الإيضاح والبيان
في الرد على رسالة العبيكان
بقلم
عبدالرحمن بن عبدالعزيز الجفن
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله واله وبعد
لا أظنك أخي القارئ بعد البحث المضني ستجد من أهل السنة والجماعة من ألّف في علاج السحر بالسحر والشعوذة كما فعل الشيخ عبدالمحسن العبيكان في رسالته الصارم المشهور .. وقد فرح السحرة والمشعوذون بهذا الصارم حتى جالدوا به موحدي الإسلام , وقد ذكروا أنهم وجدوا من هو أهدى من هؤلاء المتشددين سبيلا يفتيهم بجواز أن تشرع أبواب السحر والشعوذة , باسم حل السحر بالسحر ضرورة .!!
ليست القضية في انتشار السحر بين أطياف الجهلة والرعاع فإن ذلك ليس بمستغرب , إنما المستغرب أن تكون الفتوى الشرعية من بعض المنسوبين إلى العلم الشرعي هي الداعم الأكبر , بل والمناضل الأول ضد من يمنع من إتيان السحرة , في مخالفة صريحة لسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام .
من يتحمل مسؤلية هذا الزخم الهائل من إقبال كثير من المنتسبين للإسلام على السحرة والمشعوذين والكهنة والعرافين وغيرهم عبثا لا حاجة ولا حتى ضرورة ..؟
وفي الظن أن طارح مثل هذا الموضوع إما أنه لا يفقه ما يحتاجه الناس من ضرورات القضايا العقيدة أو الفقهية التي هم بأمس الحاجة لمعرفتها , وقد أشغلهم بغيرها , أو أن المسألة باتت تعصبا للهوى , وشهوة خفية لا أكثر .
فإن أحسنّا الظن قلنا إن بعض الصحف والقنوات احتاجت لسد فراغ بعض الأماكن , أو أنها كسدت ماليا و إعلاميا , فاضطرت إلى أن تبحث عن غرائب الأقوال والأشخاص .. لتزيد من حجمها ومتابعيها .!!(1/1)
على كل حال موضوعنا هو الحديث عن خطأ الشيخ عبدالمحسن العبيكان في تصويره لمسألة حكم الشرع في حل السحر بسحر , وقد حاول فيها أن يلوي أعناق النصوص , ويلبس بأقوال الأئمة إما قصدا أو عن سوء فهم , وقد اطلعت على رسالته تلك في موقعه وسَمَها بالصارم المشهور على من أنكر حل السحر بسحر عن المسحور , فأنت تراه سمّى رسالته بهذا الاسم المموه بالصرامة مع استنكاره أن يصدر من البعض التعنيف على المخالف وعدم احترم الرأي الآخر أو الاجتهاد .
فهاهو سل صارمه على علماء الأمة بمجرد إنكارهم لقوله الشاذ الباطل , فهل هذا من احترام الرأي المخالف , وقد وصف من ينكر عليه قوله هذا بالسفاهة وقلة العلم .؟
ومع ذلك يقول إن رسالته طرح مؤصل قوبلت بالإعجاب والتأييد ..!
أي تأصيل في إباحة السحر الشعوذة وفتح باب الشركيات بوصفة إسلامية ؟!
أليسوا اليوم هم بأشد الحاجة – بعد أن حورب قولهم - لأن يصفوا هذا السحر بـ ( الشعوذة الإسلامية ) ليكون ذلك ادعى للقبول .!
أليس لنا في تاريخ مخرفي الصوفية أسوة حسنة لكي نفهم حقيقة تلك المسميات التي موهوا به على البسطاء , حتى صار المجنون بتلك المسميات من خير أولياء الله عندهم .!!
ولهذا جاءت هذه الوقفات المختصرة لنبين فيها أن العبيكان هدانا الله وإياه للصواب - لم يوفق للقول الصواب في مسألة حل السحر كما سوف نبين من تضارب أقواله , ولم يوفق في توقيت طرح هذه المسألة , بل لم يصب في تأليف رسالة خاصة في مثل هذه القضية الحساسة .
وقد جاءت الوقفات كالتالي :
الوقفة الأولى : في الاعتداد بالخلاف دون النص
الوقفة الثانية : في ضعف العبيكان في عرض المسألة , وفيها :
1 – ضعف أدلته , والجواب عليها .
2 – ضعف تقصيه لأدلة وأقوال مخالفيه .
الوقفة الثالثة : في نقل الإجماع على المنع من التداوي بالشرك والكفر .
الوقفة الرابعة : في نقولات العبيكان لأقوال الأئمة وخلطه في ذلك , وفيها :
1 – تضاربه في نقل قول احمد .(1/2)
2 – خلطه في نقل قول ابن حجر .
3 – التلبيس في نقل كلام ابن القيم .
4 – توجيه ما نقل عن الشيخ ابن عثيمين .
الوقفة الخامسة : في دعوى الضرورة .
الوقفة السادسة : في توجيه كلام سعيد بن المسيب وغلط العبيكان في فهمه له .
الوقفة السابعة : في نقله عن الشيخ الألباني .
الوقفة الثامنة : جواب عن تساؤل العبيكان .
الوقفة التاسعة : تصديق الساحر ضروري لحل السحر
الوقفة العاشرة : تنبيهان .
والحمد لله أولا وأخرا ..
الوقفة الأولى
الاعتداد بالخلاف دون النص
طرح العبيكان في ثنايا رسالته أن هذا القول الذي انتصر له هو قول للحسن وأحمد وابن حجر وغيرهم - مع أنه أخطأ حتى في النقل عنهم كما سوف يأتي إن شاء الله - وقد كانت نقمته على مخالفيه – فيما يظهر - لا لوجود نص لديهم من كتاب أو سنة , بل لأنه ظن أن القول الذي قال به هو عبارة عن مسألة خلافية فلماذا ينكر عليه .!
مع أن الواقع يقول إنه لا يعتمد على الخلاف إلا أحد رجلين :
إما مقلد , وهذا عليه ألا يفتي , إذ الفتوى مع أصحاب النصوص المجتهدين .
أو جاهل , وهذا عليه أن يفقه نفسه قبل أن يناظر غيره .
إذاً مجرد وجود الخلاف ليس مسوغا لأن يقول من شاء ما شاء , وقد رأى الجميع أن بعض الناس عندما تناقشه عن مخالفة ارتكبها قال لك : المسألة خلافية , مع أنه لا يعرف من القائل المخالف ولا دليله ولا أين قال ذلك ؟ فقط مجرد وجود هذه الكلمة سوغ له فعل ما أراد هواه لا ما دلت عليه نصوص الشريعة , وقد تعلق بما أحرج نفسه به .
وإذا كان العبيكان استنكر من بعض الناس تعصبهم لأقوالهم – وقد كان أسبقهم إلى ذلك - فلا أظن أن الاعتداد بالخلاف أقل سوءا وضررا من التعصب للرأي , وإن كان الظاهر أن كلاً من الاعتداد بالخلاف والتعصب لأقوال الرجال منبعهما واحد , وهو ترك الأخذ بالنصوص والالتفات إلى قول فلان أو فلان .
بل ربما الأخذ بالخلاف قد يزيد على التعصب باتباع الهوى .
يقول الشاطبي رحمه الله :(1/3)
وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية , حتى صار الخلاف في المسائل معدودا في حجج الإباحة ، ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد في جواز الفعل على كونه مختلفا فيه بين أهل العلم ، لا بمعنى مراعاة الخلاف فإن له نظرا آخر ، بل في غير ذلك ، فربما وقع الإفتاء في المسألة بالمنع , فيقال : لم تمنع والمسألة مختلف فيها ، فيجعل الخلاف حجة في الجواز لمجرد كونها مختلفا فيها ، لا لدليل يدل على صحة مذهب الجواز ، ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع ، وهو عين الخطأ على الشريعة , حيث جعل ما ليس بمعتمد معتمدا وما ليس بحجة حجة . (1)
وأهل العلم ذكروا أن الخلاف ليس دليلا شرعيا تثبت به الأحكام أو تنسف به الشريعة .
ولا يعني هذا أن العبيكان لم يذكر دليلا على كلامه , بل ذكر لكنه لم يرم به في وجه مخالفه كما فعل بوجود الخلاف , وإن كان ما ذكر من دليل عليه لا له .
وحسب البعض أن يعتقد ثم يستدل , لتصبح المسألة ليا للنصوص واختلاقا للأقوال , وضربا بالحقيقة ونصوصها عرض الحائط , وقد كان الأئمة رحمهم الله أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم يأمرون الناس أن يعرضوا قولهم على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , فإن وافقهما وإلا قالوا : اضربوا بقولنا عرض الحائط .
أما بعض المتأخرين فيقولون خذوا بأقوالنا اضربوا بنصوص الشريعة عرض الحائط إتباعا للهوى .
