"""""" صفحة رقم 335 """"""
وهبوا إذا هب النسيم كما سرى . . . ولم يتركوا بالشرق علقة آيب
يغص بهم عرض الفلا وهو واسع . . . وقد زاحموا الآفاق من كل جانب
كأن بسيط الأرض حلقة خاتم . . . بهم وخضم البحر بعض المذانب
ومد على حكم الصغار لسلمنا . . . يديه عظيم الروم في حال راغب
يصرح بالرويا وبين ضلوعه . . . نفس مذعور ونفرة راهب
وعي من لسان الحال أفصح خطبة . . . ما وضحت عنه فصاح القواضب
وأبصر متن الأرض كفة حامل . . . عليه وإصراه في كف حالب
أشرنا بأعناق الجياد إليكم . . . وعدباً عليكم من صدور الركايب
إلى بقعة قد بين الله فضلها . . . بمن حل فيها من ولي وصاحب
على الصفوة الأدنين منا تحية . . . توافيهم بين الصبا والجنايب
وله أيضاً :
ألمت وقد نام الرقيب وهوما . . . وأسرت الوادي العقيق من الحما
وراح إلى نجد فرحت منجدا . . . ومرت بنعمان فأضحى منعما
وجرت على ترب المخصب ذيلها . . . فما زال ذاك الترب نهباً مقسما
تناقله أيدي التجار لطيمة . . . ويحمله الدارين أيان يمما
ولما رأت أن لا ظلام يجنها . . . وأن سراها فيه لن يتكتما
سرت عذبات الربط عن حر وجهها فأبدت شعاعاً يرفع اليوم مظلما(2/335)
"""""" صفحة رقم 336 """"""
فكان تجليها حجاب جمالها كشمس الضحى يعشى بها الطرف كلما
ولما رأت زهر الكواكب أنها . . . هي النير الأسمى وإن كان باسما
بكت أسفاً أن لم تغز بجوارها . . . وأسعدها صوب الغمام فأسجما
فجلت يمج القطر ريان بردها . . . فتنفضه كالدر فذاً وتوأما
يضم علينا الماء فضل زكاتها كمل بل سقط الطل نوراً مكمماً
ويفتق نضح الغيث طيب عرفها . . . نسيم الصبا بين العرار منسما
وجلت عن ثناياها وأومض برقها . . . فلم أدر من شق الدجنة منهما
وساعدني جفن الغمام على البكا . . . فلم أدر وجداً أينا كان أسجما
ونظم سمطى ثغرها ووشاحها . . . فأبصرت در الثغر أحلى وأنظما
تقول وقد ألممت أطراف كمها . . . يدي وقد أنعلت أخمثها الغما
نشدتك لا يذهب بك الشوق مذهباً . . . يسهل صعباً أو يرخص مأثما
فأقصرت لا مستغنياً عن نوالها . . . ولكن رأيت الصبر أوفى وأكرما
وقال :
أتذكر إذ مسحت بفيك عيني . . . وقد حل البكا فيها عقوده
ذكرت بأن ريقك ماء ورد . . . فقابلت الحرارة بالبرودة
وقال :
سألت من المليحة برء دايي . . . برشف برودها العذب المزاج
فما زالت تقبل في جفوني . . . وتبهرني بأصناف الحجاج
وقالت إن طرفك أصلاً لدايك . . . فليقدم في العلاج توفي بمراكش سنة إحدى وثمانين وخمسماية وحضر السلطان جنازته .(2/336)
"""""" صفحة رقم 337 """"""
محمد بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبيد الله ابن عياش التجيبي البرشاني
، من أهل حصن برشانة المحسوب في هذه العمالة ، يكنى أبا عبد الله ، كاتب الخلافة .
حاله
قال القاضي أبو عبد الله بن عبد الملك ، كان كاتباً بارعاً ، نصيحاً ، مشرفاً على علوم اللسان ، حافظاً للغات والآداب ، جزلاً ، سري الهمة ، كبير المقدار ، حسن الخلق ، كريم الطباع ، نفاعاً بجاهه وماله ، كثير الاعتناء بطلبة العلم ، والسعي الجميل لهم ، وإفاضة المعروف على قصاده ، مستعيناً على ذلك بما نال من الثروة والحظوة والجاه ، عند الأمراء من بني عبد المؤمن ، إذ كان صاحب القلم الأعلى ، على عهد المنصور وابنه ، رفيع المنزلة والمكانة لديهم ، قاصداً الإعراب في كلامه ، لا يخاطب أحداً في كلامه من الناس ، على تفاريق أحوالهم ، إلا بكلام معرب ، وربما استعمله في مخاطبة قدمته وأمته ، من حوشي الألفاظ ، ما لا يكاد يستعمله ، ولا يفهمه إلا حفاظ اللغة من أهل العلم ، عادة ألفها واستمرت حاله عليها .
مشيخته
روى عن أبي عبد الله بن حميد ، وابن أبي القاسم السهيلي ، وابن حبيش ، وروى عنه بنوه أبو جعفر ، وأبو القاسم ، وعبد الرحمن ، وأبو جعفر ابن عثمان ، وأبو القاسم البلوي .(2/337)
"""""" صفحة رقم 338 """"""
تواليفه
له اختصار حسن في إصلاح المنطق ، ورسايل مشهورة ، تناقلها الناس ، وشعره يحسن في بعضه .
جاهه
حدث الشيخ أبو القاسم البلوي ، قال كنت أخف إليه ، وأشفع عنده في كبار المسايل ، فيسرع في قضايها . ولقد عرضت لبعض أصحابي من أهل بلاد الأندلس حاجة مهمة كبيرة ، وجب علي السعي فيها ، ورحوته من جميل أثره في تيسير أمرها ، وكان قد أصابه حينئذ التياث لزم من أجله داره ، ودخلت عليه عايداً ، فأطال السؤال عن حالي ، وتبسط معي في الكلام ، مبالغة في تأنيس ، فأجلت ذكر الحاجة ، ورغبت منه في الشفاعة عند السلطان في شأنها ، وكان مضطجعاً ، فاستوى جالساً ، وقال لي ، جهل الناس قدري ، وكررها ثلاثاً ، في مثل هذا أشفع إلى أمير المؤمنين ، هات الدواة والقرطاس ، فناولته إياهما ، فكتب برغبتي ، ورفعه إلى السلطان ، فصرف في الحين معلماً ، فاستدعاني ، ودفعه إلي ، وقال يا أبا القاسم ، لا أرضى منك أن تحجم عني في التماس قضاء حاجة تعرضت لك خاصة ، وإن كانت لأحد من معارفك عامة ، كبرت أو صغرت ؛ فألتزم قضاءها ، وعلى الوفا ، فإن لكل مكتسب زكاة ، وزكاة الجاه بذله .
وحدثني شيخي أبو الحسن بن الجياب ، عمن حدثه من أشياخه ، قال ، عرض أبو عبد الله بن عياش والكاتب ابن القالمي على المنصور كتابين ، وهو في بعض الغزوات ، في كسلب البرد ، وبين يديه كانون جمر . وكان ابن عياش بارع الخط ، وابن القالمي ركيكه ، ويفضله في البلاغة ، أو بالعكس الشك مني . وقال المنصور أي كتب لو كان بهذا الخط ، وأي خط لو كان بهذا الكتب ، فرضي ابن القالمي ، وسخط ابن عياش . فانتزع الكتاب من يد المنصور ، وطرحه في النار وانصرف . قال ، فتغير وجه المنصور ، وابتدر أحد الأشياخ ؛ فقال يا أمير المؤمنين ، طعنتم له في الوسيلة التي عرفته ببابكم ، فعظمت غيرته لمعرفته بقدر السبب الموصل إليكم . فسرى عن المنصور ، وقال لأجد خدامه ، إذهب إلى السبي ، فاختر أجمل نساء الأبكار ؛ وأت بابن عياش ، فقل له هذه تطفي من خلقك . قال ابن عياش يخاطب ولده ، وقد حدث الحديث : هي أمك يا محمد أو فلان .(2/338)
"""""" صفحة رقم 339 """"""
بعض أخباره مع المنصور
ومحاورته الدالة على جلالة قدره قال ابن خميس ؛ حدثني خالي أبو عبد الله ابن عسكر ، أن الكاتب أبا عبد الله بن عياش ، كتب يوماً كتاباً ليهودي ، فكتب فيه ، ويحمل على البر والكرامة . فقال له المصور ، من أين لك أن تقول في كافر ، ويحمل على ابر والكرامة . فقال له المنصور ، من أين لك أن تقول في كافر ، ويحمل على البر والكرامة . فقال ففكرت ساعة ، وقد علمت أن الاعتراض يلزمني ، فقلت ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ ' إذا أتاكم كريم قوم ، فأكرموه ' ؛ وهذا عام في الكافر ، وغيره . فقال نعم هذه الكرامة ، فالمبرة أين أخذتها ، قال فسكت ولم أجد جواباً ، قال فقرأ المنصور ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ' لا ينهاكم الله عن الدين ، لم يقاتلونكم في الدين ، ولم يخرجوحكم من ديارهم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ، إن الله يحب المقسطين ' . قال فشهدت بذلك ؛ وشكرته .
شعره
من شعره :
بلنسية بيني عن العلياء سلوة . . . فإنك روض لا أحن لزهرك
وكيف يجب المرء داراً تقسمت . . . على صارمي جذع وفتنة مشرك
وذكره الأديب أبو بحر صفوان بن إدريس في زاد المسافر عند اسم ابن عياش ؛ قال ، اجتمعنا في ليلة بمراكش ، فقال أبو عبد الله ابن عياش :
أشفارها أم صارم الحجاج . . . وجفونها أم فتنة الحلاج
فإذا نظرت لأرضها وسمائها . . . لم تلف غير أسنة وزجاج(2/339)
"""""" صفحة رقم 340 """"""
وقال في المصحف الإمام ، المنسوب إلى عثمان بن عفان ، لما أمر المنصور بتحليته بنفيس الدر من قصيده :
ونقلت من كل ملك ذخيرة . . . كأنهم كانوا برسم مكاسبه
فإن ورث الأملاك شرقاً ومغرباً . . . فكم قد أخلوا جاهلين بواجبه
وألبسته الدر والياقوت حلية . . . وغيرك قد رواه من دم صاحبه
كتابته
قال ابن سعيد في المرقصات والمطربات ، أبو عبد الله بن عياش ، كاتب الناصر وغيره ، من بني عبد المؤمن وواسطة عقد ترسيله ، قوله في رسالة كتبها في نزول الناصر على المهدية بحراً وبراً ، واسترجاعها من أيدي الملثمين : ولما حللنا عرى السفر ، بأن حللنا حمى المهدية ، تفاءلنا بأن تكون لمن حل بساحتها هدية ، فأحدقنا بها إحداق الهدب بالعين ، وأطرنا لمختلس وصالها غربان البين ، فبانت بليلة باسنية ، وصابح يوماً صافحته فيه يد المنية . ولما اجتلينا منها عروساً ، قد مد بين يديها بساط الماء ، وتوجهت بالهلال ، وقرطته بالثريا ، ووشجت بنجوم السماء ، والسحب تسحب عليها أردانها ، فترتديها تارة متلثمة ، وطوراً سافرة ، وكأنما شرفاتها المشرفة أنامل مخضبة بالدياجي ، مختتمة بالكواكب الزاهرة ، تضحي عن شنب لا تزال تقبله أفواه المجانيق ، وتمسي باسمة عن لعس ، لا تبرح ترشفه شفاه سهام الحريق ، خطبناها ، فأرادت التنبيه على قدرها ، والتوفير في إعلاء مهرها ، ومن خطب الحسناء ، لم يغله المهر ، فتمنعت تمنع المقصورات في الخيام ، وأطالت إعمال العامل في خدمتها ، وتجريد الحسام ، إلى أن تحققت عظم موقعها في النفوس ، ورأت كثرة ما ألقى لها من نثار الرؤوس ، جنحت إلى الإحصان بعد النشوز ، ورأت اللجاج في الامتناع من قبول الإحسان لا يجوز ، فأمكنت زمامها من يد خاطبها ، فبانت معرساً ، حيث لا حجال إلا من البنود ، ولا خلوق إلا من دماء أبطال الجنود ، فأصبح وقد تلألأت بهذه البشاير وجوه الأفكار ؛ وطارت بمسارها سوايح البراري ، وسوانح البحار . فالحمد(2/340)
"""""" صفحة رقم 341 """"""
لله الذي أقر الحق في نصابه ، واسترجعه من أيدي غصابه ، حمداً يجمع شمل النعم ، ويلقحها كما تلقح الرياح الديم ، فشنفوا الأسماع بهذه البشاير ، واملئوا الصدور بما يرويه لكم من أحاديثها كل وارد وصادر ، فهو الفتح الذي تفتحت له أبواب السماء وعم الخير واليمن به بسيطي الشرق والماء ؛ فشكر الله عليه فرض ، في كل قطر من أقطار الأرض .
دخل غرناطة ، مرتاداً ، ومتعلماً ، ومجتازاً .
مولده : ببرشانة بلده ، عام خمسين وخمس ماية .
وفاته : توفي بمراكش في شهر رجب الفرد من عام ثمانية عشرة وستماية ، رحمه الله .
محمد بن علي بن محمد بن إبراهيم بن محمد الهمداني
من أهل وادي آش ، يكنى أبا القاسم ويعرف بابن البراق .
حاله قال ابن عبد الملك ، كان محدثاً حافظاً ، راوية مكثرا ، ثقة ضابطاً ، شهر بحفظ كتب كثيرة ، من الحديث ، وغيره ، ذا نظر صالح في الطلب ، أديباً بارعاً ، كاتباً بليغاً ، مكثراً لجيده ، سريع البديهة في النظم والنثر ، والأدب أغلب عليه . قال أبو القاسم بن المواعيني ، ما رأيت في عباد الله ، أسرع ارتجالاً منه .
مشيخته
روى عن أبي بحر يوسف بن أحمد بن أبي عيشون ، وأبي بكر بن زرقون ، وابن قيد ، وابن إبراهيم بن المل ، وابن النعمة وصحبه ، ولقيه بمراكش ، ووليد بن موفق ، وأبي عبد الله بن يوسف بن سعادة ، ولازمه أزيد من ست سنين ، وأكثر عنه ، وابن العمرسي ، وأبي العباس بن إدريس ، والخروبي ، وتلا عليه بالسبع ،(2/341)
"""""" صفحة رقم 342 """"""
وأكثر عنه ، وعرض عليه من حفظه كثيراً ، وابن مضاء ، وأبي علي بن عرب ، وأبي القاسم بن حبيش ، وابن عبد الجبار ، وأبي محمد بن سهل الضرير ، وعاشر وقاسم بن دحمان ، وأبي يوسف بن طلحة . وأجاز له أبو بكر بن العربي ، وابن خير ، وابن مندلة . وابن تمارة ، وأبو الحسن شريح ، وابن هذيل ، ويونس بن مغيث ، وأبو الجليل مفرج ين سلمة ، وأبو عبد الله حفيد مكي ، وأبو عبد الرحمن بن مساعد ، وأبو عامر محمد بن أحمد السالمي ، أبو القاسم بن بشكوال ، وأبو محمد بن عبيد الله وأبو مروان البياض ، وابن قزمان ، وأبو الوليد بن حجاج .
من روى عنه
روى عنه ابنه أبو القاسم ، وأبو الحسن بن محمد بن بقي الغساني ، وأبو عبد الله محمد بن يحيى السكري ، وأبو العباس النباتي ، وأبو عمرو بن عياد ، وهو أسن منه وأبو الكرم جودى .
تواليفه
صنف في الأدب مصنفات منها بهجة الأفكار ، وفرصة التذكار ، في مختار الأشعار ، ومباشرة ليلة السفح ، ومقاله في الإخوان ، خرجها من شواهد الحكم ، ومصنف في أخبار معاوية ، والدر المنظم في الإحسار المعظم ، ومجموع في الألغاز ، ورضة الحدائق في تأليف الكلام الرائق ، مجموع نظمه ونثره ، وملقي السبل في فضل رمضان ، وقصيدته في ذكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وخطرات الواجد في رثاء الواحد ، ورجوم الإنذار بهجوم العذار ، إلى غير ذلك .
محنته
غربه الأمير ابن سعد من وطنه ، وألزمه سكنى مرسية ، ثم بلنسية . ولما مات ابن سعد آخر يوم من رجب سبع وستين وخمس ماية ، عاد إلى وطنه واستقر به يفيده الدية ، إلى آخر عمره .(2/342)
"""""" صفحة رقم 343 """"""
شعره
وشعره كثير . فمن ذلك القصيدة الشهيرة في مدح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وذكر صحابته :
بالهضب هضب زرود أو تلعاتها . . . ساقتك هاتفة على نغماتها
مصدورة تفتن في جيعها . . . فيبين نفث السحر في نفثاتها
إن راغها راد الضحى أو راعها . . . جنح الدجا سيان في ذكراتها
هذا يمتعها وذاك يشوقها . . . والموت في يقظاتها وسناتها
ولولا التعلل بالكرى ينتابها . . . نضحت فزور الطيف برح شكاتها
لكن بين جفونها وهنامها . . . خرزاً تثير النهب في كراتها
ولئن نصقت لها به فتقول من . . . يلقى الرياح بملتقى هباتها
مطلولة الفرعين يلحفها الربى . . . كتفاً ويلثمها المنى زهراتها
وتسيغها ماء النخيلة جرعة . . . لغياضها من مجتني نجلاتها
منها :
يا من تبلج نوره عن صادع . . . بالواضحات الغر من آياتها
يا شارعاً في أمة جعلت به . . . وسطاً فغالت مستدام حياتها(2/343)
"""""" صفحة رقم 344 """"""
في دار خلد لا يشيب وليدها . . . حيث الشباب يرف في وجناتها
يا مصطفاها مرفع قدرها . . . بأكنفها يا منتهى علياتها
يا منتقاها من راومة هاشم . . . يا هاشم الصلبان في نزواتها
يا خاضداً للشرك شوكة حزبه . . . يا يا فعاً للعرب في جمراتها
قلت ، نقل الشيخ أزيد من ذلك أو ضعفه أو نحوه . إلى أن قال ، وهي طويلة ، قلت وثقيلة الروح . ولقد صدق في قوله .
ومن شعره :
يا بدر تم طالعاً في الحشيي . . . برح بي منك أوان المغيب
حظك من قلبي تعذيبه . . . وحظه منك الأسى والوجيب
فمن يكن يزهى بلبس المنى . . . فإن زهوى بلحاس النحيب
في ساعة قصر أنيابها . . . غييته لي وحضور الرقيب
وقال : رثوا القباب بأدمع مغضوضة . . . ذوي للفراق وأكبد تتصرم
فللنفس في تلك الربوع حبيبة . . . والقلب في إثر الوداع مقسم
هل لي بهاتيك الظبا إلماعة . . . أم هل لذاك السرب شمل ينظم
حقاً فقدت الذات عند فراقهم . . . فالشخص يوجد والحقيقة تعدم
وفاته
توفي ببلده لثلاث بقين من رمضان ست وتسعين وخمس ماية . قال أبو القاسم المواعيني ، عثر في مشيه فسقط ، فكان سبب منيته ، ودخل غرناطة ، في غير ما وجهة منها ، راويا عن أبي القاسم بن الفرس . ومع ذلك فهو من أحوازها وبنياتها .(2/344)
"""""" صفحة رقم 345 """"""
محمد بن علي بن نحمد بن علي بن محمد بن خاتمة الأنصاري
من أهل ألمرية ، يكنى أبا عبد الله .
حاله
من كتاب الإكليل ما نصه : ممن ثكلته اليراعة ، وفقدته البراعة ، تأدب بأخيه ، وتهذبن وأراه في النظم المذهب ، وكساه من التفهم والتعليم البرد المذهب ، فاقتفي واقتدى ، وراح في الحلبة واغتدى ، حتى نبل وشدا . ولو أمهله الدهر لمبلغ المدا . وأما خطه فقيد الأبصار ، وطرفة من طرف الأمصار ، واعتبط يانع الشبيبة ، مخضر الكتيبة .
شعره
كفوا الملام فلا أصغى إلى العذل . . . عقلي وسمعي عن العذال في شغل
يقول في هذه القصيدة :
هزل المحبة جد والهوان هوى . . . والصب يتلف بين الجد والهزل
من مسعد وفؤادي لا يساعدني . . . أو من شفيعي وذلي ليس يشفع لي
أعلل النفس بالآمال أطمعها . . . حتى وقعت من التعليل في علل
لئن كنت تجهل ما في الحب من محن . . . أنا الخبير فغيري اليوم لا تسل
أنا الذي قد حلبت الحب أشطره . . . فلم يفدني لا حولي ولا حيل
لا أشرب الراح كي أحلو براحتها . . . لكن لأدفع ما بالنفس من كسل
ولا أجول بطرفي في الرياض سوى . . . ذكري لأيامنا في ظلها الأول
أنا العهد مضى ما كان أعذبه . . . لم يبق لي غير آيات من الخبل
كم فديتك يا قلبي وأنت على . . . تلك الغواية لم تبرح ولم تزل
فاختر لنفسك إما أن تصاحبني . . . حلواً وإلا فدعني منك وارتحل
فقد تبعتك حتى سرت من شغفي . . . ولوعتي في الهوى أعجوبة المثل(2/345)
"""""" صفحة رقم 346 """"""
ومن شعره :
ومض البرق فثار القلق . . . ومضى النوم وحل الأرق
وينعاني من غرامي قد شكا . . . ودموعي من ولوعي تنطق
ودليلي في غليلي زفرتي . . . وعذابي بانتحابي أصدق
وحسودي من وقودي رق لي . . . ضمناً فيها الحمى والأيفق
وعشيات تقضت باللوى . . . في مخيلي الدهر منها رونق
إذ شبابي والتصايي جمعا . . . ورياض الأنس غض مونق
شت يوم البين شملي . . . ليت ما خلق البين لقلب يعشق
آه من يوم قضى له فرقة . . . شاب مني يوم حلت مفرق
ومن ذلك :
أيا جيرة الحي الممنع جاره . . . سقى ريقكم دمعي إذا بخل الوبل
متى غبتم عني فأنتم بخاطري . . . وإن تقصدوا ذلي فقد لذني الذل
عذابكم قرب وبخلكم ندى . . . وإذلاكم عز وهجرانكم وصل
وأنتم نعيمي لا نعمت بغريكم . . . وروضي لا ما أريد ولا ظل
ومن ظريف نزعاته قوله :
الرفع نعتكم لا خابك أمل . . . والخفض شيمة شأني والهوى دول
هل منكم لي عطف بعد بعدكم . . . إذ ليس لي منكم يا سادتي بدل(2/346)
"""""" صفحة رقم 347 """"""
وفاته
اعتبط في الطاعون في أوايل ربيع الأول عام خمسين وسبعماية . ورد إلى الحضرة غير ما مرة .
محمد بن عيسى بن عبد الملك بن قزمان الزهري
من أهل قرطبة يكنى أبا بكر
حاله نسيج وحده ، أدباً وظرفاً ولوذعية وشهرة . قال ابن عبد الملك ، كان أديباً بارعاً ، محسناً ، شاعراً حلو الكلام ، مليح التندير ، مبرزاً في نظم الطريقة الهزلية ، بلسان عوام الأندلس ، الملقب بالزجل . قلت وهذه الطريقة بديعة يتحكم فيها ألقاب البديع ، وتنفسخ لكثير مما يضيق سلوكه على الشاعر . وبلغ فيها أبو بكر مبلغاً حجره الله عن سواه . فهو آيتها المعجزة ، وحجتها البالغة ، وفارسها العلم ، والمبتدي فيها والمتمم ، رحمه الله . وقال الفتح فيه : مبرز في البيان ، ومحرز السبق عند تسابق الأعيان ، اشتمل عليه المتوكل على الله اشتمالاً رقاه إلى مجالس ، وكساه ملابس ، واقتطع أسمى الرتب وتبوأها ، ونال أسنى الخطط وما تمالأها .
شعره
قال الفتح ، وقد أثبت له ما يعلم به رفيع قدره ، ويعرف كيف أسا الزمن بغدره ، قوله :
ركبوا السيول من الخيول وركبوا . . . فوق العوالي السمر زرق نطاف(2/347)
"""""" صفحة رقم 348 """"""
وتجللوا الغدران من ماذيهم . . . مرتجة إلا على الأكتاف
وكتب إليه ذو الوزارتين أبو عبد الله بن أبي الخصال يستدعيه إلى مجلس أنس :
أني أهزك هز الصارم الخذم . . . وبيننا كل ما تدريه من ذمم
ذاك شاك من قطع أنس أنت واصله . . . بما لديك من الآداب والحكم
وشت شمل كرام أنت ناظمه . . . ورد دعوة أهل المجد والكرم
ولو دعيت إلى أمثالها لسعت . . . إليك سعي مشوق هائم قدم
وإن نشطت لتصريفي صرفت له . . . وجهي وكنت من الأعوان والخدم
وما أريد سوى عفو تجود به . . . وفي حديثك ما يشفي من الألم
أنت المقدم في فخر وفي أدب . . . فاطلع علينا طلوع السيد العمم
فأجابه رحمه الله :
أتى من المجد أمر لا مرد له . . . نمشي على الرأس فيه لا على القدم
لبيك لبيك أضعافاً مضاعفة . . . إني أجبت ولكن داعي الكرم
لي همة ولأهل العز مطمحها . . . لا زلت في كل مجد مطمح الهمم
وإن حقك معروف وملتزم . . . وكيف يوجد عندي غير ملتزم
زفن ورقص وما أحببت من ملح . . . عندي وأكثر ما تدريه من شيم
حتى يكون كلام الحاضرين بها . . . عند الصباح وما بالعهد من قدم
يا ليلة السفح هلا عدت ثانية . . . سقى زمانك هطال من الديم
وقال في غرض النسيب :
يا رب يوم زادني فيه . . . من أطلع من غربه كوكبا
ذو شفة لمياء معسولة . . . ينشع من خديه ماء الصبا(2/348)
"""""" صفحة رقم 349 """"""
قلت له هب لي بها قبلة . . . فقال لي مبتسما مرحبا
فذقت شيئاً لم أذق مثله . . . لله ما أحلى وما أعذبا
أسعدني الله بإسعاده . . . يا شقوتي يا شقوتي لو أبا
وقال :
جئت لتوديعه وقد ذرفت . . . عيناي من حسرة وعيناه
في موكب البين باكين ولا . . . أصعب من موقف وقفناه
معانقاً جيده على حذر . . . فمن رآني مقبلاً فاه
نغص توديعه لعاشقه . . . ما كان من قبل قد تمناه
وقال يعتذر ارتجالا وأحسن ما أراد :
يا أهل ذا المجلس السامي سراوته . . . ما ملت لكنني مالت بن الراح
وإن أكن مظعناً مصباح بيتكم . . . فكل من فيكم في البيت مصباح
وقال يهني بعرسك
صرفت إليك وجوهها الأفراح . . . وتكنفتك سعادة ونجاح
فاقض المآرب في زمان صالح . . . لا سد عنك من الزمان صلاح
إن كان كالشمس المنيرة حسنها . . . فالبدر أنت وما عليك جناح
لا فرق بينكما لرأي فاستوى . . . زي النساء قلادة ووشاح
هل يوقد المصباح عند كما مهجاً . . . وكلاكما ببهائه مصباح
أحرزت يا عبد العزيز محاسنا . . . كثرت فلم تستوفها الأمداح
يا من له كف تجود وأضلع . . . مطوى على حفظ الوداد سجاح(2/349)
"""""" صفحة رقم 350 """"""
ما ألقت الحاجات دوني قفلها . . . إلا ويمن يمينك المفتاح
في كل ما تنحو إليه ملاحة . . . وكذاك أفعال المليح ملاح
ومن الحكمة قوله :
كثير المال تبذله فيبقى . . . ولا يبقى مع البخل القليل
ومن غرست يداه ثمار جود . . . ففي ظل الثناء له مقيل
وقال رحمه الله :
وعهدي بالشباب وحسن قدي . . . حكى ألف ابن مقلة في الكتاب
فصرت اليوم منحنياً كأني . . . أفتش في التراب على الشباب
وقال رحمه الله :
يمسك الفارس رمحاً . . . وأنا أمسك فيها قصبة
وكلانا بطل في حربه . . . إن الأقلام رماح الكتبة
قال ابن عبد الملك : أنشدت على شيخنا أبي الحسن الرعيني ، قال ، أخبرنا الراوية أبو القاسم بن الطيلسان ، قال سألته ، يعني أبا القاسم أحمد بن أبي بكر هذا ، أن ينشد شيئاً من شعر أبيه المغرب ، فأخرج لي قطعة بخط أبيه وأنشده . وقال أنشدني أبي رحمه الله لنفسه :
أحسن ما نيط في الدعا لمن . . . رتب في خطة من الخطط
خلصك الله من عوايقها . . . ودمت في عصمة من الغلط
مقرباً منك ما تسر به . . . وكل مكروهة على شحط
الكل بالعدل منك مغتبط . . . وليس في الناس غير مغتبط
وليس يخليك من أنا لكها . . . من عمل بالنجاة مرتبط(2/350)
"""""" صفحة رقم 351 """"""
فانفذ بعون الله مجتهدا . . . بقلب صفي بالضمير مرتبط
يا صاحب الأمر والذي يده . . . نايلها للعفاة غير بط
رفعتم يا بني رفاعة ما كان . . . من المعلوات في هبط
ومنبر الحق من سواه بكم . . . فها هو الآن غير مختلط
وانضبط الأمر واستقام لكم . . . ولم يكن من قبل ذا بمنضبط
أتيت في كل ما أتيت به . . . فالغيث بعد الرجا والقنط
جللت عمن سواك منزلة . . . فلست ممن سواك في نمط
أنت من المجد والعلا طرف . . . وكلهم في العلا من الوسط
كتابته
وقفت من ذلك على أفانين . منها في استهلال شهر رمضان قوله : سلام على أنس المجتهدين ، وراحة المتهجدين ، وقرة أعين المهتدين ، والذي زين الله به الدنيا ، وأعز به الدين . شرف الله به الإسلام ، وجعل أيامه رقوماً في عواتق الأيام . وشهوره غرراً في جباه الأعلام ، وحل به عن رقاب الأمة قلايد الآثام ، ونزه فيه الأسماع عن المكاره ، وصان الأفواه من رفث الكلام . أشهد أن اله أنبني عليك ، وأدخل من شاء الجنة على يديك ، وخصك من الفضايل بما يمشي فيه التفسير حتى يكل ويسأم ، ذلك اللسان ويمل ، وأبادت ذنوب الأمة بمثل ما أبادت الشمس الظل ، ذلك الذي يتهلل للسماء هلاله ، ويهتز العرش لجلاله ، وترتج الملايكة في حين إقباله ، وتدخل الحور العين في زينتها تكريماً ، وتلتزم إجلاله وتعظيماً ، ويهتدي فيه الناس إلى دينهم صراطاً مستقيماً ، وتغل الشياطين على ما خليت . وتذوق وبال ما كادت به وتخيلت ، ويشمر التقي لعبادة ربه ذيلاً ، وتهبط الملايكة إلى سماء الدنيا ليلا ، وينتظم المتقون في ديوانه انتظام السلك . ويكون خلوف فم الصايم عند الله أطيب من ريح المسك ، وتفتح الجنة أبواباً ، ويغفر لمن صامه إيماناً واحتساباً ، جزاء من ربك عطاء حسابا ، وبما فضلك الله على سائر الشهور ، وقضى لك بالشرف والفضل المشهور . فرضك في كتابه ، ومدحك في خطابه ، حيث قال ، شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس ، وبينات من الهدى والفرقان ، يعني تكبير الناس(2/351)
"""""" صفحة رقم 352 """"""
عليك ، وتقليب أحداقهم بالنظر إليك ، حين لثمت بالسحاب ، ونظرت من تحت ذلك النقاب ، وقد يمتاز الشيب وأن استتر بالخضاب ، حتى إذا وقف الأيمة منك على الصحيح ، وصرحوا برؤيتك كل التصريح ، نظرت كل جماعة في اجتماعها ، وتأهبت القراء لإشفاعها ، واندفعت الأصوات باختلاف أنواعها ، وتضرعت الألباب ، وطلبت المواقف أواخر العشار والأحزاب ، وابتديت ألم ذلك الكتاب ، عندما أوقدت قناديل كأنما قد بدت من الصباح ، ورقصت رقص النواهد عند هبوب الرياح ، والله نور السموات والأرض ، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ، فأملك المسلمون في سر وجهر ، وحطت أثقال السيئات عن كل ظهر ، والتمست الليلة التي هي خير من ألف شهر ، فنشط الصالحون بك صوماً ، وهجر المتهجدون في ليلك نوماً ، وأكملناك إن أذن الله ثلاثين يوما . فيا أيها الذي رحل ، رحل بعد مقامة ، وقام للسفر من مقامه ، ورأى من قضى حقه ، ومن قصر في صيامه ، فمشى الناس إلى تشييعه ، وبكوا لفراقه وتوديعه ، وندم المضيع على ما كان من تضييعه ، ولم يثق بدوام العيش إلى وقت رجوعه ، فعض على كفه ندماً ، وبكت عيه ماء وكبده دماً . رويداً حتى أمرح في ميدان فراتك ، وأتضرع إلى حنانك وإشفاقك ، وأتشفى من تقبيلك وعناقك ، وأسل منك حاجة إن أراد الله قضاها ، وشاء نفوذها وإمضاها ، إذا أنت وقفت لرب العالمين ، فقبلك من قوم ، وردك في وجوه آخرين . إن تثنى جميلاً ، فعسى يصفح لعهده وإن أسا ، فعلم الله أني نويت التوبة أولا وآخراً ، وأملت الأداء باطنا وظاهرا ، وكنت على ذلك لو هدى الله قادراً ، وإنما علم ، من تقصير الإنسان ما علم ، وللمرء ما قضى عليه به وحكم ، وإن النفس لأمارة بالسوء غلا من رحم ، فإن غفر فبطوله وإحسانه ، وإن عاقب فيما قدمت يد العبد من عصيانه ، فيا وحشة لهذه الفرقة ، ويا أسفاً على بعد الشقة ، ويا شد ما خلفته لنا بفراقك من الجهد والمشقة ، ولطالما هجر الإنسان بك ذنبه ، وراقب إعظاماً لكربه ، وشرحت إلى أعمال البر قلبه . ومع هذا أتراك ترجع وترى ، أم تضم علينا دونك أطباق الثرى . فيا ويلنا إن حل الأجل ، ولم أقض دينك ، ورجعت وقد حال الموت بيني وبينك . فأغرب ، لا جعله الله آخر التوديع ، وأي قلب يستطيع .
وقال في استهلال شوال : ولكل مقام مقال . الله أكبر هذا هلال شوال قد طلع ، وكر في منازله وقطع ، وغاب أحد عشر شهراً ، ثم رجع . مالي أراه رقيق الاستهلال ، خفي الهلال ، وروحاً تردد في مثل انملال ، ما باله أمسى الله رسمه ، وصحح جسمه ، ورفع في شهور العام اسمه ، على وجهه صفرة بينة ، ونار إشراقه لينة ، وأرى السحاب تعتمده وتقف ،(2/352)
"""""" صفحة رقم 353 """"""
وتغشاه سويعة وتنصرف ، ما أراه إلا بطول ذلك المقام ، وتوالي الأهوال العظام . أصابه مرض في فصل من فصول العام ، فعادته كما يعاد المريض ، وبكته الأيام الغر والليالي البيض ، وقلن كلأك الله وكفاك ، وحاطك وشفاك ، وقل كيف نجدك ، لا فض فاك ، هذا على الظن لا على التحقيق ، ومجاز لا يحكم التصديق . وإنه ليبعد مثل هذا المقدار ، أن يقدح فيه طول الغيب ، وتواتر الأسفار . أليس هو قد ألف مجالي الرياح ، وصحب برد الصباح ، وشاهد الأهوية مع الغدو والرواح ، وطواها بتجربته طي الوشاح . ما ذاك إلا أنه رأى الشمس في بعض الأيام ماشية ، والحسن يأخذ منها وسطاً وحاشية ، ودلائل شبابها ظاهرة فاشية ، فوقع منها في نفسه ما وقع ، وثبت على قلبه من النظر ما زرع ، ووقع في شركها ، وحق له أن يقع . فرثت هي لحاله وأشفقت ، ونهجت بوصالها وتأنقت ، وقطعت من معدن نيلها وأنفقت ، ورأت أنها له شاكله يبلغ أملها ، وتبلغ مأمله ، ولذلك ما مدت لذيذ السماح ، فتعرضت بالعشي ، وارتصدها في الصباح ، مع ما أيقنا به من النقطاع ، ويمسنا من الاجتماع ، كما نفد القدر ، وصدر الخبر . وقال تعلن لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ، فوجد لذلك وجداً شديداً ، وأذاقه مع الساعات شوقاً جديداً ، وأصبح بها دنفاً ، وأمسى عميداً ، حتى سلب ذلب بهاه ، وأذهب سناه ، ورده النحول كما شاه ، ولقي مها مثل ما لقي غيلان من ميته ، وجميل من بثينته ، وحن إليها حنين عروة إلى عفرا ، وموعدهما يوم وهب ناقته الصفراء . على رسك أني وهمت ، وحسبت ذلك حقاً وتوهمت ، والآن وقد فطنت ، وأصبت الفص فيما ظننت ، إنه لقي رمضان ي إقباله ، وضمه نقصان هلاله ، وصامه فجأة ولم يك في باله ، فأثر ذلك في وجهه الطلق ، وأضعفه كما فعل بساير الخلق ، وها هو قد أقبل من سفره البعيد ، فقل هو هلال الفطر أو قل هو هلال العيد ، فلقه صباح مشى الناس فيه مشيى الحباب ، ولبسوا أفضل الثياب ، وبرزوا إلى مصلاهم من كل باب ، فارتفعت همة الإسلام . وشرفت أمة محمد عليه السلام ، وخطب بالناس ودعا للإمام ، عندما طلعت الشمس بوجه المرآة ، ولون كصفا المهراة . وخرج لا ينسيها ريم الفلاة . وقضوا السنة ، وبذلوا الجهد في ذلك والمنة ، وسألوا من الله أن يدخلهم الجنة ، ثم خطبوا حمداً لله وشكراً ، وذكروه كذكرهم آبائهم أو أشد ذكراً ، ثم انصرفوا راشدين ، وافترقوا حامدين ، وشبك الشيخ بيديه ، ونظر الشاب في كفيه . ورجعوا على غير الطريق الذي أتوا عليه ، فلقد استشفى من الرؤية ذو عينين ، وتذكر العاشق موقف البين ، وشق المتنزه بين الصفين ، فنقل عينيه من الوشيي إلى الديباج ، ووجوه كضوء السراج ، وعيون أقتل من سيف الحجاج ، ونظرات لا يدفع داؤها بالعلاج ، وقد زينت العيون بالتكحيل ، والشعور بالترجيل ، وكرر السواك على مواضع التقبيل ، وطوقت الأعناق بالعقود ، وضرب الفكر في صفحات الخدود ، ومد بالغالية(2/353)
"""""" صفحة رقم 354 """"""
على مواضع السجود ، وأقبلت صنعاً بأوشيتها ، وعنت بأرديتها ، ودخلت العروس في حليتها ، ورقمت الكفوف بالحناء ، وأثني على الحسن وهو أحق بالثناء ، وطلقت التوبة ثلاثاً بعد البناء ، وغص الذراع بالسوار ، وتختم في اليمين واليسار ، وأمسكت الثياب بأيدي الأبكار ، ومشت الإماء أمام الأحرار ، وتقدمت الدايات بالأطفال الصغار ، وامتلأت الدنيا سرراً ، وانقلب الكل إلى أهله مسروراً . وبينما كانت الحال كما نصصت ، والحكاية كما قصصت ، إذ لألأت الدنيا برقاً ، وامتد مع الأفقين غرباً وشرقاً ، ورد لمعانه عيون الناظرين زرقاً ، ولولا أنه جرب حتى يدرا ، لقيل قد طلعت مع الشمس شمس أخرى ، حتى أقبل من شرفت العرب بنسبه ، وفخر الإسلام بسببه ، من انتسب إلى زهرة وقصي ، وازدانت به آل غالب وآلي لؤي ، من إذا ذكر المجد فهو ممسك بنده ، أو الفضل فهو لابس برده ، أو الفخر فهو واسطة عقده ، أو الحسن فهو نسيج وحده ، الذي رفع لواء العليا ، وعارضت مكارمه صوب الحبا ، وحكت محاسنه زهرة الحياة الدنيا . فأما وجهه فكما شرقت الشمس وأشرقت ، وغربت كواكب سمايها وشرقت ، وتفتحت أطواق الليل عن غرر ومجده وتشققت . ولولا حياً يغلب عليه ، وخفر يصحبه إذا نظرت إليه ، لاستحال النهار ، وغارت لنوره كواكب الأسحار ، ولكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ، لا يحفل بالصبح إذا انفلق ، ولا بالفجر إذا عم آفاق الدجا وطبق ، ولو بدا للمسافر في ليله لطرق ، قد عجم الأبنوس على العاد ، وأدار جفناً كما عطف على أطفالها النعاج ، يضرب بها ضرب السيف ، ويلم بالفؤاد إلمام الطيف ، ويتلقاها السحر تلقي الكريم للضيف ، لو جردها على الريم لوقف ، أو على فرعون ما صرف من سحره ما صرف ، أو على بسطام ابن قيس لألقى سلاحه وانصرف . وأما أدواته فكما انشقت الأرض عن نباتها ، وأخذت زخرفها في إنباتها ، ونفخ عرف النسيم في جنباتها ، يتفنن أفانين الزهر ، ويتقلب تقلب الدهر ، وتطلع له نوادر كالنجوم الزهر ، لو أبصره مطرف ما شهر بخطه ، ولا جر من العجب ذيل مرطه ، ولا كان المخبر معه من شرطه . وأما أنه لو قرى على سحبان كتابه ، وانحدر على نهره عبابه ، وملأت مسامعه أطنابه وأسبابه ، ما قام في بيانه ولا قعد ، ولنزل عن مقامه الذي إليه صعد ، ولا خلف من بلاغته ما وعد . لعمرك ما كان بشر بن المعتمر بتفنن للبلاغة فنوناً ، ولا يتقبلها بطوناً ومتوناً ، ولا أبو العتاهية ليشرطها كلاماً موزوناً ، ولا نمق الحسن بن سهل الألفاظ ، ولا رفع قس بن ساعدة صوته بعكاظ ، ولا أغلظ زيد بن علي ، هشاماً بما أغاظ . وأما مكارمه(2/354)
"""""" صفحة رقم 355 """"""
فكما انسكب الغيث عن ظلاله وخرج الودق من غلاله ، فتدارك النعمة عن فوتها ، وأحيا الأرض بعد موتها . ذلك الشريف الأجل ، الوزير الأفضل ، أبو طالب ابن القرشي الزهري ، أدام الله اعتزازه ، كما رقم في حلل الفخر طرازه ، فاجتمعت به السيادة بعد افتراقها . وأشرق وجه الأرض لإشراقها ، والتفت الثياب بالثياب ، وضم الركاب بالركاب ، ولا عهد كأيام الشباب ، فوصل القريب البعيد ، وهنوه كما جرت العادة بالعيد ، فوقف مع ركابه وسلمت ، وجرت كلاماً وبه تكلمت ، فقلت تقبل الله سعيك ، وزكى عملك ، وبلغك فيما توده أملك ، ولا تأملت وجهاً من السرور غلا تأملك ، ونفعك بما أوليت ، وأجزل حظك على ما صمت وصليت ، ووافقتك لعل وساعدتك ليت ، وهناك عيد الفطر وهنأته ، وبداك بالمسرات وبدأته ، وتبرأ لك الدهر مما تحسد وبرأته . وهكذا بحول الله أعياد واعتياد ، وعمر في دوام ، وعز في ازدياد ، والسنة تفصح بفضلك إفصاح الخطباء من إياد ، وأقرأ عليك سلام الله ما أشرق الضحا ، ودام الفطر والأضحى . ، وخفر يصحبه إذا نظرت إليه ، لاستحال النهار ، وغارت لنوره كواكب الأسحار ، ولكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ، لا يحفل بالصبح إذا انفلق ، ولا بالفجر إذا عم آفاق الدجا وطبق ، ولو بدا للمسافر في ليله لطرق ، قد عجم الأبنوس على العاد ، وأدار جفناً كما عطف على أطفالها النعاج ، يضرب بها ضرب السيف ، ويلم بالفؤاد إلمام الطيف ، ويتلقاها السحر تلقي الكريم للضيف ، لو جردها على الريم لوقف ، أو على فرعون ما صرف من سحره ما صرف ، أو على بسطام ابن قيس لألقى سلاحه وانصرف . وأما أدواته فكما انشقت الأرض عن نباتها ، وأخذت زخرفها في إنباتها ، ونفخ عرف النسيم في جنباتها ، يتفنن أفانين الزهر ، ويتقلب تقلب الدهر ، وتطلع له نوادر كالنجوم الزهر ، لو أبصره مطرف ما شهر بخطه ، ولا جر من العجب ذيل مرطه ، ولا كان المخبر معه من شرطه . وأما أنه لو قرى على سحبان كتابه ، وانحدر على نهره عبابه ، وملأت مسامعه أطنابه وأسبابه ، ما قام في بيانه ولا قعد ، ولنزل عن مقامه الذي إليه صعد ، ولا خلف من بلاغته ما وعد . لعمرك ما كان بشر بن المعتمر بتفنن للبلاغة فنوناً ، ولا يتقبلها بطوناً ومتوناً ، ولا أبو العتاهية ليشرطها كلاماً موزوناً ، ولا نمق الحسن بن سهل الألفاظ ، ولا رفع قس بن ساعدة صوته بعكاظ ، ولا أغلظ زيد بن علي ، هشاماً بما أغاظ . وأما مكارمه فكما انسكب الغيث عن ظلاله وخرج الودق من غلاله ، فتدارك النعمة عن فوتها ، وأحيا الأرض بعد موتها . ذلك الشريف الأجل ، الوزير الأفضل ، أبو طالب ابن القرشي الزهري ، أدام الله اعتزازه ، كما رقم في حلل الفخر طرازه ، فاجتمعت به السيادة بعد افتراقها . وأشرق وجه الأرض لإشراقها ، والتفت الثياب بالثياب ، وضم الركاب بالركاب ، ولا عهد كأيام الشباب ، فوصل القريب البعيد ، وهنوه كما جرت العادة بالعيد ، فوقف مع ركابه وسلمت ، وجرت كلاماً وبه تكلمت ، فقلت تقبل الله سعيك ، وزكى عملك ، وبلغك فيما توده أملك ، ولا تأملت وجهاً من السرور غلا تأملك ، ونفعك بما أوليت ، وأجزل حظك على ما صمت وصليت ، ووافقتك لعل وساعدتك ليت ، وهناك عيد الفطر وهنأته ، وبداك بالمسرات وبدأته ، وتبرأ لك الدهر مما تحسد وبرأته . وهكذا بحول الله أعياد واعتياد ، وعمر في دوام ، وعز في ازدياد ، والسنة تفصح بفضلك إفصاح الخطباء من إياد ، وأقرأ عليك سلام الله ما أشرق الضحا ، ودام الفطر والأضحى . دخوله غرناطة
دخل غرناطة ، وتردد إليها غير ما مرة ، وأقام بها ؛ وامتدح ابن أضحى وابن هاني ، وابن سعيد وغيرهم من أهلها . قال ابن سعيد في طالعه ، وقد وصف وصول ابن قزمان إلى غرناطة ، واجتماعه بجنبته بقرية الزاوية من خارجها ، بنزهون القليعية الأديبة ، وما جرى بينهما ، وأنها قالت له بعقب ارتجال بديع ، وكان لبس غفاره صفراء ، أحسنت يا بقرة بني إسرائيل ، إلا أنك لا تسر الناظرين ، فقال لها إن لم أسر الناظرين ، فأنا أسر السامعين ، وإنما يطلب سرور الناظرين منك ، يا فاعلة يا صانعة . وتمكن السكر من ابن قزمان ، وآل الأمر إلى أن تدافعوا معه حتى رموه في البركة ، فما خرج منها إلا وثيابه تقطر ، وقد شرب كثيراً من الماء ، فقال إسمع يا وزير ثم أنشد :
إيه أبا بكر ولا حول لي . . . بدفع أعيان وأنذال
وذات جرح واسع دافق . . . بالماء يحكي حال أذيال
غرقتني في الماء يا سيدي . . . كفره بالتغريق في المال(2/355)
"""""" صفحة رقم 356 """"""
فأمر بتجريده ، وخلع عليه ما يليق به ولمن يمر لهم بعد عهدهم بمثله .
ولم ينتقل ابن عزمان من غرناطة ، إلا بعد ما أجزل من الإحسان ، ومدحه بما هو في ديوان أزجاله .
محنته
جرت عليه بابن حمدين محنة كبيرة ، عظم لها نكاله ، بسبب شكاسة أخلاق كان موصوفاً بها ، وحدة شقي بسببها . وقد ألم الفتح في قلايده بذلك ، واختلت حاله بآخرة ، واحتاج بعد انفصال أمر مخدومه الذي نوه به .
توفي بقرطبة لليلة بقيت من رمضان سنة خمس وخمسين وخمس ماية ، والأمير ابن سعد يحاصر قرطبة . رحمه الله .
محمد بن غالب الرصافي
يكنى أبا عبد الله ، بلنسي الأصل ، سكن غرناطة مدة ، ثم مالقة .
حاله
قال الأستاذ ، كان فحلاً من فحول الشعراء ، ورئيساً في الأدباء ، عفيفاً ، ساكناً ، وقوراً ، ذا سمت وعقل . وقال القاضي ، كان شاعراً مجيداً ، رقيق الغزل ، سلس الطبع ، بارع التشبيهات ، بديع الاستعارات ، نبيل المقاصد والأغراض ، كاتباً بليغاً ، دنياً ، وقوراً ، عفيفاً ، متفقهاً ، عالي الهمة ، حسن الخلق والخلق والسمت ، تام العقل ، مقبلاً على ما يعنيه من التعيش بصناعة الرفي التي كان يعالجها بيده ، لم يبتذل نفسه في خدمة ، والتعرض لانتجاع بقافية ، خلا وقت سكناه بغرناطة ، فغنه امتدح واليها حينئذ ، ثم نزع عن ذلك ، راضياً بالخمول حالاً ، والقناعة مالاً ، على شدة الرغبة فيه ، واغتنام ما يصدر عنه .
أخبار عقله وسكونه
قال الفقيه أبو الحسن شاكر بن الفخار المالقي ، وكان خبيراً بأحواله : ما رأيت عمري رجلاً أحسن سمتاً ، وأطول صمتاً ، من أبي عبد الله الرصافي . وقال غيره من أصحابه ، كان رفاء ، فما سمع له أحد من جيرانه كلمة في أحد . وقال أبو عمرو ابن سالم ، كان صاحباً لأبي ، ولقيته غير ما مرة ، وكان له(2/356)
"""""" صفحة رقم 357 """"""
موضع يخرج إليه في فصل العصير ، فكنت أجتاز عليه مع أبي فألثم يده ، فربما قبل رأسي ، ودعا لي ، وكان أبي يسله الدعاء فيخجل ، ويقول أنا والله أصغر من ذلك . قال ، وكان بإزايه أبو جعفر البلنسي . وكان متوقد الخاطر ، فربما تكلم مع أحد التجار ، فكان منه هفوة ، فيقول له جلساؤه ، شتان والله بينك وبين أبي عبيد الله في العقل والصمت ، فربما طالبه بأشياء ليجاوبه عليها ، فما يزيد على التبسم . فلما كان أحد الأيام ، جاء البلنسي ليفتح دكانه . فتعمد إلقاء الغلق من يده ، فوقع على رأس أبي عبد الله . وهو مقبل على شغله ، فسال دمه ، فما زاد على أن قام ومسح الدم ، ثم ربط رأسه ، وعاد إلى شغله . فلما رأى ذلك منه أبو جعفر ترامى عليه ، وجعل يقبل يديه ، ويقول ، والله ما سمعت برجل أصبر منك ، ولا أعقل .
شعره
وشعره لا نهاية فوفه رونقاً ومائية ، وحلاوة وطلاوة ، ورقة ديباجة ، وتمكن ألفاظ ، وتأصل معنى . وكان رحمه الله ، قد خرج صغيراً من وطنه ، فكان أبداً يكثر الحنين إليه ، ويقصر أكثر منظومه عليه . ومحاسنه كثيرة فيه ، فمن ذلك قوله :
خليلي ما لليد قد عبقت نشرا . . . وما لرؤوس الركب قد رجحت سكرا
هل المسك مفتوتاً بمدرجة الصبا . . . أم القوم أجروا من بلنسية ذكرا
خليلي عوجا بي قليلاً فإنه حديث . . . كبرد الماء في الكبد الحرا
قفا غير مأمورين ولتتصديا . . . على ثقة للمزن فاستسقيا القطرا بجسر معان والرصافة إنه على القطر أن يسقى الرصافة والجسرا
بلادي التي ريشت قويد متى بها . . . فريخاً وأورثتني قرارتها وكرا
فبادي أنيق العيش في رريق الصبا . . . أبى الله أن أنسى اغتراري بها غراً(2/357)
"""""" صفحة رقم 358 """"""
لبسنا بها ثوب الشباب لباسها . . . ولكن عرينا من حلاه ولم تعرا
أمنزلنا عصر الشبيبة ما الذي . . . طوى دوننا تلك الشبيبة والعصرا
محل أغر العهد لم نبد ذكره . . . على كبد إلا امترى أدمعاً حمرا
أكل مكان كان في الأرض مسقطاً . . . لرأس الفتى يهواه ما عاش مضطرا
ولا مثل مدحو من المسك تربة . . . تملي الصبا فيه حيقتها عطرا
نبات كأن الخد يحمل نوره . . . تخال لجيناً في أعاليه أو تبرا
وما كثر صيع المجرة جللت . . . نواصيه الأزهار واشتبكت زهرا
أنيق كريان الحياة التي خلت . . . طليق كريعان الشباب الذي مرا
وقالوا هل الفردوس ما قد وصفته . . . فقلت وما الفردوس في الجنة الأخرا
بلنسية تلك الزمردة التي . . . تسيل عليها كل لؤلؤة نهرا
كأن عروساً أبدع الله حسنها . . . فصير من شرخ الشباب لها عمرا
يويد منها شعشعانية الضحى . . . مضاحكة الشمس البحيرة والبحرا
تراجم أنفاس الرياح بزهرها . . . نجوماً فلا شيطان يغربها ذعرا
وإن كان قد مدت يد البين بيننا من الأرض ما يهوى المجد به شهرا(2/358)
"""""" صفحة رقم 359 """"""
هي الدرة البيضاء من حيت جدتها . . . أضاءت ومن للدر أن يشبه الدرا
خليلي أن أسدر لها فإنها . . . هي الوطن المحبوب أوكلته الصدرا
ولم أطوعنها الخطو هجراً لها إذاً . . . فلا لثمت نعلي مساكنها الخضرا
ولكن إجلالاً لتربتها التي . . . تضم فتاها الندب أو كهلها الحرا
أكارم عاث الدهر ما شاء فيهم . . . فبادت لياليهم فهل أشتكى الدهرا
هجوع ببطن وأرض قد ضرب الردى عليهم قبيبات فويق الثرى غبرا
تقضوا فمن نجم سالك ساقط . . . أبي الله أن يرعى السماك أو والنشر
ومن سابق هذا إذا شا غاية شا . . . وغير محمود جياد العلى خضرا
أناس إذا لاقيت من شيت منهم . . . تلقوك لا غث الحديث ولا غمرا
وقد درجت أعمارهم فتطلعوا . . . هلال ثلاث لو شفا رق أو بدرا
ثلاثة أمجاد من النفر الألى . . . زكوا خبراً بين الورى وزكوا خبرا
تكلتهم ثكلاً دهى العين والحشى . . . فعجرذا أماً وسجر ذا جمرا
كفى حزناً أني تباعدت عنهم . . . فلم ألق من سرى منها ولا سرا
وإلى متى أسل بهم كل راكب . . . ليظهر لي خيراً تأبط لي شرا
أباحثه عن صالحات عهدتها هناك . . . فيسبني بما يقصم الظهرا
محياً خليل عاض ماء حياته . . . وساكن قصر أضر مسكنه القبرا
وأزهر كالإصباح قد كنت أجتلي . . . سناء كما يستقبل الأرق الفجرا
يصرف ما بين اليراعة والقنا . . . أنامله لا بل هواطله الغرا
طويل نجاد السيف لان كأنما . . . تخطى به في البرد خطية سمرا
سقته على ما فيك من أريحية . . . خلايق هن الخمر أو تشبه الخمرا(2/359)
"""""" صفحة رقم 360 """"""
ونشر محيا للمكارم لو سرت . . . حمياه في وه الأصيل لما اصفرا
هل السعد إلا حيث حط صعيده . . . لمن بل في شفري ضريح له شفرا
طوين الليالي طيهن وإنما . . . طوين عني التجلد والصبرا
فلا حرمت سقياه أدمع مزنة . . . ترى مبسم النوار عنبر معترا
وما دعوتي للمزن عذراً لدعوتي . . . إذا ما جعلت البعد عن قربه عذرا
وقال برثي أبا محمد بن أبي العباس بمالقة : أبنى البلاغة فيم حفل النادى . . . هبها عكاظ فأين قس أياد
أما البيان فقد أجر لسانه . . . فيكم بفتكته الحمام العاد
عرشت سما علايكم ما أنتم . . . من بعد ذلكم الشهاب الهادي
حطوا على عمد الطريق فقد خبت . . . لآلى ذاك الكوكب الوقاد
ما فل لهزمه الصقيل وإنما . . . نثرت كعوب قناكم المناد
إيه عميد الحي غير مدافع . . . إيه فدى لك غابر الأمجاد
ما عذر سلك كنت عقد نظامه . . . إن لم يصر برداً إلى الأباد
كثف الحجاب فما ترى متفضلا . . . في ساعة تصغي به وتناد
ألمم بربعك غير مأمور فقد . . . غص القنا بأرجل القصاد
خبراً يبلغه غير مأمور فقد . . . غص الفنا بأرجل القصاد
خبراً يبلغه إليك ودونه . . . أمن العداة وراحة الحساد
قد طأطأ الجبل المنيف قذاله . . . للجار بعدك واقشعر الواد
أعد التفاتك نحونا وأظنه . . . مثل الحديث لديك غير معاد(2/360)
"""""" صفحة رقم 361 """"""
وامسح لنا عن مقلتيك من الكرى . . . نوماً تكابد من بكى وسهاد
هذا الصباح ولا تهب إلى . . . متى طال الرقاد ولات حين رقاد
وكأنما قال الردى نم وادعاً . . . سبقت إلى البشرى بحسن معاد
أموسداً تلك الرخام بمرقد . . . أخشن به من مرقد ووساد
خضبت بقدرك حفرة فكأنها . . . من جوفها في مثل حرف الصاد
وثر لجنبك من أثاث مخيم . . . ترب ند وصفايح أنضاد
يا ظاعناً ركب السرى في ليلة . . . طار الدليل بها وحاد الحاد
أعزز علينا أن حططت بمنزل . . . تبل عن الزوار والعواد
جار الأفراد هنالك جيرة . . . سقياً لتلك الجيرة الأفراد
الساكنين إلى المعاد قبابهم . . . منشورة الأطناب والأغماد
من كل ملقية الجراب بمضرب . . . ناب البلى فيه عن الأوتاد
بعرس السفر الألى ركبوا . . . السرى مجهولة الغايات والآماد
سيان فيهم ليلة ونهارها . . . ما أشبه التأويب بالإسناد
لحق البطون من اللعب على الطوى . . . وعلى الرواحل عنفوان الزاد
لله هم فلشد ما نفضوا من . . . أمتعة الحياة في حقايب الأجساد
ياليت شعري ولامنا لك جنة . . . والحال مرذنة بطول بعاد
هل للعلا بك بعدها من نهضة . . . أم لانقضاء نواك من ميعاد
بأبي رقد ساروا بنعشك صارم . . . كثرت حمايله على الأكناد
ذلت عوانق حاميك فإنها . . . شاموك في غمد بغير نجاد
نعم الذما البر ما قد غوروا . . . جثمانه بالأبرق المنقاد
عليا خص بها الضريح وإنما . . . نعم الغوير بأبؤس الأنجاد(2/361)
"""""" صفحة رقم 362 """"""
أبنى العباس أي حلاحل . . . سلبتكم الدنيا وأي مصاد
هل كان إلا العين وافق سهمها . . . قدراً فأقصد أيما إقصاد
أخلل جد لا يسد مكانه . . . بالإخوة النجباء والأولاد
ولكم يرى بك من هضاب لم يكن . . . لولاك غير دكادك ووهاد
ما زلت تنعشها بسيبك قابضاً . . . منها على الأضباع والأعضاد
حتى أراك أبا محمد الردى . . . كيف انهداد بواذخ الأطواد
يا حرها من جمرة مشبوبة . . . يلقى لها الأيدي على الأكتاد
كيف العزاء وإنها لرزية . . . خرج الأسى فيها عن المعتاد
صدع النعاة بها فقلتن لمدمعي . . . كيف انسكابك يا أبا الجواد
لك من دمي ما شيت غير منهنه . . . صب كيف شيت معصفر الأبراد بقصير مجتهد وحسبك غاية . . . لو قد بلغت بها كبير مراد
أما الدموع فهي أضعف ناصر . . . لكنهن كثيرة التعداد
ثم السلام ولا أغب قراره . . . وأرتك صوب روايح وغواد
تسقيك ما سفحت عليك يراعة . . . في خد قرطاس دموع مداد
ومن غرامياته وإخوانياته قوله من قصيدة :
عاد الحديث إلى ما جر أطيبه . . . والشيء يبعث ذكر الشيء عن سبب
إيه عن الكدية البيضاء إن لها . . . هوى يغلب أخيك الواله الوصب
راوح بها السهل من أكنافها . . . وأرح ركابنا ليلنا هذا من التعب
وانضح نواحيها من مقلتيك وسل . . . من الكثيب الكريم العهد في الكتب
وقل لسرحته يا سرحة كرمت . . . على أبي عامر عزي عن السحب
يا عذبة الماء والظل انغمى . . . طفلا حييت ممسية ميادة الغضب
ماذا على ظلك الألمى وقد قلصت . . . أفياؤه لو ضفى شياً لمغترب(2/362)
"""""" صفحة رقم 363 """"""
أهكذا تنقضي نفسي لديك ظما . . . الله في رمق من جارك الجنب
لولاك يا سرح لم يبق الفلا عطلا . . . من السرى والدجا خفاقة الطنب
ولم نبت نتقاضى من مدامعنا . . . ديناً لتربك من رقراقها الرب
إنا إذا ما تصدى من هوى طلل . . . عجنا عليه فحييناه عن كثب
مستعطفين سخيات الشئون له . . . حتى يحاك عليه مموق العشب
سلي خميلتك الريا بأية ما . . . كانت ترف بها ريحانة الأدب
عن فتية نزلوا على سرارتها . . . عفت محاسنهم إلا من الكتب
محافظين على العليا وربما . . . هزوا السجايا قليلاً بابنة النب
حتى إذا ما قضوا من كأسها وطراً . . . وضاحكوها لدى جد من طرب
راحوا رواحاً وقد ريدت عمايمهم . . . حلماً ودارت على أسفي من السبب
لا يظهر الشكر حالاً في ذوايبهم . . . إلا التفات الصبا في السن العذب
المنزلين القوافي ن معاقلها . . . والخاضدين لديها شوكة العرب
ومن مقطوعاته قوله :
دعاك خليل والأصيل كأنه . . . عليل يقضي مدة الزمن الباق
إلى شط منساب كأنك ماؤه . . . صفاً ضميراً وعذوبة أخلاق
ومهوي جناح للصبا يمسح الربا . . . خفي الخوافي والقوادم خفاق
وفتيان صدق كالنجوم تألفوا . . . على النأي من شتى بروج وآفاق(2/363)
"""""" صفحة رقم 364 """"""
على حين راح البرق في الجو مغمداً . . . ظباه ودمع المزن في جفنه راق
وجالت بعيني في الرياض التفاتة . . . حبست بها كأسي قليلاً عن الساق
على سطر خيري ذكرتك فانثنى . . . يميل بأعناق ويرنو بأحداق
وقف وقفة المحبوب منه فإنها . . . شمايل مشغوف بمرآك مشتاق
وصل زهرات منه صفر كأنها . . . وقد خضلت قطراً محاجر عشاق
وقال وكلفها في حايك وهو بديع .
قالوا وقد أكثروا في حبه عذل . . . لو لم تهم بمزال القدر مبتذل
فقلت لو أن أمري في الصبابة لي . . . لاخترت ذاك ولكن ليس ذلك ل
في كل قلب عزيزات مذللة للحسن . . . والحسن ملك حيث جل ول
علقته حبيبي الثغر عاطره . . . دري لون المحيا أحور المقل
إذا تأملته أعطاك ملتفتاً . . . ما شيت من لحظات الشادن الوجل
هيهات أبغي به من غيره بدلا . . . أخرى الليالي وهل في الغير من بدل
غزيل لم تزل في الغزل جايلة . . . بنانه جولان الفطر في الغزل
جذلان تلعب بالمحراك أنمله . . . على السدي لعب الأيام بالأمل
ما أن يني تعب الأطراف مشتغلا . . . أفديه من تعب الأطراف مشتغل
ضرباً بكفيه أو فحصاُ بأخمصه . . . تخبط الظبي في أشراك محتبل
وقال : ومهفهف كالغصن إلا أنه . . . سلب التثني النوم عن أثنايه(2/364)
"""""" صفحة رقم 365 """"""
أضحى ينام وقد تخدد خده . . . عرقاً فقلت الورد رش بمايه
وقال :
أدرها فالغمامة قد أجالت . . . سيوف البرق في لمم البطاح
وراق الروض طاووساً بهياً . . . تهب عليه أنفاس الرياح
تقول وقد ثنى قزح عليه . . . ثياب الغيم معلمة النواح
خذوا للصحو أهبتكم فإني . . . أعرت المزن قادمتي جناح
وقال :
أدرها على أمر فما ثم من بأس . . . وإن جددت آذانها ورق الآس
وما هي إلا ضاحكا غمايم . . . لواعب من ومض البروق بمقياس
ووفد رياح زعزع النهر مدة . . . كما وطيت درعاً سنا بك أفراس
وقال في وصف مغن محسن :
ومطارح مما تحس بنانه . . . صوتاً أفاض عليه ماء وقاره
يثني الحمام فلا يروح لو كره . . . طرباً ورزق بنيه في منقاره
وقال يصف جدول ماء عليه سرحة ، ولها حكاية معروفة :
ومهدل الشطين تحسب أنه . . . متسيل من درة لصفايه
فاءت عليه مع العشية سرحة . . . صدئت لفيئتها صفيحة مايه
فتراه أزرق في غلالة سمرة . . . كالدارع استلقى بظل لوايه
نثره
قال من مقامة يصف القلم :
قصير كالأنابيب لكنه . . . يطول مضاً طوال الرماح(2/365)
"""""" صفحة رقم 366 """"""
إذا عب للنفس في دامس . . . ودب من الطرس فوق الصفاح
تجلت به مشكلات الأمور . . . ولان له الصعب بعد الجماح
فلولا هو لغدت أغصان الاكتساب ذاوية ، وبيوت الأموال خاوية ، وأسرعت إليها البوسى ، وأصبحت كفؤاد أم موسى ، فهو لا محالة تجرها الأربح ، وميزانها الأرجح . به تدر ألبانها ، وتثمر أفنانها ، وتستمر أفضالها وإحسانها ، وهو رأس مالها ، وقطب عمالها وأعمالها . وصاحب القلم قد حوى الملكة بأسرها ، وتحكم في طيها ونشرها ، وهو قطب مدارها ، وجهينة أخبارها ، وسر اختيارها واختبارها ، ومظهر مجدها وفخارها ، يعقد الرايات لكل وال ، ويمنحهم من المبرة كل صافية المقيل ، ضافية السربال ، يطفي جمرة الحرب العوان ، ويكايد العدو بلا صارم ولا سنان ، يقد المفاصل ، ويتخلل الأباطح والمعاقل ، ويقمع الحواسد والعواذل .
وفاته : توفي بمالقة يوم الثلاثاء لإحدى عشرة بقيت من رمضان سنة اثنين وسبعين وخمسماية . وقبره مشهور بها
محمد بن قاسم بن أبي بكر القرشي المالقي
من أهل مالقة ، وسكن غرناطة وتردد إليها
حاله
كان لبيباً لوذعياً ، جامعاً لخصال ؛ من خط بارع وكتابة ، ونظم ، وشطرنج ، إلى نادر حار ، وخاطر ذكي ، وجرأة . توجه إلى العدوة ، وارتسم بها طبيباً ، وتولى النظر على المارستان بفاس في ربيع الثاني من عام أربعة وخمسين وسبعمائة .
شعره
أنشدني بمدينة فاس عام ستة وخمسين ، في وجهتي رسولا إلى المغرب ، قوله في رجل يقطع في الكاغد :
أبا علي حسينا . . . أين الوفا منك أينا
قد بين الدمع وجدي . . . وأنت تزداد بينا
بلت لحاظك قلبي . . . تا لله ما قلت مينا
قط المقص لهذا . . . سبب الصب مينا
بقيط تفتر حسنا . . . وجمت تزداد زينا(2/366)
"""""" صفحة رقم 367 """"""
وقال أيضاً :
فضل التجارات باد في الصناعات . . . لولا الذي هو فيها هاجر عات
حاز الجمال فأعياني وأعجزني . . . وإن دعيت بوصاف ونعات
وكان شديد المغالطة ، ذاهباً أقصى مذاهب القحة ، يحرك من لا يتحرك ، ويغضب من لا يغضب . عتب يوماً جدته على طعام طبخته له ، ولم يستطبه ، وكان بين يديه القط يصدعه بصياد طلبه ، فقال له ضجراً ، خمسمائة سوط ، فقالت له جدته لم تعط هذه السياط للقط ، إنما عنيتني بها ، وأعطيتها باسم القط ، فقال لها حاش لله يا مولاتي ، وبهذا البخل تدريني أو الزحام عليها ، بل ذلك للقط حلالاً طيباً ، ولك أنت ألف من طيبة قلب ، فأرسلها مثلا ، وما زلنا نتفكه بذلك ، وكان في هذا الباب لا يشق غباره .
مولده : بمالقة عام ثلاثة وسبع ماية .
وفاته : بعث إلي الفقيه أبو عبد الله الشديد ، يعرفني أنه توفي في أواسط عام سبعة وخمسين وسبعمائة .
محمد بن سليمان بن القصيرة
أبو بكر ، كاتب الدولة اللمتونية ، وعلم وقته .
حاله
قال ابن الصيرفي الوزير الكاتب ، الناظم ، الناثر ، القايم بعمود الكتابة ، والحامل للواء والبلاغة ، والسابق الذي لا يشق غباره ، ولا تخمد أبداً أنواره . اجتمع له براعة النثر ، وجزالة النظم ، رقيق النسيج ، حصيف المتن ، رقعته ماشيت في العين واليد . قال ابن عبد الملك ؛ وكان كاتباً مجيداً ، بارع الخط ، كتب عن يوسف بن تاشفين .
مشيخته
روى عن أبي الحجاج الأعلم ، وأبي الحسن بن شريح ، وروى عنه أبو الوليد هشام بن يوسف بن الملجوم ، لقيه بمراكش .(2/367)
"""""" صفحة رقم 368 """"""
شعره
وهو عندي في نمط دون ما وصف به . فمن ذلك قوله من قصيدة أنحى فيها على ابن ذي النون ، ومدح ابن عباد ، عند خلع ابن جهور ، أبي الوليد ، وتصيير قرطبة إليه :
فسل عنه أحشاء ابن ذي النون هل . . . سرى إليها سكون منذ زلزلها الذعر
وهل قدرت مذ أوحشته طلايع . . . الظهور عليه أن تؤنسه الخمر
ألم يجن يحيى من تعاطيك ظله . . . سجا لك هيهات السهى من ك يا بدر
لجاراك واستوفيت أبعد غاية . . . وآخره عن شأوك الكف والعثر
فأحرزت فضل السبق عفواً . . . وكفه على رغمه مما توهمه صفر
ويا شد ما أغرته قرطبة وقد . . . أبشرتها خيلنا فكان لك الدر
ومنها :
أتتك وقد أزرى ببهجة حسنها . . . ولا لأنها من جور مالكها طمر
فألبستها من سابغ العدل حلة . . . زهاها بها تيه وغازلها كبر
وجاءتك متفالا فضمخ حيها . . . وازدانها من ذكرك المعتلى عطر
وأجريت ماء الجود في عرصاتها . . . فروض حتى كاد أن يورق الصخر
وطاب هوا أفقها فكأنها تهب نسيماً فيه أخلاقك الزهر
وما أدركتهم في هواك هوادة . . . وما أثتمروا إلا لما أمر البر
وما قلدوك لأمر إلا لواجب . . . جئته فيه المجر والغمر
وبوأهم في ذروة المجد معقلا . . . حرام على الأيام إلمامه حجر
وأوردهم من فضل سيبك مورداً . . . على كثرة الوارد مشرعه غمر
فلولاك لم تفصل عرى الإصر عنهم . . . ولا انفك من ربق الأذى لهم أسر
أعدت نهار ليلهم ولطالما . . . أراهم نجوم الليل في أفقه الظهر
ولا زلت تؤويهم إلى ظل دوحة . . . من العز في أرحابها النعم الخضر(2/368)
"""""" صفحة رقم 369 """"""
كتابته
وهي من قلة التصنع والإخشوشان ، بحيث لا يخفى غرضها . ولكل زمان رجاله . وهي مع ذلك تزينها السذاجة ، وتشفع لها الغضاضة . كتب عن الأمير يوسف بن تاشفين ولاية عهده لولده : هذا كتاب تولية عظيم جسيم ، وتوصية حميم كريم ، مهدت على الرضا قواعده ، وأكدت بيد التقوى مواعده ومعاقده ، وسددت إلى الحسني مقاصده ، وأبعدت عن الهوادة والهوى مصادره وموارده . أنفذه أمير المسلمين ، وناصر الدين ، أبو يعقوب يوسف بن تاشفين ، أدام الله أمره ، وأعز نصره ، وأطال فيما يرضيه منه ، ويرضى به عنه عمره ، غير محاب ، ولا تارك في النصيحة لله ولرسوله والمسلمين ، وموضع ارتياب لمرتاب ، للأمير الأجل أبي الحسن علي ابنه ، المتقبل هممه وشيمه ، المتأثل حلمه وتحلمه ، الناشئ في حجر تقويمه وتأديبه ، المتصرف بين يدي تخريجه ، وتدريبه ، أدام الله عزه وتوفيقه ، ونهج إلى كل صالح من الأعمال طريقه ، وقد تهمم بمن تحت عصاه من المسلمين ، وهدى في انتقاء من يخلفه هدى المتقين ، ولم ير أن يتركهم بعد سدى غير مدينين واعتام في النصاب الرفيع ، واختار واستنصح أولي الرأي والتشاور إلا لديه . فولاه عن استحكام بصيرة ، وبعد طول مشورة ، عهده ، وأفضى إليه الأمر والنهي ، والقبض والبسط عنده بعده ، وجعله خليفته الساد في رعاياه مسده ، وأووطأ عقبه جماهير الرجال ، وناط به مهمات الأمور والأعمال ، وعهد إليه أن يتقي الله ما استطاع ، ولا يعدل عن سمت العدل وحكم الكتاب والسنة ، في أحد عصا أو أطاع ، ولا ينام عن حماه الحيف والخوف بالاضطجاع ، ولا يتلين دون معلن شكوى ، ولا يتصام عن مستصرخ لذي بلوى ، وأن ينظم أقصى البلاد وأدناها في سلك تدبيره ، ولا يكون بين القريب والبعيد بون في إحصائه وتقديره . ثم دعا أدام الله تأييده ، لمبايعته ، أدام الله عزه ونصره ، من حضر ودنا من المسلمين ، فلبوا مسرعين ، وأتوا مهطعين ، وأعطوا صفقة إيمانهم متبرعين متطوعين ، وبايعوه على السمع والطاعة ، والتزام سنن الجماعة ، وبذل النصيحة جهد الاستطاعة ، ومناصفة من ناصفه ، ومحاربة من حاربه ، ومكايدة من كايده ، ومعاندة من عانده ، لا يدخرون في ذلك على حال المنشط مقدرة ، ولا يحتجون في حالتي الرضا والسخط إلى معذرة . ثم أمر بمخاطبة ساير أهل البلاد لمبايعته ، كل طائفة منهم في بلدها ، وتعطيه كما أعطاه من حضر ، وصفقة يدها ، حتى ينتظم في التزام طاعته القريب والبعيد ، ويجتمع على الاعتصام بحبل دعوته ، الغايب(2/369)
"""""" صفحة رقم 370 """"""
والشهيد ، وتطمين من أعلام الناس وخيارهم نفوس قلقة ، وتنام عيون لم تزل مخافة إقذئها مورقة ، ويشمل الناس كافة السرور والاستبشار ، وتتمكن لديهم الدعة ، ويتمهد القرار ، وتنشأ لهم في الصلاح آمال ، ويستقبلهم جد صالح وإقبال . والله يبارك لهم بيعة رضوان ، وصفقة رجحان ، ودعوة يمن وأمان ، إنه على ما يشاء قدير ، لا إله إلا هو ، نعم المولى ونعم النصير . شهد على إشهاد أمير المسلمين بكل ما ذكر عنه فوق هذا من بيعته ، ولقيه حملة عنه ممن التزم البيعة المنصوصة قبل ، وأعطة صفقته طائعاً متبرعاً بها . وبالله التوفيق . وكتب بحضرة قرطبة في ذي الحجة سنة ست وتسعين وأربعمائة .
دخل غرناطة غير ما مرة ، وحده ، وفي ركاب أميره .
توفي في جمادى الآخرة من عام ثمانية وخمسمائة .
محمد بن يوسف بن عبد الله بن إبراهيم التميمي المازني
من أهل سرقسطة ، ودخل غرناطة ، وروى عن أبي الحسن بن الباذش بها ، يكنى أبا الطاهر . وله المقامات اللزوميات العروفة .
حاله
كان كاتباً لغوياً شاعراً ، معتمداً في الأدب ، فرداً ، متقدماً في ذلك في وقته ، وله المقامات المعروفة ، وشعره كثير مدون .
مشيخته
روى عن أبي علي الصدفي ، وأبي محمد بن السيد ، وأبي الحسن بن الأخضر ، وأبي عبد الله بن سليمان المعروف بابن أخت غانم ، وأبي محمد بن عتاب ، وأبي الحسن بن الباذش . وأبي محمد عبد الله بن محمد التجيبي الدكلي ، وأبي القاسم ابن صوابه ، وأبي عمران بن أبي تليد ، وغيرهم . أخذ عنه القاضي أبو العباس ابن مضاء ، أخذ عنه الكامل للمبرد ، قال . وعليه اعتمد في تقييده . وروى عنه المقري المسن ، الخطيب أبو جعفر بن يحيى الكتامي ، وذكره هو وابن مضاء .
توفي بقرطبة ظهر يوم الثلاثاء ، الحادي والعشرين من جمادى الأولى ، سنة ثمان وثلاثين وخمسماية ، بزمانة لازمته نحوا من ثلاثة أعوام ، نفعه الله .
شعره
أيا قمر أتطلع من وشاح . . . على غض فاخر من كل راح(2/370)
"""""" صفحة رقم 371 """"""
أدار السحر من عينيه خمراً . . . معتقة فأسكر كل صاح وأهدى إذ تهادى كل طيب . . . كخوط البان في أيدي الرياح
وأحيا حين حيا نفس صب . . . غدت في قبضة الحب المتاح
وسوغ منه عتبي بعد عتب . . . وعللني براح فوق راح
وأجناني الأماني في أمان . . . وجنح الليل مسدول الجناح
وقال أيضاً :
ومنعم الأعطاف معسول اللما . . . ما شيت من بدع المحاسن فيه
لما ظفرت بليلة من وصله . . . والصب غير الوصل لا يشفيه
أنضحت وردة خده بنفسي . . . وظللت أشرب ماءها من فيه
وقال أيضاً :
رحكت السلاف صفاته بحبابها . . . من ثغره ومذاقها من رشفه
وتوردت فحكت شقايق خده . . . وتأرجت فيسيمها من عرفه
لعبت بألباب الرجال وغادرت . . . أجسامهم صرعى كفعلة طرفه
ومن الغرباء في هذا الحرف محمد بن حسن العمراني الشريف
من أهل فاس
حاله
كان جهوياً ساذجاً ، خشن البزة ، غير مرهف التجند ، ينظم الشعر ، ويذكر كثيراً من مسائل الفروع ، ومعانات الفرائض ، يجعجع بها في مجالس الدروس ، تشقى به المدرسون ، على وتيرة من صحة السجية وحسن العهد ، وقلة التصنع . وجرى ذكره في الكليل : كريم الانتماء ، مستظل بأغصان الشجرة الشماء ، من رجل ، سليم الضمير ، ذي باطن أصفى من الماء النمير ، له في الشعر طبع بشهد بعروبية أصوله ، ومضاء نصوله .(2/371)
"""""" صفحة رقم 372 """"""
فمن ذلك قوله يخاطب السلطان أمير المسلمين ، وقد أمر له بكسوة :
منحت منحت النضر والعز والرضا . . . ولا زلت بالإحسان له مقرضاً
ولا زلت للعليا جني مكارماً . . . وللإمر الملك العزيز مقيضا
ولا زالت الأملاك باسمك تتقي . . . وجيشك وفراً يملأ الأرض والفضا
ولا زلت ميمون النقيبة ظافراً . . . مهيباً ووهاباً وسيفك منتضا
تقر به الدين الحنيف وأهله . . . تقمع جباراً وتهلك مبغضا
وصلت شريف البيت من آل هاشم . . . وخولته أسنى مراد ومقتضا
وجدت بإعطاء اللجين وكسوة . . . ستكسي ثوباً من النور أبيضا
وما زالت الأنصار تفعل هكذا . . . نال علي في الزمان الذي مضا
هم نصروا الهادي وآووا وجدلوا . . . بحد ذباب السيف من كان معرضا
فخذ ذا أبا الحجاج من خير مادح . . . لخير مليك في البرية مرتضا
فقد كان قبل اليوم غاض قريضه . . . فلما رأى الإحسان منك تفيضا
ومن حكم القول اللهى متح اللهى . . . ومن مدح الأملاك يرجو التعرضا
فلا زال يهديك الشريف قاصدا . . . ينال بها منك المودة والرضا
وقال يخاطب من أخلفته بوارق الأمل فيه ، وخابت لديه وسائل قوافيه :
الشعر أسنى كلام خص بالعرب . . . والجود في كل صنف خير مكتسب
وأفضل الشعر أبيات يقدمها . . . في صدر حاجته من كان ذا أدب
فما يوفي كريم حق مادحه . . . لو كان أولاه ما يحويه من نشب
المال يفني إذا طال الثواء به . . . والمدح يبقى مدى الأزمان والحقب
وقد مدحت لأقوام ذي حسب . . . فيما ظننت وليسوا من ذوي حسب(2/372)
"""""" صفحة رقم 373 """"""
مدحتهم بكلام لو مدحت به . . . دهري أمنت من الإملاق والنصب
فعاد مدحي لهم هجواً يضدقه . . . من لؤمهم عودتي عنهم بلا أرب
فكان ما قلت من مدحهم كذباً . . . أستغفر الله من زور ومن كذب
وقال في غرض يظهر من الأبيات ، يخاطب السلطان :
مالي أرى تاج الملوك وحوله . . . عبدان لا حلم ولا آداب
فكأنه البازي الصيود وحوله . . . نغر يقلب ريشه وغراب
يا أيها الملك الكرام جدوده . . . أسنى المحافل غيرها أتراب
أبدلهما من بالبيض من صفيهما . . . إن العبيد محلها الأبواب
وفاته
توفي في حدود ثمانية وأربعين وسبعمائة أو بعد ذلك .
محمد بن محمد بن إبراهيم بن المرادي ابن العشاب
قرطبي الأصل ، تونسي الولادة والمنشأ ، ابن نعمة وغذى جاه وحرمة .
حاله
كان حيياً فاضلاً كريماً ، سخياً . ورد على الأندلس ، مفلتاً من نكبة أبيه ، وقد عركته عرك الرحى لثقالها ، على سنن من الوقار والديانة والحما ، يقوم على بعض الأعمال النبيهة .
وجرى ذكره في الإكليل بما نصه : جواد لا يتعاطى طلقه ، وصبح فضل لا يماثل فلقه . كانت لوالده رحمه الله ، من الدول الحفيصة منزلة لطيفة المحل ، ومفاوضة في العقد والحل ، ولم يزل يسمو به قدم النجابة ، من العمل إلى الحجابة . ونشأ ابنه هذا ، مقضي الديون ، مفدي بالأنفس والعيون . والدهر ذو ألوان ،(2/373)
"""""" صفحة رقم 374 """"""
ومارق حرب عوان ، والأيام كرات تتلقف ، وأهوال لا تتوقف ، فألوى بهم الدهر وأنحى ، وأغام جوهم بعقب ما أضحى ، فشملهم الاعتقال ؛ وتعاورتهم النوب الثقال ، واستقرت بالمشرق ركابه ، وحطت به أقتابه ؛ فحج واعتمر ، واستوطن تلك المعاهد وعمر ، وعكف على كتاب الله فجود الحروف ، وأحكم الخلف المعروف وقيد وأسند ، وتكرر إلى دور الحديث وتردد ، وقدم على هذا الوطن قدوم النسيم البليل على كبد العليل . ولما استقر به قراره ، واشتمل على جفنه غراره ، بادرت إلى مؤانسته ، وثابرت على مجالسته . فاجتليت للسرو شخصاً ، وطالعت ديوان الوفا مستقصا .
شعره
وشعره ليس بحايد عن الإحسان ، ولا غفل من النكت الحسان . فمن ذلك ما خاطبني به :
بيمن أبي عبد الله محمد يمن . . . هدأ القطر وانسجم القطر
أفاض علينا من جزيل عطايه . . . بحور الديم المد ليس لها جزر
وأنسنا لما عدمنا مغانياً . . . إذا ذكرت في القلب من ذكرها عبر
هنيياً بعيد الفطر يا خير ماجد . . . كريم به تسمو السيادة والفخر
ودمت مدى الأيام في ظل نعمة . . . تطيع لك الدنيا ويعنو لك الدهر
ومما خاطب به سلطانه في حال الاعتقال :
لعل عفوك بعد السخط يغشاني . . . يوماً فينعش قلب الوالد العاني(2/374)
"""""" صفحة رقم 375 """"""
مولاي رحماك إني قد عهدتك . . . ذا حلم وعفو وإشفاق وتحنان
فاصرف حنانك واعطف علي . . . وجد برحمة منك تحيي جسمي الفان
فقد تناهى الأسى عندي وعذبني . . . وشرد النوم عن عيني وأعيان
وحق ألايك الحسنى وما لك من . . . طول وفضل وإنعام وإحسان
إني ولو حلت البلوى على كيدي . . . وأسبكت فوق خد دمعي القان
لواثق بجمتم منك يطرقني . . . عما قريب وعفو عاجل دان
دامت سعودك في الدنيا مضاعفة . . . تذل طوعاً كل سلطان
محمد بن محمد بن عبد الملك بن محمد بن سعيد الأنصاري الأوسي
، يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بابن عبد الملك ، من أهل مراكش ، وسكن غرناطة .
حاله
من عايد الصلة : كان رحمه الله غريب المنزع ، شديد الانقباض ، محجوب المحاسن ، تنبو العين عنه جهامة ، وغرابة شكل ، ووحشة ظاهر ، في طي ذلك أدب غض ، ونفس حرة ، وحيديث ممتع ، وأبوة كريمة ، أحد الصابرين على الجهد ، المتمسكين بأسباب الحشمة ، الراضين بالخصاصة . وأبوه قاضي القضاة ، نسيج وحده ، الإمام العالم ، التاريخي ، المتبحر في الأدب ، تقلبت به أيدي الدهر بعد وفاته لتبعة سلطت على نسبه ، فاستقر بمالقة ، متحارفاً مقدوراً عليه ، لا يهتدي لمكان فضله ، إلا من عثر عليه جزافا .
شعره
من لم يصن في أمل وجهه . . . عنك فصن وجهك عن رده(2/375)
"""""" صفحة رقم 376 """"""
وأعرف له الفضل وعرف به . . . حيث أحل النفس من قصده
ومما خاطبني به قوله :
وليت ولاية أحسنت فيها . . . ليعلم أنها شرفت بقدرك
وكم وال أساء فقيل فيه . . . دني القدر ليس لها بمدرك
وأنشدني في ذلك أيضاً رحمة الله عليه :
وليت فقيل أحس خير وال . . . فعاق مدى مدركها بفضله
وكم وال أساء فقيل . . . دنا فمحا محاسنها بفعله
ومما خاطب به السلطان يستعديه على من مطله من العمال ، وعذر عليه واجبه من الطعام والمال :
مولاي نصيراً فكم يضام . . . من ما له غيرك اعتصام
أمرت لي بالخلاص فمر لي . . . عنده المال والطعام فقال ما اعتاده جواباً . . . وحسبي الله والإمام
هذا مقام ولا فعال . . . بغير مولاي والسلام
وفاته
فقد في وقيعة على المسلمين من جيش مالقة بأخواز إستبة في ذي قعدة من عام ثلاثة وأربعين وسبعمائة .
محمد بن خميس بن عمر بن محمد بن عمر بن محمد ابن خميس الحجري حجرذي رعين التلمسان
، يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بابن خميس(2/376)
"""""" صفحة رقم 377 """"""
حاله
من عايد الصلة : كان رحمه اله نسيج وحده زهداً وانقباضاً ، وأدباً وهمة ، حسن الشيبة ، جميل الهيئة ، سليم الصدر ، قليل التصنع ، بعيد عن الريا والهوادة عاملاً على السياحة والعزلة ، عالما بالمعارف القديمة . مضطلعاً بتفاريق النحل ، قايماً على صناعة العربية والأصلين ، طبقة الوقت في الشعر ، وفحل الأوان في النظم المطول ، أقدر الناس على اجتلاب الغريب ، ومزج الجزالة بالسلاسة ، ووضع الألفاظ البيانية مواضعها . شديد الانتقا وإلا رجا ، خامد نار الروية ، منافساً في الطريقة منافسة كبيرة . كتب بتلمسان عن ملوكها من بني زيان ، ثم فر عنهم ، وقد أوجس منهم خيفة . لبعض ما يجري بأبواب الملوك . وبعد ذلك بمدة ، قدم غرناطة ، فاهتز الوزير ابن الحكيم لتلقيه ، ومت إليه بالوسيلة العلمية ، واجتدبه بخطبة التلميذ ، واستفزه بتأنيسه وبره ، وأقعده للإقراء بجواره . وكان يروم الرحلة ، وينوي السفر ، والقضاء يثبطه . حدثني شيخنا الرئيس أبو الحسن بن الجياب ، قال بلغ الوزير أبا عبد الله الحكيم أنه يروم السفر فشق ذلك عليه ، وكلفنا تحريك الحديث بحضرته . وجرى ذلك . فقال الشيخ أنا كالدم بطبعي ، أتحرك في كل ربيع .
شعره
وشعره بديع . فمن ذلك قوله يمدح أبا سعيد بن عامر ، ويذكر الوحشة الواقعة بينه وبين أبي بكر بن خطاب :
مشوق زار ربعك يا إماما . . . محا آثار دمنتها التثاما
تتبع ريقه الطل ارتشافاً . . . فما نفعت ولا نقعت أواما
وقبل خد وردتها جهارا . . . وما راعى لضرتها ذماما
وما لحريم بيتك أن يدانى . . . ولا لعلا قدرك أن يساما(2/377)
"""""" صفحة رقم 378 """"""
ولكن عاش في رسم مغنى . . . تجشمه سلاماً واستلاماً
نفس روضة المطول وهنا . . . فحن وشم رياه فهاما
تلقى طيب حديثا . . . روت مسنداً عنه النعاما
فيا نفس الصبا إن جيت ساحا . . . ولم تعرف لساكنها مقاما
وأخطأت الطريق إلى حماها . . . فردتك العرادة والخزآما
فلا تبصر بسرحتها قضيباً . . . ولا تذعر بمسرحها سواما
وعانق قربانتها اراتباطاً . . . وصافح كف سوسنها التزاما
ونافح عرف زهرتها كباً . . . تعاطك ماء ريقتها مداما
ويا برقاً أضاء على أوال . . . يمانياً متى جيت الشآما
أثغر إمامة أنت ابتساماً . . . أم الدر الأوامي انتظاما
خفقت ببطن واديها لواً . . . ولحت على ثنيتها حساما
أمشبه قلبي المضني احتداما . . . على م ذدت عن عيني المناما
ولم أسهرتني وطردت عني . . . خيالاً كان يأتيني لماما
وأبلغ منه تأريقاً لجفني . . . كلام أثخن الأحشا كلاما
تعرض لي فأيقظت القوافي . . . ولو ترك القطا يوماً لناما
وقيل وما أرى يومي كأمسي . . . جدعت رواطبا وقلبت هاما
وجرعت العدو سماً زعافاً . . . فكان لحسد موتاً زواما
نزعت شواه كبشهم نطاحا . . . ولم أترك لقرمهم سناما
أضام وفي يدي قلبي لماذا . . . أضام أبا سعيد أو علاما
به وبما أذلق من لساني . . . أفل الصارم العضب انهزاما
وغرام الوزير أبي سعيد . . . أصرفه إذا شيت انتقاما
به وبنجله البر انتصارى . . . لما أكلوه من لحمي حراما
وردت فلم أرد إلا سرابا . . . وشمت فلم أشم إلا جهاما(2/378)
"""""" صفحة رقم 379 """"""
قطعت الأرض طولاً ثم عرضاً . . . أزور بني ممالكها الكراما وجا جانبي على كرم نداهم . . . وأعجلت الخوافي والقداما
وذللت المطامع من إبايي . . . وقبلت البراجم والسلاما
ومن أدبي نصبت لهم حبالا . . . أصيد بها النعام ولا النعاما
فلم أر مثل ربعي دار أنس . . . ولم أر مثل عثمن إماما
ولا كأبيه أو كنى أبيه . . . أبي يحيى غيوثاً أو رهاما
كفاني بابن عامر خفض عيش . . . ورفع مكاتبي إلا أضاما
وإني من ولايك في يفاع . . . أقابل منهم بدرهم التمام
ومن شعره رحمه الله قوله :
تراجع من دنياك ما أنت تارك . . . وتسلها العتيي وها هي فارك
تؤمل بعد الترك رجع ودادها . . . وشر وداد ما تود الترائك
حلالك منها ما خلا لك في الصبا . . . فأنت على حلوايه متهالك
تظاه بالسلوان عنها تجملا . . . فقلبك محزون وثغرك ضاحك
تنزهت عنها نخوة لا زهادة . . . وشعر عذاري أسود اللون حالك
ليالي تغري بي وإن هي أعرضت . . . زنانب من ضواتها وعواتك
غصون قدود في حقاف روادف . . . تمايل من ثقل بين الأرايك
تطاعنني منهن في كل ملعب . . . ثدي كأسنان الرماح فواتك
وكم كلة فيها هنكت ودونها . . . صدور العوالي والسيوف البواتك
ولا خدن إلا ما أعدت ردينه . . . لطالبها أو ما تحير هالك
تضل فواد المرء عن قصد رشده . . . فواتر ألحاظ للظبا الفواتك
وفي كل سن لابن آدم وإن تطل . . . سنوه طباع جمة وعوايك
وإلا فمالي بعد ما شاب مفرقي . . . وأعجز رأيي عجز من الركارك(2/379)
"""""" صفحة رقم 380 """"""
أجوب إليها كل بيداء سملق . . . ترافقني فيها الرجال الجواتك
واسترشد الشهب الشوابك جار . . . إذا اشتبهت فيها هي المسالك
نهازز أمثال الجياد توودة . . . أغوارب أمثال الهضاب توامك
ظما وما غير السماوة مورد . . . وينحى وما دون الصواة مبارك
ذو أهل عن عض الرجال ظهورها . . . إذا ما اشتكت عض السروج الموارك
إذا ما نبا عن سنبك الأرض سنبك . . . هلعن فلانت تحتهن السنابك
تقد بنا في كل قاع وفدفد . . . بوايكها والمنغيات الدراهك
فأمامها ري كالسحاب موالع . . . وأمامها ركاً كالرياح بواشك
قلاص بأطواف الجديل بوالع . . . وجرد لأوساط الشكيم عوالك
ترامى بها ليد النوق كل مرتمي . . . فهن نواح للردى أو هوالك
وكم منزل خليته لطلابها . . . تعفيه تعدي السافيات السواهك
يمر به زواره وعفاته . . . وما آن به إلا الصوق الحبايك
وآثارتنا تقادم عهدهم . . . وهن عليه جانيات بوارك
لوارب أفراس ونؤى حذاة . . . ثلاث أثاف كالحمام سوادك
تمر عليه نسمة الفجر مثلما . . . تمر على طيب العروس المدارك
وأرك بكالشهذ ينفح برده . . . لمجهول حسي ماله للدهر مبانك
يطلبها مني غريم مماحك . . . ويمطلني منها عديم مماعك
أحاول منها لما تعذر في الصبا . . . ومن دونه وقع الحمام المواشك
فمنها ملال دايم لا تمله . . . وترور إفك عن رضى الحق آفك
تهاون بالإفك الرجال جهالة . . . وما أهلك الأحياء إلا الأفايك
تزن طول تسهادي وقدري تململى . . . طوال الليالي والنجوم النوابك
تغير على الدهر منه جحافل . . . كأن مدوم الرجم فيها نيازك
فليت الذي سودت فيها معوض . . . بما بيضت مني دجاها الحوالك ألا لا تذكريني تلمسان والهوى . . . وما دهكت منا الخطوب الدواهك
فإن ادكار ما مضى من زمانها . . . لجسمي وللصبر الجميل لناهك(2/380)
"""""" صفحة رقم 381 """"""
ولا تصفن أمواهها لي فإنها . . . لنيران أشواقي إليها محارك
ومن حال عن عهد أو أخفر ذمة . . . فإني على تلك العهود لرامك
سقى منزلي فيها وإن مح رسمه . . . عهاد الغوادي والدموع السوافك
وجادت ثرى قبر بمسجد صالح . . . رواعدها والمدخمات الحواشك
ولا أقلعت عن دار يونس مزنة . . . هوى صداه لقطرها المتدارك
إلى أن يروق الناظرين رواؤها . . . ويرضى الرعاوي نبتها المتلاحك
ويصبح من حول الحيا في عراصها . . . زرق تحكى بسطها ودرانك
ولا برحت منه ملايكة الرضى . . . تصلي على ذاك الصدى وتبارك
وطوبى لمن روى منازله الحيا . . . وبشرى لمن صلت عليه الملايك
ألا ليت شعري هل تقضي لبانتي . . . إذا ما انقضت عشر عليها دكادك
وهل تمكن الطيف المغب زيارة . . . فيرقب أو تلقى إليه الروامك
وهل تغفل الأيام عنها بقدر ما . . . تودي إليها بالعتاب الحالك
ويا ليت شعري أرض تقلني إذا . . . كل عن رحلي الجلال اللكالك
وأي غرار من صفاها يحثني . . . إذا فقدتني مسها والدكادك
إذا جهل الناس الزمان فإنني . . . بدونهم دون الأنام لحاتك
تثبت إذا ما قمت تعمل خطوة . . . فإن بقاع الأرض طراً شوائك
ولا تبذل وجهاً لصاحب نعمة . . . فما مثل بذل الوجه للستر هاتك
تجشم ما استطعت واحذر أذاهم . . . ولا تلقهم إلا وهرك شانك
فكل على ما أنعم الله حاسد . . . وكل إذا لم يعصم الله حاسك
ولا تأنس ريبة الزمان فإنه . . . بمن فات منا لا محالة فانك
تمنى مصاب بربر وأعاره . . . وترضى ذكامي فارس والهنادك
وبدرت الليالي الجون حوضى لجاجها . . . وتعرف إقدامي عليها المهالك
فما أذعنت إلا إلى عشار . . . ولا أصفقت إلا على الشكاشك
ولا قصدت إلا فنايى وقودها . . . ولن أملت إلا قتامى الضرارك
به شرفت أذواوها وملوكها . . . كما شرفت بالنويهار البرامك(2/381)
"""""" صفحة رقم 382 """"""
فلا تدعون غيري لدفع ملمة . . . إذا ما دهى من حادث الدهر داهك
فما إن لذاك الصوت غيرى سامع . . . وما إن لبيت المجد بعدي سامك
يغص ويشجي نهشل ومجاشع . . . بما أورثتني حمير والسكاسك
تفارقني روحي التي لست غيرها . . . وطيب ثناي لاصق بي صايك
وماذا عسى ترجو لداتي وأرتجي . . . وقد شمطت منا اللحا والأفانك
يعود لنا شرخ الشاب الذي مضى . . . إذا عاد للدنيا عقيل ومالك
ومن شعره أيضاً قوله :
سحت بساحك يا محل الأدمع . . . وتصرمت سفاً عليك الأضلع
ولطالما جادت ثرى الأمال من . . . جاوي مؤمك الغيوث الهمع
لله أيام بها قضيتها . . . قد كنت أعلم أنها لا ترجع
فلقد رشفت بها رضاب مدامة . . . بنسيم أنفاس البديع تشعشع
في روضة يرضيك منها أنها . . . مرعى لأفكار الندام ومشرع
تجري بها فقر سكنت رهانها . . . أجدى بميدان الكلام وأسرع
فقر كريعان الشباب وعهدنا . . . بجنابها وهو الجناب الأمنع
نفاثة الأنواء في عقد الثرى . . . والنفت في عقد الثرى لا يمنع
حتى إذا حاك الربيع برودها . . . وكسا رباها وشيه المتنوع
بدأت كمايم زهرها تبدي بها . . . بدعاً تفرق تارة وتجمع قد صم منها ما تجمع مغلق . . . إذ بت منها ما تفرق مصقع
وكلاهما مهما أردت مسالم . . . ومحارب ومؤمن ومروع
كل له شرع البيان محلل . . . المنكر في مثل هذا مدفع
حيث ازدهت أنوار كل حديقة . . . أدباً ينظم تارة ويسجع(2/382)
"""""" صفحة رقم 383 """"""
فمرجل من رقمها ومهلل . . . ومسمط من نظمها ومصرع
أبدي البديع بها بدايع صنعه . . . فمجنس ومبدل ومرصع
وموشح ومرشح ومصدر . . . ومكرر ومفرع ومتبع
كل بروق بها بحسن روايه . . . وإذا تزين به كلامك تبرع
ولقد غدوت بها وفي وكناتها . . . طير لها فوق الغصون ترجع
بمطهم الفكر الذي ما إن له . . . إلا بمستن الأدلة مرتع
قيد المطالب لا يزال تحبه . . . بين الجياد لعتقه أو يوضع
أرمى به الأمد البعيد وإنه . . . حمل يضل به الدليل الأصمع
من بعد ما عفت النواري سبله . . . ومحت معالمه البرياح الأربع
لكنني جددت دانر رسمه . . . فطريقه من بعد ذلك مهيع
أوضحت فهم حدوده وضروبه . . . والكل في كل المسالك ينفع
حتى وردت من السماع موارداً . . . فيها لظمآن المباحث مكرع
مع كل مصقل الذكاء فحدسه . . . لذكاء أسرار الطبايع مطلع
يرتاد من نجع العناصر نجعه . . . فيها مصيف للعقول ومرتع
لا شيء أبدع من تجاورها وما . . . يبتدي بها ذاك التجاور أبدع
فإذا تشعشع مزجها أورى بها . . . نار الحباحب مرجها المتشعشع
فمكين سر حياته بحبابها . . . من بعد قدح زنادها مستودع
وهنا تفاض عليه صورته التي . . . لبهائها شم الطبايع تخضع
من واهب الصور التي قد خصها . . . ببديع حكمته الحكيم المبدع
رب له في كل شيء حكمة . . . يقضي بها البدعى والمتشرع
وحللت من أرض الرياضة أربعاً . . . نفسي الفداء لها وهذي الأربع
قامت زوايها فما أوتادها . . . إلا تقوم ما تقيم الأضلع
وتناسب أقدارها نسباً لها . . . لو كنت تبصرها فروع فرع
فأجل ما قد سمته بحولها . . . من بارق لجناب رشدي يلمع
لا شك أن وراءه مطراً له . . . في كل ضرب من قياسي موقع
بحر روى مترع ملاحه . . . من فيضه هذا الروي المترع(2/383)
"""""" صفحة رقم 384 """"""
لم لا أضيع بها عهاد مدامعي . . . إني إذاً لعهوها لمضيع
خلي لو لم تسعداني في البكا . . . لقطعت من حبليكما ما يقطع
أرأيتما نفساً تفارق جسمها . . . وبه تنعمها ولا تتوجع
عظمت رزيتها وأي رزية . . . ظلت لها أكبادنا تتصدع
هذي حمامك يا علي سواجع . . . وأخالها أسفاً عليها تسجع
إن طارحتني ورقها فبأضلعي . . . شوق يطارحه ادكار موجع
آه على جسمي الذي فارقته . . . لا كنت ممن جسمه لا يرجع
ومر العجاب رجوع ما أودى به . . . دهر بتشتت الأحبة مولع
الحور منه إذا استمر طبيعة . . . والعدل منه إذا استقام تطبع
هذي عقوبة زلة سلفت بها . . . من أكل طعمته التي لا تشبع
قد كنت أمنع رسخ نفسي قبلها . . . واليوم أوجب أنه لا يمنع
لم لا وقد أصبحت بعد محلة . . . فيها السحايب بالرغايب تهمع
دار يدر الرزق من أخلاقها . . . ولكم دعا داع بها من يوضع
وكأن مجلسها البهي بصدرها . . . ملك بأعلى دسته متربع
وكأن مجمر عنبر بفنايها . . . يذكي ما قد سيف منه يسطع
وكأنها المتوكلية بهجة . . . وعلي بن الجهم فيها يبدع
في حجر ضب خافض بجواره . . . من كان قبل له العوامل ترفع يا نفثة المصدور كم لك قبلها . . . من زفرة بين الجوانح تسفع
وعساك تنقع غل بك إنها . . . بجحيم ما أسبلته لا تنقع
لله أنت مذاعة أودعتها . . . من كل سر بالضمائر يودع
بدوية في لفظها ونظامها . . . حضرية فيما به يترجع
لم لا تشفع في الذي أشكو بها . . . ومثالها في مثله يتشفع
كملت وما افترعت فأي خريدة . . . لو كان يفرعها همام أروع
بارت علي فأصبحت لحيائها . . . منى بضافي مرطها تتلفع(2/384)
"""""" صفحة رقم 385 """"""
ومن شعره قوله يمدح ذا الوزارتين أبا عبد الله بن الحكيم ، وهي من مشاهير أمداحه :
سل الريح إن لم تسعد السفن أنواء . . . فعند صباها من تلمسان أنباء
وفي خفقان البرق منها إشارة . . . إليك بما تنمي إليها إيماء
تمر الليالي ليلة بعد ليلة . . . وللأذن إصغاء وللعين إكلاء
وإني لأصبو للصبا كلما سرت . . . وللنجم مهما كان للنجم أصباء
وأهدي إليها كل حين تحية . . . وفي رد إهداء التحية إهداء
واستجلب النوم الغرار ومضجعي . . . قتاد كما شاءت نواها وسلاء
لعل خيالاً من لدنها يمر بي . . . ففي مره بي من جوى الشرق إبراء
وكيف خلوص الطيف منها وحولها . . . عيون لها في كل طالعة راء
وإني لمشتاق إليها ومنبئ . . . ببعض اشتياقي لو تمكن إنباء
وكم قايل تفنى غراماً بحيها . . . وقد أخلقت منها ملاء وإملاء
لعشرة أعوام عليها تجرمت . . . إذا مضى قيظ بها جاء إهراء
يطنب فيها عابثون وحزب . . . ويرحل عنها قاطنون وأحياء
كأن رماح الذاهبين لملكها . . . قداح وأموال المنازل أبداء
فلا تبغين فيها مناخاً لراكب . . . فقد قلصت منها ظلال وأفياء
ومن عجبي أن طال سقمي ونزعها . . . وقسم إضناء علينا وإطناء
وكم أرجفوا غيظاً بها ثم أرجؤا . . . فيكذب إرجاف ويصدق إرجاء(2/385)
"""""" صفحة رقم 386 """"""
يرددها عياً بها الدهر مثلما . . . يردد حرف الفاء في النطق فأفاء
فيا منزلاً نال الردى منه ما اشتهى . . . ترى وهل لعمر الأنس بعدك إنساء
وهل للظى الحرب التي فيك تلتظي . . . إذا ما انقضت أيام بوسك إطفاء
وهل لي زمان أرتجي فيه عودة . . . إليك ووجه البشر أزهر وضاء
فوا سيئى حالي إن هلكت ولم أقل . . . لصحبي بها الغر الكرام الاهاؤا
ولم أطرق الدير الذي كنت طارقاً . . . كعادي وبدر الأفق أسلغ مسناء
أطيف به حتى تهر كلابه . . . وقد نام عساس وهوم سباء
ولا صاحب الأحسام ولهذم . . . وطرف لخد الليل مذ كان وطاء
وأسحم قاري كشعري حلكة . . . تلألأ فيه من سنى الصبح أضواء
فما لشرابي في سواك مرارة . . . ولا لطعامي دون بابك إمراء
وباداري الأولى بدرب حلاوة . . . وقد جد عيث في بلاها وأرداء
أما آن أن يحمى حماك كعهده . . . وتجتاز أحماش عليك وأحماء
أما آن أن يعشو لنارك طارق . . . جنيب له رفع إليك ودأداء
يرجى نوالا أو يؤمل دعوة . . . فما زال قار في ذراك وقراء
أحن لها ما أطت النيب حولها . . . وما عاقها عن مورد الماء إظماء
فما فاتها مني نزاع على النوى . . . ولا فاتني منها على القرب إجشاء(2/386)
"""""" صفحة رقم 387 """"""
كذلك جدي في صحابي وأسرتي . . . ومن لي به من أهل ودي إن فاؤوا
ولولا جوار ابن الحكيم محمد . . . لما فات نفسي من بني الدهر إقماء حماني فلم تنتب محلى نوايب . . . بسوء ولم ترزأ فؤادي أرزاء
وأكفاء بيتي في كفالة جاهه . . . فصاروا عبيداً لي وهم لي أكفاء
يؤمون قصدي طاعة ومحبة . . . فما عفتة عافوا وما شئته شاء
دعاني إلى المجد الذي كنت آملا . . . فلم يك لي عن دعوة المجد إبطاء
وبوأني من هضبة العز تلعة . . . يناجي السها منه صعود وطأطاء
يشايعني فيها إذا سرت حافظ . . . ويكلأني منها إذا نمت كلاء
ولا مثل نومي في كفالة غيره . . . وللذيب إلمام وللصل إلماء
بغيضة ليث أو بمرقب خالب . . . تند كساً فيه وتقطع أكساء
إذا كان لي من نايب الملك كافل . . . ففي حيثما هومت كن وإدفاء
وأخوان صدق من صنايع جاهه . . . يبادرني منهم قيام وإيلاء
سر اع لما يرجى من الخير عندهم . . . ومن كل ما يخشى من الشر إبراء
إليك أيا عبد الآله صنعتها . . . لزومية فيها لوجدي إفشاء
مبراة مما يعيب لزومها . . . إذا عاب أكفاء سواها وإيطاء
أذعت بها السر الذي كان قبلها . . . عليه لأحناء الجوانح إضناء
وإن لم يكمن كل الذي كنت آملاً . . . واعوز إكلاء فما عاز إكماء
ومن يتكلف مفحما شكر منة . . . فما لي إلى ذاك التكلف إلجاء
إذا منشد لم يكن عنك ومنشئ . . . فلا كان إنشاد ولا كان إنشاء(2/387)
"""""" صفحة رقم 388 """"""
ومن شعره قوله .
أطار فؤادي برق ألاحا . . . رقم ضم بعد لو كر جناحا
كأن تألقه في الدجا . . . حسام جبان يهاب الكفاحا
أضاء وللعين إغفاءة . . . تلذ إذا ما سنى الفجر لاحا
كمعني خفي بدا بعضه . . . وزيد بيانا فزاد اتضاحا
كأن النجوم وقد غربت . . . نواهل ماء صدرن قماحا
لواغب باتت تجد السرى . . . فأدركها الصبح روحى طلاحا
وقد لبس الليل أسما له . . . فمحت عليه بلا وانصياحا
وأيقظ روض ابربا زهره . . . فمحت عليه بلا وانصياحا
وأيقظ روض الربا زهره . . . فحيا نسيم صباه الصباحا
كأن النهار وقد غالها . . . مبيت مال حواه اجتياحا
أتى يستفيض دموعي امتياحا . . . ويلهب نار ضلوعي اقتداحا
فلم يلق دجن انتحابي شحيحا . . . ولم يلف زند اشتياقي شحاحا
ولولا توقد نار الحشى . . . لانفدت ماء جفوني امتياحا
ومما يشرد عني الكرى . . . هديل حمام إذا نمت صاحا
ينوح علي وأبكي له . . . فأقطع ليلى بكاً أو نباحا
أعين أريحى أطلب الأسى . . . عليك وما زدت إلا انتزاحا
دعيني أرد ماء دمعي فلم . . . أرد بعد مايك ماء قراحا
أحن إليك إذا سفت ريحا . . . وأبكي عليك إذا ذقت راحا
وأفني التياحا إليك وكم . . . أشحت بوجهي عنك اتشاحا
ولولا سخايم قوم أبوا . . . إيابي ركبت إليك الرياحا
أباحوا حماي وكم مرة . . . حميت حمى عرضهم أن يباحا
ودافعت عنهم بشعري انتصارا . . . فكان الجزاء جلاى المتاحا
أباعوا ودادي بخسا فسل . . . أكان سماحهم بي رباحا
وأغروا بنفسي طلابها . . . سراراً فجاءوا لقتلي صراحا
وآلو يمينا على أن ما . . . توهمت لم يك إلا مزاحا
فشاورت نفسي في ذا فما . . . رأت لي بغير الفلاة فلاحا
فبت أناغي نجوم الدجا . . . نجاء فلم ألق إلا نجاحا(2/388)
"""""" صفحة رقم 389 """"""
أجوب الدياجير وحدي ولا . . . مؤانس إلا القطا والسراحا
وإلا الثعالب تحتس في . . . مبيتي فتملأ سمعي ضباحا
أجوز الأفاحيص فيحاً قفارا . . . وأعرو الأداحي غبرا فساحا
فأعيي شوارد هذي عداء . . . وأعلو لواغي تلك صياحا
وجواب بدو إذا استنبحوا . . . أجابوا عواء وأموا النباحا
يرون قتالي في الحجر حلاً . . . وإذهاب نفسي فيه مباحا
قصدت هناهم فلم أخطهم . . . أعاجم شوس العيون قباحا
فسل كيف كان خلاصي من . . . أسارهم أسرى أم سراحا
ولا مثل بيت تيممته فلم . . . ألف إلا الغنا والسماحا
عيابا ملاء ونيباً سمانا . . . وغيداً خدالا وعوداً أقاحا
وإلا أعاريب شم الأنوف . . . كرام الجدود فصاحاً صباحا
وإلا يعافير سود العيون . . . يرين فساد المحب صلاحا
يرددن فينا لحاظاً مراضا . . . يمرضن منا القلوب الصحاحا
وتحت الوجا طلاً ربرب . . . لو أن القيان رفعن الوجاحا
أراني محاسن منه فلم . . . أطق عن حماه بقلبي براحا
محياً وسيماً وفرعاً أثيثا . . . وقداً قويماً وردفاً رداحا
وأبدي لعيني بدايع لم . . . يدع لي عقلاً بها حين راحا
إذا لم يرد غير سفك دمي . . . فحل وبل له ما استباحا
وما زلت سمحاً بنفسي كذا . . . متى ما رأيت الوجوه الملاحا
وباين رشيد تعوذت من . . . هواه فقد زدت فيه افتضاحا
وقد ضاق صدري عن كتمه . . . وأودعته جفن عيني فباحا(2/389)
"""""" صفحة رقم 390 """"""
وبابن رشيد تعوذت من . . . خطوب أجلن علي القداحا
ألح الزمان بأحداثه . . . فألقيت طوعاً إليه السلاحا
أعاد شبابي مشيباً كما . . . سمعت وصير نسكي طلاحا
وفرق بيني وبين الأهيل . . . ولم ير ذا عليه جناحا
أخي وسميى أصخ مسعداً . . . لشجو حزين إليك استراحا
فقد جب ظهري على ضعفه . . . كداماً وأدهاى شواتي نطاحا
وطوح بي عن تلمسان ما . . . ظننت فراقي لها أن يتاحا
وأعجل سيري عنه ولم . . . يدعني أودع تلك البطاحا
نأى بصديقك عن ربعه . . . فكان له النأي موتاً صراحا
وكان عزيزاً على قومه . . . إذا هاج خاضوا إليه الرماحا
فها هو إن قال لم يلتفت . . . إليه امتهاناً له واطراحا
عجبت لدهري هذا وما . . . ألاقي مساء به وصباحا
لقد هد مني ركناً شديداً . . . وذلل مني حياء لقاحا
وقيت الردى من أخ مخلص . . . لو استطعت طرت إليه ارتياحا
وإني على فيح ما بيننا . . . لأتبع ذاك الشذا حيث فاحا
أحن إليه حنين الفحول . . . ونوح الحمام إذا ما ألاحا
إن شيت عرفان حالي وما . . . يعانيه جسمي ضني أو صحاحا
فقلب يذوب إليك اشتياقا . . . وصدر يفاح إليك انشراحا
وغرس وداد أصاب فضاء . . . ندياً وصادف أرضاً براحا
كراسخ مجد تأثلته . . . فلم تخش بعد عليه امتصاحا
وعلياء بوئتها لو بغى . . . سمواً إليها السماك لطاحا
مكارم جمعت أفذاذها . . . فكانت لعطف علاك وشاحا
ودرس علوم تهيم بها . . . عمرت الغدو به والرواحا(2/390)
"""""" صفحة رقم 391 """"""
نشأت عن الخير واعتدته . . . فلم تدر إلا التقي والصلاحا
وقمت لها أيما رحلة . . . كسحت المعارف فيها اكتساحا بهرت رجال الحديث اقتداء . . . وفت رجال الكمال اقتراحا
فما إن جليس إذا قلت قال . . . أو أن الخطيب إذا لحت لاحا
ولو لم تحج بها مكة . . . لحج الملايك عنك صراحا
وأما أنا بعد نهي النهى . . . فما زادني الطبع إلا جماحا
أدير كؤوس هواي اغتباقا . . . وأشرب ماء دموعي اصطباحا
فبرد جواي برد جواب . . . توبخ فيه مشي الوقاحا
وهن بنيات فكري وقد . . . أتينك فاخفض لهن الجناحا
ومن شعره رحمه الله قوله يمدح ذا الوزارتين المتقدم ذكره ، ويذكر غفارة وجهها له مع هدية :
كبت العدى إنعامك البغت . . . فلي الهنا وللعدى الكبت
يا من إلى جدوي أنامله . . . يزجي للسفين وتزجر البخت
لولاك لم يوصل بناحية . . . وخد ولم يقطع بها دشت
لولاك لم يطلع بها نشر . . . منه ولم يهبط بها خبت
خولتني ما لم تسعه يدي . . . فأصابني من كثره غمت
شتى أياد كلما عظمت . . . عندي تلكأ خاطري الهت
يعيي لساني عن إذاعتها . . . ويضيق عن شكري لها الوقت
وطأت لي الدنيا فلا عوج . . . فيما أرى منها ولا أمت
أمكنتني منها فما ليدي . . . ردء ولا لمقالتي عت
بالغت في بري ولا نسب . . . أدلي إليك ولاحسب(2/391)
"""""" صفحة رقم 392 """"""
لكن حسبي إن متت به . . . يوما إليك ودادي البحت
بوركت من رجل برؤيته . . . يوسي الضنا ويعالج الغت
لو سار في بهماء مقفرة . . . في حيث لا ماء ولا نبت
لتفجر الماء النمير بها . . . ولأعشبت أرجاؤها المرت
لا تحسبن البخت نيل عني . . . نيل الرضا منه هو البخت
آلت جلالته وحق لها . . . أن لا يحيط بكنهها نعت
أظهرت دين الله في زمن . . . ما زال يغلب حقه البهت
شيدته وهددت ممتعضاً . . . لضياعه ما شيد الجبت
أمنت أرض المسلمين فلا . . . ذئب يخاف بها ولا لصت
وحفظتها من كل نايبة . . . تخشى فأنت حفيظها الثبت
ونهجت سبيل المكرمات فما . . . لمؤمل عن غايه ألت
لم تبق غفلاً من متالعها . . . إلا وفيه لحاير برت
هادن ظفاة الكفر ما هدأت . . . حتى يجيء نهارها المحت
دعها تودع في معاقلها . . . ما لم تعد جفاتها العفت
كم ذدتها عنا وقد هبرت . . . لهراشنا أشداقها الهرت
بوقوف طرفك عند شدته . . . يبأى ويفخر ملكها الرت
ويشكر ما اظهرت من كرم . . . في ذاك تفصح عجمها المرت
لك من ممالكها وإن رغمت . . . ما جال فيه جوادك الحت
ولكل أصيد من بطارقها . . . في كل أرى له دعت(2/392)
"""""" صفحة رقم 393 """"""
لولا لباك البيض ما أرقت . . . للقايها أفراسنا الكمت
عنده لمن ينتابه مقة . . . ولمن ينيب لغيره مقت
ولو أن بيضك لم تسل لما . . . ذلت أنوف طغاتها السلت
يا ابن الحكيم أمنت صرف ردى . . . أبداً له في أثلتي نحت
وبيمنه أنست من أملي . . . ما لم يكن يوماً له عرت
مثني الوزارة موئلي وله . . . ما دمت أملك قدرتي أقت
وببأسه أطفى شرارة من . . . يعثو وأقدح أنف من يعت
عم الورى جوداً وفضل غنى . . . حتى تساوى العد والغلت
وهمي على عال ومنخفض . . . لم يبق فوق لا ولا تحت
ظل إذا نصطاف معتدل . . . عطر الشذا وحياً إذا نشت
يتضاءل الصبح المنير إذا . . . لاقى سناه جبينك الصلت
حتى كأن شمس الضحى قمر . . . وكأن ضوء شعاعها فخت وغيبة في لطف صنعتها . . . يمضي الزمان وما لها أخت
ينأى الندى بها إذا لبست ويتيه إن طويت بها التخت
زنجية لكن لمحتدها . . . في الروم يعنو القس والشنت
مثل العروس على منصتها . . . من شأنها التزيين والزت
لأكون أنحل ما أكون هدى . . . فيها فيعبل جسمي الشخت
وبمثل شيبي فوق حلكتها . . . يبدو الوقار ويحفظ السمت
تظهريني بلباسها وبه . . . عندي لها الإيثار ما عشت(2/393)
"""""" صفحة رقم 394 """"""
لا زلت تؤثرني بها أبداً . . . ولا تف من يشقي بذا السلت
وبقيت تدرك ما تريد وما . . . تهوي بقاء ما له فت
ومن شعره أيضاً في المدح قوله رحمه الله من قصيدة ثبتت في ديوان مجموع من أمداحه منها قوله :
طرقتك وهناً أخت آل علاج . . . والركب بين دكادك وحراج
في ليلة ليلاء لم ينبح بها . . . كلب ولم يصرخ أذين دجاج
أني اهتدت لمضللين توهنوا . . . منها لهتك دياجر ودياج
متسربلى برد الظلام كأنهم . . . فيه قداح في رماية ساج
وثقوا بمحمود السرى وتسلموا . . . لمخارم مجهولة وفجاج
ومنازل درس الرسوم بلاقع . . . أخوين من هيج ومن هجهاج
محت معالمهن غير مثلم . . . كسوار تاج أو كدملج عاج
ومواثل مثل الحمام جواثم . . . ورق وأسمج دائم التشحاج
ومشجج ما زال منهل الحيا . . . يبكي صداه بدمعه الثجاج
حتى أعاد لعوده أوراقه . . . خضر الظلال ذكية الآراج
وكسا عراة عراصه من وشيه . . . حللا تبور صنعة الديباج
لا مثل ليلات مضين سريعة . . . بردت حرارة قلبي المهتاج
أدركت منها في صباي مطالبي . . . وقضيت منها في شبابي حاج
كم ليلة مرت ولم يشعر بها . . . غيري وغير منادمي وسراج
بتنا ندير إلى انبلاج صباحها . . . كأس الهوى صرفاً بغير مزاج
وتدير أعيننا حديث غرامنا . . . بمرامز من فضها وأحاج
بمآرج النفحات من دارين أو . . . بمدارج النسمات من دراج
وخلوص ود في نقاء سريره . . . كسلاف راح في صفاء زجاج
أمحضته حظي من الزمن الذي . . . أعيي مراسي أهله وعلاج
واخترت قرب جواره لخلوصه . . . وتركت كل مماذق مراج
ما في زمانك غير فاخلص له . . . غيباً وداهن من أردت وداج
لا تحلفن بغيره واستعفين . . . بوقاره عن كل غمر ماج(2/394)
"""""" صفحة رقم 395 """"""
اترك بني الدنيا وأعرض عنهم . . . فعساك تطعم لذة الإثلاح
نزهت نفسي عنهم بنواله . . . وحفظتها من جاهه بسياج
أصبحت من آلايه وولايه . . . في عزة ضحيا وعز داج
ولو أنني عجت الركاب ميمما . . . أحداً سواه ما حمدت معاج
طلق إذا احتلك الزمان أنار في . . . ظلمائه كالكوكب الوهاج
طود الرصانة والرزانة والحجا . . . بحر الندى المتلاطم الأمواج
وغمامه الهامي على آماله . . . من غير إرعاد ولا إرعاج
وهزبر آجام القنى الضاري إذا . . . سقطت عواتمها على الأزجاج
ضمن الإله له على أعدايه . . . ما شاء من ظفر ومن إفلاج
أبقى أبو عبد الإله محمد . . . ما شاد والده أبو الحجاج
وبني أبو إسحق قبل وصنوه . . . ركنا الضعيف ومعدنا المحتاج
وجرى على آثار أسلاف لهم . . . درجوا وكلهم على منهاج
ما منهم إلا أعز مبارك . . . مصباح ليل أو صباح عجاج
بيت بنوه من سراوة حمير . . . في الذروة العلياء من صنهاج كم كان في الماضين من أسلافهم . . . من رب إكليل وصاحب تاج
أساس كل رياسة ورؤس . . . كل سياسة وليوث كل هياج
أعيت نجوم الليل من سهر وما . . . أعيا أبو موسى من الإدلاج
حتى أصارته لرحمة ربه . . . يوم العقاب وقيعة الأعلاج
وأقيم نجل أخيه بعد مقامه . . . فيهم يطاعن مثله ويواج
فردا يلف كتايباً بكتايب . . . ويكب أفواجا على أفواج
حتى تجلى دجن كل عجاجة . . . عنهم وأمسك رعد كل ضجاج
من مثل يوسف قراع كتايب ولقاء أعداء وخوض لجاج
أو من يشق من الأنام غباره . . . في رد آراء ونقض حجاج(2/395)
"""""" صفحة رقم 396 """"""
إن خاض يوماً في بيان حقيقة . . . أنهى عن الثوري والحلاج
وإذا تكلم في الغريب وضبطه . . . لم يعبأ بالعتبي والزجاج
جمع الفصاحة والصباحة والتقا . . . والجود في وجد وفي إحراج
تخشاه أسد الغاب في أجماتها . . . والروم في الأسوار والأبراج
إنا بني قحطان لم تخلق لغير غياث ملهوف ومنعة لاج
نبري طلا الأعراب في الهيجا وفي . . . اللأواء سوف تماري الأعراج
بسيوفنا البيض اليمانية التي . . . طبعت لحز غلاصم ووداج
تأبى لنا الإحجام عن أعداينا . . . يوم اللقاء طهارة الأمشاج
أنصار خير العالمين وحزبه . . . وحماته في الجحفل الرجراج
وفداته بنفوسهم ونفيسهم . . . من غدر مغتال وسبة هاج
هم صفوة الخلق التي اختيرت له . . . وسواهم همج من الأهماج
إلا الألى سبقوا بباهر فضلهم . . . من ساير الأصحاب والأزواج
وكفى بحكمتنا إقامة حجة . . . وبركننا من كعبة الحجاج
ولنا مفاخر في القديم شهيرة . . . كالصبح في وضح وفي إبلاج
منا التبابعة الذين ببابهم . . . كانت تنيخ جباة كل خراج
ولأمرهم كانت تدين ممالك الدنيا بلا قهر ولا إحراج
من يقتدح زنداً فإن زنادهم . . . في الجود وارية بلا إخراج(2/396)
"""""" صفحة رقم 397 """"""
أبوابهم مفتوحة لضيوفهم . . . أبداً بلا قفل ولا مزلاج
ومما اشتهر من شعره قوله :
أرق عيني بارق من أثال . . . كأنه في جنح ليلي ذبال
أثار شوقاً في ضمير الحشى . . . عبرتي في صحن خدي أسال
حكى فؤاد قلقاً واشتعال . . . وجفن عيني أرقاً وانهمال
جوانح تلفح نيرانها . . . وأدمع تنهل مثل العزال
قولوا وشاة الحب ما شئتم . . . ما لذة الحب سوى أن يقال
عذراً للوامي ولا عذر لي . . . فزلة العالم ما إن تقال
قم نطرد الهم بمشمولة . . . تقصر الليل إذا الليل طال
وعاطها صفراء ذمية . . . تمنعها الذمة من أن تنال
كالمسك ريحاً واللما مطمعا . . . والتبر لوناً والهوا في اعتدال
عتقها في الدن خمارها . . . والبكر لا تعرف غير الحجال
لا تثقب المصباح لا واسقني . . . على سنى البرق وضوء الهلال
فالعيش نوم والردى يقظة . . . والمرء ما بينهما كالخيال
خذها على تنغيم مسطارها . . . بين خوابيها وبين الدوال
في روضة باكر وسميها . . . أخمل دارين وأنسى أوال
كأن فار المسك مغبوقة . . . فيها إذا هبت صباً أو شمال
من كل ساجي الطرف ألحاظه . . . مفوقات أبداً للنضال
من عاذري والكل لي عاذل . . . من حسن الوجه قبيح الفعال
من خلني الوعد كذابه . . . ليان لا يعرف غير المطال(2/397)
"""""" صفحة رقم 398 """"""
كأنه الدهر وأي امرئ . . . يبقى على حال إذا الدهر حال
أما تراني آخذاً ناقضاً . . . عليه ما سوغني من محال ولم أكن قسط له عائباً . . . كمثل ما عابته قبلي رجال
يأبى ثراء المال علمي وهل . . . يجتمع الضدان علم ومال
وتأنف الأرض مقامي بها . . . حتى تهاداني ظهور الرجال
لولا بنو زيان ما لذ لي العيش ولا هانت على الليال
هم خوفوا الدهر وهم خففوا . . . على بني الدهر خطاه الثقال
ورثت من عامرهم سيداً . . . غمر رداء الحمد عمر النوال
وكعبة للجود منصوبة . . . يسعى إليها الناس من كل حال
خذها أبا زيان من شاعر . . . مستملح النزعة عذب المقال
يلتفظ الألفاظ لفظ النوى . . . وينظم الآلاء نظم اللآل
مجارياً مهيار في قوله . . . ما كنت لولا طمعي في الخيال
ومما قال أيضاً ، واشتمل ذلك على شيء من نظمه ونثره . وهذا الرجل مغرب النزعة ، في شفوف نظمه على نثره :
عجباً لها أيذوق طعم وصالها . . . من ليس يطمع أن يمر ببالها
وأنا الفقير إلى تعلة ساعة . . . منها وتمنعني زكاة جمالها
كم ذا وعن عيني الكرى متأنف . . . يبدو ويخفى في خفي مطالها(2/398)
"""""" صفحة رقم 399 """"""
يسمو لها بدر الدجا متضايلاً . . . كتضاءل الحسناء في أسمالها
وابن السبيل يجيء يقبس نارها . . . ليلاً فتمنحه عقيلة مالها
يعتادني في النوم طيف خيالها . . . فتصيبني ألحاظها بنبالها
كم ليلة جادت به فكأنما . . . زفت على ذكا وقتت زوالها
أشري فعطرها وعطل شهبها . . . يأبى شذا المعطار من معطالها
وسواد طرته كجنح ظلامها . . . وبياض غرته كضوء هلالها
دعني أشم بالوهم أدنى لمحة . . . من نغرها وأشم مسكة خالها
ما راد طرفي في حديقة خدها . . . إلا لفتنته بحسن دلالها
أنسيب شعري رق مثل نسيمها . . . فشمول راحك مثل ريح شمالها
وانقل أحاديث الهوى واشرح غريب لغاتها وأذكر ثقات رجالها
وإذا مررت برامة فتوق من . . . أطلايها وتمش في أطلالها
وانصب لمغزلها حبالة قانص . . . ودع الكرى شر كالصيد غزالها
وأسل جداولها بفيض دموعها . . . وانضح جوانحها بفضل سجالها
أنا من بقية معشر عركتهم . . . هذي النوى عرك الرحى بثقالها
أكرم بها فئة أريق نجيعها . . . بغياً فراق العين حسن جمالها
حلت مدامة وصلها وحلت لهم . . . فإن انتشوا فبحلوها وحلالها
بلغت بهرمس غاية ما نالها . . . أحد وناء بها لبعد منالها
وعدت على سقراط صورة كأسها فهريق ما في الدن من جريالها(2/399)
"""""" صفحة رقم 400 """"""
وسرت إلى فاراب منها نفحة . . . قدسية جاءت بنخبة آلها
ليصوغ من ألحانه في حانها . . . ما سوغ القسيس من أرمالها
وتعلقت في سهر ورد فأسهرت . . . عيناً يؤرقها طروق خيالها
فخبا شهاب الدين لما أشرقت . . . وخبا فلم يثبت لنور جلالها
ما جن مثل جنونه أحد ولا . . . سمحت يد بيضاء بمثل نوالها
وبدت على الشوذي منها نفحة . . . ما لاح منها غير لمعة آلها
بطلت حقيقته وحالت حاله . . . فيما يعبر عن حقيقته حالها
هذي صبابتهم ترق صبابة . . . فيروق شاربها صفاء زلالها
إعلم أبا الفضل بن يحيى أنني . . . من بعدها أجري على آسالها
فإذا رأيت مولهاً مثلي فخذ . . . في عذله إن كنت من عذالها
لا تعجين لما ترى من شأنها . . . في حلها إن كان أو ترحالها
فصلاحها بفسادها ونعيمها . . . بعذابها ورشادها بضلالها
ومن العجايب أن أقيم ببلدة . . . يوماً وأسلم من أذى جهالها
شغلوا بدنياهم أما شغلتهم . . . عني فك م ضيعت من أشغالها
حجبوا بجهلهم فإن لاحت لهم . . . شمس الهدى عشوا بضوء ذبالها وإن انتسبت فإنني من دوحة . . . تتقيل الأقيال برد ظلالها
من حمير من ذي وعين من ذرى . . . حجر من العظماء من أقيالها
وإذا رجعت لطينتي معنى فما . . . سلسالهم بأرق من صلصالها(2/400)
"""""" صفحة رقم 401 """"""
لله درك أي نجل كريمة . . . ولدته فاس منك بعد حبالها
ولأنت لاعد منك والد فخرها . . . وسماك سؤددها وبدر كمالها
أغلظ على من عاث من أنذالها . . . واخشع لمن تلقاه من أبدالها
والبس بما أوليتها من نعم . . . حلل الثناء وجر من أذيالها
خذها أبا الفضل بن يحيى تحفة . . . جاءتك لم ينسج على منوالها
ما جال في مضمارها شعر ولا . . . سمحت قريحة شاعر بمثالها
واتل أبا البركات من بركاتها . . . وادفع محال شكوكه بمحالها
هذه أمتع الله ببقايك ، وأسعد بلقايك . وأراها بما تؤمله من شريف اعتنايك ، وترجوه من جميل احتفايك ، ما تعرف به من احتذايك ، وتعترف له ببركة اعتفايك ، كريمة الأحياء ، وعقيلة الأموات والأحياء ، بنت الأذواء والأقيال ، ومقصورة الأسرة والحجال ؛ بل أسيره الأساوير والأحجال . على أنها حليفة جاورت سيف بن ذي يزن في رأس غمدان ، وجاوزت مسلمة بن مخلد يوم جابية الجولان ، وذلقت لسان ابن أخته حسان ، فتضاءلت لرقة حده جسوم بني عبد المدان ، وقربه ما شيم من غمده قيد ابن الغطنابة بين يدي النعمان ، قربت ببني جفنة مزار جلق ، وسعرت لبني تميم نار محلق ؛ ومرت على معتاد غالب ، فما أنست ناره ، وطافت ببيت عبد الله بن دارم ، فلم ترض جواره ، ولو حلت بفناية ، واستحلت ما أحل لها من مبذول حبائه ، لاغتفر لها ما جنته ببطن أواره ، ولحلت لها حبوتاً مجاشع وزرارة ، مزقت على مزيقيا حللاً ، وأذهبت يوم حليمة مثلا ، وأركبت عنزاً شر يومها يجدع جملا ، وناطت بأذن مارية قرطها ، وجرت على أثر الكندي مرطها ، وقفها بين الدخول فحومل فوقفت ، وأنفها يوم دارة جلجل فأنفت منه ومنا ألفت ، عقر ناقته وانتهس عبيطها ، ودخل خدر عنيزة وأمال غبيطها . وأغرت أبا قابوس بزياد ، واسرجت للزبيدي فرس أبي داود ، ونافرت بحاتم طي كعب إياد ، وساورت للمساور بمثل جوده الساير . ولئن بلت الجعفري لبيدا ، فلقد استعبدت الأسدي عبيداً ، وقطعت به في أثر سليماه الأسدية بيداً ، أرته المنية على حربة هندها الملحوب ، وما حال قريضه دون جريضه ، وأقفر من أهله ملحوب ، وما زالت تخبط في شعاب الأنساب ، فترشد ، وتنشد ضالتها اليمانية ، فتنشد :
إن كنت من سيف بن ذي يزن . . . فانزل بسيف البحر من عدن(2/401)
"""""" صفحة رقم 402 """"""
وذر الشآم وما بناه به الرومي من قصر ومن فدن تعلف سيل العرم ، وترد غسان ، وتمهد لها أهضام تبالة ، فتقول مرعي ولا كالسعدان ، تساجل عن سميحة بابن خرام ، وتناضل بسمير يوم خزام ، وتنسي قاتل ستة آلاف ، وكاسي بيت الله الحرام ثلاثة الأفواف ، فلو ساجلت بنبعها أبا كرب ، وأرته ضراعة خدها الترب ، لساجلت به أخضر الجلدة في بيت العرب ، ما جداً يملا الدلو إلى عقد الكرب ، بل لو حطت بفناء بيتها الحجري رحلها ، وساجلت بفناء حدها ذي رعين ، لاستوفت سجلها . كم عاذت بسيفها اليزني ، فأدركت ذحلها ، ولاذت بركنها اليمني فأجزل محلها . ولو استسقت بأوديتها ، لأذهبت محلها . كافحت عن دينها الحنيفي ، فما كهم حسامها ، ونافحت عن نبيها الأمي ، فأيدت بروح القدس سهامها . سدت باب الدرب دون بني الأصفر ، وشدت لموته ثوب موت أحمر ، وما شغلها كسر تاج كسرى عن قرع هامة قيصر . ولقد حلت من سنام نسبها اليعربي باسمك ذروة ، وتعلقت من ذمام نبيها العربي بأوثق عروة . تفرد صاحب تيماء بأبلقه الفرد فعز ، وتمرد رب دومة الجندل لما كان من مارد في حرز ، فما ظنك ، أعزك الله ، بمن حل من قدسي عقله ، بمعقل قدس ، يطار إليه فلا يطار ، وراد من فردوس أدبه ، في جنة لا يضام رايدها ولا يضار . زها بمجاورة الملك فازدهى رؤساء الممالك ، وشغف بمجاورة الملك ، فاشتغل عن مطالعة المسالك ، أيشق غباره ، وعلى جبين المرزم مثاره ، أو ينتهك ذماره ، وقلب الأسد بيته ، ودار أخيه أسامة زاره . ولما قضت من أنديتها العربية أوطارها ، واستوفت على أشرف منازعها الأدبية أطوارها ، وعطرت بنوافح أنفاسها الذكية آثارها ، وأطلعت في ظلم أنفاسها الدجوجية كواكبها النيرة وأقمارها ، عطفت على معقلتها الشاذليلة فحلت عقالها ، وأمر لها فراق الوطن . فلما استمر لها حلالها ، استودعت بطنان تبالة آلها ، وتركت أهضامها المخصبة وحلالها . أطلت على دارات العرب فحيت أطلالها ، ودعت لزيارة أختها اليونانية ، أذواء حمير وأقيالها . أطمعتها بلمعية ألمعيتها الأعجمية ، ومثلها يطمع ، وجاء بها من قدماء الحكماء كل أوحدي الأحوذية ، فباتت تخب إليه وتوضع ، باحثة عن مركز دارتهم الفيثاغورية ؛ آخذة في إصلاح هيئتهم الإنكساغورية ، مؤثرة لما تدل عليه دقائق حقائق بقايا علوم مقايسهم البراهانية ، وتشير إليه رموز كنوز وصايا علماء نواميسهم الكلدانية ، من مأثور تأثير لاهوتية قواهم(2/402)
"""""" صفحة رقم 403 """"""
السيماوية ، راغبة فيما يفاض على مادتها الجسمانية ، ويطرأ على عاقليتها الهيولانية ، من علويات آثار مواهبها الربانية ، موافقة لمثلهم المفارقة أفضل موافقة ، موافقة لما وافق من شوارد آرايهم الموفقة أحسن موافقة . وتحت هذه الأستار محذرات أسرار أضر بها الإسرار ، وطالما نكر معارفها الإنكار ، ونقلت من صدور أولئك الصدور ، إلى بطون هذه الأوراق ، في ظهور فوق دفاتر فلسفيات معاني علومهم الرقاق . وفي تلك المغاني ، أبكار معاني ، سكن الجوانح والصدور ، بدل الأرايك والخدور ، ولحن في دياجي ظلم هذه الأحاجي ، كأقمار في أطمار ، بهرن وما ظهرن ، وسطعن وما لمعن ، فعشقن وما رمقن ، واستملحن وما ملحن . أدرن خمور أجفانهن على ما خوريات ألحانهن ، فهيجت البلابل نغم هذه البلابل ، واستفرغته الأكياس ، مترعات تلك الأكواس . ما سحر بابل ، كخمر بابل ، ولا منتقى أغانيهن الأوايل ، كحمايمكم الهوادل ، إن وصلت هديلها بحفيف ، وصلن ثقيلهن بخفيف . إيه أيها الشمري المشمعل ، دعنا من حديثك المضمحل ، سر بنا أيها الفارس الندس ، من حظيرة النفس ، إلى حضرة القدس ، صرح بإطلاق الجمال ، وجل من عالميتك الملكوتية في أفسح مجال ، تمش بين مقاصر قصورها ، ومعاصر خمورها ، رخي البال ، مرخي السربال ، فما ينسج لك على منوال ، نادم عليها من شغف دن سقراط ، إن استحسنت لها حسان ، فما يصلح لك ، صالح بن علاط . بت صريع محياها ، فقد أوصت بمعالجة عقير معاقرة عقارها بقراط ، لا تخش صاحب شرطتها ، فلا شرط له عليك ولا اشتراط ، مالك غير مبديك الأول ، من قال امتثل الأمر ، وما عليك من أمر وال . على رسلك ما هذا العجل ، لا خطأ تتوقعه ولا خطل ، أمكره أنت في هذه الكريهة ، أم بطل . لو علم أنك ضبارية هذا الخميس ، وخبعثة ذلك الخميس ، لما عاني اليم رسيس ، شوقاً إليك محمد بن خميس ، على أن لا غالب اليوم لأني غالب ، ولا طالب يدرك شأو هذا الطالب ، فقه بلا تفهيق ، وحذق في تحذلق . أقسم أبا الفضل بمالك على أبي البركات من الفضل ، ذلك العراقي الأرومة ، لا هذا الفارس الجرثومة ، وإن يك ذلك ، إسرايلي الأصل ، وهذا إسمعيلي الجنس ، علوي الفضل . فلتلك الذات ، شرف تلك الأدوات . قدم لي غالبنا المذكور ، من بأسه الغر لأرفع ، وأسمى من مقعد ، وقوطيهم المشهور ، من إغرناطة الحمراء ، ومن متبوأ أبي أميتهم المرحوم ، من جنات جزيرتهم الخضراء ، فيما لنت أبا الفضل من هذه العربجة ، وألوك . أرأيت في عمرك ، مثل هذا الصعلوك ، لا والله ما على ظهر هذه الغبراء ، من يتظاهر بمثل هذه المعرفة في بني غبرا . فأي(2/403)
"""""" صفحة رقم 404 """"""
شيء هذا المنزع إيش ، لا حال لنا معك ولا عيش ، من يضحك على هذا الطيش . ما هذا الخبل ، أخمار بك أم ثمل ، إرجع إلى ما كنت بصدده ، وقيت الزلل ، خذ في الجد فما يليق بك الهزل . رق عن ذلك فحك لنا منه أرق غزل ، ماذا أقول ، وأي عقل يطاوعني على هذا المعقول . أفحمتني والله عن مكالمتكم هذه المحن ، ومنعتني من طلب مسالمتكم ، ما لكم علي في دنياكم هذه من الإحن . إن تكلمت كلمت ، وإذا استعجمت عجمت . أما لهذه العلة آس ، أم على هذه الفيلة مواس ؛ ما حيلتي في طبع بلدكم الجاسي . إما يلين لضعفي أما يرق قلب زمانكم القاسي . ما هذه الدمن يا بني حضروات الدمن ، أظهرتم المحن ، فقلب لكم ظهر المجن . إن مر بكم الولي حمقتموه ، وإن زجركم العالم فجرتم عليه ففسقتموه ، وإذا نجم فيكم الحكيم ، غصصتم به ، فكفرتموه وزندقتموه ، كونوا فوضى ، فما لكم اليوم مسراً سواه واذهبوا من مراعيكم المستوبلة ، حيث شئتم ، فقد أهملكم الرعاة . ضيعتم النص والشرائع ، وأظهرتم في بدعكم العجايب والبدايع . نفقتم النفاق ، وأقمتم سوق الفسوق على ساق . استصغرتم الكباير ، وأبحتم الصغاير . أين غنيكم الشاكر ، يتفقد فقيركم الصابر ، أين عالمكم الماهر ، يرشد متعلمكم الحاير . مات العلم بموت العلماء ، وحكم الجهل بقطع دابر الحكماء . جرد لنا شريعتك يا أفضل الشارعين . أتم فيها موعظتك يا أفصح التابعين . لا والله ما يوقظكم من هذا الوسن ، وعظ الحسن ، ولا ينقذكم من فتن هذا الزمن ، إلا سيف معلمه أبي الحسن والسلام . ذلك ، إسرايلي الأصل ، وهذا إسمعيلي الجنس ، علوي الفضل . فلتلك الذات ، شرف تلك الأدوات . قدم لي غالبنا المذكور ، من بأسه الغر لأرفع ، وأسمى من مقعد ، وقوطيهم المشهور ، من إغرناطة الحمراء ، ومن متبوأ أبي أميتهم المرحوم ، من جنات جزيرتهم الخضراء ، فيما لنت أبا الفضل من هذه العربجة ، وألوك . أرأيت في عمرك ، مثل هذا الصعلوك ، لا والله ما على ظهر هذه الغبراء ، من يتظاهر بمثل هذه المعرفة في بني غبرا . فأي شيء هذا المنزع إيش ، لا حال لنا معك ولا عيش ، من يضحك على هذا الطيش . ما هذا الخبل ، أخمار بك أم ثمل ، إرجع إلى ما كنت بصدده ، وقيت الزلل ، خذ في الجد فما يليق بك الهزل . رق عن ذلك فحك لنا منه أرق غزل ، ماذا أقول ، وأي عقل يطاوعني على هذا المعقول . أفحمتني والله عن مكالمتكم هذه المحن ، ومنعتني من طلب مسالمتكم ، ما لكم علي في دنياكم هذه من الإحن . إن تكلمت كلمت ، وإذا استعجمت عجمت . أما لهذه العلة آس ، أم على هذه الفيلة مواس ؛ ما حيلتي في طبع بلدكم الجاسي . إما يلين لضعفي أما يرق قلب زمانكم القاسي . ما هذه الدمن يا بني حضروات الدمن ، أظهرتم المحن ، فقلب لكم ظهر المجن . إن مر بكم الولي حمقتموه ، وإن زجركم العالم فجرتم عليه ففسقتموه ، وإذا نجم فيكم الحكيم ، غصصتم به ، فكفرتموه وزندقتموه ، كونوا فوضى ، فما لكم اليوم مسراً سواه واذهبوا من مراعيكم المستوبلة ، حيث شئتم ، فقد أهملكم الرعاة . ضيعتم النص والشرائع ، وأظهرتم في بدعكم العجايب والبدايع . نفقتم النفاق ، وأقمتم سوق الفسوق على ساق . استصغرتم الكباير ، وأبحتم الصغاير . أين غنيكم الشاكر ، يتفقد فقيركم الصابر ، أين عالمكم الماهر ، يرشد متعلمكم الحاير . مات العلم بموت العلماء ، وحكم الجهل بقطع دابر الحكماء . جرد لنا شريعتك يا أفضل الشارعين . أتم فيها موعظتك يا أفصح التابعين . لا والله ما يوقظكم من هذا الوسن ، وعظ الحسن ، ولا ينقذكم من فتن هذا الزمن ، إلا سيف معلمه أبي الحسن والسلام . قدم غرناطة في أواخر عام ثلاثة وسبعماية . وتوفي في يوم مقتل صاحبه الوزير أبي عبد الله بن الحكيم ، فر من دهليز جاره فيمن كان بها من الأعلام ، بعد أن نهبت ثيابه ، حسبما جرى على غيره من الحاضرين ، وهو يقول ، هكذا تقوم الساعة بغتة . ولقيه بعض قرابة السلطان ، ممن كان الوزير قد وتره ، فشرع الرمح إليه ، فتوسل إليه برسول الله ، فلم يقبل منه ، وطعنه ، فقتله يوم عيد الفطر عام ثمانية وسبعماية ، وآخر العهد به ، مطرحاً بالعراء ، خارج باب الفخارين ، لا يعلم قبره ، لمكان الهرج في تلك الأيام . نسل الله جميل ستره . وساء بأثر قتله إياه حال ذلك الرجل وفسد فكره ، وشرد نومه وأصابته علة ردية ، فكان يثب المرة بعد الأخرى ، يقول ابن خميس يقتلني ، حتى مات لأيام من مقتل المذكور .(2/404)
"""""" صفحة رقم 405 """"""
محمد بن عمر بن علي بن إبراهيم الملكشي
يكنى أبا عبد الله .
حاله
كان فاضلا ، متخلقاً ، أديباً ، شاعراً ، صوفياً ، جميل العشرة ، حسن الخلق كريم العهد ، طيب النفس . كتب عن الأمراء بإفريقية ، ونال حظوة ، ثم شرق وحج ، ولقي جلة ، ووصل الأندلس عام ثمانية عشر وسبعماية ، فلقي بغرناطة حفاية ، وانسحبت بها عليه جراية ، ثم انصرف إلى وطنه ، وناله به اعتقال ، ثم تخلص من النكبة ، وأقام به ، يزجي وقته إلى آخر عمره .
وجرى ذكره في الإكليل الزاهر : كاتب الخلافة ، ومشعشع الأدب المزري بالسلافة ، كان يرحمه الله ، بطل مجال ، ورب روية وارتجال ، قدم على هذا البلاد ، وقد نبا به وطنه ، وضاق ببعض الحوادث عطنه ، فتلوم بها تلوم النسيم بين الخمايل ، وحل بها محل الطيف من الوشاح الجايل ، ولبث مدة إقامته تحت جراية واسعة ، ومبرة يانعة . ثم آثر قطره ، فولي وجهه شطره ، واستقبله دهره بالإنابة ، وقدله خطة الكتابة ، واستقامت حاله ، وحطت رحاله ، وله شعر أنيق ، وتصوف وتحقيق ، ورحلته إلى الحجاز ، سببها في الخبر وثيق ، ونسبتها في الصالحات عريق .
شعره
نقلت من خط الوزير أبي بكر بن ذي الوزارتين ، مما قيد عنه ، وكان خبيراً بحاله :
رضي نلت من كل ما يهوى . . . فلا توقفني موقف الذل والشكوى
وصفحاُ عن الجاني المسيء لنفسه . . . كفاه الذي يلقاه من شدة البلوى(2/405)
"""""" صفحة رقم 406 """"""
بما بيننا من خلوة معنوية أرق من النجوى وأحلى من السلوى
قفي أتشكى لوعة البين ساعة . . . ولا يك هذا آخر العهد بالنجوى
قفي ساعة في عرصة الدار وانظري إلى عاشق لا يستفيق من البلوى
وكم قد سألت الريح شوقاً إليكم . . . فما حن مسراها إلي ولا ألوى
فيا ريح حتى أنت ممن يغار بي . . . ويا نجد حتى أنت تهوي الذي أهوى
خلقت ولي قلب جليد على النوى . . . ولاكن على فقد الأحبة لا يقوى
وحدث بعض من عني بأخباره أيام مقامه بمالقة واستقراره ؛ أنه لقي ليلة بباب الملعب في أبوابها ظبية من ظبيات الأنس ، وفتنة من فتن هذا الجنس ، فخطب وصالها ، واتقى بفؤاده نصالها ، حتى همت بالانقياد ، وانعطفت انعطاف الغصن المياد ، فأبقى على نفسه ، وأمسك ، وأنف من خلع العذار ، بعد ما تنسك ، وقال :
لم أنس وقفتنا بباب الملعب . . . بين الرجا واليأس من متجنب
وعدت فكنت مراقباً لحديثها . . . يا ذل وقفة خايف مترقب
وتذللت فذللت بعد تعزز . . . يأتي الغرام بكل أمر معجب
بدوية أبدي الجمال بوجهها . . . ما شيت من خد شريق مذهب
تدنو وتبعد نفرة وتجنباً . . . فتكاد تحسبها مهاة الرباب
ورنت بلحظ فاتر لك فاتن . . . أنضى وأمضى من حسام المضرب
وأرتك بابل سحرها بجفونها . . . فسبت وحق لمثها أن تستب
وتضاحكت فحكت بنير ثغرها . . . لمعات نور ضياء برق خلب
بمنظم في عقد سمطى جوهر . . . عن شبه ثور الأقحوان الأشنب(2/406)
"""""" صفحة رقم 407 """"""
وتمايلت كالغصن أخضله الندى . . . ريان من ماء الشبيبة مخصب
تثنيه أرياح الصبابة والصبا . . . فتراه بين مشرق ومغرب
أبت الروادف أن تميل بميله . . . فرست وجال كأنه في لولب
منسوجاً بهلال وجه لاح في . . . خلل السجوف لحاجب ومحجب يا من رأى فيها محباً مغرماً . . . لم ينقلب إلا بقلب قلب
ما زال مذ ولي يحاول حيلة . . . تدنية من نيل المنى والمطلب
فأجال نار الفكر حتى أوقدت . . . في القلب نار تشوق وتلهب
فتلاقت الأرواح قبل جسومها . . . وكذا البسيط يكون قبل مركب
ومن مقطوعاته البديعة ، مما سمع منه بغرناطة ، حرسها الله ، أيام مقامه بها قوله :
أرى لك يا قلبي بقلبي محبة . . . بعثت بها سرى إليك رسولا
فقابله بالبشر واقبل عشية . . . فقد هب مسكي للنسيم عليلا
ولا تعتذر بالقطر أو بلل الندى . . . فأحسن ما يأتي النسيم بليلا
ونقلت من خط الفقيه القاضي أبي جعفر الرعيني ، مما أملاه علي بمنزله بغرناطة . قال وحضرت في عام ثلاثة عشر وسبعماية ، يوم إحرام الكعبة العلية ، وذلك في شهر ذي القعدة على اصطلاحهم في ذلك ، وصفته أن يتزين سدنة البيت من شيبة بأحسن زي ، ويعمدوا إلى كرسي ، يصل فيه صاعده ، إلى ثلث الكسوة ، ويقطعها من هنالك ، ويبقى الثلثان إلى المويم ، وهو يوم مشهود عند سكان الحرم ، يحتفل له ، ويقوم المنشدون أدراج الكعبة ينشدون . فقلت في ذلك :
ألم ترها قد شمرت تطلب الجدا . . . وتخبر أن الأمر قد بلغ الحدا
فجد كما جدت إليها وشمر عن الساعد الأقوى تنل عندها سعدا
طوت بردها طي السجل كناية . . . لأمر خفي سره طوت البردا
وأندت محياها فحيا جماله . . . وقبل على صون المقلة ذلك الخدا(2/407)
"""""" صفحة رقم 408 """"""
فكم سترت سود البرود جمالها . . . وغطته لاكن عن سنها الرمدا
وكم خال ذاك الخال عما مقصر . . . عن العلم بالأنساب لا يعرف الحدا
لقد سفرت عن وجهها الكعبة التي . . . لها المسني في حسنها المبدا
وقالت ألا أين مكللي ، قصدوا إلى جمالي فقد أبدي الحجاب الذي أبدا
فلبت لها العاشق من كل جانب . . . يومونها يستقربون لها البعدا
فمن ندف أشفى على تلف ومن . . . محب على قرب يهيم بها وجدا
ومن ساهر على النجوم ولم يذق بعينيه طعم النور أو يبلغ القصدا
بسائل عن بدر وبدر تجاهه . . . كذلك اشتراك اللفظ قد ينغص الخدا
ومن مستهام لا يقر قراره . . . كأن به من حر أشواقه وقدا
يقلب قلباً بين جنبيه موريا . . . أوار الأسى فيه فتحسبه زندا
إذا ما حدى حادي الركاب ركابه . . . كأن قلوب الراكبين له نجدا
أحاد بها إن أنت جئت بها مني . . . ونلت المنى والأمن فانزل ورد وردا
ولا خوف هذا الخيف والتربة التي . . . سرت قد عين المصطفى عدا
وفي عرفات فاعترف وانصرف إلى . . . مشاعر فيها يرحم المالك العبدا
وإن كنت من أوفى العبيد جرايما . . . فحسن نبيل العقد من ربك العقدا
لين صدقت فيك الوعيد جرايم . . . فعفواً لجميل الصفح يصدقك الوعدا
وعد مفضياً للبيت طف واستلم وقم . . . بها للمقام الرحب واسجد وكن عبدا
ورد في الثنا والحمد والشكر واجتهد . . . فمن عرف الإحسان زادته حمدا
وعج نحو فرض الحب وأقض حقوقه . . . وزر قبر من أولاك من هديه رشدا
قال ، وكنت في زمن الحداثة ، أفضل الأصيل على السحر ، وأقول فيه رقة المودع ورقة المعتذر . فلما كان أوان الأسفار ، واتصلت ليالي السير ، إلى أوقات(2/408)
"""""" صفحة رقم 409 """"""
الأسحار ، وأيت أفق الشرق أشرق ، ووجدت القايل يفضل السحر أصدق ، فابتدأت راكباً ، فلما جيت لذكر الجناب العلي النبوي ، أتممت ماشياً ، وأنا في رملة بين مصر وعقبة إيله ، وقلت :
ما أحسن الأفق الشرقي إسفارا . . . فكم هذا في دجى الإدلاج أسفارا
إذا بدا سارت الأظعان هادية . . . له وصارت به الظلماء أنوارا
يجلو غياهب ليل طالما سدلت . . . على المحبين في الظلماء أستار
ونم من ه نسيم ثم ذا بعد على . . . أحاديث كانت ثم أسرارا سرت سحيرا فبرت سر ذي سحر . . . أهدت له ريح من يهواه معطارا
سرت ببانات أكناف اللوى . . . فغدت كأن دارين قد أصبحت دارا
طابت بطيبة أرواح معطرة . . . بها فأصبح أفق الشوق عطارا
كأنما فلق الغصباح حين بدا . . . خدر بهجة حسن الشمس قد وارا
حقي بدت وتبدت حسن صورتها . . . فعممته الأرض أنجاداً وأغوارا
كأنه دعوة المختار حين بدت . . . دانت لها الخلق إعلاناً وإصرارا
من نوره كل نور أنت تبصره . . . ونوره زاد الأبصار إبصارا
هدا به الله أقواماً به سعداء . . . لولاه كانوا مع الكفر كفارا
هو الشفيع الذي قالت شفاعته . . . للموبقين ألا لا تدخلوا النارا
هو العفو عن الجاني وإن عظمت . . . من المسيء ذنوب كان غفارا
هو الكريم الذي ما رد سائله . . . يوما ولو كرر التسآل تكرارا
هو الحبيب الذي ألقى محبته . . . في كل قلب فقلبي نحوه طارا
أحبه كل مخلوق وهام به . . . حتى الجمادات أحجاراً وأشجاراً
وانشق بدر الدجا من نور غرته . . . وانهلت السحب من كفيه أنهارا
ومن مقطوعاته ، قال ، ومما نظمته في ليل السرى ، وتخيل طيف الكرى ، أقصيد قصدته أي معنى أردته ، أشغل عنه ما بي منه :
منع الهجر من سليمي هجوعا . . . فانثنى طبعها يريد الرجوعا(2/409)
"""""" صفحة رقم 410 """"""
بعثته ليلا يعلل قلباً . . . مستهاماً بها محباً ولوعا
لم يجد غير طرف جفن قريح . . . شاخصا نحوها يذر الدموعا
وكتب إلى صديقه شيخنا أبي بكر بن شبرين من بجاية ، وهو معتقل بقصبتها ، وقد امتحنه بذلك أبو عبد الله بن سيد الناس :
شرح حالي لمن يريد سؤالي . . . إنني في اعتقال مولي الموال
مطلق الحمد والثناء عليه . . . وهو للعطف والجميل موال
لا أرى للولاة في احتكاما . . . وولي مال على كل وال
أرتجى بالمصاب تكفير ذنبي . . . حسبما جاء في اصحاح العوال
لا تدوم الدنا ولا الخير فيها . . . وكذا الشر ذا وذا للزوال
فاغتنم ساعة الوصال وكم . . . من محنة وهي منحة من نوال
فإذا غبت عنك فاحضر . . . تجدها للجواب المفيد عن السؤال
فهي نور للنهار والنور منها . . . وهي الأنس في الليالي الطوال
فاستدمها تدم ولا تضج منها . . . وأدرها على اليمين ووال
فإن الكأس مجراها على اليمين ، ومسراها لفي الصبح المبين ، تغنى عن الإصباح والمصباح ، وتدنى لهم معنى النور المشرق في الوجوه الصباح ، وتجرى في الأشباح ، فتسرى في الأرواح . وهذه الرسالة طويلة ، فيها كل بديع من نظم ونثر .
فأجابه رحمه الله :
أرغمن هذه القيود الثقال . . . رب ود مصيره للتغال
طال صبري على الجديدين حتى . . . كدت مما لقيت أن يشفقا ل
إن بعض الرضا لديه فسيح . . . أي مدد به وأي ابتقال
حاش لله أن أكون لشيء . . . شاده الصانع القديم بغال
إن عندي من الثناء عليه . . . لأماني لم يملهن القال
يا إماء الذي بودي لو . . . أمكن نصي إليه أوار قال(2/410)
"""""" صفحة رقم 411 """"""
أرج دنياك وأرج مولاح واعلم . . . أن راجي سواه غير مقال
وابتغاء الثواب من ربك اعمل . . . فهو يجزي الأعمال بالمثقال
واغتنم غيبة الرقيب ففيها . . . لقلوب الرجال أي صقال
وأحل في الوجود فكر غني . . . عن ضروب الإنعام والأحقال
وإذا الوقت ضاق وسعه . . . بالصبر ولا تنس من شهير المقال
ربما تكره النفوس من الأمر . . . له فرحة كحل العقال لا غرو أن وقع توان ، أو تلوم دهر ذو ألوان ، فالأمر بين الكاف والنون ، ومن صبر ، لم يبوء بصفقة المغبون . وللسعداء تخصيص ، ومع التقريب تمحيص ، وما عن القضاء محيص ، والمتصرف في ماله غير معتوب ، وقديم الحقيقة إلى الحيف ليس بمنسوب . وقد ورد خطاب عمادي أطاب الله محضره ، وسدد إلى المرامي العلية نظره ، ناطقاً بلسان التفويض ، سارحا من الرضا في الفضاء العريض ، لايذاً بالانقياد والتسليم ، قايماً على أسكفة باب الأدب ، لمثابة حكم الحكيم .
ومنها : والوقايع عافاكم الله وعاظ ونحن هجود . وفي الحي إيقاظ ، وما كل المعاني تؤديها الألفاظ . وهذا الفناء الذي نشأ عن الوقت ، هو إن شاء الله عين البقيا . وإذا أحب الله عبداً حماه الدنيا ، وما هي إلا فتون ، وجنون فنون ، وحديث كله مجون . وقد يجمع الله الشتيتين ، ولن يغلب عسر يسرين ولا بأس ، ويا خطب لا مساس وأبعد الله اليأس ، وإنما يوفي الأجر الصابرون ، ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون . وهي طويله بديعة .
أسمع بحضرة غرناطة لما قدم عليها ، وارتسم في جملة الكتاب بها ، وحدث عن رضي الدين أبي أحمد إبراهيم الطهري ، بسماعه من الشريف يونس بن يحيى الهاشمي ، وبسماعه من أبي الوقت طراد . وعن الإمام سراج الدين أبي حفص عمر بن طراد المعري القاضي بالحرم الشريف ، وعن شرف الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الحميد الهمداني ، وعن الإمام بهاء الدين الخميري عن أبي الطاهر السلفي ، وعن جماعة غيرهم . وكان وروده على الأندلس في أوايل عام خمسة عشر وسبعماية ، وحضر بها غزوات ، ولقي من كان بها من الأعلام . ثم انصرف عنها في أوايل عام ثمانية عشر ، وأحل بسبتة ، فأكرم رييسها أبو عمر يحيى بن أبي طالب العزفي قدومه ، وأنزله بدار جليلة ، كان بها علو مطل على البحر ، لم يتمكن من مفتاحه ، لأمر اقتضى(2/411)
"""""" صفحة رقم 412 """"""
ذلك ، فكتب إليه :
يا صاحب البلد المليح المشرق . . . ما مثله في مغرب أو مشرق
ومنها :
وخفضت عيشي فيه فارفع . . . منزلي حتى أرى الدنيا بطرف مطرق
وتجول في البلاد ، ولقي من بها ، واتصل بالأمير أبي علي بسجلماسة . ومدحه بقصيدة حفظ منها :
فيا يوسفى الحسن والصفح والرضا . . . تصدق على الدنيا بسلطانك العدل
ثم اتصل بوطنه .
وفاته
نقلت من خط شيخنا أبي بكر المذكور : وفي عام أربعين وسبعماية ، توفي بتونس صاحبنا الحاج الفاضل المتصوف ، الكاتب أبو عبد الله محمد بن علي المليكثي الشهير بابن عمر ، صدر في الطلبة والكتاب ، شهير ذو تواضع وإيثار ، وقبول حسن ، رحمه الله .
محمد بن علي بن الحسن بن راجح الحسني
من أهل تونس يكنى أبا عبد الله .
حاله
هذا الرجال الفاضل ، صاحب رواء وأبهة ، نظيف البزة ، فاره المركب ، صدوف عن الملة ، مقيم للرسم ، مطفف في مكيال الإطراء ، جموح في إيجاب الحقوق ، مترام إلى أقصى آماد التوغل ، سخي اللسان بالثناء ثرثاره ، فكه مطبوع ، حسن الخلق ، عذب الفكاهة ، مخصوص حيث حل من الملوك والأمراء بالأثرة ، وممن دونهم بالمداخلة والصحبة ، ينظم الشعر ، ويحاضر بالأبيات ، ويتقدم في باب التحسين والتقبيح ، ويقوم على تاريخ بلده ، ويثابر على لقاء أهل المعرفة ، والأخذ عن أولى الرواية . قدم على الأندلس في إحدى جمادين ، عام خمسين وسبعماية ، مفلتاً من الوقيعة بالسلطان أبي الحسن بالجهات الشرقية ، بأيدي بني زيان وأحلافهم ،(2/412)
"""""" صفحة رقم 413 """"""
فمهد له سلطانها ، رحمه الله ، كنف بره ، وأواه إلى سعة رعيه ، وتأكدت بيني وبينه صحبة .
شعره
كتبت إليه لأول قدومه بما نصه ؛ أحذو حذو أبيات ، ذكر أن شيخنا أبا محمد الحضرمي خاطبه بها :
أمن جانب الغربي نفحة بارح . . . سرت منه أرواح الجوى في الجوانح
قدحت بها زند الغرام وإنما . . . تجافيت في دين السلو لقادح
وما هي إلا نسمة حاجرية . . . رمى الشوق منها كل قلب بقادح
رجحنا لها من غير شك كأنها . . . شمايل أخلاق الشريف ابن راجح
فتى هاشم سبقاً إلى كل علية . . . وصبراً معار الحبل في كل فادح
أصيل العلاجم السيادة ذكره . . . طراز نضار في برود المدايح
وفرقان مجد يصدع الشك نوره . . . حبا الله منه كل صدر بشارح وفارس ميدان البيان إذا انتضى . . . صحايفه أنست مضاء الصفايح
رقيق كما راقتك نغمة هاجع . . . وجزل كما راعتك صولة جارح
إذا ما احتبى مستحفزاً في بلاغة . . . وخيض خضم القول منه بسايح
وقد شرعت في مجممع الحفل نحوه . . . أسنة حرب للعيون اللوامح
فما ضعضعت منه لصولة صادح . . . ولا ذهبت منه بحكمة ناصح
تذكرت قساً قديماً في عطاظه . . . وقد غص بالشم الأنوف الجحاجح
ليهنك شمس الدين ما حزت من علا خواتمها موصولة بالفواتح
رعى الله ركباً أطلع الصبح مسفراً . . . لمرآك من فوق الربى والأباطح
ومنها :
أقول لقومي عندما حط كورها . . . وساعدها السعدان وسط المسارح(2/413)
"""""" صفحة رقم 414 """"""
ذروها وأرض الله لا تعرضوا لها . . . بمعرض سوء فهي ناقة صالح
إذا ما أردنا القول فيها فمن لنا . . . بطوع القوافي وانبعاث القرايح
بقيت مني نفس وتحفة رايد . . . ومورد ظمآن وكعبة مادح
ولا زلت تلقى الرحب والبر حيثما . . . أرحت السرى من كل غاد ورايح
فأجابني بما نصه :
أمن مطلع لأنوار لمحة لامح . . . تعار لمفقود عن الحي نازح
وهل بالمني من مورد الوصل يرتوي . . . غليل عليل للتواصل جانح
فيا فيض عين الدمع مالك والحمى . . . ورند الحمى والشيح شيح المشايح
مرابع آرامى ومورد ناقتي . . . فسقياً لها سقياً لناقة صالح
سقى الله ذاك الحي ودقاً فإنه . . . حمى لمحات العين عن لمح سامح
وأبدى لنا حور الخيام تزف في . . . حلى الحسن والحسني وحلى الملايح
ترى حي تلك الحور للحور مهيع . . . يدل وهل حسم لداء التبارح
ويا دوحة الرويحان هل لي عودة . . . لعقر عقار الأنس بين الأباطح
وهل أنت إلا طلة حاتمية . . . تغص نواديها بغاد ورايح
أقام بها الفخر ابن الخطيب منابراً . . . لترتيل آيات للندى والمنايح
وشفع بالإنجيل حمد مديحه . . . وأوتر بالتوراة شفع المدايح
وفرق بالفرقان كل فريقة . . . نأت عن رشاد فيه معنى النصايح
وهل هو إلا للبرية مرشد . . . لكل هدى هاد لأرجح راجح
فبشراك شمس الدين سادبك الورى وأورى الهدى للرشد أوضح واضح(2/414)
"""""" صفحة رقم 415 """"""
متى قلت لم تترك مقالا لقايل . . . فإن لم تقل لم يغن حمد لمادح
فمن حام بالحي الذي أنت أهله . . . وعام ببحر من عطايك طافح
يحق له أن يشفع الحمد بالثنا . . . ويغدو بذاك البحر أسبح سابح
ويا فوز ملك دمت صدر صدوره . . . وبشى له قد راح أربح رابح
بآرايك التي تدل على الهدى . . . وتبدي لمن خصصت سيل المناجح
ملكت خصال السبق في كل غاية وملكت من ملكت يا بان الجحاجح
مطامح آمال لأشرف همة . . . أقل مراميها أجل المطامح
فدونكها يا مهدي المدح مدحة . . . أجبت بها عن مدح أشرف مادح
يهنيك بالعام الذي عم حمده . . . مواهب هاتيك البحار الطوافح
فخذها سمى الفخر يا خير مسبل . . . على الخلق أغضا ستور التسامح
ودم خاطب العليا لها خير خاطب . . . وأتوق تواق وأطمح طامح
وتلقاني بمالقة عند قدومي من الرسالة إلى المغرب ، في محرم عام ستة وخمسين وسبعماية ، ونظم لي هذه الأبيات ، ولا حول ولا قوة إلا بالله :
قدومك ذا أبدي لذي الراية الحمرا . . . ثغور الرضا تعبر عن شنب البشرا
وأينع فجر الرشد من فلق الهدى . . . وكونه نهرا وفجره فجرا
ونصبح في أحيان المن نستلم . . . مواطنكم شفعاً وآثاركم وترا
ونخطب ما يا ابن الخطيب تشا . . . من كرايم ذاك الحي إذ نهز الشعرا فقابلت بالإقبال والبر والرضا . . . وأقريت من يقرا وأقررت من قرا
فأبنا قدس الحمد حضرة قدسنا . . . وأقدامنا تملا وأمداحكم تقرا(2/415)
"""""" صفحة رقم 416 """"""
هنيا لنا نلنا ونلنا ولم نزل . . . ننال ولاكن هذه المنة الكبرا
رأينا وزير الملد والملك واللوى . . . وحزب اللوى كل يشد به أزرا
سجدنا وكبرنا وقلنا رسولنا . . . أتى بالذي يرضى بشرى لنا بشرا
ويهني الورى هذا الإياب فإن في . . . نتايجه للدهر ما يسهر الدهرا
أرانا سنا ذا اليوم أجمل منظر . . . وجلى لنا من وجهك الشمس والبدرا
أما والذي أوليت من نعمة غدت . . . تعلمنا للمنعم الحمد والشكرا
لأنت لسان الدين للدين حجة . . . تؤيده سراً وتعضده جهرا
بقيت لنا كتفاً منيعاً مشرفاً . . . ودمت له عضداً ودمت له نصرا
ودمنا بكم في كل أمن ومنة . . . ندير المنا خمرا أو نصلى العدا جمرا
ومن أمثل ما مدح به السلطان لأول قدومه بالنسبة إلى غير ذلك من شعره :
أما والعيون النجل ترمق عن سحر . . . وورد رياض الخد والكأس والخمر
وريحانه والراح والطل والطلا . . . ونرجسه والزهر والنور والنهر
ونور جبين الشمس في رونق الضحا . . . وهالة بدر التم منتصف الشهر
لقد قلدت آراء يوسف ملكه . . . قلايد نصر لن تبيد مع الدهر
وقد أيده الإسلام منه بناصر . . . نصير وخير النصر نصر بني نصر
هم القوم أنصار النبي محمد وحزبه وعصبة الأعلام في اليسر والعسر
وحسبك من قوم حموا سيد الورى . . . وقاموا بنصر الحق في السر والجهر
سقى شرعة الإسلام ودق سيوفهم . . . رحيق الأماني طيب العرف والنشر
فأصبح روض الرشد يعبق طيبه . . . ودوح الهدى بالزهر أزهاره تزرى
فيا سايلي عنه وعن سطواته إذا . . . لاح محفوفاً براياته الحمر
وجز مع الأقدام جيشاً عرمرما . . . وشرد بالتأييد شرذمة الكفر(2/416)
"""""" صفحة رقم 417 """"""
لخليلة تنبيك عما وراءها . . . ولا غرو فالإفصاح يعرف بالعجز
فيا فوز من أدناه بالغنم والغنا . . . ويا ويل من أقصاه للقفر والفقر
يميناً بما اختارت يداك وأحرزت . . . من الملك والتأييد والنهي والأمر
لقد أصعدت مجدى مدائحك التي . . . ومجدك والعليا مدحت بها شعر
وحق لمثلي يشع الحمد بالثنا . . . ويتلو معانيه مع الشفع والوتر
فاحنى ثمار الأنس من روضة المنا . . . وأقطف زهير الحمد من شجر الشكر
وأشرب ماء الفوز عذباً ختامه . . . رحيق براح السمح في أكوس البشر
ولا برحت أمداحكم تعدز النهى . . . وإلا فكم تنجني ن العسر لليسر
ولا زالت الأقدار تخدم رأيكم . . . وراياتكم ما دام نجم للسر يسر
وكتب إلي في غرض يظهر منه نص المراجعة ، وحسبنا الله :
أما والذي لي في حلاك من الحمد . . . وما لك ملاكى علي من الرفد
لقد أشعرتني النفس أنك معرض . . . عن المسرف اللايي لفطرك يستجد
فإن زلة بدت لك جهرة فصفحا . . . فما والله إذ كنت عن عمد
فراجعته بقولي :
أجلك عن عتب يغض من الود . . . وأكرم وجه العذر منك عن الرد
ولاكنني أهدي إليك نصيحتي . . . وإن كنت قد أهديتها ثم لم تجد
إذا مقول الإنسان جاوز حده . . . تحولت الأغراض منه إلى الضد
فأصبح منه الجد هزلاً مذمماً . . . وأصبح منه الهزل في معرض الجد
فما استطعت فيضاً للعنان فإنه . . . أحق السجايا بالعلا والمجد(2/417)
"""""" صفحة رقم 418 """"""
توفي يوم الخميس الثالث لشعبان عام خمسة وستين وسبعماية ، وقد ناهز السبعين سنة ، ودفن بروضتنا بباب إلبيرة ، وأعفي شارب الشعر من نابي مقصه . وغير هذه الدعوى قرارها تجاوز القضية .
محمد بن علي بن عمر العبدري
من أهل تونس ، شاطبي الأصل ، يكنى أبا عبد الله ، صاحبنا .
حاله
كان فاضلا منأبناء النعم ، وأخلاف العافية ، ولي أبوه الحجابة بتونس عن سلطانها برهة ، ثم عدا عليه الدهر ، واضطر ولده هذا إلى اللحاق بالمشرق ، فاتصل به سكناه وحج ، وآب إلى هذه البلاد . ظريف النزعة حلو الضريبة ، كثير الانطباع ، يكتب ويشعر ، ويكلف بالأدب ، ثم انصرف إلى وطنه . وخاطبني إلى هذا العهد ، يعرفني بتقلده خطة العلامة ، والحمد لله .
وجرى ذكره في كتاب الإكليل بما نصه : غذي نعمة هامية ، وقريع رتبة سامية ، صرفت إلى سلفه الوجوه ، ولم يبق بإفريقية إلا من يخافه ويرجوه ، وبلغ هو مدة ذلك الشرف ، الغاية من الترف . ثم قلب الدهر له ظهر المجن ، واشتد به الخمار عند فراغ الدن ، ولحق صاحبنا هذا بالمشرق ، بعد خطوب سيرة ، وشدة كبيرة ، فامتزج بسكانه وقطانه ، ونال من اللذات ما لم ينله في أوطانه ؛ واكتسب الشمايل العذاب ، وكان كابن الجهم ، بعث إلى الرصافة ، ليرق فذاب ، ثم حوم على وطنه تحويم الطائر ، وألم بهذه المدينة إلمام الخيال الزاير ، فاغتنمت صفقة وده ، لحين وروده ، وخطبت موالاته على انقباضه وشروده ، فحصلت منه على درة تقتنى ، وحديقة الجنى .
شعره
أنشدني في أصحاب له بمصر قاموا ببره :
لكل أناس مذهب وسجية . . . ومذهب أولاد النظام المكارم(2/418)
"""""" صفحة رقم 419 """"""
إذا كنت فيهم ثاوياً كنت سيداً . . . وإن غبت عنهم لم تنلك المظالم
أولئك صحبي لا عدمت حياتهم . . . ولا عدموا السعد الذي هو دايم
أغنى بذكراهم وطيب حديثهم . . . كما غردت فوق الغصون الحمايم
ومن شعره يتشوق إلى تلك الديار ، ويتعلل بالتذكار ، قوله :
أحبتنا بمصر لو رأيتم . . . بكائي عند أطراف النهار
لكنتم تشفقون لفرط وجدي . . . وما ألقاه من بعد المزار
ومن شعره :
تغني حمام الأيك يوماً بذكرهم . . . فأطرب حتى كدت من ذكرهم أفنا
فقلت حمام الأيك لا تبك جيرة . . . ناءوا وانقضت وصلهم عنا
فقال ولم يردد جواباً لسايل . . . ألا ليتنا كنا جميعاً بذا ألحقنا
ومن جيد شعره الذي أجهد فيه قريحته ، قوله يمدح السلطان المعظم أبا الحسن في ميلاد عام سبعة وأربعين وسبعماية :
تقر ملوك الأرض أنك مولاها . . . وأن الدنا وقف عليك قضاياها
ومنها :
طلعت بأفق الأرض شمساً منيرة . . . أنار على كل البلاد محياها
حكيت لنا للفاروق حتى كأننا . . . بعين لا تكذب رؤياها
وسرت على آثاره خير سيرة . . . قطعنا بأن الله ربك يرضاها
إذا ذكرت سير الملوك بمحفل . . . ونادى بها النادي وحسن دنياها
فجودك رواها وملكك زانها . . . وعدلك زاها وذكرك حلاها
وأنت لها كهف حصين ومعقل . . . تلوذ بها أولى الأمور وأخراها(2/419)
"""""" صفحة رقم 420 """"""
ومنها بعد كثير :
ومنكم ذوو التيجان والهمم التي . . . أناف على أعلى السماكين أدناها
إذا غاب منهم مالك قام مالك . . . مجدد للبيت المقدس علياها
بناها على التقوى وأسس بيتها . . . أبو يوسف الزاكي وسير مبناها
وأورثها عثمن خير خليفة . . . وأحلم من ساس الأنام وأنداها
وقام علي بعده خير مالك . . . وخير إمام في الورى راقب الله
علي بن عمر بن يعقوب ذو العلا . . . مذيق الأعادي حيثما سار بلواها
أدام الله وأعطى الخلافة وقتها . . . ونور أحلاك الخطوب وجلاها
ووصلني كتاب منه مؤرخ في التاسع عشر من شهر شعبان المكرم من عام أربعة وستين وسبعماية جدد عهدي من شعره بما نصه :
رحلنا فشرقنا وراحوا فغربوا . . . ففاضت لروعات الفراق عيون
فيا أدمعي منهلة إثر بينهم . . . كأن جفوني بالدمع عيون
فيا معهداً قد بنت عنه مكلفا . . . بديلي منه أنة وحنين
سقتك غوادي المزن كرعشية . . . ودادك محلول النطاق هتون
فإن تكن الأيام لم تقض بيننا . . . بوصل فما يقضى فسوف يكون يعز علينا أن نفارق ربعكم . . . وأنا على أيدي الخطوب نهون
ولو بلغتني العير عنكم رسالة . . . وساعد دهر باللقاء ضنيين
لكنا على ما تعلمون من الهوى . . . ولاكن لأحداث الزمان فنون(2/420)
"""""" صفحة رقم 2 """"""
الجزء الثالث(3/2)
"""""" صفحة رقم 3 """"""
الجزء الثالث
محمد بن أحمد العزفي
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
محمد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن أحمد العزفي
من أهل سبتة ، أبو القاسم بن أبي زكريا بن أبي طالب
حاله
من أهل الظرف والبراعة ، والطبع المعين ، والذكاء ، ربيس سبتة ، ' وابن رؤساها ' ، وانتقل إلى غرناطة عند خلعه ، وانصرافه عن بلده . أقام بها . تحت رعيٍ حسن الروا ، مالفاً للظرفاء ، واشتهر بها أدبه ، ونظر في الطب ، ودون فيه ، وبرع في بالتوشيح . ثم انتقل إلى العدوة ، انتقال غبطة وأثرة ، فاستعمل بها في ' خطط نبيهة ' ، وكتب عن ملوكها وهو الآن بالحالة الموصوفة .
وجرى ذكره في ' الأكليل ' بما نصه : فرع تأود من الرياسة في دوحة . وتردد بين غدوة في المجد وروحة ، نشأ والرياسة العزفية ، تعله وتنهله . والدهر يسير أمله الأقصى ويسهله . حتى اتسقت أسباب سعده ، وانتهت إليه رياسة سلفه من بعده . فألقت إليه رحالها وحطت ، ومتعته بقربها بعدما شطت . ثم كلح له الدهر بعد ما تبسم ، وعاد زعزعاً نسيمه الذي كان يتنسم ، وعاق هلاله عن تمه ، ما كان من تغلب ابن عمه ، واستقر بهذه البلاد ، نائى الدار بحكم الأقدار ، وإن كان نبيه المكان والمقدار ، وجرت عليه جراية واسعة ، ورعاية متتابعة ، وله أدب كالروض باكرته(3/3)
"""""" صفحة رقم 4 """"""
الغمايم ، والزهر تفتحت عنه الكمايم ، رفع منه راية خافقة ، وأقام له سوقاً نافقة . وعلى تدفق أنهاره ، وكثرة نظمه واشتهاره ، فلم أظفر منه إلا باليسير التافه بعد انصرافه .
