بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي
قال الشيخ الإمام العالم العلامة ، البحر الفهامة أبو يحيى زين الدين زكريا بن محمد بن أحمد الأنصاري ، الشافعي رحمه الله تعالى : الحمد لله المفرج للكروب عقب للشدة المُنَجِّي ، لخُلَّص عباده من غياهب الظلم المُعدَّة ، والصلاة والسلام على سيد الأنام محمد ، وعلى آله وصحبه الغرّ الكرام ، وبعد...(1/1)
... فهذا ما اشتدت إليه حاجة المتفهمين للمنفرجة ، قصيدة الإمام العلاّمة ، الحبر الفهَّامة ، العارف بالله ، الرباني ، أبي الفضل يوسف بن محمد بن يوسف التوزري الأصل المعروف بابن النحوي ، على ما قاله العلامة أبو العباس أحمد بن أبي زيد (1) البجائي ، شارحها ، أو أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الأندلسي القرشي ، على ما قاله العلامة تاج الدين السبكي (2) في طبقاته مع نقله الأول عن شارحا المذكور رحمه الله تعالى ، ونفعنا ببركاته ، في شرح يحل ... (3) ألفاظها ، ويُبيِّن مرادها ، ويكشف لطلاّبها نقابها ، على وجه لطيف ، ومنهج مُنيف مختصر من الشرح المشار إليه وغيره ، مع تبديل وتغيير لِما يحتاج إلى تحرير ، واللهَ أسأل أنْ ينفعَ به ، وأنْ يجعله خالصا لوجهه ، وسمَّيتُه بالأضواء البهجة في إبراز دقائق المنفرجة ، وهي من السادس عشر (4) ، المُسمّى بالخبب ، الذي تركه الخليل ، واعتبره وأثبته الأخفش وغيره ، وتفعيله فاعلن ثمان مرات ، وسُمي بالخبب ؛ لقصر أجزائه ، ولأن تقطيع أبياته يحاكي في السمع ركض الخيل وخببها ، وزحافه الخبن ، وهو حذف الثاني الساكن ، وإذا أسكنت عينه فقيل بالأضرار بعد الخبن ، وقيل بالقطع ، وقيل بالتشعيب على ما هو مبين مع الصحيح منها في محله ، وهذه القصيدة سمَّاها الشيخ تاج الدين السبكي بالفرج (5)
__________
(1) زيد غير موجودة ، وقد أثبتنها من الأضواء البهجة في إبراز دقائق المنفرجة للشارح نفسه . وقد قمنا بتحقيقه على ثلاث نسخ .
(2) كتبت تاج السبكي .
(3) كلمة غبر مقروءة
(4) يريد من البحر السادس عشر
(5) كل ما تقدم كتب بخط غير الخط الذي كتبت به المخطوطة ، وهو منقول من مخطوطة أخري للمنفرجة ، وقد تأكد لدينا أن للشيخ زكريا الأنصاري أكثر من شرح على المنفرجة ..(1/2)
/ بعد الشدة ، قال : وهي مُجرَّبة ؛ لكشف الكروب ، وأنَّ كثيرا 3 من الناس يعتقدون أنّها مُشتملة على الاسم الأعظم ، وأنَّه ما دعا بها أحدٌ إلاّ استجيب له ، قال : وكنت أسمع الشيخ الإمام الوالد إذا أصابه أزمة ينشدها ، والظاهر أنَّ ناظمها ابتدأها لفظاً ، أو خطاً ببسم الله الرحمن الرحيم ، أو بالحمد لله لخبر : كلّ أمرٍ ذي بال ، لا يُبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم ، وفي رواية بالحمد لله ، فهو أجذم ، أي مقطوع البركة ، ثم قال مخاطبا لما لا يعقل ، كقوله تعالى : [ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي ] (1) .
اشتَدَّي أزمَةُ تَنفَرِجي قَد آذَنَ لَيلُكِ بِالبَلَجِ
اشتَدَّي يا أزمَةُ : أي يا شدة ، وهي ما يصيب الإنسان من الأمور المقلقة من الأمراض وغيرها تَنفَرِجي بالجزم جوابا للأمر ، أي تذهبي ، بمعنى يذهب همك عنا ، وهذه براعة استهلال ، وهي أن يكون المطلع على ما بُنيت عليه القصيدة ونحوها ، كأنه بنى قصيدته على سلوك طريق الآخرة ؛ لتصفية القلب ، ورياضة النفس ، ومضمون البيت أن الشدة يعقبها الفرج ، فقد أنبأ عمَّا قصده ؛ لأن سلوك طريق الآخرة فيه على النفس أعظم مشقة يعقبها أتمّ الفرج . قَد آذَنَ بالمد ،وفتح المعجمة : أي أعلم لَيلُكِ بِالبَلَجِ : أي ضياء الصبح ، استعارة للفرج ؛ لاشتراكهما في الإذهاب ، والتحصيل ؛ لأن الضياء يذهب الظلمة ، والفرج يُذهب الحزن ، ويحصل بكل منهما السرور ، وعطف على الجملة السابقة قوله :
وَظَلامُ اللَّيل ِ لَهُ سُرُجٌ حَتّي يَغشَاهُ أبُو السُرُجِ
__________
(1) هود 44(1/3)
