الإلْمَامُ بِمَنْهَجِ السَّلفِ فِيْ التَّعَامُلِ مَعَ الْحُكَّام
تأليف
أبي عمر أسامة بن عطايا بن عثمان العتيبي
المقَدِّمَة
الحمدُ للهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسولِ اللهِ أما بعد:
فإنَّ فِقْهَ التَّعامل مع الحكَّام من الأمور الهامَّةِ في عصرنا الحاضر، وذلك للتَّغْيِيْبِ المتَعَمَّدِ مِنْ قِبَلِ خوارجِ العصرِ وأتباعِهم لِهَذا البابِ الْهَامِّ من أبواب العقيدة السَّلفيةِ التي تكاثرتْ أدلته مِنَ الكتابِ والسُّنَّةِ، وتتابعت الآثارُ عن السَّلفِ فيه. وإنَّ غفلة كثيرٍ مِنَ الشباب المسلم عن هذا الباب لَهُوَ نذيرُ خطرٍ عظيمٍ، وفتحٌ لِبَابِ شَرٍّ كبِيْرٍ ، وهو من وسائل الخوارجِ لنشر باطلِهِم، وتفريقِ الأمة، وزرعِ بذور الخلافِ والشِّقاقِ بيْنَ الرَّاعِي والرَّعيَّةِ، والعلماءِ والعامَّةِ.
لذلك كان من الواجب إذاعة أدلة هذا الباب، وإشاعة منهج السلف في هذا الموضوع الخطير.
وليعلم الداعية المسلم أنه سيواجه التشكيك والطعن والتشهير من قبل أهل الباطل الذين يعملون جاهدين لتغييب هذه العقيدة السلفية النقيَّة.
فعليه بالصبر والاحتساب، والثبات على العقيدة السلفية، والاستمرار في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة في هذا الباب دون مداهنة ولا ركون إلى هؤلاء الخوارج المفسدين.
وقبل الشروع في بيان منهج السلف في هذا الباب أنبِّه إلى أنَّ كتابِي هذا ليس بدعاً من الكتب، ولست وحيداً في هذا الباب، ولا فريداً في هذا المضمار ، بل أنا مقتفٍ ومتبع لِمَا جاء في كتاب ربِّنَا ، وسُّنَةِ نبينا محمد -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّم- ، وما عليه سلفنا الصالح.
وقد تنوعت الكتب السلفية في هذا الباب فمنها ما تضمنته كتب الحديث كصحيح البخاري حيث بثَّ أدلة هذا الباب في عدد من كتب صحيحه ككتاب الأحكام، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، وكتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، وكتاب الفتن.(1/1)
والإمام مسلم في صحيحه في كتاب الإمارة، وكتاب الجهاد، وكتاب السِّيَر، وكتاب الهجرة والمغازي.
وكذلك أصحاب السنن خصصوا كتباً في ذلك..
وكتب جماعة من علماء السلف الصالح كتباً في العقيدة السلفية اشتملت على منهج السلف في هذا الباب كأصول السنة للإمام أحمد ، وكتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد، وكتاب السُّنَّة لابن أبي عاصم، وكتاب السنة للطبراني، وكتاب وكتاب السنة للخلال، وكتاب شرح السنة للبربهاري، وكتاب الشريعة للآجري، وكتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لللالكائي، والإبانة لابن بطة العكبري، والإبانة لأبي الحسن الأشعري، وكتاب الحجَّة في بيان المحجة لقِوام السنة الأصبهاني، والسنة لابن أبي زمَنِين، ومقدمة ابن أبي زيد القيرواني، وكتاب ذم الكلام للهروي، وكتاب الاقتصاد في الاعتقاد لعبد الغني المقدسي، وغيرهم ممن كتب في عقيدة السلف.
ولحقهم على ذلك علماء أهل السنة والجماعة ككتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن أبي العز الحنفي، وصنع الله الحلبي، وكتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومنها كتاب التَّوحيد، والأصول الستة، ومسائل الجاهلية ، وتلامذة الشيخ وتلامذتهم ومن سار على منهج السلف إلى يومنا هذا.
واللهَ تعالى أسأل أن يسدد قلمي، ويوفقني لبيان هذا الأمر على الوجه الذي يحبه الله ويرضاه.
تَمْهِيد
فقد تواردت الأدلة من الكتاب والسنة والآثار السلفية على وجوب الدخول في بيعتهم، وأنَّ من كان تحت ولايته فهو داخل في بيعته، وطاعة ولاة الأمر، وتوقيرهم وإكرامهم، وحفظ حقهم، والدعاء لهم، والصلاة خلفهم ودفع الزكاة لهم، والحج والجهاد معهم، ومناصحتهم سراً لا جهراً، وحرمة غيبتهم، والطعن فيهم، والتَّشْهِيْر بِهِم، وحرمة الخروج عليهم، وحرمة الإعانة على من خرج عليهم ولو بالكلمة، وعقوبة المثبط عن ولاة الأمور، وعقوبة المثير عليهم الْمُفَرِّق للجماعة(1/2)
وقد تنوعت مسالك الأدلة في ذلك إلى أنواعٍ أذكر ثمانية منها محاولاً الاختصار -إنْ شَاءَ اللهُ تَعالَى- .
النَّوْعُ الأوَّلُ
وجوب مبايعة ولي الأمر ، وأن من كان تحت ولايته فهو داخل في البيعة ، وأن من مات وليس في عنقه بيعة فميتته ميتة جاهلية.
إنَّ إقامة السلطان وولي الأمر من الواجبات الدينية ، ومما لا تتم مصالح الناس الدينية والدنيوية إلا به .
قال رابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب -- رضي الله عنه -- : "لا بد للناس من أمير ؛ بَرٍّ ، أو فاجر ، يعمل فيه المؤمن ، ويستمتع فيه الكافر ، ويبلغ الله فيها الأجل"(1).
قال الحسن البصري -رحمَهُ اللهُ- : "والله لا يستقيم الدين إلا بهم وإن جاروا وظلموا ، والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون ، مع أن طاعتهم والله لغبطة، وأنَّ فرقتهم لكفر"(2) يعني أنه كفر للنعمة وهو كفر أصغر لما سيأتي من الأدلة -إنْ شَاءَ اللهُ تَعالَى- .
قال شيخ الإسلام -رحمَهُ اللهُ- : " يجب أن يعرف أن ولاية أمور الناس من أعظم واجبات الدين ، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها ... ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة ، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم ، وإقامة الحدود ، لا تتم إلا بالقوة والإمارة ، ولهذا روى أن السلطان ظل الله في الأرض، ويقال: ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان ، والتجربة تبين ذلك... فالواجب اتخاذ الإمارة ديناً وقربة يتقرب بها إلى الله ، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات ، وإنما يفسد فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرياسة أو المال"(3) .
__________
(1) رواه البيهقي في السنن الكبرى وسنده حسن.
(2) انظر: جامع العلوم والحكم(2/117حديث رقم28)
(3) مجموع الفتاوى(28/290-291) .(1/3)
وقال ابن رجب -رحمَهُ اللهُ- : "وأما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين ففيها سعادة الدنيا ، وبها تنتظم مصالح العباد في معاشهم ، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربهم"(1) .
ومبايعة أهل الحل والعقد للسلطان المسلم لازمة عليهم ، وملزمة لمن يقع تحت سلطان ولي الأمر كما عليه أهل السنة والجماعة.
فلما بايع أهل الحل والعقد أبا بكر الصديق -- رضي الله عنه -- لزمت هذه البيعة جميع المسلمين .
يقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} الآية.
فأمر الله -عزَّ وجلَّ- بطاعته وطاعة رسوله وطاعة ولاة أمور المسلمين وهذا يتضمن الإقرار ببيعتهم ، وأنهم داخلون تحت ولايته ملزمون ببيعته .
وقال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : ((من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية))(2) .
وقال -- صلى الله عليه وسلم -- : ((من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية))(3) .
وقال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : ((فإنَّهُ من فارق الجماعة شبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية))(4)
وقال ابن عباس -رضي الله عنهما- : "من خرج من الطاعة شبراً فمات فميتته جاهلية"(5)
__________
(1) جامع العلوم والحكم(2/117-الرسالة).
(2) رواه مسلم عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- .
(3) رواه الإمام أحمد في المسند ، والطبراني وابن حبان في صحيحه من حديث معاوية -- رضي الله عنه -- وهو حديث صحيح.
(4) متفق عليه من حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- ، وروى مسلم نحوه من حديث أبي هريرة -- رضي الله عنه -- .
(5) رواه معمر في جامعه والخلال في السنة وغيرهما وسنده صحيح غاية.(1/4)
وقيل للإمام يحيى بن يحيى -رحمَهُ اللهُ- : البيعة مكروهة؟ قال: لا. قيل له : فإن كانوا أئمة جور؟ فقال: "قد بايع ابن عمر لعبد الملك بن مروان(1) ، وبالسيف أخذ الملك ، أخبرني بذلك مالكٌ عنه أنه كتب إليه وأمر له بالسمع والطاعة على كتاب الله وسنة نبيه. قال يحيى بن يحيى: والبيعة خير من الفرقة"(2) .
وقال الإمام الحسن بن علي البربهاري -رحمَهُ اللهُ- : "والسمع والطاعة للأئمة فيما يحبُّ ويرضى ، ومن ولي الخلافة بإجماع الناس عليه ورضاهم به فهو أمير المؤمنين، ولا يحل لأحد أن يبيت ليلة ولا يرى أن عليه إماماً براً كان أو فاجرا"(3) .
وقال شيخنا العلامة محمد الصالح بن عثيمين -رحمَهُ اللهُ- : "الواقع أنَّ مسؤولي الحكومة يعتبرون ولاة أمر في رقابنا لهم بيعة على السَّمع والطاعة في المنشط والمكره والعسر واليسر" .
النَّوْعُ الثَّاني
وجوب السمع والطاعة لولاة الأمور بالمعروف وثواب من فعل ذلك
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} الآية (4) .
قال القرطبي -رحمَهُ اللهُ- : "لَمَّا تقدَّم إلى الولاة في الآية المتقدمة ، وبدأ بهم ، فأمرهم بأداء الأمانات ، وأن يحكموا بين الناس بالعدل ؛ تقدَّم في هذه الآية إلى الرعيَّة فأمر بطاعته جل وعز أوّلاً ، وهي امتثال أوامره واجتناب نواهيه ، ثم بطاعة رسوله ثانياً فيما أمر به ونهى عنه ، ثم بطاعة الأمراء ثالثاً ؛ على قول الجمهور وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم" .
ثم ذكر قولاً ثانياً في المراد بأولي الأمر وأنهم العلماء ، وقيل: هم أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- خاصَّة ، وقيل: أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- خاصة.
__________
(1) رواه البخاريُّ في صحيحه (6/2634رقم6777-البغا).
(2) الاعتصام(2/627) .
(3) شرح السنة(ص/75-76-تحقيق: الشيخ خالد الردادي).
