بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فهذه مجموعة من مقالات وبحوث العلامة (( أنور الجندي)) رحمه الله وأعلى مقامه عالياً .
ذاك الرجل الذي أفنى حياته لخدمة هذه الرسالة الخالدة ، والدفاع عنها ضد أعداء الإسلام في داخل بلاد المسلمين وخارجها.
ومن قرأ له علم أنه مليء ، وأن كتاباته مقنعة إلى حدٍّ بعيد .
وقد قرأت له العديد من الكتب منذ أكثر من ثلاثين سنة ، وكنت معجباً به حقًّا وبأسلوبه البديع .
قال رحمه الله في مقاله النفيس عن التربية الإسلامية :
" إن قضية التربية في العصر الحديث هي واحدة من أكبر القضايا، وإنها بالنسبة للمسلمين من أكبر التحديات التي تواجه مجتمعهم اليوم بأشد الأخطار بل لعله ليس من المبالغة أو التزيد أن يقال أن أغلب التحديات التي تواجه المجتمع المسلم اليوم هو تلك التبعية لمناهج التربية الغربية، وانحسار منهج التربية الإسلامي إلى عدد قليل من الأقطار. وقد كشف أسلوب النقل أو الاقتباس من البرامج الغربية عن نتائج خطيرة أخرت سير حركة اليقظة الإسلامية وحالت دون قدرة المسلمين على امتلاك إرادتهم، وإقامة مجتمعهم الرباني سنوات طويلة، حتى جاءت النتائج الخطيرة كاشفة عن هذا السرِّ الخفي، عندما وقعت أحداث النكبة والنكسة والسيطرة المثلثة: الاستعمار والصهيونية والماركسية على أجزاء من العالم الإسلامي كرأس جسر لتغريب هذه الأمة وحجبها عن منهجها القرآني الأصيل، والحيلولة بينها وبين اقتعادها مكانها الصحيح الذي تؤهله له مقداراتها وحجمها ومكانها الاستراتيجي، وتفوقها البشري - وامتلاكها للثروة فضلاً عن تاريخها الحافل، وتراثها الضخم، ودورها الواضح في بناء الحضارة البشرية حين قدمت (المنهج العلمي التجريبي) الذي يقوم عليه التقدم المعاصر كله."
ولقد ظنت الأجيال السابقة التي واجهت الاستعمار أن التماسها أساليب الغرب في التربية والتعليم ربما حقق لها القدرة على الوصول إلى ما وصل إليه من ثقافة وعلم وقوة وتمكين. ولكن ذلك لم يكن إلا وهماً وخطأ سرعان ما كشفت الوقائع عن فساده، ذلك أن أمة من الأمم لن تستطيع أن تبني نفسها أو تجدد كيانها إلا إذا استمدت ذلك من جذورها وأصولها ومصادرها الأولى ومنابعها الحقة التي شكلتها أول الأمر، ومنذ جاء الإسلام وبنى هذه الأمة فكرياً وروحياً واجتماعياً وأخلاقياً. فإن هذه الأمة لن تستطيع أن تجد في أي منهج آخر سبيلها إلى اليقظة والنهضة إذا كرثتها الأحداث. بل إن عدوها الذي انتهز فرصة غفلتها ( والذي ) يسيطر عليها لا يمكن بحال أن يقدم لها ما يمكنها من التحرر من قبضته."
================
هذا وقد قمت بجمعها واحدة واحدة من منتديات الحور العين بعد التسجيل به
http://www.hor3en.com/vb/showthread.php?t=38463
ولا تخلو من بعض الأخطاء المطبعية وخاصة (من ) كتبت (نم)
هذا وقد نقلتها ملفا ملفا للورد أولا ثم للمفكرة ، ثم للورد ، ثم وضعتها جميعا في ملف واحد وسميت كل ملف باسمه ، ثم نقلتها للشاملة 2 وليس للشاملة 3 ، حيث إنه من عيوب الشاملة 3 أن الأسطر إذا كانت متباعدة لا تعيدها لوضعها الصحيح كما كان في الشاملة 2 !!!!!
ثم أعدته ككتاب إلكتروني للشاملة 3
وهي مرتبة على الأحرف الألف بائية وهذه هي :
1. التربية الإسلامية هي الإطار الحقيقي للتعلم
2. التغريب أخطر التحديات في وجه الإسلام
3. الحداثة
4. الخلافة الإسلامية
5. السلطان عبد الحميد ( صفحة ناصعة من الجهاد والإيمان والتصميم
6. الشبهات المطروحة في أفق الفكر الإسلامي
7. الفكر الإسلامي والتحديات التي تواجهه في مطلع القرن الخامس عشر الهجري
8. الفكر البشري القديم
9. الفنون والمسرح
10. القاديانية "خروج على النبوة المحمدية"
11. المؤامرة على الفصحى لغة القرآن
12. المسلمون في فجر القرن الوليد
13. المشروع الحضاري الإسلامي
14. الوجه الآخر لطه حسين من مذكرات السيدة سوزان "معك"
15. بناء مناهج التعليم والثقافة على قاعدة الأصال
16. تصحيح المفاهيم الإسلامية
17. جيل العمالقة والقمم الشوامخ في ضوء الإسلام
18. حركة الترجمة
19. حقائق عن الغزو الفكري للإسلام
20. رجال اختلف فيهم الرأي \\ من أرسطو إلى لويس عوض \\
21. فلنذكر دائما الغاية الأساسية ولا تشغلنا الجزئيات
22. في سبيل إعادة كتابة تاريخ الإسلام
23. في مواجهة الفراغ الفكري والنفسي في الشباب
24. قضايا الشباب المسلم
25. كمال أتاتورك وإسقاط الخلافة الإسلامية
26. مؤامرة تحديد النسل وأسطورة الانفجار السكاني
27. ماذا يقرأ الشباب المسلم
28. محاذير وأخطاء في مواجهة إحياء التراث والترجمة
29. مصححوا المفاهيم: الغزالي، ابن تيمية، ابن حزم، ابن خلدون
30. موقف الإسلام من العلم والفلسفة الغربية
31. نظريات وافدة كشف الفكر الإسلامي زيفها
32. هل غير الدكتور طه حسين آراءه في سنواته الأخيرة
33. الخنجر المسموم الذي طعن به المسلمون
34. تحديات في وجه المجتمع الإسلامي
35. تصحيح أكبر خطأ في تاريخ الإسلام الحديث
36. عقيدة الكاتب المسلم
37. على الفكر الإسلامي أن يتحرر من سارتر وفرويد ودوركايم
38. وحدة الفكر الإسلامي مقدمة للوحدة الإسلامية الكبرى
39. سلسلة دراسات إسلامية معاصرة النفس
40. سلسلة على طريق الأصالة: في مواجهة ركام الفكر المطروح على الساحة اليوم
41. على طريق الأصالة: الأريوسية الموحدة
42. سلسلة دراسات إسلامية معاصرة الفرويدية
43. سلسلة دراسات إسلامية معاصرة الجنس
44. سلسلة دراسات إسلامية معاصرة الوجودية
45. سلسلة على طريق الأصالة رياح السموم
46. سلسلة على طريق الأصالة تقويم ما قدمه الرواد
47. سلسلة على طريق الأصالة على المحجة البيضاء
48. سلسلة دراسات إسلامية معاصرة الأدب
49. سلسلة دراسات إسلامية معاصرة اللغة
50. سلسلة دراسات إسلامية معاصرة العلم في الإسلام
51. سلسلة على طريق الأصالة تجاوزات العلوم الاجتماعية والإنسانية لمفهوم الفطرة والعلم
52. سلسلة دراسات إسلامية معاصرة العلم في الغرب
53. سلسلة على طريق الأصالة محمد صلى الله عليه وسلم الرسول الخاتم
54. سلسلة دراسات إسلامية معاصرة النظرية المادية
55. سلسلة على طريق الأصالة لن نقبل بمفهوم الغرب للفن والحضارة
56. سلسلة دراسات إسلامية معاصرة نظرية التطور بين الدين والعلم والعقل
57. سلسلة على طريق الأصالة تحول الدراسات الناتجة من الإقليمية إلى الإسلامية
58. سلسلة على طريق الأصالة الحضارة الغربية والمجتمع المسلم
59. سلسلة على طريق الأصالة أخطاء في كتابة التاريخ الحديث
60. سلسلة على طريق الأصالة ماذا حققت حركة اليقظة في القرن الرابع عشر الهجري
61. الفن
62. ابتعاث الأسطورة مؤامرة جديدة تواجه الفكر الإسلامي
63. أخطاء الفلسفة المادية
64. أقدم لك الإسلام
65. الاستشراق
66. الإسلام في وجه التيارات الوافدة والمؤثرات الأجنبية
67. الآفاق الجديدة للدعوة الإسلامية
68. الانقطاع الحضاري
69. البطولة في تاريخ الإسلام
70. التبشير الغربي
71. من طفولة البشرية إلى رشد الإنسانية
72. نظرية السامية مؤامرة على الحنيفية الإبراهيمية
================
وذكرت قبلها ترجمة مختصرة لصاحب هذه المقالات والبحوث رحمه الله .
نسأل الله تعالى أن ينفع بها كاتبها ويعلي مقامه ، وأن ينفع بها جامعها وقارئها وناشرها والدال عليها في الدارين .
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 24 جمادى الأخرة لعام 1430 هـ الموافق ل 18/6/2009 م(/)
أنور الجندي الكاتب الفذ والعالم المتواضع
(الشبكة الإسلامية) بقلم/ عبد السلام البسيوني
في بعض الأجيال العوجاء - كجيلنا - تنقلب المفاهيم وتختل النسب ، ويطفو الزبد التافه على السطح الموّار ، فلا ترى على وجه الماء إلا قشًا ، وقصاصات جرائد ، وفضلات من الزبالة ، وقطع الخشب ، وربما رأيت جثة منتفخة ( لكلب نافق ) أو حمار (فطيس ) ، في حين يرسب في القاع الجوهر والدر الثمين هنالك في الظلام بعيدًا ، حيث السكون التام والبعد السحيق ، ومن أراد الحصول على شيء من اللؤلؤ والكنوز الخبيئة ، فلا بد له من أن يغوص ويغوص ، محتملاً ضغط الماء ، وظلمة القاع ، ومخاطر البعد عن الأنس .
وفي زمننا - المدهش - عدد من الرجال اللآلئ ، الذين يتمتعون بخاصية الندرة والنفاسة وارتفاع القدر : محمود محمد شاكر ، والمختار الشنقيطي ، وعنتر حشاد ، وأحمد المحلاوي ، وأشباههم من الذين لم تستغوهم الفلاشات ، ولم تستهوهم الشاشات ، أو تسحرهم وتتلعب بهم الإذاعات .
وهذه قضية تاريخية ، ليست وليدة أيامنا ، إنما هي بلية قديمة : أبو حيان التوحيدي يحرق كتبه التي أنفق عمره وعقله عليها ؛ لأنه رأى أهل زمانه يتجاهلونه ولا يقدرونه ، عالم آخر - نسيت اسمه - يترك البلد ويهاجر ، فيسأله تلاميذه الذين لم يفطنوا لحاله : لماذا تتركنا وتنتقل عنا ؟ فقال : لو وجدت كيلجة باقلاء لكفتني ، ولما فارقتكم !! نعم إنه النحوي البصري النضر بن شميل .
كأنها حتمية أو سنة مطردة : من شاء أن ( يقب ّ) على السطح فليس له بد من أن يغازل أعتاب الوجهاء ، أو يبش في وجه (قبضايات) القرن - الصحفيين والإعلاميين ، رضي الله عنهم ومد ظلهم العالي - لعله أن يحصل له شيء من الانطلاق والتلميع و( البروزة ) .
أما من رزقوا الشمم ، وعلو الهمم ، وتقدير النفس ، فإنهم يبقون معرضين عن السفاسف ، طالبين للمعالي ، متفرجين على ما يدور من عجائب وتناقضات ، راصدين - في توتر - للتحولات في الأفهام التي باتت تقبل ما لم يكن مقبولاً ، وتستبيح ما ليس يستباح بل ما لا يخطر ببال أحد أن يقترب منه .
ورحمة الله على القاضي الجرجاني الذي صرخ منذ وقت بعيد :
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهان .. ولطخوا محياه بالأطماع حتى تجهما
أأشقى به غرسًا .. وأجنيه ذلة ؟! إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما
ورحمة الله على البارودي فارس السيف والقلم الذي قال :
خلقت عيوفًا لا أرى لابن حرة عليّ يدا أغضي لها حين يغضب
إذا أنا لم أعط المكارم حقها فلا عزني خال .. ولا عزني أب
ومن اللآلئ الساكنة في قاع المولد الإعلامي والدعوي الأستاذ العالم المتواضع - أحسبه والله حسيبه - أنور الجندي .. الذي خسرته أمة لا إله إلا الله قبل أيام ، ولم يزاحم أحدًا في محاضرة ، ولا موقف فخر ، ولم يزعج وسائل الإعلام كي تتابع أخباره ، وتتحدث عن عنترياته وبطولاته منذ كان في ( اللفة ّ) .(/)
رأيته مرة واحدة قبل عقد من السنين ، حين ذهبت إليه في بيته بالطالبية ، الجيزة ، فلقيت رجلاً من النادرين ، بسيطًا بساطة عاميّ خام ، متواضعًا تواضع زاهدً ، لينًا لين أب رحيم ، واقعيًا لدرجة تدعو للأسى والغضب .
رأيت ويا سوء ما رأيت ، بيته المتهالك في قلب (سوق الخضار) إي والله ، ومن الصباح الباكر تقضّ مضجعه نداءات الباعة - عبر مكبرات الصوت - على ما لديهم من (الورور ) والجبنة القديمة ، واللحمة العجالي ، والأمشاط والفلايات ، والمناخل ، والغرابيل ( ولا تين ولا عنب زيك يا برشرمي ) ، فإذا هدأت ضجة الميكروفونات قليلاً ، لم تهدأ مشاجرات ومناقرات جاراته ، وكلامهن المنتقى ، ولم ينقطع ضجيج ( العيال ) العفاريت ، الذين يتقاذفون الكرة ( صدة ردة ) في عز نقرة الحر ، والمتبادلين لما لذَّ وطاب من الألفاظ التي يحلو للعامة أن يتقاذفوا بها في غير شحناء ولا خصومة .
دخلت حيث يسكن ، ومعي فريق للتصوير التليفزيوني بعد أن أنهكنا البحث ، فقد كنا نظن أنه من ساكني الفيلات الفاخرة ، أو القصور (المحندقة) ، فإذا بنا نسأل المكوجي والجزار والجار فيقولون في استفهام : من أنور ؟ لا نعرف أحدًا بهذا الاسم ، وحين اهتدينا إلى بيته المتهالك ، لم نجد مكانًا عرضه متر × متر ، يصلح لأن نجلس به ، بسبب قدم المكان ، وكثرة الكتب التي زحفت إلى كراسي غرفة الاستقبال .
· ما رأيك يا أستاذنا الكبير لو تحركنا إلى الفندق لنتمكن من التصوير ، حيث المكان واسع ؟
- لا بأس .. كما تشاؤون .. تفضلوا وسألحق بكم .
وبشيء من التخابث سألته : كيف ستدركنا يا أستاذ في هذا الزحام .. كيف ستقود سيارتك ؟
- لا .. لا أملك سيارة .. سألحق بكم بالأتوبيس .
وكأنما لسعني بكرباج فهتفت : الله أكبر .. بالأتوبيس ؟ أنت العالم الكبير ( تتشعبط ) ونحن نسبقك بسيارة خاصة ؟
- وماذا في ذلك ؟ لقد تعودت ..
لا حول ولا قوة إلا بالله .. الرجل العظيم .. بعلمه وسنه ، وضعف جسمه ، ومؤلفاته التي تزيد على السبعين (يتشعبط ) في الأتوبيسات ، بينما ( هلافيت ) الثقافة وتجار الصنف يركبون الشبح والزلمكة ، ويلعبون ( بالأنارب ) ويتنعمون في المنتجعات القريبة والبعيدة ؟
يا لخيبة أمة تتجاهل علماءها وأهل الفضل فيها .
ركب الأستاذ الزاهد السيارة معنا ، وفي الفندق تحدثنا عن قضايا المسلمين في هذه العصر ، وعن العروبة ، واليسار الإسلامي ، والعقلانية ، والتراث ، وغيرها من الآفاق التي طوفنا فيها ، وبعد أن أتعبنا الأستاذ " أنور الجندي " وأزعجناه قدم مدير الإنتاج له ظرفًا به مبلغ من المال وهو يقول : " معذرة يا أستاذ على التقصير ، المبلغ لا يليق بكم ؛ لكنه رمز لمحبتنا إياكم ، فنرجو أن تقبلوه مكافأة رمزية فقط " .
- مكافأة ؟ أنا لا أعرف أن هناك مكافأة ، ولم أقل شيئًا يستحق أن أتقاضى عنه أجرًا .
· يا أستاذ : هذا مبلغ بسيط من الدولة ، وليس منة من جيب أحد ، وهو من حقك وليس تفضلاً
- لن آخذ شيئًا ؛ لأنني ظننت أن الحديث بلا مكافأة ، ولن أغير نيتي مهما كان الأمر .
· يا أستاذ .. هذا حقك .. نرجوك .
- لن آخذ قرشًا واحدًا .. اسمحوا لي بالانصراف .
وأوصلناه ونحن في حياء منه ، ومن تواضعه وورعه ، ونحن - أيضًا- في خجل من أنفسنا، وحرصناعلى الراحة و( الكشخة ) .
كان هذا منذ أكثر من عشر سنين .. وأنور الجندي ليس مجهول المكان ، فكتبه تخرج تترى ، ومقالاته تملأ المجلات الإسلامية والحال هو الحال .
إنه الداء الوبيل في الإسلاميين .. وواحسرتا عليهم !!
لقد أذنب أنور الجندي ذنبا فظيعا لا يغتفر .. أنه عفيف ، قار في بيته .. لا يطرق الأبواب ، ولا يزاحم الأتراب ، ولا يهمه أن يقال حضر أو غاب !
كما كان أكبر ذنوب أنور الجندي أنه مستقل في تفكيره ، غير منتم لتيار ، ولا منضو تحت لافتة ، فاللافتات - في العمل الإسلامي - تطرد دائمًا من لا يصفق لها ، وتعتبره مجذومًا أو مريضًا بالإيدز ؛ لا يُقترب منه ولا يُتعامل معه ، بل ربما أساءت إليه ، وحقرت من شأنه ، باسم مصلحة الدعوة أو اختلافًا على فرعية من الفروعيات .
أزعم أن أنور الجندي لو علق ( بادجا ) على صدره لكان له شأن آخر ، ولوجد من يدعوه في المناسبات ، ويقدمه في الاحتفالات ، ويثني عليه غائبًا وحاضرًا .
وأزعم أن هناك (عيال ) جهالاً ، لا وزن لهم من علم أو سنّ أو دعوة ، لكنهم منتمون .. فصاروا بذلك ( لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ..
ناهيك عن أن يكون واحدًا من المستنيرين أو الذين كانوا - زمان - رفاقًا مناضلين - دستور - فهؤلاء تفتح لهم صالات كبار الشخصيات ، وأبواب الجامعات ، وتسود عنهم الصحف ، وتكتب المجلدات عن عبقريتهم ، وتميزهم ، وإبداعهم ، وتستر عوراتهم التي يعرونها دون خجل أو حياء ، فكشف العورات إبداع أيضًا عند ( ولاد الحمرة ) .
إنها قضية موازين مختلفة ، ومفاهيم مقلوبة ، وحيف في التقدير ، ووضع للرؤوس موضع الأقدام .
ولعل من المناسب هنا التذكير بكلمة المصطفى صلى الله عليه وسلم : ليس منا من لم يوقر كبيرنا ، ويرحم صغيرنا ، ويعرف لعالمنا حقه !!
فمتى تعرفين يا أمة اقرأ ؟ متى تعرفين ؟!
-------------------
القرضاوي يرثي أنور الجندي رحمه الله
== رحيل راهب الثقافة والفكر ومعلم الشباب
== كان جنديا من جنود الله ينشر النور
علمت أن الكاتب الإسلامي المرموق الاستاذ أنور الجندي قد وافاه الأجل المحتوم وانتقل إلى جوار ربه منذ يوم الاثنين الماضي 28/1/2002 بلغني ذلك أحد اخواني فقلت : يا سبحان الله يموت مثل هذا الكاتب الكبير المعروف بغزارة الإنتاج وبالتفرغ الكامل للكتابة والعلم ، والذي سخر قلمه لخدمة الاسلام وثقافته وحضارته ودعوته وأمته أكثر من نصف قرن ، ولا يعرف موته إلا بعد عدة أيام ، لا تكتب عنه صحيفة ، ولا تتحدث عنه إذاعة ، ولا يعرف به تلفاز !!
كأن الرجل لم يخلف وراءه ثروة طائلة من الكتب والموسوعات في مختلف آفاق الثقافة العربية والاسلامية ، وقد كان عضوا عاملا بالمجلس الأعلى للشؤون الاسلامية بالقاهرة ، ومن أوائل الاعضاء في نقابة الصحفيين وقد حصل على جائزة الدولة التقديرية سنة 1960.
لو كان أنور الجندي مطربا أو ممثلا لامتلأت انهار الصحف بالحديث عنه والتنويه بشأنه والثناء على منجزاته الفنية. ولو كان لاعب كرة لتحدثت عنه الاوساط الرياضية وغير الرياضية وكيف خسرت الرياضة بموته فارسا من فرسانها ، بل كيف خسرت الأمة كلها بموته نجما من نجومها ؛ ذلك ان أمتنا تؤمن بعبقرية (القدم) ولا تؤمن بعبقرية (القلم) .
مسكين أنور الجندي لقد ظلمته أمته ميتا كما ظلمته حيا، فلم يكن الرجل ممن يسعون للظهور وتسليط الأضواء عليه كما يفعل الكثيرون من عشاق الأضواء الباهرة بل عاش الرجل عمره راهبا في صومعة العلم والثقافة ، يقرأ ويكتب ولا يبتغي من احد جزاء ولا شكورا ، كأنما يقول ما قال رسل الله الكرام : وما اسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين .
منذ كنت طالبا في القسم الثانوي بالأزهر، وأنا اقرأ لانور الجندي في القضايا الإسلامية المختلفة، ومن أوائل ما قرأت له: كتاب بعنوان « كفاح الذبيحين فلسطين والمغرب » وكتاب عن « قائد الدعوة » يعني: حسن البنا الذي طوره فيما بعد وامسى كتابا كبيرا في حوالي ستمائة صفحة سماه : « حسن البنا: الداعية المجدد والامام الشهيد » وقد طبعته دار القلم بدمشق عدة طبعات ، في سلسلتها « اعلام المسلمين » وافتتحت به سلسلتها .. وكان حسن البنا هو الذي دفعه إلى الكتابة، فقد كان في رحلة حج معه وطلب منه ان يكتب خاطرة فقرأها، فأعجبته فشجعه ، واثنى على قلمه، وحرضه على الاستمرار في الكتابة.
وكان من كتبه الأولى « اخرجوا من بلادنا » يخاطب الانجليز المحتلين، وقد علمت ان الكتاب كان سببا في سجنه واعتقاله لعدة ايام في عهد الملك فاروق ثم أفرج عنه .
وللأستاذ أنور الجندي كتب كثيرة تقارب المائة كتاب، بعضها موسوعات ، مثل كتابه « مقدمات المناهج والعلوم » الذي نشرته «دار الانصار» بالقاهرة بلغت مجلداته عشرة من القطع الكبير. وموسوعته «في دائرة الضوء» قالوا: انها من خمسين جزءا. ومن اهم كتبه: أسلمة المعرفة، نقد مناهج الغرب، اخطاء المنهج الغربي الوافد، الضربات التي وجهت للأمة الإسلامية، اليقظة الإسلامية في مواجهة الاستعمار، تاريخ الصحافة الاسلامية، وكان آخر ما نشره كتاب « نجم الاسلام لا يزال يصعد ».
كان الاستاذ أنور الجندي يميل في كتاباته إلى التسهيل والتبسيط ، وتقريب الثقافة العامة لجمهور المتعاملين دون تقعر أو تفيهق او جنوح إلى الاغراب والتعقيد فكان اسلوبه سهلا واضحا مشرقا. وكان الاستاذ الجندي لا يميل إلى التحقيق والتوثيق العلمي ، فلم تكن هذه مهمته ، ولم يكن هذا شأنه ولذلك لا ينبغي ان يؤخذ عليه انه لا يذكر مراجع ما ينقله من معلومات ، ولا يوثقها ادنى توثيق ، فانه لم يلتزم بذلك ولم يدعه ، وكل انسان يحاسب على المنهج الذي ارتضاه لنفسه، هل وفى به واعطاه حقه أو لا ؟
أما لماذا لم يأخذ بالمنهج العلمي ، ألعجز منه أو لكسل، أو لرؤية خاصة تبناها وسار على نهجها؟
يبدو ان هذا الاحتمال الأخير هو الاقرب ، وذلك انه لم يكن يكتب للعلماء والمتخصصين ، بل كان اكثر ما يكتبه للشباب، حتى انه حين كتب موسوعته الاسلامية التي سماها ( معلمة الاسلام ) وجمع فيها 99 مصطلحا في مختلف ابواب الثقافة والحضارة والعلوم والفنون والاداب والشرائع ، جعل عنوان مقدمة هذه المعلمة (إلى شباب الاسلام) وقال في بدايتها: الحديث في هذه المعلمة موجه إلى شباب الاسلام والعرب ، فهم عدة الوطن الكبير، وجيل الغد الحافل بمسؤولياته وتبعاته، وهم الذين سوف يحملون امانة الدفاع عن هذه العقيدة في مواجهة الاخطار التي تحيط بها من كل جانب ، فمن حقهم على جيلنا ان يقدم لهم خلاصة ما وصل إليه من فكر وتجربة.. وان نعبد لهم الطريق الى الغاية المرتجاة.. هذه مسؤوليتنا ازاءهم ، فاذا لم نقم بها كنا آثمين ، وكان علينا تبعة التقصير. أ.هـ
واعتقد ان كتبه قد آتت اكلها في تثقيف الشباب المسلم، وتحصينهم من الهجمات الثقافية الغربية المادية والعلمانية التي لا ترضى إلا بان تقتلعهم من جذورهم واصالتهم.(/)
كان الاستاذ الجندي زاهدا في الدنيا وزخرفها، قانعا بالقليل من الرزق، راضيا بما قسم الله له، لا يطمع ان يكون له قصر ولا سيارة، حسبه ان يعيش مكتفيا مستورا، وكان بهذا من اغنى الناس ، كان كما قال علي كرم الله وجهه:
يعز غني النفس إن قل ماله ويغنى غني المال وهو ذليل
وكما قال أبو فراس:
ان الغني هو الغني بنفسه ولو انه عاري المناكب حاف
ما كل ما فوق البسيطة كافيا واذا قنعت فبعض شيء كاف
وكان إربه من الدنيا محدودا ، فليس له من الأولاد الا ابنة واحدة تعلمت في الأزهر ، وحصلت على أجازة ليسانس في الدراسات الإسلامية من جامعة الأزهر وكانت رغباته تنحصر في ان يقرأ ويكتب وينشر ما يكتب ، كما سئل احد علماء السلف: فيم سعادتك ؟ قال: في حجة تتبختر اتضاحا ، وشبهة تتضاءل افتضاحا.
حكى الأخ الأديب الداعية الشيخ عبدالسلام البسيوني أنه ذهب إلى القاهرة مع فريق من تليفزيون قطر ليجري حوارا مع عدد من العلماء والدعاة كان الأستاذ أنور منهم او في طليعتهم، ولم يجد في منزله الذي يسكنه مكانا يصلح للتصوير فيه فقد كان في حي شعبي مليء بالضجيج ، وكان المنزل ضيقا مشغولا بالكتب في كل مكان فاقترح عليه ان يجري الحوار معه في الفندق، وبعد ان انتهى الحوار تقدم مدير الإنتاج بمبلغ من المال يقول له: نرجو يا أستاذ ان تقبل هذا المبلغ الرمزي مكافأة منا وان كان دون ما تستحق، فإذا بالرجل يرفض رفضا حاسما ويقول: انا قابلتكم ، وليس في نيتي ان آخذ مكافأة ولست مستعدا أن أغير نيتي ولم أقدم شيئا يستحق المكافأة. قالوا له: هذا ليس من جيوبنا انه من الدولة، وأصر الرجل على موقفه، وأبى ان يأخذ فلسا!
وكان الاستاذ الجندي يكتب مقالات في مجلة منار الإسلام في أبو ظبي وفوجئ القراء يوما بإعلان في المجلة يناشد الأستاذ أنور الجندي أن يبعث إلى إدارة المجلة بعنوانه لترسل إليه مستحقات له تأخرت لديها، ومعنى هذا انه لا يطلب ما يستحق ، ناهيك أن يلح في الطلب كالآخرين.
كان رجلا ربانيا، ومن دلائل ربانيته ما ذكرته ابنته عنه انه كان يحب ان يكون متوضئا دائما فيأكل وهو متوضئ ، ويكتب وهو متوضئ ، وكان ينام بعد العشاء ، ثم يستيقظ قبل الفجر ليصلي التهجد ، ويصلي الفجر ، ثم ينام ساعتين بعد الفجر ويقوم ليقضي بعض حاجات البيت بنفسه ..
كان الأستاذ أنور الجندي يخدم الجيران ويملأ لهم (جرادل) الماء إذا انقطع الماء ، ويضعها أمام شققهم . وكان له من اسمه نصيب أي نصيب فكانت حياته وعطاؤه وإنتاجه تدور حول محورين: النور - او التنوير - والجندية. فقد ظل منذ امسك بالقلم يحمل مشعل (النور) او (التنوير) للامة ، وانا اقصد هنا: التنوير الحقيقي لا (التزوير) الذي يسمونه (التنوير). فالتنوير الحقيقي هو الذي يرد الأمة الى النور الحق الذي هو أصل كل نور وهو نور الله تعالى ممد الكون كله بالنور ، وممد قلوب المؤمنين بالنور: نور الفطرة والعقل، ونور الإيمان والوحي ( نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ).
وكان اهم معالم هذا التنوير: مقاومة التغريب والغزو الفكري الذي يسلخ الامة من جلدها ، ويحاول تغيير وجهتها وتبديل هويتها والغاء صبغتها الربانية ( صبغة الله ومن احسن من الله صبغة ) وكان واقفا بالمرصاد لكل دعاة التغريب يكشف زيفهم ويهتك سترهم - وان بلغوا من المكانة ما بلغوا - حتى رد على طه حسين ، وغيره من اصحاب السلطان الادبي والسياسي .
قال الجندي يوما عن نفسه: «انا محام في قضية الحكم بكتاب الله ، ما زلت موكلا فيها منذ بضع واربعين سنة ، حيث اعد لها الدفوع ، واقدم المذكرات بتكليف بعقد وبيعة الى الحق تبارك وتعالى ، وعهد على بيع النفس لله . والجنة - سلعة الله الغالية - هي الثمن لهذا التكليف ( ان الله اشترى من المؤمنين انفسهم واموالهم بأن لهم الجنة ) ».
كان النوروالتنوير غايته ورسالته ، وكانت الجندية وظيفته ووسيلته . لقد عاش في هذه الحياة (جنديا) لفكرته ورسالته فلم يكن جندي منفعة وغنيمة ، بل كان جندي عقيدة وفكرة. لم يجر خلف بريق الشهرة ولم يسع لكسب المال والثروة او الجاه والمنزلة ، وانما كان اكبر همه ان يعمل في هدوء ، وان ينتج في صمت ، والا يبحث عن الضجيج والفرقعات ، تاركا هذه لمن يريدونها ويلهثون وراءها.
