل والكلام معهم ، وابتداؤه من قوله تعالى : يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ .. ، . وإنما تخلّل الكلام ذكر إبراهيم وبنيه توطئة لنسخ القبلة الذي أنكروه ، فذكر بناء الكعبة وبيان شرفها ، وانجر الكلام إلى ذكر الصفا والمروة لقرب المناسبة والجوار.
فلما فرغ من عتابهم دلهم على التوحيد ، وشاركهم فى ذلك غيرهم ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 163 الى 164]
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
قلت : إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ مبتدأ وخبر ، وجملة لا إِلهَ إِلَّا هُوَ : تقرير لها وتأكيد ، والرَّحْمنُ الرَّحِيمُ : خبران آخران ، أو عن مبتدأ مضمر ، وأنث الْفُلْكِ لأنه بمعنى السفينة ، ومِنَ السَّماءِ ابتدائية ، ومِنْ ماءٍ بيانية ، وبَثَّ : عطف على أَنْزَلَ أو فَأَحْيا لأن الحيوانات تنمو بنزول المطر والخصب ، والبث : النشر والتفريق وتَصْرِيفِ الرِّياحِ : هبوبها من الجهات المختلفة.
يقول الحق جل جلاله : وَإِلهُكُمْ يا معشر العباد الذي يستحق أن يعبد إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له ، ولا نظير ، ولا ضد له ولا ند ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، إذ لا يستحق العبادة غيره ، إذ هو الرَّحْمنُ بنعمة الإيجاد الرَّحِيمُ بنعمة الإمداد ، فكل ما سواه مكون مخلوق ، إما منعم عليه أو نعمة ، فلم يستحق العبادة غيره.(1/190)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 191
ثم برهن على وجوده ، وثبوت وحدانيته بثمانية أمور ، فقال : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ طباقا متفاصلة مرفوعة بغير عمد ، وما اشتملت عليه من الكواكب والبروج والمنازل ، وفى الْأَرْضِ وما اشتملت عليه من الجبال والبحار والأنهار والأشجار وأنواع الثمار ، وفى اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ بالطول والقصر ، أو تعاقبهما بالذهاب والمجيء ، (و) فى الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بقدرته مع إمكان رسوبها إلى الأسفل ، متلبسة بِما يَنْفَعُ النَّاسَ من التجارة وغيرها. وقال البيضاوي : القصد الاستدلال بالبحر وأحواله ، وتخصيص الفلك بالذكر لأنه سبب الخوض فيه والاطلاع على عجائبه ولذلك قدّمه على ذكر المطر والسحاب ، لأن منشأهما منه فى الغالب. ه.
(و) فى ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ من غير ظهور مادة سابقة ، بل تبرزه القدرة من عالم الغيب قريب عهد باللّه ، ولذلك (كان عليه الصلاة والسلام يتمطّر) أي : ينصب وجهه للمطر إذا نزل تبركا به ، فَأَحْيا الحق تعالى بذلك المطر الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ويبسها ، بالنبات والأزهار وأصناف النّوار والثمار ، وفيما نشر فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ من النملة إلى الفيلة ، (و) فى تَصْرِيفِ الرِّياحِ وهبوبها من جهات مختلفة ، وهى الجهات الأربع وما بينها بصفات مختلفة ، ملقّحة للشجر وعقيم وصر «1» ، وللنصر والهلاك ، (و) فى السَّحابِ الْمُسَخَّرِ أي : المذلّل بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا يسقط ولا يرتفع ، مع أن الطبع يقتضى أحدهما ، أو مسخر للرياح تقلّبه فى جو السماء بمشيئة اللّه لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. أي : تلك المخلوقات آيات دالة على وحدانيته تعالى وباهر قدرته ، ولَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا.
وفى الآية حضّ على التفكر ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : «ويل لمن قرأ هذه الآية فمجّ بها» «2» ، . أي :
لم يتفكر فيها ، وفيها دلالة على شرف علم التوحيد العام والخاص. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قال الجنيد : (التوحيد معنى تضمحل فيه الرسوم وتندرج فيه العلوم ، ويكون اللّه كما لم يزل). قلت :
وهذا هو التوحيد الخاص ، أعنى توحيد أهل الشهود والعيان. ثم قال : (و أصوله خمسة أشياء : رفع الحدث ، وإثبات
___________
(1) ريح صر وصرصر : شديدة البرد.
(2) لم يرد هذا الحديث فى شأن هذه الآية ، وإنما ورد فى شأن قوله تعالى : (إن فى خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب) الآية 190 من سورة آل عمران. وأخرجه ابن حبان فى صحيحه (الإحسان : كتاب الرقاق : باب التوبة 2/ 10) مطولا عن السيدة عائشة رضى الله عنها.(1/191)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 192
القدم ، وهجران الإخوان ، ومفارقة الأوطان ، ونسيان ما علم وجهل). ه. قلت : قوله : (و هجران الإخوان) ، يعنى :
غير من يستعين بهم على السير ، وأما من يستعين بهم فلا يستغنى عنهم.
واعلم أن توحيد الخلق للّه تعالى على ثلاث درجات :
الأولى : توحيد العامة : وهو الذي يعصم النفس والمال ، وينجو به من الخلود فى النار ، وهو نفى الشركاء والأنداد ، والصاحبة والأولاد ، والأشباه والأضداد.
الثانية : توحيد الخاصة : وهو أن يرى الأفعال كلها صادرة من اللّه وحده ، ويشاهد ذلك بطريق الكشف لا بطريق الاستدلال ، فإنّ ذلك حاصل لكل مؤمن ، وإنما مقام الخاصة يقين فى القلب بعلم ضرورى لا يحتاج إلى دليل ، وثمرة هذا العلم الانقطاع إلى اللّه ، والتوكل عليه وحده ، فلا يرجو إلا اللّه ، ولا يخاف أحدا سواه ، إذ ليس يرى فاعلا إلا اللّه ، فيطرح الأسباب ، وينبذ الأرباب.
الدرجة الثالثة : ألا يرى فى الوجود إلا اللّه ، ولا يشهد معه سواه ، فيغيب عن النظر إلى الأكوان فى شهود المكوّن ، وهذا مقام الفناء ، فإن ردّ إلى شهود الأثر باللّه سمى مقام البقاء. ه. قال بعضه ابن جزىّ باختصار.
قلت : وفى التحقيق أنهما مقامان مقام أهل الدليل والبرهان ، وهو المذكور فى الآية ، لأنه هو الذي يطيقه جميع العباد ، ومقام أهل الشهود والعيان ، وهو خاص بالأفراد الذين بذلوا مهجهم فى طلب اللّه ، باعوا أنفسهم وأموالهم فى سبيل اللّه ، فعوضهم اللّه فى الدنيا جنة المعارف ، وزادهم فى الآخرة جنة الزخارف.
(أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان) لأن أهل الشهود والعيان قدسوا الحق تعالى عن أن يحتاج إلى دليل ، فكيف يعرف بالمعارف من به عرفت المعارف؟ كيف يستدل عليه بما هو فى وجوده مفتقر إليه؟ أيكون لغيره من الظهور ما ليس له؟ - متى غاب حتى يحتاج إلى دليل عليه؟ ومتى بعد حتى تكون الآثار هى التي توصل إليه؟ - وللّه در القائل :
لقد ظهرت فما تخفى على أحد إلا على أكمه لا يبصر القمرا
لكن بطنت بما أظهرت محتجبا وكيف يبصر من بالعزة استترا؟(1/192)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 193
وقال آخر «1» :
ما للحجاب مكان فى وجودكم إلا بسرّ حروف (انظر إلى الجبل)
أنتم دللتم عليكم منكم ولكم ديمومة عبّرت عن غامض الأزل
عرفتم بكم هذا الخبير بكم أنتم هم يا حياة القلب يا أملى
ولما كانت المحبة تزيد وتنقص باعتبار شهود الوحدانية ، فكلما قوى التوحيد فى القلب قويت المحبة لانحصارها فى واحد ، ذكرها بأثر التوحيد ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 165 الى 167]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
قلت : ويحتمل فى وجه المناسبة ، أن يكون الحق تعالى لمّا ذكر دلائل التوحيد ذكر من أعرض بعد وضوحها فأشرك معه ، ليرتب بعد ذلك ما أعدّ له من العذاب ، والأنداد : جمع ندّ وهو المثل ، والمراد هنا الأصنام أو الرؤساء ، والإضافة فى كَحُبِّ اللَّهِ من إضافة المصدر إلى مفعوله ، والحبّ : ميل القلب إلى المحبوب ، وسيأتى فى الإشارة ، إن شاء اللّه.
يقول الحق جل جلاله : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أشباها وأمثالا من الأصنام والرؤساء يُحِبُّونَهُمْ ، وينقادون إليهم ، كما يحبون اللّه تعالى ، فيسوّون فى المحبة بين اللّه تعالى العلى الكبير ، وبين المصنوع الذليل الحقير ، وَالَّذِينَ آمَنُوا باللّه ووحّدوه أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ لأن المؤمنين لا يلتفتون عن محبوبهم فى الشدة ولا فى الرخاء ، بخلاف الكفار فإنهم يعبدونهم فى وقت الرخاء ، فإذا نزل البلاء التجئوا إلى اللّه. قال تعالى : ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ الآية ، وأيضا : المؤمنون يعبدون اللّه بلا واسطة ، والكفار يعبدونه بواسطة أصنامهم ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى وأيضا المؤمنون يعبدون ربا واحدا فاتحدت محبتهم.
قال سعيد بن جبير : (إن اللّه تعالى يأمر يوم القيامة من عبد الأصنام أن يدخلوا النار مع أصنامهم ، فيمتنعون لعلمهم بالخلود فيها ، ثم يقول للمؤمنين بين يدى الكفار : إن كنتم أحبائى فادخلوا ، فيقتحم المؤمنون النار ، وينادى مناد من تحت العرش : وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ. وفى ذلك يقول ابن الفارض :
___________
(1) وهو الششترى. [.....](1/193)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 194
أحبّاى أنتم ، أحسن الدهر أم أسا فكونوا كما شئتم ، أنا ذلك الخلّ
وقال أيضا :
لو قال تيها : قف على جمر الغضا «1» ، لوقفت ممتثلا ولم أتوقّف
وقال آخر :
ولو عذّبتنى فى النار حتما دخلت مطاوعا وسط الجحيم
إذا كان الجحيم رضاك عنّى فما ذاك الجحيم سوى نعيم
الإشارة : المحبة : ميل دائم بقلب هائم ، أو مراقبة الحبيب فى المشهد والمغيب ، أو مواطأة القلب لمراد الرب ، أو خوف ترك الخدمة مع إقامة الحرمة ، أو استقلال الكثير من نفسك واستكثار القليل من حبيبك ، أو معانقة الطاعة ومباينة المخالفة ، وقال الشّبلى : (أن تغار على المحبوب أن يحبه مثلك) والمحب على الحقيقة من لا سلطان على قلبه لغير محبوبه ، ولا مشيئة له غير مشيئته ، وقال الشيخ أبو الحسن رضي اللّه عنه : (المحبة أخذة من اللّه لقلب عبده المؤمن عن كل شىء سواه ، فترى النفس مائلة لطاعته ، والعقل متحصنا بمعروفه ، والروح مأخوذة فى حضرته ، والسر مغمورا فى مشاهدته ، والعبد يستزيد من محبته فيزداد ، ويفاتح بما هو أعذب من لذيذ مناجاته ، فيكسى حلل التقريب على بساط القربة ، ويمسّ أبكار الحقائق وثيبات العلوم ، فمن أجل ذلك قالوا : أولياء اللّه عرائس ، ولا يرى العرائس المجرمون ...) إلخ كلامه.
واعلم أن محبة العبد لمولاه سببها شيئان :
أحدهما : نظر العبد لإحسان اللّه إليه وضروب امتنانه عليه ، وجبلت القلوب على حب من أحسن إليها ، وهذا هو المسمى بحب الهوى ، وهو مكتسب ، لأن الإنسان مغمور بإحسانات اللّه إليه ، ومتمكن من النظر فيها ، فكلما طالع منة من منن اللّه التي لا تقبل الحصر ولا العدّ ، كان ذلك كحبة زرعت فى أرض قلبه الطيب الزكي ، فلا يزال يطالع منة بعد منة ، وكلّ منة أعظم من التي قبلها ، لأنه كلما طالع المنن تنور قلبه وازداد إيمانا ، وكشف من دقائق المنن ما لم يكن يكشف له قبل ، وظهر له خفايا المنن ، وعظمت محبته.
___________
(1) الغضى : شجر خشبه من أصلب الخشب ، وجمره يبغى زمانا طويلا لا ينطفئ.(1/194)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 195
الثاني : كشف الحجب ، وإزالة الموانع عن ناظر القلب ، حتى يرى جمال الحق وكماله ، والجمال محبوب بالطبع ، وهذان هما اللذان قصدت رابعة العدوية - رضى اللّه عنها - :
أحبّك حبّين : حبّ الهوى وحبّا لأنك أهل لذاك
فأمّا الذي هو حبّ الهوى فشغلى بذكرك عمّن سواك
وأمّا الذي أنت أهل له فكشفك للحجب حتى أراك
فلا الحمد فى ذا ولا ذاك لى ولكن لك الحمد فى ذا وذاك
وإنما خصّصت الحبّ الناشئ عن شهود الجمال بالأهلية دون الأول ، وإن كان أهلا للجميع لأن هذا منه إليه ، لا كسب للعبد فيه ، والآخر فيه كسب ، وعمل العبد معلول ، وقولها : (فشغلى بذكرك عمن سواك) من باب التعبير بالمسبب عن السبب ، والأصل : فثمرته شغلى بذكرك عمن سواك ، فهو مسبب عن المحبة لأنفسنا ، وقولها أيضا (كشفك للحجب حتى أراك) ، من باب التعبير بالسبب عن المسبب ، والأصل ، فبسببه كشفك للحجب حتى رأيتك بعيني قلبى. وقولها : (فلا الحمد ...) إلخ ، إخبار منها بأن الحبّين معا منه وإليه وبه فى الحقيقة ، لا كسب لها فى واحد منهما باعتبار الحقيقة ، بل هو الحامد والمحمود ، وإدراك التفاوت بين المقامين ، - أعنى بين المحبة الناشئة عن شهود الإحسان ، والناشئة عن شهود الجمال - ضرورى عند كل ذائق ، وأن الثانية أقوى. قاله فى شرح الشريشية «1».
قال ابن جزىّ : اعلم أن محبة العبد لربه على درجتين أحدهما : المحبة العامة ، التي لا يخلو منها كل مؤمن ، وهى واجبة ، والأخرى : المحبة الخاصة التي ينفرد بها العلماء الربّانيون والأولياء والأصفياء ، وهى أعلى المقامات ، وغاية المطلوبات ، فإنّ سائر مقامات الصالحين : كالخوف والرجاء والتوكل ، وغير ذلك ، مبنية على حظوظ النفس ، ألا ترى أن الخائف إنما يخاف على نفسه ، والراجي إنما يرجو منفعة نفسه ، بخلاف المحبة ، فإنها من أجل المحبوب فليست من المعاوضة.
واعلم أن سبب محبة اللّه : معرفته ، فتقوى المحبة على قدر المعرفة ، وتضعف على قدر ضعف المعرفة ، فإن الموجب للمحبة أحد أمرين أو كلاهما إذا اجتمعا ، ولا شك أنهما اجتمعا فى حق اللّه تعالى على غاية الكمال
___________
(1) الشريشية للشيخ أحمد بن محمد البكري الشريشى ، وشارحها أحمد بن يوسف الفاسى.(1/195)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 196
فالموجب الأول : الحسن والجمال ، والآخر الإحسان والإجمال ، فأما الجمال فهو محبوب بالطبع ، فإن الإنسان بالضرورة يحب كل ما يستحسن ، ولا جمال مثل جمال اللّه تعالى ، فى حكمته البالغة وصنائعه البديعة ، وصفاته الجميلة الساطعة الأنوار ، التي تروق العقول وتبهج القلوب ، وإنما يدرك جماله تعالى بالبصائر لا بالأبصار.
وأما الإحسان فقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها ، وإحسان اللّه إلى عباده متواتر ، وإنعامه عليهم باطن وظاهر ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها ، ويكفيك أنه يحسن إلى المطيع والعاصي ، وإلى المؤمن والكافر ، وكل إحسان ينسب إلى غيره فهو فى الحقيقة منه وحده ، فهو المستحق للمحبة وحده.
واعلم أن محبة اللّه إذا تمكنت من القلب ظهرت آثارها على الجوارح ، من الجد فى طاعته ، والنّشط لخدمته ، والحرص على مرضاته والتلذذ بمناجاته ، والرضا بقضائه ، والشوق إلى لقائه ، والأنس بذكره ، والاستيحاش من غيره ، والفرار من الناس ، والانفراد فى الخلوات ، وخروج الدنيا من القلب ، ومحبة كل ما يحب اللّه ، وكل من يحب اللّه ، وإيثار اللّه على كل ما سواه.
قال الحارث المحاسبى : (المحبة ميلك إلى المحبوب بكلّيتك ، ثم إيثارك له على نفسك وروحك ، ثم موافقته سرّا وجهرا ، ثم علمك بتقصيرك فى حبه).
قلت : ظاهره أن المحبة أعلى من المعرفة ، والتحقيق أن المعرفة أعلى من جميع المقامات لأنها لا تبقى معها بقية من الحجاب أصلا ، بخلاف المحبة ، فإنها تكون مع بقية الحجاب ، ألا ترى أن المحب يستوحش من الخلق ، والعارف لا يستوحش من شىء لمعرفته فى كل شىء.
قال فى الحكم : (إنما استوحش العبّاد والزهاد من كل شىء لغيبتهم عن اللّه فى كل شىء ، ولو عرفوا اللّه فى كل شىء ما استوحشوا من شى ء). وأيضا : العارف أكمل أدبا من المحب لأن المعرفة إنما تحصل بعد كمال التهذيب والتدريب ، وقد تحصل المحبة قبل كمال التهذيب ، مع أن المعرفة هى غاية المحبة ونهايتها ، واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر الحق وعيد من أشرك مع اللّه فى عبادته أو محبته ، بعد وضوح برهان وحدانيته ، فقال :
وَلَوْ يَرَى ...(1/196)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 197
قلت : لَوْ شرطية ، ويَرَى شرطها ، قرأ نافع وابن عامر ويعقوب بالخطاب للنبى صلّى اللّه عليه وسلّم أو لكل سامع ، والباقون بالغيب وإسناده إلى الظالم ، لأنه المقصود بالوعيد والتهديد ، وإِذْ ظرف للرؤية ، وموضع يَرَوْنَ خفض بالإضافة ، قرأ ابن عامر بضم الياء ، على البناء للمفعول ، والفاعل الحقيقي هو اللّه تعالى ، بدليل يُرِيهِمُ اللَّهُ ، والباقون بالفتح على البناء للفاعل ، على حد : وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ. وأَنَّ الْقُوَّةَ معمول للجواب المحذوف ، تعظيما لشأنه ، والتقدير : لو ترى يا محمد ، أو يا من يسمع ، الذين ظلموا حين يرون العذاب ، أو يريهم اللّه العذاب ، لرأيت أمرا فظيعا وخطبا جسيما ، ولعلمت أن القوة للّه جميعا.
وجَمِيعاً حال ، أي : أن القوة ثابتة فى حال اجتماعها ، وقرأ أبو جعفر ويعقوب (إنّ) بالكسر فى الموضعين على الاستئناف ، و(إذ تبرأ) بدل من (إذ يرون) ، والأسباب : العهود والوصل التي كانت بينهم فى الدنيا يتوادّون عليها ، وأصل السبب : كل شىء يتوصل به إلى شىء ، ومنه قيل للحبل الذي يصعد به : سبب ، وللطريق :
سبب ، قال الشاعر «1» :
ومن هاب أسباب المنيّة يلقها ولو رام أسباب السماء بسلّم
و(حسرات) : حال ، إن كانت بصرية ، على مذهب أهل السنة ، أو مفعول ثالث إن كانت علمية على مذهب المعتزلة القائلين بعدم تشخص الأعمال.
يقول الحق جل جلاله : وَلَوْ يَرَى يا محمد ، أو كل من يتأتى منه الرؤية ، حال الَّذِينَ ظَلَمُوا باتخاذهم الأنداد والأوثان ، بعد وضوح الأدلة وسطوع البرهان ، حيث يَرَوْنَ الْعَذابَ محيطا بهم ، والزبانية تغلبهم ، والنار تلتقطهم ، لرأيت أمرا فظيعا ، وخطبا جسيما ، ولعلمت أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ، أو لو يرى الذين ظلموا العذاب الذي أعد لهم بسبب شركهم ، لرأوا أمرا عظيما ، ولتيقنوا أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ.
وذلك حين يتبرأ المتبوعون - وهم الرؤساء - ، من الأتباع - وهم القلة الضعفاء - والحالة أنهم رَأَوُا الْعَذابَ الفظيع ، وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ أي : أسباب المودة والوصلات التي كانت بينهم فى الدنيا ، وصارت مودتهم عداوة ، وَقالَ حينئذ الضعفاء الَّذِينَ اتَّبَعُوا شياطينهم فى الكفر والضلال : لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً أي : رجعة للدنيا فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ أي : من كبرائهم كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا اليوم. كَذلِكَ أي : مثل ذلك الإبراء الفظيع يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ وندامات عَلَيْهِمْ فيدخلون النار على سبيل الخلود ، وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ.
___________
(1) وهو زهير بن أبى سلمى.(1/197)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 198
الإشارة : يا من أقبل على مولاه ، وجعل محبة سيده بغيته ومناه ، فلم يشرك فى محبة حبيبه سواه ، لو رأيت من ظلم نفسه باتباع هواه ، وأشرك مع اللّه فى محبته سواه ، باتباع حظوظ دنياه ، وذلك حين يرون ما هم فيه من الانحطاط والبعاد ، وما أعد اللّه لأهل المحبة والوداد من الفوز بالقرب من الحبيب ، ومشاهدة جمال القريب ، لرأيت أمرا عظيما وخطبا جسيما ، ولعلمت أن القوة كلها للّه ، قرّب من شاء بفضله ورحمته ، وأبعد من شاء بعدله وحكمته ، وذلك حين يتبرأ الأكابر فى الجرم من الأصاغر ، ويقع التفريق بين الأصحاب والعشائر ، إلا من اجتمعوا على محبة الحبيب ، وتعاونوا على طاعة القريب المجيب ، الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ. لا تصحب من لا ينهضك حاله ، ولا يدلك على اللّه مقاله - فكل من صحب أهل الغفلة أو ركن إلى أهل الدنيا فلابد أن يرى ذلك حسرات يوم القيامة ، يوم لا ينفع الندم وقد زلّ القدم. وللّه درّ صاحب العينية رضي اللّه عنه حيث يقول :
وقاطع لمن واصلت أيام غفلة فما واصل العذّال إلا مقاطع
وجانب جناب الأجنبى لو انّه لقرب انتساب فى المنام مضاجع
فللنفس من جلّاسها كل نسبة ومن خلّة للقلب تلك الطّبائع
ولما حذّر الحق تعالى من الشرك الجلى والخفي ، حذّر من متابعة المشركين فى التحريم والتحليل بلا حكم شرعى فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 168 الى 169]
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169)
قلت : حَلالًا حال ، أو مفعول به ، وطَيِّباً نعت له ، والخطوات جمع خطوة ، وهى بالفتح - مصدر خطا يخطو ، وبالضم - اسم لمسافة ما بين القدمين ، ويكسّر على خطا ، ويصحّح على خطوات ، مثلث الطاء ، أعنى :
الضم على الإتباع ، كغرفات وقربات ، قال ابن مالك :
والسّالم العين الثّلاثى اسما أنل إتباع عين فاءه بما شكل
والسكون على الأصل فى المفرد ، والفتح تخفيفا ، قال فى الألفية :
وسكّن التالي غير الفتح أو خفّفه بالفتح فكلّا قد رووا
وقرئ فى المتواتر بالضم والإسكان ، وفى الشاذّ بالفتح.(1/198)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 199
قال الخليل : (خطوات الشيطان : آثاره وطرقه ، يقول : لا تقتدوا به). ه. وأصل السوء : كل ما يسوء صاحبه ويحزنه. والفحشاء : ما قبح من القول والفعل ، مصدر فحش كالبأساء والضراء واللأواء.
قال ابن عباس : (الفحشاء : ما فيه حد ، والسوء : ما لا حدّ فيه) ، وقال مقاتل : (كل ما فى القرآن من ذكر الفحشاء فإنه الزنا ، إلا قوله : الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ فإنه البخل). قال البيضاوي : السوء والفحشاء : ما أنكره العقل واستقبحه الشرع ، والعطف لاختلاف الوصفين ، فإنه سوء لاغتمام العاقل به ، وفحشاء باستقباحه إياه ، وقيل : السوء يعم القبائح ، والفحشاء ما تجاوز الحدّ فى القبح. ه.
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا من جميع ما خلقنا لكم فى الأرض من نباتها مما يستطاب أكله ، وحيواناتها إلا ما حرمناه عليكم ، حالة كون ذلك حَلالًا قد انحلّت عنه التبعات ، وزالت عنه الشبهات ، طَيِّباً مستلذا يستلذه الطبع ، ويستحسنه الشرع ، وَلا تَتَّبِعُوا طرق الشَّيْطانِ فتحرّموا برأيكم ما أحلّ اللّه لكم ، كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، وبعض الحرث الذي جعلتموه للأصنام ، فإن ذلك من تزيين الشيطان ، وهو لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. ومن شأن العدو الخداع والغرور ، فإنما يأمركم بما يسوء وجوهكم من الذنوب ، وما يرديكم من قبائح المعاصي والعيوب ، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا علم لكم به من تحليل الحرام ، أو تحريم الحلال ، أو ادعاء الولد أو الصاحبة فى جانب الكبير المتعال.
الإشارة : اعلم أن الحق تعالى جعل للبشرية قوتا ونعيما تتنعم به ، وجعل للروح قوتا ونعيما تتلذذ به ، فقوت البشرية الطعام والشراب ، ونعيمها : الملابس والمناكح والمراكب. وقوت الروح : اليقين والعلوم والأنوار ، ونعيمها :
الشهود والاستبصار ، والترقي فى المعارف والأسرار ، فكما أن النفس تأكل مما فى الأرض حلالا طيبا ، كذلك الروح تأكل مما فى الأرض حلالا طيبا ، إلا أن أكل النفس حسى ، وأكل الروح معنوى ، وهو التفكر والاعتبار ، أو الشهود والاستبصار ، وفى ذلك يقول المجذوب رضي اللّه عنه :
الخلق نوّار وأنا رعيت فيهم
هم الحجاب الأكبر والمدخل فيهم
وقال الششترى رضي اللّه عنه :
عين الزّحام هو المسير لحيّنا(1/199)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 200
وكان شيخ شيوخنا سيدى على رضي اللّه عنه يقول : (من أراد أن يذوق فليذهب إلى السوق). وذلك لأنه مظنة الزحام ، وفيه عند الأقوياء الربح التام ، فيقال لهم : يا أيها الناس الكاملون فى الإنسانية كلوا مما فى الأرض بأرواحكم وأسراركم ، شهودا واعتبارا ، حلالا طيبا ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، فتقفوا مع ظواهر الأكوان ، فتحجبوا عن الشهود والعيان ، فإنه لكم فى صورة العدو المبين ، لكنه فى الحقيقة يحوشكم إلى الرسوخ والتمكين ، لأنه كلما حرككم بنزغه فزعتم إلى ربكم فى دفعه ، حتى يمكنكم من حضرته ، فإنما يأمركم بما يسوء وجوهكم ويغم قلوبكم ، من مفارقة شهود الأحباب ، والوقوف من وراء الباب ، وأن تقولوا على اللّه ما ليس بحق ولا صواب ، كثبوت السّوى ، أو الالتفات إلى الهوى. واللّه تعالى أعلم.
ثم أعلمنا الحق تعالى أن بعض من سبق عليه الشقاء لا يخرج عن هواه ، ولا يجيب من دعاه ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 170]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170)
قلت : الضمير فى (لهم) يعود على (من يتخذ من دون اللّه أندادا) ، أو على (الناس) ، من قوله : (يا أيها الناس) ، أو على (اليهود) المتقدمين قبل ، وألفى : بمعنى وجد ، يتعدى إلى مفعولين ، وهما هنا : (آباءنا) والجار والمجرور ، أي : نتبع فى الدين ما وجدنا آباءنا كائنين عليه.
يقول الحق جل جلاله : وَإِذا قِيلَ لهؤلاء المشركين من كفار العرب : اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ على رسوله من التوحيد ، وترك الأنداد له والأمثال ، وتحريم الحرام وتحليل الحلال ، قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وجدنا عَلَيْهِ آباءَنا من عبادة الأصنام ، وارتكاب المعاصي والآثام ، قال الحق جل جلاله : أيتبعونهم تقليدا وعمى ، ولو كان آباؤهم جهلة لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً من الدين ، ولا يتفكرون فى سبيل المهتدين؟! وقال ابن عباس - رضى اللّه عنهما - : دعا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم اليهود إلى الإسلام ، ورغبهم فيه ، فقال له رافع بن خارجة ومالك بن عوف :
بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا ، فهم كانوا خيرا وأعلم منا ، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. ه.
الإشارة : وإذا قيل لمن أكبّ على دنياه ، واتخذ إلهه هواه ، فأشرك فى محبة اللّه سواه : أقلع عن حظوظك وهواك ، وأفرد الوجهة إلى مولاك ، واتبع ما أنزل اللّه من وجوب مخالفة الهوى ومحبة المولى ، قال : بل أتبع ما وجدت عليه الآباء والأجداد ، وأكبّ عليه جلّ العباد ، فيقال له : أتتبعهم فى متابعة الهوى ، ولو كانوا لا يعقلون شيئا(1/200)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 201
من طرق الهدى؟ وقد قال - عليه الصلاة والسلام - : «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به». ه.
ثم ضرب الحق مثلا لمن تبع هواه ، فأصمّه وأعماه ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 171]
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171)
قلت : (و مثل) إلخ ، يحتمل أن يكون على حذف مضاف ، أي : مثل واعظ الذين كفروا ، أو لا يحتاج إلى تقدير. وسيأتى بيانه ، ونعق ، كضرب ، ينعق نعقا ونعيقا ، إذا صاح وزجر.
يقول الحق جل جلاله : وَمَثَلُ واعظ الَّذِينَ كَفَرُوا وداعيهم إلى اللّه كَمَثَلِ الراعي الذي يرعى البهائم ، وينعق عليها ليزجرها ، أو يدعوها فإذا سمعت النداء رفعت رءوسها ولم تعقله ، ثم عادت إلى مراعيها ، فلا تسمع من الراعي يزجرها إِلَّا دُعاءً وَنِداءً ، ولا تفقه ما يقول لها ، كذلك الكفار المنهمكون فى الكفر ، إذا دعاهم أحد إلى التوحيد لا يلتفتون إليه ، ولا يفقهون ما يقول لهم ، كالبهائم أو أضل.
أو مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فى انهماكهم فى التقليد والجهل ، مع من يدعوهم إلى اللّه كَمَثَلِ بهائم الذي ينعق ويصيح عليها صاحبها فلا تسمع إِلَّا دُعاءً وَنِداءً ولا تفقه ما يقول لها ، أو مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فى دعائهم الأصنام التي لا تسمع ولا تعقل ، كمثل الناعق بغنمه ، فلا ينتفع من نعيقه بشىء ، غير أنه فى عناء وتعب من دعائه وندائه ، ثم وصفهم بالصمم والبكم والعمى مجازا ، أي : هم صُمٌّ عن سماع الحق فلا يعقلونه ، بُكْمٌ عن النطق به ، عُمْيٌ عن النظر إلى أسبابه ، أو عن الهدى فلا يبصرونه ، فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ شيئا ولا يتدبرون.
الإشارة : إذا تمكن الهوى من القلوب عزّ دواؤه وشق علاجه ، وعظم على الأطباء عناؤه ، فالمنهمكون فى الغفلة لا ينفع فيهم التذكير ، ولا ينجح فيهم التخويف والتحذير ، فالواعظ لهم كالناعق بالبهائم التي لا تسمع إلا دعاء ونداء ، قد أعماهم الهوى ، وأصمهم عن سماع أسباب الهدى.
(إنّ الهوى ما تولّى يصم أو يصم) «1»
___________
(1) قوله : (يصم) ، أي : يقتل ، من أصميت الصيد ، إذا رميته فقتلته وأنت تراه ، وقوله : (أو يصم) أي : يعيب ، من الوصم ، وهو العيب ، يقال : ما فى فلان وصمة ، أي : عيب. قلت : وهذا شطر بيت ، أوله : (فاصرف هواها وحاذر أن توليه) والبيت من القصيدة المعروفة بالبردة للبوصيرى(1/201)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 202
فلا يقلع الهوى من قلوبهم إلا بسابق العناية ، أو هبوب ريح الهداية ، فتثير فى قلوبهم خوفا مزعجا ، أو شوقا مقلقا ، أو نورا خارقا وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ.
ولما فرغ من تذكير الكفار وتخويفهم ذكّر المؤمنين ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 172 الى 173]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
قلت : أصل اضطرّ : أضترر ، على وزن افتعل ، من الضرر ، أبدلت التاء طاء لقرب مخرج التاء من الطاء ، قال فى الألفية :
طاتا افتعال ردّ إثر مطبق ثم أدغمت الراء فى الراء بعد ذهاب حركتها ، وقرأ أبو جعفر : بكسر الطاء حيث وقع. ووجهه : نقل حركة الراء إلى الطاء ، وأصل البغي : قصد الفساد ، يقال : بغى الجرح بغيا ، إذا ترامى إلى الفساد ، ومنه قيل للزنا : بغاء ، وللزانية :
بغى ، وأصل العدوان : الظلم ومجاوزة الحد ، يقال : عدا يعدو عدوانا وعدوا.
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا من لذيذ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وقفوا عند ما حلّ لكم ولا تحرموا برأيكم ما أحللنا لكم ، كما فعل من سلف قبلكم ، وَاشْكُرُوا نعمة اللّه عليكم الظاهرة والباطنة إِنْ كُنْتُمْ تخصّونه بعبادتكم ، فقد أحللنا لكم جميع ما خلقنا لكم على وجه الأرض التي تقلكم.
إِنَّما حرمنا عَلَيْكُمُ ما فيه ضرركم كالميتة لخبثها ، وَالدَّمَ لأنه يقسى قلوبكم ، وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ لأنه يورث عدم الغيرة ، وما ذكر عليه غير اسم اللّه ، وهو الذي أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ أي : رفع الصوت عند ذبحه لغير اللّه ، وهو الصنم فَمَنِ اضْطُرَّ وألجئ إلى شىء من هذه المحرمات ، غَيْرَ باغٍ أي : ظالم بأكلها اختيارا ، وَلا عادٍ متعدّ يتعدى الحلال إلى الحرام ، فيأكلها وهو غنى عنها فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ، أو غَيْرَ باغٍ غير قاطع للطريق ، وَلا عادٍ : مفارق للأمة خارج عن الجماعة ، فمن خرج يقطع الرحم ، أو يخيف ابن السبيل ، أو يفسد فى الأرض ، أو أبق من سيده ، أو فرّ من غريمه أو عاصيا بسفره ، واضطر إلى شىء من هذه ، فلا تحلّ له حتى يتوب ويأكل ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وقال سهل بن عبد اللّه : غَيْرَ باغٍ : غير مفارق للجماعة وَلا عادٍ :
مبتدع مخالف للسنة ، فلم يرخص للمبتدع تناول المحرمات عند الضرورات.(1/202)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 203
الإشارة : يا أيها الذين آمنوا إيمان أهل العرفان ، كلوا من طيبات ما رزقناكم من حلاوة الشهود والعيان ، واشكروا اللّه الكريم المنّان ، إن كنتم تخصونه بالعبادة والإحسان ، أو : يا أيها الذين آمنوا إيمان أهل الصفاء ، ووقفوا مع الحدود وقوف أهل الوفاء ، كلوا من طيبات ما رزقناكم من ثمرات بساتين العلوم ، واشكروا للّه يزدكم من المواهب والمفهوم ، إن كنتم تعبدون الحي القيوم ، إنما حرم عليكم ما يعوقكم عن هذه المواهب ، أو ينزلكم عن منابر تلك المراتب ، كالميل إلى جيفة الدنيا ، أو الركون إلى متابعة الهوى ، أو تأخذون منها ما قصد به غير اللّه ، أو تقبضونها من يد غير اللّه. فمن اضطر إلى أخذ شىء من نجاستها ، فأخذ القدر الذي احتاج إليه منها ، دون التشوّف إلى ما زاد عليه ، غير قاصد بذلك شهوة ولا متعة ، فلا إثم عليه ، إن اللّه غفور رحيم.
قال شيخ شيوخنا سيدى على الجمل رضي اللّه عنه لما تكلم على الغنىّ باللّه ، قال : (علامته هو الذي ترك الدنيا للخلق ، حتى لا يكون له فيها حق معهم ، إلا ما فضل عنهم من بعد اضطراره واحتياجه ، ويترك الآخرة لمولاه ، حتى لا يكون له فيها حق إلا النظر فى وجه اللّه ، ويترك أيضا نفسه للّه حتى لا يكون فيها حق إلا حق مولاه ، ولا إرادة له إلا ما أراد مولاه ، ويكون كالغصن الرطب أينما مالت به الريح يلين ويميل معها ، ولا ينكر على الخلق حالا من أحوالهم). ه.
ومن جملة ما ألحق بهذه المحرمات الرّشا وأكل أموال الناس بالباطل ، ولذلك ذكره اللّه تعالى بإثر ما أحلّه للمؤمنين ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 174 الى 176]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176)
قلت : (ما) تعجيبة ، مبتدأ ، وهى نكرة ، وسوّغ الابتداء معنى التعجب ، وجملة (أصبرهم) خبر ، أي : أىّ شىء عظيم صيرّهم صابرين ، أو استفهامية ، أي : أىّ شىء حملهم على الصبر على النار؟.(1/203)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 204
يقول الحق جل جلاله فى رؤساء اليهود وعلمائهم ، كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والخراج ، ويدّعون أن النبي المبعوث منهم ، فلما بعث نبينا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم خافوا ذهاب مأكلتهم ورئاستهم ، فأنزل اللّه : إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ فى التوراة من صفة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، ويحرفونها فى المعنى وينزعونها مِنَ الْكِتابِ أي : التوراة ، وَيَشْتَرُونَ بذلك التحريف ثَمَناً قَلِيلًا أي : عوضا حقيرا يذهب ويفنى فى زمان قليل ، أُولئِكَ الذين يكتمون ويأكلون ذلك العوض الحقير - ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إلا نار جهنم لأنها مآلهم وعقوبة أكلهم ، وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ إهانة وغضبا عليهم حين يكلم أولياءه ويسلم عليهم ، وَلا يُزَكِّيهِمْ أي : لا يطهرهم من دنس ذنوبهم حتى يتأهلوا للحضرة ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ موجع. أُولئِكَ الَّذِينَ استبدلوا الضَّلالَةَ بِالْهُدى أي :
باعوا الهدى واشتروا به الضلالة ، واستبدلوا الْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ التي كانت لهم لو آمنوا وبيّنوا ، فما أجرأهم على اقتحام النار باقتحام أسبابها ، أو فما أبقاهم فى النار ، أو ما الذي أصبرهم على النار حتى تركوا الحق ومالوا إلى الباطل؟! استفهام توبيخى.
ذلِكَ العذاب الذي استحقوه وتجرءوا عليه بسبب أن اللَّهَ تعالى نَزَّلَ الْكِتابَ القرآن ملتبسا بِالْحَقِّ ، فاختلفوا فيه فآمنوا ببعض وكفروا ببعض ، وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أي : لفى خلاف وضلال بعيد.
الإشارة : كل من كتم علمه ، ولم ينشره إلا فى مقابلة حظ دنيوى ، صدق عليه قوله تعالى : وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ. روى أن بعض الصحابة كان يقرئ أهل الصّفّة ، فأهدى له أحدهم قوسا ، فأتى به النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، فقال : يا رسول اللّه : كنت أعلم أهل الصفة فأهدى لى فلان قوسا ، وقال : هو للّه ، فقال له - عليه الصلاة والسلام - : «لقد تقلدت قوسا من نار جهنم». أو كما قال صلّى اللّه عليه وسلّم ، وأمره بردّه. ولعل هذا من باب الورع ، فأراد عليه السّلام أن يرفع همة ذلك الصحابي ، وإلا فقد ورد فى الحديث : «أحقّ ما أخذتم عليه الأجر كتاب اللّه».
فمن ملكته نفسه ، وأسره الهوى ، فقد اشترى الضلالة بالهدى ، اشترى الضلالة عن طريق أولياء اللّه ، بالهدى الذي كان له لو ملك نفسه وهواه ، وعذاب القطيعة والحجاب ، بالمغفرة والدخول مع الأحباب ، فما أصبرهم على غم الحجاب وسوء الحساب ، سبب ذلك اختلاف قلبه ، وتفريق همه ولبّه ، وقد قال - عليه الصلاة والسلام - : «اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم ، فإذا اختلفتم فقوموا». أو كما قال.(1/204)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 205
وسبب تفرق القلب وعدم حضوره ، حبّ الدنيا فقد قال عليه الصلاة والسلام : «من كانت الدّنيا همّة فرّق اللّه عليه أمره ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدّنيا إلا ما قسم له ، ومن كانت الآخرة نيته ، جمع اللّه عليه أمره ، وجعل غناه فى قلبه ، وأتته الدنيا وهى راغمة».
والقلب الذي اختلف فى فهم الكتاب وتشتّت عنه فى شقاق بعيد عن الحضرة لأن عنوان صحة القلب : جمعه على كلام اللّه وتدبر خطابه والتلذذ بسماعه ، وقد تقدم فى أول السورة درجات القراءة. فانظره إن شئت. وباللّه التوفيق.
ولما ادّعت اليهود والنصارى أن البرّ خاص بقبلتهم ، لأنها قبلة الأنبياء ، ردّ اللّه تعالى عليهم ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 177]
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
قلت : لمّا ذكر الحق تعالى التوحيد وبراهينه الذي هو رأس الدين ، وحذّر من الشرك وفروعه ، ذكر هنا بقية أركان الدين ، وهى الإيمان والإسلام ، فذكر فى هذه الآية قواعد الإيمان وبعض قواعد الإسلام وهى الصلاة والزكاة ، ثم ذكر بعد ذلك الصيام وأحكامه ، ثم ذكر الحج وأركانه ، ثم ذكر الجهاد والنكاح والطلاق والعدّة ، ثم ذكر البيوع وما يتعلق بها من الربا ، ثم الشهادات والرهان ، وبها ختم السورة.
لكن الحديث ذو شجون ، والكلام يجرّ بعضه بعضا ، فقوله : لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا : اسم ليس وخبرها ، وكلاهما معرّفتان ، الأول بأل والثاني بالإضافة ، إذا التقدير : تولية وجوهكم ، فمن رجّح تعريف الألف واللام ، جعل (البر) اسمها ، و(أن تولوا) خبرها ، وبه قرأ الأكثر ، ومن رجح الإضافة جعل (البر) خبرها مقدما ، والمصدر اسمها مؤخرا ، وبه قرأ حمزة وحفص.
وقوله : وَلكِنَّ الْبِرَّ من خفّف جعلها عاطفة الجملة ، والْبِرَّ مبتدأ ، و(من آمن) خبر على حذف مضاف ، أي : برّ من آمن إذ لا يخبر بالذات عن المعنى ، أو قصد المبالغة ، ومن شدّد نصب بها ، لوقوعها بين(1/205)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 206
جملتين ، وهى استدراكية ، وعَلى حُبِّهِ حال من المال ، والصَّابِرِينَ نصب على المدح ، ولم يعطفه بالرفع لفضل الصبر وشرفه.
يقول الحق جل جلاله فى الرد على أهل الكتاب : لَيْسَ الْبِرَّ محصورا فى شأن القبلة ، وَلكِنَّ الْبِرَّ الذي ينبغى أن يعتنى بشأنه هو الإيمان باللّه ، وما يجب له من الكمالات ، وباليوم الآخر وما بعده ، وبالملائكة وما يجب أن يعتقد فى شأنهم ، والكتاب المنزل من السماء كالقرآن وغيره ، والنَّبِيِّينَ وما يجب لهم وما يستحيل فى حقهم.
فالبر هو بر من اعتقد فى قلبه هذه الأشياء ، وأظهر على جوارحه ما يصدق صحة اعتقادها ، وذلك كالاتصاف بالسخاء والكرم ، فأعطى المال على محبته له ، أي : مع حبه ، فقد سئل - عليه الصلاة والسلام - : «أىّ الصّدقة أفضل؟ فقال : أن تتصدّق وأنت صحيح شحيح ، تأمل الغنى وتخشى الفقر». وَآتَى الْمالَ على حب اللّه ، لا جزاء ولا شكورا ، فأعطى ذلك المال ذوى قرابته المحاويج ، وقدّمهم لقوله - عليه الصلاة والسلام - :
«صدقتك على المساكين صدقة ، وعلى ذوى القربى اثنتان صدقة وصلة». وأعطى الْيَتامى لإهمالهم ، وأعطى الْمَساكِينَ الذين أسكنهم الفقر فى بيوتهم ، وَابْنَ السَّبِيلِ وهو المسافر الغريب ، كأن الطريق ولدته ، أو الضيف وَالسَّائِلِينَ ألجأتهم الحاجة إلى السؤال. وفى الحديث : «أعط السائل ولو على فرسه». وقال أيضا صلّى اللّه عليه وسلّم : «هدية اللّه إلى المؤمن السائل على بابه». وأعطى فى فكّ الرِّقابِ من الرق أو الأسر.
وَأَقامَ الصَّلاةَ المفروضة ، وَآتَى الزَّكاةَ المعلومة. ومن أهل البر أيضا : الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ فيما بينهم وبين اللّه ، وفيما بينهم وبين الناس إِذا عاهَدُوا اللّه أو عباده ، فإذا وعدوا أنجزوا ، وإذا حلفوا أو نذروا أوفوا ، وإذا قالوا صدقوا ، وإذا ائتمنوا أدّوا ، وأخصّ من أهل البر الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ كالفقر والذل وإذاية الخلق ، والضَّرَّاءِ كالمرض والزّمانة «1» ، أو (البأساء) : الأهوال ، و(الضراء) فى الأنفس ، والصابرين حِينَ الْبَأْسِ أي : الحرب والجهاد ، أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا فى طلب الحق ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لكل ما يقطع عن الحق ، أو يشغل عنه. فقد اشتملت هذه الآية على كمالات الإنسان بأسرها لاشتمالها على ما يزين البواطن من الاعتقادات وما يزين الظواهر من المعاملات ، وما يزكّى النفوس من الرذائل ويحليها بالمحاسن والكمالات. ولذلك
___________
(1) الزمانة : مرض يدوم.(1/206)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 207
وصف المتصف بها بالصدق والتقى ، اللذين هما أساس الطريقة ومبنى أسرار التحقيق ، وباللّه التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
الإشارة : ليس المطلوب من العبد أن يتوجّه إلى الحق بجهة مخصوصة ، كما إذا توجه إليه بالظاهر وأهمل الباطن ، أو توجه بالباطن وأهمل الظاهر ، ولكن المطلوب منه أن يزين باطنه بأنوار الإيمان واليقين ، ويزين ظاهره بسائر وظائف الدين ، ويزكى نفسه من الرذائل كالشح والبخل والغش والخيانة والكذب والخوف والجزع ، ويحليها بأنواع الفضائل كالسخاء والكرم والوفاء بالعهد والأمانة ، والصبر والشجاعة ، والعفة والقناعة ، وسائر أنواع الفضائل ، فإذا تخلى عن الرذائل وتحلى بأضدادها من الفضائل استحق الدخول مع الأبرار ، وكان من العارفين الكبار ، أولئك الذين ظفروا بصدق الطلب فنالوا الغاية من كل مطلب ، وأولئك هم المتقون حق التقاة ، فنالوا أعلى الدرجات ، منحنا اللّه من ذلك الحظ الوافر بمنّه وكرمه.
ولمّا مدح اللّه تعالى الصبر والجرأة فى الحرب ، أمر بالقصاص لئلا يتسع الناس فى إطلاق الجرأة ، حتى يتجرءوا على قتل المسلم ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 178 الى 179]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
قلت : (عفا) لازم يتعدى بالحرف : بعن إلى الجناية ، وباللام إلى الجاني ، فيقال : عفوت لفلان عن جنايته و(اتباع) خبر عن مضمر ، أي : فالأمر اتباع ، و(حياة) مبتدأ ، و(فى القصاص) خبره ، و(لكم) خبر ثان ، أو صلة له ، أو حال من الضمير المستكن فيه. وفيه من البلاغة والفصاحة ما لا يخفى ، جعل الشيء مجيىء ضده ، وعرّف القصاص ونكّر الحياة ليدل على التعظيم والتعميم ، أي : ولكم نوع من الحياة عظيم ، وذلك لأن العلم به يردع القاتل عن القتل ، فيكون سبب حياة نفسين ، ولأنهم كانوا يقتلون غير القاتل ، والجماعة بالواحد ، فتثور الفتنة بينهم ، فإذا اقتص من القاتل سلم الباقون ، ويصير ذلك سببا لحياتهم. قاله البيضاوي.
يقول الحق جل جلاله : يا أيها المؤمنون كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي شأن الْقَتْلى فى العمد ، فاستسلموا للقصاص ، فالحر يقتل بِالْحُرِّ ، ولا يقتل بالعبد. بل يغرم قيمته لسيده ، ودليله قوله - عليه الصلاة(1/207)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 208
والسلام - : «لا يقتل مسلم بكافر ولا حرّ بعبد» ، والعبد يقتل بالعبد ، إن أراد سيد المقتول قتله ، فإن استحياه خيّر سيده بين إسلامه وفدائه بقيمة العبد. وكذلك إن قتل الحر خيّر أولياؤه بين قتله أو استرقاقه ، فإن استحيوه خيّر سيده بين إسلامه وفدائه بدية الحر العمد ، والأنثى تقتل بالأنثى والذكر ، والذكر يقتل بالأنثى.
وتخصيص الآية بالمساوي ، قال مالك : (أحسن ما سمعت فى هذه الآية : أنه يراد بها الجنس - أي : جنس الحر - والذكر والأنثى فيه سواء. وأعيد ذكر الأنثى تأكيدا وتهمّما بإذهاب أمر الجاهلية). ه. يعنى أن (أل) فى الحر :
للجنس ، تشمل الذكر والأنثى. وأعاد ذكر الأنثى اهتماما برد ما كان يفعله الجاهلية من عدم القود فيها.
ثم قال الحق جل جلاله : فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ دم أخيه شَيْءٌ ولو قلّ ، فقد سقط القتل ، فالواجب اتباع للقاتل بالدية بِالْمَعْرُوفِ من غير تعنيف ولا تعنيت ، وأَداءٌ من القاتل بِإِحْسانٍ من غير مطل ولا بخس.
ذلِكَ - الذي شرعت لكم من أمر العفو والدية - تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ بكم ، وقد كتب على اليهود القصاص وحده ، وعلى النصارى العفو مطلقا. وخيّركم أيها الأمة المحمدية بين أخذ الدية والقصاص. فَمَنِ اعْتَدى بعد أخذ الدية وقتل فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ فى الدنيا والآخرة ، فى الدنيا : بأن يقتل لا محالة لقوله - عليه الصلاة والسلام - : «لا أعافى أحدا قتل بعد أخذ الدّية».
وَلَكُمْ يا معشر المسلمين فِي تشريع الْقِصاصِ حَياةٌ عظيمة فى الدنيا ، لانزجار القاتل إذا علم أنه يقتص منه ، وقد كانوا يقتلون الجماعة فى الواحد ، فسلموا من القتل بشروع القصاص ، أو فى الآخرة ، فإن القاتل إذا اقتصّ منه فى الدنيا لم يؤخذ به فى الآخرة ، فاعتبروا يا أُولِي الْأَلْبابِ أي : العقول الكاملة ، ما فى حكمة القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس ، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ اللّه فى المحافظة على القصاص ، والحكم به والإذعان له ، أو تكفّون عن القتل خوفا من اللّه.
الإشارة : كما جعل اللّه القصاص فى الجناية الحسية ، جعل القصاص فى الجناية المعنوية ، وهى الجناية على النفس بسوء الأدب مع اللّه ، فكل من صدر منه هفوة أو زلة ، اقتص الحق تعالى منه فى دار الدنيا ، إن كانت له من اللّه عناية ، الكبيرة بالكبيرة والصغيرة بالصغيرة. وتأمّل قضية الرجل الذي كان يطوف بالكعبة ، فنظر إلى امرأة ، فلطمته كفّ من الهوى ، وذهبت عينه ، فقال : آه ، فقيل له : لطمة بنظرة ، وإن زدت زدنا. ه. وقضية أبى تراب النخشبى : قال رضي اللّه عنه : ما تمنت نفسى شهوة من الشهوات إلا مرة واحدة ، تمنيت خبزا وبيضا وأنا فى سفر ، فعدلت إلى قرية ، فقام واحد ، وتعلق بي ، وقال : هذا رأيته مع اللصوص ، فضربونى سبعين درة ، ثم عرفنى رجل منهم ، وحملنى إلى منزله ، وقدّم لى خبزا وبيضا. فقلت فى نفسى : كلّ بعد سبعين درة.(1/208)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 209
وقضية أبى الخير العسقلاني : اشتهى السمك فلما مدّ يده ليأكل أخذت شوكة من عظامها أصبعه ، فذهبت فى ذلك يده. وقضية إبراهيم بن شيبان : قال : (اشتهيت شبعة من الخبز والعدس ، فاتفق ذلك ، فأكلت حتى شبعت ، ثم رأيت منكرا ، فغيرته ، فأخذونى وضربونى مائة خشبة ، وطرحونى فى السجن أربعة أشهر ، حتى شفع فىّ شيخى ، فخرجت ، وقال : أخذتها مجانا) ، أي : حيث عوقبت فى ظاهرك دون باطنك.
وقضية خير النسّاج : قال : (عاهدت اللّه وعقدت ألّا آكل الرّطب فغلبتنى نفسى ، فأخذت نصف رطل ، فلما أكلت واحدة إذا برجل نظر إلىّ وقال : يا خير ، أين هربت منى؟ وكان له عبد اسمه خير ، فوقع علىّ شبهه - قال :
فبقيت معه عدة أشهر أنسج له الكرباس - وهو القطن الأبيض - ، ثم تبت فزال عنى الشّبه).
فمن عفى له عن شىء من هذه الجناية ، بعد الأدب أو قبله ، فليشكر اللّه ، ويتبع ما أمره به ، ويؤدى ما فرضه عليه بالمعروف ، من غير إسراف ، ولا تقصير ، ذلك تخفيف من اللّه عنه ، ورحمة به ، فمن اعتدى بعد ذلك ، ورجع إلى ما تاب عنه فله عذاب أليم ، وهو الطرد عن حضرة الأحباب ، إلى الوقوف بالباب أو سياسة الدواب ، إلا من تاب وعمل صالحا فإن اللّه يتوب على من تاب. ولكم فى القصاص فى دار الدنيا - حياة عظيمة لأرواحكم وأسراركم لأن ذلك اعتناء بكم يا أولى الألباب ، لعلكم تتقون كل ما يشغلكم عن مولاكم.
ولمّا ذكر القصاص وهو مظنّة الموت ، والموت من أسباب الوصية ذكرها بإثره ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 180 الى 182]
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
قلت : إِذا حَضَرَ ظرف ، العامل فيه : كُتِبَ ، أي : توجّه إيجاب الوصية عليكم إذا حضر الموت. أو مصدر محذوف يفهم من الوصية ، أي : كتب عليكم الإيصاء إذا حضر الموت ، والْوَصِيَّةُ نائب فاعل كُتِبَ ، ولا يصح أن تعمل فى (إذا) لتقدمه عليها لأن المصدر لا يعمل فى ما قبله ، إلا على مذهب الأخفش. اللهم إلا أن يتوسع فى الظروف ، وجواب الشرطين محذوف ، أي : إذا حضر أحدكم الموت ، إن ترك خيرا ، فقد كتبت عليه الوصية.
والجنف : الميل عن الصواب ، فإن كان خطأ فهو جنف بلا إثم ، وإن كان عمدا فهو جنف إثم.(1/209)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 210
يقول الحق جل جلاله : كتب اللّه عَلَيْكُمْ أن توصوا للوالدين والأقربين إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ، إِنْ تَرَكَ المستحضر خَيْراً أي : مالا ، قال سيدنا علىّ - كرم اللّه وجهه - : (ألف درهم فصاعدا ، فلا وصية فى أقل).
وقال النخعي : (خمسمائة درهم لا أقل). وقال الزّهرى : (تجب فيما قل وكثر) ، وعن عائشة - رضى اللّه عنها - :
(أن رجلا أراد أن يوصى ، فسألته : كم مالك؟ فقال : ثلاثة آلاف. فقالت : كم عيالك؟ فقال : أربعة ، فقالت : لا ، إنما قال اللّه تعالى إِنْ تَرَكَ خَيْراً وإن هذا لشئ يسير ، فاتركه لعيالك).
وتكون تلك الوصية بِالْمَعْرُوفِ ، أي : بالعدل ، فلا يفضل الذكور ، ولا يتجاوز الثلث. قد حقّ اللّه ذلك حَقًّا واجبا عَلَى الْمُتَّقِينَ ، فمن غيّره من الأوصياء أو الشهود بَعْدَ ما سَمِعَهُ وعلمه ، فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ من الأوصياء أو الشهود ، لأنه هو الذي خالف الشرع وغيّر دون الميت ، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فلا يخفى عليه من بدّل أو غيّر ، فهو حسيبه ومعاقبه ، فَمَنْ خافَ أي : علم مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أي : ميلا بالخطأ فى الوصية ، أَوْ إِثْماً تعمدا للجنف ، فَأَصْلَحَ بين الموصى لهم وبين الورثة ، بأن أجراهم على منهاج الشرع ، أو نقص للموصى لهم ، أو زاد لمصلحة رآها فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لأنه تبديل لمصلحة. والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيغفر للمبدّل لمصلحة ويرحمه.
وهذه الآية منسوخة فى وصية الوالدين ، محكمة فى الأقربين غير الوارثين ، بقوله - عليه الصلاة والسلام - فى الحديث المشهور : «إنّ اللّه أعطى كلّ ذى حقّ حقّه. فلا وصيّة لوارث» ، فإذا كان الوالدان غير وارثين كالكافرين أو العبدين فهى محكمة ، واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : اعلم أن المريد إذا منع نفسه من الشهوات ، وحفظ قلبه من الخطرات ، وصان سره من الغفلات - وأعظم الشهوات حبّ الرئاسة والجاه ، فإذا قتل نفسه ونزل بها إلى السّفليات حتى حضرها الموت ، وانقطع عنها الخواطر والخيالات - فإنها تفيض بالعلوم والواردات ، فالواجب من طريق الجزم أن يقيد تلك العلوم ، أو يوصى من يقيدها لينتفع بها الوالدان وهما الأشياخ ، والأقربون وهم الإخوان. فإن الحكمة ترد فى حال التجلي كالجبل ، فإن لم يقيدها وأهملها رجعت كالجمل ، فإن أهملها رجعت كالكبش ، فإن أهملها رجعت كالطير ، ثم ترجع كالبيضة ثم تذهب. هكذا كان يقول شيخ شيوخنا سيدى على الجمل رضي اللّه عنه ، وكان شيخه سيدى العربي بن عبد اللّه يقول له :
(إن ورد عليك وارد فقيّده وأعطنى منه نسخة). وهكذا كان أشياخنا يأمروننا بتقييد الواردات ، فمن قيّد واردا(1/210)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 211
أو سمعه من غيره ، فلا يغيره بمجرد رأيه وهواه. فإن تحقق منه نقصا أو ميلا عن منهاج الطريقة والحقيقة ، فأصلحه ، فلا إثم عليه ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
ولما ذكر فى الآية المتقدمة قاعدتين من قواعد الإسلام فى قوله : وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ ، بعد أن ذكر قواعد الإيمان ، ذكر هنا القاعدة الثالثة ، وهى الصيام ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 183 الى 185]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
قلت : (أياما) منصوب على الظرفية ، واختلف فى العامل فيه ، والأحسن أنه الصيام ، ولا يضره الفصل لأن الظرف يتوسع فيه ما لا يتوسع فى غيره ، و(معدودات) نعت له ، و(عدة) مبتدأ أي : فعليه عدّة. و(أخر) ممنوع من الصرف للعدل عن الألف واللام والوصف. و(شهر رمضان) إما خبر عن مضمر ، أو مبتدأ ، والخبر : (فمن شهد) ، أو بدل من (الصيام) ، على حذف مضاف ، أي : صيام شهر رمضان.
و(رمضان) مصدر رمض إذا احترق ، وأضيف إليه الشهر ، وجعل علما ، ومنع من الصرف للعلمية والألف والنون. وسمّوه بذلك إما لارتماض القلب فيه من حرّ الجوع والعطش ، أو لارتماض الذنوب فيه ، أو وافق الحرّ حين نقلوا الشهور عن اللغة القديمة. و(الشهر) ظرف ، لقوله : (شهد) أي : حضر ، وقوله (و لتكملوا ...) الآية ، هذه ثلاث علل لثلاثة أحكام على سبيل اللفّ والنّشر المعكوس ، أي : ولتكملوا العدة أمرتكم بقضاء عدة أيام أخر ، ولتكبروا اللّه عند تمام الشهر أمرتكم بصيام الشهر كله ، ولعلكم تشكرون أردت بكم اليسر دون العسر.(1/211)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 212
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فرض عليكم الصِّيامُ كما فرض عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ من الأنبياء وأممهم من لدن آدم ، فلكم فيهم أسوة ، فلا يشق عليكم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ المعاصي ، فإن الصوم يكسر الشهوة. ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام - : «من استطاع منكم الباءة فليتزوّج ، ومن لم يستطع فعليه بالصّوم ، فإنّه له وجاء».
وذلك الصيام إنما هو فى أيام قلائل مَعْدُوداتٍ ، فلا يهولكم أمره ، فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً يشق عليه الصيام ، أَوْ عَلى سَفَرٍ فأفطر فعليه صيام عدة ما أفطر مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ بعد تمام الشهر ، وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ بلا مشقة ، إن أرادوا أن يفطروا فِدْيَةٌ وهى : طَعامُ مِسْكِينٍ : مدّ لكل يوم. وفى قراءة فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ أي : وهى طعام مسكين لكل يوم. وقيل : نصف صاع. فَمَنْ تَطَوَّعَ بزيادة المد ، أو أطعم مسكينين عن يوم ، فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وأعظم أجرا ، وَأَنْ تَصُومُوا أيها المطيقون للصيام ، خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما فى الصيام من الأسرار ، والخير المدرار ، ثم نسخ بقوله : فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ.
وذلك الصيام الذي أمرتم به هو شَهْرُ رَمَضانَ المبارك الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أي : ابتداء نزوله فيه.
أو إلى سماء الدنيا ، حالة كونه هُدىً لِلنَّاسِ أي : هاديا لهم إلى طريق الوصول ، وآيات واضحات مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ الذي يفرق بين الحق والباطل. وإن شئت قلت : فيه هدى للناس إلى مقام الإسلام ، وَبَيِّناتٍ ، أي :
حججا واضحة تهدى إلى تحقق الإيمان ، وإلى تحقق الفرق بين الحق والباطل ، وهو ما سوى اللّه ، فيتحقق مقام الإحسان.
فَمَنْ حضر منكم فى الشَّهْرَ ولم يكن مسافرا فَلْيَصُمْهُ وجوبا ، وكان فى أول الإسلام على سبيل التخيير لأنه شق عليهم حيث لم يألفوه ، فلما ألفوه واستمروا معه ، حتّمه عليهم فى الحضور والصحة. وَمَنْ كانَ مَرِيضاً يشق عليه الصيام ، أَوْ عَلى جناح سَفَرٍ ، بحيث شرع فيه قبل الفجر فأفطر فيه ، فعليه فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ والتخفيف ، حيث خفّف عنكم ، . وأباح الفطر فى المرض والسفر ، وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ إذ لم يجعل عليكم فى الدّين من حرج ، وإنما أمركم بالقضاء لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ التي أمركم بها ، وهى تمام الشهر ، وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ ، أمركم بصيامه فتكبروا عند تمامه.
ووقت التكبير عند مالك : من حين يخرج إلى المصلّى ، بعد الطلوع ، إلى مجيئ الإمام إلى الصلاة. ولفظه المختار : (اللّه أكبر ، اللّه أكبر ، لا إله إلا اللّه ، اللّه أكبر وللّه الحمد على ما هدانا ، اللهم اجعلنا من الشاكرين) لجمعه(1/212)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 213
بين التهليل والتكبير والشكر ، امتثالا لقوله : وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ على ما أوليناكم من سابغ الإنعام ، وسهّلنا عليكم فى شأن الصيام.
الإشارة : كتب عليكم الصيام عن الحظوظ والشهوات ، كما كتب على من سلك الطريق قبلكم من العارفين الثقات ، فى أيام المجاهدة والرياضات ، حتى تنزلوا بساحة حضرة المشاهدات ، لعلكم تتقون شهود الكائنات ، ويكشف لكم عن أسرار الذات ، فمن كان فيما سلف من أيام عمره مريضا بحب الهوى ، أو على سفر فى طلب الدنيا ، فليبادر إلى تلافى ما ضاع فى أيام أخر ، وعلى الأقوياء الذين يطيقون هذا الصيام ، إطعام الضعفاء من قوت اليقين ومعرفة رب العالمين. فمن تطوع خيرا بإرشاد العباد إلى ما يقوّى يقينهم ، ويرفع هممهم فهو خير له.
وأن تدوموا أيها الأقوياء على صومكم عن شهود السّوى ، وعن مخالطة الحس بعد التمكين ، فهو خير لكم وأسلم ، إن كنتم تعلمون ما فى مخالطة الحس من تفريق القلب وتوهين الهمم ، إذ فى وقت هذا الصيام يتحقق وحي الفهم والإلهام ، وتترادف الأنوار وسواطع العرفان. فمن شهد هذا فليدم على صيامه ، ومن لم يقدر عليه فليبك على نفسه فى تضييع أيامه.
واعلم أن الصيام على ثلاث درجات : صوم العوام ، وصوم الخواص ، وصوم خواص الخواص.
أما صوم العوام : فهو الإمساك عن شهوتى البطن والفرج ، وما يقوم مقامهما من الفجر إلى الغروب ، مع إرسال الجوارح فى الزلّات ، وإهمال القلب فى الغفلات. وصاحب هذا الصوم ليس له من صومه إلا الجوع ، لقوله صلّى اللّه عليه وسلم : «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس للّه حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه». وأما صوم الخواص : فهو إمساك الجوارح كلّها عن الفضول ، وهو كل ما يشغل العبد عن الوصول ، وحاصله : حفظ الجوارح الظاهرة والباطنة عن الاشتغال بما لا يعنى. وأما صوم خواص الخواص : فهو حفظ القلب عن الالتفات لغير الرب ، وحفظ السر عن الوقوف مع الغير ، وحاصله : الإمساك عن شهود السّوى ، وعكوف القلب فى حضرة المولى. وصاحب هذا صائم أبدا سرمدا. فأهل الحضرة على الدوام صائمون ، وفى صلاتهم دائمون ، نفعنا اللّه بهم وحشرنا معهم. آمين.
ولمّا كان الصيام يرقّق القلب فيحصل به القرب من الحق ، ذكره بإثر الصيام ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 186]
وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)(1/213)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 214
يقول الحق جل جلاله : فى جواب رجل سأل : هل قريب ربنا فنناجيه ، أو بعيد فنناديه؟ فنزل : وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي. فقل لهم : فَإِنِّي قَرِيبٌ إليهم من أرواحهم لأشباحهم ، ومن وسواس قلوبهم لقلوبهم ، علما وقدرة وإحاطة ، أجيب دعوة الداعي إذا دعان ، سرا أو جهرا ، ليلا أو نهارا ، على ما يليق بحاله فى الوقت الذي نريد ، لا فى الوقت الذي يريد ، فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي إذا دعوتهم للإيمان والطاعة ، أسلك بهم طريق المعرفة ، وَلْيُؤْمِنُوا بِي أنى قريب منهم فيستحيوا منى ، حياء من يرى أنى معه حيث كان ، لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ إلى سلوك طريقتى ودوام محبتى.
قال البيضاوي : اعلم أنه ، تعالى ، لما أمرهم بصوم الشهر ، ومراعاة العدة على القيام بوظائف التكبير والشكر ، عقّبه بهذه الآية الدالة على أنه خبير بأحوالهم ، سميع لأقوالهم مجيب لدعائهم ، مجازيهم على أعمالهم ، تأكيدا وحثا عليه. ه.
الإشارة : قرب الحق تعالى من عباده هو قرب المعاني من المحسوسات ، أو قرب الصفات من الذات ، أو الذات من الصفات. فإذا تحقق المحو والاضمحلال ، وزال البين ، وثبت الوصال ، لم يبق قرب ولا بعد ولا بين ولا انفصال. قال الشيخ القطب العارف الكبير سيدى عبد السلام بن مشيش رضي اللّه عنه لأبى الحسن رضي اللّه عنه : حدّد بصر الإيمان تجد اللّه فى كل شىء وعند كل شىء ، ومع كل شىء ، وقبل كل شىء ، وبعد كل شىء ، وقريبا من كل شىء ، ومحيطا بكل شىء ، بقرب هو وصفه ، وبحيطة هى نعته ، وعدّ عن الظرفية والحدود ، وعن الأماكن والجهات ، وعن الصحبة والقرب فى المسافات ، وعن الدّور بالمخلوقات ، وامحق الكلّ بوصفه الأول والآخر والظاهر والباطن ، «كان اللّه ولا شىء معه ، وهو الآن على ما عليه كان».
وقال بعض العارفين : الحق تعالى منزّه عن الأين والجهة والكيف والمادة والصورة. ومع ذلك لا يخلو منه أين ولا مكان ، ولا كم ولا كيف ، ولا جسم ، ولا جوهر ولا عرض ، لأنه للطفه سار فى كل شىء ، ولنوريته ظاهر فى كل شىء ، ولإطلاقه وإحاطته متكيف بكل كيف ، غير متقيّد بذلك ، فمن لم يعرف هذا ولم يذقه ولم يشهده فهو أعمى البصيرة ، محروم من مشاهدة الحق تعالى. ه.
وهذه الإشارات لا يفهمها إلا أهل الذّوق من أهل المعاني ، فاصحب الرجال أهل المعاني تذق أسرارهم ، وتفهم إشاراتهم. وإلا فحسبك أن تعتقد كمال التنزيه ، وبطلان التشبيه ، وتمسّك بقوله تعالى : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ، وسلم للرجال فى كل حال.
إن لم تر الهلال فسلّم لأناس رأوه بالأبصار(1/214)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 215
وإذا تحققت أن الحق قريب منك كفاك لسان الحال عن طلب المقال ، وباللّه التوفيق.
ثم تمّم الحق تعالى بقية أحكام الصوم ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 187]
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
قلت : الرفث : محرّك الجماع ، والفحش كالرفوث ، وكلام النساء فى الجماع. قاله فى القاموس ، وقال الأزهرى اللغوي : الرفث : كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته ، وضمنّه هنا الإفضاء ، فعدّاه بإلى.
يقول الحق جل جلاله فى نسخ ما كان فى أول الإسلام من تحريم الجماع فى رمضان بعد العشاء أو النوم ، ثم إن عمر رضي اللّه عنه باشر امرأته بعد العشاء ، فندم وأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يعتذر إليه ، فقام رجال فاعترفوا بما صنعوا بعد العشاء فنزل قوله : أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ قبل الفجر ، الإفضاء إِلى نِسائِكُمْ بالجماع. وعبّر بالرفث تقبيحا لما ارتكبوه.
ثم علّل التحليل بقوله : هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ ، أي : وإنما أبحت لكم الجماع لقلة صبركم عليهن ، حتى تعانقوهن ويعانقنكم ، فيشتمل بعضكم على بعض ، كاشتمال اللباس على صاحبه ، كما قال الشاعر : «1»
إذا ما الضّجيع ثنى عطفها تثنّت فكانت عليه لباسا
وهذه الحالة يقلّ فيها الصبر عن الوقاع ، عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ أي تخونونها فتعرّضونها للعقاب ، وتحرمونها من الثواب ، فَتابَ عَلَيْكُمْ لمّا تبتم واعترفتم بما اقترفتم ، وعفا عنكم فمحا ذنوبكم ، فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ. والمباشرة : إلصاق البشرة بالبشرة ، كناية عن الجماع ، وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ
___________
(1) وهو النابغة الجعدى.(1/215)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 216
من النسل ، فلا تباشروهن لمجرد قضاء الشهوة ، بل اطلبوا ما قدّر اللّه لكم ، وأثبته فى اللوح المحفوظ من الولد ، لأنه هو المقصود من تشريع النكاح ، وخلق الشهوة ، لا مجرد قضاء الوطر. وفى الحديث : «إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، وعلم بثّه فى صدور الرجال ، وولد صالح يدعو له».
وفى حديث طويل عن عائشة - رضي اللّه عنها - فى قصة الحولاء - امرأة من الأنصار - ، قال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : ما من امرأة حملت من زوجها حين تحمل ، إلا لها من الأجر مثل القائم ليله الصائم نهاره ، والغازي فى سبيل اللّه ، وما من امرأة يأتيها الطلق ، إلا كان لها بكل طلقة عتق نسمة ، وبكل رضعة عتق رقبة ، فإذا فطمت ولدها ناداها مناد من السماء : قد كفيت العمل فيما مضى ، فاستأنفى العمل فيما بقي. قالت عائشة - رضي اللّه عنها - : قد أعطى النساء خيرا كثيرا ، فما لكم يا معشر الرجال؟. فضحك النبي صلّى اللّه عليه وسلم ثم قال : ما من رجل مؤمن أخذ بيد امرأته يراودها ، إلا كتب اللّه له حسنة ، وإن عانقها فعشر حسنات ، وإن ضاجعها فعشرون حسنة ، وإن أتاها كان خيرا من الدنيا وما فيها ، فإذا قام ليغتسل لم يمر الماء على شعرة من جسده إلا محى عنه سيئة ، ويعطى له درجة ، وما يعطى بغسله خير من الدنيا وما فيها ، وإن اللّه تعالى يباهى الملائكة فيقول : انظروا إلى عبدى قام فى ليلة قرّة يغتسل من الجنابة ، يتيقن بأنى ربه ، اشهدوا أنى قد غفرت له» «1». ه. من الثعلبي.
ثم أباح الحق تعالى الأكل والشرب ، ليلة الصيام إلى الفجر ، فقال : وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ شبّه أول ما يبدو من الفجر المعترض فى الأفق ، بالخيط الأبيض ، وما يمتد معه من غبش الليل ، بالخيط الأسود.
ولم ينزل قوله تعالى : مِنَ الْفَجْرِ إلا بعد مدة ، فحمله بعض الصحابة على ظاهره ، فعمد إلى خيط أبيض وخيط أسود فجعلهما تحت وسادته ، فجعل يأكل وينظر إليهما ، فلم يتبيّنا ، ومنهم عدىّ بن حاتم ، قال : فغدوت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فأخبرته فضحك ، وقال : «إنك لعريض القفا ، إنّما ذلك بياض النّهار وسواد الليل» ، والحديث ثابت فى البخاري وغيره. واعترضه الزمخشري بأن فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وذلك لا يجوز ، لما فيه من التكليف بما لا يطاق.
___________
(1) الحديث موضوع ، ذكره ابن الجوزي فى الموضوعات وابن عراق فى تنزيه الشريعة. وقال الحافظ ابن حجر فى الإصابة : سند هذا الحديث واه جدا. وقال الدار قطنى : هذا حديث باطل ، وقال : ذهب عبد الرحمن بن مهدى وأبو داود إلى زياد بن ميمون - أحد رجال سند هذا الحديث - فأنكرا عليه هذا الحديث ، فقال : اشهدوا أنى قد رجعت عنه.(1/216)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 217
وأجيب بأنه ليس فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وإنما فيه تأخير البيان لوقت الحاجة ، وهو جائز. وبيان ذلك أنه لمّا نزل قوله تعالى : حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ فهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم والمؤمنون مراد اللّه منهما ، واستمر عملهم على ذلك ، فكانت الآية مبينة فى حقهم لا مجملة. وأما عدىّ بن حاتم فكان بدويّا مشتغلا بالصيد ، ولم يكن فيه حنكة أهل الحاضرة ، فحمل الآية على ظاهرها ولذلك قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : «إنك لعريض القفا». فنزلت الآية تبين لعدى مراد اللّه عند الحاجة إلى البيان. مع أن السيوطي ذكر فى التوشيح خلاف هذا ونصه :
قال بعضهم : كأنّ عديّا لم يسمع هذه اللفظة من الآية لأنها نزلت قبل إسلامه بمدة ، وذلك أن إسلامه كان فى السنة التاسعة أو العاشرة ، بعد نزول الآية بمدة ، قال : علّمنى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الصلاة والصيام ، فقال : «صل كذا ، وصم كذا ، فإن غابت الشمس فكل حتى يتبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، فأخذ الخيطين ...».
الحديث. فقال له - عليه الصلاة والسلام : «ألم أقل لك من الفجر؟» فتبين أن قوله فى الحديث : «فأنزل اللّه من الفجر» من تصرّف الرواة. ه. مختصرا ، فهذا صريح فى أن الآية نزلت بتمامها مبينة فلم يكن فيها تأخير ، واللّه تعالى أعلم.
ثم بيّن الحق تعالى غاية الصوم ، فقال : ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ فمن أفطر مع الشك فى الغروب ، فعليه الكفارة ، بخلاف الشك فى الفجر للاستصحاب. ولما كان الاعتكاف من لوازم الصوم ذكر بعض أحكامه بإثره فقال : وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ أي : النساء وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ، فالمباشرة للمعتكف حرام ، وتفسد الاعتكاف. كانت المباشرة فى المسجد أو خارجه. وكان الرجل يكون معتكفا فيخرج فيصيب زوجه ثم يرجع ، فنزلت الآية - تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ قد حدها لكم ، فَلا تَقْرَبُوها فضلا عن أن تعتدوها ، كَذلِكَ أي : مثل هذا البيان التام ، يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ محارمه.
الإشارة : قد تقدم أن صوم الخواص ، وخواص الخواص ، هو الإمساك عن الفضول ، وعن كل ما يقطع عن الوصول. أو الإمساك عن شهود الأغيار ، وعن كل ما يوجب الأكدار. فإن عزمت النفس على هذا الصوم وعقدت النية عليه ، حلّ لها أن تباشر أبكار العلوم اللدنية الوهبية ، والحقائق العرفانية ، وتفضى إلى ثيبات العلوم الرّسمية الكسبية. العلوم اللدنية الوهبية شعارها ، والعلوم الرسمية دثارها «1». العلوم اللدنية لباس باطنها ، والعلوم الرسمية لباس ظاهرها.
___________
(1) الشعار : ما ولى جسد الإنسان دون ما سواه من الثياب ، والدثار : الثوب الذي يكون فوق الشعار.(1/217)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 218
قال أبو سليمان الداراني : إذا اعتادت النفوس على ترك الآثام جالت فى الملكوت ، ثم عادت إلى صاحبها بطرائف العلوم ، من غير أن يؤدّى إليها عالم علما. ه.
قال الحق تعالى : عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ بدنس الهفوات ، فمنعكم من مباشرة تلك العلوم الوهبيات ، فلما عقدتم التوبة ، وعزمتم على تركها ، تاب عليكم وعفا عنكم ، فالآن باشروها ، وابتغوا ما كتب اللّه لكم ، من الوصول إلى معرفته ، والعكوف فى حضرة قدسه ، وكلوا من ثمرات تلك العلوم ، واشربوا من خمرة الحىّ القيوم ، حتى يطلع عليكم فجر الكشف والبيان ، وتشرق على قلوبكم شمس نهار العرفان ، فحينئذ تضمحلّ تلك العلوم ، وتمحى تلك المعالم والرسوم. ولم يبق إلا الاستغراق فى مشاهدة الحي القيوم ، فلا تباشروها وأنتم عاكفون فى تلك المساجد. فمشاهدة وجه الحبيب تغنى عن مطالعة المعالم والمشاهد. تلك حدود اللّه فلا تقربوها ، أي : لا تقفوا مع تلك العلوم وحلاوة تلك الرسوم فإنها تمنعكم من مشاهدة الحىّ القيوم. كذلك يبين اللّه آياته الموضّحة لطريق وصوله للناس ، لعلهم يتقون مشاهدة ما سواه. واللّه تعالى أعلم.
ولما أراد الحق أن يتكلم على الحج قدّم الكلام على الأموال لأنها سبب فى وجوبه ، والوصول إليه فى الغالب ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 188]
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
قلت : أصل الإدلاء : إرسال الدّلو فى الماء ليتوصل به إلى أخذ الماء من البئر ، ثم أطلق فى كل ما يتوسل به إلى شىء ، يقال : أدلى بماله إلى الحكام ، أي : دفعه رشوة ، ليتوصل بذلك إلى أخذ أكثر منه ، وهو المراد هنا ، وفى القاموس : أدلى برحمه : توسّل ، وبحجّته : أحضرها ، وإليه بماله : دفعه. ومنه : (و تدلوا بها إلى الحكام). ه. و(تدلوا) معطوف على (تأكلوا) ، منهى عنهما معا.
يقول الحق جل جلاله : وَلا تَأْكُلُوا يا معشر المسلمين أَمْوالَكُمْ أي : أموال بعضكم بعضا ، بِالْباطِلِ أي : بغير حق شرعى إما بغير حق أصلا كالغصب والسرقة والخيانة والخدع والتطفيف والغش وغير ذلك. أو بحق باطل كما يؤخذ فى السحر والكهانة والفأل والقمار والجاه ، وهدية المديان «1» ، وهدية القرض ، والضمان ،
___________
(1) رجل مديان : إذا كان عادته أن يأخذ بالدين.(1/218)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 219
والرشوة ، والربا ، وغير ذلك مما نهى الشارع عنه. ولا يدخل فى ذلك التمائم والعزائم إذا كان بالقرآن أو السنة وغلب الشفاء ، وكذلك لا يدخل أيضا الغبن ، إذا كان البائع عالما بالمبيع.
أو وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ بأن تنفقوها فى الملاهي والزنا والشرب واللواط ، وغير ذلك من المحرمات ، ولا تُدْلُوا أي : تتوسلوا بها ، أي : بدفعها إِلَى الْحُكَّامِ رشوة لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بأن يحكم لكم بها القاضي ، تأخذونها متلبسين بِالْإِثْمِ أي : بالمعصية وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنها لغيركم فإنّ حكم الحاكم لا يحلّ حراما.
وفى الحديث عنه صلّى اللّه عليه وسلم قال : «إنّما أنا بشر مثلكم ، ولعلّ بعضكم أن يكون الحن بحجّته من بعض فأقضى له ، فمن قضيت له بشىء من مال أخيه فإنّما أقطع له قطعة من النار».
الإشارة : الباطل كلّ ما سوى الحق ، فكل من كان يأخذ من يد الخلق ولا يشاهد فيهم الحق فإنما يأخذ أموال الناس بالباطل. قال فى الحكم : «لا تمدّن يديك إلى الأخذ من الخلائق إلا أن ترى أن المعطى فيهم مولاك ، فإذا كنت كذلك فخذ ما وافقك العلم». ويحتاج العامل بهذا إلى عسة «1» كبيرة ، وشهود قوى ، حتى يفنى عن نظره مشاهدة الخلق فى شهود الملك الحق. وكان بعضهم يطلب من هذا وصفه فيعطى للفقير العطاء ، ويقول : خذ ، لا لك ، فلا يسمع من أحد شيئا ، حتى أعطى لبعض الفقراء ، وقال : خذ ، لا لك ، فقال : أقبض لا منك. ه. قلت : الوصول إلى الحكام على شأن الدنيا أو للانتصار للنفس حرام فى طريق الخصوص ، بل يصبر حتى يحكم اللّه بينه وبين خصمه ، وهو خير الحاكمين ، فإن اضطرّ إلى شىء ولم يجد بدا منه فليوكّل ، وباللّه التوفيق.
ولما أراد الحق تعالى أن يتكلم على أحكام الحج ، قدّم الكلام على الهلال لأنه معتبر فى الحج ، أداء وقضاء ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 189]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
قلت : الذي سأله معاذ بن جبل وثعلبة بن غنمة «2» ، فقالا : يا رسول اللّه : ما بال الهلال يبدو رقيقا كالخيط ، ثم لا يزال يزيد حتى يستوى ، ثم لا يزال ينقص حتى يرجع كالخيط؟ فقال الحق جل جلاله : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ
___________
(1) أي : اجتهاد وجد ، من عسّ يعس : إذا طلب.
(2) فى الأصول (غنم) ، والصواب : غنمة ، كما فى أسد الغابة ، والإصابة.(1/219)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 220
أي : عن حكمة اختلاف الأهلة بالزيادة والنقص ، قُلْ لهم يا محمد : هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ يوقّتون بها ديونهم ، ويعرفون بها أوقات زرعهم ، وعدد نسائهم وصيامهم. وهى أيضا مواقيت للحج ، يعرفون بذلك وقت دخوله وخروجه ، فيعرفون الأداء من القضاء ، فلو كانت على حالة واحدة لم يعرفوا ذلك. أجابهم الحق تعالى بغير ما ينتظرون إشارة إلى أن السؤال عن سر الاختلاف ، ليس فيه منفعة شرعية ، وإنما ينبغى الاهتمام بما فيه منفعة دينية.
قال أهل الهيئة : إن نوره من نور الشمس ، وجرمه أطلس ، فكلما بعد من مسامتة الشمس قابله نورها ، فإذا قرب منها لم يقابله من نورها إلا بعض جرمه ، فإذا دخل تحتها فى الفلك كان ظهره كله إليها ، فلم يقابله شىء من نورها ، فإذا خرج من تحتها قابله بقدر ذلك ، واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : إذا ظهر هلال السعادة فى أفق الإرادة ، وهبّت ريح الهداية من ناحية سابق العناية ، دخل وقت حج القلوب إلى حضرة علام الغيوب ، فهلال الهداية للسائرين ، وهم أرباب الأحوال أهل التلوين ، يزداد نوره بزيادة اليقين ، وينقص بنقصانه ، على حسب ضعف حاله وقوته ، حتى يتحقق الوصال ، ويرزق صفة الكمال. وأنشدوا :
كلّ يوم تتلوّن غير هذا بك أجمل
فصاحب التلوين بين الزيادة والنقصان ، إلى أن تطلع عليه شمس العرفان ، فإذا طلعت شمس العرفان فليس بعدها زيادة ولا نقصان ، وأنشدوا :
طلعت شمس من أحبّ بليل واستضاءت فما تلاها غروب
إنّ شمس النّهار تغرب باللي ل وشمس القلوب ليست تغيب
بخلاف صاحب التمكين فإنه أبدا فى ضياء معرفته ، متمكن فى برج سعادته ، لا يلحق شمسه كسوف ولا حجاب ، ولا يستر نورها ظلمة ولا سحاب ، فلو طلب الحجاب لم يجب. قال بعض العارفين : (لو كلفت أن أرى غيره لم أستطع ، فإنه لا غير معه حتى أشهده).
ثم حذّر الحق تعالى مما ابتدعه المشركون فى الحج ، فقال :
وَلَيْسَ الْبِرُّ ...(1/220)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 221
قلت : كانت الأنصار إذا حجّوا أو اعتمروا ، يقولون : لا يحول بيننا وبين السماء سقف ، حتى يدخلوا بيوتهم ، فإذا رجعوا تسوّروا الجدران ، أو نقبوا فى ظهور بيوتهم ، فجاء رجل منهم فدخل من الباب ، فعيّر بذلك ، فأنزل الحق جل جلاله : وَلَيْسَ الْبِرُّ أي : الطاعة ، بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها فتتسوروها ، أو تنقبوا من أعلاها ، وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى المحارم وخالف الشهوات.
أو : ليس البر بأن تعكسوا مسائلكم بأن تسألوا عما لا نفع لكم فيه ، وتتركوا مسائل العلم التي تنفعكم فى العاجل والآجل. وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى ذلك ، وَأْتُوا بيوت العلم من أبوابها ، فتحسنون السؤال وتتأدبون فى المقال ، وتقدمون الأهم فالأهم ، والأنفع فالأنفع. وَاتَّقُوا اللَّهَ فلا تغيروا أحكامه ، ولا تعترضوا على أفعاله ، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ بتوفيقه وهدايته.
الإشارة : اعلم أن البيوت التي يدخلها المريد ثلاثة : بيت الشريعة وبيت الطريقة وبيت الحقيقة ، ولكل واحد أبواب فمن أتى البيت من بابه دخل. ومن أتاه من غيره طرد.
فبيت الشريعة له ثلاثة أبواب : الباب الأول : التوبة ، فإذا دخل هذا الباب ، وحقّق التوبة بأركانها وشروطها ، استقبله باب الاستقامة ، وهى : متابعة الرسول فى أقواله وأفعاله وأحواله ، فإذا دخله ، وحقق الاستقامة ، استقبله باب التقوى بأقسامها. فإذا حقق التقوى ظاهرا وباطنا ، دخل بيت الشريعة المطهرة ، وتنزه فى محاسنه ومعانيه ، ثم يروم دخول بيت الطريقة ، وله ثلاثة أبواب :
الباب الأول : الإخلاص وهو : إفراد العمل للّه من غير حرف ولا حظ ، فإذا حقق الإخلاص استقبله باب التخلية وهى التطهير من العيوب الباطنة ، وهى لا تنحصر ، لكن من ظفر بالشيخ أطلعه عليها ، وعلّمه أوديتها ، فإذا حقق التخلية استقبله باب التحلية ، وهى : الاتصاف بأنواع الفضائل كالصبر والحلم والصدق والطمأنينة والسخاء والإيثار ، وغير ذلك من أنواع الكمالات. فإذا حقق الإخلاص والتخلية والتحلية فقد حقق بيت الطريقة ، ثم يستقبله بيت الحقيقة.
فأول ما يقرع باب المراقبة ، وهى : حفظ القلب والسر من الخواطر الردية ، فإذا تطهر القلب من الخواطر الساكنة ، استشرف على باب المشاهدة ، وهى : محو الرسوم فى مشاهدة أنوار الحي القيوم ، أو تلطيف الأوانى عند ظهور المعاني ، فإذا دخل باب المشاهدة ، وسكن فيها ، استقبله باب المعرفة ، وهى محلّ الرسوخ والتمكين ، وهى الغاية والمنتهى ، فبيت الحقيقة هو مسجد الحضرة الربانية. وما بقي بعدها إلا الترقي فى المقامات ، وزيادة المعارف والكشوفات أبدا سرمدا ، منحنا اللّه من ذلك حظا وافرا بمنّه وكرمه.(1/221)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 222
ولمّا كان البيت الحرام عند فرض الحج معمورا بالكفار ، أمرهم بجهادهم ليتمكن المسلمون من الحج ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 190 الى 195]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
قلت : (التهلكة) : مصدر هلك - بتشديد اللام - قاله ابن عطية. وضمن (تلقوا) معنى تفضوا ، أو تنتهوا ، فعدّاه بإلى ، أي : ولا تفضوا بأنفسكم إلى التهلكة. ولا يحتاج إلى زيادة الباء.
وسبب نزول الآية : أن المشركين صدّوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عام الحديبية ، وصالحوه على أن يرجع فى قابل ، فيخلوا له البيت ثلاثة أيام ، فرجع لعمرة القضاء ، وخاف المسلمون ألا يفوا لهم ، فيقاتلوا فى الحرم والشهر الحرام ، وكرهوا ذلك ، فنزلت الآية.
يقول الحق جل جلاله : وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وإعلاء كلمته الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ أي : يبدءونكم بالقتال ، وَلا تَعْتَدُوا فتقاتلوهم قبل أن يبدءوكم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ لا ينصرهم ولا يؤيدهم. ثم نسخ هذا بقوله : وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً ... الآية. وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي : وجدتموهم ، ولا تتحرجوا من قتالهم فى الحرم ، فإنهم هم الذين صدوكم وبدأوكم بالإذاية ، وَأَخْرِجُوهُمْ من مكة حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ منها ، وَالْفِتْنَةُ أي : الكفر الذي هم فيه ، أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ لهم فى الحرم ، وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ابتداء حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ ، فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فيه فَاقْتُلُوهُمْ فيه ، وفى غيره ، كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ يفعل بهم ما فعلوا بغيرهم ، فَإِنِ انْتَهَوْا عن الشرك وأسلموا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لهم رَحِيمٌ بهم.(1/222)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 223
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي : شرك وَيَكُونَ الدِّينُ خالصا لِلَّهِ بحيث لا يبقى فى جزيرة العرب إلا دين واحد ، فَإِنِ انْتَهَوْا عن قتالكم ، فلا تعتدوا فإنه فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ إذ لا يحسن أن يظلم إلا من ظلم.
القتال الصادر منكم لهم فى الشَّهْرُ الْحَرامُ فى مقابلة الصد الذي صدر منهم لكم فى الشهر الحرام ، وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ يقتص بعضها من بعض ، فكما انتهكوا حرمة الشهر الحرام ، بمنعكم من البيت ، فانتهكوا حرمتهم بالقتل فيه. فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ بالقتال فى الأشهر الحرم ، أو فى الحرم فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ، وَاتَّقُوا اللَّهَ فلا تنتصروا لنفوسكم ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بالحفظ والتأييد.
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فى جهاد عدوكم ، ولا تمسكوا عن الإنفاق فيه فتلقوا بِأَيْدِيكُمْ أي : بأنفسكم إِلَى التَّهْلُكَةِ أي : الهلكة فيستولى عليكم عدوكم.
روى عن أبى أيوب الأنصاري (أنه كان على القسطنطينية ، فحمل رجل على عسكر العدو ، فقال قوم : ألقى بيده إلى التهلكة ، فقال أبو أيوب : لا ، إن هذه الآية نزلت فى الأنصار ، قالوا - لما أعز اللّه الإسلام وكثر أهله - : لو رجعنا إلى أهلينا وأموالنا نقيم فيها ونصلحها ، فأنزل اللّه فينا وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ، وأما هذا فهو الذي قال فيه اللّه تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ ....)
أو : ولا تنفقوا كل أموالكم فتتعرضوا للهلكة ، أو الطمع فى الخلق ، ولكن القصد ، وهو الوسط. وَأَحْسِنُوا بالتفضل على المحاويج والمجاهدين إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فيحفظهم ، ويحفظ عقبهم إلى يوم القيامة.
الإشارة : اعلم أن أعداء الإنسان التي تقطعه عن حضرة ربه أربعة : النفس والشيطان والدنيا والناس.
فمجاهدة النفس : بمخالفة هواها ، وتحميلها ما يثقل عليها حتى ترتاض ، ومجاهدة الشيطان : بعصيانه ، والاشتغال باللّه عنه ، فإنه يذوب بذكر الله ، ومجاهدة الدنيا : بالزهد فيها ، والقناعة بما تيسر منها ، ومجاهدة الناس : بالغيبة عنهم والإعراض عنهم فى الإقبال والإدبار. فيقول الحق جل جلاله للمتوجهين إليه : وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ ويصدونكم عن حضرته ، ولا تعتدوا فتشتغلوا بهم عن ذكرى ، والإقبال علىّ ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. بل اقتلوهم حيث تعرضوا لكم فقط ، فإذا ظهرت صورة النفس أدبها ، ثم غاب فى اللّه عنها ، وكذلك بقية القواطع.(1/223)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 224
وكان شيخ شيوخنا سيدى على الجمل رضي اللّه عنه يقول : (عداوة العدو حقا هى اشتغالك بمحبة الحبيب حقا ، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو فاتتك محبة الحبيب ، ، ونال العدو مراده منك). ه. وأخرجوهم من قلوبكم من حيث أخرجوكم من حضرة ربكم ، يعنى : كما أخرجوكم من الحضرة فى أيام الغفلة ، أخرجوهم من قلوبكم فى أيام اليقظة. والفتنة بالاشتغال بهم أشد من القتل لهم ، ولا تقاتلوهم عند مسجد الحضرة وحال الغيبة فى اللّه ، فإن ذلك التفات إلى غير اللّه ، كمن كان مقبلا عليه حبيبه فجعل يلتفت إلى من يكلمه ويشغله عنه. وذلك فى غاية الجفاء ، حتى يقاتلوكم فيه ، ويريدون أن يخرجوكم منه بوسوستهم ، فإن قاتلوكم ، وخطر على بالكم شىء من وسوستهم ، فاقتلوهم بذكر اللّه ، والتعوذ منهم ، فإن اللّه يكفيكم أمرهم ، وينهزمون عنكم ، كذلك جزاء الكافرين. فإن انتهوا عنكم ، وانقطع عنكم خواطرهم ، فغيبوا عنهم فإن اللّه يستركم عنهم ، وقاتلوهم على الدوام حتى لا تكون فى قلوبكم فتنة منهم ، ويكون التوجه كله للّه ، لا ينازعه شيىء مما سواه ، فإن انتهوا عنكم فلا تتعرضوا لهم فإن ذلك عدوان وظلم ، فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ.
فإن جنحت نفسك إلى حرمة الطاعة الظاهرة كتدريس علم أو جهاد أو صلاة أو غيرها ، وأرادت أن تخرجك من حرمة الحضرة القدسية وهى الفكرة والشهود والمعاينة ، فقاتلها وأخرجها من حرمة تلك الطاعة ، فالحرمات قصاص. فكما أخرجتك من حضرة ربك القدسية أخرجها من حضرة الطاعة الحسية إلى الطاعة القلبية. فإن الذّرّة من أعمال القلوب أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح.
فمن اعتدى عليكم ، فى زمن البطالة ، فاعتدوا عليه فى زمن اليقظة بمثل ما اعتدى عليكم. وكان شيخنا البوزيدى رضي اللّه عنه يقول : جوروا على نفوسكم بقدر ما جارت عليكم. ه. أي : اقتلوها بقدر ما قتلتكم بالبعد عن ربكم.
وكان أيضا يقول : (جوروا على الوهم قبل أن يجور عليكم). ه. واتقوا اللّه فإن اللّه يعينكم عليها ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ. وأنفقوا أنفسكم ومهجكم فى سبيل اللّه ، بأن تطرحوها فى يد اللّه يفعل بها ما يشاء. وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ فتدبروا لها ، وتختاروا لها ، وتعتنوا بشئونها ، فإن ذلك غفلة عن ربكم. وَأَحْسِنُوا أي : ادخلوا فى مقام الإحسان بإن تعبدوا اللّه كأنكم ترونه إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ أي : يقربهم إلى حضرته ، ويصطفيهم إلى محبته ومعرفته ، خرطنا اللّه فى سلكهم بمنّه وكرمه.
ثم أمر الحق تعالى بإتمام النسك الذي دخل فيه ، وحض على الإخلاص فيه ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 196]
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196)(1/224)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 225
قلت : المشهور فى اللغة أن أحصر الرباعي : بالمرض ، وحصر الثلاثي : بالعدو ، وقيل : بالعكس ، وقيل : هما سواء. و(ما استيسر) : خبر أو مبتدأ ، أي : فالواجب ما استيسر ، أو : فعليه ما استيسر.
يقول الحق جل جلاله : وَأَتِمُّوا الْحَجَّ الذي دخلتم فيه ، وَالْعُمْرَةَ وجوبا كالصلاة والصوم ، ويكون ذلك لِلَّهِ لا رياء ولا سمعة ، وإنما خص الحج والعمرة بالحض على الإخلاص ، لما يسرع إليهما من الخلل أكثر من غيرهما ، فمن أفسدهما وجب عليه قضاؤهما ، فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ومنعتم من إتمامهما فتحللوا منهما ، وعليكم فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ، وذلك شاة وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ أي : لا تتحللوا حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ، أي : حيث يحل ذبحه ، وهو محل الإحصار عند الشافعي ، فيذبح فيه بنية التحلل ويفرق ، ومنى أو مكة عند مالك ، فيرسله فإذا تحقق أنه وصل وذبح حل وحلق.
