7- إن أخطر ما تقدمه الوجودية للإنسان المعاصر، هو إنكار كل محصول البشرية من التجارب والقيم، فهي لا تأبه به، بل تنادي بضرورة تجاهله، وأن يبدأ الإنسان من جديد كالإنسان البدائي فضلا عن احتقار الوجودية للعلم وإنكار قيمته، ولعل أسوأ ما يتعارض مع طبيعة الحياة، ومع فطرة ###101### الإنسان شجبها للدين وإنكار الوجود الإلهي حيث لا تجد لها أي قاعدة تلتقي مع حقيقة الإنسان ووجوده وذاته.
ثم هي تجعل الفرد منعزلا عن الوجود العام لا جزءًا منه، أما أخلاق الوجودية، فهي الأخلاق المريضة القائمة على القلق والقنوط والتشاؤم والرغبة في الموت والغموض والأنانية المفرطة.
ويرد الباحثون ذلك كله إلى عجز الفكر الديني الغربي عن أن يقدم ترضية كافية إلى مطالب العقل الذي يتوق إلى فهم كل شيء، حيث تصطدم بعض هذه المفاهيم مع العقل الذي لم يكن معدًا لقبولها.
كذلك فإن العلم قد سقط بجميع وسائل البحث والدراسة إزاء الأسئلة المطروحة في وجهه، وعندما سقط العلم عن إرضاء النفس البشرية، جاءت الوجودية لتعترف بعجز الإنسان عن فهم الحياة ومعقوليتها، فساقت الناس مرة أخرى إلى تعمق الشك والقلق وتأكيده.
ومعنى هذا أن الوجودية ليست حلا، وإنما هي اعتراف باليأس، وتعبير عن الفراغ الروحي المخيف؛ وقد جاء ذلك نتيجة أمرين:
الانفصام بين الروح والمادة.
###102### 2- الإنشطار بين الدنيا والآخرة.
هذا اليأس والتمزق النفسي، إنما ولدهما الخواء الروحي والكسل الذي تعانيه الحضارة المعاصرة نتيجة الإسراف في الرفاهية والترف، حيث لا تعرف المجتمعات الآن غير اللذات المسرفة والمسافدة والخمر والسموم.(44/15)
وليس هذا – في تقدير العارفين بسنن الله في الكون والمجتمعات – بغريب، فإن الإنسان حين يخرج عن طريق الله وعن منهج الله، فإنه يورث الحيرة والقلق الذي يجعله يقتل نفسه حيًا؛ ولقد حاول إنسان العصر أن ينحي عنه كل ما هو رباني فلا ينظر فيه اعتمادًا على العقل والعلم، فلم تحقق جولته خلال هذه القرون إلا مزيدًا من الخسارة، وهو الآن في كبريائه عاجز عن أن يعود إلى الدين بعد أن هجره، ولذلك فإنه يعود إلى فلسفات الهنود والبوذية وغيرهما متخطيًا الإسلام الذي يقف شامخًا كالمنار أمام حيرة الإنسان الغربي حاملا الهدى والضياء، وسوف يكثر طواف الإنسان المعاصر، وتمتد حيرته دون أن يجد منقذًا إلا في كلمة الدين الحق.
أما الذين تزدهيهم الوجودية، ويعجبون بها، فإنهم ينساقون وراء أهوائها فحسب؛ حيث يرون فلسفة تبرر الانحراف بدعوى القيم، وتعفي الإنسان من القيم ###103### الأصيلة، وتطلق له عناية الأنانية؛ وليس الإنسان منطلقًا في الحركة في هذه الحياة على النحو الذي يريده لأهوائه ورغباته.
وإنما لا بد أن تتم هذه الحركة داخل إطار من الدين، ومن ضوابط الأخلاق، ومن الحدود التي تحمي الشخصية الإنسانية نفسها، والتي تجعل الإنسان أهلا لتحقيق إرادة الله في الأرض؛ قويًا عاقلا قادرًا على الحركة والمقاومة والعطاء، أما الإنسان المنحل المنحرف المدمر الذي حطمته الأهواء، فهو ليس الإنسان المكلف الملتزم بإرادة الله ومنهجه.
وفي كل ما تعرضه الوجودية لا نجد أكثر حكمة وتوسطًا من الإسلام حيث لا تتصارع فيه إرادة الإنسان، سواء في علاقته مع نفسه أو مع غيره. والإنسان في الإسلام ليس هو الموجود الذي ينبع منه كل شيء، بل هو جزء من الكون متوازن مع كل القوى نفسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا على أساس الاعتدال، والإنسان في الإسلام يعتمد على العقل، تحدوه قوة الإيمان، فلا صراع عنده بين المادة والروح، أو الجسد والعقل.(44/16)
"ويعالج الإسلام قضايا الإنسان معالجة متوازنة (فكرية ونفسية) دونما طغيان لقيمة على قيمة، أو تراجع لقيمة أمام أخرى، ولقد جاء الإسلام كنصر ساحق للإنسان ###104### على آلامه، وكثورة نفسيه عظمى، حققت له توحده الذاتي، وشيدت أمامه أروع أمل في الخلود المطلق في النعيم".
وكلن الإنسان هو الذي ترك هذا الأسلوب الرباني الذي جاءت به الأديان؛ وحاول أن يحل مشاكله بنفسه فاضطرب وعجز، وبدأ ذلك في معالجات الفلسفة اليونانية، والفلسفة الشرقية الغنوصية، والفلسفة المثالية، والفلسفة المادية الحديثتين، لأن الإنسان لا يعرف حقيقة جوهره، أما الإسلام فإنه يعرف أن عنصر التوازن أصيل في الإنسان، وأنه لا بد من التقاء الفكر والنفس، والروح والمادة، والدنيا والآخرة في أي فهم لدراسة الإنسان وفهم نفسيته وذاته.
……………………الأستاذ/ أنور الجندي(44/17)
سلسلة على طريق الأصالة رياح السموم
التي هبت على الفكر الإسلامي
إعادة طرح الفكر الباطني والإباحي القديم في أفق الإسلام مجددًا
محاذير كثيرة وأطروحات عديدة ألقيت في الفكر الإسلامي من أجل تزييفه وتدميره وإفساد وجهته والقضاء على طابعه المتميز، ووجهته الخالصة للتوحيد، فقد كان تراث الفكر الوثني والمادي والإباحي (فكر طفولة البشرية) التي حملت لوائه الفرق الضالة وتخصصت فيه جماعات اليهود والمجوس والباطنية، يحاول دائمًا أن يقتحم الفكر الإسلامي - كما اقتحم الفكر اليهودي والمسيحي من قبل - من أجل إخراجه من ذاتيته الخاصة تحت اسم الفكر العالمي أو الإنساني أو البشري ومن خلال الدعوة إلى الاقتباس أو التبادل الثقافي أو التقارب والالتقاء.
كان أخطر هذه الاقتحامات الخطيرة التي أحدثت آثارًا بعيدة المدى في مجريات الفكر الإسلامي (الدعوة السبأية) التي قادها عبد الله بن سبأ والتي كان لها أبعد النتائج أثرًا في تاريخ الإسلام.
وهم الذين أدخلوا مفاهيم الفكر اليهودي إلى الإسلام ذلك أن عبد الله بن سبأ هو الذي ادعى الربوبية في الإمام علي؛ فقد زعم إنه هو الله (تعالى الله عن ذلك) وقال له علي رضي الله عنه: "ويلك قد سخر منك الشيطان فارجع عن هذا ثكلتك أمك" ونفاه إلى المدائن.
وعبد الله بن سبأ هو الذي قاد الفتنة بين الصحابة وحالك مؤامرة مقتل عثمان ووقوع الخلاف بين الصحابة بعدها، وكان عبد الله بن سبأ يهوديًا رافضيًا اعتنق السبأية وحمل لواء الرافضية مدخلا إلى الفكر الوثني الذي ترجم في عصر المأمون وأخطره فكر المعتزلة والتصوف الفلسفي.
وقد ذكر ابن عبد ربه في العقد الفريد رواية نسبها إلى الشعبي في حديث له مع مالك بن معاوية جاء فيها:(45/1)
"أحذرك الأهواء المضلة وشرها الرافضة فإنها يهود هذه الأمة يبغضون الإسلام ولم يدخلوا فيه رغبة ولا رهبة من الله ولكن مقتًا لأهل الإسلام وبغيًا عليهم وقد حرقهم علي بن أبي طالب بالنار ونفاهم إلى البلدان، ومنهم عبد الله بن سبأ نفاه إلى ساباط، وقيل إن عبد الله بن سبأ زار الحجاز والبصرة والكوفة والشام ومصر واتصل في هذه الأقطار عن طريق المراسلة حتى يتمكن من تأجيج نار فتنة لم تخمد حتى اليوم".
وكانت ترجمة الفلسفة اليونانية أخطر مراحل التداخل لاحتواء الإسلام وفكره، وحمل لوائها المأمون وجند لها حنين بن إسحاق (وكان يدين بالنصرانية على المذهب النسطوري وكان المطلوب ترجمة كتب العلوم فترجم حنينًا وأصحابه كتب الفلسفة وأدخلوا إليها مفاهيمهم، وكان أول الشر في الاعتزال الذي نقل من الفكر الفلسفي اليهودي والنصراني حيث نقلت فكره خلق القرآن من هذا الفكر الوثني وحمل لوائها الغلاة ومال إليهم المأمون وفرض الفكرة على الناس وامتحن بها المسلمون خلال عهود المأمون والمعتصم والواثق ولم يصمد أمام المحنة إلا إمام المسلمين أحمد بن حنبل الذي قال: (القرآن كلام الله غير مخلوق).
وطلب المأمون كتب اليونان فأرسل له إمبراطور الروم منها ما يفوق الوصف. وقال أحد رجال الدين المسيحي: الرأي أن نعجل بإنفاذ هذه الكتب إلى الخليفة فإن هذه العلوم ما دخلت دولة شرعية إلا أفسدتها وأوقعت الفتنة بين علمائها.
ولكن هذه المحنة ما لبثت أن كشفها الله تبارك وتعالى فأفل نجم المعتزلة في عهد المتوكل، واستجاشت السنة وأهلها وارتفع شأن ابن حنبل فوق كل مقال.
وكان للفلسفة اليونانية آثارها الخطيرة في محاولة تزييف أصالة مفهوم الإسلام وقد واجهها المسلمون منذ اليوم الأول بكل قوة وكشفوا زيفها ومخالفتها لمفهوم الإسلام وكيف أن (أرجانون) اليونان قائم على (علم الأصنام) وعبودية البشر للإمبراطور المدعي بالألوهية.(45/2)
وكانت كتابات الإمام الشافعي وأحمد بن حنبل والغزالي وابن تَيْمِيَّة قد صححت المفاهيم وأعادت مفهوم الإسلام الأصيل.
وفي مجال (الشعر) دخلت وسائل الغزو لتخرج الشعر العربي من أصالته وإسلاميته ومفهومه المرتبط بالبطولة والسماحة والكرامة والوفاء، وذلك حين نقلت إليه سموم الآداب الفارسية والهندية القديمة المرتبطة بالإباحة والخمر والإسراف في الإقبال على المتع والمغريات والدخول في مجالات إباحية خطيرة على النحو الذي عرف في شعر أبو نواس وبشار والضحاك وغيرهم من شعراء الغلمة والغزل المذكر.
وظهر من الشعراء من تأثروا بالفلسفة اليونانية ومفاهيمها ومن تأثر بالرواقيين بالذات أمثال المعري في امتناعه عن أكل اللحم وتمنيه أن لو لم يوجد الإنسان لأنه شرير فاسدًا، فضلا عن كراهيته للدنيا وحبه للعدم بدلا من الحياة وكراهيته لبناء الأسرة والزواج حتى استحسن وأد البنات كعادة الجاهلية فضلا عن إعلانه المجابه بفئة الرهبان وكراهيته تعليم المرأة وإعجابه بحرق الهنود موتاهم، وقد رأى أن لا يأكل الحيوان ولا ما خرج منه كمذهب أهل الهند، وبذلك خرج خروجًا واضحًا عن مفهوم الإسلام.
ولم يكن ذلك بأقل من فعل أبو نواس في الناحية الأخرى في العبث والمجون حيث وقف حياته على التغزل بالغلمان غزلا فاحشًا يعد وصمة عار في جبينه ولم يهتم بالنساء اهتمامه بالغلمان، ولقد أحب الخمر حبًا عظيمًا وأخلص لها، وظل هو وجماعته من المجان والزنادقة يتسكعون في حانات بغداد والكرخ.
هذا هو المعري الذي أحبه طه حسين، وهذا أبو نواس الذي أعجب به عميد الأدب وفضله على المتنبي، الشاعر الذي عاش في أنفاس الحانة ولم يقف يومًا موقفًا مشرفًا في حرب أو جهاد، الرجل المخمور دائمًا الذي يعيش في نشوة وطرب حيث الدنان والكؤوس المترعة بالسلاف، يهاجم الدين تطرفًا وتندرًا يثير الضحك عند سامعيه، وكأنه يضيق بالدين لأنه يهاجم محبوبته الخمر ويحرمها.(45/3)
ثم جاءت عاصفة الفكر الباطني في مجال وحدة الوجود والحلول والتناسخ، حمل لوائها قوم مجوسي الأصل، ومن اليهود، وجاء الراوندوية والزنج والقرامطة المجسمة والقدرية.
ونقلت إلى أفق الفكر الإسلامي مذاهب الشعوذة الهندية والباطنية الفارسية القديمة، وتركز هذا الفكر في مصدر وضعوه في مقام الإمام لهم هو (رسائل إخوان الصفا).
وفتح أعداء الإسلام باب الأساطير بعد أن جاء الإسلام ليحرر البشرية من ظلالها، ويقدم للإنسانية منهجًا كاملا لما وراء الغيب لا يحتاج معه الإنسان إلى مزيد من البيان الصادق، وقد كانت الأساطير تصور بمنطق العقل البدائي ظواهر الكون والطبيعة والعادات الاجتماعية فجاء الإسلام ليقدم الحقائق.
ولكن الغزاة استطاعوا أن ينقلوا إلى أفق الفكر الإسلامي أساطير الأمم الوثنية الضائع، فرعونية وفارسية وهندية بما يسمى (المثولوجيا) وما يتصل بها من آلهة الإغريق، ترجمها قوم من قومنا بتحريض من المستشرقين والمبشرين في محاولة لإدخال مفاهيم ضالة مسمومة، اختلطت بالشعر والمسرحيات وبالأدب، كما جددوا الأساطير العربية القديمة التي حرر علماء المسلمين منها السيرة النبوية فأعاد أمثال طه حسين طرحها من جديد مع انتحال أساطير أخرى، في كتابه (على هامش السيرة) وقد صور الدكتور محمد حسين هيكل هذا الاتجاه بأنه اتجاه خطير من حيث حرص المسلمين طوال العصور على تنقية سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم من الأساطير وإبعادها عن الروايات الخيالية والوهمية التي حاولت الإسرائيليات إلصاقها بها.
وقد جرت المحاولات الضخمة في العصر الحديث من أجل إدخال الخرافة والأساطير إلى الأدب العربي والفكر الإسلامي، في الوقت الذي رفض المسلمون في القرن الثالث ترجمة أساطير الأمم وقالوا إنها أهواء الشعوب وإنهم لا حاجة لهم بها إذ لكل أمة فنونها وللمسلمين فنهم وهو الشعر.(45/4)
ولكن العصر الحديث جاء في إطار النفوذ الأجنبي ففرض على المسلمين ترجمات الإلياذة الإغريقية والشاهنامة الفارسية والروايات الهندية والأساطير المصرية.
هذه الأساطير التي تمثل ركام الفكر البشري القائم على أهواء النفوس والمشبع بالإباحية والمادية وفساد الذوق وتصورات الطفولة البشرية وكلها مما جاء الإسلام للقضاء عليها وهدمها.
وهي في مجموعتها تختلف عن مفهوم الإسلام الجامع، ومفهوم الدين الحق سواء بإشاعة روح الفساد الخلقي أو تغليب الوجدان المترف أو المادية المسرفة أو تمجيد القوة أو عبادة الأجساد وكلها تصور الآلهة وهي في صراع مع الإنسان وتجمع إلى قدرة الآلهة حماقات البشر وتجعل قانونها شهوانيًا وتخبط كيفما قادتها اليدوات والنزوات وتتميز أساطير الإغريق بعبادة الطبيعة والأجساد العادية.
(2)
لقد كانت المؤامرة في العصر الحديث ترمي إلى إفساد أصالة وسماحة الفكر الإسلامي المستمد من القرآن الكريم والسنة المطهرة ولذلك عمل رجال الاستشراق والتبشير والغزو الثقافي والشعوبية جميعًا على إعادة طرح الفكر الباطني والوثني والشعوبي القديم في أفق الفكر الإسلامي مجددًا تحت اسم إعادة كتابة التراث، أو إعادة كتابة التاريخ فأعيد إحياء الدعوة السبأية وما يتصل بها من فكر الرافضة والفكر المعتزلي والتصوف الفلسفي، وإحياء ترجمات الفلسفة المادية وإعادة ترجمة كتب الأساطير اليونانية القديمة والدعوة إلى أبي نواس وبشار وابن الراوندي، والمعري والسهروردي والحلاج وابن المقفع على نحو جيد بإغراء الشباب المثقف لما تحويه كاتبات هؤلاء من سموم وإغراءات خادعة للشباب ومذاهب ترمي إلى رفع التكليف وتحسين الإباحة والمجون والغواية.
وجرت المحاولات لفرض اتباع الفكر اليوناني القديم الذي هو علم الأصنام وما يتصل به على العلوم الإسلامية.(45/5)
وكان أبرز من ركز الاهتمام عليهم: ابن سينا والفارابي في مجال الفلسفة، والسهروردي وابن سبعين والحلاج في مجال التصوف الفلسفي، وابن مسكويه في مجال الأخلاق، ويوحنا الدمشقي ونصير الدين الطوسي، وكل هؤلاء من أعداء مفهوم الإسلام الأصيل المخالفين له. وقد تأثروا بمفهوم اليونان في الأخلاق كما تأثروا بأفلاطون في جمهوريته وبأرسطو وخاضوا وراء مفهوم العقول العشرة ونظريات الفيض وغيرها، وكلها نظريات باطلة وزائفة يحاولون اليوم إعادة إحيائها من جديد.
بينما يوجه إلى الأئمة الأعلام الذين حرروا الفكر الإسلامي من التبعية أمثال الغزالي وابن تَيْمِيَّة وابن حنبل والشافعي إعراضًا شديدًا ومؤامرة للصمت الطويل.
قم كانت الدعوة إلى إحياء التراث الشعبي القديم (الفلكلور) محاولة أخرى لرد المسلمين إلى الفكر البشري القديم فقد اتخذت وسيلة لإذاعة العاميات وجمع الأزجال والمواويل والأمثلة العامية على نحو أراد به دعاة التعريب والغزو الثقافي أن يثبتوا أن العامية ليست لهجة ولكنها لغة واتخذوا من ذلك سلاحًا لمعارضة الفصحى وإضعافها وتغليب العاميات عليها.
وقد بدأت حركة الفلكلور على أيدي المبشرين ودعاة التغريب الذين حملوا لواء الدعوة إلى العامية واللغة المحكية في محاولة لإقصاء الفصحى: لغة القرآن، عن مكان الصدارة وتعزيز العامية في كل قطر وبلد مستهدفين تفكيك وحدة الأمة وإبعادها عن مستوى بلاغة القرآن الكريم وآدابه.(45/6)
كما عمدت دعوة الفلكلور إلى استحياء الماضي القديم الوثني البائد من وراء عصر الإسلام، فهي قد ارتبطت بالفرعونية في مصر، والفينيقية في لبنان، وكانت تحاول بذلك إحياء قيم قديمة ماتت وانتهت وتقاليد ومظاهر وأعياد عرفها العرب إبان وثنيتهم ثم تحرروا منها مع ظهور الإسلام ولم يعودوا مرة أخرى إليها بعد أن جاءهم الإسلام بالتوحيد الخالص فقضى على هذه الوثنيات القديمة البائدة التي تتعارض اليوم مع الثقافة الإسلامية والقيم القرآنية جميعًا.
ولقد جرى الفلكلور في مجاري ثلاث كلها بعيدة عن جوهر ذاتية الأمة ومزاجها النفسي، إما بإحياء الوثنيات الفرعونية أو العادات الجاهلية العربية أو الوثنية الإغريقية، وهذه الثلاث لا تتصل مطلقًا بحقيقة الأمة الإسلامية التي تحررت منذ خمسة عشر قرنًا من هذه الطقوس والوثنيات.
ولقد كان واضحًا أن هذه الخطة جزء من المؤامرة المدبرة لتزييف أصالة المفهوم الإسلامي فإن الفلكلور في حقيقته يقوم على إحياء أوهام الشعوب وأهوائها وعلى أدنى قدر من العواطف والمشاعر التي تتعلق بها النفوس المحدودة الأفق في مرحلة ضعفها وسذاجتها حيث لم تكن وصلت إلى ثقافة الدين الحق الذي يوجهها أساسًا إلى التحرر من الوثنيات والماديات، وفرق كبير بين الفلكلور من ناحية وبين التاريخ والتراث، فقد ركز على إحياء الإقليميات والوثنيات والتقاليد والعادات التي انحرفت عن مفهوم العقائد الصحيحة مما صنعه الإنسان في حالات الضعف البشري في مراحل الالتقاء الاجتماعي العام وهي في مجموعها خارجة عن أصول الدين الحق الذي هدينا إليه، ولذلك فإن إحياء هذا النوع من التراث هو إحياء لدعوة التفرقة والجهل والتمزق.(45/7)
وبالنسبة للأغاني والمواويل فإنها في مجموعها خواطر ساذجة لا تمثل من النفس الإنسانية إلا أدنى مراتبها وهي في مجموعها تقوم على الأهواء حيث تنسى قبول المسلم لأمر الله في حالات الموت أو المصيبة وفي حالات الفرح أيضًا بديلا عن هذه الترهات والصرخات التي يرددها الفلكلور.
ولقد كانت الإسرائيليات المتجددة من أخطر التحديات التي واجهت الإسلام والفكر الإسلامي، فإنما هي تمثل إضافات خطيرة ونظريات باطلة مستمدة من نصوص قديمة، وثنية ومجوسية من خارج مفهوم الإسلام وذاتيته المختلفة عن الأديان والفلسفات، تسربت مع الزمن وقصد إلى إضافتها خصوم الإسلام وأعدائه رغبة في عزله عن جوهره الأصيل، وقد شكلت مع الزمن قشرة صلبة أو حاجزًا خطيرًا عازلا عن مفهوم الإسلام في بساطته ووضوحه ويسره وإيجازه وأضافت تفاصيل كثيرة باطلة وتوسعات عديدة تتعارض أساسًا مع مفهوم الإسلام القائم على التوحيد والإيمان بالغيب والبعث والجزاء في مواجهة مختلف القضايا.
وقد أضيف إلى الإسرائيليات مع تطور الفكر الإسلامي إضافات أخرى تسربت مع الفلسفات اليونانية والهندية والفارسية وغيرها مما كون حصيلة ضخمة استعملها الشعوبيون وأعداء الإسلام والعرب في القديم سلاحًا لتحويل الأنظار عن مفهوم الإسلام الأصيل وجوهره وإخراجه عن مضامينه، وقد واجه المفكرون المسلمون هذه الدخائل الإسرائيلية الباطنية المجوسية وغيرها وفندوها وكشفوا عنها، وفي مقدمة من تولى ذلك الجاحظ في (البيان والتبيين) والقاضي ابن العربي في (العواصم من القواصم) وابن الجوزي في (تلبيس إبليس) كما واجه هذه القضايا ابن حزم والغزالي وابن خلدون وعرضوا لآراء الباطنية والمجوسية والمزدكية والمانوية وغيرهم، ولا سيما تلك العقائد والأساطير التي دسها اليهود والنصارى في مفاهيم الإسلام.(45/8)
وفي مقدمة هذه الإسرائيليات تلك الإضافات الزائفة للنصوص الثابتة أو التفسيرات للآيات القرآنية والتوسع في أوصاف الملائكة والجنة والنار والحشر ويوم القيامة وتصويرها تصويرًا حيًا.
وقد انداحت هذه الإسرائيليات في كتب التفسير وغيرها خلال فترة الضعف وفي مؤلفات لم يكتبها علماء محققون حيث جمعت أحاديث منحولة وأكاذيب ومفتريات مدسوسة، وفي مقدمة هذه المؤلفات (بدائع الزهور والعرائس في القصص والأخبار).
وكان لدائرة المعارف الإسلامية (التي كتبها عتاة المستشرقين ومتعصبيهم) أثر بالغ في ترويج هذه الإسرائيليات مما جمعه السدي والكسائي والتغلبي والخازن وغيرهم فالتصقت بالتفسير، وقد عارض المفكرون المسلمون هذا الاتجاه وشجبوه وفي مقدمتهم العلامة ابن خلدون، غير أن دائرة المعارف الإسلامية وكتابها جميعًا من خصوم الإسلام نقلت هذه الآراء وبوبتها وعدتها مصادر صحيحة، وجاء حولدزيهن اليهودي فدافع عن كعب الأحبار وزملائه.(45/9)
وقد ركزت دائرة المعارف الإسلامية على كتب المحاضرات التي لم تكن في حقيقتها كتبًا علمية وإنما جمعت ما قاله الرواة وأحلاس المجالس من قصص وتناقلوه من أوهام، وفي فترة من فترات التاريخ الإسلامي استشرت كتب المحاضرات التي جمعت ما تجمع من أساطير الأمم السابقة ورواياتها وخرافاتها وسفرها وحكمها، وقد بدا ذلك على أنه تراث يكشف للمسلمين علامات فكرهم الأصيل، غير أنه خلال مراحل الضعف التي مرت بتاريخ المسلمين ومع ضغط قوي الغزو الأجنبية من مجوسية وباطنية ودعاة الفلسفة اليونانية فقد جمعت هذه الأساطير وشكلت تيارًا زائفًا من الدخائل وإضافات التقليد والابتداع تلقفه المستشرقون وتاجروا به وحاولوا أن يقدموه على أنه من مصادر الفكر الإسلامي مما دعا رواد اليقظة الإسلامية والباحثين المنصفين إلى الإشارة لهذه الآثار والتحذير من اعتمادها مصادر علمية وكشفوا عن أخطائها وسموها على النحو الذي أوضحناه بالإشارة إلى ألف ليلة والأغاني وكليلة ودمنة ورسائل إخوان الصفا وغيرها مما اعتمد عليه الدكتور طه حسين وأتباعه في كتابة أبحاثهم ومما يجب الحذر الشديد منه.
ومن ذلك كتابي المضنون به علي غير أهل والمنسوب إلى الإمام الغزالي كذبًا وبهتانًا وكتاب الإمامة والسياسة المنسوب إلى ابن قتيبة وهو كتاب لقيط مجهول النسب حيث تجد أسلوب القول فيه يخالف أسلوب ابن قتيبة في كتاب المعارف وفي سائر كتبه وفيه روايات لابن قتيبة ومروية عن أبي ليلة، وهو لم يقابله، حيث ولد بعده بمائة وعشرين سنة.(45/10)
كذلك فإن محاولات التغريب تعمل على إحياء ملتقطات من هنا وهناك في سبيل الادعاء بأن الأدب المكشوف كان قائمًا في مجال الأدب العربي بعد الإسلام، وهي محاولة خادعة تحاول التقاط بعض المواقف من هنا وهناك، من خلال المرحلة التي غلب فيها الأثر الفارسي القديم والتي غلب فيها السجع والمحسنات اللفظية، وقد جاء ذلك بعد غلبة طابع الترجمة الذي كانت له آثاره البعيدة المدى على مرحلة محدودة من مراحل الفكر الإسلامي والأدب العربي.
فإذا قيل أن الأدب العربي قد عرف الأدب المكشوف حينًا من الدهر، قلنا إن ذلك لم يكن بدافع الفطرة بل كان غزوًا شعوبيًا على النحو الذي نواجهه اليوم، وأن هذا اللون إنما دخل على أيدي المتصلين بالثقافات والديانات والفلسفات القديمة السابقة للإسلام وفي مقدمتها وثنية اليونان ومجوسية الفرس وغنوصية الهند.
وإن ذلك كله جرى في نطاق المؤامرة الخطيرة التي قامت بها قوى الباطنية والمجوسية والقرامطة في محاولة لتدمير مفهوم الإسلام أساسًا وتغليب مفاهيم الكشف والإباحة ووحدة الوجود والحلول والتناسخ وغيرها، ومن خلال طائفة المجان الإباحيين بشار وأبي نواس وغيرهم.
ومن هنا دخل على الأدب العربي في مرحلة من مراحله نماذج من المجون والفحش واستشرى في الهجاء والخمريات والشعر الخليع غير أن الصحوة الإسلامية التي واجهت الفكر اليوناني استطاعت أن تحرر الأدب والشعر وأن يعيده إلى مجال الأصالة.
وكذلك تجدد الأمر في العصر الحديث في محاولة لفرض مجموعة محتقرة من المجان في عصرها ليصور القرن الثاني الهجري كله بأنه عصر مجون وفساد وفيه أئمة الفكر والفقه والدين والعلم.
ونرى اليوم معالم أسلمة الأدب العربي والعلوم الإنسانية والثقافة والمعرفة والمصطلحات تنطلق إلى مداها في سبيل تحرير الفكر الإسلامي من التبعية.
…………………الأستاذ/ أنور الجندي(45/11)
سلسلة على طريق الأصالة تقويم ما قدمه الرواد
وقراءة جديدة لكتابات الشوامخ
ظهرت في السنوات الأخيرة الكثير من المذكرات والذكريات واليوميات التي قدمها كتاب الأجيال التي تلت جيل الرواد الذي كان له الصدارة في العصور التي تلت الحرب العالمية الأولى وامتدت إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية والتي سيطر كتابها على الحياة الأدبية في البلاد العربية وكان للسياسة والصحافة الحزبية أثرها البعيد في إبرازهم وإكسابهم الشهرة المدوية في حين أنهم لم يكونوا إلا بمثابة قناطر تنقل فكر الغرب إلى محيط الثقافة الإسلامي وكانوا في أبرز مظاهرهم تحت عيونهم الأصداف، فظنوا أنها الجوهر. وآية ذلك أنهم انفصلوا عن تيار الفكر الإسلامي والأدب العربي، وربطوا أنفسهم بمطالع الزحف الغربي على بلاد المسلمين فجعلوا منطلقهم من الحملة الفرنسية وسموا جولتهم بالأسماء الإقليمية والقومية، فحالوا أن يكتبوا أدبًا مصريًا أو سوريًا أو عراقيًا، وكان قائدهم هذا أستاذ الجيل (لطفي السيد) الذي أنكر رابطتي العروبة والإسلام، وكانت الرؤى التي يتحركون في إطارها هي تلك التي رسمتها الصحف التي يصدرها المارون في مصر (الأهرام - المقطم - الهلال) ويجدون في شبلي شميل بدعوته إلى مذهب دارون، وجرجي زيدان بدعوته إلى تزييف التاريخ الإسلامي، وصروف ومكاريوس في دعوتهما إلى الماسونية وتقبل النفوذ البريطاني منطلقًا، بدأ واضحًا في كتابات طه حسين والعقاد وهيكل وسلامة موسى ومحمود عزمي وعلي عبد الرازق.(46/1)
وأعطت المعركة الحزبية للفكر طابع الخصومة والجدل والهجاء المقذع وظهر هذا الجيل على الخصومة السياسية دون أن يهاجم الإنجليز أو الاستعمار بل قبل مفاهيمه في الفكر والاجتماع فكان هذا الولاء الفكري لمذاهب الغرب في الأدب والتاريخ حتى قيل أن طه حسين كان من أتباع المذهب الاجتماعي الفرنسي (دوركايم) وأن العقاد كان من أتباع المذهب النفسي (فرويد وغيره) بل قيل في الأخير أن العقاد وكان هيجلنا أي أنه تلميذ لمدرسة هيجل وهو ما وصفه به أقرب تلاميذه إليه (عبد الفتاح الديدي).
ولقد كشفت الذكريات والمذكرات في الأخير أن هناك رابطة كانت تجمع هذا الجيل هي رابطة الانتحار فقد عرف أن طه حسين وهيكل والعقاد فكروا في الانتحار وأن بعضهم كتب عنه، كما أن بعضهم اتهم باستعمال المخدرات وأن هذا الكلام جرى طرحه في مساجلات الأدباء السياسية.
ولعل أخطر ما في هذا كله أنهم في نفس الوقت الذي كانوا يهاجمون النفوذ الأجنبي البريطاني بقوة، كانوا يؤمنون بالفكر الغربي والحضارة الغربية والمنهج الديمقراطي ولم يكن النفوذ الأجنبي يطمع في أكثر من ذلك.
وكان هذا هو منطلق مدرسة سعد زغلول التي سيطرت فكريًا وسياسيًا بعد الحرب العالمية الأولى وبعد أن انتزعت القيادة الفكرية من مصطفى كامل ومحمد فريد وعبد العزيز جاويش وأحلت مفاهيم السياسة الحزبية بديلا عن الوطنية وكلمة الاستقلال بديلا عن كلمة الجلاء.
وكان أبرز كتَّاب مصر المجددين (الذين أثاروا قضايا التغريب) في صف حزب الأحرار الدستوريين (ذوي الولاء الواضح للاستعمار) لطفي السيد وطه حسين وهيكل والمازني وعلي عبد الرازق ومحمود عزمي وفي أحضانهم ظهر أخطر كتابين في مهاجمة الإسلام: "الشعر الجاهلي" لطه حسين، و"الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق.(46/2)
وكان الكتَّاب الرواد يقبلون مذاهب الغرب في النقد والأدب والشعر وقد حمل العقاد والمازني لواء الدعوة إلى المدرسة الإنجليزية في النقد (هازلت وغيره) بينما حمل طه حسين لواء المدرسة الفرنسية (تين وبرونتير وغيره).
ولم يكن لدى كتاب الجيل الرائد الخبرة العميقة؛ فانخدعوا في مواقف كثيرة، خدعهم (ماكس نوردو) اليهودي خليفة هرتزل فكرموه، دون أن يعوا دوره في الصهيونية وخدعهم عباس البهاء وحفلوا به ودعوا إلى نحلته دون أن يتنبهوا إلى أخطاره وسمومه.
بل لقد كرموا في الجامعة الفيلسوف رينان وهو أكبر من حمل على الإسلام وهاجمه أشد الهجوم.
وعندما حدث الصراع بين أبناء المدرسة الحديثة لم يكن لحساب الفكر الإسلامي وإنما كان صراعًا بين (لايينيون وسكسونيون) العقاد وطه حسين – وفي مجال التعليم كان الصراع بين طه حسين وإسماعيل القباني ولاء للمدرسة الفرنسية وولاه لمدرسة ديوي وفي القصة ترجمت الكتابات الفرنسية المكشوفة، وبرز أدب الكشف والإباحة كما برزت الأسطورة.
وقد كان هؤلاء الكتَّاب في مستهل حياتهم الأدبية (في الغرب) قد تابعوا المستشرقين فهاجمه منصور فهمي النبي وزوجاته، وهاجم طه حسين ابن خلدون، وهاجم زكي مبارك الغزالي وقال محمود عزمي: "إن الاقتصاد شيء والإسلام شيء آخر" فالإسلام في نظره دين لاهوتي.
ولما تعالت صيحة اليقظة الإسلامية تقدم هذا الصف من المجددين فادعوا أنهم هم مجددوا الإسلام.
كتب هيكل حياة محمد، وكتب طه حسين الفتنة الكبرى، وكتب العقاد العبقريات، وكان منطلقهم مختلفًا عن مفاهيم الوحي والنبوة، فاعتمدوا مناهج الغرب في دراسة الأبطال والرجال، ووضعوا (البطولة) في مقدمة (النبوة) وجعلوا (العبقرية) بديلا عن الرسالة ولم يكن مفهوم الإسلام بوصفه منهج حياة ونظام مجتمع واضحًا في كتاباتهم، فقد كانوا ما يزالون يرون الإسلام دينًا لاهوئيًا كما يرى مفكروا الغرب المسيحية.(46/3)
وقال طه حسين أنه وضع كتابه (على هامش السيرة) تقليدًا لكتاب غربي جمع الأساطير القديمة.
وفي نفس الوقت الذي برزت فيه هذه الأسماء وسيطرت حجبت كتاب الأصالة: فريد وجدي ومصطفى صادق الرافعي ورشيد رضا وشكيب أرسلان ومحب الدين الخطيب.
وأظهر التغريب رجاله وحجب الآخرين، ولم يكن مفهومه للتجديد هو المفهوم الأصيل، وقال الأستاذ حسن البنا: إن ما بيننا وبين المجددين هو مفهوم الوحي والنبوة من ناحية ومفهوم الإسلام بوصفه منهج حياة ونظام مجتمع.
وخرست الألسنة فقد كان كتابنا المتصدرون غير ملتزمين بالإسلام في حياتهم أصلا.
ورد الأستاذ حسن البنا على مفهوم العقاد في الألوهية دون أن يشير إليه صراحة، ولعل أبرز ما يشكل التصور الإسلامي الأصيل للفكر هو ذلك الوضوح الذي تكشف بين المنهج القرآن والمنهج الفلسفي، على النحو الذي أبرزه كتاب الدعوة الإسلامية حين كشفوا عنه.
إن مفهوم القرآن كالماء لا يحتاج إليه المريض والسليم وأن منهج الفلسفة (أو علم الكلام) هو كالدواء الذي يحتاج إليه المريض (على حد عبارة الإمام الغزالي) فقد بدأت اليقظة الإسلامية من خلال جمال الدين ومحمد عبده على نحو شبيه بمفهوم الاعتزال وعلم الكلام وهو الخيط الذي التقطه فريد وجدي وإقبال والعقاد والذي جاء المفهوم القرآني ليعلن أن مرحلة جديدة من مراحل الأصالة قد دخلت على الدعوة الإسلامية وكان حامل لوائه هو حسن البنا.
وكان الشيخ مصطفى صبري في كتابه (موقف العلم والعالم من رب العالمين) قد واجه هذا التيار الذي ظهر واضحًا في الكتابات الإسلامية التي كتبها فريد وجدي والعقاد وهيكل – وهي كتابات اعتمدت المنهج الفلسفي بحسين نية ومن هنا أصابها كثير من التغيرات.(46/4)
وكانت الدعوة الإسلامية قد دعت إلى التماس منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في العمل، وأسلوبه في الدعوة وكتب سيد قطب عن هذا الاتجاه من بعد في كتابه (التصور الإسلامي) وناقش اتجاه محمد عبده في التفسير، كما ناقش اتجاه العقاد دون أن يشير إليه صراحة.
وهذا لا يمنع من القول بأن جمال الدين الأفغاني، هاجم اتجاه أحمد خان في كتابه (الرد على الدهريين) وأشار إلى أن اتجاه أحمد خان كان له أثره في ظهور القادبانية وخاصة الفكرة الخاصة بإلغاء الجهاد.
وإذا كان الشيخ مصطفى صبري قد كشف أخطاء كتاب السيرة العصريين في شأن معجزات النبي (فريد وجدي وهيكل) فإن الشيخ مصطفى عبد الرازق وتلاميذه (علي سامي النشار) قد كشفوا عن أصالة الإسلام ورد الفلسفة الإسلامية إلى المعلم الأول: الإمام الشافعي وكتابه (الرسالة) الذي وضع فيه منهج علم أصول الفقه.
وكذلك فقد كشف محب الدين الخطيب عن خطط التبشير بترجمة كتاب للغارة على العالم الإسلامي وتابعه بعد سنوات الدكتور عمر فروخ والخالدي خبايا التبشير والاستعمار في كتابهما المعروف.
كذلك كشف مالك بن نبي مخططات التغريب وأساليبه وتابعه محمود محمد شاكر في كشف سموم لويس عوض، والدكتور محمد محمد حسين الذي كشف عن كتابات ول ديورانت وغيره من اليهود.
وتكشفت في هذه المرحلة كتابات كثيرين ممن وضعوا في صفوف الرواد، تكشف رفاعة الطهطاوي الذي رفع الماركسيون من قدره لأنه دعا إلى الإقليمية المصرية والذي كان تابعًا من أتباع النفوذ الغربي كشف ذلك محمود محمد شاكر حين قال عنه في كتابه (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا):(46/5)
"أي صيد سمين تلقفه المستر جومار بخبرته وحنكته وتجربته وبصره النافذ، فتى ناشئ في قلب الأزهر، رآه مفتونًا بالأرض التي وطئتها قدمه، لم ير مثلها من قبل، رآه مقبلا بأقصى عزيمته على تعلم الفرنسية، معجبًا بها وبأهلها كل الإعجاب فأخذه (جومار) من قريب فكان له صيدًا إلى حين، ولم يكد حتى أخذ المسيو جومار بناصيته، وأسلمه لطائفة من المستشرقين يصاحبونه ويوجهونه وعلى رأسهم أحد دهاقين الاستشراق الكبار ودهائه وهو البارون سلفستر دي ساسي فاستغلوه أبراع استغلال، وصبوا في أذنه وطرحوا في قرارة قلبه معاني وأفكارًا قد بيتوها ودرسوها وعرفوا عواقبها وثمراتها وأعرض عنه وسارع ينجو بحياته الجديدة من خطاطيفه التي تلاحقه، إلخ".(46/6)
هذه حقائق كان يجب على حركة اليقظة الإسلامية أن تكشفها فقد اعتصم التغربيون بما يسمى (الرواد وأساتذة الجيل والعميد) وكلها مصطلحات كاذبة مضطربة في سبيل تثبت قواعد التغريب للتي أرساها هؤلاء والتي أصبحت في المرحلة التالية عقبة أمام مفاهيم الأصالة الإسلامية فكان لابد من كشف حقيقة هؤلاء الشوامخ وإعادتهم إلى حجمهم. إن هناك أسماء كثيرة لمعت في ظلال صلوه التغريب وطغيان السياسة وأصبحت تستخدم كمحاولة لبديل للأصالة كذلك فقد كان لابد من كشف الأسماء التي لمعت في التاريخ القريب سواء من تاريخ العصور السابقة أو غيرها وفي مقدمة هذا كله، تلك الجولة الخطيرة التي أطلق عليها ترجمة الفكر اليوناني وأبطاله (الفارابي وابن سينا وغيرهما) ومترجميها الذين أدخلوا عليها زيوفًا وأخضعوها لمفهومهم المسيحي أمثال (حنين بن إسحاق وجماعته) وكان لابد من كشف موقف (المأمون) هذا الموقف الخطير الذي آزر فيه الفكر الدخيل على مفهوم السنة حين حمل لواء السياسة والحكم في سبيل الدعوة إلى فتنة (خلق القرآن) وساق علماء المسلمين وفي مقدمتهم الإمام أحمد بن حنبل للامتحان الشديد، هذا كله يجب كشفه وتصحيح الموقف منه، كذلك في القريب يجب تصحيح موقف الكواكبي ومحمد علي اللاهوري (خليفة القادياني) بالإضافة إلى رفاعة الطهطاوي.
ولنعرف أن هذا ليس هدمًا لم يسمونهم الشوامخ ولكنه تصحيح للموقف فإن هناك عشرات من أعلام الإسلام الأصلاء في العصر الحديث يقفون في الظل منذ أكثر من خمسين عامًا لأن الصحف التي يتصدرها المغربون تحول دون تكريمهم أو وضعهم في مكانهم الصحيح. إننا لا نهاجم هؤلاء أصحاب الأسماء اللامعة ولكن نقول لهم مكانكم فإن هناك من الأصلاء من يقفون في الظل وهم الأحق بمكان الصدارة.(46/7)
لقد كان هؤلاء جميعًا بلا استثناء أولياء للنفوذ الأجنبي والاستشراق ولولا ذلك فأمكن لهم من إعلاء مكان الصدارة في مجال الصحافة والثقافة. ولقد كان طه حسين ومن مضوا معه على هذا الطريق أولياء للثقافة اليونانية التي هي علم الأصنام وكانوا يدعون في افتنات غريب بأن المسلمين قبلوا هذه الثقافة ولو دروا لعرفوا أنهم رفضوها ودحضوا سمومها منذ اليوم الأول، وقد وقف هذا الموثق كثيرون في مقدمتهم الشافعي وابن حنبل والغزالي وابن تَيْمِيَّة وابن جزم وغيرهم.
ولقد لقي هؤلاء الأعلام من الاستشراق نكرًا وتجاهلا ومحاولة لإلباسهم كثيرًا من الشبهات لتقليل قدرهم في نظر أمتهم.
لقد كان عملهم واضحًا: إنكار فضل الصحابة واتهامهم في الفتنة الكبرى وتجاهل قادة الفكر الإسلامي فليس غير الأوربيون واليونان قادة الفكر كما كتبه طه حسين وكان مقررًا على المدارس.
وعلى طريق طه حسين سار زكي نجيب محمود ولويس عوض وعبد الرحمن الشرقاوي وحسين فوزي وسلامة موسى والأجيال الجديدة من المغربين الذين يمزجون بين العلمانية والماركسية.
……………………الأستاذ/ أنور الجندي(46/8)
سلسلة على طريق الأصالة على المحجة البيضاء
18
بسم الله الرحمن الرحيم
على المحجة البيضاء
عطاء الإسلام في وجه العلم الحديث
في الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك).
ونحن في مواجهة شبهات كثيرة مثارة على الفكر الإسلامي نجد أن هناك حقائق أساسية عجز التغريب عن تزييفها ووجد من علماء الغرب أنفسهم من يؤكد وجودها، وكان لحركة اليقظة الإسلامية دور كبير في الكشف عنها.
أولا: أصالة المسلمين في إقامة منهج كتابة التاريخ:
شهد الأستاذ هوتشو المؤرخ البريطاني المشهور للمسلمين بأنهم أصحاب منهج أصيل في التاريخ يقول: إذا كان (الإسناد) عن العرب والمسلمين هو أساس نقد الأخبار فقد كان أساس ضبطها هو التوقيت الدقيق لها بالسنين والشهور والأيام وهو ضبط انفردوا به عن نظرائهم عند اليونان والرومان وأوروبا في العصور الوسطى.
وقال المؤرخ بكل: إن التوقيت على هذا النحو لم يعرف في أوروبا قبل عام 1597.
###4### وقد جرت كتابات استشراق كثيرة تحاول أن ترد منهج كتابة التاريخ الإسلامي إلى مناهج الفرس أو مناهج اليونان السابقة لها، ولكن ذلك كله لم يستطع أن يصل إلى حد الصدق وباتت كل هذه الشبهات ولا سند لها، كذلك فإن (النقد) عند المسلمين قد اتخذ منهجين متكاملين فانصب على الرواة من ناحية تحت اسم (الجرح والتعديل) وجرى من ناحية أخرى في (نقد النص) نفسه وامتحانه والتأكد من سلامته.
ثانيًا: أصالة المسلمين من صناعة الأحداث:
وهذا يعني أن الإسلام نفسه كان منطلقًا لعصر جديد في العالم كله وقد أعلن الأستاذ بيرون في المؤتمر الدولي للعلوم التاريخية الذي عقد في مدينة (أوسلو، عاصمة النرويج) في 14 آب 1920 إلى اعتبار أن ظهور الإسلام هو خاتمة العصور القديمة وبداية إيقاظ الإنسانية في أول عصورها المتوسطة باعتبار أن الإسلام هو بداية العصر العربي.(47/1)
وخطأ المؤرخ الغربي في القول المذاع بأن انقسام الدولة الرمانية إلى شرقية وغربية بحسبانه بداية عصر النهضة متجاهلين أن ظهور الإسلام هو أعظم حادثة في العصر الحديث بينما اعترف كثير من كتاب الغرب بهذه الحقيقة.
ثالثًا: أصالة ارتباط العرب والترك في دائرة الجامعة الإسلامية:
###5### أكد كثير من الباحثين سلامة الخطة التي خطاها العرب بالاندماج في الدولة العثمانية في النصف الأول من القرن السادس عشر، وذلك لمواجهة خطر الغزو الاستعماري الذي كان قد تجدد مرة أخرى بعد انتهاء الحروب الصليبية وهزيمة الغرب بعد قرنين كاملين من الحملات – نعم تجدد الغزو في محاولة جديدة – وكانت الرابطة التي قامت بين العرب والترك هي رابطة إسلامية أصيلة مع أكبر قوة عسكرية من أبناء الإسلام لصد خطر الإفناء الصليبي الذي صاحب نهضة الإفرنج وبدأ عصر السيطرة الاستعمارية، كذلك فقد دخل أمراء لبنان وشريف مكة تحت الحكم العثماني باختيارهم، أما دخول الجزائر تحت هذا الحكم فقد تم دون حرب بل بمحض إرادة حاكمها خير الدين المعروف بباذرباروس.
رابعًا: أصالة العرب بالنسبة للاحتواء الغربي:(47/2)
إن تجربة الاتحاديين في تركيا التي احتوتها المحافل الماسونية والنفوذ الأجنبي (1909 – 1918) قد فتحت عيون العرب إلى ما فيها من أخطار وما وراءها من قوى فلم يترددوا في شجبها، كذلك فهم قد رفضوا التحول التغريبي الذي تورط فيه مصطفى كمال أتاتورك وشوه به وجه تركيا الإسلامية وقد تأكد فشل التجربة اليوم فشلا تامًا وعندما نحاول تقييمها فإننا نجد أنها لم تحقق للأتراك ذلك الوهم الذي كانوا يخدعون به فظلوا دولة ضعيفة إذ امتنع الغرب عن إعطائهم ###6### من العلم التجريبي والتكنولوجيا بل وسخر منهم أرنولد توينبي على أنهم لم يقدموا شيئًا للحضارة الغربية وظلوا عالة على أوروبا، وقد أشار إلى ذلك (هاملتون جب) الذي قال إن العرب لن يكرروا التجربة التغريبية التركية. هذا وقد عاد الأتراك مرة أخرى إلى الأصالة وهم اليوم بسبيل استعادة مكانة عقيدتهم وقيمهم وأصولهم التي عرفوها وآمنوا بها منذ أربعة عشر قرنًا.
خامسًا: أصالة المسلمين بالنسبة للتجربتين الماركسية والليبرالية:
وبالرغم من أن التجربة الرأسمالية الليبرالية بدأت بنفوذ الاستعمار، ويحلق أطر ومدارس وأجيال تؤمن بها وتحمل لواءها فإنها وجدت إعراضًا في العالم الإسلامي كله في التطبيق وعجزت الأيدلوجيات الوافدة أن تحقق مطامح النفس المسلمة التي شكلها القرآن والتوحيد والشريعة. وكذلك جاءت التجربة الماركسية فوجدت نفس الاستجابة بالإعراض أيضًا. وقد تبين أن النفس المسلمة لا تقبل الاحتواء وترفض الانطواء تحت مفهوم إعلاء الفردية وصولا إلى الرأسمالية الربوية أو مفهوم طحن الفرد وصولا إلى إعلاء طبقة خاصة.
سادسًا: أصالة المفهوم الإسلامي بالنسبة للقوميات والإقليميات:(47/3)
كشف المفكرون المسلمون فساد الدعوات التي طرحت في أفق الفكر الإسلامي في البلاد العربية عن إعلاء الآشورية أو البابلية أو الفرعونية أو الفينيقية وبينوا بدليل التاريخ القاطع أن هذه كلها موجات عربية ###7### خرجت من الجزيرة العربية ونزحت عن موطنها الأول وانداحت في هذه المنطقة العربية الحنيفية (أبناء إسماعيل) الذين نزلت عليهم رسالة التوحيد قبل أن تغلب العنصرية على الحنيفية.
سابعًا: أصالة المفهوم الإسلامي في مواجهة العلمانية:
كشفت حركة اليقظة الإسلامية عن أن المجتمع الإسلامي ينبذ فكرة العلمانية لأنها لا تجد مكانًا في أوضاعه القائمة على تكامل الاجتماع دينًا ودولة من حيث أن الإسلام نفسه دين ومنهج حياة ونظام مجتمع. أما العلمانية فهي حركة غربية استهدفت إقصاء تفسيرات المسيحية عن الحياة العربية بعد أن عجزت هذه التفسيرات عن أن تقدم للمجتمع المسلم أو النفس الإنسانية ما يرضيها، ذلك أن الإسلام لم يعرف الحكومة الثيوقراطية أو حكومة رجال الدين ولم يجعل للإكليروس نفوذًا على الناس يبيع لهم صكوك الغفران.
ثامنًا: أصالة المفهوم الإسلامي في مواجهة العلاقة بين العروبة والإسلام:
فقد كشفت الأبحاث الإسلامية المعاصرة عن أن العلاقة بين العروبة والإسلام تختلف اختلافًا شديدًا عن العلاقة بين القوميات في أوروبا وبين الكتب، ويؤكد أن الذين درسوا هذه الفكرة من الغربيين أمثال ويلفرد كانتول سميث: إن تاريخ الشرق الأدنى الحديث يدل على أن القومية المجردة ليست القاعدة الملائمة للنهوض والبناء وأنه لم يكن المثل الأعلى إسلاميًا على وجه من الوجوه ###8### فإنه لن تثمر الجهود المبذولة من أجل النهضة وكذلك فإن العرب والمسلمين جميعًا قد استمدوا مقاومتهم في العصر الحديث للاستعمار واندفاعاتهم الوطنية من أجل الحرية من مفاهيم الإسلام نفسه.(47/4)
كذلك تبين أن عروبة الفكر تعني إسلاميته، فليس هناك فلسفة عربية في الفكر غير مستمدة من القرآن وأن محاولة خلق فلسفة عربية معاصرة معزولة عن الإسلام هي محاولة زائفة ولا استمرار لها في الظروف المفروضة بقوة النفوذ الأجنبي.
كذلك تبين بما لا يدع مجلا للشك أن محاولة خلق وجود عربي أو عروبة أو فكر عربي على الوجه العلماني المنفصل عن الإسلام أمر بالغ الاستحالة وبالغ الابتعاد عن الذاتية العربية الإسلامية الجوهر والمزاج النفسي الذي أنشأه القرآن، ونماه منذ أربعة عشر قرنًا.
تاسعًا: أصالة المفهوم الإسلام بالنسبة للمناهج التربوية والتعليمية الوافدة:(47/5)
كشفت الدراسات والأبحاث التي قام بها كتاب اليقظة الإسلامية في العصر الحديث أن مناهج الدراسة في المدرسة والجامعة في أجزاء كثيرة من العالم الإسلامي تخضع للمنهج الغربي في التربية والتعليم ولذلك ###9### فهي تقصر عن العطاء الحقيقي للشباب المسلم، ولأنها تستمد مفاهيمها من الأيدلوجيات والفلسفات الوافدة فإنها (أولا) لا تغطي بأمانة حقيقة الدور الذي قام به المسلمون في بناء القلعة التجريبية والطبيعية والرياضية – هذا الدور الخطير الذي كان من أبرز معالمه إنشاء المنهج التجريبي الإسلامي أساس الحضارة الغربية القائمة، كذلك فإن للفكر الإسلامي مفهومه الأصيل في هذه المناهج المطروحة عن الاجتماع والنفس والفلسفة والسياسة والاقتصاد، وهي تستمد مفاهيمها من الرأسمالية الغربية والماركسية وتسيطر عليها الفلسفة المادية والمفاهيم التلمودية الصهيونية، بينما لهذه الأمة فكرها الأصيل ومنهجها الرباني الذي يختلف اختلافًا عميقًا عن الانشطارية الغربية حيث يقوم جامعًا بين العلوم والدين والمادة والروح والنفس والعقل والدنيا والآخرة، بينما تقوم الأيدلوجيات العربية (شِرقية وغربية) على النظرية المادية والتفسير المادي للتاريخ، ولقد كان من حق شبابنا المسلم المثقف أن يعرف الدور الذي قام به أجداده المسلمون في بناء العلم والحضارة، وأن يعلموا في نفس الوقت أن هذه المفتريات التي تدرس (ماركس وفرويد وسارتر ودوركايم وغيرها) ليست علومًا حقيقية وإنما هي فروض ونظريات خاضعة للصلاحية والرفض أنها تستمد وجودها من مجتمعات مختلفة عن مجتمعاتنا وتواجه تحديات لا نعرفها، وأن الأمة الإسلامية التي رباها القرآن بعد أن كونها منذ أربعة عشر قرنًا لهذا قيمها ومفاهيمها المستمدة من التوحيد الخالص والقائمة على العدل ###10### والرحمة والإخاء الإنساني وأنها لا تقبل بديلا بأسلوب غير أسلوبها الأصيل وأن الإنسان المكون من روح ومادة لا يمكن أن يخضع لنظريات(47/6)
تطبق على المادة أو على الحيوان وأن كل ما يقدم تحت اسم العلوم النفسية أو الاجتماعية لا يمكن أن تكون بمثابة حقيقة علمية لأنها تقوم على التفسير المادي والنظرية المادية، وهي ليست مفهومًا كاملا للوجود والحياة.
(2)
عاشرًا: أصالة المفهوم الإسلامي بالنسبة للإسلام إزاء الأيدلوجيات:
لقد كان واضحًا أن الإسلام ليس مذهبًا ولا نظرية ولا ثورة وأنه لا يجوز للكاتب المسلم أن يدخل الإسلام في مقارنة مع الأيدلوجيات أو الثورات العديدة التي قدمها أو قام بها الإنسان على مر التاريخ، ذلك أن الإسلام إذا كان ثورة فإن ذلك يعني أن له دورًا قد أداه وانتهى وأنه كان مذهبًا أو نظرية فإنه قابل للتغيير والتبديل والانتقاض والإضافة وهو ليس كذلك، ذلك أن الإسلام هو ذلك المنهج الرباني الأصيل الجامع الذي تختلف عن المذاهب البشرية، وقد صنع أمة من يقظة الواحد الذي هو النبي صلى الله عليه وسلم والذي أقام مجتمعه على أساس التوحيد الخالص وفي إطار الشريعة السمحة الكريمة العالمية ربانية المصدر إنسانية الطابع – تقوم على الإخاء الإنساني والعدل والرحمة ولها مفاهيمها الجامعة الكاملة في مختلف ميادين السياسة ###11### والاقتصاد والاجتماع والأخلاق والتربية وأن بعض الأيدلوجيات قد تشبه الإسلام ولكن يظل الإسلام متميزًا بأنه ليس نظرية ولا أيدلوجية لأنه ليس من صنع البشر فلا يقارن بعمل البشر الجزئي الوقتي الزائل.
الحادي عشر: أصالة المفهوم الإسلامي إزاء العلم والتجربة:
يقول جوستاف لوبون في كتابة تاريخ العرب:
"إن العرب أدركوا بعد لأي أن التجربة والمشاهدة خير من أفضل الكتب ولذلك سبقوا أوروبا إلى هذه الحقيقة التي تعزى إلى أن يكون (فرنسيس بيكون) أنه أول من أقام التجربة والاختبار اللذين هما ركن المناهج العلمية الجديد، فالمسلمون أسبق إلى نظام التجربة في العلوم.(47/7)
وتقول سيجريد هونكه: إن العرب ظلوا ثمانية قرون طوالا يشعون على العالم علمًا وفنًا وأدبًا وحضارة كما أخذوا بيد أوروبا فأخرجوها من الظلمات إلى النور.
وتقول: سوف نرى عندما تخرج الكتب المودعة في دور الكتب الأوروبية أن تأثير العرب الخالد في حضارة العصور الوسطى كان أجل شأنًا وأجل خطرًا مما عرفناه حتى الآن.
الثاني عشر: أصالة الفكر الإسلامي في عطائه القانوني المستمد من ###12### الشريعة الإسلامية:
يؤكد هذا ما كشفه عدد من رجال القانون المسلمين من عظمة الشريعة الإسلامية وعطاء الفقه الإسلامي الوافر في عشرات من المواضع والقضايا التي تحولت في الغرب إلى قوانين، ومنها ما كتبه عمر لطفي في دراسته عن (حرمة المنازل) والتي استمدها من القرآن الكريم، وكان الألمان قد استمدوا من التشريع الإسلامي قانون حرمة المساكن من قبل ثم رجعوا إلى الاعتراف بفضل الإسلام.
وكذلك نظرية (التعسف في استعمال الحقوق) التي عرفتها القوانين الحديثة والتي كشف الدكتور محمد فتحي في أطروحته في فرنسا أنها مستمدة من فقه الإمام الشاطبي.
هذا فضلا عما اعترف به رجال القانون العالميين من مكانة الشريعة الإسلامية في عدد من المؤتمرات منها مؤتمر القانون الدولي في لاهاي 1937 والقانون المقارن في لندن 1950 ودورة باريس 1951 والتي أعلنت أن المبادئ الإسلامية قد سمحت للحقوق بأن تستجيب للرغبات التي تتطلبها الحياة الحديثة وأن المناقشات قد أوضحت بجلاء ما لمبادئ القانون الإسلامي من قيمة لا تقبل الجدل وأنها تضم أشرف النظريات القانونية والفن البديع، وكل هذا يمكنها من تلبية جميع حاجات الحياة العصرية وأنها شريعة مستقلة بنفسها ليست مأخوذة من غيرها وأنها قائمة بذاتها وأنها شريعة حية صالحة ###13### لتطور المجتمعات والبيئات. وأشارت الأبحاث كيف أعلن الإسلام حقوق الإنسان قبل الثورة الفرنسية.(47/8)
الثالث عشر: أصالة الفكر الإسلامي في عطائه في مجال الفلك والجغرافيا والطب والكيمياء:
وما اعترف به المفكرون الغربيون المنصفون من اعتراف بهذا العطاء وكيف قدم المسلمون (المصطلح الشريف) البروتوكول – والترقيم وأسماء النجوم العربية والكسور العشرية ورائدها (البكاشي) وليس مستيقين، وابن حمزة المغربي رائد اللوغاريتمات، وكيف أن الجغرافيا علم عربي أصيل، وكيف سبق ابن خلدون فلاسفة الغرب في اكتشاف علم التاريخ وعلم الاجتماع وكيف اقتحم المسلمون المحيط قبل أن يدخله كولومبس وكيف عرف المسلمون أمريكا قبل أن يعرفها الغرب.
وكيف كان الشريف الإدريسي عمدة الجغرافيا عند المسلمين وكيف كان أبو القاسم الزهراوي يجري عمليات جراحة المخ ويستعمل المرقد (البنج) وكيف عرف المسلمون كتابات المكفوفين (طريقة بريل) وكيف كتب المسلمون في الأحكام السلطانية وهي السياسة الشرعية (الماوردي وابن يعلى الفراء الحنبلي). وكيف قدم المسلمون مفهوم العمارة الإسلامية وكيف عرفوا نظرية الدورة الدموية (ابن النفيس) وكيف قاد أحمد بن ماجد السفن ووضع قواعد الملاحة البحرية العالمية، وقد كتب هذا كله قدري طوقان وعبد الحليم منتصر وكثيرون.
###14### الرابع عشر: أصالة العطاء الإسلامي في مجال العلوم التجريبية:(47/9)
فقد كشف الباحثون إن المسلمين هم الذين وضعوا أصول المنهج التجريبي الذي قامت عليه الحضارة المعاصرة وأنه لم يكن من ذلك شيء قبل نزول القرآن الكريم الذي هدى المسلمين إلى البحث والتجريب وكيف أن التجربة أساسها الاستقراء والقياس وقد ظهر جليًا أن كتاب (المنهج الجديد) لفرنسيس بيكون الذي يعد في الغرب قاعدة العمل التجريبي كله، هذا الكتاب مصدره إسلامي أصلا بل إنه مأخوذ بالنص من الرسالة للإمام الشافعي كما كشف عنه أخيرًا المستشار عبد الحليم الجندي في كتابه (القرآن و المنهج العلمي المعاصر) وذلك بالرغم من تجاهل بيكون للمصدر الإسلامي في كتابه الذي وضع به الأرجانون الجديد على أنقاض أرسطو، وإن هذا المنهج الإسلامي في (التجربة) هو الذي قلب تفكير أوروبا رأسًا على عقب وأخرجها من ظلمات القرون الوسطى بعد ألف عام ومن الرهبانية ومن مفهوم أرسطو في الثبات ومن مفهوم التأملات. وقد أكد المستشار عبد الحليم الجندي بالأدلة الدامغة أن (ارجاتون بيكون) مستمد من رسالة الشافعي التي قامت على رفض المنطق اليوناني المبني على الفروض لا على المدركات الحسية والاستقراء التي أخذها بيكون من الفكر الإسلامي.
ويعد هذا خطة بعد إعلان الشيخ مصطفى عبد الرازق إن الإسلامية لا تبدأ بأرسطو أو أفلاطون وإنما تبدأ بالإمام الشافعي وعلم أصول الفقه الذي وضع مقرراته.
###15### الخامس عشر: أصالة الفكر الإسلام في تأكيد مصدر (الإمام الغزالي في كتاب المنقذ من الضلال الذي هدى "ديكارت" إلى منهج الشك على النحو الذي رسمه الإمام الغزالي في كتابه):(47/10)
ولقد وجدت نسخة من كتاب المنقذ من الضلال مترجمة إلى اللغة الفرنسية في مكتبة ديكارت في المكتبة الوطنية في باريس وقد أشار في الهامش إلى النص وكتب (بنقل هذا إلى كتابنا: مقال عن المنهج) وقد نقل هذا العلامة عثمان الكعان المؤرخ التونسي الذي رأى بنفسه هذه الإشارة في نسخة ديكارت وهذا ما فات أمثال طه حسين وغيره عندما نقلوا نظرية ديكارت كأنها فكر جديد بينما هي مأخوذة من المسلمين.
السادس عشر: أصالة الفكر الإسلامي في إنشاء المنهج العلمي:
فقد أشار الدكتور محمد حسين هيكل في مقدمة كتابه حياة محمد بأنه اصطنع في كتابه المنهج العلمي الغربي في دعوى بأنه يدخل إلى الفكر الإسلامي الحديث عطاء لم يكن يعرفه المسلمون.
ولكن الإمام لمراغي رحمه الله وهو يقدم كتاب حياة محمد أشار إلى صحة هذه المقولة، فقال:
"إن المنهج الجديد ليس بجديد بل هو بض من كل سبق به القرآن الكريم دستور الأمة الإسلامية في كل زمان ومكان وعمل به العلماء العرب في كل فنون العلم، وهي عناصر خطاب موجه للحاضر ###16### والمستقبل معًا باقتدار المنهج القرآني في إبلاغ الفكر الإسلامي أعلى مبالغة، وقال المستشار عبد الحميد الجندي معلقًا:
لقد آن للمسلمين أن يدركوا أن عندهم مفاتيح التقدم وأنهم يعملون به يستردون تقدمهم ولا يستوردونه".
السابع عشر: تكشفت أصالة الإسلام في الاعتراف بسبقه في مجال العلم والحضارة والكشف:
1) ابن خلدون سبق سميث وهيجل وغيرهم من فلاسفة الغرب في وضع أسس علمي الاجتماع والاقتصاد السياسي بأربعة قرون كاملة، فقد درس ابن خلدون الظواهر الاجتماعية على أساس علمي مستمد من القرآن الكريم وقرر إن الظواهر العمرانية في تزاحمها وتواليها تحكمها قوانين وكان وسيلته إلى ذلك الاستقراء والقياس.
2) المعري سبق دانتي في وصف الجنة والنار وقد جاءت الكوميديا الإلهية لدانتي متأثرة برسالة الغفران للمعري.(47/11)
3) ابن مسكويه سبق دارون فقد ذكر ابن مسكويه في كتبه إن النباتات أسبق في الوجود من الحيوان وقد وردت لفظة (التطور) في الطبقات الكبرى للسبكي ومقدمة ابن خلدون وفي البدر الطالع للشوكاني.
###17### 4) الطرطوشي سبق ميكافيلي، في كتابه سراج الملوك الذي رسم منهج الحكم وذلك قبل ميكافيلي بخمسة قرون.
وقد اتضح للباحثين أن معظم مواد كتاب الطرطوشي قد نسقت في كتاب (الأمير) وأن أبوابًا كاملة قد ترجمت (مع ملاحظة اختلاف الوجهة بين الرجلين).
5) أعلن العلامة هنري عالم النبات الصيني في المؤتمر الحادي والسبعين بعد المائة للجمعية الشرقية الأمريكية (في أبريل 1961) إن الملاحين العرب قد عبروا الأطلنطي قبل كولومبس بثلاثة قرون، وقد جاء هذا الإعلان بعد أن أمضى زهاء ثمانية أعوام في تتبع انتشار السلع الزراعية والنباتية وأنواع الحيوان.
وقد استند هنري إلى وثائق مخطوطة في الصين يرجع عصرها إلى القرن الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، وقد ورد فيها اسم مدينة (مولان بي) على الساحل الشمالي لأمريكا الجنوبية.
وقد أثبت بالوثائق إن العرب الذي قاموا قبل عام 1100 م من الطرف الغربي للعالم الإسلامي من ميناء الدار البيضاء على وجه التحديد ورسول في عدة مواضع على الساحل الأمريكي.
###18### وفي عام 1922 ظهر كتاب في ثلاثة مجلدات لعالم لغوي في جامعة هارفارد اسمه ليودنير عنوانه "أفريقية وكشف أمريكا" أثبت مؤلفه فيه وجود كلمات عربية في لغات هنود أمريكا.
وقال إنه درس لغة هنود أمريكا كما دونها المرسلون اليسوعيون في عهد القائد الأسباني الذي فتح المكسيك فوجد فيها كثيرًا من الكلمات الإنجليزية والأسبانية والفرنسية والإنجليزية ووجد أقدم منها كلمات عربية ترجع أقدم هذه الكلمات إلى عام 1290 م أي قبل قرنين من وصول كولومبس إلى أمريكا.
6) كتاب المكفوفين:(47/12)
وقد سبق الفكر الإسلامي في أولية كتاب المكفوفين وهي التي عرفت بالحروف البارزة وأطلق عليها من بعد طريقة بريل.
وقد عرف عدد من المخترعين هذه الطريقة في مقدمتهم علي بن أحمد بن يوسف المشهور بزين الدين الآمدي وقد سجل صلاح الدين خليل بين أيبك الصفدي في كتابه (نكت العيمان في نكت العميان) هذه الطريقة.
###19### 7) مقارنات الأديان:
قال هاملتون جب:
كل العرب أول من ألف في هذا الباب لأنهم كانوا واسعي الصدر تجاه العقائد الأخرى. فقد حاولوا أن يفهموها ويدحضوها بالحجج والبرهان، ثم إنهم اعترفوا بما أتى قبل الإسلام من ديانات توحيدية ويخطئ ابن حزم في هذا المجال بالنصيب الأوفر.
هذا وبالله التوفيق.
…………………الأستاذ/ أنور الجندي(47/13)
سلسلة دراسات إسلامية معاصرة الأدب
أنور الجندي
منشورات المكتبة العصرية
صيدا - بيروت
الطبعة الأولى
1402 هـ - 1982 م
الأدب
إن خصائص الأدب العربي التي تميزه عن الآداب العالمية المختلفة في الشرق والغرب ترجع إلى البيئة التي نشأ فيها، والمفكر الذي تشكل في إطاره، والتحديات التي واجهته في طريق مساره الطويل، وقد نشأ الأدب العربي في الجزيرة العربية إلى قرون عديدة سبقت الإسلام، وصاغته مقومات دعوة التوحيد الأولى "الحنيفية" حين قام هذا المجتمع الجديد في قلب الجزيرة بجوار بيت الله الحرام، فجمع بين جنوب الجزيرة وشمالها ووسطها، وصهرها جميعًا في ذلك البناء الذي أقامه الإسلام ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم حفيد إبراهيم وإسماعيل، ولا ريب أن الإسلام هو الذي أعطى العرب كيانهم الاجتماعي، والقرآن هو الذي صاغ لهم منهج الأدب العربي، ولقد كان قبل الإسلام شعر وأدب وأسواق، ###4### وكان الشعر ديوان العرب ومجموعات من سجع الكهان، غير أن صورة الأدب في معالمه الأصيلة، إنما وضحت بعد نزول القرآن الذي كان العامل الأعظم في بناء الأدب، وظهور فنونه وعلومه ومناهجه، والذي أغنى اللغة العربية بالأساليب والمضامين، ولا ريب أن اللغة العربية سابقة على الإسلام، وهي عماد وجود الأمة العربية، وهي لغة تطورت، ونمت خلال مئات السنين حتى وصلت إلى صورتها التي عرفت بها قبيل الإسلام، وإن ظلت لها لهجاتها المتعددة، فلما نزل القرآن انصهرت اللغة العربية في لهجة واحدة، ثم كان أن أعطاها القرآن - كما أعطى الأدب العربي - هذا البيان المعجز الفائق - الذي فهمه العرب، وأعجبوا به، وعجزوا في نفس الوقت عن الإتيان بمثله. ولقد كان لميراث النبوة في إسماعيل: جد العرب، وبقايا الحنيفية "دين إبراهيم" قيم خالطت النفس العربية، قامت على الأريحية والمروءة، وإن أصابها كثير من فساد عادات الثأر، ووأد البنات، والشرك وعبادة الأصنام، والاستعلاء والتفاخر، فلما(48/1)
جاء الإسلام حرر هذه النفس العربية من جاهليتها، وصاغ كثيرًا من طوابعها صياغة جديدة، وحول أهداف الكرم وحماية الذمار والنجدة، فأعطاها مفهومًا متجددًا هو مفهوم التوحيد ###5### الأصيل، واستبقى قدرتها على المجالدة والحمية، ووجه ذلك كله إلى هدف أسمى تحت لواء عقيدة التوحيد الخالص، وبذلك محا درن الجاهلية، وحرر قيمها التي كانت عماد القوة الكبرى التي اندفعت في الأرض ترفع راية الإسلام، وتعلن اسمه، وتمد نفوذه من حدود الصين إلى حدود فرنسا، كل هذه العوامل أعطت أدب اللغة العربية ذاتية خاصة، وطبعته على نحو خاص يختلف به عن أدب الأمم الأخرى، وظهرت فنون لم توجد في الآداب الأخرى، واختفت منه فنون توجد في الآداب الأخرى، وظهور تلك الفنون واختفاء تلك الأخرى منه لا ينقص من قدره، ما دام يصدر عن أعماق روحه الطبيعية ومقوماته الخالصة، ومن هنا فإن هذا الأدب لا يمكن أن يدرس في ضوء مناهج وضعت لآداب أخرى، ذلك أن أساليب النقد والبحث إنما توضع للآداب بعد ظهورها، ولذلك فهي مستمدة منها وليس العكس.(48/2)
إن مذاهب الأدب التي يحاول النقاد محاكمة الأدب العربي إليها، هي في جملتها مذاهب غربية، وضعت مسمياتها ومناهجها بعد قيام ظواهرها في الآداب الأوروبية، وهي في الحق ليست مذاهب، وإنما هي أسماء عصور: كالكلاسيكية والرومانسية وغيرهما، وهي تتصل في مجموعها ###6### بتاريخ الأمم التي وضعت هذه المذاهب، فلماذا تنقل لتكون قوانين يخضع لها أدبنا الذي يختلف من حيث تكوينه وطابعه وتاريخه، وبيئته ومظاهر حياته عن هذه الآداب؟ إن اختلاف المصادر والمنابع بين الأدب العربي والآداب الغربية يجعل من العسير خضوع الأدبين لمقاييس واحدة، أو لقوانين واحدة، والمعروف أن الآداب الغربية جميعًا تستمد مصادرها من الأدب الهليني والفلسفة اليونانية، والحضارة الرومانية، فقد اتجه الأدب الأوروبي الحديث منذ أول ظهوره في عصر النهضة إلى هذه المنابع، وربط نفسه بها، وجعلها أساسًا ثابتًا لمختلف وجهات نظره ومفاهيمه وقيمه، كما اتخذ من النظريات التي قدمها أرسطو في الأدب والنقد والشعر وغيره أساسًا له.
ولا ريب أن الأسس التي يقوم عليها الأدب الغربي بمختلف فنونه وبيئاته، تختلف اختلافًا واضحًا عن الأسس التي يقوم عليها الأدب العربي الذي استمد مصدره أساسًا من القرآن الكريم، والإسلام والقيم العربية الأصيلة التي تلاقت مع مفاهيم الإسلام، وانصهرت معها.(48/3)
2- أما الفكر الذي تشكل الأدب العربي في إطاره، فهو القرآن، وأداته اللغة العربية، ويقوم هذا الفكر على ###7### أساس التوحيد الخالص. فقاعدة الإسلام الأزلية هي الاعتقاد بوجود الله الواحد الذي لا يتغير بتغير الزمان والمكان، فالله – سبحانه وتعالى – هو خالق الكون، وهو الذي يمسك هذا النظام المترابط في كل لحظة بحيث لو تخلى عنه لتلاشى وانتهى، وهو القائم على كل نفس بما كسبت، وهذا المفهوم هو الأساس في الأدب العربي، والإنسان في نظر الإسلام مستخلف في الأرض، وله طبيعته الجامعة بين الروح والجسد، والعقل والقلب، وله رغباته المادية وأشواقه الروحية، وله إرادته ومسؤوليته، ولما كان القرآن هو المصدر الأصيل للفكر الإسلامي، فهو المثل الأعلى للأدب العربي. ولا ريب أن تأثير القرآن في هذا الأدب لا ينقطع لأنه متصل بالأداء والمضمون معًا حيث يستمد الأدب العربي أصوله من الإسلام والقرآن الكريم، وفي مقدمتها: الأصالة والصدق، والوضوح والإيمان، والتفاؤل والأخلاقية، والتكامل، والالتزام والمسئولية، والحرية ذا الضوابط وثبات القيم وترابط الفردية والاجتماعية والتوحيد والتجريب والفطرة، وقوامة الرجل، وتكامل المعرفة وترابط العروبة بالإسلام والطابع الإنساني.
3- من خلال دراسة الأصول التي استمد الأدب ###8### العربي منها وجوده تظهر جليًا وجه الخلاف والتباين بين الأدب العربي والآداب الغربية وخاصة في أربع مواقع هامة:
أولا: تفسيرات العقائد.
ثانيًا: طبيعة البلاد.
ثالثًا: موروثات الهلينية والفكر اليوناني.
رابعًا: الآثار الخطيرة التي حققتها سيطرة الفكرة التلمودية على الفكر الغربي كله في العصر الحديث.(48/4)
ومن هنا نجد الخلاف عميقًا في العقائد والثقافة ومناهج البحث والطبيعة النفسية، والطبيعة الجغرافية جميعًا، ولهذا الخلاف أبعد الأثر في مفهوم الأدبين، ذلك أن أبرز طوابع الفكر الغربي "الأدب الغربي بالتبعية" هو تجزئة الأمور لا تكاملها "فهي تفهم شيئًا واحدًا، وترى الآخر عكسه أو ضده، وهي تفصل بين الأشياء فصل العداوة أو المخالفة أو التعارض، ولا تستطيع أن تقبل المواءمة أو المصالحة؛ أو الالتقاء أو التكامل على النحو الذي يمثل طبيعة واضحة للفكر العربي الإسلامي، وحين يستمد الأدب العربي مقوماته من التوحيد، يستمد الأدب الأوروبي مقوماته من أشياء أخرى يكاد الدين الغربي أن يكون عنصرًا فيها، ###9### ولكن أبرز المقومات هي الوثنية الهلينية والأدب الجنسي الصريح.
4- واجه الأدب العربي عددًا من النظريات الوافدة في مجال النقد الأدبي، قدمها بعض الأدباء في نطاق الدعوة إلى تجديد الأدب العربي، وقد خالفت هذه النظريات منطلق الأدب العربي وجذوره، وعارضت ذاتيته الإسلامية العربية الخالصة، واصطدمت مع مزاجه النفسي والعقلي، ومن هنا فقد سقطت واحدة بعد أخرى، ولم تجد مجالا للعمل والنماء والتشكل مع الأدب العربي ذلك أن هذه النظريات في أصولها قد انطلقت من طوابع الآداب الأوروبية وذاتيتها، وتشكلت وفق مضامين تلك الآداب، واعتمدت أساسًا على النظريات التي بدأت في دائرة العلم الطبيعي، ثم فرضت نفسها على الفلسفات والآداب، وهي النظريات التي اعتبرت الإنسان حيوانًا خاضعًا لظروف البيئة خضوع مختلف الأشياء لها، وهي نظرية مادية خالصة لا تتفق مع روح الأدب العربي الذي يقوم على أساس ترابط واضح بين المادية والروحية، وبين العقل والقلب، والتي تعتمد قاعدة التوحيد الإسلامية أساسًا لمنطقها.(48/5)
###10### ويقوم منهج النقد الأدبي العربي الحديث الذي فرضه بعض الأدباء بعد الحرب العالمية الأولى على الأدب العربي على أساس مادي خالص، فهو مبني على أساس النظريات التي استمدت مناهجها من نظرية دارون عن التطور وأصل الإنسان: هذه النظرية التي قامت في دائرة العلم الطبيعي، ثم نقلها الفيلسوف هربرت سبنسر إلى مجال المجتمع، فطبقها على مبادئ الأخلاق، ثم جاء "برونتير" الناقد الفرنسي، فطبقها على الأجناس الأدبية، هذا فضلا عن أن المفاهيم التي اعتمد عليها دعاة المذهب الغربي في النقد الأدبي، إنما استمدوها من برونتير هذا، ومن تين وسانت بيف، وهم يرون أن الإنسان ما هو إلا أثر من آثار البيئة بمعناها الاجتماعي الواسع، وأنه لا يكاد يفترق عن النبات والحيوان في انتفاء الحول وانعدام الإرادة، وما يتصل بهذا من أن الفضيلة والرذيلة ليستا إلى حد كبير إلا نتاجًا لعملية تلقائية مثل الأحماض والقلويات، فضلا عما ترتبط هذه النظرة جميعها به من أثر نظرية النشوء والارتقاء من حيث إنزال الإنسان من مكان البطولة إلى مكان الحيوان الذي يعيش تحت رحمة القوى المحيطة به، وقد نمى هذه النظريات الباحث الفرنسي دروكايم في مفاهيمه التي تلقاها بعض أدبائنا هؤلاء ###11### في جامعة السوربون، وجعلوا من هذا الخليط كله أساسًا لنظريتهم في النقد الأدبي التي جرى تطبيقها على المتنبي وابن خلدون والمعري، ثم جرى تطبيقها على الشعر الجاهلي، وعلى أدب القرن الثاني للهجرة، وكان لها ذلك الأثر العميق من التضارب الذي أصاب القيم الإنسانية للأدب العربي والفكر الإسلامي والثقافة، والتي ذهب الباحثون في تعقب آثارها فلم يصلوا إلى هذا المعنى إلا منذ وقت قريب حين تبين محاولة إخضاع الأدب للمنهجين الاجتماعي الذي رسمه دوركايم والذي يعترف بأن الإنسان حيوان اجتماعي وأن مختلف قيم المجتمع ليست أصيلة فيه، والمنهج النفسي الذي التقطه الأدباء من نظرية فرويد، والذي يرى أن(48/6)
الإنسان عبد لشهواته، وأن الجنس هو المحرك الأول لكل تصرفاته.
وقد غلب المذهب الاجتماعي على دراسات الأدب والتاريخ، وغلب المذهب النفسي على دراسات التراجم والشعر ومن هنا ظهرت تلك الآراء الغريبة التي تمسك بها بعض الأدباء، والتي لا تتفق من قريب أو بعيد مع مفاهيم الفكر الإسلامي والثقافة العربية الإسلامية، ومن ذلك ما قاله الدكتور طه حسين من أن "الدين نبت من الأرض ولم ينزل من السماء" وقوله: "إن العالم الحقيقي هو الذي ينظر إلى ###12### الدين كما ينظر إلى اللغة، وكما ينظر إلى اللباس من حيث إن هذه الأشياء كلها ظواهر اجتماعية يحدثها وجود الجماعة، ومن هنا نصل إلى أن الدين في نظر العلم لم ينزل من السماء، ولم يهبط به الوحي، وإنما خرج من الأرض كما خرجت الجماعة نفسها" اهـ.
والواقع أن قائل هذا كان يردد صيحة معروفة في الغرب على أيدي العلماء اليهود تلاميذ وأحفاد بروتوكولات صهيون، وأن العلم الذي يشير إليه ليس هو العلم بمعناه الحقيقي، وإنما هي الفلسفة المادية، ومدرسة العلوم الاجتماعية، والتحليل النفسي، وكلها تقوم على مصدر مادي خالص، ولا تعترف بأن الإنسان روح ومادة، ولا ريب أن هذه الآراء واحدة، وأن الدكتور طه لم يبتكرها، ولم يصل إليها بعد بحث، ولكنه تعلمها من دوركايم وغيره من الكتَّاب الغربيين الذين أرادوا أن يتحركوا بمفاهيمهم هذه من خلال الفكر الغربي من الفلسفة المثالية التي كانت سائدة إلى الفلسفة المادية الخالصة.
أما الأدب العربي والفكر الإسلامي، فليس له مع هذه القضية أو هذه الأزمة صلة ما، ولذلك فإن من الظلم البين أن ينقل مجال المعركة إلى الأدب العربي بغير حاجة إليها إلا ###13### حاجة واحدة في نفس يعقوب، هي محاولة تغريب الأدب العربي وعزله عن ذاتيته الخاصة ومقوماته وأرضيته.(48/7)
وفي نفس مجال الادعاء بأن هناك صراع، بين الدين والعلم، فإن الأمر يبدو مضللا، فليس بين العلم والدين خصومة حقيقة فضلا عن أنه ليس بين الإسلام والعلم خصومة ما، والنظريات العلمية لم تثبت تناقضًا بين العلم والدين.
5- وقد عارض كثير من الباحثين هذا المنهج الوافد في نقد الأدب العربي، وقال الدكتور حلمي علي مرزوق في كتابه "تطور النقد": إن المنهج العلمي في البحث الذي ينقد به طه حسين الأدب العربي لا يصلح استخدامه إلا في مجال الوقائع العلمية التي يدرسها العلماء كأصول الدراسة الكيميائية والطبيعية، وما إليها حيث لا يدخل في مجال الوقائع العلمية معارف الشعوب، ولا يستطيع العلم أن يستقل بالبحث في هذا الموضوع لأنه أدخل في مجال الرأي، ويهول طه حسين في المنهج الاجتماعي الذي ينظر إلى الإنسان على أنه حيوان اجتماعي، ومن هنا يعول على دراسة البيئة والعصر، ولا يدرس البواعث النفسية للأديب التي تحفزه إلى نوع من السلوك دون آخر، وقد فرق الأستاذ محمد أحمد الغمراوي ###14### بين مناهج الأدب ومناهج العلم في مناقشته لهذه النظرية فقال: أما العلم فإنه ميدان العقل ومتاعه، وهو لا وطن ولا قومية له، كما أن العقل لا قومية له ولا وطن، فقوانين التفكير واحدة وسبل العقل واحدة في العالمين، ثم أنت لا تشعر أثناء تلقي العلم من أجنبي أنك تتلقى شيئًا خاصًا بجنس من البشر دون جنس، أو بقوم دون قوم، ولكن تتلقى شيئًا من البشر مشتركًا، أو ينبغي أن يكون مشتركًا بين الناس أجمعين اشتراك العقل بينهم، وليس الأدب كذلك، فبينما أنت في العلم لا تجد علمًا ألمانيًا ولا علمًا فرنسيًا، ولكن علمًا واحدًا إذ تجد الأدب متعددًا بتعدد الأمم، لكل أمة أدبها كما لكل أمة لغتها، وتجد أدب كل أمة مطبوعًا بطابعها طبعًا لا خفاء فيه، أو هكذا هو إذا استقلت الأمة بأدبها، ونسجت لنفسها بردًا من روحها وتاريخها وتقاليدها وعادتها ودينها، بدلا من أن تلتف بشق من برد(48/8)
غيرها، لا تجد فيه دفئًا ولا قوة ولا جمالا، وقد وجد هذا المذهب في النقد الأدبي معارضة تستمد قوتها من معارضته للذوق العربي ومضادته لذاتية الأدب العربي التي تعتبر الإنسان سيد الكائنات، وتعلي من قدر عقله ووجدانه، وتحاكمه إلى مقاييس تختلف اختلافًا كبيرًا عن المقاييس المادية التي تراه حيوانًا أو خاضعًا للجنس.