كان الاستاذ الجندي من « الاخوان المسلمين » من قديم وممن رافق الامام البنا مبكرا وممن كتبوا في مجلات الاخوان في الاربعينيات من القرن العشرين ولكن الله تبارك وتعالى نجاه من كروب المحن التي حاقت بالاخوان قبل ثورة يوليو وما بعدها ، فلم يدخل معتقل الطور ايام النقراشي وعبدالهادي ولم يدخل السجن الحربي ايام عبدالناصر ،بل حصل على جائزة الدولة التقديرية في عهده على حين لم ينلها احد ممن كانت له صلة بالاخوان .
وربما كانت طبيعته الهادئة ، وعمله الصامت ، وادبه الجم وتواضعه العجيب ، وبعده عن النشاط العلني في تنظيم الاخوان ، سببا في نجاته من هذه المعتقلات ، خصوصا في عهد الثورة .
كتب الاستاذ انور الجندي في فترة المحنة في عهد عبدالناصر في بعض المجلات غير الاسلامية تراجم لقادة التحرر والثورة من ذوي التوجه الديني - امثال عمر المختار في ليبيا ، وعبدالكريم الخطابي في المغرب ، وذلك في مجلة (المجتمع العربي) المصرية في فترة الخمسينيات والستينيات . ويقول عن هذه الفترة : ( لقد كان ايماني ان يكون هناك صوت متصل - وان لم يكن مرتفعا بالقدر الكافي - ليقول كلمة الاسلام- ولو تحت اي اسم آخر - ولم يكن مطلوبا من اصحاب الدعوات ان يصمتوا جميعا وراء الاسوار ).
في اواخر الثمانينيات من القرن العشرين سعدت بلقاء الاستاذ الجندي في الجزائر العاصمة في احد ملتقيات الفكر الاسلامي وهي اول مرة ألقاه وجها لوجه - بعد ان كنت رأيته مرة بالمركز العام للاخوان مع الاستاذ البنا سنة 1947م على ما اذكر - فوجدته رجلا مخلصا ، متواضعا ، خافض الجناح ، ظاهر الصلاح نير الاصباح .
وقد ارسلنا منظمو الملتقى الى احد المساجد في ضواحي العاصمة هو وانا ، وأردت ان اقدمه ليتحدث اولا ، فأبى بشدة ، وألقيت كلمتي ثم قدمته للناس بما يليق به ، فسر بذلك سرورا بالغا.
وبعد حديثه في هذه الضاحية تحدثت معه : لماذا لا يظهر للناس ، ويتحدث اليهم بما افاء الله عليه من علم وثقافة؟ فقال: انا رجل صنعتي القلم ولا احسن الخطابة والحديث الى الناس ، فأنا لم اتعود مواجهة الجمهور ، وانما عشت اواجه الكتب والمكتبة. وليس كل الناس مثلك ومثل الشيخ الغزالي ممن آتاهم الله موهبة الكتابة وموهبة الخطابة وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . فقلت له:
ولكن من حق جمهور المسلمين ان ينتفعوا بثمرات قلمك ، وقراءاتك المتنوعة ، فتضيف اليهم جديدا وتعطيهم مزيدا. فقال: كل ميسر لما خلق له.
وفي السنوات الاخيرة حين وهن العظم منه ، وتراكمت عليه متاعب السنين وزاد من متاعبه وآلامه في شيخوخته ما رآه من صدود ونسيان من المجتمع من حوله كأنما لم يقض حياته في خدمة امته ، ولم يذب شموع عمره في احيائها وتجديد شبابها وكأنما لم يجعل من نفسه حارسا لهويتها وثقافتها، مدافعا عن اصالتها امام هجمات القوى المعادية غربية وشرقية ليبرالية وماركسية.
عاش الاستاذ الجندي سنواته الاخيرة جليس بيته ،وطريح فراشه يشكو بثه وحزنه الى الله كما شكا يعقوب عليه السلام يشكو من سقم جسمه ويشكو اكثر من صنيع قومه معه ، الذين كثيرا ما قدموا النكرات ، ومنحوا العطايا للإمعات ، كما يشكو من إعراض اخوانه الذين نسوه في ساعة العسرة وايام الازمة والشدة ، والذين حرم ودهم وبرهم احوج ما كان اليه ، مرددا قول علي رضي الله عنه ، فيما نسب اليه من شعر:
ولا خير في ود امرئ متلون اذا الريح مالت مال حيث تميل
جواد اذا استغنيت عن اخذ ماله وعند زوال المال عنك بخيل
فما اكثر الاخوان حين تعدهم ولكنهم في النائبات قليل
ومنذ اشهر قلائل اتصلت بي ابنته الوحيدة من القاهرة ، وابلغتني تحيات والدها الذي اقعده المرض عن الحركة، وهو يعيش وحيدا لا يكاد يراه احد او يسأل عنه احد برغم عطائه الموصول طول عمره لدينه ووطنه وامته العربية والاسلامية . وكانت كلماتها كأنها سهام حادة ، اخترقت صدري ، واصابت صميم قلبي ، وطلبت منها ان تبلغه اعطر تحياتي ، وابلغ تمنياتي ، واخلص دعواتي له بالصحة والعافية، وعزمت زيارته في اول فرصة انزل فيها الى مصر باذن الله .
وشاء الله جلت حكمته ان يتوفاه اليه قبل ان تتحقق هذه الزيارة وان يلقى ربه - ان شاء الله - راضيا مرضيا. ( يايتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي).
رحم الله انور الجندي وغفر له وتقبله في الصالحين وجزاه عن دينه وامته خير ما يجزي به العلماء والدعاة الصادقين الذين اخلصهم الله لدينه ، واخلصوا دينهم لله .
ـــــــــــــــ(/)
التربية الإسلامية هي الإطار الحقيقي للتعلم
إن قضية التربية في العصر الحديث هي واحدة من أكبر القضايا، وإنها بالنسبة للمسلمين من أكبر التحديات التي تواجه مجتمعهم اليوم بأشد الأخطار بل لعله ليس من المبالغة أو التزيد أن يقال أن أغلب التحديات التي تواجه المجتمع المسلم اليوم هو تلك التبعية لمناهج التربية الغربية، وانحسار منهج التربية الإسلامي إلى عدد قليل من الأقطار. وقد كشف أسلوب النقل أو الاقتباس من البرامج الغربية عن نتائج خطيرة أخرت سير حركة اليقظة الإسلامية وحالت دون قدرة المسلمين على امتلاك إرادتهم، وإقامة مجتمعهم الرباني سنوات طويلة، حتى جاءت النتائج الخطيرة كاشفة عن هذا السر الخفي، عندما وقعت أحداث النكبة والنكسة والسيطرة المثلثة: الاستعمار والصهيونية والماركسية على أجزاء من العالم الإسلامي كرأس جسر لتغريب هذه الأمة وحجبها عن منهجها القرآني الأصيل، والحيلولة بينها وبين اقتعادها مكانها الصحيح الذي تؤهله له مقداراتها وحجمها ومكانها الاستراتيجي، وتفوقها البشري - وامتلاكها للثروة فضلاً عن تاريخها الحافل، وتراثها الضخم، ودورها الواضح في بناء الحضارة البشرية حين قدمت (المنهج العلمي التجريبي) الذي يقوم عليه التقدم المعاصر كله.(1/1)
ولقد ظنت الأجيال السابقة التي واجهت الاستعمار أن التماسها أساليب الغرب في التربية والتعليم ربما حقق لها القدرة على الوصول إلى ما وصل إليه نم ثقافة وعلم وقوة وتمكين. ولكن ذلك لم يكن إلا وهماً وخطأ سرعان ما كشفت الوقائع عن فساده، ذلك أن أمة من الأمم لن تستطيع أن تبني نفسها أو تجدد كيانها إلا إذا استمدت ذك من جذورها وأصولها ومصادرها الأولى ومنابعها الحقة التي شكلتها أول الأمر، ومنذ جاء الإسلام وبنى هذه الأمة فكرياً وروحياً واجتماعياً وأخلاقياً. فإن هذه الأمة لن تستطيع أن تجد في أي منهج آخر سبيلها إلى اليقظة والنهضة إذا كرثتها الأحداث. بل إن عدوها الذي انتهز فرصة غفلتها تسيطر عليها لا يمكن بحال أن يقدم لها ما يمكنها نم التحرر نم قبضته.
ولذلك فقد عمد أول ما عمد إلى هدم ثلاث دعائم من كيانها تلك هي: حجب الشريعة الإسلامية في نظام الحدود، وتغيير نظام الاقتصاد بغرض الربا ثم كانت خطته الماكرة في تغيير مناهج التربية والتعليم، وإخراج القرآن والإسلام من هذا البناء الثقافي وتفريغه من روح الإيمان بالله ومنهج التكامل والترابط بين القيم وأخلاقية أسلوب الحياة.
وحشوه بروح المادية والتمرد على الله والثورة على القيم الروحية والخلقية وعبادة الجسد والمادة.
كان هذا هو الخطر الخطير والتحدي الشديد الذي بدأ به النفوذ الغربي تعامله مع المسلمين حين أقام مدارسه ومعاهده وإرسالياته. ثم فرض هذه المناهج على التعليم القومي الذي كان يشرف على إعداده بواسطة رجاله أمثال دانلوب في مصر وضريبة في سوريا والمغرب والعراق من أجل ما أسماه كرومر تلك الأجيال المؤمنة بالغرب المستسلمة له، أولئك المتفرنجين الذين أعدهم ليمتلكوا إرادة النفوذ في مختلف دوائر السياسة والثقافة والتربية والتعليم.(1/2)
ولقد كانت لتلك الإرساليات (على اختلاف مذاهبها) دورها الخطير في تنشئة أجيال متعددة في العالم الإسلامي تابعت منهج الغرب، وحجبت منهج الإسلام حتى جاءت النتائج بعد أكثر من سبعين عاماً لتدق الأبواب كاشفة عن أثر ذلك الخطر في ذلك التمكن الذي أتيح للصهيونية وللماركسية وللنفوذ الاستعماري على حواشي هذا الوطن وفي قبله الحي: فلسطين والقدس.
يقول هاملتون جب المستشرق الإنجليزي في تصوير أثر منهج التربية الغربية في العالم الإسلامي:
لقد استطاع نشاطنا التعليمي والثقافي عن طريق المدرسة العصرية والصحافة أن يترك في المسلمين ولو من غير وعي منهم أثراً يجعلهم في مظهرهم العام – (لا دينيين) إلى حد بعيد. ولا ريب أن ذلك خاصة هو اللب المثمر في كل كما تركت محاولات الغرب لحمل العالم الإسلامي على حضارته من آثار.
هذه هي ثمرة خطة الاستعمار عن طريق التبشير بالمدرسة والاستشراق بالفكرة المسمومة، هذه الخطة التي ركزت تركيزاً شديداً على التعليم: ذلك أن التعليم كان هو المنطلق الحقيقي نخطة الغزو الثقافي وما زال، وسيظل إلى وقت طويل ما لم يتدارك المسئولون المسلمون، هذا الخطر ويعملوا على إيقاف السيطرة الأجنبية الواضحة الأثر على التعليم في مختلف مجالاته ومختلف بيئاته، ذلك أن القول اليوم بتوحيد مناهج التعليم العربية – على ما بها من تبعية وأخطار ومزالق وسموم ما تزال مسيطرة على جوانب كثيرة نم أساليب الدراسات والتعليم – وهو أخطر كثيراً من الأثر الذي كان يتخذ في كل قطر من الأقطار التي يستعمرها أسلوباً معيناً نم التعليم يستهدف به.
أولاً: عزل هذا القطر عن أمته العربية، ثم عزله عن العالم الإسلامي كله.(1/3)
ثانياً: الحيلولة بينه وبين الارتباط بالجذور التاريخية والأدبية واللغوية بإدعاء أن العصر الحديث بدأ بحملة نابليون، وأن هذا العصر منفصل تماماً عما قبله مما أطلق عليه زيفا (عصر الانحطاط) محاولة في إيجاد شعور نفسي بالكراهية والانسلاخ من الماضي كله.
ثالثاً: بعد عزل القطر (إقليمياً) عن أمته العربية الصغرى، وأمته الإسلامية الكبرى، وعن أصول فكره الإسلامي القرآني الممتد وراء أربعة عشر قرناً تقوم إلى إحياء التاريخ الإقليمي الفرعوني والفينيقي والآشوري والبابلي وغيره، ثم الارتباط بالغرب وحضارة العرب وعظمة الغرب وبطولاته وأمجاده، هذا الغرب صاحب الحضارة التي لا تقهر وممدن الشعوب المتأخرة إلى آخر هذه الزيوف والأضاليل.
رابعاً: إعلاء العامية على اللغة الفصحى والاهتمام باللهجة الإقليمية وما يتصل بها من حكايات وفلكلور وأزجال وموال وغيره إغراقاً في العمق الإقليمي وحيلولة دون الامتداد الطبيعي للأمة.
خامساً: إعلاء اللغة الأجنبية الإنجليزية أو الفرنسية على اللغة العربية والدعوة إلى تعلمها بحجة أنها لغة الحضارة، ثم السيطرة عن طريقها فكرياً على المثقفين الذين يوجهونه بعد ذلك إلى الاعتماد على فلسفات ومفاهيم الغرب.
هذه كانت خطة التعليم العامة مع تغييرات يسيرة، اختلف بها المنهج من قطر إلى قطر، ولكن الهدف في الجملة واحد. هو إزدراء الوطن والأمة، والفكر العربي الإسلامي كله، والالتفات نحو الغرب صاحب الحضارة المستعمرة وبطولاته وأمجاده.
وقد امتدت هذه الخطة بعد انتهاء الاحتلال.
وكانت قد أنتجت ثمارها في تلك التشكيلات الفكرية المختلفة التي فرقت الأمة شيعاً والتي ارتبطت بولاءات مختلفة مع هذا المعسكر إذ ذاك. ومع هذه الثقافة أو تلك.(1/4)
وقد ركزت المناهج في المرحلة الاستقلالية على الوطنية والإقليمية، وامتدادها السابق على الإسلام وبقى جوهر الخطة التعليمية كما هو وظلت هذه المناهج توحي بشبهات وأخطاء واضحة: من هذه الأخطاء:
القول بأن الإسلام دين عبادة لا صلة له بالمجتمع ولا بالدولة.
القول بأن مخططات الاستعمار والتبشير الأولى في أفريقيا هي كشوف علمية.
التاريخ الإسلامي لا يزيد عن أن يكون خلافات بين الحكام: وصراعاً على الملك، بين الأمويين والعباسيين والعلويين.
تغليب مفاهيم الفلسفة الغربية المادية بما فيها من شكوك ومادية ومفاهيم متعارضة مع الفكر الإسلامي بما يؤجج في النفس الشبهات والتمزق وبوادر الإلحاد.
نسبة كل مناهج العلوم إلى الغرب وإنكار دور المسلمين الواضح فيها بما يصور للطالب المسلم أن المسلمين عاله على الأمم وأنه لم يكن لهم دور في بناء هذه العلوم.
سيطرة نظريات المدرسة الاجتماعية والتحليل النفسي والوجودية على علوم النفس والأخلاق والتربية؟، وكلاه تقوم على الفكر المادي.
دراسة العلوم السياسية والاجتماعية والاقتصادية دور بيان وجهة نظر الإسلام فيها. هذه بعض مناقض ومحاذير المناهج التعليمية القائمة في المدارس – والجامعات في مختلف بلاد العالم الإسلامي والتي لم تتغير مطلقاً.
فإذا جاءت اليوم الدعوة إلى (توحيد مناهج التعليم) فإنها ستجعل مثل هذه المحاذير أخطاراً عامة تشمل البلاد العربية كلها. مونها الأقطار التي لم تتصل من قبل بمناهج الإرساليات التبشيرية أو تسيطر عليها مناهج التعليم الغربية الدنلوبية وغيرها.(1/5)
ومن هنا فإننا نواجه فعلاً ما يمكن أن يسمى (أزمة التربية والتعليم) وهي جديرة بالبحث والعمل الجاد في سبيل تحرير مناهج التعليم من أخطار المفاهيم التي بثها الاستعمار وأراد بها السيطرة على العرب والمسلمين بإكراههم على انتقاض – تراثهم وتاريخهم ودينهم وقيمهم. والإعجاب والتقدير والإعلاء المغرض للتاريخ الغربي وحضارة الغرب وفكرة. واعتبار المناهج التي تدرس في كليات العلوم والطب وغيرها وكأنها من نتاج الفكر الغربي وحده، مع أن أصولها الأولى هي من نتاج الحضارة الإسلامية مع الإضافات التي قدمها العصر الحديث.
كذلك فإن النظريات الخاصة بعلوم النفس والأخلاق والاجتماع والسياسة والاقتصاد إنما تدرس على أنها (علوم) وهي في الحقيقة (نظريات) قامت على أساس فروض فرضها الباحثون والفلاسفة في بيئات معينة، واستجابات لتحديات معينة وفي عصر معين.
ومن هنا فليست لها (أولاً) صفة الحقيقة العلمية التي لا تنقض (ثانياً) ليس لها صفة العالمية. ذلك لأن لكل أمة قيمتها وعقائدها ومفاهيمها في مجال العلوم – الإنسانية والعلوم الاجتماعية.
وإذا نظرنا إلى ما قاله (هاملتون جب) ق\رنا تماماً مدى الخطر الذي أحاط بالمسلمين خلال القرن الماضي. فقد سيطرت قوى الاستعمار ومن ورائها قوى الاستشراق والتغريب، والغزو الثقافي وأداتها معاهد التبشير وجامعات الإرساليات بمختلف صورها: أوروبية وأمريكية وكاثوليكية وبروتستانتية، ومن ورائه الفكر التلمدي والاستشراق اليهودي الذي يستهدف غايات أخرى تختلف عن الغايات التي يطمع فيها الاستعمار، والتي تقوم أساساً على مصدر واحد هو حرمان هذه الأمة الإسلامية من تطبيق شريعتها الإسلامية كمنهج حياة، والحيلولة دون استمداد ثقافتها وتربيتها وتعليمها من مناهج القرآن الكريم.(1/6)
ويمكن القول اليوم: إن التعليم بهذه الصورة مصدر كبير للغزو الفكري وسبب بارز من أسباب تخلف المسلمين. وقد انتقلنا في السنوات الأخيرة إلى الاعتراف بهذه الحقيقة وخفت رياح التهافت على التعليم الغربي. وبقى أن ندخل في المرحلة الحاسمة وهي النظر إلى هذه المناهج نظرية علمية وواقعية تضع علوم الغرب ونظرياته موضع الفحص والدراسة. وتكشف مع الفروق العميقة بين وجهة نظره وبين وجهة نظر الفكر الإسلامي. وكيف نجد أن معطيات الإسلام أكثر إيجابية وسلامة وقوة، ليس للمسلمين وحدهم، ولكن للبشرية كلها. هذا على حد تعبير العلامة السيد أبو الحسن الندوي في مهرجانه القريب الذي دعا فيه إلى إقامة التعليم في إطار التربية الإسلامية. والعمل على تغيير نظام التعليم تغييراً جوهرياً يلائم طبيعة الأمة الإسلامية انطلاقاً من مبدأ واضح صريح. هو أن عملية التربية في أي أمة وبلاد ليست بضاعة تصدر أو تستورد كالمواد الخام. وإنما هي لباس – يفصل على إقامة الشعوب وملامحها القومية وتقاليدها الموروثة، وآدابها المفضلة وأهدافها التي تعيش لها وتموت في سبيلها. وأن التربية ليست إلا وسيلة راقية مهذبة لدعم العقيدة التي يؤمن بها شعب أو بلد وتغذيتها بالاقتناع الفكري القائم على الثقة والاعتزاز، وتسليمها بالدلائل العلمية إذا احتيج إليها، وسيلة كريمة لتخليد هذه العقيدة ونقلها سليمة إلى الأجيال القادمة. أ هـ – وإذا كنا نرى أن نتائج نظام التربية الغربية الوافد قد ظهر واضحاً في تكوين هذه الأجيال – الممزقة المضطربة القلقة نفسياً المأزومة فكرياً في بلادنا فإننا نجد أن الغرب نفسه قد أخذ يعلن فساد هذا النظام الذي حمل لواءه الفيلسوف (ديوي) – والذي وجد بالتآمر والتمويه أثراً عميقاً في البيئات الإسلامية والعربية، فقد نشرت مجلة – تايم نيو مجازين في 31/3/1948 م بحثاً ضافياً أشارت فيه إلى فشل نظرية (ديوي) القائلة بأن الله والفضيلة كلها غايات قابلة للنقاش(1/7)
والجدل. ومن ثم فلا جدوى من مناقشتها وفي مكانها يجب أن تحل غاية أخرى هي: (الانسجام مع الحياة) وقال الكاتب أن الطلبة قد انقطعت صلاتهم بتقاليدهم. وأن هناك حاجة كبرى إلى التفكير في الأهداف السليمة للتربية وأنه لابد أن يكون هدف التربية الأول هو تزويد الفرد بثقافة صحيحه تقنعه بأن هناك تاريخاً وأهدافاً وراء هذه التربية.
ولا ريب أن الفصل بين التربية والعقيدة والأخلاق إذا صلح كمنهج في الغرب فإنه لا يصلح في العالم الإسلامي والأمة العربية لأنه يتعارض مع (تكامل) منهجها في الحياة، ونظامها الرباني الجامع.
ومعنى عزل الدين أو الأخلاق عن التربية هو بناء شخصية هشة طرية لا تمتلك القدرة على حمل أمانة المجتمع ومسئولية الأمة. ولا تكون قادرة على مقاومة العدوان أو مواجهة وسائل الإغراء، أو مؤامرات القضاء على كيان العالم الإسلامي.
وعندما نستقضي مناهج التربية في العالم كله فلن تجد منهجاً واحداً منها يخطي بما يخطي به برنامج التربية الإسلامية من التكامل الجامع ومن الاستعلاء على أهواء البشرية، ويتمثل هذا التكامل في خصائص خمسة:
أولا:الجمع بين الماضي والحاضر والمستقبل.
ثانياً: الجمع بين الروح والجسم والعقل.
ثالثاً: الجمع بين التربية للفرد والتربية للمجتمع.
رابعاً: الجمع بين الغايات الوطنية والغايات الإنسانية.
خامساً: الجمع بين التربية دينية وخلقية وعقلية.(1/8)
ويقوم هذا المنهج على التوازن والموائمة فلا لطفى فيه ناحية من النواحي على ناحية أخرى. ويكون به الفرد فردياً واجتماعياً، لا تطغى فرديته على جماعيته يقوى استقلاله الذاتي وتفتحه الروحي والعقلي معاً. وينتقل من الأنانية إلى الغيرية، إنه إعداد الفرد لذاته ولمجاوزة ذاته في نفس الوقت. وبذلك ينتقل الإنسان من أهوائه إلى الحق، ومكن الحيوانية إلى الإنسانية، ومن البشرية إلى الربانية، فيكون قابلاً للارتفاع فوق المطامع والشهوات متجهاً إلى الارتفاع (ولو شئنا لرفعناه بها).
إن التربية الإسلامية تحقق للإنسان مفهوم الحرية الصحيح: التحرر من الأهواء والغرائز والنزوات. وذلك عكس ما ترمي إليه الغربية التي تقصر الإنسان على الاستجابة للأهواء.
والتربية الإسلامية تهدف إلى بناء الشخصية بالقرآن والتاريخ والقدوة الطيبة وبناء الشخصية بناءً أخلاقياً دينياً عقلياً. هو أساس بناء المجتمع ومصدر القوة في مواجهة كل تحديات الغزو الخارجي.
وأبلغ مظاهر التربية الإسلامية: التزكية: "تزكية النفس" والتزكية تعني تنمية الروح الأخلاقية ونزعات الخير وفق القاعدة القرآنية.
(ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها – قد أفلح من زكاها) وأبلغ ما تصل إليه التزكية: تربية الواعز النفسي القائم في أعماقها كالديدبان اليقظ يدعوها إلى الخير، ويردها عن الشر، ويشكل الإرادة الحية القادرة على الامتناع عن الشر والاندفاع إلى الخير وفق قاعدة الرسول الرائعة:
(طوبى لعبد جعله الله مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر).
وليس أصدق من حاجة الأمة الإسلامية إلى بناء مناهج التعليم في إطار التربية الإسلامية. ذلك أن التعليم هو تزويد الفرد بمجموعة من المعارف والخبرات والمهارات، وما لم تكن هذه العلوم حية ومتحركة في إطار تربوي أخلاقي ديني عقلي سليم فإنها تفقد وجهتها، ولا تكون عاملاً من عوامل البناء والتقدم في الطريق الصحيح.(1/9)
لقد أعدت التربية الإسلامية المسلم بأمرين جهلتهما التربية الحديثة وعجزت عنهما نتيجة لمصادرها المادية، وهي قوام الحياة الحقة على هذه الأرض وأساس بناء الإنسان الرباني وهما:
أولاً: الإرادة والمسئولية الفردية حتى يعرف الإنسان أنه قادر على أن يختار بين الخير والشر، والحق والباطل، وأن يمضي مع موكب الحياة ويضع لبنات جديدة في ذلك الصرح الحضاري الإنساني وبدون هذه الإرادة والمسئولية الفردية لا يكون الجزاء الدنيوي والآخرون بعد البعث والنشور، هذه المسئولية قائمة على غاية (هي الجزاء: ثواباً وعقاباً) وبدون هذا لا يستقيم عمل الإنسان ولا يعتصم في دائرة التقوى من شر الأهواء والمطامع.
ثانياً: الالتزام الأخلاقي: الذي يحيط بالإنسان وعمله إحاطة السوار بالمعصم فيدفعه دائماً إلى الطريق الصحيح والشريف ويحميه نم أخطار المعصية والخطيئة والفساد والانحلال والإباحية، ويجعله إنساناً قوياً قادراً على مواجهة كل خطر، والوقوف في وجه كل عاصفة.
ومن خلال هذين السلاحين الماضيين رسمت التربية الإسلامية طريقها الحق في بناء الإنسان لنفسه رجلاً معتصماً بالله عن الخطأ والفساد وعاملاً لأسرته وجماعته دون أن تجرفه الأنانية الطاغية. فهو بذلك يكون قادراً على حماية عقيدته ووطنه وأمته من ما تتعرض له من تحديات وأخطار سواء كانت في مجال الأرض أم مجال الفكر، أما حين تخلو التربية الحديثة الوافدة في العالم الإسلامي من قيم العقيدة والأخلاق فإنها لن تكون إلا تبعية شائنة لأهواء الحياة وأخطاء المجتمعات. وذلك هو ما قصدت إليه القوى المتربصة بالإنسانية الشر الراغبة في تدمير المجتمعات قبل السيطرة عليها.(1/10)
وبعد فإن الخطر الحقيقي الذي واجهته الأمة الإسلامية إنما بدأ من التعليم وإن اليقظة الحقيقية إنما تبدأ منه، لقد حجبت القوة الاستعمارية منهج الأمة في التربية وأقامت نظاماً ازدواجياً خطيراً مزق الأمة ودمر فكرها، وأنشأ تلك التحديات الخطيرة، فالأسلوب أسلوب التربية الإسلامية أساساً في السنوات الأولى، ثم يتفرع منها التعليم المدني زراعياً أو تجارياً أو صناعياً أو ثقافياً عاماً، وهذا هو ما يسمى بالتعليم الأصيل. ثم ينبثق منه التعليم المتخصص، وإن يقوم منهج التعليم كله في إطار التربية الإسلامية الجامعة المتكاملة.
وبعد فإن تلك المحاولات التي ترمي إلى "ترقيع" التعليم المدني الوافد القائم الآن بإدخال ما يسمى مادة الدين، إنما هو عمل ناقص، ومحاولة باطلة لإطالة أمد المنهج الوضعي الاستعماري، إن الإسلام هو الإسلام ليس مادة الدين التي تدرس منها بعض آيات وأحاديث وصلوات. إن الإسلام هوة مادة كل المناهج والعلوم والدراسات: اللغة العربية وعلم النفس والأخلاق والاجتماع والسياسة والاقتصاد والقانون وهو روح كل الدراسات في المدرسة الأولية والوسطى والإعدادية والثانوية والجامعة جميعاً.
ذلك أن الإسلام ليس ديناً بمفهوم الدين الغربي، ولكنه منهج حياة ونظام – مجتمع والدين جزء منه. ولن تستطيع هذه الأمة أن تحقق وجودها وتمتلك إرادتها ما لم يتحرر من النفوذ الغربي من مناهج التربية والتعليم التي صنعت أجيال الهزيمة والنكسة والانهيار والتدمير، ولابد مع التماس منابع الإسلام في الاقتصاد الإسلامي والشريعة الإسلامية أن يكون هناك تربية إسلامية أصيلة.
نحن نعرف أن التربية والتعليم والثقافة هي وجود ثلاثة لحقيقة واحدة.(1/11)
وإن ازدواجية التعليم وازدواجية الثقافة هي أخطر الرياح الصفراء العاتية التي تهب الآن في وجه الإسلام الحق. المدرسة والبيت والصحيفة والكتاب والجامعة كل هؤلاء مدعوون لبناء منهج تربي جديد قوامه تكامل التربية الإسلامية روحاً وعقلاً وجسماً، وقومية وإنسانية، وفردية وجماعية، وخلقية وعقلية، وربط بين الماضي والحاضر والمستقبل.
إن هذا هو المصدر الوحيد للحصانة من خطر التيارات الوافدة والدعوات – الهدامة، هذه الأخطار التي تتمثل في الفكر الاستعماري والماركسي والصهيوني هذا الخطر ليست هناك أمة معرضة له بقدر ما تتعرض الأمة الإسلامية. لأنها هي وحدها التي تمتلك ثقافة وفكراً مستقلاً ومتميزاً له ذاتيته الخاصة وطابعه المفرد من وحي السماء يستمد مفهومه من التوحيد والحق والعدل والرحمة جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ليخرج البشرية من الظلمات إلى النور، وما زال المسلمون مسئولين عن تبليغ هذا المنهج وحمايته وتطبيقه على مجتمعاتهم.(1/12)
التغريب أخطر التحديات في وجه الإسلام
الأستاذ أنور الجندي
هناك محاولة خطيرة تستهدف دائماً معارضة القول بأن هناك: ظاهرة تغريب، وغزو ثقافي، أو محاولة احتواء للفكر الإسلامي، أو سيطرة فكر وافد.
وتحاول هذه المحاولة أن تعتمد على أمرين:
الأمر الأول هو القول: "أين هذه المؤسسة التي تسمى التغريب" ذلك لأن هذه المؤسسة ليست بناءاً مجسماً له دار ولافتة مكتوب عليها مدرسة التغريب أو مؤسسته وذلك هو تساؤل السذج الأغرار قصيري النظر البسطاء الذين يعدهم التغريب أحسن أدواته وأكثرها نفعاً لأنهم يقومون بخدمته دون أجر، وعلى حساب النوايا الطيبة.
والأمر الثاني: هو مداواة التابعين العملاء الذين هم كالحية الرقطاء يخادعون الناس ويخفون حقيقة ولاءهم.
ومع الأسف أن الذين يشككون في التغريب هم من النوع الأول: أولئك الحمقى الذين طبع الله على قلوبهم، وأعمى أبصارهم.