__________
(1) - الموافقات 4 / 141(1/4)
وقد تُعجز مثل هؤلاء الحيلة فينتحلون بعد ذلك صناعة التلفيق , ليفروا من وصفهم بالخروج عن المألوف وترك منهج الفقهاء في آرائهم ومؤلفاتهم , فيجعلون الاستدلال بأقوال أهل العلم – دون النصوص – عذرا في عدم نبذ قولهم , وقد ينطلي هذا على بعض الناس , ولهذا من أطرف ما قيل في مثل هذا الباب تلفيق بعض الشعراء في الأبيات المشهورة , حيث زعم أن أبا حنيفة أباح النبيذ , والشافعي قال : النبيذ والخمر شيء واحد , فلفق من القولين قولا , نتيجته إباحة الخمر , فقال :
أباح العراقيُّ النبيذ وشربه ... وقال الحرامان المدامة والسكر
وقال الحجازي الشرابان واحد ... فحلت لنا من بين قوليهما الخمر (1)
وقد ذكر العبيكان أن قوله اجتهاد منه , كما ألمح في المقدمة حينما ذكر تعصب الآخرين دون احترامهم للاجتهاد المخالف , وهذا في الحقيقة خلط واضح , وذلك أن الاجتهاد إذا لم يعتمد على دليل صريح ثابت فإنه لا يعد كذلك , ولهذا لا يمكن أن يقال إن أهل البدع والأهواء مجتهدون لمجرد قولهم , إلا إن كان العبيكان يرى أن كل مجتهد مصيب ولو لم يكن معه دليل , فهذه مسألة أخرى محلها في غير هذا الموضع .
والواقع أن قول العبيكان ليس اجتهادا , بل هو مخالف للنصوص الصريحة الثابتة المانعة من النشرة كما في حديث جابر الأتي وغيره .
أما التساهل في الفتيا لمجرد وجود الخلاف فعند البعض باب مفتوح , بل بلغ ببعضهم الإفتاء بخلاف الإجماع بسبب ما عمت به البلوى في نظره , من ذلك ما كتبه بعض المغاربة حول تجويز مخالفة الإجماع في حلق اللحية لعموم البلوى بحلقها , ولأن عرف العامة هو الحلق وقد اعتادوا عليه , فقال :
__________
(1) - تتبع الرخص لعبداللطيف بن عبدالله التويجري ص 23(1/5)
ولما عمت البلوى بحلقها في البلاد المشرقية حتى إن كثيراً من أهل الديانة قلد فيه غيره خوفاً من ضحك العامة منه ، لاعتيادهم حلقها في عرفهم بحثت غاية البحث عن أصل أخرِّج عليه جواز حلقها حتى يكون لبعض الأفاضل مندوحة عن ارتكاب المحرم باتفاق . الخ كلامه .
وهذا القول حكايته تغني عن التدليل على بطلانه ، فهو أقر باتفاق العلماء على حرمة حلق اللحية ، ثم سعى إلى تخريج فاسد ترتب عليه نسف جميع الأوامر النبوية حيث جوز مخالفتها ، لأنها تدل على الندب لا الوجوب كما يدعي ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (1) .
ولعل في قول ابن مفلح رحمه الله ما يكفي لتبيين المقصود , يقول رحمه الله : يحرم التساهل في الفتيا , واستفتاء من عرف بذلك . (2)
الوقفة الثانية
ضعف العبيكان في عرض المسألة
ليس من الأمانة العلمية عند البحث أن يذكر الباحث الرأي من جانب دون دراسة قول المخالفين , ودون استيعاب أدلتهم وتفحص أقوالهم , وليس لمن هذه طريقته من عذر إلا أحد أمرين :
إما أنه غير قادر على استيعاب القول الآخر , وأن تلك الكلمات عن حرية الرأي والخلاف لم تذكر على حقيقتها إلا لاستيعاب قوله هو لا غير , أو أنه على قناعة بقوة قول مخالفه ولهذا سكت عن دراسة تلك الأدلة القوية التي يعلم أنه غير قادر على الإجابة عنها .
لست أقول إن العبيكان لم يذكر بعض أدلة وأقوال المخالف , بل ذكر بعضها لكن كان ذلك بطريقة النقل مع السكوت – في الغالب - عن التعليق عليها .
فكان من العدل والإنصاف وحسن البحث والعرض - والذي خلى منه أغلب بحث العبيكان - أن يذكر قوله بأدلته , ثم يذكر قول مخالفه بأدلته , ثم يجيب عما اعترض عليه , فيوجه ما احتاج إلى توجيه ويضعف ما ثبت فيه التضعيف , وينصف المخالف , ومن ثم يختم بما يراه صوابا على طريقة المنصفين .
__________
(1) - منهج التيسير المعاصر ص 63
(2) - المبدع 10/ 25 , وكشاف القناع 6 /300(1/6)
ولو تتبعت بحثه لوجدت سوء العرض , وبتر النقول , والسكوت عن ما ثبت لدى المخالف من أدلة ونقولات تسقط قوله .
ولو نظرت على سبيل المثل إلى سكوته عما هو أصل في باب النشرة وهو ما رواه أحمد وأبو داود عن جابر رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن النشرة : قال هي من عمل الشيطان . لتبين لك المقصود .
بل العبيكان على استعداد لأن ينقل قول من نقل قول المبيحين ولو لم يذكروا لهم رأيا فيه , كما فعل مع نقل ابن قاسم في حاشيته على الروض حينما نقل قول بعض أصحاب المذهب بالاضطرار وقد سكت عنه ولم يعلق , ومع ذلك جاء به العبيكان .
ولننظر ذلك , ولعل الجواب على شبهه بما يلي :
ضعف أدلته
ويتمثل ذلك بأمرين :
الأول : أنه لا صراحة فيما استدل به من نصوص , مع علمه أن الأصل في الشريعة هو الزجر عن مباشرة ما يتعلق بالسحر والسحرة والكهنة والعرافين .
الثاني : ضعف الاستنباط مما ذكر منها .
وعند عرض أدلته يتضح ذلك :
أولا : حديث سحر النبي عليه الصلاة والسلام .(1/7)
وهو في صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن , قال سفيان : وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذا , فقال يا عائشة : أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه , أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال الذي عند رأسي للآخر : ما بال الرجل ؟ قال مطبوب , قال : ومن طبه ؟ قال : لبيد بن أعصم , رجل من بني زريق حليف ليهود كان منافقا , قال : وفيم , قال : في مشط ومشاقة ؟ قال : وأين ؟ قال : في جف طلعة ذكر تحت راعوفة في بئر ذروان , قالت : فأتى النبي صلى الله عليه وسلم البئر حتى استخرجه , فقال : هذه البئر التي أريتها وكأن ماءها نقاعة الحناء وكأن نخلها رءوس الشياطين , قال : فاستخرج , قالت : فقلت : أفلا - أي تنشرت - فقال : أما الله فقد شفاني وأكره أن أثير على أحد من الناس شرا ) .
ومما استنبط العبيكان من ذلك :
1 – أن النبي عليه الصلاة والسلام لم ينكر على عائشة قولها : ( هلا تنشرت ) .
2 – أن عائشة لم تقصد بذلك النشرة الشرعية بل التي بفعل الساحر ..!
3 – أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكتف بالرقية الشرعية .
4 – أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يعرف مكان السحر إلا بوحي .
5 – أنه في الغالب لا يعرف مكان السحر لاستخراجه إلا الجن عن طريق الساحر .
والجواب عليه بما يلي :
أما قوله بعدم إنكار النبي عليه الصلاة والسلام لقول عائشة ( هلا تنشر ) فيقال :
أولا : أنه لا يسلم له أن معنى قول عائشة : ( هلا تنشرت ) هو حل السحر بالسحر , لأن لفظ الحديث دل على أن قولها هذا كان بعد أن ذهب ما يجده رسول الله صلى الله عليه وسلم , فكيف يكون مقصودها من ذلك حل السحر وقد حل عنه .(1/8)
ثانيا : أن بعض ألفاظ الحديث جاءت بغير تلك اللفظة فعند مسلم ( 4059 ) : ( أفلا أحرقته ) وفي نفس الرواية: ( فأخرِجه ) , وفي رواية للبخاري : ( استخرجته ) .
ثالثا : أن قول عائشة – إن دل على كلام العبيكان – فقد كان استفتاءا , وقد استفتاه الصحابة بأعظم من هذا كما في حديث ذات أنواط , وكما في استفتاء الصحابي له بأن يأذن له بالزنى ولم يعتبر ذلك مبيحا للشرك ولا للزنى .
رابعا : أن النبي عليه الصلاة والسلام لو كان قوله على ما أراد العبيكان فقد أفتاها بأنه شر كما في قوله ( وأكره أن أثير على أحد من الناس شرا ) .
أما قوله إن عائشة لم تقصد الرقية الشرعية إنما تقصد التي بفعل الساحر قيل الجواب على وجهين :
الأول : يلزم العبيكان أن يقول إن عائشة رضي الله عنها تريد من النبي عليه الصلاة والسلام أن يذهب للساحر المشرك ليحل سحره , ومن ثم على النبي عليه الصلاة والسلام أن يصدق هذا الساحر المشرك بمن سحره وبمكان السحر , وهذا الكلام لا يقوله عاقل فضلا عن طالب علم .!!
الثاني : الألفاظ الأخرى تدل على أنها رضي الله عنها لم تقصد ذلك كما في رواية مسلم : ( أفلا أحرقته ) .
وأما كون النبي عليه الصلاة والسلام لم يكتف بالرقية الشرعية فلأنه لم يتضح له في بداية الأمر أنه مسحور - كما يأتي توضيحه من كلام ابن القيم - حيث ذكر أنه ظن أن الذي أصابه هو مرض في رأسه فمال إلى الحجامة , ثم رأى في المنام أنه مسحور .