شعره
قال :
أفديك ياريح الصبا . . . عوجى على تلك الربا
واحد النامي سحرا . . . ترسل غماماً صبا
على ربى غرناطة . . . لكى تقضي ما ربا
ثم أبلغى يا ربح عن صب سلاماً طيباً
ومن منظومة أيضاً في بعض القضاة الفاسيين ، وهو من البديع ، وورى فيه ببابين من أبواب المدينة :
وليت بفاس أمور القضا . . . فأحدثت فيه أموراً شنيعة
فتحت لنفسك باب الفتوح . . . علقت للناس باب الشريعة
فبادر مولى الورى فارس . . . بعزلك عنها قبيل الذريعة
وقال :
دع عنك قول عواذل ووشاة . . . وأدر كؤوسك يا أخا اللذات
واخلع عذارك لاهياً في شربها . . . واقطع زمانك بين هاك وهات
خذها إليك بكف ساقٍ أغيد . . . لين المعاطف فاتر الحركات
قد قام من ألحاظه إنسانها . . . مثبتا في فترة اللحظات
يسقيكها حمراء يسطع ذورها . . . في بالكاس كالمصباح في المثكات
رقت وراقت في الزجاجة منظراً . . . لما عدت تجلى على الرحات
ر تمزجنها في بالأبارق إنها . . . تبدو محاسنها لدى الكاسات
عجباً لها كالشمس تعزب في . . . فم لاكن مطالعها من الوجنات
نلنا بها ما نشتهيه من المنا . . . في جنة تزهى على الجنات
رفت عليها كل طل سجسج . . . من كل غض يانع الثمرات
ما بين خضر حدايق وخمايل . . . وجداول تفضى إلى دوحات
سرى النسيم بها يصافح زهره . . . فيهب وهو مورج النفحات(3/4)
"""""" صفحة رقم 5 """"""
وشدا لنا فيها مغن شادن . . . حاز المدا سبقاً إلى الغايات
طربت له القضب اللدن وبادرت . . . رجعا له تختال في بالحبرات
مرت عليه ركعاً لا كنها . . . جعلت تحيتها لدى الركعات
قصرت صلاة الخوف منه فقربت . . . فربانها وحفته بالزهرات
والعود مثناه يطابق زيها . . . في ردانات على رنات
إن جس مثلثه بأن بفنة . . . في اليم من ثقيلة النغمات
فكان ما غنت عليه الورق من . . . ألحانها ألقاه للقينات
عكفت على ألحانها تشأ ولنا . . . خلف الستاير باختلاف لغات فكأنها عجم تورات بالحجاب . . . ووددت سوراً من التورات
نطقت بأفصح نغمه في شدوها . . . تتلو علينا هذه الآيات
ومما أنشده ليلة ميلاد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
إذا لم أطلق نحو نجد وصولاً . . . بعثت الفؤاد إليها رسولاً
وكم حل قلبي رهيناً بها . . . غداة نوى الركب فيها النزولا
محل بها في الحلال إلى ضحى . . . أصبح القوم فيها حلولا
وكم بت فيها غداة النوى . . . أسح من العين دمعاً همولا
على شمس حسن سما ناظري . . . إليها وعنى توارت أقولا
وقفت بوادي الغضا ساعة . . . لعى أندب فيها الطلولا
وفي البان من أيكه ساجع . . . يرجع بالقضب منها الهديلا
بعمق الهوى يا حمام الحمى . . . ترفق بقلى المعنى قليلا
فقد هجت تالله أشواقه . . . بذكرك إلفا ثاني أو خليلا
ألم تدر أن ادكارى الهوى . . . يديب ويغنى الفؤاد العليلا
رعى الله تلك المطايا التي . . . إلى الحج وخداً سرت أو ذميلا
ويا عجبا كيف خفت بهم . . . وحملت القلب حملاً ثقيلاً
وود عنى الصبر إذ ودعوا . . . فما أن وحدت إليه سبيلا
وآثرت يا ويح نفسي المقام . . . وآثر أهل الوداد الرحيلا(3/5)
"""""" صفحة رقم 6 """"""
وجادوا رجا الرضا بالنفوس . . . وكنت بنفسي ضنيناً بخيلاً
ندمت على السير إذا فأتى . . . ولازمت حزنى دهرا طويلا
وفاز المخفون إذا يمموا . . . منازل آثارها لن تزولا
وحجوا وزاروا إلى الهدى . . . محمداً الهاشمي الرسولا
وفازوا بإدراك ما أملوا . . . ونالوا لديه الرضا والقبولا
ولو كنت في عزمهم مثلهم . . . إذا لانصرفت إليه عجولا
ولا كنني أثقلتنى الذنوب . . . وما كنت للثقل منها حمولاً
ركبت مطية جهل الصبا . . . وكانت أو أن التضابى ذلولا
ومالت بي النفس نحو الهوى . . . وقد وجدتني غراً جهولاً
فطربى لمن حل في طيبةً . . . وعرس بالسفح منها الحمولا
ونال المنى في منى عندما . . . نوى بالمنازل منها نزولا
وأصفى الضماير نحو الصفا . . . يؤمل للوصل فيه الوصولا
وجاء إلى البيت مستبشراً . . . ليطهر بالأمن فيه دخولا
وطاف ولبى بذاك الحما . . . ونال من الحجر قصداً وسولا
بلاد بها حل خير الورى . . . فطوبى لمن مال فيها الحلولا
نبى كريم سما رفعة وقدراً جليلاً ومجداً أصيلا
وكان لأمته رحمة بفض الشفاعة فيهم كفيلا
وكان رؤوفاً رحيماً لهم . . . عطوفاً شفيعاً عليهم وصولاً
له يفزعون إذا ما رأوا . . . لدى الحشر خسفاً وأمراً مهولا
وإن جاء في ذنبهم شافعاً . . . بدى الرحب من ربه والقبولا
له معجزات إذا عددت تفوت النهى وتكل العقولا
ولن يبلغ القول معشارها . . . وإن كان الوصف فيها مطيلا
وقس البيان وسحبانه يرى . . . ذهنه في مداها كليلا
تخبره الله في خلقه فكان الخطير لديه المثيلا(3/6)
"""""" صفحة رقم 7 """"""
ولم ير في الناس نداله ول . . . ا في الخلايق منه بديلا
وأبقى له الحكم في أرضه . . . فكان الأمين عليها الوكيلا
وكل ظلام وطلم بها على الفور لما أتى قد أزيلا
وكانت كنار لظى فتنة فعادت من المن ظلاً ظليلاً
وقد زان حسن الدجا جيله . . . إذا ذكر الدهر جيلاً فجيلاً
وأيامه غررر قد بدت بوجه . . . الدنا والليالي حجولاً
رسول كريم إذا جيته . . . ويممت مغناه تلقى القولا
بمولده في زمان الربيع . . . ربيع أنانا يجر الذيولا فأهلا به الآن من زاير . . . أنانا بفضل يفوق الفضولا
وقام الإمام به المرتضى . . . فنال ثواباً وأجراً جزيلا
هو السمتعين أبو سالم مليك . . . ترفع قدراً جليلاً
وحاز من الصيت ذكراً أثيراً . . . ومن كرم الخيم مجداً أثيلا
سليل على غمام الندى . . . ألا أيد الله ذالك السليلا
فتى أوسع الناس من جوده . . . عطاً جزيلاً وبراً حفيلاً
حلاه الوقار ولاقيه إذا . . . ارتاح للجود يلفى عجولاً
وقد شاع عنه جميل الثنا . . . وعم البسيطة عرضاً وطولا
وما من بالوعد إلا وفى . . . فلم يك بالوعد يوماً مطولا
ولا في علاه مغالٍ لمن . . . يكثر في الملك قالاً وقيلا
تفرد بالفضل في عصره . . . وكان بعرف الأيادي كفيلا
أطاعت له حين وافى البلاد . . . رضى عندما حل فيها حلولا
وجا لطاعته أهلها سراعاً . . . يرومون فيها الدخولا
فيه قدر الموإلى بها . . . وأكسف فيها المعادى خمولاً
ومهد بالأمن أفكارها وأمن بالعدل فيها السبيلا
وكف أكف التعدي بها . . . فلا يظلم الناس فيها فتيلا
وعصر الكروب الذي قد مضى . . . زمان المسرات منه أديلا(3/7)
"""""" صفحة رقم 8 """"""
أنانا إلى الغرب في شوكةٍ . . . بها عاد جمع الأعادي قليلاً
وفوق رؤوس الطغاة انتضى . . . حساماً ليسمع فيها صليلاً
وجرد من عزمه مرهفاً . . . لحسم أمور المناوى صقيلا
وكل كفور معادلة . . . سيأخذه الله أخذاً وبيلا
أعز الخلايق لما ولى . . . ونوه من كان منهم ذليلا
وراعى لمن جاءه داخلاً حماه من القاصدين الدخيلا
فكان بأفعاله قصده إلى . . . منهج الفضل قصداً جميلا
وصح انتعاش المعالي به . . . وقد كان شخص المالي عليلاً
وشيد مبنى العلا بالندى . . . ووثقه خشية أن يميلا
ينيل ويعطى جزيل العطا . . . فما زال أخرى الليالي منيلا
ودام مدى الدهر في رفعة . . . تثير من الحاسدين الغليلا
ولا برح السعد في بابه . . . يوم به مربعاً أو مقيلا
محمد المكودى
من أهل فاس يكنى أبا عبد الله
حاله
من ' الإكليل ' : شاعر لا يتعاطى ميدانه ، مرعى بيان ورف عضله ، وأينع سعدانه ، يدعو الكلام فيهطع لداعيه ، ويسعى في اجتلاب المعاني فتنجح مساعيه . غير أنه أفرط في الانهماك ، وهوى إلى السمكة من أوج السماك . وقدم على هذه البلاد مفلتاً من رهق تلمسان حين الحصار ، صفر اليمين ، واليسار من اليسار ، ملئ هوى أنحى على طريفه وتلاده ، وأخرجه من بلاده .(3/8)
"""""" صفحة رقم 9 """"""
ولما ' جد به ' البين ، وحل هذه البلاد ' بحال تقبحها العين ' والسيف بهزته ، لا بحسن بزتة ، دعوته إلى مجلس ، أعاره البدر هالته ، وخلع عليه الأصيل غلا لته ، وروض تفتح كمامه ، وهما عليه غمامه ، وكاس أنس تدور ، فتتلقى نجومها البدور . فلما ذهبت المؤانسة بخجله ، وتذكر هواه ، ويوم نواه ، حتى خفنا حلول أجله ، جذبنا للمؤانسة زمامه ، واستقينا منها غمامه ، فأمتع وأحسب ، ونظر ونسب ، وتلكم في المسائل ، وحضر بطرف الأبيات ، وعيون الرسايل ، حتى نشر الصباح رايته ، واطلع النهار آيته .
ومما أنشدنا ونسب لنفسه :
غرامي فيك جل عن القياس . . . وقد أسقيتنيه بكل كاس
ولا أنسى هواك ولو جفاني . . . عليك أقاربي طرا وناس
ولا أدرى لنفسي من كمال سوى . . . أنى لعهدك غير ناس
وقال في غرض معروف :
بعثت بخمرٍ فيه ماء وإنما . . . بعثت بما فيه رايحة الخمر
فقل عليه الشكر إذا قل سكرنا . . . فنحن بلا سكر وأنت بلا شكر
ومما خاطبني به :
رحماك بي فلقد خلدت في خلدي . . . هوى أكابد منه حرة الكبد
حللت عقد سلوى في فؤادي . . . إذ حللت منه محل الروح في جسد مرآك بدري وذكراك التذاذ فمي . . . ودين حبك أضماري ومعتقدي
ومن جمالك نور لاح في بصري . . . ومن ودادك روح حل في خلدي
لا تحسبن فؤادي عنك مصطبر . . . فقبل حبك كان الصبر طوع يدي
وهاك جسمي قد أودى النحول به . . . فلو طلبت وجوداً منه لم تجد(3/9)
"""""" صفحة رقم 10 """"""
بما بطرفك من غنج ومن حور . . . وما بثغرك من در ومن برد
فقال لي قد جعلت القلب لي وطناً . . . وقد قضيت على الأجفان بالسهد
وكيف تطلب عدلاً والهوى حكم . . . وحكمه قط لم يعدل على أحد
من لي بأغيد لا يرثى إلى شجن . . . وليس يعرف ما يلقاه ذو كمد
ما كانت من قبل إذ عانى لصولته . . . أخال أن الرشا يسطو على الأسد
إن جاد بالوعد لم تصدق مواعده . . . فإن قنعت بزور الوعد لم يعد
شكوته علتي منه فقال الأمر للطبيب فما برء الضنا بيدي
فقلت إن شئت برني أو شفا ألمى . . . فبار تشاف لماك الكوثري جد
وإن بخذت فلى مولى يجود على . . . ضعفى ويبرى ما أضنيت من جد
وخرج إلى المدح فأطال
المقرئون والعلماء - الأصليون منهم محمد بن أحمد بن عبد الله بن يحيى بن عبد الرحمن بن يوسف بن جزي الكلبي
يكنى أبا القاسم من أهل غرناطة وذوي الأصالة والنباهة فيها ، شيخنا رحمة الله عليه
أوليته
أصل سلفه من ولمة من حصون البراجلة ، نزل بها أولهم عند(3/10)
"""""" صفحة رقم 11 """"""
الفتح صحبة قريبهم أبى الخطار حسام بن ضرار الكلبي ، وعند خلع دعوة المرابطين ، وكانت لجدهم بجيان رياسة وانفراد بالتدبير .
حاله
كان رحمه الله ، على طريقة مثلى من العكوف على العلم . والاقتصاد على الاقتيات من حر النشب ، والاشتغال بالنظر ، والتقييد والتدوين فقيها حافظاً ، قايماً على التدريس ، مشاركاً في فنون ' من ' العربية ، والفقه ، والأصول ، والقراءات ، والحديث ، والأدب ، حفظه للتفسير مستوعباً للأقوال ، جماعة للكتب ، ملوكى الخزانة . حسن المجلس ، ممتع المحاضرة ، قريب الغور ، صحيح الباطن . تقدم خطيباً بالمسجد الأعظم من بلده على حداثة سنة ، فاتفق على فضله ، وجرى على سننن أصالته .
مشيخته
قرأ على الإستاذ أبى جعفر بن الزبير ، وأخذ عنه العربية والفقه والحديث والقرآن . وروى أبي الحسن بن مستقور . وقرأ القرآن على الأستاذ المقرى الراوية المكثر أبي عبد الله بن الكماد ، ولازم الخطيب أبا عبد الله بن رشيد ، وسمع على الشيخ الوزير أبى محمد عبد الله بن أحمد أبن المؤذن ، وعلى الراوية المسن أبى الوليد الحضرمي . يروي عن سهل بن مالك وطبقته . وروى عن الشيخ الراوية أبى زكريا البرشاني ، وعن الراوية الخطيب أبى عبد الله محمد بن محمد بن علي الأنصاري ، والقاضي أبى المجد بن أبى على بن أبى الأحوض ، والقاضي أبى عبد الله بن برطال ، والشيخ الوزير ابن أبى عامر بن ربيع ، والخطيب الولى أبى عبد الله الطنجالي ، والأستاذ النظار المتفنن أبى القاسم قاسم بن عبد الله بن الشاط . وألف الكثير في فنون شتى .
تواليفه
منها كتاب ' وسيلة المسلم في تهذيب صحيح مسلم ' وكتاب ' الأنوار السنية في الكلمات السنية ' وكتاب ' الدعوات والأذكار المخرجة من صحيح(3/11)
"""""" صفحة رقم 12 """"""
الأخبار ' وكتاب ' القوانين الفقهية في تلخيص مذهب المالكية ' ' والتنبيه على مذهب الشافعية والحنفية والحنبلية ' وكتاب ' تقريب الوصول إلى لعم الأصول ' وكتاب ' النور المبين في قواعد عقايد الدين ' وكتاب ' المختصر البارع في قراءة نافع ' وكتاب ' أصول القراء الستة غير نافع ' وكتاب ' الفوايد العامة في لحن العامة ' ، إلى غير ذلك مما قيده في التفسير والقراءات وغير ذلك . وله فهرسة كبيرة . اشتملت على جملة من أهل المشرق والمغرب .
شعره
قال في الأبيات الغينية ذاهباً مذهب الجماعة كأبي العلاء المعري . والرييس أبي المظفر ، وأبي الطاهر السلفى ، وأبي بالحجاج بن الشيخ ، وأبي الربيع بن سالم ، وأبي علي بن أبي الأحوص ، وغيرهم ، كلهم نظم في ذلك :
لكل بني الدنيا مراد ومقصد . . . وإن مرادي صحة وفراغ
لأبلغ في علم الشريعة مبلغاً . . . يكون به لي للجنان بلاغ وفي مثل هذا فلينافس أولو النهى . . . وحسبي من الدنيا الغرور بلاغ
فما الفوز إلا في نعيم مؤيد . . . به العيش رغد والشراب يساع
وقال في الجناب النبوى :
أروم امتداح المصطفى وبردنى . . . فصورى عن إدراك تلك المناقب
ومن لي بحصر البحر والبحر زاخر . . . ومن لي بإحصا الحصا والكواكب
ولم أن إعضائى غدت ألسنا إذا . . . لم بلغت في المدح بعض مآرب(3/12)
"""""" صفحة رقم 13 """"""
ولو أن كل العالمين تألفوا على . . . مدحه لم يبلغوا بعض واجب
فأمسكت عنه هيبة وتأدباً . . . وخوفاً وإعظاماً لأرفع جانب
ورب سكوت كان فيه بلاغه . . . ورب كلام فيه عتب لعاتب
وقال رحمه الله مثفقاً من ذنبه :
يا رب إن ذنوبي اليوم قد كثرت . . . فما أطيق لها حصراً ولا عدداً
وليس لي بعذاب النار من قبل . . . ولا أطيق لها صبراً ولا جلداً
فانظر إلهي إلى ضعفى ومسكنتي . . . لا تذيقني حر الجحيم غدا
وقال في مذهب الفخر :
وكم من صفحة كالشمس تبدو . . . قيسلى حسن قلب الحزين
غضضت الطرف عن نظرى إليها . . . محافظة على عرضى وديني
وفاته
فقد وهو يشخد الناس ويحرضهم ، ويثبت بصايرهم ، يوم الكاينة بطريف ، ضحويوم الإثنين السابع لجمادى االإلى عام أحد وأربعين وسبعماية ، تقبل الله شهادته . عقبه ظاهر بين القضاء والكتابة .
محمد بن أحمد بن فتوح بن شقرال اللخمى
شرقي الأصل من سكان غرناطة ، يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بالطرسونى(3/13)
"""""" صفحة رقم 14 """"""
حاله
نقلت من خط شيخنا أبي البركات بن الحاج ، أمتع الله به كنى نفسه أبا عبد الرحمن ، ودعى بها وقتاً ، وكوتب بها . وكان له ابن سماه عبد الرحيم ، فقلنا له سمه عبد الرحمن ، ليعضد لك الكنية التي اخترت ، فأبى . كان هذا الرجل قيماً على النحو والقراءات واللغة ، مجيداً في ذلك ، محكماً لما يأخذ فيه منه ، وكانت لديه مشاركة في الأصلين والمنطق ، طمح إليهما بفض نباهته وذكايه ، وشعوره بمراتب العلوم ، دون شيخ أرشده إلى ذلك . يجمع إلى ماذكر خطا بارعاً ، وظرفاً وفكاهة ، وسخا نفس ، وجميل مشاركة لأصحابه . بأقصى مايستطيع . وكان صناع اليدين يرسم بالذهب ، ويسفر ويحكم عمل التراكيب الطيبة . وعلى الجملة فالرجل من أجل نبلاء عصره ، الذين قل أمثالهم .
مشيخته
أخذ القراءات عن الشيخ الأستاذ ' أبي الحسن ' ابن أبي بالعيش ، وبه تفقه ببلده المراية . وقرأ على الأستاذ أبي بجعفر بن الزبير ، والخطيب أبي جعفر بن الزيات ، والراوية أبي بالحسن بن مستقور ، والولى أبي عبد الله الطمجالي ، وصهره الخطيب أبي تمام غالب بن حسن بن سيدبونه ، والخطيب أبي الحسن القيجاطي ، والخطيب المحدث أبي عبد الله بن رشيد وغيرهم .
شعره
من شعره قوله :
إذا قذفت بي حيثما شاءت النوى . . . ففي كل شعب لي إليك طريق
وإن أنا لم أبصر محياك باسماً . . . فإنسان عيني في الدموع غريق
فإن لم تصل كفى بكفك وافياً . . . ' فأسمال أحبابى لدى فتوق '
محنته
أحظاه وزير الدولة أبو عبد الله ابن المحروق ، واختصه ، ورتب له بالحمراء جراية ، وقلد نظره خزانة الكتب السلطانية . ثم فسد ما بينهما ، فاتهمه ببراءات كانت تطرح بمذامه بمسجد البيازين ، وترصد ما فيها ، فزعم أنه هو الذي طرحها بمحراب المسجد ، فقبض عليه واعتقل ثم جلاه إلى إفريقية .(3/14)
"""""" صفحة رقم 15 """"""
وفاته
ولما بلغته بإفريقية وفاة مخيفة ، كر راجعاً إلى الأندلس ، فتوفي في طريقه ببونه ، من بلاد العناب أو بأحوازها في أواخر عام ثلاثين ، أو أقرب من الأواخر وسبعماية .
محمد بن جابر بن يحيى بن محمد بن ذي النون التغلبي
ويعرف بابن الرمالية ، من أهل غرناطة ، ويعرف خلفه الآن ، ببني مرزبة ، ولهم أصالة وقدم وجدة .
حاله
فقيه ، نبيه ، نبيل ، ذكي ، عنده معرفة بالفقه والأدب والعربية ، حسن المشاركة والمحاضرة ، حاضر الذهن ، ذاكر لما قرأه .
مشيخته روى عن الإمام أبي بكر بن العربي . قال أبو القاسم الملاحي ، وحدثني سنة أربع وسماية ، قال حدثني الإمام أبو بكر بن العربي رضي الله عنه ، قال حدثني محمد بن عبد الملك السبتي ، قال خرجت مع أبي الفضل الجزيري مشيعين لقافلة الحاج من بغداد ، ومودعين لها من الغد ، وحين أصبحنا أثيرت الجمال ، وفرض الناس الرحال ، ونحن بموضع يعرف بجب عميرة ، إذا بفتى شاحب اللون ، حسن الوجه ، يشيع الرواحل ، راحلة بعد أخرى ، فنيت ، ومشى الحاج ، وهو يقول في أثناء تردده ونظره أليها :
أحجاج بيت الله في أي هودج . . . وفي أي بيت من بيوتكم حبى
أأبقى رهين القلب في أرض غربة . . . وحاديكم يحدو فؤادي مع الركب
قول أسفاً لم أقض منكم لبانتي . . . ولم أتمتع بالسلام وبالقرب
وفرق بيني بالرحيل وبينكم . . . فها أنذا أقضي على إثركم نحبي
يقولون هذا آخر العهد منكم . . . فقلت وهذا آخر العهد من قلب
قال ، فلما كمل الحج المشى . وانقطع رجاؤه ، وجعل يخطو هايماً ، وهو ينشد ، ثم رمى بنفسه إلى الأرض وقال :
خل دمع العين ينهمل . . . بأن من تهواه وارتحل
أي دمع صاله كلف . . . فهو يوم البين ينهمل(3/15)
"""""" صفحة رقم 16 """"""
قال ، ثم مال على الأرض ، قبادرنا إليه فوجدناه ميتاً ، فحفرنا له لحداً ، وغسلناه كفناه في رداء وصلينا عليه . ودفناه .
وفاة المترجم به سنة خمسين وستماية
محمد بن محمد بن يبش العبدري
من أهل غرناطة ، يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بابن بيبش
حاله
كان خيراً ، منقبضاً ، عفا ، متصاوناً ، مشتغلاً بما يعنيه . مضطلعاً بالعربية ، عاكفا عمره على تحقيق اللغة ، مشاركاً في الطب . متعيشاً من التجارة في الكتب . أثرى منها ، وحسنت حاله . وانتقل إلى سكنى سبتة ، إلى أن حططت بها رسولاً في عام اثنتين وخمسين وسبعماية . فستدعيته ونقلته إلى بلده ، فقعد للاقراء به إلى أن توفي .
وجرى ذكره في بعض الموضوعات الأدبية بما نصه : معلم مدرب ، مسهل مقرب ، له في صنعة العربية باع مديد ، وفي هدفها سهم سديد ، ومشاركة في الأدب ، لايفارقها تسديد ، خاصى المنازع ، مختصرها ، مرتب الأحوال ، مقررها ، تميز لأول وقته بالتجارة في الكتب ، فسلطت عليها منه أرضة آكلة ، وسهم أصاب من رميتها شاكلة ، أترب بسببها وأثرى ، وأغنى جهة ، وأفقر أخرى ، وانتقل لهذا العهد الأخير إلى سكنى غرناطة مسقط رأسه ، ومنبت غرسه ، وجرت عليه جراية من أحباسها ، ووقع عليه قبول من ناسها ، وبها تلاحق به الحمام ، فكان من ترابها البداية وإليه التمام . وله شعر لم يقصر فيه عن المدا ، وأدب توشح بالإجادة وارتدى .
مشيخته
قرأ على شيخ الجماعة ببلده أبي جعفر بن الزبير ، وعلى الخطيب أبي عبد الله بن رشيد ، والوزير أبي محمد بن المؤذن المرادي ، والأستاذ عبد الله بن الكماد ، وسمع على الوزير المسن أبي محمد عبد المنعم بن سماك . وقرأ بسبتة على الأستاذ أبي إسحاق الغافق .(3/16)
"""""" صفحة رقم 17 """"""
شعره
أنشدني بدار الصناعة السلطانية من سبتة تاسع جمادى الأولى من عام اثنين وخمسين المذكور ، عند توجهي في غرض الرسالة إلى السلطان ملك المغرب ، قوله يجيب عن الأبيات المشهورة ، التي أكثر فيها الناس وهي :
يا ساكنا قلبي المعنى . . . وليس فيه سواك ثان
لأي معنى كسرت قلبي . . . وما ألتقى فيه ساكنان
تحلتني طايعاً فؤاداً . . . فصار إذ حزته مكان
لاغرو إذا كان لي مضافاً . . . اني على الكسر فيه بان
وقال يخاطب أبا العباس عميد سبتة ، أعزه الله ، وهي مما أنشدنيه في التاريخ المذكور ، وقد أهدى إليه أقلاماً :
أنا ملك الغر التي سيب جودها . . . يفيض كفيض المزن بالصيب القطر
أتتنى منها تحفة مثل عدها إذا . . . انتضيت كانتكمرهفة السمر
هي الصفر لاكن تعلم البيض انها . . . محكمة فيها على النفع والضر
مهذبة الأوصال ممشوقة كما . . . تصاع سهام الرمى من خالص التبر
فقبلتها عشراً ومثلث أنى . . . ظفرت بلثم في أناملك العشر
وأنشدني في التاريخ المذكور في ترتيب حروف الصحاح قوله :
أساجعة بالواديين تبوئى . . . ثماراً جنتها حاليات خواضب دعى ذكر روض زاره سقى شربه . . . صباح ضحى ' طير طما ' عصايب
غرام فؤادي قاذف كل ليلة . . . متى مانأى وهنا هواه يراقب(3/17)
"""""" صفحة رقم 18 """"""
ومن مطولاته ما رفعه على يدي السلطان وهو قوله :
ديار خطها مجد قديم . . . وشاد بناءها شرف صميم
وحل جنابها الأعلى علاً . . . يقصر عنه رضوى أو شميم
سقى نجداً بها وهضاب نجد . . . عماد ثرة وحياً تميم
ولا عدمت رباه رباب مزن . . . يغادى روضهن ويستديم
فيصبح زهرها يحكى شذاه . . . فتيت المسك يذكيه النسيم
وتنشره الصبا فتريك دراً . . . نشيراً خانه عقد نظيم
وظلت في طلال الأيك تشدو . . . مطرقة لها صوت رخيم
ترجع في الغصون فنون شجع . . . بألحان لها يصبو الحليم
أهم بملتقى السوادى تجد . . . وليس سواه في واد أهيم
وكنت صرفت عنه النفس كرها . . . وما برحت على نجد تحوم
له بيت سما فوق الثريا . . . وعز لايخيمولايريم
تبوأ من بني نصر علاها . . . وأنصار للنبي له أروم
أفاض على الوررى نيلاً وعدلاً . . . سواء فيه مثرٍ أوعديم
ملاذ للملوك إذا ألمت . . . صروف الدهر أو خطب جسيم
تؤمله فتامن في ذراه . . . وتدنو من علاه فيستقيم
ويبدو في ندى الملك بدراً . . . تحف به الملوك وهم نجوم
يوجه يوسفى الحسن طلق . . . يضى بنوره الليل البهيم
وتلقاه للعافة له ابتسام . . . ومنه للعدى أخذ للييم(3/18)
"""""" صفحة رقم 19 """"""
فيا شرف الملوك لك انقطاعي . . . وإني في محلكم خديم
وآمالي أملت لمليك حتى . . . وردن على نداك وهن هيم
فللظماورودك خير ورد . . . نمير ماؤه عذب جيم
ولا أضحى وفي معناك ظل . . . ظليل حين تحندم السموم
ركبت البحر نحوك والمطايا . . . تسير لها ذميل أو رسيم
وإن علاك إن عطفت بلحظ . . . على فذلك العز المقيم
فوا أسفى على عمر تقضي . . . بدارٍ ليس لي فيه حميم
سوى ثمر للفؤاد ذهبت عنه . . . وبين جوانحي منه كلوم
ودون لقابها عرض الفيافي . . . ونجد موجه طود عظيم
لعل الله ينعم باجتماع . . . وينظم شلنا اليسر الرحيم
بقيت بغبطة وقرارعن . . . يملك سعده أبداًيدوم
كما دامت حلى الأنصار تتلى . . . يشيد بذكرها الذكر الحكيم
عليك تحية عطر شذاها . . . تعرف الروض جادته الغيوم
مولده بغرناطة في رجب ثمانين وستماية . وتوفي عام ثلاثة وخمسين وسبعماية ، ودفن بباب البيرة ، وتبعه من الناس ثناء حسن ، رحمه الله .
محمد بن محمد النمري الضرير
من أهل غرناطة ، يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بنسبه
حاله
من عايد الصلة : كان حافظاً للقرآن ، طيب النغمة به ، طرفاً في ذلك من أهل المشاركة في العلم ، واعظاً بليغاً ، أستإذا يقوم على العربية قيام تحقيق ، ويستحضر الشواهد من كتاب الله ، وخطب العرب وأشعارها ، بعيد العرين في ذلك ، آخذاً في الأدب ، حفظة للأناشيد والمطولات ، بقية حسنة ممتعة .(3/19)
"""""" صفحة رقم 20 """"""
مشيخته
قرأ على الأستاذ أبى عبد الله بن الفخار الأركثى وبه تأدب ، ولازمه كثيراً ، فانتفع به .
شعره
مما صدر به رسالة لزوجه وهو نازح عنها ببعض البلاد . فقال :
سلام كرشف الطل في مييم الورد . . . وسيل نسيم الريح بالقضب الملد
سلام كما ارتاح المشوق مبشراً . . . برويا من يهواه من دون مما وعد
سلام كما يرضى المحب حبيبه من . . . الجد في الإخلاص والصدق في الوعد
سلام وتكريم وبر ورحمة . . . بقدر مزيد الشوق أو منتهى الود
على ظبية في الأنس مرتعها الحشا . . . فتدوى إليه لا لشيح ولا ررند ومن أطلع البدر التمام جبينهايرى . . . تحت ليلٍ من دجا الشعر مسود
وثغر أقاحٍزانه سمط لؤلؤ . . . يجب به المررجان في أحكم النضد
يجول به سلسال راحٍ معتق . . . حمته ظبا الألحاظ صوناً عن الورد
فلله عينا من رأى بدر أسعد . . . وروضة أزهار علت غصن القد
وبشرى لصب فاز منها بلمحة . . . من القرب بشراه بمستكمل السعد
وأضحى هواها كامناً بين أضلعي . . . كمزن خفي النار في باطن الزند
وراحت فراح الروح إثر رحلها . . . وودعت صبرى حين ودعها كبد
وصارت لي الأيام تبدو ليالياً . . . وقد كان ليل الوصل صبحاً بها يبد
فساعاتها كالدهر طولاً وطالما . . . حكى الدهر ساعات بها قصراً عندي
ومنها :
ترى قلبها هل هام مني بمثل ما . . . بقلبي من الحب الملازم والوجد
وهل ترعى ذمتي ومودتي كما . . . أنا أرعاها على القرب والبعد(3/20)
"""""" صفحة رقم 21 """"""
إليك خطابي والحديث لغايب . . . كنيت بلفظي عن مغيبك بالعمد
عليك سلامي إني متشوق . . . للقياك لي أو من جوابك بالرد
توفي ببغرناطة تحت جراية من أمرايها ، لاختصاصه بقراءة القرآن على قبورهم ، في التاسع عشر من شعبان عام ستة وثلاثين وسبعماية .
محمد بن عبد الولى الرعيني
من أهل غرناطة ، يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بالعواد
حاله
من ' عايد الصلة ' : الشيخ المكتب ، والأستاذ الصالح ، سابق الميدان وعلم أعلام القرآن ، في إتقان تجويده ، والمعرفة بطرق روايته ، والاضطلاع بفنونه ، لايشق غباره ، ولايتعاطى طلقه ، ولا تأتي الأيام بمثله . تستقصر بين يديه مدارك الأعلام ، وتظهر سقطات الأيمة . مهتدياً إلى مكان الحجج على المسايل . مصروف عنان الأشغال إليه ، مستنداً إلى نغمةٍ رخيمة ، وإتقان غير متكلف ، وحفظ غزير ، وطلب إلى التصدر للإفراد ، فأبى لشدة انقباضه . فنبهت بالباب السلطاني على وجوب نصيه للناس ، فكان ' ذلك ' في شهر شعبان من عام وفاته ، فانتفع به . وكان أدأب الناس على سنة ، والزمهم لميقات ورد . يجعل جيرانه حركته إلى ذلك ليلاً . ميقاتاً لايختلف ولا يكذب ، في ترحيل الليل . ' شديد الطرب ' مليح الترتيب ، لاتمر به ساعة ضياعاً ، إلا وقد عمرها بشأن ديني ، أو ديناوي ، ضروى مما يسوغه الورع ، يلازم المكتب ، ناصح التعليم ، مسوياً بين أبناء النعم ، وحلفاء الحاجة ، شامخ الأنف على أهل الدنيا ، تغص السكك عند ترنمه بالقرآن ، مساوقاً لتلاوة التجويد ، ومباشراً أيام الأخمسة والأثانين ، العمل في مويل كان له ، على طريقة القدماء من الإخشيشان عند المهن ونقل آلة الخدمة ، غير مفارق للظرف والخصوصية . ويقرأ أيام الجمعات ، كتب الوعظ والرقايق على أهله ، فيصغى إليه الجيران ، عداة لاتختلف . وكان له لكل عمل ثوب ، ولكل مهنة زي ، ما رأيت أحسن ترتيباً منه . وهو أستاذي وجاري الألصق ، لم أتعلم الكتاب العزيز إلا في مكتبه . رحمة الله عليه .
مشيخته
قرأ على بقية المقريين الأستاذ أبى جعر بن الزبير ، ولازمه وانتفع به ، وعلى الأستاذ أبى جعفر الجزيري الضرير ، وأخذ عن الخطيب المحدث أبى عبد الله بن رشيد .(3/21)
"""""" صفحة رقم 22 """"""
مولده : في حدود عام ثمانين وستماية .
وفاته . توفي رحمة لله عليه في الموفى ثلاثين لذي قعدة من عام خمسين وسبعماية .
محمد بن علي بن أحمد الخولاني
بكنى أبا عبد الله أصله من مجلقر ويعرف بابن الفخار وبالبيرى ، شيخنا رحمه الله
حاله من ' عايد الصلة ' : أستاذ الجماعة ، وعلم الصناعة ، وسيبويه العصر ، وآخر الطبقة من أهل هذا الفن ، كان رحمه الله فاضلاً ، تقياً منقبضاً . عاكفاً على العلم ، ملازماً للتدريس ، إمام الأيمة من غير مدافع ، مبرزاً أمام أعلام البصريين من النحاة ، منتشر الذكر ، بعيد الصيت عظيم الشهرة ، مستجر الحفظ ، يتفجر بالعربية تفجر البحر ، ويسترسل استرسال القطر ، قد الطت دمه ولحمه ، لايشكل عليه منها مشكل ، ولا يعوزه توجيه ، ولاتشذ عنه حجة . جدد بالأندلس ما كان قد درس من لسان العرب ، من لدن وفاة أبي على الشلوبين ، مقيم السوق على عهده . وكانت له مشاركة في غير صناعة العربية من قراءات وفقه ، وعروض ، وتفسير . وتقدم خطيباً بالجامع الأعظم ، وقعد للتدريس بالمدرسة النصرية ، وقل في الأندلس من لم يأخذ عنه من لطلبة . واستعمل في السفارة إلى العدوة ، مع مثله من الفقهاء فكانت له حيث حل الشهرة وعليه الازدحام والغاشبة ، وخرج ، ودرب ، وأقرأ ، وأجاز ، لايأخذ على ذلك ' أجراً ' وخصوصاً فيما ' دون ' البداية ، إلا الجراية المعروفة ، مقتصداً في أحواله ، وقوراً ، مفرط الطول ، نحيفاً ، سريع الخطو ، قليل الالتفات والتعريج ، متوسط الزي ، متبذلاً في معالجة مايتملكه بخارج البلد ، قليل الدهاء والتصنع ، غريب النزعة ، جامعاً بين الحرص والقناعة .(3/22)
"""""" صفحة رقم 23 """"""
مشيخته
قرأ بسبتة على الشيخ الإمام أبي إسحاق الغافقى ، ولامه كثيراً ، وأخذ عنه ، وأكثر عليه . وقرأ على الإمام الصالح أبي عبد الله بن حريث ، والمقرررى الشريف الفاضل أبي العباس الحسنى ، والشيخ الأستاذ النظار أبي القاسم بن الشاط . وأخذ عن الخطيب المحدث أبي عبد الله بن رشيد . والقاضي أبي عبد الله بن القرطبي وغيرهم . وهو أستاذي ، قرأت عليه القرآن ، وكتابي الجمل والإيضاح ، وحضرت عليه دولاً من الكتاب ، ولازمته مدة ، وعاشرته ، وتوجه صحبتي في الرسالة إلى المغرب .
توفي بغرناطة ليلة الإثنين الثاني عشر من رجب عام أربعة وخمسين وسبعماية ، وكانت جنازته حالفة . وخمدت قرايح الآخذين عنه ، ممن يدلى دلو أدب . فيأتي بماء أو حماة ، على كثرتهم ، تقصيراً عن الحق ، وقدحاً في نسب الوفاء ، إلا ما كان من بعض من تأخر أخذه عنه . وهو محمد بن عبد الله اللوشي ، فإنه قال : وعين هذه الأبيات قراها :
ويوم نعى الناعي شهاب المحامد . . . تغيرت الدنيا لمصرع واحد
فلا عذر للعينين إن لم تسايحا . . . بدمع يحكاكي الوبل يشفى لواحد
مضى من بني الفخار أفضل ماجد . . . جميل المساعي للعلا جد شاهد
طواه الردى ماكل حي يهابه . . . وما ورده عاراً بشين لوارد
لقد غيبت منه المكارم في بالثرى . . . غداة نوى وانسد باب الفوايد
فياحاملي أعواده ما علمتم بسؤدده الجم الكريم المحاند
وياحفرة خطت له اليوم مضجعاً . . . سقتك الغوادي الصادقات الرواعد
إلا ياحمام الأيك ساعدني بالبكا . . . على لم الدنيا وزين المشاهد(3/23)
"""""" صفحة رقم 24 """"""
على أني لو استطعت الفداء فديته . . . بأنفس آل من طريف وتالد
محمد ماللنعمى لموتك غضة . . . توقف ولا ماء الحياة ببارد
وكيف وباب العلم بعدك مغلق . . . ومورده المتروك بين الموارد
أأستاذنا كنت الرجا لآمل . . . فأصبحت مهجور الفنا لقاصد
فلا تبعدن شيخ المعارف والحجا . . . ليس الذي تحت التراب بباعد
لتبك العلوم بعدك شجوها . . . وبقفر لها ربع العلا والمعاهد
ليبك عليك الجود والدين والتقا . . . وحسب البكا أن صرت ملحود لاحد
أولاي من للمشكلات يبينها . . . فيجلى عمى كل القلوب الشواهد
ومن ذا يحل المقفلات صعابها . . . ومن ذا الذي يهدي السبيل لحايد
فياراحلا عنا فزعنا لفقده . . . لقد أونست منك القبور بوافد
وبالكوكبا غال النهار ضياءه . . . وشيكاً وهل هذا الزمان بخالد
سأبكيك ما لاحت بروق لشايم . . . وأرعاك ما كان الغمام بعابد
عليك سلام الله ما دامت الصبا . . . يغصنٍ في الأراكة مايد ' قلت : العجب من الشيخ ابن الخطيب . كيف قال ، وخمدت قرايح الآخذين عنه ، وهو من أجل من أخذ عنه ، حسبما قرره آنفاً ، بل أخص من ذلك ، المعاشرة(3/24)
"""""" صفحة رقم 25 """"""
والسفارة للعدوة . وهو مع ذلك أقدرهم على هذا الشأن ، وأسخاهم قريحة في هذا الميدان ، وإن أتى غيره بماء أوحمأة ، أتى هو بالبحر الذي لاساحل له . ولعمري لو قام هو بما يجب من ذلك ، لزال القدح في نسب وفاء الغيرر ، فعين مانسبه من التقصير عن الحق في ذلك ، متوجه عليه ، ولاحق له ، ولايبعد عنده أن يكون وقع بينهما ما أوجب إعراضه مما يقع في الأزمان ، ولاسيما بين أهل هذا الشأن ، فيكون ذلك سبباً في إعراض الغير مشياً في غرضه ، ومساعدة له . والله أعلم بحقيقة ذلك كله '
محمد بن علي بن محمد البلنسى
من أهل غرناطة ، يكنى أبا عبد الله
حاله
طالب هش ، حسن اللقاء عفيف النشأة ، مكب على العلم ، حريص على استفادته ، مع زمانةٍ أصابت يمنى يديه ، نفعه الله . قيد بأختها وانتسخ ، قايم على العربية والبيان ، ذاكر الكثير من المسائل ، حافظ متقن ، على نزعه عربية ، من التجاذع في المثى ، وقلة الالتفات إلا بجملة ، وجهورية الصوت ، متحل بسذاجة ، حسن الإلقاء والتقرير ، مت للمتغلب على الدولة بضن ، أفاده جاها واستعمالاً في خطة السوق ، ثم اصطناعاً في الرسالة إلى ملك المغرب ، جر عليه آخر النكبة ، وقاد المحنة ، فأرصد له السلطان أبو عبد الله في أخرياتها ، رجالاً بعثهم من رندة ، فأسروه في طريقه ، وقدموا به سليباً ، قدوم الشهرة والمثلة ، موقناً بالفتل . ثم عطف عليه حنيناً إلى حسن تلاوته في محبسه ليلاً ، فانتاشه لذلك من هفوة بعيدة ونكبة مبيرة . ولما عاد لمكله ، أعاده للإقراء .
مشيخته
جل انتفاعه بشيخ الجماعة أبي عبد الله الفخار ، لازمه وانتفع به ، وأعاد دول تدريسه ، وقرأ على غيره . وألف كتاباً في تفسير القرآن ، متعدد الأسفار ، واستدرك على السهيلي في أعلام القرآن كتاباً نبيلاً ، رفعه على يدي للسلطان . وهو من فضلاء جنسه ، أعانه الله وسدده .
ابن عبد الرحمن بن بقى
محمد بن سعد بن محمد بن لب بن حسن ابن حسن بن عبد الرحمن بن بقى
، يكنى أبا عبد الله ، ويعرف باسم جده(3/25)
"""""" صفحة رقم 26 """"""
أوليته
كان القاضي العدل أبو عبد الله بن هشام ، قاضي الجماعة بالأندلس يجل سلفه ، وبنسبة إلى بقي بن مخلد ، قاضي بالخلافة بقرطبة . وابن هشام ممن يحتج به .
حاله
هذا الرجل فاضل ، حسن الخلق ، جميل العشرة ، كريم الصحبة ، مبذول المشاركة ، معروف الذكاء والعفة ، مبسوط الكنف ، مع الانقباض ، فكه مع الحشمة ، تسع الطوائف أكناف خلفه ، ويعم المتضادين رحب ذرعه . طالب محصل . حصيف العقل ، حسن المشاركة في فنون ، من فقه وقراءات ونحو وغير ذلك . تلكم للناس بجامع الربض ثم بمسجد البكلاي المجاور للزاوية والتربة اللتين أقمتهما بأخشارش من داخل الحضرة ، وحلق به لتعليم العلم ، فأنثال عليه المتعلم والمستفيد والسامع ، لاجادة بيانه ، وحسن تفهيمه .
مشيخته
قرأ القرآن بجرف نافع ، على أبيه ، وعلى الشيخ الخطيب المكتب أبي عبد الله بن عامور . وقرأ العربية على إمام الجماعة الأستاذ أبي عبد الله بن الفخار ، وجود عليه القرآن ، بالقراءات السبع ، وقرأ على الأستاذ أبي سعيد بن لب
شعره
أنشدني من ذلك قوله بعد الانصراف من مواراة جنازة :
كم أرى مدمن لهو ودعه . . . لست أخلى ساعة من تبعه
كاكن لي عذر لدى عهد الصبا . . . وأنا آمل في العمر سعه
أو ما يوقظنا من كلنا . . . أنفاً لقبره قد شيعه
سيما وقد بدا في مفرقي . . . ماإخال الموت قد جاء معه
فدعوني ساعة أبكي على . . . عمر أمسيت ممن ضيعه
ومن شعره في النوم ، وهو كثير مايطرفه :
أباد البين أجناد التلاقي . . . وحالت بيننا خيل الفراق
فجودوا وارحموا وارثوا ورقوا . . . على من جفنه سكب المآقي(3/26)
"""""" صفحة رقم 27 """"""
ومن ذلك ما أنشد في النوم على لسان رجل من أصحابه :
ياصاحبي قفا المطايا . . . واشفقاً فالعبيد عبده
إذا انتهى وانقضى زمان . . . هل يرسل الله من يرده
مولده
في الثاني عشر لصفر من عام اثنين وعشرين وسبعماية .
محمد بن سعيد بن علي بن يوسف الأنصاري
من أهل غرناطة ، يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بالطراز
حاله
من صلة ابن الزبير : كان رحمه الله مقرياً جليلاً ، ومحدثاً حافلاً ، به ختم بالمغرب هذا الباب البتية . وكان ضابطاً متقتناً ، ومقيداً حافلاً ، بارع الخط ، حسن الوراقة ، عارفاً بالأسانيد والطرق والرجال ، وطبقاتهم ، مقرباً عارفاً بالأسانيد والقراءات ، ماهراً في صناعة التجويد ، مشاركاً في بعلم العربية والفقه والأصول وغير ذلك ، كاتباً نبيلاً ، مجموعاً فاضلاً متخلقاً ، ثقة فيما روى ، عدلاً ممن يرجع إليه فيما قيد وضبط ، ولإتقانه وحذقه . كتب بخطه كثيراً ، وترك أمهات حديثية ، اعتمدها الناس بعده ، وعولوا عليها . وتجرد آخر عمره ، إلى كتاب ' مشارق الأنوار ' تأليف القاضي أبي الفضل عياض ، وكان قد تركه في مبيضة ، في أنهى درجات النسخ والإدماج والإشكال ، وإهمال الحروف حتى اخترمت منفعتها ، حتى استوفى ما نقل منه المؤلف ، وجمع عليها أصولاً حافلة ، وأمهات جامعة ، من الأغربة وكتب اللغة ، فتخلص الكتاب على أتم وجه وأحسنه ، وكمل من غير أن يسقط منه حرف ولا كلمة . والكتاب في ذاته لم يؤلف مثله .
مشيخته
روى عن القاضي ابن الطباع ، وعن أبي عبد الله بن صاحب الأحكام والمتكلم ، وأبي محمد بن عبد الصمد بن أبي رجا وأبي القاسم الملاحى ، وأبي محمد الكواب وغيرهم ، ' أخذ عن هؤلاء كلهم ببلده ' ، وبقرطبة عن جماعة ، وبمالقة كذلك ، وبسبتة . وبإشبيلية عن أبي بالحسن بن زرقون ، وابن عبد النور . وبفاس وبمرسية عن جماعة .
قلت : هذه الترجمعة في الأصل المختصر منه هذا طويله ، واختصرتها لطولها .
توفي ببغرناطة ثالث شوال عام خمسة وأربعين وستماية ، وكانت جنازته من أحفل جنازة ، إذ كان الله قد وضع له ودا في قلوب المؤمنين .(3/27)
"""""" صفحة رقم 28 """"""
محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النفزي
من أهل غرناطة ، يكنى أبا حيان ، ويلقب من الألقاب المشرقية بأثير الدين
حاله
كان نسيج وحده في ثقوب الذهن ، وصحة الإدراك ' والحفظ ' والاضطلاع بعلم العربية ، والفسير وطريق الرواية ، إمام النحاة في زمانه غير مدافع ، نشأ ببلده غرناطة ، مشاراً إليه في التبريز بميدان الإدراك ، وتغيير يالسوابق في مضمار التحصيل . ونالته نبوة لحق بسببها بالمشرق ، واستقر السوابق في مضمار التحصيل . ونالته نبوة لحق بسببها بالمشرق ، واستقر بمصر ، فنال ما شاء من عز وشهرة ، وتأثلٍ وبروحظوة ، وأضحى لمن حل بساحته من المغاربة ، ملجاً وعدة . وكان شديد البسط ، مهيباً ، جهورياً ، مع الدعابة والغزل ، وطرح السمت ، شاعراً مكثراً ، مليح الحديث ، لايمل وإن أطال ، وأسن جداً ، وانتفع به . قال بعض أصحابنا ، دخلت عليه ، وهو يتوضاً ، وقد استقر على إحدى رجليه لغسل الأخرى ، كما تفعل البرك والأوز ، فقال لو كنت اليوم جار شلير ما تركني لهذا العمل في هذا السن .
مشيخته
قرأ ببلده على الأستاذ حايز الرياسة أبي جعفر بن الزبير ولازمه ، وانتسب إليه ، وانتفع به ، وشاد له بالمشرق ذكراً كبيراً . ويقال إنه نادى في الناس عندما بلغه نعية ، وصلى عليه بالقاهرة ، وله إليه . مخاطبات أدبية اختصرتها ، وعلى الأستاذ الخطيب أبي جعفر علي بن محمد الرعيني الطباع ، والخطيب الصالح ولي الله أبي الحسن فضل بن محمد بن علي ابن إبراهيم بن فضيلة المافري . وروى عن القاضي المحدث أبي على الحسين ابن عبد العزيز بن أبي ألأحواض الفهرى ،(3/28)
"""""" صفحة رقم 29 """"""
والمكتب أبي بسهل اليسر بن عبد الله ابن محمد بن خلف بن اليسر القشيري ، والأستاذ أبي الحسن بن الصابيغ ، والأديب الكاتب أبي محمد عبد الله بن هرون الطائي بتونس ، وعلى المسند صفى الدين أبي محمد عبد الوهاب بن حسن بن إسماعيل بن مظفر بن الفرات الحسنى بالأسكندرية ، والمسند الأصولي وجيه الدين أبي عبد الله محمد ابن عبد الرحمن بن أحمد بن عمران الأنصاري بالثغر ، والمحدث نجيب الدين أبي عبد الله محمد ىبن أحمد بن محمد بن المؤيد الهمداني بالقاهرة ، وغيرهم ممن يشق إحصارهم . كالإمام بهاء الدين محمد بن إبراهيم ابن محمد بن أبي نصر بن النحاس الشافعي . قرأ عليه جميع كتاب سيبويه في سنة ثمان وثمانين وستماية ، وقال له عند ختمه ، لم يقرأه على أحد غيره .
تواليفه وتواليفه كثيرة ، منها شرحه كتاب ' تسهيل الفوايد لابن مالك : وهو بديع ، وقد وقفت على بعبضه بغرناطة في عام سبعة وخمسين وسبعماية . وكتابه في تفسير الكتاب العزيز ، وهو المسمى ' بالبحر المحيد ' تسمية زعموا موافقة للغرض . وألف كتاباً في نحو اللسان التركى ، حدثنا عنه الجملة الكثيرة من أصحابنا ، كالحاج أبي يزيد خالد بن عيسى ، والمقرى الخطيب أبي جعفر الشقورى ، والشريف أبي عبد الله بن راجح ، وشيخنا الخطيب أبي عبد بن مرزوق . وقال حدثنا الأستاذ العلامة المتفنن أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير ، سماعاً من لفظه ، وكتباً من خطه بغرناطة ، عن الكاتب أبي بإسحق بن عامر الهمداني الطوسى بفتح الطاء ، حدثنا أبو عبد الله بن محمد العنسى القرطبي ، وهو آخر من حدث عنه ، أخبرنا أبو علي الحسن بن محمد الحافظ الجياني ، ناحكم بن محمد ، نا أبو بكر بن المهندس ، نا عبد الله ابن محمد ، نا طالوت بن عياد بن بصال بن جعفرن سمعت أبا إمامة الباهلي بقول ، سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : أكفلوا لي بيت أهل لكن في(3/29)
"""""" صفحة رقم 30 """"""
الجنة ، إذا حدث أحدكم بلا كذب ، وإذا ايتمن فلا يخن ، وإذا وعد فلا يخلف . غضوا أيساركم ، وكفوا أيديكم ، واحفظوا فروجكم . وقال ، أنشدنا الخطيب أبو جعفر الطباع . قال أنشدنا ابن خلفون . قال أنشدنا أبو عبد الله محمد بن سعيد . قال أنشدنا أبو عمران موسى ابن أبي تليد لنفسه :
حالي مع الدهر في تقلبه . . . كطاير ضم رجله التسرك
فهمه في خلاص مهجته . . . يروم تخليصها فيشتبك
ومن ملحه : قال قدم علينا الشيخ المحدث أبو العلاء محمد بن أبي بكر البخاري الفرضى بالقاهرة في طلب الحديث . وكان رجلاً حسناً طيب الأخلاق ، لطيف المزاج ، فكنا نسايره في طلب الحديث ، فإذا رأى صورة حسنة ، قال هذا حديث على شرط البخاري ، فنظمت هذه الأبيات :
بدا كهلال العيد وقت طلوعه . . . وماس كغصن الخيزران المنعم
غزال رخيم الدل وافي مواصلا . . . موافقة منه على رغم لوم
مليح غريب الحسن أصبح معلماً . . . بخمرة خد بالمحاسن معلم
وقالوا على شرط البخاري قد أتى . . . فقلنا على شرط البخاري ومسلم
فقال مولاي أنا البخاري فمن مسلم . . . فقلت له أنت البخاري وأنا مسلم
محنته
حملته حدة الشبيبة على ' التعريض للأستاذ ' أبي جعفر الطباع ، وقد وقعت بينه وبين أستاذه ابن الزبير الوحشة فنال منه ، وتصدى للتأليف في الرد عليه ، وتكذيب روايته ، فرفع أمره إلى السلطان ، فامتعض له ، ونفذ الأمر بتنكيله ، فاختفى ، ثم أجاز البحر مختفياً ، ولحق بالمشرق يلتفت خلفه .(3/30)
"""""" صفحة رقم 31 """"""
شعره
وشعره كثير بحيث يتصف بالإجادة وضدها . فمن مطولاته رحمه الله قوله :
لا تعذلاه فما ذو الحب معذول . . . العقل مختبل والقلب متبول
هزت له أسمراً من خوط قامتها . . . فما انثنى للصب إلا وهو مقتول
جميلة فصل الحسن البيع لها . . . فكم لها جمل منه وتفصيل
فالنحر ذو غنجٍ والعرف ذو أرج . . . والخصر مختطف والعنق مجدول
هيفاء ينبس في الخصر الوشاح لها . . . ردماً تخرس في الساق الخلاخيل
من اللواتي غذاهن النعيم فما . . . يشقين آباؤها الصيد البهاليل
نزر الكلام غميات الجواب إذا . . . سلن بعد الصحا حصر مكاسيل
من حليها ومناها مونس وهدى . . . فليس يلحقها ذعر وتضليل
حلت بمنعقد الزوراء زارة . . . شوسا غياري فعقد الصبر محلول
فمد عن ذكر ليلى إن ذكرها . . . على التنالي لتعذيب وتعليل
أتاك منك نذير فأنذرن به . . . وبادر التوب إن التوب مقبول
وأمل العفر واسلك مهمها . . . قدفا إلى رضى الله إن العفو مأمول
إن الجهاد وحج البيت مختتما . . . بزورة المصطفى للعفو تأميل
فشق حيزوم هذا الليل ممتطياً . . . أخا خرام به قد يبلغ السؤل أقب أعوج يعزي للوجيه له . . . وجه أغر وفي الرجلين تحجيل
جفر حوافره معر قوايمه . . . ضمر أياطله وللذيل عثكوك(3/31)
"""""" صفحة رقم 32 """"""
إذا توجه أصغى وهو ملتفت . . . ساعر اعتقا فيهن تأليل
إن تعارض به هوجا هاج له . . . جرى يرى البرق عنه وهو مخذول
يحمى حوزة الإسلام ملتقياً . . . كتايبا غص منها العرض والطول
كتايباً قد عموا عن كل واضحةٍ . . . من الكتاب وغرتهم أباطيل
في رماقط ضرب الموت الزوام به . . . سرادقاً فعليهم منه تخييل
هيجا يشرف فيها المشرفي على . . . هام العدو ويصحب النقع تظليل
تدير كاس شعوب في شعوبهم . . . فكلهم منهل بالموت معلول
إذا قضيت غزاة فالتفت عملا . . . للحج فالحج للإسلام تكميل
وأصل بسر يابن أندلس والط . . . رف أدهم بالأشطان مغلول
يلاطم الريح منه أبيض نفق له . . . من السحب المزبد اكليل
يعلو حضارة منه شامخ جلل . . . سام طفا وهو بالنكباء محمول
كأنما هو في طخيا لجتة أيم . . . يعرو أديم السيل شمليسل
مازالت الموج تعليه وتخفضه . . . حتى بدا من منار الثغر قنديل
وكبر الناس أعلاه الرنيم . . . وكلهم طرفه بالشهد مكحول
وصافحوا البيد بعد اليم وابتدروا . . . سبلاً بها لجناب الله توصيل(3/32)
"""""" صفحة رقم 33 """"""
على نجايب تتلوه أجنابها خيل . . . بها الخير معقود ومعقول
في موكب تزحف الأرض الفضاء به . . . أضحت وموحشها بالناس مأمول
يطارد الوحش منه فيلق لجب . . . حتى لقد ذعرت في بيدها الغول
سيوفهم طرب نحو الحجاز فهم . . . ذوو ارتياح على أكوارها ميل
شعث رؤسهم يبس شفاهم . . . خوص عيونهم غرب مهازيل
حتى إذا لاح من بيت الإله لهم . . . نور إذا هم على الغبرا أراحيل
يعفرون وجوهاً طالما سمت . . . باكين حتى أديم الأرض مبلول
حفوا بكعبة مولاهم فكعبهم . . . عالٍ بها لهم طوف وتقبيل
وبالصفا وقتهم صافٍ بسعيهم . . . وفي منى لمناهم كان تنويل
تعرفوا عرفات واقفين بها . . . لهم إلى الله تكبير وتهليل
لما قضينا من الغراء منسكنا . . . ثرنا وكل بنار الشوق مشمول
شدنا إلى الشد قميات التي سكنت أبدانهن وأفناهن تنقيل
إلى الرسول تزجي كل تعلمة . . . أجل من نجوة تزجى المراسيل
من أنزلت فيه آيات مطهرة . . . وأورثت فيه تورته وإنجيل
وعطرت من شذاه كل ناحية . . . كأنما المسك في الأرجاء محلول
سر من العالم العلوي ضمنه . . . جسم من الجوهر الأرضي محمول
نور تمثل في أبصارنا بشراً . . . على الملايك من سيماه تمثيل
لقد تسامى وجبريل مصاميه . . . إلى مقام راخى فيه جبريل
أوحى إليه الذي أوحاه من كثب . . . فالقلب واع بسر الله مشغول
يتلو كتاباً من الرحمن جاء به . . . مطهراً ظاهر منه وتأويل
جارٍ على منهج الأعراب أعجزهم . . . باقٍ مع الدهر لاياتيه تبديل
بلاغه عندها كع البليغ فلم . . . ينطق وفي هديه صاحت أضاليل
ومنها :
وطولبوا أن يجيبوا حين رابهم . . . بسورةٍ مثله فاستعجز القيل(3/33)
"""""" صفحة رقم 34 """"""
لاذو بذوبان خطى وبتر ظبا . . . يوم الوغا واعتراهم منه تنكيل
فمونف في جبال الوهد منحدر . . . وموثق في حبال الغد مكبول مازال بالعضب هتاكاً سوابغهم . . . حتى انثنى العصب مهم وهو مفلول
وقد تحطم في نحر العدا قصد . . . أصم الوشج وخانتها العواميل
من لايعدله القرآن كان له . . . من الصفاد وبيض البتر تعديل
وكم له معجزا غير القرآن أتى . . . فيه من الحق منقول ومعقول
فللرسول انشقاق البدر نشهده . . . كما لموسى انفلاق البحر منقول
ونبع ماء فرات من أنامله كالعين ثرت فجا الهتان ماء النيل
رووا الخميس وهم زهاء سبع . . . مي مع الركاب فمشروب محمول
ومى عين بكف جاء يحملها . . . قتادة وله شكوى وتعويل
فكانت أحسن عينيه ولا عجب . . . مست أناميل فيها اليمن مجعول
والجذع حن إليه حين فارقه . . . حنين ولهى لها للروم مثكول
وأشيع الكثر من قل الطعام ولم . . . يكن ليعوزه بالكثر تقليل
وفي جراب لي هن عجايب كم . . . يمتار منه فمبذول ومأكول
وفي ارتواء لي ذر بزمزم مايكفى تبدن منه وهو مهزول
والعنكبوت بباب الغار قد نسجت . . . حتى كأن رداءً منه مسدول
وفرخت في حماه الورق ساجعة . . . تبكي وما دمعها في الخد مطول
هذا وكم معجزات للرسول أتت . . . لها من الله أمداد وتأصيل
غدت من الكثر أعداد النجوم فما . . . يحصى لها عدداً كتب ولاقيل
قد انقضت معجزات الرسل منذ قضوا نحباً وأعجم منها ذلك الجيل
ومعجزات رسول الله باقية . . . محفوظة مالها في الدهر تحويل(3/34)
"""""" صفحة رقم 35 """"""
تكفل الله هذا الذكر يحفظه . . . وهل يضيع الذي بالله مكفول
هدى المفاخر لايحظى الملوك بها . . . الملك منقطع والوحي موصول
ومن مطولاته في غرض يظهر منها :
هو العلم لاكالعلم شىء تراوده . . . لقد فاز باغيه وأجح قاصده
وما فضل الإنسان إلابعلمه . . . وماامتاز إلا ثاقب الذهن واقده
وقد قصرت أعمارنا وعلومنا . . . يطول علينا حصرها ونكابده
وفي كلها خير ولكن أصلها . . . هو النحو فاحذر من جهول يعانده
به يعرف القرآن والسنة التي هما . . . أصل دين الله ذو أنت عابده
وناهيك من علم على مشيد . . . مبانيه أعزز بالذي هو شايده
لقد حاز في الدنيا فخاراً وسودداً . . . أبو الأسود الديلي فللجر سانده
هو استنبط العلم الذي جل قدره . . . وطار به للعرب ذكر نعاوده
وساد عطا نجله ابن هرمز . . . ويحيى ونصر ثم ميمون ماهده
وعنبسة قد كان أبرع صحبه . . . فقد قلدت جيد المعالي قلايده
ومازال هذا العلم تنميه سادة . . . جهابذة تبلى به وتعاضده
إلى أن أتى الدهر العقيم بواحد . . . من الأزد تنميه إليه فرايده
إمام الورى ذاك الخليل بن أحمد . . . أقرله بالسبق في العلم حاسده
وبالبصرة الغرا قد لاح فجره . . . فنارت أدانيه وضاءت أباعده
ياذكى الورى ذهناً وأصدق لهجة . . . إذا ظن أمراً قلت ماهو شاهده
وما أن يروى بل جميع علومه . . . بداية أعيت كل حبرٍ تجالده
هو الواضع الثاني الذي فاق أولا . . . ولاثالث في الناس تصمى قواصده
فقد كان ربانى أهل زمانه . . . صوم قوم راكع الليل ساجده
يقيم منه دهره في مثوبة . . . وثوقاً بأن الله حقاً مواعده(3/35)
"""""" صفحة رقم 36 """"""
فعام إلى حج وعام لغزوة . . . فيعرفه البيت العتيق ووافده
ولم يثنه يوماً عن العلم والتقى . . . كواعب حسن تنثنى ونواهده
وأكثر سكناه بقفر بحيث لا . . . تناغيه إلا عفره وأوابده
وما قوته إلا شعير يسيغه . . . بماء قراح ليس تغشى موارده عزوباً عن الدنيا وعن زهراتها . . . وشوقاً إلى المولى وما هو واعده
ولما رأى من سيبويه نجابة . . . وأيقن أن الحين أدناه باعده
تخيره إذ كان وارث علمه . . . ولا طفه حتى كأن هو والده
وعلمه شيئاً فشيئاً علومه . . . إلى أن بدت سيماه واشتد ساعده
فإذ ذاك وافاه من الله وعده . . . وراح وحيد العصر اذ جاء واحده
أتى سيبويه ناشراً لعلومه . . . فلولاه أضحى للنحو عطلاً شواهده
وأبدى كتاباً كان فخراً وجوده . . . لحطان إذ كعب بن عمرو محاتده
وجمع فيه ما تفرق في الورى . . . فطارفه يعزى إليه وتالده
بععرو بن عثمان بن قنبر الرضا . . . أطاعت عواصيه وتابت شوارده
عليك قرآن النحو نحو ابن قنبر . . . فآياته مشهودة وشواهده
كتاب أبي بشر فلا تلك قارياً . . . سواه فكل ذاهب الحسن فاقده
هم خلج بالعمل مدت فعندما . . . تناءت غدت تزهي وليست تشاهده
ولا تعد عما حازه إنه الفرا . . . وفي جوفه كل الذي أنت صائده
إذا كنت يوماً محكماً في كتابه . . . فإنك فينا نابه القدر ماجده
ولست تبالي إن فككت رموزه . . . أعضك دهر أم عرتك ثرايده
هو العضب إن تلق الهياج شهرته . . . وإن لاتصب حرباً فإنك غامده
تلقاه كل بالقبول وبالرضى . . . فذور الفهم من تبدو إليه مقاصده
ولم يعترض فيه سوى ابن طراوة . . . وكان طرياً لم تقادم معاهده
وجسره طعن الميرد قبله . . . وإن الثمالي بارد الذهن خامده(3/36)
"""""" صفحة رقم 37 """"""
هما ماهما صارامدى الدهر ضحكة . . . يزيف ماقالا وتبدو مفاسده
تكون صحيح العقل حتى إذا ترى . . . تبارى أبا بشرٍ ، إذا أنت فاسده
يقول امرؤ قد خامر الكبر رأسه . . . وقد ظن أن النحو سهل مقاصده
ولم يشتغل إلا بنزر مسايل من . . . الفقه وفي أوراقه هو راصده
وقد نال بين الناس جاهاً ورتبه . . . وألهاك عن نيل المعالي ولا بده
وما ذاق للآداب طعماً ولم . . . يبت يعنى بمنظوم ونثر يجاوده
فينكح أبكار المعاني ويبتغي لها . . . الكفو من لفظ بها هو عاقده
رأى سيبويه فيه بعض نكادة . . . وعجمة لفظ لا تحل معاقده
فقلت أتيت ما أنت أهل لفهمه . . . وما أنت إلا غايض الفكر راكده
لعمرك ماذو لحية وتسمت . . . وإطراق رأس والجهات تساعده
فيمشي على الأرض الهوينا كأنما . . . إلى الملإ الأعلى تناهت مراصده
وإبهامك الجهال أنك عالم . . . وأنك فرد في الوجود وزاهده
بأجلب للنحو الذي أنت هاجر . . . من الدرس بالليل الذي أنت هاجده
أصاح تجنب من غوى مخذل . . . وخذ في طريق النحو أنك راشده
لك الخير فادأب ساهراً في علومه ' فلم تشم ' إلا ساهر الطرف ساهده
ولا ترج في الدنيا ثواباً فإنما . . . لدى الله حقاً أنت لاشك واجده
ذوو النحو في الدنيا قليل حظوظهم . . . وذو الجهل فيها وافر الحظ زايده
لهم أسوة فيها على لغدٍ مضى . . . ولم يلق في الدنيا صديقاً يساعده
مضى بعده عنها الخليل فلم . . . ينل كفافاً ولم يعدم حسوداً يناكده
ولاقي أبا بشرٍ سفيهها . . . غداة تمالت في ضلال يمادده
أتى نحو هارون يناظر شيخه . . . فنفحة حتى تبدت مناكده
فأطرق شيئاً ثم أبدى دوابه . . . بحق ولا كن أنكر الحق جاحده
وكاد على عمراً إذا صار حاكماً . . . وقد ما على كان عمرو يكايده سقاه بكأس لم يفق من خمارها . . . وأورده الأمر الذي هو وارده(3/37)
"""""" صفحة رقم 38 """"""
ولابن زياد شركة في مراده ولابن رشيد بشرك للقلب رابده
هما جرعا إلى على وقنبر . . . أفاويق سم لم تنجد أساوده
أبكى على عمرو ولا عمر مثله . . . إذا مشكل أعيا وأعوز ناقده
قضى نحبه شرخ الشبيبة لم يرع . . . بشيب ولم تعلق بذام معاقده
لقد كان للناس اعتناء بعلمه . . . بشرقٍ وغربٍ تستنار فوايده
والآن فلا شخص على الأرض قارئ . . . كتاب أبي بشرٍ ولا هو رايده
سوى معثر بالغرب فيهم تلفت . . . إليه وشوق ليس يخبو مواقد
وما زال منا أهل أندلس له . . . جهابذ تبدى فضله وتناجده
وإني في مصر على ضعف ناصري . . . لناصره ما دمت حياً وعاضده
أثار أثير الغرب للنحو كامناً . . . وعالجه حتى تبدت قواعده
وأحيا أبو حيان ميت علومه . . . فأصبح علم النحو ينفق كاسده
إذا مغربي حط بالثغر رحله . . . تيقن أن النحو أخفاه لاحده
منينا بقوم صدروا في مجالس . . . لإقراء علم ضل عنهم مراشده
لقد أخر التصدير عن مستحقه . . . وقدم غمر خامد الذهن جامده
وسوف يلاقي من سعى في جلوسهم . . . عقبى ما أكنت عقايده
علا عقله فيهم هواه فما ذرى . . . بأن هوى الإنسان للنار قايده
أقمنا بمصر عشرين حجة يشاهدنا . . . ذو أمرهم ونشاهده
فلما ننل منهم مدى الدهر طايلا . . . ولما نجد فيهم صديقاً نوادده
لنا سلوة فيمن سردنا حديثهم . . . وقد يتسلى بالذي قال سارده
أخي إن تصل يوماً وبلغت سالماً . . . لغرناطة فانفذ لما أنا عاهده
وقبل ثرى أرض بها حل ملكنا . . . وسلطاننا الشهم الجميل عوايده
مبيد العدا قتلاً وقد عمر شرهم . . . ومحي الندى فضلاً وقد رم هامده
أفاض على الإسلام جوداً ونجدةً . . . فعز مواليه وذل معانده(3/38)
"""""" صفحة رقم 39 """"""
وعم بها إخواننا بتحية . . . وخص بها الأستاذ لاعاش كايده
جزى الله عنا شيخنا وإمامنا . . . وأستاذنا الحبر الذي عم فايده
لقد أطلعت جيان أوحد عصره . . . فللغرب فخر أعجز الشرق خالده
مؤرخة نحوية وإمامة محدثة . . . جلت وصحت مسانده
جاه عظيم من ثقيف وإنما به . . . استوثقت منه العرى ومساعده
وما أنسى لاأنسى سهادى ببابه . . . بسبق وغيري نايم الليل راقده
فيجلو بنور العلم ظلمة جهلنا . . . ويفتح علماً مغلقاتٍ رصايده
وإني وإن شطت بنا غربة النوى . . . لشاكر له في كل وقت وحامده
بغرناطة روحي وفي مصر جثتي . . . ترى هل يثنى الفرد من هو فارده
أبا جعفر خذها قوافى من فتى . . . تتيه على غر القوافي قصايده
يسير بلا إذن إلى الأذن حسنها . . . فيرتاح سماع لها ومناشده
غريبة شكل كم حوت من غرايب . . . مجيدة أصل أنتجتها أما جده
فلولاك يامولاى ما فاه مقولي . . . بمصر ولا حبرت ما أنا قاصده
لهذبتني حتى أحوك مفوقاً . . . من النظم لايبلى مدى الدهر آبده
وأذكيت فكري بعد ما كان خامداً . . . وقيد شعري بعد ما ند شارده
جعلت ختاماً فيه ذكرك إنه . . . هو المسك بل أعلى وإن عز ناشده
ومما دون المطولات قوله رحمه الله :
تفردت لما أن جمعت بذات . . . وأسكنت لما أن بدت حركات
فلم أر في الأكوان غيراً لأنني . . . أزحت عن الأغيار روح حيات
وقدستها عن رتبة لو تعينت . . . لها دائماً دامت لها حسرات فها أنا قد أصعدتها عن حضيضها . . . إلى رتبة تقضى لها بثبات(3/39)
"""""" صفحة رقم 40 """"""
تشاهد معنى روضة أذهب العنا . . . وأيقظنى للحق بعد سنات
أقامت زماناً في حجاب فعندما . . . تزحزح عنها رامت الخلوات
لنقضي بها مافات من طيب أنسنا بها وننال الجمع بعد شتات ومن النسيب قوله :
كتم اللسان ومدمعى قد باحا . . . وثوى الأسى عندي وأسى راحا
إني أحب طي ما نشر الهوى . . . نشراً وما زال الهوى إفصاحاً
ومهجتي من لا أصرح باسمه . . . ومن الإشارة ما يكون صراحاً
ريم أروم حنوه وجنوحه . . . ويروم عني جفوة وجماحاً
أبدى لنا من شعره وجبينه . . . ضدين ذا ليلاً وذاك صباحاً
عجباً له يأسو الجسوم بطبه . . . ولكم بأرواحٍ أثار جراحاً
فبلقطه برء الأخيذ ولحظه . . . أخذ البرى فما بطيق براحاً
ناديته في ليلة لا ثالث إلا . . . أخوه البدر عارف لاحا
يا حسنها من ليلة لو أنها دامت . . . ومدت لتوصال جناحاً
وقال :
نور بخدك أم توقد نار . . . وضنى بجفناك أم فتور عقار
وشذاً بريقك أم تأرج مسكة . . . وسنى بثغرك أم شعاع درار
جمعت معاني الحسن فيك فقد . . . غدت قيد القلوب وفتنة الأبصار(3/40)
"""""" صفحة رقم 41 """"""
متصاون خفير إذا ناطقته . . . أغضى حياً في سكون وقار
في وجهه زهرات لفظ تجتلي . . . من نرجس مع وردة وبهار
خاف اقتطاف الورد من جنباتها . . . فأدار من أسر سياج عذار
وتسللت نمل العذار بخده . . . ليردن شهدة ريقه المعطار
وبخده ورد حمتها وردها . . . فوقفن بين الورد والإصدار
كم ذا أوارى في هواه مجتى . . . ولقد وشى بي فيه فرط أوار
ومن نظمه من المقطوعات في شتى الأغراض قوله رحمه الله :
أزحت نفسي من الإيناس بالناس . . . لما غنيت عن الأكياس بالياس
وصرت في البيت وحدي لا أرى أحداً . . . بنات فكري وكتبر هن جلاس
وقال :
وزهدني في جمعي المال إنه إذا . . . ما انتهى عند الفتى فارق العمرا
فلا روحه يوماً أراح من العنا . . . ولم يكتسب حمداً ولم يدخر أجراً
وقال :
سعت حية من شعره نحو صدغه . . . وما انفصلت من خده إن ذا عجب
وأعجب من ذا أن سلسال ريقه . . . برود ولاكن شب في قلبي اللهب
وقال :
سعت حية من شعره نحو صدغه . . . وما انفصلت من خده إن ذا عجب
وأعجب من أن سلسا يقه . . . برود ولا كن شب في قلبي اللهب
وقال :
راض حبيبي عارض قد بدا . . . يا حسنه من عارض رابض
وظن قوم أن قلبي سلا . . . والأصل لا يعتد بالعارض(3/41)
"""""" صفحة رقم 42 """"""
وقال :
سال في الخد للحبيب عذار . . . وهو لاشك سايل مرحوم
وسألت التثامه فتجنى . . . فأنا اليوم سايل محروم
وقال :
جننت بها سوداء لون وناظر . . . ويا طالما كان الجنون بسوداء
وجدت بها برد النعيم وإن . . . فؤادي منها في جحيم ولأواء
وقال :
جننت بها سوداء لون وناظر . . . ويا طالما كان الجنون بسوداء
وجدت بها برد النعيم وإن . . . فؤادي منها في جحيم ولأواء
وقال في فتى يسمى مظلوم :
وما كنت أدري أن مالك مهجتي . . . يتسمى بمظلوم وظلم جفاوه
إلى أن دعاني للصبا فأجبته . . . ومن يك مظلوماً أجيب دعاؤه
وقال :
جن غيري بعارض فترجى . . . أهله أن يفيق عما قريب
وفؤادي بعارضين مصاب . . . فهو داء أعي دواء الطبيب
وقال :
شكى الخصر منه ما يلاقي بردفه . . . وأضعف غصن البان جر كثيب
إذا كان منه البعض يظلم بعضه . . . فما حال شط المزار غريب
وقال : وذو شفةٍ لميا زينت بشامة . . . من المسك في رشافها يذهب النسك
ظميت إليها ريقةً كوثرية . . . بمثل لقايي ثغرها ينظم السلك(3/42)
"""""" صفحة رقم 43 """"""
تعل بمعسول كأن رضابه . . . مدام من الفرد وسر خاتمه مسك
وقال :
أجل شفيعٍ ليس يمكن رده . . . دراهم بيض للجروح مراهم
تصير صعب الأمر أسهل ماترى . . . ويقضي لباناتٍ للفتى وهو نايم
وقال :
نعيد ود قريب ضل . . . كبير عتب قليل عتباً
كالشمس ظرفاً كالمسك عرفاً . . . كالخشف طرفاً كالصخر قلباً
وقال :
عداتي لهم فضل على ومنة . . . فلا أذهب الرحمن عني الأعاديا
هم بحثوا عن رتى فاجتنبتها . . . وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
مولده : ولد بغرناطة عام اثنين وخمسين وستماية .
وفاته : أخبرني الحاج الخطيب الفاضل أبو جعفر الشقوري رحمه الله .
قال ، توفي عام خمسة وأربعين وسبع ماية بمصر ، ودفن بالقرافة . وكانت جنازته حافلة .
ومن الطاريين عليها في هذا الحرف محمد بن أحمد بن داود بن موسى بن مالك اللخمي اليكي
من أهل بلش يكنى أبا عبد الله ويعرف بابن الكماد(3/43)
"""""" صفحة رقم 44 """"""
حاله
من ' عايد الصلة ' : كان من جلة صدور ' الفقهاء ' الفضلاء زهدا وقناعة وانقباضاً ، إلى دماثة الخلق ، ولين الجانب ' وحسن اللقاء ' والسذاجة المموهة بالغفلة ، والعمل على التقشف والعزلة ، قديم السماع والرحلة ، إماما مشهوراً في القراءات ، يرحل إليه ، ويعول عليه ، إتقاناً ومعرفة منها بالأصول ، كثير المحافظة والضبط ، محدثاً ثبتاً ، بليلغ التحرز ، شديد الثقة ، فقيهاً متصرفاً في المسايل ، أعرف الناس بعقد الشروط ، ذا حظ من العربية واللغة والأدب . رحل إلى اللعدوة ، وتجول في بلاد الأندلس ، فأخذ عن كثير من الأعلام ، وروي وقيد وصنف وأفاد ، وتصدر للإقراء بغرناطة وبلش وعيرهما ، وتخرج بين يديه جملة وافرة من العلماء والطلبة ، وانتفعوا به .
مشيخته
قرأ ببلده مرسية على الأستاذ أبى الحسن على بن محمد بن لب بن أحمد ابن أبي بكر الرقوطي ، والمقرى أبى الحسن بن خلف الرشاطي ، والمحدث الجليل أبى محمد بن عبد الله بن داود بن خطاب الغافقي المرسى . وممن أجازه الفقيه أبو عثمان سعيد بن عمرو البطرني ، والقاضي أبو علي بن أبي الأحوص ، لقيه ببلش مالقة وبسطة ، فروى عنه الكثير ، والأستاذ أبو القاسم بن الأصهر الحارثي لقيه بألمرية . ولقي بغرناطة الأستاذ أبا جعفر الطباع ، والوزير الراوية أبا القاسم محمد بن يحيى بن عبد الرحمن ابن جزى الكلبي ، روى عنه وأجازه . وكتب له بالإجازة جماعة كبيرة من أهل المشرق والمغرب ، حسبما تضمنه برنامجه .
تواليفه
اختصر كتاب ' المقنع ' في القراءات اختصاراً بديعاً وسماه كتاب ' الممتع في تهذيب المقنع ' وغير ذلك .
شعره
من ذلك وقد وقف على أبيات أبي القاسم بن الصقر في فضل الحديث :
لقد حاز أصحاب الحديث وأهله . . . شأواً وتوتيراً ومجداً مخلداً
وصحت لهم بين الأنام مزيه . . . أبانت لهم عزاً مجداً وسودداً
بدعوة خبر الخلق أفضل مرسل . . . محمد المبعوث بالنور والهدا
بدعوة خبر الخلق أفضل مرسل . . . محمد المبعوث بالنور والهدا
فهم دونوا علم الحديث وأتقنوا . . . ونصوا بتبيين صحيحاً ومسندا(3/44)
"""""" صفحة رقم 45 """"""
وجاءوا بأخبار الرسول وصحبه . . . على وجهها لفظاً ورسماً مقيدا
وهم نقلوا الآثار والسنن التي . . . من أصبح ذا لفظاً ورسماً مقيداً
وهم نقلوا الآثار والسنن التي . . . من أصبح ذا أخذ بها فقد اهتدا
وما قصروا فيها بفقهٍ ولا ونوا . . . بل التزموا حداً وحزماً مؤكداً
وهم أوضحوا من بعدهم باجتهادهم . . . وبيينهم سبل الهدى لمن اقتدا
جزاهم إله العرش عنا بنصحهم . . . بأحسن ماجازي نصيحاً ومرشداً
ونسله سبحانه نه هديهم . . . وسعياً إلى التقوى سبيلاً ومقصداً
ومن شعره رحمه الله قوله : عليك بالصبر وكن راضياً . . . بما قضاه الله تلقى النجاح
واسلك طريق المجد والهج به . . . فهو الذي يرضاه أهل الصلاح
وقد ألف شيخنا أبو البركات بن الحاج ، جزءاً سماه ' شعر من لا شعر له ' ، فيه من شعر هذا يالرجل الفاضل ومثله كثير
مولده
قبل الأربعين وستماية . وتوفي ثاني شهر الله المحرم عام اثنى عشر وسبعماية انتهى ما اختصر من السفر السابع من كتاب ' الإحاطة في تاريخ غرناطة ' يتلوه في السفر الثامن بعده إن شاء الله ومن السفر الثامن بعده إن شاء الله
ومن السفر الثامن من ترجمة المقرئين والعلماء
محمد بن أحمد بن علي الغساني
من أهل مالقه ، يكنى أبا القاسم ، ويعرف بابن حفيد الأمين
حاله
كان من أهل العلم والفضل والدين المتين ، والدؤوب على تدريس كتب الفقه . استظهر كتاب ' الجواهر ' لابن شاس ، واضطلع بها ، فكان مجلسه من مجالس الحفاظ ، حفاظ المذهب ، وانتفع به الناس ، وكان معظماً فيهم ، متبركاً به ، على سنن الصالحين ، من الزهد ، والانقباض ، وعدم المبالاة بالملبس والمطعم . وقال صاحبنا الفقيه(3/45)
"""""" صفحة رقم 46 """"""
أبو الحسن النباهي في تذييله لتاريخ مالقة : كان رجلا ساذجاً ، مخشوشناً ، سنى المنازع ، شديد الإنكار على أهل البدع . جلس للتحليق العام بالمسجد الجامع ، وأقرأ به الفقه والعربية والفرايض .
مشيخته
قال ، منهم أبو علي بن أبي الأخوص ، وأبو جعفر بن الزبيز ، وأبو محمد بن أبي السداد ، والقاضي أبو القاسم ابن السكوت . قال ، وأنشد للزاهد أبى إسحاق بن قشوم ، قوله :
يروقك يوم العيد حسن ملابس . . . ونعمة أجسام ولين قدود
أجل لحظات الفكر منك فلا ترى . . . سوى خرق تبلي وطعمة دود
وأنشد لأبي عمرو الزاهد :
تختبر الدنير في ميذاق . . . والدرهم الزايف إذ يبهم
والمرء إن رمت اختباراً له . . . ميذاقه الدنير والدرهم
من عف عن هذا وهذا مما . . . فهو التقى الورع المسلم
تواليفه
له تقييد حسن في الفرايض ، وجزء في تفضيل التين على التمر ، وكلام على نوازل الفقه .
وتوفي في الكائنة العظمى بطريف .
محمد بن أحمد بن علي بن قاسم المذحجي
من هل ملتماس ، يكنى أبا عبد الله
حاله
من العايد : كان رحمه الله من بلده وأعيانهم ، أستاذا متفنناً مقرياً لكتاب الله ، كاتباً بليغاً ، شديد العناية بالكتب ، كثير المغالاة في قيمها وأثمانها ، حتى صارله من أعلاقها وذخايرها ، ماعجز عن تحصيله كثير من أهل بلده . كتب بخطه ، وقيد كثيراً من كتب العلم . وكان مقرباً مجوداً ، عارفاً بالقراءات ، بصيراً بالعربية ، ثقة ضابطاً ، مبرزاً في العدالة ، حريصاً على العلم استفادة ثم إفادة ، لا يأنف من حمله عن أقرانه ، وانتفع به هل بلده ، والغرباء أكثر .(3/46)
"""""" صفحة رقم 47 """"""
مشيخته
أخذ عن طايفة من أهل العلم . منهم الشيخان الرحلتان ، أبو عبد الله ابن الكماد ، وأبو جعفر بن الزيات عظيماً بلده ، والخطيب ولي الله أبو عبد الله الطنجالي ، والقاضي أبو عبد الله بن بكر . وروى عن الشيخ الوزير أبي عبد الله بن ربيع ، وابنه الراوية أبي عامر ، والخطيب الصالح أبي إسحاق بن أبي العاصي . وروى عن الشيخ الراوية الرحال أبي عبد الله ابن عامر الوادي أشى وغيرهم ، ودخل غرناطة .
مولده ولد ببلش عام ثمانية وثمانين وستماية وفاته : توفي ببلش عاشر شهر شعبان من عام أربعة وثلاثين وسبعماية .
محمد بن أحمد بن علي الغساني
من أهل مالقة ، يكنى أبا الحكم ، ويعرف بابن حفيد الأمين
حاله
من العايد : كان هذا الشيخ من أهل العلم والدين المتين ، والجرى على سنن الفقهاء والتقدمين ، عقد الشروط بمالقة مدة طويلة ، في العدول المبرزين ، وجلس للتحليق في المسجد الأعظم من مالقة ، بعد فقد أخيه أبى القاسم ، وخطب بمسجد مالقة الأعظم . ثم أخر عن الخطبة لمشاحنة وقعت بينه وبين بعض الولاة ، أثمرت في إحنته . ولم يزل على ما كان عليه من الاجتهاد في العبادة ، والتقييد للعلم ، والاشتغال به ، والعناية بأهله ، إلى أن توفي على خير عمل .
مشيخته
قرأ على الأستاذ الخطيب أبى محمد الباهلي ، وروى عن جلة من الشيوخ مثل صهره الخطيب الوالي أبي عبد الله الطنجالي ، وشاركه في أكثر شيوخه ، والأديب الحاج الصالح أبي القاسم القبتوري وغيرهم مولده : ولد بمالقة عام ثلاثة وسبعين وستماية وفاته : توفي بمالقة يوم الأربعاء الثامن عشر لذي حجة من عام تسعة وأربعين وسبعماية . ودخل غرناطة غير ما مرة مع الوفود من أهل بلده ، وفي أغراضه الخاصة .(3/47)
"""""" صفحة رقم 48 """"""
محمد بن أحمد الرقوطي المرسي
يكنى أبا بكر
حاله
كان طرفاً في المعرفة بالفنون القديمة ، المنطق والهندسة والعدد والموسيقا الطب ، فيلوسفاً ، طبيباً ماهراً ، آية الله في المعرفة بالألسن . يقرى الأمم بألسنتهم ، فنونهم التي يرغبون في تعلمها ، شديد الباو ، مترفعاً . متعاطياً . عرف طاغية الروم حقه ، لما تغلب على مرسية ، فبنى له مدرسة يقرى فيها المسلمين والنصارى واليهود ، ولم يزل معظماً عنده . ومما يحكى من ملحه معه ، أنه قال له يوماً ، وقد أدنى منزلته ، وأشاد بفضله ، لو تنصرت وحصلت الكمال ، كان عندي لك كذا وكذا ، وكنت كذا ، فأجابه بما أقنعه . ولما خرج من عنده ، قال لأصحابه ، أنا الآن أعبد واحداً ، وقد عجزت عما يجب له ، فيكف يحالي لو كنت أعبد ثلاثة كما أراد مني وطلبه سلطان المسلمين ، ثاني الملوك من بني نصر ، واستقدمه ، وتلمذ له ، وأسكنه في أعدل البقع من حضرته . وكان الطلبة يغشون منزله المعروف له ، وهو بيدى الآن ، فتعلم عليه الطب والتعاليم وغيرها ، إذا كان لا يجاري في ذلك . وكان قوى العارضة ، مضطلعاً بالجدل ، وكان السلطان يجمع بينه وبين منتابي حضرته ، ممن يقدم منتحلا صناعة أو علماً ، فيظهر عليهم ، لتمكنه ودالته ، حسبما يانى في إسم أبي الحسن الأبدي ، وأبي القاسم بن خلصون إن شاء الله . وكان يركب إلى باب السلطان ، عظيم التودة ، معار البغلة ، رايق البزة ، رفيق المشي ، إلى أن توفي بها . سمح الله له .
محمد بن إبراهيم بن المفرج الأوسي
المعروف بابن الدباغ الإشبيلي .
كان واحد عصره في حفظ مذهب مالك ، وفي عقد الوثائق ، ومعرفة عللها ، عارفاً بالنحو واللفة والأدب والكتابة والشعر والتاريخ . وكان كثير البشاشة ، عظيم انقباض ، طيب النفس ، جميل المعاشرة ، كثير المشاركة ، شديد الواضع ، صبوراً على المطالعة ، سهل الألفاظ في تعليمه وإقرايه . أقرأ بجامع غرناطة لأكابر علمايها ، الفقه وأصوله ، وأقرأ به الفروع والعقايد للعامة مدة . وأقرأ بجامع باب الفخارين ، وبمسجد ابن عزرة وغيره .(3/48)
"""""" صفحة رقم 49 """"""
مشيخته
قرأ على والده الأستاذ أبي إسحاق إبراهيم ، وعلى الأستاذ أبي الحسن الدباج ، وعلى القاضي أبي الوليد محمد بن الحاج التجيبي القرطبي ، وعلى القاضي أبي عبد الله بن عياض
وفاته
توفي برندة يوم الجمعة أول يوم من شوال عند انصراف الناس من صلاة الجمعة من عام ثمانية وستين وستماية
محمد بن إبراهيم بن محمد الأوسي
ابن أهل مرسية ، نزيل غرناطة ، يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بابن الرقام الشيخ الأستاذ المتفنن .
حاله
كان نسيج وحده ، وفريد دهره ، علماً بالحساب والهندسة والطب والهيئة ، وغير ذلك مديد الباع . أصيل المعرفة . مضطلعاً ، متجراً لايشق غبارة . أقرأ التعاليم والطب والأصول بغرناطة لما استقدمه السلطان ثاني الملوك من بني نصر من مدينة بجاية ، فانتفع الناس به ، وأوضح المشكلات ، وسيل من الأقطار النازحة في الأوهام العارضة ، ودون في هذه الفنون كلها ، ولخص ، ولم يفتر من تقييد وشرح وتلخيص وتدوين .
تواليفه
وتواليفه كثيرة ، منها كتابة الكبير على طريقة كتاب ' الشفا ' والزيج القويم الغريب المرصد ، والبنية رسايله على جداول ابن إسحق ، وعدل مناخ الأهلة ، وعليه كان العمل . وقيد أبكار الأفكار في الأصول ، ولخص المباحث ، كتاب الحيوان والخواص . ومقالاته كثيرة جداً ، ودواوينه عديدة .
وفاته : توفي عن سن عالية بغرناطة في الحادي والعشرين لصفر من عام خمسة عشر وسبع ماية
محمد بن جعفر بن أحمد بن خلف بن حميد ابن مأمون الأنصاري
ونسبه أبو محمد القرطبي ، أمويا من صريحهم ، بلنس الأصل يكنى أبا عبد الله(3/49)
"""""" صفحة رقم 50 """"""
حاله
كان صدراً في متقنى القرآن العظيم ، وأيمة تجويده ، مبرزاً في النحو ، إماماً معتمداً عليه ، بارع الأدب ، وافر الحظ من البلاغة ، والتصرف البديع في الكتابة ، طيب الإمتاع بما يورده من الفنون ، كريم الأخلاق ، حسن السمت ، كثير البشر ، وقوراً ، ديناً ، عارفاً ، ورعاً ، وافر الحظ من رواية الحديث .
مشيخته روى عن أبي إسحاق بن صالح ، وأبي بكر بن أبي ركب ، وأبي جعفر ابن ثعبان ، وأبي الحجاج القفال ، وأبي الحسن شريح ، وأبي محمد عبد الحق ابن عطية ، وأبي الحسن بن ثابت ، وأبي الحسن بن هذيل ، وتلا عليه بالسبع ، وأبو عبد الله بن عبد الرحمن المذحجي الغرناظي ، وابن فرح القيسي ، و أبي القاسم خلف بن فرتون . ولم يذكر أنهم أجازوا له . وكتب له أبو بكر عبد العزيز بن سدير ، وابن العزفي ، وابن قندلة ، فأبو الحسن طارق بن موسى ، وابن موهب ، ويونس بن مغيث ، وأبو جعفر بن أيوب ، وأبو الحكم عبد الرحمن بن غشيان ، وأبو عبد الله الجياني المعروف بالبغدادي . وذكر أبو عبد الله بن يربوع أن له راوية عن أبي الحسن بن الطراوة .
من روى عنه
روى عنه أبو بحر صفوان بن إدريس ، وأبو بكر بن عتيق الأزدى وابن قترال ، وأبو جعفر الجيار ، والذهبي ، وابن عميرة الشيهد ، وأبو الحسن بن عزمون ، وابن عبد الرزق ، وأبو الحسن عبيد الله بن عاصم الداري ، وأبو الربيع بن سالم ، وأبو زكريا الجعفري ، وأبو سليمان ابن حوط الله ، وأبو عبد الله الأندرشي ، وابن الحسين بن محبر ، وابن إبراهيم الريسى ، وابن صلتان ، وابن عبد الحق التلمسني ، وابن يربوع ، وأبو العباس العزفي ، وأبو عثمن سعد الحفار ، وأبو علي عمر بن جميع ، وأبو عمران بن إسحاق ، وأبو(3/50)
"""""" صفحة رقم 51 """"""
القاسم الطيب بن هرقال ، وعبد الرحيم ابن إبراهيم بن قريش الملاحي ، وأبو محمد بن دلف بن اليسر ، وأبو الوليد ابن الحجاج .
تواليفه
له شرح على ' إيضاح الفارسي ' ، وآخر على جمل الزجاجي ' مولده : ببلنسية سنة ثلاث عشرة وخمسماية وفاته : توفي بمرسية إثر صدوره عن غرناطة عشى يوم السبت لثلاث عشرة بقيت من جمادى الأولى سنة ست وثمانين وخمسماية
محمد بن حكم بن أحمد بن باق الجذامي
من أهل سرقسطة . سكن غرناطة ثم فاس ، يكنى أبا جعفر
حاله
كان مقرباً مجوداً محققاً بعلم الكلام وأصول الفقه ، محصلاً لهما ، متقدماً في النحو ، حافظاً للغة ، حاضر الذكر لأقوال تلك العلوم ، جيد النظر ، متوقد الذهن ، ذكي القلب . فصيح اللسان . ولي أحكام فاس وأفتى فيها ، ودرس بها العربية ، كتاب سيبويه وغير ذلك .
مشيخته
روى عن أبي الأصبغ بن سهل ، وأبوى الحسن الحضرمي ، وابن سابق ، وأبي جعفر بن جراح ، وأبي طالب السرقسطي ، الأديبين ، وأبوي عبد الله ابن نصر ، وابن يحيى بن هشام المحدث ، وأبيالعباس الدلاءي ، وأبي عبيد الله البكري ، وأبي عمر أحمد بن مروان القيرواني ، وأبي محمد ابن قورش ، وأبي مروان بن سراج . وأجاز له أبو الوليد الباجي رحمه الله .(3/51)
"""""" صفحة رقم 52 """"""
من روى عنه
روى عنه أبو إسحاق بن قرقول ، وأبو الحسن صالح بن خلف ، وأبو عبد الله بن حسن السبتي ، وأبو الحسن الأبدي ، وتوفي قبله ، وابن خلف بن الأيسر ، والنميري ، وأبو العباس بن عبد الرحمن ابن الصقر ، وأبو علي حسن بن الجزار ، وأبو الفضل بن هرون الأزدي ، وأبو محمد عبد الحق بن بونه ، وقاسم بن دحمان ، وأبو مروان بن الصقيل الوقشى .
تواليفه
شرح ' إيضاح الفارسي ' ، وكان قيماً على كتابة ، وصنف في الجدل مصنفين ، كبيراً وصغيراً . وله عقيدة جيدة .
وفاته : توفي بفاس ، وقيل بتلمسان سنة ثلاث وثلاثين وخمس ماية
محمد بن حسن بن محمد بن عبد الله بن خلف بن يوسف ابن خلف الأنصاري
من أهل مالقة ، يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بابن الحاج ، وبابن صاحب الصلاة .
حاله
كان مقرياً صدراً في أيمة التجويد ، محدثاً متقناً ضابطاً ، نبيل الخط والتقييد ، ديناً ، فاضلا . وصنف في الحديث ، وخطب بجامع بلده . وأم في الفريضة زماناً ، واستمرت حاله كذلك ، من نشر العلم وبثه إلى أن كرمه الله بالشهادة في وقيعة العقاب .
دخوله غرناطة ، راوياً عن ابن الفرس ، وابن عروس ، وغرهما
مشيخته
روى بالأندلس عن الحجاج ابن الشيخ ، وأبي الحسن بن كوثر ، وأبي خالد يزيد بن رفاعة ، وأكثر عنه ، وأبوى عبد الله بن عروس ، ابن الفخار ، وأبي(3/52)
"""""" صفحة رقم 53 """"""
محمد بن حوط الله ، وعبد الحق بن بونه ، وعبد الصمد ابن يعيش ، وعبد المنعم بن الفرس ، وأجازوا له . وتلا القرآن على أبي عبد الله الإستجي . وروى الحديث عن أبي جعفر الحصار . وحج في نحو سنة ثمانين وخمسماية . وأخذ عن جماعة من أهل المشرق ، كأبي الطاهر الخشوعي وغيره .
وفاته : توفي شهيداً محرضاً صابرا يوم الاثنين منتصف صفر عام تسعة وستماية .
محمد بن محمد بن أحمد بن على الأنصاري
يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بابن قرال ، من أهل مالقة
حاله
طالب عفيف مجتهد خير . قرأ بغرناطة ، وقام على فن العربية قياماً بالغاً ، وشارك في غيره ، وانتسخ الكثير من الدواوين بخط بالغ أقصى مبالغ الإجادة والحسن ، وانتقل إلى مالقة فأقرأ بها العربية ، واقتدى بصهره الصالح أبي عبد الله القطان ، فكان من أهل الصلاح والفضل . وتوفي في محرم عام خمسين وسبعماية .
محمد بن محمد بن إدريس بن مالك بن عبد الواحد ابن عبد الملك ابن محمد بن سعيد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الله القضاعي
من أهل إسطبونة ، يكنى أبا بكر ، ويعرف بالقللوس .
حاله
كان رحمه الله إماماً في العربية والعروض والقوافي ، موصوفاً بذلك ، منسوباً إليه ، يحفظ الكثير من كتاب سيبويه ، ولايفارقه بياض يومه ، شديد التعصب له ، مع خفة وطيش يحمله على التوغل في ذلك . حدثني شيخنا أبو الحسن بن الجياب رحمه الله ، قال ، وقف أبو بكر القللوس يوماً على القاضي أبي عمرو بن الرندون ، وكان شديد الوقار ، مهيباً ، وتكلم في مسألة من العربية ، نقلها عن سيبويه ، فقال القاضي أبو عمرو . أخطأ سيبويه . فأصاب أبا بكر القللوس قلق كاد يلبط به الأرض ، ولم يقدر على جوابه بما يشفى به صدره لمكان رتبته ، قال ، فكان يدور بالمسجد ، والدموع تنحدر على وجهه ، وهو يقول أخطأ من خطاه ، يكررها والقاضي أبو عمرو يتغافل عنه ، ويزرى عليه . وكان مع ذلك . مشاركاً في فنون ، من(3/53)
"""""" صفحة رقم 54 """"""
فقه وقراءات . وفرايض ، من أعلام الحفاظ للغة ، حجة في العروض والقوافي ، يخطط بالقافي عند ذكره في الكتب . وله في ذلك العروض والقوافي ، يخطط بالقافي عند ذكره في الكتب . وله في ذلك تواليف بديعة . وولى الخطابة ببلده مدة ، وقعد للتدريس به ، وانثال عليه الناس وأخذوا عنه . ونسخ بيده الكثير وقيد ، وكان بقطره علماً من أعلام الفضل والإيثار والمشاركة .
تواليفه
نظم رجزاً شهيراً في الفرايض علماً وعملاً ، ونظم في العروض والقوافي وألف كتاب ' الدرة المكنونة في محاسن إسطبونة ' ، وألف تأليفاً حسناً في ترحيل يالشمس ، وسوسطات الفجر ، ومعرفة الأوقات ، ونظم أرجوزة في شرح ملاحن ابن دريد ، وأرجوزة في شرح كتاب ' الفصيح ' . ورفع للوزير ابن الحكيم كتاباً في الخواص وصنعة الأمدة والتطبع الشاب . غريباً في معناه .
مشيخته
قرأ على الأستاذ أبي الحسن بن أبي الربيع ، ولازمه ، وأخذ عنه . وعن أبي القاسم بن الحصار الضرير السبتي ، وعلى الأستاذ أبي جعفر بن الزبير بغرناطة وغيرهم .
شعره
من شعره قوله من قصيدة يمدح ابن الحكيم :
علاه رياض أورقت بمحامد . . . تنور بالجدوى وتثمر بالأمل
تسح عليها من نداه غمامة . . . تروى ثرى المعروف بالعل والنيل
وهل هو إلا الشمس نفساً ورفعة . . . فيغرب بالجدوى ويبعد بالأمل
تعم أياديه البرية كلها فدان . . . وقاصٍ جود كفيه قد شمل
وهي طويلة . ونقلت من خط صاحبنا أبي الحسن النباهي . قال يمدح أبا عبد الله الرنداحي :
أطلع بأفق الراح كاس الراح . . . وصل الزمان مساءه بصباح
خذها على رغم العذول مدامة . . . تنفى الهموم وتأت بالأفراح
والأرض قد لبست برود أزاهر . . . وتمنطقت من نهرها بوشاح
والجو إذ يبكي بدمع غمامة . . . ضحك الربيع له بثغر أقاح
والروض مرقوم بوشى أزاهر . . . والطير يفصح أيما إفصاح
والغصن من طرب يميل كأنما . . . سقيت بكف الريح كأس الراح
والورد منتظم على أغصانه . . . يبدو فتحسبه خدود ملاح
وكأن عرف الريح من زهر الربى . . . عرف امتداح القايد الرنداح
وفاته
ببلده عصر يوم الجمعة الثامن عشر لرجب الفردسنة سبع وسبعماية(3/54)
"""""" صفحة رقم 55 """"""
محمد بن محمد بن محارب الصريحي
من أهل مالقة . يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بابن أبي الجيش
حاله وأوليته
أصل سلفه من حصن يسر من عمل مرسية ، من بيت حسب وأصالة ، ولخؤولته بالجهة التاكرونية ثورة وقفلت فيه في عايد الصلة : كان من صدور المقريين ، وأعلام المتصدرين تفنناً واضطلاعاً ، وإدراكاً ، ونظراً . إماماً في الفرايض والحساب قايماً على العربية ، مشاركاً في الفقه والأصول ، وكثير من العلوم العقلية . قعد للإقراء بمالفة ، وخطب بجامع الربض .
مشيخته
قرأ على الأستاذ القاضي المتفنن أبي عبد الله بن بكر ، ولازمه . ثم ساء مابينهما في مسألة وقعت بمالقة ، وهي تجويز الخلف في وعد الله ، شنع فيها على شيخنا المذكور ، ونسبه إلى أن قال ، وعد الله ليس بلازم الصدق ، بل يجوز فيه الخلف ، إذ الأشياء في حقه متساوية ، وكتب في ذلك أسئلة للعلماء بالمغرب ، فقاطعه وهجره . ولما ولى القاضي أبو عبد الله بن بكر القضاء ، خافه ، فوجه عنه إثر ولايته ، فلم يشك في الشر ، فلما دخل عليه ، رحب به ، وأظهر له القبول عليه ، والعفو عنه ، واستانف مودته ، فكانت تعد في مآثر يالقاضي رحمه الله ورحل المذكور إلى سبتة ، فقرأ بها على الأستاذ أبي إسحاق الغافقي ، ومن عاصره ، ثم عاد إلى مالقة ، فالتزم التدريس بها إلى حين وفاته .
دخوله غرناطة
دخل غرناطة مرات ، متعلماًن وطالب حاج . ودعى إلى الإقراء بمدارستها النصرية ، عام تسعة وأربعين وسبع ماية ، فقدم على الباب السلطاني ، واعتذر بما قبل فيه عذره . وكان قد شرع في تقييد مفيد على كتاب التسهيل لابن مالك . في غاية النبل والاستيفاء والحصر والتوجيه ، عاقته المنية عن إتمامه .
وفاته : توفي بمالقة في كاينة الطاعون الأعظم في أخريات ربيع الآخر من عام خمسين وسبعماية ، بعد أن تصدق بمال كثير ، وعهد بريع مجد لطلبة العلم ، وحبس عليهم كتبه .(3/55)
"""""" صفحة رقم 56 """"""
محمد بن محمد بن لبي الكناني
من أهل مالقة ، يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بابن لب
حاله
كان ذاكراً للعلوم القديمة . معتنياً بها . عاكفاً عليها ، متقدماً في علمها على أهل وقته ، لم يكن يشاركه أحد في معرفتها ، من الرياضيات والطبيعيات والإلآلهيات ، ذاكراً لمذاهب القدماء ، ومآخذهم في ذلك حافظاً جداً ، ذاكراً لمذاهب المتكلمين ، من الأشعرية وغيرهم ، إلا أنه يوثر ماغلب عليه من مآخذ خصومهم ، وكان نفوذه في فهمه ، دون نفوذه في حفظه ، فكان معتمده على حفظه في إيراده ومناظرته ، وكان ذاكراً مع ذلك لأصول الفقه وفروعه ، عجباً في ذلك ، إذا وردت مسألة ، أورد ماللناس فيها من المذاهب . وعزم عليه آخر عمره ، فقعد بجامع مالقة ، يتكلم على الموطا ، وما كان من قبل تهيأ لذلك ، إلا أنه ستر عليه حفظه ، وتعظم أهل بلده له . قال ابن الزبير ، وكانت فيه لوثة ، واخشيشان ، وكان له أرب في التطواف ، وخصوصاً بأرض النصارى ، يتكلم مع الأساقفة في الدين ، فيظهر عليهم ، وكانت أموره غريبة ، من امتزاج اليقظة بالغفلة ، وخلط السذاجة بالدعابة . يحكى عنه أنه كانت له شجرة تين بداره بمالقة ، فباع ما عليها من أحد أهل السوق ، فلما هم بجمعها ، ذهب ليمهد للتين بالورق في الوعاء ، فمنعه من ذلك ، وقال له إنما اشتريت التين ، ولم تدخل الورق في البيع ، فتعب ذلك المشترى ما شاء الله ، وجلب ورقاً من غيرها ، حتى انقضى الأمر ، وعزم على معاملته في السنة الثانية ، فأول مااشترط الورق ، فرغ من الغلة ، دعاه فقال له ، احمل ورقك ، فإنه يوذيني ، فأصابه من المشقة في جمعه من أطراف الغصون مالم يكن يحستب ، ولم تات السنة الثالثة ، إلا وللرجل فقيه ، اشترط مقدار الكفاية من الورق ، فسامحه ورفق به .
دخل غرناطة وغيرها ، وأخباره عجيبة . قال أبو جعفر بن الزبير : عرض لي بمالقة مسايل ، يرجع بعضها إلى الطريقة البيانية ، والمآخذ الأدبية ، وضحت ضرورة إلى الأخذ معه فيها ، وفي آيات من الكتاب العزيز ، فاستدعيته إلى منزلي ، وكان فيه تخلق ، وحسن ملاقاة . مع خفته الطبيعية وتشتت منازعه ، فأجاب ، وأخذت معه في ذلك ، فألفيته صايماً عن ذلك جملة .
وصمته
قال ، وكان القاضي الجليل ، أبو القاسم بن ربيع ، وأخوه أبو الحسن ينافرانه على الإطلاق ، ويحذران منه ، وهو كان الظاهر من حاله . قال ، واستدعاني في مرض اشتد به ، قبل خروجي من مالقة على انفراد ، فتنصل لي مما كان يذن به ، وأكثر البكاء ، حتى رثيت له .(3/56)
"""""" صفحة رقم 57 """"""
وفاته : توفي بمالقة ، ووصى قبل موته بوصايا من ماله . في صدقات وأشباهها ، وحبس داره وطايفة من كتبه على الجامع الكبير بمالقة .
محمد بن محمد البدوي
الخطيب بالربض من بلش ، يكنى أبا عبد الله . حاله
من العايد : كان رحمه الله حسن التلاوة لكتاب الله ، ذا قدمٍ في الفقه ، له معرفة بالأصلين ، شاعراً مجيداً ، بصيراً ، بليغاً في خطبته ، حسن الوعظ ، سريع الدمعة . حج ولقى جلة . وأقرأ ببلش زماناً ، وانتفع به ، ولقى شدايد ، أثلها الحسد .
مشيخته
قرأ العلم على الشيخين المقريين ، الحجتين ، أبي جعفر بن الزيات ، وأبي عبد الله بن الكماد ، وقرأ العربية والأصلين ، على الأستاذ أبي عمرو ابن منظور ، ولازمه وانتفع به ، وقرأ الفقه على الشيخ القاضي أبي عبد الله ابن عبد السلام بمدينة تونس .
شعره
من شعره قوله في غرض النسيب :
خال على خدك أم عنبر . . . ولؤلؤ ثغرك أم جوهر
أوريت نار الوجد طي الحشا . . . فصارت النار به تسعر
لو جدت لي منك برشف اللما . . . لقلت خمر عسل سكر
دعني في الحب أذب حسرة . . . سفك دم العاشق لا ينكر(3/57)
"""""" صفحة رقم 58 """"""
وقال :
عيناي تفهم من عينيك أسرارا . . . وورد خدك يذكي في الحشا نارا
ملكت قلب محب فيك مكتيب . . . قد أثر الدمع في خديه آثارا
رضاب ثغرك يروي حر غلته . . . يا ليت نفسي تقضي منه أوطارا
أنعم بطيف منك ألمحه . . . مإذا عليك بطيف منك لو زارا
نفسي فداؤك من ظبي به كلف . . . يصبو له القلب مضطراً ومختارا
وقال :
أيها الظبي ترفق . . . بكييب قد هلك
ألذنب تتجنى . . . أم لشيء يوصلك
إن روحي لك ملك . . . وكذا قلبي لك
إنما أنت هلال . . . فلك القلب فلك
ومن مجموع نظمه ونثره ما خاطبني به ، وقد طلبت من أدبه لبعض ما صدر عني من المجموعات : يا سيدي أبقاك الله بهجة للأعيان الفضلاء ، وحجة لأعلام العلاء ، ولا زلت تسير فوق النسر ، وتجري في الفضايل على كرم النجر . ذكر لي فلان أنكم أردتم أن يرد على كمالكم ، بعض الهذيان ، الصادر عن معظم جلالكم ، فأكبرت ذلك ، ورأيتني لست هنالك ، وعجبت أن ينظم مع الدر السبج ، أو يضارع العمش الدعج ، بيد أن لنظم الدر صناع ، والحديث قد يذاع ، ولا يضاع ، وحين اعتذرت له فلم يعذرني ، وانتظرته فلم ينظرني ، بعد أن استعفيته فأبى ، واستنهضت جواد الإجابة فكبى ، وسلك غير طريقي ، ولم يبلغني ريقي ، وفيت الغرض ، وقضيت من إجابته الحق المفترض ، ورددت عن تعذاله النصيح ، وأثبت هنا ما معناه صحيح ، ولفظه غير فصيح :
بريت من حولي ومن قوتي . . . بحول من لا حول إلا له
وثقت بالخالق فهو الذي . . . يدبر العبد وأفعاله(3/58)
"""""" صفحة رقم 59 """"""
وقلت بالحرم عند الملتزم من المنظوم في مثل ذلك :
أمولاي بالباب ذو فاقة . . . وهذا يحط خطايا الأمم
فجد لي بعفوك عن زلتي . . . يجود الكريم بقدر الكرم
ومما أعددته للوفادة على خير من عقدت عليه ألوية السيادة :
حمدت إليك مع الصباح سراها . . . وأتتك تطلب من نداك قراها
وسرت إليك مع النسيم يمينها . . . شوقاً في السرى يسراها
ولولا العجر لوصلت ، والعذر لأطلت ، لكن ثنيت عناني لثنايك ، لحسن اعتنايك ، وقلت معتذراً من الصورة لمجدكم ، وتالياً سورة حمدكم :
المجد تخبر عن صدق مآثره . . . وناظم المجد في العلياء ناثره
والجود إن جد جد المرء ينجده . . . وقلما ثم في الأيام ذاكره
من نال ما نلت من مجد ومن شرف . . . فليس في الناس شخص يناظره
يا سيداً طاب في العلياء محتده . . . ماجداً رسخت فيه أواصره
سريت في الفضل مستناً على . . . سنن في الفضل مآربه حقاً وسامره
ورثته عن كبير أوحد علم . . . كذاك يحمله أيضاً أكابره
مبارك الوجه وضاح الجبين له . . . نور ينير أغر النور باهره
موفق بكفيل من عنايته مرفع . . . العذر سامي الذكر طاهره
رعيت في الفضل حق الفضل مجتهداً مفهوم مجدك هذا الحكم ظاهره
علوت كالشمس إشراقاً ومنزلة . . . فأنت كالغيث يحيى الأرض ماطره ينم بالفضل منك الفضل مشتهرا . . . كما ينم بزهر الروض عاطره
دم وابق للمجد كهفاً والعلا وزراً . . . فإنما المجد شخص أنت ناظره
مؤملاً منك خيراً أنت صانعه . . . وصانع الخير عند الله شاكره
وما وليت وما أوليت من حسن . . . فللناس والعالم العلوي ذاكره
بقيت تكسب من والاك مكرمة . . . وناصراً أبداً من قل ناصره(3/59)
"""""" صفحة رقم 60 """"""
عذراً لك الفضل عما جيت من خطإ . . . أن يخط مثلي يوماً أنت عاذره
ثم السلام على علياك من رجل . . . تهدى الذي يخفى ضمايره
دخوله غرناطة : دخلها غير ما مرة ، ولقيته بها لتقضي بعض أغراض بباب السلطان ، مما يليق بمثله .
مولده : . . . . . . . . .
وفاته : توفي ببلش في أخريات عام خمسين وسبعماية .
محمد بن عبد الله بن ميمون بن إدريس بن محمد ابن عبد الله العبدري
قرطبي ، استوطن مدينة مراكش ، يكنى أبا بكر .
حاله
كان عالماً بالقراءات ، ذاكراً للتفسير ، حافظاً للفقه واللغات والأدب ، شاعراً محسناً ، كاتباً بليغاً ، مبرزاً في النحو ، جميل العشرة ، حسن الخلق ، متواضعاً ، فكه المحاضرة ، مليح المداعبة . وصنف في غير ما فن من العلم وكلامه كثير مدون ، نظماً ونثراً .
مشيخته
روى عن أبي بكر بن العربي ، وأبي الحسن شريح ، وعبد الرحمن ابن بقي ، وابن الباذش ، ويونس بن مغيث ، وأبي عبد الله بن الحاج ، وأبي محمد بن عتاب ، وأبي الوليد بن رشد ، ولازمه عشرين سنة . قرأ عليهم وسمع ، وأجازوا له ، وسمع أبا بحر الأسدي ، وأبوي بكر عياش ابن عبد الملك ، وابن أبي ركب ، وأبا جعفر بن سانجة ، وأبا الحسن عبد الجليل ، وأبا عبد الله بن خلف الأيسري ، وابن المناصف ، وابن أخت غانم ، ولم يذكر أنهم أجازوا له ، وروى أيضاً عن أبوي عبد الله مكي ، وابن المعمر ، وأبي الوليد بن طريف .
من روى عنه : روى عنه أبو البقاء بعيش بن القديم ، وأبو الحسن ابن مؤمن ، وأبو زكريا المرجيعي ، وأبو يحيى أبو بكر الضرير واختص به .(3/60)
"""""" صفحة رقم 61 """"""
تواليفه
من مصنفاته مشاحذ الأفكار في مآخذ النظار وشرحاه الكبير والصغير على جمل الزجاجي ، وشرح أبيات الإيضاح العضدي ، ومقامات الحريري ، وشرح معشراته الغزلية ، ومكفراته الزهدية ، إلى غير ذلك ، وهما مما أبان عن وفور علمه ، وغزارة مادته ، واتساع معارفه ، وحسن تصرفه .
دخل غرناطة راوياً عن الحسن بن الباذش ومثله .
محنته
كان يحضر مجلس عبد المؤمن مع أكابر من يحضره من العلماء ، فيشف على أكثرهم بما كان لديه من التحقيق بالمعارف ، إلى أن أنشد أبا محمد عبد المؤمن أبياتاً كان نظمها في أبي القاسم عبد المنعم بن محمد ابن تست وهي :
أبا قاسم والهوى جنة . . . وها أنا من مسها لم أفق
تقحمت جامح نار الضلوع . . . كما خضت بحر دموع الحدق
أكنت الخليل أكنت الكليم . . . أمنت الحريق أمنت الغرق
فهجره عبد المؤمن ، ومنعه من الحضور بمجلسه ، وصرف بنيه عن القراءة عليه ، وسرى ذلك في أكثر من كان يقرأ عليه ، ويتردد إليه . على أنه كان في الطبقة العليا من الطهارة والعفاف .
شعره
قال في أبي القاسم المذكور ، وكان أزرق ، وقد دخل عليه ومعه أبو عبد الله محمد بن أحمد الشاطبي ، وأبو عثمان سعيد بن قوسرة . فقال ابن قوسرة :
عابوه بالزرق الذي يجفونه . . . والماء أزرق والعينان كذلك
فقال أبو عبد الله الشاطبي :
الماء يهدي للنفوس حياتها . . . والرمح يشرع للمنون مسالكا(3/61)
"""""" صفحة رقم 62 """"""
فقال أبو بكر بن ميمون المترجم به :
وكذلك في أجفانه سبب الردى . . . ولاكن أرى طيب الحياة هنالكا
ومما استفاض من شعره قوله في زمن الصبا عفا الله عنه :
لا تكثرت بفراق أوطان الصبا . . . فعسى تنال بغيرهن سعودا
والدر ينظم عند فقد بحاره . . . بجميل أجياد الحسان عقودا
ومن مشهور شعره :
توسلت يا ربي بأني مؤمن . . . وما قلت أني سامع ومطيع
أيصلى بحر النار عاص موحد . . . وأنت كريم والرسول شفيع
وقال في مرضه :
أيرتجى العيش من عليه . . . دلائل للردى جلية أولها مخبر بثان . . . ذاك أمان وذا منية
وفاته : توفي بمراكش يوم الثلاثاء اثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة سبع وستين وخمسماية ، ودفن بمقبرة تاغزوت داخل مراكش ، وقد قارب السبعين سنة .
محمد بن عبد الله بن عبد العظيم بن أرقم النميري
من أهل وادي آش ، يكنى أبا عامر .
حاله
كان أحد شيوخ بلده وطلبته ، مشاركاً في فنون ، من فقه وأدب وعربية ، وهي أغلب الفنون عليه ، مطرح السمت ، مخشوشن الزي ، قليل المبالاة بنفسه ، مختصراً في كافة شيونه ، مليح الدعابة ، شديد الحمل ، كثير التواضع ، وبيته معمور بالعلماء أولي الأصالة والتعين تصدر ببلده للفتيا والتدريس والإسماع .(3/62)
"""""" صفحة رقم 63 """"""
مشيخته
قرأ على الأستاذ القاضي أبي خالد بن أرقم ، والأستاذ أبي العباس ابن عبد النور . وروى عن أبيه مديح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وعن الوزير العالم أبي عبد الله بن ربيع ، والقاضي أبي جعفر بن مسعدة ، والأستاذ أبي جعفر بن الزبير ، وولي الله الحسن بن فضيلة .
ورحل إلى العدوة ، فأخذ بسبتة عن الأستاذ أبي بكر بن عبيدة ، والإمام الزاهد أبي عبد الله بن حريث ، وأبي عبد الله بن الخضار ، وأبي القاسم بن الشاط ، وغيرهم .
شعره
وهو من الجزء المسمى بشعر من لا شعر له والحمد لله . فمن ذلك قوله يمدح أبا زكريا العزفي بسبتة ، ويذكر ظفره بالأسطول من قصيدة أولها :
أما الوصال فإنه كالعيد . . . عذر المتيم واضح في الغد
وفاته : توفي ببلده عام أربعين وسبعماية . ودخل غرناطة ، راوياً ومتعلماً ، وغير ذلك .
محمد بن عبد الله بن يحيى بن عبد الله بن فرج بن الجد الفهري
الحافظ الجليل يكنى أبا بكر ، جليل إشبيلية ، وزعيم وقته في الحفظ . لبلي الأصل ، إشبيلي ، استدعاه السيد أبو سعيد والي غرناطة ، فأقام بها عنده ، في جملة من الفضلاء مثله سنين . ذكر ذلك صاحب كتاب ثورة المريدين .
حاله
كان في حفظ الفقه بحراً يغرف من محيط . يقال إنه ما طالع شيئاً من الكتب فنسيه ، إلى الجلالة والأصالة ، وبعد الصيت ، واشتهار المحل . وكان مع هذا يتكلم عند الملوك ، ويخطب بين يديها ، ويأتي بعجاب ، وفي كتاب الإعلام شيء من خبره ، قال ابن الزبير .(3/63)
"""""" صفحة رقم 64 """"""
مشيخته
روى عن أبي الحسن بن الأخضر ، أخذ عنه كتاب سيبويه وغيره ذلك ، وعن أبي محمد بن عتاب ، وسمع عليه بعض الموطأ ، وعن أبي بحر الأسدي ، وأبي الوليد بن طريف ، وأبي القاسم بن منظور القاضي ، وسمع عليه صحيح البخاري كله ، وشريح بن محمد ، وأبي الوليد بن رشد ، وناوله كتاب البيان والتحصيل . وكتاب المقدمات . لقي هؤلاء كلهم ، وأجازوا له عامة . وأخذ أيضاً عن مالك بن وهيب .
من حدث عنه
أبو الحسن بن زرقون ، وأبو محمد القرطبي الحافظ ، وإبنا حوط الله ، وغيرهم . وعليه من ختمت به المائة السادسة كأبي محمد بن جمهور ، وأبي العباس بن خليل وإخوته الثلاثة أبي محمد عبد الله ، وأبي زيد عبد الرحمن ، وأبي محمد عبد الحق . قال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير : حدثني عنه ابن خليل وأبو القاسم الجياني ، وأبو الحسن بن السراج .
مولده : بلبلة في ربيع الأول سنة ست وثمانين وخمسماية . ذكره ابن الملجوم ، وأبو الربيع بن سالم ، وابن فرتون .
محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن علي بن محمد ابن أحمد بن الفخار الجذامي
يكنى أبا بكر ، أركشي المولد المنشأ ، مالقي الاستيطان ، شريشي التدرب والقراءة .
حاله
من عايد الصلة : كان رحمه الله خيراً صالحاً ، شديد الانقباض ، مغرقاً في باب الورع ، سليم الباطن ، كثير العكوف على العلم والملازمة ، قليل الرياء والتصنع . خرج من بلده أركش عند استيلاء العدو على قصبتها ، وكان يصفها ، وينشد فيها من شعر أستاذه الأديب أبي الحسن الكرماني :
أكرم بأركش دارا . . . تاهت على البدر قدرا(3/64)
"""""" صفحة رقم 65 """"""
يخاطب المجد عنها . . . لقلب تدنى شكرا واستوطن مدينة شريش ، وقرأ بها ، وروى بها عن علمائها ، واقرأ بها . ولما استولى العدو عليها لحق بالجزيرة الخضراء ، فدرس بها ، ثم عبر البحر إلى سبتة . فقرأ بها وروى . ثم كر إلى الأندلس ، فقصد غرناطة ، وأخذ عن أهلها . ثم استوطن مالقة ، وتصدر للإقراء بها ، مفيد التعليم ، متفننه ، من فقه وعربية وقراءات وأدب وحديث ، عظيم الصبر ، مستغرق الوقت ، يدرس من لدن صلاة الصبح إلى الزوال . ثم يسند ظهره إلى طاق المسجد بعد ذلك ، فيقرى ، وتأتيه النساء من خلفه للفتيا ، فيفتيهن عل حال سؤالا تهن إلى نصف ما بين العصر والعشاء الأولى . ثم يأتي المسجد الأعظم بعد الغروب ، فيقعد للفتيا إلى العشاء الآخرة ، من غير أن يقبل من أحد شيئاً . ومن أخذ منه بعد تحكيم الورع ، أثابه بمثله . ما رئي في وقته أورع منه . وكان يتخذ رومية مملوكة ، لا يشتمل منزله على سواها ، فإذا أنس منها الضجر للحصر وتمادى الحجاب ، أعتقها ، وأصحبها إلى أرضها . ونشأت بينه وبين فقهاء بلده خصومة في أمور عدوها عليه ، مما ارتكبها لاجتهاده في مناط الفتوى ، وعقد لهم أمير المسلمين بالأندلس ، مجلساً ، أجلى عن ظهوره فيه ، وبقاء رسمه ، فكانت محنة ، وخلصه الله منها . وبلغ من تعظيم الناس إياه ، وانحياشهم إليه مبلغاً لم ينله مثله ، وانتفع بتعليمه ، واستفيد منه الأدب ، على نسكه وسذاجته .
مشيخته
قرأ ببلده شريش على المكتب الحاج أبي محمد عبد الله بن أبي بكر ابن داود القيسي ، وعلى الأستاذ أبي بكر محمد بن الرباح ، وعلى الأستاذ أبي الحسن علي بن إبراهيم بن حكيم السكوني الكرماني . أخذ عنه العربية والأدب ، وعلى الحافظ أبي الحسن علي بن عيسى المعروف بابن متيوان ، وعلى الأصولي الكاتب أبي الحسن هلال بن أبي سنان الأزدي المراكشي ، وعلى الخطيب أبي العرب إسماعيل بن إبراهيم الأنصاري ، وعلى الفقيه أبي عبد الله الجنيدي المعروف بالغراق ؛ وعلى الفقيه العددي أبي عبد الله محمد بن علي بن يوسف المعروف بابن الكاتب المكناسي . وقرأ بالجزيرة الخضراء على الخطيب الصالح أبي محمد الركبي ، وروى عنه ، وقرأ بها على الخطيب أبي عبيد الله بن خميس ، وعلى الأصولي أبي أمية . وقرأ بسبتة على الأستاذ الفرضي إمام النحاة أبي الحسن بن أبي الربيع ، وعلى أبي يعقوب المحبساني ، وعلى المحدث أبي عمرو عثمان بن عبد الله(3/65)
"""""" صفحة رقم 66 """"""
العبدري ، وعلى الفقيه المالكي الحافظ أبي الحسن المتيوي ، والأصولي أبي الحسن البصري ، والفقيه المعمر الراوية أبي عبد الله محمد الأزدي ، والمحدث الحافظ أبي محمد بن الكماد ، وعلى الأستاذ العروضي الكفيف أبي الحسن بن الخضار التلمساني . ولقي بغرناطة قاضي الجماعة أبا القاسم ابن أبي عامر بن ربيع ، والأستاذ أبا جعفر الطباع ، وأبا الوليد إسماعيل ابن عيسى بن أبي الوليد الأزدي ، والأستاذ أبا الحسن بن الصايغ . ولقي بمالقة الخطيب الصالح أبا محمد عبد العظيم بن الشيخ ، والراوية أبا عبد الله محمد بن علي بن الحسن الجذامي السهيلي . وسمع على الراوية أبي عمرو ابن حوط الله ، وعلى الأستاذ أبي عبد الله بن عباس القرطبي .
تواليفه
كان رحمه الله مغري بالتأليف ، فألف نحو الثلاثين تأليفاً في فنون مختلفة ، منها كتاب تحبير نظم الجمان في تفسير أم القرآن ، و ' انتفاع الطلبة النبهاء في اجتماع السبعة القراء ' . و ' الأحاديث الأربعون بما ينتفع به القارئون والسامعون ' ، وكتاب ' منظوم الدرر في شرح كتاب المختصر ' و ' كتاب نصح المقالة في شرح الرسالة ' ، وكتاب ' الجواب المختصر المروم في تحريم سكنى المسلمين ببلاد الروم ' ، وكتاب ' استواء النهج في تحريم اللعب بالشطرنج ' ، وكتاب ' جواب البيان على مصارمة أهل الزمان ' ، وكتاب تفضيل صلاة الصبح للجماعة في آخر الوقت المختار على صلاة الصبح للمنفرد في أول وقتها بالابتجدار ' ، وكتاب ' إرشاد السالك في بيان إسناد زياد عن مالك ' ، وكتاب ' الجوابات المجتمعة عن السؤالات المنوعة ' ، وكتاب ' إملا فوايد الدول في ابتداء مقاصد الجمل ' وكتاب ' منهج الضوابط المقسمة في شرح قوانين المقدمة ' ، وكتاب ' التكملة والتبرية في إعراب البسملة والتصلية ' ، وكتاب ' سح مزنة الانتخاب في شرح خطبة الكتاب ' . ومنها اللايح المعتمد عليه في الرد على من رفع الخبر بلا إلى سيبويه ، وغير ذلك من مجيد ومقصر .
شعره وشعره كثير ، غريب النزعة ، دال على السذاجة ، وعدم الاسترابة والشعور ، والغفلة المعربة عن السلامة ، من ارتكاب الحوشى ، واقتحام الضرار ، واسعمال الألفاظ المشتركة التي تتشبث بها أطراف الملاحين والمعاريض ، ولع كثير من أهل زمانه بالرد عليه ، والتملح بما يصدر عنه ، منهم القاضي أبو عبد الله بن عبد الملك .(3/66)
"""""" صفحة رقم 67 """"""
ومن منتخب شعره قوله :
أنظر إلى ورد الرياض كأنه . . . ديباج خد في بنان زبرجد
قد فتحته نضارة فبدا له . . . في القلب رونق صفرةٍ كالعسجد
حكت الجوانب خدحب ناعم . . . والقلب يحكى خد صب مكمد
حدث الفقيه العدل أبو جعفر أحمد بن مفضل المالقى ، قال ، قال لي يوماً الشيخ الأستاذ أبو بكر بن الفخار ، خرجت ذات يوم وأنا شاب من حلقة الأستاذ بشريش ، أعادها الله للإسلام ، في جملة من الطلبة ، وكان يقابل باب المسجد حانوت سراج ، وإذا فتى وسيم في الحانوت يرقم جلداً كان في يده ، فقالوا لي لاتجاوز هذا الباب ، حتى تصنع لنا شعراً في هذا الفتى . فقلت :
ورب معذر للحب داع . . . يروق بهاء منظره البهيج
وشى في وجنتيه وشياً . . . كوشى يديه في أدم السروج
مولده
بحصن أركش بلده ، وكان لا خبر به ، في ما بين الثلاثين والأربعين وست ماية .
وفاته
توفي بمالقة في عام ثلاثة وعشرين وسبعماية ، وكانت جنازته بمالقة مشهورة
محمد بن علي بن عمر بن يحيى بن العربي الغساني
من أهل الحمة من عمل المرية ، يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بابن العربي وينتمي في بني أسود من أعيانها .
حاله
من العايد : كان رحمه الله من أهل العلم والدين والفضل ، طلق الوجه ، حسن السير ، كثير الحياء ، كأنك إذا كلمته تخاطب البكر العذراء ، لا تلقاه إلا مبتسماً ، في حسن سمت ، وفضل هوىً ، وجميل وقار ، كثير الخشوع ، وخصوصاً عند الدهول في الصلاة ، تلوح عليه بذلك ، عند تلاوته سيمى الحضور ، وحلاوة الإقبال . وكان له تحقق بضبط القراءات ، والقيام عليها ، وعناية بعلم العربية ، مع مشاركة في غير ذلك من الفنون السنية ، والعلوم الدينية . انتصب للإقراء والتدريس(3/67)
"""""" صفحة رقم 68 """"""
بالحمة المذكورة ، فقرب النجعة على أهل الحصون والقرى الشرقية ، فصار مجتمعاً لأرباب الطلب من أهل تلك الجهات ومرتفقاتهم . وكان رجلاً صالحاً ، مبارك النية ، حسن التعليم ، نفع الله به من هنالك ، وتخرج على يديه جمع وافر من الطلبة ، عمرت بهم ساير الحصون . وكان له منزل رحب للقاصدين ، ومنتدى عذب للواردين . تجول في آخرة بالأندلس والعدوة ، وأخذ عمن لقى بها من العلماء ، وأقام مدة بسبتة ، مكباً على قراءة القرآن والعربية . وبعد عوده من تجواله لزم التصدر للإقراء بحيث ذكر ، وقد كانت الحواضر فقيرة لمثله ، غير آنه آثر الوطن ، واختار الاقتصارد .
؟ مشيخته
أخذ يألمرية عن شيخها أبى الحسن بن أبى العيش ، وبغرناطة عن الأستاذ أبي جعفر بن الزبير ، والعدل أبي الحسن بن مستقور . وببلش عن الأستاذ أبي عبد الله بن الكماد ، والخطيب أبي جعفر بن الزيات . وبمالقة عن الأستاذ أبي عبد الله بن الفخار ، والشيخ أبي عبد الله محمد بن يحيى بن ربيع الأشعري . وبالجزيرة عن خطيبها أبي العباس بن خميس . وبسبتة عن الأستاذ أبي إسحاق العافقي ، والخطيب أبي عبد الله بن رشيد ، والإمام الصالح أبي عبد الله محمد بن محمد بن حريث ، والقاضي أبي عبد الله القرطبي ، والزاهد أبي عبد الله بن معلى ، الشيخ الخطيب أبي عبد الله العغماري . وبمكناسة عن القاضي وارياش . وبفاس من الحاج الخطيب أبي الربيع سليمان بن مفتاح اللجاي ، والأستاذ أبي الحسن بن سليمان ، والأستاذ أبي عبد الله بن أجروم الصنهاجي ، والحاج أبي القاسم بن رجا ابن محمد بن علي وغيرهم ، وكل من ذكر أجازله عامة ، ألا قاضي مكناسة أبي عبد الله محمد بن علي الكلبي الشهير بوارياش .
مولده : في أول عام اثنين وثمانين وستماية وفاته : توفي بالحمة ليلة الإثنين الثامن عشر لشهر محرم عام ثمانية وأربعين وسبعماية .
محمد بن علي بن محمد العبدري
من أهل مالقة ، يكنى أبا عبد الله ، ويعرف باليتيم(3/68)
"""""" صفحة رقم 69 """"""
حاله كان رحمه الله أحد الظرفاء من أهل بلده ، مليح الشكل ، حسن الشيبة ، لوذعياً في وقار ، رشيق النظم والنثر ، غزلا مع الصون ، كثير الدعابة من غير إفحاش ، غزير الأدب ، حسن الصوت ، رايق الخطبن بديع الوراقة ، معسول الألفاظ ، ممتع المجالسة ، طيب العشرة . أدب الصبيان مدة ، وعقد الشروط أخرى ، وكان يقرأ كتب الحيدث والتفسير والرقايق للعامة بالمسجد الأعظم ، بأعذب نغمة ، وأمثل طريقة ، مذ أزيد من ثلاثين سنة ، لم يخل منها وقتاً إلا ليلتين ، إحداهما بسبب امتساكناب به في نزهة برياض بعض الطلبة . لم يخلف مثله بعده . وخطب بقصبه مالقة ، ومال أخيراً إلى نظر الطب ، فكان الناس يميلون اليه ، وينتفعون به لسياغ مشاركته ، وعموم انقياده ، وبره ، وعمله على التودد والتجمل .
وجرى ذكره في ' التاج المحلى ' بما نصه : مجموع أدوات حسان ، من خط ونغمة ولسان ، أوراقه روض تضوع نسماته ، وبشره صبح تتألق قسماته ، ولايخفى سماته . يقرطس أغراض الدعابة ويصميها ، ويفوق سهام الفكاهة إلى مراميها ، فكلما صدرت في عصره قصيدة هازلة ، أو أبيات منحطة عن الإجادة نازلة ، خمس أبياتها وذيلها ، وصرف معانيها وسهلها ، وتركها سمر الندمان ، وأضحوكة الزمان . وهو الآن خطيب المسجد الأعلى من مالقة ، متحل بوقار وسكينة ، حال من أهلها بمكانةٍ مكينة ، لسهولة جانبه ، واتضاح مقاصده في الخير ومذاهبه . ، واشتغل لأول أمره بالتعليم والتكتيب ، وبلغ الغاية في الوقار والترتيب ، وللشباب لم ينصل خضابه ، ولا شلت للمشيب عضابه ، ونفسه بالمحاسن كلفة ، وشأنه كله هوى ومحبة ، ولذلك ماخاطبه به بعض أودايه ، وكلاهما رمى أهله بدايه ، حسبما يأتي خلال هذا المقول وفي أثنايه بحول الله .(3/69)
"""""" صفحة رقم 70 """"""
شعره
كتبت إليه أسأل منه ماأثبت في كتاب ' التاج ' من شعره ، فكتب إلى :
أما العرام فلم أخلل بمذهبه . . . فلم حرمت فؤادي نيل مطلبه
يامعرضاً عن فؤادٍ لم يزل كلفاً . . . بحبه ذا حذار من تجنبه
قطعت عنه الذي عودته فغدا . . . وحظه من رضاه برق خلبه
أيام وصلك مبذول وبرك بي . . . مجدد قد صفا لي عذب مشربه
وسمع ودك عن إفك العواذل في . . . شغلٍ وبدر الدجى ناسٍ لمغربه
ألأنت تمنعني نيل الرضا كرماً . . . ولا فؤادي بوانٍ ف يتطلبه
لله عرفك ماأذكى تنسمه . . . لو كنت تمنحني استشاق طيبه
أنت الحبيب الذي لم أتخذ بدلاً . . . منه وحاش لقلبي من تقلبه
يا ابن الخطيب الذي قد فقت كل سناً . . . أزال عن ناظري إظلام غيهبه
محمد الحسن في خلقٍ وفي خلق . . . كملت باسمك معنى الحسن فازه به
نأيت أو غبت مالي عن هواك غنى . . . لانيقص البدر حسناً في بتغيبه
سيان حال التداني والبعاد وهل . . . لمبصر البدر نيل في ترقبه
يامن أحسن ظنى في رضاه وما . . . ينفك يبدى قبيحاً من تغضبه
إن كان ذنبي الهوى فالقلب مني . . . لايصغى لسمع ملامٍ من مؤنبه
فأجبته بهذه الرسالة ، وهي ظريفة في معناها : ' ياسيدي ، الذي إذا رفعت راية ثنايه تلقيتها باليدين ، وإذا قسمت سهام وداده(3/70)
"""""" صفحة رقم 71 """"""
على ذوي اعتقاده ، كنت صاحب الفريضة والدين ، دام بقاؤك لطرفةٍ تبديها ، وغريبةٍ تردفها ، بأخرى تليها ، وعقيلة بيان تحليها ونفس أخذ الحزن بكظمها ، وكلف الدهر بشت نظمها ، تونسها وتسليها ، لم أزل أعزك الله ، أشد على بدايعها بد الضنين ، وأقتنى درر كلامك ، ونفثات أقلامك ، اقتناء الدر الثمين ، والأيام بلقياك تعد ولا تسعد ، وفي هذه الأيام انثالت على سماؤك بعد قحط ، وتوالت على آلاوك على شحط ، وزارتني من عقايل بيانك كل فاتنة الطرف ، عاطرة العرف ، رافلةٍ في حلل البيان والظرف ، لو ضربت بيوتها بالحجار ، لأقرت لنا العرب العاربة بالإعجاز ، ماشيت من رصف المبنى ، ومطاوعة اللفظ لغرض المعنى ، وطيب الأسلوب ، والتشبث بالقلوب . غير أن سيدى أفرط في التنزل ، وخلط المخاطبة بالتغزل ، وراجع الالتفات ، ورام استدراك مافات . يرحم الله شاعر المعرة ، فلقد أجاد في قوله ، وأمكر مناجاةً للشوق ، بعد انصرام حوله فقال :
أبعد حولٍ تناجي للشوق ناجية . . . هلا ونحن على عشر من العشر
وقد تجاوزت في الأمل ، وأنسيت أخبار صاحبك عبد الصمد ، فأقسم بألفات القدود ، وهمزات الجفون السود ، وحاملى الأرواح مع الألواح ، بالغدو والرواح ، لولا بعد مزارك ، ماأمنت غايلة ماتحت إزارك ثم إني حققت الغرض ، وبحثت عن المشكل الذي عرض ، فقلت للخواطر انتقال ، ولكل مقام مقال ، وتختلف الحوايج باختلاف الأوقات ، ثم رفع اللبس خبر الثقات .(3/71)
"""""" صفحة رقم 72 """"""
ومنها : وتعرفت ما كان من مراجعة سيدي لحرفة التكتيب والتعليم ، والحنين إلى العهد القديم ، فسررت باستقامة حاله ، وفضل ماله ، وإن لاحظ الملاحظ ماقال الجاحظ ، فاعتراض لا يرد ، وقياس لا يضطرد ، جبذا والله عيش أهل التاديب ، فلا بالضنك ولا بالجديب ، معاهدة الإحسان .
ومشاهدة الصور الحسان ، يميناً إن المعلمين لسادة المسلمين ، وإني لأنظر منهم ، كلما خطرت على المكاتب ، أمراً فوق المراتب ، من كل مسيطرالدرة ، متقطب الأسرة ، متنمر للوارد تنمر الهرة ، يغدو إلى مكتبه ، والأمير ف يموكبه ، حتى إذا استقل في فرشه ، واستولى على عرشه ، وترنم بتلاوة قانونه وورشه ، أطهر للخلق احتقاراً ، وأندى بالجبال وقاراً ، ورفعت إليه الخصوم ، ووقف بين يديه الظالم والظلوم ، فتقول كسرى في إيوانه ، والرشيد في زمانه ، والحجاج بين أعوانه . وإذا استولى على البدر السرار ، وتبين للشهر القرار ، وتحرك إلى الخوج ، تحرك القرد إلى الفرج . أستغفر الله مما يشق على سيدي سماعه ، وتشمئز من ذكراه طباعه ، شيم اللسان ، خلط الإساءة بالإحسان ، والغفلة من صفات الإنسان .
فأي عيش هذا العيش ، وكيف حال أمير هذا الجيش ، طاعة معروقة ، ووجوه إليه مصروفة ، فإن أشار بالإنصات ، تتحقق الفصات ، فكأنما طمس الأفواه ، ولام بين الشفاه . وإنه أمر بالإفصاح ، وتلاوة الألواح ، علا الضجيج والعجيج ، وحف به كما حف بالبيت الحجيج . وكم بين ذلك من رشوة تدمن ، وغمزة لاتحس ، ووعد يستنجز ، وحاجةٍ تستعجل وتحفز . هنا الله سيدي ماخوله ، وأنساه بطيب آخره أوله . وقد بعثت(3/72)
"""""" صفحة رقم 73 """"""
بدعابتي هذه مع إجلال قدره ، والثقة بسعة صدره ، فليتلقها بيمينه ، ويفسح لها في المرتبة بينه وبين خدينه ، ويفرغ لمراجعتها وقتاً من أوقاته ، بمقتضى دينه ، وفضل يقينه ، والسلام .
ومن شعره ما كتب به إلى :
آيات حسنك حج للقال . . . في الحب قايمة على العذال
يا من سبا طوعاً عقول ذوي النهى . . . ببلاغةٍ قد أيدت بجمال
يستعبد الأبصار والأسماع ما . . . يجلو ويتلو من سنى مقال
وعليك أهواء النفوس بأسرها . . . وقفت فطيرك لا يمر ببال
رفعت لريه في البلاغة راية . . . لما احتللت بها وحيد كمال
وغدت تباهي منك بالبدر الذي . . . تعنو البدور لنوره المتلال
مإذا ترى يا ابن الخطيب لخاطب . . . وداً ينافس فيك كل مقال
جذبته نحو هواك غر محاسن . . . مشفوعة أفرادها بمعال
وشمايل رقت لرقة طبعها . . . فزلالها يزري بكل زلال
وحلى آداب بمثل نفيسها . . . تزهو الحلا ويحل قدر الحال يستخدم الياقوت عند نظامها . . . فمقصر من قاسها بلال
سبق الأخير الأولين بفضلها . . . فغدا المقدم تابعاً للتال
شغفي بذكر من عقايلها إذا . . . تبدو تصان من الحجا بحجال
فابعث بها نلت المنا ممهورة . . . طيب الثنا لنقدها والكال
لا زلت شمساً في الفضايل يهتدي . . . بسناك في الأفعال والأقوال
ثم السلام عليك يترى ما تلت . . . بكر الزمان رواف الآصال(3/73)
"""""" صفحة رقم 74 """"""
ومن الدعابة ، وقد وقعت إليها الإشارة من قبل ، ما كتب به إليه صديقه الملاطف أبو علي بن عبد السلام :
أبا عبد الله نداء خل وفي . . . جاء يمنحك النصيحة
إلى كم تألف الشبان غياً . . . وخذلانا أما تخشى الفضيحة
فأجابه رحمه الله :
فديتك صاحب السمة المليحة . . . ومن طابت أرومته الصريحة
ونم قلبي وضعت له محلاً . . . فما عنه يحل بأن أزيحه
نأيت فدمع عيني في انسكاب . . . وأكباد لفرقتكم قريحة
وطرفي لا يتاح له رقاد . . . وهل نوم لأجفان جريحة
وزاد تشوقي أبيات شعر . . . أتت منكم بألفاظ فصيحة
ولم تقصد بها جداً ولاكن . . . قصدت بها مداعبة قبيحة
فقلت أتألف الشبان غيا . . . وخذلانا أما تخشى الفضيحة
وفيهم حرفتي وقوام عيشي . . . وأحوالي بخلطتهم نجيحة
وأمري فيهم أمر مطاع . . . وأوجههم مصابيح صبيحة
وتعلم أنني رجل حصور . . . وتعرف ذاك معرفة صحيحة
قال في التاج : ولما اشتهر المشيب بعارضه ولمته ، وخفر الدهر لعمود صباه وإذمته ، أقلع واسترجع ، وتألم لما فرط وتوجع ، وهو الآن من جلة الخطباء ، طاهر العرض والثوب ، خالص من الشوب ، باد عليه قبول قابل التوب .
وفاته رحمه الله : في آخر صفر من عام خمسين وسبعماية في وقيعة الطاعون العام ، ودخل غرناطة .(3/74)
"""""" صفحة رقم 75 """"""
ومن الغرباء في هذا الباب
محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر بن مرزوق العجيسي
من أهل تلمسان ، يكنى أبا عبد الله ، ويلقب من الألقاب المشرقية بشمس الدين
حاله
هذا الرجل من طرف دهره ظرفاً وخصوصية ولطافة ، مليح التوسل حسن اللقاء ، مبذول البشر ، كثير التودد ، نظيف البزة ، لطيف التأتي ، خير البيت ، طلق الوجه ، خلوب اللسان ، طيب الحديث ، مقدر الألفاظ ، عارف بالأبواب ، درب على صحبة الملوك والأشراف ، متقاض لإيثار السلاطين والأمراء ، يسحرهم بخلابة لفظه ، ويفتلهم في الذروة والغارب بتنزله ، ويهتدي إلى أغراضهم الكمينة بحذقه ، ويصنع غاشيتهم بتلطفه ، ممزوج الدعابة بالوقار ، والفكاهة بالنسك ، والحشمة بالبسط ، عظيم المشاركة لأهل وده ، والتعصب لإخوانه ، إلف مألوف ، كثير الأتباع والعلق ، مسخر الرقاع في سبيل الوساطة ، مجدي الجاه ، غاص المنزل بالطلبة ، منقاد الدعوة ، بارع الخط ، أنيقه ، عذب التلاوة ، متسع الرواية ، مشارك في فنون ، من أصول وفروع وتفسير ، يكتب ويشعر ويقيد ويؤلف ، فلا يعدو السداد في ذلك ، فارس منبر غير جزوع ولا هيابة . رحل إلى المشرق في كنف حشمة نم جناب والده رحمه الله ، فحج وجاور ، ولقي الجلة ، ثم فارقة ، وقد عرف بالمشرق حقه ، وصرف وجهه إلى المغرب ، فاشتمل عليه السلطان أبو الحسن أميره ، اشتمالاً خلطه بنفسه ، وجعله مفضي سره ، وإمام جمعته وخطيب منبره ، وأمين رسالته ، فقدم في غرضها على الأندلس في أواخر عام ثمانية وأربعين وسبعماية ، واجذبه سلطانها رحمه الله ، وأجراه على تلك الوتيرة ، فقلده الخطبة بمسجده في السادس لصفر عام ثلاثة وخمسين وسبعماية ، وأقعده للإقراء بالمدرسة من حضرته . وفي أخريات عام أربعة(3/75)
"""""" صفحة رقم 76 """"""
وخمسين بعده أطرف عنه حفن بره ، في أسلوب طماح ودالة ، وسبيل هوى وقحة ، فاغتنم العبرة ، وانتهز الفرصة ، وأنفذ في الرحيل العزمة ، وانصرف عزيز الرحلة ، مغبوط المنقلب ، في أوايل شعبان عام أربعة وخمسين وسبعماية ، فاستقر بباب ملك المغرب ، أمير المؤمنين أبي عنان فارس في محل تجلة ، وبساط قرب ، مشترك الجاه ، مجدي التوسط ، ناجع الشفاعة ، والله يتولاه ويزيده من فضله .
مشيخته من كتابه المسمى عجالة المتسوفز المستجاز في ذكر من سمع من المشايخ دون من أجاز ، من أئمة المغرب والشام والحجاز . فممن لقيه بالمدينة المشرفة على ساكنها الصلاة والسلام ، الإمام العلامة عز الدين محمد أبو الحسن ابن علي بن إسماعيل الواسطي صاحب خطتي الإمامة والخطابة بالمسجد النبوي الكريم ، وأفرد جزءاً في مناقبه . ومنهم الشيخ الإمام جمال الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن خلف بن عيسى الخزرجي السعدي العبادي ، تحمل عن عفيف الدين أبي محمد عبد السلام بن مزروع وأبي اليمن وغيره . والشيخ الإمام خادم الوقت بالمسجد الكريم ونائب الإمامة والخطابة به ، ومنشد الأمداح النبوية هنالك . وبمكة شرفها الله ، الشيخ المعمر الثقة شرف الدين أبو عبد الله عيسى بن عبد الله الحجي المكي . ولا شيخ الصالح شرف الدين خضر بن عبد الرحمن العجمي . والشيخ مقري الحرم برهان الدين إبراهيم بن مسعود بن إبراهيم الآبلي المصري . والشيخ الإمام الصالح أبو محمد عبد الله بن أسعد الشافعي الحجة ، انتهت إليه الرياسة العلمية والخطط الشرعية بالحرم . والشيخ قاضي القضاة وخطيب الخطباء عز الدين أبو عمر عبد العزيز بن محمد بن جماعة الكناني قاضي القضاة بمصر . وبمصر الشيخ علاء الدين القونوي . والتقي السعدي ، وقاضي القضاة القزويني ، والشرف أقضى القضاة الإخميمي ، وكثيرون غيرهم . وسمع من عدد عديد آخر من أعلام القضاة والحفاظ والعلماء بتونس ، وبجابة ، والزاب ، وتلمسان .
محنته
اقتضى الخوض الواقع بين يدي تاميل الأمير أبي الحسن رحمه الله ، وتوقع عودة الأمر إليه ، وقد ألقاه اليم بالساحل بمدينة الجزاير ، أن قبض(3/76)
"""""" صفحة رقم 77 """"""
عليه بتلمسان ، أمراؤها المتوثبون عليها في هذه الفترة ، من بني زيان ، إرضاء لقبيلهم ، المتهم بمداخلته ، وقد رحل عنهم دسيساً من أميرهم عثمن بن يحيى بن عبد الرحمن بن يغمراسن ، فصرف مأخوذاً عليه طريقه ، منتهباً رحله ، منتهكة حرمته ، وأسكن قرارة مطبق عميق القعر ، مقفل المسلك ، حريز القفل ، ثاني اثنين . ولأيام قتل ثانيه ذبحاً بمقربة من شفى تلك الركية ، وانقطع لشدة لاثقاف أثره ، أيقن الناس بفوات الأمر فيه . ولزمان من محنته ظهرت عليه بركة سلفه ، في خبر ينظر بطرقه إلى الكرامة ، فنجا ولا تسل كيف ، وخلصه الله خلاصاً جميلاً ، وقدم على الأندلس ، والله ينفعه بمحنته .
شعره وما وقع من المكاتبة بيني وبينه
ركب مع السلطان خارج الحمراء ، أيام ضربت اللوز قبابها البيض ، وزينت الفحص العريض ، والروض الأريض ، فارتجل في ذلك :
أنظر إلى النوار في أغصانه . . . يحكى النجوم إذا تبدت في الحلك
حياً أمير المسلمين وقال قد . . . عميت بصيرة من بغيرك مثلك
يا يوسفاً حزت الجمال بأسره . . . فمحاسن الأيام تومي هيت لك
أنت الذي صعدت به أوصافه . . . فيقال فيه ذا مليك أو ملك
ولما قدمت على مدينة فاس في غرض الرسالة ، خاطبني بمنزل الشاطبي على مرحلة منها بما نصه :
يا قادماً وافي بكل نجاج . . . أبشر بما تلقاه من أفراح
هذي ذرى ملك الملوك فلذ بها . . . تنل المنى وتفز بكل سماح
مغني الإمام أبي عنان يممن . . . تظفر ببحر في العلى طفاح(3/77)
"""""" صفحة رقم 78 """"""
من قاس جود أبي عنان ذي الندى . . . بسواه قاس البحر بالضحضاح
ملك يفيض على العفاة نواله . . . قبل السوال وقبل بسطة راح
فلجود كعب وابن سعدي في الندى . . . ذكر محاه من نداه ماح
ما أن رأيت ولا سمعت بمثله . . . من أريحي للندى مرتاح
بسط الأمان على الأنام فأصبحوا . . . قد ألحفوا منه بظل جناح
وهمي على العافين سيب نواله . . . حتى حكى سح الغمام الساح
فنواله وجلاله وفعاله فاقت . . . وأعيت ألسن المداح
وبه الدنا أضحت تروق وأصبحت كل المنى تنقاد بعد جماح
من كان ذا ترح فرؤية وجهه . . . متلافة الأحزان والأتراح
فانهض أبا عبد الإله تفز بما . . . تبغيه من أمل ونيل نجاح
لا زلت ترتشف الأماني راحة . . . من راحة المولى بكل صباح والحمد لله يا سيدي وأخي على نعمه التي لا تحصى حمداً يؤم به جميعنا المقصد الأسنى ، فيبلغ الأمد الأقصى ، فطالما كان معظم سيدي للأسى في خبال ، وللأسف بين اشتغال بال ، واشتغال بلبال ، ولقدومكم على هذا المقام العلي في ارتقاب ، ولمواعدكم بذلك في تحقق وقوعه من غير شك ولا ارتياب ، فها أنت تجتلي ، من هذا المقام العلي ، لتشيعك وجوه المسرات صباحاً ، وتتلقى أحاديث مكارمه ومواهبه مسندة صحاحاً بحول الله . ولسيدي الفضل في قبول مركوبه الواصل إليه بسرجه ولجامه ، فهو من بعض ما لدي المحب من إحسان مولاي وإنعامه . ولعمري لقد كان وافداً على سيدي في مستقره مع غيره . فالحمد لله الذي يسر في إيصاله على أفضل أحواله .
فراجعته بقولي :
راحت تذكرني كؤوس الراح . . . والقرب يخفض للجنوح جناحي(3/78)
"""""" صفحة رقم 79 """"""
وسرت تدل على القبول كأنما . . . دل النسيم على انبلاج صباح
حسناء قد غنيت بحسن صفاتها . . . عن دملج وقلادة ووشاح
أمست تحض على اللياذ بمن جرت . . . بسعوده الأقلام في الأفراح
بخليفة الله المؤيد فارس . . . شمس المعالي الأزهر الوضاح
ما شيت من همم ومن سيم غدت . . . كالزهر أو كالزهر في الأدواح
فضل الملوك فليس يدرك شأوه . . . أني يقاس الغمر بالضحضاح
أسنى بني عباسهم بلوانه المنصور أو بحسامه السفاح
وغدت مغاني الملك لما حلها . . . تزهي ببدر هدى وبحر سماح
وحياة من أهداك تحفة قادم . . . في العرف منها راحة الأرواح
ما زلت أجعل ذكره وثناءه . . . روحي وريحاني الأريج وراح
ولقد تمازج حبه بجوارحي . . . كتمازج الأجسام بالأرواح
ولو أنني أبصرت يوماً في يدي . . . أمري لطرت إليه دون جناح
فالأن ساعدني الزمان وأيقنت . . . من قربه نفسي بفوز قداح
إيه أبا عبد الإلآه وإنه . . . لنداء ود في علاك صراح
أما إذا استنجدتني من بعد ما . . . ركدت لما خبت الخطوب رياح
فأليكها مهزولة وأنا امرؤ . . . قررت عجزي وأطرحت سلاح سيدي : أبقاك الله لعهد تحفظه ، وولي بعين الولاء تلحظه . وصلتني رقعتك التي ابتدعت ، وبالحق من مدح المولى الخليفة صدعت ، وألفتني وقد سطت بي الأوحال ، حتى كادت تتلف الرحال ، والحاجة إلى الغذاء ، قد شمرت كشح البطين ، وثانية العجماوين قد توقع فوات وقتها ، وإن كانت صلاتها صلاة الطين ، والفكر قد غاض معينه ، وضعف وعلى الله جزاء المولى الذي يعينه ، فعزتني بكتيبة بيان أسدها هصور ، وعلمها منصور ، وألفاظها ليس فيها قصور ، ومعانيها عليها الحسن مقصور ، واعتراف مثلي بالعجز في المضايق حول ومنة ، وقول لا أدري للعالم فكيف لغيره(3/79)
"""""" صفحة رقم 80 """"""
جنة . لا كنها بشرتني بما يقل لمهديه بذل النفوس وإن جلت ، وأطلعتني من اسراء على وجه تحسده الشمس إذا تجلت ، بما أعلمت به من جميل اعتقاد مولانا أمير المؤمنين أيده الله ، في عبده ، وصدق المخيلة في كرم مجده . وهذا هو الجود المحض ، والفضل الذي شكره هو الفرض . وتلك الخلافة المولوية تتصف بصفة من يبدأ بالنوال ، من قبل الضراعة والسؤال ، من غير اعتبار للأسباب ، ولا مجازاة للأعمال . نسأل الله أن يبقى منها على الإسلام أوفي الظلال ، ويبلغها من فضله أقصى الآمال . ووصل ما بعثه سيدي صحبتها من الهدية ، والتحفة الودية ، وقبلتها امتثالاً ، واستجليت منها عتقاً وجمالاً . وسيدي في الوقت أنسب إلى اتخاذ ذلك الجنس ، وأقدر على الاستكثار من إناث اليهم والإنس . وأنا ضعيف القدرة ، غير مستطيع لذلك إلا في الندرة ، فلو رأى سيدي ، ورأيه سداد ، وقصده فضل ووداد ، أن ينقل القضية إلى باب العارية من باب الهبة مع وجوب الحقوق المترتبة ، لبسط خاطري وجمعه ، وعمل في رفع المؤنة على شاكلة ونجره ، وسيدي في الإسعاف على الله أجره ، وهذا أمر عرض ، وفرض فرض ، وعلى نظره المعول ، واعتماد إغضائه هو المعقول الأول . والسلام على سيدي من معظم قدره ، وملتزم بره ، ابن الخطيب ، في ليلة الأحد السابع والعشرين لذي قعدة سنة خمسة وخمسين وسبعماية ، والسماء قد جادت بمطر سهرت منه الأجفان ، وظن أنه طوفان ، واللحاق في غد بالباب المولوي ، مؤمل بحول الله .
ومن الشعر المنسوب إلى محاسنه ، ما أنشد عنه ، وبين يديه ، في ليلة الميلاد المعظم ، من عام ثلاثة وستين وسبعماية بمدينة فاس المحروسة :
أيا نسيم السحر . . . بالله بلغ خبر
إن أنت يوماً بالحمى . . . جررت فضل المثزر(3/80)
"""""" صفحة رقم 81 """"""
ثم حثثت الخطو من . . . فوق الكثيب الأعفر
مستقرياً في عشبه . . . خفى وطئ المطر
تروى عن الضحاك في الروض حديث الزهر
مخلق الأذيال . . . بالعبير أو بالعنبر
وصف لجيران الحمى . . . وجدي بهم وسهري
وحقهم ما غيرت . . . ودي صروف الغير
لله عهد فيه قضيت حميد الأثر
أيامه هي التي أحسبها من عمري
ويا لليل فيه ما . . . عيب بغير القصر
العمر فينان ووجه الدهر طلق الغرر
والشمل بالأحباب منظوم كنظم الدرر
صفو من العيش بلا . . . شائبة من كدر
ما بين أهل تقطف . . . الأنس حنى الثمر
وبين آمال تبيح القرب صافي الغدر
يا شجرات الحي حياك الحيا من شجر
إذا أجال الشوق في . . . تلك المغاني فكري
خرجت من خدي حديث الدمع فوق الطرر
وقلت يا خد ارو من . . . دمعي صحاح الجوهري
عهدي بحادي الركب . . . كالورقاء عند السحر
والعيس تجتاب الفلا . . . واليعملات تنبرى
تخبط بالأخفاف مظلوم البرا وهو بري
قد عطفت عن ميد . . . والتفت عن حور(3/81)
"""""" صفحة رقم 82 """"""
قسي سير ما سوى العزم لها من وتر
حتى إذا الأعلام حلست لحفي البشر
واسبتشر النازح بالقرب ونيل الوطر
وعين الميقات للسفر نجاح السفر
والناس بين محرم . . . بالحج أو معتمر
لبيك لبيك إله الخلق باري الصور
ولاحت الكعبة بيت الله ذات الأثر
مقام إبراهيم والمأمن عند الذعر
واغتنم القوم طواف القادم المبتدر
وأعقبوا ركعتي السعي استلام الحجر
وعرفوا في عرفات . . . كل عرف أذفر
ثم أفاض الناس سعياً في غد للمشعر فوقفوا وكبروا . . . قبل الصباح المسفر
وفي منى نالوا المنى . . . وأيقنوا بالظفر
وبعد رمى الجمرا . . . ت كان حلق الشعر
أكرم بذاك الصحب . . . والله وذاك النفر
يا فوزه من موقف . . . يا ربحه من متجر
حتى إذا كان الودا . . . تع وطواف الصدر
فأي صبر لم يخن . . . أو جلد لم يغدر
وأي وجد لم يصل . . . وسلوة لم تهجر(3/82)
"""""" صفحة رقم 83 """"""
ما أفجع البين لقلب الواله المستغفر
ثم ثنوا نحو رسو . . . ل الله سير الضمر
فعاينوا في طيبة . . . لألاء نور نير
زاروا رسول الله واستشفعوا بلثم الجدر
نالوا به ما أملوا . . . وعرجوا في الأثر
على الضجيعين أبى . . . بكر الرضا وعمر
زيارة الهادي الشفيع جنة في المحشر
فأحسن الله عزا . . . ء قاصد لم يزر
ربع ترى مستنزل الآي به والسور
وملتقى جبريل بالهادي الزكي العنصر
وروضة الجنة بين روضة ومنبر
منخب الله ومختار الورى من مضر
والمنتقى والكون من . . . ملابس الخلق عرى
إذ لم يكن في أفق . . . من زحل أو مشتر
ذو المعجزات الغر أمثال النجوم الزهر
يشهد بالصدق له . . . منها انشقاق القمر
والضب والظبي إلى . . . نطق الحصى والشجر
من أطعم الألف بصا . . . ع في صحيح الخبر
والجيش رواه بما . . . ء الراحة المنهمر
يا نكتة الكون التي . . . فاتت منال الفكر
يا حجة الله على الرا . . . ئح والمبتكر
يا أكرم الرسل على . . . الله وخير البشر(3/83)
"""""" صفحة رقم 84 """"""
يا من لدي مولده المقدس المطهر
إيوان كسرى ارتج إذ . . . ضاقت قصور قيصر
وموقد النار طفا . . . كأنها لم تسعر
يا عمدتي يا ملجئي . . . يا مفزعي يا وزري
يا من له اللواء والحوض وورد الكوثر
يا منقد الغرقي وهم . . . رهن العذاب الأكبر
إن لم تحقق أملي . . . بؤت بسعي المخبر
صلى عليك الله يا . . . نور الدجا المعتكر
يا ويح نفسي كم أرى . . . من غفلتي في غمر
واحسروا من قلة الزاد وبعد السفر
يحجني والله بالبرهان وعظ المنبر
يا حسنها من خطب . . . لو حركت من نظر
يا حسنها من شجر . . . لو أورقت من ثمر
أومل الأوبة والأمر بكف القدر
أسوف العزم بها . . . من شهر لشهر
من صفر لرجب . . . من رجب لصفر
وليس ما مر من . . . الأيام بالمنتظر
وقل ما أن حمدت . . . سلامة في غرر
ولي غريم لا يني . . . عن طلب المنكسر
يا نفس جدي قد بدا الصبح ألا فاعتبري
واتعظي بمن مضى وارتدعى وازدجرى(3/84)
"""""" صفحة رقم 85 """"""
ما بعد شيب الفود من . . . مرتقب فشمري
أنت وإن طال المدى . . . في قلعة أو سفر
وليس من عذر يقيم حجة المعتذر
يا ليت شعري والمنى . . . تسرق طيب العمر
هل ارتجى من عودة . . . أو رجعة أو صدر
مقتدياً بمن مضى . . . من سلف ومعثر
نالوا جوار الله وهو الفخر للمفتخر
أرجو بإبراهيم مو . . . لانا بلوغ الوطر
فوعده لا يمتزي . . . في الصدق منه الممتر
فهو الإمام المرتضى . . . والخير ابن الخير
أكرم من نال المنى . . . بالمرهفات البتر
ممهد الملك وسيف الحق والليث الجري
خليفة الله الذي . . . فاق بحسن السير
وكان منه الخبر في . . . العلباء وفق الخبر
فصدق التصديق من مرآه للتصور
ومستعين الله في . . . ورد له وصدر
فاق الملوك الصيد بالمجد الرفيع الخطر
فأصبحت ألقابهم . . . منسية لم تذكر وحاز منهم أوحد . . . وصف العديد الأكثر
برأيه المأمون أو . . . عسكره المظفر
بسيفه السفاح أو . . . بعزمه المقتدر(3/85)
"""""" صفحة رقم 86 """"""
بالعلم المنصور أو . . . بالذابل المستنصر
بابن الإمام الطاهر البر الزكي السير
مدحك قد علم نظم الشعر من لم يشعر
فإن يقصر ظاهري . . . فلم يقصر مضور
ووردت على باب السلطان الكبير العالم أبي عنان ، فبلوت من مشاركته . وحميد سعيه ، ما يليق بمثله . ولما نكبه لم أقصر عن ممكن حيلة في أمره ولما هلك السلطان أبو عنان رحمه الله ، وصار الأمر لأخيه المتلاحق من الأندلس أبي سالم بعد الولد المسمى بالسعيد كان ممن دمث له الطاعة ، وأناخ راحلة الملك ، وحلب ضرع الدعوة ، وخطب عروس الموهبة ، فأنشب ظفره في متات معقود من لدن الأب ، مشدود من لدن القربة ، فاستحكم عن قرب ، واستغلظ عن كثب ، فاستولى على أمره ، وخلطه بنفسه ، ولم يستأثر عنه ببثة ، ولا انفرد بما سوى بضع أهله . بحيث لا يقطع في شيء إا عن رأيه ، ولا يمحو ويثبت إلا واقفاً عند حده ، فغشيت بابه الوفود ، وصرفت إليه الوجوه ، ووقفت عليه الآمال ، وخدمته الأشراف ، وجلبت إلى سدته بضايع العقول والأموال ، وهادته وخدمته الأشراف ، وجلبت إلى سدته بضايع العقول والأموال ، وهادته الملوك ، فلا تحدو الحداة إلا إليه ، ولا تحط الرحال إلا لديه . إن حضر أجرى الرسم ، وأنفذ الأمر والنهي لحظاً أو سراراً أو مكاتبة ، وإن غاب ، ترددت الرقاع ، واختلفت الرسل . ثم انفرد أخيراً ببيت الخلوة ، ومنتبذ المناجاة ، من دونه مصطف الوزراء ، وغايات الحجاب ، فإذا انصرف تبعته الدنيا ، وسارت بين يديه الوزراء ، ووقفت ببابه الأمراء ، قد وسع الكل لحظه ، وشملهم بحسب الرتب والأموال رعيه ، ووسم أفذادهم تسويده ، وعقدت ببنان عليتهم بنانه . لاكن رضي الناس غاية لا تدرك ، والحقد بين بني آدم قديم ، وقبيل الملك مباين لمثله ، فطويت الجوانح منه على سل ،(3/86)
"""""" صفحة رقم 87 """"""
وحنيت الضلوع على بث ، وأغمضت الجفون على قذى إلى أن كان من نكبته ما هو معروف جعلها الله له طهوراً .
ولما جرت الحادثة على السلطان بالأندلس ، وكان لحاق جميعنا بالمغرب ، جنيت ثمرة ما أسلفته في وده ، فوفي كيل الوفا ، وأشرك في الجاه ، وأدر الرزق ، ورفع المجلس بعد التسبيب في الخلاص ، والسعي في الجبر ، جبره الله تعإلى وكان له أحوج ما يكون إلى ذلك ، يوم لا ينفع مال ولا بنون ، إلا من أتى الله بقلب سليم .
ولما انقضى أمر سلطانه رحمه الله ، وقذف به بحر التمحيص إلى شطه ، وأضحى جو النكبة بعد انطباقه ، آثر التشريق بأهله وجملته ، واستقر بتونس ، خطيب الخلافة ، مقيماً على رسمه من التجلة ، ذايع الفضل هنالك والمشاركة ، وهو بحاله الموصوفة إلى الآن كان الله له . وكنت أحسست منه في بعض الكتب الواردة ، صاغية إلى الدنيا ، وحنيناً لما فارق من غرورها ، فحملني الطور الذي ارتكبته في هذه الأيام بتوفيق الله ، على أن خاطبته بهذه الرسالة ، وحقها أن يجعلها خدمة الملوك ممن ينسب إلى نبل ، أو يلم بمعرفة ، مصحفاً يدرسه ، وشعاراً يلتزمه ، وهي : سيدي ، الذي يده البيضاء لم تذهب بشهرتها المكافاة ، ولم تختلف في مدحها الأفعال ، ولا تغايرت في حمدها الصفات ، ولا تزال تعترف بها العظام الرفات ، أطلقك الله من أسر الكون ، كما أطلقك من أسر بعضه ، ورشدك في سمايه العالية وأرضه ، وحقر الحظ في عين بصيرتك بما يحملك على رفضه . اتصل بي الخبر السار من تركك لشأنك ، وإجناء الله إياك ثمرة إحسانك ، وإنجياب ظلام(3/87)
"""""" صفحة رقم 88 """"""
الشدة الحالك ، عن أفق حالك . فكبرت لانتشاق عفو الله العاطر ، واستعبرت لتضاؤل الشدة بين يدي الفرج ، لا بسوى ذلك من رضى مخلوق يومر فيأتمر ، ويدعوه القضاء فيبتدر ، إنما هو فيئ وظل ليس له من الأمر شيء ، ونسأله جل وتعإلى أن يجعلها آخر عهدك بالدنيا وبنيها ، وأول معارج نفسك ، التي تقربها من الحق وتدنيها ، وكأنني والله أحس بثقل هذه الدعوة على سمعك ، ومضادتها ولا حول ولا قوة إلا بالله لطبعك ، وأنا أنافرك إلى العقل الذي هو قسطاس الله في عالم الإنسان ، والآلة لبث العدلي والإحسان ، والملك الذي يبين عنه ترجمان اللسان ، فأقول ليمت شعرى ما الذي غبط سيدى بالدنيا . وإن بلغ من زبرجها الرتبة العليا ، وأفرض المثال لحالة إقبالها ، ووصل حبالها ، وضراعة سبالها ، وخشوع جبالها . ألتوقع المكروه صباح مسا ، وارتقاب الحوالة التي تديل من النعيم الباسا ، ولزوم المنافسة التي تعادى الأشراف والرؤسا . ألترثبق العتب ، حتى على التقصير في الكتب ، وظعينة جار الجنب ، وولوع الصديق بإحصاء الذنب . ألنسبة وقايع الدولة إليك وأنت بري ، وتطويقك الموبقات وأنت منها عرى . ألا ستهدافك للمضار التي تنتجها غيرة الفروج ، والأحقاد التي تضطبنها ركبة السروج وسرحة المروج ، ونجوم السما ذات البروج . ألتقليدك التقصير فيما ضاقت عنه طاقتك ، وصحت إليه فاقتك ، من حاجة لا يقتضي قضاها الوجود ، ولا يكيفها الركوع للملك والسجود . ألقطع الزمان بين سلطان يعبد ، وسهام للغيوب تكبد ، وعجاجة شر تلبد ، وأقبوحة تخلد وتوبد ألوزير يصانع ويداري ، وذي حجة صحيحة يجادل في مرضاة السلطان ويمارى ، وعورة لاتوارى . ألمباكرة كل عايب حاسد ، وعدو ومستأسد ، وسوق للإنصاف والشفقة كاسد ، وحال فاسد ، أللوفود تتزاحم بسدتك ،(3/88)
"""""" صفحة رقم 89 """"""
مكلفة لك غير ما في طوقك ، فإن لم تنل أغراضها ، قلبت عليك السما من فوقك . ألجلساء ببابك ، لا يقطعون زمن رجوعك وإيابك ، إلا بقبيح اغتيابك ، فالتصرفات تمقت ، والقواطع النجوميات توقت ، والألاقى تبث ، والسعايات تحث ، والسماجد يشتكى قيها البث ، يعتقدون أن السلطان في يدك ، بمنزلة الحمار المدبور ، واليتيم المحجور ، والأسير المامور ، ليس له شهرة ولا غضب . ولا أمل في الملك ولا أرب ، ولا موجدى لأحد كامنة ، وللشر ضامنة ، وليس في نفسه عن رأي نفرى ، ولا بإزاء مالا يقبله نزوة وطفرة ، إنما هو جارحة لصيدك ، وعان في قيدك ، وآلة لتصرف كيدك ، وأنك علة حيفه ، ومسلط سيفه . الشرار يسملون عيون الناس باسمك ، ثم يمزقون بالغيبة مزق جسمك ، قد تنخلهم الوجود أخبث مافيه ، واختارهم السفيه فالسفيه ، إذا الخير يسره الله عن الدول ويخفيه ، ويقنعه بالقليل فيكفيه . فهم يمتاحون بك ، ويولونك الملامة ، ويقتحمون عليك أبواب القول ، ويسدون طرق السلامة ، وليس لك في أثناء هذه إلا مايعوزك مع ارتفاعه ، ولايفوتك مع انقشاعه ، وذهاب صداعه ، من غذاء يشبع ، وثوب يقنع ، وفراش ينيهم ، وخديم يقعد ويقيم . وماالفاية في فرش تحتها حمر الغضا ، ومال من ورايه سوء القضا ، وجاه يحلق عليه سيف مننضا ، وإذا بلغت النفس إلى الالتذاذ بما لاتملك ، واللجاج حول المسقط الذي تعلم أنها فيه تملك ، فكيف ينسب إلى نبل أو يسر مع السعادة في سبل ، وإن وجدت في القعود بمجلس التحية بعض الأريحية ، فليت شعرى أي شيء زادها ، أو معنى أفادها ، إلا مباكرة وجه الحاسد ، وذي القلب الفاسد ، ومواجهة العدو المستاسد . أو شعرت ببعض الإيناس في الركوب بين الناس ، هل التذت إلا بحلم كاذب ، أو جذبها غير الغرور مجاذب . إنما الحلية وافتك من يحدق إلى البزة ، ويستطيل مدة العزة ، ويرتاب إذا حدث(3/89)
"""""" صفحة رقم 90 """"""
بخبرك ، ويتبع بالنقد والتجسس مواقع نظرك ويمنعك من شارة أنسك ، ويحتال على فراغ كيسك ، ويضمر الشر لك ولرسيك ، وأي راحة لمن لايباشر قصده ، ويسير متى شا وحده ، ولو صح في هذه الحال لله حظ ، وهبه زهيداً ، أوعين للرشد عملاً حميداً ، لساغ الصاب ، وخفت الأوصاب ، وسهل المصاب . لاكن الوقت أشغل والفكر أوغل ، والزمن قد غمرته الحصص الوهمية ، واستنفدت منه الكمية . أما ليله ففكر أو نوم ، وعتب يجر الضراس ولوم ، وأما يومه فتدبير ، وقبيل ودبير ، وأمور يعيا بها ثبير ، وبلاء مبير ، ولغط لايدخل فيه حكيم كبير ، وأنا بمثل ذلك خبير . ووالله ياسيدي ، ومن فلق الحب وأخرج الأب ، وذرا من مشى ومادب ، وسمى نفسه الرب ، لو تعلق المال الذي يجده هذا الكدح ، ويورى سقيطه هذا القدح ، بإذيال الكواكب ، وزاحمت البدر بدره بالمناكب ، لاورثه عقب ، ولاخلص به محتقب ، ولا فاز به سافر ولا منتقب . والشاهد الدول والمشايم الأول . فأين الرباع المقتناة ، وأين الديار المبتداة ، وأين الحدايق المغترسات ، وأين الذخاير المختلسات ، وأين الودايع المؤملة ، وأين الأمانات المحملة ، تأذن الله بتتبيرها ، وإدناء وتار التيار من دنانيرها ، فقفلما تلقى أعقابهم إلا أعرباً للطمور ، مترمقين بجرايات الشهور ، متعللين بالهباء المنثور ، يطردون من الأبواب التي حجب عندها آباؤهم ، وعرف(3/90)
"""""" صفحة رقم 91 """"""
منها إباؤهم ، وشم من مقاصيرها عنبرهم وكباؤهم ، لم تسامحهم الأيام إلا في إرث محررٍ ، أو حلال مقرر ، وربما محقة الحرام ، وتعذر منه المرام . هذه أعزك الله حال قبولها مالها مع الترفيه ، وعلى فرض أن يستوفي العمر في العز مستوفيه . وأما ضده من عدو يتحكم وينتقم ، وحوت بغى يبتلع ويلتقم ، وطبق يحجب الهواء ويطيل في التراب الثوا ، وثعبان قميد يعض الساق ، وشوبوب عذاب يمزق الإبشار الرقاق ، وغيلة يهديها الواقب الغاسق ، ويوجرعها العدو الفاسق ، مع الأفوال ولا شروق ، فهل في شئ من هذا مغتبط لنفس حرة ، أو مايساوى جرعة حالٍ مرة . . واحسرتاه للأحلام ضلت ، وللأقدام زلت ، ويالها مصيبة جلت ، ولسيدي أن يقول حكمت على باستثقال الموعظة واستجفانها ، ومراودة الدنيا بين خلانها وأكفايها ، وتناسى عدم وفايها ، فأقول الطبيب بالعلل أدرى ، والشفيق بسوء الظن مغرى . وكيف لا وأنا أقف على السحاآت ، بخط سيدي ، من مطارح الاعتقال ، ومثاقف النوب الثقال ، وحلوات الاستعداد للقاء الخطوب الشداد ، ونوش الأسنة الحداد ، وحيث يجمل تمثله ألا تصرف في غير الخضوع لله بناناً ، ولايثنى لمخلوق عناناً . وأتعرف أنها قد ملأت الجو الدو ، وقصدت الجماد والبو ، تقتحم أكف أولى الشمات ، وحفظة المذمات ، وأعوان النوب الملمات ، زيادة في الشقا ، وقصد أبرياء من الاختيار والانتق ، مشتملة من التجاوز على إغرب من العنقا ، ومن النقاق على أشهر من البلقا . فهذا يوصف بالإمامة ، وهذا ينسب في الجود إلى كعب بن مامة ، وهذا يجعل من أهل الكرامة ، وهذا يجعل من أهل الكرامة ، وهذا يكلف الدعاء وليس من أهل ، وهذا يطلب منه لقا الصالحين وليسوا من شكله ، إلى ما أحفظنى والله من البحث عن(3/91)
"""""" صفحة رقم 92 """"""
السموم ، وكتب النجوم ، والمذموم من المعلوم ، هلا كان من ينظر في ذلك قد قوطع بتاتاً ، وأعتقد أن الله جعل لزمن الخير والشر ميقاتاً ، وأنا لانملك موتاً ولا نشوراً ولا حياتاً ، وأن اللوح قد حصر الأشياء محوراً وإثباتاً ، فكيف نرجو لما منع منالاً ، أو نستطيع مما قدر إفلاتاً . أفيدونا ما يرجح العقيدة المقررة ، نتحول إليه ، وبينوا لنا الحق ، نعول عليه . الله الله ياسيدي في النفس المرشحة ، وللذات المحلات بالفضايل الموشحة ، والسلف الشهير الخير ، والعمر المشرف على الرحلة بعد حث السير ، ودع الدنيا لأهلها ، فما أركس حطوظهم ، وأخس لحوظهم ، وأقل متاعهم ، وأعجل إسراعهم ، وأكثر عناؤهم ، وأقصر أناؤهم : ك من شارة أنسك ، ويحتال على فراغ كيسك ، ويضمر الشر لك ولرسيك ، وأي راحة لمن لايباشر قصده ، ويسير متى شا وحده ، ولو صح في هذه الحال لله حظ ، وهبه زهيداً ، أوعين للرشد عملاً حميداً ، لساغ الصاب ، وخفت الأوصاب ، وسهل المصاب . لاكن الوقت أشغل والفكر أوغل ، والزمن قد غمرته الحصص الوهمية ، واستنفدت منه الكمية . أما ليله ففكر أو نوم ، وعتب يجر الضراس ولوم ، وأما يومه فتدبير ، وقبيل ودبير ، وأمور يعيا بها ثبير ، وبلاء مبير ، ولغط لايدخل فيه حكيم كبير ، وأنا بمثل ذلك خبير . ووالله ياسيدي ، ومن فلق الحب وأخرج الأب ، وذرا من مشى ومادب ، وسمى نفسه الرب ، لو تعلق المال الذي يجده هذا الكدح ، ويورى سقيطه هذا القدح ، بإذيال الكواكب ، وزاحمت البدر بدره بالمناكب ، لاورثه عقب ، ولاخلص به محتقب ، ولا فاز به سافر ولا منتقب . والشاهد الدول والمشايم الأول . فأين الرباع المقتناة ، وأين الديار المبتداة ، وأين الحدايق المغترسات ، وأين الذخاير المختلسات ، وأين الودايع المؤملة ، وأين الأمانات المحملة ، تأذن الله بتتبيرها ، وإدناء وتار التيار من دنانيرها ، فقفلما تلقى أعقابهم إلا أعرباً للطمور ، مترمقين بجرايات الشهور ، متعللين بالهباء المنثور ، يطردون من الأبواب التي حجب عندها آباؤهم ، وعرف منها إباؤهم ، وشم من مقاصيرها عنبرهم وكباؤهم ، لم تسامحهم الأيام إلا في إرث محررٍ ، أو حلال مقرر ، وربما محقة الحرام ، وتعذر منه المرام . هذه أعزك الله حال قبولها مالها مع الترفيه ، وعلى فرض أن يستوفي العمر في العز مستوفيه . وأما ضده من عدو يتحكم وينتقم ، وحوت بغى يبتلع ويلتقم ، وطبق يحجب الهواء ويطيل في التراب الثوا ، وثعبان قميد يعض الساق ، وشوبوب عذاب يمزق الإبشار الرقاق ، وغيلة يهديها الواقب الغاسق ، ويوجرعها العدو الفاسق ، مع الأفوال ولا شروق ، فهل في شئ من هذا مغتبط لنفس حرة ، أو مايساوى جرعة حالٍ مرة . . واحسرتاه للأحلام ضلت ، وللأقدام زلت ، ويالها مصيبة جلت ، ولسيدي أن يقول حكمت على باستثقال الموعظة واستجفانها ، ومراودة الدنيا بين خلانها وأكفايها ، وتناسى عدم وفايها ، فأقول الطبيب بالعلل أدرى ، والشفيق بسوء الظن مغرى . وكيف لا وأنا أقف على السحاآت ، بخط سيدي ، من مطارح الاعتقال ، ومثاقف النوب الثقال ، وحلوات الاستعداد للقاء الخطوب الشداد ، ونوش الأسنة الحداد ، وحيث يجمل تمثله ألا تصرف في غير الخضوع لله بناناً ، ولايثنى لمخلوق عناناً . وأتعرف أنها قد ملأت الجو الدو ، وقصدت الجماد والبو ، تقتحم أكف أولى الشمات ، وحفظة المذمات ، وأعوان النوب الملمات ، زيادة في الشقا ، وقصد أبرياء من الاختيار والانتق ، مشتملة من التجاوز على إغرب من العنقا ، ومن النقاق على أشهر من البلقا . فهذا يوصف بالإمامة ، وهذا ينسب في الجود إلى كعب بن مامة ، وهذا يجعل من أهل الكرامة ، وهذا يجعل من أهل الكرامة ، وهذا يكلف الدعاء وليس من أهل ، وهذا يطلب منه لقا الصالحين وليسوا من شكله ، إلى ما أحفظنى والله من البحث عن السموم ، وكتب النجوم ، والمذموم من المعلوم ، هلا كان من ينظر في ذلك قد قوطع بتاتاً ، وأعتقد أن الله جعل لزمن الخير والشر ميقاتاً ، وأنا لانملك موتاً ولا نشوراً ولا حياتاً ، وأن اللوح قد حصر الأشياء محوراً وإثباتاً ، فكيف نرجو لما منع منالاً ، أو نستطيع مما قدر إفلاتاً . أفيدونا ما يرجح العقيدة المقررة ، نتحول إليه ، وبينوا لنا الحق ، نعول عليه . الله الله ياسيدي في النفس المرشحة ، وللذات المحلات بالفضايل الموشحة ، والسلف الشهير الخير ، والعمر المشرف على الرحلة بعد حث السير ، ودع الدنيا لأهلها ، فما أركس حطوظهم ، وأخس لحوظهم ، وأقل متاعهم ، وأعجل إسراعهم ، وأكثر عناؤهم ، وأقصر أناؤهم : ماتم إلا ما رأيت . . . وربما تعي السلامة
والناس إما جائر . . . أو حاير يشكو ظلامه
والله ما احتقب الحريص سوى الذنوب أو الملامة
هل ثم شك في المعاد . . . الحق أو يوم القيامة
قولوا لنا ماعندكم . . . أهل الخطابة والإمامة وإن رميت بأحجارى ، وأوحرت المر من أشجارى ، فوالله ماتلبست منها لليوم بشيء قديم ولا حديث ، ولا استاثرت بطيب فضلاً عن خبيث . وما أنا إلا عابر سبيل ، وهاجر مرعى وبيل ، ومرتقب وعد قدر فيه الإنجاز ، وعاكف على حقيقة لا تعرف المجاز قد فررت من الدنيا كما يفر من الأسد ، وحاولت المقاطعة ، حتى بين روحي والجسد ، وغسل الله قلبي ، وله الحمد ، من الطمع والحسد ، فلم أبق عادة إلا قطعتها ، ولا جنة للصبر إلا ادرعتها . أما اللباس فالصوف ، وأما الزهد فيما في أيدي الناس فمعروف ، وأما المال الغبيط فعلى الصدقة مصروف . ووالله(3/92)
"""""" صفحة رقم 93 """"""
لو علمت أن حالي هذه تتصل ، وعراها لاتنفصل ، وأن ترتيبي هذا يدوم ، ولا يجيزني الوعد المحتوم ، والوقت المعلوم ، لمت أسفاً ، وحسبي الله وكفا ومع هذا ياسيدي ، فالموعظة تتلقى من لسان الوجود ، والحكمة ضالة المؤمن يطلبها ببذل المجهود ، ويأخذها من غير اعتبار بمحلها المذموم أو المحمود . ولقد أعملت نظرى فيما يكافئ عني بعض يدك ، أو ينتمي في الفضل إلى أمدك ، فلم أر لك الدنيا كفا . هذا لو كنت صاحب دنيا ، وألفيت بذل النفس قليلاً لك من غير شرطٍ ولا ثنيا ، فلما ألهمني الله لمخاطبتك بهذه النصيحة المفرغة في قالب الجفا ، لمن لايثبت عين الصفا ، ولا يشيم بارقه الوفا ، ولايعرف قاذورة الدنيا معرفة مثلى من المتدنسين بها لا منهمكين ، وينظر عوراه الفادح بعين اليقين ، يعلم أنها المومسة التي حسنها زور ، وعاشقها مغرور ، وسرورها شرو ، تبين لي أني قد كافيت صنيعتك المتقدمة ، وخرجت عن عهدتك الملتزمة ، ومحضت لله النصح الذي يقر بعز الله ذاتك ، ويطيب حياتك ، ويحي مواتك ، ويريح جوارحك من الوصب ، وقلبك من النصب ، ويحقر الدنيا وأهلها في عينك إذا اعتبرت ، ويلاشى عظايمها لديك إذا اختبرت ، كل من تقع عليه عينك حقير قليلن وفقير ذليل ، لايفضلك بشيء إلا باقتفاء رشد أو ترك غى ، أثوابه النبيهة يجردها الغاسل ، وعروة غيره يفصلها الفاصل ، وماله الحاضر الحاصل ، يعيث فيه الحسام الفاصل ، والله ماتعين للخلف إلا ماتعين للسلف ، ولامصير المجموع إلا إلى التلف ، ولا صح من الهياط والمياط ، والصياح والعياط ، وجمع القيراط إلى القيراط ، والاستظهار بالوزعة والأشراط ، والخبط والخباط ، والاستكثار والاغتباط ،(3/93)
"""""" صفحة رقم 94 """"""
الغلو والاشتطاط ، وبنا الصرح وعمل الساباط ، ورفع العماد وإدارة الفسطاط ، إلا ألم يذهب القوة ، وبنسى الآمال المرجوة ، ثم نفس يصعد ، وسكرات تتردد ، وحسرات لفراق الدنيا تتجدد ، ولسان يثقل ، عين تبصر الفراق الحق وتمقل . قل هو نبأ عظيم ، أنتم عنه معرضون . ثم القبر وما بعده ، والله منجز وعيده ووعده . فالإضراب وافضراب ، والتراب التراب ، وإن اعتذر سيدى بقلة الجلد ، لكثرة الولد ، فهو ابن مرزوق ، لا ابن رزاق ، وبيده من التسبب ، ما يتكفل بإمساك أرماق . أين النسخ الذي يتبلغ الإنسان بأجرته ، في كن حجرته ، لابل السؤال الذي لاعار عند الحاجة بمعرته ، السؤال والله أقوم طريقاً ، وأكرم فريقاً ، من يد تمتد إلى حرام ، لا يقوم بمرام ، ولا يومن من ضرام أحرقت فيه الحلل ، وقلبت الأديان والملل ، وضربت الابشار ، ونحرت العشار ، ولم يصل منه على يدي واسطة السوؤ المعشار . ثم طلب عند الشدة ففضح ، وبان سومه ووضح ، اللهم طهر منا أيدينا وقلوبنا ، وبلغنا من الانصراف إليك مطلوبنا ، وعرفنا بمن لايعرف غيرك ، ولا يسترفد إلا خبرك ياألله . وحقيق على الفضلاء إن جنح سيدي منها إلى إشارة ، أو أعمل في احتلابها إضباره . أولبس منها شارة ، أو تشوف إلى خدمة إمارة ، ألا يحسنوا ظنونهم بعدها بابن ناس ، ولا يغتروا بسمت ولا خلقٍ ولا لباس ، فما عدا عما بدا . تقضي العمر في سجن وقيد ، وعمرو وزيد ، وضر وكيد ، وطراد صبد ، وسعد وسعيد ، وعبد وعبيد ، فمتى تظهر الأفكار ، ويقر القرار ، وتلازم الأدكار ، وتشام الأنوار ، وتتجلى الأسرار ، ثم يقع الشهود الذي تذهب معه الأفكار ، ثم يحق الوصول الذي إليه من كل ماسواه الفرار ، وعليه السدار . وحق الحق ، الذي ماسواه فباطل ، والفيض الرحماني ، الذي ربابه لابد هاطل ، ماشاب(3/94)
"""""" صفحة رقم 95 """"""
مخاطبتي لك شايبة بريب ، ولقد محضت لك مايمحضه الحبيب إلى الحبيب ، فيحمل جفا في الذي حملت عليه الغيرة ، ولاتظن بي غيره . وإن أقدر قدرى في مكاشفة سيادتك بهذا البث ، في الأسلوب الرث ، فالحق أقدم ، وبناؤه لايهدم ، وشأني معروف في مواجهة الجبابرة ، على حين يدى إلى رفدهم ممدودة ، ونفس في النفوس المتهافتة عليهم معدودة ، وشبابي فاحم ، وعلى الشهوات مزاحم ، فكيف بي اليوم مع الشيب ، ونصح الجيب ، واستكشاف العيب ، إنما أنا اليوم على كل من عرفني كل ثقيل ، وسيف العدل في كفى صقيل ، أعذل أهل الهوى ، وليست النفوس في القبول سوا ، ولا لكل من ضر دوا ، وقد شفيت صدري ، وإن جهلت قدري ، فاحملني حملك الله على الجادة الواضحة ، وسحب عليك ستر الأبوة الصالحة ، والسلام . ة عليهم معدودة ، وشبابي فاحم ، وعلى الشهوات مزاحم ، فكيف بي اليوم مع الشيب ، ونصح الجيب ، واستكشاف العيب ، إنما أنا اليوم على كل من عرفني كل ثقيل ، وسيف العدل في كفى صقيل ، أعذل أهل الهوى ، وليست النفوس في القبول سوا ، ولا لكل من ضر دوا ، وقد شفيت صدري ، وإن جهلت قدري ، فاحملني حملك الله على الجادة الواضحة ، وسحب عليك ستر الأبوة الصالحة ، والسلام .
