الحمد لله رب العالمين قال في محكم كتابه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (9) سورة الإسراء] ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله ، وصفيه وخليله ، أرسله الله جل وعلا بين يدي الساعة بشيراً ، ونذيراً ، بشيراً بالجنة لمن أطاعه ، ونذيراً ومنذراً من النار ، ومن عذاب الله في الدنيا والآخرة ، لمن خالف أمره ، وعصاه ، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ، ونصح الأمة ، وجاهد في الله حق الجهاد ، وصلوات الله وسلامه على نبينا محمد ، وعلى آل نبينا محمد ، وعلى صحابته ، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:(1/1)
فموضوع هذا الدرس هو: (الأصول الشرعية للتعامل مع الناس) ، ومن المعلوم أن الله جل وعلا بعث نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ليخرج الناس من داعية هواهم ، ليخرج الناس من تحكيم آرائهم ، وتحكيم رغباتهم على تعاملاتهم ، إلى أن يُحكموا الله جل وعلا وحده ، وإلى أن يُطيعوا الله جل وعلا ، ويُطيعوا رسوله صلى الله عليه وسلم ، ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: قال الله تعالى: إنما بعثك لأبتليك ، وأبتلي بك)( - (صحيح): عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: (ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا كل مال نحلته عبدا حلال وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنه أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان وإن الله أمرني أن أحرق قريشا فقلت: يا رب إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة قال: استخرجهم كما أخرجوك وأغزهم نغزك وأنفق فسننفق عليك وابعث جيشا نبعث خمسة مثله وقاتل بمن أطاعك من عصاك) . (رواه مسلم). ).
الله جل وعلا بعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ليبتليه بطاعته ، وبتوحيده ، وبتبليغ شرعه ، وليبتلي به الناس.
فالنبي صلى الله عليه وسلم مُختبر به ، وبما جاء به عن الله جل وعلا (لأبتليك وأبتلي بك) ، يعني لأختبر الناس بك ن هل يتبعون شرعك ، هل يتبعون سنتك ، هل يتبعون ما حملته مما أنزل الله جل وعلا عليك ، أم لا.
والابتلاء حقيقته الاختبار ، وابتلاء الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم ، في جميع أحوال المكلف ، ومن تلك الأحوال ، أنواع تعاملاته.(1/2)
فالشريعة جاءت كما يقول الشاطبي رحمه الله في كتابه (الموافقات): "الشريعة جاءت لإخراج المكلف من داعية هواه إلى أن يكون تابعاً لأمر الله جل وعلا" ، فحقيقة العبد أنه مربوط ، مقهور لله جل وعلا ، ولهذا يجب عليه أن يخرج عن داعية هواه إلى أن يكون عبداً محققاً هذه العبودية لله جل وعلا في كل أحواله.
ولهذا كان من اللوازم على من يريد الخير بنفسه أن يتعرف ، وأن يطلب علم ما أنزل الله جل وعلا على رسوله ، ومما يصادف المرء ، بل مما يواجهك في كل حال أنك تواجه أنواعاً من الخلق ، تواجه نفسك ، وتواجه من في بيتك ، وتواجه من في السوق ، وتواجه إخوانك المؤمنين ، وتواجه الكفرة ، وتواجه العصاة ، وتواجه المبتدعة ، تواجه الأقربين ، وتواجه الأبعدين ، تواجه العلماء ، تواجه أولاة الأمر ، تواجه أصنافاً كثيرة من الناس ، ومن الخلق.
فكيف يتعامل المرء مع هؤلاء؟
أيتعامل معهم كما يريد؟
أيتعامل معهم كما يشتهي؟
أيتعامل معهم كما يملي له عقله ، وكما يملي له هواه؟
أم يتعامل معهم على وفق الأحكام الشرعية ، التي جاءت في كتاب الله جل وعلا ، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، على ما بينه أهل العلم الراسخون فيه من بيان الكتاب والسنة؟
لا شك أن الواجب أن يكون المرء معتنياً بأنواع التعاملات ، حتى يكون إذا تعامل مع الخلق ، يتعامل معهم وفق الشرع ، وأن لا يكون متعاملاً معهم على وفق هواه ، وعلى وفق ما يريد.(1/3)
إن التعامل مع الناس لأصنافهم ، يحتاج إلى علم شرعي ، ولهذا تجد أن طوائف من الناس ، ربما تعلموا علوماً ، من أنواع العلم الشرعي ، لكنها ليست مما يجب عليهم أن يتعلموه ، فتجد أن بعض طلاب العلم ، ربما دخلوا في علوم هي من النفل ، أو هي من فروض الكفايات بما كانت في أنفسهم له لذة ، يطلب علماً لأنه يجد لذةً فيه ، يطلب مثلاً: علم الحديث لأنه يجد لذةً فيه ، يطلب علم المصطلح لأن له لذة فيه ، يطلب بعض مسائل الفقه ، لأن له لذة فيها ، وهذا لم يخرج عن داعية هواه في كل أمره ، كما قال شيخ الإسلام بن تيمية في رسالته التي صنفها فيما يفعله العبد لأجل اللذة من الطاعات.
لا شك أن المرء إذا كان محكماً لما يجب عليه ، وجد أنه يجب عليه أن يسعى في رفع الجهل عن نفسه فيما أنزل الله جل وعلا ، أن يرفع الجهل عن نفسه بما أنزل الله جل وعلا ، لهذا تجد أن المسلم ، وطالب العلم الحريص على أن يكون عمله وفعله موافقاً للشرع ، تجد أنه يطلب العلم النافع ، يطلب العلم الذي يصحح أحواله ، لأنه ما من لحظة تمر عليك في حياتك ، إلا ولله جل وعلا أمرٌ ونهيٌ فيها ، إما أمرٌ بإيجاب ، أو استحباب ، وإما نهيٌ بتحريمٍ ، وكراهة ، وإما باستواء هذا وذاك ، يعني في المباحات ، ولا شك أن المرء إذا علِم أن أحكام الله جل وعلا بأنواع التعاملات ، يكون وافق أمر الله ، وعدد الله جل وعلا في كل أحيانه ، ولهذا كانت هذه الكلمات ، وكان هذا الدرس لبيان شيء من أحكام أنواع التعامل مع الناس.
أقرب ما يكون إليك نفسك التي بين جنبيك ، وإن النفس أكثر ما يعامل المرء نفسه ، فهذه النفس التي بين جنبيه ، كيف يعاملها؟
أيعاملها معاملة من لا يدرك ما يجب عليها وما لا يجب؟ ، ما يجوز وما لا يجوز؟ ، أم يعاملها على وفق الحكم الشرعي؟(1/4)
إن الله جل جلاله في القرآن العظيم ، وإن النبي صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة ، بين الله جل وعلا ، وبين رسوله صلى الله عليه وسلم أنه يجب على المؤمن أن يزكي نفسه ، قال جل وعلا: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} (9){وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (10)سورة الشمس] ، فالسعي في تزكية النفس هي أولى درجات التعامل مع النفس ، فإن النفس لها طلبات في الخير ، ولها طلبات في الشر ، وإن المرء إذا عامل نفسه بالسعي في أن يزكيها ، كانت تلك النفس نفساً طيبة ، كانت نفساً مفلحة ، وكان صاحبها مفلحاً ، {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} (9){وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (10)سورة الشمس].
وفلاح النفس وزكاتها ، وتزكيتها يكون بأمر عام ، ألا وهو: أن يجعل نفسه متعلقة بالدار الآخرة ، وأن يجعلها مبتعدة عن دار الغرور ، يجعل هذه النفس في أحوالها ، وفي مطالبها متعلقة بالدار الأخرى ، متعلقة بالجنة ، بالرَّغَب إليها ، وبالقرب منها ، وبآداب المنازل هناك ، وبالبعد عن النار ، وعن وسائلها ، وعن ما فيها من أنواع العذاب.
هذه أولى درجات تزكية النفس ، أن يكون المرء ناظراً في ما يُصلحه في داره الأخرى ، يعني أن يكون القلب متعلقاً بالدار الأخرى ، وإذا تعلق القلب بالدار الأخرى رغباً في الجنة ، وهرباً من النار ، كانت الحصيلة أنه يسعى إلى ما يقربه من الحنة ، ويسعى فيما يبعده من النار.
ولتزكية النفس كما قال بعض علماء السلف: لتزكية النفس ثلاثة ميادين:
? أول ذلك: أن يزكي نفسه بإصلاح القلب ، بتوحيد الله جل وعلا ، وبإخلاص الدين
له ، فإن إخلاص القلب لله جل وعلا ، هو أعظم ما تكون به تزكية النفس ، لأن النفس لا بد وأن يكون فيها .... مشتركة ، فإذا كانت محبة الله جل وعلا أعظم ، وكانت مرادات النفس تبعاً لمراد الله جل وعلا ، كان الإخلاص في القلب أعظم ، وكان ازدياده من الإقبال على الله جل وعلا أعظم.(1/5)
و لا شك أن الإخلاص يتبعه أنواع من إصلاح عبودية القلب ، ومن أمثل من شرح ذلك وبينه ابن القيم الجوزية تلميذ شيخ الإسلام العلم ، الإمام المعروف في كتابه (مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين) ، فإن هذا الكتاب خلَّص ابن القيم رحمه الله فيه كلام السلف من أدران كلام غلاة المتصوفة ، وجعله كلاماً متسقاً ، كلاماً عظيماً ، كلاماً جميلاً ، فيه إصلاح عبوديات القلب ، فهذا الكتاب مما ينبغي أن يمر عليه طالب العلم ، بل يمر عليه كل مسلم بين الحين والآخر ، وأن ينظر فيه ، فما فهمه منه مما فيه إصلاح النفس عمل به ، وما لم يفهمه ، أو استشكله يسأل أهل العلم عن مرادات ابن القيم رحمه الله في ذلك.
إن إصلاح القلب أيها المؤمن ، إنما يكون بأن يكون الله جل وعلا في قلبك أعظم من كل شيء ، قال ابن القيم رحمه الله:
فلواحدٍ كن واحدًا في واحدٍ أعني سبيل الحق والإيمان
(لواحد): يعني لله جل وعلا وحده دون ما سواه.
(كن واحداً): في قصدك ، وإرادتك ، وتصرفاتك.