وأما قوله إنه لم يعلم مكان سحره عليه الصلاة والسلام إلا بوحي فهذا نعم , لكنه غير لازم للعلم بالسحر , فقد يرقي الراقي ويتكلم الجني فيخبر عن السحر وهذا معلوم مجرب ولا غرابة فيه , وقد يرى في رؤيا المنام فيعلم مكانه كما في حديث سحر عائشة الأتي , ولهذا ذكر العبيكان في النقطة الخامسة هنا أن ذلك يكون غالبا , والمعنى - من كلامه - أنه من الممكن أن يعرف السحر ومكانه من غير الجن .(1/9)
ثانيا : حديث سحر عائشة رضي الله عنها , فقد قال العبيكان ص 10 :
وروى مالك في الموطأ عن عائشة أنها أعتقت جارية لها على دبر منها ، ثم إن عائشة مرضت بعد ذلك ما شاء الله ؛ فدخل عليها سندي فقال : إنك مطبوبة ؛ فقالت: من طبني ؛ فقال امرأة من نعتها كذا وكذا ، وفي حجرها صبي قد بال ؛ فقالت عائشة : ادع لي فلانة لجارية لها تخدمها ، فوجدوها في بيت جيران لها في حجرها صبي قد بال ؛ فقالت : حتى أغسل بول الصبي ؛ فغسلته ثم جاءت فقالت لها عائشة : سحرتني ؟ قالت : نعم ؛ فقالت: لم ؟ قالت : أحببت العتق ؛ فقالت عائشة : أحببت العتق ؛ فو الله لا تعتقن أبدا ؛ فأمرت عائشة ابن أخيها أن يبيعها من الأعراب ممن يسيء ملكتها ، ثم قالت : ابتع لي بثمنها رقبة حتى اعتقها ففعلت .قالت عمرة : فلبثت عائشة ما شاء الله عز وجل من الزمان ثم إنها رأت في النوم أن اغتسلي من ثلاث آبار يمر بعضها في بعض فإنك تشفين ، قالت عمرة : فدخل على عائشة إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الرحمن ابن سعد بن زرارة فذكرت لهما الذي رأت فانطلقا إلى قباء فوجدا آبارا ثلاثا يمد بعضها بعضا فاستقوا من كل بئر منها ثلاث شخب حتى ملئ الشخب من جميعهن ثم أتوا به عائشة فاغتسلت به فشفيت. ( الاستذكار ج 25 / 238) .
فعلق العبيكان قائلا :
فعائشة - رضي الله عنها – سألت السندي عن حالها ، ولم تنكر فعله، إذن فهي ترى جواز سؤال الساحر وعدم قتله كما سيأتي عن ابن عبدالبر . ولم تقتصر على الرقية ، ولم تشف حتى دلت على ماء الآبار الثلاثة عن طريق رؤيا في المنام فشربت منها فشفيت . اهـ
وهذا الأثر لو تأمله القارئ لوجد أنه على العبيكان وليس له , والجواب عليه من وجوه :(1/10)
الوجه الأول : أن عائشة رضي الله عنها لم تذهب للسندي كما في الأثر الذي نقله , بل هو الذي أتى إليها كما في قوله ( فدخل عليها السندي ) , بل اللفظ الآخر الذي عدل عنه العبيكان - كما سوف يأتي تبيينه - يبين أن بني أخيها هم الذي ذهبوا إلى السندي .
الوجه الثاني : أن العبيكان هداه الله قال إن عائشة رضي الله عنها سألت السندي وقد كذب على عائشة رضي الله عنها , فإن عائشة لم تسأل السندي , بل السندي هو الذي ابتدأ عائشة بالكلام , وقد نقل في الأثر : ( فدخل عليها سندي فقال : إنك مطبوبة ) فأين السؤال ابتداء ؟
فإن قال : إن السندي لما قال لها : انك مطبوبة , قالت من طبني ؟ .
قيل : إن عائشة لم تسأله عن السحر وبماذا سحرت ابتداءاً , وربما كان سؤالها له اختبارا له , ولهذا أرسلت من يسأل الجارية لكونها لم تكن بقول السندي متيقنة , وقد جاء في الأثر السابق : ( فقالت لها عائشة : سحرتني ؟ قالت : نعم ؛ فقالت : لم ؟ ) .
هذا فضلا عن أن القصة بلفظها الأخر جاء فيها أن بني أخيها هم من ذهب إلى الزط يسألونه عن ذلك , فروى البخاري في الأدب المفرد وغيره أن عائشة رضي الله عنها دبرت أمة لها , فاشتكت عائشة , فسأل بنو أخيها طبيبا من الزط , فقال : إنكم تخبروني عن امرأة مسحورة سحرتها أمة لها , فأخبرت عائشة .. ) فالأثر يذكر أن بني أخيها هم من ذهب للسندي ثم أخبرت عائشة رضي الله عنها بالأمر , وليست هي من سأله .
الوجه الثالث : أن عائشة رضي الله عنها لم تطلب من السندي حل السحر .
الوجه الرابع : أن عائشة رضي الله عنها لم تصدق السندي حتى لا يقول العبيكان إن عائشة صدقت الساحر , بل أرسلت للجارية تسألها لتتحقق من الموضوع كما في الأثر الذي نقله العبيكان نفسه .(1/11)
الوجه الخامس : أن عائشة رضي الله عنها صبرت عن البحث عن شفائها كما في الأثر الذي نقله العبيكان : ( فلبثت عائشة ماشاء الله عز وجل من الزمان ثم إنها رأت في المنام .. ) وقد شفيت بسبب ما رأت في المنام كما في هذا الأثر الذي نقله المؤلف .
والغريب أن العبيكان يستغرب أن يطالب الناس بالصبر على ما أصابهم من ذلك , مستدلا بأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يأمر المريض بالصبر فقط بل قال : ( تداووا عباد الله ) وغيره , ولعله نسي أن من أمر بالصبر هو الرسول عليه الصلاة والسلام وليسوا مخالفيه , كما في حديث المرأة التي كانت تصرع وتتكشف , وقد أمرها النبي عليه الصلاة والسلام بالصبر على صرعها , واخبر أنها إن فعلت ذلك فإن لها الجنة .
فماذا سيقول العبيكان .!؟
الوجه السادس : أن السندي ليس هو الذي حل السحر .
الوجه السابع : أن العبيكان قال : إذن فهي ترى جواز سؤال الساحر وعدم قتله.
ونقول : أما السؤال فلم تسأله ابتداءا كما بينا .
وأما عدم قتله فيجاب عنه بأمور :
الأول : أن عائشة رضي الله عنها ليس لها أن تقيم الحدود والتعزيرات حتى يستدل بفعلها .؟!
الثاني : يقول الشافعي رحمه الله : وأما بيع عائشة الجارية ولم تأمر بقتلها فيشبه أن تكون لم تعرف ما السحر فباعتها .. ولو أقرت عند عائشة أن السحر شرك ما تركت قتلها إن لم تتب أو دفعتها إلى الإمام ليقتلها . (1)
الثالث : أنه – كما يعلم العبيكان – ليس كل سحر كفر , فقد تكون سحرتها بنوع من الأدوية الضارة التي لا توجب كفرا أو قتلا , وقد أورد البيهقي هذا الحديث تحت عنوان : باب من لا يكون سحره كفرا ولم يقتل به أحدا لم يقتل ) . السنن 8/137
__________
(1) - الأم 1/392(1/12)
الرابع : لو فرض أن عائشة لا ترى قتل الساحر فقد رأى قتله خمسة من الصحابة رضي الله عنهم , على رأسهم الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه , كيف ولم يذكر عن عائشة قول مخالف لذلك , وسكوتها هنا لا يعني أنه قول لها بعدم قتله , بل نقل بعضهم إجماع الصحابة على قتل الساحر .
الوجه الثامن : أن الأثر في متنه تضارب , فمرة ذكر أن السندي هو الذي جاء إلى عائشة كما نقل العبيكان , و مرة أن بني أخي عائشة هم الذين سألوا رجلا من الزط , كما هو في الأدب المفرد و الدارقطني وغيرهما .
ضعف تقصيه لأدلة وأقوال مخالفيه
من ذلك :
أولا : عدم استيعابه لذكر أدلتهم :
مع أنها مشهورة متداولة صحيحة لا غبار عليها , وما نقل من أدلة فقد عرضها دون أن يعلق عليها في الغالب , وأدلة أخرى أعرض عنها ولم ينقلها :
1 - حديث جابر رضي الله عنه وهو عند احمد وأبي داود أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن النشرة فقال : ( هي من عمل الشيطان ) , صححه ابن مفلح وحسن إسناده ابن حجر . وهذا جاء به في معرض نقله عن ابن حجر وسكت عنه ولم يعلق عليه .
2 - روى البزار والطبراني في الكبير بسند صحيح عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : ( ليس منا من تطير أو تطير له ، أو تكهن أو تكهن له ، أو سحر أو سحر له ) . وهذا لم يذكره .
3 – قول ابن مسعود رضي الله عنه : ( من أتى عرافا أو ساحرا أو كاهنا فسأله فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ) . رواه الدارقطني وصحح وقفه على ابن مسعود و قال ابن كثير إسناده صحيح " وقال ابن حجر وسنده جيد ، ومثله لا يقال بالرأي . وقد اكتفى بتضعيف الحديث بقول الألباني كما يأتي .
4 – ما رواه احمد في المسند عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن خمر وقاطع رحم ومصدق بالسحر ) الحديث , وهذا لم يذكره .(1/13)
5 – ما ذكره الشيخ محمد بن عبدالوهاب في كتاب التوحيد باب ماجاء في النشرة : سئل أحمد عنها – أي النشرة - فقال : ابن مسعود رضي الله عنه كان يكره ذلك كله , وهذا الأثر لم يعلق عليه .