وَظَلامُ اللَّيل ِ لَهُ سُرُجٌ : وهي الكواكب غير الشمس يمتد نورها / حَتّي 4 يَغشَاهُ أبُو السُرُجِ : وهو الشمس ، وجُعلت أباها ؛ لأنها الأصل ، إذ بنورها يذهب نور تلك ؛ ولأن نور القمر الذي هو أقوى من نور بقية الكواكب الليلية مستفاد من نورها ، على ما قاله أهل الهيئة ، والمراد أنَّ الكروب الشديدة لابدّ في أثنائها من ألطاف يخفّ معها الألم حتى يتفضَّل الله بالفرج التّام ، الذي لا ألم معه ، ولا كرب ، كالليل المظلم ، جعل الله فيه الكواكب ، يقلُّ بها ظلامه ، ويخفّ بها قبضه ، حتى يدخل النهار ، فيذهب به ظلامه ، وتنبسط الشمس بضوئه ، وفي البيت الجناس التام ، وهو أن يتفق اللفظان في أنواع الحروف ، وأعدادها ، وهيئاتها ، وترتيبها ،وهو هنا في سرج والسرج ، ورد العجز على الصدر ، وهو إعادة اللفظة بعينها ، وما تصرف منها في آخر المصراع الثاني ، بعد ذكرها في صدره (1) ، وعطف على الجملة السابقة قوله :
َ وسَحَابُ الخَيرِ لَهَا مَطَرٌ فَإِذَا جَاءَ الإِبّانُ تَجي
وَسَحَابُ الخَيرِ : وهو الغيم لها ، وفي نسخة له مَطَر فَإِذَا جَاءَ الإِبّانُ : وهو بكسر الهمزة ، وتشديد الباء الموحدة : الوقت ، والمراد وقت السحاب تَجي : بالقصر للوقف ، أي السّحاب لما يبتلي ذوي الشدائد ، ورجائهم بأنَّها وإنْ عظُمت ففي أثنائها ألطاف وتمديد إلى الفرج التام ، أشار على الحث على التزام الصبر في أزمنة تلك الشدائد ؛ لأنها لا تنقضي إلاّ بانقضاء زمانها ، ولا يأتي الفرج إلاّ في زمانه المقدّر له ، كالسحاب الذي يكون عنها الخصب بنزول المطر ، لها وقت مقدر ، لا يتقدم عليه ، ولا يتأخر ، فالعاقل لا يسعه إلاّ الصبر ، وعطف على الجملة أيضا :
وَفَوائِدُ مَولانا جُمَلٌل لسُرُوحِ الأَنفُسِ والمُهَجِ
__________
(1) صدرة غير موجودة ، وهي من مخطوطة أخرى .(1/4)
وَفَوائِدُ مَولانا أي ناصرنا / تعالى ، والفوائد ما حصل من الأشياء النافعة في 5 الدين والدنيا ، جُمَلٌ : أي كثيرة لقوله تعالى : [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ] (1) الآية بِسُرُوحِ الأَنفُسِ والمُهَجِ بالسين والحاء ، من سروح الدابّة بالغداة ضد الرواح، أي بالعشي ، أي لسروح الأنفس والأرواح بإذهاب أحزانها ، فكيف ييأس العاقل عند اشتداد الأزمة ، والمُهج قال الجوهري (2) : وهي الدم ، وقيل : دم القلب ، والمشهور أنَّ الروح هي النفس .
وَلَها أَرَجٌ مُحْيى أَبَدا ... فَاقصُد مَحيَا ذاكَ الأَرجِ
ولها ، أي للفوائد أَرَجٌ من أرج الطيب أرجاً إذا فاح وانتشر مُحْيى أي محيي النفوس الزكية وهو إعطاء الحياة ، وهي صفة تقتضي / الحس5أ والحركة الإرادية ، أي مُحيى النفوس الزكية بأنها يُحييها الله تعالى به أَبَدَاً أي دائما فَاقصُد مَحيَا من الحياة ، أي فأتِ زمان أو مكان ذاكَ الأَرجِ ، والمراد قصد ذاك الأرج الشريف في زمانه ، أو مكانه .
فَلَرُبَّتَّمَا فاضَ المحيَا ... بِبِحُورِ المَوجِ مِنَ اللُّجَجِ
فَلَرُبَّتَّمَا ، أي وقت ، فَاضَ أي كثُر فيه ، المَحْيَا : أي مكان الحياة بِبِحُورِ المَوجِ وهو المرتفع من الماء مِن أجل اللُّجَجِ : وهو معظم الماء ، شبه المَحيا في كثرة الأنوار والمعارف .
وَالخَلقُ جَميعاً في يَدِهِ ... فَذَوُو سِعَةٍ وَذَوُو حَرَج
وَالخَلقُ : بمعنى المخلوقات حال كونه جَميعاً أي مجموعا في يدِهِ : أي قوَّته أونعمته ، فَذَوو
سَعَة أي يسارٍ وَذَوو حَرَجِ ، أي ضيق .
وَنَزُولهُمُ وَطُلوعُهُمُ ... فَعَلى دَرَكٍ وَعَلَى دَرَجِ
أي الخلق من علوٍّ إلى سفلٍ حِسَّاُ أو عقلاً ، أعني مرتبة ، وَطُلوعُهُمُ من سفلٍ إلى علوٍّ كذلك فَعَلى دَرَكٍ في الأول ، وعلى دَرَجٍ في الثاني ، يقال : النار دركات ، والجنة درجات .
__________
(1) إبراهيم 34 ، النحل 18
(2) الصحاح ( مهج )(1/5)
وَمَعائِشُهُم وَعَواقِبُهُم ... لَيسَت في المَشيِ عَلى عِوَجِ
وَمَعائِشُهُم في الدنيا من مطاعم وملابس ، وَعَواقِبُهُم في الآخرة من سعادة وشقاوة ، لَيسَت في المَشيِ / إليهم عَلى عِوَجِ ، بل مستقيمة ، فإنها مقدرة من الله تعالى ، يتوجه إليهم 6 في أوقاتها ، وإثبات المشي لها استعارة ، يعني شيئا فشيئا .
حِكَمٌ نُسِجَت بِيَدٍ حَكَمَت ثُمَّ انتَسَجَتُ بِالمُنتَسجِ
حِكَمٌ من الله تعالى ، والحكمة صواب الأمر ، يخلق ما يشاء ، نُسِجَت تلك الحِكَم بِيَدٍ : أي بقوة الله حَكَمَت : أي قضَت في كلِّ الأمور ، ولا رادَّ لِما قضى ثُمَّ انتَسَجَتُ ، تلك الحِكَم ، أي التحمت بِالمُنتَسجِ : أي المؤتلف ، والمراد به العبد المقضي عليه بالمقادير .