(4) سورة النساء(آية/59).(1/5)
ثم قال القرطبي : "وأصح هذه الأقوال الأول والثاني ؛ أما الأول: فلأنَّ أصلَ الأمر منهم ، والحكم إليهم . وروى الصحيحان –يعني البخاري ومسلماً- عن ابن عباس قال: نزل: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي ، إذ بعثه النبي-- صلى الله عليه وسلم --في سرية ، -قال أبو عمر: وكان في عبد الله بن حذافة دعابة معروفة ومن دعابته: أنَّ رسول الله-- صلى الله عليه وسلم --أمَّرَه على سرية- فأمرهم أن يجمعوا حطباً ويوقدوا نارا ، فلما أوقدوها أمرهم بالتقحم فيها ، فقال لهم : ألم يأمركم رسول الله-- صلى الله عليه وسلم --بطاعتي؟ وقال: ((من أطاع أميري فقد أطاعني)) فقالوا: ما آمنا بالله ، وأتبعنا رسوله ، إلا لننجوا من النار . فصوَّب رسول الله-- صلى الله عليه وسلم --فعلهم ، وقال: ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)) قال الله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} وهو حديث صحيح الإسناد مشهور..." (1) .
قال الحافظ ابن كثير -رحمَهُ اللهُ- : "والظاهر –والله أعلم- أنَّها عامَّة في كلِّ أولي الأمر من الأمراء والعلماء"(2) .
قال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : ((على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)). متفق عليه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- .
وقال -- صلى الله عليه وسلم -- : ((تسمع وتُطيع للأمير، وإن ضُرِبَ ظهرُك وأُخذ مالُك، فاسمع وأطع ))(3).
__________
(1) تفسير القرطبي(5/260).
(2) تفسير ابن كثير(1/519).
(3) رواه مسلم في صحيحه من حديث حذيفة -- رضي الله عنه -- ، وهذه الزيادة صحيحة ولطريقها متابعان ، انظر تخريجهما في السلسلة الصحيحة(4/399-400) ولها شاهد من حديث عبادة -- رضي الله عنه -- وأثر عن عمر -- رضي الله عنه --.(1/6)
عن عبادة بن الصامت -- رضي الله عنه -- عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال: ((اسمع وأطع ، في عُسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك ، وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك))(1) .
وعن سُويد بن غَفَلَة قال: قال لي عمرُ: "يا أبا أمية ، إني لا أدري لعلي أن لا ألقاك بعد عامي هذا ، فاسمع وأطع ، وإن أُمِّر عليك عبد حبشي مجدَّع فاسمع له وأطع ، إن ضربك فاصبر ، وإن حرمك فاصبر ، وإن أراد أمراً ينتقص دينَكَ فقل: سمعٌ وطاعةٌ ، دمي دون ديني ، ولا تفارق الجماعة))(2).
وعن سلمة بن يزيد الجعفي -- رضي الله عنه -- أنه سأل رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- قال: يا نبي الله أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألون حقهم، ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله الثالثة، فجذبه الأشعث بن قيسٍ، فقال رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- : ((اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حُمِّلوا وعليكم ما حُمِّلتم ))(3).
وقال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : ((اسمعوا وأطيعوا ، وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة))(4).
وقال أبو ذر -- رضي الله عنه -- : ((إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطع وإن كان عبداً حبشياً مُجَدَّع الأطراف))(5).
وقد أجمعت الأمة على وجوب طاعة ولاة الأمور
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند وابن حبان في صحيحه وابن أبي عاصم في السنة والديلمي في مسنده وسنده صحيح، وأصله في صحيح البخاري(6/2588رقم6647) ، وصحيح مسلم(3/1470 رقم1709).
(2) رواه ابن أبي شيبة والخلال في السنة ، والآجري في الشريعة ، والبيهقي في السنن الكبرى وغيرهم وسنده صحيح.
(3) رواه مسلم في صحيحه(3/1474رقم1846).
(4) رواه البخاريُّ في صحيحه(6/2612رقم6723-البغا) من حديث أنس -- رضي الله عنه -- .
(5) رواه مسلم في صحيحه(1/448رقم648) ، والبخاري في الأدب المفرد(ص/52رقم113).(1/7)
قال أبو الحسن الأشعري -رحمهُ اللهُ- : "وأجمعوا على السمع والطاعة لأئمة المسلمين"(1) .
وقال النووي -رحمَهُ اللهُ- : "أجمع العلماء على وجوب طاعة الأمراء في غير معصية"(2) .
وقال الحافظ ابن حجر -رحمَهُ اللهُ- : "قال ابن بطال: ...وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب ، والجهاد معه ، وأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء ، وتسكين الدهماء"(3) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمَهُ اللهُ- : "وأما أهل العلم والدين والفضل فلا يرخصون لأحد فيما نهى الله عنه ؛ من معصية ولاة الأمور ، وغشهم ، والخروج عليهم بوجه من الوجوه ، كما قد عرف من عادات أهل السنة والدين قديماً وحديثاً ، ومن سيرة غيرهم"(4).
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمَهُ اللهُ- : "الأصل الثالث: أنَّ مِن تمام الاجتماع السمع والطاعة لمن تأمَّر علينا ، ولو كان عبداً حبشياً ، فبيَّن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- هذا بياناً شائعاً ذائعاً بكل وجه من أنواع البيان شرعاً وقدراً ، ثم صار هذا الأصل لا يعرف عند أكثر من يدَّعي العمل به"(5) .
وقد وُعِدَ السامع والمطيع بالثواب الجزيل والأجر العظيم .
قال رسول الله -- صلى الله عليه وسلم --: ((يا أيها الناس أطيعوا ربكم ، وصلوا خمسكم ، وأدوا زكاة أموالكم ، وأطيعوا أمراءكم ؛ تدخلوا جنة ربكم))(6) .
__________
(1) رسالة إلى أهل الثغر(ص/296).
(2) شرح مسلم(12/222) .
(3) فتح الباري(13/7) .
(4) مجموع الفتاوى(35/12) .
(5) الأصول الستة(ص/324-كما في الجامع الفريد)
(6) رواه الإمام أحمد في المسند والترمذي والطبراني وابن حبان والروياني والحاكم وغيرهم وسنده صحيح ، وصححه الترمذي ، وابن حبان والحاكم وغيرهم.(1/8)
وقال رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- : ((من عبد الله لا يشرك به شيئاً ، وأقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، وسمع وأطاع ؛ فإن الله يدخله من أي أبواب الجنة شاء ، وإن لها ثمانية أبواب))(1) .
النَّوْعُ الثالث
وجوب توقير السلطان وإكرامه وحفظ حقه
قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}(2) ، وقال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ }(3) ، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(4).
فالسلطان المسلم داخل في هذه الآيات وحظه من المناصرة والإكرام محفوظ وهو حق واجب على ما سيأتي.
قال ابن أبي عاصم في السنة: " باب في ذكر فضل تعزيز الأمير وتوقيره"
ثم ذكر حديث معاذ -- رضي الله عنه -- .
قال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : ((خمس من فعل واحدة منهن كان ضامناً على الله -عزَّ وجلَّ-: من عاد مريضاً ، أو خرج مع جنازة ، أو خرج غازيا ، أو دخل على إمامة يريد تعزيزه وتوقيره، أو قعد في بيته فسلم الناس منه ، وسلم من الناس))(5).
والتعزير: الإعانَةُ ، والتَّوقيرُ ، والنَّصرُ مرّة بعد مرَّة (6) .
__________
(1) رواه ابن أبي عاصم في السنة(2/468) وسنده حسن .
(2) سورة التوبة(آية/71).
(3) سورة المائدة(آية/55)
(4) سورة الحجرات(آية/10)
(5) رواه الإمام أحمد في المسند(5/241) والطبراني(20/37-38رقم54، 55)، والبزار(2/ 275رقم1649-كشف الأستار)، وابن أبي عاصم في السنة(2/490رقم1021، 1022) من حديث معاذ -- رضي الله عنه -- وهو حديث صحيح. وصححه ابن حبان(2/94رقم372) وابن خزيمة(2/375رقم1495)، والحاكم(1/212) بنحوه.
(6) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير(3/228).(1/9)
وقال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : ((سيكون بعدي سلطان فأعِزُّوهُ ، من التمس ذُلَّهُ ثَغَرَ ثَغْرَةً في الإسلام ، ولم يقبل منه توبة حتى يعيدها كما كانت))(1).
فأوجب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- إعزاز السلطان ، وحرَّم إذلاله ، وتوعد من أذلَّه بعدم قبول توبته.
وقال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : ((من أكرم سلطان الله أكرمه الله ، ومن أهان سلطان الله أهانه الله))(2).
وقال حذيفة -- رضي الله عنه --: "لا يمشين رجل منكم شبرا إلى ذي سلطان ليذله فلا والله لا يزال قوم أذلوا السلطان أذلاء إلى يوم القيامة"(3).
قال سهل بن عبد الله التستري -رحمَهُ اللهُ- : " لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء ، فإذا عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم ، وإذا استخفوا بهذين أفسدوا دنياهم وأخراهم".
وقال ابن جماعة في "تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام" ذاكراً حقوق ولي الأمر: "الحق الرابع: أن يُعرف له عظيم حقه ، وما يجب من تعظيم قدره فيعامل بما يجب له من الاحترام والإكرام ، وما جعل الله تعالى له من الإعظام ، ولذلك كان العلماء الأعلام من أئمة الإسلام يعظمون حرمتهم ، ويلبون دعوتهم ، مع زهدهم وورعهم ، وعدم الطمع فيما لديهم ، وما يفعله بعض المنتسبين إلى الزهد من قلة الأدب معهم فليس من السنة".
__________
(1) رواه ابن أبي عاصم في السنة(2/513رقم1079) وسنده صحيح.
(2) . رواه الإمام أحمد في المسند(5/42، 48-49) ، وابن أبي عاصم في السنة(2/2/489) والبيهقي في السنن الكبرى(8/163) وغيرهم من حديث أبي بكرة -- رضي الله عنه -- وسنده حسن.
(3) رواه ابن أبي شيبة في المصنف(7/487)، ومعمر في جامعه(11/344رقم20715) من طريقين وسنده صحيح ، ورواه المحاملي في الأمالي(ص/310) ، وأبو عمرو الداني في السنن الواردة في الفتن(2/387)، ورواه البزار في مسنده(7/266رقم2847-2848) عن حذيفة مرفوعاً وسنده ضعيف.(1/10)
وقال ابن القيم -رحمَهُ اللهُ- : " فائدةٌ: تقبيل يد السلطان.
عوتب ابن عقيل في تقبيل يد السلطان حين صافحه ، فقال: أرأيتم لو كان والدي فعل ذلك فقبلتُ يده ، أكان خطأ أم واقعاً موقِعَه؟
قالوا: بلى . قال: فالأب يربِّيْ ولدَه تربية خاصة ، والسلطانُ يُرَبِّي العالَمَ تربيةً عامَّةً ، فهو بالإكرام أولى، ثم قال: وللحال الحاضرة حكمُ مَن لابسها ، وكيف يُطْلَبُ من المبتلى بحال ما يطلب من الخالي عنها"(1) .