###15### وقد سقطت نظرية خضوع الأدب للمذهب الاجتماعي والمذهب النفسي على السواء، وتبين فساد الرأي الذي أعلنه طه حسين في العشرينات من هذا القرن حين قال: إنه يريد أن يدرس الأدب كما يدرس صاحب العلم الطبيعي علم الحيوان وعلم النبات.
6- كذلك هناك خلاف عميق حول أخلاقية الأدب، فقد كان من أبرز ما دعا إليه المذهب الغربي في الأدب، هو تحرير الأدب من طابع الأخلاق، ودفعه إلى تصوير الغرائز والأهواء في غير ما قيد، وذلك باسم "حرية الأدب" التي أطلق عليها مصطلح "الفن للفن" ولقد بدأ هذا الاتجاه بظواهر ثلاث:
1- الإفاضة في الحديث عن حياة بشار وأبي نواس وغيرهم من شعراء الإباحة في العصر العباسي، ونشر الجوانب الشاذة من أحاديثهم وأسمارهم على النحو الذي كتبه طه حسين في "حديث الأربعاء".
2- ترجمة القصة الفرنسية الإباحية والكشف عن جوانب الصراع الحسي في العلاقات الشاذة بين الرجل والمرأة وترجمة أشعار بودلير وغيره من شعراء الأدب المكشوف.
###16### 3- الإذاعة بمذهب حرية الأدب والدعوة إليه والدفاع عنه وفق منهج له طابع علمي زائف بدعوى أنه منطلق إنساني أصيل.(48/9)
وقد استهدفت هذه الدعوة التي اتسع نطاقها، وقامت من أجلها المناظرات والمحاضرات، فضلا عن ذلك الفيض الضخم من القصص الفرنسية المكشوفة التي جرت ترجمتها وتقديمها بأسعار زهيدة وإلقاؤها بين أيدي الشباب والفتيات، والغمز لكل ما يتصل بالعقائد الدينية، والسخرية بالفضائل والبطولات والدعوة إلى الانطلاق بدون حرج، والجرأة على المقدسات، بل إن ذلك قد جرى تطبيقه في بيئات مختلفة، منها بيئة العلم الأساسية، ولقد لقيت نظرية حرية الأدب ومعارضة الأخلاق نقدًا واعتراضًا، مصدره تعارضها مع طابع الأدب العربي أصلا، وكشف الباحثون المنصفون عن أن حرية أبي نواس وبشار لم يكن مصدرها الأدب العربي أو مفاهيم الإسلام الاجتماعية، وإنما مصدرها تطلعاتهم الحسية وأهدافهم الشعوبية التي أرادوا إذاعتها والجهر بها لهدم مقومات الأدب العربي الأصيلة، وإعلاء مفاهيم المجوسية والإباحية التي تحرر منها الأدب ###17### العربي بعد الإسلام، ذلك أنه ليس في مفهوم الأدب العربي أصلا ما قاله طه حسين حين قال: "خسرت الأخلاق وربح الأدب" وقد واجه الدكتور حلمي رزق هذه النظرية حين قال: إن حرية الأدب لا جدال في إطلاقها، ولكن الخطأ في قصرها على عاطفة دون عاطفة، أو وجدان دون وجدان فضلا عن عاطفة الهوى ووجدان الشك والمجون، وأخطأ الخطأ أن يوحي إلينا طه حسين أن الأخلاق في مواضعات الحياة الجامدة كأنها وليدة الإرادة العمياء التي نادى بها شوبنهور فهي فرص مكررة أو إلزام أعمى تقتضي الحرب والإنكار؛ والقاعدة الأخلاقية ليست من قبيل المواضعات العمياء، ولا الضوابط الجامدة، وإنما شأوها شأو الفن، وليدة التجربة العميقة التي يقع بها صاحبها على الصلات الحقيقية بين الأشياء.(48/10)
وشواهد الصلة بين الفن والأخلاق شائعة معلومة في تواريخ الأدب والفنون، ونراها ماثلة فيما يجري بيننا من شعر المتنبي وأمثال شكسبير على أن طه حسين حينما يصرف الأدباء عن الأخلاق إنما يقع في العيب الذي يأخذهم به، فهو يشتط في نفي الحجر على الشاعر، ويقع هو فيه وأي حجر أشد من الوقوف بالأخلاق والفضائل موقفًا بعيدًا عن الفن، فلا ###18### ينبغي للأديب أن يقربها، وإلا كان أدبه "قديمًا من قوارير" تصطلح عليه علل الكذب وإدواء الصنع، وتنتفي عنه سمات العصرية أو الأدب الحديث، أو الوجدان الديني، يعد شأنه في الأدب شأن غيره من الأحاسيس ومشاعر النفس، لا ينبذه ناقد ولا يكون له في قضية الحب نصيب على أنه سيظل ماثلا في الأذهان أن الحرية قد تقضي لا محالة إلى ما دعا إليه طه حسين من الخروج عن الأعراف والمواصفات، وتنتهي إلى التعبير الحر عن الأهواء والنزوات، وخلاصة القول: إن دعوى الاختلاف بين الفن والدين والأخلاق، نشأت من اتباع نظرية الفن للفن، ومرد الاختلاف إلى اعتبار الفن نوعًا من التعبير لا أزيد ولا أقل، فلا عبرة بالموضوع في ذاته، وإنما العبرة بمقتضيات التعبير، فالفنان لا حجر عليه في تصوير ما يشاء من المشاعر والأحاسيس، اتفقت ومواضعات الجماعة وأعراف الناس أم خرجت عليها، فالفن لا يخضع لغير قانون التعبير.(48/11)
ومن هنا أيضًا نشأ التضارب، وسار عليه طه حسين فيما أسلفنا من القول: "خسرت الأخلاق وربح الأدب" وهو موقف يوحي به ظاهر المذهب، وعنه شاع هذا الخطأ حتى أصبح تبريرًا لكل تبذل مقصود، وحجة يسوقها أنصاف ###19### الفنانين بين أيدي الانحلال، يريدون أن يضفوا عليها ثوبًا من المشروعية الزائفة، ينفقونه في سوق الغباء الغني، فغاية المذهب الحقة تخليص الأدب من القيم الدخيلة عليه، ولم يكن قصاراه أن يقف من الأخلاق والدين موقف التناقض والحق أن نسبة مثل هذه النظرية إلى المفاهيم العلمية، إنما هو من قبيل تحصيل الحاصل، ذلك لأن الدعاة إلى هذه النظرية، وهم قد طبقوها فعلا في كتاباتهم، إنما كانوا يستهدفون غايات بعيدة أعمق أثرًا، ولذلك لم يكن انتسابهم إلى قواعد العلم والفن إلا محاولة لتبرير جوهم الاجتماعي الخاص الذي كانوا يعيشونه فعلا متحررين من قيود الخلق والدين، ذاهبين إلى أبعد حدود الانطلاق، ولم يكن من المعقول أن يمارسوا هذه الحرية، ثم يقفوا من الأدب موقفًا يخالف ما يعتقدون ويمارسون، ذلك أنهم كانوا قد قرؤوا عن بلزاك وجان جاك روسو وإسكندر ديماس، وما كانت تحويه حياتهم الخاصة من فساد ونزق، وكانوا يتطلعون إلى أن يكونوا كذلك هم، وشاعت بين الأدباء في هذه الفترة دعوة تقول ببوهيمية الأدباء، وأن من حق الأدباء مقارفة كل فنون الحياة ليتمكنوا بالتجربة من الحكم على ما يجدونه في الكتب ###20### والقصص، ومن هنا كانت تلك الدعوة إلى "لا أخلاقية الأدب" مظهرًا حقيقيًا وواضحًا وصريحًا في أدب الأدباء وحياتهم في هذه الفترة.(48/12)
والعلاقة بين الفن والدين علاقة واضحة، وفي الإسلام أوضح، فالفطرة كلها منشئها واحد هو الله سبحانه وتعالى، والعلم والدين كلاهما قد أجمعا على استحالة التناقض في الفطرة، فإذا كانت هذه الفنون من روح الفطرة، ووجب ألا تخالف أو تناقض دين الفطرة "دين الإسلام" في شيء، فإذا خالفت الفنون الدين في أصوله، ودعت صراحة، أو ضمنًا إلى رذيلة من أمهات الرذائل التي جاء الدين لدفعها عن الإنسان حتى يبلغ ما قدر له من الرقي في النفس والروح، إذا خالفت الفنون الدين في شيء من هذا أو في شيء غير هذا، فهي بالصورة التي تخالف بها الدين فنون باطلة، فنون جانبت الحق ودابرت الخير، وأخطأت الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فإذا كان من شأن بعض من يعمل أو يكتب باسم الفن أو الأدب أن يتجاوز في تأثيره ما سبق، فيحول بين الإنسان وبين ربه، ويدخل عليه الشك في دينه بأي صورة من الصور، ولأي حد من الحدود، كان ذلك البعض المعمول أو المكتوب باسم الفن أو ###21### باسم الأدب يعد زورًا أو إفكًا في الأدب والفن والدين على السواء، ولذلك كما يقول الدكتور محمد أحمد الغمراوي: يجب أن ينزل الأدب والفن على حكم الدين وروحه، وعليهما يجري التطابق العام معه، وبذلك يتحقق لهما الاتحاد مع الفطرة في الصميم، والأدب المكشوف يصدم أول ما يصدم مقر الفضيلة في النفس، ويؤذي أول ما يؤذي حاسة الجمال النفسي في الإنسان، وهو في صميمه أدب غير جميل.(48/13)
7- كذلك كان من أخطر ما قدمته مناهج النقد الأدبي الوافدة "أسلوب الشك" وهو أسلوب ماكر من أساليب الغزو الثقافي أريد به إدارة الأبحاث الأدبية والعلمية والتاريخية كلها في دائرة اللاأدرية والتشكيك والتهكم والسخرية بحيث يرى القارئ أنه إزاء جو مغرق من الاستهانة والاحتقار لكل ما يتناوله؛ ويقول الدكتور طه في بحث له العبارة الآتية: "أخضعت للشك – دون أن أمس الدين – بعض المعتقدات التي ورد ذكرها في القرآن وأحاديث الرسول" أي أسلوب من المكر والتضليل أبعد من هذا في حين يعترف بأنه أخضع بعض المعتقدات التي ورد ذكرها في القرآن للشك، وكيف أنه حين فعل ذلك لم يمس الدين الذي هو مصدر الاعتقاد، والذي هو منطلق كل ما ورد في القرآن، وقد سجل الكثير من الباحثين ###22### هذه الخاصية التي عمد إلى إذاعتها طه حسين في الأدب العربي كله حيث يقول عمر فروخ: إن أبرز معالم أدبه تردده بين المفهوم وغير المفهوم والمنحول والثابت، والممكن وغير الممكن، ولم تره في كتاب إلا داعية للشك، بل كان ينفي ما يثبت نفسه بنفسه، وهو يكتب: "لعل، ربما" ويقول رأيه على التأويل والدوران والتغير، فهو لا يقطع في شيء أبدًا، ولا يصف شيئًا بأنه أبيض أو أسود، ولقد خلط طه حسين بين الشك وبين المخرج من الشك، فجعل الشك القاعدة الأساسية.(48/14)
وكان من أخطر ما قدمه المنهج الوافد، هو فصل الأدب عن دائرة الأمة، وفصله عن دائرة الفكر، ذلك أن من أخطر النظريات التي حاولت حركة التغريب فرضها على الأدب العربي للقضاء على جوهره الأصيل وعزله عن طبيعته ومقوماته، هي نظرية استقلالية الأدب وانفصاله عن العناصر الأخرى المرتبطة به من أخلاق ومجتمع وتربية وسياسة وفق مفهوم الفكر الإسلامي الأساسي القائم على أن الفكر مركب، وكل من هذه عناصر، والأدب عنصر منها، وإذا كان الأدب الغربي قد انفصل، فإن الفكر الغربي يقوم على ###23### قاعدة الفصل بين العناصر، وإعطاء كل منها حق الحرية بينما لا يقر الفكر الإسلامي ذلك، ويرى فيه خطرًا على مجموعة القيم، وعلى الأمة، وعلى الأخلاق ومن نتاج هذا الفصل قيام النزعة الانشطارية في الفكر الغربي، واضطراب المجتمع حيث يعطي للأدب من الحرية ما يسمح له بأن يتجاوز ضوابط المجتمع أو حدود الأخلاق، لذلك قامت هذه الدعوة للفصل بين الأدب العربي ومقومات الفكر الإسلامي على أساس الادعاء بأن الإسلام ليس إلا دينًا روحيًا، وليس نظامًا اجتماعيًا كما في الواقع. وهو بهذا المعنى يتسم بالشمول والتكامل والترابط بين القيم المختلفة، ومن شأن هذا استحالة الفصل بين الأدب والدين، وبين الأخلاق والدين أو بين الأدب والتربية، ولا شك أن هذه الدعوة إنما كانت قد صيغت على نحو ماكر وخطير وبعيد المدى يهدف إلى إخراج الأدب العربي على ذاتيته ومقوماته وطبيعته وإغراقه في مفهوم غريب عنه يتيح لهؤلاء الدعاة حرية النقد، وإثارة الشبهات حول القرآن الكريم باعتباره نصًا أدبيًا، أو نصًا بيانيًا، وكذلك إطلاق حرية الأدب المكشوف وفنون الإباحة والإلحاد انطلاقها من الدعوة الباطلة التي تقول بأن الأدب ليس له أي ارتباط بالدين أو الأخلاق أو الأمة ولا شك أن كتاب "في ###24### الشعر الجاهلي" قد رسم أصول هذا المنهج الخطير المسموم، وما زال مفهوم هذا المنهج هو الأساس الذي يقوم عليه(48/15)
نقد الأدب العربي المعاصر والحديث، وإن أغلب الأدباء والكتَّاب قد اعتمدوا هذا المذهب في كتابة دراساتهم، فأطلقوا لأنفسهم حرية الكشف عن جوانب من التصوير للعاطفة الجنسية، وللنظريات الحرة دون تقيد بأي مقوم من مقومات الأدب العربي الأصيل المستمدة من القرآن التي تتحرك داخل إطار التوحيد، ومع ضوابط الأخلاق والمسؤولية الاجتماعية، وحماية المجتمعات من أخطار الإلحاد والإباحة. كذلك كان من أخطر ما دعا إليه المنهج الوافد نتيجة لدعوى فصل الأدب عن الفكر، إعطاء الأدب حرية الحكم على أشياء كثيرة خارج نطاقه، فقد أخذ الأدباء في إصدار آراء حرة وجزئية مستمدة من نظريتهم الأدبية الواحدة في الحكم على التاريخ والعقائد، أو الأخلاق والدين، وقد تناولوها بدون قيد عليهم على أنها أدب، وحاكموها بمنهج الماديين، وأثاروا حولها شكوكًا خطيرة، وكان هذا تجاوزًا لوظيفة الأدب وخروجًا عن دائرة اختصاصه.(48/16)
9- كذلك كان من أخطر ما أساء لمنهج النقد الأدبي الاعتماد على المصادر الزائفة، وأهمها كتب المحاضرات ###25### وروايات القصاص وكتابا: ألف ليلة وليلة، والأغاني، فقد اتخذت هذه الكتب التي كتبت أساسًا للتسلية وتزجية الفراغ، اتخذت مراجع يعتمد عليها خصوم المسلمين والعرب من أجل ترويج آراء كاذبة مضللة، ذلك لأن هذه المؤلفات لم يكتبها علماء موثوق بهم، ولم تكتب وفق أصول العلم والبحث، وإنما كتب للتسلية والترويح؛ وقصد بها جمع الفكاهات، والنكات، والأحاجي لإغراق المجتمعات بالأوهام والأباطيل، وقد ارتفع صوت العلماء المحققين في هذا العصر بالتحذير من هذه المصادر الزائفة التي تجمع أخبار الندماء والجلساء والمغنين والمضحكين؛ وقد ظلت هذه المؤلفات مجهولة ضائعة حتى جاء المستشرقون والمبشرون في العصور الأخيرة، فأعادوا طبعها، وأذاعوها في العالم، وأخرجوا أغلبها في طبعات فاخرة، وأوعزوا إلى تابعيهم من دعاة التغريب الإشارة إليها والإشادة بها، والنقل عنها واعتمادها مصدرًا من مصادر التأليف.
كذلك كان من أخطر ما أذيع في هذا الصدد ما أطلق عليه "رباعيات الخيام" وهي مجموعة من الشعر الفارسي المجهول النسب الإباحي الطابع الذي نسب كذبًا إلى الخيام ###26### لإثارة روح الإباحية والاستهتار بالحياة واحتقار القيم في المجتمع الإسلامي.(48/17)
10- حاول دعاة التغريب الترويج لأدب الجنس والتحلل، وذلك بالدعوة إلى أدب لورنس وأوسكار وايلد، وترجمة مجموعة من الأدب الغربي المكشوف، وذلك في محاولة إطلاق الغرائز من عقالها والكشف عن الحيرة والضياع، وكذلك في إحياء بشار وأبي نواس، مما عرف في عهود استعلاء الشعوبية والدعوات الباطنية الهدامة، وقد كان ذلك كله مخالفًا لروح المجتمع الإسلامي وطابعه الذي يقوم على العفاف والخلق، والقول الكريم دون الهجر وعلى الإشارة العابرة إلى الأمور المبتذلة دون الكشف والإفاضة في ضوء المحرمات الجنسية والميول المنحرفة، ولا شك أن الاتجاه إلى الكشف في الأدب هو طابع غربي له جذور إغريقية قديمة، وله طوابع متصلة كل الاتصال بالوثنية وعبادة الأجساد، وهو مما يرفضه الأدب العربي ويعارضه تمامًا.(48/18)
11- كان من أخطر الدعوات التي طرحها المذهب الغربي في الأدب، فصل العصر الحديث عن تاريخ العرب والإسلام تحت اسم الأدب المصري أو السوري أو المغربي في محاولة مضللة، فإن الأدب هو أدب اللغة العربية أساسًا، ###27### وهو في عمومه امتداد للأدب العربي الذي صنعه الإسلام بنزول القرآن. وترمي هذه المحاولة أساسًا إلى عزل الأدب العربي عن فصاحة القرآن مما يترتب عليه العزوف عن الأنماط الأولى، والتماس الأساليب الغربية الحديثة، وهي أساليب وثنية وغربية ومتصلة بالتوراة في الأغلب، من شأنها أن تحجب الأساليب العربية الأصيلة، وتحول دون تذوق بلاغة القرآن المعجزة وفهمها، ولقد جرى الكثيرون على نقل استعارات اللغات الغربية، ولقد حاول رجال مدرسة المهجر إدخال أسلوب التوراة والعهد القديم إلى الأدب العربي كما فعل جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني، ولقد سجل الدكتور محمد أحمد الغمراوي هذه الظاهرة حين أشار إلى أن صاحب كتاب "الشعر الجاهلي" – يقصد طه حسين – ومن لف لفه يسوقون الأدب العربي في غير طريقه، ويلبسونه ثوبًا من غير نسجه، وينسجون عليه نسجًا فرنسيًا، ويسوقونه في نفس الطريق التي ضل فيها الأدب الألماني قرنًا وبعض قرن، فضل عن نفسه، ولم يهتد حتى رده عن تلك الطريق أمثال هللر وهاجيدن وليسنج، فما هي تلك الطريق التي يسوقون فيها الأدب العربي إلا طريق الافتتان بالأدب الفرنسي خاصة والغرب عامة.(48/19)
###28### 12- كذلك حاول المنهج الغربي الوافد أن يخضع الأدب العربي لأسلوب فصل العصور السياسية، وهو أسلوب عرفته الآداب الأوروبية، وربما كان يتفق مع طبيعتها وظروفها؛ ولكنه حين يطبق على الأدب العربي تأتي بنتائج غاية في الاضطراب والفساد، فالوحدات الأوروبية المتعددة المنفصلة كل منها عن الأخرى انفصالا سياسيًا وتاريخيًا ولغويًا من حيث استغلال كل منها بلغته الخاصة، قد اقتضى هذا المنهج خاصة بالنسبة للحدود الضيقة، ولأول عصر الانفصال عن اللغة اللاتينية، وهو لا يتجاوز ثلاثة قرون أو أربعة.
أما الأدب العربي المتصل في هذه البقعة على امتدادها، المترابط بين أجزائها إلى أكثر من أربعة عشر قرنًا، فإنه لا يتفق له مثل هذا المنهج؛ ومن شأن تطبيقه أن يعجز عن تحقيق أي نتائج علمية، ذلك أن الأدب العربي تميز بخاصتين عظيمتين باين فيهما آداب هذه الوحدات الأوروبية وغيرهما، فامتنع بتلك المباينة إمكان إخضاعه لما خضعت له من قانون، أما أحدها فما انبسط له من أوطان ترامت ما بين بلاد الغال في الغرب إلى تخوم الصين في الشرق، وأما الأخرى فطبيعته الخاصة ومناشئه وينابيعه الدافقة بما يمنحه من استقلال الشخصية وحماية وجودها بالصمود أمام الأعاصير، والقدرة ###29### على التأثير في مجاري أحداث الحياة؛ ولما كانت الأحداث تمضي متلاحقة ومتلازمة بالضرورة تلازم أجزاء الزمن الذي تحدث فيه، نشأ كل حدث، وهو منفعل بأسباب وعلل متقدمة، فما يكون في يومنا من حادث فلأحداث الأمس الدابر أثر في حدوثه، ومن شأن تقسيم الأدب إلى عصور أن يضيف إلى عهد لاحق نتاج عصر سابق، حمل في أعماقه كل عوامله ومؤثراته وخصائصه.(48/20)
13- كذلك من أخطر ما واجه الأدب العربي محاولة التركيز على الأدب الحديث وتجاهل الأدب العربي منذ عصر الإسلام، بينما يتخذ الغربيون لآدابهم تراثًا ممتد الجذور بالأدب اليوناني، ويرون أنه لا سبيل لفهم الأدب الغربي الحديث إلا بدراسة الآداب اللاتينية واليونانية، بل واللغتين القديمتين المندثرتين، ولا ريب أن دعوى الفصل بين أدبنا الحديث وبين الأدب العربي الإسلامي الممتد منذ الإسلام هي من أخطر المحاولات التي تفرق الجماعة، وتشتت الشمل، فالأصل أن تكون حياتنا الراهنة والمستقبلة امتدادًا لحياتنا الإسلامية العربية، وأن تكون أخلاقنا وأذواقنا ولغتنا وأساليبنا امتدادًا قابلا للتغير المتصل بالعصور والبيئات الحفيظ على الأصول العامة والقيم الأساسية.
###30### ومن وراء ذلك هدف واضح، هو أن يصبح المسلمون اليوم مقطوعي الصلة بماضيهم في اللغة والدين والعادات والذوق الفني والمزاج وفي التقنين الخلقي.
14- كذلك كانت نظرية إقليمية الأدب من أخطر ما تناولته دراسات الأدب الحديث، ودعت إليه المذاهب الوافدة، وعلينا أن نفرق بين تقرير تأثير البيئة في الأدب، وهذا لا اعتراض عليه، وبين القول بإقليمية الأدب، وهذا شيء آخر، إن واقع الأدب في الماضي القريب والبعيد، يثبت أن هذه الآثار لا ترجع إلى قطر من الأقطار أو إقليم من الأقاليم، فالمتنبي مثلا ولد في الكوفة، وعاش في بغداد وحلب ودمشق، وأثره لم يقتصر على إقليم ما، بل شمل جميع الأقطار وغيره كثيرون على هذا النحو، ولقد حافظ الأدب العربي على طبيعته الموحدة والمولدة حتى في أسوأ عصور تفكك الدول؛ وتفتت شعوبها، والحقيقة الواضحة أنه لا يوجد أدب مصري، وأدب عراقي، وأدب مغربي، وإنما يوجد أدباء مصريون وعراقيون ومغاربة.
…………………الأستاذ/ أنور الجندي(48/21)
سلسلة دراسات إسلامية معاصرة اللغة
أنور الجندي
منشورات المكتبة العصرية
صيدا - بيروت
اللغة
اللغة العربية اليوم هي لغة حياة لمائة مليون من العرب، ولغة فكر لألف مليون من المسلمين، وهي لغة قديمة عرفت قبل نزول القرآن بأكثر من ألف عام، قال الخليل بن أحمد في كتاب "العين": إن عدد أبنية كلام العرب المستعمل والمهمل (12.305.412) كلمة "وهو ما يعني ما يمكن تكوينه بتركيب أحرف الهجاء على كل شكل من الأشكال: الثنائي والثلاثي والرباعي، ويقول أبو الحسن الزبيري: إن عدد الألفاظ العربية "6.699.400" لفظ لا يستعمل منها إلا "5420" لفظًا والباقي مهمل، ويقول بعض علماء اللغة: إنها تتألف من ثمانين ألف مادة، المستعمل منها عشرة آلاف فقط، والمهجور من ألفاظها سبعون ألف مادة، لم تستعمل إلى اليوم، ولا ريب أن هذه ###34### الإشارات الموجزة تكشف عن وضع اللغة العربية بين اللغات، وعن مكانتها دون حاجة إلى أي عبارة من عبارات الإشادة أو المبالغة في تصوير مكانة هذه اللغة بين اللغات في أبعادها التاريخية وأبعاد حصيلتها اللفظية، فضلا عن ما مرت به من النمو والحيوية في نفس الوقت مما أهلها لأن تكون لغة خاتم كتب المساء، وأن تحفظ هذا الكتاب، وأن يحفظها هذا الكتاب إبان أزمتها التي مرت في القرون الماضية وقد صور هذا المعنى كثيرون من كتاب الغرب، وفي مقدمتهم أرنست رينان الذي يقول: "إن من أغرب ما وقع في تاريخ البشر، وصعب حل سره: انتشار اللغة العربية، فقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادئ ذي بدء، فبدأت في غاية الكمال سلسلة أي سلاسة، غنية أي غنى، كاملة بحيث لم يدخل عليها إلى يومها هذا أي تعديل مهم، فليس لها طفولة ولا شيخوخة، ظهرت لأول أمرها تامة محكمة، ولم يمض على فتح الأندلس أكثر من خمسين سنة حتى اضطر رجال الكنيسة أن يترجموا صلواتهم بالعربية ليفهمها النصارى، ومن أغرب المدهشات أن نبتت تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة(49/1)
معانيها وحسن نظام مبانيها، نبتت في وسط الصحاري عند أمة من الرحل، ###35### وكانت هذه اللغة مجهولة عند الأمم، ومن يوم علمت ظهرت لنا في أطوار حياتها، لا طفولة ولا شيخوخة، ولا تكاد تعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تبارى، ولا نعلم شيئًا عن هذه اللغة التي ظهرت للباحثين كاملة من غير تدريج، وبقيت حافظة لكيانها خالصة من كل شائبة، ونستطيع أن نضيف إلى ما قاله رينان: أنها منذ نزل بها القرآن، وانتشرت به أزاحت السريانية والكلدانية والنبطية والآرامية واليونانية والقبطية قبل أن ينقضي قرن واحد، فلما بلغت القرن الثالث الهجري تحولت إليها كل أعمال الدين والدواوين، ثم كتبت بها اللغات التركية والفارسية والأوردية والأفغانية والكردية والمغولية والسودانية والأيجية والساحلية كما كتبت بها لغة أهل الملايو، وقد حدث هذا منذ ألف عام، ثم دخلت اللغات الأوروبية كالفرنسية والألمانية والإنجليزية، وفي اللغة الإنجليزية وحدها أكثر من ألف كلمة عربية.
وما تزال قواميس اللغات الأوروبية تعج بالكلمات العربية، سواء منها ما يتعلق بالحاجات اليومية أو الأطعمة أو الألبسة أو الملاحة.
وهي من الناحية العلمية تفوق أضخم ثروة ###36### وأصواتًا ومقاطع، إذ أن بها 28 حرفًا مكررة، بينما اللغة الإنجليزية 26 حرفًا، ومنها مكرر، وباللغة العربية ثراء في الأسماء بها 400 اسم للأسد، و300 اسم للسيف، و255 للناقة، و170 للماء، و70 للمطر. ولقد كتب القصاص المشهور جول فيرن في إحدى قصصه الخيالية عن قوم شقوا في أعماق الأرض طريقًا إلى جوفها، فلما خرجوا سجلوا أسماءهم باللغة العربية، فلما سئل عن سر ذلك قال: لأنها لغة المستقبل.(49/2)
2- أجرى المطران يوسف داود مطران السريان في الموصل في كتابة التمرنة في الأصول النحوية مقارنة واسعة للغة العربية مع السريانية والعبرانية، وفيها يقول: إن العربية أعرق في الأصالة من جميع اللغات التي يتكلم بها الساميون، وإنها أكملهن وأجمعهن لما فيهن من محاسن، ولذلك تمكنت من اكتساح السريانية والعبرانية. وإبادتهما منذ أجيال، واستولت على جميع بلادها، ورد ذلك التفوق إلى عدة عوامل أهمها: "غناها" واتساع ألفاظها أصلا وفرعًا واشتقاقًا "حتى إننا بغير خوف الخطأ يسوغ لنا أن نقرر أن اللغة العربية أوسع لغات الدنيا المعروفة". أما الخاصية الثانية فهي: أنها أقرب سائر لغات الدنيا إلى قواعد المنطق ###37### بحيث أن عبارتها سلسة طبيعية يهون على الناطق الصافي الفكر أن يعبر بها عما يريده من دون تصنع أو تكلف بإتباع ما يدله عليه القانون الطبيعي.
ويقول أحمد فارس الشدياق: إن لغات الإفرنج لم تزل في ضم الكلام بعضه إلى بعض في حالة الطفولية، أعني: أنهم يوردون جملة بعد جملة اقتضابًا من دون حرف عاطف، وكثيرًا ما يوردون الجمل من دون مناسبة أو ارتباط. والخاصية الثالثة: أن العربية تكتب كما تقرأ، بحيث إن الذي تعلم حروفها وحركاتها يهون عليه بدون مشقة أن يقرأ حيثما شاء، وهذه الخلة قلما تجدها في لغة أخرى، فإن أكثر اللغات من أراد أن يتعلمها فيعد ما يتعلم أوائل كتابتها، يلتزم بأن يتعلم أيضًا قراءتها كلمة كلمة.(49/3)
ومن الشوائب المستهجنة غاية ما يكون في لغات الإفرنج على العموم اختلافهم في كثير من الحروف الهجائية التي هي عامة لكلهم، فإن الأمم الإفرنجية مع أنها اصطلحت على قواعد ورسوم مطّردة عامة شاملة فيما يختص بالأكل والشرب واللباس وسائر ما يتعلق بالمعيشة الإنسانية مما لا بأس في اختلافه، لم يمكنهم حتى الآن أن يدبروا هذا الأمر العظيم المهم، وهو أن يتفقوا على طريقة واحدة لتصوير ###38### مقاطع الحروف بعلامات عامة لكلهم، فإن اللفظة الواحدة مثل: «Chuce» يلفظها الإيطاليون "كوجا" بالإمالة، والجرمانيون "ختسا" بالإمالة، والفرنسيون "شوس"، والإنجليزية "تشوش" وغيرهم غير ذلك.
ومن ذلك أن اللاتينية، وهي اللغة العلمية لجميع الأمم الإفرنجية، لا يلفظون لفظًا واحدًا، بل كل أمة منهم تلفظها لفظًا مختصًا بها حتى أنه ربما لا يفهم أحدهم عن الآخر. الخاصية الرابعة: أن العربية غنية بنفسها، فهي لا تحتاج إلى لغة أعجمية، ولو أراد أهلها لنفوا جميع الألفاظ الأعجمية التي دخلت فيها بنوع من الخلسة، واستغنوا عنها بغيرها من بحر لغتهم الزاخر.(49/4)
ومما يستحق الذكر أن العرب لم يتركوا شيئًا، لم يستنبطوا له اسمًا في لغتهم كالمعدة والهواء والجوهر والشخص والأفق وخسوف القمر وكسوف الشمس والصدى والعرش والسفر والشاعر والقصيدة إلى غير ذلك، فإن هذه الأشياء مع كون أكثرها طبيعيًا ومحسوسًا، وما فيها من أخص ما يتعلق بعيش الناس العمرانية، لا تجدها لها أسماء في كثير من اللغات المعروفة، فاضطر أصحابها إلى أن يسموها بأسماء أعجمية، فإن اللاتين والسريان والجرمانيين وسائر الأمم ###39### الإفرنجية يسمون تلك الأشياء بأسماء يونانية إلا واحدًا أو اثنين منها اتخذوه من اللاتينية، هذا عدا الألفاظ الاصطلاحية المختصة بالعلوم والصناعات، فإن هذه كلها إلا قليلا قد أخذها جميع الأمم من اليونان ما عدا العرب، ومما يتبين من باشروا فنون أدب لغتهم في القرن الأول من تملكهم على بلاد المشرق، نالوا في قليل من الزمان الغاية من ذلك، ومنذ أول مباشرتهم، وضعوا أصول علم النحو، ورسموا اصطلاحاته، وتوغلوا فيه، وتفننوا في دقائقه حتى إنهم في قليل من السنين، أوصلوه إلى غاية الكمال وفي كل ذلك لم يحتاجوا إلى كتب أجنبية، ولا إلى ألفاظ أعجمية، وفي هذه الخلة، قد فاقوا سائر أمم العالم، ويقول الدكتور عبد الكريم جرمانوس: إن أهم المميزات التي تلفت النظر في اللغة العربية هو "ازدواجها" ويقول وليم مرسيه: إن العبارة العربية كالمزهر إذا نفرت أحد أوتاره رنت لديك كل الأوتار، فالعبارة عن المتانة ما لا يبقى معه شيء يحجب مصدرها عن الناطق بها أو المستمع لها، وبذلك كان اللفظ في اللغة العربية يذكرك بالأرومة التي اشتق منها، ولعل هذا الشعور العميق بالمصدر يفوق شعورك باللفظ عينه. ويقول يوهان فك: ###40### "لقد برهن جبروت التراث العربي الخالد التالد على أنه أقوى من كل محاولة يقصد بها إلى زحزحة العربية الفصحى عن مقامها المسيطر، وإذا صدقت البوادر، ولم تخطئ الدلائل، فستحتفظ العربية بهذا المقام العتيد(49/5)
من حيث لغة المدنية الإسلامية ما بقيت هناك مدنية إسلامية"، ويقول ميليه: إن اللغة العربية لم تتراجع في أرض دخلتها لتأثيرها الناشئ من كونها لغة دين ولغة مدنية. ويشير جوستاف جورنياوم إلى سعة اللغة العربية وقوة بيانها يقول: أما السعة فالأمر فيها واضح، ومن يتتبع جميع اللغات لا يجد فيها لغة تضاهي اللغة العربية، ويضاف جمال الصوت إلى ثروتها المدهشة في المترادفات، وتزين الدقة، ووجازة التعبير. وتمتاز العربية بما ليس له ضريب من اليسر في استعمال المجاز، وأن ما بها من كنايات ومجازات واستعارات ليرفعها كثيرًا فوق كل لغة بشرية أخرى، ولها خصائص جمة في الأسلوب والنحو ليس من المستطاع أن يكتشف لها نظائر في أي لغة أخرى، وهي مع هذه السعة والكثرة أخصر اللغات في إيصال المعاني، وفي النقل إليها، يبين ذلك أن الصورة العربية لأي مثل أجنبي أقصر في جميع الحالات، وأن الفارابي على حق حين يبرر مدحه العربية بأنها كلام أهل الجنة. ويشير جورج سارطون ###41### إلى قدرة العربية على الاشتقاق فيقول: إن خزائن المفردات في اللغة العربية غنية جدًا، ويمكن لتلك المفردات أن تزاد بلا نهاية، ذلك لأن الاشتقاق المتشابك والأنيق يسهل إيجاد صيغ جديدة من الجذور القديمة بحسب ما يحتاج إليه كل إنسان على نظام معين، لنأخذ مثلا، الجذر "س ل م" سلم معناها: نجا، سلَّم: حيا، ألقى السلام أو التحية، سالم: دخل في السلم، أسلم: انقاد وخضع، الإسلام: الخضوع لله، تسلم: أخذ شيئًا من يد غيره، السلام: التحية، السلم: خلاف الحرب، سليم: صحيح غير مريض، التسليم: الرضى والقبول، الاستلام: لمس الحجر الأسود. وهناك: مسلم، متسلم، مسالم وغيرها مما يعيا أحيانًا على الحصر.(49/6)
ويقول بروكلمان: إنه بفض القرآن بلغت العربية من الاتساع مدى لا تكاد تعرفه أي لغة من لغات الدنيا، والمسلمون جميعًا يؤمنون بأن العربية هي وحدها اللسان الذي أحل لهم أن يستعملوه في صلواتهم، وبهذا اكتسبت العربية منذ زمان طويل مكانة رفيعة، فاقت جميع لغات الدنيا الأخرى.
###42### ويقول فان ديك: إنها أكثر لغات الأرض امتيازًا، وهذا الامتياز من وجهين: الأول من حيث ثروة معجمها والثاني من حيث استيعاب آدابها.
ومن شأن هذا كله أن الفصحى عاشت على أزمان حتى أنه لو بعث امرؤ القيس اليوم لاستطاع أن يتكلم، وأن يفهم اللغة العربية، وبيننا وبينه خمسة عشر قرنًا، بينما لا يستطيع الأوروبيون أن يفهموا كلمة واحدة مما قيل قبل أربعة قرون، منذ انفصلت لهجاتهم عن اللغة اللاتينية، وأصبحت لغات مستقلة، وذلك يرجع إلى فضل القرآن، يقول ريجستير بلاشير: إننا كلما درسنا اللغة الفرنسية لاحظنا أنها قد تطورت عبر العصور بحيث نجد لها أطوارًا، فإذا قارنا حالة اللغة الفرنسية في القرون الوسطى، وجدنا أنها مغايرة كل المغايرة للغة المستعملة في القرن السابع عشر، وهذه مختلفة أيضًا عن لغتنا اليوم، فوحدة اللغة الفرنسية لا تتضح إلا بالبحث والمقارنة، في حين أن وحدة اللغة العربية تتضح للقارئ، ولو كان أجنبيًا لأول وهلة، لغة القرآن لا تزال هي لغة اليوم، وهذا ما ميز العربية عن اللغات الأخرى.
ويقول جاك بيرك: إن اللغة العربية هي أقوى القوى التي قاومت الاستعمار الفرنسي في المغرب، بل هي اللغة ###43### العربية الكلاسيكية الفصحى بالذات، فهي التي حالت دون ذوبان المغرب في فرنسا، إن الكلاسيكية العربية هي التي بلورت الأصالة الجزائرية، وقد كانت هذه الكلاسيكية العربية عاملا قويًا في بقاء الشعوب العربية.(49/7)
3- حاول الاستعمار والتغريب أن يقول بأن اللغة العربية لغة أمة، هي الأمة – العربية – وأن كل قطر من شأنه أن يكتب لغته، وأن هذا الأمر يستدعي أن يتناول هذه اللغة على النحو الذي يرضاه ويراه محققًا لهذه الغاية، وكان طرح القضية على هذا النحو يحمل طابعًا خطيرًا من التمويه والتزييف والتجاوز. وقد يمكن أن يكون صحيحًا في أي بلد من بلاد العالم، وفي مواجهة أي لغة، ولكنه يصبح عسيرًا جدًا حين يطرح بالنسبة للغة العربية، ولو أن اللغة العربية لم ترتبط بالقرآن والإسلام، لكان يمكن أن يكون هذا القول فيه مجال للنظر، أما وقد أنزل القرآن منذ أربعة عشر قرنًا باللغة العربية، فأنشأ عالم الإسلام الفكري والاجتماعي والديني، فقد أصبح للغة العربية وضع مختلف لا شبيه له في أي لغة أخرى، إذ لم يعد للعرب وحدهم حق التصرف في اللغة العربية، ولم تعد اللغة – العربية – لغة – إقليمية – تخص قطرًا، بل لم تعد الأمة – العربية – نفسها مطلقة الإرادة في ###44### التصرف فيها. هذه هي الحقيقة التي واجهت محاولة التغريب والغزو الثقافي منذ قام ولكوكس في مصر وماسنيون في الشام وكولان في المغرب، ثم تابعهم بعد ذلك سلامة موسى والخوري مارون غصن ولويس عوض وغيرهم بمهاجمة اللغة العربية.(49/8)
إن أخطر ما تمثل اللغة العربية هو أن قارئها اليوم في العقد الثامن من القرن العشرين، يستطيع أن يقرأ ويفهم ما كتب بها منذ القرن الخامس الميلادي أي ما كتب قبل نزول القرآن بأكثر من نصف قرن، أي: أن تراثًا حافلا قام في خلال هذه الفترة كلها، وأعظمه ما جاء بعد الإسلام بالطبع، هذا التراث هو ملك حر لقراء اللغة العربية، يلمون به إلمامًا صحيحًا؛ وهذا ما لم يتيسر بالقطع لأي لغة في العالم كله اليوم، ذلك أن أي لغة قائمة لا يستطيع قراؤها أن يفهموا من تراثهم إلا ما يجاوز ثلاثة القرون الأخيرة، أما ما يبعد عن ذلك، فإنهم يلتمسون لفهمه المعاجم، إن مرد ذلك هو ثبات اللغة العربية الذي لم يتح لأي لغة أخرى، ومرجع ذلك الثبات إلى نزول القرآن بها وارتباطها به على النحو الذي أنشأ هذه الثروة الضخمة من العلم والتراث والتأليف. ومن هنا أصبح للغة العربية خاصية متميزة لا ###45### تستطيع اللغات الأخرى أن تشاركها فيها، ولا تستطيع هي أن تجاوزها، تلك هي أنها لغة أمة ولغة فكر ودين، فهي لغة الأمة العربية، وهي في نفس الوقت لغة المسلمين جميعًا، لغة فكرهم ودينهم وصلاتهم، ولغة ذلك الرباط الذي يجمعهم بالتشريع والعقيدة جميعًا، وهو القرآن الكريم. ومن هنا كان الخطر الوحيد الذي يواجه أهل اللغة العربية، هو أن ينزلوا عن مستوى أسلوب القرآن، فيصبح أسلوبهم قاصرًا عن فهمه وتعمقه، لأن ذلك من شأنه أن يفصل بينهم وبينه، وذلك هو ما تحاوله القوى الهدامة المعادية للعرب والإسلام والتي تدعوهم إلى ما يسمى باللغة الوسطى أو تقريب الفصحى من العامية. أمامنا القرآن وهو المقياس الثابت وعلينا في كل حركة من حركات الفكر والكتابة والبحث أن نقترب منه ونلتقي به، وعلى العامية أن تقترب من الفصحى، وليس الفصحى أن تنزل إلى العامية ولا ريب أن التعليم كفيل إذا اتسعت آفاقه أن يقلل من الحاجة إلى العامية، وأن يزيد الالتحام بالفصحى، والذوق العربي الإسلامي كله(49/9)
متصل بالفصاحة، وفهم الفكر الإسلامي متصل بهذا المستوى من الأسلوب والبيان.
ولقد وهب القرآن اللغة العربية حصيلة ضخمة من ###46### المعطيات الفكرية والاجتماعية من خلال رسالته العالمية التي اتخذت من ألفاظ اللغة العربية ومادتها تشكيلا جديدًا طرح على البشرية منهجًا شاملا من الحياة والفكر والنظر في الكون وبناء المجتمع والأخلاق، وكان هذا هو مصدر دهشة الناس عند نزول القرآن، فقد كانت هذه الألفاظ معروفة لهم بأعيانها، ولكن الإعجاز كان متمثلا في هذا التشكيل الذي تشكلت به فكرًا وأداء في هذه القيم الجديدة التي قدمها، وهذه الصور المتعددة، وهذه الروعة في أسلوب الإقناع والحوار، وهذه المناهج المتعددة في مخاطبة القلب والعقل، ومعنى هذا أن ثروة اللغة العربية، إنما ترجع إلى تشكيلها القرآني الذي أعطاها هذه القوة، وفي نفس الوقت أعطاها الإسلام هذا الاتساع والذيوع، ومن هنا فقد أصبحت صلة اللغة العربية بالقرآن والإسلام صلة عضوية تمثل التجربة الأولى والأخيرة من نوعها في صلة رسالة السماء بلغة من اللغات، ولا ريب أن هذا المفهوم له أثره البعيد في امتلاك المسلمين جميعًا لهذه اللغة، وما يتصل بها من خطأ القول بأن لقطر ما أو لشعب ما القدرة على التصرف في اللغة العربية؛ ومن الحق أن يقال: إن اللغة العربية هي لغة فكر عالمي يضم سبعمائة مليون من المسلمين جغرافيًا ويمتد أربعة عشر ###47### قرنًا في التاريخ والتراث.
4- من أبرز المخاطر تلك المقارنة التي يحاول البعض عقدها بين اللغة العربية واللاتينية:(49/10)
فقد حرص عدد كبير من المستشرقين أن يصحوا "المسلمين والعرب" بالتخلص من اللغة العربية كما تخلصت الشعوب الغربية من اللغة اللاتينية وتغليب لهجاتهم في كل قطر حتى تصبح كل لهجة منها لغة إقليمية كما فعل الأوروبيون باللاتينية حين أوردوها المتحف، وأقاموا من لهجاتهم لغات هي الفرنسية والإنجليزية والألمانية الحالية؛ ولطالما ألح بعض دعاة التغريب على هذا المعنى، فردده وانخدع به بعض الكتَّاب العرب مع أنه ليس هناك من شبه للمقارنة، بل هناك فوارق عميقة منها:
أولا: إن اللاتينية ماتت كلغة للشعب بموت الدولة الرومانية، وبقيت لغة للكنيسة والعلماء، أما الشعب فكانت اللغة على لسانه تتكيف بتكيفات مختلفة حسب الأمكنة والأزمنة والعناصر، ولم تكن اللاتينية لغته الأصلية، وإنما كانت أخرى كالسلبية السكسونية، والجرمانية الهندية التي امتزجت بلغة اليونان، فلم تثبت تلك اللهجات إلا بتمادي الزمان وتنوع الكتبة وفتح المدارس وتأليف الكتب، وساعد ###48### الشعوب في ذلك انفرادهم في أصقاع متنائية دولا مستقلة، أين هذا كله من أمر اللغة العربية؟!.
ثانيًا: إن العربية لغة أمة واحدة تحمل ثقافة وفكرًا ما زال حيًا متفاعلا لم يتوقف أو يجمد ساعة من زمان. وإن هذه الأمة تمتد من المغرب الأقصى إلى جزر أندونيسيا وهي في هذا الزمن الطويل قد ارتبطت بالتاريخ والتراث والقيم أوثق ارتباط، وأثمرت هذا الفكر الإسلامي الذي تضمه ألوف الكتب والمجلدات والمخطوطات المتناثرة في مختلف مكتبات العالم.(49/11)
ثالثًا: هناك فارق أصيل يعزل كلا من اللغتين عن الأخرى عزلا لا توجد معه حيلة للاجتهاد أو المقارنة، فاللغة العربية لغة تقوم على الاشتقاق، ويتوقف فيها المعنى على حركات التعريف وحركات الإعراب وبين لغة هي: "اللاتينية" تقوم على النحت ولصق المقاطع بعضها إلى بعض بغير دلالة لاختلاف الأشكال والحركات، وقد تفردت العربية – حتى بين اللغات السامية – باطراد الأوزان وقواعد التصريف وقواعد الإعراب، فلا مشابهة بينها وبين اللغات الأخرى في هذه الخاصية.
رابعًا: لم تتعرض العربية بعد أن استقرت في العالم ###49### العربي الحالي إلى هجمات وغزوات لغات جديدة كما تعرضت لها اللغة الرومانية من جراء استيلاء القبائل الجرمانية على مختلف أنحاء أوروبا، كما أن البلاد العربية لم تصب بتفتيت سياسي وإداري واقتصادي مثل ما عرفت البلاد الرومانية في عصور الإقطاع الطويلة، كما أن البلاد العربية لم تنعزل عن بعضها البعض انعزالا يشبه الانعزال الذي حصل في البلاد الرومانية، بل ظل الاتصال بين مختلف أقطارها قائمًا بفضل قوافل التجارة وقوافل الحج التي ظلت تنقل جماعات كبيرة من المسلمين كل سنة من مختلف الأنحاء إلى الحجاز.
خامسًا: إن الإسلام قد التزم العربية الفصحى التزامًا تامًا، وظل يساندها ويؤازرها دون انقطاع، ولم تتخل عنها لهجة من اللهجات في وقت من الأوقات. ذلك لأنها لم تعهد بمهمة القرآن إلى أئمة المساجد وخطباء الجوامع وحدهم، كما فعلت الديانة المسيحية في العالم الروماني بالإنجيل، بل فرضت ذلك على كل مسلم ومسلمة، فصار لزامًا على كل فرد أن يتلو طائفة من الآيات القرآنية كل يوم خلال الصلوات الخمس، وقد استتبع ذلك إنشاء مدارس وكتاتيب لتعليم القرآن – قراءة وحفظًا – وكل ذلك حال دون انقطاع صلة العرب بالعربية الفصحى التي ظل يذكرهم بها ويوصلهم ###50### إليها على الدوام – القرآن – عن طريق استماع المستمع والتلاوة المتتالية.(49/12)
سادسًا: إن الفوارق بين لغة الكلام ولغة الكتابة، وبين العامية والفصحى، لم تتعد قط حدود فوارق اللهجات التي لا تحول دون تفاهم أصحابها بشيء يسير من الجهد والانتباه.
5- حوربت اللغة العربية منذ وصل الاحتلال الغربي إلى بلاد الإسلام، وحوربت في البلاد الإسلامية بإيقافها وتنمية اللهجات القديمة واللغات الغربية، فكل مستعمر قد عمد إلى فرض تعليم لغته، أما في البلاد العربية، فقد حوربت اللغة العربية بحصرها في الجوامع والاستعاضة عنها باللغة العامية الدارجة، وكذلك الدعوة إلى إلغاء الحرف العربي والاستعاضة عنه بالحروف اللاتينية، وجرت حملة واسعة بالادعاء لعجز اللغة العربية وإدخال الكلمات العامية إليها، وقد تصدى لهذه الحملات عدد كبير من المفكرين المسلمين والعرب في مقدمتهم علي يوسف ومصطفى صادق الرافعي وأحمد زكي الملقب بشيخ العروبة وعبد العزيز ###51### جاويش ومحب الدين الخطيب والدكتور محمد محمد حسين، وكشفوا زيف هذه المحاولات كلها، وأبانوا عن مقدرة اللغة العربية ومرونتها، وعارضوا كل هذه الشبهات، ومما أورده هؤلاء الباحثون في دحض هذه المؤامرة ما يأتي:
أولا: العامية التي يرى أصحاب هذا الاتجاه استخدامها في الشؤون التي تستخدم فيها العربية الفصحى لغة فقيرة كل الفقر في مفرداتها، فلا يشمل متنها على أكثر من الكلمات الضرورية للحديث العادي، وهي إلى ذلك مضطربة كل الاضطرابات في قواعدها وأساليبها ومعاني ألفاظها. ولا ريب أن "أداة" هذا شأنها لا تقوى مطلقًا على التعبير عن المعاني الدقيقة، ولا عن حقائق الآداب والعلوم والإنتاج الفكري المنظم والعامية في لغة ما غير ثابتة على حال واحدة، بل هي عرضة للتطور في أصواتها ودلالتها ومفرداتها وقواعدها، وهي تختلف باختلاف الشعوب، وتختلف في الشعب الواحد باختلاف مقاطعاته.(49/13)
ثانيًا: تبين أن الحروف اللاتينية لا تصلح لكتابة اللغة العربية، فالحروف العربية ضرورة لازمة لا يمكن العدول عنها، ذلك أن الخط العربي حفظ حتى الآن وحدة اللغة العربية، وإن كان النطق يختلف من قطر إلى قطر، أما ###52### الحروف اللاتينية، فهي مبنية على أساس أن صوت الحروف واحد غير متبدل، أما في العربية فهناك أصوات لكل حرف لا سيما فيما يختص بالحركات ومع تغيير الأصوات واللهجات في العربية على حسب الأشخاص أو على حسب الأفكار.
فإننا نعتبر الخط العربي كفيلا بنقل الألفاظ على وتيرة يفهمها الجميع مع وجود التغيير في الأصوات.
ثم إنه ليس هناك معادلة بين الحروف العربية واللاتينية، فالحروف مثلا في الألمانية والروسية قريبة الشبه باللاتينية، أما في العربية فوجه الشبه بعيد جدًا، وإذا تغير الخط العربي بالخط اللاتيني أصبحت النتيجة خطيرة للغاية، فكيف يكون مصير الكنوز العظيمة التي خلفتها الآداب الإسلامية في الدين والفقه والعلوم والآداب والفنون وغيرها، وكلها مدونة معروفة بالخط العربي.(49/14)
ثالثًا: فيما يتعلق بإصلاح اللغة، فقد أشار الباحثون إلى أنها دعوى باطلة، ذلك أن تغيير قواعد اللغة العربية صرفًا ونحوًا، إنما يكون بالوضع والإزالة، وهذا معناه إحداث لغة جديدة بقواعد جديدة، وهذه اللغة العربية الجديدة إن صح اتصالها بالعربية الحالية المعروفة اتصال اللهجة بالأم، فإنها تبعد عنها شيئًا فشيئًا حتى تختفي معالم ###53### الصلات بينهما أو تكاد، وعندئذ تكون اللغة العربية الحالية من اللغات الميتة. وإذا صح أن ننقل التراث العلمي الأدبي القديم إلى اللغة العربية بعد تغيير قواعدها، فماذا نصنع في شأن "التنزيل": الكتاب العربي المبين، وحديث الرسول بأسلوبهما ووضعهما، ولا ريب أن إصلاح قواعد اللغة (نحوًا وصرفًا) معناه خلق لغة جديدة غير لغة القرآن والحديث، وغير لغة الشعر المروى والنثر المهذب، وغير لغة العقلية العربية والإسلامية، ذلك أن قواعد اللغة العربية وضعت طبقًا لنصوص القرآن والحديث والمسموع عن العرب، التغيير في هذه القواعد هجر للقرآن والحديث والمسموع، وهكذا فإن إصلاح اللغة العربية يعني إخراجها عن لغة القرآن والحديث والأدب العربي والعقلية الإسلامية.(49/15)
6- كثر خلط دعاة التغريب في الحديث عن الفصحى والعامية، ومحاولة الادعاء بأن هناك لغتين، والحق أن هناك لغة واحدة هي اللغة العربية "ولهجة" هي العامية، وأن الفصحى هي اللغة المشتركة بين العرب جميعًا، وأنها هي القوة القادرة على المحافظة على بقاء المستوى البياني بين القرآن واللغة العربية، وأن أخطر الأخطار أن يمس هذا المستوى أو تجري محاولة للانتقاص منه، والمعروف أن اللهجة – العامية - ###54### مسألة مرحلية، وأن الفصحى هي الامتداد الطبيعي للفكر الإسلامي وثقافته، وأن الروائع لا تكتب إلا بالفصحى، وأن العامية إقليمية دائمًا بل أكثر من إقليمية بحيث يكون لكل بلد لهجته، وقد يركز المنهج الغربي الوافد على اللهجات العامية، ويدرسها بعناية، ولمن المحاولة مضللة وغير علمية، يراد القول بأن هناك لغة عامية غير اللغة العربية، وأنها سابقة لها، وأن لها تراثًا من الأمثال والحكم، ولقد عجزت كل هذه المحاولات أن تجعل من اللهجات العامية في البلاد العربية شيئًا، بل إن هذه الآثار التي جمعوها قد كشفت عن عجز العامية عن معالجة الموضوعات الرفيعة، وقد أكد الباحثون بأنه من المحال أن تصل هذه اللهجات العامية مهما ركز الاستشراق عليها وأولاها اهتمامه، من المحال أن تصبح لغات مستقلة مكتملة التكوين صالحة للاستخدام في مختلف شؤون التعبير والكتابة، كما حدث في اللهجات المتفرعة من اللاتينية. ذلك لأن لهجات اللاتينية قد سارت في طريق النمو والرقي بفضل ما كانت تمتصه من أمها اللاتينية من حين لآخر، فضلا عن الجهود التي بذلت لتوسيع نطاقها، وتكملة بعضها وتهذيبها من نواحي المفردات والقواعد والأساليب وتدوين آثارها واستخدامها في الترجمة والتأليف، على حين أن ###55### اللهجات العامية العربية، قد جمدت على أوضاعها الساذجة، ومن هنا فإنه لا سبيل أن تصبح العاميات العربية صالحة لأن تكون أكثر من أداة للتخاطب في الشؤون العادية دون أن تصلح للكتابة أو(49/16)
لأداء أغراض البيان الأصيل فضلا عن قصورها الذاتي.
7- هناك دعوة مسمومة تحت اسم "تطوير اللغة" وهناك من يفسر هذا فيقول: إنه تطوير الفصحى حتى تقترب من العامية لا العكس الذي هو من الأمور الطبيعية، وإنما يعني أصحاب هذه الدعوة المريبة التحلل من القوانين والأصول التي صانت اللغة خلال خمسة عشر قرنًا أو تزيد، فإذا تحللنا من القوانين والأصول التي صانت لغتنا خلال هذه القرون المتطاولة، كان نتيجة ذلك هو تبلبل الألسنة وتوسيع رقعة الاختلاف بين الأقطار العربية حتى تصبح عربية الغد شيئًا يختلف كل الاختلاف عن عربية القرآن الأول أو عربية اليوم، وتصبح قراءة القرآن والتراث العربي والإسلامي كله متعذرة على غير المتخصصين من دارسي الآثار ومفسري الطلاسم.
كذلك فلا بد من الإشارة إلى محاولات النفوذ الأجنبي لمقاومة نمو اللغة العربية والتمكين للغات الأجنبية الفرنسية ###56### والإنجليزية على الخصوص فقد قطع الاستعمار الغربي الطريق على توسع العربية بين مسلمي العالم حيث كان من الطبيعي أن يمتد بامتداد الإسلام إلى مختلف المناطق بحسبانها لغة الثقافة والدين.(49/17)
8- إن أهم ما يركز عليه رجال اليقظة الإسلامية في مجال فهم اللغة العربية، هو أن اللغة هي الوجه الثاني للفكر، وأن كلمات اللغة التي تنطق بها الأمة هي أفكارها وأخلاقها وعقائدها، فكلمات اللغة، علامات وإيماءات، وللغة صلة عميقة بالعقيدة والفكر، فلكل أمة معجمها الخاص المملوء بالكلمات التي تصنعها عقيدتها وقيمتها لتكون أداة اتصال "روحي وأداة تفاهم وتبليغ فيما بينها، ومن حيث إننا عرب ومسلمون، فيجب أن نستوحي مفهوم الكلمات، ولا نستعمل كلمات من غير معجمنا، وعلينا أن نتعلم تعبيرات القرآن، وألا نجعل للكلمة العربية الإسلامية مدلولا خارجًا عن أصولها، وعلينا أن نفكر بلغتنا، ولا ريب أن كلمات الغرب ومصطلحاته لا يمكن فصلها عن ملابساتها الفكرية التي ترمي إليها، ولا يمكن نقلها كما تنقل ألفاظ الاختراعات والعلوم، يقول صادق عنبر: إن لكل أمة شاهدًا من لغتها على ما خطرت عليه من دين ودون لها من ###57### تاريخ، وعرف عنها من نسب ومدنية وفنون، ففقدان أمة لهذه الثروة المعنوية هو اعتراف منها بسفاهتها"؛ والمعروف أن اللغة العربية تعبر عن الفعل والفاعل والزمان في لفظ واحد: "فعل" ليس كذلك الإنجليزية والفرنسية.
ويقول الكاتب الغربي فون همبلت: إن لسان أمة جزء من عقليتها، ويقول ماكس مولار: إن الفكر واللغة شيء واحد، وهو يشبهها بقطعة النقد، ويقول: إن ما نسميه الفكر ليس إلا وجهًا من وجهي النقد، والآخر هو الصوت المسموع. ومن المحاولات التي تستهدف إخراج اللغة العربية عن مدلولها الأساسي فرض كلمات غربية تختلف، فكلمة الدين الغربية Religion لا تعني معنى كلمة الدين بمفهوم الإسلام، وكذلك كلمة الزكاة Charité فهي ليست بمعنى الزكاة الإسلامية.(49/18)
كذلك فإن من المحاذير القول بأن اللغة العربية أساس من أسس العروبة، وفي مفهوم الإسلام: العربي ليس من يتكلم عربيًا، بل من يفكر عربيًا؛ وفي مجال الفكر الإسلامي: إن اختفاء اللغة لا يحول دون بقاء الأمة لأن مصدر بقاء الأمة هو العقيدة، ولقد اختفت اللغة العربية من الجزائر، ولكن صمود العقيدة حال بينهما وبين الفناء، فاللغة ###58### العربية هي أساس الفكر الإسلامي الذي كتبه ترك وفرس وبربر وعرب فاللغة بمثابة الوعاء الذي تتشكل فيه وتحفظ وينتقل بواسطة أفكار الأمة.(49/19)
ويقول ابن تَيْمِيَّة: "إن اللغة العربية للإسلام ليست لغة فحسب، ولكنها عقل وخلق ودين، ذلك أن الفكر هو الذي يحفظ وحدة النظر إلى الحياة ووحدة التحرك في مواجهة الخطر، ومن هنا نجد أنه لا يمكن بحال من الأحوال لمسلم أو لغير مسلم أن يعرف حكم الشريعة الإسلامية من مصادره الأصلية إلا إذا كان عالمًا بلغة العرب، وبأساليبها، ومقايساتها، وكل ما يتعلق بها". من أجل هذا فهم المسلمون الأوائل أهمية اللغة العربية على وجهها، وقاموا بنشرها بكل ما أوتوا من قوة، وفي كل مكان حل الدين حلت مع اللغة لأنها مفتاح الدين، ومن هنا كانت محاولة الاستعمار في حجب اللغة العربية عن البلاد التي اتسع فيها الإسلام حتى تظل عقيدتهم ناقصة لأن كمالها في فهم خصائص اللغة التي هي مصدر الشريعة وزبدتها". وفي هذا يقول الشيخ محمد عبده: "إن إصلاح لساننا هي الوسيلة المفردة لإصلاح عقائدنا، وجهل المسلمين بلسانهم هو الذي صدهم عن فهم ما جاء في كتاب دينهم وأقوال أسلافهم. ففي اللغة العربية ###59### الفصحى من ذخائر العلم وكنوز الأدب ما لم يمكن الوصول إليه إلا بتحصيل ملكة اللسان، ولا تحصل هذه الملكة قولا وكتابة حتى يتكلم بها غالب أهلها، ويكتبوا بها الطريقة الصحيحة لأن في انحطاط لغتنا انحطاطًا لنا ولديننا وعقائدنا وأخلاقنا، وانحطاط ذلك مفسد لجميع أمورنا". وقال العلامة محمد أبو زهرة: إن الإسلام لا يمكن فهمه إلا باللغة الفصحى، والقرآن كذلك، ومن هنا كانت محاولة ضرب اللغة العربية الفصحى حتى لا يفهم القرآن، ولكي يندثر كما اندثر الإنجيل العبري، وفي هذا يقول أحد الباحثين الغربيين: إن من حق العرب علينا أن نرفع الصوت عاليًا طالبين إليهم الصمود والمقاومة، فليصمدوا وليقاوموا هذه الدعاية المذلة التي تسول لهم التنازل عن شرفهم وتراث آبائهم.
…………………الأستاذ/ أنور الجندي(49/20)
سلسلة دراسات إسلامية معاصرة العلم في الإسلام
أنور الجندي
منشورات المكتبة العصرية
صيدا - بيروت
العلم في الإسلام
دعا الإسلام إلى العلم: فبدأت آيات القرآن بالدعوة إلى القراءة، قم أقسم بالقلم، وجعلت القراءة باسم الله خالصة، ونسبت التعليم إلى الله الذي علم بالقلم.
وورد لفظ العلم، ومشتقاته في القرآن في 870 آية، والعلم الذي دعا الإسلام إلى تحصيله، هو العلم على إطلاقه، وليس علم الدين فحسب، وكانت دعوة الإسلام إلى العلم مرتبطة بالنظر إلى آفاق السماء والأرض، والتأمل والتدبر والتفكر، وإلى النظر إلى مبادئ الخلق، وفي أحوال الأمم التي اندثرت وما تزال بقايا حضاراتها ومدنياتها، فنظرة الإسلام إلى العلم نظرة جامعة قد حاطها منهج كامل للمعرفة والفهم له مقوماته وضوابطه، فقد دعا إلى البرهان والحجة والتجربة، وحث على الاجتهاد، وجهل له أجرين، وحرم ###64### التقليد، ولم تكن هذه الدعوة بغير هدف، ولكنها كانت ترمي إلى أن يمتلك الإنسان إرادته ومسؤوليته، فيحقق أمانة وجوده ورسالة استخلافه، فقد دعا الإسلام إلى السيطرة على الحياة وإلى تملك مواردها ومقدراتها وإلى إنمائها وتسخير مواردها وتسليكها، ودعا إلى الكشف والابتكار، وجعل للمبتكرين الثواب، وأمر بتعمير الأرض والتنافس في الصنائع والفنون النافعة، وأعلن أن العلم يزكو بالإنفاق، وقد أخذ الله الميثاق على الذي يعلمون أن يبينوه للناس، ولا يكتموه، ودعا الإسلام المسلمين إلى استعمال حواسهم الظاهرة في النظر والتأمل كما حرضهم على طلب العلم والمعرفة والنظر في الكون والتأمل في الكائنات والتنقيب على أسرار الوجود، وحث حثًا متواصلا على العناية بتنمية العقل الإنساني وترقية الشخصية الإنسانية بالضرب في الأرض وتعرف أحوال الأمم وطبائعها ودراسة ما هي عليه من نظم وعادات، وهكذا فتح الإسلام الباب أمام البشرية للتقدم إلى مجالات البحث العلمي والمدنية، وكان ظهور الإسلام هو منطلق(50/1)
التحول الصناعي في العالم كله، ولقد كان من آثار ذلك أن أقام الإسلام للعلم منهجه ومنطلقه من حرية البحث وصراحة الفكر، وسلامة النظرة بعد أن حرر العقل البشري من ###65### الوثنيات والمادة، وعلم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين، واستطاع المسلمون أن يحققوا خطوات واسعة في هذا المجال في نفس الوقت الذي ظل مجرى عقولهم سليمًا قائمًا على الإيمان بالله مصدر العلم ومعلم الإنسان أسرار الكون وقوانينه، ومن أجل هذا المنطلق فرق الإسلام بين العلم النافع والعلم الذي لا حاجة إليه، ودعا المسلمين إلى أن يأخذوا من كل علم بما هو أحسنه.
ثانيًا: ومن منطلق هذا الاتجاه القرآني الذي قدمه الإسلام للمسلمين انطلق الصحابة الأولون إلى فكرة القياس، وهي أخطر فكرة في تاريخ الإنسانية جميعًا، وليس هذا هو القياس الأرسطي، بل هو المنهج التجريبي في أعظم صورة، وفكرة القياس لم توضع في عصر النبي وصحابته، وتحت تأثير القرآن نفسه كقياس الأشباه بالنظائر، والأمثال فحسب، بل وضع أيضًا في العصر القرآني قواعد القياس وشرائط العلوم. قال الزركشي في البحر المحيط: إن الصحابة تكلموا في زمن النبي في العلل، ويقول ابن خلدون: إن كثيرًا من الواقعات لم تندرج في النصوص الثابتة، فقاسها الصحابة بما ثبت، وألحقوها بما نص عليه بشروط من ذلك الإلحاق، تصحح تلك المساواة بين الشبيهين أو المثلين حتى ###66### يغلب على الظن أن حكم الله فيهما واحد، وصار ذلك دليلا شرعيًا بإجماعهم عليه وهو: "القياس".(50/2)
وقد تميز العلم الإسلامي بأنه (حسي – واقعي – تجريبي) خالِ من عنصر الخيال والقصة والتفسير اللاشعوري أو الشعر لأنه مقيد بالملاحظة والتجربة، كما قد تميز بأنه ناقد، فقد كان الفكر الإسلامي ثمرة عملية نقد كبيرة وعملية تصفية للفكر السابق وتجديد وبناء استغرق قرونًا زاهرة في حياة العقل في الإسلام، فقد اعتمد العلماء المسلمون على العقل والحس مطالبين أنفسهم وغيرهم بالدليل والبرهان واستطاعوا بعد الإطلاع على معارف الأمم أن يصححوها ويسيروا بالمعرفة خطوات هائلة، وكان تحديدهم للعلوم الطبيعية والكونية من طرق شتى:
البدء بدراسة المحسوس لا المجردات الذهنية.
وسيلة البحث: الحياة والعقل.
إدراك فكرة بمعرفة الحقيقة ووجوه الكم والمقدار في نظام الطبيعة.
الاهتمام في الحكم والإبداع في صنع العالم.
تحديد فهم المعرفة العلمية بالاعتماد على الملاحظة والتجربة.
وكان قد غلب على اليونان "الاستنباط النظري" فصحح المسلمون معارف القدماء، وابتكروا علومًا خاصة بهم، فجاء موسعي علم ###67### الكيمياء بمعناه الحديث "جابر بن حيان" ووضع "الحسن بن الهيثم" علم الضوء بمعناه الحديث، و "التباني" جدد علم الفلك. وقد أقام "جابر" علم الكيمياء على "التجربة" التي جعلها وسيلة كشف وتمحيص يسبقها ما لا بد منه قبلها، من تصور وتخطيط فكري يقود التجربة.(50/3)
ثالثًا: لم يقبل المسلمون المنطق الأرسطي، ونقدوه من جميع عناصره، وكونوا لهم منطقًا آخر، هو المنطق الاستقرائي، وأهم خصائص المنهج التجريبي الإسلامي: أنه منهج إدراكي أو تأملي، فقد أدرك مفكرو الإسلام تمام الإدراك أنه لا بد من وضع منهج في البحث يخالف المنهج اليوناني، حيث إن هذا المنهج الأخير، إنما هو تعبير عن حضارة مخالفة، وتصور حضاري مختلف، وقد وصل المسلمون إلى فكرة "الخواص" اللازمة لكل ذات، وهي الفكرة التي صبغت المنهج الاستقرائي الحديث بصبغتها الخاصة (وأخذ بها جون استيورت مل وغيره) وأعلن المسلمون أن الإنسان يتوصل إلى القضية الجزئية قبل التوصل إلى القضية الكلية، واختلف قياس المسلمين عن قياس أرسطو، فاعتبر المسلمون القياس: هو قياس الغائب على الشاهد، فوصلوا إلى اليقين، أما قياس أرسطو الذي هو ###68### حركة فكرية ينتقل فيها العقل من حكة كلي إلى أحكام جزئية، فإنه يوصل – فقط - إلى الظن.
رابعًا: احتقر اليونان التجريب والتجربة، وجاء منطق أرسطو أكبر معبر عن روح اليونان، ولذلك رفضه المسلمون إيمانًا بروح الحضارة الإسلامية وروح القرآن الذي دعا إلى وضع منهج ومنطق مختلف في كل خصائصه عن منطق أرسطو وروح الحضارة اليونانية. ومنهج القرآن منهج ينأى عن البحث في الشيء ذاته والبحث في آثاره: "تفكروا في خلق الله، ولا تفكروا في ذات الله فتهلكوا" وكان ذلك العمل الإسلامي هو مصدر التحول العالمي من النظرة المفكرة للدنيا المعزولة عنها المسقطة للإرادة والتكليف القائمة على التشاؤم والانسحاب والعجز إلى نظرة التكليف والإرادة والبناء والعمل.
فالإسلام قد أعطى أوروبا روح التفاؤل والاندفاع نحو العمل والإنشاء والاختراع، وليس المنهج التجريبي وحده.(50/4)
خامسًا: صحح المسلمون أغلاط أرسطو وجالينوس وأفلاطون في الفلسفة والعلوم والكثير من أخطاء الفلسفة اليونانية، وأبطل صناعة التنجيم وبطلان القول بأن بعض ###69### الكواكب يجلب السعادة، وبعضها يجلب النحس، وقال: إن اليونان أخذوه من غير برهان ولا قياس، وقال الإمام ابن حزم: زعم قوم أن الفلك والنجوم تعقل، وأنها ترى وتسمع، وهي دعوى باطلة بلا برهان، وصحة الحكم أن النجوم لا تعقل أصلا، وأن حركتها أبدًا على رتبة واحدة، لا تتبدل عنها، وهذه صفة الجماد الذي لا اختيار له، والواقع أنه ليس للنجوم تأثير في أعمالنا، ولا لها عقل تدبرنا به، والنجوم أيضًا لا تدل على الحوادث المقبلة.
وأبان علماء المسلمون ضعف نظام بطليموس ونقط القصور فيه، وقد عكف "التباني" على دراسة بطليموس، وحقق مواقع كثير من النجوم، وصحح حركات القمر والكواكب السيارة، وخالف بطليموس في ثبات الأوج الشمسي، وأنكر الغزالي ما قاله فلاسفة اليونان من أن بالسماء حيوانًا وأن له نفسًا، ونقد الأطباء المسلمون طب اليونان، ورفضوا الأخذ ببعض نظرات أبقراط وجالينوس، ومن طريق التجربة والاختبارات الشخصية، ورفض ابن النفيس قبول نظرية جالينوس عن الدور الذي تلعبه الرئتان في نقل الدم من تجويفة القلب الواحدة إلى الأخرى، وأعلن أنها خاطئة.
###70### سادسًا: لقد دعا القرآن إلى العلم، وحث الإسلام على البحث فالتمس المسلمون العلم عند كل من وجد عنده علم، فلما تسلموه لم يخضعهم، وإنما أخضعوه لمفاهيمهم، ودرسوا في دائرة عقيدتهم، وألقوا عليه أضواء التوحيد، وحرروه من زيوف الوثنية والجمود، وفككوه وحللوه واعتبروه مادة منهج العلم من جديد خلقًا آخر مختلفًا كل الاختلاف عن منهج اليونان والقدماء جملة، وأقاموا عليه بناءًا ضخمًا وأضافوا إليه إضافات كثيرة:(50/5)
أولا: أقام المسلمون المنهج العلمي على قواعد رئيسية لا تخضع للأهواء، ولا للغايات الخاصة، ولا للمطامع، فقرر الإسلام دستور العلم، ودعا إلى عدم الانخداع بالأوهام أو قبول الظن، ولا من يقول بغير دليل، ودعا إلى إعمال العقل، وسؤال أهل الذكر، وحرية النظر وإنكار التقليد.
ثانيًا: اهتموا بنقل المصادر وتحقيقها والإبانة عن أخطائها ومغالطاتها، وتحدثوا عن الملاحظة الحسية، وأكدوا دورها في دراسة الظواهر الطبيعية، وأوصوا بإجراء التجارب العلمية متى تيسر ذلك، وارتفعوا من الدراسة التجريبية للظواهر الجزئية إلى وضع قوانين عامة تفسر هذه الظواهر.
###71### ثالثًا: قرر علماء المسلمين أن العلم معرفة باستدلال، والاستدلال هو انتقال الذهب معلوم (مقدمات) إلى مجهول (نتائج) باستخدام المعلوم في التوصل إلى المجهول، وأشهر أنواعه الاستدلال الاستقرائي الذي يقوم على الملاحظة والتجربة، وهذا هو منهج العلوم الطبيعية والاستدلال الاستنباطي الذي يعتمد على العقل، وهو منهج العلوم الرياضية والفقه.
رابعًا: جمع الفكر الإسلامي منذ البدء بين النظرة العقلية التأملية وبين الممارسة العلمية، وكان أغلب الفلاسفة أطباء ورجال أعمال، وكان الحافظ وهو أديب يجري تجارب تشريحية على الحيوان، وقد قام العلماء بممارسة صناعة الطب واكتشاف الأحماض المختلفة، وكان هذا خروجًا تامًا على المنهج اليوناني، منهج التأمل إلى الممارسة العلمية، وهو منهج التجريب، وبذلك استطاع العالم المسلم أن يدرس الظاهرة الموضوعية دراسة علمية لتحديدها تحديدًا كميًا. برز هذا الوعي العلمي عند البيروني وجابر بن حيان، وكان هذا خروجًا مباشرًا على منطق أرسطو، وأصبحت عملية "التجريب العلمي" لا التأمل المنطقي هو سبيل المعرفة، وهذا هو التحول التاريخي الخطير الذي أحدثه الإسلام في ###72### العالم كله منذ ذلك اليوم، فدخلت به البشرية مرحلة التغير الصناعي والتحول الحضاري للعصر الحديث.(50/6)
وكان أبرز ما حصل عليه علماء المسلمين رابطة العلة بين الأشياء كأساس للمعرفة العقلية، وهي جوهر القوانين والنواميس والسنن، وعلى هذه الرابطة العلمية بين الأشياء تقوم التجارب، سواء في ميدان الظواهر الطبيعية أو الاجتماعية على السواء، وبهذه الرابطة فسر ابن خلدون حركة التاريخ وتطور العلاقات البشرية، وعلى هذه الرابطة أقام البيروني والرازي وجابر بن حيان وابن سينا تجاربهم. ومن هذه النقطة الحاسمة برزت نظرة إلى الكون والكائنات، فيها نواة نظرية التطور: تطور الكائنات، وبهذه النظرة اختلف الفكر الإسلامي اختلافًا كبيرًا عن الفكر اليوناني، وتناقض معه في مختلف فروع الثقافة من علم وأصول وفقه وفلسفة عقلية ونظرة إلى الإنسان، وكان هذا الخلاف نتيجة طبيعية لاختلاف التكوين الاجتماعي للحضارة الإسلامية والحضارة اليونانية، وبذلك تكشف جوهر الحضارة الإسلامية، وهو جوهر عقلي عملي تجريبي حي قوامه قاعدة عريضة: "لا تجربة بغير استدلال عقلي".
###73### ولكن هذه النظرة التي تبدو علمية عقلية محضة لم تقف عند هذا الحد، بل كان لها طابع من الإيمان بالغيب، ورد الأمور كلها والقوانين كلها إلى صانعها الأول: الحق تبارك وتعالى.
خامسًا: دعا الإسلام إلى تعلم العلم خالصًا لله لا لمباهاة العلماء، ولا لمجاراة السفهاء، ولا ليتقرب به وجوه الناس، وأبرز مفاهيم العلم في الإسلام: المطابقة بين الكلمة والسلوك، وربط العلم بالعمل، ولا يحجب العلم عن طالبه، ولا يرد طالبه إذا سأل، وإذا سئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم، ولا يستحي، إذا لم يعلم الشيء أن يتعلمه، وللعلم خلق وتقوى، ولا يأخذ العالم رأي غيره، وينسبه لنفسه وإنما يذكر مصدره.
سادسًا: يرى ابن حزم أن المعرفة تكون أولا: بشهادة الحواس أي: بالاختبار لما يقع عليه الحواس ثم باول العقل أي: بالضرورة من غير استعمال الحواس الخمس، ثم ببرهان راجع من قرب أو بعده إلى شهادة الحواس، وأولها العقل.(50/7)
سابعًا: يدعو ابن رشد إلى النظر فيما سبق من علوم الأمم ونظرهم في الموجودات، فما كان موافقًا للحق "قبلناه ###74### منهم وسررنا به، وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق، نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم" ويقول الإمام الشافعي: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون منه، لقد أدركت سبعين ممن يقولون: "قال رسول الله" عن هذه الأساطير، فما أخذت منهم شيئًا، وإن أحدهم لو أؤتمن على بيت المال، لكان أمينًا إلا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن.
ثامنًا: لابن الهيثم في مجال تقنين أصول البحث العلمي رأي واضح ونظرية كاملة. يقول: يبدأ في البحث باستقراء الموجودات، وتصفح أحوال المبصرات، وتميز خواص الجزئيات، ويلتقط باستقراء ما يخص البصر في حالة الإبصار، وما هو مطرد لا يتغير، وظاهر لا يشتبه في كيفية الإحساس.
تاسعًا: قرر الإسلام بالدعوة إلى العلم أصولا تمنع من الجمود العقلي، وتحمي من التحجر الفكري، من أهم هذه القواعد: إن العلم لا يقول عن شيء، إنه حق، إلا إذا قام البرهان اليقيني القاطع، والحذر كل الحذر من أن يجعل يقينًا ما ليس بيقين، أو أن ينزل الظن منزلة اليقين. ومن الضروري التفرقة بين ما هو حق، وما هو ظن، والإسلام ###75### عدو التقليد، ويدعو إلى الأخذ بالأحسن، ويحكم العقل في كل ما يعرض للإنسان من أمر "والمراد بالعقل: العقل الذي استوفى شروط الفهم التي تؤهله لإدراك ما يلقى إليه".(50/8)
ثم نترقى في البحث والمقاييس على التدريج والتدريب مع انتقاد المقدمات والتحفظ على الغلط في النتائج؛ ونجعل غرضنا في جميع ما نستقرئه ونتصفحه استعمال العدل لا اتباع الهوى، ونتحرى في سائر ما نميزه وننتقده طلب الحق الذي به ثلج الصدور، ونصل بالتدرج واللطف إلى الغاية التي عندها يقع اليقين، ونظفر مع النقد والتحفظ بالحقيقة التي يزول معها الخلاف، وتنحسم به مواد الشبهات، وما نحن مع ذلك براء مما هو طبيعة الإنسان من كدر البشرية، ولكنا نجتهد بقدر ما هو لنا من القوة الإنسانية، ومن الله نستمد العون في جميع الأمور.
عاشرًا: كل الدلائل تعطي الحقيقة الثابتة التي لا مرية فيها، وهو سبق الفكر الإسلامي للغرب في وضع أسس المنهج العلمي "التجريبي" على نحو تطبيقي لا نظري قوامه الاستقراء والقياس والتمثيل، ثم انتقاله انتقالا سريعًا مدعمًا إلى التجربة والممارسة العملية على نحو واضح:
قصر البحث العلمي على المشاهدة والتجربة، وجمع المشاهدات ###76### ونتائج التجربة وربطها وتبويبها.
تمحيصها وربط تلك الحقائق على النحو الذي يجعلها تصبح قانونًا طبيعيًا أو نظرية علمية.
استنباط النتائج التي تقضي إليها، وبحث صحة تلك النتائج ومطابقتها للواقع.
وقد اتضح هذا المنهج على يد ابن الهيثم المتوفي 459 هـ الموافق 1039 م سابقًا به "فرنسيس بيكون" المتوفي عام 1626 فقد جمع ابن الهيثم بين الاستقراء والقياس، وقدم الاستقراء على القياس، وحدد الشروط الأساسية في البحث العلمي، وهو طلب الحقيقة دون أن يكون لرأي سابق أو نزعة أو عاطفة، مهما كانت دخل في الأمر، ويتمثل غاية المنهج العلمي في أمور ثلاثة:
استعمال العدل لا اتباع الهوى.
التجرد عن الهوى والإنصاف بين الآراء.
وجود ما يثلج الصدر في الوصول إلى الحقيقة.(50/9)
وعنده أن كل مذهبين مخالفين إما أن يكون أحدهما صادقًا والآخر كاذبًا، وإما أن يكونا جميعًا كاذبين، والحق غيرهما جميعًا، وإما أن يكونان جميعًا يؤديان إلى معنى واحد هو الحقيقة؛ ويرى قدري طوقان ومصطفى نظيف وغيرهما، أن ابن الهيثم لم يسبق "بيكون" فحسب، وإنما سما عليه فقد ###77### كان أوسع منه أفقًا، وأعمق تفكيرًا، وقد أوضح هذا المعنى الأستاذ بريفولت بما لا يدع زيادة لمستزيد حين قال: إن ما يدين به علمنا لعلم العرب والمسلمين ليس فيما قدموه إلينا من كشوف مدهشة لنظريات مبتكرة، بل يدين هذا العلم الثقافة الغربية بأكثر من هذا، إنه مدين لها بوجوده نفسه، فالعلم القديم لم يكن للعلم فيه وجود، وعلم النجوم عند اليونان ورياضياتهم كانت علومًا أجنبية، استجلبوها من خارج بلادهم، وأخذوها من سواهم، ولم تتأقلم في يوم من الأيام، فتمتزج امتزاجًا كليًا بالثقافة اليونانية، لقد نظم اليونان المذاهب وعمموا الأحكام ووضعوا النظريات، ولكن أساليب البحث وجمع المعلومات الإيجابية والمناهج التفصيلية للعلم والملاحظة الدقيقة المستمرة والبحث التجريبي كل ذلك كان غريبًا تمامًا عن المزاج اليوناني، ولم يقارب البحث العلمي نشأته في العالم القديم إلا في الإسكندرية في عهدها الهليني، أما ما ندعوه العلم فقد ظهر في أوروبا نتيجة لروح من البحث جديدة ويطرق التجربة والملاحظة والمقاييس ولتطور الرياضيات إلى صور لم يعرفها اليونان، وهذه الروح وتلك المناهج العلمية أدخلها العرب والمسلمون إلى العلم الأوروبي، ولم يقف الأستاذ بريفولت عند إقرار دور الفكر الإسلامي ###78### وأصالته وإضافته الواضحة المبتكرة، بل ذهب إلى أبعد من ذلك حين قرر: أن روجر بيكون نقل مذهب العرب في البحث العلمي، يقول: "إن روجر بيكون درس اللغة العربية والعلم العربي والعلوم العربية في مدرسة اكسفورد على خلفاء معلميه في الأندلس، وليس لروجر بيكون ولا لسميه فرنسيس بيكون الذي جاء(50/10)
بعده الحق في أن ينسب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبي، فلم يكن روجر بيكون إلا رسولا من رسل العلم والمنهج الإسلامي إلى أوروبا المسيحية، وهو لم يمل قط من التصريح بأنه يعلم معاصريه أن اللغة العربية وعلوم العرب، هما الطريق الوحيد لمعرفة الحق" وعند بريفولت أن المناقشات التي دارت حول واضعي المنهج التجريبي، هي طرق من التحريف الهائل لأصول الحضارة الأوروبية وقد كان منهج العرب التجريبي في عصر بيكون قد انتشر انتشارًا واسعًا، وأكب الناس في نهم على تحصيله في ربوع أوروبا.(50/11)
حادي عشر: إن إضافات العلم الإسلامي بعيدة المدى في مختلف المجالات: في الطب، الفلك، الكيمياء، الصيدلة، الملاحة، الجغرافيا، علوم البحار، الصوت، الضوء، نظريات النشوء والارتقاء، في الأرقام والحساب، ###79### في الجبر، في المراصد، وآلات الإسطرلاب، في صناعة الورق، ففي الطب عرفوا طبيعة كثير من الأمراض كالجدري والحصبة، واستعملوا الأمصال في معالجة بعض الأمراض، ووصفوا تشريح الجسم الإنساني وصفًا دقيقًا، وعرفوا العقاقير فسجل ابن البيطار 1400 عقارًا لم تعرف اليونان منها غير 400 عقار، والألف اكتشفها العرب، وحددوا منافعها ومضارها. ألف أبو القاسم الزهراوي كتابه في الطب والجراحة في عشرين مجلدًا، وأطباء الإسلام هم أول من فتت الحصى في المثانة، وسدوا الشرايين النازفة، وكتبوا في الجذام والحصبة والجدري وعدوى الطاعون، واستعملوا "المرقِّد" المخدر في العمليات الجراحية، والأطباء المسلمون هم أول من كشف التقلب عن الدورة الدموية ودودة الإنكلستوما كما صَحـ الأطباء العرب آراء أبقراط وجالينوس في التشريح ووظائف الأعضاء. وقد ترجم كتاب ابن سينا "القانون في الطب" في خمسة عشر طبعة إلى اللاتينية والعبرية والإنجليزية، وقد بحث عن العقاقير والأدوية في سبعمائة وستين نوعًا. قال الدكتور دينستون: إنه يحتوي على ما يزيد على مليون كلمة، وقد عالج القرحة الدرنية، والقولينج الكبرى، والكلوي، والتهاب الرئة، والجنب والتهاب ###80### الدماغ، وقد ظلت مؤلفاته أساسًا للمباحث الطبية في جامعات فرنسا وإيطاليا ستة قرون، ولم تعرف جامعة لوفان حتى القرن السابع عشر مرجعًا للطب والعقاقير أوفى من كتب الرازي وابن سينا وابن الهيثم، وعرف العلم الإسلامي التطعيم ضد الجدري، واستخدموا عفن البنسلين وعيش الغراب كمراهم، أما طب العيون فهو من صناعة العرب، وقد ظلت تذكرة طب العيون تستخدم حتى القرن التاسع عشر، بل لقد احتل المسلمون المركز الأول في جمال الطب(50/12)
فترة تزيد على خمسمائة عام.