(في واحد): يعني في سبيل واحد غير متعدد ، قال: مبيناً هذا السبيل: (أعني سبيل الحق والإيمان).
فتخليص النفس من الرَّغب في غير الله جل وعلا ، هذا أول مدارج إصلاح النفس ، وإن إصلاح النفس وتزكيتها ، إن ذلك من أعظم المطالب ، وأن يكون الله جل وعلا ورسوله صلى الله عليه وسلم أحبَّ للعبد مما سواهما.
العبد يُحركه في الأشياء المحبة ، كما بين ذلك شيخ الإسلام في كتابه (قاعدة في المحبة): إنما يحرك الناس في أحوالهم محبتهم ، فإذا أحب الدار الآخرة تحرك إليها ، وإذا أحب الدنيا تحرك لها ، فبقدر ما تكون المحبة في القلب عظيمة يكون التحرك إلى ما أحبه القلب ، فإذا كان الله جل وعلا ورسوله أحبَّ إلى العبد مما سواهما ، كانت حركة العبد بنفسه ، وببدنه ، وبجوارحه ، كانت في طاعة الله ، وفي طاعة رسوله صلى لله عليه وسلم.(1/6)
? وثاني درجات تزكية النفس: أن يكون العبد ممتثلاً للأوامر ، مجتنباً عن
النواهي ، يعني أن يحمل نفسه على طاعة الأمر ، على طاعة الواجبات ، وأن يباعد نفسه من ارتكاب المنهيات ، فإن لله جل وعلا أوامر ، وإن لله جل وعلا نواهي ، وإن طاعة الله جل وعلا ، وتزكية النفس ، إنما هي باتباع الأمر ، واجتناب النهي ، وباب المنهيات عظيم ، وباب المأمورات عظيم.
وقد اختلف العلماء: هل باب الأمر أعظم؟ ، أم باب النهي أعظم؟
فقال طائفة من أهل العلم: إن باب النهي أعظم ، يعني إذا غشى العبد ما نهى الله جل وعلا عنه ، فإنه يكون معرضاً للعقوبة ، ويكون فرط في الأمر الأعظم ، واستدلوا على ذلك بفعل آدم عليه السلام حيث خالف النهي ، فكانت العقوبة بأن أُخرج من دار الكرامة ، أُخرج من الجنة ، والأوامر ، والنواهي عظيمان ، ولكن هل جانب الأمر أعظم؟ ، أم جانب النهي أعظم؟ ، هل رجحان الحسنات؟ ، أم رجحان ترك السيئات أعظم؟ ، هذا مما اختلف فيه أهل العلم ، وهذا ، وهذا ، ولا شك أن تحصيل تزكية النفس إنما يكون بامتثال الفرائض ، واجتناب النواهي.
قد يتساهل العبد مع نفسه ، يتساهل في ترك الفرائض ، يتساهل في ترك الواجبات ، يتساهل في غشيان بعض المنهيات ، ولكن هذا يُعقبه غصة في النفس ، ويُعقبه سيئة أخرى ، وقد قال بعض السلف: إذا رأيت الرجل يعمل السيئة ، فاعلم أن لها عنده أخوات ، وإذا رأيت الرجل يعمل الحسنة ، فاعلم أن لها عنده أخوات".
ولا شك أن الحسنة تجلب الحسنة ، والسيئة تجلب السيئة ، هذا يقود إلى ذاك ، فإذا جاهد العبد نفسه في امتثال الأوامر ، وفي الابتعاد عن النواهي ، كان مزكياً لنفسه.(1/7)
ثم النوافل ، نوافل في جانب الأوامر ، والنوافل في جانب المنهيات ، يعني ترك المكروهات ، لأن ترك المكروه مستحب ، وإن فعل النافلة مستحب ، إن فعل النوافل في هذا ، وذاك مما يُقرب إلى الخير ، وقد ثبت في صحيح البخاري: أن الله جل وعلا قال: يعني في الحديث القدسي : (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولأن سألني لأعطينه ، ولأن استعاذني لأعيذنه ، وما ترددت في شيء أنا فاعله ، ترددي في قبض نفس المؤمن ، يكره الموت ، وأكره مساءته)( - ( صحيح ) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته ولا بد له منه . (رواه البخاري) ، صحيح الجامع (1782) ، الصحيحة (1640) ، المشكاة (2266). ) ، يعني جل وعلا بقوله: (كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به... إلى آخر الحديث): يعني: كنت مسدداً له في سمعه ، فبي يسمع ، وبي يبصر ، فلا يسمع العبد إلا ما يحب الله ، ولا يبصر إلا ما يحب الله ، ولا يمشي إلا إلى ما يحب الله ، ولا يعمل بيده إلا ما يحب الله جل وعلا.(1/8)
هذا بعد أن يكون العبد آتياً بالنوافل بعد الفرائض ، ولا شك أن أغلى ما عندك ، نفسك ، أغلى ما تملك ، هو هذه النفس ، وهذه النفس في حياة قصيرة ، هي هذه الحياة الدنيا ، فإذا سعى العبد في تزكيتها ، كانت له السعادة في الحياة الآخرة ، وقد قال جل وعلا: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَة} (97) سورة النحل] ، فهذه الحياة الطيبة في هذه الدنيا ، وفي الدار الأخرى.
o والدرجة الثالثة من درجات تزكية النفس: أن يكون العبد محاسباً
نفسه دائماً ، ألا يغفل عنها ، ومحاسبة النفس من أنواع التزكية ، لأن العبد إذا غفل عن نفسه ، فإنه يؤتى ، وإذا ترك نفسه وهواها فإنه يتمنى على الله الأماني ن وهذا إنما يكون بالحزم ، وهذه أولى أنواع التعامل ، وهي التعامل مع النفس ، ولا شك أن أعظم ما يجب عليك أن تحزم معه ، التعامل مع نفسك التي بين جنبيك ، وما يجب عليك أن تحمل هذه النفس على الطاعة ، والخير ، وعلى إخلاص العبادة ، وعلى التقرب إلى الله جل وعلا دائماً ، وعلى أن تسعى في العبوديات المختلفة في كل حالك ، وفي كل تقلباتك.
o النوع الثاني من أنواع التعامل: التعامل مع الوالدين: والوالدان
عظم الله جل وعلا حقهما ، وقد قال جل وعلا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا} (23){وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}(24) سورة الإسراء].
وقال جل وعلا: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (36) سورة النساء].(1/9)
وقال سبحانه: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (151) سورة الأنعام].
وقرن الله جل وعلا في آيات كثيرة حق الوالدين بحقه ، قال العلماء: إن حق الوالدين مقرون بحق الله جل وعلا ، ذلك لأن من كان وفياً مع والديه ، مطيعاً لهما ، فإنه أن يكون مطيعاً لبره جل وعلا من باب أولى ، لأن العبد إذا تذكر ما يجب للوالدين من الحق وفاء لهما ، وبراً بهما ، فلا أن يكون باراً ، فلا أن يكون مطيعاً لله جل وعلا الذي لا يخلو العبد في حين من أحيانه من نعمة من نعم الله جل وعلا حادثة من نعمة تجب الشكر ، لا شك أن ذلك من باب أولى ، ولذلك قال الله جل وعلا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} ، قضى يعني أمر ووصى ، كما فسرها ابن مسعود وغيره ، أمر ، ووصى {أن لا تعبدوا إلا إياه وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}.
وعظم حق الوالدين بقوله جل وعلا: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} ، فحرم التأفيف ، وهذا من باب التنبيه على الأعلى ، فإن التأفيف إذا حُرم ، كان تحريم ما هو أعلى منه من باب أولى ، من قياس الأولى ، أو من الدخول في دلالة اللفظ في محل اللفظ.
وقال جل وعلا بعدها: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} يعني بالقول ، لا تقل: أف ، وفي الفعل: لا تنهرهما ، {وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا} ، {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} ، هذا في باب الأفعال.(1/10)
عقوق الوالدين من الكبائر ، والموبقات كثيرة ، ومنها عقوق الوالدين ، ومن الناس من يكون بارا بنفسه ، بارا بأهله ، بارا بأقاربه ، بارا بأصدقائه ، ولكن حاله مع والديه هي أسوء الأحوال ، وهذا لا شك مما هو من الكبائر ، لأن عقوق الوالدين من الكبائر ، وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم عقوق الوالدين من الكبائر.
فالتعامل مع الوالدين يجب أن يكون على فق ما قضى الله جل وعلا به ، وقضى به رسوله صلى الله عليه وسلم ، أن يكون العبد محسناً معهما بالكلام ، محسناً بالفعل ، قال جل وعلا: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (24) سورة الإسراء] ، {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} يعني اخفض لهما جناح كالذليل ، على وجه الرحمة.
قال العلماء: الجناح هنا ، هو جانب الإنسان ، يعني من اليد ، والرجل ، وقوله هنا: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} فيه التنبيه على أن من الناس من يخفض للوالدين جناح الذل ، ولكن قلبه منطوٍ على الكبر ، قلبه منطوٍ على عدم الطاعة ، قلبه منطوٍ على البغض ، والله جل وعلا قال: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ} جناح كالذليل {مِنَ الرَّحْمَةِ} لا على وجه الاستعلاء ، ولا على وجه التكبر ، بل قل بعد ذلك: {رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} ، وهذه الآية ، وغيرها من الآيات مما تنقطع معه قلوب المؤمنين الذين يعظمون الله جل جلاله.(1/11)
قال العلماء: تجب طاعة الوالدين في المعروف ، ومعنى ذلك ، أن العبد إذا أُمر ، يعني أمره الله جل وعلا بأمر هو له فرض عين ، فإن طاعة الله هنا مقدمة على طاعة الوالدين ، وأما إذا كان في غير فرض العين ، وتمثيل لفرض العين ، مثل: حضور الجمعة ، وحضور الجماعات ، والجهاد الذي هو فرض عين عليه ، ومثل طلب العلم الواجب ، والسفر له ، ونحو ذلك من فرائض الأعيان ، فهذا ليس لهما طاعة فيه ، فلو منعاه من الحج الواجب مثلاً الذي هو فرض عين عليه ، ليس لهما طاعة فيه ، كذلك إذا منعاه من أداء الصلاة جماعة ، فليس لهما طاعة فيه ، كذلك إذا منعاه من أداء الجهاد المتعين ، ليس لهما طاعة في ذلك ، لكن إن منعاه من النفل من حج نفلٍ ، أو من جهاد نفلٍ ، أو منعاه من صلاة نفل ، أو نحو ذلك ، وجب عليه أن يطيعهما ، وقد قال جل وعلا: {وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} (8) سورة العنكبوت] ، وقال جل وعلا في الآية الأخرى: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} (15) سورة لقمان].