فَإِذا اقتَصَدت ثُم انعَرَجَت ... فَبِمقتَصِدٍ وبِمُنعَرِجِ
فَإِذا اقتَصَدت : أي توسطت في نظر العقل ، ثُم انعَرَجَت : أي مالت فيه ، فَبِمقتَصِدٍ : أي فاقتصادها وانعراجها كائنان بمقتصِد ، وَبِمُنْعَرِجِ : وهو العبد المقضي عليه ، فيصير باقتصادها في نظره مقتصداً ، وبانعراجها فيه منفرجا ، كما يصير باكتمالها فيه مكتملاً .
شَهِدتَ بِعَجائِبَها حُجَج قامَت بِالأَمرِ عَلى الحِجَجِ ...
شَهِدتَ بِعَجائِبَها : أي الحِكَم ، و أنواع المخلوقات ، حُجَجٌ : أي أدلّة ، كما شهدت بكمال وجود صانعها ، قامَت : أي استقلّت ، أو دامت ، و ظهرت ، بِالأَمرِ : أي الشأن ، أو الوصف ، أي قامت بشأن الربوبية ، أو بوصفها بوصفها عَلى ممّن الحِجَج : أي السنين .
وَرِضاً بِقَضَاءِ اللهِ حَجىً ... فَعَلَى مَركُوزَتِهِ فَعُجِ ...
وَرِضاً بِقَضَاءِ اللهِ تعالى حَجىً : أي عقل ، فحقيق على كل مؤمن يصون به إيمانه ، وسائر طاعاته ، فَعَلَى مَركُوزَتِهِ : أي لا غيرها ، فَعُجِ : أي فاعطف ، يقال عُجيتُ البعيرَ إذا عطفت رأسه بزمامه ، أي لكون الرضا حقيقا على كل مؤمن .(1/6)
وَإِذا انفَتَحَت أَبوَابُ هُدِّ فاعجِل لِخَزائِنِهَا وَلِجِ ...
وَإِذا انفَتَحَت لك أَبوَابُ هُدِّى : أي اهتداء بأنْ خلقه الله فيك ، فاعجل : / أي 7 فاسرع لِخَزائِنِهَا : جمع خِزانة بكسر الخاء ، وَلِجِ : أي ادخل ، فيها في تلك المقامات والمعارف بخزائن لها أبواب مغلقة ، بجامع أنَّ المُشبّه مظنّة للقرب من الله ، الذي هو أعظم مطلوب .
وَإِذا حاوَلتَ نِهايَتَها فاحذَر إِذ ذاكَ مِنَ العَرَجِ
وَإِذا حاوَلتَ : أي طلبت نِهايَتَها : أي الأبواب ، أو الهدى ، والمعنى إذا طلبت الانتقال إلى مقام أو حال فاحذَر إِذ ذاكَ مِنَ العَرَجِ : أي فالزم فيه حسن الأدب من الثبات عليه ، وموافقة مراد الله تعالى .
لِتَكُونَ مِنَ السُبَاقِ إِذا ... ما جِئتَ إِلى تِلكَ الفُرَجِ
لِتَكُونَ مِنَ السُبَاقِ إلى فُرج الجنة إذا ما زائدة للتأكيد جِئتَ معهم إِلى تِلكَ الفُرَجِ : أراد بالمجيء السير ، لا بنقل الأقدام ، بل بنظر القلب في المعقولات الموصلة إلى المطلوب ، فإن وصلت إلى تلك الفرج .
فَهُنَاكَ العَيشُ وَبَهجَتُهُ ... فَلِمُبتَهِجٍ وَلِمُنتَهِجِ
فَهُنَاكَ : أي لا في غيره العَيشُ وَبَهجَتُهُ : أي الحياة الكاملة ، وحسنها ، فَلِمُبتَهِجٍ : أي مسرور بما حصل له من لذَة التجلِّي ، ولِمُنْتَهِجِ : وهو الطريق ، استُعير للتقوى ، والمراد انتقاله فعلاً وحالاً في معاني التقوى .
فَهِجِ الأَعمَالَ إِذا رَكَدَت ... فَإِذا ما هِجتَ إِذاً تَهِجِ
فَهِجِ الأَعمَالَ ، يقال : هاج فلان الشيء إذا أثاره ، وحرَّكه ، أي الأعمال ، وحركها بمعنى أَدِمها إِذا رَكدَت : أي سكنت لقوله صلى الله عليه وسلم : أحبُّ الأعمال إلى الله أدومُه وإنْ قلّ ، رواه الشيخان فإذا ما زائدة للتأكيد هِجْتَ : أي أدمتَ الأعمال إذاً أي حين إذ قلت تَهِجِ أي تدم ، وفيه رد العجز على الصدر .
وَمَعاصِي اللَهِ سَماجَتُها ... تَزدَانُ لِذِي الخُلُقِ السَمِجِ(1/7)
وَمَعاصِي اللَهِ تعالى سَماجَتُها أي قبُحها تَزدَانُ : أي تتزين وتُحسَّن لِذِي الخُلُقِ : ما طُبع عليه/ الإنسان بلا تكلُّف ، كالكرم والشجاعة السَمِجِ : أي القبيح . 8
وَلِطَاعَتِهِ وَصَباحَتِها ... أنوَارُ صَبَاحٍ مُنبَلِجِ
وَلِطَاعَتِهِ : أي طاعة الله تعالى وَصَباحَتِها : أي جمالها أنوَارُ صَبَاحٍ مُنبَلِجِ :أي أضواء ظاهرة ظهور ضوء الصباح الواضح ، وبها تذهب ظلمات الجهل عن القلب ، وظلمات القبر عن الروح .