ثاني عشر: وفي المجالات الأخرى نجد إضافات باهرة، فقد اخترع المسلمون الساعات الدقاقة والزوالية، واكتشفوا قوانين ثقل الأجسام، وعرفوا تركيب النار اليونانية، واستخرجوا قوة البارود الدافعة، واستعملوا الآلات القاصفة، وأتقنوا فن تسقية الفولاذ، وهم أول من استخدم البوصلة في الملاحة، واكتشفوا الإبرة المغناطيسية التي انتقلت إلى أوروبا في القرن الثاني عشر، ونقلوا القمح الأحمر ومشاتل النخيل من أسبانيا وأفريقيا إلى فرنسا، واستخرجوا مادة القطران التي يطلى بها قاع السفن، وعرف فضلهم في تحسين نسل الخيل، وكانوا أول من حاول قياس ###81### خط نصف النهار، ووصفوا أصول علم الجبر وحساب المثلثات، وبسطوا علم الحساب الإغريقي، ونقلوا القطن إلى الأندلس، وأخذوا من الصينيين زراعة القصب واستخراج السكر منه، وأدخلوهما إلى مصر وصقلية والأندلس، وكانت علوم المسلمين في الجغرافيا والفلك هي صاحبة الفضل الأكبر في الكشف عن الأمريكتين، وعلل المسلمون ملوحة البحر وعذوبة المطر واستحالة الحطب في الاحتراق، واستحالة الزيت في المصباح، وصعود الهواء وانحدار الماء لا بالجاذبية والثقل النوعي، بل بانجذاب بعضها إلى بعض، وعرف موسى بن شاكر مائة تركيب ميكانيكي، كما علل علماء المسلمين صعود الماء في العيون والفوارات، وتجمع الماء في العيون والقنوات، واستعملوا "السيفون" وسموه "السحارة" وعرفوا كثافة الذهب والرصاص، وبحثوا في الصوت وحصوله، وعللوا حدوث الصدى، وكتبوا في الأوتار واهتزازها، وعرفوا ما بين طول الوتر وغلظه وتأثره من علاقة، كما عرفوا خاصة الجذب في المغناطيس، وخاصة اتجاهه؛ وهم أول من استعمل بيت الإبرة (البوصلة) في البحار ودرسوا نظرية النشوء والارتقاء في مدارسهم، وطبقوها على المواد غير العضوية والمعادن، كما ###82### اقتبسوا الأرقام الهندية، وشذبوها وأوجدوا طريقة مبتكرة في الإحصاء العشري باستعمال الصفر،(50/13)
واستعملوا الرموز في الرياضة، فسبقوا الأوروبيين إلى ذلك، ومهدوا للكشف عن اللوغاريتمات، وعن التكامل، والتفاضل، وأنشأوا المراصد العديدة، ووضعوا الأزياج الدقيقة الكبيرة الفائدة، وهم أول من عرف الأصول التي تفضي إلى الرسم على سطح الكرة، وأول من أوجد عمليًا طول الدرجة من خط النهار، وقالوا: باستدارة الأرض ودورانها حول محورها، واخترعوا له الإسطرلاب الدقيقة، وحققوا مواقع كثير من النجوم، وحسبوا طول السنة الشمسية، وبحثوا عن كلف الشمس قبل الأوروبيين، ووضعوا جداول دقيقة عن النجوم الثوابت وصوروها في الخرائط، وصححوا خطأ بطليموس وخطأ الرومان القائلين بتسطح الأرض، ورسموا خرائط بلادهم، وأكد أبو الفداء أن الأرض كروية، وأنها في الوسط، وهم أول من وضع أساس الكيمياء، وقد مارسوا أعمال التقطير والترشيح والتصعيد والتبلير "البلورة" والتذويب والألغام والتكليس، وهم الذين استحضروا الكحول والقلى والبورق والزرنيخ والبوتاس والأثمدوزيت الزاج ###83### "حامض الكبريتيك" والزاج الأخضر وماء الفضة "حامض النتريك" وحجر جهنم "نترات الفضة" وملح البارود "نترات البوتاس"، والسليماني والراسب الأحمر "أكسيد الزئبق" وروح النشادر وملح الطرطير، وماء الذهب والبارود، والقلويات كلها في الكيمياء معروفة باسمها العربي، وماء الفضة لم يوصف في كتاب غربي قبل كتاب جابر بن حيان، وملح البارود من تحضير تلميذ المسلمين "روجر باكون" وأول من اخترع رقاص الساعة، هو أبو الحسن العباسي المشهور بابن يونس، والساعة الدقاقة اخترعها علماء المسلمين، وأهداها هارون الرشيد إلى شارلمان ملك فرنسا، فكانت وغيرها من الهدايا موضع دهشة عظيمة، وأول مصنع للورق بدأ في سمرقند، ثم في بغداد في زمن الرشيد ثم في دمشق، ودمياط ومراكش وصقلية، وأسبانيا، والمرايا البلور، بدأت في سوريا، ومنها انتقلت إلى البندقية، وقد عرف المسلمون "الصفر" ولم يعرفه الغربيون إلا في القرن الثاني(50/14)
عشر عن طريق المسلمين. وقال علامة إير: إن فكرة الصفر تعتبر من أعظم الهدايا العلمية التي قدمها المسلمون، وكان المسلمون قد استعملوا الصفر في الحساب، ورسموه على هيئة حلقة، ثم شرح الخوارزمي ###84### طريقة استعماله في بحث ترجم إلى الكتب الأوروبية في الربع الأول من القرن الثاني عشر الميلادي.
ثالث عشر: أبرزت هذه النهضة عددًا كبيرًا من العلماء في مقدمتهم: جابر بن حيان، والخوارزمي، والرازي، والتباني، والبيروني، وابن الهيثم، وابن خلدون، وأبو الثناء الأصفهاني، والفرغاني، والقزويني، والزهراوي، وابن يونس وابن ماجد، وحسني المراكشي وعمر الخيام، والفارابي، والإدريسي، ومما يذكر في هذا المجال أن الطبيب ابن النفيس علي ابن حزم القرشي عارض رأي جالينوس الذي ظل مهيمنًا على عقول الأطباء أكثر من عشرة قرون، ونقد نظريته، وعارض قوله في الدم، وقال: كيف يمكن أن ينتقل الدم من البطين الأيمن إلى الأيسر خلا لحاجز ليس له منافذ؟ وأخرج للعالم نظرية الدورة الدموية الصغرى، إذ قال: إن الدم لا يمكن أن ينتقل من البطين الأيمن إلى الأيسر مباشرة خلال الحاجز، وإنما يسير من البطين الأيمن إلى الرئة، ومن الرئة إلى البطين الأيسر، وهذه هي الدورة الدموية الصغرى، وقد ظلت آراء ابن النفيس قائمة حتى ترجمت كتب إلى اللاتينية في عصر النهضة، وجاء سرفيتو وكولمبو، فأيدا ما ذهب إليه ابن النفيس، وذلك في القرن ###85### السادس عشر، فهو قد سبقهما بأكثر من مائتين وخمسين سنة، أما وليم هلرفي فقد جاء بعده بأكثر من أربعمائة سنة، وقام بتجاربه في ضوء أبحاث ابن النفيس ومن تلاه، وانتهى إلى كشف الدورة الدموية الكبرى.(50/15)
رابع عشر: وهكذا قدم المسلمون على أساس العلم الحديث، وأقدموا فتوحات واسعة في مختلف أرجائه وجوانبه، وقد كان كشف سنن الكون ونواميسه على أيديهم أول الأمر مستمدًا من فهمهم للقرآن ومن إيمانهم بالله، ثم جاءت عملية الملاحظة والتجريب، وعلى هذا الطريق سار العلم الحديث، وقد اعترف الغربيون في صراحة ووضوح بأنهم أخذوا هذه الطريقة من علماء المسلمين، وكل ما وصل إليه العلم الحديث إنما قام على منهج التجربة والملاحظة والاستقراء الذي قدمه المسلمين، ولم يبتكروا منهجًا آخر وإنما حسنوا الأساليب والأدوات، ومعنى هذا أن نتاج العلم الحديث كله جاء عن طريق منهج القرآن غير أن الخلاف هو في أمر واحد، هو أن الغرب حجب الصانع الأصلي وصاحب القوانين، ونسب الكشوف إلى الإنسان وحده، كما أنه اعتبر هذه القوانين مستحيلة النقض، وبذلك عجز عن فهم قدرة صاحب القوانين في نقضها وتغييرها وذلك حين رفضوا ###86### الاعتراف بعالم الغيب الذي تبين من بعد أن له صلة ضخمة بما وصل إليه العلم، وأن هناك جوانب كثيرة لم يستطع العلم أن يضع يده عليها، ولذلك فإنه حين يقول بحتمية القوانين الطبيعية، إنما يتجاهل هذه الجوانب الغيبية الخافية عليه، وينسى قدرة الله سبحانه واضع القوانين والذي إليه وحده القدرة في خرقها.(50/16)
خامس عشر: كرم الإسلام العلم والعلماء، ورفع القرآن من شأن العلم والعلماء، وفتح الأبواب للاستزادة من العلم، ومن هنا كانت انطلاقة المسلمين العلمية إلى التقدم في مجال الفكر والحضارة، ورحل علماء المسلمين إلى أقصى الأرض باحثين عن العلوم متنافسين فيها، وسار قادة المسلمين على سنة نشر العلم وإعزاز أهله، والبذل لهم، وبناء المدارس وخزائن الكتب، بينما أدخلت أوروبا العلماء في زمرة المارقين من الدين، وقدمتهم لمحاكم التفتيش، يقول العلامة مشعر: إن الغربي إذا صار عالمًا، ترك دينه بخلاف المسلم، فإنه لا يترك دينه إلا إذا صار جاهلا، ولم يرتق العلم في أوروبا إلا بفصل الدين عنه، بينما العكس في الإسلام، فإن قيمه لم تكن حائلة دون البحث والنظر، بل كانت مصدرًا من مصادره، وقد حدد الإسلام موقف ###87### العلم، فجعله في إطار العقيدة، وجهله خالصًا لإسعاد الإنسانية، ويقول إتيان دينيه: لقد لبثت أوروبا ثلاثمائة سنة تقتبس من الإسلام اللغة والعلوم، ويقول العلامة درابر: تأخذنا الدهشة أحيانًا عندما ننظر في كتب المسلمين، فنجد آراء كنا نعتقد أنها لم تولد إلا في زماننا كالرأي الجديد في ترقي الكائنات العضوية وتدرجها في كمال أنواعها، فإن هذا الرأي كان مما يعلمه المسلمون في مدارسهم، وكانوا يذهبون إلى أبعد مما ذهبنا، فكان عندهم عامًّا يشمل الكائنات العضوية والمعادن، والأصل الذي بنيت عليه الكيمياء عندهم هو ترقي المعادن في أشكالها. ويقول فون كريمو: إن العقل الإسلامي يبدو في ذروة نشاطه حين يكون في حقل المعرفة التجريبية، يباشر دراسته في ضوء الملاحظة والاختبار، فالعرب يبدون نشاطًا يثير الدهشة حين يقومون بملاحظة الظواهر وتمحيصها وجمعها وترتيب ما هدتهم إليه التجربة، ولما كانوا أصحاب ملاحظة دقيقة، وأهل تفكير مبدع أصيل، حققوا في مجالات الرياضيات والفلك إنجازات رائعة، ويقول سيديو: الحركة العلمية عند العرب تتميز بالانتقال من(50/17)
المعلوم إلى المجهول، والتحقيق الدقيق في ظواهر السماء ورفض كل حقيقة كونية لم تثبت عن طريق ###88### الملاحظة الحسية، ويؤكد الباحثون في العلم الإسلامي أن علماء المسلمين، فطنوا إلى ثلاثة أمور هامة:
أولا: فطنوا قبل الأوروبيين إلى مصدر الحواس عن إدراك بعض الظواهر لفرط صغرها أو بعدها، فعوضوا قصور الحواس باختراع أجهزة وآلات تمد في قدرتها على الإدراك، وكان ابن الهيثم يستعين في دراسة انتشار الضوء وانعكاساته بآلات يقوم بصنعها، أو يشرف على صنعها، وخلف أبو القاسم الزهراوي مئات الرسوم لآلات تستخدم في الجراحة والتخثير، وترك علماء المسلمين في الفلك مراصد مزودة بعشرات الرسوم والآلات والأجهزة.
ثانيًا: لم يفت المسلمون الاهتداء إلى التجربة العلمية ومعرفة دورها في البحث العلمي، فلم يكتفوا بمراقبة الظاهرة وتسجيل حالها، بل تدخلوا في سيرها ليلاحظوا في ظروف هيئوها بأنفسهم، وأعدوها بإرادتهم، وسماها جابر "التدريب" وسماها ابن الهيثم "الاعتبار".
ثالثًا: فطنوا فوق ذلك إلى أن الغرض من الدراسات التجريبية هو وضع القوانين العامة التي تفسر الظواهر تفسيرًا علميًا.
…………………الأستاذ/ أنور الجندي(50/18)
سلسلة على طريق الأصالة تجاوزات العلوم الاجتماعية والإنسانية
لمفهوم الفطرة والعلم
23
بسم الله الرحمن الرحيم
تجاوزات العلوم الاجتماعية والإنسانية
لمفهوم الفطرة والعلم
إن نظرية العلوم الاجتماعية التي تتضمنها المناهج الدراسية الحديثة نظرية مغلوطة وناقصة وقائمة على المفهوم المادي الذي لا يؤمن بالأديان المنزلة ولا بالقيم الأخلاقية المرتبطة بالدين وفي ظل هذا المفهوم فإن علم الاجتماع لا يزيد عن أن يكون علمًا وظيفيًا تقريرًا يدرس شئون الحياة الاجتماعية دراسة تحليلية للوصول إلى القوانين الاجتماعية التي تخضع لها الظواهر.
وهي تقوم في مجموعها على مفهوم زائف وباطل هو أن البيئة هي التي تخلق تراثها وهي التي يرجع إليها الفضل في تنشئة الفرد وتوجيهه والإشراف على سلوكه.
ومعنى هذا إنكار الدور الذي يقوم به الدين في تكوين الأفراد وتجاهل وجود الدين كلية أو اعتباره قد خرج من الأرض كما خرجت الجماعة نفسها على حد تعبير دوركايم والواقع أن علم الاجتماع في ###4### مهمته الحقيقية هو دراسة مشاكل المجتمع ووضع الحلول لها - وهذا هو ما تنكرت له مدرسة العلوم الاجتماعية كما تنكرت له نظريات علم النفس أيضًا.
ولما كانت هذه المناهج في حقيقتها محاولة لإحلال مفاهيم قائمة على الفلسفة المادية فإنها قد عمدت إلى مقاومة كل ما عمدت إليه الأديان المنزلة على إقراره وإقامة دعائمه.
وقد عمد دوركايم (بوضعه أبرز منظري علم الاجتماع) إلى إقامة منهج التشكيك في القيم والمثل والعقائد والأخلاق من منطلق مفهوم قوامه أن كل الظاهر نسبية متغيرة متبدلة، لا تثبت على حال ولا تستقر على وضع لأنها في كل يوم يتبدل الحال بحال (وهذه قاعدة مضطردة في كل مجالات دراسات الاجتماع والنفس والأخلاق وتاريخ الأديان) وهم يستخدمون هذا المنهج لإفساد المجتمعات وتحللها أخلاقيًا ودينيًا بهدف أن يكون المجتمع مشاكل مليئًا بالفتن.(51/1)
ولكي يكون هذا الهدف واضحًا فإننا نعلم أن هذه الجماعة (دوركايم وليفي بريل وفرويد وماركس) يعملون في خدمة هدف واضح كشفت عنه الماسونية والبروتوكولات وهو هدم المجتمع الإنساني وتحطم مقوماته الخلقية والاجتماعية وذلك كمقدمة ###5### لاحتوائه والسيطرة عليه في خدمة هدف إقامة إمبراطورية الربا العالمية.
ولا ريب أن كل هذه المقررات التي يعملون على تثبيتها عي مجموعة من الأهواء البشرية التي تتعارض تمامًا مع فطرة الله التي فطر الناس عليها ومع مقررات العلم.
أولا: وفي مقدمة ذلك نظرية النسبية التي تحاول أن تسيطر بدعوى أن كل الظاهر نسبية متغيرة متبدلة لا تثبت على حال ولا تستقر على وضع لأنها في كل يوم تتبدل.
والسؤال هو: هل إذا كانت الأخلاق نسبية فهل سيأتي الزمن الذي نعتقد فيه أن الصدق رذيلة أو الشهامة شر أو أن الشجاعة سوء أو أن العفة جريمة.
وفي مجال العقائد هل سيأتي اليوم الذي لا نقول فيه بوحدانية الله أو لا نقول بإرادته وعلمه.
ثانيًا: دعوة دوركايم إلى الجبرية الكاملة للفرد في إطار المجتمع وقوله أن العامل الفعال الذي يؤثر في المجتمع هو البيئة الاجتماعية هذه الدعوة مضللة كاذبة، لأنها إلغاء كامل لدور الفرد الذي يقرر الإسلام له وجوده ومسئوليته والتزامه الإسلامي والذي بناء عليه يكون الجزاء والثواب والعقاب.
###6### والإسلام يقرر أن المسئولية فردية، ومن هنا فإن الدعوة إلى ما يسمى مسئولية المجتمع هي محاولة خادعة لإعطاء الإنسان الحرية المطلقة في اقتراف الإباحيات والآثام دون الخوف من العقاب.
والإسلام يرفض ما يراه دوركايم من أن الفرد لا قيمة له ولا معنى للتشبث بالحرية الفردية وأن القيم كلها للمجتمع الذي يخلق الأديان والعقائد والقيم الروحية.(51/2)
فهذه النظرية مرفوضة تمامًا لأنها لا تقوم على أساس علمي صحيح وأن إنكار مسئولية الفرد ودوره في سبيل الكسب والسعي لا يعتد بها وأن تحميل الظاهرة الاجتماعية كل النتائج كل هذا من شأنه أن يتعارض تمامًا مع مفهوم الدين الحق.
ثالثًا: يتبع هذا مجموعة من الأخطاء:
1) تفسير الإنسان وفق مذهب المادة وعالم الحيوان (في مواجهة تكريم الإسلام للإنسان).
2) فكرة التطور المطلق التي يرفضها الإسلام الذي يقوم مفهومه على إطار من الثوابت وفي داخله حركة المتغيرات.
3) تجهل الإرادة البشرية والمسئولية الفردية والجزاء الأخروي التي هي قاعدة أساسية في نظرية المعرفة الإسلامية.
###7### 4) محاولة تصور المجتمع بصورة الصراع الدائم، وإقامة التناقضات أساسًا بينما يقوم مفهوم الإجماع الإسلامي على التقاء العناصر والأجزاء في كل متكامل دون صراع بينها أو جبرية.
5) التنكر للتكامل بين المادة والروح بينما يقوم المنهج الرباني على هذا الترابط مع الإيمان بأن الدين فطرة والأسرة فطرة حيث يتجاهل دوركايم الدين والأسرة ولا يراهما من الفطرة ويرى أن الجرعة هي القطرة.
6) محاولة جعل العقل بمثابة الإله المعبود بينما يعطي الإسلام العقل وضعه الطبيعي من حيث هو مصدر المسئولية الفردية، مع الإيمان بحاجة العقل إلى ضوء يهديه يستمده من (الوحي).
7) الدعوة إلى الممارسة الحرة التي لا تخضع لمبدأ ولقانون وهي التي ذاعت في الغرب تحت عناوين الجنس والانطلاق وهي محاولة تؤدي إلى الاعتداء على حق الغير مما أدى إلى تدهور الأخلاق تدهورًا فظيعًا.
هذا ما يرفضه الإسلام تمامًا لضوابطه وحدوده التي قررها لإقرار العلاقات بين الرجل والمرأة والآباء والأبناء.(51/3)
###8### هذه المفاهيم التي أوردتها الفلسفة المادية وأقامت عليها العلوم الاجتماعية والتي تقدم لشبابنا وأبنائنا في مناهج دراسية وثقافية وكتب ومؤلفات بوصفها علومًا، هي في الحقيقية ليست إلا نظريات قدمها عقل بشري، وهي في نفس الوقت فروض قابلة للخطأ والصواب وهي ثالثًا بمثابة ردود أفعال في بيئات وعصور مختلفة، ترتبط معها بأوضاعها، ومن ثم فهي لا تصلح لأن تكون علومًا عالمية ولا أن تكون قوانين علمية صحيحة صالحة للتطبيق على مستوى الأمم الأخرى والشعوب خاصة الأمة الإسلامية التي سابقتها وأرضيتها ونظامها وعقيدتها التي شكلت وجودها منذ أربعة عشر قرنًا.
ومن هنا فقد تقرر منذ وقت طويل أنه لا يمكن أن يؤخذ من الغرب ما يسمى بالعلوم (اجتماعية وأخلاقية ونفسية وتربوية على أنها التطبيق الوحيد، وإنما تؤخذ على أنها وجهات نظر وتجارب عامة وأن ما تأخذه منها هو التنظيمات لا النظم وما تأخذه هو بمثابة مواد خام تشكلها في دائرة مفهومنا الإسلامي للعلم.
ومن هنا فنحن مطالبون بإعادة النظر في موقف الإسلام من هذه العلوم الغربية وهذه الفلسفات جملة وأن لا تقبل مصادرها المادية أو الوثنية المستمدة من الفلسفات اليونانية أو العلمانية المنكرة لمفهوم الغيب أو ما وراء المادة.
وقد دعا الأبرار من رجال اليقظة الإسلامية إلى ذلك منذ وقت بعيد.(51/4)
###9### وقال محمد إقبال: يجب أن نكون مؤمنين بأنفسنا كافرين بالإفرنج فالكفر بقداسة الغرب وإنكار كونه معيار الصدق والصلاح هو الخطوة الأولى والخطوة الوحيدة التي توصلنا إلى تجديد العلوم والآداب. فبعد تجديد الإيمان بصدق فكرنا الإسلامي وصلاحية شريعتنا الإسلامية الغراء، والكفر بالكفر الغربي العلماني والفكر الشيوعي الإلحادي نتمكن من إحياء المناهل الإسلامية التي تبدو وكأنها جفت وذبلت بعد سيطرة الغرب الحضارية والفكرية والعلمية، فبعد أن أحيينا هذه المناهل تصبح علومنا الإسلامية وآدابنا ذات حيوية ومغالية وتنطلق من حيث وقفت وجفت. إن واجبنا نحن المسلمون هو أن نراقب تطور الفكر البشري بكل يقظة وانتباه ونحتفظ بوجهة نظر حرة انتقادية تجاه هذا التطور.
ويجب أن لا يقف الأمر عند العلوم الإنسانية والاجتماعية بل يمتد إلى العلوم الطبيعية والتطبيقية من الكيمياء وعلم الحيوان وعلم النبات والفلكيات وعلم طبقات الأرض والهندسة والطب وما إليها من العلوم التجريبية فإن البعض يظن أن هذه العلوم لا صلة لها بالدين ولا بالعقيدة ولكن إلقاء أي نظرة إلى المقررات الدراسية والجامعية تكشف عن طابع العلمانية واضحًا في ثناياها فهي لا تعترف بالله تبارك وتعالى صراحة خالق هذا الكون ودوره في تحريك هذا الكون وحفظه، وعطائه للإنسان في مجال الكشف والمعرفة بحيث أصبح قادرًا على استغلال هذه المقدرات وتحريكها.
###10### هذه النزعة العلمانية التي خلقها نظام التعليم الحديث لها خطرها العميق في تشكيل عقليات ووجدان الشباب المسلم وعجزه عن فهم أبعاد قدرة الله تبارك وتعالى وعالم الغيب وفهم مهمة الإنسان في هذا الكون من خلال المسئولية الفردية والالتزام الأخلاقي ومن هنا يتحتم تطهير المفاهيم الإسلامية من المحتوى غير الإسلامي في هذه العلوم.(51/5)
وإذا حاولنا أن نتعرف إلى رسالة الإنسان من خلال الفلسفة المادية نجدها تخضع الإنسان إما إلى الجبرية التي يسمونها مسئولية المجتمع أو المادية التاريخية.
أما القرآن فإنه يقف إلى جانب الإنسان في مواجهة العالم – على حد تعبير الدكتور عماد الدين خليل، ذلك أن القرآن يتيح له منذ البدء مركزًا ممتازًا للدور البشري على الأرض، فهو من جهة خليفة الله على الأرض والذي قدر له أن يصنع أحداثًا تاريخية بإرادته واختياره، سلبًا وإيجابًا (إنا هديناه السبيل إما شاكرًا وإما كفورًا)، (ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها).
كما أن كتلة السماوات والأرض قد سخرت لأداء مهمته هذه، ومن ###11### ثم تجيء إرادته الحرة في صياغة الأحداث عن العقل والإرادة، مع تأثره لطبيعة الحال بنواميس الحياة وعلاقاتها المادية ولكن الكلمة الأخيرة في الصياغة تجيء دائمًا على يد الإنسان.
كما يكرم القرآن الإنسان تكريمًا واضحًا (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا).
وهكذا يتضح كيف يضع الإسلام الإنسان في المكان الكريم بينما تصنعه الفلسفات المادية في موضع الحيوانية والجبرية والاحتقار.
إن مفهومنا الإسلامي الأساسي يختلف تمامًا عن مفهوم العلوم الاجتماعية فنحن نؤمن بأن الله تبارك وتعالى خلق الكائنات لتعرفه ونسبح بحمده والغاية التي اختارها الله لها هي عمارة الأرض فهي في جملة: 1) معرفة الله والإذعان له وعمارة الأرض. 2) ومعرفة عالم الغيب والإيمان به. 3) ومعرفة عالم الشهادة بمعرفة فطرة النفس البشرية وقدراتها ومعرفة الأرض وطبيعتها ووسائل استعمارها.(51/6)
وإن مصدر المعرفة الأولى والأكبر هو العلم الإلهي الذي وصلنا عن طريق أنبياء الله تعالى وكتبه، فقد بعث الله تبارك وتعالى الرسل ###12### بالمعارف التي تثري حياة الإنسان وتضيء له الطريق وترده عن المفاسد والمهالك، ومن خلال هذه المعرفة قدم المسلمون المنهج العلمي التجريبي الذي قامت عليه الحضارة الإسلامية والذي انتقل بعد ذلك إلى أوروبا حتى اعترف بيكون بأن المعرفة هي التي قدمها العرب لعلومهم فكان المنهج التجريبي هو مصدر الحضارة الغربية، ويجيء دور الغرب في الإضافة أما الأساس فقد وضعه الإسلام: 1) إيمان بمفهوم التوحيد الخالص. 2) أخلاقية العلم والحضارة.
وهذا كله يختلف عن نظرية المعرفة الغربية التي ترى أن الإنسان قادرًا بدون أي مساعدة خارجية إلى إدراك حقائق الأمور، فالمعرفة الإسلامية تقرر أن المصدر الأعلى لها هو الوحي وأن العقل البشري ليس أداة الإدراك أو المعرفة الوحيد دائمًا، هناك أدوات أخرى منها الحواس.
كذلك فقد وضع الإسلام قاعدة التفاعل بين الفرد والمجتمع وقرر أن مسئولية المسلم فردية نحو نفسه وجماعية نحو مجتمعه، وأن الأصل الإباحة ما لم يرد نص أو تحريم وأن كل عمل المسلم حلال إذا قصد به وجه الله تعالى وأن الروح الإسلامية تعتمد على التكامل والواقعية والاعتدال والانسجام كما قدم القرآن للمسلمين القدوة الحسنة والتطبيق العملي في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وسيرته وأعماله وتقريره وأن المجتمع الإسلامي مجتمع أخلاقي متحرك متطور ###13### به طاقات عقائدية هائلة تدفعه نحو الأفضل فيرفض الركود والجمود وأن حركة الفرد المسلم والمجتمع المسلم في ظل التمسك بالإسلام كفيلة بأن تدفع الواقع نحو الرقي والتقدم بصورة صاعدة وممتدة.(51/7)
ومفهوم التقدم في الإسلام مختلف عن مفهوم الغرب الذي يقوم على وجهة مادية صرفة أم في الإسلام فهو ترابط جامع بين المادي والمعنوي، بحيث لا يضحي بالمنوي من أجل المادي؛ ذلك أن بين الإسلام والتقدم رابطة كلية.
ومن هنا فإن العلوم الاجتماعية والإنسانية الغربية هي من أخطر العلوم على العقيدة الإسلامية، إذ يقوم أكثرها على افتراضات، ومسلمات وهي ترمي في الأساس إلى أهداف واضحة أهمها التشكيك في الأديان وإلغاء الأخلاق واعتبارها مجرد ظواهر نفسية واجتماعية وقد أشار (جون ستوارت مل) إلى البضاعة الفاسدة التي باعتها أوروبا للمسلمين فقال إنه يأخذ على النظريات الأوروبية في الإنسان ضيق أفقها الذي أفضى بها إلى فهم جزء من الحقيقة على أنها الحقيقة كلها.
فقد كانت مصيبة فيما أثبتت، مخطئة فيما أنكرت، يريد بذلك أنها حين اعترفت بالجانب المادي أو الاقتصادي أو الاجتماعي في حياة ###14### الإنسان كنت على حق، ولكن إنكار الجوانب الأخرى لحساب جانب واحد كان خطأ. إن جانبًا واحدًا من جوانب الحياة الإنسانية ينتزع من سياقه الصحيح ويبالغ في أمره مبالغة تتجاوز كل الحدود المعقولة فهم يتصورون الجزء خطأ على أنه الكل. وهكذا ترى أن الخلل الأساسي في الموقف الأوروبي خلل ثقافي بل في قلب الثقافة وجوهرها ألا وهو النظرة إلى الإنسان.
ولعل أخطر ما كشف عنه في السنوات الأخيرة وكان بعيد الأثر في تقييم ما يسمى بعلم الاجتماع ما قاله كثير من العلماء من أن هذا العلم يستخدم في كلا المعسكرين في خدمة هدفه وأنه مرتبط بأدوات السياسة والقوة العسكرية وأنه يرمي إلى مقاومة الحركات التحريرية في العالم الثالث (عالم الإسلام) وأنه يستخدم لدعم النظام الرأسمالي في الغرب وفي السوفيت يعمل على كشف مآسي وتناقضات المجتمع الرأسمالي. وأنه بذلك يمكن أن يكون علمًا إنسانيًا ويمكن أن يكون ضد الإنسان ويمكن أن يسهم في حل المشكلات أو يكرس التخلف ويخدم الأقلية.(51/8)
وأكد الباحثون المحايدون، أن علم الاجتماع الغربي لم يكن علمًا قائمًا بعمله على النحو الذي يفرضه العلم ولكنه كان يعمل دائمًا ###15### في خدمة النظام وما يتصل به من تثبيت سلطانه ونفوذه في عالم المستعمرات أو البلاد الخاضعة له اقتصاديًا ومعنى هذا أن علم الاجتماع هو في داخل المجتمعات سواء الغربية أو الاشتراكية هو علم تبرير الواقع، التزامًا بتوجيهات القوة الحاكمية وأيدلوجيتها العامة.
وبالرغم من وضوح ذلك وتكشفه فما يزال كثير من كتابنا ومفكرينا مخدوعون إزاء ما يظنونه من أصالة المنهج العلمي الغربي وقدرته وعطائه، وهي مسلمة خاطئة لم يقم الدليل على صحتها، بيد إن الأحداث والمتغيرات العلمية ما تزال تكشف عن فسادها وعن عجز ما يسمى المنهج العلمي الغربي عن العطاء ومما يحوطه من ثغرات في مجالات كثيرة خاصة في مجال العلوم الإنسانية التي اعتمدت على التجريب فتجاهله الفارق البعيد بين العلوم المتصلة بالمادة وما يتصل بالنفس الإنسانية ومن ثم ظهورها تهاوت مختلف النظريات التي ظهرت في العقود الأخيرة في مجال الاجتماعية والنفس والتربية والأخلاق.
###16### أعتقد أننا في حاجة إلى إعادة النظر في أمور كثيرة لم تعد قادرة على العطاء.
أولا: ضرورة الفصل بين العلوم التجريبية والعلوم الإنسانية.
ثانيًا: ضرورة اتحاد منهج مختلف عن المنهج المادي في دراسة الإنسان.
ثالثًا: إعادة النظر في مذهب التفسير المادي للتاريخ ونظرية دارون ومفهوم فرويد للجنس ومفاهيم دوركايم ونسبية الأخلاق.
رابعًا: تصحيح دوائر المعارف العالمية وخاصة في مواد:
الله – الإنسان – الرسول صلى الله عليه وسلم – القرآن – الإسلام – الغيب – النبوة.
خامسًا: وضع مقدمات للعلوم عامة تقدر دور المسلمين.
سادسًا: ضرورة تقديم جميع الكتب المترجمة من الفكر الغربي إلى اللغة العربية بمقدمات تكشف وجهتها وغايتها وأهدافها.
…………………الأستاذ/ أنور الجندي(51/9)
سلسلة دراسات إسلامية معاصرة العلم في الغرب
أنور الجندي
منشورات المكتبة العصرية
صيدا - بيروت
العلم في الغرب
انتقل هذا العلم الإسلامي مع كل نتاج الفكر الإسلامي إلى أوروبا، واستقر في "الأندلس" ثمانمائة عام، فكانت منار الغرب كله، وكانت جامعاتها موئل المثقفين من مختلف بلاد أوروبا، التي كانت قد سقطت في ظلمات القرون الوسطى حوالي عام 400 ميلادية قبل ظهور الإسلام بقرنين تقريبًا، وظلت سادرة في ظلامها حتى أوائل القرن الخامس عشر بعد أن قطعت أكثر من ألف سنة كانت أضواء الإسلام خلالها قد عمت الآفاق.
فقد وصل المسلمون إلى شواطئ أوروبا في أوائل القرن الثامن الميلادي - أي بعد أربعمائة عام تقريبًا من سقوط روما - ومنذ ذلك الوقت حتى سقوط غرناطة في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي، كان وجود الإسلام في أوروبا ###92### كلها (الأندلس أصلا وجنوبي فرنسا وإيطاليا) وجودًا حقيقيًا، يتمثل في حضارة كاملة بجامعاتها وعلومها وآثارها وكتبها وفكرها.
ولقد كان إنهاء هذا الوجود على هذا النحو الذي تجمع عليه كتب التاريخ الإسلامي والغربي جميعًا، ولا يختلف فيه هو أشبه بمؤامرة ضخمة، حاصرت العلم والجامعات والنتاج الإسلامي كله، ثم أخرجت المسلمين منه إلى شاطئ أفريقيا تحت اسم أوروبا للأوروبيين، ففي خلال هذه الفترة الضخمة الخصبة التي استمرت من 722 ميلادية (101 هـ) إلى سقوط غرناطة 1492م (898 هـ) تحول إلى أوروبا كل نتاج العلم الإسلامي داخل إطار فكرة الجامع، وهي فترة تزيد على 770 عامًا كاملة.(52/1)
ومن هذا النتاج وأدواته ومصادره، قامت النهضة الغربية الحديثة التي عرفت باسم "الرينسانس" والتي تمثلت في مصادر كثيرة، أبرزها أولئك العلماء الذين تعلموا في جامعات الأندلس، ثم انتشروا في جامعات فرنسا وإنجلترا وإيطاليا، فكانوا نواة النهضة الأوروبية الحديثة، وأخذوا بالخيط من نقطة توقف المسلمين، وساروا به حتى بلغوا بالعلم والحضارة هذا المبلغ الذي نراه اليوم.
###93### غير أن النهضة الأوروبية لم تتخذ الفكر الإسلامي مصدرًا لها، وإن كان قد فتح لها الآفاق إلى المدنية، وكان أول ما أعطاها مفهوم الإرادة الإنسانية الحرة؛ هذا المفهوم الذي حطم مفهوم العزلة عن الدنيا والعكوف في الأديرة. ثم أعطاها مفهوم حرية فهم النص المقدس والاتصال بالله اتصالا مباشرًا دون وساطة، وهذا ما دعا إليه لوثر وكالفن، ثم كان المنهج العلمي التجريبي الذي وصل إلى نقطة أساسية، وهي معرفة أسلوب الوصول إلى كشف قوانين الطبيعة بالإضافة إلى ذلك التراث الضخم في عالم الفلك والبحر والطب والصناعة التي عاشت عليه أوروبا بعد ذلك ثلاثة قرون كاملة حتى استطاعت أن تقيم به النهضة الصناعية المدنية.
فالإسلام هو الذي لم تقبله أوروبا حين قبلت المنهج العلمي الإسلامي، وهو الذي أطلق العقل الإنساني من قيوده الذي كبلتها به الوثنية غير أن أوروبا صاغت فكرها الجديد من أصول قديمة، قوامها الفلسفة اليونانية والقانون الروماني وطابع المسيحية بتفسيراتها التي لم تكن تمثل الدين الذي أنزل على نبي الله عيسى عليه السلام.(52/2)
وقد حال ذلك كله دون أن تضع العلم في موضعه الصحيح الذي رسمه له الإسلام، أو الدين بعامة، فكان ###94### أن تقدمت أوروبا في مجال العلم التجريبي، وانحرفت في مجال الفكر الفلسفي والاجتماعي والسياسي على النحو الذي أسلمها من الفلسفة المثالية إلى الفلسفة المادية التي يعيش فيها الغرب في هذا القرن حياته كلها، وقد كان ذلك أثره على اتجاه العلم ومنتجاته وآثاره وخططه في المجتمع والحضارة، وتلك هي أزمة العلم والحضارة.
ثانيًا: عندما بدأ العلم يقدم اكتشافاته، وقع الصدام بينه وبين رجال الدين، فقد كانت الكتب القديمة، قد وضعت مقررات عن الطبيعة والأرض والزمان، اختلفت مع ما حاول العلم أن يثبته.
وقد انتهى هذا الصراع بموقف عداء مع رجال الدين ومع الدين نفسه، وفي هذه المراحل استعلى العلم بكشوفه، وحاول أن يشق طريقه بعيدًا عن الدين، فظهرت مفاهيم مختلفة منها الدين البشري والإلحاد والخصومة بين العلم والدين.
غير أن العلم الذي أصابه الغرور الشديد حين أعلى مفاهيم المادة والعقل، وأنكر الجوانب الأخرى في الحياة الإنسانية كالروحية والغيب والوحي والدين، قد شق طريقًا صعبًا يتمثل واضحًا في كتابات أرنست رينان، وهربرت ###95### سبنسر، وغيرهم من الفلاسفة لا العلماء.
فقد حاول هؤلاء بالإضافة إلى بخز وغيره تفسير الحياة تفسيرًا ماديًا صرفًا، وبلغ الإيمان بالعلم درجة كبرى حتى وصفه أرنست رينان في كتابه "مستقبل العلم" بأنه سينقذ الإنسانية وأن العصر الذي يسود فيه العقل، وتصل فيه الإنسانية إلى الكمال آت لا ريب فيه. ومن ثم قام مفهوم مسيطر هو أن العلم كل شيء، ولا شيء غيره، وأنه هو الذي ينظم المعرفة على اختلاف أنواعها.(52/3)
ومن ثم نشأت نظرية قيام المجتمع على أساس المحسوس والمعقول وحدهما، وإنكار ما سوى ذلك من دين وغيبيات ووحي ورسالات سماء، واعتبار ذلك كله من الوهم الذي يغرق فيه الجهلاء. (ولندع الجانب الفلسفي حتى نصل إليه) أما العلم فقد تبين له بعدما قطع أشواطًا طويلة أنه ليس قادرًا على الإجابة على كثير من الأسئلة، وخاصة معرفة كنه الأشياء ومصادرها وغاياتها، ومن ثم فقد تقرر بصورة عامة أن العلم لا يفسر الأشياء، ولا يعللها، ولكنه يصفها ويقررها، فمهمة العلم قاصرة على وصف الظواهر وتقريرها، وبذلك خفف العلم من غلواء النظرة الأولى التي كانت في أذهان الأوائل، وهي تفسير الوجود بحيث يصبح ###96### العلم هو المنهج الوحيد للمعرفة، سواء في مجال العلوم الطبيعية والرياضية أو مجال الإنسانية، وتخلى العلم عن الإجابة عن "لماذا" بعد أن تبين لهم عبث هذه المحاولات وعقم نتائجها، وترك العلم للفلسفة مهمة البحث عن العلل النهائية للوجود بعد أن عجز في هذا المضمار، ولم يسفر بحثه عن شيء.
وقرر العلماء أن العلم إنما يقدم مجموعة من الفروض الظنية لتفسير الطبيعة، وأن هذه الفروض تتحول بالتجربة إلى قوانين، كما قرر العلماء أن العلم لا يفسر شيئًا، وإنما هو يربط وينسف ويلاحظ ملاحظة منهجية، وبالتالي يصف ويقرر، وليس هذا فهمًا للأشياء، ولكنه تعرف عليها، ويقرر العلماء أن العلمية تقتصر على ظواهر الطبيعة، وأعمال البشر وعلاقاتهم التي يمكن أن تستخدم المشاهدة والتجربة لاكتشاف قوانينها، ومن ثم فقد وصل العلم إلى تقرير أن العقل البشري لا يستطيع أن يدرك شيئًا إلا عن طريق الحواس، ولذلك فكل ما يقف وراء الحس والعقل، فلا يمكن للعلم أن يبحث فيه، أو يعرف عنه شيئًا، كذلك فقد تقرر أن حقائق العلم ليست مطلقة ولا أبدية، بل هي تقرر الحقيقة النسبية، وما يزال للبحث العلمي صراع بين الإنسان والطبيعة.(52/4)
###97### فكلما ازداد الإنسان معرفة لقوانين الطبيعة، ازدادت سيطرته عليها، وما زال العلماء يتساءلون: هل يستطيع العقل أن يدرك الحقيقة؟ لقد قطع أشواطًا بعيدة خلال ثلاثمائة سنة، فهل استطاع الوصول إلى الحقيقة؟
كذلك فإن العلم ما زال يجهر الإنسان بأفظع وسائل الفتك والتدمير، وزعم تقدم العلم، فإنه عجز عن حل المشاكل الكبرى المتمثلة في أصول الكون ونهايته وطبيعة المادة ومنشأ الحياة وخلود الروح، وما زالت آراؤه مضطربة.
يقول مارتين ستانلي كونجدن: "إن نتائج العلوم تبدأ بالاحتمالات، وتنتهي بالاحتمالات، وليس باليقين" ونتائج العلوم بذلك تقريبية، عرضة للأخطاء في القياس والمقارنات، ونتائجها اجتهادية وقابلة للتعديل بالإجابة والحذف، وليست نهائية، وقد اضطر العلم منذ أجيال أن يترك البحث في كنه الأشياء بعد أن تبين له أن لا سبيل إلى معرفة الكنه المغيب عن الحواس، واكتفى بدراسة ظواهرها.
ولا ريب أن لغلبة المادية الصرفة عن العلم، ولانفصاله عن الروح، ولتجاهله الدين والوحي ورسالة السماء التي قد قدمت للإنسان عالم الميتافيزيقا في وضوح ###98### كامل، لا ريب أن لهذا كله أثره في عجز العلم عن فهم كنه الأشياء، وعن قصوره عند المحسوس وحده، ويقول رسل تشارلز أرنست: إن كل الجهود التي بذلت للحصول على المادة الحية من غير الحية، قد باءت بفشل وخذلان ذريعين، ومع ذلك فإن من ينكر وجود الله، لا يستطيع أن يقيم الدليل المباشر المتطلع للعالم على أن مجرد تجمع الذرات والجزيئات عن طريق المصادفة يمكن أن يؤدي إلى ظهور الحياة وصيانتها وتوجيهها بالصورة التي شاهدناها في الخلايا الحية".(52/5)
ثالثًا: هاجم "روجر بيكون" ومن بعده "ديكارت" المنطق الأرسطي، وما يفضي إليه من اعتماد على العلم طريقة القياس، وقال: إنه ينبغي أن يعتمد قبل كل شيء على التجربة، وكان العلماء المسلمون قد سبقوهما في ذلك بأكثر من سبعة قرون، وكان التحذير من استخدام المنطق الأرسطي يرجع إلى تصوره، وكان المنهج العلمي الصحيح هو الذي يجمع بين التجربة وبين القياس، أي: بين الاستقراء القائم على التجارب وبين القياس المحكم، وأطلق على هذا "المنطق الحديث" ولم يكن هذا الجمع إلا ما دعا إليه البيروني وابن الهيثم وجابر بن حيان، ثم جاء مفكرو الغرب من بعد ذلك يعلنون أن المنطق الأرسطي، قد انتهى زمنه، ###99### وحل بدلا منه المنهج العلمي الذي يعتمد على دراسة الظواهر ورصدها مع الجمع بين التفكير النظري وبين الملاحظة والتجربة.
وكان هذا هو ما قرره المسلمون من قبل، وجاءت آراء كانط وديكارت ونيوتن في الطبيعة وانكسار الضوء والإبصار، فهللت لها أوروبا، ثم تبين من بعد أن أغلبها مأخوذة من ابن الهيثم، وهلل الغرب لـ "هارفي" ووصف بأنه مكتشف الدورة الدموية مع أن مكتشفها الذي سبق هارفي بقرون هو ابن النفيس.
وهللت أوروبا لآراء دارون ولامارك في التطور، وقد ذكرها ابن مسكويه، وما نادى به لامارك من أثر الطبيعة والبيئة على الأحياء سبقه إليه ابن خلدون حيث قال: إن العادة قد تغير من صفات العضويات كما يغير الطقس، ويضاف إلى ذلك ملاحظات الجاحظ وابن سينا في التطور والارتقاء.(52/6)
وقبل كبلر وجاليلو وكوبرنيك وضع العلماء المسلمون علم حساب المثلثات بطريقة منظمة، واعتبر علمًا إسلاميًا، وعملوا الأرصاد، وأقاموا المراصد، وقدروا أبعاد بعض النجوم والكواكب، وقالوا باستدارة الأرض، وقاسوا ###100### محيطها، وحسبوا طول السنة الشمسية، ورصدوا الإعتدالين، وحسبوا طول السنة الشمسية، وكتبوا عن البقع الشمسية وعن الكسوف والخسوف، ووضعوا أسماء كثير من الكواكب التي ما زالت تستعمل حتى اليوم: (الدب الأكبر – الأصغر – الحوت – العقرب – إلخ).
وهذا كله يعني أن الأصول العامة التي تفرعت من بعد، قد أرسى دعائمها المسلمون حتى جاءت النهضة العلمية الحديثة، فاندفعت إلى آفاق بعيدة، فاتسعت مجالات العلم من كيمائية وجولوجية ورياضية، وفلكية، وطبيعية ونبات وحيوان، ووصلت إلى المفاعلات الذرية والتفاعلات الكيميائية المختلفة وإرسال القذائف الصاروخية والأقمار الصناعية وسفن الفضاء وغزو الفضاء.
غير أن الملاحظ أن هذا التقدم العلمي قد اعترضته مجموعة من المحاذير الخطيرة:
أولا: كان اختلافه مع الكنيسة مصدرًا من مصادر خلافه مع الدين ووقوع الصراع والتعارض على النحو الذي فصل العلم عن روح الدين كلية وعن أخلاقياته، فاندفع في طريقة لإنتاج آلات الدمار والذرة وأخطارها في الحروب وفي الاستعمار، وبالنسبة للشعوب الضعيفة.
###101### ثانيًا: أعطى العلم سره للقوى الكبرى، وحجبه عن عامة البشر والناس، فلم يكن أداة سعادة للإنسانية، كذلك اتجه إلى الجانب الحربي أثر مما اتجه إلى جانب تخفيف آلام الإنسانية، كذلك انحرف إلى جانب الترف والغرائز والأهواء.
ثالثًا: حاول السيطرة بأساليبه المادية على العلوم الإنسانية وقضايا الأخلاق والنفس والمجتمع، بينما لم تكن أدواته هذه صالحة لهذه الوجهة.
رابعًا: أعان على ظهور الفلسفة المادية، فانحرف بالبشرية إلى أخطر أزمات الإنسان حين(52/7)
أعلى من شأن الجوانب المادية، وأنكر الجوانب المعنوية والروحية والنفسية.
خامسًا: كان من أخطر طوابعه إنكاره مصدر القوانين والنواميس الطبيعية والعجز عن نسبتها إلى صانعها الأول: الحق تبارك وتعالى.
رابعًا: كانت نظرية التطور التي جاء بها دارون، هي أول نقاط تحول العلم الغربي إلى المادية وسيطرة المفهوم المادي على الاجتماع الإنساني، فلقد كان دارون يرى أن جميع الكائنات الحية التي كانت تعيش على الأرض، قد نشأت من أصل واحد أو عدة أصول، ولم يزعم دارون أن الإنسان قد ###102### انحدر من القرد مباشرة، ولكن من نوع من الكائنات أقل مرتبة من الإنسان، ثم اجتاز مرحلة تطور فائقة اكتسب فيها القامة المعتدلة والعقل، وما قدمه دارون لم يكن إلا نظرية، والنظرية أساسًا تقوم على فروض تتجمع لترجح وجهة نظر معينة، فبحكم ما وصل إلى علم دارون وما اطلع عليه من جماجم وحفريات افترض هذا، وبالرغم من أن ما قاله دارون كنظرية قابل للنقض والمعارضة، فقد حورتها الفلسفة إلى ظاهرة اجتماعية هي التطور الاجتماعي؛ "وهذا له مجال في دراسة الفلسفة". غير أن كثيرًا من العلماء لم يقبلوا افتراض دارون، وكشفت أبحاث هكسلي وغيره من أن الإنسان مخلوق فريد من الناحية البيولوجية، ومن النواحي العقلية والنفسية، وأنه في هذا يتميز تميزًا واضحًا عن الحيوانات. ولقد ناقض دارون تلاميذه وأقرب الناس إليه، ووجدت مفاهيم دارون في تنازع البقاء في السلالات اختلافًا كبيرًا بين خلفائه، وعدلت عشرات المرات، وثبت تضاربهما وتعارضهما، وأبرز من عارض دارون "لالاند" في كتابه "خداع التطور" فقد أثبت خطأ نظرية التطور من الأساس.
ويقول أقرب الناس إلى دارون: إن دعوته إلى تنازع البقاء، قد حالت بينه وبين رؤية التعاون في الطبيعة، ###103### والتعاون أكبر من التنازع.(52/8)
ومن الغريب أن "لامارك" قد علل قبل "دارون" النشوء والارتقاء تعليلاً غير هذا، فقال: إن النشوء والارتقاء إنما ينجم عن تكيف الأحياء وفقًا لبيئتها وتوارث الصفات المكتسبة، وقال آخر بما يسمى التحول الفجائي بين الأحياء، وقد اشترك كثير من الفلاسفة والعلماء في دراسة الصلة بين المخلوقات، وقالوا بوجود قرابة بين الإنسان وسائر الحيوانات، ولكنهم لم يتوصلوا إلى إيجاد تعليل واف يبين كيف تم ذلك، وقد أطلق على هذه النقطة اسم "الحلقة المفقودة" التي ما زالت إلى وقت قريب موضع تعلة الماديين وتمسكهم بهذا الرأي.
خامسًا – تبين من الأبحاث التي أجريت فيما يتعلق بنظرية دارون من الناحية البيولوجية الخالصة أن الإنسان لم يتطور إلى كائن آخر، وما زال هو الإنسان الذي وجد منذ عرف بصورته هذه، وقد مرت عليه عشرات الألوف من السنين، ولاريب أن هذا الثبات ينفي القول بتطوره قبل ذلك إلى صورته الحالية،كذلك، ثبت بطلان نظرية الاستعمال والإهمال، وقد قام الدكتور أوجست ولبرمان فأخذ فيرانًا وقطع أذنابها بمجرد ولادتها، واستمر في ذلك حتى ###104### الجيل الثاني والعشرين، فلم تحدث حادثة واحدة أن ولدت فأرة بغير ذنب، وكان لامارك قد افترض من استعمال أي عضو ينميه ويقويه، وترك أي عضو بسبب ضموره وتلاشيه.(52/9)
ولقد حاول أرنست هيجل أن يذهب إلى أبعد مما ذهب إليه دارون، فأعلن تسلل الإنسان من القردة مباشرة، وقد تعددت الأبحاث منذ سنوات طويلة في هذا المجال للبحث عن الحلقات المفقودة، وجرت دراسة آلاف العظام والجماجم وبقايا الإنسان المتناثرة في أنحاء العالم القجيم من جزر جاوة، إلى كينيا وروديسيا والصين، وقد وجدت قطع من العظام والجماجم ترجع إلى ما يقرب من خمسة عشر مليونًا من الأعوام وتعددت كشوف العلماء، وتوالت حتى جاء الدكتور ليكي مدير المتحف الوطني في كينيا الذي يوالي أعماله الحفرية منذ ثلاثين عامًا ليعلن عام 1964 م بأنه اكتشف مجموعة من المخلوقات في جبال كينيا تختلف اختلافًا شديدًا عن شجرة دارون وعن فكرة القرد الحيواني، ومعنى هذا أن القرد الحيواني لا ينتمي لشجرة التطور الإنسانية، وأنه انقرض تمامًا، ولم يخلف أي أثر، واستمر الدكتور ليكي في أبحاثه حتى أصبح شوكة في جنب علماء الأنثروبولوجيا قبل أن يموت عام 1972 م.
###105### واستطاع خلفه ريتشارد أن يقع على أهم اكتشاف في هذا المضمار، فقد وجد في أحد جبال كينيا جمجمة وعظامًا هزت الأوساط العلمية ترجع إلى مليون وستمائة ألف سنة تقريبًا، وأهم ما يميزها أن حجم المخ ووحداته ضعف حجم مخ "القرد الحيواني" رغمًا من أنها تزيد على القرد الحيواني بحوالي مليون سنة، ويعطي هذا الكشف تأكيدًا عمليًا بأن الجنس البشري ينتهي إلى فصيلة أخرى غير فصيلة القرد الشمبانزي، وقد وجدت الحفريات مجموعة كبيرة من بقايا القرود، وسمي الاكتشاف الجديد الإنسان 1470 ومن أهم ما يميزه أن زاوية ارتباط العمود الفقري بقاع الجمجمة، يؤكد أنه كان قادرًا على المشي مثلنا تمامًا، ولم تكن له صفات الوحش المعتدي، وهذا يدحض نظرية دارون في أن الصفات العدائية في الإنسان ترجع إلى أجداده القرود.(52/10)
وكان البرفسور جوهانس هوردبر العالم الذري في سنمبتال بسويسرا قد أذاع بيانًا في "10 مارس 1956 م" عارض فيه نظرية دارون بشدة، وقال: إنه لا يوجد دليل واحد من ألف على أن الإنسان من سلالات القرود، وأن التجارب الواسعة التي أجراها دلت على أن الإنسان منذ عشرة ملايين سنة، يعيش منفردًا وبعيدًا جدًا، كذلك أعلن دكتور ###106### رويتر المشرف على أبحاث جامعة كولومبيا، وأيده البروفسور هوردلر "31 مارس 1956 م" أن نظرية دارون لا أصل علمي لها، وأن الكائنات إنما خلقت مستقلة الأنواع استقلالاً تامًا، فمنها الإنسان الذي يمشي على رجليه، ومنها الدواب التي تمشي على أربع، ومنها الزواحف التي تمشي على بطنها، كذلك أعلن العلامة هوجودي فريس: أن الأنواع قد ظهرت إلى عالم الوجود دفعة واحدة كاملة العدة دون سابق إعداد أو خطوات متوسطة، فلم يكن ثمة حاجة إلى سلسلة من الأجيال المتعاقبة أو الانتخاب الطبيعي أو تنازع البقاء.
ويقول الدكتور كريسي موريسون: إن كل نوع شجرة مستقلة، وإن القانون يتحكم في التنظيم الذري بالجنينات التي تقرر قطعًا كل نوع من الحياة من البداية إلى النهاية، ويقول جوليان هكسلي: إذا كان الحيوان قد تحول إلى إنسان في الماضي، فلماذا لا تتحول بعض الحيوانات الحالية إلى أناس؟
وصدق الله العظيم إذ يقول: [والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه، ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير] [45- سورة النور].
###107### وقد جاءت هذه التجارب بعد أكثر من سبعين عامًا ملتقية مع حقائق القرآن الكريم في خلق الأنواع كلها مكذبة لما ظن دارون وما كان قد فرضه بناء على ما وصل إليه من دليل.(52/11)
ومن الحق أن يقال: إن نظرية دارون هي التي فتحت الباب واسعًا ليس أمام العلم، ولكن أمام الفلسفة المادية والشك الفلسفي وأمام خطوات أخرى، استخدمت لها في سبيل غايات بعيدة لتدمير البشرية، وقد سجلت بروتوكولات صهيون طرفًا من هذا الاتجاه في عبارة تقول:
"إن دارون ليس يهوديًا، ولكننا عرفنا كيف ننشر آراءه على نطاق واسع، ونستغلها في تحطيم الدين" والوقع أن دارون لم يكن أكثر من باحث قدم ما وصل إليه، ولم يكن في مذهب دارون ما ينفي وجود الله، ولكن ما جاء في مذهب دارون يختلف اختلافًا صريحًا مع ما جاء في الكتب المقدسة عن الخليقة وأصل الإنسان، ولكنه لم ينكر وجود قوة أزلية قادرة" هي المرجع الأول والأخير ما في الكون، ومن هنا كان الخلاف مع رجال الدين المسيحيين الذين أصروا على ما في كتبهم، غير أن الأمور لم تقف عند هذا الحد، فإن خلفاء دارون من رجال العلم شطوا في النتائج التي توصلوا ###108### إليها، كذلك فلقد تلقف الفلاسفة ومن وراءهم القوى التي أرادت أن تنتفع بالنظرية في غير مجالها البيولوجي حين نقلها هربرت سبنسر إلى مجال الاجتماع. وإن أخطر ما قرره دارون وهو "تنازع البقاء" قد استغل استغلالا سيئًا في نظريات الماركسية والجبرية التاريخية وغيرها، ولقد أكدت الأبحاث الرصينة فشل دارون في تعليل التطور بتنازع البقاء، ذلك لأن عواطفه الاجتماعية التي اكتسبها من المزاحمة التجارية في لنكشير، ومن كفاح الإمبراطورية لخطف الأسواق وإذلال الأمم، هذه العواطف هي التي حملته على أن يكبر من شأن التنازع: تنازع البقاء، وحال بينه وبين رؤية مئات من صور التعاون في الطبيعة والأحياء.(52/12)
وقد ثبت أن البقاء عن طريق التعاون بين الحيوان والنبات أكبر وأوسع من البقاء عن طريق التنازع، وأن دارون أخطأ خطأ فادحًا عندما زعم أن تنازع البقاء هو كل شيء، أو كاد يكون كل شيء، وإن كان فهمه كان محدودًا، وقد تبين أن التعاون في الطبيعة أكبر أثرًا وأوسع مدى من التنازع، وقد استغلت نظرية دارون في مجال الاستعمار استغلالا سيئًا، واتخذت وسيلة للنظم الغربية الديمقراطية في تبرير سيطرة الدول القوية على الدول الضعيفة.
###109### كذلك فإن ما وصل إليه دارون في التطور يختلف عما وصل إليه المسلمون الذين لاحظوا التدرج في مراتب المخلوقات من الجوامد إلى النبات إلى الحيوان إلى الإنسان، ولكنهم نظروا إلى تطور الإنسان من حيث نظر القرآن إليه: نطفة وعلقة ومضغة مخلقة وغير مخلقة، وهكذا فهم ينظرون إلى تطور خلقه حتى أصبح خلقًا آخر متكاملا، ولم يقولوا: إنه من أصل حيواني، ولم يبخسوه قدره، ولم ينفوا عنه مزايا، التي تفرد بها، وردوا تمييزه ابتداء إلى إرادة الله الصريحة من خلقه هكذا منفردًا ليصبح مستخلفًا في الأرض.
أما نظرية التطور التي قال بها دارون، فقد اتخذت سبيلا إلى القول بالتطور المطلق، وهذا ما لا يقره المفهوم الإسلامي الذي يقرر الإطار الثابت للكون وللإنسان، ويقرر الحركة من داخل هذا الإطار "الحركة داخل إطار ثابت وحول محور ثابت" كما تتحرك الكواكب والنجوم، أما التطور المطلق، فقد أريد به دفع البشرية إلى غايات خطيرة غير ما أراد لها الدين الحق.
وقد انتهي هذا إلى القول بالتطور في مجال الأخلاق والعقائد، وهو ما يجعل من أصول الدين الراسخة مجموعة من المبادئ النسبية التي ليست حقائق مطلقة، يمكن أن ###110### تتطور وتتطور إلى ما لا نهاية، وهو ما ليس كذلك.
فالإسلام يقرر أن هناك ما هو ثابت راسخ، وهي الأصول العامة، وهناك ما هو بسبيل التغيير والتبديل حسب البيئات والعصور، وهو المسائل الفرعية.(52/13)
سادسًا: كان لفتوحات العلم أثرها في الفكر الغربي البعيد المدى، وبلغ هذا الأثر غاية عنفه في مواجهة الدين ورجال الدين والكنيسة وتفسيرات الكتب المقدسة التي لم تكن إلا اجتهادات، كذلك كان للعلم أثره في الفلسفة، فإن نظريات العلم طغت على الفكر كله، وأثرت فيه، وكانت الفلسفة هي البديل للدين اعتمادًا على العقل، والنظرة التي وجهت إليه بالتقديس، ثم كانت هناك محاولة سيطرة العلم بمنهجه المادي التجريبي على العلوم الإنسانية، ثم كانت تلك النزعة المادية التي وضعت الطبيعة في موضع الله – سبحانه وتعالى – وأعطتها كل أسباب الإرادة والقوة والحركة. فاختفى بذلك تمامًا من أفق العلم. وأبحاثه ونظرياته الصانع الأكبر، والخالق الأول، الذي خلق من العدم ومن غير مادة موجودة، وكان لهذا آثاره العامة على الحضارة والمجتمع والحياة حين أعلى شأن العلوم المادية مع تقديس العقل وتأليه الطبيعة، بينما تراجعت العلوم الإنسانية وكل ما يتصل ###111### بالنفس والروح والمعنويات والأديان والأخلاق، وكل هذا من أكبر الأخطار التي واجهت العالم المعاصر وسر ما أطلق عليه أزمة الإنسان الحديث؛ كأن سر ذلك هو العجز عن التوازن بين الفكر والمادة والروح والجسم، واتساع النظرة العلمية والعقلية مع قصور العطاء النفسي والروحي، وهو ما عبر عنه كثير من الباحثين بالعجز عن تطوير قلب الإنسانية كما طور عقلها، وقد نتج عن ذلك ما تواجهه البشرية الآن من الحيرة والقلق ونزعات الفراغ والضياع، وقد قال برجسون في هذا: إن جسم البشرية قد تضخم تضخمًا خارقًا للعادة، فأصبح في حاجة إلى مزيد من العطاء الروحي، ذلك أن الذهن البشري وحده لا يستطيع فهم الحياة، وهذا هو ما نريد أن نصل إليه من البحث أنه إذا كان العلم هو وسيلة وأسلوبًا إلى فهم الحياة، فإنه عن طريق أدواته المادية، وعن طريق العقل، قد عجز عن ذلك تمامًا، إذن فهو ليس إلا جزءًا من منهج كبير كما يفهم الإسلام. هذا المنهج(52/14)
يقوم على أجهزة كثيرة وأدوات متكاملة، منها الوحي والدين والعقل والعلم، فهي كلها تتكامل ولا تتنازع وتستطيع بالمواءمة أن تقدم للإنسان أسلوبًا لفهم الحياة أكثر صدقًا وقوة لأنها تقف عند جانب واحد، ولكنها تنظر في كل الجوانب، وتلك هي الصيحة المتعالية الآن في الغرب بعد أن وصل العلم إلى ###112### تحطيم الذرة التي تقول بعجز العلم عن حل المشاكل، وأن العلم مهما تقدم فهو محدود، وأن هناك طاقة معطلة في العمل ورثة معطلة في المجتمع البشري تلك هي الدين، وكذلك فقد سقطت فكرة الاستقلال المتبادل بين الدين والعلم، فالدين أصل، والعلم فرع منه.
وقد تأكد الآن أن العلم سوف يعجز عن القضاء على الدين، بل سوف يؤكد الدين، وإذا كان الدين الحق لا يفسر ظواهر الكون كالعلم، فإنه يضع الإطار الأخلاقي للحياة، ويرسم المنهج الذي تقوم عليه العلاقة بين الله والإنسان والإسلام هو الذي أقام للعلم منهجه ومنطلقه من حرية البحث وهو الذي وضع العلم في إطار أخلاقية القيم، والتقوى الربانية حتى لا يستعلي بنفسه، أو يستعلي به طائفة من الناس، فيهددوا به البشرية أو يحرموها ثمرته، وحتى لا يكون أداة لإبادة الأمم أو إثارة القلق والاضطراب في المجتمعات من توقع خطر الحروب، كذلك حتى لا تكون مقرراته ومعطياته خاصة يقوم دون آخرين، ولكن ليكون لسلام البشرية كلها.
…………………الأستاذ/ أنور الجندي(52/15)
سلسلة على طريق الأصالة محمد صلى الله عليه وسلم الرسول الخاتم
…(المثل الأعلى والأسوة الحسنة)…
ما تزال سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وستظل على مدى الأجيال والقرون، وحتى يرث الله تبارك وتعالى الأرض ومن عليها نبراسًا للمسلمين وضوءًا كاشفًا في حياتهم وأعمالهم ووجهتهم، فقد كانت تطبيقًا كريمًا لمنهج الله الذي جاء به القرآن الكريم ونورًا هاديًا لكل أمة تريد أن تصل إلى الحياة الكريمة على هذه الأرض أداءًا لحق الله وإقامة لمجتمعه في الأرض ومن حيث أخذت تنظر في وقائع حياة الرسول الكريم فأنت لا ريب تجد العبرة والقدوة والأسوة التي تضيء لك الطريق.
ذلك أن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ليست حديث تفاخر أو تندر أو تسلية وتبسط ولكن حياة الرسول هي منهج لحياة المسلمين على مدى الأزمان وهي ضرورة حتمية في أيام الأزمات وفي مراحل الضعف والتخلف وهي عامل أساسي في سبيل عودتهم إلى الله وإقامة المجتمع الرباني على الأرض من جديد فقد كانت حياة الرسول هي ###6### التطبيق العملي لمنهج القرآن والشريعة الإسلامية وستظل نبراسًا للأمة الإسلامية في جميع مراحلها في مختلف أزماتها وحين يشتد عليها الحصار والاحتواء من القوى الغازية ومخرجًا لها من كل مؤامرات خصومها.
كانت هذه الحياة خصبة حافلة بالعطاء، ووصلت إلينا كاملة بأدق دقائقها، كأنما نرى الرسول صلى الله عليه وسلم ونسمعه في مختلف وقائع حياته قائمًا ونائمًا ومتحدثًا وعابدًا ومحاربًا وقاضيًا.(53/1)
فقد كان هذا كله إذ جمع الله تبارك وتعالى له ولمن تبعه بين الدعوة والدولة، وبين الرسالة والقيادة، وبين التبليغ والحكم، وهو ما لم يتحقق لنبي من قبل، وقد أعطى ما لم يعط رسول سبقه، وجاء الأنبياء برسالتهم إلى قومهم وبعثه صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة وختمت به رسالات السماء فلا نبي بعده، وأعطى الأنبياء معجزات حسية لعصرهم وبيئتهم أما هو فقد أعطى القرآن معجزة المعجزات الباقية الخالدة إلى يوم القيامة، يقول صلى الله عليه وسلم:
"ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن البشر، إذ كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله لي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا".
وأعطى الأنبياء كتب السماء ووكل إليهم حفظها فاختلف فيها أما كتاب محمد صلى الله عليه وسلم فقد حفظه الله تبارك وتعالى (إنا نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) بل لقد زاده الله شرفًا حين قال (وإن علينا بيانه).
###7### وما من نبي أو رسول إلا ناداه الله تبارك وتعالى باسمه، أما نبيكم فقد كرمه الحق تبارك وتعالى فقال: (يا أيها النبي، يا أيها الرسول) وقد جعله حبيبًا ومقربًا حتى أقسم بحياته (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) وما حلف الله تبارك وتعالى بحياة أحد قط غيره وزاده حبًا حين جعله أشد قربًا (فاصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا).
وعندما عاتبه قدم العفو على العتاب (عفا الله عنك لم أذنت لهم).
وقد كرم الله تبارك وتعالى أمة هذا النبي فوضع عنهم الإصر الذي كان على الأمم قبلهم، وأحل لهم كثيرًا مما شدد على من قبلهم ولم يجعل عليهم في الدين من حرج ورفع عنهم المؤاخذة بالخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وحديث النفس "وأن من همّ بسيئة منهم لم تكتب عليه سيئة بل تكتب حسنة إن ترك فعلها، ومن همَّ بحسنة فإن عملها كتب عشرًا".
قال تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج). وقال: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وقال تعالى: (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم).(53/2)
وقد كرم الله تبارك وتعالى رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يأخذها بسنن الأمم السابقة بل أعطاها عشرات الرحمات فلم يرسل لها الآيات حتى لا يهلكها حين كذبت وما أعطى الله تبارك وتعالى أمة ###8### محمد أن جعل فيهم طائفة لا تزال ظاهرة على الحق حتى يأتي أمر الله.
وبعد فإذا ذهبنا نستجلي شمائله الكريمة وجدنا عجبًا:
لما انكسفت الشمس يوم وفاة ابنه إبراهيم وقال الناس إنها انكسفت لموته خرج يجر ردائه ويعلن أن الشمس والقمر آيتين من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا حياته.
وعندما سمع الناس الصوت المدوي في غلس الصباح الباكر وخرجوا منزعجين رأوه صلى الله عليه وسلم عائدًا من مكان الصوت على فرس عرى وسيفه في رقبته وهو يقول لهم: لن تراعوا، لن تراعوا، وعندما وجد رجل يرتعد بين يديه قال له صلى الله عليه وسلم:
هون عليك، إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة وعندما دخل مكة ظافرًا منتصرًا قال للناس: ما تظنون إني فاعل بكم، قالوا: أخٍ كريم وابن أخٍ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أقبل جلس حيث ينتهي به المجلس وكان يمد طرف ردائه لحليمة السعدية لتجلس عليه ويلقي وسادته لضيفه ويجلس هو على الأرض، وكان إذا لقيه أحمد من أصحابه قام معه فلم ينصرف حتى يكون هو الذي ينصرف وإذا ما لقيه أحد فتناول يده ناوله إياها فلم ينزع يده حتى يكون الآخر هو الذي ينزعها وكان يتجمل لإخوانه ويقول: إن الله يحب ###9### من أحكم إذا خرج لإخوانه أن يتجمل لهم، وقالوا: كنا نعرف خروج النبي برائحة الطيب، وقال أنس بن مالك: صحبت رسول الله عشر سنين وشممت العطر كله فلم أشمم نكهة أطيب من ريح رسول الله وما رأيت أحدًا أسرع في مشيته من النبي، كأن الأرض تطوى له وإنا لنجهد وهو غير مكترث.(53/3)
وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى المطر قال: اللهم صيبًا نافعًا وإذا خاف ضرره قال: اللهم حوالينا ولا علينا. وإذا سمع الرعد والصواعق قال: اللهم لا تقتلنا بغضبك وتهلكنا بعذابك، وكان إذا رأى الهلال قال: الله أكبر، اللهم أهله علينا باليمن والإيمان والسلامة والسلام، ربي وربك الله، هلال خير ورشد.
ويقول للمسافر: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم أعمالك، وإذا سرى بالليل مسافرًا قال: اللهم أطو لنا الأرض وهون علينا السفر.
وكان يعود المريض ويتبع الجنائز ويجيب دعوة المملوك ويركب الحمار ويقف للمرأة العجوز في الطريق ساعة تحدثه وإذا جاء وقت الصلاة قال: أرحنا بها يا بلال.
وكان يوجه أصحابه: يقول صلى الله عليه وسلم: لا يكن أحدك إمعة، يقول إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم ###10### إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم" ويقول: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والصغير على الكبير، والقليل على الكثير.
ومن ذلك قوله: إذا كنتم ثلاثة فلا تتناجى اثنان دون الآخر، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصيم ويقول لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ويجلس فيه ولكن تفسحوا وتوسعوا ولا يقضين أحدهم بين اثنين وهو غضبان، رحم الله رجلا سمحًا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى.
هذا رسول الله سماحة نفس وكرم خلق ونبل محتد فإذا جاء الأمر الجليل كان على قدرة من المسئولية حزمًا وحسمًا.
إن الذين من قبلكم كان إذا سرق الشريف فيهم تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد.
لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها.
###11### كل عمل الجاهلية أضعه تحت تحدثي وأول ربا أضعه هو ربا عمي العباس بن عبد المطلب.(53/4)
وإنه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته.
ويقول صلى الله عليه وسلم: إن الزمن قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض واليوم نقول: لقد استدار الزمن كهيئة يوم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وان الإسلام الآن في مرحلة اليقظة التي تضعه على طريق الفجر بعد ليل طويل وأن خير ما يحتفل به في مولده هو التماس منهجه وتطبيق تعاليمه وإقامة المجتمع الرباني الذي دعا إليه والذي جعلنا مسئولين عنه وتبليغ رسالته إلى العالمين وأن يجمع المسلمون بين العقيدة والشريعة والأخلاق في وحدة واحدة، هذه دعوة نوجهها إلى إخوتنا أنصار السنة ورجال التصوف حتى يستكمل المسلم عقيدته: دعوة إلى توحيد الله وشريعة مطبقة في منهج الحياة وتزكية نفس بالأخلاق والعبادة فالمسلم سنيًا ومتصوفًا، سلفيًا وعابدًا، فارس النهار وراهب الليل.
أن ما يتميز به الإسلام عن عقائد البشر هو أن يجعل وجهته خالصة لله تبارك وتعالى وأن يكون كما عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن هذا الأمر لا يحسنه إلا من أخذه من جميع أطرافه".
###12### وقد قدم الإسلام بحياة النبي صلى الله عليه وسلم مفهومًا جديدًا لتطور الإنسانية يختلف عن مفهوم الغرب الذي يرى العظمة في أهل الغنى وأبناء القصور والدرجات وهو مفهوم الجاهلية أيضًا (لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) فقد جاء النبي يتيمًا أميًا فقيرًا ليجعل الله تبارك وتعالى من النبوة والوحي مقياسًا مختلفًا عن مقاييس البشر ومناهج الناس (ألم يجعلك يتيمًا فآوى، ووجدك ضالا فهدى، ووجدك عائلا فأغنى) كما أنه جعل العقيدة قادرة على أن يخرج الإنسان عن أخطاء الوراثة والبيئة مخالفًا مناهج العلوم الاجتماعية المادية.
ومن هنا فإننا يجب أن ننتهز هذه المناسبات لنحشد العبرة الحقيقية لها:(53/5)
أولا: أن نملأ قلوب شبابنا بالثقة الكاملة والإيمان الراسخ بأن دعوة الإسلام هي أمل البشرية اليوم بعد أن عجزت الأيدلوجيات كلها وتراجعت وهو وحده الذي يحمل لهذا العصر علاج أدوائه.
ثانيًا: إن الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو دعوة الله الأولى والأخيرة منذ بعث أنبيائه.
ثالثًا: إن الإسلام هو الذي حرر الإنسانية عن عبودته الحضارات الفرعونية واليونانية والرومانية والفارسية والهندية وحرر العقل الإنساني من الوثنيات وألغى مفاهيم أرسطو وأفلاطون ###13### حول سيادة السادة وعبودية العبيد وألغى مفهومها الذي ظل مسيطرًا مئات السنين وفتح الباب أمام حرية الإنسان من السخرة والرق من ناحية كما حرر عقله وقلبه من عبادة الأصنام والأوثان فالبشرية اليوم مدينة لمحمد صلى الله عليه وسلم بهذا التحول الخطير.
رابعًا: إن الإسلام هو الذي قدم للإنسانية المنهج العلمي التجريبي ومنهج المعرفة ذي الجباحين ووضع البشرية على طريق المدنية والعلم والتكنولوجيا وأن الإسلام قدم ذلك من توجيه القرآن وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم ودينه وكتابه هو الذي صنع الحضارة الإنسانية حين أنشأ المسلمون المنهج التجريبي ومنهج المعرفة الجامع بين الروح والمادة ومن منطلق الآية القرآنية: (قل انظروا ماذا في السموات والأرض). وقوله تعالى: (قل هاتوا برهانكم).
خامسًا: أن الإسلام ينظر إلى كل قضية من القضايا المعاصرة عن طريق أساسي، هو أن لكل قيمة من القيم جانبان متكاملان: روحي ومادي، ولا يمكن فهم أي نظرية أو فكر أو مذهب دون وضعه تحت هذا المجهر، ومن قصور الفكر والحضارة الغربيين التماسهم طريقًا واحدًا هو الطريق المادي.(53/6)
###14### يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول دينك نبوة ورحمة تكون فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله جل جلاله ثم تكون ملكًا عاضًا فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله جل جلاله ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله جل جلاله ثم تكون (خلافة على منهاج النبوة) تعمل في الناس بسنة النبي ويلقى الإسلام بحرانه(1) على الأرض ويرضى ساكن السماء وساكن الأرض ولا تنزع السماء من قطر إلا صبته مدرارًا ولا تنزع الأرض من نباتها وبركاتها شيئًا إلا أخرجته".
فنحن الآن على طريق الله إلى هذه الغاية وهذه علاماتها: يقظة وصحوة ونهضة، يدخل الإسلام إلى كل حجر ومدر في قارات الأرض الخمسة وتعلو كلمة الله ويسلم المفكرون الغربيون الراغبون إلى معرفة الحق وتنجلي الآيات وتنكشف عن القرآن معجزاته في الخلق وفي الآفاق، ومن وراء الكواكب والمجرات يد الله تبارك وتعالى الخالق الصانع القادر فاعتبروا يا أولي الأبصار وتحية عطرة للنبي الأمي صلى الله عليه وسلم الذي هدانا إلى طريق الله وشرفنا بأن جعلنا من خير أمة ###15### أخرجت للناس فاستمسكوا به وبكتابه ودعوته إلى التوحيد الخالص وإسلام الوجه لله واصبروا ورابطوا واثبتوا وأبشروا:
(يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون) صدق الله العظيم.
هذا وبالله التوفيق
…………………الأستاذ/ أنور الجندي
__________
(1) في القاموس حران وحرين أي أقام في مكانه لا يبرح.(53/7)
سلسلة دراسات إسلامية معاصرة النظرية المادية
أنور الجندي
منشورات المكتبة العصرية
صيدا - بيروت
النظرية المادية
النظرية المادية نظرية فلسفية ترى أن جميع ما في الكون مؤلف من المادة، ولا وجود لشيء غير مادي في هذا العالم، ولقد تعددت مذاهب الفلسفة المادية منذ أيام "ديمقريطس" اليوناني الذي قال بأن لا شيء موجود إلا بالمادة، ثم تجددت في العصر الحديث.
وكل المذاهب المادية ترى أن المادة، هي الوجود الأصلي للأشياء، وهي بهذا تعارض حقائق الفطرة والطبيعة والعقل والدين، وهي تعارض عددًا من المذاهب الفلسفية، كالمذهب الروحي في الفلسفة لأنها لا تؤمن بوجود الروح، ومن يؤمن بوجود الروح والعقل من الماديين، فإنه يرى أنهما متوالدان من الوجود المادي، أو أنهما صفة طارئة لبعض حالات المادة، كما تعارض النظرية المادية الفلسفية المثالية التي ###116### ترى أنه بالعقل يمكن تفسير سلوك المادة، ونفهم حالاتها وأوضاعها، ولكنا لا نفهم العقل بالمادة لأنها خالية من الوعي والإدراك، وترى النظرية المادية أنه ليس في العالم الملموس خواص ثابتة لذلك فلا يمكن وجود مفاهيم ثابتة ولا قوانين قطعية، ولا تؤمن الفلسفة المادية بالدين، وهي ترى أنه نظام من وضع البشر، ولا تؤمن بحياة أخرى بعد هذه الحياة. وأبرز قواعد النظرية المادية:
لا وجود غير الماد\ة، وأن قوام العالم عنصر واحد هو المادة.
سيطرة القوانين واضطرادها واستمرارها.
إنكار الغائية.
إنكار الغيب "عالم ما وراء الطبيعة" الميتافيزيقا.(54/1)
وقد ظهرت نظرية المادية في إبان عصر العلم وفتوحاته الضخمة، وقد كان منطلقها تحول نظرية دارون من نظرية بيولوجية إلى نظرية اجتماعية عامة حين تلقفتها الفلسفة، وقد جاء ذلك بعد أن سقطت تفسيرات الدين، وانقسمت الفلسفة إلى مثالية روحية وإلى مادية، ثم سيطر المذهب المادي واستعلى نتيجة لسيطرة العقليات والحسيات والمبالغة في التصور بأنهما وحدهما عنصرا الوجود، أما الجانب الآخر غير ###117### الظاهر فقد صرف النظر عنه نهائيًا، وإن أطلق عليه اسم ما وراء الطبيعة غير أن النزعة العلمية التي سيطرت على الفكر كله، فرضت العقل والحس منطلقًا للفكر، وتجاهلت ما سواهما، وخاصة كل ما يتصل بالعلم عن طريق الوحي والنبوة ورسالات السماء.