ذلك أن التغريب لم يعد بعد هذا الوقت الطويل موضع تساؤل أو تشكيك. وربما كان كذلك في الثلاثينيات حيث كان يغطي العالم الإسلامي والأمة العربية ظلام كثيف وكانت هناك حقائق كثيرة ما تزال محجوبة، ولعل أهمها: بروتوكولات صهيون التي ظهرت في العالم كله عام 1902 م حتى عام 1952 م تقريباً وإلى ما بعد أن قامت إسرائيل في قلب الأمة العربية.
ولقد كشف هذه الحقيقة دعاة التغريب أنفسهم، ولعل أول وثيقة في هذا المجال هي كتاب (وجهة الإسلام) الذي ألفه هاملتون جب مع جماعة من المستشرقين وأعلن فيه صراحة أن هدف البحث هو معرفة:
"إلى أي حد وصلت حركة تغريب الشرق وما هي العوامل التي تحول دون تحقيق هذا التغريب". وذلك للقضاؤ عليها.
ويمكن لقارئ الكتاب أن يستكشف مناهج التغريب واضحة، كالسهام تندفع في أعماق العيون الضالة والمضللة لتسقط عنها غشاوات الغباء والجهل. وجاء بعد ذلك كثيرون فأشاروا إلى ذلك وأوردوا المصادر والوثائق:(2/1)
من العرب الدكتوران عمر فروخ والخالدي في كتابهم "التبشير والاستعمار" ومن الغرب: المؤرخ العالمي توينبي في كتابه (العالم والغرب).
وهناك عشرات الأدلة والوثائق التي تضع الحقيقة ناصعة أمام من يريدها لوجه الحق. ولا يمالئ فيها خاصة لأقطاب التغريب ودعاة الجنس وعمالقة الغزو الثقافي.
ومن يتابع كتاب "الغارة على العالم الإسلامي" وهو سابق سبقاً بعيداً لكتاب هاملتون جب وقد ترجمه العلامة محب الدين الخطيب في جريدة المؤيد قبل أن يبدأ هذا القرن بسنوات وكان اسمه الحقيقي واضح الدلالة على الهدف هو: فتح العالم الإسلامي يجد أن القضية أكيدة واضحة وأن مخططاتها منسقة وموزعة على المؤسسات: مؤسسة المدرسة والجامعة عن طريق الإرساليات ومؤسسة الصحافة والثقافة عن طريق الصحيفة والمجلة والكتاب، ثم هناك مؤسسة أخرى أشد خطراً ظهرت من بعد هي مؤسسة القصة والمسرحية والشاشة والإذاعة المسمومة والمرئية.
وليس بعد ذلك دليل على وجود هذه الحقيقة: حقيقة التغريب ولها دعاتها وكتابها المنبثون في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، ولعل من يطالع بعض الاجتماعات التي عقدت في إحدى دور الصحف الكبرى يجد أن الأمر واضح وجلي وليس في حاجة إلى دليل جديد أمام الإغرار الحمقى، الذين أعماهم حرصهم على أن يكونوا أتباعاً أذلة للأسماء اللاحقة من كتاب الجنس والقصة. وأن يكونوا ثماراً فجة في هذه الشجرة الملعونة التي شاخت وتحطمت.
ولاريب أن من يرى مؤسسات التبشير والاستشراق وما يصدر من شبهات وتحديات يحكم بما لايدع مجالاً للشك بوجود هذه الظاهرة وحركتها الدائبة.
إن مفهوم مصطلح التغريب في عشرات من تعاريفه إنما يعني: خلق عقلية جديدة تعتمد على تصورات الفكر الغربي ومقاييسه لتحاكم الفكر الإسلامي والمجتمع الإسلامي من خلالها بهدف سيادة الحضارة الغربية وتسييدها على حضارات الأمم ولاسيما الحضارة الإسلامية.(2/2)
ولقد ذكر المبشرون والمستشرقون أن هدفهم هو خلق أجيال تحتقر كل مقومات الحياة الإسلامية بل الشرقية وأبعاد العناصر التي تمثل الثقافة الإسلامية عن مراكز التوجيه. ولقد عملت حركة التغريب في موالاة عجيبة ودأب بالغ على تدمير الشخصيات العربية الإسلامية الباهرة وفي مقدمتها الرسول الكريم وصحابته وأبطال الإسلام، ومفكريه كما ركزت على إحياء النماذج الشاذة والإذاعة بها أمثال الحلاج والسهروردي وبشار وابن الراوندي.
ولقد جرت هذه المحاولات من منطلق براق هو الصحف الضخمة والمطبوعات الأنيقة، مع هالة الأسماء وبريق الألقاب وضجيج الشهرة.
واستخدمت أسلوب الأحكام المسبقة، وخلق الافتراضات ثم بناء نظريات على أساسها.
ولقد كان دعاة التغريب هم أكثر الناس إفساداً للمنهج العلمي الذي يدعو إلى التحذير من الحماسة والتقريرية والعاطفة والتعميم فسقطوا في هذه الأخطار وقارفوا هذه المحاذير، وإن واحداً منهم لم يستطع أن يصدع بكلمة الحق والإنصاف، وكانت كتاباتهم جميعاً مشوبة بذلك الاستعلاء والعدوان وعبارة الحقد وأسلوب التعصب.
ولعل من أخطر محاولات التغريب هي محاولة وضع البديل في مواجهة الإصيل، والعمل على تقديم بدائل سريعة ذات مظهر لامع، وتحوطها هالة من الضجيج لكل فكرة أصيلة في محاولة لتحويل الرأي عنها في ظل طوابع من الإغراء والتزييف. وتحت اسم البحث العلمي والعبارات البراقة الخداعة.
وليست هذه الطريقة جديدة على الفكر الإسلامي، ولكنها سنة لكل العصور، ولعل أبرز ملامح تاريخ الفكر الإسلامي هو ذلك الكفاح الدائب دون هيمنة الفكر الوافد أو العقلية الخارجية التي سلطها عليهم اليونان والهنود والمجوس واليهود، ولقد بدت هذه المقاومة في صورة ملحمة رائعة كان أعلام المسلمين ومفكريهم ونوابغهم جيلاً بعد جيل يقاومون دون السماح لشخصية الإسلام الحضارية والفكرية ذات الطابع المتميز تحت اسم التوحيد أن تذوب أو تتلاشى في شخصية حضارية أخرى.(2/3)
ولقد ظل المسلمون قادرون على ذلك في مجال الفكر في العصر الحديث بل لعلهم أقدر عليه في مجال الحرب والسلاح، وأن هذا الرفض ليتجلى في أروع صورة في صمود الجزائريين ومقاومتهم فناء شخصيتهم العربية الإسلامية.
ولقد ظل أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث يوالون الدق على الطبول في مواجهة أخطر المحاولات الدائبة المستمرة لتحريف الفكر الإسلامي (أصوله وتعالميه وأحكامه) تارة بالنقص منها وأخرى بالزيادة فيها وثالثة بتأويلها على غير وجهها.
ولقد كان من أكبر الأخطار التي واجهتنا دون إرادة حرة، هي محاولتنا فهم كثير من الأمور من خلال مناهج الغرب ومقاييسه، هذه المناهج والمقاييس التي كونها الغرب من خلال ظروفه الاجتماعية وتحدياته التاريخية وتركيبه النفسي والاجتماعي.
إن هناك حقيقة لا سبيل تجاوزها أو إنكارها هو أن في العالمن ثقافتين: إسلامية وغير إسلامية ولا يمكن أن يلتقيا في إطار واحد، يخطئ البعض حين يظن أن "التغريب" هو حمل المسلمين والعرب على قبول ذهنية الغرب، وإنما الحقيقة أن التغريب هو محاولة خلق (دائرة فكر) تهدم إرادة المسلمين والعرب وتنتقص فكرهم وتشيع فيه الشبهات والمثالب، ثم لا تدفعهم إلى أي جانب من جوانب البناء أو النهضة مستمدة من أي فكر آخر.
ومن شأن دائرة هذا الفكر اللقيط، أن تحول بين المسلمين وبين أي حركة أو نهضة، وإنما تمسكهم ليدوروا في هذه الدائرة المغلقة، حتى ينتهوا، وتجعلهم يفكرون من داخل دائرة مادية خالصة، معزولة تماماً عن العقيدة الإيجابية المتكاملة التي علمهم إياها الإسلام وهداهم إليها منهاجاً للحياة قادراً على التقدم من ناحية وعلى مقاومة الغزو من ناحية أخرى.(2/4)
وهم منذ ركنوا إلى هذه الدائرة الصماء فقدوا كل قدرة على الحركة الأصيلة، ذلك أن تركيب الفكر التغريبي الوافد، إنما استخدم أعظم ما استخدم تضارب المذاهب الغريبة وصراعها وأحيا في نفس الوقت كل ما أنشأته الشعوبية والزندقة والباطنية في الفكر العربي الإسلامي من مفاهيم وشخصيات، لتقيم من هذا كله تلك الدائرة التي تقتل النفس العربية قتلاً وتحول بينها وبين الحياة والحركة والبنالء والتقدم جميعاً في الذل والظلام والدوار حول وهم معلق وشبح كاذب.
ونحن نعرف أن شخصيتنا تستمد قوتها من قيمنا، فإذا انحرفنا عن هذه القيم فقدنا الطريق، وتهنا في البيداء وذلك هو ما قصد إليه التغريب واستطاع أن يحققه إلى حد كبير، ولعل أبرز محاولات التغريب هي الحيلولة دون قيام خط التقاء بينل العناصر والشعوب التي يجمعها فكر واحد في الأصل مصدره القرآن واللغة العربية ومنهج محمد بن عبد الله، وذلك عن طريق استهلاكها في الإقليميات والأمميات والمفاهيم التي تفصل القيم وتمزق العناصر التي وحدها الإسلام في كل متكامل جامع.
فإذا أضفنا إلى هذا محاولة هدم المجتمع وتقويضه بنشر الإباحية عن طريق القصة، وفلسفات الوجودية والهيبية وغيرها عرفنا إلى أي مدى تجرى المحاولة الخطيرة.
بل إن ما ألقي إلى العرب والمسلمين من مفاهيم الحرية والتقدم والديمقراطية والعدل الاجتماعي وغيره، إنما كان في الأصل هو "عطاء" الإسلام للبشرية كلها وللحضارة أساساً، قد أعيد إليها وقد شابه اضطراب كبير وإن غلف بأغلفة براقة لامعة.
ولعل أخطر محاولات التغريب إنما ركزت على تفريغ العقل والقلب العربي الإسلامي من القيم الأساسية المستمدة من التوحيد والأخلاق والإيمان بالله، ودفع هذه القلوب والعقول عارية أمام عاصفة هوجاء تحمل معها السموم والجراثيم عن طريق التعليم والصحافة والكتاب والمسرحية والفيلم والأزياء والملابس.(2/5)
ومن ثم خرجت هذه المؤسسات جميعاً ذلك الجيل الذي حمل دعوة لالهدم وسار بها تحت اسم التقدم والحضارة وعمد إلى متابعة المستشرقين والمبشرين في تحريف التاريخ الإسلامي وتشويه مبادئ الإسلام وثقافته وانتقاص الدور الذي لعبه في تاريخ العالم، مع خلق شعور بالنقص في نفوس المسلمين.
وفي عشرات المجالات والقضايا عمل "التغريب": في مجالات التفرقة بين الإسلام والعروبة، وفي النظرة الجزئية، والفصل بين الدين والمجتمع، واللغة والتاريخ، وعن طريق إحياء الروابط القديمة التي أبادها الإسلام وقضى عليها نهائياً.
ثم عمد إلى خلق شبح كريه أسماه القديم والماضي والتاريخ مع أمة واحدة من أمم الشرق والغرب لا تستطيع أن تدعي أنها انفصلت في أي نهضة عن ماضيها وتاريخها.
وأكبر الدعاوي الباطلة التي يثيرها التغريب هي عالمية الثقافة، والحضارة البشرية، ووحدة الفكر البشري وكلها دعوات لها دواخلها وغاياتها المريبة، التي تتمثل في مفهوم واضح هو "تذويب" الفكر العربي الإسلامي و "احتوائه" وصهره في بوتقة الأقوياء المسيطرين أصحاب النفوذ العالمي السياسي المسيطر.
ونحن نعلم أن لكل أمة ثقافتها وقيمها وذاتيتها وفاهيمها وتراثها ومزاجها النفسي الذي شكلته القرون المتطاولة والعقائد والقيم وأنه لا سبيل أن تنصهر إلا الأمم الصعيفة الذليلة، أما الأمة الإسلامية والفكر الإسلامي فإنه من المستحيل أن ينصهر أو يذوب في أي معدة مهما كانت، ذلك لأنه أعمق جذوراً وأقوى قوة من كل قوى الأرض.
يمكن أن توصف حركة الغزو الثقافي الحديثة التي بدأت تعمل في العالم الإسلامي منذ سيطرة الاستعمار الغربي، أنها امتداد متطور لهذه الحركة التي يحمل لواءها خصوم الإسلام وأعداؤه في كل عصر لإخراجه من قيمه ولإتاحة الفرص للغزو الأجنبي في السيطرة والاستعمار.(2/6)
وقد ارتبطت حركة الغزو الفكري "التغريب" بالاستعمار ارتباطاً عضوياً وليس ذلك شكلياً إن حركة "تغريب الشرق" هي دعوة كاملة لها نظمها وأهدافها ودعائمها ولها قادتها الذين يقومون بالإشراف عليها. وهي حلقة من مخطط واسع في تأكيد الاستعمار ودعمه قوامها عمل استعماري فكري بعيد المدى قصد به القضائ على معالم شخصية هذه الأمة وتحويلها إلى صورة غربية الملامح لتخليصها من القيم والمثل والتراث الذي يتصل بها والذي كان عاملاً على تكوينها خلال الأجيال الطويلة فقد كان الاستعمار يفهم أنه بعد أن سيطر على العالم الإسلامي بجيوشه وقواه العسكرية ونفوذه السياسي لابد يوماً أن ينسحب فكان لابد من وضع مخطط دقيق لإبقاء نفوذه في المناطق التي احتلها وكان لابد له أن يبقى حتى تتكون له طلائع تخلفه من أهل الأقطار نفسها، يؤمنون بفكره، ويسيرون في اتجاهه، ويخدمون مصالحه يكونهم عن طريق التعليم في مدارسه، ووفق أهدافه، وتكون أمانتهم له أكثر من أمانتهم لأوطانهم.
وليس كل من تثقف بالغرب، أو اتصل بالمستشرقين ودوائر الفكر الغربي كذلك. وليس كل من اتصل بالغرب وآمن به استمر على إيمانه، فإن الحقائق لا تلبث أن تنكشف عن زيف الاستعمار ومغالطته، فلا يلبث الأمر أن يظهر أن هناك خداعاً قوامه كلمات براقة، وشعارات تقول بتنوير الشعوب وتمدينها وتدعو إلى الحرية أو الإخاء أو المساواة أو ما شابه ذلك، ثم لا تلبث الأحداث أو تثبت تعصب الغرب وتناقضه، وائتماره بهذه الأمة وفرض سلطانه بالحديد والنار، هناك تتحول الأفكار عنه ويكفر به من كان قد خدع يوماً.(2/7)
ولسنا في هذا الرأي نذهب إلى الغض من شأن الفكر الغربي أو نصرف وجوهنا عنه بل على العكس من ذلك، نحن لا نراه فكراً غريباً وإنما نراه فكراً إنسانياً في الأساس وأن انحرف في بعض مفاهيمه ونحن لا نقفل أبوابنا أمام الثقافات العالمية شرقية وغربية فقد شاركنا فيها، وكان لنا دورنا الكبير في بناء هذه الحضارة، دورنا غير المنكور عند المنصفين من كتاب الغرب ومفكريه.
ولكننا قبل أن نفتح الأبواب لكل الثقافات لابد أن نكون من متانة الاستعداد النفسي والذهني والروحي بحيث لا تبتلعنا ثقافات الأمم ولا تحولنا وجهة غير طريقنا، ولا تفسد معالم شخصيتنا الأساسية الواضحة.
فلقد نقلت أوربا ثقافتنا الإسلامية وأقامت عليها أسس حاضرتها ومع ذلك لم يتحجول وجهها عربياً أو إسلامياً أو شرقياً.
كذلك نحن، أمة مقوماتها وكيانها ووجهها ذو الملامح الواضحة، فلابد أن يبقى هذا "الأساس" ثم لنأخذ ما نشاء من حضارات الأمم وثقافاتها، وما يزيد شخصيتنا قوة وحياة ويدفعنا إلى الأمما في ركب الحضارة.
ولعل "حركة التغريب" لم تكن قاسية إلا بالنسبة لهذا الأمر فقد كانت صيحتها على لسان دعاتها وأتباعهم من كتابنا، إن الحضارة الغربية كل لا يتجزأ وأنه لابد من أخذها جميعها أو تركها جميعاً وهذا رأي مدخول فيه من الخطأ والاستهانة بالفكر نفسه ما فيه. فما من أمة تستطيع أن تأخذ كل ما عند الأمة الأخرى، ولقد عاشت الأمم تتقارض الحضارات وتقتبس الثقافات دون أن تتحول عن طوابعها الأساسية.(2/8)
ولقد كان الاستعمار والنفوذ الأجنبي يعرفان أن السيطرة الكاملة على هذه الأمة أمر مستحيل فإن لها من مقومات شخصيتها القويةل الصامدة العنيدة، ومن أسس فكرها العربي الإسلامي القرآني ما يحول دونها ودون الاستسلام أو الركوع أو الخضوع لأي قوة خارجية أجنبية، فكان لابد من الحملة على هذه المقومات للقضاء عليها وتحويل وجه الأمة إلى قيم أخرى تدمر كيانها وتفرض عليها التسليم للقوى الخارجية في أن تسود وتمتد وتتوسع، وبذلك يبقى الاستعمار حياً في صورة أخرى من صور النفوذ الفكري.
إذن فالتغريب هو محاولة "تغيير المفاهيم" في العالم العربي والإسلامي والفصل بين هذه الأمة وبين ماضيها وقيمها، والعمل على تحطيم هذه القيم بالتشكيك فيها وإثارة الشبهات حول الدين واللغة والتاريخ ومعالم الفكر ومفاهيم الآراء والمعتقدات جميعاً.
ولقد صور لورد كرومر منهج هذا العمل الذي اصطنعته فرنسا وإنجلترا وهلوندى في العالم الإسلامي حين قال: "إن ىالشبان الذين يتلقون علومهم في إنجلترا وأوربا يفقدون صلتهم الثقافية والروحية بوطنهم، ولا يستطيعون الانتماء في نفس الوقت إلى البلد الذي منحهم ثقافته فيتأرجحون في الوسط ممزقين".
وكان هذا بالطبع هو الهدف من الإرساليات المختلفة التي غزت بلادنا في صورة مدارس وجامعات وفي البعثات الموجهة إلى أوربا وإلى عواصم الدول المختلفة بالذات.(2/9)
وفي هذا، قال جبران إن الشباب الذي تناول لقمة من العلم في مدرسة أمريكية قد تحول بالطبع إلى معتمد أمريكي، والشاب الذي تجرع رشفة من العلم يسوعية صار سفيراً لفرنسا والشاب الذي لبس قميصاً من نسج مدرسة روسية أصبح ممثلاً لروسيا وكان هذا هو الحق إلى حد كبير، فقد غزا الغرب الشرق، بجحافل من العلماء والمبشرين والمستشرقين والأثريين والصحفيين وشيدت مؤسسات ضخمة في مختلف عواصم العالم الإسلامي لفتح أبوابها لثقافة بلادها. وبدأ هذا النفوذ الفكري يعمل ويسيطر في مجالات المدرسة والجامعة والصحافة، والثقافة والتربية والطب والسينما والإذاعة.
وهكذا كان "التغريب" عملاً خطيراً دقيقاً قوامه الحرب المنظمة للقيم التي عاشت عليها أمتنا، في أسلوب مغلف بالضباب، يحاول أن يثير غمامة كثيفة من التشكيك والتحقير والاستهانة بكل ما لدينا من قيم باسم "القديم" البالي الموروث، ولم تمض سنوات قليلة حتى كان أبرز المسيطرين على "الصحافة" في العالم العربي والإسلامي من هؤلاء المتنكرين لقيمنا الذاهبين مع التغريب فقد كانت الصحف التي تعمل للمبادئ تسقط واحدة بعد أخرى، بينما ظلت الصحف التي تخدم التغريب تقوى وتتوسع. وفي مجال "الترجمة" كان الهدف هو إذاعة القصة المكشوفة والآراء المسومة، وفي الأدب بث فكر جديد قوامه القصص وفي مجال المدرسة كانت تقدم الكتب التي تنتقص من قدرنا وتصم تاريخنا بالضعف وماضينا بالذلة وسيطر على الجو الفكري كله تيار جديد هدام قوامه الاستهانة بكل القيم وفي مقدمتها الدين والمعنويات، كما فرضت الحضارة على بلادنا أسوأ ثمراتها، لم ترسل لنا إلا تجارة الرقيق الأبيض والكحول ومواد الزينة واللهو بغية تحطيم كيان المجتمع، وبدت في جو مجتمعنا ريح تدعو إلى الرخاوة والمتعة واللذة والتخلص من كل القيود.(2/10)
ولم تكن هذه الدعوة تهدف إلا إلى تدمير القيم الأساسية لهذه الأمة، قيم المقاومة والصلابة والتصميم وتحويل نظر الأمة عن الجهاد والتضحية والفداء في سبيل الحرية.
كان هدف التغريب واضحاً هو محاولة قتل شخصيتنا، ومحو مقوماتها وتدمير فكرها، وتسميم ينابيع الثقافة فيها.
وفي هذا المجال برزت الدعوة إلى التحرر من طابع العروبة وطابع الدين وجرت الشعارات الجديدة في الارتباط بحضارات البحر الأبيض وبأن مصر جزء من أوربا، وبرزت دعوات الفرعونية في مصر والفينيقية في الشام والأشورية في العراق، وبرزت النعرات القديمة باسم مسيحي ومسلم، وعربي وبربري، وعربي وكردي، وكان الاستعمار هو الذي يحمل لواء هذه الدعوات ويثيرها ويقلب جمرها، ويخرجها من كهوف الماضي ليمنحها الحياة ويجمع حولها بعض أعوانه عن طريق الفكر والكتابة بغية تقسيم الأمة.
ولم يمض وقت طويل حتى اعترف كتاب الغرب بحركة التغريب وجاءوا يبحثون مدى ما وصلت إليه وما حققته من هدف. وقال جب في كتاب "وجهة الإسلام" إن حركة التغريب كانت بعيدة المدى بإنزال الإسلام عن عرشه في الحياة الاجتماعية.
وقد عملت "حركة التغريب" في جملة ميادية، بدأ العمل فيها غربيون نزلوا إلى المعركة قمة، ثم أسلموا مقاليد الأمور من بعد إلى كتاب من العرب والمسلمين، حتى يبعثوا الثقة في نفوس المواطنين إلى الصوت الأليف الذي يجد الصدى، وفي كل ميدان من ميادين العمل كان النفوذ الأجنبي يجد من يعاونه من أبناء الأوطان، وإذا كان هجومه على الدين قاسياً، فإن من المؤسف أن نجد كثيراً ممن حمل لواء هذا الهجوم من الذين ثقفوا أول الأمر ثقافة إسلامية وكانت اللغة والدين في الأغلب هما الميدانان الكبيران للعمل البعيد المدى، وإن كان التغريب لم يترك ميداناً دون أن يوغل فيه ويسممه ويبعث فيه الشك.
وكانت كلمة "حرية الفكر" والتقدمية، ومقاومة الرجعية، والتطور من الكلمات البراقة التي لعبت دوراً كبيراً في خداع الجماهير.(2/11)
واستطاع التغريب أن يجد المنافذ المرنة الماكرة إلى ما يريد دون أن يصطدم بالعقائد أو يواجه المواقف الحرجة.
وإن كان المبشرون قد هاجموا المقومات صراحة، وقاموا بعملهم في عنف أول الأمر، فإنهم لم يلبثوا أن تحولوا عن هذه الخطة، واختفوا من المسرح، واستبطنوا أهدافهم، وحولوها إلى صورة أخرى أكثر دقة ومكراً. فبرزت أحاديث صورية فيها تمجيد للدين وللغة ولمقومات الأمة فإذا تخدرت أفكار القراء، ووثقوا بالكاتب وكتاباته، بدأت عملية التشكيك الخفي، المدخول الدقيق، بل إن بعض الكتاب الذين عملوا مع التغريب وهاجموا المقومات الأساسية في أول الأمر ولم يلبثوا بعد قليل أن تحولوا مظهرياً، وخاضوا الحديث في أقدس مقدسات الأمة، عاملين على كسب الثقة الشعبية العامة في هذا المجال، حتى يتأتى لهم من بعد أن يحققوا في الخفاء ما يهدف إليه دعاة التغريب، لقد اختفت المعركة من على المسرح ودخلت إلى الكواليس، وأصبح مجال العمل، هو مناهج التعليم نفسها، أو مقالات الصحف أو فرض المذاهب الفكرية الغربية، وتأكيدها والاختفاء وراءها. وخاصة ما يتصل منها بمقاومة القيم العربية الإسلامية، كالمذاهب المادية والنظريات الفلسفية والنفسية التي تدمر قيم الإنسان وتعريه وتكشفه على نحو يقلل من كرامته، وفي هذا المجال ظهرت عشرات من النظريات والمذاهب والفلسفات المضطربة الذاهبة إلى كل مجال، وكان من شأن إذاعة هذه المذاهب والنظريات إحداث بلبلة فكرية من شأنها أن تقضي على الإيمان بالقمومات الأصلية. وتدفع الفكر العربي الإسلامي في متاهات وتخبطات.(2/12)
بل إن الخطط التي قدرها الغربيون إزاء موقف المسيحية والكنيسة حين حاولت أن تقف أمام النهضة والحضارة، فقد حاولوا نقلها إلينا مع الفارق البعيد بين موقف الإسلام من الحضارات والنهضات وموقف المسيحية، فلقد كان الإسلام قادراً دائماً على مواجهة كل تطور، وفيه من السماحة والتفتح والاستجابة ما جعله صالحاً لكل زمان ومكان، فكان هذا الاتجاه في نقل موقف الغرب من جمود الكنيسة ليس إلا لوناً من هذه البلبلة الفكرية التي هي قوام دعوة التغريب.
ولم تكن حملات التغريب على القيم والمقومات والتاريخ واللغة والدين في الشرق قائمة على أساس علمي على نحو ما يذهب إليه أسلوب البحث العلمي، وإنما كانت حملات يغلب عليها الهوى والتعصب وتسيطر عليها ريح الحقد والاستعلاء وخلق الفوارق البعيدة بين الجنس الأبيض وغيره من الأجناس مع سيطرة فكرة التفرقة بين أصحاب الحضارة وبين الشعوب التي كان لها دور من قبل في رحمل الحضارة، حين كانت أوربا تعيش في الوحل والظلام، فإذا أضيف إلى هذا ذلك الإصرار العجيب على إنكار فضل العرب والمسلمين على الحضارة على نحو فيه مغالطة وإنكار لوقائع التاريخ نفسه تبين إلى أي مدى يذهب دعاة التغريب، فآسيا هي المتبربرة، وأوربا هي المتحضرة وليس أكذب ولا أبعد عن الحقيقة ما يحاول الغربيون أن يقولوه في هذا المجال من أن التاريخ والحضارة قد بدأت من أثينا ومرت على روما.. ثم اختفت ألف سنة لتظهر من جديد في حركة النهضة، أما ما قبل النهضة فلا شيء، وفي هذا الرأي ما فيه من الخطأ ومجافاة الحقيقة والواقع.
فإن قبل أثينا كانت حضارات النيل والفرات، وقبل النهضة كان المسلمون والعرب في دورهم الضخم البعيد المدى حين حملوا لواء الحضارة والفكر، وترجموا آثار اليونان وزادوا فيها وأضافوا إليها وحققوا الأسس الكبرى التي قامت عليها الحضارة فيما بعد.(2/13)
والحق أن حركة تغريب الشرق قامت على المغالطة والتضليل، ومحاولة مسخ القيم والقوميات العربية والإسلامية وإدخال قيم ومقومات جديدة تهدم شخصيتنا وتصيرنا مسخاً لا هو من الشرق ولا هو من الغرب ثم هي بعد ذلك تنكر دورنا وتحاول أن تغض من شأن لغتنا وتاريخنا وتراثنا على نحو لا يصمد أمام البحث العلمي الصحيح، وهو ما تكشف بتوسع في مختلف مجالاته وجوانبه.
استهدف التغريب والغزو الثقافي للإسلام والعالم الإسلامي والأمة العربية هدفاً واضحاً مقصوداً لذاته هو الاستسلام للسيطرة الاستعمارية عن طريق تحلل القيم وتحرريف المفاهيم وإفساد الجذور والأسس التي تقوم عليها الذاتية العربية الإسلامية. وبذلك ينصهر المسلمون والعرب في الغرب وحضارته وثقافته انصهار الذليل التابع، الذي يعجب بها ويوليها وتابعها ويتطلع إلى مصادقتها والتبعية لها تبعية كاملة.
ولاشك أن تحقيق هذا الهدف هو أمر بعيد المنال، بالنسبة لأصالة الإسلام وفكره ومقوماته وجذوره العميقة الضاربة في التربة العربية الإسلامية خلال خمسة عشر قرناً كاملة ومع ذلك فقد عمد الاستعمار إلى تنفيذ مخطط ضخم في سبيل التغريب والغزو الثقافي، قام أساساً على موسيات ضخمة تحمل لواء العمل في مجال التبشير والتعليم والصحافة والاستشراق وكلها تناسق بين خططها وأهدافها لتحقيق غاية واحدة، هذه الغاية هي السيطرة الكاملة على العالم الإسلامي التي عجزت عنها الحروب الصليبية والحيلولة بين الإسلام وأهله وبين القوة والسيطرة والقدرة على الحياة والحركة تخوفاً من خطر مفزع متوهم يتمثل في انقضاض الإسلام على الحضارة الغربية وإسقاطها.
وقد سار الغزو الثقافي متقدماً حملة الغزو العسكري والسياسي ومرافقاً لحملات الغزو التجاري والاقتصادي، عامداً إلى مهاجمة الإسلام واللغة العربية والقرآن والرسول والتاريخ الإسلامي والقيم الأساسية في مجال السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية.(2/14)
كما حرص الاتعمار من ناحية أخرى أن ينقل إلى العالم الإسلامي والأمة العربية الجوانب المضطربة من حضارته وفكره، وأغرق الفكر العربي الإسلامي بعشرات مكن حضارته وفكره، وأغرق الفكر العربي الإسلامي بعشرات من التحديات من خلال الفلسفات المتضاربة الإلحادية والإباحية وإذاعتها.
واتصل ذلك بالنظريات ذات المظهر العلمي البراق التي أوجدها الاستعمار ليحاول إقناع الشعوب الملونة بأنهم أقل من الشعوب البيضاء قدرة عقلية، وإن الرجل الأبيض هو الإنسان الذي خصته العناية الإلهية بتحضير الشعوب المتخلفة، وهي نظريات تبين من بعد أنها قد سقطت في بلادها، ولم تجد من يقبلها أو يعتنقها ولكنها نقلت إلى بلادنا لإثارة البلبة والاضطراب ضمن مخطط التغريب المتعدد الأضلاع.