6 - جميع الآثار التي جاءت بالمنع من النشرة كما هو قول الحسن واحمد ومجاهد والنخعي ومن نقل عنهم من أئمة التابعين , فابن مسعود قوله حجة في هذا الباب , أما التابعون فلم يأتي من يخالف رأيهم في ذلك سوى ما فهم من قول ابن المسيب وقد تعددت الاحتمالات عليه , وفسره أبو حيان والقرطبي والالوسي وسليمان بن عبدالله وغيرهم بغير تفسير العبيكان كما يأتي توضيحه.
7 – الإجماع الذي نقله ابن تيمية رحمه الله وقد قال : والمسلمون وإن تنازعوا في جواز التداوي بالمحرمات كالميتة والخنزير فلا يتنازعون في أن الكفر والشرك لا يجوز التداوي به بحال (1) .
وما نقله ابن حجر رحمه الله من إجماع أهل العلم على شروط الرقية .
ثانيا : في ضعف عرضه أقوال المانعين :
ويتمثل ذلك فيما يلي بأمور , منها :
الأول : ساق عدة أقوال لمن منع من النشرة في معرض كلامه , ولم يتعرض للإجابة عليها , منها على سبيل المثال :
1 – رأي ابن مسعود رضي الله عنه الذي ذكره الإمام احمد رحمه الله أنه كان يكره ذلك كله .
2 – تقسيم ابن القيم للممنوع منها والمسموح .
3 - القول الذي نقله الأثرم عن الإمام احمد حينما نفض يده كالمنكر .
4 – قول الحسن إنه كان يكره ذلك .
5 – قول الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في مسائل باب النشرة : النهي عن النشرة . (2)
6 – رأي الشيخ ابن باز وأنه رجح التحريم .
الثاني : ضعفه في توجيه وتفسير معنى النشرة عند المبيحين و المانعين :
__________
(1) - مجموع الفتاوى 19/61
(2) - والغريب انه نقض نفسه بعد عدة صفحات , فذكر ص 14أن الشيخ محمد بن عبدالوهاب عرض حديث جابر ورأي ابن المسيب في باب النشرة ولم يرجح , مع أنه ذكر ص 9 أن الشيخ ذكر من مسائل الباب : النهي عن النشرة .!(1/14)
وقد فهم العبيكان أن النشرة تعني حل السحر بالسحر , مع أن من نقل عنهم عرفوها بخلاف ما فهمه كما سوف يأتي تبيينه عند توجيه كلام ابن المسيب وتفسير أهل العلم لكلامه , وكذلك ابن حجر الذي نقل العبيكان تجويزه ذلك , واعتمد بهذا الفهم في تفسيره لأقوال من نقل عنهم ابن حجر .
حتى من نقل عنهم جواز حل السحر , لم يذكروا أنه يحل بسحر , أو من قال إنه يجوز ضرورة كالخلال أطلقوا ذلك ولم يذكروا أن يكون حله بسحر , على ما يأتي من كلام احمد تخصيص الرقية بالقرآن , حتى من شذ من المذهب وقال إنه يجوز حله بسحر لم يذكروا أن يكون السحر بشرك .
ومع ذلك فهو محجوج بأمرين :
الأمر الأول : إما أن يبقى على فهمه للنشرة بأنها حل السحر بالسحر , وعندها فهو محجوج بحديث جابر : سئل عن النشرة فقال هي من عمل الشيطان , فتصبح من عمل الشيطان حتى لو قال بها سعيد بن المسيب , أو غيره .
الأمر الثاني : وإما أن يقول باختلاف معناها , فيكون من استدل به من كلام الأئمة وإطلاقاتهم عنوا بها معنى محتملا , وعندها ليس له أن يستدل بأقوال محتملة .
وبهذا الفهم الخاطئ استعرض أقوالهم في جواز النشرة بإطلاق وأنها حل السحر بسحر , حتى جعل قولهم هو المعتمد , فبنى عليه قوله , وأعل قول من خالف ذلك .
الوقفة الثالثة
نقل الإجماع في المنع من التداوي بالشرك والكفر(1/15)
لا شك أن تتبع أصول المسائل , والتريث وترك العجلة في الطرح خاصة في مثل هذه القضايا الحساسة - من أوضح ما يدل على حذق الباحث وتوفر الآلة لديه , وقد كان سلف الأمة في القرون المفضلة , ومن تبعهم على منهجهم حتى يومنا هذا من خير من وفق لذلك , وأقرب مثال على ما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله وبقية من أخذ بأصولهما العقدية والفقهية , كما هو بادٍ في تأصيلهم للمسائل , حتى لا تكاد تجد في أصولهم ما يتناقض , وتجد هذا – تحديدا - في تقريرهم لمعتقد السلف الصلح رحمهم الله , وكأنك تسمع من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان .
وفي مقابل هذا المنهج المنضبط تجد من الفِرق الأخرى كالأشاعرة مثلا ومن دخل تحت رايتهم - قد تضاربت أقوالهم وتساقطت ببعضها , وذلك حينما جعلوا الحكم لأقوالهم هو قول فلان وفلان من الفلاسفة , وعلى رأسهم معلمهم الأول أرسطو وغيره , متذرعين بأن أول واجب على المكلف هو النظر , وذلك ليصلوا إلى المرحلة التي تسمح لهم بأن يأخذوا ما وافق هذا النظر ويردوا ما خالفه , حتى بلغ بالغزالي بأن يقول من يأخذ بالسمع ( نصوص الشريعة ) لا يستقر له فيها على قدم ولا يتعين له موقف (1) , ومع ذلك يصفون أنفسهم بأنهم من أهل السنة .!
وقس على ذلك كل من اعتد برأي فلان أو فلان محتجا بهم لوصف لهم أو ثناء عليهم أو غير ذلك , دون قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) - إحياء علوم الدين 1/180(1/16)
ومن جهة أخرى تجد غيرهم ممن استل طرفا من الألفاظ العامة المحتملة , وقد ألقى بها دون أن يبذل ولو يسيرا من عناء البحث والتقصي – أو أنه وقف عند حد قدرته - وقد بسط عليها قولا خطيرا , كخطورة الذهاب للمشركين من أهل السحر والشعوذة والتذلل بين يديهم - مما تسبب في تضارب أقواله , بل حتى في انتقاء الأقوال وفهم نصوص الأئمة , كهذه المسألة التي ألقاها العبيكان , فقد كان معتمده هو كون المسألة خلافية لا غير , حتى جعل النص تابعا لا متبوعا , فاضطرب في الاختيار , وألزم مخالفه بقوله الضعيف .
فضلا عن إشغاله الخاصة والعامة بما هم عنه مشغولون .
وحتى يتضح المراد , فلو لاحظت مسألة حل السحر بسحر , لوجدت أن من أهم أركانها أن يكون المستعان بحله هم السحرة والشياطين , عبدة الأوثان والهوى والشهوة , ممن لا يقيمون للشريعة قدرا , ولا لصاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام مكانة وفضلا , بل ولا لأنفسهم اعتبارا , وقد بلغت بهم الرذائل ما لا نحتاج إلى ذكره في هذه الورقات , حتى صاروا من أكبر عبّاد الدرهم والدينار , وإن كانوا من أفقر عباد الله بذاك الدرهم والدينار , على ما حكى بعضهم عن ذلك , وقد قرأ الجميع ما بلغت به حال غلاة المتصوفة ومخرفيها مما سودت به الكتب حتى ضحك علينا لذلك اليهود و النصارى , لظنهم أن نسبتهم إلى الإسلام صحيحة .
وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله أن المسلمين قد يتنازعون في جواز التداوي بالمحرمات كالميتة والخنزير , لكنهم لا يمكن أن يتنازعوا بحرمة التداوي بالكفر والشرك , والمعنى أنه رحمه الله ينقل الإجماع بحرمة التداوي بحل السحر بالسحر على الصورة التي فهمها العبيكان .
يقول ابن تيمية رحمه الله ما نصه :
والمسلمون وإن تنازعوا في جواز التداوي بالمحرمات كالميتة والخنزير فلا يتنازعون في أن الكفر والشرك لا يجوز التداوي به بحال .. الخ (1)
فإن قيل : قد نقل عن بعض الأئمة إجازة ذلك ؟
__________
(1) - مجموع الفتاوى 19/61(1/17)
قيل : لم يذكر عن واحد منهم من صرح بجواز التداوي بالشرك والكفر .
وقد نقل الإجماع على ضرورة توفر ثلاثة شروط لجواز الرقية الشرعية غير واحد من أهل العلم .
فإذا كان هذا في الرقية الشرعية , فماذا يقال في السحر والشعوذة .!!
يقول ابن حجر رحمه الله :
وقد أجمع العلماء على جواز الرقي عند اجتماع ثلاثة شروط : أن يكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه وصفاته , وباللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره , وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بذات الله تعالى. الخ (1)
فإن شكك بنقل ابن حجر قيل له وهذا نقل السيوطي رحمه الله , حيث قال :
قد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط : أن يكون بكلام الله أو بأسمائه وصفاته , وباللسان العربي وبما يعرف معناه , وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله تعالى . (2)
أما السحر فهو طلاسم وتمتمات لا تعرف في الغالب , ومناجاة لشياطين الجن , وشرك بالله , وغير ذلك مما لا تكاد تقره ديانة سماوية , فكيف يقال إن بعض السلف رخصوا في حل السحر بمثل هذه الطرق . وكيف يقال إن تفسير النشرة التي نُقلِتْ عن السلف هي هذه الخرافات والشركيات ..!