ولما شرح كتاب ' الشفا ' . . . للقاضي أبي الفضل عياض بن موسى
ابن عياض رحمه الله ، واستبحر فيه ، طلب أهل العدوتين بنظم مقطوعات تتضمن الثناء على الكتاب المذكور ، وإطراء مؤلفة ، فانثال عليه من ذلك الطم والرم ، بما تعددت منه الأوراق ، واختلفت في الإجاجة وغيرها الأرزاق ، وإيثاراً لغرضه ، ومبادرة من أهل الجهات لإسعاف أريه ، وطلب مني أن ألم في ذلك بشيء ، فكتبت في ذلك :
شفا عياض للصدور شفاء . . . وليس بفض قد حواه خفاء
هدية بر لم يكن لجزيلها . . . سوى الأدر والذكر الجميل كفاء
وفي لنبى الله حق وفاته . . . وأكرم أوصاف الكرام وفاء(3/95)
"""""" صفحة رقم 96 """"""
وجاء به بحراً بقول بفضله . . . على البحر طعم طيب وصفاء
وحق رسول الله بعد وفاته . . . رعاه وإغفال الحقوق جفاء
هو الذخر يغنى في الحياة عتاده . . . ويترك منه اليقين رفاء
هو الأثر المحمود ليس يناله دثور ولا يخشى عليه عفاء
حرصت على الإطناب في نشر فضله وتمجيده لو ساعدتني فاء
واستزاد من هذا الغرض ، الذي لم يقنع منه بالقليل ، فبعثت إليه من محل انتقالي بمدينة سلا حرسها الله :
أأزاهير رياض . . . أم شفاء لعياض
جدل الباطل للحق . . . بأسياف مواض
وشفى من يشتكي الغلة في زرق الحياض
أي بنيان معار . . . آمن فوق انقضاض
أي عهد ليس يرمى . . . بانتكاث وانتقاض
ومعان في سطور . . . كأسود في غياض
وشفاء لصدور . . . من ضنى الجهل مراض
حرر القصد فما شين بنقد واعتراض
يا أبا الفضل أذر بأن الله عن سعيك راض
فاز عبد أقرض الله . . . برجحان القراض(3/96)
"""""" صفحة رقم 97 """"""
وجبت عز المزايا . . . من طوال وعراض
لك يا أصدق راو . . . لك يا أعدل قاض
لرسول الله وفيت . . . بجد وانتهاض
خير خلق الله في حالٍ وفي آت وماض
سدد الله ابن مرزوق . . . إلى تلك المراض
زبدة العرفان معنى . . . كل نسك وارتباض
فتولى بسط ما أجملت . . . من غر انقباض
ساهر لم يدر في استخلاصه طعم اغتماض
دام في علو ومن عاداه يهوى في انخفاض
ما وشى الصبح الدياجي . . . في سواد ببياض
ثم نظمت له أيضاً في الغرض المذكور ، والإكثار من هذا النمط ، في هذا الموضع ، ليس على سبيل التبجح بغرابته وإجادته ، ولاكن على سبيل الإشادة بالشرح المشار إليه ، فهو بالغ غاية الإستبحار .
حييت يا مختط يبت بن نوح . . . بكل مزن يغتدى أو يروح
وحمل الريحان ريح الصبا . . . أمانة ي كل إلى كل روح
دار أبي الفضل عياض الذي . . . أضحت برياه رياضاً تفوح
يا ناقل الآثار يعنى بها . . . وواصلاً في العلم جرى المجموح
طرفك في الفخر بعيد المدا . . . طرفك للمجد شديد الطموح
كفاك إعجازاً كتاب الشفا . . . والصبح لا ينكر عند الوضوح
لله ما أجزلت فينا به من . . . منحة تقصر عنها المنوح
روض من العلم همى فوقه . . . من صيب الفكر الغمام السفوح(3/97)
"""""" صفحة رقم 98 """"""
فمن بيان الحق زهر ند . . . ومن لسان الصدق طير صدوح تأرج العرف وطاب الجنى . . . وكيف لا يثمر أو لا يفوح
تأرج العرف وطاب الجنى . . . وكيف لايثمر أو لا يفوح
وحلة من طيب خير الورى . . . في الجيب والأعطاف منها نضوح
ومعلم للدين شيدته . . . فهذه الأعلام منه تلوح
فقل لهامان كذا أو فلا . . . يامن أضل الرشد تبنى الصروح
في أحسن التقويم أنشأته . . . خلقاً جديداً بين جسم وروح
فعمره المكتوب لا ينقضى . . . إذا تقضى عمر سام ونوح
كأنه في الحف ريح الصبا . . . وكل عطف فهو غض مروح
ما عذر مشغوف بخير الورى . . . إن هاج منه الذكر أن لا يبوح
عجبت من أكباد أهل الهوى . . . وقد سطا البعد وطال النزوح
إن ذكر المحبوب سالت دما . . . ما هن أكباد ولكن جروح
يا سيد الأوضاع يا من له . . . بسيد الإرسال فضل الرجوع
يا من له الفخر على غيره . . . والشهب تخفى عند إشراق يوح
ياخير مشروح وفي واكتفى . . . منه ابن مرزوق بخير الشروح
فتح من الله جاه به . . . ومن جناب الله تاتى الفتوح
مولده : بتلمسان عام أحد عشر وسبعماية
محمد بن عبد الرحمن بن سعد التميمي التسلى الكرسوطى
من أهل فاسن نزيل مالقة يكنى أبا عبد الله .
حاله
الشيخ الفقيه المتكلم أبو عبد الله ، غزير الحفظ ، متبحر الذكر ، عديم القرين ، عظيم الاطلاع ، عارف بأسماء الأوضاع ، ينثال منه على السايل كثيب مهيل ، ينقل الفقه منسوباً إلى أمانة ، ومنوطاً برجاله ، والحديث بأسانيده ومتونه ،(3/98)
"""""" صفحة رقم 99 """"""
خوار العنان ، وساع الخطو ، بعيد الشأو ، يفيض من حديث إلى فقه ، ومن أدب إلى حكاية ، ويتعدى ذلك إلى غرايب المنظومات ، مما يختص بنظمه أولو الشطارة والحرفة من المغاربة ، ويستظهر مطولات القصاص ، وطوابير الوعاظ ، ومساطير أهل الكدية ، في أسلوب وقاحٍ يفضحه الإعراب ، حسن الخلق جم الاحتمال . مطرح الوقار ، رافض التصنع ، متبذل اللبسة ، رحيب أكناف المرارة لأهل الولايات ، يلقى بمعاطنهم البرك ، وينوط بهم الوسائل ، كثير المشاركة لوصلايه ، محصب على أهل بيته ، حدب على بنيه . قدم على الأندلس عام اثنين وعشرين وسبعماية ، فأقام بالجزيرة مقرياً بمسجد الصواع منها ، ومسجد الرايات . ثم قدم على مالقة وأقرأ بها ، ثم قدم على غرناطة عام خمسة وعشرين وسبعماية ، فتعرف على أرباب الأمر ، بما نجحت حيلته ، وخف به موقعه ، فلم يعدم صلة ، ولافقد مرفقة ، حتى ارتاش وتأثل بمحل سكناه من مالقة ، مدرة مغلة ، وعقارا مفيدا . وطال قعوده لسرد الفقه بمسجدها الجامع ، نمير في الركب ، مهجور الحلقة ، حملا من الخاصة والعامة ، لتلبسه بالعرض الأدنى . وهو الآن خطيب مسجد القصبة بها ، ومحله من الشهرة ، بالحفظ والاستظهار لفوع الفقه ، كبير .
مشيخته
قرأ القرآن على الجماعة بالمغرب والأندلس ، منهم أبوه ، والأستاذ أبو الحسن القيجاطي البلوى ، وأبو إسحق الحريرى ، وأبو الحسن بن سليمن ، وأبو عبد الله بن أجروم . وقرأ الفقه على أبي زيد الجزولي ، وعبد الرحمن بن عفان ، وأبي الحسن الصغير ، وعبد المؤمن الجاناتي ، وقرأ الكتاب بين يديه مدة ، ثم عزله ، ولذلك حكاية . حدثني الشيخ أبو عبد الله الكرسوطي ، المترجم به ، قال قرأت بين يديه ، في قول أبي سعيد في التهذيب ، والدجاج والأوز المخلات ، فقال أنظر هل يقال الدجاج أو الجداد ، لغة القرآن أفصح ، قال الله تعإلى : وجدد بيض وحمر مختلف ألوانها ، وغرابيب سودٍ . فأرزى به ، ونقل إليه إزاره ، فعزله . وقعد بعد ذلك للاقراء بفاس ، كذا حدث . وأخذ عن أبي إسحاق الزناتي ، وعن خلف الله المجاصى ، وأبي عبد الله بن عبد الرحمن الجزولى ، وأبي الحسين الزدغى ، وأبي الفضل ابنه ، وأبي العباس بن راشد المراني ، وأبي عبد الله بن رشيد . وروى الحديث بسبتة عن أبي عبد الله الغمارى ، وأبي عبد الله بن هاني ، وذاكر أبا الحسن بن وشاش ، وبمالقة عن الخطيب الصالح الطنجالي ، وأبي عمرو بن منظور .(3/99)
"""""" صفحة رقم 100 """"""
وبغرناطة عن أبي الحسن القيجاطى ، وأبي إسحاق بن أبي العاصي . وببلش عن أبي جعفر الزيات . تواليفه
منها الغرر في تكميل الطرر ، طرر أبي إبراهيم الأعرج . ثم الدرر في اختصار الطرر المذكور . وتقييدان على الرسالة ، كبير وصغير ، ولخص التهذيب لابن بشير ، وحذف أسانيد المصنفات الثلاثة ، البخاري ، والرمذي ، ومسلم ، والزم إسقاط التكرار ، واستدراك الصحاح الواقعة في التهذيب على مسلم والبخاري . وقيد على مختصر الطليطلى ، وشرعي تقييد على قواعد الإمام أبي الفضل عياض بن موسى ابن عياضن برسم ولدى أسعده الله .
شعره
أنشدني ، وأنا أحاول بمالقة لوث العمامة ، وأستعين بالغير على إصلاح العمل ، وإحكام اللياثة :
أمعمما قمرا تكامل حسنه . . . أربى على الشمس المنبرة في البها
لا تلتسم ممن لديك زيادة . . . فالبدر لا يمتاز من نور السها
ويصدر منه الشعر مصدراً ، لا تكنفه العناية
محنته
أسر ببحر الزقاق ، قادماً على الأندلس ، في جملة من الفضلاء ، منهم والده . واستقر بطريف عام ستة وعشرين وسبعماية ، لقى بها شدة ونكالاً ، ثم شرح والده ، لمحاولة فكاك نفسه ، وفك ابنه ، ويسر الله عليه ، فتخلصا من تلك المحنة في سبيل كدية ، وأفلت من بين أنياب مشقة .(3/100)
"""""" صفحة رقم 101 """"""
بعض أخباره
قال ، لقيت الشيخ ولي الله أبا يعقوب بساحل بادس ، في جملة من الفضلاء ، منهم والده . واستقر بطريف عام ستة وعشرين وسبعماية ، ولقى بها شدة ونكالاً ، ثم سرح والده ، لمحاولة فكاك نفسه ، وفك ابنه ، ويسر الله عليه ، فتخلصا من تلك المحنة في سبيل كدية ، وأفلت من بين أنياب مشقة .
بعض أخباره
قالن لقيت لاشيخ ولي اله أبا يعقوب بساحل بادس ، قاصداً الأخذ عنه ، والتبرك به ، ولم يكن رآني قط ، وألفيت بين يديه عند دخولي عليه ، رجلاً يقرأ عليه القرآن . فلما فرغ ، أراد أن يقرأ عليه أسطراً من الرسالة ، فقال له ، اقرأها على هذا الفقيه ، وأشار إلى ، ورأيت في عرصةٍ له أصول خص ، فتمنيت الأكل منها ، وكان رباعها غير حاضر ، فقام عن سرعة ، واقتلع منها أصولاً ثلاثة ، ودفعها إلى ، وقال كل . فقلت في نفسي ، تصرف في الخضرة قبل حضور رباعها ، فقال لي ، إذا أردت الأكل من هذه الخضر ، فكل من هذا القسم فإنه لي . قلت ، وخبرت من اضطلاع هذا المترجم به بعبارة الرؤيا ، ماقضيت منه العجب في غير ماشيء جربته . وهو الآن بحاله الموصوفة . وأصابه لهذا العهد جلاء عن وطنه ، لتوفي الحمل عليه من الخاص والعام ، بما طال به نكده . ثم آلت حاله إلى بعض صلاحن والله يتولاه .
مولده : بمدينة فاس عام تسعين وستماية .
محمد بن عبد المنعم الصنهاجي الحميري
يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بابن عبد المنعم ، من أهل سبتة ، الأستاذ الحافظ .
حاله
من العايد : كان رحمه الله رجل صدق ، طيب اللهجة ، سليم الصدرن تام الرجولة ، صالحاً ، عابداً ، كثير القرب والأوراد في آخر حاله ، صادق اللسان . قرأ كثيراً ، وسنه تنيف على سبع وعشرين ، ففات أهل الدؤب والسابقة ، وكان من صدور الحفاظ ، لم يستظهر أحد في زمانه من اللغة ما استظهره ، فكاد يستظهر كتاب التاج للجوهري وغيره ، آية تتلى ، ومثلاً يضرب ، قايماً على كتاب سيبويه ، يسرده بلفظه . اختبره الفاسيون في ذلك غير ما مرة . طبقة في الشطرنج ، يلعبها محجوباً ، مشاركاً في الأصول آخذاً في العلوم العقلية . مع الملازمة للسنة ، يعرب أبداً كلامه ويزينه .
مشيخته
أخذ ببلده عن الأستاذ أبي إسحاق الغافقي ، ولازم أبا القاسم بن الشاط ، وانتفع به وبغيره من العلماء .(3/101)
"""""" صفحة رقم 102 """"""
دخوله غرناطة
قدم غرناطة مع الوفد من أهل بلده ، عندما صارت إلى إيالة الملوكح من بني نصرن لما وصلوا بالبيعة .
وفاته : كان من الوفد الذين استأصلهم الموتان عند منصرفهم عن باب السلطان ، ملك المغرب ، بأحواز تيزى ، حسبما وقع التنبيه على بعضهم .
محمد بن عمر بن محمد بن عمر بن محمد بن إدريس بن سعيد ابن مسعود بن حسن بن محمد بن عمر بن رشيد الفهرى
من أهل سبتة ، يكنى أبا عبد الله ويعرف بابن رشيد
حاله من عيد الصلة : الخطيب المحدث ، المتبحر في علوم الرواية والإسناد . كان رحمه الله فريد دهره عدالة وجلالة ، وحفظاً وأدباً ، وسمتاً وهدياً ، واسع الأسمعة ، عالي الإسناد ، صحيح النقل ، أصيل الضبط ، تام العناية بصناعة الحديث ، قيماً عليها بصيراً بها ، محققا فيها ، ذاكراً فيها للرجال ، جماعة للكتب ، محافظاً على الطريقة ، مضطلعاً بغيرها ، من العربية واللغة والعروض ، فقيهاً أصيل النظر ، ذاكراً للتفسير ، ريان من الأدب ، حافظاً للأخبار والتواريخ ، مشاركاً في الأصلين ، عارفاً بالقراءات ، عظيم الوقار والسكينة ، بارع الخط ، حسن الخلق ، كثير التواضع ، رقيق الوجه ، متجملاً ، كلف الخاصة والعامة ، مبذول الجاه ولا شفاعة . كهفاً لأصناف الطلبة . قدم على غرناطة في وزارة صديقه ، ورفيق طريقه في حجه وتشريقه ، أبى عبد الله بن الحكيمن فلقى براً ، وتقدم للخطابة بالمسجد الأعظم ، ونفع الله لديه بشفاعته المبذولة ، طايفة من خلقه ، وانصرف إثر مقتله إلى العدوة ، فاستقر بمدينة فاس ، معظماً عند الملوك والخاصة ، معروف القدر عندهم .
مشيخته
قرأ ببلده سبتة على الأستاذ إمام النحاة أبي الحسن بن أبي بالربيع كتاب سيبويه ، وقيد على ذلك تقييداً مفيداً ، وأخذ عنه القراءات . وأخذ أيضاً عن الأستاذ أبي الحسن بن الخطار . ورحل من بلده سبتة لأداء الفريضة .
حج ولقى(3/102)
"""""" صفحة رقم 103 """"""
المشايخ عام ثمانية وثمانين وستماية ، فوافى في طريقه الحاج المحدث الراوية ، ذا الوزاريتين بعد ، أبا عبد الله الحكيم ، وأخذ عن الجلة الذين يشق إحصاؤهم . فممن لقى بإفريقية الراوية العدل أبا محمد عبد الله بن هارون يروى عن ابن بقى ، والأديب المتبحر أبا الحسن حازم ابن محمد القرطاجني . وروى بالمشرق عن العدد الكثير كالإمام جار الله أبي اليمن بن عساكر ، لقيه بباب الصفا تجاه الكعبة المعظمة ، وهو موضع جلوسه للسماع ، غرة شوال عام أربعة وثمانين وستماية ، وعن غيره ، كأبي العز عبد الرحمن بن عبد المنعم بن علي بن نصر بن منظور بن هبة الله وغيرهم ممن ثبت في اسم مرافقة في السماع والرحلة أبي عبد الله بالحكيم رحمه الله ، فلينظر هنالك .
تواليفه
ألف فوايد رحلته في كتاب سماه ملئ العيبة فيما جمع بطول الغيبة في الوجهتين الكريمتين ، إلى مكة وطيبة . قال شيخنا أبو بكر ابن شبرين ، وقفت على مسودته ، ورأيت فيه فنوناً وضروباً من الفوايد العلمية والتاريخ ، وطرفاً من الأخبار الحسان . والمسندات العوالي والأناشيد . وهو ديوان كبير ، ولم يسبق إلى مثله . قلت ورأيت شيئاً من مختصره بسبتة .
دخوله غرناطة
ورد على الأندلس في عام اثنين وتسعين وستماية . فعقد مجالس اللخاص والعام ، يقرى بها فنوناً من العلم . وتقدم خطيباً وإماماً بالمسجد الأعظم منها . حدثني بعض شيوخنا ، قال ، قعد يوماً على المنبر ، وظن أن المؤذن الثالث قد فرغ ، فقام يخطب والمؤذن قد رفع صوته بإذانه ، فاستعظم ذلك بعض الحاضرين ، وهم آخر بأشعاره وتنبيهه . وكلمه آخر ، فلم يثنه ذلك عما شرع فيه ، وقال بديهة ، أيها الناس ، رحمكم الله ، إن الواجب لا يبطله المندوب ، وأن الإذان الذي بعد الأول غير مشروع الوجوب ، فتأهبوا لطلب العلم ، وانتبهوا ، وتذكروا قوله عز وجل : وما أتاكم الرسول فحدوء ، ومانهاكم عنه فانتهوا ، وقد روينا عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ، أنه قال ، من قال لأخيه والإمام يخطب ، وأصمت ، فقد لغا ، ومن لغا فلا جمعة له . جعلنا الله وإياكم ممن علم فعملن وعمل فقبل ، وأخلص فتخلص . وكان ذلك مما استدل به على قوة جناته ، وانقياد لسانه لبيانه .
شعره
وله شعر يتكلفه إذا كان لا يزن أعاريضه إلا بميزان العروضن فمن ذلك ما حدث به ، قال لما حللت بدمشق ، ودخلت دار الحديث الأشرفيه ، برسم رؤية النعل الكريمة ، نعل المصطفى صلوات الله عليه ، ولثمتها ، حضرتني هذه(3/103)
"""""" صفحة رقم 104 """"""
الأبيات :
هنيئاً لعيني أن رأت نعل أحمد . . . فيا سعد جدي قد ظفرت بأسعد
وقبلتها أشفى الغليل فزادني . . . فيا عجباً زاد الظما عند مورد
فلله ذاك اللثم فهو ألذ من . . . لما شفة لميا وخد مورد
ولله ذاك اليوم عيداً ومعلماً . . . بتاريخه أرخت مولد أسعد
عليه صلاة نشرها طيب كما . . . يحب ويرضى ربنا لمحمد وقال ، وقلت في موسم عام ستة وثمانين وستماية ، بثغر سبتة حرسها الله تعإلى :
أقول إذا هب النسيمن المعطر . . . لعل بشيراً باللقاء يبشر
وعالي الصبا مرت على ربع جيرتي . . . فعن طيبهم عرف النسيم يعبر
وأذكر أوقاتي بسلمى وبالحمى . . . فتذكو لظى في أضلعي حين أذكر
ربوع يود المسك طيب رابها . . . ويهوى حصى فيها عقيق وجوهر
بها جيرة لا يخفرون بذمة . . . هم لمواليهم جمال ومفخر
إذا ما اجتلت زهر النجوم جمالهم . . . تغار لباهي نورهم فتغور
ومن جود جدواهم يرى الليث . . . يعمر ون خوف عدواهم يذعر
ومن سيب يمناهم يرى الروض يزهر . . . ومن فيض نعماهم يرى البحر يزخر
رعى الله عهداً بالمصلى عهدته . . . وروض المنى غض يرق وينضر
زماناً نعمنا فيه الظل وارف . . . بجنات عدن تحتها العذاب يخضر
ولله أيام المصلى وطيبها وأنفسنا بالقرب والأنس تجبر
بحيث يرى بدر الكمال وشمسه . . . وروضته فردوس وحوض ومنبر
أروم دنواً من بهاء جمالها . . . ولثماً فتأبى هيبة وتوقر
خضعت وذلي للحبيب تعزز . . . فطرفي مغضوض وخدي معفر
ووجه سروري سافر متهلل . . . وحالي بهم حلل وعيشي أخضر
فطوبى لمن أضحى بطيبة ثاوياً . . . يجر أذيال الفخار وينشر(3/104)
"""""" صفحة رقم 105 """"""
وإذ فات عيني أن تراهم فرددوا على مسمعي ذكر المصلى وكرروا
وردت فيا طيب الورود بطيبة . . . صدرت فوا حزني فلا كان مصدر
رماني زماني بالفراق فغرني . . . على مثل من فارقت عز التصبر
وأضمرت أشجاني ودمعي مظهر . . . وأسررت هجراني وحالي تخبر
فمن أدمعي ماء يفيض ويهمر . . . ومن أضلعي نار تفور وتسعر
فجسمي مصفر وفودي أبيض . . . وعيشي مغبر ودمعي أحمر
وحين دنا التوديع ممن أحبه . . . وحان الذي ما زلت منه أحذر
ونادى صحابي بالرحيل وأزمعوا . . . وسارت مطاياهم وظلت أقهقر
وألوي إليه الجيد حتى وجعته . . . وظل فؤادي لوعة يتفطر
وقفت لأقضي زفرة وصبابة . . . ولا أنثني فالموت أجدى وأجدر
ولو أنني بعت الحياة بنظرة . . . لأبت وحظي فيه أوفى وأوفر
وما باختياري إنما قدر جرى . . . رضيت بما يقضي الآله ويقدر
حنيني إلى مغنى الجمال مواصل . . . وشوقي إلى معنى الجمال موفر
وغير جميل أن يرى عن جمالها . . . فؤادي صبوراً والمسير ميسر
أيصبر ظمآن يغال بغلة . . . وفي روضة الرضوان شهد وكوثر
فيا عينها الزرقاء إن عيونها . . . من الحزن فيض بالنجيع تفجر
سأقطع ليلى بالسرى أو أزورها . . . وأحمي الكرى عيناً لبعدك يظهر
وأنضي المطايا أو أوافي ربعها . . . فتنجدني طوراً وطوراً تغور
حظرت على نفسي الحذار من الردى . . . أتحذر نفس الحبيب تسير
أينكر تغرير المشوق بنفسه . . . وقد علموا أن المحب مغرر
وقفت على فتوى المحبين كلهم . . . فلم أجد التغرير في الوصل ينكر
وإني إذا ما خطرة خطرت قصت بهمي وعزمي همة لا تأطر
أقيم فألفي بين عيني وهمتي . . . وسيري في سبل العلا ليس ينكر
إذا ما بدت للعين أعلام طيبة ولاحت قباب كالكواكب تزهر
وللقبة الزهراء سمك سما علاً . . . وراق سنى كالشمس بل هو أزهر
لها منظر قيد النواظر والنهى . . . لها ساكن من نوره البدر يبدر(3/105)
"""""" صفحة رقم 106 """"""
فعرجوا على أهل الكمال وسلموا . . . سلمتم وبلغتم مناكم فأبشروا
بنفسي لا بالمال أرضى بشارة . . . إذا لاح نور في سناها مبشر وما قدر نفسي أن تكون كفاً . . . ولكنها جهد المقل فأعذر
أقول إذا أوفيت أكرم مرسل . . . قراى عليكم أن ذنبي يغفر
وأحظى بتقريب الجوار مكرماً . . . وأصفح عن جور البعاد وأعذر
وأرتع في ظل الجنان منعماً . . . وأمني بقرب من حماك وأجبر
هناك هناك القرب فانعم بنيله . . . بحيث ثوى جسم كريم مطهر
ودع عنك تطواف البلاد وخيمن . . . بطيبة طابت فهي مسك وعنبر
فخرت بمدحي للنبي محمد ومن . . . مدحه المداح يزهى ويفخر
أطلت وإني في المديح مقصر . . . فكل طويل في معاليك يقصر
فما بلغت كف أمري متناول بها . . . المجد إلا والذي نلت أكبر
وما بلغ المهدون في القول مدحة . . . وإن أطنبوا إلا الذي فيك أفخر
عليك صلاة الله ما مر سبق . . . إليك وما هب النسيم المعطر
وقال يرثي إبنا نجيباً ثكله بغرناطة :
شباب ثوى شابت عليه المفارق . . . وغصن ذوي تاقت إليه الحدايق
على حين راق الناظرين بسوقه . . . رمته سهام للعيون رواشق
فما أخطأت منه الفؤاد بعمدها . . . فلا أبصرت تلك العيون الروانق
وحين تداني للكمال هلاله . . . ألم به نقص وجدت مواحق
إلى الله أشكو فهو يشكي نوازعاً . . . عظاماً سطاها للعظام عوارق
ولا مثل فقدان البني فجيعة . . . وإن طال ما لجت وجالت بوايق
محمد إن الصبر صبر وعلقم . . . على أنه حلو المثوبة سابق
فإن جزعاً فالله للعبد عاذر . . . وإن جلداً فالوعد لله صادق
وتالله ما لي بعد عيشك لذة . . . ولا راقني مرأي لعيني رايق(3/106)
"""""" صفحة رقم 107 """"""
فأني به والمذكرات عديدة . . . فنبل وهم للعوايد خارق
فأين التفت فالشخص للعين مائل . . . وإن أستمع فالصوت للأذن طارق
وإن أدع شخصاً باسمه لضرورة . . . فإن اسمك المحبوب للنطق سابق
وإن تقرع الأبواب راحة قارع . . . يطير عندها قلب لذكرك خافق
وكل كتاب قد حويت فمذكر . . . آثاره كل إليك توايق
سبقت كهولة في الطفولة لا تني . . . وأرهقت أشياخاً وأنت مراهق
فلو لم يغلك الموت دمت مجلياً . . . واقبل سكيتاً وجيية ولاحق
على مهل أحرزت ما شيت ثانياً . . . عنانك لا تجهد وأنت مسابق
رأتك المنايا سابقاً فأغرتها . . . فجد طلاباً إنهن لواحق
لين سلبت مني نفيس ذخائر . . . فإني بمذخور الأجور لواثق
وقد كان ظني أنني لك سابق . . . فقد صار علمي أنني بك لاحق
غريبين كنا فرق البين بيننا . . . فأبرح ما يلقى الغريب المفارق
فبين وبعد بالغريب توكلاً . . . قد رعى بما حملت والله ضايق
عسى وطن يدنو فتدنو مني . . . وأي الأماين والخطوب عوايق
فخط الأسى خطا تروق سطوره . . . وتمحو البكا فالدمع ماح وساحق
فيا واحداً قد كان للعين نورها . . . اتل ضياً بعد بعدك غاسق
عليك سلام الله ما جن ساجع . . . وما طلعت شمس وما ذر شارق
وما همعت سحب غواد روايح . . . وما لمعت تحدو الرعود بوارق
وجاد على مثواك غيث مروض . . . عباد لرضوان الإله موافق(3/107)
"""""" صفحة رقم 108 """"""
محنته
تعرض إليه قوم ، يوم قتل صديقه أبي عبد الله الحكيم بإذاية قبيحة ، وأسمع كل شارق من القول على ألسنة زعانفة فجر وترهم القتيل ، فتخلص ولا تسل كيف ، وأزمع الرحيل فلم يلبث بعد ذلك .
وفاته : كانت وفاته بمدينة فاس ، في اليوم الثامن من شهرم المحرم مفتتح عام أحد وعشرين وسبعماية . ودفن في الجبانة التي بخارج باب الفتوح بالروضة المعروفة بمطرح الجنة ، التي اشتملت على العلماء والصلحاء والفضلاء ، من الغرباء الواردين مدينة فاس . وكان مولده بسبتة عام سبع وخمسين وستماية .
محمد بن علي بن هاني اللخمي السبتي
يكنى أبا عبد الله ، ويعرف باسم جده ، أصلهم من إشبيلية
حاله
كان رحمه الله فريد دهره في سمو الهمة ، وإيثار الاقتصاد والتحلي بالقناعة ، وشموخ الأنف على أهل الرياسة ، مقتصراً على فايدة ربع له ببلده ، يتبلغ مع الاستقامة ، مع الصبر والعمل على حفظ المروءة ، وصون ماء الوجه ، إماماً في علم العربية ، مبرزاً متقدماً فيه ، حافظاً للأقوال ، مستوعباً لطريق الخلاف ، مستحضراً لحجج التوجيه ، لا يشق في ذلك غباره ، ريان من الأدب ، بارع الخط ، سهل مقادة الكلام ، مشاركاً في الأصلين ، قايماً على القراءات ، حسن المجلس ، رايق البزة ، بارع المحاضرة ، فايق الترسل ، متوسط النظم ، كثير الاجتهاد والعكوف ، مليح الخلق ، ظاهر الخشوع ، قريب الدمعة ، بيته شهير الحسب والجلالة .
وجرى ذكره في الإكليل الزاهر بما نصه : علم تشير إليه الأكف ويعمل إلى لقاية الحافر والخف ، رفع للعربية ببلده راية لا تتأخر ، ومرج منها لجة تزخر ، فانفسخ مجال درسه ، وأثمرت أدواح غرسه ، فركض يماشا وبرح ، ودون وشرح ، إلى شمايل تملك الظرف زمامها ، ودعابة راشت الحلاوة سهامها . ولما أخذ المسلمون في منازلة الجبل وحصاره ، وأصابوا الكفر منه بجارحة(3/108)
"""""" صفحة رقم 109 """"""
أبصاره ، ورموا بالثكل فيه نازح أمصاره ، كان ممن انتدب وتطوع ، وسمع الندا ، فأهطع ، فلازمه إلى أن نفد لأهله القوت ، وبلغ من فتحة الأجل الموقوت ، فأقام الصلاة محرابه ، وقد غير محياه طول اغترابه ، وبادره الطاغية قبل أن يستقر نصل الإسلام في قرابه ، أو يعلق أصل الدين في ترابه . وانتدب إلى الحصار به وتبرع ، ودعاه أجله فلبى وأسرع . ولما هدر عليه الفتيق ، وركعت إلى قبلته المجانيق ، أصيب بحجر دوم عليه كالجارح المحلق ، وانقض إليه انقضاض البارق المتألق ، فاقتنصه ، واختطفه ، وعمد إلى زهره فقطفه فمضى إلى الله طوع نيته ، وصحبته غرابة المنازع حتى في منيته .
مشيخته
قرأ على الأستاذ العلامة أبي إسحاق الغافقي ، وعلى الأستاذ النحوي أبي بكر بن عبيدة ، واعتمد عليه ، وقرأ على الإمام الصالح أبي عبد الله ابن حريث .
تواليفه
ألف كتباً ، منها كتاب شرح التسهيل لابن مالك ، وهو أجل كتبه ، أبدع فيه ، وتنافس الناس فيه . ومنها الغرة الطالعة في شعراء المائة السابعة ، ومنها إنشاد الضوال ، وإرشاد السوال في لحن العامة ، وهو كتاب مفيد ، وقوت المقيم . ودون ترسل رييس الكتاب أبي المطرف بن عميرة وضمه في سفرين . وله رجز في الفرايض مفيد .
شعره
حدثنا شيخنا القاضي الشريف ، نسيج وحده ، أبو القاسم الحسني ، قال ، خاطبت الأستاذ أبا عبد الله بن هاني رحمه الله بقصيدة من نظمي أولها :(3/109)
"""""" صفحة رقم 110 """"""
هلت الحديث عن الكرب الذي شخصا
فأجابني عن ذلك بقصيدة في رويها :
لولا مشيب بفودى للفؤاد عصا . . . نضيت في مهمه التشبيب لي قلصا
واستوقفت عبراتي وهي جارية . . . وكفاء توهم ربعا ًللحبيب قصا
مسايلاً عن لياليه التي انتهزت . . . أيدي الأماني بها ما شيته فرصا
وكنت جاريت فيها من جرى طلقاً . . . من الإجادة لم يحجم ولا نكصا
أصاب شاكلة المرمى حين رمى . . . من الشوارد ما لولاه ما اقتنصا
ومن أعد مكان النبل نبل حجاً . . . لم يرض إلا بأبكار النهي قنصا
ثم انثنى ثانياً عطف النسيب إلى . . . مدح به قد غلا ما كان قد رخصا
فظلت أرفل فيها لبسة شرفت . . . ذاتاً ومنتسباً أعزز به قمصا
يقول فيها وقد خولت منحتها . . . وجرع الكاشح المغري بها غصصا
هذي عقايل وافت منك ذا شرف . . . لولا أياديه بيع الحمد مرتخصا
فقلت هلا عكست القول منك له . . . ولم يكن قابلاً من مدحه الرخصا
وقلت ذي بكر فكر من أخي شرف . . . يردي ويرضى بها الحساد والخلصا
لها حلي حسنيات على حلل . . . حسنية تستبي من حل أو شخصا خولتها وقد اعتزت ملابسها . . . بالبخت ينقاد للإنسان ما عوصا
خذها أبا قاسم مني نتيجة ذي . . . ود إذا شيت وداً للورى خلصا
جاءت تجاوب عما قد بعثت به . . . إن كنت تأخذ من دلا النحور حصا(3/110)
"""""" صفحة رقم 111 """"""
وهي طويلة . ومما ينسب إليه ، وهو مليح في معناه :
ما للنوى مدت لغير ضرورة . . . ولقبل ما عهدي بها مقصوره
إن الخليل وإن دعته ضرورة . . . لم يرضى ذاك فكيف دون ضروره
وقال مضمنا :
لا يلمني عاذلي حتى يرى . . . وجه من أهوى فلومي مستحيل
لو رأى وجه حبيبي عاذلي . . . لتفارقنا على وجه جميل
وقال في الفخر :
قل للموالي عش بغبطة حامد . . . وللمعادي بت بضغنة حاسد
المزن كفى ولاثريا همتي . . . وذكا ذكري والسعود مقاصد
وقال في غير ذلك
غنيت بي دون غيري الدهر عن مثل . . . بعضي لبعض أضحى يضرب المثلا
ظهري انحنى لمشيب لاح واعجبا . . . غض إذا أينعت أزهاره ذبلا
أذلك أم زهر لاحت تخبر أن . . . يوم الصبا والتصابي آنس الطفلا
ومما جمع فيه بين نظمه ونثره ، ما راجع به شيخنا القاضي الشريف أبا القاسم الحسني ، عن القصيدة الهمزية التي ثبتت في اسمه :
يا أوحد الأدبا أو يا أوحد الفضلا أو يا أوحد الشرفاء
من ذا تراه أ منك إذا التوت . . . طرق الحجاج بأن يجيب نداء
أدب أرق من الهواء وإن تشا . . . فمن الهوى والماء والصهباء
وألذ من ظلم الحبيب وظلمه . . . بالظاء مفتوحاً وضم الظاء
ما السحر إلا ما تصوغ بنانه . . . ولسانه من حلية الإنشاء
والفضل ما حليته وحبيته . . . وحبوتني منه بخير حباء(3/111)
"""""" صفحة رقم 112 """"""
أبكار فكرك قد زففت بمدحتي . . . تمشي روايعها على استحياء
لا من قصور بل لتقصيها من . . . حيث لم يظفرن بالإرفاء
لاكن جبرن وقد فبلن على . . . الرضا فالجبر للأبكار للإباء
هذا إلى الشرف الذي قد فزت . . . من عليائه بالعزة القعساء
شرف السيل من الرسول وسيلة . . . قامت بابن سناً وابن سناء
حسن وأبو حسن وفاطمة ابنة . . . الهادي البرية خاتم النبلاء
شرف على شرف إلى شرفين . . . من ذا حاز ما حزت من علياء
هذي ثلاث أنت واحد فخرها . . . فاشمخ لها شرفاً بأنف علاء
من رام رتبتك السنية فليقف . . . دون المرام مواقف الإقصاء
هذي مآثر قد شأوت بصيتها . . . من كان من آب لها أو شاء
والليث يرهب زأره في موطن . . . ما كان من نقد به أو شاء
يكفيك من نكد المعاند أن يرى . . . متقلد الأعضاء بالبغضاء
السن يفنى بالأنامل قرعه . . . أو عضه متوقد الأحشاء
أتحفتنى بقصيدة همزية . . . مقصورة ممدودة الآراء
كم بين تلك وهذه لا كنها . . . غطى على هذى ذهاب فتاء
ذو الشيب يعذره الشباب فما لهم بذكا نبل أو بنبل ذكاء
من قارب الخمسين خطواً سنه . . . فمحاله مستوجب الإبطاء
أبني إنك أنت أسدى من به . . . يتعاظم الآباء بالأبناء
لله نفثة سحر ما قد شدت لي . . . من نفث سحرك في مشاد ثناء
عارضت صفواناً بها فأريت ما . . . يستعظم الراوي له والراء
لو راء لؤلؤك المنظم لم يفز . . . في نظم لؤلؤه بغير عناء(3/112)
"""""" صفحة رقم 113 """"""
بوأتنى منها أجل مبوإ . . . فلا خمصى مستطن الجوزاء
وسمى بها أسمى سايرً فأنابما . . . أسديت ذو الأسماء في الأسماء
وأشدت ذكرى في البلاد فلى بها . . . طول الثناء وإن أطلت ثواء
ولقومي الفخر المشيد بنيته . . . بأحسن تشييد وحسن وبناء
فليهن هانيهم يد بيضاء ما . . . أن مثلها لك من يد بيضاء
حليت أبياتا لهم لخمية . . . بحلا علاً مضرية غراء فليشمخوا أنفا بما أوليتهم . . . يا محرز الآلاء بالإيلاء هذا ، بنى ، وصل الله لك ولي بك علو المقدار ، وأجرى وفق أو فوق إرادتك أو إرادتي لك جاريات الأقدار ، ما سمح به الذهن الكليل واللسان الفليل في مراجعة قصيدتك الغراء ، الجالية للسراء ، الآخذة بمجامع القلوب ، الآتية بجوامع المطلوب ، الحسنة المهيع والأسلوب ، المتحلية بالحلى الحسنية ، العريقة المنتسب في العلى الحسنية ، الجالية صدا قلوب ران عليها الكسل ، وخانها المسعدان ، السؤل والأمل ، فمتى حامت المعاني حولها ، ولو أقامت حولها ، شكت ويلها وعولها ، وحرمت من فريضة الفضيلة عولها ، وعهدى بها ، والزمان زمان ، وأحكامه الماضية أماني مقضية وأمان ، تتوارد آلافها ، ويجمع إجماعها وخلافها ، ويساعدها من الألفاظ كل سهل ممتع ، مفترق مجمع ، مستأنس غريب ، بعيد الغور قريب ، فاضح الحلا ، واضح العلا ، وضاح الغرة والجبين ، رافع عمود الصبح المبين ، أيد من الفصاحة بإياد ، فلم يحفل بصاحبي طي وإياد ، وكسى(3/113)
"""""" صفحة رقم 114 """"""
بضاعة البلاغة ، فلم يعباً بهمام وابن المراغة . شفاء المحزون ، وعلم السر الخزون ، مابين منثوره والموزون . والآن لا ملهج ولا مبهج ولا مرشد ولا منهج عكست القضايا فلم تنتج ، فتبلد القلب الذكي ، ولم يرشح القليب البكى ، وعم الإفحام وغم الإحجام ، وتمكن الإكداء والإجبال ، وكورت الشمس وسيرت الجبال ، وعلت سآمة ، وغلبت ندامة ، وارتفعت ملامة ، وقامت لنوعي الأدب قيامة . حتى إذا ورد ذلك المهرق ، وفرع غصنه المورق ، تغنى به الحمام الأورق ، وأحاط بعداد عداته الغصص والشرق ، وأمن من الغصب والسرق ، وأقبل الأمن ، وذهب بإقباله الفرق ، نفخ في صور أهل المنظوم والمنثور ، وبعثر ما في القبور ، وحصل ما في الصدور ، وتراءت للأدب صور ، وعمرت للبلاغة كور ، وهمت لليراعة درر ، ونظمت للبراعة درر ، وعندها يتبين أنك واحد حلبة البيان ، والسابق في ذلك الميدان ، يوم الرهان ، فكان لك القدم ، وأقر لك مع التأخر السابق الأقدم ، فو حق نصاعة ألفاظ أجدتها ، حين أوردتها ، وأسلتها حين أرسلتها ، وأزنتها حين وزنتها ، وبراعة معان سلكتها حين ملكتها ، وأرويتها حين روأتها وأرويتها ، وأصلتها حين فصلتها ووصلتها ، ونظام جعلته لجسد البيان قلباُ ، والمعصمة قلماً ، وهصرت حدايقه غلباً ، وارتكبت روية صعباً ، ونثاراً أتبعته له خديماً ، وصيرته لمدير كأسه نديماً ، ولحفظ ذمامه المدامى ، أو مدامه الذمامي مديماً ، لقد فتنتني حين أتتني ، وسبتني حين نصبتني ، فذهبت خفتها بوقارى ، ولم يرعها بعد شيب عذارى ، بل دعت للتصابى فقلت مرحباً ، وحللت لفتنتها الحبا ، ولم أحفل بشيب ، وألفيت مارد نصابي نصيب ، وإن كنا فرسى رهان ، وسابقي حلبة ميدان ، غير أن الجلدة(3/114)
"""""" صفحة رقم 115 """"""
بيضاء ، والمرجو الإغضاء ، بل الإرضاء . بنى كيف رأيت للبيان هذا الطوع ، والخروج فيه من نوع إلى نوع . أين صفوان بن إدريس ، ومحل دعواه بين رحلة وتعريس ، كم بين ثغاء بقر هذا الفلا ، وبين زئير ليث العريس ، كما أني أقطع علماً ، وأعلم قطعاً ، وأحكم مضاء ، وأمضي حكماً ، أنه لو نظر إلى قصيدتك الرائقة ، وفريدتك الحالية الفايقة ، المعارضة بها قصيدته ، المتسخة بها فريدته ، لذهب عرضاً وطولاً ، ثم اعتقد لك اليد الطولى ، وأقر بارتفاع النزاع ، وذهبت له تلك العلالات والأطماع ، ونسى كلمته اللؤلؤية ، ورجع عن دعواه الأدبية ، واستغفر الله ربه من تلك الإلهية . بنى وهذا من ذلك ، من الجرى في تلك المسالك ، والتبسط في تلك المآخذ والمتارك ، أينزع غيرى هذا المنزع ، أم المرء بشعره وابنه مولع . حياً الله الأدب وبنيه ، وأعاد علينا من أيامه وسنيه ، ما أعلى منازعه ، وأكبا منازعه ، وأجل مآخذه ، وأجهل تاركه ، وأعلم آخذه ، وأرق طباعه ، وأحق أشياعه وأتباعه ، وأبعد طريقه ، وأسعد فريقه ، وأقوم نهجه ، وأوثق نسجه ، وأسمح الفاظه ، وأفصح عكاظه ، وأصدق معانيه وألفاظه ، وأحمد نظامع ونثاره ، وأغنى شعاره ودثاره . فعايبه مطرود ، وعاتبه مصفود ، وجاهله محصود ، وعالمه محسود . غير أن الإحسان فيه قليل ، ولطريق الإصابة فيه علم ودليل ، من ظفر بهما وصل ، وعلى الغاية القصوى منهما حصل ، ومن نكب عن الطريق ، لم يعد من ذلك الفريق ، فليهنك أيها الإبن الذكى ، البر الزكى ، الحبيب الحفى ، الصفى الوفى ، أنك حامل رايته ، وواصل غايته ، ليس أولوه وآخروه لذلك بمنكرين ، ولا تجد أكثرهم شاكرين . ولولا أن يطول الكتاب ، وينحرف الشعراء والكتاب ، لفاضت ينابيع هذا الفصل فيضاً ، وخرجت إلى نوع آخر من البلاغة أيضاً ، قرت عيون أودايك ، وملئت غيظاً صدور أعدايك ، ورقيت درج الآمال ، ووقيت عين الكمال ، وحفظ منصبك العالي ، بفضل ربك الكبير المتعال . والسلام(3/115)
"""""" صفحة رقم 116 """"""
الأتم الأكمل الأعم يخصك به ، من طال في مدحه أرقالك وأغذاذك ، وراد روض حمده طلك ورذاذك وغدت مصالح سعيه في سعى مصالحك ، وسينفعك بحول الله وقوته ، وفضله ومنته معاذك ووسمت نفسك بتلميذه ، فسمت نفسه بأنه أستاذك ، ابن هاني ورحمة الله وبركاته . دايك ، وملئت غيظاً صدور أعدايك ، ورقيت درج الآمال ، ووقيت عين الكمال ، وحفظ منصبك العالي ، بفضل ربك الكبير المتعال . والسلام الأتم الأكمل الأعم يخصك به ، من طال في مدحه أرقالك وأغذاذك ، وراد روض حمده طلك ورذاذك وغدت مصالح سعيه في سعى مصالحك ، وسينفعك بحول الله وقوته ، وفضله ومنته معاذك ووسمت نفسك بتلميذه ، فسمت نفسه بأنه أستاذك ، ابن هاني ورحمة الله وبركاته .
دخوله غرناطة : دخل غرناطة مع الوفد من أهل بلده عند تصيرها إلى الإيالة النصرية ، حسبما ثبت في موضعه .
توفي بجبل الفتح ، والعدو يحاصره ، أصابه حجر المنجنيق في رأسه ، فذهب به ، تقبل الله شهادته ونفعه ، في أواخر ذي قعدة من عام ثلاثة وثلاثين وسبعماية .
وممن رثاه قاضي الجماعة شيخنا القاضي أبو القاسم الحسنى ، وهي القصيدة التي أولها :
شقى الله بالخضراء أشلاء سؤدد . . . تضمنهن الترب صوب الغمايم
وقد ثبت في بجهد المقل في اسم الذكور فلينظر هنالك .
وممن رثاه شيهنا القاضي أبو بكر بن شبرين رحمه الله بقوله :
قد كان ما قال اليزيد . . . فاصبر فحزنك لايفيد
أودى ابن هاني الرضا . . . فاعتادني للشكل عبد
بحر العلوم وصدرها . . . وعميدها إذ لا عميد
قد كان زيناً للوجود . . . ففيه قد فجع الوجود
العلم والتحقيق والتوفيق والحسب التليد
تندى خلايقه فقل . . . فيهاهي الروض المجرد(3/116)
"""""" صفحة رقم 117 """"""
مغض عن الإخوان لا . . . جهم اللقاء ولا كنرد
أودى شهيداً باذلاً . . . مجهوده فعم الشهيد
لم أنسه حين المعا . . . رف باسمه فينا تشيد
وله صبوب في طلا . . . ب العلم يتلوه صعود
لله وقت كان ينظمنا كما نظم الفريد
أيام نغدو أو نرو . . . ح وسعينا السعى الحميد
وإذا المشيخة جثم . . . هضبات حلم لا تبيد
ومرادنا جم النبا . . . ت وعيشنا خضر البرود
لهفى على الإخوان والأتراب كلهم فقيد
لو جيت أو طاني لأنكرني التهايم والنجود
ولراع نفسي شيب من . . . غادرته وهو الوليد
ولطفت ما بين اللحو . . . د وقد تكاثرت اللحود
سرعان ما عاث الحما . . . م ونحن أيقاظ هجود
كم رمت إعمال المسير فقيدت عزمي قيود
والان أخلفت الوعو . . . د وأخلقت تلك البرود
ما للفتى مايبتغير . . . والله يفعل مايريد
أعلى القديم الملك يا . . . ويلاد يعترض العبيد
يابين قد طال المدى . . . أرعد وأبرق يا يزيد
ولك شيء عاية . . . ولربما أن الحديد
إيه أبا عبد الآله ودوننا مرمى بعيد
أين الرسايل منك تأ . . . تينا كما نظم المقود
أين الرسوم الصالحا . . . ت تصرمت أين العهود(3/117)
"""""" صفحة رقم 118 """"""
أنعم مساء لا تخطتك البشاير والسعود
وأقدم على دار الرضا . . . حيث الإقامة والخلود
والق الأحبسة حيث دا . . . ر الملك والقصر المشيد
حتى الشهادة لم تفتك فنجمك النجم السعيد
لا تبعدن وعد لو أن الميت في الدنيا يعود
ولين بليت فإن ذكرك في الدنا غض جديد
تالله لا تنساك أندبة العلى ما اخضر عود وإذا تسومح في الحقو - ق فحقك الحق الأكيد جادت صداك عمامة يروى بها ذاك الصعيد وتهدتك من المهيمن رحمة أبداً وجود
محمد بن يحيى العبدري
من أهل فاس . يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بالصدفى
حاله قال الأستاذ في صلته : إمام في العربية ، ذاكر للغات والآداب ، متكلم ، أصولى مفيد ، متفنن ، حافظ ، ماهر ، عالم ، زاهد ، ورع ، فاضل . أخذ علم العربية والآداب عن النحوى أبي الحسن بن خروف ، وعن النحوى الأديب الضابط أبي ذر الخشنى ، وأكثر عنهما ، وأكمل الكتاب على ابن خروف ، تفقهاً وتقييدً وضبطاً . وكان حسن الإقراء ، جيد العبارة ، متين المعارف والدين ، شديد الورع ، متواضعاً جليلاً ، عالماً عاملا ، من أجل من لقيته ، وأجمعهم لفتون المعارف ، وضروب الأعمال ، وكان الحفظ أغلب عليه ، وكان سريع القلم إذا كتب أو قيد ، وسمعته يقول ، ما سمعت شيئاً من أحد من أشياخى ، من نكت العلم ، وتفسير مشكلٍ ، ومايرجع إلى ذلك ، إلا وقيدته ، ولا قيدت بخطى شيئاً إلا حفظته ، ولا حفظت شيئاً فنسيته . هذا ما سمعت منه .(3/118)
"""""" صفحة رقم 119 """"""
مشيخته
أخذ العربية عن الأستاذ أبي الحسن بن خروف ، وعن النحوى الأديب الضابط أبي ذر الخشنى . وأكثر عنه ، وأخذ معهما عن أبي محمد بن زيدان ، ولازم ثلاثتهم ، وسمع وقرأ على القيه الصالح أبي محمد صالح وأخذ عن غير من ذكر .
دخوله غرناطة
قال ، دخل الأندلس مراراً بيسير بضاعة كانت لديه يتجر فيها ، ودخل إشبيلية . وتردد آخر عمره إلى غرناطة ومالقة إلى حين وفاته .
توفي برحمه الله شهيداً بمرسى جبل الفتح . دخل عليهم العدو فيه .
فقاتل حتى قتل ، وذلك سنة أحد وخمسين وستماية . سمعته يتوسل إلى الله ، ويسأله الشهادة .
المحدثون والفقهاء والطلبة النجباء وأولاد الأصليون
محمد بن أحمد بن إبراهيم بن الزبير
من أهل غرناطة ، ولد الأستاذ الكبير أبي جعفر بن الزبير ، يكنى أبا عمرو
حاله
هذا الشيخ سكيت حلبة ، ولد أبيه في علو النباهة ، إلا أنه لوذعى فكه ، حسن الحديث ، رافض للتصنع ، ركض طرف الشبيبة في ميدان الراحة ، منكباً عن سنن أبيه وقومه ، مع شغوف إدراك ، وجودة حفظ ، كانا يطمعان والده في نجابته ، فلم يعدم قادحاً . ورحل إلى العدوة ، وشرق ونال حظوة ، وجرت عليه خطوب . ثم عاد إلى الأندلس على معروف رسمه يتكور بها ، وهو الآن قد نال منه الكبر . يزجى الوقت بمانقة ، متعللاً بوقف من بعض الخدم المخزنية ، لطف الله به .
مشيخته
استجاز له والده الطم والرم ، من أهل المغرب والمشرق ، ووقف عليه منهم في الصغر وقفاً لم يغتبط به عمره ، وأدكره الآن بعد أمةٍ ، عندما نقر عنه لديه ، فأثرت به يده من علو رواية ، وتوفر سبب مبرة ، وداعيةٍ إلى إقالة عثرة ، وستر(3/119)
"""""" صفحة رقم 120 """"""
هيبة شيبةٍ . فمن ذلك الشيخ الإمام أبو علي ناصر الدين منصور بن أحمد المشدالي ، إجازة ثم لقاء وسماعاً ، والشيخ الخطيب الراوية أبو عبد الله بن غريون . وأجازه الأستاذ أبو إسحق الغافقى ، وأبو القاسم بن الشاط ، والشريف أبو العباس أحمد الحسنى ، والأستاذ الإمام أبو الحسين عبد الله بن أبي الربيع القرشى نزيل سبتة . ومحمد ابن صالح بن أحمد بن محمد الكتاني الشاطبي ببجاية ، والإمام أبو اليمن ابن عساكر بالمسجد الحرام ، وابن دقيق العيد وغيرهم . ومن أهل الأندلس أبو محمد بن السداد ، وأبو جعفر بن الزيات ، وأبو عبد الله بن الكماد ، وأبو عبد الله بن ربيع الأشعري ، وأبو عبد الله بن برطال ، وأبو محمد عبد المنعم بن سماك ، والعدل أبو الحسن بن مستقور . وأجازه من أهل المشرق والمغرب ، عالم كبير .
شعره
وبضاعته فيه مزجاة ، فمن ذلك ماخاطبني به عند إيابي من العدوة في غرض الرسالة عن السلطان :
نوإلى الشكر للرحمن فرضاً . . . علم نعم كست طولاً وعرضاً
وكم لله من لطيف خفي لنا . . . منه الذي يشاء . . . وأمضا
بمقدمك السعيد أتت سعود . . . تنال بها نعيم الدهر محضاً
فيا بشرى لأندلسٍ بما قد . . . به والاك بارينا وأرضا
ويا لله من سفر سعيد قد . . . قد أقرضت المهيمن فيه قرضاً
نهضت بنيةٍ أخلصت فيها . . . فأتت بكل ما يبغى ويرضا
وثبت لنصرة الإسلام لما . . . علمت بأن الأمر إليك أفضا
لقد أحييت بالتقوى رسوماً . . . كما أرضيت بالتمهيد أرضا
وقمت بسنة المختار فينا . . . تمهد سنة وتقيم فرضا
ورضت من العلوم الصعب حتى . . . جنيت ثمارها رطباً وغضا(3/120)
"""""" صفحة رقم 121 """"""
فرأيك ناحج فيما تراه . . . وعزمك من مواضى الهند أمضا
تدبر أمر مولانا فيلقى المسيء لديك إشفاقاً وإغضا
فأعقبنا شفاً وانبساطاً . . . وقد كانت قلوب الناس مرضا
ومن أضحى على ظمإ وأمسى . . . يرد إن شاء من نعماك خوضا
أبا عبد الآله إليك أشكو . . . حين ناب الفقر عضا
ومن نعماك استجدى لباساً . . . يفيض به على الجاه فيضا
بقيت مؤملاً ترجى وتخشى . . . ومثلك من إذا ما جاد أرضا
توفي في التاسع لمحرم من عام خمسة وستين وسبعماية .
محمد بن أحمد بن خلف بن عبد الملك بن غالب الغساني
من أهل غرناطة ، يكنى أبا أبكر ، ويعرف بالقليعى .
أوليته : قد جرى من ذكره ، وذكر بيته في الطبقات ما فيه كفاية
حاله
كان نبيه البيت ، رفيع القدر ، عالي الصيت . من أهل العلم والفضل والحسب والدين ، وأجمع على استقضائه أهل بلده بعد أبي محمد بن سمحون سنة ثمان وخمسماية .
توفي بغرناطة ، أوايل صفر عشرة وخمسماية . ودفن في روضة أبيه ذكره ابن الصيرفي وأطنب .(3/121)
"""""" صفحة رقم 122 """"""
محمد بن أحمد بن محمد الدوسى
من أهل غرناطة ، يكنى أبا عبد الله ويعرف بابن قطبة .
حاله
من عايد الصلة : كان رحمه الله شيخ الفقهاء والموثقين ، صدر أرباب الشورى ، نسيج وحده في الفضل ، والتخلق والعدالة ، طرفاً في الخير ، مجباً إلى الكافة ، مجبولاً على المشاركة ، مطبوعاً على الفضيلة ، كهفاً للغرباء والقادمين ، مألفاً للمتعلمين ، ثمالاً للأسرى والعانين ، تخلص منهم على يديه أمم ، لقصد الناس إياه بالصدقة ، مقصوداً في الشفاعات ، معتمداً بالأمانات ، لا يسدل دونه ستر ، ولا تحجب عنه حرمة ، فقيها حافظاً ، إخبارياً محدثاً ممتعا ، متقدماً في صناعة التوثيق ، حسن المشاركة في غيرها ، كثير الحض على الصدقة في المحول والأزمات ، يقوم في ذلك مقامات حميدة ، ينفع الله بها الضعفاء ، وينقاد الناس لموعظته ، ويؤثر في القلوب بصدقه . فقد بفقدانه رسم من رسوم البر والصدقة .
مشيخته
قرأ على الأستاذ الكبير أبي جعفر بن الزبير ، والخطيب ولي الله أبى الحسن ابن فضيلة ، وروى عن الشيه الوزير المسن المحدث أبي محمد عبد المنعم ابن سماك ، وأبي القاسم بن السكوت المالقى ، والخطيب أبي عبد الله ابن رشيد . والقاضي أبي يحيى بن مسعود ، والعدل أبي علي البجلى ، وأبي محمد عبد المؤمن الخولاني . وأجازه جماعة من أهل المشرق والمغرب ، وناب عن بعض القضاة بغرناطة . ولد عام تسعة وستين وستماية ، وتوفي في الثالث لربيع الأول من عام ثمانية وثلاثين وسبعماية . وكانت جنازته مشهودة .
محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن أحمد بن محمد ابن يوسف بن روبيل الأنصاري
من أهل غرناطة ، ويكنى أبا عبد الله ، ويعرف بابن السراج . طليطلى الأصل ، طبيب الدار السلطانية .
حاله
من العايد : كان رحمه الله من أهل التفنن والمعرفة ، متناهي الأبهة والحظة ، جميل الصورة ، مليح المجالسة ، كثير الدعابة والمؤانسة ، ذاكراً للأخبار والطرف ، صاحب حظ من العربية والأدب والتفسير ، قارضاً للشعر ، حسن الخط ،(3/122)
"""""" صفحة رقم 123 """"""
ظريف الوراقة ، طرفاً في المعرفة بالعشب ، وتمييز أعيان النبات ، سنياً ، محافظاً ، محبا في الصالحين ، ملازماً لهم ، معنياً بأخبارهم ، متلمذاً لهم . انحاش إلى الولىأبي عبد الله التونسي ، وانقطع إليه مدة حياته ، ودون أحواله وكراماته . وعين ريع ما يستفيده في الطب صدقة على يديه ، أجرى ذلك بعد موته لبنيه . ونال حظاً عريضاً من جاه السلطان ، فاطرح حظ نفسه مع المساكين والمحتاجين ، فكان على باوه على أهل الدنيا ، يوثر ذوي الحاجة ، ويخف إلى زيارتهم ، ويرفدهم ، ويعينهم على معالجة عللهم .
مشيخته
قرأ الطب على الشيخ الطبيب . نسج وحده أبي جعفر الكزنى ، رييس الصناعة في وقته ، ولقى فيه الأستاذ إمام التعاليم إمام التعاليم والمعارف ، أبا عبد الله الرقوطى المرسى وغيره . وقرأ القرآن على المقرى الشهير أبي جعفر الطباع بالروايات السبع ، والعربية على الأستاذ أبي الحسن بن الصايغ الإشبيلي ، وأكثر القراءة على شيخ الجماعة العلامة أبي جعفر بن الزبير . تواليفه : ألف كتباً كثيرة ، منها في النبات والرؤيا . ومنها كتا سماه ، السر المذاع في تفضيل غرناطة على كثير من البقاع .
شعره
من ذلك قوله ملغزاً في المطر :
وما زاير مهما أتى ابتهجت به . . . نفوس وعم الخلق جوداً وإحساناص
يقيم فيشكو الخلق منه مقامه . . . ويكربهم طرا إذا عنهم بانا
يسر إذا وافى ويكرب إن نأى . . . ويكره منه الوصل إن زار أحياناً
وأعجب شيء هجر حب مواصل . . . به حين يطل هواه إن لم يطل خانا
محنته
ذكر أنه لما توفي السلطان ثاني الملوك من بني نصر فجأة ، وهو يصلى المغرب ، وباكر الطبيب بابه غداة ليلة موته . سأل عن الطعام القريب عهد موته بتناوله ، فأخبر أنه تناول كعكاً وصلته من ولي عهده ، فقال كلاماً أوجب نكبته ، فامتحن بالسجن الطويل ، والتمست الأسباب الموصلة إلى هلاكه ، ثم أجلى إلى العدوة . ثم دالت الأيام ، فعاد إلى وطنه مستآنفاً ما عهده من البر وفقده من التجلة .
ميلاده : بغرناطة عام أربعة وخمسين وستماية .(3/123)
"""""" صفحة رقم 124 """"""
وفاته : ليلة الخميس التاسع من شهر ربيع الأول من عام ثلاثين وسبعماية .
محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن أبي زمنين المرى
يكنى أبا عبد الله ، وبيته معلوم حاله : كان من أهل المعرفة والنبل والذكاء
مشيخته
قرأ القرآن على أبي بكر بن النفيس ، وأبي عبد الله بن شهيد المرى المقرى بطخشارش من غرناطة . ودرس الفقه عند المشاور أبي عبد الله بن مالك المقرى ، وأبي الحسن علي بن عمر بن أضحى ، وعلى غيرهما من شيوخ غرناطة .
توفي سنة أربعين وخمسماية .
قلت ، وإنما ذكرت هذا المترجم به مع كوني اشترطت صدر خطبته ، ألا أذكر هذا النمط لمكان مصاهرتي في هذا البيت . ولعل حافد هذا المترجم به من ولدي ، يطلع على تعدادهم وذكرهم في هذا التاليف وتردادهم ، فيكون ذلك محرضاً له على النجابة . محرضاً للإجابة ، جعلنا الله ممن انتمى للعلم وأهله ، واقتفى من سننه واضح سبله .
محمد بن جابر بن محمد بن قاسم بن أحمد بن إبراهيم بن حسان القيسي
الوادآشى الأصل والمعرفة ، التونسى الاستيطان ، يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بابن جابر
حاله
من عايد الصلة : نشأ بتونس ، وجال في البلاد المشرقية والمغربية ، واستكثر من الرواية ونقب عن المشايخ ، وقيد الكثير ، حتى أصبح جماعة المغرب ، وراوية الوقت . ثم قدم الأندلس ظريف النزعة ، عظيم الوقار ، قويم السمت ، يأوى في(3/124)
"""""" صفحة رقم 125 """"""
فضل التعيش إلى فضل ما كان بيده ، يصرفه في مصارف التجارة . وقعد للإسماع والرواية ، وانتقل إلى بلش ، فقرأ بها القرآن العظيم والروايات السبع ، على الخطيب أبي جعفر بن الزيات . ثم رحل إلى المغرب ، ثم أعاد الرحلة الحجازية ، وأعرق ، فلقى أمة من العلماء والمحدثين ، وأصبح بهم شيخ وحده ، انفساح رواية ، وعلو إسناد .
مشيخته
من شيوخه قاضي الجماعة بتونس أبو العباس بن الغماز الخزرجى البلنس ، وقاضي الجماعة بها أبو إسحاق بن عبد الرفيع ، وقاضي قضاة الديار المصرية بدر الدين بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة بن علي بن جماعة بن صخر الكناني . وقاضي الجماعة ببجاية ، أبو العباس الغبريني ، وسراج الدين أبو جعفر عمر بن الخضر بن طاهر بن طراد بن إبراهيم ابن محمد ابن منصور الأصبحى ، وأبو محمد عبد الغفار بن محمد السعدي المصرى . ورضى الدين إبراهيم بن عمر بن إبراهيم الخليلي الجعفري . وشرف الدين أبو عبد الله بن الحسن بن عبد الله ابن الحافظ عبد الغني ابن عبد الواحد بن سرور المقدسي . وأبو الفضل أبو القاسم بن حمادين أبي بكر بن عبد الواحد الحضرمي اللبيد . وعبد الله بن يوسف بن موسى الخلاسي . وعبد الله بن محمد بن هرون ، وإبراهيم بن محمد بن أحمد أبن محمد بن عبد الله بن الحاج التجيبي ، وأحمد بن يوسف بن يعقوب ابن علي الفهرى اللبلى ، وولده جابر بن محمد بن قاسم معين الدين ، وعز الدين أبو القاسم بن محمد بن الخطيب ، وجمال الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الباقي بن الصفار ، وأبو بكر بن عبد الكريم بن صدقة العزفى ، ومحمد بن إبراهيم بن أحمد التجيبي ، وأبو يعقوب يوسف بن إبراهيم بن أحمد بن علي بن إبراهيم بن عقاب الجذامى الشاطبى ، وعبد الرحمن بن محمد بن علي بن عبد الله الأنصاري الأسدي القيرواني ، وأبو القاسم خلف بن عبد العزيز القبتورى ، وعلي بن محمد بن أبي القاسم ابن رزين التجيبي ، وأحمد بن موسى بن عيسى البطرني ، وغر القضاة فخر الدين أبو محمد عبد الواحد بن منصور بن محمد بن المنير ، وتقي الدين محمد بن أحمد بن عبد الخالق المصري ، وصدر النحاة أبو حيان ، وظهير الدين أبو محمد بن عبد الخالق المخزومي المقدسي الدلاصى ، ورضى(3/125)
"""""" صفحة رقم 126 """"""
الدين بن إبراهيم بن أبي بكر الطبري ، والمعمر بهاء الدين أبو محمد القاسم بن مظفر بن محمود بن هبة الله بن عساكر الدمشقي .
وأما من كتب إليه فنحو ماية وثمانين من أهل المشرق والمغرب .
قدم غرناطة في أول عام ستة وعشرين وسبعماية ، فهو باعتبار أصله أصلى ، وباعتبار قدومه طارئ وغريب .
تواليفه
له تواليف حديثية جملة ، منها أربعون حديثاً ، أغرب فيها بما دل على سعة خطوه وانفساح رحله .
وفاته كان حيا سنة أربعين وسبعماية ، وبلغى أنه توفي عام سبعة بعدها .
محمد بن خلف بن موسى الأنصاري الأوسي
من أهل إلبيرة ، يكنى أبا عبد الله .
حاله
كان متكلماً ، واقفاً على مذاهب المتكلمين ، متحققاً برأي الأشعرية ، ذاكراً لكتب الأصول والاعتقادات ، مشاركاً في الأدب ، مقدماً في الطب .
مشيخته
روى عن أبي جعفر بن محمد بن حكم بن باق ، وأبي جعفر بن خلف ابن الهيثم ، وأبوى الحسن بن خلف العنسى ، وابن محمد بن عبد العزيز ابن أحمد بن حمدين ، وأبوى عبد الله بن عبد العزيز المورى ، وابن فرج مولى الطلاع ، وأبي العباس بن محمد الجذامي ، وأبي علي الغساني ، وأبي عمرو زياد بن الصفار ، وأبي القاسم أحمد بن عمر . وأخذ علم الكلام عن أبي بكر بن الحسن المرادي ، وأبي جعفر بن محمد بن باق ، وأبي الحجاج ابن موسى الكلبي . وتأدب في بعض مسائل النحو بأبي القاسم بن خلف ابن يوسف بن فرتون بن الأبرش .
من روى عنه : روى عنه أبو إسحاق بن قورقول ، وأبو خالد المرواني ، وأبو زيد بن نزار ، وأبو عبد الله بن الصيقل المرسى ، وأبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن سمعان ، وأبو الوليد بن خيرة .(3/126)
"""""" صفحة رقم 127 """"""
تواليفه
من تواليفه : النكت والأمالي في الرد على الغزالي ، والإيضاح والبيان في الكلام على القرآن ، والوصول إلى معرفة الله ونبوة الرسول ورسالة الاقتصار على مذاهب الأيمة الأخيار ، ورسالة البيان في حقيقة الإيمان ، والرد على أبي الوليد بن رشد في مسألة الاستواء الواقعة له في الجزء الأول من مقدماته ، وشرح مشكل ما وقع في الموطإ وصحيح البخاري ، وقد كان شرع في تصنيفه عام ثماينية عشر وستماية في شوال منه ، وبلغ في الكلام فيه إلى النكتة الرابعة والخمسين ، وقطعت به قواطع المرض ، وشرع في معالجة العين لرؤيا رىها ، يقال له ألفت في نور البصيرة ، فألف في نور البصر تنفع وتنتفع ، فأقبل على تأليفه في مداواة العين ، وهو كتاب جم الإفادة ، ثم أكمل النكت .
شعره
وكان له حظ من قرض الشعر ، فمن ذلك مامدح به إمام الحرمين أبا المعالي الجوينى :
حب حبر يكنى أبا المعالي . . . هو ديني ففيه لاتعذلوني
أناوالله مغرم في هواه . . . عللوني بذكره عللوني
مولده : ولد يوم الثلاثاء لإثنى عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر سنة سبع وخمسين وخمسماية .
الشريشى
محمد بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله الخولاني
غرناطى يكنى أبا عبد الله ويعرف بالشريشى(3/127)
"""""" صفحة رقم 128 """"""
حاله من أهل التصاون والحشمة والوقار ، معرق في بيت الخيرية والعفة ، وكان والده صاحبنا رحمه الله ، آية في الدؤوب والصبر على انتساخ الدواوين العلمية والأجزاء ، بحيث لامظنة معرفة أو حجرة طلب تخلو عن شيء من خطه إلا مايقل ، على سكون وعدالة وانقباض وصبر وقناعة .
وأكتب للصبيان في بعض أطواره . ونشأ ابنه المذكور ، ظاهر النبل والخصوصية مشاركاً في فنون ، من عربية وأدب وحساب وفريضة ، وتصر في الشهادة المخزنية برهة ، ثم نزع عنها انقياداص لداعي النزاهة ، وهو الآن بحاله الموصوفة .
شعره
وشعره من نمط الإجادة ، فمن ذلك قوله :
بي شادن أهيف مهمى انثنى . . . يحكى تثنيه القضيب الرطيب
ذو غرة كالبدر قد أطلعت . . . فوق قضيب نابت في كثيب
خضت حشا الظلماء من حبه . . . أختلس الوصل حذار الرقيب
فبت وللوصل لنا ثالث . . . يضمنا ثوب عفاف قشيب
حتى إذا ما الليل ولى وقد . . . مالت نجوم الأفق نحو الغروب
ودعته والقلب ذو لوعة . . . أسيل من ماء جفوني غروب
فلست أدري حين أودعته . . . قلب بأضلاعي غدا أم قليب
ومن ذلك في النسيب :
يا أجمل الناس ويا من غدت . . . غرته تمحو سنا الشمس
أنعم على عبدك يا مالكي . . . دون اشتراء ومني نفسى
بأن ترى وسطى لعقدى وأن . . . تعيد ربعى كامل الأنس
وإن تكن ترجعني خايباً . . . فإنني أدرج في رمس(3/128)
"""""" صفحة رقم 129 """"""
وقال في فضل العلم :
يا طالب العلم اجتهد إنه . . . خير من التالد والطارف
فالعلم يذكو قدر إنفاقه . . . والمال إذا أنفقته تالف
وتراقى إلى هذا العهد بإشارتي إلى إلى لا فوقها من تعليم ولد السلطان ، والرياسة القرآنية بباب الإمارة ، والإمامة بالمسجد الجامع من القلعة حميد الطريقة في ذلك كله ، معروف الحق ، تولاه الله .
مولده : عام ثمانية عشر وسبعماية .
محمد بن محمد بن علي بن سودة المرى
يكنى أبا القاسم
أوليته
من نبهاء بيوتات الأندلس وأعيانها ، سكن سلفه البشارة ، بشارة بني حسان ، وولى جده الأشغال ، حميد السيرة ، معروف الإدانة .
حاله
هذا الفتى من اهل الخصوصية والسكون والحياء ، المانع عن كثير من الأغراض . مال إلى العلوم العقلية ، فاستظهر على المماسة في بعض أغراضها بالدؤوب والعكوف ، والمورين تأثير حبل الركية في جحرها ، فتصدر للعلاج ، وعانى الشعر ، وأرسم في الكتابة ، وعد من الفضلاء ، وظهرت على عباراته اصطلاحات الحكماء ، وتشوف إلى العهد للرحلة الحجازية ، والله ييسر قصده .
مشيخته
قرأ الطب والتعديل على الحبر طبيب الدار السلطانية ، فارس ذينك الفنين ، إبراهيم بن زرزار اليهودى ، ورحل إلى العدوة ، فقرأ على الشريف العالم الشهير ، رحلة الوقت في المغرب ، أبي عبد الله العلوى ، وبلقيايه نجح .
شعره
أنشد السلطان قوله :
جاد الحمى صوب الغمام هتونه . . . تزجى البروق سحابه فتعينه(3/129)
"""""" صفحة رقم 130 """"""
وسقى ديار العامرية بعدما . . . وافى بجرعا الكثيب معينه
يندى بأفنان الأراك كأنه . . . عقد تناثر بالعقيق ثمينه
ومحى الكثيب سكوبه فكأنه . . . خط تطلس ميمه أو نونه
حتى إذا الأرواح هبت بالضحا . . . مسحت عليه بالجناح تبينه
وكأنه والرعد يحدو خلفه . . . صب يطول إلى اللقاء حنينه
أوسح دمعي فوق أكناف اللوى . . . جادت بلؤلؤة النفيس عيونه
والبرق في حلل السحاب كأنه . . . مكنون سر قد أذيع مضمونه
أو ثوب ضافية الملابس كاعب . . . عمدت بحاشية النضار تزينه
هن الديار برامة لا دهرها . . . سلس القياد ولا العتاب يلينه
ولقد وقفت برسمها فكأنني . . . من ناحل الأطلال فيه أكونه
قلبي بذاك اللوى خلفته . . . ألوى بمزدلف الرفاق ظعينه
لا تسل العذال عني فالهوى . . . ذا يخامر بالضلوع دفينه
إن يخف عن شرحى حديث زميرتي . . . فعلى الفنون فريضة تبينيه عجباً لدمعي لا يكف كأنما . . . جدوى أبي عبد الاله هتونه
محي المكارم بعد ما أودى بها . . . زمن تقلب بالكرام خؤونه
مولى الملوك عميد كل فضيلة . . . علق الزمان ثمينه ومكينه
يضفى إلى داعي الندى فيهزه . . . وبملتقى الجمعين طال سكونه
من ذا يسابق فضله لوجوده . . . ويلج فيض البحر فاض يمينه
إن تلقه تلق الجمال وقاره . . . والحلم طبع والسماحة دينه
غمر الأنام نواله ومحا الضلال رشاده وجلا الظلام جبينه
أحيا رسوم الدين وهي دوارس . . . ولطالما صدع الشكوك يقينه
شمس الهدى حتف العدا محي الندا بحر الجدا طول المدى تمكينه
ليث الشرى غوث الورى قمر السرى سن القرى عم القرى تأمينه
فلبأسه يوم الوغى ولعزمه . . . جاش الهزبر إذا الهزبر يخونه(3/130)
"""""" صفحة رقم 131 """"""
لا تسأل الهيجاء عنه إنه . . . يصل المراد كما تحب ظنونه
لو كان يشغله المنام عن العلا . . . هجر المنام وباعدته جفونه
وإذا تطاولت الملوك بماجد . . . بمحمد دون الأنام يكونه
يا بن الألي نصروا الرسول ومن بهم نطق الكتاب فصيحه ومبينه
خصوا ببيعته وحاموا دونه . . . نهج الرضا حتى تقاوم دينه
أمعاضد الإسلام أنت عميده . . . وخليفة الرحمن أنت أمينه
لم يبق إلا من بسيفك طايع . . . وألفنش في أقصى البلاد رهينه
وبجيشك المنصور لو لاقيته . . . أدرى بمشتجر الرماح طعينه
ولو اصطنعت إلى العدو إدالة . . . طاعت إليك بلاده وحصونه
خذها إليك قصيدة من شاعر . . . حلو الكلام مهذب تبيينه
جعل القوافي للمعالي سلماً . . . فجنى القريض كما اقتضته فنونه
غطى هواه عقله واقتاده . . . يحصى النجوم جهالة تزيينه
ولو أخذته أيدي التحرير والنقد ، لرجى أن يكون شاعراً ، وبالجملة فالرجل معدود من السراة بيتاً وتخصصاً .
محمد بن عبد العزيز بن سالم بن خلف القيسي
منكبي الأصل يكنى أبا عبد الله ، طبيب الدار السلطانية .
حاله
من عايد الصلة : كان رحمه الله فذا في الانطباع واللوذعية ، حين المشاركة في الطب ، مليح المحاضرة ، حفظة ، طلعة ، مستحضراً للأدب ، ذاكراً لصناعة الطب ، أخذها عن إمام وقته ، أبي جعفر الكزني ، وانتصب للعلاج ، ثم انتقل إلى الخدمة بصناعته بالباب السلطاني ، وولى الحسبة ، ومن شعره يخاطب السلطان على ألسنة أصحابنا الأطباء الذين جمعتهم الخدمة ببابه يومئذ ، وهم أبو الأصبغ بن سعادة ، وأبو تمام غالب الشقورى :
قد جمعنا ببابكم سطر علم . . . لبلوغ المنى ونيل الإرادة(3/131)
"""""" صفحة رقم 132 """"""
ومن أسمائنا لكن حسن فال . . . غالب ثم سالم وسعادة
توفي في شهر رجب من عام سبعة عشر وسبعماية .
محمد بن عبد الله بن أبي زمنين
من أهل إلبيرة ، يكنى أبا عبد الله
حاله
من الملاحى : قال ولى الأحكام ، وكان فقيها نبيها .
وفاته : توفي بغرناطة في عشر الستين وأربعمائة قلت ، قد تقدم اعتذاري عن إثبات مثله في هذا المختصر ، فلينظر هناك إن شاء الله .
محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بان إبراهيم بن محمد بن أبي زمنين عدنان بن بشير بن كثير المرى
حاله كان من كبار المحدثين والعلماء الراسخين ، وأجل وقته قدراً في العلم والرواية والحفظ للرأي والتمييز للحديث ، والمعرفة باختلاف العلماء ، متفنناً في العلم ، مضطلعاً بالأدب ، قارضاً للشعر ، متصرفاً في حفظ المعاني والأخبار ، مع النسك والزهد ، والأخذ بسنن الصالحين ، والتخلق بأخلاقهم . لم يزل أمة في الخير ، قانتاً لله ، منيباً له ، عالماً زاهدا صالحاً خيراً متقشفاً ، كثير التبتل والتزلف بالخيرات ، مسارعاً إلى الصالحات ، دايم الصلاة والبكاء ، واعظاً ، مذكراً بالله ، داعياً إليه ، ورعاً ملبى الصدقة ، معيناً على النايبة ، مواسياً بجاهه وماله ، ذا لسانٍ وببان ، تصغى إليه الافئدة ، فصيحاً ، بهياً ، عربياً ، شريفاً ، أبى النفس ، عالي الهمة ، طيب المجالسة ، أنيس المشاهدة ، ذكياً ، راسخاً في كل جم من العلوم ، صيرفياً جهبذاً ، ما رؤى قبله ولا بعده ، مثله .
مشيخته
سكن قرطبة ، وسمع بها من أحمد بن مطرف ، ووهب بن مسرة الحجارى ، وعن أبان بن عيسى بن محمد بن دنير ، وعن والده عبيد الله بن عيسى .(3/132)
"""""" صفحة رقم 133 """"""
من روى عنه : روى عنه الزاهد أبو إسحاق إبراهيم بن مسعود الإلبيرى وغيره .
تواليفه
ألف كتاب المغرب في اختصار المدونة ثلاثين جزءاً ، ليس في المختصرات مثله بإجماع ، والمهذب في تفسير الموطأ ، والمشتل في أصول الوثايق ، وحياة القلوب ، وأنس الفريد ، ومنتخب الاحكام ، والنصائح المنظومة ، وتفسير القرآن .
مولده : في المحرم سنة أربع وعشرين وثلاثمائة .
وفاته : توفي في شهر ربيع الثاني عام ثمانية وتسعين وثلاثمائة بحاضرة إلبيرة ، رحمه الله ونفع به .
محمد بن عبد الرحمن بن الحسن بن قاسم بن مشرف بن قاسم ابن محمد بن هاني اللخمى القايصي
يكنى أبا الحسن
حاله
كان وزيراً جليلاً ، فقيهاً رفيعاً ، جوادا ، أديباً ، جيد الشعر ، عارفاً بصناعة النحو والعروض ، واللغة والأدب والطب ، من أهل الرواية والدراية
مشيخته
روى عن الحافظ أبي بكر بن عطية ، وأبي محمد بن عتاب ، وأبي الوليد بن رشد القاضي الإمام ، ولا قاضي أبي محمد عبد الله بن علي بن سمجون .
شعره
من شعره قوله :
يا حرقة البين كويت الحشا حتى . . . أذبت القلب في أضلعه
أذكيت فيه النار حتى غدا . . . ينساب ذاك الذوب من مدمعه
يا سؤل هذا القلب حتى متى . . . يوسى برشف الريق من منبعه
فإن في الشهد شفاً للورى . . . لا سيما إن يصر من مكسرعه
والله يدني منكم عاجلاً . . . ويبلغ القلب إلى مطمعه .(3/133)
"""""" صفحة رقم 134 """"""
مولده : ولد في الثالث الأخير من ليلة الجمعة لثلاث بقين لذى حجة سنة ثمان وتسعين وأربعمائة .
توفي في آخر جمادى الأخرى سنة ست وتسعين وخمسمائة .
محمد بن عبد الرحمن بن عبد السلام بن أحمد بن يوسف ابن أحمد الغساني
من أهل غرناطة ، يكنى أبا عبد الله
حاله
كان محدثاً نبيلاً حاذقاً ذكياً ، وله شرح جليل على كتاب الشهاب ، واختصار حسن في اقتباس الأنوار للرشاطى . وكان كاتباً وافر الحظ من الأدب ، يقرض شعراً لا بآس به .
من شعره في ذكر أنساب طبقات العرب :
الشعب ثم قبيلة وعمارة . . . بطن وفخذ الفصيلة تابعه
فالشعب يجمع للقبائل كلها . . . ثم القبيلة للعمارة جامعة
والبطن يجمعه العمار فاعلمن . . . والفخذ يجمعه البطون الواسعة
والفخذ يجمع للفصايل كلها . . . جاءت على نسق لها متتابعة
فخزيمة شعب وإن كنانة . . . لقبيلة عنها الفصايل شاسعة
وقريشها تسمو العبارة يافتى . . . وقصى بطن الأعادي قامعة(3/134)
"""""" صفحة رقم 135 """"""
ذا ما ثم فخذ وذا عباسها . . . الا الفصيلة لا تناط بسايعة
ولد بغرناطة سنة ثمان وستين وخمسماية .
وفاته : بمرسية في رمضان تسع عشرة وستماية
محمد بن عبد الواحد بن إبراهيم بن مفرج بن أحمد بن عبد الواحد ابن حريث بن جعفر بن سعيد بن محمد بن حقل الغافقي
من ولد مروان بن حقل النازل بقرية الملاحة من قنب قيس من عمل إلبيرة ، يكنى أبا القاسم ويعرف بالملاحي . وقد نقلنا عنه الكثير ، وهو من المفاخر الغرناطية .
حاله كان محدثا راوية معتنيا ، أديباً ، مؤرخاً ، فاضلاً جليلاً . قال الأستاذ في الصلة : كان من أفضل الناس ، وأحسنهم عشرة ، وألينهم كلمة ، وأكثرهم مروءة ، وأحسنهم خلقاً وخلقاً ، ما رأيت مثله ، قدس الله تربته . وذكره صاحب الذيل ، الأستاذ أبو عبد الله بن عبد الملك ، وأطنب فيه ، وذكره المحدث أبو عبد الله الطنجالي ، وذكره ابن عساكر في تاريخه .
مشيخته
روى عن أبيه أبي محمد ، وأبي القاسم بن بشكوال ، وأبي العباس بن اليتيم ، وعالم كثير من غير بلده ، ومن أهل بلده سوى أبيه ، وعن أبي سليمان داود بن يزيد بن عبد الله السعدي القلعي ، لازمه مدة ، وعن أبي خالد بن رفاعة اللخمي ، وأبي محمد عبد الحق بن يزيد العبدري ، وأبي جعفر عبد الرحمن بن(3/135)
"""""" صفحة رقم 136 """"""
الحسن بن القصير ، وأبي بكر بن طلحة ابن أحمد بن عبد الرحمن بن عطية المحاربي ، وأبي محمد عبد المنعم بن عبد الرحيم ، وأبي جعفر بن حكم الحصار ، وأبي عبد الله بن عروس ، وأبي الحسن بن كوثر ، وأبي بكر الكتندي ، وأبي إسحاق بن الجلا ، وأبي بكر بن زمنين ، وأبي القاسم بن سمجون ، وأبي محمد بن عبد الصمد ابن محمد بن يعيش الغساني . وكان من المكثرين في باب الرواية ، أهل الضبط والتقييد والإتقان ، بارع الخط ، حسن الوراقة ، أديباً بارعاً ذاكراً للتاريخ والرجال ، عارفاً بالأنساب ، نقاداً حافظاً للأسانيد ، ثقة عدلاً ، مشاركاً في فنون ، سياسياً . وروى عنه الأستاذ ، واعتنى بالرواية عنه . وقال الأستاذ ، حدثني عنه من شيوخي جماعة ، منهم القاضي العدل أبو بكر بن المرابط .
تواليفه
ألف كتابه في تاريخ علماء إلبيرة ، واحتفل فيه . وألف كتاب الشجرة في الأنساب ، وكتاب الأربعين حديثاً ، وكتاب فضايل القرآن ، وبرنامج روايته وغير ذلك .
مولده : سنة تسع وأربعين وخمسماية .
وفاته : توفي في شعبان سنة تسع عشرة وستماية ببلده .
محمد بن علي بن عبد الله اللخمي
يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بالشقوري ، منسوباً إلى مدينة شقورة ومنها أهله ، صاحبنا طبيب دار الإمارة ، حفظه الله .
حاله
هذا الرجل طرف في الخير والأمانة ، فذ في حسن المشاركة ، نقي في حب الصالحين ، كثير الهوى إلى أهل التقوى ، حذر من التفريط ، حريص على التعلق بجناب الله . نشأ سابغ رداء العفة ، كثيف جلباب الصيانة ، متصدراً للعلاج زمن المراهقة ، معماً ، مخولاً في الصناعة بادي الوقار في سن الحشمة . ثم نظر واجتهد ، فأحرز الشهرة بدينه ، ويمن نقيبته ، وكثرة حيطته ، ولطيف علاجه ، ونجح تجربته . ثم كلف بصحبة الصالحين ، وخاض في السلوك ، وأخذ نفسه بالارتياض والمجاهدة ، حتى ظهرت عليه آثار ذلك . واستدعاه السلطان لعلاج نفسه ، فاغتبط به ، وشد اليد(3/136)
"""""" صفحة رقم 137 """"""
عليه ، وظهر له فضله ، وهو لهذا العهد ببابه ، حميد السيرة ، قويم الطريقة ، صحيح العقد ، حسن التدبير ، عظيم المشاركة للناس ، أشد الخلق حرصاً على سعادة من صحبه ، وأكثرهم ثناء عليه ، وأصرحهم نصيحة له ، نبيل الأغراض ، فطن المقاصد ، قايم على الصنعة ، مبين العبارة ، معتدل في البحث والمذاكرة ، متكلم في طريقة الصوفية ، عديم النظير في الفضل ، وكرم النفس .
شيوخه
قرأ على جده للأب ، وعلى الحكيم الوزير خالد بن خالد من شيوخ غرناطة ، وعلى شيخنا الحكيم الفاضل أبي زكريا بن هذيل ولازمه ، وانتفع به ، وسلك بالشيخ الصوفي أبي مهذب عيسى الزيات ثم أخيه الصالح الفاضل أبي جعفر الزيات ، والتزم طريقته ، وظهرت عليه بركته .
تواليفه
ألف كتباً نبيلة ، منها تحفة المتوسل في صنعة الطب وكتاباً سماه الجهاد الأكبر ، وآخر سماه قمع اليهودي عن تعدي الحدود أحسن فيه ما شاء .
شعره
أنشدني بعد ممانعة واعتذار ، إذ هذا الغرض ليس من شأنه :
سالت ركاب العز أين ركابي . . . فابدي عنادا ثم رد جوابي
ركابك مع سيري يسير بسيره . . . بغير حول مذ حللت جنابي
فلا تلتفت سيراً لذاتك إنما . . . تسير بها سيراً لغير ذهاب
وهي متعددة .
ولد في عام سبعة وعشرين وسبعماية .
محمد بن علي بن فرج القربلياني
يكنى أبا عبد الله ويعرف بالشفرة
حاله كان رجلاً ساذجاً ، مشتغلا بصناعة الطب ، عاكفا عليها عمره محققاً لكثير من أعيان النبات ، كلفاً به ، متعيشاً من عشبه أول أمره ، وارتاد المنابت ، وسرح بالجبال ، ثم تصدر للعلاج ، ورأس به ، وحفظ الكثير من أقوال أهله ، ونسخ جملة من كنانيشه على ركاكة خطه ، وعالج السلطان نصر المستقر بوادي آش ، وقد طرق من بها مرض وافد حمل علاجه المشاقحة لأجله ، وعظم الهلاك فيمن اختص بتدبيره ، فطوف(3/137)
"""""" صفحة رقم 138 """"""
القلب المبارك بمبراه . ثم رحل إلى العدوة ، وأقام بمراكش سنين عدة ، ثم كر إلى غرناطة في عام أحد وستين ، وبها هلك على أثر وصوله .
مشيخته
زعم أنه قرأ على أبيه ببلده من قربليان بلد الدجن ، وأخذ الجراحة عن فوج من محسني صناعة عمل اليد من الروح . وقرأ على الطبيب عبد الله بن سراج وغيره .
تواليفه : ألف كتاباً في النبات .
وفاته : في السابع عشر لربيع الأول عام أحد وستين وسبعماية .
محمد بن علي بن يوسف بن محمد السكوني
يكنى أبا عبد الله ويعرف بابن اللؤلؤة ، أصله من جهة قمارش .
حاله
رحل في فتايه ، بعد أن شدا شيئاً من الطلب ، وكلف بالرواية والتقيد فلقي مشخة ، وأخذ عن جلة ، وقدم على بلده حسن الحالة ، مستقيم الطريقة ، ظاهر الانقباض والعفة ، وأدخل الأندلس فوايد وقصايد ، وكان ممن ينتفع به لو أمهلته المنية .
شعره
مما نسبه إلى نفسه من الشعر قوله :
يا من عليه اعتمادي . . . في قل أمري وكثره
سهل على ارتحالي . . . إلى النبي وقبره
فذاك أقصى مرادي . . . من الوجود بأسره
وليس ذا بعزيز . . . عليك فامنن بيسره
ومن ذلك :
أمن بعد ما لاح المشيب بمفرقي . . . أميل لزور بالغرور مصاغ
وأرتاح للذات والشيب منذر . . . بما ليس عنه للأنام مراغ(3/138)
"""""" صفحة رقم 139 """"""
ومن لم يمت قبل المشيب فإنه . . . يراع بهول بعده ويراغ
فيا رب وفقني إلى ما يكون لي . . . به للذي أرجوه منك بلاغ
توفي معتبطاً في وقيعة الطاعون عام خمسين وسبعماية ، خطيباً بحصن قمارش .
محمد بن سودة بن إبراهيم بن سودة المري
أصله من بشرة غرناطة ، يكنى أبا عبد الله .
حاله
من بعض التواريخ المتأخرة : كان شيخاً جليلاً ، كاتباً مجيداً ، بارع الأدب ، رايق الشعر ، سيال القريحة ، سريع البديهة ، عارفاً بالنحو واللغة والتاريخ ، ذاكراً لأيام السلف ، طيب المحاضرة ، مليح الشيبة ، حسن الهيئة ، مع الدين والفضل ، والطهارة والوقار والصمت .
مشيخته
قرأ بغرناطة على الحافظ أبي محمد عبد المنعم بن عبد الرحيم بن الفرس ، وغيره من شيوخ غرناطة . وبمالقة ، على الأستاذ أبي القاسم السهيلي وبجيان على ابن يربوع ، وبإشبيلية على الحسن بن زرقون وغيره من نظرائه .
أدبه
قال الغافقي ، كانت بينه وبين الشيخ الفقيه واحد عصره أبي الحسن سهل بن مالك ، مكاتبات ومراجعات ، ظهرت فيها براعته ، وشهدت له بالتقدم يراعته .
محنته
أصابه في آخر عمره نكبة ثقيلة ، أسر هو وأولاده ، فكانت وفاته أسفاً لما جرى عليهم نفعه الله . توفي في حدود سبعة وثلاثين وستماية .
محمد بن يزيد ين رفاعة الأموي البيري
أصله من قرية طرش
حاله
طلب العلم وعني بسمعه ، ونسخ أكثر كتبه بخطه ، وكان لغوياً شاعراً ، من الفقهاء المشاورين الموثقين ، وولي الصلاة بالحاضرة ، وعزل وسرد الصوم عن نذر لزمه عمره .(3/139)
"""""" صفحة رقم 140 """"""
مشيخته
سمع من شيوخ إلبيرة ، محمد بن فطيس ، وابن عمريل ، وهاشم ابن خالد ، وعثمان بن جهير ، وحفص بن نجيح ، وبقرطبة من عبيد الله ابن يحيى بن يحيى وغيره .
من حكاياته : قال المؤرخ ، من غريب ما جرى لأبي علي البغدادي ، في مقدمه إلى قرطبة ، أن الخليفة الحكم ، أمر ابن الرما حس عامله على كورتي إلبيرة وبجانة ، أن يجيء مع أبي علي في وفد من وجوه رعيته ، وكانوا يتذاكرون الأدب في طريقهم ، إلى أن تجاروا يوماً وهم سايرون ، أدب عبد الملك بن مروان ، ومساءلته جلساءه عن أفضل المناديل ، وإنشاده بيت عبدة بن الطبيب :
ثمت قمنا إلى جرد مسومة . . . أعرقهن لأيدينا مناديل وكان الذاكر للحكاية أبو علي ، فأنشد الكلمة في البيت أعراقها ، فلوى ابن رفاعة عنانه منصرفاً ، وقال ، مع هذا يوفد على أمير المؤمنين ، وتتجشم الرحلة العظيمة ، وهو لا يقيم وزن بيت مشهور في الناس ، لا يغلط فيه الصبيان ، والله لاتبعته خطوة ، وانصرف عن الجماعة ، وندبه أميره ابن الرماحس ، ورامه بأن لا يفعل ، فلم يجد فيه حيلة ، فكتب إلى الخليفة يعرفه بابن رفاعة ، ويصف ما جرى معه ، فأجابه الحكم على ظهر كتابه : الحمد لله الذي جعل في بادية من بوادينا من يخطئ وفد أهل العراق ، وابن رفاعة بالرضا أولى منه بالسخط ، فدعه لشأنه ، وأقدم بالرجل غير منتقص من تكريمه ، فسوف يعليه الاختبار أو يحطه .
توفي سنة ثلاث أو أربع وأربعمائة .
محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي ابن أبي بكر بن خميس الأنصاري
من أهل الجزيرة الخضراء(3/140)
"""""" صفحة رقم 141 """"""
حاله
كان فاضلاً وقوراً ، مشاركاً ، خطيباً ، فقيهاً ، مجوداً للقرآن ، قديم الطلب ، شهير البيت ، معروف التعين ، نبيه السلف في القضاء ، والخطابة والإقراء ، مضى عمره خطيباً بمسجد بلده الجزيرة الخضراء ، إلى أن تغلب العدو عليها ، وباشر الحصار بها عشرين شهراً ، نفعه الله ثم انتقل إلى مدينة سبتة ، فاستقر خطيباً بها إلى حين وفاته .
مشيخته
قرأ على والده رحمه الله ، وعلى شيخه ، وشيخ أبيه أبي عمر ، وعباس ابن الطفيل الشهير بابن عظيمة ، وعلى الأستاذ أبي جعفر بن الزبير ، والخطيب أبي عبد الله بن رشيد بغرناطة عند قدومه عليها ، والقاضي أبي المجد بن أبي الأحوص قاضي بلده ، وكتب له بالإجازة الوزير أبو عبد الله بن أبي عامر بن ربيع ، وأجازه الخطباء الثلاثة أبو عبد الله الطنجالي ، وأبو محمد الباهلي ، وأبو عثمن بن سعيد ، وأخذ عن القاضي بسبتة أبي عبد الله الحضرمي ، والإمام الصالح أبي عبد الله بن حريث ، والمحدث أبي القاسم التجيبي ، والأستاذ أبي عبد الله بن عبد المنعم ، والأخوين أبي عبد الله وأبي إبراهيم ابني يربوع . قال ، وكلهم لقيته وسمعت منه . وأجاز لي إجازة عامة ما عدا الإمام ابن حريث فإنه أجاز لي ، والخطيب ابن عزمون وغيرهم ، ممن تضمنه برنامجه .
تواليفه
قال ، وكان أحد بلغاء عصره ، وله مصنفات منها ، النفحة الأرجية ، في الغزوة المرجية ، ودخل غرناطة مع مثله من مشيخته بلده في البيعات ، أظن ذلك .
توفي في الطاعون بسبتة أخر جمادى الآخر من عام خمسين وسبعماية .
محمد بن أحمد بن عبد الله العطار
من أهل ألمرية .
حاله من بعض التقييدات ، كان فتى وسيماً ، وقوراً ، صيباً ، متعففاً ، نجيباً ، ذكياً . كتب عن شيخنا أبي البركات بن الحاج ، وناب عنه في القضاء ، وانتقل بانتقاله إلى غرناطة ، فكتب بها . وكان ينظم نظماً مترفعاً عن الوسط . وجرى ذكره في الإكليل بما نصه ممن نبغ نوجب ، وخلق له البر بذاته ووجب ، تحلى بوقار ، وشعشع للأدب كاس عقار ، إلا أنه اخترم في اقتبالن وأصيب الأجل بنبال .(3/141)
"""""" صفحة رقم 142 """"""
من شعره
قوله من قصيدة :
دعاني على طول البعاد هواها . . . وقد سد أبواب اللقا نواها
وقد شمت برقا للقا مبشراً . . . وقد نفحت ريح الصبا بشذاها
وجن دجى ليل بخيل بصبحه . . . كما بخلت ليلى بطيف سراها
وقاد زمان قايد الحب قاصدا . . . ربوعاثوت ليلى بطول قناها
وناديت والأشواق بالوجد برحت . . . ودمعي أجرى سابغً للقاها
أبا كعبة الحسن التي لنفس ترتجي . . . رضاها وحاشى أن يخيب رجاها
أحبك يا ليلى على البعد والنوى . . . وبي منك أشوقا تشب لظاها
لين حجبت ليلى عن العين إنني . . . بعين فؤادي لا أزال أراها
إلى أن بدا الصبح المشتت شملنا . . . وما بلغت نفسي المشوق مناها
فمدت يميناً للوداع ودمعها . . . يكفكفه خوف الرقيب سراها
وقالت وداعاً لا وداع تفرق . . . لعل الليالي أن تديل نواها
تذكرنا ليلى معاهد باللوى . . . رعى الله ليلات اللوى ورعاها
توفي في الطاعون الأعظم عام خمسين وسبعمائة .
محمد بن أحمد بن المراكشي
من أهل ألمرية
، يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بالمراكشي
حاله
كان فتى جميل الرؤيا ، سكوتاً ، مطبوعاً على المغافصة والغمز ، مهتدياً إلى خفي الحيلة ، قادراً على المباحثة ، ذكياً ، متسوراً على الكلام في الصنايع والألقاب ، من غير تدرب ولا حنكة ، دمث الأخلاق ، لين العريكة ، انتحل الطب ، وتصدر للعلاد والمداواة ، واضطبن أغلوطة صارت له بها شهرة ، وهي رق يشتمل على أعداد وخطوط وزايرجة ، وجداول غريبة الأشكال ، تحتها علامات فيها اصطلاحات الصنايع والعلوم ، ويتصل بها قصيدة رويها لأم الألف أولها ، وهي منسوبة لأبي العباس السبتي .
يقول سبتي ويحمد ربه . . . مصل على هاد إلى الناس أرسلا(3/142)
"""""" صفحة رقم 143 """"""
وأنها مدخل للزيرجة ذكر أنه عثر عليها في مظنة غريبة ، وظفر برسالة العمل بها ، وتحرى بالإعلام بالكنايات ، والإخبار بالخفي وتقدمة المعرفة ، والإنذار بالوقايع ، حتى استهوى بذلك جماعة من المشيخة ، ممن كان يركن إلى رجحان نظره ، وسلامة فطرته ، واستغلت الشهادة له بالإصابة ، سجية النفوس في حرصها على إثبات دعاوي المتحرفين ، أخبرني بعهم أنه خبأ له عظماً صغيراً ، يكون في أطراف أجنحة الطير ، أخذه من جناح ديك ، وزعم أرباب الخواص أنه يزيل الإعياء إذا علق ، فتصرف على عاداته من الدخول في تلك الجداول ، وأخذ الأعداد الكثير ، يضربها آونة ، ويقسمها أخرى ، ويستخرج من تلك الجداول جيوباً وسهاماً ، ويأخذ جذوراً ، وينتج له العمل آخراً حروفاً مقطعة ، ببقيها الطرح ، يولف منها كلاماً ، تقتنص منه الفائدة ، فكان في ذلك بيت شعر :
وفي يدكم عظم صغير مدور . . . يزيل به الإعياء من كان في السفر
وأخبرني آخرون أنه سيل في نازلة فقهية لم يلق فيها نص ، فأخبر أن النص فيها موجود بمالقة ، فكان كذلك . وعارض ذلك كله جلة من أشياخنا ، فذكرني الشيخ نسيج وحده ، أبو الحسن بن الجياب أنه سامره يخرج خبيئته سواد ليلة ، فتأمل ما يصنعه ، فلم يأت بشيء ، ولا ذهب إلى عمل يتعقل ، وظاهر الأمر أن تلك الحال كانت مبنية على تخيل وتخمين ، وتختلف فيه الإصابة وضدها ، بحسب الحالة والقايل ، لتصرف الحيلة فيه ، فاقتضى ذلك تأميل طائفة من أهل الدول إياه ، وانتسخوا نظاير من تلك الزيرجة المموهة ، ممطولين منه بطريق التصرف فيها إلى اليوم ، واتصل بالسلطان ، فأرسم ببابه ، وتعدى الإنس إلى طب الجن ، فافتضح أمره ، وهم به ، فنجا مفلتاً . ولم تزل حاله مضطربة ، إلى أن دعى من العدوة وسلطانها ، منازل مدينة تلمسان ، ووصلت الكتب عنه ، فتوجه في جفن هيئ له ، ولم ينشب أن توفي بالمحلة في أوايل عام سبعة وثلاثين وسبعماية .
محمد بن بكرون بن حزب الله
من أهل مالقة ، يكنى أبا عبد الله .
حاله
من أهل الخصوصية والفضل ، ظاهر الاقتصاد ، كثير التخلق ، حسن اللقاء ، دايم الطريقة ، مختصر الملبس والمأكل ، على سنن الفضلاء وأخلاق الجلة .(3/143)
"""""" صفحة رقم 144 """"""
انتظم لهذا العهد في نمط من يستجاز ويجيز . وكان غفلاً فأقام رسماً محموداً ، ولم يقصر عن غاية الاستعداد .
مشيخته
منهم الأستاذ مولى النعمة على أهل بلده ، أبو محمد عبد الواحد بن أبي السداد الباهلي ، قرأ عليه القرآن العظيم أربعة عشر ختمة قراءة تجويد وإتقان بالأحرف السبعة ، وسمع عليه كتباً كثيرة ، وقال عند ذكره في بعض الاستدعاءات : ولازمته رضي الله عنه وأرضاه إلى حين وفاته ، ونلت من عظيم بركاته ، وخالص دعواته ، ما هو عندي من أجل الوسايل ، وأعظم الذخيرة ، وأفضل ما أعددته لهذه الدار والدار الآخرة . وكان في صدر هذا الشيخ الفاضل كثير من علم اليقين . وهو علم يجعله الله في قلب العبد إذا أحبه ، لأنه يؤول بأهله إلى احتمال المكروه ، والتزام الصبر ، ومجاهدة الهوى ، ومحاسبة النفس ، ومراعاة خواطر القلب ، والمراقبة لله ، والحياء من الله ، وصحة المعاملة له ، ودوام الإقبال عليه ، وصحة النية ، واستشعار الخشية . قال الله تعإلى : ' إنما يخشى الله من عباده العلماء ' ، فكفى بخشية الله علماً ، وبالإقبال عليه عزاً . قلت ، وإنما نقلت هذا ، لأن مثله لا يصدر إلا عن ذي حركة ، ومضطبن بركة ، ومنهم الشيخ الخطيب الفاضل ولي الله ، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يوسف الطنجالي .
دخل غرناطة راوياً ، وفي غير ذلك في شئونه ، وهو الآن ببلده مالقة يخطب ببعض المساجد الجامعة بها على الحال الموصوفة .
محمد بن الحسن الميورقي محمد بن الحسن بن أحمد بن يحيى الأنصاري الخزرجي
الميورقي الأصل ، سكن غرناطة .
حاله
كان محدثاً عالي الرواية ، عارفاً بالحديث وعلله ، وأسماء رجاله ، مشهوراً بالإتقان والضبط ، ثقة فيما نقل وروى ، ديناً ، زكياً ، متحاملاً ، فاضلاً ، خيراً ، متقللاً من الدنيا ، ظاهري المذهب داوديه ، يغلب عليه الزهد والفضل .
مشيخته
روى بالأندلس عن أبي بكر بن عبد الباقي بن محمد بن الحجاري ، وأبي علي الصدفي الغساني ، وأبي مروان الباجي ، ورحل إلى المشرق وحج ، وأخذ(3/144)
"""""" صفحة رقم 145 """"""
بمكة كرمها الله ، عن أبي ثابت وأبي الفتح عبد الله بن محمد البيضاوي وأبي نصر عبد الملك بن أبي مسلم العمراني . قلت وغيرهم اختصرتهم لطولهم . وقفل إلى الأندلس فحدث بغير بلده منها ، لتجواله فيها .
ومن روى عنه : روى عنه أبو بكر بن رزق ، وأبو جعفر بن الغاسل وغيرهم .
محنته
إمتحن من قبل علي بن يوسف بن تاشفين ، فحمل إليه صحبة أبي الحكم بن يوجان ، وأبي العباس بن العريف ، وضرب بالسوط عن أمره ، وسجنه وقتاً ، ثم سرحه وعاد إلى الأندلس ، وأقام بها يسيراً ، ثم انصرف إلى المشرق ، فتوقف بالجزاير ، وتوفي بها في شهر رمضان سنة سبع وثلاثين وخمسماية .
محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم الأنصاري الساحلي
يكنى أبا عبد الله ، ويعرف ببلده مالقة بالمعمم
حاله
كان طبقة من طبقات الكفاة ، ظرفاً ورواءً وعارضةً وترتيباً ، تجلل بفضل شهرة أبيه ، وجعل بعض المترفين من وزراء الدول بالمغرب أيام وجهته إليه ، وصحبة الشيمخ الصالح أبيه في غرض السفارة ، مالاً عريضاً لينفقه في سبيل البر ، فبنى المدرسة غربي المسجد الأعظم ، ووقف عليها الرباع ، وابتنى غيرها من المساجد ، فحصلت الشهرة ، ونبه الذكر ، وتطور ، ورام العروج في مدارج السلوك ، وانقطع إلى الخلوة ، فنصلت الصبغة ، وغلبت الطبيعة ، وتأثل له مال جم ، اختلف في سبب اقتنايه ، وأظهر التجر المرهف الجوانب بالجاه العريض ، والحرص الشديد ، والمسامحة في باب الورع ، فتبنك به نعيماً من ملبس ومطعم وطيب وترفه ، وطارد به اللذة ما شاء في باب النكاح استمتاعاً وذواقاً يتبع رايد الطرف ، ويقلد شاهد السمع ، حتى نعى عليه . وولي الخطابة بالمسجد الأعظم بعد أبيه ، فأقام الرسم ، وأوسع المنبر ما شاء من جهورية وعارضة ، وتسور على أعراض ، وألفاظ في أسلوب ناب عن الخشوع ، عريق في نسب القحة . ثم رحل إلى المشرق مرة ثانية ، وكر إلى بلده ، مليح الشيبة بادي الوقار ، نبيه الرتبة ، فتولى الخطابة إلى وفاته .(3/145)
"""""" صفحة رقم 146 """"""
مشيخته
حسبما قيدته من خط ولده أبي الحسن ، وارثه في كثير من خلاله ، وأغلبها الكفاية . فمنهم والده رحمه الله . قرأ عليه وتأدب به ، ودون في طريقه ، حسبما يتقرر ذلك ، ومنهم الأستاذ أبو محمد بن أبي السداد الباهلي ، ومنهم الشيخ الراوية أبو عبد الله بن عياش ، والخطيب الصالح أبو عبد الله الطنجالي ، والخطيب الصالح أبو جعفر بن الزيات ، والأستاذ ابن الفخار الأركشي ، والقاضي أبو عمرو بن منظور ، والأستاذ ابن الزبير وغيرهم ، كابن رشيد ، وابن خميس ، وابن برطال ، وابن مسعدة ، وابن ربيع ، وبالمشرق جماعة اختصرتهم لطولهم .
تواليفه
وتسور على التأليف ، بفرط كفايته ، فمما ينسب إليه كتاب : التجر الربيح في شرح الجامع الصحيح قال ، منه ما جرده من المبيضة . ومنه ما لم يسمح الدهر بإتمامه ، وكتاب بهجة الأنوار ، وكتاب الأسرار ، وكتاب إرشاد السايل لنهج الوسايل ، وكتاب بغية السالك في أشرف المسالك في التصوف ، وكتاب أشعة الأنوار في الكشف عن ثمرات الأذكار . وكتاب النفحة القدسية ، وكتاب غنية الخطيب بالاختصار والتقريب في خطب الجمع والأعياد ، وكتاب غرايب النجب في رغايب الشعب ، شعب الإيمان ، وكتاب في مناسك الحج ، وكتاب نظم سلك الجواهر في جيد المعارف الصدور والأكابر ، فهرسة تحتوي على فوايد من العلم وما يتعلق بالرواية ، وتسوية الشيوخ وتحرير الأسانيد .
دخوله غرناطة
دخلها مرات تشذ عن الإحصاء . ولد عام ثمانية وسبعين وستماية ، وتوفي بمالقة في صبيحة ليلة النصف من شعبان عام أربعة وخمسين وسبعماية .
محمد بن محمد بن يوسف بن عمر الهاشمي
يكنى أبا بكر ، ويعرف بالطنجالي ، ولد الشيخ الولي أبي عبد الله .
حاله من ذيل تاريخ مالقة للقاضي أبي الحسن بن الحسن . قال ، كان هذا العالم الفاضل ممن جمع بين الدراية والرواية ، والتراث والاكتساب . وعلو الانتساب ، وهو من القوم الذين وصلوا الأصالة بالصول ، وطول الألسنة بالطول ، وهدوا إلى الطيب من القول ، أثر الشموخ يبرق من أنفه ، ونسيم الرسوخ يعبق من عرفه . وزاجر الصلاح يومي بطرفه ، فتخاله من خوف الله ذا لمم ، وفي خلقه دمائة ، وفي عرنينه شمم . ووصفه بكثير من هذا النمط .
ومن العايد : كان من أهل العلم والتفنن في المعارف والتهمم بطلبها ، جمع بين الرواية والدراية الصلاح . وكانت فيه خفة ، لفرط صحة وسذاجة وفضل رجولة(3/146)
"""""" صفحة رقم 147 """"""
به ، بارع الخط ، حسن التقييد ، مهيباً جزلاً ، مع ما كان عليه من التواضع ، يحبه الناس ويعظمونه ، خطب بالمسجد الأعظم من مالقة ، وأقرأ به العلم .
مشيخته
قرأ على الأستاذ أبي محمد الباهلي ، وأبيه الولي الخطيب رحمه الله . وروى عن جده أبي جعفر ، وعن الراوية الأستاذ الكبير أبي جعفر بن الزبير ، والراوية أبي عبد الله بن عياش ، والقاضي أبي القاسم بن السكوت ، وغيرهم ممن يطول ذكره ، من أهل المشرق والمغرب .
وفاته : توفي بمالقة في أول صفر من عام ثلاثة وثلاثين وسبعماية وكان عمره نحواً من تسع وخمسين سنة .
محمد ين محمد بن ميمون الخزرجي
يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بلا أسلم ، لكثرة صدور هذه اللفظة عنه ، مرسي الأصل ، وسكن غرناطة ووادي آش وألمرية .
حاله
من كتاب المؤتمن : كان دمث الأخلاق ، قبل أن يحرجه شيء من مضيقات الصدور يشارك في العربية ، والشعر يا لنازل عن الدرجة الوسطى ، لا يخلو بعضه عن الحن . وكان تيتعيش من صناعة الطب . وجرت له شهرة بالمعرفة ترفع به بتلك الصناعة على حد شهرةٍ ترك النصيحة فيها ، فكانت شهرته بالمعرفة ترفع به . وشهرته بترك النصيحة تنز له ، ، فيمر بين الحالتين بشظف العيش ، ومقت الكافة إياه .
قلت ، كان لا أسلم ، طرفاً في المعرفة بطرق العلاج ، فسيح التجربة ، يشارك في فنون ، على حال غريبة من قلة الظرف ، وجفاء الآلات ، وخشن الظاهر ، والإزراء بنفسه بالناس ، متقدم في المعرفة بالخصوم ، يقصد في ذلك . وله في الحرب والحيل حكايات ، قال صاحبنا أبو الحسن ابن الحسن : كانت للحكيم لا أسلم خمر مخبأ ، في كرم كان له بألمرية عثر عليها بعض الدعرة ، فسرقها له . قال ، فعمد إلى جرة وملأها بخمر أخرى ، ودفنها بالجهة ، وجعل فيها شيئاً من العقاقير المسهلات ، وأشاع أن الخمر العتيقة التي كانت له لم تسرف ، وإنما باقية ، بموضع كذا ، فعمد إليها أولئك الدعرة ، وأخذوا في استعمالها ، فعادت عليهم بالاستطلاق القبيح المهلك ، فقصدوا الحكيم المذكور ، وعرضوا عليه ما أصابهم ، فقال لهم إيه ، أدوا إلى ثمن الشريبة ،(3/147)
"""""" صفحة رقم 148 """"""
وحينئذ أشرع لكم في الدواء ، ويقع الشفا بحول الله . فجمعوا له أضعاف ما كان يساويه خمخره وعالجهم حتى شفوا بعد مشقة . وأخباره كثيرة .
وفاته : توفي عقب إقلاع الطاغية ملك برجلونة عن المرية عام تسعة وسبعماية . وخلفه ابن كان له يسمى إبراهيم ، ويعرف بالحكيم ، وجرى له من الشهرة ما جرى لأبيه ، مرت عليه ببخت وقبول ، وتوفي بعد عام خمسين وسبعماية .
محمد بن قاسم بن أحمد بن إبراهيم الأنصاري
جياني الأصل مالقيه ، يكنى أبا عبد الله ويعرف بالشديد على بنية التصغير ، وهو كثير التردد والمقام بحضرة غرناطة .
حاله
من أهل الطلب والذكاء والظرف والخصوصية ، مجموع خلال من خط حسن واضطلاع بحمل كتاب الله . بلبل دوح السبع المثاني ، وماشطة عروس أبي الفرج الجوزى ، وآية صقعة في بالصوت ، وطيب النغمة ، اقتحم لذلك دسوت الملوك وتوصل إلى صحبة الأشراف ، وجر أذيال الشهرة . قرأ القرآن والعشر بين يدى السلطان ، أمير المسلمين بالعدوة ، ودنا منه محله ، لولا إيثار مسقط رأسه . وتقرب بمثل ذلك إلى ملوك وطنه ، وصلى التراويح بمسجد قصر الحمراء ، غريب المنزع ، عذب الفكاهة ، ظريف المجالسة ، قادر على الحكايات ، مستور حمى الوقار ، ملب داعي الانبساط ، على استراجاع واستقامة ، مبرور الوفادة ، منوه الإنزال ، قلد شهادة الديوان بمالقة ، معلاً عليه في ذلك ، فكان مغار جبل الأمانة ، صليب العود ، شامخاً ، صادق النزاهة ، لوحاً للألقاب ، محرزاً للعمل .(3/148)
"""""" صفحة رقم 149 """"""
وولى الحسبة بمالقة حرسها الله تعالى ، فخاطبته في ذلك أداعبه ، وأشير إلى قوم من أجداده ، وأولى الحمل عليه بما نصه : يا أيها المحتسب الجزل . . . ومن لديه الجد والهزل
تهنيك والشكر لمولى الورى . . . ولاية ليس لها عزل
كتبت أيها المحتسب ، المنتمى إلى النزاهة المنتسب ، وأهنيك ببلوغ تمنيك ، و أحذرك من طمع نفس بالغرور تمنيك ، فكأني وقد طافت بركابك الساعة ، ولزم لأمرك السمع والطاعة ، وارتفعت في مصانعتك الطماعة ، وأخذت أهل الريب بغتة كما تقوم الساعة ، ونهضت تقعد وتقيم ، وسكوتك الريح العقيم ، وبين يديك القسطاس المستقيم ، ولابد من شرك ينصب ، وجماعة على ذي جاه تتعصب ، وحالة كيتٍ بها الجناب الأخصب ، فإن غضضت طرفك ، أمنت عن الولاية صرفك ، وإن ملأت ظرفك ، رحلت عنها حرفك ، وإن كففت فيها كفك ، حفك العز فيمن حفك . فكن لقالي المجبنة قالياً ، ولحوت السلة سالياً . وابد لدقيق الحوارى زهد حوارى ، وازهد فيما بأيدي الناس من العوارى .
وسر في اجتناب الحلو على السبيل السوا ، وارفض في الشوا دواعي الأهوا ، وكن على الهراس ، وصاحب فريد الرأس ، شديد المراس ، وثب على بايع طبيخ الأعراس ، ليئاً مرهوب الافتراس ، وأدب أطفال السوق في السوق ، سيما من(3/149)
"""""" صفحة رقم 150 """"""
كان قبل البلوغ والسبوق ، وصمم في استخراج الحقوق ، والناس أصناف ، فمنهم خسيس يطمع منك في إكلة ، ومستعد عليك بوكزة أو ركلة . وحاسد في مطية تركب ، وعطية تسكب ، فاخفض للحاسد جناحك ، وسدد إلى حربه رماحك ، وأشبع الخسيس منهم مرقة دسمة فإنه حنق ، ودس له فيها عظماً لعله يختنق ، واحف رلشريرهم حفرة عميقة ، فأنه العدو حقيقة ، حتى إذا حصل ، وعلمت أن وقت الانتصار قد وصل ، فأوقع وأوجع ، ولا ترجع ، واولياه من حزب الشيطان ففجع ، والحق أقوى ، وإن تعفو أقرب للتقوى . سددك الله إلى غرض التوفيقن وأعلقنا من الحق بالسبب الوثيق ، وجعل قدومك مقروناً برخص اللحم والزيت والدقيق . بمنه وفضله .
مشيخته
قرأ القرآن على والده المكتب النصوح رحمه الله ، وحفظ كتباً كرسالة أبي محمد بن زيد ، وشهاب القضاعي ، وفصيح ثعلب ، وعرض الرسالة على ولي الله أبي عبد الله الطنجالي ، وأجازه . ثم على ولده الخطيب أبي بكر ، وقرأ عليه من القرآن ، وجود بحرف نافع على شيخنا أبي البركات . وتلا على شيخنا أبي القاسم بن جزى . ثم رحل إلى المغرب ، قلقى الشيخ الستاذ الأوحد في التلاوة ، أبا جعفر الدراج ، وأخذ عن الشريف المقرى أبي العباس الحسنى بسبتة ، وأدرك أبا القاسم التجيبي ، وتلا على الأستاذ أبي عبد الله بن عبد المنعم ولازمه ، واختص بالأستاذ ابن هاني السبتي ، ولقى بفاس جماعة كالفقيه أبي زيد الجزولي ، وخلف الله المجاصي ، والشيخ أبا العباس المكناسي ، والشيخ البقية أبا عبد الله بن عبد الرازق ، وقرأ على المقرى الفذ الشهير في الترنم بألحان القرآن أبي العباس الزواوي سبع ختمات ، وجمع عليه السبع ، والمقرى أبي العباس بن حزب الله ، واختص بالشيخ الرييس أبي محمد عبد المهيمن الحضرمي .
شعره
من شعره ما كتب به إلى وزير الدولة المغربية في غرض الاستلطاف :
يا من به أبدا عرفت ومن أنا . . . لولاه لي دامت علاه وداما(3/150)
"""""" صفحة رقم 151 """"""
لا تأخذنك في الشديد لومة . . . فشخيص نشأته بفضلك قاماً
ربيته علمته أدبته . . . قدمته للفرض منك إماماً
فجزاك رب الخلق خير جزاية . . . عنى وبوأك الجنان مقاماً
وهو الآن بالحالة الموصوفة ، مستوطناً حضرة غرناطة ، وتالياً الأعشار القرآنية ، بين يدي السلطان أعزه الله ، مرفع الجانب ، معزز الجراية بولايته أحباس المدرسة ، أطروفة عصره ، لولا طرش نقص الأنس به ، نفعه الله .
ولد بمالقة في عاشر ربيع الأول من عام عشرة وسبعماية
ومن الغرباء في هذا الاسم
محمد بن أحمد بن إبراهيم بن محمد التلمساني الأنصاري
السبتي الدار ، الغرناطي الاستيطان ، يكنى أبا الحسين ، ويعرف بالتلمساني
حاله طرف في الخير والسلامة ، معرق في بيت الصون والفضيلة ، معم تخول في العدالة ، قديم الطلب والاستعمال ، معروف الحق ، مليح البسط ، حلو الفكاهة ، خفيف إلى هيعة الدعابة ، على سمت ووقار ، غزل ، لوذعي ، مع استرجاع وامتساك ، مترف ، عريق في الحضارة ، مؤثر للراحة ، قليل التجلد ، نافر عن الكد ، متصل الاستعمال ، عريض السعادة في باب الولاية ، محمول على كتد المنبرة ، جار على سنن شيوخ الطلبة والمقتاتين من الأرزاق المقدرة ، أولي الخصوصية والضبط ، من التظاهر بالجاه على الكفاية . قدم على الأندلس ثمانية عشر وسبعماية ، فمهد كنف القبول والاستعمال ، فولي الحسبة بغرناطة ، ثم قلد تنفيذ الأرزاق ، وهي الخطة الشرعية ، والولاية المجدية ، فاتصلت بها ولايته . وناب عني في العرض والجواب بمجلس السلطان ، حميد المنأى في ذلك كله ، يقوم على كتاب الله حفظاً وتجويداً ، طيب النغمة ، راوياً محدثاً ، إخبارياً ، مرتاحاً للأدب ، ضارباً فيه بسهم ، يقوم على كتب السيرة النبوية ، فذاً في ذلك . قرأه بالمسجد الجامع للجمهور ، عند لحاقه بغرناطة ، معرباً عن نفسه ، منبهاً على مكانه ، فزعموا أن رجلاً فاضت نفسه وجداً لشجو نغمته ، وحسن إلقايه . وقرأ التراويح بمسجد قصر السلطان إماماً به ، واتسم بمجلسه بالسلامة والخير ، فلم تؤثر عنه في أحد وقيعة ، ولا بدرت له ، في الحمل على أحد بنت شفه .(3/151)
"""""" صفحة رقم 152 """"""
مشيخته
منهم الشريف أبو علي الحسن بن الشريف أبي التقا طاهر بن أبي الشريف ربيع بن علي بن أحمد بن علي بن أبي طاهر بن حسن بن موهوب بن أحمد بن محمد بن طاهر بن أبي الشرف الحسن بن علي بن محمد بن علي ابن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن بن علي بن الحسن بن علي ابن أبي طالب . ومنهم والده المترجم به ، ومنهم أبوه وجده ، ومنهم الأمير الصالح أبو حاتم أحمد بن الأمير أبي القاسم محمد بن أبي العباس أحمد بن محمد العزفي ، والمقري أبو القاسم بن الطيب ، وإمام الفريضة أبو عبد الله محمد بن محمد بن حريث ، والأستاذ ملحق الأبناء بالآباء أبو إسحق الغافقي ، والكاتب الناسك أبو القاسم خلف بن عبد العزيز القبتوري ، والأستاذ المعمر أبو عبد الله بن الخضار ، والخطيب المحدث أبو عبد الله ابن رشيد ، والخطيب الأديب أبو عبد الله الغماري ، والأستاذ أبو البركات الفضل بن أحمد القنطري ، والوزير العابد أبو القاسم محمد بن محمد ابن سهل بن مالك ، والولي الصالح أبو عبد اله الطنجالي ، والخطيب الصالح أبو جعفر بن الزيات ، والقاضي الأعدل أبو عبد الله بن برطال ، والشيخ الوزير المعمر أبو عبد اله بن ربيع ، والصوفي الفاضل أبو عبد الله ابن قطرال ، والأستاذ الحسابي أبو إسحق البرغواطي ، هؤلاء لقيهم وقرأ وسمع عليهم . وممن كتب له بالإجازة ، وهم خلق كثير ، كخال أبيه ، الشيخ الأديب أبي الحكم مالك بن المرحل ، والخطيب أبي الحسن فضل ابن فضيلة ، والأستاذ الخاتمة أبي جعفر بن الزبير ، والعدل أبي الحسن ابن مستقور ، والوزير المعمر أبي محمد بن سماك ، والخطيب أبي محمد مولى الرييس أبي عثمن بن حكم ، والشيخ الصالح أبي محمد الحلاسي ، والقاضي أبي العباس بن الغماز ، والشيخ أبي القاسم الحضرمي اللبيدي ، والعدل المعمر الراوية أبي عبد الله بن هرون ، والمحدث الراوية أبي الحسن القرافي ، وأبي إسحق إبراهيم بن أحمد بن عبد المحسن بن هبة الله بن أبي المنصور ، والإمام شرف الدين أبي محمد الدمياطي ، وبهاء الدين بن النحاس ، وقاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد ، وضياء الدين أبي مهدي عيسى بن يحيى بن أحمد ، وكتب في الإجازة له :
ولدت لعام من ثلاث وعشرة . . . وست مئين هجرة لمحمد
تطوفت قدماً بالحجاز وإنني . . . بمصر هو المربلي وسبتة مولد(3/152)
"""""" صفحة رقم 153 """"""
إلى عالم كثير من أهل المشرق ، يشق إحصاؤهم . قد ثبت معظمهم في اسم صاحبه أبي محمد عبد المهيمن الحضرمي رحمه الله .
محنته
نالته محنة بجري الأمور الاشتغالية وتبعاتها ، قال الله فيها لعثرته لغاً ، فاستقل من النكبة ، وعاد إلى الرتبة . ثم عفت عليه بآخرة ، فهلك تحت بركها بعد مناهزة التسعين سنة ، نفعه الله .
ولد عام ستة وسبعين وستماية ، وتوفي في شهر محرم من أربعة وستين وسبعماية .
محمد بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن يوسف بن قطرال الأنصاري
من أهل مراكش ، يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بابن قطرال حاله
من العايد : كان رحمه الله فاضلاً صوفياً ، عارفاً ، متحدثاً ، فقيهاً ، زاهداً ، تجرد عن ثروة معروفة ، واقتصر على الزهد والتخلي ، وملازمة العبادة ، والغروب عن الدنيا . وله نظم رايق ، وخط بارع ، ونثر بليغ ، وكلام على طريقة القوم ، رفيع الدرجة ، عالي القدر . شرح قصيدة الإسراييلي ، بما يشهد برسوخ قدمه ، وتجول في لقاء الأكابر على حال جميلة من إيثار الصمت والانقباض والحشمة . ثم رحل إلى المشرق حاجاً صدر سنة ثلاث وسبعماية .
مشيخته
من شيوخه القاضي العالم أبو عبد الله محمد بن علي ، والحافظ أبو بكر بن محمد المرادي ، والفقيه أبو فارس الجروي ، والعلامة أبو الحسين بن أبي الربيع ، والعدل أبو محمد بن عبيد الله ، والحاج أبو عبد الله بن الخضار ، وأبو إسحق التلمساني ، وأبو عبد الله بن خميس ، وأبو القاسم بن السكوت . وأبو عبد الله بن عياش . وأبو الحسن بن فضيلة ، وأبو جعفر بن الزبير ، وأبو القاسم بن خير الله . هؤلاء كلهم لقيهم . وأخذ عنهم . وكتب له بالإجازة جملة ، كالقاضي أبي علي بن الأحوص ، وأبي القاسم العزفي . وأبي جعفر الطنجالي . وصالح بن شريف ، وأبي عمرو الداري . وأبي محمد بن الحجام . وأبي بكر بن حبيش ، وأبي طرخان ، وابن البواب ، وأمين الدين بن عساكر . وقطب الدين بن القسطلاني . وغيرهم .(3/153)
"""""" صفحة رقم 154 """"""
شعره
وأما شعره فكثير بديع . قال شيخنا القاضي أبو بكر بن شبرين كتبت إليه :
يا معمل السير أي إعمال . . . سلم على الفاضل ابن قطرال
من أبيات راجعني عنها بأبيات منها :
زارت فأزرت بمسك دارين . . . تفتن للحسن في أفانين
ومثلها في شتى محاسنها . . . ليست ببدع من ابن شبرين
توفي بحرم الله عاكفاً على الخير وصالح الأعمال ، معرضتاً عن زهرة الحياة الدنيا ، إلى أن اتصل خبر وفاته ، وفيه حكاية ، عام تسعة وسبعماية ودخل غرناطة برسم لقاء الخطيب الصالح أبي الحسن بن فضيلة . وغير ذلك .
العمال في هذا الاسم وأولا الأصليون
محمد بن أحمد بن محمد بن الأكحل
يكنى أبا يحيى .
حاله
شيخ حسن الشيبة ، شامل البياض ، بعيد مدى الذقن ، خدوع الظاهر ، خلوب اللفظ ، شديد الهوى إلى الصوفية ، والكلف بإطراء الخيرية ، سيما عند فقدان شكر الولاية ، وجماح الحظوة ، من بيت صون وحشمة ، مبين عن نفسه في الأغراض ، متقدم في معرفة الأمور العملية ، خايض مع الخايضين في غمار طريق التصوف ، وانتحال كيمياء السعادة ، راكب متن دعوى عريضة في مقام التوحيد ، تكذبها أحواله الراهنة جملة ، ولا تسلم له منا نبذة ، لمعاصاة خلقه على الرياضة واستيلاء الشره ، وغلب سلطان الشهوة ، فلم يجن من جعجاعه المبرم فيها إلا استغرق الوقت في القواطع عن الحق ، والأسف على ما رزته الأيام من متاع الزور ، وقنية الغرور ، والمشاحة أيام الولاية ، والشباب الشاهد بالشره ، والحلف المتصل بياض اليوم ، في ثمن الخردلة باليمين التي تجر فساد الأنكحة ، والغضب الذي يقلب(3/154)
"""""" صفحة رقم 155 """"""
العين ، والبذا الذي يصاحب الشين ، ومغلوب عليه في ذلك ، ناله بسببه ضيق واعتقال ، وتفويت جدة ، وإطباق روع ، وقيد للعذاب ، فألقيت عليه ردايي ، ونفس الله عنه بسببي ، محواً للسيئة بالحسنة ، وتوسلاً إلى الله بترك الحظوظ ، والمنة لله جل جلاله على ذلك .
شعره
خاطبني بين يدي نكبته أو خلفها بما نصه ، ولم أكن أظن الشعر مما تلوكه جحفلته ، ولكن الرجل من أهل الكفاية :
راجوتك بعد الله يا خير منجد . . . وأكرم مأمول وأعظم مرفد
وأفضل من أملت للحادث الذي . . . فقدت به صبري وما ملكت يد
وحاشى وكلا أن يخيب مأملي . . . وقد علقت بابن الخطيب محمد
وما أنا إلا عبد أنعمه التي . . . عهدت بها يمنى وإنجاح مقصد
وأشرف من حض الملوك على التقى . . . وأبدى لهم نصحاً وصية مرشد
وساس الرعايا الآن خير سياسة . . . مباركة في كل غيب ومشهد
وأعرض عن دنياه زهداً وإنها . . . لمظهرة طوعاً له عن تودد
وما هو إلا الليث والغيث إن . . . أتى له خايف أو جاء مغناه مجثد
وبحر علوم دره كلماته إذا . . . رددت في الحفل أي تردد صقيل مرأى الفكر رب لطايف . . . محاسنها تجلى بحسن تعبد
بديع عروج النفس للملإ الذي . . . تجلت به الأسرار في كل مصعد
شفيق رقيق دايم الحلم راحم . . . وأي جميل للجميل معود
صفوح عن الجاني على حين قدرة . . . يواصل تقوى الله في اليوم والغد(3/155)
"""""" صفحة رقم 156 """"""
أيا سيدي يا عمدتي عند شدتي . . . ويا شربي متى ظميت وموردي
حنانيك والطف بي وكن لي راحماً . . . ورفقاً على شيخ ضعيف منكد
رجاك رجا الذي أنت أهله . . . ووافاك يهدي الثنا المجدد
وأمك مضطراً لرحماك شاكياً . . . بحال كحر الجمر حين توقد
وعندي افتقار لأنوال مواصلاً . . . لأكرم مولى حاز أجراً وسيد
ترفق بأولاد صغار بكاؤهم . . . يزيد لوقع الحادث المتزيد
وليس لهم إلا إليك تطلع . . . إذا مسهم ضر أليم التعهد
أنلهم أيا مولاي نظرة مشفق . . . وجد بالرضا وانظر لشمل مبدد
وقابل أخا الكره الشديد برحمة . . . وأسعف بغفران الذنوب وأبعد
ولا تنظرن إلا لفضلك لا إلى . . . جريمة شيخ عن محلك مبعد
وإن كنت قد أذنبت إني تايب . . . فعاود لي الفعل الجميل وجدد
بقيت بخير لأنوال وعزة . . . وعيش هني كيف شيت وأسعد
وسخرك الرحمن للعبد إنه . . . لمتن وداع للمحل المجدد
وقد ولي خططاً نبيهة ، منها خطة الاشتغال على عهد الغادر المكايد للدولة ، إذ كان من أولياء شيطانه وممديه في غيه ، وسماسير شعوذته ، فلم يزل من مسيطري ديوان الأعمال ، على تهور واقتحام كبرة ، وخط لا غاية وراءه في الركاكة ، كما قال المعري :
تمشت فوقه حمر المنايا . . . ولكن بعد ما مسخت نمالا(3/156)
"""""" صفحة رقم 157 """"""
استحضرته يوماً بين يدي السلطان ، وهو غفل لفك ما أشكل من معمياته في الأعمال عند المطالعة ، فوصل بحال سيئة ، ولما أعتب بسببه ، ونعيت عليه هجنته ، أحسن الصدر عن ذلك الورد ، ونذر في نفسه ، وقال حيا الله رداءة الخط ، إذا كانت ذريعة إلى دخول هذا المجلس الكريم ، فاستحسن ذلك ، لطف الله بنا أجمعين .
توفي عام سبعة وستين وسبعماية .
محمد بن الحسن بن زيد بن أيوب بن حامد الغافقي
يكنى أبا الوليد .
أوليته
أصله من طليطلة ، انتقل منها جد أبيه ، وسكنوا غرناطة ، وعدوا في أهلها .
حاله
كان أبو الوليد طالباً نبيلاً ، نبيهاً ، سرياً ، ذكياً ، ذا خط بارع ، ومعرفة بالأدب والحساب ، ونزع إلى العمل فكان محمود السيرة ، مشكور الفعل . وولي الإشراف في غير ما موضع . قلت ، وآثاره في الأملاك المنسوبة إليه ، التي من جملة المستخلص السلطاني بغرناطة وغيرها ، مما يدل على قدم ، وتَعِمَّة أصيلة .
توفي بمدينة إشبيلية سنة ثمان وثمانين وخمسماية ، وسنة دون الخمسين .
محمد بن محمد بن حسان الغافقي
إشبيلي الأصل ، غرناطي المنشأ ، يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بابن حسان
حاله
من العايد : كان من أهل السرو والظرف والمروءة ، وحسن الخلق . تولى الإشراف بغرناطة ، وخطة الأشغال ، فحسن الثناء عليه . وله أدب ومشاركة . حدثني بعض أشياخنا ، قال ، كنت على مائدة الوزير ابن الحكيم ، وقد تحدث بصرف ابن حسان عن عمل كان بيده ، وإذا رقعة قد انتهت إليه أحفظ منها :
لكم أياد لكم أياد . . . كررتها إنها كثيرة(3/157)
"""""" صفحة رقم 158 """"""
فإن عزمتم على انتقالي . . . ريه أبغي أو الجزيرة
وإن أبيتم إلا مقامي . . . فنعمة منكم كبيرة
وقال لي بعضهم ، جرى بين ابن حسان هذا ، وبين أحد بني علاق ، وهم أعيان ، كلام وملاحة فقال ابن حسان ، إنما كان جدكم مولى بني أضحى ، وجدبني مشرف ، فاستعد عليه ، ورفعه إلى الوزير ابن الحكيم فيما أظن ، فلما استفهمه عن قوله ، قال أعزك الله ، كنت بالكتبيين ، وعرض علي كتاب قديم في ظهره أبيات حفظتها وهي :
أضحى الزمان بأضحى وهو مبتسم . . . لنوره في سماء المجد إشراق فلم يزل ينتمي للمجد كل فتى . . . تطيب منه مواليد وأعراق
فإن ترد شرفاً يمم مشرفه . . . وإن ترد علق مجد فهو علاق
فعلم الوزير أن ذلك من نظمه ، ونتيجة بديهته ، فعجب من كفايته ، وترضى خصمه ، وصرفهما بخير . وتوفي في شهر رجب ثلاثة عشر وسبعماية .
محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن موسى بن إبراهيم ابن عبد العزيز بن إسحاق بن أحمد بن أسد بن قاسم النميري المدعو بابن الحاج
يكنى أبا عمرو ، وقد مر ذكر أخيه .
حاله
تولي خطة الإشراف بلوشة وأندرش ومالقة . وولي النظر في مختص ألمرية ، والأعشار الرومية بغرناطة . وكان له خط حسن ، وجودة كاملة ، وحسن خلق ، ووطأة أكناف ، تشهد له بجلالة قدره ، ورفيع خطره . وصاهر في أعيان كالوزير أبي عبد الله بن أبي الحسن فاضل ، سرى ، مخلق ، حسن الضريبة ، متميز بخصال متعددة ، من خط بديع ، ونظم ، ومشاركة في فنون ، من طب وتعديل ، وارتياض سماع ، وذك التاريخ . حج وجال في البلاد . ولقي جلة ، وتولى بالمغرب خططاً نبيهة علية . ثم كر إلى الأندلس عام ستين وسبعماية ، فأجرى من الاستعمال على رسمه . ثم اقتضت له العناية السلطانية بإشارتي ، أن يوجه في غرض الرسالة إلى تونس وصاحب مصر ، لما تقدم من مرانه على تلك البلاد ، وجولاته في أقطارها ، وتعرفه بملوكها والجلة من أهلها ، فآب بعد أعوام ، مشكور التصرفات ، جارياً على سنن(3/158)
"""""" صفحة رقم 159 """"""
الفضلاء ، مضطلعاً بالأحوال التي أسندت إليه من ذلك . فلم يزل معتني به ، مرشحاً إلى الخطط التي تطمح إليها نفس مثله ، مسندا النظر في زمام العسكر الغربي إلى ولده ، الذي يخلفه عند رحلته نابيا عنه ، معززاً ذلك بالمرتبات والإحسان ، تولاه الله وأعانه .
شعره
مدح السلطان ، وأنشد له في المواليد النبوية . ورفع إلى السلطان بحضرتي هذه الأبيات :
مولاي يا خير أعلام السلاطين . . . ومن له الفضل في الدنيا وفي الدين
ومن له سير ناهيك من سير . . . وافت بأكرم تحسين وتحصين
شرفت عبدك تشريفاً له رتب . . . فوق النجوم التي فوق الأفق تعلين
وكان لي موعد مولاي أنجزه . . . وزاد في العز بعد الرتبة الدون
والله ما الشكر مني قاضياً وطرى . . . ولو أتيت به حيناً على حين
ولا الثناء موف حق أنعمه . . . ولو ملأت به كل الدواوين
لكن دعايي وحبي قد رضيتهما . . . كفا أفعاله الغر الميامين
وعند عبدك إخلاص يواصله . . . في خدمة لم يزل للخير تدنين
وسوف أنصح كل النصح مغتنما . . . رضي إمام له فضل يرجين
جوزيت عني أمير المسلمين بما . . . ترضاه للملك من نصر وتمكين
وأنت أكرم من ساس الأنام . . . ومن عم البلاد بتسكين وتهدين
ومن كمثل أبي عبد الآله إذا أضحى . . . الفخار لنا رحب الميادين
محمد بن أبي الحجاج خيرة من . . . أهدى إليه مدحاً بالسعد يحظين
وجه جميل وأفعال تناسبه . . . ودولة دولة المأمون تنسين
لا زال في السعد والإسعاد ما سجعت ورق الحمام على قضب البساتين
محمد بن عبد الرحمن الكاتب
يكنى أبا عبد الله من أهل غرناطة ، أصله من وادي آش
حاله
كان طالباً نبيهاً كاتباً جليلاً ، جيد الكتابة . كتب عن بعض أبناء الخليفة أبي يعقوب ، واختص بالسيد أبي زيد بغرناطة ، وبشرق الأندلس ، وكان أثيراً عنده(3/159)
"""""" صفحة رقم 160 """"""
مكرماً . وكان رحمه الله شاعراً ، مطبوعاً ، ذا معرفة جيدة بالعدد والمساحة ، ثم نزع عن الكتابة ، واشتغل بالعمل ، فراش فيه ، وولي إشراف بنيات غرناطة . ثم ولي إشراف غرناطة ، فكف يده ، وظهرت نصيحته . ثم نقل إلى حضرة مراكش ، فولى إشرافها مدة ، ثم صرف عنها إلى غرناطة ، وقدم على النظر في المستخلص إلى أن توفي .
مناقبه أشهد لما قربت وفاته ، أنه كان قد أخرج في صحته وجوازه ، أربعة آلاف دنير من صميم ماله لتتميم القنطرة التي بنيت على وادي شنجيل بخارج غرناطة . وكان قبل ذلك قد بنى مسجد دار القضاء من ماله ، وتأنق في بنائه ، وأصلح مساجد عدة ، وفعل خيراً ، نفعه الله .
شعره
من شعره ما كتب به إلى الشيخ أبي يحيى بن أبي عمران وزير الخلافة ، وهو بحال شكاية أصابته :
شكوت فأضنى المجد برح شكاته . . . وفارق وجه الشمس حسن آياته
وعادت بعديك الزمان زمانة . . . تعدت إلى عواد وأساته
وغيض ما للبشر لما تبسطت . . . يد للسقم في ساحات كافي كفاته
فكيف بمقصوص وصلت جناحه . . . وأدهم قد سربلته بشاته
وممتحن لولاك أذعن خبرة . . . وهان على الأيام غمز قناته
أمعلق آمالي ومطمح همتي . . . وواهب نفسي في عداد مباته
سأستقبل النعمى ببرك غضة . . . ويصغر ذنب الدهر في حسناته
وتسطو عين الحق منك بمرهف . . . تراع الخطوب الجور من فتكاته
وتطلع في أفق الخلافة نيراً . . . تطالعنا الأقمار من قسماته
حرام على الشكوى اعتياد مطهر . . . حياة الدنا والدين طي حياته
فما عرضت في قصده بمساءة . . . ولكن ترجت أن ترى في عفاته(3/160)
"""""" صفحة رقم 161 """"""
مشيخته
قال الغافقي ، قرأ بمالقة على الأستاذ أبي زيد السهيلي رحمه الله .
وتوفي بغرناطة سنة سبع وستماية ودفن بداره بجهة قنطرة القاضي منها على ضفة الوادي .
محمد بن عبد الملك بن سعيد بن خلف بن سعيد بن الحسن بن عثمان ابن محمد بن عبد الله بن سعيد بن عمار بن ياسر
أوليته
قد وقع التنبيه عليها ويقع بحول الله .
حاله
كان وزيراً جليلاً بعيد الصيت عالي الذكر رفيع الهمة ، كثير الأمل .
نباهته
ذكره ابن صاحب الصلاة في تاريخه في الموحدين ، فنبه على مكانة محمد بن عبد الملك منهم في الرأي والحظوة ، والأخذ عنه في أمور الأندلس ، وأثنى عليه . وذكره أبو زيد السهيلي في شرح السيرة الكريمة ، حتى انتهى إلى حديث كتاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، الموجه إلى هرقل ، وأن محمد بن عبد الملك عاينه عند أذفونش ، مكرماً ، مفتخراً به . والقضية مشهورة . وأما محله من أمداح الشعراء ، فهو الذي مدحه الأديب أبو عبد الله الرصافي بقوله :
أبداً تفيض وخاطراً متوقداً . . . دعها تبت قبساً على علم الندا
وفيه يقول أبو عبد الله بن شرف من قصيدة :
يا رحمة الله للراجي ونقمته . . . لكل باغ طغا عن خيرة الرسل(3/161)
"""""" صفحة رقم 162 """"""
لم تبق منهم كفوراً دون مرقبة . . . مطالعاً منك حتفاً غير منفصل
كما بزاتك لم تترك بأرضهم . . . وحشا يفر ولا طيرا بلا وجل
وكان كثير الصيد ، ومتردد الغارات .
مناقبه في الدين
قالوا لما أنشده أبو عبد الله الرصافي في القصيدة التي مطلعها :
لمحلك الترفيع والتعظيم . . . ولوجهك التقديس والتكريم
حلف ألا يسمعها ، وقال على جايزتك ، لكن طباعي لا تحتمل مثل هذا ، فقال الرصافي ، ومن مثلك ، ومن يستحق ذلك في الوقت غيرك ، فقال له ، دعني من خداعك أنا وما أعلمه عن نفسي .
شعره
أنشده صاحب الطالع ، ولا يذكر له غيره :
فلا تظهرن ما كان في الصدر كامناً . . . ولا تركبن بالغيظ في مركب وعر
ولا تبحثن في عذر من جاء تايباً . . . فليس كريماً من يباحث في عذر
وولي من الأعمال للموحدين كثيراً ، كمختص حضرة مراكش ، ودار السلاح ، وسلا ، وإشبيلية ، وغرناطة ، واتصلت ولايته على أعمال غرناطة ، وكان من شيوخها وأعيانها .
محنته وعمل فيه عقد بأن بداره من أصناف الحلي ، ما لا يكون إلا عند الملوك ، وأنه إذا ركب في صلاة الصبح ، من دار الرخام التي يجري الماء فيها ، في إثنى عشر مكاناً ، شوش الناس في الصلاة ، دوي الجلاجل بالبزاة ، ومناداة الصيادين ، ونباح الكلاب ، فأمر المنصور بالقبض عليه ، وعلى ابن عمه صاحب أعمال إفريقية أبي الحسين ، في سنة ثلاث وسبعين وخمسماية . ثم رضي عنهما ، وأمر محمد بن عبد الملك أن يكتب بخطه كل ما أخذ له ، فصرفه عليه ، ولم ينقصه منه شيء ، وغرم ما فات له .(3/162)
"""""" صفحة رقم 163 """"""
ولد سنة أربع عشر وخمسماية ، وتوفي بغرناطة سنة تسع وثمانين وخمسماية .
محمد بن سعيد بن خلف بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن الحسن ابن عثمان العنسي
ابن عثمان بن محمد بن عبد الله بن عمار بن ياسر العنسي يكنى أبا بكر ، وقد تقدم التعريف بأوليته .
حاله
قال في الطالع ساد في دولة الملثمين ، وولوه بغرناطة الأعمال ، وكانت له دار الرخام المشهورة بإزاء الجامع الأعظم بغرناطة . قال الغافقي فيه : شيخ جليل ، فقيه نبيه من أهل قلعة يحصب . كان في عداد الفقهاء ، ثم نزع إلى العمل ، وولي إشراف غرناطة في إمارة أبي سعيد الميمون بن بدر اللمتوني . وقال صاحب المسهب وحسب القلعة كون هذا الفضل الكامل منها ، وقد رقم برد مجده بالأدب ، ونال منه بالاجتهاد والسجية القابلة ، أعلى سبب ، وله من المكارم ما يغير في وجه كعب وحاتم ، لذلك ما قصدته الأدباء ، وتهافتت في مدحه الشعراء ، وفيه أقول :
وكان أبو بكر من الكفر عصمة . . . ورد به الله الغواة إلى الحق
وقام بأمر الله حافظ أهله . . . بلين وسبط في المبرة والخلق
وهذا أبو بكر سليل ابن ياسر . . . بغرناطة ناغاه في الرأي والصدق
فهذا لنا بالغرب يجنى معالماً . . . تباهى الذي أحيا الديانة بالشرق
وقد جرى من ذكره عند ذكر أبي بكر بن قزمان ، ويجري عند ذكر نزهون بنت القلاعي ما فيه كفاية ، إذ كان مفتوناً بها ، وبحمدة وزينب بنتي زياد المؤدب من أهل وادي آش ، وفيهما يقول :
ما بين زينب عمري . . . أحث كأسي وحمده(3/163)
"""""" صفحة رقم 164 """"""
وكل نظم ونثر . . . وحكمة مستجده
وليس إلا عفاف . . . يبلغ المرء قصده
ولذلك ما سعى به المخزومي الأعمى ، وقد سها عن رسم تفقده ، فكتب إلى علي بن يوسف في شأنه بما كان سبب عزله ونكبته :
إليك أمير المؤمنين نصيحة . . . يجوز بها البحر المجعجع شاعر
بغرناطة وليت في الناس عاملاً . . . ولكن بما تحويه منه المآزر
وأنت ما تخفي عليك خفية . . . فسل أهلها فالأمر للناس ظاهر
وما لإلآه العرش تفنيه حمدة . . . وزينب والكأس الذي هو داير
شعره : من ذلك قوله :
يا هذه لا ترومي . . . خداع من ضاق ذرعه
تبكي وقد قتلتيني . . . كالسيف يقطر دمعه
وقال عفى الله عنه :
لقد صدعت قلبي حمامة أيكة . . . أثارت غراماً ما أجل وأكرما
ورق نسيم الريح من نحو أرضكم . . . ولطف حتى كاد أن يتكلما
وقال في مذهب الفخر :
فخرنا بالحديث بعد القديم . . . من معال توارثت كالنجوم
نحن في الحرب أجبل راسيات . . . ولنا في الندى لطف النسيم
ولد في سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة ، وتوفي سنة تسع وثلاثين وخمسماية .
ومن الطارئين في هذا الاسم من العمال
محمد بن أحمد بن المتأهل العبدري
من أهل وادي آش ، يكنى أبا عبد الله .(3/164)
"""""" صفحة رقم 165 """"""
حاله
كان رجلاً شديد الأدمة ، أعين ، كث اللحية ، طرفاً في الأمانة ، شديد الاسترابة بجليسه ، مخيناً لرفيقه ، سيئ الظن بصديقه ، قليل المداخلة ، كثير الانقباض ، مختصر الملبس والمطعم ، عظيم المحافظة على النفير والقطمير ، مستوعب للحصر والتقييد ، أسير محيي وعابد زمام ، وجنيب أمانة ، وحلس سقيفة ، ورقيب مشرف ، لا يقبل هوادة ، ولا يلابس رشوة ، كثير الالتفات ، متفقداً للآلة ، متمماً للعمل . جرى ذكره في بعض الموضوعات الأدبية بسبب شعر خامل نسب إليه بما نصه : رجل غليظ الحاشية معدود في جنس السايمة والماشية ، تليت على العمال به سورة الغاشية ، ولي الأشغال السلطانية ، فذعرت الجباة لولايته ، وأيقنوا بقيام قيامتهم لطلوع آيته ، وقنطوا كل القنوط ، وقالوا جاءت الدابة تكلمنا ، وهي إحدى الشروط ، من رجل صايم الحسوة ، بعيد عن المصانعة والرشوة ، يتجنب الناس ، ويقول عند المخالطة لهم لا مساس ، عهدي به في الأعمال يخبط ويتبر ، وهو يهلل ويكبر ، ويحسن ويقبح ، وهو يسبح ، انتهى . قلت ، وولي الأشغال السلطانية ، فضم النشر ، وأوصد باب الحيلة ، وبث أسباب الضياع ، وترصد ليلاً وأصيب بجراحة أخطأته ، ثم عاجلته الوفاة ، فنفس عن أقتاله المخنق .
شعره : قال يخاطب بعض أثراء الدولة قبل نباهته :
عمادي ملاذي مويلي ومؤملي . . . ألا انعم بما ترضاه للمتأهل
وحقق بنيل القصد منك رجاءه . . . على نحو ما يرضيك يا ذا التفضل
فأنت الذي في العلم يعرف قدره . . . بخير زمان منه لا زلت فيه تعتل
فهنيت يا مغنى الكمال برتبة . . . تقر لكم بالسبق في كل محفل(3/165)
"""""" صفحة رقم 166 """"""
وفاته
توفي عام ثلاثة وأربعين بغرناطة أو قبل ذلك بيسير ، وله خط حسن ، وممارسة في الطلب ، وقد توسط المعترك .
محمد بن محمد بن محمد بن عبد الواحد البلوي
من أهل ألمرية ، يكنى أبا بكر .
أوليته
من كتاب المؤتمن قال ، يشهر بنسبه وأصل سلفه من جهة بيرة إما من بجانة ، وإما من البريج ، واستوعب سبب انتقالهم .
حاله
من عايد الصلة ، كان أحد الشيوخ من طبقته ، وصدر الوزراء من نمطه ببلده ، سراوة وسماحة ، ومبرة وأدباً ولوذعية ودعابة ، رافع راية الانطباع ، وحايز قصب السبق في ميدان التخلق ، مبذول البر ، شايع المشاركة .
وقال في المؤتمن ، كان رجلاً عاقلاً ، عارفاً بأقوال الناس ، حافظاً لمراتبهم ، منزلاً لهم منازلهم ، ساعياً في حوايجهم ، لا يصدرون عنه إلا عن رضى بجميل مداراته . التفت إلى نفسه ، فلم ينس نصيبه من الذل ، ولا أغفل من كان يالفه في المنزل الخشن ، واصلاً لرحمه ، حاملاً لوطأة من يجفوه منهم ، في ماله حظ للمساكين ، وفي جاهه رفد للمضطرين ، شيخاً ذكي المجالسة ، تستطيب معاملته ، على يقين أنه يخفى خلاف ما يظهر ، من الرجال الذين يصلحون الدنيا ، ولا يعلق بهم أهل الآخرة ، لعروه عن النخوة والبطر ، رحمه الله . تكررت له الولاية بالديوان غير ما مرة ، وورد على غرناطة ، وافداً ومادحاً ومعزياً .
مشيخته وما صدر منه
قرأ على ابن عبد النور ، وتأدب به ، وتلا على القاضي أبي علي بن أبي الأحوص أيام قضايه ببسطة ، ونظم رجزاً في الفرائض .(3/166)
"""""" صفحة رقم 167 """"""
شعره
قال الشيخ في المؤتمن ، كانت له مشاركة في نظم الشعر الوسط ، وكان شعر تلك الحلبة الآخذة عن ابن عبد النور ، كأنه مصوغ من شعره شيخهم المذكور ، ومحذو عليه ، في ضعف المعاني ، ومهنة الألفاظ . تنظر إلى شعره ، وشعر عبد الله بن الصايغ ، وشعر ابن شعبة ، وابن رشيد ، وابن عبيد ، فتقول ذرية بعضها من بعض .
فمن ذلك ما نظمه في ليلة سماع واجتماع بسبب قدوم أخيه أبي الحسن من الحجاز :
إلهي أجرني إنني لك تايب . . . وإني من ذنبي إليك لهارب
عصيتك جهلاً ثم جئتك نادماً . . . مقراً وقد سدت علي المذاهب
مضى زمن بي في البطالة لاهياً . . . شبابي قد ولى وعمري ذاهب
فخذ بيدي واقبل بفضلك توبتي . . . وحقق رجائي في الذي أنا راغب
أخاف على نفسي ذنوباً جنيتها . . . وحاشاك أن أشقى وأنت المحاسب
وإني لأخشى في القيامة موقفاً . . . ويوماً عظيماً أنت فيه المطالب
وقد وضع الميزان بالقسط حاكما . . . وجاء شهيد عند ذاك وكاتب
وطاشت عقول الخلق واشتد خوفهم وفر عن الإنسان خل وصاحب
فما ثم من يرجى سواك تفضلاً . . . وإن الذي يرجو سواك لخايب
ومن ذا الذي يعطي إذا أنت لم تجد . . . ومن هو ذو منع إذا أنت واهب
عبيدك يا مولاي يدعوك رغبة . . . وما زلت غفاراً لمن هو تايب دعوتك مضطراً وعفوك واسع . . . فأنت المجازي لي وأنت المعاقب
فهب لي من رحماك ما قد رجوته . . . وبالجود يا مولاي ترجي المواهب
توسلت بالمختار من آل هاشم . . . ومن نحوه قصداً تحث الركايب
شفيع الورى يوم القيامة جاهه . . . ومنقذ من في النار والحق واجب
ومما بلغ فيه أقصى مبالغ الإجادة ، قوله من قصيدة هنا فيها سلطاننا أبا الحجاج بن نصر ، لما وفد وهو وجملة أعيان البلاد أولها :
يهني الخلافة فتحت لك بابها . . . فادخل على اسم الله يمنا غابها(3/167)
"""""" صفحة رقم 168 """"""
منها وهو بديع ، استظرف يومئذ :
يا يوسفياً باسمه وبوجهه اصعد لمنبرها وصن محرابها
في الأرض مكنك الإله كيوسف . . . ولتملكن بربها أربابها
بلغت بكم آرابها من بعد ما . . . قالت لذلك نسوة ما رابها
كانت تراود كفوها حتى إذا . . . ظفرت بيوسف غلقت أبوابها
قلت ، ما ذكره المؤلف ابن الخطيب رحمه الله ، في هذا المترجم به ، من أنه ينظم الشعر الوسط ، ظهر خلافه ، إذا أثبت له هذه المقطوعة الأخيرة . ولقد أبدع فيها وأتى بأقصى مبالغ الإجادة كما قال ، وحاز بها نمطاً أعلى مما وصفه به . وأما القصيدة الأولى فلا خفاء أنها سهلة المأخذ ، قريبة المنزع ، بعيدة من الجزالة ، ولعل ذلك كان مقصوداً من ناظمها رحمه الله .
توفي ببلده عن سن عالية في شهر ربيع الآخر عام ثمانية وثلاثين وسبعماية .
ورثاه شيخنا أبو بكر بن شبرين رحمه الله بقوله :
يا عين سحي بدمع واكف سرب . . . لحامل الفضل والأخلاق والأدب
بكيت إذ ذكرت الموتى على رجل . . . إلى بلى من الأحياء منتسب
على الفقيه أبي بكر تضمنه رمس وأعمل سيرا ثم لم يؤب
قد كان بي منه ود طاب مشرعه . . . ما كان عن رغب كلاً ولا رهب
لكن ولا على الرحمن محتسباً . . . في طاعة الله لم يمذق ولم يشب
فاليوم أصبح في الأجداث مرتهنا . . . ما ضرت الري أملودا من الغضب
إنا إلى الله من فقد الأحبة ما . . . أشد لذعاً لقلب الثاكل الوصب
قل فيه أما تصف ركناً لمنتبذ . . . روض لمنتجع أنس لمغترب
باق على العهد لا تثنيه ثانية . . . عن المكارم في ورد ولا قرب
سهل الخليقة بادي البشر منبسط . . . يلقى الغريب بوجه الوالد الحدب(3/168)
"""""" صفحة رقم 169 """"""
كم غير الدهر من حال فقلبها . . . وحال إخلاصه ممتدة الطنب
سامي المكانة معروف تقدمه . . . وقدره في ذوي الأقدار والرتب
أكرم به من سجايا كان يحملها . . . وكلها حسن تنبيك عن حسب
ما كان إلا من الناس الإلى درجوا عقلاً وحلماً وجوداً هامى السحب
أمسى ضجيع الثرى في جنب . . . بلقعة لكن محامده تبقى على الحقب
ليست صبابة نفسي بعده عجباً . . . وإنما صبرها من أعجب العجب
أجاب دمعي إذ نادى النعي به . . . لو غير منعاه نادى الدمع لم يجب
ما أغفل المرء عما قد أريد به . . . في كل يوم تناديه الردى اقترب
يا ويح نفسي الأنفاس مضت هدراً بين البطالة والتسويف واللعب
ظننت أني بالأيام ذو هزء . . . غلطت بل كانت الأيام تهزأ بي
أشكو إلى الله فقرى من معاملة . . . لله أنجو بها في موقف العطب
ما المال إلا من الله قوى فأفلح . . . من جاء القيامة ذا مال وذا نشب
أبا بكر الأرضي نداء أخ باك . . . عليك مدى الأيام مكتئب
أهلاً بقدمتك الميمون ظاهرها . . . على محل الرضى والسهل والرحب
نم في الكرامة فالأسباب وافرة . . . وربما نيلت الحسنى بلا سبب
لله لله والآجال قاطعة ما . . . بيننا من خطابات ومن خطب
ومن فرايد آداب يحبرها . . . فيودع الشهب أفلاكاً من الكتب
أما الحياة فقد مليت مدتها . . . فعوض الله منها خير منقلب لولا قواطع لي أشراكها نصبت . . . لزرت قبرك لا أشكو من النصب
وقل ما شفيت نفس بزورة . . . من حل البقيع ولكن جهد ذي أرب
يا نخبة ضمها ترب ولا عجب . . . إن التراب قديماً مدفن النخب
كيف السبيل إلى اللقيا وقد ضربوا . . . بيني وبينك ما بقي من الحجب
عليك مني سلام الله يتبعه . . . حسن الثنا وما حييت من كثب(3/169)
"""""" صفحة رقم 170 """"""
محمد بن محمد بن شعبة الغساني
من أهل ألمرية ، يكنى أبا عبد الله .
حاله
قال شيخنا أبو البركات في الكتاب المؤتمن ، من أهل ألمرية ووجوهها لا حظ له في الأدب ، وبضاعته في الطلب مزجاة . قطع عمره في الأشغال المخزنية ، وهو على ذلك حتى الآن . قلت هذا الرجل أحد فرسان الطريقة العملية ، ماض على لين ، متحرك في سكون ، كاسد سوق المروءة ، ضان بما يملك من جدة ، منحط في هوة اللذة ، غير معرج على ربع الهمة ، لطيف التأني ، متنزل في المعاملة ، دمث الأخلاق ، مليح العمل ، صحيح الحساب ، منجب الولد .
مشيخته : قرأ على ابن عبد النور ، والقدر الذي يحس به عنه أخذه .
شعره : من شعره يخاطب أبا الحسن بن كماشة :
وافى البشير فوافى الأنس والجذل . . . وأقبل السعد والتوفيق والأمل
وراقت الأرض حسناً زاهراً وسنى . . . واخضرت منها الربى والسهل والجبل
ولاح وجه على بعد ذا فغدا . . . له شعاع كضوء الشمس متصل
مذ غاب أظلمت الدنيا لنا بغرته . . . عاد الظلام ضياء وانتفى الخبل
إيه أبا حسن أنت الرجاء لنا . . . مهمى اعترت شدة أو ضاقت الحيل
وأنت كهف منيع من نحاك فقد . . . نال المنى وبدا عيش له خضل
يا سيداً قد غدا في المجد ذا رتب . . . مشيدة قد بنتها السادة الأول
بنو كماشة أهل الفضل قد شهروا . . . باهت بهم في قديم الأعصر الدول
السالكون هدى السابقون مدى . . . والباذلون ندى والناس قد بخل
أنت الأخير زماناً والقديم علاً . . . والسيد المرتجى والفارس البطل
إن كنت جئت أخيراً فلقد . . . أضحى بجود يديك يضرب المثل
حزت المآثر لا تحصى لكثرتها . . . من رام إحصاءها سدت له السبل
جزت البدور سنى والفرقدين علا . . . وأنت تجر الندى والوابل الهطل(3/170)
"""""" صفحة رقم 171 """"""
من جاء يطلب منك السلم قابله . . . وجه طليق ولفظ كله عسل
ومن يرد غير ذا تباً له وردى . . . لقد ترفع في برج له زحل
هناك ربك ما أولاك من نعم . . . وعشت في عزة تترى وتتصل
ولا عدمت مدى الأيام منزلة . . . من دونها رفعة في الأبرج الحمل
وخذه بعد سلاماً عاطراً أرجاً . . . يدوم ما دامت الأسحار والأصل
من خادم لعلاكم مخلص لكم . . . من حبكم لا يرى ما عاش ينتقل
تقبيل كفك أعلى ما يؤمله . . . فجد به فشفا الهايم القبل
وفاته ، في أول عام أربعة وستين وسبعماية .
محمد بن محمد بن العراقي
وادي آش ، يكنى أبا عبد الله .
حاله
فاضل الأبوة ، معروف الصون والعفة ، بادي الاستقامة ، دمث الأخلاق ، حسن الأدوات ، ينظم وينثر ، ويجيد الخط ، تولى أعمالاً نبيهة ، ثم علقت به الحرفة ، فلقي ضغطاً ، وفقد نشباً ، واضطر إلى التحول عن وطنه إلى بر العدوة عام ستة وخمسين وسبع ماية ، وتعرف لهذا العهد أنه تولى الأشغال بقسنطينة الهواء من عمل إفريقية .
شعره
كتب إلي وقد أبي عملاً عرض عليه :
أأصمت أنفاً ثم أنطق بالخلف . . . وأفقد ألفاً ثم آنس بالجلف
وأمسك دهري ثم أنطلق علقماً . . . ويمحق بدري ثم ألحق بالخسف
وعزكم لا كنت بالذل عاملاً . . . ولو أن ضعفي ينتمي إلى حتف(3/171)
"""""" صفحة رقم 172 """"""
فإن تعملونى في تصرف عزة وعدل وإلا فاحسموا علة الصرف
بقيت وسحب العطف منكم . . . تظلني وعطف ثناتي دائماً ثاني العطف
محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن فرتون الأنصاري
من أهل مالقة ، يكنى أبا القاسم ويعرف بالهنا
أوليته
ينسب إلى القاضي ببطليوس ، قاضي القضاة رحمه الله . وبمالقة دور تنسب إلى سلفه تدل على نباهة ، وقد قيل غير ذلك . والنص الجلي أولى من القياس .
حاله
من عايد الصلة : الشيخ الحاج المحدث صاحب الأشغال بالدار السلطانية . صدر نمطه ، وفريد فنه ، رجولة وجزالة واضطلاعاً وإدراكاً وتجلداً وصبراً . نشأ بمالقة ، معدوداً في أهل الطلب والخصوصية ، ورحل إلى الحجاز الشريف في فتايه ، فاستكثر من الرواية ، وأخذ عن أكابر من أهل المشرق والمغرب ، حسبما يشهد بذلك برنامجه .
وكان على سنن من السرو والحشمة ، فذا في الكفاية ، جرياً مقداماً مهيباً ، ظريف الشارة ، فاره المركب ، مليح الشيبة ، حسن الحديث ، وقاد الذهن ، صابراً على الوظايف ، يخلط الخوض في الأمور الدنيوية ، بعبادة باهظة ، وأوراد ثقيلة ، ويجمع ضحك الفاتك ، وبكاء الناسك ، في حالة واحدة ، هشاً ، مفرط الحدة ، يثرد عليه مجل لسانه في المجالس السلطانية بما تعروه المندمة بسببه ، قايماً على حفظ القرآن وتجويده وتلاوته ، ذا خصال حميدة ، صناع اليد ، مقتدراً على العمليات من نسخ ومقابلة وحساب ، معدودا من صدور الوقت وأعلام القطر ، ورجال الكمال .
مشيخته
أخذ عن الجلة من أهل بلده كالأستاذ أبي محمد بن أبي السداد الباهلي ، لازمه وانتفع به ، والخطيب أبي عثمان بن عيسى أخذ عنه ، والولي أبي عبد الله الطنجالي ، وغيرهم مما يطول ذكرهم من العدوة والأندلس والمشارقة .(3/172)
"""""" صفحة رقم 173 """"""
محنته
لقي نصباً في الخدمة السلطانية ، وغضاً من الدهر لبأوه ، بتعنته وعدم مبالاته مرات ، ضيق لها سجنه ، وعرض عليه النكال ، ونيل منه بالإهانة كل منال ، وأغرم مالا أجحف بمحتجنه ، وعرض للأيدي نفايس كتبه ، وعلى ذلك فلم يذعر سربه ، ولا أضعفت النكبة جاشه .
ولد عام ثلاثة وسبعين وستماية . ومات ميتة حسنة . صلى الجمعة ظهراً ، وقد لزم الفراش ، ونفث دم الطاعون ، ومات مستقبل القبلة ، على أتم وجوه التأهب ، سابع شوال من عام خمسين وسبعماية .
محمد بن عبد الله بن محمد بن مقاتل
من أهل مالقة ، يكنى أبا القاسم ، أزدي النسب ، إشبيلي الأصل ، من بيت نزاهة ونباهة .
حاله
كان فاضلاً وقوراً سمحاً ، مليح الدعابة ، عذب الفكاهة ، حلو النادرة ، يكتب ويشعر ، طرفاً في الانطباع واللوذعية ، آية في خلط الجد بالهزل . ولي الإشراف بمدينة مالقة ، وتقلب في الشهادة المخزنية عمره .
شعره
من شعره يخاطب ذا الوزارتين أبا عبد الله بن الحكيم رحمه الله :
فؤادي من خطب الزمان سقيم . . . وفيه لسهم الحادثات كلوم
ولم أشك دايي في البرية لامرئ . . . أأشكو به وابن الحكيم حكيم
توفي بمالقة يوم الخميس عاشر شهر رمضان من عام تسعة وثلاثين وسبعماية .
محمد بن علي بن عبد ربه التجيبي
من أهل مالقة ، يكنى أبا عمرو
حاله
كان راوية ثقة ، بارع الأدب ، بليغ الكتابة ، طيب النفس ، كامل المروءة ، حسن الخلق ، جميل العشرة ، تلبس بالأعمال السلطانية دهراً ، وولي إشراف غرناطة وغيرها ، إلى أن قعد لشكاية منعته من القيام والتصرف فعكف على النظر ، فانتفع به .
مشيخته
كانت له رحلة سمع فيها بالأسكندرية على أبي عبد الله بن منصور وغيره ، وروى عنه الأخوان سالم وعبد الرحمن ابنا صالح بن سالم .(3/173)
"""""" صفحة رقم 174 """"""
تواليفه
له اختصار حسن في أغاني الإصبهاني ، ورد جيد على ابن غرسية في رسالته الشعوبية لم يقصر فيها عن إجادة .
وتوفي لسبع خلون من محرم من عام اثنين وستماية .
الزهاد والصلحاء والصوفية والفقراء وأولا الأصليون
م
حمد بن إبراهيم بن محمد بن محمد الأنصاري
من أهل غرناطة ، يكنى أبا عبد اله ويعرف بالصناع .
حاله من عايد الصلة : الشيخ الصوفي ، الكثير الأتباع ، الفذ الطريقة المجبب إلى أهل الثغور من البادية . كان رحمه الله شيخاً حسن السمت ، كثير الذكر والمداومة ، يقود من المخشوشنين عدد ربيعة ومضر ، يعمل الرحلة إلى حصونهم ، فيتألفون عليه ، تألف النحل على أمرايها ويعاسيبها ، معلنين بالذكر ، مهرولين ، يغشون مثواه ، بأقواتهم على حالها ، ويتناغون في التماس القرب منه ، ويباشرون العمل في فلاحة كانت له بما يعود عليه بوفر وإعانة . وكان من الصالحين ، وعلى سنن الخيار الفضلاء من المسلمين ، وله حظ من الطلب ومشاركة ، يقوم على ما يحتاد إليه من وظائف دينه ، ويتكلم في طريق المتصوفة على مذهب أبي عبد الله الساحلي شيخه ، كلاماً جهورياً ، قريب الغمر . وكان له طمع في صناعة الكيمياء تهافت على دفاتيرها ، وأهل متحليها ، ليستعين بها بزعم على آماله الخيرية ، فلم يحل بطايل .
مشيخته
قرأ على أستاذ الجماعة أبي جعفر بن الزبير ، وكانت له في حاله فراسة . حدثني بذلك شيخنا أبو عبد الله بن عبد الولي رحمه الله . وسلك على الشيخ الصالح أبي عبد الله الساحلي .