قال الإمام أحمد رحمه الله: يطيع الوالدين ولو كانا فاسقين ، لأن حقهما ليس لأجل صلاحهما ، ولكن لأجل أنهما والدان ، والله جل وعلا أمر بطاعة الوالدين حتى ولو كانا الوالدان مشركين ، وهذه الآية آية لقمان نزلت في سعد بن أبى وقاص مع أمه في القصة المعروفة ، قال جل وعلا: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} ، وهذا عام في كل المسلمين ، يعني أن يطيع المسلم والديه ، سواء كانا بارين ، أو كانا فاجرين.(1/12)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله في مسألة طاعة الوالدين ، قال: يطيعهما في ما فيه منفعة لهما ن وأما إذا كان الأمر ليس فيه منفعة لهما ، فإن طاعتهما غير متعينة ، فلو منعاه عن شيء نفلٍ ، أو منعاه عن شيء ليس فيه مصلحة للولد ، أو ليس لهما فيه مصلحة ، فإنه لا يتعين طاعتهما فيه عند شيخ الإسلام.
والأول: قول الإمام أحمد ، وغيره أولى ، لأن الله جل وعلا أمر بطاعة الوالدين ، طاعة عامة ، وقال: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} ، والمعروف هو كل ما فيه طاعة لهما ، ولكن في الشرك ، ومثيله الواجبات ‘ فإنه لا يطيع ، وهذا بدون تفريق ما كان فيه مصلحة لهما ، أو ما ليس فيه مصلحة لهما.
أحياناً يكون الوالد متسلطاً على الولد ، يكون الوالد غير معامل للولد بالحسنى ، يفضل عليه إخوانه ، يفضل عليه بعض الناس ن يفضل بعض الأبعدين على أولاده ، ويرى الولد ذلك وربما تغيظ ، وهذا مما يجب على الولد ألا يُحكِّم رغباته ، ألا يُحَكِّم أهواءه في هذه المسألة ، بل ينظر إلى حق الوالدين من جهة أن الله جل وعلا هو الذي فرض حقهما.
والحديث في هذا يطول ، ومما يجب عليك أن تتعلم في هذا ، كيف يجب عليك أن تتعامل مع والديك ، يعني ما الأحكام الشرعية التي للوالدين ، ما حكم طاعتهما؟ ، ما تفصيل أحكام طاعتهما في ذلك؟ ، في أمر الزواج ، في أمر الطلاق ، في طاعة الوالد ، في طاعة الوالدة ، هل طاعة الوالد هي المقدمة؟ ، هل طاعة الوالدة هي المقدمة؟ ، فيه تفاصيل تُطلب من كتب أهل العلم ، وخاصة كتب الفقهاء.
o النوع الثالث من التعامل: تعامل الرجل مع زوجته ، الله جل وعلا(1/13)
أوجب على الرجل ، مثل ما أوجب على المرأة ، فقال جل وعلا: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (228) سورة البقرة] ، وجعل الله جل وعلا حق الرجل مقدماً ، ولكن جعل للمرأة من الحق ، كما للرجل من الحق ، وقد قال الله جل وعلا في هذه الآية: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (228) سورة البقرة].
أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالزوجات كثيراً ، فمن الناس من يتزوج ، ولا يتعلم أحكام معاشرة الزوجة ، كيف يخاطبها؟ ، كيف يطلب منها؟ ، ما الواجب الذي يجب على الزوجة أن تؤديه؟ ، إنما يعاملها بمحض هواه ، يعاملها بحسب رغباته ، وتارة بحسب رجولته ، وبحسب قوته ، ولا يأتي بما يجب عليه شرعاً ، لا يتعلم أحكام الشرع في مسائل العشرة ، والتعامل مع الزوجات ، وما أحسن قول ابن عباس رضي الله عنهما ، على هذه الآية حينما قال في قوله جل وعلا: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، قال: إني لا أُحب أن استنظف كل حقي على امرأتي حتى لا يجب لها مثل الذي وجب عليها( - قال ابن عباس: إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي، وما أحب أن أستنظف كل حقي الذي لي عليها فتستوجب حقها الذي لها علي، لأن الله تعالى قال: "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف" (انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ، عند تفسيره الآية (228) من سورة البقرة)) وأيضاً كان يأمر بالتزين ، تزين الرجل لزوجته ، وقال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، فإذا كان الرجل يطلب من زوجته أن تتزين له ، وأن تتقطع الروائح الكريهة ، وأن تكون معه بالحسنى ، فكذلك هو يجب عليه أن يعاملها بما أوجب الله جل وعلا.(1/14)
انظر إلى حال النبي صلى الله عليه وسلم مع زوجاته حين طالبنه بالنفقة قال لهن عليه الصلاة والسلام قولا طيباً حسناً ، اعتزل نساءه مدة ، حتى حكم الله جل وعلا في ذلك ، وأنز في ذلك آيات من سورة الأحزاب.
إن تعامل الرجل مع زوجته كثير من الأحيان يكون على وفق الهوى ، وعلى وفق رغبات الرجال ، رغبات الرجولة ، ولكن من الناس من يحرص على أن يكون تعامله مع أهله على وفق المقتضى الشرعي ، وهذا هو الذي يجب ، وهو لذي أحببنا الإشارة إليه ، لأن هذا النوع من التعامل مما يفقده الكثير.
في طرفٍ آخر ، تعامل مع الزوجات ، ظن آخرون أن الحسنى مع الزوجات ، وأن التعامل بالحسنى أن يترك للمرأة الحبل على الغارب ، وأن كل ما أرادت المرأة نفذه دون نظر هل هذا الذي طلبت منه ، مما يجوز ، أو مما لا يجوز ، مما لها الحق فيه ، أو مما ليس لها الحق فيه ن هل هو مما يصلحها؟ ، أو مما لا يصلحها؟ ، هل لها في ذلك مصلحة؟ ، أم لا؟ ، ويتساهل في ذلك حتى صار النساء يتصرفن وكأنهن رجال ، لا شك أنها صورتان متناقضتان:
? صورة الذي يقسو
? والصورة الثانية الذي يترك للمرأة الحبل على الغارب ، وكأن المرأة صارت هي الرجل.(1/15)
وجماع ذلك ، بل ميزانه ، وضابطه أن يسعى المرء في يكون مع زوجه على وفق مقتضى الشرع ، والله جل وعلا أمر للنساء بالحق ، وكذلك أمر للرجال بالحق ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان من آخر وصاياه في حياته ، أن أوصى بالنساء ، وكان في خُطبته في يوم عرفة ، في خطبته العظيمة التي ودع فيها الناس أنه أوصى بالنساء ، وقال: استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان عندكم)( - قال الشيخ الألباني : (حسن): صحيح ابن ماجه (1/594) (1851): عن سليمان بن عمرو بن الأحوص حدثني أبي أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال: استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عندكم عوان ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن لكم من نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن ) ، يعني أسيرات ، ولكن هذا لا يعني أن يُترك لها الأمر كما تريد ، ولا يعني أن يكون المرء في أمر الله جل وعلا متساهلاً ، بل يكون على وفق مراد الله جل وعلا.
إن الرجل يطلب من المرأة أشياء ، ولكن تعامله مع زوجته ينبغي أن يكون على وفق ما قال ابن عباس رضي الله عنهما ، قال: إني لا أحب أن أستنظف كل حقي على امرأتي حتى لا يجبَ لها مثل ما طلبته منها من الحق ، أو كما قال رضي الله عنهما.
تعامل الزوجة في جهة أخرى مع زوجها ، الله جل وعلا جعل الرجل له على المرأة درجة ، فقال: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (228) سورة البقرة].(1/16)
والله جل وعلا فضل الرجل في ما أنفق ، وفضل الرجل بما جعل فيه من الخصائص ، فهو صاحب القوامة في الإنفاق ، وهو صاحب القوامة في الأمر والنهي ، المرأة ، الزوجة يجب عليها أن تطيع الزوج في طاعة الله ، أن تطيعه في المعروف ، وأن لا تعصيه ، وأن لا تُدخل بيته من يكره ، وأن لا تخرج من بيته إلا وقد رضي ، والمرأة إذا حفظت حقوق الزوج عليها ، فإنها قد أدت فرضها ، وقد جاء في الحديث الصحيح(إذا صلت المرأة خمسها ، وصامت شهرها ، وأطاعت زوجها ، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبوابها شئتِ)( - قال الشيخ الألباني : (صحيح): صحيح الجامع (660-661) ، صحيح الترغيب (1931-2411) ، صحيح ابن حبان: (9/471) (4163) ، آداب الزفاف (ص214) ولفظه:إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحصنت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت. ).
ولا شك أن طاعة المرأة لزوجها فرض ، والمرأة يجب عليها أن تكون في تعاملها مع زوجها مطيعة ، راضية ، وأن تكون هي المتنازلة ، هي التي تخضع ، وألاَّ تجعل الرجل هو الذي يخضع لها ، وهو الذي يذل ، لأن في فعل ذلك مفاسد ، ومن تحدث من القضاة عن مسائل طاعة المرأة ،طاعة الزوج لزوجته ، وما حصل من تسلط بعض النساء على الأزواج ، كانت نهايتها أن المرأة لم تقتنع بزوجها الذي أطاعها ، والذي عمل معها ما عمل ، من أنواع التعاملات الطيبة ، ولكن جعلته يطيع في كل ما تشتهي ، فكانت العاقبة أن كرهته ، لأن المرأة بطبيعتها تحتاج إلى من يقوم عليها ، وإذا قام الرجل عليها ، وأدبها ، وسعى معها بما أمر الله جل وعلا ، فإن العاقبة لهما جميعاً.
? من أنواع التعاملات: تعامل الرجل مع أرحامه ، يعني مع أقاربه ،(1/17)
وهذا باب صلة الرحم ، وقد أمر الله جل وعلا في ذلك بقوله: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (22){أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} (23) سورة محمد].