النَّوْعُ الرابع
الدعاء لولاة الأمور ، وحرمة الدعاء عليهم وبيان أن الدعاء لهم من علامات أهل السنة ، والدعاء عليهم من علامات أهل البدع
إن الله سبحانه فرض على عباده الدعاء لما فيه من الذل والافتقار إلى الله ، ولِمَا في الدعاء من جلب المنافع ، ودفع البلايا .
قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}.
وقال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : ((الدعاء هو العبادة)) ثم تلا الآية السابقة(2).
وقال تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}(3).
وقال تعالى: { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} الآية (4).
وقال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ {83} فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ} الآية (5).
__________
(1) بدائع الفوائد(3/694).
(2) رواه الإمام أحمد في المسند(4/271)، وأبو داود(2/76رقم1479)، والترمذي(5/ 211رقم2969)، وابن ماجه(2/1258رقم3828)، والنسائي في الكبرى(6/450رقم 11464) وغيرهم من حديث النعمان بن بشير -- رضي الله عنه --. وسنده صحيح.
(3) سورة الأعراف(آية/55).
(4) سورة الأنفال(آية/9).
(5) سورة الأنبياء(آية/83-84).(1/11)
وإن الدعاء لولي الأمر فيه مصلحة للعباد والبلاد ، وفيه جلب المنافع الدنيوية والأخروية ، ودفع المضار الدنيوية والأخروية .
وقال أبو مسلم الخولاني -رحمَهُ اللهُ- : "إنه مؤمر عليك مثلك ، فإن اهتدى فاحمد الله ، وإن عمل بغير ذلك فادع له بالهدى ، ولا تخالفه فتضل"(1).
وقال الفضيل بن عياض -رحمَهُ اللهُ- : "لو كان لي دعوة مستجابة ما جعلتها إلا في السلطان.
قيل له: يا أبا علي فسِّرْ لنا هذا. قال: إذا جعلتها في نفسي لم تعدني ، وإذا جعلتها في السلطان صلح فصلح بصلاحه العباد والبلاد .".
قال الإمام البربهاري -رحمَهُ اللهُ- : "وإذا رأيت الرجل يدعو على السلطان فاعلم أنه صاحب هوى ، وإذا سمعت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح فاعلم أنه صاحب سنة -إنْ شَاءَ اللهُ- ." ثم ذكر قول الفضيل بن عياض السابق ثم قال: "فأمرنا أن ندعو لهم بالصلاح ، ولم نؤمر أن ندعو عليهم وإن جاروا وظلموا ، لأنَّ جورهم وظلمهم على أنفسهم ، وصلاحهم لأنفسهم وللمسلمين"(2) .
وقال الطحاوي -رحمَهُ اللهُ- : "ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا ، ولا ندعو عليهم ، ولا ننزع يداً من طاعتهم ، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية ،وندعو لهم بالصلاح والمعافاة".
والدعاء لولاة الأمر من عقيدة أهل السنة كما ذكر ذلك الأئمة: البربهاري والطحاوي وأبو عثمان الصابوني وأبو الحسن الأشعري وأبو بكر الإسماعيلي وابن عبد البر وغيرهم من السلف والخلف .
__________
(1) رواه الخلال في السنة(1/86) وإسناده حسن.
(2) شرح السنة(ص/113-114).(1/12)
وقد سئل شيخ الإسلام عبد العزيز بن باز -رحمَهُ اللهُ- : عن الذي يمتنع من الدعاء لولي الأمر فأجاب -رحمَهُ اللهُ- : "هذا من جهله، وعدم بصيرته، الدعاء لولي الأمر من أعظم القربات ، ومن أفضل الطاعات ، ومن النصيحة لله ولعباده، والنبي-- صلى الله عليه وسلم --لما قيل له إن دوساً عصت قال: ((اللهم اهد دوسا وأت بهم، اللهم اهد دوسا وأت بهم))(1) ، يدعو للناس بالخير ، والسلطان أولى من يدعى له، لأنَّ صلاحه صلاح للأمة فالدعاء له من أهم الدعاء، ومن أهم النصح؛ أن يوفق للحق وأن يعان عليه، وأن يصلح الله له البطانة وأن يكفيه الله شر نفسه وشر جلساء السوء، فالدعاء له بأسباب التوفيق والهداية وبصلاح القلب والعمل من أهم المهمات ومن أفضل القربات"(2).
وقال العلامة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان –حفظه الله- في شرحه للعقيدة الطحاوية: " لا يجوز الدعاء عليهم: لأنَّ هذا خروج معنوي، مثل الخروج عليهم بالسلاح، وكونه دعا عليهم؛ لأنه لا يرى ولايتهم، فالواجب الدعاء لهم بالهدى والصلاح، لا الدعاء عليهم، فهذا أصل من أصول أهل السنة والجماعة، فإذا رأيت أحداُ يدعو على ولاة الأمور، فاعلم أنه ضال في عقيدته، وليس على منهج السلف، وبعض الناس قد يتخذ هذا من باب الغيرة والغضب لله عز وجل، لكنها غيرة وغضب في غير محلهما؛ لأنهم إذا زالوا حصلت المفاسد.
قال الإمام الفضيل بن عياض –رحمه الله- ويروي ذلك عن الإمام أحمد يقول: (لو أني أعلم أن لي دعوة مستجابة لصرفتها للسلطان).
والإمام أحمد صبر في المحنة، ولم يثبت عنه أنه دعا عليهم أو تكلم فيهم، بل صبر وكانت العاقبة له، هذا مذهب أهل السنة والجماعة.
__________
(1) رواه البخاري في صحيحة(3/1073رقم2779) ، ومسلم في صحيحه(4/1957رقم2524) من حديث أبي هريرة -- رضي الله عنه --.
(2) المعلوم من واجب العلاقة بين الحاكم والمحكوم(ص/21) .(1/13)
فالذين يدعون على ولاة أمور المسلمين ليسوا على مذهب أهل السنة والجماعة، وكذلك الذين لا يدعون لهم، وهذا علامة أن عندهم انحرافاً عن عقيدة أهل السنة والجماعة.
وبعضهم ينكر على الذين يدعون في خطبة الجمعة لولاة الأمور، ويقولون: هذه مداهنة، هذا نفاق، هذا تزلف!!
سبحان الله ! هذا مذهب أهل السنة والجماعة،
بل من السنة الدعاء لولاة الأمور؛ لأنهم إذا صلحوا صلح الناس، فأنت تدعو لهم بالصلاح والهداية والخير، وإن كان عندهم شر، فهم ما داموا على الإسلام فعندهم خير، فما داموا يُحَكِّمون الشرع، ويقيمون الحدود، ويصونون الأمن، ويمنعون العدوان عن المسلمين، ويكفون الكفار عنهم، فهذا خير عظيم، فيدعى لهم من أجل ذلك. وما عندهم من المعاصي والفسق، فهذا إثمه عليهم، ولكن عندهم خير أعظم، ويُدعى لهم بالاستقامة والصلاح فهذا مذهب أهل السنة والجماعة، أما مذهب أهل الضلال وأهل الجهل، فيرون هذا من المداهنة والتزلف، ولا يدعون لهم، بل يدعون عليهم.
والغيرة ليست في الدعاء عليهم، فإن كنت تريد الخير؛ فادعُ لهم بالصلاح والخير، فالله قادر على هدايتهم وردهم إلى الحق، فأنت هل يئست من هدايتهم؟ هذا قنوط من رحمة الله، وأيضاً الدعاء لهم من النصيحة، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((الدين النصيحة، الدين النصيحة، الذين النصيحة)) قلنا: لمن يا رسول الله ؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم))(1) . فهذا أصل عظيم يجب التنبه له، وبخاصة في هذه الأزمنة. "انتهى كلامه.
النَّوْعُ الخامس
الصلاة خلف ولاة الأمر ، ودفع الزكاة لهم ، والحج والجهاد معهم
اتفق أهل السنة والجماعة على الصلاة خلف ولاة الأمر ، وأن الزكاة تدفع لهم ، وعلى الحج والجهاد معهم .
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه(1/74رقم55) من حديث تميم الداري -- رضي الله عنه --.(1/14)
عن أبي هريرة -- رضي الله عنه -- أن رسول الله-- صلى الله عليه وسلم --قال: ((صلوا خلف كل بر وفاجر ، وصلوا على كل بر وفاجر ، وجاهدوا مع كل بر وفاجر))(1).
وقال الشوكاني -رحمَهُ اللهُ- : " قد ثبت إجماع أهل العصر الأول من بقية الصحابة ومن معهم من التابعين إجماعاً فعلياً ، ولا يبعد أن يكون قولياً على الصلاة خلف الجائرين ، لأنَّ الأمراء في تلك الأعصار كانوا أئمة الصلوات الخمس ، فكان الناس لا يؤمهم إلا أمراؤهم في كل بلدة فيها أمير ، وكانت الدولة إذ ذاك لبني أمية وحالهم وحال أمرائهم لا يخفى(2) وقد أخرج البخاري عن ابن عمر : أنه كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف.."(3) .
وكان عثمان -- رضي الله عنه -- يحث الناس على الصلاة مع الجماعة وإن كان الإمام من أهل الفتنة.
قال الإمام البخاري في صحيحه : "باب إمامة المفتون والمبتدع.
وقال الحسن: صلِّ ، وعليه بدعته.
عن عبيد الله بن عدي بن خيار أنه دخل على عثمان بن عفان -- رضي الله عنه -- وهو محصور ، فقال: إنك إمام عامة ، ونزل بك ما نرى ، ويصلي لنا إمام فتنة ونتحَرَّج .فقال: "الصلاة أحسن ما يعمل الناس ، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم ، وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم"(4) .
عن زيد بن أسلم -رحمَهُ اللهُ- : "أن ابن عمر كان في زمان الفتنة لا يأتي أمير إلا صلى خلفه ، وأدى إليه زكاة ماله"(5) .
__________
(1) رواه أبو داود والدارقطني والبيهقي وابن الجوزي في العلل المتناهية بسند صحيح إلى مكحول، وسنده ضعيف لأنَّ مكحولاً لم يدرك أبا هريرة فالسند منقطع.
(2) ويستثنى من ذلك أمير المؤمنين معاوية -- رضي الله عنه -- ، وعمر بن عبد العزيز -رحمَهُ اللهُ-.
(3) نيل الأوطار(3/200).
(4) صحيح البخاري(1/246).
(5) رواه ابن سعد في الطبقات(4/149) بسند صحيح.(1/15)
وعن أبي صالح -رحمَهُ اللهُ- : أنه سأل عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص وأبا سعيد الخدري عن الزكاة أينفذها على ما أمر الله أو يدفعها إلى الولاة؟ قالوا : "بل يدفعها إلى الولاة"(1) .
وقال سليمان الأعمش -رحمَهُ اللهُ- : "كان كبار أصحاب عبد الله يصلون الجمعة مع المختار ، ويحتسبون بها"(2).
قال الإمام أحمد : " والغزو ماضٍ مع الإمام إلى يوم القيامة البر والفاجر لا يترك.