الوقفة الرابعة
في نقولات العبيكان لأقوال الأئمة وخلطه في ذلك
من أغرب ما وجد من كلام العبيكان مما يراه المنصف أن يكون القول بجواز حل السحر بالسحر هو المنصوص من مذهب أحمد , وهو قول الجمهور , وأنه لم ينقل عدم الجواز في كتب مذاهب الأئمة الأربعة إلا النزر القليل , على حد قوله .
__________
(1) - الفتح 10/190
(2) - تيسير العزيز الحميد ص 133(1/18)
لا نريد أن نقول إن المؤلف كذب على الإمام احمد وعلى مذهبه , وعلى كتب المذاهب الأربعة – مع إلماحه إلى اطلاعه على (كل ) كتب المذاهب الأربعة - بل وعلى الجمهور , وكاد أن ينقل الإجماع على ذلك (1) , وكذا ما نقل عن أن هذا القول هو اختيار البخاري وابن حجر والحسن البصري رحمهم الله أو غيرهم , بل سنسعفه – إحسانا للظن – بسوء الفهم , وفي هذا أربعة مباحث :
الأول
تضاربه في نقل قول الإمام أحمد
نقل العبيكان عن الإمام احمد قولين في المسألة , وكان الأولى له أن يحاول الجمع بينهما , فهو خير من أن يتكلم عن أحدهما - مما يصلح له - ويعرض عن الأخرى , فإن لم يستطع ذلك نظر في أصول مذهبه في ذلك .
وهو بهذه الطريقة لم يفهم المقصود من الروايتين مع سهولة الجمع بينهما , ولا أجد عذرا له إلا أن تأصيله لتعريف النشرة غير منضبط , ولو كان منضبطا لرأيت قدرته على الجمع بينهما .
ولو نظرنا إلى الروايتين لرأينا أن الرواية الأولى تقول إنه سئل عن من يطلق السحر عن المسحور فقال لا بأس به , والأخرى تقول : إنه سئل عن طريقة من طرق حل السحر فنفض يده كالمنكر .
ولحل هذا المعضلة عند العبيكان نقول وباختصار :
لو تأملنا النقلين لرأينا أن الرواية الأولى تعني حل السحر دون أن تتكلم عن طريقة ذلك , أما الرواية الثانية فتقول انه ذكر له طريقة معينة يحل بها السحر فأنكرها , والجمع بين الروايتين أن يقال : إنه أجاز حل السحر , لكن بشرط أن تكون بطريقة يراها مشروعة , يؤيد هذا أن مذهب أحمد هو المنع من الرقية مطلقا إلا ما كان من القرآن كما سيأتي في النقل عنه .
__________
(1) - في صحيفة الجزيرة تاريخ 2/8/1430 ذكر العبيكان أن ابن حجر في الفتح لم يذكر خلافا في المسألة على الجواز , ولك أن تعجب من ذلك , وسوف يأتي بعد قليل في الكلام عن رأي ابن حجر أن العبيكان هدانا الله وإياه اختلطت عليه المسألة فظن أن كلام ابن حجر هو في النشرة الممنوعة وأنه نقل من أباحها .!!(1/19)
ولعلنا أن نبين أن أحمد رحمه الله لم يقصد ما ذهب إليه العبيكان .
قال العبيكان ص 7 عن فتح الباري :
قال ابن الجوزي : النشرة حل السحر عن المسحور ولا يكاد يقدر عليه إلا من يعرف السحر ، وقد سئل أحمد عمن يطلق السحر عن المسحور فقال : لا بأس به ، وهذا هو المعتمد .
فقول ابن الجوزي ( ولا يكاد يقدر عليه إلا من يعرف السحر ) لا يعني جواز النشرة بالسحر , بل يعني أنها أمر صعب , وأنه في الغالب لا يكاد يقدر على ذلك إلا ساحر , ولا يعني أن غير الساحر لا يحله .
وأما تجويز احمد الذي نقله ابن الجوزي فقد جوز النشرة بمعناها العام ولم يصرح بأنها حل السحر بسحر , إنما قصد بذلك ما يكون إما بالأدوية أو الرقية أو غير ذلك من المباحات , فلماذا ذهب العبيكان إلى أن أحمد قصد حل السحر بسحر .؟!
مما يبين هذا :
النقل الثاني الذي نقله العبيكان عن الإمام أحمد دون تعليق عليه , وحتى لو كان المقصود برأيه - كما في النقل الأول - حل السحر بسحر فإن النقل الثاني هذا يبين منعه من ذلك , يقول العبيكان ص 11 :
قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله سئل عن رجل يزعم أنه يحل السحر ؛ فقال : قد رخص فيه بعض الناس . قيل لأبي عبد الله : إنه يجعل في الطنجير ماء ويغيب فيه ويعمل كذا . فنفض يده كالمنكر . وقال : لا أدري ما هذا ؟ قيل له : فترى أن يؤتى مثل هذا يحل السحر فقال ما أدري ما هذا ؟ .
فالأثرم نقل عن احمد ترخيص بعض الناس , فلما بين له نفض يده كالمنكر , مما يدل على انه ما قصد بهذا النقل عن بعض الناس حل السحر بسحر , بل قصد أمراً آخر مباحا غير القرآن , وذلك انه رحمه الله لا يرى من الرقى ما يرخص فيه سوى القرآن كما نقله عنه الكوسج في مسائله (1) , قال رحمه الله : التعليق كله يكره , والرقى ما كان من القرآن فلا بأس .
__________
(1) - مسائل الكوسج 2/169(1/20)
بل لم يكن يرى رحمه الله في علاج المجنون بالصرع أن يكون ذلك بالرقى والعزائم , فقال : ما أحب لأحد أن يفعله , وتركه أحب إلي . (1)
فإذا قال أحمد : رخص فيه بعضهم , وثبت لدينا انه لا يرى الرخصة بالرقى غير القرآن , دل على انه لم يقصد بقوله ( رخص فيه بعض الناس ) حل السحر بالسحر و إتيان أهل السحر والكهانة .
وحتى التمائم كان السلف يكرهونها كلها من القرآن وغير القرآن (2) .
بل ذكر القرطبي رحمه الله أن الرقية كانت في الأصل ممنوعة ثم رخص فيها بعد ذلك . (3)
ولهذا لا نعلم كيف فهم العبيكان أن الإمام أحمد قصد بالنقل الأول حل السحر بالسحر مع أن لفظ النشرة عند العبيكان – أحيانا - تحتمل لفظا مشتركا يشمل التداوي بالرقية والسحر كما في ص 18 , لكنه لم ينتبه أن حل السحر بالسحر هو أحد أفراد معناها لديه , فها أنت تراه طوى ذلك لفهم يريده .
الثاني
خلطه في نقل قول ابن حجر
العبيكان فهم من قول ابن حجر في النشرة فهما , وركب على هذا الفهم أن من نقل ابن حجر إجازتهم للنشرة أنهم قصدوا حل السحر بسحر , مع أن ابن حجر عرف النشرة بأنها ضرب من العلاج ولم يذكر حل السحر بالسحر , ومن ثم اخبرنا العبيكان – بفهمه هذا - أن ممن أجاز النشرة المزني والطبري بنقل ابن حجر , واليك التفصيل .
نقل العبيكان ص 7 بعد أن ساق حديث ( النشرة من عمل لشيطان ) قول الحافظ رحمه الله :
إشارة إلى أصلها , ويختلف الحكم بالقصد , فمن قصد بها خيرا كان خيرا , وإلا فهو شر , ثم قال الحافظ ابن حجر – والسياق للعبيكان - ويوافق قول سعيد بن المسيب ما تقدم في باب الرقية في حديث جابر عند مسلم مرفوعا من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل .. الخ
__________
(1) - الأحكام السلطانية ص 308 , وانظر رسالة للدكتور محمد بن عبدالرحمن الخميس : عقيدة الإمام احمد بن حنبل ص 25
(2) - مصنف ابن أبي شيبة ( 23933 )
(3) - أحكام الرقى والتمائم لفهد بن ضويان ص 35(1/21)
وهذا السياق يدل أن الحافظ يجيز النشرة التي تعني حل السحر بالسحر , لكنك إذا رجعت إلى المرجع وجدت أن هذا القول مخالف للحقيقة , وأن العبيكان اسقط مراد الحافظ بالنشرة , وأن الحافظ رحمه الله عنى بها تعريفا آخر غير ما صوره العبيكان للقارئ , ولعلنا أن ننقل ما أسقطه العبيكان من قول ابن حجر حتى يفهم المقصود .
يقول رحمه الله بعد كلام له :
.. النشرة بالضم وهي ضرب من العلاج يعالج به من يظن أن به سحرا أو مسا من الجن قيل لها ذلك لأنه يكشف بها عنه ما خالطه من الداء ويوافق قول سعيد بن المسيب ما تقدم في باب الرقية .. الخ كلامه الذين نقله العبيكان سابقا , وهنا يظهر إسقاطه لتعريف الحافظ للنشرة قبل قول ابن المسيب مباشرة .
إذاً الحافظ رحمه الله عنى بالنشرة نوعا من العلاج يدخل فيه الرقية الشرعية كما في قوله السابق : ( ويوافق قول سعيد بن المسيب ما تقدم في باب الرقية .. ) ويدخل فيه استخراج السحر بغير ساحر سواء عن طريق التعويذات أو غير ذلك من المباحات كما في قوله : النشرة ضرب من العلاج , وليس حل السحر بالسحر كما أوهم العبيكان القارئ , وهو في الحقيقة غير معذور في إسقاط تعريف ابن حجر الذي حدد كلام الحافظ ورأيه , وان النقولات التي جاء بها عن البخاري و المزني أو الطبري أو غيرهما تعني حل السحر بما وصف ابن حجر بأنه ( ضرب من العلاج ..) , لا ما فهمه العبيكان وقد أخطأ بالنقل والتوجيه وفي فهمه لمراد الأئمة و تلبيسه لأقوالهم .