مَن يَخطِب حُورَ الخُلدِ بِها ... يَضفَر بِالحُور وَبالغُنجِ
مَن يَخطِبْ مَنْ الشرطية ، وهي طلب التزوج ، أي مَنْ يطلب من الله تعالى حُورَ الخُلدِ : أي نساء الجنّة ، بها : أي بالطاعة ، ويؤدِّها يَظْفَرْ أي يفز ، بِالحُور الكاملات الحسن ، وسمِّيت نساء الجنة بالحور ؛ لأنهن يشبهن بالضياء ، وهو شدة بياض العين ، في شدة سوادها وَبالغُنُجِ هو حسن الشكل ، وإذا أردت الظفر بالحور
فَكُنِ المَرضِيَّ لَهَا بِتُقىً ... تَرضَاهُ غَداً وَتَكُونُ نَجِى
فَكُنِ المَرضِيَّ لَهَا بِتُقىً : بمعنى التقوى ، أي بسبب تقىً منك تَرضَاهُ بأن تراه مقبولاً أي ثابتاً عليه ؛ لموافقة الشرع غَداً : أي يوم القيامة ، وأصله غدو ، وَتَكُونُ به هناك نَجِى : أي نجياً من المكروهات ، وجعل السبب فيما ذكر التقوى ؛ لأنها أعظم الخصال ، ولهذا وصَّى الله تعالى بها الأولين والآخرين ، فقال تعالى : [وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ] (1) .
واتلُ القُرآنَ بِقَلبٍ ذِي ... حَزَنٍ وَبِصَوتٍ فيهِ شَجِي
__________
(1) النساء 131(1/8)
واتلُ القُرآنَ متدبراً له بِقَلبٍ : أي فؤاد ذِي حَزَنٍ أي حزين ، محترق و محسنا وَبِصَوتٍ فيهِ شَجِي : أي حزين ، بمعنى رقيق ، من قولهم : فلان يقرأ بالتحزين إذا رقَّق (1) صوته ، وذلك لقوله تعالى : [وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا ] (2) ، ولخبر الترمذي (3) : يقول الله تعالى مَنْ شغله القرآن عن ذكري ومُسألتي أعطيته أفضل ما أُعطِي / السائلين ، وفضل كلام9 الله على سائر الكلام كفضل الله على جميع خلقه .
وَصَلاةُ اللَّيلِ مَسافَتُها ... فاذهَب فِيهَا بِالفَهمِ وَجِي
وَصَلاةُ وفي نسخة قيام اللَّيلِ : أي نافلتة ، وهي أفضل من نافلة النهار مَسافَتُها : أي مسافة التلاوة وفيها فاذهَب فِيهَا بِالفَهمِ : أي بالعلم وَجِي ، قال الله تعالى : [ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ] (4) الآية ، روى الطبراني: شرف المؤمن قيام الليل ، وصلاة الليل محلٌّ لكثرة التلاوة ، فاخصص التلاوة فيها بمزيد حضور .
وَتَأَمَّلها وَمَعانِيهَا ... تأتِ الفَردَوسَ وَتَنفَرجِ
__________
(1) كتبت أرقَّ ، وما أثبتناه من 2
(2) المزمل 4
(3) جاء الخبر في سنن الترمذي 10/169 / المكتبة الشاملة هكذا : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ وَذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ وَفَضْلُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ .
(4) آل عمران 113(1/9)
وَتَأَمَّلها : أي صلاة الليل ، وَتأمَّل مَعانِيهَا : أي مقاصدها الدينية والدنيوية الواردة في الأخبار ، كخبر : عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين من قبلكم ، ومقرِّبكم إلى ربكم ، ومكفرة للسيئات ، ومطردة للداء عن الجسد ، ومنهاة عن الإثم . رواه الترمذي وغيره . تأتِ الفَردَوسَ : وهو حديقة أعلى الجنة وأوسطها ، لخبر البخاري : فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس ، فإنه أوسط الجنة ، وأعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تَفَجُّرُ أنهار الجنة ، وَتَنفَرجِ : من الهم والغم .
وَاشرَب تَسنيمَ مَفُجَّرِها ... لا مُمتزِجاً وَبممتزِجِ
وَاشرَب بطاعتك تَسنيمَ مَفُجَّرِها : أي مُفجر الفردوس ، وهو الماء المجرى ، من فَجَرْتُ الماء أي أجريتُه ، والتسنيم : عين في الجنة ، يشرب منها المقربون ، سُمِّيَتْ به لأن شرابها أرفع شراب في الجنة ، وأنها تأتيهم من فوق ، على ما رُوي أنها تجري في الهواء مُتسنِّمة ، فتصب في أوانيهم ، فيشربون منها ما يريدون حالة كونه لا مُمتزِجاً : أي مختلطاً بغيره ، وهذا / للمقربين ، وَبممتزِجِ بغيره وهو للأبرار ، قال تعالى : 10 [ يُسْقَوْنَ ] أي الأبرار [ مِنْ رَحِيقٍ ] (1) أي خمر خالصة من الدنس ، ثم قال [ وَمِزَاجُهُ ] أي ما يُمزج به [ مِنْ تَسْنِيمٍ] (2)
مُدِحَ العَقلُ الآتِيهِ هُدىً ... وهَوىً مُتَوَلٍّ عَنهُ هُجى
__________
(1) المطففين 25
(2) المطففين 27 ـ 28(1/10)
مُدِحَ العَقلُ الآتِيهِ : أي الذي أتى بأمرَّ من الطاعة وغيرها من المقامات ، وأجلّها معرفة الله تعالى التي بها سعادة الدارين ، والتي لمناجاته ، وفهم خطابه ، هُدىً : أي دلالة على الطريق ، والعقل جوهر لطيف في البدن ، ينبعث شعاعه فيه كالسراج في البيت ، ومحله الدماغ ، وهَوىً : أي ميل النفس إلى الشهوة حلالا أو حراماً مُتَوَلٍّ : أي مُعرِض عَنهُ : أي عن ما مرّ من الطاعة وغيرها من المقامات ، أو عن الهدى ، هُجى : ، أي ذم مِنْ هجوته ، كما قابل المدح بالذم .