ويحرم على المحرم إزالة الشعث ، ولبس المخيط بالعضو ، فمن كان مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً صداع أو نحوه ، فحلق رأسه ، أو لبسثيابه ، فعليه فدية مِنْ صِيامٍ ثلاثة أيام ، أَوْ صَدَقَةٍ على ستة مساكين ، مدّان لكل مسكين ، أَوْ نُسُكٍ بشاة فأعلى ، فهو مخير بين الثلاثة. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : إذا عقد المريد مع ربه عقدة ، فالواجب عليه إتمامها حتى يجنى ثمرتها ، فإذا عقد عقدة المجاهدة فليجاهد نفسه حتى يجنى ثمرتها ، وهى المشاهدة ، وإذا عقد مع الشيخ عقدة الصحبة ، فليلزم خدمته حتى يدخله إلى بيت الحضرة ، ويشهد له بالترشيد. وهكذا كل من عقد مع اللّه عقدة يجب عليه إتمامها ، فإن أحصر ومنع من إتمامها فليفعل ما استيسر من ذبح نفسه وحط رأسه ، ولا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها ، ولا ينبغى أن يستعجل الفتح قبل إبّانه ، فلعلّه يعاقب بحرمانه ، فكم من مريد طلب من شيخه أن يطلعه على سر الربوبية قبل بلوغ محله ، فكان ذلك سبب عطبه ، فيقال له : ولا تحلق رأسك من شهود السوي حتى يبلغ هدى نفسك محله فيذبح ، فإذا ذبحت النفس وأجهز عليها حلق رأسه حينئذ من شهود السّوى ، وفى ذلك يقول الششترى رضي اللّه عنه :
إن ترد وصلنا فموتك شرط لا ينال الوصال من فيه فضله
فمن كان مريضا بضعف عزمه ، أو به أذى بعدم نهوض حاله ، بحيث لم تسعفه المقادير فى مجاهدة نفسه ، فليشتغل بالنسك الظاهر من صيام أو صدقة أو قراءة أو غير ذلك ، حتى يمنّ عليه العليم الحكيم. وباللّه التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.(1/225)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 226
ولمّا ذكر الحق تعالى هدى الإحصار وفدية الأذى ، ذكر هدى التمتع ، فقال :
فَإِذا أَمِنْتُمْ ...
يقول الحق جل جلاله : فإذا حصل لكم الأمن من المرض أو العدو ، وأردتم الحج فَمَنْ تَمَتَّعَ منكم بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ بأن قدّم العمرة فى أشهر الحج ، ثم حج من عامة ، فالواجب عليه فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ شاة فأعلى لكونه تمتّع بإسقاط أحد السّفرين ولم يفرد لكل عبادة سفرا مخصوصا. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الهدى ، ولم يقدر على شرائه ، فعليه فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فى زمن الْحَجَّ ، وهو زمن إحرامه إلى وقوفه بعرفة ، فإن لم يصم فى ذلك الزمان صام أيام التشريق. ثم يصوم سبعة أيام إذا رجع إلى مكة أو إلى بلده. فتلك عَشَرَةٌ أيام كامِلَةٌ ، ولا تتوهموا أن السبعة بدل من الثلاثة ، فلذلك صرح الحق تعالى بفذلكة الحساب «1».
وهذا الهدى أو الصيام إنما يجب على المتمتع إذا لم يكن ساكنا بأهله فى مكة أو ذى طوى ، وأما من كان (أهله حاضرى المسجد الحرام) فلا هدى عليه لأنه يحرم بالحج من مكة فلم يسقط أحد السفرين ، وَاتَّقُوا اللَّهَ فى امتثال أوامره ، وخصوصا مناسك الحج لكثرتها وتشعب فروعها ، ولذلك أفردت بالتأليف ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن ترك أوامره وارتكب نواهيه. وباللّه التوفيق.
الإشارة : يقول الحق جل جلاله على طريق الإشارة للمتوجهين إليه : فإذا أمنتم من أعدائكم الذين يقطعونكم عن الوصول إلى حضرتنا ، أو أمنتم من الرجوع بعد الوصال ، أو من السلب بعد العطاء ، وذلك بعد التمكين من شهود أسرار الذات ، وأنوار الصفات ، إذ الكريم إذا أعطى لا يرجع ، فإذا حصل لكم الأمن ، فمن تمتع بأنوار الشريعة إلى أسرار الحقيقة فعليه ما استطاع من الهدى والسمت الحسن والخلق الحسن لأنه إذ ذاك قد اتصف بصفة الكمال وتصدّر لتربية الرجال ، فمن لم يجد ذلك فليرجع إلى ما تيسر من المجاهدة حتى يتمكن من ذلك الهدى الحسن والخلق الحسن ، هذا لمن لم يتمكن فى الحضرة الأزلية ، وأما من كان مقيما بها ، عاكفا فى شهود أنوارها ، فلا كلام عليه ، لأنه قد تولاه مولاه ، وغيّبه عن شهود نفسه وهواه ، فأمره كله باللّه وإلى اللّه. جعلنا اللّه فيهم بمنّه وكرمه ،
___________
(1) الفذلكة : مجمل ما فصل وخلاصته.(1/226)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 227
لكن لا يغفل عن التقوى لقوله - عليه الصلاة والسلام : «أنا أعرفكم باللّه ، وأنا أتقاكم له». وقالوا : «من علامة النهايات الرجوع إلى البدايات». واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر الحق تعالى ميقات الحج الزمانى ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 197]
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197)
قلت : (الحج) : مبتدأ ، على حذف مضاف ، أي : إحرام الحج أو فعل الحج ، و(أشهر) : خبر ، وإذا وقع الزمان خبرا عن اسم معنى فإن كان ذلك المعنى واقعا فى كل ذلك الزمان أو جلّه تعيّن رفعه عند الكوفيين ، وترجح عند البصريين إذا كان الزمان نكرة ، نحو : السفر يوم. إن كان السفر واقعا فى جميع ذلك اليوم أو فى جلّه لأنه باستغراقه إياه صار كأنه هو ، ويصح : السفر يوما ، أو فى يوم. وإن كان ذلك المعنى واقعا فى بعض ذلك الزمان تعيّن نصبه أو جرّه ب (فى) ، نحو : السفر يوم الجمعة ، أو فى يوم الجمعة وقد يرفع نادرا.
قال فى التسهيل : ويغنى - أي : ظرف الزمان - عن خبر اسم معنى مطلقا ، فإن وقع فى جميعه ، أو فى أكثره ، وكان نكرة ، رفع غالبا ، ولا يمتنع نصبه ولا جره بفي خلافا للكوفيين. وربما رفع خبر الزمان الموقع فى بعضه. ه. ومن ذلك : الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فإن جلّها تصلح للإحرام.
يقول الحق جل جلاله : وقت إحرام الحج أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ : شوال وذو القعدة وذو الحجة ، فمن أحرم قبلها كره عند مالك ، وبطل عند الشافعي ، فَمَنْ فَرَضَ على نفسه فِيهِنَّ الْحَجَّ فيلزم الأدب والوقار ، ويجانب شهوة النساء ، (فَلا) يقع منه رَفَثَ أي : جماع أو كلام فحش ، وَلا فُسُوقَ أي : ذنوب ، وَلا جِدالَ فِي زمان الْحَجُّ ولو مع المكاري «1» أو الخدّام ، ولا غيره من أنواع الخصام فإنه فى حضرة الملك العلام.
وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ كحلم وصبر وحسن خلق يَعْلَمْهُ اللَّهُ فاستبقوا الخيرات ، وتزودوا قبل هجوم الممات ، واتقوا اللّه حق تقاته فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى . أو تزودوا لسفر الحج ، ولا تسافروا كلّا على الناس
___________
(1) المكارى : هو مكرى الدواب. ويغلب على الحمّار والبغّال ، وجمعه : مكارون.(1/227)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 228
فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى عن الطمع فى الخلق ، وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ ، وأفردونى فى سركم حتى أفتح لكم الباب ، وأدخلكم مع الأحباب.
الإشارة : معاملة الأبدان مؤقتة بالأماكن والأزمان ، ومعاملة القلوب أو الأرواح غير مؤقتة بزمان مخصوص ، ولا مكان مخصوص ، فحج القلوب ، الأزمنة كلها له ميقات ، والأماكن كلها عرفات ، حج القلوب هو العكوف فى حضرة علام الغيوب ، وهى مسرمدة على الدوام على مرّ الليالى والأيام ، فكل وقت عندهم ليلة القدر ، وكل مكان عندهم عرفة المشرّفة القدر ، وأنشدوا :
لو لا شهود جمالكم فى ذاتى ما كنت أرضى ساعة بحياتي
ما ليلة القدر المعظّم شأنها إلا إذا عمرت بكم أوقاتى
إن المحبّ إذا تمكّن فى الهوى والحبّ لم يحتج إلى ميقات
وقال آخر «1» :
كلّ وقت من حبيبى قدره كألف حجّه
فاز من خلّى الشّواغل ولمولاه توجّه
فمن فرض على قلبه حجّ الحضرة فليلتزم الأدب والنظرة ، والسكوت والفكرة ، قال تعالى وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً فلا رفث ولا فسوق ولا جدال ولا مراء ، إذ مبنى طريقهم على التسليم والرضى ، وما تفعلوا من خير فليس على اللّه بخفي. وتزودوا بتقوى شهود السّوى ، فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى ، وجماع التقوى هى مخالفة الهوى ، ومحبة المولى ، فهذه تقوى أولى الألباب الذين صفت مرآة قلوبهم ، فأبصروا الرشد والصواب. وباللّه التوفيق.
ثم أباح الحق تعالى التجارة فى مواسم الحج ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 198 الى 199]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)
قلت : (أن تبتغوا) : على إسقاط حرف الجر ، أي : فى أن تبتغوا ، وسبب نزول الآية : أن عكاظا ومجنّة وذا المجاز - أسماء مواضع - كانت أسواقا فى الجاهلية يعمرونها فى مواسم الحج ، وكانت معايشهم منها ، فلما جاء الإسلام تأثّموا وتحرجوا أن يتجروا فيها ، فقال لهم الحق جل جلاله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي : إثم أو ميل
___________
(1) وهو الششترى. [.....](1/228)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 229
عن الصواب ، فى أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أي : عطاء ورزقا تستفيدونه من التجارة فى مواسم حجكم ، إذا خلصت نيتكم ، وغلب قصد الحج على التجارة.
وهاهنا قاعدة ذكرها الغزالي فى الإحياء ، وحاصلها : أن العمل إذا تمحّض لغير اللّه فهو سبب المقت والعقاب ، وإذا تمحض للّه خالصا فهو سبب القرب والثواب ، وإذا امتزج بشوب من الرياء أو حظوظ النفس فينظر إلى الغالب وقوة الباعث فإن كان باعث الحظ أغلب ، سقط ، وكان إلى العقوبة أقرب ، لكن عقوبته أخف ممن تجرد لغير اللّه ، وإن كان باعث التقرب أغلب ، حط منه بقدر ما فيه من باعث الحظ ، وإن تساويا تقاوما وتساقطا وصار العمل لا له ولا عليه.
ثم قال : ويشهد لهذا إجماع الأمة على أن من خرج حاجا ومعه تجارة صحّ حجه وأثيب عليه. ثم قال :
والصواب أن يقال : مهما كان الحج هو المحرّك الأصلى ، وكان غرض التجارة كالتابع ، فلا ينفك نفس السفر عن ثواب ، ثم طرّد هذا الاعتبار فى الجهاد باعتبار الغنيمة ، يعني : ينظر لغالب الباعث وخلوص القصد ، وكذلك الصوم للحمية والثواب ، ينظر لغالب الباعث.
قلت : وتطرّد هذه القاعدة فى المعاملات كلها ، وجميع الحركات والسكنات والحرف وسائر الأسباب ، فالخالص من الحظوظ مقبول ، والمتمحض للحظوظ مردود ، والمشوب ينظر للغالب كما تقدم.
وقد ذكر شيخ المشايخ سيدى أبو الحسن الشاذلى رضي اللّه عنه قاعدة أخرى أدقّ من هذه فقال : إذا أكرم اللّه عبدا فى حركاته وسكناته ، نصب له العبودية للّه وستر عنه حظوظ نفسه ، وجعله يتقلب فى عبوديته ، والحظوظ عنه مستورة ، مع جرى ما قدّر له ، ولا يلتفت إليها لأنها فى معزل عنه ، وإذا أهان اللّه عبدا فى حركاته وسكناته ، نصب له حظوظ نفسه ، وستر عنه عبوديته ، فهو يتقلب فى شهواته ، وعبودية اللّه عنه بمعزل ، وإن كان يجرى عليه شىء منها فى الظاهر ، قال : وهذا باب من الولاية والإهانة. وأما الصّدّيقية العظمى ، والولاية الكبرى ، فالحظوظ والحقوق كلها سواء عند ذوى البصيرة لأنه باللّه فيما يأخذ ويترك. ه.
الإشارة : العبد لا يستغنى عن طلب الزيادة ، ولو بلغ من الكمال غاية النهاية ، فالقناعة من اللّه حرمان ، واعتقاد بلوغ النهاية نقصان ، فليس عليكم جناح أيها العارفون أن تبتغوا فضلا من ربكم زيادة فى إيقانكم ، وترقّيا فى معانيكم ، إذ كمالات الحق لا نهاية لها ، وأسرار الذات لا إحاطة بها ، قال تعالى : وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً. واللّه ولى التوفيق.(1/229)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 230
ثم ذكر الحق تعالى الوقوف بعرفة ، والرجوع إلى المزدلفة والمشعر الحرام ، فقال :
فَإِذا أَفَضْتُمْ ... قلت : (أفضتم) : دفعتم ، وأصل الإفاضة : الدفع بقوة ، من فاض الماء إذا نبع بقوة ، ثم استعمل فى مطلق الاندفاع على سبيل المبالغة. و(عرفات) فيها الصرف وعدمه ، كأذرعات. وسمى عرفات لقول إبراهيم الخليل عليه السّلام لجبريل حين علّمه المناسك : قد عرفت. أو لمعرفة آدم حواء فيها. والكاف فى (كما هداكم) تعليلية ، و(ما) مصدرية ، أي : واذكروه لأجل هدايته لكم. و(إن كنتم) مخففة ، واللام فارقة ، وقوله : (أو أشد) نعت لمصدر محذوف ، أي : أو ذكرا أشد ... إلخ.
يقول الحق جل جلاله : فإذا وقفتم بعرفة ، وأفضتم منها ، فانزلوا المزدلفة وبيتوا بها ، فإذا صليتم الصبح بغلس فقفوا عند الْمَشْعَرِ الْحَرامِ ، وهو جبل فى آخر المزدلفة ، واذكروا اللّه عنده بالتهليل والتكبير والتلبية إلى الإسفار ، هكذا فعل الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، وَاذْكُرُوهُ لأجل ما هداكم إليه من معالم دينه ومناسك حجه ، وغير ذلك من شعائر الدين ، أو فاذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة ، وقد كنتم من قبل هذه الهداية لَمِنَ الضَّالِّينَ.
وكانت قريش لا تقف مع الناس ترفعا عليهم ، بل تقف بالمزدلفة ، فأمرهم الحق جل جلاله بالوقوف مع الناس ، فقال لهم : ثُمَّ أَفِيضُوا يا معشر قريش مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ بأن تقضوا معهم ، وتفيضوا من حيث أفاضوا ، وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ فى تغييركم مناسك إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لكم ، رَحِيمٌ بكم إن تبتم ورجعتم واتبعتم رسولكم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 200 الى 202]
فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202)
فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ وفرغتم من حجكم فَاذْكُرُوا اللَّهَ ذكرا كثيرا كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أو ذكرا أَشَدَّ ذِكْراً منهم ، حيث كنتم تذكرونهم عند فراغ حجكم بالمفاخرة ، وكانوا إذا فرغوا من حجهم وقفوا بمنى ، بين المسجد والجبل ، فيذكرون مفاخر آبائهم ، ومحاسن أيامهم ، فأمروا أن(1/230)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 231
يبدلوا ذلك بذكر اللّه ، وذكر إحسانه إليهم ، وشكر ما أسداه إليهم من مفاخر الدنيا والآخرة ، إن آمنوا واتبعوا رسوله صلّى اللّه عليه وسلم.
الإشارة : إذا وقفت القلوب على جبل عرفة المعارف ، وتمكنت من شهود جمال معانى تلك الزخارف ، حتى صارت تلك المعاني هى روحها وسرّها ، وإليها مآلها ومسيرها ، أمرت بالنزول إلى أرض العبودية ، والقيام بوظائف الربوبية ، شكرا لما هداها إليه من معالم التحقيق ، وما أبان لها من منار الطريق ، وإن كانت من قبله لمن الضالين عن الوصول إلى رب العالمين. ثم يؤمرون بمخالطة الناس بأشباحهم ، وانفرادهم عنهم بأرواحهم. أشباحهم مع الخلق تسعى ، وأرواحهم فى الملكوت ترعى ، فإذا وقع منهم ميل أو سكون إلى حسّ فليستغفروا اللّه إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. ثم يقال لهم : فإذا قضيتم مناسككم ، بأن جمعتم بين مشاهدة الربوبية فى باطنكم ، والقيام بوظائف العبودية فى ظاهركم ، فاذكروا اللّه على كل شىء ، وعند كل شىء ، وقبل كل شىء ، وبعد كل شىء ، حتى لا يبقى من الأثر شىء ، كما كنتم تذكرون آباءكم وأبناءكم ، فى حال غفلتكم ، بل أشد ذكرا وأعظم وأتم ، واللّه ذو الفضل العظيم.
ثم بيّن الحق تعالى مقاصد الناس ، وهممهم فى طلبهم وسعيهم ، فقال :
فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ ...
يقول الحق جل جلاله فى بيان مقاصد الناس وهممهم فى طلبهم فى الحج وغيره : فَمِنَ النَّاسِ من قصرت نيته وانحطت همته ، يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا ما تشتهيه نفوسنا من حظوظها وشهواتها ، وليس له فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ أي : نصيب ، لأنه عجّل نصيبه فى الدنيا. «إن اللّه يرزق العبد على قدر نيته» وَمِنْهُمْ من أراد كرامة الدنيا وشرف الآخرة يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حالة حَسَنَةً كالمعرفة ، والعافية ، والمال الحلال ، والزوجة الحسنة ، وجميع أنواع الجمال ، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً كالنظرة ، والحور العين ، والقصور ، وجميع أنواع النعيم ، وَقِنا عَذابَ النَّارِ بالعفو والمغفرة ، وقال سيدنا علىّ - كرّم اللّه وجهه - : (الحسنة فى الدنيا : المرأة الصالحة ، وفى الآخرة : الحوراء. وعذاب النار فى الدنيا : المرأة السوء) وقال الحسن : (الحسنة فى الدنيا : العلم والعبادة ، وفى الآخرة : الجنة). وَقِنا عَذابَ النَّارِ : احفظنا من الشهوات والذنوب المؤدية إلى النار ، وهذه كلها أمثلة للحالة الحسنة.(1/231)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 232
أُولئِكَ الذين طلبوا خير الدارين لَهُمْ نَصِيبٌ وحظّ من الجزاء الوافر من أجل ما كسبوا من الأعمال الصالحات ، وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ يحاسب عباده على كثرتهم ، وكثرة أعمالهم ، فى مقدار لمحة. قيل لعلىّ رضي اللّه عنه : كيف يحاسب الله عباده فى ساعة واحدة؟ فقال : كما يرزقهم فى ساعة واحدة. ه. أو يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب عباده) فبادروا إلى اغتنام الطاعات ، واكتساب الحسنات ، قبل هجوم الممات.
الإشارة : الناس ثلاثة : صاحب همة دنيّة ، وذو همة متوسطة ، وصاحب همة عالية ، أما صاحب الهمة الدنية فهو الذي أنزل همته على الدنيا الدنية ، وأكبّ على جمع حطامها الفانية ، فقلب هذا خال من حب الحبيب ، فما له فى الآخرة من نصيب. وأما صاحب الهمة المتوسطة فهو الذي طلب سلامة الدارين ، وصلاح الحالين ، قد اشتغل فى هذه الدار بما ينفعه فى دار القرار ، ولم ينس نصيبه من الدنيا ليقضى ما له فيها من الأوطار ، فهذا له فى الدنيا حسنة ، وهى الكفاية والغنى ، وفى الآخرة حسنة ، وهى النعمة والسرور والهنا.
وأما صاحب الهمة العالية فهو الذي رفع همته عن الكونين ، وأغمض طرفه عن الالتفات إلى الدارين ، بل علّق همته بمولاه ، ولم يقنع بشىء سواه ، قد ولى عن هذه الدار مغضيا ، وأعرض عنها موليا ، ولم يشغله عن اللّه شىء ، يقول بلسان المقال إظهارا لعبوديته للكبير المتعال : رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وهى النظرة والشهود ، ورضا الملك الودود ، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وهى اللحوق بأهل الرفيق الأعلى ، من المقربين والأنبياء ، فى حضرة الشهود المؤبد فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ. أتحفنا اللّه من ذلك بحظّ وافر ، بمنّه وكرمه ، نحن وأحباءنا أجمعين ، آمين.
ثم تمّم الحق تعالى ما بقي من مناسك الحج وهى رمى الجمار أيام منى ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 203]
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
يقول الحق جل جلاله : وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ وهى ثانى النّحر وثالثه ورابعه ، وهى أيام التشريق وأيام منى ، وأما الأيام المعلومات فهى يوم النحر وثانيه وثالثه. والمراد بالذكر : التكبير عند الرمي ، وذبح القرابين ، وخلف الصلوات الخمس ، وغير ذلك ، فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ بحيث رمى ثانى النحر وثالثه ، ورجع ، فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ لرمى رابع النحر ، وهو ثالث أيام منى ، فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ، والقصد بنفي الإثم : (1/232)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 233
التخيير والرد على الجاهلية ، فإنّ منهم من أثّم المتعجل ، ومنهم من أثّم المتأخر. هذا كله لِمَنِ اتَّقى اللّه فى حجه ، فلم يرفث ، ولم يفسق ، فإنه يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، كما قال الصادق المصدوق ، وَاتَّقُوا اللَّهَ فى جميع أموركم ، فإنه ذكر وشرف لكم ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فتجازون على ما أسلفتم من خير أو شر.
الإشارة : الأيام المعدودات هى أيام الدنيا فإنها قلائل معدودة ، وهى كلها كيوم واحد ، وأيام البرزخ يوم ثان ، وأيام البعث وما بعده يوم ثالث ، فمن تعجل فى يومين ، بحيث طوى فى نظره أيام الدنيا وأيام البرزخ ، وسكن بقلبه فى يوم القيامة فلا إثم عليه ، وهذا هو صاحب الهمة المتوسطة ، ومن تأخر حتى زهد فى الأيام الثلاثة ، وعلق همته بمولاه ، ولم يلتفت إلى ما سواه ، فلا إثم عليه فى ذلك التأخر ، إن اتقى شهود السوي ، وعلق همته بمحبة المولى ، ثم حض سبحانه على هذه التقوى فقال : (و اتقوا اللّه) فلا تشهدوا معه سواه ، (و اعلموا أنكم إليه تحشرون) فتروا ما فاز به المتقون.
ولمّا أمر الحق سبحانه عباده بالتقوى ذكر من لم يرفع بذلك رأسا واتبع هواه ، ومن امتثل أمره وباع نفسه للّه فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 204 الى 207]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207)
قلت : نزلت الآية فى الأخنس بن شريق الثقفي وصهيب بن سنان الرومي ، أما الأخنس فكان رجلا حسن المنظر ، حلو المنطق ، كان يوالى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ويدّعى الإسلام ، ثم ارتد ، ومرّ على زرع وحمر للمسلمين فقتلها وأفسد الزرع ، قال ابن عطية : ولم يثبت أنه أسلم. قلت : بل ذكره فى القاموس من الصحابة ، فانظره ، ولعله تاب بعد نزول الآية. وأما صهيب الرومي فأخذه المشركون وعذبوه ليرتد ، فقال لهم : إنى شيخ كبير لا أنفعكم إن كنت معكم ، ولا أضركم إن كنت عليكم ، فخلونى وما أنا عليه ، وخذوا مالى ، فقبلوه منه ، وأتى المدينة فلما رآه صلّى اللّه عليه وسلم قال له : «ربحت يا أبا يحيى».(1/233)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 234
وقيل : نزلت فى المنافقين ومن نحا نحوهم ، وفيمن باع نفسه للّه فى الجهاد وتغيير المنكر من المسلمين. و(فى الحياة الدنيا) يتعلق بالقول ، و(ألد الخصام) شديده ، وفى الحديث : «أبغض الرّجال إلى اللّه الألدّ الخصم».
والخصام : مصدر ، أو جمع خصيم.
يقول الحق جل جلاله : وَمِنَ النَّاسِ قوم حلو اللسان خراب الجنان ، إذا تكلم فى شأن الدنيا يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فيها لرونقه وفصاحته ، وَيُشْهِدُ اللَّهَ أي : يحلف على أنه موافق لقلبه ، وأن ظاهره موافق لباطنه ، وهو شديد الخصومة والعداوة للمسلمين ، أو أشد الخصوم ، وَإِذا تَوَلَّى أي : أدبر وانصرف عنك ، سَعى فِي الْأَرْضِ أي : مشى فيها بنية الإفساد لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ كما فعل الأخنس ، أو كما فعله أهل الظلم ، فيحبس اللّه القطر ، فيهلك الحرث والنسل بشؤم معاصيهم ، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ أي : لا يرتضيه ، فاحذروا غضبه. وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ وارجع عما أنت عليه من الفساد أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ أي : حملته الحمية والأنفة بسبب الإثم الذي ارتكبه ، فلا ينزجر عن غيّه. أو حملته الحمية على الإثم الذي يؤمر باتقائه. فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ أي : كفته عذابا وعقابا ، وهى علم لدار العقاب ، كالنار ، وَلَبِئْسَ الْمِهادُ هى ، أي : بئس الفراش الذي مهّده لنفسه.
ونزل فى مقابله ، وهو صهيب ، أو كل من بذل نفسه للّه : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ أي : يبيعها ويبذلها للّه فى الجهاد وغيره ، ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ والوصول إلى حضرته وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ الذين يفعلون مثل هذا ، فيدرأ عنهم المضارّ ، ويجلب لهم المسارّ أينما حلوا من الدارين.
الإشارة : الناس على قسمين : قسم زيّنوا ظواهرهم وخرّبوا بواطنهم ، ظاهرهم جميل وباطنهم قبيح ، إذا تكلموا فى الدنيا أو فى الحس ، أعجبك قولهم ، وراقك منظرهم ، وإذا تكلموا فى الآخرة ، أو فى المعنى ، أخذتهم الحبسة والدهشة. وفى بعض الكتب المنزلة : «إنّ من عباد اللّه قوما ألسنتهم أحلى من العسل ، وقلوبهم أمر من الصّبر ، يلبسون للنّاس جلود الضّأن من اللّين ، يجترّون الدّنيا بالدّين ، يقول اللّه تعالى : أبى يغترّون ، وعلىّ يجترئون؟ حلفت لأسلطنّ عليهم فتنة تدع الحليم منهم حيران».
وقوله (يلبسون ...) إلخ. كناية عن إظهار اللين والسهول ليخدع ويغر الناس ليتوصل إلى حظ نفسه من الدنيا ، ومع ذلك يدعى موافقة ظاهره لباطنه ، وهو شديد الخصومة لأهل اللّه ، وإذا تولى عنك اشتغل بالمعاصي والذنوب ، ليفسد فى الأرض ، ويهلك الحرث والنسل بشؤم معاصيه ، وإذا ذكّر : أنف واستكبر ، وأخذته حمية الجاهلية ، فحسبه البعد فى نار القطيعة.(1/234)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 235
والقسم الثاني : قوم زيّنوا بواطنهم وخربوا ظواهرهم ، عمّروا قلوبهم بمحبة اللّه ، وبذلوا أنفسهم فى مرضات اللّه ، قلوبهم فى أعلى عليين ، وأشباحهم فى أسفل سافلين ، فأولئك المقربون مع النبيين والمرسلين. قال بعض العارفين :
كلما وضعت نفسك أرضا أرضا ، سما قلبك سماء سماء ، وكل ما نقص من حسك زاد فى معناك. وفى الحديث :
«من تواضع دون قدره رفعه اللّه فوق قدره». وباللّه التوفيق.
ثم دعا الحق ، تعالى عباده ، إلى التوغل فى الإسلام ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 208 الى 209]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)
قلت : (السلم) ، بالفتح والكسر : هو الاستسلام والانقياد ، ويبعد هنا تفسيره بالصّلح. و(كافة) : حال من الواو والسلم معا ، كقوله تعالى : فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ.
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم من أهل الكتاب ادْخُلُوا فِي شرائع الإسلام كَافَّةً بحيث لا تهملوا شيئا منها ، ولا تلتفتوا إلى غيرها. نزلت فى عبد اللّه بن سلام وأصحابه ، حيث دخلوا فى الإسلام ، وأرادوا أن يعظّموا السبت ، وتحرجوا من لحوم الإبل. أو فى المنافقين حيث أسلموا فى الظاهر ، ونافقوا فى الباطن ، فقال لهم الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فى الظاهر ، ادخلوا فى الإسلام كَافَّةً ظاهرا وباطنا. أو فى المسلمين يأمرهم بالتمسك بشرائع الإسلام كلها ، والبحث عن أحكامها وأسرارها ، وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي : طرقه الدالة على التفريق والتفرق إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ أي : بيّن العداوة.
فَإِنْ زَلَلْتُمْ عن طريق الجادّة ففرقتم بين أجزاء الشريعة ، أو التفتّم إلى غير شريعتكم ، مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الآيات الْبَيِّناتُ الدالة على صحة الدين ونبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي : غالب لا يعجزه عقابكم ، حَكِيمٌ فى إمهاله إلى وقت معلوم.
الإشارة : أمر الحق جل جلاله جميع عباده بالصلح معه والاستسلام لأحكامه ، بحيث لا يصدر منهم نزاع لأحكامه ، ولا اعتراض على أفعاله ، بل ينظرون ما يبرز من عنصر القدرة ، فيتلقونه بالرضى والتسليم ، أو الصبر والتصبر ، سواء ظهرت هذه الأفعال على أيدى الوسائط أو بلا وسائط ، إذ لا فاعل سواه ، وكلّ من عند اللّه ، فإن(1/235)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 236
زللتم واعترضتم ، أو سخطتم ، من بعد ما جاءتكم الآيات البينات الدالة على وحدانية الحق فى ذاته وصفاته وأفعاله ، فاعلموا أن اللّه عزيز حكيم ، لا يعجزه عقوبتكم وإبعادكم ، لكنه من حكمته يمهل ولا يهمل ، واللّه غالب على أمره ، ومن تاب تاب اللّه عليه.
ثم ذكر وعيد من خالف أمره ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 210]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)
قلت : (الظّلل) : جمع ظلّة ، وهى ما أظلّك من فوق ، و(الغمام) : السحاب الرقيق الأبيض.
يقول الحق جل جلاله : ما ينتظر هؤلاء الممتنعون من الدخول فى شرائع الإسلام - إلا أن تقوم الساعة ، ويأتيهم اللّه للفصل بين عباده فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ ، بأن يتجلى لعباده على ما يليق بجلاله إذ تجليات الحق لا تنحصر. وتأتيهم الْمَلائِكَةُ تحيط بهم وَقُضِيَ الْأَمْرُ بعذابهم ، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ كلها ، فهو المتصرف وحده. وقد ذكر المنذرى حديث هذا التجلي بطوله ، وذكر فيه النزول والفصل بين عباده ، والمرور على الصراط ، والناس فى أنوار إيمانهم. وذكره الفاسى فى الحاشية بتمامه. ومن كحل عين بصيرته بإثمد «1» التوحيد الخاص ، لم يستصعب عليه فهم هذا الحديث وأمثاله لسعة دائرة معرفته. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : فى الآية تهديد لأهل الحجاب الذين لم يتحققوا بالصلح مع اللّه ، بل هم يخاصمون اللّه فى مظاهر خلقه ، ويعترضون على اللّه فى قضائه وحكمه ، فقال لهم الحق جل جلاله : هل ينتظر هؤلاء المنكرون علىّ فى أفعالى ، المعترضون علىّ فى حكمى وإبرامى - إلا أن أتعرف لهم فى ظلل من الغمام ، وهو سحب الآثار ، فإذا أنكرونى أخذتهم الملائكة ، وقضى الأمر بهلاكهم ، وإلى اللّه ترجع الأمور كلها ، فليلتزم العبد الأدب مع مولاه ، وليسلم الأمور كلها إلى اللّه ، إذ لا موجود سواه «2» ، فما برز من العباد : كله من اللّه ، فمن اشتغل بعتابهم فاته الأدب مع اللّه ، إلا ما أمرت به الشريعة ، فليكن فى ذلك كالعبد يؤدب ابن سيده يده تؤدب وقلبه يعظم ، واللّه تعالى أعلم وأرحم.
___________
(1) الإثمد : حجر يتخذ منه الكحل. وقيل : هو نفس الكحل.
(2) أي : لا موجود بحق.(1/236)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 237
ثم هدّد بنى إسرائيل على عدم دخولهم فى الإسلام ، أو على عدم تمسكهم بشرائعه كلها ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 211]
سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211)
قلت : (كم) خبرية ، أو استفهامية ، محلها نصب بفعل محذوف يقدر مؤخرا للصدرية ، أي : كم آياتنا آتيناهم ، أو رفع بالابتداء ، والعائد محذوف ، أي : آتيناهموه.
يقول الحق جل جلاله لرسوله - عليه الصلاة والسلام - أو لكل سامع : سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ سؤال تقريع ، وقل لهم : كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ أي : كثيرا ما آتيناهم من آية واضحة فى شأنك ، تدل على صدق رسالتك وعلو شأنك وفخامة أمرك ، اعتناء بأمرهم ، ونعمة على من أدرك زمانك منهم. ثم إنهم بدلوا نعمة اللّه كفرا ، وحجدوا فكتموا تلك النعمة وكفروها ، وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ من بعد مجيئها إياه ، فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن كفر نعمه وجحد رسله ، نعوذ باللّه من السلب بعد العطاء ، ومن كفران النعم ، وحرمان الرضا.
الإشارة : ما قيل لبنى إسرائيل ، يقال لمن تحقق بولاية ولى من أولياء الله ، ثم حجدها وكتمها ، وحرم نفسه بركة ذلك الولي ، فمات على مرضه ، فيقال له : وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. وعقوبته : أن يلقى اللّه بقلب سقيم ، فيبعث مع عوام أهل اليمين ، ويحرم درجة المقربين ، التي تلى درجة النبيين والمرسلين. عائذا باللّه من الحرمان ، وشؤم عاقبة الخذلان.
ثم ذكر الحق جل جلاله سبب هذا الحرمان ، وهو حب الدنيا ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 212]
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212)
قلت : (زين) مبنى للمفعول ، والفاعل هو اللّه ، إذ لا فاعل سواه.
يقول الحق جل جلاله : زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا من أهل الكتاب وغيرهم ، الْحَياةُ الدُّنْيا أي : حسّنت فى أعينهم ، وأشربت محبتها فى قلوبهم ، حتى تهالكوا عليها ، وأعرضوا عن غيرها ، فلم تتفرغ قلوبهم للتفكر والاعتبار ، ولم تستمع آذانهم للوعظ والتذّكار ، بل أعمتهم ، وأصمتهم ، وقصروا عليها همتهم ، حتى جعلوا يسخرون ممن أعرض عنها ، كفقراء المسلمين وأهل الصفة ، فكانوا يستهزئون بهم ، حيث رفضوا الدنيا وأقبلوا على اللّه ، فرفعهم اللّه(1/237)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 238
فى أعلى عليين ، وخفض الكفار فى أسفل سافلين. فهم يسخرون منهم فى دار الدنيا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ لأنهم فى عليين ، والآخرون فى أسفل سافلين. أو لأنهم فى كرامة ، والآخرون فى مذلة. أو لأنهم يسخرون منهم يوم القيامة كما سخروا منهم فى الدنيا.
وعبّر بالتقوى لأنها سبب رفعهم واستعلائهم. وأما استهزاؤهم بهم لأجل فقرهم ، فإن الفقر شرف للعبد ، والبسط فى الدنيا لا يدل على شرفه فقد يكون استدراجا ، وقد يكون عونا ، فاللّه يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ، أي :
بغير تقدير ، فيوسع فى الدنيا استدراجا وابتلاء ، ويقتر على من يشاء اختبارا وتمحيصا ، لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ.
الإشارة : اعلم أن عمل أهل الباطن كله باطني قلبى ، بين تفكر واعتبار ، وشهود واستبصار ، أو نقول : بين فكرة ونظرة وعكوف فى الحضرة ، فلا يظهرون من أعمالهم إلا المهم من الواجبات ، ولذلك قال بعضهم : إذا وصل العمل إلى القلوب استراحت الجوارح ، (و معلوم أن الذرة من أعمال القلوب أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح) «1» لأن أعمال القلوب خفية ، لا يطلع عليها ملك فيكتبها ، ولا شيطان فيفسدها ، الإخلاص فيها محقق.
وأيضا : «تفكر ساعة أفضل من عبادة ستين سنة». وسئل - عليه الصلاة والسلام - : «أىّ الأعمال أفضل؟ قال :
العلم باللّه. قيل : يا رسول اللّه سألناك عن العمل؟ فقال : العلم باللّه ، ثم قال صلّى اللّه عليه وسلم : إذا حصل العلم باللّه كفى قليل العمل». أو كما قال عليه الصلاة والسلام ، فلما خفيت أعمال أهل الباطن سخر منهم أهل الظاهر ، واستصغروا شأنهم حيث لم يروا عليهم من الأعمال ما رأوا على العبّاد والزهاد. والذين اتقوا شهود ما سوى اللّه ، أو كل ما يشغل عن اللّه ، فوقهم يوم القيامة لأنهم من المقربين وغيرهم من عوام المسلمين ، واللّه يرزق من يشاء فى الدارين بغير حساب ، أي : بغير تقدير ولا حصر ، فيرزق العلوم ، ويفتح مخازن الفهوم على من توجه إلى مولاه ، وفرغ قلبه مما سواه. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر الحق تعالى حكمة بعثه الرسل ، فقال :
___________
(1) عزاه السراج الطوسي فى اللمع إلى أبى سليمان الداراني. وقال السراج موضحا معناه : هذا الذي قال أبو سليمان يحتمل معنيين ، أحدهما : أنه أراد بذلك :
استراحت الجوارح من المجاهدات والمكابدات من الأعمال ، إذا اشتغل بحفظ قلبه ومراعاة سره من الخواطر المشغلة والعوارض المذمومة التي تشغل قلبه عن ذكر اللّه تعالى. ويحتمل أيضا أنه أراد بذلك : أن يتمكن من المجاهدة ، والأعمال والعبادات وتصير وطنه حتى يستلذها بقلبه ويجد حلاوتها ، ويسقط عنه التعب ووجود الألم الذي كان يجد قبل ذلك.(1/238)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 239
[سورة البقرة (2) : آية 213]
كانَ النَّاسُأُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
قلت : (فبعث) معطوف على محذوف ، أي : فاختلفوا فبعث ، و(بغيا) : مفعول له ، و(من الحق) بيان (لما).
يقول الحق جل جلاله : كانَ النَّاسُ فى زمن آدم عليه السّلام وما قرب منه أُمَّةً واحِدَةً أي : جماعة واحدة ، متفقة على التوحيد ، والطاعة ، فاختلفوا بعد ذلك فى أمر التوحيد ، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ لأهل التوحيد والطاعة بالنعيم المقيم ، وَمُنْذِرِينَ أي : مخوفين لأهل الكفر والعصيان بالعذاب الأليم.
وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ أي : جنس الكتب ، فيشمل الكتب السماوية كلها ، متلبسا ذلك الكتاب بِالْحَقِّ ، ودالا عليه لِيَحْكُمَ الحق تعالى على لسان الرسل بَيْنَ النَّاسِ فى الأمر الذي اخْتَلَفُوا فِيهِ من أمر التوحيد وغيره. ثم اختلفوا أيضا فى الكتب المنزلة فبعضهم آمن ، وبعضهم كفر بها أو ببعضها ، وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ أي :
فى الكتاب المنزل ، إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ حسدا أو كبرا فاليهود آمنوا بالتوراة وكفروا بالإنجيل ، والنصارى آمنوا بالإنجيل وكفروا بالتوراة ، مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ : الآيات الواضحات فى صحة ذلك الكتاب الذي كفروا به ، والأمر بالإيمان به.
وإنما وقع ذلك الكفر منهم بَغْياً وحسدا بَيْنَهُمْ ، فأنزل اللّه العلم ليجمعهم ويؤلف بينهم على طاعته ، فأمرهم أن يتألفوا بالعلم ، فتحاسدوا ، واختلفوا طلبا للرئاسة والجاه ، فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد - عليه الصلاة والسلام - للأمر الذي اختلف فيه أهل الكتاب ، وهو الحق الذي جاءت به الرسل ، فآمنوا بالجميع ، وتآلفوا على طاعة اللّه بِإِذْنِهِ وإرادته ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، ويضل من يشاء عن طريقه القويم ، لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ.
الإشارة : الأصل فى الأرواح كلها : الاتفاق والإقرار ، وإنما حصل لها الخلاف والإنكار بعد دخولها فى عالم الأشباح ، وهبوطها من عالم الأرواح ، فبعث اللّه النبيين يذكّرون الناس العهد القديم ، فمن سبقت له السعادة حصل له الإقرار ، ومن سبق له الشقاء حصل له الإنكار ، ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام - : «كلّ مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه». ثم بعث اللّه الحكماء ، وهم العارفون باللّه ، يعالجون ما حصل(1/239)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 240
للروح من الجهل والإنكار ، فمن سبقت له العناية آمن بهم ، وصدقهم ، واستسلم بكليته إليهم ، فحصل له الوصول ، وبلغ كل المأمول ، ومن سبق له الحرمان لم يحصل له بهم إيمان ، وبقي دائما فى قلبه حيران.
وما وقع هذا الإنكار فى الغالب إلا من أهل الرئاسة والجاه ، أو من كان عبدا لدنياه وهواه ، بغيا وحسدا منهم ، فهدى اللّه الذين آمنوا - وهم أهل الفطرة والنية - لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، فحصل لهم التصديق ، ووصلوا إلى عين التحقيق ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو طريق الوصول إلى الحضرة القدسية التي كانت مقرا للأرواح الزكية ، منها جاءت وإليها عادت. وفى ذلك يقول ابن البنا رضي اللّه عنه :
وهذه الحقيقة النّفسيّة موصولة بالحضرة القدسيّة
وإنّما يعوقها الموضوع ومن هنا يبتدأ الطّلوع
ولمّا كانت المحبة والهداية إلى أسبابها مقرونتين بالبلاء ذكره الحق تعالى بإثر الهداية ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 214]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
قلت : «أم» منقطعة بمعنى بل ، وتتضمن استفهاما إنكاريا ، و«حسب» تتعدى إلى مفعولين ، أي : أظننتم دخول الجنة حاصلا من غير أن يأتيكم؟. (لما) أصلها (لم) زيدت عليها «ما» : وهى تدل على توقع منفيها بخلاف لم.
و(حتى يقول) يصح فى النصب بتقدير (أن) لأن الزلزلة متقدمة على قول الرسول ، والرفع على حكاية الحال ، أي : وزلزلوا حتى حالتهم حينئذ أن الرسول ومن معه يقولون كذا وكذا. وفائدة الحكاية : فرض ما كان واقعا فى الزمان الماضي واقعا فى هذا الزمان ، تصورا لتلك الحال العجيبة ، واستحضارا لصورتها فى مشاهدة السامع ، وإنما وجب رفعه عند إرادة الحال لأن نصبه يؤدى إلى تقدير (أن) ، وهى للاستقبال ، والحال ينافيه ، ويصح فى موضع «حتى» الداخلة على الحال الفاء السببية.
يقول الحق جل جلاله للرسول - عليه الصلاة والسلام - والمؤمنين ، تسلية لهم وتشجيعا لقلوبهم : أظننتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يصبكم مثل ما أصاب من قبلكم من الأنبياء وأممهم ، فقد مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ فى أموالهم بالغصب والنهب والموت وَالضَّرَّاءُ فى أبدانهم بالقتل فى الحرب والمرض وأنواع البلاء ، وَزُلْزِلُوا أي :
ضربوا بالمحن والشدائد ، وطال عليهم البلاء ، وتأخر عنهم النصر ، حتى أفضى بهم الحال إلى أن قالوا : مَتى يأتينا نَصْرُ اللَّهِ؟ استبطاء لمجيئه مع شدة البلاء.(1/240)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 241
قال الحق جل جلاله بشارة لهم : أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ فلا تستعجلوا ، وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.
الإشارة : الجنة حفت بالمكاره ، ولا فرق بين جنة الزخارف وجنة المعارف ، فمن رام دخول جنة المعارف قبل أن يمسه شىء من المكاره ، فقد رام المحال. قال أبو المواهب : من ادعى شهود الجمال ، قبل تأدبه بالجلال ، فارفضه فإنه دجال. وقال بعض العارفين : [صيحة العدو سوط اللّه يزجر به قلوب أوليائه لئلا تسكن إلى غيره ]. وفى الحكم : «إنما أجرى الأذى عليهم كى لا تكون ساكنا إليهم ، أراد أن يزعجك عن كل شىء حتى لا تكون ساكنا إلى شى ء». وقال الشيخ أبو الحسن رضي اللّه عنه : [اللهمّ إنّ القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزّوا ، وحكمت عليهم بالفقد حتى وجدوا]. فتسليط الخلق على أولياء اللّه فى بدايتهم سنة ماضية ، وحكمة إلهية ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا.
حتى إذا تخلصوا من البقايا ، وكملت فيهم المزايا ، نشر فضيلتهم لعباده ، فأقروهم ليعرفوهم الطريق إلى اللّه ، ويدلوا العباد على اللّه ، بعد أن كساهم حينئذ كسوة الجمال وكسوة الجلال ، فبكسوة الجمال يقع الائتلاف عليهم والعطف لهم ، وبكسوة الجلال يقع الامتثال لأمرهم والاستماع لقولهم. واللّه تعالى أعلم.
ولمّا أمر الحق تعالى بالنفقة فى الجهاد وغيره ، سألوا ما الذي ينفقون؟ ، فبيّن اللّه تعالى لهم المنفق والمحل الذي تدفع فيه ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 215]
يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
قلت : (ماذا) إما مفعول (ينفقون) ، أو مبتدأ وخبر بحذف العائد ، أي : ما الذي ينفقونه ، والسائل هو عمرو بن الجموح ، كان ذا مال فقال : يا رسول اللّه ، ماذا ننفق من أموالنا ، وأين نضعها؟ فنزلت الآية.
يقول الحق جل جلاله : يَسْئَلُونَكَ يا محمد ما ذا يُنْفِقُونَ من أموالهم؟ قُلْ لهم : ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ أىّ خير كان ، ذهبا أو فضة أو طعاما أو ثيابا أو حيوانا أو غير ذلك ، فادفعوه للأهمّ فالأهم كالوالدين والأقربين لأن فيهم الصلة والصدقة ، وَالْيَتامى الذين مات آباؤهم لهضم حالهم ، وَالْمَساكِينِ لضعفهم ، وَابْنِ السَّبِيلِ لغربته واحتياجه إلى ما يبلّغه إلى وطنه ، وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يجازيكم به اللّه ، فلا يخفى عليه شىء من أحوالكم ، وهذه النفقة غير الزكاة ، فلا نسخ فى الآية. واللّه تعالى أعلم.(1/241)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 242
الإشارة : الإنفاق على قسمين : حسىّ ومعنوى ، الإنفاق الحسى هو بذل الأموال والفلوس ، والإنفاق المعنوي هو بذل الأرواح والنفوس ، فمن بذل أمواله للّه عوضه اللّه جنة الزخارف ، ومن بذل نفسه للّه عوضه اللّه جنة المعارف ، ومن دخل جنة المعارف لا يشتاق إلى جنة الزخارف ، وكما أن لنفقة الأموال محلا تصرف فيه ، كما ذكره الحق تعالى هنا ، كذلك لنفقة النفوس محل تصرف فيه وهو خدمة الشيوخ العارفين باللّه ، والإخوان الذين يستعين بهم على الوصول إلى اللّه ، وكذلك من احتاج إليه من اليتامى الذين لا شيخ لهم ، فيرشدهم وينصحهم ، والمساكين الضعفاء الذين لا قدرة لهم على مجاهدة نفوسهم ، فيقويهم بحاله أو مقاله ، والغريب الذي انفرد عن الإخوان ، ولم يجد ما يستعين به على سيره فيرشده إلى الصحبة والاجتماع بأهل المحبة ، وإلى هذا المنزع أشار الشيخ أبو مدين رضي اللّه عنه :
وبالتغنّى على الإخوان جد أبدا حسّا ومعنّى ، وغضّ الطّرف إن عثرا
ولمّا ذكر الحق جل جلاله قواعد الإسلام ، وهى الصلاة والزكاة والصوم والحج ، بعد أن أشار إلى كلمة التوحيد بقوله : وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ، ذكر الجهاد - الذي هو حفظ نظامه - فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 216]
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216)
قلت : الكره - بالضم - : اسم لما يشقّ على النفس ، وبالفتح المصدر.
يقول الحق جل جلاله : فرض عليكم الجهاد ، وهو شاق عليكم ، تكرهه نفوسكم ، وفيه خير كبير لكم ، وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ، ففى الجهاد نصر دينكم ، وإعلاء كلمة إسلامكم ، والغنيمة والظّفر بعدوكم ، والأجر الكبير عند ربكم ، من مات كان شهيدا ، ومن عاش عاش سعيدا ، وكذلك بقية التكاليف ، فإن النفس تكره الإقدام عليها ، وهى مناط صلاحها ، وسبب فلاحها ، وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ فقد تحبون الراحة وترك الجهاد وفى ذلك ذلّكم ، وظهور العدو عليكم ، وفوات الأجر من ربكم ، وحرمان درجة الشهادة عند ربكم. وكذلك جميع المنهيات فإن النفس تحبها بالطبع ، وتشره إليها ، وهى تفضى بها إلى ذلها وهوانها ، وعبّر الحق سبحانه بعسى لأن النفس إذا ارتاضت انعكس الأمر عليها ، فيخف عليها أمر الطاعة ، ويصعب عليها أمر المخالفة ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فيه مصلحتكم ، وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ لجهلكم بعواقب أموركم.(1/242)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 243
الإشارة : الجهاد على قسمين : جهاد أصغر وهو جهاد السيف ، وجهاد أكبر وهو جهاد النفس ، فيجاهدها أولا فى القيام بجميع المأمورات ، وترك جميع المنهيات ، ثم يجاهدها ثانيا فى ترك العوائد والشهوات ، ومجانبة الرخص والتأويلات ، ثم يجاهدها ثالثا فى ترك التدبير والاختيار ، والسكون تحت مجارى الأقدار ، حتى لا تختار إلا ما اختار الحق تعالى لها ، ولا تشتهى إلا ما يقضى اللّه عليها ، فإن النفس جاهلة بالعواقب ، فعسى أن تكره شيئا وهو خير لها ، وعسى أن تحب شيئا وهو شر لها.
فعسى أن تأتيها المسار من حيث تعتقد المضارّ ، وعسى أن تأتيها المضار من حيث ترجو المسار ، وعسى أن تنتفع على أيدى الأعداء ، وعسى أن تضر على أيدى الأحباء ، وعسى أن تكره الموت وهو خير لها ، وعسى أن تحب الحياة وهى شر لها ، فالواجب تسليم الأمور إلى خالقها ، الذي هو عالم بمصالحها ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ، وهذا كله قبل تصفيتها وكمالها ، وأما إذا تهذبت وكملت رياضتها ، فالواجب اتباع ما يتجلى فيها ، إذ لا يتجلى فيها إلا الحق ، وهذا هو ثمرة الجهاد الأكبر ، وأما الجهاد الأصغر فلا يحصل شىء من هذا ، فلذلك كان مفضولا عند أهل الجهاد الأكبر «1». وباللّه التوفيق.
ولمّا كان القتال محرما فى الأشهر الحرم فى أول الإسلام ، ووقع من بعض الصحابة ، فندموا وتحرجوا ، أزال اللّه ذلك الحرج عنهم ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 217 الى 218]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
قلت : (قتال) : بدل اشتمال من (الشهر الحرام) ، وقد وقع خبط فى عطف (المسجد الحرام ، ) والصواب : ما قاله الزمخشري وابن عطية أنه عطف على (السبيل) إذ هو المتبادر من جهة المعنى ، أي : وصد عن سبيل اللّه وعن المسجد الحرام أكبر جرما من قتل السريّة فى الشهر الحرام ، والقواعد النحوية إنما هى أغلبية.
___________
(1) لا يعنى هذا الغض من جهاد أعداء الدين ، وقد كان للصوفية فيه دور كبير مهم ...(1/243)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 244
يقول الحق جل جلاله : يَسْئَلُونَكَ يا محمد عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ أي : عن القتال فى الأشهر الحرم ، قُلْ لهم : القتال فى الشهر الحرام أمره كَبِيرٌ ، لكن ما وقع من الكفار من صد الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي :
منعهم من الإسلام والطاعة ، وكذلك كفرهم باللّه وصدهم المسلمين عن الْمَسْجِدِ الْحَرامِ عام الحديبية ، وإخراج المسلمين من مكة التي هى بلدهم - وَالْفِتْنَةُ التي هم فيها من الكفر ، وافتتان الناس عن دينهم - أَكْبَرُ جرما من القتال الذي وقع فى الشهر الحرام تأويلا وظنا أنه لم يدخل الشهر الحرام.
وذلك أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم بعث سرية وأمّر عليها عبد اللّه بن جحش فى آخر جمادى الآخرة ، فلقوا عمرو بن الحضرمي ، مع أناس من قريش ، بعد غروب الشمس من جمادى الآخرة ، فرموا عمرا فقتلوه ، وأخذوا الغنيمة ، فقال لهم عليه الصلاة والسلام : «لم آمركم أن تقتلوا فى الشهر الحرام» فندموا ، وبعثت قريش بالعتاب للنبى صلّى اللّه عليه وسلم : كيف تستحل القتال فى الشهر الحرام؟ فنزلت هذه الآية. ثم نسخ تحريم القتال فى الأشهر الحرم بقوله تعالى : وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً.
ثم قال الحق جل جلاله فى التحذير من الكفار : وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا ، لكن لا يطيقون ذلك ، وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ويستمر عليه حتى يموت وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا فلا حرمة له ، ولا نصيب له فى الفيء والغنيمة ، وفى الْآخِرَةِ فلا يرى لها ثوابا ، وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
ومفهوم الآية : أنه إن رجع قبل الموت لا يحبط عمله ، وهو قول الشافعي. وقال مالك : يحبط أجر كل ما عمل ، ويعيد الحج ، إن تقدم على الردة ، ويقبل منه الإسلام إن رجع ، فإن لم يرجع أمهل ثلاثة أيام ، ثم يقتل.
ولمّا نزلت الآية فى إسقاط الحرج ، ظنوا أنه لا أجر لهم فى ذلك الجهاد ، فأنزل الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ أي ثوابه ، وَاللَّهُ غَفُورٌ لهم رَحِيمٌ بهم ، فلا يضيع جهادهم فى هذه السريّة ، وأعاد الموصول لتعظيم شأن الهجرة والجهاد ، وعبّر بالرجاء إشعارا بأن العمل غير موجب للثواب ، وإنما هو عبودية ، والأمر بيد اللّه إن شاء أثاب وإن شاء عاقب ، لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ.
الإشارة : تعظيم الزمان والمكان يكون بقدر ما يقع فيه من طاعة الملك الديان ، فالزمان الذي تهب فيه نفحات القبول والإقبال ، لا ينبغى أن يقع فيه ملاججة ولا قتال ، وهو وقت حضرة الذكر ، أو التذكير ، أو الجلوس مع(1/244)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 245
العارفين أهل الإكسير ، فسوء الأدب فيه أمره كبير ، ومنع القاصدين من وصوله جرمه كبير ، وصد القلوب عن نفحات تلك الحضرة أكبر من كل كبير ، ولا يزال قطّاع هذه الطريق يردون من أراد سلوكها على التحقيق ، لكن من سبق له التأييد لا يرده عن الحق جبار ولا عنيد ، ومن سبق له الحرمان ، وحكم عليه القضاء بالخذلان ، رجع ولو بعد العيان ، وأنشدوا :
واللّه ما نشكر خليع وإن ثمل. وان صحا
وإن ثبت ، سير سريع وإن شرب حتّى امتحا
حتى يقطّع فى القطيع ويدور دور الرحا «1»
إن الذين آمنوا وصدّقوا بطريق اللّه ، وهاجروا أهواءهم فى مرضاة اللّه ، وجاهدوا نفوسهم فى محبة اللّه ، أولئك يرجون رحمة اللّه ، فلا يخيبهم الكريم لأنه غفور رحيم.
ولمّا كان الخمر حلالا فى أول الإسلام ، وكانوا يشربونه ، ويتّجرون فيه ، فيتصدقون بثمنه وبثمن القمار ، بيّن الحق تعالى ذلك ، بعد الأمر بالإنفاق لئلا يقع التساهل فى المعاملة بعلّة الصدقة ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 219]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)
قلت : الخمر فى اللغة : ما يستر الشيء ويغطيه ، ومنه : خمار المرأة ، وسمّى الخمر خمرا لستره العقل. وفى الاصطلاح : ما غيّب العقل دون الحواس مع النّشوة والطرب. وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : «كلّ مسكر خمر وكلّ خمر ، حرام».
والميسر : قال ابن عباس والحسن : كل قمار ميسر ، من شطرنج ونرد ونحوه ، حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب ، إذا كان بالفلوس ، وسمى ميسرا ليسر صاحبه بالمال الذي يأخذه ، وأما إذا كان بغير عوض ، إنما هو لعب فقط ، فلا بأس.
قاله ابن عرفة.
يقول الحق جل جلاله : يَسْئَلُونَكَ عَنِ حكم الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ لهم : فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ أي : عظيم لما فى الميسر من أكل أموال الناس بالباطل ، وما ينشأ عنه من العداوة والشحناء ، وما فى الخمر من إذهاب العقل والسباب والافتراء والإذاية ، والتعدّى الذي يكون من شاربه. وقرأ حمزة والكسائي : كثير بالمثلثة ، أي : آثام كثيرة لقوله عليه الصلاة والسلام : «لعن اللّه الخمر ، وبائعها ، ومبتاعها ، والمشتراة له ، وعاصرها ، والمعصورة له ،
___________
(1) زجل للششترى.(1/245)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 246
وساقيها ، وشاربها ، وحاملها ، والمحمولة له ، وآكل ثمنها». فهذه آثام ، وفيها مَنافِعُ لِلنَّاسِ أي : منافع دنيوية ككسب المال بلا تعب ، وإطعام الفقراء من كسبه ، كما كانت تصنع العرب فى الميسر ، وفى الخمرة اللذة والنشوة ، كما قال حسان رضي اللّه عنه :
ونشربها فتتركنا ملوكا وأسدا لا ينهنهنا اللقاء «1»
وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما لأن منفعتهما دنيوية ، وعقوبة إثمهما أخروية ، وهذه الآية نزلت قبل التحريم.
روى أنه لما نزل بمكة قوله تعالى : وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً ، أخذ المسلمون يشربونها ، ثم إن عمر ومعاذا فى نفر من الصحابة ، قالوا : أفتنا يا رسول اللّه فى الخمر فإنها مذهبة للعقل ، فنزلت هذه الآية ، فشربها قوم وتركها آخرون ، ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا إلى داره ، فشربوا وسكروا ، ثم قام يصلى بهم فقرأ : (قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون) من غير نفى ، فنزلت : ... لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ... فاجتنبوها فى أوقات الصلاة. ثم دعا عتبان بن مالك سعد بن أبى وقاص فى جماعة ، فلما سكروا افتخروا وتناشدوا ، فأنشد سعد شعرا فيه هجاء الأنصار ، فضربه أنصارى بلخى بعير فشجّه ، فشكى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فقال عمر : اللهم بيّن لنا فى الخمر بيانا شافيا. فنزلت إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ... إلى قوله ... فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فقال عمر : قد انتهينا يا رب. ه.
ولما شربها بعض الناس بعد التحريم ، كان - عليه الصلاة والسلام - يضرب فيها بالنعال والجريد ، ضربا غير محدود ، وضرب أبو بكر وعمر أربعين ، وأول من حد فيها ثمانين سيدنا عثمان «2» ، لما تهافت الناس فيها. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : اعلم أن الحق تعالى جعل للعقل نورا يميز بين الحق والباطل ، بين الضار والنافع ، وبين الصانع والمصنوع ، ثم إن هذا النور قد يتغطى بالظلمة الطينية وهى نشوة الخمر الحسية. وقد يتغطى أيضا بالأنوار الباهرة من الحضرة الأزلية إذا فاجأته ، فيغيب عن الإحساس فى مشاهدة الأنوار المعنوية ، وهى أسرار الذات الأزلية ، فلا يرى إلا أسرار المعاني القديمة ، وينكر الحوادث الحسية ، فسمى الصوفية هذه الغيبة خمرة لمشاركتها للخمر فى غيبوبة العقل ، وتغنوا بها فى أشعارهم ومواجيدهم ، قال ابن الفارض رضي اللّه عنه :
شربنا على ذكر الحبيب مدامة سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم «3»
___________
(1) قوله : (لا ينهنهنا) ، النهنهة : الكف والمنع ، والمراد : لا نخاف لقاء العدو.
(2) الوارد أن سيدنا عمر رضي اللّه عنه هو أول من حد فى شرب الخمر ثمانين. أنظر فتح الباري 12/ 70 - 75.
(3) هذا الشعر مبنى على اصطلاح الصوفية. فإنهم يذكرون فى عباراتهم الخمرة بأسمائها وأوصافها. ويريدون بها ما أدار الله على ألبابهم من المعرفة ، أو من الشوق والمحبة. وقوله : (سكرنا) كناية عن إغفال أمور الدنيا والحياة ، مع معرفة الله عز وجل - وهو كما يقول الآلوسى : سكر أرواح لا أشباح.(1/246)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 247
ثم قال :
على نفسه فليبك من ضاع عمره وليس له منها نصيب ولا سهم
وقلت فى عينيتى :
ولى لوعة بالرّاح إذ فيه راحتى وروحى وريحانى ، وخير واسع
سكرنا فهمنا فى بهاء جماله فغبنا عن الإحساس ، والنور ساطع
والميسر فى طريق الإشارة : هو الغنى الذي يحصل بهذه الخمرة ، وهو الغنى باللّه عن كل ما سواه ، (قل فيهما إثم كبير) أي : فى تعاطيهما حرج كبير ، ومنافع للناس بعد تعاطيهما ، فيهما إثم كبير عند طالب الأجور ، ومنافع للناس لمن طلب الحضور ورفع الستور. وأنشدوا :
لو كان لى مسعد بالراح يسعدنى لما انتظرت لشرب الراح إفطارا
فالراح شىء شريف أنت شاربه ، فاشرب ، ولو حمّلتك الراح أوزارا
يا من يلوم على صهباء «1» صافية خذ الجنان ، ودعنى أسكن النارا
وقال ابن الفارض :
وقالوا : شربت الإثم! كلا ، وإنّما شربت التي فى تركها عندى الإثم
وقال آخر «2» :
طاب شرب المدام فى الخلوات اسقني يا نديم بالآنيات
خمرة تركها علينا حرام ، ليس فيها إثم ولا شبهات
عتّقت فى الدّنان من قبل آدم أصلها طيّب من الطّيّبات
أفت لى أيّها الفقيه وقل لى : هل يجوز شربها على عرفات؟
فيهما إثم كبير عند أهل الحجاب ، ونفع كبير عند ذوى الألباب ، يعنى : فى الخمرة الأزلية والغنى باللّه. وقوله تعالى : (و إثمهما أكبر من نفعهما) : خطاب على قدر ما يفهم الناس لأن إثمهما ظاهر للعوام ، وهو ما يظهر على
___________
(1) الصهباء : الخمر.
(2) وهو الششترى.(1/247)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 248
النشوان من خراب الظاهر ، وصدور الأحوال الغريبة ، ونفعهما خاص عند خواص الخواص ، لا يفهمه إلا الخواص ، بل يجب كتمه عن غير أهله. وباللّه التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم وقع سؤال ثالث عن قدر المنفق ، فأشار إليه الحق جل جلاله بقوله :
وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا ...
قلت : (العفو) : ضد الجهد ، وهو السهل ، ويقال للأرض السهلة : عفو ، والمراد : أن ينفق ما تيسر بذله ، ولا يبلغ به الجهد ، وهو خبر ، أو مفعول ، أي : هو العفو ، أو ينفقون العفو.
يقول الحق جل جلاله : وَيَسْئَلُونَكَ ما القدر الذي ينفقونه؟ قُلْ لهم : هو الْعَفْوَ أي : السهل الذي لا مشقة فى إعطائه ، ولا ضرر على المعطى فى فقده ، روى أن رجلا أتى النبي صلّى اللّه عليه وسلم بقدر بيضة من الذهب ، فقال :
خذها عنى صدقة ، فأعرض عنه ، حتى كرّر مرارا ، فقال : هاتها ، مغضبا ، فحذفها حذفا لو أصابه لشجّه ، فقال :
«يأتى أحدكم بماله كلّه يتصدّق به ، ويجلس يتكفّف الناس ، إنما الصدقة عن ظهر غنى». قاله البيضاوي مختصرا.
قلت : وهذا يختلف باختلاف اليقين فقد تصدّق الصدّيق رضي اللّه عنه بماله كله ، وعمر رضي اللّه عنه بنصف ماله ، فأقرهما ، وردّ فعل غيرهما ، فدلّ ذلك على أن العفو يختلف باختلاف الأشخاص ، على حسب اليقين.
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي : مثل هذا التبيين الذي ذكرنا ، (يبين) لكم الآيات ، حتى لا يترك لكم إشكالا ولا وهما ، لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ بعقولكم ، وتأخذون بما يعود نفعه عليكم ، فتتفكرون
[سورة البقرة (2) : آية 220]
فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
فِي الدُّنْيا وسرعة ذهابها وتقلبها بأهلها ، إذا أقبلت كانت فتنة ، وإذا أدبرت كانت حسرة ، لا يفى طالبها بمقصوده منها ولو ملكها بحذافيرها ، ضيقة الزمان والمكان ، عمارتها إلى الخراب ، وشأنها إلى انقلاب ، سريعة الزوال ، وشيكة الانتقال ، فتزهدون فيها وترفعون همتكم عنها.
وفى الحديث عنه صلّى اللّه عليه وسلم : «مالى وللدنيا ، إنما مثلى ومثل الدنيا كرجل سافر فى يوم صائف ، فاستظلّ تحت شجرة ، ثم راح وتركها». وفى صحف إبراهيم عليه السّلام : «عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح ، عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك ، عجبت لمن أيقن بالقدر كيف ينصب - أي : يتعب - عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها». وأنشدوا : (1/248)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 249
ألا إنّما الدنيا كأحلام نائم وكلّ نعيم ليس فيها بدائم
تذكّر إذا ما نلت بالأمس لذّة فأفنيتها هل أنت إلا كحالم
وتتفكرون فى (الآخرة) ودوام نعيمها ، وسعة فضائها ، وبهجة منظرها فترغبون فى الوصول إليها ، وتتأهبون للقائها ، فتؤثرونها على هذه الدار الفانية. قال بعض الحكماء : لو كانت الدنيا من ذهب يفنى ، والآخرة من طين يبقى ، لكان ينبغى للعاقل أن يختار ما يبقى على ما يفنى ، لا سيما والأمر بالعكس ، الدنيا من طين يفنى ، والآخرة من ذهب يبقى ، فلا يختار هذه الدار إلّا أحمق خسيس الهمة ، وباللّه التوفيق.
الإشارة : كما نهى الحق جل جلاله عن السرف فى الأموال ، ونهى عن السرف فى الأحوال ، فالسرف ، من حيث هو ، يؤدى إلى الملل والانقطاع ، «أحب العمل إلى اللّه ما دام عليه صاحبه ، وإن قل» كما فى الحديث ، واللّه ما رأينا أحدا أسرف فى الأحوال إلا ملّ ، وضعف حاله ، وفى الحديث : «لا يكن أحدكم كالمنبت - أي : المنقطع - لا أرضا قطع ، ولا ظهرا أبقى». وقال فى المباحث :
فاحتل على النفس فربّ حيله أنفع فى النّصرة من قبيله
فلا يزال يسايس نفسه شيئا فشيئا حتى يملكها ، ويظفر بها ، فإذا ظفر بها كانت له شبكة يصطاد بها العلوم والمعارف ، فتتفكر فى الدنيا فتراها فانية فترحل عنها ، ثم تتفكر فى الآخرة فتراها باقية ، فإذا رامت السّكنى فيها رأتها كونا مخلوقا فرحلت إلى خالقها ، فكشف الحق عنها الحجاب ، وأدخلها مع الأحباب ، فغابت عن الكونين فى شهود المكون ، فلم يبق لها دنيا ولا آخرة ، بل هى الآن فى بهجة ونضرة (إلى ربها ناظرة) ، حققنا اللّه بهذا المقام العلى. آمين.
ثم سألوا أيضا عن مخالطة اليتامى ، فأجابهم الحق تعالى بقوله :
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى ...
قلت : العنت : التعب والمشقة ، أعنتكم : أتعبكم.
يقول الحق جل جلاله : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ مخالطة الْيَتامى أي : خلط مال اليتامى بمال الوصىّ ، أو القائم به ، فيأكلون جميعا ، قُلْ لهم : يفعلون ما هو إِصْلاحٌ لليتيم وأحفظ لماله ، فإن كان خلط مال اليتيم مع(1/249)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 250
مال الوصي أحفظ لماله ، وأوفر ، فهو خير ، فإنما هم إخوانكم فى الدين ، وإن كان عزل مالهم عن مالكم ، وأكله وحده ، أوفر لماله ، فاعتزالهم خير ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ من قصده الإفساد ، ممن قصده الإصلاح ، فيعامل كل واحد بقصده ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لأمركم بعزلهم وحفظ مالهم مطلقا ، فيحرجكم ، ويشق عليكم ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب ، لا يعجزه شىء ، حَكِيمٌ لا يفعل شيئا إلا لحكمة ومصلحة.
ولما نزل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً ... الآية ، تحرّج الصحابة من مخالطة اليتامى ، فسألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فنزلت الآية.
الإشارة : كل من لا شيخ له فى طريق القوم فهو يتيم ، لا أب له ، فإن ادعى شيئا من الخصوصية سمى عندهم لقيطا أو دعيا ، أي : منسوبا إلى غير أبيه ، وما زالت الأشياخ تحذّر من مخالطة العوام ، ومن مخالطة المتفقرة الجاهلة ، أعنى : الذين لا شيخ لهم يصلح للتربية ، حتى قالوا : مخالطتهم سم قاتل. وقال بعضهم : يجتنب المريد مخالطة ثلاثة أصناف من الناس : المتفقرة الجاهلين ، والقراء المداهنين ، والجبابرة المتكبرين.
قلت : وكذلك الفروعية المتجمدين على ظاهر الشريعة ، فصحبتهم أقبح من الجميع ، ومن ابتلى بمخالطة العوام فلينصحهم ، ويرشدهم إلى مصالح دينهم ، إنما هم إخوان فى الدين ، واللّه يعلم المفسد من المصلح ، فمن خالطهم طمعا فى مالهم أو جاههم ، أفسده اللّه ، ومن خالطهم نصحا وإرشادا أصلحه اللّه ، ولو شاء اللّه لأمر الفقراء باعتزالهم بالكلية ، وفى ذلك حرج ومشقة ، ومن حكمته تعالى أن جعلهم حجابا لأهل الحجاب ، ومدخلا لذوى الألباب ، حجابا للضعفاء ، ومدخلا ومشهدا للأقوياء ، واللّه تعالى أعلم.
ولمّا فرغ الحق جل جلاله من ذكر بعض أمر الجهاد وما يتعلق به ، شرع يتكلم على النكاح ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 221]
وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
قلت : بدأ الحق جل جلاله بذكر محل النكاح ، وسيأتى فى سورة النساء تمامه فى قوله : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ... الآية.(1/250)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 251
يقول الحق جل جلاله : ولا تتزوجوا النساء الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ، ونكاحهن حرام ، بخلاف الكتابيات ، كما فى سورة المائدة. ونكاح أمة سوداء مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ نكاح مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ حسنا وحسبا ومالا ، أو : ولا مرأة مؤمنة أمة كانت أو حرة خير من مشركة إذ النساء كلهن إماء اللّه.
روى أنه - عليه الصلاة والسلام - بعث مرثدا الغنوي إلى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين فأتته امرأة يقال لها : عناق ، وكان يهواها فى الجاهلية - فقالت : ألا تخلو؟ فقال : إن الإسلام حال بيننا ، فقالت : هل لك أن تتزوج بي؟ فقال : نعم ، ولكن أستشير رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فاستشاره ، فنزلت الآية. قاله البيضاوي.
ولا تزوجوا المشركين وليّتكم ، وهو حرام مطلقا إذ الرجال قوامون على النساء ، ولا تسلّط للكافر على المسلمة ، فلا تنكحوهم حَتَّى يُؤْمِنُوا ، وَلَعَبْدٌ أسود مملوك مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ حسبا ومالا إذ لا حسب مع الكفر. وإنما حرّم نكاح أهل الكفر لأنهم يَدْعُونَ إِلَى الكفر ، وهو سبب النَّارِ ، والصحبة توجب عقد المحبة ، والطباع تسرق ، فلا يؤمن جانب الكفر أن يغلب على الإيمان ، وَاللَّهُ تعالى إنما يَدْعُوا إِلَى سبب الْمَغْفِرَةِ ، والتطهير من لوث الكفر والمعاصي بِإِذْنِهِ وقدرته ، فلا يأمر إلا بما يقوى عقد الإيمان واليقين ، وينهض إلى الطاعات ، وهو صحبة أهل الإيمان واليقين ، وَيُبَيِّنُ آياتِهِ الدالة على جمع عباده إليه لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فيها ، ويتعظون بتذكيرها ووعظها.
الإشارة : لا ينبغى للفقير أن يعقد مع نفسه عقد الصحبة والمودة ، أو ينظر إليها بعين الشفقة والرحمة ، ما دامت مشركة بشهود السّوى ، أو مائلة بطبعها إلى الهوى ، ولأن تكون عندك نفس مؤمنة بعلم التوحيد ، خير من نفس مشركة برؤية الغير ، ولو أعجبتك فى الطاعة ، وظهور الاستقامة ، فقد تظهر الطاعة والخدمة ، وتبطن مالها فيها من الحظوظ والمتعة ، فليتهمها ما دامت مشركة ، فإذا آمنت ووحدت اللّه تعالى ، فلم تر معه سواه ، فلا بأس بعقد النكاح معها ، فإنها لا تأمره إلا بما يقوى شهودها وتوحيدها. وكذلك لا ينبغى أن يعقد نكاح نفسه ، ويدفعها لمن يشهد السّوى شيخا أو أخا ، ولو أعجبك طاعته واجتهاده ، ولأن تصحب جاهلا لا يرضى عن نفسه ، خير من أن تصحب عالما يرضى عن نفسه ، أولئك أهل النفوس - يدعون إلى نار الشهوات والحظوظ العاجلة أو الآجلة ، واللّه يدعو إلى التطهير من شهود الأغيار ، والدخول فى حضرة الأسرار ، وهذا لا يكون إلا للعارفين الأبرار الذين تطهروا من الأكدار ، وتخلصوا من شهود الأغيار ، كذلك يبين اللّه آياته للناس - الدالة على وحدانيته - لعلهم يتعظون فينزجرون عن متابعة الهوى ، أو رؤية وجود السوي. وباللّه التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.(1/251)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 252
ولما بيّن الحق تعالى ما يحرم فى النكاح أصالة ، بيّن ما يحرم فيه عروضا ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 222 الى 223]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
قلت : المحيض : مصدر ، كالمقيل والمعيش والمجيء ، وهو الحيض.
يقول الحق جل جلاله : وَيَسْئَلُونَكَ يا محمد عَنِ قرب النساء بالجماع فى زمن الْمَحِيضِ ، قُلْ لهم : هُوَ أَذىً ، أي : مضرّ ، أو منتن مستقذر ، لا يرضى ذو همة أن يقربه ، فَاعْتَزِلُوا مجامعة النِّساءَ فِي زمن الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ بالجماع فى المحل حَتَّى يَطْهُرْنَ من الدم ، بانقطاعه ، ويغتسلن بالماء ، فَإِذا تَطَهَّرْنَ بالماء فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ وهو الفرج ، الذي أمركم باجتنابه فى الحيض إذ هو محل زراعة النطفة. فمن غلبته نفسه حتى وطئ فى الحيض ، أو النفاس ، فليبادر إلى التوبة ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ كلما أذنبوا تابوا.
ولا تجب كفارة على الواطئ ، على المشهور. وقال ابن عباس والأوزاعى : (من وطئ قبل الغسل تصدق بنصف دينار ، ومن وطئ فى حال سيلان الدم تصدق بدينار). رواه أبو داود حديثا. ومن صبر وتنزّه عن ذلك فإن اللّه يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ من الذنوب والعيوب كلها ، وإنما أعاد العامل لأن محبته للمتنزهين أكثر.
قال البيضاوي : روى أن أهل الجاهلية كانوا لا يساكنون الحائض ولا يؤاكلونها ، كفعل اليهود والمجوس ، واستمر ذلك إلى أن سأل أبو الدحداح ، فى نفر من الصحابة ، عن ذلك ، فنزلت. ولعله سبحانه - إنما ذكر «يسألونك» من غير واو ، ثلاثا ، ثم بها ثلاثا لأن السؤالات الأول كانت فى أوقات متفرقة ، والثلاثة الأخيرة كانت فى وقت واحد فلذلك ذكرها بحرف الجمع. ه.
ثم بيّن الحق تعالى كيفية إتيان النساء بعد الطهر ، فقال : نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ، أي : مواضع حرثكم ، شبه ما يلقى فى أرحامهن من النطف ، بالبذر ، والأرحام أرض لها ، فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أي : محل حرثكم ، وهو الفرج ، أَنَّى شِئْتُمْ أي : من أي جهة شئتم.(1/252)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 253
روى أن اليهود كانوا يقولون : من جامع امرأته من خلفها فى قبلها جاء الولد أحول ، فذكر ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فنزلت. وقيل : إنّ قريشا كانوا يأتون النساء من قدّام ، مستلقية ، والأنصار كانوا يأتوهن من خلف ، باركة ، فتزوج رجل من المهاجرين امرأة من الأنصار ، فأراد أن يفعل عادته ، فامتنعت ، وأرادت عادتها ، فاختصما إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فنزلت الآية بالتخيير للرجل ، مع الإتيان فى المحل. وأما الإتيان فى الدّبر فحرام ، ملعون فاعله ، وقال فى القوت : فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ أي : فى أي وقت شئتم ، ومن أي مكان شئتم ، مع اتحاد المحل. ه.
ثم حذّر الحق تعالى من متابعة شهوة النساء ، والغفلة عن اللّه ، فقال : وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ ما تجدون ثوابه مدخرا عنده ، وهو ذكر اللّه فى مظان الغفلة ، قيل : التسمية قبل الوطء وقيل : طلب الولد ، والتحقيق : أنه الحضور مع الحق عند هيجان الشهوة ، قال بعض العارفين : إنى لا أغيب عن اللّه ولو فى حالة الجماع. ه. وهذا شأن أهل الجمع ، لا يفترقون عن الحضرة ساعة. وهذه التقوى التي أمر اللّه بها بقوله : وَاتَّقُوا اللَّهَ أي : لا تغيبكم عنه شهوة النساء ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ فترون وبال الغفلة وجزاء اليقظة ، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بالقرب من رب العالمين.
الإشارة : إذا سئلت - أيها العارف - عن النفس فى حال جنابتها بالغفلة ، وحال تلبسها بنجاسة حب الدنيا ، فقل :
هى أذى ، أي : قذر ونجس ، من قرب منها لطّخته بنجاستها ، فلا يحل القرب منه ، أو الصحبة معها ، حتى تطهر من جنابة الغفلة باليقظة ، ومن نجاسة حب الدنيا بالزهد ، ورفع الهمة عنها ، فإذا تطهرت فأتها ، وردها إلى حضرة مولاها ، كما أمرك اللّه ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ، وقد تابت ورجعت إلى مولاها ، وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ، وقد تطهرت من جنابة الغفلة ، وتنزهت عن نجاسة الدنيا برفع الهمة ، فصارت لك أرضا لزراعة حقوق العبودية ، ومنبتا لبذر شهود عظمة الربوبية ، فأتوا حرثكم - أيها العارفون - أنى شئتم ، أي : ازرعوا فى أرض نفوسكم من أوصاف العبودية ما شئتم ، وفى أي وقت شئتم.
فبقدر ما تزرعون من العبودية تحصدون من الحرية. وبقدر ما تزرع فيها من الذل تحصده من العز ، وبقدر ما تزرع فيها من الفقر تحصده من الغنى ، وبقدر ما تزرع فيها من التواضع تحصده من الشرف والرفعة.
والحاصل : بقدر ما تزرع فيها من السفليات تحصد ضده من العلويات. قال تعالى : وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ. فإذا تركتها هملا ، أنبتت لك الشوك والحنظل. وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ من أوصاف العبودية ما تجدونه أمامكم من مشاهدة الربوبية ، واتقوا اللّه فلا تشهدوا معه سواه ، واعلموا أنكم ملاقوه حين تغيبون عن وجودكم وتفقدونه ، وبشر المؤمنين الموقنين بشهود رب العالمين.(1/253)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 254
ولما تكلم الحق جل جلاله على بعض أحكام النكاح ، أراد أن يتكلم على الإيلاء ، وهو الحلف على عدم مس المرأة وجماعها ، وقدّم على ذلك النهى عن كثرة الحلف لأنه هو السبب فى الوقوع فى الإيلاء ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 224 الى 225]
وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
قل : العرضة : فعلة ، بمعنى مفعولة : أي : معرضا منصوبا ، لأيمانكم تحلفون به كثيرا ، فيصير اسم الجلالة مبتذلا بينكم. و(أن تبروا) : مفعول من أجله.
يقول الحق جل جلاله : وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ أي : اسم الجلالة ، معرضا لِأَيْمانِكُمْ ، فتتبذلونه بكثرة الحلف ، فتمتنعون من فعل الخير بسبب الحلف ، كراهة أَنْ تَبَرُّوا أي : تفعلوا فعل البر ، وهو الإحسان ، وكراهة أن تَتَّقُوا أن تجعلوا بينكم وبين اللّه وقاية بفعل المعروف ، وذلك أن يحلف الرجل ألا يصل رحمه ، أو لا يسلم على فلان ، أو لا يضمن أحدا ، أو لا يبيع بدين ، أو لا يسلف أحدا ، أو لا يتصدق ، فهذه الأمور كلها بر وتقوى ، نهى اللّه تعالى عن الحلف على عدم فعلها ، أو يحلف ألا يصلح بين الناس ، فيجب على الحالف على ذلك أن يحنث ، ويكفر عن يمينه. ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام - : «إنّى لأحلف على يمين فأرى خيرا منها ، فأكفر عن يمينى ، وآتى الّذى هو خير». وقال لابن سمرة : «إذا حلفت على يمين ، فرأيت غيرها خيرا منها ، فأت الّذى هو خير ، وكفّر عن يمينك».
أو يقول الحق جل جلاله : وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ معرضا لأيمانكم ، تحلفون به كثيرا ، نهيتكم عن ذلك ، إرادة أن تكونوا أبرارا متقين ، مصلحين بَيْنَ النَّاسِ فإن الحالف مجترئ على اللّه ، والمجترئ لا يكون برا متقيا ، ولا موثوقا به فى إصلاح ذات البين ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ لأيمانكم ، عَلِيمٌ بنياتكم.
ثم رفع الحق تعالى الحرج عن يمين اللغو الذي لا قصد فيه - فقال : لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ، وهو ما يجرى على اللسان من غير قصد ، كقول الرجل فى مجرى كلامه : لا واللّه وبلى واللّه ، قاله ابن عباس وعائشة - رضي اللّه عنهما - ، وبه قال الشافعي.
وقال أبو هريرة والحسن وابن عباس - فى أحد قوليه - : هو أن يحلف على ما يعتقد فيظهر خلافه. وبه قال مالك رضي اللّه عنه ، والأول أليق بقوله تعالى : وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أي : بما عقدت عليه قلوبكم ، وَاللَّهُ غَفُورٌ حيث لم يؤاخذكم باللغو ، حَلِيمٌ حيث لم يعجل بالمؤاخذة على يمين الجدّ ، تربصا للتوبة.(1/254)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 255
الإشارة : يقول الحق جل جلاله : لا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ ، ولكن اجعلوه عرضة لتعظيم قلوبكم ومشاهدة لأسراركم ، فإنى ما أظهرت اسمى لتبتذلوه فى الأيمان والجدال ، وإنما أظهرت اسمى لتتلقّوه بالتعظيم والإجلال ، فمن عظّم اسمى فقد عظم ذاتى ، ومن عظم ذاتى جعلته عظيما فى أرضى وعند أهل سمواتى ، وجعلته برا تقيا ، من أهل محبتى وودادي ، وداعيا يدعو إلى معرفتى ، ويصلح بينى وبين عبادى ، فمن حلمى ورأفتى : أنى لا أؤاخذ بما يجرى على اللسان ، وإنما أؤاخذ بما يقصده الجنان.
تنبيه : كثرة الحلف مذموم يدل على الخفة والطيش ، وعدم الحلف بالكلية تعسف ، وخير الأمور أوسطها ، كان عليه الصلاة والسلام يحلف فى بعض أحيانه ، يقول : «لا ومقلّب القلوب» ، : «والّذى نفس محمّد بيده».
واللّه تعالى أعلم.
ثم أشار الحق تعالى إلى حكم الإيلاء ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 226 الى 227]
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
قلت : (الإيلاء) : يمين زوج مكلّف على عدم وطء زوجته ، أكثر من أربعة أشهر. وآلى : بمعنى حلف ، يتعدى بعلى ، ولكن لما ضمّن هنا معنى البعد من المرأة ، عدّى بمن ، و(تربص) : مبتدأ ، و«للذين يؤلون» : خبر.
يقول الحق جل جلاله : لِلَّذِينَ يبعدون مِنْ نِسائِهِمْ ويحلفون ألّا يجامعوهن أكثر من أربعة أشهر ، غضبا وقصدا للإضرار ، تَرَبُّصُ أي : تمهل أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، لا يطالب فيهن بفيئة ولا حنث ، فَإِنْ فاؤُ أي : رجعوا عما حلفوا عليه ، وحنثوا وكفّروا أيمانهم ، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لما قصدوا من الإضرار ، بالفيئة التي هى كالتوبة ، رَحِيمٌ بهم حيث لم يعاجلهم بالعقوبة ، وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ أي : صمموا عليه ، ولم يرجعوا عما حلفوا عليه ، فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لطلاقهم ، عَلِيمٌ بقصدهم ونيتهم. ومذهب مالك والشافعي : أن القاضي يوقفه :
إما أن يرجع بالوطء إن قدر ، أو بالوعد إن عجز ، أو يطلّق عليه طلقة رجعية ، عند مالك. ومذهب أبى حنيفة : أنها تبين بمجرد مضى أربعة أشهر. وأحكام الإيلاء مقررة فى كتب الفقه.
الإشارة : لا ينبغى للعبد أن يصرف عمره كله فى معاداة نفسه ومجانبتها ، إذ المقصود هو الاشتغال بمحبة الحبيب ، لا الاشتغال بعداوة العدو ، فلمجاهدة نفسه ومجانبتها حد معلوم ووقت مخصوص ، وهو ما دامت جموحة(1/255)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 256
جاهلة باللّه. فإن فاءت ورجعت إلى اللّه ، وارتاضت لحضرة اللّه ، وجبت محبتها والاصطلاح معها لأن النفس بها ربح من ربح ، ومنها خسر من خسر ، من عرف قدرها ، واحتال عليها حتى ردها إلى ربها - ربح ، ومن أهملها وجهل قدرها - خسر ، وكان شيخ شيوخنا يقول : جزاها اللّه عنا خيرا واللّه ما ربحنا إلا منها ، يعنى نفسه. وفى بعض الآثار : (من عرف نفسه عرف ربه). وإن عزموا الطلاق ، يعنى : العباد والزهاد عزموا ألا يرجعوا إلى أنفسهم أبدا ، فإن اللّه سميع عليم بقصدهم هل قصدهم طلب الحظوظ أو محبة الحبيب ، وأما العارفون فلا تبقى لهم معاداة مع أحد قط ، قد اصطلحوا مع الوجود بأسره ، فمكنهم اللّه من التصرف فى الوجود بأسره. واللّه ذو الفضل العظيم.
ثم ذكر الحق تعالى عدة الطلاق ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 228]
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
قلت : القرء هو الطهر الذي يكون بعد الحيض ، عند مالك ، وجمع القلة : أقراء ، والكثرة : قروء ، واستعمله هنا باعتبار كثرة المطلقات ، و(ثلاثة) : مفعول مطلق ، أو ظرف ، و(بعولتهن) : جمع بعل ، والتاء لتأنيث الجماعة.
يقول الحق جل جلاله : وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ أي : يمكثن عن التزوج ، بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ أي :
أطهار ، وتعتدّ بالطهر الذي طلقها فيه ، فتحيض ، ثم تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر ، فإذا رأت الحيضة الثالثة خرجت من العدة ، هذا فى غير الحامل ، وأما الحامل فعدتها وضع حملها. وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ من الولد استعجالا لإتمام العدة ، أو من الحيض استبقاءا لتمادى العدة ، وتصدّق فى ذلك كله ، فإن كانت يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فلا يحل لها أن تكتم ما استؤمنت عليه ، وَبُعُولَتُهُنَّ أي : أزواجهن ، أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ التربص ، إن كان الطلاق رجعيا ، وإلا بانت منه ، وينبغى للزوج أن يراجعها فى العدة ، إن أراد بذلك الإصلاح والمودة ، لا الإضرار بها ، وإلا حرم عليه ارتجاعها ، إذ «لا ضرر ولا ضرار» ، كما قال - عليه الصلاة والسلام - .
الإشارة : إذا طلّقت النّفس ، ووقع البعد منها حتى طهرت ثلاثة : الطهر الأول : من الإصرار على الذنوب والمخالفات ، الطهر الثاني : من العيوب والغفلات ، الطهر الثالث : من الركون إلى العادات والوقوف مع المحسوسات ، دون المعاني وأنوار التجليات - حلّت رجعتها والاصطلاح معها ، ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق اللّه فى أرحامهن : من العلوم والمعارف والأنوار ، وذلك إذا استشرفت على حضرة الأسرار ، فإنها تفيض بالعلوم والحكم ، (1/256)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 257
أو ما لا يحصى ، فينبغى أن تطلع عليها من يقتدى بشأنها. وبعولتهن أحق بردهن ، والصلح معهن ، بعد تمام تطهيرهن ، إن أرادوا بذلك إصلاحا ، وهو إدخالها فى الحضرة ، ونعيمها بالشهود والنظرة. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر الحق جل جلاله حقوق الزوجية ، فقال :
الطَّلاقُ مَرَّتانِ ...
يقول الحق جل جلاله : وللنساء حقوق على الرجال ، كما أن للرجال حقوقا على النساء ، فحقوق النساء على الرجال : الإنفاق ، والكسوة ، والإعفاف ، وحسن المعاشرة ، وكان ابن عمر - رضي اللّه عنهما - يقول : إنى لأحبّ أن أتزيّن للمرأة كما تتزين لى ، ويقرأ هذه الآية.
وحقوق الرجل على المرأة : إصلاح الطعام والفراش ، وطاعة زوجها فى كل ما يأمرها به من المباح ، وحفظ فرجها ، وصيانة ماله الذي ائتمنت عليه - إلى غير ذلك من الحقوق ، فللنساء حقوق على الرجال مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ من غير ضرر ولا ضرار. ولا تفريط ولا إفراط ، وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ أي : فضيلة لأن الرجال قوامون على النساء ، ولهم فضل فى الميراث ، والقسمة ، وكثير من الحقوق ، فضلهم اللّه على النساء.
وَاللَّهُ عَزِيزٌ لا يعجزه عقاب من خالف أمره ، لكنه يمهل ولا يهمل ، حَكِيمٌ لا يفعل إلا لمصلحة ظاهرة أو خفية. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : للنفس حقوق على صاحبها ، كما له حقوق عليها ، قال - عليه الصلاة والسلام - : «إنّ لنفسك عليك حقا ، ولزوجك عليك حقا ، ولربك عليك حقا ، فأعط كلّ ذى حق حقّه». فالنفس مغرفة للسر ، فإذا تعبت سقط منها السر ، كذلك نفس الإنسان ، إذا تحامل عليها حتى تعللت ، ودخلها الوجع ، تعذر عليها كثير من العبادات ، لا سيما الفكرة ، فلا بد من حفظ البشرية ، وإنما ينبغى قتلها بالأمور التي لا تخلّ بصحتها ، فعليها طاعتك فيما تأمرها به ، كما عليك حفظها مما تتضرر به. وللرجال الأقوياء عليها تسلط وتصرف ، فهى مملوكة فى أيديهم ، وهم غالبون عليها ، واللّه غالب على أمره ، وهو العزيز الحكيم.
ثم ذكر الحق تعالى عدد الطلاق ، فقال : (1/257)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 258
[سورة البقرة (2) : الآيات 229 الى 230]
الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)
قلت : (فإمساك بمعروف) : مبتدأ ، والخبر : محذوف ، أي : أحسن أو أمثل. أو خبر ، أي : فالواجب إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
يقول الحق جل جلاله : الطَّلاقُ الذي تقع الرجعة بعده - إنما هو مَرَّتانِ ، فإن طلق ثالثة فلا رجعة بعدها ، فإن طلق واحدة أو اثنتين فهو مخير ، فإما أن يمسكها ويرتجعها بحسن المعاشرة ، والقيام بحقوق الزوجية بالمعروف. وإما أن يسرّحها حتى تنقضى عدتها بِإِحْسانٍ ، من غير إضرار ، ولا تطويل عدة. وَلا يَحِلُّ لَكُمْ ، أيها الأزواج ، أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ من الصداق شَيْئاً - خلعا - إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ بأن ظن الزوج أو الزوجة فساد العشرة بينهما ، وعدم القيام بحقوق الزوجية ، فَإِنْ خِفْتُمْ أيها الحكام ، أو من ينوب عنهم ، أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ من العصمة ، فيحل للزوج أن يأخذ منها الفداء ، ولو بجميع ما تملك ، إذا كان الضرر منها أو منهما. فإن انفرد بضررها ، حرّم عليه أخذ الفداء ، وطلّقت عليه.
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي : هذه الأحكام التي ذكرنا من عدد الطلاق وأخذ الخلع على وجهه - هى حدود اللّه التي حدها لعباده ، فمن تعداها فهو ظالم.
(فإن) طلق الزوج مرة ثالثة فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ، ويدخل بها ، من غير شرط التحليل ، فَإِنْ طَلَّقَها الثاني ، فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا بنكاح جديد إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حقوق الزوجية ، وحسن العشرة ، وَتِلْكَ الأحكام المذكورة هى حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها الحق تعالى لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي :
يفهمون ويتدبرون الأمور.
الإشارة : إذا طلّق المريد الدنيا ، ثم رجع إليها ، ثم تاب وتوجه إلى اللّه ، ثم رجع إليها ، ثم تاب وتوجه مرة ثانية ، قبلت توبته ، فإن رجع إليها بعد الطلقة الثانية ، فلا يرجى فلاحه فى الغالب لأنه متلاعب ، قال تعالى : (الطلاق(1/258)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 259
مرّتان) فإمساك لها بمعروف بأن يواسى بها من يحتاج إليها ، أو تسريح لها من يده بإحسان من اللّه إليه ، حتى يدخله فى مقام الإحسان ، فإن طلقها مرة ثالثة فلا تحل له أبدا حتى يأخذها من يد اللّه باللّه ، بعد أن كان يأخذها بنفسه ، فكأنه أخذها بعصمة جديدة ، فإن تمكن من الفناء والبقاء ، فلا جناح عليه أن يرجع إليها غنيا باللّه عنها.
واللّه تعالى أعلم.
ثم نهى الحق تعالى عن إمساك الزوجة ، إضرارا ، كما كانت تفعل الجاهلية ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 231]
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
قلت : (ضرارا) : مفعول له ، أو حال ، أي : مضارّين.
يقول الحق جل جلاله : وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فقرب بلوغ أجل عدّتهنّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بالرجعة متلبسين بالمعروف والإحسان إليها ، أَوْ سَرِّحُوهُنَّ يتزوجن غيركم بِمَعْرُوفٍ لا إضرار فيه ، وَلا تُمْسِكُوهُنَّ بنية طلاقهن ضِراراً أي : لأجل الضرر بتطويل عدتهن لِتَعْتَدُوا عليهن وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ.
نزلت فى رجل قال لامرأته : لا آويك ، ولا أدعك تحلّين لغيرى. فقالت : كيف؟ فقال : أطلقك ، فإذا دنا مضىّ عدّتك راجعتك ، فشكت ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فنزلت الآية. وكان بعضهم يطلق ، ويعتق ، ثم يرجع ، ويقول : كنت أهزأ بذلك وألعب ، فنزل قوله تعالى : وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً أي : مهزوءا بها ، وفى الحديث : «ثلاث هزلهنّ جد : النّكاح ، والطّلاق ، والرّجعة». وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بالهداية وبعثة الرسول ، وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ فيه ما تحتاجون إليه ظاهرا وباطنا ، وَالْحِكْمَةِ أي : السنة المطهرة ، يَعِظُكُمْ بذلك ويزكيكم ، وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما يأمركم به ، وينهاكم عنه ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ.(1/259)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 260
الإشارة : يقال للمريدين المتجردين إذا طلقتم الدنيا ، وآيستم أنفسكم من الرجوع إليها حتى تمكّن اليقين من القلب بحيث انقطع الاهتمام بالرزق من القلب ، وزالت عنه الشكوك والأوهام ، فإذا رجعت إليه الدنيا ، فإما أن يمسكها بمعروف بأن تكون فى يده لا فى قلبه ، أو يسرحها من يده ، بسبب مقام الإحسان الذي عوضه اللّه عنها ، ولا تمسكوا الدنيا ، أيها الفقراء ، قبل كمال اليقين ، فإنها ضرر لكم ، فقد أخذت الرجال لا سيما الأطفال. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ حيث حرمها الوصول ، وتركها فى حيرة الأوهام تجول ، فاحذروا لذيذ عاجلها ، لكريه آجلها ، وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً بالرخص والتأويلات ، وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بالهداية إلى الطريق ، وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ : فيه بيان التحقيق وَالْحِكْمَةِ التي هى إصابة عين التوفيق ، وَاتَّقُوا اللَّهَ ، فلا تركنوا إلى شىء سواه ، فإن مالت قلوبكم إلى شىء من السوي ، أو نزعت إلى محبة الهوى ، فاعلموا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فيبعدكم بعد الوصول. ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلى العظيم.
ثم نهى الحق تعالى عن منع النساء من التزوج إضرارا ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 232]
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232)
قلت : العضل : المنع والتضييق والتعسير ، يقال : أعضلت الدجاجة ، إذا عسر بيضها.
يقول الحق جل جلاله : وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فانقضت عدتهن فَلا تمنعوهن ، أيها الأولياء ، من أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ الذين كانوا يملكوهن ثم طلقوا ، أو الخطّاب الأجانب ، إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ أي :
بأن كانوا أكفاء لهن ، وبذلوا من المهر ما يناسبهن ، أو كانت رشيدة. ذلِكَ الذي ذكرنا لكم - يتعظ به ، ويقف معه ، من كان يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لأنه هو الذي ينجع فيه الوعظ وينتفع بالتذكير ، ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ أي : أرفع لقدركم ، إن تمسكتم به ، وَأَطْهَرُ لكم من الذنوب والعيوب ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فيه صلاحكم ، وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. نزلت الآية فى معقل بن يسار ، زوّج أخته ثم طلقها زوجها ، وأمهلها حتى انقضت عدّتها ، ثم جاء يخطبها ، فقال معقل : تركها حتى ملكت نفسها ، ثم جاء يخطبها ، واللّه لا أزوجها منه أبدا. والمرأة أرادت أن ترجع إليه ، فنزلت الآية ، فرجع معقل عن قسمه وزوّجها.
وفيه دليل أن المرأة لا تزوج نفسها ، خلافا لأبى حنيفة. واللّه تعالى أعلم.(1/260)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 261
الإشارة : ينبغى للشيوخ إذا تحققوا من المريدين كمال اليقين ، وظهر عليهم أمارات الرشد ، ألا يمنعوهم من تعاطى الأسباب ، وأخذ ما جاءهم من الدنيا ، بلا استشراف ولا طمع ، فقد يكون ذلك عونا لهم على الدين ، وعمارة لزاوية الذاكرين ، فذلك أزكى لهم وأطهر لقلوبهم ، (و اللّه يعلم وأنتم لا تعلمون).