وتوفي ليلة الاثنين السابع من شهر شوال عام تسعة وأربعين وسبعماية ، وكانت جنازته آخذة في الاحتفال ، قدم لها العهد ، ونفر لها الناس من كل أوب ، وجيء بسريره ، تلوح عليه العناية ، وتحفه الأتباع المقتاتون من حل أموالهم وأيديهم من شيوخ البادية ، فتولوا مواراته ، تعلو الأصوات حوله ، ببعض أذكاره .(3/174)
"""""" صفحة رقم 175 """"""
محمد بن أحمد الأنصاري
من أهل غرناطة ، يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بالمواق .
حاله
كان معلماً لكتاب الله تعإلى ، خطيباً بمسجد ربض الفخارين ، طرفاً في الخير ولين العريكة ، والسذاجة المشفوعة بالاختصار ، وإيثار الخمول ، مستقيماً في طريقته ، خافتاً في خطبته ، عاكفاً على وظيفته ، مقصوداً بالتماس الدعاء ، مظنة الصلاح والبركة .
توفي بغرناطة قبل سنة خمسين وسبعماية بيسير ، وكلف الناس بقبره بعد موته ، فأولوا حجارته من التعظيم ، وجلب أواني المياه للمداواة ، ما لم يولوه معشاره أيام حياته .
محمد بن حسنون الحميري
من أهل غرناطة ، يكنى أبا عبد الله
حاله
كان فاضلاً صالحاً ، مشهور الولاية والكرامة ، يقصده الناس في الشدايد ، فيسألون بركة دعايه . ومن إملاء الشيخ أبي بكر بن عتيق بن مقدم ، قال ، أصله من بياسة ، وكان عمه من المقربين المحدثين بها ، وسكن هو مرسية ، ونشأ بها ، وقرأ على أشياخها ، وحفظ كتاب التحبير في علم أسماء الله الحسنى للإمام أبي القاسم القشيري ، ثم انتقل إلى غرناطة ، فسكن فيها بالقصبة القديمة ، وأم الناس في المسجد المنسوب إليه الآن . وكان يعمل بيده في الحلفا ، ويتقوت من ذلك .
توفي عام خمسة وسبعماية بغرناطة ، وهو من عدد الزهاد .
ومن مناقبه ، ذكروا أنه سمع يوماً بعض الصبيان يقول لصبي آخر مر للحبس ، فقال أنا المخاطب بهذا ، فانصرف إلى السجن ، فدخله ، وقعد مع أهله ، وبلغ ذلك السلطان ، فوجه وزيره ، فأخرجه ، وأخرج معه أهل السجن كلهم ، وكانت من كراماته .
محمد بن محمد بن البكري
من أهل غرناطة ، يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بابن الحاج(3/175)
"""""" صفحة رقم 176 """"""
كان رحمه الله شيخاً صالحاً ، جهورياً ، بعيداً عن المصانعة ، متساوي الظاهر والباطن ، مغلظاً لأهل الدنيا ، شديداً عليهم ، غير مبال في الله بغيره ، يلبس خرقة الصوفية من غير التزامن لاصطلاح ، ولا منقاد لرقو ، ولا مؤثر لسماع . مشاركاً للناس ، ناصحاً لهم ، ساعياً في حوايجهم . خدم الصالح الكبير أبا العباس بن مكنون ، وسلك به ، وكان من بيت القيادة والتجند ، فرفض زيه ، ولبس المسوح والأسمال . وكان ذا حظ من المعرفة ، يتكلم للناس . قال شيخنا أبو الحسن بن الجياب ، سمعته ينشد في بعض مجالسه :
يا غادياً في غفلة ورايحاً . . . إلى متى تستحسن القبايحا
وكم إلى كم لا تخاف موقفاً . . . يستنطق الله به الجوارحا
يا عجباً منك وأنت مبصر . . . كيف تجتنب الطريق الواضحا
كيف تكون حين تقرأ في غد . . . صحيفة قد مليت فضائحا
أم كيف ترضى أن تكون خاسراً . . . يوم يفوز من يكون رابحا ولما حاصر الطاغية مدينة ألمرية ، وأشرفت على التلف ، تبرع بالخروج منها ولحاقه بباب السلطان ، لبث حالها ، واستنفار المسلمين إلى نصرها ، فيسر له من ستر غرضه ، وتسهيل قصده ، ما يشهد بولايته .
توفي بألمرية محل سكناه ، في حدود عام خمسة عشر وسبعماية .
محمد بن محمد بن أحمد الأنصاري
غرناطي ، قيجاطي الأصل يعرف بالسواس .
قال في المؤتمن في حاله : رجل متطبب ، سهل الخلق ، حسن اللقاء . رحل من بلده ، وحج ، وفاوض بالمشرق الأطباء في طريقته ، وعاد فتصدر للطب ، ثم عاد إلى بلاد المشرق . قلت ، وعظم صيته ، وشهر فضله ، وقدم أمينا على أحباس(3/176)
"""""" صفحة رقم 177 """"""
مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة الطاهرة وصدقاته ، وذكر عنه أنه اضطره أمر إلى أن خصي نفسه ، وسقطت لذلك لحيته .
قال شيخنا أبو البركات ، أنشدنا بدكانه برحبة المسجد الأعظم ، من حضرة غرناطة ، قال أنشدنا أبو عبد الله المراكشي بالإسكندرية ، قال أنشدنا مالك بن المرحل لنفسه :
أرى الكلاب بشتم الناس قد ظلمت . . . والكلب أحفظ مخلوق لإحسان
فإن غضبت على شخص لتشتمه . . . فقل له أنت إنسان ابن إنسان
وفاته : كان حياً عام خمسين وسبعماية فيما أظن .
ومن الطارئين عليها في هذا الاسم
ابن جعفر القونجي محمد بن أحمد بن جعفر بن عبد الحق بن محمد بن جعفر بن محمد ابن أحمد بن مروان بن الحسن بن نصر بن نزار بن عمرو بن زيد بن عامر بن نصر بن حقاف السلمي
، يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بابن جعفر ، ويشهر في الأخير بالقونجي ، منسوباً إلى قرية بالإقليم ، وكان من أهل غرناطة .
حاله
من خط شيخنا أبي البركات بن الحاج : كان هذا الرجل ، رجلاً صالحاً فاضلا متخلقاً ، سمحاً ، جميل اللقاء على قدم الإيثار على رقة حاله ، ممن وضع الله له القبول في قلوب عباده ، فكانت الخاصة تبره ولا تنتقده ، والعامة توده وتعتقده ، وتترادف على زيارته ، فئة بعد فئة ، فلا تنقلب عنه إلا راضية ، وكان جارياً على طريقة الشيخ أبي الحسن الشاذلي إذ كان قد لقي بالمشرق الشيخ الإمام تاج الدين بن عطاء الله ، ولازمه وانتفع به ، كما لقي ولازم تاج الدين أبا العباس المرسي ، كما لازم أبو العباس أبا الحسن الشاذلي . قال : ولقيه بعد هذا الشيخ أبي عبد الله جماعات في أقطار شتى ، ينسبون إليه ، ويجرون من ملازمته الأذكار في أوقات معينة على طريقته ، وله رسايل منه إليهم طوال وقصار ، يوصيهم فيها بمكارم الأخلاق ، وملازمة الوظايف ، وخرج عنه إليهم على طريقة التدوين ، كتاب سماه بالأنوار في المخاطبات والأسرار مضمنه جملة من كلام شيخهم تاج الدين ،(3/177)
"""""" صفحة رقم 178 """"""
وكلام أبي الحسن الشاذلي ، ومخاطبات خوطب بها في سره ، وكلام صاحبه أبي بكر الرندي ، وحقايق الطريق ، وبعض كرامات غير من ذكر من الأولياء ، وذكر الموت ، وبعض فضايل القرآن .
مشيخته
قرأ على الأستاذ أبي الحسن البلوطي وأجازه ، وعلى أبي الحسن بن فضيلة وأجازه كذلك ، وعلى أبي جعفر بن الزبير وأجازه ، ثم رحل فحج ودخل الشام ، وعاش مدة من حراسة البساتين ، واعتنى بلقاء المعروفين بالزهد والعبادة ، وكان ملياً بأخبار من لقي منهم ، فمنهم الشيخ أبو الفضل تاج الدين بن عطاء الله ، وصاحبه أبو بكر بن محمد الرندي .
مناقبه
قال ، دخلت معه إلى من خف على قلبي الوصول إلى منزله لما قدم ألمرية ، وهو رجل يعرف بالحاج رحيب ، كان من أهل العافية ، ورقت حاله ، ولم يكن ذلك يظهر عليه ، لمحافظته على ستر ذلك لعلو همته ، ولم يكن أيضاً أثر ذلك يظهر على منزله ، بل أثاث العافية باق فيه من فرش وماعون . فساعة وصول هذا الشيخ ، قال الله يجبر حالك ، فحسبتها فراسة من هذا الشيخ . قال ، وخاطبته عند لقائي إياه بهذه الأبيات :
أشكو إليك بقلب لست أملكه . . . ما لم يرد من سبيل فهو يسلكه
له تعاقب أهواء فيقلقه . . . هذا ويأخذه هذا ويتركه
طوراً يؤمنه طورا يخوفه . . . طورا ييقنه طورا يشككه
حيناً يوحشه حينا يونسه . . . حينا يسكنه حينا يحركه
عسى الذي يمسك السبع الطباق . . . على يديك يا مطلع الأنوار يمسكه
فيه سقام من الدنيا وزخرفها . . . مهمى أبيضه بالذكر تشركه عسى الذي شانه الستر الجميل كما . . . غطى عليه زماناً ليس يهتكه
فلم قرأ منها ، فيه سقام من الدنيا وزخرفها ، قال هذه علتي .
مولده : سألته عنه فقال لي عام ثمانية وستين بقرية الجيط من قرى الإقليم وفاته : بقرية قنجة خطيباً بها ، يوم الاثنين عشرين من شهر شعبان المكرم عام خمسين وسبع ماية ، في الوباء العام ، ودفن بقرية قنجة ، رحمة الله عليه ورضوانه .(3/178)
"""""" صفحة رقم 179 """"""
محمد بن أحمد بن حسين بن يحيى بن الحسين بن محمد بن أحمد ابن صفوان القيسي
وبيته شهير بمالقة يكنى أبا الطاهر ، ويعرف بابن صفوان
حاله
كان مفتوحاً عليه في طريق القوم ، ملهماً لرموزهم ، مصنوعاً له في ذلك ، مع المحافظة على السنة ، والعمل بها . آخر الرعيل ، وكوكب السحر ، وفذلكة الحساب ببلده ، اقتداء وتخلقاً وخشوعاً وصلاحاً وعبادة ونصحاً . رحل فحج ، وقفل إلى بلده ، مؤثراً الاقتصار على ما لديه ، فإذا تكلم في شيء من تلك النحلة ، يأتي بالعجايب ، ويفك كل غامض من الإشارات . وعني بالجزء المنسوب إلى شيخ الإسلام أبي إسماعيل الروبي المسمى بمنازل الساري إلى الله فقام على تدريسه ، واضطلع بأعبايه ، وقيد عليه ما لا يدركه إلا أولوا العناية ، ولازمه الجملة من أولى الفضل والصلاح ، فانتفعوا به ، وكانوا في الناس قدوة . وولي الخطابة بالمسجد الجامع من الربض الشرقي ، وبه كان يقعد ، فيقصده الناس ، ويتبركون به ، وكان له مشاركة في الفقه ، وقيام على كتاب الله .
تواليفه
ألف بإشارة السلطان على عهده ، أمير المسلمين أبي الحجاج رحمه الله ، كتاباً في التصويف والكلام على اصطلاح القوم ، كتب عليه شيخنا أبو الحسن بن الجياب بظهره ، لما وقع عليه ، هذه الأبيات :
أيام مولاي الخليفة يوسف . . . جاءت بهذا العالم المتصوف
فكفى بما أسدى من الحكم التي . . . أبدين من سر الطريقة ما خف
وحقايق رفع الحجاب بهن عن . . . نور الجمال فلاح غير مكيف
كالشمس لاكن هذه أبدي سناً . . . للحسن والمعنى لعين المنصف
فيه حياة قلوبنا ودواؤهافمن استغاث بجرعة منها شف
إن ابن صفوان إمام هداية صافي فصوفي فهو صوفي صف
وإن اختبرت فإنه صفو ابن صفو . . . ظاهر في طيه صفو خف(3/179)
"""""" صفحة رقم 180 """"""
علم توارثه وحال قد خلت . . . ذوقاً فنعم المقتدى والمقتف
فليهنلى المولى سعود إيالة . . . فيها سراج نوره لا ينطف
جلى وجوه شريعة وحقيقة . . . صبحاً سناه باهر لا يختف
لا زلت تسلك كل نهج واضح . . . منها وتحيي كل سعي مزلف
ومن تواليفه جر الحر في التوحيد ، وعلق على الجزء المنسوب لأبي إسماعيل الهروي .
من أخذ عنه
أخذ عنه ببلده ، وتبرك به ، جلة ، وكان يحضر مجلسه عالم ، منهم شيخ الشيوخ الأعلام ، أبو القاسم الكسكلان ، وأبو الحسين الكواب ، والأستاذ الصالح أبو عبد الله القطان ، وصهره الأستاذ أبو عبد الله بن قوال والعاقد الناسك أبو الحسين الأحمر وغيرهم .
شعره
رأيت من الشعر المنسوب إليه ، وقد رواه عنه جماعة من أصحابنا ، يذيل قول أبي زيد رضي الله عنه :
رأيتك تدنيني إليك تباعدني . . . فأبعدت نفسي الابتغاء التقرب
فقال :
هويت بدمنى إليه فلم يكن بي . . . البعد بعدي فصح به قرب
فكان به سمعي كما بصري به . . . وكان به لأئ لساني مع القلب
فقربي به قرب بغير تباعد . . . وقربي في بعدي فلا شيء من قرب(3/180)
"""""" صفحة رقم 181 """"""
وفاته
سافر من بلده إلى غرناطة في بعض وجهاته إليها ، وذهب سحراً يرتاد ماء لوضويه . فتردى في حفرة تردياً أوهن قواه ، وذلك بخارج بلش ، فرد إلى مالقة ، فكانت بها وفاته قبل الفجر من ليلة يوم الجمعة الرابع عشر لشعبان عام تسعة وأربعين وسبعماية .
محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم الأنصاري
يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بالساحلي
حاله من عايد الصلة : المثل الساير في غمران أوقاته كلها بالعبادة ، وصبره على المجاهدة . قطع عمره في التبتل والتهجد لا يفتر لسانه عن ذكر الله ، والصلاة على نبيه ، ( صلى الله عليه وسلم ) . خرج عن متروك والده ، واقتصر على التمعش من حرفة الخيطاة . ثم تعداها إلى النسخ والتعليم ، وسلك على الشيخ أبي القاسم المريد ، نفع اله به ، حتى ظهرت عليه سيما الصالحين ، وأقام عمره مستوعباً ضروب الخير ، وأنواع القرب من صوم وإذان وذكر ، ونسخ وقراءة ، وملازمة خلوة . ذا حظ من الفصاحة . وجرأة على الوعظ ، في صوت جهير ، وعارضة صليبة . اقتدى به طوايف من أصناف الناس على تباعد الديار ، وألزمهم الأذكار ، وحولهم للسلوك ، فأصبح كثير الأتباع ، بعيد الصيت . وولي الخطابة بالمسجد الجامع من بلده ، ونقل إلى الخطابة ، بجامع غرناطة في نبوة عرضت له بسبب ذنابى ذرية طرقوا الكدر إلى سربه ، ثم عاد إلى بلده متين ظهر الحظوة ، وثيق أساس المبرة .
مشيخته
قرأ ببلده مالقة على الخطيب أبي محمد بن عبد العظيم بن الشيخ ، وأبي عبد الله بن لب ، وأبي جعفر الحرار ، وأبي عبد الله بن الحلو ، الخطيب أبي عبد الله بن الأعور .
محنته
ابتلى بعد السبعين من عمره بفقد بصره ، فظهر منه من الصبر والشكر والرضاء بقضاء الله ، ما يظهر من مثله . وأخبرني بعض أصحابه أنه كان يقول ، سألت الله أن يكف بصري خوفاً من الفتنة . وفي هذا الخبر نظر لمكان المعارضة في أمره ( صلى الله عليه وسلم ) بسؤال العافية ، والإمتاع بالإسماع والإبصار .(3/181)
"""""" صفحة رقم 182 """"""
شهرته
وجعل الله له في قلوب كثير من الخلق ، الملوك فمن دونهم ، من تعظيمه ما لا شيء فوقه ، حتى أن الشيخ المعمر الحجة الرحلة أبا علي ناصر الدين الوشدالي كتب إليه من بجاية بما نصه : يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر ، وجينا ببضاعة مزجاة ، فأوف لنا الكيل ، وتصدق علينا ، إن الله يجزي المتصدقين . وبعده : من العبد الأصغر والمحب الأكبر فلان ، إني سيد العارفين ، وإمام المحققين ، في ألفاظ تناسب هذا المعنى .
حدثني شيخنا أبو الحسن بن الجياب ، وكان من أعلام تلاميذه ، وصدور السالكين على يديه ، قال قصدت منه خلوة ، فقلت يا سيدي ، أصحابنا يزعمون أنك ترى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فاخبرني واشف صدري هل هذه الرؤيا عينية أو قلبية ، قال ، فأفكر ساعة ، ثم قال ، عندي شك في رؤية ابن الجياب الساعة ومحادثته ، فقلت لا ، فقال كذلك الحال ، قلت وهذا أمر غريب ، ولا يصح إلا رؤية القلب ، ولكن غلبت عليه حتى تخيل في الحس الصورة الكريمة ، إذ وجود جوهر واحد في محلين اثنين محال .
شعره
نظم الكثير من شعر منحط لا يصلح للكتب ولا للرواية ، ابتلى به رحمه الله ، فمن لبابه قوله ، وهو من الوسط :
إن كنت تأمل أن تنال وصالهم . . . فامح الهوى في القليل والأفعال
واصبر على مر الدواء فإنه . . . ياتيك بعد بخالص السلسال
تواليفه : ألف كتاباً سماه إعلان الحجة في بيان رسوم المحجة .
توفي يوم الجمعة الرابع والعشرين لشوال عام خمسة وثلاثين وسبعماية ، وكانت جنازته مشهودة ، تزاحم الناس على نعشه ، وتناولوه تمزيقاً على عادتهم من ارتكاب القحة الباردة في مسلاخ حسن الظن .
محمد بن أحمد بن قاسم الأمي
من أهل مالقة ، يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بالقطان ، الفقيه الأواب المتكلم المجتهد .
حاله من العايد : كان هذا الرجل غريب المنزع ، عجيب التصوف . قرأ وعقد الشروط ، وتصدر للعدالة ، ثم تجرد ، وصدق في معاملته لله ، وعول عليه ،(3/182)
"""""" صفحة رقم 183 """"""
واضطلع بشروط التوبة ، فتحلل من أهل بلده ، واستفاد واسترحم ، واستغفر ، ونفض يديه من الدنيا ، والتزم عبادة كبيرة ، فأصبح يشار إليه في الزهد والورع ، لا تراه إلا متبسماً ، ملازماً لذكر الله ، متواضعاً لأصاغر عباده ، محبا في الضعفاء والمساكين ، جميل التخلق ، مغضياً عن الهنات ، صابراً على الإفادة . وجلس للجمهور بمجلس مالقة ، يتكلم في فنون من العلم ، يعظ الناس ، ويرشدهم ، ويزهدهم ، ويحملهم على الإيثار ، في أسلوب من الاستنفار والاسترسال ، والدلالة ، والفصاحة والحفظ ، كثير التأثير في القلوب ، يخبر بإلهام وإعانة . فمال الخلق إليه ، وتزاحموا على مجالسته ، وأعلنوا بالتوبة ، وبادر مترفوهم إلى الإقلاع عن إجابة الشهوات ، والاستقالة من الزلات . ودهم الوباء ، فبذلوا من الأموال في أبواب البر والصدقة ، ما لا يأخذه الحصر ولا يدركه الإحصاء ولو لا أن الأجل طرقه ، لعظم صيته ، وانتشر نفعه .
وفاته
توفي شهيد الطاعون عصر يوم الأربعاء لصفر من عام خمسين وسبعماية ، ودفن بجبانة جبل فاره ، ضحى يوم الخميس الثاني من يوم وفاته . وصلى عليه خارج باب قنتنالة ، وألحده في قبره الخطيب القاضي الصالح ، أبو عبد الله الطنجالي ، رحم الله جميعهم .
وممن رثاه الشيخ الأديب أبو الحسن الوراد فقال :
أبعد ولي الله دمعي يسجم . . . وغمار قلبي من كلوم تترجم
فؤادي مكلوم بحزني لفقده . . . لذاك جفوني دمعها كله دم
ومإذا عسى يغني التفجع والبكا . . . ومإذا عسى يجدي الأسى والتبرم
سأصبر للبلوى وإن جل خطبها . . . فصبر الفتى عند الشدايد يعلم
كذا العلم بالسيف الصقيل لدى الوغى فويق الذي من حسنه يوسم
على قدر صبر المرء تصغر عنده . . . خطوب من الدنيا على الناس تعظم
إلا إنها الدنيا تعلة باطل . . . ومخمضة أحلام لمن بات يحلم
تجنبها أهل العقول فأقصروا . . . وأغرق فيها الجاهلون وأشأم(3/183)
"""""" صفحة رقم 184 """"""
أعد نظراً فيها تجبك براحة . . . وانس بما تقضي عليك وتحكم
أعد لها درياق صبرك إنها . . . من البؤس والتلوين والله أرقم
تلفت إلى تعذيبها لمحبها . . . ومإذا بها يلقى كثيب ومغرم
يظن بها ريحانة وهي سدرة . . . ولا منتهى إلا الردى والتندم
عجبت لها تخفي علينا عيوبها . . . وذاك لأنا في الحقيقة نوم
أليس عجيباً أن يعول عاقل . . . على عاجل من وصلها يتصرم
وما وصلها معشار عشر صدورها . . . ولكنه صرف للدهر أدوم
إذا ابتسمت يوماً ترقب عبوسها . . . فما إن لنا منها يدوم التبسم
ضحى كان وجه الدهر سبر بشره . . . فلم يمس حتى بان منه التجهم
ذرينا بعقد من ولي مكانه . . . مكين لدي العلياء سام معظم
هوى مثل هوى من الأفق كوكب . . . فجللنا ليل من الخطب مظلم
تساوى لديه صيدها وعبيدها . . . وعالمها التحرير والمتعلم
هو الموت لا ينفك للخلق طالباً . . . يروح ويغدو كل حين عليهم
ما هو إلا الداء عز دواؤه . . . فليس لشيء في البسيطة يحسم
دها كل مخلوق فما منه سيد . . . له الجاه عند الله ينجو فسلم
ولو كان ذا كان النبي محمد . . . تجنبه صلوا عليه وسلم
تعنى به موسى ويوسف قبله . . . ونوح وإدريس وشيث وآدم
به باد بهرام وتبر بهرم . . . وكسر من كسري سوار ومعصم
وكم من عظيم الشأن حل بربعه . . . فإن تختبره فهو رب وأعظم
ولكننا ننسى ونأبى حديثه . . . وننجد في الإعراض عنه ونتهم
فحتى إذا حل ساحة ماجد . . . نطل بها من حسرة نتكلم نسينا حديث الموت جهلاً بغدره . . . فألهمنا إذ هزنا منه ملهم
وفاة ورمى في التراب موسد . . . وآثاره فوق السماك تخيم
خبا ضوء نادي أقفر ربعه . . . من العلم والتعليم ربع ومعلم(3/184)
"""""" صفحة رقم 185 """"""
تردى فأردى فقد أهل رية . . . فما منهم إلا كثيب ومغرم
غدا أهلها من فجعة بمصابه . . . وعيشهم صاب قطيع وعلقم
وهل كان إلا والد مات عنهم . . . فيا من لقوم يتموا حين أو يتم
قضى نحبه الأستاذ واحد عصره . . . فكاد الأسى يقضي إلى الكل منهم
قضى نحبه القطان فالحزن قاطن . . . مقيم بأحناء الضلوع محكم
وهل كان إلا روضة رف ظلها . . . أتيح له قيظ من الجون صيلم
وهل كان إلا رحمة عاد فقدها . . . علامة فقد العلم والله أعلم
سل التائبين العاكفين على الهدى . . . لكم منة أسدى وأهدى إليهم
أفادهم من كل علم لبابة . . . وفهمهم أسراره فتفهم
جزى الله رب الناس خير جزائه . . . دليلا بهم نحو الهدى حيث يمم
أبان لهم طرق الرشاد فأقدموا . . . وحذرهم عن كل غي فأحجم
وجاء من التعليم للخير كله . . . بأبين من يأتي به من يعلم
فصاحة ألفاظ وحسن عبارة . . . مضى كما يمضي الحسام المصمم
يصيب فلا يخطي إذا مقصدا . . . ولمن يجيب فلا يبطي ولا يتلعثم
يحدث في الآفاق شرقاً ومغرباً . . . فأخباره أضحت تخط وترسم
سرى في الورى ذكر له ومدايح . . . يكاد بها طير العلى يترنم
لعمرك ما يأتي الزمان بمثله . . . وما ضرني لو كنت بالله أقسم
فقيه نزيه زاهد متواضع . . . رؤوف عطوف مشفق مترحم
يود لو أن الناس أثرى جميعهم . . . فلم يبق مسكين ولم يبق معدم
يود لو أن الله تاب على الورى . . . فتابوا فما يبقى من الكل مجرم
عليه من الرحمن أوسع رحمة . . . فقد كان فينا الدهر يحنو ويرحم(3/185)
"""""" صفحة رقم 186 """"""
محمد بن أحمد بن يوسف بن أحمد بن عمر بن يوسف بن علي بن خالد ابن عبد الرحمن بن حميد الهاشمي الطنجالي
لوشي الأصل ، مالقي النشأة والاستيطان .
أوليته
بيتهم نبيه إلى هاشمية النبه وهم ببلدنا لوشة أشرف ، وهم ببلدنا لوشة أشرف ، وكانت لهم فيها ثروة وثورة ، اجتثها الدهر ببعض طوارقه ، في أبواب المغالبات . ويمت سلفنا إليهم بصحبة ومصاهرة في حديث يستدعي طولاً ، وانتقل خلفهم إلى مالقة .
حاله
من عايد الصلة : كان هذا الولي الفاضل ، المجمع على ولايته وفضله ، سهل اللقاء ، رفيقاً بالخلق ، عطوفاً على الضعفاء ، سالكاً سنن الصالح من السلف ، سمتاً وهدياً ، بصره مغضوض ، ولسانه صامت ، إلا من ذكر الله ، وعلمه نافع وثوبه خشن ، وطعمته قد نفدها الورع الشديد ، حتى اصطفاها مختاره ، إذا أبصرت بها العين ، سبقتها العبرة . بلغ من الخلق ، الملوك فمن دونهم الغاية ، فكان يلجأ إليه المضطر ، وتمدل إلى عنايته الأيدي ، وتحط بفنايه الوسايل ، فلا يرتفع عن كلف الناس ولا حوايجهم ، ولا ينقبض عن الشفاعة لهم ، وإصلاح ذات بينهم . له في ذلك كله أخبار طريفة . واستعمل في السفارة بين ملكي العدوة والأندلس ، في أحوال المسلمين ، فما فارق هيئته ، وركوب حماره واستصحاب زاده ، ولبس الخشن من ثوبه . وكان له حظ رغيب من فقه وحديث ، وتفسير ، وفريضة . ولي الخطابة ببلده مالقة ، واستسقى في المحول ، فسقى الناس .
حدثني بعض أشياخنا : قال ، حضرت مقامه ، مستسقياً ، وقد امتنع الغيث ، وقحط الناس ، فما زاد عند قيامنا أن قال ، أستغفر الله ، فضج الخلق بالبكاء والعجيج ، ولم يبرحوا حتى سقوا . وكراماته كثيرة ، ذايعة من غير خلاف ولا نزاع .
حدث بعض أشياخنا عن الخطيب الصالح أبي جعفر الزيات ، قال رأيت في النوم قايلاً يقول ، فقد الليلة من يعمر بيت الإخلاص بالأندلس ، فما انتصف النهار ، من تلك الليلة ، حتى ورد الخبر بموته .(3/186)
"""""" صفحة رقم 187 """"""
مشيخته من شيوخه الذين قرأ عليهم ، وأسند إليهم الرواية والده رحمه الله ، وأبو عمرو بن حوط الله ، والخطيب ابن أبي ريحانة المربلي ، والقاضي أبو علي بن أبي الأحوص ، والراوية أبو الوليد بن العطار ، والراوية المحدث أبو بكر بن مشليون ، والمقري أبو عبد الله بن مستقور الطايي ، والأستاذ أبو جعفر الطباع ، وأبو الحسين بن أبي الربيع ، والمحدث أبو عبد الله بن عياش ، والأستاذ أبو الحسن السفاج الرندي ، والخطيب بألمرية أبو الحسن الغزال . وقرأ على الأستاذ أبي جعفر بن الزبير . وأجازه من أهل المشرق جماعة منهم أبو عبد الله بن رزيق الشافعي ، والعباس أحمد ابن عبد الله بن محمد الطبري ، وأبو اليمن عبد الصمد بن أبي الحسن عبد الوهاب بن أبي البركات المعروف بالنجام ، والحسن بن هبة الله بن عساكر ، وإبراهيم بن محمد الطبري إمام الخليل ، ومحمد بن محمد بن أحمد بن عبد ربه الطبري ، ومحمد بن علي بن وهب بن مطيع القشيري ، وأبو الفتح تقي الدين بن أبي الحسن فخر الدين ، وعبد الله بن محمد بن أبي بكر الطبري المكي الشافعي وغيرهم .
ميلاده : بمالقة في رجب سنة أربعين وستماية .
وفاته : بمالقة في يوم الخميس الثامن لجمادى الأولى من عام أربعة وعشرين وسبعماية . وقد ناهز الثمانين سنة ، لم ينتقص شيء من أعماله المقربة إلى الله ، من الصوم والصلاة ، وحضور الجماعات ، وملازمة الإقراء والرواية ، والصبر على الإفادة .
حدث من يوثق به ، أن ولده الفقيه أبا بكر دخل عليه ، وهو في حال النزع ، والمنية تحشرج في صدره ، فقال يا والدي أوصني ، فقال وعيناه تدمعان ، يا ولدي اتق الله حيث كنت واتبع السيئة بالحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن .
محمد بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم البلفيقي ابن الحاج
والد شيخنا أبي البركات . وقد مر في ذكر النسب المتصل بعباس ابن مرداس ، والأولية النبيهة ما يغني عن الإعادة .(3/187)
"""""" صفحة رقم 188 """"""
حاله
من خط ولده شيخنا على الاختصار ، قال يخاطبني في بعض ما كتب به إلي : ذكر أبي ، وهو ممن طلبتم ذكره إلي في أخباره جزءاً من نحو سبعين ورقة في المقسوم ، لخصت لك من مبيضته ما يذكر : نشأ رحمه الله بسبتة على طهارة تامة ، وعفة بالغة ، وصون ظاهر ، كان بذلك علماً لشبان مكتبه . قرأ القرآن بالقراءات السبع ، وحفظ ما يذكر من المبادي ، واتسم بالطلب . ثم تاقت نفسه إلى الاعتلاق بالعروة الوثقى ، التي اعتلق بها سلفه ، فنبذ الدنيا ، وأقبل على الآخرة ، وجرى على سنن المتقين ، أخذاً بالأشد من ذلك والأقوى ، طامحاً بهمته إلى أقصى ما يؤمله السالكون . فرفض زي الطلبة ، ولبس الخشنية ، وترك ملابسة الخلق بالجملة ، وبالغ في الانقباض عنهم ، وانقطع إلى الله برباطات سبتة وجبالها ، وخصوصاً بمينايها ، وعكف على ذلك سنين ثم سافر إلى المغرب ، سايحاً في الأرض ، على زي الفقهاء للقاء العباد وأهل العلم ، فأحرز من ذلك ما شاء . ثم أجاز البحر إلى جزيرة الأندلس ، وورد ألمرية ، مستقر سلفه ، وأخذ في إيثار بقايا أملاك بقيت لأسلافه بها ، على ما كان عليه من التبتل والإخبات . وكان على ما تلقينا من أصحابه وخدانه ، صواماً ، قواماً ، خاشعاً ذاكراً ، تالياً ، قوالا للحق ، وإن كان مراً كبيراً في إسقاط التصنع والمباهاة ، لا يضاهي في ذلك ، ولا يشق غباره . وقدم على غرناطة ، ودخل على أمير المسلمين ، وقال له الوزير ، يقول لك السلطان ما حاجتك ، فقال ، بهذا الرسم رحلت ، ثم ظهر لي أن أنزل حاجتي بالله ، فعار على من انتسب إليه ، أن يقصد غيره . ثم أجاز البحر وقد اشتدت أحوال أهل الأندلس بسبب عدوهم ، وقدم على ملكه ، ووعظه موعظة ، أعنف عليه فيها ، فانفعل لموعظته ، وأجاز البحر بسببه إلى جزيرة الأندلس ، وغزا بها ، وأقام بها ما شاء الله ، وتأدب الروم لو تم المراد قال ، وأخبره السلطان أبو يوسف ملك المغرب ، قال كل رجل صالح دخل علي كانت يده ترعد في يدي ، إلا هذا الرجل ، فإن يدي كانت ترعد في يده عند مصافحته .
كراماته وجلب له كرامات عدة ، فقال في بعضها ، ومن ذلك ما حدثني الشيخ المسلم الثقة أبو محمد قاسم الحصار ، وكان من الملازمين له ، المنقطعين إلى خدمته ، والسفر معه إلى البادية ، فقال ، إني لأحفظ لأبيك أشياء من الأحوال العظيمة ، منها ما أذكره ، ومنها ما لا أستطيع ذكره . ثم قال ، حدثني أهل وادي الزرجون ، وهو حش من أعمال سبتة ، قالوا ، انصرف السيد أبو عبد الله من هنا ، هذا لفظه ، فلما استقر في(3/188)
"""""" صفحة رقم 189 """"""
رأس العقبة ، المشرفة على الوادي ، صاح عليه أهل القرى ، إذ كانوا قد رأوا أسداً كبيراً جداً ؛ قد تعرض في الطريق ، ما نجا قط من صادفه مثله ، فلما سمع الضياح قال ما هذا ، فقيل له أهل القرى يصيحون عليه خيفة من السبع قال ، فأعرض عنهم بيده ، ورفع حاجبه كالمتكبر على ذلك ، وأسكتهم ، وأخذ في الطريق حتى وصل إلى الأسد ، فأشار عليه بالقضيب ، وقال له ، من ها هنا من ها هنا ، أخرج عن الطريق ، فخرج بإذن الله عن الطريق ، ولم يوجد هنالك بعد . وأمثال ذلك كثيرة .
مشيخته
قرأ على الأستاذ أبي الحسين بن أبي الربيع القرشي ، وأجازه والده أبو إسحق إجازة عامة . ومن شيوخه القاضي المسن أبو عبد الله الأزدي ، والمحدث أبو بكر بون مشليون ، وأبو عبد الله بن جوهر ، وأبو الحسين بن السراج ، وأبو عبد الله محمد بن عبد الله الخزرجي ، وأبو عبد الله بن الأبار ، وأبو الوليد بن العطار ، وأبو العباس بن عبد الملك ، وأبو إسحق ابن عياش ، وأبو محمد عبد الله بن أحمد بن عطية ، وأبو بكر القرطبي حميد ، وأبو إبراهيم الطرسي ، والقاضي أبو عبد الله بن عياض ، والكاتب أبو الحسن الرعيني ، وأبو الحسن الشاري ، وأبو يحيى بن الفرس ، وأبو إسحاق بن عبيد الله ، وأبو الحسن الغزال ، وجماعة من الأندلس غير هؤلاء . ومن أهل العدوة كأبي يعقوب المحاسبي وابن فرتون وغيرهم .
محنته
نمى عنه إلى السلطان بالأندلس ، أنه أغرى به ملك المغرب ، وتخلص بعد لأي في خبر طويل ، وانتهب السلطان ماله ، وألحق أملاكه بالمختص واستمر . وذلك إلى دولة والده وامتحن الساعون به ، فعجل الله عقوبتهم .
مولده : قال شيخنا نقلت من خط أبيه ما نصه : ولد ابني أبو بكر محمد أسعده الله ووفقه ، في النصف الأول من ليلة يوم الاثنين الحادي والعشرين لذي قعدة من سنة ست وأربعين وستماية .
وفاته : قال ألفيت بخط القاضي الأديب الكاتب أبي بكر بن شبرين وكان ممن حضر جنازته بسبتة . وكانت وفاة الفقيه الناسك السالك الصالح أبي بكر محمد بن الشيخ الفقيه المحدث أبي إسحاق السلمي البلفيقي في العشر الأواخر من رمضان أربعة وتسعين وستماية بمحروسة سبتة ، ودفن إثر صلاة العصر بجبانة الخروبة من منارتها بمقربة من قبر ريحان الأسود العبد الصالح نفع الله به . وصلى عليه الإمام أبو عبد الله بن حريث .(3/189)
"""""" صفحة رقم 190 """"""
محمد بن يحيى بن إبراهيم بن أحمد بن مالك بن إبراهيم بن يحيى ابن عباد النفزي
من أهل رندة ، يكنى أبا عمرو ، ويعرف بابن عباد ، الحاج الصوفي
حاله
نشأ ببلده رندة ، وهو من ذوي البيوتات الأصلية بها ، ثم رحل إلى المشرق ، ولقي العلماء والصوفية ، وحضر عند المشيخة ، ثم كر إلى الأندلس ، فتصوف ، وجال في النواحي ، واطرح السموت ، وفوت ما كان بيده من متاع الدنيا ، وكان له مال له خطر ، وألقى التصنع لأهله رأساً . وكان فيه توله وحدة ، وله ذهن ثاقب ، يتكلم في المعقولات والمنقولات ، على طريقة الحكماء والصوفية ، ويأتي بكل عبارة غريبة ، وآثاره هايلة من غير تمكن علم ، ولا وثاقة إدراك ، غير أنك لا تسمع منه إلا حسناً ، وهو مع ذلك طواف على البلاد ، زوار للربط ، صبار على المجاهدة طوعاً وضرورة ، ولا يسل ثياباً البتة إلا بذلة من ثوب أو غيره ، صدقة واحد في وقته .
محنته وفضله وشعره
نمى عنه كلام بين يدي صاحب المغرب ، أسف به مدبر الدولة يومئذ ، فأشخص عند إيابه إلى رندة وسجن بسجن أرباب الجرايم ، فكتب إلى ولي الأمر :
تركت لكم عز الغنى فأبيتم . . . وأن تتركوني للمذلة والفقر
ونازعتموني في الخمول وإنه . . . لذي مهجتي أحلى من البنى والأمر
ثم قال ، يا من رماني بسهمه ، الغرب ، قد رد عليك مخضوباً بالدم . قال فوالله ما مرت ثلاثة ، حتى نفذ حكم الله فيمن عدا عليه .
وشعره حسن يدل على طبع معين ، فمن ذلك : سرى يسر إلي أنك تاركي . . . نفسي الفدا للطفك المتدارك
يا مالكي ولي الفخار بأنني . . . لك في الهوى ملك وأنك مالك
الترك هالك فاعفني منه وعد . . . بالوصل تحيي ذما محب هالك(3/190)
"""""" صفحة رقم 191 """"""
وأعد جميلاً في الهوى عودتني . . . إن لم تعده إلي من للهالك
يا منية القلب الذي بجماله . . . فتن الورى من فاتك أو ناسك
أأتيه دونك أو أحار وفي سنى . . . ذاك الجمال جلا الظلام الحالك
ولكم سلكت إليك لكن حين لم . . . تكن الدليل اختل قصد السالك
ولقد عرفت بستر سري في الهوى . . . فهجرتني فكسيت ثوب الهاتك
ما الستر إلا ما يحوك رضاك لا . . . ما حاكه للبتر كف الحايك
ما الفضل إلا ما حكمت به فصن . . . وأهتك وصل إن شيت أو كن تارك
ما لي سوى حبيك يا حبي فدع . . . تركي فهلك الملك ترك المالك
وقال أيضاً :
هذا العقيق فسل معاطف بأنه . . . هل نسمة عادته من نعمانه
واسأله إن زارته مإذا أخبرت . . . عن أجرع العلمين أو سكانه
وأصخ لحسن حديثها وأعده للمضني ففيه البرء من أشجانه
يا حبذا ذاك الحديث وحبذا . . . من قد رفاه وحبذا ببيانه
وسقى الآله زمانه ومكانه . . . ويعز قدر زمانه ومكانه
يا سعد ساعد مستهاماً فيه لا . . . ذقت الهوى ونجوت من عدوانه
وأصخ لما يتلو الوجود عليك من . . . أنبائهم بلسان حال كيانه
وأبنه لي واقبل ذمامي بشارة . . . ويقل بذل ذماي في تبيانه
وسل النسيم يهب من واديهم . . . شذاً خزاماه وطيب لبانه
ارحم بروح منه روحي تحيه . . . ويسقمه سقمي فديتك عانه
وبنشره انشر نفس مشتاق . . . قضت شوقاً لنفحة نسمة من بانه
يا سعد حدثني فكل مخبر . . . عن خسر من أهواه أو إحسانه(3/191)
"""""" صفحة رقم 192 """"""
يا سعد طارحنيه واملأ مسمعي . . . من سره إن شيت أو إعلانه
أنا في الغرام أخوك حقاً والفتى . . . لا يكتم الأسرار من إخوانه
قل كيف وادي ود سكان الحمى . . . ومنى أمانيه وروض لسانه
هل قلصت أيدي النوى من ظله . . . أو ما جرى هل عاث في جريانه
وهل الربوع أواهل بجمالهم . . . فسقى للربوع الودق من هتانه
وهل التقى بان على عهد النوى . . . وهل اللوى يلوي بعود زمانه
فبروض أنسهم غمدت نضارة . . . نزهت منها الطرف في بستانه
وأرى هجير أذبل يانعاً . . . منه وأذوي الغض من ريحانه
وأحال حال الأنس فيه وحشة . . . وطوى بساط الأنس في هجرانه
آهاً ووالهفي وويحي أن مضى . . . عهد عرفت الأنس في أزمانه
وبأجرع العلمين من شرقيه . . . حب غذاني حبه بلبانه
حاز المحاسن كلها فجمعن لي . . . كل الهوى فحملت كل هوانه
وزها علي بعزة فبواجب . . . أزهو بذلي في يدي سلعانه
وقضى بأن أقضي وليت بما قضى . . . يرضى فطيب العيش في رضوانه
واختار لي أن لا أميل لسلوة . . . عن حبه فسلوت عن سلطانه
يا عاذلي أو ناصحي أو لايمي . . . تبغي السلو ولات حين أوانه
غلب الغرام وعز سلطان الهوى . . . فالكل في علي من أعوانه(3/192)
"""""" صفحة رقم 193 """"""
فعلام تعتب مستهاماً كلما . . . في الكون عاذره على شيمانه
دع عنك لومي إنني لك ناصح . . . أبدي الجمال العذر عن هيمانه
وإذا الفتى قام الجمال بعذره . . . في الحب فاتركه وثنى عنانه
من سام قلبي في هواه سلوة . . . قد سامه ما ليس في إمكانه
وقال في الغرض المذكور :
يا للرجال ألا حب يساعدني . . . في ذا الغرام فأبكيه ويبكين غلبت فيه وما أجدت مغالبتي . . . وهنت والصب أولى الناس بالهون
ركبت لجته وجدي فأدهشني . . . ومت في يده فردا فدلون
واضيعة العمر والبلوى مضاعفة . . . ما بين يأس وآمال ترجين
والهف نفسي إن أودت وما ظفرت . . . في ذا الهوى بتمن أو بتأمين
فليت شعري وعمري ينقضي طمعاً . . . في ذا الهوى بين مغلوب ومغبون
هل الأولى ملكوا رقي وقد علموا . . . بذلي وافتقاري أن يواسون
فكم أكفكف دمعي بعدهم وأرى . . . مجدداً نار يأسي وهي تبلين
وكم أمر على الأطلال أندبها . . . وبالمنازل من خيف ودارين
وفي الفؤاد لهم ما ليس يعلمه . . . إلا هم علمهم بالحال يكفين
أهمي المدامع كي أروى فتعطشني . . . وألزم الذكر للسلوى فيشجبن
يا أهل نجد وفخري أن أحبكم . . . لا أطلب الوصل عز الحب يغنين
هل للهوى من سبيل للمنى فلقد . . . عزت أمانيه في الدنيا وفي الدين(3/193)
"""""" صفحة رقم 194 """"""
محمد بن يوسف بن خلصون
يكنى أبا القاسم ، روطي الأصل لوشيه . سكن لوشة وغرناطة ومالقة
حاله
كان من جلة المشيخة وأعلام الحكمة ، فاضلا ، منقطع القرين في المعرفة بالعلوم العقلية ، متبحراً في الإلهيات ، إماماً في طريقة الصوفية ، من أهل المقامات والأحوال ، كاتباً بليغاً ، شاعراً مجيداً ، كثير الحلاوة والطلاوة ، قايما على القرآن ، فقيهاً أصولياً ، عظيم التخلق ، جميل العشرة ، انتقل من حصن روطة إلى الخطابة والإمامة بلوشة ، كثير الدؤوب على النظر والخلوة ، مقصوداً من منتحلي ما لديه ضرورة . لم يتزوج ، وتمالأت عليه طايفة ممن شانها الغض من مثله ، فانزعج من لوشة إلى مالقة ، فتحرف بها بصناعة الطب ، إلى حين وفاته .
حدثني والدي ، وكان خبيراً بأحواله ، وهو من أصحاب أبيه ، قال ، أصابت الناس شدة قحط ، وكانت طايفة من أضداده تقول كلاماً مسجعا ، معناه ، إنكم إن أخرجتم ابن خلصون من بينكم ، مطرتم . قال ، فانزعج عنها ، ولما كان على أميال ، نزل الغيث الرغد ، قال فسجد بموضعه ذلك ، وهو معروف ، وقال ، سيدي ، وأساوري عندك هذا المقدار . وأوجب شكراناً . وقدم غرناطة ، وبها الأستاذ أبو عبد الله الرقوطي ، وله استيلاء على الحظوة السلطانية ، و شأنه اختبار من يرد على الحضرة ، ممن يحمل فناً ، وللسلطان علي ابن خلصون موجدة ، لمدحه في حداثته ، أحد الثوار عليه وبقمارش ، بقصيدة شهيرة . فلما حضر ، سأله الأستاذ ما صناعتك ، فقال التصوف ، فالتفت إلى السلطان وقال : هذا رجل ضعيف لا شيء لديه ، بحيث لا يفرق بين الصناعة وغيرها ، فصرفه رحمه الله .
تواليفه
وتواليفه كثيرة ، تدل على جلالته وأصالة معرفته ، تنطق علماً وحكمة ، وتروق أدباً وظرفاً . فمن ذلك كتابه في المحبة ، وقفت عليه بخط جدي الأقرب سعيد ، وهو نهاية . وكتاب وصف السلوك ، إلى ملك الملوك ، عارض به معراج(3/194)
"""""" صفحة رقم 195 """"""
الحاتمي ، فبان له الفضل ، ووجبت المزية ، ورسالة الفتق والرتق ، في أسرار حكمة الشرق .
شعره
من ذلك قوله :
هل تعلمون مصارع العشاق . . . عند الوداع بلوعة الأشواق
والبين يكتب من نجيع دمايهم . . . إن الشهيد لمن يمت بفراق
لو كنت شاهد حالهم يوم النوى . . . لرأيت ما يلقون غير مطاق
منهم كثيب لا يمل بكاؤه . . . قد أغرقته مدامع الآماق
ومحرق الأحشاء أشعل ناره . . . طول الوجيب بقلبه الخفاق
وموله لا يستطيع كلامه . . . مما يقاسي في الهوى ويلاق
خرس اللسان فما يطيق عبارة . . . ألم المرور وماله من راق
ما للمحب من المنون وقاية . . . إن لم يغثه حبيبه بتلاق
مولاي عبدك ذاهب بغرامه . . . فادرك بوصلك من دماه الباق
إني إليك بذلتي متوسل . . . فاعطف منك أو إشفاق
ومن شعره أيضاً :
أعد الحديث إذا وصفت جماله . . . فبه تهيج للمحب خياله
يا واصف المحبوب كرر ذكره . . . وأدر على عشاقه جرياله فبذكر من أهوى وشرح صفاته . . . لذ الحديث لمسمعي وخلاله
طاب السماع بوصفه لمسامعي . . . وقررت عيناً مذ لمحت هلاله
قلبي يلذ ملامة في حبه . . . ويرى رشاداً في هواه ضلاله
يا عاذلي أو ما ترق لسامر . . . سمع الظلام أنينه فرثا له
ومن شعره أيضاً :
إن كنت تزعم حبنا وهوانا . . . فلتحملن مذلة وهوانا
فاسجر لنفسك إن أردت وصالنا . . . واغصب عليها إن طلبت رضانا(3/195)
"""""" صفحة رقم 196 """"""
واخلع فؤادك في طلاب ودادنا . . . واسمح بموتك إن هويت لقانا
فإذا فنيت عن الوجود حقيقة . . . وعن الفناء فعند ذاك ترانا
أو ما علمت الحب فيه عبرة . . . فاخلص لنا عن غيرنا وسوانا
وابذل لبابك إن وقفت ببابنا . . . واترك حماك إذا فقدت حمانا
ما لعلع ما حاجر ما رامة . . . ما ريم أنس يسحر الأذهانا
إن الجمال مخيم بقبابنا . . . وظباؤه محجوبة بظبانا
نحن الأحبة من يلذ بفناينا . . . نجمع له حسننا إحسانا
نحن الموالي فاخضعن لعز نالنا . . . إنا لندفع في الهوى من هانا
إن التذلل للتدلل سحر . . . فأخلد إلينا عاشقاً ومهانا
واصبر على ذل المحبة والهوى . . . واسمع مقالة هايم قد لانا
نون الهوان من الهوى مسروقة . . . فإذا هويت فقد لقيت هوانا
ومن لطيف كلامه ورقيق شعره :
لو خيال من حبيبي طرقا . . . لم يدع دمعي بخدي طرقا
ونسيم الريح منه لو سرى . . . بشذاه لأزال الحرقا
ومتى هبت عليلات الصبا . . . صح جسمي فهن لي نفث رقا
عجباً يشكو فؤادي في الهوى . . . لهب النار وجفني الفرقا
يا أهل الحي لي فيكم رشا . . . لم يدع لي رمقاً مذ رمقا
بدر تم طالع أثمره . . . غصن بان تحته دعص نقا
راق حسناً وجمالا مثلما . . . رق قلبي في هواه ورقا
أنسى الشمس ضياه ذهباً . . . وكسى البدر سناه ورقا
حلل الحسن عليه خلعت . . . فارتداها ولها قد خلقا
ومن شعره .
دعوت من شفتي رفقا على كبدي . . . فقال لي خلق الإنسان في كبد
قلت الخيال ولو في النوم يقنعني . . . فقال قد كحلت عيناك بالسهد(3/196)
"""""" صفحة رقم 197 """"""
فقلت حسبي بقلبي في تذكره . . . فقال لي القلب والأفكار ملك يدي
قلت الوصال حياتي منك يا أملي . . . قال الوصال فراق الروح للجسد
فقلت أهلاً بما يرضى الحبيب به . . . فإن قلبي لا يلوي على أحد
ومن أقواله الصوفية ، وكلها تشير إلى ذلك المعنى
ركبنا مطايا شوقنا نبتغي السرى . . . وللنجم قنديل يضيء لم سرا
وعين الدجا قد نام لم يدر ما بنا . . . وأجفاننا بالسهد لم تطعم الكرا
إلى أن رأينا الليل شاب قذاله . . . ولاح عمود الفجر غصناً منورا
لمحنا برأس البعد ناراً منيرة . . . فسرنا لها نبغي الكرامة والقرا
وأفضى بنا السير الحثيث بسحرة . . . لحانة دير بالنواقس دورا
فلما حللنا حبوة السير عنده . . . وأبصرنا القسيس قام مكبرا
وحرك ناقوساً له أعجم الصدا . . . فأفصح بالسر الذي شاء مخبرا
وقال لنا حطوا حمدتم مسيركم . . . وعند الصباح يحمد القوم السرى
نعمتم صباحاً ما الذي قد أتى بكم . . . فقلنا له إنا أتيناك زورا
وراحتنا في الراح إن كنت بايعاً . . . فإن لدينا فيه أربح مشتري
فقال لكم عندي مدام عتيقة . . . مخلدة من قبل آدم أعصرا
مشعشعة كالشمس لكن تروحنت . . . وجلت عن التجسيم قدماً فلا ترى
وحل لنا في الحين ختم فدامها . . . فأسدى لنا مسكاً فتيقاً وعنبرا وقلنا من الساقي فلاح بوجهه . . . فأدهش ألباب الأنام وحيرا
وأشغلنا عن خمرة بجماله . . . وغيبنا سكراً فلم ندر ما جرا
ومن شعره في المعنى :
يا نايماً يطلب الأسرار إسراراً . . . فيك العيان ونبغي بعد آثارا
أرجع إليك ففيك الملك مجتمع . . . والفلك والفلك العلوي قد دارا
أنت المثال وكرسي الصفات فته . . . على العوالم إعلاناً وإسراراً
والطور والدر منثوراً وقد كتبت . . . أقلام قدرته في اللوح آثارا(3/197)
"""""" صفحة رقم 198 """"""
والبيت يعمره سر الملايك في . . . مشكاة قلبك قد أسرجن أنوارا
ورفع الله سقفاً أنت تسكنه . . . سماوه أطلعت شهباً وأقماراً
وبحر فكرك مسجور بجوهره . . . فغص به مخرجاً للدر أسرارا
فإن رأيت بوادي القدس نار هدى . . . فاثبت فنورك فيها مازج النارا
واخلع لسمع الندا نعليك مفتقرا . . . إلى المنادي تنل عزاً وإكباراً
وغب عن الكون بالأسماء متصفا . . . واطلب من الكل رب الدار لا الدارا
ومن ذلك في هذا المعنى :
أطالب ما في الروح من غامض السر . . . وقارع باب العلم من عالم الأمر
عرضت لعلم أبهم الشرع بابه . . . لكل جهول لحقائق لا يدري
ولكن خبيرا قد سألت محققا . . . فدونك فانظم ما نثرت من الدر
وبين يدي نجواك قدم وسيلة . . . تقى الله واكتم ما فهمت من السر
ولا تلتفت جسما ولا ما يخصه . . . من الحس والتخييل والوهم والفكر
وخذ صورة كلية جوهرية . . . تجل عن التمييز بالعكس والسبر
ولكن بمرآة اليقين تولدت . . . وليست بذاتي إن سألت ولا غير
كذلك لم تحدث وليست قديمة . . . وما وصفت يوماً بشفع ولا وتر
ولكن بذات الذات كان ظهورها . . . إذا ما تبدت في الدجا غرة الفجر
ومن هذا الغرض قوله :
مشاهدتي مغناك يا غايتي وقت . . . فما أشتكى بعداً وحبك لي نعت
مقامي بقايي عاكفاً بجمالكم . . . فكل مقام في الحقيقة لي تحت
لئن حالت الأحول دون لقايكم . . . فإني على حكم المحبة ما حلت
وإن كان غيري في الهوى خان عهده . . . فإني وأيم الله عهدي ما خنت
وما لي رجاً غير نيل وصالكم . . . ولا خوف إلا أن يكون له فوت
نعم إن بدا من جانب الأنس بارق . . . يحركني بسط به نحوكم طرت
ومهما تذكرت العتاب يهزني لهيبتكم قبض يغيب به النعت
تواجدت حتى صار لي الوجد مشربا . . . ولاح وجود للحقيقة إذ غبت
فها أنا بين الصحو والمحو داير . . . أقول فلا حرف هناك ولا صوت(3/198)
"""""" صفحة رقم 199 """"""
قصودي إليكم والورود عليكم . . . ومنكم سهودي والوجود إذا عدمت
وفي غيبتي عني حضوري لديكم . . . وعند امتحان الرسم والمحو أثبت
وفي فرقتي الباني بحق جمعتني . . . وفي جمع جمعي في الحقيقة فرقت
تجليته لي حتى دهشت مهابة . . . ولما رددت اللحظ بالسر لي عشت
موارد حق بل مواهب غاية إذا . . . ما بدت تلك البوادة لي تهت
لوايح أنوار تلوح وتختفي ولكن . . . وميض البرق ليس له ثبت
ومهمى بدت تلك الطوالع أدهشت . . . وإن غيبت تلك اللوامع أظلمت
وهيهات هيبات الجلال تردني . . . وعند التجلي لا محالة دكدكت
نسفن جبالي فهي قاع صفصف . . . وليس يرى فيهن زيغ ولا أمت
ولي أدمع أججن نار جوانحي ولي . . . نفس لولاه من حبكم ذبت
ألا فانظروا قلب العيان حقيقة . . . فنايى ووجودي والحياة إذا مت مراتب في التلوين نلت جميعها . . . وفي عالم التمكين عن كلها بنت
وعند قيامي عن فنايى وجدتكم . . . فلا رتبة علوية فوق ما نلت
ورود وشرب ثم لا أرى بعده . . . لين كنت أروى من شرابك لا كنت
شربت أكواس الوجود مدامة . . . فلست أجلى عن ورود متى شبت
وكيف وأقداح العوالم كلها . . . ولكني من صاحب الدير أسكرت
تعلق قوم بالأواني وإنني . . . جمال المعاني لا المغاني علمت
وأرضعت كأساً لم تدنس بمزجها . . . وقد نلتها صرفاً فيا لعمري ما ضعت
شراب بها الأبرار طاب مزاجهم . . . وأرضعتها صرفاً لأني قربت
بها آدم نال الخلافة عندما . . . تبدت له شمساً لها نحوه سمت
ونجت لنوح حين فر لفلكه . . . ومن بان عن أسرارها عمد الموت(3/199)
"""""" صفحة رقم 200 """"""
وقد أخمدت نار الخليل بنورها . . . وكان لموسى عن أشعتها بهت
وهبت لروح الله روح نسيمها . . . فأبصره الأعمى وكلمه الميت
وسار بها المختار سيري لربه . . . إلى حيث لا فوق هناك ولا تحت
هنياً لمن قد أسكرته بعرفها . . . لقد نال ما يبغي وساعده البخت
ومن نثر الأستاذ الجليل أبي القاسم بن خلصون المترجم به ، قوله من رسالة : وصلني أيها الإبن النجيب ، المخلص الحبيب ، كتابك الناطق بخلوص ودك ، ورسوخ عهدك ، وتلك سجية لايقة بمجدك ، وشنشنة تعرف من والدك وجدك ، وصل الله أسباب سعدك ، وأنهض عزم جدك ، بتوفيق جدك ، وبلغك من مأمولك ، أقصى قصدك ، فلتعلم أيها الحبيب أن جناني ينطوي لكم أكثر مما ينشره لساني . فإني مغري بشكركم وإن أعجمت ، ومفصح بجميل ذكركم وإن جمجمت ، لا جرم أن الوقت حكم بما حكم ، واستولى الهرج فاستحكم ، حتى انقطعت المسالك ، وعدم الوارد والسالك ، وذلك تمحيص من الله جار على قضية قسطه ، وتقليب لقلوب عباده بين إصبعي قبضه وبسطه ، حين مد على الخليقة ظل التلوين ، ولو شاء لجعله ساكناً ، ثم جعل شمس المعرفة لأهل التمكين ، عليه دليلا باطنا ، ثم قبض كل الفرق عن خاصيته قبضاً يسيراً ، حتى أطلع عليهم من الأنس بدراً منيراً . وإلى ذلك يا بني فإني أحمد الله تعإلى إليك على تشويقه إياك إلى مطالعة كتب المعارف ، وتعطشك للورود على بحر اللطايف . وإن الإمام أبا حامد رحمه الله ، لممن أحرز خصلها ، وأحكم فرعها وأصلها ، لا ينكر ذلك إلا حاسد ، ولا يأباه إلا متعسف جاحد . هذا وصفه ، رحمه الله ، فيما يخصه في ذاته . وأما تعليمه في تواليفه ، وطريقه التي سلكها في كافة تصانيفه ؛ فمن علماينا رضي الله عنهم ، من قال إنه خلط النهاية بالبداية ، فصارت كتبه أقرب إلى التضليل منها إلى الهداية ، وإن كان لم يقصد فيها إلا النفع ، فيما أمه من الغرض ، فوجد في كتبه الضرر بالعرض ، وممن قال بهذا الفقيه الحكيم أبو بكر بن الطفيل . قال ، وأما أبو حامد ، فإنه مضطرب التأليف ، يربط في موضع ، ويحل في آخر ، ويتمذهب بأشياء ، ويفكر بها ، مثل أنه كفر الفلاسفة باعتقادهم أن المعاد(3/200)
"""""" صفحة رقم 201 """"""
روحاني ، وإنكارهم حشر الأجساد . وقد لوح هو بأن ذلك مذهبه في آخر كتاب الجواهر والأربعين وخرج بأنه معتقد كبار الصوفية ، في كتاب آخر ، وقال إن معتقده كمعتقدهم ، وأنه وقع على ذلك بعد بحث طويل وعناء شديد . قال ، وإنما كلامه في كتبه ، على نحو تعليم الجمهور . وقد اعتذر أبو حامد نفسه عن ذلك في آخر كتاب ميزان العمل ، على أغلب ظني ، فإن لي من مطالعة الكتب مدة . قال ، ولو لم يكن في هذه الألفاظ إلا ما يشكك في اعتقادك الموروث ، يعنى التقليد ، فإنه من لم يشك ، لم ينظر ، ومن لم ينظر ، لم يبصر ، ومن لم يبصر ففي العمى والحيرة . ثم تمثل بقول الشاعر :
خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به . . . في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل وذلك أنه قسم آراءه إلى ثلاثة : رأى يجاب به كل مسترشد سايل ، بحسب سؤاله ، وعلى مقدار فهمه . ورأى يجاب به الخاصة ، ولا يصرح به للعامة . ورأى بين الإنسان وبين نفسه ، لا يطلع عليه إلا من شريكه في اعتقاده . وأما الفقيه الفاضل أبو الوليد بن رشد رحمه الله ، فإنه بالغ في ذلك مبالغ عظيمة ، وذلك في كتابه الذي وصف فيه مناهج أدلة المتكلمين ، فإنه لما تكلم على طرق الأشعرية والمعتزلة ، والفلاسفة ، والصوفية ، والحشوية ، وما أحدثته المتكلمون من الضرر في الشريعة بتواليفهم ، انعطف فقال ، وأما أبو حامد ، فإنه طم الوداي على القرى ، ولم يلتزم طريقة في كتبه ، فنراه مع الأشعرية أشعرياً ، ومع المعتزلة ، معتزلياً ، ومع الفلاسفة فيلسوفاً ، ومع الصوفية ، صوفياً ، حتى كأني به
يوما يمان إذا لاقيت ذا يمن . . . وإن لقيت معدياً فعدنان
ثم قال ، والذي يجب على أهل العلم ، أن ينهوا الجمهور عن كتبه ، فإن الضرر فيها بالذات ، والمنفعة بالعرض . قال ، وإنما ذلك لأنه صرح في كتبه بنتائج الحكمة ، دون مقدماتها ، وأفصح بالتأويلات التي لا يطلع عليها إلا العلماء ، الراسخون في العلم ، وهي التي لا يجوز أن تؤول للجمهور ، ولا أن تذكر في غير كتب البرهان . وأنا أقول إن كتبه في الأصلين ، أعني أصول الدين ، وأصول الفقه . في غاية النبل والنباهة ، وبسط اللفظ ، وحسن الترتيب والتقسيم ، وقرب المسائل . وكذلك كتبه الفقيهة والخلافية والمذهبية ، التي ألفها على مذهب الشافعي ، فإنه كان شافعي المذهب ، في الفروع . وأما كتبه التي ذهب فيها مذهب التصوف ، فهي التي يوجد فيها ما ذكر من الضرر بالعرض . وذلك أنه بنى الأكثر من الاعتقادات فيها على ما تأدى إلى فهمه من مذاهب الفلاسفة ، ونسبها إلى المتصوفة . وقد نبه على(3/201)
"""""" صفحة رقم 202 """"""
ذلك الفقيه الجليل أبو بكر الطرطوشي في كتابه الذي سماه بمراقي العارفين . قال ، وقد دخل على السالكين ضرر عظيم من كتب هذا الرجل الطوسي ، فإنه تشبه بالصوفية ولم يلحق بمذاهبهم ، وخلط مذاهب الفلاسفة بمذاهبهم ، حتى غلط الناس فيها . على أنني أقول إن باعه في الفلسفة كان قصيراً ، وإنه حذا حذو الشيخ أبي علي بن سينا في فلسفته التي نقلها في المقاصد ، ومنطقه الذي نقله في معيار العلم ، لكن قصر عنه . وتلك الاعتقادات ، منها حق ومنها باطل ، وتلخيصه لا يتأتى إلا لصنفين من الناس ، أعني أهل البرهان ، وأهل المكاشفة ، فبحسب ذلك تحتاج كتبه إلى تقدمة علوم البرهان ، وأهل المكاشفة ، فبحسب ذلك تحتاج كتبه إلى تقدمة علوم البرهان ، أو رياضة أهل المكاشفة ، وحينئذ ينظر ي ساير كتبه . وهذه الرسالة طويلة ، تكلم فيها على كتب أبي حامد الغزالي رحمه الله ، بما يدل على تفننه ، وعلى اضطلاعه ، رحمه الله .
ومن الغرباء في هذا الاسم
محمد بن أحمد بن أمين بن معاذ بن إبراهيم بن جميل بن يوسف العراقي
ثم الخلاطي ، ثم الأقشري الفارسي ، وينعت من النعوت المشرقية بجلال الدين ، من بلاد فارس
حاله
كان من الصوفية المتجردين من المال والعيال ، ذا وقار وتودة ، وسكون ومحافظة على ظاهره . أكثر في بلاد المشرق من الأخذ عن الشيوخ المحدثين والمتصوفين ، ثم قدم المغرب ، فاستوطن بعض بلاده ، ثم أجاز البحر إلى الأندلس عام أربعة وسبعماية ، وأخذ عمن بها من الشيوخ ، ودخل غرناطة . وكان شافعي المذهب ، يشارك في قرض الشعر .(3/202)
"""""" صفحة رقم 203 """"""
مشيخته
أخذ عن أبي مروان عبد الملك الشريثي بفاس ، وعن أبي بكر محمد ابن محمد بن قسي المومياني ، ولبس الخرقة الصوفية من جماعة بالمشرق ، وبالمغرب ، منهم الإمام أبو إبراهيم الماجري ، عن أبي محمد صالح ، عن أبي مدين .
تواليفه
أخذ عنه تاليفه في نحو اللغة الفارسية ، وشرح ألفاظها . قال شيخنا ، الوزير أبو بكر بن الحكيم ، كتب إلي والدي ببابه ، وقد أحس بغض من الشيخ الإمام أبي عبد الله بن خميس ، عميد مجلس الوزارة الحكيمية :
عبيد بباب العلى واقف . . . أيقبله المجد أم ينصرف
فإن قبل المجد نلت المنا . . . وإلا فقدري ما أعرف
ثم كتب على لفظه ما من وصححه . قال فأذن له ، واستظرف منزعه .
محمد بن أحمد بن شاطر الجمحي المراكشي
يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بابن شاطر
حاله فقير متجرد ، يلبس أحسن أطوار الخرقة ، ويوثر الاصطلاح ، مليح الشيبة ، جميل الصورة ، مستظرف الشكل ، ملازم للمسجد ، مساكن بالمدارس ، محبب إلى الخواص ، كثير الذكر ، متردد التأوه ، شارد اللسان ، كثير الفتات ، مطرح في أكثر الأحاين للسمت ، ينزع إلى هدف تايه ، تشم عليه القحة والمجانة ، مقتحم حمى الحشمة في باب إبهام التلبيس ، يزلق سوء الإعتقاد عن صفاته ، وإن قارب الانهماك ، غير مبال بناقد ، ولا حافل بدام ، ولا حامد . كلما اتبع انفرد ، ومهمى استقام شرد ، تطيب النفس به على غرة ، ويحسن الظن بباطنه على سوء ظاهره ، مليح الحديث ، كثير الاعتبار . دايم الاسترجاع والاستغفار . فعال الموعظة . عجيب الانتزاع من الحديث والقرآن ، مع عدم الحفظ ، مستشهد بالأبيات الغريبة على الأحوال . قال شيخنا القاضي أبو عبد الله بن المقري : لقيت فيمن لقيت بتلمسان رجلين . أحدهما عالم الدنيا ، والآخر نادرتها . أما العالم فشيخنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن أحمد العبدري الآبلي ، وأما النادرة ، فأبو عبد الله بن شاطر ثم قال ، صحب أبو زيد الهزميري كثيراً ، وأبا عبد الله بن تجلات ، وأبا العباس بن البنا ، وإخوانهم من(3/203)
"""""" صفحة رقم 204 """"""
المراركشيين ومن جاورهم ، واختص بأبي زيد الهزميري ، وآثره وتبناه ، وكان يقول له ، وألقيت عليك محبة مني ، فيظهر أثر ذلك عليه ، من ستر الهنات ، ووضع القبول ، فلا تجد من يستثقله من راض عنه أو ساخط دخل الأندلس ، وقدم على غرناطة ، وتلوم بها أياما .
نبذ من أقواله
فمن ذلك أنه إذا سئل عن نفسه يقول ، أنا ولي مفسود ، وفي هذا من النصفة ، وخفة الروح ما لا خفاء به . قال بعض شيوخنا ، قلت له يوماً ، كيف أنت ، فقال ، كيف أنا محبوس في الدم . ومن حكمه ، الليل والنهار حرسيان ، أحدهما أسود ، والآخر أبيض ، وقد أخذ بمجامع الخلق إلى يوم القيامة ، وإن مررنا إلى الله . ومر يوما بأبي العباس بن شعيب الكاتب وهو جالس في جامع الجزيرة ، وقد ذهبت به الفكرة ، فصاح به فلما رفع رأسه ، قال ، وله نعش خاطر ، أنظر إلى مركب عزراييل ، قد رفع شراعه ، والندا عليه ، اركبوا يا عزا . قال شيخنا أبو عبد الله المقري ، وجدته يوماً في المسجد ذاكراً ، فقلت له ، كيف أنت ، فقال مهيم في روضة يجبرون ، فهممت بالانصراف ، فقال أين تذهب من روضة من رياض الجنة ، يقام فيها على رأسك بهذا التاج ، وأشار إلى المنار ، مملوءاً بالله أكبر . قال وأنشدني أبو العباس بن البنا ، وكتبهما عنه :
قصدت إلى الوجازة في كلامي . . . لعلمي بالصواب في الاختصار
ولم أحذر فهو ما دون فهمي . . . ولكن خفت إزراء الكبار
فشأن فحولة العلماء شاني . . . وشان البسط تعليم الصغار(3/204)
"""""" صفحة رقم 205 """"""
قال ، وأخبار ابن شاطر تحتمل كراسة ، قلت رأيته بفاس في أخريات عام خمسة وخمسين ، وهو الآن بحاله الموصوفة ، قد أربى على السبعين .
محمد بن محمد بن عبد الرحمن التميمي ، ابن الحلفاوي
من أهل تونس ، يكنى أبا عبد الله ، نزيل غرناطة ، ويعرف بالتونسي وبابن المؤذن ببلده .
حاله من العايد : قال ، ولي الله المجاب الدعوة ، الظاهر الكرامة ، المشهود له بالولاية . ورد الأندلس في جملة من تجار بلده ، وبيده مال كبير ، بذله في معاملة ربه ، إلى أن استأصله بالصدق ، وأنفقه في سبيل الله ، ابتغاء مرضاته ، وتجرد عن الدنيا ، وأخذ نفسه بالصلاة والصوم والتلاوة ، وكثرة السجود ، والتطارح على ذلك ، محفوظاً في ذلك كله ، حفظة الأولياء ، مذكرا بمن سلفه من الزهاد ، عازباً عن الدنيا أخذ نفسه بسلوك الإيتاب عنها ، رحمة للخلق ، وتمالأ للمساكين ، بقصده الناس بصدقاتهم ، فيبثها في ذوي الحاجات ، فيتألف في باب مسجده آلاف من رجالهم ونسايهم وصبيانهم ، حتى يعمه الرفد ، وتسعهم الصدقة . وكان غريب الأحوال ، إذا وصل وقت الصلاة ، يظهر عليه البشر والسرور ، ويدخل مسجده الذي ابتناه ، واحتفل فيه ، فيخلو بنفسه آخذاً في تعبدات كثيرة ، غريبة شاملة لجميع أركان المسجد ، ويزدحم الناس حول المسجد ، وأكثرهم أهل الفاقة ، فإذا تمكن الوقت ، أذن إذانا مؤثراً في القلوب ، جداً وصدقاً ووقاراً ، كان صدره ينصدع عند قول ، لا إله إلا الله ، ثم يعيد التعبد والسجود في الصومعة وأدراجها ، حتى يفتح باب المسجد ، وينتقل إلى صدر المحراب ، فيصلي ركعات خفيفة . فإذا أقام الصلاة ، ووقف عند المحراب ، ظهر عليه من الخوف والكآبة والحزن والانكسار والتضرع والتملق والرغبة ، ما لا تفي العبارة بوصفه ، كأن موقفه موقف أهل الجرايم بين أيدي الملوك الجبابرة . فإذا أتم الصلاة على أم هيئاتها ، ترى كأن الغبار على وجهه ، أو كأنه حشر من قبر ، فإذا شرع في الدعاء بأثر الصلاة ، يتلوه بترداد الصلاة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في كل دعوة ، ويتوسل به ، وتظهر عليه أحوال من الحضور والمراقبة ، وينجلي عن وجهه ما كان به . وكان يختم القرآن في شهر رمضان مائة ختمة ، فما من ليلة ، إلا ويحيي الليل كله فيها بمسجده . هذا ترتيبه ، ولو تتبعنا ما شوهد من كراماته وأحواله ، لخرجنا عن الغرض .
ولادته بتونس في حدود الأربعين وستماية .(3/205)
"""""" صفحة رقم 206 """"""
توفي في شهر بيع الثاني عام خمسة عشر وسبعماية . وكان الحفل في جنازته عظيماً ، استوعب الناس كافة ، وحضر السلطان ، فمن دونه ، وكانت تنم ، زعموا ، على نعشه وقبره رائحة المسك . وتبرك الناس بجنازته ، وقصد قبره المرضي وأهل الحاجات ، وبقي القراء يقرأون القرآن عليه مدة طويلة . وتصدق على قبره بجملة من مال ، ففدى به طايفة من الأسرى . وقبره بباب إلبيرة عن يمين الخارج إلى مقبرة العسال ، معروف هنالك .
محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن يوسف اللواتي
من أهل طنجة ، يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بابن بطوطة
حاله
من خط شيخنا أبي البركات ، قال ، هذا رجل لديه مشاركة يسيرة في الطلب ، رحل من بلاده إلى بلاد المشرق يوم الخميس الثاني من رجب عام خمسة وعشرين وسبعماية ، فدخل بلاد مصر والشام والعراق ، وعراق العدم ، وبلاد الهند والسند ، والصين ، وصين الصين ، وبلاد اليمن . وحج عام ستة وعشرين وسبعماية . ولقي من الملوك والمشايخ عالماً ، وجاور بمكة . واستقر عند ملك الهند ، فحظي لديه ، وولاه القاضاء ، وأفاده مالاً جسيماً . وكانت رحلته على رسم الصوفية زيا وسجية ، ثم قفل إلى بلاد المغرب ، ودخل جزيرة الأندلس ، فحكمى بها أحوال المشرق ، وما استفاد من أهله ، فكذب ، وقال ، لقيته بغرناطة ، وبتنا معه ببستان أبي القاسم ابن عاصم بقرية نبلة ، وحدثنا في تلك الليلة ، وفي اليوم قبلها عن البلاد المشرقية وغيرها ، فأخبر أنه دخل الكنيسة العظمى بالقسطنطنية العظمى ، وهي على قدر مدينة مسقفة كلها ، وفيها اثني عشر ألف أسقف . قلت ، وأحاديثه في الغرابة أبعد من هذا . وانتقل إلى العدوة ، فدخل بلاد السودان ، ثم تعرف أن ملك المغرب استدعاه ، فلحق ببابه . وأمر بتدوين رحلته .(3/206)
"""""" صفحة رقم 207 """"""
سائر الأسماء في حرف الميم الملوك والأمراء ، وما منهم إلا طارئ علينا أو غريب
مزدلي بن تيولتكان بن حمني بن محمد بن ترقوت بن وربابطن بن منصور ابن نصاله بن أمية بن واباتن الصنهاجي اللتموني
حاله كان الأمير مزدلي عضد القايم بالدولة اللمتونية يوسف بن تاشفين ، وقريبه لا لتقائهما في ترقوت ، راش به وبرى ، وجز وفرى ، فهو شيخ الدولة اللمتونية ، وكبير العصابة الصنهاجية ، بطلاً ثبتاً ، بهمة من البهم بعيد الصيت ، عظيم الجلد ، شهير الذكر ، أصيل الرأي ، مستحكم الحنكة ، طال عمره ، وحمدت مواقعه ، وبعدت غاراته ، وعظمت في العدو وقايعه ، وشكرت عن سلطانه نيابته .
من مناقبه ، استرجاع مدينة بلنسية من أيدي الروم بسعيه ، ورده إلى ملكة الإسلام بحميد غنايه في منتصف رجب عام خمس وخمس ماية .
دخوله غرناطة ، ولي قرطبة وغرناطة وما إليهما من قبل يوسف بن تاشفين سنة خمس وخمسماية .
قال ابن الصيرفي ، توفي ليلة الثلاثاء السابع عشر من شوال عام ثمانية وخمس ماية ، غازياً على مقربة من حصن قسطانية ، طرق به إلى قرطبة ، فوصل يوم الأربعاء ثاني يوم وفاته ، وصلى عليه إثر صلاة العصر الفقيه القاضي بقرطبة أبو القاسم بن حمدين ، ودفنه قرب أبيه ، وبنيت عليه روضة حسنة . وكان ، نضر الله وجهه ، البقية الصالحة على نهج أمير المسلمين يوسف .
موسى بن محمد بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي الهنتاتي
السيد أبو عمران .
حاله
بيته معروف . وكان أديباً شاعراً ، جواداً ، واختص بالعادل ، فجل قدره في دولته ، وأمله الناس بإشبيلية في حوايجهم لمحله منهم . ولما انصرف عنها العادل إلى طلب الخلافة ، قدمه عليها ، فبلغ الغاية .
وفي شوال من عام اثنين وعشرين وستماية ، كانت على جيشه الوقيعة ، أوقعها به السيد أبو محمد البياسي ، وأخباره شهيرة .
وتوفي تغريقاً في البحر بعد أن ولي بجاية ، رحمه الله وعفا عنه .(3/207)
"""""" صفحة رقم 208 """"""
شعره
قال ، وكان أبو المطرف بن عميرة ، ينشد له ، يخاطب الفقيه الأديب أبا الحسن بن حريق بستحثه على نظم الشعر في عروض الخبب :
خذ في الأشعار على الخبب . . . فقصورك عنه من العجب
هذا وبنو الآداب قضوا . . . بعلو مجدك في الرتب
فنظم له أبو الحسن القصيدة المشهورة ، منها :
أبعيد الشيب هوى وصبا . . . كلا لا لهواً ولا لعبا
ذرت الستون برادنها . . . في مسك عذارك فاشتهبا
ومنها :
يا نفس أحيي تصلي أملاً . . . عيشي روحيا تروي عجبا
وخذي في شكر الكبرة ما . . . لاح إلا صباح وما ذهبا
فيها أحرزت معارف ما . . . أبليت بجدته الحقبا
والخم إذا أعتقت وصفت . . . أعلى ثمناً منها عنبا
وبقية عمر المرء له أن . . . كان بها طبا دربا
دخل غرناطة ، فوجب ذكره مع مثله .
منديل بن يعقوب بن عبد الحق بن محيو الأمير أبو زيان
حاله
كان فاضلاً عاقلاً جواداً ، عينه أبوه أمير المسلمين أبو يوسف بن عبد الحق ، للضرب على أحواز مالقة عند الفتنة ، فاضطرب المحلة تجاه سهيل ، وضيق على تلك الأحواز ، وبرز إليه الجيش لنظر موسى بن رحو من قرابته ، النازعين عن إيالة المغرب من بني رحو . وكان اللقاء ، فوقعت به الذبرة ، وانهزم جيشه ، وقبض عليه ، وسيق إلى السلطان ، فتلقاه بالبر ، ورعى ما لبيته الكبير من الحق ، وأسكنه مجاوراً لقصره بحمرايه ، مرفهاً عليه ، محجوزاً عن التصرف ، إلى أن كان(3/208)
"""""" صفحة رقم 209 """"""
ما تلاحق بهذه الحل من وفاة أبيه السلطان أبي يوسف بالجزيرة الخضراء ، وتصير الأمر إلى ولده السلطان أمير المسلمين أبي يعقوب يوسف . وتجدد الألفة وتأكدت المودة ، وارتفعت الإحنة ، فكان ما هو معروف من التقايهما على تعينة إجازة ملك المغرب أبي يعقوب البحر على ظاهر مربلة ، وصرف الأمير أبو زيان محبواً بما يليق به . حدثني شيخنا أبو زكريا بن هذيل رحمه الله ، قال ، نصب للسلطان أبي يعقوب خباء احتفل في اتخاذه له أمير سبتة ، فبلغ الغاية التي لا يستطيعها الملوك ، سمو عماد ، وامتداد ظل ، وانفساح ساحة ، إلى إحكام الصنعة ، والإعياء في الزخرف . وقعد فيه السلطان ملك المغرب ، وأجلس السلطان أمير المسلمين أبا عبد الله ابن الغالب بالله ، عن يمينه ، وأخاه الأمير أبا زيان عن يساره ، وقرأ عشاره المعروف بالوقاد ، آية الله في حسن الصوت ، وبعد مدي السمع ، وطيب النغمة ، قوله عز وجل ، ' يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر ، وجئنا ببضاعة مزجاة ، فأوف لنا الكيل ، وتصدق علينا ، إن الله يجزي المتصدقين . قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه ، إذ أنتم جاهلون ، قالوا إنك لأنت يوسف ، قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا ، إنه من يتق ويصبر ، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين . قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين ، قال لا تثريب عليكم اليوم ، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ' . فكان مقاماً مبهتاً . كان السلطان رحمه الله يقول ، لشد ما جنى علي عدو الله بقحته ، والله لقد كان يشير بيده إلى السلطان وأخيه عند قوله ، أنا يوسف وهذا أخي . ثم أجاز للعدوة ، فطاح بها لعهد غير بعيد .
وكان الإيقاع بجيش الأمير أبي زيان في أخريات ذي الحجة عام أربعة وثمانين وستماية . فاتصل بذلك موت والد أمير المسلمين أبي يوسف بالخضراء في شهر محرم عام خمسة وثمانين بعده ، وكان لقاء السلطانين بالخضراء في شهر محرم عام خمسة وثمانين هذه ، وكان اللقاء كما ذكر في شهر ربيع الآخر من العام المذكور .(3/209)
"""""" صفحة رقم 210 """"""
ومن الطارئين
المطرف بن عبد الله بن محمد ابن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية
حاله
كان المطرف ، ولد الخليفة عبد الله أمير المسلمين بالأندلس ، شجاعاً مقداماً ، جرياً ، صرفه والده الخليفة في الغزوات ، وقود العساكر ، وهو الذي بنى حصن لوشة ، ووقم كثيرا من الخوارج على والده .
دخوله غرناطة
قال ابن حيان غزا المطرف ببشتر بسبب ابن حفصون ، إذ كان صالح الأمير عبد الله ، ودفع رهينة ابنه ، فلما امتحن الطفل ، وجد غير ابنه ، فنهض إليه المطرف ، وكان القايد على العسكر قبله عبد الملك ابن أمية ، فنهض صحبته ، ونازل المطرف ابن حفصون ، فهتك حوزته ، وتقدم إلى بنية كان ابتناها بموضع يعرف باللويات ، فشرع في خرابها ، وخرج ابن حفصون ومن معه من النصرانية يدافع عنها ، وعن كنيسة كانت بقربها ، فغلب ابن حفصون ، وهدمت الكنيسة ، وقتل في هذه الحرب حفص بن المرة قايده ووجوه رجاله ، وعند الفراغ من ذلك . انصرف المطرف ، فدخل كورة إلبيرة ، وبنا لوشة ، وتقدم منها إلى إلبيرة ودخلها ، ثم طاف بتلك الجهات والحصون ، ثم انصرف .
ذكر إيقاعه بعبد الملك بن أمية وسبب ، الإحنة بينه وبين أبيه قال ، وفي هذه اذكر إيقاعه بعبد الملك بن أمية وسبب ، الإحنة بينه وبين أبيه قال ، وفي هذه الحركة ، أوقع بعبد الملك بن أمية ، لما كان في نفسه لصرف والده عن عقد البيعة له ، وتمزيق العهد في خبر يطول . وكان والده قد أخذ عليه(3/210)
"""""" صفحة رقم 211 """"""
الميثاق عند خروجه إلى شذونة ، ألا يعرض إليه بمكروه ، وأقسم له بالإيمان ، لين نال منه شيئاً ليعاقبنه بمثله ، فلما قتله ، عقد الوثائق عليه ، وأخذ الشهادات فيها بالظلم والشؤم خوفاً من أبيه ، وكتب إليه يعتذر له ، ويحكمه في نفسه .
مقتل المطرف قال ، وظهرت عليه ، فعال قبيحة ، من أذى جيرانه بما أكد غايلة أبيه عليه ، وأعان عليه معاوية بن هشام ، لما ذكروا أن المطرف كان قد خلا به ، فذكروا أنه نزل يوماً عنده بمنزله ، وأخذوا في حديث الأبناء ، وكان المطرف عقيماً ، فدعا معاوية بصبي يكلف به ، فجاء وبرأسه ذؤابتان ، فلما نظر إليه المطرف حسده ، وقال يا معاوية ، أتتشبه بأبناء الخلفاء في بنيهم ، وتناول السيف فحز به الذؤابة ، وكان معاوية حية قريش دهاء ومكراً ، فأظهر الاستحسان لصنعه وانبسط معه في الأنس ، وهو مضطغن . فلما خرج كتب إلى الخليفة يسأله اتصاله إليه ، فلما أوصله كاشفه في أمر المطرف بما أزعجه ، وأقام على ذلك ليلاً أحكم أمره عند الخليفة بلطف حيلته ، فأصاب مقتله سهم سعايته . قال ابن الفياض ، بعث الأمير عبد الله إلى دار ولده المطرف عسكراً للقبض عليه ، مع ابن مضر ، فقوتل في داره حتى أخذ ، وجيء به إليه ، فتشاور الوزراء في قتله ، فأشار عليه بعضهم أن لا يقتله ، وقال بعضهم إن لم تقتله قتلك ، فأمر ابن مضر بصرفه إلى داره ، وقتله فيها ، وأن يدفنه تحت الريحانة التي كان يشرب الخمر تحتها ، وهو ابن سبع وعشرين سنة ، وذلك في يوم الأحد ضحى لعشر خلون من رمضان سنة اثنتين وثمانين ومائتين .
منذر بن يحيى التجيبي
أمير الثغر المنتزي بعد الجماعة بقاعدة سرقسطة ، يكنى أبا الحكم ويلقب بالحاجب المنصور ، وذي الرياستين .
حاله
قال أبو مروان ، وكان أبو الحكم رجلا من عرض الجند ، وترقى إلى القيادة آخر دولة ابن أبي عامر . وتناهى أمره في الفتنة إلى(3/211)
"""""" صفحة رقم 212 """"""
الإمارة . وكان أبوه من الفرسان غير النبهاء . فأما ابنه منذر ، فكان فارساً تقي الفروسية ، خارجاً عن مدى الجهل ، يتمسك بطرف من الكتابة الساذجة . وكان على غدره ، كريماً ، وهب قصاده مالاً عظيماً ، فوفدوا عليه ، وعمرت لذلك حضرته سرقسطة . فحسنت أيامه ، وهتف المداح بذكره .
وفيه يقول أبو عمرو بن دراج القسطلي قصيدته المشهورة ، حين صرف إليه وجهه ، وقدم عليه في سنة ثمان وعشرين وأربعماية :
بشراك من طول الترحل والسرى . . . صبح بروح السفر لاح فأسفرا
من حاجب الشمس الذي حجب الدجا . . . فجراً بأنهار الذرى متفجرا
نادى بحي على الندى ثم اعتلا . . . سبل العفاة مهللاً ومكبرا
لبيك أسمعنا نداك ودوننا . . . نوء الكواكب مخويا أو ممطرا
من كل طارق ليل هم ينتحي . . . وجهي بوجه من لقايك أزهرا
سار ليعدل عن سمايك أنجمي . . . وقد ازدهاها عن سناك محيرا
فكأنما أعدته أسباب النوى . . . نور الهدى عن يديك منورا
أو غار رمن هممي فأنحى شأوها . . . فلك البروج مغرباً ومغورا
حتى علقت النيرين فأعلقا . . . مثنى يدي ملك الملوك النيرا
فسريت في حرم الأهلة مظلما . . . ورفلت في خلع السموم مهجرا
وشعيت أفلاذ الفؤاد ولم أكد . . . فحذوت من حذو الثريا منظرا
ست تسراها الجلاء مغرباً . . . وحدا بها حادي النجاء مشمرا
لا يستفيق الصبح منها ما بدا . . . فلقاً ولا جدى الفراقد ما سرا(3/212)
"""""" صفحة رقم 213 """"""
ظعن ألفن القفر في غول الدجا . . . وتركن مألوف المعاهد مقفرا
يطلبن لج البحر حيث تقاذفت . . . أمواجه والبر حيث تنكرا
هيم وما يبغين دونك موردا . . . أبدا ولا عن بحر جودك مصدرا
من كل نضو الآل محبوك المنى . . . يزجيه نحوك كل محبوك القرا
بدن فدت منا دماء نحورها . . . ببغائها في كل أفق منحرا
نحرت بنا صدر الدبور فأنبطت . . . قلق المضاجع تحت جو أكدرا
وصبت إلى نحو الصبا فاستخلصت . . . سكن الليالي والنهار المبصرا
خوص نفخن بنا البري حتى انثنت . . . أشلاؤهن كمثل أنصاف البرا
نذرت لنا أن لا تلقي راحة . . . مما تلاقى أو تلاقى منذرا
وتقاسمت أن لا تسيغ حياتها . . . دون ابن يحيى أو تموت فتعذرا لله أي أهلة بلغت بنا . . . يمناك يا بدر السماء المقمرا
بل أي غصن في ذاك هصرته . . . فجرى فأورق في يديك وأثمرا
فلئن صفا ماء الحياة لديك لي . . . فبما شرقت إليك بالماء الصرى
ولئن خلعت على برداً أخضرا . . . فلقد لبست إليك عيشاً أغبرا
ولئن مددت علي ظلا باردا . . . فلكم صليت إليك جواً مسعرا
وكفى لمن جعل الحياة بضاعة . . . ورأى رضاك يها رخيصاً فاشترى
فمن المبلغ عن غريب نازح . . . قلبا يكاد علي أن يتفطرا
لهفان لا يرتد طرف جفونه . . . إلا تذكر عبرتي فاستعبرا
أبني لا تذهب بنفسك حسرة . . . عن غول رحلي منجدا أو مغورا
فلئن تركت الليل فوق داجيا . . . فلقد لقيت الصبح بعدك أزهرا
ولقد وردت مياه مأرب حفلاً . . . وأسمت خيلي وسط جنة عبقرا
ونظمت للغيد الحسان قلائداً . . . من تاج كسرى ذي البهاء وقيصرا(3/213)
"""""" صفحة رقم 214 """"""
وحللت أرضاً بدلت حصباؤها . . . ذهباً يرف لناظري وجوهرا
وليعلم الأملاك أني بعدهم . . . ألفيت كل الصيد في جوف الفرا
ورمى علي رداءه من دونهم . . . ملك تخير للعلا فتخيرا
ضربوا قداحهم علي ففاز بي . . . من كان بالقدح المعلى أجدرا
من فك طرفي من تكاليف الفلا . . . وأجار طرفي من تباريح السرى
وكفا عتابي من ألام معذرا . . . وتذممى ممن تحمل معذرا
ومسائل عني الرفاق ووده . . . لو تنبذ السانحات رحلي بالعرا
وبقيت في لجج الأسى متضللاً . . . وعدلت عن سبل الهدى متحيراً
كلا وقد آنست من هود هدى . . . ولقيت يعرب في القبول وحميرا
وأصبت في سبإ مورث ملكه . . . يسبي الملوك ولا بدب لها الضرا
فكأنما تابعت تبع رافعاً . . . أعلامه ملكاً يدين له الورى
والحارث الجفني ممنوع الحمى . . . بالخيل والآساد مبذول القرى
وحططت رحلي بين نار حاتم . . . أيام يقرى موسراً أو معسرا
ولقيت زيد الخيل تحت عجاجه . . . يكسو غلايلها الجياد الضمرا
وعقدت في يمن مواثق ذمة . . . مشدودة الأسباب موثقة العرى
وأتيت بحدل وهو يرفع منبرا . . . للدين والدنيا وبخفض منبرا
وحططت بين جفانها وجفونها . . . حرماً أبت حرماته أن تخفرا
تلك البحور تتابعت وخلفتها . . . سعياً فكنت الجوهر المتخيرا
ولقد نموك ولادة وسيادة . . . وكسوك عزاً وابتنوا لك مفخرا(3/214)
"""""" صفحة رقم 215 """"""
فممرت بالآمال أكرم أكرم . . . ملكاً ورثت علاه أكبر أكبرا
وشمايل عبقت بها سبل الهدى . . . وذرت على الآفاق مسكاً أذفرا
أهدى إلى شغف القلوب من الهوى . . . وألذ في الأجفان من طعم الكرى
ومشاهد لك لم تكن أيامها . . . ظناً يريب ولا حديثاً يفترى
لاقيت فيها الموت أسود أدهما . . . فذغرته بالسيف أبيض أحمرا
ولو اجتلى في زي قرنك معلماً . . . لتركته تحت العجاج معفرا
يا من تكبر بالتكرم قدره . . . حتى تكرم أن يرى متكبرا
والمنذر الأعداء بالبشرى لنا . . . صدقت صفاتك منذرا ومبشرا
ما صور الإيمان في قلب امرئ . . . حتى يراك الله فيه مصورا
فارفع لها علم الهدى فلمثلها . . . رفعتك أعلام السيادة في الذرى
وانصر نصرت من السماء فإنما . . . ناسبت أنصار النبي لتنضرا
واسلم ولا وجدوا لجوك منفساً . . . في النائبات ولا لبحرك معبرا
سيرته قال ، وساس لأول ولايته عظيم الفرنحة . فحفظت أطرافه ، وبلغ من استمالته طوايف النصرانية ، أن جرى على يديه بحضرته . عقد مصاهرة بعضهم ، فقرفته الألسنة لسعيه في نظام سلك النصارى . وعمر به الثغر إلى أن ألوت به المنية . وقد اعترف له الناس بالرأي والسياسة .
كتابه . واستكتب عدة كتاب كابن مدور وابن أزرق . وابن واحب وغيرهم .
وصوله إلى غرناطة
وصل غرناطة صحبة الأمير المرتضى الآتي ذكره ، وكان ممن انهزم بانهزامه . وذكروا أنه مر بسليمان بن هود ، وهو مثبت للإفرنج الذين كانوا في المحلة لا يريم موقفه ، فصاح به النجاة ، يا بن الفاعلة ، فلست أقف عليك ، فقال له سليمان ، جيت والله بها صلعاً ، وفضحت أهل الأندلس ، ثم انقلع وراءه .(3/215)
"""""" صفحة رقم 216 """"""
وفاته
وكانت على يدي رجل من أبناء عمه يدعى عبد الله بن حكم ، كان مقدماً في قواده ، أضمر غدره ، فدخل عليه ، وهو غافل في غلالة ، ليس عنده إلا نفر من خواص خدمه الصقلب ، قد أكب على كتاب يقرؤه ، فعلاه بسكين أجهز به عليه . وأجفل الخدم إلا شهم منهم أكب عليه فمات معه . وملك سرقسطة ، وتمسك بها أياما ، ثم فر عنها ، وملكها ابن هود . وكان الإيقاع به غرة ذي حجة سنة ثلاثين وأربعمائة ، رحمة الله عليه .
موسى بن يوسف بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن بن زيان
الأمير بتلمسان ، يكنى أبا حمو .
أوليته
أوليته معروفة تنظر فيما سلف من الأسماء .
حاله
هذا السلطان مجمع على حزمه ، وضمه لأطراف ملكه . واضطلاعه بأعباء ملك وطنه ، وصبره لدولة قومه . وطلوعه بسعادة قبيله . عاقل ، حازم ، خصيف ، ثابت الجأش ، وقور مهيب ، جماعة للمال ، مباشر للأمور ، هاجر للذات ، يقظ ، متشمر . قام بالأمر غرة ربيع الأول في عام ستين ، مرتاش الجناح بالأحلاف من عرب القبلة ، معولاً عليهم عند قصد عدوه ، وحلب ضرع الجباية ، فأثرى بيت ماله ، ونبهت دولته ، واتقته جيرته ، فهو اليوم ممن يشار إليه بالسداد .
أدبه وشعره
ووجه لهذا العهد في جملة هدايا ودية ، ومقاصد سنية ، نسخة من كتابه المسمى بواسطة السوك في سياسة الملك ، افتتحه بقوله : الحمد لله الذي جعل نعمته على الخلق ، بما ألفهم عليه من الحق ، شاملة شايعة ، ويسر طوايف من عباده لليسرى ، فأتت إليها مساعدة مسارعة ، وحضهم على الأخذ بالحسنى ، ولا أن أحسن من نفوس أرشدت ، فأقبلت لإرثها طالبة ولربها طايعة . ولا أسمى من همم نظرت بحسن السياسة ي تدبير الرياسة ، التي هي لأشتات الملك(3/216)
"""""" صفحة رقم 217 """"""
جامعة ، ولأسباب الملك مانعة ، وأظهرت من معادنها درر الحكم ، وغرر الكلم لايحة لامعة ، فاجتلت أقمارها طالعة ، واجنت أزهارها يانعة . وصلى الله على سيدنا محمد الكريم ، المبعوث بالآيات البينات ، ساطية ساطعة ، والمعجزات المعجمات قاصمة لظهور الجاحدين قاطعة . الذي زويت له الأرض ، فتدانت أفكارها وهي نابية شاسعة ، واشتاقت له المياه ، فبرزت بين أصابعه يانعة ، وامتثل السحاب أمره ، فسح باستسقايه دراً هامية هامعة ، وحن الجذع له ، وكان حنينه لهذه الآيات الثلاث آية رابعة ، إلى ما لا يحصى مما أتت به متواترات الأخبار ، وصيحات الآثار ، ناصرة لنبوته ساطعة . صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ، وعترته التي أجابت داعي الله خاشية خاشعة ، وأذعنت لأوامر رسول الله ، ( صلى الله عليه وسلم ) ، فكانت من الاستبداد خالية ، وللأنداد خالعه ، صلاه ديمتها دايمة متتابعة ، وسلم كثيرا .
جمع فيه الكثير من أخبار الملوك وسيرهم ، وخص به ولده وولي عهده ، فجاء مجموعاً يستظرف من مثله ، ويدل على مكانه من الأدب ومحله .
وثبت فيه الكثير من شعره ، فمن ذلك قصيدة أجاب فيها أحد رؤوس القبايل ، وقد طلب منه الرجوع إلى طاعته ، والانتظام في سلك جماعته ، وهي :
تذكرت أطلال الربوع الطواسم . . . وما قد مضى من عهد المتقادم
وقفت بها من بعد بعد أنسها . . . بصبر مناف أو بشوق ملازم
تهيم بمغناهم وتندب ربعهم . . . وأي فؤاد بعدهم غير هايم
تحن إلى سلمى ومن سكن الحمى . . . وما حب سلمى للفتى بمسالم
فلا تندب الأطلال واسل عن الهوى . . . ولا تقل في تذكار تلك المعالم
فإن الهوى لا يستفز ذوي النهى . . . ولا يستبي إلا الضعيف العزايم صبور على البلوى طهور من الهوى . . . قريب من التقوى بعيد المآثم
ومن يبغ درك المعلوات ونيلها . . . يساق بخلق الشهد مر العلاقم
ولايمة لما ركبنا إلى العلا . . . بحار الردى في لجها المتلاحم
تقول بإشفاق أتنسى هوى الدما . . . وتنثر درراً من دموع سواجم
إليك فإنا لا يرد اعتزامنا . . . مقالة باك أو ملامة لايم
ألم تدر أن اللوم لوم وأننا . . . لنجتنب اللوم اجتناب المحارم(3/217)
"""""" صفحة رقم 218 """"""
فما بسوي العليا همنا جلالة . . . إذا هام قوم بالحسان النواعم
بروق السيوف المشرفيات والقنا . . . أحب إلينا من بروق المباسم
وأما صميل السابحات لذي الوغى . . . فأشجى لدينا من غنا الحمايم
وأحسن من قد الفتاة وخدها . . . قدود العوالي أو خدود الصوارم
إذا نحن جردنا الصوارم لم تعد . . . إلا غمادها الأبحر الغلاصم
نواصل بين الهند وأني الطلا . . . بتفريق ما بين الطلي والجماجم
فيرغب منا السلم كل محارب . . . ويرهب منا الحرب كل مسالم
نقود إلى الهيجاء كل مضمر . . . ونقدم إقدام الأسود الضراغم
وما كل من قاد الجيوش إلى العدا . . . يعود إلى أوطنانه بالغنائم
وننصر مظلوما ونمنع ظالما . . . إذا شيك مظلوم بشوكة ظالم
ويأوي إلينا المستجير ويلتجي . . . ويحميه منا كل ليث صيارم
ألم تر إذ جاء السبيعي قاصدا . . . إلى بابنا يبغي التماس المكارم
وذلك لما أن جفاه صحابه . . . وكل خليل وده غير دايم
وأزمع إرسالاً إلينا رسالة . . . بإخلاص ود واجب غير واجم
وكان رأى أن المهامة بيننا . . . فخلى لذات الخف ذات المناسم
وقال ألا سل من عليم مجرب . . . أبث له ما تحت طي الحيازم
فيبلغ عنه الآن خير رسالة . . . تودي إلى خير الملوك الأعاظم
على ناقة وجناء كالحرف ضامر . . . تخيرها بين القلاص الرواسم
من اللايي يظلمن الظليم إذا عدى . . . ويشبهه في جيده والقوايم
إذا أتلعت فوق السحاب جوابها . . . تخليتها تعض السحاب الرواكم
وإن هلمجت بالسير في وسط مهمه . . . نزلت كمثل البرق لاح لشايم
ولم يأمن الخلان بعد اختلالهم . . . فأمسى وفي أكبادها أي جاحم(3/218)
"""""" صفحة رقم 219 """"""
فقالوا فحملها الحمايم قال لا . . . لبعد المدا أو خوف صيد الحمايم
وما القصد إلا في الوصول بسرعة . . . فقالوا فحملها أكف النواسم
فقال لنعم المرسلات وإنما . . . لها ألسن مشهورة بالنمايم
فلم يلف فيها للأمانة موضعا . . . وكل امرئ للسر ليس بكاتم
فحينئذ وافى إلينا بنفسه . . . فكان لدينا خير واف وقادم
يجوب إلينا البيداء قصداً وبشرنا . . . يضيء له الظلماء في كل عاتم
طلاب العلا تسري مع الوحش في الفلا ويصحب منها كل باغ وباغم
على سلهب ذي صوتين مطعم . . . من المغربات الصافنات الصلادم
إذا شاء أي الوحش أدركه به . . . فتحسبه في البيد بعض النعايم
ويقدمه طوعاً إلينا رجلؤه . . . حمايتنا إياه من كل ظالم
ألا أيها الآتي لظل حناننا . . . نزلت برحب في عراص المكارم
وقوبلت منا بالذي أنت أهله . . . وفاض عليك الجود فيض الغمايم
كذا دأبنا للقادمين محلنا . . . حمى ونداً ينسي به جود حاتم
وهذا جواب عن نظامك إننا . . . بعثنا به كاللؤلؤ المتناظم
ونحن ذوو التيجان من آل حمير . . . لعمرك ما التيجان غير العمايم بهمتنا العليا سمونا إلى العلا . . . وكم دون إدراك العلا من ملاحم
شددنا لها أزراً وشدنا بناءها . . . وكم مكثت دهراً بغير دعائم
نظمنا شتيت المجد بعد افتراقه . . . وكمم بات نهباً شمله دون ناظم
ورضنا جياد الملك بعد افتراقه . . . وكم بات نهباً شمله دون ناظم
ورضنا جياد الملك بعد جماحها . . . فذلت وقد كانت صعاب الشكايم
مناقب زيانية موسوية . . . يذل لها عز الملوك القماقم
يقصر عن إدراكها كل مبتغ . . . ويعجز عن إحصايها كل ناظم
فلله منا الحمد والشكر دايماً . . . وصلى الله على المختار من آل هاشم
ونختصكم منا السلام الأثير ما . . . تضاحك روض عن بكاء الغمايم(3/219)
"""""" صفحة رقم 220 """"""
قلت ، ولما تعرفت كلفه بالأدب ، والإمام بمجاورته ، عزمت على لقايه ، وتشوقت عند العزم على الرحلة الحجازية ، إلى زيارته ، ولذلك كنت أخاطبه بكلمة منها :
على قدر قد جيت قومك يا موسى . . . فجلت بك النعمى وزالت بك البوسى
فحالت دون ذلك الأحوال . وهو بحاله الموصوفة إلى هذا العهد . وفقه الله ، وساير من تولى أمراً من أمور المسلمين .
وجرى ذكره في رجز الدول من نظمي :
بادرها المفدى الهمام موسى . . . فأذهب الرحمن عنها البوسى
جدد فيها الملك لما أخلقا . . . وبعث السعد وقد كان لقا
ورتب الرتبا والرسوما . . . وأطلع الشموس والنجوما
واحتجن المال بها والعدة . . . وهو بها باق لهذي المدة
ولد بمدينة غرناطة حسبما وقعت عليه بخط الثقة من ناسه ، في أول عام ثلاثة وعشرين وسبعماية .
مبارك ومظفر الأميران موليا المنصور بن أبي عامر
حالهما
قال أبو مروان ، ترقيا إلى تملك بلنسية من وكالة الساقية ، وظهر من سياستهما وتعارضهما صحة الألفة طول حياتهما ، ما فاتا به في معناها أشقاء الأخوة ، وعشاق الأحبة ، إذ نزلا معاً بقصر الإمارة مختلطين ، تجمعهما مائدة واحدة من غير تميز في شيء ، إلا الحرم خاصة . وكان التقدم لمبارك في المخاطبة ، وحفظ رسوم الإمارة ، أفضل صرامة وذكراً ، قصر عنهما مظفر ، لدمائه خلقه ، وانحطاطه(3/220)
"""""" صفحة رقم 221 """"""
لصاحبه في ساير أمره ، على نحلته بكتابة ساذجة وفروسة ، فبلغا الغاية من اقتناء الأسلحة والآلات الملوكية ، والخيل المغربات ، ونفيس الحلى والحلل ، وإشادة البناء للقصور . واشتمل هذا الرأي على جميع أصحابهم ، ومن تعلق بهما من وزرايهما وكتابهما ، ولم يعرض لهما عارض إنفاق بتلك الآفاق ، فانغمسا في النعيم إلى قمم رؤوسهما حتى انقضى أمرهما .
قال ، وكان موت مبارك أنه ركب يوماً من قصر بلنسية ، وقد تعرض أهلها مستغيثين من مال افترضه عليهم ، فقال لهم ، إن كنت لا أريد إنفاقه فيما يعم المسلمين نفعه ، فلا تؤخر عقوبتي يومي هذا . وركب إثر ذلك . فلما أتى القنطرة ، وكانت من خشب ، خرجت رجل فرسه من خدها فرمى به أسفلها ، واعترضته خشبة ناتئة شرخت وجهه ، وسقط الفرس عليه ، ففاضت نفسه ، وكفاهم الله أمره يومئذ .
وفي مبارك ومظفر يقول أبو عمرو بن دراج القسطلي رحمه الله :
أنورك أم أوقدت بالليل نارك . . . لباغ قراك أو لباغ جوارك
ورياك أم عرف المجامر أشعلت . . . بعود الكباء والألوة نارك
ومبسمك الوضاح أم ضوء بارق . . . حداه دعائي أن يجود ديارك
وخلخالك استنضيت أم قمر بدا . . . وشمس تبدت أم ألحت سوارك(3/221)
"""""" صفحة رقم 222 """"""
وطرة صبح أم جبينك سافرا . . . أعرت الصباح نوره أم أعارك
وأنت هجرت الليل إذ هزم الضحى . . . كتائبه والصبح لما استجارك
فللصبح فيما بين قرطيك مطلع . . . وقد سكن الليل البهيم خمارك
فيا لنهار لا يغيض ظلامه . . . وبالظلام لا يغيض نهارك
ونجم الثريا أم لآل تقسمت . . . يمينك إذ ضمختها أم يسارك
لسلطان حسن في بديع محاسن . . . يصيد القلوب النافرات نفارك وجند غرام في دروع صبابة . . . تقلدن أقدار الهوى واقتدارك
هو الملك لا بلقيس أدرك شأوها . . . مداك ولا الزباء شقت غبارك
وقادحة الجوزاء راعيت موهناً . . . بحر هواك أم ترسمت دارك
وطيفك أسرى فاستثار تشوقي . . . إلى العهد أم شوقي إليك استشارك
وموقد أنفاسي إليك استطارني . . . أم الروح لمارد في استطارك
فكم جزت من بحر إلي ومهمة . . . يكاد ينسي المستهام ادكارك(3/222)
"""""" صفحة رقم 223 """"""
أذو الحظ من علم الكتاب حداك لي . . . أم الفلك الدوار نحوي أدارك
وكيف كتمت الليل وجهك مظلماً . . . أشعرك أعشيت السنا أم شعارك
وكيف اعتسفت البيد لافى ظعائن . . . ولا شجر الخطي حف شجارك
ولا أذن الحي الجميع برحلة . . . أراح لها راعي المخاض عشارك
ولا أرزمت خوص المهارى مجيبة . . . صهيل جياد يكتنفن قطارك
ولا أذكت الركبان عنك عيونها . . . حذار عيون لا ينمن حذارك
وكيف رضيت الليل ملبس طارق . . . وما ذر قرن الشمس إلا استنارك
وكم دون رحلي من بروج مشيدة . . . تحرم من قرب المزار مزارك
وقد زأرت حولي أسود تهامست . . . لها الأسد أن كفى عن السمع زارك
وأرضي سيول من خيول مظفر . . . وليلي نجوم من سماء مبارك(3/223)
"""""" صفحة رقم 224 """"""
بحيث وجدت الأمن يهتف بالمنى . . . هلمي إلى عينين جادا سرارك
هلمي إلى بحرين قد مرج الندى . . . عبابيهما لا يسأمان انتظارك
هلمي إلى سيفين والحد واحد . . . يجيران من صرف الحوادث جارك
هلمي إلى طرفي رهان تقدما . . . إلى الأمد الجالي عليك اختيارك
هلمي إلى قطبي نجوم كتايب . . . تنادي نجوم التعس غورى مغارك
وحيي على دوحين جاد نداهما . . . ظلالك واستدني إليك ثمارك
وبشراك قد فازت قداحك بالعلا . . . وأعطيت من هذا الأنام خيارك
شريكان في صدق المنى وكلاهما . . . إذا قارن الأقران غير مشارك
هما سمعا دعواك يا دعوة الهدى . . . وقد أوثق الدهر الخثون إسارك
وسلا سيوفاً لم تزل تلتظي أسى . . . بثارك حتى أدركا لك ثارك
ويهنيك يا دار الخلافة منهما . . . هلالان لاحا يرفعان منارك
كلا القمرين بين عينيه غرة . . . أثارت كسوفيك وجلت سرارك(3/224)
"""""" صفحة رقم 225 """"""
فقاد إليك الخيل شعثاً شوازيا . . . يلبين بالنصر العزيز انتصارك
سوابق هيجاء كأن صهيلها . . . يجاوب تحت الخافقات شعارك
بكل سرى العتق سرى عن الهدى . . . وكل حمي الأنف أحمى ذمارك
تحلوا من المنصور نصراً وعزة . . . فأبلوك في يوم البلاء اختيارك
إذا انتسبوا يوم الطعان لعامر . . . فعمرك يا هام العدى لا عمارك
يقودهم منهم سراجاً كتايب . . . يقولان للدنيا أجدى افتخارك
إذا افترت الريات عن غرتيهما . . . فيا للعدى أضللت منهم فرارك
وإن أشرق النادي بنور سناهما . . . فبشرى الأماني عينك لا ضمارك
وكم كشفنا من كربة بعد كربة . . . تقول لها النيران كفي أوارك
وكم لبيا من دعوة وتداركا . . . شفى رمق ما كان بالمتدارك
ويا نفس غاو كم أقر نفارك . . . ويا رجل هاو كم أقالا عثارك
ولست ببدع حين قلت لهمتي . . . أقلي لإعتاب الزمان انتظارك(3/225)
"""""" صفحة رقم 226 """"""
فلله صدق العزم أية غرة . . . إذا لم تطيعي في لعل اغترارك
فإن غالت البيد اصطبارك والسرى . . . فما غال ضيم الكاشحين اصطبارك
ويا خلة التسويف قومي فأغدقي . . . قناعك من دوني وشدي إزارك وحسبك بي يا خلة الناي خاطري . . . بنفسي إلى الحظ النفيس حطارك
فقد آن إعطاء النوى صفقة الهوى . . . وقولك للأيام جوري مجارك
ويا ستر البيض النواعم أعلني . . . إلى اليعملات والرحل بدارك
نواجى واستودعتهن نواجيا . . . حفاظك يا هذي بذي وازدهارك
ودونك أفلاذ الفؤاد فشمري . . . ودونك يا عين اللبيب اعتبارك
صرفت الكرى عنها بمغتبق السرى . . . وقلت أديري والنجوم عقارك
فإن وجبت للمغربين جنوبها . . . فداوي برقراق السراب خمارك
فأورى بزندي سدفة ودجنة . . . إذا كانتا لي مرخك وعفارك(3/226)
"""""" صفحة رقم 227 """"""
وإن خلع الليل الأصائل فاخلعي . . . إلى الملكين الأكرمين عذارك
بلنسية مثوى الأماني فاطلي . . . كنوزك في أقطارها وادخارك
سينبيك زجري عن بلاء نسيته . . . إذا أصبحت تلك القصور قصارك
وأظفر سعي بالرضا من مظفر . . . وبورك لي في حسن رأي مبارك
قصي المنى قد شام بارقة الحيا . . . وانشقت يا ظئر الرجا حوارك
وحمداً يميني قد تملأت بالمنى . . . وشكراً يساري قد حويت يسارك
وقل لسماء المزن إن شئت اقلعي . . . ويا أرضها إن شيت غيضي بحارك
ولا توحشي يا دولة العز والمنى . . . مساءك من نوريهما وابتكارك
وصولهما إلى غرناطة
وصلا مع أمثالهما من أمراء الشرق صحبة المرتضى ، وكان من انهزام الجميع بظاهرها ، وإيقاع الصناهجة بهم ما هو معلوم حسبما مر ويأتي بحول الله .(3/227)
"""""" صفحة رقم 228 """"""
ومن ترجمة الأعيان والوزراء بل ومن ترجمة الطارئين والغرباء منها
منصور بن عمر بن عثمن بن يعقوب بن عبد الحق بن محيو
يكنى أبا علي
أوليته
معروفة قد مرت عند ذكر اخوته وقومه .
حاله
كان رحمه الله فتى القوم ، لسناً ، مفوهاً ، مدركاً ، متعاطياً للأدب والتاريخ ، مخالطاً للنبلاء ، متسورا خلق العلماء ، غزلاً ، كلفاً بالدعابة ، طرفة من طرف أهل بيته ، قوي الشكيمة ، جواداً بما في وسعه ، متناهياً في البدانة . دخل غرناطة في الجملة من إخوانه وبني عمه ، مغربين عن مقر الملوك بالمغرب ، وأقام بها إلى شهر ربيع الأول من عام ثلاثة وستين وسبعماية . وركب البحر في الخامس والعشرين منه ، عندما لحق أخوه عبد الحكيم بالمغرب ، وبايعه الناس ، ولاحت له بارقة ، لم تكد تقد حتى خبت ، فبادر إلى مظاهرته في جفن غزوي من أسطول الأندلس ، وصحبه قوم ممن يخطب الخطط ، ويبتدر رمق الدول ، وهال عليهم البحر ، فطرح الجفن بأحواز غساسة ، وقد عادتها ملكة عدوهم ، فتقبض عليه ، وأدخل مدينة فاس ، في الثاني لربيع الآخر من العام ، مشهور المركب على الظهر ، يضرب بين يديه طبل للشهرة ، وناقور المثلة ، وأجلس بين يدي السلطان ، فأبلى بما راق الحاضرين من بيانه من العذر للخروج بالاستمالة حتى لرجي خلاصه ، واستقر مثقفاً تتعلق به الأراجيف ، ويحوم حول مطرحة الاختبار إلى حين وفاته .
شعره
أنشدني الفقيه الأديب أبو بكر بن أبي القاسم بن قطبة من شعره ، وكان صاحبه في الرحلة ، ومزامله في أسطول المنحسة ، وذلك قوله :
سوف ننال المنى ونرقى . . . مراقي العز والمعال
إذا حططنا بأرض فاس . . . وحكمت في العدى العوال
فأنت عندي بها حقيق . . . يا حايز الفضل والكمال(3/228)
"""""" صفحة رقم 229 """"""
وفاته
في وسط جمادى الأولى من العام . دخل عليه في بيت معتقله فقتل ، ودفن ببعض مدافنهم . رحمة الله عليه .
مقاتل بن عطية البرزالي
يكنى أبا حرب ، وقال فيه أبو القاسم الغافقي ، من أهل غرناطة ، ويلقب بذي الوزارتين ، ويعرف بالريه لحمرة كانت في وجهه .
حاله
كان من الفرسان الشجعان لا يصطلى بناره ، وكان معه من قومه نحو من ثلاث ماية فارس من بني برزال . وولاه الأمير عبد الله بن بلقين بن باديس مدينة اليسانة ، والتقى به ابن عباد وأخذ بمخنقها ، وكان عبد الله يحذره . وعندما تحقق حركة اللمتونيين إليه صرف عن جهته ، فقل لذلك ناصره ، وأسرع ذهاب أمره .
شجاعته قال ، وحضر مقاتل مع عبد الله بن بلقين أمير غرناطة وقيعة النيبل في صدر سنة ثمان وسبعين وأربع ماية ، فأبلى فيها بلاء عظيما ، وجرح وجهه ، ومزق دعه بالطعن والضرب . وذكر من حضرها ونجا منها ، قال ، كنت قد سقط الرمح من يدي ولم أشعر ، وحملت الترس ولم أعلم به ، وحملني الله إلى طريق منجاة فركبتها ، مرة أقع ومرة أقوم ، فأدركت فارساً على فرس أدهم ورمحه على عاتقه ، ودرقته على فخذه ، ودرعه مهتكة بالطعن ، وبه جرح في وجهه يثعب دما تحت مغفره ، وهو مع ذلك ينهض على رسله ، فرجعت إلى نفسي فوجدت ثقلاً ، فتذكرت الترس ، فأخرجت حمالته عن عاتقي ، وألقيته عني ، فوجدت خفة ، وعدت إلى العدو ، فصاح ذلك الفارس ، خذ الترس ، قلت لا حاجة لي به ، فقال خذه ، فتركته ووليت مسرعا ، فهمز فرسه ووضع سنان رمحه بين كتفي ، وقال خذ الترس ، وإلا أخرجته بين كتفيك في صدرك ، فرأيت الموت الذي فررت منه ، ورجعت إلى الترس فأخذته ، وأنا أدعو عليه ، وأسرعت عدواً ، فقال لي على ما كنت فليكن عدوك . فاستعذت(3/229)
"""""" صفحة رقم 230 """"""
وقلت ، ما بعثه الله إلا لهلاكي ، وإذا قطعة من خيل الروم قد بصرت به ، فوقع في نفسه أنه يسرع الجري فيسلم وأقتل ، فلما ضاق الطلق ما بينه وبين أقربهم منه ، عطف عليه كالعقاب ، وطعنه ففطره ، وتخلص الرمح منه ، ثم حمل على آخر فطعنه ، ومال على الثالث فانهزم منه ، فرجع إلي ، وقد بهت من فعله ، ورشاش دم الجرح ، يتطاير من قناع المغفر لشدة نفسه ، وقال لي يا فاعل يا صانع أتلقي الرمح ومعك مقاتل الريه .
انتهى اختصار السفر الثامن والحمد لله رب العالمين يتلوه في اختصار التاسع بعده ومن ترجمة القضاة مؤمل بن رجا بن عكرمة بن رجا العقيلي من إلبيرة
ومن السفر التاسع من ترجمة القضاة
مؤمل بن رجاء بن عكرمة بن رجاء العقيلي
من إلبيرة
حاله
كان شيخاً مضعوفاً يغلب عليه البله ، من أهل التعين والحسب والأصالة ، عريقاً في القضاء ، قاض ابن قاض ابن قاض . ولى قضاء إلبيرة ، للأمير محمد .
من حكاياته : رفعت إليه امرأة كتاب صداقها ، فقال الصداق مفسوخ ، وأنتما على حرام ، فافترقا ، فرق الله بينكما . ثم رمى بالصداق إلى من حوله ، وقال عجباً لمن يدعي فقهاً ولا يعلمه ، أو يزعم أنه بوثق ولا يتقنه ، مثل أبي فلان وهو في المجلس يكتب هذا الصداق ، وهو مفسوخ ، ما أحقه أن يغرم ما فيه . فدار الصداق على يدي كل من حضر ، وكل يقول ما أرى موضع فسخ ، فقال أنتم أجهل من كاتبه ، لكني أعذركم ، لأن كل واحد منكم ، يستر على صاحبه خطأه ، أنظروا وأمنحكم اليوم ، فنظروا فلم يجدوا شيئاً يوجب فسخاً . فدنا منه محمد ابن فطيس الفقيه ، فقال أصلح الله القاضي ، إن الله منحك من العلم والفهم ، ما نحن مقرون بالعجز عنه ، فأفدنا هذه الفايدة ، فقال ، ادن فدنا منه ، فقال ، أو ليس في الصداق ' ولا يمنعها زيارة ذوي محارمها ، ولا يمنعهم زيارتها بالمعروف ' ، ولولا معرفتي بمحبتك ما أعلمتك . فشكره الشيخ . وأخذ بطرف لحيته يجره إليه حتى قبلها . وكان عظيم اللحية طويلها ، شيمة أهل هذه الطبقة . قال ابن فطيس ، أنا المخصوص بالفايدة ، ولا أعرف بها إلا من تأذن بتعريفه إياها ، فتبسم القاضي معجباً بما رأى ،(3/230)
"""""" صفحة رقم 231 """"""
وشفعوا إليه أن لا يفسخ الصداق ، وقيل للزوجين ، لا تطلبا به عنده شيئاً . وولى قضاء جيان .
ومن الطاربين والغربا
المهلب بن أحمد بن أبي صفرة الأسدي
من أهل ألمرية يكنى أبا القاسم .
حاله
كان من أدهى الناس وأنصحهم ، ومن أهل التعين والعناية التامة ، واستقضى بألمرية .
مشيخته
سمع من أبي محمد الإصبهاني ، ورحل وروى عن أبي ذر الهروي .
تواليفه : ألف كتاباً في شرح البخاري ، أخذه الناس عنه .
وفاته : توفي سنة ست وثلاثين وأربعمائة . وقيل سنة . . . . . . .
ومن ترجمة الكتاب والشعراء وهم الأصليون
مالك بن عبد الرحمن بن علي بن عبد الرحمن بن الفرج بن أزرق بن سعد بن سالم بن الفرج
المنزل بوادي الحجارة بمدينة الفرج المنسوبة إليه الآن . قالا ابن عبد الملك ، كذا كتب لي بخطه بسبتة ، وهو مصمودي ثم شصادى مولى بني مخزوم ، ما لقي ، سكن سبتة طويلاً ثم مدينة فاس ، ثم عاد إلى سبيتة مرة أخرى ، وبآخرة فاس ، يكنى أبا الحكم وأبا المجد ، والأولى أشهر ، ويعرف بابن المرحل ، وصف جرى على جده على بن عبد الرحمن لما رحل من شنتمرية حين إسلامها للروم عام خمسة وستين وخمسماية .(3/231)
"""""" صفحة رقم 232 """"""
حاله
قال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير ، شاعر رقيق مطبوع ، متقدم ، سريع البديهة ، رشيق الأغراض ، ذاكر للأدب واللغة . تحرف مدة بصناعة التوثيق ببلده ، وولى القضاء مرات بجهات غرناطة وغيرها . وكان حسن الكتابة إذا كتب ، والشعر أغلب عليه . وذكره ابن خلاد ، وابن عبد الملك ، فأما ابن عبد الملك فلم يستوف له ما استوفى لغيره . وأما ابن خلاد فقصر به ، إذ قال ، كانت نشأته بمالقة بلده ، وقرارة مولده في ناسها ووسط أجناسها ، لم يتميز بحسب ، ولم بتقدم في ميدان نسب ، وإنما أنهضه أدبه وشعره ، وعوضه بالظهور من الخمول نظمه ونثره ، فطلع في جبين زمانه غرة منيرة ، ونصع في سلك فصحاء أوانه درة خطيرة ، وحاز من جيله رتبة التقديم ، وامتاز في رعيله بإدراك كل معنى وسيم . والإنصاف فيه منا ثبت لي في بعض التقييدات وهو ، الشيخ المسن المعمر الفقيه ، شاعر المغرب ، وأديب صقعه ، وحامل الراية ، المعلم بالشهرة ، المثل في الإكثار ، الجامع بين سهولة الفظ ، وسلاسة المعنى ، وإفادة التوليد ، وإحكام الاختراع ، وانقياد القريحة ، واسترسال الطبع ، والنفاذ في الأغرض . استعان على ذلك بالعلم بالمقاصد اللسانية ، لغة وبياناً وعربية وعروضاً ، وحفظاً واضطلاعاً ، إلى نفوذ الذهن ، وشدة الإدراك ، وقوة العارضة ، والتبريز في ميدان اللوذعية ، والقحة والمجانة ، والمؤيد ذلك بخفة الروح ، وذكاء الطبع ، وحرارة النادرة ، وحلاوة الدعابة ، يقوم على الأغربة والأخبار ، ويشارك في الفقه ، ويتقدم في حفظ اللغة ، ويقوم على الفرايض . وتولى القضاء . وكتب عن الأمراء ، وخدم واسترفد ، وكان مقصوداً من رواة العلم والشعر ، وطلاب الملح ، وملتمسي الفوايد ، لسعة الذرع وانفساح المعرفة ، وعلو السن ، وطيب المجالسة ، مهيباً مخطوب السلامة ، مرهوباً على الأعراض ، في شدقه شفرته وناره ، فلا يتعرض إليه أحد بنقد ، أو أشار إلى قناته بغمز ، إلا وناط به آبدة ، تركته في المثلات ، ولذلك بخس وزنه ، واقتحم حماه ، وساءت بمحاسنه القالة ، رحمه الله وتجاوز عنه .
مشيخته
تلا بالسبع على أبي جعفر بن علي الفخار ، وأخذ عنه بمالقة وعن غيره . وصحب وجالس من أهلها ، أبا بكر عبد الرحمن بن علي بن دحمان ، وأبا عبد الله إلاستجي ، وابن عسكر ، وأبا عمرو بن سالم ، وأبا النعيم رضوان بن خالد ، وانتفع بهم في الطريقة . وبفاس أبا زيد اليرناسني الفقيه . ولقى بإشبيلية أبا(3/232)
"""""" صفحة رقم 233 """"""
الحسن بن الدباغ ، وأبا علي الشلوبين ، وأبا القاسم بن بقى ، وأجازوا له . وروى عنه أبو جعفر بن الزبير ، والقاضي أبو عبد الله بن عبد الملك وجماعة .
دخوله غرناطة
قال ابن الزبير ، تكرر قدومه علينا بغرناطة ، وآخر انفصالاته عنها آخر سنة أربع وسبعين وستماية ، وقال لي حفيده أبو الحسين التلمساني من شيوخنا ، أنشد السلطان الغالب بالله ، بمجلسه للناس من المقصورة بإزاء الحمراء ، قبل بناء الحمراء . وقال غيره أقام بغرناطة ، وعقد بها الشروط مدة . وقال لي سيخنا أبو الحسن الجياب ، ولي القضاء بجهات من البشارات ، وشكى للسلطان بضعف الولاية ، فأضاف إليه حصن أشكر يانتشر ، وأمر أن يهمل هذا الاسم ولا يشكل ، فقال أبو الحكم رحمه الله عند وقوفه عليه ، قال لي السلطان في تصحيف هذا الاسم ، ' أشكر يا تيس ' وهي من المقاصد النبيلة .
تواليفه
وهي كثيرة متعددة ، منها شعره ، والذي دون منه أنواع . فمنهمختاره ، وسماه بالجولات . ومنه ، الصدور والمطالع . وله العشريات والنبويات على حروف المعجم ، والتزام افتتاح بيوتها بحرف الروى ، وسماها ، الوسيلة الكبرى المرجو نفعها في الدنيا والأخرى . وعشرياته الزهدية . وأرجوزته المسماة سلك المنخل لمالك بن المرحل نظم فيها منخل أبي القاسم بن المغربي ، والقصيدة الطويلة المسماة بالواضحة ، والأرجوزة المسماة اللؤلؤ المرجان والموطأة لمالك . والأرجوزة في العروض . وكتابه في كان مإذا ، المسمى بالرمي بالحصا ، إلى ما يسق إحصاره ، من الأغراض النبيلة ، والمقاصد الأدبية .
شعره قال القاضي أبو عبد الله بن عبد الملك ، كان مكثراً من النظم ، مجيداً ، سريع البديهة ، مستغرق الفكرة في قرضه ، لا يفتر عنه حينا من ليل أو نهار . شاهدت ذلك وأخبرني أنه دأبه ، وأنه لا يقدر على صرفه من خاطره ، وإخلاء باله من الخوض فيه ، حتى كان من كلامه في ذلك ، أنه مرض من الأمراض المزمنة ، واشتهر نظمه ، وذاع شعره ، فكلفت به ألسنة الخاصة والعامة ، وصار رأس مال المستمعين(3/233)
"""""" صفحة رقم 234 """"""
والمغنين ، وهجير الصادرين والواردين ، ووسيلة المكدين ، وطراز أوراد المؤذنين وبطايقة البطالين ، ونحن نجتزئ منه بنبذ من بعض الأغراض تدل على ما وراءها إن شاء الله . فمن ذلك في غرض النسيب :
دنف تستر بالغرام طويلاً . . . حتى تغير رقة ونحولا
بسط الوصال فما تمكن جالسا . . . حتى أقيم على البساط دليلا
يا سادتي مإذا الجزا فديتكم . . . الفضل لو غير الفتى ما قيلا
قالوا تعاطى الصبر عن أحبابه . . . لو كان يصبر للصدود قليلا
ما ذاق إلا شربة من هجرنا . . . وكأنه شرب الفرات شمولا
أيقول عشت وقد تملكه الهوى . . . لو قال مت لكان أقوم قيلا
حلف الغرام بحبنا وجمالنا . . . إن لم يدعه ميتاً فعليلا
إن الجفون هي السيوف وإنما . . . قطعتن فلم تسمع لهن صليلا
قل للحبيب ولا أصرح باسمه . . . مإذا الملال وما عهدت ملولا
بين وبينك ذمة مرعية . . . أتراك تقطع حبلها الموصولا
ولكم شربت صفا ودك خالصاً . . . ولبست ظلا من رضاك ظليلا
فيا غصن بان بان عني ظله . . . عند الهجير فما وجدت مقيلا
إعطف على المضني الذي . . . أحرقته في نار هجرك لوعة وغليلا
فارقته فتقطعت أفلاذه . . . شوقاً وما ألفى إليك سبيلا
لو لم يكن منك التغير لم يسل . . . بالناس لو حشروا إليه قبيلا
يا راحلاً عني بقلب مغضب . . . أيطيق قلبي غضبة ورحيلا
قل للصبا هيجت أشجان الصبا . . . فوجدت يا ريح القبول قبولا
هل لي رسول في الرياح فاز من . . . فارقته بعث النسيم رسولا
يا ليت شعري أين قر قراره . . . يا قلب ويك أما وجدت دليلا
إن لم يعد ذاك الوصال كعهدنا . . . نكلت عيني بالبكا تنكيلا
وقال نسيباً ومدحاً :
أعدى على هواه خصم جفونه . . . مالي به قبل ولا بفنونه(3/234)
"""""" صفحة رقم 235 """"""
إن لم تجرني منه رحمة قلبه . . . من ذا يجير عليه ملك يمينه
صاب من الأتراك أصبى مهجتي . . . فعبدت نور الحسن فوق جبينه
متمكن في الحسن نون صدغه . . . فتبين التمكين في تنوينه
تنساب عقرب صدغه في جنة . . . لم يجن منها الصب غير منونه
ولوى ضفيرته فولى مدبراً . . . فعل الكلم ارتاع من تبينه
قد أطمعتني فيه رقة خده . . . لو أمكنتني فيه رقة دينه
ورجوت لمن قوامه لو لم يكن . . . كالرمح شدة طعنه في لينه
شاكي السلاح وما الذي في جفنه . . . أعدى على من الذي يجفونه
ناديته لما ندت لي سينه . . . وشعرت من لفظ السلام بسينه
رحماك في دنف غدا وحياته . . . مماته وحراكه كسكوته
إن لم تمن علي منة راحم . . . فمناه أن يلقاه ريب منونه
ولذا أبيت سوى سمات عدوه . . . فأمانه من ذاك ظهر أمونه
سننيخها في باب أروع ماجد . . . فيرى محل الفصل حق يقينه
حيث المعارف والعوارف والعلا . . . في حد مجد جامع لفنونه
بدر وفي الحسن بن أحمد التقت . . . نجب مررن على العطا بركوبه
تبغي مناها في مناها عنده . . . وتطوف بالحاجات عند حجونه
فرع من الأصل اليماني طيب . . . ورث البيان وزاد في تبيينه يبدى البشاشة في أسرة وجهه . . . طوراً ويحمى العز في عرنينه
بسطت شمايله للزمان كمثل ما . . . بسط الغنا نفوسنا بلحونه
يثنى عليه كل فعل ساير . . . كالمسك إذ يثنى على دارينه
ومن النسيب قوله :
هو الحبيب قضى بالجور أم عدلا . . . لبي الخيار وأما في هواه فلا
تالله ما قصر العذال في عذلي لكن . . . أبت أذني أن تسمع العذلا
أما السلو فشيء لست أعرفه . . . كفى بخلك غدراً أن يقال سلا
جفون غيري أصحت بعد ما قطرت . . . وقلب غيري صحا من بعد ما ثملا
وغصن بان تثنى من معاطفه . . . سقيته الدمع حتى أثمر العذلا(3/235)
"""""" صفحة رقم 236 """"""
آثرته ونسيم الشعر آونة . . . فكلما مال من أعطافه اعتدلا
أملت والهمة العلياء طامحة . . . وليس في الناس إلا آمل أملا
وقال إيهاً طفيلي ومقترح . . . ألست عبدي ومملوكي فقلت بلا
ما من تحدث عن حسنى وعن كلفي . . . بحسنه وبحبي فأضرب المثلا
نيطت خدي خوف القبض من ملكه . . . إذا أشار بأدنى لحظه قتلا
تقبل الأرض أعضائي وتخدمه . . . إذا تجلى بظهر الغيب واتصلا
يا من له دولة في الحسن باهرة . . . مثلي ومثل فؤادي يخدم الدولا
ومن نظمه في عروض يخرج من دوبيتي مجزواً مقصرا قوله : وملحه في اختراع الأعاريض كثيرة :
الصب إلى الجمال مايل . . . والحب لصدقه دلايل
والدمع لسايلي جواب . . . إن روجع سائل بسائل
والحسن على القلوب وال . . . والقلب إلى الحبيب وايل
لو ساعد من أحب سعد . . . ما حال من الحبيب حايل
يا عاذلي إليك عني لا . . . تقرب ساحتي العواذل
ما نازلني كمثل ظبي . . . يشفى بلحظة المنازل
ما بين دفونه حسام . . . مخارقه له حمايل
والسيف يبت ثم ينبو . . . واللحظ يطبق المفاصل
والسهم يصيب ثم يخطي . . . واللحظ يمر في المقاتل
مهلاً فدمي له حلال . . . ما أقبل فيه قول قايل
إن صدني فذاك قصدي . . . أو جدلني فلا أجادل
يا حسن طلوعه علينا . . . والسكر بمعطفيه مايل
ظمآن مخفف الأعالي . . . ريان مثقل الأسافل
قد ثم به شذا الغوالي . . . إذ هب ونمت الغلايل
والطيب منبه عليه . . . من كان عن العيان غافل
والغنج محرك إليه . . . من كان مسكن البلابل
والسحر رسول مقلتيه . . . ما أقرب عهده ببابل(3/236)
"""""" صفحة رقم 237 """"""
والروض يعير وجنتيه . . . ورداً كهواى غير حايل
واللين يهز معطفيه . . . كالغصن تهزه الشمايل
والكاس تلوح في يديه . . . كالنجم بأسعد المنازل
يسقيك بريقه مداما . . . ما أملح ساقياً مواصل
يسبيك برقة الحواشي . . . عشقاً ولكافة الشمايل
ما أحسن ما وجدت خداً . . . إذ نجم صباى غير آفل
ومن مستحسن نزعاته :
يا راحلين وبي من قربهم أمل . . . لو أغنت الحليتان لي القول والعمل
سرتم وسار اشتياقي بعدكم مثلاً . . . من دونه السامران الشعر والمثل
وظل يعذلني في حبكم نفر . . . لا كانت المحنتان الحب والعذل
عطفاً علينا ولا تبغوا بنا بدلاً . . . فما استوى التابعان العطف والعمل
قد ذقت فضلكم دهراً فلا وأبى . . . ما طاب لي الأحمران الخمر والعسل
وقد هرمت أسى من هجركم وجوى . . . وشب مني اثنتان الحرص والأمل
غدرتم أو مللتم يا ذوي ثقتي . . . لبيست الخصلتان الغدر والملل
قالوا كبرت ولم تبرح كذا غزلاً . . . أرى بك الفاضحان الشيب والعزل لم أنس يوم ما نادوا للرحيل ضحى . . . وقرب المركبان الطرف والجمل
وأشرقت بهواديهم هوادجهم . . . ولاحت الزينتان الحلى والحلل
وودعوني بأجفان ممرضة تغضها . . . الرقبتان الخوف والخجل
كم عفروا بين أيدي العيس من بطل . . . أصابه المضنيان الغنج والكحل
دارت عليهم كؤوس الحب مترعة . . . وأبا المسكران الخمر والمقل
وآخرين اشتفوا منهم بضمهم . . . يا حبذا الشافيان الضم والقبل
كأنما الروض منهم روضة أنف . . . يزهى بها المثبتان السهل والجبل
من المسترق الروابي والوهاد بهم . . . ما راقه المعجبان الخصر والكفل(3/237)
"""""" صفحة رقم 238 """"""
يا حادي العيس خذني مأخذاً حسناً . . . لا يستوي الضدان الريث والعجل
لم يبقى لي غير ذكر أو بكا طلل . . . لو ينفع الباقيان الذكر والطلل
يا ليت شعري ولا أنس ولا جذل . . . هل يرفع الطيبان الأنس والجذل
ومن قوله على لسان ألثغ ينطق بالسين ثاء ويقرأ بالرويين :
عمرت ربع الهوى بقلب . . . لقوة الحب غير ناكس ث
لبثت فيه أجر ذيل النحول . . . أحبب به للابس ث
إن مت شوقاً فلى غرام . . . نباته بالسقام وادس ث
أما حديث الهوى فحق . . . يصرف بلواه كل حادس ث
تعبت بالشوق في حبيب . . . أنا به ما حييت بايس ث
يختال كالغثن ماس فيه . . . طرف فأزرى كل مايس ث
دنيا ندت لكل وأي . . . فهو لدنياه أي حارس ث
يلعب بالعاشقين طراً . . . والكل راضون وهو عابس ث
ومن شعره في الزهد يصف الدنيا بالغرور والحذايح والزور :
يا خاطب الدنيا طلبت غروراً . . . وقبلت من تلك المحاسن زورا
دنياك إما فتنة أو محنة . . . وأراك في كلتيهما مقهورا
وأرى السنين تمر عنك سريعة . . . حتى لأحسبهن صرن شهورا
بينا ثريك أهلة في أفقها . . . أبصرتها في إثر ذاك بدورا
كانت قسياً ثم صرن دوايرا . . . لا بد أن ترمى الورى وتدورا
يأتي الظلام فما يسود رقعة . . . حتى ترى مسطورها منشورا
فإذا الصباح أتى ومد رادءه . . . نقض المساء رداء المنثورا
يتعاقبان عليك هذا ناشر . . . مسكاً وهذا ناشر كافورا
ما المسك والكافور إلا أن ترى . . . من فعلك الإمساك والتكبيرا
أمسى على فوديك من لونيهما . . . سمة تسوم كآبة وبسورا(3/238)
"""""" صفحة رقم 239 """"""
حتى متى لا ترعوى وإلى متى . . . أو ما لقبت من المشيب نذيرا
أخشى عليك من الذنوب فربما . . . تلفى الصغير من الذنوب كبيرا
فانظر لنفسك إنني لك ناصح . . . واستغفر المولى تجده غفورا
من قبل ضجعتك التي تلقى لها . . . خد الصغار على التراب حقيرا
وقال في المنى المذكور :
إشف الوجد ما أبكى العيونا . . . وأشفى الدمع ما نكأ الجفونا
فيا ابن الأربعين اركب سفيناً . . . من التقوى فقد عمرت حينا
ونح إن كنت من أصحاب نوح . . . لكي تنجو نجاة الأربعينا
بدا الشيب في فوديك رقم . . . فيا أهل الرقيم أتسمعونا
لأنتم أهل كهف قد ضربنا . . . على إذانهم فيه سنينا
رأيت الشيب يجري في سواد . . . بياضاً لا كعقل الكاتبينا
وقد يجري السواد على بياض . . . فكأن الحسن فيه مستبينا
فهذا العكس يوذن بانعكاس . . . وقد أشعرتم لو تشعرونا
نبات هاج ثم يرى حطاماً . . . وهذا اللحظ قد شمل العيونا
نذير جاءكم عريان يعدو . . . وأنتم تضحكون وتلعبونا
أخي إلى متى هذا التصابي . . . جننت بهذه الدنيا جنونا هي الدنيا وإن وصلت وبرت . . . فكم قطعت وكم تركت بنينا
فلا تخدعنك أيام تليها . . . ليال واخشها بيضاً وجونا
فذاك إذا نظرت سلاح دنيا . . . تعيد حراك ساكنها سكونا
وبين يديك يوم أي يوم . . . يدينك فيه رب الناس دينا
فإما دار عز ليس يفنى . . . وإما دار هون لن يهونا
فطوبى في غد للمتقينا . . . وويل في غد للمجرمينا(3/239)
"""""" صفحة رقم 240 """"""
وآه ثم آه ثم آه على نفسي أكررها مئينا
أخي سمعت هذا الوعظ أم . . . لا ألا ليتني في السامعينا
إذا ما الوعظ لم يورد بصدق . . . فلا خسر كخسر الواعظينا
وقال يتشوق إلى بيت الله الحرام ، ويمدح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
شوق كما رفعت نار على علم . . . تشب بين فروع الضال والسلم
ألفه بضلوعي وهو يحرقها . . . حتى براني برياً ليس بالقلم
من يشتريني بالبشرى ويملكني . . . عبداً إذا نظرت عيني إلى الحرم
دع للحبيب ذمامي واحتمل . . . رمقي فليس ذا قدم من ليس ذا قدم
يا أهل طيبة طاب العيش عندكم . . . جلورتم خير مبعوث إلى الأمم
عاينتم جنة الفردوس من كثب . . . في مهبط الوحي والآيات والحكم
لنتركن بها الأوطان خالية . . . ونسلكن لها البيداء في الظلم
ركابنا تحمل الأوزار مثقلة . . . إلى محط خطايا العرب والعجم
ذنوبنا يا رسول الله قد كثرت . . . وقد أتيناك فاستغفر لمجترم
ذنب يليه على تكراره ندم . . . فقد مضى العمر في ذنب وفي ندم
نبكي فتشغلنا الدنيا فتضحنكا . . . ولو صدقنا البكا شبنا دماً بدم
يا ركب مصر رويداً يلتحق بكم . . . قوم مغاربة لحم على وضم
فيهم عبيد تسوق العيس زفرته . . . لم يلق مولاه قد ناداه في النسم
يبغي إليه شفيعاً لا نظير له . . . في الفضل والمجد والعلياء والكرم
ذاك الحبيب الذي ترجى شفاعته . . . محمد خير خلق الله كلهم
ذاك الحبيب الذي ترجى شفاعته . . . محمد خير خلق الله كلهم
صلى عليه إله الخلق ما طلعت . . . شمس وما رفعت نار على علم
ومن مقطوعاته العجيبة في شتى الأغراض ، وهي نقطة من قطر ، وبلالة من بحر ، قوله مما يكتب على حمالة سيف ، وقد كلف بذلك غيره من الشعراء بسبتة . فلما رآها أخفى كل منظومه ، وزعم أنه لم يأت بشيء ، وهو المخترع المرقص :
جماله كرياض جاورت نهرا . . . فأنبتت شجراً راقت أزاهرها
كحية الماء عامت فيه وانصرفت . . . فغاب أولها فيه وآخرها(3/240)
"""""" صفحة رقم 241 """"""
وقوله وقد تناول الرئيس ابن خلاص بيده مقصاً فأدمى يده فأنشده :
عداوة لا لكفك من قد نم . . . فلا تعجب لقراض لئيم
لئن أدماك فهو لها شبيه . . . وقد يسطو اللئيم على الكريم
وقوله في الخضاب :
سترت مشيبي بالخضاب تعللا . . . فلم يحظ فشيب وراب خضابي
كأني وقد زورت لونا على الصبا . . . أعنون طرساً ليس فيه كتاب
غراب خضاب لم يقف من حذاره . . . وأغرب شيء في الحذار غراب
وقوله وهو من البديع المخترع :
لا بد من ميل إلى جهة فلا . . . تنكر على الرجل الكريم مميلا
إن الفؤاد وإن توسط في الحشا . . . ليميل في جهة الشمال قليلا
وقوله وهو معنى قد قيل فيه :
لا تعجبوا للمرء يجهل قدره . . . أبداً ويعرف غيره فيصير
فالعين تبصر غيرها مع بعده . . . ولكن نفسها لا تبصر
وقوله :
أرى المتعلمين عليك أعداء . . . إذا أعلمتهم من كل عاد
فما عند الصغير سوى عقوق . . . ولا عند الكبير سوى عناد
وقوله في وصفه ذي الجاه : يضع الناس صاحب الجاه فيهم . . . كل يوم في كفة الميزان(3/241)
"""""" صفحة رقم 242 """"""
إن رأوه يوماً ترجح وزناً . . . ضاعفوا البر فهو ذو رجحان
أو رأوا منه نقض حبة وزن . . . ما كسوه في حبة الجلجلان
وأنشدنا عنه غير واحد من شيوخنا وقد بلغ الثمانين :
يا أيها الشيخ الذي عمره . . . قد زاد عشراً بعد سبعينا
سكرت من أكؤس خمر الصبا . . . فحدك الدهر ثمانينا
وقال : هيهات ما أظنه يكملها ، وقال في الكبرة :
يا من لشيخ قد أسن وقد عفا . . . مذ جاوز السبعين أضحى مدنفا
خانته بعد وفايها أعضاؤه . . . فغدا قعيداً لا يطيق تصرفا
هرماً غريبا ما لديه مؤانس . . . إلا حديث محمد والمصطفى
وكتب إلى القاضي أبى الحجاج الطرسوني في مراجعة :
يا سيدي شاكركم مالك . . . قد صيرت ميم اسمه هاء
ومن يعش خمساً وتسعين . . . قد أنهى في التعمير إنهاء
ومن نظمه في عرس ، صنعها بسبتة على طريقه في المجانة :
الله أكبر في منار الجامع . . . من سبتة تاذين عبد خاشع
الله أكبر للصلاة أقيمها . . . بين الصفوف من البلاط الواسع
الله أكبر محرماً وموجهاً . . . ودبرة إلى ربي بقلب خاضع
الحمد لله السلام عليكم . . . آمين لا تفتح لكل مخادع
إن النساء خدعنني ومكرن بي . . . وملأن من ذكر النساء مسامع
حتى وقعت وما وقعت بجانب . . . لكن على رأس لأمر واقع
والله ما كانت إليه ضرورة . . . لكن أمر الله دون مدافع
فخطبن لي في بيت حسن قلن لي . . . وكذبن لي في بنت قبح شائع
بكراً زعمن صغيرة في سنها . . . حسناء تسفر عن جمال بارع
خوداً لها شعر أثيث حالك . . . كالليل تجلى عن صباح ساطع(3/242)
"""""" صفحة رقم 243 """"""
حوراء يرتاع الغزال إذا رنت . . . بجفون خشف في الخمايل رافع
تتلو الكتاب بغنة وفصاحة . . . فيميل نحو الذكر قلب السامع
بسامة عن لؤلؤ متناسق . . . في ثغرها في نظمه متتابع
أنفاسها كالراح فض ختامها . . . من بعد ما ختمت بمسك رائع
شماء دون تفاوت عربية . . . ببسالة وشجاعة ومنازع
غيداء كالغصن الرطيب إذا . . . مشت ناءت بردف للتعجل مانع
تخطو على رجلي حمامة أيكة . . . مخضوبة تسبى فؤاد السامع
ووصفن لي من حسنها وجمالها . . . ما البعض منه يقيم عذر الخالع
فدنوت واستامنت بعد توحشي . . . وأطاع قلب لم يكن بمطاوع
فحملنني نحو الولي وجئنني . . . بالشاهدين وجلد كبش واسع
وبعرفه من نافع لتعادل . . . والله عز وجل ليس بنافع
فشرطن أشراطاً علي كثيرة . . . ما كمنت في حملي له بمطاوع
ثم انفصلت وعلمت بأنني . . . أوثقت في عنقي لها بجوامع
وتركنني يوما وعدن وقلن لي . . . خذ في البناء ولكن بمرافع
واصنع لها عرساً ولا تحوج إلى . . . قاض عليك ولا وكيل رافع
وقرعتن سني عند ذاك ندامة . . . ما كنت لولا خدعت بقارع
ولزمتني حتى انفصلت بموعد . . . بعد اليمين إلى النهار الرابع
فلو أنني طلقت كنت موفقاً . . . ونفضت من ذاك النكاح أصابع
لكن طمعت بأن أرى الحسن الذي . . . زورن لي فذممت سوء مطامع
فنظرت في أمر البناء معجلا . . . وصنعت عرساً يا لها من صانع
وطمعت بأن تجلى ويبصر وجهها . . . ويقر عيني بالهلال الطالع
وظننت ذاك كما ذكرن ولم يكن . . . وحصلت أيضاً في مقام الفازع
وحملنني ليلاً إلى دار لها . . . في موضع عن كل خير سامع دار خراب في مكان توحش . . . ما بين آثار هناك بلاقع
فقعدت في بيت صغير مظلم . . . لا شيء فيه سوى حصير الجامع(3/243)
"""""" صفحة رقم 244 """"""
فسمعت حساً عن شمالي منكراً . . . وتنحنحاً يحكى نقيق ضفادع
فأردت أن أنجو بنفسي هارباً . . . ووثبت عند الباب وثبة جازع
فلقيتهن وقد أتين بجذوة . . . فرددنني وحبسنني بمجامع
ودخلن بي في البيت واستجلسنني . . . فجلست كالمضرور يوم زعازع
وأشرن لي نجو السما وقلن لي . . . هذي زويبعة وبنت زوابع
هذي خليلتك التي زوجتها . . . فاجلس هنا معها ليوم سابع
وبتنا النعمى التي خولتها . . . فلقد حصلت على رياض يانع
فنظرت نحو خليلتي متأملا . . . فوجدتها محجوبة ببراقع
وأتيتها وأردت نزع خمارها . . . فغدت تدافعني بجد وازع
فوجلتها في صدرها وحذوته . . . وكشفت هامتها بغيظ صارع
فوجدتها قرعاء تحسب أنها . . . مقروعة في رأسها بمقارع
حولاء تنظر فوقها في ساقها . . . فتخالها مبهوتة في الشارع
فطساء تحسب أن روثة أنفها . . . قطعت فلا شلت يمين القاطع
صماء تدعى بالبريح وتارة . . . بالطبل أو تؤتى لها بمقامع
بكماء إن رامت كلاما صوتت . . . تصويت معزى نحو جدي راضع
فقماء إن تلتقي أسنانها . . . تقسو إذا نطقت فساء الشابع
عرجاء إن قامت تعالج مشيها . . . أبصرت مكشية ضالع أو خامع
فلقيتها وجعلت أبصق نحوها . . . وأفر نحو ذجاً وغيث هامع
؟ حيران أغدو في الزقاق كأنني لص أحس بطالب أو تابع
حتى إذا لاح الصباح وفتحوا . . . باب المدينة كنت أول كاسع
والله مالي بعد ذاك بأمرها . . . علم ولا بأمور بيتي الضايع
؟ ؟ ؟ نثره
وفضل الناس نظمه على نثره ، ونحن نسلم ذلك من باب الكثرة ، لا من باب الإجادة . وهذه الرسالة معلمة بالشهادة بحول الله .
كتب إلى الشيخين الفقيهين الأديبين البليغين أبي بكر بن يوسف بن الفخار وأبي القاسم خلف بن عبد العزيز القبتوري :(3/244)
"""""" صفحة رقم 245 """"""
لله دركما حليفي صفاء ، وأليفى وفاء ، يتنازعان كأس المودة ، تنازع الأكفاء ، ويتهاديان ريحان التحية بهادي الظرفاء . قسيمى نسب ، وقريعى حسب ، يتجاوزان بمطبوع من الأدب ومكتسب ، ويتواردان على علم من الظرف ونسب ، رضيعى لبان ، ذريعى لبان ، يحرزان ميراث قس وسحبان ، ويبرزان من الذكاء ، ما بان على أبان ، قسيمي مجال ، فصيحى روية وارتجال ، يترعان في أشطان البلاغة ، سجالاً بعد سجال ، ويصرعان في ميدان الفصاحة رجالاً على رجال . ما بالكما لا حرمت حبالكما ولا قصمت نبالكما ، لم تسمحا لي من عقودكما بدرء ، ولم ترشحاني من نقودكما بدرة ، ولم تفسحا لي بحلوة ولا مرة . لقد ابتليت من أدبكما بنهر أقربه ولا أشربه ، وما أراده ولا أتبرده . ولو كنت من أصحاب طالوت لا فسحت لي غرفة ، وأتيحت لي ترفة . بل لو كنت من الإبل ذوات الأظماء ، ما جليت بعد الظماء عن الماء . ولا دخلت بالإشفاق مدخل العجماء . كيف وأنا و لا فخر في صورة إنسان ، ناطق بلسان . أفرق بين الإساءة والإحسان . وإن قلت إن باعي في النظم قصير ، وما لي على النثر ولي ولا نصير ، وصنعة النحو عني بمعزل ، ومنزل الفقيه ليس لي بمنزل ، ولم أقدم على العلم القديم ، ولا استأثرت من أهله بنديم . فأنا والحمد لله غني بصنعة الجفر ، وأقتني اليراع كأنها شبابيك التبر ، وأبرى البرية المغا تنيف على الشبر ، وأزين خدود الأسطار المستوية ، بعقارب اللامات الملتوية ، ولا أقول كأنها ، فلا ينكر السيدان أعزهما الله ، أنها نعم بعود أزاعم ، وبمثل شكسى تحضر الملاحم . فما هذا الازدراء والاجتراء في هذا الأمر مر المواقير . تالله لقد ظلمتماني على علم ، واستندتما إلى غير حلم ، أما رهبتما شبابي ، أما رغبتما في حسابي ، أما رفعتما بين نفح صبابي ، ولفح صبابي . لعمري لقد ركبتما خطراً ، وهجتما الأسد بطراً ، وأبحتما حمى محتضراً ، ولم تمعنا في هذا الأمر نظراً . أعد نظراً يا عبد قيس لعلما . . . أضاءت لك النار الحمار المقيدا
ونفسي عين الحمار في هذا المضمار ، لا أعرف قبيلا من دبير ، ولا أفرق بحسي بين صغير وكبير ، ولا أعهد أن حصاة الرمى أخف من ثبير ، أليس في ذوي كبد رطبة أجر ، وفي معاملة أهل التقوى والمغفرة تجر ، وإذا خولتماني نعمة ، أو نفلتماني نفلاً ، فاليد العليا خير من اليد السفلى ، وما نقص مال من صدقة ، ولا جمال من لمح حدقة ، والعلم يزيد بالإنفاق ، وكنمه حرام باتفاق ، فإن قلتما لي إن فهمك سقيم ، وعوجك على الرياضة لا يستقيم ، فلعل الذي نصب قامتي ، يمن(3/245)
"""""" صفحة رقم 246 """"""
باستقامتي ، وعسى الذي يشق سمعي وبصري ، أن يزيل عي وحصرى ، فأعي ما تقصان ، وأجتلي ما تنصان ، وأجني ثمار تلك الأغصان ، فقد شاهدتما كثيراً من الحيوان ، يناغي فتتعلم ، ويلقن فيتكلم . هذا والجنس غير الجنس ، فكيف المشارك في نوعية الإنس ، فإن قلنا إن ذلك يشق ، فأين الحق الذي يحق ، والمشقة أخت المروة ، وينعكس مساق هذه الأخوة ، فيقال المروة أخت المروة ، وينعكس مساق هذه الأخوة ، فيقال المروة أخت المشقة ، والحجيج يصبر على بعد الشقة ، ولولا المشقة ، كثر السادة ، وقلت الحسادة ، فما ضشركما أيها السيدان ، أن تحسبا تحويجي ، وتكتسبا الأجر في تدريجي ، فإنكما إن فعلتما ذلك ، نسبت إلي ولايكما ، كما حسبت على علايكما ، وأضفت إلى نديكما ، كما عرفت بمنتداكما . ألم تعلما أن المرء يعرف بخليله ، ويقاس به في كثيره وقليله ، ولعلى أمتحن في مرام ، ويعجم عودي رام ، فيقول هذا العود من تلك الأعواد . وما في الحلبة من جواد ، فأكسو كما عاراً ، وأكون عليكما شعاراً . على أني إذا دعيت باسمكما ، استربت من الإدعاء ، فلا أستجيب لهذا الدعاء ، ولكن أقول كما قال ابن أبي سفيان ، حين عرف الإدارة ، وأنكر الإمارة ، نعم أخوتي أصح ، وأنها بها أشح ، إلا أن غيري نظم في المسلك ، وأسهم في الملك ، وأنا بينكما كالمحجوب بين طلاب ، يشاركهم في البكا لا في التراث ، إن حضرت فكنتم في الإقحام ، أو لمقعد في زحام ، وإن غبت فيقضى الأمر ، وقد سطر زيد وعمرو . ناشدتكما الله في الإنصاف ، أن تربعا بواد من أودية الشحر . في ناد من أندية الشعر بل السحر ، حيث تندرج الأنهار ، وتتأرج الأزهار ، ويتبرج الليل والنهار ، ويقرأ الطير صحفاً منتشرة ، ويجلو النور ثغورا مؤشرة ، يغازل عيون النرجس الوجل دود الورد الخجل . وتتمايل أعطاف البان ، على أرداف الكثبان ، فيرقد النسيم العليل في حجر الروض وهو بليل ، وتبرز هوادج الراح على الراح ، وقد هديت بأقمار ، وحديت بأزهار ومزمار ، وركبتها الصبا والكميت في ذلك المضمار ، ولم تزالا في طيب ، وعيش رطيب ، من قباب وخدور ، وشموس وبدور ، تصلان الليالي والأيام ، أعجازاً بصدور ، وأنا الطريد منبوذ بالعراء ، موقوذ في جهة الوراء ، لا يدني محلي ولا يعتني بعقدي ولا حلى ، ولا أدرج من الحرور إلى الظل ، ولا أخرج من الحرام إلى الحل ، ولا يبعث إلي مع النسيم هبة ، ولا يتاح لي من الآتي عبه . قد هلكت لغواً ، ولم تقيما لي صفواً ، ومت كمداً ، ولم تبعثا لبعثي أمداً . أتراه خلفتماني جرضاً ، وألقيتماني حرضاً ، كم أستسقى فلا أسقى ، وأسترقى فلا أرقى ، لا ماء أشربه ولا عمل في وصلكما(3/246)
"""""" صفحة رقم 247 """"""
أدربه . لم يبق لي حيلة إلا الدعاء المجاب ، فعسى الكرب أن ينجاب . اللهم كما أمددت هذين السيدين بالعلم الذي هو جمال ، وسددتهما إلى العمل الذي هو كمال ، وجمعت فيهما الفضايل والمكارم ، وختمت بهما الأفاضل والمكارم ، وجعلت الأدب الصريح أقل خصالهما ، والنظر الصحيح أقلب نصالهما ، فاجعل اللهم لي في قلوبهما رحمة وحناناً ، وابسط لي منهما وجهاً ، واشرح لي جناناً ، واجعلني اللهم ممن اقتدى بهما ، وتعلق بأهدابهما ، وكان دأبه في الصالحات كدأبهما ، حتى أكون بهما ثالث القمرين في الآيات ، وثالث العمرين ، في عمل البر وطول الحياة اللهم آمين وصلى الله على محمد خاتم النبيين . وكأني أنظر إلى سيدي أعزهما الله ، إذا وقفا على هذا الخطاب ، ونظرا إلى هذا الاحتطاب ، كيف يديران رمزاً ، ويسيران غمزاً ، ويقال استتب الفصال ، وتعاطى البيذق ما تفعل النصال ، وحن جذع ليس منهما ، وخذ عجفاءك وسمنها ، فأقول وطرفي غضيض ، ومحلي الحضيض ، مثلي كمثل الفروج أو ثاني البروج ، وما تقاس الأكف بالسروج ، فأضربا عني أيها الفاضلان ما أنا ممن تناضلان ، والسلام .
مولده قال شيخنا الفقيه أبو عبد الله بن القاضي المتبحر العالم أبي عبد الله ابن عبد الملك ، سألته عن مولده فأنشدني :
يا سايلي عن مولدي ك أذكره . . . ولدت يوم سبعة وعشرة
من المحرم افتتاح أربع . . . من بعد ستماية مفسرة
وفاته
في التاسع عشر لرجب عام تسعة وتسعين وستماية ، ودفن بمقبرة فاس ، وأمر أن يكتب على قبره :
زر غريبا بمقره . . . نازحا ماله ول
تركوه موسداً . . . بين ترب وجندل
ولتقل عند قبره . . . بلسان التدلل
يرحم الله عبده . . . مالك بن المرحل(3/247)
"""""" صفحة رقم 248 """"""
ومن طارئي المقريين والعلماء
منصور بن علي بن عبد الله الزواوي
صاحبنا ، يكنى أبا علي ،
حاله
هذا الرجل طرف في الخير والسلامة ، وحسن العهد ، والصون والطهارة والعفة ، قليل التصنع ، مؤثرر للاقتصاد ، منقبض عن الناس ، مكفوف اللسان واليد ، مشتغل بشأنه ، عاكف على ما يعنيه ، مستقيم الظاهر ، ساذج الباطن ، منصف في المذاكرة ، موجب لحق الخصم ، حريص على الإفادة والاستفادة ، مثار على تعلم العلم وتعليمه غير أنف عن حمله عمن دونهن جملة من جمل السذاجة والرجولة وحسن المعاملة ، صدر من صدور الطلبة ، له مشاركة حسنة في كثير من العلوم العقلية والنقلة ، واطلاع تقييد ، ونظر في الأصول والمنطق وعلم الكلام ، ودعوى في الحساب والهندسة والآلات . يكتب الشعر فلا يعدو الإجادة والسداد .
قدم الأندلس في عام ثلاثة وخمسين وسبعماية ، فلقى رحباً ، وعرف قدره ، فتقدم مقرئا بالمدرسة تحت جراية نبيهة ، وحلق للناس متكلماً على الفروع الفقهية والتفسير . وتصدر للفتيا ، وحضر بالدار السلطانية مع مثله . جربت وصحبته ، فبلوت منه ديناً ونصفة ، وحسن عشرة .
محنته
امتحن في هذا العهد الأخير بمطالبة شرعية ، لمتوقف صدر عنه لما جمع الفقهاء للنظر في ثبوت عقد على رجل نال من جانب الله والنبوة ، وشك في القول بتكفيره ، فقال القوم بإشراكه في التفكير ولطخه بالعاب الكبير ، إذ كان كثير المشاحة لجماعتهم ، فأجلت الحال عن صرفه عن الأندلس في أواخر شعبان عام خمسة وستين وسبعماية .
مشيخته
طلبت منه تقييد مشيخته ، فكتب مما يدل على جودة القريحة ما نصه : ' يتفضل سيدي الأعلى الذي أهتدي بمصباحه ، وأعشو إلى غرره وأوضاحه ، جامع أشتات العلوم ، وفاتق الفهوم ، حامل راية البديع ، وصاحب آيات التورية فيه(3/248)
"""""" صفحة رقم 249 """"""
والترصيع ، نخبة البلغاء ، وفخر الجهابذة العلماء ، قايد جياد البلاغ من نواصيها ، وسايق شوارد الحكم من أقاصيها ، أبو عبد الله بن الخطيب ، أبقاه الله للقريض ، يقطف زهره ، ويجتني غرره ، وللبديع يطلع قمره ، وينظم درره ، وللأدب يحوك حلله ، ويجمع تفاصيله وجمله ، وللمعاني يجوس بجيوش البراعة خلالها ، ويفتتح بعوامل اليراعة أقفالها ، وللأسجاع يقرط الأسماع بفرايدها ، ويحلى النحور بقلايدها ، وللنظم يورد جياده أحلى الموارد ، ويجليها في مضمار البلاغة من غير معاند ، وللنثر يفترع أبكاره ، ويودعها أسراره ، ولساير العلوم يصوغها في مفرق الآداب تاجاً ، ويضعها في أسطر الطروس سراجا ، ولا زال ذا القلم الأعلى ، وبدر الوزارة الأوضح الأجلى ، ببقاء هذه الدولة المولوية والإمامة المحمدية ، كعبة لملوك الإسلام ، ومقصداً للعلماء الأعلام . ورضي عنهم خلفاً وسلفاً ، وبورك لنا فيهم وسطاً وطرفاً ، ولا زالت آمالنا بعلايهم منوطة ، وفي جاههم العريض مبسوطة ، بقول ما نبه عليه ، من كتب شيوخى المشاهير إليه ، فها أنا أذكر ما تيسر لي من ذلك بالاختصار ، إذ لا تفي بذكرهم وحلاهم المجلدات الكبار . فمنهم ، مولاى الوالد علي بن عبد الله لقاه الله ، الروح والريحان ، وأوسعه الرضا والغفران . قرأت عليه القرآن ، وبعض ما يتعلق به من الإعراب والضبط . ثم بعثني إلى شيخنا المجتهد الإمام ، علم العلماء ، وقطب الفقها ، قدوة النظار ، وإمام الأمصار ، منصور بن أحمد المشدالي رحمه الله وقدس روحه ، فوجدته قد بلغ السن به غاية أوجبت جلوسه في داره ، إلا أنه يفيد بفوايده بعض زواره . فقرأت من أوائل ابن الحاجب عليه لإشارة والدي بذلك إله ، وذلك أول محرم عام سبعة وعشرين وسبعماية . واشتد الحصار ببجاية لسماعنا أن السلطان العبد الوادي ينزل علينا بنفسه ، فأمرني بالخروج رحمه الله ، فعاقني عايق عن الرجوع إله لأتمم قراءة ابن الحاجب عليه . ثم مات رحمه الله عام أحد وثلاثين وسبعماية ، فخص مصابه البلاد وعم ، ولف ساير الطلبة وضم ، إلا أنه ملأ بجاية وأنظارها بالعلوم النظرية وقساها ، وأنظارها بالفهوم النقلية والعقلية ، فصار من طلبته ، شيخنا المعظم ، ومفيدنا المقدم أبو عبد الله محمد بن يحيى الباهلي المعروف بالمفسر رحمه الله ، بالطريقة الحاجبية ، والكتابة الشرعية والأدبية ، مع فضل السن وتقرير حسن ، إلى معارف تحلاها ،(3/249)
"""""" صفحة رقم 250 """"""
ومحاسن اشتمل حلاها . واستمر في ذكر شيوخه على هذه الوتيرة من التزام السجع ، وتقرير الحلى ، فأجاد ، وتجاوز المعتاد ، فذكر منهم محمد بن يحيى الباهلي المذكور ، وأنه أخذ عنه جمله من العلوم ، فافرده بقراءة الإرشاد . والأستاذ أبا علي بن حسن البجلي ، وقرأ عليه جملة من الحاصل ، وجملة من المعالم الدينية والفقهية ، والكتب المنطقية ، كالخونجي ، والآيات البينات . والقاضي أبا عبد الله محمد بن أبي يوسف ، قاضي الجماعة ببجاية ، وأبا العباس أحمد بن عمران الساوي اليانيولي . قال ثم ثنيت العنان بتوجهي إلى تلمسان ، راغباً في علوم العربية ، والفهوم الهندسية والحسابية ، فأول من لقيت شيخنا الذي علمت في الدنيا جلالته وإمامته ، وعرفت في أقاصي البلاد سيادته وزعامته ، وذكر رئيس الكتاب العالم الفاضل أبا محمد عبد المهيمن الحضرمي ، والمحدث البقية أبا العباس بن يربوع ، والقاضي أبا إسحاق بن أبي يحيى وقرأ شيئاً من مبادئ العربية على الأستاذ أبي عبد الله الرندي . ولقى بالأندلس جلة . فممن قرأ عليه إمام الصنعة العربية شيخنا أبو عبد الله بن الفخار الشيهر بالبيري ، ولازمه إلى حين وفاته ، وكتب له بالإجازة والإذن له في التحليق بوضع قعوده من المدرسة بعده . وقاضى الجماعة الشريف أبو القاسم محمد بن أحمد الحسيني ، نسيج وحده ، ولازمه ، وأخذ عنه تواليفه ، وقرأ عليه تسهيل الفوايد لابن مالك ، وقيد عليه وروى عن شيخنا إمام البقية أبي البركات بن الحاج ، وعن الخطيب المحدث أبي جعفر الطنجالي . وهو الآن بالحال الموصوفة أعانه الله وأمتع به .
شعره
زرنا معاً والشيخ القاضي المتفنن أبو عبد الله المقري عند قدومه إلى الأندلس رباط العقاب . واستنشدت القاشي . وكتب لي يومئذ بخطه ، استنشدني الفقيه الوجيه الكامل ذو الوزارتين أبو عبد الله بن الخطيب ، أطال الله بقاه كما أطال ثناه ، وحفظ مهجته ، كما أحسن بهجته ، فأنشدته لنفسي :
لما رأيناك بعد الشيب يا رجل . . . لا تستقيم وأمر النفس تمتثل
زدنا يقينا بما كنا نصدقه . . . عند المشيب يشب الحرص والأمل
وكان ذلك بمسجد رابطة العقاب ، عقب صلاة الظهر من يوم الأحد التاسع والعشرين لشهر ربيع الآخر من عام سبعة وخمسين وسبعماية . وكتب الشيخ الأستاذ أبو علي يقول : منصور بن علي الزواوي ، في رابطة العقاب في كذا ، أجزت صاحبنا(3/250)
"""""" صفحة رقم 251 """"""
الفقيه المعظم ، أبا عبد الله بن الخطيب وأولاده الثلاثة عبد الله ، ومحمداً ، وعلياً ، أسعدهم الله ، جميع ما يجوز لي وعني روايته ، وأنشدته قولي أخاطب بعض أصحابنا :
يحييك عن بعض المنازل صاحب . . . صديق غدت تهدى إليك رسايله
مقدمة حفظ الوداد وسيلة . . . ولا ود إلا أن تصح وسائله
يسايل عنك الدارين ولم يكن . . . تغيب لبعد الدار عنك مسايله
وكتبت له قبل هذا مما أنشدته عند قدومي على غرناطة :
يا من وجدناه لفظا . . . حقيقة في المعالي
مقدمات علاكم . . . أنتجن كل كمال
وكل نظم قياس . . . خلوت منه فخال وهو من لدن أزعج عن الأندلس ، كما تقدم ذكره ، مقيم بتلمسان ، على ما كان عليه من الإقراء والتدريس .
مسلم بن سعيد التنملي
حاله
كان غير نبيه الأبوة . ظهر في دولة السلطان أمير المسلمين ، ثاني الملوك من بني نصر ، بمزيد كفاية ، فقلده خطة الجفازة ، وهي تعميم النظر في المجابي ، وضم الأموال ، وإيقاع النكير في محل التقصير ، ومظان الريب فنمت حاله ، وعظم جاهه ، ورهبت سطوته ، وخيف إيقاعه ، وقربت من السلطان وسيلته ، فتقدم الخدام ، واستوعب أطراف الحظوة ، واكتسب العقار ، وصاهر في نبيه البيوتات ، وأروث عنه أخبارا ، تشهد له بالجود علو الهمة ، وشرف النفس ، إلى أن قضى على هذه الوتيرة .
ذكروا أن شخصاً جلب سلعة نفيسة ، مما يطمع في إخفايها ، حيدة عن وظيفة المغرم الباهظة ، في مثل جنسه ، فبينما هو يروم المحاولة ، إذ بصر بنبيه المركب والبزة ،(3/251)
"""""" صفحة رقم 252 """"""
ينفض في زوايا الفحص عن مثل مضطبنه ، فظنه رئيساً من رؤساء الجند ، فقصده ورغب منه إجازة خبيئته بباب المدينة ، وقرر لتخوفه من ظلم الحافز الكذا مسلم ، فأخذها منه وخبأها تحت ثيابه ، ووكل به . ولم يذهب المسكين إلا يسيراً ، حتى سأل عن الرجل ، فأخبر أنه الذي فر عنه . فسقط قي يده . ثم تحامل فألقاه ينظره في داخل السور ، فدفع إليه أمانته ، وقال سر في حفظ الله ، فقد عصمها الله من ذلك الرجل الظالم ، فخجل الرجل ، وانصرف متعجباً . وأخباره في السراوة ، ونجح الوسيلة . كثيرة .
وفاته
توفي في عام ثمانية وتسعين وستماية ، وشهد أميره دفنه ، وكان قد أسف ولي العهد بأمور صانعه فيها من باب خدمة والده . فكان يتلمظ لنكبته ، ونصب لثاته لأكله . فعاجله الحمام قبل إيقاع نقمته به . ولما تصير إليه الأمر ، نبش قبره ، وأخرج شلوه ، فأحرق بالنار ، إغراقاً في شهوة التشفي رحمة الله عليه .
ومن العمال الأثراء
مؤمل مولى باديس بن حبوس
حاله ومحنته
قال ابن الصيرفي ، وقد ذكر عبد الله بن بلقين حفيد باديس ، واستشارته عن أمره ، لما بلغه حركة يوسف بن تاشفين إلى خلعه . وكان في الجملة من أحبابه ، رجل من عبيد جده اسمه مؤمل ، وله سن ، وعنده دهاء وفطنة ، ورأى ونظر . وقال في موضع آخر ، ولم يكن في وزراء مملكته وأحبار دولته ، أصيل الرأي ، جزل الكلمة ، إلا ابن أبي خيثمة من كتبته ، ومؤمل من عبيد جده ، وجعفر من فتيانه . رجع ، قال : فألطف له مؤمل في القول ، وأعلمه برفق ، وحسن أدب ، أن ذلك غير صواب ، وأشار إليه بالخروج إلى أمير المسلمين إذا قرب ، والتطارح عليه ، فإنه لا تمكنه مدافعته ، ولا تطاق حربه ، والاستجداء له . أحمد عاقبة وأيمن مغبة . وتابعه على ذلك نظراؤه ، من أهل السن والحنكة ودافع في صد رأيه الغلمة والأغمار ، فاستشاط غيظاً على مؤمل ومن نحا نحوه ، وهم بهم ، فخرجوا ،(3/252)
"""""" صفحة رقم 253 """"""
وقد سل بهم فرقاً منه . فلما جنهم الليل فروا إلى لوشة ، وبها من أبناء عبيد باديس قايدها ، فملكوها وثاروا فيها ، بدعوة أمير المسلمين يوسف بن تاشفين ، وبادر مؤمل بالخطاب إلى أمير المسلمين المذكور وقد كان سفر إليه عن سلطانه ، فأعجبه عقلاً ونبلاً ، فاهتز إليه ، وكان أقوى الأسباب على حركته . وبادر حفيد باديس الأمر ، فأشخص الجيش لنظر صهره ، فتغلب علهم ، وسيق مؤمل ومن كان معه شر سوق في الحديد ، وأركبوا على دواب هجن ، وكشفت رؤوسهم ، وأردف وراء كل رجل من يصفعه . وتقدم الأمر في نصب الجذوع وإحضار الرماة . وتلطف جعفر في أمرهم . وقال للأمير عبد الله ، إن قتلهم الآن ، أطفأت غضبك ، وأذهبت ملكك . فاستخرج المال ، وأنت من وراء الانتقام ، فثقفهم ، وأطمعوا في أنفسهم ريثما شغله الأمر ، وأنفذ إليه يوسف بن تاشفين في حل اعتقالهم ، فلم تسعه مخالفته وأطلقهم . ولما ملك غرناطة على تفيئة تلك الحال ، قدم مؤملاً على مستخلصه وجعل بيده مفاتيح قصره ، فنال ما شاء من مال وحظوة ، واقتنى ما أراد من صامت وذخيرة . ونسبت إليه بغرناطة آثار ، منها السقاية بباب الفخارين والحوز المعروف بحوز مؤمل ، أدركتها وهي بحالها .
وفاته قال ابن الصيرفي ، وفي ربيع الأول من هذا العام ، وهو عام اثنين وتسعين وأربعماية ، توفي بغرناطة مؤمل مولى باديس بن جبوس ، عبد أمير المسلمين ، وجابي مستخلصه وكان له دهاء وصبر ، ولم يكن بقارئ ولا كاتب . رزقه الله عند أمير المسلمين ، أيام حياته ، منزلة لطيفة ودرجة رفيعة . ولما أشرف على المنية ، أحضر ما كان عنده من مال المستخلص ، وأشهد الحاضرين على دفعه إلى من استوثقه على حمله . ثم أبرأ جميع عماله وكتابه . وأنفذ رجلاً من صنايعه إلى أمير المسلمين بجملة من مال نفسه ، يريه أن ذلك جميع ما اكتسبه في دولته ، أيام خدمته ، وأن بيت المال أولى به ، ورغب في ستر أهله وولده . فلما وصل إليه ، أظهر الأسف عليه ، وأمضى تقديم صنيعته . ثم ذكر ما كشف البحث عنه من محتجنه ، وشقاء من خلفه بسببه ، وعدد مالاً وذخيرة .(3/253)
"""""" صفحة رقم 254 """"""
حرف النون الملوك والأمراء
نصر بن عقيل الحزرجي الأنصاري نصر بن محمد بن يوسف بن نصر بن أحمد بن محمد بن خميس بن عقيل الحزرجي الأنصاري
أمير المسلمين بالأندلس ، بعد أبيه وجده وأخيه . يكنى أبا الجيوش وقد تقدم من أولية هؤلاء الملوك ما يغنى عن الإعادة .
حاله
من كتاب طرفة العصر في أخبار الملوك من بني نصر من تصنيفنا . قال : كان فتى يملأ العيون حسناً وتمام صورة ، دمث الأخلاق ، لين العريكة ، عفيفاً ، مجبولاً على طلب الهدنة وحب الخير ، مغمد السيف ، قليل الشر ، نافراً للبطر وإراقة الدماء ، محبا في العلم وأهله ، آخذاً من صناعة التعليل بحظ رغيب ، يخط التقاويم الصحيحة ، ويصنع الآلات الطريفة بيده ، اختص في ذلك الشيخ الإمام أبا عبد الله بن الرقام ، وحيد عصره . فجاء واحد دهره ظرفاً وإحكاماً . وكان حسن العهد ، كثير الوفاء . حمله الوفاء على اللجاج في وزيره المطلوب بعزله ، على الاستهداف للخلع .
تقدم يوم خلع أخيه ، وهو يوم عيد الفطر من عام ثمانية وسبعماية ، وسنه ثلاث وعشرون سنة ، فكان من تمام الخلق ، وجمال الصورة ، والتأنق في ملوكي اللباس ، آية من آيات الله خالقه . واقتدى برسوم أبيه وأخيه ، وأجرى الألقاب والعوايد لأول دوالته ، وكانت أيامه كما شاء الله ، أيام محس مستمر ، شملت المسلمين فيها الأزمة ، وأحاط بهم الذعر ، وكلب العدو . وسيمر من ذالك ما فيه كفاية . وكان فتى أي فتى ، لو ساعده الجد . والأمر لله من قبل ومن بعد .(3/254)
"""""" صفحة رقم 255 """"""
وزراء دولته
وزر له مقيم أمره ومحكم التدبير على أخيه ، أبو بكر عتيق بن محمد ابن المول . وبيت بني مولى بقرطبة ، بيت له ذكر وأصالة . ولما تغلب عليها ابن هود ، اختفى بها أبوه أياماً عدة . ولما تملكها السلطان الغالب بالله تلك البرهة ، خرج إليه وصحبه إلى غرناطة ، فاتصلت قرباه بعقده على بنت للرئيس أبي جعفر المعروف بالعجلب ابن عم السلطان . واشتد عضده . ثم تأكدت القربى بعقد مول أخي هذا الوزير على بنت الرئيس ألي الوليد أخت الرئيس ألي سعيد ، منجب هؤلاء الملوك الكرام ، فقام بأمره ، واضطلع بأعباء سلطانه ، إلى أن كان من تغلب أهل الدولة عليه ، وإخافة سلطانه منه ، ما أوجب صرفه إلى المغرب في غرض الرسالة ، وأشير عليه في طريقه بإقامته بالمغرب ، فكان صرفاً حسناً . وتولى الوزارة محمد بن علي بن عبد الله بن الحاد ، المسير لخلعه ، واجتثاث أصله وفرعه ، وكان خباً داهية ، أعلم الناس بأخبار الروم وسرهم وآثارهم . فحدثت بين السلطان وبين أهل حضرته الوحشة بسببه .
قضاته
أقر على خطة القضاء بحضرته قاضي أخيه الشيخ الفقيه أبا جعفر القرشي المنبز بابن فركون ، وقد تقدم التعريف به مستوفى بحول الله .
كتابه
شيخنا الصدر الوجيه ، نسيج وحده أبو الحسن علي بن محمد بن سليمن بن الجياب إلى آخر مدته .
من كان على عهده من الملوك بالمغرب ، السلطان أبو الربيع سليمن بن عبد الله بن أبي يعقوب يوسف بن أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق ، تصير الأمر إليه بعد وفاة أخيه السلطان أبي ثابت عامر بأحواز طنجة ، في صفر عام ثمانية وسبع ماية ، وكان مشكوراً ، مبخت الولاية . وفي دولته عادت سبتة إلى الإيالة المرينية ، ثم توفي بتازى في مستهل رجب من عام عشرة وسبعماية . وتولى الملك بعده عم(3/255)
"""""" صفحة رقم 256 """"""
أبيه السلطان الجليل الكبير ، خدن العافية ، وولى السلامة ، وممهد الدولة أبو سعيد عثمن بن أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق . واستمرت ولايته إلى تام أيام هذا الأمير ، وكثيراً من أيام من بعده . وقد تقدم من ذكر السلطان أبي يوسف في اسم من تقدم من الملوك ما فيه كفاية .
وبتلمسان ، الأمير أبو حمو موسى بن عثمن بن يغمراسن ، سلطان بني عبد الواد ، مذلل الصقع ، والمثل الساير في الحزم والتيقظ ، وصلابة الوجه ، زعموا ، وإحكام القحة ، والإغراب في خبث السيرة . واستمرت ولايته إلى عام ثمانية عشر وسبعماية ، إلى أن سطا به ولده ، عبد الرحمن أبو تاشفين .