وقسمة الفيء وإقامة الحدود إلى الأئمة ماض ليس لأحد أن يطعن عليهم ولا ينازعهم.
ودفع الصدقات إليهم جائزة نافذة من دفعها إليهم أجزأت عنه براً كان أو فاجراً.
وصلاة الجمعة خلفه وخلف من ولاه جائزة باقية تامة ركعتين من أعادهما فهو مبتدع تارك للآثار مخالف للسنة ليس له من فضل الجمعة شيء إذا لم ير الصلاة خلف الأئمة من كانوا برهم وفاجرهم فالسنة بأن يصلي معهم ركعتين وتدين بأنها تامة لا يكن في صدرك من ذلك شيء"(3) .
وقال الإمام البربهاري-رحمَهُ اللهُ- : "ومن قال: الصلاة خلف كل برٍّ وفاجر ، والجهاد مع كل خليفة ، ولم ير الخروج على السلطان بالسيف ، ودعا لهم بالصلاح فقد خرج من قول الخوارج أوله وآخره"(4) .
وقال أبو بكر الإسماعيلي -رحمَهُ اللهُ- : "ويرون الصلاةَ الجمعة وغيرها خلف كل إمام مسلم ، براً كان ، أو فاجراً ، فإن الله -عزَّ وجلَّ- فرضَ الجمعة ، وأمر بإتيانها فرضاً مطلقا مع علمه تعالى بأن القائمين يكون منهم الفاجر والفاسق ، ولم يستثن وقتا دون وقت ، ولا أمرا بالنِّداء للجمعة دون أمر .
__________
(1) رواه ابن أبي زمنين في أصول السنة(ص/286) بسند صحيح.
(2) رواه ابن أبي زمنين في أصول السنة(ص/284) وسنده صحيح.
(3) أصول السنة(ص/43-45).
(4) شرح السنة(ص/129).(1/16)
ويرون جهاد الكفار معهم وإن كانوا جورة ، ويرون الدعاء لهم بالإصلاح والعطف إلى العدل ولا يرون الخروج بالسيف عليهم ولا قتال الفتنة ويرون قتال الفئة الباغية مع الإمام العادل إذا كان ووجد على شرطهم في ذلك"(1) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمَهُ اللهُ- : " مضت السنة بأن يغزى مع كل أمير برا كان أو فاجرا والجهاد عمل مشكور صاحبه في الظاهر لا محالة"(2) .
وقال الطحاوي -رحمَهُ اللهُ- : "ونرى الصلاة خلف كل برٍّ وفاجر من أهل القبلة وعلى من مات منهم".
قال الشيخ العلامة صالح بن فوزان الفوزان –حفظه الله- : "(152) ونرى الصلاة خلف كل برٍّ وفاجرٍ من أهل القبلة، وعلى من مات منهم:
هذا فيه مسألتان:
الأولى: أن الصلاة عمل وإحسان، فإذا فعلها الناس خصوصاً ولاة الأمور، فإنهم عملوا معروفاً وإحساناً، وفي ترك الصلاة خلفهم فيه محظور عظيم، من شق العصا، وتفريق الكلمة، وسفك الدماء وهذا خطر عظيم، فيجب أن يُتلافى قال -- صلى الله عليه وسلم -- : "صلوا خلف من قال: لا إله إلا الله، وعلى من قال: لا إله إلا الله"، هذا من حيث العموم، فكيف بولاة الأمور الذين في منابذتهم ومخالفتهم شق لعصا الطاعة، وتفريق الكلمة، وآثار سيئة على المسلمين؟
هذا مذهب أهل السنة والجماعة، يصلون الجمع والجماعات، ويجاهدون في سبيل الله مع كل أمير، براً كان أو فاجراً، ما لم يخرج عن الإسلام.
هذا أصل من أصول أهل السنة والجماعة، من عهد الصحابة إلى عهد الأئمة، وهو الذي عليه إجماع المسلمين من أهل السنة والجماعة.
__________
(1) اعتقاد أهل الحديث(ص/75-76).
(2) مجموع الفتاوى(4/13).(1/17)
المسألة الثانية: الصلاة على جنازة المسلم وإن كان فاسقاً، ما لم يخرج من الإسلام، فهو مسلم له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، أما إذا خرج عن الإسلام فلا يصلى عليه؛ لأنه ليس بمسلم، وليس كل إنسان يَحكُمُ على الناس بالردة، إنما يحكم بذلك أهل العلم والبصيرة بالرجوع إلى قواعد أهل السنة والجماعة، أما كل أحد فلا يحكم بذلك، وإن كانت نيته طيبة ومقصده حسناً، إنما الحكم لأهل البصيرة والراسخين في العلم"انتهى كلام الشيخ الفوزان –حفظه الله-.
النَّوْعُ السادس
وجوب مناصحة ولاة الأمر والأمراء سراً لا جهراً
النصيحة من أمور الدين الهامة ، ووجودها دليل على خيرية الأمة وفضلها .
وقد أمر الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في آيات كثيرة .
قال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1).
وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ {78} كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}(2).
وقال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : ((الدين النصيحة)) قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"(3) .
وقال -- صلى الله عليه وسلم -- : ((ثلاث خصال لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لولاة الأمر، ولزوم الجماعة فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)) (4).
__________
(1) سورة آل عمران(آية/104).
(2) سورة المائدة(آية/78).
(3) رواه مسلم في صحيحه(1/74رقم55) من حديث تميم الداري -- رضي الله عنه --.
(4) رواه الإمام أحمد في المسند وأبو داود وابن أبي عاصم وابن حبان في صحيحه وغيرهم ، وسنده صحيح.(1/18)
ولكن النصيحة للسلطان مقيدة بالسِّرِّ ، فلا ينكر عليه علانية لما فيه من الفساد والإفساد
عن عياض بن غنم -- رضي الله عنه -- قال: قال رسول الله -- صلى الله عليه وسلم --: ((من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية ، وليأخذ بيده ، فإن سمع منه فذاك ، وإلا كان أدى الذي عليه)) (1)
عن أسامة بن زيد -- رضي الله عنه -- أنه قيل له: ألا تدخل على عثمان لتكلمه؟ فقال: "أترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم؟ ، والله لقد كلمته فيما بيني وبينه ، ما دون أن أفتح أمراً لا أحب أن أكون أول من فتحه" متفق عليه.
وقال عبد الله بن أبي أوفى -- رضي الله عنه -- : "عليك السواد الأعظم ، عليك بالسواد الأعظم ، إن كان السلطان يسمع منك فائته في بيته فأخبره بما تعلم ، فإن قبل منك ، وإلا فدعه فإنك لست بأعلم منه"(2).
وقال ابن النحاس -رحمَهُ اللهُ- : "ويختار الكلام مع السلطان في الخلوة على الكلام معه على رؤوس الأشهاد ، بل يود لو كلَّمه سراً ، ونصحه خفية من غير ثالث لهما"(3) .
قال العلامة محمد بن علي الشوكاني ـ رحمه الله ـ: "ولكنه ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام في بعض المسائل أن يناصحه، ولا يظهر الشناعة عليه على روؤس الأشهاد بل كما ورد في الحديث أن يأخذ بيده ويخلو به ويبذل له النصيحة ولا يُذل سلطان الله..." (4) .
__________
(1) رواه أحمد وابن أبي عاصم في السنة والطبراني والحاكم والبيهقي وغيرهم وهو حديث صحيح.
(2) رواه الإمام أحمد في المسند والطبراني وسنده حسن .
(3) رَ: تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين ، وتحذير السالكين من أفعال الهالكين(ص/64) .
(4) السيل الجرار(4/ 556).(1/19)
وقال الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف -رحمه الله- : "وأما ما قد يقع من ولاة الأمور من المعاصي والمخالفات التي لا توجب الكفر والخروج عن الإسلام فالواجب فيها مناصحتهم على الوجه الشرعي برفق ، واتباع ما كان عليه السلف الصالح من عدم التشنيع عليهم في المجالس ومجامع الناس ، واعتقاد أن ذلك من إنكار المنكر الواجب إنكاره على العباد ، وهذا غلط فاحش وجهل ظاهر لا يعلم صاحبه ما يترتب عليه من المفاسد العظام في الدين والدنيا ، كما يعرف ذلك من نوَّر الله قلبه ، وعرف طريقة السلف الصالح وأئمة الدين"(1)
وقد أرسل الإمام المفتي محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله- رسالة نصح فيها بعض تلامذته حيث كتب إليه يقول: "من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرَّم الشيخ ...المحترم سلَّمه الله .
بلغني أن موقفك من الإمارة ليس كما ينبغي ، وتدري –بارك الله فيك- أن الإمارة ما قصد بها إلا نفع الرعيَّة ، وليس من شرطها أن لا يقع منها زلل . والعاقل بل وغير العاقل يعرف أن منافعها وخيرها الديني والدنيوي يربوا على مفاسدها بكثير.
ومثلك إنما منصبه منصب وعظٍ وإرشاد وإفتاء بين المتخاصمين.
ونصيحة الأمير والمأمور بالسِّرِّ ، وبِنِيَّةٍ خالصة تعرف فيها النتيجة النافعة للإسلام والمسلمين.
ولا ينبغي أن تكون عثرة الأمير أو العثرات نصْبَ عينيك والقاضية على فكرك، والحاكمة على تصرُّفاتك بل في السرِّ قم بواجب النصيحة ، وفي العلانية أظهر وصرِّح بما أوجب الله من حقِّ الإمارة والسمع والطاعة لها ، وأنها لم تأت لجباية أموال الناس ، وظلم دماء وأعراض من المسلمين ، ولم تفعل ذلك أصلاً إلا أنها غير معصومة فقط.
فأنت كن وإياها أخوين:
أحدهما : مبين واعظ ناصح.
والآخر: باذل ما يجب عليه كاف عن ما ليس له ، إن أحسن دعا له بالخير ونشط عليه ، وإن قصَّر عومل بما أسلفت لك.
__________
(1) الدرر السنية(9/119).(1/20)
ولا يظهر عليك عند الرعية ولا سيما المتظلمين بالباطل عتبك على الأمير وانتقادك إياه ، لأنَّ ذلك غير نافع الرعية بشيء ، وغير ما تعبَّدت به. إنما تعبَّدت بما قدمت لك ونحوه ، وأن تكون جامع شمل لا مشتت ، مؤلِّف لا منفِّر ، واذكر وصيَّة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لمعاذ وأبي موسى: ((يسرا ولا تعسِّرا ، وبشِّرا ولا تنفِّرا ، وتطاوعا ولا تختلفا))(1) أو كما قال -- صلى الله عليه وسلم -- .
وأنا لم أكتب لك ذلك لغرضٍ سوى النصيحة لك وللأمير ولكافة الجماعة وللإمام المسلمين والله ولي التوفيق والسلام عليكم"(2).