ويعد الفيلسوف ديكارت أول من فصل الروح عن المادة فصلا بينًا، ومن ثم تراجعت مفاهيم الغيب وما وراء الطبيعة والروح والفكر، ولا ريب أن أصدق ما يقال في هذا: أن العلم الحديث نظر في المحسوسات والماديات، وقطع شوطًا كبيرًا من الانتصارات، فلما تعرض لما وراء المادة، عجوز بأدواته القاصرة عن تحقيق أي نجاح، ومن ثم أغفل هذا الجانب، وحاول تعليله تعليلا ماديًا، ويرد الباحثون غلبة النظرية المادية إلى نتيجة انتصار المادة مما دعا الفلاسفة إلى الإعلان بأنه لا يوجد غير المادة. حتى الحياة نفسها اعتبرت صفة من صفات المادة من معنى هذا إنكار وجود الروح ومعنى إنكار وجود الروح، هو إنكار لوجود الله سبحانه وتعالى، وللحقيقة فإن العلماء لم يفعلوا شيئًا من هذا، ولم يقرروه، وإنما الذي استحدث هذا وركز عليه ونشره في كل مكان هم الفلاسفة.(54/2)
###118### ثانيًا: كانت النظرية المادية جزءًا من المعركة التي شنها العلم الحديث ضد المسلمات الجامدة والتفسيرات التي حاول الدين في الغرب أن يقدمها للحياة وتعارضها مع إرادة الله ومع اقتحام الحياة ومع المسؤولية الفردية، ولفساد المفهوم الروحي الخالص الذي ينكر الرغبات البشرية، ويحاول القضاء عليها، وتلك هي الصورة التي تجمعت للدين في نظر كل أصحاب الدعوات المادية، فقد بدأ الدين، وكأنه عقوبة قاسية أو قيد مرهق أو مضاد للفطرة البشرية.(54/3)
وفي مواجهة دعوة عنيفة إلى الروحية الخالصة ممثلة في إنكار حق الحياة وقسر الرغبات البشرية برزت المادية كرد فعل عنيف طاغٍ، ولو أن الفكر الغربي فهم الإسلام حق الفهم لوجده قادرًا على العطاء الذي يمكن العلم من أداء دوره دون أن يقع في المحاذير والأخطاء التي ساقه إليها مفهوم غير متكامل، ولا ريب أن من يطالع المذهب المادي على النحو الذي قدمه المتطرفون من أمثال بخنز يجده حربًا عنيفة على تفسيرات الدين ومعارضة لكل ما قدمته هذه التفسيرات حتى ليكاد دعاة المذهب المادي أن يذهبوا أساسًا إلى معارضة الاجتماع والوضع البشري، ويبدو ذلك ظاهرًا من محاولة شبلي شميل حين ترجم مذهب النشوء والارتقاء إلى اللغة ###119### العربية بعد الاحتلال البريطاني لمصر، فإنه لم يقف عند عرض المذهب الفلسفي وحده، ولكنه حاول اتخاذه أساسًا للمجتمع والأسرة والمدرسة والشريعة والقضاء والسياسة؛ فاعتبر المذهب المادي دينًا جديدًا، هو دين البشرية وعلى العرب والمسلمين أن يحلوه محل عقائدهم، كما فعل الغربيون حين عارضوا رؤساء الأديان، فدعا إلى ما أسماه تحرير الإنسان من بواعث التفرق التي غرستها الأديان، وقد كان هذا الاقتباس خاطئًا تمامًا، فإنما استغل الفلاسفة مذهب دارون في الغرب، وحولوه إلى ما أسموه دين البشرية، وهو العلم والعقل، لأنهم كانوا على خلاف مع تفسيرات الدين، ولذلك أرادوا التحرر من آثاره الباقية في المجتمع والمدرسة، وليس كذلك الإسلام في أفق العالم الإسلامي، ولكن هكذا، هدفت القوى الاستعمارية أن تفسد الفكر، وتثير الشبهات، وتنقل ما هو واقع في بيئة مختلفة إلى بيئة أخرى ليست لها به صلة ما.(54/4)
ولم يكن من المعقول أن يقبل بسهولة ما دعا إليه فلاسفة المادية من الاقتصار على العلوم المادية دون التعاليم الدينية، أو من القول بأن الدين قد أضر بالإنسان والمجتمع، أو أن العلوم الطبيعية هي أهم العلوم البشرية، فقد كان ذلك كله ###120### نقلا غير موفق لما يجري في محيط له ظروفه الخاصة وتحديداته الواقعة مما ليس موجودًا في البيئة العربية الإسلامية بتاتًا، ولا هي في حاجة إليه، وفي هذا يقول العلامة محمد فريد وجدي: إن الفلسفة المادية لا تستقر إلا حيث يخلو لها الجو من النقد العلمي الصحيح، والرقابة العلمية الدقيقة لأن أهلها كثيرًا ما يعتمدون على المغالطات والسفسطات، فيسوقونها باسم العلم، وما هي منه، فإذا صادقت نفوسًا خلت من حقائق العلم أضلتها ودفعت بها إلى أقصى حدود التطرف، والمذهب المادي فلسفة لا علم، وفرق كبير بينهما، فالعلم يرود بوسائله مجاهيل هذا الوجود الضخم، وبدون العلاقات الموجودة بين ظواهره منها، ويصم الأشباه والنظائر، ثم يبذل وسعه ليجد النواميس العاملة في كل طائفة منها، وهو يحلل المواد ليعرف عناصرها الأولية، أما الفلسفة فهي جهاد من العقل وراء إدراك الحقيقة الكلية للوجود، وقد دخلت منذ نشوئها إلى اليوم في أطوار كثيرة، فبعد أن كانت تعتمد على العقل وحده، أصبحت اليوم تعتمد عليه، وعلى العلم أيضًا، ومن هذا الطريق وصلت الفلسفة إلى ما وصفت نفسها بالطبيعة، وهي التي يعتمد عليها المذهب المادي إلى الحكم بأن الوجود مادة ###121### محضة، ومحكوم بنظام آلي لا يختلف وأن ما يسمى عقلا وروحًا وعواطف، إنما هي حالات راقية من المادة، وليس لها وجود خاص تستمده من ينبوع سواها.(54/5)
ثالثًا: من حيث إن الكون لا توجد فيه غير المادة، فهو قول مردود بالنظرة الفاحصة والتأمل الرصين، فإن العالم الذي يحيط بنا "الطبيعة والمجتمع" يقدم لنا عددًا لا نهاية له لأن الظواهر المتنوعة تنوعًا لا نهائيًا والتي يمكن أن تتنوع على وجوه مختلفة، هناك أشياء كثيرة لا نستطيع أن نراها وأن نلمسها أو نقيسها، ولكنها أشياء موجودة، مثل أفكارنا وعواطفنا ورغباتنا وذكرياتنا، ونحن نسمي هذه الأشياء فكرية لنعبر عن كونها غير مادية، وهكذا ينقسم كل ما لدينا في الوجود إلى مجالين: مادي وفكري، والواقع يقدم لنا وجهًا ماديًا ووجهًا فكريًا، فالعمل قبل أن نبدأ به ليكون عملا محسوسًا، فهو فكر ثم إرادة، كذلك فإن بجانب المادة في جسم الإنسان شيئًا آخر، هو الروح، فإذا خرجت الروح من الجسد، لم يصبح هو الإنسان، بل أصبح جسدًا ميتًا، فالفكر والروح والنفس قوى لها حركتها وعملها كالمادة تمامًا، ولا يمكن الفصل بين المادة والفكر وبين المادة والروح، وإن فصلت بينهما الفلسفات الغربية، ولا سبيل للقول بسبق المادة ###122### على الروح أو المادة على الفكر أو العكس، وإنما هي دورة مستمرة مضطردة، والإسلام لا يضيع "المادية" في مقابل "المثالية" ولا يقف عند غير هذا القطب أو ذلك القطب، ولكنه يجمع بينهما ويمزجه مزجًا دقيقًا متكاملا، كذلك فليس صحيحًا ما يقال من أن المثالية والمادية يؤلفان تناقضًا أو يتنافيان، فالإنسان مادة وروح، فلا تعارض بين المادية والمثالية، ولا تناقض وليسا هما ضدين لا ينفصلان، وليس كل تقدم للمادية تأخرًا للمثالية أو العكس.(54/6)
رابعًا: لا سبيل إلى إنكار الحقيقة الأساسية التي تقرر أن للكون غاية مقصودة، هي خير البشرية، كذلك فليس هناك ما يؤكد أم شيئًا في هذا الكون يقع بطريقة عشوائية، وإنما يجري كل شيء فيه وفق تقدير دقيق محكم، وليس من حادث يحدث فيه دون غرض يخدمه، سواء كان خفيًا أم ظاهرًا وكل ما في عالم الإنسان، وما في الكون بأسره يجري وفق تقدير مسبق لا يحيد عنه، وكل حدث يجري بقضاء وقدر، لا يردان ولا يقهران، فالغائبة إنما تعني الحكمة التي ارتادها وقدرها الخالق تبارك وتعالى، وأجرى حوادث الكون بمقتضاها، فقد أوجد الإنسان لغاية، وركب الكون لغاية، وليس من سبيل عن طريق العلم أو العقل أو الفطرة لقبول ما ###123### يقول الماديون من أن الكون جاء عن طريق المصادفة، وأنه لا هدف له، ذلك لأن العلم التجريبي والنظرة المادية لا يستطيعان مهما أوتيا من قوة أن يقولا مثل هذا، وهما قاصران على المادة المحسة، وقد تأكد تمامًا أن العلم التجريبي ليس من شأنه ولا في طاقته أن يفسر الأهداف والكيفيات، وإنما هو قاصر على فهم الظواهر، فقد يستطيع أن يجيب على "كيف" ولكنه يعجز عن أن يجيب على "لماذا" والإجابة بلماذا سواء في خلق الكون أو خلق الإنسان، إنما تقتضي الاعتقاد بوجود قوة خارج هذا الكون خالقة ومدبرة هي التي رسمت، وما زالت ترسم وتخطط مصير الكون والإنسان لحظة بلحظة أما القول بسيطرة القوانين الطبيعية واضطرادها واستمرارها فهذا قول قاصر، لأن هذه القوانين ليست من صنع نفسها، وليست مصادفة، ولو كانت لما جاءت بمثل هذه الدقة، وهذا الاستمرار العجيب، ولكنها من صنع الخالق القادر المدبر وصاحب هذه القوانين، وخالقها قادر على خرقها وتعطيلها في أي وقت يشاء، فلا سبيل إلى القول بجبرية استمرار القوانين، ومعنى استمرار القوانين أن تكون الحياة البشرية معادلة معروفة محسوبة، وهذا ما لم يحدث قط، وإن المتابع لسير الحياة والتاريخ وواقع ###124### الأمم والكون،(54/7)
يعلم أن قدرة الله القادرة غيرت القوانين وحقق نتائج لم تكن متوقعة من اضطراد القوانين كما أنها أوقفت نتائج منتظرة، ذلك لأن الله هو خالق كل شيء، وهو على كل شيء وكيل، والمسلم يؤمن بأن الله سبحانه بيده الخلق والأمر.
ومعنى هذا فساد القول بالحتمية وباضطراد القوانين والنتائج، ويضرب بعض العلماء مثلا لفساد ما يعتقده الماديون من أن التطور يجري بقانون الانتخاب الطبيعي الذي يسعى دائمًا إلى بقاء الأصلح، فإنهم يعتقدون أن ذلك يجري وفق ضرورات محيطية ومعاشية، وليس لها غاية مسبقة وضعت قبل خلق الكون والإنسان، ولا ريب أن النظرة الربانية إلى الطبيعة تكشف عن قوانين مذهلة، توحي بأن وضعها في تلك الصورة كان لغاية حكيمة، من ذلك أن الماء هو السائل الوحيد في العالم الذي تكبر كتلته عندما تتجمد، أي: تقل كثافته بالتجمد، ولهذه الميزة الفريدة أهمية عظيمة في هذا العالم، فلو أن الماء تزداد كثافته عند إنجماده لرسبت الثلوج في قاع الأنهار والمحيطات، وبقيت هناك بعيدة عن أشعة الشمس، فلا تذوب وبهذه الصورة تنقص كمية المياه سنة بعد سنة حين تجمد، وتنقص كمية ما في الأرض من ###125### مياه، ولكن كتل الجليد تبقى طافية على سطوح الأنهار والمحيطات، فلا تجمد ما تحتها من مياه، كما أن طبقة الثلج التي تنشأ فوق الأنهار والبحار تحمي حيوانات تلك المياه من البرد، ولولاها لماتت تلك الحيوانات من شدة البرد، أو صعب عليها الحياة، كذلك لو لم يكن الماء مذيبًا لكثير من المواد الغذائية في التربة لما استطاع النبات أن ينمو على وجه الأرض، فهل يمكن القول بأن صفات الماء هذه جاءت مصادفة؟ أم أنها وضعت لغاية مقصودة وحكمة كبرى.(54/8)
خامسًا: إن الاعتقاد في المذهب المادي بأن الموت نهاية الحياة، هو أخطر المفاهيم التربوية والأخلاقية وأبعدها أثرًا في إفساد الحياة وإخلائها من الغايات العالية الرشيدة وحسن التصرف ومدعاة غلى ذلك التكالب للتمتع بالحياة فضلا عن التنصل من الواجبات والمسؤوليات، فلا وجود للأمانة ولا الإخلاص ولا الرحمة، وهذا من شأنه أن يقضي تمامًا على مسؤولية الإنسان في الحياة والتزامه فيها، أما المسلم فهو يؤمن بأن هناك بعثًا وحسابًا ومسؤولية وجزاء للعمل الدنيوي كله، ذلك لأن الإنسان مستخلف في الأرض، وعليه التزام وأمانة، وله إرادة حرة هي مصدر مسؤولية وجزائه، وأنه مطالب أن يعمل على إقامة المجتمع العادل الرحيم ###126### بكل ما يمكنه من قوة وإرادة، وفي حدود عمله وقدرته.(54/9)
سادسًا: إن العلم من خلال تجربته ومعامله ومقاييسه لم يتعرض للقول بمادية الكون، ولكنه قال: إنه يجهل ما وراء الطبيعة، ولم يتعرض للقول بأن الحياة صدفة، وما كان له أن يقول، وهو يرى دقة التركيب والتوقيت، ولكنه قال من واقع معامله وتجربته: إنه يجهل الإجابة عن سؤال لماذا، ومن أين جاء، وإلى أين يتجه؟ وتلك حدود العلم، أما الذي حاولوا أن يقتحموا الفراغ الذي توقف عنده العلم بحكم وظيفته المحدودة وأدواته القاصرة، الذين حاولوا أن يقتحموا هذا الفراغ إنما هم الفلاسفة الذين قدسوا العلم والعقل، وأصروا على أنه لا توجد وراءهما وسائل للمعرفة، وعجزوا وأنكروا وسيلة المعرفة الأولى والكبرى التي جاءت منذ عرف الإنسان وجوده على الأرض، وهي وسيلة الوحي والنبوة والرسالة، وكتب الله ومنهج الله وآياته، فقد قدم الحق تبارك وتعالى للبشرية منهجًا كاملا لهذا الجانب الذي يسمى عالم الغيب، والذي يطلق عليه اسم الميتافيزيقا أو ما وراء الطبيعة، قدمه للإنسان من خلال كتبه ورسله، حتى لا يشغل الإنسان عقله بالبحث عنه، والعقل أعجز من أن يصل إليه دون عون من الوحي الرباني، وحكمة ذلك أن ###127### تطمئن النفس الإنسانية لهذه المعرفة عن الغيب، فتتجه إلى المعرفة المادية التي وجد العقل فعلا للعمل فيها، وهي اكتشاف قوانين الطبيعة والمادة والإفادة منهما في بناء الحياة وعمران الكون وأداء رسالة الإنسان المستخلف في الأرض بإذن ربه، ولكن الإنسان الغربي حين أزاح عن نفسه تفسيرات الأديان التي لم تقدم له هذه الحقائق، ولم يكلف نفسه أن يبحث عن الدين الحق، وفيه منهج كامل للميتافيزيقا، فحاول أن يجتهد، أما العلم فقد توقف عند قدراته وأدواته، وأما الفلاسفة فقد اندفعوا ليسدوا الثغرة بالعجز المتمثل في القول بأن كل ما ليس تحت السمع والبصر، فهو ليس موجودًا، ومن ثم فلا حكمة لديهم في خلق الكون والإنسان فهي المصادفة العمياء، وإذن فلا غائية، ولا بعث ولا هدف(54/10)
من هذه الحياة البشرية على الأرض، فهي إذن لعبة ومن حق الإنسان أن يسارع إلى اقتناص متعها والاندفاع وراء رغباته فيها قبل أن يدركه الموت أو يدركه تفجير الذرة والحرب، ومن هنا كان المذهب المادي فلسفة لا علمًا، وفرق بينهما كبير.
ولكن العلم في الخمسين سنة الأخيرة، دخل طورًا جديدًا من التشكك، دفه أقطابه إلى أن يضعوا "يقيناته" ###128### السابقة في الميزان من جديد وتغيرت لهجة ممثليه، فأصبحوا يتكثرون من قولهم: إن الوجود مشحون بالمجاهيل حتى فيما يدعي أنه قد فرغ من بحثه، وتبين من أقوال العلماء في هذا الصدد أن المذهب العلمي قد أثيرت حوله الشبهات، وأن فتوحات جديدة وصل إليها العلم في مجال المباحث النفسية والروحية، وأن عهدًا جديدًا بدأ يتمثل فيه حاجة العقل وحاجة الروح على أسلوب علمي محض، وقد أعلن أن الأصل الروحاني ضروري لبناء مذهب يحل معضلات الكون، وقد أعلن أن الفلسفة المادية لم تلبث أن أثارت الشكوك حول هذا الانفتاح على عالم الغيب، وحولت المباحث الروحية إلى غايات بعيدة الخطر، وكان على العلم أن يبحث مرة أخرى على آفاق جديدة للفهم الصحيح، وقد جاء ذلك في إنشطار الذرة "فقد كان الظن إلى عهد قريب أن المادة لا تنقسم إلى ما لا نهاية، بل تقف عند حد لا يتجزأ، وهذا الذي سموه الذرة والجوهر والفرد، قم أثبت العلماء أن الذرة قابلة للتجزئة، فبعض الذرات تنفجر من تلقاء ذاتها مثل ذرات الراديوم واليورانيوم وغيرها، واتضح أن الذرة تتحلل إلى ثلاثة أجزاء إلى أشعة، وبذلك انطلقت المادة الذرية، وأصبحت طاقة يمكن استخدامها في أغراض الحرب ###129### والسلم، ومعنى هذا أن أفقًا جديدًا قد كشف الله تبارك وتعالى عنه للإنسان ليصل إلى الحقيقة: إن مفهوم المادة القديم قد تغير، وأصبحت المادة طاقة، وأصبحت المادة تتحول إلى طاقة والطاقة إلى مادة، وأصبحت المادة والطاقة بمثابة مظهرين لشيء واحد، وقال العلماء: نتيجة لذلك: إن القول(54/11)
بالمادية المطلقة يستتبع القول بأن المادة أزلية أبدية، وأنها كاملة غير متطورة، وهذا ما يتنافى مع القوانين العلمية كما يستلزم إنكار العقل، وهو غير مادي، وأن الحتمية تفرض وجود نظام في المادة هو نفسه دليل على وجود قوانين تحكم حركة المادة التي قيل: إنها ثابتة لأنها كاملة، والقوانين عبارة عن علاقات عقلية لا تصنعها المادة لنفسها لأنها غير عاقلة، والحتمية تستلزم أن تسير المادة وفق غاية مرسومة، والغاية توضع قبل أن يوجد الشيء الذي يحققها، فالنحات قبل أن يعمل أزميله في قطعة الحجر، ويكون قد رسم لنفسه الغاية التي يبتغيها من عمله، فالغاية إذًا سابقة على وجود الشيء، وهي فكرة عقلية تحكم المادة، وتوجهها، فهي – إذن – تستلزم وجود قوة روحية عاقلة".(54/12)
سابعًا: إن أخطر مرحلة في تاريخ العلم الحديث، وهي التي سوف تقرر مصيره لأجيال بعيدة، وتفتح له صفحة ###130### جديدة بعد هذه الأعوام الثلاثمائة من صراعه مع الدين، هي انفلاق الذرة التي ألغى نظرية الانفصال بين المادة والطاقة، فأصبح معلومًا أن المادة تصبح طاقة، وأن الطاقة تصبح مادة، وعلى هذا فقد دخل عالم الغيب في صميم العلم، هذا العالم الذي ظل العلم المادي وما تزال الفلسفة المادية تنكره، يقول العلامة هايدين في كتابه المادية: ماتت النظرية المادية بالنظرية القائلة بأن الذرات مركبة من الكهرباء وبروتونات موجبة وإلكترونات سالبة، وطغت عليها نظرية "الكوانتوم" التي تقول: إن الكهربائية تجيء شحناتها من المجهول "الغيب" وتذهب إلى المجهول "الغيب" ومن هنا لم يستطع المذهب المادي الإجابة على هذا السؤال، وقال هايدن معلقًا: إن الحقيقة التي طفق الإنسان يبحث عنها دهورًا عديدة، هي روحانية في وجودها، والروح لا يدركها العقل، وقد توالت في هذا الطريق أبحاث منها حقائق مغايرة تمامًا لما هو سائد في بيئات العلم، كأنه من المسلمات، والعلماء الآن يكشفون حقائق جديدة، ويعلنون أن قوانين "الديناميكا الحرارية" قد أخذت تدلهم على أن لهذا الكون بداية، وأنه إذا كان للكون بداية، فلا بد له من "مبدئ" من صفاته العقل والإرادة واللانهاية، فيقول الباحثون: نعم ###131### إن هذا الخالق لا بد أن يكون من طبيعة تخالف طبيعة المادة التي تتكون منها ذرات تتآلف بدورها في شحنات أو طاقات لا يمكن بحكم العلم أن تكون أبدية أو أزلية، وعلى هذا فلا بد أن يكون هذا الخالق غير مادي، وغير كثيف، ولا بد أن يكون لطيفًا متناهيًا في اللطف، خبيرًا لا نهاية لخبرته، لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار.(54/13)
ويقول هؤلاء العلماء: فإذا كان نريد أن نصل إليه، فسبيلنا إلى ذلك لا يكون بحواسنا التي لا تستطيع أن ترى إلا الماديات الكثيفة، وإذا كنا نريد أن نلمس وجوده، فإن ذلك لا يمكن أن يتم داخل المعامل أو أنابيب الاختبار أو باستعمال المناظير المقربة أو المكبرة، وإنما باستخدام العنصر غير المادي فينا: كالعقل والبصيرة.
إن فروع العلم كافة تثبت أن هناك "نظامًا" معجزًا يسود هذا الكون: أساسه القوانين والسنن الكونية الثابتة التي لا تتغير ولا تتبدل، والتي يعمل العلماء جاهدين على كشفها والإحاطة بها، وقد بلغت كشوفنا من الدقة قدرًا يمكننا من التنبؤ بالكسوف والخسوف وغيرهما من الظواهر قبل وقوعها بمئات السنين، والسؤال هو: من الذي وضع هذا النظام، وسن هذه القوانين، وأقام هذه السنن الكونية ###132### والثابت التي لا تتغير ولا تتبدل؟.
يوجه العلماء هذا السؤال ويجيبون عليه: هل نشأ الكون مصادفة، إن العلماء يشرحون معنى "المصادفة" ويشيرون إلى استخدام الرياضة وقوانين المصادفة لمعرفة مدى احتمال حدوث ظاهرة من الظواهر، لقد حسب العلماء احتمال اجتماع الذرات التي يتكون منها جزيء واحد من الأحماض الأمينية "وهي المادة الأولية التي تدخل في بناء البروتينات واللحوم" فوجدوا أن ذلك يحتاج إلى بلايين عديدة من السنين، وإلى مادة لا يتسع لها هذا الكون المترامي الأطراف، هذا التركيب "جزئ واحد" على ضآلته فما بالك بأجسام الكائنات الحية من نبات وحياون؟ وما بالك بما لا يحصى من المركبات المعقدة الأخرى؟ وما بالك بنشأة الحياة وبملكوت السموات والأرض؟ وكانت الإجابة هي: أنه يستحيل عقلا أن يكون ذلك قد تم عن طريق المصادفة العمياء أو الخبطة العشواء.(54/14)
لا بد لكل ذلك من خالق مبدع عليم خبير، أحاط بكل شيء علمًا وقدر كل شيء، ثم هدى، إن الإنسان لا يستطيع أن يدرس أعمال أي صانع من الصناع دون أن يحيط بقدر من المعلومات عن الصانع الذي أبدع تلك الأعمال، ###133### وكذلك نجد أننا كلما تعمقنا في دراسة أسرار هذا الكون وسكانه، ازددنا معرفة بطبيعة الخالق الأعلى الذي أبدعه ويقول العلماء: إن الأرض والسماوات بسائر تعقيداتها، والحياة في شتى صورها وأخيرًا الإنسان بكل قدراته العليا، كل ذلك أشد تعقيدًا من أن يتصور الإنسان أنه حدث هذا بمحض الصدفة، فلا بد إذن من عقل مسيطر ومن إله خالق وراء ذلك، ويؤكد العلماء نظرية الإسلام في أن المعرفة تتم بواسطة العقل والقلب. يقول روبرت هورتون كاميرون: إن الإنسان يحصل على العلم بطريقتين: البصر والبصيرة. أما البصر فهو ما نتعلمه في حياتنا وما نكتسبه عن طريق حواسنا من الخبرة بأمور الحياة، أما البصيرة فهي ذلك النور الذي يفرغه الله في قلوبنا، فيكشف لنا ما لا نعلم، وكذلك الحال فيما يتصل بالإيمان بوجود الله، إذ لا بد أن يقوم أولا على البصر وملاحظة ظواهر الحياة: الفكر والانفعالات والتمييز الخلقي وحرية الإرادة، ثم نلتجئ بعد ذلك إلى الله لكي يكمل إيماننا ويدعمه، ويقول العالم الكيميائي واين أولت: إن الله – كما نعرفه – ليس "مادة" أو "طاقة" كما أنه ليس محددًا حتى نستطيع أن نخضعه لحكم التجربة والعقل المحدود، بل على نقيض ذلك نجد التصديق بوجود الله يقوم ###134### على أساس "الإيمان" وهو إيمان يستمد تأييدًا علميًا من الدلائل غير المباشرة التي تشير إلى وجود "سبب أول" أو إلى "دافع مستمر" منذ القدم، إن الإيمان بالله يعد لازمًا لاكتمال وجود الإنسان وتمام فلسفته في الحياة، ولا شك أن لاعتقاد بوجود إله خالق لكل الأشياء يعطينا تفسيرًا بسيطًا وسليمًا واضحًا في النشأة والإبداع والغرض والحكمة، ويساعدنا على تفسير ما يحدث من الظواهر، أما(54/15)
النظريات التي ترمي إلى تفسير الكون تفسيرًا آليًا، فإنها تعجز عن تفسير كيف بدأ الكون؟ ثم ترجع ما حدث من الظواهر التالية للنشأة الأولى إلى محض "المصادفة" فالمصادفة هنا فكرة يستعاض بها عن التشويه، ولكن فكرة "وجود الله" أقرب إلى العقل والمنطق من فكرة المصادفة، ولا شك، بل إن ذلك النظام البديع الذي يسود الكون يدل دلالة حتمية على وجود إله منظم، وليس على وجود مصادفة عمياء تخبط وعلى ذلك، فالمشتغل بالعلوم هو أول من يجيب عليه أن يسلم تسليمًا منطقيًا بوجود مبدع لا حدود لعلمه، ولا لقدرته، موجود في كل مكان يحيط مخلوقاته برعايته، سواء في ذلك الكون المتسع أو كل ذرة أو جزئية من جزئيات هذا الكون ###135### اللانهائية في تفاصيلها الدقيقة، إن هناك ظواهر عديدة لا يمكن تفسيرها أو إداراك معناها إلا إذا أسلمنا بوجود الله. ومن ذلك مثلا: الفراغ اللانهائي وما يسبح فيه من النجوم والكواكب التي لا يحصيها عد ولا حصر.
ومن ذلك أيضًا: قابلية المادة للانقسام إلى جزئيات أساسية بالغة الصغر مهما كانت طبيعتها.
ومن ذلك: "التشابه الذي تشاهده بين جميع الكائنات الحية التي نعرفها مع اتصاف كل فرد، بل كل نبات، بل كل ورقة من أوراق الأشجار وقطرة من قطرات الماء بصفات تميزها عن غيرها. وهناك أيضًا تلك الهوة العميقة التي تفصل بين الإنسان، وبين سائر الكائنات الأرضية الأخرى، وتجعله ممتازًا عليها بعقله ومهارته اليدوية، وذلك هو الإيمان البصير الذي يقوم على العقل والتدبر".(54/16)
ويقول العلماء التجريبيون القادمون من داخل المعامل وأنابيب الاختبار: إن الإله الذي نسلم بوجوده لا ينتمي إلى عالم الماديات، ولا تستطيع حواسنا المحدودة أن تدركه، وعلى ذلك فمن العبث أن نحاول إثبات وجوده باستخدام العلوم الطبيعية لأنه يشغل دائرة غير دائرتها المحدودة الضيقة، لا بد لنا أن نسلم أن هذا الكون المادي الذي ###136### يخضع لقيود الزمان والمكان ليس إلا جزءًا من الحقيقة الكبرى التي ينطوي عليها هذا الوجود.
وإذا كان هذا العالم المادي عاجزًا عن أن يخلق نفسه أو يحدد القوانين التي يخضع لها، فلا بد أن يكون الخلق قديم بقدرة كائن غير مادي، وعلى ذلك فالنتيجة المنطقية الحتمية التي يفرضها علينا العقل لا بد أن يكون هذا الخالق عليمًا حكيمًا قادرًا على كل شيء، حتى يستطيع أن يخلق هذا الكون، وينظمه، ويدبره، ولا بد أن يكون هذا الخالق دائم الوجود تتجلى آياته في كل مكان" هذه الآراء التي يقدمها العالمان روبرت موريس برج، وجون كليفلان كوثران لا نثبتها هنا لنؤكد حقيقة غائبة، ولكن لكي نفهم كيف يتطور العلم اليوم، فيصل إلى الحقائق الأصيلة التي جاء بها الإسلام من عند الله، ولنؤكد أن النظرية المادية التي تحاول اليوم أن تنشر سمومها في كل مكان لا صلة لها بالعلم، ولكنها فلسفة، وهي أيضًا نظرية، وليست حقيقة علمية.(54/17)
يقول إدوار لوثر كيل – وهو من كبار الباحثين الكيماويين: "إن العلوم تثبت بكل وضوح أن هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليًا، فهناك انتقال حراري مستمر من الأجسام الحارة إلى الأجسام الباردة، ولا يمكن أن يحدث ###137### العكس بقوة ذاتية بحيث تعود الحرارة، فترتد في الأجسام الباردة إلى الأجسام الحرة، ومعنى ذلك أن الكون يتجه إلى درجة تتساوى فيها حرارة جميع الأجسام، وينضب فيها معين الطاقة، ويومئذ لن تكون هناك عمليات كيماوية أو طبيعية، ولن يكون هناك أثر للحياة نفسها في هذا الكون؛ ولما كانت الحياة لا تزال قائمة، ولا تزال العمليات الكيماوية والطبيعية تسير في طريقها، فإننا نستطيع أن نستنتج أن هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليًا، وإلا استهلكت طاقته منذ زمن بعيد، وتوقف كل نشاط في الوجود، هكذا توصلت العلوم دون قصد إلى أن لهذا الكون بداية، وهي بذلك تثبت وجود الله لأن ماله بداية لا يمكن أن يكون قد بدأ نفسه، ولا بد له من مبديء أو محرك أول، أو من خالق، وهو الله تبارك وتعالى.
والواقع أن هذا الكون لا يزال في عملية "انتشار" مستمر تبدأ من مركز نشأته، واليوم لا بد لمن يؤمنون بنتائج العلوم أن يؤمنوا بفكرة الخلق أيضًا، وهي فكرة تستشرف على سنن الطبيعة لأن هذه السنن إنما هي ثمرة الخلق، ولا بد لهم أن يسلموا بفكرة الخالق الذي وضع قوانين هذا الكون لأن هذه القوانين ذاتها مخلوقة، وليس من المعقول أن يكون هناك خلق دون خالق، هو الله، ما إن أوجد الله مادة هذا ###138### الكون والقوانين التي يخضع لها حتى سخرها جميعًا لاستمرار عملية الخلق عن طريق التطور: التطور المادي.
ويقول كريس موريسون مؤلف كتاب "العلم يدعو إلى الإيمان" ورئيس أكاديمية العلوم في نيويورك:(54/18)
"إن العلماء لا يقدرون أن ينفوا وجود الله، فكل واحد منهم في قرارة نفسه يشعر بقوة الإحساس أو الفكر أو الذاكرة والآراء التي تصدر كلها عن ذلك الكيان الذي نسميه بالروح، وهم جميعًا يعلمون أن الإلهام لا يأتي من المادة وليس للعلم حق في أن تكون له الكلمة الأخيرة بشأن وجود الخالق.
إن كون الإنسان في كل مكان، ومنذ بدء الخليقة حتى الآن قد شعر بحافز يحفزه إلى أن يستنجد بمن هو أسمى منه وأقوى وأعظم، يدل على أن الدين فطري فيه، ويجب أن يقر العلم بذلك".
ويتساءل موريسون: ما هو الكائن الحي؟ هل هو عبارة عن ذرات وجزئيات؟ ويجيب: نعم، وماذا أيضًا عن شيء غير ملموس أعلى كثيرًا من المادة لدرجة أنه يسيطر على كل شيء، ومختلف جدًا عن كل ما هو مادي مما صنع منه العالم لدرجة أنه لا يمكن رؤيته ولا وزنه ولا قياسه، وهو فيما ###139### نعلم ليست له قوانين تحكمه: إن روح الإنسان، هي سيد مصيره، ولكنها تشعر بالمصدر الأعلى لوجودها، وقد أوجدت للإنسان قانونًا للأخلاق، لا يملكه أي حيوان آخر، ولا يحتاج إليه؛ ويضعنا موريسون أمام الحقيقة كاملة حين يقول: إن تحطيم ذرة "التون" التي تعد أصغر قالب في بناء الكون إلى مجموعة نجوم مكونة من جرم مذنب وإلكترونات طائرة، قد فتح مجالا لتبديل فكرتنا في الكون والحقيقة تبديلا جوهريًا، ولم يعد التناسق المميت للذرات الجامدة يربط تصورنا بما هو مادي، وإن المعارف الجديدة التي كشف عنها العلم لتدع المجال للاعتراف بوجود مدبر جبار وراء ظواهر الطبيعة، إن وجود الخالق تدل عليه منظمات لا نهاية لها تكون الحياة بدونها مستحيلة، إن وجود الإنسان على ظهر الأرض والمظاهر الفاخرة لذكائه، إنما هي جزء من برنامج ينفذه بارئ الكون، وأن العقل لا يمكن أن يستقل بمعرفة الله، ولا أن يهتدي إليه إلا إذا صحبه في تلك الغاية قلب".
ولا ريب أن هذه الحقائق العلمية تدحض شبهات الفلسفة المادية الإلحادية.
…………………الأستاذ أنور الجندي(54/19)
سلسلة على طريق الأصالة لن نقبل بمفهوم الغرب للفن والحضارة
[قال لينين: إن المسارح بديل الكنائس، وقد تحول هذا المعنى عند المستعمرين فحاولوا أن يجعلوا المسرح بديلا للمسجد].
لقد أصبح من الضروري - اليوم - أن نواجه هذه القضية مواجهة صريحة صادقة، فنحن من خلال مفهوم الإسلام لا يمكن أن نقبل مفهوم الغرب للفن والحضارة والجنس والمرأة والكشف وعلاقات الأسر وتبادل الزوجات وصديق العائلة وما إلى ذلك من مفاهيم أقام الغرب عليها مفهومه للفن والحضارة.
فللمسلمين مفهوم واضح للعفة والعرض يستمدونه من مقررات العقيدة التي تجعل الأخلاق جزءًا منها وتقيمها على أساس الثوابت وتقرر بها مجتمعًا يقوم أساسًا على حماية وجوده الذاتي ويحفظ علاقاته العامة.
ونحن نعلم أن هناك محاولات دائبة ومؤامرت واسعة لفتح ###4### الأبواب بالإغراء والخداع أمام أبنائنا وبناتنا للانخراط في سلك هذه المؤامرة الواسعة التي تتركز الآن حول الجماعة التي تحمل لواء المسرح والرقص والغناء، والتي تعمل على إغراء الأجيال الجديدة على اقتحام أبواب الفساد والإباحة عن طريق الإعلانات المغرية والرحلات التي تعبر البحر إلى الشاطئ الآخر بهدف أن تسقط هذه العناصر الغضة من الفتيات والفتية بالإغراء ووسائل الشهرة في أيدي رجال الفن والمسرح بالعرى والجرأة وبذاءة القول والاهتزاز حتى يكونوا نجومًا جددًا، وكم تكشفت من قصص هؤلاء من مفارقات وتجاوزات وتفريط في كثير من القيم في سبيل النجاح والقبول.(55/1)
ونحن نعرف أن من وراء هذه المؤامرة كلها قوى عاتية تعمل على هدم مقومات الخلق والدين والعرض في الأمم وكسب أكبر قدر من الشباب المفرغ الطلعة الطامح إلى مظاهر الحرية وبريق المادة وإغراء الشهرة من مجموعة الشباب الذي فشل في مجال الدرس والعلم والكد الصحيح للحصول على الدرجة العلمية، فإذا بهؤلاء يسبقون الأصلاء وتلمع أسمائهم ويحصلون على الشهرة والغنى والظهور، فتنهدم بذلك المقاييس الصحيحة وترجح كفة أهل الهوى والأهواء حتى انقلبت الموازين فأصبح هذا المسرب أكثر عطاء ماديًا من ميادين العلم والجد.
ولقد كانت هناك كلمات تقال خداعًا وتضليلا وكذبًا وبهتانًا، ###5### وما تزال تتردد حتى صدقها الناس، تلك هي كلمات الفن وقداسة الفن وكرامة الفن، وما كانت هذه الألاعيب في الحقيقة فنًا بمفهوم العلم الصحيح ولكن كل هذا الذي يجري لا يزيد عن أن (عملية إضحاك وخيانة تافهة، تستخدم فيها كل وسائل العبث والانحلال مع العبارات الرديئة والحركات المخزية، في سبيل إضحاك الناس على نحو ليست له ضوابط أو قيم أو أوضاع محددة، وهي بذلك تتعارض مع أصول (فن الترويح) الحقيقي الذي يقوم أساسًا على السماحة والبراءة والنقاء والذي يدخل السرور بحق على القلوب دون أن يفسد أي قيمة من قيم المجتمع، أو يهدم أي ركن من أركان الأخلاق.(55/2)
والذي نعرفه أن هذه الوسائل من الإضحاك قد بلغت حدًا بالغ الإسفاف والسفه والإفساد من حيث عرض إيماءات لا يقبل الرجل الشريف أن يسمعها أو يراها أهله أو بناته ويخشى منها على الخلق الصحيح، وأن الكلمات التي تتردد والحوار الذي يقدم في هذه المسلسلات قد وصل إلى أدنى ما يمكن أن يتداوله الصعاليك والسفلة في بعض الحواري، فإذا أضفنا إلى هذا ما عرف وكشف من سير هؤلاء الذين يقدمون هذا العبث وما يجري في حياتهم الخاصة وهو أمر معروف ومكشوف وجدنا إننا نضع أبنائنا وبناتنا في جو رديء تمامًا ونجد أن وضع هؤلاء الراقصين والمغنين والممثلين – كما تجادل الصحافة – في مكان النماذج العليا والمثل الرفيعة جناية كبرى، وأخطر من ذلك أن تبدد كلماتهم وإجاباتهم بمثابة الحكمة البالغة والمثل الذي ###6### يتردد مما يضعف أمام بعض الشباب المفرغ من مفاهيم القيم الإسلامية وقليلي التجربة والعابثين والفاشلين، فإذا عرفنا هذا كله عرفنا إلى أي حد بلغ مدى الخطر الذي يتهدد الأجيال الجديدة في هذه الأمة التي حذرها دينها من الوقوع في الشباك كالفراش المتهافت على النار.
وأقل ما توحي به الصورة أن هذا العبث في العلاقات بين الرجل والمرأة وهذا الأسلوب النازل في الحوار هو من الأمور المشروعة التي يمكن أن ترددها كل الألسنة، فضلا عن أن عملية الترويح والإضحاك الذي تقوم بها هذه القوى هي عملية إضحاك كاذبة وخادعة ومفتعلة، لأنه أشبه بمخدر يستغرق فيه المرء ساعة أو بعض ساعة ثم لا يلبث أن يعود إلى واقعه.
أما مفهوم الترويح الإسلامي وليس الترفيه – فإنه يستمد مقوماته من عملية قبول ورضى بالواقع واستشراف الفرح في المستقبل وأن الغمرات تأتي ثم ينجلين وأن الفرح بعد الشدة، وتلك مفاهيم تدخل السرور والتفاؤل الحقيقي على النفوس.(55/3)
والعجيب أن هذه الدائرة المظلمة تحاول أن تحاصر المجتمع كله فلا يقتصر على المسرح أو التلفاز، وإنما يمتد إلى الصحافة والقصة والترجمة ويقدم في هذا المجال ما يسمى بالروايات العالمية الحافلة بالسموم والمرتبطة بالجنس والجريمة، في وقت واحد على نحو تحس ###7### معه أن هناك مؤامرة مبيتة حيث توصف الأعضاء التناسلية في جرأة بالغة – ويستعلن في مكر ما يدور في غرف النوم مما يسمى بأدب الفراش، وليس هذا بغريب على الأمم الأوروبية التي قد تجده في حواشي بعض الكتب المقدسة ولكنه غريب علينا نحن المسلمين وتتقزز له نفوسنا، وقد سجل القرآن الكريم ظهور الفساد في الأرض (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس) وكيف أن هناك قادة لهذا التيار يدعون الناس إليه وهم موجودون في كل عصر (ويريد الذين يبتغون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيمًا).
إن هناك مفارقة واضحة بين طابع الأمم الغربية التي ورثت هذا التراث المشحون بالإثم والفاحشة والكشف وقصص الجنس والجرعة والاندفاع نحو اللذات والشهوات، ليس فقط في أساطير الإغريق المقترعة بل بما حفلت به الكتب المقدسة في سفري إستير وحزقيال بما حوت من الحديث عن اللواط والإباحة في الأرض والفن وزنا المحرم على حد تعبير المبشر الإسلامي ديدات حين كشف ذلك في محاورته المشهورة.
إننا نحن المسلمون لا نقر مفهوم الحضارة الغربية في الفن الإباحي الفاجر الماحق الذي تختلط فيه الرقص بالغناء بالخمر بالاختلاط الفاحش غير المهذب، وحين نقول هذا بكل صراحة نختلف مع الغرب ومفاهيمه وقيمه التي يريدون أن يفرضونها علينا، فالحضارة ###8### لدينا لها مفهوم سمح كريم راق عفيف بعيد عن كل البعد عن الفسق والفاحشة، قائم على الخلق والكرامة وحماية العرض.(55/4)
إن مفهوم الترويح يجب أن يرتفع فوق الفسق والفجور والدعارة التي تفرضها هذه المؤسسات القائمة على استباحة الحرمات والمقدسات ولابد أن يكون واضحًا أمامنا أن الإسلام قد وضع حدودًا وضوابط وحجب صنائع، وحرم على المسلم العمل بها أو قبولها في مجتمعه، ووصف الذين يعملون فيها بأنهم يقبلون الدنية عن دينهم وأن بعضهم يمكن أن يوصف بأنه (ديوث) ويجب أن نبدأ ذلك من المدرسة فلا يفرض الرقص والغناء والتعري على طالبات المدارس وهن غير راغبات ولا توجه المسابقات الغربية لما يسمى الوجود الجديد لخطب الفتيات البرئيات من الأسر الآمنة الغافلة لتسليمها للعتاة والظلمة الذي يفرضون على كل من يعمل أن تسلم جسدها ونفسها كاملة لسيدها وقديسها المدرب والمخرج.
ولقد كشفت الأحداث ثغرة في جدار هذا المعقل المشيد، ومهما تكن عند امرئ من خلفية وإن خالها تخفى على الناس تعلم، وهذا سر انزعاجهم وثرثرتهم حول ما يسمونه الفن والحضارة، إنهم يريدون حماية هذا المورد بكل ما يملكون لأنهم يعلمون أنه المنطلق الوحيد لتحقيق آمالهم في هدم مقومات هذه الأمة وتدمير قيمها، إن هذا المجال الذي يسمى بالفن هو المرفأ الأول والأخير لتحقيق ###9### غايات الماسونية وبروتوكولات صهيون وعمليات التغريب والغزو الثقافي والسيطرة على العقل المسلم والوجدان المسلم واحتوائها وتفريقها من الدين والإيمان واليقين والخلق وملئهما بالشكوك والإباحة والرجس والفسق، هذا هو سر فزعهم الشديد وحملتهم الضارية، وتكاتفهم في الدفاع عما سموه زورًا وبطلانًا (قدسية الفن) وهي قدسية الإباحة والفساد في الحقيقة.
وهناك في مجال الصحافة من يحمي هذا التيار ويدافع عنه إيمانًا بأن هذه الأمة لن تغرب إلا من هذا الطريق، ولكن كل الدلائل تثبت أن هذا الصرح على وشك أن ينهار لأنه قام على باطل:
(أفمن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم).
###10###
تقبل الإسلام لكل معطيات الحياة(55/5)
هي قاعدة أساسية: نعم ولكن شروط وضوابط
القاعدة الإسلامية الأصيلة هو تقبل الإسلام لكل معطيات الحياة التي تحقق وجود الإنسان لا يرفض منها شيئًا ولكنه يصوغها في مفهوم مستقل متحرر عن طابعها عمد الأمم الأخرى والفلسفات المختلفة، فليس في الإسلام بسماحته وسعة آفاقه رفض لمعطيات الحياة ولكنه من الناحية الأخرى يضع ضوابط وحدودًا لخطوات التعامل وأساليب التنازل.
ومن هنا فليس الإسلام في حاجة كبيرة إلى محاولات من كتبوا ليقنعوا الناس بأن الإسلام يقر مفهوم الترويح عن طريق الفنون ووسائل إدخال البهجة على النفوس فذلك أمر مسلم به تسليمًا كاملا وحقيقيًا في شريعة الإسلام ولكن وجه الاختلاف هو في الأسلوب الذي تعدم به هذه الفنون ووسائل أدائها، وكيف يمكن أن تكون مؤازرة للفطرة لا مضادة لها، وأن تكون متقبلة من وجهة نظر الدين أساسًا.
إن هذه الصورة التي تقدم بها الفنون في عصرنا وفي مجتمعنا لا يمكن أن تتطابق مع الصورة التي يضرب بها المثل عن عهد رسول الله ###11### أو عهد الصحابة الأكرمين، وهي ليست تطورًا طبيعيًا لفنون الإسلام التي كانت في مراحل تطورها حريصة على ألا تخرج عن جوهر الإسلام ولا تصادم حدوده وضوابطه.(55/6)
ويرجع ذلك إلى أن النفوذ الأجنبي فرض أسلوبه وطابعه ونظامه كله وخاصة في مجال الفنون وما يتعلق بالعواطف والوجدانات من منطلق غربي عصري واضح هو منطلق الكشف عن الشهوات والإباحة والحرية المطلقة في الانطلاق نحو الأهواء وإعطاء الغرائز حريتها في الحركة دون أي حدود، وقد نتج هذا من منطلق الفلسفة المادية والجنسية التي ألغت مفهوم الضوابط الأخلاقية والحدود المتصلة بالقيم وأطلقت الوحش في الإنسان، حين ادعت نسبية الأخلاق وربطتها باختلاف المجتمعات والعصور، في حين أن الأخلاق قيم ثوابت متصلة بالعقيدة والدين لا تخضع لقانون المتغيرات ومن منطلق مفهوم فرويد للجنس ودارون للحيوان ودوركايم للاجتماع، تشكل هذا الفن الغربي الذي غزا بلادنا غزوًا شديدًا وسيطر على فنوننا الأصيلة السمحة فكان منها ذلك (التخت) الضخم الذي تشكل من مائة عازف بعشرات الآلات الموسيقية وتلك الأغاني الراقصة المتمايلة، وما تثير من الشهوات، فكيف يمكن أن يكون هذا أمرًا يدافع عنه أو يصور أنه مما سمح به الإسلام من الفنون.
إننا نعرف من قراءاتنا في تاريخ الفنون في الغرب وتاريخ الموسيقى ###12### بالذات أنه فن كنسي بدأ أول أمره مع نواقيس كنائس الغرب، وكان من معطيات إغراء الناس على العبادة وما كان من شتراوس أو فاجنر أو بتهوفن إلا كنائسي الموسيقى أساسًا، ثم تحولوا قليلا مع الاحتفاظ بذلك الطابع الصاخب الذي يهز النفوس.(55/7)
ولقد نجد أن هناك خلافًا أساسيًا وجذريًا بين الذات الإسلامية والذات الغربية في مواجهة هذه الفنون، فالمسلمون يتناولون هذه الأمور في بساطة ويسر ويشكلونها في وجدان المؤمن وفي الحفاظ على العقيدة وفي حدود ما قرره الإسلام من حماية لوجود المسلم وعقله من الإغراق في كل ما يثير الشهوات، بينما تتشكل كل الفنون في الغرب حتى الفنون المتصلة بالعبادة في جو الصخب والأضواء الصارخة والشموع المرتفعة والبخور والعطور والمبالغة الشديدة التي يراد بها كسب عواطف الناس ومشاعرهم.
وهذا خلاف جذري في مفاهيم المسلم ووجدانه فهو يعاف الاستسلام لهذه الأجواء ويصد عنها بفطرته البسيطة السليمة الحريصة عن مخافة الله تبارك وتعالى فلا شك أن إقرار المسلم لهذه الظاهرة الخطيرة المصاحبة لحفلات الموسيقى من صخب ومن إسراف ومن آثاره كل هذا لا يتفق مع مفهوم الإسلام للفن أو للموسيقى.
ولعل أخطر ما يتصل بهذا مما يراد أن يفرض على المجتمع المسلم ###13### في هذا العصر ظاهرة الرقص التي تجري وسائل كثيرة ومحاولات متعددة لفرضه على الفتاة المسلمة سواء في المدرسة أو في البيت أو من خلال التلفزيون والإذاعة، وتلك عملية خطيرة مرسومة يراد بها إزالة أسباب الثبات والإيمان من النفوس وزعزعته فإذا أضفنا إليها محاولات تدريب الفتيات على الرياضة نصف عاريات في حلقات الرياضة المدرسية والمقررة عرفنا إلى أي مدى ستصل بالفتاة المسلمة هذه المحاولة من أخطار.(55/8)
إن الذين يريد أن يفرضوا على الأمة الإسلامية قيمًا ومقدرات وأخلاق غير قيمها مسرفون في التفاؤل بأنهم قادرون على تغريب الأمة ونقلها إلى أوضاع تتفق مع رغبات الذين يخططون لاحتواء المسلمين وصهرهم في بوتقة الحضارة المعاصرة، وهي حضارة قامت على غير قاعدتي الربانية والأخلاق واستعلت بعلمها مغرورة تظن أنها قادرة على التصرف من غير توجيه الدين، ولذلك فقد أطلقت كلمة (وصاية) على أحكام الدين وحدوده وضوابطه التي وضعها الحق تبارك وتعالى لحماية المجتمعات من الانهيار والفساد، ونحن نؤمن بأن البشرية محتاجة أشد الحاجة إلى أن تسلم وجهها لله تبارك وتعالى ولا تستعلي عن رقابته.
إن الحضارة المعاصرة قد قصرت في هذا المجال وأطلقت لنفسها عنان الشهوات واللذات والمطامع تحت عنوان كاذب مضلل هو ###14### (الحرية الفردية) ولا ريب أن الحرية أمر معترف به ولكنها ككل قيمة من قيم المجتمعات والحضارة لها ضوابطها ووسائل حماية الفرد من اغتيال الآخرين لحريته.(55/9)
ومن هنا فنحن نقف أمام دعاوي الانطلاق التي تتحصن بعبارة رديئة مموجة هي مقولة (الوصاية) التي يرددها أولئك الذين يتجاوزون الحدود التي وصفها الله تبارك وتعالى سواء فيما ينشر من قصص عالمية مسرفة في الفاحشة، أو من كتب تفرض على الطلاب أو من أفلام ومسرحيات وأغان على النحو الذي يشتكي منه الأدباء ويرون فيه خطرًا على أبنائهم وبناتهم من مسلسلات مسرفة في الإباحة فإذا كتب أو تكلم ناصح أمين يدعو إلى تصحيح الأوضاع كانت الإجابة في صلف وغباء (لا تقبل وصاية من أحد) والحقيقة أنها ليست وصاية ولكنها مشاركة وتوجيه وإشارة إلى حق الله علينا جميعًا في حماية مجتمعنا وأبنائنا وبناتنا من غائلة هذا الغزو الشديد الخطر الذي يتهددنا من قبل ما يسمى دولة الفن غناء ورقصًا وموسيقى ومسرحيات نحن نعرف المخططات التي تقودها والغايات التي تسوقها والأهداف التي ترمي وراءها إلى تفريغ هذه الأجيال الجديدة واحتوائها بحيث تهدم كل مقومات العزيمة والإيمان والثبات والاخشبشان والقدرة على إعداد النفس المسلمة لتكون قادرة على حماية وجودها فلا تنهار أمام الأخطار المحاصرة للأمة الإسلامية اليوم والتي يتطلب منها شيئًا آخر غير ما نرى ونسمع، إننا في حاجة ###15### إلى إعداد هذا الشباب المسلم ليكون ردءًا لهذه الأمة من كل مؤامرات الغزو، فهذه الأمة تريد أن تعيش على طريق الله تبارك وتعالى وأن تتخلق بأخلاق الإيمان والتقوى، وأن الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليست وصاية من أحد ولكنها نصيحة الإخاء المفروضة على كل منا إزاء الآخر وإزاء المجتمع حتى لا يأخذنا الله تبارك وتعالى بعذاب من عنده، عذاب الذين قصروا في النصح لأمتهم وإخوانهم.(55/10)
إن هناك فارقًا واسعًا وبونًا شاسعًا بين مفهوم الترويح الإسلامي وبين هذا الصخب الهادر غير المنضبط، فالإسلام يدعو إلى ضبط الغرائز لا إطلاقها وتبريد الشهوات لا تسخينها، والتوسط في أمور الترويح والمتاع لا الإسراف وحماية الوجود الإنساني والكيان البشري من التصدع والانهيار وأن يظل المسلم دائمًا واعيًا صاحيًا لا يشغل عن حقيقة نفسه ولا عن عباداته وواجباته، ونحن نقبل كل أدوات الحضارة وصناعاتها، ولكن لسنا مكلفين بأن نقبل مضامين الغرب في أي شيء، سواء في الفن أو القيم، ولا يستطيع أحد أن يفرض علينا المضامين أو الكلمات أو الألحان التي يستعملها الغرب والتي لا تتفق مع مزاجنا وطابعنا، نعم نحن لسنا ضد الفن ولكنا ضد الفحش، والفن طاقة توظف للخير وقد توظف للشر وحب الوظيفة والهدف يكون التحليل والتحريم، ولذلك يجب التفرقة بين القيم في كل مجتمع عن الآخر، ولسنا مطالبين بأن ننقل الأوضاع نقلا ###16### ولكن لأننا أمة لها تاريخها وقيمها ودينها فإن لها مفهومًا للموسيقى، ولنا أيضًا رأي في كيفية تقديم هذا الفن، فالإسلام حرم الأصوات المخنثة والألحان المائعة والكلمات المبتذلة، وحرم ذلك الجو المشحون بالسموم والمخدرات الذي يغشى دائمًا تلك الأحفال الشهيرة وعندما نقول ذلك فلسنا ندعو إلى وصاية أو هي محاكم التفتيش أو أن هذا منطلق للكآبة أو الظلامة أو غيرها، بل نحن ندعو إلى انطلاق النفس إلى البشر والسماحة من منطلق داخلي عميق الأثر في إقامة الترويح.(55/11)
إن جو الفن في مصر في حاجة إلى عمل كبير لتحريره من ظروف خطيرة بدأت في السنوات الأخيرة تكشف عن نفسها وتتصل بتجارة الجنس والمخدرات والسموم البيضاء وما كشف عنها هو القليل وما خفي كان أعظم، وما يمكن أن تكون هذه الأوكار مصدرًا للخير أو أسوة حسنة أو نموذجًا يقدم لأبنائنا وبناتنا، كل ذلك في حاجة إلى إعادة نظر حتى يمكن إعادة المجتمع حقيقة لاستقبال إلى عصر جديد من الإيمان بالله واليقين لقيمه وأخلاقياته الرفيعة حتى يكشف الله عنا الغمة ويزيل سحب الظلام التي تحيط بنا، وعلينا أن نعلن عودتنا إلى ربنا إليك نعود إلى منهجك الأصيل فليس لها من دون الله كاشفة.
…………………الأستاذ/ أنور الجندي(55/12)
سلسلة دراسات إسلامية معاصرة نظرية التطور بين الدين والعلم والعقل
أنور الجندي
منشورات المكتبة العصرية
صيدا - بيروت
نظرية التطور بين الدين والعلم والعقل
نشأت فكرة التطور في مجال العلوم البيولوجية أساسًا ولكنها سرعان ما نقلت إلى مجال الفلسفة وأريد بها السيطرة في مجال الفكر والثقافة، وقد جاء ذلك نتيجة للخطوات التي اتخذها خلفاء (دارون) من أمثال هربرت سبنسر الذي حاول أن يطبق التطور على الأمور الإنسانية والأخلاق والتاريخ وقد جاءت قوى ذات أهداف معينة فركزت على فكرة التطور وأعلتها إعلاءًا خطيرًا دفعها إلى التأثير في مجال العقائد الثابتة مع أفرادها بالسلطان على كل القيم والمقدرات الأخلاقية والاجتماعية. وكان ذلك جريًا مع الاتجاه المادي الخالص الذي حاول أن يتنكر لكل ما سوى الحس والمادة من قيم، ومعنى هذا أن نظرية قد وضعت بحيث يمكن استخدامها في معارضة الأديان والعقائد والشرائع، ومن الحق أن فكرة ###144### التطور (المادي والمعنوي) لا يمكن أن تسير في غير نطاق واضح وإطار محدود وفلك معلوم، وأن هناك استحالة علمية في أن تجري حركة التطور عشوائيًا في غير نظام أو قانون يحكمها ومن هنا يبدو الفارق العميق بين رأي العلم وبين أهواء القوى التي تتخذ من النظريات العلمية والفلسفية أسلحة لتحقيق أغراض بعيدة المدى. والمفهوم العلمي الصحيح هو أن هناك قيمًا ثابتة وعناصر تجري عليها سنة الحركة والتغير والتطور وأن هناك تناسقًا يجري بين أسس الثبات وعناصر التطور وأن هذا التناسق يجري في دائرة الثبات. وهذا المفهوم العلمي نفسه يطابق مفهوم الإسلام في نظرية التطور والثبات فالإسلام يؤمن بثبات الأصول العامة والقيم العليا مع تطور الجزئيات والتفاصيل والفروع.(56/1)
أولا: وبالرغم من استثراء فلسفة التطور الاجتماعي التي دعا إليها سبنسر فإن العلم كانت له وجهة نظر مختلفة تمامًا حيث يقول: الدكتور كريسي موريسون: إن حقائق الأشياء ثابتة لا تتغير وإنما التطور هو في الصور والهيئات لا في الحقائق لأن الحقائق ثابتة لا تتغير وأن القول بأن لا شيء ثابت على الإطلاق نظرية زائفة. فنزعة الطعام ثابتة والذي يتغير هو صور الطعام ونزعة اتخاذ المسكن ثابتة والذي يتغير هو صور السكن. ###145### ونزعة اللباس ثابتة والذي يتغير هو صور اللباس وكذلك فإن نزعة القتال والصراع فطرة بشرية وصور القتال هي التي تتغير. ويتفق هذا مع وجهة نظر الإسلام الذي أعطى مبادئ عامة وترك الحركة والتغيير إلى الفروع والتفاصيل إيمانًا بأن هناك قيمًا أساسية لا سبيل إلى تطورها والخروج عنها وهي بمثابة العمق للبناء. وقد كشفت الدراسات الأصلية أن التطور لا يمكن أن يكون قانونًا أخلاقيًا وليس كل طور أفضل من الطور الذي سبقه كما يقول سبنسر بل إن التطور قانون اجتماعي واقعي ولا يقتضي بتفضيل الطور الأخير على الأطوار السابقة، ذلك أن فكرة التطور الاجتماعي أخذت من فكرة التطور الحيوي (البيولوجي) والتطور في الحياة يكون تحسنًا وارتقاءًا وقد يكون انقراضًا، كذلك كشفت الأبحاث خطأ الرأي القائل بأن التطور والتقدم هو الاستجابة لنزعات النفس في السلوك بالحركة في أي اتجاه دون رعاية لاستقامة الحركة وبدون حاجة إلى إرادة وإيمان، وهذا يؤدي إلى العودة إلى العصور الأولى بما فيها من تحلل. كذلك خطأ الرأي القائل بأن التقدم هو إهدار الأحكام السابقة وتقديرات الأشياء التي قررها وحكم بها الإنسان في عصر مضى، فقد انتقل الفكر البشري من الطفولة إلى الرشد الإنساني.(56/2)
###146### ثانيًا: يستمد الفكر الإسلامي مفهومه للتطور والثبات من قانون التوازن الذي يحكم الموجودات جميعًا، وليس هناك سبيل إلى إلغاء أحدهما ولا سبيل إلى القول بالتطور المطلق وإنكار قاعدة الثبات ولابد من الربط بين الثبات والتطور وقيام التوازن بينهما وأنه من المستحيل عقلا ومن المناقضة لقوانين الوجود والحياة وأن يتوقف أحدهما أو أن ينفصل ولا أن يستعلي أحدهما ويسيطر، فالثبات والاستقرار هو الجمود والتطور المستمر هو الفناء، وهناك ترابط منظم بين الجمود والحركة وبين القديم والجديد وبين الميت والحي، فالحياة ناجمة من موت والجديد منبثق من قديم والفكر بعامة يتطور ولكنه يظل ثابت الأصول والمقومات، والفكر الإسلامي ثابت الجوهر متغير الصورة، وفي الفقه يجري التطور بالنسبة للأحكام الفرعية دون الأصول وفي الشريعة أصول قائمة لا تخضع لقوانين التطور كالصلاة والزكاة وإلخ.. وحدود ثابتة إزاء الربا والزنى والقتل فهذه من القوى الثابتة التي لا تتأثر بالتطور والتغيير ولا يمكن القضاء عليها وكذلك في نظام الكون نجد القوى الثابتة ونجد القوى التي تتحول وتتحرك أما الأصول الثابتة فهي ليست خاضعة للتطور، هذا هو مفهوم الإسلام ومفهوم العلم متطابق معه، أما المفهوم ###147### المطروح في أسواق الفكر الغربي والذي وصل صداه إلى الفكر الإسلامي فهو مفهوم فلسفي خطير لم يقم على أساس علمي وقد أخذ منطلقه من نظرية دارون في التطور البيولوجي ثم نقل إلى ميدان الاجتماع والفكر، ولا شك أنه بهذه النقلة إنما يستهدف غاية خطيرة هي واحدة من أهداف الفلسفة المادية الوثنية التي تحاول أن تسيطر على الفكر البشري كله وتفرغه من مفاهيم الإيمان والأديان والرسالات السماوية وتدفع به بعيدًا إلى نهاية خطرة نجدها واضحة وضوحًا لا مرية فيه في بروتوكولات صهيون أو نصوص التلمود أو متصلا بالمحاورات التي جرت منذ عصر التنوير في سبيل إخراج الفكر الغربي المسيحي(56/3)
الأصل من كل القيم ودفعه إلى مجال الماديات المغرقة، وتشكل هذه المحاولة فلسفة واضحة متكاملة تهدف إلى تدمير قوى الأديان والأخلاق والإيمان بالله ودفع الإنسانية كلها إلى الدمار بتحطيم قيمها ومعنوياتها وتفريغها من كل القوى التي تحملها على التماسك في وجه الغاية الصهيونية البعيدة المدى وهي السيطرة على العالم ولقد كانت نظرية التطور هي المنطلق الخطير للقول بأن كل شيء يتحول ويتغير ولا يبقى على حاله وأنه يبدأ في أول الأمر ضعيفًا ثم ينمو، ثم جرت محاولات تطبيق ذلك على الأديان والأخلاق ومنها ###148### انطلقت النظرية التي تقول بأن الأخلاق تتطور مع العصور وأن الأديان تتطور مع البيئات والقول بهذا مخالف كل مخالفة للحقائق العلمية الصحيحة ومعارض لنواميس الكون والحياة ولقد كان النرويج لمذهب التطور على هذا النحو خروجًا به عن المجال العلمي الصارم إلى المجال الفلسفي الذي لا يخضع لأي سند علمي أو عقلي، ومن مذهب التطور انطلقت كل المذاهب والدعوات والفلسفات المادية. فقد اعتبره المتشبثون به قاعدة لعلوم جديدة هي مقارنات الأديان وتفسير التاريخ والنفس والأخلاق والاقتصاد والاجتماع. ومن هنا أخذت هذه العلوم تخضع للمناهج التي تخضع لها العلوم المادية بينما تناقض هذا مع أبسط قواعد المنطق والعقل ولقد كان القول بالتطور المطلق سبيلا إلى نزع القداسة عن الأديان والقوانين والقيم والأخلاق والسخرية منها والدعوة إلى التحلل والإباحية وإنكار مقومات المجتمعات والعقائد على النحو الذي كشفت عنه نظريات فرويد و "درو كايم" وغيرهما. ولقد هوجمت نظرية التطور المطلق في المحيط الاجتماعي والفكري هجومًا علميًا ودحضت بمنطق عقلي واضح ولكن أصوات دعاتها المسرفين في استغلال ظلت أعلى الأصوات لأنها لم تكن أصواتًا طبيعية وإنما هي أصوات تدفعها قوى بالغة القدرة في ###149### مجال النشر والإعلان ولقد جرى كثير من الكتاب وراء بريق نظرية التطور وربما(56/4)
بحسن نية دون أن تتبين لهم أبعاد الخطر من القول بالتطور على إطلاقه بعيدًا عن مفهوم الإسلام الجامع دائمًا بين التطور والثبات وهو(56/5)
سلسلة على طريق الأصالة تحول الدراسات الناتجة من الإقليمية إلى الإسلامية
كان من أبرز معالم التحول إلى الأصالة الذي أحدثته حركة اليقظة الإسلامية، العودة إلى فهم التاريخ فهمًا صحيحًا بوصفه تاريخ أمة لها عقيدة وقيم ونظام اجتماعي جامع وأن أي إقليم سواء كان عربيًا أم من الفرس أو الترك أو الهند أو غيرها لا يستطيع أن يستقيم بنفسه كأنه كيان خاص له وجوده المنفصل المستقل.
ذلك أن القاعدة الحقيقية هي أن هذه الأمم حين انضمت إلى الإسلام واعتنقته فإنما هي قد خرجت خروجًا كاملا من وجودها الوثني الذي كان قائمًا من قبل، فقد جاء الإسلام ليضع حدًا فاصلا بين وجود الأمم من قبله وبين وجودها به فالإسلام أساسًا يحب ما قبله وإن القاعدة التي تقول بأن الأديان كلها التي جاءت قبل الإسلام إنما مهدت للدين الخاتم فقد جاءت كلها أديانًا مرتبطة بعصرها وبيئتها فلما جاء الإسلام كان على كل المؤمنين بما قبله أن يؤمنوا به.
هذا ولقد وسع الإسلام مساحات اللقاء بين الأمم من منطلق العقيدة الواحدة والثقافة الجامعة لها جميعًا ولم يترك لخصائص الأقطار والأقاليم إلا مساحات قليلة من وجوه الاختلاف سواء فيما يتعلق بالجغرافيا أم بالتضاريس أو الطقس أو عوامل البيئة المختلفة وكلها عوامل لا تأثير لها في هوية المسلمين ولا تحول دون ترابطهم الوثيق الذي صنعه تاريخ متصل وثقافة موحدة ووجهة جامعة.
ولا ريب أن العودة إلى المبالغ التي توجهها حركة الصحوة اليوم عن شأنها أن ترتفع فوق الطائفية والإقليمية والعنصرية فقد كانت دعوة الإسلام الأساسية هي العودة إلى وحدة الأصل البشري والتواصل بين العناصر، والتعارف وقيام قاعدة الإخاء أساسًا.
ولم يعل شأن الصراع الطائفي أو الإقليمي إلا حين عمد النفوذ الأجنبي إلى صدع هذا الصف وتمزيق هذه الوحدة وإثارة مؤامرات الخلاف والنزاع وإحياء مفاهيم قديمة هدمها الإسلام وقضى عليها.(57/1)
كان الهدف هو هدم (وحدة الأمة الإسلامية) القائمة حول الخلافة الجامعة، وإقامة أنظمة إقليمية وقومية وعنصرية بديلا منها وذلك لهدف أساسي في الحيلولة دون البقاء أمة القرآن على وحدة جامعة.
ومن هنا عمد النفوذ الأجنبي إلى رفع شأن القوميات والإقليميات وحشد الأفلام والقوى للدفاع عنها وحمايتها، وكان هدف إقامة رأس جسر من عنصر غريب عن الأمة في قلبها مدعاة إلى تمزيق هذه الوحدة بكل وسائل المؤامرة والخلاف والدس والتفرقة وكان لابد من توجيه ضربة شديدة إلى تاريخ الإسلام بغرض تفسيرات مضللة عليه، ومحاولة إخضاعه للتفسير المادي للتاريخ وإطفاء بؤر العطاء الإلهي في السيرة النبوية وتاريخ الإسلام وتفريغه من جوهره الأصيل وذلك بكتابة السيرة والتاريخ بالطريقة العلمانية التي تخفف من هذا الوهج العظيم الذي يجب أن يملأ قلوب المؤمنين وإخلائه من يقين الإيمان تحت اسم العلم المادي الذي لا يعترف بالمعجزات والجوانب الغيبية والإعراض عن الجوانب ذات الصلة بالإيمان والعقيدة واليقين والتقوى وقوانين الإسلام في النصر، كل هذا من أجل انتقاض تاريخ الإسلام وإبراز جوانب الخلاف والخصومة والصراع التي هي من طبيعة الأمم جميعًا، إبرازها على أنها ظاهرة مسيطرة من خلال بضع أحداث في تاريخ أربعة عشر قرنًا وتجاهل عشرات المواقف الحاسمة والأحداث الخالدة التي ينبض بها تاريخ الإسلام.
وهكذا هدف النفوذ الأجنبي والاستشراق ودعاة التغريب أتباعهم من كتابة التاريخ وعرضه ونقده إلى تمزيق وحدة التاريخ الإسلامي وإعلاء التاريخ الإقليمي الوطني والقومي ومحاولة تصوير كل وطن بأنه متميز وكأنما له طابع خاص في محاولة لانتزاع بعض الأوضاع الخاصة وفصلها عن التاريخ العام في محاولة لإعلاء شأن جوانب معينة في قطر من الأقطار.(57/2)
ثم جاءت محاولات أخرى أشد خطورة وعنفًا في تمزيق وحدة التاريخ الإسلامي وفي إعلاء جوانب الضعف فيه ومحاولة إعطائها بريقًا خادعًا وذلك عندما اتفق في مؤتمر يلتيمور على إبراز شأن الحركات الهدامة وتصورها بصورة جديدة وتولى كبر ذلك طه حسين وتبعه كتَّابًا كثير وذلك في محاولة لتصوير حركات الزنج والقرامطة والباطنية على أنهما حركات حرية وعدل وقد كتبت على هذا النحو أطروحات عدية لم تخدع أحدًا.
ولقد حاول الماركسيون ترويج مفاهيم مضللة كالحتمية التاريخية والمادية التاريخية وعديد من المصطلحات المضللة التي وضعت لمواقف معينة في تاريخ الغرب في محاولة لتطبيقها على التاريخ الإسلامي.
كذلك فقد تعرض كثير من الشخصيات الإسلامية الشهيرة لصور قاسية من التشويه والتشهير، كما حدث لخالد بن الوليد وهارون الرشيد وغيرهما بل إن بعض الكتب التاريخية التي تدرس اليوم في أقطار عربية تحمل صورًا غير مقبولة لطارق بن زياد وغيره، مما تدرس في المناهج من كتابات الماركسيين.
ويرجع هذا إلى اعتماد بعض النصوص الأدبية في تقرير الحقائق التاريخية وفي مقدمة ذلك كتاب ألف ليلة وليلة وكتاب الأغاني وهما ليسا كتاب علم أو تاريخ ولكنهما من الكتب اللقيطة التي ليس لها مؤلف إلا إذا كان في مثل زندقة الأصفهاني.
وقد أضافوا لهارون الرشيد روايات ألف ليلة وأقاويل الأصفهاني وأخبار أبي نواس.
وهناك من شهر بالصحابة كمعاوية وعثمان وغيرهما ومن أساء سيرة زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن يراجع دائرة المعارف الإسلامية يجد تلك المحاولات الخطيرة لتزييف المواد التاريخية الإسلامية. لقد تم طبع تاريخنا في مؤتمرات المبشرين والمؤتمرات الخاضعة للاستعمار الشيوعي والصليبي ثم قدم إلينا عن أنه التاريخ المنهجي والموضوعي.(57/3)
ولقد كذبت وقائع التاريخ الإسلامي دعاوى كثيرة ادعاها الاستشراق وفي مقدمتها دعوى أن المسلمين لم يكونوا متسامحين مع المسيحيين، بل لقد وجد من الفريقين أنفسهم من كشف زيف هذه الدعوى، يقول الأب منسون في كتابه (رحلة دينية إلى الشرق):
"إنه من المحزن لأمم المسيحية أن يتعلموا التسامح من المسلمين. إن الحروب التي وقعت بين المسيحيين والمصلين في مختلف الأزمان أي أنها مع تمسكها بدينها لم تعرف إكراه غيرها على قبوله".
وقد اعترف بهذا التسامح السامي درابر الأمريكي في كتابه (الاختلاف بين الدين والعلم) يقول:
"كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي بهم خيرًا، كذلك الخليفة عمر، وكانت لهم عهود بحسن معاملتهم وفي عهد العباسيين وضع هارون الرشيد دور العلم تحت إشراف يوحنا بين ماسويه، وكان النساطرة المسيحيون يولون مناصب عالية في المملكة الإسلامية في مختلف أدوارها.
ويقول ولز في كتابه (تجربة في التاريخ العام):
"فهؤلاء النساطرة كانوا بعهد الفرس الساسنيين أحرار في ثقافتهم وجاء الإسلام فلم ينزع منهم هذه الحرية" اهـ.
لقد كانت قضية تشويه التاريخ الإسلامي من الأهداف الأساسية للنفوذ الغربي القائم على تآمر اليهودية والنصرانية المسيطرتان واللذين كانا في فزع شديد من توسع الإسلام ونمائه فكان عليهما أن يركزا الجهد الخطير في هذا المجال بالدس والمغالطات والتشويه.
أولا: بالطعن في تاريخ الأمة الإسلامية ومقدمات وجودها وتراثها العظيم.
ثانيًا: إحياء الفرق والطوائف القديمة الباطنية وإبراز الخلافات السياسية والمذهبية التي كانت معروفة في العصر الأول وقضى عليها علماء المسلمين.
تشير إلى هذا التسامح، ولما غزا العرب الشام أوصى الخليفة الصديق بالنصارى خيرًا، ولما دخل عمر القدس لم يسمح بإلحاق أي أذى بالمسيحيين وترك كنائسهم بأيديهم وأحسن معاملة بطريقهم وأبى أن يصلي داخل الكنيسة لئلا يأتي بعده المسلمون فيدعوها ويجعلوها مسجدًا لهم.(57/4)
وصدق برتسون حيث قال: "إن أتباع محمد هم الأمة الوحيدة التي جمعت بين التحمس في الدين والتسامح فيه، ويرد الباحثون المسلمون ذلك التشويه إلى الاستشراق الذي حاول إحياء الفكر الوثني والباطني القديم وإعادة تفجير الخلافات".
وقد أشار الدكتور عبد العزيز راشد إلى الدور الذي قام به الاستشراق في تفسير الأحداث تفسيرًا باطلا، وتركيز المستشرقين على الفرقة المنحرفة والادعاء بأنها هي المجتمع الإسلامي كما ركز المستشرقون على الخلافات التي حدثت بين المسلمين ووجهوا تلاميذهم إلى دراستها وإيهام الناس بأن هذا هو التاريخ الإسلامي.
وكان المستغربون والقوميون والعلمانيون هم الصف الثاني في هذه المؤامرة حيث حاولوا – كما فعل طه حسين وغيره – اعتبار بعض الكتب الأدبية مصادر للتاريخ الإسلامي ومن أمثال ذلك الأغاني وهو مليء بالأحداث التي نسبها إلى الخلفاء وخاصة العباسيين زورًا وبهتانًا.
كما ساهمت المناهج الدراسية والبرامج الإسلامية مساهمة خيرية في تسوية التاريخ الإسلامي.
ولقد تعددت محاولات المؤرخين الذين ينطلقون من مفهوم العلمانية للحديث عن من يصنع التاريخ، وهناك نظريتان:
نظرية اللبراليين العلمانيين ونظرية الماركسيين والأولى تضع العمل في مجال الأفراد، والأخرى تضعه في مجال المجتمع.
أما الإسلام فله نظرته المنطلقة من مفهومه الجامع والأصيل فالمسلمون مؤمنون – على حد تعبير عماد الدين خليل – بأن التاريخ تعبير عن المشيئة الإلهية وأن أي حركة تاريخية هي نتاج لقاء من الله تبارك وتعالى والإنسان والطبيعة بما في ذلك الزمن وإغفال أي عنصر منها فإنما هو جهل بالأسس الحقيقية لحركات التاريخ.
ومعنى هذا أن عوامل مختلفة تصنع التاريخ وأن الإرادة الإلهية هي منطلق حركة التاريخ أساسًا.(57/5)
ولقد قدمت الرؤية القرآنية للمسلمين منهجًا واضحًا صريحًا في كشف حركة التاريخ وارتباطها بالإيمان بالله فالأمم التي خرجت عن هذا الإيمان سقطت والأمم التي التمست منهج الله مكن الله تبارك وتعالى لها في الأرض.
ولقد جاء تاريخ المسلمين مقرًا لهذا القانون، فانتصارات المسلمين كلما تمت عندما تمسكوا بعقيدتهم وباعوا أنفسهم خالصة لله تبارك وتعالى وجاءت هزائم المسلمين عندما فرطوا وتخاذلوا واعتراهم الفتور وقد كشف ذلك عن حقيقتين:
الأولى: أن هناك قوى متآمرة قائمة لا تبرح وهي قادرة على ضرب الوجود الإسلامي عندما تتراخى قبضته عن تطبيق منهج الله تبارك وتعالى.
الثاني: أن في أعمق أعماق المنهج الإسلامي قوة قادرة على تصحيح مسيرة المسلمين عندما تنحرف وإعادتهم مرة أخرى إلى الطريق الصحيح.
ومن هنا كانت ضرورة فهم التاريخ الإسلامي وتحليله في جانبيه السلبي والإيجابي، ومحاكمة تاريخ الإسلام إلى منهج تاريخي إسلامي أصيل، ورفض التفسيرات المادية والعلمانية المضللة الوافدة التي لا تهدف أساسًا إلا إلى الغض من قدر عطاء إيجابيات التاريخ الإسلامي للأجيال الجديدة والحيلولة دون تأثيرها النفسي والاجتماعي للتقليل من دورها في بناء الثقة في النفوس وإعادة الإيمان بقدرة منهج الإسلام على العطاء مرة أخرى على النحو الذي وقع من قبل.
وإذا كان من أخطر عوامل التزييف ما وجهه الاستشراق من عناية للفرق الضالة وخاصة القرامطة والباطنية والزنج وغيرها فإن الحملة الخطيرة هي تلك التي وجهت ولا تزال توجه للدولة العثمانية في محاولة لتزييف تاريخ ناصع استمر أكثر من أربعمائة عام في حماية الكيان الإسلامي من الغزو الغربي، ذلك لأن هذه الخطة هي أبرز ما ركزت عليه قوى التغريب والاستشراق والتبشير لخدمة أهداف الغرب الذي كان يطمع في تدمير الجامعة الإسلامية والوحدة الإسلامية والخلافة الإسلامية (وبالتالي الدولة العثمانية).(57/6)
وما تزال في حاجة كبرى إلى دحض تلك الاتهامات التي توجه إلى هذه الدولة وهي موجهة أساسًا إلى الإسلام ويحمل لوائها أصحاب الأحزاب القومية والإقليمية وخصوم الإسلام دينًا ودولة، وهي في نظرنا علامة واضحة تفرق بين القائمين على منهج الإسلام والذين يدعون التماس طريقه كذبًا وبهتانًا.
وقد وضحت خطوط المؤامرة التي قام بها النفوذ الغربي لتمزيق وحدة المسلمين الجامعة التي قامت في ظل لواء الدولة العثمانية وذلك بإحياء مفهوم (الطولونية) وتأليف جماعات الدونمة وأصحاب المحافل الماسونية وأتباعهم من أبناء الحاخامات أمثال (مدحت باشا) وغيره من المتآمرين الذين عمدوا إلى إسقاط السلطان عبد الحميد أولا ثم إلى إلغاء الخلافة ثم إلى إلغاء كيان الدولة العثمانية في سبيل إقامة رأس جسر لعنصر ليس من أهل المنطقة في محاولة لاحتلال اليهود فلسطين وهي مؤامرة ضخمة قد أعدت على نحو خطير جدًا.
وفي سبيل هدم الدولة العثمانية والوحدة الإسلامية الجامعة جاءت تلك المحاولات التي استعلنت في الاهتمام بابن إياس وابن تغري بردي والمقريزي وغيرهم من المؤرخين المصريين في فترة المماليك والعصر التركي فقد حاول النفوذ الأجنبي إحياء هذا التراث ليجدد أمام المصريين والمسلمين عامة تلك المقولات التي كتبها هؤلاء المؤرخون الذين كانوا محصورين في عصرهم ولم تكن لهم النظرة الواسعة للدور الذي قام به المماليك في تحطيم القوى الصليبية والباطنية والدور الذي قام به الأتراك في حماية الوجود الإسلامي بإدخال مصر والشام في الوحدة الإسلامية الجامعة وكذلك إدخال الجزائر وتونس.
وتلك قضية يجب أن تدرس من أبعادها المختلفة، أما ابن إياس والمقريزي وابن تغري بردي فقد كانوا أشبه بكتَّاب يوميات صحفية للأحداث ولم تكن لديهم القدرة الحقيقية على تحليل الأحداث وربطها على المدى الواسع والعجز عن فهم الوحدة الإسلامية وأخطار ما كان يحيط بمصر والبلاد العربية من مؤامرات.(57/7)
ولقد أولى المستشرقون الاهتمام بتحقيق كتاب ابن إياس وبذلوا في ذلك مجهودًا ضخمًا قام به رجل له ولاء أكثر من أربعين عامًا وجندوا له كل القوى في البحث عن الأجزاء الناقصة هنا وهناك من أجل تحقيق هذا الهدف: هدف إثارة الأحقاد بين عنصري الأمة الإسلامية: المصريين والأتراك.
وقد جرت محاولات كثيرة لتفسير التاريخ الإسلامي في إطار مذاهب وافدة، ومفاهيم مغايرة، وقد جرت محاولات لذلك في إطار المطروحات الإقليمية، والقومية، والمادية. وقد كانت هذه المحاولات جميعًا لا تمثل تفسير التاريخ الإسلامي، والذي لا يخضع إلا لمنهج الإسلام نفسه.
وهناك من اتخذ من بعض المواقف المضادة لمسيرة الإسلام تصورًا بأنها حركات تحرر، ومن هذه حركات الزنج، والقرامطة، والبابكية فقد ألف عن ذلك من ادعى أن حركة بابك الخرمي هي انتفاضة الشعب الأذربيجاني ضد الخلافة العباسية بينما هي حركة هدم لما بناه الإسلام، وتفتيت للصرح الذي أقامه الفكر الإسلامي.
يقول المؤرخ العباسي صاحب "العيون والحدائق في أخبار الحقائق":
"لم يكن في الإسلام حادث (أضر) بالإسلام والمسلمين من ظهور بابك الخرمي، بتلك المقالة التي تفرع منها القرامطة والباطنية".
إن النظرة الحقيقية للتاريخ الإسلامي تستمد من رابطة العقيدة لا من رابطة العنصرية، إنما نشأ هذا الاتجاه العنصري عل كتابات الباحثين المسلمين الذين تأثروا بالنظرية الغربية المتأثرين بفكرة "حوينيو" في الاتجاه العنصري، فصوروا أحداثه في صورة نزاع حاد بين العرب والحاكمين والشعوب المحكومة، من فرس وترك وبربر كما يقول الدكتور فاروق عمر فوزي – كأن لم يكن في هذا الشرق العربي الإسلامي إلا تطاحن على السلطة والسيادة والامتيازات، وقد شوه هذا الاتجاه العنصري، الذي دسوه حقيقة دور العرب الحضاري.(57/8)
ومن أبرز ما قام به المستشرقون في هذا الصدد ما كتبه فلوتن وفلهوزين (1)، اللذان أظهرا تاريخ القرن الأول الهجري وكأنه صراع دموي بين الأسياد العرب وسكان البلاد المفتوحة، وقد تأثر بهذا التفسير الكثير من المؤرخين، ومنهم عرب، فطبقوه على مظاهر كثيرة في التاريخ العربي الإسلامي، ومن جملتها الحركة البابكية نفسها، التي صورت في صورة انتفاضة قومية إيرانية.
والواقع أن هذا التفسير جرد الحركة البابكية من سياقها التاريخي الشامل، وحصرها في جانب واحد، بالغ في إظهاره وأكد عليه متناسيًا الجوانب الأخرى.
وقد سار مؤرخون عرب آخرون على طريق المذهب المادي في التفسير التاريخي أمثال "بندلي جوري" في كتابه (الحركات الفكرية في الإسلام) حيث اعتبر البابكية الإباحية، والإسماعيلية الباطنية، والقرامطة الممارسة للقتل والنهب حركات إسلامية، هذه المنظمات الباطنية كما نشر الكاتب مختلطة بأفكار إسرائيلية، ومعتقدات وثنية، وفلسفات إغريقية، وعرض للقرامطة على أنهم أصحاب النزعة اليسارية المبكرة، هذه المزاعم التي استخدمها ماسيتون وكايتاتي وبرناردلويس وكراوس، والتي قدمها الماركسيون اليهود أمثال بندلي جوزي ولوكسلي وإيفانوف.
والواقع أن هذه إحدى المحاولات التي ترمي إلى تزييف تفسير التاريخ الإسلامي بمنهج غير منهجه، المنهج الذي يقوم على مفهوم الإسلام الجامع المتكامل روحًا ومادة، عقلا وقلبًا، دنيًا وآخره.
ولكن هذه المحاولات كلها لا تستطيع أن تثبت أمام الحقائق، ولا أتلبث أن تسقط وتنهار.
وفي دراسة تاريخ العثمانيين يجب ملاحظة بعض المحاذير التي قد تكون عاملا في "سوء الفهم" أو توجيه الاتهام بغير مبرر.(57/9)
أولا: كذب الاتهام بأن الدولة العثمانية احتلت العالم العربي فالواقع أن الأقطار العربية رغبت في الانطواء تحت لواء الخلافة الإسلامية العريض، حماية لها من تجدد الغزو الصليبي الذي كان يطمع في جولة جديدة بعد هزيمة الحروب الصليبية، وكذلك كان الأمر في موقف تونس والجزائر التي واجهت حملات عنيفة من القرصنة الأسبانية والبرتغالية التي كانت تهدف إلى القضاء على جماعات المسلمين الفارين بدينهم من الأندلس بعد سقوطها في أيدي الفرنجة.
وقد كتبت أبحاث عديدة في هذا الصدد، وتكشف حقائق كثيرة حول هذا المعنى من أبرزها ما دار في الملتقيات الإسلامية في الجزائر سنوات 1972م، 1983م، 1974م.
ثانيًا: التفرقة الواضحة بين عهد السلطان عبد الحميد الذي انتهى عام 1909، وبين عهد الاتحاديين الذي بدأ منذ ذلك التاريخ واستمر حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، وهو العهد الذي وقع فيه الخلاف بين العرب والترك وخاصة عرب الشام، وهو الذي قام فيه الاتحاديون بتعليق العرب على المشانق في بيروت ودمشق 1916 بعد أن تجلت وجهة الاتحاديين، وتكشف علاقتهم بالصهيونية، ودورهم الخطير في تسليم فلسطين لليهود، فضلا عن جرائمهم في تسليم طرابلس الغرب للإيطاليين، وإدخالهم الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى من غير غرض واضح، مما أدى إلى هزيمتها وتمزقها.
أما عهد السلطان عبد الحميد فقد كان عهد الدعوة إلى الجامعة الإسلامية، وعصر الحفاظ على فلسطين وقصة مواجهة السلطان عبد الحميد لهرتزل وزعماء الصهيونية واضحة ومعروفة، وقد كانت سببًا في التآمر عليه وعزله، فالحملة الموجهة في الحقيقة للدولة العثمانية إنما هي موجهة للاتحاديين الذين حكموا في هذه الفترة، فمزقوا وحدة المسلمين وأوقعوا الصراع بين الترك والعرب، وقد كان للشام دور واضح في هذه القصة، ومن هنا فإن معظم الكتابات التي لا تفرق بين العهدين هي من كتابات أهل الشام.(57/10)
ثالثًا: لا ريب أن موقف السلطان عبد الحميد من الصهيونية فضلا عن مواجهته البارعة للصراع مع الغرب، كانت من أشرف صفحات السلطان عبد الحميد الذي اختلفت وجهات النظر فيه، والذي وصفه خصومه بأنه كان مستبدًا وظالمًا وطاغية، ولا ريب أن الموقف كله يجب أن يدرس في إطار التحدي الخطير الذي عاشه السلطان منذ بروز حزب الاتحاد والترقي، واحتواء الصهيونية العالمية لمحافله، وخطته في تدمير الجامعة الإسلامية وتحقيق هدف الاستعمار والصهيونية العالمية في تمزيق دولة الخلافة، وتحقيق هدفها في السيطرة على أجزائها، وفي سيطرة اليهود على فلسطين.
رابعًا: خطة الصهيونية في إنشاء المحافل الماسونية في انبعاث جديدة بدأت بتعيين زعيم جديد، حيث زيادة ممارسة الشعائر الإسلامية في بعض المناطق، حيث تشهد المساجد إقبالا على العادات الإسلامية في نفس الوقت الذي فيه تقاوم الشعائر الآسيوية الكبرى الدعوة السوفييتية وتزاول الشعائر الإسلامية، ويتكهن بعض الباحثين بأنه في القرن الواحد والعشرين فإن المسلمين سيعقد لهم لواء القيادة في الاتحاد السوفييتي بمعنى أن الدولة المتحدة يمكن أن تصبح دولة المسلمين وخاصة وأن كثيرًا من الشخصيات بدأ يعقد لها لواء القيادة وبدأت تظهر في سماء موسكو.
وما يقال عن الاتحاد السوفييتي يقال أيضًا عن أوربا عامة وفرنسا وأسبانية خاصة، وهذا بالطبع يستدعي من المسلمين الفرنسيين والأسبانيين وغيرهم أن يتثقفوا بالثقافة الإسلامية وأن تتحد كلمتهم وأن يتجمعوا في قوة تستطيع أن تحافظ عليهم وعلى دينهم وعلى حقوقهم.
وفي الولايات المتحدة قام مجتمع إسلامي على أخلاق ومعاملات وتعاليم الإسلام ويرفع شعائر لا إله إلا الله محمد رسول الله، حيث بلغ عدد المسلمين 4 ملايين مسلم.
يقول دكتور نور الدين دوركي: ستصل في السنوات الخمس مئات.