ثم ذكر تعالى حكم الرضاع ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 233]
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
يقول الحق جل جلاله : ويجب على الوالدات أن يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ إذا كنّ فى العصمة ، ولا شرف لهن لجرى العرف بذلك ، أو مطلقات ، ولم يقبل الولد غيرهنّ ، هذا لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ ، فإن اتفقا على فطامه قبلهما ، جاز ، كما يأتى. ويجب عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ وهو الأب ، رزق أمهات أولاده ، وَكِسْوَتُهُنَّ إذ هو الذي ينسب المولود له ، وذلك بِالْمَعْرُوفِ ، لا يكلف اللّه نفسا إلا ما فى وسعها وتطيقه ، فلا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها ، بحيث ترضعه وهى مريضة ، أو انقطع لبنها. بل يجب على الأب أن يستأجر من يرضعه ، ولا يضار مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ، بحيث يكلف من الإنفاق والكسوة فوق جهده. فإن مات الأب وترك مالا - فعلى الْوارِثِ الكبير مِثْلُ ذلِكَ من الكسوة والإنفاق ، يجريها من مال الأب ، ويحسبها من حق الصبى ، فإن لم يكن للأب مال - فعلى جماعة المسلمين.
فَإِنْ أَرادا أي : الأب والمرضعة ، فِصالًا أي : فطاما للصبى قبل تمام الحولين ، عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ بينهما ، فَلا جُناحَ عَلَيْهِما ، إن لم يخف على الولد ضعف. وَإِنْ أَرَدْتُمْ ، أيها الأزواج ، أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ عند غير الأم ، برضاها ، فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فى ذلك إِذا سَلَّمْتُمْ أي : أعطيتم للمراضع ، ما آتَيْتُمْ أي : ما أردتم إيتاءه من الأجرة بِالْمَعْرُوفِ من غير مطل ولا تقتير. والشرط إنما هو(1/261)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 262
على وجه الكمال والإحسان ، وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما كلفتم به من الحقوق ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لا يخفى عليه شىء من أموركم فإنه بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
الإشارة : اعلم أن تربية الولاية فى قلب المريد ، على نمط تربية الطفل الصغير ، تنبت فى قلب المريد وقت عقد الصحبة بينهما ، ثم لا تزال تنمو ، أو الشيخ يرضعه بلبن الإمداد حتى يتم أوان رضاعه ، ولذلك قالوا : الثدي الميتة لا ترضع. ه. يشيرون إلى أن الشيخ الميت لا يربى ، فلا يزال الشيخ يربى الروح ، ويمدها حتى تدخل بلد الإحسان ، وتشتعل فكرتها. وهذا تمام الحولين فى حقها ، وهو أوان كمال الحقيقة والشريعة لمن أراد إتمامها ، فتأكل الروح حينئذ من كل شىء ، وتشرب من كل شىء ، وتستمد من الأشياء كلها ، ثم لا يزال يحاذيها بهمته حتى ترشد ، فيطلق لها التصرف ، فتصلح لتربية غيرها.
وعلى الشيخ رزق المريدين من قوت القلوب وكسوتهم ، تقيهم من إصابة الذنوب والعيوب ، إلا ما سبق به القضاء فى علم الغيوب ، فليس فى طوق أحد دفعه ، لا تكلف نفس إلا وسعها ، فإذا مات الشيخ ، ووصّى بمن يرث مقامه ، فعلى الوارث مثل ذلك ، فإن أراد المريد انفصالا عن الشيخ ، وتعمير بلد ، أو تذكير عباد اللّه ، عن تراض منهما وتشاور من الشيخ ، فلا جناح عليهما ، وإن أردتم ، أيها الشيوخ ، أن تسترضعوا أولادكم بإرسال من يذكّرهم ، ويمدهم ، نائبا عنكم ، فلا جناح عليكم إذا سلمتم لهم من الإمداد ما يمدهم به ، واتقوا اللّه فى شأن المريدين ، فى جبر كسرهم ، وقبول عذرهم ، واعلموا أن اللّه بما تعملون بصير.
ثم ذكر الحق تعالى عدّة الوفاة ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 234 الى 235]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)(1/262)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 263
قلت : والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ : مبتدأ ، ويَتَرَبَّصْنَ : خبر ، ولا بد من الحذف ليصح الإخبار ، إما من الصدر أو من العجز ، أي : وأزواج الذين يتوفون ، أو الذين يتوفون أزواجهن يتربصن.
يقول الحق جل جلاله : وَالَّذِينَ يموتون منكم ، أيها المؤمنون ، ويتركون أَزْواجاً ، فلا يتزوجن حتى يَتَرَبَّصْنَ أي : يمكثن بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعشرة أيام لأن الجنين يتحرك لثلاثة أشهر إن كان ذكرا ، ولأربعة إن كان أنثى فى الغالب «1» ، وزيد عشرة ، استظهارا ، هذا فى غير الحامل ، أما الحامل ، فعدتها وضع حملها. فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي : انقضت عدتهن ، فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها الأولياء فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ من التزين والتعرض للنكاح أو التزوج ، بِالْمَعْرُوفِ ، بحيث لا ينكره الشرع من تزين ونكاح ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فيجازيكم على ما فعلتم.
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها الخطّاب فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ للمعتدات مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ كقول الرجل :
إنى لراغب فى صحبتكم ، وإنى أريد أن أتزوج فى هذه الساعة. وإنك لنافقة»
، أو لا يصلح لك أن تبقى بلا زوج ، ونحو هذا ، أَوْ أَكْنَنْتُمْ أي : أضمرتم فِي أَنْفُسِكُمْ فى زمن العدة من أمر التزوج دون تصريح ، عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ ستذكرون النساء المعتدات ، وتتكلمون فى نكاحهن ، حرصا وتمنيا ، فعرّضوا بذلك ، وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا أي : فى الخلوة ، أو لا تواعدوهن نكاحا أو جماعا ، إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً وهو التعريض بالألفاظ المتقدمة.
ولا تقطعوا عُقْدَةَ النِّكاحِ ، وتعزموا على فعله ، حَتَّى يَبْلُغَ كتاب المعتدة أَجَلَهُ ، وتنقضى العدة ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ من الرغبة والحرص ، فَاحْذَرُوهُ فإنّ الحرص على الشيء ، والرغبة فيه ، قبل أوانه ، ربما يعاقب صاحبه بحرمانه ، وما قدّر لك لا يكون لغيرك ، وما كان لغيرك لا يكون لك ، ولو فعلت ما فعلت ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لما استعجلتم فإن الإنسان خلق عجولا ، حَلِيمٌ فلا يعاجلكم ولا يفضح سرائركم.
___________
(1) ذكر ذلك البيضاوي ، فى أنوار التنزيل. وفيه منافاة للحديث المتفق عليه : (إن أحدكم يجمع خلقه فى بطن أمه ...) الحديث إلى قوله صلّى اللّه عليه وسلم : (ثم يرسل الملك ، فينفخ فيه الروح ...) وظاهر الحديث يفيد : أن نفخ الروح بعد هذه المدة مطلقا ، لا فرق بين ذكر وأنثى. راجع تفسير الآلوسى.
(2) نافقه أي : مرغوب فيها.(1/263)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 264
الإشارة : إذا ماتت النفس عن الهوى ، وتركت حظوظا وشهوات ، فلا ينبغى أن يردها إلى ذلك حتى تتربص مدة ، ليظهر عليها آثار الزهد من السكون إلى اللّه ، والتأنس بمشاهدة اللّه حتى تغيب عما سواه. فإذا بلغت هذا الوصف فلا جناح على المريد أن يسعفها فيما تفعل بالمعروف ، من غير سرف ولا ميل إلى هوى ، لأن فعلها حينئذ باللّه ، ومن اللّه ، وإلى اللّه ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لا يخفى عليه شىء من أمرها ، ولا جناح عليكم ، أيها المريدون ، إن تزكت نفوسكم ، وطهرت من الأغيار قلوبكم ، فيما عرضتم به من خطبة أبكار الحقائق وثيبات العلوم ، أو أكننتم فى أنفسكم من المعارف والمفهوم ، علم اللّه أنكم ستذكرون ذلك باللسان قبل أن يصل الذوق إلى الجنان ، فلا تصرحوا بعلوم الحقائق مع كل الخلائق فإن ذلك من فعل الزنادق ، إلا أن تقولوا قولا معروفا ، إشارة أو تلويحا ، فعلمنا كله إشارة ، فإذا صار عبارة خفى.
ولا تطلبوا علم الحقائق قبل بلوغ أجله ، وهو موت النفوس ، والزهد فى الفلوس ، وكمال التربية ، وتمام التصفية ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ من الشره إليها قبل أوانها ، فَاحْذَرُوهُ أن يعاقبكم بحرمانها ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ لا يعاجلكم بحرمان قصدكم ، إن صح مقصدكم ، واللّه تعالى أعلم ، وباللّه التوفيق.
ثم ذكر الحق جل جلاله حكم الطلاق قبل المسيس ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 236 الى 237]
لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
قلت : (ما) مصدرية ظرفية ، وأَوْ تَفْرِضُوا معطوف على تَمَسُّوهُنَّ أي : لا تبعة عليكم ولا إثم إن طلقتم النساء قبل البناء ، مدة كونكم لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن مهرا ، وإِلَّا أَنْ يَعْفُونَ مبنى لاتصاله بنون النسوة ، ووزنه : يفعلن كقوله تعالى : السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وقوله وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً ، وحَقًّا مفعول مطلق.(1/264)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 265
يقول الحق جل جلاله : لا حرج عليكم من إثم أو صداق ، إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ مدة كونكم لَمْ تَمَسُّوهُنَّ بالجماع ، أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً من الصداق ، فطلقوهن حينئذ ، وَمَتِّعُوهُنَّ أي : أعطوهن ما يتمتعن به ويجبر كسرهن ، على قدر حال الزوج عَلَى الْمُوسِعِ أي : الغنى ، قَدَرُهُ من المتعة كأمة أو كسوة أو مال يليق بحاله ، وَعَلَى الْمُقْتِرِ أي : الذي تقتر رزقه ، أي ضيق عليه ، وهو الفقير ، قَدَرُهُ ما يقدر عليه ، فمتعوهن مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ من غير سرف ولا تقتير ، حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ أي : حق ذلك عليهم حقا. حمل مالك الأمر على الندب ، وحمله غيره على الوجوب ، وهو الظاهر.
وإن طلقتموهن بعد المسيس فالصداق كامل ، وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ صداقا فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ يجب عليكم ، إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أي : النساء ، عن نصف الصداق ، أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ، وهو الأب فى ابنته البكر قاله مالك ، أو الزوج بأن يدفعه كاملا ، قاله الشافعي ، وَأَنْ تَعْفُوا أيها الأولياء عن الزوج ، فلا تقبضوا منه شيئا ، أَقْرَبُ لِلتَّقْوى لأن المرأة لم يذهب لها شىء فسلعتها قائمة ، وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ والإحسان بَيْنَكُمْ ، فتسامحوا يسمح لكم ، إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لا يخفى عليه شىء من أعمالكم ، فيجازى المحسن بإحسانه ، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
الإشارة : من المريدين من تحصل له الغيبة عن نفسه ، والجذب عنها ، بعد أن يمسها بالمجاهدة والمكابدة ، فحينئذ يمتعها بالشهود والعيان ، وهذه طريق الجادة. ومنهم من تحصل له الغيبة عن نفسه والجذب عنها قبل أن يمسها ، ويجاهدها ، وهو نادر بالنسبة إلى الأول ، فيقال لهؤلاء الفريق : لا جناح عليكم إن طلقتم أنفسكم ، وغبتم عنها ، من قبل أن تمسوها ، وقبل أن تعرضوا عليها وظائف العبودية. ومتعوهن بالشهود والعيان على قدر وسعكم وقوة شهودكم ، على الموسع قدره من لذة الشهود ، وعلى المقتر - أي : المضيق عليه فى المعرفة - قدره من لذة الشهود ، حق ذلك حقا على المحسنين الذين حازوا مقام الإحسان ، وفازوا بالشهود والعيان.
وإن حصل لكم جذب العناية ، وطلقتم أنفسكم قبل أن تمسوها ، وقد كنتم وظفتم عليها أورادا من وظائف العبودية فنصف ما فرضتم ، وهو المهم منها لأن عبادتها صارت قلبية ، فيكفيها من العبادة القالبية المهم ، إلا أن تقوى على ذلك مع الشهود. أو يأمرها الذي بيده عقدة نكاحها ، وهو الشيخ ، فلا يضرها الاشتغال بها حيث كان بإذن ، وأن تعفوا ، أيها الشيوخ ، عن المريدين فى العبادة الحسية ، وتأمروهم بالعبادة القلبية ، أقرب للتقوى الكاملة ، وهى تقوى السّوى. واللّه تعالى أعلم.(1/265)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 266
ولما ذكر الحق تعالى شأن النساء ، حذر من الاشتغال بهن عن العبادة ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 238 الى 239]
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
يقول الحق جل جلاله : حافِظُوا أيضا على أداء الصَّلَواتِ الخمس فى أوقاتها بإتقان شروطها وأركانها وخشوعها وآدابها ، ولا تشتغلوا عنها بشهوات النساء وتشغيب أحكامهن ، ولا بغير ذلك ، وحافظوا أيضا على الصَّلاةِ الْوُسْطى وهى العصر عند الشافعي ، وهو ظاهر الحديث ، أو الصبح عند مالك لفضلها ، أو لتوسطها بين صلاتى الليل والنهار. وما من صلاة إلا وقيل فيها الوسطى. وقيل : أخفيت كساعة الجمعة وليلة القدر.
وَقُومُوا لِلَّهِ فى الصلاة قانِتِينَ أي : ساكتين ، وكان ، قبل نزول الآية ، الكلام فى الصلاة جائزا ، أو قيل : مطيعين. إذ القنوت فى القرآن كله بمعنى الطاعة. فَإِنْ خِفْتُمْ من عدو ، أو سبع ، أو سيل ، فصلّوا قياما على أرجلكم بالإيماء للسجود ، أَوْ رُكْباناً على خيولكم بالإيماء للركوع والسجود ، فَإِذا أَمِنْتُمْ فى الصلاة ، أو بعدها ، فصلوا صلاة أمن ، فَاذْكُرُوا اللَّهَ فى الصلاة ، وصلوا كَما عَلَّمَكُمْ من الكيفية ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ قبل ذلك.
الإشارة : حافظوا على الصلوات الحسية قياما بوظائف العبودية ، وعلى الصلاة القلبية قياما بشهود عظمة الربوبية وهى الصلاة الوسطى لدوامها فى كل ساعة ، قيل لبعضهم : هل للقلوب صلاة؟ قال : نعم ، إذا سجد لا يرفع رأسه أبدا. ه. أي : إذا خضع لهيبة العظمة لم يرفع أبدا ، وفى ذلك يقول الشاعر :
فاسجد لهيبة الجلال عند التّدانى
ولتقرأ آية الكمال سبع المثاني
وأشار بقوله «آية الكمال» لقوله تعالى : إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ليجمع بين الشريعة والحقيقة ، فسجود القلب حقيقة ، وسجود الجوارح شريعة ، وقوموا للّه بآداب العبودية قانتين خاشعين ، فإن خفتم ألا تصلوا إلى ربكم ، قبل انقضاء أجلكم ، فسيروا إليه رجالا أو ركبانا ، خفافا أو ثقالا ، فإذا أمنتم من القطيعة - وذلك بعد التمكين - فاذكروا اللّه شكرا لأجل ما أطلعكم عليه ، وعلّمكم ما لم تكونوا تعلمون من عظمة الربوبية ، وكمال آداب العبودية.(1/266)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 267
ثم رجع الحق تعالى إلى الكلام على النساء ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 240]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّمِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)
قلت : (وصية) : مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : عليهم وصية ، ومن نصب ، فمفعول مطلق ، أي : فليوصوا وصية ، و(غير) : حال من الأزواج ، أي : حال كونهنّ غير مخرجات.
يقول الحق جل جلاله : وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ ويتركون أَزْواجاً بعدهم ، فيجب عليهم أن يوصوا لأزواجهم وصية يتمتعن بها من كسوة ونفقة وسكنى ، إلى تمام الْحَوْلِ ما دام الأزواج لم يخرجن من مسكن الزوج ، فَإِنْ خَرَجْنَ بأنفسهن ، فلا نفقة ولا كسوة ولا سكنى عليكم أيها الأولياء ، ولا حرج عليكم فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ من التزين والتعرض للنكاح بعد تمام عدتهن ، على ما هو معروف فى الشرع ، والوصية منسوخة بآية الميراث ، وتربص الحول بآية أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً المتقدمة «1» المتأخرة فى النزول ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ينسخ ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، باعتبار الحكمة والمصلحة.
الإشارة : والذين يتوفون عن الحظوظ والشهوات ، ويتركون علوما وأسرارا ، ينبغى لهم أن يوصوا بحفظها وتدوينها ، كان الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي اللّه عنه إذا استغرق فى الكلام وفاضت عليه المواهب ، يقول : (هلّا رجل يقيد عنا هذه العلوم). ه. ليقع التمتع بها للسائرين والطالبين ، (غير إخراج) لغير أهلها ، فإن قضى الوقت بخروجها ، من غير قصد ، فلا حرج ، إما لغلبة وجد أو هداية مريد ، (و اللّه عزيز حكيم) ، فعزته اقتضت الغيرة على سره : أن يأخذه غير أهله ، وحكمته اقتضت ظهوره فى وقته لأهله. واللّه تعالى أعلم.
ثم كرر أمر المتعة تأكيدا ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 241 الى 242]
وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
___________
(1) أي : متقدمة فى التلاوة.(1/267)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 268
قلت : إنما كرره لأن الأولى فى غير المدخول بها ، إذا طلقت قبل الفرض ، وهذه فى المدخول بها ، وعبّر أولا بالمحسن : لأن المتعة قبل الدخول لا يعطيها إلا أهل الإحسان لأن المطلق لم يحصل له تمتع بالزوجة ، بخلاف الثاني ، فمطلق المدخول بها ، التقوى تحمله على الإمتاع.
وقيل : لمّا نزلت الآية الأولى ، قال رجل من المسلمين : إن أحسنت متّعت وإلّا تركت ، فنزلت الثانية تأكيدا.
وقال : حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ الشرك ، أي : على كل مؤمن ، وحكمها : الندب ، عند مالك ، على تفصيل ذكره فى المختصر ، فقال عاطفا على المندوب : والمتعة على قدر حاله ، بعد العدة للرجعة ، أو ورثتها ، ككل مطلّقة فى نكاح لازم ، لا فى فسخ كلعان وملك أحد الزوجين ، إلا من اختلعت ، أو فرض لها وطلقت قبل البناء ، ومختارة لعتقها أو لعيبه أو مخيّرة أو مملكة.
الإشارة : كل من طلق نفسه وخالف هواها تمتع بحلاوة المعاملة مع ربه ، فمن اتصل بشيخ التربية تمتع بحلاوة العبادة القلبية كالشهود والعيان ، ومن لم يتصل بالشيخ تمتع بحلاوة العبادة الحسية. فالآية الأولى فى المريدين والواصلين ، وهذه الآية فى العبّاد والزهاد ، ولذلك عبر فى الأولى بالمحسنين ، وفى الثانية بالمتقين ، واللّه تعالى أعلم.
ثم حذّر من الفرار من الموت ، توطئة للترغيب فى الجهاد ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 243]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243)
قلت : الاستفهام للتعجب والتشويق ، والرؤية قلبية ، والواو للحال ، و(حذر) مفعول من أجله.
يقول الحق جل جلاله : ألم تنظر يا محمد ، بعين الفكر والاعتبار ، إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ عشرة ، أو ثلاثون ، أو أربعون ، أو سبعون ، حذرا من الْمَوْتِ فى زمن الطاعون.
وكانوا فى قرية يقال لها : (داوردان) فلما وقع بها الطاعون ، خرجت طائفة هاربين ، وبقيت أخرى ، فهلك أكثر من بقي ، وسلم الخارجون ، ثم رجعوا ، فقال الباقون : لو صنعنا مثلهم لبقينا ، لئن أصابنا الطاعون مرة ثانية لخرجنا ، فأصابهم من قابل ، فهربوا كلهم ، ونزلوا واديا أفيح «1» ، فناداهم ملك من أسفل الوادي ، وآخر من أعلاه ، أن :
___________
(1) الأفيح والفياح : كل موضع واسع ، ومنه : روضة فيحاء. [.....](1/268)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 269
موتوا ، فماتوا كلهم أجمعون ، ومرت عليهم مدة ثمانية أيام أو أكثر حتى انتفخوا ، وقيل : صاروا عظاما ، فمرّ عليهم نبى اللّه (حزقيل) ، فدعا اللّه تعالى ، واستشفع فيهم ، فأحياهم اللّه ، وعاشوا دهرا ، عليهم سيما الموت لا يلبسون ثوبا إلا عاد كالكفن ، واستمر فى أسباطهم. ه.
قال الأصمعى : لما وقع الطاعون بالبصرة ، خرج رجل منها على حمار معه أهله ، وله عبد يسوق حماره ، فأنشأ العبد يقول :
لن يسبق الله على حمار ولا على ذى مشعة طيّار
قد يصبح اللّه أمام الساري «1» فرجع الرجل بعياله.
والآية تدل على أن الفرار من الطاعون حرام فى تلك الشريعة ، كما حرم فى شرعنا ، وروى عبد الرحمن ابن عوف أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : «إذا سمعتم هذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع ببلد وأنتم فيه فلا تخرجوا منه».
قلت : وقد اختلف الأئمة فى حكم الفرار والقدوم : فمنهم من شهر المنع فيهما تمسكا بظاهر الحديث ، ومنهم من شهر الكراهة. والمختار فى الفرار : التحريم ، وفى القدوم : التفصيل ، فمن قوى يقينه ، وصفا توحيده ، حلّ له القدوم ، ومن ضعف يقينه ، بحيث إذا أصابه شىء نسب التأثير لغير اللّه حرم عليه القدوم.
وفى حديث عائشة - رضي اللّه عنها - قلت : يا رسول اللّه ، ما الطاعون؟ قال : «غدة كغدة البعير ، المقيم فيه كالشهيد ، والفارّ منه كالفار من الزحف». قال ابن حجر : كون المقيم فيه له أجر شهيد إنما بشرط أن يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب اللّه له ، وأن يسلم إليه أمره ويرضى بقضائه ، وأن يبقى فى مكانه ولا يخرج منه بقصد الفرار ، فإذا اتصف الجالس بهذه القيود حصل له أجر الشهادة. ودخل تحته ثلاث صور ، الأولى : من اتصف بذلك فوقع له الطاعون ومات فهو شهيد. والثانية : من وقع به ولم يمت به فهو شهيد وإن مات بعد ذلك. والثالثة : من لم يقع به أصلا ومات بغيره عاجلا أو آجلا فهو شهيد ، إذا حصلت فيه القيود الثلاثة ، ومن لم يتصف بالقيود الثلاثة فليس بشهيد ، ولو مات بالطاعون. واللّه أعلم ه.
وأما القدوم من بلد الطاعون إلى البلد السالمة منه فجائز. ولا يمنع من الدخول ، قاله الباجى وابن حجر والحطاب وغيرهم لقوله - عليه الصلاة والسلام - : «لا عدوى ولا طيرة» وأما قوله عليه الصلاة والسلام :
___________
(1) ذكر القرطبي البيت الثاني كاملا ، وهو :
أو يأتى الحتف على مقدار قد يصبح الله أمام الساري(1/269)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 270
«فرّ من المجذوم فرارك من الأسد» ، وقوله : «لا يورد ممرض على مصحّ» ، فهو محمول على حسم المادة ، وسد الذريعة لئلا يحدث للمخالط شىء من ذلك ، فيظنه بسبب المخالطة ، فيثبت العدوى التي نفاها الشارع ، هذا المختار فى الجمع بين الحديثين. واللّه تعالى أعلم. وإنما أطلت فى المسألة لمسّ الحاجة لأن التأليف وقع فى زمن الوباء ، حفظنا اللّه من وبالها.
وقيل : إن الذين خرجوا من ديارهم قوم من بنى إسرائيل ، أمروا بالجهاد ، فخافوا الموت بالقتل فى الجهاد ، فخرجوا من ديارهم فرارا من ذلك ، فأماتهم اللّه ليعرفهم أنهم لا ينجيهم من الموت شىء ، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد ، بقوله : وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية. وقوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ حيث أنزل بهم رحمته ، ففروا منها ، ولم يعاقبهم ، حيث أحياهم بعد موتهم ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ إذ لا يفهم النعم فى طى النقم إلا القليل ، فيشكروا اللّه فى السراء والضراء.
الإشارة : ألم تر أيها السامع إلى الذين خرجوا من ديار عوائدهم وأوطان شهواتهم ، وهم جماعة أهل التجريد ، القاصدين إلى صفاء التوحيد ، والغرق فى بحر التفريد ، حذرا من موت أرواحهم بالجهل والفرق ، فاصطفاهم اللّه لحضرته ، وجذبهم إلى مشاهدة ذاته ، فقال لهم الله : موتوا عن حظوظكم ، وغيبوا عن وجودكم ، فلما ماتوا عن حظوظهم ، وغابوا عن وجودهم ، أحياهم اللّه بالعلم والمعرفة ، إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ حيث فتح لهم باب السلوك ، وهيأهم لمعرفة ملك الملوك ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ حيث تجلى لهم ، وعرّفهم به ، وهم لا يشعرون ، إلا من فتح اللّه بصيرتهم ، وقليل ما هم.
ثم حرّض الحق تعالى المؤمنين على الجهاد ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 244]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)
يقول الحق جل جلاله : وَقاتِلُوا الكفار فِي سَبِيلِ اللَّهِ وإعلاء كلمة اللّه حتى يكون الدين كله للّه ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالكم ودعائكم ، عَلِيمٌ بنياتكم وإخلاصكم ، فيجازى المخلصين ، ويحرم المخلطين.
الإشارة : وجاهدوا نفوسكم فى طريق الوصول إلى اللّه ، وأديموا السير إلى حضرة الله ، فحضرة القدوس محرمة على أهل النفوس. قال الششترى :
إن ترد وصلنا فموتك شرط لا ينال الوصال من فيه فضله(1/270)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 271
ومجاهدة النفس هو تحميلها ما يثقل عليها ، وبعدها مما يخف عليها ، حتى لا يثقل عليها شىء ، ولا تشره إلى شىء ، بل يكون هواها ما يقضيه عليها مولاها. قيل لبعضهم : [ما تشتهى؟ قال : ما يقضى اللّه ]. واعلموا أيها السائرون أن اللّه سميع لأذكاركم ، عليم بإخلاصكم ومقاصدكم.
ولما كان الجهاد يحتاج إلى مؤنة التجهيز ، وليس كل الناس يقدر على ذلك ، رغّب الحق تعالى الأقوياء بالإنفاق على الفقراء ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 245]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
قلت : القرض هو القطع ، أطلق على السلف لأن المقرض يقطع قطعة من ماله ويدفعها للمستلف ، والمراد بها الصدقة لأن المتصدق يدفع الصدقة فيردها الحق تعالى له بضعف أمثالها فأشبهت القرض فى مطلق الرد.
يقول الحق جل جلاله : من هذا الذي يعامل اللّه تعالى ويقرضه قَرْضاً حَسَناً بأن يتصدق على عباده صدقة حسنة بنية خالصة ، فيكثرها اللّه تعالى له أَضْعافاً كَثِيرَةً بسبعمائة إلى ما لا نهاية له ، ولا يحمله خوف الفقر على ترك الصدقة فإن اللّه تعالى يقبض الرزق عمن يشاء ولو قل إعطاؤه ، ويبسط الرزق على من يشاء ولو كثر إعطاؤه ، بل يقبض على من قبض يده شحا وبخلا ، ويبسط على من بسط يده عطاء وبذلا ، يقول : «يا ابن آدم أنفق أنفق عليك» ، «أنفق ولا تخش من ذى العرش إقلالا».
ونسبة القرض إليه تعالى ترغيب وتقريب للأفهام ، كما قال فى الحديث القدسي : «يقول اللّه تعالى يوم القيامة : يا ابن آدم ، مرضت فلم تعدنى ، قال : يا ربّ! كيف أعودك وأنت ربّ العالمين؟ قال : أما علمت أنّ عبدى فلانا مرض فلم تعده. أما إنك لو عدته لوجدتنى عنده. يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمنى. قال :
يا ربّ! كيف أطعمك وأنت ربّ العالمين؟ قال : أما علمت أنّه استطعمك عبدى فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنّك لو أطعمته لوجدت ذلك عندى. يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقنى. قال : يا ربّ كيف أسقيك وأنت ربّ العالمين؟
قال : استسقاك عبدى فلان فلم تسقه. أما علمت أنّك لو سقيته لوجدت ذلك عندى».
الإشارة : من هذا الذي يقطع قلبه عن حب الدارين ، ويرفع همته عن الكونين ، فإن اللّه (يضاعفه له أضعافا كثيرة) بأن يملّكه الوجود بما فيه ، «أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون ، فإذا شهدت المكون كانت الأكوان(1/271)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 272
معك» ، (و اللّه يقبض ويبسط) فيقبض الوجود تحت حكمك وهمتك ، إن رفعت همتك عنه ، ويبسط يدك بالتصرف فيه ، إن علقت همتك بخالقه. أو يقبض القلوب بالفقد والوحشة ، ويبسطها بالإيناس والبهجة. أو يقبض الأرواح بالوفاة ، ويبسطها بالحياة. والقبض والبسط عند أهل التصوف : حالتان تتعاقبان على القلوب تعاقب الليل والنهار ، فإذا غلب حال الخوف كان مقبوضا ، وإذا غلب حال الرجاء كان مبسوطا ، وهذا حال السائرين. أما الواصلون فقد اعتدل خوفهم ورجاؤهم ، فلا يؤثر فيهم قبض ولا بسط ، لأنهم مالكوا الأحوال.
قال القشيري : فإذا كاشف العبد بنعت جماله بسطه ، وإذا كاشفه بنعت جلاله قبضه. فالقبض يوجب إيحاشه ، والبسط يوجب إيناسه ، واعلم أنه يردّ العبد إلى حال بشريته ، فيقبضه حتى لا يطيق ذرّة ، ويأخذه مرّة عن نعوته ، فيجد لحمل ما يرد عليه قدرة وطاقة ، قال الشّبلى رضي اللّه عنه : (من عرف اللّه حمل السموات والأرض على شعرة من جفن عينه ، ومن لم يعرف اللّه - جل وعلا - لو تعلق به جناح بعوضة لضجّ).
وقال أهل المعرفة : [إذا قبض قبض حتى لا طاقة ، وإذا بسط بسط حتى لا فاقة ، والكل منه وإليه ]. ومن عرف أن اللّه هو القابض الباسط ، لم يعتب أحدا من الخلق ، ولا يسكن إليه فى إقبال ولا إدبار ، ولم ييأس منه فى البلاء ، ولا يسكن إليه فى عطاء ، فلا يكون له تدبير أبدا. ه.
ولكلّ من القبض والبسط آداب ، فآداب القبض : السكون تحت مجارى الأقدار ، وانتظار الفرج من الكريم الغفار.
وآداب البسط : كف اللسان ، وقبض العنان ، والحياء من الكريم المنان. والبسط مزلّة أقدام الرجال. قال بعضهم : (فتح علىّ باب من البسط فزللت زلّة ، فحجبت عن مقامى ثلاثين سنة). ولذلك قيل : قف على البساط وإياك والانبساط واعلم أن القبض والبسط فوق الخوف والرجاء ، وفوق القبض والبسط : الهيبة والأنس فالخوف والرجاء للمؤمنين ، والقبض والبسط للسائرين ، والهيبة والأنس للعارفين ، ثم المحو فى وجود العين للمتمكنين ، فلا هيبة لهم ، ولا أنس ، ولا علم ، ولا حس. وأنشدوا :
فلو كنت من أهل الوجود حقيقة لغبت عن الأكوان والعرش والكرسي
وكنت بلا حال مع اللّه واقفا تصان عن التّذكار للجن والإنس «1»
___________
(1) ورد هذان البيتان فى قصة مع أبى سعيد الخراز ، ذكرها القشيري فى الرسالة.(1/272)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 273
ثم ذكر الحق تعالى قصة من أمر بالجهاد فجبن عنه ، ترهيبا من التشبه به ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 246]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
يقول الحق جل جلاله : أَلَمْ تَرَ يا محمد - فتعتبر - إِلَى قصة جماعة مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ موت مُوسى حين طلبوا الجهاد ، وقالوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ يقال له : شمويل ، وقيل : شمعون : ابْعَثْ لَنا مَلِكاً يسوس أمرنا ونرجع إليه فى رأينا إذ الحرب لا تستقيم بغير إمام نُقاتِلْ معه فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، قالَ لهم ذلك النبي : هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا أي : هل أنتم قريب من التولي والفرار إن كتب عليكم القتال؟ والمعنى : أتوقع جبنكم عن القتال إن فرض عليكم. والأصل : عساكم أن تجبنوا إن فرض عليكم ، فأدخل (هل) على فعل التوقع ، مستفهما عما هو المتوقع عنده ، تقريرا وتثبيتا.
قالُوا فى جوابه : وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي : أىّ مانع يمنعنا من القتال وقد وجد داعيه؟ وهو تسلط العدو علينا فأخرجنا من ديارنا وأسر أبناءنا ، وكان اللّه تعالى سلط عليهم جالوت ومن معه من العمالقة ، كانوا يسكنون ساحل بحر الروم «1» بين مصر وفلسطين ، وذلك لمّا عصوا وسفكوا الدماء ، فخرّب بيت المقدس ، وحرق التوراة ، وأخذ التابوت الذي كانوا ينتصرون به ، وسبى نساءهم وذراريهم «2». روى أنه سبى من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين ، فسألوا نبيهم أن يبعث لهم ملكا يجاهدون معه ، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ ويسر لهم ملكا يسوسهم وهو طالوت ، جبنوا وتولوا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ، وهم من عبر النهر مع طالوت ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ فيخزيهم ويفسد رأيهم. نعوذ باللّه من ذلك.
___________
(1) ويسمى الآن «البحر المتوسط».
(2) الذراري : جمع ذرية ، وهى النسل.(1/273)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 274
الإشارة : ترى كثيرا من الناس يتمنون أن لو ظفروا بشيخ التربية ، ويقولون : لو وجدناه لجاهدنا أنفسنا أكثر من غيرنا ، فلما ظهر ، وعرف بالتربية ، تولى ونكص على عقبيه ، وتعلل بالإنكار وعدم الأهلية ، إلا قليلا ممن خصه اللّه بعنايته (و اللّه يختص برحمته من يشاء). (و اللّه ذو الفضل العظيم). سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه ، ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه.
ثم عيّن لهم الملك الذي طلبوا ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 247]
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247)
يقول الحق جل جلاله : وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ شمويل : إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ ملكا ، أي : عيّنه لكم لتقاتلوا معه ، وهو طالُوتَ وهو علم عبرانى كداود ، قالُوا تعنتا وتشغيبا : أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا أي من أين يستأهل التملك علينا وليس من دار الملك؟ لأن المملكة كانت فى أولاد يهوذا ، وطالوت من أولاد بنيامين ، والنبوة كانت فى أولاد لاوى. وقالوا : نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وراثة ومكنة ، لأن دار المملكة فينا. وأيضا هو فقير لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ يتقوى به على حرب عدوه ، وكان طالوت فقيرا راعيا أو سقّاء أو دباغا. قالَ لهم نبيهم - عليه السلام - : إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ رغم أنفكم. قال وهب بن منبه : أوحى اللّه إلى نبيهم : إذا دخل عليك رجل فنش «1» الدهن الذي فى القرن «2» فهو ملكهم ، فلما دخل طالوت نشّ الدهن.
وقال السدى : أرسل اللّه إليه عصا ، وقال له : إذا دخل عليك رجل على طول هذه العصا فهو ملكهم ، فكان ذلك طالوت فتبيّن أن اللّه تعالى اصطفاه للملك ، وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ فكان أعلم بنى إسرائيل بالتوراة وقيل :
بالحروف وعلم السياسة. وزاده أيضا بسطة فى الْجِسْمِ ، فكان أطول بنى إسرائيل يبلغ إلى منكبه. وذلك ليكون أعظم خطرا فى القلوب ، وأقوى على مقاومة العدو ومكابدة الحروب ، (و اللّه يؤتى ملكه من يشاء) لأنه ملك الملوك
___________
(1) نشّ الماء ينش نشا ونشيشا ونشش : إذا صوت عند الغليان.
(2) القرن : هو قرن الثور وغيره. وأراد به هنا : القنينة التي يكون فيها الدهن ، وكانوا يتخذونها من قرون البقر وغيرها.(1/274)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 275
يضع ملكه حيث شاء ، (و اللّه واسع) فيوسع على الفقير ويغنيه بلا سبب ، (عليم) بمن يليق بالملك بسبب وبلا سبب.
ثم ذكر آية أخرى تدل على ملكه ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 248]
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)
قلت : قال الجوهري : أصل التابوت : تأبوة ، مثل ترقوة وهى فعلوة ، فلما سكّنت الواو ، انقلبت هاء التأنيث تاء ، فلغة قريش بالتاء ، ولغة الأنصار بالهاء.
يقول الحق جل جلاله : وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ لمّا طلبوا منه الحجة على اصطفاه طالوت للملك : إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ وهو صندوق من خشب الشمشار مموّه بالذهب ، طوله ثلاثة أذرع فى سعة ذراعين فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي : فيه ما تسكن إليه قلوبكم وتثبت عند الحرب. وكانوا يقدمونه أمامهم فى الحروب فلا يفرون ، وينصرون على عدوهم ، وقيل : كان فيه صور الأنبياء من آدم عليه السّلام إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلم. وقيل : كان فيه طست من ذهب غسلت به قلوب الأنبياء - عليهم السلام - وهى السكينة - وفيه بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وهى رضاض «1» الألواح ، وعصا موسى ، وثيابه ، وعمامة هارون والآل : مقحم فيهما.
تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ قال وهب : لما صار التابوت عند القوم الذين غلبوا بنى إسرائيل - فوضعوه فى كنيسة لهم فيها أصنام ، فكانت الأصنام تصبح منكسرة ، فحملوه إلى قرية قوم ، فأصاب أولئك القوم أوجاع ، فقالوا : ما هذا إلا لهذا التابوت ، فلنتركه إلى بنى إسرائيل ، فأخذوا عجلة فجعلوا التابوت عليها وربطوها ببقرتين ، وأرسلوهما نحو بلاد بنى إسرائيل ، فبعث اللّه ملائكة تسوق البقرتين حتى دخلتا على بنى إسرائيل ، وهم فى أمر طالوت فأيقنوا بالنصر.
وقيل غير ذلك.
___________
(1) رضاض الشيء : كساره وفتاته.(1/275)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 276
وقوله تعالى : إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يحتمل أن يكون من كلام نبيهم ، أو من كلام الحق تعالى لنبينا - عليه الصلاة والسلام - .
الإشارة : من شأن غالب النفوس ألا تقبل الخصوصية عند أحد حتى تظهر علامتها ، ولذلك طالب الكفار الرسل بالمعجزات ، وطالب العوام الأولياء بالكرامات ، ويكفى فى الولي استقامة ظاهره ، وتحقيق اليقين فى باطنه.
قال الشيخ أبو الحسن رضي اللّه عنه : «إنما هما كرامتان جامعتان محيطتان : كرامة الإيمان بمزيد الإيقان ونعت العيان ، وكرامة العمل على السنة والمتابعة ، وترك الدعاوى والمخادعة ، فمن أعطيهما ثم جعل يشتاق إلى غيرهما فهو مفتر كذاب ، أو ذو خطأ فى العلم والعمل ...» إلخ كلامه رضي اللّه عنه.
وقال فى العوارف : وقد يكون من لا يكاشف بشىء من معانى القدر أفضل ممن يكاشف بها ، إذا كاشفه اللّه تعالى بصرف المعرفة ، فالقدرة أثر من القادر ، ومن أهلّ لقرب القادر لا يستغرب ولا يستكثر شيئا من القدرة ، ويرى القدرة تتجلى من سحب أجزاء عالم الحكمة. فالكرامة إنما تظهر للقلوب المضطربة والنفوس المتزلزلة ، وأما من سكن قلبه باليقين واطمأنت نفسه بالعيان لم يحتج إلى دليل ولا برهان إذ الجبال الراسية لا تحتاج إلى دعامة ، واللّه تعالى أعلم.
وكل من طالب أهل الخصوصية بالكرامة الحسية ففيه نزعة اسرائيلية ، حيث قالوا لنبيهم بعد أن عيّن لهم من أكرمه اللّه بخصوصية الملك : (أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه). ورد الحق تعالى عليهم بقوله :
وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ. وما أظهر لهم كرامة التابوت إلا بعد امتناعهم من الجهاد المتعيّن عليهم رحمة بهم. واللّه تعالى أعلم.
ثم كمّل قصة خروجهم إلى العدو ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 249]
فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)(1/276)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 277
قلت : قال فى القاموس : غرف الماء يغرفه : أخذه بيده ، كاغترفه ، والغرفة للمرّة ، وبالكسر : هيئة الغرف وبالضم : اسم للمفعول ، كالغرافة ، لأنك ما لم تغرفه لا تسميه غرفة ، ثم قال : والغرفة ، بالضم : العلّيّة «1».
يقول الحق جل جلاله : ولما اتفقوا على ملك طالوت تجهز للخروج ، وقال : لا يخرج معه إلا الشباب النشيط الفارغ ليس وراءه علقة «2» ، فاجتمع ممن اختار ثمانون ألفا ، وقيل : ثلاثون ، فلما انفصل عن بلده بالجنود وساروا فى البيداء ، - وكان وقت الحرّ والقيظ - عطشوا ، وسألوا طالوت أن يجرى لهم نهرا ، فقال لهم بوحي ، أو بإلهام ، أو بأمر نبيهم : إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ أي : مختبركم بِنَهَرٍ بسبب اقتراحكم ، فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ كرعا بلا واسطة فَلَيْسَ مِنِّي أي : من جيشى ، وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ أي : يذقه ، فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فإنها تكفيه لنفسه ولفرسه ، فالاستثناء من الجملة الأولى.
فَشَرِبُوا مِنْهُ أي : كرعوا ، وسقطوا على وجوههم ، إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ثلاثمائة وأربعة عشر ، على عدد أهل بدر ، وقيل : ألفا. روى أن من اقتصر على الغرفة كفته لشربه ودوابه ، ومن لم يقتصر غلب عطشه ، واسودّت شفته ولم يقدر أن يمضي. وعن ابن عباس : أن القوم شربوا على قدر يقينهم : فالكفار شربوا شرب الهيم ، وشرب العاصي دون ذلك ، وانصرف من القوم ستة وسبعون ألفا ، وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئا ، وأخذ بعضهم الغرفة ، فأما من شرب فاشتد به العطش وسقط ، وأما من ترك الماء فحسن حاله ، وكان أجلد ممن أخذ الغرفة. ه.
وحكمة هذا الامتحان : ليتخلص للجهاد المطيعون المخلصون ، إذ لا يقع النصر إلّا بهم ، فلما جاوز النهر طالوت ومن بقي معه ممن لم يشرب قال بعضهم لبعض : لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ لكثرتهم وقلة عددنا ، قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أي : يتيقّنون أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ ويتوقعون ثواب الشهادة وهم الخلّص من أهل البصيرة : لا تفزعوا من كثرة عددهم كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وإرادته ومعونته ، و«كم» للتكثير ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ بالنصر والمعونة.
الإشارة : قال بعض الحكماء : الدنيا كنهر طالوت ، لا ينجو منها إلا من لم يشرب أو اغترف غرفة بيده ، فمن أخذ منها قدر الضرورة كفته ، ونشط لعبادة مولاه ، ومن أخذ فوق الحاجة حبس فى سجنها ، وكان أسيرا فى يدها.
___________
(1) العلية بضم العين وكسرها - هى الغرفة في الطبقة الثانية من الدار وما فوقها ، وجمعها (علالى)
(2) أي : ما يتعلق به وجمعها علق. وذلك كتجارة ، وزوجة لم يدخل بها ، وغير ذلك.(1/277)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 278
وقال بعضهم : طالب الدنيا كشارب ماء البحر ، كلما زاد شربه ازداد عطشه. ه. وقال صلّى اللّه عليه وسلم : «من أشرب قلبه حب الدنيا التاط «1» منها بثلاث : بشغل لا ينفد عناه ، وأمل لا يبلغ منتهاه ، وحرص لا يدرك مداه» وقال عيسى عليه السلام : الدنيا مزرعة لإبليس ، وأهلها حراث له. ه. وقال على رضي اللّه عنه : الدنيا كالحية : ليّن مسها ، قاتل سمها ، فكن أحذر ما تكون منها ، أسرّ ما تكون بها فإن من سكن منها إلى إيناس أزاله عنها إيحاش.
وقال عليه الصلاة والسلام : «من هوان الدنيا على اللّه أنه لا يعصى إلا فيها ، ولا ينال ما عنده إلا بتركها».
وقال سيدنا على - كرم اللّه وجهه - : أول الدنيا عناء ، وآخرها فناء ، حلالها حساب ، وحرامها عقاب ، ومتشابهها عتاب ، من استغنى فيها فتن ، ومن افتقر فيها حزن. ه. وقيل : الدنيا تقبل إقبال الطالب ، وتدبر إدبار الهارب ، وتصل وصال الملول ، وتفارق فراق العجول ، خيرها يسير ، وعمرها قصير ، ولذاتها فانية ، وتبعاتها باقية.
وقال عيسى عليه السّلام : تعملون للدنيا ، وأنتم ترزقون فيها بغير عمل ، ولا تعملون للآخرة وأنتم لا ترزقون فيها إلا بالعمل. ه. وقيل : أوحى اللّه إلى الدنيا : من خدمنى فاخدميه ، ومن خدمك فاستخدميه.
وكان عمر بن عبد العزيز يتمثل بهذه الأبيات «2» :
نهارك يا مغرور سهو وغفلة وليلك نوم ، والأسى لك لازم
تسرّ بما يفنى ، وتفرح بالمنى كما سرّ باللذّات فى النوم حالم
وشغلك فيها سوف تكره غبّه كذلك فى الدنيا تعيش البهائم
وقال آخر «3» :
هى الدار دار الأذى والقذى ودار الفناء ودار الغير
فلو نلتها بحذافيرها لمتّ ولم تقض منها الوطر
أيا من يؤمل طول الخلود وطول الخلود عليه ضرر
إذا ما كبرت وفات الشباب فلا خير فى العيش بعد الكبر
___________
(1) التاط : أي التصق.
(2) الأبيات لمسعر بن كدام ، كما فى حلية الأولياء 7/ 220
(3) وهو أبو العتاهية.(1/278)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 279
ثم ذكر الحق تعالى قصة جالوت وملك داود عليه السّلام ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 250 الى 252]
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
يقول الحق جل جلاله : ولما برز طالوت بمن معه لِجالُوتَ ، أي : ظهر فى البراز ، ودنا بعضهم من بعض ، تضرعوا إلى اللّه واستنصروه ، وقالوا : رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أي : اصببه علينا صبّا ، وَثَبِّتْ أَقْدامَنا عند اللقاء لئلا نفرّ ، وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. وفى دعائهم ترتيب بليغ سألوا أولا إفراغ الصبر فى قلوبهم الذي هو ملاك الأمر ، ثم ثبات القدم فى مداحض الحرب المسبب عنه ، ثم النصر على العدو المرتب عليها غالبا.
فهزم اللّه عدوّهم وأجاب دعاءهم بإذنه وقدرته ، وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ. وقصة قتله : أن أصحاب طالوت كان فيهم بنو إيش ، وهو أبو داود عليه السّلام ستة أو سبعة ، وكان داود صغيرا يرعى غنما ، فلما حضرت الحرب قال فى نفسه : لأذهبن لرؤية هذه الحرب ، فمرّ فى طريقه ، بحجر فناداه : يا داود خذنى ، فبى تقتل جالوت ، ثم ناداه حجر آخر ثم آخر فأخذها ، وجعلها فى مخلاته وسار ، فلما حضر البأس خرج جالوت يطلب البراز ، وكاع «1» الناس عنه ، أي : تأخروا خوفا ، حتى قال طالوت : من يبرز له ويقتله فأنا أزوجه ابنتي ، وأحكّمه فى مالى ، فجاء داود ، فقال له طالوت : اركب فرسى وخذ سلاحى ، ففعل ، وخرج فى أحسن شكله ، فلما مشى قليلا رجع ، فقال الناس : جبن الفتى ، فقال داود : إن اللّه سبحانه لم يقتله ولم يعنى عليه ، لم ينفعنى هذا الفرس ولا هذا السلاح ، ولكنى أحب أن أقاتله
___________
(1) كاع فلان : جبن وضعف.(1/279)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 280
على عادتى. وكان داود من أرمى الناس بالمقلاع ، فنزل ، وأخذ مخلاته فتقلدها ، وأخذ مقلاعه فخرج إلى جالوت ، وهو شاك «1» فى السلاح ، فقال جالوت : أنت يا فتى تخرج إلىّ! قال ، نعم ، قال : هكذا كما تخرج إلى الكلب! قال :
نعم ، وأنت أهون ، قال : لأطعمن لحمك اليوم الطير والسباع ، ثم تدانيا فأدار داود فأخذ مقلاعه وأدخل يده إلى الحجارة ، فروى أنها التأمت ، وصارت حجرا واحدا ، فأخذه ووضعه فى المقلاع ، وسمّى اللّه ، وأداره ، ورماه ، فأصاب رأس جالوت فقتله ، وجز رأسه ، وجعله فى مخلاته ، واختلط الناس ، وحمل أصحاب طالوت فكانت الهزيمة.
ثم إن داود جاء يطلب شرطه من طالوت ، فقال : حتى تقتل مائتين من هؤلاء الجراجمة «2» الذين يؤذون الناس وتجيئنى بسلبهم ، فقتل داود منهم مائتين ، وجاء بذلك ، فدفع إليه امرأته وتخلى له عن الملك «3». ولما تمكن داود - عليه السّلام - من الملك ، أجلى من بقي من قوم جالوت إلى المغرب ، فمن بقيتهم البرابرة من الشلوح وسائر الأرياف.
فآتى اللّه داود الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وهى النبوة ، وقيل : صنعة الدروع ومنطق الطير وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ من أنواع العلوم والمعارف والأسرار ، وقد دفع اللّه بأس الكافرين ورد كيدهم فى نحرهم ، وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ أي : لو لا أن اللّه يدفع بعض الناس ببعض ، فينصر المسلمين على الكافرين ، ويكف فسادهم ، لغلبوا وأفسدوا فى الأرض. أو : لو لا أن اللّه نصب السلطان ، وأقام الحكام لينصفوا المظلوم من الظالم ، ويردوا القوى عن الضعيف ، لتواثب الخلق بعضهم على بعض ، وأكل القوى الضعيف فيفسد النظام. أو : لو لا أن اللّه يدفع بالشهود عن الناس فى حفظ الأموال والنفوس والدماء والأعراض ، لوقع الفساد فى الأرض.
أو : لو لا أن اللّه يدفع بأهل الطاعة والإحسان عن أهل الغفلة والعصيان ، لفسدت الأرض بشؤم أهل العصيان.
وفى الخبر عنه صلّى اللّه عليه وسلم : «إنّ اللّه يدفع بالمصلّي من أمّتى عمّن لا يصلى ، وبمن يزكّى عمّن لا يزكّى ، وبمن يصوم ،
___________
(1) يقال : رجل شاكى السلاح : تام التسلح. [.....]
(2) الجراجمة : قوم من العجم بالجزيرة. ويقال : الجراجمة نبط الشام.
(3) هذا القصصكله لين الأسانيد - كما قال ابن عطية. وقال الدكتور أبو شهبة : نحن فى غنية عن هذا القصص بما فى أيدينا من القرآن والسنة ، ولسنا فى حاجة إلى شىء من هذا فى فهم القرآن وتدبره. انظر الإسرائيليات والموضوعات للدكتور أبى شهبة - رحمه الله.(1/280)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 281
عمّن لا يصوم ، وبمن يحجّ ، عمّن لا يحجّ ، وبمن يجاهد عمّن لا يجاهد. ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء ما أنظرهم اللّه طرفة عين».
وفى حديث آخر : «لو لا عباد للّه ركّع ، وصبية رضّع ، لصبّ عليكم العذاب صبا». وروى جابر رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : «إن اللّه ليصلح بصلاح الرجل - ولده وولد ولده ، وأهل دويرته ، ودويرات حوله ، ولا يزالون فى حفظ اللّه مادام فيهم». ه. فهذا من فضل اللّه على عباده يصلح طالحهم بصالحهم ، ويشفع خيارهم فى شرارهم ، ولولا ذلك لعوجلوا بالهلاك ، وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ.
تِلْكَ يا محمد ، آياتُ اللَّهِ والإشارة إلى ما قصّ من حديث الألوف ، وتمليك طالوت ، وإتيان التابوت ، وانهزام الجبابرة أصحاب جالوت ، نَتْلُوها أي : نقصها عليكم بِالْحَقِّ أي : بالوجه المطابق الذي لا يشك فيه أهل الكتاب وأرباب التواريخ ، وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ حيث أخبرت بها من غير تعرف ولا استماع ولم يعهد منك تعلم ولا اطلاع ، فلا يشك أنه من عند الخبير العليم ، إلا من طبع اللّه على قلبه. نعوذ باللّه من ذلك.
الإشارة : «من علامة النجح فى النهايات الرجوع إلى اللّه فى البدايات» ، فإذا برز المريد لجهاد أعدائه من النفس والهوى والشيطان وسائر القطاع ، واستنصر باللّه وتبرأ من حوله وقوته ، كان ذلك علامة على نصره وظفره بنفسه ، وكان سببا فى نجح نهايته ، فيملكه باللّه الوجود بأسره ، ويفتح عليه من خزائن حكمته. قال أبو سليمان الداراني : (إذا اعتادت النفوس على ترك الآثام ، جالت فى الملكوت ثم عادت إلى صاحبها بطرائف الحكم من غير أن يؤدّى إليها عالم علما). وفى الخبر : «من عمل بما علم أورثه اللّه علم ما لم يعلم». وكان حينئذ رحمة للعباد ، يدفع اللّه بوجوده العذاب عمن يستحقه من عباده.
وفى الحديث القدسي : «يقول اللّه عز وجل : إذا كان الغالب على عبدى الاشتغال بي جعلت همته ولذّته فى ذكرى ، ورفعت الحجاب فيما بينى وبينه ، لا يسهو إذا سها الناس ، أولئك كلامهم كلام الأنبياء ، أولئك الأبطال حقا ، أولئك الذين إذا أردت بأهل الأرض عقوبة أو عذابا ذكرتهم فصرفته بهم عنهم». حقّقنا اللّه بمحبتهم وجعلنا منهم .. آمين.(1/281)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 282
ولمّا ذكر فى هذه السورة جملة من الأنبياء والرسل ، وشهد لرسوله صلّى اللّه عليه وسلم أنه من المرسلين ذكر تفضيل بعضهم على بعض فى الجملة ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 253]
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253)
قلت : (تلك) : مبتدأ ، و(الرسل) : نعت ، أو بدل منه ، أو بيان ، و(فضلنا) ، خبر ، أو (الرسل) خبر ، و(فضلنا) : خبر ثان ، والإشارة إلى الجماعة المذكور قصصها فى السورة.
يقول الحق جل جلاله : تِلْكَ الرُّسُلُ الذين قصصناهم عليك ، وذكرت لك أنك منهم ، فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ بخصائص ومناقب لم توجد فى غيره. لكن هذا التفضيل إنما يكون فى الجملة من غير تعيين المفضول ، لأنه تنقيص فى حقه وهو ممنوع. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : «لا تخيّروا بين الأنبياء» ، «ولا تفضلونى على يونس بن متى» فإن معناه النهى عن تعيين المفضول ، لأنه غيبة وتنقيص ، وقد صرح صلّى اللّه عليه وسلم بفضله على جميع الأنبياء بقوله : «أنا سيّد ولد آدم ولا فخر». لكن لا يعيّن أحدا من الأنبياء بالمفضولية لئلا يؤدى إلى نقصه ، فلا تعارض بين الحديثين.
مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وهو موسى عليه السّلام فى جبل الطور ، وسيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم حين كان قاب قوسين أو أدنى ، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وهو نبينا محمد صلّى اللّه عليه وسلم فإنه خصّ بالدعوة العامة ، والحجج المتكاثرة ، والمعجزات المستمرة ، والآيات المتعاقبة بتعاقب الدهر ، والفضائل العلمية والعملية الفائتة للحصر. والإبهام لتفخيم شأنه ، كأنه العلم المشهور المتعين لهذا الوصف المستغنى عن التعيين. وقيل : إبراهيم ، خصه بالخلة التي هى أعلى المراتب.
قلت : بل المحبة أعلى منها «1» ، وقيل : إدريس لقوله : وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا ، وقيل : أولو العزم من الرسل ، قاله البيضاوي.
وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ أي : الآيات الواضحات ، كإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، (و أيدناه بروح القدس) ، أي : جبريل عليه السّلام كان معه أينما سار ، وخصّه بالتعيين لإفراط اليهود والنصارى فى تحقيره وتعظيمه ، فردّهم إلى الصواب باعتقاد نبوته دون ربوبيته.
___________
(1) سواء كانت المحبة أعلى أم الخلة - فكلتاهما حاصلة لنبينا وسيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم. وانظر في مسألة : أيهما أعلى : المحبة أم الخلة؟
الشّفا للقاضى عياض 1/ 213.(1/282)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 283
الإشارة : كما فضّل اللّه الرسل بعضهم على بعض ، كذلك فضل الأولياء بعضهم على بعض ، وإنما يقع التفضيل بكمال اليقين ، والتغلغل فى علم التوحيد الخاص ، ذوقا وكشفا ، والترقي فى المعارف والأسرار. وذلك بخدمة الرجال وصحبة أهل الكمال ، والتفرغ التام ، والزهد الكامل فى النفس والفلس والجنس ، فمنهم من تحصل له المشاهدة وتصحبها المكالمة ، ومنهم من تحصل له المشاهدة دون المكالمة ، ومنهم من تحصل له الكرامات الواضحة ، ومنهم من لا يرى شيئا من ذلك استغناء عنها بكرامة المعرفة. وما قيل فى الرسل من عدم تعيين المفضول ، مثله يقال فى حق الأولياء ، وإلا وقع فى الغيبة الشنيعة فإن لحوم الأولياء سموم ، فليعتقد الكمال فى الجميع ، ولا يصرح بتعيين المفضول كما تقدم. واللّه تعالى أعلم.
ولما ذكر الحق تعالى أحوال الرسل ، وتفاوتهم فى العناية ، ذكر أحوال أممهم وتفاوتهم فى الهداية ، فقال :
وَلَوْ شاءَ ... قلت : إذا وقع فعل المشيئة بعد (لو) فالغالب حذف مفعوله ، كقوله : وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها ، أي : لو شئنا رفعه لرفعناه بها ، وكقوله : وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ ... ، أي : لو شاء هدايتهم ما اقتتلوا ، وغير ذلك.
يقول الحق جل جلاله : ولما بعثت الرسل ، وفضّلت بعضهم على بعض ، اختلفت أممهم من بعدهم فاقتتلوا ، وكل ذلك بإرادتى ومشيئتى ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ هداية أممهم مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ المعجزات الواضحات فى تحقيق رسالتهم وصحة نبوتهم ، وَلكِنِ اخْتَلَفُوا بغيا وحسدا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بتوفيقه لاتباع دين الأنبياء ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ بمخالفتهم ، فكان من الأشقياء ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ جمعهم على الهدى مَا اقْتَتَلُوا ، لكن حكمته اقتضت وجود الاختلاف ليظهر سر اسمه المنتقم والقهار واسمه الكريم والحليم ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ.
وفى الآية دليل على أن الحوادث كلها بيد اللّه خيرها وشرها ، وأن أفعال العباد كلها بقدرته تعالى ، لا تأثير لشىء من الكائنات فيها. وهذا يردّ قول المعتزلة القائلين بخلق العبد أفعاله ، فما أبعدهم عن اللّه. نسأل اللّه العصمة بمنّه وكرمه.
الإشارة : اختلاف الناس على الأولياء سنة ماضية وحكمة أزلية ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ، وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ ، فمن رأيته من الأولياء اتفق الناس على تعظيمه فى حياته فهو ناقص أو جاهل باللّه إذ(1/283)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 284
الداخل على اللّه منكور ، والراجع إلى الناس مبرور ، وهذا هو الغالب ، والنادر لا حكم له ، فلو كان الاتفاق محمودا لكان على الأنبياء أولى ، فلما لم يقع للأنبياء والرسل ، لم يقع للأولياء إذ هم على قدمهم ، وقائمون بالوراثة الكاملة عنهم. واللّه تعالى أعلم.
ثم حضّ على الصدقة فى سبيل اللّه لأنها برهان الإيمان وعنوان الهداية ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 254]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ واجبا أو تطوعا فى وجوه الخير ، وخصوصا فى الجهاد الذي نحن بصدد الحض عليه ، وقدموا لأنفسكم ما تجدونه بعد موتكم مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ الحساب ، واقتضاء الثواب ، يوم ليس فيه بَيْعٌ ولا شراء ، فيكتسب ما يقع به الفداء ، وليس فيه خُلَّةٌ تنفع إلا خلة الأتقياء ، وَلا شَفاعَةٌ ترجى إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا فأنفقوا مما خولناكم فى سبيل اللّه ، وجاهدوا الكافرين أعداء اللّه ، فإن الكافرين هُمُ الظَّالِمُونَ حيث وضعوا عبادتهم فى غير محلها ، ونسبوا الربوبية لغير مستحقيها ، إذ لا يستحقها إلا الحي القيوم ، الذي أشار إليه الحق جل جلاله :
[سورة البقرة (2) : آية 255]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
قلت : (اللّه) : مبتدا ، وجملة (لا إله إلا هو) : خبره ، والضمير المنفصل بدل من المستتر فى الخبر ، و(الحي) : إما خبر ثان ، أو لمبتدأ مضمر ، أو بدل من (اللّه) ، و(قيوم) فيعول ، مبالغة من القيام ، ومعناه : القائم بنفسه المستغنى عن غيره.(1/284)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 285
يقول الحق جل جلاله : اللَّهُ الواجب الوجود لا يستحق العبادة غيره ، فمن عبد غيره فقد أتى بظلم عظيم الْحَيُّ أي : الدائم بلا أول ، الباقي بلا زوال الذي لا سبيل عليه للموت والفناء ، الْقَيُّومُ أي : دائم القيام بتدبير خلقه فى إيصال المنافع ودفع المضار ، وجلب الأرزاق وأنواع الارتقاء ، لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ السنة :
ما يتقدم النوم من الفتور ، والنوم : حالة تعرض للإنسان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة ، فتقف الحواس الظاهرة عن الإحساس رأسا.
وتقديم السنّة عليه ، على ترتيب الوجود ، كقوله تعالى : وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً ، وجمع بينهما لأنه لو اقتصر على نفى السنّة عنه لتوهم أن النوم يغلبه لأنه أشد ، ولو اقتصر على نفى النوم لتوهم أن السنة تلحقه لخفتها. والمراد تنزيهه تعالى عن آفات البشرية ، وتأكيد كونه حيا قيوما ، فإن من أخذه نعاس أو نوم يكون مؤوف «1» الحياة ، قاصرا فى الحفظ والتدبير. ولذلك ترك العطف فيه وفى الجمل التي بعده لأنها كلها مقررة له ، أي : للحى للقيوم.
وقد ورد أنه اسم اللّه الأعظم ، وقال عليه الصلاة والسلام لفاطمة - رضي اللّه عنها : «ما منعك أن تسمعى ما أوصيك به تقولين إذا أصبحت وإذا أمسيت يا حى يا قيّوم ، برحمتك أستغيث أصلح لى شأنى كلّه ، ولا تكلنى إلى نفسى طرفة عين». رواه النسائي. وأخرج مسلم عن أبى موسى رضي اللّه عنه قال : «قام فينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بخمس كلمات قال : إنّ اللّه عزّ وجلّ لا ينام ، ولا ينبغى له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه. يرفع إليه عمل اللّيل قبل عمل النّهار وعمل النّهار قبل عمل اللّيل ، حجابه النّور - وفى رواية. النّار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه».
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ هذا تقرير لقيوميته تعالى ، واحتجاج على تفرده فى الألوهية.
والمراد بما فيهما : ما هو أعمّ من أجزائهما الداخلة فيهما ومن الأمور الخارجة عنهما ، المتمكنة فيهما ، من العقلاء وغيرهم ، فهو أبلغ من (له السموات والأرض وما فيهن) ، يعنى : أن اللّه يملك جميع ذلك من غير شريك ولا منازع ، وعبر ب - (ما) تغليبا للغالب.
___________
(1) أف الطعام أوفا وآفة : فسد ، والبلاد : أصابتها آفة من قحط أو مرض أو غيرهما.(1/285)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 286
مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ هذا بيان لكبرياء شأنه ، وأنه لا يدانيه أحد ليقدر على تغيير ما يريده بشفاعة واستكانة ، فضلا عن أن يعاوقه عنادا أو مناصبة. والاستفهام إنكارى ، أي : لا أحد يشفع عنده لمن أراد تعالى عقوبته ، إلا بإذنه ، وذلك أن المشركين زعموا أن الأصنام تشفع لهم ، فأخبر تعالى أنه لا شفاعة عنده إلا بإذنه ، يريد بذلك شفاعة النبي صلّى اللّه عليه وسلم وبعض الأنبياء والأولياء والملائكة.
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي : ما قبلهم وما بعدهم ، أو بالعكس ، لأنك تستقبل المستقبل وتستدبر الماضي وقيل : يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من الدنيا وَما خَلْفَهُمْ من الآخرة ، وقيل : عكسه ، لأنهم يقدمون ويخلّفون الدنيا وراءهم ، وقيل : يعلم ما قدموه بين أيديهم من خير أو شر ، وما خلفهم وما هم فاعلوه ، أو عكسه.
والمراد أنه سبحانه أحاط بالأشياء كلها ، فلا يخفى عليه شىء وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ أي : لا يحيطون بشىء من معلوماته تعالى إلا بما شاء أن يطلعهم عليه ، وعطفه على ما قبله لأن مجموعه يدل على تفرده تعالى بالعلم الذاتي التام ، الدال على وحدانيته تعالى فى ذاته وصفاته.
وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ يقال : فلان يسع الشيء سعة إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به. ويقال :
وسع الشيء الشيء إذا أحاط به وغمره حتى اضمحل فى جانبه ، وهذا المعنى هو اللائق هنا. وأصل الكرسي فى اللغة : من تركّب الشيء بعضه على بعض ، ومنه الكراسة ، لتركب أوراقها بعضها على بعض ، وفى العرف : اسم لما يقعد عليه ، سمّى به لتركب خشباته. واختلف فيه فقيل : العرش ، وقيل : غيره.
والصحيح أنه مخلوق عظيم أمام العرش ، فوق السموات السبع دون العرش. يقال : إن السموات والأرض فى جنب الكرسي كحلقة فى فلاة. والكرسي فى جانب العرش كحلقة فى فلاة. وعن ابن عباس : (أن السموات فى الكرسي كدراهم سبعة فى ترس) وقيل : كرسيه : علمه.
قال البيضاوي : هو تصوير لعظمته تعالى وتمثيل مجرد ، كقوله وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ولا كرسى فى الحقيقة ولا قاعد «1». وقيل : كرسيه مجاز عن
___________
(1) هذا الذي اختاره جم من الخلف ، فرارا من توهم التجسيم ، والحق : أن الكرسي ثابت كما نطقت به الأخبار الصحيحة. ومذهب سادتنا من السلف الصالح هو : جعل ذلك من الأمور التي لا يحيط المرء بها علما ، مع تفويض العلم فيها إلى الله تعالى ، مع اعتقاد التنزيه والتقديس له تعالى شأنه. وهذا هو الأسلم
.(1/286)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 287
علمه أو ملكه ، مأخوذ من كرسى العلم والملك ، وقيل : جسم بين يدى العرش محيط بالسماوات السبع لقوله - عليه الصلاة والسلام - : «ما السموات السبع والأرضون السبع فى الكرسي إلا كحلقة فى فلاة ، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة» ولعله الفلك المشهور بفلك البروج. ه. قلت : وقد اعترض السيوطي فى حاشيته عليه «1». فاللّه تعالى أعلم.
وَلا يَؤُدُهُ أي : لا يثقله ولا يشقّ عليه حِفْظُهُما أي : حفظ السموات والأرض. وإنما لم يتعرض لذكر ما فيهما لأن حفظهما مستتبع لحفظه ، وَهُوَ الْعَلِيُّ أي : المتعالي عن الأشباه والأنداد ، الْعَظِيمُ أي : عظيم الشأن ، جليل القدر ، الذي يستحقر كلّ شىء دون عظمته.
وهذه الآية مشتملة على أمهات المسائل الإلهية ، فإنها دالة على أنه تعالى موجود واحد فى الألوهية ، متصف بالحياة الذاتية ، واجب الوجود لذاته ، موجد لغيره إذ القيوم هو القائم بنفسه المقيم لغيره ، منزه عن التحيز والحلول ، مبرّأ عن التغير والفتور ، لا يناسب الأشباح ، ولا يعتريه ما يعترى الأرواح ، مالك الملك والملكوت ، مبدع الأصول والفروع ، ذو البطش الشديد ، الذي لا يشفع عنده إلا من أذن له. عالم بالأشياء كلها : جليّها وخفيّها ، كلّيّها وجزئيّها.
واسع الملك والقدرة لكل ما يصح أن يملك ويقدر عليه ، لا يشقّ عليه شاق ، ولا يشغله شأن عن شأن ، متعال عن تناول الأوهام ، عظيم لا تحيط به الأفهام ، ولذلك تفردت عن أخواتها بفضائل رائعة وخواص فائقة ، قال صلّى اللّه عليه وسلم :
«أعظم آية فى القرآن آية الكرسىّ». وقال عليه الصلاة والسلام : «من قرأ آية الكرسىّ دبر كلّ صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنّة إلا الموت - وفى رواية - كان الذي يتولىّ قبض روحه ذو الجلال والإكرام - ولا يواظب عليها إلا صدّيق أو عابد ، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه أمن على نفسه وجاره وجار جاره ، والأبيات حوله».
وقال عليه الصلاة والسلام : «ما قرئت هذه الآية فى بيت إلا هجرته الشياطين ثلاثين يوما ، ولا يدخله ساحر ولا ساحرة أربعين يوما ، يا علىّ علّمها ولدك وأهلك وجيرانك ، فما نزلت آية أعظم منها». قاله البيضاوي وأبو السعود ، وتكلم السيوطي فى بعض هذه الأحاديث. والفضائل يعمل فيها بالضعيف. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : يا أيها الذين آمنوا إيمان أهل الخصوصية - (أنفقوا مما رزقناكم) من سعة العلوم ومخازن الفهوم ، من قبل أن يأتى يوم اللقاء ، يوم تسقط فيه المعاملات وتغيب تلك الإشارات ، لا ينفع فيه إلا الدخول من باب الكرم ،
___________
(1) في حاشيته على البيضاوي ، والمسماة نواهد الأبكار وشوارد الأفكار.(1/287)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 288
فيلقى اللّه باللّه دون شىء سواه ، والجاحدون لهذا هم الظالمون لأنفسهم ، حيث اعتمدوا على أعمالهم فلقوا اللّه بالصنم الأعظم. والحىّ القيوم الكبير المتعال غنى عن الانتفاع بالأعمال. وباللّه التوفيق.
ومن عرف أنه الحي الذي لا يموت توكل عليه. قال تعالى : وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ. والتعلق به : استمداد حياة الروح بالعلم والمحبة الكاملة. ومن عرف أنه الحي القيوم وثق به ، ونسى ذكر كل شىء بذكره ، ولم يشاهد غيره بمشاهدة قيوميته. والتعلق به استمداد معرفة قيوميته حتى يستريح من نكد التدبير ، والتخلق به بأن تكون قائما على ما كلّفت به من أهل وولد ونفس ومال ، وكلّ من تعلق بك من النساء والرجال.
ولمّا وصف الحىّ تعالى نفسه بأوصاف الكمال من الكبرياء والعظمة والجلال ، وكانت شواهد ذلك ظاهرة فى خلقه حتى تبيّن الحق من الباطل ، بيّن ذلك بقوله :
[سورة البقرة (2) : آية 256]
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
قلت : (الرشد) : مصدر رشد ، بالكسر والضم ، رشدا ورشادا ، و(الغى) : مصدر غوى ، إذا ضلّ فى معتقده ، و(الطاغوت) : فعلوت من الطغيان ، وأصله : طغيوت ، فقلبت لام الكلمة لعينها فصار طيغوت ، ثم قلبت الياء ألفا.
وهو كل ما عبد من دون اللّه راضيا بذلك ، و(العروة) : ما تستمسك به اليد عند خوف الزل كالحبل ونحوه ، ووثوقها : متانتها ، وانفصامها أن تنفك عن موضعها ، وأصل الفصم فى اللغة : أن ينفك الخلخال ونحوه ولا يبين ، فإذا بان فهو القصم - بالقاف - وهو هنا استعارة للدّين الصحيح.
يقول الحق جلّ جلاله فى شأن رجل من الأنصار ، تنصّر ولداه قبل البعثة فلما جاء الإسلام قدما إلى المدينة فدعاهما أبوهما إلى الإسلام فامتنعا ، فلزمهما أبو هما وقال : واللّه لا أدعكما حتى تسلما ، فاختصموا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فأنزل اللّه : لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ، فهو خبر بمعنى النهى ، أي : لا تكرهوا أحدا على الدخول فى الدين.
وهو خاص بأهل الكتاب.
قال البيضاوي : إذ الإكراه فى الحقيقة هو : إلزام الغير فعلا لا يرى فيه خيرا ، ولكن قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ أي تميز الإيمان من الكفر بالآيات الواضحة ، ودلت الدلائل على أن الإيمان رشد يوصل إلى السعادة الأبدية ، والكفر غىّ يوصل إلى الشقاوة السرمدية. والعاقل متى تبين له ذلك بادرت نفسه إلى الإيمان طلبا للفوز بالسعادة والنجاة ، ولم يحتج إلى الإكراه والإلجاء. ه.(1/288)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 289
فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ أي : يبعد عنها ويجحد ربوبيتها وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ أي : يصدق بوحدانيته ، ويقر برسله ، فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى أي : فقد تمسك بالدين المتين ، لا انقطاع له أبدا ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ بالأقوال ، عَلِيمٌ بالنيات ، فإنّ الدين مشتمل على قول باللسان وعقد بالجنان ، فحسن التعبير بصفة السمع والعلم.
واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قال فى الحكم : «لا يخاف عليك أن تلتبس الطرق ، إنما يخاف عليك من غلبة الهوى عليك». وقال أحمد بن حضرويه : الطريق واضح ، والحق لائح ، والداعي قد أسمع ، ما التحير بعد هذا إلا من العمى. ه. فطريق أسير واضحة لمن سبقت له العناية ، باقية إلى يوم القيامة ، وكل ما سوى اللّه طاغوت ، فمن اعرض عن السّوى ، وعلق قلبه بمحبة المولى ، فقد استمسك بالعروة الوثقى ، التي لا انفصام لها على طول المدى. وباللّه التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم بيّن الحق تعالى حال أهل العناية من أهل الشقاوة ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 257]
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257)
قلت : الولي : هو المحب الذي يتولى أمور محبوبه ، أو الناصر الذي ينصر محبوبه ، ولا يخذله بأن يكله إلى نفسه. وجملة (يخرجهم) : حال من الضمير المستتر فى الخبر ، أو من الموصول أو منهما ، أو خبر ثان.
يقول الحق جل جلاله : اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا أي : محبهم ومتولى أمورهم ، يُخْرِجُهُمْ مِنَ ظلمات الكفر والجهل ، ومتابعة الهوى وقبول الوسواس ، والشبه المشكلة فى التوحيد - إلى نور الإيمان واليقين ، وصحة التوحيد ، ومتابعة الداعي إلى اللّه ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ أي : أحباؤهم الطَّاغُوتُ أي : الشياطين ، أو المضلّات من الهوى والشيطان وغيرهما ، يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ الذي منحوه بالفطرة الأصلية ، أو يصدونهم من الدخول فى الإيمان إلى ظلمات الكفر والجهل ، والتقليد الرديء واتباع الهوى ، أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ بسبب نيّاتهم البقاء على الكفر إلى الممات ، ولم يذكر فى جانب المؤمنين دخول الجنة لتكون عبادتهم عبودية ، لا خوفا ولا طمعا. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : (اللّه ولى الذين آمنوا) حيث تولاهم بسابق العناية ، وكلأهم بعين الرعاية ، يخرجهم أولا من طلمات الكفر إلى نور الإيمان ، ثم من ظلمات الحس ورؤية الأكوان إلى نور المعاني بحصول الشهود والعيان ، فافن(1/289)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 290
عن الإحساس تر عبرا. «الكون كله ظلمة ، وإنما أناره ظهور الحق فيه». أو تقول : الكون كله ظلمة لأهل الحجاب ، وأما عند أهل المعرفة فالكون عندهم كله نور ، وإنما حجبه ظهور الحكمة فيه ، «فمن رأى الكون ولم يشهد النور فيه ، أو قبله ، أو بعده ، فقد أعوزه وجود الأنوار وحجبت عنه شموس المعارف بسحب الآثار». والذين كفروا - وهم الذين سبق لهم الشقاء ، وحكم عليهم بالبعد القدر والقضاء - أولياؤهم الطاغوت ، وهم القواطع : من الهوى والشيطان والدنيا والناس ، (يخرجونهم من النور الى الظلمات) أي : يمنعونهم من شهود تلك الأنوار السابقة ، إلى الوقوف مع تلك الظلمات المتقدمة ، فهم متعاكسون مع من سبقت لهم العناية ، فما خرج منه أهل العناية وقع فيه أهل الغواية. نسأل اللّه الحفظ والعافية فى الدنيا والآخرة.
ثم بيّن الحق تعالى حال من سبق له الشقاء ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 258]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
قلت : (أن آتاه) : على حذف لام العلة ، و(إذ قال) : ظرف أ- (حاجّ) ، أو بدل من (آتاه اللّه).
يقول الحق جل جلاله متعجبا من جهالة النمرود ، والمراد تعجيب السامع : أَلَمْ تَرَ يا محمد ، إِلَى جهالة الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ أي : خاصمه فِي رَبِّهِ لأجل أَنْ أعطاه اللَّهُ الْمُلْكَ ، أي : حمله على ذلك بطر الملك. وذلك أنه لما كسّر إبراهيم الأصنام ، سجنه أياما ، وأخرجه من السجن ، وقال له : من ربك الذي تعبد؟ قالَ له إِبْراهِيمَ عليه السّلام : رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ، أي : يخلق الأرواح فى الأجسام ، ويخرجها عند انقضاء آجالها ، (قال) نمرود : أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ، فدعا برجلين فقتل أحدهما ، وعفا عن الآخر ، فلما رأى ابراهيم عليه السّلام غلطه وتشغيبه عدل له إلى حجة أخرى ، لا مقدور للبشر على الإتيان بمثلها ، فقال له : فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها أنت مِنَ الْمَغْرِبِ لأنك تدّعى الربوبية ، ومن شأن الربوبية أن تقدر على كل شىء ، ولا يعجزها شىء ، فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ أي : غلب وصار مبهوتا ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ إلى قبول الهداية ، أو إلى طريق النجاة ، أو إلى محجة الاحتجاج.(1/290)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 291
الإشارة : قال بعض الحكماء : للنفس سر ، ظهر على فرعون والنمرود ، حتى صرحا بدعوى الربوبية. قلت :
وهذا السر هو ثابت للروح فى أصل نشأتها لأنها جاءت من عالم العز والكبرياء. انظر قوله تعالى : وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ، وقال أيضا : قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي أي : سر من أسراره ، فلما ركبت فى هذا القالب الذي هو قالب العبودية - طلبت الرجوع إلى أصلها. فجعل لها الحق جل جلاله بابا تدخل منه فترجع إلى أصلها وهو الذل والخضوع والانكسار والافتقار ، فمن دخل من هذا الباب ، واتصل بمن يعرّفه ربه ، رجعت روحه إلى ذلك الأصل ، وأدركت ذلك السر ، فمنها من تتسع لذلك السر وتطيقه ، ومنها من تضيق عن حمله وتبوح به ، فتقتلها الشريعة ، كالحلاج وأمثاله ، ومن طلب الرجوع إلى ذلك الأصل من غير بابه ، ورام إدراكه بالعز والتكبر ، طرد وأبعد ، وهو الذي صدر من النمرود وفرعون وغيرهما ممن ادعى الربوبية جهلا. واللّه تعالى أعلم.
ثم ذكر الحق تعالى من أدركته العناية ، وفى قصته برهان على إحياء الموتى الذي احتج به إبراهيم - عليه السّلام - فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 259]
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
قلت : (أو) : عاطفة ، و(كالذى) : معطوف على الموصول المجرور بإلى ، أي : ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم فى ربه ، وإلى مثل الذي مر على قرية. وإنما أدخل حرف التشبيه لأن المنكر للإحياء كثير ، والجاهل بكيفيته أكثر ، بخلاف مدعى الربوبية فإنه قليل. وقيل : الكاف مزيدة ، والتقدير : ألم تر إلى الذي حاج وإلى الذي مرّ ، (أنّى) :
ظرف ليحيى ، بمعنى : متى ، أو حال بمعنى كيف ، و(يتسنه) بمعنى يتغير ، وأصله : يتسنن ، فأبدلت النون الثالثة حرف علة. قال فى الكافية :
وثالث الأمثال أبدلنه يا نحو (تظنّى خالد تظنّيا)(1/291)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 292
فصار تسنّى ثم حذفت للجازم ، وأتى بهاء السّكت ، وقفا ووصلا ، كالعوض من المحذوف ، وقيل : من السنّه ، وهو التغير ، فالهاء أصلية ، و(لنجعلك) : معطوف على محذوف ، أي : لتعتبر ولنجعلك آية للناس.
يقول الحق جل جلاله : ألم تر يا محمد أيضا إلى مثل الذي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ ، وهو عزيز ، حبر بنى إسرائيل. - وقيل : غيره - مرّ على بيت المقدس حين خربها بختنصر وَهِيَ خاوِيَةٌ ساقطة حيطانها عَلى عُرُوشِها أي : سقفها ، وذلك بعد مائة سنة حتى سقطت العروش ، ثم سقطت الحيطان عليها ، فلما رآها خالية ، وعظام الموتى فيها بالية ، قالَ فى نفسه : أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها أي : متى يقع هذا. اعترافا بالقصور عن معرفة طريق الإحياء ، واستعظاما لقدرة المحيي ، إن كان القائل عزيرا ، أو استبعادا إن كان كافرا ، فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ أي : ألبثه ميتا مائة عام ، ثُمَّ بَعَثَهُ بالإحياء ، فقال له على لسان الملك ، أو بلا واسطة : كَمْ لَبِثْتَ ميتا؟ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ، وذلك أنه مات ضحى وبعث بعد مائة عام قبل غروب الشمس ، فقال قبل النظر إلى الشمس (يوما) ، ثم التفت فرأى بقية منها ، فقال : أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ على الإضراب ، قال له الحق جل جلاله : بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ.
وذلك أن عزيرا ذهب ليخترف «1» لأهله فجعل على حماره سلة عنب وجرّة عصير. فلما مرّ بتلك القرية ربط حماره ، وجعل يتعجب من خرابها وخلائها بعد عمارتها ، فقال فى نفسه ما قال ، فلطف اللّه به ، وأراه كيفية الأحياء عيانا ، فأماته مائة عام ، حتى بليت عظام حماره وبقي العصير والعنب كأنه حين جنى وعصر فقال له جل جلاله : فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وهو العنب ، وَشَرابِكَ وهو العصير ، لَمْ يَتَسَنَّهْ ، أي : لم يتغير بمرور الزمان وطول المدة ، وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ كيف تفرقت أوصاله ، وبليت عظامه ، فعلنا ذلك بك لتشاهد قدرتنا ، وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ بعدك ، وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ أي : عظام حمارك ، كَيْفَ نُنْشِزُها ، أي : نحييها ، من نشر اللّه الموتى : أحياها. أو : كَيْفَ نُنْشِزُها بالزاي - أي : نرفع بعضها ، ونركبه عليه ، ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً.
فنظر إلى العظام ، فقام كلّ عظم إلى موضعه ، ثم كسى لحما وجلدا ، وجعل ينهق ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ ما كان استغربه وأشكل عليه قالَ أَعْلَمُ علم اليقين أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، أو فلما تبين له الحق ، وهو قدرته تعالى على كل شىء ، قال لنفسه : أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
___________
(1) خرف الرجل يخرف : أخذ من طرف الفواكه ، والمعنى : ذهب ليجتنى الثمر والفواكه.(1/292)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 293
روى أنه أتى قومه على حماره ، وقال أنا عزير ، فكذبوه ، فقرأ التوراة من حفظه ، ولم يحفظها أحد قبله ، فعرفوه بذلك ، وقالوا : هو ابن اللّه - تعالى عن قولهم - وقيل : لما رجع إلى منزله - وكان شابا - وجد أولاده شيوخا ، فإذا حدّثهم بحديث قالوا : حديث مائة سنة. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : فى هذه الآية والتي بعدها ، الإشارة إلى الأمر بتربية اليقين والترقي فيه من علم اليقين إلى عين اليقين ، فإن الروح ما دامت محجوبة بالوقوف مع الأسباب والعوائد ، وبرؤية الحس والوقوف مع الوسائط ، لم تخل من طوارق الشكوك والخواطر ، فإذا انقطعت إلى ربها ، وخرقت عوائد نفسها ، كشف لها الحق تعالى عن أستار غيبه ، وأطلعها على مكنونات سره ، وكشف لها عن أسرار الملكوت ، وأراها سنا الجبروت ، فنظرت إلى قدرة الحي الذي لا يموت ، وتمتعت بشهود الذات وأنوار الصفات ، فى هذه الحياة وبعد الممات ، فحينئذ ينقطع عنها الشكوك والأوهام ، وتتطهر من طوارق الخواطر ، وتزول عنها الأمراض والأسقام.
قال فى الحكم : «كيف تخرق لك العوائد وأنت لم تخرق من نفسك العوائد». فانظر إلى عزيز ... ما أراه الحق قدرته عيانا حتى خرق له عوائده فأماته ثم أحياه ، فكذلك أنت أيها المريد لا تطمع أن تخرق لك العوائد ، تشاهد قدرة الحق أو ذاته عيانا ، حتى تموت عن حظوظك وهواك ، ثم تحيا روحك وسرك ، فحينئذ تشاهد أسرار ربك ، ويكشف الأستار عن عين قلبك. وباللّه التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم ذكر الحق تعالى قصة خليله عليه السّلام فى طلبه رؤية عين القدرة فى إحياء الموتى ، ليترقى من علم اليقين إلى عين اليقين ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 260]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
قلت : رأى : البصرية ، إنما تتعدى إلى مفعول واحد ، فإذا أدخلت عليها الهمزة تعدت إلى مفعولين. وعلقها هنا عن الثاني الاستفهام ، (و صرهن) أي : أملهنّ واضممهن إليك. وفيه لغتان : صار يصير ويصور ، ولذلك قرئ بكسر الصاد وضمها ، و(سعيا) : حال ، أي : ساعيات.
يقول الحق جل جلاله : واذكر يا محمد ، أو أيها السامع ، حين قالَ إِبْراهِيمُ عليه السّلام : يا رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى أي : أبصرنى كيفية إحياء الموتى ، حتى أرى ذلك عيانا ، أراد عليه السّلام أن ينتقل من علم(1/293)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 294
اليقين إلى عين اليقين ، وقيل : لما قال للنمرود : رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قال له : هل عاينت ذلك؟ فلم يقدر أن يقول : نعم. وانتقل إلى حجة أخرى ، ثم سأل ربه أن يريه ذلك ليطمئن قلبه على الجواب ، إن سئل مرة أخرى ، فقال له الحق جل جلاله : أَوَلَمْ تُؤْمِنْ بأنى قادر على الإحياء بإعادة التركيب والحياة؟ وإنما قال له ذلك ، مع علمه بتحقيق إيمانه ليجيبه بما أجاب فيعلم السامعون غرضه ، قالَ إبراهيم عليه السّلام : بَلى آمنت أنك على كل شىء قدير ، وَلكِنْ سألتك لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي إذ ليس الخبر كالعيان ، وليس علم اليقين كعين اليقين ، أراد أن يضم الشهود والعيان إلى الوحى والبرهان.
قال له الحق جل جلاله : فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ طاووسا وديكا وغرابا وحمامة ، ومنهم من ذكر النسر بدل الحمام ، فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ أي : اضممهن إليك لتتأملها وتعرف أشكالها ، لئلا يلتبس عليك بعد الإحياء أشكالها ، ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً أي : ثم جزّئهن ، وفرق أجزاءهن على الجبال التي تحضرك. قيل : كانت أربعة وقيل : سبعة ، ثُمَّ ادْعُهُنَّ وقل لهن : تعالين بإذن اللّه ، يَأْتِينَكَ سَعْياً أي : ساعيات مسرعات ، روى أنه أمر أن يذبحها وينتف ريشها ، ويقطعها ويخلط بعضها ببعض ، ويوزعها على الجبال ، ويمسك رءوسها عنده ، ثم يناديها ، ففعل ذلك ، فجعل كل جزء يطير إلى الآخر ويلتئم بصاحبه حتى صارت جثثا ، ثم أقبل إليه فأعطى كل طير رأسه فطار فى الهواء. فسبحان من لا يعجزه شىء ، ولا يغيب عن علمه شىء ، ثم نبه إلى التفكر فى عجائب قدرته وحكمته فقال : وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يعجزه شىء ، حَكِيمٌ ذو حكمة بالغة فيما يفعل ويذر.
الإشارة : من أراد أن تحيا روحه الحياة الأبدية ، وينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين ، فلا بد أن تموت نفسه أربع موتات :
الأولى : تموت عن حب الشهوات والزخارف الدنيوية ، التي هى صفة الطاووس.
الثانية : عن الصولة والقوى النفسانية ، التي هى صفة الديك.
الثالثة : عن خسة النفس والدناءة وبعد الأمل ، التي هى صفة الغراب.
الرابعة : عن الترفع والمسارعة إلى الهوى المتصف بها الحمام.
فإذا ذبح نفسه عن هذه الخصال حييت روحه ، وتهذبت نفسه ، فصارت طوع يده ، كلما دعاها إلى طاعة أتت إليها مسرعة ساعية.
وإلى هذا المعنى أشار الشيخ أبو الحسن الشاذلى بقوله فى حزبه الكبير : (و اجعل لنا ظهيرا من عقولنا ومهيمنا من أرواحنا ، ومسخرا من أنفسنا ، كى نسبحك كثيرا ، ونذكرك كثيرا ، إنك كنت بنا بصيرا).(1/294)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 295
ولما كانت حياة الروح متوقفة على أمرين : بذل النفوس ، ودفع الفلوس وقدم الإشارة إلى الأول بقوله : وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أشار إلى الثاني بقوله :
[سورة البقرة (2) : الآيات 261 الى 262]
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)
قلت : (مثل الذين) : مبتدأ ، و(كمثل) : خبر ، ولا بد من حذف مضاف ، إما من المبتدأ أو الخبر ، أي : مثل نفقة الذين ينفقون كمثل حبة ، أو مثل الذين ينفقون كمثل باذر حبة ... إلخ.
يقول الحق جل جلاله فى التحريض على النفقة فى سبيل اللّه : مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي : يتصدقون بها فى سبيل اللّه ، كالجهاد ونحوه ، كَمَثَلِ زارع حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ له سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ، فالمجموع سبعمائة. وفى الحديث عنه صلّى اللّه عليه وسلم : «الحسنة بعشر أمثالها ، إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة». وإسناد الإنبات إلى الحبة مجاز ، والمنبت هو اللّه ، وهذا مثال لا يقتضى الوقوع ، وقد يقع فى الذرة والدخن «1» فى الأرض الطيبة ، بحيث تخرج الحبة ساقا يتشعب إلى سبع شعب ، فى كل شعبة سنبلة ، وَاللَّهُ يُضاعِفُ تلك المضاعفة لِمَنْ يَشاءُ بفضله ، على حسب حال المنفق من إخلاصه وتعبه ، وبحسبه تتفاوت الأعمال فى مقادير الثواب ، وَاللَّهُ واسِعٌ لا يضيق عليه ما يتفضل به من الثواب ، عَلِيمٌ بنية المنفق وقدر إنفاقه.
ثم ذكر شرطين آخرين فى قبول النفقة ، فقال : الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً. المن : أن يعتد بإحسانه على من أحسن إليه بحيث يقول : أنا فعلت معه كذا ، وكذا إظهارا لميزته عليه. والأذى : أن يتطاول عليه بذلك. ويقول : لو لا أنا لم يكن منك شىء ، مثلا. فمن فعل هذا فقد ذهبت صدقته هباءا منثورا ، ومن سلم من ذلك ، وأنفق ماله ابتغاء وجه الله ف - لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
وقال زيد بن أسلم رضي اللّه عنه : إذا أعطيت أحدا شيئا وظننت أن سلامك يثقل عليه فكف سلامك عنه. ه.
___________
(1) الدخن : نبات عشبي من النجيليات ، حبه صغير أملس ، كحب السمسم ، ينبت بريا ومزروعا.(1/295)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 296
قيل : إن الآية نزلت فى عثمان وعبد الرحمن بن عوف - رضى الله عنهما أما عثمان فإنه جهز جيش العسرة بألف بعير بأقتابها وأحلاسها. وقال عبد الرحمن بن سمرة : جاء عثمان بألف دينار فى جيش العسرة ، فصبها فى حجر النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، فرأيت النبىّ صلّى اللّه عليه وسلم يدخل يده فيها ، ويقلّبها ويقول : «ما ضرّ ابن عفّان ما عمل بعد اليوم».
زاد فى رواية أبى سعيد : فرأيت النبي صلّى اللّه عليه وسلم رافعا يدعو لعثمان ، ويقول : «يا رب عثمان بن عفان ، رضيت عنه فارض عنه». وأما عبد الرحمن : فإنه أتى النّبى صلّى اللّه عليه وسلم بأربعة آلاف درهم ، صدقة ، وأمسك أربعة آلاف لعياله ، فقال له النّبى صلّى اللّه عليه وسلم : «بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت».
وإنما لم يدخل الفاء فى قوله : لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ، مع أن الموصول قد تضمن معنى الشرط ، إيهاما بأنهم أهل لذلك ، وإن لم يفعلوا ، فكيف بهم إذا فعلوا. قاله البيضاوي.
الإشارة : التقرب إلى الله تعالى يكون بالعمل البدني وبالعملي المالى ، وبالعمل القلبي ، أما العمل البدني ، ويدخل فيه العمل اللساني ، فقد ورد فيه التضعيف بعشر وبعشرين وبثلاثين وبخمسين وبمائة ، وبأكثر من ذلك أو أقل ، وكذلك العمل المالى : قد ورد تضعيفه إلى سبع مائة ، ويتفاوت ذلك بحسب النيات والمقاصد ، وأما العمل القلبي : فليس له أجر محصور ، قال تعالى : إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ ، فالصبر ، والخوف ، والرجاء ، والورع ، والزهد ، والتوكل ، والمحبة ، والرضا ، والتسليم ، والمعرفة ، وحسن الخلق ، والفكرة ، وسائر الأخلاق الحميدة ، إنما جزاؤها : الرضا ، والإقبال والتقريب ، وحسن الوصال. قال تعالى : وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ أي :
أكبر من الجزاء الحسى الذي هو القصور والحور.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام : «تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة». فإنما هو كناية عن الكثرة والمبالغة ، كقوله تعالى : إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ. ومثله قول الشاعر «1» :
كلّ وقت من حبيبى قدره كألف حجّه
أي : سنة. والله تعالى أعلم.
ثم بيّن الحق تعالى أن حسن الخلق ولين الجانب أفضل من الصدقة المشوبة ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 263]
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)
قلت : (قول) : مبتدأ ، و(خير) : خبر ، والمسوّغ الصفة.
___________
(1) وهو الششترى.(1/296)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 297
يقول الحق جل جلاله : قَوْلٌ جميل يقوله الإنسان للسائل فى حال رده ، حيث لم يجد ما يعطيه ، خَيْرٌ وأفضل عند اللّه من الصدقة التي يتبعها المن والأذى ، ومثال القول المعروف : اللّه يرزقنا وإياك رزقا حسنا. واللّه يغنينا وإياك من فضله العظيم ، وشبه ذلك من غير تعبيس ولا كراهية. وَمَغْفِرَةٌ للسائل والعفو عن جفوته وإلحاحه ، خَيْرٌ أيضا مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها منّ ، أو أَذىً للسائل ، علم الحق جل جلاله أن الفقير إذا ردّ بغير نوال شقّ عليه ، فربما أطلق لسانه وأظهر الشكوى فأمر المسئول بالعفو والتواضع. ولو شاء الحق تعالى لأغنى الجميع ، لكنه أعطى الأغنياء ليظهر شكرهم ، وابتلى الفقراء لينظر كيف صبرهم ، وَاللَّهُ تعالى غَنِيٌّ عن إنفاق يصحبه من أو أذى ، حَلِيمٌ عن معاجلة من يمنّ أو يؤذى بالعقوبة. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : يفهم من الآية أن حسن الخلق ، ولين الجانب ، وخفض الجناح ، وكف الأذى ، وحمل الجفاء ، وشهود الصفاء ، من أفضل الأعمال وأزكى الأحوال وأحسن الخلال ، وفى الحديث : «إنّ حسن الخلق يعدل الصيام والقيام».
وفى قوله : وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ : تربية للسائل والمسئول ، فتربية السائل : أن يستغنى بالغنيّ الكبير عن سؤال العبد الفقير ، ويكتفى بعلم الحال عن المقال ، وتربية المسئول : أن يحلم عن جفوة السائل فيتلطف فى الخطاب ، ويحسن الرد والجواب. قال فى شرح الأسماء : والتخلق بهذا الاسم - يعنى الحليم - بالصفح عن الجنايات ، والسمح فيما يقابلونه به من الإساءات ، بل يجازيهم بالإحسان ، تحقيقا للحلم والغفران. ه.
ثم حذر الحق تعالى من المن والأذى فى الصدقة ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 264]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264)
قلت : (كالذى) : الكاف فى محل نصب على المصدر ، أي : إبطالا كإبطال الذي ينفق ماله رئاء الناس. أو حال ، أي : مشبّهين بالذي ينفق رئاء. و(رئاء) مفعول له ، والصفوان : الحجر الأملس ، والصلد : البارز الذي لا تراب عليه ، وجمع الضمير فى قوله : (لا يقدرون) باعتبار معنى (الذي) لأن المراد به الجنس.(1/297)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 298
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا أجر صدقتكم بِالْمَنِّ بها على المتصدّق عليه ، وَالْأَذى الذي يصدر منكم له ، بأن تذكروا ذلك للناس ، فتكون صدقتكم باطلة ، كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، فإن أجره يوم القيامة يكون هباء منثورا ، فَمَثَلُهُ فى انتفاعه بصدقته ، وتستره بها فى دار الدنيا ، وافتضاحه يوم القيامة ، كحجر أملس عَلَيْهِ تُرابٌ يستره ، فيظن الرائي أنه أرض طيبة تصلح للزراعة ، فَأَصابَهُ وابِلٌ أي : مطر غرير فَتَرَكَهُ صَلْداً حجرا يابسا خاليا من التراب ، كذلك المراءون بأعمالهم ، ينتفعون بها فى الدنيا بثناء الناس عليهم وستر حالهم ، فإذا قدموا يوم القيامة وجدوها باطلة ، لا يَقْدِرُونَ عَلى الانتفاع ب شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ إلى مراشدهم ومصالح دينهم. وفيه تعريض بأن الرياء والمن والأذى من صفة الكافر ، ولا بد للمؤمن أن يتجنب عنها.
وباللّه التوفيق.
الإشارة : تصفية الأعمال على قدر تصفية القلوب ، وتصفية القلوب على قدر مراقبة علام الغيوب ، والمراقبة على قدر المعرفة. والمعرفة على قدر المشاهدة. والمشاهدة تحصل على قدر المجاهدة ، وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا. وفى الحكم : «حسن الأعمال من نتائج حسن الأحوال. وحسن الأحوال من التحقق بمقامات الإنزال» والحاصل أن من لم يتحقق بمقام الفناء لا تخلو أعماله من شوب الخلل ، ومن تحقق بالزوال لم ير لنفسه نسبة فى عطاء ولا منع ، ولا حركة ولا سكون ، ولم ير لغيره وجودا حتى يرجو منه نفعا ولا خيرا. وفى بعض الإشارات : يا من يرائى أمر من من ترائى بيد من تعصيه. ه. وفى تمثيله بالحجر إشارة إلى قساوة قلبه ويبوسة طبعه ، فلا يرجى منه خير قط. والعياذ باللّه.