وصلة الرحم ضابطها ما يكون معه قطع للتهاجر فيما بينهم ، يعني ولو كانت بالهاتف ، لو كانت باللقاء ، بأي نوع مما يحصل معه قطع الهجران ، فإنها تحصل الصلة ، ولو لم يتصل الرجل مثلاً برحمه إلا بين فترة وأخرى ، إذا كانت الصلة قائمة بسؤال ، ونحو ذلك ، فإن هذا معه أداء الواجب.
والمستحب من ذلك ما فيه صلة دائمة ، وما فيه تحسس لحاجة الأقارب ، وتحسس لرغباتهم ، وتحسس لما ينقصهم ، وهذا في حق من لا تجب عليه نفقة ، من لا يجب عليه صلة ، هذا في الصلة العامة.
أما من وجبت عليه الصلة ، فإنه يجب عليه أن يؤدي هذه الصلة ، سواء كان ذلك في مسائل المال ، أو في مسائل السؤال ، وبذل الجاه ، أو بذل العمل ، والسعي في حاجة أقاربه.
? من أنواع التعامل في ذلك: وهو السابق ، تعامل الرجل مع(1/18)
أولاده ، والأولاد تارة يكونون كباراً ، وتارة يكونون صغاراً ، والصغير له الرحمة ، والكبير له التأديب ، وقد قال بعض الحكماء: إذا كان ابنك صغيراً فقومه ، و إذا راهق فصادقه ، وإذا كبُر فأشر له ، يعني أنه ينبغي للمرء مع أولاده أن يسلك هذه الأحوال الثلاثة ، فإن كان الولد صغيراً أدبه ، والتأديب يكون بالحسنى ، لأن الولد خاصة في هذا الزمان إذا قسا عليه الوالد ، فإنه ربما نفر منه ، ونفر مما معه من الحق ، نفر من الطاعة ، نفر من الاستجابة ، نفر من الصلاة ، لأن هذا الزمان زمن فتن ، فينبغي للوالد أن يعامل ولده ، ولو كان صغيراً ، أن يعامله بالتأديب الذي ليس فيه تبغيض له ، تبغيض للولد ، تبغيض الطاعات لهذا الولد الصغير ، بل يُحببها له ، يعني لا يفرض على من دون سن التمييز أشياء لا تجب عليه ، مثلاً في مسائل العورات ، البنات الصغار دون سن التمييز ، لهم أحكام في عوراتهن ، وكذلك من دون العشر ، يعني ما بين السابعة على العاشرة ، البنت الصغيرة لها أحكام في عورتها ، كذلك الغلام له أحكام في عورته ، فربما تشدد مثلاً بعض الأباء في التعامل مع الصغار ، وترك ما يباح له في الشرع إلى أشياء ربما لم تكن معها العاقبة حميدة ، أو كره الصغير الخير ، أو كرهت الفتاة الخير.
كذلك إذا كان الغلام مراهقاً ، أو كانت الغلامة يعني الفتاة مراهقة فإن لها أحكام خاصة.
فتعامل الوالد والوالدة مع هؤلاء ينبغي أن يكون مع سؤال أهل العلم ، يعني يسأل الوالد ، تسأل الوالدة كيف أتعامل في هذا السن؟ ، من جهة اللباس ، من جهة الإذن بالخروج ، من جهة المخالطة ، من جهة ما تنظر إليه ، وما لا تنظر ، وهذا إنما هو لتحبيب الخير لنفوس أولئك ، والصغير متوسع في حقه ، يعني ما دون البلوغ في.... في بعض الأحكام ، والقلم ، قلم التكليف إنما يكون بالبلوغ ، فما بين سن العاشرة إلى البلوغ ، هذا فيه أحوال ، وأحكام ، وما دون ذلك له أحكام فيها سعة.(1/19)
فلذلك ينبغي للمرء في هذين السنين أن يتعلم كيف يتعامل مع أولاده ، لأن من واقع السؤال ، ومن واقع ما سمعنا ، وجدنا أن كثيراً من الناس لا يُحسن التعامل الشرعي مع أولاده الصغار ، لا يحسن التعامل الشرعي مع المراهقة يعني ما بين سن العاشرة إلى سن البلوغ ، وأما ما بعد البلوغ ، فإنما يشار للولد ، ويُشار للبنت إشارات ، يعني بأمر الله جل وعلا ، يضيق المرء طريق الشر على الفتى ، وعلى الفتاة ، وكذلك يأمر الوالد ولده رجل كان ، أم أنثى ، يأمرهما بطاعة الله جل وعلا ، وبالفرائض ، وينهاهما عن المحرمات ، وإذا كان ثم جانب تقصير عند هذا أو هذا ، فلا يحمله عليه بالقوة ، لأنه خاصة في هذا الزمن القوة لا تنفع ، بل ربما نفرت كثيرين من قبول الحق والهدى.
فإذا كان الشاب أو الشابة في سن المراهقة ، فإن على الوالدين أن يحملا هذين على الطاعة ، وأن يباعدا بينهما ، وبين سبل الفساد ، وسبل المنكر ، في البيت ، وفي الشارع ، ومن جهة الأصدقاء ، والصديقات ، ولكن لا يكون ذلك عن قسوة ، وشدة ، بل يكون ذلك عن طريق التعامل بالإقناع ، والتعامل بالترغيب تارة ، وبالترهيب تارة ، وهذا لا شك أنه أنفع.
ومن أحسن الوسائل في تربية الأولاد أن يتخير المرء لأولاده إذا كبروا من يصاحبهما من الجنسين ، يعني أن يتخير المرء للفتاة ما بعد سن البلوغ ، يخير لها من تصاحب ، لأن المرء بطبيعته يحتاج إلى من يصاحب ، فالفتاة تحتاج من تصاحب ، لا تقبل أن تصاحب أمها دائماً ، أو أن تصاحب أختها الكبيرة دائماً ، بل إذا وجدت من غيرها فربما كان ذلك أقبل للتوجيه ، كذلك الفتى يتحرى المرء في ولده الكبير من يصاحبه ، ويطلب من فلان إذا وجده صالحاً ، خيراً ، مأموناً ، يُرغبه في مصاحبة ولده ، ويحث ولده على ذلك ، وهذا من أنواع التعامل التي ينبغي للوالدين أن يدركاه.
وهذا مما فات في كثير من الأحيان ، نجد أن بعض البيوت فيها من الفتاة ما فيها ، وإذا نظرت(1/20)
ما السبب؟ ، وجدت أن إخلال الرجل ، أو الأم بواجبهما هو من الأسباب ، فتجد أنه لم يسعى في إصلاحهما ، في سن المراهقة ، لم يسعى في إصلاحهما بعد البلوغ ، لم يسعى في تحبيب الخير إليهما ، ثم بعد ذلك يأتي يشكو.
لا بد أن يكون عند المرء طريقة شرعية في التعامل مع ولده ، في التعامل مع بنته ، ولا يترك هذا وذاك ، ويترك هذه، وتلك ، حتى يرى ما لا يريد أن يراه ، لا بد من السعي في تعلم أنواع التعامل مع الأولاد ، تربية الأولاد ، كيف تكون؟ ، كيف يسعى؟ ، كيف يصلح؟ ، وعند ذاك تكون التربية ، أو يكون التعامل مع الأولاد على وفق مراد الله الشرعي.
o من أنواع التعامل: التعامل مع أهل الطاعة ، التعامل مع
عامة المسلمين ، الله جل وعلا جعل حق المسلم على المسلم عظيماً ، جعل لكل مسلم على إخوانه المسلمين حقوقاً ، وجعل الولاية قائمة بين المؤمنين ، وقال جل وعلا: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْض} (71) سورة التوبة] ، (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْض) يعني بعضهم يحب بعضاً ، بعضهم ينصر بعضاً ، بعضهم يواد بعضاً.
والتعامل مع المؤمنين بحسب الإيمان ، والإيمان يتبعض ، لذلك تكون النتيجة ، أن المحبة ، والولاية تتبعض ، لأن الله جل وعلا رتب الولاية على الإيمان ، فقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} (71) سورة التوبة] ، ولهذا تسمع أن قاعدة أهل العلم في المحبة للمؤمن ، أن المؤمن يُحَب بقدر ما عنده من الطاعة ، يُحب المؤمن بقدر امتثاله لأمر الله ، فإذا كان عظيم للامتثال لأمر الله ، إذا كان عظيم الاتباع ، عظيم الإيمان ، فإن محبته أعظم ، وكلما قلَّ الإيمان ، فإن المودة ، لأنها تبع لأمر الله جل وعلا ونهيه ، فإن المودة تنقص بحسب نقصان الإيمان.(1/21)
فإذا كان المؤمن مسدداً ، إذا كان المؤمن مطيعاً ، فإن له أعظم أنواع الحقوق ، يعني تترتب له المحبة ، والنصرة ، ويترتب له جميع ما جاء في الكتاب والسنة من الحقوق.
وكلما كانت درجته أقل ، ربما فاتت بعض تلك الحقوق ، لأجل فوات بعض مراتب الإيمان عنده.
لهذا نجعل هذا النوع من التعامل خاصاً بالمطيعين ، يعني بالمؤن المسَدَّد.
المؤمنون درجات ، منهم السابق بالخيرات ، ومنهم المقتصد ، ومنهم الظالم لنفسه ، كما قال جل وعلا: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (32) سورة فاطر].
(فالسابقون بالخيرات ، والمقتصدون): هؤلاء هم أهل الإيمان ، أهل الطاعة ، الذين يجب لهم كل ما للمؤمن من الحقوق ، وكلما عَظُم المؤمن في إيمانه ، وكان مسابقاً للخيرات ، كان واجباً أن تكون محبته أعظم ، وأن تكون نصرته أعظم.