وَكِتَابُ اللَهِ رِياضَتُهُ ... لِعقُول الخلقِ بِمُندَرِجِ
وَكِتَابُ اللَهِ تعالى رِياضَتُهُ : أي تعليمه ، وتأديبه بأمره ، ونهيه ، ووعده ، ووعظه ، وضرب أمثاله لِعُقُول الخلقِ كائنة بِمُندَرِجِ : أي بطريق واضحة ، يندرج الناس فيها لصحتها ووضوحها ، مِن درجَ القوم ، واندرجوا : أي مَضَوْا في سبيلهم .
وَخِيارُ الخَلقِ هُداتُهُمُ ... وَسِوَاهُم مِن هَمَجِ الهَمَجِ
وَخِيارُ الخَلقِ: أي أفضلهم هُداتُهُمُ إلى طريق الحق ، هم العلماء العاملون ، يقال هديته الطريق ، وإلى الطريق أي دللتُه عليه ، ويدل لما قاله أدلّة كثيرة ، كقوله تعالى : [ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ ] (1) فبدأ بنفسه ، وثنّى بالملائكة ، وثلَّث بأُولي العلم دون غيرهم ، وناهيك به شرفا ، وَسِوَاهُم مِن هَمَجِ الهَمَجِ لخبر : الناس رجلان عالم ومتعلِّم ، وسائر الناس همج لا خير فيهم . والهمج/ جمع همجة ، وهي الشاة 11 المهزولة والذباب الصغير الذي يسقط على وجوه الغنم والحمير ، شبّه بذلك غير الهداة في قلّة الهمة ، وخسَّة القدر.
وإذا كُنتَ المِقدَامُ فَلا ... تجزَع في الحَربِ مِنَ الرَّهَج
__________
(1) آل عمران 18(1/11)
وإذا كُنتَ المِقدَامُ : أي الكثير الإقدام على العدو بشجاعتك ، وللام فيه للعهد العلمي ، على سبيل الإدعاء للكامل في الإقدام ، أي الجامع لخصائص المقدام ، فلا تجزَع : أي تضطرب ، وفي نسخة فلا تلوي ، أي تعرض في الحَربِ : أي القتال مِنَ أجل ، الرَّهَج : أي الغبار ، أي كن في جدك ونشاطك قوي القلب بالله ، نافذ العزم فيما تطلب كالمقدام الذي لا يرده عن مقصده رادٌّ وإنْ عَظُم ، وإذ كنت كذلك فلا تجزع في مجاهدتك الشيطان والنفس ؛ لأنهما يقولان لك : إنْ كنتَ خُلقت سعيدا لم يضرُّك ترك العمل ، أو شقيا لم ينفعك العمل ، فادفع هذه الشبهة بأنْ تقول أنا عبد الله ، وعلى العبد الامتثال لعبوديته ، والربّ يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد .
وَإِذا أَبصَرت مَنَار َهُدىً ... فاظهَر فَرداً فَوقَ الثَّبَجِ
وَإِذا أَبصَرت ، بعد جدك في العلم والعمل ، مَنَار َهُدىً : أي الطريق المستقيم فاظهَر فَرداً : أي فاعل (1) منفرداً فَوق الثَّبَجِ : أي الوسط ، أو لمعظم من منار الهدى ؛ لتصير من المختصين به ، والمنار أو ما يحلّ فيه النور ، وهو أيضا العَلَم الذي يُنصَب في الطريق للاهتداء به ، وشبه الهدى بالنوروالمنار الدليل الواضح المفيد للعِلم والعمل ، وللشيخ المفيد لذلك ، فقد قالوا : مَنْ لم يكن له شيخ فالشيطان شيخه ، وقال الشيخ أبو مدين : مَنْ لم يأخذ أدبه من المتأدبين ، أفسد مَنْ يتّبعه .
وَإِذا اشتاقَت نَفسٌ وَجَدَت ... ألَماً بالشَّوقِ المُعتَلِجِ
وَإِذا اشتاقَت نَفسٌ : أي مالت إلى محبوبها ميلاً تحرق به الأحشاء ، بحيث لا تسكن / باللقاء ، بالشَّوقِ : أي بسبب شوقها ، المُعتَلِجِ : أي الشديد ، والاشتياق أعلى من 12 الشوق لأنه لا يسكن باللقاء .
وَثَنايا الحَسنا ضاحِكَةٌ ... وَتَمامُ الضِّحكِ عَلى الفَلَجِ
__________
(1) في مخطوطة الأضواء البهجة فافعل(1/12)
وَثَنايا : المرأة ، الحَسنا بالفتح ، وهي أربع ثنتان من أعلى ، وثنتان من أسفل ، ضاحِكَةٌ صاحبتها ، وَتَمامُ الضِّحكِ : منها عَلى الفَلَجِ من فلِح بكسرها ، وهو تباعد منابت الأسنان وهو حسن فيهما ، فشبّه دلائل العِلم ، وأسباب العمل بثنايا امرأة حسناء ، أو كنَّى بكل من الثنايا والفلح عن المرأة من الحور العين ، وبالضحك عن الرضا والسرور ، أي الحور راضية مسرورة بزوجها المُجِدّ في العلم والعمل .