…………………الأستاذ/ أنور الجندي(57/11)
سلسلة على طريق الأصالة الحضارة الغربية والمجتمع المسلم
استطاعت الحضارة الغربية السيطرة على العامل وفرض طابعها على الأمم على نحو لم يتحقق لأي حضارة سابقة، ولكن هل استطاعت الحضارة فعلا أن تكسب القبول لدى كل الأمم، أم إنها تواجه معارضة شديدة وخاصة في محيط العالم الإسلامي الذي يملك مفهومًا خاصًا مستقلا عن مفهوم الغرب والذي له من القدرة ما يمكنه من المقاومة دون الانصهار في الحضارة الأممية.
لقد استطاعت الحضارة المعاصرة أن تمتلك القدرة من خلال المنهج التجريبي الذي وضعه الإسلام، كما أنها استطاعت أن تمتلك الطاقة لسيطرتها على موارد العالم الثالث الذي سقط تحت نفوذها، ولكنها منذ اليوم الأول كانت عاجزة عن تقديم حضارة تحقق الأمن والعدل للبشرية، بل على العكس من ذلك عملت على تقسيم العالم إلى عالم بالغ الثراء وعالم بالغ الفقر، وحاولت أن تمتلك كل ثروات البشرية عن طريق النهب والسلب ثم عملت على محاصرة الدول الفقيرة وحرمانها من مقدراتها.
وهي بذلك وضعت نفسها موضع الحضارات التي انهارت من قبل: حضارة اليونان والرومان والفرس والفراعنة وكلها حضارات الغايات ولكن الإسلام يجعل القوة من أجل الحق.
ثانيًا: تهبط بالحقيقة إلى مستوى الفكرة المجردة فكل شيء لا يمكن التعبير عنه بلغة الرياضيات والحساب غير موجود أصلا في نظر الحضارة الغربية.
ثالثًا: إنها فردية في ذاتها فالفرد في تلك الحضارة يعبد نفسه ويتصرف لتحقيق ذاته حتى الجماعات أيضًا تتصرف لتحقيق ذاتها.(58/1)
وبسبب التحلل الخلقي فإن الملايين من أبناء الغرب ينتظرون الموت خلال سنوات (مرض الإيدز) لعنة السماء تؤكد جوهر الأصل للأديان السماوية، وإن اللواط لا يمكن أن يكون تقدمًا وإن الحرية الجنسية ليست تحضرًا، أو تمدينًا، وإن إدمان الخمور والمخدرات ليس رقيًا أو نهضة بشرية، والأغلبية الساحقة هم من المصابين بالشذوذ الجنسي + حقن تعاطي المخدرات + الاتصال الجنسي غير الشرعي بين الرجل والمرأة + نقل الدم الملوث.
وقد حققت الولايات المتحدة الرقم القياسي بمرض الأطفال الذين أخذوا العدوى من أمهم أثناء الحمل (7 آلاف قضوا نحبهم بسبب المرض + 2 مليون يحملون الفيروس).
وقد كشف عن حضارة الغرب علماء من الغرب:
أقول الغرب: سبنجلر.
الإنسان ذلك المجهول: الكيس كريل.
إنسانية الإنسان: رينيه روبو.
ثورة الأمل: اريك فروم.
أما في الفكر الإسلامي فهناك كتابات حسن البنا وعبد الحميد بن باديس وإقبال ومالك بن بنى والموردي الندوي وسيد قطب.
وفي تقديرهم إن حضارة أوربا نسيج من القوة والطغيان والإثرة وحب الذات والأنانية وقد قامت على أساس فلسفتها الاستعمارية والتفرقة العنصرية إنها حضارة اللذة والمتعة وعبادة المرأة والمال.
إن حضارة أوربا هي حضارة الربا والقمار والميكافيلية الشريرة والإباحية والعلمانية والمادية واستعباد المرأة باسم تحريرها حضارة لا مكان لها في قاموس المثل والعلم والشريعة، وهي مهما بلغت من قوة مادية فإنها انهارت روحيًا وخلقيًا وإنسانيًا إلى الدرك الأسفل، تحرم على الرجل أن يتزوج إلا بواحدة وتتيح له أن يعيش مع ألف عشيقة وبائعة لجسدها وليس ذلك إثم في نظرها وإنما الإثم ما شرعه الإسلام المرجل من حق الزواج بأربع (محمد خفاجي).
ويقول البروفسور سيمون جارجي (جامعة جنيف):(58/2)
"إن الغرب قد فقد المرتكزات الروحية والثقافية الدينية التي كان يرتكز عليها فلم يعد هناك شيء يركن إليه فالديانة النصرانية فقدت مقوماته والتوجه إلى الروحانيات انتهى واضمحل في النفوس فأصبح في الغرب نوع من الفراغ ونوع من الضياع الشامل تكتوي به الأجيال الشابة.
إني أعتقد أن حضارتنا الغربية هي الآن في حالة احتضار، وأننا نعيش نوعًا من موجة التحول التي لا تعلم ماذا سينتج عنها، نحن نشاهد حضارة تنازع، وتوشك أن تموت ولابد أن تنشأ عنها حضارة جديدة، نحن نعيش في نفق مظلم ولا نزال ننتظر النور الذي سيهدينا".
تلك هي حضارة الغرب ارتبطت بالاستعمار وقامت في أحضانه ثم حاولت أن تفوض نفسها على العوالم كلها ومنها عالم الإسلام في فترة ضعف وتخلف واجه فيها تحديًا خطيرًا قوامه التبعية بالنفوذ العسكري والسياسي.
والواقع أن الحضارة الغربية لم تستطع أن تحقق مجتمعًا صالحًا في الغرب وعندما تسربت إلى عالم الإسلام كانت أشبه بعاصفة تعمل على تحطيم كل قوى الثبات واليقين والإيمان بالله تبارك وتعالى.
وكان لابد لليقظة الإسلامية من موقف فكري على الأقل كمقدمة لموقف واقعي وكان هذا الموقف هو كشف زيف هذه الحضارة وإعلان عجزها عن العطاء، وبيان أنها لم تزد أن كانت واحدة من الحضارات الوثنية المادية التي سبقت في فارس والروم واليونان ومصر القديمة. وكان لابد من الحملة عليها على أنها لا تصلح بديلا عن الحضارة الإسلامية التي تعرضت للعطب بعد ألف سنة من العطاء المتصل.(58/3)
إن هناك أساسًا اختلاف الوجهة فالحضارة الغربية تستهدف السيطرة على العالم وإخضاعه لسلطانها مع اتجاه استهلاكي يستهدف المنافسة والربح ويقصر وجهته نحو الطبقة الثرية فلا يقدم الضرورات للناس جميعًا ومن هنا فإن هذه التكنولوجيا قد تطورت في مجالات محدودة تطورًا هائلا بينما تراجعت في مجالات أخرى تراجعًا شديدًا وكان هذا الاتجاه علامة على تصادمها مع الطبيعة والبيئة والحاجات الفطرية للإنسان (وهو النمط الغربي المفروض على شعوب العالم). وبهذا فهي ليست حضارة الإنسان كله ولكنها حضارة الأغنياء والرأسمالية.
ولما كان هذا التوجه متعارضًا مع طبيعة الأمم والشعوب بصفة عامة فقد وقع الغرب في مشاكل طاحنة كشفت عن إفلاسه وفشله في تحقيق أي قدر من الاستقرار للوطن.
ومن هنا كان ذلك الاضطراب الذي يقاسيه العالم الإسلامي نتيجة الخضوع لهذا الاتجاه، وفشل كل الأنماط التي استوردها في سبيل تنميته بما فيها تلك التي تشكل في نظرهم مفتاح التقدم.
نقطة الافتراق هي العلاقة مع الله تارك وتعالى وهي نفسها نقطة الالتقاء مع كل عوالم الفطرة والعلم والأمن وطمأنينة النفس وسلامة المجتمعات وحمايتها من الوقوع تحت طائلة قانون الانهيار والسقوط.
فالحقيقة الغائبة عن الحضارة الغربية تتركز في أن الإنسان لن يجد منطلقه الحقيقي إلا إذا آمن وأيقن بأن الله تبارك وتعالى هو المرجع والمصدر وهو منطلق كل حركة وأنه إليه ترجع الأمور.
أما في الغرب فإن هذه الحقيقة تبدو باهتة بل هم يقفون منها موقف الاستهانة، ويتكئون على الفكر المادي ويقيمون منه دينًا ويؤكدون في تحاليلهم أنهم يمتلكون الحقيقة في حين أنهم يعرفون إن كل كائن حي يحمل في داخله بذور فنائه. ومن هنا فإنه لا يمكن للكائن البشري الزائل أن ينتج حقائق أزلية.
تلك هي الصخرة الكبرى التي ترتطم بها هذه الحاضرة المادية الوثنية: غياب البعد الإلهي ثم البعد الأخلاقي.(58/4)
لقد صنع الإنسان أوثان هذا العصر: وهي العلم والتكنولوجيا والفلسفة والفن ثم عبدها، إن الغرب يعتمد في بناء الحضارة على التناقض والنفي وعلى التطور المطلق، وعلى النسبية وكلها قيم سلبية بينما يعتمد الإسلام في بناء حضارته على الإيجاب (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) فالله تبارك وتعالى هو الأزل والفرد المطلق والكمال وهي الصفات الإيجابية الحقة.
فالإسلام وحده هو الذي ينطلق من مبدأ الإيجاب والإثبات ويؤكد أن تلك المبادئ كلها مجتمعة في الله تبارك وتعالى.
ولأن الإسلام كامل فقد صهر كل الأديان المنزلة:
(آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون) صدق الله العليم.
للإسلام موقف حاسم مع حضارة الغرب:
ومن هنا كان لابد للإسلام من موقف من حضارة الغرب:
موقف حاسم وواضح، يقوم على الفطرة وعلى تكامل جانبي الإنسان الروحي والمادي دون إعلاء لأحدهما أو حجب للآخر، وفي ظل هذا الانحراف الخطير الذي وصل إليه الغرب بعد أربعة قرون من التحول نحو المادية نجد الإسلام يشرق بوجهه من جديد ليقدم منهجه الأصيل الجامع في مواجهة كل الأزمات والأخطاء والانحرافات ومن أجل أن يعيد البشرية مرة أخرى إلى منهج الله.
وأبرز ما يطرحه هو محاولة فهم الحياة والكون وتدبيرها خارج نطاق التوجيه الرباني هو عملية صعبة، فاشلة، منهارة لأنها تتجاهل كثيرًا من الحقائق التي قدمها الحق تبارك وتعالى إلى البشرية عن طريق الدين الحق، وفي مقدمتها الإيمان بالغيب وذلك التفسير الكريم لمسألة ما وراء المادة (الميتافيزيقا) حتى يريح نفسه من الإغراق في تفسير الأساطير التي قدمتها الفلسفات القديمة، وحتى يوجه جهده إلى العمران والسعي في الأرض، وهي أمور يعجز العقل وحده عن الوصول إلى كنهها، وهنا تبدو حكمة الدين في حماية حركة الحياة والإنسان بالحدود والضوابط عن الانهيار والغربة والغشيان والتأزم الذي يقاسيه الغرب اليوم.(58/5)
فالإسلام اليوم وفي مواجهة عشرات من التجاوزات التي أحدثها انحراف الغرب عن الفطرة، قادر على تقديم الوجهة الصحيحة والأصيلة للبشرية فالإسلام اليوم هو ملاذ البشرية بعد أن أخفقت جميع الفلسفات المادية في جميع القطاعات الاجتماعية والسياسية في تهيئة الجو الصالح للحياة الإنسانية بما يؤكد أن الإسلام هو الملاذ الوحيد للبشرية في كل زمان ومكان وفي كل عصر – على حد تعبير جارودي – ولا أدل على ذلك من هذه المجتمعات المادية التي جربت كل أنواع التقدم العلمي والحضاري وعاشت قمة التجارب العلمية والعملية حيث لا تجد اليوم ما تحتاج إليه من أمن نفسي وشعور بالسلام، إن الإسلام أنقذ العالم من الانحطاط العام والفوضى وأن القرآن الكريم أهاد إلى ملايين البشر وفي بعدهم الإنساني روحًا جماعية جديدة.
وتجابه العالم اليوم قوتان عظيمتان ترميان إلى اقتسام العالم، وهما تعلنان عن عقيدتين هما في الظاهر مختلفتان لكنهما في الحقيقة تعتمدان الأنموذج الكياني نفسه والنمط المترف وتسيران في طريق مسدود وتؤديان إلى الإفلاس البشري.
وفي غياب الغاية الإلهية والإنسانية يمكن للإسلام أن يقدم إلى العالم ما يتطلبه وهو معنى الحياة، فالإسلام دين التوحيد ففي حين أن عالمنا: عالم المنافسة والنمو الكمي والعنف تبدو فيه الأحداث حصيلة القوى العمياء المتصارعة يعلمنا القرآن النظر إلى الكون والبشر على أنهما كل واحد ويعلمنا أن الله يرى في كل شيء وفي كل حدث آية من آياته رمزًا للحقيقة الأسمى، وهي حقيقة النظام الواحد للطبيعة والمجتمع ولأنفسنا فكل شيء في العالم خاضع لإرادة الله تبارك وتعالى، وفي نفس الوقت فقد كرم الله تبارك وتعالى الإنسان بأن جعله مسئولا لا مسئولية كاملة عن مصيره إذ في مقدوره أن يعصي شريعة الله وأن يستسلم لها.(58/6)
ويعني هذا كله: أن المستقبل للإسلام أما إفلاس الحضارة الغربية (حضارة الانتحار) التي تقود العالم إلى الهاوية: تلك التي تقوم على مفهوم التقدم السريع حتى ولو كان على حساب العلاقات الإنسانية (بين الإنسان وأخيه الإنسان والعلاقة بين الإنسان وربه).
إن مفهوم الغرب للعلم يقتصر على وضع القوانين للظواهر ولكن لا يسأل عن معناها وعن علاقتها بالخالق وهي حضارة تعاني من أزمة المعنى وتحتضر ليس بسبب غياب الوسائل ولكن بسبب غياب الغايات حتى أنه أصبحت كإنسان له جسم عملاق ورأس قزم، إن البعد الإسلامي هو إعطاء معنى للحياة وقد أتى الإسلام بمفهوم الأمة المتسامية (كنت خير أمة أخرجت للناس).
لقد قم الإسلام مفهومًا يجمع بين الدين والدنيا وهذا هو سر تفوق الإسلام.
إن الأمة الإسلامية لم تقم على وحدة الدم – كالمجتمعات القبلية – أو وحدة الأرض كالمجتمعات الزراعية أو وحدة السوق كالمدن الرومانية، وإنما قامت على وحدة العقيدة والمستقبل.
فالإسلام لا يفصل الدين عن الاقتصاد والسياسة فالملكية في الإسلام ليست محدودة كما في القانون الروماني وليست رأسمالية من حيث حق الاستعمال وإساءة الاستعمال؛ ذلك أن الله هو المالك الأوحد، وإدارة أموال الأرض إنما هي وظيفة اجتماعية واستعمال الملكية مقيد دائمًا بأهداف أسمى من الفرد ومصلحته الخاصة.
والإسلام ينفي ما يسمى بنظرية الحق الإلهي التي تجعل من الأمير وكيلا عن الله في الأرض، كما ينفي الإسلام الديمقراطية القائمة على التعويض والتنازل عن السلطة إلى منتخب أو حزب.(58/7)
من هنا ولهذا كله بات واضحًا أنه (أولا) لا يمكن أن تنصهر الأمة الإسلامية في الحضارة الغربية مهما اشتدت الضغوط السياسية أو الاقتصاد عليها ذلك لأنه لا يوجد أساسًا عناصر مشتركة تمكن من الانصهار ولكن هناك "ميزة" الإسلام الخالدة وهي القدرة على الانتفاع بكل تراث البشرية القديم والجديد والاستفادة منه باقتباس الصالح منه، واقتباس التنظيمات في الأساس دون النظم وإن كل ما يأخذه المسلمون من الحضارات وهو بمثابة "مواد خام" يشكلها المسلمون في دائرة فكرهم ومجتمعهم، مع الاعتراف الواضح الصريح بأن للمسلمين حضارتهم المستمدة من عقيدتهم وفكرهم ومنهجهم وتركيبهم الاجتماعي الخالص.
ومن هنا فإن مفهوم الإسلام للحضارة يرفض كل محاولات الاحتواء سواء التاريخي المتوهم أو الواقعي للحضارة ونهايتها أو أن الإسلام لم يكن إلا مرحلة، ذلك بأن حضارة الإسلام منذ بزغ نوره وهي حضارة متميزة قدمت للبشرية مفهومًا جديدًا مخالفًا لكل ما سبقها من حضارات وإن محاولة الغرب إنكار الدور الأصيل والرائد الذي قام به الإسلام في بناء الحضارة وتقديم المنهج العلمي التجريبي ورسم الإخاء البشري (كلكم لآدم وآدم من تراب) بعيدًا الاستعلاء الجنسي أو العصبة العرقية. هذه المحاولة لا قيمة لها لأن حقائق التاريخ تؤكدها في كل لحظة.
(2) كذلك فإن الإسلام يرفض تقسيم الغرب للعصور التاريخية المعاصرة لتاريخ الإسلام فالعصور الوسطى مثلا هي عصور الظلام في رأيهم ما دامت أوربا كانت فيها في الظلام متجاهلين أضواء الحضارة الإسلامية على العالم من حدود الصين إلى الأندلس خلال ألف عام كاملة، كذلك فالإسلام يرفض مقولة إن الفكر الغربي هو الفكر العالمي الذي كون العقل الحديث فإن الفكر المادي الوثني قد تصدع وانكشف فساد وجهه بعد أن سقط في متاهات، ووقع في تجاوزات مصدرها عدم الإقرار بمبدأ (ربانية الوجهة) والبعد الإلهي والبعد الأخلاقي للأمم والحضارات.(58/8)
كذلك فقد رفض الإسلام تقسيم الغرب لشعوب العالم إلى فئات وعروق ودماء بعضها نقية زرقاء وبعضها ملوثة سوداء، أو أجناس عليا وأجناس دنيا (وفي مقدمة ذلك مسألة الزنوج وقضية النازية والفاشية) فقد أثبت البحث العلمي فساد هذه للنظريات التي وضعها مستشرقون مغرضون يهدفون إلى تبرير الاستعمار والسيطرة الأجنبية.
كذلك فإنه ليس صحيحًا أن الفكر الإسلامي لم يكن إلا أداة نقل وترجمة للفكر الإغريقي، فالرياضيات الإغريقية كانت تقوم على مفهوم النهائي والرياضيات العربية تقوم على مفهوم غير النهائي. والمنطق الإغريقي كان نظريًا والعلم الإسلامي كان تجريبيًا إلى حد كبير، والهندسة المعمارية الإغريقية كانت مبنية على الخط المستقيم أما المسجد فكان خلافًا للمعبد الإغريقي مجموعة متناغمة من المنحنيات بأقواسه وقبابه.
وليس صحيحًا أن العلم الإسلامي كان مجرد تاريخ انتهى، قبل أن يبدأ تاريخ علم الغرب فالعلم الإسلامي لم ينته لأنه لا يفصل العلم عن الحكمة، كما أن نهضة الغرب لم تبدأ من إيطاليا بل بدأت من أسبانيا مع إشعاعات علوم العرب المسلمين وثقافتهم.
كذلك فقد أكدت الأبحاث العلمية الجادة إن الثقافة الغربية ليست عالمية كما تقدم نفسها إلى الناس، وإنما تظل مرتبطة بالمجتمع الذي ظهرت فيه ويظل الغرب يضع مبادئه لنفسه ويفرضها قسرًا على الشعوب الأخرى وقد أدرك بعض مثقفي الغرب أن الغرب محصور في إطار ضيق رغم ادعائه أنه متسع الأفق وأنه على النزعة. وكشف هذا عدد من المثقفين العرب الذين أتيح لهم تعمق الأمر، فانتهوا إلى أن الثقافة الغربية ما زالت وستظل أسيرة عوامل محلية مهما ادعت عكس ذلك وأنها تظل موجهة إلى تحقيق هدف الغرب في السيطرة على العالم وبالتالي يجب الانسياق إليها مثقفوا الغرب.(58/9)
كلك فقد سقطت خدعة طه حسين وحسين فوزي وفؤاد زكريا وزكي نجيب محمود بأن استعمال أدوات الحضارة ونواتج الحضارة هو دليل ومبرر لقبول فكر هذه الحضارة، وتلك محاولة ساذجة لا يقبلها أحد فهل فعل الغربيون ذلك حين أخذوا علوم الإسلامية التجريبية هل أخذوا منهج الإسلام في الفكر، إن كل الوثائق تؤكد أن وصية الكنيسة كانت مؤكدة لكل من ذهبوا إلى جامعات الأندلس (قرطبة أو بلنسية أو غيرها) أن لا يأخذوا فكر المسلمين.
فكيف يمكن أن يدعوننا هؤلاء إلى ذلك وهم يعلمون أن هناك فارقًا واسعًا وعميقًا بين استعمال أدوات الحضارة المادية وبين قبول فكرها، هذه أدوات حضارة ونواتج نحن نقبلها لنضع في مداخلها فكرنا ومفاهيمنا ومن المعروف أن استخدام نواتج الحضارة المادية لا تفرض فكرها لأن المادة التي ستقدم من خلال هذه الأجهزة يجب أن تكون إسلامية أساسًا.
وقد جاءت هذه المؤامرة بعد مؤامرة أخرى سقطت تمامًا هي محاولة الادعاء بأننا لا نستطيع أن نقاوم الغرب إلا بعد أن نمتلك علومه، ولقد كان لهذه المقولة أثرها الخطير في ذلك التراجع الخطير الذي وقع فيه المسلمون منذ نكبة 1948 وحتى سقوط القدس 1967 وقيام ما سمي بالهزيمة الكبرى التي وصفت بأنها (النكسة).
وقد انكشف مؤامرة الغرب بادعاء أمثال طه حسين وغيره بأن محاربة الغرب تكون بنفس سلاحه، والواقع أن الإقتداء بثقافة الغرب لم يكن إلا محاولة لاحتواء مثقفي المسلمين تحت لواء الاحتواء المسارع والإغراء الواقع من حضارة تمتلك نفوذًا سياسيًا وعلميًا يضع أتباعها على مقاليد الأمور.
وكان أن تكشف المسلمين بعد حادث النكسة الخطير أنه لا سبيل للمسلمين بعد أن جربوا كلا المذهبين الليبرالي والماركسي، وما أوصلهما ذلك إلى هذا الاحتواء، لم يعد إلا طريق المسلمين الأصيل ومنهجهم الصحيح القادر وحده على إنقاذهم ونصرهم وإعطائهم القوة لامتلاك إرادتهم وبناء مجتمعهم واستئناف بث حضارتهم الربانية.(58/10)
لقد تبين اليوم بكل دليل أن الحضارة الغربية تمر بأزمة عميقة، وأن حصيلة الكشوف العلمية الهائلة معناها إن الإنسان قد وجد العالم وفقد نفسه وأن مفهوم التقدم الغربي (المفهوم المادي المفرغ من تكامله الروحي) لا يمكن أن يكون معيارًا للتقدم والتأخر.
كما تبين أن الهزيمة النفسية التي حملت كثيرًا من مثقفينا على الدعوة إلى متابعة الغرب متابعة كاملة تبتغ من رؤيا خاطئة تتمثل في دوام السيادة الحضارية للغرب مع أن التاريخ شاهد على أن هذا الاستمرار مناقض لقانون من أهم قوانينه وهو قانون (مداولة الأيام بين الناس).
ومن هنا فنحن نقدم للبشرية منظومة الإسلام الباهرة:
هذا النسف من الحضارة الإسلامية الذي أعاد للبشرية التكامل بين الروح والمادة والتقدم من خلال الإيمان بالله تبارك وتعالى والمسئولية الفردية دون التصادم مع السنن والقوانين بل تقبل بالتوازن والتكامل، في إطار أقرار المسئولية الأخلاقية في المعاملات (الإيثار – العدل – الرحمة – الغيرية) وفي نطاق الموازنة بين الحاجات المادية والمطامح الروحية بما يحقق وظيفة الاستخلاف في الأرض.
…………………الأستاذ/ أنور الجندي(58/11)
سلسلة على طريق الأصالة أخطاء في كتابة التاريخ الحديث
(1)
تعرض التاريخ الحديث لموجات من التحليل والتفسير اختلفت باختلاف المدارس التاريخية الغربية التي حاولت أن تصدر أحكامًا من وجهة نظرها أولا كغرب، وخاصة فيما يتعلق بتاريخ الإسلام وعلاقات المسلمين بالغرب، صدرت هذه الأحكام تحت تأثير طابع الاستعلاء الغربي في النظر إلى الأشياء وتفسيرها، ومن حيث النظرة المستمدة من غرب حاكم مسيطر ومستعمر على عالم الإسلام الذي وقع تحت تأثير النفوذ الغربي منذ سقطت الدولة الإسلامية في الهند تحت النفوذ البريطاني وسقطت منطقة أرخبيل الملايو تحت النفوذ الهولندي، بل يرجع إلى أبعد من ذلك، عندما تدافعت قوات أسبانيا والبرتغال لضرب المغرب العربي والزحف على غرب إفريقيا في بدء مرحلة يمكن أن يطلق عليها جولة الاستعمار الغربي الحديث التي وصفها الغرب بأنها تتمة للحروب الصليبية التي سبقتها بأكثر من ثمانمائة عام، ولقد كان من شأن هذا الصراع بين عالم الغرب وعالم الإسلام أن شكل من خلال حركة الاستشراق مفهومًا خاطئًا وتفسيرات متعصبة لحركات الإسلام الحديث ومراحل تاريخه، فقد صدرت هذه المفاهيم وهذه التفسيرات من وجهة نظر الغرب القائمة على التعصب والخلاف والخصومة، فهي ليست خالصة لوجه الحق، وإنما يغلب عليها الهوى والحقد، هذا فضلا عن أن مقاييس التفسير التاريخي الغربي، هي مقاييس مستمدة من التاريخ الغربي نفسه، ولذلك فهي ليست صالحة لتفسير التاريخ الإسلامي الذي يستمد قوانين تفسيره من أصوله ومقوماته، ولا ريب أن هناك خلاف عميق بين أصول التاريخ الغربي ومقوماته التي تقررت عليها مقاييس تفسيره.(59/1)
ترجع هذه الأصول إلى العقيدة والثقافة والتاريخ القديم، ولا ريب أن التاريخ الغربي يتصل اتصالا عميقًا بمفاهيم الوثنية اليونانية والعبودية الرومانية والتفسيرات المسيحية، وهذه كلها تشكل نظرة خاصة إلى الأوضاع والأحداث والمواقف، ومن هنا فهي تختلف اختلافًا عميقًا عن أصول التاريخ الإسلامي الذي يقوم على أساس عقيدة التوحيد والنبوة والبعث ومسئولية الإنسان والتزامه الأخلاقي ومفاهيم الإخاء الإنساني والعدل والرحمة وفي إطار المنهج الذي قدمه القرآن الكريم والذي يختلف بل ويتعارض مع تفسيرات العقيدة والقيم التي تقررت في الفكر البشري المختلط، وخاصة فيما يتعلق باضطراب مفاهيم العقائد اليهودية والمسيحية، وهي التي تشكل الأساس الأول للثقافة والفكر الغربي، ويتجلى هذا الخلاف في تفسير التاريخ الإسلامي حيث يقوم الاستشراق بتطبيق مقاييس غربية مختلفة كل الاختلاف عن مفاهيم وقيم الإسلام التي تتشكل من خلال مفهوم كل جامع بين الروح والمادة والقلب والعقل، والدنيا والآخرة، فبينما تقوم مفاهيم الغرب على التفسيرات المادية الخالصة، التي لا تستطيع أن تستوعب التوحيد والوحي والنبوة وآثار الجوانب الروحية والمعنوية في قيام الدول في آماد قصيرة وانتصار الجيوش بالعدد الأقل، وانتشار الإسلام ذاتيًا، كل هذا يستدعي من الباحثين إعادة النظر في هذه التغيرات.
(1) لتكون الحقيقة أكثر جلاء ووضوحًا يجب التفرقة بين حكم العثمانيين للعرب وبين حكم الاتحاديين والتفرقة بين حكم المماليك في مراحله الأولى وبينه في مراحله الأخيرة.
(2) القول بأن الأتراك سبب تأخر العرب قول مردود، لقد كان الحكم العثماني في البلاد العربية مختلفًا عن الحكم الاستعماري، وأن الترك وحكمهم ليس سبب تأخر العرب وعدم نهوضهم، ذلك لأن الترك أنفسهم كانوا متأخرين في العلوم والفنون.
(3) خطأ القول بأن الأتراك هم الذين سيطروا على البلاد العربية واحتلوها.(59/2)
كان دخول العرب في الدولة العثمانية في النصف الأول من القرن السادس عشر التقاء الجزء بالكل والتئام الأجزاء الضعيفة مع الجزء الأقوى لصد خطر الإفناء الصليبي الذي صاحب مطالع عصر الاستعمار واكتشاف رأس الرجاء الصالح.
ولا ريب أن ارتباط العرب بالترك كان عاملا هامًا في تأخير سقوط البلاد العربية في قبضة الاستعمار الغربي أربعة قرون، وكان مصدر صمود الجبهة في مواجهات ضربات أوربا.
(4) فساد مفهوم الإصلاح المنقول من إصلاح المسيحية باعتبارها قامت على تفسيرات بشرية جعلتها غير قادرة على مواجهة تغييرات الأزمنة والبيئات.
أما الإسلام فإنه لا يقر الإصلاح بمفهوم تعديل مقررات الشريعة الإسلامية الثابتة، وكلمة التجديد أقرب إلى مفهوم الإصلاح (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها) والتجديد هنا هو العودة إلى المنابع ومصطلحات الإصلاح والتطور والتجديد بمفهوم ممالأة الاستعمار الغربي في تغريب الإسلام أو تمسيحه هي مصطلحات باطلة.
كذلك لا ينطبق على الإسلام مفهوم التطور لأن التطور مرتبط بالمناهج البشرية القاصرة التي سرعان ما يتجاوزها الزمن فتحاول إصلاح نفسها بالتطور، أما المنهج الإسلامي الرباني فإنه قادر على العطاء في مختلف العصور والبيئات، وهو منهج مرن واسع الجنبات قادر على العطاء والاستجابة مع تغير الأوضاع.
(5) فساد محاولة القضاء على فريضة الجهاد على النحو الذي تقدمه القاديانية والبهائية، بهدف إيقاف الكفاح ضد المستعمر والغاصب وهي محاولة لتغريب الإسلام وتمسيحه وإعطائه طابع الغاندية والتولستوية الذي لا يمثل مفهوم الإسلام.
وتعد محاولة علي عبد الرازق، والقادياني، وأحمد خان، والبهاء محاولات باطلة تستهدف تغيير مفهوم الإسلام الأصيل.(59/3)
وقد حاول علي عبد الرازق الادعاء بأن الخلافة ما كانت إلا ملكًا ولا سلطانًا، وأن النبوة ليست حكمًا ولا ملكًا. وقال إن الملك الذي شيده النبي صلى الله عليه وسلم عمل دنيوي لا علاقة له بالرسالة، وإن زعامة الرسول ليست إلا زعامة دينية، وهذا فهم باطل للإسلام الجامع بين الدين وبين نظام المجتمع.
وقد جرت محاولات النفوذ الأجنبي لضرب حركات التحرر الإسلامية والقضاء عليها.
(1) القضاء على ثورة المسلمين في الهند.
(2) القضاء على ثورة الأمير شامل في القوقاز.
(3) تحطيم القوة المصرية في نفارين.
(4) تحطيم القوة الوهابية الصاعدة في الجزيرة.
كما جرت محاولة تمزيق وحدة العالم الإسلامي إلى قوميات وإقليميات، بدأت هذه المحاولة قبل إلغاء الخلافة فانقسم المسلمون إلى نحو سبعين جنسية وفرقة كل منها معزولة عن الأخرى ومحبوسة وراء فواصل مادية وأدبية لا حصر لها.
أخطاء في كتابة التاريخ الحديث:
(2)
قضى الاستعمار على الزعامات الأصيلة التي كانت مفاهيمها تربط بين الوطنية والإسلام بمفهومه العام وكانوا يرون كفاح الاستعمار جزءًا من النضال في سبيل الله، وصنع مدرسة أخرى من تلاميذ الاستعمار هم الذين قاموا بحركاتهم في دائرة الاستعمار وفكره ومنهجه الداعي إلى قبول الأمور الواقعة ثم المطالبة، والذين كانوا مبهورين بالحضارة الغربية، معجبون لأولياء الاستعمار متعاونون معهم.
وقد كانت معركة الجزائر تختلف عن ذلك فقد قامت على أساس مفهوم الجهاد في الإسلام، ولولا أنهم أكدوا ذلك لما استشهد منهم مليون شهيد، فالشعب الجزائري لم يدعي لخوض المعركة التحريرية إلا باسم الإسلام، ولولا ذلك لما استطاع أن يحمل في هذا العصر لواء المقاومة للاستعمار المدجج بأحدث الأسلحة، ولكن التجربة لم تكتمل فقد خشيت أوربا مغبة هذا الاتجاه ولذلك فقد أجهض قبل أن يقيم الجزائريون دولة إسلامية.(59/4)
إن تجربة الجزائر أعادت القيم الإسلامية إلى الظهور مرة أخرى بعد صلاح الدين وبعد أن غابت عن مسرح الحياة الإنسانية.
وقد كان الاستعمار والنفوذ الأجنبي حريصًا على إجهاض الاتجاه الإسلامي في الجهاد حتى لا يؤدي إلى مواجهة عقائدية مع النفوذ الأجنبي، وقد خدع مصطفى كمال الأتراك والعالم الإسلامي حين حمل القرآن ودعا إلى حرب اليونان ثم كانت جولته في مواجهة إسقاط الإسلام وإلغاء الخلافة.
(3)
انطلقت فكرة الدولة الباكستانية من مفهوم الإسلام ولكن الدولة الباكستانية لم تقم عليه، فقد حالت حوائل كثيرة دون تحقيق هذه الغاية، بل إن المدرسة التي كان يرأسها محمد علي جناح لم تكن إلا مدرسة غربية شبيهة بالمدارس التي كونها النفوذ الأجنبي في البلاد العربية، كان من المؤمنين بالليبرالية الغربية.
قال الأستاذ المودودي: إنه بالرغم من أن هذه الحركة (حركة جناح) تثار باسم الإسلام ولكنها ليست حركة إسلامية وطرح نظرية العمل الإسلامي الصحيح وهو أن ينتشر الإسلام أولا إذا ما انتصر الدين الإسلامي في أعماق الجماهير فإن هؤلاء المسلمين سيقيمون الإسلام في الهند جزء من عقيدتهم. وقال غلام أعظم (أمير الجماعة الإسلامية في باكستان الشرقية) بما أن هذه الحركة لم تتبلور كحركة إسلامية فإن غالبية قادتها بعد قيام الباكستان تنكروا لمفهوم الإسلام، لقد قامت باكستان على تصور إسلامي ولكنها بعد تأسيسها لم تتخذ هذا التصور وبالتالي لم يترسخ في أعماق الجيل الجديد ولذلك حينما بحث هذا الجيل عن قوميته وجدت الإقليمية طريقها إلى تفكيره.
(4)
طرحت عناصر مختلفة في أفق كل بلد عربي أو إسلامي:(59/5)
(1) عنصر قديم متصل بالتاريخ السابق للإسلام، ففي عصر الفرعونية وفي الشام البابلية وفي العراق الآشورية، وفي المغرب البربرية، وفي الهند الإسلامية: الهندوكية القديمة وفي إيران تاريخ كورش والمجوسية القديمة وفي تركيا الطورانية وتاريخ الذئي الأغبر وكلها محاولات المردة إلى القديم البالي الذي حطمه الإسلام.
(2) عنصر قومي وإقليمي متصارع، كالمصرية، أو السورية، والعراقية تحاول أن تلتقط من التاريخ صفحات ومراحل وشخصيات وفي محاولة لتقسيم أعلام الفكر الإسلامي إلى عرب وفرس وترك، وإلى مصريين وسوريين وعراقيين.
(3) عنصر غربي أوربي (فرنسي، بريطاني) أو أمريكي، وعنصر ليبرالي أو ماركسي.
ووراء كل عنصر من هذه العناصر مفاهيمه، فالبلاد التي خضعت لفرنسا أبان الاحتلال، ما زال ولائها الثقافي للفكر الفرنسي (لاتيني) البلاد التي خضعت لإنجلترا ما زال ولائها (سكسوني) وقد قامت الصراعات بين اللاتينية والسكسونية،وبين الولاء للغة الإنجليزية واللغة الفرنسية، وبين الولاء الغربي نفسه: فرنسي، وإنجليزي، وأمريكي من خلال الثقافة والمترجمات.
ثم جاء الصراع الآخر بين الأيدلوجيات: الرأسمالية الغربية والماركسية السوفيتية، وما يتصل بإتباع هذين الأيدلوجيين.
والهدف هو الحيلولة دون قيام وحدة إسلامية أصيلة مستمدة من القرآن واللغة العربية والإسلام هي الصراع بين المدارس والمناهج.
(5)
لما كان الغربيون يرون في أبطال النضال الوطني خصومًا لهم لأنهم قاوموهم وهزموهم فإنهم يحاولون أن يسموهم بأسماء زائفة، فالرئيس حميدو القائد الجزائري المشهور الذي أخضع دول أوربا لبأس الجزائر وسلطانها حتى كان الأوربيون يؤدون للجزائر مغرمًا سنويًا وكانوا لا يدخلون هذا البحر المتوسط حتى يعطوا الجزية، هذا القائد البطل يصفه المؤرخون الفرنسيون بأنه قاطع طريق وبأنه هو وأصحابه الأبطال قراصنة متوحشون.
(6)(59/6)
إن ظهور سعد زغلول (مصر) ومصطفى كمال (تركيا) ورضا شاه (إيران) في مرحلة واحدة بعد الحرب العالمية الأولى كان يستهدف القضاء على صيغة العالم الإسلامي الإسلامية وإرساء مفاهيم الإقليمية والقوميات الوافدة، والوطنية الضيقة، والقضاء على الوحدة الإسلامية، والخلافة، بل أن بعض المؤرخين يردون هذه المحاولة إلى محمد علي الذي فتح الباب لأول مرة أمام الحكومة العلمانية التي حطمت نظام الحكم الإسلامي وقد سجل السيد رشيد رضا هذه الظاهرة فقال إن لمحمد علي ثلاثة أعمال كبيرة كان كل منها موضع خلاف:
أولا: تأسيس حكومة مدنية في مصر (أي علمانية) كانت مقدمة لاحتلال الأجانب له.
ثانيًا: قتاله الدولة العثمانية بما أظهر به للعالم كله ولدول أوربا خاصة ضعفها وعجزها وجرأهن على التدخل في أمور سياستها.
ثالثًا: مقاتلة الوهابية والقضاء على ما نهضوا به من الإصلاح الديني في جزيرة العرب مهد الإسلام وأحد معاقله.
وأن محمد علي هو أول من تجرأ في العالم الإسلامي على استبدال القوانين الأوربية بالشريعة الإسلامية ولا ينسون قتاله لخليفة المسلمين مما يعد حرابه، ولا ينسون أن (توفيق) هو الذي تآمر على ثورة عرابي واستدعى الإنجليز لاحتلال مصر واحتمى بجيشهم بعد أن عاهد جمال الدين على تطبيق حكم الشورى بمصر ثم نفاه وزعم أنه رئيس عصابة من المفسدين.
ويعد هذا في تقدير الباحثين هو التمهيد لما قام به سعد زغلول في مصر وكمال أتاتورك في تركيا ورضا شاه وابنه محمد في إيران في محاولة تغريب مصر وتركيا وإيران.
(7)
ظهرت دعاوى باطلة تحاول أن تصور العالم الإسلامي وكأنه قبل الاحتلال الغربي كان في سبات عميق، وأنه تجمد في القرون الوسطى وكأن أوضاعه السياسية والاجتماعية وإن لم ينهض إلا حين نهض به النفوذ الأجنبي وأن الحملة الفرنسية على مصر هي بدأ اليقظة وإن الإرساليات الأجنبية هي التي حققت له الصحوة.(59/7)
كذلك شوه الاستعمار حركات اليقظة التي قامت قبل قدومه وادعى أنها لم تحقق شيئًا بينما كانت البلاد العربية والإسلامية قبل الاحتلال على درجة عالية من الوعي السياسي والاجتماعي وكانت بها نظم سياسية جيدة، مثل ما كان في مصر.
وكانت الحياة الحضارية والثقافية في أوج التقدم في مختلف مناطق أفريقيا التي احتلها الاستعمار البريطاني والفرنسي وحاول تشويه ثقافتها وحضارتها وأطبق عليها بفوده وثقافته ليزيل الوجود الإسلامي والعربي بها.
ولا شك كان الأزهر حافلا بحركات اليقظة قبل الحملة الفرنسية وكانت الجزيرة العربية (في نجد ومنطقة الخليج) في أوضاع ثقافية واجتماعية طيبة بدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب. وقد جاء احتلال الجزائر بعد فترة من إنجازات ضخمة كان لها شأنها في هزيمة الاحتلال الفرنسي ثم جاء التدخل الأجنبي بعد أن أوشكت هذه الحركات على النجاح فأجهضها وأدخلها في صراع مع بعضها البعض بقصد ضرب بعضها ببعض والقضاء عليها.
ولا ريب أن الحركات الوطنية والفكرية في مصر وتونس عبر القرن التاسع عشر قد ألزمت الفئات الحاكمة على الشورى والعدل وتمكنت من الحصول على مزيد من حرية العمل والفكر، ووضع أسس دستورية وتشريعية كانت كفيلة بالمساهمة الشعبية في الحكم، بل إن هذه الحركات الإصلاحية قبل الاحتلال الأجنبي كانت تستمد مفاهيمها من الأصول الإسلامية في تحديد وجهتها، غير أن النفوذ الأجنبي قد حطم هذه المحاولات كلها ووضع البلاد الإسلامية في دور التبعية الكاملة لنفوذه وقوانينه تحت أسماء الانتداب والوصاية بادعاء أن أهالي هذه البلاد لم يكونوا على أي قدر من الوعي السياسي وكان في ذلك كاذبًا ومضللا.(59/8)
ذلك لأنه كان يطمع في القضاء على تلك الروح الإسلامية الأصيلة في الإصلاح، وكان يهدف إلى القضاء على هذه المدرسة الإسلامية في السياسة والحكم والاجتماع، وبناء مدرسة من أوليائه التابعين الخاضعين المزيفين، الذين يوالون سيطرته ويقبلونها ويعجبون بها ويلتمسون بقائها ليستمر بقائهم، ومن هؤلاء سعد زغلول في مصر وعدد كبير من الحكام الذين نشأوا في مدارس الإرساليات وعملوا على تثبيت دعائم الاستعمار.
ثم تحولت التنظيمات السياسية والاجتماعية والتربوية فاقتبست الأنظمة الغربية والقوانين الوضعية، فأفسد ذلك المجتمع الإسلامي إفسادًا تامًا. حيث انتشرت عوامل الفساد الاجتماعي نتيجة حجب الشريعة الإسلامية بحدودها، في الربا وفي العلاقات الاجتماعية، وغيرها وفتح باب الاستدانة والرشوة والفساد الخلقي لتمكين الغاصب من عصر هذه الشعوب والحصول على ثمرات نتاجها.
وهنا حجبت القوى الغازية أهل الأصالة والحق عن مواقع القيادة، وسمحت للقلة الموالية للغرب أن تسيطر وظهر من يدعو إلى تبني فكرة ارتباط العالم الإسلامي بالحضارة الأوسطية والغرب، وتبنى الولاء الغربي وإنكار الأصول الإسلامية والعربية في العلاقات والثقافة والقصائد والأعراق وظهرت تلك الدعوات الإقليمية، والقوميات الوافدة، والوطنية وأخذت البلاد الإسلامية تطبق على فكرها ومجتمعها مقاييس الاستعمار ومعاييره في مفهوم التقدم والتخلف، وفي التنظيمات الاجتماعية والسياسية.
كانت هذه المحاولات كلها ترمي إلى تمزيق وحدة الفكر الإسلامي والجامعة الإسلامية التي تقوم على الإسلام والقرآن والتوحيد.
(8)(59/9)
حاول كتاب الغرب في تفسير التاريخ الإسلامي تفسيرًا ماديًا واقتصاديًا وغفلوا عن جانب المعنويات والقوة الروحية والإيمان الذي كان عاملا أساسيًا في النصر الذي حققه المسلمون بالأعداد القليلة على القوى الكبيرة وباندفاع هذه القوى التي لم تكن تملك من التكتيك العسكري أو العَدَد أو العِدَد ما يوازي عشر معشار ما يملكه عدوهم، ثم أنصارهم عليها، وإذا نظرنا نظرة عامة قلنا أن عدد المسلمين في المعارك الإسلامية لا يزيد عن مائة ألف مقاتل فتحوا في ثمانين عام ثلاثة أرباع المعمورة، وهذا هو المد الذي لم يشهد له التاريخ مثيلا من قبل وهذه الظاهرة هي التي أزعجت أصحاب مقاييس التفسير الغربي للتاريخ عن معرفة السر في هذه المعجزة.
ولقد جاءت محاولات تفسير هذه الظاهرة تحمل طابع الجهل بالجوانب الروحية والمعنوية وأثرها البعيد في التعبير، أو طابع الحقد الدفين على هذا النفوذ الإسلامي في مواجهة الأرض التي كانت خاضعة للرومان.
إن دعوى القول بأن العرب خرجوا من جزيرتهم تحت ضغط الفاقة والحاجة لا يمكن أن تكون إجابة صحيحة لهذه الروح من الإيمان والاستشهاد وعدم المبالاة بالغنائم، إن للوقوف عند هذا التفسير بالعامل الاقتصادي وحده لا يمكن أن يوصل إلى الحقيقة ولقد أجاب المجاهدون المسلمون أنفسهم عن هذا التساؤل حين قال رستم للمغيرة بن شعبة: قال: قد علمت أنه لم يحملكم على ما أنتم عليه إلا ضيق المعاش وشدة الجهد ونحن نعطيكم ما تشبعون به.
قال المغيرة: إن الله بعث إلينا نبيه صلى الله عليه وسلم فسعدنا بإجابته وإتباعه وأمرنا بجهاد من خالف ديننا حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ونحن ندعوك إلى عبادة الله وحده والإيمان بنبيه فإن فعلت وإلا فالسيف بيننا وبينكم.(59/10)
وقال ربعي بن عامر: أتيناكم بأمر ربنا نجاهد في سبيله وننفذ أمره وننجز موعوده وندعوكم إلى الإسلام وحكمه فإن أجبتمونا تركناكم ورجعنا وخلفنا معكم كتاب الله وإن أبيتم لم يحل لنا إلا أن نعاطيكم القتال أو تفتدوا بالجزية فإن فعلتم وإلا فالله قد أورثنا أرضكم وأبناءكم وأموالكم فاقبلوا فوالله لإسلامكم أحب إلينا من غنائمكم ولقتالكم بعد أحب من صحبتكم.
ومن المؤسف أن تصور غزوات الإسلام التي كانت مثلا عاليًا في الرحمة والخلق بأنها أعمال السلب والنهب.
وإذا كان العامل الاقتصادي هو واحد من جملة عوامل في تفسير التاريخ فإن ذلك يكون قريبًا من الواقع، غير أن وقائع التاريخ كلها تشهد بأن منازعات الأمم وحروبها ترجع في أغلبها إلى الدين والاعتقاد وإن محاولة قصر عوامل التاريخ على الاقتصاد لا تنطبق على التاريخ الإسلامي بل لا تنطبق أيضًا على التاريخ الأوربي.
…………………الأستاذ/ أنور الجندي(59/11)
سلسلة على طريق الأصالة ماذا حققت حركة اليقظة في القرن الرابع عشر الهجري
حققت حركة اليقظة الإسلامية في القرن الرابع عشر عددًا من الانتصارات التي غيرت مجرى المجتمع الإسلامي تغييرًا جذريًا وأعدته لاستقبال خطوات أكثر إيجابية على طريق الله تبارك وتعالى في خلال القرن الخامس عشر، هذه الخطوات والانتصارات يجب أن تكون موضع نظر ودراسة وتقدير الفاحصين لتطور هذه الأمة نحو الأصالة ونحو تحقيق رشدها الفكري وتحررها من أغلال التبعية والتقليد والاحتواء والإذابة الذي عمد النفوذ الأجنبي علي تحقيقها في محاولة لصهرها في أتون الأممية العالمية حتى يضيع طابعها الخاص وذاتيتها الربانية القائمة بالتوحيد الخالص منذ أربعة عشر قرنًا لتكون مؤهلة لجعل البشرية على الحق وإضاءة طريق الله تبارك وتعالى أمامها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ولنذكر أن النفوذ الأجنبي الذي فرض على المسلمين في القرن الثالث عشر الهجري والذي امتد إلى اليوم في صور مختلفة منها الاستعمار والحماية والوصاية والتبعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية في مراحل مختلفة من القرنين الثالث عشر والرابع عشر هو نوع فريد من التحدي الذي يختلف اختلافًا واضحًا وعميقًا عما سبقه من مؤامرات الاحتواء والسيطرة التي عرفت أبان حملات التتار والحروب الصليبية، ومؤامرات الشعوبيين والزنادقة فإن أخطر ما حدث في هذه الحملات الاستعمارية الأخيرة هو أن النفوذ الأجنبي قد أجلى المسلمين عن منهجهم السياسي والاجتماعي والتربوي بأن فرض عليهم نظمًا وافدة، حملهم عليها حملا وكان مدخله إلى ذلك هو تغيير هوية التربية والتعليم وفرض أنظمة تعليمية مدخولة كونت أجيالا رفعها النفوذ الأجنبي وحماها وسلم إليها مقاليد الأمور وضمن حين أنهى وجوده السياسي والعسكري أنها ستمضي على الطريق.(60/1)
ولكن الأمر لم يمضى كما ظن النفوذ الأجنبي ورجاله من دعاة التغريب والغزو الثقافي فإن حركة اليقظة الإسلامية سرعان ما اشتد عودها وأصبحت قادرة على كشف الزيف والرد على الاتهامات ودحض الشبهات بما أعاد اعتبارها في نظر الأجيال الجديدة التي حاول التغريب خداعها والتغرير بها لتنظر إلى أمتها وعقيدتها ولغتها ودينها وشريعتها نظرة الاستشراق والتغريب التي روج لها سنوات عديدة عن طريق المدرسة والصحيفة والثقافة الوافدة.
ومن أهم الحقائق التي تعد انتصارًا في هذا المجال:
أولا: تصحيح المفاهيم فيما يتعلق بالقيم والشخصيات الإسلامية فقد توالت الحملات على (ابن خلدون) و(ابن تَيْمِيَّة) و (الغزالي) بينما أزجيت عبارات التكريم والتقدير لابن سينا والفارابي والحلاج والسهرودي واستمر ذلك زمنًا طويلا، بل أن الاستشراق قد تمكن من خداع بعض المبعوثين إلى الغرب ليقدموا رسائل وأطروحات تقدم هذه الشخصيات الكريمة على أنها لا تمتلك قدرًا كبيرًا من العلم أو الفعل على النحو الذي فعله الدكتور طه حسين في رسالة عن (فلسفة ابن خلدون الاجتماعية) التي قدمها واتهمه بالقصور والاضطراب متابعة لرأي دعاة المدرسة الاجتماعية الفرنسية التي كان يقودها اليهودي دوركايم والذي عاش طه حسين في حضانة فكره وتابعه في رأيه عن ابن خلدون، ويجيء اليوم من الشعوبيين من يدعو إلى إعادة بعث هذا البحث المسموم ظنًا منه أنه بحث علمي صحيح ولقد استطاع الباحثون المسلمون أن يدحضوا وجهة نظر التغريب والاستشراق والشعوبية إزاء هذا العالم الكبير الذي حظى في السنوات الأخيرة بتقدير المنصفين من الباحثين الغربيين على أساس أنه قدم ثلاثة علوم وهي: تحليل التاريخ، وعلم الاجتماع، وعلم الاقتصاد.(60/2)
وكذلك فقد كشفت الأبحاث عن فساد وجهة الفارابي وابن سينا من الناحية الفلسفية (مع تقدير دورهم في الطب والعلوم) أما في الفلسفة فقد تبين أنهما كانا تابعين لمدرسة المشائين اليونانية وأنهما خضعا لمفاهيم الفلسفة اليونانية التي يقودها أرسطو وأفلاطون عن فكرهما لا يمنع مفهوم الإسلام الحقيقي وإن مفهوم الفلسفة اليونانية الذي قدماه قد رفضه الفكر الإسلامي الذي يقوم على مفهوم التوحيد الخالص.
كذلك فقد تكشف مفهوم (الحلاج) و (السهرودي) في الفكر الذي قدمه بأنه لم يكن من الفكر الإسلامي الأصيل ولكنه كان مفهومًا زائفًا استوحياه من الأفلاطونية التي كانت تمثل فكرًا مسيحيًا ويهوديًا ممتزجًا قبل الإسلام.
وكذلك انكشفت أهداف الاستشراق والتغريب وحوصر الاستشراق بعد أن انكشفت سمومه.
(2)
ثانيًا: عظمة الشريعة الإسلامية: والكشف عن مقاصدها الحقيقية، وقد جاء هذا بعد أن سيطر النفوذ الأجنبي على العالم الإسلامي بالقانون الوضعي وحجب تطبيق الشريعة الإسلامية والاقتصاد الإسلامي لأول مرة بعد قرون من قيام هذا المنهج في عالم الإسلام، وكانت تلك الدعوى العريضة التي حاول بها كرومر ولافيجري وغيرهما من قراصنة الاستعمار تشويه هذه الشريعة بالادعاء بأنها شريعة صحراوية متأخرة عفا عليها الزمن، فإن بعضًا من الأبرار من المسلمين المثقفين الذين قصدوا إلى الغرب وحملوا معهم رسائل عن الشريعة الإسلامية إلى جامعاتها فأثاروا مشاعر علماء القانون الغربيين الذين اعترفوا بفضل هذه الشريعة وعجبوا لعجز المسلمين عن تطبيقها. قد توالت هذه الاعترافات عن طريق مؤتمرات للقانون العالمي التي عقدت سنوات 1946، 1952م وبعدها اعترفت فيها جماعات رجال القانون العالمي بأن الشريعة الإسلامية هي شريعة مستقلة ذات كيان خاص تختلف عن القوانين الرومانية وأن لها جوانب غاية في القوة تستطيع أن تسعد البشرية وجاءت شهادة الفيلسوف الايرلندي (برناردشو) غاية في الإنصاف.(60/3)
وكشف مسيو لامبير - من كبار رجال القانون الفرنسي – عن عظمة الشريعة الإسلامية، وكيف أن الفرنسيين أخذوها من مذهب مالك، وإن اختلف الرأي عما إذا كان ذلك عن طريق الحملة الفرنسية التي جاءت إلى مصر أم عن طريق الجزائر وتونس وفي نفس الوقت بدأت ظاهرة الكشف عن عظمة القرآن بأنه من عند الله وقد أيقن بهذه الدعوة كثيرون في الغرب في مقدمتهم (موريس بوكاي).
ثالثًا: استطاع الشيخ مصطفى عبد الرازق أن يعلن رأيًا جديدًا في الفلسفة، بعد أن استطرد المستشرقون الغربيون الذين قدموا هذا العلم لطلابهم في الجامعة بالقول بأن الفلسفة الإسلامية الحقيقية تبدأ من الفقه وعلم الكلام، وأن منهم الإمام الشافعي في علم أصول الفقه يعد بمثابة المنطلق الحقيقي لهذا، أما مدرسة الكندي والفارابي وابن سينا فهي لا تمثل الفكر الإسلامي الصحيح، وبذلك أعيد اعتبار الإمام الغزالي الذي حملت عليه الفلسفة الحديثة ودعاتها لأنه أوقف تيار الفلسفة في الإسلام حين أخرج كتابه "تهافت الفلاسفة"، وكشف عن زيفهم في ادعائهم بأن الله تبارك وتعالى لا يعلم الجزئيان أو أن المادة قديمة على النحو الذي ضللت به دراسات الفلسفة عددًا من المثقفين المسلمين، وقد انكشف زيف كتابات كثيرة كرسائل إخوان الصفا والأغاني وأبي نواس. وتبين فساد المنهج الكلامي المعتزلي والفلسفي وعلت الدعوة إلى التماس منهج القرآن.(60/4)
رابعًا: ما كشفه الدكتور محمد أحمد الغمراوي من أن ما قدمه طه حسين بدعوى إنه مذهب ديكارت باطل وزائف، وأن طه حسين لم يقدم مذهب ديكارت على حقيقته، وقد سارع الأستاذ محمود الحضيري يترجم كتاب مقالة في المنهج لديكارت ونشرتها المكتبة السلفية لتؤكد فساد ادعاء طه حسين، الذي كان يظن أن أحدًا لن يكشف خبيثته، ولقد كشفت الأبحاث في الأخير أن مذهب ديكارت مأخوذ من الإمام الغزالي ومن رسالة (المنقذ من الضلال) بل إن المرحوم الأستاذ عثمان الكعاك المؤرخ التونسي قد شاهد بنفسه في مكتبة السربون تراث ديكارت وقرأ تعليقه على رسالة المنقذ من الضلال بالفرنسية، وهو المعنى الذي توصل إليه المرحوم محمد فريد وجدي في الرد على كتاب الشعر الجاهلي عندما قال لطه حسين أن هذا المذهب: مذهب الشك حتى تصل إلى اليقين الذي يدعيه هو لديكارت هو مذهب إسلامي وأن الإمام الغزالي أول من طبقه.
خامسًا: ظل التراث الإسلامي مغمورًا، ومحجوبًا عن المسلمين، الذي دخلوا الجامعات التي قدمت لهم العلوم التجريبية والسياسية والاجتماعية على أنها علوم غربية خالصة فقد بدأت الحلقة الأولى بفرانسيس باكون على أنه منشئ العلم التجريبي حتى جاء الإنصاف من علماء غربيين أمثال درابر، وكارليل، وجوستاف لوبون. الذين أعلنوا أن (باكون) هو تلميذ المسلمين وأن مثقفي الغرب هاجروا إلى الأندلس واستمعوا إلى علماء المسلمين وأن المنهج التجريبي هو من صناعة المسلمين (جابر بن حيان وابن الهيثم والبيروني وغيرهم) ثم جاءت الدكتورة سجريد هونكه فكشفت هذه الصفحة الرائعة في كتابها (شمس الله تشرق على الغرب).
وقد تبين دور المسلمين العظيم فيما قدموه من بدايات وإضافات لعلوم كثيرة ليست العلوم التجريبية والطبية والفلكية وحدها ولكن في علوم السياسة والاجتماع والاقتصاد والتربية مما يعد في نظر المثقفين (الطابق الأول) للحضارة المعاصرة.(60/5)
سادسًا: تكشف في السنوات الأخيرة مدى عظمة المخطوطات الإسلامية المجموعة عن المسلمين في مكتبات لندن وفرنسا وإيطاليا وهي تقد بحوالي مليون مخطوط، حتى لقد قيل أن تاريخ النهضة الإسلامية لا يمكن أن يكتب على وجه حقيقي إلا بعد تصوير ومراجعة هذه المخطوطات التي تتصل بكل علم وفن اشترك فيه المسلمون، والمعروف أن هذا التراث المخطوط قد سرق من مساجد المسلمين ونقل إلى الغرب تحت تأثير ورعاية القناصل الأجانب وأن الغرب قد أفاد من هذا التراث فائدة ضخمة ظهرت في عديد من نظرياته الاقتصادية والقانونية بل أنه قد حجب عن المسلمين والعرب فإن عددًا من الباحثين ذهب إلى الغرب ليسأل عن مخطوطة معينة فمنع من النظر فيها.
سابعًا: ظهرت في السنوات الأخيرة دعوة إلى الأصالة في بناء العلوم على أساس إسلامي، فظهرت دراسات عن الاقتصاد الإسلامي وعلم النفس الإسلامي وعلم الاجتماع الإسلامي بعد أن اتضح فساد العلوم الغربية وعدم تجاوبها مع الفطرة الإسلامية وحاجة المسلمين إلى تقديم منهجهم القرآني الأصيل.
كما ظهرت في السنوات الأخيرة الدعوة إلى تقنين الشريعة الإسلامية وخطت خطوات واسعة فقد قامت جماعات من الفقهاء وعلماء القانون بإعداد القوانين الخاصة بالتجارة والحدود، والردة، وكان عمداء كليات الحقوق في الجامعات العربية قد نادوا بالتخلص من هذه القوانين المتباينة في البلاد العربية والرجوع إلى الشريعة الإسلامية باعتبارها إحدى خصائص ومقومات الأمة وأهم تراثها الثقافي.
كذلك فقد رد اعتبار الشخصيات المخلصة التي ضللها النفوذ الاستعماري كالسلطان عبد الحميد وتوضحت حقائق كثيرة في تاريخ الإسلام في العصر الحديث بعد أن ظهرت بروتوكولات صهيونية وعدد من الوثائق وعرف الناس خداع وتضليل من أسمو أعلام الفكر وقادة النهضة من أمثال قاسم أمين ولطفي السيد وعلى عبد الرازق وطه حسين وجرجي زيدان وسلامة موسى.
…………………الأستاذ/ أنور الجندي(60/6)
الفن
###187### يقوم المفهوم الإسلامي للفن على استحالة التناقض مع الفطرة فإذا كانت الفنون من روح الفطرة وجب ألا تخالف أو تناقض دين الفطرة: دين الإسلام في شيء فإذا خالفت الفنون الدين في أصوله ودعت صراحة أو ضمنًَا إلى رذيلة من أمهات الرذائل التي جاء الدين لمحاربتها وعاقت الإنسان أن يعمل بالفضائل التي جاء الدين لإيجابها على الإنسان حتى يبلغ ما قدر له من الرقي في النفس والروح، إذا خالفت الفنون الدين في شيء من هذا أو في شيء غير هذا فهي بالصورة التي تخالف بها الدين فنون باطلة، فنون جانبت الحق وأخطأت الفطرة التي فطر الله عليها الناس والخلق (محمد أحمد الغمراوي).
###188### ومفهوم الفن في الإسلام يقوم على أساس أنه عنصر من عناصر الفكر يتكامل مع الأدب والاجتماع والأخلاق والدين والحضارة، وهو في - ابن الأثير ، العز : أسد الغابة له طابعه الأصيل الواضح المباين لمفهوم الفن في الثقافات والحضارات الأخرى، وقوامه الأخلاق وطابعه التوحيد، يتسامى بالغرائز ويرتفع بالنفس الإنسانية إلى الكمال دون أن يبعد عن الواقع - والفن في نظر الإسلام أداة تجميل الحياة ووسيلة الإسعاد الروحي والنفسي بتحرير الإنسان من عالم الأهواء والغرائز وإطلاقه في نظرة حرة إلى الكون والوجود يعرف فيها قدرة الله وعظمته ويزداد بها إيمانًا.(61/1)
وقد كان الفن اليوناني بطابعه المادي الوثني يجعل الأولوية للتماثيل المجسمة، إعجابًا بالأجساد وعبادة لصور الجمال ومظاهر القوة ولكن الفن الإسلامي مستمدًا من مقوماته الأساسية يجعل البيان والشعر والأدب في مقدمة قائمة الفنون، الكلمة البليغة والفكرة الموحية، وذلك انتقالاً من عالم المادة إلى عالم الفكر، فالتأمل أوسع العوالم، والتفكر في لق الله أعظم معطيات العقل والروح: [نون والقلم وما يسطرون] وبذلك أصبح رائد الفن: البيان الذي يتمثل في أسمى صورة بالقرآن الكريم وبذلك دفع الإسلام الفكر ###189### البشري إلى الأمام انتقالاً من مفهوم الماديات في الفن إلى مفهوم المعنويات، وسلك المعنويات والماديات في إطار جامع متكامل، وبذلك فقد حرر البشرية من مفهوم المادية الخالصة التي تقدس الجسد والشهوات والغرائز والوثنيات وتقيم لها المهرجانات والطقوس. ودفع البشرية إلى الانتقال من تجسيد البطولة في صورة مادية إلى تكريم عمل الإنسان نفسه.
وأبرز سمات الفن في الفكر الغربي لا تجد في مجال الفكر الإسلامي مجالاً لها.
أولاً: المسلم لا يعبد الجسد الجميل عبادة وثنية بحيث تقدم له القرابين وكل ما يتصل بذلك من أساطير الحب والجمال عند الإغريق وهي حافلة بالمباذل لا تجد في أفق المجتمع الإسلامي قبولاً.
ثانيًا: الإسلام لا يقر الصراع بين الآلهة والإنسان أو بين القدر والإنسان، على النحو الذي يقوم عليه الفن الغربي، ولا يؤمن المسلم بأن الإنسان يثبت ذاته بمصارعة القدر والآلهة ولا بأن البطل الصالح يتحطم على يد القدر والآلهة وكل هذه المعاني المأسوية مستمدة من فكرة "الخطيئة" الأصلية.
ثالثًا: المسلم لا يؤمن بتعدد الآلهة ولا تجسيد الإله في ###190### صورة وثن حسي ملموس كالتماثيل العديدة في العقائد الغربية. في ذلك الخلط العجيب بين المسيحية والهلينية.
رابعًا: المسلم لا يؤمن بعبادة الطبيعة أو المحسوسات.(61/2)
ومن هنا فإن مفهوم الفن في الإسلام محرر من كثير من هذه القيم التي يقوم عليها الفن الغربي والتي تتعارض أساسًا مع الإيمان بالله الواحد.
2- كذلك فإن الإسلام لا يقر تجسيد في صورة مادية، ليس فقط حفاظًا على مفهوم التوحيد من حظر الاتصال بالتماثيل والأصنام التي كانت تمثل عبادات ما قبل الإسلام. ولكنه ارتفاع بالنفس الإنسانية من أن تتمثل في مفهوم مادي، بينما جاء الإسلام محررًا للبشرية من التجزئة بين الماديات والمعنويات.
والفنان المسلم له طابعه المبدع متحررًا من الخضوع للمذاهب الوثنية التي تقول بتقليد الطبيعة أو التفوق عليها ولذلك فهو قد طرق آفاقًا أخرى غير هذه الآفاق، في التعبير عن المعاني فأوجد أنواعًا من الخطوط والدوائر والزخارف والوحدات المتشابكة والمتداخلة.
قد أبدع الفن الإسلامي في مجال رسوم الحيوان ###191### والطير، وتصوير الأحياء، وغزا الفنان المسلم جميع فروع الفن الإسلامي من مخطوطات وأخشاب وعمارة وزجاج ومعادن وعاج وزخرف ومنسوجات كما زينوا كتب العلم والأدب والدين والتاريخ بصور تفسر بعض ما تتضمنه من بحوث وأحداث وقد خلق الفنان المسلم من الحروف العربية ذات الأشكال المتباينة والأوضاع المختلفة طرازًا زخرفيًا يتمثل فيه الجمال والقوة، وأقام فن "الرقش" أو الأرابسك على وحدات متناسقة على نحو غاية في البهجة والرونق الجميل.(61/3)
وهكذا حقق الفن الإسلامي مذهبًا جديدًا مستمدًا من حقائق الإسلام، فكان فنًا منطلقًا وتجريديًا معبرًا وليس جامدًا، وأن المرقشة يحيى الفن الإسلامي حيث لا مبدأ لها ولا منتهي، إنما تمثل مفهومًا من مفاهيم التوحيد لأنها تسعى وراء الله الذي هو الأول والآخر ومنه تنتهي الأسباب وإليه تنتهي المسببات والرقش حين يمتد بال نهاية إنما يسعى وراء الصورة المثلى وهذه اللانهائية إنما تحمل دلالات هامة للروح الإسلامية التي آمنت بالله غير المنظور وغير المحدود وإليه اتجهت قلوب المؤمنين لترتفع إلى مستوى هذا المثل الأعلى عن طريق العمل الصالح أو طريق الاجتهاد والإبداع (بتصرف عن بشر فارس ومحمد عبد العزيز مرزوق).
###192### وينطلق الفن الإسلامي من مفهوم الفكر الإسلامي الذي يرتكز إلى حد بعيد على القاعدة والعقل ويبتعد عن "الهوى والأسطورة والارتجال"، ولقد كان قبول الفن الإسلامي لنظام التوحيد مصدر المحافظة على الوحدة والمتانة والشخصية وبقيت بذلك الروح الإسلامية هي المنبع الأساسي للمصادر الجمالية والدلالات العميقة للمشاعر المبدعة.
3- وقد شهد جوستاف لوبون وبرجسون وهاملتون جيب على أن الفن الإسلامي يحمل شخصية مستقلة متماسكة جديرة بالإعجاب، وأن الحد الذي وقف عنده الفن الإسلامي في إبراز عملية الخلق هو حد "الإسلام" الذي جاء على مبدأ التوحيد ولذلك فهو يرفض كل شريك لله في قدرته الخالقة.
وقد أشار الباحثون إلى أن الخط في الفن الإسلامي كالكلمة في الشعر يسير وفق تأثير داخلي في الرسام، فكما أن الشاعر يستعمل الكلمة حسب وزن الشعر وقافيته، كذلك الرسام المسلم يكيف الشكل وفق صيغة موزونة موفقة وبخطوط لينة منسابة بانتظام تشكل تناظرًا مضطردًا بحركة ###193### دائمة لا تقف عند حد، واللون في الفن الإسلامي مرتبط بروح الأمة وبمناخ الحياة التي تعيشها.
(2)
يتميز الذوق الإسلامي بعدة ملامح لها أثرها في الفن الإسلامي:(61/4)
المسلمون لم يخلقوا من الحجارة ما خلقته الأمم الأخرى من فراعنة ورومان من تماثيل وهياكل وأوابد الحضارة الإسلامية لم تسجل بالصخور بل بالأعمال الحية. كتب رجل إلى عمر بن عبد العزيز: يستأذنه في أن يبني لمدينته سورًا. فقال عمر: حصن مدينتك بالعدل. وتمثل الهياكل الرومانية والأهرام، في ظل مفهوم العبودية المرير الذي تحطمت فيه مناكب البشر تحت أثقال الصخور. ولذلك فإن العرب أخذا من هذا المفهوم لم يتعلقوا بالآثار الضخمة وإنما تعلقوا بالأطلال التي تحمل ريح الأحباب، وفن العمارة الإسلامي لم يتعلق بالضخامة مثلما تميز بالجمال والرقة، والذوق العربي لم يتعلق بالتصوير كفن من الفنون الجميلة، لأن الروح العربية (العميق الاستمداد من الحنيفية الإبراهيمية إلى الإسلام في عصر محمد) لا تميل إليه كفن يمسح الأشكال الحية الجميلة بحيويتها ويحيلها إلى صور جامدة. وأن الفن الذي تعلق به العرب هو "الشعر" لأنه أرضى نزعتهم في الحيوية والاستثارة والموسيقى امتداد للشعر، وحضارة المسلمين والعرب حضارة أعمال خالدة لا آثار خالدة، وفنونهم فنون عواطف جياشة لا فنون أخيلة جامدة (عبد السلام العجيلي بتصرف).
2- والفن الإسلامي لا يهدر كرامة الفرد ولا يهدر حق الجماعة، ومن النقوش الكثيرة في الإسلام إذا ما نظرت إلى الجزء الصغير وجدت له ذاتيته ووجوده وحدوده ولكن في نفس الوقت يمكن أن يكون جزءًا في كل كبير، وذلك أن الإسلام كما يخدم الجماعة يخدم الفرد، ويوجد هذا التناسق في مجتمعنا الحي بين الفردية والجماعية، كما يوجد في الفن بين الجزء الصغير والجزء الكبير احترام الإسلام للفرد واحترام الإسلام للجماعة في القرآن (عبد العزيز كامل).
(3)
يرفض الإسلام: النقل المباشر عن الطبيعة وهو ما يطلق عليه في الفن الغربي "المحاكاة".
"فقد قرر الإسلام وأكد التحريم القاطع للنقل المباشر عن الطبيعة، ذلك النقل الفج الذي يعيد نسخ المخلوقات ###194###
###195###(61/5)
###196###
###197###
###198###
###199###
###200###
###201###
###202###
###203###(61/6)
ابتعاث الأسطورة مؤامرة جديدة تواجه الفكر الإسلامي
الأستاذ أنور الجندي
هناك حصيلة ضخمة من الأساطير والخرافات تتمثل في قصص وملاحم. وتتخذ من المعتقدات الوثنية موضوعاً لها، وهي تفسر أحداث الحياة وظواهر الطبيعة على ضوء هذه المعتقدات وتنسبها إلى تدخل الآلهة وأنصاف الآلهة في شئون البشر ولقد كان لليونان أساطيرهم وكان للعرب في الجاهلية أساطيرهم والغالب أن الإغريق والعرب في الجاهلية اشتقوا معتقداتهم الأسطورية من الفرعونية الوثنية القديمة.
هذا التراث من الأساطير والخرافات، المتصل بطوالع النجوم وأفلاك البروج، وأسرار الأرقام ومجموع التعاويذ الخاصة بطرد الأرواح الشريرة، كان بمثابة تجارة للكهنة القدامى في الحضارات المصرية والآشورية والبابلية القديمة ولقد كان اليهود هم حملة لواء هذه الأساطير والخرافات بالإضافة إلى فن السحر الذي يخصصوا فيه.
هذه الحصيلة يجرى تجديدها في العصر الحديث على نحو من الاهتمام الواسع، والتركيز الشديد على أفق الفكر الإسلامي بعد أن جاء الإسلام فحطم هذا التراث كله، وقضى عليه وذلك حين قدم صحاح الأخبار والصور والعقائد فيما يتعلق بمختلف شئون الغيب، وأجاب عن كل الأسئلة التي جاءت بها هذه الأساطير والخرافات بمثابة محاولات بشرية ضالة مضلة إزاء هذه الأمور.
عالم الغيب:(62/1)
لقد أعطى الإسلام منهجاً كاملاً للميتا فيزيقا أو ما يسمونه عالم الغيب، فكشف عن حقائق عالم الجن والملائكة ورسالات الأنبياء والوحي، وخلق السموات والأرض والرياح والبحار والكواكب والأقمار، وأوضح علاقة الإنسان بها، ودعا الإنسان إلى أن يعبد خالق هذه الكواكب، وأن لا يسجد للشمس ولا للقمر. وأن يعرف أنه تبارك وتعالى هو رب (الشعري) اليمانية التي كان يعبدها العرب في الجاهلية. كذلك فقد دعا الإنسان إلى عبادة الله الواحد الخالق، وحرره من عبادة الأصنام والأوثان والصور، وعلمه أن هذه كلها لا تملك له نفعاً ولا ضراً، كما كشف الله تبارك وتعالى سنن الخلق وتصريف الرياح، وإنشاء السحب وسوقها إلى حيث يأمرها بأن تمطر فيصيب بهذا الغيث من يشاء ويصرفه عمن يشاء.
لكل دار دواء إلا الموت:
وبذلك قضى على الأساطير العديدة التي كانت تتحدث عن الشياطين التي تسوق الرياح، كذلك دعا إلى التداوي من الأمراض، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله تبارك وتعالى خلق لكل داء إلا السام (أي الموت).
وبذلك قضى على ما كان يقوم به كهنة بابل من بعض الطقوس لشفاء المرضى أو طرد الأرواح الشريرة أو ما كانوا يصفونه لالتهاب العين من انتزاع أحشاء ضفدع صفراء.
كذلك دعا الإسلام إلى دحض ما يسمى طوالع النجوم وأفلاك البروج وتأثيرها على خطوط البشر وأسرار الأرقام، فإن هذه كلها لا تملك لنفسها شيئاً ولا تستطيع أن تقدم للإنسان أي دليل على غيب، فالغيب كله لله تبارك وتعالى.
المنهج التجريبي:
وكانت دعوة الإسلام إلى البشرية أن تنظر إلى خلق السموات والأرض، وإلى كيف بدأ الله الخلق، والتأمل في هذا الكون الذي هدى المسلمين إلى بناء المنهج العلمي التجريبي الذي نشأت عليه الحضارة الحديثة. والذي إدعاه القس روجر بيكون وفرانسيس بيكون ومن ذهب مذهبهم.(62/2)
وبذلك تحرر العقل البشري من الأساطير والوثنيات والخرافات القديمة، وانسحق هذا الركام كله تحت أقدام الحقائق، وتحت أضواء نور العلم الحقيقي.
غير أننا نرى الآن أن هناك محاولة مستميتة لإحياء هذا الركان، وإعادة إذاعة هذه الخرافات التي سادت في العصور القديمة من جديد بعد أن حطمها الإسلام، وأقام مفهوماً أصيلاً لكل ما يتصل بعالم الغيب ولما يتصل بخلق الكون والسموات والأرض.
عودة إلى الأساطير:
هذا الركام الوثني والبشري تجرى إعادة صياغته في أساليب براقة وكتب فاخرة، وتحمله إلى الناس صحف ومجلات راقية الطباعة، ويحمل لواء الدعوة إليه كتاب لهم شهرة ذائعة، حيث يجد إعجاباً وإقبالاً وافتناناً من الشباب المسلم، الذي لم تتشكل له خلفية أساسية من مفهوم الإسلام، تحميه من تقبل هذه السموم. ولا ريب أن بعض البلاد الإسلامية قد خضعت لهذه الأفكار الزائفة، عندما ضعف مفهومها الإسلامي في مرحلة التخلف، ولكنهم وقد عادوا اليوم ينفضون عنهم غبارها، عليهم أن يتحرروا منها، وأن الصورة التي سجلها مثل أدوار لين في كتابه (المصريون المحدثون) لا تمثل إلا مرحلة الضعف التي سيطرت فيها مفاهيم باطلة، حيث تسربت الخرافات والأساطير مرة أخرى إلى المجتمعات تحت أسماء التمائم والتطير، وتقمص الأرواح، قد كتب لين ذلك في نفس الوقت الذي كان الإمام محمد بن عبد الوهاب يجاهد في الجزيرة العربية ونجد لتطهير الإسلام من هذه الخرافات.
بين الفك والتنجيم:(62/3)
ومن عجب أن تذيع بعض المجلات كتباً مسمومة تحت اسم "علم الأساطير" لتخدع المسلمين عن حقائق دينهم، للبشر، وفي هذا ارتداد إلى مجاهل التنجيم وشعوذة المنجمين، مما يتناقض مع مفهوم الإسلام الأصيل، ومع منهج البحث العلمي الصحيح، ولاريب أن وراء هذه الأهواء قوى تغريبية وتلمودية خطيرة تحاول أن تفرض هذه المفاهيم المسمومة الزائفة، بحيث تقول أن هناك صلة بين وجود الكواكب في أبراج معينة وبين الأحداث، أي أن مواليد برج معين تتميز شخصياتهم بظواهر معينة تختلف عن مواليد الأبراج الأخرى.
ولقد حرى العلماء المسلمون علم الفلك الحديث من خرافات التنجيم القديمة وفرقوا بين التنجيم وبين دراسة الأفلاك ومواقع النجوم، ولكن دعاة التلمودية يحاولون إعادته مرة أخرى إلى الأساطير.
والحق أنه لا صلة مطلقاً بين الكواكب وبين ميول المواليد، أو شخصياتهم ولا توجد أي إشعاعات خاصة نابعة من هذا الكوكب أو ذاك تؤثر على الناس.
خلط العلوم بالأساطير:
بل إن بعض الباحثين في علوم النفس والأخلاق، يعتمدون على بعض الأساطير القديمة الزائفة، في إقرار أوضاع معينة على أنها حقائق – كما فعل فرويد في تحليل أسطورة أوديب – التي أقام عليها نظريته، وقد اختار الرموز الأصلية لنظرياته في العقل الباطن والغريزة الجنسية من واقع هذه الأساطير وكذلك فعل سارتر.
ولقد تبين أن معظم أساطير الأولين هي من صنع خيال السومريين والبابليين وأنها قد وضعت لتفسير الخليقة والتكوين وأحوال الآلهة التي هي في صراع مع الإنسان، وإيضاح حادثات الكون الكبرى وفكرة الجان والشياطين والروح والنفس. وقد انتشرت حتى بلغت الجزيرة العربية، ومنها ما رواه هيردوت اليوناني وتيودور الصقلي وما ورد في العهد القديم.(62/4)
وكلها كما قلنا محاولات لسد الفراغ النفسي لدى الإنسان إزاء الجوانب التي يخشاها ولا يعرف مصدرها، ولا ريب أن هذا كان بضاعة الوثنيين وما زال صناعة الكارهين لدين الله الحق، ذلك أن دين الله منذ أول البشرية قد قام لمعتنقيه الإجابات الكاملة لكل هذه التساؤلات وهدي نفوس البشر إلى الحق والهدى، وقد قاومت الأديان كلها الكهانة والعرافة (الكهانة تعني استطلاع المستقبل بينما تعني العرافة استرجاع الماضي) والقاسم المشترك بينهما هو استطلاع الغيب والتنبؤ.
ولا ريب أن لدين الله الحق موقف مضاد للكهانة وهو يعتبرها قد انتهت بعد النبوة "لا كهانة بعد النبوة" وقد أكد الإسلام أن الغيث ملك لله تبارك وتعالى وحده وأن من قصد عرافاً فصدقه لا تقبل صلاته أربعين يوماً.
الوسائل:
وجملة القول في هذا أن الأسطورة هي بديل الحقيقة، وعندما تختفي الحقيقة تنشأ القصة الخيالية والحقيقة هي الوحي.. ولقد جرت في السنوات الأخيرة محاولة واسعة لإعادة طرح الأساطير اليونانية والعربية القديمة، عن طريق الأدب: "الشعر والقصة" وأعيد عرض هذه الخرافات الوثنية بأساليب جديدة عن طرق فنون المسرح والشعر الملحمي، والنقد الأدبي، وحشدت أسماء كثيرة لإعادة كتابة تاريخ الأسطورة في الآداب العالمية، وكل هذا ولاشك يرمي إلى تحقيق هدف خطير هو شغل الأذهان بأهواء البشرية وضلالاتها في مرحلة طفولتها، ودفع ذوي الأغراض إلى الأسطورة التي تمثل طفولة الإنسان في مرحلة إنحرافه عن الدين الحق، إلى أن تصبح مصدراً من مصادر المعرفة، وتوجه نحوها دراسات نفسية واجتماعية بقصد إحياء الوثنية القديمة الممثلة في بروميثوس، وجلجامش، وأوزيريس، وعشتروت، وزينوس.(62/5)
هذه الأساطير التي تحاول أن تعارض الإله الواحد والدين الحق، وتقدم مفهوماً زائفاً عن العلاقة بين الله تبارك وتعالى وبين الإنسان بما تحمل من تعدد في الآلهة، بتقديم القرابين تارة، وما تصوره من صراع دائم بين الإنسان وبين الآلهة تارة أخرى، هذه الآلهة الظامئة إلى الشر والانتقام وما يكون دائماً من هزيمة الإنسان أمام الآلهة.
مفهوم الدين الحق:
وهذا في جملته غير صحيح في النظر العلمي الصحيح، وفي مفهوم الدين الحق، الذي يتمثل فيه الله تبارك وتعالى إلهاً واحداً رحيماً يقبل التوب ويغفر الذنب وهو بعباده غفور رحيم، وكيف أن العلاقة بين الإنسان وخالقه علاقة عبودية وإيمان وتسليم (إيمان بالبعث والجزاء وتسليم بالقضاء والقدر) وتقبل كامل لعطاء الله كله وأمره كله، فليس هناك ما يومئ من قريب أو بعيد إلى هذا الذي يصورونه زيف باسم الصراع بين الإنسان المسلم وجهه لربه وبين الخالق الرحيم، ولقد زيف الدين الحق مفاهيم الأساطير ورجال اللاهوت حين ردوا الأمراض إلى عوامل خفية، منها حقد الشيطان وغضب الله، وما يتصل بذلك من مفاهيم زائفة في السجن والجن والخوارق، حتى ردوا الأوبئة والزوابع والقحط وكسوف الشمس وخسوف القمر إلى الشياطين.
كذلك فقد فرق الدين الحق بين الألوهية والنبوة، وبين النبوة والإنسان على نحو يحول جون هذا الخلط الذي تقع فيه الأساطير بين آلهة وإنصاف الآلهة وبين الأبطال، وبذلك دحض فكرة أن يكون هناك آلهة لكل عالم من العوالم كآلهة الجبال والأمطار والرياح والحرب والخمر والجمال، او أن يكون هناك أنصاف آلهة من الأبطال القادة: وسجل هذا سيدنا يوسف على قومه من وقت بعيد حيث قال:
{أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار، ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان، إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} يوسف: 39، 40.(62/6)
وهكذا جاءت أديان السماء، لتنسخ هذا الزيف جيلاً بعد جيل، فعلى لسان كل نبي كانت الدعوة إلى تحرير البشرية من هذه الوثنية ومن عبادة الأوثان والأصنام والتماثيل.
خرافات الإلياذة والأوديسة:
والمعروف أن هذه الآلهة المدعاة لم تكن إلا بشراً، أعطى من القداسة قدراً أخرجه عن طبيعة البشر فوصف بمثل هذه الصفات الزائفة على النحو الذي نراه في ملاحم الإغريق وكملحمة الأوديسة والإلياذة، من أن الآلهة عند الإغريق حاقدون على البشر، وإنها قاسية على الكائنات الأخرى يغضبون فيحولونهم إلى حيوانات أو نباتات أو أحجار أو مياه وقد وصفها الشاعر "أوفيد" بأنها ينابيع النار والدمار والهوان لكل الآداب العالمية.
ويرجع وصف الآلهة بالقسوة إلى ما أوردته التوراة بأقلام الأحبار من وصف لله {جل وعلا عما يقولون علواً كبيراً} بالإله المنتقم القاسي.
المترجمون المسلموت أهملوا ترجمة الأساطير:
ترجمت إلى اللغة العربية في العصور الأخيرة إعداد من الملاحم والأساطير اليونانية والفارسية، وقد غفل القائمون على هذه الأعمال عن أن العرب في إبان نهضة الترجمة تنكبوا ترجمة الملاحم والقصة والشعر بقصد واضح، هو أنها تمثل "عواطف" و "مشاعر" أمم تختلف عن العرب في عقائدها وعاداتها وتقاليدها، ولكن ترجمة هذه الأساطير في العصور الأخيرة، جاء في مرحلة ضعف العرب والمسلمين عن مواجهة تيار الترجمة الخطير، الذي قادته قوى التغريب والغزو الثقافي، بهدف طرح سموم الوثنية في أفق الفكر الإسلامي.(62/7)
ذلك أن الملاحم إنما تقوم على تصور أحداث غير صحيحة في طبيعتها، وإنما هي موضوعة على طريقة التهويل والإثارة وتضخيم الأحداث، وتدافع الخيال في أمواج من الخوارق التي تتنافى مع طبيعة النفس العربية والإسلامية ومع واقع الحياة نفسها، وقد قصد بإنشاء هذه الملاحم والأساطير في بيئاتها تغيير وجهة الناس وتفكيرهم عن واقعهم المرير، إلى أجواء من الوهم والخيال، ومن هنا فقد أعرضت الطبيعة العربية الإسلامية القائمة على الفطرة والبساطة والواقع والصدق عن هذه الملاحم، هذه الطبيعة التي تستمد مقوماتها من خصائص مختلفة عن هذه الأحقاد والأهواء والمطامع والقتل والتدمير، فالنفس العربية الإسلامية تستمد خصائصها من الشهامة والكرامة والفروسية بكل مقومات المروءة وحماية الذماء والدفاع عن الجار وصفات الكرم والشجاعة وإغاثة الملهوف.