والواقع أن هذه الفلسفات والمذاهب الغربية التي قذف بها الفكر الإسلامي لم تكن قائمة في الغرب على هذا النحو من التعدد في وقت واحد، وإنما جرت خلال فترة طويلة تمتد إلى أكثر من أربعمائة عام منذ عصر النهضة إلى اليوم ولكن التغريب أراد أن يدفع بها مرة واحدة إلى الشرق رغبة في إثارة الاضطرابات والشكوك وزلزلة العقائد ومع ذلك فقد استطاع الفكر الإسلامي وهو في مطالع اليقظة أن يواجه هذا الإعصار في قوة وأن يدحضه ويرده وكاد أن يقضي عليه لولا بقاء النفوذ الأجنبي المؤيد لحركة التغريب المسيطر عن طريق أعوانه وقد تمثلت هذه الحملات في تيارات متعددة أهمها:
إشاعة قضية الأجناس السامية والآرية التي تستهدف الانتقاص من شأن العرب.
مهاجمة لالدين بعامة والإسلام بخاصة واتهامه بأنه سبب التخلف.
انتقاد العرب والمصريين واتهامهم بأنهم ظلوا مستبعدين لليونان والرومان.
إنكار فضل العرب على الحضارة الحديثة.
الحملة على العقائد والقيم.
الدعوة إلى التجزئة والإقليمية وإحياء الدعوات القديمة الفينيقية الفرعونية.
الدعوة إلى ما يسمى ثقافة البحر الأبيض.(2/15)
إذاعة الفرقة والخصومة بين الأديان والأجناس: البربر والعرب، الدروز والموارنة، المسلمون والمسيحيون، السنة والشيعية.
وقد اصطنع التغريب في سبيل تحقيق أهدافه مؤسسات عدة أهمها "التبشير" وهي مؤسسة ضخمة عمل بها عدد كبير من المسلمين في بلاد الشرق، بإنشاء المدارس والمستشفيات والمعاهد التي اجتذبت أبناء البلاد وفق منهج مرسوم لإخراجهم من الإسلام، وكانت مؤسسة الاستشراق هي المصنع الذي يمد حركة التبشير بالمادة الخام التي تذيعها عن طريق الكتب والصحافة ومعاهد التعليم.
وقد عمد التبشير إلى استغلال الطلاب والمرضى، وتحويل عقائدهم والتأثير في مفاهيمهم وتحطيم معنوياتهم وتنشئة أجيال ممسوخة مبلبلة العقائد، مضطربة الثقافة، منكرة لقيمها وتراثها ولغتها وتاريخها ويمكن القول بأن المستشرقين هم طلائع المبشرين فقد غلب على معظمهم الهوى والتعصب، فلم يطبقوا المذهب العلمي الذي نادوا به في أبحاثهم، وكان جلة المستشرقين على اتصال دائم بوزارات المستعمرات.
وقد استهدف الاستشراق خدمة الاستعمار عن طريق العلم، وأسس جميع النظريات الاستعمارية التي قامت على التهوين من شأن الشرق والعرب والإسلام، وكلها نظريات انخدع بها باحثون أو خدعونا بها ورددوها في مؤلفاتهم، ولعل أهم ما ركز عليه الاستشراق والتبشير هو "الإسلام والنبي محمد"، فلقد أضافوا إلى مفاهيم الإسلام وتاريخ الرسول كثيراً من الافتراءات والإدعاءات الباطلة، وكان مرجليوث، وفنسنك، ولويس شيخو، وهنري لامانس من أشد المستشرقين تعصباً ضد الإسلام ورسوله.
وقد كشف الباحثون المنصفون أخطاء المستشرقين وسوء نواياهم، من أمثال: حسين الهراوي، وعمر فروخ، وشكيب أرسلان، ومحب الدين الخطيب، ورشيد رضا، وقد استهدف مخطط التبشير أهدافاً أساسية واضحة.
أولاً: تشويه الثقافة الإسلامية والتراث العربي والإسلامي.
ثانياً: إفساد الخصائص المعنوية في البلاد العربية والإسلامية.(2/16)
ثالثاً: خلق تخاذل روحي وشعوري بالنقص.
رابعاً: توسيع شقة الخلاف بين الطوائف والمذاهب وإثارة النزاع بين الأديان.
خامساً: إخضاع العالم الإسلامي والأمة العربية للاستعمار الغربي.
سادساً: إعداد شخصيات عربية تستسلم ولا تقاوم النفوذ الأجنبي.
وقد استطاع التبشير عن طريق التعليم تزييف التاريخ الوطني الإسلامي والعربي والطعن على العرب والإسلام.
ودفع المبشرون أعوانهم وتلاميذهم الذين خرجتهم معاهد الإرساليات إلى الصدارة في مجال الكتابة والصحافة وإثارة الشكوك والاتهامات وإذاعة الإلحاد والإباحة، ورمى اللغة العربية والإسلام بكل نقيصة.
وكان أبرز ما ركز عليه التبشير هو محاولة إخضاع الإسلام لمذاهب الفكر الغربي، وذلك بانتقاص حقيقة الإسلام التي تقوم على أنه عقيدة ونظام اجتماعي في آن واحد.(2/17)
الحداثة
الأستاذ/ أنور الجندي
ليست دعوة مرحلية من دعوات التغريب في مجال الأدب ، ومن حيث تدخل في إطار السريالية والوجودية أو مذاهب الكلاسيكية والرومانسية والواقعية ، وإنما هي شيء أكبر من ذلك : إنها ثورة على الثوابت الإسلامية الأساسية عن طريقٍ خافت الضوء هو (الشعر) حتى لا تحدث ضجيجاً أو صياحاً يفسد عليها هدفها الذي تسير فيه حتى تصل إلى غايتها الخطيرة . وهي تقصد أساساً إلى محاربة القيم الإسلامية وإزاحة فكرة الأصول الثابتة ، بهدف تغليب طوابع التطور المطلق ، والتغيير المتوالى الذى لا يعترف أساساً بالضوابط والحدود .
ويرمي إلى فتح الطريق أمام حرية الإباحية ، وتمجيد العلاقة الجنسية ، والجرأة على أعلى القيم التي جاءت بها الأديان ، وذلك بتحطيم هذه الضوابط والحدود .
فهي عند فحص كتابات الداعين لها ، وتعمق كتاباتهم ( وخاصة مانشر من أبحاث مؤتمرهم الذي جمعت أبحاثه لتكشف عن أبعاد هذا المخطط الخطير ) يتبين أن وراء هذه الدعوة خطة رسمت بدقة وذكاء ومكر في نفس الوقت ، قام عليها الحاقدون على كل شيء طيب كريم في دنيا الإسلام والعرب ، وقد تعاقدت مطامحهم إلى توجيه ضربة للصحوة الإسلامية عن غير الطريق الذي يتوقع منه الضربات ، بل عن طريق مدخل ضيق قد لا يلتفت إليه الكثيرون وهو (الشعر)(3/1)
وقد جاءت حركة الشعر الحر - شعر التفعيلة - وغيرها منذ ظهورها مقدمة ومدخلاً لهذا العمل الخطير ، قام على رأس هذه المؤامرة شاب علوي ، خدعه النصراني ( أنطون سعادة ) زعيم الحزب القومي السوري ، وليحمل لواء الدعوة إلى ما أسماه ( فينيقيا ) وتلقفته الجهات التي استثمرته لخطة عمل بعيدة المدى ( علي أحمد سعيد - أدونيس ) وقد أتاحت له تلك الجهات أن يحصل على الدكتوراه في الأدب العربي من معهد الدراسات الشرقية في الجامعة اليسوعية في بيروت ، برسالة عنوانها ( الثابت والمتحول : دراسة في الاتباع والإبداع عند العرب ) حاول فيها أن يهدم صرح العربية الشامخ ، ويثبت أن أصحابه غير مبتكرين أو مبتدعين ، ويبرهن على أنهم لم يقدموا شيئاً للإنسانية ، وفي وضع ( أيدلوجية ) دعوته إلى الحداثة التي خُدع بها عدد من الشباب العربي الذي عجزت خلفياتهم عن أن تحميهم من السقوط في هذا المستنقع .
دعاة الحداثة :
دعاة الحداثة كانوا كما يقول ( الدكتور حمد عبد العظيم سعود ) من أقليات بعضها ربما كان متهماً في دينه ، وبعضها كان لا يحظى من الأغلبية بنظرة ارتياح مطلقة ، أو أن هناك غالباً شيئاً عالقاً بالنفوس .
ففي سورية كان (علي أحمد سعيد) الذي زين له أنطون سعادة أن يغير اسمه إلى أدونيس) منتمياً إلى الحزب القومي السوري ، وهو حزب أعلن عداوته للإسلام والعروبة معاً ، إذ دعا إلى فينقة سورية ، ثم تحول أدونيس بعد ذلك إلى مذهب اللا منتمي ، وأدونيس هو القائل : إن السبب فى العداء الذى يكنه العرب للإبداع - كل إبداع - هو أن الثقافة العربية بشكلها الموروث هي ثقافة ذات معنى ديني ) ويعرف الأستاذ ولسون في كتابه (اللا منتمي) هذا المصطلح بقوله :(3/2)
( لا صلاح لهذا العالم المليء بالمتناقضات إلا بالثورة والغضب وعدم الانتماء إلى أية قيمة أخلاقية من القيم الموروثة ؛ بل لا بد من مواجهة العالم بكل مشاعر الحقد والكراهية ) ويقول محمد الماغوط من زملاء أدونيس "على اللا منتمي أن يحس باللا جدوى ؛ لأن هذا الوجود بلا موقف ، ولا دليل ، ولا مستقر ، ولا مرشد . فليس للا منتمي موقف إلا الإحساس بالسأم ، ويتمني الموت والأنانية الفردية ورفض كل المعطيات الخارجية " .
وفي لبنان كان هناك ( سعيد عقل ) الذي بايعه بعض النقاد والشعراء بإمارة الشعر ، وهو الذي خرج بعدها ليعلن أن اللغة العربية لا تفي بالتعبير عن المشاعر ، ولا بد من استبدالها باللغات (اللهجات) العامية وأن هناك مشكلة في كتابتها ، فليست كل أحرفها منطوقة ، وبعض كلماتها ينقصها أحرف ، ولهذا كتب ديوانه (يارا) بلغة عربية في أحرف لا تينية وهو رجل (حراس الأرز) الذين جعلوا شعارهم قتل الغرباء (أي قتل المسلمين).
وفي مصر كان الدكتور لويس عوض ، وهو رجل كان يكرر في كل مناسبة أنه ليس قومياً ، وأنه علماني ، وقد لعب هذا الرجل دوراً خطيراً في الحياة الثقافية في مصر في الخمسينيات من هذا القرن العشرين ، حين كانت وسائل الإعلام كلها موجهة وتحت الرقابة الصارمة ، وكان هو المستشار الثقافي لجريدة الأهرام.(3/3)
وقد قام لويس عوض - بروح متعصبة - دون أي شاعر عمودي يبتغي طريقه إلى وسائل الإعلام والنشر من إذاعة أو صحافة أو أي وسيلة أخرى إلى الجماهير ، كما يقول الدكتور طاهر أحمد مكي في كتابه "الشعر العربي المعاصر - دوافعه ومداخل لقراءته " : ( وأفسح المجال واسعاً عريضاً لكل من يكتب الشعر الحر ، وإذا نشر قصيدة عمودية لشاعر عمودي مثل كامل الشناوي "مثلاً" نشرها موزعة الجمل على نحو يوحي بأنها من الشعر الحر ، وفي ظل هذه الحركة تحول شبان كثيرون لا يزالون شاردين في عالم الشعر - وكان يمكن أن يصبحوا شعراء عموديين ممتازين - إلى شعراء يكتبون كلاماً تافهاً في الشكل الجديد ، وأصبحوا كما يقول الشاعر أدونيس وهو ليس متهماً في شهادته هذه ؛ لأنه من دعاة الشعر الحر المتحمسين له "في الشعر الجديد اختلاط وفوضى وغرور تافه وشبه أمية ، ومن الشعراء الجدد من يجهل حتى أبسط ما يتطلب الشعر من إدراك لأسرار اللغة والسيطرة عليها ، ومن لا يعرف من فن الشعر غير ترتيب التفاعيل في سياق ما ، إن الشعر الجديد مليء بالحواة والمهرجين " .
كان هناك بدر شاكر السياب ، وعبد الوهاب البياتي ، وهما من أخلص دعاة الماركسية نشر السياب قصائده وكلها صيحات إنكار وحيره بل وثورة على الله (جل في علاه) .
هذا أمر ، أما الأمر الآخر الذي يهدف إليه هذا التيار فقد كان واضحاً في تلك الرغبة المحمومة في إظهار الأحتقار للتراث الإسلامي العربي والزراية على الشعراء العرب القدامى المجددين ، ونعتهم بالصنعة والتكسب ، وإعلاء التراث اليوناني والروماني على ما فيه من وثنية .
ويسخر أدونيس من حادثة الإسراء في قصيدة (السماء الثامنة) .(3/4)
ومعين بسيسو الماركسي يهزأ بالتراث وأعلام التاريخ ، ومن طريقة الإسناد في الحديث النبوي الشريف ويؤلف مقطوعة ساخرة (حدثني وراق الكوفة / عن خمار البصرة / عن قاضٍ في بغداد عن سايس خيل السلطان / عن جاريةٍ / عن أحد الخصيان) إلخ .. والحق أن الشعر الحر مترع بالدعوة إلى الإباحية على نحو لم يشهده الشعر العربي ، إلا عند بعض الشعراء الشواذ أو المنبوذين . والعجيب أن دعاة هذا اللون العجيب قد قفزوا في كثير من البلاد العربية إلى حيث التحكم في وسائل الإعلام ، حتى إنك تكاد تراهم يسيطرون سيطرة كاملة على هذه الوسائل في بعض بلدان العرب ، وفي هذا الجو الإرهابي أصبحت ترى شعراء عموديين يكتبون قصائدهم ، أو يعيدون كتابتها بعد تسطيرها وتبييضها وتقطيعها - إرضاء لهم وتقية - وقد ترجم كثير من تلك القصائد ؛ ليس لجودتها وإنما أولاً لسهولة ترجمتها لمستشرق شاذ ، أو لدوافع سياسية وعلل دينية .
ونحن نرجح أنها حركة مقصودة أريد بها طعن اللغة العربية ؛ لغة القرآن والإسلام وعمادها ؛ توطئة للإجهاز عليها . وستبقى العربية والشعر العمودي ، وسيبقى من فوقها القرآن والإسلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، ولن يصمد هذا المسمى بالشعر الحر طويلاً لأنه لا يعلق بالذاكرة ، أو يفرط في الرمزية المطرقة الجامحة والغموض والتلفيق ).
وإذا ذهبنا نستعرض الدعاة إلى الحداثة نجدهم جميعاً من متعصبي الأديان الذين دأبوا على محاربة الإسلام واللغة العربية ، واتخذوا شعار الحداثة ستاراً ينفثون من تحته سمومهم ، ويظهر ذلك واضحاً في كتاب غالي شكري ( شعرنا الحديث إلى أين ؟ ) ومنهم أدونيس .
والماركسيون أكبر أعداء الإسلام : بدر شاكر السياب والبياتي ودنقل ، وشعراء المجون ، وكان القس (يوسف الخال) قد رسم الخطة لهؤلاء وساقهم إليها وهو مبشر نصراني يقول: (خاسر من يبيع ثلاثة ويشري واحداً) . يقصد بالثلاثة عقيدة التثليث النصرانية والواحد هو عقيدة الإسلام.(3/5)
ومنهم أمير إسكندر (نصراني ماركسي) وجبرا إبراهيم ، وأسعد رزق ، ولويس عوض ، وخليل حاوي وتوفيق الصايغ ، وشوقي ابن سقا ، وميشال طراد ، وميشال سليمان ، وسعيد عقل ، وموريس عواد ، وكلهم نصارى ، ويقول الدكتور طاهر التونسي بعد هذا العرض : إنه حتى عندما انتسب إلى مدرستهم بعض من تسمى بالإسلام استعمل التعبيرات النصرانية ، ويبدو ذلك واضحاً في شعر بدر السياب الذي يدعي أن المسيح صلب وقد كذب وكذب أساتذته النصارى واليهود فما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ، ويذكر عن آدم وحواء القصة كلها كما روتها التوراة لا كما رواها القرآن .
وقد أشار لويس عوض إلى أن صلاح عبد الصبور يقرأ الإنجيل بحماسة ، وأنه دخل دائرة الخلاص المسيحية . ونجد التركيز على التراث النصراني والمصطلحات النصرانية في شعره ، وله قصيدة ( حكاية قديمة ) عن المسيح وصلبه ، ونظم بعض أبيات من ( نشيد الإنشاد ) ونجد ذلك في معين بسيسو ونزار قباني :
(مصلوبة الشفتين ، الصليب الذهبي) وعبد الوهاب البياتي ( في صليب الألم ) وأمل دنقل: (العهد الآتي).
أيدلوجية الحداثة:
أجمع الباحثون على أن ( الحداثة العربية ) هي ثورة متمردة على كل نظام وقاعدة وقانون ، وأنها ترمي إلى هدم الضوابط والحدود والقيم والقواعد التي قدمها المنهج الرباني إفساحاً للمنهج البشري : القائم على التحول الدائم ، ويرى بعضهم أنها ثورة اجتماعية هدامة ، تتخفى وراء نصوص الشعر والأدب لتحجب غايتها وحركتها ، ولذلك فإن دعاة الحداثة يهاجمون الثوابت التي قدمها الدين الحق في عنف شديد ، ويصفونها بالجمود والمحافظة والتحكمات . وقد وصفها الأستاذ محمد عبد الله مليباري بأنها باطنية جديدة تحاول غزو مبادئنا وقيمنا ؛ بدءاً من الشعر وانتهاء بالعقيدة الإسلامية ، وأن المسألة ليست أن يكون الشعر عمودياً أو غير عمودي ، أو تفعيلياً أو نثرياً ، ولكنها أكبر من ذلك ، إنها محاولة هدم في:(3/6)
1- قضايا العصر : السياسية والإجتماعية والاقتصادية ، وما يتصل بها من تحرير وحرية وعدالة.
2- وقضايا العصر التعليمية والعلمية والفنية ، وما يترتب عليها من مشكلات .
3- وقضايا العصر الأدبية والفنية ، وما تستحدثه من أجناس ومدارس واتجاهات .
ويمكن القول إن هذه المؤامرة قد وضعت قواعدها على أساس حركة الزندقة القديمة ، وجماعة المجّان الذين كان على قيادتهم ( الشاعر أبو نواس ) الذي كان حاقداً على الإسلام ، والذي جندته قوى الباطنية والمجوسية والقرامطة ليهدم عن طريق الشعر جميع مقومات الثبات الإسلامي في البيئة العباسية ، وقد أعانه على ذلك مجموعة من الزنادقة والشعوبيين الذين تركوا تراثاً مسموماً استطاع المستشرقون إحياءه عن طريق شعوبي جديد يحمل في أعماقه جميع أحقاد المجوسية والباطنية .
وقد وضع أدونيس نظرية الحداثة على جملة أصول:
1- نظرية التطوير المطلق التي نقلها من فكر هيجل في دعوته إلى إلغاء الثوابت ، وهي نقيض نظرية أرسطو . وقد اصطنعتها القوى الصهيونية والماسونية لإحياء الفكر التلمودي وخلق نظرية تقول بأنه ليس هناك شيء ثابت أصلاً ، وأن كل شيء متطور ، وذلك لهدم ثبات الأديان والأخلاق والقيم . ويرون أن الإنسان هو محور العالم.
2- إحياء الوثنيات القديمة ، فقد كشفت رسالة أدونيس عن تقديره الوافر لفكر أبي نواس واهتمامه بفكر الملاحدة وأصحاب نظرية وحدة الوجود والحلول والاتحاد وإعادة إحيائها من جديد وهي الخطة التي وضع قواعدها المستشرق لويس ماسنيون .
3- تحطيم عمود اللغة العربية ، وهدف تحطيم الفصحى لغة القرآن هدف قديم وقد شارك فيه منذ بدأت حركة التعريب والغزو الثقافي ( ويلكوكس - لطفي السيد - سلامة موسى ، سعيد عقل - إلخ ) أملاً من هؤلاء الدعاة بأن تحطيم اللغة العربية سيحولها إلى المتحف ويفسح الطريق أمام تفرق الوحدة القرآنية الإسلامية الجامعة .(3/7)
4- تحطيم عمود الشعر وذلك إيماناً منهم بأن عمود الشعر هو القاعدة الأساسية للأدب والبيان العربي بعد القرآن والسنة ، ومن هنا جاءت الحملة على الخليل بن أحمد وعلى كل الشعراء الملتزمين للنظم العربي الأصيل .
5- مهاجمة منهج الثبات والقيم ، وإطلاق اسم السلفية عليه ، والسلفية هنا تعني المعتقد الديني ، فالحداثة ترى أن الأفكار الباطنية والصوفية تحول من الثبات الديني بل تعتبر هذا التحول منطلقاً تاريخياً للحداثة العربية .
6- تغليب مفاهيم السريالية (النظرة التي لا يحكمها العقل) أو ما يسمى فوق الواقع ، وقوامها احتقار التراكيب العقلية والروابط المنطقية المعروفة والقواعد الأخلاقية والجمالية المالوفة والاعتماد على اللا شعور واللا معقول ، والرؤى والأحلام والحالات النفسية المرضية ، ولا سيما حالات التحلل النفسي ، ويعنون بالرغبات الجامحة .
7- تغليب طوابع الجنس والإباحة استمداداً من مفهوم الإغريق وعبادة الجسد وإباحيات الوجودية التي دعا إليها سارتر ، ونظرية التحليل النفسي الذي يعتمد الجنس التي دعا إليها فرويد ، ونظرية العلوم الاجتماعية التي دعا إليها دوركايم ؛ وفتح أبواب المجون والجنس والإباحة والتحلل الاجتماعي .
8- على أن يدور ذلك كله في إطار (التاريخانية) وهي الحتمية التاريخية لماركس فالمنهج الماركسي التاريخي هو الأساس الأيدلوجي للحداثة.(3/8)
وقد عمد أدونيس - في سبيل صياغة هذه النظرية التي قدمها له شيخ المنظرين القس يوسف الخال - إلى استقطاب خيوط من التاريخ لتكون أدلة واضحة وأضواء كاشفة على الطريق ، وذلك بالاعتماد أساساً على الفكر الباطني الفلسفي والاهتمام برموزه ومحاولة ربط الخطوات بتطور الشعر الحديث وبالمرحلة الأخيرة منه ( قصيدة النثر وشعر التفعيلة ) واختيار الحاقدين الجدد على نسق الحاقدين القدامى : أبي نواس ومهيار الديلمي واعتماد الحركات التمردية الهدامة للمختار الثقفي والقرامطة . وقد خطا دعاة (الحداثة) خطوة متقدمة على مفهوم العصرية من ناحية والشعر الحر من ناحية أخرى .
فالشعر الحر تقليد لشعر (والت ويتمان) أما شعر الحداثة فهو متابعة للشاعر الصليبي توماس اليوت ، ويرى دعاة الحداثة أن الشعر الحر هو التيار ( السلفي ) الجديد بالنسبة لشعر الحداثة .
أما توماس إليوت فهو زعيم هذه المدرسة في الغرب ، خليفة دانتي الذي يحمل الحقد الصليبي الأعمى . يقول الدكتور عبد الله الطيب : لقد حذف اليوت في منظومته (الأرض المقفرة) اللفظ الدال على العرب واستبدله بكنيسة ماغنس ، وردد أشياء من التوراة والإنجيل . ويرجع هذا إلى الشعور الصليبي الموروث الصادر عن تعصب ديني أو عنصري إذ لا يخفى أن ظلال جزيرة العرب لا تخلو من معنى ظلال سيوف محمد وصلاح الدين والإسلام والجهاد .
فهو يرجع إلى الشعور الصليبي الموروث والتعصب الديني أو العنصري ومرده الزهو والغرور والاعتداء بالانتماء إلى حضارة اليونان والرومان .
ولا ريب أن كتمانه سرقة المعلومات وشعر العرب عن طريق مستشرقي الهند وفرنسا وحذفه اسم العرب وأسماء من أشاروا إليهم ، كل هذا يؤكد الشك في أصالة إليوت في منظومته (الأرض المقفرة) ويؤكد فساد وجهة الذين تابعوه من دعاة الشعر الحر والحداثة .
الحشاشية هي الجذور(3/9)
ويحاول أدونيس ودعاة الحداثة أن يردوا فكرتهم إلى القديم ؛ وهم صادقون في ارتباطهم بالحشاشين والباطنية والمجوسية المتنامية في القرامطة ، ويتحدثون عن جذورهم في أبي نواس وأبي تمام والرازي وابن الرواندي ، على أساس أن الخاصية الرئيسية التي تميز هذا النتاج هي إذابة التقليد والمحاكاة ورفض النسج على منوال الأقدمين . ويركز أدونيس في كتابه ( الثابت والمتحول ) على الحركة القرمطية .
الحداثة وخلفياتها الأيدلوجية:
تهدف الحداثة إلى تجاوز القواعد الأساسية للإسلام : قواعد الثوابت هي بمثابة الضوابط والحدود التي تحفظ شخصية الفرد والوجود الاجتماعي ، وهي تحاول أن تخدع الناس بأن هولاء الرواد والرموز السابقين قد حطموا هذا القيد وتجاوزوه ، وأن هذه المحاولة هي التي مكنتهم من الإبداع وهم يدعون بأن الحداثة هي الثورة الدافعة لتجاوز التاخر والجمود والارتقاء إلى منطلق العصر .
وترد ذلك كله إلى ( التاريخانية ) " الماركسية " كمدخل للحداثة ، وترى أن هؤلاء الرواد يركزون على ( فكر التجاوز ) وأنه مصدر الإبداع ، وأن هذا التجاوز لا يتوقف فهو في حركة دائمة .
هذا هو مفهوم ( الثابت والمتحول ) وهذا يرمي إلى زعزعة فكرة النموذج أو الأصل ، أي أن الكمال لم يعد موجوداً خارج التاريخ ، وأصبح الكمال - بمعنى آخر - كامنًا في حركة الإبداع المستمرة .
هذه المحاولة كاذبة ومضللة ومحكوم عليها بالسقوط لأنها لا تقوم على أساس من الفطرة أو العلم أو الحق أو المنطق ، وإنما هي نوع من التمويه الكاذب والخداع المضلل ، لأن كل هؤلاء الذين اعتمد عليهم مفهوم الحداثة من رموز قديمة قد سقطوا فعلاً وداستهم الأقدام ، ولم يدخلوا التاريخ إلا في باب الشعوبيين والباطنيين وأعداء الإنسانية ، ولقد هزموا فكرياً في عصرهم وذهب كل ما قالوه من أكاذيب وادعاءات ، حتى جاء الاستشراق والغزو الفكري ليعيدهم إلى الحياة مرة أخرى .(3/10)
وهي محاولة محكوم عليها بالانتهاء والدمار ، كالمحاولات الأخرى التي سبقتها ، ولن تجدي هؤلاء الدعاة الجدد نفعاً لأنها لا تقوم عندهم من منطلق أمين أو من منطلق غيرة على هذه الأمة أو رغبة في السمو بها ولكن من منطلق حقد وكراهية وهزيمة والمهزوم يعمل دائماً على كسب المهزومين إلى صفة ليحس بأنه ليس منبوذاً ، ولقد كان دعاة الشعوبية والباطنية مهزومين منعزلين ، شأنهم شأن أبي نواس وبشار في القديم حيث كان يتحاشاهم الناس ، وإذا كان قد أتيح لهم عن طريق " أحد غلمان التعريب والشعوبية " أن يذيع لهم فكرهم على هذا النطاق الواسع فإنها ليست إلا صيحة مضللة قد أغمدت الأقلام الإسلامية فيها خناجرها .
إن ( دعاة الحداثة ) هؤلاء إنما يدعون إلى توهين السلطة المطلقة - وهي الدين - والنيل من السيد الأعظم ( الله تبارك وتعالى ، علا وجل عن كلماتهم المسمومة ) ولن يتحقق يوماً أن تغلب الفئة الباطلة على النظام الرباني القائم في حكمه وقواعده وأي أصل من أصوله مهما تجمع لهذا دعاة الشعوبية والباطنية . ويرمي أدونيس إلى إلغاء كل قديم باعتبار أنه لاشيء في الوجود اسمه قديم ويهدف من ذلك الغاء فهمنا للقرآن الكريم وأنه كلام الله القديم .
والحرية عند الحداثيين هي التحلل من كل قيد ديني أو اجتماعي أو نظامي أو قانوني . وهم عندما يسمون الحداثة ( الثورة المتجهة لتجاوز السلفية ) يقصدون تجاوز قيم الدين والأخلاق ، وحين يدعون إلى حرية اللغة يقصدون الخروج باللغة عن سياقها ومضمونها وتحررها من إطارها التاريخي والبلاغي المرتبط بالبيان العربي والقرآن الكريم .
ويؤرخ أدونيس للحداثة بالدعوات التي خرجت على الإسلام ( المختار الثقفي والزنج والقرامطة ) ، ويرى أنها قامت بالتحرر من الثبات ، وكذلك دعوات الزنادقة ( في الشعر ) من الثبات ، والإباحية ودعاة وحدة الوجود والحلول والاشراق .(3/11)
وبالجملة فإن الحداثة ( أيدلوجية مناهضة ) للإسلام الدين الحق والأخلاق وهي تقوم على الغموض في فهم النص ، وتفسيره تفسيراً مختلفاً ( لأن الشاعر ليس مطلوباً منه أن يفهم ما يكتبه ) ودعواهم الباطلة أنهم يتشبهون بتعابير القرآن متناسين أن لمفسر القرآن شروطاً لا بد أن تتوفر فيه .
وهم حين ينكرون العمودية في الشعر أو ينكرون التقييد بالوزن والقافية إنما ينطلقون من مفهوم الحداثة القائم على التمرد والثورة على كل قيد عقدي أو فني " كما تمرد أبو نواس وصوفية وحدة الوجود والحلاج ونظرية الحاكم بأمر الله " .
وقد استعمل الحداثيون نفس الألفاظ التي استعملها الباطنية سواء في الغرب ( نيتشه وفرويد ) أو في الشرق ( الباطنية والحلوليين ) .
ويرد أدونيس مفاهيمه إلى أصولها:
(السريالية قادتني إلى الصوفية وتأثرت بها أولاً ولكني اكتشفت أنها موجودة بشكل طبيعي في التصوف العربي ( يقصد التصوف الفلسفي) وتأثرت بالماركسية ونيتشه من حيث القول بفكرة التجاوز والتخطي وتأثرت أيضا بأبي تمام وأبي نواس من حيث فهم اللغة ، ولم تكن تورة المختار الثقفى والثورات القرمطية وثورة الزنج إلا توكيداً للقاعدة المادية ( الأرض - الاقتصاد - علاقات الإنتاج) ومن هنا نعرف أن حداثة أدونيس هي تلفيق من فكر الباطنية والملاحدة والإباحينن في الشرق والغرب وأنها تستهدف (ثوابت الإسلام) والإيمان بالغيب وتقوم على أسس ثلاثة:
1- عدم الانتماء لأي قيم أو منهج .
2- التمرد على كل الثوابت وفي مقدمتها الدين والأخلاق .
3- استعمال قواعد اللغة استعمالاً مغلوطاً .
4- بناء الصور الشعرية على أنقاض الأساطير القديمة .
مصطلح المطلق(3/12)
وأخطر ما يركز عليه دعاة الباطنية الحديثة (الحداثة) هو ما يسمونه (المطلق) وهو الله تبارك وتعالى . وما من واحد من هؤلاء إلا وله في هذا المجال شعر رديء مليء بالإلحاد والفجور والله تبارك وتعالى أعلى وأجل عما يقولون . وهذا يكشف عن أن الهدف الحقيقي هو الثورة على العقيدة والألوهية والجذور الأصيلة للتكوين الاجتماعي وعلى كل ماهو متعارف ومقعد ومنظم ومتقن حتى القواعد اللغوية .