ثم ذكر الحق تعالى ضد هؤلاء ، وهم المخلصون ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 265]
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
قلت : الربوة - مثلثة الراء - : المكان المرتفع ، والوابل : المطر الغزير ، والطل : المطر الخفيف ، وفى ذلك يقول الراجز :
والطلّ ما خفّ من الأمطار والوابل الغزير ذو انهمار(1/298)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 299
و(ابتغاء مرضات اللّه) و(تثبيتا) : حالان من الواو فى : (ينفقون) ، أو مفعولان له. والتثبيت بمعنى التثبت ، أي :
التحقق ، كقوله تعالى : وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا أي : تبتلا.
يقول الحق جل جلاله : مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ فى سبيل اللّه ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وتحققا مِنْ أَنْفُسِهِمْ بثواب اللّه ، أو تحقيقا من أنفسهم بالوصول إلى رضوان اللّه إن بذلوا أموالهم فى طلب رضى اللّه ، مثل نفقتهم فى النمو والارتفاع كَمَثَلِ جَنَّةٍ أي : بستان بِرَبْوَةٍ بمكان مرتفع ، فإن شجره يكون أحسن منظرا وأزكى ثمرا ، أَصابَها وابِلٌ أي : مطر غزير فَآتَتْ أُكُلَها أي : ثمارها ضِعْفَيْنِ أي : مثلى ما كانت تثمر فى عادتها ، أي : حملت فى سنة ما يحمل غيرها فى سنتين ، بسبب هذا المطر الذي نزل بها ، فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ أي : فيصيبها طل ، أي : مطر قليل يكفيها لطيب تربتها وارتفاع مكانها ، فأقلّ شىء يكفيها.
والمراد : أن نفقات هؤلاء ، لإخلاصهم وكمال يقينهم ، كثيرة زاكية عند اللّه ، وإن كانت قليلة فى الحس فهى كثيرة فى المعنى. وفى الحديث : «من تصدّق ولو بلقمة وقعت فى كفّ الرحمن فيربّيها كما يربى أحدكم فلوّه أو فصيله «1» ، حتى تكون مثل الجبل». وفى قوله : وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ : تحذير من الرياء ، وترغيب فى الإخلاص. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : تنمية الأعمال على قدر تصفية الأحوال ، وتصفية الأحوال على قدر التحقق بمقامات الإنزال ، أي :
على قدر التحقق بالإنزال فى مقامات اليقين ، فكل من تحقق بالنزول فى مقامات اليقين ، ورسخت قدمه فيها ، كانت أعماله كلها عظيمة ، مضاعفة أضعافا كثيرة ، فتسبيحة واحدة من العارف ، أو تهليلة واحدة ، تعدل الوجود بأسره ، ولا يزنها ميزان ، وكذلك سائر أعمال العارف : كلها عظيمة مضاعفة لأنها باللّه ومن اللّه وإلى اللّه ، وما كان باللّه ومن اللّه لا يطرقه نقص ولا يشوبه خلل ، ولأجل هذا صارت أوقاتهم كلها ليلة القدر ، وأماكنهم كلها عرفات ، وأنفاسهم كلها زكيات ، وصحبتهم كلها نفحات ، ومخالتطهم كلها بركات. نفعنا اللّه بذكرهم وخرطنا فى سلكهم. آمين.
ثم حذّر الحق تعالى من طوارق الخلل بعد تمام العمل ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 266]
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
___________
(1) الفلو : هو المهر الصغير ، والفصيل : ولد الناقة بعد أن يفصل عن أمه.(1/299)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 300
قلت : الإعصار : عمود من ريح فيه عجاجة ، يدور ويرتفع.
يقول الحق جل جلاله : أيتمنى أحدكم أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ أي : بستان مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ ، هما الغالبان فيه لكثرة منافعهما ، تَجْرِي مِنْ تحت تلك الأشجار الْأَنْهارُ إذ من كمال البستان أن يشتمل على الماء البارد والظل الممدود ، ولَهُ فِيها أي : فى تلك الجنة مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ زائدة على النخيل والأعناب ، ثم أَصابَهُ الْكِبَرُ فضعف عن القيام بتلك الجنة ، وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ لا يستطيعون القيام بأنفسهم لصغرهم ، فأصاب تلك الجنة إِعْصارٌ أي : ريح شديد فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ تلك الجنة ، فلا تسأل عن حسرة صاحب هذا البستان ، لخوفه من ضياع نفسه وعياله. وهذا مثال لمن يكثر من أعمال البر ، كالصلاة والصيام والصدقة والحج والجهاد وغير ذلك ، ثم يعجب به ، ويفتخر ويمنّ بصدقته أو يؤذى ، فتحبط تلك الأعمال وتذهب ، فيتحسر عليها يوم القيامة ، وهو أحوج ما يكون إليها. أو يعمل بالطاعة فى أيام عمره ، فإذا قرب الموت عمل بالمعاصي حتى ختم له بها فحبطت تلك الأعمال ، والعياذ باللّه كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فيها فتعتبرون ، وتخلصون فى أعمالكم ، وتخافون من سوء عاقبتكم. أعاذنا اللّه من ذلك.
الإشارة : فى الآية تخويف للمريد أن يرجع إلى عوائده ، ويلتفت إلى عوالم حسه ، فيشتغل بالدنيا بعد أن استشرف على جنة المعارف ، تجرى على قلبه أنهار العلوم ، فينقض العهد مع شيخه ، أو يسيىء الأدب معه ، ولم يتب حتى تيبس أشجار معارفه ، وتلعب به ريح الهوى ، فيحترق قلبه بنار الشهوات.
قال البيضاوي : وأشبههم به من جال سره فى عالم الملكوت ، وترقى بفكره إلى جناب الجبروت ، ثم نكص على عقبيه إلى عالم الزور ، والتفت إلى ما سوى الحق وجعل سعيه هباء منثورا. ه.
ثم رغّب الحق تعالى فى الصدقة من الكسب الطيب ، فرضا ونفلا ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 267]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
قلت : (تيمموا) : أصله : تتيمموا ، أي تقصدوا ، وجملة (تنفقون) : حال مقدرة - من فاعل (تيمموا) ، و(منه) :
يصح أن يتعلق ب - (تنفقون) أو ب - (الخبيث) ، أي : ولا تقصدوا الخبيث حال كونكم تنفقونه ، أو لا تقصدوا الخبيث تنفقون منه ، و(لستم بآخذيه) : حال أيضا من فاعل (تنفقون).(1/300)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 301
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ من الأموال فى التجارة وغيرها ، وفى الحديث عنه صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال : «يا معشر التجار ، أنتم فجار إلا من اتقى وبرّ وصدق وقال بالمال «1» هكذا وهكذا».
وقوله مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ أي : من حلاله ، أو من خياره ، أما فى الزكاة فعلى الوجوب ، إذ لا يصح دفع الرديء فيها ، وأما فى التطوع فعلى سبيل الكمال ، وأنفقوا أيضا من طيبات مِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ من أنواع الحبوب والثمار والفواكه ، وفى الحديث عنه صلّى اللّه عليه وسلم : «ما من مسلم يغرس غرسا ، أو يزرع زرعا ، فيأكل منه إنسان ولا دابّة ولا طائر ، إلّا كانت له صدقة إلى يوم القيامة». ولا تقصدوا الْخَبِيثَ أي : الرديء من أموالكم ، فتنفقون منه وأنتم لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ فى ديونكم إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا بصركم فيه ، وتقبضونه حياء أو كرها أو مسامحة.
نزلت فى قوم كانوا يتصدقون بخبيث التمر وشراره ، فنهوا عنه ، وأدبهم بقوله : وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عن إنفاقكم ، وإنما أمركم به منفعة لكم ، حَمِيدٌ بقبوله وإثابته ، فهو فعيل بمعنى فاعل ، مبالغة ، أي : يحمد فعلكم ويشكره لكم ، إن أحسنتم فيه ، وفى الحديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال : «إن اللّه قسم بينكم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم ، وإن اللّه طيّب لا يقبل إلا طيبا ، لا يكسب عبد مالا من حرام فيتصدّق منه فيقبل منه ، ولا ينفق منه فيبارك له فيه ، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار ، وإن اللّه لا يمحو السيّء بالسيىء ولكن يمحو السيء بالحسن ، وإن الخبيث لا يمحوه الخبيث».
الإشارة : يا أيها الذين آمنوا إيمان الخصوص ، أنفقوا العلوم اللدنية والأسرار الربانية ، من طيبات ما كسبتم من تصفية أسراركم وتزكية أرواحكم ، وأنفقوا أيضا علوم الشريعة وأنوار الطريقة ، مما أخرجنا لكم من أرض نفوسكم التي تزكت بالأعمال الصافية والأحوال المرضية.
ولا تيمموا العمل الخبيث أو الحال الخبيث ، تريدون أن تنفقوا منه شيئا من تلك العلوم ، فإن ذلك لا يزيد النفس إلا جهلا وبعدا ، فكما أن الحبة لا تنبت إلا فى الأرض الطيبة ، كذلك النفس لا تدفن إلا فى الحالة المرضية ، فلا تؤخذ العلوم اللدنية من النفس حتى تدفن فى أرض الخمول ، وأرض الخمول هى الأحوال المرضية ، الموافقة للقواعد الشرعية ، وإليه الإشارة بقوله : وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ أي : لستم بآخذى العلم اللدني من الحال الخبيث ، إلا أن تغيبوا فيه عن حسّكم ، ومن غلبه الحال لم يبق عليه مقال. وعليها تتخرج قصة لص الحمّام «2» ، فلا يقتدى به لغلبة الحال عليه ، واعلموا أن اللّه غنى حميد ، لا يتقرب إليه إلا بما هو حميد. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) أي : صرف المال فى وجوه الخير ، قال ابن الأثير : العرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال ، وتطلقه على غير الكلام واللسان. فتقول : قال بيده ، أي : أخذه. وقال برجله ، أي : مشى. وكل ذلك على المجاز.
(2) وهو رجل عرف بالزهد وأقبل الناس عليه ، فدخل حماما ولبس ثياب غيره ، وخرج ، فوقف فى الطريق حتى عرفه الناس ، فأخذوه وضربوه ، واستردوا الثياب وهجروه. قلت : ما فعل هذذا الرجل مبالغة وشطط لا يقره الشرع. وكما قال المفسر : لا يقتدى به لغلبة الحال عليه. والقصة ذكرها الغزالي فى الإحياء 3/ 305 ، وابن عباد فى شرح الحكم 1/ 80.(1/301)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 302
ثم حذّر من الشّحّ ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 268]
الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268)
قلت : يقال : وعدته خيرا ووعدته شرا ، هذا إن ذكر الخير أو الشر ، وأما إذا لم يذكر فيقال فى الخير : وعدته ، وفى الشر : أو عدته ، قال الشاعر :
وإنّى وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادى ومنجز موعدى «1»
و(الفحشاء) هنا : البخل والشح.
يقول الحق جل جلاله : الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ أي : يخوفكم الْفَقْرَ بسبب الإنفاق ، ويقول فى وسوسته : إن أعطيت مالك بقيت فقيرا تتكفف الناس ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ أي : ويأمركم بالبخل والشح ، والعرب تسمى البخيل فاحشا ، وفى الحديث : «البخيل بعيد من اللّه ، بعيد من الناس ، بعيد من الجنة قريب من النار. والسخي قريب من اللّه. قريب من الناس ، قريب من الجنة ، بعيد من النار. ولجاهل سخىّ أحبّ إلى اللّه من عابد بخيل».
وفى حديث آخر : «إنّ اللّه يأخذ بيد السخىّ كلما عثر». وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ فى الإنفاق مَغْفِرَةً مِنْهُ لذنوبكم ، وسترا لعيوبكم ، وَفَضْلًا أي : خلفا أفضل مما أنفقتم فى الدنيا والآخرة ، وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ، وَاللَّهُ واسِعٌ الفضل والعطاء ، عَلِيمٌ بما أنفقتم ، ولما ذا أنفقتم ، وفيما أخلصتم ، لا يخفى عليه شىء من أموركم.
الإشارة : إذا توجه المريد إلى اللّه تعالى ، وأراد سلوك طريق التجريد والزهد والانقطاع إلى اللّه تعالى ، تعرض له الشيطان ، اختبارا منه تعالى وابتلاء ، إذ الحضرة محروسة بالقواطع ليظهر الصادق فى الطلب من الكاذب ، فيخوفه من الفقر ، ويأمره بالوقوف مع الأسباب والعوائد ، وهى أفحش المعاصي عند الخواص ، إذ الهمة العالية تأنف عن الاشتغال بغير الحضرة الإلهية. واللّه يعدكم - أيها المتوجهون إليه - مغفرة لذنوبكم ، وسترا لعيوبكم ، فيغطى وصفكم بوصفه ، ونعتكم بنعته ، فيوصلكم بما منه إليكم من الفضل والجود ، لا بما منكم إليه من المجاهدة والمكابدة ، وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً ، (و اللّه واسع) الجود والإحسان ، (عليم) بمن يستحق الفضل والامتنان.
___________
(1) البيت لعامر بن طفيل.(1/302)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 303
ومن نتائج الزهد والانقطاع : ورود الحكمة على لسان العبد وقلبه ، كما أشار إلى ذلك بقوله :
[سورة البقرة (2) : آية 269]
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269)
قال البيضاوي : الحكمة : تحقيق العلم وإتقان العمل. ه. وقيل : هى سرعة الجواب وإصابة الصواب ، وقيل :
كل فضل جزل من قول أو فعل.
يقول الحق جل جلاله ، يُؤْتِي الحق تعالى الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ من عباده ، وهى التفقه فى الدين والتبصر فى الأمور. قال صلّى اللّه عليه وسلم : «من يرد اللّه به خيرا يفقّهه فى الدين ، ويلهمه رشده» ، وقيل : الحكمة : الإصابة فى الرأى. وقيل : الفهم فى كتاب اللّه. وقيل : الفهم عن اللّه. وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ أي : أعطيها ، فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً لأنه حاز خير الدارين ، ولا شك أن من حقّق العلم باللّه وبأحكامه ، وأتقن العمل بما أمره اللّه به ، فقد صفا قلبه ، وتطهر سره ، فصار من أولى الألباب ولذلك قال عقبه : وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ.
الإشارة : الحكمة هى : شهود الذات مرتدية بأنوار الصفات ، وهى حقيقة المعرفة ، ومن عرف اللّه هابه ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : «رأس الحكمة مخافة اللّه». وقيل : هى تجريد السر لورود الإلهام ، وقيل : هى النور المفرق بين الوسواس والإلهام ، وقيل : شهود الحق تعالى فى جميع الأحوال. والتحقيق : أن الحكمة هى إبداع الشيء وإتقانه حتى يأتى على غاية الكمال ، ويجرى ذلك فى العلم والعمل والحال والمعرفة.
وقال القشيري : الحكمة : أن يحكم عليك خاطر الحق لا داعى الباطل ، وأن تحكم قواهر الحق لا زواجر الشيطان.
ويقال : الحكمة : صواب الأمر ، ويقال : هى ألا تغلب عليك رعونات البشرية ، ومن لا حكم له على نفسه لا حكم له على غيره. ويقال : الحكمة : موافقة أمر اللّه ، والسفه : مخالفة أمره ، ويقال : الحكمة شهود الحق ، والسفه : شهود الغير.
قاله المحشى.
واعلم أن الصوفية ، فى اصطلاحهم ، يعبّرون عن أسرار الذات بالقدرة ، وعن أنوار الصفات - وهى ظهور آثارها - بالحكمة. فالوجود كله قائم بين الحكمة والقدرة ، فالقدرة تبرز الأشياء ، والحكمة تسترها. فربط الأشياء واقترانها بأسبابها تسمى عندهم الحكمة ، وإنفاذ الأمر وإظهاره يسمى القدرة ، فمن مع الحكمة حجب عن(1/303)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 304
شهود القدرة ، وكان محجوبا عن اللّه. ومن نفذ إلى شهود القدرة ولم يرتبط مع الأسباب والعوائد كان عارفا محبوبا. فالعارف الكامل هو الذي جمع بين شهود القدرة وإقرار الحكمة ، فأعطى كل ذى حق حقه ، ووفّى كلّ ذى قسط قسطه ، لكن يكون ذلك ذوقا وكشفا ، لا علما وتقليدا. وباللّه تعالى التوفيق :
ثم رغّب فى الإخلاص ، وحذّر من شوب الحظوظ فى النفقة ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 270 الى 271]
وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
قلت : النذر : هو إلزام المكلف نفسه ما لم يجب ، كقوله : للّه علىّ أن أتصدق بكذا ، أو أصلى كذا ، أو أن أصوم كذا ، أو إن شفى اللّه مريضى فعلىّ كذا ، فمن نطق بشىء من ذلك لزمه ، ومن علق بشىء وحصل ذلك لزمه ما نطق به. و(نعما) أصلها : نعم ما هى ، فأدغمت الميم فى الميم ، وفى (نعم) : ثلاث لغات : «نعم» بفتح النون وكسر العين وهى الأصل ، وبسكونها ، وبكسر النون وسكون العين ، فمن قرأ بكسر النون والعين ، فعلى لغة كسر العين ، وأتبع النون للعين ، ومن اختلس ، أشار إلى لغة السكون ، ومن قرأ بفتح النون وكسر العين ، فعلى الأصل وأدغم المثلين ، ومن قرأ بفتح النون وسكون العين فعلى لغة (نعم) بالفتح والسكون ، ثم أدغم ، ولم يعتبر التقاء الساكنين لعروضه ، أو لكون الثاني مشدّدا سهل ذلك. واللّه أعلم.
ومن قرأ : (و نكفّر) ، بالجزم ، فعطف على محل الجزاء ، ومن قرأ بالرفع ، فعلى الاستئناف ، أي : ونحن نكفر ، أو : فهو يكفر ، على القراءتين.
يقول الحق جل جلاله : وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ قليلة أو كثيرة ، سرا أو علانية ، فى حق أو باطل ، أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ بشرط أو بغير شرط ، فى طاعة أو معصية ، فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ، فيجازيكم عليه ، فمن أنفق فى طاعة أو نذر قربة كان من المحسنين ، ومن أنفق فى معصية أو نذر معصية كان من الظالمين. وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ ينصرونهم من عذاب اللّه.
إِنْ تظهروا الصَّدَقاتِ ، مخلصين فيها ، فَنِعِمَّا هِيَ أي : فنعم شيئا إبداؤها ، ولا سيما للمقتدى به ، فهو أفضل فى حقه ، وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ خفية فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لأنه أقرب للإخلاص ، وهذا(1/304)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 305
فى التطوع ، تفضل علانيتها بسبعين ضعفا. وأما الفريضة ففيها تفصيل ، فمن خاف على نفسه شوب الرياء أخفى أو نوّب ، ومن أمن أظهر. فقد ورد أن علانية الفريضة تفضل سرّها بخمسة وعشرين ضعفا ، فإن فعلتم ما أمرتم به فى الوجهين ، فقد أحسنتم ، وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ أي : نستر عنكم بعض ذنوبكم ، وقد ورد فى صدقة السر أن صاحبها يظله اللّه يوم لا ظل إلا ظله وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لا يخفى عليه من أسرّ أو جهر ، ومن أخلص أو خلط ، ففيه ترغيب وترهيب. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : معاملة العبد مع مولاه : إما أن تكون لطلب الأجور ، وإما لرفع الستور ، فالأول يعطى أجره من وراء الباب ، والثاني يدخل مع الأحباب. وأما العامل للدنيا فهو ظالم لنفسه (و ما للظالمين من أنصار) ، وفى بعض الآثار : طالب الدنيا أسير ، وطالب الآخرة أجير ، وطالب الحق أمير.
ثم الناس فى معاملة الحق على أقسام ثلاثة : قسم يليق بهم الإخفاء والإسرار ، وهم طالبو الإخلاص من المريدين السائرين. وقسم يليق بهم الإظهار وهم أهل الاقتداء من العلماء المخلصين. وقسم لا يقفون مع ظهور ولا خفاء ، بل مع ما يبرز فى الوقت ، وهم العارفون الكاملون. ولذلك قال الشيخ أبو العباس رضي اللّه عنه : (من أحبّ الظهور فهو عبد الظهور ، ومن أحب الخفاء فهو عبد الخفاء ، ومن كان عبد اللّه فسواء عليه أظهره أم أخفاه).
والهداية كلها بيد اللّه ، ليس لغيره منها شىء ، كما أبان ذلك الحق جل جلاله بقوله :
[سورة البقرة (2) : آية 272]
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272)
يقول الحق جل جلاله لنبيه عليه الصلاة والسلام : لَيْسَ عَلَيْكَ يا محمد هُداهُمْ أي : لا يجب عليك أن تخلق الهداية فى قلوبهم ، وليس من شأنك ذلك ، إنما أنت نذير تدلّ على الخير ، كالنفقة وغيرها ، وتنهى عن الشر كالمنّ والأذى ، وإنفاق الخبيث ، وغير ذلك من المساوئ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ بفضله وإحسانه ، فالأمور كلها بيد اللّه خيرها وشرها ، ولكن من جهة الأدب ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ. وباللّه التوفيق.
الإشارة : ما قيل فى الرسول - عليه الصلاة والسلام - يقال فى ورثته من أهل التذكير ، فليس بيدهم الهداية والتوفيق ، وإنما شأنهم الإرشاد وبيان الطريق ، فليس من شأن الدعاة إلى اللّه الحرص على هداية الخلق. وإنما من(1/305)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 306
شأنهم بيان الحق. إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ. واللّه تعالى أعلم.
ثم رجع الحق تعالى إلى الترغيب فى الصدقة والإخلاص فيها ، فقال :
وَما تُنْفِقُوا ...
قلت : هذه ثلاث جمل كلها تدل على الترغيب فى إنفاق الطيب وإخلاص النية.
يقول الحق جل جلاله : وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ قليل أو كثير ، فهو فَلِأَنْفُسِكُمْ لا ينتفع به غيركم ، فإن كان طيبا فلأنفسكم ، وإن كان خبيثا فأجره لكم ، وإن مننتم به أو آذيتم فقد ظلمتم أنفسكم ، وإن أخلصتم فيه فلأنفسكم.
وأيضا إنكم تدّعون أنكم ما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ ، فكيف تقصدون الخبيث ، وتجعلونه لوجه اللّه؟ وكيف تمنّون أو تؤذون بها وهى لوجه اللّه؟ هذا تكذيب للدعوى ، وكل ما تنفقون من خير قليل أو كثير يُوَفَّ إِلَيْكُمْ جزاؤه يوم القيامة بسبعمائة إلى أضعاف كثيرة ، ويخلفه لكم فى الدنيا ، وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ شيئا من أعمالكم إن أخلصتم أو أحسنتم. وستأتى إشارتها مع ما بعدها.
ثم بيّن المصرف ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 273]
لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
قلت : (للفقراء) : متعلق بمحذوف ، أي : يعطى ذلك للفقراء ، أو اجعلوا ما تنفقونه للفقراء ، والإلحاف : هو الإلحاح فى السؤال ، وهو أن يلازم المسئول حتى يعطيه ، وهو منصوب على المصدر أو الحال.
يقول الحق جل جلاله : تجعلون ما تنفقونه لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا أي : حبسوا أنفسهم فى سَبِيلِ اللَّهِ وهو الجهاد ، لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ أي : ذهابا فى الأرض للتجارة أو للأسباب ، بل شغلهم الجهاد والتبتل للعبادة عن الأسباب ، وهم أهل الصّفّة ، كانوا نحوا من أربعمائة من فقراء المهاجرين ، يسكنون صفة المسجد ، يستغرقون أوقاتهم فى العلم والذكر والعبادة ، وكانوا يخرجون فى كل سرية بعثها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم.(1/306)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 307
قال ابن عباس رضي اللّه عنه : «وقف النبي صلى اللّه عليه وسلم يوما على أصحاب الصفة ، فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم ، فقال : «أبشروا يا أصحاب الصفة ، فمن بقي من أمتى على النعت الذي أنتم عليه ، راضيا بما فيه فإنه ، من رفقائى».
وقيل : المراد الفقراء مطلقا ، حصرهم الفقر عن الضرب فى الأرض للتجارة ، يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ بهم أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ ، أي : من أجل تعففهم عن السؤال ، تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ من الضعف ورثاثة الحال.
الخطاب للرسول ، أو لكل أحد لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً ، أي : لا يسألون ، وإن سألوا عن ضرورة لم يلحوا ، وقيل : نفى للأمرين معا ، أي : ليس لهم سؤال ، فيقع فيه إلحاف ، كقول الشاعر :
على لا حب لا يهتدى بمناره «1» وليس ثمّ لا حب ولا منار ، وإنما المراد نفيهما ، وفى الحديث عنه صلّى اللّه عليه وسلم : «من سأل ، وله أربعون درهما ، فقد سأل إلحافا».
وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ فيجازى على القليل والكثير ، وهذا ترغيب فى الإنفاق ، وخصوصا على هؤلاء.
الإشارة : ما أفلح من أفلح ، وخسر من خسر ، إلا من نفسه وفلسه ، فمن جاد بهما ، أو بأحدهما ، فقد فاز وأفلح وظفر بما قصد ، والجود بالنفس أعظم ، وهو يستلزم الجود بالفلس ، والجود بالفلس ، إن دام ، يوصل إلى الجود بالنفس ، والمراد بالجود بالنفس : إسلامها للشيخ يفعل بها ما يشاء ، وتكون الإشارة فيها كافية عن التصريح ، ومن بخل بهما أو بأحدهما ، فقد خسر وخاب فى طريق الخصوص ، ومصرف ذلك هو الشيخ ، أو الفقراء المنقطعون إلى اللّه الذين حصروا أنفسهم فى سبيل اللّه ، وهو الجهاد الأكبر.
قال فى القوت : وكان بعض الفضلاء يؤثر بالعطاء فقراء الصوفية دون غيرهم ، فقيل له فى ذلك ، فقال : لأن هؤلاء همهم اللّه عز وجل ، فإذا ظهر منهم فاقة تشتّت قلب أحدهم ، فلأن أرد همة واحد إلى اللّه أحب إلىّ من أن أعطى ألفا من غيرهم ممن همه الدنيا. فذكر هذا الكلام لأبى القاسم الجنيد ، فقال : هذا كلام ولى من أولياء اللّه. ثم قال : ما سمعت كلاما أحسن من هذا. وبلغني أن هذا الرجل اقتر حاله فى أمر الدنيا
___________
(1) هذا صدر بيت عجزه : (إذا سافه العود النباطىّ جرجرا) وهو من قصيدة لامرئ القيس. واللاحب : الطريق الواسع. [.....](1/307)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 308
حتى هم بترك الحانوت فبعث إليه الجنيد بمال كان صرف إليه ، وقال له : اجعل هذا فى بضاعتك ، ولا تترك الحانوتفإنّ التجارة لا تضرّ مثلك. ويقال : إن هذا لم يكن يأخذ من الفقراء ثمن ما يبتاعون منه. ه.
وكان عبد اللّه بن المبارك يصرف مصروفه لأهل العلم ، ويقول : إنى لا أعرف بعد النبوة أفضل من العلماء ، فإذا اشتغل قلب أحدهم بالحاجة والعيلة لم يتفرغ للعلم ، ولا يقبل على تعليم الناس ، فرأيت أن أكفيهم أمر الدنيا لأفرغهم للعلم ، فهو أفضل. ه. واللّه تعالى أعلم.
ثم رغّب فى النفقة مطلقا ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 274]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
قلت : الموصول مبتدأ ، و(فلهم أجرهم) : خبر ، والفاء للسببية ، ولأن فى الموصول معنى الشرط ، وقيل : الخبر محذوف ، أي : ومنهم الذين ينفقون إلخ ، و(فلهم) : استئناف بيانى.
يقول الحق جل جلاله : الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً ، ويعمرون أوقاتهم بفعل الخيرات ، فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إذا قدموا عليه ، وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من لحوق مكروه ، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على فوات محبوب ، بل وجدوا اللّه فأغناهم عن كل شىء.
قيل : نزلت فى أبى بكر رضي اللّه عنه تصدّق بأربعين ألف دينار ، عشرة بالليل ، وعشرة بالنهار ، وعشرة بالسر ، وعشرة بالعلانية ، أو فى علي - كرم اللّه وجهه - لم يملك إلا أربعة دراهم ، فتصدق بدرهم ليلا ، ودرهم نهارا ، ودرهم سرا ، ودرهم علانية. وهى عامة لمن فعل فعلهما.
الإشارة : أجر بذل الأموال هو إعطاء الثواب من وراء الباب ، والأمن من العذاب وسوء المآب ، وأجر بذل النفوس هو دخول حضرة القدوس ، والأنس بالأحباب داخل الحجاب ، فمن بذل نفسه للّه على الدوام ، أمنه من الحجبة فى دار السلام ، فلا خوف يلحقهم فى الدارين ، ولا يعتريهم حزن فى الكونين. وباللّه التوفيق.
ولما رغّب فى الصدقة ، وكانت فى الغالب لا يتوصل إليها إلا بتعاطى أسباب المال ، وهو البيع والشراء حذر من الريا لئلا يتساهل الناس فى المعاملة به ، حرصا على الصدقة ، فقال : (1/308)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 309
[سورة البقرة (2) : الآيات 275 الى 279]
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279)
قلت : (الربا) فى الأصل : هو الزيادة ، ربا المال يربو : زاد. وكتبت بالواو مراعاة للأصل ، وهو المصدر ، قال الفراء : إنما كتبوه بالواو لأن أهل الحجاز تعلموا الكتابة من أهل الحيرة ، ولغتهم الربو ، فعلموهم صورة الحروف ، وكذلك قرأها أبو السمال العدوى ، وقرأ الأخوان بالإمالة لمكان الكسرة ، والباقون بالتفخيم.
والربا فى اصطلاح الشرع على قسمين : ربا الفضل وربا النّساء ، فأما ربا الفضل فهو التفاضل بين الطعامين أو النقدين فى المبادلة من الجنس الواحد ، فإن اختلفت الأجناس فلا حرج ، وأما ربا النساء فهو بيع الطعامين أو النقدين بعضهما ببعض بالتأخير ، وهذا حرام ولو اختلفت الأجناس.
يقول الحق جل جلاله : الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا أي : يأخذونه ، وإنما خص الأكل لأنه أعظم منافع المال ، لا يَقُومُونَ من قبورهم يوم البعث إِلَّا كَما يَقُومُ المجنون الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ أجل الْمَسِّ الذي يمسه يقوم ويسقط ، روى أن بطونهم تكون أمامهم كالبيت الضخم ، يقوم أحدهم فتميل به بطنه فيصرع ، وعن أبى هريرة رضي اللّه عنه أنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : «لما أسرى بي إلى السماء رأيت رجالا بطونهم كالبيوت ، فيها حيّات ترى من خارج بطونهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل؟ فقال : أكلة الرّبا».
ذلِكَ العذاب بسبب أنهم استحلّوا الربا ، وقالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا فنظموا الربا والبيع فى سلك واحد ، وفيه عكس التشبيه. والأصل : إنما الربا مثل البيع ، قصدوا المبالغة ، كأنهم جعلوا الربا أصلا وقاسوا عليه البيع.
وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا حل ماله على غريمه يقول الغريم : زدنى فى الأجل أزدك فى المال ، فيفعلان ، ويقولان : سواء علينا الزيادة فى أول البيع بالربح أو عند محل الدين ، هو مراضاة. فكذبهم الحق تعالى بقوله : وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا لأن القياس مع وجود النص فاسد ، والفرق ظاهر فإن من باع درهما(1/309)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 310
بدرهمين ضيع درهما من غير فائدة ، بخلاف من اشترى سلعة بدرهم ، وباعها بدر همين ، فلعل مساس الحاجة ، والرغبة فيها ، توقع رواجها فيجبر الغبن.
فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ كالنهى عن الربا ، فَانْتَهى وترك الربا فَلَهُ ما سَلَفَ قبل التحريم ولا يردّه ، وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ لا إلى أحد منكم ، فلا يتعرض له ، وَمَنْ عادَ إلى تحليل الربا بعد بلوغه النهى فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لأنهم كفروا وسفهوا أمر اللّه. يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا أي : يذهب بركته ، ويهلك المال الذي يدخل فيه وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ أي : يضاعف ثوابها ويبارك فى المال الذي أخرجت منه ، فقد روى عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : «ما نقص مال من صدقة» ، «وأنه يربى الصدقة حتى تكون مثل الجبل». قال يحيى بن معاذ : (ما أعرف حبة تزن جبال الدنيا إلا الحبّة من الصدقة).
وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أي : مصرّ على تحليل المحرمات ، أَثِيمٍ أي : منهمك فى ارتكاب المنهيات ، أي : لا يرتضى حاله ، ولا يحبه كما يحب التوابين.
ثم ذكر مقابله فقال : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا باللّه ، وصدّقوا بما جاء من عنده ، وَعَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ أي : أتقنوها وَآتَوُا الزَّكاةَ أي : أدوها على التمام ، فلهم أجرهم عند ربهم إذا قدموا عليه ، وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من آت ، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما فات ، إذ لم يفتهم شىء حيث وجدوا اللّه.
ثم أكد فى أمر الربا ، فقال :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا أي : اتركوا بقايا ما شرطتم على الناس من الربا ، فلا تقبضوها منهم ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278). فإن دليل الإيمان : امتثال ما أمرتم به ، روى أنه كان لثقيف مال على بعض قريش ، فطالبوهم عند الحلّ بالمال والربا ، فنزلت الآية.
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وتتركوا ما نهيتم عنه ، فَأْذَنُوا أي : فاعلموا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ومن قرأ :
فآذنوا بالمد ، فمعناه : أعلموا بها غيركم ، روى أنها لما نزلت ، قالت ثقيف : لا يدان «1» لنا بحرب اللّه ورسوله.
وَإِنْ تُبْتُمْ من تعاطى الربا واعتقاد حله فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ الغريم بأخذ الزيادة ، وَلا تُظْلَمُونَ (279) بنقص رأس مالكم. مفهومه إن لم يتب فليس له شىء ، لأنه مرتد. واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) يقال : مالى بهذا الأمر يد ويدان أي : لا طاقة لى به ، لأن المدافعة تكون باليد ، فكأن يده معدومه لعجزه عن دفعه.(1/310)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 311
الإشارة : مدار صفاء المعاملة على تصفية اللقمة ، فمن صفّا طعمته صفت معاملته ، ومن صفت معاملته أفضى الصفاء إلى قلبه ، ومن خلط فى لقمته تكدرت معاملته ، ومن تكدرت معاملته تكدر قلبه ، ولذلك قال بعضهم : (من أكل الحلال أطاع اللّه ، أحبّ أم كره ، ومن أكل الحرام : عصى اللّه ، أحبّ أم كره) وكذلك الواردات الإلهية ، لا ترد إلا على من صفا مطعمه ومشربه ، ولذلك قال بعضهم : (من لا يعرف ما يدخل بطنه لا يفرق بين الخواطر الربانية والشيطانية).
وقال سيدى على الخواص رضي اللّه عنه : (اعلم أن المدد الذي لم يزل فياضا على قلب كل إنسان ويتلون بحسب القلب ، والقلب يتلون بحسبه هو بحسب صلاح الطعمة وفسادها). ه. فالذين يأكلون الحرام كالربا وشبهه ، لا يقومون إلى معاملتهم للحق إلا كما يقوم المجنون الذي يلعب به الشيطان ، ولا يدرى ما يقول ولا ما يقال له ، فقد حرم لذيذ المناجاة وحلاوة خلوص المعاملات ، فإن احتج لنفسه واستعمل القياس لم يرج فلاحه فى طريق الخواص ، فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى ، وطلب العفاف فقد عفا اللّه عما سلف. ومن عاد إلى ما خرج عنه من متابعة هواه ، فنار القطيعة مثواه ومأواه.
ومن شأن الحق جل جلاله مع عباده : أن من طلب الزيادة فى حس ظاهره محق اللّه نور باطنه ، ومن حسم مادة زيادة الحس فى ظاهره قوى اللّه مدد الأنوار فى باطنه ، (يمحق اللّه الربا ويربى الصدقات) ، أي : يقوّى مدد ثواب الصدقات. (و اللّه لا يحب كلّ كفّار أثيم) ، وإنما يحب كل مطيع منيب ، وهو من آمن إيمان أهل التحقيق ، وسلك مسلك أهل التوفيق. فلا جرم أنه ينخرط فى سلك أهل العناية ، ويسلك به مسلك أهل الولاية ، (الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه) حق تقاته ، واتركوا ما بقي فى باطنكم من بقايا الحس وأسبابه ، إن كنتم طالبين إيمان أهل الشهود ، والوصول إلى الملك المعبود. فإن لم تفعلوا ذلك فاعلموا أنكم فى مقام البعد من حيث لا تظنون ، معاندون وأنتم لا تشعرون. وإن رجعتم إلى ربكم فلكم رؤوس أموالكم ، وهو نور التوحيد ، لا تنقصون منه ولا تزيدون عليه ، إلا إن أفردتم الوجهة إليه ، وطلبتم الوصول منه إليه ، فإن اللّه لا يخيّب من أمّل جوده ، ولا يردّ من وقف ببابه ، بمنّه وكرمه.
ثم ذكر حال المعسر ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 280 الى 281]
وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)(1/311)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 312
قلت : (كان) : تامة بمعنى حضر ، وقرأ أبىّ وابن مسعود : (ذا عسرة) فتكون ناقصة ، و(نظرة) : مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : فعليكم نظرة ، أو فالواجب نظرة. وهو مصدر بمعنى الإنظار ، وهو الإمهال ، و(ميسرة) : فيه لغتان :
الفتح والضم ، وهى مفعلة من اليسر ، فالضم لغة أهل الحجاز ، والفتح لغة تميم وقيس ونجد.
يقول الحق جل جلاله : وإن حضر الغريم وهو معسر ، فعليكم إنظاره ، أي : إمهاله إلى زمان يسره ولا يحل لكم أن تضيّقوا عليه ، وتطالبوه بما ليس عنده إن أقام البيّنة على عسره وَأَنْ تَصَدَّقُوا عليه برؤوس أموالكم ولا تطالبوه بها خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما فى ذلك من الخير الجزيل والذكر الجميل.
روى أبو هريرة رضي اللّه عنه أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : «من أنظر معسرا ، أو وضع عنه ، أظلّه اللّه فى ظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلا ظلّه» وقال - عليه الصلاة والسلام - : «من أحبّ أن تستجاب دعوته ، وتكشف كربته ، فلييسّر على المعسر».
وقال صلّى اللّه عليه وسلم : «من أنظر معسرا كان له بكل يوم صدقة بمثل ما أنظره به». وقد ورد فى فضل الدّين قوله - عليه الصلاة والسلام : «إن اللّه مع المدين حتى يقضى دينه ، ما لم يكن فيما يكره اللّه». فكان عبد اللّه «1» يقول : «إنى أكره أن أبيت ليلة إلا واللّه تعالى معى ، فيأمر غلامه أن يأخذ بدين».
وقد ورد الترغيب أيضا فى الإسراع بقضاء الدين دون مطل ، قال صلّى اللّه عليه وسلم «من مشى إلى غريمه بحقه ، صلّت عليه دوابّ الأرض ونون الماء ، وكتبت له بكل خطوة شجرة فى الجنة ، وذنب يغفر له فإن لم يفعل ومطل فهو معتد». وقال أيضا : «مطل الغنىّ ظلم ، وإذا أتبع أحدكم على مليىء فليتبع».
ثم قال تعالى : وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ، وهو يوم القيامة ، فتأهبوا للمصير إليه بالصدقة وسائر الأعمال الصالحة ، ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ جزاء ما أسلفت ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ بنقص ثواب أو تضعيف عقاب. قال ابن عباس : (هذه آخر آية نزل بها جبريل ، فقال : ضعها فى رأس المائتين والثمانين من البقرة ، وعاش بعدها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أحدا وعشرين يوما). وقيل : أحدا وثمانين ، وقيل غير ذلك. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : وإن كان ذو عسرة من نور اليقين والمعرفة ، فلينظر إلى أهل الغنى باللّه ، وليصحبهم ويتعلّق بهم ، وهم العارفون ، فإنهم يغنونه بالنظر. وفى بعض الأخبار : إن اللّه رجالا من نظر إليهم سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا. ه. وللّه رجال إذا نظروا أغنوا ، وفى هذا المعنى يقول صاحب العينية :
فشمّر ، ولذ بالأولياء فإنّهم لهم من كتاب اللّه تلك الوقائع
هم الذّخر للملهوف ، والكنز للرّجا ومنهم ينال الصبّ ما هو طامع
___________
(1) هو راوى الحديث سيدنا عبد الله بن جعفر بن أبى طالب رضي اللّه عنه.(1/312)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 313
وقال الشيخ أبو العباس رضي اللّه عنه : واللّه ما بينى وبين الرجل إلا أن أنظر إليه وقد أغنيته. وقال فيه شيخه : نعم الرجل أبو العباس ، يأتيه البدوىّ يبول على ساقه ، فلا يمسى إلا وقد أوصله إلى ربه. وقال شيخ شيوخنا سيدى العربي بن عبد اللّه : لو أتانى يهودى أو نصرانى ، لم يمس إلا وقد أوصلته إلى اللّه. ه. وفى كل زمان رجال يغنون بالنظر ، وقد أدركتهم ، وصحبتهم والحمد للّه. والإشارة بقوله : وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إلى أهل الغنى باللّه ، يتصدقون على الفقراء بالنظرة والهمة ، حتى يحصل لهم الغنى باللّه. واللّه تعالى أعلم.
ثم أمر الحق تعالى بتحصين الأموال بتقييد الديون والإشهاد عليها ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 282]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ أي : داين بعضكم بعضا فى بيع أو سلف ، إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي : معلوم بالأيام أو الأشهر ، لا بالحصاد أو قدوم الحاج ، إلا فى السّلم ، فَاكْتُبُوهُ لأنه أوثق وأدفع للنزاع. والجمهور : أن الأمر للاستحباب ، وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ لا يزيد ولا ينقص ، ولا بد أن يكون عدلا حتى يجيىء مكتوبه موثوقا به ، وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ أي : ولا يمتنع كاتب من الكتابة كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ أي : فليكتب كما علمه اللّه من كتابة الوثائق ، أو : لا يأب أن ينفع الناس بكتابته كما نفعه اللّه بتعليمها. وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ أي : وليكن المملى من عليه الحق لأنه المقر للشهود ، يقال : أملل وأملى ، إذا ذكر ما عنده أو ما عليه ، وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ أي : المملى أو الكاتب ، وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً أي : ولا ينقص من الحق الذي عليه شيئا فى الإملاء أو فى الكتابة.(1/313)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 314
فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً : ناقص العقل مبذرا ، أَوْ ضَعِيفاً شيخا مخبلا ، أو صبيا صغيرا ، أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ ، لخرس أو جهل باللغة ، فَلْيُمْلِلْ عنه وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ، من وصىّ أو وكيل ، وَاسْتَشْهِدُوا على معاملتكم شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ المسلمين ، فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ ، بأن تعذر إحضارهما ، فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ فأكثر ، تقوم مقام رجلين مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ لعلمكم بعدالتهم ، وإنما شرط تعدد النساء لأجل أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى أي : إن ضلت إحداهما الشهادة ، ونسيتها ، ذكرتها الأخرى لأنها ناقصة عقل ودين.
ثم حذّر الشهود من الامتناع عن تحمل الشهادة أو أدائها ، فقال :
وَلا يَأْبَ ...
قلت : السّأم هو : الملل ، و(لا يضارّ) يحتمل أن يكون مبنيا للفاعل ، وأصله : يضارر بالكسر ، أو للمفعول ، فيكون الأصح بالفتح.
يقول الحق جل جلاله : ولا يمتنع الشُّهَداءِ من تحمل الشهادة إذا دعوا إليها ، حيث تعيّنت عليهم ، وسموا شهداء باعتبار المآل ، وإنما تتعين إذا لم يوجد غيرهم. أو : من أدائها حيث لا ضرر ، وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ أي : ولا تملوا من كتابة الحق إذا تكرر صَغِيراً كان أَوْ كَبِيراً ، فقيدوا ذلك إِلى أَجَلِهِ ، ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أي : ذلك الكتاب والتقييد للحقوق ، أكثر قسطا عند اللّه لأنه أدفع للنزاع وأحفظ للحقوق ، وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ أي : أثبت لها وأعون على أدائها ، وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا أي : وأقرب لعدم الريب والشك فى جنس الدين وقدره وأجله ، لأنه إذا كتب جنسه وقدره وأجله لم يبق لأحد شك فى ذلك ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً لا أجل فيها ، تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ أي : تتعاملون فيها نقدا ، فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها لقلة النزاع فيها ، وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ مطلقا بدين أو نقد لأنه أحوط ، خوفا من الإنكار ، والأوامر فى هذه الآية للاستحباب عند الأكثر.(1/314)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 315
وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ بالتحريف والتغيير فى الكتابة والشهادة ، على البناء للفاعل ، أو : ولا يضارا بأن يعجلا عن مهم ، أو يكلفا الأداء من شقة بعيدة ، أو يمنع من أجرته ، وَإِنْ تَفْعَلُوا ذلك الضرار وما نهيتهم عنه فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ أي : خروج بكم عن حد الاستقامة ، وَاتَّقُوا اللَّهَ فى مخالفة أمره ونهيه ، وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ العلوم اللدنية وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فلا يخفى عليه من اتقى اللّه ممن عصاه. وكرر لفظ الجلالة فى الجمل الثلاث ، لاستقلالها ، فإن الأولى حثّ على التقوى والثانية وعد بتعليم العلم ، والثالثة تعظيم لشأنه ، ولأنه أدخل فى التعظيم من الكناية. قاله البيضاوي.
وأدخل الواو فى جواب الأمر ليقتضى أن تعليمه سبحانه لأهل التقوى ليس هو مسببا عن التقوى ، بل هو بمحض الفضل والكرم ، والتقوى إنما هى طريق موصل لذلك الكرم ، لا سبب فيه «جلّ حكم الأزل أن يضاف إلى العلل». واللّه تعالى أعلم .
ثم ذكر الحق تعالى حكم الرهان ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 283]
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
قلت : (فرهان) : خبر ، أو مبتدأ ، أي : فالمستوثق به رهان ، أو فعليه رهان.
يقول الحق جل جلاله : وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى جناح سَفَرٍ أي : مسافرين ، وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً يكتب شهادة البيع أو الدين ، فالمستوثق به عوضا من الإشهاد : فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ. وليس السفر شرطا فى صحة الارتهان ، لأنه عليه الصلاة والسلام «رهن درعه عند يهودى بالمدينة فى شعير» لكن لمّا كان السفر مظنّة إعواز الكتاب ، ذكره الحق تعالى حكما للغالب. والجمهور على اعتبار القبض فيه ، فإن لم يقبض حتى حصل المانع ، فلا يختص به فى دينه ، فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً واستغنى بأمانته عن الارتهان ، لوثوقه بأمانته فداينه بلا رهن ، فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ أي : دينه ، وسماه أمانة لائتمانه عليه بلا ارتهان ولا إشهاد ، وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ فى أداء دينه وعدم إنكاره.
وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ أيها الشهود ، أو أهل الدين ، أي : شهادتهم على أنفسهم ، وَمَنْ يَكْتُمْها منكم بأن يمتنع من أداء ما تحمل من الشهادة ، أو من أداء ما عليه من الدين ، فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ حيث كتم ما علمه به ، لأن الكتمان من عمل القلوب فتعلق الإثم به ، ونظيره : «العين زانية وزناها النظر» ، أو أسنده إلى القلب ، مبالغة لأنه رئيس الأعضاء ، فإذا أثم قلبه فقد أثم كله ، وكأنه قد تمكن الإثم منه فأخذ أشرف أجزائه ، وفاق سائر ذنوبه ، ثم هدد(1/315)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 316
الكاتمين فقال : وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ لا يخفى عليه ما تبدون وما تكتمون ، روى عنه صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال : «من كتم شهادة إذا دعى - كان كمن شهد بالزّور».
الإشارة : كما أمر اللّه تعالى بتقييد الديون الدنيوية ، والاعتناء بشأنها ، أمر بتقييد العلوم اللدنية والواردات القدسية والاغتباط بأمرها ، بل هى أولى لدوام ثمراتها وخلود نتائجها ، فإن الحكمة ترد على القلب من عالم القدس عظيمة كالجبل ، فإن أهملتها ولم تبادر إلى تقييدها ، رجعت كالجمل ، فإن أخرتها رجعت كالطير ، ثم كالبيضة ، ثم تمتحى من القلب ، وفى هذا المعنى قيل :
العلم صيد والكتابة قيده قيّد صيودك بالحبال الموثقه
ومن الجهالة أن تصيد حمامة وتتركها بين الأوانس مطلقه
فإن لم يحسن الكتابة ، فليملله على من يحسنها ، ولا يبخس منه شيئا ، بل يمليه على ما ورد فى قلبه ، فإن كان ضعيف العبارة ، فليملل عنه من يحسنها بالعدل ، من غير زيادة ولا نقصان فى المعنى ، وليشهد عليها رجال أهل الفن وهم العارفون ، فإن لم يكونوا ، فمن حضر من الفقراء المتمكنين لئلا يكون فى تلك الحكمة شىء من الخلل لنقصان صاحبها ، أو : وليشهد على ذلك الوارد عدلين ، وهما الكتاب والسنة ، فإن كان موافقا لهما ، قبل ، وإلا ردّ.
قال الجنيد رضي اللّه عنه : إن النكتة لتقع فى قلبى فلا أقبلها إلا بشهادة عدلين : الكتاب والسنة. ه. وإن كنتم مستعجلين ، ولم تجدوا كاتبا ، فارتهنوها فى قلوب بعضكم بعضا ، حتى تقيد. ومن كتم الواردات عن شيخه أو إخوانه ، فقد أثم قلبه لأنه نوع من الخيانة فى طريق التربية. واللّه تعالى أعلم.
ثم هدّد الحق تعالى عباده ، على مخالفة ما أمرهم به ، فقال :
[سورة البقرة (2) : آية 284]
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
قلت : من قرأ (فيغفر) بالجزم ، فعلى العطف على الجواب ، ومن قرأ بالرفع فعلى الاستئناف ، أي : فهو يغفر.
يقول الحق جل جلاله : لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقا وملكا وعبيدا ، يتصرف فيهم كيف شاء يرحم من يشاء بفضله ، ويعذب من يشاء بعدله ، وَإِنْ تُبْدُوا أي : تظهروا ما فِي أَنْفُسِكُمْ من السوء والعزم عليه ، أَوْ تُخْفُوهُ فى قلوبكم ، يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ يوم القيامة فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ مغفرته ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ تعذيبه ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لا يعجزه عذاب أحد ولا مغفرته. وعبّر الحق تعالى بالمحاسبة دون المؤاخذة ، فلم يقل : يؤاخذكم به اللّه لأن المحاسبة أعم ، فتصدق بتقرير الذنوب دون المؤاخذة بها ، لقوله - عليه الصلاة والسلام : «يدنو المؤمن من ربه حتى يضع كنفه عليه ، فيقرره بذنوبه ، فيقول : هل تعرف(1/316)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 317
كذا؟ فيقول : يا رب ، أعرف ، فيوقفه على ذنبه ذنبا ، ذنبا فيقول اللّه تعالى : أنا الذي سترتها عليك فى الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم». فللّه الفضل والمنة ، وله الحمد والشكر.
الإشارة : (و إن تبدوا ما فى أنفسكم) من الخواطر الردية والطوارق الشيطانية ، أو تخفوه فى قلوبكم ، حتى يحول بينكم وبين شهود محبوبكم ، (يحاسبكم به اللّه فيغفر لمن يشاء) فيمحو ظلمته من قلبه بإلهام التوبة والمبادرة إلى اليقظة ، (و يعذب من يشاء) بتركه مع ظلمة تلك الأغيار ، وخوضه فى بحار تلك الأكدار ، فما منع القلوب من مشاهدة الأنوار إلا اشتغالها بظلمة الأغيار ، فرّغ قلبك من الأغيار تملأه بالمعارف والأسرار ، فإن أردت أن تكون عين العين ، فامح من قلبك نقطة الغين ، وهى نقطة السّوى ، وللّه در القائل :
إن تلاشى الكون عن عين كشفى شاهد السرّ غيبه فى بيانى
فاطرح الكون عن عيانك وامح نقطة الغين إن أردت ترانى
واعلم أن الخواطر أربعة : ملكى وربانى ونفسانى وشيطانى ، فالملكى والرباني لا يأمران إلا بالخير ، والنفساني والشيطاني لا يأمران إلا بالشر ، وقد يأمران بالخير إذا كان فيه دسيسة إلى الشر ، والفرق بين النفساني والشيطاني :
أن الخاطر النفساني ثابت لا يزول بتعوذ ولا غيره ، إلا بسابق العناية ، بخلاف الشيطاني : فإنه يزول بذكر اللّه ، ويرجع مع الغفلة عن اللّه. واللّه تعالى أعلم.
ولمّا نزل قوله تعالى : وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ ... الآية. شق ذلك على الصحابة - رضى اللّه عنهم - فجاء الصدّيق والفاروق وعبد الرحمن ومعاذ ، وناس من الأنصار ، فجثوا على الرّكب ، وقالوا : يا رسول اللّه ، ما نزلت علينا آية أشدّ من هذه الآية وإنا إن أخذنا بما نحدّث به أنفسنا هلكنا! فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : «هكذا نزلت». فقالوا : كلفّنا من العمل ما لا نطيق ، فقال - عليه الصلاة والسلام : «فلعلكم تقولون كما قالت بنو إسرائيل : سَمِعْنا وَعَصَيْنا ، قولوا : سمعنا وأطعنا» ، فقالوا : سمعنا وأطعنا ، وذلّت بها ألسنتهم ، فأنزل اللّه التخفيف ، وحكى ما وقع لهم من الإيمان والإذعان ، فقال :
[سورة البقرة (2) : الآيات 285 الى 286]
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)(1/317)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 318
قلت : من قرأ : (لا نفرق) بالنون ، فعلى حذف القول ، أي : قالوا : لا نفرق ، ومن قرأ بالياء فيرجع إلى الكل ، أي : لا يفرق كل واحد منهم بين أحد من رسله ، و(بين) : من الظروف النسبية ، لا تقع إلا بين شيئين أو أشياء ، تقول : جلست بين زيد وعمرو ، وبين رجلين ، أو رجال ، ولا تقول بين زيد فقط ، وإنما أضيف هنا إلى أحد لأنه فى معنى الجماعة ، أي : لا نفرق بين آحاد منهم كقوله عليه الصلاة والسلام : «ما أحلّت الغنائم لأحد ، سود الرؤوس ، غيركم». و(غفرانك) : مفعول مطلق ، أي : اغفر لنا غفرانك. أو : نطلب غفرانك ، فيكون مفعولا به.
يقول الحق جل جلاله : آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ إيمان تحقيق وشهود ، وَالْمُؤْمِنُونَ كل على قدر إيقان ، كُلٌّ واحد منهم آمَنَ بِاللَّهِ على ما يليق به من شهود وعيان ، أو دليل وبرهان ، وآمن بملائكته وأنهم عباد مكرمون لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ، وَكُتُبِهِ وأنها كلام اللّه ، مشتملة على أمر ونهى ووعد ووعيد وقصص وأخبار ، ما عرف منها كالتوراة والإنجيل والزبور والفرقان ، وجب الإيمان به بعينه ، ومالم يعرف وجب الإيمان به فى الجملة ، وَرُسُلِهِ وأنهم بشر متصفون بالكمالات ، منزهون عن النقائص ، كما يليق بحالهم ، حال كون الرسول والمؤمنون قائلين لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ أو : (لا يفرق) كل منهم بين أحد من رسله بأن يصدقوا بالبعض ، دون البعض كما فرقت اليهود والنصارى ، وَقالُوا أي المؤمنين سَمِعْنا وَأَطَعْنا أي :
سمعنا قولك وأطعنا أمرك ، نطلب غُفْرانَكَ يا ربنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ بالبعث والنشور ، وهذا إقرار منهم بالبعث الذي هو من تمام أركان الإيمان.
فلمّا تحقق إيمانهم ، وتيقن إذعانهم ، خفّف اللّه عنهم بقوله : لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي : إلا ما فى طاقتها وتسعه قدرتها. وهذا يدل على عدم وقوع التكليف بالمحال ولا يدل على امتناعه. أما المحال العادي «1» فجائز التكليف به ، وأما المحال العقلي «2» فيمتنع ، إذ لا يتصور وقوعه ، وإذا كلف اللّه عباده بما يطيقونه ، فكل نفس لَها ما كَسَبَتْ من الخير فتوفى أجره على التمام ، وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ من الشر ، فترى جزاءه ، إلا أن يعفو ذو الجلال والإكرام.
وعبر فى جانب الخير بالكسب ، وفى جانب الشر بالاكتساب ، تعليما للأدب فى نسبة الخير إلى اللّه ، والشر إلى العبد. فتأمله.
ثم قالوا فى تمام دعائهم : رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا ، أي : لا تؤاخذنا بما أدى بنا إلى نسيان أو خطأ من تفريط أو قلة مبالاة ، وفى الحديث : «إنّ اللّه رفع عن أمتى الخطأ والنّسيان وما حدثت به نفسها».
___________
(1) المحال العادي : كرفع إنسان جبلا.
(2) المحال العقلي : كالجمع بين الضدين.(1/318)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 319
ويجوز أن يراد نفس الخطأ والنسيان إذ لا تمتنع المؤاخذة بهما عقلا ، فإن الذنوب كالسموم ، فكما أن تناول السم يؤدى إلى الهلاك ، وإن كان خطأ - فتعاطى الذنوب لا يبعد أن يفضى إلى العقاب ، وإن لم يكن عزيمة ، لكنه تعالى وعد التجاوز عنه رحمة وفضلا. ويجوز أن يدعو به الإنسان ، استدامة واعتدادا بالنعمة فيه. ويؤيد ذلك مفهوم قوله - عليه الصلاة والسلام - : «رفع عن أمّتى الخطأ والنّسيان» ، أي : فإن غير هذه الأمة كانوا يؤاخذون به ، فدل على عدم امتناعه. قاله البيضاوي.
ثم قالوا : رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً أي : عهدا ثقيلا يأصر ظهورنا ، أي : يثقله ، فتعذبنا بتركه وعدم حمله ، كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا مثل اليهود فى تكليفهم بقتل الأنفس فى التوبة ، وقطع موضع النجاسة ، وغير ذلك من التكاليف الشاقة ، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ من التكاليف التي لا تسعها طاقتنا ، وهذا يدل على جواز التكليف بما لا يطاق عادة ، وإلا لما سئل التخلص منه ، وَاعْفُ عَنَّا أي : امح ذنوبنا ، وَاغْفِرْ لَنا أي : استر عيوبنا ، وَارْحَمْنا أي : تعطف علينا. اعْفُ عَنَّا الصغائر ، وَاغْفِرْ لَنا الكبائر ، وَارْحَمْنا عند الشدائد والحسرات ، أَنْتَ مَوْلانا أي : سيدنا وناصرنا ، فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فإن من شأن المولى أن ينصر مواليه على الأعداء.
قال البيضاوي : (روى أنه عليه الصلاة والسلام - لمّا دعا بهذه الدعوات قيل له : فعلت). وعنه عليه الصلاة والسلام : «أنزل آيتان من كنوز الجنة ، كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفى سنة ، من قرأهما بعد العشاء الأخيرة أجزأتاه عن قيام الليل». وعنه عليه الصلاة والسلام : «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة فى ليلة كفتاه». وهو يردّ قول من استكره أن يقال سورة البقرة ، وقال : ينبغى أن يقال السورة التي يذكر فيها البقرة ، كما قال - عليه الصلاة والسلام - : «السورة التي يذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها فإنّ تعلّمها بركة ، وتركها حسرة ، ولن يستطيعها البطلة. قيل : وما البطلة؟ قال : السحرة» «1».
الإشارة : يفهم من سر الآية أن من شق عليه أمر من الأمور ، أو عسرت عليه حاجة ، أو نزلت به شدة أو بلية ، فليرجع إلى اللّه ، ولينطرح بين يدى مولاه ، وليعتقد أن الأمور كلها بيده فإن اللّه تعالى لا يخليه من معونته ورفده ، فيخفف عنه ما نزل به ، أو يقويه على حمله ، فإن الصحابة - رضي اللّه عنهم - لما شق عليهم المحاسبة على الخواطر سلّموا وأذعنوا لأمر مولاهم ، فأنزل عليهم التخفيف ، وأسقط عنهم فى ذلك التكليف ، وكل من رجع فى أموره كلها إلى اللّه قضيت حوائجه كلها باللّه. «من علامات النّجح فى النهايات الرجوع إلى اللّه فى البدايات».
___________
(1) قال الشهاب الخفاجي فى حاشيته على البيضاوي ، موفقا بن القائلين بكراهة أن يقال : سورة البقرة ، وقول الجمهور بجوازه : إنما المنع من ذلك كان فى صدر الإسلام ، لما استهزأ سفهاء المشركين بسورة العنكبوت ونحوها ، فمنع ذلك دفعا للملحدين. ثم لما استقر الدين ، وقطع اللّه دابر القوم الظالمين ، شاع ذلك وساغ.(1/319)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 320
وقوله تعالى : رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ ، قيل : هو الحب للّه ، فلا يسأل العبد من مولاه من حبه إلا ما يطيقه ، وتأمل قضية الرجل الذي سأل سيدنا موسى عليه السّلام أن يرزقه اللّه حبه ، فلما سأل ربه موسى عليه السّلام هام ذلك الرجل ، وشق ثيابه ، وتمزقت أوصاله حتى مات. فناجى موسى رضى اللّه عنه ربه فى شأنه ، فقال :
يا موسى ، ألف رجل كلهم سألونى ما سأل ذلك الرجل ، فقسمت جزءا من محبتى بينهم ، فنابه ذلك الجزء. أو كما قال سبحانه.
وقال بعض الصالحين : حضرت مجلس ذى النون ، فى فسطاط مصر ، فحزرت «1» فى مجلسه سبعين ألفا ، فتلكم ذلك اليوم فى محبته تعالى فمات أحد عشر رجلا فى المجلس ، فصاح رجل من المريدين فقال : يا أبا الفيض ، ذكرت محبة اللّه تعالى فاذكر محبة المخلوقين ، فتأوه ذو النون تأوها شديدا ، ومد يده إلى قميصه ، وشقه اثنتين ، وقال : آه! غلقت رهونهم ، واستعبرت عيونهم ، وحالفوا السّهاد ، وفارقوا الرّقاد ، فليلهم طويل ، ونومهم قليل ، أحزانهم لا تنفذ. وهموهم لا تفقد ، أمورهم عسيرة ، ودموعهم غزيرة ، باكية عيونهم ، قريحة جفونهم ، عاداهم الزمان والأهل والجيران.
قلت : هذه حالة العباد والزهاد ، أولى الجد والاجتهاد ، غلب عليهم الخوف المزعج ، أو الشوق المقلق ، وأما العارفون الواصلون فقد زال عنهم هذا التعب ، وأفضوا إلى الراحة بعد النصب ، قد وصلوا إلى مشاهدة الحبيب ، ومناجاة القريب ، فعبادتهم قلبية ، وأعمالهم باطنية ، بين فكرة ونظرة ، مع العكوف فى الحضرة ، قد سكن شوقهم وزال قلقهم ، قد شربوا ورووا ، وسكروا وصحوا ، فلا تحركهم الأحوال ، ولا تهيجهم الأقوال ، بل هم كالجبال الرواسي ، نفعنا اللّه بذكرهم ، وجعلنا من حزبهم. آمين.
قوله تعالى : (و اعف عنا) ، قال الورتجبي : أي : (و اعف عنا) قلة المعرفة بك ، (و اغفر لنا) التقصير فى عبادتك ، (و ارحمنا) بمواصلتك ومشاهدتك. ه. وباللّه التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وسلام على المرسلين ، والحمد للّه رب العالمين.
___________
(1) حزر الشيء حزرا : قدره بالتخمين فهو حازر.(1/320)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 321
سورة آل عمران
مدنية. وآياتها : مائتان ، وقيل : مائة وسبع وثمانون. وكلماتها : ثلاثة آلاف وأربعمائة وثمانون كلمة ، ومناسبتها لما قبلها : قوله تعالى فى أولها : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ ... إلخ ، فكأنه تتميم لقوله ، فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ، وتفسير له.
ومضمنها : توجيه العتاب لثلاث طوائف : للنصارى لغلوهم فى عيسى عليه السّلام ، ولامتناعهم من الدخول فى الإسلام ، وبسببهم نزلت السورة ، أعنى نصارى نجران ، ولليهود لتفريطهم فى اتباع النبي - عليه الصلاة والسلام - وللمسلمين لما وقع لهم من الفشل يوم أحد ، ولذلك افتتح السورة بذكر الكتب الثلاثة ، إذ لو قاموا بحقوقها ما توجه لهم عتاب ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)
قلت : فواتح السور كلها موقوفة خالية عن الإعراب لفقدان موجبه ومقتضيه ، فيوقف عليها بالسكون ، كقولهم :
واحد ، اثنان. وإنما فتح الميم هنا فى القراءة المشهورة لإلقاء حركة الهمزة عليها. انظر البيضاوي. قال ابن عباس رضي اللّه عنه : (الألف آلاؤه ، واللام لطفه ، والميم ملكه).
قلت : ولعلّ كل حرف يشير إلى فرقة ممن توجّه العتاب إليهم ، فالآلاء لمن أسلم من النصارى ، واللطف لمن أسلم من اليهود ، والملك لمن أسلم من الصحابة - رضوان اللّه عليهم - ، فقد ملكهم اللّه مشارق الأرض ومغاربها. واللّه تعالى أعلم.
يقول الحق جل جلاله : أيها الملك المعظّم ، والرسول المفخم ، بلّغ قومك أن اللّه واحد فى ملكه ، ليس معه إله ، ولا يحب أن يعبد معه سواه إذ لا يستحق أن يعبد إلا الحي القيوم ، الذي تعجز عن إدراكه العقول ومدارك الفهوم ، قائم بأمر عباده ، متصرف فيهم ، على وفق مراده ، فأعذر إليهم على ألسنة المرسلين ، وأنزل عليهم الكتب بيانا للمسترشدين ، فنزّل عَلَيْكَ الْكِتابَ منجّما فى عشرين سنة ، متلبسا بِالْحَقِّ ، حتى لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ، أو متلبسا بالحجج التي تدفع كل باطل ، أو بالعدل حتى ينتفى به جور كل مائل ، مُصَدِّقاً لما تقدم قبله من الكتب الإلهية إذ هو موافق لما فيها من القصص والأخبار ، فكان شاهدا عليها بالصحة والإبرار.(1/321)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 322 وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ
[سورة آل عمران (3) : آية 4]
مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4)
من قبله هاديا لمن كلف باتباعها من الأنام ، أو للجميع ، إذا كان شرع من قبلنا شرعا لنا - معشر أهل الإسلام - ، ثم ختم الوحى بإنزال الْفُرْقانَ ، وكلف بالإيمان به الإنس والجان ، فرّق به بين الحق والباطل ، واندفع به ظلمة كل كافر وجاهل وقدّم ذكره على الكتب لعظم شرفه ، وختم به آخرا لتأخر نزوله.
واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : لمّا أراد الحق جل جلاله أن يشير إلى وحدة الذات وظهور أنوار الصفات ، قدّم قبل ذلك رموزا وإشارات ، لا يفهمها إلا من غاص فى قاموس بحر الذات ، وغرق فى تيار الصفات ، فيستخرج بفكرته من يواقيت العلوم وغوامض الفهوم ، ما تحار فيه الأذهان ، وتكلّ عنه عبارة اللسان ، فحينئذ يفهم دقائق الرموز وأسرار الإشارات ، ويطلع على أسرار الذات وأنوار الصفات ، ويفهم أسرار الكتب السماوية ، وما احتوت عليه من العلوم اللدنية ، والمواهب الربانية ، ويشرق فى قلبه أنوار الفرقان ، حتى يرتقى إلى تحقيق أهل الشهود والعيان. جعلنا اللّه منهم بمنّه وكرمه.
ثم هدد من كفر بالفرقان ، بعد وضوح سواطع البرهان ، فقال :
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ...
قلت : الانتقام والنقمة : عقوبة المجرم. وفعله : نقم بكسر القاف وفتحها.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ المنزلة على نبيه أو على سائر أنبيائه ، أو الآيات الدالة على وحدانيته ، لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ يوم يظهر نفوذ الوعد والوعيد ، فينتقم اللّه فيه من المجرمين ، ويتعطف على عباده المؤمنين ، فإن اللَّهُ عَزِيزٌ لا يغلبه غالب ، ولا يفوته هارب ، ذُو انْتِقامٍ كبير ولطف كثير. لطف اللّه بنا وبجميع المسلمين. آمين.
الإشارة : ظهور أولياء اللّه لطف من آيات اللّه ، فمن كفر بهم حرم بركتهم ، وبقي فى عذاب الحجاب وسوء الحساب ، تظهر عليه النقمة والمحنة ، حين يرفع اللّه المقربين فى أعلى عليين ، ويكون الغافلون مع عوام المسلمين ، (ذلك يوم التغابن). واللّه تعالى أعلم.
ولمّا وصف الحق جلّ جلاله نفسه بالوحدانية والحياة والقيومية المقتضية للغنى المطلق ، وصف نفسه أيضا بالعلم المحيط والقدرة النافذة ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 5 الى 6]
إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)(1/322)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 323
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ من أمر خلقه ، إيمانا أو كفرانا ، طاعة أو عصيانا ، أحاط علمه بما فى السموات العلى وما فى الأرضين السفلى ، كليا كان أو جزئيا ، حسيا أو معنويا ، يعلم عدد الحصى والرمال ، ومكاييل المياه ومثاقيل الجبال ، ويعلم حوادث الضمائر ، وهواجس الخواطر ، بعلم قديم أزلى ، وله قدرة نافذة ، وحكمة بالغة ، فبقدرته صوّر النّطف فى الأرحام كيف شاء سبحانه من نقص أو تمام ، وأتقنها بحكمته ، وأبرزها إلى ما يسّر لها من رزقه ، سبحانه من مدبر عليم ، عزيز حكيم ، لا يعجزه شىء ، ولا يخرج عن دائرة علمه شىء ، لا موجود سواه ، ولا نعبد إلا إياه ، وباللّه التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
الإشارة : من تحقق أن اللّه واحد فى ملكه ، لا شريك له فى ذاته ولا فى صفاته ولا أفعاله ، وأنه أحاط به علما وسمعا وبصرا ، وأن أمره بين الكاف والنون ، (إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) - كيف يشكو ما نزل به منه إلى أحد سواه؟ أم كيف يرفع حوائجه إلى غير مولاه؟ أم كيف يعول هما ، وسيده من خيره لا ينساه؟ من دبرك فى ظلمة الأحشاء ، وصوّرك فى الأرحام كيف يشاء ، وآتاك كل ما تسأل وتشاء ، كيف ينساك من بره وإحسانه؟ أم كيف يخرجك عن دائرة لطفه وامتنانه؟ وفى ذلك يقول لسان الحقيقة :
تذكّر جميلى فيك إذ كنت نطفة ولا تنس تصويرى لشخصك فى الحشا
وكن واثقا بي فى أمورك كلّها سأكفيك منها ما يخاف ويختشى
وسلّم لى الأمر واعلم بأننى أصرّف أحكامى وأفعل ما أشا
ثم وصف كتابه الفرقان بأنه مشتمل على ما هو محكم واضح البيان ، وعلى ما هو متشابه لا يعلمه إلا اللّه ، والراسخون من أهل العرفان ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 7 الى 9]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9)(1/323)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 324
قلت : (منه) : خبر مقدم ، و(آيات) : مبتدأ ، فيوقف على (الكتاب) ، وقيل : (منه) : نعت لكتاب ، وهو بعيد.
قال ابن السبكى : المحكم : المتضح المعنى ، والمتشابه : ما استأثر اللّه بعلمه ، وقد يطلع عليه بعض أصفيائه.
و(هن أم الكتاب) : جملة ، وحق الخبر المطابقة فيقول : أمهات ، وإنما أفرده على تأويل كل واحدة ، أو على أن الكل بمنزلة آية واحدة. والزيغ : الميل عن الحق. و(الراسخون فى العلم) : معطوف على (اللّه) ، أو مبتدأ إن فسر المتشابه بما استأثر اللّه بعلمه ، كمدة بقاء الدنيا ووقت قيام الساعة ، أو بما دل القاطع على أن ظاهره غير مراد. قاله البيضاوي. و(إذ هديتنا) : ظرف مجرور بالإضافة مسبوك بالمصدر ، أي : بعد هدايتك إيانا.
يقول الحق جل جلاله : إن الذي انفرد بالوحدانية والقيومية ، ولا يخفى عليه شىء فى العالم العلوي والسفلى هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ المبين ، فمنه ما هو آياتٌ مُحْكَماتٌ واضحات المعنى ، لا اشتباه فيها ولا إجمال ، هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أي : أصله ، يرد إليها غيرها ، وَمنه آيات أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ أي :
محتملات ، لا يتضح مقصودها لإجمال أو مخالفة ظاهر إلا بالفحص وجودة الفكر ، ليظهر فضل العلماء النقاد ، ويزداد حرصهم على الاجتهاد فى تدبرها وتحصيل العلوم المتوقف عليها استنباط المراد بها ، فينال بها ، وبإتعاب القرائح فى استخراج معانيها ، والتوفيق بينها وبين المحكمات ، أعلى الدرجات وأرفع المقامات.
قال فى نوادر الأصول : لمّا تكلم على المتشابه قسّمه على قسمين منه ما طوى علمه إلّا على الخواص كعلم فواتح السور ، ومنه ما لم يصل إليه أحد من الرسل فمن دونهم ، وهو سر القدر لا يستقيم لهم مع العبودية ، ولو كشف لفسدت العبودية ، فطواه عن الرسل والملائكة لأنهم فى العبودية ، فإذا زالت العبودية احتملوها أي : أسرار القدر. ه. ولمثل هذا يشير قول سهل : للألوهية سر - لو انكشف لبطلت النبوة ، وللنبوة سر - لو انكشف لبطل العلم ، وللعلم سر لو انكشف لبطلت الأحكام. ه.
قلت : فتحصّل أن الكتاب العزيز مشتمل على المحكم والمتشابه. وأما قوله تعالى : كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ فمعناه : أنها حفظت من فساد المعنى وركاكة اللفظ ، وقوله تعالى : كِتاباً مُتَشابِهاً معناه : أنه يشبه بعضه بعضا فى صحة المعنى وجزالة اللفظ.
ثم إن الناس فى شأن المتشابه على قسمين : فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ : أي : شك ، أو ميل عن الحق ، كالمبتدعة وأشباههم ، فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ، فيتعلقون بظاهره ، أو بتأويل باطل ، ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ أي : طلبا لفتنة الناس عن دينهم : بالتشكيك والتلبيس ، ومناقضة المحكم بالمتشابه ، وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ على ما يشتهون ليوافق بدعتهم.(1/324)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 325
روى عن عائشة - رضي اللّه عنها - : أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم - قرأ هذه الآية فقال : «إذا رأيتم الذين يسألون عن المتشابه منه ، ويجادلون فيه ، فهم الذين عنا اللّه تعالى ، فاحذروهم ، ولا تجالسوهم».
(و ما يعلم تأويله) على الحقيقة (إلا اللّه) تعالى ، وقد يطلع عليه بعض خواص أوليائه ، وهم (الراسخون) أي : الثابتون فى العلم ، وهم العارفون باللّه أهل الفناء والبقاء ، وهم أهل التوحيد الخاص ... فقد أطلعهم تعالى على أسرار غيبه ، فلم يبق عندهم متشابه فى الكتاب ولا فى السنة ، حال كونهم (يقولون آمنا به) ، وصدقنا أنه من كلامه ، (كلّ من عند ربنا) المحكم والمتشابه ، وقد فهمنا مراده فى القسمين ، وهم أولو الألباب ، ولذلك مدحهم فقال :
(و ما يذكّر إلا أولوا الألباب) أي : القلوب الصافية من ظلمة الهوى وغبش الحس.
سئل عليه الصلاة والسلام : من الراسخون فى العلم؟ فقال : «من برّ يمينه ، وصدق لسانه ، واستقام قلبه ، وعفّ بطنه وفرجه ، فذلك الراسخ فى العلم». وقال نافع بن يزيد : الراسخون فى العلم : المتواضعون لله ، المتذللون فى طلب مرضات اللّه ، لا يتعظمون على من فوقهم ، ولا يحقرون من دونهم. ه. وقيل : الراسخ فى العلم : من وجد فيه أربعة أشياء : التقوى بينه وبين اللّه ، والتواضع بينه وبين الخلق ، والزهد بينه وبين الدنيا ، والمجاهدة بينه وبين نفسه. ه. قلت : ويجمع هذه الأوصاف العارف باللّه ، فهو الراسخ فى العلم كما تقدم.
ويقولون أيضا فى تضرعهم إلى اللّه : رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا عن نهج الحق بالميل إلى اتباع الهوى ، بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا إلى طريق الوصول إلى حضرتك ، وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً تجمع قلوبنا بك ، وتضم أرواحنا إلى مشاهدة وحدانيتك ، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ تهب للمؤمل فوق ما يؤمل. رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ الجزاء الذي لا رَيْبَ فِيهِ ، فاجمعنا مع المقربين إنك لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ ، فأنجز لنا ما وعدتنا فى ذلك اليوم. وخلف الوعد فى حقه تعالى محال. أما الوعد بالخير فلا إشكال ، وأما الوعيد بالشر ، فإن كان فى معيّن فلا يخلفه ، وإن كان فى الجملة فيخلفه بالعفو. واللّه تعالى أعلم.
وقال فى النوادر أيضا : لمّا ردّ الراسخون فى العلم علم المتشابه إلى عالمه ، حيث قالوا : آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ، خافوا شره النفوس لطلبها فإنّ العلم لذيذ ، وفتنة تلك اللذة لها عتاب ، ففزعوا إلى ربهم فقالوا : رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ، علموا أن الرحمة تطفئ تلك الفتنة. ولما كان يوم القيامة ينكشف فيه سر القدر حنوا إليه فقالوا : رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ ... الآية. سكنوا نفوسهم لمجىء ذلك اليوم الذي تبطن فيه الحكمة ، وتظهر فيه القدرة. ه. بالمعنى.
الإشارة : إذا صفت القلوب ، وسكنت فى حضرة علام الغيوب ، تنزلت عليها الواردات الإلهية والعلوم اللدنية ، والمواهب القدسية ، فمنها ما تكون محكمات المبنى ، واضحات المعنى ، ومنها ما تكون مجملة فى حال ورودها ، (1/325)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 326
وبعد الوعى يكون البيان ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ
.
وقد تكون خارجة عن مدارك العقول. فأما أهل الزيغ والانتقاد فيتبعون المتشابه من تلك الواردات ، ابتغاء فتنة العامة ، وصرفهم عن طريق الخاصة ، وابتغاء تأويله ، ليقيم عليه حجة الشريعة ، (و ما يعلم تأويله إلا اللّه) ، أو من تحقق فناؤه فى اللّه ، وهم الراسخون فى معرفة اللّه ، يقولون : (آمنا به كل من عند ربنا) إذ القلوب المطهرة من الهوى لا تنطق عن الهوى ، وهم أرباب القلوب يقولون : (ربنا لا تزغ قلوبنا) عن حضرة قدسك (بعد إذ هديتنا) إلى الوصول إليها ، (و هب لنا من لدنك رحمة) تعصمنا من النظر إلى سواك ، (إنك أنت الوهاب) ربنا إنك جامع الناس. وهم السائرون إليك ليوم لا ريب فى الوصول إليه ، وهو يوم اللقاء ، (إنك لا تخلف الميعاد) فاجمع بيننا وبينك ، وحل بيننا وبين من يقطعنا عنك (إنك على كل شىء قدير).
ثم هدد أهل الزيغ والفساد ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 10 الى 11]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11)
قلت : (الوقود) بالفتح : الحطب ، وبالضم : المصدر ، (كذأب آل فرعون) خبر ، أي : دأبهم كدأب آل فرعون.
والدأب : مصدر دأب ، إذا دام ، ثم نقل إلى الشأن والعادة ، و(كذبوا) : حال بإضمار «قد» ، أو مستأنف ، تفسير حالهم ، أو خبر إن ابتدأت بالذين من قبلهم.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بما أنزلته ، على نبينا محمد - عليه الصلاة السلام - ، إذا عاينوا العذاب لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ ، أي : بدلا من رحمته أو طاعته ، أو بدلا من عذابه ، شَيْئاً ، وأولئك هم حطب جهنم ، فشأنهم كشأن آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، قد كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ أي : أهلكهم ، وشدد العقوبة عليهم ، وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن أعرض عنه وركن إلى غيره.
الإشارة : كل من جحد أهل الخصوصية ، وفاته حظه من مشاهدة عظمة الربوبية ، حتى حصل له الطرد والبعاد ، وفاته مرافقة أهل المحبة والوداد ، لن تغنى عنه - بدلا مما فاته - أموال ولا أولاد ، واتصلت به الأحزان والأنكاد كما قال الشاعر :
من فاته منك وصل حظّه الندم ومن تكن همّه تسمو به الهمم(1/326)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 327
وقال آخر :
من فاته طلب الوصول ونيله منه ، فقل : ما الذي هو يطلب!
حسب المحبّ فناؤه عما سوى محبوبه إن حاضر ومغيّب
وقال آخر :
لكلّ شىء إذا فارقته عوض وليس لله إن فارقت من عوض
وفى الحكم : «ماذا وجد من فقدك؟ وما الذي فقد من وجدك؟ لقد خاب من رضى دونك بدلا ، ولقد خسر من بغى عنك متحولا». فكل من وقف مع شىء من السّوى ، وفاته التوجه إلى معرفة المولى ، فهو فى نار القطيعة والهوى ، مع النفوس الفرعونية ، وأهل الهمم الدنية. نسأل اللّه تعالى العافية.
ثم بدأ بعتاب اليهود ، بعد أن قرر شأن كتابه العزيز وما اشتمل عليه من المحكم والمتشابه ، توطئة للكلام معهم ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 12 الى 13]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13)
قلت : لمّا رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من غزوة بدر غالبا منصورا بالغنائم والأسارى ، جمع اليهود فى سوق بنى قينقاع ، وقال لهم : يا معشر اليهود ، اتقوا اللّه وأسلموا ، فإنكم تعلمون أنى رسول اللّه حقا ، واحذروا أن ينزل اللّه بكم من نقمته ما أنزل على قريش يوم بدر ، فقالوا : يا محمد ، لا يغرّنّك لا أنك لقيت أغمارا لا علم لهم بالحرب ، لئن قاتلتنا لتعلمنّ أنّا نحن الناس. فأنزل اللّه فيهم هذه الآية.
يقول الحق جل جلاله : قُلْ يا محمد لِلَّذِينَ كَفَرُوا من بنى إسرائيل ، أو مطلقا : سَتُغْلَبُونَ إن قاتلتم المسلمين ، وَتُحْشَرُونَ بعد الموت والهزيمة إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ ما مهدتم لأنفسكم من العذاب ، وقد صدق وعده بقتل قريظة ، وإجلاء بنى النضير ، وفتح خيبر ، وضرب الجزية على من عداهم. فقد غلبوا أينما ثقفوا ، وحشروا إلى جهنم ، إلا من أسلم منهم.
ثم ندبهم للاعتبار بما وقع من النصر للمسلمين يوم بدر فقال لهم : قَدْ كانَ لَكُمْ يا معشر اليهود ، آيَةٌ أي :
عبرة ظاهرة ، ودلالة على صدق ما أقول لكم : إنكم ستغلبون ، فِي فِئَتَيْنِ أي : جماعتين الْتَقَتا يوم بدر ، وهم(1/327)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 328
المسلمون ، وكانوا ثلاثمائة وأربعة عشر ، والمشركون كانوا زهاء ألف ، فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وهم المؤمنون ، وَأُخْرى كافِرَةٌ ، وهم المشركون ، يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ أي : ترون ، يا معشر اليهود ، الكفار مثلى عدد المسلمين رأى تحقيق ، ومع ذلك أيدهم اللّه بالنصر والمدد حتى نصرهم على عدوهم ، وكذلك يفعل بهم معكم.
والرؤية ، على هذا ، علمية. ومن قرأ (بالياء) يكون الضمير راجعا للكفار ، أي : يرى الكفار المسلمين مثليهم ، وذلك بعد أن قللهم اللّه فى أعينهم حتى اجترءوا عليهم ، وتوجهوا إليهم ، فلما لاقوهم كثروا فى أعينهم حتى غلبوا ، مددا من اللّه للمؤمنين.
أو : يرى المؤمنون المشركين مثلى المؤمنين ، وكانوا ثلاثة أمثالهم ، ليثبتوا لهم ، ويتيقنوا بالنصر الذي وعدهم اللّه بقوله : إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ... الآية. وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ أي : يقوى بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ نصره ، كما أيد أهل بدر ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ المفتوحة. وذلك حين نصر اللّه قوما لا عدد لهم ولا عدة ، على قوم لهم عدد وعدة ، فلم تغن عنهم من اللّه شيئا.
الإشارة : إذا توجه القلب إلى مولاه تعرض له جندان ، أحدهما : جند الأنوار ، وهو جند القلب ، والثاني : جند الأغيار ، وهو جند النفس ، فيلتحم بينهما القتال ، فجند الأنوار يريد أن يرتقى بالروح إلى وطنها وهو حضرة الأسرار ، وجند الأغيار يريد أن يهبط بالنفس إلى أرض الحظوظ والشهوات ، فيحبسها فى سجن الأكوان ، فإذا أراد اللّه تعالى سعادة عبد ، قوى له جند الأنوار ، وضعّف عنه جند الأغيار ، فينهزم عنه جند الأغيار ، ويستولى على قلبه جند الأنوار ، فلا تزال الأنوار تتوارد عليه حتى تشرق عليه أنوار المواجهة ، فيدخل حضرة الأسرار ، وهى حضرة الشهود ، ويتحصن فى جوار الملك الودود ، وتناديه ألسنة الهواتف : أيها العارف ، قل للذين كفروا ، وهم جند الأغيار : ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد. وإذا أراد اللّه خذلان عبده ، بعدله ، قطع عنه مدد الأنوار ، وقوى لديه جند الأغيار ، فتستولى ظلمة النفس على نور القلب ، فتحبسه فى سجن الأكوان ، وتسجنه فى ظلمة هيكل الإنسان ، (و اللّه يويد بنصره من يشاء). ففى التقاء جندى الأنوار والأغيار عبرة لأولى الأبصار.
ثم بيّن الحق تعالى مدد جند الأغيار ، والذي منع الأبصار من الاعتبار ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : آية 14]
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)(1/328)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 329
قلت : (زين) : بحذف الفاعل ، وهو اللّه ، حقيقة إذ لا فاعل سواه ، أو الشيطان ، شريعة إذ هو منديل لمسح أوساخ الأقذار. والقنطار : المال الكثير ، وقيل : مائة ألف دينار ، وقيل : ملء مسك الثور. وروى عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : «القنطار : ألف دينار» ، وفى رواية : «ألفا دينار» ، وفى عرفنا اليوم : ألف مثقال.
والمقنطرة : المنضدة بعضها فوق بعض ، وسمى الذهب ذهبا لذهابه وفنائه ، أو لذهابه بالقلوب عن حضرة الغيوب ، وسميت الفضة فضة لأنها تنفض أي : تنفرق ، أو تفرق القلوب لمن اشتغل بها. والمسوّمة : المعلمة أو الراعية أو المطهمة الحسان.
يقول الحق جل جلاله : زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ والركون إلى المألوفات ، حتى صرفهم ذلك عن النظر والاعتبار ، أو الشهود والاستبصار ، وذلك لمن وقف مع متعتها ، وغرته شهوة لذتها ، وأما من ذكرته نعيم الجنان ، وأعانته على طاعة الملك الديان ، فلم يقف مع متعتها ، ولا التفت إلى عاجل شهوتها ، بل نزل إليها بالإذن والتمكين ، والرسوخ فى اليقين ، فلا يشمله تحذير الآية لقوله - عليه الصلاة والسلام - : «حبّب إلىّ من دنياكم ثلاث ...» الحديث.
وقال بعض الأولياء : [كل شهوة تحجب القلب عن اللّه ، إلا شهوة الجماع ] يعنى الحلال ، وقال الورتجبي :
ابتلاهم حتى يظهر الصادق بترك هذه الشهوات ، من الكاذب بالشروع فى طلبها ، قيل : من اشتغل بهذه الأشياء قطعته عن طريق الحق ، ومن استصغرها وأعرض عنها ، عوض عليها السلامة منها ، وفتح له الطريق إلى الحقائق. ه.
ثم بدأ برأس الشهوات فقال : مِنَ النِّساءِ وذلك لمن شغف بهن فصرف عن ذكر اللّه ، أو تناولهن على وجه الحرام. وفى الخبر عنه - عليه الصلاة والسلام - : «ما تركت فى الناس بعدي فتنة أضرّ على الرّجال من النّساء».
وفى خبر آخر : «النظر إلى محاسن المرأة من سهام إبليس». ومن ثمّ جعلن فى القرآن عين الشهوات ، قال تعالى :
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ.
وقال بعض العارفين : ما أي الشيطان من إنسان قط إلا أتاه من قبل النساء. وقال على رضى اللّه عنه : أيها الناس ، لا تطيعوا للنساء أمرا ، ولا تدعوهنّ يدبرن أمر عيش ، فإنهن إن تركن وما يردن أفسدن الملك ، وعصين المالك ، وجدناهن لا دين لهن فى خلواتهن ، ولا ورع لهن عند شهواتهن ، اللذة بهن يسيرة ، والحيرة بهن كثيرة ، فأما صوالحهن ففاجرات ، وأما طوالحهن فعاهرات - أي : زانيات - ، وأما المعصومات فهن المعدومات ، يتظلمن وهن(1/329)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 330
الظالمات ، ويتمنعن وهن الراغبات ، ويحلفن وهن الكاذبات ، فاستعيذوا باللّه من شرارهن ، وكونوا على وجل من خيارهن ، والسلام. ه. «1»
وَالْبَنِينَ : قال - عليه الصلاة والسلام - : «إنهم لثمرة القلوب ، وقرّة الأعين ، وإنهم مع ذلك لمجبنة مبخلة محزنة». وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ : أي : المجموعة المنضدة ، مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ أي : المعلمة : وهى البلق ، أو غيرها ، وفى الحديث عنه صلّى اللّه عليه وسلم : «الخيل معقود فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة ، الأجر والمغنم». وعن أنس قال : (لم يكن شىء أحب إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم بعد النساء ، من الخيل). وعن أبى وهب الجشمي قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : «ارتبطوا الخيل ، وامسحوا بنواصيها ، وقلّدوها ، ولا تقلدوها الأوتار ، وعليكم بكل كميت «2» أغر محجّل ، أو أشقر أغر محجل ، أو أدهم أغر محجّل». وعن خباب رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم :
«الخيل ثلاثة : فرس للرحمن ، وفرس للإنسان ، وفرس للشيطان ، فأما فرس الرحمن فما اتخذ لله فى سبيل اللّه ، وقوتل عليه أعداء اللّه ، وأما فرس الإنسان فما استطرق عليه - أي : ركب عليه فى طريق حوائجه ، وأما فرس الشيطان فما روهن عليه ، وقومر عليه». وفى البخاري ما يشهد لهذا.
ومما زين للناس أيضا : حب الْأَنْعامِ ، وهى الإبل والبقر والغنم ، إن شغلته عن ذكر اللّه ، ومنع منها حق اللّه ، وَالْحَرْثِ أي : الزراعة والغراسة ، ذلِكَ الذي ذكرت مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا الفانية الزائلة ، وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ، أي : المرجع فى دار البقاء التي لا يفنى نعيمها ، ولا تنقطع حياتها إلى أبد الأبد.
الإشارة : كل ما يقطع القلب عن الشهود ، أو يفتّره عن السير إلى الملك المعبود ، فهو شهوة ، كائنا ما كان ، أغيارا أو أنوارا ، أو علوما أو أحوالا ، أو غير ذلك ، فالنساء الأغيار ، والبنون الأنوار ، والقناطير المقنطرة من الذهب علوم الطريقة ، والفضة علوم الشريعة ، والخيل المسومة هى الأحوال ، والأنعام الأذكار ، والحرث استعمال الفكرة.
فكل من وقف مع حلاوة شىء من هذا ، ولم يفض إلى راحة الشهود والعيان ، فهى فى حقه شهوة.
وبعد أن ذكر الحق تعالى أنواعا من الشهوات ، زهّد فيها فقال : ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ قال أبو هاشم الزاهد رضي اللّه عنه : وسم اللّه الدنيا بالوحشة ليكون أنس المريد بربه دونها ، وليقبل المطيعون بالإعراض عنها ، وأهل المعرفة باللّه من الدنيا مستوحشون ، وإلى اللّه مشتاقون. ه.
___________
(1) هذا الكلام مشكوك فى نسبته لسيدنا «على» كرم الله وجهه. ومن يستطلع تاريخ السلف الصالح يقف على أمثلة كثيرة وعديدة لنساء صالحات تفوقن على كثير من الرجال فى الصلاح.
(2) الكميت : مالونه بين السواد والحمرة.(1/330)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 331
وقد تعوذ النبي صلّى اللّه عليه وسلم من شر فتنتها ، غناها وفقرها. وأكثر القرآن مشتمل على ذمها ، وتحذير الخلق منها ، بل ما من داع يدعو إلى اللّه تعالى إلا وقد حذر منها ، ورغّب فى الآخرة ، بل هو المقصود بالذات من بيان الشرائع ، وكيف لا - وهى عدوة اللّه لقطعها طريق الوصلة إليه ، ولذلك لم ينظر إليها منذ خلقها. وعدوة لأوليائه لأنها تزينت بزينتها حتى تجرعوا مرارة الصبر فى مقاطعتها ، وعدوة لأعدائه لأنها استدرجتهم بمكرها ، واقتنصتهم بشبكتها ، فوثقوا بها ، فخذلتهم أحوج ما كانوا إليها. كفانا اللّه شرها بمنّه وكرمه.
ثم نبه الحق تعالى على ما هو المقصود الأهم لمن له عقل وافر ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 15 الى 17]
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17)
قلت : (للذين) : خبر ، و(جنات) : مبتدأ ، وهو استئناف لبيان الخيرية ، والرضوان فيه لغتان : الضم والكسر ، كالعدوان والطغيان ، و(الذين يقولون) : بدل من (الذين اتقوا) ، أو خبر عن مضمر ، أو منصوب على المدح ، أو بدل من العباد ، و(الصابرين) وما بعده : نعت الموصول.
يقول الحق جل جلاله : قُلْ يا محمد : أأخبركم بِخَيْرٍ من الذي ذكرت لكم من الشهوات الفانية واللذات الزائلة ، وهو ما أعد اللّه للمتقين عند لقاء ربهم ، وهو جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تحت قصورها الأنهار من الماء واللبن والعسل والخمر ، خالِدِينَ فِيها ، لا كنعيم الدنيا الفاني ، ولهم فيها أَزْواجٌ من الحور العين ، مطهرات من الحيض والنفاس وسائر المستقذرات ، وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ الذي هو (أكبر) النعم.
فانظر : كيف ذكر الحق - جل جلاله - أدنى النعيم وأوسطه وأعلاه؟ فأدناه : متاع الدنيا الذي زين للناس ، وأوسطه : نعيم الجنان ، وأعلاه : رضى الرحمن. وفى الحديث الصحيح عنه صلى اللّه عليه وسلم : «يقول اللّه تعالى لأهل الجنّة :
يا أهل الجنّة ، فيقول أهل الجنّة : لبّيك ربّنا وسعديك ، والخير فى يديك ، فيقول : هل رضيتم؟ فيقولون : ما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين ، فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون : يا ربنا ، وأىّ شىء أفضل من ذلك؟ قال : أحلّ عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم أبدا».(1/331)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 332
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ لا يخفى عليه شىء من أعمالهم ، فيثيب المحسن ، ويعاقب المسيء ، أو : (بصير) بأحوال المتقين.
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ. وفى ترتيب السؤال على مجرد الإيمان دليل على أنه كاف فى استحقاق المغفرة والاستعداد لها.
ثم وصف المتقين بقوله : الصَّابِرِينَ على أداء الأمر واجتناب النهى ، وفى البأساء والضراء وحين البأس ، وَالصَّادِقِينَ فى أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم ، فاستوى سرهم وعلانيتهم ، وَالْقانِتِينَ أي : المطيعين ، وَالْمُنْفِقِينَ أموالهم فى سبيل اللّه ، وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ لأن الدعاء فيها أقرب إلى الإجابة لأن العبادة حينئذ أشق ، والنفس أصفى ، والروح أجمع ، ولا سيما للمتهجدين.
قيل : إنهم كانوا يصلون إلى السحر ، ثم يستغفرون ويدعون ، وفى الحديث عنه صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال : (إن اللّه تعالى يقول : إنى لأهمّ بأهل الأرض عذابا ، فإذا نظرت إلى عمّار بيوتى ، وإلى المتهجدين ، وإلى المتحابين فىّ ، وإلى المستغفرين بالأسحار ، صرفت عنهم العذاب).
وقال سفيان : إن لله ريحا يقال لها الصيحة ، تهبّ وقت السحر ، تحمل الأذكار والاستغفار إلى الملك الجبار.
قال : وبلغنا أنه إذا كان أول الليل ، نادى مناد : ألا ليقم القانتون ، فيقومون يصلون إلى السحر ، فإذا كان وقت السحر ، ينادى مناد : أين المستغفرون بالأسحار؟ فيستغفر أولئك ، ويقوم آخرون ، ويصلون ، فيلحقون بهم ، فإذا طلع الفجر ، نادى مناد : ألا ليقم الغافلون ، فيقومون من فرشهم كالموتى إذا نشروا من قبورهم.
الإشارة : للذين اتقوا شهود السّوى عند ربهم جنات المعارف ، تجرى من تحتها أنهار العلوم ، وأصناف الحكم ، مطهرة من العلل ، منزهة من الخلل ، تهب عليهم نسيم الرضوان ، تحمل الرّوح والريحان ، مخلدون فى نعيم الشهود والعيان ، واللّه بصير بعباده المخلصين ، المنزّهين من العيوب ، المبرّئين من درن الذنوب ، الصابرين على دوام المجاهدة ، والصادقين فى طلب المشاهدة ، والقانتين لأحكام العبودية ، والمنفقين أنفسهم ومهجهم فى طلب مشاهدة أنوار الربوبية ، والمستغفرين من شهود الأغيار ، وخصوصا إذا هب نسيم الأسحار ، فإن كثيرا من العباد والزهاد شغلتهم حلاوة نسيم الأسحار عن مطالعة أسرار الجبار ، وهى أسرار التوحيد التي أشار إليها بقوله :
[سورة آل عمران (3) : آية 18]
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)(1/332)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 333
قلت : (قائما) : حال من (اللّه) ، وإنما جاز من بعض المعطوفات لعدم اللبس ، كقوله : وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً ... ، ولا يجوز : جاء زيد وعمرو راكبا لعدم القرينة ، أو من (هو) ، والعامل الجملة لأنه حال مؤكدة ، أي : تفرد قائما ، أو حقه قائما ، (بالقسط) أي : العدل ، و(إن الدين) : جملة مستأنفة مؤكدة للأولى ، أي : لا دين مرضى عند اللّه سوى الإقرار بالشهادة والدخول فيما جاء به محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، ومن قرأ بالفتح فهو بدل من (أنه) ، بدل الكل ، إن فسر الإسلام بالإيمان ، وبدل الاشتمال إن فسر بالشريعة.
يقول الحق جل جلاله : شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي : بيّن وحدانيته بنصب الدلائل الدالة عليها ، وإنزال الآيات الناطقة بها ، أو بتدبيره العجيب وصنعته المتقنة وأموره المحكمة ، وفى ذلك يقول القائل :
يا عجبا كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد؟!
وللّه فى كل تحريكة وتسكينة أبدا شاهد
وفى كلّ شىء له آية تدلّ على أنّه واحد «1»
وقيل لبعض العرب : ما الدليل على أن للعالم صانعا؟ فقال : البعرة تدل على البعير ، وآثار القدم تدل على المسير ، فهيكل علوى بهذه اللطافة ، ومركز سفلى بهذه الكثافة ، أما يدلان على الصانع الخبير؟! وَشهدت الْمَلائِكَةُ أيضا بالإقرار بالوحدانية والإخبار بها ، وَأُولُوا الْعِلْمِ وهم : الأنبياء والعلماء باللّه ، بالإيمان بها والاحتجاج عليها ، شبه ذلك فى البيان والكشف بشهادة الشاهد. وفيه دليل شرف أهل العلم وفضلهم ، حيث قرن شهادتهم بشهادته لأن العلم صفة اللّه العليا ونعمته العظمى ، والعلماء أعلام الإسلام ، والسابقون إلى دار السلام ، وسرج الأمكنة وحجج الأزمنة.