وَعِيابُ الأَسرَارِ قَدِ اجتَمَعَت ... بأَمانَتِها تحَّتَ الشَّرَجِ
... وَعِيابُ : جمع عَيْبَة ، وهي وعاء من جلد تُصان فيه الأمتعة ، الأَسرَار : وهو ما يُكتم ، قَدِ اجتَمَعَت : أي عياب الأسرار بأَمانَتِها : أي عليها ، أو معها ، والأمانة ضد الخيانة ، والمراد ما يؤتمن عليه تحَّتَ الشَّرَجِ : بفتح الشين والراء ، أي عُرَى (1) العياب ، وهو ما يشبه الوعاء ولمراد بالأسرار أسرار الله تعالى في خلقه ، مما حجبهم عنه ، ولم يُطلِع عليه أحداً إلاّ مَنْ شاء ممن اصطفاه ،قال بعض العارفين : العِلم بمنزلة البحر أُجري منه وادٍ ، ثم من الوادي نهر ، ثم من النهر جدول ، ثم من الجدول ساقية ، فلو جرى البحر إلى النهر ، و الوادي ألى الجدول لغرَّقه وأفسده ، وهو المراد بقوله : [ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ] (2) فبحور العلم عند الله ، أعطى الرسل منها أودية ، ثم أعطت الرسل من أوديتها العلماء أنهاراً ، ثم أعطت العلماء من أنهارها العامة جداول بقدر طاقتهم ، والمناسب أنْ يقيد / العامة بالمتفقهة ، ويقال ثم أعطت المتفقهة من جدولها غيرهم سواقي ، وسبب 13 ذلك أنّ العقول الضعيفة لا تحمل الأسرار القوية ، كما لا يُبصر الخفاش نور الشمس ، ومما أخفاه الله عن خلقه رضاه عنهم .
والرِّفقُ يَدُومُ لِصَاحِبِهِ ... وَالخَرقُ يَصيرُ إِلى الهَرَجِ
__________
(1) كتبت غذاء ، وما أثبتناه من الأضواء البهجة ، وهو الصواب .
(2) الرعد 17(1/13)
والرِّفقُ ... : وهو التوسط واللطافة في الأمر والفعل ، من الأول : رَفَقَ بالفتح ، ومن الثاني بالفتح والضم يَدُومُ به العمل لِصَاحِبِهِ وَالخَرقُ : ضد الرفق ، يَصيرُ إِلى الهَرَجِ بإسكان الراء الفتنة ، وكثرة الفساد ، وبفتحها تحيُّر البصر ، روى ابن حبان في صحيحه : ما كان الرفق في شيء قط إلاّ زانه ، وما كان الخرق ، وفي رواية الفحش في شيء قط إلاّ شانه ، وإنّ الله رفيق يحب الرفق ، رواه البخاري .
... ولمَّا فرغ من التنبية على التصفية القلبية ، والتزكية النفسية وعلى المقامات العلمية ، ختم ذلك بالدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم ، الواضع لتلك المسائك ، ولإصحابه الأربعة ، الخلفاء الحافظين طريقه ، الكاشفين لما أشكل من ذلك رضي الله عنهم ، وعن سائر الصحابة .
صَلوَاتُ اللَهِ عَلى المَهدِيِّ ... الهادِي الناسِ إِلي النَّهَجِ
صَلوَاتُ اللَهِ تعالى : وهي من الله تعالى رحمة ، ومن الملائكة الاستغفار ، ومن الآدمي تضرع ودعاء بخير علَى النبي محمد بن عبد الله المهدي بفتح الميم ، أي الرشيد الموفَّق بخلق الهداية فيه ؛ لوجود عصمته ، الهادِي : أي المرشد الناسِ من الإنس والجن ، إِلي النَّهَجِ بفتح الهاء لغة في إسكانها : أي الطريق المستقيم ، قال تعالى : [وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ] (1)
وَأَبي بكرٍ في سِيرَتِهِ ... وَلِسَانِ مَقَالَتِهِ اللَّهِجِ
__________
(1) الشورى 52(1/14)
وَ على الأمام أبي بَكْرٍ ، وهو أفضل / الصحابة واسمه عبد الله بن أبي قحافة يلتقي 14 مع النبي صلى الله عليه وسلم في مرة ، القرشي ويقال له : عتيق ؛ لعتاقة وجهه ، أي جماله ، وقيل : لأنه صلى الله عليه وسلم قال فيه : مَنْ سرَّه أن ينظر إلى عتيق من النار فلينظر إلى أبي بكر ، وصدِّيق لمبادرته إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم في جميع ما جاء به ، في سِيرَتِهِ : أي طريقته التي منها مبادرته للإسلام وَ في لِسَانِ مَقَالَتِهِ اللَّهِجِ بكسر الهاء : أي المثابر (1) على الصدق ، فاللَّهِج صفة لسان ، وبالغ فيما قاله ، فجعل لسانه ظرفاً للصدق ، فلا يتحرك إلاّ به .
وَأَبي حَفصٍ وَكَرَامَتِهِ ... في قِصةِ سارِيَةِ الخُلُجِ
وَ على الإمام أَبي حَفصٍ : عمر بن الخطاب ، يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في كعب ، القرشي وَكَرَامَتِهِ : أي المعروفة الظاهرة ، في قِصةِ سارِيَةِ أبي حفص حصن ، أو زُنيم الديلمي من أنه كان يوم الجمعة يخطب بالمدينة ، فرأى العسكر فجعل يصيح : يا سارية الجبل ، الجبل فصعد سارية وجنده الجبل ، وقاتلوا الكفار ، وهزموهم ، فكتبوا بذلك إلى عمر ، وجاءه البشير بعد شهر ، وأضاف سارية إلى الخُلُجِ بفتح اللام : وهو أن يشتكي الرجل عظامه من عمل ، أو طول مشي .
وَأَبي عَمرٍ وَذِي النُّورَينِ ... السُتَحيي المستَحيَا البَهِجِ
__________
(1) كتبت الثائر ، وما أثبتناه من الأضواء البهجة ، وهو الصواب .(1/15)
وَ على الإمام أَبي عَمرو ، يقال له أبو عبد الله ، وأبو ليلى ، عثمان بن ، يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف القرشي ، ذِي النُّورَينِ ؛ لأنه تزوج بنتي النبي صلى الله عليه وسلم ، رقية ، ثن أم كلثوم ، السُتَحيي المستَحيَا بكسر ياء أحدهما ، وفتح ياء الآخر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالسا وهو مكشوف الفخذ ، فدخل /عليه 15 أبو بكر فلم يُغطِّ فخذه ، ودخل عمر ، فلم يغطّ فخذه ، ودخل عثمان فغطاه ، وقال : ألا أستحيي ممن استحيت منه ملائكة الرحمن ، واه البخاري ، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : عثمان أحيى أمتي ، وأكرمها ، وفي نسخة المحي إشارة إلى أنه شهيد ، فهو حي بنص القرآن البَهِجِ بالباء : أي حسن الخَلق ، قال ابن عبد البر : كان جميلاً طويل اللحية ، حسن الوجه .
