بسم الله الرحمن الرحيم
الحكم التكليفي وأقسامه
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على رسوله الأمين ، وبعد :
فأقسام الحكم التكليفي عند جمهور الأصوليين خمسة وهي : الواجب ، والمندوب ، والمحرم ، والمكروه ، والمباح .
وما الحنفية زادوا على هذه الأقسام قسمين آخرين هما : الفرض ، والمكروه كراهة تحريم .
أذاً خالف الجمهور الحنفية ففرقوا بين (الفرض) و (الواجب) لا من جهة التعريف المتقدم، وإنما من جهة طريق ورود الدليل الدال على الوجوب أو الفرضية، فكان عندهم ما ورد الدليل الدال على الوجوب أو الفرضية، فكان عندهم ما ورد بدليل قطعي الورود كالقرآن والحديث المتواتر فهو فرض، وما ورد بدليل ظني الورود كحديث الآحاد الصحيح فهو واجب، وعليه فـ(الواجب) أدنى في الحتمية عندهم من (الفرض) بهذه الحيثية.
ومذهب الجمهور أصح وأرجح، لرجحان وجوب العمل بحديث الآحاد الصحيح .
الواجب
الواجب هو : ما طلب الشارع فعله على وجه اللزوم، ورتب على امتثاله المدح والثواب، وعلى تركه مع القدرة الذم والعقاب.
من أقسام الواجب
1 - تقسيم الواجب بالنظر إلى ذاته :
ينقسم الواجب بالنظر إلى ذاته قسمين : معين، ومخير.
فالمعيَّن هو : ما طلبه الشرع بعينه من غير تخيير بينه وبين غيره. مثل الصلاة والصيام والحج والزكاة ونحو ذلك.
والمخير هو : الواجب الذي خُيِّر فيه المكلف بين أشياء محصورة. مثل كفارة اليمين فإنها واجبة، ولكن المكلف مخير بين ثلاثة أشياء : العتق، أو إطعام عشرة مساكين، أو كسوة عشرة مساكين.
وهذا النوع أنكره المعتزلة؛ لوجود التضاد بين الإيجاب والتخيير، وقالوا كيف يسمى واجباً ثم يوصف بالتخيير.(1/1)
والخلاف بينهم وبين الجمهور خلاف لفظي لا فائدة فيه؛ لأن المنكرين لوجود الواجب المخير يقولون: هذه الخصال واجبة على البدل، ولا يقولون يجب على المكلف أن يفعل الثلاثة ولا أنه يأثم على ترك الثلاثة كل على حدة، والمثبتون يقولون الواجب واحد غير معين. وقد جعل بعضهم من أثر الخلاف أن المكلف لو فعل اثنتين من خصال الكفارة دفعة واحدة فهل يثاب ثواب الفرض عليهما؟ وجعل مقتضى مذهب المعتزلة أنه يثاب عليهما ثواب فرض، ومقتضى مذهب الجمهور أنه يثاب على إحداهما ثواب الفرض وعلى الأخرى ثواب النافلة، ولا يخفى أن تقدير الثواب غيب عنا، وتحكمه عوامل أخرى من الإخلاص وطيب النفس بما يبذل الإنسان وغير ذلك.
2 - تقسيم الواجب بالنظر إلى وقته :
ينقسم الواجب بهذا الاعتبار إلى مؤقت وغير مؤقت :
فالمؤقت : هو ما حدد له الشرع وقتا معينا، له بداية ونهاية. مثل الصلاة.
وغير المؤقت : هو المطلق عن التوقيت الذي لم يحدد له الشرع وقتا معينا. مثل أداء النذور والكفارات.
والمؤقت ينقسم قسمين : مضيق، وموسع.
فالواجب المضيق : هو الذي حدد له الشرع وقتا لا يتسع لغيره من جنسه معه. مثل الصيام، فإن الصيام له وقت محدد يبدأ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهذا الوقت لا يتسع إلا لصيام واحد، فلا يمكن أن يصوم يوما واحدا عن القضاء وعن النذر مثلا، ولكن هذا الوقت يتسع لغير الصيام من الواجبات والمندوبات التي ليست صياما، ولهذا المعنى قلنا : لا يتسع لغيره من جنسه معه.
والموسع : عكس المضيق، فهو : الذي حدد له الشرع وقتا يتسع له ولغيره من جنسه معه. ومثاله : الصلاة، فإن الوقت المحدد لصلاة العشاء مثلا يبدأ من غروب الشفق الأحمر ويمتد إلى نصف الليل لمن لا عذر له. فهذا الوقت يتسع لصلاة الفرض ولصلاة أخرى غير فرض العشاء.(1/2)
وهذا النوع أنكر بعض الحنفية وجوده، فقالوا : ليس في الشرع واجب موسع؛ لأن التوسع ينافي التوقيت، ولأن ما يسميه الجمهور واجبا موسعا يجوز تركه في أول الوقت ولا يجوز تركه إلى خروج الوقت باتفاق. والحجة عليهم قائمة بوجوده في الشرع، كالصلاة التي لها وقت حدده الشرع وهو أوسع مما يحتاج إليه المكلف لأدائها، وقد ورد في الحديث الصحيح أن جبريل عليه السلام صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس مرة في أول الوقت، ومرة في آخره ثم قال: « الوقت ما بين هذين » (أخرجه الترمذي وأحمد والنسائي بألفاظ متقاربة).