وعن جابر قال : قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : «ساعة من عالم يتّكىء على فراشه ، ينظر فى علمه ، خير من عبادة العابد سبعين عاما». وعن معاذ قال : قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : «تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية ، ومدارسته تسبيح ، والبحث فيه جهاد ، وتعليمه من لا يعلمه صدقة ، وتذكّره فى أهله قربة». ثم قال فى آخر الحديث فى فضل أهل العلم : «وترغب الملائكة فى خلّتهم ، وبأجنحتها تمسحهم ، وفى صلاتها تستغفر لهم ، وكلّ رطب ويابس يستغفر لهم. حتى حيتان البحر وهوامّه ، وسباع الأرضين وأنعامها ، والسماء ونجومها ، ألا وإن العلم حياة القلوب من العمى ، ونور الأبصار من الظلم ، وقوة الأبدان من الضعف ، يبلغ بالعبد منزل الأحرار ومجالسة الملوك ، والفكر فيه يعدل بالصيام ، ومدارسته بالقيام ، وبه يعرف الحلال والحرام ، وبه توصل الأرحام ، العلم إمام والعمل تابعه ، يلهمه السعداء ، ويحرمه الأشقياء».
___________
(1) الأبيات لأبى العتاهية ، انظر ديوانه 122. وذكرها الأصبهانى فى محاضرات الأدباء 3/ 398 منسوبة للبيد.(1/333)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 334
حال كون الحق تعالى قائِماً بِالْقِسْطِ أي : مدبّرا لأمر خلقه بالعدل ، فيما حكم وأبرم ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، كرر الشهادة للتأكيد ، ومزيد الاعتبار بأمر التوحيد ، والحكم به ، بعد إقامته الدليل. عليه وقال جعفر الصادق :
(الأولى وصف وتوحيد ، والثانية رسم وتعليم). أي : قولوا : لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، أو ليرتب عليه قوله : الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، فيعلم أنه الموصوف بهما ، وقدّم «العزيز» ليتقدم العلم بقدرته على العلم بحكمته.
[سورة آل عمران (3) : آية 19]
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19)
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ أي : إن الدين المرضى عند اللّه هو الانقياد لأمر التوحيد والإذعان لمن جاء به. وروى عن أنس رضي اللّه عنه قال : قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : «من قرأ هذه الآية عند منامه خلق اللّه تعالى سبعين ألف خلق يستغفرون اللّه له إلى يوم القيامة» «1». وهى أعظم شهادة فى كتاب اللّه ، «من قرأها إلى (الحكيم) وقال : وأنا أشهد بما شهد اللّه به ، وأستودع اللّه هذه الشهادة ، وهى لى عند اللّه وديعة ، يقول الحق تعالى : إن لعبدى هذا عندى عهدا وأنا أحقّ من وفّى بالعهد ، أدخلوا عبدى الجنة» «2».
الإشارة : صدر الآية يشير إلى الفرق ، وعجزها يشير إلى الجمع ، كما هى عادته تعالى فى كتابه العزيز ، يشرع أولا ، ويحقّق ثانيا ، فأثبت الحق - جل جلاله - شهادة الملائكة وأولى العلم مع شهادته لإثبات سر الشريعة ، ثم محاها بقوله : (لا إله إلا هو العزيز الحكيم) بحكم الحقيقة. فإثبات الرسوم شريعة ، ومحوها حقيقة ، فتوحيد أهل الرسوم والأشكال دلالة من وراء الحجاب ، وتوحيد أهل المحو والاضمحلال شهادة من داخل الحجاب ، وتوحيد أهل الرسوم دلالة وبرهان ، وتوحيد أهل المحو شهادة وعيان ، أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان.
إثبات الرسوم إسلام وإيمان ، ومحوها شهود وإحسان ، وكل توحيد لم تظهر ثمرته على الجوارح من الإذعان والانقياد لأحكام العبودية فهو مخدج «3» ، لقوله تعالى : إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ أي ، الانقياد والإذعان ، ظاهرا وباطنا ، لأحكام القهرية والتكليفية ، فمن لا انقياد له لا دين له كاملا.
ثم ذكر من سبق له الخذلان بعد سطوع الدليل والبرهان ، فقال :
وَمَا اخْتَلَفَ ...
___________
(1) ذكره ابن عراق فى تنزيه الشريعة 1/ 298 وعزاه لأبى نعيم ، من حديث أنس. وفيه مجاشع بن عمرو ، قال ابن معين : أحد الكذابين.
(2) أخرجه الطبراني فى الكبير والبيهقي فى الشعب ، قال فى العلل المتناهية 1/ 110 : هذا حديث لا يصح ، تفرد به عمر بن المختار ، وعمر يحدث بالأباطيل.
(3) الخداج : هو النقصان. وأصله : من خدجت الناقة إذا ألقت ولدها قبل أوانه ، لغير تمام الأيام ، وإن كان تام الخلق ، أو ألقته ناقص الخلق ، وإن كانت أيامه تامة ، فهى مخدح والولد مخدج.(1/334)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 335
قلت : (بغيا) : مفعول له ، علة للاختلاف.
يقول الحق جل جلاله : وَمَا اخْتَلَفَ اليهود والنصارى فى حقيقة الإسلام والتدين به ، إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ أي : من بعد ما تمكنوا من العلم بصحته ، وأن الدين عند اللّه هو الإسلام ، فجحدوه ظلما وحسدا.
أو ما اختلف أرباب الكتب المتقدمة فى دين الإسلام فأثبته قوم ، وقال قوم : إنه مخصوص بالعرب ، ونفاه آخرون مطلقا ، إلا من بعد ما ثبت لهم العلم بصحته وعموم الدعوة له. أو فى التوحيد فثلث النصارى ، وقالت اليهود :
عزيز ابن اللّه ، بعد ما صح لهم العلم بالتوحيد فغيروا. وقال الربيع : إن موسى عليه السّلام لما حضره الموت ، دعا سبعين حبرا من قومه ، فاستودعهم التوراة ، فلما مضى القرن الأول والثاني والثالث وقعت بينهم الفرقة ، وهم :
الذين أوتوا الكتاب من أبناء السبعين ، فأراقوا الدماء ووقع بينهم الشر والاختلاف.
وذلك من بعد ما جاءهم العلم ، يعنى بيان ما فى التوراة ، (بغيّا بينهم) أي : طلبا للملك والرئاسة والتحاسد ، فسلط عليهم الجبابرة ، وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ المنزلة على رسوله ، أو الدالة على وحدانيته ، فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ لا يشغله شأن عن شأن ، وفيه تهديد لأهل الاختلاف.
الإشارة : الاختلاف على الصوفية ، والإنكار عليهم ، إن كان بغيا وحسدا وخوفا على زوال رئاسة المنكر ، فهذا معرض لمقت اللّه ، فقد آذن بحرب اللّه ، وباله سوء الخاتمة ، والعياذ باللّه ، وفى ذلك يقول القائل :
هممهم تقضى بحكم الوقت منكرهم معرّض للمقت
وإن كان غيرة على الشريعة ، وسدّا لباب الذريعة ، فهذا معذور أو مأجور إن صح قصده ، وهو منخرط فى سلك الضعفاء ، قال تعالى : لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ، ولا ينكر على الفقير إلا المحرّم المجمع على تحريمه ، وليس فيه تأويل ، كالزنى بالمعينة ، واللواط ، وشبهه ، والمؤمن يلتمس المعاذر ، والمنافق يلتمس العيوب ، وباللّه التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم بيّن الحق تعالى الدواء فى أذى المنكر ، وهو الإعراض عنه ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : آية 20]
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20)
قلت : (و من اتبعن) ، عطف على فاعل (أسلمت) الضمير «1».
___________
(1) أي : التاء في أسلمت.(1/335)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 336
يقول الحق جل جلاله : فَإِنْ حَاجُّوكَ فى الدين ، وخاصموك فيه ، بعد ما أقيمت الحجج على صحته ، فَقُلْ لهم : أما أنا فقد أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ ، وانقدت بكليتى إليه ، وتمسكت بدينه القويم ، الذي قامت الحجج على حقيته ، وكذلك من تبعني من المؤمنين. وخص الوجه بالانقياد لأنه أشرف الأعضاء ومحل ظهور المحاسن ، فإذا انقاد الوجه فقد انقاد الكل.
وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود والنصارى ، وَالْأُمِّيِّينَ الذين لا كتاب لهم من المشركين :
أَأَسْلَمْتُمْ كما أسلمت ، لما وضحت لكم من الحجة؟ أم أنتم على كفركم بغيا وحسدا؟ والاستفهام معناه الأمر ، كقوله : فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي : أسلموا ، فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وأنقذوا أنفسهم من الهلاك ، وَإِنْ تَوَلَّوْا وأعرضوا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ ، ولا يضرك عنادهم ، فقد بلغت ما أمرت به. وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ لا يخفى عليه من أسلم ممن تولى.
روى أنه - عليه الصلاة والسلام - قرأ عليهم هذه الآية ، فقال لليهود : «أتشهدون أن عزيرا عبد اللّه ورسوله وكلمته؟» فقالوا : معاذ اللّه ، وقال للنصاوى : «أتشهدون أن عيسى عبد اللّه ورسوله؟» فقالوا : معاذ اللّه أن يكون عيسى عبدا. فنزل قوله تعالى : وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الآية.
الإشارة : لا يليق بالفقير ، إذا توجه إليه الإنكار أو المجادلة والاستظهار ، إلا السكوت والإقرار ، والاستسلام بكليته لأحكام الواحد القهار ، إذ لا يرى فاعلا إلا اللّه ، فلا يركن إلى شىء سواه. وفى الحكم : «إنما أجرى الأذى عليهم لئلا تكون ساكنا إليهم ، أراد أن يزعجك عن كل شىء ، حتى لا تكون ساكنا إلى شى ء». وقال بعض العارفين : لا تشتغل قط بمن يؤذيك ، واشتغل باللّه يرده عنك ، وقد غلط فى هذا خلق كثير ، اشتغلوا بمن يؤذيهم ، فطال عليهم الأذى مع الإثم ، ولو أنهم رجعوا إلى مولاهم لكفاهم أمرهم. ه. بالمعنى. وبهذا يأمر الشيخ أتباعه ، فإن انقادوا لأحكام الحق ، فقد اهتدوا إلى طريق الوصول ، وإن تولوا فإنما عليك البلاغ ، والهداية بيد السميع البصير.
ثم وبّخ اليهود بما وقع لأسلافهم من البغي والفساد ، وهم راضون بذلك ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 21 الى 22]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22)
قلت : إنما دخلت الفاء فى خبر إنّ لتضمن اسمها معنى الشرط لعموم الموصول وإبهامه ، وهو خاص بإنّ ، دون ليت ولعل لأن «إن» لا تغير معنى الابتداء ، وإنما تؤكده. وقيل : الخبر : (أولئك ..) إلخ.(1/336)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 337
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ أي : بحججه الدالة على توحيده ، وصحة نبوة رسله ، أو بكلامه ، وهم اليهود ، وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ بل بغيا وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بالعدل وترك الظلم من الأحبار ، فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ موجع ، أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي : بطلت ، فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فلا ينتفعون بها فى الدارين ، وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يمنعونهم من العذاب.
وعن أبى عبيدة بن الجراح رضي اللّه عنه قال : سألت النبي صلّى اللّه عليه وسلم أىّ النّاس أشدّ عذابا يوم القيامة؟ قال : «رجل قتل نبيا ، أو رجل أمر بالمنكر ونهى عن المعروف ، ثم قرأ النبي صلّى اللّه عليه وسلم وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ الآية ، ثم قال : يا أبا عبيدة ، قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا أوّل النّهار فى ساعة ، فقام مائة وعشرون من عبّاد بنى إسرائيل فأمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر ، فقتلوهم جميعا من آخر النّهار من ذلك اليوم ، فهم الذين ذكرهم فى كتابه ، وأنزل الآية فيهم». ه. من الثعلبي.
الإشارة : ذكر فى الآية الأولى تشجيع المريدين ، وأمرهم بالصبر والتسليم لإذاية المؤذين ، وذكر هنا وبال المؤذين الجاحدين لخصوصية المقربين ، فالأولياء والعلماء ورثة الأنبياء ، فمن آذاهم فله عذاب أليم ، فى الدنيا بغم الحجاب وسوء المنقلب ، وفى الآخرة بالبعد عن ساحة المقربين ، وبالسقوط إلى درك الأسفلين ، واللّه تعالى أعلم.
ومن مساوئ اليهود أيضا إعراضهم عن الحق إذا توجه إليهم ، كما أشار إلى ذلك الحق تعالى ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 23 الى 25]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25)
قلت : التنكير فى (نصيب) يحتمل التحقير والتعظيم ، والأول أقرب. وجملة : (و هم معرضون) حال من (فريق) لتخصيصه بالصفة.
يقول الحق جل جلاله : أَلَمْ تَرَ يا محمد ، أو من تصح منه الرؤية ، إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ وهم : اليهود ، تمسكوا بشىء من التوراة ، ولم يعملوا به كلّه ، كيف يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ القرآن لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فيما اختلفوا فيه من أمر التوحيد وصحة نبوته - عليه الصلاة والسلام ، فأعرضوا عنه ، أو المراد بكتاب اللّه : التوراة. قال ابن عباس رضي اللّه عنه : (دخل النبي صلّى اللّه عليه وسلم على جماعة من اليهود ، فدعاهم إلى اللّه تعالى ، فقال نعيم بن عمرو والحارث بن زيد : على أىّ دين أنت يا محمّد؟ قال : «على ملّة إبراهيم» قالا : إنّ إبراهيم كان(1/337)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 338
يهوديا ، فقال لهما النبي صلّى اللّه عليه وسلم : «فهلمّوا إلى التّوراة فهى بيننا وبينكم» فأبيا عليه ، فنزلت الآية). وقيل : نزلت فى الرجم ، على ما يأتى فى العقود.
ذلِكَ الإعراض بسبب اغترارهم وتسهيلهم أمر العقاب ، فقالوا : لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أربعين يوما ، قدر عبادتهم العجل ، ثم يخلفهم المسلمون ، وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ بزعمهم الفاسد وطمعهم الفارغ.
يقول الحق جل جلاله : فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ ، وهذا تهويل لشأنهم ، واستعظام لما يحيق بهم ، وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ من خير أو شر ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي : لا يبخسون من أعمالهم شيئا ، فلا ينقص من الحسنات ، ولا يزاد على السيئات. وفيه دليل على أن المؤمن لا يخلد فى النار. قال ابن عباس : (أول راية ترفع لأهل الموقف ، ذلك اليوم ، راية اليهود ، فيفضحهم اللّه تعالى على رءوس الأشهاد ، ثم يؤمر بهم إلى النار).
الإشارة : ترى كثيرا ممن ينتسب إلى العلم والدين ينطلق لسانه بدعوى الخصوصية ، وأنه منخرط فى سلك المقربين ، فإذا دعى إلى حق ، أو وقف على عيب من عيوب نفسه ، أعرض وتولى ، وغرته نفسه ، وغلبه الهوى ، فجعل يحتج لنفسه بما عنده من العلم أو الدين ، أو بمن ينتسب إليهم من الصالحين ، فكيف يكون حاله إذا أقبل على اللّه بقلب سقيم ، ورأى منازل أهل الصفا ، الذين لقوا اللّه بقلب سليم ، حين ترفع درجاتهم مع المقربين ، ويبقى هو مع عوام أهل اليمين؟ قال تعالى : وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ الآية.
ثم ذكر الحق تعالى نزع ملك أهل الكتاب ، وسلب عزهم ، وانتقاله إلى المسلمين ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 26 الى 27]
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27)
قلت : (اللهم) منادى مبنى على الضم ، حذفت منه الياء المتضمنة للفرق ، وعوضت منها الميم المؤذنة بالجمع ، لئلا يبقى بين الداعي والمدعو فرق «1» ، و(مالك) : نعت لمحل المنادى لأنه مفعول ، ومنادى ثان عند سيبويه ، لأن الميم عنده تمنع الوصفية.
يقول الحق جل جلاله : قُلِ يا محمد فى استنصارك على عدوك : اللَّهُمَّ يا مالِكَ الْمُلْكِ ملك الدنيا وملك الآخرة ، تُؤْتِي الْمُلْكَ والنصر مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ ، فهب لنا ملك الدارين ،
___________
(1) هذا توجيه إشارى. [.....](1/338)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 339
والنصر على الأعداء فى كل أين ، وأنزع الملك من يد عدونا ، وانقله إلينا وإلى من تبعنا إلى يوم الدين. قال قتادة :
(ذكر لنا أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم سأل ربه أن يجعل ملك فارس والروم فى أمته ، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية).
وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ بالإيمان والطاعة وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بالكفر والمعصية ، أو تعز من تشاء بالمعرفة ، وتذل من تشاء بالفكرة ، أو تعز من تشاء بالقناعة والورع ، وتذل من تشاء بالحرص والطمع ، أو تعز من تشاء بالتوفيق والإذعان ، وتذل من تشاء بالكسل والخذلان ، بِيَدِكَ الْخَيْرُ كله ، فأعطنا من خيرك الجزيل ، وأجرنا من الشر الوبيل ، فالأمور كلها بيدك.
قال البيضاوي : ذكر الخير وحده لأنه المقضى بالذات ، والشر مقتضى بالعرض إذ لا يوجد شر جزئى ما لم يتضمن خيرا كليا. أو لمراعاة الأدب فى الخطاب ، أو لأن الكلام وقع فيه ، إذ روى أنه عليه الصلاة والسلام - لمّا خطّ الخندق ، وقطع لكل عشرة أربعين ذراعا ، وأخذوا يحفرون ، فظهر فيه صخرة عظيمة لم تعمل فيها المعاول ، فوجّهوا سلمان إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يخبره ، فجاء عليه الصلاة والسلام ، فأخذ المعول منه ، فضرب به ضربة صدعها ، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها «1» ، لكأن مصباحا فى جوف بيت مظلم ، فكبر ، وكبّر معه المسلمون ، وقال : أضاءت لى منها قصور الحيرة ، كأنها أنياب الكلاب ، ثم ضرب الثانية ، فقال : أضاءت لى منها القصور الحمر من أرض الروم ، ثم ضرب الثالثة ، فقال : أضاءت لى منها قصور صنعاء ، وأخبرنى جبريل أنّ أمّتى ظاهرة على كلّها ، فأبشروا ، فقال المنافقون : ألا تعجبون! يمنيكم ويعدكم الباطل ، ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ، وأنّها تفتح لكم ، وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق «2» فنزلت ، أي : الآية. ونبه على أن الشر أيضا بيده بقوله : إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. ه.
ثم استدل على نفوذ قدرته بقوله : تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ أي : تدخل أحدهما فى الآخر بالتعقيب ، أو بالزيادة أو النقص ، فيولج الليل فى النهار ، إذا طال النهار حتى يكون خمس عشرة ساعة ، وفى الليل تسع ، ويولج النهار فى الليل ، إذا طال الليل كذلك ، وفيه دلالة على أن من قدر على ذلك قدر على معاقبة العز بالذل ، والملك بنزعه. وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ كالحيوانات من النّطف ، وبالعكس ، والنباتات من الحبوب ، وبالعكس ، أو المؤمن من الكافر والعالم من الجاهل ، وبالعكس ، وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ من الأقوات والعلوم والأسرار ، بِغَيْرِ حِسابٍ ، ولا تقدير ولا حصر. اللهم ارزقنا من ذلك الحظ الأوفر ، (إنك على كل شىء قدير).
___________
(1) اللابة : الحرة ، وهى الحجارة السوداء ، ولابتيها : حرتان تكتنفان المدينة.
(2) الفرق - بفتحتين - : الخوف.(1/339)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 340
روى معاذ رضي اللّه عنه أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال له : «يا معاذ ، أتحبّ أن يقضى اللّه عنك دينك؟» قال : نعم يا رسول اللّه ، قال : «قل» (اللهم مالك الملك) إلى قوله : (بغير حساب) ، رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما ، تعطى منهما ما تشاء ، وتمنع منهما ما تشاء ، اقض عنى دينى ، فلو كان عليك ملء الأرض ذهبا وفضة لأدّاه اللّه عنك».
وروى عن على رضي اللّه عنه أنه قال : الفاتحة ، وآية الكرسي ، و(شهد اللّه) ، و(قل اللهم مالك الملك ...) إلى (... بغير حساب) ، لمّا أراد اللّه أن ينزلهن ، تعلقن بالعرش وقلن : تهبطنا إلى دار الذنوب فقال اللّه عز وجل : وعزتى وجلالى لا يقرؤكن عبد ، دبر كل صلاة مكتوبة ، إلا أسكنته حظيرة القدس ، على ما كان فيه ، وإلا نظرت إليه بعيني المكنونة فى كل يوم سبعين نظرة ، وقضييت له فى كل يوم سبعين حاجة ، وأعززته من كل عدو ، نصرته عليه ...»
الحديث «1». انظر الثعلبي.
الإشارة : من ملك نفسه وهواه فقد ملكه اللّه ملك الدارين ، ومن ملكته نفسه وهواه فقد أذله اللّه فى الدارين ، ومن ملك نفسه لله فقد مكنه اللّه من التصرف فى الكون بأسره ، وكان حرا حقيقة ، وفى ذلك يقول الشاعر :
دعونى لملكهم ، فلمّا أجبتهم قالوا : دعوناك للملك لا للملك
ومن أذلّ نفسه لله فقد أعزه اللّه ، قال الشاعر :
تذلّلّ لمن تهوى لتكسب عزّة فكم عزّة قد نالها المرء بالذّلّ
إذا كان من تهوى عزيزا ولم تكن ذليلا له ، فأقر السّلام على الوصل
قال ابن المبارك : (قلت لسفيان الثوري : من الناس؟ قال : الفقهاء ، قلت : فمن الملوك؟ قال : الزهاد ، قلت : فمن الأشراف؟ قال : الأتقياء ، قلت فمن الغوغاء؟ قال : الذين يكتبون الحديث ليستأكلوا به أموال الناس ، قلت : أخبرنى ما السفلة؟ قال : الظلمة.) وقال الشبلي : (الملك هو الاستغناء بالمكون عن الكونين). وقال الوراق : (تعز من تشاء بقهر النفس ومخالفة الهوى ، وتذل من تشاء باتباع الهوى). قلت : وفى ذلك يقول البرعى رضي اللّه عنه :
لا تتبع النّفس فى هواها إنّ اتّباع الهوى هوان
وقال وهب : «خرج الغنى والعز يجولان ، فلقيا القناعة فاستقرا». وقال عيسى عليه السّلام لأصحابه : أنتم أغنى من الملوك ، قالوا : يا روح اللّه كيف ، ولسنا نملك شيئا؟ قال : أنتم ليس عندكم شىء ولا تريدونها ، وهم عندهم أشياء ولا تكفيهم ه.
___________
(1) الحديث : أخرجه ابن السنى فى عمل اليوم والليلة. عن سيدنا على مرفوعا وفى سنده الحارث بن عمير البصري. قال ابن حبان :
يروى عن الأثبات الموضوعات ، وأورد له الذهبي هذا الحديث على سبيل الإنكار.(1/340)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 341
قال الشافعي رضي اللّه عنه :
ألا يا نفس إن ترضى بقوت فأنت عزيزة أبدا غنية
دعى عنك المطامع والأمانى فكم أمنيّة جلبت منية
وقال آخر «1» :
أفادتنى القناعة كلّ عزّ وهل عزّ أعزّ من القناعة
فصيّرها لنفسك رأس مال وصيّر بعدها التّقوى بضاعة
تنل عزّا وتغنى عن لئيم وترحل للجنان بصبر ساعة
وقال عليه الصلاة والسلام : «من أصبح آمنا فى سربه ، معافى فى بدنه ، عنده قوت يومه ، فكأنّما حيزت له الدّنيا بحذافيرها».
تولج ليل القبض فى نهار البسط ، وتولج نهار البسط فى ليل القبض ، وترزق من تشاء فيهما من العلوم والأسرار ، بغير حساب ولا مقدار ، أو تولج ليل العبودية فى نهار الحرية ، وتولج نهار الحرية فى ليل العبودية ، فمن كان فى نهار الحرية تاه على الوجود ، ومن كان فى ليل العبودية عطل ذله ذل اليهود ، والعبد لا يخلو من هذين الحالين ، يتعاقبان عليه تعاقب الليل والنهار. واللّه تعالى أعلم.
ولمّا كان العز ينال بصحبة أهل العز ، والذل ينال كذلك ، حذّر الحق تعالى من صحبة أهل الذل ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 28 الى 30]
لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30)
قلت : (تقاة) : مصدر تقى ، على وزن فعل ، وله مصدران آخران : تقىّ وتقيّة - بتشديد الياء - ، وبه قرأ يعقوب ، وأصله : تقية ، فقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها. و(يوم) : ظرف ، والعامل فيه : اذكر ، أو اتقوا ، أو المصير ، أو تود ، و(ما عملت) : مبتدأ ، و(تود) : خبر ، أو معطوف على (ما عملت) الأولى ، و(تود) : حال.
___________
(1) وهو بشر بن الحارث ، المعروف بالحافى. وجاءت الأبيات فى تاريخ بغداد 7/ 76 ، وتهذيب تاريخ دمشق 3/ 243.(1/341)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 342
يقول الحق جل جلاله ، لقوم من الأنصار ، كانوا يوالون اليهود لقرابة أو صداقة تقدمت فى الجاهلية : لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ ، أي : أصدقاء ، إذ الحب إنما يكون فى اللّه والبغض فى اللّه ، أو لا تستعينوا بهم فى غزو ولا غيره ، فلا تودوهم مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ إذ هم أحق بالمودة ، ففيهم مندوحة عن موالاة الكفرة ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ الاتخاذ فَلَيْسَ مِنَ ولاية اللَّهِ فِي شَيْءٍ إذ لا تجتمع ولاية اللّه مع ولاية عدوه. قال الشاعر :
تودّ عدوّى ثمّ تزعم أنّنى صديقك ، ليس النّوك عنك بعازب
والنّوك - بضم النون - : الحمق.
فلا توالوا الكفار إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً أي : إلا أن تخافوا من جهتهم ما يجب اتقاؤه ، فلا بأس بمداراتهم ظاهرا ، والبعد منهم باطنا ، كما قال عيسى عليه السّلام : (كن وسطا وامش جانبا). وقال ابن مسعود رضي اللّه عنه : خالطوا الناس وزايلوهم ، وصافحوهم بما يشتهون ، ودينكم لا تثلموه. وقال جعفر الصادق : إنى لأسمع الرجل يشتمنى فى المسجد ، فأستتر منه بالسارية لئلا يرانى. ه. وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أي : يخوفكم عذابه على موالاة الكفار ومخالفة أمره وارتكاب نهيه ، تقول العرب : احذر فلانا : أي : ضرره لا ذاته ، وفى ذكر النفس زيادة تهديد يؤذن بعقاب يصدر منه بلا واسطة ، وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ فيحشر كل قوم مع من أحب.
قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ من موالاة أعدائه ، أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ فلا يخفى عليه ما تكن الصدور من خير أو شر. وقدّم فى سورة البقرة الإبداء ، وأخره هنا لأن المحاسبة لا ترتيب فيها بخلاف العلم ، فإن الأشياء التي تبرز من الإنسان يتقدم إضمارها فى قلبه ثم تبرز ، فقد تعلق علم اللّه تعالى بها قبل أن تبرز ، فلذلك قدّم هنا الإخفاء لتقدم وجوده فى الصدر ، وأخره فى البقرة ، لأن المحاسبة لا ترتيب فيها ، وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فلا يخفى عليه شىء ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على عقوبتكم إن لم تنتهوا ، والآية بيان لقوله : وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ لأن الذات العالية متصفة بعلم محيط بجميع المعلومات ، وبقدرة تحيط بجميع المقدورات ، فلا تجسروا على عصيانه ، فإنه ما من معصية إلا وهو مطلع عليها ، قادر على العقاب عليها يوم القيامة.
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً بين يديها تنتفع به ، وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً ، كما بين المشرق والمغرب ، ولا ينفع الندم وقد زلّت القدم. وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ، كرره للتأكيد وزيادة التحذير ، وسيأتى فى الإشارة حكمة تكريره ، وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ حيث حذرهم مما يضرهم ، وأمرهم بما يقربهم ، فكل ما يصدر منه - سبحانه - فى غاية الكمال.(1/342)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 343
الإشارة : لا ينبغى للمريد الصادق أن يخالط أهل الغفلة ، ولا يتودد معهم فإن ذلك يقطعه عن ربه ، ويصده عن دواء قلبه ، وفى ذلك يقول صاحب العينية :
وقاطع لمن واصلت أيّام غفلة فما واصل العذال إلّا مقاطع
وجانب جناب الأجنبى لو أنّه لقرب انتساب فى المنام مضاجع
فللنّفس من جلّاسها كلّ نسبة ومن خلّة للقلب تلك الطّبائع
إلا أن يتقى منهم تقية ، بحيث تلجئه الضرورة إلى مخالطتهم ، فيخالطهم بجسمه ويفارقهم بقلبه ، وقد حذّر الصوفية من صحبة أربع طوائف : الجبابرة المتكبرون ، والقراء المداهنون ، والمتفقرة الجاهلون ، والعلماء المتجمدون لأنهم مولعون بالطعن على أولياء اللّه ، يرون ذلك قربة تقربهم إلى اللّه.
ثم قال : (و يحذركم اللّه نفسه) أن تقصدوا معه غيره ، وهذا خطاب للسائرين بدليل تعقيبه بقوله : (و إلى اللّه المصير) أي : إليه ينتهى السير وإليه يكون الوصول ، ثم شدد عليهم فى المراقبة فقال : (إن تخفوا ما فى صدوركم) من الميل أو الركون إلى الغير أو الوقوف عن السير ، (أو تبدوه يعلمه اللّه) فينقص عنكم المدد بقدر ذلك الميل ، يظهر ذلك يوم الدخول إلى بلاد المشاهدة ، (يوم تجد كل نفس) ما قدمت من المجاهدة ، فبقدر المجاهدة تكون المشاهدة. ثم خاطب الواصلين فقال : (و يحذركم اللّه نفسه) من أن تشهدوا معه سواه ، فلو كلف الواصل أن يشهد غيره لم يستطع ، إذ لا غير معه حتى يشهده. ويدل على أن الخطاب هنا للواصلين تعقيبه بالمودة والرأفة ، اللائقة بالواصلين المحبوبين العارفين الكاملين. خرطنا اللّه فى سلكهم بمنّه وكرمه.
ثم لا طريق للوصول إلى هذا كله إلا باتباع الرسول الأعظم ، كما أشار إلى ذلك بقوله تعالى :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 31 الى 32]
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32)
قلت : قد تقدم الكلام على حقيقة المحبة عند قوله يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ. وقال البيضاوي هنا : المحبة ميل النفس إلى الشيء لإدراك كمال فيه ، بحيث يحملها - أي الميل - إلى ما يقربها إليه ، والعبد إذا علم أن الكمال الحقيقي ليس إلا لله ، وأن ما يراه كمالا من نفسه أو غيره فهو من اللّه وباللّه وإلى اللّه ، لم يكن حبه إلا لله وفى اللّه ، وذلك يقتضى إرادة طاعته ، فلذلك فسرت المحبة بإرادة الطاعة ، وجعلت مستلزمة لاتباع الرسول فى عبادته ، والحرص على مطاوعته. ه.(1/343)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 344
وقوله : (فإن تولوا) : فعل ماض مجزوم المحل ، ولم يدغمه البزّى هنا ، على عادته فى الماضي ، لعدم موجبه.
يقول الحق جل جلاله : قُلْ يا محمد لمن يدعى أنه يحب اللّه ولا يتبع رسوله : إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ كما زعمتم ، فَاتَّبِعُونِي فى أقوالى وأفعالى وأحوالى ، يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ أي : يرضى عنكم ويقربكم إليه ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أي : يكشف الحجاب عن قلوبكم بغفران الذنوب ومحو العيوب ، فيقربكم من جناب عزه ، ويبوئكم فى جوار قدسه ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن تحبب إليه بطاعته واتباع رسوله.
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ فيما يأمركم به وينهاكم عنه ، وَالرَّسُولَ فيما يسنه لكم ويرغبكم فيه ، فَإِنْ تَوَلَّوْا وأعرضوا عنه ، فقد تعرضوا لمقت اللّه وغضبه بكفرهم به فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ أي : لا يرضى عنهم ولا يقبل عليهم ، وإنما لم يقل : لا يحبهم لقصد العموم ، والدلالة على أن التولي عن الرسول كفر ، وأنه برئ من محبة اللّه ، وأن محبته مخصوصة بالمؤمنين.
روى أن نصارى نجران قالوا : إنما نعظم المسيح ونعبده ، حبا لله وتعظيما لله. فقال تعالى : (قل) يا محمد : إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ تعالى فَاتَّبِعُونِي ... الآية. ولما نزلت الآية قال عبد اللّه بن أبىّ لأصحابه : إن محمدا يجعل طاعته كطاعة اللّه ، ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى ، فنزل قوله تعالى : قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ الآية. وقال - عليه الصلاة والسلام - : «من أطاعنى فقد أطاع اللّه ، ومن أطاع الإمام فقد أطاعنى ، ومن عصانى فقد عصى اللّه ومن عصى الإمام فقد عصانى».
الإشارة : اتباع الرسول صلّى اللّه عليه وسلم ركن من أركان الطريقة ، وشرط فى إشراق أنوار الحقيقة ، فمن لا اتباع له لا طريق له ، ومن لا طريق له لا وصول له ، قال الشيخ زروق رضي اللّه عنه : (أصول الطريقة خمسة أشياء : تقوى اللّه فى السر والعلانية ، واتباع النبي صلّى اللّه عليه وسلم فى الأقوال والأفعال ، والإعراض عن الخلق فى الإقبال والإدبار ، والرجوع إلى اللّه فى السراء والضراء ، والرضى عن اللّه فى القليل والكثير).
فالرسول - عليه الصلاة والسلام - حجاب الحضرة وبوّابها ، فمن أتى من بابه بمحبته واتباعه ، دخل الحضرة ، وسكن فيها ، ومن تنكب عنها طرد وأبعد ، وفى ذلك يقول القائل :
وأنت باب اللّه ، أىّ امرئ وافاه من غيرك لا يدخل
وقال فى المباحث :
تبعه العالم فى الأقوال والعابد الزاهد فى الأفعال
وفيهما الصّوفىّ فى السّباق لكنّه قد زاد فى الأخلاق(1/344)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 345
فمن ادعى محبة اللّه أو محبة رسوله ، ولم يطعهما ، ولم يتخلق بأخلاقهما ، فدعواه كاذبة ، وفى ذلك يقول ابن المبارك «1» :
تعصى الإله وأنت تظهر حبّه هذا محال فى القياس بديع
لو كان حبّك صادقا لأطعته إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع
ثم ذكر الحق تعالى بيان نشأة عيسى عليه السّلام ، وبيان أصله ونشأة أمه ، توطئة للكلام مع النصارى والرد عليهم فى اعتقادهم فيه. وقال البيضاوي : لما أوجب اللّه طاعة الرسل ، وبيّن أنها الجالبة لمحبة اللّه ، عقّب ذلك ببيان مناقبهم تحريضا عليها فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 33 الى 37]
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37)
قلت : (ذرية) : حال ، أو بدل من الآلين ، أو من نوح ، أي : أنهم ذرية واحدة متشعبة بعضها من بعض.
و(إذ قالت) : ظرف لعليم ، أو بإضمار اذكر. و(محررا) : حال ، والتحرير : التخلص ، يقال : حررت العبد ، إذا خلصته من الرق ، وحررت الكتاب ، إذا أصلحته وأخلصته ، ولم يبق فيه ما يحتاج إلى إصلاح ، ورجل حر ، أي : خالص ، ليس لأحد عليه متعلق ، والطين الحر ، أي : الخالص من الحمأة. وقوله : (و إنى سميتها مريم) : عطف على (إنى وضعتها) ، وما بينهما اعتراض ، من كلامها على قراءة التكلم ، أو من كلام اللّه على قراءة التأنيث.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى ، آدَمَ بالخلافة والرسالة ، وَنُوحاً بالرسالة والنّذارة ، وَآلَ إِبْراهِيمَ بالنبوة والرسالة ، وهم : إسحاق ، ويعقوب والأسباط ، وإسماعيل ، وولده سيد ولد آدم نبينا محمد صلّى اللّه عليه وسلم بالنبوة والرسالة والمحبة الجامعة. وَآلَ عِمْرانَ ، وهم موسى وهارون - عليهما السلام - وهو عمران بن يصهر
___________
(1) الشعر ينسب لأكثر من واحد.(1/345)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 346
ابن فاهث بن لاوى بن يعقوب ، أو المراد بعمران : عمران بن أشهم بن أموى ، من ولد سليمان عليه السّلام ، وهو والد مريم أم عيسى عليه السّلام ، وقيل : المراد عمران بن ماثان ، أحد أجداد عمران والد مريم. وإنما خص هؤلاء ، لأن الأنبياء كلهم من نسلهم. وقيل : أراد إبراهيم وعمران أنفسهما. «وآل» مقحمة ، كقوله : وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ أي : موسى وهارون ، فقد فضل الحق - جل جلاله - هؤلاء الأنبياء بالخصائص الجسمانية والروحانية عَلَى الْعالَمِينَ أي : كلا على عالمى زمانه ، وبه استدل على فضلهم على الملائكة. حال كونهم ذُرِّيَّةً متشعبة بَعْضُها مِنْ ولد بَعْضٍ فى النسب والدين ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ لأقوال العباد وأعمالهم ، عَلِيمٌ بسرائرهم وعلانيتهم ، فيصطفى من صفا قوله وعمله ، وخلص سره ، للرسالة والنبوة.
ثم تخلّص لذكر نشأة مريم ، توطئة لذكر ولدها ، فقال : واذكر إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ وهى حنة بنت فاقوذا ، جدة عيسى عليه السّلام : رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً لخدمة بيت المقدس ، لا أشغله بشىء ، أو مخلصا للعبادة ، فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، وكان المحرر عندهم ، إذا حرر ، جعل فى الكنيسة يقوم عليها وينكسها ، ولا يبرح منها حتى يبلغ الحلم ، ثم يخير ، فإن أحبّ أقام أو ذهب حيث شاء ، ولم يكن يحرر إلا الغلمان لأن الجارية لا تصلح للخدمة لما يصيبها من الحيض ، فحررت أمّ مريم حملها ولم تدر ما هو.
وقصة ذلك : أن زكريا وعمران تزوجا أختين ، فتزوج زكريا أشياع بنت فاقوذا ، وتزوج عمران حنة بنت فاقوذا ، فكان عيسى ويحيى ابني الخالة «1» ، وكانت حنة عاقرا لا تلد ، فبينما هى فى ظل شجرة ، بصرت بطائر يطعم فرخا ، فتحركت لذلك نفسها للولد فدعت اللّه تعالى ، وقالت : اللهم لك على ، إن رزقتنى ولدا ، أن أتصدق به على بيت المقدس ، يكون من سدنته وخدمه ، فحملت بمريم ، فهلك عمران ، وحنة حامل بمريم ، فَلَمَّا وَضَعَتْها أي : النذيرة ، أو ما فى بطنها ، قالت : رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى ، قالت ذلك تحسّرا وتحزنا إلى ربها ، لأنها كانت ترجو أن تلد ذكرا يصلح للخدمة ، ولذلك نذرته.
قال تعالى : وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ ، تعظيما لموضوعها وتنويها بشأنها ، أو من كلامها - على قراءة التكلم - تسلية لنفسها ، أي : ولعل لله فيه سرا ، قال تعالى : وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى أي : وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت ، أو من كلامها ، أي : وليس الذكر والأنثى سيان فيما نذرت. ثم قالت : وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ راجية أن يطابق اسمها فعلها ، فإن مريم فى نعتهم هى العابدة الخادمة ، وكانت مريم أجمل النساء فى وقتها وأفضلهن ، وفى الحديث عنه صلّى اللّه عليه وسلم : «حسبك من نساء العالمين أربع : مريم بنت عمران ، وآسية امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد صلّى اللّه عليه وسلم».
___________
(1) أي : بينهما هذه الجهة من القرابة ، وهى جهة الخئولة.(1/346)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 347
ثم قالت حنة أم مريم : وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ أي : أحصنها بك وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ أي :
المرجوم بالشهب ، أو المطرود ، وفى الحديث : «ما من مولود يولد إلّا والشّيطان يمسّه حين يولد فيستهلّ من مسّه ، إلّا مريم وابنها». ومعناه : أن الشيطان يطمع فى إغواء كل مولود ، بحيث يتأثر به ، إلا مريم وابنها لمكان الاستعاذة ، قلت : وكذا الأنبياء كلهم ، لا يمسهم لمكان العصمة. واللّه أعلم.
فَتَقَبَّلَها رَبُّها أي : رضيها فى النذر مكان الذكر ، بِقَبُولٍ حَسَنٍ أي : بوجه حسن ، وهو إقامتها مقام الذكر ، وتسلمها للخدمة عقب ولادتها قبل أن تكبر وتصلح للسّدانة «1» ، روى : أن حنة لما ولدتها لفّتها فى خرقة ، وحملتها إلى المسجد ، ووضعتها عند الأحبار ، وقالت : دونكم هذه النذيرة ، فتنافسوا فيها ، لأنها كانت ابنة إمامهم ، وصاحب قربانهم ، فإن (بنى ماثان) كانت رؤوس بنى إسرائيل وملوكهم ، فقال زكريا : أنا أحق بها ، عندى خالتها ، فأبوا إلا القرعة ، وكانوا سبعة وعشرين ، فانطلقوا إلى نهر ، فألقوا فيه أقلامهم ، فطفا قلم زكريا - أي : علا - على وجه الماء ، ورسبت أقلامهم ، فأخذها زكريا.
وَأَنْبَتَها اللّه نَباتاً حَسَناً أي : رباها تربية حسنة ، فكانت تشب فى اليوم ما يشب المولود فى العام ، وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا أي : ضمها إليه وقام بأمرها. وقرأ عاصم - فى رواية ابن عياش - بشدّ الفاء ، أي : وكفّلها اللّه زكريا ، أي : جعله كافلا لها وحاضنا. روى : أنه لما ضمها إليه بنى لها بيتا ، واسترضع لها ، فلما بلغت ، بنى لها محرابا فى المسجد ، وجعل بابه فى وسطه لا يرقى إليها إلا بسلم ، ولا يصعد إليها غيره ، وكان يأتيها بطعامها وشرابها كل يوم ، وكان إذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب.
كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ ليأتيها بطعامها ، وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً أي : فاكهة فى غير حينها ، يجد فاكهة الشتاء فى الصيف ، وبالعكس ، قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا أي : من أين لك هذا الرزق الآتي فى غير أوانه ، والأبواب مغلقة عليك؟ قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فلا يستبعد ، قيل : تكلمت صغيرة ، وقيل : لم ترضع ثديا قط ، خلاف ما تقدم ، وكان رزقها ينزل عليها من الجنة.
ثم قالت : إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ أي : بغير تقدير ، أو بغير استحقاق تفضلا منه ، وقوله :
(كلما) : يقتضى التكرار ، وفيه إشارة إلى أن زكريا لم يذر تعهّدها ، ولم يعتمد على ما كان يجد عندها ، بل كان يتفقد حالها كل وقت ، لأن الكرامات للأولياء ليس مما يجب أن تدوم قطعا ، بل يجوز أن يظهر ذلك عليهم دائما وألا يظهر ، فما كان زكريا معتمدا على ذلك ، فيترك تفقد حالها ، ثم كان يجدد السؤال بقوله : يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا ، لجواز أن يكون الذي هو اليوم لا على الوجه الذي كان بالأمس ، فإنه لا واجب على اللّه - سبحانه - . قاله القشيري.
___________
(1) السدانة : مصدر بمعنى الخدمة ، والسادن : الخادم.(1/347)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 348
روى جابر بن عبد اللّه أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أقام أياما لم يطعم الطعام ، فقام فى منازل أزواجه ، فلم يصب عندهن شيئا ، فأتى فاطمة فقال : «يا بنية ، هل عندك شى ء؟» فقالت : لا واللّه ، بأبى أنت وأمي ، فلما خرج النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، بعثت إليها جارتها برغيفين وبضعة لحم ، فبعثت حسنا وحسينا إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، فجاء ، فكشفت له الجفنة ، فإذا الجفنة مملوءة خبزا ولحما ، فبهتت ، وعرفت أنّها بركة من اللّه تعالى ، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : «من أين لك هذا يا بنيّة؟» قالت : ومِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ، فحمد اللّه تعالى ، وقال : «الحمد لله الّذى جعلك شبيهة بسيّدة بنى إسرائيل ، فإنها كانت إذا رزقها اللّه شيئا قالت : هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ثم بعث النبي صلّى اللّه عليه وسلم إلى علىّ رضي اللّه عنه. ثم أكل أهل البيت كلهم ، وجميع أزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، وبقيت الجفنة كما هى ، فأوسعت على الجيران ، وجعل اللّه فيها بركة وخيرا. انتهى «1».
الإشارة : (إن اللّه اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) ، إنما اصطفى الحق تعالى هؤلاء الرسل لكونهم قد أظهروا الدين بعد انطماس أنواره ، وجددوه بعد خمود أسراره ، هم أئمة الهدى ومقتبس أنوار الاقتداء ، فكل من كان على قدمهم من هذه الأمة المحمدية ، بحيث يجدد للناس دينهم ، ويبين للناس معالم الطريق وطريق السلوك إلى عين التحقيق ، فهو ممن اصطفاه اللّه على عالمى زمانه.
وفى الحديث : «إنّ اللّه يبعث على رأس كلّ مائة سنة من يجدّد لهذه الأمة دينها». قال الحريري : (مات الحسن البصري عشية جمعة - أي : بعد زوالها - فلما صلى الناس الجمعة حملوه ، فلم يترك الناس صلاة العصر فى مسجد الجماعة بالبصرة منذ كان الإسلام ، إلا يوم مات الحسن ، واتبع الناس جنازته ، فلم يحضر أحد فى المسجد صلاة العصر ، قال : وسمعت مناديا ينادى : (إن اللّه اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) ، واصطفى الحسن على أهل زمانه). قلت : والحسن البصري هو الذي أظهر علم التصوف ، وتكلم فيه وهذبه. قال فى القوت : وهو إمامنا فى هذا العلم - يعنى علم التصوف.
وقوله تعالى : إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ ... الآية. كلّ من نذر نفسه وحررها لخدمة مولاه ، تقبلها اللّه منه بقبول حسن ، وأنبت فيها المعرفة نباتا حسنا ، وكفلها بحفظه ورعايته ، وضمها إليه بسابق عناية ، ورزقها من طرف الحكم وفواكه العلوم ، مما لا تحيط به العقول وغاية الفهوم ، فإذا قال لنفسه : من أين لك هذا؟ (قالت هو من عند اللّه إن اللّه يرزق من يشاءبغير حساب). وأنشدوا :
فلا عمل منّى إليه اكتسبته سوى محض فضل ، لا بشىء يعلّل
وقال القشيري : قوله تعالى : (فتقبلها ربها بقبول حسن) ، يقال : من القبول الحسن أنه لم يطرح كلّها وشغلها على زكريا ، فكان إذا دخل عليها زكريا ليتعاهدها بطعام وجد عندها رزقا ، ليعلم لعالمون أن اللّه - تعالى - لا يلقى شغل
___________
(1) إلى هنا ينتهى السقط المشار إليه سابقا فى النسخة التيمورية.(1/348)
البحر المديد ج 1 ، ص : 349
أوليائه على غيره ، ومن خدم وليا من أوليائه كان هو فى رفق الولي ، وهذه إشارة لمن يخدم الفقراء ، يعلم أنه فى رفقهم ، لا أن الفقراء تحت رفقه. ه.
قال أهل التفسير : فلما رأى زكريا ما يأتى لمريم من الفواكه فى غير أوانها ، قال : إن الذي قدر على أن يأتى مريم بالفاكهة فى غير وقتها ، قادر على أن يصلح زوجتى ، ويهب لى ولدا على الكبر. فطلب الولد ، كما أشار الحق تعالى إلى ذلك بقوله :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 38 الى 41]
هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41)
قلت : (هنالك) : اسم إشارة للبعيد ، والكاف : حرف خطاب ، يطابق المخاطب فى التذكير والتأنيث والإفراد والجمع فى الغالب. والمحراب : مفعال ، من الحرب ، وهو الموضع المعد للعبادة ، كالمسجد ونحوه ، سمى به ، لأنه محل محاربة الشيطان.
(والملائكة) : جمع تكسير ، يجوز فى فعله التذكير والتأنيث ، وهو أحسن ، تقول : قام الرجال وقامت الرجال ، فمن قرأ : (فنادته الملائكة) ، فعلى تأويل الجماعة ، ومن قرأ : (فناداه) ، أراد تنزيه الملائكة عن التأنيث ، ردا على الكفار.
والمراد هنا : جبريل عليه السّلام كقوله : يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ ، وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ ، و(بشر) : فيها لغتان : التخفيف ، وهى لغة تهامة ، تقول : بشر يبشر - بضم الشين فى المضارع ، والتشديد ، وهو أفصح ، تقول بشّر يبشّر تبشيرا.
يقول الحق جل جلاله ، مخبرا عن زكريا عليه السّلام : هُنالِكَ أي : فى ذلك الوقت الذي رأى ما رأى من الخوارق عند مريم ، دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ، فدخل المحراب ، وغلق الأبواب ، وقال فى مناجاته : رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ، كما وهبتها لحنّة العجوز العاقر ، إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ أي : مجيبه فاسمع دعائى يا(1/349)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 350
مجيب ، فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ ، وهو جبريل ، لأنه رئيس الملائكة ، والعرب تنادى الرئيس بلفظ الجمع إذ لا يخلو من أصحاب ، وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ روى : أنه كان قائما يصلى فى محرابه ، فدخل عليه شاب ، عليه ثياب بيض ، ففزع منه ، فناداه ، وقال له : أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى ، سمى به لأن اللّه تعالى أحيا به عقم أمه ، أو لأن اللّه تعالى أحيا قلبه بمعرفته ، فلم يهم بمعصية قط ، أو لأنه استشهد ، والشهداء أحياء.
مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وهو عيسى ، لأنه كان بكلمة : كن ، من غير سبب عادى ، وَسَيِّداً أي : يسود قومه ويفوقهم ، وَحَصُوراً ، أي : مبالغا فى حبس النفس عن الشهوات والملاهي. روى أنه مرّ فى صباه على صبيان ، فدعوه إلى اللعب ، فقال : ما للعب خلقت. أو عنينا ، روى : «أنه كان له ذكر كالقذاة» رواه ابن عباس. وقال فى الأساس : (رجل حصور : لا يرغب فى النساء). قيل : كان ذلك فضيلة فى تلك الشريعة ، بخلاف شريعة نبينا محمد صلّى اللّه عليه وسلم وفى الورتجبي : الحصور : الذي يملك ولا يملك. وقال القشيري : حَصُوراً : أي : معتقا من الشهوات ، مكفيا أحكام البشرية ، مع كونه من جملة البشر ، وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ الذين صلحوا للنبوة وتأهلوا للحضرة.
ولما سمع البشارة هزّه الفرح فقال : يا رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ أي : من أين يكون لى غلام؟! قاله استعظاما أو تعجبا أو استفهاما عن كيفية حدوثه. هل مع كبر السن والعقم ، أو مع زوالهما. وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ ، وكان له تسع وتسعون سنة ، وقيل : مائة وعشرون ، وَامْرَأَتِي عاقِرٌ لا تلد ، ولم يقل : عاقرة ، لأنه وصف خاص بالنساء. قال له جبريل : كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ من العجائب والخوارق ، فيخلق الولد من العاقر والشيخ الفاني ، أو الأمر كذلك ، أي : كما أخبرتك ، ثم استأنف : اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ.
ولما تحقق بالبشارة طلب العلامة ، فقال : رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أعرف بها حمل المرأة ، لأستقبله بالبشاشة والشكر ، قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ أي : لا تقدر على كلام الناس ثلاثا ، فحبس لسانه عن الكلام دون الذكر والشكر ، ليخلص المدة للذكر والشكر ، إِلَّا رَمْزاً بيد أو رأس أو حاجب أو عين. وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً فى هذه المدة التي حبست فيها عن الكلام ، وهو يبين الغرض من الحبس عن الكلام. وتقييد الأمر بالكثرة يدل على أنه لا يفيد التكرار. وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ أي : من الزوال إلى الغروب ، أو من العصر إلى جزء الليل ، وَالْإِبْكارِ من الفجر إلى الضحى ، وقيل : كانت صلاتهم ركعتين فى الفجر وركعتين فى المغرب ، ويؤيد هذا قوله تعالى فى الآية الأخرى : فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : الأصلاب الروحانية كالأصلاب الجسمانية ، منها ما تكون عقيمة مع كمالها ، ومنها ما تكون لها ولد أو ولدان ، ومنها ما تكون لها أولاد كثيرة ، ويؤخذ من قضية السيد زكريا عليه السّلام : طلب الولد إذا خاف الولي اندراس(1/350)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 351
علمه أو حاله بانقطاع نسله الروحاني ، ولا شك فى فضل بقاء النسل الحسى أو المعنوي ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : «إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو ولد صالح يدعو له ، أو علم ينتفع به».
وشمل الولد البشرى والروحاني ، وقال عليه الصلاة والسلام لسيدنا على - كرم اللّه وجهه - : «لأن يهدى اللّه بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم».
وقال بعض الشعراء «1» :
والمرء فى ميزانه أتباعه فاقدر إذن قدر النبي محمّد
وقد سلك هذا المسلك القطب ابن مشيش فى طلب الولد الروحاني ، حيث قال فى تصليته المشهورة : (اسمع ندائى بما سمعت به نداء عبدك زكريا) ، فأجابه الحق تعالى بشيخ المشايخ القطب الشاذلى. وغير واحد من الأولياء دخل محراب الحضرة ، ونادى نداء خفيا فى صلاة الفكرة ، فأجابته الهواتف فى الحال ، بلسان الحال أو المقال : إن اللّه يبشرك بمن يحيى علمك ويرث حالك ، مصدقا بكلمة من اللّه ، وهم أولياء اللّه ، وسيدا وحصورا عن شواغل الحس ، مستغرقا فى مشاهدة القرب والأنس ، ينبئ بعلم الغيوب ، ويصلح خلل القلوب ، فإذا استعظم ذلك واستغربه ، قيل له : الأمر كذلك ، (اللّه يفعل ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) ، فحسبك الاشتغال بذكر اللّه ، والغيبة عما سواه. وباللّه التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم ذكر اصطفائية مريم بالخصوص بعد العموم فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 42 الى 43]
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
يقول الحق جل جلاله : واذكر إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ أي : جبريل ، أو جماعة ، كلمتها شفاها كرامة لها.
وفيه إثبات كرامة الأولياء ، وليست نبية للإجماع على أنه تعالى لم يستنبئ امرأة لقوله : وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فقالوا لها : يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ لخدمة بيته ، ولم يقبل قبلك أنثى قط ، وفرغك لعبادته ، وأغناك برزقه عن رزق غيره ، وَطَهَّرَكِ من الأخلاق الذميمة ، ومما يستقذر من النساء ، وَاصْطَفاكِ ثانيا بهدايته لك ، وتخصيصك بتكليم الملائكة ، وبالبشارة بالولد من غير أب ، فقد اصطفاك عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ. «2»
___________
(1) وهو الشيخ البوصيرى.
(2) انظر فى مسألة نبوة مريم : فتح الباري 6/ 542.(1/351)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 352
وفى الحديث عنه صلّى اللّه عليه وسلم : «كمل من الرّجال كثير ولم يكمل من النّساء إلا مريم ابنة عمران ، وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد» ... الحديث. قال ابن عزيز : أي : عالمى دهرها ، كما فضّلت خديجة وفاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم على نساء أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، بل قال أبو عمر : فاطمة فضلت على جميع النساء ، وهو واضح ، لحديث :
سيدة نساء أهل الجنة ، لكن جاء فى حديث آخر استثناء مريم. فاللّه أعلم.
وفى الاستيعاب : عن عمران بن حصين : أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم عاد فاطمة ، وهى مريضة ، فقال : «كيف تجدك يا بنيّة؟» فقالت له : إنى لوجعة ، وإنه ليزيدنى أنى مالى طعام آكله ، فقال : «يا بنيّة ، أما ترضين أنك سيدة نساء العالمين» ، فقالت : يا أبت ، فأين مريم بنت عمران؟ قال : «تلك سيدة نساء عالمها ، وأنت سيدة نساء عالمك ، واللّه لقد زوجتك سيدا فى الدنيا والآخرة» ه. من المحشى.
يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ أي : أطيلى الصلاة شكرا لما اختصك به ، وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ أي :
صلّى مع المصلين ، وقدّم السجود على الركوع ، إما لكونه كذلك فى شرعهم ، أو للتنبيه على أن الواو لا ترتب ، أو ليقترن ارْكَعِي بالراكعين ، للإيذان بأنّ من ليس فى صلاتهم ركوع ليسوا بمصلين. وقيل : المراد بالقنوت : إدامة الطاعة ، كقوله : أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً ، وبالسجود : الصلاة ، لقوله : وَأَدْبارَ السُّجُودِ ، وبالركوع : الخشوع والإخبات. قاله البيضاوي. وقال الأوزاعى : لما قالت لها الملائكة ذلك ، قامت فى الصلاة حتى تورمت قدمها وسالت دما وقيحا.
الإشارة : لا يصطفى اللّه العبد لحضرته إلا بعد تطهيره من الرذائل ، وتحليته بأنواع الفضائل ، وقطعه عن قلبه الشواغل ، والقيام بوظائف العبودية ، وبالآداب مع عظمة الربوبية ، والخضوع تحت مجارى الأقدار ، والتسليم لأحكام الواحد القهار ، فأنفاس المريد ثلاثة : عبادة ، ثم عبودية ، ثم عبودة ، ثم يترقى إلى مطالعة علم الغيوب ، الذي أشار إليه الحق تعالى بقوله :
[سورة آل عمران (3) : آية 44]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
يقول الحق جل جلاله ، لحبيبه صلّى اللّه عليه وسلم : ذلِكَ القصص الذي أطلعتك عليه ، هو مِنْ أخبار الْغَيْبِ الذي لم يكن لك به شعور ، وما عرفته إلا بوحينا وإعلامنا ، فلا يشك فى نبوتك إلا مطموس أعمى ، (و) أيضا : ما(1/352)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 353
كُنْتَ لَدَيْهِمْ
أي : عندهم ، حين كانوا يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ لما اقترعوا ، أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ، وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ فى كفالتها ، فتخبرهم عما شهدت ، بل لم يكن شىء من ذلك ، فتعين أن يكون وحيا حقيقا ، لأنه عليه الصلاة والسلام - كان أمّيّا لم يطالع شيئا من كتب الأخبار ، ولا جلس إلى من طالعهم من الأحبار ، بإجماع الخاص والعام. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : اعلم أن الوحى على أربعة أقسام : وحي منام ، ووحي إلهام ، ووحي أحكام ، ووحي إعلام ، وشاركت الأولياء الأنبياء فى ثلاثة : الإلهام والمنام والإعلام ، إن كان بغير الملك ، ومعنى وحي إعلام : هو إطلاع اللّه النبىّ على أمور مغيبة ، فإن كان بواسطة الملك ، فهو مختص بالأنبياء ، كما اختصت بوحي الأحكام ، وأما إن كان بالإلهام أو بالمنام أو بالفهم عن اللّه ، فيكون أيضا للأولياء ، إذ الروح إذا تصفت وتطهرت من دنس الحس أطلعها اللّه على غيبه فى الجملة ، وأما التفصيل فلا يعلمه إلا علام الغيوب. واللّه أعلم.
ثم ذكر الحق تعالى البشارة بعيسى عليه السّلام ، وهو المقصود الأعظم من هذه القصص ليتخلص للرد على النصارى فى زعمهم الفاسد فيه ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 45 الى 51]
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)
وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)(1/353)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 354
قلت : (إذ قالت) : بدل من (و إذ قالت) الأولى ، ويبعد إبدالها من (إذ يختصمون) ، و(المسيح) وما بعده : إخبار عن اسمه ، أو (عيسى) : خبر عن مضمر ، و(ابن مريم) : صفته ، و(المسيح) : فعيل بمعنى مفعول ، لأنه مسح من الأقذار ، أي : طهر منها ، أو مسح بالبركة ، أو كان مسيح القدم ، لا أخمص له ، أو مسحه جبريل بجناحه من الشيطان. أو بمعنى فاعل لأنه كان يمسح المرضى فيبرءون ، أو يمسح عين الأعمى فيبصر ، أو لأنه كان يسيح فى الأرض ولا يقيم فى مكان فتكون الميم زائدة.
وأما المسيح الدجال فإنه ممسوح إحدى العينين ، أو لأنه يطوف الأرض ويمسحها ، إلا مكة والمدينة ، والحاصل :
أن عيسى مسيح الخير ، والدجال مسيح الشر ، ولذلك قيل : إن المسيح يقتل المسيح. و(وجيها) : حال من (كلمة) لتخصيصة بالصفة ، و(فى المهد وكهلا) : حالان ، أي : طفلا وكهلا ، والمهد : ما يمهد للصبى. و(رسولا) : مفعول لمحذوف ، أي : ونجعله رسولا ، و(مصدقا) : عطف على (رسولا) ، و(لأحلّ) : متعلق بمحذوف ، أي : وجئتكم لأحل.
أو معطوف على معنى مصدقا ، كقولهم : جئتك معتذرا ، أو لأطيب قلبك.
يقول الحق جل جلاله : (و) اذكر أيضا إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ فى بشارتهم لمريم : يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ، أي : بولد يتكوّن بكلمة من اللّه كن فيكون ، وقيل : إنما سمى كلمة لكونه مظهرا لكلمة التكوين ، متحققّا ومتصرفا بها. ولذلك كان يظهر عليه خوارق الأقدار أكثر من غيره من الأنبياء ، اسْمُهُ الْمَسِيحُ ، واسمه عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ، وإنما قال : ابْنُ مَرْيَمَ والخطاب لها ، تنبيها على أنه يولد من غير أب إذ الأولاد إنما تنسب لأبائها إلا إذا فقد الأب. ثم وصف الولد بقوله : وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي : شريفا فى الدنيا بالنبوة والرسالة ، وفى الآخرة بالشفاعة لمن تبعه. ويكون مِنَ الْمُقَرَّبِينَ إلى اللّه تعالى فى الدارين.
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ طفلا فِي الْمَهْدِ على وجه خرق العادة فى تبرئة أمه ، وَكَهْلًا إذا كمل عقله قبل أن يرفع ، أو بعد الرفع والنزول ، لأن الكهولة بعد الأربعين ، والتحقيق : أنه بشرها بنبوة عيسى وكلامه فى المهد ، معجزة ، وفى الكهولة دعوة قبل الرفع وبعده ، وما قارب الشيء يعطى حكمه ، وحال كونه مِنَ الصَّالِحِينَ لحضرة رب العالمين.
ولما سمعت البشارة دهشت وقالَتْ : يا رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ، والخطاب لله ، فانية عن الواسطة جبريل ، والاستفهام تعجبا ، أو عن الكيفية : هل يكون بتزوج أم لا؟ قالَ لها الملك : كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ. أو الأمر كذلك كما تقولين ، لكن اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ لا يحتاج إلى وسائط ولا أسباب ، بل إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ، وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ أي : الكتابة والخط ، وَالْحِكْمَةَ أي :
النبوة ، أو الإصابة فى الرأى ، وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ.(1/354)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 355
(و) يجعله رَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ. وكان أول رسل بنى إسرائيل يوسف ، وآخرهم عيسى - عليهما السلام - ، وقال : عليه الصلاة والسلام : «بعثت على إثر ثمانية آلاف نبى ، أربعة آلاف من بنى إسرائيل». فإذا بعث إليهم قال : أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي : بأنى قد جئتكم بآية من ربكم ، قالوا : وما هى؟ قال :
أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ كصورته ، فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ ، وكان يخلق لهم صورة الخفاش ، لأنها أكمل الطير لأن لها ثديا وأسنانا وتحيض وتطير ، فيكون أبلغ فى المعجزة ، وكان يطير مادام الناس ينظرون إليه ، فإذا غاب عنهم سقط ميتا ليتميز فعل الحق من فعل الخلق.
ثم قال لهم : ولى معجزة أخرى أنى أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ الذي ولد أعمى ، فأحرى غيره ، وَالْأَبْرَصَ الذي فيه وضح «1». وخصهما لأنهما عاهتان معضلتان. وكان الغالب فى زمن عيسى الطب ، فأراهم المعجزة من جنس ذلك. روى : أنه ربما اجتمع عليه من المرضى فى اليوم الواحد ألوف ، من أطاق منهم البلوغ «2» أتاه ، ومن لم يطق أتاه عيسى عليه السّلام ، وإنما كان يداويهم بالدعاء على شرط الإسلام.
وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ لا بقدرتي دفعا لتوهم الألوهية ، فإن الإحياء ليس من طوق البشر. روى أنه أحيا أربعة أنفس : (العازر) ، وكان صديقا له ، فأرسلت أخته إلى عيسى أن أخاك العازر يموت ، فأتاه من مسيرة ثلاثة أيام فوجده مات ، فقال لأخته : انطلقي بنا إلى قبره ، وهو فى صخرة مطبقة ، فدعا اللّه تعالى ، فقام العازر يقطر ودكه «3» ، فعاش وولد له. و(ابن العجوز) ، مر بجنازته على عيسى عليه السّلام فدعا اللّه تعالى ، فجلس على سريره ، ونزل عن أعناق الرجال ، ولبس ثيابه ، وحمل سريره على عنقه ، ورجع إلى أهله ، وبقي حتى ولد له. و(ابنة العاشر) ، كان يأخذ العشور ، قيل له : أتحييها ، وقد ماتت أمس؟ فدعا اللّه تعالى ، فعاشت وولد لها. و(سام بن نوح) ، دعا باسم اللّه الأعظم ، فخرج من قبره ، وقد شاب نصف رأسه ، فقال : أقامت الساعة؟ قال : لا ، لكنى دعوت اللّه فأحياك ، مالى أرى الشيب فى رأسك ، ولم يكن فى زمانك؟ قال : سمعت الصيحة ، فظننت أن الساعة قامت فشبت من هولها. قيل : كان يحيى الموتى ب يا حى يا قيوم.
وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ، لما أبرأ الأكمه والأبرص قالوا : هذا سحر ، أخبرنا بما نأكل وما ندخر؟ فكان يخبر الرجل بما يأكل فى غدائه وعشائه. وروى أنه لما كان فى المكتب ، كان يحدث الغلمان بما يصنع لهم آباؤهم من الطعام ، فيقول للغلام : انطلق ... غداء أهلك كذا وكذا ، فيقول أهله : من أخبرك بهذا؟ قال : عيسى ، فحبسوا صبيانهم عنه ، وقالوا : لا تلعبوا مع هذا الساحر ، فجمعوهم فى بيت ، فجاء عيسى
___________
(1) هو بياض يعترى الجلد.
(2) أي : بلوغ المريض المكان الذي فيه عيسى - عليه السلام -
(3) الودك : دسم اللحم ودهنه.(1/355)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 356
يطلبهم ، فقالوا : ليسوا هاهنا ، قال : ماذا فى البيت؟ قالوا : خنازير ، قال عيسى : كذلك يكونون ، ففتحوا الباب ، فإذاهم خنازير ، فهموا بقتله ، فهربت به أمه إلى مصر. قاله السّدى.
ثم قال لهم : إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، فإن غير المؤمنين لا ينتفع بالمعجزات لعناده ، وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ أي : وجئتكم مصدقا للتوراة ، وشاهدا على صحتها ، وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ فى شريعة موسى عليه السّلام كالشحوم والثروب «1» ولحم الإبل والعمل فى السبت. وهذا يدل على أنه ناسخ للتوراة ، ولا يخل بكونه مصدقا له ، كما لا يخل نسخ القرآن بعضه لبعض بصحته. فإن النسخ فى الحقيقة : بيان لانتهاء العمل بذلك الحكم. ثم قال لهم : (و) قد جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ واضحة مِنْ رَبِّكُمْ ، قد شاهدتموها بأعينكم ، فما بقي إلا عنادكم ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ.
ثم دعاهم إلى التوحيد بعد بيان الحجة فقال : إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ولا تعبدوا معه سواه ، هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ لا عوج فيه. قال البيضاوي : أي : لما جئتكم بالمعجزات القاهرة والآيات الباهرة ، فَاتَّقُوا اللَّهَ فى المخالفة ، وَأَطِيعُونِ فيما أدعوكم إليه ، ثم شرع فى الدعوة وأشار إليها بالقول المجمل ، فقال : إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ أشار إلى استكمال القوة النظرية بالاعتقاد الحق الذي غايته التوحيد ، وقال : فَاعْبُدُوهُ إشارة إلى استكمال القوة العملية بملازمة الطاعة ، التي هى الإتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهي ، ثم قرر ذلك بأن الجمع بين الأمرين هو الطريق المشهود له بالاستقامة ، ونظيره : قوله عليه الصلاة والسلام : «قل آمنت باللّه ثم استقم».
الإشارة : كل من انقطع بكليته إلى مولاه ، وصدف عن حظوظه وهواه ، وأفنى شبابه فى طاعة ربه ، وجعل يلتمس فى حياته دواء قلبه ، تحققت له البشارة فى العاجل والآجل ، وحصل له التطهير من درن العيوب والرذائل ، ورزقه من فواكه العلوم ، ما تتضاءل دون إدراكه غاية الفهوم ، هذه مريم البتول أفنت شبابها فى طاعة مولاها ، فقربها إليه وتولاها ، وبشرها بالاصطفائية والتطهير ، وأمرها شكرا بالجد والتشمير ، ثم بشرها ثانيا بالولد النزيه والسيد النبيه ، روح اللّه وكلمة اللّه ، من غير أب ولا سبب ، ولا معالجة ولا تعب ، أمره بأمر اللّه ، يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذن اللّه ، هذا كله ببركة الانقطاع وسر الاتباع.
قال صلّى اللّه عليه وسلم : «من انقطع إلى اللّه كفاه اللّه كلّ مؤنة ، ورزقه من حيث لا يحتسب ، ومن انقطع إلى الدنيا وكله اللّه تعالى إليها».
___________
(1) الثروب : جمع ثرب ، وهو شحم دقيق يغطى الكرش والأمعاء. [.....](1/356)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 357
وقال بعضهم : صدق المجاهدة : الانقطاع إليه من كل شىء سواه. فالانقطاع إلى اللّه فى الصغر يخدم على الإنسان فى حال الكبر ، ومعاصى الصغر تجر الوبال إلى الكبر ، فكما أن عيسى عليه السّلام كان يبرئ الأكمه والأبرص بإذن اللّه ، كذلك من انقطع بكلّيته إلى اللّه أبرأ القلوب السقيمة بإذن اللّه ، وأحيا موتى القلوب بذكر اللّه ، وأخبر بالغيوب وما تدخره ضمائر القلوب ، يدل على طاعة اللّه ، ويدعو بحاله ومقاله إلى اللّه ، يهدى الناس إلى الصراط المستقيم ، ويوصل من اتبعه إلى حضرة النعيم. وباللّه التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ولما تمت البشارة بعيسى عليه السّلام وظهر إلى الدنيا ، وبلغ وقت الدعوة ، بعثه اللّه إلى بنى إسرائيل ، فكفروا به ، فلما تحقق كفرهم طلب من ينصره إلى اللّه ، كما أشار الحق تعالى إلى ذلك بقوله :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 52 الى 54]
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54)
قلت : (من أنصارى إلى اللّه) : الجار يتعلق بحال محذوفة ، أي : ذاهبا إلى اللّه إلى نصر دينه ، أو مضيفا نفسه إلى اللّه ، أو ملتجئا إلى اللّه ، أو يتعلق ب - (أنصارى) مضمّنا معنى الإضافة ، أي : من يضيف نفسه إلى اللّه فى نصره. وحوارى الرجل : خاصته ، الذين يستعين بهم فى نوائبه ، وفى الحديث عنه - عليه الصلاة السلام - : «لكلّ نبى حوارى ، وحواريى : الزّبير». وحواريو عيسى : أصحابه الذين نصروه ، وسموا بذلك لخلوص نبيتهم ونقاء سريرتهم. والحور : البياض الخالص ، وكل شىء بيّضته فقد حوّرته ، ويقال للبيضاء من النساء : حوارية. وقيل : كان الحواريون قصّارين «1» ، يحوّرون الثياب ، أي : يبيضونها ، وقيل : كانوا ملوكا يلبسون البياض.
يقول الحق جل جلاله : فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى من بنى إسرائيل الْكُفْرَ ، وتحققه تحقّق ما يدرك بالحواس ، بعد ما بعث إليهم ، وأرادوا قتله ، فرّ منهم واستنصر عليهم ، وقالَ مَنْ أَنْصارِي ملجئا إِلَى اللَّهِ ، أو ذاهبا إلى نصر دينه ، قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ أي : أنصار دينه ، آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ علينا بأننا مُسْلِمُونَ لتشهد لنا يوم القيامة ، حين يشهد الرسل لقومهم ، رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ على نبيك من الأحكام ، وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ عيسى عليه السّلام ، فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ بوحدانيتك ، أو مع الذين يشهدون لأنبيائك
___________
(1) القصار : المبيض للثياب ، وهو الذي يهيىء النسيج بعد نسجه ، ببلّه ودقه بالقصرة - التي هى القطعة من الخشب.(1/357)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 358
بالصدق ، أو مع الأنبياء الذين يشهدون لأتباعهم ، أو مع أمة محمد - عليه الصلاة والسلام - فإنهم شهداء على الناس.
قال عطاء : سلمت مريم عيسى إلى أعمال شتى ، وآخر ما دفعته إلى الحواريين ، وكانوا قصّارين وصباغين ، فأراد معلّم عيسى السفر ، فقال لعيسى : عندى ثياب كثيرة مختلفة الألوان ، وقد علمتك الحرفة فاصبغها ، فطبخ جبّا واحدا ، وأدخل فيه جميع الثياب ، وقال لها : كونى على ما أريد ، فقدم الحوارى ، والثياب كلها فى الجب ، فلما رآها قال : قد أفسدتها ، فأخرج عيسى ثوبا أصفر ، وأحمر ، وأخضر ، إلى غير ذلك ، فعجب الحوارى ، وعلم أنّ ذلك من اللّه تعالى ، ودعا الناس إليه ، وآمنوا به ، ونصروه ، فهم الحواريون.
ولما أخرجه بنو إسرائيل عاد إليهم مع الحواريين ، وصاح فيهم بالدعوة ، فهمّوا بقتله ، وتواطئوا عليه ، وَمَكَرُوا أي : دبروا الحيل فى قتله ، وَمَكَرَ اللَّهُ بهم ، أي : استدرجهم حتى قتلوا صاحبهم ، ورفع عيسى عليه السّلام ، فالمكر فى الأصل : هو حيلة يجلب بها غيره إلى مضرة. ولا تسند إلى اللّه إلا على حسب المقابلة والازدواج ، كقوله :
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
، وقوله : اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ. أي : أشدهم مكرا ، وأقواهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب ، أو أفضل المجازين بالعقوبة لأنه لا أحد أقدر على ذلك منه.
تنبيه : قيل للجنيد رضى اللّه عنه : كيف رضى المكر لنفسه ، وقد عابه على غيره؟ قال : لا أدرى ، ولكن أنشدنى فلان للطبرانية :
فديتك قد جبلت على هواك ونفسى ما تحنّ إلى سواك
أحبّك ، لا ببعضي بل بكلّى وإن لم يبق حبّك لى حراكا
ويقبح من سواك الفعل عندى وتفعله فيحسن منك ذاك «1»
فقال له السائل : أسألك عن القرآن ، وتجيبنى بشعر الطبرانية؟ قال : ويحك ، قد أجبتك إن كنت تعقل. إنّ تخليته إياهم مع المكرية ، مكر منه بهم. ه.
قلت : وجه الشاهد فى قوله : (و تفعله فيحسن منك ذاك) ، ومضمن جوابه : أن فعل اللّه كله حسن فى غاية الإتقان ، لا عيب فيه ولا نقصان ، كما قال صاحب العينية :
وكلّ قبيح إن نسبت لحسنه أتتك معانى الحسن فيه تسارع
يكمّل نقصان القبيح جماله فما ثمّ نقصان ولا ثمّ باشع
___________
(1) القصة ذكرها مختصرة أبو حيان فى التفسير 2/ 496 مقتصرا على البيت الثالث.(1/358)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 359
وتخليته تعالى إياهم مع المكر ، تسبب عنه الرفع إلى السماء ، وإبقاء عيسى حيّا إلى آخر الزمان ، حتى ينزل خليفة عن نبينا - عليه الصلاة والسلام - ، فكان ذلك فى غاية الكمال والإتقان ، لكن لا يفطن لهذا إلا أهل العرفان.
الإشارة : يجب على المريد الصادق الذي يطلب دواء قلبه ، أن يفر من الوطن الذي يظهر فيه الإنكار ، إلى الوطن الذي يكثر فيه الإقرار ، يفر إلى من يعينه على نصر الدين من الأبرار المقربين ، الذين جعلهم اللّه حوارى الدين ، ففى الحديث الصحيح : «خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف «1» الجبال يفرّ من الفتن». فالمؤمن يفر بدينه من شاهق جبل إلى شاهق جبل حتى يدركه الموت ، وما زالت الأكابر تفر بنفسها إلى شواهق الجبال ، يهربون من حس الدنيا وشغبها ، ولا يرافقون إلا من يستعين بهم على ذكر اللّه ، وهم أهل التجريد ، الذين اصطفاهم اللّه لخالص التوحيد ، فروا إلى اللّه فآواهم اللّه ، قالوا : (آمنا باللّه واشهد بأنا مسلمون) منقادون لما تريد منا ، (ربنا آمنا بما أنزلت) من الأحكام الجلالية والجمالية قد عرفناك فى جميع الحالات ، (فاكتبنا مع الشاهدين) لحضرتك ، المنعمين بشهود ذاتك ، ومن مكر بنا من القواطع الخفية فغيّبنا عنه بشهود أنوارك القدسية ، وانصرنا فإنك خير الناصرين ، ولا تدعنا مع مكر الماكرين يا رب العالمين.
ثم ذكر الحق تعالى رفع عيسى إلى السماء فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 55 الى 58]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
قلت : (إذ قال) : ظرف لمقدر ، أي : اذكر ، أو وقع ذلك إذ قال ، أو لمكروا ، (متوفيك) أي : رافعك إلىّ وافيا تاما ، من قولهم : توفيت كذا واستوفيته : قبضته وافيا تاما ، أو مميتك عن الشهوات العائقة عن العروج إلى عالم الملكوت ، أو منيمك بدليل قوله تعالى : وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ، روى أنه رفع نائما ، والإجماع على أنه لم يمت ،
___________
(1) (شعف) ، بفتح الشين والعين : جمع شعفة ، وهى من كل شىء : أعلاه. والمراد بها هنا : رءوس الجبال.(1/359)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 360
قال تعالى : وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ، وقوله : (ذلك) مبتدأ ، و(نتلوه) : خبر ، و(من الآيات) :
حال ، أو (من الآيات) : خبر ، و(نتلوه) : حال ، أو خبر بعد خبر.
يقول الحق جل جلاله : اذكر إِذْ قالَ اللَّهُ لعيسى عليه السّلام لما أراد رفعه : يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ، أي :
قابضك إلى ببدنك تاما ، وَرافِعُكَ إِلَيَّ أي : إلى محل كرامتى ومقر ملائكتى ، وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي : من مخالطة دنس كفرهم ، وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ ممن صدق بنبوتك من النصارى والمسلمين ، وقال قتادة والشعبي والربيع : هم أهل الإسلام. ه. فو اللّه ما اتبعه من ادعاه ربا ، فمن تبع دينه حقا جعل فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا به من اليهود إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ يغلبونهم بالحجة والسيف. وقد حقق اللّه فيهم هذا الأمر ، فإن اليهود لم ترفع لهم راية قط ، ولم يتفق لهم ملك ولا دولة إلى زمننا هذا «1».
ثم قال تعالى : ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ بالبعث ، فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من أمر الدين وأمر عيسى. فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي : فأجمع لهم عذابا الآخرة لعذاب الدنيا الذي أصابهم فيها من القتل والسبي. وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ فى الدارين بالنصر والعز فى الدنيا ، وبالرضا والرضوان فى الآخرة ، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ لا يرضى فعلهم ولا يقربهم إليه.
ذلِكَ الذي ذكرت لك من نبأ عيسى ومريم ومن ذكر قبلهما ، نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ أي : العلامات الدالة على صدقك ، لأنها أخبار عن أمور لم تشاهدها ولم تقرأها فى كتاب ، بل هى من الذِّكْرِ الْحَكِيمِ ، وهو القرآن المبين.
الإشارة : كل من طهر سره من الأكدار ، وقدس روحه من دنس الأغيار ، ورفع همته عن هذه الدار ، عرج اللّه بروحه إلى سماء الملكوت ، ورفع سره إلى مشاهدة سنا الجبروت ، وبقي ذكره حيا لا يموت ، وجعل من انتسب إليه فى عين الرعاية والتعظيم ، وفى محل الرفعة والتكريم ، قال - عليه الصلاة والسلام - : «هاجروا تكسبوا العز لأولادكم» ، فمن هاجر وطن الحظوظ والشهوات ، والركون إلى العوائد والمألوفات ، عرجت روحه إلى سماء القدس ومحل الأنس ، وتمكن من العز الذي لا يفنى ، ينسحب عليه وعلى أولاده ومن انتسب إليه إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها ، (و هو خير الوارثين). هذه سنة اللّه فى خلقه ، لأنهم نصروا دين اللّه ورفعوا كلمة اللّه ، فنصرهم اللّه ، ورفعهم اللّه ، قال تعالى : إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ، وقال تعالى : وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا. وفى الحكم : «إن أردت إن يكون لك عز لا يفنى ، فلا تستعزن بعز يفنى». واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) أي : إلى زمن المؤلف ، أما فى زمننا ، فقد أنشئوا لهم دولة ، فى قلب عالمنا الإسلامى ، فى فلسطين العربية ، بمعاونة الدول الظالمة. اللهم أزل دولتهم وفرق شملهم ... آمين.(1/360)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 361
وقال القشيري : الإشارة فيه : إنى متوفيك عنك وقابضك منك ، ورافعك عن نعوت البشرية ، ومطهرك عن إرادتك بالكلية ، حتى تكون مصدقا لنا بنا ، ولا يكون لك من اختيارك شىء ، وتكون إسبال التولي عليك قائما ، وبهذا الوصف كان يظهر على يده إحياء الموتى ، وما كانت تلك الأحداث حاصلة إلا بالقدرة عليه. ه. وقال الورتجبي :
متوفيك عن رسم الحدوثية ، ورافعك إلىّ بنعت الربوبية ، ومطهرك عن شوائب البشرية. ه.
ثم ذكر نشأة عيسى وخلقه ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 59 الى 60]
إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ أي : إن شأنه الغريب فى كونه وجد من غير أب (كمثل آدم). ثم فسر شأن آدم فقال : خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ أي : خلق قالبه من تراب ، ثُمَّ نفخ فيه الروح ، وقالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي : فكان ، فشأنه أغرب من شأن عيسى ، لأنه وجد من غير أب ولا أم ، بخلاف عيسى عليه السّلام ، فلا يستغرب حاله ويتغالى فيه إلا من طبع اللّه على قلبه ، فاستعجز القدرة الإلهية ، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً. هذا هو الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي : الشاكين فى مخلوقيته ، وهذا خطاب للنبى صلّى اللّه عليه وسلم ، على طريق التهييج لغيره ، أو لكل سامع.
وسبب نزول الآية : أنّ وفد نجران قالوا للنبى صلّى اللّه عليه وسلم : مالك تشتم صاحبنا ، فتقول : إنه عبد؟ قال : أجل ، هو عبد اللّه ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول ، فغضبوا ، وقالوا : هل رأيت إنسانا قط من غير أب؟ فإن كنت صادقا فأرنا مثله. فنزلت : إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ. أي : فهو أعجب من عيسى ، لكونه بلا واسطة أصلا. روى أن مريم حملت بعيسى وهى بنت ثلاث عشرة سنة ، وأوحى اللّه إليه على رأس ثلاثين سنة ، ورفعه إليه من بيت المقدس ليلة القدر ، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، وعاشت أمه بعد رفعه ست سنين.
قال عليه الصلاة والسلام : «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم لأنه لم يكن بينى وبينه نبى ، فإنه نازل بأمتى وخليفتى فيهم ، فإذا رأيتموه فاعرفوه ، فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ، سبط الشعر ، كأن شعره يقطر ، وإن لم يصبه بلل ، يدق الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويفيض المال ، وليسلكن الروحاء «1» ، حاجا أو معتمرا ، أو ليثنينّهما جميعا ، ويقاتل الناس على الإسلام ، حتى يهلك اللّه فى زمانه الملل كلها ، ويهلك اللّه فى زمانه مسيح الضلالة ، الكذاب
___________
(1) فج الروحاء : طريق بين مكة والمدينة ، كان طريق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إلى بدر ، وإلى مكة ، عام الفتح وعام الحج.(1/361)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 362
الدجال ، وتقع فى الأرض الأمنة ، حتى ترتع الأسد مع الإبل ، والنمر مع البقر ، والذئاب مع الغنم ، ويلعب الغلمان بالحيات ، ويلبث فى الأرض أربعين سنة ، ثم يتزوج ويولد له ثم يتوفى ، ويصلى المسلمون عليه». ويدفنونه فى حجرة النبي صلّى اللّه عليه وسلم.
الإشارة : اعلم أن الحق - جل جلاله - أظهر هذا الآدمي فى شكل غريب ، وسر عجيب ، جمع فيه بين الضدين ، وأودع فيه سر الكونين ، نورانى ظلمانى ، روحانى جسمانى ، سماوى أرضى ، ملكوتى ملكى ، معنوى حسى ، أودع فيه الروح نورانية لاهوتية فى نطفة ناسوتية ، فوقع التنازع بين الضدين ، فالروح تحن إلى وطنها اللاهوتى ، والنطفة الطينية تحن إلى وطنها الناسوتي ، فمن غلبت روحانية على طينته التحق بالروحانيين ، وكان من المقربين فى أعلى عليين ، فصارت همته منصرفة إلى طاعة مولاه ، والارتقاء إلى مشاهدة نوره وسناه ، فانيا عن حظوظه وهواه ، ومن غلبت طينته على روحانيته التحق بالبهائم أو الشياطين ، وانحط إلى أسفل سافلين ، وكانت همته منصرفة إلى حظوظه وهواه ، غائبا عن ذكر مولاه ، قد اتخذ إلهه هواه.
وتأمل قضية السيد عيسى عليه السّلام لمّا لم ينشأ من نطفة أمشاجية ، كيف غلبت روحانيته ، حيث لم تجد ما يجذبها إلى الحضيض الطيني ، فلم يلتفت إلى هذا العالم الظلماني أصلا ، وكذلك الأنبياء حيث طهروا من بقاياها فى الأصالة ، والأولياء حيث طهروها بالمجاهدة ، كيف صارت أرواحهم لاتشتاق إلا إلى الأذكار والعلوم والأسرار ، فانية فى محبة الواحد القهار ، حتى لحقت بوطنها ، ورجعت إلى أصلها ، محل المشاهدة والمكالمة والمناجاة والمساررة ، هذا هو الحق من ربك فلا تكن من الممترين فى إدراك الروح هذا المقام ، إن لم يغلب عليها عالم الصلصال. واللّه - تعالى - أعلم.
ولما قامت الحجة على النصارى ، وتبيّن عنادهم ، دعاهم إلى المباهلة ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 61 الى 63]
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
قلت : أصل (تعالوا) : تعاليوا ، على وزن تفاعلوا ، من العلو ، فقلبت الياء ألفا لتحركها ، ثم حذفت ، ومن قرأ بالضم نقل ، وأصل معناها : ارتفع ، ثم أطلق على الأمر بالمجيء. والابتهال : التضرع والمبالغة فى الدعاء.
يقول الحق جل جلاله : فَمَنْ خاصمك يا محمد فى شأن عيسى عليه السّلام ، وكان الذي خاصم فى ذلك السيد والعاقب ، لما قدموا مع انصارى نجران على النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، قال لهما النبي صلّى اللّه عليه وسلم : «أسلما» ، قالا : قد أسلمنا قبلك ، قال : «كذبتما ، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما عيسى للّه ولدا ، وعبادتكما الصليب ، وأكلكما الخنزير» ، قالا : إن(1/362)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 363
لم يكن عيسى ولدا للّه فمن أبوه؟ فقال لهما النبي صلّى اللّه عليه وسلم : ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟ قالوا : بلى ، قال : ألستم تعلمون أن ربنا حى لا يموت ، وأن عيسى يأتى عليه الفناء؟ قالوا : بلى ، قال : ألستم تعلمون أن ربنا قيّم كل شىء ، ويحفظه ، ويرزقه؟ قالوا : بلى ، قال : فهل ملك عيسى شيئا من ذلك؟ فقالوا : لا. قال : ألستم تعلمون أن اللّه لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء؟ قالوا : بلى ، قال : فهل يعلم عيسى من ذلك إلا ما علّم؟ قالوا : لا.
قال : فإن ربنا صوّر عيسى فى الرحم كيف شاء ، وربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث ، قالوا : بلى. قال : ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ، ثم غذّى كما يغذى الصبى ، ثم كان يطعم ويشرب ويحدث؟ قالوا : بلى. قال : كيف يكون هذا كما زعمتم؟ فسكتوا ... فأنزل فيهم السورة إلى هنا.
فقال الحق لنبيه - عليه الصلاة السلام - : فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ أي : فى عيسى من النصارى ، مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ بعبوديته ، فَقُلْ لهم : تَعالَوْا نتلاعن ، أي : نلعن الكاذب منا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ أي : يدعو كل واحد منا نفسه وأعزة أهله وألصقهم بقلبه إلى المباهلة ، وإنما قدّمهم على النفس لأن الرجل يخاطر بنفسه دونهم ، فكان تقديمهم أبلغ فى الابتهال ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ ، أي نجهد فى الدعاء على الكاذب ، فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ.
فلما قرأ النبي صلّى اللّه عليه وسلم هذه الآية على وفد نجران ، ودعاهم إلى المباهلة ، قالوا : حتى نرجع وننظر فى أمرنا ، فقالوا للعاقب - وكان ذا رأيهم - : ما ترى؟ فقال : واللّه لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدا نبى مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم ، واللّه ما لا عن قوم قط نبيا فعاش كبيرهم ، ولا نبت صغيرهم ، ولئن فعلتم ذلك لتهلكن ، فوادعوا الرّجل. وانصرفوا ، فأتوه وهو محتضن الحسن آخذ بيد الحسين ، وفاطمة تمشى خلفه ، وعلىّ خلفها ، وهو يقول لهم : «إذا دعوت فأمنوا» ، فقال الأسقف : يا معشر النصارى ، إنى لأرى وجوها لو سألوا اللّه أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله ، فلا تتباهلوا فتهلكوا جميعا إلى يوم القيامة. فقالوا : يا أبا القاسم ، نرى ألا نلا عنك ، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : أسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم ، فأبوا ، فقال : إنى أنابذكم ، فقالوا : مالنا بحرب العرب طاقة ، ولكنا نصالحك على ألا تغزونا ولا تردّنا عن ديننا ، على أن نؤدى إليك فى كل عام ألفى حلة ألفا فى صفر ، ألفا فى رجب ، وثلاثين درعا من حديد.
فصالحهم النبي صلّى اللّه عليه وسلم على ذلك ، فقال النبي : «والذي نفسى بيده لو تلاعنوا لمسخوا قردة ، وخنازير ، ولأضرم عليهم الوادي نارا ، ولا ستأصل اللّه نجران وأهله ، ولما حال الحول على النّصارى كلّهم حتى هلكوا».
قال اللّه تعالى : إِنَّ هذا الذي أوحينا إليك لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ ، خلافا لما يزعم النصارى من التثليث ، وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ فى ملكه الْحَكِيمُ فى صنعه ، فلا أحد يساويه فى قدرته التامة ، ولا فى حكمته البالغة ، فَإِنْ تَوَلَّوْا وأعرضوا عن الإيمان ، فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ، الذين يعبدون غير اللّه.(1/363)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 364
ووضع المظهر موضع الضمير ، ليدل على أن التولي عن الحجج والإعراض عن التوحيد إفساد للدين ، بل يؤدى إلى فساد العالم. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : ينبغى للمريد ، الذي تحقق بخصوصية شيخه ، أن يلاعن من يخاصمه فيه ، ويبعد عنه كل البعد ، ولا يهين له لئلا يركبه ، ويدفع عن شيخه ما استطاع ، فإنّ هذا من التعظيم الذي هو سبب فى سعادة المريد ، ولا يصغى إلى المفسدين الطاعنين فى أنصار الدين. قلت : وقد جاءنى بعض من ينتسب إلى العلم من أهل فاس ، فقال لى : قد اتفقت علماء فاس على بدعة شيخكم ، فقلت له : لو اتفق أهل السموات السبع والأرضين السبع ، على أنه من أهل البدعة ، لقلت أنا : إنه من أهل السنة ، لأنى تحققت بخصوصيته ، كالشمس فى أفق السماء ، ليس دونها سحاب. فاللّه يرزقنا حسن الأدب معهم والتعظيم إلى يوم الدين. آمين. فمن أعرض عن أولياء اللّه من المنكرين (فإن اللّه عليم بالمفسدين).
ثم دعاهم إلى التوحيد الذي اتفقت عليه سائر الأديان ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : آية 64]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
قلت : (سواء) : مصدر ، نعت للكلمة ، والمصادر لا تثنى ولا تجمع ولا تؤنث ، فإذا فتحت السين مددت ، وإذا ضمت أو كسرت قصرت ، كقوله : مَكاناً سُوىً أي : مستو. وسواء كل شىء : وسطه ، قال تعالى : فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ ، أي : وسطه.
يقول الحق جل جلاله : قُلْ يا محمد : يا أَهْلَ الْكِتابِ اليهود والنصارى ، تَعالَوْا : هلموا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ أي : عدل مستوية ، بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ لا يختلف فيها الرسل والكتب والأمم ، هى أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ أي : نوحده بالعبادة ، ونقر له بالوحدانية ، وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً أي : لا نجعل غيره شريكا له فى استحقاق العبادة ، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ أي : لا نقول عزير ابن اللّه ، ولا المسيح ابن اللّه ، ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوا من التحريم والتحليل ، لأنهم بشر مثلنا.
ولمّا نزل قوله تعالى : اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ... قال عدى بن حاتم : ما كنّا نعبدهم يا رسول اللّه ، قال : «أليس كانوا يحلّون لكم ويحرّمون ، فتأخذون بقولهم؟ قال : بلى ، قال : هو ذاك»(1/364)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 365
فَإِنْ تَوَلَّوْا وأعرضوا عن التوحيد فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ، فقد لزمتكم الحجة ، فاعترفوا بأنا مسلمون دونكم ، وأنتم كافرون بما نطقت به الكتب وتواطأت عليه الرسل.
تنبيه : أنظر ما فى هذه الآية من المبالغة وحسن التدرج فى الاحتجاج ، بيّن أولا أحوال عيسى وما تطاور عليه من الأطوار المنافية للألوهية ، ثم ذكر ما يحل عقدتهم ويزيح شبهتهم ، فلما رأى عنادهم ولجاجهم دعاهم إلى المباهلة بنوع من الإعجاز ، ثم لمّا أعرضوا عنها وانقادوا بعض الانقياد ، عاد عليهم بالإرشاد ، وسلك طريقا أسهل وألزم ، بأن دعاهم إلى ما وافق عليه عيسى وسائر الأنبياء والكتب ، ثم لمّا لم يجد ذلك فيهم شيئا ، وعلم أن الآيات والنذر لا تغنى عنهم شيئا أعرض عنهم ، وقال : فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. قاله البيضاوي.
الإشارة : الطرق كثيرة والمقصد واحد ، وهو التوحيد الخاص ، أعنى مقام الفناء والبقاء. فالداعون إلى اللّه كلهم متفقون على الدعوة إلى هذا المقصد ، فكل طريق لا توصل إلى هذا المقصد لا عبرة بها ، وكل داع لا يبلغ إلى هذا الجمال فهو دجال ، فإن رضى بتعظيم الناس ، ولم يبن طريقه على الأساس ، فليس لصاحبه إلا الإفلاس ، وكل من أطاع المخلوق فى معصية اللّه فقد اتخذه ربّا من دون اللّه ، وكل من تولى عن طريق الإرشاد فقد استوجب لنفسه الطرد والبعاد ، فيقول له الواصلون أو السائرون : (فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون). وباللّه التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ولما قدم وفد نجران المدينة ، التقوا مع اليهود ، فاختصموا فى إبراهيم عليه السّلام فأتاهم النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد إنا اختلفنا فى إبراهيم ودينه ، فقالت النصارى : كان نصرانيا ، وقالت اليهود : كان يهوديا ، وهم أولى الناس به ، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : «كلا الفريقين برئ من إبراهيم ، بل كان إبراهيم حنيفا مسلما ، وأنا على دينه ، فاتبعوا دينه الإسلام». فأنزل اللّه :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 65 الى 68]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)(1/365)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 366
قلت : (ها أنتم) : أصله : أنتم ، دخلت عليه هاء التنبيه ، وقال الأخفش : أصله : أأنتم ، فقلبت الهمزة الأولى هاء ، كقوله : هرقت. وتوجيه القراءات معلوم فى محله ، و(أنتم) : مبتدأ ، و(هؤلاء) : خبره ، و(حاججتم) : جملة مبينة للأولى ، أو (حاججتم) : خبر ، و(هؤلاء) : منادى بحذف النداء ، و(حنيفا) : حال ، أي : مائلا عن الأديان إلا دين الإسلام.
يقول الحق جل جلاله : يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ ، ويدعى كل فريق أنه كان على دينه ، وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ ، فكيف يكون يهوديا ، ودينكم إنما حدث بعد إبراهيم بألف سنة؟! وكيف يكون نصرانيا ، ودين النصرانية إنما ظهر بعد إبراهيم بألفى سنة؟! أَفَلا تَعْقِلُونَ فتدعون المحال ، ها أَنْتُمْ يا هؤُلاءِ الحمقى حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ من أمر محمد - عليه الصلاة والسلام - ونبوته ، مما وجدتموه فى التوراة والإنجيل ، فأنكرتموه عنادا وحسدا ، فلم تجادلون فيما لا علم لكم به ، ولا ذكر فى كتابكم من شأن إبراهيم؟ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما خاصمتم فيه ، وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ، بل أنتم جاهلون.
ثم صرح بتكذيب الفريقين فقال : ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مائلا عن العقائد الزائفة ، (مسلما) منقادا لأحكام ربه. وليس المراد أنه كان على ملة الإسلام ، وإلا لكان مشترك الإلزام ، لأن دين الإسلام مؤخر أيضا ، فكان إبراهيم إمام الموحدين ، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كما عليه اليهود والنصارى والمشركون. ففيه تعريض بهم ، ورد لادعائهم أنهم على ملته.
ثم ذكر من أولى الناس به ، فقال : إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ أي : أخصهم به وأقربهم منه ، لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ من أمته فى زمانه ، وَهذَا النَّبِيُّ محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وَالَّذِينَ آمَنُوا لموافقتهم له فى أكثر الأحكام ، قال صلّى اللّه عليه وسلم : «لكلّ نبىّ ولاة من النّبيّين ، وإنّ وليّى منهم أبى وخليل ربّى». يعنى : إبراهيم عليه السّلام ، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ أي : ناصرهم على سائر الأديان ، ومجازيهم بغاية الإحسان.
الإشارة : ترى كثيرا من المتفقرة يخصون الكمال بطريقهم ، ويخاصمون فى طريق غيرهم ، وهى نزعة أهل الكتاب ، حائدة عن الرشد والصواب ، فأولى بالحق من اتبع السنة المحمدية ، وتخلق بالأخلاق المرضية ، وزهد فى الدارين ، ورفع همته عن الكونين ، ورفع حجاب الغفلة عن قلبه ، حتى أشرقت عليه أنوار ربه ، واتصل بأهل التربية النبوية ، فزجوا به فى بحار الأحدية ، ثم ردوه إلى مقام الصحو والتكميل ، فياله من مقام جليل ، فهذه ملة إبراهيم الخليل ، وبها جاء الرسول الجليل حبيب الرحمن ، وقطب دائرة الزمان ، سيد المرسلين ، وإمام العارفين ، ورسول رب العالمين ، صلى الله عليه وسلم دائما إلى يوم الدين.(1/366)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 367
ثم شرع فى معاتبة اليهود وذكر مساوئهم ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 69 الى 71]
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
قلت : (لو) : مصدرية ، أي : تمنوا إضلالكم.