وسئل الشيخ العلامة الإمام عبد العزيز بن باز رحمَهُ اللهُ- : "هل من منهج السلف نقد الولاة فوق المنابر، وما منهج السلف في نصح الولاة؟"
فأجاب رحمَهُ اللهُ-: "ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة وذكر ذلك على المنابر لأنَّ ذلك يفضي إلى الفوضى وعدم السمع والطاعة في المعروف ويفضي إلى الخوض الذي يضر ولا ينفع، ولكن الطريقة المتبعة عند السلف النصيحة فيما بينهم وبين السلطان والكتابة إليه أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به حتى يوجه إلى الخير.
وإنكار المنكر يكون من دون ذكر الفاعل؛ فينكر الزنا، وينكر الخمر، وينكر الربا من دون ذكر من فعله، ويكفي إنكار المعاصي، والتحذير منها من غير أن يذكر فلاناً يفعلها؛ لا حاكم ، ولا غير حاكم.
ولما وقعت الفتنة في عهد عثمان -- رضي الله عنه -- ، قال بعض الناس لأسامة بن زيد-- رضي الله عنه -- ألا تكلم عثمان؟
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه(6/163-مع فتح الباري) ، ومسلم في صحيحه(3/1359 رقم1733) .
(2) فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم(12/182-183) .(1/21)
فقال: إنكم ترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم؟ إني لأكلمه فيما بيني وبينه دون أن أفتتح أمراً لا أحب أن أكون أول من افتتحه (1).
ولما فتحوا –أي: الخوارج- الشر في زمان عثمان -- رضي الله عنه -- وأنكروا على عثمان جهرة تمت الفتنة والقتال والفساد الذي لا يزال الناس في آثاره إلى اليوم حتى حصلت الفتنة بين علي ومعاوية، وقتل عثمان بأسباب ذلك، وقتل جمع كثر من الصحابة وغيرهم بأسباب الإنكار العلني، وذكر العيوب علنا حتى أبغض الناس ولي أمرهم وقتلوه، نسأل الله العافية"(2)
وقال الشيخ الألباني : "
وقال شيخنا الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين -رحمَهُ اللهُ- : "فإنَّ بعض الناس ديدنه في كل مجلس يجلسه الكلام في ولاة الأمور والوقوع في أعراضهم ونشر مساوئهم وأخطائهم معرضاً بذلك عمَّالهم من محاسن أو صواب ولا ريب أن سلوك هذا الطريق والوقوع في أعراض الولاة لا يزيد الأمر إلا شدة فإنه لا يحل مشكلاً ولا يرفع مظلمة وإنما يزيد البلاء بلاءً ويوجب بغض الولاة وكراهتهم وعدم تنفيذ أوامرهم التي يجب طاعتهم فيها ونحن لا نشك أن ولاة الأمر قد يسيئون وقد يخطئون كغيرهم من بني آدم فإن كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، ولا نشك أيضاً أنه لا يجوز لنا أن نسكت على أي إنسان ارتكب خطأ حتى نبذل ما نستطيعه من واجب النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"(3)
وسئل فضيلة الشيخ العلامة صالح بن فوزان الفوزان -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ-: "ما رأي فضيلتكم في بعض الشباب الذين يتكلمون في مجالسهم عن ولاة الأمور في هذه البلاد بالسب والطعن فيهم؟".
__________
(1) أخرج القصة الشيخان، وأحمد وغيرهم، من حديث "يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار..."بألفاظ، عن أسامة بن زيد .
(2) المعلوم من واجب العلاقة بين الحاكم والمحكوم(السؤال العاشر).
(3) رسالة حقوق الراعي والرعية للشيخ محمد بن صالح العثيمين.(1/22)
فأجاب فضيلته: "هذا كلام معروف أنه باطل، وهؤلاء إما أنهم يقصدون الشر وإما أنهم تأثروا بغيرهم من أصحاب الدعوات المضللة الذين يريدون سلب هذه النعمة التي نعيشها.
إلى أن قال فضيلته: أما أننا نتخذ من العثرات والزلات سبيلا لتنقص ولاة الأمور أو الكلام فيهم، أو تبغيضهم إلى الرعية فهذه ليست طريقة السلف أهل السنة والجماعة…..
ثم قال: والكلام في ولاة الأمور من الغيبة والنميمة، وهما من أشد المحرمات بعد الشرك بالله، لا سيما إذا كانت الغيبة للعلماء وولاة الأمور فهي أشد، لما يترتب عليها من المفاسد من تفريق الكلمة، وسوء الظن بولاة الأمور وبعث اليأس في نفوس الناس والقنوط"(1) .
وقال فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع عضو هيئة كبار العلماء : "ولا شك أن ولاة الأمور من أهم من تجب مناصحتهم ، والتعاون معهم ، والإسهام في التعرف على مناهج الفلاح والصلاح لمسالكهم ، وأن تكون مناصحتهم مبنية على الرفق واللين وأدب الخطاب والاعتراف بمقاماتهم الاجتماعية في بلادهم وذكر ما يقدمونه لبلادهم من خدمات عامّة تُعنى بشؤون حياة العباد في الدنيا والآخرة"(2)
النَّوْعُ السابع
حرمة سبهم ، وغيبتهم ، وغشهم ، والطعن فيهم ، والتشهير بهم
إن سبَّ ولاة الأمور ، وغيبتهم ، وغشهم ، والطعن فيهم ، والتشهير مما حرمه الله ورسوله ، وهو من كبائر الذنوب ، وهو مخالف لما عليه أهل السنة والجماعة، ومن شعار أهل البدع والضلال .
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}(3).
__________
(1) الأجوبة المفيدة عن أسئلة المناهج الجديدة (ص64،65،66).
(2) تقريظ كتاب: "وصيتي للإخوان بمنهج أهل السنة في نصيحة السلطان" لبدر العتيبي.
(3) سورة الأنفال(آية/27).(1/23)
وقال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : ((من غشنا فليس منا))(1)
عن أنس بن مالك قال: نهانا كبراؤنا من أصحاب رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- قالوا: قال رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- : ((لا تسبوا أمراءكم، ولا تغشوهم، ولا تبغضوهم، واتقوا الله واصبروا، فإن الأمر قريب))(2)
قال أبو الدرداء -- رضي الله عنه -- : "إياكم ولعن الولاة ، فإنَّ لعنهم الحالقة ، وبغضهم العاقرة" قيل: يا أبا الدرداء ، فكيف نصنع إذا رأينا منهم ما لا نحب؟ قال: "اصبروا ، فإن الله إذا رأى ذلك منهم حبسهم عنكم بالموت"(3)
وقال أبو إسحاق السبيعي -رحمَهُ اللهُ- : "ما سب قوم أميرهم إلا حرموا خيره"(4)
وقال أبو مجلز لاحق بن حميد -رحمَهُ اللهُ- : " سب الإمام الحالقة ، لا أقول حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين"(5)
وقال أبو إدريس الخولاني -رحمَهُ اللهُ- : "إياكم والطعن على الأئمة، فإنَّ الطعن عليهم هي الحالقة، حالقة الدين ليس حالقة الشعر، ألا إنَّ الطاعنين هم الخائبون وشرار الأشرار"(6) .
والنهي عن سب الأمراء وغيبتهم والطعن فيهم والتشهير بهم لما فيه من الفساد والإعانة على سفك الدماء
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه(1/99رقم101) من حديث أبي هريرة -- رضي الله عنه -- .
(2) رواه ابن أبي عاصم في السنة وسنده صحيح.
(3) رواه ابن أبي عاصم في السنة وسنده صحيح .
تنبيه: في إسناده : أبو اليمان عامر بن عبد الله الهوزني ، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال في مشاهير علماء الأمصار(ص/114) : "وكان ثبتاً".
(4) رواه ابن عبد البر في التمهيد(21/287) وسنده صحيح.
(5) رواه ابن زنجويه في الأموال(رقم34) وإسناده حسن.
(6) رواه ابن زنجويه في الأموال(رقم38) وسنده حسن.(1/24)
قال عبد الله بن عكيم -رحمَهُ اللهُ- : ولا أعين على دم خليفة أبداً بعد عثمان -- رضي الله عنه -- . فقيل له: يا أبا معبد أوَ أعنت على دمه؟ فيقول: إني أعد ذكر مساوئه عوناً على دمه"(1).
وقال الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف رحمَهُ اللهُ-: "وأما ما قد يقع من ولاة الأمور من المعاصي والمخالفات التي لا توجب الكفر والخروج عن الإسلام فالواجب فيها مناصحتهم على الوجه الشرعي برفق ، واتباع ما كان عليه السلف الصالح من عدم التشنيع عليهم في المجالس ومجامع الناس ، واعتقاد أن ذلك من إنكار المنكر الواجب إنكاره على العباد ، وهذا غلط فاحش وجهل ظاهر لا يعلم صاحبه ما يترتب عليه من المفاسد العظام في الدين والدنيا ، كما يعرف ذلك من نوَّر الله قلبه ، وعرف طريقة السلف الصالح وأئمة الدين"(2)
وسئل الشيخ العلامة الإمام عبد العزيز بن باز رحمَهُ اللهُ- : "هل من منهج السلف نقد الولاة فوق المنابر، وما منهج السلف في نصح الولاة؟"
فأجاب رحمَهُ اللهُ-: "ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة وذكر ذلك على المنابر لأنَّ ذلك يفضي إلى الفوضى وعدم السمع والطاعة في المعروف ويفضي إلى الخوض الذي يضر ولا ينفع، ولكن الطريقة المتبعة عند السلف النصيحة فيما بينهم وبين السلطان والكتابة إليه أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به حتى يوجه إلى الخير.
وإنكار المنكر يكون من دون ذكر الفاعل؛ فينكر الزنا، وينكر الخمر، وينكر الربا من دون ذكر من فعله، ويكفي إنكار المعاصي، والتحذير منها من غير أن يذكر فلاناً يفعلها؛ لا حاكم ، ولا غير حاكم.
__________
(1) رواه ابن سعد في الطبقات(6/115) ويعقوب بن سفيان في المعرفة(1/231) وسنده صحيح.
(2) الدرر السنية(9/119).(1/25)
ولما وقعت الفتنة في عهد عثمان -- رضي الله عنه --قال بعض الناس لأسامة بن زيد -- رضي الله عنه --ألا تكلم عثمان؟فقال: إنكم ترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم؟ إني لأكلمه فيما بيني وبينه دون أن أفتتح أمرا لا أحب أن أكون أول من افتتحه(1).
ولما فتحوا –أي: الخوارج- الشر في زمان عثمان -- رضي الله عنه -- وأنكروا على عثمان جهرة تمت الفتنة والقتال والفساد الذي لا يزال الناس في آثاره إلى اليوم حتى حصلت الفتنة بين علي ومعاوية، وقتل عثمان بأسباب ذلك، وقتل جمع كثر من الصحابة وغيرهم بأسباب الإنكار العلني، وذكر العيوب علنا حتى أبغض الناس ولي أمرهم وقتلوه، نسأل الله العافية"(2).
وسئل الشيخ العلامة صالح الفوزان –حفظه الله-: "ما رأي فضيلتكم في بعض الشباب الذين يتكلمون في مجالسهم عن ولاة الأمور بالسب والطعن فيهم؟
فأجاب -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ-: " هذا الكلام معروف أنه باطل ، وهؤلاء إما أنهم يقصدون الشر ، وإما أنهم تأثروا بغيرهم من أصحاب الدعوات المضللة –إلى أن قال:- فهذه ليست طريقة السلف أهل السنة والجماعة"(3).