فهؤلاء أعني المطيعين ، أعني المسدَّدين ن لهم علينا الحق الأعظم ، من حقوقهم علينا الخاصة:
? أن يكون عرضهم علينا محفوظة
? وأن يكون مالهم محفوظة
يعني أن تُسَلِّم أخاك من أن تعتدي عليه في عرضه ، من أن تعتدي عليه في ماله ، من أن تعتدي عليه في أهله ، من أن تعتدي بأي نوع من أنواع التعديات ، له من هذا الحق ، الحق الأعظم ، وإن كان كل مسلم ، سواء كان مطيعاً ، أو عاصياً ، له هذا الحق ، ولكن حق المسلم المطيع من ذلك أعظم ، فالصالح من عباد الله له حق أعظم ، في حفظ عرضه ، في حفظ عرضه في حضرته ، وفي غيابه ، في حفظ منزلته ، في حفظ موالاته بأن يدافع المرء عنه ، وأن يكون معه ، كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم مع بعض.(1/22)
أما العصاة ، أعني الظالمين لأنفسهم الذين تسلط عليهم الشيطان ، فأغراهم بعدم الطاعة ، أغراهم بأن يكونوا مطيعين لشهواتهم ، مطيعين لأنفسهم ، فهؤلاء في التعامل معهم أحوال ، والأصل العام في ذلك أن لهم الحق العام الذي للمسلم على المسلم (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ، ولا يحقره ، ولا يخذله ، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)( - ولفظه: عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "لا تَحاسَدُوا، وَلا تَناجَشُوا، وَلا تَباغَضُوا، وَ لاَ تَدَابَرُوا، وَ لا يَبْغِ بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ وكُونُوا عِبادَ اللَّهِ إخْواناً، المُسلِمُ أخُو المُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ وَلا يَخْذُلُهُ وَلا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنا ـ ويشيرِ إلى صدره ثلاثَ مرات ـ بِحَسْبِ امْرىءٍ مِنَ الشَّرّ أنْ يَحْقِرَ أخاهُ المُسْلِمَ، كُلُّ المُسْلِمِ على المُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ ومَالُهُ وَعِرْضُهُ".(رواه مسلم) ، وغيره.
) ، هذه الحقوق عامة ، وحق المسلم على المسلم ست ، كما جاء في الحديث: إذا مرض أن يعوده ، إذا عطس وحمد الله ، أن يشمته ، وإذا دعاك فأجبه ، إلى آخر ما جاء في الحديث( - - ولفظه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حق المسلم على المسلم ست: قيل ما هن يا رسول الله؟ قال: إذا لقيته فسلم عليه وإذا دعاك فأجبه وإذا استنصحك فانصح له وإذا عطس فحمد الله فشمته وإذا مرض فعده وإذا مات فاتبعه". (رواه مسلم).
) ، هذه حقوق تشمل المطيع ، وتشمل العاصي.
لكن كيف يتعامل المرء المؤمن مع العصاة؟ ، هل يعاملهم .....في وجوههم؟ ، هل يعاملهم بالهجر؟ ، هل يعاملهم بالمخالطة دائما؟ في حال المعصية ، وفي حال الطاعة ، ما هي درجات التعامل مع العصاة؟
من جهة الهجر ، هجر المسلم إذا كان لحق النفس ، يعني لحق الدنيا ، فإنه لا يجوز أن يهجر المسلم أخاه ، ولو كان عاصياً أن يهجره فوق ثلاث.(1/23)
قوله: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) يعني إذا كان في حق من حقوق الدنيا ، إذا كان لأمر لك ، في شيء في قلبك ، تكلم عليك ، تعدى عليك شخصيا ، صار بينك وبينه شحناء ، صار بينك وبينه بالكلام بغضاء إلى آخره ، فهذا هو الذي يجوز أن تهجره ثلاث ، فما فوق ثلاث فلا يجوز أن تهجره في ذلك ، ولو كان عاصياً ، وحقه في ذلك الذي به يزول الهجران ، أن تُسلم عليه ، كما قال في هذا الحديث: (يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا ، وخيرهم الذي يبدأ بالسلام)( - ( متفق عليه ) عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل للرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام. ).
أما الهجر لحق الله جل وعلا ، فهو على مرتبتين كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ، وغيره من المحققين من أهل العلم ، هجرٌ من جهة الوقاية ، وهجر من جهة التأديب ، يعني هجر يراد منه الوقاية ، وهجر يراد منه التأديب.
أما هجر الوقاية: يعني هجر العاصي ، والمبتدع ونحو ذلك هجر الوقاية ، فأن تقي نفسك ، أن تسمع منه ، أو أن تخالطه في معصيته حتى تقي نفسك من أن تتأثر به ، لأن الإنسان يتأثر بطبعه ، إما أن يؤثِّر ، وإما أن يتأثَّر ، فإذا خالط العصاة ، وهم على معاصيهم ، وظن أن مخالطته لهم وهم يمارسون المعصية أنها خير ، فهذا من تسويل الشيطان له ، لا يجوز لك أن تخالط عاصيا حال عصيانه ، وإنما تخالطه في حال عدم العصيان ، تأمره ، وتنهاه ، وتحبب إليه الخير ، أما في حال عصيانه فلا يجوز أن تبقى وهو يعصي الله جل وعلا ، إلا ن تكون آمراً بالمعروف ، ناهياً عن المنكر.
هذا النوع من الهجر ، هو هجر الوقاية ، يعني أن تهجر أخاك المسلم ، أن تهجر هذا العاصي حال ممارسته للمعصية ، حال غثيانه لما لا يرضى الله جل وعلا عنه ، هذا الهجر يسمى هجر وقاية.(1/24)
وأما النوع الثني من الهجر: فهو هجر التأديب ، هجر التأديب يعني التعزير ، أن تهجره لكي تصلحه ، والأصل في ذلك هجر النبي صلى الله عليه وسلم للثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك فنزل فيهم قول الله جل وعلا في آخر سورة براءة: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ..} (118) سورة التوبة].
هؤلاء الثلاثة هجرهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمر الناس بأن يهجروهم ، فلا يكلموهم ، ولا يبايعوهم ن ولا يشاوروهم ، حتى إن هؤلاء ضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ، هذا الهجر نوع من أنواع التعزير.
قال العلماء: هذا النوع من الهجر يكون في حق من يصلحه الهجر ، أما من لا يصلحه الهجر ، وإنما يزيده طغياناً ، وإنما يزيده شراً ، فهذا لا يصلح له الهجر ، لأن الهجر نوع من التأديب ، نوع من التأديب ، وهذا إنما يصلح من كان في هجره صلاحاً بالهجر وبالترك.
بعض الناس إذا لقيته فلم تكلمه لذنب فعله ، أو لفريضة فرط فيها ، أصلح قلبه وتحرك ذلك في نفسه ، لأنه لا غنى له عن إخوانه ، لكن من الناس من إذا هجرته ولم تخالطه ، وتركت السلام عليه ، تركت الإتيان له ، فإنه يقول: هذه أحسن ساعة التي لا أرى فيها فلان ، وهذا لا شك أنه مما لا يوافق المقتضى الشرعي ، لأن الهجر نوع من أنواع الإصلاح ، نوع من أنواع التأديب ، والتعزير ، وإنما يُهجر من يُصلح الهجر من شأنه ، وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله لما تكلم عن أنواع الهجر ، قال: الهجر أحكام وأنواع ، ويختلف الهجر باختلاف الناس ، وباختلاف أحوالهم ،وباختلاف بلدانهم ، حتى هجر المبتدع يختلف باختلاف الأحوال ، وباختلاف البلدان ، والأصل في الهجر أن يكون للإصلاح ، أن يكون لإصلاح النفوس ، ولإظهار شريعة الإسلام ، ولإظهار عزة المسلم.(1/25)
التعامل مع العاصي بالهجر هذا تفصيل الكلام عليه ، وخلاصته أن الهجر يكون في حق من يصلحه الهجر ، من يجعله يقلع عن المعصية ، أما من لا يقلع عن المعصية ، من تعلمه لا يصلي ، من تعلمه لا يزكي ،من تعلمه يأتي المحرمات ، فإنك تواصله في حال لا يكون فيها مُواقعاً في المحرمات ، وتأمره ، وتنهاه ، وتحبب له الخير ، وتقربه من الخير ، وتباعده من الشر ، لأن الهجر لا يصلحه ، وإذا هجرته ربما كنت عوناً للشيطان عليه ، لأنه قد لا يجد من يرشده ، ومن يعلمه ، ومن يأمره ، وينهاه.
في الحالة الأخرى حال دعوة العصاة ، العاصي لا يُظن مهما بلغت معصيته ، ولو كان يشرب الخمر ، ويزني ، ويسرق ، ويرابي ، لو كان على هذه الحال لا يُظن ما دام أنه مسلم أن قلبه خلا من الخير ، بل لا تزال نفسه تؤنبه ، ما دام مسلماً تؤنبه على فعل تلك المعاصي ، لأن المسلم بما معه من الإسلام لا يُقر نفسه على المعصية ، بل تجد في نفسه بغضاً للمعصية ، وهذه الخصلة التي في قلب ذاك العاصي ، هي التي ينبغي أن يُنظر إليها ، وأن تُعظم في نفسه أن يحبب إليه الخير من جراء تلك ، والعبد لا ينبغي له ، بل لا يجوز له أن يتعاظم على العصاة ، وأن ينظر نفسه فوقهم ، وأن أولئك من حالهم كذا وكذا ، وهو حاله حال أهل الطاعة ، فينظر إلى نفسه ، ويجعل نفسه متعالياً على أولئك الذين عصوا ، لا ، بل
كما قال الله جل وعلا: {كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ} (94) سورة النساء].
قال ابن القيم رحمه الله في وصف حال المسلم حين ينظر على العاصي ، قال:
واجعل لقلبك مُقلتين كلاهما من حشية الرحمن باكيتان
لو شاء ربك كنت أيضاً مثلهم ، فالقلب بين أصابع الرحمن ، فتنظر إلى العاصي نظرين:
? النظر الأول: نظر الرحمة ، وشفقة ، ترحمه أن كان من العصاة ،(1/26)
ترحمه أن كان أسيراً لشهوته ، أسيراً للشيطان ، لأن من الذي استعبده؟ استعبده الشيطان ، لأن طاعة الشيطان نوع من العبودية كما قال جل وعلا في سورة يس: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} (60) سورة يس] ، عبادة الشيطان بطاعته ، فهذا أسره الشيطان ، فإذا نظرت إليه نظرة رحمة ، كنت نظراً إليه النظر الصحيح ، هذا النظر الأول ، نظر الرحمة ، تنظر إليه بنظر القدر ، بنظر ما حصل له ، فتكون رحيما به مشفقاً ، وربما بكت عيناك من جراء ما عصى ذلك الرجل ، أو تلك المرأة.