وقد انقسم الحنفية عند الجواب عن هذا الدليل إلى فرق :
أ - فرقة قالت : الصلاة في أول الوقت نفل سد مسد الفرض، ولا تكون فرضا إلا حين يضيق الوقت فلا يبقى منه إلا ما يكفي لأدائها.
ب - وفرقة قالت : من صلى الصلاة في أول الوقت تكون في حقه فرضا إن جاء آخر الوقت وهو مكلف بالصلاة أي : بالغ عاقل. وإن جاء آخر الوقت وهو ليس بأهل للصلاة عددنا صلاته قبل ذلك نافلة.
ج - وفرقة قالت : الوقت يتضيق عليه بالشروع فيها، فإذا شرع فيها فذلك وقتها.
وقولهم : إنه يجوز تركه في أول الوقت دون آخره، يجاب عنه بأنه في أول الوقت يجوز تركه بشرط العزم على الفعل في الوقت الآتي، وهذا يختلف عن حد المندوب؛ فإن المندوب يجوز تركه بلا شرط.
والخلاف بين الفريقين راجع إلى أن سبب وجوب الصلاة أهو آخر الوقت أم كل جزء من أجزاء الوقت يصلح سببا؟ فمن جعله آخر الوقت أنكر التوسع في الوجوب، ومن جعل كل جزء من أجزاء الوقت يصلح سببا أثبته.
المندوب
المندوب هو : طلب الشارع فعله من غير إلزام، ورتب على امتثاله المدح والثواب، وليس على تركه الذم والعقاب.
أسماء المندوب :
يسمى المندوب عند جمهور العلماء من المذاهب الثلاثة غير المذهب الحنفي بأسماء كثيرة، أهمها : السنة، والمستحب، والنافلة، والتطوع، والفضيلة ، ونحو ذلك.
وعند بعض الحنفية ينقسم المندوب إلى :(1/3)
سنة هدى : وهي ما كان أخذها هدى، وتركها ضلالة، ويمثلونها بصلاة العيد، والأذان، والإقامة، والصلاة في جماعة، وتركها يستوجب اللوم والعتاب. وهذا النوع يسميه الجمهور سنة مؤكدة، ويمثلونه بصلاة الوتر، ولهذا قال أحمد : « تارك الوتر رجل سوء » مع أنه لا يرى وجوب الوتر.
سنة مطلقة : وهي ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يأمر به أمر إيجاب، مثل السنن الرواتب، وصيام الاثنين والخميس، ونحو ذلك.
نافلة : وهي ما شرع من العبادات الزائدة على الفروض.
وذهب بعض الحنابلة إلى تقسيم المندوب إلى ثلاثة أقسام :
سنة : وهي ما عظم أجره.
نافلة : وهي ما قل أجره.
فضيلة : وهو ما توسط أجره.
وهذا تقسيم مبني على عظم الأجر، وذلك أمر مغيب عنا، والأجر يختلف باختلاف النية والإخلاص وإحسان الفعل.
ومن الألفاظ المشهورة عند الفقهاء:
السنة المؤكدة : وهي ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وواظب عليه في الحضر والسفر، مثل الوتر وسنة الفجر.
والمستحب : وهو ما رغب فيه النبي صلى الله عليه وسلم فعله أو لم يفعله، مثل صيام يوم وترك يوم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : « خير الصيام صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما» ولم يفعل هذا، ومما فعله صيام الاثنين والخميس، وصيام عاشوراء.
هل يلزم المندوب بالشروع فيه؟:(1/4)
اختلف العلماء في ذلك، ومحل الخلاف فيما عدا الحج والعمرة والصدقة، فأما الحج والعمرة فقد اتفقوا على وجوب إتمامهما؛ لقوله تعالى : {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة 196]. وأما الصدقة بالمال كالنفقة على الفقير فلا خلاف في جواز قطعها.
ذهب أبو حنيفة وأكثر أصحابه إلى أن المندوب يجب بالشروع فيه، واستدلوا على ذلك بأدلة، منها :
أ - قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد 33]، ووجه الدلالة : أن الآية فيها نهي عن إبطال العمل، والنهي يقتضي التحريم، وإذا حرم إبطال المندوب وجب إتمامه.
ب - ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأحد الصحابة - وكان صائما صوم تطوع - : « كل وصم يوما مكانه » (أخرجه الدارقطني من حديث جابر رضي الله عنه) ووجه الدلالة من الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالقضاء، والأصل في الأمر الوجوب، ولا يأمر بقضائه إلا إذا كان واجبا.(1/5)
ج - أن المندوب ينقلب واجبا إذا نذره، فالنذر صير المندوب واجبا بالقول، أي بقوله : لله علي كذا، والشروع في المندوب فعل صيّر المندوب لله فوجبت صيانته عن الإفساد. وخلاصة هذا الدليل قياس الشروع في الفعل على النذر.