وقد جمع في ذلك :
إسقاط المقصود من تعريف النشرة عند ابن حجر .
و الخطأ في نقل أقوالهم .
و الاعتماد على ذلك في إثبات أقوالهم غير الصحيحة كالمزني والطبري .
والسكوت عن تعريف ابن حجر للنشرة المخالف لرأيه .
الثالث
التلبيس في نقل كلام ابن القيم(1/22)
العبيكان استخدم مع ابن القيم ما استخدمه مع ابن حجر رحمه الله من بتر قوله , فقد ذكر ص 9 أن ابن القيم رحمه الله فصل في المسألة , وذكر أن النشرة على نوعين , نوع محرم وهو حل السحر بسحر مثله وهو الذي من عمل الشيطان وعليه يحمل قول الحسن .. الثاني : ما يكون بالرقية والتعويذات .. وهذا جائز .
وهذا النقل لا إشكال فيه , مع أنه لم يعلق عليه , بل لم ينتبه إلى نقل ابن القيم لقول الحسن بالمنع .
لكن العبيكان نقل قولا آخر لابن القيم نقله عنه ابن حجر في المرجع الآنف الذكر , أراد به تقويل ابن القيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدل عن الرقية بالمعوذات إلى استخراج السحر بالواسطة , هذا معنى كلامه , واليك نص كلام العبيكان ص 8 :
وذكر الحافظ كلام ابن القيم ومنه قوله : فلما أوحى إليه أنه سحر عدل إلى العلاج المناسب له وهو استخراجه ، انتهى ( انظر . (234- فتح الباري المجلد العاشر كتاب الطب ص : 233 ) فابن القيم هنا يقرر أنه صلى الله عليه وسلم عدل إلى العلاج المناسب للسحر وهو استخراجه ولم يقل إن العلاج المناسب له هو الرقية. انتهى كلام العبيكان
واليك نص كلام ابن القيم رحمه الله من نفس المصدر من فتح الباري , يظهر فيه بتر العبيكان لكلام ابن القيم , ليتبين لك أن ابن القيم قصد أمرا غير ما ذكره العبيكان .
يقول الحافظ رحمه الله :
قال ابن القيم بنى النبي صلى الله عليه و سلم الأمر أولا على أنه مرض , وأنه عن مادة مالت إلى الدماغ وغلبت على البطن المقدم منه فغيرت مزاجه , فرأى استعمال الحجامة لذلك مناسبا , فلما أوحى إليه أنه سحر عدل إلى العلاج المناسب له وهو استخراجه . الخ(1/23)
فالعبيكان بتر النص ثم جعل الكلام حول الرقية وأن ابن القيم ذكر أن الرسول عليه الصلاة والسلام عدل عنها , بينما الحقيقة - كما في النقل – تبين أن ابن القيم رحمه الله يذكر أنه عليه الصلاة والسلام ظن أن الذي فيه مرض عضوي وليس بسحر نشأ عن مادة مالت إلى الدماغ وغلبت على البطن المقدم منه فغيرت مزاجه , فمال إلى أن يعالج نفسه بالحجامة التي كان النبي عليه الصلاة والسلام يريدها , والنبي عليه الصلاة والسلام حتى الآن لم يتبين له أنه مسحور , ثم لما أوحي إليه وعلم بسحره عدل إلى العلاج المناسب وهو استخراج السحر , سواء كان بالرقية أو بالدعاء , لكن العبيكان هداه الله لبس في الموضوع فجعل النبي عليه الصلاة والسلام عدل عن الرقية إلى الاستخراج , ليوهم القارئ أن الرسول عليه الصلاة والسلام احتاج في السحر إلى من يخرجه وهو الأنسب لحالة المسحور , وليقرر بعدها ضرورة الالتجاء إلى السحرة والمشعوذين لكي يحلوا عن الناس سحرهم لأنه انسب من الرقية.
الرابع
توجيه ما نقل عن الشيخ ابن عثيمين
نقل العبيكان قولا للشيخ ابن عثيمين رحمه الله يذكر فيه انه أباح حل السحر بسحر , مع أن المصرح به من قبل الشيخ في القول المفيد شرح التوحيد وفي مجموع فتاويه بخلاف ما نقل العبيكان كما سوف يتضح , وعلى كل حال فالقول بالمنع هو المشهور عنه وقد نص رحمه الله على تحريمه .
أما القول الذي يرى العبيكان انه قول ثان , فقد نقله العبيكان كما يقول من شريط شرح بلوغ المرام للشيخ وفي أكثر من موضع – كما يقول – ونصه كالتالي :
إن الله تعالى بين سبب التحريم فقال ( وماهم بضارين به من احد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ) فإذا كان في هذا السحر منفعة لا مضره انتفى التحريم , ولهذا أجازه ابن المسيب –رحمه الله – وأجازه بعض العلماء .. الخ كلامه رحمه الله .
فالجواب عليه من وجوه :(1/24)
الوجه الأول : أن كلام الشيخ هذا مقتضب , غير مفصل كما هو في شرح التوحيد على ما يأتي توضيحه , وقد ذكر فيه جواز حل السحر بسحر لكن بصورة غير ما ذكر العبيكان , وسوف يأتي أن عند الشيخ من أنواع السحر ما يكون بالأدوية والعقاقير مما لا يصل إلى الشرك , مما يعني عدم وضوح قوله في نقل العبيكان
أما ما نقل الشيخ رحمه الله من قول لبعض أهل العلم يجيز ذلك فهو على ما أراد هو لا ما أراد العبيكان .
الوجه الثاني : أن الشيخ ذكر بصريح العبارة كما في مرجع مجموع فتاويه بتحريم حل السحر بسحر , فكيف يقول الشيخ - في نقل العبيكان - إنه لا ينبغي التصريح بذلك ثم تراه يعلن بحرمته هنا ؟
الوجه الثالث : أن من حل السحر عند الشيخ العثيمين ما يكون : بالأدوية والرقى والعقد والنفث , وما أشبه ذلك , وهو محرم ولا يصل إلى الشرك (1) .
فإذا رأيت استدلالات العبيكان في نقله لقول الشيخ وجدت انه يوافق هذا القول , وقد نقل العبيكان ليدلل على ما نقل عن الشيخ – فتوى للشيخ يذكر فيه رحمه الله جواز حل السحر بالأدوية مما يؤيد أن الشيخ عنى بالحل ما كان بالأدوية , وهذا نص السؤال الموجه للشيخ وجواب الشيخ لتقارن بين توجيه كلام العبيكان واعتماده على نوع معين ليعممه , وما ذكره الشيخ مما لا يؤيد ما ذهب إليه العبيكان .
السؤال والجواب من الشيخ بنقل العبيكان نفسه ص15 - 16 كالتالي :
السؤال : إذا كان الساحر يستعمل دواء لكي يضعف الرجل حتى لا يجامع زوجته هل يجوز نعطيه المال لكي يفك هذا السحر ؟
الجواب : على كل حال إذا علمنا فلا بأس ، لا بأس أن ينقض السحر ؛ لأن هذا نقض لا بأس نعطيه المال ؛ لأنه لن يطيع إلاّ بالمال ويخشى عليه أنكم إذا علمْتم به سحركم أيضاً ؛ فك السحر عن ذاك ووضعه عليكم " اهـ .
__________
(1) - القول المفيد شرح كتاب التوحيد 2/70.(1/25)
فالشيخ قصد هنا ما يكون بالدواء , وعليك أيها القارئ أن تقيس بين قول العبيكان وقول الشيخ الذي نقله لترى هل فعلا الشيخ يقول بجواز حل السحر بالشرك والكفر ..؟!
وقد نقل أحد تلامذة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله أن الشيخ يقول : لا ضرورة في علاج , وهو ما سوف تراه من قول شيخ الإسلام في الوقفة التالية .
الوقفة الخامسة
دعوى الضرورة
مما يتلخص من رأي العبيكان في رسالته أن حل السحر بسحر يجوز لدليلين :
الأول : ضرورة .
الثاني : كون بعض أهل العلم رخصوا في ذلك .
وقد سبق أن ذكرنا ضعف استنباطه مما جاء في حديثي سحر النبي عليه الصلاة والسلام وسحر عائشة رضي الله عنها , بل واضطراره لبتر أقوال أهل العلم من أجل ذلك.
أما قوله : ماهو ردهم على من صرح بقوله: ( يجوز حل السحر بالسحر ضرورة ) .
فالجواب عليه من ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : أن من نقل عنهم القول بالضرورة على نوعين :
الأول : من لم يصرح بحله بالسحر , بل قال بجواز حل السحر دون أن يذكر حله بسحر , كما في قول الخلال .
الثاني : من صرح بحله بالسحر , وهم قلة , وقولهم هذا لا يعني أن يكون حله بشرك وكفر .
الوجه الثاني : أنه غير صحيح أن تساق هذه القاعدة على إطلاقها هكذا , وقد ذكر أهل العلم هذه القاعدة عند خوف الهلاك بسبب الجوع , وأن تكون بقدر ما يدفع عن نفسه الموت لا تلذذا واستطعاما .
فإن قيل : ما تقول في فعل عمار بن ياسر رضي الله عنه في سبب نزول قوله تعالى ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) .