? ثم تنظر إليه نظراً آخر ، لنظر الحكم الشرعي: نظر الأمر ، والنهي
، فتحمله على الأوامر ، وتحمله على البعد على النواهي ، فالعاصي ينظر إليه بنظر الرحمة تارة ، وينظر إليه بنظر الأمر والنهي تارة.
الذي ينظر إلى الأمر والنهي مستعظماً على هذا العاصي ، ناظراً نفسه أنه ما دام أنه مطيع ، فهو أفضل من هذا ، وخير منه ، فما يدريك؟ ربما كانت العاقبة لهذا حميدة ، وربما كانت لك غير حميدة ، والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ( - قال الشيخ الألباني : (صحيح): صحيح الترمذي (4/448) (2140) ، المشكاة (102) ، صحيح ابن ماجه: (2/1260) (3834) ، عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقلت: يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال: نعم إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء. واللفظ للترمذي. ).
فنظر الرحمة هذا ينتج عند العبد العمل الصالح ، ينتج عند العبد الدعوة ، ينتج عند العبد الخير.(1/27)
والأمر والنهي ينتج عند العبد التوازن ، فإذا نظر نظرة رحمة دعى ، والأمر والنهي يجعله متوازنا في دعوة ، لأن من الناس من يدعو من جهة الرحمة ، حتى جعل حاله مع العصاة أبشع حال ، وحتى جعل العاصي كأنه لم يعصي ، وسوى بين العاصي والمطيع ، وهذا من جراء مخالفة الأمر والنهي.
فإذاً حالك من جهة الدعوة ، ومن جهة النظر إلى العاصي ، أن تنظر إليه بهذين النظرين ، وتتعامل معه على وفقهما ، أن تنظر إليه تارة رحيماً ، باراً به ، شفيقاً ، خاصة إذا كان من الأقربين والد ، أو والدة ، أو أخ ، أو أخت ، وتنظر إليه بنظر آخر فتأمره ، وتنهاه على وفق الشرع بما يحبب إليه الخير ، وبما يبغض إليه الشر.
o النوع التاسع من أنواع التعامل: التعامل مع المبتدعة
وهذا كثيراً ما يأتي السؤال عنه لأهل العلم ، يسأل أهل العلم كبف يتعامل المرء مع المبتدعة؟
وهو نوع من أنواع العلم فصله الفقهاء ، والعلماء في كتبهم ، وبينوا ضوابط ذلك ، وبينوا ما يحل ، وما يحرم ، وكيف يعامل المبتدع.
المبتدعة أصناف:
? منهم الذي يجهر ببدعته
? ومنهم من لا يجهر ببدعته
الذي لا يجهر ببدعته يعامل على السلام ، لأنه مسلم ، والأصل في المسلم السلامة حتى يُظهر غير ذلك ، وإذا أظهر بدعته ، فيعامل معاملة المبتدعة ، والمبتدع يعامل بالهجران ، يعني الأصل في المبتدع أن يعامل بالهجر ، وأن يُهجر ، لأن من أصول الشرع أن يُهجر المبتدع ، فيعامل بالهجران ، وإذا سلم لا يُرد عليه ، لأن فيه تعزيراً له ، لإظهار السنة ، وإخماد البدعة.(1/28)
المبتدعة لهم أحوال أيضاً ، منهم من يكونون في دار الإسلام ، ويكون وصف البدعة على الطائفة دون الفرد ، مثل ما يكون عندنا ، نقول مثلاً: طائفة الرافضة ، الرافضة موجودون ، أو طائفة الإسماعيلية ، الإسماعيلية موجودون ، أو الصوفية ، أو الأشاعرة في بعض البلاد ، كطائفة نعلم أن هؤلاء رافضة ، نعلم أن هؤلاء إسماعيلية ، نعلم أن هؤلاء صوفية ، نعلم أن هؤلاء أشاعرة ، وهكذا.
ما حكم هذه الطوائف في دار الإسلام؟ ، وكيف يتعامل المرء معهم؟
الجواب: أن ثمة تفصيلا ، ذلك أن الطوائف في دار الإسلام ، مادام أن الدار دار إسلام ، يعني الدولة دولة إسلام ، فإن هؤلاء الأصل فيهم أنهم ، وأعني بهؤلاء بالطوائف التي يُحكم عليها كجنس بالكفر ، مثل الرافضة ، مثل دين الرافضة ، أو دين الإسماعيلية ن هؤلاء من جهة العموم ، لهم في دار الإسلام حكم المنافقين كطائفة ، كما بين ذلك أهل العلم ، والنبي صلى الله عليه وسلم قَبِل من المنافقين أن يعاشروه في المدينة ، وأن يبايعوه ، وان يساروه ، وأن يكونوا معه ، ويعلمهم ، ويعلم سرائرهم ، ولكنه وكل سرائرهم إلى الله ، وقَبِل علانيتهم بالإسلام ، فهذا في حكم عام كطائفة ، لهم حكم أهل النفاق ، يعني يُقبل منهم ظاهرهم ، وتوكل سرائرهم إلى الله جل وعلا.
فمن أظهر منهم ، يعني من هذه الطائفة ، من أظهر منهم بدعة ، عومل بأحكام المبتدع ، ومن أظهر منهم شركاً عومل بأحكام المشرك ، ومن أظهر منهم نفاقاً عومل بأحكام النفاق ، ومن أظهر منهم ردةً عومل بأحكام المرتد ، يعني عند القضاة.
فإذاً من جهة الطائفة ، لا ينطبق الحكم ، حكم الطائفة على كل فرد ، بل الأفراد من هذه الطوائف التي أصلها كفري ، هذه الأفراد يعاملون معاملة المنافقين ، يعني يُقبل منهم ظاهرهم ، ويعاملون كما يعامل أهل النفاق ، يبايعون ، ويشارون ، لكن لا يُخالَطون ، ولا تُقبل دعوتهم إلى آخر أحكام النفاق المعلومة.(1/29)
إذا أظهر الواحد منهم بدعة فتنطبق عليه أحكام المبتدع ، إذا أظهر الواحد منهم شركاً ، انطبقت عليه أحكام المشركين إلى آخر ذلك.
أما الطوائف التي لا تبلغ حدَّ الكفر ، مثل الصوفية ، ومثل الأشاعرة ، ونحو ذلك ، هؤلاء لهم أحكام المبتدع ، إذا علمت أن هذا المُعين منهم مُصرح بما يعتقدون ، أما إذا كان مستوراً ، فإنه لا يندرج عليه حكم أهله ، أو حكم فئته ، أو حكم طائفته ، حتى يتبين لك منه بقول ، أو بعمل أنه صوفي ، أو أنه أشعري ، تندرج عليه أحكام أهل البدع من هجرهم وعدم قبول دعواتهم ، ومن مجاهدتهم ، و أمرهم ، ونهيهم ، ورفع أحوالهم التي أظهروا فيها البدعة إلى أهل العلم ، أو إلى ولاة الأمر ، إلى آخر ذلك.
هناك أحكام تفصيلية ، ولكن يضيق الوقت عن بيانها.
? النوع العاشر من التعامل: التعامل مع الكفار: وهذه خاصة في
هذه البلاد كثُر السؤال عن ذلك في السنين المتأخرة ، لما كثر الكفرة ، وكثر أنواع جلب الناس العاملين ، منهم من يكون من النصارى ، منهم من يكون من البوذيين ، منهم من يكون من الهندوس ، إلى آخر الفئات ، كيف يتعامل المرء مع هؤلاء؟
? الكفار أنواع:
? نوع من الكفار الحربيون ، والحربيون هم الذين بينهم وبين أهل
الإسلام حرب ، والحربي يكون حربياً في داره ، فإذا أتى إلى دار الإسلام بغير أمان كان حربياً ، وأما إذا أتى بأمان فينتقل إلى حكم فئة أخرى.
هذا النوع الأول الذين هم الحربيون الواجب جهادهم ، ذلك فدى لجهاد الدولة ، أو لجهاد الإمام لهم.
? النوع الثاني من الكفار ، والطوائف ، أن يكونوا أهل ذمة ، مثل(1/30)
مثلاً في مصر ، أو في سوريا ، أو في العراق ، فيه يهود ، وفيه نصارى ، وفي اليمن فيه يهود وفيه نصارى ، هؤلاء لهم ذمة ، لأنهم حينما دخل الإسلام تلك البلاد كانوا موجودين فيها ، فأعطوا الذمة ، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يوفى لأهل الذمة حقهم ، وأهل الذمة عليهم شروط عُمَرية معروفة( - قال الشيخ الألباني: (حسن): الإرواء (1262): ولفظه: خبر الأحنف بن قيس أن عمر شرط على أهل الذمة ضيافة يوم وليلة وأن يصلحوا القناطر وإن قتل رجل من المسلمين بأرضهم فعليهم ديته. (رواه أحمد). ) ، ليس هذا محل بيانها ، لكن بالنسبة إلى هذه البلاد ، ليس ثم أهل الذمة ، لأن علما أن في هذه البلاد ليس فيها أصلاً نصارى أصلاً ، ولا يهود أصلاً ، وإنما أجلي هؤلاء من هذه البلاد ، فليس ثم أحكام لأهل الذمة فيها.
? وإنما الأحكام من النوع الثالث وهم المستأمنون ، يعني
المعاهدين الذين دخلوا البلاد بأمان ، والمؤمنون يسعى بذمتهم أدناهم( - قال الشيخ الألباني : (حسن صحيح): صحيح أبي داود (2751-4530) ، صحيح ابن ماجه (2683) ، صحيح النسائي (4734-4735-4745-446) ، الإرواء (2208) ، صحيح الجامع (6666-6712) ، المشكاة (3475): ولفظ أبي داود: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المسلمون تتكافأ دماؤهم يسعى بذمتهم أدناهم ويجير عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم يرد مشدهم على مضعفهم ومتسرعهم على قاعدهم لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده. ) ، كما ثبت ذلك في الصحيح ، أي فإذا قدم أحد من الكفار بأمان في ذمة مسلم ، يعني ما يسمى في هذا الوقت بكفالة ، ونحو ذلك ، يعني أدخله في أمانه ، فإن له حقوق المستأمنين.