د - القياس على الحج والعمرة.
وذهب الجمهور إلى عدم وجوبه بالشروع فيه، واستدلوا بأدلة منها :
أ - قول الرسول صلى الله عليه وسلم : «الصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام وإن شاء أفطر»، ووجه الدلالة من الحديث ظاهرة؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الصائم المتطوع مخيرا بين الصيام والفطر، وإذا كان الصيام المندوب لا يجب بالشروع فيه فكذلك سائر المندوبات، إلا ما قام عليه دليل بخصوصه كالحج .
ب - أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسأل أهله: «أعندكم طعام؟» فإن قالوا نعم أكل منه، وإلا قال: « إني إذا صائم » (أخرجه أبو داود والنسائي من حديث عائشة). ووجه الاستدلال أنه يكون ناويا الصوم، ثم إن وجد طعاما أكل وإلا أكمل صيامه.
ج - أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الرجل الذي كان صائما أن يفطر كما مر في الحديث الذي استدل به للحنفية. ووجه دلالته على عدم الوجوب أنه لو كان إتمامه واجبا لما أمره بالفطر؛ لأنه يكون آمرا بمعصية، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر بمعصية.
وقول الجمهور أرجح.
وأما الاستدلال بالآية فالمقصود بها إبطال الأعمال بالرياء أو بالردة.
وأما الحديث فهو دليل للجمهور؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أجاز للصائم المتطوع أن يفطر، وقوله : « صم يوماً مكانه » ندب؛ لأنه عوض عن ندب.
وأما تشبيه الشروع بالنذر فبعيد جدا، وإلا لوجب على من شرع في الإنفاق على فقير أن يستمر، ولم يقل بذلك أحد.
وأما القياس على الحج والعمرة فمردود؛ للفرق بينهما وبين سائر الواجبات.
وثمرة الخلاف تظهر في إيجاب القضاء، فعند أبي حنيفة إذا شرع في نفل ثم قطعه وجب عليه القضاء، وعند الجمهور لا يجب.
المحرم(1/6)
المحرم هو : ما طلب الشارع الكف عنه على وجه الحتم والإلزام، ويثاب تاركه امتثالا، ويعاقب فاعله اختيارا.
ومن أسمائه: المحظور.
أقسام الحرام :
يقسم بعض العلماء الحرام قسمين :
1- حرام لذاته : وهو ما كان مفسدة في ذاته. مثل القتل، والسرقة، وأكل لحم الخنزير.
2- حرام لغيره : وهو ما تكون مفسدته ناشئة من وصف قام به لا من ذاته. مثل الصلاة في المقبرة، والبيع وقت نداء الجمعة الثاني.
وقد يطلق الحرام لغيره على ما حرِّم لكونه وسيلة إلى الحرام، مثل النظر إلى مفاتن المرأة الأجنبية.
فرق الحنفية في المطلوب الكف عنه على وجه الإلزام بين ما ثبت بدليل قطعي الورود كالقرلآن والسنة المتواترة، فسموا ما ثبت به (الحرام)، وما ثبت بدليل ظني الورود كحديث الآحاد الصحيح، فسموه: (المكروه تحريما)، وهذا شبيه ما تقدم لهم في التفريق بين (الفرض) و (الواجب)، وجمهور العلماء على عدم التفريق، وهو الصواب.
المكروه
المكروه هو : ما طلب الشارع من المكلف تركه لا على وجه الحتم والإلزام، ويثاب تاركه امتثالا، ولا يعاقب فاعله.
ويطلقه الحنفية على شيئين :
1- المكروه كراهة تحريم، وهو : ما نهى عنه الشرع نهيا جازما، ولكنه ثبت بطريق ظني، مثل أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير.
2- المكروه كراهة تنزيه، وهو: ما نهى عنه الشرع نهيا غير جازم. وهو مرادف للمكروه عند الجمهور.
وكون الشيء مكروها كراهة تنزيه يعرف بأمور، منها:
1- النهي عنه مع وجود قرينة تدل على عدم العقاب على الترك، مثل : المشي بنعل واحدة؛ فإن النهي عنه خرج مخرج التأديب والحمل على ما يناسب المروءة، وترك ما يضادها.
2- أن يترتب على فعل الشيء الحرمان من فضيلة، مثل : أكل الثوم والبصل، فمن أكلهما ممنوع من دخول المسجد.
المباح
المباح هو : ما خير الشارع المكلف بين فعله وتركه، ولا يلحقه مدح شرعي ولا ذم بفعله أو تركه، إلا أن يقترن فعله أو تركه بنية صالحة فيثاب على نيته.(1/7)
والإباحة تعرف بطرق منها :
? النص على التخيير بين الفعل والترك.
? نفي الإثم والمؤاخذة
? النص على الحل
? الأمر الوارد بعد الحظر
? كون الفعل مسكوتاً عنه؛ فإن الأصل في الأشياء المنتفع بها الحل(1/8)