وَأَبي حَسَنٍ في العِلمِ إذا وافى بِسَحائِبِهِ الخُلُجِ
وَ على الإمام أَبي حَسَنٍ علي بن أبي طالب ، واسمه عبد مناف بن عبد المطلب ، في العِلمِ إذا وافى بِسَحائِبِهِ : جمع سحابة ، وهي الغيم ، الخُلُجِ : بضم الخاء واللام : السحاب المتفرق ، ويقال : للسحابة المنفردة الكثيرة الماء ، استعار لأنواع علومه ، أي يُفزع إليه في مشكلات العلم ؛ لتعليمه إياهم إذا أتى بعلومه الكثيرة النفع للناس ، وقام الإجماع على غزارة علمه ، وما احتج به من خبر : أنا دار الحكمة ، وفي رواية : مدينة العلم وعليٌّ بابُها ، قال الترمذي : إنه مُنكَر ، والنووي : إنه باطل ،
... ومن كلماته : العز تسع كلمات : ثلاث في المناجاة ، وهي : كفاني فخراً أن تكون لي ربَّاً ، وكفاني عِزَّاً أنْ أكون لك عبداً ، و أنت كما أُحبُّ فاجعلني كما تُحب ، وثلاث في الحكمة ، وهي : قيمة كلِّ امرئ ما يُحسِنه ، وما هلك امرؤ عرف قدر نفسه ، والمرء مخبوء تحت لسانه ، وثلاث في الأدب ، وهي : استغنِ عمَّن شئت فأنت نظيره ، وتفضّل على مَنْ شئت فأنت أميره ، واضرع لمَن شئت فأنت أسيره .(1/16)
... فهذه من مفاريد كلماته ، وفضائل الأئمة الأربعة كثيرة مذكورة في محالها ، وبعد
... ... وصحابته وقرابته ... ... ... وقفاة الأثر بلا عوج
وصحابته : وهم كل مؤمن اجتمع بالنبيصلى الله عليه وسلم ، ومات مسلما ، وقرابته : وهم مؤمنو بني هاشم ، وبني المطّلب ، وقفاة الأثر بلا عوج : وهم كل مؤمن اقتفى أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وإذا بك ضاقَ الذَّرعُ فقل اشتدي أزمة تنفرجي(1/17)
وعن الشيخ قاضي القضاة عزّ الدين بن جماعة قال : أنبأنا الشيخ الإمام العالم شرف الدين أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن منَّاع الفزاري ، خطيب دمشق ، قال : أنبأنا الشيخ الإمام زين الدين أبو البقاء خالد بن يوسف النابلسي بقراءتي عليه ، قال : أنبأنا الإمام العالم الحافظ بهاء الدين ناصر السنة محمد ابن الإمام ابي محمد القاسم ابن الحافظ أبي القاسم علي بن الحسين بن هبة الله بن عساكر قراءة عليه وأنا أسمع ، قال رويت بالإسناد ، وذكر إسناده إلى الإمام الحجة التابعي الجليل محمد بن سيرين ، قال : نزلنا بنهر تيرا ، فأتانا أهل ذلك المنزل ، فقالوا : ارحلوا فإنه لم ينزل بهذا المنزل أحد إلاّ أثخِذ متاعه فرحل أصحابي ، وتخلَّفت ، فلمَّا أمسيت لم أنم حتى رأيت قوماً قد جاءوا إلى جهتي أكثر من ثلاثين مرة ، وقد جرَّدوا سيوفهم ، فلم يصلوا إليَّ ، فلمَّا أصبحت رحلت ، فلقيني شيخ على فرس ، ومعه قوس عربية ، فقال لي : يا هذا إنسيٌّ أنت أم جنيٌّ ، فقلت : بل أنا مِن بني آدم ، قلت : فما بالك ، قال : لقد أتيناك في هذه الليلة أكثر من سبعين مرة ، وفي كل ذلك يُحال / (1) بيننا بيننا وبينك بسور من حديد، قلت: حدثني ابن عمر رضي الله 16 تعالى عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من قرأ في ليلة ثلاثاً وثلاثين آية لم يضره في تلك الليلة لص طار ولا سبع ضار، وعوفي في نفسه
وأهله وماله حتى يصبح، فنزل عن فرسه وكسر قوسه وأعطى الله تعالى عهداً أن لا يعود
لهذا الأمر، وهذه الآيات وهي أن تقرأ بعد الفاتحة "ألم ذلك الكتاب إلى قوله المفلحون"، وآية
الكرسي إلى قوله هم فيها خالدون. وآمن الرسول إلى آخر السورة، وأن ربكم الله الذي
__________
(1) هذه الحكاية موجودة بتمامها في المستطرف في كل فن مستظرف 2/539 ـ 540، ولما كانت الورقة السادسة عشرة مخفية ، أخذنا عن كتاب المستطرفالورقة(1/18)
إلى قوله المحسنين. وقل ادعوا الله وادعوا الرحمن إلى آخر السورة، والصافات صفاً إلى قوله
تعالى لا رب، ويا معشر الجن والإنس إن استطعتم إلى قوله فلا تنتصران، لو أنزلنا هذا
القرآن على جبل لرأيته خاشعاً إلى آخرها، وأنه تعالى جدر بنا إلى قوله شططا زاد البوني
إلى قوله شهاباً رصداً، والله من ورائهم محيط إلى قوله محفوظ، قال محمد بن سيرين،
فذكرت هذا الحديث لشعيب بن حرب، فقال: كنا نسميها آيات الحرز ويقال إن فيها شفاء
من مائة داء، وعدوا منها الجذام وغير ذلك. قال محمد بن علي قرأتها على شيخ لنا قد
أفلج فأذهب الله تعالى ذلك الفالج، قال البوني: هذه الآيات شرفها مشهور وفضلها مذكور لا
ينكرها إلا غبي أو غيور، وقد جربها المشايخ، وعرف سرها من له في العلم قدم راسخ
وقدر شامخ، وهي على ما رويناه بل ما رأيناه أولها الفاتحة ثم أول البقرة إلى آخر الآيات.