النَّوْعُ الثامن
وجوب لزوم جماعة المسلمين وإمامهم ، وحرمة الخروج عليهم ، وحرمة الإعانة على من خرج عليهم ولو بالكلمة
فالجماعة رحمة والفرقة عذاب.
قد سبق ذكر ما قاله الرسول -- صلى الله عليه وسلم -- : ((ثلاث خصال لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لولاة الأمر، ولزوم الجماعة فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)).
__________
(1) أخرج القصة الشيخان، وأحمد وغيرهم، من حديث "يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار..."بألفاظ، عن أسامة بن زيد .
(2) المعلوم من واجب العلاقة بين الحاكم والمحكوم(السؤال العاشر).
(3) الأجوبة المفيدة(ص/57) .(1/26)
وقال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : ((عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة))(1).
"وهذا الأمر المهمُّ ، وإن كان واجباً على المسلم في جميع أحواله إلا أنه وقتَ الفتنِ آكدُ وألزمُ لما يترتب على ذلك من سلامة فوريَّة للفرد وللأمة من هذه الفتن المضلَّة.
وهذا الأمر أصلٌ من أصولِ أهل السنة والجماعة المجمع عليها .
قال الطحاوي -رحمه الله- : "ونرى الجماعة حقاً وصواباً ، والفرقة زيغاً وضلالاً"(2).
وقال -رحمه الله-: "ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا ، ولا ندعوا عليهم ، ولا نَنْزِعُ يداً من طاعتهم ، ونرى طاعتهم من طاعة الله –عزَّ وجلَّ- فريضة ، ما لم يأمروا بمعصية ، وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة"ا.هـ(3).
فهذه كلمات جامعة مانعة في تفسير هذا الأصل العظيم ، وبيان الواجب فيه على مذهب السلف -رحمهم الله- لا على المذاهب المخالفة الشاذةِ عن الجماعة.
وقد بيَّن العلماء -رحمهم الله- معنى الجماعة بياناً شافياً .
قال الطبري -رحمه الله-في شرحه لحديث حذيفة في الفتن(4) : "اختلف في هذا الأمر وفي الجماعة ؛ فقال قوم: هو للوجوب ، الجماعة : السواد الأعظم ، وقال قوم: المراد بالجماعة الصحابة دون مَنْ بعدهم . وقال قوم: المراد بهم أهل العلم لأن الله جعلهم حجةً على الخلق ، والناس تبع لهم في أمر الدين.
قال الطبري: والصواب أن المراد في الخبر لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره ، فمن نكث بيعته خرج عن الجماعة .
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند(1/18) ، والحميدي في مسنده(1/19) ، والترمذي(4/ 465رقم2165)، والنسائي في الكبرى(5/388رقم9225) ، وابن حبان في صحيحه(16/ 240رقم7254) ، والحاكم(1/114) وغيرهم وسنده صحيح.
(2) العقيدة الطحاوية(ص/775-مع شرح ابن أبي العز)
(3) المصدر السابق(ص/540) .
(4) سيأتي الحديث قريباً(ص/49).(1/27)
قال الطبري: وفي الحديث انه متى لم يكن للناس إمام ، فافترق الناس أحزاباً ، فلا يتبع أحداً في الفرقة ، ويعتزل الجميع إن استطاع ذلك ، خشية من الوقوع في الشر"(1).
ويمكن أن يقال-والله أعلم-: إن النصوصَ الشرعيةَ قد دلَّت على أن الجماعة جماعتان لا تضاد بينهما :
الأولى: الجماعة العلمية: وهم أصحاب رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين.
فالواجب على المسلم أن يلزمَ مذهبهم ، ويتقيَّدَ بفهمهم ، ولا يخالفهم في شيء من أمور الدين أبداً .
قال ابن أبي العز -رحمه الله-: "السنة طريقة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، والجماعة جماعة المسلمين ، وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين، فاتباعهم هدى، وخلافهم ضلال"(2).
الثانية: جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أميرٍ وجبَ عليهم طاعته ، وحرًمَ عليهم معصيته ، ووجب عليهم الالتزامُ بهذه الجماعة ، وعدم الخروج عنها لما في ذلك من الأمن والسلامة للفرد والأمة.
والأدلة على وجوب لزوم جماعة المسلمين وإمامهم كثيرة من الكتاب والسنة .
قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} قال الطَّبْرِيُّ: يعنِي بذلك جل ثناؤه: وتعلقوا بأسباب الله جميعاً ، يريد بذلك تعالى ذكره وتمسكوا بدين الله الذي أمركم به ، وعهده الذي عهده إليكم في كتابه إليكم ، من الألفة والاجتماع على كلمة الحق، والتَّسْلِيم لأمر الله .
ثم ساق بإسناده عن عبد الله بن مسعود أنه قال في قوله: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً} قال: الجماعة.
__________
(1) فتح الباري(13/37) باختصار.
(2) شرح العقيدة الطحاوية(ص/544).(1/28)
ثم قال أبو جعفر: "وقوله:{وَلاَ تَفَرَّقُواْ} يعني جل ثناؤه: ولا تتفرقوا عن دين الله، وعهده الذي عهد إليكم في كتابه من الائتلاف ، والاجتماع على طاعته ، وطاعة رسوله ، والانتهاء إلى أمره.
ثم ساق بسنده عن قتادة قال: إنَّ الله -عزَّ وجلَّ- قد كره لكم الفرقة ، وقدَّم إليكم فيها ، وحذركموها ، ونهاكم عنها ، ورضي لكم السمع والطاعة ، والألفة والجماعة ، فارضوا لأنفسكم ما رضي الله لكم إن استطعتم ، ولا قوة إلا بالله .
وبسنده عن عبد الله بن مسعود أنه قال: يا أيها الناس ، عليكم بالطاعة والجماعة، فإنهما حبل الله الذي أمر به ، وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة ، هو خير مما تستحبون في الفرقة"(1).
وقال ابن كثير -رحمه الله- : "وقوله: {وَلاَ تَفَرَّقُواْ} : أمرهم بالجماعة ، ونهاهم عن التفرقة ، وقد وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفرق ، والأمر بالاجتماع والائتلاف ...وقد ضمنت لهم العصمة عند اتفاقهم من الخطأ ، كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضاً ، وخيف عليهم الافتراق والاختلاف ، وقد وقع ذلك في هذه الأمة ، فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة ، منها فرقة ناجية إلى الجنة ، ومسلَّمَة من عذاب النار ، وهم الذين على ما كان عليه النبي-- صلى الله عليه وسلم -- وأصحابه-- رضي الله عنهم --"(2).
وقال تعالى آمراً بالجماعة ، وناهياً عن الفرقة ، ومبيناً سوء عاقبتها على أهلها في الدنيا والآخرة : {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ{105}يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}الآية(3) .
__________
(1) تفسير ابن جرير(7/74-75-شاكر).
(2) تفسير ابن كثير(2/745) .
(3) سورة آل عمران(آية/150-106) .(1/29)
قال ابن كثير -رحمه الله-: "ينهى تبارك وتعالى هذه الأمة أن يكونوا كالأمم الماضين ؛ في افتراقهم ، واختلافهم ، وتركهم الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر، مع قيام الحجة عليهم .
ثم ذكر حديث معاوية في الافتراق وفيه: ((وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة -يعني الأهواء- كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة))(1).
ثم قال: "وقوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} يعني: يوم القيامة حين تبيض وجوه أهل السنة والجماعة ، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة ، قاله ابن عباس -رضي الله عنهما-"(2).
والآيات في هذا المعنى كثيرة ، وقد دلت السنَّة كذلك على ما دلَّ عليه القرآن؛ من لزومِ الجماعةِ ، والتحذيرِ من الفرقة ، وبيان سوء عاقبتها على أهلها في الدنيا والآخرة.
وأشهر ما يروى في ذلك حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- ، قال -- رضي الله عنه --: "كان الناس يسألون رسول الله عن الخير ، وكنت أسأله عن الشرِّ مخافةَ أن يدركني ، فقلت: يا رسول الله ، إنَّا كنا في جاهلية وشر ، فجاءنا الله بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: ((نعم)) قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: ((نعم ، وفيه دخن)) قلت: وما دخنه؟ قال: ((قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم ، وتنكر)) قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: ((نعم ، دعاة على أبواب جهنم ، مَنْ أجابهم إليها قذفوه فيها)) قلت: يا رسول الله ، صفهم لنا. قال: ((هم من جلدتنا ، ويتكلمون بألسنتنا)) قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: ((تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)) قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ، ولا إمام؟ قال: ((فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تَعَضَّ بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك))(3).
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) تفسير ابن كثير(2/747) .
(3) رواه البخاري في صحيحه(13/35-مع الفتح) ، ومسلم في صحيحه(3/1475رقم1847).(1/30)
وفي لفظ آخر عند مسلم : ((يكون بعدي أئمة ، لا يهتدون بهداي ، ولا يستنون بسنتي ، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس )) قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: ((تسمع ، وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك ، وأخذ مالك ، فاسمع ، وأطع))(1).
فهذا الحديث العظيم –كما ترى- نصٌّ واضح في وجوب لزوم جماعة المسلمين وإمامهم ، ولا سيما وقتَ ظهور دعاة الفتن ، فإن في الالتزام بذلك نجاة من هؤلاء الدعاة ، حتى لو كان الأئمة عندهم نقصٌ في التمسكِ بالدين .
وفيه –كذلك- ردٌّ عظيمٌ على مَن زعمَ أنَّ مفارقة جماعة المسلمين وإمامهم وقت الفتنِ وسيلةٌ لإصلاح الأمة ، وهذا فهمٌ معكوسٌ ، منكوسٌ ، بعيدٌ كلَّ البعدِ عن مرادِ الله ورسوله ، من الحرص على جماعة المسلمين .
قال ابن حجر في شرحه لهذا الحديث: "قال ابن بطَّال: فيه حجة لجماعة الفقهاء في وجوب لزوم جماعة المسلمين ، وترك الخروج على أئمة الجور ، لأنه وصف الطائفة الأخيرة بأنَّهم دعاة على أبواب جهنم ، ولم يقل فيهم: تعرف وتنكر ، كما قال في الأولين، وهم لا يكونون كذلك إلا وهم على غير الحق، وأمر مع ذلك بلزوم الجماعة"(2).
وعن أبي هريرة -- رضي الله عنه -- أنَّ النبيَّ -- صلى الله عليه وسلم -- قال: ((إن الله يرضى لكم ثلاثاً ، ويكره ثلاثاً ، فرضي لكم أن تعبدوه ، ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ، ويكره لكم : قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال))(3).
قال النووي -رحمه الله-: "وأما قوله: ((ولا تفرقوا)) فهو أمرٌ بلزوم جماعة المسلمين ، وتآلف بعضهم ببعض ، وهذه إحدى قواعد الإسلام"(4).