يقول الحق جل جلاله لبعض المسلمين - وهم حذيفة وعمار ومعاذ - دعاهم اليهود إلى دينهم وطمعوا فيهم :
وَدَّتْ طائِفَةٌ أي : تمنت طائفة مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ أي : يفتنونكم عن دينكم ، ويتلفونكم عن طريق الحق ، وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ لأن المسلمين لا يقبلون ذلك منهم ، فرجع الضلال عليهم ، وعاد وباله إليهم ، وتضاعف عذابه عليهم ، وَما يَشْعُرُونَ أن وباله راجع إليهم.
ثم صرح الحق تعالى بعتابهم ، فقال : يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ المنزلة على نبيه محمد صلّى اللّه عليه وسلم وتجحدون رسالته؟ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ أنها من عند اللّه ، وأنه نبى اللّه ، وهو منعوت عندكم فى التوراة والإنجيل ، والمراد أحبارهم ، أو تشهدون أنه نبى اللّه بالمعجزات الواضحات. يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ بالتحريف وإبراز الباطل فى صورة الحق ، حتى كتمتم نعت محمد وحرفتموه ، وأظهرتم موضعه الباطل الذي سولت لكم أنفسكم؟ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنه رسول اللّه حقا وأن دينه حق ، أو :
وأنتم عالمون بكتمانكم.
الإشارة : ترى كثيرا من أهل الرئاسة والجاه من أولاد الصالحين ، وممن ينتسب لهم ، إذا رأوا من ظهر بالخصوصية فى زمانهم يتمنون إضلالهم وإطفاء أنوارهم ، خوفا على زوال رئاستهم ، وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون ، (و اللّه متم نوره ولو كره الكافرون) ، وهذه نزعة يهودية سببها الحسد ، والحسود لا يسود ، وبعضهم يتحقق بخصوصية غيرهم ، فيكتمها وهو يشهد بصحتها ، فيقال لهم : لم تكفرون بآيات اللّه وأنتم تشهدون؟ ولم تلبسون الحق بالباطل ، وتكتمون الحق وأنتم تعلمون؟.
ثم ذكر الحق - تعالى - خدع أهل الكتاب وحيلهم الفارغة ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : آية 72]
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)(1/367)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 368
قال الحسن والسدى : تواطأ اثنا عشر رجلا من يهود خبير - يعنى من أحبارهم - وقال بعضهم لبعض : ادخلوا فى دين محمد أول النهار باللسان لا بالاعتقاد ، واكفروا به آخره ، وقولوا : نظرنا فى كتبنا ، وشاورنا علماءنا ، فوجدنا محمدا ليس بذلك ، وظهر لنا كذبه ، وإنما نفعل ذلك حتى نشكك أصحابه. ه. فحذّر اللّه تعالى المسلمين من قولهم ، فقال جل جلاله : وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعنى : أحبارهم : (آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا) وأظهروا الدخول فى دينهم ، وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ وقولوا : نظرنا فى كتبنا ، وشاورنا علماءنا ، فلم نجد محمدا بالنعت الذي فى التوراة ، لعل أصحابه يشكون فيه - لعنهم اللّه وأضل سعيهم.
وقيل : نزلت فى شأن الكعبة ، فإنّ كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف - من اليهود - قالا لأصحابهما : صلوا معهم إلى الكعبة أول النهار ، ثم صلوا إلى الصخرة آخره ، لعلهم يقولون : هم أعلم منا ، وقد رجعوا ، فيرجعون ، ففضحهم اللّه وأبطلحيلتهم الواهية.
الإشارة : ترى كثيرا من الناس يدخلون فى طريق القوم ، ثم تثقل عليهم أعباؤها ، فيخرجون منها إما لضعفهم عن حملها ، أو لكونهم دخلوا مختبرين لها ، أو على حرف أو حيلة لغيرهم ، فإذا رجع أحد منهم قال الناس : لو كانت صحيحة ما رجع فلان عنها ، ويصدون الناس عن الدخول فيها والدوام عليها ، وهذه نزعة إسرائيلية ، قالوا : آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون وقد قال عليه الصلاة والسلام : «لتسلكن سنن من قبلكم شبرا بشير ، وذراعا بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه ، قالوا : اليهود والنّصارى؟ قال : نعم ، فمن إذن». وباللّه التوفيق.
ثم ذكر الحق - تعالى - مقالة أخرى من مقالاتهم الشنيعة ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 73 الى 74]
وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
قلت : يحتمل أن يكون قوله : (أن يؤتى) : مفعولا ب - (تؤمنوا) ، و(قل إن الهدى هدى اللّه) : اعتراض ، واللام فى «لمن» صلة ، (أو يحاجوكم) : عطف على (يؤتى) ، والتقدير : ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، إلا من كان على دينكم ، ولا تصدقوا أن يحاجوكم عند ربكم ، بل أنتم تحاجون غيركم. فردّ اللّه عليهم (قل إن الهدى هدى اللّه) ، و(إن الفضل بيد اللّه). ويحتمل أن يكون قوله : (أن يؤتى) مفعولا لأجله ، والعامل فيه محذوف ، والتقدير : أدبّرتم ما دبرتم كراهية أن يوتى أحد ما أوتيتم ، ومخافة أن يحاجوكم عند ربكم؟.(1/368)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 369
يقول الحق جل جلاله ، حاكيا عن اليهود : (و) قالوا لا تُؤْمِنُوا أي : لا تقروا ، أو تصدقوا أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ من العلم والحكمة وفلق البحر وسائر الفضائل ، إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دين اليهودية ، وكان على دِينَكُمْ ، ولا تؤمنوا أن يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ لأنكم أصح دينا منهم. قال الحق جل جلاله : قُلْ لهم : إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ يهدى به من يشاء ، وإِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ.
أو يقول الحق جل جلاله : وقالوا : لا تصدقوا ولا تذعنوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ وكان من جلدتكم ، فإن النبوة خاصة بكم. فكذبهم الحق بقوله : قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ ، يخص بها من يشاء من عباده ، فكيف تحصرونها فيكم؟ لأجل أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ قلتم ما قلتم ، ودبرتم ما دبرتم ، حسدا وبغيا ، (أو) خوفا أن يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ ، يغلبوكم بالحجة لظهور دينهم ، قُلْ يا محمد : إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ فلا ينفع فى رده حيلة ولا خدع.
أو يقول الحق جل جلاله ، للمؤمنين ، تثبيتا لهم وتشجيعا لقلوبهم : ولا تصدقوا يا معشر المؤمنين أن يعطى أحد مثل ما أوتيتم من الفضل والدين القويم إلا من تبع دينكم الحق ، وجاء به من عند الحق ، ولا تصدقوا أَوْ يُحاجُّوكُمْ فى دينكم عِنْدَ رَبِّكُمْ ، أو يقدر أحد على ذلك ، فإن الهدى هدى اللّه والفضل بيد اللّه ، يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ الفضل والكرم ، عَلِيمٌ بمن يستحق الخصوصية والفضل ، يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ كالنبوة وغيرها ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ لا حصر لفضله ، كما لا حصر لذاته.
الإشارة : يقول الحق - جلت ذاته ، وعظمت قدرته - لأهل الخصوصية : ولا تقروا بالخصوصية إلا لمن كان على دينكم وطريقكم ، وتزيّا بزيكم ، وبذل نفسه وفلسه فى صحبتكم ، مخافة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الخصوصية ، وهو ليس أهلا لها ، فيأخذها علما ، فإما أن يتزندق أو يتفسق ، أو يحاجوكم بالشريعة فيريق دماءكم كما وقع للحلاج رضي اللّه عنه وفى ذلك يقول الشاعر :
ومن شهد الحقيقة فليصنها وإلّا سوف يقتل بالسّنان
كحلّاج المحبّة إذ تبدّت له شمس الحقيقة بالتّدانى «1»
وقال آخر :
بالسّرّ إن باحوا تباح دماؤهم وكذا دماء البائحين تباح
___________
(1) البيتان : من قصيدة للشيخ محيى الدين بن عربى ، فى كتابه : الإسراء إلى المقام الأسرى ، وفيه : ومن فهم الإشارة فليصنها.(1/369)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 370
وقل أيها العارف ، لمن طلب الخصوصية قبل شروطها أو أنكر وجودها عند أهل شرطها : إن الهدى هدى اللّه يهدى به من يشاء ، والفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء ، والرحمة - التي هى الخصوصية - فى قبضة اللّه ، يخص بها من يشاء ، (و اللّه ذو الفضل العظيم) فمن أراد الخصوصية فليطلبها من معدنها ، وهم العارفون بها ، فيبذل نفسه وفلسه لهم حتى يعرفوه بها. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر الحق - تعالى - وصف اليهود بالخيانة ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 75 الى 76]
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)
قلت : الباء فى (بقنطار) ، بمعنى على ، و(يؤده) : جواب الشرط مجزوم بحذف الياء ، ومن قرأ بإسكان الضمير فلأنه أقامه مقام المحذوف ، فجزمه عوضا عنه ، وقال الفراء : مذهب بعض العرب : يسكنون الهاء إذا تحرك ما قبلها ، يقولون : ضربته ضربا شديدا.
يقول الحق جل جلاله : وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ من أسلم وآمن فصار من أهل الإيمان ، إِنْ تَأْمَنْهُ على بِقِنْطارٍ من المال أو أكثر أداه إليك ، ولم يخن منه شيئا. وفى الحديث : «من ائتمن على أمانة فأداها ، ولو شاء لم يؤدها ، زوجه اللّه من الحور العين ما شاء». وَمِنْهُمْ من بقي على دينه من أهل الخيانة والخسران ، إِنْ تَأْمَنْهُ على بِدِينارٍ فأقل لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً على رأسه ، مبالغا فى مطالبته. نزلت فى عبد اللّه بن سلام ، استودعه قرشى ألفا ومائتى أوقية ذهبا ، فأداها إليه ، وفى فنحاص بن عازوراء اليهودي ، استودعه قرشى آخر دينارا ، فجحده. وقيل : فى النصارى واليهود ، فإن النصارى : الغالب عليهم الأمانة ، واليهود الغالب عليهم الخيانة.
وذلك الاستحلال بسبب أنهم قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ أي : ليس علينا فى شأن من ليسوا أهل كتاب ، ولم يكونوا على ديننا ، حرج فى أخذ مالهم وجحدها ، ولا إثم ، وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنهم كاذبون لأنهم استحلوا ظلم من خالفهم ، وقالوا : لم يجعل لهم فى التوراة حرمة.
وقيل : عامل اليهود رجالا من قريش ، فلما أسلموا تقاضوهم ، فقالوا : سقط حقكم حيث تركتم دينكم. وقال صلّى اللّه عليه وسلم :
«كذب أعداء اللّه ، ما من شىء فى الجاهلية إلّا وهو تحت قدمى ، إلّا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر».(1/370)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 371
ثم كذّبهم الحق - تعالى - فقال : بَلى عليهم فى ذلك سبيل ، فإن مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى الشرك والمعاصي فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ومن أحبه اللّه كيف يباح ماله وتسقط حرمته؟! بل من أسقط حرمته فقد حارب اللّه ورسوله ، أو مَنْ أَوْفى ، بعهد اللّه من أهل الكتاب ، فآمن بمحمد - عليه الصلاة والسلام - وَاتَّقى الخيانة ، وأدى الأمانة ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ. وأوقع المظهر موقع الضمير العائد إلى «من» لعمومه ، فإن لفظ المتقين عام يصدق برد الودائع وغيره ، إشعارا بأن التقوى ملاك الأمر وسبب الحفظ. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قد رأينا بعض الفقراء دخل بلد الحقيقة فسقطت من قلبه هيبة الشريعة ، فتساهل فى أموال الناس وسقطت لديه حرمة العباد ، حتى لا تثق به فى حفظ مال ولا أهل ، فإذا أودعته شيئا أو قارضته لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما. وهذه زندقة ونزعة إسرائيلية ، لا يرضاها أدنى الناس ، فما بالك بمن يدعى أنه أعلى الناس ، وفى بعض الحكم : [كمال الديانة ترك الخيانة] ، وأعظم الإفلاس خيانة الناس ، وفى الحديث : «ثلاث من كنّ فيه فهو منافق ، وإن صلّى وإن صام وزعم أنه مؤمن ، إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان». فإذا احتج لنفسه الأمارة ، وقال : لا سبيل علينا فى متاع العوام ، فقد خلع من عنقه ربقة الإسلام ، واستحق أن يعلو مفرقه الحسام. واللّه تعالى أعلم.
ومن جملة الخيانة : أكل أموال الناس بالأيمان الفاجرة ، كما أشار إلى ذلك الحق - تعالى - فقال :
[سورة آل عمران (3) : آية 77]
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ أي : يستبدلون بالوفاء بعهد اللّه كالإيمان بالرسول - عليه الصلاة والسلام - الذي أخذ على بنى إسرائيل فى التوراة وبيان صفته ، وأداء الأمانة ، فكتموا ذلك واستبدلوا به ثَمَناً قَلِيلًا حطاما فانيا من الدنيا ، كانوا يأخذونه من سفلتهم ، فخافوا إن بيّنوا ذلك زال ذلك عنهم ، وكذلك الأيمان التي أخذها اللّه عليهم لئن أدركوا محمدا صلّى اللّه عليه وسلم ليؤمنن به ولينصرنه ، فنقضوها ، خوفا من زوال رئاستهم ، فاستبدلوا بالوفاء بها ثمنا قليلا فانيا ، أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ أي : لا نصيب لهم ، فِي الْآخِرَةِ ، وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ بما يسرهم ، أو بشىء أصلا ، وإنما الملائكة تسألهم ، وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ نظرة رحمة ، بل يعرض عنهم ، غضبا عليهم وهوانا بهم ، وَلا يُزَكِّيهِمْ لا يطهرهم من ذنوبهم ، أو لا يثنى عليهم ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي : موجع.
قال عكرمة : نزلت فى أبى رافع وكنانة بن أبى الحقيق وحيى بن أخطب ، وغيرهم من رؤساء اليهود ، كتموا ما عهد اللّه إليهم فى التوراة فى شأن النبي صلّى اللّه عليه وسلم من بيان صفته ، فكتموا ذلك وكتبوا غيره ، وحلفوا أنه من عند اللّه ، لئلا يفوتهم الرشا من أتباعهم.(1/371)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 372
وقال الكلبي : إن ناسا من علماء اليهود كانوا ذا حظ من علم التوراة ، فأصابتهم سنة ، فأتوا كعب بن الأشرف يستميرونه ، أي : يطلبون منه الميرة - وهو الطعام - ، فقال لهم كعب : هل تعلمون أن هذا الرجل رسول فى كتابكم؟
قالوا : نعم ، أو ما تعلمه أنت؟ قال : لا ، قالوا : فإنا نشهد أنه عبد اللّه ورسوله ، قال كعب : لقد قدمتم علىّ ، وأنا أريد أن أميركم وأكسوكم ، فحرمكم اللّه خيرا كثيرا ، قالوا : فإنه شبه لنا ، فرويدا حتى نلقاه ، فانطلقوا ، فكتبوا صفة غير صفته ، ثم أتوا نبى اللّه - عليه الصلاة والسلام - فكلموه ، ثم رجعوا إلى كعب ، فقالوا : قد كنا نرى أنه رسول اللّه ، فأتيناه فإذا هو ليس بالنعت الذي نعت لنا ، وأخرجوا الذي كتبوه ، ففرح كعب ، ومارهم. فنزلت الآية. قلت : انظر الطمع ، وما يصنع بصاحبه! والعياذ باللّه.
وقيل : نزلت فى رجل أقام سلعته فى السوق ، وحلف لقد أعطى فيها كذا وكذا ، وقيل : نزلت فى الأشعث بن قيس ، كانت بينه وبين رجل خصومة ، فتوجهت اليمين على الرجل ، فأراد أن يحلف. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قد أخذ اللّه العهد على الأرواح ألا يعبدوا معه غيره ، ولا يميلوا إلى شىء سواه ، فكل من مال إلى شىء أو ركن بالمحبة إلى غير اللّه ، فقد نقض العهد مع اللّه ، فلا نصيب له فى مقام المعرفة ، ولا تحصل له مشاهدة ولا مكالمة حتى يثوب ويتوجه بكليته إلى مولاه. واللّه - تعالى - أعلم.
ومن مساوئهم أيضا : تحريفهم لكتاب اللّه ، كما أشار إلى ذلك الحق - تعالى - بقوله :
[سورة آل عمران (3) : آية 78]
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
يقول الحق جل جلاله : وَإِنَّ من أهل الكتاب لَفَرِيقاً ، وهو كعب بن الأشرف ، وحيى بن أخطب ، ومالك بن الصيف ، وأبو ياسر ، وشعبة بن عامر ، يَلْوُونَ أي : يفتلون أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ أي : التوراة عند قراءته ، فيميلون عن المنزل إلى المحرف ، لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ أي : لتظنوا أن ذلك المحرف من التوراة ، وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فيما نسبوا إليه ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنه ليس من عند اللّه.
قال ابن عباس : نزلت فى اليهود والنصارى جميعا ، حرفوا التوراة والإنجيل ، وألحقوا به ما ليس منه ، وأسقطوا منه الدين الحنيف ، فبيّن اللّه كذبهم. وقيل : فى الرجم ، حيث كتموا الرجم ، وألقى قارئ التوراة يده على آية الرجم ، وقرأ ما حولها ، فقال له ابن سلام : ارفع يديك ، فإذا آية الرجم تلوح. واللّه أعلم.(1/372)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 373
الإشارة : هذه الآية تنسحب على علماء السوء ، الذين يفتون بغير المشهور ، لحظ يأخذونه من الدنيا ، وعلى قضاة الجور الذين يحكمون بالهوى ، ويعتمدون على الأقوال الواهية ، ويقولون هو من عند اللّه ، وما هو من عند اللّه.
وكذلك بعض المنتسبين من الفقراء ، يتصنعون إلى العامة ، يطمعون فيما فى أيديهم من الحطام ، فيظهرون لهم علوما ومعارف وحكما ، يلوون ألسنتهم بها وقلوبهم خاوية من معناها ، فظاهر حالهم يوهم أن ذلك موافق لقلوبهم ، وأنهم عاملون بذلك ، وباطنهم يكذبهم فى ذلك ، (و اللّه يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم).
ثم أبطل اللّه تعالى شبهة اليهود والنصارى فى عبادة عيسى وعزير وغيرهم ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 79 الى 80]
ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
قلت : البشر : اسم جمع لا مفرد له ، يطلق على الجماعة والواحد. والرباني : هو الذي يربى الناس ويؤدبهم ويهذبهم بالعلم والعمل. وقال ابن عباس : (هو الذي يربى الناس بصغار العلم قبل كباره) ، والنون فيه للمبالغة ، كلحيانى ورقبانى. و(لا يأمركم) بالرفع ، استئناف ، وبالنصب : عطف على «يقول» ، و«لا» مزيدة ، : أي ما كان لبشر أن يستنبئه اللّه ، ثم يأمر بعبادة نفسه ، ويأمر باتخاذ الملائكة أربابا. أو غير مزيدة ، والتقدير : ليس له أن يأمر بعبادته ولا باتخاذ الملائكة أربابا.
يقول الحق جل جلاله : ما كانَ ينبغى لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ أي : الفصل بين العباد ، وَالنُّبُوَّةَ أي : الوحى بالأحكام ، ثُمَّ يَقُولَ بعد ذلك لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ أو مع اللّه ، أو يرضى أن يعبد من دون اللّه ، وَلكِنْ يقول لهم : كُونُوا رَبَّانِيِّينَ أي : علماء باللّه ، فقهاء فى دينه ، حلماء على الناس ، تربون الناس بالعلم والعمل والهمة والحال ، بسبب بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ من كتاب اللّه وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ منه ، أو بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الناس من الخير بكتاب اللّه ، وما كنتم تدرسونه عليهم. ولما مات ابن عباس - رضى اللّه عنهما - قال محمد بن الحنفية : (مات ربّانى هذه الأمة).
وَلا يَأْمُرَكُمْ ذلك البشر الذي خصه الله بالنبوة ، أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً من دون الله ، أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي : منقادون لأحكام الله. قيل : سبب نزول الآية : أن نصارى نجران قالوا : يا محمد تريد أن نعبدك ونتخذك ربا؟ فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : «معاذ الله أن نعبد غير الله ، أو نأمر بعبادة غيره». وقيل : إن رجلا قال : يا رسول الله : نسلّم عليك كما يسلّم بعضنا على بعض ، أفلا نسجد لك؟ فقال :
«لا ينبغى أن يسجد أحد لأحد من دون اللّه ، ولكن أكرموا نبيّكم ، واعرفوا الحقّ لأهله».(1/373)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 374
الإشارة : ما زال الفقراء يعظمون أشياخهم ، ويبالغون فى ذلك حتى يقبّلون أرجلهم والتراب بين أيديهم ، ويجتهدون فى خدمتهم «1» ، فإذا رءاهم الأشياخ فعلوا ذلك سكتوا عنهم ، لأن ذلك هو ربحهم وسبب فتحهم ، وفى ذلك قال القائل :
بذبح النفوس وحط الرءوس تصفى الكئوس لكنهم يرشدونهم إلى الحضرة ، حتى يفنوهم عن شهود الواسطة ، فيكون تعظيمهم وحط رأسهم إنما هو لله لا لغيره ، وحينئذ يكونون ربانيين ، علماء بالله مقربين ، وكان شيخنا يقول : لا تزورونى على أنى شيخكم ، ولكن اعرفوا فينا ، وأفنوا عن رؤية حسنا ، حتى يكون التعظيم إنما هو لله ربنا. ه. فدلالة الأشياخ للفقراء على التعظيم والأدب ليس ذلك مقصودا لأنفسهم ، وحاشاهم من ذلك. ما كان لبشر أن يؤتيه الله الخصوصية ثم يقول للناس كونوا عبادا لى من دون اللّه ، ولكن يقول لهم : كونوا ربانيين عارفين بالله ، حتى يكون تعظيمكم إنما هو لله ، ولا يأمر أيضا بالفرق حتى يتخذوا الأشياء أربابا من دون اللّه ، ولكن يأمر بالجمع حتى يغيبوا عما سوى الله ، وكيف يأمرهم بالفرق ، وهو إنما يدلهم على الجمع؟ أيأمرهم بالكفر بعد أن كانوا مسلمين. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر أخذ الميثاق على الأنبياء وأممهم فى الإيمان بالنبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 81 الى 82]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82)
قلت : اللام فى (لما) ، موطئة للقسم لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستخلاف ، و(ما) : يحتمل الشرطية ، و(لتؤمنن) : جواب القسم ، سد مسد الجواب ، أي : مهما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول الله لتؤمنن به.
ويحتمل الموصولية ، و(لتؤمنن) : خبر عنه ، وحذف شرط يدل عليه السياق أي : للذى آتيناكم من كتاب وحكمة ، ثم إذا جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به. ومن قرأ بكسر اللام كان تعليلا للأمر بالإيمان بالرسول ، أي :
لأجل الذي خصصتكم به إذا جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ، وإذا كان أخذ الله الميثاق على الأنبياء كان على الأتباع أولى ، أو استغنى بذكر الأنبياء عن ذكر أتباعهم لأنهم فى حكمهم.
___________
(1) هذا مشروط كما بين الشيخ مرارا - بأن يكون فى حدود الشرع الشريف.(1/374)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 375
يقول الحق جل جلاله : واذكر إِذْ أخذنا الميثاق على النبيين من لدن آدم عليه السّلام إلى عيسى عليه السّلام. وقلنا لهم : والله للذى خصصتكم به مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ، ثم إن ظهر رسول مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ أنتم وأممكم ، أو : لأجل الذي خصصتكم به مما تقدم لئن أدركتم محمدا لتؤمنن به ولتنصرنه. قال سيدنا على - كرم الله وجهه - : (لم يبعث اللّه نبيا ، آدم ومن بعده ، إلا أخذ عليه العهد فى محمد ، وأمره بأخذ العهد على قومه ليؤمننّ به ، ولئن بعث وهم أحياء لينصرنّه).
قالَ الحق جل جلاله لمن أخذ عليهم العهد : أَأَقْرَرْتُمْ بذلك وقبلتموه ، وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي أي :
عهدى وميثاقى؟ قالُوا أَقْرَرْنا وقبلنا ، قالَ فَاشْهَدُوا على أنفسكم ، أو ليشهد بعضكم على بعض بالإقرار ، أو فاشهدوا يا ملائكتى عليهم ، وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ، وفيه توكيد وتحذير عظيم ، فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ الإقرار والشهادة ، وأعرض عن الإيمان به ، ونصره بعد ظهوره ، فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن الإيمان المتمردون فى الكفران.
الإشارة : كما أخذ الله العهد على الأنبياء وأممهم فى الإيمان به عليه الصلاة السلام ، أخذ الميثاق على العلماء وأتباعهم من العامة ، لئن أدركوا وليا من أولياء الله ، حاملا لواء الحقيقة ، مصدقا لما معهم من الشريعة ، ليؤمنن به ولينصرنه ، فمن تولى وأعرض عن الإذعان إليهم فأولئك هم الفاسقون الخارجون عن دائرة الولاية ، محرومون من سابق العناية ، فإن الحقيقة إنما هى لب الشريعة وخلاصتها ، فإنما مثل الحقيقة والشريعة كالروح للجسد ، فالشريعة كالجسد ، والحقيقة كالروح ، فالشريعة بلا حقيقة جسد بلا روح ، والحقيقة بلا شريعة روح بلا جسد ، فلا قيام لهذا إلا بهذا ، فمن تشرّع ولم يتحقّق فقد تفسق ، ومن تحقق ولم يتشرع فقد تزندق ، ومن جمع بينهما فقد تحقق ، ومن خرج عنهما فقد خرج عن دين الله وطلب غيره. وإليه توجه الإنكار بقوله :
[سورة آل عمران (3) : آية 83]
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
قلت : (أ فغير) : مفعول مقدم ، و(يبغون) : معطوف على محذوف ، أي : أتتولون فتبغون غير دين الله ، وقدم المعمول لأنه المقصود بالإنكار ، و(طوعا وكرها) : حالان ، أي : طائعين أو كارهين.
يقول الحق جل جلاله للنصارى واليهود ، لمّا اختصموا إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، وادعوا أن كل واحد على دين إبراهيم ، فقال لهم - عليه الصلاة والسلام : «كلاكما برىء من دينه ، وأنا على دينه ، فخذوا به» ، فغضبوا ، وقالوا :
والله لا نرضى بحكمك ولا نأخذ بدينك ، فقال لهم الحق جل جلاله - منكرا عليهم - : أفتبغون غير دين الله الذي ارتضاه لخليله وحبيبه ، وقد انقاد له تعالى مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طائعين ومكرهين ، فأهل السموات(1/375)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 376
انقادوا طائعين ، وأهل الأرض منهم من انقاد طوعا بالنظر واتباع الحجة أو بغيرها ، ومنهم من انقاد كرها أو بمعاينة ما يلجئ إلى الإسلام كنتق الجبل وإدراك الغرق والإشراف على الموت ، أو : «طوعا» كالملائكة والمؤمنين ، فإنهم انقادوا لما يراد منهم طوعا ، (و كرها) كالكفار فانقادوا لما يراد منهم كرها ، وكلّ إليه راجعون ، لا يخرج عن دائرة حكمه ، أو راجعون إليه بالبعث والنشور. والله تعالى أعلم.
الإشارة : اعلم أن الدين الحقيقي هو الانقياد إلى الله فى الظاهر والباطن ، أما الانقياد إلى الله فى الظاهر فيكون بامتثال أمره واجتناب نهيه ، وأما الانقياد إلى الله فى الباطن فيكون بالرضى بحكمه والاستسلام لقهره.
فكل من قصّر فى الانقياد فى الظاهر ، أو تسخط من الأحكام الجلالية فى الباطن ، فقد خرج عن كمال الدين ، فيقال له : أفغير دين الله تبغون وقد انقاد له (من فى السموات والأرض طوعا وكرها) ، فإما أن تنقاد طوعا أو ترجع إليه كرها. وفى بعض الآثار يقول الله تبارك وتعالى : «من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي ، فليخرج من تحت سمائى ، وليتخذ ربّا سواى».
وسبب تبرّم القلب عن نزول الأحكام القهرية مرضه وضعف نور يقينه ، فكل من استنكف عن صحبة الطبيب ، فله من هذا العتاب حظ ونصيب ، فالأولياء حجة الله على العلماء ، والعلماء حجة الله على العوام ، فمن لم يستقم ظاهره عوتب على تفريطه فى صحبة العلماء ، ومن لم يستقم باطنه عاتبه الله تعالى على ترك صحبة الأولياء ، أعنى العارفين. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم بيّن الحق - تعالى - حقيقة الإيمان والإسلام الذي يجب اتباعه على جميع الأنام ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : آية 84]
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
قلت : (أنزل) : يتعدى بإلى لأنه ينتهى إلى الرسل ، ويتعدى بعلى ، لأنه يأتى من ناحية العلو والاستعلاء ، وفرّق بعضهم بين التعبير هنا بعلى وفى البقرة بإلى ، فقال : لأن الخطاب هنا للرسول بالخصوص ، وقد أنزل عليه الوحى مباشرة ، وهناك الخطاب للمسلمين ، وإنما أنزل الوحى متوجها إليهم بالواسطة ، ولم يكن عليهم بالمباشرة.
والله تعالى أعلم.(1/376)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 377
يقول الحق جل جلاله : قُلْ يا محمد لأهل الكتاب الذين فرقوا فى إيمانهم بين الرسل : أما نحن فقد آمنا بالذي أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ على جميع الأنبياء والرسل لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ كما فرّقتم أنتم ، فضللتم ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي : منقادون لأحكامه الظاهرة والباطنة ، أو مخلصون فى أعمالنا كلها ، وقدّم المنزل علينا على المنزل على غيرنا ، لأنه عيار عليه ومعرّف به. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ينبغى للفقير أن يبالغ فى تعظيم شيخه ، ويسوغ له التغالى فى شأنه ما لم يخرجه عن طور البشر ، وما لم يؤد ذلك إلى إسقاط حرمة غيره من الأولياء بالتنقيص أو غيره ، فحرمة الأولياء كحرمة الأنبياء ، فمن فرّق بينهم حرم بركة جميعهم. وبالله التوفيق.
ثم إن ملة الإسلام التي جاء بها نبينا - عليه الصلاة والسلام - هى التي أحرزت هذا الاعتقاد الصحيح ، فكل من خرج عنها فقد ضل عن الحق الصريح ، كما أشار إلى ذلك الحق تعالى بقوله :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 85 الى 86]
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)
قلت : (و شهدوا) : عطف على ما فى (إيمانهم) من معنى الفعل ، والتقدير : بعد أن آمنوا وشهدوا.
يقول الحق جل جلاله لرجال من الأنصار ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بمكة ، منهم الحارث بن سويد الأنصاري : وَمَنْ يطلب غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً يتدين به فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ أبدا ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ لأنه أبطل الفطرة السليمة التي فطر الناس عليها ، واستبدلها بالتقليد الرديء ، بعد أن عاين سواطع البرهان ، وشهدت نفسه بالحق والبيان ، ولذلك وقع التعجب والاستبعاد من هدايته فقال : كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بعد أن آمنوا ، وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ أي : المعجزات الواضحات ، فإن الحائد عن الحق بعد ما وضح ، منهمك فى الضلال ، بعيد عن الرشاد ، فقد ظلم نفسه وبخسها ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالإخلال بالنظر ، ووضعوا الكفر موضع الإيمان ، ولعل هذا فى قوم مخصوصين سبق لهم الشقاء.(1/377)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 378
ثم ذكر جزاءهم ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 87 الى 88]
أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88)
يقول الحق جل جلاله : أُولئِكَ المرتدون عن الإسلام - جَزاؤُهُمْ : أن تلعنهم الملائكة والناس أجمعون ، مؤمنهم وكافرهم ، لأن الكافر يلعن من ترك دين الحق ، وإن كان لا يشعر بمن هو على الحقّ. خالِدِينَ فى اللعنة ، أو فى النار ، لدلالة السياق عليها ، أو فى العقوبة. لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ ساعة ، ولا هم يمهلون عنها لحظة.
ثم إنّ الحارث ندم ، وأرسل إلى قومه أن اسألوا الرسول صلّى اللّه عليه وسلم ، هل لى من توبة؟ فنزل قوله تعالى :
[سورة آل عمران (3) : آية 89]
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
يقول الحق جل جلاله : إلا من تاب من بعد الردة ، فأسلم وأصلح ما أفسد ، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ له فيما فعل ، رَحِيمٌ به حيث تاب.
ولمّا نزلت الآية حملها إليه رجل من قومه وقرأها عليه ، فقال الحارث : إنك والله فيما علمت لصدوق ، وإن النبي صلّى اللّه عليه وسلم لأصدق منك ، وإن الله - تعالى - لأصدق الثلاثة ، فرجع الحارث إلى المدينة ، فأسلم وحسن إسلامه.
الإشارة : كل من ابتغى الخصوصية من غير أهلها ، أو ادعاها ولم يأخذها من معدنها ، فلن تقبل منه ، وهو عند القوم من الخاسرين فى طريق الخصوص ، فكل من لا شيخ له فى هذا الشأن فهو لقيط ، لا أب له ، دعىّ ، لا نسب له.
والمراد بأهلها : العارفون بالله ، أهل الفناء والبقاء ، أهل الجذب والسلوك ، أهل السكر والصحو ، الذين شربوا الخمر فسكروا ثم صحوا وتكملوا ، فمعدن الخصوصية عند هؤلاء ، فكل من لم يصحبهم ولم يشرب من خمرتهم ، لا يقتدى به ، ولو بلغ من الكرامة ما بلغ ، وأخسر من هذا من صحب أهل هذه الخمرة ، وشهد بأن طريقهم حق ، ثم رجع عنها ، فهذا مغبون ملعون عند كافة الخلق ، أي : مطرود عن شهود الحق ، إلا من تاب ورجع إلى صحبتهم والأدب معهم ، فإن الله غفور رحيم.
ثم ذكر الحق تعالى من ارتدّ وبقي على كفره ، حتى مات ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : آية 90]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)(1/378)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 379
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ ارتدوا عن الإيمان ، ثُمَّ ازْدادُوا فى الكفر ، وقالوا : نتربص بمحمد ريب المنون ، لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ أي : لا توبة لهم فتقبل ، لأنه سبق لهم الشقاء ، أو لأنهم لا يتوبون إلا عند الغرغرة ، أو لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ ما داموا على كفرهم. وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ المنهمكون فى الضلالة.
قيل : نزلت فى أصحاب الحارث بن سويد المتقدم ، وكانوا أحد عشر رجلا ، لما رجع الحارث قالوا : نقيم بمكة على الكفر ما بدا لنا ، فمتى أردنا الرجعة رجعنا ، فلما افتتح النبي صلّى اللّه عليه وسلم مكة ، دخل فى الإسلام بعضهم ، فقبلت توبته ، وبقي من بقي على كفره ، فنزلت الآية فيهم. وقيل : نزلت فى اليهود ، كفروا بعيسى بعد إيمانهم بأنبيائهم ، ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وقيل : نزلت فى النصارى كفروا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم بعد إيمانهم بعيسى ، ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً بإصرارهم عليه. وقيل : نزلت فى الفريقين معا ، كفروا بنبينا محمد صلّى اللّه عليه وسلم بعد إيمانهم به قبل ظهوره ، ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً بتمردهم فيه ، وتماديهم على المعاصي. والله تعالى أعلم.
الإشارة : اعلم أن من دخل طريق التربية ، وأخذ فى تهذيب نفسه وتطهيرها من المساوئ وأوساخ الحس ، ثم غلبته القهرية ورجع عنها ، فإن تاب قريبا ورجع إليها سهل عليه الرجوع ، ورجى نجحه وقبلت توبته ، وإن استمر على رجوعه عنها حتى ألفت نفسه البطالة لن ترجى توبته وصار من الضالين ، فمثله كآنية ، فرّغت منها لبنا أو عسلا ، وعمرتها بالقطران ، فإن بادرت بإهراقه منها قريبا سهل غسلها ، وإن أمهلتها حتى صبغ فيها عسر غسلها ، وتعذر زوال رائحته منها. [فإن مات على رجعته فلا يحشر فى الآخرة مع أهل هذه الرفقة ، ولو شفع فيه ألف عارف ، بل من كمال المكر به أن يلقى شبهه فى الآخرة على غيره ، حتى يتوهم عارفوه من أهل المعرفة أنه هو ، فلا يخطر بباله أنه يشفع فيه ]. قاله القشيري.
قال المحشى : وما ذكره ربما ينظر إلى قضية الخليل مع أبيه ، حين يلقاه وعليه القترة ، فيريد الشفاعة له ، فيمسخ ذيخا «1» متلطخا - أي : خنزيرا - فينكره ، كما فى الحديث الصحيح ، فتذكر واعتبر. ه. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم ذكر من مات على كفره ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : آية 91]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91)
___________
(1) الذيخ - بكسر الذال بعدها ياء ساكنة - : ذكر الضباع. والجمع : أذياخ وذيوخ وذيخة. وأراد بالتلطخ : التلطخ برجيعه أو بالطين.(1/379)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 380
قلت : (ذهبا) : تمييز ، و(لو افتدى به) : محمول على المعنى ، كأنه قيل : فلن يقبل من أحدهم فدية ، ولو افتدى بملء الأرض ذهبا ، أو عطف على محذوف ، أي : فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا لو تقرب به فى الدنيا ، ولو افتدى به من العذاب فى الآخرة. قاله البيضاوي.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ، واستمروا على كفرهم حتى ماتوا ، لن يُقْبَلَ منهم فدية ، ولو افتدوا بملء الأرض ذهبا ، بل يحصل لهم الإياس من رحمة الله ، أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فلا ينفعهم فداء منه ولا شفاعة ولا حميم ، وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ينصروهم من عذاب رب العالمين.
قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : «يجاء بالكافر يوم القيامة ، فيقال له : أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا - أكنت مفتديا به؟
فيقول : نعم ، نعم ، فيقال له : قد سئلت ما هو أيسر من ذلك». يعنى : لا إله إلا الله. ثبتنا الله عليها إلى الممات عالمين بها. آمين.
الإشارة : كل من كفر بطريق أهل الخصوصية ، وحرم نفسه من دخول الحضرة القدوسية ، واستمر على كفرانه إلى الممات ، فلا شك أنه يحصل له الندم وقد زلت به القدم ، لأنه مات مصرا على الكبائر وهو لا يشعر ، فإذا حشر مع عوام المسلمين ، وسكن فى ربض الجنة مع أهل اليمين ، ثم رأى منازل المقربين فى أعلى عليين ، ندم وتحسر «1» ، وقد غلبه القدر ، فلو اشترى المقام معهم بملء الأرض ذهبا ما نفعه ذلك ، فيمكث فى غمّ الحجاب وعذاب القطيعة هنالك ، مقطوع عن شهود الأحباب على نعت الكشف والبيان ، ممنوع عن الشهود والعيان. وبالله التوفيق.
ولمّا حكم الحق تعالى بأن الفداء لا ينفع يوم القيامة ذكر أفضل ما يفتدى به العبد فى دار الدنيا لأنه ينفع فيها ذلك ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : آية 92]
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
قلت : البرّ : كمال الطاعة.
يقول الحق جل جلاله : لَنْ تَنالُوا كمال الطاعة والتقرب حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ، أو : لن تنالوا برّ الله ، الذي هو الرضى والرضوان ، حَتَّى تُنْفِقُوا بعض ما تُحِبُّونَ من المال وغيره ، كبذل الجاه فى معاونة الناس ، إن صحبه الإخلاص ، وكبذل البدن فى طاعة الله ، وكبذل المهج فى سبيل الله. ولمّا نزلت الآية
___________
(1) هذا باعتبار عدم إدراكهم لمنازل المقربين ، وإن كان مجرد دخول الجنة فوز ونجاح قال تعالى : فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ .. الآية.(1/380)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 381
جاء أبو طلحة فقال : يا رسول الله ، إن أحب أموالى إلىّ بيرحاء - وهو بستان كان خلف المسجد النبوي - وهو صدقة لله ، أرجو برها وذخرها ، فقال له - عليه الصلاة والسلام - «بخ بخ ذلك مال رابح - أو رائح - وإنّى أرى أن تجعلها فى الأقربين». فقسمها أبو طلحة فى أقاربه.
وجاء زيد بن حارثة بفرس كان يحبها ، فقال : هذه فى سبيل الله ، فحمل عليها رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم أسامة ولده ، فقال زيد : إنما أردت أن أتصدق بها ، فقال - عليه الصلاة السلام - : «إنّ اللّه تعالى قد قبلها». فدل ذلك على أن الصدقة على الأقارب أفضل. وأعتقت امرأة جارية لا تملك غيرها ، كانت تحبها ، واشترطت عليها أن تقيم معها ، فلما عتقت ، ذهبت ، فقال لها عليه الصلاة والسلام : «دعيها فقد حجبتك عن النار».
وأمر عمر بن الخطاب بشراء جارية من سبى العراق ، فلما جىء بها ، ورآها عمر أعجبته غاية ، فقال : إن الله تعالى يقول : لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ، فأعتقها. وذكر ابن عمر هذه الآية ، فلم يجد عنده أحبّ من جارية كانت عنده ، يطؤها فأعتقها ، وقال : لو لا أنى لا أعود فى شىء جعلته لله لنكحتها. وكان الربيع يعطى للسائل إذا وقف فى بابه السكر ، فإذا قيل له فى ذلك ، قال : إن الربيع يحب السكر.
ثم إن الله - تعالى - يقبل الصدقة من المحبوب أو غيره ، ولذلك قال : وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ فيجازيكم بحسبه.
الإشارة : ليس للفقير شىء أحبّ إليه من نفسه التي بين جنبيه ، بل عند جميع الناس ، فمن بذل روحه فى مرضاة الله نال رضوان الله ومعرفته ، وهو غاية البر ، فمن أذل نفسه لله أعزه الله ، ومن أفقر نفسه لله أغناه الله ، ومن تواضع لله رفعه ، فبذل النفس لله هو تقديمها لشيخ التربية يفعل بها ما يشاء ، فكل ما يشير به إليه بادر إليه بلا تردد ، فمن فعل ذلك فقد نال غاية البر ، وأنفق غاية ما يحب ، وكل من بذل نفسه بذل غيرها بالأحرى ، إذ ليس أعز منها ، وفى ذلك يقول ابن الفارض رضي اللّه عنه :
مالى سوى روحى ، وباذل نفسه «1» فى حبّ من يهواه ليس بمسرف
فلئن رضيت بها فقد أسعفتنى يا خيبة المسعى إذا لم تسعف
وقال الشيخ أبو عبد الله القرشي : حقيقة المحبة أن تهب كلّك لمن أحببته ، حتى لا يبقى لك منك شىء. ه.
وقال الجنيد رضي اللّه عنه : لن تنالوا محبة الله حتى تسخوا بأنفسكم لله. ه. ___________
(1) فى الأصل : روحه.(1/381)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 382
ولما قال عليه الصلاة والسلام لليهود : «أنا على ملة إبراهيم». - كما تقدم - قالوا : كيف تكون على ملة إبراهيم ، وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها؟ ، وكان ذلك حراما على إبراهيم ، فأنزل الله تعالى :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 93 الى 95]
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)
قلت : (إسرائيل) : هو يعقوب عليه السّلام.
يقول الحق جل جلاله : كُلُّ الطَّعامِ كانَ حلالا على بنى إسرائيل ، كما كان حلالا على الأنبياء كلهم ، إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ أي : يعقوب ، عَلى نَفْسِهِ ، كلحوم الإبل وألبانها ، قيل : كان به عرق النسا «1» ، فنذر :
إن شفاه الله لم يأكل أحب الطعام إليه ، وكان ذلك أحب الطعام إليه. وقيل : فعل ذلك للتداوى بإشارة الأطباء ، فترك ذلك بنوه ولم يحرم عليهم فى التوراة ، وإنما هو شىء حرموه على أنفسهم.
فالطعام كله كان حلالا على بنى إسرائيل وعلى الأنبياء كلهم قبل نزول التوراة ، فلما نزلت التوراة حرم الله عليهم أشياء من الطيبات لظلمهم وبغيهم ، فإن ادعوا أن لحوم الإبل كانت حراما على إبراهيم ، وأن كل ما حرم عليهم كان حراما على إبراهيم وعلى الأنبياء قبله ، فقل لهم : كذبتم فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها هل تجدون ذلك فيها؟ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فى قولكم : إنّ كل شىء حرم عليكم كان حراما على إبراهيم. روى : أنه - عليه الصلاة والسلام - لما قال لهم ذلك بهتوا ، ولم يجسروا أن يأتوا بالتوراة ، فتبين افتراؤهم على الله فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
بزعمه أن الله حرّم لحوم الإبل وألبانها قبل نزول التوراة ، مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
البيان وإلزامهم الحجة ، فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
المكابرون بالباطل بعد ما وضح الحق.
قُلْ لهم يا محمد : صَدَقَ اللَّهُ فيما أنزل ، وكذبتم فيما قلتم ، فتبين أن ملة إبراهيم هى الإسلام الذي جاء به محمد صلّى اللّه عليه وسلم فأسلموا ، واتبعوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ، فإن ملة الإسلام موافقة لملة إبراهيم ، أو عينها ، فادخلوا فيه وتخلصوا من اليهودية التي اضطرتكم إلى التحريف والمكابرة ، وألزمتكم تحريم طيبات أحلها الله لإبراهيم ومن تبعه ، وقد خالفتم التوراة التي زعمتم أنكم متمسكون بها ، وأشركتم مع الله عزيرا وغيره ، وقد كان إبراهيم حنيفا مسلما وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
___________
(1) النساء : العصب الوركى ، وهو عصب يمتد من الورك إلى الكعب ، وهو الذي يأخذه المرض.(1/382)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 383
قال البيضاوي : فيه إشارة إلى أن اتّباعه - أي : إبراهيم - واجب فى التوحيد الصرف والاستقامة فى الدين ، والتجنب عن الإفراط والتفريط ، وتعريض بشرك اليهود. ه.
الإشارة : إذا تحقق للفقير الإخلاص ، وحصل على التوحيد الخاص ، كان الطعام كله حلالا له ، لأنه يأخذه بالله ، ويتناوله من يد الله ويدفعه لله ، مع موافقة الشريعة ، ولم يغض من أنوار الطريقة بحيث لا يصحبه شره ولا طمع. وكان عبد الله بن عمر يقول : كل ما شئت ، والبس ما شئت ، ما أخطأتك خصلتان : سرف أو مخيلة. ه.
وإنما امتنعت العباد والزهّاد من تناول الشهوات المباحات خوفا على أنفسهم أن تجمح بهم إلى تناول أسبابهما ، فتعطلهم عن العبادة ، وكذلك المريدون السائرون ، ينبغى لهم التقلل من تناولها لئلا يتعلق قلبهم بشىء منها ، فتعطلهم عن السير ، وأما الواصلون العارفون ، فقد تحقق فناؤهم وبقاؤهم ، فهم يأخذون بالله من يد الله ، كما تقدم.
والحاصل : أن النفس ما دامت لم تسلم ولم تنقد إلى مشاهدة ربها ، وجب جهادها ومخالفتها ، فإذا أسلمت وانقادت إلى ربها ، وجب الصلح معها وموافقتها فيما يتجلى فيها. والله تعالى أعلم.
ولمّا كانت اليهود لا تحجّ بيت الله الحرام ، الذي بناه خليل الله إبراهيم عليه السّلام ، مع زعمهم أنهم على ملته ، ردّ الله تعالى عليهم بقوله : إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ ... إلخ ، وقيل : تفاخر المسلمون واليهود ، فقالت اليهود : بيت المقدس أفضل لأنه مهاجر الأنبياء ، وقال المسلمون : الكعبة أفضل لأنه أول بيت وضع فى الأرض ، أنزل الله تعالى :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 96 الى 97]
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97)
قلت : (بكة) : لغة فى مكة ، والعرب تعاقب بين الباء والميم ، تقول : ضربة لازم ولازب ، وأغبطت عليه الحمّى وأغمطت ، وقيل : (مكة) بالميم : اسم للبلد كله ، وبكة : اسم لموضع البيت ، سميت بذلك لأنها تبك أعناق الجبابرة - أي : تدقها - فما قصدها جبّار قط بسوء إلا قصمه الله. و(مباركا) : حال من الضمير فى المجرور ، والعامل فيه الاستقرار ، أي : الذي استقر ببكة مباركا ، و(مقام إبراهيم) : مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : منها مقام إبراهيم ، أو بدل من (آيات) ، بدل البعض من الكل ، أو عطف بيان ، على أن المراد بالآيات : أثر القدم فى الصخرة الصّماء ، وغوصها فيها إلى الكعبين ، وتخصيصها بهذه المزيّة من بين الصخور ، وإبقاؤه دون سائر آثار الأنبياء ، وحفظه مع كثرة أعدائه ألوف سنة ، فكان مقام إبراهيم ، وإن كان مفردا ، فى قوة الجمع ، ويدل عليه أنه قرئ (آية) :
بالتوحيد.(1/383)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 384
وقيل : (الآيات) : مقام إبراهيم ، وأمن من دخله ، فعلى هذا يكون : (و من دخله) ، عطفا على (مقام) ، وعلى الأول : استئنافا. و(حج البيت) مبتدأ ، و(لله) : خبر ، والفتح لغة الحجاز ، والكسر لغة نجد ، و(من استطاع) : بدل من (الناس) ، وقيل : فاعل.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ فى الأرض لِلنَّاسِ للذى استقر بمكة ، وبعده بيت المقدس ، وبينهما أربعون سنة. بنت الأول الملائكة حيال البيت المعمور ، وأمر الله من فى الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور ، ثم بنى الثاني. وقيل : بناهما آدم عليه السّلام ثم جدّد الأول إبراهيم. حال كونه مُبارَكاً لأنه يتضاعف فيه الحسنات ، بكل واحدة مائة ألف ، وتكفر فيه السيئات ، وتنزل فيه الرحمات ، وتتوارد فيه النفحات.
فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ واضحات ، منها : الحجر الذي هو مَقامُ إِبْراهِيمَ ، وهو الذي قام عليه حين رفع القواعد من البيت ، فكان كلما طال البناء ارتفع به الحجر فى الهواء ، حتى أكمل البناء ، وغرقت فيه قدمه كأنه طين ، ومنها : أن الطير لا تعلوه ، ومنها : إهلاك أهل الفيل وردّ الجبابرة عنه ، ونبع زمزم لهاجر بهمز جبريل عليه السّلام ، وحفر عبد المطلب لها بعد دثورها ، وأن ماءها ينفع لما شرب له ، وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً من العقاب فى الدارين لدعاء الخليل : رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ، فكان فى الجاهلية كل من فعل جريمة ، ثم لجأ إليه لا يهاج «1» ولا يعاقب مادام به ، وأما فى الإسلام فإن الحرم لا يمنع من الحدود ولا من القصاص. وقال أبو حنيفة :
الحكم باق ، وإن من وجب عليه حد أو قصاص فدخل الحرم لا يهاج ، ، لكن يضيّق عليه ، فلا يطعم ولا يباع له حتى يخرج.
قال - عليه الصلاة والسلام - : «من مات فى أحد الحرمين بعثه اللّه من الآمنين». وقال أيضا : «من حجّ هذا البيت - فلم يرفث ، ولم يفسق ، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه».
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ فرض عين على مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا بالقدرة على الوصول بصحة البدن ، راجلا أو راكبا مع الزاد المبلّغ ، والأمن على النفس والمال والدين. وقيل : الاستطاعة : الزاد والراحلة.
وَمَنْ تركه ، وكَفَرَ به ، كاليهود والنصارى ، وكل من جحده ، فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عنه ، وعَنِ حجه ، وعن جميع الْعالَمِينَ ، أو عبر بالكفر عن الترك ، تغليظا كقوله : «من ترك الصّلاة فقد كفر» روى أنه - عليه الصلاة والسلام - لما نزل صدر الآية - جمع أرباب الملل ، فخطبهم ، وقال : «إن الله كتب عليكم الحج فحجوا» ، فآمنت به ملة واحدة ، وكفرت به خمس ملل ، فنزل وَمَنْ كَفَرَ ... إلخ.
___________
(1) أي : لا يقاتل.(1/384)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 385
الإشارة : قد وضع الله للناس بيتين : أحدهما حسى ، وهو الكعبة ، والآخر معنوى ، وهو القلب ، الذي هو بيت الرب ، فما دام بيت القلب خاليا من نور الرب اشتاق إلى حج البيت الحسى ، فإذا تعمر البيت بنور ساكنه ، صار قبلة لغيره ، واستغنى عن الالتفات إلى غير نور ربه ، بل صار كعبة تطوف به الواردات والأنوار ، وتحفه المعارف والعلوم والأسرار ، ثم يصير قطب دائرة الأكوان ، وتدور عليه من كل جانب ومكان ، فكيف يشتاق هذا إلى الكعبة الحسية «1» ، وقد طافت به دائرة الوفود الكونية؟ ولله در الحلاج رضي اللّه عنه حيث قال :
يا لائمي لا تلمنى فى هواه فلو عاينت منه الذي عاينت لم تلم
للنّاس حجّ ولى حجّ إلى سكنى تهدى الأضاحى ، وأهدى مهجتى ودمى
يطوف بالبيت قوم لا بجارحة ، بالله طافوا فأغناهم عن الحرم «2».
فى هذا البيت آيات واضحات ، وهى إشراق شموس المعارف والأنوار ، فى فضاء سماء الأرواح والأسرار ، وسطوع أنوار قمر التوحيد فى أرض التجريد والتفريد ، وظهور أنوار نجوم العلم والحكم ، فى أفق سماء ارتفاع الهمم ، فهذا كان مقام إبراهيم ، إمام الموحدين ، فمن دخله كان آمنا من الطرد والبعاد إلى يوم الدين ، ومن كفر وجوده فإن الله غنى عن العالمين.
قال فى الحاشية فى قوله : (و من دخله كان آمنا) ، قيل : وهكذا من دخل فى قلب ولىّ من أوليائه ، فإن قلب العارف حرم المراقبات والمشاهدات. ه. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم رجع الحق تعالى إلى معاتبة أهل الكتاب ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 98 الى 99]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
قلت : (تبغونها) : جملة حالية من الواو ، أي : لم تصدون عن السبيل باغين لها عوجا. والعوج - بالكسر - فى الدين والقول والعمل - ، وبالفتح - فى الجدار والحائط وكل شخص قائم.
يقول الحق جل جلاله : قُلْ يا محمد فى عتابك لليهود : يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ السمعية والعقلية الدالة على صدق نبيه صلّى اللّه عليه وسلم فيما يدعوكم إليه من الإسلام؟ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ مطلع على سرها وجهرها ، فيجازيكم عليها ، فلا ينفعكم التحريف ولا الإسرار.
___________
(1) الصالحون فى كل وقت يشتاقون إلى الكعبة المشرفة ، فهى قبلتهم فى الصلاة. وإليها يكون حج من استطاع منهم. وهى فى بلد ولد فيها سيدنا رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم ، فكيف لا يشتاقون إليها!!.
(2) لو أن الله أغنى أحدا عن الحرم لأغنى سيدنا محمدا صلّى اللّه عليه وسلم. [.....](1/385)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 386
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عن طريق الله مَنْ آمَنَ بها ، وتبع من جاء بها ، تَبْغُونَها عِوَجاً أي :
طالبين لها اعوجاجا ، بأن تلبسوا على الناس ، وتوهموا أن فيها عوجا عن الحق ، بزعمكم أن التوراة لا تنسخ ، وبتغيير صفة الرسول - عليه الصلاة والسلام ، أو بأن تحرشوا بين المسلمين لتختلف كلمتهم ، ويختل أمر دينهم ، وأنتم شهداء على أنها حق ، وأن الصد عنها ضلال ، أو : وأنتم عدول عند أهل ملتكم ، يثقون بأقوالكم ، ويستشهدونكم فى القضايا ، وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فلا بد أن يجازيكم على أعمالكم ، فإنه يمهل ولا يهمل.
كرّر الخطاب والاستفهام مرتين مبالغة فى التقريع ونفى العذر ، وإشعارا بأن كل واحد من الأمرين مستقبح فى نفسه ، مستقل باستجلاب العذاب. ولمّا كان المنكر عليهم فى الآية الأولى : كفرهم ، وهم يجهرون به ، ختم بقوله :
وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ ، ولمّا كان فى هذه الآية : صدهم المؤمنين عن الإسلام ، وكانوا يخفونه ويحتالون فيه ، قال : وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. قاله البيضاوي.
الإشارة : كل من جحد وجود الخصوصية عند أهلها ، وصد القاصدين للدخول فيها ، استحق هذا العتاب بلا شك ولا ارتياب. والله تعالى أعلم.
ثم حذّر المؤمنين من الاستماع لهم ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 100 الى 102]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ، الخطاب عام ، والمراد : نفر من الأوس والخزرج ، إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ، وهو شاس بن قيس اليهودي ، كان شيخا كبيرا ، وكان عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين ، مرّ بنفر من الأوس والخزرج ، جلوسا يتحدثون ، وكان بينهما عداوة فى الجاهلية ، فغاظه تآلفهم واجتماعهم ، وقال : قد اجتمع ملأ بنى قيلة بهذه البلاد ، فما لنا معهم قرار ، فأمر شابا من اليهود أن يجلس بينهم ويذكّرهم يوم بعاث - وهو يوم حرب كان بينهم فى الجاهلية - وينشدهم بعض ما قيل فيه ، وكان الظفر فى ذلك اليوم للأوس ، ففعل ، وتنازع القوم وتفاخروا وتغاضبوا ، وقالوا : السلاح السلاح ، واجتمع من القبيلتين خلق عظيم ، فتوجه إليهم رسول صلّى اللّه عليه وسلم وأصحابه ، فقال : «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ، بعد إذ أكرمكم اللّه بالإسلام ، وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، وألّف بينكم؟» فعلموا أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم ، فألقوا السّلاح ، واستغفروا ، وعانق بعضهم بعضا ، وانصرفوا مع الرسول - صلوات الله عليه وسلامه - فنزلت الآية.(1/386)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 387
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً من اليهود يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ يبيح بعضكم دماء بعض ، كما كنتم فى الجاهلية. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ الدالة على تحريم الدماء والشحناء ، وَفِيكُمْ رَسُولُهُ الهادي إلى الصراط المستقيم ، وهو إنكار وتعجّب من كفرهم ، بعد اجتماع الأسباب الداعية إلى الإيمان ، الصارفة عن الكفران ، وإنما خاطبهم اللّه بنفسه بعد ما أمر الرسول بأن يخاطب أهل الكتاب إظهارا لجلالة قدرهم ، وإشعارا بأنهم الأحقاء بأن يخاطبهم اللّه ويكلمهم ، دون أهل الكتاب لبعدهم عن استحقاق مواجهة الخطاب من الكريم الوهاب. وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ ويتمسك بدينه فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لا عوج فيه وأصل الاعتصام : التمنع.
ثم حض على التقوى الكاملة والدوام على الإسلام ، تنفيرا من الاستماع لمن يخرج عنها ، فقال : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ ، قال عليه الصلاة والسلام : «حق تقاته هو أن يطاع فلا يعصى طرفة عين ، وأن يذكر فلا ينسى ، وأن يشكر فلا يكفر». ولما نزلت قالوا : يا رسول اللّه من يقوى على هذا؟ وشق عليهم ، فنزلت : فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، فنسختها. وقال مقاتل : معناه : (اتقوا اللّه حقّ تقاته ، فإن لم تستطيعوا فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون). وعن أنس ابن مالك ، قال : (لا يتقى اللّه عبد حق تقاته حتى يخزن من لسانه) ، وقيل :
ليست بمنسوخة لأنّ من جانب ما نهى اللّه عنه ، وفعل من الطاعة ما استطاع ، فقد اتقى اللّه حق تقاته ، فمعناها واحد. وسيأتى تحديد ذلك فى الإشارة ، إن شاء اللّه.
قال البيضاوي : وقيل : معنى (حق تقاته) : أن ينزه الطاعة عن الالتفات إليها ، وعن توقع المجازاة عليها ، وفى هذا الأمر تأكيد للنهى عن طاعة أهل الكتاب ، وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي : لا تكونوا على حالة سوى الإسلام ، إلى أن يدرككم الموت. ه. أماتنا اللّه على حسن الختام ، مع السلامة والعافية على الدوام.
الإشارة : كما نهى اللّه عن طاعة من يرد عن الإيمان ، نهى عن طاعة من يصد عن مقام الإحسان ، كائنا ما كان ، وكيف يرجع عن مقام التحقيق ، وقد ظهرت معالم الطريق لمن سبقت له العناية والتوفيق!. قال بعضهم :
واللّه ما رجع من رجع إلا من الطريق ، وأما من وصل فلا يرجع أبدا. إذ لا يمكن أن يرجع من عين اليقين إلى علم اليقين ، أو من اليقين إلى الظن. ومن أراد الثبات على اليقين فليعتصم بحبل اللّه المتين ، وهو صحبة العارفين ، فمن اعتصم بهم فقد اعتصم باللّه وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
ثم خاطب أهل الإحسان فقال : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ بأن تغيبوا عما سواه ، ولا تموتن إلا وأنتم منقادون لأحكام الربوبية ، قائمون بوظائف العبودية. فهذه الآية خطاب لأهل الإحسان ، وفَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ : خطاب لأهل الإسلام والإيمان. أو هذه لأهل التجريد ، والثانية لأهل الأسباب ، أو هذه لأهل الباطن ، (1/387)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 388
والثانية لأهل الظاهر ، فلكل آية أهل ومحل ، فلا نسخ ولا تعارض. وقال الشيخ أبو العباس رضي اللّه عنه : من أراد الجمع بين الآيتين فليتق اللّه حق تقاته بباطنه ، وليتق اللّه ما استطاع بظاهره. ه. وباللّه التوفيق.
ثم حضّ الحق جل جلاله على الاجتماع ، ونهى عن الفرقة التي رام العدو منهم ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : آية 103]
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
قلت : أصل الحبل فى اللغة : السبب الموصّل الى البغية ، سمى به الإيمان أو القرآن لأنه يوصل الى السعادة السرمدية ، و(شفا حفرة) أي : طرفها ، وأصله : (شفو) ، فقلبت ألفا فى المذكر ، وحذفت فى المؤنث ، فقالوا : شفة.
يقول الحق جل جلاله : وَاعْتَصِمُوا أي : تمسكوا يا معشر المسلمين بِحَبْلِ اللَّهِ أي : الإيمان ، أو كتاب اللّه ، لقوله عليه الصلاة والسلام : «إنّ هذا القرآن هو حبل اللّه المتين ، وهو النور المبين ، والشّفاء النافع ، عصمة لمن تمسّك به ...». الحديث. حال كونكم جَمِيعاً أي : مجتمعين عليه ، وَلا تَفَرَّقُوا تفرقكم الجاهلى ، أو لا تفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم كأهل الكتاب. قال عليه الصلاة والسلام : «إنّ بنى إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة ، وإنّ أمّتى ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة ، كلّها فى النّار إلا واحدة ، فقيل : يا رسول اللّه ، ما هذه الواحدة؟ فقبض يده وقال : الجماعة ، ثمّ قرأ : وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا.
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ، التي من جملتها الهداية للإسلام المؤدّى الى التآلف وزوال الغلّ ، إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فى الجاهلية ، يقتل بعضكم بعضا ، فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ بالإسلام ، فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً متحابين مجتمعين على الأخوة فى اللّه. قال عليه الصلاة والسلام : «لا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد اللّه إخوانا ، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله». الحديث. روى أن الأوس والخزرج كانوا أخوين لأبوين ، فوقع بين أولادهما العداوة ، وتطاولت الحرب بينهما مائة وعشرين سنة ، حتى أطفأها اللّه بالإسلام ، وألف بينهم برسوله عليه الصلاة والسلام - فنزلت فيهم هذه الآية.(1/388)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 389
ثم قال لهم : وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ أي : مشرفين على نار جهنم ، إذ لو أدرككم الموت لوقعتم فى النار ، فَأَنْقَذَكُمْ اللّه مِنْها برسوله - عليه الصلاة والسلام - . روى أن أعرابيا سمع ابن عباس يقرأ هذه الآية ، فقال الأعرابى : واللّه ما أنقذهم منها وهو يريد أن يوقعهم فيها ، فقال ابن عباس رضي اللّه عنه خذوها من غير فقيه. ه. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أي : مثل هذا التبيين يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إلى الخير ، وتزيدون ثباتا فيه.
الإشارة : المذاهب كلها وقع فيها الاختلاف والتفرق فى الأصول والفروع ، إلا مذاهب الصوفية فكلها متفقة بداية ونهاية ، إذ بدايتهم مجاهدة ، ونهايتهم مشاهدة ، وإلى ذلك أشار فى المباحث ، حيث قال :
مذاهب الناس على اختلاف ومذهب القوم على ائتلاف
وإن وقع الاختلاف فى بعض الطرق الموصلة إلى المقصود ، فقد اتفقت فى النهاية ، بخلاف أهل الظاهر ، لا تجدهم يتفقون إلا فى مسائل قليلة ، لأن مذهبهم مبنى على غلبة الظن ، ومذهب القوم مبنى على التحقيق ذوقا وكشفا ، وكذلك ائتلفت أيضا قلوبهم وأرواحهم ، إذ كلهم متخلقون بالشفقة والرأفة والمودة والألفة والصفا لأنهم دخلوا الجنة - أعنى جنة المعارف - فتخلقوا بأخلاق أهل الجنة ، قال تعالى : وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ، فيقال لهم بعد الفتح : واذكروا نعمة اللّه عليكم ، إذ كنتم أعداء قبل اتصالكم بالطبيب ، فألف بين قلوبكم ، فأصبحتم بنعمته إخوانا متحابين ، وكنتم على شفا حفرة من نار القطيعة والحجاب فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها. مثل هذا البيان يوضح اللّه آياته ، أي : تجلياته ، لعلكم تهتدون إلى مشاهدة ذاته فى أنوار صفاته. واللّه تعالى أعلم.
ثم أمرهم الحق تعالى بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، ووجه اتصاله بما قبله : أنهم سكتوا حين حرّش بينهم اليهود حتى هموا بالقتال ، ولم يأمرهم أحد بالإمساك عنه ، فحذّرهم اللّه من نزغته ، وحضّهم على الاجتماع ، وأمرهم بالأمر بالمعروف والنهى عن النكر إذا رأوا شيئا من ذلك ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : آية 104]
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
قلت : (من) : للتبعيض لأن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من فروض الكفاية إذ لا يصلح له كلّ أحد ، أو للبيان ، أي : كونوا أمة تأمرون بالمعروف ، كقوله : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ إلخ ، و(يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) عطف على الخبر ، من عطف الخاص على العام للإيذان بفضله.(1/389)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 390
يقول الحق جل جلاله : وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ يا أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم أُمَّةٌ أي : طائفة يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ، وهو كل ما فيه صلاح دينى ، أو دنيوى إذا كان يؤول الى الديني ، أو صلاح قلبى أو روحانى ، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وهو ما يستحسنه الطبع ويرتضيه الشرع ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وهو كل ما ينكره الطبع السليم والشرع المستقيم ، فمن فعل ذلك فأولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ المخصوصون بكمال الفلاح.
روى عنه عليه الصلاة والسلام : أنه سئل من خير الناس؟ فقال : «آمرهم بالمعروف ، وأنهاهم عن المنكر ، وأتقاهم للّه ، وأوصلهم للرحم». وقال أيضا : «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر كان خليفة اللّه فى أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه. وقال على رضي اللّه عنه : (أفضل الجهاد : الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وشنئان الفاسقين - أي بغضهم - فمن أمر بالمعروف شدّ ظهر المؤمن ، ومن نهى عن المنكر أرغم أنف المنافق ، ومن شنأ الفاسقين وغضب للّه غضب اللّه له). وقال أبو الدرداء : (لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، أو ليسلطن اللّه عليكم سلطانا ظالما ، لا يجلّ كبيركم ، ولا يرحم صغيركم ، ويدعو عليه خياركم فلا يستجاب لهم ، ويستنصرون فلا ينصرون ، ويستغفرون فلا يغفر لهم). وقال حذيفة : (يأتى على الناس زمان لأن تكون فيه جيفة حمار ، أحب إليهم من مؤمن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر).
وللمتصدّى له شروط : العلم بالأحكام ، ومراتب الاحتساب وكيفية إقامتها ، والتمكن من القيام بها. ولذلك خاطب الحق تعالى الجميع ، وطلب فعل بعضهم ، إذ لا يصلح للقيام به إلا البعض ، كما هو شأن فرض الكفاية ، إذ هو واجب على الكل ، بحيث لو تركوه لعوقبوا جميعا ، لكنه يسقط بفعل البعض.
والأمر بالمعروف يكون واجبا ومندوبا ، على حسب ما يأمر به ، والنهى عن المنكر واجب كله لأن جميع ما أنكره الشرع حرام. وأما المكروه فليس بمنكر ، فيستحب الإرشاد الى تركه. والأظهر أن العاصي يجب أن ينهى عما يرتكبه هو لأنه يجب عليه تركه ، فلا يسقط بترك أحدهما وجوب الآخر. وقد قال عليه الصلاة والسلام :
«مروا بالمعروف وإن لم تعملوا بكلّه ، وانهوا عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه كله».
الإشارة : (و لتكن منكم أمة) أي : طائفة ينهض حالهم ويدلّ على اللّه مقالهم ، يدعون إلى الخير العظيم ، وهو شهود ذات السميع العليم ، ويأمرون بالمعروف بالهمة العلية ، وينهون عن المنكر بالحال القوية ، فكلّ من رآهم بالصفا ائتمر وانتهى ، وكل من صحبهم بالوفاء أخذ حظه من الغنى بالمكيال الأوفى ، إن للّه رجالا من نظر إليهم سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا ، فهؤلاء يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بالحال دون المقال.
يحكى أن بعض الشيوخ مرّ مع أصحابه بقوم يشربون الخمر تحت شجرة ، فأراد أصحابه أن يغيروا عليهم ، فقال لهم : إن كنتم رجالا فغيروا عليهم بحالكم دون مقالكم ، فتوجهوا إلى اللّه بهممهم ، فإذا القوم قد كسروا الأوانى ، وجاءوا إلى(1/390)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 391
الشيخ تائبين. وكذلك قضية معروف الكرخي مع أصحاب السفينة ، الذين كانوا مشتغلين باللهو واللعب ، فقال له أصحابه : ادع عليهم ، فقال : اللهم كما فرّحتهم فى الدنيا ففرّحهم فى الآخرة ، فتابوا على يده جميعا. وباللّه التوفيق ، وهو الهادي الى سواء الطريق.
ثم أعاد النهى عن الفرقة ، تأكيدا لذمها ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 105 الى 109]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
قلت : (يوم) : متعلق بالاستقرار فى خبر (أولئك) ، أو بالذكر محذوفة ، وقوله : (أكفرتم) : محكى بقول محذوف جواب (أما) ، أي : فيقال لهم : أكفرتم.
يقول الحق جل جلاله : وَلا تَكُونُوا كاليهود والنصارى الذين (تفرقوا) فى التوحيد والتنزيه ، وَاخْتَلَفُوا فى أحوال الآخرة. قال عليه الصلاة والسلام : «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النّصارى على ثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة ، كلّها فى النّار إلا واحدة. قيل : ومن تلك الواحدة؟ قال : ما أنا وأصحابى عليه». وهذا الحديث أصح مما تقدم ، والصحابة يروون الحديث بالمعنى ، فلعلّ الأول نسى بعض الحديث. واللّه أعلم.
ثم إن النهى مخصوص بالتفرق فى الأصول دون الفروع ، لقوله عليه الصلاة والسلام : «اختلاف أمّتى رحمة» ، ولقوله : «من اجتهد وأصاب فله أجران ، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد».
ثم إن أهل الكتاب تفرقوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ أي : الآيات والحجج المبينة للحق الموجبة للاتفاق عليه ، وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ، يستقر لهم هذا العذاب يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ المؤمنين المتقين على التوحيد ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ الكافرين المتفرقين فيه ، أو تبيض وجوه المخلصين وتسود وجوه المنافقين ، أو تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة. وبياض الوجوه وسوادها كنايتان عن ظهور بهجة السرور وكآبة الخوف(1/391)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 392
فيه ، وقيل : يوسم أهل الحق ببياض الوجه والصحيفة وإشراق البشرة وسعى النور بين يديه وبيمينه ، وأهل الباطل بأضداد ذلك. فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ فيقال لهم يومئذ : أَكَفَرْتُمْ بمحمد - عليه الصلاة والسلام - بعد ظهوره ، بَعْدَ إِيمانِكُمْ به قبل ظهوره ، وهم اليهود أو أهل الردة ، آمنوا فى حياته صلّى اللّه عليه وسلم وكفروا بعد موته.
أو جميع الكفار ، آمنوا فى عالم الذر وأقروا على أنفسهم ، ثم كفروا فى عالم الشهادة. ويقال لهم أيضا : فَذُوقُوا الْعَذابَ بسبب ما كنتم (تكفرون).
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ أي : جنته ، هُمْ فِيها خالِدُونَ. وعبّر بالرحمة عن الجنة تنبيها على أن المؤمن ، وإن استغرق عمره فى طاعة اللّه - تعالى - ، لا يدخل الجنة إلا برحمة اللّه وفضله ، وكان حق الترتيب أن يقدم حلية المؤمنين لتقدّم ذكرهم ، لكن قصد أن يكون مطلع الكلام ومقطعه حلية المؤمنين وثوابهم.
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ الواردة فى وعده ووعيده ، نَتْلُوها عَلَيْكَ متلبسة بِالْحَقِّ لا شبهة فيها ، فقد أعذر وأنذر ، وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ إذ لا يحق عليه شىء فيظلم بنقصه ، ولا يمنع من شىء فيظلم بفعله ، كما بيّنه بقوله : وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وخلقا وعبيدا ، فيجازى كلا بما وعده وأوعده ، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ كلها فيتصرف على وفق مراده وسابق مشيئته ، لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ.
الإشارة : قد نهى اللّه - تعالى - أهل الجمع عن التشبه بأهل الفرق ، فى اختلاف قلوبهم ووجوههم وآرائهم وأنظارهم ، من بعد ما جاءتهم الدلائل الواضحات على طلب جمع القلب على اللّه ، والتودد فى اللّه ، وصرف النظرة فى شهود اللّه ، وأولئك المفترقون لهم عذاب عظيم ، وأىّ عذاب أعظم من الحجاب؟ يوم تبيض وجوه العارفين ، فتكون كالشمس الضاحية ، يسرحون فى الجنان حيث شاءوا ، وتسود وجوه الجاهلين لما يعتريها من الندم ، وسوادها باعتبار وجوه العارفين فى النقص عنها ، وان كانت مبيضّة بنور الإيمان ، لكن فاتهم نور الإحسان ، فيقال : أكفرتم بالخصوصية فى زمانكم ، بعد إيمانكم بها فيمن سلف قبلكم؟ فذوقوا عذاب القطيعة عن شهود الحبيب فى كل حين ، وأما الذين ابيضت وجوههم وأشرقت بنور البقاء ، ففى رحمة اللّه ، أي : جنة المعارف فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ، فقد اتضحت الطريق ، وظهرت أعلام التحقيق ، لكن الهداية بيد اللّه ، كما أنّ الأمور كلها بيده ، يهدى من يشاء ويضل من يشاء ، وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. وباللّه التوفيق.
ثم مدح الأمة المحمدية بامتثال ما أمرها به من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، فقال : (1/392)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 393
[سورة آل عمران (3) : الآيات 110 الى 112]
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112)
قلت : (كان) : على بابها من الدلالة على المضىّ ، أي : كنتم فى اللوح المحفوظ ، أو فى علم اللّه ، أو فيما بين الأمم المتقدمة ، أو : صلة ، أي : أنتم خير أمة ، و(للناس) : يتعلق بأخرجت ، أو بكنتم ، أي : كنتم خير الناس للناس.
يقول الحق جل جلاله لأمة نبينا محمد صلّى اللّه عليه وسلم : كُنْتُمْ فى سابق علمى خَيْرَ أُمَّةٍ ظهرت لِلنَّاسِ تجيئون بهم إلى الجنة بالسلاسل. ثم بيّن وجه فضلهم فقال : تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وبجميع ما يجب الإيمان به.
وقد ورد فى مدح هذه الأمة المحمدية أحاديث ، منها : قوله صلّى اللّه عليه وسلم : «حرّمت الجنة على الأنبياء حتى أدخلها أنا ، وحرّمت الجنة على الأمم حتّى تدخلها أمتى». ومنها قوله صلّى اللّه عليه وسلم : «أمتى أمة مرحومة ، إذا كان يوم القيامة أعطى اللّه كلّ رجل من هذه الأمة رجلا فيقال : هذا فداؤك من النّار».
وعن أنس قال : «خرجت مع النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، فإذا صوت يجيىء من شعب ، فقال : يا أنس : قم فانظر ما هذا الصوت ، فانطلقت فإذا برجل يصلى إلى شجرة ، ويقول : اللهم اجعلنى من أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، الأمة المرحومة ، المغفور لها ، المستجاب لها ، المتاب عليها ، فأتيت النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، فأخبرته ، فقال : انطلق ، فقل له : إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقرئك السلام ، ويقول لك : من أنت؟ فأتيته ، فأعلمته ما قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، فقال : أقرأ منى السلام على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، وقل له : أخوك الخضر يقول لك : ادع اللّه أن يجعلنى من أمتك المرحومة المغفور لها» «1». وقيل لعيسى بن مريم : هل بعد هذه الأمة أمة؟ قال : نعم ، أمة أحمد. قيل : وما أمة أحمد؟ قال : علماء ، حكماء ، أبرار أتقياء ، كأنهم من الفقه أنبياء ، يرضون باليسير من الرزق ، ويرضى اللّه عنهم باليسير من العمل ، يدخلهم الجنة بشهادة أن لا إله إلا اللّه. ه.
وليس أولها أولى بالمدح من آخرها ، لقوله صلّى اللّه عليه وسلم : «أمتى كالمطر ، لا يدرى أوله خير أو آخره»؟ وفى خبر آخر عنه صلّى اللّه عليه وسلم قال : «اشتقت إلى إخوانى ، فقال أصحابه : نحن إخوانك يا رسول اللّه ، فقال : أنتم أصحابى ، إخوانى : ناس يأتون بعدي ، يؤمنون بي ولم يرونى ، يودّ أحدهم لو يرانى بجميع ما يملك. يعدل عمل أحدهم سبعين منكم. قالوا :
منهم يا رسول اللّه؟ قال : منكم. قالوا : ولم ذلك يا رسول اللّه؟ قال : لأنكم وجدتم على الخير أعوانا ، وهم لم يجدوا عليه أعوانا». أو كما قال - عليه الصلاة والسلام - .
قلت : التفضيل باعتبار أجور الأعمال ، وأما باعتبار اليقين والمعرفة ، فالصحابة أفضل الخلق بعد الأنبياء - عليهم السلام - ويدل على هذا قوله - عليه الصلاة والسلام - : «يعدل عمل أحدهم» ، ولم يقل إيمان أحدهم «2».
واللّه تعالى أعلم.
___________
(1) ذكره الحافظ ابن حجر بألفاظ مقاربة فى الإصابة 2/ 122 ، وعزاه لابن عساكر وابن شاهين وابن عدى فى الكامل.
(2) قال الحافظ ابن حجر : الجمهور على أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل لمشاهدة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم. ثم قال : وزيادة الأجر لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة. انظر بقية كلامه فى الفتح 7/ 9. وانظر أيضا تفسير القرطبي.(1/393)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 394
الإشارة : كنتم يا معشر الصوفية خير أمة أخرجت للناس ، تأمرون بالجمع على اللّه والغيبة عما سواه ، وتنهون عن كلّ ما يبعد عن اللّه ويفرق العبد عن مولاه ، وتؤمنون باللّه وبما وعد به اللّه ، إيمان الشهود والعيان ، الذي هو مقام الإحسان. قال القشيري فى رسالته : (قد جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه ، وفضّلهم على الكافة من عباده بعد رسله وأنبيائه).
وقال الجنيد رضي اللّه عنه : لو نعلم أن تحت أديم السماء أشرف من هذا العلم الذي نتكلم فيه مع أصحابنا ، لسعيت إليه ولو حبوا. ه. وكان كثيرا ما ينشد :
علم التصوف علم ليس يعرفه إلّا أخو فطنة بالحقّ معروف
وليس يبصره من ليس يشهده وكيف يشهد ضوء الشمس مكفوف
وقال الشيخ الصقلى : (كلّ من صدّق بهذا العلم فهو من الخاصة ، وكل من فهمه فهو من خاصة الخاصة ، وكل من عبّر به وتكلم فيه فهو من النجم الذي لا يدرك والبحر الذي لا ينزف). وقال فى الإحياء - لمّا تكلم على معرفة اللّه والعلم باللّه ، قال : (و الرتبة العليا فى ذلك للأنبياء ، ثم للأولياء العارفين ، ثم للعلماء الراسخين ، ثم للصالحين). فقد قدّم الأولياء على العلماء. قال ابن رشد : وما قاله القشيري والغزالي متفق عليه. قال : ولا يشكّ عاقل أنّ العارفين باللّه وما يجب له من الكمال ، أفضل من العارفين بأحكام اللّه. انظر تمامه فى المعيار. وقال فى المباحث :
حجّة من يرجّح الصوفية على سواهم حجّة قويّه
هم أتبع النّاس لخير النّاس من سائر الأنام والأناس
ثم قال :
ثمّ بشيئين تقوم الحجّة أنّهم قطعا على المحجّه «1»
وما أتوا فيه بخرق العاده إذ لم تكن لمن سواهم عاده
قد رفضوا الآثام والعيوب وطهّروا الأبدان والقلوب
وبلغوا حقيقة الإيمان وانتهجوا مناهج الإحسان
___________
(1) المحجة : الطريق المستقيم.(1/394)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 395
ثم دعا أهل الكتاب إلى الإيمان ، وهوّن أمرهم ، فقال :
وَلَوْ آمَنَ ...
قلت : الاستثناء فى قوله (إلا بحبل) : من أعم الأحوال ، أي : ضربت عليهم الذلة فى جميع الأحوال ، إلا متلبسين بذمة من اللّه وذمة من الناس.
يقول الحق جل جلاله : وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ إيمانا كائنا كإيمانكم ، لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مما هم عليه. وليس أهل الكتاب سواء ، بل مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ كعبد اللّه بن سلام وأصحابه ، وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ المتمردون فى الكفر والفسوق ، فلا يهولكم أمرهم ، فإنهم لَنْ يَضُرُّوكُمْ إلا ضررا يسيرا كأذى باللسان من عيب وسب وتحريش بينكم ، ولا قدرة لهم على القتال ، وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ ينهزموا ، ويُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ أبدا عليكم.
وهذه الآية من المغيبات التي وافقها الواقع ، إذ كان كذلك فى بنى قريظة والنضير وبنى قينقاع وخيبر ، فلم ترفع لهم راية أبدا ، بل ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ والخزي والهوان ، أي : أحاطت بهم إحاطة البيت المضروب على أهله ، أو لزمتهم لزوم الدرهم المضروب لضربه ، فلا تنفك عنهم أَيْنَ ما ثُقِفُوا ووجدوا ، فلا يأمنون إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ أي : بسبب عهد من اللّه ، وهو عقد الذمة التي أمر اللّه بها ، إذا أدوا الجزية للمسلمين ، فلهم حرمة بسبب هذا العقد ، فلا يجوز التعرض لهم فى مال ولا دم ولا أهل ، وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ ، وهو عقد الذمة التي يعقدها مع الكفار إذا كانوا تحت ذمتهم. والحاصل أن الذلة لازمة لهم «1» فلا يأمنون إلا تحت الذمة ، إما من المسلمين وإما من الكفار. وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ أي : انقلبوا به مستحقين له ، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ أي : أحاطت بهم ، فاليهود فى الغالب فقراء مساكين ، لأن قلوبهم خاوية من اليقين ، فالفقر والجزع لازم لهم ، ولو ملكوا الدنيا بأجمعها.
___________
(1) أقام اليهود لهم دولة بمعونة الظلمة ، وحمايتهم لهم ، كما فعل البريطانيون والأمريكان. لكن المسكنة لازمة لليهود ويبعث الله عليهم من يسومهم سوء العذاب ، حتى مع وجودهم محصنين داخل دولتهم.(1/395)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 396
ذلِكَ الذل والمسكنة والبواء بالغضب بسبب أنهم كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ المنزلة على رسوله ، أو الدالة على توحيده ، وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ بل ظلما وعدوانا ، ذلك الكفر بسبب عصيانهم واعتدائهم حدود اللّه ، فإن الإصرار على الصغائر يفضى إلى الكبائر ، والإصرار على الكبائر يؤدى الى الكفر لأن المعاصي بريد الكفر ، والعياذ باللّه.
الإشارة : ولو آمن أهل العلم الظاهر بطريق الخصوص ، وحطوا رؤوسهم لأهل الخصوصية لكان خيرا لهم ، لتتسع عليهم دائرة العلوم ، وتفتح لهم مخازن الفهوم ، منهم من يقر بوجود الخصوصية ، ويعجز عن حمل شروطها ، وأكثرهم ينكرونها ويحتجون لأنفسهم بقول من قال : انقطعت التربية فى القرن الثامن ، فيموتون مصرين على الإنكار والعصيان ، فلن يضركم إنكارهم أيها الفقراء ، فإنهم لا قدرة لهم عليكم ، للرعاية التي أحاطت بكم ، إلا أذى بلسانهم ، وعلى تقدير لحوق ضررهم فى الظاهر ، فإن اللّه يغيّب ألم ذلك عنكم فى الباطن ، كما شاهدناه من بعض الفقراء ، وإن يهددوكم بالقتل والجلاء ، فإن اللّه لا ينصرهم فى الغالب.
قلت : وقد هددونا بالضرب والرفع إلى السلطان والجلاء إلى برّ النصارى ، فلم يقدروا على شىء من ذلك ، وقد وقع ذلك لبعض الصوفية زيادة فى شرفهم وعزهم ، فالمنكر على الصوفية «1» لا يزال فى همّ وغمّ وذلّ ومسكنة ، لخراب باطنه من نور اليقين. فإنّ الانتقاد على الأولياء جناية واعتقادهم عناية ، فإن استمر على أذاهم كان عاقبته سوء الخاتمة ، فيبوء بغضب من اللّه بسبب اعتدائه على أولياء اللّه ، «ومن آذى لى وليا فقد أذن بالحرب» ، رزقنا اللّه الأدب معهم ، وأماتنا على محبتهم ، آمين.
ولمّا كان من اليهود من أسلم وحسن إسلامه استثناه اللّه تعالى ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 115]
لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
قلت : (قائمة) أي : مستقيمة ، من أقمت العود فقام ، أو قائمة بأمر اللّه. و(آناء الليل) : ظرف ، واحده : (إنّي) ، بكسر الهمزة وسكون النون ، كنحى وأنحاء ، أو (إنى) ، كمعى وأمعاء ، و(لن تكفروه) أي : لن تحرموه ، وعدى (كفر) إلى مفعولين لتضمنه معنى حرم أو منع.
___________
(1) أي : الصوفية الملتزمة ، لا صوفية المزمار.(1/396)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 397
يقول الحق جل جلاله : ليس أهل الكتاب سَواءً فى الكفر والعدوان ، بل منهم أُمَّةٌ أي : طائفة قائِمَةٌ بالعدل مستقيمة فى الدين ، أو قائمة بأمر اللّه ، أو قائمة فى الصلاة يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ فى تهجدهم آناءَ اللَّيْلِ أي : فى ساعاته ، وَهُمْ يَسْجُدُونَ فى صلاتهم ، أو فى صلاة العشاء ، لأن أهل الكتاب لا يصلونها ، لما روى أنه صلّى اللّه عليه وسلم أخّرها ، ثم خرج ، فإذا الناس ينتظرونها ، فقال : «أبشروا فإنّه ليس من أهل الأرض أحد يصلّى فى هذه السّاعة غيركم».
ثم وصفهم بالإيمان فقال : يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ ، وهو عبد اللّه بن سلام وأصحابه ممن أسلم من اليهود ، فقد وصفهم اللّه تعالى بخصائص لم توجد فى اليهود ، فإنهم منحرفون عن الحق غير متعبدين ، مشركون باللّه ملحدون فى صفاته ، يصفون اليوم الآخر بغير صفاته ، مداهنون فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، متباطئون عن الخيرات ، بخلاف ما وصف به من أسلم منهم ، وَأُولئِكَ الموصوفون بتلك الصفات مِنَ الصَّالِحِينَ أي : ممن صلحت أحوالهم عند اللّه ، واستوجبوا رضاءه وثناءه ، وهذه عادة اللّه مع خلقه ، من تقرب إليه شبرا تقرب إليه ذراعا. ولذلك قال : وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ أي : فلن تحرموا ثوابه. ولن تجحدوا جزاءه ، بل يشكره لكم ويجزيكم عليه ، سمى الحرمان كفرانا كما سمى العطاء شكرا. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ فلا يخفى عليه مقاماتهم فى التقوى. وفيه إشعار بأن التقوى مبدأ الخير وأحسن الأعمال ، وأن الفائزين عند اللّه هم أهل التقوى. رزقنا اللّه منها الحظ الأوفر بمنّه. آمين.
الإشارة : ليس أهل العلم سواء ، بل منهم من جعله شبكة يصطاد به الدنيا ، يبيع دينه بعرض قليل ، وهم علماء السوء وقضاة الجور ، ومنهم من قرأه للّه وعلّمه للّه ، فأفنى عمره فى تعليمه وتقييده ، ومنهم من صرف همته إلى جمعه وتأليفه ، ومنهم من صرف همته إلى العمل به فالتحق بالعباد والزّهاد ، يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ومنهم من حرره وحققه ، ثم توجه إلى علم الباطن وصحب العارفين ، فكان من المقربين ، فهؤلاء كلهم يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ، فيقال لهم : وما تفعلوا من خير فلن تكفروه واللّه عليم بالمتقين.
ثم ذكر الحق تعالى أضدادهم ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : آية 116]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116)(1/397)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 398
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وجحدوا ما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه وسلم ، (لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من) عذاب اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ أي : ملازموها ، كملازمة الرجل لصاحبه ، هُمْ فِيها خالِدُونَ.
الإشارة : إن الذين كفروا بالخصوصية عند أهل زمانهم ، وفاتهم اقتباس أنوارهم ، لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم ولا علومهم مما فاتهم من معرفة اللّه شيئا ، ماذا وجد من فقد اللّه؟ وماذا فقد من وجد اللّه؟! قال الشاعر :
لكلّ شىء إذا فارقته عوض وليس للّه إن فارقت من عوض
ولا طريق لمعرفة الحق المعرفة الخاصة - أعنى معرفة العيان - إلا صحبة أهل الشهود والعيان ، فكلّ من أنكرهم كان غايته الحرمان ، ولزمته البطالة والخذلان ، وجرّب ، ففى التجريب علم الحقائق ، ومن حرم صحبتهم لا ينفك عن نار القطيعة وعذاب الحجاب ، وعنت الحرص والتعب ، عائذا باللّه من ذلك.
ثم ضرب مثلا لأعمال الكفار ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : آية 117]
مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
قلت : فى الكلام حذف ، أي : مثل تلف ما ينفقون كمثل إتلاف ريح ... إلخ ، و(الصر) : البرد الشديد ، أو ريح فيها صوت وبرد ، أو السموم الحارة.
يقول الحق جل جلاله : مثل ما ينفق الكفار ، قربة أو مفاخرة وسمعة ، أو ما ينفق سفلة اليهود على أحبارهم ، أو المنافقون رياء وخوفا ، مَثَلِ رِيحٍ
فيها برد شديدصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ
أي : زرعهم ، فأتلفته وأهلكته ، والمراد : تشبيه نفقتهم وأعمالهم فى تلفه وضياعه وعدم الانتفاع به ، بحرث كفار ، ضربته ريح فيها برد فاجتاحته ، فأصبح صعيدا زلقا ، ولم تبق فيه منفعة فى الدنيا والآخرة ، ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
بأن ضيع أعمالهم من غير سبب ، ولكنهم ظلموا أنفسهم بارتكاب الكفر الذي أحبط أعمالهم.
الإشارة : كل من لم يحقق مقام الإخلاص ، ولم يصحب أهل التخليص والاختصاص ، لا تنفك أعماله من علل ، ولا أحواله من دخل ، فأعماله فارغة خفيفة ، أقل ريح تقلعها وتسقطها عن درجة الاعتبار ، وما زالت العامة تقول : الصحيح يصح ، والخاوي يدريه الريح. وباللّه التوفيق.(1/398)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 399
ثم حذّر الحق تعالى من مخالطة أهل التخليط ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 118 الى 120]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
قلت : بطانة الرجل : خواصه الذين يطلعهم على باطنه وسره ، وسميت بطانة تشبيها لها بالثوب الذي يلى بطنه كالشعار. قال عليه الصلاة والسلام : «الأنصار شعار والنّاس دثار». وهى اسم تطلق على المفرد والجمع والمذكر والمؤنث. والألو : التقصير ، وأصله : أن يتعدى بالحرف ، تقول : لا آلو فى نصحك أي : لا أقصر فيه. ثم عدى إلى مفعولين ، كقولهم : لا آلوك نصحا ، على تضمن معنى المنع أو النقص. والخبال : الفساد.
و(ما عنتم) : مصدرية ، والعنت : التعب والمشقة ، والأنامل : جمع أنملة - بضم الميم وفتحها - ، والضير والضر واحد. ومضارع الأول : يضير ، والثاني : يضر ، وهو هنا مجزوم ، وأصله : يضرركم ، نقلت حركة الراء إلى الضاد ، وضمت الراء ، اتباعا لحركة الضاد طلبا للمشاكلة.
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً أي : أصدقاء وأصفياء ، تطلعونهم على سركم ، وهم مِنْ دُونِكُمْ ليسوا على دينكم ، فإنهم لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا أي : لا يقصرون جهدهم فى إدخال الفساد بينكم بالتخليط والنميمة وإطلاع الكفار على عورتكم. نزلت فى رجال من المسلمين ، كانوا يصلون رجالا من اليهود لما كان بينهم من القرابة والصداقة ، أو فى المنافقين كان يصلهم بعض المسلمين.
ثم وصفهم بأوصاف توجب التنفير منهم فقال : وَدُّوا ما عَنِتُّمْ أي : تمنوا عنتكم وهلاككم وضلالكم ، قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ أي : ظهرت أمارة العداوة من أفواههم بالوقيعة فى المسلمين ، أو بإطلاع المشركين على عوراتهم ، أو فى كلامهم مع المسلمين بالغيظ ، لأنهم لا يتمالكون أنفسهم لفرط بغضهم ، وَما تُخْفِي(1/399)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 400
صُدُورُهُمْ
من العداوة والبغضاء ، أَكْبَرُ مما أظهروه ، لأن ظهوره منهم ليس عن روية واختيار ، بل عن غلبة غيظ واضطرار. قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ أيها المؤمنون الْآياتِ الدالة على مجانبة الكافرين وموالاة المؤمنين ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ما يبين لكم.
ها أَنْتُمْ يا هؤلاء المخاطبين تُحِبُّونَهُمْ لما بينكم من المصاهرة والصداقة ، وَلا يُحِبُّونَكُمْ لما بينكم من مخالفة الدين ، أو تريدون لهم الإسلام وهم يريدون لكم الكفر ، وأنتم تُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ أي : بجنس الكتب ، (كله) أي : بالكتب كلها ، وهم لا يؤمنون بكتابكم ، فكيف تحبونهم وهم يكذبون كتابكم ورسولكم؟ وهم أيضا ينافقونكم إِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا مع أنفسهم عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ لما يرون من ائتلاف المؤمنين ، ولم يجدوا سبيلا إلى التشفي فيكم ، وهذه كناية عن شدة حقدهم ، وإن لم يكن ثمّ عض فى الخارج.
قال لهم الحق جل جلاله : قُلْ لهم يا محمد : مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ فإنما ضرر غيظكم عليكم ، أو دوموا على غيظكم حتى تموتوا عليه ، فإن مادة الإسلام لا تزال تنمو حتى تهلكوا ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي :
بحقيقة ما فى قلوبكم من البغضاء والحنق «1» ، أو بما فى القلوب من خير أو شر. هو من مقول الرسول لهم ، أو من كلام اللّه تعالى ، استئناف ، أي : لا تعجب من اطلاعى إياك على أسرارهم ، فإنى عليم بالأخفى من ضمائرهم.
ومن فرط عداوتهم أنهم إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ كنصر وغنيمة تَسُؤْهُمْ أي : تحزنهم ، وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ كهزيمة أو قتل أو إصابة عدو منكم أو اختلاف بينكم ، يَفْرَحُوا بِها ، وَإِنْ تَصْبِرُوا على عداوتهم وأذاهم ، وتخافوا ربكم ، وَتَتَّقُوا ما نهاكم عنه ، لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ، بفضل اللّه وحفظه ، الموعود للصابرين والمتقين ، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا. ومن كان الحق معه لا يضره شىء ، إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ لا يخفى عليه ما يعمل أهل الكفر من العداوة والحقد ، فيجازيهم عليه.
الإشارة : لا ينبغى لأهل الخصوصية أن يتخذوا بطانة من دونهم من العامة حتى يطلعوهم على سرهم ، فإن الإطلاع على السر ، ولو كان غير الخصوصية ، كله ضعف فى العقل ووهن فى الرأى ، وفى ذلك يقول القائل :
(من أطلع الناس على سره استحقّ الكىّ على جبهته)
وأما سر الربوبية فإفشاؤه لغير أهله حرام ، والعامة مضادون لأهل الخصوصية ، لا يألونهم خبالا فى قلوبهم وتشتيتا لفكرتهم ، إذا صحبوهم يودون أن لو كانوا مثلهم فى العنت وتعب الأسباب ، فإذا ظهر بالفقراء نقص أو خلل
___________
(1) الحذق : شدة الاغتياظ.(1/400)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 401
ظهرت البغضاء من أفواههم ، وما تحفى صدورهم أكبر ، فإن كنتم أيها الفقراء تحبون لهم الخير فإنهم بعكس ذلك ، وإن كنتم تقرون شريعتهم فإنهم لا يؤمنون بحقيقتكم ، بل ينكرونها عليكم ، ومنهم من يتصف بالنفاق ، إذا لقى أهل الخصوصية أظهر التصديق والمحبة ، وإذا خلا مع العامة أظهر العداوة والحنق ، وإن تمسسكم أيها الفقراء حسنة ، كعز وفتح وشهود ومعرفة تسؤهم ، وإن تصبكم سيئة كمحنة أو بلية ، يفرحوا بها ، وإن تصبروا على أذاهم وجفوتهم ، وتتقوا شهود السوي فيهم ، لا يضركم كيدهم شيئا (إن اللّه بما يعملون محيط).
ولما فرغ الحق تعالى من معاتبة أهل الكتابين ، شرع فى معاتبة بعض المسلمين لما وقع لهم فى غزوة أحد من الفشل ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 121 الى 122]
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
يقول الحق جل جلاله : واذكر يا محمد حين غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ من منزل عائشة ، الذي نزلت فيه بأحد ، حين خرجت بها ، حال كونك تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ أي : تهيئ لهم ، مَقاعِدَ لِلْقِتالِ أي : مواقف وأماكن يقفون فيها للحرب وَاللَّهُ سَمِيعٌ لأقوالكم ، عَلِيمٌ بإخلاصكم.