وبتونس ، الأمير الخليفة أبو عبد الله محمد بن الواثق يحيى بن المستنصر محمد بن الأمير أبي زكريا بن أبي حفص . ثم توفي في ربيع الآخر عام تسع وسبع ماية . فولي الأمر قريبه الأمير أبو بكر بن عبد الرحمن ابن الأمير أبي زكريا ابن الأمير أبي إسحاق بن الأمير أبي زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص . ونهض إليه من بجاية قريبه السلطان أبو البقاء خالد ابن الأمير أبي زكريا ابن الأمير أبي إسحاق ابن الأمير أبي زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص ، فالتقيا بأرض تونس ، فهزم أبو بكر ، ونجا بنفسه ، فدخل بستاناً لبعض أهل الخدمة ، مختفياً فيه ، فسعى به إلى أبي البقاء ، فجيء به إليه ، فأمر بعض القرابة بقتله صبراً ، نفعه الله . وتم الأمر لأبي البقاء في رابع جمادى الأولى منه ، إلى أن وفد الشيخ المعظم أبو يحيى زكريا الشهير(3/256)
"""""" صفحة رقم 257 """"""
باللحياني ، قافلاً من بلاد المشرق ، وهو كبير آل أبي حفص نسباً وقدراً ، فأقام بإطرابلس ، وأنقذ إلى تونس خاصته ، الشيخ الفقيه أبا عبد الله المردوري محارباًلأبي البقاء ، وطالباً للأمر . فتم الأمر ، وخلع أبو البقاء تاسع جمادى الأولى عام أحد عشر وسبعماية . وتم الأمر للشيخ أبي يحيى ، واعتقل أبو البقاء ، فلم يزل معتقلاً إلى أن توفي في شوال عام ثلاثة عشر وسبعماية ، ودفن بالجبانة المعروفة لهم بالزلاج ، فضريحه فيما تعرفنا بإزاء ضريح قتيله المظلوم أبي بكر ، لا فاصل بينهما . وعند الله تجتمع الخصوم .
واتصلت أيام الأمير أبي يحيى ، إلى أن انقرضت مدة الأمير أبي الجيوش . وقد تضمن الإلماع بذلك الرجز المسمى بقطع السلوك من نظمي . فمن ذلك فيما يختص بملوك المغرب قولي في ذكر السلطان أبي يعقوب :
ثم تقضى معظم الزمان . . . مواصلاً حصر بني زيان
حتى أتى أهل تلمسان الفرج . . . ونشقوا من جانب اللطف الأرج
لما ترقى درج السعد درج . . . فانفض ضيق الحصر عنها وانفرج
وابن ابنه وهو المسمى عامراً . . . أصبح بعد ناهياً وآمراً
وكان ليثاً دامي المخالب . . . تغلب الأمر بجد غالب
أباح بالسيف نفوساً عدة . . . فلم تطل في الملك منه العدة
ومات حتف أنفه واخترما . . . ثم سليمان عليها قدما
أبو الربيع دهره ربيع . . . يثنى على سيرته الجميع
حتى إذا الملك سليمان قضى . . . تصير الملك لعثمن الرضا
فلاح نور السعد فيها وأضا . . . وسنى العهد الذي كان مضا(3/257)
"""""" صفحة رقم 258 """"""
وفيما يختص ببنى زيان ، بعد ذكر أبي زيان :
حتى إذا استوفى زمان سعده . . . قام أبو حمو بها من بعده
وهو الذي سطا عليه ولده . . . حتى انتهى على يديه أمده
وفيما يختص بآل أبي حفص بعد ذكر جملة منهم :
ثم الشهيد الأمير خالد . . . هيهات ما في الدهر حي خالد
وزكريا بها بعد ثوا . . . ثم نسوا الرحلة عنها والتوا
رحل بالشرق وبالشرق ثوا . . . وربما فاز امرؤ بما نوا ومن ملوك النصارى بقشتاله : هرانده بن شانجه بن ألهنشه بن هراتده بن شانجه . ونازل على عهده الجزيرة الخضراء ، ثم أقلع عنها عن ضريبة وشروط ، ثم نازل في أخريات أمره حصن القذاق ، وأدركه ألم الموت بظاهره ، فاحتمل من المحلة إلى جيان ، وبقيت المحلة منيخة على الحصن ، إلى أن تملك بعد موت الطاغية بأيام ثلاثة ، كتموا فيها موته . ولسبب هلاكه حكاية ظريفة ، تضمنتها طرفة العصر في تاريخ دولة بني نصر . وقام بعده بأمر النصرانية ولده ألهنشه ، واستمرت أيامه إلى عام خمسين وسبعماية .
بعض الأحداث في أيامه
نازل على أول أمره طاغية قشتالة ، الجزيرة الخضراء في الحادي والعشرين من عام تسعة وسبعماية ، وأقام عليها إلى أخريات شعبان من العام المذكور ، وأقلع عنها بعد ظهوره على الجبل وفوز قداحه به . ونازل(3/258)
"""""" صفحة رقم 259 """"""
صاحب برجلونة مدينة ألمرية غرة ربيع الأول من هذا العام ، وأخذ بمخنقها ، وتفرقت الظبا على الخراش ، ووقعت على جيش المسلمين الناهد إليه وقيعة كبيرة ، واستمرت المطاولة إلى أخريات شعبان ، ونفس الله الحصر ، وفرج الكرب . وما كاد أهل الأندلس يستنشقون ريح العافية ، حتى نشأ نجم الفتنة ، ونشأت ريح الخلاف ، واستفسد وزير الدولة ضمائر أهلها ، واستهدف إلى رعيتها بإيثار النصارى والصاغية إلى العدو ، وأظهر الريس ابن عم الأب صاحب مالقة أبو سعيد فرج ابن إسماعيل ، صنو الغالب بالله ابن نصر ، الامتساك بما كان بيده ، والدعاء لنفسه ، وقدم ولده الدايل إلى طلب الملك . وثار أهل غرناطة ، يوم الخامس والعشرين لرمضان من العام ، وأعلن منهم من أعلن بالخلاف ثم خانهم التدبير ، وخبطوا العشواء ، ونزل الحشم ، فلاذ الناس منهم بديارهم ، وبرز السلطان إلى باب القلعة ، متقدماً بالعفة عن الناس ، وفر الحاسرون عن القناع ، فلحقوا بالسلطان أبي الوليد بمالقة ، فاستنهضوه إلى الحركة ، وقصد الحضرة ، فأجابهم وتحرك ، فأطاعته الحصون بطريقة ، واحتل خارج غرناطة صبيحة يوم الخميس السابع والعشرين لشوال منه ، فابتدره الناس من صايح ومشير بثوبه ، ومتطارح بنفسه . فدخل البلد من ناحية ربض البيازين ، واستقر بالقصبة ، كما تقدم في اسمه . وفي ظهر يوم السبت التاسع والعشرين من الشهر ، نزل الحمراء دار المللك ، وانفصل السلطان المترجم به ، موفى له شرط عقده من انتقاله إلى وادي آش ، مستبداً بها ، وتعيين مال مخصوص ، وغير ذلك . ورحل ليلة الثلاثاء الثالث لذي قعدة من العام . واستمرت الحال ، بين حرب ومهادنة ، وجرت بسبب ذلك أمور صعبة إلى حين وفاته . رحمه الله .(3/259)
"""""" صفحة رقم 260 """"""
مولده
ولد في رمضان عام ستة وثمانين وست ماية . وكانت سنة ستاً وثلاثين سنة وثلاثة أشهر ، ودولته الجامعة خمس سنين وشهراً واحداً ، ومقامه بوادي أش تسعة أعوم وثلاثة أيام .
وفاته
توفي رحمه الله ، ليلة الأربعاء سادس ذي قعدة من عام اثنين وعشرين وسبعماية بوادي آش ، ودفن بجامع القصبة منها ، ثم نقل في أوايل ذي الحجة منه إلى الحضرة ، فكان وصوله يوم الخميس السادس منه ، وبرز إليه السلطان ، والجمع الكثير من الناس ، ووضع سريره بالمصلى العيدي ، وصلى عليه إثر صلاة العصر ، ودفن بمقبرة سلفه بالسبيكة ، وكان يوماً من الأيام المشهودة ، وعلى قبره مكتوب في الرخام : هذا قبر السلطان المرفع المقدار ، الكريم البيت ، العظيم النجار سلالة الملوك الأعلام الأخيار ، الصريح النسب في صميم الأنصار ، الملك الأوحد ، الذي له السلف العالي المنار ، في الملك المنيع الذمار ، رابع ملوك بني نصر ، أنصار دين المصطفى المختار ، المجاهدين في سبيل الملك الغفار ، الباذلين في رضاه كرايم الأموال ، ونفايس الأعمار . المعظم المقدس المرحوم ، أبي الجيوش نصر ابن السلطان الأعلى الهمام الأسمى ، المجاهد الأحمى ، الملك العادل ، الطاهر الشمايل ، ناصر دين الإسلام ، ومبيد عبدة الأصنام ، المؤيد المنصور ، المقدس ، المرحوم أمير المسلمين أبي عبد الله بن السلطان الجليل . الملك الشهير ، مؤسس قواعد الملك على التقوى والرضوان ، وحافظ كلمة الإسلام ، وناصر دين الإيمان ، الغالب بالله ، المنصور بفضل الله ، المقدس المرحوم ، أمير المسلمين أبي عبد الله بن نصر ، تغمده الله برحمته وغفرانه ، وبوأه منازل إحسانه ، وكتبه في أهل رضوانه . وكان مولده في يوم الاثنين الرابع والعشرين لشهر رمضان المعظم عام ستة وثمانين وستماية . وبويع يوم الجمعة غرة شوال عام ثمانية وسبعماية ، وتوفي رحمه الله ليلة يوم الأربعاء(3/260)
"""""" صفحة رقم 261 """"""
السادس لشهر ذي قعدة عام اثنين وعشرين وسبعماية فسبحان الملك الحق المبين ، وارث الأرض ومن عليها ، وهو خير الوارثين . وفي جهة :
يا قبر جاد ثراك صوب غمام . . . يهمى عليك برحمة وسلام
بوركت لحداً فيه أي وديعة . . . ملك كريم من نجار كرام
ماشيت من حلم ومن خلق رضي . . . وزكاه أعراق ومجد سام
فاسعد بنصر رابع الأملاك من . . . أبناء نصر ناصر الإسلام
من خزرج الفخر الذين مقامهم . . . في نصر خير الخلق خير مقام
يا أيها المولى المؤسس بيته . . . في معدن الأحساب والأحلام
ما للمنية والشباب مساعد . . . قد أقصدتك بصائبات سهام
عجلت على ذاك الجمال فغادرت . . . ربع المحاسن طامس الأعلام
فمحى الردى من حسن وجهك آية . . . نحو النهار لسدفة الإظلام
ما كنت إلا بدر تم باهراً . . . أخنى الخسوف عليك عند تمام
فعلى ضريح أبي الجيوش تحية . . . كالمسك عرفا عند فض ختام
وتغمدته رحمة الله التي . . . ترضيه من عدن بدار مقام
؟
ومن الأعيان والوزراء
؟
نصر بن إبراهيم بن أبي الفتح الفهري
يكنى أبا الفتح ، أصلهم من حصن أريول من عمل مرسية ، ولهم في الدولة النصرية مزية خصوا لها بأعظم رتب القيادة واستعمل بعضهم في ولاية السلطان .
؟ حاله
نقلت من خط شيخنا أب يبكر بن شبرين . قال : وفي السادس عشر لذي قعدة منه ، يعني عام عشرة وسبعماية ، توفي بغرناطة القايد المبارك ، أبو الفتح ، أحد الولاة والأعيان الذاكرين لله تعإلى ، أولى النزاهة والوفاء .
؟ نصر بن إبراهيم بن نصر الفهري
؟
نصر بن إبراهيم بن أبي الفتح بن نصرين إبراهيم بن نصر الفهري
يكنى أبا الفتح ، حفيد المذكور معه في هذا الباب(3/261)
"""""" صفحة رقم 262 """"""
؟ حاله
من كتاب طرفة العصر : نسيج وحده في الخير والعفاف ، ولين العريكة ، ودماثة الأخلاق ، إلى بعد الهمة ، وجمال الأبهة ، وضخامة التجند ، واستجادة المركب والعدة ، وارتباط العبادة ، استعان على ذلك بالنعمة العريضة بين منادية إليه بميراث ، ومكتسب من جراء المتغلب على الدولة صهره ابن المحروق معياشة لبنته . ونمت حال هذا الشهم النجد ، وشمخت رتبته حتى خطب للوزارة في أخريات أيامه ، وعاق عن تمام المراد به ، إلحاح السقم على بدنه ، وملازمة الضنا لجثمانه ، فمضى لسبيله ، عزيز الفقد عند الخاصة ، ذائع الثنا ، نقي العرض ، صدراً في الولاة . وعلماً في القواد الحماة .
وفاته
توفي بغرناطة ليلة الجمعة الثامن والعشرين لجمادى الآخرة عام خمسة وأربعين وسبعماية . وكانت جنازته أخذة نهاية الاحتفال ، ركب إليها السلطان ، ووقف بإزاء لحده ، إلى أن وورى ، تنويهاً بقدره ، وإشادة ببقاء الحرمة على خلفه . وحمل سريره الجملة من فرسانه وأبناء نعمته .
ومن الكتاب والشعراء
نزهون بنت القليعي
قال ابن الأبار ، وهو فيما أحسب أبو بكر محمد بن أحمد بن خلف ابن عبد الملك بن غالب الغساني ، غرناطية .
حالها
كانت أديبة شاعرة ، سريعة الجواب ، صاحبة فكاهة ودعابة . وقد جرى شيء من ذلك في اسم أبي بكر بن قزمان ، والمخزومي الأعمى . وأبي بكر بن سعيد .(3/262)
"""""" صفحة رقم 263 """"""
شعرها
دخل الأديب أبو بكر الكتندي الشاعر ، وهي تقرأ على المخزومي الأعمى ، فلما نظر إليها ، قال أجز يا أستاذ : لو كنت تبصر من تكلمه . فأفحم المخزومي زامعاً ، فقالت : لغوت أخرس من خلاخله ثم زادت :
إليه البدر يطلع من أزرته . . . والغصن يمرح في غلايله
ولاخفاء ببراعة هذه الإجازة ، ورفاعة هذا الأدب .
وكتب إليها أبو بكر بن سعيد ، وقد بلغه أنها تخالط غيره من الأدباء الأعيان :
يا من له ألف خل . . . من عاشق وعشيق
أراك خليت للنا . . . س سد ذاك الطريق
فأجابته بقولها :
حللت أبا بكر محلاً منعته . . . سواك وهل غير الرفيع له صدري
وإن كان لي كم من حبيب فإنما . . . يقدم أهل الحق فضل أبي بكر
وهذه غاية في الحسن بعيدة . ومحاسنها شهيرة ، وكانت من غرر المفاخر الغرناطية .(3/263)
"""""" صفحة رقم 264 """"""
حرف الصاد من الأعيان والوزراء
الصميل بن حاتم بن عمر بن جذع بن شمر بن ذي الجوشن الضبابي الكلبي
وهو من أشراف عرب الكوفة .
أوليته
قال صاحب الكتاب الخزايني جده أحد قتلة الحسين بن علي ، الذي قام برأسه على يزيد بن معاوية . فلما قام المختار ثايراً بالحسين ، فرعنه شمر ، ولحق بالشام فأقام بها في عز ومنعة . ولما خرج كلثوم بن عياض غازياً إلى المغرب ، كان الصميل ممن ضرب عليه البعث في أشراف أهل الشام . ودخل الأندلس فيطالعة بلج بن بشر القشيري ، فشرف ببدنه إلى شرف تقدم له . ورد ابن حيان هذا ، وقال في كتاب بهجة الأنفس ، وروضة الأنس ، كان الصميل بن حاتم هذا جده شمر قاتل الحسين رضي الله عنه ، من أهل الكوفة ، فلما قتله ، تمكن منه المختار فقتله ، وهدم داره ، فارتحل ولده من الكوفة ، فرأس بالأندلس ، وفاق أقرانه بالنجدة والسخاء .
حاله
قال ، كان شجاعاً ، نجداً ، جواد ، كريماً ، إلا إنه كان رجلاً أمياً لا يقرأ ولا يكتب ، وكان له في قلب الدول ، وتدبير الحروب ، أخبار مشهورة .
من أخباره . حكى ابن القوطية ، قال ، مر الصميل بمعلم يتلو ' وتلك الأيام نداولها بين الناس ' . فوقف يسمع ، ونادى بالمعلم ، يا هناه كذا نزلت(3/264)
"""""" صفحة رقم 265 """"""
هذه الآية ، فقال نعم ، فقال ، أرى والله سيشركنا في هذا الأمر ، العبيد والأراذل والسفلة .
خبره في الجود : قال ، كان أبو الأجرب الشاعر ، وقفاً على أمداح الصميل ، وهو القايل :
بني لك حاتم بيتاً رفيعا . . . رأيناه على عمد طوال
وقد كان ابتنى شمر وعمرو . . . بيوتاً غير ضاحية الظلال
فأنت ابن الأكارم من معد . . . تعتلج الأباطح والرمال
وقارضه بإجزاله لعطايه ، وانتمائه في ثوابه ، بأن أغلظ القسم على نفسه ، بأن لا يراه ، إلا أعطاه ما حضره ، فكان أبو الأجرب قد اعتمد اجتنابه في اللقاء ، حياء منه ، وإبقاء على ماله ، فكان لا يزوره إلا في العيدين ، قاضياً لحقه . وقد لقيه يوماً مواجهة ببعض الطريق ، والصميل راكب ، ومعه ابناه فلم يحضره ما يعطيه ، فأرجل أحد أبنية ، وأعطاه دابته ، فضرب في صنعه ، وفيه يقول من قصيدة :
دون الصميل شريعة مورودة . . . لا يستطيع لها العدو ورودا
فت الورى وجمعت أشتات العلا . . . وحويت مجداً لا ينال وجودا
فإذا هلكت فلا تحمل فارس . . . سيفا ولا حمل النساء وليدا
وكان صاحب أمره ولاه الأندلس قبل الأمويين ، لهم الأسماء ، وله معنى الإمرة ، وكان مظفر الحروب ، سديد الرأي ، شهير الموقف ، عظيم الصبر . وأوقع باليمانية وقايع كثيرة ، منها وقيعة شقندة ، ولم يكن بالأندلس مثلها ، أثخن فيها القتل باليمانية .
أنفته قال : وكان أبياً للضيم ، محامياً عن العشيرة ، كلم أبا الخطار الأمير ، في رجل من قومه ، انتصر به ، فأفجمه ، ورد عليه ، فأمر به ، فتمتع ومالت عمامته . فلما خرج قال له بعض من على باب الأمير ، يا أبا الجوشن ما بال عمامتك مايلة ، فقال إن كان لي قوم فسيقيمونها ، وخرج من ليلته ، فأفسد ملكه .(3/265)
"""""" صفحة رقم 266 """"""
وفاؤه وخبر وفائه مشهور ، فيما كان من جوابه لرسولي عبد الرحمن ابن معاوية إليه ، بما قطع به رجاء الهوادة في أمر أميره ، يوسف بن عبد الرحمن الفهري ، والتستر مع ذلك عليهما ، فلينظر في كتاب المقتبس .
دخوله غرناطة
ولما صار الأمر إلى عبد الرحمن بن معاوية ، صقر بني أمية ، وقهر الأمير يوسف الفهري ، ووزيره الصميل ، إذ عزله الناس ، ورجع معه يوسف الفهري والصميل إلى قرطبة . ولم يلبثا أن نكثا ، ولحقا فحص غرناطة ، ونازلهما الأمير عبد الرحمن بن معاوية في خبر طويل ، واستنزلهما عن عهد ، وعاد الجميع إلى قرطبة ، وكان يوسف والصميل يركبان إلى القصر كل جمعة إلى ا ، مضيا لسبيلهما . وكان عبد الرحمن بن معاوية يسترجع . ويقول ما رأيت مثله رجلاً . لقد صحبني من إلبيرة إلى قرطبة ، فما مست ركبتي ركبته ، ولا خرجت دابته عن دابتي .
ومن الكتاب والشعراء
صفوان بن إدريس بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عيسى بن إدريس التجيبي
من أهل مرسية ، يكنى أبا بجر .
حاله
كان أديباً ، حسيباً جليلاً ، أصيلاً ، ممتعاً من الظرف ، ريان من الأدب ، حافظاً ، حسن الخط ، سريع البديهة ، ترف النشأة ، على تصاون وعفاف ، جميلاً سرياً ، سمحاً ذكياً ، مليح العشرة ، طيب النفس ، ممن تساوى حظه في النظم والنثر ، على تباين الناس في ذلك .
مشيخته
روى عن أبيه وخاله ، ابن عم أبيه القاضي أبي القاسم بن إدريس ، وأبي بكر بن مغاور ، وأبي الحسن بن القايم ، وأبي رجال بن غلبون ، وأبي عبد الله بن حميد ، وأبي العباس بن مضاء ، وأبي القاسم بن حبيش ، وأبي محمد الحجري ، وابن حوط الله ، وأبي الوليد بن رشد . وأجاز له أبو القاسم ابن بشكوال .(3/266)
"""""" صفحة رقم 267 """"""
من روى عنه : أبو إسحق اليابري ، وأبو الربيع بن سالم ، وأبو عبد الله ابن أبي البقاء ، وأبو عمر بن سالم ، ومحمد بن محمد بن عيشون .
تواليفه
له تواليف أدبية منها : زاد المسافر ، وكتاب الرحلة ، وكتاب العجالة سفران يتضمنان من نظمه ونثره ، أدباً لا كفاء له . وانفرد من تأبين الحسين رضي الله عنه ، وبكاء أهل البيت . بما ظهرت عليه بركته في حكايات كثيرة .
شعره
ثبت من ذلك في العجالة قوله :
جاد الزمان بأنه الجرعاء . . . توقان من دمعي وغيث سماء
فالدمع يقضى عندها حق الهوى . . . والغيم حق البانة الغيناء
خلت الصدور من القلوب كما خلت . . . تلك المقاصر من مهي وظباء
ولقد أقول لصاحبي وإنما . . . ذخر الصديق لأمجد الأشياء
يا صاحبي ولا أقل إذا أنا . . . ناديت من إن تصغيا لنداء
عوجاً بحار الغيم في سقى الحما . . . حتى ترى كيف انسكاب الماء
ونسن في سقي المنازل سنة . . . نمضي بها حكماً على الظرفاء
يا منزلاً نشطت إليه عبرتي . . . حتى تبسم زهره لبكاء
ما كنت قبل مزار ربعك عالما . . . أن المدامع أصدق الأنواء
يا ليت شعري والزمان تنقل . . . والدهر ناسخ سدة برخاء
هل نلتقي في روضة موشية . . . خفاقة الأغصان والأفياء
وننال فيها من تألفنا ولو . . . ما فيه سخمة أعين الرقباء
في حيث أتلعت الغصون سوالفاً . . . قد قلدت بلآلي الأنداء
وجرت ثغور الياسمين فقبلت . . . عيني عذار الآسة الميساء(3/267)
"""""" صفحة رقم 268 """"""
والورد في شط الخليج كأنه . . . رمد ألم بمقلة زرقاء
وكأن غصن الزهر في خضر الربى . . . زهر النجوم تلوح بالخضراء
وكأنما جاء النسيم مبشراً . . . للروض يخبره بطول بقاء
فكساه خلعة طيبه ورمى له . . . بدراهم الأزهار رمي سخاء
وكأنما احتقر الصنيع فبادرت . . . بالعذر عنه نغمة الورقاء
والغصن يرقص في حلى أوراقه . . . كالخود في موشية خضراء
وافتر ثغر الأقحوان بما رأى . . . طرباً وقهقه منه جري الماء أفديه من أنس تصرم فانقض . . . فكأنه قد كان في الإغفاء
لم يبق منه غير ذكر أو منى . . . وكلاهما سبب لطول عناء
أو رقعة من صاحب هي تحفة . . . إن الرقاع لتحفة النبهاء
كبطاقة الوسمي إذ حيا بها . . . إن الكتاب تحية الظرفاء
وهي طويلة . وقال مراجعاً عن كتاب أيضاً :
ألا سمح الزمان به كتابا . . . ذرى بوروده أنسى قبابا
فلا أدري أكان تحت وعد . . . دعا بهما لبرئي فاستجابا
وقد ظفرت يدي بالغنم منه . . . فليت الدهر سني لي إيابا
فلو لم أستفد شيئاً سواه . . . قنعت يمثله علقاً لبابا
إذا أحرزت هذا في اغترابي . . . فدعني بمثله علقاً لبابا
رجمت بأنه شيطان همي . . . فهل وجهت طرساً أم شهابا
رشقت به رضاب الود عذباً . . . يذكرني شمايلك العذابا
وكدت أجر أذيالي نشاطاً . . . ولكن خلت قولهم تصابا
فضضت ختامه عنى كأني . . . فتحت بفضه للروض بابا
فكدت أبثه في جفن عيني . . . لكي أستودع الزهر السحابا
وكنت أصونه في القلب لكن . . . خشيت عليه أن يفنى التهابا
ولو أن الليالي سامحتني . . . لكنت على كتابكم الجوابا(3/268)
"""""" صفحة رقم 269 """"""
فأبلى عندكم بالشكر عذرا . . . وأجزل من ثنايكم الثوابا
ولكن الليالي قيدتني . . . وقيدت غرضي إلا الخطايا
فما تلقاني الأحباب إلا . . . سلاماً أو مناما أو كتابا
لأمر ما يقص الدهر رشي . . . لأن السهم مهما ريش صابا
وعاذلة تقول ولست أصغي . . . ولو أصغيت لم أرفع جوابا
تخوفني الدواهي وهي عندي . . . أقل من أن أضيق بها جنابا
إذا طرقت أعد لها قراها . . . وقاراً واحتساباً واصطبارا
وما مثلي يخوف بالدواهي . . . عرين الليث لا يخشى الذبابا
تعاتبني فلا يرتد طرفي . . . وهل تسترقص الريح الهضابا
ولو أن العتاب يفيد شيئاً . . . ملأت مسامع الدنيا عتابا
وقد وصيتها بالصمت عني . . . فما صمتت ولا قالت صوابا
تعنفني على تركي بلاداً . . . عهدت بها القرارة والشبابا
تقول وهل يفل السيف إلا . . . إذا ما فارق السيف القرابا
فقلت وهل يضر السيف فل . . . إذا قط الجماجم والرقبا
بخوض الهول تكتسب المعالي . . . يحل السهل من ركب الصعاب
فليت الغاب يفترس الأناسي . . . وليث البيت يفترس الذبابا
ولو كان انقضاض الطير سهلاً . . . لكانت كل طائرة عقابا
دعيني والنهار أسير فيه . . . أسير عزايم تفرى الصلابا
أغازل من غزالته فتاة . . . تبيض فودها هرماً وشبابا
إذا شاءت مواصلتي تجلت . . . وإن ملت توارت لي احتجابا
وأسري الليل لا ألوي عنانا . . . ولو نيل الأماني لما أصابا
أطارح من كواكبه كماما . . . وأزجر من دجنته غرابا
وأركب شهباً غيراً كباعي . . . وخضراً مثل خاطري انسيابا
وآخذ من بنات الدهر حقي . . . جهاز البيت استلب استلابا
ولست أذيل بالمدح القوافي . . . ولا أرضى بخطتها اكتسابا(3/269)
"""""" صفحة رقم 270 """"""
أأمدح من به أهجو مديحي . . . إذا طيبت بالمسك الكلاما
سأخزنها عن الأسماع حتى . . . أرد الصمت بينهما حجابا
فلست بمادح ما عشت إلا . . . سيوفاً أو جياداً أو صحابا
أبا موسى وإني أخى وداد . . . أناجي لو سمعت إذا أجابا
ولكن دون ذلك مهمة لو . . . طوته الريح لم ترج الإيابا
أخى بر المودة كل بر . . . إذا بر الأشقة الانتسابا بعثت إليك من نظمى بدر . . . شققت عليه من فكري عبابا
عداني الدهر إن يلقاك شخصي . . . فأغني الشعر عن شخصي ونابا
وقال في الغرض الذي نظم فيه الرصافي من وصف بلده ، وذكر إخوانه ومعاهده ، مساجلاً في العروض والروى ، عقب رسالة سماها رسالة طراد الجياد في الميدان ، وتنازع اللدان والإخوان ، في تنفيق مرسية على غيرها من البلدان .
هل رسول البرق يغتنم الأجرا . . . فينشر عني ماء غيرته نثراً
معاملة أربو بها غير مذنب . . . فأقضيه دمع العين من نقطة بحراً
ليسقني من تدمير قطرا محبباً . . . يقر بعين القطر أن تشرب القطرا
ويقرضه ذوب اللجين وإنما . . . توفيه عيني من مدامعها تبرا
وما ذاك تقصيراً بها غير أنه . . . سجية ماء البحر أن يذوي الزهرا
خليلي قوما فأحبسا طرق الصبا . . . مخافة أن تحمى بزفرتي الحرا
فإن الصبا ريح على كريمة . . . بآية ما تسري من الجنة الصغرا(3/270)
"""""" صفحة رقم 271 """"""
خليلي أعني أرض مرسية المنا . . . ولولا توخي الصدق سميتها الكبرا
محلي بل جوى الذي عبقت به . . . نواسم آدابي معطرة نشرا
ووكري الذي منه درجت فليتني . . . فجعت بريش العزم كي ألزم الوكرا
وما روضة الخضراء قد شلت بها . . . مجرتها نهراً وأنجمها زهرا
بأبهج منها والخليج مجرة . . . وقد فضحت أزهار ساحتها الزهرا
وقد أسكرت أزهار أغصانها الصبا . . . وما كنت أعتد الصبا قبلها خمرا
هنالك بين الغصن والقطر والصبا . . . وزهر الربى ولدت آدابي الغرا
إذا نظم الغصن الحيا قال خاطري . . . تعلم نظام النثر من ها هنا شعرا
وإن نثرت ريح الصبا زهر الربى . . . تعلمت حل الشعر أسبكه نثرا
فوايد أسحار هناك اقتبستها . . . ولم أر روضاً غيره يقررئ السحرا
كأن هزيز الريح يمدح روضها . . . فتملأ فاه من أزاهرها دراً
أيارنقات الحسن هل فيك نظرة . . . من الجرف الأعلى إلى السكة الغرا
فأنظر من هذي لتلك كأنما . . . أغير إذ غازلتها أختها الأخرا
هي الكاعب الحسناء تمم حسنها . . . وقدت لها أوراقها حللاً خضرا
إذا خطبت أعطت دراهم زهرها . . . وما عادة الحسناء أن تنقد المهرا
وقامت بعرس الأنس قينة أيكة أغاريدها تسترقص الغصن النضرا
فقل في خليج يلبس الحوت درعه . . . ولكنه لا يستطيع بها قصرا
إذا ما بدا فيها الهلال رأيته . . . كصفحة سيف وسمها قبعة صضرا
وإن لاح فيها البدر شبهت متنه . . . بسطر لجين ضم من ذهب عشرا
وفي جرفي روض هناك تجافيا . . . لنهر يود الأفق لو زاره فجرا
كأنهما خلا صفاء تعاتبا . . . وقد بكيا من رقة ذلك النهرا
وكم لي بالباب الجديد عشية . . . من الأنس ما فيه سوى أنه مرا(3/271)
"""""" صفحة رقم 272 """"""
عشيات كأن الدهر غص بحسنها . . . فأجلت سياط البرق أفراسها الشقرا
عليهن أجرى خليل دمعي بوجنتي . . . إذا ركبت حمراً ميادينها الصفرا
أعهدي بالغرس المنعم دوحه . . . سقتك دموعي إنها مزنة شكرا
فكم فيك من يوم أغر محجل . . . تقضت أمانيه مخلدتها ذكرا
على مذنب كالنحر من فرط حسنه . . . تود الثريا أن تكون له نحرا
سقت أدمعي والقطر أيهما انبرى . . . نقا الرملة البيضاء فالنهر فالجسرا
وإخوان صدق لو قضيت حقوقهم . . . لما فارقت عيني وجوههم الزهرا
ولو كنت أقضي حق نفسي ولم أكن . . . لما بت أستحلي فراقهم المرا وما اخترت هذا البعد إلا ضروة . . . وهل تستجير العين أن تفقد الشقرا
قضى الله أن ينأى بي الدهر عنهم . . . أراد بذاك الله أن أعتب الدهرا
ووالله لو نلت المنا ما حمدتها . . . وما عادة المشغوف أن يحمد الهجرا
أيانس باللذات قلبي ودونهم . . . مرام يجد الركب في طيها شهرا
ويصحب هادي الليل راء وحرفة . . . وصاداً ونوناً قد تقوس واصفرا
فديتهم بانوا وضنوا بكتبهم . . . فلا خبراً منهم لقيت ولا خبرا
ولولا علا هماتهم لعتبتهم . . . ولكن عراب الخيل لا تحمل الزجرا
ضربت غبار البيد في مهرق السرى . . . بحيث جعلت الليل في ضربه حبرا
وحققت ذاك الضرب جمعاً وعدة . . . وطرحاً وتجميلاً فأخرج لي صفرا
كأن زماني حاسب متعسف . . . يطارحني كسراً أما يحسن الجبرا
فكم عارف بي وهو يحسب رتبتي . . . فيمدحني سراً ويشتمني جهرا(3/272)
"""""" صفحة رقم 273 """"""
لذلك ما أعطيت نفسي حقها . . . وقلت لسرب الشعر لا تهم الفكرا
فما برحت فكري عذاري قصايدي . . . ومن خلق العذراء أن تألف الخدرا
ولست وإن طاشت سهامي بايس . . . فإن مع العذر الذي يتقى يسرا
ومن مقطوعاته :
يا قمرا مطلعه أضلعى . . . له سواد القلب منها غسق
وربما استوقد نار الهوى . . . فناب فيها لوتها عن شفق
ملكتني في دولة من صبا . . . وصدتني في شرك من حدق
عندي من حبيبك ما لو سرت . . . في البحر منه شعلة لاحترق
ومن مقطوعاته أيضاً :
قد كان لي قلب فلما فارقوا . . . سوى جناحاً للغرام وطارا
وجرت سحاب بالدموع فأوقدت . . . بين الجوانح لوعة وأوارا
ومن العجايب أن فيض مدامعي . . . ماء ويقمر في ضلوعي نارا
وشعره الرمل والقطر كثرة ، فلنختم له المقطوعات بقوله :
قالوا وقد طال بي مدى خطئ . . . ولم أزل في تجرمي ساه
أعددت شيئاً نرجو النجاة به . . . فقلت أعددت رحمة الله
نثره
كتب يهني ، قاضي الجماعة أبا القاسم بن بقي من رسالة : لأن قدره ، دام عمره ، وامتثل نهيه الشرعي وأمره ، أعلى رتبة ، وأكرم محلاً ، من أن(3/273)
"""""" صفحة رقم 274 """"""
يتحلى بخطة هي به تتحلى . كيف يهنأ بالقعود لسماع دعوة الباطل ، ولمعاناة الإنصاف الممطول من الماطل ، والتعب في المعادلة ، بين ذوي المجادلة . أما لو علم المتشوقون إلى خطة الأحكام ، المستشرقون إلى ما لها من التبسط والاحتكام ، ما يجب لها من اللوازم ، والشروط الجوازم ، كبسط الكنف ، ورفع الجنف ، والمساواة بين العدو وذي الذنب ، والصاحب بالجنب ، وتقديم ابن السبيل ، على ذي الرحم والقبيل ، وإيثار الغريب على القريب ، والتوسع في الأخلاق ، حتى لمن ليس له من خلاق ، إلى غير ذلك مما علم قاضي الجماعة أحصاه ، واستعمل لخلقه الفاضل أدناه وأقصاه ، لجعلوا خمولهم ما مولهم ، وأضربوا عن ظهورهم ، فنبذوه وراء ظهورهم ، اللهم إلا من أوتى بسطة في العلم ، ورسا طوداً في ساحة الحلم ، وتساوى ميزانه في الحرب والسلم ، وكان كقاضي الجماعة ، في المماثلة بين أجناس الناس ، فقصاراه أن يتقلد الأحكام للأجر ، لا المتعسف والزجر ، ويتولاها للثواب . لا للغلظة في رد الجواب ، ويأخذها لحسن الجزاء ، لا لقبح الاستهزاء ، ويلتزمها لجزيل الذخر لا للإزراء والسخر . فإذا كان كذلك ، وسلك المولي هذا السالك ، وكان كقاضي الجماعة ولا مثل له ، ونفع الحق به علله ، ونقع غلله ، فيومئذ تهنأ به خطة القضاء ، ويعرف ما لله عليه من اليد البيضاء .
ومحاسنه في النثر أيضاً جمة . ومن أخباره أنه رحل إلى مراكش متسبباً في جهاز بنت بلغت التزويج ، وقصد دار الإمارة مادحاً ، فما تيسر له شيء من أمله ، ففكر في خيبة قصده ، وقال لو كنت تأملت جهة الله ، ومدحت المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) ، وآل بيته الطاهرين ، لبلغت أملي بمحمود عملي . ثم استغفر الله في توجهه الأول ، وعلم أن ليس على غير(3/274)
"""""" صفحة رقم 275 """"""
الثاني من معول ، فلم يكن إلا أن صوب نحو هذا القصد سهمه ، وأمضى فيه عزمه ، وإذا به قد وجه عنه ، وأدخل على الخليفة ، فسأله عن مقصده . فأخبره مفصحاً به فأنفذه وزاده عليه ، وأخبره أن ذلك لرؤيا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في النوم بأمره بقضاء حاجته . فانفصل موفي الأغراض ، واستمر في مدح أهل البيت حتى اشتهر في ذلك .
وفاته
سنة ثمان وتسعين وخمسماية ، وسنه دون الأربعين سنة ، وصلى عليه أبوه ، فإنه كان بمكان من الدين والفضل رحمة الله عليه ، وتلقيت من جهات ، أنه دخل غرناطة ، لما امتدح القايد أبا عبد الله بن صناديد بمدينة جيان ، حسبما يظهر من عجالته ، من غير تحقيق لذلك .
صالح بن يزيد بن صالح بن موسى بن أبي القاسم ابن علي بن شريف النفري
من أهل رندة ، يكنى أبا الطيب .
حاله
قال ابن الزبير ، شاعر مجيد في المدح والغزل ، وغير ذلك . وعنده مشاركة في الحساب والفرايض . نظم في ذلك . وله تواليف أدبية ، وقصايد زهدية ، وجزء على حديث جبريل عليه السلام ، وغير ذلك مما روى عنه . وكان في الجملة معدوداً في أهل الخير ، وذوي الفضل والدين . تكر لقائي إياه ، وقد أقام بمالقة أشهراً ، أيام إقراءي . وكان لا يفارق مجالس إقراءي ، وأنشدني كثيراً من شعره .
وقال ابن عبد الملك ، كان خاتمة الأدباء بالأندلس ، بارع التصرف في منظوم الكلام ومنثوره ، فقيهاً حافظاً ، فرضيا ، متفنناً في معارف شتى ، نبيل المقاصد ، متواضعاً ، مقتصداً في أحواله . وله مقامات بديعة في أغراض شتى ، وكلامه نظما ونثرا ، مدون .(3/275)
"""""" صفحة رقم 276 """"""
مشيخته
روى عن آباء الحسن أبيه ، والدباج ، وابن الفخار الشريشي ، وابن قطرال ، وأبي الحسن بن زرقون ، وأبي القاسم بن الجد .
تواليفه
ألف جزءا على حديث جبريل ، وتصنيفاً في الفرايض وأعمالها ، وآخر في العروض ، وآخر في صنعة الشعر سماه الوافي في علم القوافي وله كتاب كبير سماه روضة الأنس ، ونزهة النفس .
دخوله غرناطة
وكان كثير الوفاد على غرناطة ، والترد إليها ، يسترفد ، ملوكها ، وينشد أمراءها ، والقصيدة التي أولها :
أواصلتي يوماً وهاجرتي ألفاً
أخبرني شيخنا أبو عبد الله اللوشي ، أنه نظمها باقتراح السلطان رحمه الله . وقد أوعز إليه ألا يخرج عن بعض بساتين الملك ، حتى يكملها في معاضة محمد بن هاني الإلبيري .
شعره
وهو كثير ، سهل المأخذ ، عذب اللفظ ، رايق المعنى ، غير مؤثر للجزالة . فمن ذلك قوله رحمه الله في غرض المدح من السلطانيات :
سرى والحب أمر لا يرام . . . وقد أغرى به الشوق والغرام
وأغفى أهلها إلا وشاة . . . إذا نام الحوادث لا تنام
وما أخفا بين القوم إلا ضناً . . . وربما نفع السقام
فنال بها على قدر مناه . . . وبين القبض والبسط القوام
وأشهى الوصل ما كان اختلاسا . . . وخير الحب ما فيه اختتام
وما أحلى الوصال لو أن شيئاً . . . من الدنيا للذته دوام
بكيت من الفراق بغير أرضي . . . وقد يبكي الغريب المستهام
أعاذلتي وقد فارقت إلفي . . . أمثلى في صبابته يلام
أأفقده فلا أبكي عليه . . . يكون أرق من قلبي الحمام
أأنساه فأحبه كصبري . . . وهل ينسى لمحبوب ذمام(3/276)
"""""" صفحة رقم 277 """"""
رويداً إن بعض اللوم لوم . . . ومثلي لا ينهنهه الملام
ويوم نوى وضعت الكف فيه . . . على قلب يطير به الهيام
ولولا أن سفحت به جفوناً . . . تفيض دماً لأحرقها الضرام
وليل بته كالدهر طولاً . . . تنكر لي وعرفه التمام
كأن سماه زهر تجلى . . . بزهر الزهر والشوق الكمام
كأن البدر تحت الغيم وجه . . . عليه من ملاحه لثام كأن الكوكب الدري كأس . . . وقد رق الزجاجة والمدام
كأن سطور أفلاك الدراري . . . قسي والرجوم لها سهام
كأن مدار قطب بنات نعش . . . ندي والنجوم به ندام
كأن بناته الكبرى جوار . . . حوار والسهى فيها غلام
كأن بناته الصغرى جمان . . . على لباتها منها نظام
كواكب بت أرعاهن حتى . . . كأني عاشق وهي الذمام
إلي أن مزقت كسف الثريا . . . جيوب الأفق وانجاب الظلام
فما خلت انصداع الفجر إلا . . . قراباً ينتضي مسنه حام
وما شبهت وجه الشمس إلا . . . بوجهك أيها الملك الهمام
وإن شبهته بالبدر يوماً . . . فللبدر الملاحة والتمام
تهلل منه حسن الدهر حتى . . . كأنك في محياه ابتسام
وعرف ما تنكر من معال . . . كأنك لاسمها ألف ولام
ومل العين منك جلال مولى . . . صنائعه كغرته وسام
إذا ما قيل في يده غمام . . . فقد بخست وقد خدع الغمام
وحشو الدرع أروع غالبي . . . يراع بذكره الجيش اللهام
إذا ما سل سيف العزم يوما . . . على أمر فسلم يا سلام(3/277)
"""""" صفحة رقم 278 """"""
تناهى مجده كرماً وبأساً . . . فما يدري أمحياً أم حمام
نمته للمكارم والمعالي . . . سراة من بني نصر كرام
هم الأنصار هم نصروا وآووا . . . ولولا المسك ما طاب الختام
وهم قادوا الجيوش لك فتح . . . ولولا الجد ما قطع الحسام
وهم منحوا الجزيرة من حماهم . . . جواراً لا يذم ولا يضام
فمن حرب تشيب له النواصي . . . وسلم تحيته سلام
بسعدك يا محمد عز دين . . . وغب السلم نصر مستدام
وكان مرامه صعباً ولكن . . . بحمد الله قد سهل المرام
أدام الله أمرك من أمير . . . وما للعروة الوثقى انفصام
وروح أنت والجسم المعالي . . . ومعنى أنت وللفظ الأنام
إذا ما ضاقت الدنيا بحر . . . كفاه لثم كفك والسلام
ومن شعره أيضاً :
أواصلتي يوماً وهاجرتي ألفاً . . . وصالك ما أحلى وهجرك ما أجفا
ومن عجب للطيف أن جاء واهتدى . . . فعاد عليلاً عاد كالطيف أم أخفا
فيا سايراً لولا التخيل ما سرى . . . ويا شاهداً لولا التعلل ما أغفا
ألم فأحياني وولي فراعني . . . ولم أرى أجفى منك طبعاً ولا أشفا
بعيني شكواي للغرام وتيهه . . . إلى أن تثنى عطفه فانثني عطافا
فعانقته شوقاً وقبلته هوى . . . ولا قبلة تكفي ولا لوعة تطفا
ومن نزعاته العجيبة قوله ، وقد سبق إلى غرضه غيره :
يا طلعة الشمس إلا إنه قمر . . . أما هواك فلا يبقى ولا يذر
كيف التخلص من عينيك لي ومتى . . . وفيهما القاتلان الغنج والحور
وكيف يسلى فؤادي عن صبابته . . . ولو نهى الناهيان الشيب والكبر
أنت المنا والمنايا فيك قد جمعت . . . وعندك الحالتان النفع والضرر(3/278)
"""""" صفحة رقم 279 """"""
ولي من الشوق ما لا دواء له . . . ومنك لي الشافيان القرب والنظر
وفي وصالك ما أبقى به رمقي . . . لو ساعد المسعدان الذكر والقدر
وكان طيف خيال منك يقنعني . . . لو يذهب المانعان الدمع والسهر
يا نابياً لم يكن إلا ليملكني . . . من بعده المهلكان الغم والغير
ما غبت إلا وغاب الجنس أجمعه . . . واستوحش المؤنسان السمع والبصر
بما تكن ضلوعي في هواك بمن . . . يعنو له الساجدان النجم والشجر
إدرك بقية نفس لست مدركها . . . إذا مضى الهاديان العين والأثر ودل حيرة مهجور بلا سبب . . . يبكي له القاسيان الدهر والحجر
وإن أبيت فلي من ليس يسلمني . . . إذا نبا المذهبان الورد والصدر
مؤيداً لملك بالآراء يحكمها . . . في ضمنها المبهجان اليمن والظفر
من كالأمير أبى عبد الآله إذا ما . . . خانت القدمان البيض والسمر
الواهب الخيل آلافا وفارسها . . . إذا استوى المهطعان الصر والصبر
والمشبه الليث في بأس وفي خطر . . . ونعمت الحليتان البأس والخفر
تأمن الناس في أيامه ومشوا . . . كما مشى الصاحبان الشاة والنمر
وزال ما كان من خوف ومن حذر . . . فما ير الدايلان الخوف والحذر
رأيت منه الذي كنت أسمعه . . . وحبذا الطيبان الخبر والخبر
ما شيت من شيم عليا ومن شيم . . . كأنها الرايقان الظل والزهر
ومنا أردت من إحسان ومن كرم . . . ينسى به الأجودان البحر والمطر
وغرة يتلألأ من سماحتها . . . كأنها النهران الشمس والقمر
إيه فلولا دواع من محبته . . . لم يسهل الأصعبان البين والخطر
نأيت عنه اضطرارا ثم عدت له . . . كما اقتضى المبرمان الحل والسفر
فإن قضى الله أن يقضي به أملي . . . فحسبي المحسبان الظل والثمر
ولست أبعد إذ والحال متسع . . . أن يبلغ الغايبان السؤل والوطر
ومن شعره في أغراض متعددة . قال في الليل والسهر :
أطال ليلى الكمد . . . فالدهر عندي سرمد
وما أظن أنه لليلة الهجر غد
أقد هنياً إنني . . . لا أستطيع أرقد
لواعج ما تنطفي . . . وأدمع تضطرد(3/279)
"""""" صفحة رقم 280 """"""
وكبدي كبد الهوى . . . وأين مني الكبد
ولا تسل عن جلدي . . . والله مالي جلد
ومن شعره أيضاً في المقطوعات :
وليلة قصر من طولها . . . بزورة من رشاً نافر
أستوفر الدهر بها غالطاً . . . فأدغم الأول والآخر
وقال من قصيدة مغربة في الإحسان :
وليلة نبهت أجفانها . . . والفجر قد فجر نهر النهار
والليل كالمهزوم في يوم الوغا . . . والشهب مثل الشهب عند الفرار
كأنما استخفى السهى خيفة . . . وطولب النجم بثأر فثار
لذاك ما شابت نواصي الدجى . . . وطارح النسر أخاه فطار
وفي الثريا قمر سافر . . . عن غرة غير منها الشفار
كأن عنقوداً بها ماثل . . . إذ صار كالعرجون عند السرار
كأنها تسبك ديناره . . . وكفها تفتل منه سوار
كأنما الظلماء مظلومة . . . تحكم الفجر عليها فجار
كأنما الصبح لمشتاقه . . . إقبال دنيا بعد ذل افتقار
كأنما الشمس وقد أشرقت . . . وجه أبي عبد الآله استنار
وفي وصف البحر والأنهار وما في معنى ذلك :
البحر أعظم مما أنت تحسبه . . . من لم ير البحر يوما ما رأى عجبا
طام له حبب طاف على زورق . . . مثل السماء إذا ما ملئت شهبا
وقال في وصف نهر :
وأزرق محفوف بزهر كأنه . . . نجوم بأكناف المجرة تزهر
يسيل على مثل الجمان مسلسلا . . . كما سل عن غمد حسام مجوهر(3/280)
"""""" صفحة رقم 281 """"""
وقد صافح الأدواح من صفحاته . . . حتى حباب بالنسيم مكسر
فما كان في عطف الخليج قلامة . . . وما كان في وجه الغدير فمغفر
وفي العقل والتغرب :
ما أحسن العقل وآثاره . . . لو لازم الإنسان إيثاره
يصون بالعقل الفتى نفسه . . . كما يصونه الحر أسراره
لا سيما إن كان في غربة . . . يحتاج أن يعرف مقداره
ومن وصفه الجيش والسلاح :
وكتيبة بالدرعين كثيفة . . . جرت ذيول الجحفل الجرار وروض المنايا بينها القضب التي . . . زفت بها الرايات كالأزهار
فيها الكماة بنو الكماة كأنها . . . أسد الشرى بين القنا الخطار
متهللين لدى اللقاء كأنهم . . . خلقت وجوههم من الأقمار
من كل ليث فوق برق خاطف . . . بيمينه قدر من الأقدار
من كل ماض قد تقلد مثله . . . فيصب آجالاً على الأعمار
لبسوا القلوب على الدروع وأسرعوا لأكفهم ناراً لأهل النار
وتقدموا ولهم على أعدايهم . . . حنق العدا وحمية الأنصار
فارتاع ناقوس بخلع لسابه . . . وبكى الصليب لذلة الكفار
ثم انثنوا عنه وعن عباده . . . وقد أصبحو خيراً من الأخبار
وفي السيف :
وأبيض صيغ من ماء ومن لهب . . . على اعتدال فلم يخمد ولم يسل
ماضي الغرار يهاب العمر صولته . . . كأنما هو مطبوع من الأجل
أبهى من الوصل بعد الهجر منظره . . . حسناً وأقطع من دين على مال
وأسمر ظن ما كل سابغة فخاض كالأيم يستشفى من النهل
هام الكماة به حباً ولا عجب . . . من لوعة بمليح القد معتدل
إذا الطعين تلقاه وأرعفه . . . حسبته عاشقاً يبكي على طلل(3/281)
"""""" صفحة رقم 282 """"""
ومن ذلك قوله في وصف قوس :
تنكبها كحاجبه وسوى . . . بأهداف الجفون لها نبالا
فلم أر قبله بدراً منيرا . . . تحمل فوق عاتقه هلالا
ومن ذلك وصف قلم :
وأصفر كالصب في رونق . . . تظن به الحب ممن نحل
بديع الصفات حديد السبات . . . يطول الرماح وإن لم يطل
يعبر عما وراء الضمير . . . ويفعل ما فعل الظبا والذبل
ومن ذلك قوله فيما يظهر منها :
تفاخر السيف فيما قيل والقلم . . . والفصل بينهما لا شك من فهم
كلاهما شرف الله درهما . . . وحبذ الخطتان الحكم والحكم
ومن ذلك قوله في سكين الدواة :
أنا صمصامة الكتابة مالي . . . من شبيه في المرهفات الرقاق
فكأني في الحسن يوم وصال . . . وكأني في القطع يوم فراق
ومن ذلك قوله في المقص :
ومعتنقين ما اشتهرا بعشق . . . وإن وصفا بضم واعتناق
لعمر أبيك ما اعتنقا لمعنى . . . سوى معنى القطيعة والفراق
ومن ذلك قوله في الورد :
الورد سلطان كل زهر . . . لو إنه دايم الورود
بعد خدود الملاح شيء . . . ما أشبه الورد بالخدود
ومن ذلك قوله في الخيري :
وأزرق كمثل السماء . . . فيه لمن ينظر سر عجيب
شح مع الصبح بأنفاسه . . . كأنما الصبح عليه رقيب
وباح بالليل بأسراره . . . لما رأى الليل نهار الأريب(3/282)
"""""" صفحة رقم 283 """"""
ومن ذلك قوله في الريحان :
وأخضر فستقي اللون غض . . . يروق بحسن منظره العيونا
أغار على الترنج وقد حكاه . . . وزاد على اسمه ألفاً ونونا
وقال من جملة قصايده المطولات ، التي تفنن فيها رحمه الله :
وغانية يغنى عن العود صوتها . . . وجارية تسقى وساقية تجري
بحيث يجر النهر ذيل مجرة . . . يرف على حافاتها الزهر كالزهر
وقد هزت الأرواح خصر كتايب . . . بألوية بيض على أسل سمر
رمى قزح نبلاً إليها فجردت . . . سيوف سواقيها على دارع النهر
وهبت صبا نجد فجرت غلايلا . . . تجفف دمع الطل عن وجنة الزهر
كأن بصفح الروض وشى صحيفة . . . وكالألفات القضب والطرس كالتبر
كأن به الأقحوان خواتما . . . مفضضة فيها فصوص من التبر
كأن به النرجس الغض أعيا . . . ترقرق في أجفانها أدمع القطر
كأن شذا الخيري زورة عاشق . . . يرى أن جنح الليل أكتم للسرر
وقال في وصف الرمان :
لله رمانة قد راق منظرها . . . فمثلها ببديع الحسن منعوت
القشر حق لها قد ضم داخله . . . والشحم قطن والحب ياقوت أنظر إلى جذر في اللون مختلف . . . البعض من سج والبعض من ذهب
ومن ذلك قوله في الجزر :
إن قلت قصب فقل قصب بلا . . . زهر أو قلت شمع فقل شمع بلا لهب
وفي الاغتراب وما يتعلق به مما يقرب من المطولات :
غريب كما يلقى غريب . . . فلا وطن لديه ولا حبيب
تذكر أصله فبكى اشتياقا . . . وليس غريباً أن يبكي غريب
ومما هاج أشواقي حديث . . . جرى فجرى له الدمع السكوب(3/283)
"""""" صفحة رقم 284 """"""
ذكرت به الشباب فشق قلبي . . . ألم تر كيف تنشق القلوب
على زمن الصبا فليبك ومثلي . . . فما زمن الصبا إلا عجيب
جهلت شبيبتي حتى تولت . . . وقدر الشيء يعرف إذ يغيب
ألا ذكر الآله بكل خير . . . بلاداً لا يضيع بها أديب
بلاد ماؤها عذب زلال . . . وريح هوائها مسك رطيب
بها قلبى الذي قلبى المعنى . . . يكاد من الحنين له يذوب
رزقت الصبر بلين أبي وأمي . . . كلانا بعد صاحبه كئيب
ألا فتوخ بعدى من أؤاخي . . . ودع ما لا يريب لما يريب
ولا تحكم بأول ما تراه . . . فإن الفجر أوله كذوب
إلا إنا خلقنا في زمان . . . يشيب بهوله من لا يشيب
وقد لذ الحمام وطاب عندي . . . وعيشي لا يلذ ولا يطيب
لحى الله الضرورة فهي بلوى . . . تهين الحر والبلوى ضروب
رأيت المال يستر كل عيب . . . ولا تخفى مع الفقر العيوب
وفقد المال في التحقيق عندي . . . كفقد الروح ذا من ذا قريب
وقد أجهدت نفسي في اجتهاد . . . وما أن كل مجتهد مصيب
وقد تجري الأمور على قياس . . . ولو تجري لعاش بها اللبيب
كأن العقل للدنيا عدو . . . فما يقضي بها أرباً أريب
إذا لم يرزق الإنسان بختاً . . . فما حسناته إلا ذنوب
ومن نسيبه قوله في بادرة من حمام :
برزت من الحمام تمسح وجهها . . . عن مثل ماء الورد بالعناب
والماء يقطر من ذوائب شعرها . . . كالطل يسقط من جناح غراب
فكأنها الشمس المنيرة في الضحى . . . طلعت علينا من خلال سحاب
ومن مقطوعاته أيضاً قوله :
ومتيم لو كان صور نفسه . . . ما زادها شيئاً سوى الإشفاق
ما كان يرضى بالصدود وإنما . . . كثرت عليه مسائل العشاق
وقال :
وافي وقد زانه جمال . . . فيه لعشاقه اعتذار(3/284)
"""""" صفحة رقم 285 """"""
ثلاثة ما لها مثال . . . الوجه والخد والعذار
فمن رآه رأى رياضا . . . الورد والآس والبهار
ومن ذلك قوله في ذم إخوة السوء :
ليس لإخوة باللسان أخوة . . . فإذا تراد أخوتي لا تنفع
لا أنت في الدنيا تفرج كربه . . . عني ولا يوم القيامة تشفع
وقال كذلك :
ولقد عرفت الدهر حين خبرته . . . وبلوت بالحاجات أهل زمان
فإذا الأخوة باللسان كثيرة . . . وإذا الدراهم ميلق الإخوان
من ذلك قوله في الصبر :
الدهر لا يبقى على حاله . . . لكنه يقبل أو يدبر
فإن تلقاك بمكروهه . . . فاصبر فإن الدهر لا يصبر
ومن ذلك قوله في الموت :
الموت سر الله في خلقه . . . وحكمة دلت على قهره
ما أصعب الموت وما بعده . . . لو فكر الإنسان في أمره
أيام طاعات الفتى وحدها . . . هي التي تحسب من عمره
لا تلهك الدنيا ولذاتها . . . عن نهي مولاك ولا أمره
وأنظر إلى من ملك الأرض هل . . . صح له منها سوى قبره
نثره
قال في كتاب روضة الأنس ما نصه : ويتعلقبهذا الباب ، ما خاطبني به الفقيه الكاتب الجليل ، أبو بكر البرذعي من أهل بلدنا ، أعزه الله : أخبرك بعجاب ، إذ لا سر دونك ولا حجاب ، بعد أن أتقدم إليك أن لا تجعل باللوم إلى قبل علم ما لدي ، فإن الدهر أخدع من كفة الحابل ،(3/285)
"""""" صفحة رقم 286 """"""
وقلب الإنسان للآفات قابل . مشيت يوماً إلى سوق الرقيق ، لأخذ حق فؤاد عتيق ، فرأيت بها جارية عسجدية اللون ، حديثة عهد بالصون ، متمايلة القد ، قايمة النهد ، بلحظ قد أوتى من السحر أوفر حظ ، وفم كشرطة رشحت بدم ، داخله سمطان لولاهما ما عرف النظم ، ولا حكم على الدر للعظم ، في صدغها لامان ، ما خط شكلهما قلم ، ولا قص مثلهما حلم . لها جيد تتمناه الغيد ، وخصر هو قبضة الكف في الحصرر ، وردف يظلمه من يشبه به بالحقف ، ويدان خلقا للوشي ، وقدمان أهلتا للثم لا للمشي ، فتطاولت إليها الأعناق ، وبذلت فيها الأعلاق ، والمياسير عليها مغرم في القوم ، وتسوم أهل السوم ، وكل فيها يزيد ، ليبلغ ما يريد ، إلى أن جاء فتى صادق في حبه ، لا يبالي بفساد ماله في صلاح قلبه ، قعد المال عداً ، ولم يجد غيره من التسليم بداً ، فلما فاتتني ، تركت الأشواق وأتتني ، وانتقضت عزايم صبري فيما أتتني ، فالله الله ، تدارك أخاك سريعاً ، قبل أن تلفيه من الوجد صريعاً ، واستنزل خادماً ، قبل أن تصبح عليه نادماً ، ولن أحتاج أن أصفها إليك مع ما قصصته عليك ، وقد أهديتها دراً ، فخذها على جهة الفكاهة والدعابة .
ولا تطلع أخا جهل عليها . . . فمن لم يدر قدر الشي عابه
فأجبته ، نعم نعم ، أنعم الله بالك ، وسنى آمالك ، أنا بحول الله أرتاد لك ، من نحو هاتيك ، ما يسليك ويؤاتيك ، وإلا فبيضاً كاللجين ، هل القلب والعين ، زهرة غصن في روضة حسن ، ذات ذوايب ، كأنها الليل على نهار ، أو بنفسج في بهار . لها وجه أبهى من الغنا ، وأشهى من نيل المنا ، فيه حاجبان كأنهما قوس صنعت من السبح ، ورصعت بعاج من البلح ، على عينين ساحرتين ، وبالعقل ساخرتين ، بهما تصاب الكبود ، وتشق القلوب قبل الجلود ، إلى فم كأنه ختام مسك ، على نظام سلك ، سقاه الحسن رحيقه ، فأنبتت دره وعقيقه ، وجيد في الحسن وحيد ، على صدر كأنه من مرمر ، فيه حقتا عاج طوقتا بعنبر ، قد خلقتا لعض ، في جسم غض ، له خصر مدمج ، وردفه يتموج ، وأطراف كالعنم ، رقمت رقم القلم ، من اللايي شهدن ابن المؤمل ، وقال في مثلها الأول ، إن هي تاهت فمثلها تاها ، أو هي باهت فمثلها باها ، من أين للغصن مثل قامتها ، أو أين لبدر مثل مرآها ، ما فعلت في العقول صابية . ما فعلت في العقول عيناها ، تملكني بالهوى وأملكها ، فهأنا عبدها ومولاها ، فأيهما لست بذلت فيه الجهد ، وأرقيت للمجد والود إن شاء الله تعإلى . وأنا فيما عرض لسيدي ، حفظه الله ، على مايحب ، أعذره ولا أعذله ، وأنصره ولا أخذله لكني أقول كما قال بعض الحكماء ، لا ينبغي لمن قلبه رقيق ، أن يدخل سوق الرقيق ، إلا أن يكون قد جمع بين المال والجمال ، يتنافس في العالي ،(3/286)
"""""" صفحة رقم 287 """"""
ويسترخص بالثمن الغالي ، ولا يبالي بما قال الأيمة ، إذا وجد من يلايمه ، كما قال الشاعر :
ما انتفاع المحب بالمال إذا . . . لم يتوصل به لوصل الحبيب
إنما ينبغي بحكم الهوى أن . . . ينفق المال في صلاح القلوب
والسلام على سيدي ، ما كانت الفكاهة من شأن الوفا ، والمداعبة من شيم الظرفا ، ورحمة الله وبركاته .
مولده : ولد في محرم سنة إحدى وستماية .
وفاته : توفي في عام أربعة وثمانين وستماية .
نقلت من خط صاحبنا الفقيه المؤرخ ، أبي الحسن بن الحسن . قال : أنشدني الشيخ الراوية الأديب القاضي الفاضل أبو الحجاج يوسف بن موسى بن سليمان المنتشافري ، قال أنشدني القاضي الفاضل أبو القاسم ابن الوزير أبي الحجاج ابن الحقالة ، قال أنشدني الأديب أبو الطيب صالح بن أبي خالد يزيد بن صالح بن شريف الرندي لنفسه ، ليكتب على قبره :
خليلي بالود الذي بيننا اجعلا . . . إذا مت قبرى عضة للترحم
عني مسلم يدنو فيدعو برحمة . . . فإني محتاج لدعوة مسلم
حرف العين من ترجمة الملوك والأمراء
عبد الله بن إبراهيم بن علي بن محمد التجيبي ، الرئيس أبو محمد بن إشقيلولة
أوليته
قد مر شيء من ذلك في اسم الرئيس أبي إسحاق أبيه .
حاله كان أميراً شهما ، مضطلعاً بالقضية ، شهير المواقف ، أبي النفس ، عالي الهمة ، انتزى على خاله أمير المسلمين الغالب بالله ، وكان أملك لما بيده من مدينة وادي آش ما إليها ، معززاً بأخيه الرئيس أبي الحسن مظاهره في الأمر ، ومشاركه في(3/287)
"""""" صفحة رقم 288 """"""
السلطان ، واستمرت الحال مدة حياة خاله السلطان . ولما صار أمر إلى مخيفه ولي العهد . استشرى الداء ، وأعضل الأمر ، وعمت الفتنة ، وزاحمه السلطان بالمنكب ، انفجم ، واعتوره بالحيلة ، حتى تحيف أطرافه ، وكان ما هو معلوم ، من إجازة أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق البحر إلى الجهاد . ومال الحال بينه ويبين السلطان أمير المسلمين أبي عبد الله بن نصر إلى التقاطع ، وتصيرت مالقة إلى الإيالة المغربية ، ثم عادت إلى السلطان .
وفي أخريات هذه الأحوال ، أحكم السلطان مع طاغية الروم ، السلم ، وصرف وجهه إلى مطالبة الرئيس أبي محمد ، صاحب وادي آش ، فالجأه الحال إلى أن صرف الدعوة بوادي آش إلى السلطان بالمغرب ورفع شعاره ، فأقعد عنه . ووقعت مراسلات ، أجلت عن انتقال الرئيس أبي محمد إلى المغرب ، معوضاً عن مدينة وادي آش بقصر كتامة ، وذلك في عام تسعة وثمانين وستماية .
وفاته
دخلت قصر كتامة يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من ذي قعدة عام خمسة وخمسين وسبعماية في غرض الرسالة ، وزرت مقبرة الرؤساء بني إشقيلولة بظاهرها ، وفي قبة ضخمة البناء رحيبة الفناء ، نسيجة وحدها بذلك البلد ، بين منازل البلى ، وديار الفناء ، وبها قبر الرئيس أبي محمد هذا ، عن يسار الداخل ، بينه وبين جدار القبلة قبر ، وسنامه رخام متوب عليه :
قبر عزيز علينا . . . لو أن من فيه يفدا
أسكنت قرة عيني وقطعة القلب لحدا
ما زال حكماً عليه . . . وما القضاء تعدا
فللصبر أحسن ثوب . . . به العزيز تردا
وعند رأس السنام الرخامي ، مهد مائل من الرخام فيه : ' أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم ، صلى الله على سيدنا محمد وآله ، وسلم تسليماً . هذا قبر الرييس الجليل ، الأعلى الهمام ، الأوحد ،(3/288)
"""""" صفحة رقم 289 """"""
الأسعد ، المبارك ، الأسنى ، الأسمى ، الأحفل ، الأكمل ، المجاهد ، المقدس ، المرحوم ، أبي عبد الله ، ابن الررئيس الجليل ، الهمام ، الأوحد ، الأسعد ، المبارك ، الأمضى ، الأسنى ، الأسمى ، المعظم ، المرفع ، المجاهد ، الأرضى ، المقدس ، المرحوم أبي إسحاق إبراهيم بن إشقيلولة ، رحمه الله وعفا عنه ، وأسكنه جنته . ظهر عفا الله عنه ، بوادي آش ، أمنها الله ، قاعدة من قواعد الأندلس ، وتسلكن ، ونشرت علامات سلطنته ، وضربت الطبول . وجاهد منها العدو ، قصمه الله ، وظهر على خاله سلطان الأندلس ، وأقام في سلطنته ، نحواً من ثلاث وعشرين سنة . ثم قام بدعوة الملك الأعلى ، السلطان المؤيد المنصور ، أمير المسلمين ، المؤيد بالله أبي يعقوب أيده الله بنصره ، وأمده بمعونته ويسره ، فتنحى عن الأندلس للمغرب ، أنسه الله ، في جماد الأولى من عام ستة وثمانين وستماية ، فأعطاه أيده الله ، قصر عبد الكريم أمنه الله ، وأنعم عليه ، فأقام به مدة من ثمانية أعوام ، وجاز منه إلى الأندلس ، أمنها الله ، وجاهد بها مرتين ، ثم رجع إلى قصر عبد الكريم المذكور ، وتوفي ، شرف الله روحه الطيبة المجاهدة ، عشي يوم السبت العاشر من شهر محرم سنة خمس وتسعين وستماية .
عبد الله بن بلقين بن باديس بن حبوس بن ماكسن بن زيرى بن مناد الصنهاجي
أمير غرناطة .
أوليته : قد مر من ذلك في اسم جده ما فيه كفاية .
حاله
لقبه المظفر بالله ، الناصر لدين الله . ولى بعد جده باديس في شوال سنة خمس وستين وأربعمائة ، وصحبه سماجه الصنهاجي تسع سنين . قال الغافقي ، وكان قد حاز حظاً وافراً من البلاغة والمعرفة ، شاعراً ، جيد الشعر ، مطبوعه ، حسن الخط . كانت بغرناطة ربعة مصحف بخطه في نهاية الصنعة والإتقان . ووصفه ابن الصيرفي(3/289)
"""""" صفحة رقم 290 """"""
فقال ، كان جباناً مغمد السيف ، قلقاً ، لا يثبت على الظهر ، عزهاة لا أرب له في النساء ، هيابة ، مفرط الجزع ، يخلد إلى الراحات ، ويستوزر الأغمار .
خلعه قال ، وفي عام ثلاثة وثمانين وأربعمائة ، تحرك أمير المسلمين ، يوسف ابن تاشفين ، لخلع رؤساء الأندلس ، فأجاز البحر ، ويمم قرطبة ، وتواترت الأنباء عن حفيد باديس صاحب غرناطة ، بما يغيظه ويحقده ، حسبما تقدم في اسم مؤمل ، مولى باديس . وقدم إلى غرناطة أربع محلات ، فنزلت بمقربة منها ، ولم تمتد يد إلى شيء يوجد ، فسر الناس واستبشروا ، وأمنت البادية ، وتمايل أهل الحاضرة إلى القوى . وأسرع حفي باديس في المال ، وألحق السوقة والحاكة ، واستكثر من اللفيف ، وألح بالكتب على أذفونش بما يطمعه . وتحقق يوسف بن تاشفين استشراف الحضرة إلى مقدمه ، فتحرك . وفي ليلة الأحد لثلاث عشرة خلت من رجب ، اجتمع إلى حفيد باديس صنائعه ، فخوفوه من عاقبة التربص ، وحملوه على الخروج إليه ، فركب وركبت أمه وتركا القصر على حاله ، ولقي أمير المسلمين ، على فرسخين من المدينة ، فترجل ، وسأله العفو ، فعفا عنه ، ووقف عليه ، وأمره بالركوب ، فركب ، وأٌبل حتى نزل بالمشايخ من خارج الحضرة . وضطربت المحلات ، وأمر مؤملاً بثقافه في القصر ، فتولى ذلك ، وخرج الجم من أهل المدينة ، فبايعوا أمير المسلمين يوسف بن تاشفين ، فلقيهم ، وأنسهم ، وسكن جأشهم ، فاطمأنوا . وسهل مؤمل إليه دخول الأعيان ، فأمر بكتب الصكوك ، ورفع أنواع القبالات والخراج ، إلا زكاة العين ، وصدقة الماشية ، وعشر الزرع . واستقصى ما كان بالقصر ، فظهر على ما يحول الناظر ، ويروع الخاطر ، من الأعلاق والذخيرة ، ولاحلي ، ونفيس الجوهر ، وأحجار الياقوت ، وقصب المزمرد ، وآنية الذهب والفضة ، وأطباق البلور المحكم ، والجردإذانات ، والعراقيات ، والثياب الرفيعة ، والأنماط ، والكل ، والستاير ، وأوطية الديباج ، مما كان في ادخار باديس واكتسايه . وأقبلت دواب الظهر من المنكب(3/290)
"""""" صفحة رقم 291 """"""
بأحمال السبيك والمسبوك ، اختلفت أم عبد الله لاستخراج ما أودع بطن الأرض ، حتى لم يبق إلا الخرثى والثقل والسقط ، ووزع ذلك الأمير على قواده ، ولم يستأثر منه بشيء . قال ، ورغب إليه مؤمل في دخول القصر ، فركب إليه ، وكثر استحسانه إياه ، وأمر بحفظه ، وتفقد أوضاعه وأقنيته . ونقل عبد الله إلى مراكش ، وسنه يوم خلع ، خمس وثلاثون سنة وسبعة أشهر ، فاستقر بها هو وأخوه تميم ، وحل اعتقالهما ، ورفه عنهما ، وأجرى المرتب والمساهمة عليهما . وأحسن عبد الله أداء الطاعة ، مع لين الكلمة ، فقضيت مآربه ، وأسعفت رغباته ، وخف على الدولة ، واستراح واستريح منه ، ورزق الولد في الخمول ، فعاش له ابنان وبنت ، جمع لهم المال . فلما توفي ترك مالاً جما .
مولده
ولد عبد الله سنة سبع وأربعين وأربعماية .
عبد الله بن علي بن محمد التجيبي والرئيس أبو محمد بن إشقيلولة
حاله
كان رئيساً شجاعاً ، بهمة ، حازماً ، أيداً ، جلداً . تولى مدينة مالقة ، عقب وفاة الرئيس واليها أبي الوليد بن أبي الحجاج بن نصر ، صنو أمير المسلمين ، الغالب بالله ، في أوايل عام خمسة وخمسين وستماية . وكان صهر السلطان على إحدى بناته ، وله منه محل كبير ، ومكان قريب ، وله من ملكه حظ رغيب . واستمرت حاله إلى عام أربعة وستين ستماية ، وقد ما بينه وبين ولي العهد ، الأمير أبي عبد الله محمد بن أمير المسلمين أبي عبد الله الغالب بالله ، إذ وغر له صدره ، ولا بنى أخيه الرئيسين أبي محمد وأبي الحسن إبني الرئيس أبي إسحاق بن إشقيلولة المتأمرين بوادي آش ، فضايقهم أخافهم ، بما أداهم إلى الامتناع ، والدعاء لأنفسهم ، والاستمساك بما بأيديهم ، وعمت المسلمين الفتنة المنسوبة إليهم . فانتزى هذا الرئيس بمدينة مالقة ، وكان أملك لما بيده ، واستعان بالنصري ، وشمر عن ساعد الجد ، فأباد الكثير من أعيان البلدة ، في باب توسم التهم ، وتطرق السعايات ، واستولى على أموالهم . واستمرت الحال بين حرب أجلت فيها غلبة الأمير مخيفه ، ولي العهد ، بجيش النصرى ، ونازل مالقة أربعين يوماً ، وشعث الكثير بظاهرها ، وتسمى بعلم الأمير عند أهل مالقة ، وما بين سلم ومهادنة ، وفي عام(3/291)
"""""" صفحة رقم 292 """"""
ستين وستماية ، نازله السلطان الغالب بالله صهره ، وأعيا عليه أمر مالقة ، لأضطلاع هذا الرئيس بأمره ، وضبط من لنظره ، واستمساكه بعروة حزمه . وفي بعض الأيام ، ركب السلطان في ثلاثة من مماليكه ، متخفياً ، كاتماً غرضه ، وقعد بباب المدينة . فلما بصر به الرجال القايمون به ، هالهم الأمر ، وأدهشتهم الهيبة ، فأفرجوا له ، موقرين لجلاله ، آنسين لقلة أتباعه ، فدخل ، وقصد القصبة ، وقد نذر به الرئيس أبو محمد ، فبادر إليه راجلاً ، متبذلاً ، مهرولا ، حافيا . ولما دنا منه ، ترامى على رجليه يقبلهما ، إظهاراً لحق أبوته ، وتعظيماً لقدره ، ودخل معه إلى بنته وحفدته ، فترامى الجميع على أطرافه يلثمونها ، ويتعلقون بأذياله وأدرانه ، وهو يبكي إظهاراً للشفقة والمودة ، وتكلم الجميل . وأقام معهم بياض يومه ، ثم انصرف إلى محلته ، وأتبعه الرئيس ، فأمره بالاستمساك بقصبته وملازمة محل إمرته ، وما لبث أن شرع في الارتحال عن ألطاف ومهادات ، وتقدير جرايات ، وإحكام هدية ، وتقرير إمارة ، إلى أن توفي السلطان رحمه الله ، فعاد الفتنة جزعة ، ووإلى ولده أمير المسلمين بعده ، الضرب على مالقة ، إلى أن هلك الرئيس أبو محمد ، واستقر بالأمور ولده المذكور في المحمدين ، وكان من الأمر ما ينظره في مكانه من أراد استيفاءه بحول الله .
عبد الله بن محمد بن أحمد بن محمد العزفي
يكنى أبا طالب ، الرئيس الفقيه ، الكبير الشهير ، صاحب الأمر والرياسة والإمارة بستة ، نيابة عن أخيه الرئيس الصالح أبي حاتم ، بحكم الاستقلال في ذلك ، والاستبداد التام ، من غير مطالعة لأخيه ولا رجوع إليه في شيء من الأمور ، ولا تشوف من أخيه إلى ذلك ، لخروجه البتة عنه ، وإيثاره العزلة . واشتغاله بنفسه .
حاله
قد تقدم من ذكر أوليته ما فيه كفاية . وكان من أهل الجلالة والصيانة ، وطهارة النشأة ، حافظاً للحديث ، ملازماً لتلاوة كتاب الله ، عارفاً بالتاريخ ، عظيم الهيبة ، كبير القدر والصيت ، علاي الهمة ، شديد البأو ، معظما عند الملوك ، جميل الشارة ، ممتثل الإشارة لديهم ، عجيب السكينة والوقار ، بعيد المرمى ، شديد الانقباض ، مطاع السلطان بموضعه ، مرهوب الجانب ، من غير إيقاع بأحد ، ولا هتك حرمة ، محافظاً على إقامة الرسوم الحسبية والدينية .
مشيخته
قرأ على الأستاذ أبي الحسين بن أبي الربيع وغيره .
نكبته
تغلب على بلده أيام إمارته ، وثار أهله إليه في السلاح والعدة ، ليحيطوا بمن في القصبة . فخرج إليهم ، وشكر مساعيهم ، وقال ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، كن(3/292)
"""""" صفحة رقم 293 """"""
عبد الله المقتول ، ولا تكن عبد الله القاتل ، فانصرفوا ، ودخل منزله ، ملقياً بيده ، ومسلماً لقضاء الله سبحانه في كسره ، إلى أن قبض عليه ، وعلى ساير بنيه وقومه ، عند ارتفاع النهار وانتشار المتغلبين على القصبة ، فنقفوا متحرجين من دماء المسلمين ، وصرفوا إلى الأندلس ، في ضحو يوم الخميس الثاني عشر من ذي قعدة عام خمسة سبعماية ، بعد انقضاء خمسة عشر يوماً من تملك بلدهم . فاستقر بغرناطة ، تحت ستر واحترام ، وجراية فيها كفاف . ثم لما خرجت سبتة عن طاعة أمير المسلمين ، انصرف القوم إلى فاس ، فتوفي بها وفاته : في شعبان المكرم من عام ثلاثة عشر وسبعماية
عبد الله بن الجبير بن عثمان بن عيسى بن الجبير اليحصبي
من أهل لوشة ، وهو محسوب من الغرناطيين قال الأستاذ ، من أعيانها ذوي الشرف والجلالة ، قلت ينسب إليه بها معاهد تدل على قدم وأصالة .
حاله
قال أبو القاسم الملاحي ، كان أديباً بارع الأدب ، كاتباً ، بليغاً ، شاعراً مطبوعاً ، لسناً مفوهاً ، عارفاً بالنحو والأدب واللغات . وقد مال في عنفوان شبيبته إلى الجندية لشهامته ، وعزة نفسه ، فكان في عسكر المأمون ابن عباد ، واشتمل عليه المأمون ، وكان من أظرف الناس ، وأملحهم شيبة ، وأحسنهم شارة ، وأمهم معرفة .
مشيخته
أخذ عن أشياخ بلده غرناطة ، وأخذ بمالقة عن غانم الأديب وبقرطبة عن ابن سراج .
شعره
وله في إنشاده لدى المأمون مجال رحب ، فمن ذلك قوله :
يا هاجرين أضل الله سعيكم . . . كم تهجرون محبيكم بلا سبب(3/293)
"""""" صفحة رقم 294 """"""
ويا مسرين للإخوان غائلة . . . ومظهرين وجوه البر والرحب
ما كان ضركم الإخلاص لو طبعت . . . تلك النفوس على علياء أو أدب
أشبهتم الدهر لما كان والدكم . . . فأنتم شر أبناء لشر أب
عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد بن علي السلماني
والد المؤلف ، رضي الله عنه ، يكنى أبا محمد ، غرناطي الولادة
والاستيطان ، لوشي الأصل ، ثم طليطليه ، ثم قرطبيه .
أوليته
كان سلفه يعرفون بقرطبة ، ببني وزير ، وهم بها أهل نباهة ، وبيتهم بيت فقه وخيرية ومالية ، ونجارهم نجار فرسان يمانية . ولما حدث على الحكم بن هشام الوقيعة الربضية ، وكان له الفلج ، وبأهل الربض الدبرة ، كان أعلام هذا البيت من الجالية أمام الحكم ، حسبما امتحن به الكثير من أعلام المشيخة بها ، كالفقيه طالوت ، ويحيى بن يحيى ، وغيرهم ، ولحقوا بطليطلة ، فاستقروا بها ، ونبا بهم وطنهم ، ثم حوموا على سكنى الموسطة ، وآب إلى قرطبة قبلهم بعد عهد متقادم ، ومنهم خلف وعبد الرحمن ، وقد مر له ذكر في هذا الكتاب . وولى القضاء بالكورة . ومنهم قوم من قرابتهم تملكوا منتفريد ، والحصن المعروف الآن بالمنعة والخصب ، وتمدن فيهم ، وبنيت به القلعة السامية ، ونسب إليه ذلك المجد ، فهم يعرفون ببلدنا ببني المنتفريدين . واستقر منهم جدنا الأعلى بلوشة خطيباً وقاضياً بالصقع ومشاوراً وهو المضاف إلى اسمه التسويد بلوشة عرفاً كأنه اسم مركب ، فلا يقول أحد منهم في القديم إلا سيدي سعيد . كذا تعرفنا من المشيخة ، وإليه النسبة اليوم ، وبه يعرف خلفه ببني الخطيب ، وكان صالحاً فاضلاً ، من أهل العلم والعمل . حدثني الشيخ المسن أبو الحكم المنتفريدي ، وقد وقفنى على جدار برج ببعض أملاكنا بها ، على الطريق الآتية من غرناطة إلى لوشة ، ثم إلى غيرها ، كإشبيلية وسواها ، فقال كان جدك يسكن بهذا البرج كذا من فصول العام ، ويتلو القرآن ليلاً ، فلا يتمالك المارون على الطريق ، أن يقربوا إصغاء لحسن تلاوته(3/294)
"""""" صفحة رقم 295 """"""
وخشوعاً . وكان ولده عبد الله بعده ، على وتيرة حسنة من الخير والنباهة وطيب الطعمة ، ثم جده الأقرب سعيد على سننه ، مرب عليه بمزيد المعرفة ، وحسن الخط . ولما وقع بلوشة بلده ، ما هو معروف من ثورة أصهارهم من بني الطنجالي ، وكان بينهم ما يكون بين الفحول في الهجمات من التشاجر ، فر عنهم خيفة على نفسه ، وعلى ذلك فناله اعتقال طويل ، عدا به عليه عن تلك الثورة . ثم بان عذره ، وبرئت ساحته ، واستظهر به السطان ، وأقام بغرناطة ، مكرماً ، مؤثراً ، مؤتمناً ، وصاهر في أشراف بيوتاتها ، فكانت عنده بنت الوزير أبي العلي أضحى بن أضحى الهمداني ، وتوفيت تحته ، فأنجز له بسببها الحظ في الحمام الأعظم المنسوب إلى جدها اليوم . ثم تزوج بنت القايد أبي جعفر أحمد بن محمد الجعدالة السلمى ، أم الأب المترجم به ، ولها إلى السطان ثاني ملوك بني نصر وعظيمهم ، متات ببنوة الخؤولة من جهة القواد الأصلاء القرطبيين بني دحون ، فوضح القصد ، وتأكدت الحظوة . وقد وقعت الإشارة إلى ذلك كله في محله . ثم رسخت لولده أبي ، القدم في الخدمة والعناية ، حسبما يتقرر في موضعه .
حاله كان رحمه الله فذاً في حسن الشكل والأبهة ، وطلاقة اللسان ، ونصاعة الظرف ، وحضور الجواب ، وطيب المجالسة ، وثقوب الفهم ، ومشاراً إليه في الحلاوة وعذوبة الفكاهة ، واسترسال الانبساط ، مغيياً في ميدان الدعابة ، جزلاً ، مهيباً ، صارماً ، متجنداً ، رايق الخصل ركضاً وثقافة ، وعدواً وسباحة وشطرنجاً ، حافظاً للمثل واللغة ، إخبارياً ، مضطلعاً بالتاريخ ، ناظماً ناثراً ، جميل البزة ، فاره المركب ، مليح الشيبة . نشأ بغرناطة تحت ترف ونعمة ، من جهة أمه وأبيه ، وقرأ على أبي إسحاق بن زرقال ، وأبي الحسن البلوطي ، ثم على أستاذ الجماعة أبي جعفر بن الزبير ، ظاهرة عليه مخيلة النجابة والإدراك . ثم أقصر لعدم الحامل على الدؤوب ، وانتقل إلى بلد سلفه ، متحيفاً الكثير من الأصول في باب البذل وقرى الضيوف ، ومداومة الصيد ، وإيثار الراحة ، معتمداً بالتجلة ، مقصود الحلة ، مخطوب المداخلة ، من أبناء أشرف الدولة ، منتجعاً لأولى الكدية . ولما قام بالأمر السلطان ، أمير المسلمين أبو الوليد ، وأمه بنت السلطان ثاني الملوك من بني نصر ، جزم ما تقدم من المتات والوسيلة ، استنهضه للإعانة على أمره ، وجعل طريقه على بلده ، فحطب في حبله ، وتمسك بدعوته ، واعتمده بنزله وضيافته ، وكان أعظم الأسباب في حصول الأمر بيده ، ودخوله(3/295)
"""""" صفحة رقم 296 """"""
في حكمه ، وانتقل إلى حضرة الملك بانتقاله ، فنال ما شاء من اصطناعه ، وحظوته ، وجرى له هذا الرسم في أيام من خلفه من ولده إلى يوم الوقيعة الكبرى بطريف تاريخ فقده .
وجرى ذكره في كتاب الإكليل بما نصه : إن طال الكلام ، وجمحت الأقلام ، كنت كما قيل ، مادح نفسه يقرئك السلام ، وإن أحجمت ، فما أسديت في الثناء ولا ألحمت ، وأضعت الحقوق ، وخفت ومعاذ الله العقوق . هذا ، ولو أني زجرت طير البيان من أوكاره ، وجيته بعيون الإحسان وأبكاره ، لما قضيت حقه بعد ، ولا قلت إلا التي علمت سعد . فقد كان رحمه الله ذمر عزم ، ورجل رخاء وأزم ، تروق أنوار خلاله الباهرة ، وتضيء مجالس الملوك من صورتيه الباطنة والظاهرة ، ذكاء يتوقد ، وطلاقة يحسد نورها الفرقد ، فقدته بكاينة طريف ، جبر الله عثارها ، وعجل ثارها .
حدث خطيب المسجد الأعظم ، وهو ما هو ، من وفور العقل ، وصحة النقل ، قال ، مررت بأبيك بعد ما تمت الكسرة ، وخذلت تلك الأسرة ، وقد كبا بأخيك الطرف ، وعرض عليه الحمام للصرف ، والشيخ رحمه الله لم تزل قدمه ، ولا راعه الموقف وعظمه . ولما أيس من الخلاص وطلابه ، صرفني وقال أنا أولى به ، فقضى سعيداً شهيداً ، لم يستنفره الهول ، ولم يثنه ولا رضي عار الفرار عن ابنه .
شعره
قال في الإكليل ، وكان له في الأدب فريضة ، وفي النادرة العذبة منادح عريضة . تكلمت يوماً بين يديه ، في مسائل من الطب ، وأنشدته أبياتاً من شعري ، وقرأت عليه رقاعاً من إنشائي ، فسر وتهلل ، وعبر عما أمل ، وما برح أن(3/296)
"""""" صفحة رقم 297 """"""
ارتجل قوله رحمة الله عليه :
الطب والشعر والكتابة . . . سماتنا في بني النجابة
هن ثلاث مبلغات . . . مراتباً بعضها الحجابة
ووقع لي يوماً بخطه على ظهر أبيات ، بعثتها إليه ، أعرض عليه نمطها :
وردت كما ورد النسيم بسحره . . . عن روضة جاد الغمام رباها
فكأنما هاروت أودع سحره . . . فيها وآثرها به وحباها
مصقولة الألفاظ بيهر حسنها . . . بمثلها افتخر البليغ وباهى
فقررت عيناً عند رؤية حسنها . . . إلى أبوك وكنت أنت أباها
ومن شعره قوله :
وقالوا قد نأوا فاصبر ستشفى . . . فترياق الهوى بعد الديار
فقلت هبوا بأن الحق هذا . . . فقلبي يمموا فيم اصطبار
ومن قوله مما يجري مجرى الحكم والأمثال :
عليك بالصمت فكم ناطق . . . كلامه أدى إلى كلمه
إن لسان المرء أهدى إلى . . . غرته والله من خصمه
يرى صغير الجرم مستضعفا . . . وجرمه أكبر من جرمه
وقال وهو من المستحسن في التجنيس :
أنا بالدهر يا بني خبير . . . فإذا شئت علم فتعإلى
كم مليك قد ارتغى منه روضا . . . لم يدافع عنه الرحمن ما ارتغى لا
كل شيء تراه يفنى ويبقى . . . ربنا الله ذو الجلال تعإلى
أنشدني هاتين المقطوعتين .(3/297)
"""""" صفحة رقم 298 """"""
مولده ولد بحضرة غرناطة في جمادى الأولى من عام اثنين وسبعين وستماية .
وفاته
بعد يوم الوقيعة الكبرى على المسلمين بظاهر طريف يوم الاثنين السابع لجمادى الأولى عام واحد وأربعين وسبعماية .
من رثاه
قلت في رثايه من قصيدة أولها :
سهام المنايا لا تطيش ولا تخطى . . . وللدهر كف تسترد الذي تعطى
وإنا وإن كنا على ثبج الدنا . . . فلا بد يوماً أن تحل على الشط
وسيان ذل الفقر أو عزة الغنى . . . ومن أسرع السير الحثيث ومن يبط
تساوى على ورد الردى كل وارد . . . فلم يغن رب السيف عن ربة القرط
وقال شيخنا أبو زكريا بن هذيل من قصيدة يرثيه بها :
إذا أنا لم أرث الصديق فما عذري . . . إذا قلت أبياتا حساناً من الشعر
ولو كان شعري لم يكن غير ندبة . . . وأجريت دمعي لليراع عن الحبر
لما كنت أقضي حق صحبته التي . . . توخيتها عوناً على نوب الدهر
رماني عبد الله يوم وداعه . . . بداهية دهياء قاصمة الظهر
قطعت رجائي حين صح حديثه . . . فإن لم يوف دمعي فقد خانني صبري
وهل مؤنس كابن الخطيب لوحشتي . . . أبث له همي وأودعه سري
عبد الله بن محمد بن جزي
عبد الله بن محمد بن أحمد بن محمد بن جزي
من أهل غرناطة ، يكنى أبا محمد ، وقد مر ذكر أبيه شيخنا وأخويه ، وتقررت نباهة بيتهم .(3/298)
"""""" صفحة رقم 299 """"""
حاله
هذا الفاضل قريع بيت نبيه ، وسلف شهير ، وأبوة خيرة ، وأخوة بليغة ، وخؤولة تميزت من السلطان بحظوة . أديب حافظ ، قام على فن العربية ، مشارك في فنون لسانية سواه ، طرف في الإدراك ، جيد النظم ، مطواع القريحة ، باطنه نبل ، وظاهره غفلة . قعد للإقراء ببلده غرناطة ، معيداً ومستقلاً ، ثم تقدم للقضاء بجهات نبيهة ، على زمن الحداثة ، وهو لهذا العهد مخطوب رتبة ، وجار إلى غاية ، وعين من أعيان البلدة .
مشيخته
أخذ عن والده الأستاذ الشهير أبي القاسم حديث الرحمة بشرطه ، وسمع عليه على صغر السن ، أبعاضاً من كتب عدة في فنون مختلفة ، كبعض صحيح مسلم ، وبعض صحيح البخارري ، وبعض الجامع للترمذي ، وبعض السنن للنسائي ، وبعض سنن أبي داود ، وبعض موطإ ملك بن أنس وبعض الشفاء لعياض ، وبعض الشمايل للترمذي ، وبعض الأعلام للنميري ، وبعض المشرع السلس في الحديث المسلسل لابن أبي الأحوص ، وبعض كتاب التيسير لأبي عمرو الداني ، وبعض الهداية للمهدي ، وبعض التلخيص للطبري ، وبعض كتاب الدلالة في إثبات النبوة والرسالة لأبي عامر بن ربيع ، وبعض كتاب حلبة الأسانيد وبغية التلاميذ لابن الكماد ، وبعض كتاب وسيلة المسلم في تهذيب صحيح مسلم من تواليف والده ، وبعض القوانين الفقهية ، وبعض كتاب الدعوات والأذكار ، وبعض كتاب النور المبين في قواعد عقايد الدين من تأليفه ، وبعض تقريب الوصول إلى علم الأصول ، وبعض كتاب الصلاة ، وبعض كتاب الأنوار السنية في الكلمات السنية ، وبعض كتاب برنامجه . كل ذلك من تأليف والده ، رحمه الله . وأجاز له رواية الكتب المذكورة عنه ، مع رواية جميع مروياته وتواليفه وتقييداته ، إجازة عامة . ولقنه في صغره ، جملة من الأحاديث النبوية والمسائل الفقهية ، والمقطوعات الشعرية . ومنهم قاضي الجماعة أبو البركات بن الحاج ، حدثة بألمرية حديث الرحمة بشرطه ، وسمع عليه بها وبغرناطة عدة من أبعاض كتب ، وأجازه عامة ، وأنشده من شعره ، وشعر غيره . ومنهم قاضي الجماعة الشريف أبو القاسم لازمه مدة القراءة عليه ، واستفاد منه ، وتفقه عليه بقراءة غيره في كثير من النصف الثاني من كتاب سيبويه ، وفي كثير من النصف الثاني من كتاب الإيضاح لأبي علي الفارسي ، وفي(3/299)
"""""" صفحة رقم 300 """"""
كثير من كتاب التسهيل لابن مالك ، وفي القصيدة الخزرجية في العروض ، وسمع من لفظه الربع الواحد أو نحوه من تأليفه شرح مقصورة حازم ، وتفقه عليه فيه ، وأنشده كثيراً من شعره وشعر غيره . ومنهم الأستاذ أبو عبد الله البياني ، لازمه مدة القراءة عليه ، وتفقه عليه بقراءته في كتاب التسهيل البديع في اختصار التفريع إلا يسيراً منه ، وتفقه عليه بقراءة غيره في أبعاض من كتب فقهية وغيرها ، ككتاب التهذيب ، وكتاب الجواهر الثمينة ، وكتاب التفريع ، وكتاب الرسالة لابن أبي زيد ، وكتاب الأحكام لابن العربي ، وكتاب شرح العمدة لابن دقيق العيد ، وغير ذلك مما يطول ذكره . ومنهم الأستاذ الأعرف الشهير أبو سعيد بن لب ، تفقه عليه بقراءته في جميع النصف الثاني من كتاب الإيضاح للفارس ، وفي كثير من النصف الأول من كتاب سيبويه ، وتفقه عليه بقراءة غيره في أبعاض من كتب عدة ، في فنون مختلفة ، كالمدونة والجواهر ، وكتاب ابن الحاجب ، وكتاب التلقين ، وكتاب الجمل ، وكتاب التسهيل والتنقيح ، والشاطبية ، وكتاب العمدة في الحديث وغير ذلك . ومنهم الشيخ المقرى المحدث أبو عبد الله محمد بن بيبش ، سمع عليه بقراءة أخيه الكاتب أبي عبد الله محمد ، جميع كتاب الموطأ ، وكتاب الشفا إلا يسيراً منه ، وأجازه روايتهما عنه ، ورواية جميع مروياته ، إجازة عامة ، وأنشده جملة من شعره وشعر غيره . وممن أجازه عامة ، رئيس الكتاب أبو الحسن بن الجياب ، وقاضي الجماعة أبو عبد الله بن يحيى بن بكر الأشعري ، والخطيب أبو علي القرشي ، والأستاذ أبو محمد بن سلمون ، والحاج الراوية أبو جعفر ابن جابر ، والشيخ القاضي أبو جعفر أحمد بن عتيق الشاطبي الأزدي ، والقاضي الكاتب البارع أبو بكر بن شبرين ، والقاضي الخطيب الأستاذ الراوية أبو بكر بن الشيخ الخطيب الصالح أبي جعفر بن الزيات ، والقاضي الخطيب أبو محمد بن محمد بن الصايع . وممن كتب له بالإجازة من المشايخ ، شيخ المشايخ أثير الدين أبو حيان محمد بن يوسف بن حيان ، وقاضي الجماعة بفاس محمد بن محمد بن أحمد المقري ، ورئيس الكتاب أبو محمد الخضرمي ، وجماعة سوى من ذكر من أهل المشرق والمغرب .
شعره
وشعره نبيل الأغراض ، حسن المقاصد ، فمن ذلك قوله :
سنى الليلة الغرا وافتك بالبشرى . . . وأبدى منها وجه القبول لك البشرا(3/300)
"""""" صفحة رقم 301 """"""
تهلل وجه الكون من طرب بها . . . وأشرقت للدنا بغرتها الغرا
لها المنة العظمى بميلاد أحمد . . . لها الرتبة العليا لها العزة الكبرا
طوى سره في صدر الدهر مدة . . . فوافى ربيعاً ناشراً ذلك السرا
حوى شهرة الفضل الشهير وفضله . . . فأحسن به فضلاً وأعظم به شهرا
لقد كان ليل الكفر في الليل قد جفا . . . فأطلع منه في سمة الهدي فجرا
وفي ليلة الميلاد لاحت شواهد قضت . . . أندين الكفر قد أبطل الكفرا
لقد أخمدت أنوارها نار فارس . . . وأرجف كما ارتج إيوانه كسرى
له معجزات يعجز القلب كنهها . . . ويحصر إن رام اللسان لها حصرا
معال يكل الشعر عن نيل وصفها . . . وتقصر عن إدراك مصعده الشعرا
به بشر الرسل الكرام ولم تزل . . . شمايله تتلى وآياته تترا
ففي الصحف الأولى مناقبه العلى . . . وفي الذكر آيات رخص له قدرا
لقد خصه مولاه بالقرب والرضى . . . وحسبك ما قد نص في النجم والإسرا
ورد عليه الشمس بعد غروبها . . . وشق على رغم العداة له البدرا
وكان له في مايه وطعامه . . . لطايف ربانية تبهر الفكرا غدا الماء من بين الأصابع نابعاً . . . وعاد قليل الزاد من يمنه كثرا
وكم نايل أولى وكم سائل حبا . . . وكم مشتك أشفى وكم مدنف أبرا
كفى شاهدا أن رد عين قتادة . . . فكان لها الفضل المبين على الأخرا
وحن إليه الجذع عند فراقه . . . ولا حنت الخنساء إذ فارقت صخرا
وحق له إذ بان عنه حبيبه . . . ومن ذاق طعم الوصل لم يحمل الهجرا
خليلي ولادنيا تجدد للفقر ضروبا . . . من الأشواق لو تنفع الذكرا
بعيشكما هل لي إلى أرض طيبة . . . سبيل فأما الصبر عنها فلا صبرا
مناً للنفس من تلك المعاهد زورة . . . أبث بها شكوى وأشكو بها وزرا
وتعفير خدي في عروق ترابها . . . ليمحو لي ذنبا ويثبت لي أجرا(3/301)
"""""" صفحة رقم 302 """"""
تعللني نفسي بإدراكها المنا . . . وما أجهدت عيشاً ولا ملكت قفرا
ومن كانت الآمال أقصى اجتهاده . . . غدت كفه مما تأمله صفرا
وكم زجرتها واعظات زمانها . . . فما سمعت وعظاً ولا قبلت زجرا
وكنت لها عصر الشبيبة عاذراً . . . سقاه الحيا ما كان أقصره عصرا
وأما وقد ولت ثلاثون حجة . . . فلست أرى للنفس من بعدها عذرا
إذا أنت لم تترك سوى النفس طايعا . . . فلا بد بعد الشيب من تركه قسرا
ولم أدخر إلاشفاعة أحمد . . . لتخفيف وزر شد ما أوثق الظهرا
لقد عاقت كف الرجاء بحمله . . . لعل كسير القلب يقلبه برا
هو المرتضى الداعي إلى منهج الرضا . . . هو المصطفى الهادي الميسر لليسرا
هو الحاسر الماحي الضلالة بالهدى . . . هو الشافع الواقي إذ شهر الحشرا
بأي كلام يبلغ المرء وصف من . . . مكارمه تستغرق النظم والنثرا
خلال إذ الأفكار جاست خلالها . . . تكر على الأعقاب خاسئة خسرا
لقد غض طرف النجم باهرها سنى . . . وأرغم أنف الروض عاطرها نشرا
سقى ليلة حييت به واكف الحيا . . . فنعماؤها ما إن يحيط بها شكرا
لقد خصها سند الإله برحمة . . . فعمت بها الدنيا وسكانها طرا
أقمت أمير المسلمين حقوقها . . . بأفعال بر أضحكت للهدى ثغرا
لقد سرت فيها إذ أتتك بسره . . . أقرت لها عينا وسرت لها صدرا
عرفت بها حق الذي عرفت به . . . فأحسنتها شكرا وأوليتها برا
وأصحبتها الإخلاص لله والتقا . . . وأعقبها الإحسان والنايل الغمرا
لدي مصنع ملأ العيون محاسناً . . . تجسم فيه السحر حتى بدا قصرا
منها بعد أبيات في المدح للسلطان :
روى عن أبي الحجاج غر شمايل . . . أعاد لنا دهم الليالي بها غرا
ومن كبني نصر جلالة منصب . . . بهم نصر الرحمن دين الهدى نصرا
هم ما هم إن تلقهم في مهمة . . . لقيت الجناب السهل والمعقل الوعرا
سلالة أنصار النبي محمد فسل . . . أحدا ينبيك عنهم وسل بدرا(3/302)
"""""" صفحة رقم 303 """"""
ومن شعره في المقطوعات . قال في التورية العروضية :
لقد قطعت قلبي يا خليلي . . . بهجر طال منك على العليل
ولكن ما عجيب منك هذا إنه . . . التقطيع من شأن الخليل
وقال في التورية النحوية :
لقد كنت موصولاً فأبدل وصلكم . . . بهجر وما مثلي على الهجر يصبر
فما بالكم غيرتم حال عبدكم . . . وعهدي بالمحبوب ليس يغير
وقال في التورية مداعباً بعض المقرئين للعدد وهو بديع :
يا ناصباً علم الحساب حباله . . . لقناص ظبي ساحر الألباب
إن كنت ترجو بالحساب وصاله . . . فالبدر يرزقنا بغير حساب
وقال في التورية العروضية : لقد كمل الود بيننا . . . ودمنا على فرح شامل
فإن دخل القطع في وصلنا . . . فقد يدخل القطع في الكامل
وقال في تضمين مثل :
ألا اكتمك حب من أحببت . . . واصبر فإن الهجر يحدثه الكلام
وإن أبداه دمع أو نحول . . . فمن بعد اجتهادي لا تلام
وقال :
وأشنب الثغر له وجنة . . . تعدت النحل على وردها
ما ذاك إلى حسد إذ رأت . . . رضابه أعذب من شهدها(3/303)
"""""" صفحة رقم 304 """"""
وقال في التورية بأسماء كتب فقهية جواباً غير معمى :
لك الله من خل حباني برقعة . . . حبتني من أبياتها بالنوادر
رسالة رمز في الجمال نهاية . . . وخيرة نظم أتحفت بالجواهر
وقال في التورية أيضاً :
إلى الله أشكو عذراً ترددا . . . إلي فلما لاح سرى لهم حالوا
لقد خدعوني إذ أروني مودة . . . ولكنه لا غرو أن يخدع الآل
وقال يخاطب رجلاً من أصحابه :
أيا حسن إن شتت الدهر شملنا . . . فليس لود في الفؤاد شتات
وإن حلت عن عهد الإخاء فلم . . . يزل لقلبي على حفظ العهود ثبات
وهبني سرت مني إليك إساءة . . . ألم تتقدم قبلها حسنات
وقال في النسيب :
إن كان باب القرب قد سد بيننا . . . ولم يبق لي في نيل وصلك مطمع
وأخفرت عهدي دون ذنب جنيته . . . وأصبح ودي فيك وهو مضيع
ولم ترث لي عما ألاقي من الأسى . . . وصرت أنادي منك من ليس يسمع
وضاقت بي الأحوال عن كل وجهة . . . فما أرتجي من رحمة الله أوسع(3/304)
"""""" صفحة رقم 305 """"""
ومما نظمه في التضمين مخاطباً بعض المنتحلين للشعر قوله :
لقد صرت في غصب القصايد ماهرا . . . فما اسم جميع الشعر عندك غيزل
ولم تبق شعرا لامرئ متقدم . . . ولم تبق شعرا يا بن بشت لأول
فشعر جرير قد غصبت ورويه . . . وشعر ابن مرج الكحل وابن المرحل
وإن دام هذا الأمر أصبحت تدعى . . . قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل
ومن المقريين والعلماء
عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن مجاهد العبدري الكواب
من أهل غرناطة ، يكنى أبا محمد الخطيب ، المقرئ
حاله
من الصلة : كان رحمه الله أتقن أهل زمانه في تجويد كتاب الله العزيز ، وأبرعهم في ذلك ، وأنفعهم للمتعلم ، نفع الله به كل من قرأ عليه ، وترك بعده جملة يرجع إليهم في ذلك ، ويعمل على ما عندهم . وكان مع ذلك نبيه الأغراض ، في جميع ما يحتاج إليه في علمه ذاكرا للإختيارات التي تنسب للمقرئين ، من يرجح ويعلل ، ويختار ويرد ، موفقاً في ذلك ، صابراً على التعليم ، دايباً عليه نهاره وليله ، ذاكرا لخلاف السبعة . رحل الناس إليه من كل مكان ، خاصتهم وعامهم ، وملأ بلده تجويداً وإتقانا ، وكان مع هذا فاضلاً ورعاً جليلاً . خطب بجامع غرناطة وأم به مدة طويلة ، إلى حين وفاته .
مشيخته
أخذ القراءات عن الحاج أبي الحسين بن كوثر ، وأبي خالد بن رفاعة ، وأبي عبد الله بن عروس . ورحل إلى بياسة ، فأخذ بها القراءات عن أبي بكر ابن حسون ، وأخذ مع هؤلاء عن جعفر بن حكم ، وأبي جعفر بن عبد الرحيم ،(3/305)
"""""" صفحة رقم 306 """"""
وأبي الحسن الصدفي الفاسي ، وسمع عليه كثيراً من كتاب سيبويه تفقهاً ، وأجاز له كتابة القاضي أبو بكر بن أبي جمرة مع آخرين ممن أخذوا عنه .
من أخذ عنه روى عنه الناس أهل بلده وغيرهم ، منهم ابن أبي الأحوص ، وأبو عبد الله بن إبراهيم المقرى .
وفاته
توفي سنة ثلاث وثلاثين وستماية ، ودفن بمقبرة باب إلبيرة .
عبد الله بن علي بن عبد الله بن علي بن سلمون الكناني
من أهل غرناطة ، يكنى أبا محمد ، ويعرف بابن سلمون
حاله كان رحمه الله ، نسيج وحده ، ديناً وفضلاً ، وتخلقاً ودمائه ، ولين جانب ، حسن اللقاء ، سليم الباطن ، مغرقاً في الخير ، عظيم الهشة والقبول ، كريم الطوية ، عظيم الانقياد ، طيب اللهجة ، متهالكاً في التماس الصالحين ، يتقلب في ذلك بين الخطإ والإصابة ، صدراً في أهل الشورى . قرأ ببلده وسمع وأسمع وأقرأ ، وكتب الشروط مدة ، مأثور العدالة ، معروف النزاهة ، مثلاً في ذلك ، ويقوم على العربية والفقه ، خصوصاً باب البيوع ، ويتقدم السباق في معرفة القراءات ، منقطع القرين في ذلك ، أشد الناس خفوفاً في الحوايج ، وأسرعهم إلى المشاركة .
مشيخته
قرأ على الأستاذ الكبير أبي جعفر بن الزبير بغرناطة ، ولازمه ، فانتفع به ، دراية ورواية . وقرأ على الخطيب أبي الحسن بن فضيلة ، والمكتب أبي الحسن البلوطي ، وأبي محمد النفزي ، والخطيب أبي جعفر الكحيلي . وبمالقة على الأستاذ أبي محمد الباهلي . وبسبتة على الأستاذ المقري رحلة وقته أبي القاسم بن الطيب ، وسمع عله الكثير . وعلى الأستاذ أبي عبد الله الدارج ، ولازم مجلس إقرايه ، وعلى الشيخ المعمر أبي عبد الله ابن الخطار الكامي ، وهو أعلى من لقيه من تلك الحلبة . وأخذ بالإجازة عن العدل أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن النولي ، وروايته عاليه . لقي أب الربيع بن سالم ، ولقي بسبتة الشريف الراوية أبا علي الحسن بم بن أبي الشرف ربيع ، والأديب الكاتب أبا علي الحسين بن عتيق بن الحسين ابن رشيق . وبفاس الفقيه أبا غالب محمد بن محمد بن عبد الرحمن المغيلي . وقرأ على الخطيب المحدث أبي عبد الله بن رشيد . وسمع على ذي الوزارتين أبي عبد الله بن الحكيم . ولقي الأديب المعمر مالك بن المرحل . وأجازه أبو عمران موسى بن الخطيب أبي الحسن(3/306)
"""""" صفحة رقم 307 """"""
الداري برندة . وأجازه من أهل المشرق كثير ، منهم عز الدين أحمد بن محمد الحسني بقية الأشراف بالديار المصرية ، وجمال الدين أحمد بن محمد بن عبد الله الظاهري ، ونجم الدين أحمد بن حمدان الحراني ، وجمال الدين أحمد ابن أبي الفتح الشيباني ، وأحمد بن عبد المنعم الصوفي ، ومولده عام أحد وستماية ، وأحمد بن سلمان بن أحمد المقدسي ، وأحمد بن عبد الحميد ابن عبد الهادي ، وشمس الدين إبراهيم بن سرور المقدسي ، والخطيب بالمسجد الأعظم ببجاية أبو عبد الله بن صالح الكناني ، وأبو عبد الله محمد أبي خمسة محمد بن البكري بن أبي بكر ، وأبو عبد الله محمد بن علي ابن وهب بن مطيع بن أبي الطاعة القشيري ، وابن دقيق العيد تقي الدين ، وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعد بن جماعة ، والشيخة الصالحة أم محمد عائشة بنت أبي الخطاب محمد بن أحمد بن خليل السكوني . وأجازه نحو من المايتين من أهل المشرق والمغرب . ولقي بفاس الشيخة الأديبة الطيبة الشاعرة ، سارة بنت أحمد بن عثمان بن الصلاح الحلبية وأجازته ، وألبسته خرقة التصوف .
قال : وأنشدتني قصيد أجابت بها الخطيب المحدث ، أبا عبد الله ابن رشيد ، أولها يعني قصيدة ابن رشيد :
سرى نسيم من حمى سارة . . . عاد به كل نسيم عاطرا
وجال أفكار الدنا ذكرها . . . فسار فيها مثلا سايرا
دايرة والمجد قطب لها . . . دارت عليه فلكاً دايرا
فقالت :
وافي قريض منكم مذ غدا . . . لبعض أوصافكم ذاكرا
أطلع من أنفاسه الحجا . . . ومن شذاه نفساً عاطرا
أعاد ميت الفكر من خاطري . . . من بعد دفن في الثرى ناشرا
يبهر طرفي حسن منظره . . . أحبب به نظما غدا باهرا
فقلت لها هالتي حسنه . . . أشاعراً أصبح أم ساحرا
أم روضة هذى التي قد نوى . . . أم بدر تم قد بدا زاهرا
أم ضرب من فمه سائل ؟ . . . أم جوهر أضحى لنا ناثرا(3/307)
"""""" صفحة رقم 308 """"""
لله ما أعذب ألفاظه . . . وأنور الباطن والظاهرا
يا ابن رشيد بل أبا الرشد . . . يا من يزل لطي العلى ناشرا
خذ ما فدتك النفس يا سيدي . . . وكن لمن نظمها عاذرا
ما تصل الأنثى بتقصيرها . . . لأن تبارى ذكراً ماهرا
لازلت تحيى من رسوم العلا . . . ما كان منها دارساً دائرا
تصانيفه
الكتاب المسمى بالشافي في تجربة ما وقع من الخلاف بين التيسير والتبصرة والكافي لا نظير له .
مولده ولد بغرناطة بلده في الثاني والعشرين لذي قعدة من عام تسعة وستين وست ماية .
وفاته
فقد في الوقيعة العظمى بطريف يوم الإثنين السابع لجمادى الأولى من عام أحد وأربعين وسبعماية . حدث بعض الجند أنه رآه يتحامل ، وجرح بصدره يثعب دماً ، وهو رابط الجأش ، فكان آخر العهد به . تقبل الله شهادته .
عبد الله بن سهل الغرناطي
يكنى أبا محمد ، وينبز بالوجه نافخ
حاله
من كتاب ابن حمامة ، قال عني بعلم القرآن والنحو والحديث ، عناية تامة ، وبهذا كنت أسمع الثناء عليه من الأشياخ ، في حال طفولتي بغرناطة ، ثم شهر بعد ذلك بعلم المنطق ، والعلوم الرياضية ، وساير العلوم القديمة ، وعظم بسببها ، وامتد صيته من أجلها ، وأجمع المسلمون واليهود والنصارى ، أن ليس في زمانه مثله ، ولا في كثير ممن تقدمه ، وبين هذه الملل الثلاثة من التحاسد ما عرف . وكانت النصارى تقصده من طليطلة ، تتعلم منه أيام كان ببياسة ، وله مع قسيسهم مجالس في(3/308)
"""""" صفحة رقم 309 """"""
التناظر ، حاز فيها قصب السبق . قال ، ثم خرج عن بياسة ، وسار إلى نظر ابن همشك عند خروج النصارى عن بياسة . وله تواليف . وهو الآن بحاله . قلت ، تاريخ هذا القول ، عام ثلاثة وخمسين وخمسماية .
عبد الله بن أيوب الأنصاري
يكنى أبا محمد ، ويعرف بابن خروج ، من أهل قلعة أيوب .
حاله
فقيه حافظ لمذهب مالك . استوطن غرناطة وسكنها .
تواليفه
ألف في الفقه كتاباً مفيداً سماه المنوطة على مذهب مالك ، في ثمانية أسفار أتقن فيها كل الإتقان :
وفاته
: توفي بها سنة اثنيتين وستين وخمسماية ، وقد قارب المائة .
عبد الله بن الحسن بن أحمد بن يحيى بن عبد الله الأنصاري
مالقى ، قرطبي الأصل ، يكنى أبا محمد ، ويعرف بالقرطبي ، وقرأ بغرناطة .
حاله
كان في وقته ببلده ، كامل المعارف ، صدرا في المقرئين والمجودين ، رئيس المحدثين وإمامهم ، واسع المعرفة ، مكثراً ، ثقة ، عدلاً ، أمينا ، مكين الرواية ، رايق الخط ، نبيل التقييد والضبط ، ناقداً ، ذاكراً أسماء رجال الحديث وطبقاتهم وتواريخهم ، وما حلوا به من جرح وتعديل ، لا يدانيه أحد في ذلك ، عزيز النظر ،(3/309)
"""""" صفحة رقم 310 """"""
متيقظاً ، متوقد الذهن ، كريم الخلال ، حميد العشرة ، دمثاً ، متواضعاً ، حسن الخلق ، محبباً إلى الناس ، نزيه النفس ، جميل الهيئة ، وقوراً ، معظماً عند الخاصة والعامة ، ديناً ، زاهداً ، ورعاً ، فاضلا ، نحوياً ماهراً ، ريان من الأدب ، قائلاً الجيد من الشعر ، مقصدا ومقطعاً ، وكان له بجامع مالقة الأعظم ، مجلس عام ، سوى مجلس تدريسه ، يتكلم فيه على الجديث ، إسناداً ومتناً ، بطريقة عجز عنها الكثير من أكابر أهل زمانه . وتصدر للإقراء ابن عشرين سنة . من أخباره في العلم والذكاء : قالوا قرئ عليه يوماً باب الابتداء بالكلم التي يلفظ بها في إيضاح الفارس ، وكان أحسن الناس قياماً عليه فتكلم على المسألة الواقعة في ذلك الباب ، المتعلقة بعلم العروض ، وكان في الحاضرين من أحسن صناعته ، فجاذبه الكلام ، وضايقه المباحثه ، حتى أحس الأستاذ من نفسه التقصير ، إذ لم يكن له قبل كبير نظر في العروض ، فكف عن الخوض في المسألة ، وانصرف إلى منزله ، وعكف ساير اليوم على تصفح علم العروض ، حتى فهم أغراضه ، وحصل تواليفه وصنف فيه مختصراً نبيلاً ، لخص في صدوره ضروبه ، وأبدع فيه بنظم مثله ، وجاء به من الغد ، معجزاً من رآه أو سمع به ، فبهت الجاضرون وقضوا العجب من اقتداره وذكائه ، ونفوذ فهمه ، وسمو همته .
ومن أخباره في الدين : قال أبو أحمد جعفر بن زعرور العاملي المالقي تلميذه الأخص به ، بت معه ليلة في دويرته التي كانت له بجبل فاره للإقراء والمطالعة ، فقام ساعة كنت فيها يقظانا ، وهو ضاحك مسرور ، يشد يده كأنه ظفر بشيء نفيس ، فسألته فقال ، رأيت كأن الناس قد حشروا في العرض على الله ، وأتى بالمحدثين ، وكنت أرى أبا عبد الله النصيرى يؤتى به ، فيوقف بين يدي الله تعالى ،(3/310)
"""""" صفحة رقم 311 """"""
فيعطى براءته ، من النار ، ثم يؤتى بي ، فأوقفت بين يدي ربي ، فأعطاني براءتي من النار ، فاستيقظت ، وأنا أشد عليها يدى ربي ، فأعطاني براءتي من النار ، فاستيقظت ، وأنا أشد عليها يدي اغتباطا بها وفرحا ، والحمد لله .
مشيخته تلا بمالقة على أبيه ، وأبي زيد السهيلى ، والقاسم بن دحمان ، وروى عنهم ، وعن أبي الحجاج بن الشيخ ، وأبوي عبد الله بن الفخار ، وابن نوح ، وابن كامل ، وابن جابر ، وابن بونة . وبالمنكب عن عبد الوهاب الصدفي . وحضر بمالقة مجلس أبي إسحاق بن قرقول . وبإشبيلية عن أبي بكر بن الجد ، وابن صاف ، وأبي جعفر بن مضاء ، وأبوي الحسن عبد الرحمن بن مسلمة ، وأبي عبد الله بن زرقون ، وأبي القاسم بن عبد الرازق ، وأبي محمد بن جمهور . وبغرناطة عن أبوي جعفر بن حكم الحصار ، وابن شراحيل ، وأبي عبد الله بن عروس ، وأبوي محمد عبد الحق النوالشي ، وعبد المنعم بن الفرس . وبمرسية عن أبي عبد الله بن حميد ، وأبي القاسم بن حبيش ، وبسبتة عن أبي محمد الحجري . وأجاز له من الأندلس ابن محرز وابن حسون وابن خيرة ، والأركشي ، وابن حفص وابن سعادة ، ويحيى المجريطي ، وابن بشكوال ، وابن قزمان . ومن أهل المشرق جماعة كبيرة .
شعره وتصانيفه
ألف في العروض مجموعات نبيلة ، وفي قراءة نافع . ولخص أسانيد الموطأ . وله المبدي لخطإ الرندي . ودخل يوماً بمجلس أقرأ به أبو الفضل عياض ، وكان أفتى منه ، غير أن الشيب جار عليه ، وتأخر شيب الأستاذ ، فقال يا أستاذ شبنا وما شبتم ، قال فأنشده ارتجالاً :
وهل نافع أن أخطأ الشيب مفرقي . . . وقد شاب أترابي وشاب لداتي
لئن كان خطب الشيب يوجد حسه . . . بتربي فمعناه يقوم بذاتي
ومن شعره في التجنيس :
لعمرك ما الدنيا بسرعة سيرها . . . بسكانها إلا طريق مجاز
حقيقتها أن المقام بغيرها . . . ولكنهم قد أولعوا بمجاز(3/311)
"""""" صفحة رقم 312 """"""
ومما يؤثر أيضاً من شعره قوله :
سهرت أعين ونامت عيون . . . لأمور تكون أو لا تكون
فاطرد الهم ما استطعت عن . . . النفس فحملانك الهموم جنون
إن رباً كفاك بالأمس ما كان . . . فسيكفيك في غد ما يكون
مولده
ولد أبو محمد قريب ظهر يوم الاثنين لثمان بقين من ذي القعدة عام ستة وخمسين وخمسماية .
وفاته
سحر ليلة السبت أو سحر يومها ، ودفن إثر صلاة العصر من اليوم السابع لربيع الآخر سنة أحد عشر وستماية .
من رثاه رثاه الأديب أبو محمد عبد الله بن حسون البرجي من قصيدة حسنة طويلة :
خليلي هباً ساعداني بعبرة . . . وقولاً لمن بالري ويحكم هبوا
نبكي العلى والمجد والعلم والتقي . . . فمأتم أحزاني نوائحه الصحب
فقد سلب الدين الحنيفي روحه . . . ففي كل سرب من نباهته نهب
وقد طمست أنوار سنة أحمد . . . وقد خلت الدنيا وقد ظعن الركب
مضى الكوكب الوقاد والمرهف الذي . . . يصحح في نص الحديث فما ينب
تمنى علاه النيران ونوره . . . وقالا بزعم أنه لهما ترب
أأسلو وبحر العلم غيضت مباهة . . . ومحيى رسوم العلم يحجبه الترب
عزيز على الإسلام أن يودع الثرى . . . مسدده الأسرى وعلله الندب(3/312)
"""""" صفحة رقم 313 """"""
بكى العالم العلوي والسبع حسرة . . . أولئكم حزب الله ما فوقهم حزب
على القرطبي الحبر أستاذنا الذي . . . على أهل هذا العصر فضله الرب
فقد كان فيما مضى من زمانه . . . به تحسن الدنيا ويلتئم الشعب
ويجمع سرب الأنس روض حياتة . . . فقد جف ذاك الروض وافترق السرب
فسحقاً لدنيا خادعتنا بمكرها . . . إذا عاقدت سلما فقصدها حرب
ركبنا السهل الذلول فقادنا . . . إلى كل ما في طيه مركب صعب
وتغفل عنها والردى يستفزنا . . . كفى واعظاً بالموت لو كان لي لب
عبد الله بن أحمد بن إسماعيل بن عيسى بن أحمد بن إسماعيل بن سماك العاملي
يكنى أبا محمد ، مالقي الأصل .
حاله
كان فقيهاً أديباً ، بارع الأدب ، شاعراً مطبوعاً ، كثير النادر ، حلو الشمايل ، أدرك شيوخاً جلة ، وولى قضاء غرناطة مدة .
مشيخته روى عن جده لأمه وابن عم أبيه أبي عمر أحمد بن إسماعيل ، وأبي على الغساني ، وأبي الحسن علي بن عبيد الرحمن بن سمحون والمرساني الأديب ،
شعره
الروض مخضر الربى متجمل . . . للناظرين بأجمل الألوان
وكأنما بسطت هناك سوارها . . . خود زهت بقلائد العقيان
وكأنما فتقت هناك نوافح . . . من مسكة عجنت بعرف البان
والطير يسجع في الغصون كأنما . . . تقرأ القيان فيه على العيدان(3/313)
"""""" صفحة رقم 314 """"""
والماء مطرد يسيل عبابه . . . كسلاسل من فضة وجمان
بهجات حسن أكملت فكأنها . . . حسن اليقين وبهجة الإيمان
وكتب إلى الكاتب أبي نصر الفتح بن عبيد الله في أثناء رسالة :
تفتحت الكتابة عن نسيم . . . نسيم المسك في خلق الكريم
أبا نصر رسمت لها رسوما . . . تخال رسومها وضح النجوم
وقد كانت عفت فأثرت منها . . . سراجاً لاح في الليل البهيم
فنحت من الصناعة كل باب . . . فسارة في طريق مستقيم
فكتاب الزمان ولست منهم . . . إذا راموا مرامك في هموم
فما قس بأبدع منك لفظاً . . . ولا سحبان مثلك في العلوم
وفاته : في السابع والعشرين من رمضان المعظم سنة أربعين وخمسمائة وهو ابن أربع وثمانين سنة .
ومن ترجمة القضاة
عبد الله بن أحمد بن العافقي عبد الله بن أحمد بن محمد بن سعيد بن أيوب بن الحسن بن منخل بن زيد العافقي
من أهل غرناطة وأعيانها ، يكنى أبا محمد ، وينسب إلى غافق بن الشاهد بن عك بن عدنا ، لا إلى حصن غافق .
حاله
من العايد كان رجلاً صحيح المذهب ، سليم الصدر ، قليل المصانعة ، كثير الحركة والهشة ، والجدة ، ملازم الاجتهاد والعكوف ، لا يفتر عن النسخ والتقييد والمطالعة ، على حال الكبرة ، قديم التعين والأصالة ، ولى القضاء عمره بمواضع كثيرة ، منها بيرة ورندة ثم مالقة ، مضافاً إلى الخطابة بها .(3/314)
"""""" صفحة رقم 315 """"""
مشيخته
حج في حدود سبعة وثمانين وستماية ، وروى عن جلة من أهل المشرق ، كالإمام تقي الدين بن دقيق العيد ، والحافظ أبي محمد عبد المؤمن الدمياطي ، وشمس الدين المصنف أبي عبد الله بن عبد السلام . وأجازه من أهل المغرب شيخ الجماعة بالأندلس أبو جعفر بن الزبير ، والقاضي ابن أبي الأحوص ، والخطيب أبو الحسن بن فضيلة ، الأستاذ أبو الحسن ابن الصايغ الإشبيلي ، وأبو جعفر الطباع ، وغيرهم .
تواليفه
ألف كتابا سماه بالمنهاج في ترتيب مسائل الفقيه المشاور أبي عبد الله ابن الحاج .
مولده
ولد بغرناطة في حدود ستين وستماية .
وفاته
: توفي بغرناطة يوم عاشوراء من عام أحد وثلاثين وسبعماية .
عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن أبي زمنين المري
يكنى أبا خالد .
حاله
كان فقيهاً جليلاً ، وولى القضاء ببعض جهات غرناطة .
مشيخته
أخذ الفقيه عن أبي جعفر بن هلال ، وأبي محمد بن سماك القاضي . والعربية عن الخضر بن رضوان العبدري . والحديث عن الحافظ أبي بكر ابن غالب بن عبد الرحمن بن عطية ، والإمام أبي الحسن علي بن أحمد ، والقاضي أبي الفضل عياض بن موسى بن عياض أيام قضائه بغرناطة .
مولده
ولد سنة سبع وتسعين وأربعماية .
وفاته
: توفي في ذي قعدة سنة أربع وأربعين وخمس ماية .
عبد الله بن يحيى بن محمد بن أحمد بن زكريا بن عيسى بن محمد بن يحيى بن زكريا الأنصاري
يكنى أبا محمد ، من أهل غرناطة ، شرقي الأصل ، مرسيه ، من بيوتاته النبيهة ، وقد مر ذكر أخيه .(3/315)
"""""" صفحة رقم 316 """"""
حاله
كان على طريقة حسنة من دمائه الأخلاق ، وسلامة السجية ، والتزام الحشمة ، والاشتغال بما يعنى . ولي القضاء دون العشرين سنة ، وتصرف فيه عمره بالجهات الأندلسية ، فأظهر فيه عدلاً ونزاهة ، ولم يختلف عليه اثنان مدة حياته ، من أهل المعرفة بالأحكام ، والتقدم في عقد الشرط ، وصناعة الفرايض ، علماً وعملاً ، ثاقب الذهن ، نافذاً في صنعة العدد .
مشيخته قرأ على أبيه الفاضي أبي بكر بن زكريا ، وله رواية عالية عن أعلام من أهل المشرق والغرب . وقرأ على أبي الحسن بن فضيلة الولي الصالح ، والقاضي أبي عبد الله بن هشام الألشي ، والأستاذ أبي جعفر بن الزبير ، والحاج أبي محمد بن جابر ، وأبي بكر القللوسي . وقرأ العدد وما أشبهه على الأستاذ التعاليمي أبي عبد الله الرقام ، ولازمه ، وأجازه طايفة كبيرة . وأخبرني ولده الفاضل أبو بكر ، قال : ورد سؤال من تونس مع تاجر وصل في مركب إلى مدينة المنكب أيام قضائه بها ، في رجل فرط في إخراج زكاة ماله سنين متعددة ، سميت في السؤال مع نسبة قدر المال ، وطلب في السؤال ، أن يكون عملها بالأربعة الأعداد المتناسبة ، إذ عملها بذلك ، أصعب من عملها بالجبر والمقابلة ، فعملها وأخرجها بالعملين ، وعبر عنها بعبارة حسنة ، وكتبها في بطاقة بخط جميل ، فذكر التاجر أنه لم يبق بتونس فقيه ، إلا ونسخ منها نسخة ، واستحسنها .
مولده
ولد يوم الخميس السابع عشر لجمادى الآخرة عام خمسة وسبعين وستماية .
وفاته : توفي قاضياً ببسطة في التاسع عشر من رمضان عام خمسة وأربعين وسبعماية .
عبد الله بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الملك بن أبي جمرة الأزدي
من أهل مرسيه ، نزيل غرناطة ، يكنى أبا محمد ، وبيته بمرسية من أعلام بيوتاتها ، شهير التعين والأصالة ، ينكح فيه الأمراء .(3/316)
"""""" صفحة رقم 317 """"""
حاله
كان من أعلام وقته فضلاً وعدالة وصلاحا ووقاراً ، طاهر النشأة ، عف الطعمة ، كثير الحياء ، مليح التخلق . نشأ بمرسيه ، ثم انتقل إلى غرناطة فتولى القضاء ببيرة وجهاتها ، ثم جاز إلى سبتة ، وانعقدت بينه وبين رؤسايها المصاهرة في بعض بناته . ثم آب إلى غرناطة عند رجوع إيالة سبتة إلى أميرها ، فتقدم خطيبا بها .
مشيخته
روى بالإجازة عن الخطيب الحافظ أبي الربيع بن سالم وأمثاله .
وفاته
الغريبة المستحسنة . قال بعض شيوخنا ، كنت أسمعه عند سجوده ، وتبتله وضراعته إلى الله . يقول اللهم أمتني ميتة حسنة ، ويكرر ذلك . فأجاب الله دعاءه ، وتوفاه على أتم وجوه التأنيب طهارة وخشوعاً وخضوعاً وتأهباً ، وزماناً ومكاناً ، عندما صعد أول درج من أدراج المنبر ، يوم الجمعة الثالث والعشرين لشوال من عام أحد عشر وسبع ماية ، فكان يوماً مشهوداً لا عهد بمثله ، مارئى ألآكثر باكياً منه ، وأكثر الناس من الثناء عليه .
عبد الله بن سليمن بن داود بن عبد الرحمن بن سليمن بن عمر بن حوط الله الأنصاري الحارثى الأزدي
يكنى أبا محمد .
حاله
من الصلة : قال القاضي المحدث الجليل العالم ، كان فقيهاً جليلاً أصولياً ، نحوياً ، كاتباً ، أديباً ، شاعراً ، متفنناً في العلوم ، ورعاً ، ديناً ، حافظاً ، ثبتاً ، فاضلاً . وكان يدرس كتاب سيبويه ، ومستصفى أبي حامد ، ويميل إلى الاجتهاد في نظره ، ويغلب طريقة الظاهرية ، مشهوراً بالعقل والفضل ، معظماً عند الملوك ، معلوم القدر لديهم ، يخطب في مجالس الأمراء والمحافل الجمهورية ، مقدماً في ذلك ، بلاغة وفصاحة إلى أبعد مضمار . ولملوك الموحدين به اعتناء كبير . وهو كان أستاذ الناصر وإخوته ، وكان له عند المنصور والهم ، بذلك أكرم أثرة ، مع ما كان مشهوراً به من العلم والدين والفل . ولي القضاء بإشبيلية وقرطبة(3/317)
"""""" صفحة رقم 318 """"""
ومرسية وسبتة وسلا وميورقة ، فتظاهر بالعدل ، وعرف بما أبطن من الدين والفضل ، وكان من العلماء العاملين ، سنياً ، مجانباً لأهل البدع والأهواء ، بارع الخط ، حسن التقييد .
مشيخته
تردد في طلب العلم ، فسمع ببلنسية وشاطبة ومرسية وألمرية وقرطبة وإشبيلية ومالقة ، وغيرها من البلاد الأندلسية ، وتحصل له سماع جم لم يشاركه فيه أحد من أهل المغرب . قرأ القرآن على أبيه ، وعلى أبي محمد عبد الصمد الغساني ، وأخذ عن ابن حميد كتاب سيبويه تفقهاً . وعن غيره ، وسمع عن ابن بشكموال ، وقرأ أكثر من ستين تأليفاً بين كبار وصغار ، وكمل له على أبي محمد بن عبد الله ، بين قراءة وسما نحو من سنة وثلاثين تأليفاً ، منها الصحيحان . وأكثر عن ابن حبيش ، والسهيلي ، وابن الفخار وغيرهم . واستيفاء مشيخته يشق .
شعره
قال الأستاذ ، أنشدنيه ابن أبو القاسم ، ونقلت من خطة :
أتدري أنك الخطاء حقاً . . . وأنك بالذي تدري رهين وتعتب الإلى فعلوا وقالوا . . . وذاك الظن والإفك المبين
مولده
في محرم سنة ثمان وأربعين وخمسماية .
وفاته : كان آخر عمره قد أعيد إلى مرسية ، قصدها من الحضرة ، مات بغرناطة سحر يوم الخميس الثاني لربيع الأول اثنتي عشرة وستماية ، ونقل منها في تابوته الذي ألحد فيه ، يوم السبت التاسع عشر لشعبان من السنة إلى مالقة . فدفن بها .
عبد الله بن يحيى بن عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الرحمن بن ربيع الأشعري
من أهل قرطبة ، يكنى أبا القاسم ويعرف بابن ربيع .(3/318)
"""""" صفحة رقم 319 """"""
حاله
كان رحمه الله أديبا ، كاتباً شاعراً ، نحوياً ، فقيهاً أصولياً ، مشاركاً في علوم ، محباً في القراءة ، وطياً عند المناطرة ، متناصفا ، سنياً ، أشعري المذهب والنسب ، مصمماً على طريقة الأشعرية ، ملتزماً لمذهب أهل السنة المالكي ، من بقايا الناس وعليتهم ، ومن آخر طلبة الأندلس المشاركين الجلة ، المصممين على مذهب أهل السنة ، المنافرين للمذاهب الفلسفية ، والمبتدعة ، والزيغ . ولي قضاء مواضع من الأندلس ، منها مدينة شريش ورندة ومالقة ، وأم وخطب بجامعها . ثم ولي قضاء الجماعة بحضرة غرناطة ، وعقد بها مجلسا للإقراء . فانتفع به طلبتها ، واستمر على ذلك ، وكانت ولايته غرناطة نحواً من سبعة أعوام .
مشيخته
أخذ عن أبيه أبي عامر وتفقه به ، وعن الخطيب أبي جعفر بن يحيى الحميري ، وتلا عليه ، وتأدب به ، وعن الأستاذ أبي الحسن بن خروف ، وروى مع هؤلاء عن القاضي أبي القاسم بن بقي ، وأبي محمد بن حوط الله ، وأبي عبد الله بن أصبغ وغيرهم ، وأجاز له الشيخ المسن أبو الحسن على ابن أحمد بن على الغافقي الشقوري ، وله به علو ، وبالأستاذ الخطيب المسن أبي جعفر بن يحيى المتقدم .
وفاته
توفي في الساب عشر لشوال سنة ست وستين وستماية . ولم يخلف بعده مثله ، ولا من يقاربه .
عبد الله بن إبراهيم بن الزبير بن الحسن بن الحسين الثقفي العاصمي
من ولد عاصم بن مسلم الداخل في طلعة بلج الملقب بالعريان ، أخو الأستاذ أبي جعفر بن الزبير ، شقيقه ، يكنى أبا محمد .
حاله
كان طبيباً ماهراً ، كاتباً شاعراً ، ذاكراً للغة ، صنع اليدين ، متقدماً في أقرانه نباهة وفصاحة ، معدوم النظير في الشجاعة والإقدام ، يحضر الغزوات ، فارساً وراجلاً ، ولقي بفحص غرناطة ليلا ، نصرانياً يتجسس ، فأسره وجره ، وأدخله البلد ، ولم يلتفت إلى ثمنه ، استكتاماً لتلك الفعلة .(3/319)
"""""" صفحة رقم 320 """"""
مشيخته
أخذ القرآن عن الأستاذ أبي عبد الله بن مستقور ، وروى عن أبي يحيى بن عبد الرحيم ، وأبي الوليد العطار ، وأبي القاسم بن ربيع وأبي الخطار بن خليل ، وأخذ عن أبي عمر بن حوط الله بمالقة ، وابن أبي ريحانه . وبسبتة على أبي بكر بن مشليون . وأجاز له أبو بكر بن محرز ، وأبو الحسن الثاري . وأخذ عن الأستاذ الناقد أبي الحسن علي بن محمد الكناني .
مولده
ولد بغرناطة لسبع عشرة ليلة خلت من ذي قعدة سنة ثلاث وأربعين وستماية .
وفاته : توفي بها سحر أول يوم من ذي قعدة سنة ثلاث وثمانين وستماية .
عبد الله بن موسى بن عبد الرحمن بن حماد الصنهاجي
يكنى أبا يحيى .
حاله
طالب نبيل فاضل ، ورع زاهد ، مؤثر في الدنيا بما تملكه ، تال لكتاب الله في جميع الأوقات .
أخباره في الإيثار
وجه له السيد أبو إسحاق ابن الخليفة أبي يعقوب خمسماية دنير ليصلح بها من شأنه . فصرف جميعها على أهل الستر في أقل من شهر . ومر بفتى في إشبيلية ، وأعوان القاضي يحملونه إلى السجن ، وهو يبكي فسأله ، فقال : أنا غريب ، وطولبت بخمسين دنيرا ، وبيدي عقود ، وطولبت بضامن فلم أجده ، فقال ، له الله ، قال نعم ، قال ، فدفع له خمسين دنيرا ، قال أشهد لك بها ، فضجر وقال إن الله إذا أعطى عبده شيئاً لم يشهد به عليه ، وتركه وانصرف لشأنه ، وكانت عنده معرفة وأدب .
مولده : بغرناطة في سنة إحدى وعشرين وخمسماية .
ومن ترجمة الكتاب والشعراء بين أصلي وطارئ
عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله الأزدي
من أهل بلش يكنى أبا محمد . ويعرف بابن المرابع(3/320)
"""""" صفحة رقم 321 """"""
حاله من نبهاء أدباء البادية ، خشن الظاهر ، منطو على لوذعية ، متوارية في مظهر جفوة ، كثير الانطباع عند الخبرة ، قادر على النظم والنثر ، متوسط الطبقة فيهما ، مسترفد بالشعر ، سيال القريحة ، مرهوب الهجاء ، مشهور المكان ببلده ، يعيش من الخدم المخزنية ، بين خارص وشاهد وجد بذلك وقته ، يوسط رقاعته ، فتنجح الوسيلة ، ويتمشى له بين الرضا والسخط الغرض .
وجرى ذكره في التاج بما نصه : طويل القوادم والخوافي ، كلف على كبر سنه بعقايل القوافي ، شاب في الأدب وشب ، ونشق ريح البيان لما هب ، قحاول رفيعه ، وجزله ، وأجاد جده وأحكم هزله . فإن مدح صدح ، وإن وصف أنصف ، وإن عصف قصف . وإن أنشأ ودون ، وتقلب في أفانين البلاغة وتلون ، أفسد ما شاء الله وكون ، فهو شيخ الطريقة الأدبية وفتاها ، وخطيب حفلها كلما أتاها ، لا يتوقف عليه من أغراضها غرض ، ولا يضيع لديه منها مفترضِ . ولم نزل بروقه تتألق ، ومعانيه بأذيال الإحسان تتعلق . حتى برز في أبطال الكلام وفرسانه ، وذعرت القلوب لسطوة لسانه ، وألفت إليه الصناعة زمامها ، ووقفت عليه أحكامها . وعبر البحر ، منتجعاً بسعره ، ومنفقاً في سوق الكساد من شعره فأبرق وأرعد ، وحذر وتوعد ، وبلغ جهد إمكانه ، في التعريف بمكانه ، فما حرك ، ولا هز ، وذل في طلب الرقد وقد عز ، وما برح أن رجع إلى وطنه الذي اعتاده ، رجوع الحديث إلى قتاده .
شعره
قال في التاد ، وقد أثبت من نزعاته ، وبعض مخترعاته ، ما يدل على سعة باعه ، ونهضة ذراعه . فمن النسيب قوله :
ما للمحب دواء يذهب الألما . . . عنه سوى لمم فيه ارتشاف لما
ولا يرد عليه نوم مقلته . . . إلا الدنو إلى من شفه سقما
يا حاكماً والهوى فينا يؤيده . . . هواك في بما ترضاه قد حكما
أشغلتني بك شغلاً شاغلا . . . فلما تناسى فديتك عني بعد ذاك لما(3/321)
"""""" صفحة رقم 322 """"""
ملكت روحي فأرفق قد علمت بما . . . يلقى ولا حجة تبقى لمن علما
ما غبت عني إلا غاب عن بصري . . . بدراً إذا لاح يجلى نوره الظلما
ما لحت لي فدنا طرفي لغيرك يا مولى لحا فيه جفني النوم قد حرما
طوعاً لطيعك لا أعصيك فافض بما . . . ترضاه أرضى بما ترضى ولا جرما
إن الهوى يقتضي ذلاً لغيرك لو . . . أفادني فيك قرباً يبرد الألما
سلمت من كل عيب يا محمد لا . . . كن قلب صبك من عينيك ما سلما
ومن مخاطباته الأدبية . ما كتب به إلى شيخ الصوفية ببلده مع طالع من ولده :
مماليكم قد زاد فيكم مرابع . . . من الأفق الكوني باليمن طالع
بأنواركم يهدي إلى سبل الهدى . . . ويسموا لما تسمو إليه المطالع
فواسوه منكم بالدعاء فإنه . . . مجاب بفضل الله للخلق نافع
أفاض عليه الله من بركاتكم . . . وأبقاكم ذو العرش ماجن ساجع
فوقع له الشيخ المخاطب بها . أبو جعفر بن الزيات رحمه الله ، بما نصه :
عسى الله يؤتيه من العلم حصة . . . تصوب على الألباب منها ينابع
ويجعله طرفاً لكل سجية . . . مطهرة للناس فيها منافع
ويلحقه في الصالحات بجده . . . فيثنى عليه الكل دان وشاسع
وذو العرش جل إسما عميم نواله . . . وخير الورى في نص ما قلت شافع
فما أنت دوني يا أباه مهنأ به . . . فالسرور الكل بابنك جامع
وله يستدعى إلى الباكور :
بدار بدار قد آن البدار . . . إلى أكواس باكور تدار
تبدت رافلات في مسوح . . . له لون الدياجي مستعار
وقد رقمت بياضاً في سواد . . . كأن الليل خالطه النهار
وقد نضجت وما طبخت بنار . . . وهل يحتاج للباكور نار
ولا تحتاج مضغاً لا وليس . . . عجيب لا يشق له غبار
فقل للخلق قل للضرس دعني . . . ففي البلع اكتفاء واقتصار(3/322)
"""""" صفحة رقم 323 """"""
ومما وقع له أثناء مقامات تشهد باقتداره ، مقطوعة سهلة وهي :
رعى الله عهداً حوى ما حوى . . . لأهل الوداد وأهل الهوى
أرهم أموراً حلا وردها . . . وأعطاهم السؤل كيف نوا ولما حلا الوصل صالوا له . . . وراموه ملواً وما روا
وأوردهم سراً سرارهم . . . وروداً إلى الكل ذا دوا
وما أمل طال إلا وها . . . ولا أمل صال إلا هوا
وقال يرثي ديكاً فقده ، ويصف الوجد الذي وجده ، ويبكي من عدم إذانه ، إلى غير ذلك من مستطرف شأنه :
أوودي به الحتف لما جاءه الأجل . . . ديكاً فلا عوض منه ولا بدل
قد كان لي أمل في أن يعيش فلم . . . يثبت مع الحتف في بغيالها أمل
فقدته فلعمري إنها عظة . . . وبالواعظ تذري دمعها المقل
كأن مطرف وشى فوق ملبسه . . . عليه من كل حسن باهر حلل
كأن إكليل كسرى فوق مفرقه . . . وتاجه فهو عالي الشكل محتفل
مؤقت لم يكن بطريق ل خطأ . . . فيما يرتب من ورد ولا خطل
كأن زرقيل فيما مر علمه . . . علم المواقيت فيما رتب الأول(3/323)
"""""" صفحة رقم 324 """"""
يرحل الليل يحيى بالصراخ فما . . . يصده كلل عنه ولا ملل
رأيته قد وهنت منه القوى فهوى للأرض فعلا يريه الشارب الثمل
لو يفتدي بديوك الأرض قل له . . . ذاك الفدا ولكن فاجأ الأجل
قالوا الدواء فلم يغن الدوام ولم . . . ينفعه من ذاك ما قالوا وما فعلوا
أملت فيه ثواباً أجر محتسب . . . إن قلت ذاك صح القول والعمل
وأمره السلطان أبو عبد الله سادس الملوك النصريين في بعض أسفاره ، وقد نظر إلى شلير . وتردى بالثلج وتعمم ، وكمل ما أراد من بزته وتمم ، أن ينظم أبياتاً في وصفه ، فقال بديهة :
وشيخ جليل القدر طال عمره . . . وما عنده علم بطول ولا قصر
عليه لباس أبيض باهر السنا . . . وليس بثوب أحكمته يد البشر
وطوراً تراه كله كاسياًُ به . . . وكسوته فيها لأهل النهي عبر
وطوراً ثراه عارياً ليس يشتكي . . . لحر ولا برد من الشمس والقمر
وكم مرت الأيام وهو كما ترى . . . على حاله لم يشك ضعفاً ولا كبر
فذاك شلير شيخ غرناطة التي . . . لبهجتها في الأرض ذكر قد انتشر
بها ملك سامي المراقي أطاعه . . . كبار ملوك الأرض في حالة الصغر
تولاه رب العرش منه بعصمة . . . تقيه مدى الأيام من كل ما ضرر
نثره
ونثره كثير ما بين مخاطبات وخطب ومقطعات ولعب ، وزرديات شأنها عجب . فمن ذلك ما خاطب به الرئيس أبا سعيد بن نصر يستجدي أضحية :(3/324)
"""""" صفحة رقم 325 """"""
يقول شاكر الأيادي ، وذاكر فخر كل نادي ، وناشر غرر الغرر لعاكف والبادي ، والرايح والغادي ، إسمعوا مني حديثاً تلذه الأسماع ، ويستطرفه الاستماع . ويشهد بحسه الإجماع . ويجب عليه الاجتماع . وهو من الأحاديث التي لم تتفق إلا لمثلي ولا ذكرت عن أحد قبلي . وذلك يا معشر الألبا ، والخلصاء الأحبا . أني دخلت في هذه الأيام داري . في بعض أدواري ، لأقضي من أخذ الغذاء أوطاري . على حسب أطواري . فقالت لي ربة البيت ، لم جئت . وبما أتيت . قلت جيت لكذا كذا فهات الغدا ، فقالت لا غذا لك عندي اليوم . ول أودى بك الصوم . حتى تسل الاستخارة ، وتفعل كما فعل زوج الجارة ، طيب الله نجاره . وملأ بالأرزاق وجاره . قلت وما فعل قريني . وأرني من العلامة ما أحببت أن تريني . قالت إنه فكر في العيد . ونظر في أسباب التعييد . وفعل في ذلك ولم تنظر إليه نظرة بعين اهتبالك . وعيد الأضحى في اليد . والنظر ف يشراء الأضحية اليوم أوفق من الغد . قلت صدقت ، وبالحق نطقت ، بارك الله فيك ، وشكر جميل تحفيك . فلقد نبهت بعلك لإقامة السنة ، ورفعت عنه من الغفلة منة . والآن أسير لأبحث عما ذكرت . وأنظر في إحضار ما إليه أشرت ، ويتأتى ذلك إن شاء الله بسعدك . وتنالين فيه من بلوغ الأمر غاية قصدك . والجد ليس من الهزل ، والأضحية للمرأة وللرجل الغزل . قالت دعني من الخرافات . وأخبار الزرافات . فإنك حلو اللسان ، قليل الإحسان . تخذت الغربة صحبتك إلى ساسان . فتهاونت بالنسا ، وأسأت فيمن أسا . وعودت أكل خبزك في غير منديل . وإيقاد الفتيل دون قنديل ، وسكنى الخان ، و عدم ارتفاع الدخان ، فما تقيم موسما ، ولا تعرف له ميسما . وأخذت معي في ذلك بطويل وعريض ، وكلانا في طرفي نقيض ، إلى أن قلت لها إزاركوردائي ، فقد تفاقم بك أمر دائي ، وما أظنك إلا بعض أعدائي ، قالت مالك والإزار ، شط بك المزار ، لعلك تريد إهانه في الأضحية والأبزار ، أخرج عني بيا مقيت ، لا عمرت معك ولا بقيت ، أو عدمت الذين ، وأخذ الورق بالعين . يلزمني صوم سنة ، لا أغفيت معك سنة ، إلا إن رجعت بمثل ما رجع به زوج جارتي ، ورأى لك الربح في تجارتي . فقمت عنها وقد لوت رأسها وولولت ، وابتدرت وهرولت ، وجالت في العتاب وصولت ، وضمت بنتها وولدها ، وقامت باللجج ، والانتصار بالحجج أودها ، فلم يسعني إلا أن عدوت أطوف السكك والشوارع ؛ وأبارد لما غدوت بسبيله وأسارع ، وأجوب الآفاق ، وأسل الرفاق ، وأخترق الأسواق ، وأقتحم زريبة بعد زريبة ، وأختبر منها البعيدة والقريبة ، فما استرخصته استنقصته ، وما استغليته استعليته ، وما وافق غرضي ، اعترضني دونه عدم عرضي ، حتى انقض ثلثا يومي ، وقد عييت بدوراني وهومي ، وأنا لم أتحصل من(3/325)
"""""" صفحة رقم 326 """"""
الابتياع على فايدة ، ولا عادت علي فيه من قضاء الأرب عايدة ، فأومأت الإياب ، وأنا أجد من خوفها ، ما يجد صغار الغنم من الذئاب ، إلى أن مررت بقصاب يقصب في مجزره ، قد شد في وسطه مئزره ، وقصر أثوابه حتى كشف عن ساقيه ، وشمر عن ساعديه حتى أبدى مرفقيه ، وبين يديه عنز قد شد يديه في رقبته ، وهو يجذبه فيبرك ، ويجره فما يتحرك ، ويروم سيره فيرجع القهقرى ، ويعود إلى ورا ، والقصاب يشد على إزاره ، خيفة من فراره ، وهو يقول : اقتله من جان باغ ، وشيطان طاغ ، ما أشده وما ألذه ، وما أصده ، وما أجده ، وما أكثره بشحم ، وما أطيبه بلحم ، الطلاق يلزمه ، إن كان عاين تيساً مثله أو أضحية تشبهه قبله ، أضحية حفيلة ، ومنحة جليلة . هنأ الله من رزقها ، وأخلف عليه رزقها . فاقتحمت المزدحم ، أنظر مع من نظر ، وأختبر فيمن اختبر . وأنا والله لا أعرف في التقليب والتخمين . ولا أفرق بين العجف والسمين ، غير أني رأيت صورة دون البغل وفوق الحمار ، وهيكلا يخبرك عن صورة العمار ، فقلت للقصاب كم طلبك فيه ، على أن تمهل الثمن حتى أوفيه ، فقال ابغني فيه أجيرا ، وكن له الآن من الذبح مجيرا ، وخذه بما يرضى ، لأول التقضي . قلت استمع الصوت ، ولا تخف الفوت . قال ابتعه مني نسيه وخذه هدية ، قلت نعم ، فشق لي الضمير ، وعاكسني فيه بالنقير والقطمير . قال تضمن لي فيه عشرين ديناراً أقبضها منك لانقضاء الحول دنيراً دنيراً . قلت إن هذا لكثير ، فاسمح منه بإحاطة اليسير . قال والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، لا أنقصك من هذا ، وما قلت لك سمسمة ، اللهم إن شئت السعة في الأجل ، فأقضي لك ذلك دون أجل ، فجلبني للابتياع منه ، الإنساء في الأمد . وغلبني بذلك فلم أفتقر منه لرأى والد ولا ولد ، ولا أحوجت نفسي في ذلك لمشورة أحد ، وقلت قد اشتريته منك ، فضع البركة ، ليصح النجح في الحركة . فقال فقيه ، بارك الله فيه ، قد بعته لك ، فاقبض متاعك ، وثبت ابتياعك . وها هو في قبضك ، فاشدد وثاقه ، وهلم لنعقد عليك الوثاقة . فانحدرت معه لدكان التوثيق ، وابتدرت من السعة إلى الضيق ، وأوثقني بالشادة تحت عقد وثيق ، وحملني من ركوب الدين ولحاق الشين في أوعر طريق . ثم قال لي هذا تيسك فشأنك وإياه ، وما أظنك إلا تعصياه ، وأت بحمالين أربعة ، فإنك لا تقدر أن ترفعه ، ولا يتأتى لك أن يتبعك ولا أن تتبعه ، ولم يبق لك من الكلفة إلا أن يحصل في محلك ، فيكمل سرور أهلك . وانطلقت للحمال ، وقلت هلم إلي ، وقم الآن بين يدي ، حتى انتهينا إلى مجزرة القصاب ، والعنز يطلب فلا يصاب ، فقلت أين التيس يا أبا أويس . قال إنه قد فر ، ولا أعلم حيث استقر . قلت أتضيع علي مالي ، لتخيب آمالي ، والله لا يحزنك بالعصا كمن عصا ، ولا رفعتك إلى الحكام ، تجري عليك منهم الأحكام . قال مالي علم به ، ولا بمنقلبه ، لعله فر لأمه وأبيه ، وصاحبته(3/326)
"""""" صفحة رقم 327 """"""
وبنيه ، فعليك بالبريح . فاتجهت أنادي بالأسواق ، وجيران الزقاق ، من ثقف لي تيساً فله البشارة ، بعد ما أتى بالأمارة ، وإذا برجل قد خرج من دهليز ، وله هدير هزيز ، وهو يقول من صاحب العنز المشوم ، لا عدم به الشوم ، إن وقعت عليه عيني ، يرتفع الكلام بينه وبيني . قلت أنا صاحبه فما الذي دهاك مني أو بلغك عني . قال إن عنزك حين شرد ، خرج مثل الأسد ، وأوقع الرهج في البلد ، وأضر بكل أحد ، ودخل في دهليز الفخارة ، فقام فيه وقعد ، وكان العمل فيه مطبوخاً ونيا ، فلم يترك منه شيا ، ومنه كانت معيشتي ، وبه استقامت عيشتي ، وأنت ضامن مالي ، فارتفع معي إلى الوالي ، والعنز مع هذا يدور وسط الجمهور ، ويكر كرة العفريت المزجور ، ويأتي بالكسر على ما بقي في الدهليز من الطواجن والقدور ، والخلق قد انحسروا للضجيج ، وكثر العياط والعجيج وأنت تعرف عفرطة الباعة ، وما يحوون من الوضاعة ، وأنا أحاول من أخذه ما أستطيع ، وأروم الإطاعة من غير مطيع ، والباعة قد أكسبته من الحماقة ، ما لم يكن لي به طاقة . ورجل يقول المحتسب ، واعرف ما تكتسب ، وإلى من تنتسب ، فقد كثر عنده بك التشكي ، وصاحب الدهليز قبالته يبكي ، وقد وجد عنده عليك وجد الشكوى ، وأيقن أنك كسرت الدعوى ، وأمر بإحضارك ، وهو في انتظارك ، فشد وسطك ، واحفظ إبطك ، وإنك تقوم على من فتح باعه للحكم على البقعة ، ونصب لأرباب البراهين على أرباب الشواهين ، ورفع على طبقة ، ليملأ طبقة ، ثم أمسكني باليمين ، حتى أوصلني للأمين ، فقال لي أرسلت التيس للفساد كأنك في نعم الله من الحساد . قلت إنه شرد ، ولم أدر حيث ورج ، قال ولم لا أخذت ميثاقه ، ولم تشدد وثاقه ، يا شرطى طرده ، واطرح يدك فيه وجرده . قلت أتجردني الساعة ، ولست من الباعة ، قال لا بد من ذاك أو تضمن ما أفسده هناك . قلت الضمان الضمان ، الأمان الأمان . قال قد أمنت إن ضمنت ، وعليك الثقاف ، حتى يقع الإنصاف ، أو ضامن كاف ، فابتدر أحد إخواني ، بعض جيراني ، فأدى عني ما ظهر بالتقدير ، وآلت الحال للتكدير . ثم أردت الانصراف بالتيس ، لا كان كيانه ، ولا كون مكانه ، وإذا بالشرطي قد دار حولي ، وقال لي كلف فعلي بأداء جعلي ، فقد عطلت من أجلك شغلي ، فلم يك عندي بما تكسر سورته ، ولا بما تطفي جمرته ، فاسترهن مئزري في بيته ليأخذ مايته . وتوجهت لداري ، وقد تقدمت أخباري ، وقدمت بغباري ، وتغير صغاري وكباري ، والتيس على كاهل الحمال ، يرغو كالبعير ، ويزأر كالأسد إذا فصلت العير ، فقلت للحمال إنزله على مهل ، فهلال العيد قد استهل ، فحين طرحه في الأسطوان . كر إلى العدوان ، وصرخ كالشيطان ، وهم أن يقفز الحيطان ، وعلا فوق الجدار ، وأقام الرهجة في الدار ، ولم تبق في الزقاق عجوز إلا وصلت لتراه ، وتسل عما اعتراه ، وتقول بكم اشتراه ، والأولاد قد دارت به ،(3/327)
"""""" صفحة رقم 328 """"""
وأرهقهم لهفه ، ودخل قلوبهم خوفه ، فابتدرت ربة البيت ، وقالت كيت وكيت ، لا خل ولا زيت ، ولا حي ولا ميت ، ولا موسم ولا عيد ، ولا قريب ولا بعيد ، سقت العفريت إلى المنزل ، ورجعت بمعزل ، ومن قال لك اشتره ، ما لم تره ، ومن قال لك سقه حتى توثقه ، ومتى تفرح زوجتك ، والعنز أضحيتك ، ومتى تطبخ القدور وولدك منه معذور ، وبأي قلب تأكل الشوية ، ولم تخلص لك فيه النية واقلة سعدها ، وأخلف وعدها ، والله لو كان العنز يخرج الكنز ، ما عمر لي داراً ، ولا قرب لي جواراً أخرج عني يا لكع ، فعل الله بك وصنع ، وما حبسك عن الكباش السمان ، والضأن الرفيعة الأثمان ، يا قليل التحصيل ، يا من لا يعرف الخياطة ولا التفصيل ، أدلك على كبش سمين ، واسع الصدر والجبين ، أكحل عجيب ، أقرن مثل كبش الخطيب ، يعبق من أوداكه كل طيب ، يغلب شحمه على لحمه ، ويسيل الودك من عظمه ، قد علف بالشعير ، ودبر عليه أحسن تدبير ، لا بالصغير ولا بالكبير ، تصلح منه الألوان ، ويستطرف شواه في كل أوان ، ويستحسن ثريده وقديده في سائر الأحيان ، قلت بيني لي قولك . لأتعرف فعلك . وأين توجد هذه الصفة ، يا قليلة المعرفة . قالت عند مولانا ، وكهفنا ومأوانا الرييس الأعلى ، الشهاب الأجلى ، القمر الزاهر . الملك الظاهر ، الذي أعز المسلمين بنعمته ، وأذل المشركين بنقمته . واسترسل في المدح فأطال وفيما ثبت كفاية . عني يا لكع ، فعل الله بك وصنع ، وما حبسك عن الكباش السمان ، والضأن الرفيعة الأثمان ، يا قليل التحصيل ، يا من لا يعرف الخياطة ولا التفصيل ، أدلك على كبش سمين ، واسع الصدر والجبين ، أكحل عجيب ، أقرن مثل كبش الخطيب ، يعبق من أوداكه كل طيب ، يغلب شحمه على لحمه ، ويسيل الودك من عظمه ، قد علف بالشعير ، ودبر عليه أحسن تدبير ، لا بالصغير ولا بالكبير ، تصلح منه الألوان ، ويستطرف شواه في كل أوان ، ويستحسن ثريده وقديده في سائر الأحيان ، قلت بيني لي قولك . لأتعرف فعلك . وأين توجد هذه الصفة ، يا قليلة المعرفة . قالت عند مولانا ، وكهفنا ومأوانا الرييس الأعلى ، الشهاب الأجلى ، القمر الزاهر . الملك الظاهر ، الذي أعز المسلمين بنعمته ، وأذل المشركين بنقمته . واسترسل في المدح فأطال وفيما ثبت كفاية .
وفاته
في كاينة الطاعون ببلده بلش في أواخر عام خمسين وسبعماية ودفن بها .
عبد الله بن الحجاري الصنهاجي
عبد الله بن إبراهيم بن وزمر الحجاري الصنهاجي الأديب المصنف ، يكنى أبا محمد .
حاله وأوليته
أبوه أديب مدينة الفرج بوادي الحجارة ، المصنف للمأمون بن ذي النون كتاب مغنيطاس الأفكار فيما تحتوي عليه مدينة الفرج من النظم والنثر(3/328)
"""""" صفحة رقم 329 """"""
والأخبار ، وكان أبو محمد هذا ماهراً ، كاتباً ، شاعراً ، رحالا . سكن مدينة شلب ، بعد استيلاء العدو على بلاده بالثغر . وله في التحول أشعار وأخبار . قدم غرناطة ، وقصد عبد الملك بن سعيد صاحب القلعة من بنياتها ، واستأذن عليه في زي موحش ، واستخف به القاعدون ببابه ، إلى أن لاطف بعضهم ، وسأله أن يعرف به القايد ، فما بلغ عنه ، أمر بإدخاله ، فأنشده قصيدة مطلعها :
عليك أحالني الذكر الجميل . . . فجيت ومن ثنايك لي دليل
أتيت ولم أقدمك من رسول . . . لأن القلب كان هو الرسول
منها في وصف زيه البدوي المستقل وما في طيه :
ومثلني بدن فيه خمر . . . يخفف بها ومنظره ثقيل
فأكرم نزله ، وأحسن إليه ، وأقام عنده سنة ، حتى ألف بالقلعة كتاب المسهب في غرايب المغرب ، وفيه التنبيه على الحلى البلادية والعبادية . وانصرف إلى قصد ابن هود بورطة ، بعد أن عذله عن التحول عنه ، فقال النفس تواقة ، ومالي بالتغرب طاقة ، ثم أفكر وقال :
يقولون لي مإذا الملال تقيم في . . . محل فعند الأنس تذهب راحلا
فقلت لهم مثل الحمام إذا شدا . . . على غصن أمسى بآخر نازلا
نكبته
قال علي بن موسى بن سعيد : ولما قصد الحجارى روطة ، وحل لدى أميرها المستنصر بن عماد الدولة بن هود . وتحرك لغزو من قصده من(3/329)
"""""" صفحة رقم 330 """"""
البشكنس ، فهزم جيشه ، وكان الحجارى أحد من أسر في تلك الوقيعة ، فاستقر ببسقاية ، وبقي بها مدة ، يحرك ابن هود بالأشعار ويحثه على خلاصه من الإسار ، فلم يجد عنده ذمامة ، ولا تحرك له اهتمامه ، فخاطب عبد الملك بن سعيد بقوله :
أصبحت في بسقاية مسلماً . . . إلى الأعادي لا أرى مسلماً
مكلفاً ما ليس في طاقتي . . . مصفدا منتهرا مرغما
أطلب بالخدمة وا حسرتي . . . وحالتي تقضي بأن أخدما
فهل كريم يرتجي للأسير . . . يفكه أكرم به منتما
وقوله :
أرييس الزمان أغفلت أمري . . . وتلذذت تاركاً لي بأسر
ما كذا يعمل الكرام ولكن . . . قد جرى على المعود دهري
فجتهد في فدايه ، ولم يمر شهر إلا وقد تخلص من أسره ، واستقر لديه . فكان طليق آل سعيد . وفيهم يقول : وحدنا سعيداً منجباً خير عصبة . . . هم في بني أعصارهم كالمواسم
مشنفة أسماعهم بمدايح . . . مسورة أيمانهم بالصوارم
فكم لهم في الحرب من فضل ناثر . . . وكم لهم في السلم من فضل ناظم
تواليفه
تواليف الحجارى بديعة ، منها الحديقة في البديع . وهو كتاب مشهور ، ومنها المسهب في غرايب المغرب . وافتتح خطبته بقوله : الحمد لله الذي جعل العباد من البلاد بمنزلة الأرواح من الأجساد ، والأسياف من الأغماد . وهو في ستة مجلدات .(3/330)
"""""" صفحة رقم 331 """"""
عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن سعيد ابن الخطيب السلماني
يكنى أبا محمد .
أوليته ، تنظر في اسم جده .
حاله
حسن السكل . جيد الفهم ، يغطى منه رماد السكون جمرة حركة ، منقبض عن الناس . قليل البشاشة ، حسن الخط ، وسط النظم . كتب عن الأمراء بالمغرب ، وأنشدهم ، واقتضى خلعهم وصكوكهم بالإقطاع والإحسان . ثم لما كانت الفتنة ، كتب عن سلطان وطنه ، معزز الخطة بالقيادة ، وأنشدهم .
مشيخته
قرأ على قاضي الجماعة ، الشيخ الأستاذ الخطيب أبي القاسم الحسني ، والأستاذ الخطيب أبي سعيد فرج بن لب التغلبي ، واستظهر بعض المبادي في العربية ، واستجيز له من أدركه ميلاده من أهل المشرق والمغرب .
شعره
مترفع عن الوسط إلى الإجادة ، بما يكفله عذر الحداثة ، وقد ثبت في اسم السلطان لهذا العهد ، أبي عبد الله بن نصر ، أيده الله ، ما يدل على جودة قريحته ، وذكاء طبعه . ومما دون الذي ثبت له حيث ذكر قوله :
لمن طلل بالرقمتين محيل . . . عفت دمنتيه شمأل وقبول
يلوح كباقي الوشم غيره البلى . . . وجادت عليه السحب وهي همول(3/331)
"""""" صفحة رقم 332 """"""
فيا سعد مهلاً بالركاب لعلنا . . . نسايل رعاً فالمحب سئول
قف العيس ننظر نظرة تذهب الأسى ويشفى بها بين الضلوع غليل
وعرج على الوادي المقدس بالحمى . . . فطاب لديه مربع ومقيل
فيا حبذا تلك الديار وحبذا . . . حديث بها للعاشقين طويل
دعوت لها سقيا الحمى عندما سرى . . . وميض وعرف للنسيم عليل
وأرسلت دمعي للغمام مساجلاً . . . فسال على الخدين منه مسيل
فأصبح ذاك الربع من بعد محله . . . رياضاً بها الغصن المروح يميل
لين حال رسم الدار عما عهدته . . . فعهد الهوى في القلب ليس يحول
ومما شجاني بعد ما سكن الهوى . . . بكاء حمامات لهن هديل
توسدن فرع البان والنجم مايل . . . وقد آن من جيش الظلام رحيل
فيا صاحبي دع عنك لومي فإنه . . . كلام على سمع المحب ثقيل
تقول اصطباراً عن معاهدك الأني . . . وهيهات صبري ما إليه سبيل
فلله عيناً من رآني وللأسا . . . غداة استقلت بالخليط حمول
يطاول ليل التم مني مسهد . . . وقد بان عني منزل وخليل
فيا ليت شعري هل يعودن ما مضى . . . وهل يسمحن الدهر وهو بخيل
نثره
أجابني لما خاطبت الجملة من الكتاب ، والسلطان رضي الله عنه ، بالمنكب ، في رحلة أعملها بما نصه : ولله من فذة المعاني ، حيث مشوق الفؤاد عاني ، لما أنارت بها المغاني ، غنين عن مطرب الأغاني ، يا صاحب الإذعاني ، أجب بالله من دعاني ، إذا صرت من كثرة الأماني ، بالشوق والوجد مثل ماني . وردت سحات سيدي التي أنشأت لغمام الرحمة ، عند اشتداد الأزمة رياحاً ، وملأت العيون محاسناً ، الصدور انشراحاً ، وأصبح رحيب قرطاسها ، وعميم فضلها ونوالها ، وأيناسها لفرسان البلاغة ، مغدى ومراحاً . فلم أدر أصحيفة نسخت مسطورة ، أم روضة نفحت ممطورة ، أطيب من المسك منشقا ، وأحسن من السلك متسقا ، فملكتها مقادة خاطري ، وأودعتها سواد قلبي وناظري ، وطلعت علي طلوع الصبح ، على عقب السرى ، وخلصت خلوص الخيال مع سنة الكرى . فلله ما جلبت من أنس ، وأذهبت لطايفة الشيطان من مس ، وهاجت من(3/332)
"""""" صفحة رقم 333 """"""
الشوق ، الذي شب عمره عن الطوق ، والوجد الذي أصبح وارى الزند . فأقسم بباري النسيم ، وواهب الحظوظ والقسم ، لو أعطيت للنفس مقادتها ، وسوغها إرادتها ، ما قنعت بنيابة القرطاس والمداد ، عن مباشرة الأرواح والأجساد ، وإن أعرضت عقبة للشعير ، ورأس المزاد وشمخ بأنفه وزاد ، وما بين ذلك من علم باذخ ، وطود شامخ ، قد أذكرت العقاب عقابه ، صافحت النجوم هضابه ، قد طمح بطرفه ، وشمخ بأنفه ، وسال الوقار على عطفه :
ملكت عنان الريح راحته . . . فجيادها من تحته تجري
وأما الحمل الهايج ، والبحر المتمايج ، والطلل المايل ، والذنب الشايل ، فمساجلة مولاي في ذلك المجال ، من المحال ، إذ العبد قصاراه ألفاظ مركبة ، غير مرتبة :
هو جهد المقل وافاك مني . . . إن جهد المقل غير قليل
وأقرأ على مولاي ، أبقاه الله ، سلاما عميماً ، تنسم روضه نسيماً ، ورف نظره ، وعبق شميماً ، والأوفر الأذكى منه عليه معادا ، ما سفح السحاب إرعادا ، وأبرق الغمام رعدا والحسام أبعادا ، ورحمة الله وبركاته . من عبده الشبق لوجهه ، عبد الله بن الخطيب ، في الخامس عشر لجمادى الأولى عام تسعة وستين وسبعماية .
مولده : بحضرة غرناطة ، يوم السبت سابع عشر صفر عام ثلاثة وأربعين وسبعماية . ؟
عبد الله بن محمد بن ساره البكري
شنترينى ، سكن ألمرية وغرناطة ، وتردد مادحاً ومنتجعاً شرقاً ومغرباً ويضرب في كثير من البلاد .(3/333)
"""""" صفحة رقم 334 """"""
حاله
كان ذا حظ صالح من النحو واللغة ، وحفظ الأشعار ، أديباً ماهراً ، شاعراً مجيداً ، مطبوع الاختراع والتوليد . تجول في شرق الأندلس وغربها ، معلماً للنحو ، ومادحاً ولاتها ، وكتب عن بعضهم ، وتعيش بالوراقة زمانا ، وكان حسن الخط ، جيد النقل والضبط .
؟ مشيخته
روى عن أبي الحسن بن الأخضر .
من روى عنه : روى عنه أبو بكر بن مسعود ، وأبو جعفر بن الباذش ، وأبو عثمن بن هرون ، وأبو الطاهر التميمي ، وأبو العباس بن علي اللص ، وأبو العلاء بن الجنان . وأبو محمدبن يوسف القضاعي ، وإبراهيم بن محمد السبتي .
؟ شعره
وشعره كثير جيد شهير . منه في حرفة الوراقة قوله :
أما الوراقة فهي أيكة حرفة . . . أغصانها وثمارها الحرمان
شبهت صاحبها بإيرة خايط . . . يكسو العراة وظهره عريان
وقال في نجم الرحيم ، وهو من التشبيه العقيم :
وكوكب أبصرالعفريت مسترقاً . . . فانقضى يذكي سريعاً خلفه لهبه
كفارس حل إخصاراً عمامته . . . تجرها كلها من خلفه عدبه
وقال منه في المواعظ :
يا من يصيخ إلى داعي السفاه وقد . . . نادى به الناعيان الشيب والكبر
إن كنت لا تسمع الذكر ففيم ترى . . . في رأسك الواعيان السمع والبصر(3/334)
"""""" صفحة رقم 335 """"""
ليس الأصم ولا الأعمى سوى رجل . . . لم يهده الهاديان العين والأثر
لا الدهر يبقى على حال ولا الفلك . . . الأعلى ولا النيران الشمس والقمر
لأرحلن عن الدنيا ولو كرهاً . . . فراقها الثاويان البدو والحضر
وقال في موت ابنة له :
ألا يا موت كنت بنا رؤوفا . . . فجددت السرور لنا بزورة
حمدنا سعيك المشكور لما . . . كفيت مؤنة وسترت عورة
فأنكحنا الضريح بلا صداق . . . وجهزنا العروس بغير شورة
وفاته
توفي عبد الله بن ساره سنة تسع عشرة وخمسمائة .
عبد الله بن محمد الشراط
يكنى أبا محمد ، من أهل مالقة .
حاله طالب جليل ، ذكي ، مدرك ، ظريف ، كثير الصلف والختروانة والإزراء بمن دونه ، حاد النادرة ، مرسل عنان الدعابة ، شاعر مكثر ، يقوم على الأدب والعربية ، وله تقدم في الحساب ، والبرهان على مسايله . استدعى إلى الكتابة بالباب السلطاني ، واختص بولي العهد ، ونيط به من العمل ، وظيف نبيه ، وكاد ينمو عشبه ، ويتأشب جاهه ، لو أن الليالي أمهلته ، فاعتبط لأمد قريب من ظهوره ، وكانت بينه وبين الوزير أبي عبد الله بن الحكيم ، إحنة ، تخلصه الحمام لأجلها ، من كف انتقامه .(3/335)
"""""" صفحة رقم 336 """"""
شعره
وشعره كثير ، لكني لم أظفر منه إلا باليسير . نقلت من خط صاحبنا القاضي المؤرخ أبي الحسن بن الحسن ، من نظم أبي محمد الشراط ، في معنى ، كان أدباء عصره ، قد كلفوا بالنظم فيه ، يظهر من هذه الأبيات في شمعة :
وكنت ألفت قبل اليوم إلفاً . . . أنادي مرة فيجيب ألفاً
وكنا مثل وصل العهد وصلا . . . وكنا مثل وصف الشهد وصفا
ففرق بيننا صرف الليالي . . . وسوغنا كؤس البين صرفا
فصرت غداة يوم البين شمعا . . . وسار فصار كالفسل المصفا
فدمعي لا يتم أسى وجسمي . . . يغص بنار وجدي ليس يطفا
ثم في المعنى أيضاً :
حالي وحالك أضحت آية عجبا . . . إن كنت مغربا أو كنت مغتربا
إذا دنوت فإني مشعر طرباً . . . وإن نأيت فإني مشعل لها
كذاك الشمع لا تنفك حالته . . . إلا إلى الناس مهما فارق الضربا
ومن ذلك أيضاً :
رحلتم وخلفتم مشوفكم نسيا . . . رهين هيام لا يموت ولا يحيا
فضاقت على الأرض واعتاص مذهبي . . . وما زلت في قومي ولا ضاقت الدنيا
وما باختيار شتت الدهر بيننا . . . وهل يملك الإنسان من أمره شياً
فذا أضلعي لم تخب من أجلكم جوى . . . وذا أدمعي لم تأل من بعدكم جريا
كأنني شمع في فؤاد وأدمع . . . وقد فارقت من وصلكم ريا
وذكر لي ، أن هذا صدر عنه في مجلس أنس مع الوزير أبي عبد الله ابن عيسى بمالقة ، بحضرة طايفة من ظرفاء الأدباء .
وفاته
كان حيا سنة سبعمائة ، وتوفي بغرناطة ، وهي على حاله من الكتابة ، رحمه الله .(3/336)
"""""" صفحة رقم 337 """"""
عبد الله بن يوسف بن رضوان بن يوسف بن رضوان النجاري
يكنى أبا القاسم ، ويعرف باسم جده ، من أهل مالقة ، وصاحب القلم الأعلى لهذا العهد بالمغرب .
حاله
هذا الفاضل نسيج وحده ، فهماً وانطباعاً ، ولوذعية ، مع الدين والصون ، معم ، مخول في الخير ، مستول على خصال حميدة ، من خط وأدب وحفظ ، مشارك في معارف جملة . كتب ببلده عدلاً رضي ، وأنشد السلطان عند حلوله ببلده . ورحل عن بلده إلى المغرب ، فارتسم في كتابة الإنشاء بالباب السلطاني ، ثم بان فضله ، ونبه قدره ، ولطف محله ، وعاد إلى الأندلس ، لما جرت على سلطانه الهزيمة بالقيروان ، ولم ينتشله الدهر بعدها مع جملة من خواصه . فلما استأثر الله بالسلطان المذكور ، موسوم التمحيص ، وصير أمره إلى ولده بعده ، جنح إليه ، ولحق ببابه ، مقترن الوفادة ، بيمن الطاير ، وسعادة النصبة ، مظنة الاصطناع ، فحصل على الحظوة ، وأصبح في الأمد القريب ، محلا للبث وجليساً في الخلوة ، ومؤتمنا على خطة العلامة ، من رجل ناهض بالكل ، جلد على العمل ، حذر من الذكر ، متقلص ذيل الجاه ، متهيب ، غزير المشاركة ، مطفف في حقوق الدول ، عند انخفاض الأسعار ، جالب لسوق الملك ما ينفق فيها ، حار النادرة . مليح التندير ، حلو الفكاهة . غزل مع العفة ، حافظ للعيون ، مقدم في باب التحسين والتنقيح ، لم ينشب الملك أن أنس منه بهذه الحال ، فشد عليه يد الغبطة . وأنشب فيه فيه براثن الأثرة ، ورمى إليه بمقاليد الخدمة ، فسما مكانه ، وعلا كعبه ، ونما عشه . وهو الآن بحاله الموصوفة ، من مفاخر قطره . ومناقب وطنه ، كثر الله مثله .
مشيخته قرأ ببلده على المقري أبي محمد بن أيوب ، والمقري الصالح أبي عبد الله المهندس ، والأستاذ أبي عبد اله بن أبي الجيش ، والقاضي أبي جعفر بن عبد الحق ، وروى عن الخطيب المحدث أبي جعفر الطنجالي ، والقاضي أبي(3/337)
"""""" صفحة رقم 338 """"""
بكر بن منظور . وبغرناطة عن جلة ، منهم شيخنا رئيس الكتاب أبو الحسنى ، ولازم بالمغرب الرييس أبا محمد عبد المهيمن الحضرمي ، والقاضي أبا إسحق إبراهيم بن أبي يحيى ، وأبا العباس بن بربوع السبتي . وبتلمسان عن أبي عبد الله الآبلي ، وأبي عبد الله بن النجار وغيرهما . وبتونس عن قاضي الجماعة أبي عبد الله بن السلام . وعن جماعة غيرهم .
شعره
ونظمه ونثره متجاريان لهذا العهد في ميدان الإجادة . أما شعره فمتناسب الوضع ، سهل المأخذ ، ظاهر الرواء ، محكم الإمرة للتنقيح . وأما نثره فطريف السجع ، كثير الدالة ، مطيع لدعوة البديهة ، وربما استعمل الكلام المرسل ، فجرى يراعه في ميدانه ملئ عنانه .
وجرى ذكره في التاج أيام لم يفهق حرضه ، ولا أزهر روضه ، ولا تباينت سماؤه ولا أرضه . بما نصه : أديب أحسن ما شا ، وفتح قليبه فملأ الدلو وبل الرشا . وعانى على حداثته الشعر والإنشا ، وله ببلده بيت معمور بفضل وأمانة ، ومجد وديانة . ونشأ هذا الفاضل على أتم العفاف والصون . فما مال إلى فساد بعد الكون . وله خط بارع . وفهم إلى الغوامض مسارع . وقد أثبت من كلامه ، ونفثات أقلامه ، كل محكم العقود ، زارياً بنت العنقود . فمن ذلك قصيدة أنشدها للسلطان أمير المسلمين ، مهنيا بهلاك الأسطول الحربي بالزقاق الغربي ، أجاد أغراضها وسبك المعاني وراضها ، وهي قوله :
لعلكما أن ترعيا لي وسايلا . . . فبالله عوجا بالركاب وسايلا
بأوطان أوطار قفا ومآربى . . . وبالحب خصا بالسلام المنازلا
ألا فانشدا بين القباب من الحما . . . فؤاد شد أضحي عن الجسم راحلا(3/338)
"""""" صفحة رقم 339 """"""
وبثا صباً بات هنالك واشرحا . . . لهم من أحاديثي عرضاً وطايلا
رعى الله مثواكم على القرب والنوى . . . ولا زال هامي السحب في الربع هاملا
وهل لزمان باللوى سقى اللوى . . . مآرب فما ألقى مدى الدهر حايلا
فحظي بعيد الدار منه بقربه . . . ويورد فيه من مناه مناهلا
وحملني من صرفه ما يؤدني . . . ومكن مني الخطوب شواغلا
عتبت عله فاغتدى لي عاتبا . . . وقال اصخ لي لا تكن لي عاذلا
أتعتبني إذ قد أفدتك موقفا . . . لدى أعظم الأملاك حلماً ونايلا
مليك جاه الله بالخلق الرضا . . . وأعلى له في المكرمات المنازلا
مليك علا فوق السماك فطرفه . . . غدا كهلال الأفق يبصرنا علا
إذا ما دجا ليل الخطوب فبشره . . . صباح وبدر لا يرى الدهر آفلا
نماه من الأنصار غر أكابر . . . لهم شيم ملء الفضاء فضايلا
تلوا سور النعماء في حزبهم كما . . . جلوا صور الأيام غراً جلايلا
تسامت لهم في المعلوات مراتب . . . يرى زحل دون المراتب زاحلا
عصابة نصر الله طابت أواخرا . . . كما قد زكت أصلا وطابت أوايلا
لقد كان ربع المجد من قبل خالياً . . . ومن آل نصر عاد يبصر آهلا
إذا يوسف منهم تلوح يمينه . . . تقول سحاب الجود والبأس هاطلا
كتايبه في الفتح تكتب أسطرا . . . تبين من الأنفال فيها المسايلا
عوامله بالحذف تحكم في العد . . . كما حكموا في حذف جزم عواملا
يبدد جمع الكفر رعبا وهيبة . . . كما بددت منه اليمين النوافلا
ومنها في وصفه الأسطول واللقاء :
ولما استقامت بالزقاق أساطل . . . واستقلت للعود محافلا
رآها عدو الله فانفض جمعه . . . وأبصر أمواج البحار أساطلا
ومن دهش ظن السواحل أبحرا . . . ومن رعب خال البحار سواحلا(3/339)
"""""" صفحة رقم 340 """"""
ومن جندكم هبت عليه عواصف . . . تدمر أدناها الصلاب الجنادلا تفرقهم أيدي سبا وتبيدهم . . . فقد خلفت فيهم حساما وذابلا
وعهدي بمر الريح للنار موقدا . . . فقد أطفأت تلك الحروب المشاعلا
وكان لهم برد العذاب ولم يكن . . . سلاماً وما كادوه قد عاد باطلا
حداهم هواهم للإسار وللفنا . . . فما أفلتوا من ذا وذاك حبايلا
فهم بين عان في القيود مصفد . . . وفان عليه السيف أصبح صايلا
ستهلك ما بالبر منهم جنودكم . . . كما أهلكت من كان بالبحر عاجلا
وقال أيضاً يمدحه :
نشرت لواء النصر واليمن والسعد . . . وأطلعت وجه اليسر والأمن والرفد
أعدت لنا الدنيا نعيماً ولذة . . . ألا للمعالي ما تعيد وما تبد
بنوركم والله يكلأ نوركم . . . تبدت لنا سبل السعادة والرشد
تحلى لكم بالملك نحر ولبة . . . فراق كذاك الجيد يزدان بالعقد
مآثركم قد سطرتها يد العلا . . . على صفحات الفخر أو مفرق الحمد
بمدحكم للقرآن أثنى منزلا . . . وقد حزتم مجدا بجدكم سعد
كفاكم فخارا أنه لكم أب . . . ومن فخره إن أنت تدعوه بالجد
ثناؤكم هذا أم المسك نافح . . . وذكركم أم عاطر العنبر الورد
أجل ذكركم أزكى وأذكى لناشق . . . كما أنكم أجلى وأعلا لمشهد
طلعتن على الآفاق نورا وبهجة . . . فما أنت إلا البدر في طالع السعد
وفي جملة الأملاك عز ورفعة . . . ودم في خلود الملك والنصر والسعد
ولو أثنى فقت سجان وايل . . . وأربيت في شعري على الشاعر الكند
لما قمت بالمعشار من بعض مالكم . . . من الجود والأفضال والبذل والرفد
وقال في شيخه أبي بكر بن منظور رحمه الله .