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي * * * حتى يواري جارتي مأواها
هذه الخصائص العربية الإسلامية بعيدة عن المبالغة والعنف وصناعة الوقائع الأسطورية، مرتفعة عن الخوارق عازفة عن الأهواء المضلة، هذه الطبيعة في الحقيقة استمدها العرب والمسلمون من ميراث الأديان والنبوة بدءا الحنيفية الإبراهيمية السمحاء ومتصلة بالنبوة المحمدية الكريمة، ولذلك فقد رفضوا هذا اللون من الملاحم والأساطير وأعرضوا عنها، خاصة وقد قدم لهم القرآن الواقعة الصحيحة والتاريخ الصحيح لكل ما حاولت الأساطير تصويره بالخداع والباطل: من أمثال الطوفان وأهل الكهف وسليمان الحكيم وذي القرنين {نحن نصقص عليك نبأهن بالحق}، {ننح نقص عليك أحسن القصص}.
نزعات لا يقبلها الإسلام:(62/8)
وإذا كانت الأسطورة – كما تقول مصادر البحث الأدبي العالمية – تمثل الصراع بين الإنسان والقوى الإلهية، فإن هذه النزعة وثنية طابعها، ولم يكن من الممكن أن ينقلها الإسلام أو يقرها، ذلك – وكما قال أحد كبار الباحثين الغربيين "جوستاف فون جرنبوم" – أن مفهوم الإنسان في الإسلام يمنع وقوع أي صراع درامي. ومن هنا فإن عزوف الأدب العربي والإسلامي عن التمثيل والقصص والملاحم يرجع إلى طبيعته الأصيلة القائمى على الواقعية والوضوح، أن هذه النزعة – نزعة الصراع بين الإنسان والقوى الإلهية نزعة وثنية في طابعها لا يعرفها الإسلام، ولا تتمثل في نتاجه الأدبي أو الفكري، فلماذا هذه المحاولات الضخمة، التي يقدم بها بعض الشعراء والقصاصون – التابعون للتغريب والغزو الثقافي – على طرح هذه الصور القاتمة في أفق الفكر الإسلامي والأدبي العربي الذي لا يتقلبها ويرفضها كما يرفض الجسم العنصر الغريب، فضلاً عن أن هذه الروايات والملاحم تغلب عليها روح الزندقة والإلحاد، وهي تتسم بفهم سيء لعلاقات الرجل والمرأة، فهي مكشوفة إباحية هي في مجموعها تصدر عن معين مسموم، وهي توصل أذى السم إلى قارئها فتفسد نفوساً ذكية وأرواحاً طاهرة.
وما الهدف؟
ولاشك أن الهدف من هذا هو نفس الهدف الذي ترمي إليه دعوة التغريب: من إفساد عقليات الشباب المسلم وعواطفه فضلاً عن خلق مفهوم منحرف عن مفهوم الأصالة والفطرة التي جاء بها الإسلام.(62/9)
وحين نراجع ذلك الركام الذي ترجم في السنوات الأخيرة من أمثال قصص توفيق الحكيم "بيجماليون"، "أهل الكهف"، "الملك سليمان" وما نشره على محمود طه من شعر في ديوانه "أرواح وأشباح" نجد هذا الالتقاء بين أساطير اليونان والمسيحية والفراعنة، وتراث بابل وآشور والإسرائيليات اليهودية، في محاولة لاحتواء الفكر الإسلامي والأدب العربي اللذين هما بطبيعتهما يتعارضان مع هذا التيار الخيالي المغرق في المبالغة الوثني الاتجاه، بما أعطى الإسلام هذا الفكر وهذا الأدب من طابع الوضوح والصراحة والطبيعة المشرقو "ليلها كنهارها" وحيث لا يعرف الإسلام في باب القصة إلا القصة إلا القصة الواقعية الصادقة البعيدة عن الزيف، المتحررة من التفاصيل الوهمية، الهادفة إلى تقديم العبرة الخالصة بعيداً عن التخيل والمبالغة والتأثير الخطابي.
ولاريب أن هذه المحاولة الجديدة التي اقمت بها قوى التغريب تستهدف ما عجزت عنه هذه القوى في الماضي حين رفض المسلمون ترجمة الملاحم والأساطير، ولذلك فإنه يجب التنبه لها ودحضها ومدفاعتها بكل قوة وكيف يمكن أن يقبل هذا أهل الإسلام، وقد جاء الإسلام لينهي طفولة البشرية وليعلن دخولها في مرحلة الرشد الفكري، هذا اللون من الأدب أو القصة، وقد أعلن الباحثون في العصر الحديث أن الأسطورة من مخلفات طرائق في السلوك والتفكير وعادات مندرسة، حافظت على تفسير ساذج للعالم الخارجي.
لا حاجة بنا إلى هذا اللون:(62/10)
ولا أعتقد أنه بعد أن تحدد هذا المؤقف العلمي وبعد أن أعطى المسلمون منهجاً كاملاً للميتافيزيقا (عام من وراء المادة) أن يكونوا في حاجة إلى إعادة هذا اللون من مخلفات الجاهلية الوثنية القديمة، التي فضل الإسلام بين البشرية وبينها بأضوائه السلطعة، وليس أدل على تخبط الغرب من أنه في الوقت الذي يعلن فيه أن ينطلق في أبحاثه من النهج العلمي، أن يقبل هذه الأساطير لتقييم عليها نظريات وفروض ويعيد العالم من جديد إلى عصر الأسطورة والغابة {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات}. البقرة: 257.
ولعل من أخطر الدعوات التي يروج لها التلموديون هي محاولة إجراء المقارنات بين الأساطير وبين الأديان وقولهم أن الأديان القديمة ما هي إلا مجموعة من الأساطير التي لا تصلح إلا للتلهية وإمتاع الخيال، ومن وراء ذلك القول المسموم هدف مبيت ترمي به اليهودية إلى إثارة التشكيك في دين الله الحق الذي صاحب البشرية منذ نشأتها الأولى وهداها جيلاً بعد جيل إلى الحق.(62/11)
وبالجملة فإن القرآن الكريم، حين نزل وهو ما يزال وسيظل هدي للبشرية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، قد ألغى تراث الأسطورة كله، وقدم بدلاً منه تقريراً صادقاً حقاً، في كل ما يتعلق بحوادث التاريخ ووقائعه القديمة التي وصفت بأنها أساطير، وزيفت في العرض في العهد القديم، وخاصة فيما يتعلق بنشأة الحياة والطوفان وغيره "سفر التكوين" وقد أعلن القرآن – صادقاً – أن ما يقدمه هو الحق الذي لا مرية فيه. كذلك فإن الأدب العربي لم يكن في حاجة إلى الأسطورة، لأنه قام على الحقيقة نفسها، ذلك أن الأسطورة لم تكن في عرف أصحابها إلا محاولة لملء فراغ الخيال بالنسبة لأمور غائبة، وقد قامت على معنى متوهم، بأن هناك فراغاً بين الإنسان وقوى الغيب وليس هذا صحيحاً وقد جاءت الأديان السماوية – ديناً بعد دين – لتنفيه وتكذبه – وقد أكد الإسلام حين طبقت تعاليمه أن ما بين الإنسان وربه هي رابطة العبودية بين المخلوق وخالقه، ورابطة التكامل بين الإنسان والكون، فهي رابطة العطاء المذلل للإنسان.
{هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه}. الملك: 15.
ولم يعرف المسلمون الأساطير في تاريخهم كله لأن الحقائق التي جاءتهم من رسالة السماء كانت كافية ومقنعة.(62/12)
(5)
أخطاء الفلسفة المادية
إن أخطر ما يحاول دعاة التغريب والماديون وأصحاب الفلسفات أن يقولوا أنهم إنما يصدرون فيما يقولون به من نظريات وأيدلوجيات ومذاهب على أساس عملي لا يقبل النقض، ونحن نعلم أن هناك فارقاً بعيداً جداً بين العلم وبين الفلسفة وبين معطيات العلم التجريبي القائمة على البحث والتجربة على النحو الذي يتم داخل المعامل وبين الفرضيات التي لم تؤكدها التجربة بعد. أو التي قال بها العلم في محلة ما ثم جاءت تجارب أخرى غيرت هذه المسلمات وتخطتها، ذلك أن الخطأ والخلط إنما يجئ نتيجة تبني الفلسفات لبعض مؤثرات العلم أو نظرياته ونقلها من مجال العلم التجريبي أو من مجال الدراسات البيولوجية ودراسات الطبيعة إلى مجال المفاهيم الإنسانية وقضايا النفس والاجتماع والأخلاق. بينما لا تصلح أساليب العلم التجريبي في التطبيق على شئون الإنسانيات من نفس واجتماع وأخلاق، هذه التي يجب أن تدرس وفق منهج آخر غير مناهج العلوم المادية.
إذا اتضح هذا المعنى أمكن النظر في سهولة ويسر إلى ذلك الحشد المتعدد من المصطلحات والمفاهيم التي تختلط بين العلم وبين الفلسفة، أما في مجال العلم فهي تدرس دراسة خالصة، وأما في مجال الفلسفة فإنها تخضع لكثير من الأهواء والدوافع.
وقد ظهرت نظريات متعددة في مجال العلم البيولوجي ثم لم تلبث أن نقلت إلى مجال العلوم الاجتماعية كحقائق مسلمة، ومن ذلك مفهوم التطور ومفهوم تنازع البقاء، وقد تبين من بعد أن تقبل هذه الفرضيات ليس سليماً على إطلاقه وأن تطبيقه في المجال الاجتماعي ليس صحيحاً دائماً.(63/1)
ومن العجب أن النظرية المادية قامت من بعدها النظرية الماركسية على فرضية كشفت أبحاث العلم من بعد خطأها، قامت النظرية المادية وكذلك الماركسية على أساس القول بأن الحياة كلها من عقلية ونفسية وسلوكية صادرة من مادة عضوية، وهذه الفرضية لا تعد الآن من الحقائق العلمية، ومعنى هذا أن أساس الفلسفة المادية والنظرية الماركسية قد انهار من الأساس. كذلك فإن القول بالتطور المطلق الذي جعله هربرت سبنسر مفهوماً اجتماعياً قد سقط نتيجة لمفهوم آخر أصلح منه هو مفهوم الثوابت والمتغيرات، كذلك فإن فكرة الجوهر الفرد التي قامت عليها الفلسفات سقطات بنظرية النسبية وظهور مفهوم الطاقة التي تتحول إلى مادة والمادة التي تتحول إلى طاقة، كذلك فإن نظرية النسبية نقلت إلى المجال الاجتماعي القول بنسبية الأخلاق وارتباط القيم الأخلاقية بالمجتمعات والعصور، وهذه النظرية وجدت معارضة شديدة؛ لأنها تخالف الفطرة طبائع الأشياء. كذلك فإن نظرية الجبرية التي حاولت بعض المذاهب تطبيقها على التاريخ والحضارات والمجتمع قد تبين فسادها؛ لأنها تلغي التزام الأفراد ومسئولياتهم وتلغي إرادتهم بينما التاريخ كله من عمل الأفراد.
وكذلك تبين خطأ القول بتنازع البقاء وتبين أن تعاون الكائنات أطهر وأقوى وأكبر أثراً من تنازعها. وأن نظرية تنازع البقاء إنما ظهرت نتيجة ملاحظة محدودة لمجتمع محدود.
ويرجع هذا كله إلى منطلق الفكر الغربي أو الفلسفة الغربية الذي يقصر النظرة على المادة وحدها، بينما ينطلق الفكر الإسلامي إلى أفاق أرحب وإلى نظرة لها أبعاد أكثر وضوحاً وقوة.
فالفكر الإسلامي يؤمن بأن الثبات والتغير من القوانين الطبيعية في حياة البشرية والإنسان وفي الكون نفسه. وأن هناك أفلاكاً ثابتة وكواكب متحركة. وأن لكل شئ إطاراً لا يتغير وإنما تتغير الحركة في داخله.(63/2)
فالإنسان في صورة خلقه وفي حياته يتحرك داخل إطار واضح محدود منذ الولادة إلى الوفاة، وقد تتغير الأساليب والملابس والوسائل ولكن تبقى القواعد الأساسية ثابتة، النوم واليقظة، والسكن والحركة، والطعام والشراب، هناك قيم ثابتة ولكن أساليب العمل بها تتغير وتتطور من عصر إلى عصر ومن بيئة إلى بيئة حسب الظروف والحاجات.
والإنسان يتغير دائماً من حيث الحركة ولكن له إطاره الثابت من حيث أصول الحياة والفكر وأصول البقاء.
وكذلك فإن الإنسان يتحرك في الحياة في إطار من القيم والتعاليم والضوابط والحدود. ويخضع لقوانين الأخلاق والتعامل بما يتكامل معه مع مسيرة المجتمع كله، أخذاً وعطاءً، وحيث تنتهي حريته عندما تبدأ حرية الآخرين.
ومن هنا فإن مفهوم الإسلام يقوم على أساس ثبات القيم الأخلاقية والآداب الإنسانية التي هي من أصول ثبات الطبيعة البشرية، وفيما عدا ذلك فإن هناك تغيراً وتبديلاً وتطوراً دونما انقطاع، هذه القيم الثابتة من الدين والأخلاق والحدود والضوابط هي التي تقي المجتمع الإنساني من الفناء والهلاك، وهي القانون الثابت الذي لا يتغير مع تغير العناصر المختلفة في المجتمع.
وهكذا نجد ثوابت الكون في الطبيعة وثوابت الأخلاق في الإنسان ومتغيرات الكون ومتغيرات الإنسان، وكأنما نظام السلوك الإنساني مطابق لواقع النظام الكوني.
وثبات السنن الإلهية في الكون والإنسان هو إطار حركة المتغيرات، ولقد كان الفكر الغربي في مرحلته اليونانية يؤمن بالثبات المطلق، ثم جاء هيجل فنقله إلى التطور المطلق. وكلاهما صدر عن نقص في النظرة وعجز عن استقصاء الأبعاد المختلفة التي جاء الدين الحق ليكشف عنها للإنسان وليدله عليها وليجعل فكره أكثر رقياً وأعمق فهماً.
ومن هنا فإن الفكر الغربي هو فكر انشطاري يمر اليوم بمرحلة التطور المطلق الذي لا يتوقف عند حد والذي يجري في غير إطار من الثوابت ومن ثم يتعرض لكثير من المعاطب والأخطار.(63/3)
أما الفكر الإسلامي فهو فكر متكامل جامع، يربط بين القيم في توازن رقيق وتناسق معجز، فالحياة يقابلها الموت والفقر يقابله الغنى والجبن يقابله الشجاعة والروح تقابلها المادة، والكون كله ثنائيات متلاقية ليس فيه واحداً لا شاء له ولا تعدد إلا الله تبارك وتعالى، ومن شأن هذا الفهم أن يعالج أزمة الفكر الغربي التي تقوم على الصراع والتناقضات، ذلك أن المفهوم الكامل من شأنه أن يقضي على المتناقضات ويذيب الصراعات.
فليس وجود الأضداد دليل على خصومتها وتعارضها؛ ولكنه سبيل إلى تكاملها والتقائها فالضد يولد من الضد، يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي. ذلك أنو النور يكشف الظلام والحق ينسف الباطل.
أما الفكر الغربي الذي أثر فكرة التطور المطلق وحجب فكرة الأطر الثابتة فقد عجز عن فهم هذا الالتقاء وعده صراعاً، وتناقضات.
أما الإسلام فقد وفق بين المتناقضات في إطار التكامل وعلى قاعدة التوازن وليس في هذا ما يوصف بأنه ازدواجية؛ بل هو التكامل الذي يوفق بين الأضداد والمتناقضات ويسلكها في طريق الحركة الطبيعية.
ولقد يعجز الفكر الغربي عن فهم التكامل والالتقاء بينهما هو طبيعة طيعة للفكر الإسلامي الذي يقوم على التكامل بين الزمني والروحي والمطلق والنسبي واللانهائي والمحدود.(63/4)
ومن هنا يمكن القول بلغة الفلاسفة أن الإسلام يجمع بين المنطق الشكلي والمنطق الجدلي، بين منطق أرسطو القائل بثبات الموجودات ومنطق هيجل القائل بتغير الموجودات الدائم. وبذل يقيم قانون "الثوابت والمتغيرات"، فالإسلام يجمع بين الأصول العقائدية الثابتة وبين الاجتهاد في الفروع والتفاصيل والتطبيقات (وهو ما نسميه التطور)، ويقول بتغير الأحكام النوعية مع تغير الأزمنة والأمكنة وهو ما يسميه الفقهاء اختلاف زمان ومكان لا اختلاف حجة وبرهان ذلك أن الإسلام منهج إلهي من حيث الأصول، ووضعي بشري من حيث التطبيق والتفاصيل، أصول إلهية ووضع بشري من حيث التطبيق والتفاصيل، أصول إلهية على أساس التوفيق بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، فهو لا يسحق الفرد لصالح الجماعة ولا يسحق الجماعة لصالح الفرد، فإذا استحال التوفيق اختار الإسلام المصالح الجماعية، وهذا هو التوازن الدقيق بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة. ومعنى هذا أنه لا انفصال بين ما هو مادي وما هو روحي في الإسلام، ومنهج الإسلام أصول إلهية وتفسيرات بشرية، وعن طريق هذا المفهوم لا يجد المسلم ذلك القلق الفلسفي الواسع الذي يشغل الباحثين حول: التناقض والصراع والجبرية وتنازع البقاء.
(2)
فساد نظرية الجبرية
إلى أي حد يمكن أن يصل بالحضارة الغربية وبالفكر الغربي ذلك التصور الذي يجتاح العصر كله ويحاول أن يلقي بظله على الفكر الإسلامي ويجد من المثقفين العرب من يتبناه ويردده: هذا الفهم الخطير للجبرية والحتمية الذي يستمد منطلقه من الفلسفة المادية والذي يذهب بعيداً ليكون عاملاً خطيراً في تصرفات الإنسان، وسلوكه، وما هي صلة ذلك كله بنظرية الخطيئة الأولى في الفكر الغربي المسيحي، وعلاقته بالوجودية وبالأدب وبالأخلاق.(63/5)
لنستعرض هذا النص الذي يمثل وجهة نظر عامة الآن بين كتاب الغرب لنرى معه إلى (أي=) حد نستطيع أن نفهم الموقف: النص للكاتب الغربي الأمريكي (ماكسين جرين) يرى الإنسان الحديث أنه وليد قوى اجتماعية واقتصادية وبيولوجية تحدد دوره في الأرض دون أن يشعر هو نفسه على الإطلاق. إن فقدان الإنسان لكرامته واعتزازه بنفسه يرجع إلى التقدم العلمي الضخم في القرن التاسع عشر إلى أمثال دارون وهكسلي وماركس الذين أظهروا الإنسان فريسة لقوى ضخمة مظلمة لا سلطان له عليها، وهكذا وجد التفكير الجبري، وظهر هذا التفكير في الأدب في أعمال أصحاب المذهب الطبيعي في كل بلد هؤلاء الذين حلوا محل الأبطال الشاعرين بذواتهم مخلوقات سلبية مطاوعة أنتجتها قوى الوراثة والبيئة لا صلة لهم بها، بل لا وعي لهم بها، وقد اختفت بطولة الإنسان بفضل المذهب الطبيعي". هذا النص يتحدث عن "جبرية القوانين الطبيعية" وخضوع الإنسان لها: هذه تريد أن تفرض وجودها على الفكر الغربي كله: ليس الفكر الماركسي وحده ولكن الفكر الليبرالي أيضاً، فقد تغيرت الجذور القديمة التي كانت تستمد من الفلسفات المثالية وغيرها رؤية تتمثل فيها إرادة الإنسان، وساد الفكر الغربي اليوم قتام كامل ترتبط فيه كل المذاهب بهذه الجبرية والحتمية. سواء في دراسات علماء النفس، وعلماء الاقتصاد، أو علماء الاجتماع، أو علماء التاريخ أو في مذاهب الأدب والفن والشعر والمسرح والقصة .. إلخ.
هذا التحول الخطير أساسه المذهب المادي الذي يعد الآن بمثابة القاعدة الأساسية للاتجاهين المختلفين في الفكر الغربي: ليبرالي وماركسي، فردي واجتماعي، أدبي وعلمي. وهذا هو أبرز وجوه الخلاف اليوم بين الفكر الإسلامي وبين هذا الفكر جملة.(63/6)
فإذا ذهبنا نستقصي المصدر الأول لفكرة الحتمية أو الجبرية وجدناها في تلك القوانين التي اكتشفها الإنسان للكون عن طريق العلم الحديث، دون معرفة مصدر هذه القوانين، والاعتقاد بأنها قوانين طبيعية حيث تدير الطبيعة نفسها فهي لا تتخلف. وفي هذا الاعتقاد خطأ أكبر وخطأ أصغر؛ أما الخطأ الأكبر فإنه من المستحيل أن تدير الطبيعة نفسها بمثل هذه الدقة؛ لأنها لم تخلق نفسها ولابد لها من خالق أساساً، ثم هو نفسه تبارك وتعالى الذي يديرها لحظة بعد أخرى. ومن هنا فإن هذه القوانين مخلوقة لله تعالى وهو القادر على إبطالها. غياب هذا الفهم عند الفكر المادي جعل النظرية قائمة على شق واحد منها هو حتمية هذه القوانين وإغفال الجانب الهام منها وهو صانعها ومديرها والقادر على إبطالها.
ومن هنا يصور العلماء الحتمية بأنها: هي خضوع الأشياء لمبدأ التغير للقوانين الضرورية وهذا يعني أن الأحداث تترابط فيما بينها وفق قوانين موضوعية ومن هنا فإن الحتمية هي إنكارها المصادفة والاحتمال وحرية الإرادة وأخطر ما في الحتمية هي إنكارها حرية الإرادة، ذلك أن الحتمية لا تتفق مع إرادة التغيير، ومن هنا فهي تعطل هذا الجانب الهام الذي هو مصدر أصيل في إنشاء التاريخ وتلغي دور الإنسان في التغيير.
وهي في هذا تخالف الإنسان من جانبين: من جانب عجزها عن فهم قدرة الله المطلقة وقدرته على خرق القوانين وتغيير الواقع وقصورها عن فهم إرادة الإنسان التي منحها الله إياه، داخل الإرادة العليا للكون كله.
والفارق يسير جداً فهو في نظر المسلم أن العوامل الظاهرة للحدث أو للقانون ليست هي وحدها العوامل الحقيقية، وأن هناك عوامل أخرى تخفى وهي من إرادة الله ومشيئته التي هي أكبر من الأسباب نفسها، والقادرة على تعطيل الأسباب أو إمضاء الأسباب من غير أن تحقق النتائج المترتبة عليها.(63/7)
ونحن نطلق خطأ على هذا الجانب المجهول من قدرة الله والذي لا يخضع للقوانين الظاهرة: المصادفات والاحتمالات والظواهر غير المنظورة تقريباً للأمور. والواقع أن الحتمية تقوم على نظرية مادية خالصة.
أما الإنسان فله دوره وإرادته الذاتية التي تحقق له التصرف الذي به يكن مسئولاً عن عمله، في دائرة صغيرة ولكنها بعيدة الأثر في أحداث التغيير.
"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
والفرد يستطيع أن يمارس إرادته في تغيير الواقع والمجتمع بقدر استفادته من قوانين الحركة.
والإنسان له إرادة فاعلة وهي جزء من إرادة الله يتميز بها عن الحيوان وهي يتحرك في دائرة خاصة ويكون مسئولاً في حدودها، ولكنها لا تمثل إلا شطراً يسيراً من إرادة الله الكبرى التي تخلق التأثيرات العامة للمجتمعات والأكوان أما الحتمية فهي لا تتفق مع إرادة التغيير؛ لأن الحتمية تفترض أنه لا إرادة من جانب الإنسان، وهي بذلك تعد الإنسان متفرجاً إزاء حركة التاريخ يرى ما يحدث له وللمجتمع دون أن يشارك فيه وهذا والقول مخالف للواقع ولطبائع الأشياء.
ومن هنا فإن القول الذي يردده جبريو التاريخ كماركسي والذي يقول أن التاريخ محكوم المسار في مستقبله فهو غير صحيح وكل النبوءات التي قدمها ماركس في هذا الصدد قد تبين كذبها ولم تتحقق -جميعاً- وما وقع في المستقبل بعد تنبؤات ماركس كان مخالفاً تماماً لما قرره بناء على حتمية التاريخ أو جبريته في حدود النظرية التي قدمها، ذلك لأن ماركس ليس إلا بشراً يعجز عن الإحاطة ونظريته ليست إلا شطيرة ترتبط بعنصر واحد من عناصر التأثير وهي الاقتصاد وتقوم في مرحلة زمنية محدودة وبيئة لها طابع خاص، ومن هنا فقد عجز وعجزت عن تفسير المستقبل فضلاً عن إخفاق ماركس في تحليل التاريخ القديم.(63/8)
ولا ريب أن النموذج البشري الذي تقوم عليه فكرة الجبرية هو نموذج إنسان سلبي خامل كسول، مستسلم للواقع، متنازل عن حقه الطبيعي في الاختيار مؤثراً للأمان والجبن وعدم المجازفة، وبذلك يفترض في هذا الإنسان أنه تطبيق للحتمية المادية الخادعة الكاذبة.
والمسلم لا يقر هذا المفهوم، السلبي، ويؤمن بالإرادة، وبالقدرة على الاختيار والحركة لتغيير الواقع، ويجعل من إرادته البشرية قوة قادرة على حكم الغرائز وقيادتها والسيطرة عليها.
وهذا هو السر في دعوة الإسلام الملحة لبناء الإرادة.
كذلك الأمم فإنها حين تخضع للجبرية تموت؛ لأنها تستسلم وتُداس بالأقدام، أقدام الغزاة والغاصبين، والإرادة والاختيار هما عاملا التغير في الفرد وفي الجماعات والأمم، وبقوانين هذه الإرادة تقوم الأمم وتتجدد، ولا ريب أن التقدم مرتبط بتنمية إرادة التغيير، فإذا فقدت الأمة هذه الإرادة، استسلمت للجبرية التي هي الانحطاط.
ولا ريب أن تفشي هذا المفهوم في الفكر الغربي في هذه المرحلة من انهيار الحضارة هو علامة على مرحلة سقوطها الذي تنبأ به كثير من الباحثين، والذي هو سمة كل الحضارات والأمم التي تستسلم للجبرية الممثلة في الترف والانحلال والفساد والإباحية.(63/9)
وكما يرفض الإسلام الجبرية التي تجعل الإنسان متفرجاً على التاريخ، كذلك فإن العلم يرفض الجبرية ولا يراها حقيقة أساسية. وكل ما يقال عن أن الجبرية أو الحتمية هي علم فهو من قبيل الخداع: فالعلم لا علاقة له بهذه الأبحاث التي هي من شأن الفلسفة وإنما هم أطلقوا عليها كلمة فلسفة العلم لأنهم حاولوا أن يستمدوا مفهوم المادية من بعض نظريات العلم التي كانت في القرن التاسع عشر تقول بانبثاق هذا الكون بدون صانع، وقد سقطت هذه النظرية التي قامت على أساسها مذاهب سياسية واجتماعية كثيرة كالماركسية والوجودية والبرجماتية مثلاً. ولقد تقدم العلم الآن تقدماً عجيباً وألغى كثيراً من النظريات العلمية التي لم تكن في واقع الأمر إلا "فرضاً" لتغطية الجوانب الناقصة في عملية البحث، غير أن التجربة المستمرة كشفت عن أشياء جديدة جعلت كل ما كان يقال من قبل فاسداً وخاصة فيما يتعلق بالطاقة والمادة؛ فقد أثبت العلم أن الطاقة تتحول إلى مادة وأن المادة تتحول إلى طاقة وبذلك انهدم أساس الفكر المادي وتحطم كثير من القواعد التي تقوم عليها الفلسفات المادية.
ولكن دعاة هذه المذاهب إنما يهدفون إلى هدم المجتمع البشري بإحلال روح الفساد فيه وإسقاط الإرادة ووضع مسئولية الخطأ والانحراف على المجتمعات، وإعلاء شأن المفهوم الجمعي للقضاء على الفردية التي هي مناط المسئولية والخبراء في الدين الحق، وذلك من شأنه أن يدفع إلى مزيد من غلبة الشهوات وتبرير الفساد وسقوط المجتمعات وهو ما تهدف إليه اليهودية التلمودية فيما أشارت إليه في بروتوكلات صهيون.(63/10)
وعندما نراجع أصول الجبرية في الفكر الإسلامي تجد أن مصدرها يهودي، فهو مما قال به الذين حملوا سموم الفكر البشري القديم، والفرنسيون يقولون بأن الإنسان ليس إرادة ولا اختياراً ولا تأثيراً ولا جزءاً كسبياً، ولذا لا يرونه جديراً بالمدح ولا بالذم، أما اليهود الفروشيم فقد بالغوا بالاختيار ورأوا الإنسان قادراً على مطلق عمل دون أمر الله ونهيه. وكلا الأمرين الجبر المطلق والاختيار المطلق لا يقرهما الإسلام، وفي الفلسفات الهندية والصينية والفارسية جبرية واضحة؛ إذن أن البرهمية والبوذية والمزكية تبرره، كذلك الفلسفة اليونانية فإن حرب طروادة قد حملت سواد الناس على التسليم المطلق بالجبر، وكذلك فلسفات التقمص والتناسخ كلها مفضية إلى الجبرية.
وكذلك تحمل فكرة وحدة الوجود معنى الجبر؛ فهي تلغي الإرادة والمسئولية الفردية، وصدق في هذا قول القائل: إن الاختيار المطلق يكلف الإنسان فوق الطاقة والجبر المطلق محو للتكليف وهدم للشريعة وإبطال لحكم العقل وإنكار للواقع.
والإسلام لا جبر فيه، ولقد نادى القرآن بالتمييز: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، وأخذ الرسول بيد طلاب الهداية لربهم، ودعا الإسلام إلى الإرادة: والصبر وعزائم الأمور، ودعا إلى تغيير الواقع الفاسد ودعا إلى الهجرة في الأرض حتى لا يظلم الإنسان نفسه بالبقاء في الواقع السلبي.
ولقد أقام الإسلام الاختيار ونادى به القرآن (فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه).
وقال ابن تيمية=: "إن للعبد قدرة ومشيئة وعمل فهو مختار مريد. والجبريون هم المعطلون للتكاليف الشرعية المسفهون للخطابات الإلهية". وقال النابلسي أنهم زنادقة هذه الأمة:
ولقد فتح الإسلام الباب واسعاً أمام الذين ينحرفون إلى الجبر مع قدرتهم على الحرية والاختيار، وفتح لهم باب العودة إلى الإرادة الصحيحة.(63/11)
ورسل الله ودعاة الحق في كل جيل وعصر لم يأمروا بالانحراف، ودعوا إلى الإرادة والاختيار التي تنشأ عنها المسئولية والجزاء، ولكن المنحرفين من أصحاب الفكر البشري هم الذين زينوا القياس الحلول والإشراق والتجسد وغيرها من المفاهيم الباطلة المبطلة التي تدعو إلى الجبرية، ثم جاء الفكر الفلسفي المادي المعاصر فاحتوى كل هذه العناصر وأعاد صياغتها من جديد.
ومن عجب أن العلم بالتجارب العديدة لم يعد تعبر نظرية الحتمية: التي كان يقوم عليها كيانه، فأصبح حين تتوافر الشروط والأسباب يحكم بوقوع النتائج؛ وذلك لأنه وجد عشرات من الأشياء لا تخضع لهذا القانون، ومن ثم فإن العلماء لأن يقررون أن الحتمية في العلم غير ضرورية وأن القانون الذي يحكم العلم هو قانون الاحتمالات، وبذلك انفسح لهم المجال للإيمان بقوة عليا تسير العالم خارج نفسه.
ولكن رجال الفلسفة المادية، وهم اليهود التلموديون أصحاب بروتوكلات صهيون، إنما يريدون أن يتجاهلوا حقائق الفطرة وآراء العلم وطبيعة الدين الحق؛ ليفرضوا على البشرية نظرية زائفة يراد بها تدمير المجتمعات: تلك هي الجبرية والحتمية.
ولقد صدق القائل: أن الإنسان لا تجوز عليه الحتمية؛ لأن الناس ليسوا كرات بليارد تتحرك بحتمية قوانين فيزيائية؛ ولكنها مجموعة إرادات حرة تدخل في علاقات متعددة يستحيل فيها التنبؤ القائم على قوانين مادية، كذلك فإن القوانين الإحصائية هي قوانين إجمالية وكلها ترجيحات ولا يرتفع أحدها إلى مرتبة الحتمية على الإطلاق.
(3)
فساد نظرية (تنازع البقاء)(63/12)
ومن الفرضيات التي قدمها العلم تحت التجربة نظرية (تنازع البقاء)، وقد تعالى القول بهذه النظرية وامتد حتى خُيل للناس أن هناك قانوناً يطلق عليه تنازع البقاء، وفي أفق الفكر الإسلامية والثقافة العربية ردد الباحثون هذا المصطلح سنوات وسنوات، ثم تبين من بعد أنه لا توجد حقيقة علمية تسمى تنازع البقاء، وأن كل ما يقال عن التنازع أو الصراع ليس من طبيعة العلاقات بين الأحياء.
لقد جاءت فرضية التنازع نتيجة لتقدير مادي بأن إنتاج الطعام في العالم محدود، بينما التوالد يتضاعف ويزداد، ومن هنا فلابد أن يتنازع الأفراد لأجل البقاء أو من أجل الحصول على الطعام، ولكن نظرية إنتاج الطعام المحدود التي قال بها "مالتوس"ثبت بطلانها من بعد؛ فقد اكتشفت أفاق عديدة للموارد والرزق ونما العالم وتضاعف عشرات المرات دون أن يفقد القوت، وهذا عيب النظريات التي تكون دائماً محدودة بقدر معين من العلم في عصرها، وبالتحدي الخاص ببيئتها وبالتأثير بنظرية جزئية أخرى، نجد هذا تماماً عند دارون ونجده عند ماركس ونجده عند فرويد.
وقد حاول أنصار دارون تبرير موقفه ودافعوا عنه، فقالوا أنه استمد نظرية تنازع البقاء في الطبيعة من إقامته في لنكشير وغيرها من الأقاليم الصناعية، وكانت نظرية دارون في مجموعها -وهي نظرية بيولوجية- مما استخدمه الفكر السياسي الاستعماري خاصة فيما يتعلق بتنازع البقاء وبقاء الأصلح، فقد طبقوها على الشعوب المستعمرة والقوى الاستعمارية المسيطرة عليها وجعلوا منها مبرراً لسيطرة المستعمرين.(63/13)
فشلت نظرية داروين في تنازع البقاء وبقاء الأصلح وتبين للباحثين والعلماء أن هناك "تعاوناً" بين الأنواع أكبر من التنازع، وهناك تلاقياً أقوى من الصراع، وفي هذا يقول أحد الباحثين: أن عواطفه الاجتماعية التي اكتسبها من المزاحمة الصناعية في لانكشير ومن كفاح الإمبراطورية البريطانية لخطف الأسواق وإذلال الأمم هذه العواطف حملته على أن يكبر من شأن التنازع: تنازع البقاء وحال هذا بينه وبين رؤية التعاون في الطبيعة؛ لأن الواقع أن البقاء عن طريق التعاون بين الحيوان والنبات أكبر وأوسع من البقاء عن طريق التنازع.
وكما سقطت نظرية التطور كما أرادها الفلاسفة الاجتماعيون، وسقطت نظرية مالتوس في الوراثة، كذلك سقطت نظرية "تنازع البقاء"، والفكر الإسلامي واضح في هذا تمام الوضوح؛ فهو يقر مفهوم التلاقي والتعاون والتكامل بين قوى الطبيعة المختلفة، ويرى أن هذا الالتقاء هو دافعها إلى الحركة والقوة والنماء".
ويرى الفكر الإسلامي ضرورة التعاون في المجتمع الإنساني بجميع أفراده، القوي والضعيف، والغني والفقير، والمريض والصحيح، ويُحّمل الإسلام الأقوياء والأغنياء والأصحاء مسئولية باقي أفراد المجتمع بنظام كامل من أنظمة الإعاشة والإنفاق والبذل.
ويرفض الإسلام تماماً فكرة القضاء على الضعفاء أو الفقراء أو المرضى ويراها عاملاً من عوامل الخروج عن الإيمان (أنطعم من لو يشاء الله أطعمه)، وإذا كانت نظرية تنازع الإبقاء قد بدأت في مجال العلم الطبيعي فإن علماء الاجتماع أرادوا أن يجعلوها قانوناً عاماً للبشرية ولكنهم فشلوا في ذلك وتبين من التجارب المتعددة قيام التعاون بديلاً عن التنازع.
ومن هنا كان زيف كل التفسيرات التي حاول بعض الماديين إلقاءها شأن المواقع التاريخية واندثار الحضارات وانقراض الأمم.(63/14)
ومن الحق أن الصراع لم يكن هو مصدر انهيار الحضارات أو انقراض الأمم؛ وإنما كان الفساد والانحراف والاستعلاء والترف والتحلل والخروج عن نظام الكون وقوانينه الطبيعية التي تفرض العمل والإرادة وبذل الجهد والاستمساك بالخشونة في الحياة والحفاظ على الضوابط والحدود.
ومما ينقض نظرية تنازع البقاء أن الحيوانات الواطئة الضعيفة تعيش وتنمو. وفق قانون التكيف مع البيئة الذي هو أصدق من قانون تنازع البقاء، ذلك أن كل كائن يستطيع أن يحتاط ويتكيف مع الظروف إذا كانت هذه من الطبيعة كالبرد والحر أو من مقاومة الأعداء.
ويصدق قانون التكيف مع البيئة بينما تفشل نظرية "تنازع البقاء"، ويؤكد الباحثون أن فساد نظرية تنازع البقاء ترجع أساساً إلى أنها تعارض الطبيعة والفطرة وتكشف عن تحدِ واضح لانطلاقة الحياة في صورتها السليمة. فهي تؤدي إلى حرمان الضعفاء من حق الحياة وتشجيع الأقوياء على التسلط والسيطرة، وتبيح الحرب وتعتبرها ضرورة في يد القوي لإهلاك الضعيف.
ولما كان من طبيعة القوي أن يسيطر على الأضعف، فقد دعا الإسلام إلى أن يتمسك أهله بالقوة في مواجهة كل مَن يحاول الاعتداء عليهم، وكذلك دعا الأفراد إلى الهجرة من الأرض التي يقع فيها الإذلال لهم؛ حتى لا يكون المسلمون موضع سيطرة من غيرهم أو تسلط مِن عدوهم.
والحق دائماً يثبت والباطل دائماً يرتفع ثم ينهزم؛ لأنه لا يستطيع أن يواجه ثبات الحق وسلامته وقدرته على الانتصار والبقاء. وعلى أهل الحق أن يلتمسوا نصر الله بالاستعداد لمعارضة الباطل ومقاومته.(63/15)
ويقر الإسلام نظام "التعاون" بديلاً لمفهوم "التنازع"، ومن هنا فإن الأنظمة التي تقوم على الصراع لابد أن تسقط؛ لأنها تمثل اتجاهاً مضاداً للحق والخير، الذي هو الناموس الطبيعي للحياة. ومن شأن "الفطرة" التي فطر الله عليها الكون والناس أن تمكن للحق من هزيمة الباطل والادالة نه=، ومن شأن أهل الحق أن يكونوا في يقظة حتى لا يستشري الباطل ويكسب الحولية عليهم، فإذا فقدوا مقومات عقيدتهم، تغلب الباطل عليهم لا محالة، فكان حقاً عليهم أن يعودوا إلى التماس مقومات عقيدتهم ويتجمعوا لها، ومهما كانوا قلة فإن تمسكهم بالحق مع معونة الله يحتم تحقيق النصر لهم، وهذا هو مفهوم دفع الله الناس بعضهم ببعض، وهو معنى يختلف عن النظرية الغربية "تنازع البقاء".
ويجمع الباحثون على أن "الصراع" فكرة استعمارية نشأت في ظل الفكر الغربي الاستعماري الذي اعتمد على القوة كوسيلة للسيطرة على الضعيف على النحو الذي اعتمد على القوة كوسيلة للسيطرة على الضعيف على النحو الذي سارت عليه عمليات الاستعمار والاحتلال والحروب الاستعمارية، تبريراً للاستيلاء على موارد الغير وممتلكاته بالقوة والعنف. ولقد رحب الماديون بفكرة دارون؛ لأن عقيدتهم تقوم على العنف وصراع الطبقات.
أما القرآن فقد ذكر أن "الصلاح" هو سبب بقاء الأمم والحضارات في الدنيا، وهو عدة الضعفاء المتقين في التغلب على الأقوياء المنحرفين.
ولا ريب أن من أخطر ما تروج له الفلسفات الغربية كلمة "الطبيعة"، حيث ينسب إليها العطاء والمنع والكشوف والقوانين، ولا ريب أن هذا معارض تماماً لمفهوم الدين الحق؛ فإن الخالق هو الله وليس الطبيعة، والطبيعة مخلوقة لله، مذللة له سبحانه. أما كلمة "الطبيعة" في مفهوم العلم فهي عبارة (عن=) قوانين سقوط الأجسام ودورانها ومغناطسيتها، وهي قوانين تعبر عن قدرة الله في خلق الكون والإنسان، وليس في الإسلام صراع بين الله والطبيعة؛ فالكل يسلم ويسجد طوعاً وكرهاً.(63/16)
وكل ما كشفه العلم الحديث ليس إلا قشوراً صغيرة من علم الله الأكبر، وما استطاع العلم أن يصل إلى تفسير ظواهر الأشياء. ومن أخطر مقاتل العلم الحديث أنه فضل بين المادي والروحي في العلم وأنكر الروحي: يقول الكسي كاريل: "إن الغلطة المسئولة عما نعانيه أنها جاءت مِن فكرة لجاليلو؛ فقد فصل جاليلو بين الصفات الأولية للأشياء وهي الأبعاد والأوزان التي يمكن قياسها بسهولة عن صفاتها الثانوية وهي الشكل واللون والرائحة التي لا يمكن قياسها فقد فصل الكم عن النوع (الكيف)، ولقد جلب الكم المعبر عنه باللغة الحسابية والعلم، بينما أهمل الكيف. لقد كان تجريد الأشياء عن صفاتها الأولية أمراً مشروعاً ولكن التغاضي عن الصفات الثانوية لم يكن كذلك؛ فالأشياء غير القابلة للقياس في الإنسان أكثر أهمية من تلك التي يمكن قياسها، فوجود التفكير هام جداً مثل التعادل الطبيعي الكيميائي لمصل الدم، ولما اتخذت التركيبات العضوية والألباب الفسيولوجية = حقيقة أكبر كثيراً من التفكير والسرور والحزن والجهل، دفعت هذه الغلطة الحضارة إلى سلوك طريق أدى إلى فوز العلم والانحلال الإنساني، ولابد أن يعيد الإنسان صياغة نفسه وأن الخطأ الذي بدأ به كان أنه أعل شأن الكم على الكيف، هذا الخلل المروع في بناء الحضارة، الإنسان الذي حقق تسخير المادة وإطلاق الطاقة لا يزال أقرب إلى الغابة في العقل والتدبير وذلك أن الدين هو الحماية: هو الحائط العريض الحاجز عن الخطر هو إنسان الإنسان الذي ينقله من الغابة".
من هذا المنطلق وقع المحظور، وتوالت الأخطاء، واندحر الإنسان الذي تمزق في الغرب.
أنور الجندي(63/17)
أقدم لك الإسلام
الأستاذ أنور الجندي
أيها الأخ الكريم: سلام الله عليك..
مالي أراك تجري فوق موج الحياة دون أن تتبين خطوك أو تنظر حولك أو تعرف هدفك ترتبط بغاية واضحة تمتلك عليك وجدانك وعقلك وتوجه إليها كل قصدك وتقدم لها كل جهدك.
ألا تعرف أن لك رسالة وأنك مكلف وأنه لابد من هوية واضحة، وغاية صريحة تتوجه إليها.
إننا نحن - بني الإنسان - جئنا هذا الوجود لغاية ولم نأت عبثاً وهي غاية عالية كريمة، وليست جرياً وراء المطامع والأهواء، فإذا نظرنا حولنا فرأينا هذا المجتمع المزدحم بالغايات وجب علينا ألا نندفع وراء التيار دون علم أو وعي، وإنما نقف وقفة ونسأل صديقاً ناصحاً أو أستاذاً مرشداً، أو والداً موجهاً، فسنعرف أن في الحياة وجهة صالحة ووجهة تائهة، فإذا ذهبنا وراء البريق وجدنا أنفسنا في دوامة، يتموج لذات خاطفة، تذهب بشبابنا ومالنا وتنحرف بنا عن الطريق السليم، أما إذا تريثنا ووعينا وجدنا أنفسنا على مرتقى الأصالة والرشد، وإني لأربأ بك وبعقلك وشخصيتك الكريمة ومحتدك الأصيل أن تكون جارياً مع التيار أو ضائعاً في المجموع، وأتوسم فيك أن تكون من النخبة الممتازة من أبناء هذه الأمة التي تتطلع إلى أن تقدمك خصائصك الكاشفة من ذكاء وفهم ونبل فتعرف لك غاية واضحة، ومهمة صالحة، وخير الغايات وأعظم المهام، هي أن تكون داعية لكلمة الله ولساناً من السنة الحق وعاملاً من عوامل الإسلام تنشر كلمته وتذيع فضله وتسير على طريقه، قدوة طيبة ومثلاً يحتذى وطيفاً قرآنياً يستمد سمته وفعله مما كان عليه سيدنا رسول الله (الأسوة الحسنة) للمسلمين منذ جاء الإسلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.(64/1)
فإذا تبينت ذلك في أعماق فطرتك النقية وهداك الله تبارك وتعالى إلى طريقه وجدت نفسك، وأحسست بأن للك كياناً مؤثراً فاعلاً، ورأيت أمامك ضوءاً كاشفاً، فعزفت نفسك عن الأهواء والمطامع وتطلعت إلى أن تكون من أولئك الذين هدى الله الملتمسين سبيله، المتطلعين إلى فضله ورحمته، الراغبين في أن يكونوا من خدام دعوته ومن العاملين لإعلاء كلمته.
وليس معنى هذا أنك تنسحب من الحياة، إلى عزلة صوفية أو خصومة مع المجتمع، أو إلى عزوف عن العمل، كلا كلا بل إلى اقتحام الحياة بأسلحة جديدة هي الإيمان والعمل لخير الناس ومعاملة الناس بالحسنى وإحلال وتحريم الحرام في مطعمك ومشربك، ودعوة أهلك إلى الصلاة والزكاة وعمل الخير، والاستجابة لكل أمر الله والوقوف عند حدوده، فدعوة الإسلام دعوة إيجابية لإصلاح الحياة لا لاعتزالها ولدعوة الناس الحسنى إلى طريق الله، ولهداية الخلق إلى الحق، من غير تزمت في وسيلة أو إسراف في توجيه، أو تعصب على أسلوب، وإنما بالمرونة والتدرج والتماس الأعذار والالتقاء في نقاط الخير، "أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة" و "قولول للناس حسناً".
والزمن جزء من العلاج، ولنعرف أولاً حقائق ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ونجعله الضوء الكاشف على طريقنا في الحياة، مؤمنين بأننا قد جئنا هذه الحياة لنؤدي رسالة، ولنعمر الأرض، ونبني، ونقيم المجتمع الرباني، على أساس المسئولية الفردية والالتزام الأخلاقي والإيمان بالجزاء الآخروي والبعث وعلى ضوء هذا الفهم المستنير تستطيع أن تواجه الحياة وأن نتعامل مع الناس وأن نمضي على طريق الله، في بيوتنا وفي أعمالنا، وفي كل مكان نحل فيه، ومع كل إنسان نلتقي به.(64/2)
وأن نرعى هذه الأسر ة الصغيرة: الزوجة والأبناء وأن نشكلهم على الإيمان فإنها مسئوليتنا الأولى "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً" ولنباشر هذه المسئولية يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة فلا يبعدنا عنها شيء، ولنجعلها اولى مهامنا ولنصادق أبناءنا ونجعل بيننا وبينهم مودة وأمناً فنعرف احوالهم وظروفهم ونعالج أمورهم في أول أشواطها، ونرعى أمر صداقاتهم ومعارفهم فنحميهم من الصديق السوء، ونذلل أمامهم الأمور حتى تضيء أنفسهم بتجربة آبائهم فلا يسقطون في المآزق، ويكونوا دائماً على حذر من مطبات الحياة. ذلك أن القدوة الحسنة هي أسرنا وبيوتنا على مفاهيم الإسلام الحقيقية، انقشعت عن أمتنا تلك السحب المظلمة والغيوم الكثيفة ومن ثم تشرق الشمس ويبدو الأفق مضيئاً بنور الله.
ويقتضي هذا الاتجاه أنم نفهم أسلافنا فهماً صحيحاً، وأن نعرف التحديات التي تواجه الإسلام من قوى كثيرة تتآمر بها.(64/3)
أما الإسلام فهو منهج رباني جامع، يعمل على بناء الفرد والأسرة والجماعة على أساس الإيمان بالله، وعلى أساس التكامل والتضامن والعدل والرحمة والإخاء الإنساني وهو دعوه إلى بناء مجتمع ومنهج حياة يقام لإسعاد البشرية، وهو مختلف تماماً عن المناهج والأيديولوجيات التي قدمها الإنسان لنفسه والتي ما تزال تضطرب وتتخبط ولا تحقق للبشرية شيئاً إيجابياً، وها نحن نرى كيف يعيش المجتمع العالمي حياة مأزومة مضطربة لألأنها خلت من الاستمداد من الله والتماس منهجه، ولما فصلت المناهج البشرية نفسها عن دين الله المنزل عجزت عن تحقيق الأمن للناس ذلك أن هذه المناهج فصلت بين الروح والمادة وبين السياسية والأخلاق وبين الدنيا والآخرة، وما تزال المجتمعات العالمية تضطرب منذ أربعمائة عام وتتخبط عندما أقامت المنهج المادي العلماني الذي يمزق وحدة الإنسان الجامع بين الروح والمادة، فأنت أيها الأخ الكريم ترى كيف نتخبط هذه المناهج، وتضيف وتحزف، ولا تستطيع أن تحقق شيئاً.
وقد نشأت في المجتمع العالمي تلك الأزمة العميقة: وتلك الغربة والتمزق والغثيان نتيجة الانفصال عن الإيمان بالله وأخلاقية المجتمع والحضارة، وقد ثبت لصيحات الأعلام والبارزين من المفكرين الغربيين بأنه لا طريق صحيح للبشرية إلا بالإسلام وحده وقد اعتنق هؤلاء الأعلام العقيدة الإسلامية بعد أن بحثوا سنوات طويلة وعجزوا عن أن يجدوا سبيلاً إلا عن طريق هذا النور الإلهي (وإسلام الدكتور بوكاي والفيلسوف جارودي) أخيراً من العلامات التي سبقتها علامات كثيرة.(64/4)
ولقد جرب الغرب مذاهب ودعوات مختلفة من الشرق والغرب وقد فشلت جميعها والعالم يتطلع إلى منهج جديد يحرره من العبودية والإباحية والشك والتمزق، وليس غير الإسلام هو الذي ينقذ البشرية، ولكن كيف يمكن ذلك وأهل الإسلام أنفسهم مكبلون بقيود وثيقة للنفوذ الغربي بشقيه، أنهم لابد أولاً أن يتحرروا من هذه القيود وأن يقيموا مجتمعهم ثم يقدموا الإسلام للبشرية.
والحقيقة أن الإسلام يواجه تحديات خطيرة اليوم، ويطالب المؤمنين به بأن يؤمنوا حتى يقوم الصف المسلم القادر على حماية الأمة من الانهيار والتمزق والسقوط في حلقة التبعية الخطيرة، وهي المؤامرة التي تعمل الحضارة العالمية لي تذويب المسلمين فيها بعد أن تفسد مفهومهم الصحيح لعقيدتهم، وإثارة الشبهات حولها حتى يضيع ذلك النور القوي الذي يملأ القلوب ويدفعها إلى العمل لحماية بيضة هذا الدين، والدفاع عنها والإعداد لمقاومة كل من يفكر في السيطرة عليها، وذلك بالمرابطة في ثغور الإسلام المادية والمعنوية لحماية الأمة من مؤامرة إذابة هذه الأمة في بوتقة الأممية، فليس للمسلمين اليوم من مهمة في الحقيقة أكبر من الحفاظ على ذاتيتهم الإسلامية وشخصيتهم التي كونها لهم الإسلام منذ أربعة عشر قرناً، حتى يظلوا مسلمين حقيقة، وليسوا صورة ممسوخة من الأمم الأخرى، وفي سبيل حماية هذه الذاتية يجب ان يحافظ المسلمون على عقيدتهم وعبادتهم ومفاهيمهم في المجتمع والسياسة والاقتصاد والتربية، حقيقة واضحة، فلا يقبلون بالتبعية لفكر غير فكرهم، أو الانبهار بمذاهب أو مناهج غير مذهبهم ومنهجهم الأصيل الذي كونهم منذ أربعة عشر قرناً وحماهم من الذوبان أو التمزق في حضارات أخرى، فلن تستطيع أي أيديولوجية وافدة أن تعطي المسلمون قوة لأو تمكنهم من امتلاك إرادتهم وقد حدثت التجربة خلال السنوات الماضية وعجزت عن أن تحقق لهم شيئاً، بل كانت سبيلاً للأزمة والهزيمة والنكسة وسقوط بيت المقدس وفلسطين في أيدي أعدائهك،(64/5)
وقد جرى ذلك نتيجة الخداع الذي كان يخدع هذه الأمة بأن التبعية للغرب هي التي ستمكنهم من الوصول إلى القوة وامتلاك الإرادة، وقد ظهر كذب هذا، وكانت كل الخطوات ترمي إلى إذابتهم في البوتقة العالمية وإضاعة ذاتيتهم ووجودهم الخاص المستقل، كافة تحمل رسالة التوحيج الخاص، إن المحافظة على الذاتية الإسلامية بعيدة الانصهار في بوتقة الأمم الأخرى هي أساس عميق من أسس الإسلام الذي جاء ليعيد الإنسان إلى الفطرة بعد أن أفسدته المطامح والشهوات التي غيرت كلمة الله، وأن أكبر الأخطار التي تواجه المسلمين هي خطر النفوذ الغربي والصهيوني والماركسي (مجتمعين) على إذابة المسلمين في بوتقة الحضارة الغربية التي تمر بأسوأ مراحل انهيارها وتمزقها.
إن أول ما يدعونا إليه الإسلام بعد التوحيد الخالص أمران:
أولهما: المحافظة على الشخصية الإسلامية بكل معالمها.
ثانيهما: القدرة على تقديم النفس خالصة لله في مرابطة دائمة يقظة حتى لا يعتدى على العقيدة والوطن الذي يحمي العقدة معقد، فإذا كانت أرض الوطن الإسلامي في أي جزء منها قد وقع عليها اعتداء فإننا مطالبون بمؤازرته.
إننا نعرف أنك أيها الشاب المسلم تواجه الآن إغراءً خطيراً هو إغراء ذلك البريق المتصل بالحياة الاجتماعية وما يتصل بها من صور عارية وأفلام مكشوفة وتحلل في محيط المرأة، واستهانة بالحلال في محيط التجارب والعمل، مما يغري بالاندفاع وراء الأهواء أو المكاسب الحرام ولكن من يمتلك إرادة الإيمان يستطيع أن يقف وقفة الحسم، إزاء ذلك خوفاً من مجاوزة حدود الله، مضحياً بهذا الزخرف الحرام في سبيل انتظار عطاء الله الحلال المبارك الذي يمنحه لأولياء الخير واليقين.(64/6)
فالمسلم دائماً على طريق الله يسأل عن حق الله وما أحل وما حرم، ويستفتي قلبه، فهو ما دام يقرأ القرآن والسنة النبوية فهو على أول الطريق، فعليه أن يلتمس الفهم العميق من مصادره الراشدة، بعيداً عن العنف والتطرف والتعصب فطريق الله كله رحمة "أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة" وعلى الشباب المسلم أن يعرف أن للأمور الكبرى مراحل تمر بها، وأن التربية وبناء العقول والنفوس هو العامل الحقيقي للوصول إلى الغايات الكريمة وهو تأصيل المجتمع وإعادته إلى الله، وأن أية خطوة من خطوات العنف ستكون عاملاً في تأخير النهضة، بينما تؤدي خطوات بناء النفوس والعقول في ضوء الإسلام ونور القرآن إلى الغاية المرتجاة.
إن المسلم إذا وهب نفسه لدعوة الله فقد ارتفع فوق مطامع الحياة وأصبح من خدام دعوة التوحيد، فإذا وقر في قلبه فعليه:
(أولاً): أن يطهر نفسه من المطامع والأهواء. وأن يحصن نفسه بالعلم والإيمان والصبر الطويل على مكاره العمل وأن يهب وجوده كله، عافيته وثقافته وماله لكشف طريق الله أمام الناس غير متزيد ولا متطاول.
(ثانياً): أن يكون مؤمناً صادق الإيمان بالمسئولية الفردية، وأن يرفض مفاهيم الفسلفات الوافدة التي تقول أن المسئولية في الأخطاء والانحراف على المجتمع فنحن المسلمون نؤمن بأن كل إنسان مسئول عن عمله، وأن له إرادة حرة يستطيع أن يتحرك من خلالها لعمل الخير، ولدفع الشر، وأنه ملتزم بالمسئولية الأخلاقية في كل عمله وأنه مطالب بالمساهمة في بناء المجتمع الرباني الأصيل الذي تتطلع إليه البشرية، وأنه محاسب عن ذلك كله في الآخرة.
وقد أشار القرآن إلى الإرادة الحرة في ثلاثة وستين موضعاً.(64/7)
(ثالثاً): أن تكون عبادته هي عبادة المجاهدين العاملين، الذي يفنون أنفسهم في خدمة أمتهم ومجتمعهم وذلك ببناء لبنة في المجتمع، على قدر استطاعته، وأن لا يقبل مفهوم العبادة الفردية المنعزلة التي تدعو إليه بعض الطرق الصوفية، فذلك مفهوم قاصر، لأنه يحرم المسلم من ثواب النضال في دائرة المجتمع وهداية الناس وتصحيح المفاهيم، وما خلق المسلم ليعتزل الناس ويعبد الله بالذكر والانفصال عن المجتمع، ذلك أن عبادة الله تبارك وتعالى في الإسلام إنما تكون بمخالطة المجتمع والتعامل معه، وإبلاغ الناس كلمة الحق والخير على قدر المستطاع.
(رابعاً): وعلى المسلم الذي يدعو إلى الله أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، بالحكمة والموعظة الحسنة، وإبلاغ المسلم الآخر ما لا يعلمه، حتى يعلمه، وإن ينصح أهله وأسرته وأبناءه وأن يقيمهم على الحق، بالرضا والإحسان.
وعندما يكون المسلم مؤمناً حقاً، يستطيع ذلك "فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم".
(خامساً): أن يكون المسلم قدوة حسنة، لا يأمر أهله بشيء وهو يقترفه، فإنه إذ ذاك لا يبلغ نفوس الناس ولا يقبلوا منه إلا إذا هو مثلاً حقيقياً لذلك في حياته وعمله.
(سادساً): أن يختار عملاً في الدعوة الإسلامية يباشره، ويتخصص فيه ويفهم كل ما يتصل به، دون أن ينسى أن الإسلام كل جامع متصل لا ينفصل فيه فرع عن باقي الفروع فإذا كان أديباً فعليه أن يعرف المسئولية الأخلاقية وإذا كان عالماً نفسياً أو اجتماعياً عليه أن يفهم معنى التكامل بين القيم الإسلامية التي تشكل المفهوم الإسلامي الجامع بين الروح والمادة.
(سابعاً): أن يكون المسلم واضح الوجهة إزاء ما يرضي الله وما حرمه الله، وأن يعرف هذه الحدود، وأن يقيمها في نفسه وأسرته وأهله فيما استطاع إلى ذلك سبيلاً.(64/8)
(ثامناً): أن يجعل رابطة "لا إله إلا الله" أعلى الروابط وهي التي تجمع المسلمين جميعاً فتجعلهم أمة واحدة، وأن لا يعلي من شأن روابط الدم أو العنصر او الإقليم فهذه كلها روابط تفصل ولا تجمع، وقد حرم الإسلام التفاضل بالأنساب والأجناس والطبقات والعصبة. فنحن مطالبون بالتآخي تحت لواء الإسلام.
(تاسعاً): أن نعرف أن هذه الأمة قائمة على شاطئ التحدي فهي دائماً موضع طمع الامبراطوريات والقوى الكبرى، تعمل على السيطرة عليه واحتوائه وتعمل على القضاء على شخصيته الإسلامية وذاتيته الربانية المستمدة من التوحيد الخالص، ولذلك فيجب أن نحس دائماً بالحذر ونعمل على المرابطة والإعداد حتى لا نؤخذ على غرة، وأن نكون على استعداد كامل للتضحية في سبيل حماية الأمة والدين والعرض. وقد دعانا الحق تبارك وتعالى إلى فريضة الجهاد القائمة والماضية إلى يوم القيامة لحماية الإسلام أمة ودولة ووجوداً، وقد وضع الإسلام على أساس طلب الغلبة الشركة والغزة والعلم فالناظر في أصول هذا الدرس يعتقد بأنهم لابد أن يكونوا أول ملة حربية في العالم وان يسبقوا جميع الأمم إلى اختراع الآلات الحربية واتقان العلوم العسكرية.
(عاشراً): معنى الإسلام هو إسلام الوجه لله وحده، وكان هو الرسالة الأولى، وكان هو الرسالة الأخيرة وأن تعاليم الإسلام ليست حلولاً للمشاكل بقدر ما هي وقاية من المشاكل قد وردت كلمة إسلام ثماني مرات في القرآن بمعنى إسلام النفس إلى الله.
ويقوم الإسلام على مجموعة من الأصول العامة: عقيدة سليمة، عبادة صحيحة، كتاب منير، أسوة حسنة (الرسول) شريعة عادلة، أخلاق إيجابية، جهاد في سبيل الله، تربية صالحة، الصمود في وجه العدو. هذا هو إسلام القرآن الذي يحث على الإعداد الإنساني لهذه الحياة وعدم إلغاء الشخصية الفردية.(64/9)
(حادي عشر): إن قانون المعرفة في الإسلام (يجمع بين العقل والقلب) في ضزء الشريعة، ولا يستطيع العقل وحده التعرف على المصلحة بل إنه في حاجة إلى إرشاد الشرع (قرآناً وسنة) والعقل لن يهتدى إلا بالشرع فالعقل كالأساس والشرع كالبناء، وأن العقل قد تحجبه الأهواء والشهوات فالعقل لن يهتدى إلا بالشرع، العقل كالبصر والشرع كالشعاع، ولن يغني البصر ما لم يكن شعاع من خارج العقل كالسراج والشرع كالزيت الذي يجده فما لم يكن الزيت لم يحصل السراج وما لم يكن سراج لم يضيء الزيت.
( ثاني عشر): الرجوع إلى الحق متى تبين للمسلم، هذه قاعدة أساسية لبناء العقل الإسلامي المؤمن، وفي ذلك قول عمر بن الخطاب "ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس هديت فيه إلى رشدك أن ترجع فيه إلى الحق فإن الحق قديم والرجوع إلى الحق خير من التنادي في الباطل".
(ثالث عشر): على المثقف المسلم أن يعلم أن أكبر أخطار الفكر الحديث هو إنكاره صاحب الكون وصانعه وصانع العلوم ومعلمها للإنسان نفسه وهو الحث تبارك وتعالى والخطأ الثاني هو عدم الاستسلام للوجهة الربانية في بناء المجتمع وصناعة الحضارة وتطبيق العلم ومن هنا فقد حاولت الأمم الغربية أن تضع قوانين وشرائع مختلفة بل ومتعارضة مع أحكام الله، وهذا هو سر أزمتها واضطراب مجتمعها والأخطار التي تواجه الإنسان المعاصر، فلابد من العودة إلى الإيمان بأن الله هو الصانع وليست الطبيعة وأنه لابد من قوة علوية تشرف على الإنسان من فوقه وتمنحه الأسلوب المتوازن الشامل الذي يتعامل به مع جهازه الإنساني الصعب، إن فقدان الإيمان بالله كحقيقة علمية وكهدف أساسي من أهجاف المجتمعات هو مصدر كل الأزمات.(64/10)
(رابع عشر): لابد من فهم دور المرأة الحقيقي ومهمتها في المجتمع، ولابد من معرفة تركيبها العضوي والعصبي الذي يكشف العلم اليوم عن أنه مختلف وأن لها رسالة خاصة تتعلق بالبيت والأسرة وتربية الطفل ولذلك فإن تجاوزها ذلك من شأنه أن يحطم حياتها كذلك فإن للإسلام مفهوماً في الملابس والأزياء والعلاقات بين الرجل والمرأة.
(خامس عشر): يجب أن يقيم المسلم مجتمع الإسلام في نفسه وبيته وأهله وأن يتحول إلى العرف الإسلامي في عاداته ومعاملاته، في قلبه ولسانه وإننا لابد أن نعيد للإسلام سلطانه على الحياة الاجتماعية كلها ولا نقف به عند العبادات وأن نخضع معاملاتنا له.
( سادس عشر): الإيمان بصلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، وأن منهج الإسلام الرباني الواسع الأطر، لا يحتاج حاجة إلى مناهج الأمم في الاقتصاد أو الاجتماع او التربية، وإنما إلى تطور أو تطوير شأن المناهج البشرية وليس المسلم في يحتاج إلى الأساليب المستحدثة في وسائل التنفيذ، فلا يحتاج المسلمون إلى نظم وإنما إلى تنظيمات وكل ما يتصل إليهم من الحضارات فإنما هو مواد خام تنصهر في بوتقة الإسلام.
(سابع عشر): الإيمان بالله تبارك وتعالى خالقاً ومدبراً لكل أمر، والإيمان بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو قائد البشرية إلى الحق.
(ثامن عشر): إن علينا أن نحرر الفكر الإسلامي من مفاهيم فاسدة في الفومية والعلمانية والمادية وأن نكشف بأن للإسلام مفاهيم أكثر إنسانية ورحمة هي التي تجمع الناس تحت لواء الإخاء الإنساني والارتباط بالله تبارك وتعالى وفهم الحياة والإنسان فهماً جامعاً بين المادة والروح، ولقد نقل الإسلام البشرية من اختلاف الأجناس وصراع العناصر إلى وحدة البشرية الصادرة عن أب واحد، المؤمنة بري واحد، ودين واحد.(64/11)
(تاسع عشر) لقد ربى الإسلام معتنقيه على الاعتزاز بالله والإيمان بأنهم خلقوا ليقدموا رسالة التوحيد إلى البشرية، سادة معتزين بكرامتهم لا يعرفون العبودية لغير الله وحده.
(العشرون) ليس الإسلام مذهبًا ولا نظرية ولا ثورة ولا يجوز للكاتب المسلم أن يدخل الإسلام في مقارنة مع الثورات العديدة التي قام بها الإنسان على مر التاريخ، فالإسلام منهج رباني شاء الله تبارك وتعالى أن لا يرتبط اسمه بزمن معين ولا مكان معين ولا جنس معين ولا بفرد معين كما ارتبطت أسماء الأديان والنحل؛ وإنما هو مطلق، ماض إلى يوم القيامة يعز عزيزًا ويذل ذليلا ويبسط جناحيه على البشرية.
(واحد وعشرون) تميز الإنسان بالتكامل الجامع؛ فلهو يضم العقيدة والشريعة والأخلاق:
العقيدة هي: معرفة الله سبحانه وعالم الغيب والبعث والآخرة.
الشريعة: تنظيم الحياة على منهج الله.
الأخلاق: معرفة الخير والشر والحق والباطل.
وأهم عناصرها مسئولية الإنسان عن عمله، والثبات على الحق والاستمساك به والرفق في سوق الناس إلى الله، والصبر على أذاهم وألا يتعجلوا النصر فيطلبوه من غير سبيله ويسعوا إليه من غير بابه، وفي الإسلام كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، وليس فيه أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله، فيقصر وكل شئ لله، وفيه درء المفسدة مقدم على جلب المنفعة، وإننا لا نعرف الحق بالرجال ولكن نعرف الرجال بالحق، وللإسلام ضوابط للاجتهاد وحدود تمنع من استغلال الأهواء والأغر اض لظروف التغيير.
وصدق الإمام الشافعي حين قال: "إن هذا العلم دين؛ فانظروا عمن تأخذون دينكم".
(اثنان وعشرون) أكبر ما أعطى الإسلام: الفكر والذكر (معرفة قدرة الله واقتدارها قدرها) والبيان والارتفاع فوق طفولة البشرية بالنظرة الشاملة ذات الأبعاد التي ترتبط بالأزل والأبد وبالدنيا والآخرة وتستمد أول نقطة انطلاقها من الله تبارك وتعالى، ثم تعود إليه جل شأنه بعد تمام الرجولة.(64/12)
وإن الله تبارك وتعالى يحب الواقفين ببابه المتمسجين بأعتابه والطالبين منه والملحين في الدعاء؛ فالدعاء اعتراف وإذعان بالعبودية لله، وأن الله وحده هو القادر على كل شئ وأن الله تبارك وتعالى يحب أن يسمع صوت تذلل عبده له: ادعوني أستجب لكم.
(ثلاث وعشرون) التربية تربيتان: تربية العقل من الضلالة وتربية النفس من الهوى، اقتناع العقل بالدليل واقتناع القلب باليقين، وفي الإسلام توازن قائم بين الجانب الروحي والجانب المادي بين العلاني والوجداني بين الفردي والجماعي.
(أربعة وعشرون) لقد علمنا الإسلام أن نقف بين المعرفة المعروضة علينا موقف التعرف الصحيح عليها في ضوء القرآن والسنة، وقد رفض الإسلام التطور على حساب الأصالة والقيم الأساسية، كما رفض تضحية القيم العليا في سبيل التقدم المادي، ولم يخضع الإسلام قيمة لتبرير الحضارات وأهواء الأمم، وليس في المناهج والأيدلوجيات المطروحة من شئ إلا وعند المسلمين مثله أو خير منه، ويزيد عليه أنه في الإسلام موصول بالله تبارك وتعالى.
والمسلم كما قال إقبال: لم يخلق ليندفع في التيار ويساير الركب البشري حيث سار؛ بل خلق ليوجه العالم والمجتمع والمدنية ولابد من تطويع الدنيا لأمر الله ونصرة تعاليمه ومقاومة أكبر علل الحضارة الحديثة: عبادة الحياة.
(خمس وعشرون) منذ أن شكل الإسلام لونه المميز على خريطة العالم وهو عالم مستقل له طابعه المفرد، صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة، ومنهجه المتكامل المتجدد بالتوحيد والإيمان والأخلاق، ومنذ ذلك اليوم أصبح للمسلمين قبلتهم الواحدة التي لم يحيدوا عنها وتهوى إليها قلوبهم وأفئدتهم بالإيمان والفكر والنظر، ولم يكن لهم بعدها منذ ذلك اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها قبلة أخرى.(64/13)
(ست وعشرون) إن منهج القرآن يختلف عن مناهج ثلاث: هي منهج الفلسفة ومنهج العلم ومنهج التصوف. إن علينا أن نلتمس مقاييس الله تبارك وتعالى في تقدير الأمور المادية وفي تقدير الأنساب وفي فهم معاني الكلمات ونرفض مقاييس البشر (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان).
إن علينا أن نعرف الفوارق العميقة بين الإسلام والنحل المختلفة، ويجب أن يكون واضحًا في أذهاننا موقف الإسلام من الأمور المتشابهات: فيما أحدثت الحضارة من فعاليات اجتماعية خاصة في الآداب والفنون، وعلاقات الرجل والمرأة، ووسائل التسلية والترفيه ولنعلم أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وعلينا أن نحافظ على ذاتيتنا الإسلامية المميزة لنا عن الاسم؛ لأننا مسئولون أمانة تبليغ الإسلام إلى العالمين حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وأن مهمة الداعية إلى الله المسلم اليوم هو تحرير الأمور في ضوء الإسلام وتصحيح المفاهيم، وأن علينا أن نفهم القانون الأساسي لحركة المسلم؛ وهو قانون مترابط بين الثوابت والمتغيرات، بين القيم الأساسية التي جاء بها الإسلام وبين متغيرات البيئات والعصور، فلا نندفع مخدوعين وراء صيحة التطور والتطور المطلق والنسبية الأخلاقية الجبرية الاجتماعية.
اللهم اجعلنا هادين مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا لأعدائك، نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من خالفك.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحابته ومَن دعا بدعوتِه إلى يوم الدين ...
غرة المحرم 1404.
أنور الجندي(64/14)
الاستشراق
الأستاذ أنور الجندي
لقد تبين من الدراسات الواعية المتعددة مدى خطر الاستشراق على الفكر الإسلامي، ولم تبق إلا دعوى "الدور الذي قاموا به في تحقيق التراث الإسلامي" ومنها تبويب بعض كتب السنة وغيرها. ولا ريب أن الاستشراق يعمل على إيجاد حصيلة واسعة من مفاهيم الإسلام بدأها بترجمة القرآن والحديث النبوي وبعض الكتب المعروفة، والهدف هو إحكام الرد على ما في هذه من قضايا معارضة للمسيحية من ناحية أو معارضة للنفوذ الأجنيب من ناحية أخرى والحقيقة أن هذه الأعمال لم تكن خاصة لوجه العلم وهل بالرغم من ضآلتها بالنسبة لعمل الاستشراق الواسع في ابتعاث كتب التراث المتصلة بالفلسفة والتصوف الفلسفي والفرق المتصارعة والباطنية وغيرها فإنها عمل مشكور لهم ولكنه لا يشكل ظاهرة يمكن أن تحول دون الغرض الحقيقي للاستشراق بما يخدع به دعاة التغريب ذوي النيات الجسنة منقومنا.
وهذه مجموعة من الحقائق:
أولاً: المستشرقون يدرسون قضايا الإسلام (لغته وتاريخه وشريعته وتراثه) بروح غير علمية، تقوم إما على سوء الفهم أو سوء النية، وهم لا يتصورون أي شيء إلا في حدود مفاهيمهم المسيحية اليونانية وعقليتهم الغربية التي تعودت على ربط الظواهر الإنسانية بالجنس واللغة القومية والبيئة في حدود المفهوم المادي القائم على المحسوس ومن هنا كان الإنسان عندهم ظاهرة قومية نشأت عن ظروف اقتاصدية ومن شأن هذا التصور أن يجعل كا أحكامهم على تاريخ الإسلام وشريعته وقيمه خائطة ومنحرفة لأن الإسلام يقوم على تصور جامع بين الروح والمادة والعقل والقلب.
ثانياً: قدم المستشرقون كتابات أعطوها صفة العلم في مختلف المسائل الإسلامية تدرس في بعض الجامعات على أنها صورة صحيحة لما جاء في الشريعة الإسلامية من أحكام وقواعد، جاء بعضها محرفاً وبعضها لا يقيد حكمة الشارع ثم بولغ في تحريف مدلولاتها ومعانيها على نحو يتعذر معه فهم أحكام الإسلام على وجهها الصحيح.(65/1)
ثالثاً: أخضع المستشرقون تاريخ الإسلام لمفهوم المسيحية وتفسيراتها ثم أخضعوها لتفسيرات المادية الغربية ثم التفسيرات الماركسية.
رابعاً: دخل المستشرقون إلى مجامع اللغة وحولوا أهدافهم إلى مناهج براقة سواء في أحياء العامات أو الدعوة إلى تعديل النحو أو اللغة الوسطى أو الكتابة العربية المعاصرة وكلها محاولات ترمي إلى إيجاد فجوة بين لغة القرآن ولغة الكتابة.
ومن قبل ذلك تسللوا للبحث عن العاميات ولبسوا ملابس التجار والدبلوماسيين وصاروا يعملون بشتى الوسائل لجمع الأمثال العامية والمواويل بهدف مسموم هو القول بأن العامية لغة لها تراث.
وقد أولوا اهتماماً شديداً لدراسة اللهجات في البلاد العربية وعقدوا مؤتمراً خاصاً لذلك في مدينة ميونخ بألمانيا 1957 م وكتب المستشرقون في ذلك كتباً منها: كتاب في لغة الغجر في البلاد العربية ودراسات في اللهجات الأمهرية. السحرية والقطرية وغيرها من اللهجات المستعملة في جنوب الجزيرة العربية وعلى أطرافها.
والهدف في التركيز على اللهجات العامية واضح فهم الذين قدموا تلك الفلسفة الضالةة التي تقول إن العامية أقدر على تصوير المشاعر، مع أن هذه المشاعر التي تصورها العامية هي المشاعر الساذجة ومشاعر طفولة البشرية أين منها ذلك الشعر الرصين والبيان العربي الذي يحمل صور المجتمع الإسلامي والنفس الإسلامية في مراحل الرشد الفكري والهدف هو إضعاف لغة القرآن وتمييعها بالتحريض على استعمال اللهجات وتحطيم قواعد اللغة باسم التيسير.(65/2)
خامساً: أثار الاستشراق دعوات مسمومة للتشكيك في الإسلام والطعن في مبادئه وتشويه الحضارة الإسلامية. ومن ذلك دعوتهم إلى رفع لواء الإنسلاخ من الماضي والتراث وإحياء النزعات القديمة كالفرعونية والفينيقية والآشورية وأمثالها والغض من شأن الشعوب الملونة في العالم الإسلامي ووصفهم بأنهم أقل قدرة من الجنس الأبيض (الأوربي) في مجال السياسة والمدنية والعلم والفن. والعمل على فصل الدين عن الدولة وإبطال فريضة الجهاد وإثارة الشبهات حول القرآن بطرح سموم على أيدي مسلمين وتوحي ببشرية القرآن للتشكيك في أنه من الله تبارك وتعالى والقول بتأثر الثقافة الإسلامية بالعقلية الإغريقية والفارسية، وهم في سبيل ذلك يعملون على انتزاع نصوص معينة من سياق المصادر لتأييد وجهة نظرهم ويعملون على إثارة التناقضات بين النصوص والمصادر.
سادساً: المبالغة في تمجيد الحضارات الشرقية القديمة السابقة للإسلام والإدعاء بأن الإسلام أخذ منها والبحث عن الأثر الغربي والأوربي في الفكر الإسلامي والمبالغة في تحديده وإكباره وجعله شيئاً أساسياً بالرغم من أنه أقل من ذلك ومحاولة إرجاع العلوم العربية إلى أصول يونانية.
سابعاً: دراسة الحركات المضادة للإسلام والتوسع فيها كالفتن الأهلية والخلافات المذهبية ومظاهر التفسخ والانقسام والإدعاء بأنها أبرز ظواهر تاريخ الإسلام مع أن تاريخ الإسلام حافل بالإيجابيات ومراحل القوة والتمكن وأن هذه الصور قليلة جداً وموجودة في تاريخ جميع الأمم والحضارات.
ثامناً: يدرس الاستشراق خصائص الفكر الإسلامي بروح خصومه وبفكرة مسبقة قائمة على أحكام قوامها سوء نية وعجز عن الإنصاف، ويعجز الاستشراق عن أن يتخلص من عواطفه الخاصة وهو يدرس مجتمعاً مختلفاً ومنهجاً متبايناً مع فكره ومنهجه.(65/3)
تاسعاً: توسعة شقة الخلافات المذهبية بين المسلمين، بينما أن هذه الخلافات لم تصل إلى ما وصلت إليه بين فرق الأديان الأخرى وخاصة المسيحية لا في طبيعتها ولا في مداها فلا يوجد خلاف بين المسلمين على المبادئ الأساسية للإسلام مثل وحدانية الله ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم والاعتقاد في أن القرآن الكريم هو كلام الله والإيمان باليوم الآخر. وإنما وجد الخلاف في الأمور التفصيلية فيما يعد أمراً طبيعياً في مجتمع إنساني يضم أناساً من مختلف هذه الخلافات اختلافات مذهبية لأنها ليست إلا خلافات فقهية محصورة في إطار ديني وقانوني عريض.
عاشراً: حاول الاستشراق الغض من عظمة الدعوة الإسلامية بإثارة شبهات متعددة منها محاولة الإدعاء بوجود صلة بين الشريعة الإسلامية والقانون الروماني (وقد كشفت البحوث عكس دعوى الاستشراق فإن القانون الروماني الحديث مأخوذ من مذهب مالك نقله نابليون معه إلى أوربا) كذلك التشكيك في عالمية الرسالة الإسلامية بالقول بأن الآيات جاءت بعد استقرار الرسالة، والحقيقة أن آيات عالمية الرسالة كلها مكية، كذلك أثار الاستشراق الشكوك حول الكتب التي بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك وزعموا أنها وضعت في صورتها الأولى بعد قرن من حياة النبي صلى الله عليه وسلم وقد كذبتهم البحوث العلمية الحديثة التي أثبتت صحة هذه الرسائل.
حادي عشر: يذهب المستشرقون إلى أبعد حدود المغالطة حين يواجهون تاريخ الإسلام بأهوائهم فهم معجبون ببني أمية لأن أحدهم (أبا سفيان) كان عدو الرسول (ما كتبه هنري لامانس عن معاوية ويزيد).
أما عهد العباسيين فالدولة الإسلامية خرجت من يد العرب.
أما المغرب فيسمونها بلاد البربر وهذه التسمية دسيسة تافهة لأن أهل المغرب عرب وبربر ولكنهم مسلمون أولاً.(65/4)
وهم لا يتحدثون عن الملوك الذين وطدوا الدولة بل عن الخارجين (بني رستم الخارجين أيام عبد الرحمن الداخل وبني مدرار أصحاب سلجمار) ويقولون عن المأمون أن دولته فارسية ونهضة العلوم في عصره نهضة غير عربية، ولا يتحدثون عن الرشيد إلا عن نكبة البرامكة وينقلون رسالة مذوبة عن أبي يوسف إلى ابن المقفع في معماملة أهل الذمة لكي يؤكدوا ما يدعيه المستشرقون من سوء حالتهم في ظل الإسلام ويهتمون بمدرسة حران الفلسفية ويقفون طويلاً عند المعتزلة وينقلون عنهم رأي المسعودي دون غيره ويتحدثون عن المعتصم والأتراك، ويتخيرون فقرأت من رسالة الجاحظ في فضلهم لا يوردون فقرة واحدة عن فضل العرب. أما القرامطة فهم عندهم طلاب عدل وإصلاح ويروون قصة مصرع الخليفة المتوكل برواية الطبري وتفاصيل فتنة الزنج في جنوب العراق بواية النويري وقصة القرامطة برواية الطبري ويأتي بخطاب أحمد القرمطي إلى الخليفة المقتدر وهو خطاب يصورهم في صورة طلاب عدالة وإصلاح وعندما يتحدثون عن الدول المنشقة التي انتهت بالقضاء على وحدة الدولة العباسية: الصفاريين والسلمانيين والطاهريين والبوهيين ويطلبون الوقوف عندهم لأنهم دول فارسية، في كتابة تاريخ المغرب حاولوا الوقيعة بين البربر والعرب وفي المشرق حاولوا الإيقاع بين العرب والفرس. ويعجبون بالفاطميين لأن مذهبهم لم يلق قبولاً من جماعة المسلمين وعندما يتحدثون عن الصليبيين يفخرون بأنهم قتلوا عندما دخلوا القدس 65 (ألفاً) من المسلمين.
ثاني عشر: وضعوا أساس الشبهات ثم نسبوها إلى كتاب عرب ومسلمين فالشعر الجاهلي والأدب الجاهلي أساسهما بحث عن انتحال الشعر لمرجليوث، وكتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق أساسه كتاب عن الخلافة الإسلامية لمرجليوث. ومع المتنبي لطه حسين أساسه بحث لبلاشير، و...(65/5)
ثالث عشر: غلبة التفسير المسيحي على التحليل والعرض، فدرمنجم يقول أن تعاليم أهل الكتاب هي التي لفتت نظر سيدنا محمد إلى الكمال الروحي والمثل الأعلى وجعلته يتحنث في الغار وهذا كذب صراح، كما يحاولون تصور أن القرآن جاء من الكتب السابقة وأن الهجرة كانت إلى الحبشة لأنها مسيحية، والحقيقة أن الدافع الحقيقي ليس لأن النجاشي مسيحي بل لأنه كان عادلاً قال النبي: لأن فيها ملكاً لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق) ولذلك فليس للعاطفة الدينية أثر في تصرفاته وحاول درمنجم أن يستدل بأن الله رضي للناس الإسلام ديناً مع بقاء سائر الأديان التي سبقت وحدة مندمجة.
وهذا غير صحيح، لأن الإسلام جاء خاتماً للرسالات وداعياً أهل الكتاب للدخول فيه لأن دين الله الحق وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن متصلاً بأهل الكتاب.
ويدعي مرجليوث أن النبي محمداً كان يعرف القراءة والكتابة ويتخذ من آية (اقرأ) مع أن اقرأ لا تعني قراءة المكتوب وإنما تعني قراءة ما يوحي إليه.
ومن أخطائهم إدعاؤهم بأن العرب كانوا قبل الإسلام على استعداد للملك والنهضة وأن دور النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أكثر من قيادة جماعة مهيأة، وذلك باطل صراح فإن العرب في مكة أمضوا ثلاثة عشر عاماً في محاربة الدعوة الإسلامية والإصرار على عبادة الأصنام حتى هاجر النبي إلى مجتمع آخر هو الذي تقبل دعوته. ولقد كانت دراستهم لأحوال العرب قبل الإسلام هو الذي شكل للعرب وجودهم الحقيقي، وأن دعوة الإسلام غلى التوحيد كانت شيئاً جديداً بالنسبة للوثنية العربية.
وهذه محاولة مضللة في الاهتمام بالغساسنة والمناذرة وإعلاء الجاهلية واعتبار الإسلام اقتباساً منها.
ومن ذلك إنكار الوحي للوصول إلى القول بأن القرآن من عمل محمد صلى الله عليه وسلم.(65/6)
وكل محاولات الاستشراق في القول بأن الأفكار الأساسية للإسلام مستقاة من الكتاب المقدس، أو أن طابع الإنجيل موجود في القرآن أو ان هناك أصلاً يهودياً للإسلام (بروكلمان – فون كريمر – مونتجمري وات) أو بروكلمان فكل هذا باطل.
ذلك لأن مصدر الأديان السماوية واحد ولذلك فلابد أن تكون هناك علاقة مشتركة لأن الدين كله من عند الله وهو التوحيد ولكن رؤساء الأديان حرفوه، أما الإسلام فقد حفظه الله تبارك وتعالى.
وقد عجز المستشرقون مع الأسف – كما يقول محمد أسد (ليوبولد فابس) عن استيعاب خصائص التصور الإسلامي ومقوماته الأساسية ومن ثم فإنهم لا يستطيعون أن ينفذوا إلى أعماق الحياة الإسلامية ويستحيل على المستشرق أن يفهم الوحي، أو الهجرة، أو ينفذ إلى أعماقها لأنه بعيد بحكم تكوينه النفسي وتفكيره عن هذا النظام.
ولهذا اعتبر (توينبي) الهجرة مبدأ التدهور في تاريخ الرسالة المحمدية ويزعم مونتجمري وات حين يتحدث عن المعاهدة التي عقدها بين المسلمين واليهود بعد الهجرة أن كلمتي إسلام ومسلم لم تكن مستعملة في الفترة المبكرة من العهد المدني ويرجع هذا إلى أنه تجاوز في الترجمة وحرف.