ومهاجمة النص المقدس عملية واضحة وأساسية في دعوتهم :
يقول كمال أبو ديب : ( من الدال جداً على أن النص المقدس في جميع الثقافات التي نعرفها هو نص قديم فليس هناك من نص مقدس حديث والحداثة بهذا المعنى هي ظاهرة اللا قداسة).
وهو يقصد بالنص المقدس القرآن والأحاديث النبوية وكل كتاب ديني تقدسه الأديان ، ويقول : ( لأنه لا سبيل لأن يكون الأدب حديثاً إلا إذا رفض كل نص مقدس وأصبح نقيضاً لكل ما هو مقدس حتى العبادة ) .
فالدعوة إلى تدمير القداسة . هي هدف أساسي في دعوة الحداثة ، وهي لاتقف عند ذلك بل تدعو إلى مقارفة الخطيئة بدعوى رفض كل قيد على الحرية الإنسانية ، ومن دعواهم إلغاء الخطيئة وبكارة الإنسان وإحراق التراث . وإلغاء الخطيئة يعني أنه لا خطيئة في الحياة ( الزنى ، الربا ، السرقة ، العقوق .. إلخ ) فيقولون : كلمة الخطيئة : يجب أن تشطب من قواميس اللغات .
والدعوة إلى العصيان المعلن قاعدة أخرى ، متمثلين بقول (أبي نواس):
فإن قالوا حرامٌ قل حرامٌ .. ولكن اللذاذة في الحرامِ .
وقد أعلن أدونيس في كتابه ( الثابت والمتحول ) أنه يرمي إلى تحول يزلزل القيم الموروثة من دينية واجتماعية وأخلاقية ، تحول في الثقافة التي يبثها الإسلام بقيمه الدينية ، ونحن نقول له هيهات فقد كان غيرك من الزنادقة أقدر ، والمعروف أن الأب بولس نويا اليسوعي هو الذي قدم منهجه ووصفه بأنه ( شاعر التحول المستمر ) .(3/13)
وقد ركز على عبارة أدونيس ( نفسي تجردت من الماضي وقيمه كلها بما فيها القيم الدينية والخلقية ) . وعلق الأب بولس على ذلك فقال : " لقد انتهيت إلى نتيجة هي أن الرؤيا الدينية هي السبيل الأصلي في تغلب المنحى الثبوتي على المنحى التحولي في الشعر ، إن النظام الشامل الذي خلفه الدين ( يقصد الإسلام ) ، كان هو العامل الأساسي الذي جعل المجتمع العربي في القرون الثلاثة الأولى يفضل القديم على الحديث بحيث إنه وضع القديم في مجال الكمال واعتبر كل جديد خروجاً على المثال الكامل " .
وهكذا نرى كيف تتضافر قوى كثيرة على تأييد هذا المذهب وتشوه صفحات التاريخ الإسلامي ، وترى أن ثلة من الزنادقة ظهروا في القرن الثالث وداستهم الأقدام ، كانوا عوامل تجديد وحداثة كاذبة بدعوى أنهم تجاوزوا الثوابت واجترؤوا على الحقائق الإسلامية .
وهكذا كانت دعوة الحداثة : التحول هو المنطلق : وإن التجرد من كل الموروثات التي نمت مع نمو تاريخنا الإسلامي هو أساس المواجهة ، ومن العجيب أن أدونيس وثلته كانوا من المتجردين من موروثاتهم وأوساطهم وأسرهم وعقائدهم التي نشؤوا عليها وتنكروا لما غذتهم به أمهاتهم وآباؤهم من إيمان . وهكذا يدعو هؤلاء الخارجون على أمتهم ، يدعون الناس إلى خروج مثل خروجهم . إن هؤلاء ينكرون مفهوم الإسلام الجامع بين ( الثوابت والمتغيرات ) ويلجؤون إلى مفهوم الغرب الذي كان يؤمن بالثوابت وحدها ، وقد دفع هذا بعض المفكرين إلى تحطيم الثبات ، بالدعوة إلى ( التغيير المطلق ) ولكن هذه الدعوة لا تصلح في أفق الفكر الإسلامي لأنه لا حاجة له بها ، ( لما جاء الإسلام أرسى قواعد الثبات ونظم وسائل التحول والتغيير والتطور من داخل الثوابت الأساسية القائمة على الخلق والمسؤولية الفردية والإيمان بالبعث والجزاء ومن هنا وقف الإسلام أمام كل دعوة باطلة ترمي تحت اسم التحول إلى القضاء على الثوابت أو هزها أو النيل منها ) .(3/14)
وتلك سنة الله في خلقه وناموسه في قيام الأمم والحضارات وتحولها وسقوطها . وكل الدعوات التي حاولت أن تنال من الثوابت الإسلامية ، كالبابية ، والبهائية ، والقاديانية والقرمطية فقد تحطمت لأنها مخالفة لمنهج الله وستذهب ( الحداثة ) وتدوسها الأقدام قبل أن يعرف دعاتها من أين أتتهم الجائحة ( فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ) الحشر : 2 . مهما بلغ ارتفاع اسمهم فهو إلى انحسار ومهما انتشر فكرهم فهو إلى زوال .
ومقطع الرأي في ( الحداثة ) أنها
أولاً : ردة إلى طفولة البشرية وهجوم مستتر على الفصحى لغة القرآن بهدف تدمير منظومة البيان العربي التي عرفها العالم منذ أربعة عشر قرناً والمنسابة في جيمع كتابات العلماء والمؤرخين والفقهاء والتي تقوم على فقه اللغة والبيان والتحقيق التاريخي الذي استمده المسلمون من علم الحديث النبوي .
ثانياً : تهدف إلى تقويض المنزع الحقيقي للأدب العربي المرتبط بالقرآن الكريم والسنة ، كما تنزع إلى إغراقنا في مذاهب تجريدية والرموز والدادائية والسريالية .
وقد وصفه الدكتور مصطفى بدوي بأن ( الفن الذي استجاب لما حل بأوروبا من اضطراب شامل وكان نتيجة لانعدام اليقين والتجديد المعلن ، إنه الفن الوحيد الذي يصلح لانهيار العقل ولما صارت المدنية إليه من دمار إبان الحرب العالمية الأولى ، إنه في المجون والترف : دارون وماركس وفرويد ، جاء بعد القضاء على الحقائق العامة المشتركة وعلى أفكارنا التقليدية عن العلية ، وبعد اندثار الآراء المتوارثة عن وحدة الشخصية الفردية فأين نحن العرب من هذه الأشياء ؟!
إن ( المودرنزم ) حركة أوروبية ليست مقصورة على دولة واحدة من دول الغرب ، وهي شديدة الصلة بتأريخ أوروبا السياسي ومرتبطة بفقدان الإيمان الديني وهي تطوير للرومانتيكية والرمزية والواقعية بل ظهر ما يسمى بما ( بعد المودرنزم ) .(3/15)
وهذا يختلف تماماً عن طوابع الأدب العربي العميقة الصلة بالقيم الأساسية من الدين والأخلاق .
وإذا كانت هذه الدعوة المدعاة قد وجدت من بعض القوى ما يفتح لها الطريق ، فإن هذا البريق الهلامي سوف لا يثبت تحت ضوء الشمس ، وقد انهزم شعراء الحداثة في المواجهة ، وتراجعوا في أكثر من موقع ، وحاولوا أن يغيروا خططهم . وقالوا إن شعر الحداثة يقرأ ولا يلقى ، وعجز أصحاب الحداثة عن بيان ما في نفوسهم فادعوا أنهم طلاب غموض ، وقد رفضهم المثقفون ، واتهموهم وانقطعت الجسور بينهم وبين الأدب الأصيل .
إن هذه الدعوة وافدة وليست لها جذور ، وهي كالنبت الغريب الذي يوضع في الأرض فلا ينبت ، وقد رفض الجسم الإسلامي العضو الغريب في محاولات كثيرة سابقة ، وفي هذه المحاولة يرفض بحسم التغريب ويرفض ما وراءه من أهواء ومن أهداف ومطامح ، لم تعد خافية على أحد .
منار الإسلام
ربيع الأول 1406هـ(3/16)
الخلافة الإسلامية
الأستاذ أنور الجندي
عندما أسقطت الخلافة الإسلامية عام 1924 م، كان مخططاً خطيراً قوامه النفوذ الأجنبي والصهيونية والشيوعية الذي كان قد بدأ في إعداد هذا العمل سراً منذ أكثر من مائة عام، من خلال جماعة الدونمة. (اليهود الذين هاجروا من الأندلس عام 1492 م وأقاموا في سالونيك ودخلوا في الإسلام تقية) التي عملت بالاشتراك مع جماعة الاتحاد والترقي وتركيا الفتاة والمحافل الماسونية، على تنفيذ هذا المخطط تحت شعار "القضاء على دولة الرجل المريض"، خاصة بعد أن حمل (السلطان عبد الحميد) لواء الدعوة إلى "الجامعة الإسلامية" بمعنى أن ينضوي تحت لواء الخلافة الإسلامية جميع المسلمين في العالم - وليس فقط العرب والترك.
ومن هنا كانت خطواته إلى القضاء على الفرقة التي عمقها الاستعمار بين الترك والفرس، وكانت الدعوة إلى الجامعة الإسلامية في ظل الخلافة العثمانية الإسلامية، أمر بالغ الخطورة، جوبه في الغرب من القوى الثلاث بمؤامرات ضخمة، امتدت قرناً كاملاً: على النحو الذي صوره بها وزير إيطالي منصف: تحت عنوان "مائة مؤامرة على الدولة العثمانية).
ومن هنا يتبين أن (الخلافة الإسلامية) لم تسقط بجرة قلم عام 1924 م عندما ألغاها مصطفى كمال أتاتورك، وإنما يمكن أن يقال أن هذه كانت آخر خطوة في مؤامرة ضخمة واسعة النطاق امتدت سنوات طويلة وشاركت فيها قوى كثيرة ذات مصلحة في تمزيق العالم الإسلامي، مثل إنجلترا وفرنسا، ومنها ما كان يهدف إلى الوصول إلى فلسطين وقلب القدس كالصهيونية العالمية، وليس أدل على ذلك من مساعدة الشيوعية الروسية في تلك المعونة الضخمة التي قدمتها لحكام تركيا بعد إسقاط الخلافة.(4/1)
ولنعلم أن المحاولات التي جرت عام 1908 م لإسقاط السلطان عبد الحميد كانت هي المقدمات الحقيقية لإلغاء الخلافة، فقد كانت فكرة عبد الحميد كما ذكرنا أن يمتد نفوذ الخلافة فيشمل عالم الإسلام كله ولا يتوقف عند حدود الدولة العثمانية، وقد أخذ عبد الحميد بهذه الفكرة كخطة حاسمة لمواجهة محاولات الغرب.
قوة تواجه زحف الطامعين:
ومنذ أن تولى عبد الحميد، ورأى انتفاض البلقان على الدولة، ركز على دولة إسلامية جامعة تحمل لواء الوحدة الإسلامية، وتضم مختلف المسلمين، الذين هم خارج الزحف الغربي الطامع إلى تمزيق أديم عالم الإسلام والسيطرة عليه. ولما نجحت الخطة وكادت تؤتي أكلها، والتقى شيعة إيران مع سنة تركيا لأول مرة، بعد أن حفر الاستعمار بينهما خندقاً عميقاً منذ ثلاثة قرون أو تزيد، عجل الاستعمار والصهيونية بالقضاء على عبد الحميد خاصة، لموقفه الحاسم في الحيلولة دون وصول اليهود إلى فلسطين.
والمعروف أنه لما ظهرت حركة الاتحاد والترقي داعية لتغريب تركيا. احتضنتها المحافل المساونية، وحولتها من خطة إصلاح عثمانية داخل الدولة الإسلامية الكبرى إلى خطة تغريبية عنصرية، تحمل لواء (الطورانية) وتدعو إلى تتريك العرب ودفعهم إلى التماس مفهوم الماسونية في الثورة الفرنسية والاستجابة له.
وبذلك كانوا جمعاً غريبي الفكر، وكانت مفاهيم القوميات والإقليميات والطورانية والعنصرية، قد سيطرت على فكرهم واستهدفت الانفصال عن المفهوم الإسلامي والكيان الإسلامي. وقد ظلت الفكرة في حضانة الدونمة والماسونية منذ بدأت، حتى استطاعت أن تصرع الوحدة الإسلامية الجامعة بانتزاع عبد الحميد من مكان القيادة – باعتباره صاحب مبدأ الوحدة الإسلامية.(4/2)
ثم جاء الاتحاديون فأقاموا عهداً أسود في تركيا منذ 1908 م حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، ثم لبسوا ثوباً جديداً أسموه (الكمالية) وهو امتداد لهم أشد خطراً وأعمق أثراً، جاء بعد أن كسبوا من نصر باسم الإسلام، ثثم استداروا عليه استدارة كاملة بعد أن كان هو الورقة التي حققوا بها النصر.
وجه كالح صريح:
وقد وردت في المواثيق التي كشف أمرها أخيراً موافقتهم على خلع الإسلام واللغة العربية والمحاكم الشرغية وملابس الإسلام وشريعته ثمناً لتخليصهم من الاحتلال البريطاني واليوناني، وكان إعلان ترميا دولة علمانية كفيلاً بأن يحقق لها رضاء الغرب وتسليمه وتحريره.
فقد انفصلت تركيا عن الأمة الإسلامية واندمجت كلياً في الغرب العلماني، وسرعان ما حققت الأمل الذي طالما طاف بأحلام العرب – روسية وإنجليزية وفرنسية ويهودية – وهو أن يقضي مسلم بيده على خلافة الإسلام.
ولكن أتاتورك لم يكن مسلماً في حقيقته وإنما كان من الدونمة – التي تخفت تحت صورة الإسلام لتحقيق كل ما استطاعت أن تحققه في تركيا، وكان همه الأكبر "إسقاط الخلافة" وفي سنوات قليلة من 1918-1924 م تحولت دولة غربية علمانية تحكم بقانون نابليون، وتزيح بكلتا يديها ذلك التراث العظيم – تراث الإسلام – وتقاوم ودعاته ومؤسساته.
وهكذا سقطت الخلافة بمؤامرة مشتركة بين اليهود الدونمة والاتحاديين الكماليين، والقوى الاستعمارية الغربية وروسيا.
استبداد دموي:(4/3)
وما أسقطت الخلافة بأسلوب الإقناع والتغيير النفسي والفكري، ولكن بأسلوب من العنف والقتل والاستبداد والظلم، الذي قامت به (ثلة) أعدت لها وخططت لذلك في مرحلتين طويلتين منذ 1909 م إلى 1918 م باسم الاتحاديين، ومن بعدها إلى عام 1924 م باسم الكماليين، وهما – في الحقيقة – شيء واحد استطاع في أول الأمر أن يفتح الباب للصهيونية العالمية إلى فلسطين، بعد أن استعصى ذلك عليها طويلاً أيام السلطان عبد الحميد، وأسلمت طرابلس الغرب للإيطاليين، ودفعت الدولة العثمانية إلى أن تكون وقوداً في الحرب العظمى دون داع، حتى تنفصل عنها الشام والعراق وحتى تسلم فلسطين لليهود.
وحاولت الصحف الموالية للتغريب تصوير المسألة بصورة كاذبة مضللة وأن تجعل الاتجاه عنواناً على التقدم، حتى خشي شيخ الإسلام – الذي أخرجوه وأقام في منصر آنذاك – من هذا التحول المحاط بهالة كاذبة من التكريم حين قال سماحة الشيخ مصطفى صبري: إنني أخاف أن تسعد بلاد تركيا وترقى بهذه الإدارة الحديثة اللادينية رفيهاً دنيوياً – وإن كان ذلك في غاية البعد والاستحالة – فيفتتن بها المسلمون الذين قلما سلموا من أن يعجبوا بها وهي توغل في سبيل الإفلاس والإندراس.
وإنما نقول للشيخ من وراء القبر: إطمئن فإن تركيا لم تسعد وأن التجربة لم تحقق أي نجاح، ولم تتقدم تركيا عن الدول الأخرى بل لعلها ما زالت تقاسي من جرائرها وأن جيلاً جديداً نشأ على الإسلام ويجاهد في سبيله.
حملة ظالمة:(4/4)
إن أكبر ما غذيت به حملة إسقاط الخلافة كانت تلك التصورات الباطلة التي نسب إلى السلطان عبد الحميد الظلم والاستبداد، بينما كان كل ما يحاول عبد الحميد قمعه والحيلولة دونه هو سقوط الدولة العثمانية في براثن القوى الصهيونية والاستعمارية، التي كانت تريد التهامها وتقسيمها، وتسليم فلسطين لليهود ومن أجل ذلك استحق الخلع واستحقت الخلافة الإزالة، بأيدي من تسموا بأسماء المسلمين، وفي مقدمتهم مصطفى كمال الذي كان يدعي أنه مسلم، ويدعو المسلمين إلى الدعاء له بالنصر، حتى إذا ما وجد فرصته ضرب ضربته وسط دهشة العالم الإسلامي كله وعجبه.
وفي الحقيقة أن الخلافة لم تكن مصدر إنحطاط تركيا ولا العالم الإسلامي، ولم يكن أسلوب تعديلها هو إزالتها أو فصل السلطة عن الخلافة كما فعلوا أولاً ليخدعوا الناس يومئذ، إن كان ذلك مقدمة للقضاء النهائي عليها.
وقد كانت هناك مشروعات كثيرة للإصلاح لو خلصت النيات وحسن الاتجاه إلى الإبقاء على وحدة العالم الإسلامي وقيام خلافته.
وإذا كانت هناك قياسات لما وصف بع عبد الحميد من تسلط واستبداد فأين منه ما قام به الاتحاديون والكماليون.. الذين باعوا آخرتهم بدنياهم..؟؟. وهو ما لم يفعله الخلفاء قط، وبينما وقف الأعزل عبد الحميد أمام قوى الصهيونية العالمية، وهي تغريه بالملايين وهي تعرف مؤامراتها وتقودها، وقد وقف صامداً لا يلين.
تمزيق الوحدة الإسلامية:
ولقد كان من وراء إسقاط الخلافة الإسلامية أهداف كثيرة، كان أكبرها هذا الشمل الذي جمعته الوحدة الإسلامية بين مسلمي العالم، وتفريق هذا الجمع الذي ربطته الدولة العثمانية ليسهل توزيعه واحتواؤه، وتقديم فلسطين والقدس لقمة سائغة للصهيونية التي كانت وراء الربا العالمي منذ عصور بعيدة، عاملة على تقريب المسافات إلى تحقيق الغاية، من وراء الاستعمار الغربي.(4/5)
ومن أهدافنا محاولة حجب حقيقة الإسلام الجامعة بين الدين والدولة والقائمة على أساس أن الإسلام "دين ونظام مجتمع" وإثارة الشبهة حوله بتصويره ديناً لاهوتياً – على النحو الذي صوره به الكماليون في تركيا وعلي عبد الرازق وجماعة اللادينيين في البلاد العربية.
خيبة الأمل في تمزيق المسلمين:
وإذا كان الهدف الأول قد تحقق لأنه داخل في نطاق مرحلة الضعف التي أرخت قبضة المسلمين عن حقوقهم ووممتلكاتهم وسلطاتهم، فإن الهدف الثاني لم يتحقق بعد. لأن المسلمين سرعان ما تنادوا إلى الوحدة في محاولة لإحتواء الخطر، وذلك بالرغم مما طرحه التغريبيون من مفهوم غير أصيل عن أن الإسلام دين عبادي، وأن الخلافة والحكم لم تكن من أسس الإسلام.
بل إن عدداً كبيراً من المستشرقين الغربيين اعترف بأن الإسلام ليس ديناً فحسب بل هو نظام سياسي واجتماعي أيضاً.
يقول فيتزجرالد في كتابه قانون المحمديين (1): على الرغم من أنه قد ظهر في العهد الاخير، بعض أفراد من المسلمين ممن يصفون أنفسهم أنهم عصريون، يحاولون أن يفصلوا بين الناحيتين، فإن صرح الفكر الإسلامي كله قد بني على أساس أن الجانبين متلازمان ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر.
وشهد بذلك (تلينو) الذي قال أن محمداً – صلى الله عليه وسلم – أسس في وقت ما ديناً ودولة، وكانت حدودهما متطابقة طوال حياته.
وذلك ما عبر عنه (شاخت) حين قال: على أن الإسلام يعني أكثر من دين، أنه يمثل أبداً نظريات قانونية سياسية وجملة القول أنه نظام كامل يشمل الدين والدولة معاً.
وهو ما أشار إليه (جب) حين قال: لقد صار واضحاً أن الإسلام، لم يكن مجرد عقائد دينية فردية، وإنما استوجب إقامة مجتمع مستقل. له أسلوبه المعين في الحكم، وله قوانينه ونظمه الخاصة به.(4/6)
هذا من ناحية (الفكرة) أما من ناحية التطبيق فإن (الفرد كانتول سميث) في كتابه عن "الإسلام في العصر الحديث" كتب تحت عنوان "الإسلام والدنيوية التركية" ما يفهم منه أن سقوط الخلافة وإلغاء نظام الإسلام في تركيا، ليس إلا عملاً قامت به جماعة حاكمة، ولكنه لا يمثل شعور الأمة، ولا يطابق سلوكها.
يقول: إن القول بأن الأتراك بإيثارهم الدنيوية قد تدخلوا عن الإسلام لا يحظى بتأييد من الباحثين في الشرق أو الغرب وإنما هو مجرد إحساس شائع بين الأوروبيين والمسلمين في الأقطار الأخرى والمسألة في حقيقتها لا تعدو الهيئة الحاكمة.
كما يردد الببغاء:
ولذلك فإنه من المؤسف أن يجري بعض الكتاب العرب والمسلمين وراء مفاهيم كلماتهم ويلوكون عباراتهم ويعادون منطق الأشياء الحقيقي، فيخرجون بذلك عن دينهم وأصالتهم دون أن يقدروا النتائج التي تجيء من بعد، والتي هي أكبر من تقديرهم وإدراكهم، فنجد مثلاً الدكتور الخربوطلي الذي يقول في كتابه عن "الخلافة الغسلامية" هذه العبارة المريرة: "فأفلت شمس الخلافة الإسلامية إلى الأبد" وكيف يمكن لباحث أو مؤرخ أن يتنبأ بأن الخلافة قد أفلت شمسها إلى الأبد، وهل يملك من الأدلة على ذلك دليلاً واحداً أو نصف دليل وهو قول لم يقله أكثر الغربيين تعصباًَ ضد الإسلام.
واليوم يرى هؤلاء أنهم كانوا من قصر النظر، بحيث جهلوا أن الحديث عن الخلافة الإسلامية لم يتوقف يوماً واحداً منذ ذلك اليوم، جرى في مناهج الدعوات والحركات والجماعات الإسلامية في العالم الإسلامي كله، كغاية كبرى لابد من ملاحقتها، وجرت حركات التجمع لتذكر دوماً بهذا الحق، الذي لا تطويه الأيام ولا تخفيه الأحداث، مهما تغلف الحديث عنه بالضباب.
وما زلنا نسمع صيحات الدعوة إلى إعادة الخلافة عالية وقوية من مسئولين ومفكرين متعددين ولا يزال المؤتمر الإسلامي الذي يضم أكثر من أربعين دولة إسلامية يضع هذه الحقيقة أمامه.
الوحدة الوجدانية ثم وحدة الفكر:(4/7)
نعم إن المسلمين بعد إسقاط الخلافة عن طريق المؤامرة لم يستكينوا إلى الهزيمة التي فرضت عليهم، ودبرت من وراء إرادتهم الحرة، ولكنهم فكروا وقدروا، وعملوا لمواجهة هذا الفراغ، فأقاموا روابط كثيرة ومؤتمرات متعددة، وإذا كانت القوى الاستعمارية قد حالت دون تحقيق الوحدة السياسية فإنهم حققوا وحدة اجتماعية ووجدانية لا تزال تنمو قوية وقادرة على أن تحقق في مطالع القرن الخامس عشر (وحدة الفكر التي هي الأساس المكين بعودة الخلافة الإسلامي ولقد كانت الأزمات دائماً قادرة على تجميع المسلمين ووحدتهم إزاء الأحداث والأخطاء.
ولم يكن عمل عبد الحميد في سبيل هذا التجمع إلا قمة الإيمان بالخطر وبالمسئولية إزاء هذا الخطر، وإذا كانت حركته إلى الوحدة الجامعة قد أجهضت فليس لأنها فشلت، بل لأنها نجحت نجاحاً مذهلاً مما دفع القوى الاستعمارية والصهيونية إلى القضاء عليها بإسقاطه قبل أن يتمكن من وضع القواعد التي يمكن أن تسير عليها موضع التنفيذ، ثم جرى العمل على الإجهاز على القاعدة نفسها. وإذا كان العرب بعد سقوط الوحدة الإسلامية قد تجمعوا حول وحدتهم، فإنهم لم يكونوا في ذلك عاملين على إعلاء شأن العناصر والدماء، ولكنهم كانوا يرون في الوحدة العربية حلقة وخطوة إلى عودة الوحدة الإسلامية الكبرى، ولم يكونوا يفهمون من العروبة ما فهمه الغرب من القومية، ذلك لأن العروبة إنما نشأت في أحضان الإسلام سمحة مؤمنة بالإخاء الإسلامي الأكبر، بعيدة عن العنصرية والتعصب والصراع، وقائمة على وحدة قرآنية بالشريعة والإيمان، ولكن القوى الخصيمة هي التي أفسدت مفهوم العروبة وقطعته عن صلته بالوحدة الإسلامية.
عزل العروبة بين الإسلام:(4/8)
لقد ضربت القوى الغاضبة هذا الاتجاه وعزلته عن جذوره، كما ضربت من قبل الخيوط التي تجمعت في يد السلطان عبد الحميد، وهكذا فإن إسقاط الخلافة لم يكن وفق سنة طبيعية أو قانون اجتماعي صحيح، ولكنها كانت عملية إجهاض زيفت لها مبررات خادعة استطاعت أن تضلل البعض ولذلك فإن الخلافة الشرعية ستظل في فقه المسلمين وشريعة الإسلام وقلوب المؤمنين وعلى أقلام كتاب الإسلام عاموداً أساسياً. فهي جزء لا يتجزأ من الإسلام، ولعلها سقطت لتسقط معها خلافة عجزت عن تطبيق الإسلام تطبيقاً حقيقياً، ليعود من بعد على مفهومها الأصيل وهو ما تتطلع إليه قلوب المسلمين وتهفوا وتعده من آمال القرن الخامس عشر.
حقيقة مؤكدة:
والحقيقة التي يؤكدها الباحثون المنصفون: أن المسلمين لم يناموا على الضيم منذ أسقطت الخلافة الإسلامية وهم لا يستنيمون أو يفرطون أو يغيب عليهم مدى خطرها وجلال شأنها والآثار التي ترتبت على حجبها.
ومنذ ذلك الوقت وإلى اليوم فإن الخلافة الإسلامية مبثوثة في كل أعمال التضامن الإسلامي والرابطة الإسلامية والأخوة الإسلامية الجامعة.
وقد أحس المسلمون اليوم بأن محاولات التجمع الوطني والقومي لم تنجح لأنها ليست هي الوجهة الحقة الصادرة من أعماق الفطرة، وإن المنهج الصحيح هو اجتماع كلمة المسلمين وقيام ذلك الرباط القوي بينهم مرة أخرى، بعد أن تراخى في السنوات الماضية تحت تأثير الدعوات الإقليمية والقومية، غير أن هذه السنوات قد شهدت عشراتا المؤتمرات والأبحاث والمشروعات والدعوات التي تفتح الطريق إلة وحدة المسلمين وتحقيق الغاية الكبرى.
ومن هذا العرض التاريخي فإننا نصل إلى حقيقتين:
الأولى: أن الخلافة هي بؤرة الجامعة الإسلامية وأن الجامعة الإسلامية يمكن أن تقوم أولاً ثم تنبثق منها الخلافة، وأن حركات التحرر والوحدة والتقارب التي تجرى اليوم في عالم الإسلام يمكن أن تحقق ترابطاً ثقافياً واجتماعياً قبل أن يصبح سياسياً وعسكرياً.(4/9)
الثانية: أن المسلمين بعد إلغاء الخلافة لم يتفرقوا أيدي سبأ، وأن الهدف الذي كان يطنع فيه النفوذ الاستعماري قد فشل تماماً. وأن العالم الإسلامي قد تلاقى على مستويات كبيرة ومتعددة: اجتماعية وثقافية واقتصادية وأن الفكر الإسلامي ما زال هو المصدر الأول للثقافات العربية والفارسية والتركية والهندية الإسلامية.
وإذا كانت الخلافة قد سقطت بعمل سياسي استعماري دفين أخفى أمره طويلاً وبدقة، وراء غلالات، فإن المسلمين قد بدت أمامهم الحقائق سافرة اليوم، وتنبهوا لما براد بهم فسارعوا إلى اتخاذ وسائل أخرى، تمهد للوحدة فاندغمت رابطتهم في مؤتمر الحج السنوي، وفي الاتجاه إلى الجامعات الإسلامية العلمية، التي لاشك ستوجد الفكر والثقافة والتعليم، وزاد من قوة هذه الروابط تحرر دولتين كبيرتين بعد الحرب العالمية الثانية هما الباكستان وإندونيسيا وعشرات الدول ذات الأغلبية المسلمة في جنوب شرق آسيا وأفريقيا، وبدأت لقاءات واسعة بين العناصر المختلفة من العرب والبربر والسنة والشيعة والأكراد، وتوثقت الصلات وزادت عمقاً وخفت حدة الخصومات والخلافات، التي أججها الاستعمار والنفوذ الغربي حرصاً على استبقاء التمزق والخلاف، كما كشفت الوقائع حقائق كثيرة كانت مطمورة عن الصهيونية والماركسية وعلاقتهما وفشلت دعوات الإقليمية والقومية جمعاً كما فشلت النظم السياسية الواحدة سواء الليبرالية منها لم أم الاشتراكية ولم يعد أمام المسلمين في مطالع القرن الخامس عشر بد من أن يقيموا مجتمعهم على أساس الشريعة الإسلامية، ونظامهم السياسي على أساسا الوحدة الإسلامية، وسوف تنقشع السحب التي تحجب الضوء ويجد المسلمون أنفسهم مضطرين إلى الالتقاء إزاء الخطر الزاحف وهذا هو المنطلق الحقيقي لعودة الخلافة الإسلامية خلال هذا القرن الجديد.(4/10)
السلطان عبد الحميد ( صفحة ناصعة من الجهاد والإيمان والتصميم لمواجهة تحديات الاستعمار والصهيونية)
الأستاذ أنور الجندي
ما نحسب أن شخصية في التاريخ الإسلامي المعاصر لقيت من الغبن والظلم والإعنات ما لقيت شخصية السلطان عبد الحميد الثاني، ولكن هذه السحابة ما لبثت أن انجابت بعد سنوات طوال، وتكشفت حقيقة هذا الرجل واستعلن موقفه الصامد، وجهاده الباسل ومقاومته العنيدة للمؤامرة الضخمة التي حاولت أن تستغله وتخدعه أو تغريه، ولكنه رفض الوعد والإغراء، وتحمل الوعيد والتآمر صابراً صامداً طوال حياته وسنواته الطويلة بعد موته.