اشتَدَّي أزمَةُ تَنفَرِجي قَد آذَنَ لَيلُكِ بِالبَلَجِ
وَظَلامُ اللَّيل ِ لَهُ سُرُجٌ حَتّي يَغشَاهُ أبُو السُرُجِ
َوسَحَابُ الخَيرِ لَهَا مَطَرٌ فَإِذَا جَاءَ الإِبّانُ تَجي
وَفَوائِدُ مَولانا جُمَلٌ بِسُرُوحِ الأَنفُسِ والمُهَجِ
وَلَها أَرَجٌ مُحْيى أَبَدا ... فَاقصُد مَحيَا ذاكَ الأَرجِ
فَلَرُبَّتَّمَا فاضَ المحيَا ... بِبِحُورِ المَوجِ مِنَ اللُّجَجِ
وَالخَلقُ جَميعاً في يَدِهِ ... فَذَوُو سِعَةٍ وَذَوُو حَرَج
وَنَزُولهُمُ وَطُلوعُهُمُ ... فَعَلى دَرَكٍ وَعَلَى دَرَجِ
وَمَعائِشُهُم وَعَواقِبُهُم ... لَيسَت في المَشيِ عَلى عِوَجِ
حِكَمٌ نُسِجَت بِيَدٍ حَكَمَت ... ثُمَّ انتَسَجَتُ بِالمُنتَسجِ
فَإِذا اقتَصَدت ثُم انعَرَجَت ... فَبِمقتَصِدٍ وبِمُنعَرِجِ
شَهِدتَ بِعَجائِبَها حُجَجٌ ... قامَت بِالأَمرِ عَلى الحِجَجِ
وَرِضاً بِقَضَاءِ اللهِ حَجىً ... فَعَلَى مَركُوزَتِهِ فَعُجِ
وَإِذا انفَتَحَت أَبوَابُ هُدِّى ... فاعجِل لِخَزائِنِهَا وَلِجِ(1/19)
وَإِذا حاوَلتَ نِهايَتَها ... فاحذَر إِذ ذاكَ مِنَ العَرَجِ
لِتَكُونَ مِنَ السُبَاقِ إِذا ... ما جِئتَ إِلى تِلكَ الفُرَجِ
فَهُنَاكَ العَيشُ وَبَهجَتُهُ ... فَلِمُبتَهِجٍ وَلِمُنتَهِجِ
فَهِجِ الأَعمَالَ إِذا رَكَدَت ... فَإِذا ما هِجتَ إِذاً تَهِجِ
وَمَعاصِي اللَهِ سَماجَتُها ... تَزدَانُ لِذِي الخُلُقِ السَمِجِ
وَلِطَاعَتِهِ وَصَباحَتِها ... أنوَارُ صَبَاحٍ مُنبَلِجِ
مَن يَخطِب حُورَ الخُلدِ بِها ... يَضفَر بِالحُور وَبالغُنجِ
فَكُنِ المَرضِيَّ لَهَا بِتُقىً ... تَرضَاهُ غَداً وَتَكُونُ نَجِى
واتلُ القُرآنَ بِقَلبٍ ذِي ... حَزَنٍ وَبِصَوتٍ فيهِ شَجِي
وَصَلاةُ اللَّيلِ مَسافَتُها ... فاذهَب فِيهَا بِالفَهمِ وَجِي
وَتَأَمَّلها وَمَعانِيهَا ... تأتِ الفَردَوسَ وَتَنفَرجِ
وَاشرَب تَسنيمَ مَفُجَّرِها ... لا مُمتزِجاً وَبممتزِجِ
مُدِحَ العَقلُ الآتِيهِ هُدىً ... وهَوىً مُتَوَلٍّ عَنهُ هُجى
وَكِتَابُ اللَهِ رِياضَتُهُ ... لِعقُول الخلقِ بِمُندَرِجِ
وَخِيارُ الخَلقِ هُداتُهُمُ ... وَسِوَاهُم مِن هَمَجِ الهَمَجِ
وإذا كُنتَ المِقدَامُ فَلا ... تجزَع في الحَربِ مِنَ الرَّهَج
وَإِذا أَبصَرت مَنَار َهُدىً ... فاظهَر فَرداً فَوقَ الثَّبَجِ
وَإِذا اشتاقَت نَفسٌ وَجَدَت ... ألَماً بالشَّوقِ المُعتَلِجِ
وَثَنايا الحَسنا ضاحِكَةٌ ... وَتَمامُ الضِّحكِ عَلى الفَلَجِ
وَعِيابُ الأَسرَارِ قَدِ اجتَمَعَت ... بأَمانَتِها تحَّتَ الشَّرَجِ
والرِّفقُ يَدُومُ لِصَاحِبِهِ ... وَالخَرقُ يَصيرُ إِلى الهَرَجِ
صَلوَاتُ اللَهِ عَلى المَهدِيِّ ... الهادِي الناسِ إِلي النَّهَجِ
وَأَبي بكرٍ في سِيرَتِهِ ... وَلِسَانِ مَقَالَتِهِ اللَّهِجِ
وَأَبي حَفصٍ وَكَرَامَتِهِ ... في قِصةِ سارِيَةِ الخُلُجِ
وَأَبي عَمرٍ وَذِي النُّورَينِ ... السُتَحيي المستَحيَا البَهِجِ
وَأَبي حَسَنٍ في العِلمِ إذا ... وافى بِسَحائِبِهِ الخُلُجِ(1/20)