قال الواقدي : خرج النبي صلّى اللّه عليه وسلم من منزل عائشة - رضي اللّه عنها - ماشيا على رجليه إلى أحد ، فجعل يصف أصحابه للقتال كأنما يقوم بهم القدح «1». إن رأى صدرا خارجا ، قال : تأخر. وذلك أن المشركين نزلوا بأحد ، يوم الأربعاء ، فلما سمع النبي صلّى اللّه عليه وسلم بنزولهم استشار أصحابه ، ودعا عبد اللّه بن أبى بن سلول - ولم يدعه قط قبلها - فاستشاره ، فقال عبد اللّه بن أبى وأكثر الأنصار : يا رسول اللّه أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم ، فو اللّه ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا ، ولا دخل علينا إلا أصبنا منه ، فكيف وأنت فينا! فدعهم يا رسول اللّه ، فإن أقاموا أقاموا بشر محبس ، وإن دخلوا قاتلهم الرجال فى وجوههم ، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة ، وإن رجعوا رجعوا خاسئين. فأعجب النبي صلّى اللّه عليه وسلم هذا الرأى ، وقال بعض أصحابه : يا رسول اللّه اخرج بنا إلى هذه الأكلب «2» لا يرون أنا جبنّا عنهم وضعفنا. فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : «إنّى رأيت فى منامى بقرا تذبح ، فأولتها ناسا من أصحابى يقتلون ، ورأيت فى ذباب سيفى ثلما «3» ، فأولتها هزيمة ، ورأيت أنى أدخل يدى فى درع حصينة ، فأولتها المدينة ، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم فافعلوا». فقال رجال ممن فاتهم بدر ، وأكرمهم اللّه بالشهادة يوم أحد : اخرج بنا
___________
(1) القدح - بالكسر : السهم قبل أن ينصل ويراش.
(2) فى نسخة : (الكلاب) ، وكلاهما صحيح فالكلب يجمع على كلاب وأكلب.
(3) الثلم : الكسر.(1/401)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 402
إلى أعدائنا ، وبالغوا ، حتى دخل النبي صلّى اللّه عليه وسلم ولبس لأمته «1». فلما رأوه قد لبس سلاحه ندموا ، وقالوا : بئس ما صنعنا ، نشير على النبي صلّى اللّه عليه وسلم والوحى يأتيه ، فقاموا واعتذروا إليه. وقالوا : اصنع ما رأيت ، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : «لا ينبغى لنبى أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل».
فخرج بعد صلاة الجمعة ، وأصبح بشعب من أحد ، يوم السبت للنصف من شوال ، سنة ثلاث من الهجرة ، ونزل فى عدوة من الوادي ، وجعله ظهره وعسكره إلى أحد ، وسوى صفهم كما تقدم ، وأمّر عبد اللّه بن جبير على الرماة ، وقال : انضحوا عنا بالنبل ، لا يأتونا من خلفنا ، فكان من أمر اللّه ما كان ، على ما يأتى «2».
وخرج مع النبي صلّى اللّه عليه وسلم فى غزوة أحد زهاء ألف ، ووعدهم النصر إن صبروا ، فلما بلغوا الشواط - موضع - انخزل ابن أبىّ فى ثلاثمائة ، وقال : علام نقتل أنفسنا! فتبعهم أبو جابر السلمى ، فقال : أنشدكم اللّه فى نبيكم وأنفسكم. فقال ابن أبىّ : لو نعلم قتالا لاتبعناكم ، وهمت بنو حارثة وبنو سلمة بالانصراف معه ، فثبتوا مع النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، فذكرهم نعمته بقوله : إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وناصرهما ، حيث عصمهما من اتباع المنافقين ، قال جابر : (ما يسرنا أنها لم تنزل ، لقوله : وَاللَّهُ وَلِيُّهُما) فبنو سلمة من الخزرج ، وبنو حارثة من الأوس ، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ لا على غيره ، إذ لا ناصر غيره.
الإشارة : من شأن شيوخ التربية أن يدلّوا المريدين على محاربة النفوس ومقاتلتها ، ويطلعوهم على دسائسها ومخادعتها ، ليهيئوا لهم بذلك مقاعد لقتالها ، واللّه مطلع على إخلاصهم ونياتهم ، فمنهم من يمل ويكل ، فيرجع إلى وطن عوائده ، ومنهم من يصبر حتى يفوز بالغنيمة العظمى والسعادة القصوى ، وفى ذلك يقول القائل :
وبالغوا فى الجدّ حتى ملّ أكثرهم وعانق المجد من وافى ومن صبرا
قال بعضهم : انتهى سير السائرين إلى الظفر بنفوسهم ، فإن ظفروا بها وصلوا. ه. ومنهم من يلحقه الملل والفشل فيهم بالانصراف والرجوع ، ثم يثبته اللّه تعالى وينصره ، فيلحق بالصابرين السابقين ، وعمدة المريد فى مجاهدة نفسه : التوكل على اللّه والاعتماد عليه دون شىء سواه «من علامة النجح فى النهايات : الرجوع إلى اللّه فى البدايات». وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.
ثم ذكّر أهل أحد بما وقع لهم يوم بدر من النصر والظفر مع قلتهم ليثبتوا ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : آية 123]
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)
___________
(1) اللأمة - مهموزة - : الدرع.
(2) عند تفسير قوله تعالى : «وما محمد إلا رسول».(1/402)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 403
قلت : (بدر) : بئر بين مكة والمدينة ، كانت لرجل اسمه بدر ، فسميت باسم صاحبها ، وقعت فيها الغزوة التي نصر اللّه فيها رسوله صلّى اللّه عليه وسلم ، فسميت الغزوة باسم المكان ، وجملة : (و أنتم أذلة) : حال من الكاف ، و(أذلة) : جمع ذليل ، كأعزة ، جمع عزيز.
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فى وقعة بدر وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ليس معكم مراكب ولا كثرة سلاح ، مع قوة عدوكم بالعدة والعدد ، فَاتَّقُوا اللَّهَ واثبتوا مع رسوله ، وانتظروا النصر من اللّه كما عودكم ، لَعَلَّكُمْ تكونون شاكرين ، لما أنعم به عليكم من العز والنصر ، فيزيدكم منه كما وعدكم.
الإشارة : جعل اللّه سبحانه وتعالى الأشياء كامنة فى أضدادها ، فمن أراد العز والنصر فليتحقق بالذل والمسكنة ، ومن أراد الغنى فليتحقق بالفقر ، ومن أراد الرفعة فليتحقق بالضعة وإسقاط المنزلة ، ومن أراد القوة فليتحقق بالضعف ، وهكذا : [تحقق بأوصافك يمدك بأوصافه ]. فاتقوا اللّه يا معشر المريدين ، واطلبوا الأشياء فى أضدادها لتظفروا بها ، واشكروا اللّه على ما أولاكم يزدكم من فضله ونواله.
ثم ذكر كيفية نصره لهم ببدر فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 124 الى 125]
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
قلت : (إذ) : ظرف لنصركم ، إذا قلنا : إن الإمداد يوم بدر فقط ، أو بدل من (إذ غدوت) ، إذا قلنا : كان الإمداد يوم أحد بشرط الصبر ، فلما لم يصبروا لم يقع. والتسويم : التعليم.
يقول الحق جل جلاله : ولقد نصركم اللّه ببدر حين كنت تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ حين رأوا كثرة عدوهم وقلة عدتهم وعددهم : أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ فى القوة والكثرة ، أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ فى السحاب؟ بَلى يكفيكم كما وعدكم ، إِنْ تَصْبِرُوا وتثبتوا وَتَتَّقُوا اللّه وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ أي : من سرعتهم هذا الوقت ، يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ بلا تراخ ولا تأخير ، مُسَوِّمِينَ أي : معلّمين بعمائم بيض إلا جبريل ، فإنه كانت عمامته صفراء. أو معلمين أنفسهم أو خيلهم. قيل :
كانت مجزوزة الأذناب ، وقيل : كانت بلقا.(1/403)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 404
فإن قلت : ما ذكر فى الأنفال إلا ألفا ، وهنا خمسة آلاف. فالجواب : أن اللّه تعالى أمدهم أولا بألف ، ثم صاروا ثلاثة آلاف ، ثم صاروا خمسة آلاف. قال ابن عباس : لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر ، وفيما سوى ذلك يشهدون القتال معنا ، ولا يقاتلون. ه.
الإشارة : كل من توجّه لجهاد نفسه فى اللّه ، واشتغل بذكر مولاه ، أمده اللّه فى الباطن بالأنوار والأسرار ، وفى الظاهر بالملائكة الأبرار ، وقد شوهد ذلك فى الفقراء أصحابنا ، إذا كانوا ثلاثة رآهم العامة ثلاثين ، وإذا كانوا ثلاثين رأوهم ثلاثمائة ، وقد كنا فى سفرة سبعين ، فرأونا سبعمائة على ما أخبرونا به ، وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ.
ثم ذكر الحق تعالى حكمة إمداده لهم ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 126 الى 129]
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
قلت : (ليس لك من الأمر شى ء) : جملة معترضة بين قوله : (أو يكبتهم) وقوله : (أو يتوب عليهم) ، أو تكون (أو) بمعنى (إلا) ، أي : ليس لك من الأمر شىء ، إلا أن يتوب عليهم فتبشرهم ، أو يعذبهم فتتشفى فيهم. قاله البيضاوي.
يقول الحق جل جلاله : وما جعل اللّه ذلك الإمداد إلا بشارة لكم بالنصر ، وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ فتثبتوا للقتال ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فهو قادر على أن ينصركم بلا واسطة ، لكن أراد أن يثيبكم وينسب المزية إليكم ، حيث قتلهم على أيديكم ، فإن اللّه عزيز لا يغلب ، حكيم فيما دبر وأبرم ، وإنما نصركم يوم بدر لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بقتل بعض وأسر آخرين ، فإنه قتل يومئذ سبعون ، وأسر سبعون ، أَوْ يَكْبِتَهُمْ أي : يحزنهم ويغيظهم ، والكبت : شدة الغيظ ، فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ مما أملوا.
ولما جرح - عليه الصلاة والسلام - فى وجهه ، وشجّ على قرن حاجبه ، وكسرت رباعيته ، همّ بالدعاء على الكفار ، بل دعا عليهم ، فأنزل اللّه : لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ إنما أنت رسول إليهم ، مأمور بإنذارهم وجهادهم ، وأمرهم بيد مالكهم ، إن شاء هداهم وإن شاء عذبهم. وإنما نهاه عن الدعاء عليهم لعلمه بأن منهم من يسلم ويجاهد فى سبيل اللّه ، وقد كان كذلك فجلّهم أسلموا وجاهدوا ، منهم خالد بن الوليد - سيف اللّه فى أرضه.(1/404)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 405
ثم عطف على قوله : لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ قوله : أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إن أسلموا أَوْ يُعَذِّبَهُمْ إن لم يسلموا ، فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ قد استحقوا العذاب بظلمهم ، والأمور كلها بيد اللّه ، وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقا وملكا وعبيدا ، يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ غفرانه ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ تعذيبه ، ولا يجب عليه شىء ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لعباده ، فلا تبادر بالدعاء عليهم.
الإشارة : وما جعل اللّه التأييد الذي ينزله على أهل التجريد ، حين يقابلهم بالابتلاء والتشديد ، إذا أراد أن يوصلهم لصفاء التوحيد ، إلا بشارة لفتحهم ، ولتطمئن بمعرفته قلوبهم ، فإن الامتكان على قدر الامتحان ، وكل محنة تزيد مكنة ، وهذه سنة اللّه فى أوليائه يسلط عليهم الخلق فى بدايتهم ، ويشدد عليهم البلاء ، حتى إذا طهروا من البقايا ، وكملت فيهم المزايا ، كف عنهم الأذى ، وانقلب الجلال جمالا ، وذلك اعتناء بهم ، ونصرا لهم على أنفسهم ، فإن النصر كله مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. وذلك ليقطع عنهم طرفا من الشواغل والعلائق ، التي تقبضهم عن العروج إلى سماء الحقائق ، فإن الروح إذا رقدت فى ظل العز والجاه صعب خروجها من هذا العالم ، فإذا ضيق عليها ، وعكس مرادها ، رحلت إلى عالم الملكوت ، والأمر كله بيد اللّه. ليس لك أيها الفقير من الأمر شىء ، إنما أنت مأمور بتحريك الأسباب «1» واللّه يفتح الباب. وليس لك أيها الشيخ من الأمر شىء ، إنما أنت مذكر ، وعلى اللّه البلاغ ، فلا تأس على ما فاتك ، ولا تفرح بما آتاك ، فملكوت السموات والأرض بيد اللّه ، يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
قال القشيري : جرّده - أي : نبيه صلّى اللّه عليه وسلم لما به عرفه عن كلّ غير وسبب ، حيث أخبره أنه ليس له من الأمر شىء ، ثم قال : ويقال : أقامه فى وقت مقاما رمى بقبضة من التراب ، فأصابت جميع الوجوه ، وقال : وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وقال فى وقت آخر : لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ. ه.
يشير إلى أنهما مقامان : نيابة عن اللّه باللّه ، ونيابة اللّه عن عبده ، والأول بقاء ، والثاني فناء ، قاله المحشى.
قلت : الأول فى مقام البسط ، والثاني فى مقام القبض ، فقد قالوا : إذا بسط فلا فاقة ، وإذا قبض فلا طاقة. واللّه تعالى أعلم.
ولمّا كان النصر فى الجهاد لا يكون إلا بأكل الحلال وطاعة الكبير المتعال ، قدّم ذكر ذلك قبل الأمر بالقتال فى قضية أحد ، فقال :
___________
(1) فى «أ» السبب.(1/405)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 406
[سورة آل عمران (3) : الآيات 130 الى 134]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
قلت : الكظم هو : الكف والحبس ، تقول : كظمت القربة : إذا ملأتها وسددت رأسها.
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا وتزيدوا فيها إذا حلّ الأجل أَضْعافاً مُضاعَفَةً ، ولعل التخصيص بحسب الواقع ، إذ كان الرجل يحلّ أجل دينه ، فيقول للمدين : إما أن تقضى وإما أن تزيد ، فلا يزال يؤخره ويزيد فى دينه حتى يستغرق مال المدين ، فنهوا عن ذلك. ورغبهم فى التقوى التي هى غنى الدارين. فقال : وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما نهيتكم عنه ، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فى الدارين. ثم خوفهم بالنار إن لم ينتهوا ، فقال : وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ ، وفيه إشعار بأن النار موجودة إذ لا يعدّ المعدوم ، وأنها بالذات معدة للكافرين ، وبالعرض للعاصين.
قال الورتجبي : فى الآية إشارة إلى أن النار لم تعد للمؤمنين ، ولم تخلق لهم ، ولكن خوفهم بها زجرا وعظة ، كالأب البار المشفق على ولده يخوفه بالأسد والسيف ، وهو لا يضربه بالسيف ، ولا يلقيه إلى الأسد ، فهذه الآية تلطف وشفقة على عباده. ه.
وَأَطِيعُوا اللَّهَ فيما أمر ونهى ، وَالرَّسُولَ فيما شرع وسنّ ، لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. والتعبير بلعل وعسى فى أمثال هذه : دليل على عون التوصل إلى ما جعل طريقا له.
وَسارِعُوا أي : بادروا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ كالإسلام والتوبة والإخلاص ، وسائر الطاعات التي توجب المغفرة ، وقرأ نافع وابن عامر بغير واو على الاستئناف. وسارعوا أيضا إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ لو وصل بعضها ببعض ، وذكر العرض للمبالغة فى وصفها بالسعة لأنه دون الطول. قال بعضهم : لم يرد العرض الذي هو ضد الطول ، وإنما أراد عظمها ، ومعناه : كعرض السموات السبع والأرضين السبع فى ظنكم ، أي : لا تدرك ببيان. أُعِدَّتْ أي : هيّئت لِلْمُتَّقِينَ. وفيه دليل على أن الجنة مخلوقة ، وأنها خارجة عن هذا العالم.(1/406)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 407
ثم وصف أهلها من المتقين بأوصاف الكمال ، فقال : الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ أي : فى حالتى الرخاء والشدة ، وفى الأحوال كلها ، كما هى حالة الأسخياء ، قال صلّى اللّه عليه وسلم : «الجنّة دار الأسخياء». وقال أيضا :
«السّخى قريب من اللّه ، قريب من الجنّة ، قريب من النّاس ، بعيد من النّار ، والبخيل بعيد من اللّه ، بعيد من الجنّة ، بعيد منّ النّاس ، قريب من النّار. ولجاهل سخى أحبّ إلى اللّه من العالم البخيل». وقال أيضا صلّى اللّه عليه وسلم : «السّخاء شجرة فى الجنة ، أغصانها فى الدّنيا ، من تعلق بغصن من أغصانها قادته إلى الجنّة ، والبخل شجرة فى النّار ، أغصانها فى الدّنيا ، من تعلق ببعض من أغصانها قادته إلى النّار».
وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ أي : الكافين عن إمضائه مع القدرة عليه ، قال عليه الصلاة والسلام : «من كظم غيظا وهو يقدر على إمضائه ملأ اللّه قلبه أمنا وإيمانا».
وقال بعض الشعراء :
وإذا غضبت فكن وقورا كاظما للغيظ ، تبصر ما تقول وتسمع
فكفى به شرفا ، تصبّر ساعة يرضى بها عنك الإله ويرفع «1»
وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ أي : عمن ظلمهم ، وعن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال عند ذلك : «إنّ هؤلاء فى أمتى قليل ، إلا من عصم اللّه ، وقد كانوا كثيرا فى الأمم التي مضت». وعن أبى هريرة : أن أبا بكر كان مع النبي صلّى اللّه عليه وسلم فى مجلس ، فجاء رجل فوقع فى أبى بكر ، وهو ساكت ، والنبي صلّى اللّه عليه وسلم يبتسم ، ثم ردّ عليه أبو بكر بعض الرد ، فغضب عليه الصلاة والسلام - وقام ، فلحقه أبو بكر ، وقال : يا رسول اللّه ، شتمنى وأنت تبتسم ، ثم رددت عليه بعض ما قال ، فغضبت وقمت. قال : «حين كنت ساكتا كان معك ملك يردّ عليه ، فلما تكلمت وقع الشيطان ، فلم أكن لأقعد فى مقعد فيه الشيطان ، يا أبا بكر ، ثلاث حق : تعلم أنه ليس عبد يظلم مظلمة فيعفو عنها إلا أعز اللّه بها نصره ، وليس عبد يفتح باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده اللّه قلة ، وليس عبد يفتح عطية أو صلة إلا زاده اللّه بها كثرة».
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ الذي أحسنوا فيما بينهم وبين اللّه ، وفيما بينهم وبين عباد اللّه ، و«أل» : يحتمل أن تكون للجنس ، فيعم كل محسن ، أو للعهد ، فتكون الإشارة إلى من تقدم ذكرهم.
الإشارة : كل ما يقوى مادة الحس فهو ربا لأنه يربى الحس ويقوى مادة الغفلة ، فلا ينبغى لمريد أن يضاعفه ويتعاطى أسباب تكثيره ، بل ينبغى أن يفر من موارده ، وهى ثلاثة : مباشرة الحس ، أو الفكر فيه ، أو الكلام مع أهله
___________
(1) البيتان لأبى القاسم بن حبيب ، كما فى تفسير البحر المحيط : 3/ 63.(1/407)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 408
فيه. والذي يقوى مادة المعنى ثلاثة : صحبة أهل المعنى ، والفكرة فى المعاني ، وذكر اللّه بالقلب. واتقوا اللّه فى مباشرة الحس (لعلكم تفلحون) بالوصول إلى صفاء المعاني ، واتقوا نار القطيعة التي أعدت لمنكر الخصوصية ، (و أطيعوا اللّه والرسول) فيما ندبكم إليه ، (لعلكم ترحمون) بإحياء قلوبكم وأرواحكم بأسرار المعاني ، وسارعوا إلى ما يوجب تغطية مساوئكم ، حتى يغطى وصفكم بوصفه ، ونعتكم بنعته ، فيوصلكم بما منه إليكم ، لا بما منكم إليه ، فتدخلوا جنة المعارف ، التي لا نهاية لفضاء شهودها ، التي أعدت للمتقين السّوى ، الذين يبذلون مهجهم وأموالهم فى حال الجلال والجمال ، (و الكاظمين الغيظ) حيث ملكوا أنفسهم وأحوالهم ، (و العافين عن الناس) لأن الصوفي ماله مباح ودمه هدر. وكان بعض الصوفية يقول : إذا أردت أن تعرف حال الفقير فأغضبه ، وانظر إلى ما يخرج منه. وقال شيخ شيوخنا رضي اللّه عنه : قطب التصوف : لا تغضب ولا تغضب. ه.
ولعروة بن الزبير - رضي اللّه عنه :
لن يبلغ المجد أقوام وإن كرموا حتى يذلّوا وإن عزّوا لأقوام
ويشتموا فترى الألوان مشرقة ، لا عفو ذلّ ، ولكن عفو أحلام
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ الذين حازوا مقام الإحسان ، فعبدوا اللّه بالشهود والعيان ، فعم إحسانهم ذا الإساءة والإحسان والإنس والجان. قال الحسن البصري : (الإحسان : أن يعم إحسانه ، ولا يكون كالشمس والريح والمطر).
أي : يخص بلدا دون بلد. وقال سفيان الثوري : (ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك ، وإنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك. فإن الإحسان إلى المحسن متاجرة كنقد السوق ، خذ منى وهات). وقال السرى السقطي :
(الإحسان : أن تحسن وقت الإمكان ، فليس فى كل وقت يمكنك الإحسان) ، وأنشدوا :
ليس فى كلّ ساعة وأوان تتهيّأ صنائع الإحسان
فإذا أمكنت فبادر إليها حذرا من تعذّر الإمكان «1»
وقال الورتجبي : قوله : وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ ... إلخ ، علم الحق - سبحانه - علل الخلق وميلهم إلى منى النفوس ، فدعاهم بطاعته إلى العلتين : المغفرة والجنة ، ودعا الخاصة إلى نفسه ، فقال : فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ، ثم أعلم أن الكل فى درك امتحان الجرم ، وأثبت بالآية ذنب الكل ، لأنهم وإن كانوا معصومين من الزلل ،
___________
(1) الأبيات لأبى العباس الجمانى ، كما ذكر القرطبي فى تفسيره. [.....](1/408)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 409
فذنبهم قلة معرفتهم لأقدار الحق ، كما قال عليه الصلاة والسلام : «لو أن اللّه عذب الملائكة لحق منه ، فقيل : إنهم معصومون ، فقال عليه الصلاة والسلام : من قلة معرفتهم بربهم» «1». ولذلك دعاهم إلى المغفرة. ه. قال فى الحاشية : وقوله : (أثبت بالآية ذنب الكل) ، يعنى : شمول قوله : (يغفر لمن يشاء) من فى السموات الصادق بالملائكة ، وإنما تكون المغفرة بعد ذنب ، ولكنه فى كل أحد على حسبه ، وأما قوله : دعاهم إلى المغفرة ، فكأنه من قوله : سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ، وأن الخطاب يعم من فى السموات أيضا ، وقد يتصور فى حق الملائكة الاستناد لظواهر الأمور والاختلاف بينهم والاختصام ، مما هو معرض للخطأ ، وذلك من دواعى المغفرة ، وكذلك القصور عن معرفة كنه جلال اللّه : نقص لا يخلو منه مخلوق ، لاستحالة الإحاطة به علما ، ولذلك كان الترقي فى المعرفة لا حد له أبدا سرمدا. ه.
ثم ذكر حال أهل اليمين ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 135 الى 136]
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136)
يقول الحق جل جلاله : وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أي : فعلة بالغة فى الفحش والقبح ، كالزنى ، أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بأى ذنب كان ، أو فعلوا كبيرة أو صغيرة ، أو الفاحشة : ما يتعدى للغير ، وظلم النفس ما يخص ، أو الفاحشة بالفعل ، وظلم النفس بالقول ، ذَكَرُوا اللَّهَ أي : عقابه وغضبه وعرضه الأكبر ، أو ذَكَرُوا اللَّهَ فى أنفسهم أن اللّه سائلهم عنه ، أو كونه رقيبا عليهم ، أو ذَكَرُوا اللَّهَ باللسان فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ بالندم والتوبة ، وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ أي : لا أحد يغفره إلا اللّه ، والمراد : وصفه تعالى بسعة الرحمة وعموم المغفرة ، والحث على الاستغفار.
وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا أي : لم يدوموا عليها غير مستغفرين ، لقوله صلّى اللّه عليه وسلم : «ما أصرّ من استغفر ، ولو عاد فى اليوم سبعين مرّة» ، وذلك إذا صحبة الندم ، وقال أيضا : «لا كبيرة مع الاستغفار ، ولا صغيرة مع
___________
(1) لم أقف عليه. وذكر المتقى الهندي فى الكنز حديث : (لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرا لهم من أعمالهم ..» وعزاه لأحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن حبان. انظر : (الكنز 1/ 130 ح 613).(1/409)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 410
الإصرار». قال قتادة : إياكم والإصرار ، فإنما هلك المصرون الماضون قدما فى معاصى اللّه تعالى ، لم يتوبوا حتى أتاهم الموت. ه. وَهُمْ يَعْلَمُونَ أن الإصرار يضر بهم ، أو : وهم يعلمون أن لهم ربا يغفر الذنب لقوله - عليه الصلاة والسلام - : «من أذنب ذنبا ، وعلم أنّ له ربا يغفر الذنوب ، غفر له وإن لم يستغفر». وفى الحديث القدسي يقول اللّه تعالى : «من علم أنى ذو قدرة على المغفرة غفرت له ولا أبالى». وفى بعض الكتب المنزلة :
«يا ابن آدم ، إنّك ما دعوتنى ورجوتنى لأغفرن لك على ما كان منك ولا أبالى». أو : (و هم يعلمون) أن التوبة تمحق الذنوب.
أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ تغطية لذنوبهم ، وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ، ولا يلزم من إعدادها للتائبين اختصاصهم بها ، كما لا يلزم من إعداد النار للكفار اختصاصهم بها ، ثم مدح أجر التائبين فقال : وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ، وانظر هذا الفرق العظيم الذي بين المحسنين وأهل اليمين ، قال فى الآية الأولى : وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وقال فى هذه الآية : وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ، أهل الآية الأولى من خواص الأحباب ، وأهل هذه يأخذون أجرهم من وراء الباب. وباللّه التوفيق ، وهو الهادي إلى عين التحقيق.
الإشارة : أهل مقام الإحسان عملهم قلبى ، كالسخاء والعفو وكظم الغيظ ، وأهل اليمين عملهم بدني ، بين طاعة ومعصية وغفلة ويقظة ، إذا فعلوا فاحشة تابوا واستغفروا ، وإذا فعلوا طاعة فرحوا واستبشروا ، أهل مقام الإحسان غائبون عن رؤية أعمالهم ووجودهم ، وأهل اليمين معتمدون على أعمالهم ، إذا فعلوا طاعة قوى رجاؤهم ، وإذا زلّوا نقص رجاؤهم ، أهل مقام الإحسان فانون عن أنفسهم باقون بربهم ، وأهل اليمين أنفسهم موجودة وأعمالهم لديهم مشهودة ، أهل مقام الإحسان محبوبون ، وأهل اليمين محبّون ، أهل مقام الإحسان فنيت عندهم الرسوم والأشكال ، وبقي فى نظرهم وجود الكبير المتعال ، وأهل اليمين : الأكوان عندهم موجودة ، وشموس المعارف عن قلوبهم مفقودة ، أهل مقام الإحسان يعبدون اللّه على نعت الشهود والعيان ، وأهل اليمين يعبدون اللّه من وراء حجاب الدليل والبرهان ، أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان.
واعلم أن لمعرفة الشهود والعيان ثمرات ونتائج ، حصرها بعضهم فى إحدى عشرة خصلة :
الأولى : الحرية ، ومعناها أن يكون العارف فردا لفرد ، من غير أن يكون تحت رق شىء من الموجودات ، لا من أغراض الدنيا ولا من أغراض الآخرة ، فالحرية عبارة عن غاية التصفية والطهارة. قال بعضهم : ليس بحرّ من بقي عليه من تصفية نفسه مقدار فص نواة ، المكاتب عبد ما بقي عليه درهم.
الثانية : الوجود ، وهو الفوز بحقيقة الأشياء فى الأصل ، وهو عبارة عن إدراك مقام تضمحل فيه الرسوم ، بالاستغراق فى الحقيقة الأزلية.(1/410)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 411
الثالثة : الجمع الأتم ، وهو الحال الذي يقضى بقطع الإشارات ، والشخوص عن الأمارات والعلامات ، بعد صحة التمكين والبراءة من التلوين.
الرابعة : الصحو ، وهو عبارة عن تمكين حال المشاهدة ، واتصالها ، مع برء الروح من لدغات الدّهش ، ولا يكمل الصحو إلا بحياة الروح بوارد الجمع الدائم.
الخامسة : التحقيق ، وهو الوصول إلى المعرفة باللّه ، التي لا تدرك بالحواس ، لتخليص المشرب من الحق بالحق فى الحق ، حتى تسقط المشاهدات ، وتبطل العبارات ، وتفنى الإشارات.
السادسة : البسط ، ونعنى به : بسط الروح باسترسال شهود المعاني عند سقوط الأوانى ، وفى ذلك يقول ابن الفارض :
فما سكنت والهمّ يوما بموضع كذلك لم يسكن مع النغم الغمّ
السابعة : التلبيس ، وهو تغطية الأسرار بأستار الأسباب ، إبقاء للحكمة وسترا عن العامة.
الثامنة : البقاء ، والمراد به الخروج عن فناء المشاهدة إلى بقاء المعرفة ، من غير أفول يخل بشمس المشاهدة ، ولا رجوع إلى شواهد الحس ، إنما هو استصحاب الجمع مع استئناس الروح بحلاوة المعاني ، فهو كبائن دان. انظر بقيتها فى [بغية السالك ]. وباللّه التوفيق.
ثم قوّى قلوب أهل أحد لمّا انكسرت بالهزيمة ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 137 الى 139]
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
قلت : السّنن : الطرق المسلوكة ، وقيل : الأمم.
يقول الحق جل جلاله : قد مضت مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ جرت على الأمم المكذبة لأنبيائها قبلكم ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ، وهو إمهالى واستدراجى إياهم ، حتى يبلغ الكتاب الذي أجل لهم ، فإذا بلغهم أهلكتهم ، وأدلت الأنبياء وأتباعهم عليهم ، فإذا هلكوا بقيت آثارهم دارسة ، اعتبارا لمن يأتى بعدهم ، فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ وتعرفوا أخبارهم ، وانظروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ لأنبيائهم قبلكم ، فكذلك يكون شأنكم مع من كذّبكم.
هذا الذي أمرتكم به من الاعتبار ، بَيانٌ لِلنَّاسِ لمن أراد أن يعتبر من الكفار ، وزيادة هداية واستبصار لِلْمُتَّقِينَ.(1/411)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 412
ثم سلّاهم وبشرهم فقال : وَلا تَهِنُوا أي : لا تضعفوا عن قتال عدوكم بما أصابكم ، وَلا تَحْزَنُوا على من قتل منكم ، وهم سبعون من الأنصار وخمسة من المهاجرين ، منهم : حمزة بن عبد المطلب ، ومصعب بن عمير - صاحب راية النبي صلّى اللّه عليه وسلم وعبد اللّه بن جحش ، وعثمان بن شماس ، وسعد مولى عتبة - رضى اللّه عنهم - .
أو : (لا تحزنوا) لفوات الغنيمة وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ بأن تكون لكم العاقبة والنصر ، أو : وحالكم أنكم أعلى منهم شأنا ، فإنكم على الحق وقتالكم للّه ، وقتلاكم فى الجنة ، وهم على الباطل ، وقتالهم للشيطان ، وقتلاهم فى النار ، فلا تفشلوا عن الجهاد إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن الإيمان يقتضى قوة القلب بالوثوق باللّه والاعتماد عليه ، أو : (إن كنتم مؤمنين) بما وعدتكم من العلو والنصر. واللّه أعلم.
الإشارة : قد خلت من قبلكم ، أيها المريدون ، سنن اللّه فى أوليائه مع المنكرين عليهم من عوام عباده ، فإنه أبعدهم عن ساحة حضرته ، وحرمهم من سابق عنايته ، حتى ماتوا على البعد ، فاندرست آثارهم وخربت ديارهم ، فسيروا فى الأرض وانظروا كيف كان عاقبة المكذبين لأوليائه ، هذا بيان للمعتبرين ، وزيادة هدى وموعظة للمتقين ، فلا تهنوا أيها الفقراء وتضعفوا عن طلب الحق بالرجوع عن طريق الجد والاجتهاد ، لما يصيبكم من أذى أهل العناد ، وأنتم الأعلون بالنصر والتأييد ، ورفع درجاتكم مع خواص أهل التوحيد ، إن كنتم مؤمنين بوعد الملك المجيد ، فمن طلب اللّه وجده ، وأنجز بالوفاء موعده ، لكن بعد تجرع كؤوس مرارة الصبر ، ودوام الحمد والشكر ، وأنشدوا :
لا تحسب المجد تمرا أنت آكله لن تبلغ المجد حتّى تلعق الصّبر «1»
ثم سلاهم بمشاركة المكذبين فيما أصابهم ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 140 الى 143]
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
قلت : القرح - بالفتح والضم - : الجرح ، وقيل : بالفتح : الجرح ، وبالضم : ألمه ووجعه. والمداولة : المفاعلة من الدولة ، وهى الغلبة ، و(الأيام) : نعت أو خبر ، و(نداولها) : خبر أو حال ، و(ليعلم) : متعلق بمحذوف ، أي : وفعل
___________
(1) البيت للمتنبى.(1/412)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 413
ما فعل من الإدالة ليعلم ، أو عطف على علة محذوفة ، أي : نداولها ليكون كيت وكيت ، وليعلم ... إلخ ، إيذانا بأن العلة فيه غير واحدة ، وأن ما يصيب المؤمن : فيه من المصالح ما لا يعلم ، و(يعلم الصابرين) : منصوب بأن ، علّى أنّ الواو للجمع.
يقول الحق جل جلاله : إِنْ يَمْسَسْكُمْ فى غزوة أحد قَرْحٌ كقتل أو جرح ، فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ من أعدائكم يوم بدر قَرْحٌ مِثْلُهُ ، فإن كان قتل منكم خمسة وسبعون يوم أحد ، فقد قتل منهم يوم بدر سبعون وأسر سبعون. أو : فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ يوم أحد قَرْحٌ مثل ما أصابكم ، فإنكم نلتم منهم وهزمتموهم ، قبل أن تخالفوا أمر الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، كما نالوا منكم يومئذ. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ أي : نصرف دولتها بينهم ، فنديل لهؤلاء تارة ولهؤلاء أخرى ، كما قال الشاعر :
فيوم علينا ، ويوم لنا ، ويوم نساء ، ويوم نسر «1»
فقد أديل المسلمون على المشركين يوم بدر ، فكانت الدولة لهم ، وأديل المشركون يوم أحد. والمراد بالأيام : أيام الدنيا ، أو أيام النصر والغلبة. وإنما أديل للمشركين يوم أحد ليتميز المؤمنون من المنافقين ، ويظهر علمهم للناس ، وليتخذ اللّه مِنْكُمْ شُهَداءَ حين ماتوا فى الجهاد ، أكرمهم اللّه بالشهادة ، ولا تدل إدالة المشركين على أن اللّه يحبهم ، فإن اللّه لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وإنما أدالهم لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي : ليطهرهم ويصفيهم من الذنوب ، وإنما أدال المسلمين على المشركين ليمحق الكافرين ويقطع دابرهم. والمحق : نقص الشيء قليلا قليلا.
ثم عاتب المسلمين فقال : أَمْ حَسِبْتُمْ أي : ظننتم أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ علم ظهوره ، وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ أي : لا تظنوا أن تدخلوا الجنة كما دخلها من قتل منكم ، ولم يقع منكم مثل ما وقع لهم من الجهاد والصبر على القتل والجرح حتى يقع العلم ظاهرا بجهادكم وصبركم.
وَلَقَدْ كُنْتُمْ قبل خروجكم إلى الجهاد تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ أي : الحرب لأنه سبب الموت ، وتقولون : ليت لنا يوما مثل يوم بدر ، فلقد لقيتموه وعاينتموه يوم أحد وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ من مات من إخوانكم ، فما لكم حين رأيتموه جبنتم وانهزمتم؟ وهو عتاب لمن طلب الخروج يوم أحد ، ثم انهزم عن الحرب ، ثم تداركهم بالتوبة والعفو ، على ما يأتى إن شاء اللّه. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : إن يمسسكم يا معشر الفقراء قرح كحبس أو ضرب أو سجن أو حرج أو جلاء ، فقد مس العموم مثل ذلك ، غير أنكم تسيرون به إلى اللّه تعالى لمعرفتكم فيه ، وهم لا سير لهم لعدم معرفتهم ، أو إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم المتقدمين من أهل الخصوصية مثل ما أصابكم ، ففيهم أسوة لكم ، وهذه عادة اللّه فى أوليائه ، يديل عليهم حتى يتطهروا ويتخلصوا ، ثم يديل لهم ، وإنما أديل عليهم أولا ليتطهروا من البقايا وتكمل فيهم المزايا ، وليعلم
___________
(1) البيت للنمر بن كولب ، كما ورد فى الكتاب لسيبويه 1/ 86.(1/413)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 414
الصادق فى الطلب من الكاذب ، فإنّ محبة اللّه مقرونة بالبلاء ، وليتخذ منهم شهداء إن ماتوا على ذلك ، كالحلاج وغيره ، أو يتخذ منهم شهداء الملكوت إن صبروا حتى ظفروا بالشهود. (و اللّه لا يحب الظالمين) أي : المؤذين لأوليائه ، بل يمقتهم ويبعدهم.
(و ليمحص اللّه الذين آمنوا) بطريق الخصوص ، أي : يخلصهم من بقايا الحس ، سلط عليهم الناس ، وليمحق المنكرين عليهم بما يصيبهم من إيذايتهم ، فإن المنكر على أهل النسبة كمن يدخل يده فى الغيران «1» ، فإذا سلم من الأول والثاني ، قال : لا يلحقنى منهم شىء ، فإذا أدخل يده فى غار آخر لدغته حية فأهلكته.
أم حسبتم يا معشر المريدين أن تدخلوا جنة المعارف ، ولما يعلم اللّه الذين جاهدوا نفوسهم ، ويعلم الصابرين على إيذاية من آذاهم ، ولقد كنتم تمنون موت نفوسكم وتطلبون ما يعينكم على موتها من قبل أن تلقوا الجلال ، فقد رأيتموه وعاينتموه وأنتم تنظرون ما أصاب الأولياء غيركم ، فما لكم تجزعون منه وتفرون من مواطنه؟. وكان شيخ شيوخنا رضي اللّه عنه يقول : العجب كل العجب ، ممن يطلب معرفة اللّه ، فإذا تعرف إليه أنكره.
وفى الحكم : «إذا فتح اللّه لك وجهة من التعرف فلا تبال معها ، وإن قلّ عملك ، فإنه ما فتحها إلا وهو يريد أن يتعرف إليك فيها ، ألم تعلم أن التعرف هو مورده عليك ، والأعمال أنت مهديها إليه ، وأين ما تهديه إليه مما هو مورده عليك؟». وباللّه التوفيق.
ثم وبّخهم على ما وقع لهم من الفشل ، حين سمعوا بموت النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 144 الى 145]
وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
قلت : (كتابا) : مصدر ، أي : كتب الموت كتابا مؤجلا.
يقول الحق جل جلاله : وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ يصيبه ما أصابهم ، قَدْ مضت مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ، فسيمضى كما مضوا بالموت أو القتل ، أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ بعد تقرر شريعته
___________
(1) الغيران : جمع غار ، ويجمع أيضا على أغوار.(1/414)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 415
وظهور براهينه ، عاتبهم على تقدير أن لو صار منهم انقلاب لو مات صلّى اللّه عليه وسلم أو قتل ، أو على ما صدر من بعض المنافقين وهم ساكتون.
قال أصحاب المغازي : خرج النبي صلّى اللّه عليه وسلم حتى نزل بالشعب من أحد ، فى سبعمائة رجل ، وأمّر عبد اللّه بن جبير على الرماة ، وهم خمسون رجلا ، وقال : انضحوا عنا بالنبل ، لا يأتونا من خلفنا ، لا تبرحوا مكانكم كانت لنا أو علينا ، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتّم مكانكم ، فجاءت قريش ، وعلى ميمنتهم خالد بن الوليد ، وعلى ميسرتهم عكرمة ، ومعهم النساء. ثم انتشب القتال فقال عليه الصلاة والسلام : «من يأخذ هذا السيف بحقه»؟ فجاء رجال فمنعهم ، حتى جاء أبو دجانة ، فقال : وما حقه يا رسول اللّه؟ قال : «تضرب به العدو حتى ينحنى» ، وكان رجلا شجاعا يختال عند الحرب ، فأخذه واعتم بعمامة حمراء ، وجعل يتبختر بين الصفين ، فقال عليه الصلاة والسلام : «إنها لمشية يبغضها اللّه إلّا فى هذا الموضع».
ثم حمل النبي صلّى اللّه عليه وسلم وأصحابه على المشركين فهزموهم ، قال الزبير : (فرأيت هندا وصواحبها هاربات مصعدات فى الجبل) ، فلما نظر الرماة إلى القوم قد انكشفوا ، قالوا : الغنيمة الغنيمة فقال لهم بعضهم : لا تتركوا أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلم فلم يلتفتوا ، وانطلق عامتهم ، فلما رأى خالد قلة الرماة ، صاح فى خيله من المشركين ، ثم حمل على أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلم من خلفهم ، وقتل عبد اللّه بن جبير ، واختلط الناس ، فقتل بعضهم بعضا ، ورمى عبد اللّه بن قمئة الحارثي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بحجر ، فكسر أنفه ورباعيته ، وشجّه فى وجهه ، وكسر البيضة «1» على رأسه ، فذبّ عنه مصعب بن عمير ، وكان صاحب الراية ، فقتله ابن قمئة وهو يرى أنه قتل النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، فرجع إلى قومه ، وقال : قد قتلت محمدا ، وصرخ صارخ : ألا إنّ محمدا قد مات. وقيل : إنه الشيطان ، فانكفأ الناس ، وجعل الرسول - عليه الصلاة والسلام - يدعو : «إلىّ عباد اللّه» ، فانحاز إليه ثلاثون من الصحابة ، وضموه حتى كشفوا عنه المشركين ، وأصيبت يد طلحة بن عبيد اللّه فيبست ، حين وقى بها النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، وأصيبت عين قتادة بن النعمان ، حتى وقعت على وجنتيه ، فردها النبي صلّى اللّه عليه وسلم مكانها ، فعادت أحسن مما كانت.
وفشا فى الناس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم مات - فقال بعض المسلمين : ليت ابن أبى يأخذ لنا أمانا من أبى سفيان.
وقال بعض المنافقين : لو كان نبيا ما قتل ، ارجعوا إلى دينكم الأول. فقال أنس بن النضر - عمّ أنس بن مالك : (إن كان قد قتل محمد فإنّ رب محمد لا يموت ، وما تصنعون بالحياة بعده؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه ، حتى تموتوا على ما مات عليه). ثم قال : اللهم إنى أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعنى المسلمين - وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء - يعنى الكفار - ، ثم شدّ سيفه وقاتل حتى قتل ، رحمة اللّه عليه.
___________
(1) البيضة : الخوذة.(1/415)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 416
فأنزل فيما قال المنافقون : وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ بارتداده فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وإنما يضر نفسه ، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ على نعمة الإسلام بالثبات عليه ، كأنس وأضرابه ، وَما كانَ ينبغى لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي : بإرادته ومشيئته ، أو بإذنه لملك فى قبض روحه ، والمعنى : أنّ لكل نفس أجلا مسمى فى علمه تعالى وقضائه ، لا تستأخر عنه ساعة ولا تستقدم ، بالتأخر عن القتال ولا بالإقدام عليه ، وفيه تشجيعهم على القتال ووعد للرسول بحفظه وتأخر أجله فإن اللّه تعالى كتب أجل الموت كِتاباً مُؤَجَّلًا مؤقتا لا يتقدم ولا يتأخر.
ونزل فى الرماة الذين خالفوا المركز للغنيمة : وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها الجزاء الجليل ، وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ الذين شكروا نعم اللّه ، فلم يشغلهم شىء عن الجهاد فى سبيل اللّه ، بل كان همهم رضى اللّه ورسوله دون شىء سواه.
الإشارة : ينبغى للمريد أن يستغنى باللّه ، فلا يركن إلى شىء سواه ، وتكون بصيرته نافذة حتى يغيب عن الواسطة بشهود الموسوط ، فإن مات شيخه لم ينقلب على عقبيه ، فإن تمكن من الشهود فقد استغنى عن كل موجود ، وإن لم يتمكن نظر من يكمله ، فالوقوف مع الوسائط وقوف مع النعم دون شهود المنعم ، فلا يكون شاكرا للمنعم حتى لا يحجبه عنه شىء ، ولما مات - عليه الصلاة والسلام - دهشت الناس ، وتحيرت لوقوفهم مع شهود النعمة ، إلّا الصدّيق كان نفذ من شهود النعمة إلى شهود المنعم ، فخطب حينئذ على الناس ، وقال : (من كان يعبد محمّدا فإن محمّدا قد مات ، ومن كان يعبد اللّه فإنّ اللّه حى لا يموت). ثم قرأ : وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ ... إلى قوله :
وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ، وهم الذين نفذوا إلى شهود المنعم ، ولم يقفوا مع النعمة.
ودخل بعض العارفين على بعض الفقراء فوجده يبكى ، فقال له : ما يبكيك؟ قال : مات أستاذى ، فقال له العارف : ولم جعلت أستاذك يموت؟ وهلا جعلته حيا لا يموت. فنبهه على نفاذ بصيرته إلى شهود المنعم دون الوقوف مع النعمة ، فالشيخ الحقيقي هو الذي يغنى صاحبه عنه وعن غيره ، بالدلالة على ربه.
ثم صبّرهم بما وقع لغيرهم قبلهم فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 146 الى 148]
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)(1/416)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 417
قلت : (كأيّن) : أصله : أي ، دخلت الكاف عليها وصارت بمعنى (كم) ، وأثبت التنوين نونا على غير قياس ، وقرأ ابن كثير : (و كائن) ، على وزن فاعل ، ووجهه : أنه قلب الياء قبل الهمزة فصار : كياء ، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فصار كائن ، وهما لغتان ، وقد جمع الشاعر بينهما فى بيت ، فقال :
كأيّن أبدنا من عدوّ بعزّنا وكائن أجرنا من ضعيف وخائف
و(الربّيون) : جمع ربّة ، أي : الفرقة. أي : معه جموع كثيرة ، وقيل : العلماء الأتقياء ، وقيل : الولاة ، وهو : إما مبتدأ فيوقف على (قتل) ، أو نائب فاعل (قتل) ، أو فاعل على من قرأ بالبناء له ، و(كثير) : نعت له ، كقوله :
وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ لأن فعيلا يخبر به عن المفرد والجمع.
يقول الحق جل جلاله : وَكَأَيِّنْ وكم مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ فى المعركة ومعه جموع كثيرة ، أو ربانيون علماء أتقياء ، فلم يفشلوا ولم يضعفوا ، بل ثبتوا على دينهم وجهاد عدوهم ، أو يقول : كثير من الأنبياء قتل معهم ربانيون كثير ، أي : ماتوا فى الحرب فثبت الباقون ، ولم يفتروا ولم يضعفوا عن عدوهم ، ويترجح الأول بما صرخ به الصارخ يوم أحد : إن محمدا قد مات ، فضرب لهم المثل بقوله : وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ ، ويترجح الثاني بأنه لم يقتل نبى قط فى المحاربة.
أو : وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ أي : جاهد معه رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ، وبعد ما قتل نبيهم أو جموعهم فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي : فما فتروا ، ولم ينكسر جندهم لأجل ما أصابهم من قتل نبيهم أو بعضهم ، وَما ضَعُفُوا عن جهاد عدوهم ولا عن دينهم ، وَمَا اسْتَكانُوا أي : خضعوا لعدوهم ، من السكون لأن الخاضع يسكن لعدوه يفعل به ما يريد ، فالألف إشباع زائد ، أي : فما سكنوا لعدوهم بل صبروا له ، وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ فينصرهم ويعزهم ويعظم قدرهم.
وَما كانَ قَوْلَهُمْ عند قتل نبيهم مع ثباتهم على دينه ، إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا الصغائر ، وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا أي : ما تجاوزنا به الحد فى أمر ذنوبنا ، كالكبائر ، وَثَبِّتْ أَقْدامَنا فى مداحض الحرب لئلا ننهزم ، وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ من أعدائنا ، فهّلا فعلتم مثلهم ، وقلتم ذلك يا أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلم.
فَآتاهُمُ اللَّهُ فى ثواب الاستغفار واللجوء إلى اللّه ثَوابَ الدُّنْيا وهو النصر والغنيمة والعز وحسن الذكر ، وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وهو النعيم الذي لا يفنى ولا يبيد ، وخص ثواب الآخرة بالحسن إشعارا بفضله ، وأنه المعتد به عنده ، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ الثابتين على دينهم ، لأنهم أحسنوا فيما بينهم وبين ربهم بحفظ دينه ، فأحبهم اللّه وقربهم إلى حضرته.(1/417)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 418
الإشارة : وكم من المريدين والأتباع مات شيخهم أو قتل ، فثبتوا على طريقهم ، فما فشلوا ولا ضعفوا ، ولا خضعوا لمن يقطعهم عن ربهم ، بل صبروا على السير إلى ربهم ، أو الترقي فى المقامات ، ومن لم يرشد منهم طلب من يكمل له ، (و اللّه يحب الصابرين) ، فإذا أحبهم كان سمعهم وبصرهم ، كما فى الحديث. وما كان حالهم عند موت شيخهم إلا الالتجاء إلى ربهم ، والاستغفار مما بقي من مساوئهم ، وطلب الثبات فى مواطن حرب أنفسهم ، فأعطاهم اللّه عز الدنيا والآخرة ، عز الدنيا بالإيمان والمعرفة ، وعز الآخرة بدوام المشاهدة ، فكانوا أحباب اللّه (و اللّه يحب المحسنين).
ثم حذّرهم اللّه تعالى من الركون إلى عدوهم ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 149 الى 150]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا وهم المنافقون ، لما قالوا للمسلمين عند الهزيمة : ارجعوا إلى دينكم الأول ، ولو كان نبيا ما قتل ، يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ راجعين عن إيمانكم ، فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ مفتونين عن دينكم ، فتحبط أعمالكم فتخسروا الدنيا والآخرة ، بل اثبتوا على إيمانكم ، فإن اللّه مَوْلاكُمْ سينصركم ويعزكم ، وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ، وقيل : إن تسكنوا إلى أبى سفيان وأشياعه وتستأمنوهم يردوكم إلى دينهم. وقيل : عام فى مطاوعة الكفرة والنزول على حكمهم فإنه يجر إلى موافقتهم على دينهم ، لا سيما إن طالت مدة الاستئمان.
قلت : وهذا هو السبب فى ارتداد من بقي من المسلمين بالأندلس حتى رجعوا نصارى ، هم وأولادهم ، والعياذ باللّه من سوء القضاء.
الإشارة : يا أيها المريدون - وخصوصا المتجردين - إن تطيعوا العامة ، وتركنوا إليهم ، يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين بطلب الدنيا وتعاطى أسبابها ، فتزلّ قدم بعد ثبوتها ، وتنحط من الهمة العالية إلى الهمة السفلى ، فإن الطباع تسرق ، والمرء على دين خليله ، بل اثبتوا على التجريد وتحقيق التوحيد ، فإن اللّه مولاكم (و هو خير الناصرين) فينصركم ويعزكم ويغنيكم بلا سبب ، كما وعدكم وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ.
ولّما انصرف أبو سفيان من أحد ، قال : بئس ما صنعنا! قتلنا القوم ولم يبق إلا اليسير ، ارجعوا حتى نستأصلهم ، فألقى اللّه فى قلبه الرعب ، كما قال : (1/418)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 419
[سورة آل عمران (3) : آية 151]
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
قلت : (الرعب) : الخوف ، وفيه الضم والسكون ، وهكذا كل ثلاثى ساكن الوسط ، كالقدس والعسر واليسر ، وشبه ذلك ، و(بما أشركوا) : مصدرية.
يقول الحق جل جلاله : سنقذف فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا كأبى سفيان وأصحابه ، الرُّعْبَ والخوف ، حتى يرجعوا عنكم بلا سبب ، بسبب شركهم باللّه ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً ولا حجة على استحقاق العبادة ، وَمَأْواهُمُ النَّارُ أي : هى مقامهم ، وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ أي : قبح مقامهم. ووضع الظاهر موضع المضمر للتغليظ فى العلة.
الإشارة : فيها تسلية للفقراء ، فإنّ كل من هم بإذايتهم ألقى اللّه فى قلبه الرعب ، حتى لا يقدر أن يتوصل إليهم بشىء مما أمّل فيهم ، وقد رأيتهم هموا بقتلهم وضربهم وحبسهم ، وسعوا فى ذلك جهدهم ، وعملوا فى ذلك بينات على زعمهم ، توجب قتلهم ، فكفاهم اللّه أمرهم ، وألقى الرعب فى قلوبهم ، فانقلبوا خائبين وماتوا ظالمين ، واللّه ولى المتقين.
ثم ذكّرهم اللّه تعالى ما وعدهم من النصر ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : آية 152]
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
قلت : حسّه : إذا قتله وأبطل حسه ، وجواب (إذا) : محذوف ، أي : حتى إذا فشلتم وتنازعتم وعصيتم امتحناكم بالهزيمة ، والواو لا ترتب ، والتقدير : حتى إذا تنازعتم وعصيتم وفشلتم سلبنا النصر عنكم.
يقول الحق جل جلاله : وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ ما وعدكم من النصر لو صبرتم واتقيتم ، وذلك حين كنتم تَحُسُّونَهُمْ بالسيف ، وتقتلونهم حتى انهزموا هاربين ، بإذنه تعالى وإرادته ، حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ أي : جبنتم(1/419)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 420
وضعف رأيكم وملتم إلى الغنيمة ، وَتَنازَعْتُمْ فى الثبات مع الرماة حين انهزم المشركون ، فقلتم : الغنيمة الغنيمة ، فما وقوفكم هنا! وقال آخرون : لا تخالفوا أمر الرسول ، ثم تركتم المركز ، وَعَصَيْتُمْ الرسول مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ من النصر والغنيمة ، امتحناكم حينئذ بالهزيمة.
فمنكم مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا ليصرفها فى الآخرة ، وهم الذين خالفوا المركز وذهبوا للغنيمة ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ صرفا ، وهم الثابتون مع عبد اللّه بن جبير ، محافظة على أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ حين خالفتم أمر الرسول ، لِيَبْتَلِيَكُمْ أي : ليختبركم ، فيتبين الصابر من الجازع ، والمخلص من المنافق ، وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ فلم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة ، لاستحقاقكم ذلك ، أو تجاوز عن ذنبكم وتفضل بالتوبة والمغفرة ، وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عظيم عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يتفضل عليهم بالمغفرة فى الأحوال كلها ، سواء أديل عليهم أو لهم ، فإن الابتلاء أيضا رحمة وتطهير. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : يقول للفقراء الذين استشرفوا على بلاد الخصوصية ، ثم فشلوا ورجعوا إلى بلاد العمومية : ولقد صدقكم اللّه وعده فى إدراك الخصوصية لو صبرتم ، فإنكم حين كنتم تجاهدون نفوسكم وتحسونها بسيوف المخالفة ، لمعت لكم أنوار المشاهدة ، حتى إذا فشلتم وتفرقت قلوبكم ، وعصيتم شيوخكم قلّت أمدادكم ، وأظلمت قلوبكم ، من بعد ما رأيتم ما تحبون من مبادئ المشاهدة ، فملتم إلى الدنيا الفانية ، فمنكم يا معشر المنتسبين من يريد الدنيا ، فصحب العارفين على حرف ، وهو الذي رجع وفشل ، ومنكم من يريد الآخرة وقطع يأسه من الرجوع إلى الدنيا ، وهو الذي ثبت حتى ظفر ، ثم صرفكم عن صحبة العارفين ، يا من أراد الدنيا من المنتسبين ، ليبتليكم ، هل صحبتموهم للّه أو لغيره ، ولقد عفا عنكم وجعلكم من عوام المسلمين ، ولم يسلب عنكم الإيمان عقوبة لترك صحبة العارفين. أو لقد عفا عنكم إن رجعتم إلى صحبتهم والأدب معهم ، فإن اللّه (ذو فضل على المؤمنين) حيث لم يعاجلهم بالعقوبة. وباللّه التوفيق.
وقال الورتجبي : قوله : مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا ، أي : منكم من وقع فى بحر غنى القدم ، واتصف به بنعت التمكين ورؤية النعم فى شكر المنعم ، كسليمان عليه السّلام. ومنكم من وقع فى بحر التنزيه وتقديس الأزلية ، فغلب عليه القدس والطهارة ، فخرج بنعت الفقر تجريدا لتوحيده وإفراد قدمه من الحدث ، كمحمد صلّى اللّه عليه وسلم حيث قال : «الفقر فخرى» «1».
___________
(1) قال الحافظ ابن حجر : لا أصل له. انظر : الأسرار المرفوعة.(1/420)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 421
ثم بيّن وقت الذلة التي افتقرت إلى العفو ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : آية 153]
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153)
قلت : (إذ) : ظرف لعفا ، أو اذكر. وأصعد : أبعد فى الأرض ، وصعد : فى الجبل ، فالإصعاد : الذهاب فى الأرض المستوية ، والصعود : الارتقاء فى العلو. وقرئ بهما معا لأنهما وقعا معا ، فمنهم من فر ذاهبا فى الأرض ، ومنهم من صعد إلى الجبل. و(لكيلا) : متعلق بأثابكم.
يقول الحق جل جلاله : ولقد عفا عنكم حين كنتم تُصْعِدُونَ عن نبيه - عليه الصلاة والسلام - ، منهزمين عنه ، تبعدون عنه ، وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ أي : لا يلتفت بعضكم إلى بعض ، ولا ينتظر بعضكم بعضا ، وَالرَّسُولُ محمد صلّى اللّه عليه وسلم يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ أي : فى ساقتكم ، يقول : «إلىّ عباد اللّه ، أنا رسول اللّه ، من يكرّ فله الجنة» ، وفيه مدح للرسول صلّى اللّه عليه وسلم بالشجاعة والثبات ، حيث وقف فى آخر المنهزمين ، فإن الآخر هو موقف الأبطال ، والفرار فى حقه صلّى اللّه عليه وسلم محال.
فَأَثابَكُمْ أي : فجازاكم على ذلك الفرار ، غَمًّا وهو ظهور المشركين عليكم وقتل إخوانكم ، بسبب غم أوصلتموه للنبى صلّى اللّه عليه وسلم بعصيانه والفرار عنه ، وقدّر ذلك لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ من الغنيمة ، وَلا على ما أَصابَكُمْ من الجرح والهزيمة ، لأن من استحق العقوبة والأدب لا يحزن على ما فاته ولا على ما أصابه إذ جريمته تستحق أكثر من ذلك ، يرى ما نزل به بعض ما يستحقه ، فيهون عليه أمر ما نزل به أو ما فاته من الخير.
أو يقول : فَأَثابَكُمْ غَمًّا متصلا بِغَمٍّ فالغم الأول : ما فاتهم من الظفر والغنيمة ، والثاني : ما نالهم من القتل والهزيمة ، أو الأول : ما أصابهم من القتل والجراح ، والثاني : ما سمعوا من الإرجاف بقتل النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، وذلك ليتمرنوا على المحن والشدائد حتى لا يجزعوا من شىء. وبذلك وصفهم كعب بن زهير فى لاميته ، حيث قال :
لا يفرحون إذا نالت رماحهم وليسوا مجازيعا إذا نيلوا
فإن المتمرن على المصائب المتعود عليها يهون عليه أمرها ، فلا يحزن على ما أصابه ولا ما فاته ، وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ وبما قصدتم ، فيجازيكم على ذلك.(1/421)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 422
الإشارة : ما زال الدعاة إلى اللّه من أهل التربية النبوية يدعون الناس إلى اللّه ، ويعرفونهم بالطريق إلى اللّه ، يبينون لهم الطريق إلى عين التحقيق ، والناس يبعدون عنهم ويفرون منهم ، وهم فى أخراهم يقولون بلسان الحال أو المقال : يا عباد اللّه ، هلم إلينا نعرفكم باللّه ، وندلكم على اللّه ، فلا يلوى إليهم أحد ولا يلتفت إليهم بشر ، إلا من سبقت له العناية ، وأراد الحق تعالى أن يوصله إلى درجة الولاية ، «سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه ، ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه» ، فأثابهم على الفرار غم الحجاب ، متصلا بغم الأسباب ، فلا يحزنوا على ما فاتهم من المعرفة إذ لم يعرفوا قدرها ، ولا على ما أصابهم من الغفلة والبطالة ، إذ لم يتفطنوا لها ، (و اللّه خبير بما تعملون) يا معشر العباد ، من التودد أو العناد. وباللّه التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم أنزل على أهل أحد الأمن والطمأنينة بعد الشدة والمحنة ، كما أشار إلى ذلك الحق ، بقوله :
[سورة آل عمران (3) : آية 154]
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154)
قلت : (نعاسا) : بدل من (أمنة) ، أو هو المفعول ، و(أمنة) : حال منه ، مقدمة ، أو مفعول له ، أي : أنزل عليكم نعاسا لأجل الأمنة ، أو حال من كاف (عليكم) ، أي : أنزل عليكم حال كونكم آمنين. والأمنة : مصدر أمن ، كالعظمة والغلبة.
يقول الحق جل جلاله : ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ أيها المؤمنون مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ الذي أصابكم بموت إخوانكم ، والإرجاف بقتل نبيكم ، الأمن والطمأنينة ، حتى أخذكم النعاس وأنتم فى الحرب. قال أبو طلحة : (غشينا النعاس ونحن فى المصافّ ، حتى كان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه ، ثم يسقط فيأخذه). وقال الزبير رضي اللّه عنه : لقد رأيتنى حين اشتدّ الخوف ، ونحن مع النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، أرسل اللّه - تعالى - علينا النوم ، واللّه إنى لأسمع قول معتب ، والنعاس يغشانى ، ما أسمعه إلا كالحلم : (لو كان لنا من الأمر شىء ما قتلنا هاهنا).
ثم إن هذا النعاس إنما يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وهم المؤمنون ، أو : هذه الأمنة إنما تغشى طائفة منكم ، وأما المنافقون فقد أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ، أي : أوقعتهم فى الهموم والغموم ، أو ما يهمهم إلا أنفسهم ، يدبرون خلاصها(1/422)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 423
ونجاتها ، فقد طارت قلوبهم من الخوف ، فلا يتصور فى حقهم النوم ، يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ أي : غير الظن الحق ، لأنهم ظنوا أنه لا ينصر - عليه الصلاة والسلام ، وأن أمره مضمحل ، أو ظنوا أنه قتل ، ظنا كظن الجاهلية ، أهل الشرك ، يَقُولُونَ أي : بعضهم لبعض : هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ أي : عزلنا عن تدبر أنفسنا ، فلم يبق لنا من الأمر من شىء. قاله ابن أبى ، لما بلغه قتل الخزرج.
قُلْ لهم يا محمد : إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ليس بيد غيره شىء من التدبير والاختيار ، حال كون المنافقين يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ من الكفر والنفاق ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا أي : لو كان تدبيرا أو اختيارا ما خرجنا مع محمد حتى نقتل هاهنا ويقتل رؤساؤنا. قُلْ لهم يا محمد :
أخرجتكم القدرة فى سلسلة المقادير ، رغما على أنفكم ، فلو كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ آمنين لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ ، ووصل أجلهم إِلى مَضاجِعِهِمْ ومصارعهم ، رغما على أنفهم ، فإن اللّه قدّر الأمور ودبرها فى سابق أزله ، لا معقب لحكمه ، وإنما فعل ذلك ، وأخرجكم إلى المعركة لِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ أي : يختبر ما فيها من الخير أو الشر ، وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ أي : يكشف ما فيها من النفاق أو الإخلاص ، فقد ظهر خبث سريرتكم ومرض قلوبكم بالنفاق الذي تمكن فيه ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي : بخفاياها قبل إظهارها. وفيه وعد ووعيد وتنبيه على أنه غنى عن الابتلاء ، وإنما فعل ذلك ليميّز المؤمنين ويظهر حال المنافقين. قاله البيضاوي.
الإشارة : ثم أنزل عليكم أيها الواصلون المتمكنون ، أو من تعلق بكم من السائرين ، من بعد غم المجاهدة وتعب المراقبة أمنة فى قلوبكم بالطمأنينة بشهود اللّه ، وراحة فى جوارحكم من تعب الخدمة فى السير إلى اللّه ، حتى وصلتم فنمتم فى ظل الأمن والأمان ، وسكنتم فى جوار الكريم المنان.
قال بعض العارفين : (إذا انتقلت المعاملة إلى القلوب استراحت الجوارح) «1» ، وهذه الراحة إنما تحصل للعارفين ، أو من تعلق بهم من المريدين ، وطائفة من غيرهم وهم المتفقرة الجاهلون ، الذين لا شيخ لهم ، قد أهمتهم أنفسهم ، تارة تصرعهم وتارة يصرعونها ، تارة تشرق عليهم أنوار التوجه ، فيقوى رجاؤهم فى الفتح ، وتارة تنقبض عنهم فيظنون باللّه غير الحق ، ظن الجاهلية ، يقولون : هل لنا من الفتح من شى ء؟.
قل لهم : (إن الأمر كله للّه) يوصل من يشاء ويبعد من يشاء ، يخفون فى أنفسهم من العيوب والخواطر الرديئة ما لا يبدون لك ، فإذا طال عليهم الفتح ، وغلب عليهم الفقر ، ندموا على ما فاتهم من التمتع بالدنيا ، يقولون : لو كان لنا من الأمر شىء ما قتلنا هاهنا بالذل والفقر والجوع ، قل لهم : ذلك الذي سبق فى علم اللّه ، لا محيد لأحد عنه ، ليظهر الصادق فى الطلب من الكاذب ، [كن صادقا تجد مرشدا] ، فلو صدقتم فى الطلب لأرشدكم إلى من يوصلكم ويريحكم من التعب. وباللّه التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
___________
(1) سبق بيان معنى العبارة عند إشارة الآية/ 212 من سورة البقرة.(1/423)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 424
ثم ذكر الحق تعالى علة انهزام من انهزم ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : آية 155]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ وانهزموا يوم أحد يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ جمع المسلمين وجمع الكفار إنما كان السبب فى انهزامهم أن الشيطان اسْتَزَلَّهُمُ ، أي : طلب زللهم فأطاعوه ، أي : زين لهم الفرار فأطاعوه ، بسبب بعض ما كَسَبُوا من الإثم ، كمخالفة أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، والحرص على الغنيمة ، وذنوب اقترفوها قبل الجهاد ، فإن المعاصي تجر بعضها بعضا ، كالطاعة ، وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ فيما فعلوا من الفرار لتوبتهم واعتذارهم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ للذنوب ، حَلِيمٌ لا يعاجل بعقوبة المذنب كى يتوب.
الإشارة : إن الذين تولوا منكم يا معشر الفقراء ، ورجعوا عن صحبة الشيوخ ، حين التقى فى قلبهم الخصمان :
خصم يرغبهم فى الثبوت ، وخصم يدلهم على الرجوع ، ثم غلب خصم الرجوع فرجعوا ، إنما استزلهم الشيطان بسوء أدبهم ، فإن تابوا ورجعوا ، أقبلوا عليهم ، وقبل اللّه توبتهم ، وعفا عنهم ، فإنه سبحانه غفور حليم.
ثم حذّر من التشبه بالمنافقين فى ضعف اليقين ، وما ينشأ عنه من مقالة الجاهلين ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : آية 156]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)
قلت : (غزّى) : جمع غاز ، كعاف وعفى ، وإنما وضع (إذا) موضع (إذ) لحكاية الحال.
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا ونافقوا ، كعبد اللّه بن أبى ، وأصحابه ، وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ فى النسب ، أو فى المذهب ، أي : قالوا لأجلهم أو فى شأنهم ، إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أي : سافروا للتجارة أو غيرها فماتوا ، أَوْ كانُوا غُزًّى أي : غازين فقتلوا فى الغزو : لَوْ كانُوا عِنْدَنا مقيمين ما ماتُوا وَما قُتِلُوا ، وإنما نطقوا بذلك لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ القول الناشئ عن الاعتقاد الفاسد حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ بالاغتمام على ما فات ، والتحسر على ما لم يأت ، وَاللَّهُ هو يُحْيِي وَيُمِيتُ بلا سبب فى الإقامة والسفر ، فليس يمنع حذر من قدر ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ ، أيها المؤمنون بَصِيرٌ ، ففيه تهديد لهم على أن يماثلوا المنافقين فى هذا الاعتقاد الفاسد ، ومن قرأ بالياء فهو تهديد لهم. واللّه تعالى أعلم.(1/424)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 425
الإشارة : لا ينبغى للأقوياء من أهل اليقين أن يتشبهوا بضعفاء اليقين ، كانوا علماء أو صالحين أو طالحين ، حيث يقولون لإخوانهم إذا سافروا لأرض مخوفة أو بلد الوباء : لو جلسوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ، وما دروا أن اللّه قدّر الآجال كما قدّر الأرزاق وجميع الشئون والأحوال ، وعيّن لها أوقاتا محدودة فى أزله ، فكل مقدور يبرز فى وقته ، «ما من نفس تبديه ، إلا وله قدر فيك يمضيه» ، فما قدّره فى سابق علمه لا بد أن يكون ، وما لم يقدره لا يكون ، ولا تجلبه حركة ولا سكون. وللّه در القائل :
ما لا يقدّر لا يكون بحيلة أبدا وما هو كائن سيكون
سيكون ما هو كائن فى وقته وأخو الجهالة متعب محزون
يجرى الحريص ولا ينال بحرصه شيئا ويحظى عاجز ومهين
فدع الهموم ، تعرّ من أثوابها ، إن كان عندك بالقضاء يقين
هوّن عليك وكن بربّك واثقا فأخو الحقيقة شأنه التّهوين
وكان سيدنا عمر رضي اللّه عنه يتمثل بهذه الأبيات :
فهوّن عليك فإنّ الأمور بكفّ الإله مقاديرها
فليس يأتيك مصروفها ولا عازب عنك مقدورها
وكل من لم يحقق الإيمان بالقدر لا ينفك عن الحسرة والكدر ، ومن أراد النعيم المقيم فليثلج صدره ببرد الرضا والتسليم ، ومن أراد الروح والريحان فعليه بجنات العرفان ، وباللّه التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم رغّب الحق تعالى فى الموت فى الجهاد ، ورجّح الموت مطلقا على الحياة ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 157 الى 158]
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
قلت : إذا اجتمع القسم والشرط ذكر جواب الأول وأغنى عن الثاني ، فقوله : (لمغفرة) : جواب القسم ، أغنى عن جواب (إن) ، والتقدير : إن قتلتم فى سبيل اللّه غفر اللّه لكم ، ثم سد عنه (لمغفرة ..) إلخ ، ومن قرأ : (متم) بكسر الميم ، فهو من : مات يمات ، كهاب يهاب هبت ، وخاف يخاف خفت ، ومن قرأ بالضم : فمن مات يموت ، كقال يقول قلت.(1/425)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 426
يقول الحق جل جلاله : إن السفر والغزو ليس هما مما يجلب الموت أو يقدم الأجل ، وعلى تقدير : لو وقع ذلك وحضر أجلكم فيه وقتلتم فِي سَبِيلِ اللَّهِ بالسيف ، أَوْ مُتُّمْ حتف أنفكم ، لما تنالون من المغفرة والرحمة والروح والريحان خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من حطام الدنيا الفانية لو لم تموتوا ، وعلى أي وجه متم أو قتلتم فلا تحشرون إلا إلى اللّه ، لا إلى أحد غيره ، فيوفى جزاءكم ويعظم ثوابكم ، وأما البقاء فى الدنيا فلا مطمع لأحد فيه ، سافر أو قعد فى بيته ، وقدّم أولا القتل على الموت وأخره ثانيا لأن الأول رتب عليه المغفرة والرحمة ، وهما فى حق من قتل فى الجهاد أعظم ممن مات بغيره ، فقدمه اعتناء به ، وفى الثاني رتب عليه الحشر ، وهو مستو فى القتل والموت ، فلا مزية فيه للقتل على الموت. واللّه أعلم.
الإشارة : ولئن قتلتم نفوسكم وبذلتم مهجكم فى طلب محبوبكم ، فظفرتم بالوصول إليه قبل موتكم ، أو متم فى السير قبل الوصول إلى محبوبكم ، لما تنالون من كمال اليقين وشهود رب العالمين ، أو من المغفرة والرحمة التي تضمكم إلى جواره ، خير مما كنتم تجمعون من الدنيا قبل توجهكم إليه ، فإن الموت والحشر مكتوب على كل مخلوق ، فيظهر فوز المجاهدين والمتوجهين ، وغبن القاعدين المتسوفين. وباللّه التوفيق.
ولمّا وقع ما وقع يوم أحد من مخالفة الرسول والفرار عنه - عليه الصلاة والسلام - لم يعاتب صلّى اللّه عليه وسلم أحدا ، ولكن ألان لهم الكلام وعفا عنهم ، كما أخبر عن ذلك الحق تعالى بقوله :
[سورة آل عمران (3) : آية 159]
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
قلت : (فبما) : صلة. والفظ : الجافي ، يقال : فظ فظاظة وفظوظا ، ورجل فظ ، وامرأة فظة ، والفض - بغير المشالة : التفرق ، ويطلق على الكسر ، ومنه : لا يفضض اللّه فاك.
يقول الحق جل جلاله : فبرحمة من اللّه ونعمة كنت سهلا لينا رفيقا ، فحين عصوا أمرك ، وفروا عنك ، ألنت لهم جانبك ، ورفقت بهم ، بل اغتممت من أجلهم مما أصابهم ، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا جافيا سيئ الخلق غَلِيظَ الْقَلْبِ قاسيه فأغلظت لهم القول ، لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ أي : لتفرقوا عنك ، ولم يسكنوا إليك ، فَاعْفُ عَنْهُمْ فيما يختص بك ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ فى حق ربك حتى يشفعك فيهم ، وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ الذي يصح أن يشاور فيه تطييبا لخاطرهم ، ورفعا لأقدارهم ، واستخراجا وتمهيدا لسنة المشاورة لغيرهم ، وخصوصا الأمراء.(1/426)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 427
قال عليه الصلاة والسلام : «ما شقى عبد بمشورة ، وما سعد باستغناء برأى». وقال أيضا : «ما خاب من استخار ، ولا ندم من استشار». وقال أيضا - عليه الصلاة والسلام - «إذا كان أمراؤكم خياركم ، وأغنياؤكم أسخياءكم ، وأمركم شورى بينكم ، فظهر الأرض خير لكم من بطنها. وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم ، ولم تكن أموركم شورى بينكم ، فبطن الأرض خير من ظهرها».
فَإِذا عَزَمْتَ على شىء بعد الشورى ، (فتوكل على اللّه) أي : ثق به وكيلا ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ فينصرهم ويهديهم إلى ما فيه صلاحهم.
الإشارة : ما اتصف به نبينا - عليه الصلاة والسلام - من السهولة والليونة والرفق بالأمة ، اتصفت به ورثته من الأولياء العارفين ، والعلماء الراسخين ، ليتهيأ لهم الدعوة إلى اللّه ، أو إلى أحكام اللّه ، ولو كانوا فظاظا غلاظا لانفض الناس من حولهم ، ولم يتهيأ لهم تعريف ولا تعليم ، فينبغى لهم أن يعفوا ويصفحوا ويغفروا ويصبروا على جفوة الناس ، ويستغفروا لهم ، ويشاوروهم فى أمورهم ، اقتداء برسولهم ، فإذا عزموا على إمضاء شىء فليتوكلوا على اللّه إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ.
قال الجنيد - رضي اللّه عنه - : (التوكل أن تقبل بالكلية على ربك وتعرض عمن دونه). وقال الثوري : أن تفنى تدبيرك فى تدبيره ، وترضى باللّه وكيلا ومدبرا ، قال اللّه تعالى : وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا. وقال ذو النون : (خلع الأرباب ، وقطع الأسباب.) وقال الخواص : قطع الخوف والرجاء مما سوى اللّه تعالى. وقال العرجى : رد العيش إلى يوم واحد ، وإسقاط هم غد. ه. وقال سهل : معرفة معطى أرزاق المخلوقين ، ولا يصح لأحد التوكل حتى تكون عنده السماء كالصفر «1» والأرض كالحديد ، لا ينزل من السماء قطر ، ولا يخرج من الأرض نبات ، ويعلم أن اللّه لا ينسى له ما ضمن من رزقه بين هذين. ه. وقيل : هو اكتفاء العبد الذليل بالرب الجليل ، كاكتفاء الخليل بالخليل ، حين لم ينظر إلى عناية جبريل. وقيل لبهلول المجنون : متى يكون العبد متوكلا؟ قال : إذا كان بالنفس غريبا بين الخلق ، وبالقلب قريبا إلى الحق.
وقال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : «من سرّه أن يكون أكرم النّاس فليتق اللّه ، ومن سرّه أن يكون أغنى النّاس فليكن بما فى يد اللّه أوثق منه بما فى يده».
قال ابن جزى : التوكل هو الاعتماد على اللّه فى تحصيل المنافع وحفظها بعد حصولها ، وفى دفع المضرات ورفعها بعد وقوعها ، وهو من أعلى المقامات ، لوجهين : أحدهما : قوله : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ، والآخر :
___________
(1) الصفر : النحاس.(1/427)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 428
الضمان الذي فى قوله : وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ، وقد يكون واجبا لقوله : وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، فجعله شرطا فى الإيمان ، ولظاهر قوله : وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فإن الأمر محمول على الوجوب.
واعلم أن الناس فى التوكل على ثلاث مراتب :
الأولى : أن يعتمد العبد على ربه ، كاعتماد الإنسان على وكيله المأمون عنده ، الذي لا يشك فى نصيحته له وقيامه بمصالحه. الثانية : أن يكون العبد مع ربه كالطفل مع أمه لا يعرف سواها ولا يلجأ إلّا إليها. الثالثة : أن يكون العبد مع ربه كالميت بين يدى الغاسل ، قد أسلم إليه نفسه بالكلية.
فصاحب الدرجة الأولى عنده حظ من النظر لنفسه ، بخلاف صاحب الثانية. وصاحب الثانية له حظ من الاختيار ، بخلاف صاحب الثالثة. وهذه الدرجات مبنية على التوحيد الخاص ، الذي تكلمت عليه فى قوله :
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ، فهى تقوى بقوته وتضعف بضعفه.
فإن قيل : هل يشترط فى التوكل ترك الأسباب أم لا؟ فالجواب : أن الأسباب على ثلاثة أقسام :
أحدها : سبب معلوم قطعا قد أجراه اللّه ، فهذا لا يجوز تركه كالأكل لرفع الجوع واللباس لرفع البرد.
الثاني : سبب مظنون : كالتجارة وطلب المعاش ، وشبه ذلك ، فهذا لا يقدح فعله فى التوكل ، فإن التوكل من أعمال القلوب لا من أعمال البدن ، ويجوز تركه لمن قوى عليه.
والثالث : سبب موهوم بعيد ، فهذا يقدح فعله فى التوكل ، قلت : ولعل هذا مثل طلب الكيمياء والكنوز وعلم النار والسحر ، وشبه ذلك.
ثم فوق التوكل التفويض ، وهو : الاستسلام لأمر اللّه تعالى بالكلية ، فإن المتوكل له مراد واختيار ، وهو يطلب مراده فى الاعتماد على ربه ، وأما المفوض فليس له مراد ولا اختيار ، بل أسند الاختيار إلى اللّه تعالى ، فهو أكمل أدبا مع اللّه. ه وأصله للغزالى ، وسيأتى بقية الكلام عند قوله : وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ. وباللّه التوفيق.
ولما أمر نبيّه - عليه الصلاة والسلام - بالتوكل ، رغب فيه جميع عباده ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : آية 160]
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)(1/428)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 429
يقول الحق جل جلاله : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ) كما نصركم يوم بدر ، (فلا غالب لكم) من أحد من الناس ، (و إن يخذلكم) كما خذلكم يوم أحد ، (فمن) هذا (الذي ينصركم من بعده) تعالى ، أي : فلا ناصر سواه. وهذا تنبيه على الحث على التوكل ، وتحريض على ما يستوجب به النصر ، وهو الاعتماد على اللّه ، وتحذير مما يستوجب الخذلان ، وهو مخالفة أمره وعصيان رسوله ، أو الاعتماد على غيره ، ولذلك قال : (و على اللّه فليتوكل المؤمنون) لما علموا ألا ناصر سواه.
الإشارة : إن ينصركم اللّه على مجاهدة النفوس ، ودوام السير إلى حضرة القدوس ، فلا غالب لكم من النفس ، ولا من الناس ولا من الهوى ولا من الشيطان ، وإن يخذلكم - والعياذ باللّه - فمن ذا الذي ينصركم من بعد خذلانه لكم؟ فليعتمد المريد فى سيره على مولاه ، وليستنصر به فى قطع حظوظه وهواه ، فإنه لا ناصر له سواه. وأنشدوا :
إذا كان عون اللّه للمرء ناصرا تهيّأ له من كلّ صعب مراده
وإن لم يكن عون من اللّه للفتى فأكثر ما يجنى عليه اجتهاده
وباللّه التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ولمّا تبادرت الرماة إلى الغنيمة كما تقدم ، وقع فى وهمهم أنه - عليه الصلاة والسلام - يحرمهم من الغنيمة ، وذلك غلول لا يليق بحاله - عليه الصلاة والسلام - ، فنزه اللّه نبيّه عن ذلك ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : آية 161]
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161)
قلت : الغلول : السرقة من الغنائم ، فمن قرأ بفتح الياء وضم الغين ، فمعناه : لا ينبغى له أن يأخذ شيئا من الغنيمة خفية ، والمراد : تبرئة رسوله - عليه الصلاة والسلام - من ذلك. ومن قرأ بضم الياء ففيه وجهان : أحدهما :
أن يكون المعنى ، ما كان لنبى أن يخان ، أي : أن تخونه أمّته فى المغانم ، وكذلك الأمراء ، وإنما خص النبىّ صلّى اللّه عليه وسلم بذلك لبشاعة ذلك مع النبي لأن المعاصي تعظم بحضرته ، والثاني : أن يكون المعنى : ما كان لنبى أن ينسب إلى الخيانة كقوله : فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ أي : لا ينسبونك إلى الكذب.
يقول الحق جل جلاله : ما كانَ ينبغى لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ويأخذ شيئا من الغنيمة خفية لأن ذلك خيانة والنبوة تنافى ذلك ، والمراد : نزاهة الرسول - عليه الصلاة والسلام - عن ذلك ، كقوله : ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ(1/429)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 430
مِنْ وَلَدٍ
،
ودفع ما توهمه الرماة ، فقد روى أنه - عليه الصلاة والسلام - قال لهم لما تركوا المركز : «ألم أعهد إليكم ألا تتركوا المركز حتّى يأتيكم أمرى؟» قالوا : تركنا بقية إخواننا وقوفا ، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : «بل ظننتم أنّا نغلّ ولا نقسم لكم». فنزلت الآية. وقيل إنه - عليه الصلاة والسلام - : بعث طلائع ، فغنم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، وقسم على من معه فقط ، فنزلت ، فاسترجع ذلك منهم. وقيل : فى قطيفة حمراء فقدت يوم بدر ، فقال المنافقون : لعلّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أخذها ، فنزلت.
ثم ذكر وعيد الغلول ، فقال : وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي : يأتى بالذي غله يحمله على رقبته ، قال عليه الصلاة والسلام : «لا ألقى أحدكم يوم القيامة يجئ على رقبته بعير له رغاء ، أو بقرة لها خوار ، أو شاة تيعر «1».» ثم قال : «اللهمّ هل بلّغت؟ ثلاثا». كما فى البخاري.
ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ جزاء ما كَسَبَتْ تاما ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ بنقص ثواب مطيعهم ، ولا يزاد على عقاب عاصيهم وكان اللائق بما قبله أن يقول : ثم يوفى ما كسب. لكنه عمم الحكم ليكون كالبرهان على المقصود والمبالغة فيه ، وأنه إذا كان كل كاسب مجزيا بعمله ، فالغال مع عظم جرمه بذلك أولى. قاله البيضاوي.
الإشارة : ما قيل فى النبي - عليه الصلاة والسلام - يقال فى ورثته الكرام ، كالأولياء والعلماء الأتقياء ، فإنهم ورثة الأنبياء ، فيظن بهم أحسن المذاهب ، ويلتمس لهم أحسن المخارج ، لأن الأولياء دلوا على معرفة اللّه ، والعلماء دلوا على أحكام اللّه ، وبذلك جاءت الرسل من عند اللّه ، فلا يظن بهم نقص ولا خلل ، ولا غلول ولا دخل ، فلهم قسط ونصيب من حرمة الأنبياء ، ولا سيما خواص الأولياء ، ومن يظن بهم نقصا أو خللا ، ويغل قلبه على شىء من ذلك ، فسيرى وباله يوم تفضح السرائر ، ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ، فلحوم الأولياء والعلماء سموم قاتلة ، وظن السوء بهم خيانة حاصلة. واللّه تعالى أعلم.
فاعتقاد الكمال فى الأنبياء والأولياء مستوجب لرضى اللّه ، والانتقاد عليهم موجب لمقت اللّه ، كما أشار إلى ذلك الحق - جلت قدرته - فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 162 الى 163]
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163)
___________
(1) تيعر : تصيح ، واليعار : صوت الشاة.(1/430)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 431
يقول الحق جل جلاله : (أ فمن اتبع رضوان اللّه) بأن اعتقد فى نبيه الكمال ، وأطاعه فى وصف الجلال والجمال ، وهم المؤمنون ، حيث نزهوا نبيهم من النقائص ، ومن هجس فى قلبه شىء بادر إلى التوبة ، ثم اتصف بكمال الخصائص ، هل يكون كَمَنْ باءَ بغضب مِنَ اللَّهِ؟ وهم المنافقون ، حيث نافقوا الرسول واتهموه - عليه الصلاة والسلام - بالغلول.
أو يقول : أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ بالطاعة والانقياد كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ بالمعاصي وسوء الاعتقاد وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي المنقلب ، والفرق بين المصير والمرجع : أن المصير يجب أن يخالف الحالة الأولى ، ولا كذلك المرجع. قاله البيضاوي.
هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ أي : أهل الرضوان درجات متفاوتة عند اللّه ، على قدر سعيهم فى موجب الرضا ، وأهل السخط درجات أيضا ، على قدر تفاوتهم فى العصيان ، وهو على حذف مضاف ، أي : ذوو درجات ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ فيجازى كلا على قدر سعيه.
الإشارة : (أ فمن اتبع رضوان اللّه) بتعظيم الأولياء والعلماء وأهل النسبة ، كمن باء بسخط من اللّه بإهانة من أمر اللّه أن يعظم ويرفع ، ومأواه حجاب الحس وعذاب البعد ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ، فأهل القرب درجات على قدر تقربهم إلى ربهم ، وأهل البعد درجات فى البعد على قدر بعدهم من ربهم ، بشؤم ذنبهم وسوء أدبهم ، واللّه بصير بأعمالهم وما احتوت عليه قلوبهم.
ثم ذكر موجب التعظيم للرسول - عليه الصلاة والسلام - وهو كونه نعمة مهداة ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : آية 164]
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)
يقول الحق جل جلاله : لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حيث بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي :
من جنسهم ، أو من نسبهم ، عربيا مثلهم ليفهموا كلامه بسهولة ، ويفتخروا به على غيرهم. وتخصيص المؤمنين بالمنة ، وإن كانت نعمته عامة لزيادة انتفاعهم على غيرهم لشرفهم وذكرهم به ، حال كونه يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ القرآن ، بعد أن كانوا جاهلية لا يعرفون الوحى ولا سمعوا به ، وَيُزَكِّيهِمْ أي : يطهرهم من دنس الذنوب ودرن العيوب ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ أي : القرآن ، وَالْحِكْمَةَ أي : السنة ، وَإِنْ كانُوا أي : وإنه ، أي : الأمر والشأن كانوا مِنْ قَبْلُ بعثته لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي : ظاهر بيّن.(1/431)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 432
الإشارة : لقد منّ اللّه على المتوجهين إليه الطالبين لمعرفته ، حيث بعث لهم من يأخذ بأيديهم ، ويطوى مسافة البعد عنهم ، وهم شيوخ التربية ، يتلون عليهم آياته الدالة على كشف الحجاب وفتح الباب ، ويزكيهم من دنس العيوب المانعة لعلم الغيوب ، ثم يزكيهم من درن الحس إلى مشاهدة القرب والأنس ، ويعلمهم الكتاب المشتمل على عين التحقيق ، والحكمة المشتملة على التشريع وبيان الطريق ، فيجمعون لهم ما بين الحقيقة والشريعة ، وقد كانوا قبل ذلك فى ضلال مبين عن الجمع بينهما. وهذه المنّة عامة فى كل زمان ، إذ لا تخلو الأرض من داع يدعو إلى اللّه ، ومن اعتقد قطعه فقد قطع منة اللّه ، واستعجز قدرة اللّه ، وسد باب الرحمة فى وجه عباد اللّه ، والعياذ باللّه.
ولما استغرب الصحابة - رضى اللّه عنهم - ما وقع بهم يوم أحد ، مع كونهم وعدوا النصر ، نبههم الحق تعالى أن ذلك منهم بشؤم مخالفتهم ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : آية 165]
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
قلت : الهمزة - للتفريع ، و(لمّا) : ظرف ، خافضة لشرطها ، منصوبة بجوابها ، وهى معطوفة على محذوف ، أي : أكان ما كان يوم أحد ، ولمّا أصابتكم مصيبة ، قلتم ما قلتم ، و(قد أصبتم) : جملة حالية.
يقول الحق جل جلاله : أحين أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ يوم أحد بقتل سبعين منكم ، وقَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها يوم بدر فقتلتم سبعين وأسرتم سبعين ، قُلْتُمْ أَنَّى هذا أي : من أين أصابنا هذا البلاء وقد وعدنا النصر؟ قُلْ لهم : هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ أي : مما اقترفته أنفسكم من مخالفة المركز ، والنصر الموعود كان مشروطا بالثبات والطاعة ، فلما اختل الشرط اختل المشروط ، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على النصر بشرط وبغيره ، لكن حكمته اقتضت وجود الأسباب والشروط لأن هذا العالم قائم بين قدرة وحكمة.
أو : (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) باختياركم الفداء يوم بدر. روى عن على رضي اللّه عنه قال : (جاء جبريل إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم يوم بدر فقال : خيّر أصحابك فى الأسارى ، إن شاءوا القتل ، وإن شاءوا الفداء ، على أن يقتل منهم عاما مقبلا مثلهم ، قالوا : الفداء ويقتل منّا.). واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : إذا أصاب المريد شىء من المصائب والبلايا ، فلا يستغرب وقوع ذلك به ، ولا يتبرم منه ، فإنه فى دار المصائب والفجائع ، «لا تستغرب وقوع الأكدار ما دمت فى هذه الدار ، فإنما أبرزت ما هو مستحق وصفها وواجب نعتها». وإذا كان أصابته مصيبة فى وقت ، فقد أصابته نعم جمة فى أوقات عديدة ، فليشكر اللّه على ما أولاه ، وليصبر على ما ابتلاه ، ليكون صبارا شكورا.(1/432)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 433
قال الشيخ أبو الحسن - رضي اللّه عنه - : (العارف هو الذي عرف إساءاته فى إحسان اللّه إليه ، وعرف شدائد الزمان فى الألطاف الجارية من اللّه عليه ، فاذكروا آلاء للّه لعلكم تفلحون). وأيضا : كل ما يصيب المؤمن فمن كسب يده ، ويعفو عن كثير.
وإن كان المريد وعد بالحفظ والنصر ، فقد يكون ذلك بشروط خفيت عليه ، فلم تتحقق فيه ، فيخلف حفظه لينفذ قدر اللّه فيه ، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً.
وليتميز الصادق من الكاذب والمخلص من المنافق ، كما أشار إلى ذلك بقوله :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 166 الى 168]
وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168)
قلت : (و قيل لهم تعالوا) : استئناف ، أو معطوف على (نافقوا) ، و(الذين قالوا لإخوانهم) : بدل من الضمير المجرور فى (لهم) ، أي : وقيل للمنافقين : قاتلوا أو ادفعوا ، ثم فسرهم بقوله : وهم (الذين قالوا لإخوانهم ...) إلخ. أو من الواو فى (يكتمون) ، أو منصوب على الذم ، أو مبتدأ ، والخبر : (قل ..) على من يجيز إنشاء الخبر ، و(قعدوا) :
جملة حالية ، على إضمار قد.
يقول الحق جل جلاله : وَما أَصابَكُمْ يا معشر المسلمين يوم أحد يَوْمَ الْتَقَى جمع المسلمين وجمع الكفار ، من القتل والجرح والهزيمة ، فَبِإِذْنِ اللَّهِ وقضائه ، لا راد لإمضائه ، وَلِيَعْلَمَ علم ظهور فى عالم الشهادة الْمُؤْمِنِينَ والمنافقين فيظهر إيمان هؤلاء وكفر هؤلاء ، وقد ظهر نفاقهم حيث رجعوا مع عبد اللّه بن أبى ، وكانوا ثلاثمائة.
وذلك أنّ ابن أبي كان رأيه ألا يخرج المسلمون إلى المشركين ، فلما طلب الخروج قوم من المسلمين ، فخرج - عليه الصلاة والسلام - كما تقدم ، غضب ابن أبي ، وقال : أطاعهم وعصانى. فرجع ، ورجع معه أصحابه ، فتبعهم(1/433)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 434
أبو جابر عبد اللّه بن عمرو بن حرام ، وقال لهم : ارجعوا (قاتلوا فى سبيل اللّه أو ادفعوا) ، أي : كثروا سواد المسلمين ، فقال ابن أبيّ - رأس المنافقين - : ما أرى أن يكون قتالا ، ولو علمنا أن يكون قتال (لاتبعناكم) ، وكنا معكم.
قال تعالى : هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ لظهور الكفر عليهم من كلامهم ، فأمارات الكفر عليهم أكثر من أمارات الإيمان ، أو : هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان ، لأن رجوعهم ومقالتهم تقوية للكفار عليهم وتخذيل للمسلمين ، يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ، فهم يظهرون خلاف ما يبطنون ، لا تواطئ قلوبهم ألسنتهم بالإيمان ، وإضافة القول إلى الأفواه تأكيد وتغليظ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ منكم بِما يَكْتُمُونَ من النفاق لأنه يعلمه مفصلا بعلم واجب ، وأنتم تعلمونه مجملا بأمارات.
وهؤلاء المنافقون هم (الذين قالوا) فى شأن إخوانهم الذين قتلوا يوم أحد : لَوْ أَطاعُونا وجلسوا فى ديارهم ما قُتِلُوا ، قالوا هذه المقالة وقد قعدوا عن الخروج ، قُلْ لهم يا محمد : فَادْرَؤُا أي : فادفعوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنكم تقدرون أن تدفعوا القتل عمن كتب عليه ، فادفعوا عن أنفسكم الموت وأسبابه حين يبلغ أجلكم ، فإنه أحرى بكم ، فالقعود لا ينجى من الموت إذا وصل الأجل ، فإن أسباب الموت كثيرة ، فقد يكون القعود سببا للموت إن بلغ الأجل ، وقد يكون الخروج سببا للنجاة إن لم يبلغ. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : وما أصابكم يا معشر الفقراء عند توجهكم إلى الحق فارين من الخلق ، حين استشرفتم على الجمع وجمع الجمع فبإذن اللّه فإن الداخل على اللّه منكور ، والراجع إلى الناس مبرور ، وليظهر الصادق من الكاذب ، فإن محبة اللّه مقرونة بالبلاء ، والطريق الموصلة إليها محفوفة بالمكاره ، مشروطة بقتل النفوس وحط الرؤوس ، ودفع العلائق ، والفرار من العوائق.
فإذا قيل للعوام : قاتلوا أنفسكم فى سبيل اللّه لتدخلوا حضرة اللّه ، أو ادفعوا عن أنفسكم العلائق لتشرق عليكم أنوار الحقائق ، قالوا : قد انقطع هذا الطريق واندرست أرباب علم التحقيق ، ولو نعلم قتالا بقي يوصلنا إلى ربنا ، كما زعمتم لاتبعناكم ودخلنا فى طريقكم. هم للكفر يومئذ أقرب للإيمان ، حيث تحكموا على القدرة الأزلية ، وسدوا باب الرحمة الإلهية ، وإنما يقولون ذلك احتجاجا لنفوسهم ، وإبقاء على حظوظهم ، وليس ذلك من خالص قلوبهم ، يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم.
وإذا نزل بأهل النسبة نكبة أو بلية ، قالوا لإخوانهم ، الذين دخلوا فى طريق القوم ، وقد قعدوا هم مع العوام : لو أطاعونا ولم يدخلوا فى هذا الشأن ، ما قتلوا أو عذبوا ، فقل لهم أيها الفقير : القضاء والقدر يجرى على الجميع ، فادفعوا عن أنفسكم ما تكرهون ، إن كنتم صادقين أن المكاره لا تصيب إلا من توجه لقتال نفسه. واللّه تعالى أعلم بأسرار كتابه.(1/434)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 435
ولمّا قتل الشهداء يوم أحد أكرم اللّه أرواحهم بما يكل عنه اللسان ، فقالوا : يا ليت قومنا يعلمون بما نحن فيه ، كى يرغبوا فى الجهاد ، فقال لهم اللّه تعالى : أنا أخبرهم عنكم ، فأنزل اللّه تعالى :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 169 الى 171]
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
قلت : (ألّاخوف عليهم) : بدل من (الذين لم يلحقوا) ، أو مفعول لأجله ، وكرر : (يستبشرون) ليذكر ما تعلق به من الفضل والنعمة ، أو : الأول بحال إخوانهم ، وهذا بحال أنفسهم.
يقول الحق جل جلاله : وَلا تَحْسَبَنَّ أيها الرسول ، أو أيها السامع ، الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ هم أَحْياءٌ لأن اللّه تعالى جعل أرواحهم فى حواصل طير خضر ، يسرحون فى الجنة حيث شاءوا عند ربهم ، بالكرامة والزلفى ، يرزقون من ثمار الجنة ونعيمها ، فحالهم حال الأحياء فى التمتع بأرزاق الجنة ، بخلاف سائر الأموات من المؤمنين فإنهم لا يتمتعون بالأرزاق حتى يدخلوا الجنة. قاله ابن جزى.
قلت : شهداء الملكوت - وهم العارفون - أعظم قدرا من شهداء السيوف ، وراجع ما تقدم فى سورة البقرة «1».
فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من الكرامة والزلفى والنعيم الذي لا يفنى ، وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أي : بإخوانهم الذي لم يقتلوا فيلحقوا بهم من بعدهم. وتلك البشارة هى : أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ، أو من أجل أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
والحاصل : أنهم يستبشرون بما تبين لهم من الكرامة فى الآخرة ، وبحال من تركوا من خلفهم من المؤمنين ، وهو أنهم إذا ماتوا أو قتلوا ، كانوا أحياء ، حياة لا يدركها خوف وقوع محذور ، ولا حزن فوات محبوب. فالآية تدل على أن الإنسان غير الهيكل المحسوس ، بل هو جوهر مدرك بذاته ، لا يفنى بخراب البدن ، ولا يتوقف على وجود البدن إدراكه وتألمه والتذاذه. ويؤيد ذلك قوله تعالى فى آل فرعون : النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا ، وما روى ابن عباس من أنه صلّى اللّه عليه وسلم قال : «أرواح الشهداء فى أجواف طير خضر ، ترد أنهار الجنّة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوى إلى قناديل معلّقة فى ظلّ العرش» - قال معناه البيضاوي.
___________
(1) عند إشارة الآية : 154 وما بعدها.(1/435)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 436
ولمّا ذكر استبشارهم بإخوانهم ذكر استبشارهم بما يخصهم فقال : يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وهو ثواب أعمالهم الجسماني ، وَفَضْلٍ وهو نعيم أرواحهم الروحاني ، وهو النظر إلى وجهه الكريم ، ويستبشرون أيضا بكونه تعالى لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ، ماتوا فى الجهاد أو على فرشهم ، حيث حسنت سريرتهم وكرمت علانيتهم ، قال صلّى اللّه عليه وسلم : «إن للّه عبادا يصرفهم عن القتل والزلازل والأسقام ، يطيل أعمارهم فى حسن العمل ، ويحسن أرزاقهم ، ويحييهم فى عافية ، ويميتهم فى عافية على الفرش ، ويعطيهم منازل الشهداء» «1». قلت : ولعلهم العارفون باللّه ، جعلنا اللّه من خواصهم ، وسلك بنا مسالكهم. آمين.