وقد ظل الغموض يحيط بموقف السلطان عبد الحميد أكثر من خمسين عاماً، ثم لم يلبث أن تكشف قليلاً قليلاً، لقد تولى السلطان 1876 م، وخلع 1909 م وتوفي 1918 م.
وكانت حملات الصحف المارونية قد بدأت منذ تبين صلابة موقف الرجل، وقد استمرت هذه الحملات حتى دخلت إلى كتب الأدب والتاريخ المقررة على المدارس في أغلب البلاد العربية وظلت هذه الكتابات تلح على تصوير السلطان عبد الحميد بصورة الطاغية. المتسلك فترة تزيد على خمسين عاماً، ثم بدأ ينكشف موقف السلطان عبد الحميد جزئياً بعد ترجمة بروتوكولات حكماء صهيون التي كشفت مخطط المؤامرة على الدولة العثمانية والخلافة، ثم تكشفت بصورة أوسع بعد ترجمة مذكرات هرتزل الذي روى بإفاضة وتوسع قصة الوساطة بينه وبين السلطان وعروضه ورد السلطان عليه.
رجل أريب:
ومن أهم ما يكشف عنه تاريخ السلطان عبد الحميد هو ذلك الفهم الوافر العميق للمؤامرة اليهودية الصهيونية، الممتدة من الماسونية إلى الدونمة إلى جماعة الاتحاد والترقي بكل أبعادها وأهدافها، هذه التي كانت خافية على ظاهر المواقف السياسية في البلاد العربية الإسلامية في ذلك الوقت، وكانت غامضة على الرأي العام في وقتها، بينما كانت واضحة مفهومة لدى السلطان.(5/1)
وكانت تصرفاته استجابة لهذه الخفايا التي كانت تدبر، ولم تكن مكشوفة إلا للقلة، وكل ما نسب إلى السلطان عبد الحميد من اتهام بالرجعية أو الجمود أو العنف، إزاء الاتحاديين أو الدستور أو الحريات، إنما كان ينطلق من فهمه لأبعاد المؤامرة التي كان يدبرها الاتحاديون الأتراك مع اليهود الدونمة والقوى الخارجية، وإفساح المجال أمام تحقيق مؤامراتهم، بعد أن تبين لهم رفضه الصريح للعروض اليهودية التي قدمها له هرتزل وعدد آخر من اليهود – على ما فيها من إغراء – مادي لدولة مدينة في ذلك الوقت، وقد ظلت هذه الحقائق غامضة، حتى تكشفت من بعد أسرار الماسونية ومخطط الصهيونية.
دهاء السلطان عوض عن ضعف الدولة:
ولعل أبرز ما تميز به السلطان عبد الحميد الذي حكم من (1876 م إلى 1909 م) هو تلك البراعة والذكاء الخارقين. حتى وصفه أعداؤه قبل أنصاره بأنه أعظم داهية في عصره.
ويمكن القول أن هذا الرجل حين رأى الدولة العثمانية وقد فقدت التفوق في القوة العسكرية التي يمكن بها أن تقهر أعداءها فقد فتح الله تبارك وتعالة له باباً من التعويض عن طريق ذلك الدهاء القوي، فاستطاع خلال هذه الفترة الطويلة من حكمه والتي بدأت فيها تلك المؤامرة الخطيرة، أن يواجه الأمر بحكمة أزعجت خصومه وأعجزتهم.
والمعروف أنه في عام 1897 م اجتمع مؤتمر بال وقرر اختيار فلسطين لإقامة الوطن القومي اليهودي، وتحدد أمر الاتصال بالسلطان والدولة العثمانية، ومن ثم بدأت المعركة الخفية بين السلطان واليهود، وخاصة بعد أن تبين لهم إصراره على عدم التسليم لهم بأي مطمع في فلسطين.
وكان السلطان عبد الحميد قبل ذلك قد أمضى عزيمته في الدعوة إلى الجامعة الإسلامية، وتجميع المسلمين من خارج الدولة العثمانية تحت لواء الخلافة، لمواجهة خطر النفوذ الاستعماري الزاحف على العالم الإسلامي.(5/2)
ولقد بقيت صيحته استجابة في خارج الدولة العثمانية – بوصفه زعيماً للعالم الإسلامي كله وليس للدولة العثمانية وحدها – والتف حوله العرب المسلمون والفرس والترك، لتعضيد الخلافة وللزود عنها دون قيد أو شرط.
وكان من أخطر هذه الانجازات تصفية موقف الخلاف بين تركيا وفارس وبين السنة والشيعة، ومن كلماته في هذا الصدد: أن السم القديم يجب ألا يسري في جسد آسيا القوى وعلى السنيين والشيعة أن يتحدوا لمقاومة أوربا في محاولتها قهر العالم.
المؤرخون ورأيهم:
ويرى المؤرخون أن عبد الحميد لما تولى الخلافة سنة 1876 م، وجد أن سلاح الدهاء السياسي هو السلاح الوحيد الذي يستطيع به أن يواجه مؤامرات الغرب (الاستعمار والصهيونية وروسيا القيصرية) التي كانت منذ سنوات طوال تحيك المؤامرات للقضاء على الدولة العثمانية، بوصفها ممثلة للوحدة الإسلامية القائمة بين العرب والترك، ومن ثم أخذ يوسع دائرة هذه الوحدة لتشمل مسلمي العالم كله، ومن ذلك كانت صيحته "يا مسلمي العالم اتحدوا" إزاء الغزو الاستعماري.
فقد أخذ يستصرخ الأمم الإسلامية في كل رقعة من رقاع العالم الإسلامي، للالتفاف حول دولة الخلافة لتكوين قيادة عامة للمسلمين جميعاً، سنة وشيعة عرباً وفرساً وتركاً، وقد جمع السلطان عبد الحميد حوله عدداً كبيراً من زعماء العرب والبلاد الإسلامية، وقد شعرت إنجلترا وفرنسا وهما الدولتان اللتان كانتا تحكمان قهراً أكبر عدد من المسلمين – بحرج الموقف إزاء التفاف العالم الإسلامي حول الخليفة وحسبت لذلك ألف حساب، لا سيما حينما أيدته ألمانيا العدوة لهذه الدول، وحين كسر الخلاف مع الشيعة، وبدأ بعقد صلح معهم بعد استقدام جمال الدين الأفغاني، وحين بدأ يتخذ الأسلوب العصري في الوحدة بإقامة سكة حديد الحجاز، وقد جمع لها سبعة ملايين من الدنانير، وكذلك سكة حديد بغداد.(5/3)
وقد أشارت الدكتورة الماولتن في كتابها عنه، أنه كان لديه أربعون ألفاً من الدعاة للوحدة الإسلامية، ممن كانوا في القسطنطينية من طلبة المعاهد الإسلامية، وقد وجه دعوته إلى روسيا وشمال أفريقيا والهند والصين، وإلى المسلمين أينما وجدوا ومن أي جنس كانوا، وقد حدث هذا في الوقت الذي كانت الدول الأوربية تترقب بفارغ الصبر موت "دولة الرجل المريض" لتقسيم ميراثها وتوزيع أرثها فيما بينها.
رجل يرجح عظماء العصر:
وليس أدل على براعة السلطان عبد الحميد، من عبارة السيد جمال الدين الأفغاني الذي قال، بعد أن التقى بالسلطان وتعرف إلى مشروعه في الجامعة الإسلامية وأسلوبه في العمل السياسي مع دول أوربا: "إن السلطان عبد الحميد لو وزن مع أربعة من نوابغ العصر لرجحهم ذكاء ودهاء وسياسة" فلا عجب إذا رأيناه يذلل ما يقام لملكه من الصعاب من دول الغرب أنه يعلم دقائق الأمور السياسية ومرامي الدول الغربية، وهو معد لكل هوة تطرأ على الملك مخرجاً وسلماً. وأعظم ما أدهشني ما أعده من خفى المسائل وأمضى العوامل كي لا تتفق أوربا على أمر خطير في الممالك العثمانية وكان يراها عياناً محسوساً: إن تجزئة السلطنة العثمانية لا يمكن أن تقع إلا بخراب الممالك الأوربية بأسرها، وكلما حاولت دول البلقان الخروج على الدول بحرب، كان السلطان يسارع بدهائه العجيب لحل عقد ما ربطوه وتفريق ما جمعوه".
وقد وصفت خطة السلطان بأنها تمثل "سياسة التوازن الدولي" التي كان من شأنها أن تبقى الدول الغربية متحاسدة متنابذة في الأمور التي تتعلق بتركيا ومستقبلها.
ليس الخلاص في المدنية الغربية:(5/4)
وقد أشارت الدكتورة الماولتن إلى أن السلطان عبد الحميد كان أول من تجرأ – بعد مائتي عام من الهزيمة والتقهقر – على تحدي العالم الغربي، ومن ذلك قوله: "يجب ألا ندع الغرب يبهرنا فإن الخلاص ليس في المدنية الأوربية وحدها"، وقوله: "إن تركيا هي نافذة الإسلام التي سيشع منها النور الجديد".
وقد وجدت دعوته أصداء واسعة وكان لتنقلات الدعاة، والمبشرين المسلمين إلى هذه المسافات البعيدة التي كان عليهم أن يقطعوها للوصول إلى الجماعات الإسلامية المتفرقة، كان لذلك أبعد الأثر في النتائج الحاسمة السريعة فكان يتلقى الوفد الرسائل والوثائق الرسمية من مختلف أنحاء العالم تتضمن تأييد الملايين للسلطان إيماناً بفكرته وتعلقاً بحركة الجامعة الإسلامية.
وأشار تقرير سفير بريطانيا لدى الباب العالي سنة 1907 م إلى هذا الخطر بقوله: "يمكننا أن نقرر أن من أهم حوادث السنوات العشر الأخيرة على الأقل (1798–1907 م) خطة السلطان الباهرة، التي استطاع أن يظهر بها أمام 300 مليون مسلم في ثوب الخليفة – الذي هو الرئيس الروحي في الدين الإسلامي – وأن يقيم لهم البرهان على قوة شعوره الديني وغيرته الدينية ببناء سكة حديد الحجاز ونتيجة لهذه السياسة فقد أصبح حائراً على خضوع رعاياه له خضوعاً أعمى".
عملان جليلان:
وأشار كثير من المؤرخين إلى العملين الكبيرين – اللذين عجلا بإسقاط السلطان عبد الحميد – وهما:
إنهاء الخلاف بين السلطان والشاه وتصافحهما، هذا الخلاف الذي كان منذ مدة طويلة ينخر في عظام العالم الإسلامي.
قرار مد خط حديدي إلى مكة المكرمة كجزء من خطة الجامعة الإسلامية لمساعدة آلاف المسلمين على أداء فريضة الحج، وقد نهض بالمشروع في حماسة بالغة وحشد له كل ما استطاع من جهد مادي وبشري، حتى أتم إنجازه بسرعة خارقة وبدون أي عون من أوربا.(5/5)
وقالت الدكتوره الماولتن: "لقد استطاع أن يقود تركيا بعيداً عن الكارثة بمناوراته السياسية البارعة، موازناً بين مقاطعاته ودول أوربا، مستحثاً الهمم رافعاً الآمال، موجهاً انتباه العالم نحو أشياء جديدة، كلما كان التوتر يهدد بأن يصبح حاداً.
وكانت خطته لاستعادة قوة تركيا ومجدها عن طريق توحيد العالم الإسلامي تقترب من النجاح.
العنصريات والقوميات:
ومن هذه النقطة ضرب السلطان عبد الحميد، فقد كان يواجه تياراً ضخماً من المطامع للدول الأوربية والصهيونية وروسيا في تمزيق امبراطوريته، وكان السلاح هو تسليط سلاح العنصرية الذي حمله رجال تركيا الفتاة والاتحاد والترقي للوصول إلى فلسطين، وواجه السلطان عبد الحميد هذا المخطط بقوة وبسالة، وفي نفس الوقت الذي بدأ فيه هرتزل محاولاته لمقابلة السلطان، كان السلطان قد أصدر أوامره بفصل "سنجق القدس" – مركزي وإداري – عن ولاية سوريا عام 1887 م وإخضاعه لإدارته المباشرة، بمجرد أن تكشفت له المرامي البعيدة وراء المخططات الصهيونية.
وعندما شرع هرتزل يفكر في مقابلة السلطان ملتمساً مختلف الوسائل والطرق ليسترعي انتباه الباب العالي، كان عبد الحميد واعياً لكل المحاولات، فقد سعى هرتزل لدى بسمارك حيث كانت ألمانيا حليفة لتركيا، وسعى عند كثيرين من الشخصيات البارزة، وكان هدفه أن يقنع السلطان بإعطائهم مساحة من الأرض، مقابل استعداد اليهود لدعم مالية الدولة العثمانية والتأثير على الرأي العام الأوربي ليقف إلى جانب السلطان.
وتعددت المحاولات، واستمع إليه السلطان حيث دار الحديث حول مشاكل الدولة العثمانية وتصفية الدين العام وعرض هرتزل خمسين مليوناً من الجنيهات الذهبية للدولة، وخمسة ملايين لخزينة السلطان الخاصة.
حسم وحرم:
ولكن السلطان كان متشبثاً بموقفه المعارض للهجرة اليهودية، ولما توالت العروض حسم الموقف في حزم.(5/6)
"أنصح للدكتور هرتزل أن لا يسير أبداً في هذا الأمر، لا أقدر أن أبيع ولو قدماً واحداً من البلاد، لأنها ليست لي بل لشعبي ولقد حصل شعبي على هذه الامبراطورية بإراقة الدماء وقد غذاها بعد بدمائه، وسوف نغطيها بدمئانا قبل أن نسمح لأحد باغتصابها منا.
ليحتفظ اليهود بملايينهم فإذا ما قسمت الامبراطورية فقد يحصل اليهود على فلسطين بدون قتال.. إننا لن نقسم إلا جثثاً، ولن أقبل بتشريح أجسادنا لأي غرض كان (يونيو 1896 م)".
ولما توالت النذر أصدر السلطان عبد الحميد في يونيه 1898 م أمراً بمنع اليهود الأجانب من دخول فلسطين دون تمييز بين جنسياتهم.
التهديد والتآمر:
ولما استيأس هرتزل من السلطان عبد الحميد بعد الإغراء بدأت مرحلة التهديد، فاستخدم اليهود قدراتهم في التآمر للقضاء على الدولة العثمانية، مؤكدين مؤامرتهم على السلطان عبد الحميد بالذات، لأنه كان العقبة الكؤود في طريقهم، فرموه بكل منقصة وأظهروه للأمة في أبشع صوره.
وانطلقت أبواقهم من الصحف المارونية الموجهة من الماسونية والنفوذ الأجنبي تحمل عليه: المقطم والأهرام والمقتطف والهلال، وكتابات جرجي زيدان وسليم سركيس وفارس نمر، تصفه بالسلطان الأحمر، وألف جرجي زيدان قصة الاستبداد العثماني ورمى السلطان بعشرات من الاتهامات الباطلة تمهيداً للقضاء عليه وجرت محاولة اغتياله ثم إسقاطه.
ملاعب الأهواء:
وقد نجح اليهود في إخراج جمعية الاتحاد والترقي إلى ملعب أهوائهم السياسية، وقد كانت هذه الجمعية هي القناع الخارجي الذي يقنعت به جماعة الدونمة المتظاهرين بالإسلام من يهود إسبانيا، الذين اتخذوا من مدينة سالونيك مقاماً لهم بعد فرارهم من محاكم التفتيش الإسبانية، وقد جاءوا بالانقلاب العثماني الذي بيتوا له منذ نصف قرن حتى تم على أيدي مسلمين كانوا يهوداً في الأصل فأسلموا لأجل هذه الغاية.(5/7)
وقد أسلم الانقلاب زمام تركيا لليهود الماسون الدونمة (طلعت وجاويد وجمال ونيازي وكمال) الذين دفعوا تركيا بتوجيه (وايزمان) لخوض حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل سلموها لليهود الذين يتكلمون التركية.
ويقول الدكتور الزعبي في كتابه (الماسونية في العراء):
كان اليهود يرون السلطنة العثمانية – وهي شبح مخيف للخلافة الإسلامية – خطراً على مستقبلهم، وقد زار هرتزل السلطان وعرض عليه عروضاً مغرية فرفض، فقرر المحفل الماسوني الكوني خلع السلطان عبد الحميد، وكلف "فرسان تركيتا الحكماء المستنيرين" بتنفيذ القرار فنفذوه عام 1909 م.
يقول السيد رشيد رضا: لقد كان السلطان عبد الحميد عدواً للجمعية الماسونية، لاعتقاده أنها جمعية سرية وأن غرضها هو إزالة السلطة الدينية من حكومات الأرض، وقد تنفس الزمان للماسون بعد الانقلاب الذي كان لهم فيه أصابع معروفة، فأسسوا شرقاً – محفلاً – عثمانياً أستاذه الأعظم طلعت بك ناظر الداخلية، وأركانه جمعية الاتحاد والترقي وأنصارها من اليهود وغيرهم، ولأجل هذا نرى طلعت بك لا يبالي بسخط الأمة ولا برضاها، في إدارته التي استغاثت منها المملكة بولاياتها الستة كلها، ما عدا ولاية سلانيك، وسلانيك هي مقر السلطة الحقيقية في المملكة (المنار م 14 ص 80).
الخطر المحيط:
يقول جواد رفعت في كتابه "الخطر المحيط بالإسلام":
"إن الشخص الوحيد في تاريخ الترك جميعه، الذي عرف حقيقة الصهيونية "والسباتائية" وقدر أضرارهما على الترك والإسلام وخطرهما المحدق تماماً وكافح معهما مدة طويلة بصورة جدية لتحديد شرورهم، هو السلطان العثماني: الثالث والثلاثون (عبد الحميد الثاني) فقط، وإن هذا السلطان التركي العظيم كافح هذه المنظمات الخطيرة مدة ثلاث وثلاثين سنة بذكاء وعزم وبإرادة مدهشة جداً كالأبطال".(5/8)
ويتساءل الناس: لماذا يقف السلطان عبد الحميد ضد الدستور ويتحرز من هؤلاء الأحرار وأنه كان يعرف أنهم صناعة المحافل المساونية، وأنهم كانوا في مخطط الصهيونية العالمية التي قررت إسقاط عبد الحميد بأي ثمن، بالاتفاق مع الاستعمار العالمي الذي كان يطمع في دحر فكرة الجامعة الإسلامية أكبر خطر واجه حركة الزحف الاستعماري الحديث على يد عبد الحميد، لقد قاوم 33 عاماً تجاه شبكتهم المبثوثة في جميع أنحاء العالم، ومنظماتهم التي أحدثوها وأسلوب دعايتهم وافرتاءاتهم الكاذبة الشنيعة".
التنفيذ:
ويقول المؤرخون المنصفون: إن اليهود أخذوا تواً في تنفيذ المادة الخامسة من البروتوكولات: التي تنص على وجوب تلفيق الوقائع بحق الأشخاص المحترمين لدى الناس، للحط من كرامتهم وكسر اعتبارهم، ومن هنا بدأت حملة الكره ضد السلطان، حيث لفقوا وقائه حياله وقضايا تحت اسم القتل والإحراق والإغراق، ثم كانت مؤامرة اغتيال السلطان عبد الحميد حيث انفجرت قنبلة على موكبة بعد صلاة الجمعة، مقدمة لخطط ومؤامرات انتهت بعزله، وسيطرة الاتحاديين الذين فتحوا الطريق لليهود إلى فلسطين وسلموا طرابلس الغرب إلى إيطاليا.
يقول الأستاذ طه الوالي: كان غاية اليهود إزاحة عبد الحميد عن طريقهم الموصل إلى فلسطين، ولذلك فقد تمكنوا من رشوة بعض رجال الدين، وأغروهم بالخروج إلى الشوارح والمناداة بتطبيق الشريعة المحمدية، وهو ما سمي يومئذ بحركة الارتجاع قاصدين من وراء ذلك إحاج السلطان عبد الحميد بعد غعلان الدستور ودفع الاتحاديين إلى الثورة عليه، فيما بعد.
وقد أتت هذه الحركة الارتجاعية أكلها بالنصر لليهود فقام الجيش بحركته الحاسمة مقتدماً نحو يلدز، طالباً إزاحة العرش من تحت سلطانه، فتقدم ثلاثة في 7 مارس 1909 م من أعيان الدولة: مسلم مأجور ويهودي حقود ونصراني موتور وقدموا إليه ورقة للتنازل عن العرش.(5/9)
وقبل السلطان حقناً للدماء وقد صرح بذلك في رسالته إلى الشيخ محمند أبو الشامات قال:
"إنني لم أتخل عن الخلافة الإسلامية لسبب ما سوى أنني بسبب المضايقة من رؤساء جمعية الاتحاد المعروفة باسم (جون ترك) قد أصروا وأصروا على بأن أصادق على تأسيس وطن قومي لليهود في الأراضي المقدسة (فلسطين)، ورغم إصرارهم فلم أقبل بصورة قطعية هذا التكليف، وكان جوابي القطعي: أنكم لو دفعتم ملء الدنيا ذهباً، لن أقبل تكليفهم، وبعد جوابي القطعي اتفقوا على خلعي، فحمدت المولي أنني لم أقبل أن الطخ الدولة العثمانية والعالم الإسلامي بهذا العار الأبدي، عن تكليفها بإقامة دولة يهودية في الأراضي المقدسة (فلسطين).
الصورة الزائفة:
هذه هي الصورة الصحيحة التي تجلت في السنوات الأخيرة عن حقيقة السلطان ووجهته، أما الصورة التي رسمها سليمان البستاني في كتابه: "الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده"، وكتابات جرجي زيدان وسليم سركيس، وهؤلاء الطغمة من أعداء الإسلام، فإنها زائفة ومضللة، وقد طلعت عليها شمس الحقيقة وأنوار الوقائع الصحيحة الموثقة، إنها كتابات زائفة أريد بها تهوين شأن السلطان عبد الحميد تمهيداً لعزله أو قتله، وقد كانت في سبيل خدمة النفوذ الصهيوني أساساً.(5/10)
أما المنصفون من كتاب الغرب فقد شهدوا للسلطان عبد الحميد وفي مقدمتهم "لوثروب ستوارت" في كتابه حاضر العالم الإسلامي، كما تكشفت الحقائق حول الوقائع الزائفة التي نسبوها إليه، وخاصة بالنسبة لحياته الخاصة، وقد عرف عنه العزوف عن مظاهر الترف، وقد اكتفى من ملبسه الرسمي بالمعطف العاطل من الزخرف وقد كان يقضي وقته كله في دراسة التقارير المطولة التي ترد إليه من سائر جهات الامبراطورية إلى ساعة متأخرة من الليل، وقد تكشفت كذب إدعاءات: الإغراق في البسفور والخنق وكلها اتهامات أوردها اليهود، وليس لها سند صحيح، وقد كشف الأستاذ سعيد الأفغاني هذا الأمر في حديث له نشره في مجلة الوعي الإسلامي (شباط 1969 م) بعد زيارة لتركيا.
قال: فلما أخذنا ذكر الألوف من الأحرار الذين لا يحصدون الي أغرقهم السلطان عبد الحميد في مياه البسفور، أبدى رئيس الهيئة في رقة ولطف طالباً تسمية عشرة فقط من هذه الألوف التي لا تحصى، فلما أحرجنا قال: يا أخوتي لم يثبت غرق إنسان واحد في البسفور وهي إشاعات استطارت وخدعت الكثيرين ومنهم حافظ إبراهيم الشاعر في قصيدته: (مشبع الحوت من لحوم البرايا).
والصورة الحقيقية:
كذلك تبين كذب الإداعات التي إدعاها كتاب اليهود ومؤلفوهم باتهامه في شجاعته، فإن هذه الشجاعة الفائقة يدل عليها عديد من الوقائع والأحداث.
منها موقفه حبال محاولة اغتياله بعد انفجار القنبلة، واستطار الناس فقد واجه السلطان عبد الحميد الحادث في شجاعة أدهشت رجال السلك السياسي الأجانب وفي حفل الاستقبال في قصر ضلما بغشة عام 1904 م حيث كان يستقبل ضيوفاً من أنحاء العالم، وقع زلزال شديد فتحطمت النوافذ واتسعت الأرض وتهاوت الشرفات من السقوف، وقفز الوزراء والباشوات من النوافذ وقد استولى الذعر على كل الموجودين ما عدا عبد الحميد الذي ظل واقفاً منتصباً رابط الجاش وسط الغرفة المتأرجحة.(5/11)
وقد روت ذلك الدكتورة الماولتن صاحبة كتاب ( عبد الحميد ظل الله على الأرض).
وهناك الاتهامات التي تتصل بالرقابة فقد قيل أن للسلطان ألفاً ومائتي جاسوس، وأنهم مبثوثون بين أهالي الآستانة، وقد تبين أن هذه الصورة مبالغ فيها، وقال جواد رفعت: أن السبب الذي جعل السلطان قد نظم إدارته على نحو معين، ووسع دائرة استخباراته، هو علمه من تقارير الصهيونية بالعمل على التخلص منه والقضاء عليه.
كذلك فقد ثبت بطلان دعوى تعصبه وقد اتخذ كبير أطبائه من المسيحيين، وجعل وزير ماليته دولتلو أغوبيان المسيحي الأرمني، وعهد كثير من مهام سلطته إلى غير المسلمين.
قصة باطلة:
وتتردد كثيراً قصة مذابح الأرمن، ومسئولية السلطان عبد الحميد منها، وقد تبين براءة عبد الحميد من مسئولية هذه المذابح، وأن الغوغاء هم الذين تسببوا فيها، والأرمن هم الذين بدأوا باحتلال مبنى البنك العثماني وقتل بعض موظفيه، رداً على القمع الذي جوبهت به ثورتهم والتي ثبت أن الروس والإنجليز دفعوهم إليها دفعاً، وليس بسبب سوء المعاملة كما قد يتوهم البعض، وقد استغلوا روح التسامح لإحراج الدولة وكسب مزيد من الامتيازات، شهد بهذا دجوفارا حد كبار ساسة رومانية ومؤرخيها.
يقول: إن من أعظم عوامل انحلال الدولة العثمانية هو مشربها في إعطاء الحرية المذهبية والمدرسية التامتين لدعم المسيحية التي كانت خاضعة لها، لأن هذه الأمم بواسطة هاتين الحريتين كانت تثبت دعايتها القومية وتتماسك وتنهض وتسير سيراً قاصداً في طريق الانفصال عن السلطة العثمانية (حاضر العالم الإسلامي).
موت الأفغاني:
كذلك فقد كذبت وقائع التاريخ الصحيحة ما أشيع عن تهمة دس السم الأفغاني، والصحيح أن جمال الدين الأفغاني مات بالسرطان، بعد أن مرض شهوراً طويلة، ولو دسوا له السم لمات بشرعة.(5/12)
وقد وصف جرجي زيدان في الهلال (آذار 1897 م كيف توفي: قال: كان قد أصيب بداء السرطان في فكه السفلي منذ بضعة أشهر، فقاسى آلاماً مبرحة وأجريت له عمليات كثيرة استؤصل الفك السفلي كله أو أكثره، فامتد الداء إلى العنق وأوغل في الفم وعقد اللسان وضاعف الآلام، فاشتد المرض ولبس الناس ينتظرون وقوع الأجل، والحضرة السلطانية تواصل الالتفات إليه، بالإنفاق من الجيب الهمايوني الخاص، على أن ذلك لم يدفع مقدوراً ولا محاً مسطوراً.
ولكن ليس هذا العرض الذي يكشف وجه الحقيقه في أمر هذا السلطان المسلم الذي شوه تاريخه طويلاً، لا يمنع من أن يكون له وقد ولي الحكم سنوات طويلة بعض الأخطاء وقد أشير إلى بعض هذا في:
تعاونه مع ألمانيا مما جر عليه خصومة إنجلترا وفرنسا.
تردده في أن يتخذ اللغة العربية لغة الدولة العثمانية.
الاتجاه إلى الطرق الصوفية وليس إلى التيار الإسلامي الأصيل.
إهمال التدريب العسكري وإهمال الأسطول.
حاشية:
وقد صدرت في السنوات الأخيرة بحثو كثيرة تحمل طابع الاعتدال والإنصاف واختفت تلك الروح الظالمة القاسية التي لم تكن قائمة على الحقيقة التاريخية، وكانت تصدر عن الأهواء والتعصب والحقد، بل إن بعض الكتاب الذين تورطوا في كتاباتهم قد عادوا مرة أخرى إلى الإنصاف.
من هؤلاء الأستاذ محمد جميل بيهم، وكذلك بعض أساتذة الجامعة الأمريكية أمثال الدكتور زين زين.
ومن أبرز هذه الدراسات تلك الأطروحة التي قدمها اللبناني حسان حلاق إلى جامعة بيروت العربيةتحت عنوان (موقف الدولة العثمانية من الحركة الصهيونية 1897-1909 م).
كذلك فقد كان للتعليقات التي قدمها أحمد الرشيد على مذكرات السلطان التي ترجمها الأستاذ محمد حرب عبد الحميد، بالإضافة إلى مقالاته المتصلة عن الدولة العثمانية تصحيحاً لمواقف غامضة، كل هذا كان له أثره العميق في إعادة النظر في هذه الصفحة التي أحاطها ضباب كثير.(5/13)
وقد تحدث الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى عن ضرورة فتح ملف الدولة العثمانية من جديد، وجرت في الملتقى الإسلامي الجزائري سنوات 1972 م، 1973 م أبحاث واسعة في هذا الصدد، صححت كثيراً من الأخطاء والشبهات حول الدولة العثمانية والسلطان عبد الحميد، وصدرت لكاتب هذه السطور دراسة واسعة ضمنها كتابه (تاريخ الإسلام: مثدمات العلوم والمناهج) بقي أن نقدم حلقة ثالثة عن المرحلة الثالثة للسلطان عبد الحميد الاتحاديون ومصطفى كمال أتاتورك، فإلى اللقاء.(5/14)
الشبهات المطروحة في أفق الفكر الإسلامي
يواجه المسلمون اليوم مرحلة جديدة من مراحل الغزو الثقافي والتحدي:
والمعروف أن المسلمين مروا بمرحلتين هما: مرحلة الغزو العسكري (الاحتلال) ومرحلة المقاومة (الاستقلال)، ويمرون اليوم بمرحلة (التحرر).
أما المرحلة الأولى فهي المرحلة التي فُرضت عليهم فيها السيطرة الغربية بسطوة نفوذ الاحتلال، وفيها سيطر القانون الوضعي ومنهج التعليم الأجنبي ونظام الاقتصاد الغربي الربوي.
أما المرحلة الثانية فهي المرحلة التي جرت فيها محاولة الموائمة بين الفكر الغربي الوافد (وهو الفكر الرأسمالي الليبرالي الديمقراطي الغربي) وبين الفكر الإسلامي.
أما المرحلة الثالثة التي نعيشها اليوم فهي مرحلة الترشيد والأصالة أو محاولة الوصول إلى التحرر الكامل من نفوذ الفكر الأجنبي وشبهاته وتحدياته، وابتعاث الفكر الإسلامي الأصيل باعتباره هو المصدر الحقيقي لنهضة العالم الإسلامي.
وبعد أن تبين بالتجربة الواقعية التاريخية: أن محاولة اقتباس الفكر الغربي (بشطريه) لم يحقق للمسلمين والعرب النتائج التي كانوا يرجونها من إقامة المجتمع القادر على مقاومة الغزو الأجنبي.
لقد انتهت مرحلة الغزو العسكري والسياسي وبدأت مرحلة الغزو الفكري والحضاري.