ومن الشبهات التي يثيرها المستشرق فون كريم الإدعاء بأن الإمامين الأوزاعي والشافعي وقد ولدا في سوريا كانا على علم بكثير من قواعد القانون الروماني البيزنطي وقد ثبت أن هذا القول مجرد أسطورة فمن الثابت أن مدرسة بيروت لم تكت موجودة عند الفتح الإسلامي للشام وأن الشافعي والأوزاعي لم يعرفا القانون البيزنطي.(65/7)
رابع عشر: أن القول بأن مصادر النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن هي التوراة والإنجيل من المسائل التي يكاد الاستشراق يجمع عليها ويرددها من كانوا من مستشرقي اليهود أو النصارى والواقع أن هذا الاتهام باطل بدليل واحد أن مفهوم القرآن للتوحيد يختلف عن مفهوم التوراة المكتوبة بأيدي الأحبار أو الأناجيل الموجودة في أيدي الناس الآن فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم وحمل القرآن لواء الدعوة إلى التوحيد المطلق، كما يقول الدكتور عبد الجليل شلبي: إله العالم كله واحد. إله مجرد من المادة وعن التركيب. كان الإله عند اليهود (يهوه) وهو الههم وحدهم وقد ظلوا على ذلك ردحاً من الزمن حتى جاء النبي (إليجا) أول من جهر بأنه إله العالم كله وظهر بشيء غريب أيضاً على اليهود هو أن حكم الله يجري على الملوك كما يجري على أبناء الشعب ولهذا لم تكن الديانة اليهودية موحدة بالمعنى الحقيقي وإنما كانت ديانة توحيد بالنسبة لجيرانها فقد كان لدى الآخرين آلهة متعددة للزرع والمطر والخصوبة والنجوم كل له إله خاص، وإذن فالتوحيد الإسلامي نوع فريد في كل ما أعلن من صفات الله خالق الكون سبحانه.
المسألة الثانية: أن القرآن لم يذكر قط قصص الإسرائيليين بل ذكر قصص داود وصالح والخضر وشعيب وسبأ، أما الكتاب المقدس فقد اقتصر على ذكر شعيب المختار وتاريخه وهو لم يتم بوضعه الحالي إلا بعد القرن الثاني الميلادي.
ولأنهم ينكرون الوحي السماوي فإنهم يبحثون عن مصدر معلومات الثرآن ولا يزالون مختلفين. قال مونتجمري وآت: أن محمداً نال معلومات ممتزجة من اليهودية والمسيحية معاً، وبذل جهداً واسعاً في سبيل الاستدلال على ذلك، كذلك فعل (درمنجم) ولكن الوقائع في المقارنة بين القرآن من ناحية وبين التوراة والإنجيل تكذبهم في هذا الإدعاء العريض.(65/8)
خامس عشر: في محاولة لتأييد النفوذ الأجنبي الذي فرض القانون الوضعي كانت حملة الاستشراق على الشريعة الإسلامية، جولدزيهر وشاحت وغيرهم الذين كانوا ينشرون دعياتهم الرامية إلى القول بأن الفقه الإسلامي جامد ولم يتطور وسيبقى جامداً إلى الأبد وأنه لا يحتوي على قواعد عامة وإنما يتناول النوازل الخاصة.
وذهب بعضهم إلى القول بأنه لا يوجد فكر سياسي إسلامي، وإنما الذي عرفه المسلمون هو الفكر الفارسي واليوناني وقد كذبت الحقائق الناصعة دعاوي الاستشراق وكتب كثيرين كاشفين عن عظمة الشريعة الإسلامية وقدرتها على الاستجابة للعصور والبيئات وكيف أن للمسلمين فكرهم السياسي الخاص ومن أبرز هذه الدراسات كتابات الدكتور ضياء الدين الريس.
كذلك فإن مؤتمرات دولية من رجال القانون عقدت خلال القرن الرابع عشر الهجري شهدت بأصالة واستقلال وعظمة الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي، وأكدت أنها شريعة قائمة بنفسها ليست مأخوذة من غيرها وأنها خلافاً لما قال خصومها حية وقابلة لمسايرة الحياة الاجتماعية في إطار القواعد الثابتة وأن مبادئها لها قيمة حقوقية تشريعية لا مراء فيها.
سادس عشر: كذبت الحقائق دعاوي الاستشراق في أن التصوف الإسلامي أخذ من الافلاطونية الحديثة أو مذاهب المسيحية أو أن البلاغة العربية أخذت من كتاب الخطابة لأرسطو أو أن الفقه الإسلامي أخذ من مدونة جوستنيات.
كذلك كذبت الوقائع دعاوي الاستشراق وأتباعهم عن إسقاط الرواية الإسلامية لشعر عصر البعثة النبوية وما كان منه طعناً على الإسلام وهجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فإن الإسلام لم يصادر هذا الأدب والدليل ما رواه ابن إسحاق في السيرة النبوية من قصائد المشركين واليهود وهي لا تقل في الإحصاء عن قصائد الشعراء مع النبي وخاصة في موقعتي بدر وأحد.(65/9)
سابع عشر: ليس أدل على سوء نية الاستشراق في البحث من إصرار لويس ماسنيون على متباعة آثار الحلاج خلال أربعين سنة حتى نشر ذلك المجلد الضخم في 1400 صفحة ثم أخذ يتتبع متروكاته فطبع ما ورد عنه في الفقرات النثرية ثم نشر ديوانه الشعري وقد جمعها قطعاً من نحو مائة مؤلف بين مخطوط ومطبوع.
وقد ركز اهتمامه على المقاطع التي يوضح بها الحلاج اتحاده بالله بل معادلته له به (جل شأن الله عن ذلك وعلاً) كذلك ما حرص الاستشراق وأتباعه من إبراز الشخصيات المعادية للسنة وللإسلام مثل أبحاثهم عن مسيلمة الكذاب، وعن عيلان الدمشقي والإشادة بهما أو كذاب اليمن الأسود العنسي ووصف كل منهم بالبطولة مع أنهم جميعاً خارجون عن مفهوم الإسلام الصادق.
ثامن عشر: لقد تجمع في تحرير دائرة المعارف الإسلامية أخبث وأخطر رجال الاستشراق من يهود وغيرهم ممن يكنون الكراهية للإسلام ولذلك فقد حرصوا على صنع مواد الدائرة بمفاهيم كنسية ويهودية وتأخذ دائرة المعارف الإسلامية القصة اليهودية للعهد القديم في خلق آدم عليه السلام فيحيلها مصدراً لقصة آدم في دائرة معارف إسلامية.
كذلك فهم يأخذون وجهة نظر اليهود في إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويزيفون مفهوم فلسطين وعروبتها ويحاول الاستشراق اليهودي إعطاء فكرة للعالم أن فلسطين كانت يهودية قبل الإسلام.
ويعمل رونسون في ركتابه عن الرأسمالية والإسلام تشويه التاريخ الإسلامي ورفع العنصر اليهودي على حساب العرب.(65/10)
تاسع عشر: حرص الاستشراق على تصوير المجتمع الإسلامي في مختلف العصور وخاصة في العصر الأول على أنه مجتمع متفكك تقتل الأنانية رجاله، وهم في كل محاولاتهم المسمومة للانتقاص من الإسلام ولغته وتاريخه وتراثه يخضعون النصوص للفكرة التي يفرضونها مع تحريف حين لا يجدون مجالاً للتحريف وتجمهم في المصادر التي ينقلون منها فهم ينقلون من كتب الأدب ما يحكمون به في تاريخ الحديث ومن كتب التاريخ ما يحكمون به في تاريخه الفقه ويصححون ما نقله الدميري في كتاب الحيوان (وهو ليس ذا قيمة علمية صحيحة) ويكذبون ما يرويه مالك في الموطأ كل ذلك انسياقاً مع الهوى وانحرافاً عن الحق.
وهم يستخدمون كتب التراث استخداماً خبيثاً فيبرزون كل ما يفرق ويخفون كل ما يجمع ويغلب عليهم سوء الظن وسوء الفهم والهوى.
العشرون: يحاول كل من الاستشراق المسيحي خطة والاستشراق الشيوعي خطة مختلفة والاستشراق الصهيوني خطة ثالثة، كل منها يهدف إلى تحقيق غرض خاص ولكنها جميعاً تطبق على الإسلام بالعداوة والخصومة والحقد الدفين.(65/11)
(4)
الإسلام في وجه التيارات الوافدة والمؤثرات الأجنبية
عندما يرد على الخاطر أو اللسان كلمة التيارات الوافدة في هذا العصر تكون الإجابة السريعة أنها هي "الماركسية": الصيحة الأخيرة في العالم الإسلامي التي تشغل الباحثين وتحاول أن تزيف الفكر الإسلامي بما ألقت إليه في السنوات العشرين الأخيرة من نظريات ومفاهيم لم تقدم له على نحو يسمح بالنظر أو بالمراجعة أو تحت لواء البحث والاقتناع؛ وإنما قُدِمت تحت تأثير قوة قاضية فرضت هذا الفكر فرضاً ودقت أجراسه يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة، عن طريق كل الوسائل السمعية والبصرية، في نفس الوقت الذي عزل غيره تماماً وخاصة الفكر الإسلامي العربي الأساسي، ولذلك فإن التجربة كانت قاسية تماماً. ولقد أمكن أن يلتقي الفكر الليبرالي القديم والفكر الماركسي وأن يتصارعا في مساجلات متعددة، ولكن: لم يكن م حق الفكر الإسلامي (في ذلك الوقت) وهو صاحب الأرض أن يتدخل أو يعلن عن وجوده فكأنه مات تماماً.
ولكن هل هو مات حقاً ! محال، إنه على مدى تاريخه الطويل يواجه مثل هذه الأزمات ويخرج منها مشعاً مضيئاً كالذهب عندما يدخل النار.
لقد مكر الفكر الإسلامي منذ جاءت قوى الاحتلال الغربي بنصف التجربة وكان عليه أن يستكملها. فما دام العالم الإسلامي قد فرض عليه ذلك الأنموذج الغربي في السياسة والاقتصاد والقانون: الذي جاء في ركب الاستعمار، هذا النموذج الذي لم يستطع خلال أكثر من سبعين عاماً أن يحقق تقبلاً أو استجابة للنفس العربية الإسلامية وأثبت فشله الذريع في التطبيق، كان لابد وقد تدافع المتجمع الإسلامي إلى الغزو الماركسي أن يتعرف إلى ذلك النموذج ويطبقه ليرى هل يكون أكثر صلاحية، وقد كانت الاستجابة أكثر فشلاً وعجزاً؛ ذلك أن الماركسية ليست نظاماً مستقلاً ولكنها: رد فعل للنظام الرأسمالي الديمقراطي الليبرالي الغربي وجزء منه.(66/1)
ونحن نجد أنفسنا اليوم وبعد عشرين عاماً من التجربة الماركسية وبعد تسعين عاماً من التجربة الليبرالية: وقد حصلنا على نتيجة "الصفر المركب". وأحس العقل العربي الإسلامي أنه كان يعايش تجربتين فاشلتين بعيدتين كل البعد عن مشاعره وروحه وذاتيته.
بل إنه عرف من بعد أن سر (النكبة والهزيمة والنكسة) مِما حاق به في السنوات التي بدأت منذ 1948 وامتدت إلى 1967 إنما كان نتيجة هذا الاستسلام للتبعية لمنهج وافد عاجز عن تحقيق أي تقدم أو أمن لمجتمعه الأصيل الذي نشأ فيه، فكيف يكون مستطيعاً أن يحقق ذلك لمجتمع غريب عنه.
تلك هي الصورة التي تواجهنا اليوم بعد أن تحررنا من صورة الهزيمة ودخلنا في أفق معرفة النفس، والتماس الأصالة، وتأكيد الذاتية، وبلوغ الرشد والإحساس القوي بأن هذا وحده هو المنطلق الصحيح لمستقبل يتطلع إلى التحرر من كل تبعية وغزو واستعمار وسيطرة القوى الخارجية.
ولقد كشفت الأحداث فيما كشفت عن هدف واضح صريح: مَن وراء كل مخططات الغزو، ومَن وراء التيارات الوافدة جميعاً هو: "القضاء على الهوية" على الذاتية، على الشخصية، على ذلك كالطابع الأصيل الذي كونته عوامل العقيدة والثقافة والأرض والطبيعة جميعاً. القضاء عليه بالاحتواء والإذابة والعمل على صهره في البوتقة العالمية، التي تواجهه من جهاته الثلاث: استعمارية وصهيونية وماركسية، وتواجهه بالمادية والإلحاد والإباحية والقضاء على القيم والتاريخ واللغة والدين.
الهدف هو صهر هذه الأمة: المتفردة بذاتية التوحيد الخاص منذ أن براها الحق تبارك وتعالى لتكون علماً على فكرة الحق، متميزة بالفكر الرباني السمح في مواجهة زحف الفكر البشري المضطرب العاصف الحامل لكل الأخطار.(66/2)
ولقد استطاع الفكر البشري بنفوذه السياسي والعسكري والاقتصادي حين سيطر على عالم الإسلام وانحسر عنه ثمة، أن يترك فيه قواعده ومؤسساته وقواه، وتلك الأجيال التي تتابع تجربتاه معاهد الإرساليات من أبتاعه ودعاته الذين يحملون لواء التغريب والغزو الثقافي والشعوبية، أولئك الكارهون لهذه الأمة ولعقيدتها ولغتها والحاقدون على مكانها في الأرض، وعلى ما في يدها من ضوء (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره).(66/3)
ولكن التجربة التي بين أيدينا الآن قد أثبتت فشل الاتجاهين الليبرالي والماركسي، وفشل التقليد والاقتباس والتبعية التي وقع فيها عالم الإسلام حين حجب عن نفسه قيمه وتراثه ومفاهيمه، واتخذ أسلوباً وافداً في مجال القانون والتربية والاقتصاد والسياسية، ولم يتبين له فشل هذا الأسلوب إلا بعد أن ظهرت نتائج قاسية من الهزيمة والنكبة والنكسة؛ حيث تبين أن المسلمين قد عاشوا في خدعة بالغة شديدة حين تابعوا بغير تقدير وروية ذلك المنهج الوافد وغابت عنهم حيطة الأصالة والذاتية، حتى كادوا يفقدوهما، ولم يكن أسلوبهم هو أسلوب البناء على الأساس الصحيح، مع الانتفاع بخيرات الآخرين وتجاربهم، ولكن كانت تبعيتهم قد حالت دون تبين أي وجه للمنابع الأصيلة الأولى التي هي مصدر وجودهم وكيانهم، ومن هنا فقد قاسوا الأمور بمقاييس وافدة حجبت عنهم الرؤية الحقيقية وجوهر الأشياء والطريق الأصيل، فلم يلبث الجيل كله أن وقع في الأزمة الخانقة، والحيرة المظلمة، وقع في "مدلهمة عمياء" هي بمثابة نقطة تحول شديدة، وموقف حاسم، لا سبيل إلى تجاوزه إلا بإعادة النظر في كل تلك المسلمات والأساليب والمناهج التي لم تكن صالحة أساساً لليقظة أو للنهضة، والتي حاولت أن تقضي على النبت الحقيقي الذي كان قد حمل لواء اليقظة منذ أكثر من قرن ونصف قرن من الزمان، حين أنشأ التغريب "دائرته المغلقة" وشكل فيها أولئك الذين أسماهم قادة الفكر والثقافة والتربية والتعليم في سنوات الهزيمة والنكسة والذين جاءت على أيديهم تلك النتائج المفزعة الخطيرة.
ومن ثم فإن الماركسية ليست وحدها التحدي الأوحد وإن كانت هي أبرز التحديات التي تواجه عالم المسلمين اليوم: ذلك لأن الأفكار التي طرحتها خلال السنوات العشرين الأخيرة ما تزال تحتاج إلى تنفيذ وتمحيص وكشف عن سمومها وتعريف بزيفها ورفع لها من عقول الناس وقلوبهم.(66/4)
غير أن الوقوف عندها والاقتصار عليها يفوت على المسلمين خطراً ويفسح للقوى التغريبية المجال في ميادين أخرى كثيرة. والمعروف أن الليبرالية والماركسية مؤسسات واضحة ظاهرة يسهل التعرف عليها ومواجهتها ولكن جهداً كبيراً يجب أن ينفق لمواجهة المؤسسات الخفية المتسترة تحت أسماء العلوم والثقافة: وأخطرها الفرويدية والوجودية ومدرسة العلوم الاجتماعية.
وهي مدارس تسيطر عن طريق الجامعة، والثقافة والصحافة، وتدخل في مجال الدراسات العلمية كأنها رافد من روافد الفكر الإنساني بينما هي في حقيقتها أشد خطراً من الماركسية والليبرالية على السواء.
لقد تبين لعالم الإسلام أن التجربة السياسية أو الاقتصادية الغربية أو الماركسية كلتاهما قد لقيت الفشل الذريع، ولم تقبلهما النفس العربية الإسلامية، وقد وجدت فيهما تضاداً بينها وبين قيمها ومفاهيمها وذاتيتها. وقد أثبتت تجربة التطبيق السياسي الاقتصادي فشل المذهبية وعجزهما عن العطاء في المجتمع الإسلامي، ولكن هناك مذاهب ما تزال تتحرك في داخل المجتمع والنفس والأخلاق والتربية تكاد تكون كالمسلمات اليوم من شأنها أن تفسد بناء شخصية الإنسان المسلم على النحو الذي يجعله أهلاً للطابع الإسلامي الصحيح.
إن لنا في المجال العام: أمرين مازالا مضيعين: هما التربية الإسلامية والشريعة الإسلامية، وهما يفسحان المجال لشر كثير يأتي من ناحية المدرسة والمصرف والأسرة، ولابد من إجراء تغيير كبير بشأن تحقيق هذين الأمرين.(66/5)
ولكن هناك في المجتمع الإسلامي خطر يتزايد اليوم ويستفحل: ذلك هو بث السموم عن طريق القصة والأغنية والمسرحية والسينما وكل ما مِن شأنه أن يشكل موصلاً للبث الدائمة اليومي السريع، الذي يحمل معه تلك الأفكار المسمومة التي تتعارض مع مفاهيم الإسلام، والتي تظل تروى الناس في حوار القصص والمسرحيات حتى يظن الكثيرون أنها هي المفهوم الصحيح لعلاقات الرجل والمرأة، والآباء والأبناء، وما يتصل بالحب والزواج، وطريقة الحوار بين الناس في المجتمع، في التعامل العام والخاص، وقد وجد أصحاب التيارات الوافدة أن لقصة أصلح طريق لتوصيل مذاهب الملحدة والإباحية وأفكارهم المسمومة إلى قلوب الناس وعقولهم وهم في مرحلة الاستسلام والراحة وقبل النوم، وعلى نحو يكون فيه صاحب الأفكار هو الذي يقدم مفاهيمه دون أن يناقشه أحد في أمر صحتها أو فسادها، سلامتها أو اضطرابها: وأغلب من يستمع لذلك شباب المسلمين الغر البسيط الساذج، الذي لم تدعمه ثقافة إسلامية أصيلة يفهم بها الصحيح من الخطأ والحل من الحرام والحق من الباطل، ومن هنا فإن جهاز البث الممتد من أجهزة السمع والرؤية الدائمة والمسرح والسينما إنما تقدم للمجتمع الإسلامي أخطاراً عديدة، تدلف إلى القلوب غير مستأذنة وتتردد يوماً بعد يوم، وساعة بعد ساعة، فتسيطر وتتمكن، ولا تجد من ثقافة الإسلام الحقيقية ما يصححها وما يردها، وهي تقدم دائماً في أسلوب الحوار والقصص، وباللغة العامية، وبأشد عبارات العامية انخفاضاً، وكأنما انتقيت لها بأسوأ ما يتحاور به أقل الناس ثقافة وأكثرهم حماقة وجهلاً، من أهل الأحياء الموصومة بالعنف والحدة.(66/6)
تجري هذه الألفاظ على ألسنة الممثلين في المسرحية أو القصة أو الفيلم على نحو يزري بكل خلق وكرامة وأدب، فتحس كأنما الحياة بين الناس صراع عنيف ومغالبة بالكلمة المريرة، وقدرة على استعمال أسوأ المصطلحات والألفاظ، وتجد هذا كله قد أصبح يجري في مجال الحياة العامة فعلاً بين الناس بعد ذلك، في زحامهم بالناقلات، أو في شرائهم وبيعهم، أو في كل ما يلتقي فيه رجل برجل أو رجل بامرأة.
وإذا كانت الجريدة أو الكتاب تحمل الناس وجهات نظر قد تكون فاسدة أو منحرفة، فإن (القصة – المسرحية) أشد خطراً من الكتاب والصحيفة؛ ذلك أن الكتاب يقرؤه قلة والصحيفة يقرأ كل إنسان منها شيئاً من شئونه، أما القصة والمسرحية فهي تحت أبصار الناس وأسماعهم في كل ساعات اليوم، وخاصة ساعات الراحة والاستجمام والاسترخاء وهي أخطر لحظات الاستهواء.
وهكذا نرى أن التغريب خدمة للاستعمار والصهيونية والشيوعية يعمل على تفويض المجتمع والأسرة، والفرد ذاته وذلك بوضعه في مجموعة من الأفكار المسمومة عن علاقاته بالمجتمع والمرأة وخلق "أسلوب" عدواني من الصراع بين الفرد والفرد، والفرد والجماعة للقضاء على روح الإيمان والأخلاق التي يدعو إليها الدين الحق.(66/7)
وبحيث تخرج هذه المفاهيم الرجل والمرأة من "الحدود" والضوابط والقيم التي رسمها الحق تبارك وتعالى للبشرية من أجل إقامة المجتمع الرباني؛ فهي تهدف أول ما تهدف إلى طرح فكرة الانطلاق الإباحية الواسعة، التي لا تقف عند حد والتي تسيطر فيها الشهوات المادية من مال وشهرة واستعلاء وثراء دون أن يحسب حساب القيم الأخلاقية أو الضوابط الاجتماعية التي تحول دون الاعتداء على حقوق الآخرين، فالمرأة في هذه المفاهيم المطروحة ترى نفسها وقد احتقرت زوجها واستعلت عليه؛ لأنها تعمل وتكسب مثله، وبذلك فليس له عليها رأي أو قوامة، والولد يرى أباه بغيضاً إلى نفسه لأنه يرده إلى طريق الخير ويوجهه في هذه المرحلة الدقيقة التي لا يستطيع فيها أن يتصرف دون خطأ، والرجل يرى نفسه منطلقاً ليكسب من أي سبيل، ولينفق في كل لذة وغواية، دون تقدير أو حساب لمسئولية الزوجية أو الأسرة أو الأبوة، وهكذا تتمثل هذه المفاهيم في صورة حوار وقصص يطرح أمام الأجيال ما يخرجها من دينها وقيمها.
هذه أخطر التحديات
ولا ريب أن هذا الجانب الاجتماعي هو أخطر التحديات التي تفرضها التيارات الوافدة والمؤثرات الأجنبية التي عاشت تعمل في ميدانين اثنين: هما تدمير الأسرة والمجتمع الإسلامي وتدمير النفس الإنسان والعقل الإنسان، هنا بالإلحاد وهناك بالإباحية، وعن طريق أدوات الحضارة الحديثة أمكن إفساد المجتمعات بدفعها إلى طريق الشهوات والأهواء وإعلاء الغرائز والخروج عن دائرة المحرمات والضوابط، ولقد كان للإسلام موقف واضح صريح أمام الجوانب السلبية من الحضارة وهي رفضها وإنكار الاستسلام أو القبول لأسلوب العيش الغربي في مسائل الأسرة والمرأة والخمر والتحلل الخلقي.(66/8)
وأمامنا نتائج التجربة واضحة: فإن المجتمع الغربي حين اندفع خروجاً بالفردية إلى إسقاط حق المجتمع والأسرة والجماعة أو حين اندفع خروجاً بالجماعية إلى إسقاط حق الفرد والذاتية، حيث فعل ذلك في شطره الغربي أو ذلك في شطره الشرقي، فإنما جانب الأصالة والفطرة التي عملت رسالة دين الله الحق المنزل على إعلانها وإقرارها في المجتمعات والحضارات. وبذلك عمت هنالك أزمة العصر وأزمة الإنسان المعاصر الممزق نفسياً والمنحرف وذي الإحساس العميق بالغربة والقلق والغثيان.
ذلك لأن الطبيعة الإنسانية طبيعة جامعة بين مطامع المادة وأشواق الروح، فإذا أعطيت جانباً واحداً على النحو الذي تعطيه الحضارة الغربية اليوم فإنها تحجب الجانب الآخر وتعزل قطاعاً حياً في الإنسان لا يمكن أن يحيا بدونه.
وقديماً عرف الغرب الرهبانية وأعلى شأن الروحية وانعزل عن الحياة وأنكر الأسرة والمرأة والغرائز: غرائز الطعام وغرائز الدنس حتى فسدت الحياة فساداً شديداً، ثم هو في جولته الجديدة هذه ينحرف انحرافاً شديداً نحو المادة وإعلاء غريزة الطعام في الماركسية وغريزة الجنس في الفرويدية مع إسقاط الروحية والجوانب المعنوية إسقاطاً كاملاً.
ومن شأن المسلمين أن يوجهوا هذا الموقف مواجهة واضحة فيقيموا أسلوب عيشهم الاجتماعي الجامع بين الروح والمادة والعقل والقلب، وأن يقفوا من نزوة الجوانب المتصلة بالشهوات والغرائز والخمور والمخدرات موقفاً واضحاً في سبيل حماية كيانهم الفردي والإنساني ووجودهم الإسلامي في إطار تطبيق شريعتهم الإسلامية.
وليذكروا أنهم إنما يقفون في موقف الهدف المصوبة إليه النيران من جميع الجهات وأنهم في رباط دائم إلى يوم القيامة، وأن الأمم تزحف دوماً إلى أرضهم وتغزو وجودهم وكيانهم حتى تسيطر على مقدراتهم وتمتلك إرادتهم، وهم يواجهون هذا الخطر وهذا التحدي منذ ظهرت دعوة الإسلام ولا يزالون.(66/9)
وما يمرون به الآن من صراع مع القوى الصهيونية والماركسية والاستعمارية ليس إلا مرحلة من هذه المراحل تتطلب منهم أن يكونوا على أهبة دائمة ويقظة دائمة وأن يكونوا قادرين على بناء الأجيال على هذه المفاهيم وفطمها عن الشهوات وقبول حياة التضحية والخشونة حتى يكونوا قادرين على الوقوف في وجه الخطر.
وأبرز ما هو مطلوب اليوم هو الاعتصام بأسلوب العيش الإسلامي البعيد عن الترف والتحلل. فالمسلمون يعيشون في مرحلة الخطر، وفي موقف المرابطة الدائمة في وجه الخطر المحدق بهم من كل ناحية.
أما أسلوب العيش الغربي القائم على التحلل والإباحة والترف فإنه سوف يقضي على وجودهم حين تجتاحهم قوى الغزو، فلن يقدروا على الوقوف في وجهها أو حماية بيضتهم.
ولما كانوا أصحاب رسالة ودعوة وعليهم أن يطبقوا شرعتها عليهم، فهم مطالبون بأن يعيشوا حياة الدعاة، حياة الصمود والصبر والخشونة والتجلد، ومن ثم فإن أسلوب القصة والمسرحية ليس أسلوباً أصيلاً وليس منطلقاً صحيحاً لبناء الوجود الإسلامي في المجتمع العربي المعاصر.
وهنا وقفة متريثة حول الأصالة والتبعية:
إن الأخطار والتحديات التي يواجهها الإسلام والعالم الإسلامي كله إنما تنبعث من مصدر واحد هو: مطامع النفوذ الأجنبي في استبقاء السيطرة واستمرار الاستيلاء والحيلولة دون تحرر الإرادة الوطنية والقومية لتحقيق السيادة وبناء الأيديولوجية الأصيلة والمنهج الراسخ المستمد من القيم الأساسية والمنابع الأصيلة والمصادر الذاتي.
إن قضية البقاء الأجنبي في عالم الإسلام تتصل أوثق اتصال بالعمل على إذابة هذه الشعوب في البوتقة الغربية وإخراجها من أصولها وقيمها ومن تراثها وفكرها، ولغاتها وتاريخها وإسلامها إلى التبعية الكاملة.
وعن هذا الطريق يمكن القضاء على -منهج الفكر الإسلامي- القائم على التوحيد والمستمد من القرآن الكريم.(66/10)
ومن هنا يكون أخطر التحديات التي تواجه الإسلام والمسلمين اليوم والتي هي مصدر كل التحديات والأخطار إنما هو -الأصالة والتبعية- وفهمنا لها وموقفنا منها.
وإذا كانت تحديا الغزو الخارجي، وفي مقدمتها الغزو الثقافي قد تعددت في عشرات من القضايا والموضوعات والمفاهيم فإنها جميعاً يمكن أن ترد إلى قضية واحدة كبرى هي اليوم مجال التحدي الصحيح هي قضية الأصالة والتبعية.
فإذا تقرر رأينا فيها بوضوح وصدق أمكن على ضوء ذلك مواجهة كل التحديات والانتصار في كل المواقف والميادين.
وقد ركز النفوذ الاستعماري على هذه القضية بعد نكسة 1967 تركيزاً شديداً واعتبرها في مقدمة أهدافه، فحق علينا أن نلتفت إليها ونجعلها في مقدمة التحديات التي تواجه الإسلام والفكر الإسلامي والثقافة العربية -في هذا العقد الأخير من القرن الرابع عشر وأن الانتصار فيها هو مطلع النور للقرن الخامس عشر قرن انتصار الأصالة وهزيمة التبعية.
إن أخطر ما يواجه المسلمين والعرب أن المفكرين منهم يفكرون من داخل دائرة الفكر الغربي -وهذا هو سر أخطائهم، ومرجعه إلى ذلك التيار الضخم من التغريب الذي سيطر خلال السنوات الخمسية الماضية، فأول أهداف الأصالة هي التحرر من دائرة الفكر الغربي، ونقل التفكير كله إلى دائرة الفكر الإسلامي نفسه بمفاهيمه وقيمه الذاتية، ومزاجه النفسي والاجتماعي، إن لنا نظرية أصيلة كاملة في الاجتماع والنفس والتربية والاقتصاد فلنعرض عليها مواقفنا ولنعرض عليها مختلف ما يرد إلينا من نظرية الفكر الوافد، ولنظر إلى نظريات الفكر الغربي -بشقيه- على أنها نظرات تخص الآخرين استمدوها من بيئاتهم وظروفهم وتحدياتهم وعلينا أن نقف دائماً في ضوء فكرنا.
إن أي نظرية أو مذهب أو قضية يجب أن تعرض على أصول فكرنا العربي الإسلامي، ذلك أن فكرنا الجديد والمتجدد إنما يستمد نموه من جذوره، وهو في نفس الوقت مفتوح على الفكر العالمي والبشري.(66/11)
إن أبرز حاجاتنا في هذه المرحلة هي تحرير العقلية العربية من استبعاد الثقافات الغربية والوثنية.
إن من حقنا أن نراجع مفاهيم الغرب على القيم الأساسية التي نؤمن بها والتي قامت عليها حضارتنا منذ خمسة عشر قرناً متصلة ليس فيها انفصال، ما أشد حاجتنا إلى اليقظة من خطر الاحتواء والإذابة. هذا الخطر الذي نجا منه الجيل الماضي ويجب أن ينجو منه جيلنا أشد بصيرة ويقظة وحرصاً، إن هناك محاولة للانقضاض علينا لإذابتنا في البوتقة الكبرى .. بوتقة الشعوبية العالمية؛ لنفقد ذاتيتنا ومزاجنا الخاص ونصبح تابعين أولياء لثقافات لا تصدر عن مصادرنا.
إن أمتنا لها منهج فكر وفلسفة حياة فعليها أن تعرف ذاتها وأن تؤكد شخصيتها.
والإسلام بالنسبة لنا ليس ديناً فحسب؛ ولكنه أيضاً منهج فكر ونظام مجتمع، فلنواجه الفكر الغربي ومذاهبه مواجهة صريحة في كل قضاياه.
وقد يقال أن هناك التقاء بين الفكر الفرنسي والفكر الألماني والفكر الأمريكي، ولكن من الخطأ أن يدعى الفكر الإسلامي إلى هذا اللقاء، ذلك أن من الواضح أن هذه الثقافات ذات أصول واحدة، أما الفكر الإسلامي فهو نسيج مختلف له طابعه الذاتي، ومن هنا فليس من العسير أن يلتقي الفكر الغربي إلا في أصول عامة تتعلق ببعض الجوانب الإنسانية.
لقد استطاع الفكر الإسلامي في القرن الرابع والخامس أن يحطم قيد الاحتواء الإغريقي وأن يخلص منه، وأن ينتصر عليه، حيث عجزت ثقافات كثيرة عن أن تحتفظ بوجودها في وجه هذا الإعصار الخطير (إعصار الهلينية).
على المثقفين العرب أن يفكروا بلغتهم، وأن يتحركوا من داخلهم، وأن يتجاوزوا سارتر وفرويد وماركس جميعاً.(66/12)
أن أبرز أعمال المفكرين العرب والمسلمين في هذا العصر ومنطلق كفاحهم وغايته، هو -تحرير الفكر الإسلامي من هيمنة الثقافة الغربية والعقلية الوثنية اليونانية والباطنية القديمة، وهي نفس المهمة التي واجهت المسلمين من قبل وانتصر لها ابن حزم والغزالي وابن تيمية والأشعري وابن الجوزي والقاضي ابن العربي.
وذلك هو واجب أعلامنا ومثقفينا، وذلك تساؤلهم:
هل من حق الأمم أن تقبل كل ما يعرض عليها، وما هو مصير القيم الأساسية، هل هؤلاء المفكرون مبررون أم مصلحون، هل هم هداة أم نقادون في تيار كبير يريد أن يحتوي الفكر الإسلامي القائم على التوحيد المستمد من القرآن والذي يختلف عن الفكر البشري كله.
وإذا كان العالم اليوم تغزوه قوة شريرة هي -الصهيونية الماسونية العالمية- تريد تدميره فهل نقبل كل ما يقدم لنا. إن على مثقفينا مسئولية ضخمة هي –اليقظة- في مواجهة ما يقرأ، فلا يقبل كل ما يعرض عليه، وليجعل له مقياساً صادقاً لا يخيب ونافذاً لا يفل وصالحاً لا تفسده عوادي التحول من الأزمان أو التغير في البيئات، ذلك هو –القرآن- هذا النص الموثق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والذي قاوم كل محاولة لتحريفه، وعلى شبابنا أن يذكر أن كل ما يقال لا يؤخذ قضية مسلماً بها، وأن كل قول بعده يؤخذ منه ويرد عليه.
فالقرآن وحده هو الحق وليس بعده غير قول الرسول الصحيح فهو المعصوم بإذن ربه، وما بعد ذلك يعرض على القرآن ويقبل في ضوئه أو يرد.
كان منطلق اليقظة العربية الإسلامية يستمد مفهومه في فترة ما من معادلة تقول بالربط بين القديم والجديد، والماضي والحاضر، والشرق والغرب.
وكان هذا المنطلق، يمثل خطوة متعددة في طريق اليقظة بالنسبة للمفهوم السائد إذ ذاك والقائل بالقديم وحده أو الجديد كله.(66/13)
ولكن نظرية التعادل والتجمع بين القديم والجديد لم تلبث أن عجزت عن أن تحقق شيئاً وكانت نقطة الضعف فيها هي غياب القاعدة الأساسية التي يقوم عليها البناء. هذا فضلاً عن أن مرحلة النقل والاقتباس والترجمة والاستعارة قد مضى بها الزمن، وانتقل الفكر العربي الإسلامي في ظل التحديات التي واجهته بعد النكبة 1948 والنكسة 1967 إلى آفاق جديدة قوامها –بلوغ الرشد الفكري.
ومن هنا فقد كانت الدعوة إلى -البناء على الأساس- هي المنطلق الحقيقي لمواجهة الوافد وفرزه ومراجعته ونقده، هذه القاعدة التي يجب إقرارها أساساً. ثم استئناف حركة الربط بين القديم والجديد والماضي والحاضر والشرق والغرب في ضوئها.
ولما كان الفكر العربي الإسلامي على مر العصور متفتحاً على مختلف الثقافات والأمم؛ فقد كان ملازماً ذلك على طول هذا التاريخ قيام قاعدة أساسية ثابتة صامدة راسخة، هي التي تحمي الفكر والأمة من الذوبان والتحلل والتميع والانهيار.
ولما كانت صيحة الغزو الثقافي قد واجهت الفكر الإسلامي منذ اليوم الأول حين حاول عبد الله بن سبأ إخراجه من قيمه ومفاهيمه الأساسية، وتابعه على الطريق عبد الله بن المقفع ومن جاءوا بعده من الباطنية والشعوبية، وفي مقدمتهم –إخوان الصفا- فقد كان إقراره هذه القاعدة، قاعدة الأساس هي صمام الأمن في انطلاق الفكر الإسلامي وتطلعه إلى التطور والحركة.
ولقد عملت دعوة التغريب منذ اليوم الأول لتطويق ما عجزت عنه الحركة القديمة، واصطنعت نفس شبهاتها وإن كانت تحمل من الأساليب والأدوات ما هو أشد نفاذاً وأقوى وأعنف في سبيل زلزلة قوائم هذا الفكر وقواعده، رغبة في تذويبه في أتون الفكر الغربي، أو احتوائه على الأقل ودفعه إلى طريقة التبعية والعبودية للفكر الغربي.(66/14)
ومن هنا فإن –الأصالة- لم تعد في الحق عاملاً موازياً لعامل –الجديد- ليقوم الصراع بينها، ولكنها: هي قاعدة الأساس في البناء، ثم يقوم الاختلاف فيما فوقها حول التجديد أو المحافظة وحول الترجمة أو البعث، وحول مختلف القضايا التي تُثار من أجل تحرير الفكر العربي الإسلامي وتطويره ودفعه إلى الأمام، وإعطاء طبيعة الحركة لمواجهة المعاصرة والحدثية والتجدد.
ومن الحق أن الفكر الإسلامي له قوانينه الطبيعية التي تنظم له أمر تطوره وأمر حركته وأنها من قوانين أصيلة صحيحة مستمدة من جوهره، وقد كانت دائماً حاضرة أم تتخلف، وكانت قادرة دوماً على أن تمده بالتجديد والقدرة على الحركة والمواءمة مع الصور والحضارات والبيئات، دون أن يكون في حاجة إلى وصاية من فكر آخر، أو ثقافات أخرى لها أساليبها وقوانينها في التطور والحركة.
ولما كان الفكر العربي الإسلامي عميق الجذور، وبعيد الأعماق في التاريخ، وقد أمضى اليوم خمسة عشر قرناً حياً متألقاً متفاعلاً، مع الأزمنة والبيئات وقادراً على المواءمة والاستجابة فإنه ليس في حاجة لأن تصطنع له مناهج أو أساليب تستحدث من الثقافات الأخرى على النحو الذي يحاوله جاك بيرك أو مَن تابعوه دون إلقاء نظرة أوسع على الفكر الإسلامي في رحابته وأصالته وسعة آفاقه وعمق تراثه وبراعة مضامينه. وقاعدة الأساس في الفكر الإسلامي بسيطة سمحة غير معقدة وهي لا تخرج عن كلمة واحدة هي التوحيد، فلكل ما يصدم التوحيد يتعارض مع الفكر الإسلامي ويخالف مصادره الأساسية وهي الإسلام والقرآن وأن مراجعة يسيرة للتحديات والشبهات والأخطار التي تحشد لمواجهته وتحديه لا تخرج عن تراث وثني يوناني معارض كل المعارضة لطابع التوحيد، فأساس البناء هو التوحيد وهو مفرق الحق والباطل والحكم فيما يقبل ويرد.(66/15)
فالتوحيد هو طابع الذاتية العربية الإسلامية وقوام المزاج النفسي والاجتماعي، فالأصالة هي التوحيد، والوثنية هي التبعية .. وكل المفاهيم والفلسفات والمناهج والنظريات التي ردها الفكر العربي الإسلامي في جولة الغزو الثقافي الأولى والقائمة اليوم، هي مفاهيم الوثنية المتمثلة في بعض مفاهيم التفسير المادي للتاريخ، والوجودية والتفسيرات النفسية والاجتماعية والتربوية التي تقوم على أساس إنكار الدين وشجب الأخلاق وإنكار المسئولية الفردية والبعث والجزاء.
فالفكر الإسلامي يقيم دعائمه التي تصدر عنها ثقافاته ومفاهيمه وقيمه على أساس الترابط بين العمل والمسئولية، وبين الروح والمادة، والعقل والقلب، والدنيا والآخرة. فإذا انفصل هذا الترابطـ، سقط هذا الفكر في الوثنية وواجه ذلك الخطر الخطير الذي يدمر الفكر العربي والنفس العربية والحضارة العربية ويوقعها في أشد أزماتها خطراً.
والفكر الإسلامي يقيم قاعدته على أساس التوحيد والنبوة والإيمان بالغيب والبعث والجزاء ولا يناقض نفسه في هذه الترابط الأكبر بين علمي الغيب والشهادة، وبين الدنيا والآخرة، وبين المسئولية الفردية والحساب الأخروي.
وتلك عقدة العقد في -الأصالة ومقومها الأساسي- فإذا تقررت على هذا النحو وهي مفرزة فعلاً لا سبيل إلى تجاوزها أمكن إقامة التوازن بين الجديد والقديم والماضي والحاضر والشرق والغرب.
أنور الجندي(66/16)
الآفاق الجديدة للدعوة الإسلامية
الأستاذ/ أنور الجندي
أعتقد أنه أصبح من الضروري في هذه المرحلة الجديدة من حياة الأمة الإسلامية إعادة النظر في موقف الدعوة الإسلامية وتصحيح حركتها ومواجهة العقبات التي تحاول أن تعترض طريقها .
أولاً : لابد من العودة إلى اتخاذ موقف واضح في سبيل استعادة القدس باعتبار أن هذه هي القضية الأولى والأساسية التي يجب أن تحشد لها الجهود وتركز حولها الاهتمامات ، فهي قضية المسلمين جميعًا وليست قضية العرب وحدهم .
والمسلمون مطالبون جميعًا باستعادة الأرض المغتصبة ، فإذا لم يتمكنوا منها في مرحلة من المراحل أو لسبب من الأسباب فيجب أن تظل القضية قائمة ومثارة وموضوعة دائماً في دائرة الضوء .
ولابد أن يوجه لها المسلمون جانبًا من مقدراتهم لهذا الغرض التماسًا لحق الله تبارك وتعالى في موارد المسلمين مما يوجه لحماية الثغور وحشدها والقدرة على الردع واستعادة الأرض المغتصبة .
ثانيًا : التماس الوسائل التي تعيد للمسلمين وحدتهم وتحول دون الوقوع في الخلاف أو الصراع، وذلك بتقريب المذاهب والارتفاع فوق المسائل الفرعية والارتقاء في مجال القيم الكبرى الموحدة للمسلمين في دائرة التوحيد والنبوة وتحاشي كل ما يتعلق بالخلافات ، سواء أكانت قومية أو اقتصادية أو ما يتعلق بالدم أو الجنس أو العرق ، وليحذر المسلمون دائمًا المداخل التي يستطيع منها النفوذ الوافد الوقيعة بين عناصر المسلمين الذين تجمعهم دائرة الخطر، وليعلم المسلمون أنهم على مدى تاريخهم الطويل ماكانوا ليؤتوا إلا من خلال هذه الثغرة .
ويستطيع المسلمون أن يدعموا هذا الجانب ويسدوا هذه الثغرة عن طريق إدخال دراسات عن الوحدة الإسلامية الجامعة إلى مناهج التعليم والتربية من أجل القضاء على الخلافات وتفويت الفرصة على الخصوم وتقريب وجهات النظر .(67/1)
فقد كانت الدعوات الإقليمية والقومية على مدى السنوات الماضية بتوجيه من النفوذ الوافد عاملاً شديد الخطر على تقسيم المسلمين إلى عرب وفرس وترك وبربر ، ومن يراجع تاريخ العالم الإسلامي في العصور الحديثة بعد عام 1500 ميلادية يستطيع أن يكتشف مدى الخطر الذي حل بالمسلمين نتيجة الصراع بين العرب والترك وبين الترك والفرس وبين العرب والفرس ، علمًا بأن المصدر الحقيقي لهذه العناصر جميعها هو الإسلام ، الذي جاء به محمد بن عبد الله والقرآن المنزل بالحق، ولكن النفوذ الأجنبي كان حريصًا على أن يوجد أكثر من صراع بين أجزاء الأمة الإسلامية سواء أكان صراعًا يتعلق بالعنصر (أكراد – عرب – ترك – فرس) أو بالعقيدة (سنة وشيعة) أو بالمذهب الاجتماعي الوافد (قوميون وماركسيون وليبراليون).
وقد استشرت في فترة ما الأنظمة المستعلية بسلطان الفرد أو المستعلية بسلطان الفرد أو المستعلية بالسلطان القبلي وكان لها أثرها على اضطراب المجتمعات وظهور أزمات شديدة الخطر مما يتطلب التماس مفهوم الإسلام حول الشورى والعدل الإجتماعي فهو وحده القادر على حماية الأمة الإسلامية من المخاطر والمحاذير التي تحاول تدميرها.
ثالثًا : لقد أعطى الله تبارك وتعالى الأمة الإسلامية ثلاثة مصادر أساسية للثروة : هي الطاقة وثروة الركاز والتفوق البشري ، وهي بذلك في موضع الامتحان لحماية مقدراتها مما يمكنها من رد العدوان عن أراضيها ، ولقد آن الأوان لكي تقوم في بلاد المسلمين صناعات كبرى تنفق فيها من فوائض الأموال وذلك حتى يتحقق للمسلمين إقامة فريضة من أكبر فرائض الإسلام أهمية وهي الزكاة .
ولقد دعت بعض الدول الأوروبية المسلمين إلى استقطاع مبالغ تساوي 20 في المائة من مدخراتها للإصلاح الاجتماعي الشامل ، ولم يكن المسلمون في حاجة إلى توجيهات خارجية ، فإن الإسلام قد شرع للحكومات تخصيص زكاة الركاز (وهي تساوي 20 في المائة) للارتفاع بمستوى المجتمع الإسلامي .(67/2)
رابعًا : من أخطر الظواهر التي يجب أن تعالج بواسطة مؤتمر إسلامي عالمي : ظاهرة قيام الحرب بين عناصر الأمة الإسلامية بعد أن كانت الحروب تقوم على مدى التاريخ الإسلامي بين المسلمين وبين أعدائهم وخصوم دينهم .
ويتطلب هذا الأمر دراسة العوامل التي فرضتها المفاهيم الوافدة حول الخلافات الفكرية والعقائدية ومدى تباين وجهات النظر بين النظرتين القومية الغربية وبين مفهوم العروبة الإسلامية .
خامسًا : مازال المجتمع الإسلامي يتطلب من الحماية مايحول بينه وبين استغراقه في وسائل التدمير الخلقي والاجتماعي بتفشي الخمور والمخدرات والسهرات الصاخبة والتصرفات الفاجرة التي تزخر بها بعض الفنادق والبيوت .
ولعل عبرة التدمير التي وقعت في بعض الأماكن من شأنها أن تنبه المسلمين إلى هذا الخطر .
سادسًا : النهضة العسكرية القائمة على التدريب والنضال وحمل السلاح يجب أن تستمر بصورة أكثر اتفاقًا مع أوضاع السلام دون أن يوقب نهائيًا ، فالشباب العربي والمسلم في حاجة إلى أن يكون على تعبئة دائمة ومدربا تمامًا على الظروف الحرجة والمفاجئة ، وأن لا يركن أبدًا إلى التراخي والاستسلام والأمن الخادع الذي كان يعيشه شبابنا في بعض البلاد الإسلامية في المرحلة السابقة، وليعلم أن عليه مسؤوليات جساما ولا تزال أمامه قضايا معلقة في حاجة إلى تربية قدرته القتالية.
ولا ريب أن الآمال التي كانت منعقدة على الدعوة الإسلامية قبل حرب الخليج قد ازدادت وتضاعفت ، وتأكد أن الوجهة الإسلامية هي الملاذ الأكبر للأمة الإسلامية لإخراجها من جميع أزمات اضطراب الشورى والعدل الإجتماعي ، وما تزال هناك ثغرات لا يستطيع سدها إلا الإسلام .(67/3)
فالإسلام هو مفتاح الوحدة الإسلامية الجامعة المرتجاة ، والتي هي وحدها المخرج الحقيقي للعرب من أزمة الصراع بين الأقليات والقوميات وليس هناك إلا منطلق واحد وهو أن يكون النظام الإسلامي هو السبيل الوحيد ، للعمل وذلك بعد أن انهارت المذاهب العلمانية والشيوعية ولم يعد للمسلمين والعرب من منطلق حقيقي إلا من خلال مفاهيمهم وقيمهم وعقيدتهم وتراثهم .
واليوم تتطلع قوى المثقفين والمفكرين الغربيين إلى الإسلام كمنقذ للحضارة الإنسانية وتنتظر من المسلمين والعرب أن يطبقوا منهج الإسلام ، حتى يستطيع العالم أن يرى سلامة التجربة التي أعطت العالم ألف سنة كاملة خير عطاء في مختلف مجالات النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية .
ولقد تبين أنه لم يعد في الإمكان أن يظل المسلمون والعرب سائرون في دائرة التبعية ، وأنهم يجب أن ينطلقوا إلىعصر الرشد الفكري الذي يمكنهم من حق التصرف في مقدراتهم وبناء نواة عربية إسلامية أساسية للاقتصاد العربي الإسلامي وحماية مواردهم من أن تستهلك بمفهوم غير إسلامي حماية لنعم الله تبارك وتعالى من أن تكون وقودًا للترف والاستعلاء وزخرف الحياة الدنيا .
إن كل الأحداث التي مرت وتمر بنا في السنوات الأخيرة من حروب (إيران والعراق – لبنان – حرب الخليج) لابد أن تدفعنا إلى التعرف على منهجنا وموقف الإسلام الأصيل فهو وحده القادر على إخراجنا من تلك الأزمات المتلاحقة وإقامتنا في مكاننا الحق .
إن أهم ما يجب أن نتوجه إليه اليوم هو إقامة المشروع الحضاري الإسلامي بعد أن فشلت الأفكار والخطط والتنظيمات التي حاولنا أن نقتبسها من الفكر الأممي سواء في مجال حكم الفرد أو احتكار السلطة أو تقيد الدكتاتوريات والأنظمة الشمولية .(67/4)
إننا في حاجة ماسة إلى التماس (تكامل العروبة والإسلام) والانفتاح بينهما ونسيان صفحات المآسي والمرارة التي امتدت على مدى التاريخ بين أمة لا إله إلا الله تحت وسوسات الغرب الحريص على تمزيقنا عربًا وفرسًا وتركا ، أو سنة وشيعة أو ليبراليين وماركسيين وقوميين ، وعلينا الانطلاق من حدود الوطن العربي إلى ساحة الأمة الإسلامية ، فهي المنطلق الحقيقي لبناء الحضارة الجديدة المستمدة من القرآن الكريم وشريعة محمد بن عبد الله رسول الله الخاتم وخاتم رسالات السماء والدعوة العالمية الخالدة .
لابد من ثلاث :
1- التنمية العربية الإسلامية المستقلة .
2- الطابع العربي الإسلامي المميز .
3- بناء القدرة العسكرية العربية الإسلامية القاصرة على الردع ودفع العدوان وإعداد الشباب المسلم لمهمة الرباط في سبيل الله ، ولا ننسى أولاً وأخيرًا حق بيت المقدس علينا في تخليصه من الغاصبين وإزاحة خطر إسرائيل الجاثم على قلب الأمة الإسلامية .
***(67/5)
الانقطاع الحضاري
الأستاذ أنور الجندي
تجرى محاولة خطيرة ترمي إلى ردة العالم الإسلامي إلى كيان وهمي قديم، وإعطائه صفة الاستمرار التاريخي تحت اسم: حضارة السبعة آلاف سنة الفرعونية والفينيقية والفارسية والهندية وتجرى محاولة لإحياء هذه الحضارات القديمة.
والحق أن هذه الدعوة تتجاوز حقيقة تاريخية أكدها المؤرخون المنصفون، وهي أن الإسلام بظهوره وانتشاره قد قطع العلاقة بين الأمة الإسلامية وبين هذا التاريخ الوثني القديم، وكل ما يتصل به من لغات وأديان وحضارات. ولقد قرر الباحثون الثقات بأن الإسلام كان عامل التصحيح الحضاري مع هذه الحضارات القديمة، وبين الأمة التي دخلت بعد ذلك في الإسلام.
استمرار الحنيفية:
والواقع أن الاستمرارية الموهومة التي يحاولون جمع خيوطها ليست هي استمرارية الفرعونية أو الفينيقية أو غيرها وإنما هي استمرارية (الحنيفية الإبراهيمية) التي بدأت بها الدعوة إلى التوحيد، والتي كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ختاماً لها، وانقطاعية عما سواها، هذه الانقطاعية الواضحة في تاريخ البلاد العربية كلها منذ جاء الإسلام، وبعد ألف سنة من اليونانية والرومانية الوثنية.
لقد كان الإسلام هو الخط الفالص الحاسم في تاريخ الإنسانية، فقد قطع الامتداد الفكري والاجتماعي والثقافي بين ما قبل الإسلام وما بعده، قطعه عن العرب أولاً ثم في كل مكان ذهب إليه، وقد ذهب الإسلام إلى كل مكان وأثر في جميع النحل والأقطار. قطع امتداد الوثنية في العالمن كله من ناحية العقائد والملل، وقطع امتداد العبودية في العالم كله في الحضارات والأمم. فقضى على استرقاق العبيد في حضارات البراهمة والفرس والفراعنة والرومان. وقضى على قيصر وكسرى جميعاً.
ماذا تعني العودة:
وبعد، فماذا تعني العودة إلى ما قبل الإسلام: هل هي ممكنة؟؟ وما هو مفهومها؟؟(68/1)
إن الباحثين الذين حملوا لواء الدعوة إلى الفرعونية أو الفينيقية أو غيرهما، لم يجدوا أي خيوط يمكن أن تشكل تراثاً أو لغة أو ثقافة أو "فكروا" كما يقولون.
بل تبين لهم أن كل الحضارات البابلية والآشورية وغيرها هي حضارات عربية حنيفية الأصل، وقد كشفت بين الفراعنة والعرب، أو الفينيقيين والعرب. وذلك في سبيل تمزيق المسلمين إلى أمم وعناصر، وكشفت الأبحاث الجادة عن زيف هذه الإدعاءات، وتعينن أن المصريين الأولين وفدوا من بلاد العرب وعبروا البحر الأحمى، ونزلوا عند حدود الحبشة ثم تدرجوا إلى أن هبطوا وادي النيل، وأسسوا دولتهم. وقد أحصى المرحوم الأثري الكبير أحمد كمال باشا ما يزيد على خمسة آلاف كلمة متصلة الجذور بين العربية والفرعونية.
وما يقال عن الفراعنة يقال عن الآشوريين والبابليين والفينيقيين، فهم جميعاً موجات خرجت من الجزيرة العربية وإنماعت في هذه المنطقة الممتدة من العراق إلى الشام إلى مصر إلى أفريقيا، وإن هذه الموجات توالت في خلال فترات طويلة من القرون المتوالية قبل الإسلام، وكانت ممهدة للموجة الإسلامية الضخمة التي حملت لواء الإسلام والتي وجدت – عندما تمددت – جذوراً لها في هذه المنطقة.
الإسلام حول مجرى التاريخ:(68/2)
أما الانقطاع التاريخي بين ما قبل الإسلام وبين عصر الإسلام فإن أمره واضح ويعترف به حتى من هو أشد المؤرخين الأوربيين تعصباً فإن (هنري بيرين) مؤلف كتاب (محمد – صلى الله عليه وسلم - وشارلمان) يقرر: "أن الإسلام هو القوة الهائلة التي حولت مجرى التاريخ الأوربي، وأن العصر الوسيط والنهضة الحديثة، ثمرتان من ثمار الإسلام، وإن ما يقال من أن سقوط الامبراطورية الرومانية هو العامل المؤدي إلى هذا التحول في التاريخ هو قول خاطئ فإن هذه الشعوب كانت من هوان الشأن، وضيق الحياة، إلى درجة تجعلها تنظر إلى الرومان نظرة العبيد إلى السادة، فما كان يخطر لها – بل ما كانت ترغب أبداً – في أن تناوئ روما وتقضي عليها".
أما المسلمون فكانوا يعتقدون أنهم أرقى وأسمى من الرومان في جميع أساليب الحياة، ولاسيما من الناحية الدينية التي كانت مبعث قوتهم ومصدر تربيتهم، فلم يحجموا عن منازلة الرومان ليقضوا على سطوتهم وسيادتهم وقد ظلت الدولة الرومانية قائمة، وظلت حضارتها باقية، وكل ما حدث أن انتقل مركزها الرئيسي من روما إلى بيزنطة "القسطنطينية" وأصاب حياتها العقلية والمادية شيء من الركود والفساد.
ولكن لم تكد تهب (رياح الإسلام) وتسير ركائبه إلى أراضي اليونان، حتى تلاشى ما كان لهم من المعالم والآثار، وقامت دول جديدة وظهرت حضارة جديدة، حاصرت أوربا من الشرق والجنوب والغرب "بعد فتح الأندلس". فاضطرت ملوكها إلى أن يوجهوا أنظارهم إلى الجزء الشمالي من أوربا حيث قامت المعارك التي كتبت تاريخ أوربا في العصر الوسيط. وإبان العصر الحديث.
أما الجزء الجنوبي من أوربا فلم تقع فيه – في تلك العهود – معارك إلا معركة (بواتيه) التي انتصر فيها شارل مارتل على جيش الأندلس بالخيانة والغدر لا بالقوة والبأس.(68/3)
فلولا ظهور الإسلام لظلت الامبراطورية الرومانية قائمة، وأن انتقل مركزها من الغرب إلى الشرق، ولظل البحر الأبيض المتوسط بحراً رومانياً – بل قد سمى فترة بحر الروم – ولما قامت الثورات القومية التي خلقت أوربا الحديثة ولا الثورات الفكرية التي تمخضت عنها الحضارة الراهنة.
وهكذا نجد أن الإسلام قد غير العالم كله.
صفحة جديدة:
لقد فتح الإسلام – حين جاء – صفحة للبشرية، من حيث "عالمية" الرسالة وخلودها، ودعا الأمم القائمة إلى الدخول في دين الله: لأنه هو الدين الحق، بعد أن زيف رؤساء الأديان مفهوم التوحيد، ولقد أعلن الإسلام وحدة الدين، ووحدة البشرية، والتوحيد الخاص، فحطم الوثنية والأصنام، وعبادة غير الله، وقدم للبشرية منهج الإخاء الإنساني، فقضى على العبودية الفرعونية والقيصرية، ودعا المسلمين إلى النظر في الكون فأنشأ (المنهج العلمي التجريبي) الذي هو قاعدة الحضارة العالمية اليوم، ولقد استطاع الإسلام لأنه الفطرة والحق، وضياء النفس البشرية الأصيل، أن يزحف في خلال قرن ولا يزيد، حتى سيطر على ثلاث قارات آسيا وأفريقيا وأوربا: من الصين إلى حدود نهر اللوار على اللغات والأديان، ونقل العالم كله إلى نور التوحيد، ونفذ بأشعته إلى قلب أوربا، فحررها من الوثنية والرهبانية والمادية، وأدخلها إلى عصر النهضة. وبذلك كان الإسلام هو العامل الأكبر. الذي أدخل العالم كله إلى العصر الحديث.
وعبر الإسلام الشاطئ الشرقي والجنوبي للبحر المتوسط فأدخله في السلم كافة، وقامت فيه كلمة التوحيد وامتدت نحو آسيا فأخرجت القبائل التركية فيما وراء النهر من الوثنية. وواصلت زحفها إلى الصين، وفي الغرب اقتحم الإسلام الأندلس، ووصل إلى نهر اللوار ثم لم يلبث أن اقتحم من البلقان حتى وصل إلى أسوار فينا. بل تعداها إلى جبال الصرب والكروات.
ودخل الناس في دين الله أفواجاً:(68/4)
من هذا كله نجد أن الغسلام كان عامل انقطاع حضاري عميق المدى. بين حضارات الفراعنة والرومان والفرس والهنود. فبعد ألف سنة عاشتها هذه المنطقة بين يدي اليونان والرومان. انداح فيها الإسلام، ولم تلبث بعد عقود قليلة من الزمان، أن تحولت إلى رسالة التوحيد فنسيت لغاتها وأديانها ونحلها القديمة وأقبلت على الإسلام إقبالاً تاماً، ومع أن الإسلام حين سيطر على هذه المناطق لم يفرض عليها دينه، وإنما أقام حكمه العادل، وأفسح أهل الكتاب الحرية الكاملة في حياتهم الدينية، وحمى معابدهم وفتح لهم آفاق العمل في مختلف المجالات في سماحة ورحمة، غير أن الطوائف العربية الداخلة في هذه البلاد سرعان ما انصهرت في البيئات التي عاشت فيها، ولم تستعمل عليها استعلاء سلطان أو استعمار، وإنما تآخت معها وأصهرت إليها، ومن ثم فقد دخل الناس في دين الله أفواجاً، عندما تبينوا أن ذلك الحكم السمح العادل الذي حررهم من مظالم الرومان، هو من عند الله، لذلك فقد دخلوا في الإسلام الذي كانت جذوره موجودة في أعماقهم وضمائرهم. منذ رسالة الحنيفية الإبراهيمية. التي جددها محمد صلى الله عليه وسلم، واتصل بها بعد أن انحرفت.. في مرحلة ما بينهما (ثم اوحينا إليك أن ابتع ملة إبراهيم حنيفاً) النحل: 23.
ومن هنا فإن الانقطاع ليس إلا عن المرحلة القصيرة التي تعثر فيها طريق الحنيفية العنصرية، وكان هذا أمراً طبيعياً في التاريخ فمصر العربية قد انقطعت عن مصر الإبراهيمية، وكذلك فإن سوريا العربية قد انفصلت عن سوريا الفينيقية، والعراق العربي قد انفصل عن العراق الآشوري والبابلي، وبالإسلام عادت سيرتها الأولى إلى الربط بين الحنيفية الإبراهيمية والحنيفية المحمدية.
الجري ضد تيار التاريخ:(68/5)
وحين جرت المحاولات في العصر الحديث لإعادة البلاد العربية إلى تاريخها قبل الإسلام بإحياء الفرعونية والفينيقية والآشورية، فشلت هذه المحاولات فشلاً ذريعاً، لأنها كانت تجرى ضد تيار التاريخ.
ويصور هذا المعنى العلامة علال الفاسي حين يقول "إن العمليات التاريخية التي سبقت بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن إلا تمهيداً لإبلاغ الإنسان رشده عن طريق إكمال الدين، بوجود محمد خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم بدعاً من الرسل، فقد سبقته نبوات ورسالات، كما سبقته دعوات ربانية تشمل كل بقاع العالم، ولكنها لم توفق إلى البقاء، وأصابها الانحراف الذي يستوجب أن تجدد وتصلح ثم انفتحت آفاق التقدم الإنساني ففكان لابد أن يبعث الله الرسول الخاتم. وكانت مهمة النبي صلى الله عليه وسلم أن يضع الناس في جو الرشد المبني على العققل والروح، على القاب والجسم، ومن هنا فإن كل ما سبق من عمليات التاريخكان يهدف لغاية واحدة هي وجود الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم، وبذلك يصبح الماضي وكأنه ما قبل التاريخ، أما التاريخ الصحيح فيبدأ بالمجتمع الإسلامي، والبشرية كلها مخاطبة لتسير وفق ما ترشد إلى ناموس الكون وما بني عليه هذا المجتمع.
هذه هي قصة الاستمرارية والانقطاع في تاريخ العربية الإسلامية، انقطاعية ألف سنة عن اليونان والرومان والوثنية، والحقيقة أن الاستمرارية هي استمرارية دين إبراهيم أبي الأنبياء. وانقطاعية كل ما سواه من محاولات عنرصةي وقبلية وعرقية وقومية. حاولت أن تخرج بالرسالة الخالدة عن هدفها الأصيل وغايتها الكبرى.
ولذلك فليست هناك استمرارية فرعونية، أو بابلية، أو آشورية، أو فينيقية وإنما هناك استمرارية التوحيد الخالص وميراث إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وكلها على طريق الله الحق.
وذابت الأعراق:(68/6)
لقد ذابت كل القوى التي حاولت أن تسيطر على المنطقة الحنيفية الإبراهيمية، لقد ذهبت العنصرية وبقيت العقيدة الخالصة، وانصهرت القبلية والعرقية كلها في دعوة الله الخالصة. وأن الوحدة التي التقى عليها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها. هي وحدة العقيدة والفكر والتوحيد الخالص ولغة القرآن. ولقد انهزمت كل عوامل العنصرية. والعرقية أمام قوة العقيدة والفكر، التي غلبت على فكرة الدم والنسب. وغلبت لغة القرآن على كل اللغات القديمة. حتى اضطر النصارى إلى ترجمة أناجيلهم إلى اللغة العربية بعد أن ماتت القبطية والسريانية والآرامية التي كان المسيح عليه السلام يتحدث بها إلى معاصريه.
إن الارتباط بين الحنيفية الإبراهيمية والرسالة المحمدية هو التصحيح السليم للاستمرارية. بل هو التفسير الأصيل للترابط الأكيد الجامع بين عصور هذه المنطقة وأجزائها الجغرافية والتاريخية، وهو ما تعمد المحاولات التغريبية واليهودية إلى التأثير فيه، وذلك حين تشكك المصادر اليهودية: في مجيء إبراهيم إلى مكة وبنائه البيت الحرام مع إسماعيل وذلك بسوء نية. وهم يهدفون إلى نفي الرابطة الجامعة بين إبراهيم وإسماعيل، وبين محمد عليهم الصلاة والسلام ورسالة الإسلام الجامعة الخاتمة. التي هي رسالة الإسلام الممتدة منذ آدم عليه الصلاة والسلام ونوح.
لقد عمد الاستشراق إلى تزييف العلاقة بين الحنيفية الإبراهيمية وبين الغسلام، وإثارة الشكوك حول إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، على النحو الذي قال به الدكتور طه حسين في كتابه الشعر الجاهلي حين أنكر وجود إبراهيم وإسماعيل، بالرغم من ثبوت وجودهما في التوراة والقرآن وإن كانت الأحداث لم تلبث إن كشفت زيف ما دعا إليه طه حسين حرياً وراء الصهيونية في دعواها بعد ظهور الحفريات التي كشفت عن كثير من آثار إبراهيم وإسماعيل وأبناء إسماعيل في شمال شبه الجزيرة العربية وحول الكعبة.(68/7)
ومن الأسباب التي تدعو إلى إنكار الحنيفية الإبراهيمية، أنها يدخلها الكردي والرشكسي والبربر والمسيحيون، وهم يهدفون إلى إعلاء العنصريات للقضاء على هذه الوحدة التي هي "عربية اللسان" ولقد أكد هذا المعنى رسول الله صلى الله عليه في قوله:
"ليست العربية بأجدهم من أب ولا أم وإنما هي اللسان فمن تكلم العربية فهو عربي إلا أن الالعربية اللسان إلا أن العربية اللسان" رواه الحافظ ابن عساكر بسنده من مالك.
دعوة البغضاء:
إن الدعوة المسمومة إلى إعادة بعث الإقليميات والعنصريات القديمة، إنما تهدف إلى إذكاء البغضاء والأحقاد بإثارة الفرقة، بينما تقوم استمرارية الحنيفية السمحاء على وحدة الفكر والعقيدة، وهي الوحدة الحقيقية وليست دعوى اللغة والتاريخ والأرض التي يحمل أواءها العلمانيون الشعوبيون.
…………………………أنور الجندي(68/8)
البطولة في تاريخ الإسلام - 21
الأستاذ أنور الجندي
في تاريخ الإسلام تتكشف البطولة في ثلاثة أبعاد:
- بطولة الحرب والمقاومة ورد الغزاة.
- بطولة الفكر وتصحيح المفاهيم.
- بطولة بناة الدول في مجال الحضارة.
وهي بهذا تكاد تسيطر على تاريخ الإسلام كله للذي يجري في هذه الأبعاد الثلاثة، والواقع أن الإسلام قد رسم أيديولوجية جديدة لها طابعها الخاص، تتسم بالإيمان بالله وقوامها الجهاد في سبيل كلمته وإقامة حياة الفرد والجماعة على أساس العمل المتقدم البناء في مجال الإنشاء والحضارة، ونم خلال هذا المفهوم تتمثل النظرة إلى الحياة والمال والموت والجزاء
ومن هنا برزت "البطولة" التي تمثلت في شخصيات نموذجية أهدت حياتها لتحقيق رسالة الإسلام في الدعوة إليه والدفاع عنه وتصحيح مفاهيمه ورد عادية خصومه عن قيمه وعن أرضه.. ومن هنا كان مفهوم "الجهاد" لا يتوقف على الحرب وحدها وإنما يتسع نطاقه حتى يشمل مجال النشاط الإنساني كله ما دام هدف الحياة الإنسانية الأساسي هو تحقيق رسالة الإسلام ودعوته.
هذا هو التغيير الخطير الذي أدخله الإسلام على مفاهيم الأمة التي بزغ فيها ضوؤه وهي أمة مهيأة بالفطرة لتقبل رسالة عظمى كهذه الرسالة ولما كانت حركات التاريخ كلها تتمثل في أمم وجماعات تكون بطبيعتها معدة إعداداً نفسياً وبيئياً ووراثياً لحمل رسالة معينة، فإنه من خلال هذه الجماعة تبرز بطولات الأفراد التي تخطو بالعمل خطواته المنوالية.(69/1)
كذلك فإن الأمة العربية بطبيعة تكوينها وبيئتها ووراثياتها، وهي تعيش في هذه الجزيرة الضيقة المنعزلة عن حضارة الرومان وحضارة الفرس والتي بعدت عن عبور الغزاة وحركات الغزو ومعارك القتال وتيارات الحضارة والفكر والمذاهب والأديان، إنما كانت معدة بذلك إعداداً خاصاً لتلقي رسالة ضخمة إنسانية عالمية تحمل لواءها بكل هذه العوامل المكونة لنفسية جماعتها وأفرادها، وقد التقى مفهوم الإسلام بطبائع العرب. فتحقق بذلك تحول خطير في قيم العرب وفق مقاصد الإسلام، وقد حدث هذا التحول الخطير في دقة ويسر.. واستطاعت أعوام لا تزيد على نيف وعشرين عاماً هي حياة الرسول محمد بن عبد الله منذ بعثته إلى وفاته، أن تحقق هذا التحول.. فقد عرف العرب بالشهامة والكرة والقوة والعزم والمقاتلة والصبر والصمود والبذل. وتلك كلها صفات يرتضيها الإسلام.. غير أنها قبل الإسلام كانت موجهة في بسيل الغاية الفردية. والاستطالة والثأر. والاستعلاء والظلم. فكان أن حولها الإسلام إلى مفهوم إنساني رفيع، وجعلها في سبيل تحقيق هدف ومن أجل غايات عليا قوامها الإنسانية والتوحيد والعدل والحق والحرية، وأحاطها بسياج متين من الضوابط، فعدل اتجاهها وبالتالي عدل اتجاه النفس الإنسانية العربية وجعل عزيمتها الصارمة قوة لا حد لها في سبيل إذاعة كلمة الله في الآفاق وتحطيم كل قوة تحول دون توسعها.
دون أن تكون قوة عدوان أو تسلط أو ظلم. وإنما تكون وفق مفهوم القرآن "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا..".(69/2)
والمسلمون يقاتلون في سبيل غاية عليا هي تحقيق كلمة الله ونشر الإسلام والدفاع عنه. وهم لا يطمعون في مغلم مادي بالدرجة الأولى. وهم في أعمق أعماقهم قد خرجوا على مضمون واضح في نفوسهم.. هو النصر أو الشهادة.. وفي حال الشهادة يحس المسلم أنه أحرز أكثر نصر.. فهو قد قدم روحه في سبيل فكرة ملأت نفسه وفاضت بها روحه. ومن هنا فهو يقاتل دون أن يخشى الموت أو القتل لأنه وطد نفسه على أن يموت. فلابد أن ينصر الكلمة التي آمن بها أولاً. ومن هنا فإن النتيجة أن ينتصر ولا يموت، تحقيقاً لقانون صادق: "اطلب الموت توهب لك الحياة". وليس معنى هذا أنه لم يقتل من المسلمين أحد، فقد قتل الكثيرون ولكنهم ماتوا شهداء.. مؤمنين بأنهم قد أدوا حق الله في سبيل مبدأ آمنوا به وعقيدة ملأت نفوسهم.
وقد عاش هذا المعنى في نفوس المسلمين طويلاً وما زال حياً نابضاً بالحياة، فهم يتمثلون في كل خطوة، ذلك المعلم الأول والقائد الأول.. ما تزال صورته الواضحة الدقيقة المتمثلة في كتب السنة، وفي مختلف تصرفاته، تواجههم وتملأ قلوبهم بالشوق إلى المتابعة والتأسي. فقد كان صلى الله عليه وسلم هو التطبيق العملي لفكرة الإسلام ومقاصده وأهدافه.
فكان تجسيداً كاملاً لتعاليم الإسلام، والأسوة الحسنة للمسلمين، كان خلقه القرآن.. وقد وصفه الحق بقوله: "وإنك لعلى خلق عظيم".
وقد تمثلت البطولة بعد مرحلة النبوة في مواجهة الردة التي أصبحت الجزيرة العربية عليها ذات يوم بعد اختيار النبي للرفيق الأعلى، وفيما عدا تثقيف وقريش فقد ارتد سائر العرب.. وكان موقف الصديق، دائماً قوياً فقد أصر أبو بكر الخليفة الأول على المقاومة ورفض الاستسلام.. وأنفذ أحد عشر جيشاً في يوم واحد.. واستطاع أن يستأصل الردة في معارك متعددة أكبرها معركة اليمامة..(69/3)
وسرعان ما أبرزت هذه المعركة الأساسية في ميزان بقاء الإسلام بطولات. في مقدمتها بطولة البراء بن مالك. فقد زحف المسلمون حتى الجئوا المرتدين إلى حديقة أطلق عليها من بعد (حديقة الموت) وفيها مسيلمة مدعي النبوة.
فقال البراء: يا معشر المسلمين ألقوني عليهم في الحديثة.
فقيل للبراء: لا تفعل.. قال: والله لتطرحني عليهم فيها..
فحمل إلى أن أشرف على الحديقة حتى فتحها للمسلمين.
وفي مواقف متعددة وغزوات مختلفة توالت على ثرى الشام وفارس والعراق ومصر برزت معالم البطولة الإسلامية حية نابضة بالحياة. وقد غيرت مقومات الإسلام القيم والمفاهيم لدى المرأة، كما غيرتها لدى الرجل. فقد جاهدت المرأة في الحرب وقاتلت.. فقدمت حليها وشعرها.. وفي معركة اليرموك قاتلت النساء في جولة فخرجت جويرية بنت أبي سفيان ومعها زوجها فقاتلت قتالاً شديداً.
وهكذا بدت بطولة الحرب والمقاومة في صورة نم أدق صورها. مستمدة قوتها نم مفهوم الإسلام نفسه. وإذا كانت بطولة الحرب قد توقفت في العام 114 هـ بصورة عامة، فإنها ظلت حية تتمثل في حركة المقاومة التي لم تتوقف في جبهات الحدود الإسلامية البيزنطية والحدود الأندلسية الأوربية والإسبانية وفي حدود عالم الإسلام والمشرق.(69/4)
فقد امتدت معارك المقاومة متقطعة على مراحل وفترات ولكنها كانت وفق خطة لم تتغير من جانب العدو هي: الإدالة من علم الإسلام أو الحيلولة بينه وبين التوسع... ثم برزت ثلاث معارك ضخمة.. هي الحروب الصليبية في المشرق وحروب الفرنجة في الأندلس والمغرب والغزو الصليبي التتري. وفي خلال هذه المعارك تجددي مفاهيم الإسلام في المقاومة بصمودها وسماحتها في الوقت نفسه. وبرزت نماذج جديدة من البطولة الحربية، وتشابهت صور نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي مع صور خالد ابن الوليد وسعد بن أبي وقاص.. وتلمس المسلمون على المدى الطويل أخلاق الإسلام ومفاهيمه، يحاولون أن يكونوا على مستوى الرعيل الأول حماية للذمار ومقاومة للعدو وعدلاً وسماحة.
بطولة العلم التجريبي
لا مشاحة إن العلم كان ولا يزال من أخصب جوانب الفكر الإسلامي ودعامة أساسية في بناء الحضارة الإسلامية فقد حرض القرآن على اصطناع العقل، ودعا إلى النظر في الكون والبحث في أعماق الأرض ففتح الباب واسعاً للمسلمين مذ اللحظة الأولى لنزوله إلى النظرة العلمية العقلية القائمة على التكامل بين العقل والقلب والوسطية بين الروح والمادة وقد كانت أزهر فترات التاريخ الإسلامي هي المرحلة التي توازن فيها الفكر الإسلامي: جامعاً بين الدين والدنيا وبين ثقافة القلب وثقافة العقل..
وفي مجال العلم برز أبطال من الباحثين الدارسين لم يتوقف أمرهم عند علوم الشريعة والعقيدة والأخلاق وإنما امتد إلى مجال العلوم الطبيعية والرياضية فبلغوا في مختلف مجالاتها قدراً عاليًا، وقد كانت قاعدتهم الأساسية: العلم هو علم الدنيا والآخرة معاً وهو العلم الجامع بين بناء الحضارة وبناء النفس الإنسانية جميعاً.(69/5)
هذه النظرة كانت قيمة أساسية في مجال البحث العلمي الإسلامي.. أما انحراف هذه النظرة في مرحلة الضعف حين غلبت (الجبرية) وحين انصرف المسلمون عن العلوم الطبيعي والرياضية فذلك انحراف لا ينسب إلى الإسلام وإنما ينسب إلى المسلمين.
وقد بدأ المسلمون ممارسة العلم والبحث في مختلف المجالات قبل أن يتصلوا بالفلسفات اليونانية وغيرها فلما بدأت ترجمة الآثار اليونانية أخذوا تلك المبادئ القليلة التي كانت عند اليونان فنظروا فيها وعرضوها على مفهوم التوحيد الخالص فرفضوا منها وقبلوا ثم نموا ما قبلوه وأضافوا إليه ثم أبدعوا علوماً أخرى لم يسبقهم إليها أحد.
ولاشك أن اتجاه الفكر الإسلامي إلى الانفتاح على الثقافات البشرية: فارسية ويونانية وهندية، كان إيماناً بإنسانية الفكر الإسلامي ومرونته وحيويته وقدرته على استيعاب الثقافات البشرية وصهرها في بوتقته ورفض ما لا يتفق مع مفاهيم الإسلام ومقوماته. وإذا كان أئمة المسلمين يهدون الهدايا إلى حكام بيزنطة إغراء لهم بإرسال الكتب القديمة، بل وكانوا يجعلون هذه الكتب من الجزية المفروضة على الروم فإن دلالة هذا التصرف واضحة في فهم المسلمين للإسلام وجرأتهم في مجال العلم والعقل والبحث.
وقد نما الفكر الإسلامي من خلال العقائد والفقه وكان تحقيق الحديث النبوي علامة ضخمة على قيام المنهج العلمي الموثق لقبول النصوص أو رفضها، هذا المنهج الذي نما بعد ذلك في مجال الفقه والتاريخ، ثم كانت التفريعات والتشقيقات التي قام بها المفكرون المسلمون إزاء القضايا والأحداث والمواقف المتعددة لإيجاد حلول منوعة لكل حالة من حالات المجتمع وعلاقات الناس في مختلف البيئات والعصور.(69/6)
كانت هذه الممارسة مقدمة للعمل في مجال الفلك والكيمياء والرياضيات والطب الذي حقق مولد حدث ضخم هو (المنهج التجريبي الإسلامي) الذي رسم المفكرون المسلمون والعرب منهاجه ووضعوا قواعده وأقاموا عليه أعمالاً ضخمة وحققوا به تقدماً بارعاً.
هذا المنهج التجريبي الإسلامي هو آخر ما أهدت الحضارة الإسلامية لأوروبا في القرن العاشر الهجري والقرن السادس عشر الميلادي عن طريق الأندلس بعد أن سجل أعلام العلم التجريبي خطوات واسعة تشهد بدور المسلمين في إقامة هذا المنهج وممارسته، وفي مقدمة هؤلاء الرازي وابن سينا والخوارزمي والبتاني والبيروني وعمر الخيام، وابن زهر وابن خاتمة وابن الهيثم وابن العوام وابن البيطار وابن رشد وابن الخطيب.
الآراء اليونانية بالآراء الهندية. وقال: إذا لم يكن هذا الذي فعله العرب ابتكاراً فليس في العلم ابتكار على الإطلاق، فالابتكار العلمي في الحقيقة إنما هو حياكة الخيوط المتفرقة في نسيج واحد.
والحق أن المسلمين لم ينقلوا المفهوم الرياضي الإغريقي بل وضعوا مفهوماً جديداً – كما فعلوا في الفلسفة والأخلاق والتصوف والأدب، وكل الفنون التي كان لها وجود سابق على الإسلام. وكان مفهومهم قائماً على الربط الوثيق بين مكتشفات العلم وبين مبادئ الإسلام.
وهكذا كان موقف المسلمين من العلم موقفاً له طابعه الاستقلالي الإبداعي، وإذا كانوا قد أخذوا من تراث الأقدمين فإنهم لم يستسلموا له أو يتوهوا فيه ولم يدعوه يصوغهم بل هم الذين صاغوه وفق إطار واضح منت قيمهم ومفاهيمهم، ذلك أن القرآن قد دعاهم إلى العلم وحثهم الإسلام على النظر في الكون والبحث في الأرض فلما تسلموا زمام العلم لم يخضعهم، وإنما أخضعوه وحرروه من زيوف الوثنيات والغموض وحاولوا دون أن يكون وسيلة للعدوان أو أباحته. فقد أعادوا صياغته في ضوء مفهوم الإسلام خلقاً جديداً مختلفاً كل الاختلاف ثم أقاموا عليه بناء ضخماً وأضافوا إليه إضافات كبيرة.(69/7)
وقد كانت أداة العمل في مجال العلم عند المسلمين هي:
(النظر العقلي + التجربة + الرحلة) وقد بلغ المسلمون في ذلك غاية الغايات فحققوا النصوص القديمة ورفضوا ما لا يقبله العقل والتمسوا التجربة في المعامل فقاموا بها على الحيوانات والحشرات ثم ذهبوا إلى أطراف الأرض يبحثون عن الحقائق وقد رحل البخاري ستة عشر عاماً ورحل الغزالي عشر سنوات ورحل ابن بطوطة ربع قرن كامل.
كما حفلت عواصم الحضارة الإسلامية بمعاهد العلم ومعامله ومراصد الفلك والمكتبات، وكان في بغداد وحدها في عصر المقتدر بالله الخليفة العباسي ما قارب التسعمائة طبيب ممن جازوا الامتحان ليكونوا أطباء وقد نظمت صناعة الطب فكان للأطباء رؤساء وكان عليهم رقباء لاتصال أعمالهم بمصالح الناس كافة، ومن الأطباء من كان خاصاً بالجند فهو يصحبهم في أسفارهم ولهم رواتب ومنهم من يطببون العامة وهم غير المرتزقين ومنهم متخصصون ومنهم الطبيب على إجماله ومنهم الجراح والفاصد ومنهم الكحال أي طبيب العيون والأسنان ومنهم من يقتصر عمله على معالجة النساء ومنهم من يطب للمجانين. وكانت جامعة بغداد تعتمد سنوياً مليوناً ونصف مليون فرنك لشراء الكتب والمخطوطات.
ولم يقف شأن العلماء التجريبيين المسلمين عند مجال الطب بل تعداه إلى مختلف مجالات الفلك والجغرافية والكيمياء والفيزياء، والنبات والزراعة والرياضة والتاريخ والرحلة والكشف.
وقد سبق الباحثون المسلمين علماء أوروبا في (تقعيد) القواعد فابن حزم وضع أسس نظرية المعرفة التي قام بها (كانط) بعده بثمانية قرون.
وابن خلدون بسط فلسفة الاجتماع قبل منتسكيو وتادر بخمسة قرون. وبراهين الغزالي للدفاع عن الإيمان سبقت نظرات القديس توماس الاكويني بعشرة قرون.(69/8)
وكان أبرز عوامل التقدم العلمي الإسلامي سماحة المسلمين في تلقي علوم السابقين لهم وإن خالفت أصول فكرهم كما كان العلماء المسلمون سمحاء مع اليهود والنصارى، ذلك التسامح الذي لم يسمع بمثله في العصور الوسطى، وكانوا آية التسامح في عرض علوم الملل والنحل، وقد قدموا كل نتاج أبحاثهم العلمية في الأندلس إلى أوروبا بسماحة، وكان العلماء المسلمون مطبوعين على الخلق والصدق وشمول النظرة بين العلوم العقلية والشرعية والرياضية. والحق أن الإسلام لم يعط الغرب أساس البحث العلمي التجريبي فحسب ولكنه أعطاه مفهوم الحرية والاندفاع نحو العمل والبناء والإنشاء والابتكار، وهو ما قدمه ابن رشد للفلسفة الأوروبية من مفاهيم زلزلت القيم الجامدة القديمة، حيث تغيرت نظرة إنكار الدنيا والتشاؤم التي كانت غالبة على الفكر الأوروبي وحلت محلها نظرة إيجابية مصدرها الإسلام، فالإسلام وهو دعوة البحث عن الحق قد حرض الناس على السعي إليه عن طريق المعرفة والدفاع عنه وقدم في هذا المجال قانونين أساسيين:
(الأول).. هو الشك قبل الإيمان وقدم لذلك قصة إبراهيم الذي تطلع إلى القمر ثم الشمس وغيرهما ثم دخل بعد الشك في الإيمان.
(الثاني).. جعل للمجتهد أجراً إذا أخطأ، وأجرين إذا أصاب..
وقد أكد العلامة بريفولت دور المسلمين في إبداع المذهب العلمي التجريبي فقال:
لا يستطيع (روجر بيكون) ولاسميه الذي جاء من بعده أن يدعيا أنهما ابتكرا الطريقة التجريبية، تلك الطريقة التي هي من صنع العرب وحدهم ولم يسبقهم إليها باحث أو مفكر وكل ما عمله (بيكون) أنه كان تلميذاً مخلصاً للمسلمين تلقى أفكارهم كما تلقى عنهم الطريقة التجريبية التي ابتكروها ونقها إلى أوروبا.
وقد أرسى العلماء المسلمون قاعدة بحثهم على هذه الأسس:
1- تكريم العقل.
2- احترام الشخصية الإنسانية.
3- العدل والمساواة.
4- الإيمان بالعلم والحقيقة.
5- الاعتماد على التجربة.
6- الاعتقاد ببقاء الروح بعد البدن.(69/9)
7- الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة.
8- القول بإله واحد قديم خلق العالم من لا شيء.
بطولة العلم والعلماء
للعلم والعلماء صفحة بطولة في تاريخ الإسلام، ورائعة باهرة، ففي كل مجال من مجالات العلم نجد أسماءهم اللامعة وإضافاتهم البناءة.
ففي التاريخ: الطبري والمسعودي وابن الأثير وابن خلدون.
وفي الأدب: الجاحظ وابن قتيبة والخليل بن أحمد.