قيل : قصة عمار رضي الله عنه قيدها الإمام أحمد رحمه الله في حالة معينة , ومع ذلك فالجواب عليها من وجهين :
الأول : أن عمارا قال ذلك مكرها لا مضطرا , وبينهما فرق واضح .(1/26)
الثاني : أن عمارا قال ولم يفعل , وقد قال ابن عباس رضي الله عنه فيما رواه ابن جرير وغيره ليس التقية بالعمل , إنما التقية باللسان . (1)
بل إن أهل العلم منعوا من فعل الحرام المتعدي كالقتل والزنا اضطرارا فكيف بفعل الشرك والكفر , ولو أُخذ بهذه القاعدة على الطريقة التي استخدمها العبيكان لرأيت كيف تضيع الحدود وتنتهك الأعراض وتسيل الدماء بحجة الضرورة .!
أما فعل الكفر فلم يأت في الشرع ما يبيحه ضرورة , وعلى العبيكان التدليل على ما يقول .
الوجه الثالث : أنه لا يسلم له أن في استحلال الشرك والكفر من أجل حل السحر ضرورة , وذلك أنه عليه الصلاة والسلام دلنا على ما نحتاجه من الأدوية والرقى في علاج أدوائنا , مع علمه أن الإنسان قد يبلغ المرض به مبلغا شديدا , وقد جاء عند النسائي عن مصعب بن سعد عن أبيه قال قلت يا رسول الله : أي الناس أشد بلاء ؟ قال : الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل , يبتلي العبد على حسب دينه , فإن كان دينه صلبا اشتد بلاءه ) .
وفي صحيح البخاري عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك , فقلت : يا رسول الله إنك لتوعك وعكا شديدا , قال : أجل , إني أوعك كما يوعك رجلان منكم , قلت : ذلك أن لك أجرين ؟ قال : أجل ذلك كذلك ) الحديث .
ومع ذلك لم يبح التداوي بالشرك والكفر , بل لم يعتبرها ضرورة كما اعتبر غيرها من المحرمات عند خوف الهلاك , بل قد جاء في السنن أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن الدواء الخبيث .
وقد علق البخاري رحمه الله في باب شراب الحلواء والعسل عن الزهري قوله : لا يحل شرب بول الناس لشدة تنزل لأنه رجس .
والشدة تستدعي الضرورة , ومع ذلك لم يبحها الزهري فيما هو دون حل السحر .
__________
(1) - أخرجه ابن جرير في التفسير (3/228) وصالح بن أحمد في المسائل رقم (571) وغيرهما .(1/27)
ثم نقل البخاري قول ابن مسعود رضي الله عنه : وقال ابن مسعود في السكر إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم . وطلب الدواء في السكر هو فيما دون حل السحر , ومع ذلك منع منه ابن مسعود , مع ما ذُكر سابقا من تحريمه للنشرة المنهي عنها.
يقول ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى :
ولا ضرورة إلى إبراء المصاب به لوجهين :
أحدهما : أنه قد لا يؤثر ( أي التداوي بالكفر والشرك ) أكثر مما يؤثر من يعالج بالعزائم , فلا يؤثر بل يزيده شرا .
والثاني : أن في الحق ما يغني عن الباطل . (1)
ويزاد وجه ثالث : أنه قد يشفى بلا علاج , يبين ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام قال كما في حديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما في الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب قال : ( هم الذي لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ) , ولو كان في العلاج ضرورة لما ذكرت هذه الفضيلة لمن يدع طلب العلاج .
فهذه ثلاثة أوجه تبين ألا ضرورة في علاج .
فإن قلت : إن العبيكان لم يكتف بالضرورة بل ساق حديثين في جواز ذلك , حديث سحر النبي عليه الصلاة والسلام وسحر عائشة رضي الله عنها .
قيل : لو سلم له الاستدلال فهذا تضارب منه .
فما فائدة الحديثين مع قوله بالاضطرار .!
فإن من المعلوم أن الإنسان يضطر إلى مالم تجزه الشريعة في حال السعة , كالميتة والدفع بشرب الخمر وما شابه ذلك استثناء من الأصل , أما أن يكون هناك دليل صحيح ثابت ظاهر الاستدلال على الإباحة – في نظره - لأمر ما ثم يعمد إلى قاعدة الضرورة , فهذا تناقض ظاهر , فما حاجة الضرورة مع وجود الإباحة ..؟!
فإما أن يستدل على إباحته بتلك القاعدة أو الدليلين وليس له غير ذلك .
الوقفة السادسة
في توجيه كلام سعيد بن المسيب وغلط العبيكان في فهمه له
__________
(1) - مجموع الفتاوى 19/64(1/28)
من استدلالات العبيكان بجواز حل السحر بسحر قول ابن المسيب فيما علقه البخاري في صحيحه , قال رحمه الله : قال قتادة قلت لسعيد بن المسيب رجل به طب أو يؤخّذ عن امرأته : أيحل عنه أو ينشر قال لا بأس به إنما يريدون به الإصلاح فأما ما ينفع الناس فلم ينه عنه .
وقد استمسك العبيكان بهذا الأثر - مع ضعف واضح في الاستدلال به - و كان هو سلاحه الوحيد ضد من خالفهم , بل كل من ظنَّ أنهم قالوا بقوله كان عمدتهم قول ابن المسيب , مع أن الأصل هو البقاء على المنع من ذلك استدلالا بحديث جابر السابق , وحديث : ( ليس منا من .. أو سحر له ) وحديث أبي موسى السابق : ( ثلاثة لا يدخلون الجنة .. ومصدق بالسحر ) وغيرها من أثار النهي عن إتيان الكهنة والعرافين ومن يشملهم تعريف الساحر , والقاعدة أن الأصل لا يخرج عنه إلا بدليل صريح مساو له في الدلالة , كما في جواز الأكل من المحرمات , فإن الأصل هو بقاء حرمة ذلك كما في قوله تعالى : ( إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ) ثم استثنى من ذلك بدليل صريح مساو له في نفس الآية كما في قوله ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ) .
أما العبيكان فليس له ولا دليل يستثني حل السحر من الأصل العام وهو المنع من مباشرة السحر والسحرة , ولا حتى في فهم كلام أهل العلم في تفسيرهم لمعنى النشرة , وقد بنى عليه ما ظن أنه قول في إباحتها , سوى قلة قليلة قولهم لا يمكن أن يخرق هذا الأصل إلا أن يكونوا معتمدين على دليل صريح بصراحة الأدلة المانعة .
وحتى قول سعيد بن المسيب رحمه الله لا يفرح به , وليس فيه مستمسك لوجوه :
الوجه الأول : أن كلام ابن المسيب ليس بصريح , وليس كل نشرة تعني حل السحر بسحر , و لا يفهم منه التداوي بالكفر والشرك ولا الذهاب للسحرة والمشعوذين , وحاشاه رحمه الله من ذلك وهل يمكن أن يقول إن في الشرك والكفر نفعاً .!(1/29)
الوجه الثاني : أن قول ابن المسيب - لو كان كما أراد العبيكان - عليه لا له , لأنه خالف النصوص الصريحة بالمنع من إتيان السحرة وتصديقهم .
الوجه الثالث : أن قول ابن المسيب – لو سلم الاستدلال به – ليس بحجة , وغاية ما يوصف الآخذ به أن يكون مقلدا لا أكثر .
الوجه الرابع : أن الأئمة فسروا كلام ابن المسيب بغير ما أراده العبيكان :
فقد قال في البحر المحيط :
واختلفوا في النشرة وهو أن يكتب شيء من أسماء الله تعالى أو من القرآن ثم يغسل بالماء ثم يمسح به المريض أو يسقاه ، فأجاز ذلك ابن المسيب ولم يره مجاهد. (1)
يعني أجاز ابن المسيب النشرة على الوجه الذي ذكره أبو حيان , لا قول العبيكان , ومجاهد منع من ذلك كله .
ويقول الألوسي في روح المعاني :
وهو نوع من النشرة وعرفوها بأنها أن يكتب شيء من أسماء الله تعالى أو من القرآن ثم يغسل بالماء ثم يمسح به المريض أو يسقاه فمنع ذلك الحسن والنخعي ومجاهد وروى أبو داود من حديث جابر أن النبي سئل عن النشرة فقال : هي من عمل الشيطان وأجاز ذلك ابن المسيب . (2)
فذكر الخلاف في النشرة بعد أن عرفها بأنها : أن يكتب شيء من أسماء الله .. الخ وجعل القول بالمنع من هذه النشرة هو قول الحسن والنخعي ومجاهد , والقول الآخر بالإباحة - على ما وصفها به - هو قول ابن المسيب .
ويقول القرطبي في تفسيره :
واختلف العلماء في النشرة ، وهى أن يكتب شيئا من أسماء الله أو من القرآن ثم يغسله بالماء , ثم يمسح به المريض أو يسقيه ، فأجازها سعيد بن المسيب. (3)
__________
(1) - تجده عند تفسيره لقوله تعالى ( وننزل من القرآن ماهو شفاء ورحمة ) الآية
(2) - تجده عند تفسيره لقوله تعالى ( وننزل من القرآن ماهو شفاء ورحمة ) الآية
(3) - تفسير القرطبي 10 / 318(1/30)
إذاً النشرة التي أباحها ابن المسيب بتفسير أبو حيان والقرطبي والالوسي وغيرهم هي التي تعني أن يكتب شيء من أسماء الله تعالى أو من القرآن ثم يغسل بالماء ثم يمسح به المريض أو يسقاه .. وليس كما ذكر العبيكان من أنها حل السحر بسحر .