وانتقل العالم الإسلامي من الخضوع للاستعمار (البريطاني والفرنسي والهولندي) الغربي إلى مواجهة نوع آخر أشد تحدياً وخطراً هو: الغزو الصهيوني الذي اتخذ من فلسطين رأس جسر في قلب الأمة العربية في محاولة لإقامة كيان بديل ووارث للاستعمار. هذا هو التحدي السياسي والاجتماعي والحضاري، وقد حمل معه تحدياً فكرياً وثقافياً يتمثل في عشرات من المذاهب والنظريات والمفاهيم والدعوات التي تطرح أمام الفكر الإسلامي منهجاً مخالفاً بل معارضاً لمنهجه الأصيل.(6/1)
لقد كان المصلحون المسلمون في المرحلة الماضية يظنون أنه من الجائز الموائمة بين الفكر الغربي والفكر الإسلامي، وكان رفاعة الطهطاوي ومَن بعده إلى محمد عبده يظنون أن الفكر الغربي له مصادر إسلامية وأنه انتقل إلى أوربا فتشكل كرة أخرى وأن في استطاعة المسلمين استعادته وصياغته من جديد.
غير أن الفكر الغربي الذي كان يعتمد على بعض مصادر لها طابع الدين أو المثالية أو غيرها من المفاهيم، هذا الفكر قد اختفى وحل بديلاً عنه: فكر مادي خالص يستمد مصدره الأول من المناهج القائمة على الإيمان بالمحسوس وحده وإنكار ما سواه. وبذلك باعد الفكر الغربي بينه وبين الفكر الإسلامي القائم أساساً على وحدة المعرفة الجامعة بين العقل والقلب، والروح والمادة، والعلم والدين، والدنيا والآخرة.
ويرجع هذا التحول في الفكر الغربي إلى خضوعه للفكر الصهيوني التلمودي الذي سيطر عليه بعد الثورة الفرنسية ومن قبلها أيضاً، والذي مهد عن طريق الماسونية إلى قيام أيدلوجية تلمودية استطاعت أن تحتوي الفكر الغربي بشقيه وتسيطر عليه.
ومن هنا فقد اتسعت الشقة التي كان يظن بعض مصلحينا أنها يمكن أن تقيم جسراً أو قنطرة بين الفكر الغربي وبين الفكر الإسلامي.
ولقد كشفت التجارب خلال أكثر من مائة عام أو تزيد أن كل معطيات الفكر الغربي لم تحقق للمسلمين شيئاً في مجال القوة أو البناء أو المقاومة وأنها حرمتهم من أهم موارد الحضارة ومصادرها وهي العلوم التكنيكية وأبقتهم خاضعين للغرب في مجال استيراد حاجياتهم وتصدير خاماتهم، دون أن يكونوا قادرين على استيعاب ثرواتهم ونفطهم ومقدرات حياتهم التي تذخر بها منطقة العلم الإسلامي من دون العلم كله.(6/2)
وفي ظل التحديات التي واجهت المسلمين باحتضان الاستعمار للغزو الصهيوني كمرحلة أشد خطراً من الاحتلال نفسه؛ إذا أنها تمثل عملية استئصال كامل لأصحاب الأرض، وفرض نفوذ اقتصادي وفكري واجتماعي من شأنه أن يؤثر بالغ الأثر في كيان العالم الإسلامي والأمة العربية نفسها، فقد كان لابد للمسلمين والعرب أن يواجهوا الخطر عن طريق التماس منابع فكرهم وثقافتهم وعقيدتهم؛ فهي وحدها الضوء الكاشف والنور المبين الذي يهديهم إلى منطلق المقاومة والمواجهة والنهضة الحقة.
وهكذا تتميز هذه المرحلة الحاضرة بأنها مرحلة الترشيد والأصالة والتماس منابع الفكر الإسلامي الذي يستطيع أن يدفع المسلمين والعرب إلى القدرة الكاملة لمواجهة الخطر والتغلب عليه، ولا ريب أن تاريخ المسلمين حافل بمثل هذا الموقف، وقد كان المسلمون دائماً أقدر على مواجهة جائحات سبقت كالتتار والصليبيين والفرنجة عن طريق التماس منهجهم الصحيح المستمد من القرآن الكريم، والشريعة الإسلامية، والوحدة الجامعة، ذلك المنهج الذي قدمه لهم الإسلام وأقام عليه حضارتهم الباذجة ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ومجتمعهم الواسع خلال أربعة عشر قرناً، ولقد كان المسلمون بمنهجهم هذا مقتدرين على المواجهة والنصر، فإذا ما تخلفوا عنه كان عدوهم أقدر على هزيمتهم والإدالة منهم.
ولا ريب أن أخطر ما يواجه العرب والمسلمين في هذه المرحلة هو: الغزو الثقافي، وحملة التشكيك وأثاره روح القنوط واليأس في القلوب والعقول.(6/3)
ولن يتسرب اليأس والقنوط في نفوس المسلمين والعرب إلا من مصدر واحد: هو أنهم يصطنعون المنهج الذي فرض عليهم في مقايسات الأمور وتقدير المواقف وإصدار الأحكام: هذا المنهج الذي ركز عليه الغزو الثقافي والتغريب سنوات وسنوات؛ لكي يحله في النفوس وفي المجتمع مكان المنهج الأصيل الذي أقام عليه المسلمون حياتهم كلها، ولعل هذا هو أخطر سلاح تواجه به الأمم، أن يكون عدوها وخصمها قادراً على أن يخرجها من دائرة فكرها، لتحكم في أمورها منهجاً مغايراً لا يتصل بمزاجها النفسي ولا بذاتيتها ولا بتكوينها الاجتماعي الذي انبنى عليه كيانها منذ أربعة عشر قرناً.
ذلك أن الاستعمار والقوى الخارجية الطامعة في مصادر الثروة في عالم الإسلام، كانت تعرف أن هذه الأمة القرآنية لا يمكن أن تؤتى إلا عن طريق تزييف مفاهيمها وتشكيكها في قيمها وإحلال منهج غريب عنها في مقايسات الأمور وتقدير المواقف وإصدار الأحكام، ولقد كان الغرب والاستعمار يعلمان مدى قدرة هذه الأمة استمداداً من قيمها، على مواجهة أعدائها وعلى الصمود في وجه الغزاة، وقد شكل لها فكرها الإسلامي أسلوباً حاسماً في هذا المحال: هو أسلوب الجهاد القادر على رد العدو، والمرابطة الدائمة، والإعداد بالقوة، واليقظة الكاملة، وقد كانت منطقة العالم الإسلامي ولا تزال وستظل مطمعاً للأمم، ولذلك فقد جهزها الفكر الإسلامي بالقدرة الدائمة على الصمود والأهبة: (ود الذين كفروا لو تغفلوا عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة – وخذوا حذركم).(6/4)
ومن هناك كان الاستعمار والغزو الأجنبي يرى من أجل إدامة سيطرته على هذه المنطقة الاستراتيجية الخطيرة، وذات الكنوز والثروات الضخمة، أن يحول هذه الأمة عن هذه القيم القادرة على المواجهة؛ حتى يخلق منها أمة مستسلمة ترضى بالهوان وتخضع للغاصب، وترى أنها داخلة في نطاق ما يسمونه الثقافة العالمية أو الوحدة العالمية أو الأممية أو غيرها من دعوات تريد أن تصهر المسلمين والعرب في أتونها وتضعهم في مجال احتوائها.
ونقطة الخطر هنا هي استسلام المسلمين والعرب لمنهج غير منهجهم المستمد من فكرهم وتراثهم وعقائدهم، ومنم هنا فإن أزمة المسلمين والعرب اليوم هي أزمة منهج، وأن أخطر التحديات التي تواجههم وفي مقدمتها الاستعمار والصهيونية هي التماس منهجهم الأصيل.
ولا ريب أن للمسلمين منهج ذاتي أصيل قائم بذاته مختلف تمام الاختلاف عن مناهج الشرق والغرب، ذلك هو المنهج الإنساني الطابع الرباني المصدر، الذي يقوم على الفطرة أساساً ويلتقي مع العقل والعلم، وأبرز مفاهيمه التوحيد والإيمان بالغيب والمسئولية الفردية والالتزام الأخلاقي، والإيمان بالجزاء واليوم الآخر، وهذا المفهوم في مجموعه كل متكامل، فالإسلام يقوم في رسالته على أساس الترابط بين القيم، ولما كانت رسالته موجهة إلى الإنسان الذي استُخلف في الأرض، ولما كان هذا الإنسان جسم ونفس وعقل وقلب ومادة وروح، فإن المنهج هو جامع كذلك لا تنفصل فيه القيم ولا تنفصل عنده العوالم، فهو أيضاً يجمع بين عالم الغيب وعالم الشهادة.
هذا المنهج هو "السر الحقيقي" وراء المعجزة الكبرى التي أقامت الدولة الإسلامية من الصين إلى فرنسا في أقل من سبعين عاماً؛ لأنه التقى بالفطرة والنفس الإنسانية والعقل الإنساني دون تعارض أو اضطراب.(6/5)
ومن هنا، وعلى قدر خطر هذا المنهج وأثره في بناء الأمة الإسلامية كانت الحملة عليه وكانت المحاولة الضارية لإثارة الشبهات حوله ومحاولة تدميره وتفتيته وإحلال مفهوم آخر بديل له في نفوس المسلمين وعقولهم عن طريق الفلسفات والمناهج والأيدلوجيات الوافدة.
ومن هنا فقد أقامت القوى الاستعمارية مخططاً للغزو الفكري والثقافي وضعاً بهدف السيطرة على النفس الإسلامية والعقل الإسلامي كمقدمة لإخضاع العالم كله اجتماعياً وحضارياً وكأسلوب لاحتواء الأمة وإدخالها في بوتقة النفوذ الأممي بحيث لا تكون من بعد قادرة على الانبعاث من قيمها ومقوماتها الأساسية.
ولقد بدأ هذا المخطط من وقت مبكر عن طريق التبشير والاستشراق ومدارس الإرساليات وبعض الصحف والمناهج التعليمية والثقافية التي فرضها الاستعمار على العالم الإسلامي.
تضاعف الخطر بعد أن برزت الصهيونية كعنصر جديد له محاولاته الخاصة في تزييف التاريخ وتوهين النفس العربية من أجل إحكام السيطرة ومن ثم تضاعف المخطط وتوسعت أهدافه وبدأت محاولاته تلبس أثواباً جديدة وتبرز في قوالب ذات طابع علمي براق وتخفي من وراءها السم الزعاف بعد أن استطاعت مخططات الغزو الصهيونية السيطرة على الفكر الغربي نفسه وانتزاعه من مجال الدين والأخلاق والحملة عليهما على أساس المذهب المادي الوثني.
ومن هنا فقد برزت دعوات وعلوم جديدة تحمل طابع المنهج العلمي وهب تخفي من وراءها سموم التلمود وأهدافه في تدمير مقومات الأمم وابتلاعها.
من أبرز هذه الدعوات والمخططات والمذاهب:
أولاً: الدعوة إلى هدم الأديان عن طريق علم الأديان المقارن والقول بأن الأمم بدأت وثنية ثم عرفت التوحيد بعد ذلك.
وهو قول معارض للحقيقة التي جاءت بها الكتب المنزلة والتي تثبتها كل الدلائل التاريخية والكشوف الأثرية، والحقيقة أن البشرية بدأت موحدة وأن آدم أبو البشر كان نبياً وكان موحِداً.(6/6)
ثانياً: الدعوة إلى هدم الأخلاق عن طريق مذاهب الوجودية والفرويدية وهدم الأسرة عن طريق مذاهب دوركابم وليفي بريل.
وتحاول هذه المذاهب أن تشكك في ثبات القيم الأخلاقية وارتباطها بالإنسان والدعوة إلى أخلاق متطورة تختلف باختلاف البيئات والعصور.
ثالثاً: الدعوة إلى التماس مفهوم واحد للتاريخ: هو التفسير المادي الذي طرحة إنجلز وماركس، وهو مفهوم ناقص؛ لأنه يتجاهل عوامل كثيرة أخرى لها أثرها في توجيه التاريخ.
رابعاً: الدعوة إلى إثارة العصبية والعنصرية وإعلاء الأجناس البيضاء وذلك في محاولة لفرض النفوذ الاستعماري الغربي على الأمم الملونة والقول بوصاية –زائفة- للجنس الأبيض على العالم والبشرية.
خامساً: محاولة إخراج اللغة العربية من مفهومها الذي تختلف به عن اللغات بوصفها لغة القرآن، وفرض مناهج في علم اللغات للتحكم فيها وتصويرها بأنها لغة قومية فحسب، أي لغة أمة، وإذا كان هذا كقانون لكل لغات العالم فإنه يعجز في إقرار ذلك بالنسبة إلى اللغة العربية؛ لأنها إلى جانب أنها لغة أمة فهي لغة فكر وثقافة وحضارة ودين وأنها تتصل بسبعمائة مليون من المسلمين (بالإضافة إلى أهلها العرب)، وهدف الحملة على اللغة العربية هو خلق عامية تقضي على لغة القرآن وتمزق الأمة والفكر جميعاً.
سادساً: الدعوة إلى إحياء الحضارات التي سبقت الإسلام، وإعادة عرض الوثنيات والفلسفات والخرافات والأوهام.
وتلك محاولة ماكرة مضللة ولكنها فاسدة؛ فقد استطاع الإسلام في خلال أربعة عشر قرناً أن يقيم منهجاً عقلياً وروحياً وأن ينشئ مزاجاً نفسياً وذوقاً خالصاً مرتبطاً بالتوحيد والقرآن ومتصلاً بأسباب الإيمان بالله له ضوءه الباهر الذي لا تستطيع هذه الظلمات أن تقهره.(6/7)
سابعاً: الدعوة إلى ما يسمى الأدب العربي المعاصر، والفكر العربي المعاصر والثقافة العربية المعاصرة، على أن تبدأ هذه الدراسات منذ حملة نابليون وربطها بالإرساليات والنفوذ الأجنبي كأنما هي من معطياته، وهي محاولة ماكرة إلى اجتثاث الفكر عن أصوله والفصل بين حاضر العرب والمسلمين وبين ماضيهم وخلق ثقافة "لقيطة" لا جذور لها، بل إن هناك محاولة مضللة تهدف إلى الحيلولة دون ربط الأدب أو الفكر أو الثقافة بتاريخها القديم وماضيها العريق.
من الحق أن يقال أن اليقظة المعاصرة في الفكر والأدب والثقافة جميعاً بدأت من دائرة القرآن وأن جميع الحركات الوطنية والقومية إنما استمدت قوتها من مصادر الإسلام وأنه لا سبيل إلى بناء أدب حديث أو فكر أو ثقافة منفصلاً عن اللغة العربية والإسلام.
ثامناً: محاولة الإدعاء بأن منطقة البحر الأبيض المتوسط شهدت حضارة واحدة هي التي بدأها الفراعنة والفينيقيون، ونماها الإغريق والرومان، ثم أتمها الأوربيون المعاصرون (وأن دور العرب في هذه الحضارة كان دوراً ثانوياً).
والحقيقة أن هناك حضارتان لكل منهما طابعه المميز هما: حضارة التوحيد وحضارة الوثنية.
وأن الإسلام هو صانع الحضارة التي اتسمت بهذا المفهوم في مواجهة حضارات بدأت بمفاهيم الوثنية وانتهت بمفاهيم المادية وكانت في مختلف مراحلها معارضة للحق والعدل والرحمة والأخلاق، فكانت تضرب واحدة بعد أخرى وتسقط؛ لأنها تعارض سنن الله في الكون.(6/8)
تاسعاً: محاولة إلقاء بذور الشبهات حول صلاحية الشريعة الإسلامية للتطبيق في العصر الحديث والإدعاء بأنها شريعة صحراوية، موقوتة بعصرها وبيئتها، وكل الدلائل العلمية والتاريخية تكذب هذا الإدعاء وأقربها مؤتمرات القانون الدولي 1931، 1937، 1952 وكلها إشارات إلى أن الشريعة الإسلامية شريعة مستقلة لها كيانها الخاص وأنها تحمل منهجاً إنسانياً لم تصل إليها البشرية بعد وتجري المحاولة التي يفرضها النفوذ الغربي بالدعوة إلى ما يسمى تطوير الشريعة ووضعها موضع الاحتواء من القانون الوضعي، ولقد كان من أعظم المعطيات التي حققتها الأمة العربية أنها اتخذت من التشريع الإسلامي مصدراً أساسياً للقانون، ونصت على ذلك في دساتيرها وميثاق الوحدة.
عاشراً: استطاعت القوى الاستعمارية فرض نظام الاقتصاد الغربي على أغلب أجزاء العالم الإسلامي، وهو نظام قائم على أساس الربا ومعارض أصلاً لمنهج الشريعة الإسلامية، ولقد قامت في الأمة العربية محاولات علمية تؤيدها الجهات الرسمية إلى بحث إقامة مصرف إسلامي علمي على غير أساس الربا والعمل على وضع نظام تحرير المسلمين من قيود النظام الاقتصادي الوافد.
حادي عشر: كان من أخطر محاولات النفوذ الاستعماري إيجاد تضارب بين العروبة والإسلام ومحاولة إقامة مفهوم العروبة على أساس النظريات الوافدة والقوميات الأوربية، ولقد تنبه المفكرون العرب والمسلمون إلى هذا التحدي الخطير وكشفوا عن الرابطة العميقة بين العروبة والإسلام، وأشاروا إلى أن الإسلام هو الذي شكل مفهوم العروبة الحق، وأن العرب قبل الإسلام كانوا يؤمنون بالقبلية وأن الإسلام هو الذي شكلهم كأمة ودفعهم إلى الآفاق وكتب لهم أعظم صفحات تاريخهم.
والعروبة ليست عنصرية؛ وإنما هي قيمة ذاتية في مواجهة الخطر الصهيوني، ولكنها مفتوحة بالثقافة والفكر والعقيدة على العالم الإسلامي كله وملتقية معه.(6/9)
ثاني عشر: تحريف الحقائق بالمبالغة أو الانتقاص كالإدعاء بأن المسلمين لا يتجاوزون الآن 500 مليون، بينما تقرر الإحصائيات المتواضعة أنهم يزيدون على سبعمائة مليون، وقد يصلون إلى ألف مليون، وكما نجد في كتب التاريخ من محاولات لتصوير البلاد العربية بصورة مصغرة أو مهينة أو إثارة الشبهات حول مقدراتها وثرواتها، أو الإدعاء بأنها منقسمة إلى مذاهب ونِحَل تتعارض أو تختلف أو تحول دون قيام وحدة فكر عامة، بينما الحقيقة غير ذلك؛ وأن الخلافات المذهبية الإسلامية هي خلافات في الفروع، أما القيم الأساسية فإنها واحدة بين جميع المسلمين.
ومن هنا فإن علينا أن ننظر في الشبهات المطروحة في أفق الفكر الإسلامي.
في مجال اللغة العربية:
كذلك جرت المحاولات حول اللغة العربية وإثارة الشبهات حول مكانها ودورها الحقيقي في مجال الفكر الإسلامي وكانت المحاولة تعمل على مقارنة اللغة العربية باللغة اللاتينية، وتقول:(6/10)
إنه ما دامت اللاتينية قد ماتت ودخلت المتحف فلماذا لا تموت اللغة العربية وتتفرع عنها لغات إقليمية. والحق أن وجه المقارنة غير صحيح وغير صادق؛ فقد انتهت اللغة اللاتينية وتحولت لهجاتها إلى لغات، وليس كذلك ما يحدث بالنسبة للغة العربية التي ما زال القرآن يظاهرها ويجعلها ما كتبت منذ أربعة عشر قرناً مقروءاً إلى اليوم، بينما لم يحدث ذلك مطلقاً لأي لغة من اللغات الحية، التي تتغير كل ثلاثة قرون، فامرؤ القيس السابق للإسلام نقرأه نحن الآن ونفهمه بعد أكثر من 1500 سنة، بينما شكسبير لا يفهمه الإنجليز وقد مضى عليه ثلاثمائة عام تقريباً، وهذه الظاهرة في اللغة العربية تجعلها لا تخضع لعلم اللغات الذي يحاول أن يحكم على كل اللغات بظواهر عامة مشتركة. ومن تميز اللغة العربية أيضاً أنها ليست لغة أمة كما يحدث للغات جميعاً؛ ولكنها إلى ذلك لغة فكر وثقافة وعقيدة لسبعمائة مليون مسلم، العرب بينهم مائة مليون على الأكثر، ومن هنا تنكشف فوارق كثيرة بين اللغة العربية لغة القرآن وبين اللغات القديمة كاللاتينية واللغات العامة.
وقد كانت اللغة العربية بطبيعة تركيبها وتميزها بالقدرة على الاشتقاق والتوالد عاملاً هاماً في مكانتها، وقد وصفها أرنست رينان بأنها خلافاً لكل اللغات ظهرت فجأة في غاية الكمال، غنية أي غنى بحيث لم يدخل عليها حتى يومنا هذا أي تعديل مهم، فليس لها طفولة ولا شيخوخة وأنها ظهرت منذ أول أمرها تامة مستحكمة.(6/11)
ولقد مضى الإسلام يشق طريقه ومضت معه اللغة العربية، وكان حقاً عليها أن تصل إلى كل مكان وصل إليه، ولكن الاستعمار استطاع منذ أكثر من قرنين أن يوقف نموها ويحول بينهما وبين الحركة، وخاصة في ماليزيا وإندونيسيا وشرق أفريقيا وغربها، وإعلاء شأن اللغات الأجنبية واللغات الإقليمية، ولكنها سوف تستطيع بعد أن تتحرر الأمم من نفوذه الثقافي أن تعاود توسعها فتصل إلى كل مكان فيه مسلم، ليس بوصفها لغة فكر وعبادة فحسب، ولكن على أنها لغة حديث وكتابة وتعامل بإذن الله.
ومن خلال هذا الفهم الصحيح لوضعية اللغة العربية بين اللغات يمكننا أن نواجه كل ما يقال عن تطوير اللغة أو تمصير اللغة أو إعلاء شأن العاميات والإدعاء بأنها لغة خاصة ملك لأصحابها ونفهم أنها كلها محاولات تستهدف:
أولاً: عزل العرب عن الوحدة الكاملة بينهم.
ثانياً: عزل المسلمين عن العرب.
ثالثاً: عزل المسلمين والعرب عن مستوى البيان في القرآن الكريم.
ولا ريب أن اللغة العربية جديرة بأن تلتقي دائماً في مستوى بيان القرآن وأن يرتفع الناس إليها، ولا ريب أن الدعوة إلى إقامة لغة وسطى بين الفصحى والعامية هي إحدى محاولات الغزو الفكري، وليس لها هدف إلا إنزال اللغة العربية درجة عن كيانها الذي يرتبط ببلاغة القرآن وبذلك تنهدم ركيزة من ركائز الإسلام، وهي حجب المسلمين عن فهم القرآن واستيعابه وهو أمر خطير وهام ويحتاج إلى دوام المحافظة على بلاغة اللغة وروحها؛ فاللغة أساساً هي فكر الأمة، والعربية الفصحى مرتبطة بذاتية الإسلام ومزاجه النفسي والاجتماعي.
في مجال النهضة:(6/12)
تُثار في مجال النهضة شبهات منها القول بأن الحضارة الغربية تؤخذ كلها (وقد بينا ذلك) ومنها القول بوحدة الثقافة، أو الثقافة العالمية، ذلك أن لكل أمة ثقافتها الخاصة التي تستمدها من مقومات وجودها وعقائدها، فالمعرفة عالمية والعلم عالمي والحضارة عالمية، ولكن الثقافة لا تكون عالمية بحال، وللعرب والمسلمين ثقافتهم المستمدة من القرآن واللغة العربية ولهم تلك الذاتية الخاصة المتميزة المستمدة من التوحيد، ولا ريب أننا في هذا الوقت بالذات إذا قبلنا بالثقافة العالمية فإن دورنا سيكون دور التابع الذليل الخاضع للكيان الضخم الذي تفرضه الثقافة العربية على العالم كله، وهو دور لا نقبله ولا نرضاه؛ لأنه سيقضي على مقوماتنا الخاصة والذاتية، ولقد تقبله أمم ليس لها تاريخ ولا حضارة، أما المسلمون الذين سيطروا بفكرهم وثقافتهم على العالم كله ألف سنة كاملة لا ينازعهم منازع، فإنه من الخزي لهم أن يستوعبوا أو يكونوا تابعين أو يوضعوا في مجال الاحتواء والانصهار.
لقد طرحت الصهيونية العالمية شعار الثقافة كهدف من أهدافها الرامية إلى تدمير ثقافات الأمم وتحطيمها من داخلها وفرض تلك التطورات الفلسفية التي دمرت الفكر الغربي واستوعبته، كالوجودية والفرويدية والماركسية والهيبية.
وهناك فيما يتصل بهذه الدعوة إلى تجزئة الفكر الإسلام ما يستهدف إثارة فكرة "السلام": ونبذ الحروب، والمقاومة السلبية وما إلى ذلك من أفكار نسبت إلى تولستوي وغاندي، وحاول بعض الدعاة ردها إلى الأديان.
والإسلام لا يعرف إلا منهجاً كاملاً فيه السلام وفيه الجهاد، وباب الجهاد والقتال من أكبر أبواب الشريعة الإسلامية وهو دعامة أساسية في إقامة السلام.(6/13)
ولقد حرص الاستعمار الغربي ولاسيما البريطاني في الهند أن يفرض مفاهيم تحملها جماعات مضللة تصور الإسلام بصورة السلام القائم على الجبن والاستسلام للغاصب وكذلك تمكن الاستعمار الفرنسي في الجزائر وغيرها أن ينحي من دراسات الإسلام باب الجهاد؛ وذلك إيماناً من المستعمرين بأن أخطر صفحة تواجههم في الإسلام هي صفحة الجهاد التي كانت وستظل القوة الحقيقية للمقاومة والدفاع عن النفس، وحتى في السلم تكون استعداداً وتأهباً وحماية للثغور وإثارة الرهبة في نفوس العدو: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم).
ولقد بلغ الأمر ببعض الكتاب العرب أن يتابعوا المستشرقين فيما يصورونه من تفرقة بين الإسلام في مكة والإسلام في المدينة وبين آيات القرآن المكي الداعية إلى الترقب والتأهب وبين آيات المدينة التي تحرض المسلمين على القتال. والواقع أنه لا فارق مطلقاً بين مرحلتين من دعوة واحدة يتكاملان، ذلك أن مناهج الدعوات لابد أن تمر بمرحلة بناء الرجال وإعدادهم، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة إقامة الدولة على نفس المنهج الأصيل، والإسلام متكامل ولكن الفكر الغربي الذي يحاول أن يحاكمه لا يؤمن بالتكامل وتفترسه الانشطارية، بالإضافة إلى التعصب وتغليب الهوى على جميع الأبحاث والدراسات التي تتصل بالإسلام.
ومن عجب أن لا يدعو الإسلام إلى الحرب والقتال؛ وإنما يدعو إلى السلام (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة)، ولكنه يفرض الحرب في حالة الاضطرار القصوى، ثم لا يلبث أن يوقفها في حسم إذا قبل خصمه الصلح: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله).
وهناك شبهة أخرى تبطل بهذا المجال هي شبهة الانفصال عن الماضي.(6/14)
فلا يزال الغربيون يرددون القول ولا يملون مطالبين المسلمين بأن ينفصلوا عن ماضيهم كلية ويرون ذلك هو سبيل القوة، وهم في هذا مضلون: (وإن تطع أكثر مَن في الأرض يضلوك عن سبيل الله)، ولو كان هذا منهجاً صحيحاً مع كل الناس فلن يكون صحيحاً مع المسلمين الذين لهم منهجهم الرباني الماضي الذي هداهم دوماً وكانت هزيمتهم كلما انفصلوا عنه، والأوربيون الناصحون لم يفعلوا في نهضتهم ما ينصحوننا به، فنحن يطلب إلينا الانفصال عن الماضي والماضي متصل خلال أربعة عشر قرناً لم يتوقف اتصاله واستمراره، ونحن ندعى للانفصال عنه وأوربا تعود إلى الماضي وتتبعه من جديد بعد أن انفصلت عنه ألف سنة كاملة، تعود لتربط نفسها بالفكر اليوناني والحضارة الرومانية التي سقطت عام 450م وبدأت النهضة عام 1400 تقريباً.
والحق أنها دعوة ظالمة ولن تتحقق ولن يقبلها المسلمون والعرب ولن يستطيعوا ذلك لو قبلوا بها، ويقول هاملتون جب في نص له: "إنه ليس في وسع العرب أن يتحرروا من ماضيهم الحافل وسيظل الإسلام أهم صفحة في هذا السجل".
في مجال وحدة الفكر الإسلامي وتكامله:(6/15)
وكذلك جرت إثارة الشبهات حول وحدة الإسلام ووحدة الفكر الإسلامي. وفي هذا المجال ترددت الدعوى القائلة بأن الإسلام دين: بالمعنى اللاهوتي المعروف في الغرب، وهم في هذا ينقضون الإسلام في أكبر مقوماته؛ فالإسلام دين ونظام مجتمع ومنهج حياة، فإذا فصلت منه الجانب الاجتماعي وقصرته على جانب العقيدة أو العبادة وحده كان ذلك تحريفاً خطيراً لمضامينه وأسسه، ويمكن القول أن الغرب يعرف ذلك ولكنه ينكره من ناحيتين: من ناحية أنه يريد ان يجعل الإسلام خاضعاً لنظرية الفكر الغربي التي تفصل بين الدين والمجتمع وبين الأخلاق والمجتمع. وبين التطلع إلى أن يفقد الإسلام أقوى مقوماته فينهار ويصبح مركباً ذلولاً للحضارة الغربية والاستعمار. والواقع أن الغرب يخشى الإسلام في مفهومه الصحيح؛ لأنه يحول دون نفوذه وسيطرته ويدفع المسلمين إلى مقاومته وتحرير أرضهم منه.
وهذا هو لب التغريب فإذا وصل إلى إقناع المسلمين بأن الإسلام دين لاهوتي فحسب، انفتح الطريق أمام الغزو المادي في مجال الفكر وأمكن إخضاع المسلمين للأيدلوجيات والفلسفات والمذاهب الاجتماعية المختلفة، مما يؤدي إلى تدمير مختلف القيم الأخلاقية والنفسية والروحية التي بناها الإسلام في المسلمين، وبذلك يصبح الفكر الإسلامي صورة هزيلة من الفكر الغربي الذي يمر الآن بأقسى مراحل أزماته واضطرابه بعد أن سقط صريعاً في براثن التلمودية الصهيونية.(6/16)
وفي الفكر الإسلامي المستمد من الإسلام يقوم منهج تكامل قطاعات الفكر في نسق واحد، فالاجتماع والسياسة والأدب والتربية والاقتصاد هذه وحدات وأجزاء وعناصر من شئ واحد هو الإسلام، وإذا كان الفكر الغربي يجري على الفصل بين العناصر والوحدات والأجزاء فإن الفكر الإسلامي لا يقر هذا الفصل ويرى فيه تدميراً للشخصية الإنسانية وللمجتمع نفسه، يرى فيه قصوراً في النظرة بإعلاء عنصر على عنصر. وفي العصر الحديث يعلو عنصر المادة ويكاد يسيطر على العناصر الأخرى فيصل إلى درجة تشبه درجة القداسة، وكذلك فيما يتصل بالعقل والعلم، أما الإسلام فلا يرى المادة والروح إلا متكاملين، وما العقل والقلب إلا عينان في وجه واحد، والدنيا والآخرة إلا متصلين صلة جذرية، فالحياة كلها تدور حول رسالة وتتصل بإنسان له مسئوليته الفردية إزاء عمله وجزاءه على هذا العمل، وإنسان متصل بمجتمع متفاعل معه، وإنسان له قلب وعقل وروح وجسد لا انفصال بينها.