جلالك أولى بالعلا المخلد . . . وذكرك أعلى الذكر في كل مشهد
لمجدك كان العز يذخر والعلى . . . وأنك للأولى بأرفع سؤدد
أبي الله إلا أن تكون مشرفاً . . . بمقعد خير العالمين محمد(3/340)
"""""" صفحة رقم 341 """"""
فهنيت بالفخر السني محله . . . وهنيت بالمجد الرفيع المجدد
شهدت بما أوليتني من عوارف . . . وخولت من نعمى وأسديت من يد
وما حزت من مجد كريم نجاره . . . وما لك من مجد ورفعة محتد
لقد نبأتني بالرواح لعزكم . . . مخايل إسعاد تروح وتغتد
تحدثني نفسي وإني لصادق . . . بأن سوف تلقى كاملا كل مقصد
دليلي بهذا أنك الماجد الذي . . . تسامى علوا فوق كل ممجد
ليفخر أولو الفخر المنيف بأنكم . . . لهم علم أعلى به الكل مقتدي
إمام علوم معتلي القدر لم يزل . . . رداء المعالي والعوارف يرتد
وقاض إذا الأحكام أشكل أمرها . . . جلا لها برأي الحقيقة مرشد
إذا الحق أبدى نوره عند حكمه . . . رأيت له حد الحسام المهند
وإن جميع الخلق في الحق عنده . . . سواسية ما بين دان وسيد
هنياً لنا بل للقضاء وفضله . . . بقاض حليم في القضاء مسدد
أمات به الرحمن كل ضلالة . . . وأحيا بما أولاه شرعة أحمد
وكاين تراه لا يزال ملازما . . . لأمر بعرف أو لزام بمسجد
وما زال قدماً للحقيقة حاميا . . . وللشرعة البيضاء يهدي ويهتدي
ويمنح أفضالا ويولى أيادياً . . . وإحسانه للمعتفين بمرصد
يقيد أحراراً بمنطق جوده . . . فما إن يني عن مطلق أو مقيد
نعم إن يكن للفضل شخص فإنما . . . بشيمته الغراء في الفضل يبتدي
أيا ناثراً أسى المعارف والغنا . . . ويا طارقا يطوي السرى كل فدفد
ألا الق عصا التسيار واعش لناره . . . تجد خر نار عندها خير موقد
ومن مقطوعاته وقوله : تبرأت من حولي إليك وأيقنت . . . برحماك آمالي فصح يقيني
فلا أرهب الأيام إذ كنت ملجأي . . . وحسبي يقيني باليقين يقيني(3/341)
"""""" صفحة رقم 342 """"""
ومن شعره لهذا العهد منقولا من خطه ، قال مما نظمه فلان ، يعني نفسه في كتاب الشفا ، نفع الله به :
سل بالعلى وسنى المعارف يبهر . . . هل زانها إلا الأيمة معشر
وهل للمفاخر غير ما شهدت به . . . آي الكتاب وخارتها الأعصر
هم ما هم شرفاً ونيل مراتب . . . يوم القيام إذا يهول المحشر
ورثوا الهدى عن خير مبعوث به . . . فخراً هديهم للنعيم الأكبر
وعياض الأعلى قداحاً في العلى . . . منهم وحوله الفخار الأظهر
بشفايه تشفى الصدور وإنه . . . لرشاد نار به الشهاب النير
هو للتوالف روح صورتها وقل . . . هو تاج مفرقها البهي الأنور
أفنت محاسنه المدايح مثل ما . . . لمعيده بعد الثناء الأعطر
وله اليد البيضاء في تأليفه . . . عند الجميع ففضلها لا ينكر
هو مورد الهيم العطاش هفت . . . بهم أشواقهم فاعتاض منه المصدر
فبه ننال من الرضى ما نبتغي . . . وبكونه فينا نغاث ونمطر
أنظر إليه تميمة من كل ما . . . تخشى من الخطب المهول وتحذر
لكأنني بك يا عياض مهنأ . . . بالفوز والملأ العلي مبشر
لكأنني بك يا عياض منعما . . . بجوار أحمد يعتلي بك مظهر
لكأنني بك يا عياض متوجاً . . . تاج الكرامة عند ربك تخبر
لكأنني بك راوياً من حوضه . . . إذا لا صدى ترويه إلا الكوثر
فعلى محبته طويت ضمايرا . . . وضحت شواهدها بكتبك تؤثر
ها إنهن لشرعة الهادي الرضا . . . صدف يصان بهن منها جوهر
فجزاك رب العالمين تحية . . . يهب النعيم سريرها والمنبر
وسقى هزيم الودق مضجعك الذي . . . ما زال بالرحمي يؤم ويعمر(3/342)
"""""" صفحة رقم 343 """"""
وقال في محمل الكتب :
أنا الحبر في حمل العلوم وإن تقل . . . بأني حلى عن حلاهن تعدل
أقيد ضروب العلم ما دمت قايما . . . وإن لم أقم فالعلم عن بمعزل
خدمت بتقوى الله خير خليفه . . . فبوأني من قربه خير منزل
أبا سالم لا زال في الدهر سالما . . . يسوغ من شرب المنا كل منهل
وكان قد رأى ليلة الاثنين الثانية لجمادى الأولى عام ستين وسبعماية في النوم ، كأن الوزير أبا علي بن عمر بن يخلف بن عمران الفدودي ، يأمره أن يجيب عن كلام من كتب إليه . فأجاب عنه بأبيات نظمها في النوم ، ولم يحفظ منها غير هذين البيتين :
وإني لأجزى بما قد أتاه . . . صديقي احتمالا لفعل الحرفاء
بتمكين ود وإثبات عهد . . . وإجزال حمد وبذل حياء
ومن نظمه في التورية :
وبخيل لما دعوه لسكني . . . منزل بالجنان ضن بذاك
قال لي مخزن بداري فيه . . . جل ما لي فلست للدار شاك
لا تعرج على الجنان بسكني . . . ولتكن ساكناً بمخزن مالك
ومن ذلك أيضا :
يا رب منشأة عجبت لشأنها . . . وقد احتوت في البحر أعجب شان
سكنت بجنبها عصابة شدة . . . حلت محل الروح في الجثمان
فتحركت بإرادة مع أنها . . . في حسنها ليست من الحيوان(3/343)
"""""" صفحة رقم 344 """"""
وجرت كما قد شاء سكانها . . . فعلمت أن السر في السكان
ومن ذلك أيضاً قوله :
وذي خدع دعوه لاشتغال . . . وما عرفوه غثاً من سمين
فأظهر زهده وغنى بمال . . . وجيش الحرص منه في كمين
وأقسم لا فعلت بمن خب . . . فيا عجباً لخلاف مهين
يقد بسيره ويمين حلف . . . ليأكل باليسار وباليمين
شيء من نثره
خاطبته من مدينة سلا بما نصه ، حسبما يظهر من غرضه :
مرضت فأيامي لذاك مريضة . . . وبرؤك مقرون برئ اعتلالها فما راع ذاك الذات للضر رائع . . . ولا وسمت بالقسم غر خلالها
وينظر باقي الرسالة في خبر التعريف بمؤلف الكتاب فراجعني عن ذلك بما نصه :
متى شيت ألفي من علايك كل ما . . . ينيل من الآمال خير منالها
كبر اعتلال من دعايك زارني . . . وعادات بر لم ترم عن وصالها
أبقى الله ذلك الجلال الأعلى متطولاً بتأكيد البر ، متفضلاً بموجبات الحمد والشكر . وردتني سماة سيدي المشتملة على معهود تشريفه ، وفضله الغنى عن تعريفه ، متحفياً في السؤال عن شرح الحال ، ومعلناً ما تحلى به من كرم الخلال ، والشرف العال ، والمعظم على ما يسر ذلك الجلال ، الوزاري ، الرياسي ، أجراه الله على أفضل ما عوده ، كما أعلى في كل مكرمة يده ، ذلك ببركة دعايه الصالح ، وحبه(3/344)
"""""" صفحة رقم 345 """"""
المخيم بين الجوانح . والله سبحانه المحمود على نعمه ، ومواهب لطفه وكرمه ، وهو سبحانه المسئول أن يسنى لسيدي قرار الخاطر ، على ما يسره في الباطن والظاهر . بمن الله وفضله ، والسلام على جلاله الأعلى ورحمة الله وبركاته . كتبه المعظم الشاكر ، الداعي المحب ، ابن رضوان وفقه الله .
ومما خاطبني به ، وقد جرت بيني وبين المتغلب على دولتهم ، رقاع ، فيها سلم وإيقاع ما نصه : يا سيدي الذي علا مجده قدرا وخطرا ، وسما ذكره في الأندية الحافلة ثناء وشكرا ، وسما فخره في المراتب الدينية والدنيوية حمداً وأجراً ، أبقاك الله جميل السعي ، أصيل الرأي ، سديد الرمي ، رشيد الأمر والنهى ، وممدوحاً من بلغاء زمانك ، بما يقصر بالنوابغ والعشي ، مفتوحاً لك باب القبول ، عند الواحد الحق . وصلني كتابك الذي هو للإعجاز آية ، وللإحسان غاية ، ولشاهد الحسن تبريز ، ولثوب الأدب تطريز ، وفي النقد إبريز ، وقفت منه على ما لا تفي العبارة بعجايبه ، ولا يحيد الفضل كله عن مذاهبه ، من كل أسلوب طار في الجو إعراباً وإغراباً ، وملك من سحر البيان خطاباً ، وحمد ثناه مطالاً وحديثاً مطاباً ، شأن من قصر عن شأو البلغاء ، بعد الإغياء ، ووقف دون سباق البديع بعد الإعياء ، فلم يشق غباره ، ولا اقتفيت إلا بالوهم آثاره ، فلله من سيدي إتحاف سر ما شاء ، وأحكم الإنشاء ، وبر الأكابر والإنشاء ، فما شئت من إفصاح وكتابة ، وبر ورعاية ، وفهم وإفهام ، وتخصيص وإبهام ، وكبح لطرف النفس وقمع ، وخفض في الجواب ورفع ، وتحرج وتورع ، وترقص وتوسع ، وجماع وأصحاب ، وعتب وإعتاب ، وإدلال على أحباب ، وإلى غير ذلك من أنواع الأغراض ، والمقاصد السالمة جواهرها من الأعراض ، جملة جمعت المحاسن ، وأمتعت السامع والمعاين ، وحلت من امتناعها مع السهولة الحرم ، إلا من زاد الله تلك المعارف ظهوراً ، وجعلها في شرع المكارم هدى ونوراً . وأما شكر الجناب الوزاري ، أسماه الله ، بحكم النيابة عن جلالكم ، فقد أبلغت فيه حمدي ، وبذلت ما عندي ، وودي لكم ودي ، ووردي لكم من المخالصة لكم وردي ، وكل حالات ذلك الكمال ، مجمع على تفضيله ، معتمد من الثناء العاطر بإجماله وتفصيله . وأما مؤديه إليكم أخي وسيدي الفقيه المعظم ، قاضي الحضرة وخطيبها ، أبو الحسن ، أدام الله عزته ، وحفظ أخوته ، فقد قرر من أوصاف كمالاتكم ، ما لا تفي بتقريره الأمثلة من أولى العلم بتلك السجايا الغر ، والشيم الزهر ، وما تحليتم به من التقوى والبر ، والعدل والفضل ، والصبر والشكر ، ولحمل المتاعب في أمور الجهاد ، وترك الملاذ والدعة في مرضاة(3/345)
"""""" صفحة رقم 346 """"""
رب العباد ، والإعراض عن الفانية ، والإقبال على الباقية ، فيا لها من صفات خلعت السعادة عليكم مطارفها ، وأجزلت عوارفها ، وجمعت لكم تالدها وطارفها ، زكى الله ثوابها وجدد أثوابها ، ووصل بالقبول أسبابها . وذكر لي أيضاً من حسناتكم ، المنقبة الكبيرة ، والقربة الأثيرة ، في إقامة المارستان بالحضرة ، والتسبب في إنشاء تلك المكرمة المبتكرة ، التي هي من مهمات المسلمين بالمحل الأعلى ، ومن ضروريات الدين بالمزية الفضلى ، وما ذخره القدر لكم من الأجر ، في ذلك السعي المشكور ، والعمل المبرور ، فسرني لتلك المجادة ، إحراز ذلك الفضل العظيم ، والفوز بثوابه الكريم ، وفخره العميم . ومعلوم ، أبقكم الله ، ما تقدم من ضياع الغربا ولاضعفا ، من المضي فيما سلف هنالك ، وقبل ما قدر لهم من المرتفق العظيم وبذلك ، حتى أن من حفظ قول عمر رضي الله عنه ، والله لو ضاعت نخلة بشاطئ الفرات ، لخفت أن يسأل الله عنها عمر . لا شك في أن من تقدم من أهل الأمر هنالكم ، لا بد من سؤاله عمن ضاع لعدم القيام بهذا الواجب المغفل . والحمد لله على ما خصكم به من مزية قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ' إذا أراد الله بخليفة خيراً ، جعل ل وزيراً صالحاً ، إن نسي ذكره ، وإن ذكر أعانه ' . وأما كتاب المحبة فقد وقف المعظم على ما وجهتهم منه ، وقوفاً ظهر بمزية التأمل ، وعلم منه ما ترك للآخر للأول ، ولم يشك في أن الفضل للحاكي ، وشتان بين الباكي والمتباكي . حقا لقد فاق التأليف جمعاً وترتيباً ، وذهب في الطرق الصوفية مذهباً عجيباً . ولقد بهرت معانيه كالعرائس المجلوة حسناً ونضارة ، وبرعت بدايعه وروايعه سنى وإنارة ، وألفاظاً مختارة ، وكؤوسا مدارة ، وغيوثاً من البركات مدرارة ، أحسن بما أدته تلك الغرر السافرة ، والأمثال السايرة ، والخمايل الناظرة ، واللآلئ المفاخرة ، والنجوم الزاهرة . وأما إنه لكتاب تضمن زبدة العلوم ، وثمرة الفهوم ، وإن موضعه للباب اللباب ، وخلاصة الألباب ، وفذلكة الحساب ، وفتح الملك الوهاب ، سنى الله لكم ولنا كماله ، وبلغ الجميع منا آماله ، وجعل السعي فيه(3/346)
"""""" صفحة رقم 347 """"""
خالصاً لوجهه ، وكفيلاً بمعرفته بمنه وكرمه ، وهو سبحانه يبقى بركتكم ، ويكلأ ذاتكم الكريمة وحوزتكم ، بفضله وطوله وقوته والسلام الكريم يخصكم به كثيراً أثيراً ، معظم مقداركم ، وملتزم إجلالكم وإكباركم ، ابن رضوان ، وفقه الله ، وكتب في الثامن والعشرين لرجب من عام سبعة وستين وسبعمائة .
وهو الآن بحاله الموصوفة ، أعانه الله . وله تردد إلى حضرة غرناطة ، واجتياز وإلمام .
؟ ؟
عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الملك بن سعيد بن خلف بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن الحسن بن عثمان بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن عمار ين ياسر
غرناطي ، قلعي الأصل ، سكن مالقة .
حاله
قال صاحب الطالع هو المشهور باليربطول . زاد على أخيه بخفة الروح ، وطيب النوادر ، واختار سكنى مالقة ، فما زال بها ، يمشي على كواهل ما تعاقب فيها من الدول ، ويقلب طرفه ، مما نال من ولاياتها ، بين الخيل والخول ، حتى أن ابن عسكر ، قاضى مالقة وعالمها ، كان من جملة من مدحه ، وتوسل به إلى بلوغ أغراضه عند القوم ، وصنف له شجرة الأنساب السعيدية . وكان قبيح المنظر ، مع كونه من رياحين الفضل والأدب . فمن الحكايات المتعلقة بذلك ، أنه كونه من رياحين الفضل والأدب . فمن الحكايات المتعلقة بذلك ، أنه دخل يوماً على الوالي بغرناطة ، السيد أبي إبراهيم ، وجعل يساره ، وكان مختصاً به ، واقتضى ذلك أن رد ظهره للشيخ الفقيه الجليل ، عميد البلدة ، أبي الحسن سهل بن مالك ، ثم التفت فرد وجهه إليه ، وقال اعتذر لكم بأمر ضروري فقال أبو الحسن ، إنما تعتذر لسيدنا ، فانقلب المجلس ضحكاً . ومنها أنه خرج إلى سوق الدواب مع ابن يحيى الحضرمي(3/347)
"""""" صفحة رقم 348 """"""
المشهور أيضاً بخفة الروح ، وكان مسلطاً على بني سعيد ، فبينما هو واقف ، إذ النخاس ينادي على فرس ، فم يشرب من القادوس ، وعين تحصد بالمنجل ، فقال له يا قايد أبا محمد ، سر بنا من هنا لئلا تؤخذ من يدي ، ولا أقدر لك بحيلة ، فعلم مقصده ، ولم يخفف عليه أن تلك صورته ، فقال سل جارتك عنها ، فمضى لأمه ، وأوقع بينها وبينه ، فحلف أن لا يدخل عليها الدار . قال أبو عمران بن سعيد ، واتفق أن جزت بدار أم الحضرمي ، فرأيته إلى ناحية ، وهو كثيب منكسر ، فقلت له ما خبرك يا أبا يحيى ، فقال لي عن أمه وعن نفسه ، النساء يرمين أبناء الزنا صغارا ، وهذه العجوز الفاعلة الصانعة ، ترميني ابن خمسين سنة ، فقلت له وما سبب ذلك ، فقال ابن عمك يوسف الجمال ، لا أخذ الله له بيد ، فما زلت حتى أصلحت بينها وبينه .
ومن نوادر أجوبته المسكتة ، أنه كان كثير الخلطة بمراكش لأحد السادة ، لا يفارقه ، إلى أن ولي ذلك السيد ، وتمول ، واشتغل بدنياه عنه ، فقيل له ، نرى السيد فلاناً أصرب عن صحبتك ومنادمتك ، فقال ، كان يحتاج إلى وقتاً كان يتبخر بي ، وأما اليوم فإنه يتبخر بالعود والند والعنبر . وقال له شخص كان يلقب بفسيوات في مجلس خاص ، أي فائدة في اليربطول ، وفيم ذا يحتاج إليه ، فقال له لا تقل هذا ، فإنه يقطع رايحة الفسا ، فود أنه لم ينطق . وتكلم شخص من المترفين فقال ، أمس بعنا الباذنجان التي بدار خالتي ، بعشرين مثقالا ، فقال لو بعتم الكريز التي فيها لساوي أكثر من ماية . وأخباره شهيرة ، قال أبو الحسن علي بن موسى ، وقعت في رسايل الكاتب الجليل ، شيخ الكتاب أبي زيد الفازازي ، على رسايل في حق أبي محمد اليربطول ، ومنه إليه ، فمنها في رسالة عن السيد أبي العلاء صاحب قرطبة ، إلى أخيه أبي محمد اليربطول ، ومنه إليه ، فمنها في رسالة عن السيد أبي العلاء صاحب قرطبة ، إلى أخيه أبي موسى صاحب مالقة ، ويصلكم به إن شاء الله ، القايد الأجل الأكرم ، الحسيب الأمجد الأنجد ، أبو محمد أدام الله كرامته ، وكتب سلامته ، وهو الأكيد الحرمة ، القديم الخدمة ، المرعى الماتة والذمة المستحق البر في وجوه كثيرة ، ولمعان أثيرة ، منها أنه من عقب عمار بن ياسر رضوان الله عليه ، وحسبكم هذا مجداً مؤثلاً ، وشرفاً موصلاً ، ومنها تعين بيته وسلفه ، واختصاصهم من النجابة والظهور ، بأنوه الإسم وأشرفه ، وكونهم بين معتكف على مضجعه ، أو مجاهد بمرهفه ومثقفه ، ومنها سبقهم إلى هذا الأمر العزيز ، وتميزهم بأثرة الشفوف والتمييز ، ومنها سبقهم إلى هذا الأمر العزيز ، وتميزهم بأثرة الشفوف والتمييز ، ومنها الانقطاع إلى أخيكم ، ممد مورده ومصدره ، وكرم مغيبه ومحضره ، وهذه وسايل شتى ، وأذمة قل ما تتأتى لغيره .(3/348)
"""""" صفحة رقم 349 """"""
وفاته
كانت وفاته بمالقة بعد عشرين وستماية ، قال الرييس ، أبو عمر بن حكم ، شاهدته قد وصل إلى السيد أبي محمد البياسي أيام ثورته ، وهو بشنتلية مع وفد مالقة بالبيعة سنة ثنتين وعشرين وستماية .
ومن الصوفية والفقراء
عبد الله بن عبد البر بن سليمن بن محمد بن أشعث الرعيني
من أهل أرجدونه من كورة ريه ، يكنى أبا محمد ، ويعرف بابن أبي المجد .
حاله
كان من أعلام الكور سلفاً ، وترتباً ، وصلاحاً ، وإنابة ، ونية في الصالحين ، متسع الذرع للوارد ، كثير الإيثار بما تيسر ، مليح التخلق ، حسن السمت ، طيب النفس ، حسن الظن ، له حظ من الطلب ، من فقه وقراءات وفريضة ، وخوض في طريقة الصوفية ، وأدب لا بأس به ، قطع عمره خطيباً وقاضياً ببلده ، ووزيراً ، وكتب بالدار السلطانية ، في كل ذلك لم يفارق السداد .
مشيخته
قرأ على الأستاذ الجليل أبي جعفر بن الزبير . رحل إليه من وطنه عام اثنين وتسعين وستماية ، ولازمه وانتفع به ، أخذ عنه الكتاب العزيز والعربية ، وسمع عليه الكثير من الحديث ، وعلى الخطيب الصوفي المحقق أبي الحسن فضل بن محمد بن فضيلة المعافري ، وعلى الخطيب المحدث أبي عبد الله محمد بن عمر بن رشيد ، وسمع على الشيخ القاضي الراوية أبي محمد النبعي ، والوزير المعمر(3/349)
"""""" صفحة رقم 350 """"""
المحدث الحسيب أبي محمد عبد المنعم بن سماك العاملي ، والعدل الراوية أبي الحسن بن مستقور . وقرأ بمالقة على الأستاذ أبي بكر بن الفخار ، وأجازه من أهل المشرق طائفة .
شعره
مما حدثني ابن أخته صاحبنا أبو عثمن بن سعيد . قال نظم الفقيه القاضي الكاتب أبو بكر بن شبرين ببيت الكتاب مألف الجملة ، رحمهم الله ، هذين البيتين :
ألا يا محب المصطفى زد صبابة . . . وضمخ لسان الذكر منه بطيبه
ولا تعبأن بالمبطلين فإنما . . . علامة حب الله حب حبيبه
فأخذ الأصحاب في تذييل ذلك . فقال الشيخ أبو الحسن بن الجياب رحمه الله :
فمن يعمر الأوقات طراً بذكره . . . فليس نصيب في الهدى كنصيبه
ومن كان عنه معرضاً طول دهره . . . فكيف يرجيه شفيع ذنوبه
وقال أبو القاسم بن أبي القاسم بن أبي العافية :
أليس الذي جلى دجا الجهل هديه . . . بنور أقمنا بعده نهتدي به
ومن لم يكن من دأبه شكر منعم . . . فمشهده في الناس مثل مغيبه
وقال أبو بكر بن أرقم :
نبى هدانا من ضلال وحيرة . . . إلى مرتقى سامي المحل خصيبه
فهل يذكر الملهوف فضل مجيره . . . ويغمط شاكي الداء شكر طبيبه
وانتهى القول إلى الخطيب أبي محمد بن أبي المجد فقال رحمه الله مذيلاً كذلك :
ومن قال مغروراً حجابك ذكره . . . فذلك مغمور طريد عيوبه
وذكر سول الله فرض مؤكد . . . وكل محق قايل بوجوبه(3/350)
"""""" صفحة رقم 351 """"""
وقال يوماً شيخنا أبو الحسن بن الجياب هذين البيتين على عادة الأدباء في اختيار الأذهان :
جاهد النفس جاهدا فإذا ما . . . فنيت عنك فهي عين الوجود وليكن حكمك المسدد فيها . . . حكم سعد في قتله لليهود
قال ، فأجابه أبو محمد بن أبي المجد :
أيها العارف المعبر ذوقا . . . عن معان غزيرة في الوجود
إن حال الفنا عن كل غير . . . لمقام المراد غير المريد
كيف لي بالجهاد غير معان . . . وعدوه مظاهر بجنود
ولو أني حكمت فيمن ذكرتم . . . حكم سعد لكنت جد سعيد
فأراها صبابة بي فتوناً . . . وأراني في حبها كيزيد
سوف أسلو بحبكم عن سواها . . . ولو أبدت فعل المحب الودود
ليس شيء سوى إلآهك يبقى . . . واعتبر صدق ذا بقول لبيد
وفاته
توفي رحمه الله ، ليلة النصف من شعبان المكرم عام تسعة وثلاثين وسبعماية . وكان يجمع الفقراء ويحضر طائفتهم ، وتظهر عليه حال ، لا يتمالك معها ، وربما أوحشت من لا يعرفه بها .
عبد الله بن فارس بن زيان
من بني عبد الوادي ، تلمساني يكنى أبا محمد ، وينتمي إلى بني زيان من بيت أمرائهم .(3/351)
"""""" صفحة رقم 352 """"""
كذا نقلت من خط صاحبنا الفقيه القاضي أبي الطاهر قاضي الجماعة أبي جعفر بن جعفر بن فركون ، وله بأحواله عناية ، وله إليه تردد كثير وزيارة . قال ورد الأندلس مع أبيه ، وهو طفل صغير ، واستقر بقتورية في ديوان غزانها . ولما توفي أبوه ، سلك مسلكه برهة ، ورفض ذلك ، وجعل يتردد بين الولد ، وانقطع لشأنه .
حاله
هذا الرجل غريب النزعة في الانقطاع عن الخلق ، ينقطع ببعض جبال بني مشرف ، واتخذ فيها كهوفاً وبيوتاً من الشعر أزيد من أربعين عاماً ، وهلم جرا ، منفردا ، لا يداخل أجدا ، ولا يلابسه من العرب ، ويجعل الحلفاء في عنقه أختلف فيه ، فمن ناسب ذلك إلى التلبيس وإلى لوثة تأتيه ، وربما أثاب بشيء ، ويطلبون دعاه ومكالمته ، فربما أفهم ، وربما أبهم .
محنته
ذكروا أنه ورث عن أخ له ما لا غنياً ، وقدم مالقة ، وقد سرق تاجر بها ذهباً عينا ، فاتهم بها ، فجرت عليه محنة كبيرة من الضرب الوجيع ، ثم ظهرت براءته ، وطلب الحاكم الجاير منه العفو ، فعفا عنه ، وقال لله عندي حقوق وذنوب ، لعل بهذا أكفرها ، وصرف عليه المال فأباه ، وقال لا حاجة لي به مال سوء ، وتركه وانصرف ، وكان من أمر انقطاعه ما ذكر .
شيء من أخباره : استفاض عنه بالجهة المذكورة شفاء المرضى ، وتفريج الكربات إلى غير ذلك من أخبار لا تحصى كثيرة . وهو إلى هذا العهد بحاله الموصوفة ، وهو عام سبعين وسبعماية .
مولده : بتلمسان عام تسعين وستماية . ودخل غرناطة غير ما مرة .
عبد الله بن فرج بن غزلون اليحصبي
يعرف بابن العسال ، ويكنى أبا محمد ، طليطلي الأصل . سكن غرناطة واستوطنها ، الصالح المقصود التربة ، المبرور البقعة ، المفزع لأهل المدينة عند الشدة .(3/352)
"""""" صفحة رقم 353 """"""
حاله
قال ابن الصيرفي ، كان رحمه الله ، فذا في وقته ، غريب الجود ، طرفاً في الخير والزهد والورع ، له في كل جو متنفس ، يضرب في كل علم بسهم ، وله في الوعظ تواليف كبيرة ، وأشعاره في الزهد مشهورة ، جارية على ألسنة الناس ، أكثرها كالأمثال جيدة الرصعة ، صحيحة المباني والمعاني . وكان يلحق في الفقه . ويجلس للوعظ . وقال الغافقي ، كان فقيهاً جليلاً ، زاهداً ، متفنناً ، فصيحاً لسنا ، الأغلب عليه مطبوعا . كان له مجلس ، يقرأ عليه فيه الحفظ والتفسير ، ويتكلم عليه ، ويقص من حفظه أحاديث . وألف في أنواع من العلوم ، وكان يغظ الناس بجامع غرناطة ، غريباً في وقته ، فذا ي دهره ، عزيز الوجود .
مشيخته
روى عن أبي محمد مكي بن أبي طالب ، وأبي عمرو ، المقري الداني ، وأبي عمر بن عبد البر ، وأبي إسحق إبراهيم بن مسعود الإلبيري الزاهد ، وعن أبيه فرج ، وعن أبي زيد الحشا القاضي ، وعن القاضي أبي الوليد الباجي .
شعره
وشعره كثير ، ومن أمثل ما روى منه قوله :
لست وجيهاً لدي إلهي . . . في مبدإ الأمر والمعاد
لو كنت وجيهاً لما براني . . . في عالم الكون والفساد
وفاته توفي رحمه الله يوم الاثنين لعشر خلون من رمضان عام سبعة وثمانين وأربعمائة وألحد ضحى يوم الثلاثاء بعده بمقبرة باب إلبيرة بين الجبانتين . ويعرف المكان إلى الآن بمقبرة العسال . وكان له يوم مشهود ، وقد نيف على الثمانين رحمه الله ، ونفع به .
ومن الملوك والأمراء والأعيان والوزراء
عبد الرحمن بن عبد الله بن معاوية بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية ، أمير المؤمنين الناصر لدين الله
الخليفة الممتع ، المجدود ، المظفر ، البعيد الذكر ، الشهير الصيت .(3/353)
"""""" صفحة رقم 354 """"""
حاله
كان أبيض ، أشهل ، حسن الوجه ، عظيم الجسم ، قصير الساقين . أول من تسمى أمير المؤمنين ، ولي الخلافة ، فعلا جده ، وبعد صيته ، وتوطأ ملكه ، وكأن خلافته كانت شمسا نافية للظلمات ، فبايعه أجداده وأعمامه وأهل بيته ، على حداثة السن ، وجدة العمر ، فجدد الخلافة ، وأحيا الدعوة ، وزين الملك ، ووطد الدولة ، وأجرى الله له من السعد ، ما يعظم عنه الوصف ، ويجل عن الذكر ، وهيأ له استنزال الثوار والمنافقين ، واجتثاث جراثيمهم .
بنوه : أحد عشر ، منهم الحكم الخليفة بعده ، والمنذر ، وعبد الله ، وعبد الجبار .
حجابه : بدر مولاه ، وموسى بن حدير .
قضاته : جملة منهم أسلم بن عبد العزيز ، وأحمد بن بقي ، ومنذر ابن سعيد البلوطي .
نقش خاتمة : عبد الرحمن بقضاء الله راض .
أمه : أم ولد تسمى مزنة . وبويع له في ربيع الأول من سنة تسع وتسعين ومائتين .
دخوله إلبيره
قال المؤرخ ، أول غزوة غزاها بعد أن استحجب بدرا مولاه ، وخرج إليها يوم الخميس رابع عشرة ليلة خلت من شعبان سنة ثلاثمائة مفوضاً إليه ، ومستدعياً نصره ، واستيلاف الشاردين ، وتأمين الخايفين إلى ناحية كورة جيان ، وحصن المنتلون ، فاستنزل منه سعيد بن هذيل ، وأناب إليه من كان نافراً عن الطاعة ، مثل ابن اللبانة وابن مسرة ودحون الأعمى ، وانصرف إلى قرطبة ، وقد تجول ، وأنزل كل من بحصن من حصون كورة جيان . وبسطة وناجرة وإلبيرة وبجانة(3/354)
"""""" صفحة رقم 355 """"""
والبشرة وغيرها بعد أن عرض نفسه عليها . وعلى عهده توفي ابن حفصون . وجرت عليه هزيمة الخندق في سنة سبع وعشرين وثلاثماية ، وطال عمره ، فملك نيفا وخمسين سنة ، ووجد بخطه ، أيام السرور التي صفت لي دون كدر يوم كذا ويوم كذا ، فعدت ، فوجدت أربعة عشر يوماً .
وفاته
في أول رمضان من سنة خمسين وثلاثمائة .
عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن الناصر لدين الله بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية
يكنى أبا المطرف ، ويلقب بالمرتضى .
حاله وصفته
كان أبيض أشقر أقنى ، مخفف البدن ، مدور اللحية ، خيراً ، فاضلاً ، من أهل الصلاح والتقى ، قام بدولته خيران العامري ، بعد أن كثر السؤال عن بني أمية ، فلم يجد فيهم أسداً للخلافة منه ، بورعه وعفافه ، ووقاره ، وخاطب في شأنه ملوك الطوائف على عهده ، فاستجاب الكل إلى الطاعة ، بعد أن جمع الفقهاء والشيوخ ، وجعلوها شورى ، وانصرفوا يريدون قرطبة ، وبدأوا بصنهاجة بالقتال ، فكان نزوله بجبل شقشتر على محجة واط .
وفاته
يوم الثلاث خلون من جمادى الأولى سنة تسع وأربعمائة . وكانت الهزيمة على عساكر المرتضى ، فتركوا المحلات وهربوا ، وفشي فيهم القتل ، وظفرت صنهاجة من المتاع والأموال ، بما يأخذه الوصف ، وقتل المرتضى في تلك الهزيمة ، فلم يوقع له على أثر ، وقد بلغ سنه نحو أربعين .(3/355)
"""""" صفحة رقم 356 """"""
عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس
يكنى أبا المطرف ، وقيل أبا زيد ، وقيل أبا سليمن ، وهو الداخل إلى الأندلس ، والمجدد الخلافة بها لذريته ، والملقب بصقر بني أمية .
حاله قال ابن مفرج ، كان الأمير عبد الرحمن بن معاوية ، راجح العقل ، راسخ العلم ، ثابت الفهم ، كثير الحزم ، فذ العزم ، بريئاً من العجز ، مستخفا للثقل ، سريع النهضة ، متصل الحركة ، لا يخلد إلى راحة ، ولا يسكن إلى دعة ، ولا يكل الأمور إلى غيره ، ثم لا ينفرد بإبرامها برأيه . وعلى ذلك فكان شجاعاً ، مقداماً ، بعيد الغور ، شديد الحذر ، قليل الطمأنينة ، بليغاً ، مفوهاً ، شاعراً محسنا ، سمحاً ، سخياً ، طلق اللسان ، فاضل البنان ، يلبس البياص ، ويعتم به ويؤثره . وكان أعطى هيبة من وليه وعدوه لم يعطها واحد من الملوك في زمانه . وقال غيره ، وألفى الأمير عبد الحمن الأندلسي ثغراً من أنأي الثغور القاصية ، غفلاً من سمة الملك ، عاطلاُ من حليه الإمامة ، فأرهب أهله بالطاعة السلطانية ، وحركهم بالسيرة الملوكية ، ورفعهم بالآداب الوسطية ، فألبسهم عما قريب المودة ، وأقامهم على الطريقة . وبدأ يدون الدواوين ، وأقام القوانين ، ورفع الأواوين . وفرض الأعطية ، وأنفد الأقضية ، وعقد الألوية ، وجند الأجناد ، ورفع العماد ، وأوثق الأوتاد ، فأقام للملك آلته ، وأخذ للسلطان عدته .
نبذة من أوليته
لما ظهر بنو العباس بالمشرق ، ونجا فيمن نجا من بني أمية ، معروفاً بصفته عندهم ، وخرج بؤم المغرب لأمر كان في نفسه ، من ملك الأندلس ، اقتضاه حدثان . فسار حتى نزل القيروان ، ومعه بدر مولاه ، ثم سار حتى لحق بأخواله من نفزة ، ثم سار بساحل العدوة ، في كنف قوم من زناته ، وبعث إلى الأندلس بدراً ، فداخل له بها من يوثق به ، وأجاز البحر إلى المنكب ، وسأل عنها ، فقال نكبوا عنها ، ونزل بشاط من أحوازها ، وقدم إليه أول دعوته ، وعقد اللوا ،(3/356)
"""""" صفحة رقم 357 """"""
وقصد قرطبة في خبر يطول ، حروب مبيرة ، وهزم يوسف الفهري ، واستولى على قرطبة ، فبويع له بها يوم عيد الأضحى من سنة ثمان وثلاثين ومائة ، وهو ابن خمس وعشرين سنة .
دخوله إلبيرة
قالوا ، ولما انهزم الأمير يوسف بن عبد الرحمن الفهري ، لحق بإلبيرة فامتنع بحصن غرناطة ، وحاصره الأمير عبد الرحمن بن معوية ، وأحاط به ، فنزل على صلح ، وانعقد بينهما عقد ، ورهنه يوسف ابنيه أبا زيد وأبا الأسود ، وشهد في الأمان وجوه العسكر ، منهم أمية بن حمزة الفهري ، وحبيب بن عبد الملك المرواني ، ومالك بن عبد الله القرشي ، ويحيى بن يحيى اليحصبي ، ورزق بن النعمان الغسالي ، وجدار بن سلامة المذحجي . وعمر بن عبد الحميد العبدري ، وثعلبة بن عبيد الجذامي ، والحريش ابن حوار السلمي ، وعتاب بن علقمة اللخمي ، وطالوت بن عمر اليحصبي ، والجراح بن حبيب الأسدي ، وموسى بن خالد ، والحصين بن العقيلي ، وعبد الرحمن بن منعم الكلبي ، إلى آخر سواهم ، بتاريخ يوم الأربعاء لليلتين خلتا من ربيع الأول سنة تسع وثلاثين ومائة . نقلت أسماء من شهد ، لكونهم مممن دخل البلد ، ووجب ذكره ، فاجتزأت بذلك ، فرارا من الإطالة ، إذ هذا الأمر بعيد الأمد ، والإحاطة لله .
بلاغته ونثره وشعره
قال الرازي ، قام بين يديه رجل من جند قنسرين ، يستنجد به ، وقال له ، يا ابن الخلايف الراشدين والسادات الأكرمين ، إليك فررنا ، وبك عذت من زمن ظلوم ، ودهر غشوم ، قلل المال ، وذهب الحال ، وصير إلي بذاك المنال ، فأنت ولي الحمد ، وربي المجد ، والمرجو للرفد . فقال له ابن معاوية مسرعاً ، قد سمعنا مقالتك ، فلا تعودن ولا سواك لمثله ، من إراقة وجهك ، بتصريح المسلة ، والإلحاف في الطلبة ، وإذا ألم لك خطب أو دهاك أمر ، أو أحرقتك حاجة فارفعه إلينا في رقعة لا تعدو ذكياً ، تستر عليك خلتك ، وتكف شماتة العدو بك ، بعد رفعها إلى مالكنا ومالكها ، عن وجهه ، بإخلاص الدعاء ، وحسن النية . وأمر له بجائزة حسنة . وخرج الناس يعجبون من حسن منطقه ، وبراعة أدبه .
ومن شعره قوله ، وقد نظر إلى نخلة بمنية الرصافة ، مفردة ، هاجت شجنه إلى تذكر بلاد المشرق :
تبدت لنا وسط الرصافة نخلة . . . تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل(3/357)
"""""" صفحة رقم 358 """"""
فقلت شبيهي في التغرب والنوى . . . وطول التنائي عن بنيي وعن أهلي
نشأت بأرض أنت فيها غريبة . . . فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
سقتك غوادي المزن من صوبها الذي . . . يسح ويستمرئ السماكين بالوبل
وفاته توفي بقرطبة يوم الثلاثاء الرابع والعشرين لربيع الآخر سنة اثنتين وسبعين وماية ، وهو ابن تسعة وخمسين عاماً ، وأربعة أشهر ، وكانت مدة ملكه ثلاثاً وثلاثين سنة وأربعة أشهر ، وأخباره شهيرة .
وجرى ذكره في الرجز المسمى بقطع السلوك ، في ذكر هذين من بني أمية ، قولي في ذكر الداخل :
وغمر الهول كقطع الليل . . . بفتنة الفهري والصميل
وجلت الفتنة في أندلس . . . فأصبحت فريسة المفترس
فأسرع السير إليها وابتدر . . . وكل شيء بقضاء وقدر
صقر قريش عابد الرحمن . . . باني المعالي لبني مروان
جدد عهد الخلفاء فيها . . . وأسس الملك لمترفيها
ثم أجاب داعي الحمام . . . وخلف الأمر إلى هشام
وقام بالأمر الحفيد الناصر . . . والناس محصور بها وحاصر
فأقبل السعد وجاء النصر . . . وأشرق الأمن وضاءت القصر
وعادت الأيام في شباب . . . وأصبح العدو في تباب
سطى وأعطى وتغاضى ووفا . . . وكلما أقدره الله عفا
فعاد من خالف فيها وانتزا . . . وحارب الكفار دأبا وغزا
وأوقع الروم به في الخندق . . . فانقلب الملك بسعي مخفق
واتصلت من بعد ذا فتوح . . . تغدو على مثواه أو تروح
فاغتنموا السلم لهذا الحين . . . ووصلت إرسال قسطنطين(3/358)
"""""" صفحة رقم 359 """"""
وساعد السعد فنال واقتنا . . . ثم بني الزهرا فيما قد بنا
حتى إذا ما كملت أيامه . . . سبحان من لا ينقضي دوامه
عبد الرحمن بن إبراهيم بن يحيى بن سعيد بن محمد اللخمي
من أهل رندة وأعيانها ، يكنى أبا القاسم ، ويعرف بابن الحكيم ، وجده يحيى ، هو المعروف بابن الحكيم ، وقد تقدم ذكر جملة من هذا البيت .
حاله
كان رحمه الله عين بلده المشار إليه ، كثير الانقباض والعزلة ، مجانباً لأهل الدنيا ، نشأ على طهارة وعفة ، مرضى الحال ، معدودا في أهل النزاهة والعدالة ، وأفرط في باب الصدقة ، بما انقطع عنه أهل الإثراء من المتصدقين ، ووقفوا دون شأوه . ومن شهير مايروى من مناقبه في هذا الباب . أنه أعتق بكل عضو من أعضائه رقبة ، وفي ذلك يقول بعض أدباء عصره :
أعتق بكل عضو منه رقبة . . . واعتد ذلك ذخراً ليوم العقبة
لا أجد منقبة مثل هذه المنقبة
مشيخته
روى عن القاضي الجليل أبي الحسن بن قطرال ، وعن أبي محمد بن ابن عبد اله بن عبد العظيم الزهري ، وأبي البركات بن مودود الفارسي ، وأبي الحسن الدباج ، سمع من هؤلاء وأجازوا له . وأجاز له أبو أمية ابن سعد السعود بن عفير ، وأبو العباس بن مكنون الزاهد ، قال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير ، وكان شيخنا القاضي العالم الجليل أبو الخطاب ابن خليل ، يطنب في الثناء عليه ، ووقفت على ما خاطبه به معربا عن ذلك
شعره
منقولاً من طرفة العصر من قصيدة يرددها المؤذنون منها :
كم ذا أعلل بالتسويف والأمل . . . قلبا تغلب بين الوجد والوجل
وكم أجرد أذيال الصبا مرحاً . . . في مسرح اللهو وفي ملعب الغزل
وكم أماطل نفسي بالمتاب . . . ولا عزم فيوضح لي عن واضح السبل
ضللت والحق لا تخفى معالمه . . . شتان بين طريق الجد والهزل
وفاته
يوم الاثنين التاسع والعشرين لجمادى الأولى عام ثلاثة وسبعين وستماية(3/359)
"""""" صفحة رقم 360 """"""
عبد الرحيم بن إبراهيم بن عبد الرحيم الخزرجي
يكنى أبا القاسم ، ويعرف بابن الفرس ، ويلقب بالمهر ، من أعيان غرناطة .
حاله كان فقيهاً جليل القدر ، رفيع الذكر ، عارفاً بالنحو واللغة والأدب ، ماهر الكتابة ، رايق الشعر ، بديع التوشيح ، سريع البديهة ، جارياً على أخلاق الملوك في مركبه وملبسه وزيه ، قال ابن مسعدة : وطيء من درجات العز والمجد أعلاها ، وفرع من الأصالة منتماها . ثم علت همته إلى طلب الرياسة والملك . فارتحل إلى بلاد العدوة ، ودعا إلى نفسه ، فأجابه إلى ذلك الخلق الكثير . والجم الغفير ، ودعوه باسم الخليفة ، وحيوه بتحية الملك . ثم خانته الأقدار ، والدهر بالإنسان غدار ، فأحاطت به جيوش الناصر بن المنصور ، وهو في جيش عظيم من البربر ، فقطع رأسه ، وهزم جيشه ، وسيق إلى باب الخليفة ، فعلق على باب مراكش ، في شبكة حديد ، وبقي به مدة من عشرين سنة .
قال أبو جعفر بن الزبير ، كان أحد نبهاء وقته ، لولا حدة كانت فيه ، أدت به إلى ما حدثني به بعض شيوخي من صحبه . قال : خرجنا معه يوماً على باب من أبواب مراكش برسم الفرجة ، فلما كان عند الرجوع نظرنا إلى رؤوس معلقة ، وتعوذنا بالله من الشر وأهله ، وسألناه سبحانه العافية . قال : فأخذ يتعجب منا ، وقال : هذا خور طريقة وخساسة همه ، والله ما الشرف والهمة إلا في تلك . يعني في طلب الملك ، وإن أدى الاجتهاد فيه إلى الموت دونه على تلك الصفة . قال : فما برحت الليالي والأيام ، حتى شرع في ذلك ، ورام الثورة ، وسيق رأسه إلى مراكش ، فعلق في جملة تلك الرؤوس ، وكتب عليه ، أو قيل(3/360)
"""""" صفحة رقم 361 """"""
فيه :
لقد طمح المهر الجموح لغاية . . . فقطع أعناق الجياد السوابق
جرى وجرت رجلاه لكن رأسه . . . أتى سابقاً والجسم ليس بسابق
وكانت ثورته ببعض جهات درعة من بلاد السوس .
مشيخته
أخذ عن صهره القاضي أبي محمد عبد المنعم بن عبد الرحيم . وعن غيره من أهل بلده ، وتفقه بهم ، وبهر في العقليات والعلوم القديمة ، وقرأ على القاضي المحدث أب يبكر بن أبي زمنين ، وتلا على الأستاذ الخطيب أبي عبد الله بن عروس ، والأدب والنحو على الأستاذ الوزير أبي يحيى بن مسعدة . وأجازه الأستاذ الخطيب أبو جعفر العطار . ومن شعره في الثورة :
قولوا لأولاد عبد المؤمن بن علي . . . تأهبوا لوقوع الحادث الجلل
قد جاء فارس قحطان وسيدها . . . ووارث الملك والغلاب للدول
ومن شعره القصيدة الشهيرة وهي :
الله حسبي لا أريد سواه . . . هل في الوجود الحق إلا الله
ذات الإله بها تقوم دولتنا . . . هل كان يوجد غيره لولاه
يا من يلوذ بذاته أنت الذي . . . لا تطمع الأبصار في مرآه
لا غرو أنا قد رأيناه بها . . . فالحق يظهر ذاته وتراه
يا من له وجب الكمال بذاته . . . فالكل غاية فوزهم لقياه
أنت الذي لما تعإلى جده . . . قصرت خطا الألباب دون حماه
أنت الذي امتلأ الوجود بحمده . . . لما غدا ملآن من نعماه
أنت الذي اخترع الوجود بأسره ما بين أعلاه إلى أدناه(3/361)
"""""" صفحة رقم 362 """"""
أنت الذي خصصتنا بوجودنا . . . أنت الذي عرفتنا معناه
أنت الذي لو لم تلح أنواره . . . لم تعرف الأضداد والأشباه
لم أفش ما أودعتنية إنه . . . ما صان سر الحق من أفشاه
عجز الأنام عن امتداحك إنه . . . تتضاءل الأفكار دون مداه
من كان يعلم أنك الحق الذي . . . بهر العقول فحسبه وكفاه
لم ينقطع أحد إليك محبة . . . إلا وأصبح حامدا عقباه
وهي طويلة . . . . . .
من أهل غرناطة يكنى أبا ورد ويعرف بابن القصجة عديم رواء الحس ، قريب العهد بالنجعة ، فارق وطنه وعيصه ، واستقبل المغرب الوفادة ، وقدم على الأندلس في أخريات دولة الثاني من الملوك النصريين ، فمهد جانب البر له ، وقرب مجلسه ، ورعى وسيلته ، وكان على عمل بر ، من صوم واعتكاف وجهاد .
نباهته ووقف بي ولده الشريف أبو زيد عبد الرحيم ، على رسالة كتب بها أمير مكة على عهده إلى سلطان الأندلس ثاني الملوك النصريين رحمهم الله ، وعبر فيها عن نفسه ، من عبد الله المؤيد بالله محمد بن سعد الحرسني ، في غرض المواصلة والمودة والمراجعة عن بر صدر عن السلطان رحمه الله من فصولها : ثم أنكم رضي الله عنكم ، بالغنم في الإحسان للسيد الشريف أبي القاسم الذي انتسب إلينا ، وأويتموه من أجلنا ، وأكرمتموه ، ورفعتموه احتراماً لبيته الشريف ، جعل الله عملكم معه وسيلة بين يدي جدنا عليه السلام وهي طويلة وتحميدها ظريف ، من شنشنة أحوال تلك البال بمكة المباركة .
وفاته : توفي شهيداً في الوقيعة بين المسلمين والنصارى بظاهر ألمرية عندما وقع الصريخ لإنجادها ، ورفع العدو البرجلوني عنها في السادس والعشرين من شهر ربيع الأول عام عشرة وسبعمائة .(3/362)
"""""" صفحة رقم 363 """"""
ومن ترجمة المقريين والعلماء والطلبة النجباء من ترجمة الطارئين منهم
عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن أبي الحسن أصبغ بن حسن بن سعدون بن رضوان بن فتوح الخثعمي
مالقى يكنى أبا زيد ، وأبا القاسم ، وأبا الحسين ، وهي قليلة ، شهر بالسهيلي .
حاله
كان مقرياً مجوداً ، متحققاً بمعرفة التفسير ، غواصاً على المعاني البديعة ، ظريف التهدي إلى المقاصد الغريبة ، محدثاً واسع الرواية ، ضابطاً لما يحدث به ، حافظاً متقدما ، ذاكراً للأدب والتواريخ والأشعار والأنساب ، مبرزاً في الفهم ، ذكياً ، أديباً بليغاً ، شاعراً مجيداً ، نحوياً عارفاً بارعاً ، يقظاً ، يغلب عليه علم العربية والأدب . استدعي آخراً إلى التدريس بمراكش ، فانتقل إليها من مالقة ، محل إقرائه ، ومتبوأ إفادته ، فأخذ بها الناس عنه ، إلى حين وفاته .
مشيخته
تلا بالحرمين على خال أبيه الخطيب أبي الحسن بن عباس ، وبالسبع على أبي داود بن يحيى ، وعلى أبي علي منصور بن علاء ، وأبي العباس بن خلف بن رضي ، وروى عن أبي بكر بن طاهر ، وابن العربي ، وابن قندلة ، وأبي الحسن شريح ، وابن عيسى ، ويونس بن مغيث ، وأبي الحسن بن الطراوة ، وأكثر عن في علوم اللسان ، وأبي عبد الله حفيد مكي ، وابن يمن الله ، وأبوي القاسم ابن الأبرش ، وابن الرماك ، وأبوي محمد ابن رشد ، والقاسم بن دحمان ، وأبوي مروان بن بونة ، وأبي عبد الله بن بحر . وناظر في المدونة على ابن هشام . وأجاز له ولم يلقه ، أبو العباس عباد بن سرحان ، وأبو القاسم بن ورد .(3/363)
"""""" صفحة رقم 364 """"""
من روى عنه
روى عنه أبو إسحق الزوالي ، وأبو إسحق الجاني ، وأبو أمية بن عفير ، وأبو بكر بن دحمان ، وابن قنتوال ، والمحمدون ابن طلحة ، وابن عبد العزيز ، وابن علي جويحمات ، وأبو جعفر بن عبد المجيد ، والحفار وسهل بن مالك ، وابن العفاص ، وابن أبي العافية ، وأبو الحسن السراج ، وأبو سليمن بن حوط الله ، والسماتي . وابن عياش الأندرشي ، وابن عطية ، وابن يربوع ، وابن رشيد ، وابن ناجح ، وابن جمهور ، وأبو عبد الله بن عياش الكاتب ، وابن الجذع ، وأبو علي الشلوبين ، وسالم بن صالح ، وأبو القاسم بن بقي ، وأبو القاسم بن الطيلسان ، وعبد الرحيم بن الفرس ، وابن الملجوم ، وأبو الكرم جودى ، وأبو محمد بن حوط الله ، إلى جملة لا يحصرها الحد .
دخل غرناطة . وكان كثير التأميل والمدح لأبي الحسن بن أضحى قاضيها ورييسها . وله في مدحه أشعار كثيرة ، وذكر لي من أرخ في الغرناطيين ، وأخبرني بذلك صاحبنا القاضي أبو الحسن بن الحسن كتابة عمن يثق به .
تواليفه
منها كتاب الشريف والإعلام بما أبهم في القرآن من أسماء الأعلام . ومنها شرح آية الوصية ، ومنها الروض الآنف والمشرع الروا فيما اشتمل عليه كتاب السيرة واحتوى . وابتدأ إملاءه في محرم سنة تسع وستين وخمسماية ، وفرغ منه في جمادى منها . ومنها حلية النبيل في معارضة ما في السبيل . إلى غير ذلك .
شعره
قال أبو عبد الله بن عبد الملك : أنشدني أبو محمد القطان ، قال أنشدني أبو علي الرندي ، قال أنشدني أبو القاسم السهيلي لنفسه :
أسايل عن جيرانه من لقيته . . . وأعرض عن ذكراه والحال تنطق(3/364)
"""""" صفحة رقم 365 """"""
ومالي إلى جيرانه من صبابة . . . ولكن قلبي عن صبوح يوفق
ونقلت من خط الفقيه القاضي أبي الحسن بن الحسن ، من شعر أبي القاسم السهيلي ، مذيلاً بيت أبي العافية في قطعة لزومية : ولما رأيت الدهر تسطو خطوبه . . . بكل جليد في الورى وهدان
ولم أر من حرز ألوذ بظله . . . ولا من له بالحادثات يدان
فزعت إلى من تملك الدهر كفه . . . ومن ليس ذو ملك له بمران
وأعرضت عن ذكر الورى متبرماً . . . إلى الرب من قاص هناك ودان
وناديته سراً ليرحم عبرتي . . . وقلت رجائي قادني وهدان
ولم أدعه حتى تطاول مفضلاً . . . علي بالهام الدعاء وعان
وقلت أرجي عطفه متمثلاً . . . ببيت لعبد صايل بردان
تغطيت من دهري بظل جناحه . . . فعسى ترى دهري وليس براني
قلت ، وما ضره ، غفر الله له ، لو سلمت أنباته من بردان ، ولكن أبت صناعة النحو إلا أن تخرج أعناقها .
ومن شعره قوله :
تواضع إذا كنت تبغي العلا . . . وكنت راسياً عند صفو الغضب
فخفض الفتى نفسه رفعة . . . له واعتبر برسوب الذهب
وشعره كثير ، وكتابته كذلك ، وكلاهما من نمط يقصر عن الإجادة .
وقال ملغزا في محمل الكتب ، وهو مما استحسن من مقاصده :
حامل للعلوم غير فقيه . . . ليس يرجوا أمراً ولا يتقيه
يحمل العلم فاتحاً قدميه . . . فإذا التقتا فلا علم فيه(3/365)
"""""" صفحة رقم 366 """"""
ومن ذلك قوله في المجنبات :
شغف الفؤاد نواعم أبكار . . . بردت فؤاد الصب وهي حرار
أذكى من المسك العتيق لنا . . . نشقاً وألذ من صباً حين تدار
وكأن من صافى اللجين بطونها . . . وكأنما ألوانهن نضار
صفت البواطن والظواهر كلها . . . لكن حكت ألوانها الأزهار
عجباً لها وهي النعيم يصوغها . . . نار وأين من النعيم النار
ومن شعره وثبت في الصلة :
إذا قلت يوماً سلام عليك . . . ففيها شفاء وفيها سقام
شفاً إذ قلتها مقبلاً . . . وإن قلتها مدبراً فالحمام
فاعجب لحال اختلافيهما . . . وهذا سلام وهذا سلام
مولده : عام سبعة أو ثمانية وخمسماية .
وتوفي في مراكش سحر ليلة الخامس والعشرين من شعبان أحد وثمانين وخمسماية ، ودفن لظهره بجبانة الشيوخ خارج مراكش ، وكان قد عمى سبعة عشرة عاماً من عمره .
عبد الرحمن بن هانئ اللخمي
يكنى أبا المطرف ، من أهل فرقد من قرى إقليم غرناطة .(3/366)
"""""" صفحة رقم 367 """"""
حاله
كان فقيهاً فاضلاً ، وتجول في بلاد المشرق . قال أنشدني إمام الجامع بالبصرة :
بلاء ليس بشبهه بلاء . . . عداوة غير ذي حسب ودين
ينيلك منه عرضاً لم يصنه . . . ويرتع منك في عرض مصون
عبد الرحمن بن أحمد بن أحمد بن محمد الأزدي
من أهل غرناطة ، يكنى أبا جعفر ، ويعرف بابن القصيب
حاله
كان فقيهاً جليلاً ، بارع الأدب ، عارفاً بالوثيقة ، نقادا لها ، صاحب رواية ودراية ، تقلب ببلاد الأندلس ، وأخذ الناس عنه بمرسية وغيرها . ورحل إلى مدينة فاس ، وإفريقية ، وأخذ بها ، وولى القضاء يتقرش من بلاد الجريد .
مشيخته
روى عن أبيه القاضي أبي الحسن بن أحمد ، وعن عمه أبي مروان ، وعن أبوي الحسن ابن دري ، وابن الباذش ، وأبي الوليد بن رشد ، وأبي إسحاق بن رشيق الطليطلي نزيل وادي آش ، وأبي بكر بن العربي ، وأبي الحسن ابن وهب ، وأبي محمد عبد الحق بن عطية ، وأبي عبد الله بن أبي الخصال ، وأبي الحسن يونس بن مغيث ، وأبي القاسم بن ورد ، وأبي بكر بن مسعود الخشن ، وأبي القاسم بن بقي ، وأبي الفضل عياض بن موسى بن عياض ، وغيرهم .
تواليفه
له تواليف وخطب ورسائل ومقامات ، وجمع مناقب من أدركه من أهل عصره ، واختصر كتاب الجمل لابن خاقان الإصبهاني ، وغير ذلك ، وألف برنامجاً يضم رواياته .
من روى عنه
روى عنه ابن الملجوم ، واستوفى خبره(3/367)
"""""" صفحة رقم 368 """"""
وفاته
ركب البحر قاصداً الحج ، فتوفي شهيداً في البحر ، قتله الروم بمرسى توسن مع جماعة من المسلمين ، صبح يوم الأحد ، في العشر الوسط من شهر ربيع الآخر سنة ست وسبعين وخمسماية .
عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد الأنصاري
يكنى أبا بكر ، ويعرف بابن الفصال .
حاله هذا الرجل فاضل عريق في العدالة ، ذكي ، نبيل ، مختصر الجرم ، شعلة من شعل الإدراك ، مليح المحاورة ، عظيم الكفاية ، طالب متقن ، قرأ على مشيخة بلده ، واختص منهم بمولى النعمة على أبناء جنسه ، أبي سعيد ابن لب ، واستظهر من حفظه كتباً كثيرة ، منها كتاب التفريع في الفروع ، وارتسم في العدول ، وتعاطى لهذا العهد الأدب ، فبرز في فنه .
أدبه
مما جمع فيه بين نظمه ونثره ، وقوله يخاطب الكتاب ، ويسحر ببراعته الألباب :
لعل نسيم الريح يسري عليله . . . فأهدى صحيح الود طي سقيم
لتحملا عني وأزكى تحية . . . لقيته كهف مانع ورقيم
ويذكر ما بين الجوانح من جوى . . . وشوق إليهم مقعد ومقيم
يا كتاب المحل السامي ، والإمام المتسامي ، وواكف الأدب البسامي ، أناشدكم بانتظامي في محبتكم وارتسامي ، وأقسم بحقكم علي وحبذا إقسامي ، ألا ما أمددتم بأذهانكم الثاقبة ، وأسعدتم بأفكاركم النيرة الواقية ، على إخراج هذا المسمى ، وشرح ما أبهمه المعمى ، فلعمري لقد أخرق مزاجي ، وفرق امتزاجي ، وأظلم به وهاجي ، وغطى على مرآة ابتهاجي ، فأعينوني بقوة ما استطعتم ، وأقطعوني من مددكم ما قطعتم ، وآتوني بذلك كله إعانة وسداً . وإلا فها هو بين يديكم ، ففكوا غلقه ، واسردوا خلقه ، واجمعوا مضغه المتباينة وعلقه ، حتى يستقيم جسداً قايماً بذاته ، متصفاً بصفاته المذكورة ولذاته ، قايلاً بتسلية أسلوباً مصحفاً كان أو مقلوباً . وإن تأبى عليكم وتمنع ، وأدركه الحياء فتستر وتقنع ، وضرب على إذان الشهدا ، وربط على قلوبهم من الإرشاد له والاهتداء ، فابعثوا أحدكم إلى(3/368)
"""""" صفحة رقم 369 """"""
المدينة ليسأل عنه خدينه :
أحاجي ذوي العلم والحلم ممن . . . ترى شعلة الفهم من زنده
عن اسم هو الموت مهما دنا . . . وإن بات يبكي على فقده
لذيذ وليس بذي طعم . . . ويومر بالغسل من بعده
وأطيب ما يجتنيه الفتى . . . لدى ربة الحسن أو عبده
مضجعه عشر الثلث في حساب . . . المصحف من خده
وإن شيت قل مطعم ذمه . . . الرسول وحض على بعده
وقد جاء في الذكر إخراجه . . . لقوم نبي على عهده
وتصحيف ضد له آخر . . . لقوم نبي على عهده
وتصحيف ضد له آخر . . . يبارك للنحل في شهده
وتصحيف مقلوبه ربه . . . تردد م قبل في رده
فهاكم معانيه قد بدت . . . كنار الكريم على نجده
وكتب للولد أسعده الله ، يتوسل إليه ، ويروم قضاء حاجته :
أيها السيد العزيز تصدق . . . فيالمقام العلي لي بالوسيلة
عند رب الوزارتين أطال الله . . . أيامه حساناً جميلة
عله أن يجيرني من زمان . . . مسنى الضر من خطاه الثقيلة
واستطالت علي بالنهب جوراً . . . من يديه الخفيفة المستطيلة
لم تدع لي بضاعة غير مزجاة . . . ونزر أهون به من قليله
وإذا ما وفى لي الكيل يوما . . . حشفاً ما يكيله سوء كيله
فشفى بي غليله لا شفى بي . . . دون ابنايه الجميع غليله
من لهذا الزمان مذ نال مني . . . ليس لي بالزمان والله حيلة
غير أن يشفع الوزير ويدعي . . . عبده أو خديمه أو خليله
دمت يا بن الوزير في عزك . . . السامي ودامت به الليالي كفيلة سيدي الذي بعزة جاهه أصول ، وبتوسلي بعنايته أبلغ المأمول والسول ، وأروم لما أنا أحوم عليه الوصول ، ببركة المشفوع إليه والرسول ، المرغوب من مجدك السامي الصريح ، والمؤمل من ذلك الوجه السني الصبيح ، أن تقوم بين نجوى الشفاعة ، هذه الرقاعة ، وتعين بذاتك الفاضلة النافعة ، من لسانك مصقاعة ، حتى(3/369)
"""""" صفحة رقم 370 """"""
ينجلي حالي عن بلج ، وأتنسم من مهبات القبول طيب الأرج ، وتتطلع مستبشرات فرحتي من ثنيات الفرج ، فإن سيد الجماعة الأعلى ، وملاذ هذه البسيطة وفحلها الأجلي ، فسح اله تعإلى في ميدان هذا الوجود بوجوده ، وأضفى على هذا القطر ملابس الستر برأيه السديد وسعوده ، وبلغه في جميعكم غاية أمله ومقصوده ، قلما تضيع عنده شفاعة الأكبر من ولده ، أو يخيب لديه من توسل إليه بأزكى قطع كبده ، وبحقك ألا ما أمرت هذه الرقعة بالمثول بين يدي ذلك الزكي الذات الطاهر البقعة ، وقل لها قبل الحلول بين يدي هذا المولى الكريم ، والموئل الرحيم ، بعظيم التوقير والتبجيل ، اعلمي ياأيتها السايل ، أن هذا الرجل هو المؤمل ، بعد الله تعإلى في هذا الجيل ، والحجة البالغة في تبليغ راجيه أقصى ما يؤملونه بالتعجيل ، وخاتمة كلام البلاغة ، وتمام الفصاحة ، الموقف عليه ذلك كله بالتسجيل ، وغرة صفح دين الإسلام المؤيد بالتحجيل . وهذا هو مدبر فلك الخلافة العالية بإيالته ، وحافظ بدر سمايها السامية بهالته ، فقرى بالمثول بين يديه عيناً ، ولقد قضيت على الأيام بذلك ديناً ، وإذا قيل ما وسيلة مؤملك ، وحاجة متوسلك ، فوسيلته تشيعه في أهل ذلك المعنى ، وحاجته يتكفل بها مجدكم الصميم ويعنى ، وليست تكون بحرمة جاهكم من العرض الأدنى ، وتمن فإن للإنسان هنالك ما تمنى ، وتولى تكليف مرسلي بحسب ما وسعكم ، وأنتم الأعلون ، والله معكم . ثم أثن العنان ، والله المستعان ، وأعيدي السلام ، ثم عودي بسلام .
وخاطب قاضي الحضرة ، وقد أنكر عليله لباس ثوب أصفر : أبقى الله المثابة العلية ، ومثلها أعلى ، وقدحها في المعلوات المعلي ، ما لها أمرت ، لا زالت بركاتها تنثال ، ولأمر ما يجب الأمتثال ، بتغيير ثوبي الفاقع اللون ، وإحالته عن معتاده في الكون ، وإلحاقه بالأسود الجون أصبغة حداداً ، وأيام سيدي أيام سرور ، وبنو الزمان بعدله ضاحك ومسرور ، ما هكذا شيمة البرور ، بل لو استطعنا أن نزهو له كالميلاد ، ونتزيا في أيامه بزي الأعياد ، ونرفل من المشروع في محبر وموروس ، ونتجلى في حلل العروس ، حتى تقر عين سيدي بكتيبة دفاعه ، وقيمة نوافله وإشفاعه ، ففي علم سيدي الذي به الاهتداء ، وبفضله الاقتداء ، تفضيل الأصفر الفاقع ، حيثما وقع من المواقع ، فهو مهما حضر نزهة الحاضرين ، وكفاه فاقع لونها تسر الناظرين . ولقد اعتمه جبريل عليه السلام ، وبه تطرز المحبرات والأعلام ، وإنه لزي الظرفاء ، و شارة أهل الرفاء ، اللهم إلا إن كان سيدي ، دام له البقاء ، وساعده الارتقاء ، ينهى أهل التبريز ، عن مقاربة لون الذهب الإبريز ، خيفة أن تميل له منهم ضريبة ، فيزنوا بريبة ، فنعم إذا ونعمى عين ، وسمعاً وطاعة لهذا الأمر الهينن اللين ، أتبعك لا زيداً وعمراً ،(3/370)
"""""" صفحة رقم 371 """"""
ولا أعصى لك أمراً ، ثم لا ألبس بعدها إلا طمراً ، وأتجرد لطاعتك تجريداً ، وأسلك إليك فقيراً ومزيداً ، ولا أتعرض للسخط بلبس شفيف ، استنشق هباه ، وألبس عباه ، وأبرأ من لباس زي ينشئ عتابا ، يلقى على لسان مثل هذا كتاباً ، وأتوب منه متاباً ، ولولا أني الليلة صفر اليدين ، ومعتقل الدين ، لباكرت به من حانوت صباغ رأس خابية ، وقاع مظلمة جابية ، وقاع مظلمة جابية ، فأصيره حالكاً ، ولا ألبسه حتى استفتى فيه مالكاً ، ولعلى أجد فأرضى سيدي بالتزيي بشارته ، والعمل بمقتضى إشارته ، والله تعإلى يبقيه للحسنات ، ينبه عليها ، ويومي بعمله وحظه إليها ، والسلام .
وخاطبني وقد قدم في شهادة المواريث بحضرة غرناطة :
يا منتهى الغايات دامت لنا . . . غايتك القصوى بلا فوت
طلبت إحيائي بكم فانتهى . . . من قبله حالي إلى الموت
وحق ذلك الجاه جاه العلا . . . لامت إلا أن أتى وقت مولاي الذي أتأذى من جور الزمان بذمام جلاله ، وأتعوذ من نقص شهادة المواريث بتمام كماله ، شهادة يأباها المعسر والحي ، ويود أن لا يوافيه أجله عليها الحي ، مناقضة لما العبد بسبيله ، غير مربح قطميرها من قليله ، فإن ظهر لمولاي إعفاء عبده ، فمن عنده ، والله تعإلى يمتع الجميع بدوام سعده ، والسلام الكريم ، يختص بالطاهر من ذاته ومجده ، ورحمة اله وبركاته ، من عبد إنعامكم ابن الفصال لطف الله به :
قد كنت أسترزق الأحياء ما رزقوا . . . شيئاً ولا وفوني بعض أقوات
فكيف حالي لما أن شكوتهم . . . رجعت أطلب قوتي عند أموات
والسلام يعود على جناب مولاي ورحمة الله وبركاته : وخاطب أحد أصحابه ، وقد استخفى لأمر قرف به ، برسالة افتتحا بأبيات على حرف الصاد ، أجابه المذكور عن ذلك بما نصه ، وفيه إشارة لغلط وقع في الإعراب :
يا شعلة من ذكاء أرسلت شررا . . . إلى قريب من الأرجاء بعد قص
وشبهة حملت دعوى السفاح على . . . فحل يليق به مضمونها وخص(3/371)
"""""" صفحة رقم 372 """"""
رحماك بي فلقد جرعتني غصصا . . . أثار تعريضها المكتوم من غص
بليتني بنكأة القرح في كبدي . . . كمثل مرتجف المجذوم بالبرص
أيها الأخ الذي رقى ومسح ، ثم فصح ، وغش ونصح ، ومزق ثم نصح ، وتلاعب بأطراف الكلام المشقق فما أفصح ، ما لسحاتك ذات الجيد المنصوص ، وتونس على العموم ، وتوحش على الخصوص ، لا در دره من باب برضاع مفتاحه ، وتأنيس حر سبق بالسجن استفتاحه ، ومن الذي أنهى إلى أخي خبر ثقافي ، ووثيقة تحبيسي وإيقافي ، وقد أبى ذلك سعد فرعه باسق ، وعز عقده متناسق . ويا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ ، بل المثوى والحمد الله جنات وغرف ، والمنتهى مجد وشرف ، فإن كان وليي مكترثاً فيحق له السرور ، أو شامتاً ، فلي الظل وله الحرور . أنا لا أزن والحمد لله بها من هناه ، ولما أدين بها من عزي ومناه ، ولا تمر لي ببال فلست بذي سيف ، ولست بنكال نفسي أرق شيمة ، وأكرم مشيمة ، وعيني أغزر ديمة ، لو كان يسئل لسان عن إنسان ، أو مجاولته بملعبه خوان ، أوقفني إخوان لا بمأزق عدوان ، لارتسمت منه بديوان . لا يغنى في حرب عوان ، عين هذا الشكل والحمد لله فراره ، وعنوان هذا الحد غراره . وأما كوني من جملة الصفرة . وممن أجهز سيدي الفقار على ذي الفقرة ، فأقسم لو ضرب القتيل ببعض البقرة ، لتعين مقدار تلك الغفرة . اللهم لو كنت مثل سيدي ممن تتضاءل النخلة السحوق لقامته ، ويعترف عوج لديه بقماءته ودمامته ، مقبل الظعن كالبدور في سحاب الخدور ، وخليفة السيد الذي بلغت سراويله تندوة العدو الأيد ، لطلت بباع مديد ، وساعدني الخلق بساعد شديد ، وأنا لي جسم شحت ، يحف به بخت ، وحسب مثلي أن يعلم في ميدان هوى ، تسل فيه سيوف اللحاظ على ذوي الحفاظ ، وتشرع سيوف القدود . إلى شكاة الصدود ، وتسطو أولو الجفون السود بالأسود ، فكيف أخشى تبعة تزل عن صفاتي ، وتنافى صفاتي ، ولا تطمع أسبابها في التفاتي ، ولا تستعمل في حربها قنا ألفاتي . والله يشكر سيدي على اهتباله ، ويحل كريم سباله ، على ما ظهر لأجلى من شغف باله ، إذ رفع ما يتصب ، وغير ما لو غيره الحجاج ، لكان مع الهيبة يحصب ، ونكت بأن نفقت بالحظ سوقي . وظهر لأجله فسوقي ويا حبذا هو من شفيع رفيع ، ووسيلة لا يخالفها الرعي ، ولا(3/372)
"""""" صفحة رقم 373 """"""
يخيب لها السعي . ولله در القايل .
لله بالإنسان في تعليمه . . . بوساطة القلم الكريم عناية
فالخط خط والكتابة لم تزل . . . في الدهر عن معنى الكمال كناية
وما أقرب يا سيدي هذه الدعوى لشهامتك . وكبر هامتك :
لو كنت حاضرهم بخندق بلج . . . ولحمل ما قد أبرموه فصال
لخصصت بالدعوى التي عموا بها . . . ولقيل فصل جلاه الفصال
وتركت فرعون بن موسى عبرة . . . تتقدمنه بسيفه الأوصال
فاحمد الله الذي نجاك من حضور وليمتها ، ولم تشهد يوم حليمتها . وأما اعتذارك عما يقال من تفقد الكنز ، ومنتطح العنز ، فورع في سيدي أتم من أن يتهم بغيبة ، ولسانه أعف من أن ينسب إلى ريبة ، لما اتصل به من فضل ضريبة ، ومقاصد في الخير غريبة ، إنما يستخف سيدي أفرط التهم ، رمى العوامل بالتهم ، فيجري أصح مجرى أختها ، ويلبسها ثياب تحتها ، بحيث لا إثم يترتب ، ولا هو ممن تعتبه ، وعلى الرجال فجنايته عذبة الجناء ، ومقاصده مستطرفة لفصح أو كنى . أبقاه الله رب نفاضة وجرادة ، ولا أخلى مبرده القاطع من برادة ، وعوده الخير عادة ، ولا أعدمه بركة وسعادة ، بفضل الله ، والسلام عليه من وليه المستزيد من ورش وليه ، لا بل من قلايد حليه . محمد بن فركون القرشي . ورحمة الله وبركاته فراجعه المترجم بما نصه ، وقد اتهم أن ذلك من إملايي :
يا ملبس النصح ثوب الغش متهما . . . يلوى النصيحة عنه غير منتكص
وجاهلاً باتخاذ الهزل مأدبة . . . أشد ما يتوقى محمل الرخص
نصحته فقصاني فانقلبت إلى . . . حال يغص بها من جملة الفصص
بالأمس أنكرت آيات القصاص له . . . واليوم يسمع فيه سورة القصص
ممن استعرت يا بابلي هذا السحر ، ولم تسكن بناصية السحر ، ولا أعملت إلى بابل هاروت امتطاء ظهر ، ومن أين جيت بقلايد ذلك النحر ، أمن البحر ، أو مما وراء النهر . ما لمثل هذه الأريحية الفاتقة ، استنشقنا مهبك ، ولا قبل هذه البارقة الفايقة ، استكثرنا غيك . يا أيها الساحر ادع لنا ربك . أأضغاث أحلام ما تريه الأقلام ، أم في لحظة تلد الأيام ، فرايد الأعلام . لقد عهدت بربعك محسن دعابة ، ما فرعت شعابه ، أو(3/373)
"""""" صفحة رقم 374 """"""
مصيباً في صبابة ، ما قرعت بابه ، ولا استرجعت قبل أن أعبر عبابه . اللهم إلا أن تكون تلك الآيات البينات ، من بنات يراعتك ، لا براعتك ومفترس تلك الزهر ، الطالعة كالكواكب الزهر ، مختلس يد استطاعتك ، لا زراعتك ، وإلا فنطرح مصايد التعليم والإنشاء ، وننتظر معنى قوله عز وجل ، يؤتى الحكمة من يشاء ، أو نتوسل في مقام الإلحاح والإلحاف . أن ننقل من غايلة الحسد إلى الإنصاف ، وحسبي أن أطلعت بالحديقة الأنيقة ، ووقفت من مثلي تلك الطريقة على حقيقة ، فألفيت بها بياناً قد وضح تبياناً أو أطلق عناناً ، ومحاسن وجدت إحساناً ، فتمثلت إنساناً ، سرح لساناً ، وأجهد بناناً ، إلا أن صادح أيكتها يتململ في قيظ ، ويكاد يتميز من الغيظ ، فيفيض ويغيض ، ويهيض وينهض ، ثم يهيض ، ويأخذ في طويل وعريض ، بتسبيب وتعريض ، ويتناهض في ذلك بغير مهيض ، وفاتن كمايمها تسل عن الصادح ، ويتلقف عصا استعجاله ما يفكه المادح ، ويحرق بناره زند القادح ، ويتلقف عصا استعجاله ما يفكه المادح ، ويحرق بناره زند القادح ، ويتعاطى من نفسه بالإعجاب ، ويكاد ينادي من وراء حجاب ، إن هذا لشيء عجاب ، إيه بغير تمويه ، رجع الحديث الأول ، إلى ما عليه المعول ، لا در درها من نصيحة غير صحيحة ، ووصية مودة صريحة ، تعلقت بغير ذي قريحة ، فهي استعجلتني بداهية كاتب ، واستطالة ظالم عاتب قد سل مرهفه واستنجد مترفه ، وجهزها نحو كتيبته تسفر عن تحجيل ، بغير تبجيل وسحابة سجل ترمى بسجيل ما كان إلا أن استقلت ، ورمتني بدائها وانسلت ، وألقت ما فيها وتخلت ، فحسبي الله ، تغلب على فهمي ، ورميت بسهمي ، وقتلت بسلاحي ، وأسكرت براحي ، بريت بريت ، مما به دهيت ، أنت أبقاك الله لم تدن بها مني منالاً وعزاً ، فكيف بها تنسب إلى بعدك وتعزا ، نفسي التي هي أرق وأجدر بالمعالي وأحق ، وشكلى أخف على القلوب وأدق ، وشمايلي أملك فلا تسترق ، ولساني هو الذي يسئل فلا يفل ، وقدري يعزه ويجل ، عما فخرت أنت به من ملعب مايدة ، ومجال رقاب متمايدة ، فحاشى سيدي أن يقع منه بذلك مفخر ، إلا أن يكون يلهو ويسخر ، وموج بحره بالطيب والخبيث تزخر ، وعين شكلي هي بحمد الله ، عين الظرف المشار إليه بالبنان والطرف . وأما تعريض سيدي بصغر القامة ، وتكبيره لغير إقامة ، فمطرد قول ، ومدامة غول ، وفريضة نشأ فيها عول ، إذ لا مبالاة تجسم كاينا ما كان ، أو ما سمعت أن السر في السكان ، وإنما الجسد للروح مكان ولم يبق إليه فقد يروح ، وقد قال ، ويسئلونك عن الروح ، والمرء بقلبه ولسانه ، لا بمستظهر عيانه ، والله در القايل :
لم يرضني أني بجسم هايل . . . والروح ما وفت له أغراضه
ولقد رضيت بأن جسمي ناحل . . . والروح سابغة به فضفاضة(3/374)
"""""" صفحة رقم 375 """"""
ولما وقع سيدي بمكتوبي على المرفوع والمنصوب ، وظفرت يده بالمغصوب ، والباحث المعصوب ، لم يقلها زلة عالم . وإني وقد وجدتها منية حالم ، فعدد وأعاد ، وشدد وأشاد ، هلأ عقل ما قال ، وعلم أن المقيل سيكون مقال ، وزلة العلم لا تقال وأن الحرب سجال . وقبضة غيره هو المتلاعب في الحجال ، وبالجملة فلك الفضل يا سيدي ، ما اعتنى بمعناك ، وارتفع بين مغاني الكرام مغناك ، فمدة ركوبك الحمران لا تجاري ، ولا يشق أحد لك غبارا . أبقاك الله تحفظ عرى هذا الوداد ، ويشمل الجميع بركة ذلك الناد ، والسلام عليك من ابن الفصال ، ورحمة الله وبركاته .
وجعلا إلى التحيم ، وفوضا لنظري التفضيل فكتبت :
بارك عليها بذكر الله من قصص . . . واذكر ما أى في سورة القصص
حيث اغتدي السحر يلهو بالعقول . . . وقد أحال بين حال كيده وعص
عقايل العقل والسحر الحلال قوت . . . من كافل الصون بعد الكون حجروص
وأقبلت تتهادى كالبدور إذا . . . بسحر من فلك النذور في حصص
من للبدور وربات الخدور بها . . . المثل غير مطيع والمثلان عص
ما قرصة البدر والشمس المنيرة أن . . . قيست بمن سوى من جملة القرص
تا لله ما حكمها يوماً بمنتقض . . . كلاً ولا بدرها يوماً بمنتقص
إن قافل حكمي فيها بالسواد فقد . . . أمنت ما يحذر القاضي من الغصص(3/375)
"""""" صفحة رقم 376 """"""
أو كنت أرخصت في الترجيح مجتهداً لم يقبل الورع الفتيا مع الرخص
يا مدلج ليل الترجيح قف ، فقد خفيت الكواكب ، ويا قاضي طرف التحسين والتقبيح ، تسامت والحمد لله المناكب ، ويا مستوكف خبر الوقيعة من وراء أقتام القيعة ، تصالحت المواكب . حصحص الحق فارتفع اللجاج ، وتعارضت الأدلة فسقط الاحتجاج ، ووضعت الحرب أوزارها فسكن العجاج ، وطاب نحل الأقلام بأزهار الأحلام ، فطاب المجاج ، وقل لفرعون البيان وإن تأله ، وبلد العقول وبله ، وولي بالغرور ودله . أوسع الكناين نثلا ، ودونك أيدا شثلاً ، وشحرا حثلا ، لا خطما ولا أثلا . إن هذان لساحران إلى قوله ، ويذهبا بطريقتكم المثلى ، وإن أثرت أدب الحليم مع قصة الكليم ، فقل لمجمل جياد التعاليم ، وواضع جغرافياً الأقاليم ، أندلسا ما علمت بلد الأجم ، لا سود العجم ، ومداحض السقوط ، على شوك قتاد القوط ، ولم يذر إن محل ذات العجايب والأسرار ، التي تضرب إليها أباط النجاب في غير الإقليم الأول . وهذا الوطن بشهادة القلب الحول . إنما هو رسم دارس ، ليس عليه من معول . فهنالك يتكلم الحق فيفصح ويعجم ، ويرد المدد على النفوس الجريبة ، من مطالع الأضواء فيحدث ويلهم ، ويجود خازن الأمداد ، على المتوسل بوسيلة الاستعداد ، فيقطع ويسهم . وأما إقليمنا الرابع والخامس ، بعد أن تكافأت المناظر والملامس ، وتناصف الليل الدامس واليوم الشامس ، باعتدال ربيعي ، ومجرى طبيعي ، وذكى بليد ، ومعاش وتوليد ، وطريف في البداوة وتليد ، ليس به برباه ولا هرم ، يخدم بها درب محترم ، ويشب لقرياته حرم ، فيفيد روحانيا يتصرف ، ورييساً يتعرض ويتعرف ، كلما استنزل صاب ، وأعمل الانتصاب ، وجلب المآرب ، وأذهب الأوصاب ، وعلم الجواب ، وفهم الصواب . ولو فرضنا هذه المدارك ذوات أمثال ، أو مسبوقة بمثال ، لتلقينا منشور القضاء بامتثال ، لا كنا نخاف أن نميل بعض الميل ، فنجني بذلك أبخس الجري وإرضا الذميل ، ونجر تنازع الفهري مع الصميل . فمن خير ميز ، ومن حكم أزرى به وتهكم ، وما سل سيوف الخوارج في الزمن الدارج ، إلا التحكيم ، حتى جهل الحكيم ، وخلع الخطام ، ونزع الشكيم ، وأضر بالخلق نافع ، وذهب الطفل لجراه واليافع ، وذم الذمام ورد الشافع ، وقطر سيف قطري بمسجد الثقفي وهو محصور ، وانتهبت المقاصير والقصور ، إلا أن مستأهل الوظيفة الشرعية ، عند الضرورة يجبر ، والمنتدب للبرمحي عند الله ويجبر ، واجعلني على خزائن الأرض ، وهو الأوضح والأشهر ، فيها به يستظهر . وأنا فإن حكمت على التعجيل ،(3/376)
"""""" صفحة رقم 377 """"""
فغير مشهد على نفسي بالتسجيل ، إنما هو تلفيق يرضى وتطفيل ، يعتب عليه من تصدع بالحق ويمضي إلا أن يغضى ، ورأيي فيها المراضاة والاستصلاح ، وإلا فالسلاح والركاب الطلاح ، والصلح خير ، وما استدفع بمثل التسامح ضير . ومن وقف عليه ، واعتبر ما لديه ، فليعلم أني صدعت وقطعت ، والحق أطعت ، وإن أريد إلا الإصلاح ما استطعت ، والسلام .
عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن جابر ابن محمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي
من ذرية عثمن أخي كريب المذكور في نبهاء ، ثوار الأندلس . وينتسب سلفهم إلى وائل بن حجر ، وحاله عند القدوم على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) معروف .
أوليته
قد ذكر بعض منها . وانتقلسلفه من مدينة إشبيلية عن نباهة وتعين وشهرة عند الحادثة بها ، أو قبل ذلك ، واستقر بتونس منهم ثالث المحمد بن الحسن ، وتناسلوا على سراوة وحشمة ورسوم حسنة ، وتصرف جد المترجم به لملوكها في القيادة .
حاله
هذا الرجل الفاضل حسن الخلق ، جم الفضائل باهر الخصل ، رفيع القدر ، ظاهر الحياء ، أصيل المجد ، وقور المجلس ، خاصي الزي ، عالي الهمة ، عزوف عن الضيم ، صعب المقادة ، قوى الجأش ، طامح لقنن الرياسة ، خاطب للحظ ، متقدم في فنون عقلية ونقلية ، متعدد المزايا ، سديد البحث ، كثير الحفظ ، صحيح التصور ، بارع الخط ، مغري بالتجلة ، جواد الكف ، حسن العشرة ، مبذول(3/377)
"""""" صفحة رقم 378 """"""
المشاركة ، مقيم لرسوم التعين ، عاكف على رعي خلال الأصالة ، مفخرة من مفاخر التخوم المغربية .
مشيخته
قرأ القرآن ببلده على المكتب ابن برال ، والعربية على المقرى الزواوي وابن العربي ، وتأدب بأبيه ، وأخذ عن المحدث أبي عبد الله بن جابر الوادي آش ، وحضر مجلس القاضي أبي عبد الله بن عبد السلام ، وروى عن الحافظ عبد الله السطي ، والرئيس أبي محمد عبد المهيمن الحضرمي ، ولازم العالم الشهير أبا عبد الله الآبلى ، وانتفع به .
توجهه إلى المغرب
انصرف عن إفريقية منشئه . بعد أن تعلق بالخدمة السلطانية على الحداثة وإقامته لرسم العلامة بحكم الاستنابة عام ثلاثة وخمسين وسبعمائة . وعرف فضله ، وخطبه السلطان منفق سوق العلم والأدب أبو عنان فارس بن علي ابن عثمن ، واستقدمه ، واستحضره بمجلس المذاكرة ، فعرف حقه ، وأوجب فضله ، واستعمله في الكتابة أوائل عام ستة وخمسين ، ثم عظم عليه حمل الخاصة من طلبة الحضرة لبعده عن حسن التأني ، وشفوفه بثقوب الفهم ، وجودة الإدراك ، فأغروا به السلطان إغراء عضده ما جبل عليه عند ئذ من إغفال التحفظ ، مما يريب لديه ، فأصابته شدة تخلصه منها أجله ؛ كانت مغربة في جفاء ذلك الملك ، وهناة جواره ، وإحدى العواذل لأولى الهوى في القبول بفضله ، واستأثر به الاعتقال باقي أيام دولته على سنن الأشراف من الصبر وعدم الخشوع ، وإهمال التوسل ، وإبادة المكسوب في سبيل النفقة ، والإرضاخ على زمن المحنة ، وجار المنزل الخشن ، إلى أن أفضى الأمر إلى السعيد ولده ، فأعتبه قيم الملك لحينه ، وأعاده إلى رسمه . ودالت الدولة إلى السلطان أبي سالم ، وكان له به الاتصال ، قبل تسوغ المحنة ، بما أكد حظوته ، فقلده ديوان الإنشاء مطلق الجرايات ، محرر السهام ، نبيه الرتبة ، إلى آخر أيامه . ولما ألقت الدولة مقادها بعده إلى الوزير عمر بن عبد الله ، مدبر الأمر وله إليه قبل ذلك وسيلة ، وفي حليه شركة ، وعنده حق رابه تقصيره ، عما ارتمى إليه أمله ، فساء ما يبينهما إلى أن إلى إلى انفصاله عن الباب المريني .(3/378)
"""""" صفحة رقم 379 """"""
دخوله غرناطة
ورد على الأندلس في أوائل شهر ربيع الأول من عام أربعة وستين وسبعماية ، واهتز له السلطان ، وأركب خاصته لتلقيه ، وأكرم وفادته ، وخلع عليه ، وأجلسه بمجلسه الخاص . ولم يدخر عنه برا ومؤاكله ومطايبة وفكاهة .
وخاطبني لما حل بظاهر الحضرة مخاطبة لم تحضرني الآن فأجبته عنها بقولي :
حللت حلول الغيث في البلد المحل . . . على الطائر الميمون والرحب والسهل
يميناً بمن تعنو الوجوه لوجهه . . . من الشيخ والطفل المهدإ والكهل
لقد نشأت عندي للقياك غبطة . . . تنسى اغتباطي بالشبيبة والأهل أقسمت بمن حجت قريش لبيته ، وقبر صرفت أزمة الأحياء لميته ، الذي زيازته الأمنية السنية ، والعارفة الوارفة ، واللطيفة المطيفة ، بين رجع الشباب يقطر ماء ، ويرف نماء ، ويغزل عيون الكواكب ، فضلاً عن الكواعب ، إشارة وإيماء ، بحيث لا الوخط يلم بسياج لمته ، أو يقدح ذبالة في ظلمته ، أو يقوم حواريه في ملته ، من الأحابش وأمته ، وزمانه روح وراح ، ومغدى في النعيم ومراح ، وقصف صراح ، ورفى وجراح ، وانتخاب واقتراح ، وصدور ما بها إلا انشراح ، ومسرات تردفها أفراح . وبين قدومك خليع الرسن ، ممتعاً والحمد(3/379)
"""""" صفحة رقم 380 """"""
لله ، باليقظة والوسن ، محكماً في نسك الجنيد ، أو فتك الحسن ، ممتعاً بظرف المعارف ، مالئاً أكف الصيارف ، ما حيا بأنوار البراهين شبه الزخارف لما اخترت الشباب ، وإن شاقني زمنه ، وأعياني ثمنه ، وأجرت سحاب دمعي دمنه . فالحمد لله الذي رقى جنون اغترابي ، وملكني أزمة آرابي ، وغبطني بمائي وترابي ، ومألف أترابي ، وقد أغصني بلذيذ شرابي ، ووقع على سطوره المعتبرة إضرابي ، وعجلت هذه مغبطة بمناخ المطية ، ومنتهى الطية ، وملتقى للسعود غير البطية ، وتهنى الآمال الوثيرة الوطية ، فما شئت من نفوس عاطشة إلى ريك ، متجملة بزيك ، عاقلة خطى مهريك ، ومولى مكارمه نشيدة أمثالك ، ومظان مثالك ، وسيصدق الخبر ما هنالك ، ويسع فضل مجدك في التخلف عن الأصحار ، لا بل اللقاء من وراء البحار ، والسلام .
ولما استقر بالحضرة ، جرت بيني وبينه مكاتبات ، أقطعها الظرف جانبه ، وأوضح الأدب فيها مذاهبه . فمن ذلك ما خاطبته به ، وقد تسرى جارية رومية إسمها هند صبيحة الابتناء بها .
أوصيك بالشيخ أبي بكره . . . لا تأمنن في حالة مكره
واجتنب الشك إذا جئته . . . جنبك الرحمن من تكره
سيدي ، لا زلت تتصف بالوالج ، بين الخلاخل والدمالج ، وتركض فوقها ركض الهمالج . اخبرني كيف كانت الحال ، وهل حطت بالقاع من خير البقاع الرحال ، وأحكم بمرود المراودة الاكتحال ، وارتفع بالسقيا الإمحال ، وصح(3/380)
"""""" صفحة رقم 381 """"""
الانتحال ، وحصحص الحق وذهب المحال ، وقد طولعت بكل بشرى وبشر ، وزفت هند منك إلى بشر ، فلله من عشية تمتعت من الربيع بفرشي موشية ، وابتذلت منها أي وساد وحشية وقد أقبل ظبي الكناس من الديماس ، ومطوق الحمام من الحمام ، وقد حسنت الوجه الجميل النظرية ، وأزيلت عن الفرع الأثيث الأبرية ، وصقلت الخدود فهي كأنها الأمرية ، وسلط الدلك على الجلود ، وأغريت النورة بالشعر المولود ، وعادت الأعضاء يزلق عنها اللمس ، ولا تنالها البنان الخمس ، والسحنة يجول في صفحتها الفضية ماء النعيم ، والمسواك يلبي من ثنية التنعيم ، والقلب يرمى من الكف الرقيم بالمقعد المقيم ، وينظر إلى نجوم الوشوم ، فيقول إني سقيم . وقد تفتح ورج الخفر ، وحكم لزنجي الظفيرة بالظفر ، واتصف أمير الحسن بالصدود المغتفر ، ورش بماء الطيب ، ثم أعلق بباله دخان العود الرطيب . وأقبلت الغادة يهديها اليمن . وتزفها السعادة ، فهي تمشي على استحياء ، وقد ذاع طيب الريا ، وراق حسن المحيا ، حتى إذا نزع الخف ، وقبلت الأكف ، وصحب المزمار وتجاوب الدف ، وذاع الأرج ، وارتفع الحرج ، وتجوز اللوا والمنعرج ، ونزل على بشر بزيارة هند الفرج ، اهتزت الأرض وربت ، وعوصيت الطباع البشرية فأبت ، ولله در القائل :
ومرت فقالت متى نلتقي . . . فهش اشتياقاً إليها الخبيث
وكاد بمزق سرباله . . . فقلت إليك بساق الحديث
فلما انسدل جنح الظلام ، وانتصفت من غريم العشاء الأخيرة فريضة الإسلام ، وخاطت خيوط المنام ، عيون الأنام ، تأتى دنو الجلسة ، ومسارقة الخلسة ، ثم عضة النهد ، وقبله الفم والخد ، وإرسال اليد من النجد إلى الوهد ،(3/381)
"""""" صفحة رقم 382 """"""
وكانت الإمالة القلية قبل المد ، ثم الإفاضة فيما يغبط ويرغب ، ثم الإماطة لما يشوش ويشغب ، ثم إعمال المسير إلى السرير .
وصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا . . . ورضت فذلت صعبة أي إذلال هذا بعد منازعة للأطواق يسيرة ، يراها الغيد من حسن السيرة ، ثم شرع في حل التكة ، ونزع الشكة ، وتهيئة الأرض الغرار عمل السكة ، ثم كان الوحى والاستعجال . وحمى الوطيس والمجال ، وعلا الجزء الخفيف ، وتضافرت الخصور الهيف ، وتشاطر الطبع العفيف ، وتواتر التقبيل ، وكان الأخذ الوبيل ، وامتاز الأنوك من النبيل ، ومنها جائر وعلى الله قصد السبيل ، فيا لها من نعم متداركة ، ونفوس في سبيل القحة متهالكة ، ونفس يقطع حروف يقطع حروف الحلق ، وسبحان الذي يزيد في الخلق . وعظمت الممانعة ، وكثرت باليد المصانة ، وطال الترواغ والتزاور ، وشكى التجاور وهنالك تختلف الأحوال ، وتعظم الأهوال ، وتخسر أو تربح الأموال ، فمن عصا تنقلب ثعباناً مبيناً ، ونونه تصير تنيناً ، وبطل لم يهله المعترك الهائل ، والوهم الزائل ، ولا حال بينه وبين قرته الحائل ، فتعدى فتكة السليك إلى فتكة البراض ، وتقلد مذهب الأزارقة من الخوارج في الاعتراض ، ثم شق الصف ، وقد خضب الكف ، بعد أن كاد يصيب البرى بطعنه ، ويبوء بمقت الله ولعنته :
طعنت ابن عبد الله طعنة ثائر . . . لها نفذ لولا الشعاع أضاءها
وهناك هدأ القتال ، وسكن الخبال ، ووقع المتوقع فاستراح البال ، وتشوف إلى مذهب الثنوية ، من لم يكن للتوحيد بسبال ، وكثر السؤال عن البال بما بال ، وجعل الجريح يقول ، وقد نظر إلى دمه يسيل على قدمه :
أنى له عن دمي المسفوك معتذر . . . أقول حملته في سفكه تعبا(3/382)
"""""" صفحة رقم 383 """"""
ومن سنان عاد عنانا ، وشجاع صار هدانا جباناً ، كلما شابته شائبة ريبة ، أدخل يده في جيبه ، فانجحرت الحية ، وماتت الغريزة الحية ، وهناك يزيغ البصر ، ويخذل المنتصر ، ويسلم الأسر ، ويغلب الحصر ، ويجف اللباب ، ويظهر العاب ، ويخفق الفؤاد ، ويكبو الجواد ، ويسيل العرق ، ويشتد الكرب والأرق ، وينشأ في محل الأمن الفرق ، ويدرك فرعون الغرق . ويقوي اللجاج ويعظم الخرق . فلا تزيد الحال إلا شدة ، ولا تعرف تلك الجارحة المؤمنة إلا ردة :
إذا لم يكن عون من الله للفتى . . . فأكثر ما يجنى عليه اجتهاده
فكم مغري بطول اللبث ، وهو من الخبث ، يؤمل الكرة ، ليزيل المعرة ، ويستنصر الخيال ، ويعلم باليد الاحتيال :
إنك لا تشكو إلى مصمت . . . فاصبر على الحمل الثقيل أو مت
ومعتذر بمرض أصابه ، جرعه أو صابه . ووجع طرقه ، جلب أرقه ، وخطيب أرتج عليه أحياناً ، فقال سيحدث الله بعد عسر يسرا ، وبعد عي بياناً ، اللهم إنا نعوذ بك من فضائح الفروج إذا استغلقت أقفالها ، ولم تسم بالنجيع أعفالها ، ومن معرات الأقدار والنكول عن الأبكار ، ومن النزول عن البطون والسرر ، والجوارح الحسنة الغرر ، قبل ثقب الدر ، ولا تجعلنا من يستحي من البكر بالغداة ، وتعلم منه كلال الأداة ، وهو مجال فضحت فيه رجال ، وفراش شكيت فيه أو جال ، وأعملت روية وارتجال . فمن قائل :
أرفعه طورا على إصبعي . . . ورأسه مضطربة أسفله
كالحنش المقتول يلقى على . . . عود لكي يطرح في مزبله(3/383)
"""""" صفحة رقم 384 """"""
أو قايل :
عدمت من أيري قوى حسه . . . يا حسرة المرء على نفسه
تراه قد مال على أصله . . . كحائط خر على أسه
وقايل :
أيحسدني إبليس داءين أصبحا . . . برجلي ورأسي دملاً وزكاما
فليتها كانا به وأزيده . . . رخاوة أير لا يريد قياما
وقائل :
أقول لأيري وهو يرقب فتكة . . . به خبت من أير وغالتك داهية
إذا لم يكن للأير بخت تعذرت . . . عليه وجوه . . . . . . من كل ناحية
وقايل :
تعفف قوق الخصيتين كأنه . . . رشاء إلى جنب الركية ملتف
كفرخ ابن ذي يومين يرفع رأسه . . . إلى أبويه ثم يدركه الضعف
وقايل :
تكرش أيري بعد ما كان أملسا . . . وكان غنياً من قواه فأفلسا
وصار جوابي للمها أن مررن بي . . . مضى الوصل إلا منية تبعث الأسى
وقايل :
بنفسي من حييته فاستخف بي . . . ولم يخطر الهجران منه على بال
وقابلني بالهزء والنجة بعدما . . . حططت به رجلي وجردت سريالي
وما ارتجى من موسر فوق دكة . . . عرضت له شيئاً من الحشف البالي(3/384)
"""""" صفحة رقم 385 """"""
علل لا تزال تبكي ، وعلل على الدهر تشكي ، وأحاديث تقص وتحكي . فإن كنت أعزك الله من النمط الأول ، ولم تقل ، وهل عند رسم دارس من معول ، فقد جنيت الثمر . واستطبت السمر ، فاستدع الأبواق من أقصى المدينة ، واخرج على قومك في ثياب الزينة ، واستبشر بالوفود ، وعرف السمع عارفة الجود ، وتبجح بصلابة العود ، وإنجاز الوعود ، واجن رمان النهود ، من أغصان القدود ، واقطف ببنان اللثم أقاح الثغور وورد الخدود . وإن كانت الأخرى ، فاخف الكمد ، وأرض الثمد ، وانتظر الأمد ، واكذب التوسم ، واستعمل التبسم ، واستكتم النسوة ، وأفض فيهن الرشوة ، وتقلد المغالطة وارتكب ، وجئ على قميصك بدم كذب ، واستنجد الرحمن ، واستعن على أمورك بالكتمان
لا تظهرن لعاذل أو عاذر . . . حاليك في السراء والضراء
فلرحمة المتفجعين حرارة . . . في القلب مثل شماتة الأعداء
وانتشق الأرج ، وارتقب الفرج . فكم غمام طبق وما همي ، وما رميت إذ رميت ، ولكن الله رمى ، وأملك بعدها عنان نفسك ، حتى تمكنك الفرصة ، وترفع إليك القصة ، ولا تشتره إلى عمل لا تفئ منه بتمام ، وخذ عن إمام ، ولله در عروة بن حزام .
الله يعلم ما تركتن قتالهم . . . حتى رموا مهري بأشقر مزبد
وعلمت أني إن أقاتل دونهم . . . أقتل ولم يضرر عدوي مشهدي
ففررت منهم والأحبة فيهم . . . طمعاً لهم بعقاب يوم مفسد(3/385)
"""""" صفحة رقم 386 """"""
واللبانات تلين وتجمح ، والمآرب تدنو وتنزح ، وتحرن ثم تسمح ، وكم من شجاع خام . ويقظ نام ، ودليل أخطأ الطريق ، وأضل الفريق ، والله عز وجل يجعلها خلة موصولة ، وشملاً أكنافه بالخير مشمولة ، وبنية أركانها لركاب اليمن مأمولة ، حتى يكثر خدم سيدي وجواريه ، وأسرته وسراريه ، وتضفو عليه نعمة باريه ، ما طورد قنيص ، واقتحم عبص ، وأدرك مرام عويص ، وأعطي زاهد وحرم حريص . والسلام .
تواليفه
شرح القصيدة المسماة بالبردة شرحاً بديعاً ، دل فيه على انفساح ذرعه ، وتفنن إدراكه ، وغزارة حفظه . ولخص كثيراً من كتب ابن رشد . وعلق للسلطان أيام نظره في العلوم العقلية ، تقييداُ مفيداً في المنطق ، ولخص محصل الإمام فخر الدين ابن الخطيب الرازي . وبذلك داعبته أول لقيته بعض منازل الأشراف ، في سبيل المبرة بمدينة فاس ، فقلت له لي عليك مطالبة ، فإنك لخصت محصلي . وألف كتاباً في الحساب . وشرع في هذه الأيام في شرح الرجز الصادر عني في أصول الفقه ، بشيء لا غاية وراءه في الكمال . وأما نثره وسلطانياته ، مرسلها ومسجعها ، فخلج بلاغة ، ورياض فنون ، ومعادن إبداع ، يفرغ عنها يراعه الجريء ، شبيهة البداءات بالخواتم ، في نداوة الحروف ، وقرب العهد بجرية المداد ، ونفوذ أمر القريحة ، واسترسال الطبع . وأما نظمه ، فنهض لهذا العهد قدماً في ميدان الشعر . وأغر نقده باعتبار أساليبه ، فانثال عليه جوه ، وهان عليه صعبه ، فأتى منه بكل غريبة ، من ذلك قوله يخاطب السلطان ملك المغرب ليلة الميلاد الكريم عام اثنين وستين وسبعمائة(3/386)
"""""" صفحة رقم 387 """"""
بقصيدة طويلة :
أسرفن في هجري وفي تعذيبي . . . وأطلن موفق عبرتي ونحيبي
وأبين يوم البين موقف ساعة . . . لوداع مشغوف الفؤاد كثيب
لله عهد الظاعنين وغادروا . . . قلبي رهين صبابة ووجيب
غربت ركائبهم ودمعي سافح . . . فشرقت بعدهم بماء غروبي
يا ناقعاً بالعتب غلة شوقهم . . . رحماك في عذلي وفي تأنيبي
يستعذب الصب الملام وإنني . . . ماء الملام لدي غير شريب
ما هاجني طرب ولا اعتاد الجوى . . . لولا تذكر منزل وحبيب
أهفو إلى الطلال كانت مطلعاً . . . للبدر منهم أو كناس ربيب
عبثت بها أيدي البلى وترددت . . . في عطفها للدهر آي خطوب
تبلى معاهدها وإن عهودها . . . ليجدها وصفي وحسن نسيبي
وإذا الديار تعرضت لمتيم . . . هزته ذكراها إلى التشبيب
إيه على الصبر الجميل فإنه . . . ألوى بدين فؤادي المنهوب
لم أنسها والدهر يثني صرفه . . . ويغض طرفي حاسد ورقيب والدار مونقة محاسنها بما . . . لبست من الأيام كل قشيب
يا سائق الأظعان تعتسف الفلا . . . وتواصل الآساد بالتأويب
متهافتاً عن رحل كل مذلل . . . نشوان من أين ومس لغوب
تتجاذب النفحات فضل ردائه . . . في ملتقاها من صباً وجنوب(3/387)
"""""" صفحة رقم 388 """"""
إن هام من ظما الصبابة صحبة . . . نهلوا بمورد دمعه المسكوب
في كل شعب منية من دونها . . . هجر الأماني أو لقاء شعوب
هلا عطفت صدورهن إلى التي . . . فيها لبانة أعين وقلوب
فتؤم من أكناف يثرب مأمنا . . . يكفيك ما تخشاه من تثريب
حيث النبوة آيها مجلوة . . . تتلو من الآثار كل غريب
سر غريب لم تحجبه الثرى . . . ما كان سر الله بالمحجوب
يا سيد الرسل الكرام ضراعة . . . تقضى من نفس وتذهب حوبى
عاقت ذنوبي عن جنابك والمنى . . . فيها تعللني بكل كذوب
لا كاللآلئ صرفوا العزائم للتقى . . . فاستأثروا منها بخير نصيب
لم يخلصوا لله حتى فرقوا . . . في الله بين مضاجع وجنوب
هب لي شفاعتك التي أرجو بها . . . صفحاً جميلاً عن قبيح ذنوبي
إن النجاة وإن أتيحت لامرئ . . . فبفضل جاهك ليس بالتسبيب
إني دعوتك واثقاً بإجابتي . . . يا خير مدعو وخير مجيب
قصرت في مدحي فإن يك طيباً . . . فبما لذكرك من أريج الطيب
مإذا عسى يبغي المطيل وقد حوى . . . في مدحك القرآن كل مطيب
يا هل تبلغني الليالي زورة . . . تدني إلي الفوز بالمرغوب
أمحو خطيئاتي بإخلاصي بها . . . وأحط أوزاري وإصر ذنوبي
فثي فتية هجروا المنى وتعودوا . . . إنضاء كل تجيبة ونجيب
يطوى صحائف ليلهم فوق الفلا . . . ما شئت من خبب ومن تقريب(3/388)
"""""" صفحة رقم 389 """"""
إن رنم الحادي بذكرك رددوا . . . أنفاس مشتاق إليك طروب
أو غرد الركب الخلي بطيبة . . . حنوا لمغناها حنين النيب
ورثوا اعتساف البيد عن آبائهم . . . إرث الخلافة في بني يعقوب
الطاعنون الخيل وهي عوابس . . . يغشى مثار النقع كل سبيب
والواهبون المقربات هواتناً . . . من كل خوار العنان لعوب
والمانعون الجار حتى عرضهم . . . في منتدى الأعداء غير معيب
تخشى بوادرهم ويرجى حملهم . . . والعز شيمة مرتجى ومهيب
ومنها بعد كثير :
سائل به طامي العباب وقد سرى . . . تزجى بريح العزم ذات هبوب
تهديه شهب أسنة وعزائم . . . يصدعن ليل الحادث المرهوب
حتى انجلت ظلم الضلال بسعيه . . . وسطا الهدى بفريقها المغلوب
يا ابن الإلى شادوا الخلافة بالتقى . . . واستأثروك بتاجها المعصوب
جمعوا بحفظ الدين آي مناقب . . . فلقد شهدنا منه كل عجيب
كم رهبة أو رغبة لك والعلا . . . تقتاد بالترغيب والترهيب
لا زلت مسروراً بأشرف دولة . . . يبدو الهدي من أفقها المرقوب
تحيي المعالي غادياً أو رائحاً . . . وجديد سعدك ضامن المطلوب
وقال من قصيدة خاطبه بها عند وصول هدية ملك السودان ، وفيها الحيوان الغريب المسمى بالزرافة :
قدحت يد الأشواق من زندي . . . وهفت بقلبي زفرة الوجد
ونبذت هلواني على ثقة . . . بالقرب فاستبدلت بالبعد
ولرب وصل كنت آمله . . . فاعتضت منه مؤلم الصد
لا عهد عند الصبر أطلبه . . . إن الغرام أضاع من عهدي(3/389)
"""""" صفحة رقم 390 """"""
يلحي العذول فيما أعنفه . . . وأقول ضل فأبتغي رشدي وأعارض النفحات أسألها . . . برد الجوى فتزيد في الوقد
يهدي الغرام إلى مسالكها . . . لتعللي بضعيف ما تهدى
يا سائق الوجناء معتسفاً . . . طي الفلاة لطية الوجد
أرح الركاب ففي الصبا نبأ . . . يغنى عن المستنة الجرد
وسل الربوع برامة خبراً . . . عن ساكني نجد وعن نجد
ما لي تلام على الهوى خلقي . . . وهي التي تأبى سوى الحمد
لأبيت إلا الرشد مذ وضحت . . . بالمستعين معالم الرشد
نعم الخليقة في هدى وتقى . . . وبناء عز شامخ الطود
نجل السراة الغر شأنهم . . . كسب العلا بمواهب الوجد
ومنها في ذكر خلوصه إليه ، ومنا ارتكبه فيه :
لله مني إذ تأوبني . . . ذكراه وهو بشاهق فرد
شهم يفل بواتر قضبا . . . وجموع أقيال أولي أيد
أوريت زند العزم في طلبي . . . وقضيت حق المجد من قصدي
ووردت عن ظمأ مناهله . . . فرويت من عز ومن رفد
هي جنة المأوى لمن كلفت . . . آماله بمطالب المجد
لو لم أعل بورد كوثرها . . . ما قلت هذى جنة الخلد
من مبلغ قومي ودونهم . . . قذف النوى وتنوفة البعد
إني أنفت على رجائهم . . . وملكت عز جميعهم وحدي(3/390)
"""""" صفحة رقم 391 """"""
ومنها :
ورقيمة الأعطاف حالية . . . موشية بوشائج البرد
وحشية الأنساب ما أنست . . . في موحش البيداء بالقود
تسمو بجيد بالغ صعداً . . . شرف الصروح بغير ما جهد
طالت رؤوس الشامخات به . . . ولربما قصرت عن الوهد
قطعت إليك تنائفاً وصلت . . . آسادها بالنص والوخد
نحدي على استصعابها ذللاً . . . وتبيت طوع القن والقد
بسعودك اللائي ضمن لنا . . . طول الحياة بعيشة رغد
جاءتك في وفد الأحابش لا . . . يرجون غيرك مكرم الوفد
وافوك أنضاء تقلبهم . . . أيدي السري بالغور والنجد
كالطيف يستقري مضاجعه . . . أو كالحسام يسل من غمد
يثنون بالحسنى التي سبقت . . . من غير إنكار ولا جحد
ويرون لحظك من وفادتهم . . . فخراً على الأتراك والهند
يا مستعيناً جل في شرف . . . عن رتبة المنصور والمهدي
جازاك ربك عن خليقته . . . خير الجزاء فنعم ما يسدي
وبقيت للدنيا وساكنها . . . في عزة أبداً وفي سعد
وقال يخاطب صدر الدولة فيما يظهر من غرض المنظوم :
يا سيد الفضلاء دعوة مشفق . . . نادى لشكوى البث خير سميع
مالي وللإقصاء بعد تعلة . . . بالقرب كنت لها أجل شفيع(3/391)
"""""" صفحة رقم 392 """"""
وأرى الليالي رتقت لي صافيا . . . منها فأصبح في الأجاج شروعي
ولقد خلصت إليك بالقرب التي . . . ليس الزمان لشملها بصدوع
ووثقت منك بأي وعد صادق . . . إني المصون وأنت غير مضيع
وسما بنفسي للخليفة طاعة . . . دون الأنام هواك قبل نزوع
حتى انتحاني الكاشحون بسعيهم . . . فصددتهم عني وكنت منيعي
رغمت نفوسهم بنجح وسائلي . . . وتقطعت أنفاسهم بصنيعي
وبغوا بما نقموةا علي خلائقي . . . حسداً فراموني بكل شنيع
لا تطمعنهم ببذل في الستي . . . قد صنتها عنهم بفضل قنوع
أني أضام وفي يدي القلم الذي . . . ما كان طيعه لهم بمطيع
ولي الخصائص ليس تأبى رتبة . . . حسبي بعلمك ذاك من تفريعي
قسماً بمجدك وهو خير ألية . . . اعتدها لفؤادي المصدوع
إني لتصطحب الهموم بمضجعي . . . فتحول ما بيني وبين هجوعي
عطفاً علي بوحدتي عن معشر . . . نفث الإباء صدودهم في روعي أغدو إذا باكرتهم متجلداً . . . وأروح أعثر في فضول دموعي
حيران أوجس عند نفسي خيفة . . . فتسر في الأوهام كل مروع
أطوي على الزفرات قلباً إده . . . حمل الهموم تجول بين ضلوعي
ولقد أقول لصرف دهر رابني . . . بحوادث جاءت على تنويع
مهلاً عليك فليس خطبك ضائري . . . فلقد لبست له أجن دروع
إني ظفرت بعصمة من أوحد . . . بذ الجميع بفضله المجموع
وأنشد السلطان أمير المسلمين أبا عبد الله بن أمير المسلمين أبا الحجاج ، لأول قدومه ليلة الميلاد الكريم ، من عام أربعة وستين وسبعمائة :
حي المعاهد كانت قبل تحييني . . . بواكف الدمع يرويها ويظميني
إن الإلى نزحت داري ودارهم . . . تحملوا القلب في آثارهم دوني(3/392)
"""""" صفحة رقم 393 """"""
وقفت أنشد صبراً ضاع بعدهم . . . فيهم وأسأل رسماً لا يناجيني
أمثل الربع من شوق وألثمه . . . وكيف والفكر يدنيه ويقصيني
وينهب الوجد مني كل لؤلؤة . . . ما زال جفني عليها غير مأمون
سقت جفوني مغاني الربع بعدهم . . . فالدمع وقف على أطلاله الجون
قد كان للقلب عن داعي الهوى شغل . . . لو أن قلبي إلى السلوان يدعوني
أحبابنا هل لعهد الوصل مدكر . . . منكم وهل نسمة منكم تحييني
ما لي وللطيف لا يعتاد زائره . . . وللنسيم عليلاً لا يداويني
يا أهل نجد وما نجد وساكنها . . . حسناً سوى جنة الفردوس والعين
أعندكم أنني ما مر ذكركم . . . إلا انثنيت كأن الراح تثنيني
أصبوا إلى البرق من أنسحاء أرضكم . . . شوقاً ولولاكم ما كان يصبيني
يا نازحاً والمنى تدنيه من خلدي . . . حتى لأحسبه قرباً يناجيني
أسلى هواك فؤادي عن سواك وما . . . سواك يوماً بحال عنك يسليني
ترى الليالي أنستك ادكاري يا . . . من لم يكن ذكره الأيام تنسيني
ومنها في ذكر التفريط :
أبعد مر الثلاثين التي ذهبت . . . أولى الشباب بإحساني وتحسيني
أضعت فيها نفيساً ما وردت به . . . إلا سراب غرور ليس يرويني
وا حسرتا من أماني كلها خدع . . . تريش غيي ومر الدهر يبريني
ومنها في وصف المشور المبتنى لهذا العهد :
يا مصنعاً شيدت منه السعود حمى . . . لا يطرق الدهر مبناه بتوهين
صرح يحار لديه الطرف مفتتنا . . . فما يروقك من شكل وتلوين(3/393)
"""""" صفحة رقم 394 """"""
بعداً لإيوان كسرى إن مشورك السامي لأعظم من تلك الأواوين
ودع دمشق ومغناها فقصرك ذا . . . أشهى إلى القلب من أبواب جيرون
ومنها في التعريض بالوزير الذي كان انصرافه من المغرب لأجله :
من مبلغ عني الصحب الإلى جهلوا . . . ودي وضاع حماهم إذ أضاعوني
إني أويت من العليا إلى حرم . . . كادت مغانيه بالبشرى تحييني
وإنني ظاعن لم ألق بعدهم . . . دهراً أشاكي ولا خصماً يشاكيني
لا كالتي أخفرت عهدي ليالي إذ . . . أقلب الطرف بين الخوف والهون
سقياً ورعياً لأيامي التي ظفرت . . . يداي منها بحظ غير مغبون
ارتاد منها ملياً لا يماطلني . . . وعداً وأرجو كريماً لا يعنيني
وهاك منها قواف طيها حكم . . . مثل الأزاهر في طي الرياحين
تلوح إن جليت دراً وإن تليت . . . تثنى عليك بأنفاس البساتين
عانيت منها بجهدي كل شاردة . . . لولا سعودك ما كانت تواتيني
يمانع الفكر عنا ما تقسمه . . . من حزن بطي الصدر مكنون
لكن بسعدك ذلت لي شواردها . . . فرضت منها بتحبير وتزيين
بقيت دهرك في أمن وفي دعة . . . ودام ملكك في نصر وتمكين وهو الآن قد بدا له في التحول ، طوع أمل ثاب له في الأمير أبي عبد الله ابن الأمير أبي زكريا بن حفص ، لما عاد إليه ملك بجاية ، وطار إليه بجناح شراع ، تفيأ ظله ، وصك من لدنه رآه مستقراً عنده ، يدعم ذلك بدعوى تقصير خفي أحس به ، وجعله علة منقلبه ، وتجن سار منه في مذهبه وذلك في . . . . . . من عام ثمانية وستين وسبعمائة . ولما بلغ بجاية صدق رأيه ، ونجحت مخيلته ، فاشتمل عليه أميرها ، وولاه(3/394)
"""""" صفحة رقم 395 """"""
الحجابة بها . ولم ينشب أن ظهر عليه ابن عمه الأمير أبو العباس صاحب قسنطينة ، وبملك البلدة بد مهلكه ، وأجرة المترجم به على رسمه بما طرق إليه الظنة بمداخلته في الواقع . ثم ساء ما بينه وبين الأمير أبي العباس ، وانصرف عنه ، واستوطن بسكرة ، متحولاً إلى جوار رييسها أبي العباس بن مزنى ، متعللاً برفده إلى هذا العهد .
وخاطبته برسالة في هذه الأيام ، تنظر في اسم المؤلف في آخر الديوان .
مولده
بمدينة تونس بلده ، حرسها الله ، في شهر رمضان من عام اثنين وثلاثين وسبعمائة .
عبد الرحمن بن الحاج بن القميي الإلبيري
حاله
كان شاعراً مجيداً ، هجا القاضي أبا الحسن بن توبة قاضي غرناطة ، ومن نصره من الفقهاء ، فضربه القاضي ضرباً وجيعاً ، وطيف به على الأسواق بغرناطة ، فقال فيه الكاتب أبو إسحاق الإلبيري الزاهد ، وكان يومئذ كاتباً للقاضي المذكور ، الأبيات الشهيرة :
السوط أبلغ من قول ومن قيل . . . ومن نباح سفيه بالأباطيل
من الدار كحر النار أبراه . . . يعقل التقاضي أي تعقيل
عبد الرحمن بن يخلفتن بن أحمد بن تفليت الفازازي
يكنى أبا زيد .
حاله
كان حافظاً نظاراً ذكياً ذا حظ وافر من معرفة أصول الفقه وعلم الكلام ، وعناية بشأن الرواية ، متبذلاً في هيئته ولباسه ، قلما يرى راكباً في حضر إلا لضررة ، فاضلاً ، سنياً ، شديد الإنكار والإنحاء على أهل البدع ، مبالغاً في التحذير منهم ، عامرالإتاء ، يطلب العلم شغفاً به ، وانطباعاً إليه ، وحباً فيه ، وحرصاً عليه ، آية من آيات الله في سرعة البديهة ، وارتجال النظم والنثر وفور ماده ، وموالاة استعمال ، لا يكاد يقيد ، ولا يصرفه عنه ، إلا نسخ أومطالعة علم ، أو مذاكرة فيه ، حي صار له(3/395)
"""""" صفحة رقم 396 """"""
ملكة ، لا يتكلف معها الإنشاء ، مع الإجادة ، وتمكن البراعة . وكان متلبساً بالكتابة عن الولاة والأمراء ، ملتزماً بذلك ، كارهاً له ، حريصاً على الانقطاع عنه ، واختص بالسيد أبي إسحاق بن المنصور ، وبأخيه أبي العلاء ، وبملازمتهما استحق الذكر فيمن دخل غرناطة ، إذ عد ممن دخلها من الأمراء .
مشيخته
روى عن أبيه أبي سعيد ، وأبي الحسن جابر بن أحمد ، وابن عتيق بن مون ، وأبي الحسن بن الصايغ ، وأبي زيد السهيلي ، وأبي عبد اله التجيبي ، وأبي عبد الله بن الفخار ، وأبي محمد بن عبيد الله ، وأبي المعالي محمود الخراساني ، وأبي الوليد بن يزيد بن بقى وغيرهم . وروى عنه ابنه أبو عبد الله ، وأبو بكر بن سيد الناس ، وابن مهدي ، وأبو جعفر بن علي ابن غالب ، وأبو العباس بن علي بن مروان ، وأبو عمرو بن سالم ، وأبو القاسم عبد الرحيم بن سالم ، وابنه عبد الوهاب بن عبد الرحمن ابن سالم ، وأبو القاسم عبد الكريم بن عمران ، وأبو يحيى بن سليمن ابن حوط الله ، وأبو محمد بن قاسم الحرار ، وأبو الحسن الرعيني ، وأبو علي الماقري .
تواليفه ومنظوماته له المعشرات الزهدية ، التي ترجمها بقوله : المعشرات الزهدية ، والمذكرات الحقيقية الجدية ، ناطقة بألسنة الوجلين المشفقين ، شايقة إلى مناهج السالكين المستبقين . نظمها متبركاً بعبادتهم متيمناً بأغراضهم وإشاراتهم ، قابضاً عنان الدعوىعن مداناتهم ومجاراتهم ، مهتدياً إهداء السنن الخمس ، بالأشعة الواضحة من إشاراتهم ، مخلداً دون أفقهم العالي ، إلى حضضه ، جامعاً لحسن أقواله ، وقبح أفعاله ، بين الشيء ونقضيه . عبد الرحمن . وله المعشرات الحبية ، وترجمتها النفحات القلبية ، واللفحات الشوقية ، منظمة على ألسنة الذاهبين وجداً ، الذايبين كمداً وجهداً ، الذين غربوا ، وبقيت أنوارهم ، واحتجبوا وظهرت آثارهم ، ونطقوا وصمتت أخبارهم ، ووفوا العبودية حقها ، ومحضوا المحبة مستحقها ، نظم من نسج على منوالهم ، ولم يشاركهم إلا في أقوالهم فلان . والقصايد ، في مدح النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، التي كل قصيدة منها عشرون بيتاً ، وترجمتها الوسايل المتقبلة ، والآثار المسلمة المقبلة ، مودعة في العشرنية النبيوية ، والحقايق اللفظية والمعنوية ، نظم من اعتقدها من أزكى الأعمال ، وأعدها لما يستقبله من مدهش الأهوال ، وفرع خاطره لها ، على توالي القواطع ، وتتابع الأشغال ، ورجا بركة خاتم الرسالة ، وغاية السؤدد والجلالة ، محو ما(3/396)
"""""" صفحة رقم 397 """"""
لسلفه من خطأ في الفعل ، وزلل في المقال ، والله سبحانه ولي القبول للتوبة ، والمنان بتسويغ هذه المنة المطلوبة ، فذلك يسير في جنب قدرته ، ومعهود رحمته الواسعة ومغفرته .
شعره
وشعره كثير جداً ، ونثره مشهور وموجود . فمن شعره في غرض الشكر لله عز وجل ، على غيث جاء بعد قحط :
نعم الإله بشره تتقيد . . . فالله يشكر في النوال ويحمد
مدت إليه أكفنا محتاجة . . . فأنالها من جوده ما نعهد
وأغاثنا بغمايم وكافة . . . بالبشر تشرق والبشاير ترعد
حملت إلى ظما البسيطة ريه . . . فلها عليه منة لا تجحد
فالجو براق والشعاع مفضض . . . والماء فياض الأثير معسجد
والأرض في حلى الأتي كأنما . . . نطف الغمام لؤلؤ وزبرجد
والروض مطلول الخمايل باسم . . . والقضب لينه الحمايل ميد
تاهت عقول الناس في حركاتها . . . ألشكرها أم سكرها تتأود
فيقول أرباب البطالة تنثني . . . ويقول أرباب الحقيقة تسجد
وإذا اهتديت إلى الصواب فإنها . . . في شكر خالقها تقوم وتقعد
هذا هو الفضل الذي لا ينقضي . . . هذا هو الجود الذي لا ينفد
إحضر فؤادك القيام بشكره . . . إن كنت تعلم قدر ما تتقلد
والفض يديك من العباد فكلهم . . . عجز الحل وأنت جهلا تعقد
وإذا افتقرت إلى سواه فإنما . . . الذي بخاطرك المجال الأبعد
نعم الإله كما تشاهد حجة . . . والغائبات أجل مما يشهد
فانظر إلى آثار رحمته التي . . . لا يمتري فيها ولا يتردد
يا ليت شعري والدليل مبلغ . . . من أي وجه يستريب الملحد
من ذا الذي يرتاب إن إلهة . . . أحد وألسنة الجماد توحد
كل يصرح حاله ومقاله . . . أن ليس إلا الله رب يعبد
ومن شعره أيضاً قوله :
عجباً لمن ترك الحقيقة جانباً . . . وغدا لأرباب الصواب مجانبا(3/397)
"""""" صفحة رقم 398 """"""
وابتاع بالحق المصحح حاضرا . . . ما شاء للزور المعلل عسايبا
من بعد ما قد صار أنفذ أسهما . . . وأشد عادية وأمضي قاضبا
لا تخدعنك سوابق من سابق . . . حتى ترى الإحضار منه عواقبا
فلربما اشتد الخيال وعاقه . . . دون الصواب هوى وأصبح غالبا
ولكم إمام قد أضر بفهمه . . . كتب تعب من الضلال كتايبا
فانحرف بأفلاطون وأرسطا . . . طاليس ودونهما تسلك طريقاً لاحبا
ودع الفلاسفة الذميم جميعهم . . . ومقالهم تأتى الأحق الواجبا
يا طالب البرهان في أوضاعهم . . . أعزز علي بأن تعمر جانبا أعرضت عن شط النجاة ملججاً . . . في بحر هلك ليس ينجي عاطبا
وصفا الدليل فما نفعت بصفوه . . . حتى جعلت له الحبر شايبا
فانظر بعقلك هل ترى متفلسفا . . . فيمن ترى إلا دعياً كاذبا
أعيته أعباء الشريعة شدة . . . فارتد مسلوبا ويحسب سالبا
والله أسل عصمة وكفاية . . . من أن أكون عن المحجة ناكبا
ومن شعره :
إليك مددت الكف في كل شدة . . . ومنك وجدت اللطف في كل نايب
وأنت ملاذ والأنام بمعزل . . . وهل مستحيل في الرجاء كرآيب
فحقق رجائي فيك يا رب واكفني . . . شماتة عدو أو إساءة صاحب
ومن أين أخشى من عدو إساءة . . . وسترك ضاف من جميع الجوانب
وكم كربة نجيتني من غمارها . . . وكانت شجاً بين الحشا والترايب
فلا قوة عندي ولا لي حبلة . . . سوى حسن ظني بالجميل المواهب
فيا منجي المضطر عند دعايه . . . أغشني فقد سدت على مذاهب
رجاؤك رأس المال عندي وربحه . . . وزهد في المخلوق أسنى المواهب(3/398)
"""""" صفحة رقم 399 """"""
إذا عجزوا عن نفعهم في نفوسهم . . . فتأميلهم بعض الظنون الكواذب
فيا محسناً فيما مضى أنت قادر . . . على اللطف في حالي وحسن العواقب
وإني لأرجو منك ما أنت أهله . . . وإن كنت حطا في كثير العواقب
وإني لأرجو منك ما أنت أهله . . . وإن كنت حطا في كثير المعايب
فصل على المختار من آل هاشم . . . إمام الورى عند اشتداد النوايب
وقال في مدعي قراءة الخط دون نظر :
وأدور مياس العواطف أصبحت . . . محاسنه في الناس كالنوع في الجنس
يدير على القرطاس أنمل كفه . . . فيدرك أخفى الخط في أيسر اللمس
فقال فريق سحر بابل عنده . . . وقال فريق ليس هذا من الإنس
فقلت لهم لم تفهموا سر دركه . . . على أنه للعقل أجلى من الشمس
ستكفه حب القلوب فأصبحت . . . مداركها أجفان أنمله الخمس
وفاته : استقدمه المأمون . على حال وحشة ، كانت بينه وبينه ، فورد ورود الرضا على مراكش في شعبان سنة سبع وعشرين وستماية . وتوفي في ذي قعدة بعده ، ودفن بجبانة الشيوخ مع أخيه عبد الله وقرنايهما ، رحم الله جميعهم .
انتهى السفر التاسع بحمد الله
ومن السفر العاشر العمال الأثرا في هذا الحرف
عبد الرحمن بن أسباط
الكاتب المنجب ، كاتب أمير المسلمين ، يوسف بن تاشفين .
حاله
لحق به بالعدوة ، فاتصل بخدمته ، وأغراه بالأندلس ، إذ ألقى إليه أمورها على صورتها ، حتى كان ما فرغ الله عز وجل ، من استيلانه على ممالكها ، وخلعه لرؤسايها . وكان عبد الرحمن قبل اتصاله به ، مقدوراً عليه في رزقه ، يتحرف بالنسخ ، ولم يكن حسن الخط ، ولا معرب اللفظ ، إلى أن تسير للكتابة في باب(3/399)
"""""" صفحة رقم 400 """"""
الديوان بألمرية ، ورأى خلال ذلك ، في نومه ، شخصاً يوقظه ، ويقول له قم يا صاحب ربع الدنيا ، وقص رؤياه على صاحب له بمثواه ، فبشره ، فطلب من ذلك الحين السمو بنفسه ، فأجاز البحر ، وتعلق بحاشية الحرة العليا زينب ، فاستكتبته . فلما توفيت الحرة ، أقره أمير المسلمين كاتباً ، فنال ما شاء ، مما ترتمي إليه الهمم ، جاهاً ومالاً وشهرة . وكان رجلاً حصيفاً ، سكوتاً ، عاقلاً ، مجدي الجاه ، حسن الوساطة ، شهير المكانة .
توفي فجأة بمدينة سبتة ، في عام سبعة وثمانين وأربعمائة . وتقلد الكتابة بعده ، أبو بكر بن القصير . ذكره ابن الصيرفي .
عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن مالك المعافري
وتكر مالك في نسبه
أوليته
قالوا من ولد عقبة بن نعيم الداخل إلى الأندلس ، من جند دمشق ، نزيل قرية شكنب من إقليم تاجرة الجمل من عمل بلدنا لوشة ، غرناطي يكنى أبا محمد .
حاله كان أبو محمد هذا أحد وزراء الأندلس ، كثير الصنايع ، جزل المواهب ، عظيم المكارم ، على سنن عظماء الملوك ، وأخلاق السادة الكرام . لم ير بعده مثله في حال الأندلس ، ذاكراً للفقه والحجيث ، بارعاً في الأدب ، شاعراً مجيداً وكاتباً بليغا ، حلو الكتابة والشعر ، هشاً مع وقار ، ليناً على مضاء ، عالي الهمة ، كثير الخادم والأمل .
من آثاره المائلة إلى اليوم الحمام ، بجوفي الجامع الأعظم من غرناطة . بدأ بناه أول يوم من جمادى الأولى سنة تسع وخمسماية . شرع في الزيادة في سقف(3/400)
"""""" صفحة رقم 401 """"""
الجامع من صحنه سنة ست عشرة ، وعوض أرجل قسيه ، أعمدة الرخام ، وجلب الروس والموايد من قرطبة ، وفرش صحنه بكذان الصخيرة . ومن مكارمه أنه لما ولي مستخلص غرناطة وإشبيلية ، وجهه أميره علي بن يوسف بن تاشفين إلى طرطوشة برسم بنايها ، وإصلاح خللها ، فلما استوفى الغاية فيها ، قلده ، واستصحب جملة من ماله لمؤنته المختصة به ، فلما احتلها سال قاضيها ، فكتب إليه جملة من أهلها ممن ضعف حاله وقل تصرفه ، من ذوي البيوتات ، فاستعملهم أمناء في كل وجه جميل ، ووسع أرزاقهم ، حتى كمل له ما أراد من عمله . ومن عجز أن يستعمله ، وصله من ماله ، وصدر عنها وقد أنعش خلقاً كثيراً .
شعره
من قوله في مجلس أطربه سماعه ، وبسطه احتشاد الأنس فيه واجتماعه :
لا تلمني إذا طربت لشجو . . . يبعث الأنس فالكريم طروب
ليس شق الجيوب حقاً علينا . . . إنما الحق أن تشق القلوب
وقال : وقد قطف غلام من غلمانه نوارة ، ومد بها يده إلى أبي نصر الفتح بن عبيد الله . فقال أبو نصر :
وبدر بدا والطرف مطلع حسنه . . . وفي كفه من رايق النور كوكب
يروح لتعذيب النفوس ويغتدي . . . ويطلع في أفق الجمال ويغرب
فقال أبو محمد بن مالك :
ويحسد منه الغصن أي مهفهف . . . يجيء على مثل الكتيب ويذهب(3/401)
"""""" صفحة رقم 402 """"""
نثره
قال أبو نصر ، كتبت إليه مودعاً ، فكتب إلي مستدعياً ، وأخبرني رسوله أنه لما قرأ الكتاب وضعه ، وما سوى ولا فكر ولا روى : يا سيدي ، جرت الأيام بجمع افتراقك ، وكان الله جارك في انطلاقك ، فغيرك روع بالظعن ، وأوقد للوداع جامح الشجن ، فأنت من أبناء هذا الزمن ، خليفة الخضر ، لا يستقر على وطن ، كأنك والله يختار لك ما تأتيه وما تدعه ، موكل بفضاء الأرض تذرعه ، فحسب من نوى بعشرتك الاستمتاع ، أن يعدك من العواري السريعة الارتجاع ، فلا يأسف على قلة الثوى وينشد : وفارقت حتى ما أبالي من النوى .
وفاته
اعتل بإشبيلية فانتقل إلى غرناطة ، فزادت علته بها ، وتوفي رحمه الله بها في غرة شعبان سنة ثمان عشرة وخمسمائة ، ودفن إثر صلاة الظهر من يوم الجمعة المذكورة بمقبرة باب إلبيرة ، وحضر جنازته الخاصة والعامة .
ومن رثاه : رثاه ذو الوزارتين أبو عبد الله بن أبي الخصال رحمه الله ، فقال :
إن كنت تشفق من نزوح نواه . . . فهناك مقبرة وذا مثواه
قسم زمانك عبرة أو عبرة . . . وأحل تشوقه على ذكراه(3/402)
"""""" صفحة رقم 403 """"""
وأعدده ما امتدت حياتك غايباً . . . أو عاتباً إن لم تزر زرناه
أو نائماً غلبت عليه رقدة . . . لمسهد لم تغتمض عيناه
أو كوكباً سرت الركاب بنوره . . . فمضى وبلغنا المحل سناه
فمتى تبعد والنفوس تزوره . . . ومتى تغيب والقلوب تراه
يا واحداً عدل الجميع وأصلحت . . . دنيا الجميع ودينهم دنياه
طالت إذاتك بالحياء كرامة . . . والله يكرم عبده بإذاه
لشهادة التوحيد بين لسانه . . . وجنانه نور يرى مسراه
ويوجهه سيمى أغر محجل . . . مهما بدا لم تلتبس سيماه
وكأنما هو في الحياة سكينة . . . لولا اهتزاز في الندى يغشاه
وكأنه لحظ العفاة توجعا . . . فتلازمت فوق الفؤاد يداه
أبدي رضي الرحمن عنك ثناؤهم . . . إن الثناء علامة لرضاه
يا ذا الذي شفف القلوب به . . . وذا لا ترتجيه وذاك لا تخشاه
ما ذاك إلا أنه فرع زكا . . . وسع الجميع بظله وحناه فاليوم أودى كل من أحببته . . . ونعى إلى النفس من ينعاه
مإذا يؤمل في دمشق مسهد . . . قد كنت ناظره وكن تراه
يعتاد قبرك للبكا أسفاً بما . . . قد كان أضحكه الذي أبكاه
يا تربة حل الوزير ضريحها . . . سقاك بل صلى عليك الله
وسرى إليك ومنك ذكر ساطع . . . كالمسك عاطرة به الأفواه
عبد الرحمن بن عبد الملك الينشتي
يكنى أبا بكر ، أصله من مدينة باغة ، ونشأ بلوشة ، وهو محسوب من الغرناطيين .
حاله
كان شيخاً يبدو على مخيلته النبل والدهاء ، مع قصور أدواته . ينتحل النظم والنثر ، في أراجيز يتوصل بها إلى غرضه ، من التصرف في العمل .(3/403)
"""""" صفحة رقم 404 """"""
وجرى ذكره في التاج المحلى ، وغيره بما نصه : قارض هاج ، مداهن مداج ، أخبث من نظر من طرف خفي ، وأغدر من تلبس بسعار وفي ، إلى مكيدة مبثوتة الحبايل ، وإغراء يقطع بين الشعوب والقبايل ، من شيوخ طريقة العمل ، المتقلبين من أحوالها ، بين الصحو والثمل ، المتعللين برسومها ، حين اختلط المرعي والهمل . وهو ناظم أرجاز ، ومستعل حقيقة ومجاز . نظم مختصر السيرة ، في الألفاظ اليسيرة ، ونظم رجزاً في الزجر والفال ، نبه به تبك الطريقة بعد الإغفال ، فمن نظمه ما خاطبني ، به مستدعياً إلى إعذار ولده :
أريد من سيدي الأعلى تكلفه . . . على الوصول إلى داري صباح غد
يزيدني شرفاً منه ويبصر لي . . . صناعة القاطع الحجام في ولدي
فأجبته :
يا سيدي الأوحد الأسمى ومعتمدي . . . وذا الوسيلة من أهل ومن بلد
دعوت في يوم الاثنين الصحاب ضحى . . . وفيه ما ليس في بيت ولا أحد
يوم السلام على المولى وخدمته . . . فاصفح وإن عثرت رجلي فخذ بيدي
والعذر أوضح من نار على علم . . . فعد إن غبت عن لوم وعن فند
يقيت في ظل عيش لا نفاد له . . . مصاحبا غير محصور إلى أمد
ومنه أيضاً :
قل لابن سيد والديه لقد علا . . . وتجاوز المقدار فيما يفخر
ما ساد والده فيحمد أمره . . . إلا صغير العنز حتى يكبر
وصدرت عنه مقطوعات في غير هذا المعنى مما عذب به المجني ، منها قوله :
إن الولاية رفعة لكنها . . . أبدا إذا حققتها تتنقل(3/404)
"""""" صفحة رقم 405 """"""
فانظر فضايل من مضى من أهلها . . . تجد الفضايل كلها لا تعزل
وقال :
هنيا أبا إسحق دمت موفقاً . . . سعيداً قرير العين بالعرس والعرس
فأنت كمثل البدر في الحسن والتي . . . تملكتها في الحسن أسنى من الشمس
وقالوا عجيب نور بدرين ظاهر . . . فقلت نعم إن ألف الجنس للجنس
وكتب إلي :
إذا ضاق ذرعي بالزمان شكوته . . . لمولاي من آل الخطيب فينفرج
هو العدة العظمى هو السيد الذي . . . بأوصافه الحسنى المكارم تبتهج
وزير علا ذاتاً وقدرا ومنصبا . . . فمن دونه أعلا الكواكب يندرج
وفي بابه نلت الأماني وقادني . . . دليل رشادي حيث رافقني الفرج
فلا زال في سعد وعز ونعمة . . . تصان به الأموال والأهل والمهج
توفي في الطاعون عام خمسين وسبعماية بغرناطة
وفي سائر الأسماء التي بمعني عبد الله وعبد الرحمن ، وأولاد الأمراء
عبد الأعلى بن موسى بن نصير مولى لخم
أوليته
أبوه المنسوب إليه فتح الأندلس ، ومحله من الدين والشهرة ، وعظم الصيت معروف .
حاله
كان عبد الأعلى أميرا على سنن أبيه في الفضل والدين ، وهو الذي باشر فتح غرناطة ومالقة ، واستحق الذكر لذلك . قال الرازي ، وكان موسى بن نصير ، قد أخرج ابنه عبد الأعلى فيمن رتبه من الرجال إلى إلبيرة وتدمكير ، لفتحها ، ومضى إلى إلبيرة ففتحها ، وضم بها إلى غرناطة اليهود ، مستظهراً بهم على النصر ، ثم مضى إلى كورة ريه ، ففتحها(3/405)
"""""" صفحة رقم 406 """"""
عبد الحليم بن عمر بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق بن محيو
يكنى أبا محمد ، أوليته معروفة . وفسد ما بين أبيه وبين جده ، أمير المسلمين ، بما أوجب انتباذه إ ، لى سكني مدينة سجلماسة ، معززة له ألقاب السلطان بها ، مدوخاً ما بأحوازها من أماكن الرياسة ، منسوبة إليه بها الآثار ، كالسد الكبير الشهير ، وقصور الملك . فلما نزل عنها على حكم أخيه أمير ا لمسلمين أبي الحسن ، وأمضى قتلته بالفصاد ، نشأ ولده ، وهم عدة بباب عمهم ، يسعهم رفده ، ويقودهم ولده ، ثم جلاهم إلى الأندلس إبنه السلطان أبو عنان ، عندما تصير الأمر إليه ، فاستقروا بغرناطة ، تحت بر وجراية ، قلقاً بمكانهم من جلاهم ومن بعده ، لإشارة عيون الترشيح إليهم ، مغازلة من كثب ، وقعودهم بحيث تعثر فيهم المظنة ، إلى أن كان من أمرهم ما هو معروف .
حاله
هذا الرجل م ن أهل الخير والعفاف والصيانة ، ودمث الخلق ، وحسن المداراة ، يألف أهل الفضل ، خاطب للرتبة بكل جهد وحيلة ، وسد عنه باب الأطماع . حذر من كان له الأمر بالأندلس من لدن وصوله . كي لا تختلف أحوال هذا الوطن في صرف وجوه أهله إلى غزو عدو الملة ، ومحولي القبلة ، وإعراضهم عن الإغماض في الفتنة المسلمة ، وربما بميت عنهم الحركات والهموم . فثقفوا من فيها عليهم ، إلى أن تبرأ ساحتهم ويظن به السكون . فلما دالت الدولة ، وكانت للأخابث الكرة ، واستقرت بيد الرئيس الغادر الكرة ، وكان ما تقدم الإلماع به من عمل السلطان أبي سالم ملك المغرب ، على إجازة السلطان ولي ملك الأندلس ، المزعج عنها بعلة البغي ، ذهب الدايل الأخرق إلى المقارضة ، فعندما استقر السلطان أبو عبد الله بجبل الفتح ، حاول إجازة الأمير عبد الحليم إلى تلمسان بعد مفاوضة . فكان ذلك في أخريات ذي قعدة ، وقد قضى الأمر في السلطان أبي سالم ، وانحلت العقدة ، وانتكثت المريرة ، وولي الناس الرجل المعتوه ، وفد إلى تلمسان من لم يرض محله من الإدالة ، ولا قويت نفسه على العوض ، ولا صابرت غض المخافة ، وحرك ذلك من عزمه ، وقد أنجده السلطان مستدعيه بما في طوقه . ولما اتصل خبره بالقايم بالأمر بفاس ، ومعول التدبير على سلطانه . أعمل النظر فيهم ، زعموا بتسليم الأمر ، ثم حذر من لحق به من أضداده ، فصمم على الحصار ، واستراب بالقبيل المريني ، وأكثف الحجاب دونهم بما يحرك أنفتهم ، فنفروا عنه بواحدة أول عام ثلاثة وستين وسبعماية ، واتفق رأيهم على الأمير عبد الحليم ، فتوجهت إليه(3/406)
"""""" صفحة رقم 407 """"""
وجوههم اتفاقا ، وانثالوا عليه اضطرارا ، ونازل البلد الجديد ، دار الملك من مدينة فاس ، يوم السبت السادس لشهر المحرم من العام . واضطربت المحلات بظاهره ، وخرج إليه أهل المدينة القدمى ، فأخذ بيعتهم ، وخاطب الجهات ، فألقت إليه قواعدها باليد ، ووصلت إليه مخاطبتها .
ومن ذلك ما خوطب به من مدينة سلا ، وأنا يومئذ بها :
يا إمام الهدى وأي إمام . . . أوضح الحق بعد إخفاء رسمه
أنت عبد الحليم نر . . . جوفا لمسمى له نصيب من اسمه وسلك مسلكا حسنا في الناس ، وفسح الآمال ، وأجمل اللقاء ، وتحمل الجفاء ، واستفز الخاصة بجميل التأني وأخذ العفو ، والتظاهر بإقامة رسوم الديانة ، وحارب البلد المحصور في يوم السبت الثالث عشر لشهر الله المحرم المذكور ، كانت الملاقاة التي برز فيها وزير الملك ومدير رحاه بمن اشتملت عليه البلدة من الروم والجند الرحل ، واستكثر من آلات الظهور وعدد التهويل ، فكانت بين الفريقين حرب مرة تولى كبرها الناشبة ، فأرسلت على القوم حواصب النبل ، غارت لها الخيل ، واقشعرت الوجوه ، وتقهقرت المواكب . وعندها برز السلطان المعتوه ، مصاحبة له نسمة الإقدام ، وتهور الشجاعة عند مفارقة الخلال الصحية ، وتوالت الشدات ، وتكالبت الطايفة المحصورة ، فتمرست بأختها . ووقعت الهزيمة ضحوة اليوم المذكور على قبيل بني مرين ومن لف لفهم ، فصرفوا الوجوه إلى مدينة تازي ، واستقر بها سلطانهم ، ودخلت مكناسة في أمرهم ، وضاق ذرع فاس للملك بهم ، إلى أن وصل الأمير المستدعي ، طية الصبر ، وأجدى دفع الدين ، ودخل البلد في يوم الاثنين الثاني والعشرين لصفر من العام . وكان اللقاء بين جيش السلطان ، لنظر الوزير ، مطعم الإمهال ومعود الصنع . وبين جيش بني مرين ، لنظر الأخ عبد المؤمن ابن السلطان أبي علي . فرحل القوم من مكناسة ، وفر عنهم الكثير من الأولياء ، وأخذوا العرصة ، واستقروا أخيراً ببلد أبيهم سجلماسة ، فكانت بين القوم مهادنة . وعلى أثرها تعصب للأخ عبد المؤمن معظم عرب الجهة ، وقد برز إليهم في شأن استخلاص الجباية ، فرجعوا به إلى سجلماسة . وخرج لمدافعتهم الأمير عبد الحليم ، بمن معه من أشياخ قبيله والعرب أولى مظاهر ، فكانت بينهم حرب أجلت عن هزيمة الأمير عبد الحليم ، واستلحم للسيف جملة من المشاهير . كالشيخ الخاطب في حبله ، خدن النكر وقادح زند الفتنة ، الداين بالحمل على الدول على التفصيل والجملة ، المعتمد بالمغرب بالرأي والمشورة ، يحيى بن مسطي وغيره . وأذعن عبد الحليم بعدها للخلع ، وخرج عن الأمر لأخيه ، وأبقى عليه ، وتحرج من(3/407)
"""""" صفحة رقم 408 """"""
قتله . وتعرف لهذا الوقت صرفه عنه إلى الأرض الحجازية على صحراء القبلة ، فانتهى أمره إلى هذه الغاية .
دخوله غرناطة
قدم على الحضرة مع الجملة من إخوته وبني عمه في . . . . . . . . . . . . جلاهم السلطان أبو عنان ، عندما تصير له الأمر ، فاستقروا بها ، يناهز عبد الحليم منهم بلوغ أشده .
وتوفي . . . . . . . . . . . . . . . . وستين وسبعماية
عبد المؤمن بن عمر بن عثمن بن يعقوب بن عبد الحق بن محيو
أخو الأمير عبد الحليم يكنى أبا محمد
حاله
كان رجلا وقوراً ، سكونا ، نحيفا ، آية الله في جمود الكف ، وإيثار المسك ، قليل المداخلة للناس ، مشتغلا بما يغنيه من خويصة نفسه ، موصوفاً ببسالة وإقدام ، حسن الهيئة . دخل الأندلس مع أخيه ، وعلى رسمه ، وتحرك معه ، وابن أخ لما ، فتولى كثيرا من أمره ، ولقي الهول دونه . ولما استقروا بسجلماسة ، كان ما تقرر من توبته على أمره ، والعمل على خلعه ، معتذرا زعموا إليه ، موفيا حقه ، موجبا تجلته إلى حين انصرافه ، ووصل الأندلس خطابه ، يعرف بذلك بما نصه في المدرجة .
ولم ينشب أن أحس بحركة جيش السلطان بفاس إليه ، فخاطب عميد الهساكره ، عامر بن محمد الهنتاتي ، وعرض نفسه عليه ، فاستدعاه . وبذل له أماناً . ولما تحصل عنده ، قبض عليه ، وثقفه ، وشد عليه يده ، وحصل على طلبه دهية ، من التوعد بمكانه ، واتخاذ اليد عند السلطان بكف عاديته إلى هذا التاريخ .
ومن الأفراد أيضاً في هذا الحرف وهم طارؤون
عبد الحق بن علي بن عثمن بن أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق
الأمير المخاف بعد أبيه أمير المسلمين أبي الحسن بمدينة الجزائر ، بعد ما توجه إلى المغرب ، وجرت عليه الهزيمة من بني زيان .(3/408)
"""""" صفحة رقم 409 """"""
حاله كان صبيا ظاهر السكون والأدب ، في سن المراهقة ، لم ينشب أن نازله جيش عدوه ، ومالأه أهل البلد ، وأخذ من معه لأنفسهم وله الأمان ، فنزل عنها ولحق بالأندلس . قال في كتاب طرفة العصر ، وفي ليلة العاشر من شهر ربيع الأول اثنين وخمسين وسبعمائة ، اتصل الخبر من جهة الساحل ، بنزول الأمير عبد الحق ابن أمير المسلمين أبي الحسن ومن معه ، بساحل شلوبانية ، مفلتين من دهق الشدة ، بما كان من منازلة جيش بني زيان مدينة الجزائر ، وقيام أهلها بدعوتهم ، لما سيموه من المطاولة ، ونهكهم من الفتنة ، وامتنع الأمير ومن معه بقصبتها ، وأخذوا لأنفسهم عهدا ، فنزلوا وركبوا البحر ، فرافقتهم السلامة ، وشملهم ستر العصمة . ولحين اتصل بالسلطان خبره ، بادر إليه بمركبين ثقيلي الحلية ، وما يناسب ذلك من بزة ، وعجل من خدامه بمن يقوم ببره ، وأصحبه إلى منزل كرامته ، ولرابع يوم من وصوله ، كان قدومه ، وبرز له السلطان بروزاً فخما . ونزل له ، قارضاً إياه أحسن القرض ، بما أسلفه من يد ، وأسداه من طول ، وأقام ضيفا في جواره ، إلى أن استدعاه أخوه ملك المغرب ، فانصرف عن رضي منه ، ولم ينشب أن هلك مغتالا في جملة أرادهم الترشيح
عبد الواحد بن زكريا بن أحمد اللحياني
يكنى أبا ملك . وبيته في الموحدين الملوك بتونس . وأبوه سلطان إفريقية المترقى إليها من رتبة الشياخة الموحدية .
حاله
كان رجلا طوالا نحيفا ، فاضلا حسيبا ، مقيما للرسوم الحسبية ، حسن العشرة ، معتدل الطريقة ، نشأ بالبلاد المشرقية ، ثم اتصل بوطنه إفريقية ، وتقلد الإمارة بها برهة يسيرة ، ثم فر عنها ولحق بالمغرب ، وجاز إلى الأندلس ، وقدم على سلطانها ، فرحب به ، وقابله بالبر ، ونوه محله ، وأطلق جرايته ، ثم ارتحل أدراجه إلى العدوة ، ووقعت بيني وبينه صحبة ، أنشدته عند وداعه :
أبا ملك أنت نجل الملوك . . . غيوث الندى وليوث النزال
ومثلك يرتاح للمكرمات . . . ومالك بين الورى من مثال(3/409)
"""""" صفحة رقم 410 """"""
عزيز بأنفسنا أن نرى . . . ركابك مؤذنة بارتحال
وقد خبرت منك خلقاً كريماً . . . أناف على درجات الكمال
وفازت لديك بساعات أنس . . . كما زار في النوم طيف الخيال
فلولا تعللنا أننا نزورك فسوق بساط الجلال
ونبلغ فيك الذي نشتهي . . . وذاك على السهل المنال
لما فترت أنفس من أسى . . . ولا برحت أدمع في انهمال
تلقتك حيث احتللت السعود وكان لك الله على كل حال
ومن ترجمة الأعيان والوزراء والأماثل والكبرا
عبد الحق بن عثمن بن محمد بن عبد الحق بن محيو
يكنى أبا إدريس ، شيخ الغزاة بالأندلس .
حاله كان شجاعاً عفيفاً تقيا ، وقوراً جلداً ، معروف الحق ، بعيد الصيت . نازع الأمر قومه بالمغرب ، وانتزى بمدينة تازى ، على السلطان أبي الربيع ، وأخذ بها البيعة لنفسه . ثم ضاق ذرعه ، فعبر فيمن معه إلى تلمسان . ولما هلك أبو الربيع ، وولي السلطان أبو سعيد ، قدم للكتب في شأنه إلى سلطان الأندلس ، وقد تعرف عزمه على اللحاق ، ولم ينشب أن لحق بألمرية من تلمسان ، فثقف بها ، قضاء لحق من خاطب في شأنه . ثم بدا للسلطان في أمره ، فأوعز لرقبايه في الغفلة عنه ، وفر فلحق ببلاد النصرى فأقام بها ، إلى أن كانت الوقيعة بالسلطان بغرناطة ، بأحواز قرية العطشا على يد طالب الملك أمير المسلمين أبي الوليد ، وأسر يومئذ شيخ الغزاة حمو بن عبد الحق ، وترجح الرأي في إطلاقه وصرف ، إعلانا للتهديد . فنجحت الحيلة ، وعزل عن الخطة ، واستدعى عبد الحق هذا إليها ، فوصل غرناطة ، وقدم شيخا على الغزاة . ولما تغلب السلطان أبو الوليد على الأمر ، واستوسق له ، وكان ممن شمله أمانه ، فأقره مرؤساً بالشيخ أبي سعيد عثمن بن أبي العلاء برهة . ثم لحق بأميره المخلوع(3/410)
"""""" صفحة رقم 411 """"""
نصر ، المستقر موادعاً بوادي آش ، وأوقع بجيش المسلمين مظاهر الطاغية ، الوقيعة الشنيعة بقرمونة ، وأقام لديه مدة . ثم لحق بأرض النصرى ، وأجاز البحر إلى سبتة . مظاهراً لأميرها أبي عمرو يحيى بن أبي طالب العزفي ، وقد كشف القناع في منابذة طاعة السلطان ، ملك المغرب ، وكان أملك لما بيده ، وأتيح له ظفر عظيم على الجيش المضيق على سبتة ، فبيته وهزمه . وتخلص له ولده ، الكاين بمضرب أمير الجيش في بيت من الخشب رهينة ، فصرف عليه ، فما شئت من ذياع شهرة ، وبعد صيت ، وكرم أحدوثة . ثم بدا له في التحول إلى تلمسان ، فانتقل إليها ، وأقام في إيالة ملكها عبد الرحمن بن موسى بن تاشفين إلى آخر عمره .
وفاته
توفي يوم دخول مدينة تلمسان عنوة ، وهو يوم عيد الفطر من عام ثمانية وثلثين وسبعماية ، قتل على باب منزله ، يدافع عن نفسه ، وعلى ذلك فلم يشهر عنه يومئذ كبير غناء ، وكور واستلحم ، وحز رأسه . وكان أسوة أميرها في المحيا والممات ، رحم الله جميعهم ، فانتقل بانتقاله وقتل بمقتله . وكان أيضاً علماً من أعلام الحروب ، ومثلا في الأبطال ، وليثا من ليوث النزال .
عبد الملك بن علي بن هذيل الفزاري وعبد الله أخوه
حالهما
قال ابن مسعدة ، أبو محمد وأبو مروان توليا خطة الوزارة في الدولة الحبوسية ، ثم توليا القيادة بثغور الأندلس ، وقهرا ما جاورهما من العدو ، وغلباه ، وسقياه كأس المنايا ، وجرعاه ، ولم يزالا قائمين على ذلك ، ظاهرين علمين ، إلى أن استشهدا رحمهما الله .
عبد القهار بن مفرج بن عبد القهار بن هذيل الفزاري
حاله
قال ابن مسعدة ، كان بارع الأدب ، شاعر ، نحويا ، لغويا ، كاتبا متوقد الذهن ، عنده معرفة بالطب ، ثم اعتزل الناس ، وانقبض ، وقصد سكنى البشارات ، لينفرد بها ، ويخفى نفسه ، فرارا من الخدمة ، فتهيأ له المراد .(3/411)
"""""" صفحة رقم 412 """"""
شعره
وكان شاعرا جيد القريحة سريع الخاطر ، ومن شعره :
يا صاح لا تعرض لزوجية . . . كل البلا من أجلها يعترى
الفقر والذل وطول الأسى . . . لست بما أذكره مفترى
ما في فم المرأة شيء سوى . . . اشتر لي واشتر لي واشتر
القضاة الفضلاء وأولا الأصليون
عبد الحق بن غالب بن عطية بن عبد الرحمن بن غالب بن عبد الرؤوف بن تمام بن عبد الله بن تمام بن عطية بن خالد بن عطية بن خالد بن خفاف بن أسلم بن مكتوم المحاربي
أوليته
من ولد زيد بن محارب بن عطية ، نزل جده عطية بن خفاف بقرية قسلة من زاويه غرناطة ، فأنسل كثيراً ممن له خطر ، وفيه فضل .
حاله
كان عبد الحق فقيها ، عالما بالتفسير والأحكام والحديث والفقه ، والنحو والأدب واللغة ، مقيدا حسن التقيد ، له نظم ونثر ، ولى القضاء بمدينة ألمرية في المحرم سنة تسع وعشرين وخمسماية ، وكان غاية في الدهاء والذكاء ، والتهمم بالعلم ، سرى الهمة في اقتناء الكتب . توخى الحق ، وعدل في الحكم ، وأعز الخطة .
مشيخته
روى عن الحافظ أبيه ، وأبوي على الغساني والصدفي ، وأبي عبد الله محمد بن فرج مولى الطلاع ، وأبي المطرف الشعبي ، وأبي الحسين بن البيان ، وأبي القاسم بن الحصار المقري ، وغيرهم .
تواليفه ألف كتابه المسمى بالوجيز في التفسير فأحسن فيه وأبدع ، وطار بحسن نيته كل مطار . وألف برنامجاً ضمنه مروياته ، وأسماء شيوخه ، وجرز وأجاد .(3/412)
"""""" صفحة رقم 413 """"""
شعره
قال الملاحي ، ما حدثني به غير واحد من أشياخه عنه ، قوله :
وليلة جيت فيها الجذع مرتديا . . . بالسيف أسحب أذيالا من الظلم
والنجم حيران في بحر الدجا غرق . . . والبدر في طيلسان الليل كالعلم
كأنما الليل زنجي بكاهله . . . جرح فيثغب أحيانا له بدم
وقال يندب عهد شبابه :
سقياً لعهد شباب ظلت أمرح . . . في ريعانه وليالي العيش أسحار
أيام روض الصبا لم تذو أغصنه . . . ورونق العمر غض والهوى حمار
والنفس تركض في تضمين ثرتها . . . طرفاً له في زمان اللهو إحضار
عهداً كريماً لبسنا منه أردية . . . كانت عيوناً ومحيت فهي آثار(3/413)
"""""" صفحة رقم 414 """"""
مضى وأبقى بقلبيي منه نار أسى . . . كوني سلاماً أو برداً فيه يا نار
أبعد أن نعمت نفسي وأصبح في . . . ليل الشباب لصبح الشيب أسفار
ونازعتني الليالي وانثنت كسراً . . . عن ضيغم ماله ناب وأظفار
ألا سلاح خلال أخلصت فلها . . . في منهل المجد إيراد وإصدار
أصبو إلى روض عيش روضه خضل . . . أو ينثني بي عن اللقيا إقصار
إذا تعطلت كفى من شبا قلم . . . آثاره في رياض العلم أزهار
من روى عنه
روى عنه أبو بكر بن أبي جمرة ، وأبو محمد بن عبد الله ، وأبو القاسم بن حبيش ، وأبو جعفر بن مضاء ، وأبو محمد عبد المنعم ، وأبو جعفر ابن حكم ، وغيرهم .
مولده : ولد سنة إحدى وثمانين وأربع ماية .
وفاته : توفي في الخامس والعشرين لشهر رمضان سنة ست وأربعين وخمس ماية بمدينة لورقة . قصد مرسية يتولى قضاءها ، فصد عنها ، وصرف منها إلى لورقة ، اعتداء عليه .(3/414)
"""""" صفحة رقم 415 """"""
عبد المنعم بن محمد بن عبد الرحيم بن فرج الخزرجي
من أهل غرناطة ، يكنى أبا محمد ، ويعرف بابن الفرس ، وقد تقدم ذكر طايفة من أهل بيته .
حاله
كان حافظاً جليلاً ، فقيها ، عارفا بالنحو واللغة ، كاتبا بارعا ، شاعراً مطبوعا ، شهير الذكر ، عالي الصيت . ولي القضاء بمدينة شقر ، ثم بمدينة وادي آش ، ثم بجيان ، ثم بغرناطة ، ثم عزل عنها ، ثم وليها الولاية التي كان من مضمن ظهيره بها ، قول المنصور له ، أٌول لك ما قاله موسى عليه السلام لأخيه هرون ، إخلفني في قومي ، واصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ، وجعل إليه النظر في الحسبة ، والشرطة ، وغير ذلك ، فكان إليه النظر في الدماء فما دونها ، ولم يكن يقطع أمر دونه ببلده وما يرجع إليه .
وقال ابن عبد الملك ، كان من بيت علم وجلالة ، مستبحراً في فنون المعارف ، على تفاريقها ، متحققاً بها ، نافذا فيها ، ذكي القلب ، حافظاً للفقه . استظهر أوان طلبه للكتابين ، المدونة ، وكتاب سيبويه وغيرهما ، وعني به أبوه وجده عناية تامة . وقال أبوة الربيع بن سالم ، سمعت أبا بكر ابن الجد ، وحسبك شاهدا ، يقول غير ما مرة ، ما أعلم بالأندلس ، أحفظ لمذهب مالك من عبد المنعم بن الفرس ، بعد أبي عبد الله بن زرقون .
مشيخته
روى عن أبيه الحافظ أبي عبد الله ، وعن جده أبي القاسم ، سمع عليهما وقرأ ، وعن أبي بكر بن النفيس ، وأبي الحسن بن هذيل ، وأبي عبد الله ابن سعادة ، وأبي محمد عبد الجبار بن موسى الجذامي ، وأبي عامر محمد ابن أحمد(3/415)
"""""" صفحة رقم 416 """"""
الشلبي ، وأبي العباس أحمد وأخيه أبي الحسن ابني زيادة الله . هذه جملة من لقى من الشيوخ وشافهه وسمع منه ، وأجاز له من غير لقاء وبعضهم باللقاء من غير قراءة ، ابن ورد ، وابن بقى ، وأبو عبد الله ابن سليمن التونسي ، وأبو جعفر بن قبلال ، وأبو الحسن بن الباذش ، ويونس بن مغيث ، وابن معمر ، وشريح ، وابن الوحيدي ، وأبو عبد الله ابن صاف ، والرشاطي ، والحميري ، وابن واضاح ، وابن موهب ، وأبو مروان الباجي ، وأبو العباس بن خلف بن عيشون ، وأبو بكر بن طاهر ، وجعفر بن مكي ، وابن العربي ، ومساعد بن أحمد بن مساعد ، وعبد الحق بن عطية ، وأبو مروان بن قزمان ، وابن أبي الخصال ، وعياض ابن موسى ، والمازري ، وغيرهم .
تواليفه ألف عدة تواليف ، منها كتاب الأحكام ، ألفه وهو ابن خمسة وعشرين عاماً ، فاستوفى ووفي ، واختصر الأحكام السلطانية ، وكتاب النسب لأبي عبيد بن سلام ، وناسخ القرآن ومنسوخه لابن شاهين ، وكتاب المحتسب لابن جنى . وألف كتابا في المسايل التي اختلف فيها النحويون من أهل البصرة ولاكوفة ، وكتابا في صناعة الجدل ، ورد على ابن غرسية في رسالته في تفضيل العجم على العرب . وكتب بخطه من كتب العربية واللغة والأدب والطب وغير ذلك .
من روى عنه
حدث عنه الحافظ أبو محمد القرطبي ، وأبو علي الرندي ، وإبنا حوط الله ، وأبو الربيع ين سالم ، والجم الغفير .
شعره
أبى ما بقلبي اليوم أن يتكتما . . . وحسبك بالدمع السفوح مترجما
وأعجب به من أخرس بات مفصحا . . . يبين للواشين ما كان مبهما
فكم عبرة في نهر شقر بعثتها . . . سباقا فأمسى النهر مختضبا دما
يرجع ترجيع الأنين اضطراره . . . كشكوى الجريح للجريح تألما
كملن بصحبي في قوفة الدمع ناثر . . . شقايق نعمان على متن أرقما
ولله ليل قد لبست ظلامه . . . راداُ بأنوار النجوم منمنما(3/416)
"""""" صفحة رقم 417 """"""
أناوح فيه الورق فوق غصونها . . . فكم أورق منهن قد بات معجما
وممالي إلا للفرقدين مصاحب . . . ويا بعد حالي في الصبابة منهما
أبيت شتيت الشمل والشمل فيهما . . . جميع كما أبصرت عقدا منظما
فيا قاصداً تدمير عرج مصافحا . . . نسألك رسما بالعقيق ومعلما
وأعلم بأبواب السلام صبابتي . . . كما كان عرف المسك بالمسك علما
وإن طفت في تلك الأجارع لا تضع . . . بحق هواها إن لم تلم مسلما
وما ضرها لو جاذبت ظبية النقا . . . فضول رداء قد تغشته معلما
فيثني قضيباً أثمر البدر مايساً . . . بحقف مسيل لفه السيل مظلما
وما كنت إلا البدر وافي غمامة . . . فما لاح حتى غاب فيها مغيما
وما ذاك من هجر ولكن لشقوة . . . أبت أن يكون الوصل منها متمما
فياليتني أصبحت في الشعر لفظة . . . ترددني مهما أردت تفهما
ولله ما أذكى نسيمك نفحة . . . أأنت أعرت للروض طيباً تنسما
ولله ما أشفى لقاك للجوى . . . كأنك قد أصبحت عيسى بن مريما
وما الراح بالماء القراح مشوبة . . . بأطيب من ذكراك إن خامرت فما
فمالي وللأيام قد كان شملنا . . . جميعاً فأضحى في يديها مقسماً
وما جنيت الطيب من شهد وصلها . . . جنيت من التبديد للوصل علقما
وق ذقت طعم البين حتى كأنني . . . لألفة من أهواه ما ذقت مطعما
فمن لفؤاد شطره حازه الهوى . . . وشطر لإحراز الثواب مسلما
ويا ليت أن الدار حان مزارها . . . فلو صح قرب الدار أدركت مغنما
ولو صح قرب الدار لي لجعلته إلى . . . مرتقى السلوان والصبر سلما
فقد طال ما ناديت سراً وجهرة . . . عسى وطن يدنو بهم ولعلما ؟(3/417)
"""""" صفحة رقم 418 """"""
ومن شعره :
سلام على من شفني بعد داره . . . وأصبحت مشغوفاً بقرب مزاره
ومن هو في عيني ألذ من الكرى . . . وفي النفس أشهى من أمان المكاره
سلام عليه كلما ذر شارق . . . ينم كعرف الزهر غب فطاره
لعمرك ما أخشى غداة وداعنا . . . وقد سعرت في القلب شعلة ناره
وسال على الخدين دمع كأنه . . . بقية ظل للروض في جلناره
وعانقت منه غصن بان منعماً . . . ولاحظت منه الصيح عند اشتهاره
وأصبحت في أرض وقلبي بغيرها . . . وما حال مسلوب الفؤاد مكاره
نأى وجه من أهوى فأظلم أفقه . . . وقد غاب عن عينيه شمس نهاره
سل البرق عن شوقي يخبرك بالذي . . . ألاقيه من برح الهوى وأواره
وهل هو إلا نار وجدي وكلما . . . تنفست عم الجو ضوء شراره
ومن شعره أيضاً رحمة الله عليه : أقرأ على شنجل سلام . . . أطيب من عرفه نسيما
من مغرم القلب ليس ينسى . . . منظره الرايق الوسيما
إذا رأى منظرا سواه . . . عاف الجنى منه والشميما
وإن أتى مشربا حميدا . . . كان وإن راقه ذميما
وقف بنجد وقوف صب . . . يستذكر الخدن والحميما
وأندب أركاً بشعب رضوى . . . قد رجعت بعدنا مشيما
وأذكر شباباً مضى سريعا . . . أصبحت من بعده سقيما
هيهات ولي وجاء شيب . . . وكيف للقلب أن يهيما
ما يصلح الشيب غير تقوى . . . تحجب عن وجهه الجحيما
في كل يوم له ارتحال . . . أعجب به ظاعناً مقيما
ما العمر إلا لديه دين . . . قد آن أن يقضى الغريما(3/418)
"""""" صفحة رقم 419 """"""
فعد إلى توبة نصوح . . . وارج إلهاً بنا رحيما
قد سبق الوعد منه حتى . . . أطمع ذا الشقوة النعيما
مولده في سنة أربع وعشرين وخمسماية وفاته : عصر يوم الأحد الرابع من جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين وخمسماية . وشهد دفنه بباب إلبيرة الجم الغفير ، وازدحم الناس على نعشه حتى حملوه على أكفهم ومزقوه . وأمر أن يكتب على قبره :
عليك سلام الله يا من يسلم . . . ورحمته مازرتني تترحم
أتحسبني وحدي نقلت إلى هنا . . . ستلحق بي عما قريب فتعلم
فيا لمن يمسي لدنياه مؤثرا . . . ويهمل أخراه ستشقى وتندم
فلا تفرحن إلا بتقديم طاعة . . . فذاك الذي ينجي غدا ويسلم
ومن غير الأصلبين
عبد الحكيم بن الحسين بن عبد الملك بن يحيى بن باسيو بن تادرت الشمالي اليدرازتيني ثم الواغدينى
أصله من تينملل من نظر مراكش ، وانتقل جده عبد الملك مع الخليفة عبد المؤمن بن علي إلى إقليم بجاية . ونشأ عبد الملك ببجاية ، وانتقل إلى تونس في حدود خمسة وثمانين . وورد أبو محمد الأندلس في حدود سبعمائة .
حاله
من تعريف شيخنا أبي البركات : كان من أهل المعرفة ، بالفقه وأصوله ، على طريقة المتأخرين . وكان مع ذلك رجلا كريم النفس ، صادق الهجة ، سليم الصدر ، منصفا في المذاكرة . قلت يجمع هذا الرجل إلى ما وصفه به ، الأصالة ببلده إفريقية ، وثبت اسمه في عايد الصلة بما نصه : الشيخ الأستاذ القاضي ، يكنى أبا محمد . كان رحمه الله من أهل العلم بالفقه ، والقيام على الأصلين ، صحيح(3/419)
"""""" صفحة رقم 420 """"""
الباطن ، سليم الصدر ، من أهل الدين والعدالة والأصالة . بث في الأندلس علم أصول الفقه ، وانتفع به . وتصرف في القضاء في جهات .
مشيخته
منقولا من خط ولده الفقيه أبي عبد الله صاحبنا ، الكاتب بالدار السلطانية ، قرأ ببلده على الفقيه الصدر أبي علي بن غنوان ، والشيخ أبي الطاهر بن سرور ، والإمام أبي علي ناصر الدين المشدالي ، والشيخ أبي الشمل جماعة الحلبي ، والشيخ أبي الحجاج بن قسوم وغيرهم . ومن خط المحدث أبي بكر بن الزيات ، يحمل عن أبي الطاهر بن سرور ، وعن أبي إسحاق بن عبد الرفيع .
تواليفه
من تواليفه : المعاني المبتكرة الفكرية في ترتيب المعالم الفقهية . والإيجاز في دلالة المجاز ، ونصرة الحق ، ورد الباغي في مسألة الصدقة ببعض الأضحية ، والكراس المرسوم بالمباحث البديعة في مقتضى الأمر من الشريعة .
مولده
ببجاية في أحد لجمادى الأولى من عام ثلاثة وستين وستمائة .
وتوفي قاضيا بشالش يوم الجمعة ، و الرابع عشر لجمادى الأولى من عام ثلاثة وعشرين وسبعماية . ودفن بجبانة باب إلبيرة بمقربة من قبر ولي الله أبي عبد الله التونسي . وكانت جنازته مشهورة .
ومن المقريين والعلماء
عبد الملك بن حبيب بن سليمن بن هرون بن جلهمة بن العباس بن مرداس السلمي
أصله من قرية قورت ، وقيل حصن واط من خارج غرناطة ، وبها نشأ وقرأ .
حاله قال ابن عبد البر . كان جماعا للعلم ، كثير الكتب ، طويل اللسان ، فقيها ، نحويا ، عروضيا ، شاعرا ، نسابة ، إخبارياًُ . وكان أكثر من يختلف إليه ، الملوك(3/420)
"""""" صفحة رقم 421 """"""
وأبناؤهم . قال ابن مخلوف ، كان يأتي إلى معالي الأمور . وقال غيره ، رأيته يخرج من الجامع ، وخلفه نحو من ثلاثمائة ، بين طالب حديث ، وفرايض ، وفقه ، وإعراب ، وقد رتب الدول عليه ، كل يوم ثلاثين دولة ، لا يقرأ عليه فيهغا شيء إلا تواليفه ، وموطأ مالك . وكان يلبس الخز والسعيد . قال ابن نمير ، وإنما كان يفعله إجلالا للعلم ، وتوقيرا له . وكان يلبس إلى جسمه ثوب شعر ، وكان صواماً قواماً . وقال المغاسي ، لو رأيت ما كان على باب ابن حبيب ، لزدريت غيره . وزعم الزبيدي ، أنه نعى إلى سحنون فاسترجع ، وقال مات عالم الأندلس . قال ابن الفرضي ، جمع إلى إمامته في الفقه ، التبحبح في الأدب ، والتفنن في ضروب العلوم ، وكان فقيها مفتيا . قال ابن خلف أبو القاسم الغافقي ، كان له أرض وزبتون بقرية بيرة من طوق غرناطة ، حبس جميع ذلك على مسجد قرطبة . وله ببيرة مسجد ينسب إليه . وكان يهبط من قرية قورت يوم الاثنين والخميس إلى مسجده ببيرة ، فيقرأ عليه ، وينصرف إلى قريته .
مشيخته
روى عن صعصعة بن سلام ، والغازي بن قيس ، وزياد بن عبد الرحمن . ورحل إلى المشرق سنة ثمان ومائتين . وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، وكانت رحلته من قريته بفحص غرناطة . وسمع فيها من عبد الملك بن الماجشون ، ومطرف بن عبد الله ، وأصبغ بن الفرج ، وابنه موسى ، وجماعة سواهم ، وأقام في رحلته ثلاثة أعوام وشهورا . وعاد إلى إلبيرة ، إلى أن رحله عبد الرحمن بن الحكم إلى قرطبة ، في رمضان سنة ثمان عشرة ومائتين .
من روى عنه : سمع منه إبناه محمد وعبد الله ، وسعيد بن نمر ، وأحمد بن راشد ، وإبراهيم بن خالد ، وإبراهيم بن شعيب ، ومحمد بن فطيس . وروى عنه من(3/421)
"""""" صفحة رقم 422 """"""
عظماء القرطبيين ، مطرف بن عيسى ، وبقي بن مخلد ، ومحمد بن وضاح ، والمقامي في جماعة .
تواليفه
قال أبو الفضل عياض بن موسى ، في كتابه في أصحاب مالك قال بعضهم ، قلت لعبد الملك بن حبيب . كم كتبك التي ألفت ، قال ألف كتاب وخمسون كتابا . قال عبد الأعلى ، منها كتب المواعظ سبعة ، وكتب الفضايل سبعة ، وكتب أجواد قريش وأخبارها وأنسابها خمسة عشر كتابا ، وكتب السلطان وسيرة الإمام ثمانية كتب ، وكتب الباه والنساء ثمانية ، وغير ذلك . ومن كتب سماعاته في الحديث والفقه ، وتواليفه في الطب ، وتفسير القرآن ، ستون كتابا . وكتاب المغازي ، والناسخ والمنسوخ ، ورغايب القرآن ، وكتاب الرهون والحدثان ، خمسة وتسعون كتابا ، وكتاب مقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، اثنان وعشرون كتابا ، وكتاب في النسب ، وفي النجوم ، وكتاب الجامع ، وهي كتب فيها مناسك النبي ، وكتاب الرغايب ، وكتاب الورع في المال ، وكتاب الربا . وكتاب الحكم والعدل بالجوارح . ومن المشهورات الكتاب المسمى بالواضحة . ومن تواليفه كتاب إعراب القرآن ، وكتاب الحسبة في الأمراض ، وكتاب الفرايض ، وكتاب السخاء واصطناع المعروف ، وكتاب كراهية الغناء .
شعره
أنشد ابن الفرضي مما كتب بها إلى أهله من المشرق سنة عشر ومايتين :
أحب بلاد الغرب والغرب موطني . . . ألا كل غربي إلي حبيب
فيا جسداً أضناه شوق كأنه . . . إذا انتضيت عنه الثياب قضيب
ويا كبداً عادت زمانا كأنما . . . يلذغها بالكاويات طبيب
بليت وأبلاني اغترابي ونأيه . . . وطول مقامي بالحجاز أجوب
وأهلي بأقصى مغرب الشمس دارهم . . . ومن دونهم بحر أجش مهيب
وهول كريه ليله كنهاره . . . وسير حثيث للركاب دؤوب
فما الداء إلا أن تكون بغربة . . . وحسبك داء أن يقال غريب
فيا ليت شعري هل أبيتن ليلة . . . بأكناف نهر الثلج حين يصوب
وحولي أصحابي وبنتي وأمها . . . ومعشر أهلي والرؤوف مجيب(3/422)
"""""" صفحة رقم 423 """"""
وكتب إلى الأمير عبد الرحمن في ليلة عاشوراء :
لا تنسى لا ينسك الرحمن عاشوراء . . . واذكره لا زلت في الأحياء مذكورا
قال الرسول صلاة الله تشمله . . . قولا وجدنا عليه الحق والنورا
من بات في ليل عاشوراء ذا سعة . . . يكن بعيشه في الحول محبورا فارغب فديتك فيما فيه رغبتنا . . . خير الورى كلم حياً ومقبورا
وفاته
توفي في ذي الحجة سنة ثماني وثلاثين . وقيل تسع وثلاثين ومايتين . قال ابن خلف ، كان يقول في دعائه ، إن كنت يا رب راضياً عني ، فاقبضني إليك قبل انقضاء سنة ثمان وثلاثين ، فقبضه الله في أحب الشهور إليه ، رمضان من عام ثمانية وثلاثين ، وهو ابن أربع وستين سنة ، وصلى عليه ولده محمد ، ودفن بمقبرة أم سلمة بقبلي محراب مسجد الضيافة من قرطبة . قالوا ، والخبر متصل ، إنه وجد جسده وكفنه وافرين لم يتغيرا بعد وفاته ، بتسع وأربعين سنة ، وقطعت من كفنه وافرين لم يتغيرا بعد وفاته ، بتسع وأربعين سنة ، وقطعت من كفنه قطعة ، رفعت إلى الأمير عبد الله . ورثاه أبو عبد الله الرشاش وغيره ، فقال :
لئن أخذت منا المنايا مهذبا . . . وقد قل فيها من يقال المهذب
لقد طاب فيه الموت والموت غبطة . . . لمن هو مغموم الفؤاد معذب
ولأحمد بن ساهي فيه :
مإذا تضمن قبر أنت ساكنه . . . من التقى والندى يا خير مفقود
عجبت للأرض في أن غيبتك . . . وقد ملأتها حكماً في البيض والسود
قلت ، فلو لم يكن من المفاخر الغرناطية إلا هذا الخبر لكفى .(3/423)
"""""" صفحة رقم 424 """"""
ومن الطارئين عليها
عبد الواحد بن محمد بن علي بن أبي السداد الأموي المالقي ، الشهير بالباهلي
حاله
كان رحمه الله بعيد المدى ، منقطع القرين في الدين المتين والصلاح . وسكون النفس ، ولين الجانب ، والتواضع ، وحسن الخلق ، إلى وسامة الصورة ، وملاحة الشيبة ، وطيب القراءة ، مولى النعمة على الطلبة من أهل بلده ، أستإذا حافلا ، متفننا ، مضطلعا ، إماما في القراءات ، حايز خصل السباق إتقانا ، وأداء ، ومعرفة ، ورواية ، وتحقيقا . ماهرا في صناعة النحو ، فقيها ، أصولياً ، حسن التعليم ، مستمر القراءة ، فسيح التحليق ، نافعاً ، متحبباً ، مقوم الأزمنة على العلم وأهله ، كثير الخضوع والخشوع ، قريب الدمعة ، أقرأ عمره ، وخطب بالمسجد الأعظم من مالقة أو أخذ عنه الكثير من أهل الأندلس .
مشيخته
قرأ على الأستاذ الإمام أبي جعفر بن الزبير ، وكان من مفاخره . وعلى القاضي أبي علي بن أبي الأحوص ، وعلى المقرئ الضرير أبي عبد الله محمد بن علي بن الحسن بن سالم بن خلف السهيلي ، والراوية أبي الحجاج ابن أبي ريحانة المربلي . وكتب له بالإجازة العامة ، الراوية أبو الوليد العطار ، والإمام أبو عبد الله بن سمعون الطائي . وسمع على الراوية أبي عمر عبد الرحمن بن حوط الله الأنصاري ، وقرأ على القاضي أبي القاسم ، قاسم ابن أحمد بن حسن الحجري الشهير بالسكوت المالقي ، وأخذ عن الشيخ الصالح أبي جعفر أحمد بن يوسف الهاشمي الطنجالي ، وغيرهم ممن يطول ذكرهم . ويحمل عن خاله ولي الله أبي محمد عبد العظيم ابن ولي الله محمد بن أبي الحجاج ابن الشيخ رحمه الله .
تواليفه : شرح التيسير في القراءات . وله تواليف غيره في القرآن والفقه .
شعره
حدث الشيخ الفقيه القاضي أبو الحجاج المنتشافري . قال ، رأيت في النوم أبا محمد الباهلي أيام قراءتي عليه بمالقة في المسجد الجامع بها ، وهو قائم يذكر الناس ويعظهم . فعقلت من قوله ، أتحسبونني غنياً فقيرا ، أنا فقير ، أنا ،(3/424)
"""""" صفحة رقم 425 """"""
فاستيقظت وقصصتها عليه ، فاستغفر الله ، وقال ، يا بني حقا ما رأيت . ثم رفع إلى ثاني يوم تعريفه ، رقعة فيها مكتوب :
لئن ظن قوم من أهل الدنا . . . بأن لهم قوة أو غنا
لقد غلطوا ويحهم بجمع مالهم . . . فتاهوا عقولا وعموا أعينا
فلا تحسبوني إلى رأيهم . . . فإني ضعيف فقير أنا
وليس افتقاري وفقري معا . . . إلى الخلق فما عند خلق غنا
ولكن إلى خالقي وحده . . . وفي ذاك عز ونيل المنا
فمن ذل للحق يرقى العلا . . . ومن ذل للخلق يلق العنا
وفاته
ببلده مالقة رضي الله عنه ، ونفع به . في خامس ذي القعدة من عام خمسة وسبعماية . وكان الحفل في جنازته عظيما . وحف الناس بنعشه ، وحمله الطلبة وأهل العلم على رؤوسهم ، سكن غرناطة وأقرأ بها .