وحقوق المستأمنين متنوعة ، وهؤلاء المستأمنون لهم حقوق ، والمستأمنون قسمان:
? منهم من يكون موادعاً ، يعني غير مظهرٍ لشيء يخالف ما استؤمن(1/31)
عليه يعني أنه في دار الإسلام ، لا يُظهر بغضاً للمسلمين ، لا يُظهر كلاماً في الإسلام ، أو لا يظهر شيئا مما عوهد عليه بألا يفعله في دار الإسلام ، هؤلاء المستأمنون الذين لهم هذه الصفة ، يعاملون بالعدل ، والبر ، والقسط ، كما قال الله جل وعلا في أمثالهم: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (8) سورة الممتحنة] ، فهذه الفئة هم الذين أتوا ، ويؤدون أعمالهم كما هي ، يكون نصراني ، أو يكون مشرك ، أو يكون ملحد إلى آخره ، لكنه لم يظهر عيباً في الإسلام ، وإنما يؤدي عمله ، وهو ساكت لا يظهر شيئاً مما ينتقد عليه ، أو مما يدل على أنه مبغض للإسلام وأهله ، أو على أنه يسعى ضدهم ، أو أنه يخالف الشروط التي جاء من أجلها ، فهذا النوع يعامل بالعدل ، يُعطى حقه كاملاً ، ولا يجوز إذلاله ، ولا تجوز إهانته ، ولا يجوز أن يُحرم بالشرط الذي جاء من أجله ، لأن الله جل وعلا أوجب الوفاء بالعقد ، وأوجب الوفاء بالعهد في قوله: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} (34) سورة الإسراء] ، سواء كان مع مسلم ، أو مع كافر ، قال الله جل وعلا في الكفار {فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} (4) سورة التوبة] ، وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} (1) سورة المائدة]
وما كان من الشروط في العقود ، يعني في عقد جلب هؤلاء ، فيجب أن يوفى ، لأن المسلم هو الممتثل لأمر الله جل وعلا ، وشرط هذه الشروط ، فيوفي بتلك الشروط إذا كانت موافقة لحكم الله جل وعلا.(1/32)
هؤلاء إن أهديت لهم هدية ، أو أجبت لهم دعوة ، أو نحو ذلك لأجل مصلحة شرعية ، فإن هذا محمود ، وهكذا كانت أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وسنته مع أمثال هؤلاء في المدينة ، فإنه عليه السلام زار غلاما يهودياً كان يغشاه ، كان الغلام يغشى النبي صلى الله عليه وسلم ، وربما يخدمه ، فافتقده النبي صلى الله عليه وسلم ، فقيل له: إنه مريض ، فعاده النبي عليه الصلاة والسلام( - ( صحيح ) عن أنس قال: كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه فقال له أسلم . فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال أطع أبا القاسم . فأسلم . فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول الحمد لله الذي أنقذه من النار . (رواه البخاري) . ) ، ومات عليه الصلاة والسلام وذرعه مرهونة عند يهودي( - ( صحيح ) وعن عائشة رضي الله عنها قالت توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعا من شعير (رواه البخاري ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه) ) ، كما هو معلوم ، وجاءته امرأة فأجاب دعوتها وسمت له الذراع( - قال الشيخ الألباني : (صحيح): صحيح أبي داود (4508-4511-4512) ، المشكاة (5931) ، البخاري في (الأدب المفرد) (243) ، عن أنس بن مالك. ) ، وهذا معلوم في أنواع تعامل المصطفى صلى الله عليه وسلم مع أولئك.(1/33)
هذا في الطائفة الذين لم يظهروا عداوة للإسلام وأهله ، هم مستعملون ، أو في البلاد التي فيها أهل ذمة ، هم أهل ذمة ، فيعاملون بقول الله جل وعلا: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} (8) سورة الممتحنة] ، (أن تبروهم) يعني بأنواع البر ، أن تهدي له ، أو أن تدعوه ، أو أن تسقيه من إذا أتاك شيء ، أو أن تطعمه إذا أتاك طعام إلى آخره ، ولعل في هذا خير له أن يُحبب له الإسلام.
هؤلاء كثير منهم مغفول عنه ، يكون للمرء معه في عمله ، معه في شركته ، في مؤسسته ، يقابل في زماله( - إن صح السمع) ، يكون معه من هؤلاء فلا يدعوهم إلى الله جل وعلا ، ولا يتقرب إليهم بتحبيب الإسلام إليهم ، وإذا نظرت إلى مكاتب الجاليات المنتشرة ، وجدت أن الكثير من الجاليات ، هذه النصرانية ، أو غير المسلمة أسلمت ، واعتنقت دين الله جل وعلا ، لأجل ما قُدم لهم من الدعوة ، وما قدم إليهم من الخير ، وتحبيب الإسلام إلى نفوسهم بالقول ، وبالعمل.
فهؤلاء ينبغي لهم أن يُعاملوا بذلك ، أن يعطوا حقهم ، وأن يكون المرء معهم فيما يجب من امتثال أمر الله جل وعلا ، ومن امتثال أمر الله جل وعلا فيهم ألا يكون مهادناً لهم ، وأن لا يكون مستأنساً معهم ، أن يدعوهم ويضحك معهم ، يستأنس لغير عرض شرعي ، ومن ذلك أحكام السلام ، وأحكام التحية ، وأحكم من فصل في أحكام مع هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال: إن التحية التي يحرم ابتداء هؤلاء بها ، إنما هي ابتداء السلام ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم خص ذلك بالسلام فقال: (لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام ، وإذا لقيتموهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقه) ( - مسلم: (4/1707) (2167) ، الترمذي: (4/154) (1602) و(5/60) (2700) ، صحيح ابن حبان:
(2/253) (500-501): عن أبي هريرة.(1/34)
) ، معنى (لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام) يعني لا تلقوا عليهم السلامة أولاً ، (وإذا لقيتموهم في الطريق) يعني وأنت ماشي في الطريق يعني على رجليك كما قيد الحديث بذلك الشيخ عبد العزيز بن باز ، يعني بين معنى الحديث في ذلك ، أن المراد بالمشي على الرجلين ، ونحو ذلك ، أن تضطر ذلك الكافر إلى أضيق الطريق ، ليس معناه أن تضايقه ، ولكن معناه أن يكون للمسلم لأجل ما معه من الإسلام ، والتوحيد ، أن يكون له صدر الطريق ، ووسط الطريق ، فبعض الناس إذا أتى مثلاً في بعض الأماكن التي فيها هؤلاء ، فيها كثرة الكفرة كمستشفيات ، وبعض الشركات ، إذا أتى وجدت أنه يسير كأنه ذليل على حافة الطريق ، على حافة الطريق الطويل أو نحو ذلك ملتصقاً بالجدار هنا وهناك ، وهذا مما لا يسوغ ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإذا لقيتموهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقه) ، يعني أن يكون للمسلم وسط الطريق ، ويكون لأولئك الحافات ، وهي أضيق الطريق.
كذلك هؤلاء لا يعاملون بالتكريم ، يكرمهم المسلم ، وإذا أتوا بشَّ فيهم وكرم وقابلهم بأنواع من المقابلة ، قد لا يعملها لمسلم ، هذا مما لا يسوغ ، لأن معاملة أولئك بالبر ، وبالقسط ، يعني بالعدل ، لا يعني أن يكرموا فوق ما أعطاهم الشرع ، بل يعاملون بالقسط يعني بالعدل أن تعطيه حقه ، وأن تأخذ منه حقك ، وأن تبره بنحو إهداء ، أو نحو إجابة دعوة ، أو معاملة بالحسنى ، نحو ذلك ، قد قال الله جل وعلا: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى} (90) سورة النحل] ، قد دخل في هذه الآية جميع أنواع التعامل.
? الصنف الثاني من الكفار: أن يكون ذلك الكافر ممن يظهر منه بغض(1/35)
للإسلام ، أو استهزاء بأركان الإسلام ، أو استهزاء ببعض مبادئ الدين ، أو نشر لأشياء مما يخالف بها ما جاء من أجله ، فهذا لا يجوز أن يعامل بالبر ، وإنما يعامل بالعدل ، ثم يعني أن يعطى حقه ، ويجب في حقه أن يُبلغ عنه ، وأن يُسعى في أمره حتى يترك هذه الأرض أرض الإسلام ، لأنه لم يُستقدم على هذا ، وإنما استقدم بشروط ، وإذا أظهر غير ما يجب من إعزاز الإسلام ، وأظهر شيئاً من النقد في الإسلام أو المسلمين ، أو فعل بعض الأفعال التي لا يجوز له فعلها في دار الإسلام ، فإنه يجب عليك أن تقوم بما يجب في هذا ، وأن تبلغ عنه ، حتى يترك هذه الدار ، فهو مستأمن ، لا يجوز إذلاله مضايقته ، لكن يجب أن يُسعى في أمره ، وأن يقاطع ، وأن يبين أمره حتى لا يعود إلى مثل ذلك ، وحتى تسلم البلاد من شره.
المقصود من ذلك ، أن هذه الفئة ، وهم الذين ظهر منهم ، هذا الصنف الذي ظهر منهم شيء من البغض ، أو في فلكات اللسان ، أو الأعمال شيء من الكيد للإسلام ولأهله ، فهذا يجب أن يعاملوا بالحزم ، وأن يعاملوا بالقسوة ، حتى لا يظهر ضعف الإسلام ، والمسلمين عندهم ، ويسعى في أمرهم حتى يتركوا هذه الدار.
o النوع الحادي عشر من التعامل: تعامل مع ولاة الأمر ،
والله جل وعلا أوجب لولاة الأمر في الإسلام ، أوجب لهم حقاً ، أوجب لهم الطاعة ، فقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (59) سورة النساء].(1/36)
قال ابن القيم رحمه الله ، وغيره من أهل العلم: قيد الله جل وعلا طاعة ولاة الأمر بما فيه طاعة لله جل وعلا ولرسوله ، يعني بالمعروف ، ذلك أنه قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (59) سورة النساء] ، ولم يكرر فعل الطاعة لولاة الأمر ، لأن ولاة الأمر يطاعون في غير معصية ، يطاعون في المعروف ، يطاعون ما ليس فيه معصية لله جل وعلا.