قال ابن عبد البر -رحمه الله- : "وفيه الحض على الاعتصام والتمسك بحبل الله في حال اجتماع وائتلاف .
__________
(1) صحيح مسلم(3/1476رقم1847).
(2) فتح الباري(13/37) .
(3) رواه مسلم في صحيحه(3/1340رقم1715)
(4) شرح مسلم للنووي(12/10) .(1/31)
وحبل الله في هذا الموضع ، فيه قولان:
أحدهما : كتاب الله .
والآخر: الجماعة ، ولا جماعة إلا بإمام .
وهو عندي معنى متداخل متقارب ، لأنَّ كتاب الله يأمر بالألفة ، وينهى عن الفرقة ...
غير أن هذا الحديث المراد به -والله أعلم- الجماعة على إمام يسمع له ويطاع ، فيكون ولي من لا ولي له في النكاح ، وتقديم القضاة للعقد على الأيتام ، وسائر الأحكام ، ويقيم الأعياد والجمعات ، وتؤمن به السبل ، وينتصف به المظلوم ، ويجاهد عن الأمة عدوها ، ويقسم بينها فيئها ،
لأن الاختلاف والفرقة هلكة ، والجماعة نجاة .
قال ابن المبارك -رحمه الله-:
إن الجماعة حبلُ الله فاعتصموا
... منه بعروته الوثقى لمن دانا
كم يرفع الله بالسلطان مظلمة
... في ديننا رحمة منه ودنيانا
لولا الخلافة لم تؤمن لنا سبل
... وكان أضعفنا نهبا لأقوانا"(1).
وعن أنس بن مالك -- رضي الله عنه -- : أنَّ رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- قال: ((نضَّرَ الله عبداً سمع مقالتي هذه فحملها ، فرُبَّ حامل الفقه فيه غير فقيه ، ورُبَّ حامل الفقه إلى من هو أفقه منه. ثلاثٌ لا يغل عليهن صدر مسلم ؛ إخلاص العمل لله –عز وجل-، ومناصحة أولي الأمر ، ولزوم جماعة المسلمين ، فإنَّ دعوتهم تحيط من ورائهم))(2).
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: " وهذه الثلاث تجمع أصول الدين وقواعده، وتجمع الحقوق التي لله ولعباده ، وتنتظم مصالح الدنيا والآخرة ...
وأما الحقوق العامة ، فالناس نوعان: رعاة ، ورعية .
فحقوق الرعاة مناصحتهم ، وحقوق الرعية لزوم جماعتهم ، فإن مصلحتهم لا تتم إلا باجتماعهم ، وهم لا يجتمعون على ضلالة ، بل مصلحة دينهم ودنياهم في اجتماعهم، واعتصامهم بحبل الله جميعاً ، فهذه الخصال تجمع أصول الدين"(3).
__________
(1) التمهيد(21/272) باختصار.
(2) سبق تخريجه.
(3) مجموع الفتاوى(1/18-19) باختصار.(1/32)
وقد قال تعالى: { وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}(1) .
وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(2) .
وقال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : ((الجماعة رحمة والفرقة عذاب)) (3).
وقد جاء الترهيب والعقاب الشديد لمن خرج على الإمام ، أو ثبط عن طاعة ولاة الأمور ، أو أثار عليهم ، ومن فارق الجماعة
قال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ((من خرج من الطاعة ، وفارق الجماعة ، فمات ؛ مات ميتة جاهلية ، ومن قاتل تحت راية عُمِّيَّة يغضب لعصبية ، أو يدعو إلى عصبية ، أو ينصر عصبية ، فقتل ؛ فقتلة جاهلية ، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها ، ولا يفي لذي عهد عهده ، فليس مني ، ولست منه)) (4)
__________
(1) سورة الأنفال(آية/46).
(2) سورة آل عمران(آية/103).
(3) رواه الإمام أحمد في المسند(4/278، 375) ، وابنه عبد الله في زوائد المسند(4/375) ، والبزار في مسنده(8/226رقم3282) ، وابن أبي عاصم في السنة(1/94رقم93) ، وغيرهم من حديث النعمان بن بشير -- رضي الله عنه -- وسنده حسن….
(4) رواه مسلم في صحيحه(3/1477) عن أبي هريرة -- رضي الله عنه --.(1/33)
وقال النبي -- صلى الله عليه وسلم --: ((وأنا آمركم بخمس ، الله أمرني بهنَّ: بالجماعة ، وبالسمع والطاعة ، والهجرة ، والجهاد في سبيل الله ، فإنَّهُ من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلى أن يرجع ، ومن دعا بدعوى الجاهلية فإنَّهُ من جُثَاء جهنم)) فقال رجل: يا رسول الله ، وإن صلى وصام؟ قال: ((وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم ، فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله)) (1).
وقال رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- : ((ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل فارق الجماعة وعصى إمامه ؛ فمات عاصياً ، وأمة أو عبد آبق من سيده فمات ، وامرأة غاب عنها زوجها يكفيها المؤتة فتبرجت بعده فلا تسأل عنهم)) (2).
وقال رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- : ((من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد ، يريد أن يشق عصاكم ويفرق كلمتكم فاقتلوه))
وفي رواية: ((إنَّهُ ستكون هنات وهنات ، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان))(3).
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند والترمذي وابن خزيمة والحاكم وغيرهم من حديث الحارث الأشعري -- رضي الله عنه -- وهو حديث صحيح ، صححه الترمذي ، وابن خزيمة والحاكم وغيرهم
(2) رواه الإمام أحمد في المسند والبخاري في الأدب المفرد وابن أبي عاصم في السنة وابن حبان في صحيحه والحاكم وغيرهم من حديث فضالة بن عبيد -- رضي الله عنه -- وهو حديث صحيح ، صححه ابن حبان والحاكم وغيرهما ، وحسنه ابن عساكر.
(3) رواه مسلم في صحيحه(3/1479-1480رقم1852) من حديث عرفجة -- رضي الله عنه --.(1/34)
وعن نافع قال: لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية، جمع ابن عمر حشمه وولده، فقال: إني سمعت النبيَّ -- صلى الله عليه وسلم -- يقول: ((يُنصب لكل غادرٍ لواءٌ يوم القيامة))، وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني لا أعلم غدراً أعظم من أن يُبايع رجلٌ على بيع الله ورسوله ثم يُصب له القتال، وإني لا أعلم أحداً منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه "(1).
قال الخطابي -رحمَهُ اللهُ- : "من خرج عن طاعة الجماعة ، وفارقهم في الأمر المجمع عليه ، فقد ضل وهلك".
قال صاحب الأزهار: "ويؤدب من يُثَبِّطُ عنه أو يُنْفَى ، ومن عاداه فبقلبه: مخطئ، وبلسانه: فاسق ، وبيده: محارب"
قال العلامة محمد بن علي الشوكاني -رحمَهُ اللهُ- في السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار(4/514) شارحاً ما سبق: "وأما قولُهُ: "ويؤدب من يثبط عنه" فالواجب دفعُهُ عن هذا التثبيط ، فإن كفَّ ، وإلا كان مستحقاً لتغليظ العقوبة ، والحيلولة بينه وبين من صار يسعى لديه بالتثبيط بحبس أو غيره ، لأنَّهُ مرتكب لمحرم عظيم ، وساع في إثارة فتنة تراق بسببها الدماء ، وتُهْتَكُ عندها الْحُرَم ، وفي هذا التثبيط نزع ليده من طاعة الإمام ، وقد ثبت في الصحيح عنه -- صلى الله عليه وسلم -- أنَّهُ قال: ((من نزع يده من طاعة الإمام فإنه يجيء يوم القيامة ولا حجة له ، ومن مات وهو مفارق للجماعة فإنه يموت موتة جاهلية))".
قال الشيخ العلامة صالح بن فوزان الفوزان في شرحه للعقيدة الطحاوية: "ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا" هذه مسألة عظيمة، فمن أصول أهل السنة والجماعة: أنهم لا يرون الخروج على ولاة أمر المسلمين { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}(2) .
__________
(1) رواه البخاريُّ في صحيحه(6/2603رقم6694-البغا).
(2) سورة النساء(آية/59)(1/35)
وقال -- صلى الله عليه وسلم -- : ((من يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعصِ الأمير فقد عصاني))، فلا يجوز الخروج عليهم؛ ولو كانوا فساقاً لأنهم انعقدت بيعتهم، وثبتت ولايتهم، وفي الخروج عليهم ولو كانوا فساقاً مفاسد عظيمة، من شق العصا، واختلاف الكلمة، واختلال الأمن، وتسلط الكفار على المسلمين.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "ما خرج قوم على إمامهم إلا كانت حالتهم بعد الخروج أسوأ من حالتهم قبل الخروج" أو كما ذكر.
وهذا حتى عند الكفار، إذا قاموا على ولي أمرهم وخرجوا عليه، فإنه يختل أمنهم ويصبحون في قتل وقتيل، ولا يقر لهم قرار، كما هو مشاهد في الثورات التي حدثت في التاريخ، فكيف بالخروج على إمام المسلمين؟ فلا يجوز الخروج على الأئمة وإن كانوا فساقاً، ما لم يخرجوا عن الدين، قال عليه الصلاة والسلام: ((اسمعوا وأطيعوا إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان)) (1) فالفسق والمعاصي لا توجب الخروج عليهم، خلافاً للخوارج والمعتزلة الذين يرون الخروج عليهم إن كان عندهم معاصٍ وحصل منهم فسق، فيقولون: هذا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقصدون به الخروج على ولاة أمور المسلمين.
فأصول المعتزلة خمسة:
الأول: التوحيد، ومعناه: نفي الصفات، ويرون من يثبت الصفات فهو مشرك.
الثاني: العدل، ومعناه: نفي القدر، فيقولون: إن إثبات القدر جور وظلم، ويجب العدل على الله.
الثالث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويريدون به الخروج على أئمة المسلمين إن كان عندهم معاصٍ دون الكفر. وهذا هو المنكر بنفسه، وليس من المعروف في شيء.
الرابع: المنزلة بين المنزلتين، وهو الحكم على أصحاب الكبائر بالخروج من الإسلام، وعدم الدخول في الكفر، وأما الخوارج فيحكمون عليه بالكفر.
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه(8/422-423رقم7055-7056) ، ومسلم في صحيحه(3/ 1470رقم1709) من حديث عبادة بن الصامت -- رضي الله عنه --.(1/36)
الخامس : إنفاذ الوعيد، ومعناه، أن من مات على معصية وهي كبيرة من الكبائر دون الشرك، فهو خالد مخلد في النار، فهم يوافقون الخوارج في مصيره في الآخرة، ويخالفون الخوارج في أنه في منزلة بين المنزلتين، وألّف فيها القاضي عبد الجبار –من أئمتهم- كتاباً سماه: شرح الأصول الخمسة.