ومن الكتاب والشعراء في هذا الحرف
عبد الحق بن محمد بن عطية بن يحيى بن عبد الله بن طلحة بن أحمد بن عبد الرحمن بن غالب بن عطية المحاربي
صاحبنا الكاتب للدولة الغادرة .
حاله
كان هذا الرجل في حال الدعة التي استصحبها ، وقبل أن تبعته أيدي الفضول ، بعفاف وطهارة ، إلى خصل خط ، نشط البنان ، جلد على العمل . ونظمه وسط ، ونثره جمهورى عامى ، مبين عن الأغراض . وولي ببلده الخطابة والقضاء . . . في الحداثة . ثم انتقل إلى غرناطة ، فجاجأت به الكتابة السلطانية(3/425)
"""""" صفحة رقم 426 """"""
باختياري ، مستظهرة منه ببطل كفاية ، وباذل حمل كلفة ، فانتقل رئيسا في غرض إعانتي ، وانتشالي من الكلفة ، على الضعف وإلمام المرض ، والترفع عن الابتذال ، والأنفة من الاستخدام ، فرفع الكل ، ولطف من الدولة محله . ثم لما حال الأمر ، وحتم التمحيص ، وتسورت القلعة ، وانتثر النظم ، واستأثر به الاصطناع ، كشفت الخبرة منه عن سوءة لا تواري ، وعورة لا يرتاب في أشنوعتها ولا يتمارى ، فسبحان من علم النفس فجورها وتقواها ، إذ لصق بالدايل الفاسق ، فكان آلة انتقامه ، وجارحة صيده ، وأحبولة كيده ، فسفك الدما ، وهتك الأستار ، ومزق الأسباب ، وبدل الأرض غير الأرض ، وهو يزقه في أذنه ، فيؤم النصيحة ، ويمحله لقب الهداية ، ويبلغ في شد أزره إلى الغاية : عنوان عقل الفتى اختياره . يجري في جميل دعوته . طوالاً ، أخرق ، بسيء السمع ، وينسى الإجابة ، بدوياً ، قحاً ، جهورياً ، ذاهلاً عن عواقب الدنيا والآخرة : طرقاً في سوء العهد ، وقلة الوفا ، مردوداً في الحافزة ، منسلخا من آية السعادة ، تشهد عليه بالحمل يده ، ويقيم عليه الحجج شرهه ، وتبوه هفوات الندم جهالته . ثم أسلم المحروم مصطنعه ، أحوج ما كان إليه ، وتبرأ منه ، ولحقته بعده مطالبة مالية . لقي لأجلها ضغطا ، وهو الآن بحال خزي ، واحتقاب تبعات ، خلصنا الله من ورطات الدنيا والآخرة .
أوليته وشيوخه
وبسط كثير من مجمل حاله حسبما نقلت من خطه .
قال يخاطبني بما نصه :
يا سيداً فاق في مجد وفي شرف . . . وفات سبقاً بفضل الذات والسلف
وفاضلا عن سبيل الذم منحرفاً . . . وعن سبيل المعالي غير منحرف(3/426)
"""""" صفحة رقم 427 """"""
وتحفة الزمن الآتي فلقد . . . أربى بما حازه منها على التحف
ومعدناً لنفيس الدر فهو لما . . . حواه منه لدى التشبيه كالصدف
وبحر بعلم جميع الناس مغترف . . . منه ونيل المعالي حظ مغترف
وسابقاً بذ أهل العصر قاطبة . . . فالكل في ذاك منهم غير مختلف
من ذا يخالف في نار على علم . . . أو يجحد الشمس نوراً وهو غير خف
ما أنت إلا وحيد العصر في شيم . . . وفي ذكاء وفي علم وفي ظرف
لله من منتم للمجد منتسب . . . بالفضل متسم بالعلم متصف
لله من حسب عد ومن كرم . . . قد شاده السلف الأخيار لخلف
أيه أيا من به تبأى الوزارة إذ . . . كنت الأحق بها في الذات والشرف
يا صاحب القلم الأعلى الذي جمعت . . . فيه المعالي ببعض البعض لم أصف
يا من يقصر وصفي في علاه ولو . . . أنسى مديح حبيب في أبي دلف(3/427)
"""""" صفحة رقم 428 """"""
شرفتني عندما استدعيت من قبلي . . . نظما تدونه في أبدع الصحف
وربما راق ثغر في مباسمه حتى . . . إذا ناله إلمام مرتشف
أجل قدرك أن ترضى لمنتجع . . . بسوء كليلته حظا مع الحشف
هذا ولو أنني فيما أتيت به . . . نافحت في الطيب زهر الروضة الأنف
لكنت أفضى إلى التقصير من خجل . . . أخليت بالبعض مما تستحق أف
فحسبي العجز عما قد أشرت به . . . والعجز حتماً قصارى كل معترف
لكن أجبت إلى المطلوب ممتثلا . . . وإن غدوت بمرقى القوم كالهدف
فانظر إليها بعين الصفح عن زلل . . . واجعل تصفحها من جملة الكلف
بقيت للدهر تطويه وتنشره . . . تسمو من العز باسم غير منصرف جيتك ، أعزك الله ، ببضاعة مزجاة ، وأعلقت رجاي من قبولك بأمنية مرتجاة ، وما مثلك يعامل بسقط المتاع ، ولا يرضى له بالحشف مع بخس المد والصاع . لكن فضلك يغضي عن التقصير ويسمح ، ويتجاوز عن الخطإ ويصفح ، وأنت في كل حال إلى الأدنى من الله أجنح . ولولا أن إشارتك واجبة الامتثال ، والمسارعة إليها مقدمة على ساير الأعمال ، لما أتيت بها تمشي على استحياء ، ولا عرضت نفسي أن أقف(3/428)
"""""" صفحة رقم 429 """"""
موقف حشمة وحياء ، فما مثلي فيما أعرضه عليك ، أو أقدمه من هذا الهذر بين يديك ، إلا مثل من أهدى الخرز لجالب الدر ، أو عارض للوشل موج البحر ، أو كاثر بالحصى عدد الأنجم الزهر . على أني لو نظمت الشعرى شعراً ، وجبتك بالسحر الحلال نظماً ونثراً ، ونافحتك بمثل تلك الروضة الأدبية ، التي تعبق أزاهرها نثرا ، لما وصفتك ببعض البعض من نفايس حلاك ، ولا وفيت ما يجب من نشر مآثر علاك . فما عسى أن أقول في تلك المآثر العلمية ، والذات الموسومة باسم التعريف والعلمية ، أو أعبر عنه في وصف تلك المحاسن اأدبية ، والمفاخر الحسبية . إن وصفت مالك من شرف الذات ، ملت إلى الاختصار ، وقلت آية من الآيات . وإن ذهبت إلى ذكر مفاخرك الباهرة الآيات ، بلغت في مدى الفخر والحب إلى أبعد الغايات ، وإن حليتك ببعض الحلا والصفات ، سلبت محاسن الروض الأريج النفحات . فكم لك من التصانيف الرايقة ، والبدائع الفائقة ، والآداب البارعة ، والمحاسن الجامعة ، فما شيت من حدايق ذات بهجة ، كأنما جادتها سحب نيسان ، وجنات ثمراتها صنوان وغير صنوان ، تزري ببدايع بديع الزمان ، وتخجل الروض كما يخجل الورد ابتسام الأقحوان . نظم كما انتثر الدر ، ونثر تتمنى الجوزاء ، أن تتقلده والأنجم الزهر ، ومعان أرق من نسيم الأسحار ، تهب على صفحات الأزهار . فأهلاً بك يا روضة الآداب ، ورب البلاغة ، التي شمس آياتها لا تتوارى بالحجاب ، فما أنت إلا حسنة الزمان ، ومالك أزمة البيان ، وسباق غايات الحسن والإحسان . وقد وجدت مكان القول ذا سعة في أوصافك ، وما في تحليك بالفضائل واتصافك . لكني رأيت أني لو مددت في ذلك باع الإطناب ، وأتيت فيه بالعجب العجاب ، فليس لي إلا تقصير عن المطاولة وإمساك ، والعجز عن درك الإدراك إدراك . إيه أيها السيد الأعلى ، والفاضل الذي له في قداح الفخر ، القدح المعلى ، فإنك أمرت أن أعرض عليك لتعريف بنفسي ومولدي ، وذكر أشياخي الذين بأنوارهم أقتدي ، فعلمت أن هذا إنما هو تهمم منك بشأني ، وجري على معتاد الفضل الذي يقصر عنه لساني ، وفضل جميل لا أزال أجري في الثناء عليه ملء عناني . وإلا فمن أنا في الناس حتى أنسب ، أو من يذهب إلا أنت هذا المذهب .
أما التعريف بنفسي ، فأبدأ فيه باسم أبي . هو أبو القاسم محمد بن عطيه بن يحيى بن عبد الله بن طلحة بن أحمد بن عبد الرحمن بن غالب ابن عطية المحاربي . وجدي عطية هو الداخل إلى الأندلس عام الفتح ، نزل بإلبيرة ، وبها تفرع من تفرع من عقبه ، إلى أن انتقلوا إلى غرناطة ، فتأثل بها حالهم ، واستمر بها(3/429)
"""""" صفحة رقم 430 """"""
استيطانهم ، إلى حدود المائة السابعة ، فتسبب في الانتقال من بقي منهم ، وهو جدي الأقرب الأنساب ، وقضى ارتحاله إلى مدينة وادي آش ، ولك أجل كتاب . وذلك أنه استقضى بنظر ما في دولة أمير المسلمين الغالب بالله ، أول ملوك هذه الدولة النصرية ، نصر الله خلفها ، ورحم سلفها ، فاتخذ فيها صهراً ونسبا ، وكان ذلك لاستيطانه بها سببا ، واستمر مقامه بها إلى أن ارتحل إلى المشرق لأداء الفريضة ، فكان إلى أشرف الحالات مرتحله ، وقضى في إيابه من الحج أمله . واستمرت به الاستيطان . وتعذرت بعوده إلى غرناطة بعدما نبت فيها الأوطان . على أنه لم يعدم من الله الستر الجميل ، ولا حظ من عنايته بإيصال النعمة كفيل ، فإنه سبحانه حفظ من سلف فيمن خلف ، وجعلهم في حال الاغتراب ، فيمن اشتهر بنباهة الحال واتصف ، وقبض لمصاهرتهم من خيار المجد والشرف ، وبذلك حفظ الله بيتهم ، وشمل باتصال النعمة حيهم وميتهم . فالحمد لله ، بجميع محامده ، على جميل عوايده . وتخلف بوادي آش أبي وأعمامي ، تغمدهم الله وإياي برحمته ، وجمع شملنا في جنته . وأما التعريف بهم ، فأنت أبقاك الله ، بمن سلف قديما منهم أعلم ، وسبيلك في معرفتهم أجدى وأقوم ، بما وهبكم الله من عوارف المعارف ، وجعل لكم من الإحاطة بالتالد منها والطارف . وأما من يقع به تعريف ، ممن بعدهم ، فمن اقتفى رسمهم في الطريقة العلمية ، ولم يتجاوز جدهم وهو جدي أبو بكر عبد الله بن طلحة ورابع أجدادي . كان رحمه الله ممن جرى على سنن آبايه ، وقام بالعلم أحسن قيام ، ونهض بأعبايه . ألف كتابا في الرقايق ، ففات في شأوه سبق السابق ، وتصدر ببلده للفتيا ، وانتفع به الناس ، وكان شيخهم المقدم . ولم أقف على تاريخ مولده ولا وفاته ، غير أنه توفي في حدود المائة الخامسة رحمه الله ، وأما من بيني وبينه من الآباء ، كجدي الأقرب وأبيه ومن خلفه من بنيه . فما منهم من بلغ رتبة السابق ، ولا قصر أيضا عن درجة اللاحق ، وإنما أخذ في الطلب بنصيب ، ورمى فيه بسهم مصيب .
وأما مولدي فبوادي آش في أواخر عام تسعة وسبع ماية . وفي عام ثلاثة وعشرين ، ابتدأت القراءة على الأستاذ أبي عبد الله الطرسوني وغيره ممن يأتي ذكره . ثم كتبت بعد ستة أعوام على من وليها من القضاة أولى العدالة والسير المرتضاة ،(3/430)
"""""" صفحة رقم 431 """"""
ولم يطل العهد حتى تقدمت في جامعها الأعظم خطيبا وإماما ، وارتسمت في هذه الخطة التي ما زالت على من أحسن تماما ، وذلك في أواخر عام ثمانية وثلاثين . ثم وليت القضاء بها ، وبما يرجع إليها من النظر ، في شهر ربيع الأول من عام ثلاثة وأربعين ، واستمرت الولاية إلى حين انتقالي للحضرة ، آخر رجب من عام ستة وخمسين ، أسأل الله الإقالة والصفح عما اقترفت من خطإ أو زلل ، أو ارتكبته من عمد وسهو ، في قول أو عمل بمنه .
وأما أشياخي ، فإني قرأت بالحضرة على الأستاذ الخطيب أبي الحسن القيجاطي . والأستاذ الخطيب أبي القاسم بن جزى . وبمالقة على الأستاذ القاضي أبي عمرو بن منظور . وبألمرية على الأستاذ القاضي أبي الحسن بن أبي العيش ، وسيدي القاضي أبي البركات بن الحاج ، والأستاذ أبي عثمن بن ليون ، وبوادي آش على الأستاذ القاضي أبي عبد الله بن غالب ، والأستاذ أبي عامر بن عبد العظيم . كل هؤلاء قرأت قراءة تفقه ، وعرضت على أكثرهم جملة كتب في النحو والفقه والأدب ، أكبرها كتاب المقامات للحريري . وأما من لقيته من المشايخ واستفدت ، منهم أبو الحسن بن الجياب بالحضرة ، وبمالقة القاضي أبو عبد الله بن بكر ، والقاضي أبو عبد الله بن عياش ، والأستاذ أبو عبد الله بن حفيد الأمين . ومن لقيته لقاء بترك ، سيدي أبو جعفر بن الزيات ببلش ، وبمالقة الخطيب أبو عبد الله الساحلي ، والصوفي أبو الطاهر بن صفوان ، والمقري أبو القاسم بن درهم . وبألمرية الخطيب أبو القاسم بن شعيب ، والخطيب ابن فرحون . ولقيت أيضا القاضي أبا جعفر بن فركون القرشي ، والقاضي الخطيب أبا محمد بن الصايغ . وممن رأيته بوادي آش ، وأنا إذ ذاك في المكتب ، وأخذت بحظ من التبرك به ، سيدي أبو عبد الله الطنجالي نفع الله به . والحمد لله رب العالمين .
شعره
من مطولاته قوله . ومن خطه نقلت :
ألا أيها الليل البطي الكواكب . . . متى ينجلي صبح بنيل المسارب
وحتى متى أرعى النجوم مراقبا . . . فمن طالع منها على إثر غارب
وحتى متى أرعى النجوم مراقبا . . . فمن طالع منها على إثر غارب
أحدث نفسي أن أرى الركب سايرا . . . وذنبي يقصيني بأقصى المغارب(3/431)
"""""" صفحة رقم 432 """"""
فلا فزت من نيل الأماني بطايل . . . ولا قمت من حق الحبيب بواجب
وكم حدثتني النفس أن أبلغ المنا . . . وكم عللتني بالأماني الكواذب
وما قصرت بي عن زيارة قبره . . . معاهد أنس من وصال الكواعب
ولا حب أوطان نبت بي ربوعها . . . ولا ذكر خل فيها وصاحب
ولكن ذنوب أثقلتني فهأنا من الوجد قد ضاقت على مذاهب
إليك رسول الله شوقي مجدد . . . فيا ليتني يممت صدر الركايب
وأعملت في تلك الأباطح والربى . . . سراى مجداً بين تلك السباسب
وقضيت من لثم البقيع لبانتي . . . وجبت الفلى ما بين ماش وراكب
ورويت من ماء زمزم غلتي . . . فلله ما أشهاه يوماً لشارب حبيبي شفيعي منتهى غايتي التي . . . أرجى ومن يرجوهن ليس بخايب
محمد المختار والحاشر الذي . . . بأحمد حاز الحمد من كل جانب
رؤوف رحيم خصه الله باسمه . . . وأعظم لاج في الثناء وعاقب
رسول كريم رفع اله قدره . . . وأعلى له قدرا رفيع الجوانب
وشرفه أصلاً وفرعاً ومحتداً . . . يزاحم آفاق السهى بالمناكب
سراج الهدى ذو الجاه والمجد والعلا . . . وخير الورى الهادي الكريم المناسب
هو المصطفى المختار من آل هاشم . . . وذو الحسب العدل الرفيع المناصب
هو الأمد الأقصى هو الملجأ الذي . . . ينال به مرغوبه كل راغب
إمام النبيين الكرام وإنه لكالبدر فيهم بين تلك المواكب
بشير نذير مفضل متطول . . . سراج منير بذ نور الكواكب(3/432)
"""""" صفحة رقم 433 """"""
شريف منيف باهر الفضل كامل . . . نفيس المعالي والحلى والمناقب
عظيم المزايا ما له من مماثل . . . كريم السجايا ماله من مناسب
ملاد منيع ملجأ عاصم لمن . . . يلوذ به من بين آت وذاهب
حليم جميل الخلق والخلق ما له . . . نظير وصف الله حجة غالب
ناهيك من فرع لمته أصوله . . . إلى خير مجد من لؤى بن غالب
أولى الحسب العد الرفيع جنابه . . . بدور الدياجي أو بدور الركايب
له معجزات مالها من معارض . . . وآيات صدق ما لها من مغالب
تهدي بهن الخلق شرقا ومغربا . . . وما ذاك عمن حاد عنها بعايب
فدونكها كلأنجم الزهر عدة . . . ونور سنى لا تختفي للمراقب
فإحصارها مهما تتبعت معوز . . . وهل بعد نور الشمس نور لطالب
لقد شرف الله الوجود بمرسل . . . له في مقام الرسل أعلى المراتب
وشرف شهراً فيه مولده الذي . . . جلا نوره الأسنى دياجي الغياهب
فشهر ربيع في الشهور مقدم . . . فلا غرو أن للفخر ضربة لازب
فلله منه ليلة قد تلألأت . . . بنور شهاب نير الأفق ثاقب
ليهن أمير المسلمين بها المنا . . . وإن نال من مولاه أسنى الرغايب
على حين أحياها بذكر حبيبه . . . وذكر الكرام الطاهرين الأطايب
وألف شملاً للمحبين فيهم . . . فسار على نهج من الرشد لاحب
فسوف يجازي عن كريم صنيعه . . . بتخليد سلطان وحسن عواقب
وسوف يريه الله في لهم دينه . . . غرايب صنع فوق كل الغرايب
فيحمي حمى الإسلام عمن يرومه . . . بسمر العوالي أو بيض القواضب(3/433)
"""""" صفحة رقم 434 """"""
ويعتز دين الله شرقا ومغربا . . . بما سوف يبقى ذكره في العجايب
إلا هي مالي بعد رحماك مطلب . . . أراه بعين الرشد أسنى المطالب
سوى زورة القبر الشريف وإنها . . . لموهبة فاتت جميع المواهب
عليه سلام الله مالح كوكب . . . وما فارق الإظعان حادي الركايب
وقال في غرض المدح والتهنئة بعرض الجيش ، وتضمن ذلك وصف حاله في انتقاله إلى الحضرة :
يا قاطع البيد يطوى السهل والجبلا . . . ومنضيا في الفيافي الخيل والإبلا
يبكي في آفاق أرض لا يونسه . . . إلا تذكر عهد للحبيب خلا
أو ظبية أذكرت عهد التواصل تحكي . . . اللحاظ التي عاهدت والمقلا
أستغفر الله في تلك اللحاظ فقد . . . أربى بها الحسن عن ضرب المها مثلا
أو هادل فوق غصن البان تحسبه . . . صبا لفقد حبيب بان قد ثكلا
أو لامع البرق إذ تحكى إنارته . . . كفا خضيباً مشيرا بالذي عذلا
مإذا عسى أن يقضي من زمانك في . . . قطع المهامه ترجو أن تنال علا
وكم معالم أرض أو مجاهلها . . . قطعتها لا تمل الريث والعجلا
إن كنت تأمل عزاً لا نظير له . . . وتبتغي السؤل فيما شيت والأملا فالعز مرسي بعيد لا ينال سوى . . . بعزم من شد عزم البين وارتحلا
والدر في صدف قلت نفاسته . . . ولم يبن فخره إلا إذا انتقلا
فاربأ بنفسك عن أهل وعن وطن . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وانس الديار التي منها نأى وطني . . . وعهد أنس به قلب المحب سلا
وعد عن ذكر محبوب شغفت به . . . ولا تلم به مدحا ولا غزلا
واقصد إلى الحضرة العليا وحط بها . . . رحلاً ولا تبغ عن أرجائها حولا
غرناطة لا عفا رسم بها أبداً . . . ولا سلا قلب من يبغي بها بدلا(3/434)
"""""" صفحة رقم 435 """"""
فهي التي شرف الله الأنام بمن . . . في مقعد الملك من حمرائها نزلا
خليفة الله مولانا وموئلنا . . . وخير من أمن الأرجاء والسبلا
محمد بن أبي الحجاج أفضل من . . . قد قام فينا بحق الله إذ عدلا
من آل نصر أولى السلك الذي . . . بهرت علاه كالشمس لما حلت الحملا
هو الذي شرف الله البلاد ومن . . . فيها بدولته إذ فاقت الدولا
أقام عدلا ورفقا في رعيته . . . وكان أرحم من آوى ومن كفلا
فهو المجار به من لا مجير له . . . لم يخش إحن الليالي فادحا جللا
إن المدائح طرا لا تفي أبدا ببعض . . . ما قد تحلا من نفيس علا
بالحزم والفهم والإقدام شيمته . . . والجود مما على أوصافه اشتملا
إن قال أجمل في قول وأبدعه . . . والفعل أجمل منه كلما فعلا
يولي الجميل ويعطي عز نايله . . . من قد رجاه ولا استجدى ولا سألا
من سائلي ع بني نصر فما أحد . . . منهم بأبلغ منهم كلما فعلا
يولي الجميل ويعطي عز نايله . . . من قد رجاه ولا استجدى ولا سألا
من سائلي عن بني نصر فما أحد . . . منهم بأبلغ منهم كلما سئلا
هم الذين إذا ما استمنحوا منحوا . . . أسنى العطا وأبدوا بعده الخجلا
هم الإلى مهدوا أرجاء أندلس . . . إذ حكموا في الأعادي البيض والأملا
فإن تسل عنهم يوم الرهان فلم . . . يعدل بأحدثهم في سنه بطلا
من ذا يجاريهم في كل مكرمة . . . أيشبه البحر في تمثيله الوشلا
مولاي يا خير من للنصر قد رفعت . . . راياته ولواء الفخر قد حملا
لله عيني لما أبصرتك وقد أعددت بين يديك الخيل والخولا
وأنت في قبة يسمو بها عمد . . . أقام منا دامر الدين فاعتدلا
والجيش يعش عيون الخلق منظره . . . لما اكتسى منك نور الحق مكتملا
لا غرو أن شعاع الشمس يشمل ما . . . أضحى عليه إذا ما لاح منسدلا
وراية النصر والتأييد خافقة . . . قد أسبل الله منها النصر فانسدلا
والخيل قد كسيت أثواب زينتها . . . فمن براقعها قد ألبست حللا
ترى الحماة عليها يوم عرضهم . . . يمشون من فرط زهو مشية الخيلا
فمن رماة قسي العرب عدتها . . . تحكي الأهلة مهما نورها اكتملا(3/435)
"""""" صفحة رقم 436 """"""
ومن كماة شداد البأس شأنهم . . . أن يعملوا البيض والخطية الذبلا
بسعدك انتظمت تلك الجيوش لأن . . . أسهمت في نظمها أسلافك الأولا
وخلد الله ملكا أنت ناصره . . . ما عاقبت بكر من دهرنا الأصلا
لا زلت تزداد بها نعمى مضاعفة . . . لتملأ الأرض منها السهل والجبلا
ومن ذلك قوله :
يا عاذلي في الهوى أقصر عن العذل . . . وعن حديثي مع المحبوب لا تسل
فكيف أصغي إلى عذل العذول وقد . . . تقلص القلب مني صايد المقل
تملكته كما شاءت بنظرتها . . . فتانة الطرف والألحاظ تنهدل معبرة عن نفيس الدر فاضحة . . . بقدها الغض المياس في الميل
من نور غرتها شمس تروق سنى . . . تحتل منها محل الشمس في الحمل
يا حبذا عهدنا والشمل منتظم . . . بجانب الغور في أيامنا الأول
أيام أعين هذا الدهر نائمة . . . عنا وأحداثه منا على وجل
وحبذا أربع قد طال ما نظمت . . . عقد التواصل في عيش بها خضل
قضيت منها أماني النفس في دعة . . . من الزمان موفى الأنس والجذل
سطى الغمام رباها كل منهمر . . . وكم سطتها دموعي كل منهمل
وجادها من سماء الجود صوب حياً . . . بالعارض الهطل ابن العارض الهطل
خليفة الله والماحي بسيرته . . . رسم الضلا ومحيي واضح السبل
محمد بن أبي الحجاج أفضل من . . . سارت أحاديث علياه سرى المثل
والباعث الجيش في سهل وفي جبل . . . حتى تغص نواحي السهل والجبل
من آل نصر أولى الفخر الذين لهم . . . مزية أورثت من خاتم الرسل
مهما أردت غناء في الأمور به . . . شاهدت منه جميع الخلق في رجل
لن يستظل بعلياه أخو أمل . . . إلا غدا تحت ظل منه منسدل
ولا استجار به من لا مجير له . . . إلا كفاه انتياب الحادث الجلل
ينمى إلى معشر شاد الآله لهم . . . ملكاً على سالف الأعصار لم يزل
بملكهم قد تحلى الدهر فهو به . . . والله واليه لا يخشى من العطل(3/436)
"""""" صفحة رقم 437 """"""
هم الإلى نصروا أرجاء أندلس . . . بالمشرفيات والخطية الذبل
هم الإلى مهدوا دين الهدى فسمت . . . في الخلق ملته العليا على الملل
من أمهم صادى الآمال نال بهم . . . جودا كفيلا له بالمعل والنهل
أو أمهم ضاحياً أضحى يجر من . . . فضل النوال ذيول الوشي والحلل
إن الفضايل أضحت لاسمه تبعاً . . . كالنعت والتأكيد والبدل
مولاي خذها تروق السامعين لها . . . بما أجادته من مدح ومن غزل
لكنني باعتبار عظم ملكك لم أجد . . . لعمري في مدحي ولم أطل
فإن خبرت كذاك الخلق أجمعهم . . . سيان محتفل أو غير محتفل
لا زلت فخر ملوك الأرض كلهم . . . تسمو بك الدولة العليا على الدول
ودمت للدهر تطويه وتنثره . . . مبلغا كلما تبغى من الأمل
ومن ذلك ما نظمه لينقش في بعض المباني التي أنشأتها :
أنا مصنع قد فاق كل المصانع . . . فما منزل زهى بمثل بدائع
فرسمي إذا حققته واعترته . . . لكل المعاني جامع أي جامع
فقد جمع اله المحاسن كلها . . . لدي فيا لله إبداع صانع
ظل كما جمعت كل الفضائل في الذي . . . بسكناي قد وافاه أيمن طالع
وزير أمير المسلمين وحسبه . . . مزية فخر ما لها من مدافع
وذو القلم الأعلى الذي فعله . . . لمن يؤمله مثل السيوف القواطع
ومطلع آيات البيان لمبصر . . . كشمس الضحى حلت بأسنى المطالع
وإنسان عين الدهر قرت لنابه . . . عين وطابت منه ذكرى المسامع
هو ابن الخطيب السيد المنتمى . . . إلى كرام سموا ما بين كهل ويافع
لقد كنت لولا عطفة من حنانه . . . أعد زمانا في الرسوم البلاقع(3/437)
"""""" صفحة رقم 438 """"""
فصيرني مغني كريما ومربعا . . . لشمل بأنس من حبيبي جامع
فها أنا روض يروق نسيمه . . . كما رق طبعاً ما له من منازع
وقد جمعتنا نسبة الطبع عندما . . . وقعت لمرآه بأسنى المواقع
فأشبه إزهاري بطيب ثنايه . . . وفضل هواي باعتدال الطبايع فلا زلت معموراً به في مسرة . . . معداً لأفراح وسعد مطالع
ولا زال من قد حلني أو يحلني . . . موفي الأماني من جميل الصنايع
ودام لمولانا المؤيد سعده . . . فمن نوره لنا كل ساطع
وفي التهنئة يإبلال من مرض :
الآن قد قامت الدنيا على قدم . . . لما استقل رئيس السيف والقلم
والآن قد عادت الدنيا لبهجتها . . . مذ أنست برؤه من طارق الألم
والآن قد عمت البشرى براحته . . . فلم تزل للورى من أعظم النعم
لا سيما عند مثلي ممن اتضحت . . . منه دلايل صدق غير متهم
فكيف لي وأيادي فضله ملكت . . . رقي بما أجزلت من وافر القسم
وصيرتني في أهلي وفي وطني . . . وبين أهل النهى ناراً على علم
وأحسبت أملي الأقصى لغايته . . . إذ صرت من جاهه المأمول في حرم
ومإذا عسى أن أوفي من ثناي أو . . . أنهى إلى مجده من فاضل الشيم
ولو ملكت زمام الفضل طوع يدي . . . قصرت في ضمن منثور ومنتظم
يهنيك بشرى قد استبشرت مذ وردت بها لعمرك وهو البر في الضيم
ومذ دعت هذ البشرى بتهنية . . . فنحن أولى ومحض العهد والكرم
لا زلت للعزة القعساء لممتطيا . . . لمستصحبا لعلاء عبر المنصرم
دمت بدر سنى تهدى إنارته . . . في حيث يعضل خطب أو يحار عم
ولا عدمت بفضل الله عافية . . . تستصحب النعم المنهلة الديم(3/438)
"""""" صفحة رقم 439 """"""
وليس لهذا العهد للرجل انتحال لغير الشعر والكتابة . وغير هذا للشعر فراره . فقل أن ينتهي الشعر والكتابة . وغير هذا النمط ، فهو بعير ثان ، شعراً وشكلاً وبلداً ، لطف الله به . وهو لهذا العهد ، على ما تقدم من النكبة ، واتصال السخط من الدولة ، تغمدنا الله وإياه بلطفه ، ولا نكص عنا ل عنايته وستره .
مولده : حسبما تقدم من بسط حاله مما قيده بخطه في عام تسعة وسبعماية .
عبد الرزاق بن يوسف بن عبد الرزاق الأشعري
من أهل قرية الأنجرون من إقليم غرناطة ، أبو محمد .
حاله
فقيه أديب كاتب سري ، موصوف بكرم نفس ، وحسن خلق لقي أشياخا وأخذ عنهم
شعره
يا منعماً ما زال من أمه . . . يرفل في السابغ من أميته
ويا حساماً جردته العلا . . . فربع صرف الدهر من سكوته
عبدك قد ساءت هنا حاله . . . شوقا لمن خلف من إخوته
شوقها يبث الجمر في قلبه . . . ويخلع للعهد على مقلته
فسكن المؤلم من شوقه . . . وانسى المقلق من وحشته
وامنن عليه ببلوغ المنا . . . في علمكم من مقتضى بغيته
وها كها نفشة ذي خجلة . . . تفهم ما يلقيه من نفثته
إذا شدا مداحكم ساجعاً . . . يحسده الطيار في نغمته
وفاته : سنة إحدى وسبعين وخمسماية عن سن عالية .(3/439)
"""""" صفحة رقم 440 """"""
عبد الملك بن سعيد ين خلف العنسي
من أهل قلعة يحصب من عمل إلبيرة .
حاله ونسبه هو عبد الملك بن سعيد بن خلف بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن سعيد ابن الحسن بن عثمن بن محمد بن عبد الله بن سعد بن عمار بن ياسر ، صاحب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وكان عينا من أعيان الأندلس ، مشاراً إليه في البيت والرأي ، والجزالة والفضل ، علقت به الآمال ، ورفعت إليه الممادح ، وحطت لديه الرحال ، وكان من أولى الجلالة والنباهة ، والطلب والكتابة الحسنة ، والخط البارع . واشتمل على حظوة الأمير يحيى بن غانية اللمتوني ، وكتب عنه . بلده قلعة بني سعيد ، فثقفها ، وجعل بها أكبر بنيه عبد الرحمن ضابطا لها وحارسا ، فحصنها أبو مروان ومهدها بالعمارة ، فكانت في الفتنة مثابة وأمنا . وحرزا له ولبنيه ، فانجلت الناس إليها من كل مكان . ولما قبض ابن غانية على القمط مرين وأصحابه النصارى عندما وصلوا لاستنجاز الوعد في الخروج عن جيان ، وتحصلوا بيده بإشارة عبد الملك ابن سعدي ، حسبما ثبت في اسم الأمير يحيى ، ثقفهم بالقلعة بيد ثقته المذكور وأمينه أبي مروان ، فتحصلوا في معقل حريز ، عند أمير وافر العقل ، سديد الرأي . ومات ابن غانية بغرناطة لأيام قلائل ، واختلف قومه ، فنظر أبو مروان لنفسه ، وعاهد القمط مرين ومن معه من الزعماء على عهود ، أخذها عليهم وعلى سلطانهم ، أن يكون تحت أمن وحفظ طول مدته ، فأجريت القلعة في الأمن والحماية ، وكف أيدي التعدي مجرى ما لملك النصرى من البلاد ، فشمل أهلها الأمن ، واتسعت فيها العمارة ، وتنكبتها النكبات ، تحاشتها الغارات . ولم يزل أبو مروان بها إلى أن دخل في أمر الموحدين . ووصل هو وابنه إلى السيد أبي سعيد بغرناطة ، وحضر معه غزوة ألمرية ، ثم دخل بجملته ، فكمل له الأمن ، وأقر على القلعة ، وأمر بسكني غرناجة بولده . ثم وصل ثانية إلى مراكش صحبة السيد أبي سعيد ، ولقي من إلبير ولطف المكانة عادته ، واستكتب ابنه أحمد بن أبي مروان الخليفة في هذه الوجهة ، وانتظم في جملة الكتاب والأصحاب .(3/440)
"""""" صفحة رقم 441 """"""
محنته
وعاد أبو مروان وبنوه إلى غرناطة صحبة واليها السيد أبي سعيد ، فبقى في جملة العسكر عند دخول ابن مردنيش وصهره غرناطة ، وقد اضطربت الفتنة ، وفسد ما بين السيد وبين أبي جعفر بن أبي مروان منهم ، بما تقدم في اسمه من حديث حفصة . ولما ظهرت دلايل التغير ، وخافوا على أنفسهم ، أداروا الرأي في الانحياز إلى خدمة ابن مردنيش ، ونهاهم والدهم أبو مروان ، وأشار عليهم بمصابرة الأمر ، فلحق عبد الرحمن بالقلعة ، وفر أحمد لما انكشف الأمر ، وعثر عليه بجهة مالقة ، فقتل ، وانجرت بسبب ذلك النكبة على عبد الملك وابنه محمد ، فبقيا بغرناطة ، ومن يشار إليه من أهل بيتهما ، واستصفيت أموالهما ، واستخلصت ضياعهما ، إلى أن ورد كتاب الخليفة أبي يوسف يعقوب بن عبد المؤمن بن علي بإطلاقهم ورد أموالهم ، بما اقتضته السياسة من استمالة من نزع منهم عن الطاعة ، وأمر عبد الملك باستيلاف نافرهم . ولما هلك ابن مردنيش ، ورد من اتصل به صحبة المستأمنين من أولاد الأمير الهالك ، فقدموا على رحب وسعة ، وثاب جاه أبي مروان ، واتصل عزه ، واتسعت حظوته ، إلى أن هلك بعد أن ولي بمراكش النظر في العدة والأسلحة ، والقيام على دار الصنعة .
وفاته : بغرناطة سنة ستين وخمسماية .
عبد العزيز بن علي بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد العزيز بن يست
من أهل غرناطة ، يكنى أبا سلطان .
حاله
فاضل ، حيي ، حسن الصورة ، بادي الحشمة ، فاضل البيت ، سريه . كتب في ديوان الأعمال ، وترقى إلى الكتب مع الجملة بالدار السلطانية ، وسفر في بعض الأغراض الغربية ، ولازم الشيخ أبا بكر بن عتيق بن مقدم ، من شيوخ الصوفية بالحضرة ، فظهرت عليه آثار ذلك في نظمه ومقاصده الأدبية .(3/441)
"""""" صفحة رقم 442 """"""
شعره
وشعره لا بأس به ، ومن أمثله قوله ما أنشد له في ليلة الميلاد الأعظم :
القلب يعشق والمدامع تنطق . . . برح الخفاء فكل عضو منطق
قلت ، قد ذكرها ابن الخطيب في جملة ما أنشد في الميلاد الأعظم في السفر الخامس ، فلا فائدة في تكرارها هنا .
ومما خاطبني به :
أطلت عبت زمان فل من أمل . . . وسمته الذم في حل ومرتحل
عاتبته ليلين للعتب جانبه . . . فما تراجع عن مطل ولا بخل
فعدت أمنحه العتبى ليشفق بي . . . فقال لي إن سمعي عنك في شغل فالعتب عندي والعتبى فلست أرى . . . أصغى لمدحك إذ لم أصغ للعذل
فقلت للنفس كفى عن معاتبة لا . . . تنقضي وجواب صيغ من وجل
من يعتلق بالدنا بابن الخطيب فقد . . . سما عن الذل واستوى على الجذل(3/442)
"""""" صفحة رقم 443 """"""
فقلت من لي بتقريبي لخدمته . . . فقد أجاب قريبا من جوابك ل
قد اشتغلت عن الدنيا بآخرتي . . . وكان ما كان في أيامي الأول
وقد رعيت وما أهملت من منح . . . فكيف يختلط المرعى بالهمل
ولست أرجع للدنيا وزخرفها . . . بعد شيب غدا في الرأس مشتعل
ألست تبصر أطماري وبعدي عن . . . نيل الحظوظ وإعداد إلى أجل
فقال ذلك قول صح مجمله . . . لكن من شأنه التفصيل للجمل
ما أنت طالب أمر تستعين به . . . على المظالم في حال ومقتبل
ولا تحل حراماً أو تحرم ما . . . أحل ربك في قول ولا عمل
ولا تبغ آجل الدنيا بعاجلها . . . كما الولاة تبيع السيم بالوشل
وأين عنك الرشا إن كنت تطلبها . . . هذا لعمري أمر غير منفعل(3/443)
"""""" صفحة رقم 444 """"""
هل أنت تطلب إلا أن تعود إلى . . . كتب المقام الرفيع القدر في الدول
فما لأوحد أهل الكون قاطبة . . . وأسمح الخلق من حاف ومنتعل
لم يلتفت نحو ما تبغيه من وطر . . . ولم يشد الذي قد بان من خلل
إن لم تقع نظرة منه عليك فما . . . يصبو لديك للذي أملت من أمل
فدونك السيد الأعلى فمطلبكم . . . قد نيط منه بفضل غير منفضل
فقد خبرت بني الدنيا بأجمعهم . . . من عالم وحكيم عارف دول
فما رأيت له في الناس من شبه . . . قل النظير له عندي فلا تسل
فقد قصدتك يا أسمى الورى نسباً . . . وليس لي عن علياك من حول
فما سواك لما أملت من أمل . . . وليس لي عنك من زيغ ولا ميل(3/444)
"""""" صفحة رقم 445 """"""
فانظر لحالي فقد رق الحسود لها . . . واحسم زمانة ما قد ساء من علل
قدمك لنا ولدين الله ترفعه . . . ما أعقبت بكر الإصباح بالأصل
لا زلت معتليا عن كل حادثة . . . كما علت ملة الإسلام في الملل
عبد البر بن فرسان بن إبراهيم بن عبد الله بن عبد الرحمن الغساني
وادي آشي الأصل . يكنى أبا محمد .
حاله
كان من جلة الأدباء ، وفحول الشعراء ، وبرعة الكتاب ، كتب عن الأمير أبي زكريا يحيى بن إسحاق بن محمد بن علي المسوفي الميورقي . الثائر على المنصور بني عبد المؤمن ، ثم على من بعده من ذريته إلى أيام الرشيد منهم ، وانقطع إليه وصحبه في حركاته . وكان آية في بعد الهمة ، والذهاب بنفسه ،(3/445)
"""""" صفحة رقم 446 """"""
والعناء ، ومواقف الحرب ، فإنه دهم في المثل . أشبه امرءاً يعض بزه ، فقد كان أليق الناس بصحبة الميورقي ، وأنسبهم إلى خدمته .
مشيخته : روى عن أبي زيد بن السهيلي .
بعض أخباره
في البأو والصرامة . حدثنا أبو الحسن بن الجياب عمن حدثه من أشياخه ، قال ، وجهه الميورقي في عشية يوم من أيام حروبه إلى المأزق . وقد طال العراك ، وكاد يكل الناس عن الحرب . إلى أن يباكروها من الغد ، فنفذ لما أمر به . ولما بلغ الصدر ، اشتد على الناس ، وذعر أرباب الحفيظة ، وأنهى إليهم العزم من أميرهم في الحملة . فانهزم عدوهم شر هزيمة ، ولم يعد أبو محمد إلا في آخر الليل بالأسلاب والغنيمة . وقال له ما حملك على ما صنعت . فقال له ، الذي عملت هو شأني . وإذا أردت من يصرف الناس عن الحرب ويذهب ريحهم . فانظر غيري . وحدثني كذلك أن ولدا له صغيرا ، تشاجر مع ترب له من أولاد أميره أبي زكريا ، فنال منه ولد الأمير . وقال وما قدر أبيك . ولما بلغ ذلك أباه . خرج مغضبا لحينه ، ولقي ولد الأمير المخاطب لولده ، فقال حفظك الله ، لست أشك في أني خديم أبيك . ولكني أحب أن أعرفك بمقداري ومقداره ، إعلم أن أباك وجهني رسولا إلى الخليفة ببغداد بكتاب عن نفسه . فلما بلغت بغداد نزلت في دار اكتريت لي بسبعة دراهم في الشهر ، وأجرى على سبعة دراهم في اليوم . وطولع بكتابي ، وقيل من الميورقي الذي وجهه . فقال بعض الحاضرين ، هو رجل مغربي ثائر على أستاذه . وأقمت شهرا ، ثم استدعيت إلى الانصراف ، ولما دخلت دار الخلافة ، وتكلمت مع من بها من الفضلاء ، أرباب المعارف والآداب ، اعتذروا لي . وقالوا اللخليفة ، هذا رجل جهل مقداره ، فأعدت إلى محل ، اكتريت بسبعين درهما ، وأجري على مثلها في اليوم ، ثم استدعيت ، فودعت الخليفة ، واقتضيت ما تيسر من جوابه . وصدر لي شيء له خطر من صلته . وانصرفت إلى أبيك .(3/446)
"""""" صفحة رقم 447 """"""
والمعاملة الأولى كانت على قدر أبيك عند من يعرف الأقدار ، والثانية كانت على قدري والمنة لله . وأخبار ابن فرسان كثيرة .
شعره
وقد نعم الأمير بعمامة بيضاء ، ولبس غفارة حمراء على جبة خضراء ، فقال :
فديتك بالنفس التي قد ملكتها . . . بما أنت موليها من الكرم الغض
توددت للحسن الحقيقي بهجة . . . فصار بها الكلى في ذاك البعض
ولما تلألأ نور غرتك التي . . . تقسم في طول البلاد وفي العرض
تلقفتها خضراء أحسن ناظر . . . نبت عنك إجلالا وذاك من الفرض
وأسدلت حمر الملابس فوقها . . . بمفرق تاج المجد والشرف المحض
وأصبحت بدرا طالعا في غمامة . . . على شفق دان إلى خضرة الأرض
ومن شعره ، ولا خفاء ببراعته :
ندى مخضلا ذاك الجناح المنمنما . . . وسقياً وإن لم تشك يأسا جعاضما
أعدهن ألحانا على سمع معرب . . . يطارح مرتاحا على القضب معجما
وطر غير مقصوص الجناح مرفها . . . مسوغ أشتات الحبوب منعما
وقال أيضاُ رحمه الله :
كفى حزنا أن الرماح صقيلة . . . وأن الشبا رهن الصدا بدمايه
وأن بياذيق الجوانب فرزنت . . . ولم يعد رخ الدست بيت بنايه(3/447)
"""""" صفحة رقم 448 """"""
عبد المنعم بن عمر بن عبد الله بن حسان الغساني
جلياني من أهل وادي آش ، وترد إلى غرناطة ، يكنى أبا محمد ، وأبا الفضل .
حاله
تجول ببلاد المشرق سائحا ، وحج ونزل القاهرة ، وكان أديبا ، بارعا حكيما ، ناظما ناثرا .
تواليفه
وله مصنفات منها جامع أنماط السايل في العروض والخطب والرسايل ، أكثر كلامه فيه نظما ونثرا .
مشيخته ومن روى عنه . روى عنه أبو الحسن علي بن عبد الله ابن عبد الرحيم الخطيب بضريح الخليل ، وأبو عبد الله بن يحيى المرسي .
شعره
قال من شعره :
ألا إنما الدنيا بحار تلاطمت . . . فما أكثر الغرقى على الجنبات
وأكثر من لاقيت يغرق إلفه . . . وقل فتى ينجو من الغمرات
وفاته : سنة ثلاث وستماية .
الجزء الرابع(3/448)
"""""" صفحة رقم 2 """"""
الجزء الرابع(4/2)
"""""" صفحة رقم 3 """"""
ومن الغرباء
عبد المهيمن بن محمد بن عبد المهيمن بن محمد بن علي بن محمد بن عبد الله بن محمد الحضرمي
يكنى أبا محمد ، شيخنا الرئيس صاحب القلم الأعلى بالمغرب .
حاله
من عائد الصلة : كان رحمه الله خاتمة الصدورن ذاتاً وسلفاً وتربية وجلالة . له القدح المعلى في علم العربية ، والمشاركة الحسنة في الأصلين ، والإمامة في الحديث ، والتبريز في الأدب والتاريخ واللغة ، والعروض والمماسة في غير ذلك . نشأ فارس الحلبة ، وعروس الوليمة ، وصدر المجلس ، ووفور الجاه والإغراق في النعمة ، كثير الاجتهاد والملازمة ، والتفنن والمطالعة ، مقصور الأوقات على الإفادة والاستفادة ، إلى أن دعته الدولة المرينية بالمغرب ، إلى كتابة الإنشاء ، فاشتملت عليه اشتمالاً ، لم يفضل عنه من أوقاته ، ما يلتمس فيه ما لديه ، واستمرت حاله ، موصوفاً بالنزاهة والصدق ، رفيع الرتبة ، مشيد الحظوة ، مشاركاً للضيف فاضلاً ، مختصر الطعمة والحلية ، يغلب عليه ضجر يكاد يخل به ، متصل الاجتهاد والتقييد ، لا يفتر له قلم ، إلى أن مضى بسبيله .(4/3)
"""""" صفحة رقم 4 """"""
وجرى ذكره في الإكليل الزاهر من تأليفنا بما نصه : تاج المفرق وفخر المغرب على المشرق ، أطلع منه نور أضاءت له الآفاق ، وأثرى منه بذخيرة حملت أحاديثها الرفاق . ما شيت من مجد سامي المصاعد والمراقب ، عزيز عن لحاق المجد الثاقب ، وسلف زينت سماؤث بنجوم المناقب . نشأ بسبتة بين علم يفيده ، وفخر يشيده ، وطهارة يلتحف مطارفها ، ورياسة يتفيأ وارفها ، وأبوه رحمه الله قطب مدارها ، ومقام حجها واعتمارها ، فسلك الوعوث من المعارف والسهول ، وبذل على حداثة سنه الكهول ، فلما تحلى من الفوايد العلمية بما تحلى ، واشتهر اشتهار الصباح إذا تجلى ، تنافست فيه همم الملوك الأخاير ، واستأثرت به الدول على عادتها في الاستئثار بالذخاير ، فاستقلت بالسياسة ذراعه ، وأخدم الذوابل والسيوف يراعه ، وكان عين الملك التي بها يبصر ، ولسانه الذي به يسهب أو يختصر . وقد تقدمت له إلى هذه البلاد الوفادة ، وجلت به عليها الإفادة ، وكتب عن بعض ملوكهان وانتظم في عقودها الرفيعة وسلوكها ، وله في الأدب الراية الخافقة ، والعقود المتناسقة .
مشيخته
قرأ ببلدة سبتة على الأستاذ الإمام أبي إسحاق الغافقي المديوني ، وعلى الأستاذ المقري أبي القاسم محمد بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن الطيب ، والأستاذ النحوي أبي بكر بن عبيدة الإشبيلي ، وعلى الأستاذ العارف أبي عبد الله محمد بن عمر بن الدارج التلمساني ، وعلى ابن خال أبيه الأمير الصالح أبي حاتم العزفي ، والعدل الرضا أبي فارس عبد الرحمن ابن إبراهيم الجزيري .
وقرأ بغرناطة على الشيخ العلامة أبي جعفر بن الزبير ، وروى عن الوزير الراوية أبي محمد عبد الله المرادي ابن المؤذن وعلى الأستاذ أبي بكر القللوسي . وأخذ عن الشيخ الوزير أبي الوليد الحضرمي القرطي . وممالقة عن الإمام الولي أبي عبد الله الطناجلي . وببلش عن الخطيب الصالح أبي جعفر بن الزيات ، وعن الخطيب أبي عبد الله بن شعيب المروي ، والعلامة أبي الحسين بن أبي الربيع ، وأبي الحكم بن منظور ، وابن الشاطج وابن رشيد ، وابن خميس ، وابن برطال ، وابن ربيع ، وابن البنا ، وسميه ابن البنا المالقي ، وابن خميس النحوي ، وأبي أمية بن سعد السعود بن عفير الأمدي . هؤلاء كلهم لقيهم وسمع منهم ، وأجازوا له ما عندهم . وممن أجاز له مشافهة أو مكاتبة من أهل المغرب ، الأستاذ أبو عبد الله محمد بن عمر الأنصاري التلمساني ابن الدارج ، والكاتب أبو علي الحسين بن عنيق ، وتناول تواليفه ، والأديب(4/4)
"""""" صفحة رقم 5 """"""
الشهير أبو الحكم مالك بن المرحل ، والشريف أبو عبد الله محمد بن يحيى بن أبي الشرف الحسيني ، وأبو بكر بن خليل السكوني ، وأبو العباس المطري ، والجزاري ، وشرف الدين بن معطي ، وابن الغماز ، وابن عبد الرفيع القاضي ، وأبو الشمل جماعة بن مهيب ، وأبو عبد الله محمد بن أحمد التجاني وأبناء عمه عمر وعلي ، وابن عجلان ، ومحمد بن إبراهيم القيسي السلولي ومحمد بن حماد اللبيدي ، وابن سيد الناس ، وابنه أبو الفتح ، وابن عبد النور ، والمومناني ، والخطيب ابن صالح الكتاني ، وابن عياش المالقي ، والمشدالي ، وابن هرون ، والخلاسي ، والدباغ ، وابن سماك ، وابن أبي السداد ، وابن رزين ، وابن مستقور ، وأبو الحسن بن فضيلة ، وأبو بكر بن محزز . وكتب له من أهل المشرق جماعة منهم : الأبرقيشي وابن أبي الفتح الشيباني ، وابن حمادة ، وابن الطاهري ، وابن الصابوني ، وابن تيمية ، وابن عبد المنعم المفسر ، وابن شيبان ، وابن عساكر ، والرضى الطبري ، وابن المخزومي ، وابن النحاس . قلت من أراد استيفاءهم ينظر الأصل . فقد طال على استيفاء ما ذكره الشيخ رحمه الله وقد ذكر جماعة من النساء ، ثم قال بعد تمام ذلك ، ولو قصدنا الاستقصاء لضاق عن مجاله المتبع .
شعره
وشعره متخل عن محله من العلم والشهرة ، وإن كان داخلاً تحت طور الإجادة .
فمن ذلك قوله :
تراءى سحيراً والنسيم عليل . . . وللنجم طرف بالصباح كليل
وللفجر بحر خاضه الليل فاعتلت . . . شوى أدهم الظلماء منه خجول
بريق بأعلى الرقمتين كأنه . . . طلائع شهب في السواد تجول
فمزق ساجي الليل منه شرارة . . . خرق ستر الغيم منه نصول
تبسم ثغر الروض عند ابتسامه . . . وفاضت عيون للغمام همول ومالت غصون البان نشوى كأنها . . . يدار عليها من صباه شمول
وغنت على تلك الغصون حمايم . . . لهن حفيف فوقها وهديل(4/5)
"""""" صفحة رقم 6 """"""
إذا سجعت في لحنها ثم قرقرت . . . يطيح خفيف دونها وثقيل
سقى الله ربعاً لا تزال تشوقني . . . إليه رسوم دونه وطلول
وجاد رياه كلما ذر شارق . . . من الودق هتان أجش هطول
ومالي استسقي الغمام ومدمعي . . . سفوح على تلك العراص همول
وعاذلة ظلت تلوم على السرى . . . وتكثر من تعذالها وتطيل
تقول إلى كم ذا فراق وغربة . . . ونأي على ما خيلت ورحيل
ذريني أسعى لنتى تكسب العلا . . . سناء وتبقى الذكر وهو جميل
فإما تريني من ممارسة الهوى . . . نحيلاً فحد المشرفي نحيل
وفوق أنابيب اليراعة صفرة . . . تزين وفي قد القناة ذبول
ولولا السرى لم يجتل البدر كاملاً . . . ولا بات منه للسعود نزيل
ولولا اغتراب المرء في طلب العلا . . . لما كان نحو المجد منه وصول
ولولا نوال ابن الحكيم محمد . . . لأصبح ربع المجد وهو محيل
وزير سما فوق السماك جلالة . . . وليس له إلا النجوم قبيل
من القوم أما في الندى فإنهم . . . هضاب وأما في الندى فسيول
حووا شرف العلياء إرثاً ومكسباً . . . وطابت فروع منهم وأثول
وماجونة هطالة ذات عيجب . . . مرتها شمال مرجف وقبول
لها زجل من رعدها ولوامع . . . من البرق عنها للعيون كلول
كما هدرت وسط القلاص وأرسلت . . . شقاشقها عند الهياج فحول
بأجود من كف الوزير محمد . . . إذا ما توالت لسنين محول
ولولا روضة بالحسن طيبة الشذا . . . ينم عليها إذخر وجليل
وقد أذكيت للزهر فيها مجامر . . . تعطر منها للنسيم ذيول(4/6)
"""""" صفحة رقم 7 """"""
وفي مقل النوار للظل عبرة . . . ترددها أجفانها وتحيل
بأطيب من أخلاقه الغر كلما . . . تفاقم خطب للزمان يهول
حويت أبا عبد الآه مناقباً . . . تفوت يداً من رامها وتطول
فغرناطة مصر وأنت خصيبها . . . ونائل يمناك الكريمة نيل
فذاك رجال حاولوا درك العلا . . . ببخل وهل نال العلاء بخيل
تخيرك المولى وزيراً وناصحاً . . . فكان له ما أراد حصول
وألقى مقاليد الأمور مفوضاً . . . إليك فلم يعدم يمينك سول
وقام بحفظ الملك منك مؤيد . . . نهوض بما أعيا سواك كفيل
وساس الرعايا منك أروع باسل . . . مبيد العدا للمعتفين منيل
وأبلج وقاد الجبين كأنما . . . على وجنتيه للنضار مسيل
تهيم به العلياء حتى كأنها . . . بثينته في الحب وهو جميل
له عزمات لو أعير مضاءها . . . حسام لما نالت ظباه فلول
سرى ذكره في الخافقين فأصبحت . . . إليه قلوب العالمين تميل
وأعدى قريضي جوده وثناؤه . . . فأصبح في أقصى البلاد يجول
إليك أيا فخر الوزارة أرقلت . . . برحلي هوجاء النجاء ذلول
فليت إلى لقياك ناصية الفلا . . . بأيدي ركاب سيرهن ذميل
تسددني سهماً لكل ثنية ضوامر . . . أشباه القسى نحول
وقد لفظتني الأرض حتى رمت إلى . . . ذراك برجلي هوجل وهجول
فقيدت أفراسي به وركائبي . . . ولذ مقام لي به وحلول
وقد كنت ذا نفس عزوف وهمة . . . عليها لأحداث الزمان ذحول
ويهوى العلا حظي ويغري بضد . . . لذاك اعترته رقة ونحول(4/7)
"""""" صفحة رقم 8 """"""
وتأبى لي الأيام إلا إدالة . . . فصونك لي إن الزمان مديل
فكل خضوع في حمامك عزة . . . وكل اعتزاز قد عداك خمول
وهي طويلة ، ومن شعره في الحنين إلى وطنه سبتة .
سقى ثرى سبتة بين البلاد . . . وعهدها المحبوب صوب العهاد
وجاد منهل الحيا ربعها . . . بوبله تلك الربى والوهاد
وكم لنا في طورسينائها . . . من رائح للأنس في إثر غاد
وعينها البيضاء كم ليلة . . . بيضاء فيها قد خلت لو تعاد
وبالمنارة التي نورها . . . لكل من ضل دليل وهاد
نروح منها مثلما نغتدي . . . للأنس والأفراح ذات ازدياد
في فتية مثل نجوم الدجى . . . ما منهم إلا كريم جواد
ارتشفوا كأس الصفا بينهم . . . وارتضعوا أخلاف محض الوداد
ويا لأيام بنيولش لقد . . . عدت عنها صروف العواد
أدركت من لبنى بها كلما . . . لبانة وساعدتني سعاد
ونلت من لذات دهري الذي . . . قد شيته وللأماني انقياد
منازل ما إن على مبدل . . . هاء مكان اللام فيها انتقاد
سلوتها مذ ضمني بعدها . . . نادي الوزير ابن الحكيم الجواد
ومن المقطوعات قوله :
أبت همتي أن يراني امرؤ . . . على الدهر يوماً له ذا خضوع
وما ذاك إلا لأني اتقيت . . . بعز القناعة ذل القنوع
ومن ذلك في المشط والنشفة من آلات الحمام :
إني حسدت المشط والنشفة الذي . . . لهما مزايا القرب دوني مخلصه
فأنامل من ذا تباشر صدغه . . . ومراشف من ذا تقبل أخمصه(4/8)
"""""" صفحة رقم 9 """"""
نثره
وقع هنا بياض مقدار وجهة في أصل الشيخ .
مولده
ولد ببلدة سبتة في عام ستة وسبعين وستماية .
وتوفي بتونس في الثاني عشر لشوال من عام تسعة وأربعين وسبعماية في وقيعة الطاعون العام ، بعد أن أصابته نبوة في مخدومه السلطان أبي الحسن . ثم استعتبه وتلطف له . وكانت جنازته مشهورة ، ودفن بالزلاج من جبانات خارج تونس رحمه الله .
عبد المهيمن بن محمد الأشجعي البلذوذي
نزيل مراكش
حاله
من كتاب المؤتمن ، قال ، كان شاعراً مكثراً ، سهل الشعر ، سريعه ، كثيراً ما يستجدي به ، وكان يتقلد مذهب أبي محمد علي بن حزم الفقيه الظاهري ، ويصول بلسانه على من نافره . دخل الأندلس ، وجال في بلادها . بعد دخوله مراكش . وكان أصله من بلذوذ . ورد مالقة أيام قضاء أبي جعفر بن مسعدة ، وأ ' ال بها لسانه ، فحمل عليه هنالك حملاً أذاه ، إلى أن كان مآل أمره ما أخبرني به شيوخ مالقة ، وانسيته الآن ، فتوصل إلى مآل أمره من جهة من بقي بها الآن من الشيوخ ، نقلت اسمه ونسبه من خطه .
شعره
أما على ذي شرك . . . في صيدنا من درك
تصيدنا لواحظ . . . وما لها من حرك
والبدر إن غاب فمن . . . يجلو ظلام الحلك
قد تاب القلب فما . . . يدري إن لم تدرك
عدا السقام أو عدا . . . وعد الذي لم يأفك
أو لن يكن حل دمي . . . فلتبطي أو أترك(4/9)
"""""" صفحة رقم 10 """"""
حاربت من لا قدرة . . . لديه في المعترك
يفل غرب سيفه . . . سيف لحاظ فتك
يا لفتى يا قبلتي . . . يا حجتي يا نسك
إن عظم الحزن فما . . . أرجل حسن فلك
أو أهديت الحي . . . فلإبن عبد الملك
خطيب ومران للذي . . . سلك على سلك
ركن التقا محمد . . . ذو النبل والطبع الزك
منفرد في جوده . . . بماله المشترك
يا نوق هذا بابه . . . فهو أجل مبرك
وأنت يا حادية . . . قربت ما أسعدك
فبركي وكبري . . . وابركي وبرك فقد أتينا بشراً . . . له صفات الملك
كفك يهمى ملكت . . . كأنها لم تملك
قصيدتي لو لم تنل . . . منك حلى لم تسبك
أبكيت ديمة الندا . . . فزهرها ذو ضحك
لكنني يا سيدي . . . من فاقتي في شرك
وشعره على هذه الوتيرة . حدثني أبي ، قال رايته رجلاً طوالاً ، شديد الأدمة ، حليق الرأس ، دمينه ، عاريه ، كثير الاستجداء ، والتهاتر مع المحابين من أدباء وقته ، يناضل عن مذهب الظاهرية بجهده .
وفاته
من خط الشيخ أبي بكر بن شبرين ، وفي عام سبعة وتسعني وستماية توفي بفاس الأديب عبد المهيمن المكناسي ، المكتني بأبي الجيوش البلذوذي ، وكان ذا هذر وخرق ، طوافاً على البلاد ، ينظم شعراً ضعيفاً ، يستمنح به الناس ، وآلت حاله إلى أن سعى به لأبي فارس عزوز الملزوزي الشاعر ، شاعر السلطان أبي يعقوب وخديمه ، وذكر له أنه هجاه ، فألقى إلى السلطان ما أوجب سجنه ، ثم ضربت عنقه صبراً ، نفعه الله .(4/10)
"""""" صفحة رقم 11 """"""
عبد العزيز بن عبد الواحد بن محمد الملزوزي
من أهل العدوة الغربية ، يكنى أبا فارس ، ويعرف بعزوز .
حاله
كان شاعراً مكثراً سيال القريحة ، منحط الطبقة ، متجنداً ، عظيم الكفاية والجرأة ، جسوراً على الأمرا ، علق بخدمة الملوك من آل عبد الحق وأبنايهم ، ووقف أشعاره عليهم ، وأكثر النظم في وقايعهم وحروبهم ، وخلط المعرف باللسان الزناتي في مخاطباتهم ، فعرف بهم ، ونال عريضاً من دنياهم ، وجماً من تقريبهم . واحتل بظاهر غرناطة في جملة السلطان ، أمير المسلمين أبي يعقوب ، وأمير المسلمين أبيه ، واستحق الذكر بذلك .
شعره
من ذلك أرجوزة نظمها بالخضراء في شوال سنة أربع وثمانين وستماية ، ورفعها إلى السلطان أمير المسلمين أبي يوسف بن عبد الحق ، سماها : بنظم السلوك ، في الأنبياء والخلفاء والملوك لم يقصر فيها عن إجادة .
ومن شعره : قال مخبراً عن الأمير أبي مالك عبد الواحد ابن أمير المسلمين أبي يوسف :
دعاني يوماً والسما قد ارتدت بالسحايب . . . والغيث يبكي بالدموع السواكب
كأنه عاشق صد عنه حبيبه . . . ففاضت دموعه عليه وكثر نحيبه
ولم يرق له مدمع . . . كأنه لم يبق له فيه مطمع
فكان الوعد حسرته . . . والبرق لوعته وزفرته
فقال لي ما أحسن هذا اليوم . . . لو كان في غير شهر الصوم
فاقترح غاية الاقتراح علي . . . وقال قل فيه شعراً بين يدي
فأنشدته هذه الأبيات :
اليوم يوم نزهة وعقار . . . وتقرب الآمال والأوطار
أو ما ترى شمس النهار قد اختفت . . . وتسترت عن أعين النظار
والغيث سح غمامه فكأنه . . . دنف بكى من شدة التذكار
والبرق لاح من السماء كأنه . . . سيف تألق في سماء غبار
لا شيء أحسن فيه من نيل المنا . . . بمدامته تبدو كشعلة نار(4/11)
"""""" صفحة رقم 12 """"""
لولا صيام عاقني عن شربها . . . لخلعت في هذا النهار عذار
لو كان يمكن أن يعار أعرته . . . وأصوم شهراً في مكان نهار
لكن تركت سروره ومدامه حتى . . . أكون لديه ذا أفكار
ونديرها في الكأس بين نواهد . . . تجلو الهموم بنغمة الأوتار
فجفونها تغنيك عن أكواسها . . . وخدودها تغنيك عن أزهار
فشكره لما سمعه غاية الشكر ، وقال أسكرتنا بشعرك من غير سكر . قال ، وأتيته بهذه الأبيات :
أعلمت بعدك زفرتي وأنيني . . . وصبابتي يوم النوى وشجون
أودعت إذ ودعت وجداً في الحشا . . . ما إن تزال سهامه تصمين
ورقيب شوقك حاضر مترقب . . . إن رمت صبراً بالأسى يغرين
من بعد بعدك ما ركنت لراحة . . . يوماً ولا غاضت عليك شؤون
قد كنت أبكي الدمع أبيض ناصعاً . . . فاليوم تبكي بالدماء جفون قل للذين قد ادعوا فرط الهوى . . . إن شيتم علم الهوى فسلون
إني أخذت كثيره عن عروة . . . ورويت سايره عن المجنون
هذي روايتنا عن أشياخ الهوى . . . فإن ادعيتم غيرها فأرون
يا ساكني أكناف رملة عالج . . . ظفرت بظبيكم الغرير يمين
كم بات في جنح الظلام معانقي . . . ومجنت في صفروي إلى مجنون
في روضة نم النسيم بعرفها . . . وكذاك عرف الروض غير مصون
والورق من فوق الغصون ترنمت . . . فتريك بالألحان أي فنون
تصغي الغصون لما تقول فتنثني . . . طرباً لها فأعجب لميل غصون
والأرض قد لبست فلايل سندس . . . قد كللت باللؤلؤ المكنون
تاهت على زهر السماء بزهرها . . . وعلى البدور بوجهها الميمون(4/12)
"""""" صفحة رقم 13 """"""
قال أبو فارس ، وكان أمير المسلمين أبو يوسف سار إلى مدينة سلا ، فبويع بها ولده أبو يعقوب ، وذلك في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول عام أحد وسبعين وستماية ، يوم مولد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأنشدته يوم بيعته هذه القصيدة ورفعتها إليه :
يا ظبية الوعساء قد برح الخفا . . . إني صبرت على غرامك ما كفى
كم قد عصيت على هواك عواذلي . . . وأناب بالتبعيد منك وبالجفا
حملتني ما لا أطيق من الهوى . . . وسقيتني من غنج لحظك فرقفا
وكسوتني ثوب ألنحول فمنظري . . . للناظرين عن البيان قد اختفا
هذا قتيلك فارحميه فإنه . . . قد صار من فرط النحول على شفا
لهفي على زمن تقضى بالحما . . . وعلى محل بالإجيرع قد عفا
أترى يعود الشمل كيف عهدته . . . ويصير بعد فراقه متألقا
لله درك يا سلا من بلدة . . . من لم يعاين مثل حسنك ما اشتفا
قد حزت براً ثم بحراً طامياً . . . وبذاك زدت ملاحة وتزخرفا
فإذا رأيت بها القطائع خلتها . . . طيراً يحوم على الورود مرفرفا
والجاذفين على الركيم كأنهم . . . قوم قد اتخذوا إماماً مسرفا
جعل الصلاة لهم ركوعاً كلها . . . وأتى ليشرع في السجود مخففا
والموج يأتي كالجبال عبابه . . . فتظنه فوق المنازل مشرفا
حتى إذا ما الموج أبصر حده . . . غض العنان عن السرى وتوقفا
فكأنه جيش تعاظم كثرة . . . قد جاء مزدحماً يبايع يوسفا
ملك به ترضى الخلافة والعلا . . . وبه تجدد في الرياسة ما عفا
من لم يزل يسبي الفوارس في الوغى . . . إن سل في يوم الكريهة مرهفا
ألفت محبته القلوب لأنه . . . ملك لنا بالجود أضحى متحفا
ألقى إليه الأمر والده الذي . . . عن كل خطب في الورى ما استنكفا
يعقوب الملك الهمام المجتبا . . . الماجد الأوفى الرحيم الأرأفا
يهواه من دون البنين كأنما . . . يعقوب يعقوب ويوسف يوسفا(4/13)
"""""" صفحة رقم 14 """"""
طوبى لمن في الناس قبل كفه . . . والويل منه لمن غدا متوقفا
أعطاك ربك وارتضاك لخلقه . . . فاقتل بسيفك من أبا وتخلفا
وامدد يمينك للوفود فكلهم . . . لليوم عاد مؤملاً متشوفا
فايوم لا تخشى النعاج ذيابها . . . ويعود من يسطو بها متعطفا
صلح الزمان فلا عدو يتقى . . . لم يخش خلق في علاك تخوفا
لم لا وعدلك للبرية شامل . . . طبعاً وغيرك لا يزال تكلفا
يا من سررت بملكه وعلايه . . . اليوم أعلم أن دهري أنصفا
فإذا ملكت فكن وفياً حازماً . . . واعلم بأن الملك يصلح بالوفا
وأفض بذلك للوجود وكن لهم . . . كهفاً وكن ببعيدهم مستعطفا
فالجود يصلح ما تعلم في العلا . . . وسواه يفسد في الخلافة ما صفا إن البرية في يديك رمامها . . . فاحذر فديتك إن تكون معنفا
يا من تسربل بالمكارم والعلا . . . ما زال حاسدكم يريد تأسفا
خذها إليك قصيدة من شاعر . . . في نظم فخرك كيف شا تصرفا
خضع الكلام له فصار كعبده . . . ما شاء يصنع ناظماً ومؤلفا
لا زالت الأمجاد تخدم مجدكم . . . ما زارت الحجاج مروة والصفا
ومن شعره في رثاء الأمير أبي مالك :
سهم المنية أين منه فرار . . . من في البرية من رجاه يجار
حكم الزمان على الخلايق بالفنا . . . فادار لا يبقى بها ديار
عش ما تشاء فإن غايتك الردى . . . يبلى الزمان وتذهب الأعمار
فاحذر مسالمة الزمان وأمه . . . إن الزمان بأهله غدار
وانظر إلى الأمراء قد سكنوا الثرى . . . وعليهم كأس المنون تدار
تركوا القصور لغيرهم تورحلوا . . . ومن اللحود عليهم أستار
قد وسدوا بعد الحرير جنادلاً . . . ومن اللحود عليهم أستار
منعوا السرى للقباب وأسكنوا . . . بطن الثرى حكمت بذاك عليهم الأقدار(4/14)
"""""" صفحة رقم 15 """"""
لم تنفع الجرد الجياد ولا القنا . . . يوم الردى والعسكر الجرار
في موت عبد الواحد الملك الرضا . . . لجميع أملاك الورى إنذار
أن ليس يبقى في الملوك مملك . . . إلا أتته منية وبوار
ناديته والحزن خامر مهجتي . . . والقلب فيه لوعة وأوار
يا من ببطن الأرض أصبح آفلاً . . . أتغيب في بطن الثرى الأقمار
أين الذين عهدت صفو ودادهم . . . هل فيهم بعد الردى لك جار
تركوك في بطن الثرى وتشاغلوا . . . بعلا سواك فهجرهم إنكار
لما وقفت بقبره مترحماً . . . حان العزا وهاجني استعبار
فبكيت دمعاً لو بكت بمثاله . . . غر السحاب لم تكن أمطار
يا زايريه استغفروا لمليككم . . . ملك الملوك فإنه غفار
وفاته
توفي خنقاً بسجن فاس بسعاية سعيت به ، جناها تهوره في وسط عام سبعة وتسعين وستماية ، وقد كان جعل له النظر في أمور الحسبة ببلاد المغرب .
ومن العمال
عبد العزيز بن عبد الله بن عبد العزيز الأسدي العراقي
من أهل وادي آش ، نزل سلفه طرش من أحوازها ، وجده استوطنها ، وذكروا أنه كان له بها سبعون غلاماً . وجده للأم أبو الحسن بن عمر شارح الموطأ ومسلم ، ومصنف غير ذلك . كذا نقلته عن أبي عبد الله العراقي ، قريبه .
حاله
كان طبيباً ، شاعراً مجيداً ، حسن الخط ، ظريف العمل ، مشاركاً في معارف . تولى أعمالاً نبيهة .
شعره
نقلته من خطة ما نصه :
صرفت لخير صدر في الزمان . . . عريق في أصالته عنان
كريم المنتمي من خير بيت . . . سليل مجادة ورفيع شان
رحيب بنا فضل غير وان . . . عن الأفضال في هذا الأوان(4/15)
"""""" صفحة رقم 16 """"""
ومن هذا أذاك هو ابن عيسى . . . محمد المعان على المعان
أبو عبدلي إنه المنتمي من . . . مساوئ الفضل في سوى العنان
ذراني في مجادته محباً . . . فهش لما به يحوي جنان
فأنس ثم بشر بالأماني . . . ورفع بعد تأنيس مكان
سر لله ما أولى لير . . . وليس كمن رآني فازدران
ويوجب ذو الفضايل كل فضل . . . بما فيها ترشحت الأوان
وكم زهر رآه وسط روض . . . وكم هاذ يدي بين الدنان
بمالقة وبالأقطار أضحت . . . معاليكم مشيدة المبان
فأيدوا الآلة لسوف يأتي . . . لكم مني سوابق في الرهان
قواف من الحكم قواف . . . محامد للسماع وللعيان يفوق نظيمها من كل معنى . . . سلوك الدر من حلي الحسان
متى خف ازدحام من همومي . . . ورجيت الأمان مع أمان
شكرت الله ثم صفا فؤادي . . . وأملي ما تحب على لسان
فهأنذا ببركم غذائي ولي . . . منكم على بعدي تدان
محبك حيث كنت بلا سلو . . . وضيفك في البعاد وفي التوان
ثنائي ثابت يبقى بقاي . . . ومن بعدي على طول الزمان
وما تهب الأكف قراك فان . . . وما تهب الطروس فغير فان
هنيئاً بالنزاهة في سرور . . . ومع من لا له في الفضل ثان
فلا زالت مسرته توالي . . . ولا زالت تزف لك التهان
وفاته : ببلدة وادي آش عام خمسة عشر وسبعماية .(4/16)
"""""" صفحة رقم 17 """"""
عبد القادر بن عبد الله بن عبد الملك بن سوار المحاربي
حاله
هذا الرجل دمث الأخلاق ، سكون ، وقور . خدم أبوه بغرناطة كاتباً للغزاة ، منوهاً به ، مشهوراً بكرم وظرف . وانتقل إلى العدوة ، ونشأ ابنه المذكور بها ، وارتسم بخدمة ولي العهد الأمير أبي زيان ، وورد على الأندلس في وسط عام سبعة وخمسين وسبعماية في بعض خدمه ، وأقام بغرناطة أياماً يحاضر محاضرة يتأنس به من أجلها الطالب ، وينتظم بها مع أولى الخصوصية من أهل طريقه ، وينقل حكايات مستطرفة . فمنم ذلك أن الشيخ عبد الرحمن بن حسن القروي الفاسي كان مع أبي القاسم الزياني بجامع القرويين ليلة سبع وعشرين من رمضان ، فدخل عليهم ابن عبدون المكناسي ، فتلقاه الزياني وتأيده ، وتوجهوا إلى الثريا بالقرويين وقد أوقدت ، وهي تحتوي على نحو ألف كاس من الزجاج ، فأنشد الزياني :
أنظر إلى نارية نورها يصدع بالألإ حجب الغسق .
فقال ابن عبدون :
كأنها في شكلها زهرة . . . انتظم النور بها فاتسق
وحكيت القصة للأديب الشهير أبي الحكم مالك بن المرحل ، فقال لو حضرت أنا لقلت :
أعيذها من شر ما يتقى . . . من فجأة العين برب الفلق
واستنشد من شعره في الثامن والعشرين لربيع الآخر من العام بقصر نجد ، فقال من حكايات ، إن السلطان أمير المسلمين وجد يوماً على رجل أمر بتنكيله ، ثم عطف عليه في الحال وأحسن إليه ، وكان حاضراً مجلسه أبو الحسن المزدغى رحمه الله ، فأنشده بديهة :
لا تونسنك من عثمن سطوته . . . وإن تطاير من أثوابه الشرر
فإن سطوته والله يكلاه . . . كالبرق والرعد يأتي بعده المطر
قال المترجم به ، فحدثني بذلك والدي ، فتعقبتها عليه عام تسعة وعشرين وسبعماية ، لموجب جر ذلك بقولي :
لا تيأسن من رجا كهف الملوك . . . أبي سعيد المرتجى للنفع والضرر(4/17)
"""""" صفحة رقم 18 """"""
وإن بدا منه سخط أو رأيت له . . . من سطوة أقبلت ترميك بالشرر
فإنما شيء مثل الرعد يتبعه . . . برق ومن بعده ينهل المطر
وأنشدني لبعض الأحداث من طلبة فاس ، يخاطب صاحبنا الفقيه الكاتب أبا عبد الله بن جزى ، وقد توعده على مطل باستنساخ كتاب كان يتناول له وهو بديع :
إذا ما أتت أبطال قيس وعامر . . . وأقيال عبس من بغمام وقسور
تصادمني وسط الفلا لا تهولني . . . فكيف أبالي بابن جزء مصغر
مولده : بفاس في العشر الأول لذي حجة عام تسعة وسبعماية .
ومن الزهاد والصلحاء وأولا الأصليون
عبد الأعلى بن معلا
يكنى أبا المعلى الإلبيري ، من قرى القلعة ، ونشأ بالحاضرة ، وكان ينسب إلى خولان . ويذكر أنه أسلم على يدي رجل من خولان ، فتولاه وانتسب إليه ، وخرج إلى البيرة ، ونشأ بها ، وشغف بكتب عبد الملك بن حبيب ، ولم يكن أحد في عصره يشبهه في فضله وزهده وورعه ، وتواضعه وانقباضه ، وتستره . أرسل إليه حسين بن عبد العزيز أخو هاشم بن عبد العزيز ، وهو بإلبيرة يرغب إليه في أن يشهد جنازة ابنة توفيت له ، كان يشغف بها ، فتعذر عليه إذ خشي الشهرة . وقال لبعض جلسائه ، ما علمت أن حسيناً يعرفني ، وعمل على الخروج من إلبيرة ، وتهيأ للخروج للحج ، فحج ، فلما كان منصرفه ، ونزل في بعض السواحل ، وجد هنالك مركبين يشحنان ، فرغب كل من أصحاب المركبين ، أن يركب عنده ، وتنافسا في ذلك ، حتى خشي أن تقع الفتنة بينهم ، فاهتم لذلك ، ثم اصطلح أرباب(4/18)
"""""" صفحة رقم 19 """"""
المركبين ، على أن يخرج كل واحد منهما قاربه إلى البر ، فمن سبق قاربه إليه دخل عنده . ونزل في منصرفه ببجاية وسكنها إلى أن توفي سنة ثلاث وتسعين ومائتين .
عبد المنعم بن علي بن عبد المنعم بن إبراهيم بن سدراي بن طفيل
يكنى أبا العرب ، ويشهر بالحاج ، ويدعى بكنيته
حاله
كان عالماً فاضلاً صالحا ، منقطعاً متبتلاً ، بارع الخط ، مجتهداً في العبادة ، صاحب مكاشفات ، وكرامات . نبذ الدنيا وراء ظهره ، ولم يتلبس منها بشيء . ولا اكتسب مالاً ولا زوجة ، وورث عن أبيه مالاً خرج عن جميعه ، وقطع زمن فتايه في السياحة وخدمة الصالحين ، وزمان شيخوخته ، في العزلة والمراقبة ، والتزام الخلوة . ورحل إلى الحج ، وقرأ بالمشرق ، وخدم مشايخ من الصالحين ، منهم الفخر الفارسي ، وأبو عبد الله القرطبي وغيرهما ، وكان كثير الإقامة بالعدوة ، وفشا أمره عند ملوكها ، فكانوا يزورونه ، ويتبركون به ، فيعرض عنهم ، وهو أعظم الأسباب في جواز أهل المغرب لنصرة من بالأندلس في أول الدولة النصرية ، إذ كان الروم قد طمعوا في استخلاصها ، فكان يحرض على ذلك ، حتى عزم صاحب العدوة على الجواز ، وأخذ في الحركة ، بعد استدعاء سلطان الأندلس إياه . وعندما تعرف يغمور بن زيان ملك تلمسان ذلك كله على بلاده بما منع من الحركة ، فخاطبه الحاج أبو العرب مخاطبته المشهورة ، التي كفت عدوانه ، واقتصرته عما ذهب إليه .
وكان حياً في صفر عام ثلاثة وستين وستماية ، وهو تاريخ مخاطبته أبا يحيى يغمور بن زيان .(4/19)
"""""" صفحة رقم 20 """"""
ومن الطارئين وغيرهم
عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر بن فتح بن سبعين العكي
مرسي ، رقوطي الأصل ، سكن بآخرة مكة ، يكنى أبا محمد ، ويعرف بابن سبعين .
حاله
قال ابن عبد الملك ، درس العربية والأدب بالأندلس ، عند جماعة من شيوخها . ثم انتقل إلى سبتة ، وانتحل التصوف ، بإشارة بعض أصحابه ، وعكف برهة على مطالعة كتبه ، وتعرض بعد لإسماعها ، والتكلم على بعض معانيها ، فمالت إليه العامة ، وغشيت محله . ثم فصل عن سبتة ، وتجول في بلاد المغرب منقطعاً إلى طريقة التصوف ، داعياً إليها ، محرضاً عليها . ثم رحل إلى المشرق ، وحج حججاً ، وشاع ذكره ، وعظم صيته هنالك ، وكثر أتباعه على مذهبه ، الذي يدعو إليه من التصوف نحلة . ارتسموا بها من غير تحصيل لها ، وصنف في ذلك أوضاعاً كثيرة ، تلقوها منه ، وتقلدوها عنه ، وبثوها في البلاد شرقاً وغرباً ، ولا يخلو أحد منها بطايل ، وهي إلى وساوس المخبولين ، وهذيان الممروضين أقرب منها إلى منازع أهل العلم ، ولفظه غير ما بلد وصقع ، لما كان يرمى به من بلايا الله أعلم بحقيقتها ، وهو الملطع على سريرته فيها . وكان حسن الأخلاق ، صبوراً على الأذى ، آية في الإيثار ، أبدع الناس خطاً .
وقال أبو العباس الغبريني في كتاب عنوان الدراية عند ذكره ، وله علم وحكمة ومعرفة ، ونباهة وبلاغة وفصاحة . ورحل إلى العدوة ، وسكن بجاية مدة ، ولقيه من أصحابنا ناس كثير ، وأخذوا عنه ، وانتفعوا به في فنون خاصة له ، مشاركة في معقول العلوم ومنقولها ، ووجاهة لسان ، وطلاقة قلم ، وفهم جنان ،(4/20)
"""""" صفحة رقم 21 """"""
وهو آخر الفضلاء ، وله أتباع كثيرة من الفقراء ، ومن عامة الناس ، وله موضوعات كثيرة ، موجودة بأيدي الناس ، وله فيها ألغاز وإشارات بحروف أبي جاد ، وله تسميات مخصوصات في كتبه هي نوع من الرموز وله تسميات ظاهرة كالأسامي المعهودة ، وله شعر في التحقيق ، وفي مراقي أهل الطريق ، وكتابته مستحسنة في طريقة الأدباء . وله من الفضل والمزية ، ملازمته لبيت الله الحرام ، والتزامه الاعتمار على الدوام ، وحجته مع الحجاج في كل عام ، وهذه مزية لا يعرف قدرها ولا يرام . ولقد مشى به للمغاربة بحظ في الحرم الشريف ، لم يكن لهم في غير مدته . وكان أصحاب مكة شرفها الله ، يهتدون بأفعاله ، ويعتمدون على مقاله . قلت ، وأغراض الناس في هذا الرجل متباينة ، بعيدة عن الاعتدال ، فمنهم الموهن المكفر ، ومنهم المقلد المعظم ، وحصل لطرفي هذين الاعتقادين من الشهرة والذياع ما لم يقع لغيره . والذي يقرب من الحق ، أنه كان من أبناء الأصالة ببلده ، وولى أبوه خطة المدينة ، وبيته نبيه ، ونشأ ترفاً مبجلاً ، في ظل جاه ، وعز نعمة ، لم تفارق معها نفسه البلد ، ثم قرأ وشدا . ونظر في العلوم العقلية ، وأخذ التحقيق عن أبي إسحاق ابن دهاق ، وبرع في طريقة الشوذية ، وتجرد واشتهر ، وعظم أتباعه ، وكان وسيماً جميلاً ، ملوكي البزة ، عزيز النفس ، قليل التصنع ، يتولى خدمته الكثير من الفقراء السفارة ، أولى العبا والدقاقيس ، ويحفون به في السكك ، فلا يعدم ناقداً ، ولا يفقد متحاملاً . ولما توفرت دواعي النقد عليه من الفقهاء زياً وانتباذاً ونحلة وصحبة واصطلاحاً ، كثر عليه التأويل ، ووجهت لألفاظه المعاريض ، وفليت موضوعاته ، وتعاورته الوحشة ، ولقيه فحول من منتابى تلك النحلة ، قصر أكثرهم عن مداه في الإدراك والاضطلاع ، والخوض في بحار تلك الأغراض ، وساءت منه لهم في الملاطفة السيرة ، فانصرفوا عنه مكظومين يندرون في الآفاق عليه من سوء القيلة ، ما لا شيء فوقه . ورحل إلى المشرق ، وجرت بينه وبين الكثير من أعلامه خطوب . ثم نزل مكة شرفها الله تعالى واختارها قراراً ، وتلمذ له أميرها ، فبلغ من(4/21)
"""""" صفحة رقم 22 """"""
التعظيم الغاية ، وعاقه الخوف من أمير المدينة المعظمة النبوية ، عن القدوم عليها ، إلى أن توفي ، فعظم عليه الحمل لأجل ذلك ، وقبحت الأحدوثة .
شهرته ومحله من الإدراك أما اضطلاعه ، فمن وقف على البد من كتبه ، رأى سعة ذرعه وانفساح مدى نظره ، لما اضطلع به من الآراء والأوضاع والأسماء ، والوقوف على الأقوال ، والتعمق في الفلسفة ، والقيام على مذاهب المتكلمين ، بما يقضي منه العجب . ولما وردت على سبتة المسائل الصقلية ، وكانت جملة من المسايل الحكمية ، وجهها علماء الروم تبكيتاً للمسلمين ، انتدب إلى الجواب عنها ، على فتى من سنه ، وبديهة من فكرته . وحدثني شيخنا أبو البركات ، قال حدثني أشياخنا من أهل المشرق ، أن الأمير أبا عبد اللهبن هود ، سالم طاغية النصارى ، فنكث عهده ، ولم يف بشرطه ، فاضطره ذلك إلى مخاطبته إلى القومس الأعظم برومة ، فوكل أبا طالب بن سبعين ، أخا أبي محمد ، المتكلم عنه ، والاستظهار بالعقود بين يديه ، قال فلما بلغ باب ذلك الشخص المذكور برومة ، وهو بلد لا تصل إليه المسلمون ، ونظر إلى ما بيده ، وسئل عن نفسه ، كلم ذلك القس من دنا منه محله من علمايهم بكلام ، ترجم لأبي طالب بما معناه ، اعلموا أن أخا هذا ليس للمسلمين اليوم أعلم بالله منه .
دعواه وإزراؤه
وقد شهر عنه في هذا الباب كثير والله أعلم باستحقاقه رتبة ما ادعاه أو غير ذلك . فقد ذكروا أنه قال ، وقد مر ذكر الشيخ أبي مدين رحمه الله ، شعيب عبد عمل ، ونحن عبيد حضرة . وقال لأبي الحسن الششتري عندما لقيه ، وقد سأله عن وجهته ، وأخبره بقصده الشيخ أبا أحمد ، إن كنت تريد الجنة فشأنك ومن قصدت ، وإن كنت تريد رب الجنة فهلم إلينا ، وفي كتاب البد ما يتشوف إليه من(4/22)
"""""" صفحة رقم 23 """"""
هذا الغرض عند ذكره حكماء الملة . وأما ما ينسب إليه من آثار السيمياء والتصريف فكثير .
تواليفه وتواليفه كثيرة تشذ عن الإحصاء ، منها المسمى بالبد بد العارف ، وكتاب الدرج ، وكتاب الصفر ، والأجوبة اليمنية ، والكل والإحاطة . وأما رسايله في الأذكار ، كالنورية في ترتيب السلوك ، وفي الوصايا والعقايد فكثير ، يشتمل على ما يشهد بتعظيم النبوة ، وإيثار الورع ، كقوله من رسالة : سلام الله عليك ورحمته . سلام الله عليك ثم سلام مناجاتك . سلام الله ورحمته الممتدة على عوالمك كلها ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، وصلى الله عليك كصلاة إبراهيم من حيث شريعتك ، وكصلاة أعز ملائكته من حيث حقيقتك ، وكصلاته من حيث حقه ورحمانيته . السلام عليك يا حبيبه . السلام عليك يا قياس الكمال ، ومقدمة السعد ، ونتيجة الحمد ، وبرهان المحمود ، ومن إذا نظر الذهن إليه قد أنعم العيد ، السلام عليك يا من هو الشرط في كمال الأولياء ، وأسرار مشروطات الأزكياء الأتقياء . السلام عليك يا من جاوز في السماء مقام الرسل والأنبياء ، وزاد رفعة ، واستولى على ذوات الملأ الأعلى ، ولم يسعه في وجهته تلك إلا ملاحظة الرفيق الأعلى ، وذلك قوله ، سبح اسم ربك الأعلى إلى الأخرى والأولى ، لا إلى الآخرة والأولى ، وبلغ الغاية والمطلوب ، التي عجزت عنه قوة ماهية النهى ، وزاد بعد ذلك ، حتى نظر تحته من ينظر دونه سدرة المنتهى ، إلى استغراق كثير ، أفضى إلى حال من مقام .
ومن وصاياه يخاطب تلاميذه وأتباعه : حفظكم الله ، حافظوا على الصلوات ، وجاهدوا النفس في اجتناب الشهوات ، وكونوا أوابين ، توابين ، واستعينوا على الخيرات بمكارم الأخلاق ، واعملوا على نيل الدرجات السنية ، ولا تغفلوا عن الأعمال السنية ، وحصلو مخصص الأعمال الإلهية ومهملها ، وذوقوا مفصل الذات الروحانية ومحملها ، ولازموا المودة في الله بينكم ، وعليكم بالاستقامة على الطريقة ، وقدموا فرص الشريعة على الحقيقة ، ولا تفرقوا بينهما ، لأنهما من الأسماء المترادفة ،(4/23)
"""""" صفحة رقم 24 """"""
واكفروا بالحقيقة التي في زمانكم هذا ، وقولوا عليها وعلى أهلها لعنة الله ، لأنها حقيقة كما سمى اللديغ سليما ، وأهلها مهملون حد الحلال والحرام ، مستخفون بشهر الصوم والحجج وعاشوراء والإحرام ، قاتلهم الله أنى يؤفكون .
ومنها : واعلموا أن القريب إلي منكم ، من لا يخالف سنة أهل السنة ويوافق طاعة رب العزة والمنة ، ويؤمن بالحشر والنار والجنة ، ويفضل الرؤية على كل نعمة ، ويعلم أن الرضوان بعدها ، أجل كل رحمة ، ثم يطلب الذات بعد الأدب مع الصفات والأفعال ، ويغبط نفسه بالمشاهدة في النوم والبرزخ والأحوال ، وكل مخالف سخيف ، متهم منه الفساد ، وإن كان من إخوانكم ، فاهجروه في الله ، ولا تلتفتوا إليه ، ولا تسلموا له في شيء ، ولا تسلموا عليه حتى يستغفر الله العظيم بمحضر الكل منهم ، ويرضى عن نفسه وحاله وعنكم ، ويخرج من صفاته المذمومة ، ويترك نظام دعوته المحرومة . وأنا مذ أشهدت الله العظيم ، أني قد خرجت من كل مخالف متخلف العقل واللسان ، ولا نسبة بيني وبينه في الدنيا والآخرة ، فمن زل قدمه يستغفر الله ، ولا يخدعه قدمه ، وأمثال هذا كثير .
دخوله غرناطة
أخبرني غير واحد من أصحابنا المعتنين بهذا ، أنه دخل غرناطة في رحلته ، وأظنه يجتاز إلى سبتة ، وأنه حل وسطه ، على اصطلاح الفقراء ، برابطة العقاب من خارجها ، في جملة من أتباعه .
شعره
وشعره كثير ، مما حضرني منه الآن قوله :
كم ذا تموه بالشعبين والعلم . . . والأمر أوضح من نار على علم
وكم تعير عن سلع وكاظمة . . . وعن زرود وجيرن بذي سلم
ظللت تسئل عن نجد وأنت بها . . . وعن تهامة هذا فعل متهم
في الحي حتى ولا سوى ليلى . . . وتسألها عنها سؤالك وهم جر للعدم(4/24)
"""""" صفحة رقم 25 """"""
وفاته
توفي بمكة شرفها الله تعالى يوم الخميس التاسع لشوال من عام تسعة وستني وستماية .
فيما يسمى بإحدى عيون الإسلام من الأسماء العينية وهم عتيق وعمر وعثمن وعلي ، وأولا الأمراء والملوك وهم ما بين طارئ وأصلي وغريب
عمر بن حفصون بن عمر بن جعفر الإسلامي بن كسمسم بن دميان ابن فرغلوش بن أذفونش
كبير الثوار ، وعظيم النتزين ، ومنازع الخلفاء بالأندلس .
أوليته وحاله قال صاحب التاريخ ، أصله من رندة ، من كورة تاكرنا ، وجده جعفر إسلامي ، وانتقل إلى رندة ، لأمر دار عليه بها في أيام الحكم بن هشام ، فسكن قرية طرجيلة من كورة ريه المجاورة لحصن أوطة ، فاستوطن بها ، وأنسل بها عمر ، ثم أنسل بها عمر حفصاً ، وفخم فقيل حفصون . ثم أنسل عمر هذا الثاير مع أخوة له ، منهم أيوب وجعفر . ولما ترعرع عمر ، ظهر له من شراسته وعتوه ، ما لم يعدم معه أبواه هرباً عن مواضعهما فزالا عن وطنهما ، فذكر أنه لم يمسك من حين كان عن أحد ممن ناظره ، ولا سكت عن أقبح ما يمكن من السب لمن عاتبه ، وأنه قتل أحد جيرانه على سبب يسير دافعه عنه ، فتغرب لذلك عن الموضع زماناً .
وذكر ابن القوطية ، أن عامل ريه ، عاقبه في جناية ، وفر إلى العدوة ، وصار يتهرب عند خياط كان من أهل ريه ، فبينا هو جالس في حانوته يوماً ، إذ أتاه شخص(4/25)
"""""" صفحة رقم 26 """"""
بثوب يقطعه ، فقام إليه الخياط ، فسأل ذلك الشخص الخياط عن عمر فقال له هو رجل من جيراني ، فقال الشيخ متى عهدك بريه ، فقال له ، منذ أربعين يوماً ، فقال له ، أتعرف جبلاً يقال له ببشتر ، فقال أنا ساكن عند أهله ، فقال أله حركة ، قال لا ، قال الشيخ قد أذن ذلك . ثم قال ، تعرف فيما يجاوره رجلاً يقال له عمر بن حفصون ، ففزع من قوله ، فأحد الشيخ النظر فيه وقال ، يا منحوس ، تحارب الفقر بالإبرة ، إرجع إلى بلدك ، فأنت صاحب بني أمية ، وستملك ملكاً عظيماً ، فقام من فوره ، وأخذ خبزه في كمه ، ورجع إلى الأندلس . فداخل الرجال ، حتى ضبط الجبل المذكور ، وانضوى إليه كل من يتوقع التهمة على نفسه ، أو تشهره إلى الانتزاء بطبعه ، وضم إلى القلعة كل من كان حولها من العجم والمولدين . ثم تملك حصن أوطة وميجش ، ثم تلمك قمارش وأرجدونة . ثم اتسع نظره ، حتى تملك كورة ريه ، والخضراء ، وإلبيرة ، إلى بسطة وأبدة وبياسة وقبرة ، إلى كل حصن بلى ، المطل على قرطبة ، وأشرق الخلافة بريقها ، وقطع الزمان من استكانة إلى عهد ، وكشف الوجه في ختر ، وتشمير الساعد عن حرب ، وحسر اللثام عن أيد وبسطة وشد الحزام على جهد وصبر ونازله الخلايف والقواد ، فلم يحل بطايل ، وأصابته جراحات مثخنة في الوقايع وأصبحت فتنته سمر الركاب ، وحديث الرفاق ، شدة أسر ، وثقل وطأة ، وسعة ذرع ، واتصال حبل ، وطول إملاء ، استغرق بها السنين ، وطوى الأعمار ، وأورث ذلك ولده بعده ، وعند الله جزاء وحساب ، وإن امتد المآب ، لا إله إلا هو .
دخوله غرناطة وإلبيرة
قال ابن الفياض وغيره ، ودخل إلبيرة مرات ، عندما ثار بدعوته ، قاتل ، وانضوى إلى حصن منتشافر ، من إقليم برجيلة قيس ، في نحو ستة آلاف ، وتغلب على يحيى بن صقالة ، ثم نازله سوار بن حمدون أمير العرب بغرناطة ، حتى غلبه ، وأخذه أسيراً ، ثم أوقع بجعد ومن معه من أهل إلبيرة وقايع مستأصلة ، وتملك بعدها(4/26)
"""""" صفحة رقم 27 """"""
بياسة وأبدة ، في أخبار تطول . قال أبو مروان ، قصد ابن حفصون حاضرة إلبيرة وحصونها ، وناصب الحرب سواراً ، وقد استمد سوار رجالات العرب ، من كورني جيان وريه وإلبيرة ، فوقعت الهزيمة على ابن حفصون ، وجرح جراحات مثخنة ، وأصيب جماعة من فرسانه ، وانقلب منهزماً ، فغضب عند ذلك على أهل إلبيرة فأغرمهم مغرماً فدحهم ، واستعمل عليهم ، حفص بن الرة ، فلم يزل لعمل الحيل على سوار ، حتى أوقع به ، وأتى بجثته إلى إلبيرة ، وحمل رأسه إلى ببشتر ، واستشرى داؤه ، وأعيا أمره ، فاتصل ملكه بالقواعد والأقطار ، وغلب أكثر المدن ، ما بين الموسطة والغرب ، وأحدق ملكه بقرطبة ، وحجر عليها الخيل من حصن بلى ، من حصون قبرة ، فجلت الكنبانية ، وامتد إلى بنيان المعاقل . ولما رأى الأمير محمد ما أحاط به منه ، تأهب إلى غزوه ، ونزل حصن بلى ، وناهضه ، فأوقع به ، وهزمه وألجأه إلى أن سلم في حصنه ، فلما خرج منه بمن معه ، تطيرهم ريح الفرار والسيوف تأخذهم ، استولى الخليفة على الحصن . وفي ذلك يقول أحمد بن عبد ربه ، شاعر دولتهم :
وله يوم بلى وقعة لم . . . تدع للكفر رأساً في ثبج
لم يجد إبليس في حومتها . . . نفعاً من رهبة حيث بلج
دفعتهم حملة السيل إلى . . . كافح الأمواج مخض اللجج
فتح الله على الدين به . . . وعلى الإسلام يا عام تتج
وكان هذا الفتح سنة سبع وسبعين ومائتين . ثم استخلص مدينة إستجة .
وفاته قال ، ومن هذا العهد ، أدبر أمر ابن حفصون ، وتوقف ظهوره ، بعد تخبط شديد ، ولجاج كبير ، وشر مبير ، وكانت وفاته ببشتر ، موضع انتزائه على عهد(4/27)
"""""" صفحة رقم 28 """"""
الخليفة عبد الرحمن في سنة ست وثلاثمائة ، بعد مرض شمل النفخ به جسده ، حتى تشقق جلده ، وانتقل أمره إلى ولده جعفر ، ثم إلى ولده سليمان ، ثم إلى ولده حفص . وعلى حفص انقرض أمرهم .
عمر بن محمد التجيبي بن عبد الله بن محمد بن مسلمة التجيبي
يطليوسي ، مكناسي الأصل ، من مكناسة الجوف ، الأمير بالثغر الغربي ، الملقب من ألقاب السلطنة بالمتوكل على الله ، المكنى بأبي محمد ، المنبز بابن الأفطس .
أوليته
قال ابن حيان ، كان جدهم عبد الله بن مسلمة المعروف بابن الأفطس ، أصله من فحص البلوط ، من قوم لا يدعون نباهة ، غير أنه كان من أهل المعرفة التامة ، والعقل ، والدهاء ، والسياسة . ثم كان هذا الصقع الغربي ، بطليوس وأعمالها ، وشنترين والأشبونة ، وجميع الثغر الجوفي في أمر الجماعة ، رجل من عبيد الحكم المستنصر ، يسمى سابور . فلما وقعت الفتنة ، وانشقت العصا ، انتزى سابور على ما كان بيده ، وكان عبد الله يدبر أمره إلى أن هلك سابور ، وترك ولدين لم يبلغا الحلم ، فاشتمل عبد الله على الأمر ، واستأثر به على ولديه ، فحصل على ملك غرب الأندلس ، واستقام أمره ، إلى أن مضى بسبيله ، وأعقبه ابنه المظفر محمد بن عبد الله ، وكان ملكاً شهيراً عالماً شجاعاً أديباً ، وهو مؤلف الكتاب الكبير المسمى بالمظفري ، فاستقامت أموره إلى أن توفي فقام بأمره ولده عمر هذا المترجم به .
حاله
قال ابن عبد الملك ، كان أديباً بارع الخط ، حافظاً للغة ، جواداً ، راعياً حقوق بلده ، مواخياً لهم ، محبباً فيهم ، مرت لهم معه أيام هدنة وتفضل إلى حين القبض عليه .(4/28)
"""""" صفحة رقم 29 """"""
وقال الفتح في قلائده : ملك جند الكتائب والجنود ، وعقد الألوية والبنود ، وأمر الأيام فائتمرت ، وطافت بكعبته الآمال واعتمرت ، إلى لسن وفصاحة ، ورحب جناب للوافدين وساحة ، ونظم يزرى بالدر النظيم ، ونثر تسرى رقته سري النسيم ، وأيام كأنها من حسنها جمع ، وليال كان فيها على الأنس حضور ومجتمع ، راقت إشراقاً وتبلجاً ، وسالت مكارمه فيها أنهاراً وخلجاً ، إلى أن عادت الأيام عليه بمعهود العدوان ، ودبت إليه دبيبها لصاحب الإيوان ، وانبرت إليه انبراءها لابن زهير وراء عمان .
شعره
بلغه أنه ذكر في مجلس المنصور يحيى أخيه بسوء ، فكتب إليه بما نصه
فما بالهم لا أنعم الله بالهم . . . ينيطون بي ذماً وقد علموا فضلي
يسيئون لي في القول جهلاً وضلة . . . وإني لا أرجو أن يسيئهم فعلي
لئن كان حقاً ما أذاعوا فلا مشت . . . إلى غاية العلياء من بعدها رجلي
ولم ألق أضيافي بوجه طلاقة . . . ولم أمنح العافين في زمن المحل
وكيف وراحي درس كل غريبة . . . وورد التقى شمي وحرب العدى نقلي
وإلى خلق في السخط كالشرى طعمه . . . وعند الرضى أحلى جنى من جنى النحل
فيا أيها الساقي أخاه على النوى . . . كؤوس القلى مهلاً رويدك بالعل
نلطفئ ناراً أضرمت في صدورنا . . . فمثلي لا يقلي ومثلك لا يقلي(4/29)
"""""" صفحة رقم 30 """"""
وقد كنت تشكيني إذا جئت شاكياً . . . فقل لي لمن أشكو صنيعك بي قل لي
فبادر إلى الأولى وإلا فإنني . . . سأشكوك يوم الحشر للحكم العدل
وكتب جواباً لأبي محمد بن عبدون مع مركوب عن أبيات ثبتت في القلايد :
بعثت إليك جناحاً فطر . . . على خفية من عيون البشر
على ذلل من نتاج البروق . . . في ظل من نسيج الشجر
فحسبي ممن نأى ومن دنا . . . فمن غاب كان كمن قد حضر
قال الفتح ، أخبرني الوزير أبو أيوب بن أمية ، أنه مر في بعض أيامه بروض مفتر المباسم ، معطر الرياح النواسم ، فارتاح إلى الكون به بقية نهاره ، والتنعم ببنفسجه وبهاره . فلما حصل من أنسه في وسط المدى ، عمد إلى ورقة كرنب قد بللها الندى ، وكتب فيها بطرف غصن ، يستدعي الوزير أبا طالب بن غانم أحد ندمائه ، ونجوم سمائه :
أقبل أبا طالب إلينا . . . واسقط سقوط الندى علينا
فنحن عقد بغير وسطى . . . ما لم تكن حاضراً لدينا نثره
وهو أشف من شعره ، وإنه لطبقة تتاقصر عنها أفذاذ الكتاب ، ونهاية من نهاية الآداب ، قال ، كان ليلة مع خواصه للأنس معاطياً ، ولمجلس كالشمس(4/30)
"""""" صفحة رقم 31 """"""
واطياً ، قد تفرغ للسرور ، وتفرغ عيشاً كالأمل المزرور ، والمنى قد أفصحت ورقها ، وأومص برقها ، والسعد تطلع مخايله ، والملك يبدو زهوه وتخايله ، إذ ورد عليه كتاب بدخول أشبونة في طاعته ، وانتظامها في سلك جماعته ، فزاد في مسرته ، وبسط من أسرته وأقبل خدامه ، وأسبل نداه على جلسائه وندامه ، فقال له ابن خيرة ، وكان يدل بالشباب ، وينزل منه منزلة الأحباب ، لمن توليها ، ومن يكون واليها ، فقال له ، أنت ، فقال فاكتب الآن بذلك ، فاستدعى الدواة والرق ، وكتب وما جف له قلم ، ولا توقف له كلم : لم يسوغ أولياء النعم ، مثل الذي سوغتموه من التزام الطاعة ، والدخول في نهج الجماعة ، وذلك لا آلوكم ونفسي فيكم نصحاً فيمن أتخيره ، للنيابة عني في تدبيركم ، والقيام بالدقيق والجليل من أموركم ، وقد وليت عليكم ، من لم أوثر والله فيه دواعي التقريب ، على بواعث التجريب ، ولا فوات التخصص ، على لوازم التمحيص ، وهو الوزير القائد أبو عبد الله بن خيرة ، ابني دربة ، وبعضي صحبة ، ونشأتي سكة وقرية ، وقد رسمت له من وجوه الذب والحماية ، ومعالم الرفق والرعاية ، ما التزم الاستيفاء بعهده ، والوقوف بجده عند حده ، والمسؤول في عونه من لا عون إلا من عنده ، ولن أعرفكم من حميد خصاله ، وسديد فعاله ، إلا بما سيبدو للعيان ، ويزكو مع الامتحان . ويفشو من قبلكم إن شاء الله على كل لسان ، وقد حددت له أن يكون لناشئكم أباً ولكهلكم أخاً . ولذي النفوس والكبرة إبناً ، ما أعنتموه على هذا المراد ، ولزوم الجواد ، وركوب الانقياد . وأما من شق العصا ، وبان عن الطاعة ، وظهر منه المراد والهوى ، فهو القصي منه ، وإن مت إليه بالرحم الدنيا ، فكونوا خير رعية ، بالسمع والطاعة في جميع الأحوال ، يكن لكم بالبر والموالاة خير وال إن شاء الله عز وجل .
وصوله إلى غرناطة
وصلها صحبة حليفه ابن عباد ، لما قبض يوسف بن تاشفين على صاحبها ونزل بالمشيجة من خارجها في رجب من عام ثلاثة وثمانين(4/31)
"""""" صفحة رقم 32 """"""
وأربعمائة ورابهما الأمر ، كما تقدم في ذكر المعتمد بن عباد ، فتعجلا الرجوع إلى وطنهما بحيلة دبراها .
نكبته ووفاته
ولما اشتد خوفه من أمير لمتونة ، ورأى أنه أسوة ابن عباد في الخلع عن ملكه ، وضيقت الخيل على أطرافه وانتزعتها ، داخل طاغية الروم ، وملكه من مدينة الأشبونة ، رغبة في دفاعه عنه ، فاستوحشت لذلك رعيته ، وراسلت اللمتونيين ، واقتحمت عليه مدينة بطليوس ، واعتصم بالقصبة ، وخانه المحاربة ، فدخلت عليه عنوة ، وتقبض عليه وعلى بنيه وعبيده ، وتحصلوا في ثقاف قائد الجيش اللمتوني . وبادر إعلام الأمير سير بن أبي بكر ، فلحق بها . واستخرج ما كان عند المتوكل من المال والذخيرة ، وأزعجه إلى إشبيلية مع ابنين له ، فلما تجاوز وبعد عن حضرته ، أنزل وقيل له تأهب للموت ، فسأل أن يقدم ابناه يحتسبهما عند الله ، فكان ذلك ، وقتلا صبراً بين يديه ، ثم ضرب عنقه ، وذلك صدر سنة سبع وثنانين واربعمائة ، وانقرضت دولة بني الأفطس .
وممن رثاهم ، فبلغ الأمد وفاء وشهرة وإجادة ، أبو محمد عبد المجيد ابن عبدون بقصيدته الفريدة :
الدهر يفجع بعد العين بالأثر . . . فما البكاء على الأشباح والصور
أنهاك أنهاك لا آلوك موعظة . . . عن نومة بين ناب الليث والظفر
فالدهر حرب وإن أبدى مسالمة . . . والبيض والسمر مثل البيض والسمر
ولا هوادة بين الرأس تأخذه . . . يد الضراب وبين الصارم الذكر(4/32)
"""""" صفحة رقم 33 """"""
فلا تغرنك من دنياك نومتها . . . فما صناعة عينيها سوى السهر
ما لليالي أقال الله عثرتنا . . . من الليالي وخانتها يد الغير
في كل حين لها في كل جارحة . . . منا جراح وإن زاغت عن البصر
تسر بالشيء لكن تغربه . . . كالأيم ثار إلى الجاني من الزهر
كم دولة وليت بالنصر خدمتها . . . لم تبق منها وسل ذكراك من خبر
هوت بداراً وفلت غرب قاتله . . . وكانت غصباً على الأملاك ذا أثر واسترجعت من بني ساسان ما وهبت . . . ولم تدع لبني يونان من أثر
وأتبعت أختها طسماً وعاد على . . . عاد وجرهم منها ناقص المرر
وما أقالت ذوي الهيئات من يمن . . . ولا أجارت ذوي الغايات من مضر(4/33)
"""""" صفحة رقم 34 """"""
ومزقت سبأ في كل قاصية . . . فما التقى رائح منهم بمبتكر
وأنفذت في كليب حكمها ورمت . . . مهلهلاً بين سمع الأرض والبصر
ولم ترد على الضليل صحته . . . ولا ثنت أسداً عن ربها حجر
ودوهت آل ذبيان وإخوتهم . . . عبساً وعضت بني بدر على النهر
وألحقت بعدي بالعراق على . . . يد ابنه أحمر العينين والشعر
وأهلكت أبرويزا بابنه ورمت . . . بيزد جرد إلى مرو فلم يحر
وأشرفت بحبيب فوق قارعة . . . وألحقت طلحة الفياض بالعفر
ومزقت جعفراً بالبيض واختلست . . . من غيلة حمزة الظلام للجزر(4/34)
"""""" صفحة رقم 35 """"""
وبلغت يزدرجرد الصين واختزلت . . . عنه سوى الفرس جمع الترك والخزر
ولم ترد مواضي رستم وقنا . . . ذي حاجب عنه سعداً في ابنة الغير
وخضبت شيب عثمان دماً وخطت . . . إلى الزبير ولم تستحي من عمر
وما رعت لأبي اليقظان صحبته . . . ولم تزوده إلا الضح في الغمر
وأجزرت سيف أشقاها أبا حسن . . . وأمكنت من حسين راحتي شمر
وليتها إذ فدت عمراً بخارجة . . . فدت علياً بمن شاءت من البشر
وفي ابن هند وفي ابن المصطفى حسن . . . أتت بمعضلة الألباب والفكر
فبعضنا قائل ما اغتاله أحد . . . وبعضنا ساكت لم يؤت من حصر
وعمت بالردى فودى أبي أنس . . . ولم ترد الردى عنه قنا زفر
وأردت ابن زياد بالحسين فلم . . . يبؤ بشسع له قد طاح أو ظفر(4/35)
"""""" صفحة رقم 36 """"""
وأنزلت مصعباً من رأس شاهقة . . . كانت بها مهجة المختار في وزر
ولم تراقب مكان ابن الزبير ولا . . . راعت عياذته بالبيت والحجر
ولم تدع لأبي الزيان قاضبة . . . ليس اللطيم لها عمرو بمنتصر
وأظفرت بالوليد بن اليزيد ولم . . . تبق الخلافة بين الكاس والوتر
حبابة حب رمان ألم بها . . . وأحمر قطرته نفحة القطر
ولم تعد قضب السفاح نابية . . . عن رأس مروان أو أشياعه الفجر
وأسبلت دمعة الروح الأمين على . . . دم يثج لآل المصطفى هدر
وأشرقت جعفراً والفضل ينظره . . . والشيخ يحيى بريق الصارم الذكر
وأخفرت في الأمين العهد وانتدبت . . . لجعفر بابنه بالأعبد الغدر(4/36)
"""""" صفحة رقم 37 """"""
وروعت كل مأمون مؤتمن . . . وأسلمت كل منصور ومنتصر
وأعثرت آل عباس لعالهم . . . بذل زباء من بيض ومن سمر
ولا وفت بعهود المستعين ولا . . . بما تأكد للمعتز من مرر
وأوثقت في عراها كل معتمد . . . وأشرقت بقذاها كل مقتدر
بني المظفر والأيام ما برحت . . . مراحل والورى منها على سفر
سحقاً ليومكم يوماً وما حملت . . . بمثله ليلة في سالف العمر
من للأسرة أو من للأعنة أو . . . من للأسنة يهديها إلى الثغر
من لليراعة أو من للبراعة أو . . . من للسماحة أو للنفع والضرر
من للظبي وعوالي الخط قد عقدت . . . أطراف ألسنها بالعي والحصر
وطوقت بالمنايا السود بيضهم . . . أعجب بذاك وما منها سوى ذكر(4/37)
"""""" صفحة رقم 38 """"""
أو رفع كارثة أو دفع حادثة . . . أو قمع آزفة تعيي على القدر
ويح السماح وويح الجود لو سلما . . . وحسرة الدين والدنيا على عمر سقت ثرى الفضل والعباس هامية . . . تعزى إليهم سماحاً لا إلى المطر
ثلاثة ما ارتقى النسران حيث رقوا . . . وكل ما طار من نسر ولم يطر
ثلاثة كذوات الدهر منذ نأوا . . . عني مضى الدهر لم يربع ولم يحر
ومر من كل شيء فيه أطيبه . . . حتى التمتع بالآصال والبكر
من للجلال الذي عمت مهابته . . . قلوبنا وعيون الأنجم الزهر
أين الإباء الذي أرسوا قواعده . . . على دعائم من عز ومن ظفر
أين الوفاء الذي أصفوا شرائعه . . . فلم يرد أحد منهم على كدر
كانوا رواسي أرض الله مذ نأوا . . . عنها استطارت بمن فيها ولم تقر(4/38)
"""""" صفحة رقم 39 """"""
كانوا مصابيحها دهراً فمذ خبوا . . . هذي الخليقة تالله في سدر
كانوا شجى الدهر فاستهوتهم خدع . . . منه بأحلام عاد في خطا الخضر
من لي ولا من بهم إن أظلمت نوب . . . ولم يكن ليلها يفضى إلى سحر
من لي ولا من بهم إن طبقت محن . . . ولم يكن ورودها يفضي إلى صدر
من لي ولا من بهم إن عطلت سنن . . . وأخفيت ألسن الآثار والسير
ويلمه من طلوب الثأر مدركه . . . لو أن ديناً على الأيام ذي عسر
على الفضائل إلا الصبر بعدهم . . . تسليم مرتقب للأجر منتظر
يرجو عسى وله في أختها طمع . . . والدهر ذو عقب شتى وذو غير(4/39)
"""""" صفحة رقم 40 """"""
قرطت آذان من فيها بفاضحة . . . على الحسان حصى الياقوت والدرر
سيارة في أقاصي الأرض قاطعة . . . شقاشقاً هذرت في البدو والحضر
مطاعة الأمر في الباب قاضية . . . من المسامع ما لم يقض من وطر
ومن الغرباء
عثمان بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن
الدايل بتلمسان ، يكنى أبا سعيد .
حاله
كان شيخاً مخيلاً بسمة الخير ، متظاهراً بالنسف ، بقية آل زيان ، متقدماً في باب الدهاء والذكر ، بالغاً أقصى المبالغ في ذلك . سكن غرناطة ووادي آش ، وولد بغرناطة ، وكان أبوه ممن هلك في وقيعة فرتونة ، فارتزق مع الجند الغربي بديوانها في حجر أبيه وبعده ، ثم ثنى عنانه إلى وطنه ، وتخطته المتالف عند تغلب السلطان صاحب المغرب على بلده تلمسان ، وغاص في عرض من تهنأ الإبقاء من قبيله . وكان ممن شمله حصار الجزيرة ، ووصل قبله ممداً مع الجيش الغربي بجيش غرناطة عند منازلة القلعة . ولما جرت على واترهم السلطان أبي الحسن الهزيمة بظاهر القيروان ، وبعد الطمع في انتشاله وجبره ، ولحق كل بوطنه ، حوم الفل من بني زيان على ضعفهم ، ومذ رحل عنه السلطان القايم بملك المغرب أبو عنان ، إلى محل الأمر ودار الملك ، وسد تلمسان بشيخ من قبيلتهم يعرف بابن حرار ، له شهرة وانتفاخ لتنسيق رياح الاختلاف ، فذ في إدارة الحيلة ، وإحالة قداح السياسة ، رأس الركب الحجازي غير ما مرة ، وحل من الملوك ألطف محلة . ولما نهد القوم إلى تلمسان ، ناهضهم ابن الحرار بمن استركب من جنده ، وانضم إليه من قومه ، فدارت عليهم الهزيمة ، وأحيط به ، فتملك البلد ، وتحصل في الثقاف ، إلى أن هلك به مغتالاً ، واستولى عثمن بن يحيى على المدينة ، وانقاد إليه ما يرجع إليها من البلاد والقبايل ، فثاب لهم ملك لم(4/40)
"""""" صفحة رقم 41 """"""
تكد شعلته تقد حتى خبت ، وعلى ذلك فبلغوا في الزمان القريب ، من وفور العدة ، واستجادة الآلة ، وحسن السيرة ، ما يقضى منه العجب ، وانفرد عثمن بالأمر ، وعين أخاه أبا ثابت الزعيم إلى إمارة الجيش ، فاستقام الصف ، وانضم النشر ، وترتبت الألقاب ، واستأنفوا الدولة ، وتلقفوا الكرة . وقل ما أدبر شيء فأقبل . وبادر السلطان بالأندلس مفاتحته مهنياً ، وللحلف مجدداً ، بكتاب من أنشائي من فصوله : بعد الصدر والتحميد ، ولا وزايد بفضل الله المرجو في الشدايد ، لجميل العوايد ، إلا ما شرح الصدور ، وأكد السرور ، وبسط النفوس ، وأضحك الرسن العبوس ، من اتساق أمور ذلك الملك لديكم ، واجتماع كلمته عليكم ، وما تعرفنا أن الدولة الزيانية ، وصل الله لبدورها استيناف الكمال ، وأعلى أعلامها في هضاب اليمن والإقبال ، تذكرت الرسايل القديمة الأذمة ، وألقت إلى قومها بالأزمة ، وحنت إلى عهدهم على طول النوى ، وانشد لسان حالها ، نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ، فأصبح شتيتك بأهلها مجموعاً ، وعلم عليائها بأيدي أوليائها مرفوعاً ، وملابس اعتزازها بعد ابتزازها جديدة ، وظلال سعودها على أغوارها ونجودها مديدة ، وقبيلها قد أنجح الله في ائتلافه أمل الآمل ، ومبتداها مرفوعاً مع وجود العوامل ، والكثير من أوطانها قد سلكت مسلكها في الطاعة ، وتبادرت إلى استباق فضيلة الوفاق بحسب الاستطاعة ، فعظم الاستبشار بأن كان لكم ما لها ، وفي إيالتكم انتيالها ، من غير ان يعلق باسبابها من ليس من أربابها ، ويطمع في اكتسابها من لم يكن في حسابها . وقلنا موارث وجب ، وعاصب حجب ، وركب علج من بعد القفول ، وشمس طلعت من بعد الأفول ، وجيد حلى بعد ما اشتكى العطل ، وغريم قضى بعد ما مطل ، وطرف تنبه بعد ما سجع ، ودرى استقام سيره عقب ما رجع ، وقضية انصرف دليلها عن حدود القواطع ، وطرحت عليه أشعة السعود السواطع ، لا بل عبد أبق لقدر سبق ، حتى إذا راجع نهاه ، وعذله العقل ونهاه ، جنح بعد هجره ، إلى كنف من نشأ في حجره . وعلمنا أن الدولة التي عرفنا مكارمها ، قد دالت ، والغمامة التي شكرنا مواقعها قد انثالت ، فجرينا في المسرة ملء الأعنة ، وشاركنا في شكر هذه المنة ، وأصدرنا إليكم هذا الخطاب مهنياً ، وعن الود الكريم والولاء الصميم منبيا ، وفي تعزيز ما بين الأسلاف ، جدد الله عليهم ملابس الرضوان معيداً مبدياً ، وإن تأخر منه الغرض ، وقضى بهذا العهد واجبه المفترض ، والأعذار واضحة ، وأدلتها راجحة ، وللضرار أحكام تمضى ، والفروض للفوات تقضى ، فكيف والاعتقاد الجميل مسير مسكن ، والوقت والحمد لله متمكن ، وما برحنا في مناط اجتهاد ، وترجيح استشهاد ، والأخبار يضطرد مفهومها ، والألفاظ لا يتخصص عمومها ، والأحاديث يجول في متعارضها النظر ، ولا(4/41)
"""""" صفحة رقم 42 """"""
يلزم العمل ما لم يصح الخبر . فلما تحققنا الأمر من قصة ، وتعاضد قياسه بنصه ، لم نقدم على المبادرة عملاً ، وبينا لكم من حسن اعتقادنا ما كان مجملا ، فليهن تلك الإيالة ما استأنفته من شبابها ، وتسربلته من جديد أثوابها ، وليستقبل العيش خضراً ، والدهر معتذراً ، والسعد مسفراً .
وتمادى ملكه من الثامن والعشرين لجمادى الآخرة من عام تسعة وأربعين وسبعماية إلى أن استوسق ملك المغرب للسلطان أبي عنان ، واستأثر إليه أبيه ، وتحرك إلى منازلة تلمسان في جمادى الآخرة عام ثلاثة وخمسين وسبعماية ، وكسر جمعهم ، واستولى على ملكهم حسبما يأتي ، وبرز إليه سلطانها المذكور ، مؤثراً الإصحار على الاجتحار ، واللقاء على الانحصار ، وكانت بين الفريقين حرب ضروس ، ناشب الزيانيون محلات المغرب القتال ، بموضع يعرف بإنكاد ، على حين غفلة ، وبين يدي شروع في تنقل وسكون ، وتفرق من الحامية في ارتداد الخلا ، وابتغاء الماء ، فلم يرع إلا إطلال الرايات ، وطلوع نواصي الخيل ، فوقع الصراخ ، وعلا النداء ، وارتفع القتام ، وبادر السلطان بمن معه من الخالصة ، وروم الركاب الصدمة ، ومضى قدماً ، وقد طاش الخبر بهزيمته ، وفعاثت العربان في محلته ، وكانوا على الأموال أعدى من عدوه ، وفر الكثير إلى جهة المغرب بسوء الأحدوثة . ولما تقاربت الوجوه ، وصدق المصاع ، قذف الله في قلوب الزيانيين الرعب ، واستولى عليهم الإدبار ، فانهزموا أقبح هزيمة ، وتفرقوا شذر مذر ، واختفى سلطانهم عثمن المترجم به ، وذهب متنكراً وقد ترجل ، فعثر عليه من الغد ، وأوتي به فشد وثاقه ، وأسرع السلطان اللحاق بتلمسان ، وقد تلقاه أهلها معلنين بطاعته . ولائذين بجناب عفوه ، وتنكبها الجيش المفلول ، لنظر الأمير أبي ثابت ، فاستفر بأحواز جزاير بني مزغناي . ودخل السلطان تلمسان في يوم الأحد ، الحادي عشر من ربيع الأول عام ثلاثة وخمسين وسبعماية ، وتدامر بنو مرين ، واستدركوا دحض الوصمة في اتباع أضدادهم المحروبين ، فكان اللقاء بينهم ، وبين الجيش المفلول وحكم الله باستيصالهم ، فمضى عليهم السيف ، وأوتي بزعيمهم الزعيم ، فاحتمل مع أخيه في لمة من أوليائهم ، ونفذ الأمر لأقتالهم من بني حرار بأخذ حقهم ، فقتل عثمن والزعيم رحمهما الله بخارج تلمسان ذبحاً ، وألحق بهما عميد الدولة يحيى بن داود ، بعد أن استحضر عثمن بين يدي السلطان ، واسمع تأنيباً ، حسن عنه دوابه ، بما دل على ثبات وصبر . وانقضى أمر كرتهم الثانية ، وخلت منهم الأوطان ، وخلصت لبني مرين الجهة ، وصفت العمالة . والله يعطي ملكه من شاء سبحانه لا إله إلا هو ، وكان مقتل عثمن وأخيه في أوايل شهر ربيع الآخر عام ثلاثة وخمسين وسبعماية .(4/42)
"""""" صفحة رقم 43 """"""
علي بن حمود بن ميمون بن حمود بن علي بن عبيد الله بن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن حسن بن علي بن أبي طالب
.
أول ملوك بني هاشم بالأندلس ، يكنى أبا الحسن ، ويلقب من الألقاب السلطانية ، بالناصر لدين الله .
حاله
كان شهماً لبيباً ، جريء اللقاء ، باطش السيف ، شديد السطوة ، أسمر ، أعين ، نحيف الجسم ، طويل القامة ، حاد الذهن ، من أولي الحزم والعزم .
خلافته
ذكروا أن هشام بن الحكم ، لما ضيق به الحجر ، كتب إليه في السر بعهد ولايته ، وأهله للأخذ بثاره ، فكان كذلك ، وأجاز البحر من سبتة ، مظهراً القيام بنصر هشام عندما خلع ، فانحاش غليه كثير من الناس ، وقصد قرطبة ، وبرز إليه الخليفة سليمن خالع هشام ومغتاله ، فظهر عليه علي بن حمود وهزمه ، ودخل قرطبة ، فقتل سليمن ، وبحث عن هشام ، وقد فات فيه الأمر ، وتسمى بأمير المؤمنين . وأنس به أهل قرطبة ، لقهره من كان لنظره من البرارة ، وإمضاء الأحكام عليهم . قال المؤرخ ، فبرقت للعدل يومئذ بارقة ، لم تكد تقد حتى خبت . وكان الأغلب عليه السخاء والشجاعة .
ومدحه الكثير من الشعراء ، منهم أبو عمر بن دراج ، وفيه يقول :
لعلك يا شمس عند الأصيل . . . تحن بشجو الغريب الذليل(4/43)
"""""" صفحة رقم 44 """"""
فكوني شفيعي إلى أين الشفيع . . . وكوني رسولي إلى أين الرسول
فأما شهدت فأزكى شهيد . . . وأما دللت فأهدى دليل
إلى الهاشمي إلى الطالبي . . . إلى الفاطمي العطوف الوصول
وصوله إلى إلبيرة
قل ، ولما استوسق الأمر ، واضطرب عليه خيران صاحب ألمرية ، أغراه وأذن لحربه ، فخرج من قرطبة يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة من سنة ثمان وأربع ماية ، وسار إلى أن بلغ وادي آش ، وتردفت عليه الأمطار والسيول ، وانصرف إلى إلبيرة ثم إلى قرطبة .
وفاته
قال المؤرخ ، وفي سنة ثمان وأربعماية كان مقتل علي بن حمود ، وذلك أن صقالبته قتلوه بموضع أمنه . في حمام قصره ، وكانوا ثلاثة من أغمار صبيان قصره ، منهم نجح وصاحباه ، وسدوا باب الحمام عليه ، وتسللوا ، ولم يحس أحد بهم ، واستطال نساؤه بقاءه ، فدخلوا عليه ، ودمه يسيل فصح خبر مقتله ، وبعثت زناتة إلى أخيه بإشبيلية ، فخاف أن يكون حيلة ، حتى كشف عن الأمر ، ولحق بقرطبة ، فأخرج جسده ، وصلى عليه ، وأنفذه إلى سبتة ، فدفن بها ، وبني عليه مسجد هو الآن بسوق الكتان ، وقبض من قاتليه على صبيين عذبا بأنواع العذاب ، ثم قتلا وصلبا .
علي بن يوسف بن تاشفين بن ترجرت
وينظر اتصال نسبه في اسم أبيه هو أمير المسلمين بالعدوة والأندلس بعد أبيه ، يكنى أبا الحسن ، تصير إليه الملك بالعهد من أبيه عام سبعة وتسعين وأربعمائة ، ثم ولى أمره يوم وفاته وهو يوم الإثنين مستهل محرم عام خمسماية .(4/44)
"""""" صفحة رقم 45 """"""
حاله وكان ملكاً عظيماً علي الهمة رفيع القدر ، فسيح المعرفة شهير الحلم ، عظيم السياسة ، أنفذ الحق ، واستظهر بالأزكياء ، ووالى الغزو ، وسد الثغور ، إلى أن دهمه من أمر الدولة الموحدية ما دهمه ، وكل شيء إلى مدى ، فأمهل السرح ، وحالف الإدبار ، وجاز إلى الأندلس ، وغزا فيها بنفسه ، ودخل غرناطة وباشرها .
قال ابن عذارى ، تقدم الأمير أبو الحسن لذلك فاستعان بالله واستنجده وسأله حسن الكفاية فيما قلده ، فوجده ملكاً مؤسساً ، وجنداً مجنداً ، وسلطاناً قاهراً ، ومالاً وافراً ، فاقتفى إثر أبيه ، وسلك سبيله ، في عضد الحق ، وإنصاف المظلوم ، وأمن الخائف ، وقمع المظالم ، وسد الثغور ، ونكاية العدو ، فلم يعدم التوفيق في أعماله ، والتسديد في حسن أفعاله .
دخوله غرناطة
وفي سنة خمس وخمسماية ، جاز البحر إلى الجهاد . قال المؤرخ ، قدم علي بن يوسف غرناطة مرات مع أبيه . وفي سنة خمس وخمسماية تلوم بها ريثما تلاحقت حشوده ، وتأهبت مطوعته وجنوده ، فافتتح مدينة طلبيرة عنوة ثم عبر البحر عام أحد عشر وخمسماية ، فغزى قولمرية .
ظهور الموحدين في أيامه
قال ابن عذارى ، في سنة أربع عشرة وخمسماية ، كان ابتداء أمر الثاير على الدولة ، الجالب للفتن الجمة ، الجار لها منذ ثلاثين سنة ، حتى أقفر المعمور ، وأصار الضياء كالديجور ، محمد بن ترمرت السوسي الملقب بالمهدي . قلت ، وأخباره عجيبة ، وما زال أمره في ظهور ، وأمر هذه الدولة ، في ثبار وإدبار ، إلى أن محا رسومها ، وقطع دابرها ، والملك لله ، يؤتي الملك من يشاء ، وينزع الملك ممن يشاء ، سبحانه .
وفاته
قال ، وفي سنة سبع وثلاثين وخمسماية ، توفي أمير المسلمين علي ابن يوسف ، لسبع خلون من رجب ، ولم يشهر موته إلا لخمس خلون من(4/45)
"""""" صفحة رقم 46 """"""
شوال ، فكانت مدته من حين قدمه أبوه ، تسعاً وثلاثين سنة واشهراً . وعمره إحدى وستون سنة ، قال ابن حماد ، ولما يئس من نفسه ، عهد أن يدفن بين قبور المسلمين ، ودفن بها في جملتهم ، رحمه الله .
الأعيان والوزراء والأماثل والكبراء
عتيق بن زكريا بن مول التحبيبي
قرطبي الأصل ، يمت إلى الإمارة النصرية بقربى صهر ، يكنى أبا بكر .
حاله
كان شهماً جرياً مقداماً ، جهورياً ، ذا أنفة وشارة ، مليح التجند ، ظاهر الرجولية ، معروف الحق ، نبيه الولاية ، فصيح اللسان ، مطبوعاً ، ذكياً ، مؤثراً للفكاهة . ولى القيادة بمدينة وادي آش ، عقب الريس المنتزى بها ، ثم عزل عنها بسعاية رفعت فيه إلى ذي الوزارتين أبي عبد الله ابن الحكيم ، فساء ما بينهما لذلك ، وأعمل عليه التدبير ، بمداخلة الأمير نصر ، وإغرايه بالأمر . فتم له التوثب على ملك أخيه ، وخلعه يوم عيد الفطر من عام ثمانية وسبعماية ، وقتل الوزير ابن الحكيم بين يديه ، وانتهبت منازله ، واستقل بعد بالتدبير والوزارة ، وحصل من صنايع الحاين ومتوقعي الضغط ، على مال عريض ، وقام بوظيف الوزارة محذور الشبا ، مرهوب المدية ، مسنو الفتكة ، فلم ينشب أن عين للرسالة إلى باب السلطان ملك المغرب ، وسد باب الإياب لوجهته ، وأقام بالعدوة ، تحت الحظوة ، مشاراً إليه في وجوه الدولة ، وزير المداخلة والرتبة . وقد كان في ريان حداثته ، لحق بطاغية الروم ، وركب في جملته ، وعلقته جارية من بنات زعماء الروم ، لفضل جماله ، وزين شبيبته ، ففر بها تحت حماية سيفه ، ولحق ببلاد المسلمين ، وكانت من أهل الأصالة والجمال ، فاتصل بمحلة أمير المسلمين أبي يوسف بن عبد الحق ، وكان جاز إلى الأندلس غازياً ، فاستخلصت منه لمزية الحسن ، واستقرت بقصر السلطان ، حظية لطيفة المحل ، وجد أثر رفدها وانتفع ، هو وبنوه بعايد جاهها ، وقد هلك السلطان . وقامت لمن خلفه مقام الأمومة ، فنالوا بها دنيا عريضة ، وباشر بالمغرب أهوالاً ، وخاض في فتن ، إلى أن أسن ، وقيدته الكبرة ، واستولت على بصره الزمانة ، ولما(4/46)
"""""" صفحة رقم 47 """"""
ولي الوزارة ولده على عهد سادس الأمراء من بني نصر ، استقدمه في ربيع الثاني من عام تسعة وعشرين وسبعماية ، فقدم شيخاً ، قد استثن أديمه واحقوقب ، ومسحة الظرف واللوذعية ، تتعلق منه بطلل بايد . ثم اقتضى تقلص ظل الولاية عن ولده ، انصرف جميعهم إلى العدوة ، فكان ذلك في رجب أو أول شعبان من العام ، وبها هلك .
وفاته
توفي بمدينة فاس رابع محرم عام ثلاثين وسبعماية . وكان كثيراً يتمثل بقول الشاعر : نصحت فلم أفلح وخانوا فأفلحوا . . . فأنزلني نصحي بدار هوان
فإن عشت لم أنصح وإن مت فالعنوا . . . دون النصح من بعدي بكل لسان
أخبرني بذلك شيخنا أبو الحسن بن الجياب وغيره .
عمر بن يحيى بن محلى البطوي
يكنى أبا علي
حاله
كان يمت إلى السلطان ملك المغرب رحمه الله ، بالخؤولة ، وله جرأة وجرم واضطلاع بالمهمة ، إلى نكراء وخفوف إلى الفتنة ، واستسهال العظيمة ، ولما تصيرت مالقة إلى إيالة السلطان أمير المسلمين أبي يوسف بن عبد الحق من قبل رؤسايها من بني إشقيلولة ، استظهر عليها من عمر هذا بحجاج رجاله ، وقدمه بقصبتها ، وجعل لنظره جيشاً أخشن ، يقوده رجل من كبار وصفانه . وداخل السلطان ثاني الملوك من آل نصر ، عمر بن محلى هذا بوساطة أخيه طلحة السابق إلى إيالته ، فأحكم بينهما صرف مالقة إليه ، وانتقال عمر إلى خدمته ، معوضاً عن ذلك بمال له بال ، مسلماً إليه حصن شلوبانية ، ولأخيه طلحة مدينة المنكب ، على أرزاق مقررة ، وأحوال مرتبة مقدرة . فتم ذلك ، وتحمل ثقات السلطان بقصبة مالقة ليلاً مع عمر ، واستدعي للغداة قايد الجيش ومثله من الوجوه ، مورياً بمعارضتهم ، فسقط الغشاء بهم(4/47)
"""""" صفحة رقم 48 """"""
على سرحان ، وأخذهم اعتقاله ، رهينة استخلص بها من كان من عياله بالعدوة ، وجاء بها جلواة عارية ، أعربت عن لؤمه وخبث أمانته ، وانتقل له موفى له بعهده ، فحل بحصن شلوبانية منتصف عام سبعة وستني وسبعماية ، حسبما كتب لي بعض الشيوخ من مسني بقية أهله ، واحتل أخوه طلحة بمدينة المنكب ، ولم يلبث أن خرج عنها للسلطان معوضاً بالمال ، وأعمل الانصراف إلى الحج . وأقام عمر بشلوبانية وما يليها من العمالة ، مظهراً للطاعة تمام العام المذكور ، وفسد ما بينه وبين السلطان المذكور ، وظهر الخلاف وأخيفت الطرق ، وتحرك السلطان إلى منازلته لأشهر ثلاثة من خلافه ، وحاصره أياماص شد فيها منخقه ، فلما رأى عزمه ، خاطب سلطانه ، الذي نزع عنه أمير المسلمين أبا يوسف ، وعرض الحصن عليه ، فبادر إليه بالأسطول ، فلما احتل بمرسى حصنه ، واتصلت به يده ، ونشرت عنده بنوده ، أفرج عنه السلطان ، وأنبت طعمه فيه ، وصرف وجهه إلى حضرته ، وبدا لعمر في أمره ، فصرف الأسطول متعللاً ببعض الأعذار ، وأقام على سبيله ، واتصل ذلك بالسلطان ، فرتب عليه الحصن ، وضيق السبل ، وتحرك في صايفة العام إلى منازلته في عدة عظيمة ، وحاصره ورماه بالمجانيق ، وتتبع بها مجاثمه ، فأعياه الصبر ، وأعمل الحيلة بإظهار الإنابة ، وعرض على السلطان التخلي عن الحصن ، وطلب منه أن يوجه لقبضه وزيره ، وأحظى الرؤساء لديه ، وصاحب بنده ، فوجههم السلطان في طايفة من حاشيتهم ، وقد أكمن لهم عمر بمعرجات الطريق ، بين يدي باب القلعة . فلما توسطوا الكمنا ، وبرز عمر ليسلم عليهم ، ثار بهم رجاله الأسودة وغيرهم ، وقبضوا عليهم بمرأى من السلطان ، وأدخلوهم الحصن وعاد السلطان إلى قتاله ، فتوعد بقتلهم ، وجعلهم بأعلى السور ، ورمى عليه بحجر ، فطرح أحدهم الحين ، وعلا صراخهم يسترحمون السلطان ، فكف عنه ، وانصرف مكظوماً . ولأيام وقعت المهادنة على تخليه عن شلوبانية في جملة شروط صعبة ، منها العقد له على بنت السلطان المسماة بشمس ، وانتقاله إلى مدينة المنكب ، فتم ذلك في وسط ثمانية وستين بعده ، وتمادت المهادنة شهوراً أربعة ، ثم ثاب خلافه ، وضيقت عليه الحصص المرتبة ، وخرج للسلطان عن منكب على مال وعهد ، وصرف بعد وجهه إلى سلطانه ، وتطارح عليه ، وهو بجزيرة طريف ، بعد أن أخذ أمانه ، زعموا ، وقد كان أخوه طلحة سبق إليه ، فاعتقل يسيراً . ثم حل اعتقاله إيثاراً للعفة ، ورعياً للمتات . ولما توفي السلطان أبو يوسف ، اضطره حاله ، وآل أمره إلى العود إلى الأندلس ، وبها الأشياخ من بني عبد الله بن عبد الحق ، مطالبو أبيه بدم عمهم ، سبقوا مقدمه على السلطان بإيعاز منه ، وقد نزل بقرية أرملة على وادي(4/48)
"""""" صفحة رقم 49 """"""
أفلم ، واعتصم منهم ببرج فقاتلوه واستنزلوه فقتلوه ، فانقضى أمره على هذه الوتيرة ، والبقاء لله سبحانه
عامر بن عثمن بن إدريس بن عبد الحق
شيخ الغزاة بالأندلس ، وابن شيخها ، يكنى أبا ثابت ، أجري مجرى الأصليين لولادته بالأندلس أوليته . تأتي في اسم أبيه .
حاله كان رييساً جليلاً ، فذاً في الكفاية والإدراك ، نسيج وحده في الدهاء والنكراء ، مشاراً إليه في سعة الصدر ، ووفور العقل ، وانفساح الذرع . وبعد الغور ، باسلاً مقداماً ، صعب الشكيمة على الهمة ، لين الكلمة ، ريش جناح العز ، وافر أسباب الرياسة ، مجرباً ، محتنكاً ، عارفاً بلسان قومه وأغراضهم . جاعلاً جفوات أخلاقهم دبر أذنه ، مهيباً على دماثة وإلحاح سقام . تولى الأمر بعد أبيه فقام به أحمد قيام ، مسلماً لبقية من مسني القرابة وأكابر الإخوة ، اعترافاً بالفضل ، وإيثاراً لمزية العتاقة على الهجنة ، فحل أرفع المحال . وتبنك على حال الضنا نعيماً ، وغزا غزوات شهيرة ، إلى أن تناسى الأمر ، وكبا بهم الجد ، وحملهم قرب مخيفهم بالثارالمنيم ملك المغرب ، لما اقتحم فرضة المجاز إلى الجهاد على المبايتة ومراسلة الطاغية ، فساءت القالة ، وفسد ما بينهم وبين سلطانهم ، وأعمل عليهم التدبير .
نكبته ثبت في الكتاب المسمى بطرفة العصر : ولما تتصلت ليدي المسلمين ، وفصل أميرهم من ملك المغرب ، تنمر أضدادهم النماوؤون له المعاندون قدرة الله فيه ، المتهيئون إلى القاصمة بمشاحنته ، فأظهروا النفور والحذر ، وكانوو قد داخلوا ملك قشتالة وواعدوه اللحاق به ، إن راعهم رايع ، ووصلتهم مخاطبته بقبولهم . فلما تخلف المسلمون عنا للحاق به ، نسب لهم الفشل والتكاسل ، فانطلقت الألسن ، ولمت القلوب ، وتشوف إلى الفتك بهم ، وهم عصابة بأسها شديد ، أشهروا فروسية ونجدة وأتباعاً ، فعظم الخطب ، وأعملت الشورى في أمرهم ، وصرفت الحيل إلى كف عاديتهم ، ومعالجة أمرهم ، فتم ذلك . ولما كان يوم السبت التاسع والعشرون من ربيع الأول ، قعد لهم السلطان على عادته ، ووجه عنهم في غرض الاستشارة في حال السفر إلى إمداد ملك المغرب ، وقد عبر ونازل جزيرة طريف ، وفاوضهم فيما عليه الناس من إنكار التلوم ، ثم قام السلطان من(4/49)
"""""" صفحة رقم 50 """"""
مجلسه ، وثارت بهم الرجال ، فأحيط بهم ، ونزعت سيوفهم عن عواتقهم ، وطارت الخيل في ضم من شذ عنهم ، فتقبض على طايفة من أعلامهم ، كانوا بين غر يباشر قنصاً ، أو مفلت لم يجد مهرباً ، وطارت الكتب إلى مالقة في شأن من بها منهم ، فشملهم الاعتقال ، ثم نقلوا إلى مدينة المنكب ، فجعلوا في مطبق الأسرى بها ، إبلاغاً في النكال ، وتناهياً في المثلة ، فلم تجر عليهم مصيبة أعظم منها ، لاضطرارهم إلى قضاء حاجة الإنسان برأي عين من أخيه ، خطة خسف سيموها ، مع العلم بنفور نفوسهم عن مثلها ، وفيهم صدور البيت وأعلامه ، كأبي ثابت المترجم به ، وأخيه كبيره إبراهيم ، وابن عمهم زين المواكب ، وقريع السيوف ، وعروس الخيل ، حمو بن عبد الله ، وسواهم ، وقانا الله شر الهلكات ، وأشرأب مخيفهم للسلطان صاحب المغرب ، وولى الثرة ، إلى صرفهم إليه ، وقد استوجب من ملك الأندلس الملاطفة لالتفاته لسيئ البرد ، واقتحامه باب القطر . وأخفق السعي ، وضن بهم موقع النقمة عن إسلامهم إليه ، سيرة أحسنها في جنسهم من أولى الجهالف ، فأجلاهم عما قريب في البحر إلى إفريقية ، فاستقروا ببجاية ، ثم استقدموا إلى تونس تحت إرصاد ورقبة ، وأخفر فيهم ملكها الذمة ، وهم لديه ، فوجههم على بعد الدار ، ونزوح المزار ، إلى السلطان صاحب المغرب ، مصحبين بشفاعة فيهم ، كانت قصارى ما لديه ، فاستقروا في الجملة تحت فلاح وكفاية ، لا تلفت إليهم عين ، ولا يتشبث بذمل حظوتهم أمل . ثم نكبوا بظاهر سبتة نكبة ثقيلة البرك ، مغارة البرك الحمل ، وأودعوا شر السجون بمدينة مكناسة ، فأصبحوا رهن قيود عديدة ، ومسلحة مرتبة ، جر ذلك عليهم ذرة من القول في باب طموحهم إلى الثورة ، وعملهم على الانتزاء بسبتة ، الله أعلم بحقه من مينه . ولما صير الله ملك المغرب إلى السلطان ، أمير المؤمنين أبي عنان ، واضطره الحال إلى الاستظهار بمثلهم ، انتشلهم من النكبة ، وجبرهم بعد الصدعة ، وأعلق يد كبيرهم المترجم به بعروة العزة ، واستعان بآرائه على افتراع الهضبة ، فألفى منه نقاباً قد هذبته التجربة ، وأرهقته المحنة ، وأخلصته الصنيعة ، فسل منه سيفاً على أعدايه ، وزعموا أنه انقاد إلى هوى نفسه ، واستفزته قوة الثرة ، ولذة التشفي ، وذهب إلى أن يكل للسلطان ناكبه . المجاراة صاعا بصاع ، فانتدب إلى ضبط ما بالأندلس من عمالة راجعة إلى ملك المغرب ، فانقلب يجر وراءه الجيش ، ويجنب القوة ، فقطع به عن أمله القاطع بالآمال ، وأحانه الله ببعض مراحل طريقه مطعوناً لطفاً من الله به ، وبمن استهدف إلى النصب بمجادته . وهو سبحانه مليء بالمغفرة عن المسرفين ، سبحانه
وفاته
في الأخريات من عام تسعة وأربعين وسبعماية .(4/50)
"""""" صفحة رقم 51 """"""
علي بن بدر الدين بن موسى بن رحو بن عبد الله بن عبد الحق
يكنى أبا الحسن .
حاله هذا الرجل نسيج وحده في الفضل والتخلق ، والوفاء ، ونصح الجيب ، وسلامة الصدر ، وحسن الخلق ، راجح العقل ، سري الهمة ، جميل اللقاء ، رفيع البزة ، كريم الخصال ، يكتب ويشعر ، ويحفظ ويطالع غرايب الفنون ، صادق الموقف ، معروف البسالة ، ملوكي الصلات ، غزل ، كثير الفكاهة ، على تيقور وحشمة ، قدمه السلطان شيخ الغزاة بمدينة وادي آش ، فلما وقعت به المحنة ، وركب الليل مفلتاً إليها . اتفق لقاؤه إياه صباحاً على أميال منها ، وجاء به ، وأدخله المدينة على حين غفلة من أهلها ، فاستقر بقصبتها وما كاد ، وأخذ له صفقة أهلها ، وشمر في الذب عنه تشميراً نبا فيه سمعه عن المصانعة ، ودهيه عن الجملة ، وكفه عن قبول الأعواض ، فلم يلف فيه العدو مغمزاً ، ولا المكيدة معجماً ، ولا استأثر عنه بشيء مما لديه ، إلى أن كان انتقال السلطان عنها إلى المغرب ، فتبعه مشيعاً إلى مأمنه ، فتركها غريبة في الوفاء ، شاع خبرها وتعوطي حديثها ، على حين نكر المعروف ، وجحدت الحقوق ، وأخوت بروق الأمل . ثم قلق المتغلب على الدولة بمكانه ، فصرفه إلى العدوة الغربية ، فاستقرت به الدار هنالك ، في أوايل عام ثلاثة وستين أو أواخر العام قبله .
وخاطبته من مدينة سلا لمكان الود الذي بيني وبينه بما نصه :
يا جملة الفضل والوفا . . . ما بمعاليك من خفاء
عندي بالود فيك عقد . . . صححه الدهر باكتفاء
ما كنت أقضي علاك حقاً . . . لو جيت مدحاً بكل فاء
فأول وجه القبول عذري . . . وجنب الشك في صفاء(4/51)
"""""" صفحة رقم 52 """"""
سيدي ، الذي هو فضل جنسه ، ومزية يومه على أمسه ، فإن افتخر الدين من الله ببدره ، أفتخر منه بشمسه ، رحلت عن المنشأ والقرارة ، ومحل الصبوة والغرارة ، فلم تتعلق نفسي بذخيرة ، ولا عهد حيرة خيرة ، كتعلقها بتلك الذات ، التي لطفت لطافة الراح ، واشتملت بالمجد الصراح ، شفقة أن تصيبها معرة ، والله يقيها ويحفظها ويبقيها ، إذ الفضايل في الأزمان الرذلة غوامل ، والضد عن ضده منحرف بالطبع ومايل . فلما تعرفت خلاص سيدي من ذلك الوطن ، وإلقاه وراء الفرضة بالعطن ، لم تبق لي تعلة ، ولا أجرضتني علة ، ولا أتي جمعي من قلة . فكتبت أهنئ نفسي الثانية ، بعد هناء نفسي الأولى ، وأعترف للزمن باليد الطولى ، بالحمد لله الذي جمع الشمل بعد شتاته ، وأحيا الأنس بعد مماته ، سبحانه لا مبدل لكلماته ، وإياه أسئل أن يجعل العصمة حظ سيدي ونصيبه ، فلا يستطيع حادث أن يصيبه ، وأنا أحدج عن بث كمين ، ونصح أنابه قمين ، بعد أن أسبر غوره ، وأخبر طوره ، وأرصد دوره ، فإن كان له في التفريق أمل ، وفي ركب الحجاز ناقة وجمل ، والرأي فيه ، قد نجحت منه نية وعمل ، فقد غني عن عوف والبقرات ، بأزكى الثمرات ، وأطفأ هذه الجمرات برمي الجمرات ، وتأنس بوصل السري ، ووصال السراه ، وأناله إن رضي أرضى مرافق ، ولو أغري به خافق ، وإن كان على السكون بناؤه ، وانصرف إلى الإقامة اعتناؤه ، فأمر له ما بعده ، والله يحفظ من الغير سعده . والحق أن تحذف الأبهة وتختصر ، وتحفظ اللسان(4/52)
"""""" صفحة رقم 53 """"""
وبغيض البصر ، وينخرط في الغمار ، ويخلى عن المضمار ، ويجعل من المحظور مداخلة من لا خلاق له ، ممن لا يقبل الله قوله ولا عمله ، فلا يكتم سراً ، ولا يتطرق من الرجولة زمراً ، ورفض الصحبة زمام السلامة ، وترك النجاة علامة ، وأما حالي فما علمتم ملازم كن ، ومبهوظ تجربة وسن ، أزجي الأيام ، وأروم بعد التفرق الالتئام ، خالي اليد ، مالي القلب والخلد ، بفضل الواحد الصمد ، عامل على الرحلة الحجازية التي أختارها لكم ولنفسين وآمل في التماس الإعانة عليها يومي بأمسي ، أوجب ما قررته لكم ما أنتم أعلم به من ود قررته الأيام والشهور ، والخلوص المشهور ، وما أطلت في شيء عند قدومي على هذا الباب الكريم ، إطالتي فيما يختص بكم من موالاته . وبذل مجهود القول والعمل في مرضاته . وأما ذكركم في هذه الأوضاع ، فهو مما يقر عين المجادة ، والوظيفة التي تنافس فيها أولو السيادة . والله يصل بقاءكم ، وييسر لقاءكم والسلام . وهذا الفاضل ممن جال فيه لاختيار الإمارة أيام مقامه بالعدوة الغربية ، لذياع فضله ، وكرم خلاله . وقفل إلى الأندلس ، عند رجوع الدولة ، فجنى ثمرة ما أسلفه ، وقدم شيخ الغزاة بمالقة . ثم نقل إلى التي لا فوقها ، من تقديمه شيخ الغزاة بحضرته ، منة لا على ميادين حظوته ، مقطعاً جانب تجلته ، فبلى الناس على عهد ولايته الفتوح الهنية ، والنعم السنية . ولما قفل السلطان أيده الله ، من فتح قاعدة جيان ، أصابه مرض ، توفي منه في ثالث صفر من عام تسعة وستين وسبعماية . فتأثر الناس لفقده ، لما بلوه من يمن طائره ، وحسن موارده ، ومصادره . وكان قد صدر ه المنشور الكريم ، من إملائي ، بما ينظر في اسم المؤلف ، في آخر هذا الديوان .(4/53)
"""""" صفحة رقم 54 """"""
علي بن مسعود بن علي بن أحمد بن إبراهيم بن عبد الله بن مسعود المحاربي
الوزير ، يكنى أبا الحسن .
حاله
كان من أعيان أهل الحضرة ، وذوي الهيآت والنباهة من بيوتها ، أيدا ، حسن الشكل ، جهير الصوت ، فصيح اللسان ، ثرثاره ، جيد الخط ، حلو الدعابة ، طيب النفس ، لبقاً ، ذكياً ، أديباً ، فاضلاً ، لوذعياً ، مدركاً . وزر للسلطان أبي الوليد ، نزع إليه لما دعا إلى نفسه بمالقة من إيالة مخدوعه بعد اصطناعه ، وصرف وجهته إلى جهته ، فتغلب على هواه ، وأشركه في الوزارة ، مع القايد الوزير أبي عبد الله بن أبي الفتح الفهري ، وقد مر ذكره ، فأبر عليه بمزيد المعرفة بالأمور الاشتغالية ، وجماح عنان اللسان والجرأة ، في أبواب المداخلات الوزارية . فلم يزل يضم أذيال الخطة ، ويقلصها عن قسيمه ، إلى أن لم يبق له منها إلا الاسم إلى حين وفاته .
وفاته
واستمرت حاله على رسمه من القيام بالوزارة إلى أن فتك بسلطانه قرابته بباب داره كما تقدم في اسم السلطان أبي الوليد في حرف الألف فكر أدراجه وهاج بالباطشين ، وسل سيفه ، يدافع عنه ، فمالت إليه الأيدي ، وانصرفت إليه الوجوه ، وأصيبت بجراحات مثخنة ، أتى عليه مها جرح دماغي لأيام . وعلى ذلك فلم يبرح من سدة السلطان ، حتى تعجل ثأره ، وشمل السيف قتلته . وأخذ البيعة لولده . وكانت وفاته في السابع والعشرين لشعبان من عام خمسة وعشرين وسبعماية . ودفن بباب إلبيرة . وكان الحفل في جنازته عظيماً ، والثناء عليه كثيراً ، والرحمة له مستفيضة .
ورثاه شيخنا أبو الحسن بن الجياب رحمه الله بقوله :
أيا زفرتي زيدي ويا عبرتي جودي . . . على فاضل الدنيا على ابن مسعود
على الشامخ الأبيات في المجد والعلا . . . على السابق الغايات في البأس والجود
على غرة العصر التي جمعت إلى . . . مهابة مرغوب طلاقة مودود
على من له في الملك غير منازع . . . وزارة ميمون النقيبة محمود
على من إذا عد الكرام فإنه . . . بواجب حق الفضل أول معدود(4/54)
"""""" صفحة رقم 55 """"""
ومن كعلي ذي الشجاعة والرضا . . . لإصراخ مذعور وإيواء مطرود
ومن كعلي ذي السماحة والندا . . . لإسباغ إنعام وإنجاز موعود
ومن كعلي للوزارة قايماً عليها . . . بتصويب عليها وتصعيد
ومن كعلي للإدارة سالكاً لها . . . نهج تليين مشوب بتشديد
ومن كعلي للسياسة منفذاً . . . أوامر تنفيذ وأحكام توطيد
ومن كعلي في رضا الله حاكماً . . . بإنجاد معدوم وإعدام موجود
ومن كعلي واصل الرحم التي . . . تمت بتقريب له أو بتبعيد
ومسدي الأيادي البيض بدأ وعودة . . . مرددة تمحو دجا الثوب السود
أيا كافي السلطان كل عظيمة . . . بآراء تسديد وأعمال تمهيد
ويا حامي الملك المشيد بناؤه . . . بصولة محذورة وغرة مقصود
ويا كافل الأيتام يجري عليهم . . . جراية نعمى بابها غير مسدود
ذكرتك في نادي الوزارة صادعاً . . . بأمر مطاع حكمه غير مردود
كرتك في صدر الكتيبة قائماً . . . بخدمة مولى بعد طاعة معبود ذكرتك في المحراب والليل دامس . . . تردد آي الذكر أطيب ترديد
ودمعك مرفض وقلبك واجب . . . لخشية يوم بين عينيك مشهود
عفا على الدنيا ولا در درهماً . . . فما جمعها إلا رهين بتبديد
فمهما حلت منها لديك مسرة . . . ففي إثرها فارقب مرارة تنكيد
ألهفاً على الوجه الجميل معطراً . . . بدار البلى رهين الأساود والدود
وعهدي به مستبشراً ومبشراً . . . بتفريج مكروب وراحة مجهود
لأظلمت الدنيا علي لفقده . . . فها أنا أرعاها بمقلة مرصود
وقلص من ظل الرجا فراقه . . . فظل رجائي بعده غير ممدود
وكم سبحت فلك المنا في بحارها . . . مواخر فاليوم استوت على الجود
وهون عندي كل خطب مصابه . . . فبعد علي لست أبكي لمفقود
ولا أدعي أني وفيت بعهده . . . فما بالردى عار فكل امرئ مود(4/55)
"""""" صفحة رقم 56 """"""
ولا سيما إذا مات ميتة عزة . . . بعيداً شهيداً ماضياً غير رعديد
وفياً لمولاه مطيعاً لربه وقد . . . بطلت ذعراً رقاب الصناديد
فبشرى له أن فاز حياً وميتاً . . . بميتة مفقود وعيشة محسود
عليه سلام الله ما ذر شارق . . . وما صدعت ورقاء في فرع أملود
وجادت ثرى اللحد الزكي سحايب . . . مجددة الرحمى بأحسن تجديد
علي بن لب بن محمد بن عبد الملك بن سعيد العنسي
غرناطي ، قلعي
حاله
كان ظريفاً ، مليح الحظ ، حار التندير ، عيناً من عيون القطر ووزرائه
شعره
حدث أبو الحسن بن سعيد ، قال ، تمشينا معاً أيام استيلاء النهب والتهدم ، على معظم ديار مراكش بالفتنة المتصلة ، قال ، فانتهينا إلى قصر من قصور أحد كبرايهم ، وقد سجدت حيطانه ، وتداعت أركانه ، وبقايا النهب والأصبغة والمقربسات ، تثير الكمد ، ولا تبقي جلداً لأحد ، فوجدنا على بعضها مكتوباً بفحم :
ولقد مررت على رسوم ديارهم . . . فبكيتها والربع قاع صفصف
وذكرت مجرى الجور في عرصاتهم . . . فعلمت أن الدهر منهم منصف
فتناول أبو الحسن بياضاً من بقية جيار ، وكتب تحتها ما نصه :
لهفي عليهم بعدهم فمثالهم . . . بالله قل لي في الورى هل يخلف
من ذا يجيب منادياً لوسيلة . . . أم من يجير من الزمان ويعطف
إن جار فيهم واحد من جملة . . . كم كان فيهم من كريم ينصف
توفي بمراكش سنة سبع وعشرين وستماية .(4/56)
"""""" صفحة رقم 57 """"""
علي بن يوسف بن محمد بن كماشة
القايد والوزير بين القتادة والخرط ، يكنى أبا الحسن
أوليته كان جده من المنتزين ببعض حصون الأندلس ، طلياطيه ، وخدم طاغية الروم ببعضها ، وانخرط في جملته ، يشهد بذلك مكتوبات تلقاها بشماله ، ووراء ظهره ، صانها حافده المترجم به ، في خرقة من السرق لا يزال ، يعرضها في سبيل الفخر ، على من يصل إلى باب السلطان من رسل الروم . ولقد عرضها أيام سفارته إلى ملك قشتالة على وزيره شمويل اللبي اليهودي ، وطلب تجديدها ، فقال له هذا يتضمن خدمة جدك للسلطان مولاي جد مولاي السلطان بجملة من بلاد المسلمين ، وفيها الشكر له والرعاية على ذلك ، فاذهب أنت هذا المذهب ، الذي ذهبه جدك ، يتجدد لك ذلك إن شاء الله ، فلما هلك ووري بين مدافن الروم ، بعد أن علق زماناً على سور الحصن في وعاء ، توفية لشرط لا أحققه الآن ، ولحق ولده بباب السلطان ، فتفيئوا ظل كفالته ، ونشئوا في عداد صبيته ، ولما صلحوا للاستعمال ، استخدم منهم كبيرهم في العمل ، فاستظهر به على حفزه بحمى ألمرية ، وما إليها ، فأثرى ورآه استغنى ، وطالت مدة ولايته ، واستعمل أخاه يوسف والد المترجم به ، في القيادة ، وكان رجلاً مضعوفاً ، فاستمرت حاله إلى أن فقد بصره ، وجنى عليه شؤم ولده ، الجلا شيخاً زمناً . ثم عاد إلى الأندلس فتوفي بها ، حسبما يذكر في إسميهما . وكانوا يتبجحون بنسبة إلى معن بن زائدة . طوق جدهم بتلك النسبة ، بعض أولي التنفق والكدية ، فتعللوا منها بنسيج العناكب ، وأكذبوها بالخلق الممقوت ، والبخل بفتات القوت ، والتعبد لعبدة الطاغوت ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم .
حاله
هذا الرجل حسن الشكل ، كثير الهشة ، جيد الرياش ، كثير التعلق والتوسل ، لصقت بشجرات الدول سمغته ، وثبت بأسبابها قراده ، شديد الملاطفة لحجبة الأبواب ، والمداخلة لأذيال الأمراء ، متصامم على أغراضهم ، مكذب لمحسوس جفوتهم ، متنفق بالسعاية ، متبذل في أسواق الخدمة ، يسبق في الطيالس ، ويلفظ الزبير ، ويصرخ بالإطراء ، ويولول بالدعاء ، مدل في الأخونة ، محكم في نفسه(4/57)
"""""" صفحة رقم 58 """"""
للنادرة التي تضحكهم ، بذي مهذار ، قليل التصنع ، بعيد عن التسمت ، أطمع خلق الله وأبخلهم بما لديه ، وابعدهم في مهاوي الخسة ، أما فلسه فمخزون ، وأما خوانه فمحجوب ، وأما زاده فممنوع محجور ، وأما رفده فمعدوم العين والأثر . وأما ثوبه فحبيس التخت إلى يوم القيامة ، قد جعل لكل فصل من فصول معاشه ، ونفاضة مخاليه ، وسور دوابه مؤنة ما . فالنخالة بينة المصرف ، وللسرجين معين الجهة ، وفتات المنديل ، وقفة على فطور الغد ، ودهن الاستصباح جار في التجلة والادخار مجرى دهن البلسان .
أخباره
في هذا الباب مغربة ، ولزمت كعبة المنحسة ، وعلق في عنقه طاير الشؤم ، فلم تنجح له وجهة ، ولا سعدت له حركة ، واستقر عند الكاينة على الدولة بباب السلطان بالمغرب ، خاطباً في حبل الغادر ، المتوثب على الملك ، ومعيناً للدهر على الأحب الحق وولي النعمة . ثم بدا له في المقام بالمغرب أمناً واضطراباً . ولما رحل السلطان أبو عبد الله بن نصر المذكور ، إلى طلب حقه ، وقد أعتبه ، سدد به رسم الوزارة في طريقه ، كما اضطر صياد إلى صحبة كلب مخابت آماله ، ولحقت به المشأمة ، وتبر الجد ، واشتهر ذلك ، فعلقت به الشفقة ، إلى أن خاطب السلطان بعض من يهمه أمره بهذه الأبيات :
كماشكم من أجله انكمش السعد . . . إذا ما اطرحتم شومه نجز الوعد
ومن لم تكن للسعد في بدء أمره . . . مخيلة نجح كيف ترجى له بعد
وتصريفه المشئوم فلتتذكروا . . . وما قلت إلا بالتي علمت سعد واقتضى أمره تبرماً به ، أن صرف من رندة ، وقد استقر أمره بها رسولاً إلى باب ملك المغرب ، لأمور منها استخلاص ولده وإيصاله إليه . فتعذر القصد ، وسدت الأبواب ، وأزفت بدار المغرب عهد بذ الآزفة ، وترىخى مخنق مرسله لخلو دسته منه ، فثاب الرجاء وقرب الفتح ، وساعد السعد مما طال منه التعجب . ولما بلغ خبر صنع الله ، وإفاقة الأيام وجبر السلطان بدخول مالقة في طاعته ، لحق به ، وقد قلقت به الجوانب ، وتنكرت الوجوه ، وساءت لطيرته الظنون ، فتوفر العزم على صرفه عن الأندلس في أوليات رمضان عام ثلاثة وستين وسبعماية ، فقبض عليه ، وصرف إلى البلاد الشرقية ، وقد شرع في إغراء سلطان قشتالة بالمسلمين ، وكان آخر العهد به ،(4/58)
"""""" صفحة رقم 59 """"""
وذكروا أنه حج وقفل والعودة تتبعه ، والنفوس لمتوقع شومه مكرهة ، ورجي أن يكون ماء زمزم ، وضوء النقع ، أو أن مشاهدته الآثار الكريمة ، تصلح ما فسد من حاله ، فآب شر إياب ، وربما نبض له شريان من جده ، الذي تقدم في خدمة النصارى ذكره . فأجاز البحر إلى ملك برجلونة ، فجعل تقبيل كفه ، لاستلام الحجر الأسود ، وسيلة ثانية ، وقربة مزلفة ، والقول بفضل وطنه حجة صادقة ، ثم قلق لخيبة قصده ، وخلو يده ، من الزقوم ، الذي كان قد احتجنة للمهم من أمره ، واستيلاء النحس على بيت سعده ، فصرف وجهه المشوم إلى المغرب ، فاحتل به ، وجعل يطوق كل من اسلف له بدا الذام ، ويشيع عنه سوء القيلة ، ويجهر في المجتمعات والدكاكين ، بكل شنيع من القول ، بالغاً في ألفاظ السغيلة ، أقصى مبالغ الفحش ، لطف الله بنا أجمعين .
عثمن بن إدريس بن عبد الله بن عبد الحق بن محيو
من قبيل بني مرين ، يكنى أبا سعيد ، شيخ الغزاة بجزيرة الأندلس على عهده
أوليته
جدج هؤلاء الأقيال الكرام ، الذي يشترك فيه الملوك الغر من بني مرين بالعدوة ، مع هؤلاء القرابة ، المنتبين عنهم أضرار التراث ، ودواعي المنافسات ، عبد الحق بن محيو ، وكان له من الولد إدريس وعثمن وعبد الله ومحمد وأبو يحيى ويعقوب ، فكان الملوك بالمغرب من ولد يعقوب ، وهؤلاء من ولد عبد الله ، وإدريس ويعقوب ورحو . ولما قتل جدهم يعقوب ، بيد ابن عمه عبد الحق بن يعقوب ، أجفل أخواه ومن معهم ، وانتبذوا ، واستقروا بتلمسان ، بعد أمور يطول شرحها . ثم اجتاز الشيخ أبو سعيد في جملة من اجتاز منهم إلى الأندلس ، فنال بها العزة والشهرة .
حاله كان رجل وقته جلالة وأصالة ، ودهاء وشهرة وبسالة ، مرمى لاختيار عتاقة وفراهة ، واحد الزمن أبهة ورواء . وخلقاً ورجاحة ، أيداً ، عظيم الكراديس ، طوالاً ، عريض المنكب ، أقنى الأنف ، تقع العين منه على أسد عيص ، وفحل هجمة ، بعيد الصيت ، ذائع الشهرة ، منجب الولد ، يحمي السرح ، ويزين الدست . لحق بتلمسان مع زوج أمه وعمهن موسى بن رحو ، عندما فروا من الجبل بأحواز ورغة ، شاباً كما اجتمع ، وأجاز البحر منها ، وخدم مرتزقاً بها . ثم عاد إلى العدوة ، برضاً من(4/59)
"""""" صفحة رقم 60 """"""
عمه السلطان بها . ثم فر عنه ولحق بالأندلس ، واستقر بها ، وولى خطة الشياخة العامة ، وهي ما هي ، من سمو الهضبة ، وورود الرزق ، وانفساح الإقطاع ، فشارك وتبنك النعيم ، وأقبل ما استظهر به على ما وراء مدينة سبتة ، عند انتظامها في الإيالة النصرية . فشن الغارة ، ودعا إلى نفسه ، وخلا فطلب النزال ، فغلبت غارته أحواز وادي سبو . ثم رجع أدراجه إلى الأندلس ، وذمر السلطان أبا الوليد ، منفق حظوته على طلب الملك ، ففازت به قداحه ، واستولى على الجم من ريق دنياه ، وسل الكثير من ماله وذخيرته في أبواب من العبادة ، والاسترضاء والاستهداء ، ولما توفي ، تضاعف لطف محله من ولده ، إلى أن ساء ما بينه وبين مدبر أمره ابن المحروق ، ونفر عنه ، مؤاخذاً بألقيات ، كانت سلماً إلى تجنبه ، يحسب أن الافتقار إليه ، يعبد له كل وعث . فاغتنم المذكور نفرته ، واستبصر في الانتباذ عنه ، مطيعاً دواعي الخور والرهبة ، من شؤوب حاله ، وأجلى الأمير عن رحيله وولده إلى ساحل ألمرية ، موادعاً ، مزمعاً الرحيل عن الأندلس ، وارتاد الجهات ، وراسل الملوك بالعدوة ، فكل صم عن ندايه ، وسد السبيل إليه ، فداخل قوماً من مشيخة حصن أندرش حاضرة وطن الجباية ، فاستولى عليه ، وانتقل إليه بجملته ، وراسل الطاغية ، فتحرك إلى منازلة حصن وبرة من الحصون التاكرونية . ففازت به قداحه ، واستعدي عم السلطان ، وهو الرئيس أبو عبد الله بن فرج ابن نصر من تلمسان ، فدعا إليه ، وشملت الفتنة ، وكانت بنه وبين جيش الحضرة وقايع ، تناصف فيها القوم خطتي المساجلة إلى أن نفد فعوهد على التخلي عن الحصن ، وصرف أميره إلى متبوئه الأقصى ، وانتقاله إلى مدينة وادي آش ، ليكون سكنه بها ، تحت جرايات مقدرة ، وذلك في شهر رمضان ثمانية وعشرين وسبعماية ، وعلى تفية ذلك ، عدا على منايه أميره ، ففتك به ، واستقدم الشيخ أبا سعيد فأعاده إلى محله ، واستمرت على ذلك حياته إلى مدة حياته ، إلى أن توفي في أخريات أيامه .
وفاته
ولما نزل العدو ثغر أطيبة ، ونهض جيش المسلمين إلى مضايقته ، أصابه المر ض . ولما أشفي ونقل إلى مالقة ، فكانت بها وفاته يوم الأحد ثاني ذي حجة من عام ثلاثين وسبعماية عن سن عالة تنيف على الثمانين سنة ، ونقل إلى غرناطة ، فووري بها ، وبنيت عليه بنية ضخمة ، وصار أمره إلى ولده ، ونقش على قبره في الرخام :(4/60)
"""""" صفحة رقم 61 """"""
هذا قبر شيخ الحماة ، وصدر الأبطال الكماة ، واحد الجلالة ، ليث الإقدام والبسالة ، علم الأعلام ، حامي ذمار الإسلام ، صاحب الكتايب المنصورة ، والأفعال المشهورة ، والمغازي المسطورة ، وإمام الصفوف ، القايم بباب الجنة تحت ظلال السيوف ، سيف الجهاد ، وقاصم الأعاد ، وأسد الآساد ، العالي الهمم ، الثابت القدم ، الإمام المجاهد الأرضي ، البطل الباسل الأمضى ، المقدم ، المرحوم ، أبي سعيد عثمن ، ابن الشيخ الجليل ، الإمام الكبير ، الأصيل الشهير ، المقدس ، المرحوم أبي العلاء إدريس ، ابن عبد الله بن عبد الحق . كان عمره ثمانياً وتسعين سنة ، أنفقه ما بين روحة في سبيل الله ، وغدوة ، حتى استوفى في المشهور . سبع ماية واثنتين وثلاثين غزوة ، وقطع عمره جاهداً مجاهداً ، في طاعة الرب ، محتسباً في إدارة الحرب ، ماضي العزايم في جهاد الكفار ، مصادماً من تدفق التيار ، وصنع الله له فيهم ، من الصنايع الكبار ، ما صار ذكره في الأقطار ، أشهر من المثل السيار ، حتى توفي رحمه الله ، وغبار الجهاد طي أثوابه ، وهو مراقب لطافية الكفار وأحزابه ، فمات على ما عاش عليه ، وفي ملحمة الجهاد قبضه الله إليه ، واستأثر به ، سعيداً مرتضاً ، وسيفه على رأس ملك الروم منتضاً ، مقدمة قبول وإسعاد ، ونتيجة جهاد وجلاد ، ودليلاً عن نيته الصالحة ، وتجارته الرابحة ، فارتجت الأندلس لفقده ، أتحفه الله رحمة من عنده ، توفي يوم الأحد الثاني لذي الحجة من عام ثلاثين وسبعماية .
القضاة الأصليون
عتيق بن أحمد بن محمد بن يحيى الغساني
غرناطي ، يكنى أبا بكر ، ويعرف بابن الفرا ، ويعرف عقبة ببني الوادي آشي ، وقد مر ذكر ولده أبي الفرج ، وينبز بقرنيات .
حاله
حدثني أبي رضي الله عنه ، وكان صديقاً لأبيه ، أنه كان من أهل الجلالة والفضل ، حسن السمت ، عظيم الوقار ، جميل الرواء ، فاضلاً ، حسن العشرة ،(4/61)
"""""" صفحة رقم 62 """"""
وقال القاضي ابن عبد الملك كان جامعاً لفنون من المعارف من معروف الفضل في كل ما يناول من الأمور العلمية ، وقيد كثيراً ، وعني بالعلم العناية التامة ، واستقضي بالمنكب ، وعرف في ذلك بالعدالة والنزاهة .
تواليفه
صنف نزهة الأبصار في نسب الأنصار ، ونظم الحلي في أرجوزة أبي علي ، يعني ابن سينا .
شعره
قال ومما نظمته ووجهته به صحبة رسالتين :
يا راكباً يبغي الجناب الأشرفا . . . ومناه أن يلقى الكريم المسعفا
عرج بطيبة مرة لترى بها . . . علمي قبول رحمة وتعطفا
وإذا حللت بها فقبل تربها . . . وارغب جلالهم عسى أن يسعفا
وأسل دموعك رغبة وتضرعاً . . . وأطل بها عند التضرع موقفا
واذكر ذنوبك واعترف بعظيمها . . . فعسى الذي ترجو له أن يعطفا
واجعل شفيعك إن قصدت عناية . . . قبراً تقدس تربة وتشرفا
قبر حوى النور المبين ونوره . . . يهدي به سبل السلام من اقتفا
قبر به الهاشمي محمد أبهى . . . الأنام سناً وأوفى من وفا
خير الورى علم التقى شمس الهدى المنتقى والمجتبا والمصطفا
سلم عليه وخصه بتحية . . . واقرأ عليه من السلام مضاعفا
واذكر هديت أخا البطالة عمره كم نقض العهود وأخلفا
ولكم تيقن بالدليل فماله . . . ركب العناد لجاجة وتعسفا
وعصى فأسلم للقطيعة والجوى . . . حق على من خان أو لا يعرفا
هل للعفو تنفح نحوه يوماً . . . فيضحى بالرضا متعرفا(4/62)
"""""" صفحة رقم 63 """"""
وأعد حديث مشوق قلب عنده . . . من لم يذب شوقاً له ما أنصفا
إخبره عن حبي وطول تشوقي . . . تفديك عطفة نفسي مخبراً ومعرفا
وتشك من جاء إليه فإن لي . . . نفساً تسوفني المتاب تسوفا
مولده : بغرناطة في ذي حجة خمس وثلاثين وستماية .
وفاته
ذكر أنه كان حياً سنة خمس وثمانية وستماية .
علي بن محمد بن توبة
يكنى أبا الحسن
حاله
كان من العلماء الجلة الفقهاء الفضلاء . ولي قضاء غرناطة لباديس ابن حبوس ، وعلى يديه كان عمل منبر جامعها ، وكان عمله في شهر ربيع الأول سنة سبع وأربعين وأربعمائة . وكان من قضاة العدل ، وإليه تنسب قنطرة القاضي بغرناطة ، والمسجد المتصل بها في قبلتها . وكان كاتبه الزاهد أبا إسحق الإلبيري ، وفيه يقول :
بعلي بن توبة فاز قدحي . . . وسمت همتي على الجوزاء
فهنياً لنا وللدين قاض . . . مثله عالم بفضل القضاء
يحسم الأمر بالسياسة والعدل . . . كحسم الحسام للأماء
لو أنا سيرناه قال اعترافا . . . غلط الواصفون لي بالذكاء
أو رأى أحنف وأكبر منه . . . حلمه ما انتموا إلى الحلماء
أو رأى المنصفون بحر نداه . . . جعلوا حاتماً من البحر لاء
هو أوفى من الشمول عهداً . . . ولما زال مغرماً بالوفاء
وحيا المزن وحيا أخاه . . . أهملت كفه بوبل العطاء(4/63)
"""""" صفحة رقم 64 """"""
يشهد العالمون في كل فن . . . أنه كان كالشهاب في العلماء
وقضاة الزمان أرض لديهم . . . وهو من فوقهم كمثل السماء
لتعرضت مدحه فكأني . . . رمت بحراً مساجلاً بالدلاء
فانا معجم على أن خيلي . . . لا تجاري في حلبة الشعراء
لكساني محبراً ثوب فخر . . . طال حتى حررته من وراء
ولو أنصفته وذاك قليل . . . كان خدي لنعله كالحذاء
فأنا عبده وذاك فخاري . . . وجمالي بين الورى وبهاء
وثناء وقف عليه وشكري . . . ودعائي له بطول البقاء
علي بن عمر بن محمد بن مشرق بن محمد بن أضحى بن عبد اللطيف بن الغريب بن يزيد بن الشمر بن عبد شمس بن الغريب الهمداني
والغريب بن يزيد هو أول مولود ولد للعرب اليمانيين بالأندلس يكنى أبا الحسن .
ولي غرناطة . وكان من أهل العلم والفهم ، والمشاركة في الطب ، والكفاية الجيدة ، والشعر في ذروة همدان ، وذوايبهما ، حسن الحظ ، كريم النفس ، جواد بما يماري ، عطاياه جزلة ، ومواهبة سنية ، وخلقه سهلة ، كثير البشاشة ، مليح الدعابة ، موطأ الأكناف ، على خلق الأشراف والسادة .
مشيخته
روي بألمرية عن القاضي أبي محمد بن سمحون وبه ، تفقه . وقرأ الأدب على ابن بقنة ، وعلى الإمام الأستاذ أبي الحسن علي بن أحمد بن الباذش ، وسمع الحديث على الحافظ أبي بكر بن غالب بن عبد الرحمن ابن عطية وغيره .(4/64)
"""""" صفحة رقم 65 """"""
شعره
من شعره يخاطب الوزير ابن أبي ويعتذر إليه ، وكان الفقيه أبو جعفر المذكور ، قد خاطبه شافعاً في بعض الأعيان ، فتلقى شفاعته بالقبول ، ثم اعتقد أنه قد جاء مقصراً ، فكتب إليه :
ومستشفع عندي بخير الورى . . . عندي وأولاهم بالشكر مني وبالحمد
وصلت فلما لم أقم بجزايه . . . لففت له رأسي حياء من المجد
وكتب يخاطب أبا نصر بن عبد الله ، وقد كان أبو نصر خاطبه قبل ذلك :
أتتني أبا نصر نتيجة خاطر . . . سريع كرجع الطرف في الخطرات
فأعربت عن وجد كمين طويته . . . بأهيف طاو فاتر اللحظات
غزال أحم المقلتين عرفته . . . نحيف مني للحسن أو عرفات
رماك فأصمى والقلوب رمية . . . لكل كحيل الطرف ذي فتكات
وظن بأن القلب منك محصب . . . فلباك من جنابه بالجمرات
تقرب بالنساك في كل منسك . . . وضحى غداة النحر بالمهجات
وكانت له جيان مثوى فأصبحت . . . ضلوعك مثواه بكل فلات
يعز علينا أن تهيم فتنطوي . . . كبيباً على الأشجان والزفرات
فلو قبلت للناس في الحب فدية . . . فديناك بالأموال والبشرات(4/65)
"""""" صفحة رقم 66 """"""
وخاطب أحد أوليائه شافعاً في رجل طلق امرأته ، ثم علقت بها نفسه ، فلم تسعفه ، وكتب إليه :
ألا أيها السيد المجتبا . . . ويا أيها الألمعي العلم
أتتني أبياتك المعجزات . . . بما قد حوت من بديع الحكم
ولم أر من قبلها بابلاً . . . وقد نفثت سحرها في الكلم
ولكنه الدين لا يشترى . . . بنثر ولا بنظام نظم
وكيف أبيح حماً مانعاً . . . وكيف أحلل ما قد حرم
ألست أخاف عقاب الإله . . . وناراً مؤججة تضطرم
أأصرفها طالقة بتة . . . على أنوك قد كعني واجترم
ولو أن ذاك الغبي الخمول . . . تثبت في أمري ما ندم
ولكنه طاش مستعجلاً . . . فكان أحق الورى بالندم
ومن شعره أيضاً قوله رحمه الله :
يا عليماً بمضمرات القلوب . . . أنا عبد مثقل بالذنوب
فاعف عني وتب علي وفرج . . . ما أنا فيه من أليم الكروب
حالما أشتكي سواك طبيب . . . كيف أشجي به وأنت طبيب
أنا ممن دعا قريب مجيب . . . فأرح ما بمهجتي عن قريب
تواليفه
قال أبو القاسم بن خلف الغافقي ، حدثني عنه الفقيه أبو خالد ابن يزيد بن محمد وغيره بتواليف ، منها كتاب قوت النفوس ، وأنيس الجليس وهو كتاب حسن ، ضمن فيه كثيراً من شمايل النبي عليه الصلاة والسلام .(4/66)
"""""" صفحة رقم 67 """"""
وفاته : توفي بغرناطة في سنة أربعين وخمسماية ، وهو يحاصر الملثمين بقصبة غرناطة حسبما ثبت في اسم ابن هود أحمد .
ومن الطاريين والغرباء
عثمان بن يحيى بن محمد بن منظور القيسي
من أهل مالقة ، يكنى أبا عمرو ، ويعرف بابن منظور ، الأستاذ القاضي من بيت بني منظور الإشبيليين أحد بيوت الأندلس المعمور بالنباهة .