ويقول ابن حجر رحمه الله :
النشرة بالضم هي ضرب من العلاج يعالج به من يظن أن به سحرا أو مسا من الجن قيل لها ذلك لأنه يكشف بها عنه ما خالطه من الداء ويوافق قول سعيد بن المسيب ما تقدم في باب الرقية في حديث جابر عند مسلم مرفوعا من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل . الخ
وهذا التعريف أسقطه العبيكان كما سبق , وهو بصريح عبارة ابن حجر يخالف ما فهمه العبيكان من كلام ابن المسيب , كما في قوله : ويوافق قول سعيد ابن المسيب ما تقدم .. والمعنى أن ابن حجر يرى أن النشرة عند ابن المسيب هي ضرب من العلاج وليس حل السحر بسحر .
ويقول في تيسير العزيز الحميد بعد نقل تقسيم ابن القيم للنشرة , فذكر من أنواعها النوع الثاني , وهو ما يكون بالرقية والتعويذات والأدوية المباحة فقال :
هذا الثاني هو الذي يحمل عليه كلام ابن المسيب , وكذلك ما روي عن احمد أنه أجاز النشرة فإنه محمول على ذلك , وغلط من ظن انه أجاز النشرة السحرية , وليس في كلامه ما يدل على ذلك .. الخ كلامه .
إذاً العبيكان بنى قوله بإباحة حل السحر بالشرك والشعوذة على قول لم يتضح منه المراد .!
الوقفة السابعة
في نقله عن الشيخ الألباني
روى الإمام احمد في المسند 2/429 وغيره من أصحاب السنن بسند صحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : ( من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ) .
وقد ساق العبيكان هذا الحديث , ثم استنكر على من يستدل به على تحريم إتيان السحرة بهذه الحديث لعدم ذكر الساحر فيه , فقال :(1/31)
ومن المؤسف أن بعض الذين تكلموا في هذه المسألة رادين هذه الفتوى ، أخذوا يستدلون بما لا دليل فيه ويخلطون بين الساحر والكاهن والعراف ، ويستدلون بقوله صلى الله عليه وسلم : ( من أتى كاهنا أو عرافًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ) .
ثم قال بعده بأسطر :
وكذلك رواية " أو ساحراً " إن صحت حيث قال الألباني رحمه الله تعالى: (والحديث صحيح الإسناد من حديث أبي هريرة ، وقد خرجته في " آداب الزفاف " لكن ليس فيه ذكر الساحر ) فالمقصود الذي يتعاطى مع السحر الكهانة .
والجواب عليه من وجهين :
الأول : أنه اعتمد على التضعيف على قول الألباني فقط مع عدم تقصيه ذلك , ولا ننس أن العبيكان ألمح في المقدمة أنه من المجتهدين .
الثاني : أنه خفي عليه أن الألباني نفسه ذكرها بتصحيحه في موضعين آخرين :
الموضع الأول : صحيح الجامع 5939 .
الموضع الثاني : صحيح الترغيب 3048 .
أما قوله : إن صحت – ساحرا - فالمقصود الذي يتعاطى مع السحر الكهانة .
فهل يعني هذا أن الساحر الذي لا يتعاطى الكهانة يجوز إتيانه ولا يدخل في هذا الحديث .؟!!
الوقفة الثامنة
جواب عن تساؤل العبيكان
يقول العبيكان متسائلا :
ما تقول لو أن شاباً أحب امرأة فسحرها لدى ساحر لتتزوجه ثم تاب هل تكفي توبته أو لا بد أن يفك عنها ما فعله بها . ولا أظن عاقلاً يقول بل يتركها تعاني من ضرر السحر ، أشار إلى ذلك أحد المشايخ الفضلاء .
والجواب عليه أن يقال :
أولا : ليس الساحر وحده هو من يحل السحر , وقد قلتَ ص 18 : ولم يكن الرسول يعرف أنه مسحور ، أو من سحره ، أو مكان السحر إلا عن طريق الوحي وجبريل عليه السلام ، وعامة الناس لا يستطيعون ذلك إلا عن طريق ساحر في الغالب .
والمعنى من كلامك أن هذا في الغالب , وإلا غير الساحر يحصل منه ذلك , ويحصل في العلاج كما في رأي ابن حجر السابق , وفي الرقية وما يماثلها مما يدخل في ذلك .(1/32)
أما قولك إن الغالب لا يكون إلا عن طريق الساحر فهذا في نظرك , وهو غير صحيح , ووجود هذه الكثرة لدى أبواب السحرة ليس لأنهم طرقوا أبواب الرقية الشرعية وعجزوا ثم تحولوا إلى ما ترى , بل لأنهم وجودوا من يفتيهم أو يسهل عليهم و يحرضهم إتيان أبواب السحرة وغيرهم من المشركين ليحلوا عنهم ذلك .
ثانيا : أنه لا تعارض بين أن يتوب وأن يخبرها بالسحر ووجوده وحله دون أن يذهب للساحر .
الوقفة التاسعة
تصديق الساحر ضروري لحل السحر
ذكر بعض أهل العلم أنه لا يمكن أن يتصور شخص يذهب إلى ساحر لطلب العلاج وهو لا يصدقه , وهذا لازم لمن قال بالجواز لا محيد عنه , وإلا كيف يحل السحر , وكيف يعلم المسحور بذلك , لأن من المعلوم أنه لو لم يصدق المسحور الساحر لم يحل السحر , ولم تدفع الأموال .
وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث السابق فيما رواه احمد في المسند عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن خمر وقاطع رحم ومصدق بالسحر ) .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه فيما رواه الدارقطني وأبو يعلى وغيرهما : ( من أتى كاهنا أو ساحرا أو عرافًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ) .
الوقفة العاشرة
تنبيهان
الأول : التنبيه على نقله قول الحسن البصري , فالعبيكان تضارب في نقله لقوله , فمرة نقل ص 7 عن قتادة قوله : وكان الحسن يكره ذلك كله ويقول : لا يعلم ذلك إلا ساحر .
ومرة نقل قوله بجوازه , قال ص 17 : لقد تبين مما تقدم لكل حصيف منصف أن عدداً من الأئمة والفقهاء أباحوا حل السحر من قبل ساحر منهم .. والحسن البصري . (1)
__________
(1) - مع أن ابن حجر رحمه الله ذكر ما ينقض قول الحسن قال في الفتح 10 / 233 :
وأما ما جاء عن الحسن من الحصر في حل السحر حيث قال : لا يعلم ذلك إلا ساحر فهو ليس على ظاهره , لأنه قد يحل السحر بالرقى والأدعية والتعاويذ ) اهـ
أو لعله قصد معرفة هل سُحر أو لا , وليس المقصود علاجه .(1/33)
وقد سكت المؤلف عن منع الحسن من ذلك ولم يعلق عليه وأخذ بالآخر مع كونه لا أصل له .!
الثاني : في قول العبيكان ص 29 : ينبغي لمن يختار التحريم أن يحترم الأئمة القائلين بالجواز لا أن يتهمهم بفتح الباب للشر لأنه وإن كان يقصد فتواي ؛ فإنه لا بد أن يكون الاتهام للقائلين أولاً بالجواز فإنني مقتدٍ بهم مقتفٍ آثارهم ، وليعرف قدر نفسه بدلا من التطاول على أئمة الهدى والدين كالإمام أحمد وسعيد بن المسيب والإمام البخاري وأبي جعفر الطبري وابن حجر ومن ذكرنا والجواب على هذا من وجوه :
الأول : أنه سبق وأن ظهر غلط العبيكان في فهمه لكلام الأئمة الذين يرى انه مقتد بهم مقتف لهم .
الثاني : أن المخالفين له لم يتهموا أحدا من الأئمة بذلك , وقد فهم العبيكان ذلك باللازم كما في قوله السابق : فإنه لا بد أن يكون الاتهام للقائلين .
الثالث : بما أنه غلط في فهمه لقولهم مع بتره لكلامهم فهذا يعني أنه اقتدى بفهمه هو لا بقولهم .
الرابع : انه اعتبر من قال بخلاف قوله متطاولا على الأئمة , فهل يعتبر نفسه متطاولا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما جعلها من عمل الشيطان كما في حيث جابر وقد أفتى بخلافه , وكذا ابن مسعود وغيره من السلف .؟
ليست القضية تنابزا وتطاولا , وليس غيره عاجزا عن وصفه بغير هذا , لكن المحك في حقيقة الاقتفاء والاقتداء وضبط أقوال السلف , لا بترها وإسقاط المقصود منها , ومن ثم البناء على فهم خاطئ لها .!
وفي الأخير ..
فقد ذكر العبيكان في المقدمة أن الحجة تقرع بالحجة , ولو تتبعت كلامه لم تجد حجة واحدة تدل على قوله ولا ما يلمح إلى قوله , ولا ما يدل على جواز الاختلاف على ما قال , بل أصول الشريعة تكفي بالمنع مما ذكر ولو لم نجد دليلا واحدا , فكيف وقد جاءت أدلة ثابتة تمنع من ذلك , بل فيها من الوعيد والتهديد من مباشرة الشرك والشعوذة , كما في أثر ابن مسعود وأبي موسى .(1/34)
وهذا يعني أنه ليس كل من قال إنه مجتهد وأن على الناس أن يحترموا رأيه أن ذلك كذلك .
وهل معنى احترام الرأي عدم الرد على ما لم يكن منها صوابا .؟
والله نسأل للجميع الهداية والسداد .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(1/35)