وفي الفلسفة: الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد.
وفي التصوف: ابن عربي وابن الفارض والشعراني وعبد القادر الجيلاني.
وفي الكلام: واصل بن عطاء والنظام والأشعري والماتريدي والباقلاني والجويني.
وفي الحديث النبوي: ابن شهاب الزهري، وابن جريج المالكي وابن إسحق والترمذي.
وفي الفقه: مالك وأبو حنيفة والشافعي وابن حنبل وأبو يوسف.
وفي العلم: الخوارزمي والبيروني والبتائي وجابر بن حيان والرازي وابن الهيثم وثابت بن قرة.
وفي تصحيح المفاهيم: ابن حزم والغزالي وابن تيمية.
وابن سينا أعظم الأطباء والبيروني أعظم الجغرافيين وابن الهيثم أعظم علماء البصريات وجابر بن حيان أعظم الكيميائيين وابن رشد فقيه وفيلسوف.
يقول ول ديورانت: ليس ما نعرفه من ثمار الفكر الإسلامي إلا جزءاً صغيراً مما بقي من تراث المسلمين وليس هذا الجزء الباقي إلا قسماً ضئيلاً مما أثمرته قرائحهم وليس ما أثبتناه إلا نقطة من تراثهم.
كان لهؤلاء العلماء رحلاتهم الطويلة من أجل البحث عن النص وتحقيق السند، ذهب البخاري في رحلته الطويلة بضعة وعشرين عاماً في تحقيق الحديث، وجد سبعين ألفاً وأقر منها أربعة آلاف فقط. وعرض لذلك كله في ذوق رفيع وأدب وخلف فلم يهاجم أحداً، ولما عاد رفض أن يحدث الناس إلا في بيته أو في المسجد.(69/10)
وكانوا جميعاً يوجهون العلم لله خالصاً ولخدمة الأمة، ولا يتطلعون إلى مال أو جائزة سنية، كان ابن الهيثم صاحب نظرية الضوء التي قام عليها علم أوروبا كله يعتمد في كسب قوته على نسخ الكتب وكان يقول: يكفيني قوت يوم، وقال كلمته المشهورة عندما وصلته هدية أحد الأمراء: أعلم أنه لا أجر ولا رشوة ولا هدية في إقامة الخير ونشر العلم.
أما البيروني فقد رد ثلاثة جمال تنوء بأحمالها من النقود وقال: "إنما نخدم العلم للعلم".
وفي مجال العلم عرفوا: "البرهان والحق" فقد دافع ابن حزم عن كروية الأرض بالعقل والدين وسبق "كانت" في نظرية المعرفة بسبعة قرون وقال: إن التقليد حرام، ولا معجزة لنبي بعد وفاته. وكان مذهبه "لا يحل لأحد أن يأخذ بقول أحد من غير برهان".
والفارابي فكر في أمم متحدة منذ قرون، ومدينته الفاضلة تضاءلت إلى جانبها جمهورية أفلاطون، فقد أقامها على العدل المطلق بين أبناء المدينة أما أفلاطون فقد رفع الأمراء وجعل عامة الشعب عبيداً. والأمة عند الفارابي جسم واحد لا يستقيم أمره إلا بالتضامن والتعاون.
وقد ظهرت آراء الفارابي فيما بعد في نظرية العقد الاجتماعي لجان جاك روسو، ومن آراء الفارابي: إن السعادة ممكنة على وجه الأرض إذا تعاون المجتمع على نيلها بالأعمال الفاضلة، ويرى أن النجاح في الأعمال هو تمام ارتباط العلم بالعمل وأن بلوغ الغاية يكون بإصلاح الإنسان نفسه ثم إصلاح على النجوم، هذه الأسماء التي تزال حتى اليوم تطلق عليها في عصر غزو الكواكب، فالشعري اليمانية والعيون والسماك والرامح والنسر وقلب العقرب، ما زالت تترجم إلى اللغات الأوروبية بأسمائها العربية. وقد كشف علماء المسلمين عن المجموعات الفلكية: مجموعة العقرب والبروج الاثنا عشر والدب الأكبر والنجم القطبي والفرقدان والحاوي.(69/11)
"وابن رشد" دعا إلى مشاركة المرأة الرجل في خدمة المجتمع والدولة، وعنده أن النظر البرهاني لا يؤدي إلى مخالفة ما ورد به الشرع فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له. أما "الغزالي" فقد سبق "كانت وهيوم" وغيرهما من الفلاسفة العقليين في مسألة قدم العالم والزمان والمكان بمئات السنين واهتدى في ذلك إلى آراء سبق بها فلاسفة القرن الثامن عشر.
و "الطوسي أبو جعفر": له فضل إقامة مرصد مراغة العظيم، وله مؤلفات رائعة في علم التحول وانعكاسات الشعاعات قال سارذون: أن أقوال "الطوسي" مهدت للأعمال التي قام بها "كوبرنيكس" فيما بعد وبحوثه عن الكرة السماوية ونظام الكواكب. وكتابه "شكل القطاع" أنه كتاب يفصل المثلثات ويجعلها علماً مستقلاً.
أما "الشاطبي" فقد توصل إلى نظرية شبيهة بما يسمى في القوانين العصرية بـ "نظرية التعسف في استعمال الحقوق" فأثبت بعد تحليل وتفصيل دقيقتين أنه يجب منع الفعل المأذون فيه شرعاًَ إذا قصد منه فاعله الإضرار بالغير. وقال "ابن حزم" زعم قوم أن الفلك والنجوم تعقل وأنها ترى وتسمع، وهذه دعوى باطلة وبلا برهان وصحة الحكم أن النجوم لا تعقل أصلاً وأن حركتها أبداً على رتبة واحدة ولا تتبدل عنها، وهذه صفة الجماد الذي لا اختيار له، وليس للنجوم تأثير في أعمالنا ولا لها عقل تدبرنا به، إلا إذا كان المقصود أنها تدبرنا طبيعياً كتدبير الماء والهواء ونحو أثرها في المد والجزر، وقال إن النجوم لا تدل على الحوادث المقبلة.
أما إبراهيم النظام فدعا إلى الشك في سبيل اليقين وقال: إن الشك سبيل الإنسان إلى كل يقين وإن طالب العلم لا يكون كحاطب ليل، بللا ينبغي أن يتخير مما فيها ولا يسمح أن يدخل في نفسه إلا الجد المنتقى وعنده أن الكتب لا تحيي الموتى ولا تحول الأحمق عاقلاً ولا البليد ذكياً ولكن طبيعة الإنسان إذا كان فيها أدنى قبول فالكتب تشحذ وتفتق وترهف وتشفي.(69/12)
ويقول: الشاك أقرب إليك من الجاحد، ولم يكن يقين قط حتى صار فيه شك ولم ينتقل أحد من اعتقاد إلى اعتقاد غيره حتى يكون بينهما حالة شك.
والمعروف أن النظام وواصل بن عطاء وغيرهما كان لهما دور ضخم في الدفاع عن الإسلام في وجه مناهج الفلسفة اليونانية التي حمل لواءها خصوم الإسلام وقد استطاع بعمق منطقه وسلامة جداله تصحيح الحقائق والعقائد في نفوس المئات.
وقد عرف علماء المسلمين "التقنين" ممثلاً في اللغة القانونية المحكمة التي كتبت بها مصنفاتهم الفقهية وفي التبويب الدقيق للمسائل مما نجده في أوضح صورة في المختصرات المكرسة للفقه العملي مثل كتاب الماوردي وكتاب أبي يعلي المعاصر له والحامل نفس العنوان. وقد نسقت أحكام هذه المختصرات على صورة تجعل من الميسور تصنيفها إلى مواد قانونية على الشكل المتبع في التقنين الحديث وكان ابن حجر العسقلاني واحداً من أعمدة المنهج العلمي، يقول "البقاعي" عنه: لا يستطيع أحد أن يقسره في شيء أصلاً، أو أن يقرب من ذلك فهو لا يقبل كلام أحد في غيبة خصمه فو آية في حسن القضاء ومعرفة دسائس الناس في كلامهم والاهتداء إلى قطه الأمور. له في المناظرة مسلك غريب قل أن يثبت له في ذلك أحد. ويركز "الترمذي" منهجه الفكري على الحق والعدل والصدق. يقول: إنا وجدنا دين الله عز وجل مبنياً على ثلاثة أركان: على الحق والعدل والصدق، فالحق على الجوارح والعدل على القلوب والصدق على العقول، فإذا افتقد الحق من عمل خلفه الباطل وإذا افتقد منه العدل خله الجور وإذا افتقد منه الصدق خلفه الكذب. فهذه الثلاثة جند المعرفة وهذه الثلاثة التي هي أضدادهن جند الهوى.(69/13)
والطرطوشي في كتاب (سراج الملوك) يسبق فلاسفة السياسة وفن الحكم في أوروبا وهو واحد من عدد من علماء الإسلام الذين عملوا في هذا المجال: كالغزالي في التبر المسبوك والشيرازي في المنهج المسلوك في سياسة الملوك وابن طباطبا في (الفخري) وأبرز مفاهيم الطرطوشي أنه لا يفرق بين السياسة والأخلاق بل يراهما شيئاً واحداً متفقاً، وهذا المنهج الإسلامي يخالف منهج "ميكافللي" في كتابه الأمير.
أما "الكندي" الفيلسوف فقد درس الصلة بين الموسيقى وتحريك النفس وما يناسب أحوالها وما يبعث السرور، ودس علاقة ذلك بالطب وأمكنه التوصل إلى إمكان معالجة المرضى بالموسيقى، وذلك ضرب الأنغام المناسبة للمريض.
وعرف المقدسي بأنه أعظم جغرافي عرفته البشرية قاطبة على حد تعبير المستشرق "أشيرنجر" فقد طاف العالم كله ما عدا الأندلس والسند وركب المخاطر في بحر الهند والبحر الأحمر والبحر الأبيض يقول: ما بقيت خزانة ملك إلا وقد لزمتها ولا مذاهب قوم إلا وقد عرفتها ولا أهل زهد إلا وقد خالطتهم ولم يبق شيء مما يلحق المسافرين إلا وقد أخذت منه نصيباً غير الكدية "التسول" وركوب الكبية، وقد تفقهت وتزهدت وتعبدت وفقهت وأدبت وخطبت على المنابر ودعوت في المحافل وتكلمت في المجالس وأكلت مع الصوفية الهرائس، ومع الخافقائيين الثرائد، ومع النواتي "الملاحين" العصائد، وطردت في الليالي من المساجد، وسحت في البراري وتهت في الصحاري.(69/14)
أما "الطبري" فقد صور منهجه في كتابة التاريخ في مقدمة كتابه "تاريخ الرسل والملوك" فقال: ليعلم الناظر في كتابنا إن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره منه مما شرطت أني راسمه فيه، إنما هو على ما رويت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه والآثار أنا مسندها إلى رواتها دون ما أدرك بحجج العقول واستنبط بفكر النفوس. وابن كثير "الذي تصدى للمرويات الإسرائيلية وفصل القول فيها وهو يرى أن القرآن قصد إلى الإجمال فيجب الوقوف عند ما قصد إليه والزمخشري في (الكشاف) يحرر فكره من الخضوع للأهواء ويعارض العلماء ذوي الأهواء الذين جمعوا عزائم الشرع ودونوها ثم رخصوا فيها للأمراء وهونوها ومقال: إنما حفظوا وعقلوا وصفقوا وحلقوا ليجمعوا المال ويسيروا". والخليل بن أحمد واضع قواعد العروض ومناهجه، وأبو الأسود الدؤلي واضع مناهج الفصحى وقواعد النحو والجاحظ واضع مناهج النقد الأديب، والشافعي واضع مناهج الاستنباط وأصول الفقه.
والأشعري صاحب الحملة على الانحراف إلى الفكر اليوناني وابن تيمية صاحب الحملة إلى الطرقيات المنحرفة والغزالي صاحب الحملة على مغالاة الفقهاء.
وابن دقيق العيد الذي قال: "النص" هو الإمام. والرأي هو المأموم والمذاهب ترد إليه. ويقول لا يصح أن يجعل الرأي الذي فيها للنص أصلاً فيرد النص إليه بالتكليف والتحايل.
الأستاذ أنور الجندي(69/15)
التبشير الغربي
الأستاذ أنور الجندي
الإرساليات وسيلة لهدم مفهوم العقيدة والتشكيك في الإسلام وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن ظاهرة الإرساليات التبشيرية في العالم الإسلامي هي أخطر الظواهر الاجتماعية التي يجب أن تدرس في توسع للتعرف على الدور الخطير الذي قامت وتقوم في محاربة الإسلام وتزييف مفاهيمه واحتوءا معتنقيه، وتمهيد السبيل لتثبيت دعائم النفوذ الأجنبي على مدى قرن كامل من الزمان وخاصة بعد أن توسعت واقتحمت مجال الثقافة والصحافة بعد المدرسة والجامعة.
مصانع تخرج العلماء:
فقد كانت هذه الإرساليات هي المصانع التي خرجت الأجيال من العملاء والتابعين للنفوذ الأجنبي وأولياء الثقافات الفرنسية والإنجليزية والماركسية والتلمودية.
ولقد عرف الدكتور زويمر هدف هذا العمل الخطير بأنه: ليس إدخال المسلمين في المسيحية وإنما هو إخراجهم من الإسلام حين قال: "ليس غرض التبشير المسيحي إخراج المسلمين من دينهم ولقد برهن التاريخ وأزمة بعد أزمة على أن المسلم لا يمكن أن يكون مسيحياً مطلقاً ولكن الغاية هي إخراج المسلمين من الإسلام فقط ليكون ملحداً أو مضطرباً في دينه وعندها لا يكون مسلماً أي لا تكون له عقيدة يدين بها.
وهذه أسمى مراتب الانتقام من الإسلام وأعظم الغايات الاستعمارية "أجل قضينا على برامج التعليم في الأقطار الإسلامية منذ خمسين عاماً، فأخرجنا منها القرآن وتاريخ الإسلام ومن ثم أخرجنا الشباب والفتاة الإسلامية من الوسائط التي تخلق فيهم العقيدة الوطنية والإخلاص والرجولة والدفاع عن الحق.
وثيقة خطيرة:(70/1)
هذه هي أخطر وثائق التبشير التي يؤرخ بها للتعليم في البلاد العربية والإسلامية. ذلك لأن الإرساليات جاءت فوضعت البرامج التي تدمر الإنسان المسلم ثم جاءت المدارس الوطنية – في ظل النفوذ الاستعماري في مصر والمغرب والشام والهند وإندونيسيا – فاعتنقت هذه المناهج وطبقتها ولا تزال في جانب كبير منها مطبقة إلى اليوم. وقد ركزت الإرساليات على عدة أمور هامة:
أولاً:
أن تحتضن الفتاة المسلمة، فكانت أولى الإرساليات هي مدارس البنات لتعليم المرأة المسلمة في ظل مفاهيم مسيحية وعلمانية.
وقالت المبشرة المعروفة (أنا مليمنان) ليس ثمة طريق إلى حصن الإسلام أقصر مسافة من هذه المدرسة..
وقال المبشرون: لقد برهن التعليم على أنه أثمن الوسائل التي استطاع المبشرون أن يلجأوا إليها، في سعيهم لإخراج المسلمين من الإسلام.
ثانيا:
أن يكون التعليم وسيلة لعقد الولاء مع الأمة صاحبة المدرسة أو الجامعة، ولقد تردد طويلاً، أن الجامعات الأمريكية كانت وسيلة لتمهيد الطريق أمام المصالح الأمريكية وكانت منطلق العمل لتأكيد الصهيونية في العالم الإسلامي ودعمها، كما كانت الجامعات الفرنسية وسيلة لتثبيت النفوذ الفرنسي وكذلك الجامعات الإنجليزية.
ثالثاً:
أن يكون التعليم في الإرساليات وسيلة لهدم مفهوم العقيدة، وذلك بالدعوة إلى وحدة كل الأديان والعقائد والنحل والمذاهب، وحرية الجمع والمساواة بين الأديان المنزلة، وبين الأديان الوثنية وفتح الطريق أمام نقد "الدين" والسخرية به، وتصويره على أنه فكر قد مضى عهده، وأن العصر عصر العلم وأن الدين معارض للعلم.
رابعاً:(70/2)
تقوية العنصريات والدعوة إلى الإقليميات والعصبيات والقوميات كالبربرية والتركية والفارسية والعربية، وإحياء الحضارات القديمة كالفينيقية والآشورية والبابلية والفرعونية، وإحياء الفلكلور القديم والآثار القديمة، لخلق ثقافات وتاريخ سابق للإسلام، مع أن الإسلام أقام قاعدة الانقطاع الحضاري بين حاضره وما سبقه من عصور طابعها الحضارية الوثنية.
خامساً:
الدعوة إلى العاميات واللغة المحلية والقضاء على اللغة العربية الفصحى، والحيلولة بين النشء وبين تعلم لغته التي هي المفتاح للإسلام والقرآن، وإحياء العاميات والتركيز على تعليم اللغة الأجنبية، التي هي المدخل إلى مفاهيم الفكر الوافد، والإدعاء بأن اللغة العربية لم تعد صالحة لاستيعاب كل الأغراض، مع تفريغ اللغة الفصحى من الروح الإسلامي عن طريق كتابات الصحف والمسرحيات والإذاعة والأغاني التي تقدم مضامين وافدة غربية منقولة مكتوبة باللغة العربية.
وإقامة ثقافة خفيفة مستمدة من التفاهات مقام الثقافة الأصيلة ذات البيان العربي الرصين.
سادساً:
الاعتماد على الترجمات من اللغات الأجنبية، وخاصة ترجمة قصص الجنس والإباحية، وقصص الإغريق الوثنية وكتابات سارتر وكافكا ونيتشة وغيرها، مما يثير في نفوس الشباب شبهات الشكوك والإلحاد.
سابعاً:
طرح الأيدلوجيات المختلفة والنظريات الفلسفية المتعددة في علم النفس والاجتماع والأخلاق، وكلها ترمي إلى تحطيم مفاهيم الدين الحق، وخلق روح حرية الشباب والجنس، والإفساد الأخلاقي بالأندية والسمر والرحلات المختلطة، واستغلال الفكر الماركسي في هدم المجتمع الإسلامي، وتقديم الشبهات المسيحية واليهودية في قالب من النظريات ذات الصبغة العلمية البراقة الكاذبة.
ثامناً:
محاولة التشكيك في تاريخ إسلام وسيرة رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك بالإدعاء بأن القرآن مستمد من التوراة والإنجيل.(70/3)
واستغلال الآيات التي مجد القرآن فيها السيد المسيح عليه السلام والسيدة مريم. للتبشير بالمسيحية ومحاولة إقناع المسلمين بفكرة التجسد. أو الإدعاء بأن الفكر الإسلامي مستمد من الفسلفة اليونانية.
تاسعاً؟:
تقديم مفاهيم فاسدة، عن الموسيقى والمسرح والفن والحضارة والتقدم والمعاصرة، تختلف مع مفهوم الإأسلام الأصيل.
عاشراً:
إغراء الشباب المسلم بالبعثات الخارجية، وهي التي تستهدف تغيير شخصية الشباب بعد صهره في معاهد خاصة، ووضع الفتيات الأجنبيات في طريقه لعقد صلة اجتماعية تستمر مدى الحياة، وتكون عاملاً من عوامل خدمة أهداف التغريب، وحصار رجال البعثات بعد عودتهم، ليكونوا خادمين للثقافات الأجنبية، وهناك نماذج واضحة أمثال طه حسين ومحمود عزمي وغيرهما.
الدخول في التيه:
إن خطة الإرساليات التبشيرية لم تتوقف عند المدرسة والجامعة، ولكنها امتدت إلى الثقافة والصحافة.
وهي ليست خطة ضيقة مرتبطة بتغيير الدين فحسب، ولكنها خطة واسعة ترمي إلى تحويل العقل والنفس الإسلامي جميعاً، وإخراج المسلم من مفهوم الإسلام الصحيح، ومن قيم الإسلام الحقة بوصفه منهج حياة ونظام مجتمع وإدخاله في هاليز الفكر البشري الرطبة المظلمة، وصهره في أتون الوثنية والمادية والعلمانية والأممية وفتح الطريق أمام فكره وعقله وقلبه ليتقبل كل فكر وافد، ويتلقى كل ما تطرحه أعاصير الليبرالية والماركسية والتلمودية والوجودية وغيرها من السموم.
المهم هو إخراجه من الإسلام دون إدخاله في أي دين آخر وإبقائه مهموماً يدور في الدائرة المظلمة المفرغة: دائرة التيه التي لا تجعل منه قوة صالحة لأي اتجاه، أو كما صوروا هذا في دقة "إن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله".
وبذلك فلا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، وبذلك يتحقق الهدف، ما هو الهدف؟ هو على حد تعبيرهم، أن يكونوا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية".(70/4)
وبمفهومنا نحن، خلق ذلك الجيل ذي الولاء الخاص العامل على تدمير مقومات المجتمع الإسلامي من حيث تمكينه لقيادة الثقافة والاستيلاء على ألوية التوجيه.
التبشير بغير جلده:
وقد تطور أسلوب التبشير، وخرج من مرحلة إلى مرحلة، واستطاع تغيير جلده ليوائم تطورات المجتمعات الإسلامية، وهم يركزون اليوم على أهدافهم القديمة بواسائل جديدة، فقد انتهى عهد المبشرين والدعاة الذي يقتحمون المستشفيات ويوزعون الأدوية والملابس وجاء ددور الخدمات الفنية والخدمات الاقتصادية والاجتماعية، في أنظمة مثل "التربية الأساسية" والتغلغل في أنحاء الريف ومخاطبة الناس والتعرف على نوازعهم.
وهي أساليب الجواسيس والمبشرين بصورة أخرى، قوامها السيطرة على توجيه المجتمع والجاسوسية السياسية للحصول على معلومات دقيقة من مصادر موثوق بها، وقد اتخذت أساليب جديدة قوامها الجداول الإحصائية لكل شيء في البلاد، مع التركيز على التعليم بالذات، وتجنيد رجال التربية في العالم العربي في مؤسساتهم وإغرائهم بالمرتبات الضخمة.
كما يدعون بين آن وآخر إلى مؤتمرات موسعة، والهدف هو تطبيق أفكار تربوية بحقل الفكر الإسلامي العربي تابعة للفكر الغربي المسيطر، وتطبيق مبادئ علم النفس وتجاربه على أبنائنا وتلاميذنا بهدف احتقار أوضاعنا ومقدراتنا والخروج من تقاليدنا إلى التقاليد الوافدة.
ولاريب في أن تحقيق هذه الأهداف يباعد بين المسلمين وبين العودة إلى مناهج التربية الإسلامية الصحيحة التي تمكنهم من امتلاك إرادتهم، ولا يزال النفوذ الأجنبي يركز على الثنائية الموجودة في نظام التعليم في العالم الإسلامي، فيصبح النظام الإسلامي خاضعاً وتابعاً للنظام الغربي.(70/5)
بينما الوجهة الصحيحة هي أن يكون التعليم الأولى كله إسلامي الأساس. وأن تقوم مناهج إسلامية ثقافية تحتضن كل أنواع الدراسات الاجتماعية والعلمية والاقتصادية والأدبية واللغوية، وأن تكون اللغة العربية هي أساس العلوم والتكنولوجيا ودراسات الطب والعلم التجريبي.
حيرة الشباب:
يقول الدكتور عمر فروخ: إن التحدي الذي يواجه المسلمين منذ قرن كامل من الزمن على الأقل: "هو عندما قرر الاستعمار أن يستخدم التبشير عن طريق الغزو الفكري بديلاً عن الفتح العسكري واتخذ لذلك طريق المدرسة والكتاب والجريدة، ثم طريق الراديو والتلفزيون في السنوات الأخيرة، وعن طريق الأزياء أيضاً، وكانت طريق الأزياء من بين الطرق الناجحة في سلب الشخصية الإسلامية من المسلمين، ثم كانت أنجع الوسائل إطلاق الأحزاب ذات الهوية الفكرية المعادية للإسلام، والهدف هو زعزعة اطمئنان المسلم بماضيه ومثله العليا. وأول ما يتجه إليه خصوم الإسلام هو أن يختاروا من الشبان من كان في أزمة نفسية أو اجتماعية، وهم يدعون الشباب المختطف إلى التحرر من جميع القيود وأن يقرر أموره بنفسه، من غير أن يشاركه في ذلك أبوه ولا أستاذه ولا النظم الحاضرة، ويقف الشباب المسلم حائراً قلقاً، يظن أن الحضارة غير الإسلامية تتحداه، وهو في الواقع لو عرف شيئاً كافياً من أمور دينه وأشياء من تاريخ الحضارة الغربية، لما وقف موقف الحائر في هذا التحدي، بل لما كان الخصوم قادرين على تحديه وكان هو القادر على تحديهم.
الاحتواء والولاء:(70/6)
والواقع أن كل محاولات التبشير تركز على الشباب وعلى الأجيال الجديدة بهدف احتوائها، لتكون ذات ولاء للفكر الغربي وإنها في سبيل ذلك تستخدم الشيوعية والعلمانية وأكاذيب مذهب فرويد وضلالات فلسفة سارتر، وغيرها من الدعوات لتدمير القيم الأخلاقية في نفس الشباب، وجعله لقمة سائغة للقوى التي تعمل على احتواء العالم الإسلامي، وتحول بينه وبين القدرة على امتلاك إرادته بفهم دينه وعقيدته، والتشكل على النحو الصحيح، وهو أن يكون قادراً على مواجهة التحدي والإعداد للرباط في سبيل الله والجهاد بحمل السلاح للدفاع عن العقيدة والأرض معاً.
وقد سجل رجال التبشير هدفهم هذا وما وصلوا إليه حين قالوا: لقد جنينا أعظم الثمرات المرجوة منذ حطم التبشير النشء الإسلامي تحطيماً. وهو سبب فساد الخلق والوطنية وموت الرجولة في نفسو الشباب.
إخضاع العالم الإسلامي:
وقد كتب أحد المبشرين في مجلة (لاريفو مسلمان) التي تصدر في باريس مقالاً كشف فيه بكل وضوح عن هدف الإرساليات التبشيرية، التي تحولت اليوم إلى جامعات ومعاهد لها صفة علمية خالصة، تحت عنوان "إخضاع العالم الإسلامي" قال: إن الهدف ليس مجرد نشر النصرانية بل إخضاع العالم الإسلامي. فقد أثبت التاريخ أن المجابهة بين المسيحية والإسلام لم تنته بمجرد انتهاء ما يسمى بالحروب الصليبية، تلك الحروب التي مثلت الصراع الجسدي على أعلى المستويات والتي استمرت في خمس حملات خلال مائتي عام، وقال إن بين الإرساليات والاستعمار تعاون وثيق. فإذا أضفنا إلى هذا ما كتبه الأب جيرونر في خطاب ألقاه في أحد المؤتمرات التبشيرية حيث قال: إن الإسلام هو مشكلة اليوم التي لا يجب تأجيلها، وأنه يتحتم علينا أن نرصد كل إمكانياتنا لحلها مما يدعو إلى التستر في هذا الهدف الوصول إليه بأساليب غير مباشرة.
الإسلام دين يتحرك زاحف يمتد بنفسه دون قوة تساعده وهذا هو وجه الخطر فيه:
الإسلام الخطير:(70/7)
ويردد كثيرون ما هو أشد صراحة من هذا المعنى حين يقولون: أن الإسلام هو الدين الوحيد الخطر عليهم فهم لا يخشون البوذية ولا الهندوكية ولا اليهودية، إذ أنها جميعاً ديانات قومية لا تريد الامتداد خارج أقوامها وأهلها، وهي في نفس الوقت أقل من النصرانية رقياً، أما الإسلام فهو كما يسمونه – دين متحرك زاحف – وهو يمتد بنفسه وبلا أية قوة تساعده وهذا هو وجه الخطر فيه.
ويقول الأستاذ سيد قكب معلناً: أننا لا ندرك ضخامة الجهود التبشيرية التي تبذلها أوربا وأمريكا لنشر النصرانية في أرجاء العالم وفي مجاهله ومعموره على السواء، ولا ندرك أن للكنيسة الكاثوليكية، وحدها نحو ثمانية آلاف بعثة تبشيرية تنتشر في أنحاء الأرض، وتذهب إلى مجاهل الكونغو والتبت (وإذا كان هذا الكلام عن عام 1950 م) فإن الأمر اليوم قد تضاعف. مع تملك هذه البعثات التبشيرية من وسائل الدعم المالي والآلي لتمكين جهودها.
ولاريب أن الجهود المبذولة من الكنائس البروتستانتية والكاثوليكية والموجهة إلى أفريقيا وإلى جنوب شرق آسيا بالذات في هذه المرحلة تؤازرها قوى مختلفة، وترصد لها ميزانيات ضخمة ببناء المستشفيات والكنائس الضخمة، وتربي أجيالاً تنسلخ عن أسرها ودينها، هذه العناصر هي وحدها التي يتاح لها فرصة تسلم أرقى المناصب. ودعامتها العقيدة المسيحية واللغة الإنجليزية والإيمان بالحضارة الغربية وتمكن النفوذ الأجنبي من السيطرة على مقدرات الإوطان ومقاومة الإسلام الذي ينتشر تلقائياً.
وقد تواترت أخبار كثيرة عن الخطط التي تقوم بها الإرساليات في إندونيسيا وماليزيا. والتي ترمي إلى تصفية الإسلام في نصف قرن، وكذلك ما يجري في أفريقيا مداً بالحركة التبشيرية في جنوب السودان والحزام الأفريقي.
المظهر والمخبر:(70/8)
فإذا ذهبنا نبحث وجدنا أن المناهج كلها وإن كلنت مسيحية المظهر فهي تلمودية المخبر، وإن التبشير المسيحي كله خاضع اليوم لنفوذ الصهيونية العالمية، وأنه يعمل لتحقيق غاياتها البعيدة، والتبشير بمفاهيم شعب الله المختار ومفاهيم أخرى تتناقض تماماً مع مفاهيم الإنجيل المنزل من عند الله، بل إن ما تطرحه الإرساليات الآن إنما يستمد مصدره من الفكر الماسوني التلمودي، الذي يقدم في نظريات ماركس وفرويد ودروكايم وفريزر، هذه المفاهيم التي فرضت اليوم على جميع الجامعات والمعاهد في العالم الإسلامي، على أنها علوم يقينية وليست نظريات وفروض قابلة للخطأ والصواب.
وإذا كانت الإرساليات التبشيرية هي منطلق العمل في المدرسة والصحيفة فإن من ورائها قوى الاستشراق الضخمة التي تمدها بالمادة الواسعة للتشكيك وإثارة الشبهات، ويقوم التغريبيون خلفءا طه حسين وساطع الحصري ولطفي السيد وسعد زغلول وسلامة موسى في العلم الإسلامي كله للتبشير بهذه المفاهيم، تحت اسم الدعوة إلى المعاصرة والتقدمية.
ولقد تنبهت قوى اليقظة الإسلامي إلى هذه المخططات والأهداف، فهي تواجهها في قوة وتكشف زيفها ولم يبق إلا أن تسيطر عليها في القريب.(70/9)
من طفولة البشرية إلى رشد الإنسانية - 17
الأستاذ أنور الجندي
جاء الإسلام حركة تحرر في مواجهة الغزو الخارجي وحركة عدل اجتماعي في مواجهة الاستغلال وحركة شورى في مواجهة الاستبداد وأخوة عالمية في مواجهة التفرقة العنصرية.
وفي الفتح الإسلامي حذر الالإسلام من الغدر:
"لا تحرقن بيتاً ولا تعقرن شاة، ولا تقتلن وليداً ولا هرماً ولا امرأة".
وكان الرومان يبيدون كل عامر ويقتلون الأطفال والنساء والشيوخ. والإسلام أسبق شريعة قررت العدل الاجتماعي والشورى: لأنهم تقيم الحرية على حق الإنسان الذي لم يكن له حول ولا قوة، حيث لا تشرع الحرية والمسئولية ضرورية لا محيص عنها كما شرعتها من قبلها حكومات الأقدمين، وفي مجلس يزدجرد سأل الامبراطور سفير المسلمين: ما الذي جاء بكن؟ فقال: إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
وأعظم عطاء الإسلام وذروة المعرفة فيه هي معرفة الله تبارك وتعالى ولذلك دعا الإسلام الإنسان إلى الفكر والذكر.
المعرفة بالله وأسمائه جل وعلا، ومعرفة عظمة ملكه المتمثلة في الطبيعة والكون ومعرفة عالم ما وراء المادة، والمعرفة بكتب الله ورسله واليوم الآخر.
والمعرفة طريق إلى الإيمان:
الإيمان: بقوة علوية تشرف على الإنسان من فوق وتمنحه الأسلوب المتوازن الشامل الذي يتعامل به مع جهازه الإنساني الضعيف.
والدين هو الذي كون حاسة "الخوف من الله" وخشية الله بما وضعه من مقاييس للفضائل والرذائل وتعهد بها النفس الإنسانية بالتربية والتقويم.
ويقوم الإسلام على مجموعة من الأصول العامة: عقيدة سليمة وعبادة صحيحة وكتاب منير "القرآن" وأسوة حسنة "الرسول" وشريعة عادلة وأخلاق إيجابية وتربية صالحة وجهاد في سبيل الله".
ولقد دعانا الحق تبارك وتعالى أن نتفكر في خلق الله لا في ذات الله فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله فتهلكوا".
إن المسلم يبحث في الكون وآفاقه ولكن لا يحاول أن يبحث في الجوهر. عليه أن يبحث في الخصائص ولا يبحث إطلاقاً عن الماهية، ذلك لأنه لا يملك أدوات البحث فالعقل لا يمكن أن يستقل بمعرفة الله ولا أن يهتدي إليه إلا إذا صحب في تطوافه إلى تلك الغاية قلباً يتلقى عنه مدركاته.
ولقد أرسى القرآن العظيم قواعد الإسلام على وحدة الخالق ووحدة الخلق ووحدة النفس البشرية ووحدة الدين ووحدة الإنسانية ووحدة الكون ووحدة التشريع وحق الله تبارك وتعالى على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وعبادته إنما تتمثل في طاعة أمره وتجنب نواهيه.
"ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم".
إن الله تبارك وتعالى تكفل لمن يعتصم به أن يخرجه من كل ضائقة وكل أزمة ومن كل حيرة يقع فيها "ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب".
ومفهوم الإنسان الحق لاستخلاف الإنسان في الأرض وما له من إرادة محدودة يكون مسئولاً في حدودها يمكن الإنسان من إقامة الانسجام والوحدة والتوازن بينه وبين عناصر الكون كلها: من مجتمع وحياة وإنسان.
"وإدراك المسلم بأن الله تبارك وتعالى هو الذي خلق هذا الوجود كله وفق سنن ونواميس متفقة هو الذي وضع له هذا المنهج باعتباره أحد عناصر هذا الوجود يعطيه الثقة بأنه في نطاق هذا المنهج يمارس نشاطه مه حركة الوجود كله ووفق هذه الحركة بانسجام وتوافق لا يمكن أن يتحقق إلا في ظل هذا المنهج فهو والحالة هذه ليس ريشة في مهب الريح ولا جرماً انفلت عن مداره ولا يدري حتى يصطدم بغيره".
وإيمان المسلم بأن له إرادة واختياراً تجعله آمناً من الوقوع تحت سلطان الجبر الذي يقع فيه الماديون فيقتل منزع الإرادة منهم ويعطيهم الجرأة على فعل المنكر "وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها: قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون".
ولو لم يكن للإنسان إرادة واختيار لما كان محلاً للتكليف ولا موضعاً للحساب والجزاء، ولما توجه إليه من الله تعالى أمر ونهي.
أقام الإسلام نظاماً متكاملاً شاملاً للنفس والمجتمع تتمثل مقاصده الأساسية في نقاط محددة، وأساس الإسلام أنه نظام دنيوي أخروي في آن واحد، لا ينفصل فيه الدين عن الدنيا ولا المجتمع عن الشريعة ولا الأخلاق عن الحياة.
وقد أحيا الإسلام عقيدة إبراهيم عليه السلام واعترف بجميع الأنبياء والكتب السماوية المنزلة، ونظم أمور المجتمع ووضع تعاليمه في صيغة كلية وأصول عامة متكاملة مترابطة متفاعلة لا يجوز تجزئتها أو الأخذ بفرع منها دون الآخر، وأقر نظام الأسرة بالزواج وأعلن حقوق الأسرة ورفع مكانة المرأة وأبطل الرق وأعلن الزكاة وجعلها حقاً للفقراء. وقرر الإسلام أن العلاقة بين الله تبارك وتعالى والإنسان علاقة مباشرة دون أي وساطة وأكد الإيمان بالله وحده لا شريك له والإيمان بالبعث والجزاء والحساب وجعل طلب العلم فريضة ودعا إلى النظر والتماس الدليل والبرهان وحث على تنمية المدارك.(71/1)
وأقام الإسلام شرعة الجهاد ونظم مفهوم المال الذي هو مال الله الذي آتاكم، والإنسان مستخلف لتوجيهه إلى الخير وصالح الجماعة وفي سبيل الله.
وقد حرر الإسلام الإنسان من الوثنيات جميعاً: عبادة الأصنام والدنيا والأبطال والخرافات والأساطير وألغى التفرقة بين العناصر والتعصب للجنس ودعا إلى المساواة والإخاء ووفق بين سلطة الحاكم وحرية المحكوم وأعلن احترام الملكية الفردية ووجهها إلى العمل النافع في مال الغني زكاة ودعا إلى التوفيق بين جانبي الإنسان وجانبي الحياة الروحي والمادي وأقام الإسلام الالتزام الأخلاقي وجعله مناط المسئولية والحساب.
وأقام قاعدة حرية الفكر، لا إكراه في الدين، وكفل لغير المسلمين حرية العقائد وحماية الأموال والتسامح.
وأطلق الإسلام العقل الإنساني من قيوده التي كانت تأسره حول المعابد وبين أيدي الكهنة فارتفع إلى الاعتقاد بحياة أخرى وراء هذه الحياة، واعترف بالنوازع البشرية وقرر حق الإنسان في مزاولتها ووضه له ضوابط ونظماً لتوجيهها الوجهة الصحيحة، وهذب من مداخل هذه النوازع ومخارجها بحيث لا تؤذي الفرد نفسه ولا تسيء إلى المجتمع كذلك وعاد الإسلام إلى الوحدة العالمية وجعل من شعيرة الحج منطلقاً إلى التقاء الأجناس والعناصر، وأقام الإخاء العالي وقضى على كل تفرقة لونية أو عنصرية وشجب العنصرية القائمة على الدم والأنساب ومنع التفاضل بهما وجعل تقدير الناس بالأعمال.
أعلن القرآن الكريم أن الله تبارك وتعالى لم يرسل إلى البشرية طوال التاريخ البشري إلا ديناً واحداً هو الإسلام: أي إسلام الإنسان وجهه لله والحكم لله وكل الأنبياء الذين بعثهم الله في أقطار مختلفة وفي شعوب مختلفة في العالم ما جاءوا إلا بنداء التوحيد والإسلام، وقد غيرت التفسيرات من أصل الأديان وبدلت، وحرفتها عن جوهرها الأصيل حتى جاء الإسلام يدعو البشرية من جديد إلى هذا الدين الحق، وقد جعل الله تبارك وتعالى كتابه محفوظاً من حيث النص مهيمناً على الكتب وجعل الإسلام خاتم الأديان وجعل رسوله صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل وفرض على كل من شهد الإسلام أن يؤمن به.
وقد جاءت بشاراته في الكتب السابقة وكان كثير من المؤمنين يترقبون ظهور النبي محمد صلى الله عليه وسلم وترهص الدلائل التي بين أيديهم ببعثه ومطلع رسالته. والمسلمون يؤمنون بجميع من جاء قبل محمد صلى الله عليه وسلم من أنبياء ورسل وكتب وأن هذا الإيمان جزء أساسي من عقيدتهم لا يكمل إسلامهم بدونه وإن كانوا يتلقون الهداية من النبي محمد صلى الله عليه وسلم فقط لأن تعاليمه هي آخر التعاليم.
وكلام الله الذي بين دفتي المصحف هو كلام إلهي محض لم يمازجه شيء من كلام البشر، وهو محفوظ بلغته الأصلية ولغته هي إحدى اللغات الحية في العالم، ولم يطرأ أي تغير علىق واعدها ومبانيها ومعانيها وأساليبها ورسوم الكتابة بها.
وما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الأخلاق والسلوك وما صدر عنه من الأقوال تم تدوينه وحفهظ بأصح ما يكون من الطرق وأن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بموجب عقيدتنا جاءت لجميع العالم ولسائر الأزمان.
إن نظرة عميقة مستفيضة إلى بعض الوقائع والأحداث في حياة الإسلام الأولى من خلال تاريخ النبي محمد صلى الله عليه وسلم تكشف أبعاداً عريضة للدعوة الإسلامية لم تكن واضحة وضوحاً كافياً حتى جاءت هذه المرحلة من تاريخ الإسلام فألقت عليها ضوءاً كاشفاً. تعني هذه الوقائع ارتباط الدعوة الإسلامية التي جاء بها محمد بن عبد الله بميراث النبوة كله: إبراهيم وإسماعيل وموسى وعيسى يتجلى ذلك واضحاً في واقعة الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس وصلاته إماماً بالأنبياء جميعاً قبل عروجه إلى السموات العلا هذا الارتباط بميراث موسى وعيسى دليل على صدق نبوة محمد وأنه جاء خاتماً لكل الرسائل والأنبياء وجاء كتابه خاتماً لكل الرسائل والأنبياء وجاء كتابه خاتماً لكل الكتب ومهيمناً عليها، وقد تحقق ذلك بعد سنوات قليلة عندما فتح المسلمون بيت المقدس وعقد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لسكان القدس العهدة العمرية.
كذلك فقد جاءت فريضة الحج لتربط المسلمين بدين إبراهيم عليه السلام الذي أقام القواعد من البيت وإسماعيل وأهدى إلى أهل التوحيد تلك المناسك في منى وعرفات والمزدلقة وقد جاء محمد صلى الله عليه وسلم دعوة إبراهيم ومن نسل إسماعيل وسجل القرآن ذلك تسجيلاً رائعاً.
"إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي".
"ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين".
وهكذا ارتبطت دعوة التوحيد بين إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام وجاء هذا الارتباط واضحاً في كل دين جاء به الأنبياء إذ حمل إليهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ولقد ذكرت التوراة والإنجيل كلاهما هذه النبوءة وسجلتها تسجيلاً: "ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل" ولقد أبان سيدنا عيسى بن مريم رسول الله إلى بني إسرائيل هذا الارتباط: "ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد".
كل هذا يعطي مفهوماً واضحاً هو المسئولية الكاملة النهائية لكل ميراث النبوة والرسالة، والارتباط بين أنبياء الله ورسله على كلمة التوحيد يسلمها كل منهم إلى من بعده حتى تختتم بمحمد صلى الله عليه وسلم.(71/2)
كذلك كشف القرآن عن عجز بني إسرائيل عن حمل الأمانة ولذلك نقلها الحق تبارك وتعالى إلى العرب: "قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء".
كذلك كشف القرآن عن عجز بني إسرائيل عن حمل عن أنع دين رشد الإنسانية وأن البشرية قد تجاوزت طفولتها، فقد جاءت رسالة الإسلام معجزة بيان خالد باق إلى يوم القيامة هو القرآن الكريم الذي تحدى به الحق تبارك وتعالى العرب والعجم أن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله أو بآية واحدة، ولقد عجز البشر وما زالوا عاجزين إلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها عن هذا التحدي.
ولقد جاء الإسلام ليفصل بين تاريخين للبشرية: تاريخ ما قبل الإسلام كله وهو تمهيد لنزول الإسلام، وتاريخ العالم منذ الإسلام، ومنذ أن بزغ ضوء الإسلام وهو عنصر فعال ومؤثر في كل حدث من أحداث البشرية على وجه الأرض.
وقد حرر الإسلام البشرية من الوثنية وعبودية الإنسان في حضارات الفراعنة والفرس والهنود واليونان والرومان وحرر هذه المنطقة العربية التي توالت عليها أمواج الهجرات من قلب الجزيرة العربية خلال أكثر من خمسة آلاف سنة متوالية حتى جاء الإسلام فوسدت له العروبة والعربية ذلك السفح الممتد من العراق إلى الشام إلى مصر إلى أفريقيا وسرعان ما استجابت هذه الأمة كلها لكلمة الله في سنوات قليلة ونسيت تاريخاً إغريقياً رومانياً امتد أكثر من ألف سنة من سوريا إلى إسبانيا عبر شمال أفريقيا، منذ فتح الإسكندر الأكبر.
وفي يوم فتح مكة رفض رسول الله قول سعد بن عبادة: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة وقال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
وأعلن الإسلام دعوة إنسانية عالمية تخاطب الناس جميعاً فالناس كلهم من ذكر وأنثى وعباد الله وخلقه وقد استخلفهم تبارك وتعالى في الأرض، وجعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا ومن آياته اختلاف ألسنتهم وألوانهم، والرسول صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى العالمين "قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً".
وانداح المسلمون في أنحاء الأرض يعلنون كلمة الله ويقيمون دعوة الحق، ولا يعمدون إلى إفناء السكان الأصليين أو إجلائهم ولا يقيمون المستعمرات أو يضعون الحواجز بينهم وبين سكان المدينة التي انتقلوا إليها وهم كما يقول فتحي عثمان: مع سكان المدن المقيمين، والمهاجرين والوافدين سواء في الاعتبار الإنساني والحقوق القانونية.
ولقد واجه المسلمون النصر والهزيمة، انتصروا حين استمسكوا بكتاب الله تبارك وتعالى وحقه الذي بينه لهم وانهزموا حين تخلوا عنه "والحق تبارك وتعالى - كما يقول الأستاذ محمد قطب - حين يتعامل مع رسله وأنبيائه وأتباعهم من المؤمنين لا يتدخل من أجلهم فيخرق الناموس وينصرهم بالمشيئة على طريقة كن فيكون" وإنما يعودهم أن يكونوا أول الناس إيماناً بالقانون الاجتماعي وأكثرهم إدراكاً لسنن الحياة ونواميسها وأن يكونوا أحرص الناس على التوافق مع هذه السنن والنواميس فهو يبتلي رسوله صلى الله عليه وسلم بتكذيب الناس ولا يتدخل بالمشيئة المباشرة ليعفيه من أعباء الجهاد في سبيل دعوته وإنما يذكره بقانون الحياة وسنة الصراع بين الحق والباطل:
" ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين". ويبين الله تبارك وتعالى علاقة المشيئة الإلهية بقوانين المجتمع فيقول: "ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض".
ولقد كشف الباحثون المنصفون عن هذا الدور الخطير الذي قام به الإسلام في "تحضير" البشرية ورفعها إلى درجة الإنسانية فيقول إيربري: إن الإسلام لم يكد ينزل على محمد في قلب جزيرة العرب حتى بدأ يغزو العالم بسرعة أذهلت المفكرين المحللين للتاريخ. وقد حاول المؤرخون المحدثون تعليل هذه الانتصارات الواسعة والفتوحات العظيمة بردها إلى عوامل اقتصادية أو حربية أو سياسية ولكن كل تلك التفسيرات ظلت عاجزة عن التعليل الصحيح فكان لابد من الرجوع إلى العامل المؤثر وهو الدين الجديد.
"إن بلاغة القرآن المعجزة مع بساطة تعاليم الإسلام التي جاءت في هذا الكتاب هي المفتاح لحل لغز أعظم "مد" في تاريخ الأديان ذلك أن الإسلام جاء يدعو إلى حياة منظمة جادة، حياة جماعة عاهدوا الهل أن يخضعوا لإرادته في كل أمر، وأن يجاهدوا في حمل كافة البشر على الإقرار بقدرته وملكوته.
حقاً، اختار محمد رسول الله الرفيق الأعلى، ولكن رسالته بقيت، حملها معهم المجاهدون إلى أطراف الأرض وكانوا جنداً وفي الوقت نفسه مبشرين بدعوة الدين الجديد. وأعلن أكثر من باحث غربي أن انتشار الإسلام كان أكبر خرقاً للعادة، يقول (م. روي) أن امبراطورية أغسطس الرومية بعد ما وسعها بطلها (تراجان) نتيجة فتوح عظيمة في سبعة قرون ولكنها لا تساوي المملكة الإسلامية التي أسست في أقل من قرن. إن امبراطورية الإسكندر لم تكن في اتساعها إلا كسراً من كسور مملكة الخلفاء الواسعة. أن الامبراطورية الفارسية قاومت الروم زهاء ألف سنة ولكنها غلبت وسقطت أمام سيف الله في أقل من عشر سنوات، وما تزال مسألة "لماذا انتصرت الجيوش الإسلامية القليلة العدد والعدة على الجيوش الضخمة" أكبر معضلة في تاريخ الإسلام وموضع دهشة الباحثين، حين استطاع بسرعة انتشاره المذهلة خلال فترة قصيرة أن يبسط جناحيه من حدود الصين إلى حدود فرنسا.
ويرجع ذلك في الرأي الأصدق إلى طبيعة العقيدة وجمعها بين الدنيا والآخرة والعقل والقلب وطابع العدل والرحمى والإخاء البشري وتحرير العقل الإنساني من الوثنية وتحرير الجسد البشري من العبودية.
فقد عرف الإسلام منذ يومه الأول بمرونته في مواجهة الحضارات والثقافات وإتاحة الفرصة لأهل البلاد في حكم أنفسهم، وحرية العبادة وعدم فرض العقيدة الإسلامية عليهم بالقوة، وكون الإسلام ليس ديناً فحسب ولكنه كان في مجمله منهج حياة ونظام مجتمع.
وقد أدى الإسلام دوراً حضارياً وثقافياً بالغ الخطورة خلال ألف سنة كاملة وإنساب إلى مختلف الثقافات والعقليات فمنها من تقبلته عقيدة ومنها من تقبلته ثقافة وحضارة، وهو الذي أنشأ بذرة الحضارة الحديثة حين قدم لها المنهج العلمي التجريبي.
لقد كانت الدولة وأصحاب الأديان يفرضون مذاهبهم وعقائدهم بالقوة، أما الإسلام فقد ترك لكل إنسان حريته في العبادة وأقام العدل وحمى معابد اليهود والنصارى ولم يحارب المسلمون أبداً في سبيل نشر الإسلام وإنما ردوا على عدوان من اعتدى عليهم أو وقف في طريق دعوتهم.
بماذا انتصر المسلمون؟
يقول ماكس مايرهوف في كتابه (العالم الإسلامي):
"يكاد يكون مستحيلاً أن نفهم كيف أن أعراباً منقسمين إلى عشائر ليس عندهم العدد والأعتدة اللازمة يهزمون في هذا الوقت القصير جيوش الرومان والفرس الذين كانوا يفوتونهم في الأعداد والعتاد وكانوا يقاتلونهم في كتائب منظمة، أن القول بالمراس الذي عرفه العرب للحروب والقتال والنظم والانقياد العام للقيادة فيه مغالطة كبيرة، فقد ثبت أن الروم والفرس كانوا راقين في النظام الحربي، وقد بلغت الدولة البيزنطية في بداية القرن السابع المسيحي زهوها وأوج قوتها، ودحر الروم الفرس وردوهم على أعقابهم عام 625 قبل زحف المسلمين على الشام باثنتى عشرة سنة فقط، وقد وقف 24 ألف مسلم في وجه الروم الذين كانوا أكثر من مائة وثمانين ألفاً".
ونقول: لقد كان الإيمان هو الموازن لفرق الكفة من ناحية العدد والعدة، فقد كان المسلمون يدخلون معاركهم وقد آمنوا بأن الحرص على الموت يهب الحياة وكانوا يقدمون أنفسهم وأرواحهم لله خالصة.
ولقد كان المسلمون رحماء في فتوحهم كرماء مع خصومهم أيضاً.
أين هذا مما يقوله مؤرخ الحروب الصليبية حين يقول: "إذا كنت تريد أن تعرف المعاملة التي لقيها أعداؤنا في بيت المقدس فيكفي أن تعلم أن أصحابنا كانوا يخوضون في بحر من الدماء حتى الركب ولم يستطع أحد من الكفار (المسلمين) الخروج سالماً ولم نعف عن أحد حتى النساء والأطفال".
أين هذا الذي فعله المسلمون مما فعله فيليب الثاني بأمر البابا عندما أصدر أمراً يقضي بطرد جميع المسلمين من إسبانيا وقبل أن يتمكن المسلمون من الفرار والنجاة بأنفسهم تم القضاء(71/3)
على ثلاثة أرباعهم بأمر الكنيسة والذين استطاعوا النجاةة من الموت أصدرت في حقهم محاكم التفتيش أمراً بالإعدام ثم القضاء على ثلاثة ملايين مسلم دون مبرر.
ومع ذلك فقد أعطى المسلمون حضارتهم ولم يبخلوا: يقول المؤرخ الكبير هونشو: لقد خرج الصليبيون من ديارهم لقتال المسلمين فإذا هم جلوس تحت أقدامهم يأخذون عنهم أفانين العلم والمعرفة، ولقد بهت أشباه الهمج عندما رأوا حضارة المسلمين التي رجحت حضارتهم رجحاناً لا تصح معه المقارنة بينهما.
وكان هناك جانب خفي على الغرب، هو أنهم لم يفهموا الإسلام فهماً صحيحاً فقد استقى الغربيون معارفهم عن الإسلام من مصدرين (كما يقول أدوين كالفرلي) أحدهما يتمثل في الشائعات التي روجها بعض المحاربين والتجار الغربيين وغيرهم، وألا يتمثل في المعلومات التي أذاعها الغربيون القليلون الذين اطلعوا على القرآن وغيره من كتب الإسلام، وقد ذخرت الشائعات التي روجت عن الإسلام بأخطاء كثيرة ما زال بعضها راسخاً في أذهان كثير من الغربيين ومن بين هذه الأخطاء أن المسلمين يعبدون محمداً وليس عسيراً أن يتقبل الغربي هذه الفكرة فكما أن بعض المسيحيين يعبودون المسيح، فكذلك يظن بعض الغربيين أن المسلمين يعبدون محمداً مؤسس دينهم الذي يطلق عليه الغربيون لهذا السبب اسم "المحمدية".
وقد كانت هذه الفكرة شائعة في أوربا قبل حروب الصليبيين وأثناءها ثم زادت رسوخاً ورواجاً عند عودة الصليبيين من حروبهم فقد حاول الدعاة من رجال الدين وقادة الجيوش العائدة أن يثيروا في نفوس الجنود بغض المسلمين فأخذوا يروجون الإشاعات المضللة عن معتقدات المسلمين وتقاليدهم وفي مقدمتها أنهم يعبدون محمداً نبيهم ووجدت هذه الإشاعات مرعى خصباً بين أولئك الجنود فأخذوا يتناقلونها ويرددونها مع الزيادة فيها ولاسيما أن أكثرهم كانوا أميين لا يقرأون ولا يكتبون حتى بلغتهم الأصلية، كما أنهم لم يختلطوا بالمسلمين ولم يكونوا يعرفون العربية، فلم يتح لهم أن يقرأوا أو يسمعوا شيئاً يذكر عن الإسلام والمسلمين، والعجيب أن هذه الفكرة الخاطئة ما زالت شائعة تجد الطريق ممهداً لترويجها ويروج كتاب (ماركوبولو) لهذه الفكرة الخاطئة بطريقة غير مباشرة. ففي الفصل الخامس منه يتحدث ماركوبولو عن العرب الذين يعبدون محمداً.
وهناك صحف غربية كثيرة لا تزال تقع في هذا الخطأ وتردده، وبعض المعاهد الغربية تلقن طلبتها هذه الفكرة ويرى أساتذها أن محاولة المسلم أن يطيع محمداً ويحاكيه في كل أفعاله ليس إلا عبادة في حين يقرر المسلمون جميعاً أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الهل وفي حين أن طاعة المسلمين لمحمد ليست إلا طاعة لله الواحد الأحد الذي دعاهم إلى عبادته.
ويصور برناردشو موقف الغرب من الإسلام فيقول: "لقد عمد رجال الإكليروس في العصور الوسطى إلى تصوير الإسلام في أحلك الألوان والواقع أنهم كانوا يسرفون في كراهية محمد وكراهية دينه ويعدونه خصماً للمسيح أما أنا فأرى واجباً على أن يدعي محمد منقذ الإنسانية وأعتقد أن رجلاً مثله إذا تولى زعامة العالم الحديث لنجح في حل مشكلاته".
والواقع أن محمداً ودينه لم يكرها المسيح عليه السلام ولم يختصما معه بل آمنا به إيمانهم بكل أنبياء الله ورسله وكتبه وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فجمله وحسنه إلا موضع لبنة في زاوية من زواياه، فكان الناس يطوفون بالبيت ويعجبون ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ فأنا اللبنة وأنا خاتم المرسلين".
ولقد أنكر الغرب وإلى زمن قريب في مدى أربعة قرون فضل المسلمين على الحضارة العالمية، أما المسلمون فأنهم قد اعترفوا بما أفادوا من تراث الأمم، هذا الذي غربلوه ونخلوه في ميدان العلوم الطبيعية والرياضية فحسب أما في مجال الإنسانيات والعقائد وأسلوب العيش والأدب فإنهم لم يأخذوا من أحد واستهدوا فطرتهم وطبيعتهم وفي مجال العلوم استطاعوا أن ينشئوا المنهج العلمي التجريبي وكانوا منصفين دائماً لكل من عرفوا من علم واعترفوا بفضل من سبقهم في أي ميدان دون أن يجدوا في ذلك غضاضة، فقد علمهم دينهم: العدل والإنصاف من النفس وقد فعل الغرب ذلك كله ليصور المسلمين أمام أهليهم بصورة العاجزين عن الانبعاث مرة أخرى أو بصورة التابعين لحضارة العرب ورغبة في إحكام السيطرة والنفوذ على مقدراتهم، كما حاولوا إثارة الفتن القديمة والخلافات بين مختلف الوفود التي طويت مرة أخرى للتفريق بين المسلمين.
ومع ذلك فقد استعاد الإسلام وحدة الفكر من جديد وعرف أهداف الغزو والتغريب وقطع مراحل طويلة في التقدم الاجتماعي وفي التوسع السلمي فدخل بلاداً كثيرة وانتشر في مختلف القارات وأثلجت كلمة لا إله إلا الله ملايين الصدور التي كانت حائرة مضللة.
ووصف ذلك عدد من المؤرخين المنصفين فقال أحدهم أنه متى دخلت قبيلة من القبائل الوثنية في الإسلام اختفت عنها في الحال عبادة الشيطان وعبادة البشر وأكل لحم الإنسان وتقديم الضحايا البشرية وقتل الأولاد والسحر، وصاروا يرتدون الثياب وحلت فيهم النظافة وشعروا بالعظمة واحترام النفس وصار قرى الضيف عندهم من الواجبات الدينية وندر شرب المسكرات وحرم القمار والرقص المنافي للعفة وفوضى اختلاط الجنسين وصارت طهارة العرض من أعظم الفرائض وذهبت البطالة والكسل ودخل العمل والكد محلهما وتغلب النظام والرزانة على الشقاق وحرمت القسوة على الحيوان والعبيد، وتعلموا الشعور بالإنسانية واللطف والأخوة، وصدق الله العظيم إذ يقول:
"أفمن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها".(71/4)
نظرية السامية مؤامرة على الحنيفية الإبراهيمية
الأستاذ أنور الجندي
في النصف الثاني من القرن الثامن عشر ابتكر "شلوسر" مصطلح "السامية" واعتمد في هذه التسمية على نص من التوراة، وكانت الصهيونية من وراء هذه الفكرة، ومن ثم فقد اتسع نطاق هذه المقولة الزائفة، وأقام عليها الكتاب الموالون للصهيونية والاستعمار ما أطلق عليه اسم: "عام الأجناس".
ولغياب الفكر الإسلامي في هذه المرحلة فقد اتسع نطاق الفكرة الإسرائيلية، وسيطرت على مناهج الجامعات ودراسات الثقافة جميعاً، وفي كليات الآداب بالبلاد العبربية تقررت دراسات اللغات السامية وقام على هذه الدراسات مستشرقون يهود، في مقدمتهم يوسف شاختـ وإسرائيل ولفنسون، اللذان أخذا يخدعان الشباب المسلمين والعرب بقولهم: "إن العربية ليست سوى عبرية مقلوبة، وإن العرب إنما اتخذوا اسمهم من (عربة) للصلة بين العرب واليهود من ناحية، وبإعطاء اليهود مكاناً زائفاً في مجال الآداب والعلوم.
البداية:
ومنطلق البحث: أنه قبل بروز فكرة الصهيونية في العصر الحديث "كمخطط متجدد، ومبتعث من (التوراة) التي كتبها حكماء اليهود إبان السبي البابلي، و (التلمود) الذي جاء بعد تدمير الرومان للقدس".
هذا المخطط هو (بروتوكولات صهيون) التي عرفت لأول مرة عام 1897 م، وفي خلال إعداد هذا المخطط كانت هناك محاولات جبارة تعمل على وضع مفهوم الصهيونية التلمودية في داخل كتب التاريخ والموسوعات العالمية. وإدخالها في مناهج المدارس والجامعات الغربية. وبثها عن طريق معاهد المفكرين الذين احتوتهم الصهيونية، شلوسر وبروكلمان ورينان ودور كايم ودوزي. وذلك بالإضافة إلى الاستشراق اليهودي الصهيوني: مارجليوث، جولد تسيهر، برنارد لويس.
السامية إحدى دعاوي الاستشراق اليهودي:
امتصاص الفضل:
وقد حاولت هذه الخطة تحقيق عدة أهداف:
أولاً: نشر فكر السامية التي نسبت إليها كل أمجاد التاتريخ العربي القديم، وسلبه من أصحابه الحقيقيين وخاصة إسماعيل بن إبراهيم وأبنائه وأحفاده، وأضافت هذا كله إلى مصدر غامض ليس له سند علمي، ويستمد مصدره الأساسي من "التوراة" التي كتبها اليهود بأيديهم، وليست التوراة الحقيقية المنزلة على موسى عليه السلام، وذلك بهدف إشراك اليهود مع العرب في هذه الأمجاد، بينما لا يوجد لليهود أي اتصال ببدء هذه الحضارة، ويستتبع هذا الخطر: إيجاد صلة ما بين العربية والعبرية على النحو الذي حاوله الكتاب الذين ما أسموه "تاريخ اللغات السامية" وقاموا بتدريسه في الجامعات وهم: إسرائيل ولفنسون وشاخت ثم الدكتور مراد كامل.
التشكيك في الحق:
ثانياً: محاولة التشكيك في رحلة إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى الحجاز وإقامة ابنه إسماعيل وزوجته هاجر في مكة، وهذا يبدو واضحاً من تجاهل التوراة "الزائفة" لهذه الواقعة التاريخية ومحاولة إثارة الشبهات حولها. وقد ردد الدكتور طه حسين هذا القول في كتابه "في الشعر الجاهلي".
ثالثاً: محاولة اعتبار التوراة "الزائفة" مرجعاً للبحث العلمي، مع أن شهادات كل علماء الغرب تؤكد أن التوراة الموجودة الآن كتبها علماء اليهود، منها ما كتب أيام المملكة الإسرائيلية، ومنها ما كتب قبل الميلاد بنحو ثلاثة قرون.
ظهور الهدف:
رابعاً: محاولة خلق تصور زائف اليهود في الجزيرة العربية وفي الأدب العربي.
خامساً: محاولة إيجاد ترابط بين العرب واليهود، والقول بأنهما أبناء عمومة، وذلك كله يستهدف التمهيد للدعوة إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
سادساً: إعلاء شأن "إسحاق" على "إسماعيل" وهما ابنا إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، وأكبرهما إسماعيل الذي هاجر به وأمه إلى مكة، والذي أقام معه القواعد من البيت الحرام، والذي امتحن بذبحه وجاءه بالفداء من السماء، والهدف هو إخراج أبناء إسماعيل من حقوق الوعد الذي تلقاه إبراهيم عليه السلام من ربه، وقصر الوعد على أبناء إسحق تحت اسم أسطورة "شعب الله المختار".
التزييف القديم:
هذه هي أهم أطراف المؤامرة الخطيرة لتزييف تاريخ الإسلام والعرب قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم لحساب الصهيونية التلمودية، وقد جرى تطعيم دوائر المعارف وكتب التاريخ ومناهج المدارس والجامعات بهذه المفاهيم، واستكتاب عشرات الكتاب البحوث المتعددة التي تدور حول هذه الشبهات، لخلق أدلة مضللة لتثبيتها في الأذهان.
وتكاد تكون فكرة "السامية" أخطر هذه الشبهات، وهي مصطلح لم يرد مطلقاً في كتابات العرب والمسلمين على مدى التاريخ، وقد استمد أساساً من نص من نصوص التوراة المكتوبة بأيدي الأحبار، في ظل تقسيم واه للأجناس البشرية مستمد من أسماء أبناء نوح حفيد آدم أبي البشر سام وحام ويأفث.
التزييف الحديث:
وقد برز هذا المعنى في ظل تقسيم مستحدث، ظهر في أوربا إبان استعلاء نزعة العنصرية الأوروبية التي قسمت العالم إلى ساميين وآريين لتضع العرب والمسلمين في قائمة موازية للجنس الآري، صانع الحضارة الذي وصف بكل أوصاف العبقرية والعظمة والاستعلاء على البشر وخضوع الأجناس الأخرى له.
وكان هذا التنظير الذي ألبس ثوب العلم، إنما يستهدف إعطاء الاستعمار "مبرراً" علمياً لسيطرته على الأمم غير الآرية أوروبية.
غير أن المحاولة التي حاولت أن تضع عبارة "السامي" والسامية بديلاً للإبراهيمية والحنيفية وللعرب وللعربية، كانت محاولة ماكرة خطيرة استهدفت أمجاد التاريخ القديم عن العرب، ونسبتها إلى اسم قديم لا يعرف التاريخ الصحيح له مصدراً واضحاً.
والغربيون يعرفون أن التوراة التي بين أيدي الناس اليوم، هي توراة مكتوبة بأيدي الأحبار، وأن صلتها بالتوراة الصحيحة مشكوك فيها، ولذلك فإن الاعتماد عليها في إقامة نظرية تعطي كل هذا القدر من التوسع والنمو والسيطرة في دوائر الثقافة والعلم والجامعات، هو أمر لا أساس له من منهج العلم الصحيح، ولقد كانت اليهودية الصهيونية من وراء هذه النظرية، في سبيل طمس التاريخ العربي السابق للإسلام، وإحياء اللغة العربية وإعطائها رصيداً زائفاً من الصلة باللغة العبرية هو أكبر بكثير من حجمها الطبيعي.
معنى السامية والأكاذيب:
وفكرة السامية تدور حول القول بأن هناك أصلاً واحداً مشتركاً للعرب واليهود، ومحاولة إعطاء العربية أثراً ومكانة غير صحيحة في حضارات الشرق القديم.
وقد كانت الصهيونية وراء هذه الفكرة في محاولة لإعطاء اليهود فضلاً زائفاً في مجالات كثيرة، ومن ذلك القول بأن اليهود هم الذين وضعوا شريعة حمورابي، إبان نفيهم في بابل. بينما وثائق التاريخ تكذب ذلك، وتثبت أن اليهود إبان النفي كانوا يبحثون في حضارات الأمم، عن خيوط يضمونها إلى نسيجهم المهلهل، ليتمكنوا من القول بأن لهم فلسفة معينة، وقد كانت فلسفتهم ومنهجهم الفكري فيما بعد جماع الفلسفة البابلية القديمة والهلينية ومدرسة الأفلاطونية المحدثة وبقايا المجوسية والغنوصية والشرقية، وذلك بعد أن فقدوا أصلهم الأصيل وهو: "توراة موسى" علية الصلاة والسلام كذلك فقد كان هدف هذه المحاولات القول بأن اليهود والعرب أبناء عمومة تربطهم أواصر الرحم والقربى، وتاريخ اليهود بعد الإسلام في المدينة يكشف عن طبيعة هذه الرحم والقربى في مؤامراتهم وغدرهم الذي امتد طوال تاريخهم.
ولقد حاول دوزي ومرجليوت إدعاء هذه الصلات واختلاق تشابه بين قبائل قريش وأسباط اليهود والقول بأن موطن اليهود هو بلاد اليمن، اعتماداً على ألفاظ ملتقطة من لغة سبأ البائدة، تشبه ألفاظاً عبرية.(72/1)
ولقد استع نطاق هذه الكتابات في الفكر الغربي في هذه الفترة المبكرة، تمهيداً للفكرة الصهيونية، حتى أن بعض العلماء الغربيين لم تخدعهم هذه التلفيقات فكشفوا زيفها، أمثال جوستاف لوبون الذي قال: "لا جرم أن الشبه قليل بين العربي أيام حضارته، واليهودي الذي عرف منذ قرون بالنفاق والبخل والجبن، وأن من الإهانة للعربي أن يقاس باليهودي، ولا ننسى أن طرق الحياة الخاصة التي خضع اليهود لحكمها منذ قرون كثيرة، أمة تكون عرضة لمثل ما أصاب اليهود، ولا عمل لها غير التجارة والربا، وتحتقر كل مكان تنتقل إليه، تلك الغرائز المنحطة بالوراثة المتتابعة مدة عشرين قرناً، وأكثر، فتتأصل فيها وتصير إلى ما صار إليه اليهود لا محالة" أ. هـ.
الشبهات حول العربية:
ولقد كانت مؤامرة "السامية" هذه موضع نظر الباحثين العرب والمسلمين منذ وقت طويل، فلم نقتهم تلك الخطة الماكرة التي استهدفت اعتبارها منهجاً من مناهج الدراسة الجامعية، وإعطاء شبهاتها صيغة المسلمات.
وقد استخدم الدكتور طه حسين في هذا الأمر استخداماً خطيراً، فقد استغل دراسته في تجديد الأدب العربي ودراسة الشعر الجاهلي، لإقرار عدة مفاهيم تخدم وجهة النظر الصهيونية، ومنها القول بأن اللغة العربية لم تكن لغة واحدة في الجزيرة العربية، وأنه قد كانت لغة في الجنوب ولغة في الشمال., وهي محاولة مضللة استهدفت التشكيك في وحدة اللغة العربية قبل الإسلام وإثارة الشبهات حول نموها واتجاهها إلى اتخاذ مكانها الذي أهلها لتكون لغة القرآن ولسان الإسلام.
كذلك فإن الدكتور طه قد هيأ لشاب يهودي استقدمه من فرنسا لإعداد دراستين: إحداهما عن اليهود في جزيرة العرب والأخرى عن تاريخ اللغات السامية، ليحشد فيها كل تلك المخططات التي أعدتها الصهيونية لتزييف التاريخ الإسلامي، وقد قدمت إحدى هذه الدراسات على أنها أطروحة دكتوراه قدمها "إسرائيل ولفنسون" وكان ذلك مقدمة لتصبح هذه السموم "مسلمات" تدرس في الجامعات ولا تزال.
من هذا الباب دخلت الفكرة:
وبذلك استطاعت الصهيونية العالمية أن تدخل نظريتها المسمومة إلى قلب الفكر الإسلامي والأدب العربي، لتضرب به ذلك المفهوم الأصيل الذي عرفه المسلمون واستوعبته آثارهم وتراثهم.
كذلك فقد عاش الدكتور طه حسين حياته كلها يحاول إقناع المسلمين والعرب، بأن لليهود فضلاً على أدبهم وتاريخهم، فهو يعرض لليهود واليهودية كلما عرض للغة العربية وآدابها، ولقد عمل باكراً لتحقيق هذا الهدف حين أعلن بأن وجود إبراهيم وإسماعيل لا تثبته المصادر العلمية والتاريخية وأنكر أن ورود اسمهما وخبرهما في القرآن يعد سنداً صحيحاً.
ومن العجب أن تجد نظرية السامية مثل هذا الاتساع والشهرة وهي تعتمد على نص من التوراة التي كتبها أحبار اليهود، ويقرها طه حسين على ذلك، ولكنه لا يقر القرآن المنزل على وجود إبراهيم وإسماعيل، والقرآن هو النص الموثق الذي نزل من السماء والذي لم يصبه أي تحريف.
كذلك فقد تحدث الدكتور طه عما أسماه أثر اليهود في الحياة العربية والأدب العربي، ومحاضراته متعددة في هذا الصدد وأهمها محاضرته التي سجلتها له مجلة الجامعة المصرية في عددها الأول من سنتها الثالثة عام 1952 م عن أثر اليهود:
أولاً: أن اليهود أثروا في الأدب العربي أثراً كبيراً جنى على ظهوره ما كان بين العرب واليهود.
ثانياً: إن اليهود قالوا كثيراً من الشعر في الدين وهجاء العرب وقد أضاعه مؤلفو العرب.
ثالثاً: إن اليهود انتحلوا شعراً لإثبات سابقتهم في الجاهلية على لسان شعرائهم وشعراء العرب.
كشف الغطاء:
وفي مقدمة كتاب إسرائيل ولفنسون (الذي أصبح الآن يشرف على البعوث الإسرائيلية في أفريقيا) يقول الدكتور طه حسين:
"ليس من شك أن المستعمرات اليهودية قد أثرت تأثيراً قوياً على الحياة العقلية والأدبية للجاهليين من أهل الحجاز، وليس من شك في أن الخصومة كانت عنيفة أشد العنف بين الإسلام ويهودية هؤلاء اليهود وفي أنهار قد استحالت من المحاجة والمجادلة إلأى حرب بالسيف انتهت بإجلاء اليهود عن البلاد العربية.
ويعلن الدكتور طه حسين اغتباطه إلى أن إسرائيل ولفنسون (قد وفق إلى تحقيق أشياء كثيرة لم تكن قد حققت من قبل).
ولكن هذه هي الحقيقة؟؟ أن (الدكتور فؤاد حسنين علي) أكبر المتخصصين في مصر في اللغة العربية وتاريخ اليهود يقول: إن هذا البحث حلقة من حلقات كتب الدعاية الصهيونية التي كانت الشعبة الثقافية للمؤتمر الصهيوني بإشراف (مارتن برير) تدعو إلى نشرها، وما نقله إسرائيل ولفنسون في سرالته من آراء، كان القصد منه إطلاع اليهود الشرقيين وقراء العربية على ما جاء في المصادر الأجنبية، وأن هذه الرسالة التي ما زالت في أيدي المثقفين والباحثين مشحونة بالأخطاء، وهي بعيدة عن المراجع العبرية، وقد أخذ بالنتائج التي وصل إليها الباحث دون التحقق منها بعض الذين يجيدون هذا النوع من الدراسات، والأمانة العلمية كانت تقتضي(72/2)
غير هذا، ذلك أن البحث العلمي يجب ألا يصبغ بصبغة القومية المتعصبة، كما لا يتخذ وسيلة من وسائل الدعاية السياسية أو الكسب المادي الرخيص".
ولاريب أن هذا مقتل من مقاتل طه حسين الكثيرة التي غابت عن كثير من الباحثين.
ما هي قيمة تراثهم:
وإلى قيمة تراث اليهود وصلته بالتراث الإسلامي، يقول الدكتور فؤاد حسنين: "في مصر بزغ فجر الضمير، ومنها أخذ اليهود ما أخذوا، وفي بابل وآشور كانت شريعة حمورابي وفيها الشيء الكثير من هذا التراث الذي نقلوا معهم عن سصفر التثنية، ولما عاد اليهود من المنفى نقلوا معهم عن العرب البابليين الشيء الكثير مما نجده في كتابهم المقدس وكان عند المعينيين والسبنيين العمارة وهندسة الري والتجارة، وقصة ملكة سبأ والدور الذي تلعبه في تاريخ الإسرائيليين، وحياتهم الاقتصادية لا تخفى على أحد، ويشير الدكتور فؤاد حسنين إلى آثار اليهودية والمسيحية والإسلام: وما استتبعه ذلك من تفتق العقل البشري فأنتج أدباً وشعراً ونثراً وقصصاً وفسلفة وحكماً وأمثالاً.
وكان من نتائج هذه الثورات العربية والروحية أن رمت العروبة ببعض أبنائها شعوب العالم القديم من شرقيين وغربيين فحطموا مخلفاتهم العفنة البالية وأقاموا على أنقاضها هذه الدول الفتية التي جاءت بالمعجزات/ فالعرب لا اليونان أو اليهود هم الذين بعثوا العالم من حالة الجمود إلى حياة أفضل، مكنته من التحكم في مصائر الكون، فأطلق العربي الأفكار من عقالها وحررها من جمود رجال المعبد اليهودي والكنيسة المسيحية وظهرت طائفة من القرابين حيث أنكر هؤلاء التلمود وتعاليمه كما انكمش سلطان الكنيسة وتورات وراء جدران المعابد وقد مهد هذا التطور بدوره إلى ظهور حركة الإصلاح الديني وبعث النهضة العلمية.
تسامح الإنسانية:
وكما عاون العرب على الاضطلاع بهذه الرسالة تسامحهم ومبادؤهم الإنسانية التي أزالت الفوارق بين الشرق والغرب، كما أنهم لمن يمكنوا اللون من أن يكون عاملاً من عوامل التفرقة والتمييز العنصري والحط من القيم الإنسانية، والدين الإسلامي هو الذي ثبت مبادئ الحقوق الإنسانية ولذلك نجح العربي في تحقيق ما عجز عنه اليوناني والفلسفة اليونانية.
ومذهب الإنسانية لم يقو ولم ينتصر إلا بفض العرب، ولم تعرفه أوربا إلا في العصور الوسطى وعلى يد العرب وبعد أن تتلمذ أوربا على العرب في العصر الإسلامي.
التضليل:
ويصل الدكتور فؤاد حسنين إلى القول: بأن الحالقين على العرب والإسلام، والناسبين التراث العربي إلى اليونان واليهود، يضللون أنفسهم وغيرهم، والعكس هو الصحيح، فالمسلمون هم أصحاب الفضل على اليونان واليهود والتاريخ اليهودي يحدثنا أن العرب أحسنوا معاملة اليهود عندما كانوا يهربون من وجه الطغاة من حكامهم في فلسطين، أو فزعاً من اضطهاد اليونان والرومان، فقد نزل أولئك اليهود الجزيرة العربية فوجدوا سهلاً، وهذه القبائل اليهودية التي كانت تنزل يثرب وخيبر ووادي القرى، وفد إقرارها على العرب بعد أن أفقدتهم القرون التي مرت بهم منذ زوال دولتهعم ولغتهم المقدسة، تذوق اللغة العبرية وتجديدها حتى أصبح من المألوف لدى اليهودي أن يعبر عن أفكاره وشعوره في لغة ركيكة هي خليط من العبرية والكلدانية واليونانية، فحالت ظروفه هذه دون خلق آداب عبرية فما كان أولئك اليهود بمستطيعين قول الشعر أو إجادة النثر، فغير نزولهم بين العرب هذه الأوضاع، وبخاصة أن العربي معجب بلغته معني بها نثراً وشعراً، حريص على المحافظة عليها فصيحة نقية.
لغة غير اللغة وطباع غير الطباع:
أخذ اليهود من جيرانهم العرب فن الكلام والنطق الصحيح وفصاحة التعبير فلما رحل بنو قينقاع والنضير وقريظة ويهود خيبر ووادي القرى وغيرهم إلى العراق والشام وفلسطين كانوا يتكلمون بلغة عربية ويتأدبون بأدب عربي ويتطبعون بطباع عربية، يقولون الشعر في مختلف فنونه، ويعبرون عن خواطرهم في لغة هي لغة أهل الحجاز وقد حبب إلى اليهود ظاهرة المحافظة على عربية القرآن الكريم، فاقتفوا فيها أثر العرب، وقد فتح العرب أمام اليهود دون العلم على مصاريعها ولم يفرقوا بينهم وبين غيرهم ويحدثنا التاريخ اليهودي أن الإسلام أحسن معاملة اليهود، حتى أولئك الذين اضطر النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون إلى إجلائهم عن قلب الجزيرة العربية تأميناً لرسالة الإسلام وأتباعه، فأقطعهم أمثير المؤمنين عمر بن الخطاب والإمام علي كرم الله وجهه الأراضي الواسعة بالقرب من الكوفة، وعلى ضفاف الفرات، مما دفع المؤرخ اليهودي "جريتز" إلى الإشادة بعدالة العرب وإنسانيتهم في كتابه تاريخ اليهود، قال: لقد وزع عمر أراضي اليهود على المسلمين المحاربين، وعوض اليهود المطرودين - وهذه هي العدالة - أخرى بالقرب من الكوفة على الفرات حوالي عام 640 م، حقاً رب ضارة نافعة.
يقول الدكتور حسنين: هذه بعض حسنات العرب على اليهود، فالعرب هم الذين أهدوهم العربية بعد أن كانوا يرطنون خليطاً لا شرقياً ولا غربياً، والعرب هم الذين هذبوا ذوقهم اللغوي، ورفعوا مستواهم الأدبي فمكنوهم من خلق ملكة أدبة، وثالثاً وليس أخيراً احتذى اليهود حذو المسلمين مع القرآن الكريم، فعنوا بدراسة كتابهم وشرعوا في وسع نحو لغتهم صيانة لها من اللحن والضياع. هذه هي الحقيقة العلمية أسوقها للدكتور طه حسين وتلميذه الدكتور إسرائيل ولفنسون.
سر الحقد:(72/3)
نقول: هذا هو سر الحقد الشديد الذي بينته الصهيونية العالمية للعرب، واللغة العربية، فتعمل على محو ذلك التاريخ الطويل، ورفع اسم العرب عنه ونسبته إلى رمز مضلل هو "السامية"، فينقل ذلك التاريخ الزاخر من مصدره الأصيل إلى مصدر غامض، يقوم على نص من التوراة التي كتبها أحبار اليهود، التي لا ترقى إلى مستوى الحقائق الثابتة التي قدمها القرآن الكريم الذي لم يصبه أي تحريف.
إن الهدف هو طمس الرابطة بين الإسلام الذي جاء به محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرن السادس الميلادي، وبين دعوة إبراهيم التي بدأت منذ عام 1750 قبل الميلادي، ذلك أن إقامة إبراهيم ابنه إسماعيل في قلب الجزيرة العربية في مكة، وإسماعيل هو جد العرب وجد محمد صلى الله عليه وسلم، وبناء البيت الحرام الكعبة، ودعوة الله سباحه وتعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى إتباع ملة إبراهيم. "وأوحينا إليك أن ابتع ملة إبراهيم حنيفاً".
هذا ما يريد اليهود والصهيونية طمسه وتزييفه، وقد أثبتت الأحافير التي كشف عنها أخيراً: أن إبراهيم عليه السلام كان يتكلم العربية وإن لم تكن العربية التي نزل بها القرآن أو التي نتكلمها اليوم. كما أثبتت الأحافير: أن اللغة التي كانت مستعملة في اليمن والعراق والشام والحجاز لغة واحدة، وأن اختلفت لهجاتها كما تخلف لهجات الأمم العربية في هذه الأيام، وقد استشهد عبد الحميد السحار - رحمه الله - الذي أورد في كتابه "محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذين معه" بالآية الكريمة: "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس".
وقد جاء في كتاب العلامة (ألبرايت) عن أحافير فلسطين قوله: "تتقارب اللغات العربية القديمة عدا الأكادية في الآجرومية والنطق بحيث تشترك كل لهجة وما جاورها ولا يلحظ الانتقال من لهجة إلى لهجة إلا كما يلحظ مثل هذا الانتقال اليوم بين اللهجات الفرنسية والجرمانية".
سكتت التوراة. لماذا؟؟
والملاحظ أن التوراة لم تورد ذكر ذهاب إبراهيم عليه السلام إلى الحجاز، وسكتت هذه المصادر سكوتاً متعمداً عن علاقة إبراهيم بالجزيرة العربية ومكة وبناء الكعبة، بل وسكتت أيضاً عن ذكر هود وصالح من أنبياء العرب القدامى كأنما لم يكن عاد وثمود على مقربة من فلسطين، وقد حدد بطليموس في أطسله موقع ثمود وعاد، وكشفت الحفريات عن مدائن صالح، وعثر على بعض الخطوط الثمودية في ثمود وفي الطائف وقد كان اليهود ينفسون على العرب أن صار لهم بيت محرم منذ أيام إبراهيم، بينما لم يصبح لهم هيكل في بيت المقدس إلا في أيام سليمان بن داود، فكان هذا السكوت المتعمد، وقد عمد اليهود إلى طمس حقيقة وعد الله تبارك وتعالى لإبراهيم، فجعلوه قاصراً على إسحق ولذلك تجاهلوا ابنه الأكبر إسماعيل، وحاولوا إخراجه وإخراج أبنائه من حقوق الوعد الذي تلقاه إبراهيم من ربه، وابتكروا الأكذوبة التي تقول: إن بني إسرائيل وحدهم شعب الله المختار.
يقول الأستاذ السحار: حرم اليهود أبناء إسماعيل حقوق الوعد الذي تلقاه إبراهيم من ربه، وأرادوا أن يسلبوا إسماعيل كل فضل فزعموا أن الذبيح هو إسحق، مع أن التقاليد تقضي بتقديم الابن الأكبر قرباناً لله".
ولاريب أن إنكار إسماعيل وأبنائه يحرف تاريخ العرب قبل الإسلام تحريفاً شديداً، فإن أبناء إسماعيل الاثنى عشر قد انبثوا في هذه المنطقة.
الدليل حقيقة واقعة:
وقد أعلنت ألواح الطين التي كتبت بالخط المساري والتي وجدت في أطلال بابل ونينوي، وبلاد ما بين لالنهرين أن بني إسماعيل كانوا حقيقة واقعة وأن أبناءه الاثنى عشر صاروا قبائل قوية تناوئ بابل وآشور ومصر والإغريق والرومان.
والواقع أن تاريخ هذه المنطقة منذ عهد إبراهيم عليه السلام (1750 قبل الميلاد) هو تاريخ العرب الذين كانت تطلقهم الجزيرة العربية، في موجات مهاجرة امتدت من حدود الفرات إلى المغرب وشملت هذه المنطقة كلها، وإن فكرة السامية الزائفة لم تكن شيئاً معروفاً أم مقرراً، ولا توجد أي إشارة إليها في أي من الكتب أو الحفريات أو الأسانيد المكتوبة على الأعمدة أو الآثار القديمة.
خاتمة:
ومن خلال هذا العرض نصل إلى أن جزيرة العرب أخذت باسم العروبة الصريحة، في كتب اليونان والرومان وأسفار العهد القديم منذ (ألفين وخمسمائة سنة) واسم العرب الصريح أخذ يطلق على أهلها، وعلى المستعمرين في داخلها وتخومها الشمالية جزئياً ثم كلياً منذ ألفين وخمسمائة سنة كذلك، بل قبل ذلك مما تدل عليه النقوشات والمدونات القديمة، واللغة العربية التي تكلم بها سكان الجزيرة والنازحون منذ ألفين وخمسمائة سنة كذلك هي اللغة العربية الصريحة، بقطع النظر عن تعدد لهجاتها، كذلك فإنت الحقائق تؤكد أن اليهود لم يكن لهم دوؤ صريح أو وضع صريح أو أثر صريح في أي نهضة من نهضات هذا التاريخ الطويل، وأنهم زيفوا تاريخهم وتاريخ العرب وعمدوا إلى حجب إسماعيل حتى يقصروا الوعد على أبناء إسحق.
وأن كلمة السامية هي تعبير اصطنعه اليهود ليحصلوا من عمومه دوراً لهم أكثر وضوحاً، من دور العرب أصحاب الشأن الحقيقي وأن يجعلوا منه تكاة لمعارضة خصومهم باسم معاداة السامية.(72/4)