حاله كان رحمه الله صدراً في علماء بلده ، أستاذاً ممتعاً من أهل النظر والاجتهاد والتحقيق ، ثاقب الذهن ، أصيل البحث ، مضطلعاً بالمشكلات ، مشاركاً في فنون ، من فقه وعربية ، برز فيهما ، إلى أصول وقراءات وطب ومنطق . قرأ كثيراً ، ثم تلاحق بالشادين ، ثم غبر في وجوه السوابق . قرأ على الأستاذ أبي عبد الله بن الفخار ، ولازم الأستاذ أبا محمد بن أبي السداد الباهلي ، وتزوج ابنة الفقيه أبي علي بن الحسن ، فاستقرت عنده كتب والدها ، فاستعان بها على العلم والتبحر في المسايل ، وقيد بخطه الكثير ، واجتهد وصنف ، وأقرأ ببلده ، متحرفاً بصناعة التوثيق ، فعظم به الانتفاع ، وقعد للتدريس خلفاً للراوية أبي عثمن بن عيسى في شوال عام تسعة وسبعماية وولي القضاء ببلش وقمارش ،(4/67)
"""""" صفحة رقم 68 """"""
وملتماس ، ثم ببلده مالقة ، وتوفي قاضياً بها . لقيته ، وانتفعت بلقايه ، وبلوت منه أحسن الناس خلقاً ، وأعذبهم فكاهة .
شعره
وكان قليلاً ما يصدر عنه ، كتب على ظهر الكتاب الذي ألفه للوزير أبي بكر بن ذي الوزارتين أبي عبد الله بن الحكيم ، مقتدياً بغيره من الأعلام في زمانه :
قد جمع الحكم وفصل الخطاب . . . ما ضمه مجموع هذا الكتاب
من أدب غض ومن علية . . . تسابقوا للخير في كل باب
فجاء فذاً في العلى والنهى . . . ومنتقي صفو لباب اللباب
ألفه الحبر الجليل الذي . . . حاز العلا إرثاً وكسباً فطاب
تواليفه
ألف كتاب اللمع الجدلية في كيفية التحدث في علم العربية . وله تقييد في الفرايض حسن ، سماه ، بغية المباحث في معرفة مقدمات الموارث ، وآخر في المسح على الأنماق الأندلسي .
وفاته
توفي يوم الثلاثاء الخامس والعشرين لذي حجة من عام خمسة وثلاثين وسبعماية ، ولم يخلف بعده مثله .
علي بن أحمد بن الحسن المذحجي
من أهل حصن ملتماس ، وابن وزيره الفقيه الحافظ القاضي ، يكنى أبا الحسن ، ويعرف بجده .
حاله
من أولي الأصالة والصيانة والتعفف ، والعكوف على الخير ، والآوين إلى طعمة متوارثة ، ونباهة قديمة ، صناع اليد ، متقن لكل ما يحاوله من تسعير ونجارة ، مبذول المودة ، مطعم للطعام بدار له معدة للضيفان من فضلاء من تطوه الطريق ، ويغشاه من أبناء السبيل . ولي قضاء بلده في نحو عشرين سنة ، فحمدت سيرته ، ثم ولي قضاء مالقة ، فظهرت دربته ومعرفته بالأحكام . فأعفي وعاد إلى ما كان بسبيله من القضاء بموضعه والخطابة .(4/68)
"""""" صفحة رقم 69 """"""
مشيخته
قرأ على الشيخين الصالحين ، أبي جعفر بن الزيات ، وأبي عبد الله بن الكماد ببلده ، بلش ، وأخذ عنهما .
تواليفه
له أجوبة حسنة في الفقه . وصنف على كتاب البراذعي تصنيفاً حسناً ، بلغ فيه إلى آخر رزمة البيوع ثلاثة عشر سفراً ، واستمرت على ذلك حاله .
توفي ببلده بلشن في . . . . . . . . . . . . . من عام ستة وأربعين وسبعماية .
علي بن عبد الله بن الحسن الجذامي النباهي المالقي
صاحبنا أبو الحسن .
أوليته
تنظر فيما تقدم من أهل بيته والمذكورين فيه من سلفه .
حاله
هذا الرجل ، ولي قضاء الحضرة ، وخطابة جامع السلطان ، وعرض له تقزز فيما يقف عليه ، من منتخب وصفه ، وعدم رضاً بما يجتهد فيه من تحليته ، فوكلنا التعريف بخصايصه ، إلى ما اشتهر من حميدها ، تحرجاً مما يجر عتبه ، أو يثير عدم رضاه .
مشيخته ذكر أنه أخذ عن الشيخ الخطيب أبي بكر الطنجالي ، قريب أبيه ، والناظر عليه بعده بوصاته . وكان من أهل الدراية والرواية ، وعن الشيخ الفقيه أبي القاسم محمد بن أحمد الغساني ، شهر بابن حفيد الأمين ، وقرأ عليه الفقه والقرآن ، وسمع عليه ، وتلا على الشيخ الأستاذ المقري أبي محمد بن أيوب ، وسمع عليه الكثير . وهو آخر من حدث عن أبي بن أبي الأحوص . وعلى الشيخ المقري أبي القاسم بن يحيى بن محمد بن درهم ، وأخذ عن قريبه القاضي ، نسيج وحده أبي بكر عبد الله بن بكر الأشعري . ومن أشياخه صهره القاضي الأستاذ أبو عمرو بن منظور ،(4/69)
"""""" صفحة رقم 70 """"""
والأستاذ الحافظ المتكلم أبو عبد الله القطان ، والصوفي أبي الطاهر محمد ابن صفوان ، والقاضي الكاتب أبو القاسم محمد البناء . وصحب الشيخ أبا بكر بن الحكيم ، ولازمه وروى عنه . ولقي الخطيب المقري أبا القاسم ابن جزي ، وأخذ نسبته عن الشيخ أبي القاسم بن عمران . وبرندة عن القاضي المحدث المقيد أبي الحجاج يوسف المنتشافري . ورحل فلقي بتلمسان عمران أبا موسى المشدالي ، وحضر مجلسه ، والأخوين الإمامين أبا زيد وأبا موسى ابني الإمام . وبباجة ، أبا العباس أحمد بن الرباعي ، وأبا عبد الله بن هرون . وبتونس أعلاماً ، كقاضي الجماعة أبي عبد الله ابن عبد السلام . قال ومن خطه نقلت ، وأجازني من أهل المشرق والمغرب ، عالم كثير .
شعره
قال ، نظمت مقطوعتين ، موطئاً بهما على البيتين المشهورين .
الأولى منهما قولي :
بنفسي من غزلان غزوي وغزالة . . . جمال محياها عن النسك زاجر
تصيد بلحظ الطرف من رام صيدها . . . ولو أنه النسر الذي هو طاير
معطرة الأنفاس رائقة الحلى . . . هواها بقلبي في المهامة ساير
إذا رمت عنها سلوى قال شافع . . . من الحب ميعاد السلو المقابر
والأخرى تقول :
وقائلة لما رأت شيب لمتي . . . لئن ملت عن سلمى قعذرك ظاهر
زمان التصابي قد مضى لسبيله . . . وهل لك بعد الشيب في الحب عاذر
فقلت لها كلا وإن تلف الفتى . . . فما لهواها عند مثلي آخر
ستبقى لها في مضمر القلب والحشا . . . سريرة ود يوم تبلى السراير(4/70)
"""""" صفحة رقم 71 """"""
وكتب مع شكل يحذو على النعل الكريم ، من شأنه أن يكتب ذلك لكل مزمع سفر :
فديتك لا يهدى إليك أجل من . . . حديث نبي الله خاتم رسله
ومن ذلك الباب المثال الذي أتى . . . به الأثر المأثور في شأن نعله
ومن فضله مهما يكن عند حامل . . . له نال ما يهواه ساعة حمله
ولا سيما إن كان ذا سفر به . . . فقد ظفرت يمناه بالأمن كله
فدونك منه أيها العلم الرضا . . . مثالاً كريماً لا نظير لمثله
ومن ذلك قوله :
لا تلجأن لمخلوق من الناس . . . من يافث كان أصلاً أو من الياس
وثق بربك لا تيأس ترى عجباً . . . فلا أضر على عبد من الياس
ومن قوله يمدح السلطان ويصف الإعذار :
أبدى لنا من ضروب الحسن أفنانا . . . هذا الزمان لمولانا ابن مولانا
يقول فيها لطف الله بنا وبه :
ولا تحرك لساناً يا أخا ثقة . . . بريم رامة إن وفى وإن خانا
يظل ينشر ميت الوجد عن جدث . . . من الجفون أو الأحشاء عريانا
ثم قال فيها بعد كثير يرجى عفو الله فيه :
فما النسيب أولى من حديث علا . . . عن الإمام ينيل المرء رضوانا
يممه تحظ بما أملت من أمل . . . يجنيك للسؤال أفناناً فأفنانا
ومنها في المدح :
ملك يخف لراجيه بنايله . . . على وقار يرى كالعين ثملانا(4/71)
"""""" صفحة رقم 72 """"""
ملك ينص له الآلاء عزته . . . على السعادة في الدارين فرقانا
العاطر الذك رترتاح النفوس له . . . تخال فيه لها روحاً وريحانا
الساحر المنطق في شتى العلوم . . . إذا سألت منه لوجه الرشد هانا
كسا الزمان ثياب الفضل حتى . . . قضا عن منكبي صرفه ظلماً وعدوانا
وعظم الشرع حتى أن داعيه . . . لا يستطيع له المدعو عصيانا
ومنها في ذكر الإعذار : لله درك يا مولاي من ملك . . . شيدت بالحق للإسلام بنيانا
ولم تبال ببذل المال في غرض . . . يعم بالفضل ولداناً وبلدانا
وقمت في الولد الميمون طائره . . . بسنة الدين إكمالاً وإتقانا
بدا لنا قمراً ترنو العيون له . . . مقلداً من نطاق المجد شعبانا
وقام يسحب أذيال الجمال على . . . على بساط ملكك بالإعذار جذلانا
خجلان بالقصور عن بلوغ مداً . . . من العلى بل الحسن منه قد بانا
فدته أنفسنا لو كان يقبلها . . . منا وكانت على الإبلال قربانا
فيا دماً قد سال عن تقوى فعاد له . . . بين الدماء طهوراً طيباً زانا
ولا دليل على الغفلة المعبر عنها بالسلامة والذهول كقوله : وقمت في الولد الميمون طائره . ومن ذلك قوله يخاطب صاح بالعلامة بالمغرب أبا القاسم بن رضوان :
لك الله قلبي في هواك رهين . . . وروحي عني إن رحلت ظعين
ملكت بحكم الفضل كلي خالصاً . . . وملكك للحر الصريح يزين
فهب لي من نطقي بمقدار ما به . . . يترجم سر في الفؤاد دفين
فقد شملتنا من رضاك ملابس . . . وسح لنا من نداك معين
أعنت على الدهر الغشوم ولم تزل . . . بدنياك في الأمر المهم تعين
وقصر من لم تعلم النفس أنه . . . خذول إذا خان الزمان يخون(4/72)
"""""" صفحة رقم 73 """"""
وإني بحمد الله عنه لفي غنى . . . وحسبي صبر عن سواك يصون
أبى لي مجد عن كرام ورثته . . . وقوفاً بباب للكرام يهين
ونفسي سمت فوق السماكين همة . . . وما كل نفس بالهوان تدين
ولما رأت عيني محياك أقسمت . . . بأنك للفعل الجميل ضمين
وعاد لها الأنس الذي كان قد مضى . . . برية إذ شرخ الشباب خدين
بحيث نشانا لابسين حلي التقى . . . وكل بكل عند ذاك ضنين
وفتيان صدق كالشموس وكالحيا . . . حديثهم ما شئت عنه يكون
لئن نزحت تلك الديار فوجدنا . . . عليها له بين الضلوع أنين
إذا مر حين زاده الشوق جدة . . . وليس يعاب للربوع حنين
لقد عبثت أيدي الزمان بجمعنا . . . وحان افتراق لم نخله يحين
وبعد التقينا في محل تغرب . . . وكل الذي دون الفراق يهون
فقابلت بالفضل الذي أنت أهله . . . ومالك في حسن الصنيع قرين
وغبت وما غابت مكارمك التي . . . على شكرها الرب العظيم يعين
يميناً لفد أوليتنا منك نعمة . . . تلذ بها عند العيان عيون
ويقصر عنها الوصف إذ هي كلها . . . لها وجه حر بالحياء مصون
ولما قدمت الآن زاد سرورنا . . . ومقدمك الأسنى بذاك قمين
لأنك أنت الروح منا وكلنا . . . جسوم فعند البعد كيف تكون
ولو كان قدر الحب فيك لقاؤنا . . . إليك لكنا باللزوم ندين
ولكن قصدنا راحة المجد دوننا . . . فراحته شمل الجميع تصون(4/73)
"""""" صفحة رقم 74 """"""
هنيئاً هنيئاً أيها العلم الرضا . . . بما لك في طي القلوب كمين
لك الحسن والإحسان والعلم والتقى فحبك دنيا للمحب ودين
وكم لك في دار الخلافة من يد . . . أقرت لها بالصدق منك مرين
وقامت عليها للملوك أدلة . . . فأنت لديها ما حييت مكين
فلا وجه إلا وهو بالبشر مقبل . . . ولا نطق إلا عن علاك مبين
بقيت لربع الفضل تحمي ذماره . . . صحيحاً كما قد صح منك يقين
ودونك يا قطب المعالي بنية . . . من الفكر عن حال المحب تبين
أتتك ابن رضوان تمت بودها . . . وما لسوى الإغضاء منك ركون
فخل انتقاد البحث عن هفواتها . . . ومهد لها بالسمح حيث تكون وخذها على علاتها فحديثها . . . حديث غريب قد عراه سكون
ومن شعره قوله في ليلة الميلاد الكريم سن قصيدة :
خليلي مرا على أرض مأرب . . . ولا تعذلاني إنني غير آيب
وهي طويلة أثبتت في الرحلة . فلينظرها هنالك من أراد استيفاء غرضها .
نثره
من أمثل ما صدر عنه في غرض غريب ، وهو وصف نخلة بإزاء باب الحمراء . ونثره كثير ، ولكنا اخترنا له ما اختار لنفسه ، وأشاد بشفوفه على أبناء جنسه : يا أيها الأخلاء الذين لهم الصنايع ، التي تحسدها الغمايم ، والبدايع التي تودها بدلاً من أزهارها الكمايم ، بقيتم وشملكم جميع ، وروض أملكم مريع ، والكل منكم للغريب الحسن من الحديث المحب سميع ،
بأرض النخل قلبي مستهام . . . فكيف يطيب لي عنها المقام
لذاك إذا رأيت لها شبهاً . . . أقول وما يصاحبني ملام
ألا يا نخلة من ذات عرق . . . عليك ورحمة الله السلام
فسلمت يوماً تسليم المبرة ، على مدنها الحرة البرة ، جارة حايط الدار ، الواقفة للخدمة كالمنار ، على سدة الجدار ، بياض النهار ، وسواد الليل ، المتلفعة بشعار(4/74)
"""""" صفحة رقم 75 """"""
الوقار ، المكفولة الذيل ، أنيسة مشيخة الجماعة ، القاطنة من الحمراء العلية ، بباب ابن سماعة ، فحين عطفت عليها ، وصرفت فناءي وفنائها ، وقلت لها كيف حالك أيتها الجارة ، الساكنة بنجدة الحجارة ، الواعظة للقريب والبعيد ، بمقامها صامتة على الصعيد .
سقاك من الغر الغوادي مطيرها . . . ولا زلت في خضراء خض نظيرها
خلتها اهتزت عند النداء اهتزاز السرور ، وتمايلت أكمامها تمايل الثمل المسرور ، ثم قالت لسايلها بلسان وسايلها ، عند مشاهدة مثلي تقول العرب ، عينها فرارها ، واينو جدها للناظرين اصفرارها ، وجملة بخيتي ، بعد إتمام تحيتي ، أن الدهر عجم قناتي ، ومس الكبر كدر سناتي ، وما عسى أن أبث من ثكناتي ، وجل علاتي من تركيب ذاتي . ولكني أجد مع ذلك ، أن وقاري ، حسن لدى الحي احتقاري ، وكثرة قناعتي ، أثمرت إضاعتي ، وكمال قدي ، أوجب قدي ، فما أنس من الأشياء ، لا أنس عدوان جعسوس من لعبوش اليهود أو المجوس ، يفحص يمديته عن وريدي ، ويحرص على مد جريدي ، ويجدع كل عام يخنجره أنفي ، وكلما رمت كف إذايته عني ، كشم كف ، فلو رايتم صعصعة أفناني ، وسمعتم عند جذم بناني ، قعقعة جناني ، والدمع لما جفاني ، يفيض من أجفاني ، والجعسوس الخبيث المنحوس ، قد شد ما حد بأمراسه ، ورفعه لبيعه كفره على راسه . بعد الأمر بوضعه على أسنمة القبور ، حسبما ثبت في الحديث المشهور ، لحملتكم يا بني اسم وحام على الغيرة وشايج الأرحام ، فقد علمتم بنص الأثر ، أني عمتكم القديمة ، وإن لم أكن لذلك بأهل ، فإني لكم اليوم خديمة ، أو من ذرية الفريق الموجب ، المضروب به المثل يوم السقيفة ، لمن رام من أشراف الأندلس أن يكون إذ ذاك خليفة . وخالة أبي كانت النخلة البرشا الكبيرة ، التي حادثها الأمير عبد الرحمن بالرصافة القريبة من كورة إلبيرة . فكيف(4/75)
"""""" صفحة رقم 76 """"""
يسهل اليوم عليكم إهمالي ، ويجمل لديكم إخمالي ، وترك احتمالي ، والأيام والحمد لله مساعدة ، والملك ملك بني ساعدة . فلما سمعت عتابها ، وعلمت أنها قد شدت للمناضلة أقتابها ، قلت لها أهلاً بك وسهلاً ، ومهلاً عليك أو بهلاً ، لقد دسع بعيرك ، وعادت بالخيبة عيرك . فليست الحقيقة كالمجاز ، ولا دليقية في النيات كالحجاز . هنا جنات من أعناب مرسلة الذيولن مكملة الأطناب ، قد طاب استيارها ، وحمد اختبارها واختيارها ، وعذبت عيون أنهارها ، وتفتحت كمايم أزهارها ، عن وردها ونرجسها وبهارها ، وسرت بطرف محاسنها الرفاق ، حتى قلقت منها الشام واليمن والعراق . قد صرت من المنال عشبة ، وأصبحت تذلي خالفة ، ورذلي بالهم تالفة ، لا يجتنى بلحك ولا طلعك ، ولا يرتجى نفعك ، فالأولى قطعك أو قلعك ، وإلا فأين قنوك أو صنوك ، أو تمرك أو سبرك ، هلا أبقيت يا فسيلة على نفسك ، وراعيته صلحة جنسك . ولقد انتهت بك المحارجة إلى ارتكاب ما لا يجوز ، وفي علمك أن من أمثال الحكماء ، كل هالك عجوز . حسبك بحكم العجز ملامها . وما كان إلا أن نقل مقالي . فقال المتكلم بلسان القالي ، أنا أتطوع بالجواب ، وعلى الله جزيل الثواب ، ليعلم كل سايل ، أن تفضيل النخل على العنب ، من المسايل التي لا يسع فيها جحد جاحد ، وإن كانا أخوين سقيا بماء واحد . وقد جرى مثل هذا الخطاب بين يدي عمر بن الخطاب ، فقيل يا بني حتمة ، أيهما أطيب ، الرطب أم العنب ، فقال ليس كالصقر ، في رؤوس الرقل ، الراسخات في العقل ، المطعمات في المحل ، تحفة الصايم ، ونقلة الصبي القادم ، ونزل مريم نت عمران . والنخلة هي التي مثل بها المؤمن من الإنسان ، ليس كالزبيب ، الذي إن أكلته ضرست ، وإن تركته غربت ، وكفى بهذه الرواية حجة ، لمن أراد سلوك المحجة . وعلى كل تقدير ، فقد لزم التفضيل للنخلة على الكرمة ، لزوم الصلة للموصول ، والنصب للمنادى الممطول ، والعجز لكتابي المحصل والمحصول . وكم على ترجيح ذلك من قياس صحيح ، ونقل ثابت صريح . قال ، واعتذاركم بالمهرمة عن فعل المكرمة لأمة في تلك الطباع كامنة ، وسامة للتلف لا للخلف ضامنة . وذكرتم الثمرة والبسرة ، والوقت ليس بوقت عسرة ، فأذكرتم قول القايل ، في بعض المسايل ، دعنا من تمرتان وبسرتان أو تمرتين وبسرتين ، على الوجهين ، المتوجهين في المسلتين ، وفس ضمن ذكركم لذلك أدلة صدق على(4/76)
"""""" صفحة رقم 77 """"""
تطلع النفس الفقيرة ، للأعراض التافهة الحقيرة ، والإمامة العظمى ، أجل عندنا وأسمى ، من أن تلحظ بعينها تلك الملاحظ ، ولواصل لديها مراتبها وأفكارها ببيانه وتبيانه ، عمرو بن بحر الجاحظ ، إذ هي كافأ الله فضلها ، ولا قلص ظلها كالسحاب ، نجود بغيثها على الآكام والضراب ، ومنابت الشجر من التراب ، فضلاً عن الخدمة والأتراب ، فليس يضيع مع جميل نظرها ، ذو نسب ، ولا يجهل في أيامها السعيدة مقدار منتسب إلى حسب . وإن وقعت هفوة صغيرة ، أعقبتها حسنة كبيرة ، ومنن أثيرة ، ونعم كثيرة . ولم لا ، وروح أمرها ، ومذهب نصرة جمرها ، علم السادة للقادة الأكابر ، المغرم بجبر كل كسير ، وناهيك من به جابر الرازي ، ذكر مآثره ، بعرف أطيب الطيب . الوزير أبو عبد الله بن الخطيب . والمطلوب منه لهذه الشجرة الثرما ، الغريبة الشما ، التي أصلها ثابت ، وفرعها في السماء ، إنما هو يسير بنا ، وظهير اعتنا ، وخنجر يوما ، لعل عباسة أديم دوها أن تذهب . وأكمام كباسة قنوها ، أن تفضض بنعيم النضارة ثم تذهب ، ويعود إليها شرخ شبابها ، وتستحكم صفرة ثيابها ، وخضرة جلبابها ، وذلك كله بمن اللطيف الخبير ، من أسهل العمل على مجد الأمير ، وفضل الوزير ، إذ هما ، دام عزهما ، على بينة من أن الإحسان ألقاح ، والشكر نتاجه ، والثناء إكليل ، وهو في الحقيقة تاجه . قال المسلم ، ومن يا إخوتي لعلي ، بمعارضة الحافظ أبي علي ، ولو أني اشتملت شملة النضر بن شميل ، وأصبحت أفصح من عامل بن الطفيل ، وأخطب من شبيب ، وأشعر من حبيب ، وجزت من طرق الجدال ، منازل نقدة صدور الأبدال . وعلى أنه ما قال إلا حقاً ، فبعداً للمرء وسحقاً . ولكني أقسم عليكم بمقدر الضيا والحلك ، ومسخر نجوم الفلك ، بإصابة الأعراب ، وأصحاب الإغراب ، وأرباب فنون الإعراب ، ألا ما تأملتم فصول هذه المقالة ، وأفتيتم بما يترجح فيها لديكم من نسخ أو فسخ ، أو إجادة أو إقالة ، فأنتم علماء الكلام ، وزعماء كتايب الأقلام ، والمراجعات بين شقاشق الرجال ، شنشنة معروفة ، وطريقة إليها الوجوه في كثير من المخاطبات مصروفة ، لا زلتم مذكورين في أهل البيان ، مشكورين على بذل الفضل مدى الأحيان . والله سبحانه يجعل التوفيق حاديكم ، ونور العلم هاديكم ، ومنه نسل جل اسمه ، التطهير من كل معابة ، والسمح فيما تخلل هذه المقامة من دعابة ، والتحية الكريمة مع السلام الطيب المعاد ، يعتمد من يقف عليها من الآن إلى يوم المعاد ، والرحمات والمسرات والبركات والخيرات ، من كاتبها على بن عبد الله بن الحسن ، أرشده الله .(4/77)
"""""" صفحة رقم 78 """"""
المقريون والعلماء
علي بن أحمد بن خلف بن محمد بن الباذش الأنصاري
من أهل غرناطة ، يكنى أبا الحسن ، الشيخ الأستاذ ، إمام الفريضة بجامع غرناطة .
حاله
من الملاحي ، أوحد زمانه إتقاناً ، ومعرفة ، ومشاركة في العلوم ، وانفراداً بعلم العربية . وكان حسن الحظ ، كثير الكتب ، ترك منها بخطه كثيراً جداً ، مشاركاً في الحديث ، عالماً بأسماء رجاله ونقلته ، مع الدين ، والفضل ، والزهد ، والانقباض عن أهل الدنيا ، وترك الملابسة لهم .
مشيخته
قرأ علي المقري بغرناطة أبي القاسم نعم الخلف بن محمد بن يحيى الأنصاري ، وأبي علي الصدفي ، وغيرهم ممن يطول ذكرهم . وحدث عنه القاضي أبو الفضل عياض بن موسى ، والقاضي أبو محمد بن عطية ، والقاضي أبو عبد الله بن عبد الرحيم ، والقاضي أبو بكر جابر بن يحيى التغلبي ، والقاضي أبو خالد عبد الله بن أبي زمنين ، والقاضي أبو الحسن بن أضحى .
تواليفه
ألف في النحو كتباً كثيرة ، منها على كتاب سيبويه ، وعلى كتاب المقتضب ، وعلى الأصول لابن السراج ، وشرح كتاب الإيضاح ، وكلامه على كتاب الجمل لأبي القاسم ، وكلامه على الكافي لابن النحاس ، مع التنبيه على وهمه في نحو مائة موضع ، إلى غير ذلك .
شعره
قال أبو القاسم ، وله نظم ليس بالكثير . فمن ذلك :
أصبحت تقعد بالهوى وتقوم . . . وبه تقرظ معشراً وتديم
تعنيك نفسك فاشتغل بصلاحها . . . إنني بغير السقام سقيم
وفاته
توفي بغرناطة سنة ثمان وعشرين وخمسماية ، وصلى عليه إثر صلاة العصر ، ابنه الأستاذ أبو جعفر ، ودفن بمقبرة باب إلبيرة ، وازدحم الناس على نعشه ، وكانت جنازته حافلة ، وتفجع الناس على قبره . وقبره مشهور ، يتبرك به الناس .(4/78)
"""""" صفحة رقم 79 """"""
علي بن محمد بن دري
المقري الفقيه ، الخطيب أبو الحسن ، الإمام بجامع غرناطة ، أصله من طليطلة .
حاله كان من خيار الناس وفضلائهم ، وأهل المعرفة منهم ، عارفاً بإقراء كتاب الله عز وجل ، والرواية للحديث . أخذ الناس عنه ، وكانت عنده مشاركة ، ومسارعة لقضاء الحوايج ، والمشي للإصلاح بين الناس ، والإشفاق على المساكين ، كثير الصدقة ، والسعي في فداء الأسرى ، والوسائط الجميلة في مهمات الأمور ومشكلاتها . دخل رجل تاجر غريب الميضأة للوضوء ، فنسي بها وعاء فيه جملة مال ، فتذكر له ، فرجع ولم يجده ، فسقط مغشياً عليه ، فاجتمع عليه الناس ، وهو يقول مالي ، ووافق خروج الأستاذ أبي الحسن المذكور من الجامع ، فسأل عنه ، فجالس أذنه ، فقال مالك عندي وديعة تركته أنت عندي ، وإذا كان بعد صلاة العصر تأخذه . فقام الرجل ، فكأنما نشط من عقال ، ومشى الخطيب في حينه ، إلى مشرف غرناطة ابن مالك ، فقال له ، إني اشتريت لك قصراً في الجنة ، بخمس ماية دنير ، وأنا الضامن لذلك ، فشكره ، وأخبره الخطيب بالقصة ، فدفع إليه المال ، فدفعه إلى الرجل . وكان الناس لا يتوقفون له في أمر .
مشيخته
روى بطليطلة عن أبي عبد الله المقامي ، وعن أبي مسلم الضرير المقري ، والقاضي أبي الوليد الوقشي ، وأخذ عن أبوي على الصدفي والغساني ، وعن أبي مروان بن سراج ، وابنه سراج .
توفي بغرناطة في رممضان ستة عشرين وخمسماية ، وصلى عليه القاضي أبو القاسم بن ورد ، ودفن في مقبرة باب إلبيرة ، وكانت جنازته حافلة ، وتفجع الناس عليه ، وأخلصوا الدعاء له .
وممن رثاه ، أبو عبد الله بن أبي الخصال بقوله :
عتاب وما يغني العتاب على الزمن . . . وشكوة كما تشكو الرياح إلى السفن
وما رضيت بعد الغضارة أيكة . . . نبحت ولكن عالم الكون ممتحن
وماذا عليه والسلامة حظه . . . بأن تتخطاه النوايب والمحن
فليت كريماً ينعش للناس خيره . . . يعمر فيها عمرته الآن أو حضن(4/79)
"""""" صفحة رقم 80 """"""
ولكنه يمضي كظل غمامة . . . ويبقى لسم سره غير مؤتمن
يود الفتى طول البقاء وطوله . . . يورثه ثكل الأحبة والبدن
وأي اغتباط في حياة مرزاً . . . يروح على بث ويغدو على شجن
زيادته تغص وجدته بلى . . . وراحته كرب وهدنته دهن
إذا فوق السهم المصيب فقلبه . . . ومن صار فيه من أحبته فنن
فيا عجباً للمرء يلتذ عيشه . . . لزت مع الموت في قرن
أرى كل حي للمنية حاملاً . . . فيا ويحه مما تحمل واحتضن
إذا زادت الأيام فينا إساءة . . . نزيد على علم بما ساء حسن ظن
ولم أر مثل الموت حقاً كباطل . . . وكل قبالي بالموت مرتهن
أإخوتنا لم تبق إلا تحية . . . أرقد بها تلك المعاهد والدمن
أإخوتنا هل تسمعون تحيتي . . . وذو كلم ما تحجب السر والعلن
أبا الحسن خلد في الجنان منعماً . . . جزاءً بما أسلفت من سعيك الحسن
يطير فؤادي روعة فإذا رأى . . . محياك في دار الغنا والرضا سكن
وقد كنت ترتاد المواطن إذ نبت . . . فبوأك الرحمن فردوسه وطن
وبت معنى بالجلاء فنلته . . . وقد كان حاديه يغرد باظعن
ولم ترض إلا الأرض هجرتك التي . . . تخيرها الأولياء على القنن
وفي مثلها أن الرسول لسعد . . . وقد واراه أكرم مدفن
على أنك المدعو من كل بلدة . . . هلم فإنا دونك الحجب والجنن
سيرضيك من أرضيته في عباده . . . وجاهدت فيه بالفروض وبالسنن
ويبقى كما بقيت بعدك أنه لهم . . . فلما استهوتهم روعة سكن
ويحفظهم حفظ اليتيمين أيدا . . . بوقع جدار قد تداعى وقد وهن
أبا الحسن إن المدى بعد ما بدا . . . طويل ولا يعتد في جنب ما بطن
وأسير وجد في فراقك أنه . . . سيبقى عليك الوجد ما بقي الزمن(4/80)
"""""" صفحة رقم 81 """"""
سقى الله والسقيا بكفيه تربة . . . مباركة ضمتك أسرع ما هتن
ولا برحتها ديمة مستهلة إذا . . . ركضتها الريح قام بها جرن
فلا زلت في روض وروح ورحمة . . . ومقبرة تترى على ذلك الجنن
علي بن عمر بن إبراهيم بن عبد الله الكناني القيجاطي
يكنى أبا الحسن ، أصله من بسطة ، واستوطن غرناطة ، حتى عد من أهلها قراءة وإقراء ولزوماً
حاله
من العايد ، أوحد زمانه علماً وتخلقاً وتواضعاً وتفنناً . ورد على غرناطة مستدعى عام اثني عشر وسبعماية ، وقعد بمسجدها الأعظم يقرى فنوناً من العلم ، من قراءات وفقه وعربية وأدب . وولى الخطابة ، وناب عن بعض القضاة بالحضرة ، مشكور المأخذ ، حسن السيرة ، عظيم النفع . وقصده الناس ، وأخذ عنه البعيد والقريب . وكان أديباً لوذعياً ، فكهاً ، حلواً ، وهو أول أستاذ قرأت عليه القرآن والعربية والأدب ، إثر قراءة الكتب .
مشيخته
قرأ على أبيه ببلده بسطة القرآن ، بالروايات السبع ، وجمعها في ختمة ، وعلى الأستاذ أبي عبد الله بن مساعد الغساني . وقرأ بغرناطة القرآن على الأستاذ أبي عبد الله بن مستقور ، والأستاذ أبي جعفر الطباع ، والأستاذ الشهير أبي الحسن بن الضايع . والأستاذ النحوي أبي الحسن الأبدي . وعلى القاضي أبي عمرو بن الرندي ، والفقيه القاضي أبي علي بن الأحوص ، وعلى الفقيه النسابة أبي جعفر بن مسعدة ، والأستاذ العلامة أبي جعفر بن الزبير . ولقي الشيخ الصالح ولي الله أبا إسحاق بن عبيدس وحضر مجالسه العامة . وذكر أنه كان يفتتح مجلسه الذي يتكلم فيه بقوله : لا حول ولا قوة إلا بالله ، كنز من كنوز الجنة ، رزقنا الله الأدب مع الله ، واستعملنا فيما يرضيه ، ويرضي رسوله ، وجعل حظنا في الدار الآخرة . ولقي الإمام بجامع بسطة الخطيب الرواية أبا الحسن بن نافع وغيرهم ، وله تواليف في(4/81)
"""""" صفحة رقم 82 """"""
فنون ، وشعر ، ونثر ، فمن شعره قوله :
روض المشيب تفتحت أزهاره . . . حتى استبان ثغامه وبهاره
ودجى الشباب قد استبان صباحه . . . وظلامه قد لاح فيه نهاره
فأنى حمام لا يعاف وقوعه . . . ومضى غروب لا نخاف مطاره
والعمر مثل البدر يرمق حسنه . . . حيناً ويعقب بعد ذاك سراره
للإخاء تقلصت أفياؤه . . . ما للصفاء تكدرت آثاره
الحر يصفح إن أخل خليله . . . والبر يسمح أن تجرأ جاره
فتراه يدفع إن تمكن جاهه . . . وتراه يرفع إن علا مقداره
ولأنت تعلم أنني زمن الصبا . . . ما زلت زنداً والحياء سواره
والهجر ما بين الأحبة لم يزل . . . ترك الكلام أو السلام مثاره
ولكم تجافى عن خفاء خليله . . . فطن وقد ظفرت به أظفاره
ولكم أصر على التدابر مدبر . . . أفضى إلى ندم به إصراره
فأقام كالكسعي بان نهاره . . . أو كالفرزدق فارقته نواره
أنكرتم من حق معترف لكم . . . بالحق ما لا ينبغي إنكاره
والشرع قد منع التقاطع نصه . . . قطعاً وقد رودت به أخباره
والسن سن تورع وتبرع . . . وتسرع لتشرح تختاره(4/82)
"""""" صفحة رقم 83 """"""
ما يومنا من أمسنا قطك اتبت . . . ذهب الشباب فكيف يبقى عاره
هلا حظرتم أو حذرتم منه ما . . . حق عليكم حظره وحذاره
عجباً لمن يجري هواه لغاية . . . محدودة أضماره مضماره
يأتي ضحى ما كان يأتيه دجى . . . فكأنه ما شاب منه عذاره
فبعد ما تنعى به حسناته . . . ويعيد ما تبقى به أوزاره
فالنفس قد أجرته مليء عنانه . . . يشتد في مضمارها إحضاره
والمرء من إخوانه في جنة . . . بل جنة تجري بها أنهاره
فاليمن قد مدت إليه يمينه . . . واليسر قد شدت عليه يساره
شعر به أشعرت بالنصح الذي . . . يهديه من أشعاره إشعاره
ولو اختبرتم نقده بمحكة . . . لامتاز بهرجه ولاح نضاره هذا هدى فيه اقتده تنل المنا . . . أو أنت في هذا وما تختاره
وعليكم مني سلام مثل ما . . . أرجت بروض يانع أزهاره
ومن شعره في الرثاء قوله من قصيدة
حمام حمام فوق أيك الأسى تشدو . . . نتهيج من الأشجان ما أوجد الوجد
وذلك شجو في حناجرنا جشى . . . وذلك لهو في ضمايرنا جد
أرى أرجل الأرزاء تشتد نحونا . . . وأيديها تسعى إلينا فتمتد
ونحن أولو سهو عن الأمر ما لنا . . . سوى أمل إيجابنا عنده جحد(4/83)
"""""" صفحة رقم 84 """"""
فإن خطرت للمرء ذكرى بخاطر . . . فتسبيحه الساهي إذا سمع الرعد
مصاب به قدت قلوب وأنفس . . . لدينا إذا في غيره قطعت برد
تلين له الصم الصلاب وتنهمي . . . عيون ويبكي عنده الحجر الصلد
فلا مقلة ترنو ولا أذن تعي . . . ولا راحة تعطو ولا قدم تعدو
وقد كان يبدو الصبر منا تجلداً . . . وهذا مصاب صبرنا فيه لا يبدو
مولده
عام خمسين وستماية .
وفاته
توفي بغرناطة ضحى يوم السبت التاسع والعشرين من شهر ذي حجة من عام ثلاثين وسبعماية ، ودفن في عصر اليوم بعد بجبانة باب إلبيرة . وكان الحفل في جنازته عظيماً ، حضرها السلطان ، واحتمل الطلبة نعشه .
ومن الطارئين
عمر بن عبد المجيد بن عمر الأزدي
المعروف بالرندي ، من أهل رندة يكنى أبا علي .
حاله
كان من جملة المقريين ، جهابذة الأستاذين ، مشاركاً في فنون ، نقاداً ، فاضلاً .
مشيخته
روى عن أبي زيد السهيلي ، وعنه أخذ العربية والأدب ، وبه تفقه ، وإياه اعتمد . وعن أبي محمد القاسم بن دحمان ، وأبي عبد الله بن أبان ، وتلا على هؤلاء القراءات ، بقراءات السبعة . وعن أبي إسحاق بن قرقول ، وأبي عبد الله بن الفخار ، وأبي الحسن صالح بن عبد الملك الأوسي ، وأبي محمد عبد الحق بن بونه . وأبي عبد الله الحميري الإستجي ، وأبي العباس بن اليتيم ، وأبي عبد الله بن مدرك ، وأبي القاسم بن حبيش وأبي عبد الله بن حميد . أخذ عن هؤلاء بمالقة ، من أهلها ، ومن الواردين عليها . ورحل إلى غرناطة ، فأخذ بها عن يزيد بن رفاعة ، وابن كوثر ،(4/84)
"""""" صفحة رقم 85 """"""
وابن عروس ، وأبي محمد عبد المنعم بن عبد الرحيم بن الفرس ، وأبي جعفر بن حكم . وإلى قرطبة ، فأخذ بها عن ابن بشكوال ، وابي القاسم المشراط . وإلى إشبيلية ، فأخذ بها عن أبي بكر بن الجد ، وأبي عبد الله بن رزق ، وابن خير ، وابن صاف . وأخذ بسبتة عن ابن عبيد الله . وبالجزيرة الخضراء عن القاضي أبي جعفر بن عزرة . هؤلاء جملة من أخذ عنهم باللقاء والمشافهة . وأجازه جمغاعة من أهل المشرق كبيرة ، ذكرهم في برنامجه ، كالخشوعي ، والأرحي ، والحرشاني ، وحدث عن السلفي الحافظ بإجازته العامة .
تواليفه
شرح جمل أبي القاسم الزجاجي ، ورد على ابن خروف ، منتصراً بشيخه أبي زيد السهيلي في مسئلة نحوية ، رد فيها ابن خروف على السهيلي وقيد فيما جرى بينه وبين الأستاذ أبي محمد القرطبي ، جزءاً سماه بالحقبى في أغاليط القرطبي ، لم يخل فيه عم حمل وتعسف . وألف برنامجاً جامعاً . روي عنه أبو عبد الله بن تسكر القاضي ، والشيخ أبو عبد الله بن عبيد الأوسي ، وأبو عبد الله الطنجالي ، والخطيب ابن أبي ريحانة .
مولده
سنة سبع وأربعين وخمسماية .
وفاته
توفي سحر يوم الجمعة الموفى عشرين لشهر ربيع الثاني سنة عشر وستماية .
عثمان بن سعيد
بن عثمن بن سعيد الأموي
المقري ، الحافظ المعروف بابن الصيرفي ، قرطبي الأصل ، يكنى أبا عمرو ، ويشتهر بالداني ، لاستيطانه دانية . ودخل إلبيرة ، وقرأ على أبي عبد الله بن أبي زمنين ، فوجب ذكره لذلك .(4/85)
"""""" صفحة رقم 86 """"""
حاله
كان أحد الأيمة الأعلام في علم القرآن ، وآياته ، وتفسيره ، ومعانيه وإعرابه ، وجمع في ذلك كله التواليف العجيبة التي يكثر تعدادها ، ويطول إيرادها ، وله معرفة بالحديث وطرقه ، وأسماء رجاله ونقلته ، وكان حسن الخط ، جيد الضبط ، آية في الحفظ والعلم ، والذكاء والفهم ديناً عارفاً ، ورعا سنياً ، قال المغلي ، وكان أبو عمرو مجاب الدعوة . وذكره الحميدي فقال محدث مكثر ، مقرئ متقدم .
مشيخته روي عن أبي المطرف عبد الرحمن بن عثمن القشيري بقرطبة ، وعن أبي بكر حاتم بن عبد الله البزاز ، وأبي عبد الله محمد بن خليفة ، وأحمد ابن فتح بن الرهان ، وأبي بكر بن خليل ، ويونس بن عبد الله القاضي . وخلف بن يحيى ، وغيرهم . وبإلبيرة عن محمد بن أبي زمنين كثيراً من رواياته وتواليفه . وسمع بإستجة ، وبجانة وسرقسطة من بلاد الثغر . ورحل إلى المشرق ، فلقي أبيا الحسن بن أحمد بن مراس العنقي . وسمع بمصر من أبي محمد بن النحاس ، وأبي القاسم بن ميسر ، وخلف بن إبراهيم ابن خاقان ، وفارس بن أحمد ، وطاهر بن عبد المنعم ، وبالقيروان من أبي الحسن القانسي . وقدم الأندلس فاستوطن دانية .
شعره
قال أبو القاسم بن بشكوال . ومما يذكر من شعره قوله :
قد قلت إذ ذكروا حال الزمان وما . . . يجر على كل من يعزى إلى الأدب(4/86)
"""""" صفحة رقم 87 """"""
لا شيء أبلغ من ذل تجرعه . . . أهل الخساسة أهل الدين والحسب
القايمين بما جاء الرسول به . . . والمبغضين لأهل الزيغ والريب
مولده
قال أبو عمرو ، سمعت والدي يقول إني ولدت سنة إحدى وسبعين وثلاثماية ، وابتدأ طلب العلم بعد خمس وثمانين .
وفاته
من خط أبي الحسن المقري ، يوم الاثنين منتصف شوال سنة أربع وأربعين وأربعمائة بدانية ، ودفن عصر اليوم المذكور ببقيعها . ومشى السلطان راجلاً أمام نعشه .
علي بن أحمد بن حزم
بن غالب بن صالح بن خلف بن معدان بن سفيان بن يزيد
الإمام أبو محمد بن حزم .
أوليته
أصله من الفرس ، وجده الأقصى في الإسلام اسمه يزيد ، مولى ليزيد بن أبي سفيان . قال أبو مروان ابن حيان ، وقد كان من عجايبه ، انتماؤه في فارس ، وأتباع أهل بيته له في ذلك حقبة من الدهر ، تولى فيها الوزير ، المفضل في زمانه ، الراجح في ميزانه ، أحمد بن سعيد ابن حزم ، لبني أمية أولياء نعمته ، لا عن صحة ولاية لهم عليه ، فقد عهده الناس مولد الأرومة من عجم لبلة ، جده الأدنى ، حديث عهد بالإسلام ، لم يتقدم لسلفه نباهة . فأبوه أحمد ، على الحقيقة ، هو الذي بنى بيت نفسه في آخر الدهر ، برأس رايته ، وعمره بالخلال الفاضلة ، من الرجاجة والدهاء والمعرفة والرجولة والرأي ، فأسدى جرثومة شرف لمن نماهم ، أغنتهم عن الرسوخ في أولى السابقة ، فما من شرف إلا مسبوق عن خارجته ، ولم(4/87)
"""""" صفحة رقم 88 """"""
يكن إلا كلا ولا ، حتى تخطى على هذا أوليته لبلة . فارتقى قلعة إصطخر من أرض فارس . فالله أعلم كيف ترقاها ، إذ لم يكن يؤتى من خطل ولا جهالة ، بل وصله بها وسع علم ، ووشجة رحم معقومة ، فلها يستأخر الصلة ، فتناهت حاله مع فقهاء عصره إلى ما وصف ، وحسابه وحسابهم على الله ، الذي لا يظلم الناس مثقال ذرة . عزت قدرته .
حاله
قال الحميدي ، كان حافظاً ، عالماً بعلوم الحديث وفقهه ، مستنبطاً للأحكام من الكتاب والسنة ، متفنناً في علوم جمة ، عاملاً بعلمه ، زاهداً في الدنيا ، بعد الرياسة التي كانت له ، ولأبيه من قبله ، في الإدارة وتدبير الممالك ، متواضعاً ، ذا فضايل جمة ، قال ، وما رأينا مثله ، فيما اجتمع له . مع الذكاء وسرعة الحفظ ، وكرم النفس والتدين . قال أبو مروان ابن حيان ، كان أبو محمد حامل فنون ، من حديث وفقه ونسب ، مع المشاركة في كثير من أنواع التعاليم القديمة . وله في ذلك عدة تواليف .
وقد مال أولاً به النظر في الفقه إلى رأي أبي عبد الله الشافعي ، وناضل عن مذاهبه ، وانحرف عن مذهب غيره ، حتى وسم به ، واستهدف بذلك إلى كثير من الفقهاء ، وعيب بالشذوذ . ثم عدل في الآخر إلى قول أصحاب الظاهر ، مذهب داود بن علي ، ومن تبعه من فقهاء الأمصار ، فنقحه ونهجه ، وجادل عنه ، ووضع الكتب في بسطه ، وثبت عليه إلى أن مضى بسبيله . وكان يحمل علمه ، ويجادل عنه لمن خالفه فيه ، على استرسال في طباعه ، واستناد إلى العهد أخذه الله على العلماء من عباده ، ليبينه للناس ، ولا يكتمونه ، فآل أمره إلى ما عرف .
مشيخته
قال ، سمع سماعاً جماً ، وأول سماعه من أبي عمر أحمد بن محمد بن الجسور قبل الأربع ماية .
تواليفه قال ، بلغت تواليفه أربع مائة مجلد . وقال ، حمل بعير . فمنها في علم الحديث كتاب كبير سماه الإيصال في فهم الخصال ، الجامعة لجمل شرائع الإسلام ، في الواجب والحلال والحرام ، وساير الأحكام ، على ما أوجبه القرآن والسنة والإجماع . أورد فيه أقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أيمة المسلمين ،(4/88)
"""""" صفحة رقم 89 """"""
وبيان ذلك كله ، وتحقيق القول فيه . وله كتاب الإحكام لأصول الأحكام في غاية التقصي وإيراد الحجاج . وكتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل . وكتاب الإجماع ومسائله على أبواب الفقه . وكتاب المجلى والمحلى وكتاب في مراتب العلوم وكيفية طلبها وتعلق بعضها ببعض . وكتاب إظهار تبديل اليهود والنصارى للتوراة والإنجيل وبيان تناقض ما بأيديهم من ذلك مما لا يحتمل التأويل . وهذا مما سبق إليه ، وكتاب التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية . والأمثلة الفقهية . فإنه سلك في بيانه ، وإزالة سوء الظن عنه ، وتكذيب المنحرفين به ، طريقة لم يسلكها أحد قبله فيما علمنا .
شعره
قال ، وكان له في الأدب والشعر نفسٌ واسع ، وباع طويل . وما رأيت من يقول الشعر على البديهة أسرع منه . وشعره كثير ، وقد جمع على حروف المعجم . ومنه قوله :
هل الدهر إلا ما عرفنا وأدركنا . . . فجائعه تبقى ولذاته تفنى
إذا أمكنت فيه مسرة ساعة . . . تولت كمر الطرف واستخلفت حزنا
إلى تبعات في الحساب وموقف . . . نود لديه أننا لم نكن كنا
حصلنا على هم وإثم وحسرة . . . وفات الذي كنا نلذ به عنا
حنين لما ولى وشغل لما أتى . . . وغم لما يرجى فعيشك لا يهنا
كان الذي كنا نسر بكونه . . . إذا حققته النفس لفظٌ بلا معنى
ومن ذلك قوله من قصيدة في الفخر :
أنا الشمس في جو العلوم منيرة . . . ولكن عيبي أن مطلعي الغرب(4/89)
"""""" صفحة رقم 90 """"""
ولو أنني من جانب الشرق طالعٌ . . . لجد على ما ضاع من ذكري النهب
ولي نحو أكناف العراق صبابة . . . ولا غرو أن يستوحش الكلف الصب
فإن ينزل الرحمن رحلي بينهم . . . فحينئذ يبدو التأسف والكرب
فكم قائل أغفلته وهو حاضر . . . وأطلب ما عنه تجيء به الكتب
هنالك يدري أن للبعد قصة . . . وأنه كساد العلم آفته القرب
ومنها في الاعتذار عن المدح لنفسه :
ولكن لي في يوسف خير أسوة . . . وليس على من سار سيرته ذنب
يقول وقال والصدق أنني . . . حفيظٌ عليمٌ ما على صادق عتب
ومن شعره قوله فيما كان يعتقده من المذهب الظاهري :
وذي عذل فيمن سباني حسنه . . . يطيل ملامي في الهوى ويقول
أفي حسن وجه لاح لم تر غيره . . . ولم تدر كيف الجسم أنت قتيل
فقلت له أسرفت في اللوم ظالماً . . . وعندي ردٌ لو أردت طويل
ألم تر ظاهري وأنني . . . على ما بدا حتى يقوم دليل
ومن ذلك قوله :
أين وحه قول الحق في نفس سامع . . . ودعه فنور الحق يسري ويشرق
سيؤنسه رفقاً فينسى نفاره . . . كما نسي القيد الموثق مطلق(4/90)
"""""" صفحة رقم 91 """"""
ومن ذلك قوله :
لئن أصبحت مرتحلاً بشخصي . . . فروحي عندكم أبداً مقيم
ولكن للعيان لطيف معنله طلبله طلب المعاينة الكليم
وفي المعنى :
يقول أخي شجاك رحيل جسم . . . وروحك ماله عنا رحيل
فقلت له المعاين مطمئن . . . لذا طلب المعاينة الخليل
دخوله غرناطة
وصل في جملة الإمام المرتضى . ولما جرت عليه الهزيمة واستولى باديس الأمير بغرناطة على محلته ، كان أبو محمد من عداد أسراه مع مثله ، إلى أن أطلقه بعد لأي ، وخلصه الله منه .
محنته قال ابن حيان ، استهدف إلى فقهاء وقته ، فتألبوا على بغضه ، ورد قوله ، وأجمعوا على تضليله ، وشنعوا عليه ، وحذروا سلاطينهم من فتنته ، ونهوا أعوامهم عن الدنو إليه ، والأخذ عنه ، فطفق الملوك يقصونه على قربهم ، ويسيرونه عن بلادهم ، إلى أن انتهوا به ، منقطع أثره بتربة بلده من بادية لبلة ، وبها توفي غير راجع إلى ما أرادوا ، به يبث علمه فيمن ينتابه بباديته من عامة المقتبسين منه من أصاغر الطلبة ، الذين لا يحسون فيه الملامة بحداثتهم ، ويفقههم ويدرسهم ، ولا يدع المثابرة على العلم ، والمواظبة على التأليف ، والإكثار من التصنيف ، حتى كمل من مصنفاته في فنون العلم وقر بعير ، حتى لأحرق بعضها بإشبيلية ، وفي ذلك يقول :
فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا . . . الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركايبي . . . وينزل إن أنزل ويدفن في قبري(4/91)
"""""" صفحة رقم 92 """"""
مولده
سنة أربع وثمانين وثلاثمائة بقرطبة .
وفاته
توفي سنة ست وخمسين وأربعماية
علي بن إبراهيم بن علي الأنصاري المالقي
يكنى أبا الحسن ، صاحبنا حفظه الله .
حاله
آية الله في الحفظ ، وثقوب الذهن ، والنجابة في الفنون ، وفصاحة الإلقاء ، خريج طبعه ، وتلميذ نفسه ، ومبرز اجتهاده . إمام في العربية ، لا يشق فيها غباره ، حفظاً وبحثاً ، وتوجيهاً واطلاعاً ، وعثوراً على سقطات الأعلام ، ذاكر للغات والآداب ، قايم على التفسير ، مقصود للفتيا ، عاقد للوثيقة ، مشارك في الفنون ، ينظم وينثر ، فلا يعدو الإجادة والسداد ، سليم الصدر ، أبي النفس ، كثير المشاركة ، مجدي الصحبة ، بعيد عن التسمت . رحل عن بلده مالقة ، بعد التبريز في العدالة والشهرة بالطلب ، واستقر بالمغرب ، فاقرأ بمدينة أنفا ، منوهاً به ، ثم بسلا ، واستوطن بها ، رئيس المدرسة بها ، مجمهراً بكرسيها ، فارعاً بمنبرها ، بالواردة السلطانية ، يفسر كتاب الله بين العشاءين ، شرحاً كثير العيون ، محذوف الفضول ، بالغاً أقصى مبالغ الفصاحة ، مسمعاً على المحال النابية ، ويدرس من الغدوات بالمدرسة ، دولاً في العربية والفقه ، أخذه بزمام النبل ، مترامية إلى أقصى حدود الاضطلاع . وحضر المناظرة ، بين يدي السلطان ، فاستأثر بشقصٍ من رعيه ، وأعجب بقوة جأشه ، وأصالة حفظه ، فأنمى جراياته ، ونوه به .
مشيخته
قرأ ببلده على الأستاذين ، علمي القطر ، القاضي العالم أبي عبد الله إبن تبر ، والقاضي النظار أبي عمرو بن منظور . وتلا القرآن على المقري أبي محمد بن أيوب . وذاكر بغرناطة إمام العربية أبا عبد الله بن الفخار ، وربيس الكتاب ، شيخنا أبا الحسن بن الجياب . وبالمغرب كثيراً من أعلامه ، كالرئيس أبي محمد الحضرمي ، والقاضي أبي عبد الله المقري وغيرهم . وهو الآن بحاله الموصوفة قاضياً بشرقي مالقة ، وأستاذاً بها متكلماً ، معجزٌ من مفاخر قطره .(4/92)
"""""" صفحة رقم 93 """"""
شعره
مما يؤثر من شعره منقولاً من خط صاحبنا أبي الحسن بن الحسن :
رحماك رحماك في قلب يقلبه . . . شوقٌ يكاد بلفح الوجد يذهبه
هام الفؤاد بمعنىً للجمال بدا . . . عليك في السر للأرواح أعجبه
ولاح منك لذي الإشراف جوهرة . . . ألاحت الحسن عما كان يحجبه
فلو هم الصحب أن الروح تيمها . . . ماضي الجفون برود الثغر أشنبه
يظل معتقلاً من خوط قامته . . . بأسمر غالني منه مؤربه
وذي فرند يدب الموت في شطب . . . منه ويوحش في جنح تلهبه
يخاله ذو الصدا ماء فيبصره . . . يود في الحال أن لو كان يشربه
بالهند وانى والذي ند توشجه . . . وبالصبابة والأرواح ملعبه
كساه سر الجمال المحض حلته . . . إذ جاده من نكوب الجود صيبه
وقام يرفل فيها وهي ضافية . . . فأقبلت نحوه الأرواح تطلبه
هيهات من دونه باب بظاهره . . . يجر الفنا وجند الروح يرهبه
فمرنا والموت فيه عين عيشته . . . فأوج مرقي حياة الروح مرقبه
نبدت لوايحه من بحر جوهره . . . برقاً يغير على الغيران خلبه
وتستعير له روحاً مظاهره . . . سر الجمال بها يبدو تحجبه بدرٌ وفي أفق الأرواح مطلعه . . . مهما أفاقت وإلا فهي مغربه
بخاطره منه سر لا يفارقه . . . وإن غدا بغرام الشوق يلهبه
لي هواه والبعد ينهاني ويصدقني . . . في نصحه وصريح الوجد يكذبه
سر الغرام غريب ليس يعلمه . . . إلا الذي قد غدا يرضيه مغضبه
وللصبابة أقوام وموردهم بها . . . من الأنس أحلاه وأعذبه
وليس يعرف هذا حق معرفة . . . إلا الذي قد تجلى عنه غيهبه
وأبصر الحسن قد لاحت لاوايحه . . . وغرٌّ مستبشر الأضواء كوكبه
بذات أهيف من سر الحياة . . . طرسٌ يغالبه طوراً فيغلبه(4/93)
"""""" صفحة رقم 94 """"""
وفي لجين الجمال المحض قد فعلت . . . فعلاً يرد لها في الحكم مذهبه
أروم إعجامه هوناً وتطمعني . . . فيه النفاسة والأنفاس تعرفه
فم لمثلي بكتمانٍ ومن نفسي . . . أخو بيان مع الساعات يسهبه
لبانة السر أن تحظى بمرقبة . . . إلى سبيل من الزلفى تقربه
تسمو على منكب الجوزاء ذروتها . . . عن رقة بشهود الفرق تسلبه
وفي مصافات سر القبض يبسطه . . . لدى الوجود الذي قد عز مطلبه
فيرتقي في مراقي الجمع مختطفاً . . . إلى السقام الذي عند بغيته
فذاك أعظم ما يرجوه أن سبقت . . . عنا يدٌ نحو باب العز تجذبه
ومن منظومه في النسيب قوله :
لمحمد البرقاء حسن باهر . . . كل الورى حلف الصبابة فيه
السحر مفتون بغنج لحاظه . . . والشهد ممزوج بريقه فيه
فسحره أضنى المتيم في الهوى . . . حتى يكاد سقامه يخفيه
ولو أنه بالشهد جاد ورشفه . . . لصد لكان من الصدا يشفيه
بصدوده قلبي يقطع في الهوى . . . يا ليته بوصاله رافيه
وصدر كتاباً بقوله يخاطبني :
أنسياناً فديتك يا حياتي . . . لمن لم ينبيك حبك للممات
ورجماً بالظنون أخا حنين . . . إليك رهين شوق وانبتات
يميناً بالنهار إذا تجلى . . . وبالقمر المنير وبالآيات
لقد أحللت حبك من فؤادي . . . محل الروح من بث الجهات
وشعره بديع ، وإدراكه عجيب ، وعارضته قوية .(4/94)
"""""" صفحة رقم 95 """"""
علي بن محمد بن علي بن يوسف الكتامي
يكنى أبا الحسن ، ويعرف بابن الضايع : من أهل إشبيلية .
حاله
قال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير ، بلغ الغاية في الفن النحوي ، وفاق أصحاب الأستاذ أبي علي الشلوبين بأسرهم ، وله في مشكلات الكتاب العجايب . وقرأ ببلده أيضاً علم الكلام ، وأصول الفقه ، وكان متقدماً في هذه العلوم الثلاثة ، متصرفاً فيها . وأما فن العربية ، وعلم الكلام ، فلم يكن في وقته من يقاربه في هذين العلمين . وأما فهمه وتصرفه في كتاب سيبويه ، فما أراه يسبقه في ذلك أحد . وله إملاءٌ على طايفة كبيرة من إيضاح الفارسي . وكان له اعتناءٌ كبير بكلام الفارسي على الجملة ، وبحسب ذلك استقضى اعتراضات أبي الحسين بن الطراوة على أبي علي بالرد ، واستوفى ما وقع له في ذلك ، حتى لم يبق بيده شيء على طريقة من الإنصاف ، ودليل الهدى . لم يسبق إليها . وكذا فعل في رد أبي محمد بن السيد ، علي أبي القاسم الزجاجي . وكذا فعل في اعتراضات أبي الحسين بن الطراوة على كتاب سيبويه . وكان بالجملة إماماً في هذا كله لا يجارى . وأما اختيارات أبي الحسن بن عصفور في مغربه وغير ذلك من تعاليقه ، وما قيد في ذلك ، فرد عليه معظمها أو أكثرها . ولم يلق بالأندلس والعدوة ، ولا سمعنا بأنبه منه ، ممن وقفنا على كلامه أو شاهدناه ، ولا رأيت مختلفاً عليه من أهل بلده من أترابه ، ومن فوقهم . وكان إذا أخذ في فن أتى بعجايب . قال الأستاذ ، لازمته ، وأخذت عليه كتاب سيبويه في عدة سنين ، وأكثر كتاب الإيضاح ، وجمل الزجاجي . إلى غير ذلك ، وجميع التلقيحات للسهر وردي . وطايفة كبيرة من إرشاد أبي المعالي ، ومن كتاب الأربعين لابن الخطيب ، وغير ذلك .
مشيخته أجاز له من أهل بلده الرواية المسن ، أبو الحسن بن السراج ، والقاضي أبو الخطاب بن خليل . ومن غيرهم ، القاضي أبو بكر بن محرز ، والمقري المعمر أبو بكر الشماتي المعروف بالشريشي ، وأبو عبد الله الأزدي ، وأبو عبد الله بن جوبر وآخرين . وقرأ ببلده . ولازم الأستاذ أبا علي الشلوبين ، حتى كمل عليه إيضاح(4/95)
"""""" صفحة رقم 96 """"""
الفارسي ، وكتاب سيبويه . وسمع جمل الزجاجي وغير ذلك من كتب العربية ، ممن كان يقرأ في المجلس ، وقرأ عليه طائفة كبيرة من تذكرة الفارسي ، مما يتعلق بمسائل الكتاب ، بعد أن جردها من التذكرة . وبلغ الغاية في الفن النحوي ، وفاق أصحاب أبي علي بأسرهم .
وفاته
توفي رحمه الله ، في شهر ربيع الآخر من سنة ثمانين وستماية ، وقد قارب التسعين . قلت العجب من الشيخ الخطيب رحمه الله ، كيف لا يذكر للمترجم به رحمه الله ، شرحه لجمل الزجاجي ، بل شرحه الصغير والكبير . ولم يكن اليوم على الزجاجي أجدى منها ، ولا أنفع ، ولا أقل فضولاً ، ولا أفصح عبارة ، ولا أوجز خطابة ، ولا أجمل إنصافاً ، ولا أجود نظراً
الكتاب والشعراء وأولا الأصليون منهم
علي بن محمد بن عبد الحق
بن الصباغ العقيلي
يكنى أبا الحسن من أهل غرناطة .
حاله
صاحبنا أبو الحسن ، من أهل الفضل والسراوة والرجولة والجزالة . فذ في الكفاية ، ظاهر السذاجة والسلامة ، مصعب لأضدده ، شديد العصبة لأولي وده ، في أخلاقه حدة ، وفي لسانه نبلى أخلابه ، مشتملٌ على خلال من خط بارع ، وكتابة حسنة ، وشعر جيد ، ومشاركة في فقه وأدب ووثيقة ، ومحاضرة ممتعة . ناب عن بعض القضاة ، وكتب الشروط ، وارتسم في ديوان الجند ، وكتب عن شيخ الغزاة أبي زكريا بن عمر على عهده . ثم انصرف إلى العدوة سابع عشر جمادى الأولى من عام ثلاث وخمسين وسبعماية ، فارتسم في الكتابة السلطانية منوهاً به ، مستعملاً في خدم مجدية ، بان غناؤه فيها ، وظهرت كفايته .(4/96)
"""""" صفحة رقم 97 """"""
وجرى ذكره في كتاب التاج بما نصه : اللسن العارف ، والناقد لجواهر المعاني ، كما يفعل بالسكة الصيارف ، الأديب المجيد ، الذي تملى به العصر والنحر والجيد ، إن أجال جياد براعته ، فضح فرسان المهارق ، وأخجل بين بياض طرسه ، وسواد نفسه الطور تحت المفارق . وإن جلى أبكار أفكاره وأثار طير البيازين أوكاره ، سلب الرحيق المفدم فضل أبكاره ، إلى نفس لا يفارقها ظرف ، وهمة لا يرتد إليها طرف ، وإباية لا يفل لها غرب ولا حرف . وله أدب غض ، زهره عن مجتنيه مرفض . كتبت إليه أنتجز وعده في الالتحاف برايقه ، والإمتاع بزهر هواتفه ، وهو قولي :
عندي لموعدك افتقارٌ مجوج . . . وعهودك افتقرت إلى إنجازها
والله يعلم فيك صدق مودتي . . . وحقيقة الأشياء غير مجازها
فأجابني بقوله :
يا مهدي الدر الثمين منظماً . . . كلما حلال السحر في إيجازها
أدركت حلبات الأوايل وانياً . . . ورددت أولاها على أعجازها
أحرزت في المضمار خصل سباقها . . . ولأنت أسبقهم إلى إحرازها
حليت بالسمطين مني عاطلاً . . . وبعثت من فكري متات مفازها
فلأنجزن مواعدي مستعطفاً . . . فاسمح وبالإغضاء منك مجازها
ومن مقطوعاته قوله :
ليت شعري والهوى أمل . . . وأماني الصب لا تقف(4/97)
"""""" صفحة رقم 98 """"""
هل لذاك الوصل مرتجع . . . أو لهذا البحر منصرف
ومن ذلك :
وظبي سبا بالطرف والعطف والجيد . . . وما حاز من غنج ولين ومن غيد
أتيت إليه بالدنو مداعباً . . . فقال أيدنو الظبي من غابة الأسد
وقال من مبدإ قصيدة مطولة فيما يظهر منها :
حديث المغاني بعدهن شجون . . . وأوجه أيام التباعد جون
لحا الله أيام الفراق فكم شجت . . . وغادرت الجذلان وهو حزين
وحيا دياراً في ربى إغرناطة . . . وإني بذاك القرب فيه ضنين
ليالي أنفقت الشباب مطاوعاً . . . وعمري لدى البيض الحسان ثمين
فأرخصت فيها من شبابي ما غلا . . . وغرمي على مال العفاف أمين
خليلي لا أمر بأربعها قفا . . . فعندي إلى تلك الربوع حنين
ألم ترياني كلما ذر شارق . . . تضاعف عندي عبرة وأنين إذا لم يساعدني أخٌ منكما فلا . . . حدت نحو قرن بعد ذاك أمون
أليس عجيباً في البرية من لنا . . . إلى عهد إخوان للزمان ركون
فلما تثغن من ذرى وفاء بعهده . . . فقد أجن السلسال وهو معين
أذلني عذر في فراق ضلوعه . . . وللدمع في ترك الشئون شئون
ومن ترك الحزم المعين فإنه . . . لعانٍ بأيدي الحادثات رهين
رعى الله أيامي الوثيق ذمامها . . . فإن مكاني في الوفاء مكين(4/98)
"""""" صفحة رقم 99 """"""
ولم أر مثل الدهر أما عدوه . . . فخب وأما خله فخئون
ولولا أبو عمرو وجود يمينه . . . لما كان في عهد الزمان معين
ومن شعره قوله :
زار الخيال ويا لها من لذة . . . لكن لذات الخيال منام
ما زلت ألثم مبسماً منظومه . . . در ومورده الشهي مدام
وأضم غصن البان من أعطافه . . . فأشم مسكاً فض عنه ختام
مولده
عام ستة وسبعماية .
وفاته
وتوفي بمدينة فاس ، وقد تخلفه السلطان كاتب ولده ، عند وجهته إلى إفريقية ، في شوال عام ثمانية وخمسين وسبعماية ، فتوفي في العشرين لرمضان منه .
علي بن محمد بن سليمان بن علي بن سليمان بن حسن الأنصاري
من أهل غرناطة ، يكنى أبا الحسن ، ويعرف بابن الجياب ، شيخنا ورئيسنا العلامة البليغ .
حاله
من عايد الصلة : كان رحمه الله ، على ما كان عليه من التفنن ، والإمامة في البلاغة ، والأخذ بأطراف الطلب ، والاستيلاء على غاية الأدب ، صاحب مجاهدة ، وملازمة عبادة ، على طريقة مثلى من الانقباض والنزاهة ، وإيثار التقشف ، محباً في أهل الخير والصلاح ، منحاشاً إليهم ، منافراً عن أضدادهم ، شيخ طلبة الأندلس ، رواية وتحقيقاً ، ومشاركة في كثير من العلوم ، قايماً على العربية واللغة ، إماماً في الفرايض والحساب ، عارفاً بالقراءات والحديث ، متبحراً في الأدب والتاريخ ، مشاركاً في علم التصوف ، فذاً في المسايل الأدبية البيانية ، حامل راية المنظوم والمنثور ، والإكثار من ذلك ، والاقتدار عليه ، جلداً على الخدمة ، مغتبطاً بالولاية ، محافظاً على الرتبة ، مراقباً(4/99)
"""""" صفحة رقم 100 """"""
لوظايف الأبواب السلطانية ، متوقد الذهن ، ذلق الجوانب ، مشغوفاً بالأنس والمفاوضة في الأدب ، محسناً للنادرة الظريفة ، مليح الدعابة ، غزير الحفظ ، غيوراً على الخطة ، كثير النشاط إلى المذاكرة ، مع استغراق الكلف ، وعلو السن . طال به المرض حتى أذهب جواهر بدنه ، وعلى ذلك فما اختل تميزه ، ولا تغير إدراكه . بعثت إليه باكور رمان ، فقال لي من الغد ، نعم بالهدنة زمانك ، يعني نعمت الهدية رمانك . فعجب الناس من اجتماع نفسه ، وحضور فكره . وهو شيخي الذي نشأت بين يديه وتأدبت به ، وورثت خطته عن رضى منه . كتب عن الدول النصرية نحواً من خمسين سنة أو ما ينيف عليها ، متين الجاه ، رفيع المكانة ، بعيد الصيت ، وسفر إلى الملوك ، واشتهر بالخير ، والحمل على أهل الظلم ، وجرى ذكره في التاج بما نصه : صدر الصدور الجلة ، وعلم أعلام هذه الملة ، وشيخ الكتابة وبنيها وهاصر أفنان البدايع وجانيها ، اعتمدته الرياسة ، فنأى بها على حبل ذراعه ، واستعانت به السياسة فدارت أفلاكها على قطب من شباة يراعه . فتفيأ للعناية ظلاً ظليلاً ، وتعاقبت الدول ، فلم تر به بديلاً ، من ندب على علوه متواضع ، وحبر لثدي المعارف راضع ، لا تمر مذاكرة في فن إلا وله فيه التبريز ، ولا تعرض جواهر الكلام على محاكاة الأفهام ، إلا وكلامه الإبريز ، حتى أصبح الدهر راوياً لإحسانه وناطقاً بلسانه ، وغرب ذكره وشرق ، فأشام وأعرق وتجاوز البحر الأخضر والخليج الأزرق ، إلى نفس هذبت الآداب شمايلها ، وجادت الرياض خمايلها ، ومراقبة لربه ، واستباق لروح الله من مهبه . ودين لا يعجم عوده . ولا تخلف وعوده . وكل ما ظهر علينا بنيه من شارة تجلى بها العين ،(4/100)
"""""" صفحة رقم 101 """"""
أو إشارة كما سبك اللجين ، فهي إليه منسوبة ، وفي حسناته محسوبة ، فإنما هي أنفس راضها بآدابه ، وأعلقها بأهدابه ، وهذب طباعها ، كالشمس تلقي على النجوم شعاعها ، والصور الجميلة تترك في الأجسام الصقيلة انطباعها وما عسى أن أقول في إمام الأيمة ، ونور الدياجي المدلهمة ، والمثل الساير في بعد الصيت ، وعلو الهمة .
مشيخته نقلت من خطه ، في بعض ما كتب به إلى من الأشياخ الذين ليقتهم وأجازوني عامة . الشيخ الفقيه الخطيب الصالح الصوفي المحقق صاحب الكرامات والمقامات ، نسيح وحده ، أبو الحسن فضل بن محمد بن علي ابن فضيلة المعافري . قرأت عليه كذا . ومنهم الشيخ الفقيه الأستاذ العالم العلم الكبير ، خاتمة المسندين بالمغرب ، أبو جعفر أحمد بن إبراهيم ابن الزبير الثقفي ، نشأت بين يديه ، وقرأت عليه كثيراً وسمعت ، وأجازني . ومنهم الشيخ الفقيه الخطيب الأستاذ أبو الحسن علي بن أحمد ابن محمد بن أحمد بن محمد الخشني البلوطي . قرأت عليه القرآن العزيز بالقراءات السبع وغير ذلك . ومنهم الشيخ الفقيه الصالح أبو عبد الله محمد بن عياش الخزرجي القرطبي ، لقيته بمالقة . ومنهم الشيخ أبو محمد عبد الله بن علي الغساني السعدي الخطيب الصالح ، قرأت عليه وسمعت . ومنهم الشيخ العدل أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن أحمد بن مستقور الطائي . ومنهم قاضي الجماعة الشيخ الفقيه أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن سعيد العنسي ، ومنهم الشيخ الفقيه الخطيب المحدث الإمام أبو عبد الله محمد ابن عمر بن رشيد . ومنهم الشيخ الخطيب أبو جعفر أحمد بن علي الأنصاري الكحيلي . ومنهم الشيخ الخطيب الأستاذ الصالح أبو محمد عبد الواحد ابن محمد بن أبي السداد الأموي الباهلي . ومنهم الشيخ الوزير الحسيب أبو عبد الله محمد بن يحيى بن ربيع الأشعري ، والشيخ الخطيب الأستاذ النظار أبو القاسم بن الشاط ، والشيخ الفقيه أبو عبد الله محمد بن مالك بن المرحل والشيخ المبارك أبو محمد عبد المولى بن عبد المولى الخولاني . هؤلاء كلهم لقيتهم ، وأجازوني إجازة عامة ، وأما من أجازني ولم ألقه ، فعالم كثير من أهل المغرب والمشرق ، منهم أبو العباس بن الغماز قاضي الجماعة بتونس ، وأبو عبد الله بن صالح الكناني خليب بجاية ، والشريف أبو علي الحسن بن طاهر بن أبي الشرف بن رفيع الحسني ، وأبو فارس عبد العزيز الهواري ، وأبو محمد بن هرون القرطبي ، وأبو علي ناصر الدين المشدالي ، وغيرهم .(4/101)
"""""" صفحة رقم 102 """"""
شعره
وشعره كثير مدون ، جمعته ودونته ، يشتمل على الأغراض المتعددة من المعشرات النبويات ، والقصائد السلطانيات ، والإخوانيات ، والمقطوعات الأدبيات ، والألغاز والأحجيات .
فمن ذلك من المعشرات في حرف الجيم على وجه التبرك :
جريئاً على الزلات غير مفكر . . . جباناً على الطاعات غير معرج
جمعت لما يفنى اغتراراً بجمعه . . . وضيعت ما يبقى سجية أهوج
جنوناً بدار لا يدوم سرورها . . . فدعها سدىً ليست بعشك فادرج
جيادك في شأو الضلال سوابقٌ . . . تفوت مدىً بين الوجيه وأعوج
جهلت سبيل الرشد فاقصد دليله . . . تجد دار سعد بابها غير مرتج
جناب رسول ساد أولاد آدم . . . وقرب في السبع الطباق بمعرج
جمالٌ أنار الأرض شرقاً ومغرباً . . . فكل سنىً من نوره المتبلج
جلا صدأ المرتاب أن سبح الحصا . . . لديه بنطق ليس بالمتلجلج
جعلت امتداحي والصلاة عليه لي . . . وسايل تخطيني بما أنا أرتج
ومن الأغراض الصوفية السلطانية قوله :
هات اسقني صرفاً بغير مزاج . . . واحي التي هي راحتي وعلاجي
إن صب منها في الزجاجة قطرة . . . شف الزجاج عن السني الوهاج
فإذا الخليع أصاب منها شربةً . . . حاجاه بالسر المصون محاج
وإذا المريد أصاب منها جرعة . . . ناجاه بالحق المبين مناج
تاهت به في مهمهٍ لا يهتدى . . . فيه لتأديب ولا إدلاج
يرتاح من طرب بها فكأنها . . . غنته بالأرمال والأهزاج(4/102)
"""""" صفحة رقم 103 """"""
هبت عليه نفحةٌ قدسية . . . في فتح باب دائم الأرتاج
فإذا انتشى يوماً وفيه بقية . . . سارت به قصداً على المنهاج
وإذا تمكن منه سكر معربدٍ . . . فليبصرن لمصرع الحلاج
قصرت عبارة فيه عن وجدانه . . . فغدا يفيض بمنطقٍ لجلاج
أعشاه نور للحقيقة باهر . . . فتراه يهبط في الظلام الداج رام الصعود بها لمركز أصله . . . فرمت به في بحرها المواج
فلئن أمد برحمة وسعادة . . . فليخلصن من بعد طول هياج
وليرجعن بغنيمة موفورة . . . ما شيب عذب شرابها بأجاج
ولئن تحظاه القبول لما جنى . . . فليرجعن نكساً على الأدراج
ما أنت إلا درة مكنونة . . . قد أودعت في نطفة أمشاج
فاجهد على تخليصها من طبعها . . . تعرج بها في أرفع المعراج
واشدد يديك معاً على حبل التقى . . . فإن اعتصمت به فانت الناج
ولدى العزيز ابسط بساط تذلل . . . وإلى الغنى امدد يد المحتاج
هذا الطريق له مقدمتان صا . . . دقتان انتجا أصح نتاج
فاجمع إلى ترك الهوى حمل الأذى . . . واقنع من الإسهاب بالإدماج
حرفان قد جمعا الذي قد سطروا . . . من بسط أقوال وطول حجاج
والمشرب الأصفى الذي من ذاقه . . . فقد اهتدى منه بنور سراج
ألا ترى إلا الحقيقة وحدها . . . والكل مضطر إليها لاج
هذي بدائع حكمة أنشأتها . . . بإشارة المولى أبي الحجاج
وسع الأنام بفضله وبعدله . . . وبحلمه وبجوده الثجاج
من آل نصرٍ نخبة الملك الرضا . . . أمن المروع هم وغيث اللاج
من آل قبلة ناصري خير الورى . . . والخلق بين تخاذل ولجاج(4/103)
"""""" صفحة رقم 104 """"""
ماذا أقول وكل قول قاصر . . . في وصف بحر زاخر الأمواج
منه لباغي العرف درٌّ فاخر . . . ولمن يعادي الدين هول فاج
دامت سعودك في مزيد والمنى . . . يأتيك أفواجاً على أفواج
ومن الأمداح المطولة :
لمن المطايا في السراب سوابحا . . . تفلى الفلاة غوادياً وروايحا
عوج كأمثال اللقيى ضوامر . . . يرمين في الآفاق مرمى نازحا
أو كالسحاب تسير مثقلة . . . بما حملته من سقيا البطاح دوالحا
ركبٌ ييمم غاية بل آية . . . أبدت محيا الحق أبلح واضحا
لما دعا داعي الرشاد مردداً . . . لبوه شوقاً والحمام هوادحا
فلهم عجيج بالبسيطة صاعد . . . يذكى بنار الشوق منك جوانحا
وإذا حدا الحادي بذكر المصطفى . . . أذروا في الأكوار دمعاً سابحا
عيسٌ تهادى بالمحبين الألى . . . ركبوا من العزم المصمم جامحا
طارت بهم أشواقهم سباقةٌ . . . فتركن أعلام المطى روازحا
رفقاً بهن فهن خلق مثلكم . . . أنضاء أسفار قطعن منادحا
قد جين للهادي وهادا جمة . . . وسلكن نحو الأبطحي أباطحا
ناشدتك الرحمن وافد مكة . . . ألا صرفت إلى صرفاً طامحا
وأخاً أتيت القبر قبر محمد . . . وحمدت سعياً من سفارك ناجحا
وذهلت عن هذا الوجود مغيباً . . . لما لمحت من الجمال ملامحا
فاقرأ سلامي عند قبر المصطفى . . . وامسح بيمناك الجدار مصافحا
قسماً بوفد يزخرون رواحلاً . . . قطعت سباسباً بلقعاً وضحاضحا
حتى أناخوا بالمحصب من منى . . . وتأملوا النور المبين اللايحا(4/104)
"""""" صفحة رقم 105 """"""
وتعرضوا لعوارض عرفية هبت . . . بها تلك الرياح لوافحا
وآووا إلى الحرم الشريف فطافعاً . . . بالبيت أو بالركن منه ماسحا
وسقوا به من ماء زمزم شربةً . . . نالوا بها في الخلد حظاً رابحا
ثم انثنوا قصداً إلى دار الهدى . . . يتسابقون عزايماً وجوارحا
فتبوؤا المغنى الذي بركاته . . . فاضت على الآفاق بحراً طافحا
ختموا مناسكهم بزورة أحمد . . . بختام مسك طاب عرفاً نافحا إن السماحة والشجاعة والندى . . . والبأس والعقل الأصيل الراجحا
وقفٌ على شمس المعالي يوسف . . . أعلى الملوك خواتماً وفواتحا
فهو الذي ملأ البلاد فضايلاً . . . صارت لمن بارى علاه فضايحا
إن أجملت سير الكرام فخلقه . . . ما زال للإجمال منها شارحا
حامي الذمار مدافعاً وموادعاً . . . كافي العدو محارباً ومصافحا
للملك بالعزم المؤيد مانعاً . . . للعرف بالجود المردد مانحا
إن تلقه في يوم جود هامر . . . تلق السحاب على البلاد سوابحا
أو تلقه في يوم بأس قاهر . . . تلق الأسود لدى العرين كوافحا
أو تلقه في يوم فخر ظاهر . . . تلق الكواكب في السماء لوايحا
من أسرة النضر الألى هم ناصحوا . . . بعزايم الصدق الأمين الناصحا
هم أسسوا الملك المشيد بناؤه . . . فكفوا به الإسلام خطباً فادحا
فاستفهم الأيام عن آثارهم . . . تطلع عليك صحايفاً وصفايحا
كان إذا ضن الغمام سحايباً . . . يهمى وإن جن الظلام مصابحا
شادوا له مجداً صميماً راسخاً . . . يبقى على الأعقاب ذكراً صالحا
وسما فخر فوق أمن جهادهم . . . سمكوا له سماكاً رامحا
الأعظمون مغانياً ومناقباً . . . والأكرمون محامداً وممادحا
يا دولةً نصريةً قد جددت . . . نصراً لأبواب المعاقل فاتحا
وأمامة سعدية قد أطلعت . . . سعداً ولكن للأعادي ذابحا
فاضت جداً فكأنما أيامها . . . جعلت لأرزاق العباد مفاتحا
كفت عداً فكأنما أوقاتها . . . جاءت لآيات الأمان شوارحا(4/105)
"""""" صفحة رقم 106 """"""
عدلاً لأقطار الإيالة كالباً . . . ولجامحات البغي منها كافحا
بشرى بيوسف ناصر الملك الذي . . . ما زال عنه مجالداً ومكافحا
جمع المواهب للمواهب مانحاً . . . فوق المنى وعن الجرايم صافحا
ابن الإمام أبي الوليد وحسبنا . . . مدحاً تضمن في الفخار مدايحا
يهنيك عيد النحر أسعد قادم . . . وافاك من جدوى يمينك ماتحا
وفيته قربانه وصلاته وأقمت . . . فيه شعايراً وذبايحا
ورجعت في الجيش الذي أخباره . . . تروى غرايبها الحسان صحائحا
أسدٌ ضراغم فوق خيل ترتمي . . . نحو العدو سوانحاً وبوارحا
طيارةٌ بالدارعين تخالها . . . تنقض في يوم القتال جوارحا
من كل من تخذ القنا خيماً له . . . بلقى العدو مماسياً ومصابحا
والشمس أضرمت السبيكة عندما . . . لقي الحديد شعاعها المطارحا
فاهنأ به وانعم بدولتك التي . . . ترضي الولي بها وتشجى الكاشحا
دامت ودام الحق فيها ثابتاً . . . يعلو يداً والإفك فيها طالحا
وقال يمدح ويصف مصنعاً سلطانياً :
زارت تجرر نحوه أذيالها . . . هيفاء تخلط بالنفار دلاها
والشمس من حسدٍ لها مصفرةٌ . . . إذ قصرت عن أن تكون مثالها
وافتك تمزج لينها بقساوة . . . قد أدرجت طي العتاب نوالها
كم رمت كتم مزارها لكنه . . . صحت دلايل لم تطق إعلالها
تركت على الأرجاء عند مسيرها . . . أرجاً كأن المسك فت خلالها
ما واصلتك محبةً وتفضلاً . . . لو كان ذاك لواصلت أفضالها
لكن توقعت السلو فجددت . . . لك لوعةً لا تتقي ترحالها
فوحبها قسماً بحق بروره . . . لتجشمنك في الهوى أهوالها
حسنت نظم الشعر في أوصافها . . . إذ قبحت لك في الهوى أفعالها
يا حسن ليلة وصلها ما ضرها . . . لو أتبعت من بعدها أمثالها(4/106)
"""""" صفحة رقم 107 """"""
لما سكرت بريقها وجفونها . . . أهملت كأسك لم ترد إعمالها
هذا الربيع أتاك ينشر حسنه . . . فافسح لنفسك في مداه مجالها
واخلع عذارك في البطالة جامحاً . . . واقرن بأسحار المنى آصالها
في جنة تجلو محاسنها كما . . . تجلو العروس لدى الزفاف جمالها
شكرت أيادي للحيا شكر الورى . . . شرف الملوك همامها مفضالها
وصمها أصلاً وفرعاً خيرها . . . ذاتاً وخلقاً سمحها بذالها
الطاهر الأعلى الإمام المرتضى . . . بحر المكارم غيثها سلسالها
حاز المعالي كابراً عن كابر . . . وجرى لغايات الكرام فنالها
إن تلقه في يوم بذل هباته . . . تلق الغمايم أرسلت هطالها
أو تلقه في يوم حرب عداته . . . تلق الضراغم فارقت أشبالها
ملك إذا ما صال يوماً صولة . . . خلت البسيطة زلزلت زلزالها
فبسيفه وبسيفه نال المنا . . . واستعجلت أعداؤه آجالها
الواهب الآلاف قبل سؤالها . . . فكفى العفاة سؤالها ومطالها
القاتل الآلاف قبل قراعها . . . فكفى العداة قراعها ونزالها
إن قلت بحر كفه قصرت إذ . . . شبهت بالملح الأجاج نوالها
ملأ البسيطة عدله ونواله . . . فالوحش لا تعدو على من غالها
وسقى البرية فيض كفيه فقد . . . عم البلاد سهولها وجبالها
جمع العلوم عناية بفنونها . . . آدابها وحسابها وجدالها
منقولها معقولها وأصولها . . . وفروعها تفصيلها إجمالها
فإذا عفاتك عاينوك تهللوا . . . لما رأوا من كفك استهلالها
وإذا عداتك أبصروك تيقنوا . . . أن المنية سلطت ريبالها(4/107)
"""""" صفحة رقم 108 """"""
بددت شملهم ببيض صوارم . . . رويت من علق الكماة نصالها
وأبحت أرضهم فأصبح أهلها . . . جزراً تغادر نهبة أموالها
فتحت إمارتك السعيدة للورى . . . أبواب بشرى واصلت إقبالها
وبنت مصانع رايقات ذكرت . . . دار النعيم جنانها وظلالها
وأجلبها قدراً وأرفعها مدىً . . . هذا الذي سامى النجوم فطالها
هو جنة فيها الأمير مخلد . . . بلغت إمارته بها آمالها
ولأرض أندلسٍ مفاخر أنتم . . . أربابها أضفيتم سربالها
فحميتم أرجاءها وكفيتم . . . أعداءها وهديتم ضلالها
فبآل نصر فاخرت لا غيرهم . . . لم نعتمد من قبلهم أقيالها
بمحمد ومحمد ومحمد . . . قصرت على الخصم الألد نضالها
فهم الألى ركبوا لكل عظيمة . . . جرداً كسين من النجيع جلالها
وهم الألى فتحوا لكل ملمة . . . باباً أراح بفتحه إشكالها
متقلدون من السيوف عضابها . . . متأبطون من الرماح طوالها
الراكبون من الجياد عرابها . . . والضاربون من العدا أبطالها
أولي عهد المسلمين ونخبة الأم . . . لاك صفوة محضها وزلاها
إن العباد مع البلاد مقرة . . . بفضايل لك مهدت أحوالها
فتفك عانيها وتحمي سربها . . . وتفيد حلماً دائماً جهالها
ومن الرثاء قوله يرثي ولده أبا القاسم :
هو البين حتماً لا لعل ولا عسى . . . فما بال نفسي لم تفض عنده أسى
وما لفؤادي لم يذب منه حسرة . . . فتباً لهذا القلب سرعان ما قسا
ويا لجفوني لا تفيض مورداً . . . من الدمع يهمى تارة ومورسا(4/108)
"""""" صفحة رقم 109 """"""
وما للساني مفصحاً بخطابه . . . وما كان لو أوفى بعهد لينبسا
أمن بعد ما أودعت روحي في الثرى . . . ووسدت مني فلذة القلب مرمسا
وبعد فراق ابني أبي القاسم الذي . . . كساني ثوب الثكل لا كان ملبسا
أؤمل في الدنيا حياة وارتضي . . . مقيلاً لدى أبنائها ومعرسا فآهاً وللمفجوع فيها استراحة . . . ولابد للمصدور أن يتنفسا
على عمر أفنيت فيه بضاعتي . . . فأسلمني للقبر حيران مفلسا
ظللت به في غفلة وجهالة . . . إلى أن رمى سهم الفراق فقرطسا
إلى الله أشكو برح حزني فإنه . . . تلبس منه القلب ما قد تلبسا
وصدمة خطب نازلتني عشية . . . فما أغنت الشكوى ولا نفع الأسا
فقد صدعت شملي وأصمت مقاتلي . . . وقد هدمت ركني الوثيق المؤسسا
ثبت لها صبراً لشدة وقعها . . . فما زلزلت صبري الجميل وقد رسا
وأطمع في أن يلقى برحمته الرضا . . . وأجزع أن يشقى بذنب فينكسا
أبا القاسم اسمع شجو والدك الذي . . . حسا من كؤوس البين أفظع ما حسا
وقفت فؤادي مذ رحلت على الأسى . . . وأشهد لا ينفك وقفاً محبسا
وقطعت آمالي من الناس كلهم . . . فلست أبالي أحسن المرء أم أسا
تواريت يا شمسي وبدري وناظري . . . فصار وجودي مذ تواريت حندسا
وخلفت لي عبئاً من الثكل فادحاً . . . فما أتعب الثكلان نفساً وأتعسا
أحقاً ثوى ذاك الشباب فلا أرى . . . له بعد هذا اليوم حولي مجلسا
فيا غصناً نضراً ثوى عندما استوى . . . فأوحشني أضعاف ما كان آنسا
ويا نعمةً لما تبلغتها انقضت . . . فأنعم أحوالي بها صار أبؤسا
فودعته والدمع يهمي سحابه . . . كما أسلم السلك الفريدا المجنسا(4/109)
"""""" صفحة رقم 110 """"""
وقبلت في ذاك الجبين مودعاً . . . لأكرم من نفسي علي وأنفسا
وخفف من وجدي به قرب رحلتي . . . وماذا عسى أن ينظر الدهر ما عسا
فيا رحمة للشيب يبكي شبيبةً . . . قياس لعمري عكسه كان أقيسا
فلو أن هذا الموت يقبل فديةً . . . حبوناه أموالاً كراماً وأنفسا
ولكنه حكم من الله واجب . . . يسلم فيه من بخير الورى ائتسى
تغمدك الرحمن بالعفو والرضا . . . وكرم مثواك الجديد وقدسا
وألف منا الشمل في جنة العلا . . . فنشرب تسنيماً ونلبس سندسا
وكتب إليه قصيدة أولها :
أمستخرجا كنز العقيق بآماقي . . . أناشدك الرحمن في الرمق الباقي
فقد ضعفت عن حمل صبري طاقتي . . . عليك وضافت عن زفيري أطواق
فأجابني رحمة الله عليه عن ذلك :
سقاني فأهلاً بالسقاية والعناق . . . سلافاً بها قام السرور على ساق
ولا نقل إلا من بدايع حكمة . . . ولا كأس إلا من سطورٍ وأوراق
فقد أنشأت لي نشوة بعد نشوة . . . تمد بروحانية ذات أذواق
فمن حظها الفاني متاعٌ لناظري . . . وسمعي وحظ الروح من حظها الباقي(4/110)
"""""" صفحة رقم 111 """"""
أعادت شبابي بعد سبعين حجة . . . فأثوابه قد جددت بعد إخلاق
وما كنت يوماً للمدامة صاحباً . . . ولا قبلتها قط نشأة أخلاق
ولا خالطت لحمي ولا مازجت دمي . . . كفى شرها مولاي فالفضل للواق
وهذا على عهد الشباب فكيف لي . . . بها بعد ما للشبيبة مهراق
تبصر فحكماً القهوتين تخالفاً . . . فكم بين إثبات لعقل وإزهاق
وشتان ما بين المدامين فاعتبر . . . فكم بين إنجاح لسعي وإخفاق
فتلك تهادى بين ظلم وظلمة . . . وهذي تهادي بين عدل وإشراق
أيا علم الإحسان غير منازع . . . شهادة إجماع عليها وإصفاق
فضائلك الحسنى علي تواترت . . . بمنهمر من سحب فكرك غيداق
خزاين آداب بعثت بدرها . . . إلى ولم تمنن بخشية إنفاق(4/111)
"""""" صفحة رقم 112 """"""
ولا مثل بكر حرة عربية . . . زكية أخلاق كريمة أعراق فأقسم ما البيض الحسان تبرمت . . . تناجيك سراً بين وحي وإطراق
بدورٌ بدت من أفق أطواقها على . . . رياض شدت في قضبه ذات أطواق
فناظر منها الأقحوان ثغورها . . . وقابل منها نرجس سحر أحداق
وناسب منها الورد خداً مورداً . . . سقاه الشباب النضر بورك من ساق
وألبسن من صنعاء وشياً منمنماً . . . وحلين من در نفايس أعلاق
بأحلىً لأفواه وأبهىً لأعين . . . وأحلىً لألباب وأشهىً لعشاق
رأيت بها شهب السماء تنزلت . . . إلى تحييني تحية مشتاق
ألا إن هذا السحر لا سحر بابل . . . فقد سحرت قلبي المعنى فمن راق
لقد أعجزت شكري فضايل ماجد . . . أبر بأحباب وأوفى بميثاق
تقاضى ديون الشعر مني منبهاً . . . رويدك لا تعجل علي بإرهاق(4/112)
"""""" صفحة رقم 113 """"""
فلو نشر الصادان من ملحديهما . . . لإنصاف هذا الدين لاذا بإملاق
فخذ زمام الرفق شيخاً تقاصرت . . . خطاه وعاهده بمعهود وإشفاق
فلا زلت تحيى للمكارم رسمها . . . وقدرك في أهل العلا والنهى راق
وكتبت إليه في غرض العتاب والاستعتاب :
أدرنا وضوء الأفق قد صدع الفضا . . . مدامة عتب بيننا نقلها الرضا
فلله عيناً من رآنا وللحيا حيى . . . بآفاق البشاشة أومضا
نفر إلى عدل الزمان الذي أتى . . . ونبرأ من جور الزمان الذي مضى
ونأسو كلوم اللفظ باللفظ عاجلاً . . . كذا قدح الصهباء داوى وأمرضا
فراجعني بقوله :
ألا حبذا ذاك العتاب الذي مضى . . . وإن جره واش بزور تمضمضا
أغارت له خيلٌ فما ذعرت حمى . . . ولكنها كانت طلائع للرضا
تألق منها بارق صاب مزنة . . . على معهد الحب الصميم فروضا
تلألأ نور للصداقة حافظاً . . . وإن ظن سيفاً للقطعية منتضا
فإن سود الشيطان منه صحيفة . . . أتى ملك الرحمى عليها فبيضا(4/113)
"""""" صفحة رقم 114 """"""
وما كان حب أحكم الصدق عهده . . . ليرمى بوسواس الوشاة فيرفضا
أعيذ وداداً زاكي القصد وافياً . . . تخلص من أدرانه فتمحضا
ونية صدق في رضى الله أخلصت . . . سناها بآفاق البسيطة قد أضا
من الآفك الساعي ليخفي نورها . . . أيخفى شعاع الشمس قد ملأ الفضا
وكيف يحل المبطلون بإفكهم . . . معاقد حب أحكمتها يد القضا
تعرض يبغي هدمها فكأنه . . . لتشييد مبناها الوثيق تعرضا
وحرض في تنفيره فكأنما . . . على البر والتسكين والحب حرضا
وأوقد ناراً فهو يصلى جحيمها . . . يقلب منها القلب في موقد الغضا
أيا واحدي المعدود بالألف وحده . . . ويا ولدي البر الزكي إن ارتضا
بعثت من الدر النفيس قلايداً . . . على ما ارتضى حكم المحبة واقتضا
نتيجة آداب وطبعٍ مهذب . . . أطال مداه في البيان وأعرضا
ولا مثل بكر باكرتني آنفاً . . . كزورة خلٍّ بعد ما كان أعرضا
هي الروضة الغناء أينع زهرها . . . تناظر حسناً مذهباً ومفضضا
أو الغادة الحسناء راقت فينقضي . . . مدى العمر في وصفي لها وهو ما انقضا
تطابق منها شعرها وجبينها . . . فذا الليل مسوداً وذا الصبح أبيضا
أو الشهب منها زينة وهداية . . . ورجمٌ لشيطان إذا هو قيضا
أتت ببديع الشعر طوراً مصرحاً . . . بأبياتك الحسنى وطوراً معرضا
ومهدت الأعذار دون جناية . . . ولو أنك الجاني لكنت المغمضا لك الله من بر وفيٍّ وصاحبٍ . . . محضت له صدق الضمير فأمحضا
لسانك في شكري مفيض تفضلاً . . . فيا حسن ما أهدى وأسدى وأقرضا
وقلبك فاضت فيه أنوار خلتي . . . فأبقى يدي تسليمه لي مفوضا
وقصدك مشكور وعهدك ثابت . . . وفضلك منشور وفعلك مرتضا
فهل مع هذا ريبةٌ في مودة . . . بحال وإن رأيت فما أنا معرضا(4/114)
"""""" صفحة رقم 115 """"""
فثق بولائي إنني لك مخلص . . . هوىً ثابتاً يبقى فليس له انقضا
عليك سلام الله ما هبت الصبا . . . وما بارق جنح الدجنة أومضا
وكتب إلى القاضي الشريف وهو بوادي آش :
أهزلاً وقد جدت بك اللمة الشمطاء . . . وأمناً وقد ساورتها حية رقطا
أغرك طول العمر في غير طايل . . . وسرك أن الموت في سيره أبطا
رويداً فإن الموت أسرع وافد . . . على عمرك الفاني ركايبه حطا
فإذ ذاك لا تستطيع إدراك ما مضى . . . بحال ولا قبضاً تطيق ولا بسطا
تأهب فقد وافى مشيبك منذراً . . . وها هو في فوديك أحرفه خطا
فرافقت منه كاتب السر واشياً . . . له القلم الأعلى يخط به وخطا
معمى كتاب فكه احذر فهذه . . . سفينة هذا العمر قاربت الشطا
وإن طال ما خاضت بك اللجج التي . . . خبطت بها في كل مهلكة خبطا
وما زلت في أمواجها متقلباً . . . فآونة رفعاً وآونة حطا(4/115)
"""""" صفحة رقم 116 """"""
فقد أوشكت تلقيك في قعر حفرة . . . تشد عليك الجانبين بها ضغطا
ولست على علم بما أنت بعدها . . . ملاقٍ أرضواناً من الله أم سخطا
وأعجب شيءٍ منك دعواك في النها . . . وهذا الهوى المردي على العقل قد غطا
قسطت عن الحق المبين جهالةً . . . وقد غالطتك النفس فادعت القسطا
وطاوعت شيطاناً تجيب إذا دعا . . . وتقبل أن أغوى وتأخذ إن أعطا
تناءى عن الأخرى وقد قربت مدىً . . . تداني عن الدنيا وقد أزمعت شحطا
وتمنحها حباً وفرط صبابة . . . وما منحت إلا القتادة والخرطا
فها أنت تهوى وصلها وهي فاركٌ . . . وتأمل قرباً من حماها وقد شطا
صراط هدىً نكبت عنه عمايةً . . . ودار ردىً أوعيت في سجنها سرطا
فما لك إلا السيد الشافع الذي . . . له فضل جاه كل ما يرتجي يعطى
دليل إلى الرحمن فانهج سبيله . . . فمن حاد عن نهج الدليل فقد أخطا
محبته شرط القبول فمن خلت . . . صحيفته منها فقد فقد الشرطا(4/116)
"""""" صفحة رقم 117 """"""
وما قبلت منه لدى الله قربة . . . ولا زكت الأعمال بل حبطت حبطا
به الحق وضاح به الإفك زاهق . . . به الفوز مرجوٌّ به الذنب قد حطا
هو الملجأ الأحمى هو الموئل الذي . . . به في غد يستشفع المذنب الخطا
إليك ابن خير الخلق بنت بديهة . . . تقبل تبجيلاً أناملك السبطا
وحيدة هذا العصر وافت وحيدة . . . لتبسط من شتى بدايعها بسطا
وتتلو آيات التشيع إنها . . . لموثقة عهداً ومحكمة ربطا
لك الشرف المأثور يا ابن محمد . . . وحسبك أن تنمي إلى سبطه سبطا
إلى شرفي دينٍ وعلمٍ تظاهرا . . . تبارك من أعطى وبورك في المعطا
ورهطك أهل البيت بيت محمد . . . فأعظم به بيتاً وأكرم بهم رهطا
بعثت به عقداً من الدر فاخراً . . . وذكر رسول الله درته الوسطا
وأهديت منها للسيادة غادة . . . نظمت من الدر الثمين بها سمطا
وحاشيتها من كل ما شأنها فإن . . . تجعد حوشي تجد لفظها سبطا(4/117)
"""""" صفحة رقم 118 """"""
وفي الطيبين الظاهرين نظمتها . . . فساعدها من أجل ذلك حرف الطا
عليك سلام الله ما در شارق . . . وما رددت ورقاء في غصنها لغطا
ومن غريب ما خاطبني به قوله :
أقسم بالقيسين والنابغتين . . . وشاعري طيىء المولدين
وبابن حجر وزهير وابنه . . . والأعشيين بعد ثم الأعميين
ثم بعشاق الثريا والرقيات . . . وعزة ومي وبثين
وبأبي الشيص ودعبل ومن . . . كشاعري خزاعة المخضرمين
وولد المعتز والرضى والسرى . . . ثم حسن وابن الحسين
وأختم بقسٍّ وسحبان فإن . . . أوجب حق أن يكونا أولين
وحليتي نثرهم ونظمهم . . . في مشرقي أقطارهم والمغربين
أن الخطيب ابن الخطيب سابق . . . بنثره ونظمه للحلبتين
وافتني الصحيفة الحسنى التي . . . شاهدت فيها المكرمات رأي عين
تجمع من يراعة المعنى إلى . . . يراعة الألفاظ كلتا الحسنيين
أشهد أنك الذي سبقت في . . . طريقي الآداب أقصى الأمدين
شعر حوى جزالة ورقة . . . تصاغ منه حلية للشعريين
رسايل أزهارها منثورة . . . سرور قلب ومتاع ناظرين
يا أحوذياً يا نسج وحده . . . شهادة تنزهت عن قول مين
بقيت في مواهب الله التي . . . تقر عينيك وتملأ اليدين(4/118)
"""""" صفحة رقم 119 """"""
ومن المقطوعات الموطنات على المثال :
لله عصر الشباب عصرا . . . فتح للخير كل باب
حفظت ما شئت فيه حفظا . . . كنت أراه بلا ذهاب
حتى إذا ما المشيب وافى . . . ند ولكن بلا إياب
لا تعتنوا بعدها بحفظ . . . وقيدوا العلم بالكتاب
ومن ذلك قوله :
يا أيها الممسك البخيل . . . إلهك المنفق الكفيل
إنفق وثق بالإله تربح . . . فإن إحسانه جزيل
وقدم الأقربين واذكر . . . ما روي ابدأ بمن تعول
ومن ذلك قوله :
وقائلة لم عراك المشيب . . . وما أن يعهد الصبا من قدم
فقلت لها لم أشب كبرة . . . ولكنه الهم نصف الهرم
ومن ذلك قوله :
هي النفس إن أنت سامحتها . . . رمت بك أقصى مهاوي الخديعة
وإن أنت جشمتها خطة . . . تنافى رضاها تجدها مطيعة
فإن شئت فوزاً فناقض هواها . . . وإن واصلتك أجزها بالقطيعة
ولا تعبأن بميعادها . . . فميعادها كسراب بقيعة
ومن المقطوعات أيضاً :
من أنت يا مولى الورى مقصود . . . طوبى له قد ساعدته سعوده
فليشهدنك له فؤاد صادق . . . وشهوده قامت عليه شهوده
وليفنين عن نفسه ورسومه . . . طراً وفي ذاك الفناء وجوده
وليخطفنه بارق يرقى به . . . في أشرف المعراج ثم يعيده
حتى يظل وليس يدري دهشة . . . تقريبه المقصود أو تبعيده(4/119)
"""""" صفحة رقم 120 """"""
لكنه ألقى السلاح مسلماً . . . فمراده ما أنت منه تريده
فلقد تساوى عنده إكرامه . . . وهوانه ومفيده ومبيده
ومن ذلك قوله في المعنى :
يقيني أن الله جل جلاله . . . يقيني فراجي الله ليس يخيب
ومن مقطوعاته في الألغاز والأحاجي قوله في حجلة :
حاجيت كل فطن لبيب . . . ما اسم الأنثى من بني يعوب
ذات كرامات فزرها قربة . . . فزورها أحق بالتقريب
تشركها في الإسم أنثى لم تزل . . . حافظة لسرها المحجوب
وقد جرى في خاتم الوحي الرضا . . . لها حديث ليس بالمكذوب
وهو إذا ما الفاء منه صحفت . . . صبغ الحيا لا الحيا المسكوب
فهاكها واضحةٌ أسرارها . . . فأمرها أقرب من قريب
وفي آب الشهر : حاجيتكم ما اسم علم . . . ذو نسبة إلى العجم
يخبر بالرجعة وهو . . . راجع كما زعم
وصف الحميم هو . . . بالتصحيف أو بدء قسم
دونكه أوضح من . . . نار على رأس علم
ومن ذلك قوله في كانون :
وما اسم لسميين . . . ولم يجمعهما جنس(4/120)
"""""" صفحة رقم 121 """"""
فهذا كلما يأتي . . . فبالآخر لي أنس
وهذا ما له شخص . . . وهذا ماله حس
وهذا ما له سوم . . . وذا قيمته فلس
وهذا أصله الأرض . . . وهذا أصله الشمس
وهذا واحد من سبعة . . . تحيا به النفس
فمن محموله الجن . . . ومن موضوعه الإنس
فقد بان الذي ألغزت . . . ما في أمره لبس
ومن ذلك قوله في نمر :
ما حيوان ما له من حرمة . . . إن اسمه صحف فابن العمة
وقلبه من بعد تصحيف له . . . يريك في الذكر الحكيم أمة
ومن ذلك قوله في سلم :
ما اسم مركب مفيد الوضع . . . مستعمل في الوصل لا في القطع
ينصب لكن أكثر استعمال من . . . يعنى به في الخفض أو في الرفع
وهو إذا خففته مغيراً . . . تراه شملاً لم يزل ذا صدع
فالاسم إن طلبته تجده في . . . خامسة من الطوال السبع
وهو إذا صحفته يعرب عن . . . مكسر في غير باب الجمع
له أخ أفضل منه لم تزل . . . آثاره محمودة في الشرع
هما جميعاً من بني النجار . . . والأفضل أصل في حنين الجذع
فهاكه قد سطعت أنواره . . . لاسيما لكل زاكي الطبع(4/121)
"""""" صفحة رقم 122 """"""
ومن ذلك قوله في فنار :
ما اسم إذا حذفت منه فاءه الممنوعة . . . فإنه بنت الزنا مضافة لأربعة
ومن ذلك قوله في حوت :
ما حيوان في اسمه . . . إن اعتبرته فنون
حروفه ثلاثة . . . والكل منها نون
تصحيفه قطع الفلا . . . أو ما جناه المذنبون
أو أبيض أو أسود . . . أو صفة النفس الخؤون
وقلبه مصحفاً عليه . . . دارت السنون
كانت به في مضى . . . عبرة قوم يعقلون
أودع فيها عنده . . . سر من السر المصون
فهاكه كالنار في . . . الزند لها فيه كمون
ومن ذلك قوله في مائدة :
حاجيت كل فطن نظار . . . ما اسم لأنثى من بني النجار
وفي كتاب الله جاء ذكرها . . . فقل ما يغفل عنها القاري(4/122)
"""""" صفحة رقم 123 """"""
في خبر المهدي فاطلبها تجد . . . إن كنت من مطالعي الأخبار
ما هي إلا العيد عيد رحمة . . . ونعمة ساطعة الأنوار
بشركها في الاسم وصف حسن . . . من وصف قضب الروضة المعطار
فهاكه كالشمس في وقت الضحى . . . قد شف عنها حجب الأستار
ومن ذلك قوله في زينب :
ما نقي العرض طاهر الجسد . . . عندما خالطه ألماً فسد
خالط الماء القراح فغوى . . . بعد ما كان من أهل الرشد
عجمي الأصل تم حسنه . . . عندما صاد الغزالة الأسد
واسمه اسم امرأة مصحفاً . . . ولقد يكون وصفاً لولد
هاكه قد بهرت أنواره . . . فارم بالفكر تصب قصد الرشد
جميع هذه الأغراض المنسوبة إليه ، بحر لا ينفد مدده ، وقطر لا يبلغ عدده .
وأما نثره فسلطانيات مطولات ، عرضت بما تخللها من الأحوال متونها ، وقلت لمكان الاستعجال والبديهة عيونها . وقد اقتضبت منها أجزأً سميته تافهاً من جم ونقطة من يم
مولده
ولد بغرناطة في جمادى الآخرة عام ثلاثة وسبعين وستماية .
وفاته
ليلة يوم الأربعاء الثالث والعشرين من شوال عام تسعة وأربعين وسبعماية . ودفن بباب إلبيرة . وكانت جنازته آخذة نهاية الاحتفال ، حضرها السلطان فمن دونه .
ومما رثي به : رثيته بقصيدة أنشدتها على قبره خامس يوم دفنه ثبتت في غير ما موضع وهي : ما لليراع خواضع الأعناق . . . طرق النعي فهن في إطراق
وكأنما صبغ الشحوب وجوهها . . . والسقم من جزع ومن إشفاق(4/123)
"""""" صفحة رقم 124 """"""
ما للصحائف صوحت روضاتها . . . أسفاً وكن نضيرة الأوراق
ما للبيان كؤوسه مهجورة . . . غفل المدير لها ونام الساق
ما لي عدمت تجلدي وتصبري . . . والصبر في الأزمات من أخلاق
خطب أصاب بني البلاغة والحجا . . . شب الزفير به عن الأطواق
أما وقد أودى أبو الحسن الرضا . . . فالفضل قد أودى على الإطلاق
كنز المعارف لا تبيد نقوده . . . يوماً ولا تفنى على الإنفاق
من للبدائع أصبحت سمر السرى . . . ما بين شامٍ للورى وعراق
من لليراع يجيل من خطبها . . . سم العدا ومفاتح الأرزاق
قضب ذوابل مثمرات بالمنى . . . وأراقم ينفثن بالترياق
من للرقاع الحمر يجمع حسنها . . . خجل الخدود وصبغة الأحداق
تغتال أحشاء العدو كأنها . . . صفحات دامية الغرار رقاق
وتهز أعطاف الولي كأنها . . . راحٌ مشعشعة براحة ساق
من للفنون يجيل في ميدانها . . . خيل البيان كريمة الإعراق
من للحقائق أبهمت أبوابها . . . للناس يفتحها على استغلاق
من للمساعي الغر تقصد جاهه . . . حرماً فينصرها على الإخفاق
كم شد من عقد وثيق حكمه . . . في الله أو أفتى بحل وثاق
رحب الذراع بكل خطب فادح . . . أعيت رياضته على الحذاق
صعب المقادة في الهوادة والهوى . . . سهل على العافين والطراق
ركب الطريق إلى الجنان وحورها . . . يلقينه بتصافح وعناق
فاعجب لأنس في مظنة وحشة . . . ومقام وصل في مقام فراق
أمطيباً بمحامد العمل الرضي . . . ومكفناً بمكارم الأخلاق
ما كنت أحسب قبل نعشك أن . . . أرى رضوى تسير على الأعناق
ما كنت أحسب قبل دفنك في الثرى . . . أن اللحود خزائن الأعلاق(4/124)
"""""" صفحة رقم 125 """"""
يا كوكب الهدى الذي من بعده . . . ركد الظلام بهذه الآفاق
يا واحداً مهما جرى في حلبة . . . جلى بغرة سابق السباق
يا ثاوياً بطن الضريح وذكره . . . أبداً رفيق ركائب ورفاق
يا غوث من وصل الضريح فلم يجد . . . في الأرض من وزر ولا من واق
ما كنت إلا ديمةً منشورة . . . من غير إرعاد ولا إبراق
ما كنت إلا روضة ممطورة . . . ما شئت بن ثمر ومن أوراق
يا مزمعاً عنا العشي ركابه . . . هلا لبثت ولو بقدر فواق
رفقاً أبانا جل ما حملتنا . . . لا تنس فينا عادة الإشفاق
واسمح ولو بمزار لقيا في الكرى . . . تبقى بها منا على الأرماق
وإذا اللقاء تصرمت أسبابه . . . كان الخيال تعلة المشتاق
عجباً لنفس ودعتك وأيقنت . . . أن ليس بعد ثواك يوم تلاق
ما عذرها إن لم تقاسمك الردى . . . في فضل كأس قد شربت دهاق
إن قصرت أجفاننا عن أن ترى . . . تبكي النجيع عليك باستحقاق
واستوقفت دهشاً فإن قلوبنا . . . نهضت بكل وظيفة الآماق
ثق بالوفاء على المدى من فتية . . . بك تقتدي في العهد والميثاق
سجعت بما طوقتها من منةٍ . . . حتى زرت بحمايم الأطواق
تبكي فراقك خلوة عمرتها . . . بالذكر في طفلٍ وفي إشراق
أما الثناء على علاك فذائع . . . قد صح بالإجماع والإصفاق
والله قد قرن الثناء بأرضه . . . بثنائه من فوق سبع طباق جادت ضريحك ديمةٌ هطالة . . . تبكي عليه بواكفٍ رقراق
وتغمدتك من الآله سعادة . . . تسمو بروحك للمحل الراق
صبراً بني الجياب فقيدكم . . . سيسر مقدمه بما هو لاق
وإذا الأسى لفح القلوب أواره . . . فالصبر والتسليم أي رواق(4/125)
"""""" صفحة رقم 126 """"""
وأنشد في هذا الغرض الفقيه أبو عبد الله بن جزي رحمه الله :
ألم تر أن المجد أقوت معالمه . . . فأطنابه قد قوضت دعائمه
هوى من سماء المعلوات شهابها . . . وخانت جواد المكرمات قوائمه
وثلث من الفخر المشيد عروشه . . . وفلت من العز المنيع صوارمه
وعطل من حلي البلاغة قسها . . . وعرى من جود الأنامل حاتمه
أجل إنه الخطب الذي جل وقعه . . . وثلم غرب الدين والعلم هاجمه
وإلا فما للنوم طار مطاره . . . وما للزيم الحزن قصت قوادمه
وما لصباح الأنس أظلم نوره . . . وما لمحيا الدهر قطب باسمه
وما لدموع العين فضت كأنها . . . فواقع زهر والجفون كمائمه
قضى الله في قطب الرياسة أن قضى . . . فشتت ذاك الشمل من هو ناظمه
ومن قارع الأيام سبعين حجة . . . ستنبو عراره ويندق قائمه
وفي مثلها أعيى النطاسي طبه . . . وضل طريق الحزم في الرأي حازمه
تساوي جواد في رداه وباخل . . . فلا الجود واقيه ولا البخل عاصمه
وما نفعت رب الجياد كرامه . . . ولا منعت منه الغنى كرايمه
وكل تلاق فالفراق أمامه . . . وكل طلوع فالغروب ملازمه
وكيف مجال العقل في غير منفذ . . . إذا كان باني مصنع هو هادمه
لبيك علياً مستجير بعدله . . . يصاخ لشكواه ويمنع ظالمه
لبيك علياً ماتح بحر علمه . . . يروي بأنواع المعارف هائمه
لبيك علياً مظهر فضل نصحه . . . يحلا عن ورد المآثم حايمه(4/126)
"""""" صفحة رقم 127 """"""
ليبك علياً معتف جود كفه . . . يواسيه في أمواله ويقاسمه
لبيك علياً ليله وهو قائم . . . يكابده أو يومه وهو صائمه
لبيك علياً فضل كل بلاغة . . . يخلده في صفحة الطرس راقمه
وشخص ضئيل الجسم يرهب نفثه . . . ليوث الشرى في خيسها وضراغمه
تكفل بالرزق المقدر للورى . . . إذا الله أعطى فهو للناس قاسمه
يسدده سهماً وينضوه صارماً . . . ويشرعه رمحاً فكل يلائمه
إذا سال من شقيه سايل حبرة . . . بما شاء منه سايل فهو عالمه
لبيك عليه الآن من كان باكياً . . . فتلك مغانيه خلت ومعالمه
تقلد منه الملك عضب بلاغة . . . يقد السلوقي المضاعف صارمه
وقلده مثنى الوزارة فاكتفى . . . بها ألمعي حازم الرأي عازمه
ففي يده وهو الزعيم بحقها . . . يراعته والمشرفي وخاتمه
سخيٌّ على العافين سهلٌ قياده . . . أنى على العادين صعبٌ شكائمه
إذا ضلت الآراء في ليل حادث . . . رآها برأي يصدع الحق ناجمه
وقام بأمر الملك للدين حامياً . . . فذل معاديه وضل مراغمه
وقد كان نيط العلم والحلم والتقى . . . به وهو ما نيطت عليه تمايمه
ودوخ أعناق الليالي بهمة . . . يبيت ونجم الأفق فيها يزاحمه
وزاد على بعد المنال تواضعاً . . . أبى الله إلا أن تتم مكارمه
سقيت الغوادي أي علم وحكمة . . . ودين متين ذلك القبر كاتمه
وما زلت يستسقى بدعوتك الحيا . . . وها هو يستسقي لقبرك ساجمه(4/127)
"""""" صفحة رقم 128 """"""
بكت فقدك الكتاب إذ كان شملهم . . . يؤلفه من روح فضلك ناعمه
وطوقتهم بالبر ثم سقيتهم . . . نداك فكنت الروض ناحت حمايمه
ويبكيك مني ذاهب الصبر موجع . . . فوقد في جنبيه للحزن جاحمه
فتى نال منه الدهر إلا وفاءه . . . فما وهنت في حفظ عهدٍ عزايمه
عليل الذي زرت عليه جيوبه . . . قريح الذي شدت عليه حزايمه
فقد كنت ألقى الخطب منه بجنة . . . تعارض دوني بأسه وتصادمه
سأصبر مضطراً وإن عظم الأسى . . . أحارب حزني مرة وأسالمه
وأهديك إذ عز اللقاء تحية . . . وطيب ثناءٍ كالعبير نواسمه
وأنشد القاضي أبو بكر القرشي قوله من قصيدة في ذلك :
هي الآجال غايتها نفاد . . . وفي الغايات تمتاز الجياد
وأنشد الفقيه الكاتب أبو بكر القاسم بن الحكيم قوله من قصيدة :
لينع الحجا والحلم من كان ناعياً . . . ويرع العلا والعلم من كان راعيا
وأنشد الفقيه القاضي أبو بكر بن جزي قصيدة أولها :
أبثكما والصبر للعهد ناكث . . . حديثاً أملته على الحوادث
قصائد مطولات يخرج استقصاؤها عن الغرض ، فكان هذا التأبين غريباً لم يتقدم به عهد بالحضرة لكونها دار ملك ، والتجلة في مثل هذا مقصورة على أولي الأمر . فمضى بسبيله رحمه الله .(4/128)
"""""" صفحة رقم 129 """"""
علي بن موسى بن عبد الملك بن سعيد بن خلف بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن الحسن بن عثمان بن عبد الله بن سعد بن عمار بن ياسر بن كنانة بن قيس بن الحصين بن لوذم ابن ثعلب بن عوف بن حارثة بن عامر الأكبر بن نام بن عبس واسمه زيد بن مالك بن أدد بن زيد العنسي المذحجي
من أهل قلعة يحصب ، غرناطي قلعي ، سكن تونس ، يكنى أبا الحسن ، ويعرف بابن سعيد .
أوليته قد تقرر من كرم أوليته ، وذكر بيته ما ينظر في محله .
حاله
هذا الرجل وسطي عقد بيته ، وعلم أهله ، ودرة قومه ، المصنف الأديب ، الرحال ، الطرفة ، الإخباري ، العجيب الشأن في التجول في الأوطان ، ومداخلة الأعيان ، والتمتع بالخزاين العلمية ، وتقييد الفوايد المشرقية والمغربية .
مشيخته
أخذ عن أعلام إشبيلية كأبي علي الشلوبين ، وابي الحسن الدباج ، وأبي الحسن بن عصفور وغيرهم .(4/129)
"""""" صفحة رقم 130 """"""
تواليفه
وتواليفه كثيرة ، منها المرقصات والمطربات ، عزيز الوجود ، والمقتطف أغرب وأعجب ، والطالع السعيد في تاريخ بيته وبلده . والموضوعان الغريبان المتعددا الأسفار ، وهما المغرب في حلى المغرب ، والمشرق في حلى المشرق ، وغير ذلك مما لم يتصل إلينا ، فلقد حدثني الوزير أبو بكر بن الحكيم ، أنه تخلف كتاباً يسمى المرزمة ، يشتمل على وقر بعير ، لا يعلم ما فيه من الفوايد الأدبية والإخبارية إلا الله
شعره
قال ، تعاطى نظم الشعر في حد زمن الشبيبة ، يعجب فيه من مثله ، فيذكر أنه خرج مع والده ، وقد مر في صحبته إلى إشبيلية ، وفي صحبته سهل بن مالك ، فجعل سهل يباحثه عن نظمه ، إلى أن أنشده في صفة النهر والنسيم يردده ، والغصون تميل عليه :
كأنما النهر صفحة كتبت . . . أسطرها والنسيم ينشيها
لما أبانت عن حسن منظرها . . . مالت عليها الغصون تقرؤها
فطرب أبو الحسن وأثنى عليه ، ثم شدا ، وناب عن أبيه في أعمال الجزيرة ، ومازج الأدباء ، ودون كثيراً من نظمه ، وحفظ له في المدح :
يا أيها الملك الذي هباته . . . وهباته شدت عرى الإسلام
لما أسال نداه سل حسامه . . . فأراك برقاً في متون غمام
لله شيعتك التي ترك العدا . . . أقداحهم بمواطىء الأقدام
طاروا بأجنحة السيوف إليهم . . . مثل الحمام جلبن كل حمام
فهم سهام والجياد قسيهم . . . وعداهم هدف وسعدك رام(4/130)
"""""" صفحة رقم 131 """"""
وقال ، ومما نظمته بالحضرة في فرس كان لهم لوباني أغر أكحل بحلية :
وأجرد تبرى أثرت به الثرى . . . والفجر في خصر الظلام وشاح
عجبت له وهو الأصيل بعرفه . . . ظلام وبين الناظرين صباح رحلته المشرقية ، وفيها الكثير من نظمه ، قال في الطالع لما قدم الديار المصرية واشتهر ، كان مما نظمه سلماً لمعرفة الأدباء والظرفاء قوله ، وقد رأى بساحلها وجوهاً لا يعرفها ، وألسناً غير ما عهد :
أصبحت أعترض الوجوه ولا أرى . . . من بينها وجهاً لمن أدريه
ويح الغريب توحشت ألحاظه . . . في عالم ليس له بشبيه
عودي على بدئي ضلالاً بينهم . . . حتى كأني من بقايا التيه
ودخل القاهرة ، فصنع له أدباؤها صنيعاً في ظاهرها ، وانتهت بهم الفرجة إلى روض نرجس ، وكان فيهم أبو الحسن الجزار ، فجعل يدوس النرجس ، برجله ، فقال أبو الحسن :
يا واطىء النرجس بالأرجل . . . ما تستحي أن تطأ الأعين بالأرجل
فتهافتوا بهذا البيت وراموا إجازته .
فقال ابن أبي الأصبغ :
فقال دعني لم أزل محرجاً . . . على لحاظ الرشاد الأكحل(4/131)
"""""" صفحة رقم 132 """"""
وكان أمثل ما حضرهم ، ثم أبوا أن يجيزه غيره ، فقال :
قابل جفوناً بجفون ولا . . . تبتذل الأرفع بالأسفل
ثم استدعاه سيف الدين بن سابق صاحب الأشغال السلطانية إلى مجلس بضفة النيل ، مبسوط بالورد ، وقد قامت حوله شمامات نرجس ، فقال في ذلك :
من فضل النرجس فهو الذي . . . يرضى بحكم الورد إذ يرأس
أما ترى الورد غداً قاعداً . . . وقام في خدمته النرجس
ووافق ذلك مماليك الترك ، وقوفاً في الخدمة على عادة المشارقة ، فطرب الحاضرون ، من حسود ومنصف . ولقي بمصر محيي الدين بن ندا واقد التركي ، الإمام زهير الحجاري بهاء الدين ، وبالقاهرة جمال الدين ابن مطروح ، وجمال الدين بن يغمور ، وتعرف بكمال الدين بن العديم رسول سلطان حلب ، فاستصحبه يتحف به الملك الناصر صاحب حلب ، فلقي بحمص وبيت المقدس وحماه أعلا ما جلة ، وله معهم أخبار يطول ذكرها ، ودخل على السلطان بحلب ، وأنشده قصيدة أولها :
جدلي بما ألقى الخيال من الكرى . . . لابد للطيف الملم من الكرا
فقال كمال الدين هذا رجل عارف مذ روى لمقصده من أول كلمة . . ثم قال بعد أبيات :
الناصر الملك الذي عزماته . . . أبداً تكون مع العساكر عسكرا
ما كان أنبا الفتح يلزم لامه . . . والجمع من أعدائه متكسرا(4/132)
"""""" صفحة رقم 133 """"""
فعظم استظراف السلطان لهذه المقاصد ، وأثنى عليه . ثم وصل فقال :
الدين أصلحه وعم صلاحه الدنيا . . . وأصبح ناصراً ومظفرا
فكأن كنيته غدت موضوعه . . . من ربه والوصف منه مقررا
وكأنما الأسماء قد عرضت على . . . علياه قبل وجوده متخيرا
فقال السلطان كيف ترون واستعاده . فقال عون الدين العجمي عميد المجلس ، وكاتب الإنشاء ، استنباطه ما سمع الملوك بمثله يا خوند . ثم أنشد :
من آل أيوب الذين هم هم . . . ورثوا الندى والبأس أكبر أكبرا
أهل الرياسة والسياسة والعلا . . . بسيوفهم حلوا الذرى منحوا الذرا
سم العداة على هيافيهم . . . لا تعجبوا فكذاك آساد الشرى
كادوا يقيلون العداة من الردى . . . لو لم يمدوا كالحجاب العثيرا
جعلوا خواتم سمرهم من قلب . . . كل معاند عد المثقف خنصرا
وببيضهم قد توجوا أعداءهم . . . حتى لقد حلوا لكيما تشكرا
لو لم يخافوا تيسار نحوهم . . . وهبوا الكواكب والصباح المسفرا وهي طويلة . ثم استجلسه السلطان ، وسأله عن بلاده ، ومقصده بالرحلة ، فأخبره أنه جمع كتاباً في الحلى البلادية والحلى العبادية المختصة بالمشرق ، وأخبره أنه سماه المشرق في حلى المشرق . وجمع مثله فسماه المغرب في حلى المغرب . فقال نعينك بما عندنا من الخزاين ، ونوصلك إلى ما لا عندنا . مثل خزاين الموصل وبغداد ، وتضيف لنا المغرب . فخدم على عادتهم ، وقال أمر مولاي بذلك ، إنعام وتأنيس ، ثم قال له السلطان مداعباً ، إن شعراءنا ملقبون بأسماء الطيور . وقد اخترت لك لقباً يليق بحسن صوتك وإيرادك للشعر ، فإن كنت ترضى به ، وإلا لم يعلمه عندنا ، وهو البلبل ، فقال قد رضي المملوك بذلك يا خوند .(4/133)
"""""" صفحة رقم 134 """"""
فتبسم السلطان ، وقال اختر واحدة من ثلاث ، أما الضيافة التي ذكرتها أول شعرك ، وأما جائزة القصيدة ، وإما حق الإسم . فقال يا خوند المملوك ممن لا يختنق بعشر لقم ، فكيف بثلاث . فطرب السلطان ، وقال هذا مغربي ظريف ، ثم أتبعه من الدنانير والخلع الملوكية والتواقيع بالأرزاق ما لا يوصف . ولقي بحضرته عون الدين العجمي ، وهو بحر لا تنزفه الدلاء ، والشهاب التلعفري الشهير الذكر ، والتاج بن شقير ، وابن نجيم الموصلي ، والشرف بن سليمان الإربلي . وطائفة من بني الصاحب . ثم تحول إلى دمشق ، ودخل الموصل وبغداد ، ودخل مجلس السلطان المعظم ابن الملك الصالح بدمشق ، وحضر بمجلس خلوته . وكان ارتحاله إلى بغداد في عقب سنة ثمان وأربعين وستمائة في رحلته الأولى إليها . ثم رحل إلى البصرة ، ودخل أرجان ، وحج . ثم عاد إلى المغرب . وقد صنف في رحلته الأولى إليها مجموعاً سماه بالنفحة المسكية في الرحلة المكية . وكان نزوله بساحل مدينة إقلنية من إفريقية في إحدى جمادين من عام اثنين وخمسين وستمائة ، واتصل بخدمة الأمير أبي عبد الله المستنصر فنال الدرجة الرفيعة من حظوته ، وقال عند اتصاله به لحين قدومه :
وما زلت أضرب في الخافقين . . . أروم البلاد وأرعى الدول
إلى أن رجعت إلى تونس . . . محل الإمام وأقصى الأمل
فقلت البلاد لهذي قرىً . . . وقلت الأنام لهذا خول
نكبته
وحدثني شيخنا الوزير أبو بكر بن الحكيم ، أن المستنصر جفاه في آخر عمره ، وقد أسن لجراء خدمة مالية أسندها إليه ، وقد كان بلاءً منه قبل جفوة ، أعقبها انتشال وعناية . فكتب إليه :
يا غزالاً في الحشا منزله . . . وبعيني دائماً منهله(4/134)
"""""" صفحة رقم 135 """"""
لا ترعبني بالجفا ثانية . . . ما بقي في الجسم ما يحمله
فرق له ، وعاد إلى حسن النظر فيه ، إلى أن توفي تحت بر وعناية . رحمه الله
مولده
ولد بغرناطة ليلة الفطر في سنة عشر وستماية .
وفاته
توفي بتونس حرسها الله في أحواز عام خمسة وثمانين وستماية .
علي بن عبد الرحمن بن موسى بن جودي القيسي
الأديب الكاتب يكنى أبا الحسن
حاله
من أهل المعرفة بالعلوم القديمة ، وأصله من عمل سرقسطة . وكان صديقاً للوزير أبي الحسن بن هاني .
مشيخته
قرأ على الحكيم أبي بكر بن الصايغ ، المعروف بابن باجة . وكان خليع الرسن فيما ذكر عنه .
شعره
من شعره :
خليلي من نعمان بالله عرجا . . . على الأيك من وادي العقيق فسلما
وقولا له ما حال لبني لعله . . . إذا سمع النجوى بلبنى تكلما
فعهدي به والظل ينفض دوحه . . . وقد خضلت عيدانه فتنعما
تباكره لبنى لإتيان موعد . . . عزيز عليها أن يخان ويصرما
نبث حديثها فنبكي بعبرة . . . فترسلها ماءً ونرسلها دما(4/135)
"""""" صفحة رقم 136 """"""
ومن شعره قوله :
أدر كأس المدام فقد تغنى . . . بفرع الأيك أورقها الصدوح
وهب على الرياض نسيم صبح . . . يمر كما ونى ساد طليح
وسال النهر يشكو من حصاه . . . جراحات كما أن الجريم
وقال :
سقى الله دهراً ضم شمل مودة . . . وجمع إخوان الصفاء بلا وعد
بميناء تعلوها الرياح بليلةً . . . وتنظر منها الشمس بالأعين الرمد
وفاته : توفي بغرناطة في حدود الثلاثين وخمسماية .
ومن الطاريين
عمر بن خلاف بن سليمان بن سلمة
من أهل شابش يكنى أبا علي . حاله
كان فقيهاً أديباً مكثراً ، شهير المكان بجهته ، مولعاً بمكاتبة الأدباء ، وتقييد ما يصدر عنهم ، مؤرخاً من أهل النباهة والعناية . ألف كتاباً سماه نخبة الأعلاق ، ونزهة الأحداق في الأدباء ، وحلى من ذكر فما قصر من السداد . وله نظم ونثر وخطب ، وبيعات ومراجعات ، تضمنها الكثير من كتبه .
شعره
ما قاله يخاطب بعض إخوانه :
خذها إليك أبا إسحق تذكرة . . . من ذاكر لك في قرب وفي شحط
يرعى ذمامك لا تنسى لوازمه . . . ولا يمازجه بالسهو والغلط
ولا يزال بحفظ العهد معتنياً . . . ولا يعامل في البحران بالشطط
فأنت عندي أولى من أذمة ربحي . . . ومن صفوتي في أرفع النمط
قد طال شوقي للإعلام منك بما . . . لديك إذ فيه لي تأنيس مغتبط
وقد تيت بنكري في التغافل عن . . . معهود ما كنت توليه لذي الشحط(4/136)
"""""" صفحة رقم 137 """"""
وقد عفا رسم عرفان الإخاء بما . . . أوليت من كثرة الإهمال والغلط
جبر أخي وهيه وارجع لصالح ما . . . عودت في الكتب من مستحسن الخطط
وجد ببسط انبساط أنت تبذله . . . فإن أقبح شيء قبض منبسط
خذ سلاماً كعرف المسك نفحته . . . من ذي ولاءٍ بذاك المجد مغتبط
وفي مفاتحة بعض الأدباء :
أبا جعفر وافتك في صفحة الطرس . . . عقيلة ود لم تشنها يد اللمس
لها حلل الإخلاص زياً وحليها . . . عطر ثنا عرف روض الربى ينبس
وموجبها ما قد فشى من محامد . . . حباك بها الرحمن ذو العرش والكرسي
وغر علوم حزتها ومعارف غلوت بها . . . فحيي علي البدر والشمس
فإن رزقت منك القبول تشرفت . . . وفازت بتحصيل المسرة والأنس
خطابك يا قاضي العدالة بغيتي . . . وروحي وريحاني وقصوي مني نفسي
إقتضبتها أعلى الله قدرك ، كما أسنى في سماء المعارف والأدب التالد والطارف بدرك ، عن ود ملك زمامي ، وفضل في سبيل المنافسة في خطبة ودادك غاية اهتمامي ، وقد تقرر لدي من محاسنك وإحسانك بالسماع ما أوجب علي مخاطبتك عند تعذر المشافهة بألسنة اليراع ، فانقدت بزمام ذلك الواجب ، وقصدت أداءه على أصح المذاهب ، راجياً من تجاوزك وإغضايك ما يليق بباهر علايك ، وفي جوابك هو الشفاء ، ولدى خطابك يلقى الاعتناء والاحتفاء ، والله يطلع منك السار ، ويصل لك المبار . وقال يخاطب السلطان :
إلى الحضرة العليا يستبق العبد . . . وفي القرب سنها والدنو هو القصد
إلى حضرة الولي الإمارية التي . . . تبلح فيها العدل وابتسم السعد
وفيها وجود للدين والدنا . . . وقد خصها بالرحمة الصمد الفرد
وفاته
كان حياً في سنة خمس وستماية(4/137)
"""""" صفحة رقم 138 """"""
علي بن أحمد بن محمد بن يوسف بن عمر الغساني
من أهل قرية أرينتيرة من قرى سند مدينة وادي آش ، يكنى أبا الحسن
حاله
كان من جلة الطلبة ونيهائهم وأذكيائهم وصلحائهم . عنده معرفة بالفقه ، ومشاركة في الحديث ، ومعرفة بالنحو والأدب . وحسن نظم ونثر ، من أحسن الناس نظماً للوثائق ، وأتقنهم لها . وأعرفهم بنقدها ، وأقصدهم لمعانيها يستعين على ذلك بأدب وكتابة ، فيأتي بأشياء عجيبة .
مشيخته
روى عن الراوية أبي العباس الخروبي . والمقري أبي الحسن طاهر بن يوسف بن فتح الأنصاري . والقاضي أبي محمد بن عبد الرحيم الخزرجي
تواليفه
ألف كتاباً في شرح المسند الصحيح لمسلم بن الحجاج في أسفار كثيرة ، أجاد فيها الإجادة . وله كتاب سماه بالوسيلة في الأسماء الحسنى . ونظم في شمايل النبي عليه أفضل الصلاة والسلام .
شعره
له شعر في الزهد وغيره فمنه قوله :
أيا كريماً لم يضع . . . لديك عبد أملك
بالباب من أنت له . . . وود لو كان لك
عبدٌ له أسولة . . . وليستحي أن يسلك
أفواههم تسله . . . ولم تحسن عملك
فإن أنت خنته . . . أمانة قد حملك
ولم تكن تشكر ما . . . من فضله قد خولك وكلما أهملته من . . . حقه ما أهملك
إنا كما قالوا سوى . . . أنك أعلى من ملك
تلك التي تؤنسني . . . وترتجي بفضلك
بشراي إن نال . . . الرضا بها توسلك(4/138)
"""""" صفحة رقم 139 """"""
علي بن محمد علي بن هيضم الرعيني
من أهل إشبيلية ، يكنى أبا الحسن .
حاله
الكاتب البليغ المحدث الراوية . قال الأستاذ ، كان من أهل العلم والمشاركة ، وغلبت عليه الكتابة السلطانية . واعتمدها صناعة . وكتب لجلة من ملوك الأندلس والعدوة . وكان انفصاله من الأندلس قبل سنة أربعين وستماية .
قلت ، وكتب للسلطان المتوكل على الله أبي عبد الله بن هود ، ثم للسلطان المتوكل الغالب بالله أبي عبد الله بن نصر . وسكن بغرناطة مدة مديدة . ثم رحل إلى مراكش . فكتب عن أمير سبتة ، وعن ملوك الموحدين بمراكش . ونمت حاله ونبهت رتبته ، واستقل بالإنشاء ، بعد شيخة أبي زيد الفازازي ، وكان محدثاً عارفاً بارواية ، متعدد المشيخة . فاضلاً ، ديناً . مشاركاً في كثير من المعارف . حسن الخط . جيد الكتابة . متوسط الشعر . قلت هذا الرجل له مشيخة في أصل ابن الخطيب طويلة اختصرتها .
شعره ونثره
من ذلك ما جمعفيه بين النظم والنثر :
وافى الكتاب وقد تقلد جيده . . . ما أنت تحسن نظمه وتجيده
من كل معنى ضمن لفظه في حلى . . . خط يزيل طلى الطروس فريده
أبا المطرف دعوة من خالص . . . لعلاك غابت وده وشهيده
أنت الوحيد بلاغة وبراعة . . . ولك البيان طريفه وتليده
فانثر أنت بديعه وعماده . . . وانظم أنت حبيبه ووليده
إيه أيها السيد الذي جلت سيادته ، وحلت صميم الفؤاد سعادته ، ودامت بها ينفع الناس عادته . ألقى إلى كتاب كريم ، خطته تلك اليمنى التي اليمن فيها تخطه . ونسقت جواهر بيانه ، التي راق بها سمطه ، فلا تسلوا عن ابتهاجي بأعاجيبه ، وانتهاجي لأساليبه ، وشدة كلفي بالتماح وسيمه ، وجدة شغفي باسترواح نسيمه . فإنه قدم ، وأنس(4/139)
"""""" صفحة رقم 140 """"""
النفس راحل ، واستعاده وروض الفكر ماحل ، فجاده ، لا جرم أنه بما حوى من حدق النوى ، وروى من طرق الهوى ، وبكى الربيع المحيل ، وشكى من صابح الرحيل ، هيج لواعج الأشواق وأثارها ، وحرك للنفس حوارها ، فحنت ، واستوهبت العين مدارها فما ضنت . فجاشت لوعة أسكنت ، وتلاشت سلوة عنت ، وكف دمع كف ، وثقل عذلٌ خف ، واشتد الحنين ، وامتد الأنين ، وعلا النحيب ، وعرا الوجيب ، والتقى الصب والحين ، وهدى المحب قدر ما جناه البين ، وطالما أعمل في احتمال المشاق عزيمه ، وشد لاجتياب الآفاق حيازيمه .
وادع مثوى المقام معتزما . . . لا يرى الغرام ملتزما
وأزمع الباين عن أحبته . . . أشعل البين في الحشى ضرما
وهل جرى ذاك في تصوره . . . فربما أحدث الهوى لمما
إلهي ألا نوى مشيئته . . . شملاً من العيش كان منتظما
وعاذلٌ قال لي يعنتني . . . لا تبد فيما فعلته ندما
ما حيلة في يدي فأعملها . . . عدلٌ من الله كل ما حكما
أما أن القلب لو فهم حقيقة البين قبل وقوعه وعلم قدر ما يشب من الروع في روعه ، لبالغ في اجتنابه ، واعتقد المعفى عنه من قبيل المعتنى به . ولحا الله الأطماع ، فإنها تستدرج المرء وتغره ، وتغريه بما يسره . ما زالت تقتل في الغارب والذروة ، وتخيل بالترغيب والثروة ، حتى أنأت عن الأحباب والحبايب ، ورمت بالغريب أقصى المغارب . فيا لوحشة ألوت بإيناسة ، وبالغربة أحلت في غير وطنه وناسه ، ويا عجباً للأيام وإساءتها ، وقرب مسرتها من مساتها ، كأنها لم تتحف بوصال ، ولم تسعف باتصال ، ولم تمتع بشباب ، ولم تفتح لقضاء أوطار النفس كل باب .
عجباً للزمان عق وعاقا . . . وعدمنا مسرة ووفاقا
أين أيامه وأين ليال . . . كلآل تلألؤاً واتساقا
كم نعمنا بظلها فكأنا . . . مرقها للصبا علينا رماقا(4/140)
"""""" صفحة رقم 141 """"""
كم بغرناطة وحمص وصلنا . . . باصطباح من السرور اغتباقا
وفي ربى نجد تلك أو نهر هدى . . . والأماني تجري إلينا استباقا في رياض راقت وراق ولكن . . . حين ند الحيا لها فأراقا
رق فيها النسيم فهو نسيب . . . قد سبا رقة نفوساً رفاقا
وثنا للغصون منها قدوداً . . . تتلاقى تصافحاً واعتناقا
كلما هب من صباه عليل . . . وتداوى بها العليل أفاقا
حكم السعد للأحبة فيه . . . بكؤوس الوصال أن تنساقا
ثم كرت للدهر عادة سوء . . . شق فيها خطب النوى حين شاقا
شتت الشمل بعد طول اجتماع . . . وسقى الفراق كأساً دهاقا
وأعاد الأوطان قفراً ولكن . . . قد أعاد القطان فيها الرفاقا
ليت شعري والعيش تطوي بالفيافي . . . أشاماً تبوؤا أم عراقا
يا حداة القلوب رفقاً بصبٍّ . . . بلغت نفسه السياق اشتياقا
فآه من شجوة وآه لبين ألزم . . . النفس لوعة واحتراقا
هذه يا سيدي استراحة من فؤاد ، وقدته الفرقة والقطيعة ، واستباحته لحمى الوقار بما لم تحظره الشريعة ، فقديماً تشوكيت الأحزان ، وتبوكيت الأوطان ، وحن المشتاق ، وكن له من الوجد ما لا يطاق ، فاستوقف الركب يشكو البلابل ، واستوكف السحب لسقيا المنازل ، وفدى الربع وإن زاده كرباً ، ومن له إن يلم لائماً له تربا . حسبه دموع تفيض مجاريها ، ونجوم يسامرها ويسايرها .
ألف السهاد فشأنه إدمانه . . . واستغرقت أحيانه أشجانه
وشكا جفا الطيف إذ لم يأته . . . هل ممكن من لم ينم إتيانه
واستعبدته صبابة وكذا الهوى . . . في حكم أحراره عبدانه
كم رام كتمان المحبة جهده . . . ودموعه يبدو بها كتمانه(4/141)
"""""" صفحة رقم 142 """"""
وإذا المحب طوى حديث غرامه . . . كبى الضلوع وشت به أجفانه
وهي طويلة .
وفاته
بمراكش سحر ليلة الأربعاء الرابعة والعشرين من رمضان سنة ستة وستين وستماية . ودفن عقب ظهره ، بجبانة الشيوخ مقارباً باب السادة أحد أبواب قصر مراكش . وكان الحفل في جنازته عظيماً . لم يتخلف كبير أحد .
علي بن محمد بن علي بن البنا
من أهل وادي آش يكنى أبا الحسن .
حاله
من الإكليل الزاهر ، قال فيه ، فاضل يروقك وقاره ، وصقرٌ بعد مطاره . قدم من بلده وادي آش يروم اللحاق بكتاب الإنشاء ، وتوسل بنظم أنيق ، وأدب في نسب الإجادة عريق ، تعرف براعته عن لسان ذليق ، وطبع طليق ، وذكاء بالأثرة خليق ، وبينا هو يلحم في ذلك الغرض ويسدي ، ويعيد ويبدي ، وقد كادت وسايله أن تنجح ، وليلة رجايه أن تصبح ، اغتاله الحمام ، وخانته الأيام ، والبقاء لله والدوام .
شعره
من شعره يخاطبني لما تقلدت الكتابة العليا :
هو العلا جرى باليمن طايره . . . فكان منك على الآمال ناصره
ولو جرى بك ممتداً إلى أمل . . . لأعجز الشمس ما أمت عساكره
لقد حباه منيع العز خالقه . . . بفاضل منك لا تحصى مآثره
فليزه فخراً فما خلقٌ يعارضه . . . ولا علاً مدى الدنيا يفاخره
لله أوصافك الحسنى لقد عجزت . . . من كل ذي لسن عنها خواطره
هيهات ليس عجيباً عجز ذيل سن . . . عن وصف بحر رمى بالدر زاخره(4/142)
"""""" صفحة رقم 143 """"""
هل أنت إلا الخطيب ابن الخطيب . . . ومن زانت حلى الدين والدنيا مفاخره
فإن يقصر عن الأوصاف ذو أدب . . . فما بدا منك في التقصير عاذره
يابن الكرام الألى ما شب طفلهم . . . إلا وللمجد قد شدت مآزره
مهلاً عليك فما العلياء قافية . . . ولا العلا بسجعٍ أنت ناثره
ولا المكارم طرساً أنت راقمه . . . ولا المناقب طباً أنت ماهره
ماذا على سابق يسري على سنن . . . إن كان من نفعه خل يسايره
سر حيث شيت من العليا سيداً . . . فما أمامك سابقٌ تحاذره أنت الإمام لأهل الفخر إن فخروا . . . أنت الجواد الذي عزت مفاخره
ما بعد ما حزته من عزة وعلاً . . . شأو يطارد فيه المجد كابره
نادت بك الدولة الشعرى محتدها . . . نداء مستجد أزراً يوازره
حلية لما برد البر مرتدياً . . . وصج يمنك فجر السعد ساجره
فالملك يرفل في أبراده مرحاً . . . قد عمت الأرض إشراقاً بشايره
فأضاء بها نعمة ما أن يقوم فيها . . . من اللسان ببعض الحق شاكره
وليهننا أنه ألقت مقالدها . . . إلى سرى زكت منه عناصره
فإنه بدر تم في مطالعها . . . قد طبق الأرض بالأنوار نايره
ومن أطبع ما هز به إلى إقامة سوقه ، ورعى حقوقه ، قوله :
يا معدن الفضل موروثاً ومكتسبا . . . فكل مجد إلى عليائها انتسبا(4/143)
"""""" صفحة رقم 144 """"""
بباب مجدكم الأسمى أخو أدب . . . مستصرخ بكم يستنجد الأدبا
ذل الزمان له طوراً فبلغه . . . من بعض آماله بعض الذي طلبا
والآن أركبه من كل نابية . . . صعب الأعنة لا يألو به نصبا
فحملته دواعي حبكم وكفى . . . بذاك شافع صدقٍ يبلغ الأربا
فهل سرى نسمة من جاهكم . . . فيها خليفة الله فينا يمطر الذهبا
وأهدى إلي قباقب خشب برسمي ومعها من جنسها صغار للأولاد من مدينة وادي آش من خشب الجوز وكتب لي معها :
هاكها ضمراً مطايا حساناً . . . نشأت في الرياض قضباً لدانا
وثوت بين روضة وغدير . . . مرضعات من النمير ليانا
ثم لما أراد إكرامها الله . . . وسنى لها المنى والأمانا
قصدت بابك العلى ابتداراً . . . ورجت في قبولك الإحسانا
قد قبلنا جيادك الدهم لما . . . لما أن بلونا منها العتاق الحسانا
أقبلت خلف كل حجر ببيع . . . خلعت وصفها عليه عيانا
فقبلنا برعيها وفسحنا في . . . ديار العلى لها ميدانا
وأردنا امتطاها فأفخذنا . . . من شراك الأديم فيها عنانا
قدمت قبلها كتيبة سحر . . . من كتابٍ سبت به الأذهانا
مثلما تجنب الجيوش المذاكى . . . عدة للقاء مهما كانا(4/144)
"""""" صفحة رقم 145 """"""
لم ترق مقلتي ولا رق قلبي . . . كحلاها براعة وبيانا
من يكن مهدياً فمثلك يهدى . . . لم أجد للثنا عليك لسانا
وفاته
توفي في الرابع لشعبان من عام خمسين وسبعماية معتبطاً في الطاعون لم يبلغ الثلاثين .
علي بن محمد بن علي العبدري
سكن غرناطة ، يكنى أبا الحسن ويعرف بالوارد ، ويشهر أبوه باليربوني .
حاله بقية مسني أدباء الأندلس في فن الهزل والمعرب ، والهزل متولى شهرته ، وله القدح المعلى فيه ، والطريقة المثلى ، ظريف المأخذ ، نبيل الأغراض ، حافظ للعيون ، مال بآخرة إلى النسك ، وصحبة الصالحين . ولم يزل بحاله الموصوفة إلى أن استولت عليه الكبرة ، وظرفه يتألق خلال النسك . وجرى ذكره في الإكليل الزاهر بما نصه : أديب نار ذكايه كأنه يتوقد ، وأريبٌ لا يعترض كلامه ولا ينقد . أما الهزل فطريقته المثلى ، التي ركض في ميدانها وجلى ، وطلع في أفقها وتجلى ، فاصبح علم أعلامها ، وعابر أحلامها . إن أخذ بها في وصف الكاس ، وذكر الورد والآس ، وألم بالربيع وفصله ، والحبيب ووصله ، والروض وطيبه ، والغمام وتقطيبه . شق الجيوب طرباً ، وعل النفوس إرباً وضرباً . وأن اشفق لاعتلال العشية ، في فرش الربيع الموشية ، ثم تعداها إلى وصف الصبوح ، وأجهز على الرق المجروح ، وأشار إلى نغمات الورق يرفلن في الحلل الزرق ، وقد اشتعلت الليل نار البرق ، وطلعت بنور الصباح في شرفات الشرق ، سلب الحليم وقاره ، وذكر الخليع كأسه وعقاره ، بلسان يتزاحم على مورده الخيال ، ويتدفق من حافاته الأدب السيال ، وبيان يقيم أود المعاني ، ويشيده صانع اللفظ محكمة المباني ، ويكسو حلل الإحسان جسوم المثالث والمثاني ، إلى نادرة لمثلها يشار ، ومحاضرة يجنى بها الشهد ويسار .
وقد أثبت من شعره المعرب . وإن كان لا يتعاطاه إلا قليلاً ، ولا يجاوره إلا تعليلاً ، أبياتاً لا تخلو من مسحة جمال على صفحاتها ، وهبة طيبٍ ينم في نفحاتها .
فمن ذلك قوله :
يذكرني حسن الكواعب روضة . . . لها خطر قيد النواظر مونق(4/145)
"""""" صفحة رقم 146 """"""
خدود من الورد النضير وأعين . . . من النرجس السامي إليها تحدق
وخامات زرع يانع كذؤاب . . . وما شقها من جدول الماء مفرق
ومن شعره قوله :
أسافرة النقاب سحرت لما . . . أمطت الخز عن بدر التمام
وتيمت الفؤاد بفنج طرفٍ . . . كحيل ما يفيق من المنام
لعمر أبيك ما بالنوم بعدٌ . . . عن الجفن المكحل بالظلام
ومن معانيه المخترعة وأغراضه المبتدعة . وكلها كذلك :
مالي إذا غبتم تهمى لفرقتكم . . . عيني بمنهمر كالغيث هتان
أشبهت نيلوفراً والشمس بهجتكم . . . إن غبتم غبت في أمواه أجفان
السقم يشهد لي والدمع برح بي . . . متى استوى عندكم سرٌّ وإعلان
وقال من المستحسن الذي رمى فاصاب ، واستمطر طبعه فصاب :
يقولون لاح الشيب فاله عن الصبا . . . وعن قهوة تصبو لها وتنيب
فقلت دعوني نصطحبها سلافة . . . على صبح شيبي فالصبح عجيب
وقال كذلك :
لا تعجبن من اليليد مخولاً . . . ومن اللبيب يعد في الفقراء
الماء أصل الخصب غير مدافع . . . وأخو البلادة طبعه كالماء
والنار مؤثرة الجدوب وإنها . . . لشبيهة بطبائع الفطناء
ومن قصائده الغربية :
ومعذرٌ لحظ المشيب بعارضي . . . فتصرمت دوني حبال وصاله
هلا ثنتهه نسبة لمحبه . . . إن العذار لشيبة لجماله
وقال أيضاً :
تحر الصدق إن حدثت يوماً . . . وإن حدثت لا تنقل حديثاً
وكن للسر صواناً كتوماً . . . وريما كان سرك أو حديثاً
قال مما يكتب في غمد سيف :
لئن راق مني منظر بان حسنه . . . لقد سامني بالمهند باطن
كان أديمي رقعة من حديقة . . . تلقفها صلٌّ لدى الروض كامن(4/146)
"""""" صفحة رقم 147 """"""
وقال مما يكتب على قوس :
إن كان من وتر الألحان منبعثاً . . . سرور قوم مدى الآصال والبكر
فإن حزن العدا ما نال منبعثاً . . . مني وحينهم في النقر في وتر
وقال في غير هذا الغرض :
الخير كل الخير في ستة لم . . . تلف إلا في كرام الرجال
الحزم والحلم وحمل الأذى . . . والصبر والصمت وصدق المقال
ومما نختتم به محاسنه قوله :
ألا إن باب الله ليس بمغلق . . . ولا دونه من مانع لموفق
ولكن بلينا في سلوك طريقه . . . بكلبٍ من الشيطان ليس بمطرق
فمن يرم بالدنيا إليه كلقمة . . . فذاك الذي من شره ليس يتق فخل عن الدنيا ودع عنك حبها . . . يدعك إلى أوج السعادة ترتق
وقوله :
ايقنت أن جميع الخلق ليس له . . . شيىء من الأمر في شيىء فيصنعه
فلا أخاف ولا أرجو مدى عمري . . . الأ الذي في يديه الخلق أجمعه
مولده
بمدينة مالقة في اليوم الثالث والعشرين لذي حجة من عام أحد وثمانين وستماية
وفاته
في أحواز أحد وستين وسبعماية
علي بن عبد العزيز بن الإمام الأنصاري
يكنى أبا الحسن ، سرقسطي الأصل ، غرناطي الاستيطان والاستعمال .
حاله
كان وزيراً جليلاً ، معظم القدر . مبجلاً أثيراً ، ذا معارف جمة ، أحد كتاب الزمن ، وأهل البلاغة والفصاحة والكرم . وزر للأمير أبي الطاهر تميم بن يوسف بن تاشفين ، صاحب غرناطة فحمدت وزارته ، وكتب للأمير علي بن يوسف . وروى عن شيوخ غرناطة .
أخباره في الجود والجلالة
قال أبو القاسم ، شكى إليه بعض إخوانه من حادث طرقه ، وأن النفاق أخرجه من بلده ، وحال بينه وبين بلده ، فأنزله أكرم منزل وخرج إلى المسجد الجامع ،(4/147)
"""""" صفحة رقم 148 """"""
وأشهد على نفسه أنه وهبه الربع من أملاكه ، وكتب بذلك عقداً ودفعه إليه ، وقال يا أخي إن ذلك سيصلح من حالك ، وحالي لا يتسع لأكثر من هذا ، فاعذر أخاك . وكان الذي وهبه يساوي فوق الألف دنير مرابطية ، فرحم الله الوزير أبا الحسن : فلقد كان نادرة الزمن .
شعره
من ذلك قوله :
يا ليت شعري والأماني كلها . . . زور يغرك أو سراب يلمع
في كل يوم منزل لأحبة . . . كالظل يلبس للقيل ويخلع
ومن ذلك قوله :
تسموا بالمعارف والمعالي . . . فليس المجد بالرحم البوال
وإن فاتا فبالبيض المواضي . . . وبالسمر المثقفة العوال
وإذا المرء تنهضه هذي . . . فليس بنا هض أخرى الليال
ومن أسمته أسباب سواها . . . فرفعتها تؤل إلى سفال
ومن المحدثين والفقهاء والطلبة النجباء
علي بن إبراهيم بن علي بن إبراهيم الجذامي
القاضي المتفنن الحافظ ، من أهل غرناطة يكنى أبا الحسن .
حاله
من الصلة ، كان عدلاً فاضلاً جليلاً ، ضابطاً لما رواة ، فقيهاً حافظاً ، حسن التقييد .
تواليفه
قال اختصركتاب الاستذكار لأبي عمر بن عبد البر . وغير ذلك .
مشيخته
روى عن أبي محمد عبد الحق بن بونه ، والقاضي أبي عبد الله بن زرقون ، وأبي القاسم بن حبيش ، وأبي خالد بن رفاعة ، وأبي محمد بن عبيد الله ، وأبي زيد السهيلي ، وابي عبد الله بن الفخار ، وأبي الوليد بن رشد .(4/148)
"""""" صفحة رقم 149 """"""
مولده
ضحوة يوم الأضحى من عام خمسة وخمسين وخمسماية .
وفاته
وتوفي قريب الظهر من يوم الأربعاء التاسع عشر لذي حجة من عام اثنين وثلاثين وستماية .
من روى عنه . روى عنه القاضي أبو علي بن أبي الأحوص .
علي بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن الضحاك الفزاري
من أهل غرناطة ، يكنى أبا الحسن ، ويعرف بابن النفزي .
حاله
قال أبو القاسم الغافقي ، فقيه مشاور بغرناطة ، محدث متكلم .
مشيخته
أخذ عن أبي الحسن شريح ، وعن الإمام أبي الحسن علي بن أحمد بن الباذش ، وعن أبي القاسم بن ورد ، وعن القاضي أبي الفضل عياض بن موسى ، وعن الإمام أبي عبد الله المازري ، وعن أبي الطاهر السلفي ، وعن أبي مروان بن مسرة ، وأبي محمد بن سماك القاضي ، وعلي بن عبد الرحمن ابن سمحون القاضي ، والقاضي أبي محمد بن عطية ، والمشاور أبي القاسم عبد الرحيم بن محمد ، والقاضي أبي القاسم بن أبي جمرة ، وجماعة يطول ذكرهم .
تواليفه وله تواليف في أنواع من العلم ، منها كتاب نزهة الأصفياء وسلوة الأولياء في فضل الصلاة على خاتم الرسل وصفوة الأنبياء غثنا عشر جزءاً ، وكتاب زواهر الأنوار وبواهر ذوي البصاير والاستبصار في شمايل النبي المختار ، سفران كبيران ، وكتاب منهج السداد في شرح الإرشاد ثلاثون جزءاً ، وكتاب مدارك الحقائق في أصول الفقه خمسة عشر جزءاً ، وكتاب تحقيق القصد السني في معرفة الصمد العلي سفر ، وكتاب نتايج الأفكار في إيضاح ما يتعلق بمسئلة الأقوال من الغوامض والأسرار سفر ، وكتاب تنبيه المتعلمين على المقدمات والفصول وشرح المهمات منها والأصول سفر ، وكتاب السباعيات ، وكتاب تبيين مسالك العلماء في مدارج الأسماء ، وكتاب رسائل الأبرار . وذخائر أهل الحظوة والإيثار في انتخاب الأدعية المستخرجة من الأخبار والآثار سفران اثنان ، وكتاب الإعلام في استيعاب الرواية عن الأيمة الأعلام سفران .(4/149)
"""""" صفحة رقم 150 """"""
وفاته
توفي في الكاينة بغرناطة سنة سبع وخمسين وخمسماية . خرج منها يريد وادي آش ، فلم يصل إليها ، وفقد فلم يوقع له على خبر .
علي بن عبد الله بن يحيى بن زكريا الأنصاري
يكنى أبا القاسم ، ويعرف بابن زكريا .
أوليته : قد مر في ذكر أبيه وعمه .
حاله
هذا الرجل فاضل ، سكون ، من أهل السذاجة والسلامة ، والعفاف والصيانة ، معم مخول في الخير . طاهر النشأة . جانح للعدالة . قعد للعلاج ، وبرز في صناعة الطب ، علىفتاً من سنه ، واستيم إليه بمهم من نبيه العمل وخطته ، متصف بالإجادة والبيان .
مشيخته
قرأ العربية والفقه وغيرهما من المبادىء على مشيخة وقته ، والطب على الوزير أبي يزيد خالد بن خالد من أهل غرناطة ، وقعد معه .
شعره
ينتحل من الشعر ما عينه في الشرود أو غير ذلك فراره كقوله :
صعدت نار فؤادي أدمعي . . . فلذا ما جف قلبي فانفطر
لو أباح الله لي وصلك . . . الأنبل صدع القلب مني وانخبر
أصل داني منك لحظٌ فاتر . . . وأشد اللحظ ما ما فتر
كيف أرجو منه براً وغدت . . . قهوة الحسن تسقيه درر
فانظر قوله ، الأنبل من شعره :
ولي همة من دونها كل همة . . . أموت بها عطشان أو يخلص الشرب
يعز على الكريم ورود ماء . . . يكدره شوب ويطرقه نهب
وإني وأن أضحى لودك موضع . . . من القلب أضحى دون موضعه الخلب
فتمنعني نفسي لايتمان أرواحهم . . . على شربٍ يونقه قشب(4/150)
"""""" صفحة رقم 151 """"""
غفر الله له على قشب ، وتجاوز عنه ، فلقد دفع منه ففضحها .
وهو بحاله الموصوفة
ومن الطارئين والغرباء
علي بن أحمد بن محمد بن أحمد بن علي بن أحمد الخشني
من أهل مالقة ، من قرية يعشيش من عمل ملتماس ، من شرقيها يكنى أبا الحسن . ودخل غرناطة ومدح أمراءها وتردد إليها .
حاله
من عايد الصلة : من صدور أهل الدين والفضل ، والخير والصلاح والنزاهة ، والاقتصاد والانقباض ، تحرف بصناعة التوثيق بمالقة ، جارياً على شاكلة مثله من الاقتصاد ، والتبلغ باليسير ، ومصابرة الحاجة ، مكباً على المطعالة والنظر ، مجانباً للناس ، بعيداً عن الريب ، مؤثراً للزهد في الدنيا . ولي الخطابة بالمسجد الأعظم من قصبة مالقة في عام وفاته .
مشيخته
قرأ على الأستاذ الصالح الخطيب أبي جعفر بن الزيات ، والأستاذ المقري رحلة الوقت أبي عبد الله بن الكماد .
شعره
وشعره آخذٌ بطرف من الإجادة في بعض المقاصد ، فمن ذلك قوله :
أرى لك في الهوى نظراً مريباً . . . كأن عليك عاذلاً أو رقيباً
ولست بخائف في الحب شيئاً . . . على نفسي مخافتي المشيبا
يريني كل ما تهواه نفسي . . . قبيحاً مالياً عيني عنيبا
أنا منه ابن قيس لا يراح . . . فذق مر التأسف مستطيبا
إذا ما كنت تبكي فقد حبٍّ . . . فما مثل الشباب به حبيبا
وقال في مذهب المدح من المطولات :
الآن تطلب ودها ووصالها . . . من بعد ما شغلت بهجرك بالها
وقد استحالت فيك سيما الصبا . . . حالاً يروع مثلها أمثالها
وأتيتها متلبساً بروايع نكرٍ . . . بفودك أصبحت عذالها(4/151)
"""""" صفحة رقم 152 """"""
بيضٌ تخيل للنفوس نصولها . . . سمراً تخول للنحور نصالها
مثل الأفاعي الرقط تنفث . . . في الحشا وأرى بفودك جثماً أطالها
نار تضرم في الفؤاد حريقها . . . لكن تنير بمفرقيك ذبالها
جزعت لهذا الشيب نفسي . . . وهي ما زالت تهون كل صعب نالها
ولكم صدعت بنافذ من عزمتي . . . هماً لا يهدي العليم ضلالها
صادمت من كرب الدنا أشتاتها . . . ما خفت غربتها ولا إقلالها
ولئن تقلص عسرتي فيىء الغنا . . . عني فلي نفسٌ تمد ظلالها
ما مزقت ديباجتي غير امرىءٍ . . . عرضت عليه النفس قط سؤالها
ألقى الليالي غير هبٍّ صرفها . . . والأسد غير مجنب أغيالها
أمشي الهوينا والعداة تمر بي . . . مراً يطير عن الجياد نسالها
علمت لي الخلق الجميل محققاً . . . وتسيء في على عملي أقوالها
تبغي انثناءً وهل سمعت بنسمة . . . مرت على نجدٍ تهز جبالها
ولربما عرضت لعيني نظرة . . . يرضى الحكيم غرامها وخبالها
من غادةٍ سرق الصباح بهاءها . . . والبدر في ليل التمام كمالها
تهوى المجرة أن تكون نجومها . . . من حليها وهلالها خلخالها
عرضت كما مرت بعينك مطفل . . . ترعى بناظرك الكحيل غرامها
ما نهنهت نفسي وإن ضمنت لها . . . عبراتها يوم الوداع وصالها
من كان يأمل أن يقوم بمجلس . . . حطت به شهب السما أثقالها
محا أحاديث السراة أولي النها . . . نصاً ويضري في العلى أمثالها
ألقى هواه جانباً وسرى به . . . وجنا تدوي في الدجى إعمالها
ومنها في المدح :
ألبست دين الله حلة أمن . . . أضفت على اسرايه ذلذالها
أنتم بني نصر نصرتم ملة الإسلام . . . حين شكت لكم عذالها
كنتم لها أهلاً ورحبتم بها . . . في الغربتين ومنتم إنزالها(4/152)
"""""" صفحة رقم 153 """"""
نزلت على سعد ليسعد جدها . . . وأوت إلى نصر لينصر أليها
أحرزتم يوم السقيفة عودها . . . دون الأنام وقودها وسكالها
لكن حبوتم من أجرتم منة . . . بخلافة الله التي يعنى لها
إذ تؤثرون سواكم قالت بذا . . . آي الكتاب فمن يرد مقالها
حتى إذا عثرت ولم ينهض بها . . . إلا كم بادرتم إنشالها
أويتم خير البرية كلها . . . ومغيثها ونجاتها وثمالها
من ألبس الشرف الرفيع وضيعها . . . وكسا معصفرة الحجا جهالها
من أم في السبع العلى أملاكها . . . جبريلها في الغرب أو ميكالها
من أنقذ الغرقى وقد شمل الردى . . . هذا الأنام خيارها وحثالها
من فاضت الخيرات من تلقايه . . . كالصبح فاض على الدجى فأزالها
من فجر العين الفرات بكفه . . . يرو الورى ورد القطا سلسالها
من لا يقاس بالرياح إذا سرت . . . نشراً تقل من السحاب ثقالها
معنى وجود الكون علة كونه . . . نفس الحياة منفساً أهوالها
دامت صلاة الله ديمة عارض . . . يهمى عليه ندى الدنا هطالها
لما تحققت النبوة أنها قد . . . زلزلت منها الورى زلزالها
وتقاعست عن منعها أعمامها . . . أمت أيمة نصرها أحوالها
فوثبتم مثل الليوث لنصرها . . . والحرب تجنب خلفها أشبالها
وأدرتم منها زبوناً أصبحت . . . ترمي رؤوس الملحدين ثقالها
بدرٌ وما بدرٌ وردم قلبها . . . بجنادل الطاغوت تملأ جالها
ولكم بأوطاس وقد حمي الوطيس . . . على العدا يوم أطاح بحالها فنزعتم أزواجها وسبيتم أولادها وسلبتم أموالها
وذهبتم بالمصطفى لدياركم . . . وحياً سواكم ساقها وجمالها
فزتم به فوز المعلى منحة . . . أحرزتم دون الأنام منالها
يا أيها الملك الذي من ملكه . . . جنت الملوك جمالها وجلالها
مازال حزبك منهم يعلو على . . . مر الدهور ويعتلي أجبالها
حتى حللت من المجادة ذروة . . . ما حل غيرك في المجادة حالها
تحمي الهدى تهمي الندى تولي . . . الجدا وتقي الردى وترى العدا أوجالها(4/153)
"""""" صفحة رقم 154 """"""
قعدت شريعته بيمنك ليس من . . . كدر يشين على العباد زلالها
يا سيد السادات يا ملك الملوك . . . وشمسها وصباحها وهلالها
يا بدرها يا بحرها أو غيثها أو . . . ليثها أو حسنها وجمالها
خذها كما دارت بكأس سلافها . . . حوراء تمزج باللما جريالها
تثني على السحر المبين وشاحها . . . وتدير من خمر الفتور جلالها
لمياء تبرز للعيون كشاطر . . . والعقل يوجب حكمه إجلالها
وقفت وذو إحسانها من هاشم . . . من سبط خير العالمين حيالها
يرجو رضاك وطالما أرضيتم . . . آل النبي وكنتم أرسالها
كم من يد بيضا لدينا منكم . . . شكرنا له وأولياه فعالها
آويتم واسيتم واليتم . . . أحللتمونا داركم وجلالها
وهجرتم لوصالنا أعداءنا . . . ووصلتم لصلاتنا أوصالها
فصلوا أحياءنا ما استطعتم وصله . . . تعطوا من أجزا الجزاء جزالها
وله تأليف غريب عكف عليه عمره في فضل مكة ، وكأنه يروم برهاناً على وجوب كونها بالموضع الذي هي به ، وفضله على سواه ، وتكلم على حروف اسمها ، من جهة تناسب أعداد الحروف ، مما الناظر فيه مخير في نسبه إلى العرفان أو الهذيان .
وفاته
توفي بمالقة في أخريات صفر من عام خمسين وسبعماية .
علي بن أحمد بن محمد بن يوسف بن مروان بن عمر الغساني
من أهل وادي آش ، وروى وتردد إلى غرناطة ، يكنى أبا الحسن .
حاله
كان فقيهاً حافظاً ، يقظاً ، حسن النظر ، أديباً ، شاعراً مجيداً ، كاتباً بليغاً ، فاضلاً .
مشيخته
روى عن أبي إسحاق بن عبد الرحيم القيسي ، وابي الحسن طاهر ابن يوسف ، وأبي العباس الخروبي . وأبي القاسم بن حبيش ، وأبي محمد عبد المنعم بن الفرس الغرناطي ، ومحمد بن علي بن مسرة .(4/154)
"""""" صفحة رقم 155 """"""
وروى عنه ، أبو بكر بن عبد النور ، وأبو جعفر بن الدلال ، وأبو عبد الله بن أحمد المذحجي ، وأبو سعيد الطراز ، وابن يوسف وابن طارق ، وأبو علي الحسن بن سمعان ، وأبو القاسم بن الطيلسان .
تواليفه
صنف في شرح الموطأ مصفناً سماه نهج المسالك للتفقه في مذهب مالك في عشرة مجلدات . وشرح صحيح مسلم وسماه اقتباس السراج في شرح مسلم بن الحجاج . وشرح تفريع ابن الجلاب ، وسماه الترصيع في شرح مسائل التفريع . وصنف في الآداب ، منظوماته ورسايله ، وهي شهيرة ، شاهدة بتبريزه وتقدمه . وله نظم شمايل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، رسالة بديعة ، تشتمل على نظم ونثر ، بعث بها إلى القبر الشريف . وله كتاب الوسيلة إلى إصابة المعنى في أسماء الله الحسنى .
شعره
من شعره في الوسيلة ، وقد ضمن كل قطعة أو قصيدة إسماً من أسماء الله تعالى ، فمنها قوله في اسم الله سبحانه :
قل الله نستفتح من أسمائه الحسنى . . . بأعظمها لفظاً وأعظمها معنى
هو الله فادع الله بالله تقترب . . . لأقرب قربى من وريدك أو أدنى
وىمله مضطراً وقف عند بابه . . . وقوف عزيز لا يصد ولا يثنى
بباب إله أوسع الخلق رحمة . . . فلله ما أولى أبر وما أحنى
وقدم من الإخلاص ثم وسيلة . . . تنل رتبة العليا والمقصد الأسنى أمولاي هل للخلق غيرك مفضل . . . يصرح عن ذكراه في اللفظ أو يكنى
ببابك مضطر شكا منك فقره . . . لأكرم من أغنى فقيراً ومن أقنى
وللفضل والمعروف منك عوايد . . . لها الحمد ما أدنى قطوفاً وما أهنى
فمنها لك الإنعام دأباً خوالداً . . . تفانى بها الأيام طراً ولا يفنى
وفاته
توفي شهيداً في ربيع الآخر سنة تسع وستماية .
علي بن صالح بن أبي الليث الأسعد بن الفرج بن يوسف
طرطوشي ، سكن دانية ، يكنى أبا الحسن ، ويعرف بابن عز الناس .(4/155)
"""""" صفحة رقم 156 """"""
حاله
كان عالماً بالفقه ، حافظاً لمسايله ، متقدماً في علم الأصول ، ثاقب الذهن ، ذكي الفؤاد ، بارع الاستنباط ، مسدد النظر ، متوقد الخاطر ، فصيح العبارة ، ذا خط مروض .
من روى عنه : روى عنه أبو بكر أسامة بن سليمن ، وسليمن بن محمد ابن خلف ، ويحيى بن عمر بن الفصيح .
دخوله غرناطة
قالوا ، واستخلصه الأمير أبو زكريا يحيى بن غانية أيام إمارته ببلنسية لمشهور معرفته ونباهته ، ثم سار معه إلى قرطبة ، ولازمه ، إلى أن توفي أبو زكريا بن غانية ، بغرناطة سنة ثلاث وأربعين . فانتقل إلى شرق الأندلس ، واستقر بدانية .
تواليفه
وله مصنفات منها كتاب العزلة ، ومنها شرح معاني التحية .
ولد بطرطوشة سنة ثمان وخمسماية ، وتوفي بدانية . قتل مظلوماً بإذن ابن سعد الأمير في رمضان سنة ست وستين وخمسماية .
علي بن أبي جلا المكناسي
يكنى أبا الحسن .
حاله
كان شيخاً ذكياً ، طيب النفس ، مليح الحديث ، حافظاً للمسايل الفقهية ، عارفاً لها ، قايماً على كتاب المدونة ، تفقه بالشيخ أبي يوسف الجزولي ،(4/156)
"""""" صفحة رقم 157 """"""
وعليه اجتهد في مسايل الكتاب . وكان مضطلعاً بمشكلاته . حسن المذاكرة ، مليح المجلس أنيسه ، كثير الحكايات ، إلا أنه كان يحكي غرايب شاهدها تملحاً وأنساً ، فينمقها عليه الطلبة ، وربما تعدوا ذلك إلى الافتعال على وجه المزاح والمداعبة ، حتى لجمعوا من ذلك كثيراً في جزءٍ سموه بالسلك المحلا في أخبار ابن أبي جلا . فمن ذلك ما زعموا أنه حدث بأنه كانت له هرة ، فدخل البيت يوماً ، فوجدها قد بلت أحد كفيها ، وجعلته في الدقيق حتى علق به ، ونصبته بإزاء كوة فأر في الجدار ورفعت اليد الأخرى لصيده ، فناداها باسمها ، فردت رأسها ، وجعلت أصبعها في فمها على هيئة المشير بالصمت . وأشباه ذلك كثير .
وفاته
في حدود ستة وأربعين وسبعماية .
علي بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن علي بن سمحون الهلالي
يكنى أبا الحسن .
حاله
كان شيخاً جليلاً ، فقيهاً ، عارفاً ، نبيلاً ، نبيهاً ، ذا مروءة كاملة ، وخلق حسن ، من بيت حسب وعلم ودين . قال أبو القاسم الملاحي ، حدثني صاحبنا الفقيه الخطيب أبو جعفر بن حسان ، قال كنت أجاوره في بعض أملاكي ، وكان له ملك يلاصقني ، أتمنى أن أكتسبه ، فينتظم لي به ما هو مفترق ، فوافقته ذات يوم في القرية ، فسألته المعاوضة به ، وخيرته في مواضع في أرضي ، فضحك مني ، وقال لي أنظر في ذلك إن شاء الله . ثم إنه وجه لي بعد ذلك بأيام يسيرة ، بعقد يتضمن البيع وقبض الثمن مني ، فخجلت منه ، وراودته في أخذ الثمن فأبى وقال لي هذا قليل في حقك ، وكان قد لقي شيوخاً أخذ عنهم ، وكانت له كتب كثيرة .
وفاته
توفي بالمنكب صبح اليوم السادس من رمضان عام ستة وتسعين وخمسماية . ولست أحقق أهو القريب أو سلفه ، وعلى كلا التقديرين ، فالفضل حاصل .(4/157)
"""""" صفحة رقم 158 """"""
علي بن محمد بن عبد الحق الزويلي
يكنى أبا الحسن ، ويعرف بالصغير ، بضم الصاد وفتح الغين والياء المشددة
حاله من المؤتمن . كان هذا الرجل قيماً على التهذيب للبرادعي ، حفظاً وتفقهاً ، يشارك في شيءٍ من أصول الفقه ، يطرز بذلك مجالسه ، مغرباً به بين أقرانه من المدرسين في ذلك الوقت ، لخلوهم من تلك الطريقة بالجملة . حضرت مجلس إقرايه ، وكان ربعةً آدم اللون ، خفيف العارضين ، يلبس أحسن زي صنعة ، وأحسن ما فيه ليس بحسن . وكان يدرس بجامع الأصدع من داخل مدينة فاس ، ويحضر عليه نحو مائة نفس ، ويقعد على كرسي عال ليسمع البعيد والقريب ، على انخفاض كان في صوته ، حسن الإقراء ، وقوراً فيه ، سكوناً ، مثبتاً ، صابراً على هجوم طلبة البربر ، وسوء طريقتهم في المناظرة والبحث ، وكان أحد الأقطاب الذين تدور عليهم الفتوى أيام حياته ، ترد عليه السؤالات من جميع بلاد المغرب ، فيحسن التوقيع على ذلك . على طريقة من الاختصار وترك فضول القول . ولي القضاء بفاس . قدمه أبو الربيع سلطان المغرب وأقام أوده ، وعضده ، فانطلقت يده على أهل الجاه ، وأقام الحق على الكبير والصغير ، وجرى من العدل على صراط مستقيم . ونقم عليه اتخاذ شمام يستنشق على الناس الخمر ، ويحق أن ينتقد ذلك .
مشيخته
أخذ عن الفقيه راشد بن أبي راشد الوليدي وانتفع به ، وعليه كان اعتماده . وأخذ عن صهره أبي الحسن بن سليم ، وأبي عمران الجورماني ، وعن غيرهم . وقيدت عنه بفاس على التهذيب وعلى رسالة أبي زيد ، قيدها عنه تلاميذه وأبرزوها تأليفاً كأبي سالم بن أبي يحيى .
وفاته
وفاته يوم الثلاثاء السادس لرمضان عام تسعة عشر وسبعماية ، ودخل غرناطة لما وصل رسولاً على عهد مستقضية رحمهما الله .(4/158)
"""""" صفحة رقم 159 """"""
علي بن محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن يحيى بن عبد الله بن يحيى الغافقي
سبتي ساري الأصل ، انتقل منها أبوه سنة اثنتين وستين وخمس ماية ، يكنى أبا الحسن ، ويشهر أهل بيته في سارة بني يحيى .
حاله
من التكملة . كان محدثاً راوية مكثراً ، عدلاً ثقة ، ناقداً ، ذاكراً للتواريخ وأيام الناس ، وأحوالهم وطبقاتهم ، قديماً وحديثاً ، شديد العناية بالعلم ، والرغبة فيه ، جاعلاً الخوض فيه ، مفيداً ومستفيداً ، وظيفة عمره ، جماعة للكتب ، منافساً فيها ، مغالياً في أثمانها ، وربما أعمل الرحلة في التماسها ، حتى اقتنى منها بالإبتياع والإنتساخ كل علق نفيس . ثم انتقى منها جملة وافرة فحبسها في مدرسته ، التي أحدثها بقرب باب القصير ، أحد أبواب بحر سبتة ، وعين لها من خيار أملاكه ، وجيد رباعه ، وقفاً صالحاً . سالكاً في ذلك طريقة أهل المشرق ، وقعد بها بعد إكمالها لتروية الحديث وإسماعه ، في رجب خمس وثلاثين وستماية ، وكثر الأخذ بها عنه ، واستمر على ذلك مدة . وكاىن سري الهمة ، نزيه النفس ، كريم الطبع ، سمحاً ، مؤثراً ، معاناً على ما يصدر عنه من المآثر الجليلية ، ونبل الأغراض السنية ، بالجدة المتمكنة ، واليسار الواسع . وكان سنياً ، منافراً لأهل البدع ، محباً في العلم وطلابه ، سمحاً لهم بأعلاق كتبه ، قوي الرجاء في ذلك . ومما يؤثر عنه من النزاهة ، أنه لم يباشر قط دنيراً ولا درهماً ، إنما كان يباشر ذلك وكلاؤه اللايذون به .
مشيخته
روى عن أبوي الحسن أبيه والتجيبي ، وأبي الحسن بن عطية بن غازي ، وأبي عبد الله محمد بن عيسى ، وابن عبد الكريم ، وابن علي الكتاني ، وابي إسحق الشقوري ، وابوي بكر بن الفصيح ، ويحيى بن محمد بن خلف البوريني ، وأبي الحسن بن خروف النحوي ، وابن عبيدس ، وابن جابر ، وابن جبير ، وابن زرقون ، وابن الصايغ ، وأبي بكر بن أبي ركب ، وأبي سليمان بن حوط الله ، وأبي العباس القوراني ، وأبي القاسم عبد الرحيم ابن الملجوم ، وأبي محمد الحجري وأكثر عنه ، وابن حوط الله ، وابن محمد بن عيسى التادلي ، وعبد العزيز بن زيدان ، ويشكر بن موسى ابن الغزلقي هؤلاء ، وأخذ عنهم بين سماع وقراءة ، وأكثرهم أجازه(4/159)
"""""" صفحة رقم 160 """"""
أو كتب إليه مجيزاً . ولم يلقه أبو جعفر بن مضاء ، وأبو الحسن بن القطان ونجبه ، وأبو عبد الله بن حماد ، وابن عبد الحق التلمساني ، وابن الفخار ، وأبو القاسم السهيلي ، وابن حبيش ، وأبو محمد عبد المنعم ابن الفرس . واستجاز بآخرة مكثراً من الاستفادة ، أبا العباس بن الرومية ، فأجاز له من إشبيلية . من روى عنه : روى أبو بكر أحمد بن حميد القرطبي ، وأبو عبد الله الطنجالي ، وابن عياش ، وأبو العباس بن علي الماردي ، وأبو القاسم عبد الكريم بن عمران ، وأبو محمد عبد الحق بن حكيم . وحدث بالإجازة عنه ، أبو عبد الله بن إبراهيم البكري العباسي .
محنته ودخوله غرناطة
غربه أمير سبتة اليانشتي الملقب بالواثق بالله . غاصاً به لجلالته وأهليته ، وكونه قد عرضت عليه فأباها ، فدخل الأندلس في شعبان عام أحد وأربعين وستماية ، فنزل ألمرية وأقام بها إلى المحرم من سنة ثمان وأربعين ، وأخذ عنه بها عالم كثير . ثم انتقل إلى مالقة في صفر من هذه السنة ودخل غرناطة ، فأخذ عنه جميع طلبتها إلا النادر .
قال الأستاذ أبو جعفر الزبير ، وقرأت إذ ذاك عليه ، وكان يروم من مالقة ، الرجوع إلى بلده ، ويحوم عليه ، فلم يقض له ذلك ، وأقام بها يؤخذ عنه العلم ، إلى أن أتته منيته .
مولده
بسبتة يوم الخميس لخمس خلون من رمضان إحدى وسبعين وخمسماية .
وفاته
توفي بمالقة ضحوة يوم الخميس لليلة بقيت من رمضان تسع وأربعين وستماية . نفعه الله بشهادة الموت غريقاً .
علي بن عبد الله بن محمد بن يوسف بن أحمد الأنصاري
فاسي المولد ، أصله منها قديماً ، ومن مراكش حديثاً ، يكنى أبا الحسن ويعرف بابن قطرال .(4/160)