الإشارة : لا تحسبن الذين بذلوا مهجهم ، وقتلوا أنفسهم بخرق عوائدها ، وعكس مراداتها ، فى طلب معرفة اللّه ، حتى ماتت نفوسهم ، وحييت أرواحهم بشهود محبوبهم ، حياة لا موت بعدها ، فلا تظن أيها السامع أنهم أموات ، ولو ماتوا حسا ، بل هم أحياء على الدوام ، وفى ذلك يقول الشاعر :
موت التّقىّ حياة لا فناء لها قد مات قوم وهم فى النّاس أحياء
فهم عند ربهم يشاهدونه مدة بقائهم ، يرزقون من ثمار المعارف وفواكه العلوم ، فرحين بما أتحفهم اللّه به من القرب والسر المكتوم ، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم فى المرتبة ممن تعلق بهم ، وأنهم سيصلون إلى ما وصلوا إليه من معرفة الحي القيوم ، فلا يلحقهم حينئذ خوف ولا حزن ولا هم ولا غم ، لما سكن فى قلبهم من خمرة محبة الحبيب ، والقرب من القريب المجيب ، وفى ذلك يقول ابن الفارض :
وإن خطرت يوما على خاطر امرئ أقامت به الأفراح ، وارتحل الهمّ
يستبشرون بنعمة أدب العبودية ، وفضل شهود أسرار عظمة الربوبية ، وأن اللّه لا يضيع أجر المؤمنين المحبين لطريق المخصوصين ، فإن طريق محبة طريق القوم عناية ، والتصديق بها ولاية ، وباللّه التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ولما رجع أبو سفيان من غزوة أحد ، هو وأصحابه ، حتى بلغوا الروحاء ، ندم وهم بالرجوع ، فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فندب أصحابه للخروج فى طلبه ، وقال : «لا يخرج معنا إلا من حضر بالأمس» ، فخرج صلّى اللّه عليه وسلم فى سبعين رجلا حتى بلغوا حمراء الأسد - وهى على ثمانية أميال من المدينة - وكان بأصحابه القرح ، فتحاملوا على أنفسهم كى لا يفوتهم الأجر ، وألقى اللّه الرعب فى قلوب المشركين ، فذهبوا ، فأنزل اللّه - تعالى - فى شأن من خرج مع الرسول صلّى اللّه عليه وسلم :
[سورة آل عمران (3) : آية 172]
الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)
___________
(1) عزاه الهيثمي فى مجمع الزوائد 10/ 203 للطبرانى عن ابن مسعود مرفوعا. وفيه : جعفر بن محمود الواسطي الوراق ، قال الهيثمي : لم أعرفه وبقية رجاله ثقات.(1/436)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 437
قلت : (الذين) : مبتدأ ، وجملة (للذين أحسنوا) : خبر ، أو صفة للمؤمنين قبله ، أو نصب على المدح.
يقول الحق جل جلاله : الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فأطاعوه فيما ندبهم إليه من اللحوق بالمشركين ، إرهابا لهم ، مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ أي : الجرح ، فتحاملوا على أنفسهم حتى ذهبوا مع نبيهم ، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ بأن فعلوا ما أمروا به ، وَاتَّقَوْا اللّه فى مخالفة أمر رسوله ، أَجْرٌ عَظِيمٌ يوم يقدمون عليه.
الإشارة : الذين استجابوا للّه فيما ندبهم من الوصول إلى حضرته ، وللرسول فيما طلبهم به من اتباع سنته ، فجعلوا قلوبهم محلا لحضرته ، وجوارحهم متبعة لشريعته ، من بعد ما أصابهم فى طلب الوصول إلى ذلك قرح وضرب وسجن وإهانة ، فصبروا حتى ظفروا بالجمع بين الحقيقة والشريعة ، للذين أحسنوا منهم بالثبات على السير إلى الوصول إلى الحق ، واتقوا كل ما يردهم إلى شهود الفرق ، أجر عظيم وخير جسيم ، بالعكوف فى الحضرة ، والتنعم بالشهود والنظرة.
ثم قال الحق تعالى :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 173 الى 175]
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
قلت : الموصول بدل من الموصول قبله ، و(يخوف) : يتعدى إلى مفعولين للتضعيف ، حذف الأول ، أي :
يخوفكم أولياءه من الكفار ، أو حذف الثاني ، أي : يخوف أولياءه القاعدين عن الخروج إلى ملاقاة العدو.
وهنا تفسيران : أحدهما : أن يكون من تتمة غزوة أحد ، وهو الظاهر ، ليتصل الكلام بما بعده ، وذلك أن أبا سفيان لما همّ بالرجعة ليستأصل المسلمين ، لقيه معبد الخزاعي ، فقال له : إن محمدا خرج يطلبك فى جمع لم أر مثله ، فدخله الرعب ، فلقيه ركب من عبد القيس يريد المدينة بالميرة ، فقال لهم : ثبطوا محمدا عن لحوقنا ، ولكم حمل بعير من الزبيب ، فلما لقوا المسلمين خوفوهم ، فقالوا : حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، ومضوا حتى بلغوا حمراء الأسد ثم رجعوا ، فعلى هذا :
يقول الحق جل جلاله : الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ وهم ركب عبد قيس حيث قالوا للمسلمين : إِنَّ النَّاسَ يعنى أبا سفيان ومن معه ، قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ليرجعوا ليستأصلوكم فَاخْشَوْهُمْ وارجعوا إلى دياركم(1/437)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 438
فَزادَهُمْ ذلك إِيماناً ويقينا وتثبيتا فى الدين ، وهذا يدل على أن الإيمان يزيد وينقص ، فيزيد بحسب التوجه إلى اللّه والتفرغ مما سواه ، وينقص بحسب التوجه إلى الدنيا وشغبها ، ويزيد أيضا بالطاعة والنظر والاعتبار ، وينقص بالمعصية والغفلة والاغترار.
ولما قال لهم الركب ذلك ليخوفهم ، قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ أي : كافينا اللّه وحده ، فلا نخاف غيره ، وَنِعْمَ الْوَكِيلُ أي : نعم من يتوكل عليه العبد ، وهى كلمة يدفع بها ما يخاف ويكره ، وهى الكلمة التي قالها إبراهيم حين ألقى فى النار ، فَانْقَلَبُوا راجعين من حمراء الأسد ، متلبسين بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وهى العافية والسلامة ، وَفَضْلٍ وهى زيادة الإيمان وشدة الإيقان ، لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ من جراحة وكيد عدو ، وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ ، الذي هو مناط الفوز بخير الدارين ، وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ فقد تفضل عليهم بالتثبيت وزيادة الإيمان ، والتوفيق إلى المبادرة إلى الجهاد مع الرسول صلّى اللّه عليه وسلم الذي هو موجب الرضوان.
ثم حذّرهم الحق تعالى ممن ثبّطهم عن اللحوق بالكفار ، وهو ركب عبد القيس ، تشبيها لهم بالشيطان ، فقال :
إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يخوفكم أولياءه من المشركين ، أو يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ القاعدين من المنافقين ، فَلا تَخافُوهُمْ فإن أمرهم بيدي ، وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن الإيمان يقتضى إيثار خوف اللّه على خوف الناس.
التفسير الثاني : أن يكون الكلام على غزوة بدر الصغرى : وذلك أن أبا سفيان لما انصرف من أحد نادى :
يا محمد ، موعدنا بدر لقابل ، إن شئت ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم : «إن شاء اللّه تعالى» ، فلما كان العام القابل ، خرج أبو سفيان فى أهل مكة ، حتى نزل مرّ الظهران ، فأنزل اللّه الرعب فى قلبه ، وبدا له أن يرجع ، فلقى نعيم بن مسعود الأشجعى معتمرا ، فقال له : ائت المدينة وأعلمهم أنّا فى جمع كثير ، وثبطهم عن الخروج ، ولك عندى عشر من الإبل ، فأتى المدينة فأخبرهم ، فكره أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلم الخروج ، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : «والذي نفسى بيده لأخرجنّ ، ولو وحدي».
فرجع الجبان وتأهب الشجعان ، فخرجوا حتى أتوا بدرا الصغرى ، ورجع أبو سفيان إلى مكة ، فسموا جيش السويق ، ووافق المسلمون السوق ببدر ، وكانت معهم تجارات ، فباعوا وربحوا ، وانصرف النبي صلّى اللّه عليه وسلم إلى المدينة «1».
فعلى هذا ، يقول الحق جل جلاله : الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ، يعنى : فى غزوة بدر الصغرى ، لميعاد أبى سفيان ، مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ يعنى : فى غزوة أحد فى العام الأول ، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ بالخروج مع الرسول ، وَاتَّقَوْا اللّه فى مخالفته ، أَجْرٌ عَظِيمٌ. الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ يعنى نعيم بن مسعود ، وأطلق عليه الناس لأنه من جنسهم ، كما يقال : فلان يركب الخيل ، وما يركب إلا فرسا. أو : لأنه انضم إليه
___________
(1) نزول الآية فى قصة حمراء الأسد هو ما عليه جمهور المفسرين ، انظر : الطبري والمحرر الوجيز.(1/438)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 439
ناس من المدينة وأذاعوا كلامه. إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ يعنى : أبا سفيان وأهل مكة لما خرج إلى مرّ الظهران. وقوله : فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ أي : عافية وسلامة ، وَفَضْلٍ ما أصابوا من التجارة ، وقوله : إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يعنى : نعيما يخوفكم أَوْلِياءَهُ والباقي ظاهر.
الإشارة : أهل القوة من المريدين إذا قيل لهم : إن الناس قد جمعوا لكم ليردوكم أو يؤذوكم فاخشوهم ، زادهم ذلك إيمانا وإيقانا ، وتحققوا أنهم على الجادة ، لسلوكهم على منهاج من قبلهم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا الآية ، واكتفوا بعلم اللّه ونظره وبرعايته ونصره ، فانقلبوا بنعمة الشهود ، وفضل الترقي فى عظمة الملك الودود ، لم يمسسهم فى باطنهم سوء ولا نقصان ، واستوجبوا من اللّه الرضى والرضوان ، وإنما ذلكم شيطان يردهم عن مقام الشهود والعيان ، فلا ينبغى لهم أن يخافوا ومطلبهم مقام الإحسان ، الذي تبذل فى طلبه الأرواح والأبدان. وباللّه التوفيق.
ثم هوّن شأن الكفار ، وأمّن المسلمين من ضررهم ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 176 الى 177]
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177)
قلت : حزن يحزن كبلغ يبلغ ، وأحزن يحزن ، كأكرم يكرم ، لغتان ، والأولى أفصح.
يقول الحق جل جلاله : ولا يهولك شأن الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ أي : يبادرون إلى الوقوع فيه ، كالمنافقين أو الكفار جميعا ، فلا تخف ضررهم إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً أي : لن يضروا أولياء الله ، وإنما يرجع ضررهم إلى أنفسهم. يُرِيدُ اللَّهُ - بسبب ما أظهر فيهم من المسارعة إلى الكفر - أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي ثواب الْآخِرَةِ لمّا سبق لهم من الشقاء ، حتى يموتوا على الكفر. وفى ذكر الإرادة إشعار بأن كفرهم بلغ الغاية ، حتى أراد أرحم الراحمين ألّا يكون لهم حظ من رحمته. وَلَهُمْ مع ذلك عَذابٌ عَظِيمٌ.
ثم كرر شأنهم تأكيدا فقال : إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ أي : استبدلوا الإيمان الذي ينجيهم من العذاب ، لو دخلوا فيه ، بالكفر الذي يوجب العذاب ، لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ موجع ، أو يكون فى الكفار أصالة ، وهذا فى المرتدين ، واللّه تعالى أعلم.(1/439)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 440
الإشارة : إنكار العوام على الخصوص لا يضرهم ، ولا يغض من مرتبتهم ، بل يزيدهم رفعة وعلوا وعزا وقربا ، قال تعالى : لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ، وسمعت شيخنا البوزيدى رضي اللّه عنه يقول :
«كلام الناس فى الولي كناموسة نفخت على جبل». أي : لا يلحقهم من ذلك إلا ما يلحق الجبل من نفخ الناموسة ، يريد اللّه ألا يجعل لهم من نصيب القرب شيئا ، ولهم عذاب البعد والنصب ، فى غم الحجاب وسوء الحساب ، لا سيما من تمكن من معرفتهم ، ثم استبدل صحبتهم بصحبة العوام ، فلا تسأل عن حرمانه التام ، والعياذ باللّه.
ثم لا يدل إمهال الكافرين وتمتعهم بطول الحياة على إرادة الخير لهم ، بل إنما ذلك استدراج وزيادة فى الإثم ، كما أشار إلى ذلك بقوله :
[سورة آل عمران (3) : آية 178]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178)
قلت : من قرأ بالتحتية ، فالذين كفروا : فاعل ، و(أن) وما بعدها : سد مسد المفعولين ، ومن قرأ بالفوقية فالذين : مفعول أول ، و(إنما) : سد مسد الثاني ، و(ما) : مصدرية ، والإملال : الإمهال والتأخير. ومنه : وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا أي : حينا طويلا.
يقول الحق جل جلاله : ولا يظنن الذين كفروا أن إمهالى لهم وإمدادهم بطول الحياة ، هو خير لهم ، إنما نمهلهم استدراجا لِيَزْدادُوا إثما وعقوبة ، وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ يهينهم ، ويخزيهم يوم يعز المؤمنين.
الإشارة : إمهال العبد وإطالة عمره ، إن كانت أيامه مصروفة فى الطاعة واليقظة ، وزيادة المعرفة ، فإطالتها خير ، والبركة فى العمر إنما هى بالتوفيق وزيادة المعرفة ، وفى الحكم : «من بورك له فى عمره أدرك فى يسير من الزمان مالا تدركه العبارة ولا تلحقه الإشارة». وإن كانت أيام العمر مصروفة فى الغفلة والبطالة وزيادة المعصية ، فالموت خير منها. وقد سئل - عليه الصلاة والسلام - أىّ الناس خير؟ قال : «من طال عمره وحسن عمله ، قيل فأىّ النّاس شر؟ قال : من طال عمره وساء عمله». واللّه تعالى أعلم.(1/440)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 441
ولمّا قال عليه الصلاة والسلام : «إنّ اللّه أطلعنى على من يؤمن بي ممن يكفر». قال المنافقون : نحن معه ولا يعرفنا ، فأنزل اللّه تعالى :
[سورة آل عمران (3) : آية 179]
ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
قلت : ماز يميز ، وميّز يميّز ، بمعنى واحد ، لكن فى ميّز معنى التكثير.
يقول الحق جل جلاله لعامة المؤمنين والمنافقين : ما كانَ اللَّهُ ليترك الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ من الاختلاط ، ولا يعرف مخلصكم من منافقكم ، بل لا بد أن يختبركم حتى يتميز المنافق من المخلص ، بالوحى أو بالتكاليف الشاقة ، التي لا يصبر عليها إلا المخلصون ، كبذل الأموال والأنفس فى سبيل اللّه ، ليختبر به بواطنكم ، ويستدل به على عقائدكم ، أو بما ظهر فى غزوة أحد من الأقوال والأفعال التي تدل على الإيمان أو النفاق ، وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ حتى تعرفوا ما فى القلوب من كفر أو إيمان ، أو تعرفوا : هل تغلبون أو تغلبون. وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي لرسالته مَنْ يَشاءُ ، فيوحى إليه ويخبره ببعض المغيبات ، أو ينصب له ما يدل عليها ، فَآمِنُوا بِاللَّهِ الذي اختص بعلم الغيب الحقيقي ، وآمنوا برسله الذين اختارهم لأسرار الغيوب ، لا يعلمون إلا ما علّمهم.
روى أن الكفرة قالوا : إن كان محمد صادقا فليخبرنا : من يؤمن منا ومن يكفر؟ فنزلت الآية. وقيل : سببها ما تقدم من قول المنافقين ، ووجه المناسبة : هو ما صدر منهم يوم أحد من المقالات التي ميزتهم من المؤمنين.
وَإِنْ تُؤْمِنُوا إيمانا حقيقيا وَتَتَّقُوا النفاق والشرك فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ عند اللّه.
الإشارة : من سنة اللّه فى المتوجهين إليه إذا كثروا ، وظهرت فيهم دعوى القوة ، أرسل اللّه عليهم ريح التصفية ، فيثبت الصحيح ، والخاوي تذروه الريح ، وما كان اللّه ليذرهم على ما هم عليه من غير اختبار ، حتى يميز الخبيث من الطيب ، أي : من همّته اللّه ومن همّته سواه ، وما كان اللّه ليطلعكم على الغيب حتى يعلموا من يثبت ممن يرجع ، أو يعلموا ما يلحقهم من الجلال والجمال ، وإنما ذلك خاص بالرسل عليهم السلام ، وقد يطلع على شىء من ذلك بعض خواص ورثتهم الكرام ، فالواجب على المريد أن يؤمن بالقدر المغيب ، ولا يستشرف على الاطلاع عليه «استشرافك على ما بطن فيك من العيوب ، خير من استشرافك على ما حجب عنك من الغيوب». (و إن تؤمنوا) بمواقع القضاء والقدر ، (و تتقوا) القنوط والكدر ، (فلكم أجر عظيم).(1/441)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 442
ولمّا كان البخل هو معيار المخلصين من المخلطين ، ذكره بإثر تمييز المؤمنين من المنافقين ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : آية 180]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
قلت : من قرأ بالخطاب فالموصول مفعول أول ، و(خيرا) : مفعول ثان ، والضمير للفصل ، والخطاب للرسول صلّى اللّه عليه وسلم ، ولا بد من حذف مضاف ، أي : لا تحسبن بخل الذين يبخلون خيرا لهم ، ومن قرأ بالغيب ف - (الذين) :
فاعل ، والمفعول الأول محذوف ، لدلالة (يبخلون) عليه ، لا يحسبن البخلاء بخلهم خيرا لهم ، والطوق : ما يدار بالعنق.
يقول الحق جل جلاله : ولا يظنن الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من الأموال ، فلم يؤدوا زكاتها ، أن بخلهم خير لهم ، بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ لاستجلابه العذاب إليهم ، ثم بيّنه بقوله : سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ أي : يلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق للعنق ، وقيل : يطوق به حقيقة ، لقوله عليه الصلاة والسلام :
«ما من رجل لا يؤدى زكاة ماله إلا إذا كان يوم القيامة - مثّل له شجاعا أقرع ، له زبيبتان ، يطّوقه ، ثم يأخذ بلهزمتيه - أي : شدقيه - يقول : أنا كنزك ، أنا مالك ، ثم تلا هذه الآية : وَلا يَحْسَبَنَّ ...». وقيل : يجعل يوم القيامة فى أعناقهم طوقا من نار.
والمال الذي بخل به هو للّه ، وسيرجع للّه ، وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فهو الذي يرث الأرض ومن عليها ، فكيف يبخل العبد بمال اللّه ، وهو يعلم أنه يرجع للّه ، فيموت ويتركه لمن يسعد به! وللّه در القائل ، حيث قال :
يا جامع المال كم تضرّ به تطمع باللّه فى الخلود معه
هل حمل المال ميّت معه؟ أما تراه لغيره جمعه؟!
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لا يخفى عليه منعكم ولا إعطاؤكم ، فيجازى كلّا بعمله.
الإشارة : لا يحسبن الذين يبخلون بما أتاهم اللّه من فضل الرئاسة والجاه ، أن يبذلوها فى طلب معرفة اللّه ، وبذلها : إسقاطها وإبدالها بالخمول ، والذل للّه ، وإسقاط المنزلة بين عباد اللّه ، فلا يظنون أن بخلهم بذلك خير لهم ، بل هو شر لهم ، سيلزمون وبال ما بخلوا به يوم القيامة ، حين يرون منازل المقربين كالشمس الضاحية فى أعلى عليين ، وهم مع عوام أهل اليمين ، محجوبون عن شهود رب العالمين ، إلا فى وقت مخصوص وحين.(1/442)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 443
فمن بخل بماله حشر مع الفجار ، ومن بخل بنفسه وجاهه ، وبذل ماله ، حشر مع الأبرار ، ومن بذلهما معا حشر مع المصطفين الأخيار ، ومنتهى الملك للّه الواحد القهار ، وهو الغنى بالإطلاق. فمن وصفه بضد ذلك كان من أهل البعاد والشقاق. وإلى ذلك أشار بقوله :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 181 الى 183]
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183)
قلت : (و قتلهم) : معطوف على (ما) المفعولة أو النائبة عن الفاعل ، على القرائتين رفعا ونصبا ، و(أن اللّه) :
عطف على (ما) أي : ذلك العذاب بسبب ما قدمتم وبأن اللّه منتف عنه الظلم ، فلا بد أن يعاقب المسيئ ويثيب المحسن ، (الذين قالوا إن اللّه عهد إلينا) : صفة للذين (قالوا إن اللّه فقير) ، أو بدل منه مجرور مثله.
يقول الحق جل جلاله : لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ اليهود الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ وقائله : فنحاص بن عازوراء ، فى جماعة منهم ، وذلك أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم كتب مع أبى بكر إلى يهود بنى قينقاع ، يدعوهم إلى الإسلام ، وإلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وأن يقرضوا اللّه قرضا حسنا ، فدخل أبو بكر رضي اللّه عنه مدراسهم «1» ، فوجد خلقا كثيرا اجتمعوا إلى فنحاس ، وهو من علمائهم - ومعه حبر آخر اسمه : (أيشع) ، فقال أبو بكر لفنحاص : اتق اللّه وأسلم ، فو اللّه إنك لتعلم أن محمدا رسول اللّه ، قد جاءكم بالحق من عند اللّه ، فأسلم وصدّق ، وأقرض اللّه قرضا حسنا يدخلك الجنة ، فقال فنحاص لعنه اللّه : يا أبا بكر تزعم أن ربنا يستقرضنا أموالنا ، وما يستقرض إلا الفقير من الغنى ، ولو كان غنيا ما استقرض ، فلطمه أبو بكر رضي اللّه عنه وقال : لو لا ما بيننا من العهد لضربت عنقك ، فشكاه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال له : عليه الصلاة والسلام : - «ما حملك على ما فعلت؟» فقال :
يا رسول اللّه ، إن عدو اللّه قال قولا عظيما ، زعم أن اللّه فقير ، وهم أغنياء ، فجحد ما قال ، فنزلت الآية تكذيبا له.
___________
(1) راجع معنى المدراس فى التعليق على تفسير الآية/ 109 من سورة البقرة.(1/443)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 444
والمعنى : أن اللّه سمع مقالتهم الشنيعة ، وأنه سيعاقبهم عليها ، ولذلك قال : سَنَكْتُبُ ما قالُوا أي : سنسطرها عليهم فى صحائف أعمالهم ، أو سنحفظها فى علمنا ولا نهملها ، لأنها كلمة عظيمة ، فيها الكفر باللّه والاستهزاء بكتاب اللّه وتكذيب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، ولذلك نظمت مع قتلهم الأنبياء ، حيث عطفه عليه ، وفيه تنبيه على أن قولهم الشنيع ليس هو أول جريمة ارتكبوها ، وأن من اجترأ على قتل الأنبياء لم يستبعد أمثال هذا القول منه.
ثم ذكر عقابهم ، فقال : وَنَقُولُ لهم يوم القيامة : ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي : المحرق ، والذوق : يطلق على إدراك المحسوسات كالمطعومات ، والمعنويات كما هنا ، وذكره هنا لأن عذابهم مرتب على قولهم الناشئ عن البخل ، والتهالك على المال ، وغالب حاجة الإنسان إليه ، لتحصيل المطاعم ، ومعظم بخله للخوف من فقده.
ذلِكَ العذاب بسبب ما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ من قتل الأنبياء ، وقولكم هذا ، وسائر معاصيكم ، وعبّر بالأيدى لأن غالب الأعمال بهن ، وبأن اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ بل يجازى كلّ عبد بما كسب من خير أو شر ، فأنتم ظلمتم أنفسكم.
ثم إن قوما منهم ، وهو كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحيى بن أخطب وفنحاص ووهب بن يهوذا ، أتوا النبىّ صلّى اللّه عليه وسلم فقالوا : يا محمد تزعم أن اللّه بعثك إلينا رسولا ، وإن اللّه قد عهد إلينا فى التوراة ، ألّا نؤمن لرسول يزعم أنه نبى حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، فإن جئتنا به صدقناك ، فأنزل اللّه فيهم تكذيبا لهم : الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا فى التوراة وأوصانا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ كصدقة أو نسيكة ، تَأْكُلُهُ النَّارُ كما كانت لأنبياء بنى إسرائيل.
وذلك أن القرابين والغنائم كانت حراما على بنى إسرائيل ، وكانوا إذا قرّبوا قربانا ، أو غنموا غنيمة ، فتقبل منهم ، ولم يغل من الغنيمة ، نزلت نار بيضاء من السماء ، فتأكل ذلك القربان أو الغنيمة ، فيكون ذلك علامة على القبول ، وإذا لم يتقبل بقي على حاله ، وهذا من تعنتهم وأباطيلهم ، لأن أكل القربان لم يوجب الإيمان إلا لكونه معجزة ، وسائر المعجزات فى ذلك سواء ، فلذلك ردّ عليهم بقوله : قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ أي :
المعجزات الواضحات ، وَبِالَّذِي قُلْتُمْ من أكل النار القربان ، فكذبتموهم وقتلتموهم كزكريا ويحيى وغيرهما ، فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فى دعواكم أنه ما منعكم من الإيمان إلا عدم ظهور هذه المعجزة ، فما لكم لم تؤمنوا بمن جاء بها حتى قتلتموه؟ واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : ما زالت خواص العامة مولعة بالإنكار على خواص الخاصة ، يسترقون السمع منهم ، إذا سمعوا كلمة لم يبلغها علمهم ، وفيها ما يوجب النقص من مرتبتهم ، حفظوها ، وحرفوها ، وأذاعوها ، يريدون بذلك إطفاء نورهم ، (1/444)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 445
وإظهار عوراهم ، واللّه حفيظ عليهم ، سيكتب ما قالوا وما قصدوا من الإنكار على أوليائه ، ويقول لهم : ذوقوا عذاب البعد والحجاب. ومما يتشبثون به فى الإنكار عليهم : اقتراحهم الكرامات التي كانت للأولياء قبلهم ، ويقولون :
لانصدق بهم حتى يأتوا بما أتى به فلان وفلان ، فقد كان من قبلهم يطعنون فيهم مع ظهور ذلك عليهم ، كما هو سنة اللّه فيهم. (و اللّه يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم).
ثم سلّى الحقّ نبيه - عليه الصلاة والسلام - بقوله :
[سورة آل عمران (3) : آية 184]
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184)
قلت : (الزبر) : جمع زبور ، بمعنى مزبور ، أي : مكتوب ، من زبرت ، أي : كتبت ، وكل كتاب فهو زبور ، وقال امرؤ القيس :
لمن طلل أبصرته فشجانى كخطّ زبور فى عسيب يمان
يقول الحق جل جلاله ، فى تسلية رسوله - عليه الصلاة والسلام - من تكذيب اليهود وغيرهم له : فَإِنْ كَذَّبُوكَ فليس ذلك ببدع فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مثلك مِنْ قَبْلِكَ جاءوا قومهم بالمعجزات البينات ، وبالكتب المنزلات ، فيها مواعظ زاجرات ، وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ المشتمل على الأحكام الشرعيات.
الإشارة : كما كذبت الأنبياء كذبت الأولياء ، بعد أن ظهر عليهم من العلوم الباهرة والحكم الظاهرة والكرامات الواضحة ، وأعظمها المعرفة ، وهذه سنة ماضية ، ولن تجد لسنة اللّه تبديلا.
وعند اللّه تجتمع الخصوم فيظهر المحق من المبطل ، وتوفى كل نفس ما أسلفت ، وتعلم علم يقين ما أظهرت وأضمرت ، كما أشار إلى ذلك بقوله :
[سورة آل عمران (3) : آية 185]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185)
قلت : (زحزح) : بوعد ، والزحزحة : الجذب والإخراج بعجلة.
يقول الحق جل جلاله : كل نفس منفوسة لا بد أن تذوق حرارة الموت ، وتسقى كأس المنون ، وإنما توفون جزاء أعمالكم يوم القيامة ، يوم قيامكم من القبور ، خيرا كان أو شرا.(1/445)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 446
قال البيضاوي : ولفظ التوفية يشعر بأنه قد يكون قبلها بعض الأجور ، أي : توفية بعض الأجور ، ويؤيده قوله صلّى اللّه عليه وسلم : «القبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار» ، فَمَنْ زُحْزِحَ أي : بوعد عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ بالنجاة ونيل المراد ، وعنه صلّى اللّه عليه وسلم : «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيّته وهو يؤمن باللّه واليوم الآخر ، ويأتى إلى الناس ما يحبّ أن يؤتى إليه».
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا وزخارفها ولذاتها إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ فإن الغار - وهو المدلّس - يظهر ما هو حسن من متاعه ، ويخفى ما هو معيب ، كذلك الدنيا تبتهج لطالبها ، وتظهر له حلاوتها وشهواتها ، حتى تشغله عن ذكر اللّه وعن طاعته ، فيؤثرها على آخرته ، ثم يتركها أحوج ما يكون إليها ، فينقلب نادما متحسرا ، وفى ذلك يقول الشاعر :
ومن يحمد الدنيا لشىء يسره فسوف للعسر عن قريب يلومها
إذا أدبرت كانت على المرء حسرة وإن أقبلت كانت كثيرا همومها
الإشارة : النفس ، من حيث هى ، كلها تقبل الموت لمن قتلها وجاهدها ، وإنما وقع التفريط من أربابها ، فمن زحزها عن نار الشهوات ، وقتلها بسيوف المخالفات ، حتى أدخلها جنات الحضرات ، فقد فاز فوزا عظيما ، وربح ربحا كريما. وباللّه التوفيق.
ثم أمر بالصبر على فقد الأموال والإخوان ، وعلى أذى اليهود والمشركين ، فقال تعالى :
[سورة آل عمران (3) : آية 186]
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
قلت : أصل (تبلونّ) : تبلوون كتنصرون ، ثم قلبت الواو ألفا ، ثم حذفت لالتقاء الساكنين ، فصار تبلونن ، ثم أكد بالنون ، فاجتمع ثلاث نونات ، حذفت نون الرفع فالتقى ساكنان الواو ونون التوكيد ، فحركت الواو بالضمة المجانسة ، وهى النائبة عن الفاعل.
يقول الحق جل جلاله : واللّه لَتُبْلَوُنَّ أي : لتختبرن فِي أَمْوالِكُمْ بما يصيبها من الآفات ، وما كلفتم به من النفقات ، وَأَنْفُسِكُمْ بالقتل والجراحات ، والأسر والأمراض وسائر العاهات. وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا(1/446)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 447
الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ
اليهود وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا كفار مكة ، أَذىً كَثِيراً كقولهم : إن اللّه فقير ، وهجاء الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، والطعن فى الدين ، وإغراء الكفرة على المسلمين ، أو غير ذلك من الأذى. أعلمهم بذلك قبل وقوعه ، ليتأهبوا للصبر والاحتمال ، حتى لا يروعهم نزولها حين الإنزال. وَإِنْ تَصْبِرُوا على ذلك ، وَتَتَّقُوا اللّه فيما أمركم به ، فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي : من معزومات الأمور التي يجب العزم عليها ، أو مما عزم اللّه على فعلها ، وأوجبه على عباده. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : كل من دخل فى طريق الخصوص بالصدق والعزم على الوصول ، لا بد أن يبتلى ويختبر فى ماله ونفسه ، ليظهر صدقه فى طلبه ، ولا بد أن يسمع من الناس أذى كثيرا ، فإن صبر ظفر ، وإن رجع خسر ، وهذه سنة اللّه فى عباده : وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ ، قال الورتجبي : (لتبلون فى أموالكم) بجمعها ومنعها والتقصير فى حقوق اللّه فيها ، (و أنفسكم) باتباع شهواتها ، وترك رياضتها ، وملازمتها أسباب الدنيا ، وخلوها من النظر فى أمر الميعاد ، وقيل : (لتبلون فى أموالكم) بالاشتغال بها أخذا وإعطاء. ه.
ثم عاتب الحقّ تعالى اليهود ، ووبّخهم على كتمان الحق وإظهار الباطل ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : آية 187]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187)
قلت : الضمير فى (نبذوه) : يعود على الكتاب ، أو الميثاق.
يقول الحق جل جلاله : وَاذكر إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وهم اليهود ، أخذ عليهم العهد ليبينن للناس ما فى كتابهم من صفة النبي صلّى اللّه عليه وسلم ولا يكتمونه ، فنبذوا ذلك العهد أو الكتاب وَراءَ ظُهُورِهِمْ فكتموا صفته - عليه الصلاة والسلام - خوفا من زوال رئاستهم ، وَاشْتَرَوْا بذلك العهد ، أي : استبدلوا به ثَمَناً قَلِيلًا من حطام الدنيا ، وما كانوا يأخذونه من سفلتهم ، فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ ، وهى تجر ذيلها على من كتم علما سئل عنه ، قال عليه الصلاة والسلام : «من كتم علما عن أهله ألجم بلجام من نار». وعن على رضي اللّه عنه :
(ما أخذ اللّه على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا). وقال محمد بن كعب : (لا يحل للعالم أن يسكت على علمه ، ولا الجاهل أن يسكت على جهله).(1/447)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 448
الإشارة : أهل العلم إذا تحققوا بوجود الخصوصية عند ولى ، وكتموا ذلك حسدا وخوفا على زوال رئاستهم ، دخلوا فى وعيد الآية لأنّ العوام تابعون لهم ، فإذا كتموا أو أنكروا تبعوهم على ذلك ، فيحملون أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ، واللّه تعالى أعلم.
ولما سأل - عليه الصلاة والسلام - اليهود عن شىء فى التوراة ، وكتموه وأخبروه بغيره ، فخرجوا وقد أروه أنهم أخبروه عما سألهم ، واستحمدوا إليه ففرحوا ، أنزل اللّه فيهم :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 188 الى 189]
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
قلت : من قرأ بالخطاب ، فالذين : مفعول أول ، والثاني : محذوف ، أي : بمفازة من العذاب ، أو هو المذكور ، و(تحسبنهم) : تأكيد للفعل الأول ، ومن قرأ بالغيب فالذين : فاعل ، والمفعولان : محذوفان ، دلّ عليهما ذكرهما مع الثاني ، أي : لا يحسبوا أنفسهم فائزة. (فلا تحسبنهم) : من قرأ بفتح التاء فالخطاب للرسول - عليه الصلاة والسلام - ، والفعل مبنى ، ومن قرأ بالياء فالخطاب للذين يفرحون ، والفعل معرب ، أي : لا يحسبوا أنفسهم بمفازة من العذاب.
يقول الحق جل جلاله : لا تَحْسَبَنَّ يا محمد الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا أي : بما فعلوا من التدليس وكتمان الحق ، وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا من الوفاء بالعهد ، وإظهار الحق ، والإخبار بالصدق ، أنهم فائزون من العذاب ، فلا تظنهم بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ ، بل لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ موجع ، وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إن شاء عذب وإن شاء رحم ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فلا يعجزه من ذلك شىء ، أو : لا يظن الذين يفرحون بما أتوا ، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، فلا يحسبون أنفسهم بمفازة من العذاب.
وعن أبى سعيد الخدري رضي اللّه عنه : (أنها نزلت فى المنافقين ، كانوا إذا خرج النبي صلّى اللّه عليه وسلم «1» تخلّفوا ، وإذا قدم اعتذروا ، فإذا قبل عذرهم فرحوا ، وأحبّوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا). وما تقدم فى التوطئة هو عن ابن عباس. وقال
___________
(1) أي : إلى الغزو. [.....](1/448)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 449
ابن حجر : ولا مانع من أن تتناول الآية كلّ من أتى بحسنة وفرح بها فرح إعجاب ، وأحب أن يحمده الناس ويثنوا عليه بما ليس فيه. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : لا يظن أهل الفرق الذين يسندون الأفعال إلى أنفسهم ، غائبين عن فعل ربهم ، ويحبون أن يحمدهم الناس ويمدحهم بفعل غيرهم ، أنهم فائزون عن عذاب الفرق ، وحجاب العجب ، إذ لا فاعل سوى الحق ، فمن تمام نعمته عليك أن خلق فيك ونسب إليك ، فإن فرح العبد بالطاعة من حيث ظهورها عليه ، وهى عنوان العناية - ورأى نفسه فيها كالآلة ، معزولا عن فعلها ، محمولا بالقدرة الأزلية فيها ، فلا بأس عليه ، ويزيد بذلك تواضعا وشكرا ، وإن فرح بها من حيث صدورها منه ، ويتبجح بها على عباد اللّه ، فهو عين العجب ، وفى الحكم : «لا تفرحك الطاعة من حيث إنها صدرت منك ، وافرح بها من حيث إنها هدية من اللّه عليك قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا».
ثم استدل على قدرته المفهومة من (القدير) ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : آية 190]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190)
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وإظهارهما للعيان ، لدلائل واضحة على وجود الصانع ، وكمال قدرته ، وعلمه ، لذوى العقول الكاملة الصافية ، الخالصة من شوائب الحس والوهم.
قال البيضاوي : ولعل الاقتصار على هذه الثلاثة فى هذه الآية لأن مناط الاستدلال هو التغير ، وهذه متعرضة لجملة أنواعه ، فإنه - أي التغير - إما أن يكون فى ذات الشيء ، كتغير الليل والنهار ، أو جزئه ، كتغير الناميات بتبدل صورها ، أو لخارج عنها ، كتغير الأفلاك بتبدل أوضاعها ، وعن النبي صلّى اللّه عليه وسلم : «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها».
الإشارة : الخلق هو الاختراع والإظهار ، فإظهار هذه التجليات الأربعة يدل على أن الحقّ - تعالى - تجلى لعباده بين الضدين ، بين النور والظلمة ، بين القدرة والحكمة ، بين الحس والمعنى ، وهكذا خلق من كل زوجين اثنين ، ليقع الفرار من اثنينية حسهما إلى فردية معناهما ، ففروا إلى اللّه ، فالسموات والنهار نورانيان ، والأرض والليل ظلمانيان ، ففى ذلك دلالة على وحدة المعاني ، فلا تقف مع الأوانى ، وخض بحر المعاني ، لعلك ترانى. وباللّه التوفيق.
ثم وصف أولى الألباب الذين يدركون صفاء هذه المعاني ، فقال : (1/449)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 450
[سورة آل عمران (3) : الآيات 191 الى 194]
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194)
يقول الحق جل جلاله ، فى وصف أولى الألباب : هم الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ ، أي : يذكرونه على الدوام ، قائمين وقاعدين ومضطجعين ، وعنه - صلّى اللّه عليه وسلم - : «من أراد أن يرتع فى رياض الجنة فليكثر ذكر اللّه». وقيل : يصلون على الهيئات الثلاث ، حسب الطاقة لقوله عليه الصلاة والسلام لعمران بن حصين ، وكان مريضا : «صلّ قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنبك وتومىء إيماء».
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ استدلالا واعتبارا ، وهو أفضل العبادات قال صلّى اللّه عليه وسلم : «لا عبادة كالتفكر» لأنه المخصوص بالقلب ، والمقصود من الخلق ، وعنه صلّى اللّه عليه وسلم : «بينما رجل مستلق على فراشه فنظر إلى السماء والنجوم ، فقال : أشهد أن لك خالقا ، اللهمّ اغفر لى ، فنظر اللّه إليه فغفر له». وهذا دليل واضح على شرف علم الأصول وفضل أهله. قاله البيضاوي. وسيأتى مزيد من كلام على التفكر فى الإشارة إن شاء اللّه.
فلما تفكروا فى عجائب المصنوعات ، قالوا : رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا أي : عبثا من غير حكمة ، بل خلقته لحكمة بديعة ، من جملتها : أن يكون مبدأ لوجود الإنسان ، وسببا لمعاشه ، ودليلا يدله على معرفتك ويحثه على طاعتك ، لينال الحياة الأبدية ، والسعادة السرمدية فى جوارك ، سُبْحانَكَ تنزيها لك من العبث وخلق الباطل ، فَقِنا عَذابَ النَّارِ التي استحقها من أعرض عن النظر والاعتبار ، وأخل بما يقتضيه من أحكام الواحد القهار ، وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ يمنعونهم من دخول النار. ووضع المظهر موضع المضمر للدلالة على أن ظلمهم سبب لإدخالهم النار ، وانقطاع النصرة عنهم فى دار البوار.
رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ ، وهو الرسول العظيم الشأن ، أو القرآن قائلا : أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ ووحدوه ، فأجبنا نداءه وآمنا ، رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا الكبائر ، وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا الصغائر ، وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ المصطفين الأخيار ، مخصوصين بصحبتهم ، معدودين فى زمرتهم ، وفيه تنبيه على أنهم يحبون لقاء اللّه فأحب اللّه لقاءهم. رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى تصديق رُسُلِكَ من الثواب ، أو على ألسنة(1/450)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 451
رسلك من الفضل والرحمة وحسن المآب ، سألوا ما وعدوا على الامتثال ، لا خوفا من إخلاف الوعد ، بل مخافة ألّا يكونوا موعودين لسوء عاقبة ، أو قصور فى الامتثال ، أو تعبدا ، أو استكانة. قاله البيضاوي.
وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ أي : لا تهنّا بسبب تقصيرنا ، إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ بإثابة المؤمن وإجابة الداعي ، أو ميعاد البعث والحساب ، وتكرير رَبَّنا للمبالغة فى الابتهال ، والدلالة على استقلال المطالب وعلو شأنها ، ففى بعض الآثار : (من حزبه أمر فقال خمس مرات : «ربنا» ، أنجاه اللّه مما يخاف). «1» قاله البيضاوي.
الإشارة : قدّم الحق الذكر على الفكر على ترتيب السير ، فإن المريد يؤمر أول أمره بذكر اللسان ، حتى يفضى إلى الجنان ، فينتقل الذكر إلى القلب ، ثم إلى الروح ، وهو الفكر ، ثم إلى السر ، وهو الشهود والعيان ، وهنا يخرس اللسان ، ويغيب الإنسان فى أنوار العيان ، وفى ذلك يقول القائل :
ما إن ذكرتك إلّا همّ يلعننى سرّى وروحى وقلبى عند ذكراك
حتّى كأنّ رقيبا منك يهتف بي : إيّاك : ويحك والتّذكار! إيّاك!
أما ترى الحقّ قد لاحت شواهده وواصل الكلّ من معناه معناك
فإذا بلغ العبد هذا المقام - الذي هو مقام الإفراد - اتحدت عنده الأوراد ، وصار وردا واحدا ، وهو عكوف القلب فى الحضرة بين فكرة ونظرة ، أو إفراد القلب باللّه ، وتغيبه عما سواه.
قال فى الإحياء فى كتاب الأوراد : الموحد المستغرق الهم بالواحد الصمد ، الذي أصبح وهمومه هم واحد ، فلا يحب إلا اللّه ، ولا يخاف إلا منه ، ولا يتوقع الرزق من غيره ، ولا ينظر فى شىء إلا يرى اللّه فيه ، فمن ارتفعت رتبته إلى هذه الدرجة ، لم يفتقر إلى ترتيب الأوراد واختلافها ، بل ورده بعد المكتوبات ورد واحد ، وهو حضور القلب مع اللّه فى كل حال ، فلا يخطر بقلبه أمر ، ولا يقرع سمعه قارع ، ولا يلوح لنظره لائح ، إلّا كان له فيه عبرة وفكرة ومزيد ، فلا محرك ولا مسكن إلا اللّه. فهؤلاء جميع أحوالهم تصلح أن تكون سببا لازديادهم ، فلا تتميز عندهم عبادة عن عبادة ، وهم الذين فروا إلى اللّه كما قال تعالى : فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ، وتحقق فيهم قوله :
إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي ، وهذه الدرجة منتهى درجة الصديقين ، ولا ينبغى أن يغتر المريد بما يسمعه من ذلك ، فيدعيه لنفسه ، ويفتر عن وظائف عباداته ، فذلك علامته ألا يحس فى قلبه وسواسا ، ولا يخطر بقلبه معصية ، لا يزعجه هواجم الأحوال ، ولا يستفزه عظائم الأشغال ، وأنى تكون هذه المرتبة!. ه.
___________
(1) حكى القرآن عن أولى الألباب فى هذه الآيات - أنهم قالوا : (ربنا) خمس مرات. وعن الأثر الذي ذكره المصنف - قال المناوى فى الفتح السماوي : لم أقف عليه.(1/451)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 452
قلت : قوله : [لا يخطر بقلبه معصية] غير لازم لأن قلب العارف مرسى للتجليات النورانية والظلمانية ، لكنها تقل ولا تسكن.
وقال فى موضع آخر : وأما عبادة ذوى الألباب فلا تجاوز ذكر اللّه تعالى والفكر فيه حبا لجلاله وجماله ، وسائر الأعمال تكون مؤكدات. قال : والعامل لأجر الجنة درجته درجة البله ، وإنه لينالها بعمله إذ أكثر أهل الجنة البله. ه. وقال فى كتاب كيمياء السعادة : وقد غلط من ظن أن وظائف الضعفاء كوظائف الأقوياء ، حتى قال بعض مشايخ الصوفية : من رآنى فى الابتداء ، قال : صار صديقا ، ومن رآنى فى الانتهاء ، قال : صار زنديقا ، يعنى أن الابتداء يقتضى المجاهدة الظاهرة للأعين بكثرة العبادات ، وفى الانتهاء يرجع العمل إلى الباطن ، فيبقى القلب على الدوام فى عين الشهود والحضور ، وتفتر ظواهر الأعضاء ، فيظن أن ذلك تهاون بالعبادة «1» ، وهيهات هيهات!! ، فذلك استغراق لمخ العبادات ولبابها وغايتها ، ولكن أعين الخفافيش تكل عن درك نور الشمس. ه.
قال شيخ شيوخنا - سيدى عبد الرحمن العارف - بعد نقل كلام القشيري فى هذا المعنى : وما أشار إليه ظاهر فى أن أهل القلوب لا يتعاطون كل طاعة. وإنما يتعاطون من الطاعات ما يجمعهم ولا يفرقهم. ولذلك قال الجنيد :
أحب للصوفى ألا يقرأ ولا يكتب لأنه أجمع لهمه ، قال : وأحب للمريد ألا يشتغل بالتكسب وطلب الحديث لئلا يتغير حاله. ه. قلت : ومن رزقه اللّه شيخ التربية فما عيّنه له فهو عين ذكره ، يسير به كيفما كان.
هذا ما يتعلق بحال الذكر الذي قدّمه اللّه تعالى ، وأما التفكر فهو أعظم العبادات وأفضل القربات ، هو عبادة العارفين ومنتهى المقربين. وفى الخبر : «تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة».
وقال الجنيد رضي اللّه عنه : أشرف المجالس وأعلاها : الجلوس مع الفكرة فى ميدان التوحيد ، والتنسم بنسيم المعرفة ، والشرب بكأس المحبة من بحر الوداد ، والنظر لحسن الظن باللّه تعالى. ثم قال : يا لها من مجالس ، ما أجلها ، ومن شراب ما ألذه ، طوبى لمن رزقه. وقال القشيري رضي اللّه عنه : التفكر نعت كل طالب ، وثمرته : الوصول بشرط العلم ، فإذا سلم الفكر عن الشوائب ورد صاحبه على مناهل التحقيق. ه.
وسئلت زوجة أبى ذر عن عبادة زوجها ، فقالت : كان نهاره أجمع فى ناحية يتفكر. وكذلك زوجة أبى بكر قالت : كان ليله أجمع فى ناحية يتفكر. وكذا زوجة أبى الدرداء ، وكان سيدنا عيسى عليه السّلام يقول : طوبى لمن كان قيله ذكرا وصمته تفكرا ، ونظره عبرة. وقال الحسن رضي اللّه عنه : من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو ، ومن لم يكن سكوته تفكرا فهو سهو ، ومن لم يكن نظره اعتبارا فهو لهو. ه. وقال فى الحكم : (ما نفع القلب شىء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة). وقال أيضا : (الفكرة سراج القلب ، فإذا ذهبت فلا إضاءة له). وقال أيضا : (الفكرة فكرتان فكرة تصديق وإيمان ، وفكرة شهود وعيان ، فالأولى لأرباب الاعتبار ، والثانية لأرباب الشهود والاستبصار).
___________
(1) راجع التعليق على إشارة الآية 212 من سورة البقرة.(1/452)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 453
وفكرة الشهود والعيان هى عبادة العارفين ، ولا يحصر ثوابها فى ستين ولا فى سبعين ، بل وقت منها يعدل ألف سنة ، كما قال الشاعر :
كلّ وقت من حبيبى قدره كألف حجّه
فأوقات هؤلاء كلها ليلة القدر ، ومن لم يبلغ هذا المقام فليبك على نفسه على الدوام ، ومن ظفر بها ونالها حق له الهناء ، وفى أمثاله قال القائل :
هم الرّجال وغبن أن يقال لمن لم يتّصف بمعاني وصفهم رجل
حققنا اللّه بمقامهم ، وسقانا من منالهم ، آمين.
وقوله : رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا بل هو ثابت بإثباتك ، ممحوّ بأحدية ذاتك ، فالباطل محال ، وكل ما سواه باطل ، كما قرره الرسول - عليه الصلاة والسلام «1». وقوله : رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا أي : كنا فى الرعيل الأول من أهل الإيمان ، فجعل لنا سبيلا إلى مقام الإحسان ، رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا وهو الوصول إلى العيان. وباللّه التوفيق.
ثم ذكر ما أجابهم به ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : آية 195]
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195)
قلت : (استجاب) : أخص من أجاب ، لأن استجاب مستلزم لفعل ما طلب منه ، وأجاب يصدق بالوعد ، ويتعدى بنفسه وباللام ، و(بعضكم من بعض) : جملة معترضة. قاله البيضاوي فانظره.
يقول الحق جل جلاله : فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ فيما طلبوه لأنه لا يرد السؤال ، ولا تخيب لديه الآمال ، ولذلك قال : أَنِّي أي : بسبب أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى لأنكم بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ لأن الذكر من الأنثى ، والأنثى من الذكر ، ولأنهما من أصل واحد ، ولفرط الاتصال والاتحاد والاتفاق فى الدين.
___________
(1) حين قال صلّى اللّه عليه وسلم : (أصدق كلمة قالها شاعر : ألا كل شىء ما خلا اللّه باطل). الحديث أخرجه البخاري فى (مناقب الأنصار : باب أيام الجاهلية) ومسلم فى (الشعر) من حديث أبى هريرة.(1/453)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 454
روى «أنّ أمّ سلمة قالت : يا رسول اللّه ، إنى أسمع اللّه يذكر الرجال فى الهجرة ولم يذكر النساء ، فنزلت. مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى » إلخ.
ثم فصل أعمال العمال ، وما أعد لهم من الثواب فقال : فَالَّذِينَ هاجَرُوا دار الشرك ، وفارقوا الأوطان والأصحاب والعشائر ، وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي بسبب إيمانهم باللّه ، وَقاتَلُوا الكفار ، وَقُتِلُوا أي : ماتوا فى الجهاد. وقرىء بالعكس لأن الواو لا ترتب ، أو قتل بعضهم ، وقاتل الباقون ولم يضعفوا ، لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي : لأمحونها ، وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي : أثيبهم ثوابا من عند اللّه تفضلا وإحسانا ، وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ لا يعجزه شىء.
الإشارة : لما توجهوا إليه بهممهم العلية ، وعزائمهم القوية ، فقرعوا بابه بدوام ذكره ، والتفكر فى عظمة ذاته ، وجميل إحسانه وبره ، وتضرعوا إليه بلسان الذل والانكسار ، وحال الخضوع والاضطرار ، أجابهم ففتح فى وجوههم الباب ، وأدخلهم فى حضرته مع الأحباب ، لأنه يجيب السؤال ، ولا يخيب الآمال ، بعد أن هاجروا الأوطان ، وفارقوا العشائر والإخوان ، إلا من يزيد بهم إلى الرحمن ، فقاتلوا نفوسهم حتى ماتت فحييت بالوصال ، إلى جوار الكبير المتعال ، قال الشاعر :
إن ترد وصلنا فموتك شرط لا ينال الوصال من فيه فضله
فمحا عن عين بصائرهم سيئات الأغيار ، وطهّر قلوبهم من درن الأكدار ، حتى دخلوا جنة المعارف ، التي لا يحيط بوصفها وصف واصف ، تجرى من تحتها أنهار العلوم ، وتنفتح منها مخازن الفهوم ، ثوابا من عند الحي القيوم واللّه تعالى أعلم.
ولما بسط اللّه الدنيا على اليهود والمشركين ، استدراجا ، قال بعض المؤمنين : إن أعداء اللّه فيما نرى من الخير ، وقد هلكنا من الجوع والجهد ، فأنزل اللّه تعالى :
[سورة آل عمران (3) : الآيات 196 الى 198]
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198)
قلت : النزل - ويسكن - : ما يقدم للنازل من طعام وشراب وصلة ، وانتصابه : على الحال من (جنات) ، والعامل فيه : الظرف ، أو على المصدر المؤكد ، أي : أنزلوها نزلا.(1/454)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 455
يقول الحق جل جلاله : لا يَغُرَّنَّكَ أيها السامع أو أيها الرسول ، والمراد : تثبيته على ما كان عليه ، كقوله :
فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ، أي : دم على ما أنت عليه من عدم اغترارك بظاهر ما ترى عليه الكفار من البسط فى الدنيا ، والتقلب فيها بالتجارات والزراعات ، وما هم عليه من الخصب ولين عيش ، فإن ذلك مَتاعٌ قَلِيلٌ بلغة فانية ، ومتعة زائلة ، وظلال آفلة ، وسحابة حائلة. قال صلّى اللّه عليه وسلم : «ما الدّنيا فى الآخرة إلّا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه فى اليمّ ، فلينظر بم يرجع». فلا بد أن يرحلوا عنها قهرا ، ثُمَّ مَأْواهُمْ أي : مصيرهم جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ ما مهدوا لأنفسهم.
والمعتبر عند الأكياس هو ما أعد اللّه للمتقين من الناس ، قال تعالى : لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ وخافوا عقابه ، لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ، هيأ ذلك لهم وأعده نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هذا النزول الذي يقدم للضيف ، وأما ما أعد لهم بعد النزول فلا يعبر عنه لسان ، ولذلك قال : وَما عِنْدَ اللَّهِ من النعيم الذي لا يفنى ، جسمانى وروحانى ، خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ مما ينقلب إليه الفجار. قيل : حقيقة البر : هو الذي لا يؤذى الذر.
الإشارة : لا يغرنك أيها الفقير ما ترى عليه أهل الدنيا من اتخاذ المنازل المشيدة ، والفرش الممهدة ، فإن الدنيا متاعها قليل ، وعزيزها قليل ، وغنيها فقير ، وكبيرها حقير ، واعتبر بحال نبيك - عليه الصلاة والسلام - .
قال أنس رضي اللّه عنه : دخلت على النبي صلّى اللّه عليه وسلم وهو على سرير مرفل بالشريط - أي : مضفور به - وتحت رأسه وسادة من أدم ، حشوها ليف ، فدخل عليه عمر ، وانحرف النبي صلّى اللّه عليه وسلم انحرافة ، فرأى عمر أثر الشريط فى جنبه ، فبكى ، فقال له النبي صلّى اللّه عليه وسلم : «ما يبكيك يا عمر»؟ فقال : مالى لا أبكى وكسرى وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من الدنيا ، وأنت على الحال الذي أرى ، فقال له النبي صلّى اللّه عليه وسلم : «يا عمر أما ترضى أن تكون لهم الدّنيا ولنا الآخرة».
رواه البخاري.
وانظر ما أعد اللّه للمتقين الأبرار ، الذين صبروا قدر ساعة من نهار ، فأفضوا الى جوار الكريم الغفار فى دار القرار ، وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ ، ولا سيما العارفين الكبار. قال الورتجبي : بيّن الحق - تعالى - رفعة منزل المتقين فى الجنان ، ثم أبهم لطائف العناية بقوله : وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ أي : ما عنده من نعيم المشاهدة ، ولطائف القربة ، وحلاوة الوصلة ، خير مما هم فيه من نعيم الجنة ، وأيضا : صرح فى هذه الآية ببيان مراتب الولاية ، لأنه ذكر المتقين ، والتقوى : تقديس الباطن عن لوث الطبيعة ، وتنزيه الأخلاق عن دنس(1/455)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 456
المخالفة ، وذلك درجة الأول من الولاية ، والأبرار أهل الاستقامة فى المعرفة ، وبين أن أهل التقوى فى الجنة ، والأبرار فى الحضرة. ه.
ولمّا عاتب الحق تعالى ، فيما تقدم ، أهل الكتاب ، وكان فيهم من لا يستحق العتاب لاتباعه الحق والصواب ، أخرجه الحق تعالى بقوله :
[سورة آل عمران (3) : آية 199]
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199)
يقول الحق جل جلاله : وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ كعبد اللّه بن سلام وأصحابه ممن أسلم من اليهود ، لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ إيمانا حقيقيا ، وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من القرآن ، وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من التوراة ، حال كونهم خاشِعِينَ لِلَّهِ خاضعين مخبتين وافين بالعهد ، لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا ، كما فعل المحرفون من أحبار اليهود ، أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي : ما وعدوا به من تضعيف أجرهم مرتين ، إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ فيسرع الى توفية أجورهم وإكرام منقلبهم لأن اللّه عالم بالأعمال وما تستوجبه من النوال ، فلا يحتاج إلى تأمل ولا احتياط لأنه غنى عن التأمل والاحتياط.
وقيل : نزلت فى النصارى : أربعين من نجران ، واثنين وثلاثين من الحبشة ، قدموا على النبي صلّى اللّه عليه وسلم وأسلموا.
وقيل : نزلت فى النجاشي ، لما نعاه جبريل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فخرج - عليه الصلاة والسلام - ، وصلى عليه ، فقال المنافقون : انظروا الى هذا ، يصلى على علج «1» نصرانى ، فنزلت الآية. واللّه تعالى أعلم.
الإشارة : قد رأينا بعض الفقهاء حصل لهم الإيمان بخصوص أهل زمانهم ، فتحققوا بولايتهم ، ونالوا شيئا من محبتهم ، لكن لم تساعفهم الأقدار فى صحبتهم ، فظهرت عليهم آثار أنوارهم ، واقتبسوا شيئا من أسرارهم ، فتنورت سريرتهم ، وكملت شريعتهم ، وأظهر عليهم آثار الخشوع ، وأخذوا حظا من التواضع والخضوع ، متخلقين بالقناعة والورع ، قد ذهب عن قلبهم ما ابتلى به غيرهم من الجزع والهلع ، فلا جرم أن هؤلاء لهم أجرهم مرتين : أجر ما تحملوا من الشريعة لنفع العوام ، وأجر ما اكتسبوا من محبة القوم «المرء مع من أحب». وباللّه التوفيق ، وهو الهادي الى سواء الطريق.
___________
(1) العلج : الرجل القوى الضخم.(1/456)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 457
ولمّا كان الصبر من الدّين كالرأس من الجسد ، فلو حصل للناس دائما لم يتوجه العتاب لأحد ، ختم به السورة ، التي عاتب فيها جل العباد ، فقال :
[سورة آل عمران (3) : آية 200]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
قلت : المرابطة : أن يربط هؤلاء خيولهم ، وهؤلاء خيولهم ، إرصادا لمن حاربهم ، ثم أطلق على كل مقيم فى ثغر يدفع عمن وراءه ، وإن لم يكن له مركب ، إذا كان بنية الدفع عن المسلمين كان بأهله أو وحده. المدار على خلوص النية ، خلاف ما قاله ابن عطية «1» ، وسيأتى صوابه «2» فى تفسير المعنى ، إن شاء اللّه.
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا على مشاق الطاعات ، وما يصيبكم من الشدائد والأزمات ، وعلى مجانبة المعاصي والمخالفات ، وعلى شكر ما أوليتكم من مواهب العطيات وَصابِرُوا أي :
غالبوا الأعداء فى مواطن الصبر ، والثبوت فى مداحض الحرب ، وَرابِطُوا أبدانكم وخيولكم فى الثغور لتحفظوا المسلمين من العدو الكفور ، كى تفوزوا بعظائم الأجور قال صلّى اللّه عليه وسلم : «من رابط يوما وليلة فى سبيل اللّه كان كعدل صيام شهر وقيامه ، لا يفطر ولا ينفتل «3» عن صلاته إلا لحاجة ، ومن توفى فى سبيل اللّه - أي : مرابطا فى سبيل اللّه - أجرى اللّه عليه أجره حتى يقضى بين أهل الجنة وأهل النّار». ومما يلحق بالرباط : «انتظار الصّلاة بعد الصّلاة» ، كما فى الحديث.
وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما يأمركم به وينهاكم عنه ، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فلاحا لا خسران بعده أبدا.
الإشارة : (يا أيها الذين آمنوا) إيمان أهل الخصوص ، (اصبروا) على حفظ مراسم الشريعة ، (و صابروا) على تحصيل أنوار الطريقة ، (و رابطوا) قلوبكم على شهود أسرار الحقيقة ، أو : اصبروا على أداء العبادة ، وصابروا على تحقيق العبودية ، ورابطوا فى تحصيل العبودة - أي : الحرية - أو : اصبروا على تحقيق مقام الإسلام ، وصابروا على دوام الإيمان ، ورابطوا على العكوف فى مقام الإحسان ، أو : اصبروا على تخليص الطاعات ، وصابروا على رفض الحظوظ والشهوات ، ورابطوا أسراركم على أنوار المشاهدات ، (و اتقوا اللّه) فلا تشهدوا معه سواه ، (لعلكم تفلحون) ، بتحقيق معرفة اللّه. وباللّه التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
___________
(1) قال ابن عطية - بعد كلام - : فأما سكان الثغور دائما بأهليهم الذين يعتمرون ويكتسبون هناك ، فهم وإن كانوا حماة فليسوا بمرابطين.
(2) فى الأصول : ثوابه.
(3) انفتل : انصرف.(1/457)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 458(1/458)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 459
سورة النّساء
مدنية ، وهى ستة عشر ألف حرف وثلاثون حرفا. وثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وأربعون كلمة. ومائة وستون آية. قاله الثعلبي. وقال البيضاوي : مائة وخمس وسبعون آية.
ومضمنها : الأمر بحفظ ستة أمور : حفظ الأموال ، وحفظ الأنساب ، وحفظ الأبدان ، وحفظ الأديان ، وحفظ اللسان ، وحفظ الإيمان. بعد أن قدّم الأمر بالتقوى ، التي هى ملاك ذلك كله ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1)
قلت : من قرأ : (و الأرحام) بالنصب ، فعطف على لفظ الجلالة ، أي : اتقوا الأرحام أن تقطعوها ، وقرأ حمزة بالخفض على الضمير من (به) كقول الشاعر :
فاليوم قد بتّ تهجونا وتشتمنا فاذهب فما بك والأيّام من عجب «1»
وجمهور البصريين يمنعون العطف على الضمير إلا بإعادة الجار ، فيقولون : مررت به وبزيد. وقال ابن مالك :
وليس عندى لازما إذ قد أتى فى النّظم والنّثر الصّحيح مثبتا.
والنثر الصحيح هو ما قرأ به حمزة ، وهذا هو التوجيه الصحيح ، وأما من جعل الواو للقسم فبعيد.
يقول الحق جل جلاله : يا أَيُّهَا النَّاسُ أي : جميع الخلق ، اتقوا ربكم فيما كلفكم به ، ثم بيّن موجب التقوى فقال : الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعنى آدم ، وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها يعنى حواء ، من ضلع من أضلاعه ، وَبَثَّ أي : نشر مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً أي : نشر من تلك النفس الواحدة بنين وبنات. قال البيضاوي : واكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء ، إذ الحكمة تقتضى أن يكنّ أكثر ، وذكر : كَثِيراً
___________
(1) البيت أنشده سيبويه ، انظر : شرح ابن عقيل على الألفية ، باب عطف النسق.(1/459)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 460
حملا على الجمع ، وترتيب الأمر بالتقوى على هذه القصة لما فيها من الدلالة على القدرة القاهرة التي من حقها أن تخشى والنعمة الباهرة التي توجب طاعة مولاها. ه.
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ أي : يسأل بعضكم بعضا فيقول : أسألك بالله العظيم ، وَالْأَرْحامَ أي :
واتقوا الأرحام فلا تقطعوها ، فمن قطعها قطعه الله ، ومن وصلها وصله اللّه ، كما فى الحديث. أو تساءلون به وبالأرحام ، فيقول بعضكم لبعض : أسألك بالرحم التي بينى وبينك ، أو بالقرابة التي بينى وبينك. ثم هددهم على ترك ما أمروا به فقال : إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً حافظا مطلعا شهيدا عليكم فى كل حال.
الإشارة : درجهم فى آخر السورة فى مدارج السلوك حتى زجّهم فى حضرة ملك الملوك ، وأمرهم أن يتقوا ما يخرجهم عن مشاهدة ظلمة أنوار الربوبية ، ثم دلاهم فى أول السورة إلى التنزل لآداب العبودية بشهود آثار القدرة الإلهية ، فى النشأة الأولية ، ليعلّمهم الجمع بين آداب المراقبة ودوام المشاهدة ، أو بين الفناء والبقاء.
وقد تكلم ابن جزى هنا على أحكام المراقبة ، فقال : إذا تحقق العبد بهذه الآية وأمثالها ، استفاد مقام المراقبة ، وهو مقام شريف أصله علم وحال ، ثم يثمر حالين. أما العلم : فهو معرفة العبد بأن الله مطلع عليه ، ناظر إليه فى جميع أعماله ، ويسمع جميع أقواله ، ويعلم كل ما يخطر على باله. وأما الحال : فهو ملازمة هذا العلم بالقلب ، بحيث يغلب عليه ولا يغفل عنه. ولا يكفى العلم دون هذه الحال ، فإذا حصل العلم والحال كانت ثمرتهما عند أصحاب اليمين :
الحياء من الله ، وهو يوجب بالضرورة ترك المعاصي والجد فى الطاعات ، وكانت ثمرتهما عند المقربين :
المشاهدة ، التي توجب التعظيم والإجلال لذى الجلال.
وإلى هاتين الثمرتين أشار الرسول صلّى اللّه عليه وسلم بقوله : «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك» ، فقوله :
«أن تعبد الله كأنك تراه» إشارة إلى الثمرة الثانية ، وهى الموجبة للتعظيم ، كمن يشاهد ملكا عظيما فإنه يعظمه إذ ذاك بالضرورة ، وقوله : «فإن لم تكن تراه فإنه يراك» إشارة إلى الثمرة الأولى ، ومعناه : إن لم تكن من أهل المشاهدة - التي هى مقام المقربين - فاعلم أنه يراك ، فكن من أهل الحياء الذي هو مقام أصحاب اليمين ، فلما فسر الإحسان أول مرة بالمقام الأعلى ، ورأى أن كثيرا من الناس قد يعجزون عنه ، تنزل منه إلى المقام الآخر.
واعلم أن المراقبة لا تستقيم حتى تتقدم قبلها المشارطة والمرابطة ، ويتأخر عنها المحاسبة والمعاتبة ، فأما المشارطة فهى اشتراط العبد على نفسه التزام الطاعة ، وترك المعاصي ، وأما المرابطة فهى معاهدة العبد لربه على ذلك ، ثم بعد المشارطة والمرابطة فى أول الأمر تكون المراقبة ... إلخ.(1/460)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 461
وبعد ذلك يحاسب العبد نفسه على ما اشترطه وعاهد عليه ، فإن وجد نفسه قد وفّى بما عاهد عليه الله يحمد الله ، وإن وجد نفسه قد حل عقد المشارطة ونقض عهد المراقبة ، عاقب النفس عقابا شديدا بزجرها عن العودة إلى مثل ذلك ، ثم عاد إلى المشارطة والمرابطة ، وحافظ على المراقبة ، ثم اختبر بالمحاسبة ، وهكذا يكون إلى أن يلقى الله تعالى. انتهى كلامه ، وهو مقتبس من الإحياء. والله تعالى أعلم.
ثم شرع تعالى فى الكلام على حفظ الأموال ، وبدأ بأموال اليتامى ، اعتناء بهم لضعفهم ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 2]
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2)
قلت : اليتيم : من فقد أباه ، ولا يقال فيه اليتيم عرفا إلا قبل البلوغ ، وهو هنا مجاز ، أي : من كان يتيما ، والحوب :
الإثم ، ويقال فيه : حوبا ، بالضم والفتح ، مع الواو والألف ، مصدر حاب حوبا وحوبا وحابا.
يقول الحق جل جلاله : وَآتُوا أي : أعطوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ إذا بلغوا ، وأنس منهم الرشد ، وسمّاهم يتامى بعد البلوغ اتساعا لقرب عهدهم بالصغر ، حثا على أن يدفع إليهم أموالهم أول بلوغهم ، قبل أن يزول عنهم هذا الاسم إذا أنس فيهم الرشد ، ويدل على هذا ما قيل فى سبب نزول الآية ، وهو أن رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له ، فلما بلغ طلب مال أبيه ، فمنعه ، فنزلت الآية ، فلما سمعها العم قال : أطعنا الله ورسوله ، ونعوذ بالله من الحوب الكبير. وقيل : إن العرب كانت لا تورّث الصغار مع الكبار ، فأمروا أن يورثوهم ، وعلى هذا يكون اليتيم على حقيقته ، فعلى الأول : الخطاب للأوصياء ، وعلى الثاني : للعرب التي كانت لا تورث الصغار.
ثم قال : وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ أي : لا تتبدلوا الحرام من أموالهم بالحلال من أموالكم ، أو : لا تأخذوا الرفيع من أموالهم وتعطوا الخبيث مكانها من أموالكم. كان بعضهم يبدل الشاة السمينة من مال اليتيم بالمهزولة من ماله ، والدرهم الطيب بالزائف. وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ مضموما إِلى أَمْوالِكُمْ فتنفقونها معا ، مع أن اليتيم لا يأكل كالكبير ، إلا إذا كان المنفق قدّر أكله ، أو لمصلحة. إِنَّهُ أي : الأكل ، كانَ حُوباً كَبِيراً أي : إثما عظيما.
الإشارة : أمر الحق جل جلاله أغنياء القلوب ، وهم أكابر الأولياء الراسخون فى علم الغيوب ، أن يمنحوا من تعلق بهم من الفقراء والضعفاء ، من الغنى بالله الذي منحهم الله ، حتى لا يلتفتوا إلى سواه ، وأن يقبلوا كل من أتى إليهم من العباد ، سواء كان من أهل المحبة والوداد ، أو من أهل المخالفة والعناد ، ولا يتبدلوا الخبيث بالطيب ، بحيث(1/461)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 462
يقبلون من وجدوه طيب الأخلاق ، ويردون من وجدوه خبيث الأخلاق ، فإن هذا ليس من شأن أهل التربية النبوية ، بل من شأنهم أن يقبلوا الناس على السوية ، ويقلبوا فيهم الأعيان ، فيقلبون العاصي طائعا ، والكافر مؤمنا ، والغافل ذاكرا ، والشحيح سخيا ، والخبيث طيبا ، والمسيء محسنا ، والجاهل عارفا ، وهكذا لما عندهم من الإكسير ، وهى الخمرة الأزلية ، أي : التي من شأنها أن تقلب الأعيان ، كما قال ابن الفارض رضي اللّه عنه فى وصفها :
تهذب أخلاق النّدامى فيهتدى بها لطريق العزم من لا له عزم
ويكرم من لم يعرف الجود كفّه ويحلم عند الغيظ من لا له حلم
وقوله : وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ يعنى : حتى تتحققوا بوصول الغنى إلى قلوبهم ، فإن تحققتم فخذوا ما بذلوا لكم من أموالهم. والله تعالى أعلم.
ولمّا كان الأولياء ، إذا كانت تحتهم يتيمة لها مال ، وخافوا أن يدخل معهم أجنبى ، تزوجها أو زوجوها من أبنائهم ، حرصا على أكل مالها ، ولا يقسطون لها فى صداقها ، وربما أساءوا عشرتها انتظارا لموتها ، فنهاهم الله عن ذلك بقوله :
[سورة النساء (4) : آية 3]
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3)
قلت : «ما» من شأنها أن تقع على ما لا يعقل ، وهنا وقعت على النساء لقلة عقلهن حتى التحقن بمن لا يعقل «1» و(مثنى وثلاث ورباع) أحوال من (ما) ممنوعة من الصرف للوصف والعدل ، أي : اثنتين اثنتين ، وثلاثا ثلاثا ، وأربعا أربعا.
يقول الحق جل جلاله : وَإِنْ خِفْتُمْ يا معشر الأولياء ألّا تعدلوا فِي الْيَتامى التي تحت حجركم إذا تزوجتم بهن طلبا لمالهن ، مع قلة جمالهن ، فتهجروهن أو تسيئوا عشرتهن ، فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ من غيرهن ، أو : وإن خفتم ألا تقسطوا فى صداقهن إذا أعجبنكم لمالهنّ - الذي بيدكم - وجمالهن ، فانكحوا غيرهن ، ولا تنكحوهن إلا إذا أعطيتموهن صداق أمثالهن.
___________
(1) قوله : (من شأنها أن تقع على ما لا يعقل) ، فيه نظر ، فإن (ما) تقع على العاقل وغير العاقل ، قال تعالى عن الصالحين : «إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم» (سورة ص آية 24) وغير ذلك من آيات كثيرة ، بل إن قول الله تعالى : «فانكحوا ما طاب لكم من النساء ، نص فى أن «ما» تقع على العاقل.
أما قوله : [حتى التحقن بمن لا يعقل ] فينقضه الكثير من الآيات والأحاديث ، قال تعالى : «لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض» (آل عمران 195) وقال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : «النساء شقائق الرجال» وللمفسرين فى الآية توجيهات أخر ، أولى من توجيه شيخنا ابن عجيبة ، منها : أن «ما» فى الآية موصولة أو موصوفة. راجع (تفسير : القرطبي - ابن عطيه - الآلولسى).(1/462)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 463
قالت عائشة - رضى الله عنها - : (هى اليتيمة تكون فى حجر وليها ، فيرغب فى مالها وجمالها ، ويريد أن ينكحها بأدنى صداقها ، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن فى إكمال الصداق ، وأمروا أن ينكحوا ما سواهن من النساء.). رواه البخاري.
وقال ابن عباس رضي اللّه عنه : - (إن الرجل منهم كان يتزوج العشرة وأكثر - يعنى قبل التحريم - فإذا ضاق ماله أخذ من مال يتيمه) ، فقال لهم : إن خفتم ألا تقسطوا فى اليتامى - أي : فى أموالهن - فانكحوا ما طاب لكم من غيرهن (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ أي : اثنتين اثنتين لكل واحد ، أو ثلاثا ثلاثا ، أو أربعا أربعا ، ولا تزيدوا ، فمنع ما كان فى الجاهلية من الزيادة على الأربع ، وهو مجمع عليه بنص الآية ، ولا عبرة بمن جوّز تسعا لظاهر الآية لأن المراد التخيير بين تلك الأعداد ، لا الجمع ، ولو أراد الجمع لقال تسعا ، ولم يعدل عن ذلك إلى ما هو أطول منه وأقل بيانا.
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا بين الاثنتين أو الثلاث أو الأربع ، فاقتصروا على واحدة ، أو على ما ملكت أيمانكم من قليل أو كثير إذ لا يجب العدل بينهن ، ذلِكَ الاقتصار على الواحدة أَدْنى أي : أقرب أَلَّا تَعُولُوا أي :
تجوروا أو تميلوا ، أو ألا تجاوزوا ما فرض عليكم من العدل ، أو أدنى ألا يكثر عيالكم فتفتقروا ، وهى لغة حمير. والله تعالى أعلم.
الإشارة : اعلم أن الحق تعالى جعل أولياءه أصنافا عديدة فمنهم من غلب عليه فيض العلوم ، ومنهم من غلب عليه هجوم الأحوال ، ومنهم من غلب عليه تحقيق المقامات. قال الشيخ أبو العباس المرسى رضي اللّه عنه : كان الجنيد رضي اللّه عنه قطبا فى العلوم ، وكان أبو يزيد رضي اللّه عنه قطبا فى الأحوال ، وكان سهل بن عبد الله قطبا فى المقامات. ه. أي : كل واحد غلب عليه واحد من ذلك ، مع مشاركته للآخر فى الباقي ، فينبغى لكل واحد أن يخوض فى فنّه الذي خصّه الله به ولا يتصدى لغيره. فقال لهم الحق - جل جلاله - من طريق الإشارة : فإن خفتم يا من غلبت عليهم الأحوال أو المقامات ، ألّا تقسطوا فى يتامى العلوم التي اختص بها غيركم ، فانكحوا ما طاب لكم من ثيبات الأحوال وأبكار الحقائق ، كثيرة أو قليلة ، فإن خفتم أن تغلبكم الأحوال ، أو التنزل فى المقامات ، ولا تعدلوا فيها ، فالزموا حالة واحدة ومقاما واحدا ، وهو المقام الذي ملكه وتحقق به ، فإنه أقرب ألا ينحرف عن الاعتدال لأن كثرة الأحوال تضر بالمريد كما هو مقرر فى فنه. والله تعالى أعلم.
ولمّا أمر بالنكاح أمر ببذل الصداق ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 4]
وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4)(1/463)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 464
قلت : نِحْلَةً : مصدر من آتوهن ، لأنها فى معنى الإيتاء ، يقال : نحله كذا نحلة ونحلا إذا أعطاه إياه عن طيب نفس بلا توقع عوض ولا حكم حاكم ، والضمير فى «منه» يعود على الصداق أو على «الإيتاء» ، و(نفسا) تمييز ، و(هنيئا مريئا) : صفتان لمصدر محذوف ، أي : أكلا هنيئا ، وهو من هنؤ الطعام ومرؤ ، إذا كان سائغا لا تنغيص فيه ، وقيل الهنيء : ما يلذه الإنسان ، والمريء : ما تحمد عاقبته.
يقول الحق جل جلاله للأزواج : وَآتُوا النِّساءَ التي تزوجتموهن صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً أي : عطية مبتلة «1» ، لا مطل فيها ولا ظلم ، فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ من الصداق ، وأعطينه لكم عن طيب أنفسهن فَكُلُوهُ هَنِيئاً لاتبعة عليكم فيه ، مَرِيئاً : سائغا حلالا لا شبهة فيه ، روى أن ناسا كانوا يتحرّجون أن يقبل أحدهم من زوجته شيئا ، فنزلت. وقيل : الخطاب للأولياء ، لأن بعضهم كان يأكل صداق محجورته ، فأمروا أن يعطوهن صداقهن ، إلا إن أعطينهم شيئا عن طيب أنفسهن ، والله تعالى أعلم.
الإشارة : وآتوا النفوس حقوقها من الراحة وقوت البشرية ، نحلة ، ولا تكلفوها فوق طاقتها ، فإن طبن لكم عن شىء من الأعمال أو الأحوال ، بانشراح صدر ونشاط ، فكلوه هنيئا مريئا ، فإنّ العبادة مع النشاط والفرح بالله أعظم وأقرب للدوام ، وهذا فى حق النفوس المطمئنة ، وأما النفوس الأمارة فلا يناسبها إلا قهرية المجاهدة مع السياسة لئلا تمل ، أو تقول : من أقامه الحق تعالى فى حال من الأحوال أو مقام من المقامات فليلزمه ، وليقم حيث أقامه الحق ، ويعطيه حقه ، فإن طاب وقته لحال من الأحوال فليأكله هنيئا مريئا. فالفقير ابن وقته ، ينظر ما يبرز له فيه من رزقه ، فكل ما وجد فيه قلبه فهو رزقه ، فليبادر إلى أكله لئلا يفوته رزقه منه. والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.
ثم نهى الأوصياء عن تمكين اليتامى من أموالهم قبل الرشد ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 5]
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5)
قلت : «قيما» : «2» مصدر قام قياما وقيما ، وأصله : قواما ، قلبت الواو ياء.
___________
(1) البتل : القطع
(2) قرأ نافع وابن عامر «قيما» وقرأ الجمهور «قياما».(1/464)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 465
يقول الحق جل جلاله للأوصياء : وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ التي تحت حضانتكم أَمْوالَكُمُ أي : أموالهم التي فى أيديكم ، وإنما أضاف أموال اليتامى لهم حثا على حفظها وتنميتها كأنها مال من أموالهم ، أي : ولا تمكنوا السفهاء من أموالهم التي جعلها الله فى أيديكم قِياماً لمعاشهم ، تقومون بها عليهم ، ولكن احفظوها ، واتجروا فيها ، واجعلوا رزقهم وكسوتهم فيها باعتبار العادة ، فإن طلبوها منكم فعدوهم وعدا جميلا ، وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً أي : كلاما لينا بأن يقول له : حتى تكبر وترشد لتصلح للتصرف فيها. وشبه ذلك. وإنما قال : (و ارزقوهم فيها) دون «منها» لأن «فيها» يقتضى بقاءها بالتنمية والتجارة حتى تكون محلا للرزق والكسوة دون «منها» ، وقيل :
الخطاب للأزواج ، نهاهم أن يعمدوا إلى ما خولهم اللّه من المال فيعطوه إلى نسائهم وأولادهم ، ثم ينظرون إلى أيديهم. وإنما سمّاهن سفهاء استخفافا بعقلهن ، كما عبر عنهن ب - «ما» التي لغير العاقل «1».
وروى أبو أمامة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال : «إنما خلقت النار للسفهاء - قالها ثلاثا - ألا وإن السفهاء النساء إلا امرأة أطاعت قيّمها «2»». وقالت امرأة : يا رسول الله : سميتنا السفهاء! فقال : «الله تعالى سماكن فى كتابه» «3» ، يشير إلى هذه الآية. وقال أبو موسى الأشعري رضي اللّه عنه : (ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم : رجل كانت تحته امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها «4» ، ورجل كان له على رجل دين فلم يشهد عليه ، ورجل أعطى سفيها ماله ، وقد قال الله تعالى : وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ.) قلت : إنما منعوا من إجابة الدعاء لتفريطهم فى مراسم الشريعة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : لا ينبغى للشيخ أن يطلع المريد على أسرار التوحيد ، وهى أسرار المعاني التي جعلها الله تعالى قائمة بالأشياء ، حتى يكمل عقله ، ويتحقق أدبه ، ويظهر صدقه ، فإذا استعجلها قبل وقتها فليعده وعدا قريبا ، وليقل له قولا معروفا ، فكم من مريد استعجل الفتح قبل إبانه فعوقب بحرمانه ، وكم من مريد اطلع على أسرار الحقيقة قبل كمال خدمته فطرد أو قتل ، ووقتها هو حين تبرز معه فتأخذه الحيرة ، اللهم إلا أن يراه الشيخ أهلا لحملها لرجحان عقله وكمال صدقه ، فيمكنه منها قبل أن تبرز معه ، ثم يربيه فيها ، وهذا الذي شهدناه من أشياخنا لشدة كرمهم - رضى الله عنهم وأرضاهم - ورزقنا حسن الأدب معهم ، فأطلق الحق تعالى الأموال بطريق الإشارة على أسرار المعاني ، وأمر الشيوخ أن يرزقوهم منها شيئا فشيئا بالتدريب والتدريج ، وأن يكسوهم بالشرائع ، ويحتمل أن تبقى الأموال
___________
(1) راجع التعليق على تفسير الآية الثالثة من سورة النساء.
(2) ذكره بنحوه ابن كثير فى تفسيره ، وعزاه لابن أبى حاتم.
(3) ذكره الآلوسى فى تفسيره من رواية مجاهد وابن عمر عن أنس. وقال الطبرسي : (لى فى صحته شك). [.....]
(4) يحمل سوء الخلق هنا على ما يطعن فى العفة والحياء. وإلّا فظاهر هذا الكلام مخالف لقول النبي صلّى اللّه عليه وسلم : «لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضى منها آخر»(1/465)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 466
على ظاهرها ، ويكون أمر الشيوخ أن يمنعوا المريدين من أخذ الأموال قبل التمكين. أشار إلى هذا الورتجبي ، فانظره.
ثم ذكر الحق تعالى وقت دفع أموال اليتامى لهم ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 6]
وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6)
قلت : الابتلاء : الاختبار ، و«آنس : » أبصر. والرشد هو كمال العقل بحيث يعرف مصالح نفسه وتدبير ماله من غير تبذير ولا إفساد. وإِسْرافاً وَبِداراً : حالان من «الواو» ، أو مفعولان لأجله ، و(أن يكبروا) مفعول ببدارا.
يقول الحق جل جلاله للأوصياء : واختبروا الْيَتامى قبل البلوغ بتتبع أحوالهم فى تصرفاتهم ، بأن يدفع لهم الدرهم والدرهمان ، فإن ظهر عليهم حسن التصرف زادهم قليلا قليلا ، وإن ظهر عليهم التبذير كفّ عنهم المال ، حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ ، وهو البلوغ بعلامته ، فَإِنْ آنَسْتُمْ أي : أبصرتم مِنْهُمْ رُشْداً ، وهو المعرفة بمصالحه وتدبير ماله ، وإن لم يكن من أهل الدين - واشترطه قوم ، فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ حينئذ أَمْوالَهُمْ من غير تأخير. وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا أي : لا تأكلوها مسرفين ومبادرين كبرهم فتزول من يدكم ، أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم ، وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ عن أكلها فى أجرة قيامه بها ، وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ بقدر حاجته وأجر سعيه ، وعنه صلّى اللّه عليه وسلم : أنّ رجلا قال له : إنّ فى حجرى يتيما أفآكل من ماله؟
قال : «بالمعروف ، غير متأثّل «1» مالا ولا واق مالك بماله».
فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا فى قبضها منكم عَلَيْهِمْ ، فإنه أنفى للتهمة وأبعد من الخصومة ، وهو ندب ، وقيل : فرض ، فلا يصدق فى الدفع إلا ببينة ، وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أي : محاسبا ، فلا تخالفوا ما أمرتم به ، ولا تجاوزوا ما حدّ لكم.
وإنما قال : «حسيبا» ولم يقل : «شهيدا» ، مع مناسبته ، تهديدا للأوصياء لئلا يكتموا شيئا من مال اليتامى ، فإذا علموا أن الله يحاسبهم على النقير والقطمير ، ويعاقبهم عليه ، انزجروا عن الكتمان. والله تعالى أعلم.
___________
(1) أي : غير جامع.(1/466)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 467
الإشارة : ينبغى للشيخ أن يختبر المريد فى معرفته وتحقيق بغيته ، فإذا بلغ مبلغ الرجال وتحققت فيه أوصاف الكمال ، بحيث تحقق فناؤه ، وكمل بقاؤه ، وتمت معرفته ، فيكون تصرفه كله بالله ومن الله وإلى الله ، يفهم عن الله فى كل شىء ، ويأخذ النصيب من كل شىء ، ولا يأخذ من نصيبه شيئا ، قد تحلّى بحلية الورع ، وزال عنه الجزع والطمع ، وزال عن قلبه خوف الخلق وهمّ الرزق ، واكتفى بنظر الملك الحق ، يأخذ الحقيقة من معدنها ، والشريعة من موضعها ، فإذا تحققت فيه هذه الأمور ، وأنس رشده ، فليطلق له التصرف فى نفسه ، وليأمره بتربية غيره ، إن رآه أهلا لذلك ، ولا ينبغى أن يحجر عليه بعد ظهور رشده ، ولا يسرف عليه فى الخدمة قبل رشده ، مخافة أن يزول من يده.
فإن كان غنيا عن خدمته فليستعفف عنه ، وليجعل تربيته لله اقتداء بأنبياء الله. قال تعالى : قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ، وإن كان محتاجا إليها فليستخدمه بالمعروف ، ولا يكلفه ما يشق عليه ، فإذا دفع إليه السر ، وتمكن منه ، وأمره بالتربية أو التذكير فليشهد له بذلك ، ويوصى بخلافته عنه ، كى تطمئن القلوب بالأخذ عنه ، (و كفى بالله وليا وكفى به نصيرا).
ولما أمر الحق تعالى بحفظ أموال اليتامى أمر بحفظ أموال النساء ، وذكرهن بعدهم لمشاركتّهن لهم فى الضعف ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 7]
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7)
قلت : جملة مِمَّا قَلَّ .. إلخ ، بدل (مما ترك) ، و«نصيبا» : مصدر مؤكد كقوله : فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ أي :
نصب لهم نصيبا مقطوعا ، أو حال ، أو على الاختصاص ، أعنى : نصيبا مقطوعا.
يقول الحق جل جلاله : وإذا مات ميت وترك مالا فللرجال نصيب مما ترك آباؤهم وأقاربهم ، وللنساء نصيب مما ترك والدهن وأقاربهن كالإخوة والأخوات ، مما ترك ذلك الميت قل أو كثر ، (نصيبا مفروضا) واجبا محتما.
روى أنّ أوس بن ثابت الأنصارىّ توفّى ، وترك امرأة يقال لها : (أم كحّة) وثلاث بنات ، فأخذ ابنا عمّ الميت المال ، ولم يعطيا المرأة ولا بناته شيئا ، وكان أهل الجاهليّة لا يورّثون النّساء ولا الصغير ولو كان ذكرا ، ويقولون :
إنما يرث من يحارب ويذب عن الموروث ، فجاءت أم كحة إلى رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم وهو فى مسجد الفضيخ ، فقالت : (1/467)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 468
يا رسول الله إن أوس بن ثابت مات ، وترك بنات ثلاثا ، وأنا امرأته ، وليس عندى ما أنفقه عليهنّ ، وقد ترك أبوهن مالا حسنا ، وهو عند سويد وعرفجة ، فدعاهما النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، فقالا : يا رسول اللّه ولدها لا يركب فرسا ، ولا يحمل سلاحا ، لا ينكأ عدوّا ، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : «انصرفوا حتى أرى ما يحدث اللّه تعالى» ، فانصرفوا. فنزلت الآية. فأثبت الله لهن فى الآية حقا ، ولم يبيّن كم هو - فأرسل النبي صلّى اللّه عليه وسلم إلى سويد وعرفجة : «لا تفرقا من مال أوس شيئا ، فإنّ اللّه تعالى جعل لبناته نصيبا ، ولم يبيّن كم هو حتى أنظر ما ينزل اللّه تعالى» ، فأنزل الله تعالى بعد : يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ .. إلى قوله ... الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. فأرسل إليهما : «أن ادفعا إلى أم كحة الثّمن ، وإلى بناته الثّلثين ، ولكما باقى المال».
الإشارة : كما جعل الله للنساء نصيبا من الميراث الحسى جعل لهن نصيبا من الميراث المعنوي ، وهو السر ، إن صحبت أهل السر ، وكان لها أبو الروحانية ، وهو الشيخ ، فللرجال نصيب مما ترك لهم أشياخهم من سر الولاية ، وللنساء كذلك على قدر ما سبق فى القسمة الأزلية ، قليلة كانت أو كثيرة ، نصيبا مفروضا معينا فى علم الله وقدره ، وقد سواهن الله تعالى مع الرجال فى آية السير ، فقال : إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ إلى آخر الآية ، فمن صار منهن مع الرجال أدرك ما أدركوا. وبالله التوفيق.
ثم أمر الورثة بالإحسان إلى من حضر معهم القسمة ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 8]
وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8)
قلت : الضمير فى (منه) : يعود على المقسوم المفهوم من القسمة.
يقول الحق جل جلاله : وَإِذا حَضَرَ معكم فى قسمة التركة ذوو القرابة ممّن لا يرث ، كالأخوال والخالات والعمات ، وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ ، فَارْزُقُوهُمْ أي : فأعطوهم شيئا من المال المقسوم تطييبا لقلوبهم.
فإن كان المال لغيركم ، أو كان الورثة غير بالغين ، فقولوا لهم قَوْلًا مَعْرُوفاً ، بأن تعلموهم أن المال لغيرنا ، ولو كان لنا لأعطيناكم ، والله يرزقنا وإياكم.
واختلف فى هذا الأمر ، هل للندب - وهو المشهور - أو للوجوب ونسخ بآية المواريث؟ وقيل : لم ينسخ ، وهى مما تهاون الناس بها. والله تعالى أعلم.(1/468)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 469
الإشارة : يقول الحق جل جلاله لخواص أحبابه : إذا دارت الكؤوس بخمرة الملك القدوس ، وتعاطيتم قسمتها بين أرواحكم حتى امتلأت جميع أشباحكم ، وروت منها عروقكم ، وحضر معكم من ليس من أبناء جنسكم ، ممن لا يحل شرب خمرتكم ، فإن كان من أهل المحبة والوداد ، أو من له بكم قرابة واستناد ، فلا تحرموه من شراب خمرتكم ، ولا من نفحات نسمتكم ، فإنكم قوم لا يشقى جليسكم ، فارزقوه من ثمار علومكم ، واسقوه من شراب خمرتكم ، وذكّروه بالله ، وقولوا له ما يدله على الله ، ويوصله إلى حضرة الله ، وهذا هو القول المعروف ، الذي هو بالنصح موصوف.
روى أن أبا هريرة رضي اللّه عنه نادى فى سوق المدينة : يا معشر التجار ، اذهبوا إلى المسجد ، فإنّ تركة محمد تقسم فيه ، لتأخذوا حقكم منها مع الناس قبل أن تنفد ، فذهب التجّار إلى المسجد النبوي ، فوجدوه معمورا بالناس ، بعضهم يصلى ، وبعضهم يتلو ، وبعضهم يذكر ، وبعضهم يعلم العلم ، فقالوا : يا أبا هريرة ، ليس هنا ما ذكرت من قسم التركة! فقال لهم : (هذه تركة محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، لا ما أنتم عليه من جمع الأموال) أو كما قال رضي اللّه عنه.
ثم حثّ الأوصياء على الرفق بأولاد الناس ، الذي هم فى حجرهم ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 9]
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9)
قلت : «لَوْ» - هنا - شرطية ، تخلص للاستقبال ، وجوابها : (خافُوا) ، وحذف مفعول لْيَخْشَ للعموم ، فيصدق بخشية العذاب وخشية العتاب وخشية البعد عن الأحباب ، على حسب حال المخاطبين بهذه الخشية.
يقول الحق جل جلاله للأوصياء الذين فى ولايتهم أولاد الناس : وَلْيَخْشَ الذين يتولون يتامى الناس ، فليحفظوا ما لهم ، وليحسنوا تنميته لهم ولا يضيعوه ، وليخافوا عليهم الضيعة ، كما يخافون على أولادهم ، فإنهم لو ماتوا وتركوا ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ ، فكما يخافون على أولادهم بعدهم كذلك يخافون على أولاد الناس ، فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ فى شأنهم ، وليحفظوا عليهم أموالهم ، وليرفقوا بهم ويلاطفوهم فى الكلام ، كما يحبون أن يلاطف بأولادهم ، وَلْيَقُولُوا لهم قَوْلًا سَدِيداً أي : عدلا صوابا بالشفقة وحسن الأدب.
وقيل : الخطاب لمن حضر المريض عند الإيصاء فيقولون له : قدم لنفسك ، أعتق ، تصدق ، أعط كذا ، حتى يستغرق ماله ، فنهاهم الحق - تعالى - عن ذلك ، وقال لهم : كما تخافون الضيعة على أولادكم بعدكم خافوا على أولاد الناس ، فليتقوا الله فى أمر المريض بإعطاء ماله كله ، وَلْيَقُولُوا له قَوْلًا سَدِيداً : عدلا ، وهو الثلث ، وقيل :
للمؤمنين كلهم عند موتهم ، بأن ينظروا للورثة ، فلا يسرفوا فى الوصية بمجاوزة الثلث. والله تعالى أعلم.(1/469)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 470
الإشارة : أمر الحق - جل جلاله - أهل التربية النبوية إذا خافوا على أولادهم الروحانيين أن ينقطعوا بعد موتهم ، أن يمدوهم بالمدد الأبهر ، ويدلوهم على الغنى الأكبر ، حتى يتركوهم أغنياء بالله ، قد اكتفوا عن كل أحد سواه ، مخافة أن يسقطوا بعد موتهم فى يد من يلعب بهم ، فليتقوا الله فى شأنهم ، وليدلوهم على ربهم ، وهو القول السديد.
وينسحب حكمها على أولاد البشرية ، فمن خاف على أولاده بعد موته ، فليتق الله وليكثر من طاعة الله ، وليحسن إلى عباد الله ، فى أشباحهم وأرواحهم أما أشباحهم فيطعمهم مما خوله الله ، ففى بعض الأثر عنه عليه الصلاة والسلام : «ما أحسن عبد الصّدقة فى ماله إلا أحسن اللّه الخلافة على تركته». وأما الإحسان إلى أرواحهم ، فيدلهم على الله ، ويرشدهم إلى طاعة الله ، ويعلمهم أحكام دين الله. فمن فعل هذا تولى الله حفظ ذريته من بعده ، فيعيشون فى حفظ ورعاية وعز ونصر ، كما هو مشاهد فى أولاد الصالحين ، قال تعالى : وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ وتذكر قوله تعالى : وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً.
وقال القشيري فى هذه الآية : إن الذي ينبغى للمسلم أن يدخر لعياله التقوى والصلاح ، لا المال ، لأنه لم يقل فليجمعوا لهم المال ، وليكثروا لهم العقار والأسباب ، وليخلفوا العبيد والأثاث ، بل قال : فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ فإنه يتولى الصالحين. ه المراد منه.
ثم ذكر الحق تعالى وعيد من يأكل مال اليتيم ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 10]
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10)
قلت : (ظلما) : تمييز ، أو مفعول لأجله.
يقول الحق جل جلاله : إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً من غير موجب شرعى ، إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً ، أي : ما يجر إلى النار ويؤول إليها.
وعن أبى برزة أنه صلّى اللّه عليه وسلم قال : «يبعث الله أقواما من قبورهم تتأجج أفواههم نارا» ، فقيل : من هم يا رسول الله؟
قال : «ألم تر أن الله يقول : إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً».
أي : يحترقون فى نار ، وأي نار!! والصّلى : هو الشيّ ، تقول : صليت الشيء : شويته ، وأصليته وصليته ، وذكر البطون مبالغة وتهجين لحالهم.(1/470)
البحر المديد ، ج 1 ، ص : 471
الإشارة : حذّر الحق - جل جلاله - أهل الدعوى ، الذين نصبوا أنفسهم للشيخوخة ، وادعوا مقام التربية ، مع كونهم جهالا بالله ، محجوبين عن شهود أسرار التوحيد ، أن يأخذوا أموال الضعفاء الذين تعلقوا بهم لأنهم إنما يدفعون لهم ذلك طمعا فى الوصول إلى الله. وهم ليسوا أهلا لذلك ، فإذا أكلوا ذلك فإنما يأكلون فى بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ، وهو تكثيف الحجاب ، وزيادة العنت والتعب ، إن أقبل عليهم الناس فرحوا واستبشروا ، وإن أدبروا عنهم حزنوا وغضبوا ، فأىّ عذاب أعظم من هذا!! فتحصّل من أول الآية إلى آخرها ، أن الحق - تعالى - أمر أهل الغنى الأكبر ، وهم الذين أهّلهم للتربية النبوية ، بأن سلكوا الطريق وأشرقت عليهم شموس التحقيق على يد شيخ كامل ، بالاستعفاف ، ولا يأخذوا إلّا قدر الحاجة ، من أموال من انتسب إليهم ، وسد الباب لأهل الدعوى ، لأنه من أكل أموال الناس بالباطل ، لأنه يعطى على وجه لم يوجد فى المعطى إليه ، إلا إذا كان على وجه الصدقة المحضة ، مع أنه قد يكون غير مستحق لها. والله تعالى أعلم.
ثم بيّن الحق تعالى قسمة التركة ، فقال :
[سورة النساء (4) : آية 11]
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11)
يقول الحق جل جلاله : (يوصيكم الله) أي : يأمركم ويعهد إليكم ، فِي أَوْلادِكُمْ ، أي : فى بيان ميراثهم ، ثم فصّله فقال : لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، أي يعد كل ذكر بأنثيين ، فإذا ترك ابنا وبنتا ، كانت من ثلاثة ، للذكر سهمان وللبنت سهم ، وإذا ترك ابنا وبنتين فله قسمتان ، ولكل واحدة قسمة ، وهكذا ، قال ابن جزى : هذه الآية نزلت بسبب سعد بن الربيع ، وقيل : بسبب جابر بن عبد الله ، إذ عاده رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم فى مرضه ورفعت ما كان فى الجاهلية من ترك توريث النساء والأطفال. وقيل : نسخت الوصية للوالدين والأقربين.
وإنما قال : «يوصيكم» بلفظ الفعل الدائم ، ولم يقل : أوصاكم ، تنبيها على نسخ ما مضى ، والشروع فى حكم آخر ، وإنما قال : (يوصيكم) بالاسم الظاهر ، أي : (الله) ولم يقل : نوصيكم ، لأنه أراد تعظيم الوصية ، فجاء بالاسم الذي هو أعظم الأسماء ، وإنما قال : (فى أولادكم) ولم يقل : فى أبنائكم لأن الابن يقع على الابن من الرضاعة ، وعلى ابن البنت ، وعلى الابن المتبنى ، وليسوا من الورثة ، فإن قيل : هلّا قال : للأنثيين مثل حظ الذّكر ، أو للأنثى(1/471)