"وإن جاروا" الجور معناه: الظلم، وإن تعدوا وظلموا الناس بأخذ أموالهم، وضرب ظهورهم، أو يقتلون المسلم، فلا يرون الخروج عليهم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "اسمع وأطع وإن أخذ مالك وجلد ظهرك" فالصبر عليهم أولى من الخروج؛ لما في الخروج من المفاسد العظيمة، فهذا من باب ارتكاب أخف الضررين لدفع أعلاهما، وهي قاعدة عند أهل السنة والجماعة، والنبي-- صلى الله عليه وسلم --أمر بالصبر على جور الولاة وإن ظلموا وجاروا وإن فسقوا. " انتهى كلام الشيخ الفوزان –حفظه الله-.
فأهل البدع هم الذين فارقوا الصراط المستقيم واتبعوا السبل فضلوا عن سبيل الله.
فخطرهم على الأمة عظيم وجسيم .
وهذا هو الواقع الآن فإن من أعظم أسباب وهن الأمة وضعفها ، وتفرقها وتشتتها هم أهل البدع والضلال ، وأهل التحزب والأهواء .
فشغلوا الأمة بعضها ببعض ، وأخذوا من وقتها الكثير لبيان حالهم وتحذير الناس من شرهم لعظيم فتكهم بالناس .
ومن أعظم أهل البدع والانحراف الذي أشاعوا الفرقة والبغضاء بين الناس الشيعة والصوفية والخوارج وحزب التحرير وجماعة الإخوان المسلمين بشتى فروعهم وأشكالهم ، وجماعة التبليغ وجماعة محمد سرور وجماعة القطبية والحدادية ونحوهم من أهل البدع والضلال الذين أشاعوا الفرقة بين الناس(1) .
فائدة
الفرق بين قتال المرتدين ، وقتال الخوارج ، وقتال البغاة
__________
(1) استفدت في كتابة هذا المبحث من عدة كتب ألفت في طاعة الولاة ككتاب المعلوم ، والورد المقطوف ، ومعاملة الحكام وغيرها مع زيادة فوائد وتنبيهات.(1/37)
سئل شيخ الإسلام -رحمَهُ اللهُ- كما في مجموع الفتاوى(35/53-57) : "عن "البغاة" و"الخوارج" هل هي ألفاظ مترادفة بمعنى واحد أم بينهما فرق؟
وهل فرقت الشريعة بينهما في الأحكام الجارية عليهما أم لا ؟
وإذا ادعى مدع أن الأئمة اجتمعت على أن لا فرق بينهم إلا في الاسم ، وخالفه مخالف مستدلاً بأن أمير المؤمنين عليا -- رضي الله عنه -- فرق بين أهل الشام وأهل النهروان ، فهل الحق مع المدعي أو مع مخالفه؟".
فأجاب -رحمَهُ اللهُ- :
"الحمد لله أما قول القائل: إن الأئمة اجتمعت على أن لا فرق بينهما إلا في الاسم ؛ فدعوى باطلة ، ومدعيها مجازف ، فإنَّ نَفْيَ الفرق إنما هو قول طائفة من أهل العلم من أصحاب أبى حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم ، مثل كثير من المصنفين في قتال أهل البغي ، فإنهم قد يجعلون قتال أبى بكر لمانعي الزكاة وقتال على الخوارج وقتاله لأهل الجمل وصفين إلى غير ذلك من قتال المنتسبين إلى الإسلام من باب قتال أهل البغي.
ثم مع ذلك فهم متفقون على أن مثل طلحة والزبير ونحوهما من الصحابة من أهل العدالة لا يجوز أن يحكم عليهم بكفر ولا فسق ، بل مجتهدون ؛ إما مصيبون ، وإما مخطئون ، وذنوبهم مغفورة لهم ، ويطلقون القول بأنَّ البغاة ليسوا فساقاً.
فإذا جُعلَ هؤلاء وأولئك سواء لزمَ أن تكون الخوارج وسائر من يقاتلهم من أهل الاجتهاد الباقين على العدالة سواء ، ولهذا قال طائفة بفسق البغاة ، ولكن أهل السنة متفقون على عدالة الصحابة.
وأما جمهور أهل العلم فيفرقون بين الخوارج المارقين ، وبين أهل الجمل وصفين وغير أهل الجمل وصفين ممن يعد من البغاة المتأولين .
وهذا هو المعروف عن الصحابة ، وعليه عامة أهل الحديث والفقهاء والمتكلمين ، وعليه نصوص أكثر الأئمة ، واتباعهم من أصحاب مالك وأحمد والشافعي وغيرهم.(1/38)
وذلك أنه قد ثبت في الصحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه قال: ((تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق)) وهذا الحديث يتضمن ذكر الطوائف الثلاثة ، ويبين أن المارقين نوع ثالثٌ ، ليسوا من جنس أولئك ، فإن طائفة علي أولى بالحق من طائفة معاوية ، وقال في حق الخوارج المارقين : ((يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، وقراءته مع قرائهم ، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ،أينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة)) وفي لفظ: ((لو يعلم الذين يقاتلونهم ما لهم على لسان نبيهم لنكلوا عن العمل)).
وقد روى مسلم أحاديثهم في الصحيح من عشرة أوجه ، وروى هذا البخاري من غير وجه ، ورواه أهل السنن والمسانيد ، وهي مستفيضة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، متلقاة بالقبول ، أجمع عليها علماء الأمة من الصحابة ومن اتبعهم، واتفق الصحابة على قتال هؤلاء الخوارج.
وأما أهل الجمل وصفين فكانت منهم طائفة قاتلت من هذا الجانب وأكثر أكابر الصحابة لم يقاتلوا لا من هذا الجانب ولا من هذا الجانب واستدل التاركون للقتال بالنصوص الكثيرة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في ترك القتال في الفتنة وبينوا أن هذا قتال فتنة.
وكان علي -- رضي الله عنه -- مسروراً لقتال الخوارج ويروى الحديث عن النبي-- صلى الله عليه وسلم --في الأمر بقتالهم ، وأما قتال صفين فذكر أنه ليس معه فيه نص وإنما هو رأى رآه وكان أحيانا يحمد من لم ير القتال.(1/39)
وقد ثبت في الصحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه قال في الحسن: ((إن ابني هذا سيد ، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)) فقد مدح الحسن ، وأثنى عليه بإصلاح الله به بين الطائفتين: أصحاب علي ، وأصحاب معاوية ، وهذا يبين أن ترك القتال كان أحسن ، وأنه لم يكن القتال واجباً ولا مستحباً.
و"قتال الخوارج" قد ثبت عنه أنه أمر به ، وحض عليه ، فكيف يسوى بين ما أمر به وحض عليه ، وبين ما مدح تاركه وأثنى عليه؟!!
فمن سوى بين قتال الصحابة الذين اقتتلوا بالجمل وصفين ، وبين قتال ذي الخويصرة التميمى وأمثاله من الخوارج المارقين والحرورية المعتدين ؛ كان قولهم من جنس أقوال أهل الجهل والظلم المبين.
و لزم صاحب هذا القول أن يصير من جنس الرافضة والمعتزلة الذين يكفرون أو يفسقون المتقاتلين بالجمل وصفين ، كما يقال مثل ذلك في الخوارج المارقين ، فقد اختلف السلف والأئمة في كفرهم على قولين مشهورين ، مع اتفاقهم على الثناء على الصحابة المقتتلين بالجمل وصفين ، والإمساك عما شجر بينهم ، فكيف نسبة هذا بهذا؟!!
وأيضاً فالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمر بقتال الخوارج قبل أن يقاتلوا .
وأما أهل البغي فإن الله تعالى قال فيهم: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(1) .
__________
(1) سورة الحجرات(آية/9).(1/40)
فلم يأمر بقتال الباغية ابتداء ، فالاقتتال ابتداءً ليس مأمورا به ، ولكن إذا اقتتلوا أمر بالإصلاح بينهم ، ثم إن بغت الواحدة قوتلت ، ولهذا قال من قال من الفقهاء: إن البغاة لا يبتدئون بقتالهم حتى يقاتلوا ، وأما الخوارج فقد قال النبي-- صلى الله عليه وسلم --فيهم: ((أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة)) وقال: ((لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)).
وكذلك مانعوا الزكاة ، فإن الصديق والصحابة ابتدؤوا قتالهم . قال الصديق: والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- لقاتلتهم عليه ، وهم يقاتلون إذا امتنعوا من أداء الواجبات وإن أقروا بالوجوب.
ثم تنازع الفقهاء في كفر من منعها ، وقاتل الإمام عليها مع إقراره بالوجوب؟
على قولين ، هما روايتان عن أحمد ، كالروايتين عنه في تكفير الخوارج ، وأما أهل البغي المجرد فلا يكفرون باتفاق أئمة الدين ، فإنَّ القرآن قد نص على إيمانهم وإخوتهم مع وجود الاقتتال والبغي . والله أعلم".
الخاتِمَة
بِما سَبَقَ يَتَّضِحُ أنَّ ولاة الأمر المسلمين منهم ولاة الأمر في الدولة السعودية –حرسها الله- تجب مبايعتهم ، وبيعتهم لازمة لمن هو تحت ولايتهم ، وبمبايعة أهل الحل والعقد للملك لزمت البيعة جميع الشعب السعودي من غير استثناء .
وما سبق يتبين وجوب طاعة ولاة الأمر في الدولة السعودية –حرسها الله- في غير معصِيَةٍ، ووجوب توقيرهم وإكرامهم ، وحفظ حقهم، والدعاء لَهُم، والصَّلاة خلفهم ودفع الزَّكاة لهم ، والحج والجهاد معهم، ومناصحتهم سراً لا جهراً ، وحرمة غيبتهم، والطعن فيهم ، والتَّشهيْر بهم، وحرمة الخروج عليهم ، وحرمة الإعانة على من خرج عليهم ولو بالكلمة ، وعقوبة المثبط عن طاعتهم وما يجب لهم من حقوق .
أسأل الله أن يحفظهم ويرعاهم ، وأن يوفقهم لما فيه خير البلاد والعباد
والله أعلم. وصلَّى اللهُ وسلَّم على نبينا محمد(1/41)
الفهارس
المُقَدِّمة 3
التمهيد 5
لزوم بيعة السلطان والتحذير من نزعها 6
وجوب السمع والطاعة لولاة الأمور بالمعروف 11
إجماع الأمة على وجوب طاعة ولاة الأمور 15
ثواب من يسمع ويطيع ولي الأمر 17
وجوب توقير السلطان وإكرامه وحفظ حقه 18
تقبيل يد السلطان 21
الدعاء لولاة الأمور، وحرمة الدعاء عليهم 23
الصلاة خلف ولاة الأمر،ودفع الزكاة لهم،والحج والجهاد معهم 80
وجوب مناصحة ولاة الأمر والأمراء سراً لا جهراً 37
حرمة سبهم وغيبتهم وغشهم والطعن فيهم والتشهير بهم 47
وجوب لزوم جماعة المسلمين وإمامهم، وحرمة الخروج عليهم 53
العقاب الشديد لمن خرج على الإمام، أو ثبط عن طاعته 65
الفرق بين قتال المرتدين ، وقتال الخوارج ، وقتال البغاة 73
الخاتِمَة 81(1/42)