وحق ولاة الأمر عظيم ، وكما قال ابن المبارك: لولا الخلافة لم تأمن لنا سبل ن وكان أضعفنا نهباً لأقوانا ، وهذا ظاهر في من تأمل.
فحق ولاة الأمر السمع والطاعة في المعروف ، وأما إذا أمر العبد بالمعصية ، فلا سمع ، ولا طاعة ، لأن حق الله أعظم ، ولأن حق الله مقدم.(1/37)
وتعامل مع ولاة الأمور يكون بأن يكون المرء معهم ساعياً لما فيه صلاح الجماعة ، ساعياً لما فيه صلاحهم وصلاح المسلمين معهم ، لأن طاعة ولاة الأمر ، وعدم الخروج عليهم ، وعدم إظهار بغضهم ، أو عدم إظهار الشناعة عليهم ، هذا فيه مصالح عظيمة للإسلام وللمسلمين كما بين ذلك أهل العلم ، فطاعتهم فرض ، يعني طاعتهم في المعروف فرض ، وقد جاء عن جمع من السلف أنهم كانوا يدعون الله سراً للسلطان كثيراً ، وقال الفضيل بن عياض ، والإمام أحمد ، وجماعة: لو أعلم أن لي دعوة مستجابة لجعلتها للسلطان ، ومن خلع بيعة السلطان ، أو بيعة ولي الأمر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)( - عن نافع قال: جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان زمن يزيد بن معاوية فقال اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة فقال إني لم آتك لأجلس أتيتك لأحدثك حديثا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية. (مسلم): (3/1478) (1851) ، صحيح الجامع (6229).....
) ، ذلك لأن أهل الجاهلية يعتقدون أن العزة والكرامة والشرف أن لا يطيع أحداً ، وأن يكون كل واحد منهم مطيعاً لنفسه غير ذالاً بالطاعة لغيره ، فأتى الإسلام بخلاف ذلك ، كما بين ذلك إمام هذه الدعوة في كتابه (مسائل الجاهلية) المسألة الثالثة ، فقال: إن المسائل لتي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه أهل الجاهلية أن يطاع أولاة ، قال رحمه الله: تغلب في ذلك وأبدى وأعاد ، وهذا ظاهر إذا تأملت النصوص في الكتاب والسنة في بيان حقهم.(1/38)
أولاة الأمر حقهم أن تسعى في نصيحتهم ، لأن نصيحتهم واجبة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة ، الدين النصيحة ، الدين النصيحة ، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين ولعامتهم)( - مسلم: (1/74) (55) ، أبو داود: (4/286) (4944) ، الترمذي: (4/324) (1926) ، النسائي: (4197-4198-4199-4200) ، صحيح ابن حبان: (4574-4575).
) ، فأئمة المسلمين من ولاة الأمور لهم حق في أن ينصحوا.
وأولاة الأمور إذا أطلقت فإنه يُعنى بها ولي الأمر العام إمام المسلمين الملك ، السلطان ، الوالي ، ويعنى بها من كان له ولاية من نواب السلطان ، لأن كل واحد له ولاية بحسبه ، فولي الأمر يجب عليك أن تعامله بالطريقة الشرعية ، أن تعامله مخرجاً للهوى عن نفسك في نوع التعامل معه ، وإذا عاملته بهواك كنت غير سائر في التعامل معه على ما أوجب الله جل وعلا ، فإذا عاملته بما يوافق الشرع عاملته بما أوجب الله جل وعلا عليك ، فكنت في التعامل معه في عبادة ممتثلاً الأمر ، مجتنباً النهي.
? من أنواع التعامل مع أولاة الأمر ، أن يسعى المرء في النصيحة
،(1/39)
لنصيحة ولاة الأمر ، ومن المتقرر عند علمائنا ، ومما دلت عليه النصوص ، أن النصيحة لولي الأمر تكون سراً ، لأن النصيحة له في أي عمل مما يدخل تحت ولايته ، هدي السلف فيها أن تكون سراً ، وقد جاء في صحيح البخاري ، لأن جماعة قالوا لأسامة بن زيد لما حصل من عثمان رضي الله عنه ما حصل من بعض ما لم يُفهم من أنواع تصرفاته ، قيل لأسامة: ألا تنصح لعثمان؟ فقال: أما أني قد بذلته له سراً ، ولن أبذله له علانية ، لن أكون أول فاتح باب شر بينكم)( - عن أبي وائل قال قيل لأسامة: لو أتيت فلانا فكلمته قال إنكم لترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم إني أكلمه في السر دون أن أفتح بابا لا أكون أول من فتحه ولا أقول لرجل أن كان علي أميرا إنه خير الناس بعد شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: وما سمعته يقول؟ قال: سمعته يقول: يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون أي فلان ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه.
(البخاري): كتاب بدء الخلق/باب صفة النار وأنها مخلوقة غساقا يقال غسقت (3/1191) (3094) ، صحيح الترغيب (2326).
) ، وهذا ظاهر من أن الأصل في النصيحة أن تكون سراً ، وأم الإنكار فإن الأصل فيه أن يكون علناً ، لأن الإنكار منوط بالرؤية ، قال عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان)( - مسلم: (1/69) (49) ، صحيح ابن ماجه (2/1330) (4013) ، صحيح الجامع (6250) ، المشكاة (5137) ، صحيح الترغيب (2302) ، أبو داود (1140-4340) ، الترمذي: (4/469) (2172) ، النسائي: (5008-5009) ، صحيح ابن حبان: (306-307).(1/40)
) ، علق النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لرؤية المنكر ، فقال: (من رأى منكم منكراً) ، يعني من رآه بعينه ، فقد ألحق أهل العلم بذلك من سمع المنكر سماعاً محققاً ، يعني سمعه هو ، فإذا رأيت أنت المنكر ، أو سمعته أنت بنفسك سماعاً محققاً كنت مخاطباً بالإنكار ، أما من لم يره ، ومن لم يسمعه ، فإن المجال في حقه ، أو الواجب في حقه يكون واجب نصيحة ، وليس بواجب إنكار ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قيَّد ذلك بالرؤية فقال: (من رأى منكم منكراً).
وأما الواقع في المنكر فليس له ذكر في هذا الحديث ، فإذا كان من ولاة الأمر ، أو كان من عامة الناس ، فإن الواقع في المنكر له بحث آخر ، ليس كل إنكار للمنكر إنكار للواقع فيه ، فإن النصيحة هي لمن وقع في شيء ينصح فيه ، فتوجه إليه النصيحة بشخصه ، وأما المنكر ، فإن المنكر هو الذي يُنكر ، فما كان تحت ولاية ولاة الأمر مما يحصل من المنكرات في الزمن الأول كما رأينا في زمن عثمان مما قيل لأسامة ، أو في ما بعده في زمن خلفاء بني أمية ، أو في زمن العباسيين إلى زمننا هذا ، المسألة منقسمة إلى قسمين:
? إذا فُعل الأمر ، يعني فُعل المنكر بحضرة الناس ، فإن الإنكار هنا يتوجب(1/41)
سواء كان على هذا ، أي على أي فئة من الناس ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) وهذا فيه عموم (من رأى منكم منكراً) لأن المنكر هنا نكرة في سياق الشرط فتعم جميع المنكرات ، فإذا رؤي المنكر فإنه ينكر ، وعلى هذا يحمل فعل السلف وصنيع السلف حيث إنهم أنكروا على بعض الولاة ما يحصل منهم ذلك ، أنهم أنكروا لشيء فعله الوالي بحضرتهم ، فعله الأمير بحضرتهم ، فإذا فعل الأمير شيء من المنكر بحضرة العالم ، أو بحضرة طالب العلم ، أو بحضرة من عنده علم بأن هذا منكر ، فإنه ينكره عليه ، لأنه فُعل بحضرته وقد رآه ، أما إذا لم يفعل بحضرته ، وإنما كان مأذوناً به في ولايته ، فالباب باب نصيحة ، وليس باب إنكار ، فهذا القيس ، وهذا الضابط في التعامل مع أولاة الأمور قيد مهم ، فيه التفريق ما بين غلو الغالين ، وما بين جفاء الجافين في ذلك ، لأن من الناس من صار في ذلك وفق هواه لا على الوفق الشرعي ، فأضاع وضيع ، ربما أضاع كثير من الواجبات الشرعية بأنه ظن عدم الإنكار يسوء ، أن عدم الإنكار في هذه المسائل ، يعني أن لا تنكر المنكر البتة ، وهذا باطل ، بل الواجب أن ينكر المرء المنكر ، لكن دون أن يذكر الواقع فيه ، فإذا كان المنكر جارياً تحت ولاية الإمام ، تحت ولاية الوالي ، فإنه يذكر المنكر دون ذكر للواقع فيه ، أو دون ذكر للجهة التي تمارسه ، لأن هذا فيه الصلاح ، وهذا هو الذي بينه علماؤنا ، وهو الذي تقتضيه النصوص ، و تقتضيه دلالات كلام أهل العلم المتقدمين.
o آخر نوع من أنواع التعامل: فلعل نرجعه إلى وقت آخر(1/42)
وهو: التعامل مع العلماء ، وأسأل الله جل وعلا أن ينفع بما ذكرنا ، وأن يجعل هذه الكلمات فتحة باب لكثير منكم في أن يتعرف على الأحكام الشرعية في هذه المسائل ، فإنما أردت بها التذكرة ، لأن هذا المقام مقام قصير عن أن تفصل فيه أحكام أولئك ، وهذه الدروس العامة خرجنا كما تعلمون بها على أن تكون العبارة عبارة فقهية محددة ، وفيها نقول عن أهل العلم مدققة كما هي عادة الدروس العلمية الخاصة ، وإنما أردنا بها ذكر عام ، وبيان عام ، ليشمل كثير مما تحتاجه الناس.
فنسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم ، وأن يلهمنا الرشد والسداد ، وأن يقينا الشر والفساد ، وأن يجعلنا ممن يتعاونون على البر والتقوى ، ونعوذ بالله من التعاون على الإثم والعدوان ، ونسأل الله لي ولكم التوفيق ، ولعلمائنا ، ولولاة أمورنا ، وأن يجعلنا وإياهم من المتعاونين على الحق الداعين إليه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
أبو تقي الدين ناصر الدين الجزائري
الجزائر يوم: 08/صفر/1425 الموافق لـ 29/03/2004(1/43)