ومن هذه الوحدة القائمة بين العناصر في الفكر والحياة في الإسلام، والالتقاء بين الأجزاء لا نجد قضية للخلاف بين العلم والدين ولا بين الدين والضمير.
ذلك أن بعض المحاولات جرت لفصل بين الدين والضمير، والقول بأن العمل الأخلاقي يمكن أن يتخذ طريقه دون أن يكون صاحبه عاملاً بأوامر الدين، وتلك دعوة تتردد اليوم بين المسلمين: يقول أحدهم: أنا أفعل الخير ولكني لا أصلي.
والواقع أن الإسلام بحكم أنه منهج متكامل ونظام شامل لا يقر هذا، ولابد لأي عمل أخلاقي أن يتحرك في إطار العقيدة نفسها.(6/17)
ولابد أن ينبعث من الإيمان بالله أساساً وأن يكون في منزلة الصلاة تماماً، والشبهة هنا هي أن الغربيين حين أرادوا الخروج من الدين وضع فلاسفتهم مناهج أخلاقية حاولوا أن يقولوا أن الناس في حاجة إلى الأخلاق وأن الأخلاق تقوم على فكرة الواجب وأن الناس تستطيع أن تقدم المعونة والمساعدة والإحسان والبر دون أن يكون لذلك صلة بدين ما. ولكن هذا المفهوم لا يقره الإسلام ولا قيمة لأي عمل أخلاقي لا يرتبط بالتوحيد والإيمان الكامل بالإسلام كله. وقد حذر القرآن تحذيراً شديداً من الإيمان ببعض الكتاب، ولا ريب أن هذا المنهج الأخلاقي حين انفصل عن الدين في الغرب لم يلبث طويلاً حتى ضربته حركة الاحتواء التلمودية فظهر منهج المدرسة الاجتماعية الذي حطم مفهوم الأخلاق نهائياً.
أما الإسلام فإن الأخلاق فيه تقوم على أساس الثبات أولاً وتتصل بالعقيدة، فالأخلاق في مفهوم الإسلام تطبيقية وليست نظرية كما هي في الفلسفة اليونانية، وليست أخلاق سعادة؛ ولكنها أخلاق تقوى، لقد كانت الأخلاق اليونانية نظرية خالصة منفصلة عن واقع الحياة، وكانت الفلسفات الهندية والمجوسية منعزلة عن المجتمع، وكلاهما لا يعترف بواقع الحياة، أما مفهوم المجال محاولة لوصف الفكر الإسلامي بالفكر الديني وهو قول ينبع من الانشطارية الغربية، ذلك أن الإسلام لا يفضل الدين عن الأدب أو اللغة أو التشريع أو الاقتصاد أو الاجتماع، والدين هنا بمعنى توجيه العمل لله وأخلاقية العمل ومراقبة الله فيه وتحريره من الهوى والغرض.
وفي ضوء ما ذكرنا ليس هناك فكر ديني، أو لغة دينية على النحو الذي يفهمه الغربي الذي يفصل بين المفاهيم.(6/18)
وهكذا تختلف نظرة الفكر الإسلامي عن نظرة الفكر الغربي في أمور كثيرة: وفي مقدمتها البطولة وتقديرها والاحتفاء بها، فالإسلام لا ينظر إلى البطل أو العظيم بقدر ما ينظر إلى عمل البطل، ولذلك فهو حين يحتفي بالبطل يعيد الذكر والتقدير لعمله ويدعو إلى الانتفاع به، وهذا هو السر الحقيقي وراء انصراف الإسلام عن الصور والتماثيل كوسائل لتكريم الأبطال.
ذلك أن تلك الأسماء الكثيرة التي تتردد في الغرب على أنها آلهة وأنصاف آلهة، مما اورده اليونان والرومان وغيرهم، لم تكن في الأصل إلا أبطالاً أعجبت بهم أممهم وتعلقت بهم ثم شاءت بعد ذلك أن ترفعهم من مقامهم الإنساني إلى مقام الآلهة. ثم هي لم تلبث أن انصرفت عن مفهوم التقدير العملي لعمل البطل إلى عبادة البطل نفسه، وبذلك نشأت عبادة جديدة صرفت الناس عن عبادة الله الواحد الأحد، وقد أصبحت عبادة الأبطال وعبادة الجمال وتأليه البطل عبادات تتفق مع طبيعة النفس الغربية التي استمدت مفاهيمها في العصر الحديث من الوثنية اليونانية.
ومن هنا فقد حرص الإسلام على تحرير أهله من عبادة الفرد أو عبادة شئ ما، إلا الله سبحانه وتعالى، ومن هنا كان حرص القرآن على أن يصف أعظم شخصية في المسلمين وهو محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ إنما إلهكم إله واحد)، فالنبي بشر مؤيد بالوحي، يعيش ويأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويموت أيضاً، أما الله سبحانه وتعالى فإنه الحي الذي لا يموت. ومن هنا حفظ الإسلام مفهوم البطولة عن الانحراف إلى عبادة الفرد وحفظ عبادة الله من الوثنية والشرك. لقد رفع الإسلام عن الفكر البشري القيود وحرر العقل البشري من الأصفاد. ولم يجعل للأحجار والتماثيل والأصنام مكاناً في إيمانه القائم على التوحيد الخالص.
أنور الجندي(6/19)
الفكر الإسلامي والتحديات التي تواجهه في مطلع القرن الخامس عشر الهجري
الأستاذ أنور الجندي
لاريب في أن نشأة الفكر الإسلامي في حضانة الدعوة الإسلامية له جذوره العريقة وأصوله الأصلية المستمدة من القرآن الكريم والسنة المطهرة واللغة العربية وسيرة الرسول وتاريخ الإسلام والأدب العربي وقد اكتمل مفهوم الإسلام في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم "اليوم أكملت لكم دينكم" وقد كانت قواعد الفكر الإسلامي الأساسية قد بدأت ونمت في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم مستمدة من القرآن وأن هذه القواعد لم تغير من بعده ولم تجر أية إضافة إليه فظلت قيمتها الأساسية كما جاء بها وحي السماء والقرآن وسنن النبي في تفسيرها وتطبيقها. وإنما جرت حركة العمل من داخل الإطار الذي رسمه القرآن. ولقد كان اتصال المسلمين بالفلسفات اليونانية والفارسية والهندية تجربة قاسية انتهت بانتصار الإسلام بمفهوم "السنة الجامعة" وهزمت جميع محاولات السيطرة والاحتواء والغزو الفكري كما نسميه بلغة العصر وبقيت الحقائق الأساسية قائمة.
إن الإسلام ليس ديناً كسائر الأديان ولكنه حركة اجتماعية واسعة تشمل الاعتقاد والمجتمع والدولة ومختلف نظم الاقتصاد والسياسة والأخلاق وأن ميزة الإسلام أنه نظرية كلية شاملة وأنه لم يجزئ الحياة بل نظر إليها نظرة كلية كما نظر إلى الإنسان كوحدة نفسية وجسمية لا تنفصل.
وفي العصر الحديث وفي إبان الحملة الاستعمارية والصهيونية والماركسية واجه الإسلام تحديات خطيرة أبرزها:(7/1)
أولاً: إثارة الشبهات حول حقيقة الإسلام والتشكيك في طبيعته الجامعة التي ميزته عن سائر الأديان وهو أنه منهج حياة ونظام مجمتع وإثارة الشبهات حول مفهوم الدين المنزل من السماء والوحي بصفة عامة والدعوة إلى هدم الأديان عن طريق ما يسمى (علم الأديان) المقارن أو القول بأن الأمم بدأت وثنية ثم عرفت التوحيد بعد ذلك. وهو قول معارض للحقيقة التي جاءت بها الكتب المنزلة والتي تثبتها كل الدلائل التاريخية والكشوف الأثرية، وهي أن البشرية بدأت موحدة ثم اعتراها التغير واستسلمت للفكر البشري الوثني والمادي وأن آدم أبو البشرية كان نبياً وهو موحداً. وهناك تلك الأطروحات الباطلة التي استمدها خصوم الإسلام من غير المسيحية بالقول بأن الإسلام دين عبادي وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نبياً روحياً وأنه لم يكن حاكماً وما أقام دولة وهو وهم باطل كشفت البحوث الصحيحة عن فساجه وعن أن الذين قالوا به إنما استمدوه من المسيحية ومن مفاهيم الاستشراق المعادية للإسلام كذلك فإن مفهوم التوحيد الذي عرفته بعض الأديان السماوية التي انحرفت تفسيراتها ليس هو مفهوم التوحيد الخالص الذي جاء به الإسلام، وأن هؤلاء القوم يدعون أن لهم إلهاً خاصاً بهم، أما الإسلام فيقرر أن الله تبارك وتعالى هو رب العالمين كذلك فإن ما يدعيه البعض من توحيد إخناتون لم يكن في الحقيقة هو التوحيد الصحيح الذي جاءت به أديان السماء وأن التوحيد كان دعوة أديان السماء المنزلة منذ آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم ولم تكن قاصرة على دين واحد هو الدين الذي أنزل على موسى عليه السلام كما تحاول أن تطرح ذلك نظريات فاسدة.
وقد تداولت البشرية التوحيد الذي جاءت به الأديان رسولاً بعد رسول ونبياً بعد نبي وفي خلال الفترات التي كانت تعود إلى الوثنية وإلى الفكر البشري ولكنها كانت تعرف التوحيد منذ نشأة الحياة الإنسانية.(7/2)
وقد تميز الإسلام عما سبقته من مفاهيم حول الله تبارك وتعالى بأنه جمع بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وأنه غاير مفهوم الوثنية ومفهوم التعدد والتثليث والشرك وغيره بأن أقر المسلم بالله تعالى رباً خالقاً وبكل ما قدر الله من أمر وهو ما تمثله عبارة القرآن في فاتحة الكتاب "إياك نعبد وإياك نستعين".
ثانياً: إثارة الشبهات حول مفهوم الاجتماع الإسلامي، في شأن ثبات القيم الأخلاقية وارتباطها بالدين والدعوة إلى هدم الأخلاق عن طريق مذاهب الوجودية الفرويدية وهدم الأسرة عن طريق مذاهب تدعي أن الأسرة ليست الفطرة وتحاول هذه المذاهب التي عرفت باسم مدرسة العلوم الاجتماعية أن تشكك في ثبات القيم الأخلاقية وارتباطها بالإنسان والدعوة إلى أخلاق متطورة تختلف باختلاف البيئات والعصور.
ويدخل في هذا تلك النظريات التي طرحها فرويد وسارتر ودوركايم.
وأخطر ما يواجه المسلمين من هذه النظريات الوافدة المطروحة في أفق الفكر الإسلامي أن يظن البعض أنها علوم ومفاهيم علمية مقررة والحقيقة أنها مجموعة من الفروض التي قدمها بعض الفلاسفة والمفكرين وأن كثيراً منها ثبت فساده وفشله وأن أبرز ما يدلل على اضطرابها هو عجزها عن العطاء أو عن الثبات مع الزمن أو البيئة وعدم صلاحيتها للتطبيق بعد قليل مما جعل أصحابها ودعاتها يغيرونها بالحذف والإضافة ومع ذلك فهي من الفكر البشري الذي لا يثبت أمام المفاهيم الربانية الحقة التي قدمها الإسلام في مجال النفس والاجتماع والأخلاق.
بل لقد تبين أن هذه النظريات الداعية إلى التحرر من القيم الأخلاقية إنما هي مفاهيم تلمودية قد صنعت بدقة في أسلوب علمي براق زائف وأن بروتوكولات صهيون كشفت عن ذلك صراحة.(7/3)
وأن أغلب هذه النظريات إنما كانت موجهة في الحقيقة ضد الدين الذي عرفته أوربا والذي لم يحقق لها استجابة صحيحة مع أشواق النفس الإنسانية فحال بينها وبين ممارسة الحياة الاجتماعية الطبيعية حين فرض عليها "الرهبانية" ومن ثم كانت هذه الموجة العاتية التي يطلقون عليها ثورة الجنس للوصول إلى أقصى الطرف الآخر في الإباحية وتحرير مفاهيمهم من أغلال المفاهيم المسيحية الجامدة. وهذه القضية بجملتها ليست مطروحة في أفق الفكر الإسلامي الذي دعا دينه إلى حق المتاع الدنيوي بالطعام والمرأة في أوضاع صحيحة وضوابط كاملة دون أن يحرم الإنسان منها شيئاً.
ولقد كانت نظرية فرويد بالتفسير الجنسي للتصرفات الإنسانية موضع نقد وتجريح من علماء النفس أنفسهم فضلاً عن معارضتها للفطرة الإنسانية وقد تبين في العصر الأخير أن العامل الجنسي ليس هو المصدر الأوحد للتصرف الإنساني ولمنه واحد من عوامل كثيرة منها تأكيد الذات ومركب النقص والإيمان بالعقيدة ذلك الدافع الخطير إلى الموت في سبيل الحق.(7/4)
ومن منطلق حرب اليهودية للجوييم أو للأميين كانت محاولتهم لهدم كل قيم الأخلاق والاجتماع والأسرة على النحو الذي قام به فرويد ودوركايم الذي كانت نظريته في علم الاجتماع قائمة على إنكار القواعد الأخلاقية والدينية التي قررها الدين الحق وإنكار فطرة الدين والأسرة والزواج ودوركايم هو الذي روج للنظرية القائلة بأن الدين لم ينزل من السماء وإنما خرج من الجماعة نفسها وهو يدعو إلى ما يسمى بالعقل الجمعي الذي ينكر مسؤولية الإنسان عن عمله والتزامه الأخلاقي الذي هو مصدر الحساب والجزاء الأخروي، كما أنه ينفي القداسة عن الدين والأخلاق والأسرة ويشكك فيها ويدعو إلى تحطيم الدين لأنه يعوق التطور، هذه الأفكار المسمومة التي روجتها التلمودية والفقكر الغربي بعد أن سقط أسيراً للتلمودية، يحاولون الآن طرحها في أفق الفكر الإسلامي لإخراجه عن فطرته وذاتيته ومفهومه الرباني الجامع القائم على التوحيد والرحمة والإخاء البشري.(7/5)
ولعل من أخطر ما يواجه اليقظة الإسلامية في مطلع القرن الخامس عشر الهجري هو هذه التحديات التي تتصل بالمجتمع والأسرة والطفل والمرأة، المستمدة من هذه النظرة المادية الخالصة التي يقوم علم الاجتماع وعلم النفس كما يدرس الآن في الجامعات حيث ينشئ أجيالاً تقوم عقليتها على أساس النظرة المادية الخالصة إلى الإنسان وحيث تنظر في سخرية وامتعاض إلى الأخلاق والدين والأسرة. ونرى أن هذا الذي تعلمه ليس مجرد نظريات لها مقابل في الفكر الإسلامي أكثر أصالة وأعمق نظرة بل هو من الحقائق العلمية والمسلمات التي لا مرد لها، بينما هي لا تعرف وجه الحقيقة بالنسبة لمفهوم الإسلام الحق الذي هو فطرة الله. فطرة الله التي فطر الناس عليها وهو المفهوم الذي يقرر أن الإنسان روح وجسد وعقل وقلب وأنه لا يمكن تفسيره عن طريق المذاهب المادية التي تعامله كالحيوان أو المناهج التجريبية التي تعامله كالمادة الصماء. ولاريب أن نظرية دوركايم في علم الاجتماع حين تلتقي بنظرية فرويد في علم النفس ونظرية ماركس في الاقتصاد من شأنها أن تشكل إنساناً مضطرباً مزعزع الوجدان.
ومن عجب أن تبرز هذه المفاهيم في مختلف مجالات الثقافة والتعليم والصحافة بينما تختفي مفاهيم الإسلام في النفس والأخلاق وتتضائل ولا تعرض حتى على أنها وجهة نظر الأمة التي تواجه تلك القضايا والتحديات بل لعله في الحقيقة ليس هناك مفهوم أعمق وأصدق من هذا المفهوم الإسلامي وأن مفهوم الغرب كان مصدر الكارثة التي تحل بالبشرية اليوم لا نفصاله عن الفطرة والعلم ودعوته إلى الانشطارية بين الروح والمادة والعقل والقلب وهو مصدر التمزق والغثيان والغربة التي هي أزمة الحضارة الغربية المعاصرة.(7/6)
ثالثاً: من أخطر التحديات التي تواجه الفكر الإسلامي ما طرحه الوافد في أفقه من تفسيرات غربية وماركسية وصهيونية وهي جميعها تفسيرات مضللة مستمدة من التفسير المادي للتاريخ الذي طرحه إنجلز وماركس وهو مفهوم ناقص لأنه يتجاهل عوامل كثيرة لها أثرها في توجيه التاريخ.
إن تفسير التاريخ الإسلامي عن طريق مناهج التفسير الغربي هو بمثابة عجز عن النظرة الصحيحة لحركات ووقائع التاريخ الإسلامي فقد قاس الكتاب الغربيون الوقائع الإسلامية على ظروف الامبراطورية الرومانية وغيرها مع اختلاف الظروف والمقاييس.
كذلك فقد كانت نظرة الغربيين إلى تاريخ الإسلام ناقصة وقاصرة لأنها صدرت عن ذلك الاعتبار الخاطئ بأن تاريخ الغرب هو تاريخ البشرية وأن ما عدا ذلك ليس تاريخاً ولا يدخل إلى ساحة المقاييس أو الصورة العامة.
وأشد أنواع الخطأ هي فكرة "الحتمية" التاريخية و "الجبرية" الاجتماعية التي يجرى تطبيقها على التاريخ الأوربي، وأشد ما عجزت عنه تفسيرات الغربيين للإسلام هي عجزهم عن فهم ذلك الجانب المعنوي والروحي: والوحي والنبوة والرسالة السماوية وما يتصل بها من بناء القوة القادرة بإيمانها على هزيمة القوة المادية التي هي أكبر منها عدة وعدداً؟
وتتمثل المعالجة الغربية الظالمة لتاريخ الإسلام في أن علماء الغرب فرضوا التقسيم الغربي للعصور التاريخية على تاريخ العالم وتعميم مقايستهم فيها، فالعصور الوسطى مثلاً هي عصور الظلام في رأيهم ما دامت أوربا كانت في الظلام متجاهلين الحضارة العربية الإسلامية التي كانت متألقة في تلك العصور وتاريخ أفريقيا السوداء يبدأ عندهم حينما دخلها الرحالة الأوروبيون، أما قبل ذلك فليس لها تاريخ، وتمتد هذه النظرة إلى الفكر العالمي الذي هو عندهم الفكر الغربي.
وقد تجسدت هذه النظرة في نظريات ولدت في الغرب قسمت شعوب العرب إلى فئات: دماء بعضها نقية زرقاء، ودماء بعضها الآخر سوداء، وإلى أجناس عليا وأجناس دنيا.(7/7)
ومن منطلق التفسير المادي للتاريخ عجز المؤرخون الأوروبيون عن تفسير الأحداث الكبرى في تاريخ الإسلام وخاصة تفسير سرعة انتشار الإسلام فما زالوا يقيسون ذلك بالمقياس المادي وكذلك انتصار المسلمين بالعدد الأقل على الروم والفرس بالأعداد الضخمة وهم يسقطون من حسابهم القوة المعنوية: قوة الإيمان التي هي في تقدير التفسير الإسلامي للتاريخ عامل مواز إن لم يكن أهم من القوة المادية.
كذلك فقد عجز كتاب الغرب ومؤرخوه عن ضبط النفس في تقدير المواقف المشتركة كمعركة بواتيه والحروب الصليبية والاستعمار الحديث فانحرفوا في تفسيرها مع أهوائهم ومع غرورهم واستعلائهم وبروح الاحتقار والانتقاص للشعوب الضعيفة والمستعمرة.
وكما حمل التفسير المسيحي للتاريخ روح الخصومة، كذلك حمل التفسير الصهيوني للتاريخ الإسلامي روح الحقد، وكان التفسير الماركسي للتاريخ أكثر حقداً وخصومة، وقد عملت هذه التفسيرات على إعلاء شأن الحضارات القديمة والأديان الوثنية السابقة للإسلام أو الإدعاء بأن العرب كانوا ناهضين ومتحضرين ولم يكن ينقصهم إلا قائد لينهضوا ونسوا أن العرب حاربوا الرسول ثلاثة عشر عاماً ووقفوا بالخصومة إزاء كلمة الإسلام حتى فتح الله لها أفقاً جديداً في يثرب.
رابعاً: الدعوة إلى إثارة العصبية والعنصرية وإعلاء الأجناس البيضاء وذلك في محاولة لفرض النفوذ الاستعماري الغربي على الأمم الملونة والقول بوصاية زائفة للجنس الأبيض على العالم والبشرية.
كما عمدوا إلى إذكاء رياح الدعوة إلى الإقليمات والقوميات الضيقة للقضاء على روح الوحدة الإسلامية الجامعة بين الدول الإسلامية والعربية والتي كانت تجمعها تحت راية الخلافة الإسلامية سواء منها ما كان تابعاً للدولة العثمانية (كالعرب والترك) أو بقية البلاد الإسلامية التي كانت تدين بالولاء للخليفة المسلم أمام المسلمين.(7/8)
ولقد حملت دعوات الإقليمية والقومية رياح العصبية والعنصرية الغربية وكانت محاولة خطيرة لوضع الحواجز التي تجمعها رابطة العقيدة والثقافة والتوحيد.
ولقد استهدفت هذه الدعوة في البلاد العربية إلى إعلاء طابع الاستعلاء الجنسي المغلق في مواجهة الأمم الإسلامية، وخلق طابع الانعزال والانفصال الكاملين في التاريخ والتراث والمقومات الإسلامية واستهدفت كذلك خلق وجود معاصر منفصل تماماً عن الإسلام وعن العالم الإسلامي متصل بالغرب في تفسيراته وطوبعه.
لقد كان هدف هذه الدعوة إعلاء شأن القوميات حتى في الأمم الإسلامية ذاتها فضلاً عن فصل هذه الأمم عن الفكر الإسلامي وفصل العرب عن الامتداد الإسلامي.(7/9)
خامساً: من أخطر التحديات التي واجهت الفكر الإسلامي إحياء الماضي السابق للإسلام في البلاد العربية والإسلامية جميعاً، كالدعوة إلى الفرعونية والفينيقية والآشورية والبابلية في البلاد العربية وإحياء تراث كورش في إيران أو الهندوكية في البلاد الهندية الإسلامية وغيرها في باقي أجزاء العالم الإسلامي. كمحاولة لإحياء تاريخ ما قبل الإسلام وحضارته وتراثه الوثني وتجديده. وقد جرت هذه الدعوات شوطاً في محاولة من النفوذ الأجنبي للقضاء على الذاتية الإسلامية ولكن الأمر لم يلبث أن تكشف عن عجز كامل في تحقيق عودة المسلمين إلى تاريخ ما قبل الإسلام على أي نحو من الأنحاء وتبين أن دعوة الإسلام بالتوحيد الخالص خلال أربعة عشر قرناً قد أنشأت كياناً فكرياً وروحياً واجتماعياً قوياً عميق الجذور لا يمكن هدمه أو النيل منه وأن هناك ما عرفه علماء التاريخ بالانقطاع الحضاري بين ما قبل الإسلام وما بعده في جميع البلاد التي دخلها الإسلام وأنه في مقابل هذا "الانقطاع الحضاري" فإن هناك ما يسمى بالاستمرارية الحنيفية الإبراهيمية القائمة الآن في البلاد العربية والإسلامية والممتدة منذ دعوة إبراهيم إلى دعوة محمد صلى الله عليه وسلم والممتدة عبر الديانتين المنزلتين على موسى وعيسى عليهما السلام وأن هذه الانقطاعية بين الدعوة الحنيفية في تلك المناطق جميعاً قد اشتملت على الفكر والثقافة والعقيدة بالرغم من معالم المدنية الحضارية المادية، وتؤكد المصادر كلها على وجود الأرضية العربية السابقة للإسلام في مصر والعراق وسوريا وأن الفينيقية والآشورية والفرعونية والبربرية وغيرها هي موجات خرجت من الجزيرة العربية واندلحت في هذه المنطقة شرقاً وغرباً وكانت توسيداً للموجة الإسلامية العربية الكبرى بعد الإسلام واستكمالاً لها.(7/10)
وقد تبين لدعاة هذه الحضارات الفارسية والفرعونية والفينيقية وغيرها أنه لا توجد أرضية يمكن البدء منها سواء أكانت هذه الأرضية تراثاً ثقافياً أو لغوياً أو دينياً وأن هذه الجذور القديمة للغات السريانية والقبطية والعبرية وغيرها قد زالت وانتهت ولم يبق منها شيء وقد غلب عليها طابع التوحيد الخالص بمفاهيمه القرآنية الخالصة.
سادساً: جرت المحاولات لإحياء التراث الجاهلي والوثني تحت اسم الفلكور او الأدب الشعبي وهي إحدى المحاولات التي استهدفت التأثير في نصاعة الفكر الإسلامي وروحه وربانيته القرآنية الخالصة، بإعلاء تلك الصور الساذجة التافهة من الأزجال والأغاني والمواويل والأمثال العامية والوثنية البائدة التي تتعارض مع سمو التراث الإسلامي العربي القائم على البيان العربي البليغ والمضمون السامي وقد انتشرت هذه الدعوة في السنوات الأخيرة وشملت أقطاراً عربية وإسلامية عديدة وخدعت كثيراً من البسطاء والسذج والإغرار في مجال اللهو والتسلية في محاولة لخداع الجماهير بأساليب تحمل طابع الرقص والغناء والاستعراضات المسرحية لإحياء التراث الجاهلي والوثني الذي قضى عليه الإسلام قضاءً تاماً واعتبره من سقط المتاع وحطمه تحطيماً لأنه يتعارض مع مفهوم التوحيد الخالص ومن دعوة الإسلام للخروج من طفولة الإنسانية والمفاهيم الجاهلية والبدوية الجافة والساذجة القائمة على الأساطير والخرافات وحيل العرافين وأكاذيب الدجالين إلى مفهوم أصيل في الإيمان بالله والتعرف على آياته في الكون والثقة بأن الغيب لله تبارك وتعالى.(7/11)
والهدف معروف هو تغليب العامية والأساطير والقصص الشعبي والأغاني الساذجة والأمثال العامية على البيان القرآني وبلاغة السنة والأدب الصادق والفن الرفيع والفكرة الإنسانية، ارتداداً بالعقول والنفوس التي رفعها التوحيد إلى ذروة الإيمان بالله إلى سذاجة الخرافة وفساد طفولة البشرية وابتعاداً عن الذوق العربي الإسلامي المتسامي بالقرآن الكريم والحديث النبوي والأدب العربي في بلاغته والحكمة الإسلامية في فصاحتها وارتفاعها عن التدني والحيوانية والفساد. نعم. إذابة الذوق الإسلامي العالمي في ألوان ضعيفة ساذجة وثنية تقلل من قدر بيان القرآن وترد الناس إلى مستوى ضعيف يقطع الصلة بمستوى الثقافة الرفيع الذي خلقه القرآن وخلقته السنة ولاريب أن هذا واحداً من أهداف الدعوة إلى العامية كما سيجيء.
سابعاً: العمل على تبني دعوات ضالة كالقاديانية والبهائية والإدعاء بأنها من حركات النهضة الإسلامية كذباً وبهتاناً واستعمالها لضرب الإسلام من الداخل.
وتعمل القوى التغريبية جميعاً ممثلة في الاستشراق والتبشير والغزو الثقافي عن طريق الصحافة والثقافة والمدرسة إلى تبني هذه الحركات الهدامة واحتضانها وخداع البلاد الإسلامية ومن يعالج هاتين الدعوتين المبطلتين البهائية والقاديانية يعرف أنهما استهدفتا ضرب حركة اليقظة الإسلامية التي كانت قد قطعت مرحلة كبيرة في طريق التماس المنابع الأصلية وجوهر الإسلامك بمفهوم التوحيد الخالص وإن كلا الحركتين قد نشأ في أحضان النفوذ الأجنبي واستهدف ضرب الإسلام في أعظم قيمه الأساسية وهي فريضة الجهاد. وقد كشفت الأبحاث التاريخية عن علاقة أكيدة بين هاتين الدعوتين وبينل الاستعمار والصهيونية والهندوكية.(7/12)
وأنهما حاولتا بث الفتنة وزعزعة العقائد وإثارة الشبهات وإضعاف شوكة المسلمين وتثبيط عزائمهم في المكافحة ضد النفوذ الأجنبي والكيد للإسلام. وتضليل المسلمين عن حقيقة عقيدتهم وتفريق وحدتهم. ولم يعد هناك ريب في أن هذه الطوائف الدخيلة تلقى المعونة والتوجيه من المستعمرين والقوى المعادية للإسلام تحت اسم ما يسمونه "حرب الإسلام من الداخل".
وقد واجه رجال اليقظة الإسلامية كلتا الدعوتين منذ اليوم الأول وكشفوا عن فسادهما وزيف فكرهما وسمومهما التي خدعت بعض المسلمين ولاريب أن الدارس للبهائية يجد هدف تقويض الإسلام من الداخل واضحاً في مخططاتها وتاريخها كله، ويجدها واضحة العلاقة بالركام الباطني القديم مجددة إياه في أسلوب حديث براق. يغرري بعض السذج من أبناء أمتنا الذين لم يستكملوا تعليمهم الديني والخلقي. فضلاً عن الارتباط بالصهيونية التلمودية كثمرة من ثماء البروتوكولات ومن هنا كانت دعوتها إلى دين بشري تنصهر فيه الأديان السماوية.
ثامناً: محاولة إحياء الفكر الباطني والوثني والإباحي عن طريق إحياء الفلسفات اليونانية والمسرحية الإغريقية والأساطير البابلية والفكر الغنوصي وكانت بعض هذه الوثنيات قد ترجمت إبان العصر العباسي وأدخلت إلى مفهوم الإسلام كثيراً من البلبلة والاضطراب وقد واجهها الإسلام مواجهة صارمة وكشفوا زيفها وردوها وبينوا أن الفلسفات اليونانية ليست إلا علم الأصنام القديم وهاجموا كلا النظريتين:
اليونانية الهلينية القائمة على الحس وعبادة الجسد والإباحية.
الغنوصية الشرقية القائمة على الحدس والإشراق وغيرها.(7/13)
وقد تجددي المحاولة في العصر الحديث مرة أخرى في النيل من الإسلام وإعادة طرح هذه المفاهيم مرة أخرى بإحياء هذا التراث وتجديد شبهات الفلسفات والفكر الباطني والتصوف الفلسفي والاعتزال والمجوسية وغيرها لإغراق شباب المسلمين في هذه السموم وحتى يحال بينهم وبين مفهوم التوحيد الخالص بما يؤدي إلى توهين روح الصمود في نفوس المسلمين وتفسيخ القيم الخلقية الإسلامية بادعوة إلى إذاعة المجون والمجاهرة بالخلاعة والانحراف الجنسي وهو نفس الأسلوب الذي اتخذته حركة احتواء الإسلام، كان ذلك في الماضي لحساب المجوسية الفارسية ولتمكين القرامطة والباطنية من السيطرة على الدولة الإسلامية واليوم يجرى نفس المخطط لحساب الصهيونية والاستعمار والشيوعية.
تاسعاً: محاولة إخراج اللغة العربية من مفهومها الذي تختلف فيه عن اللغات بوصفها لغة القرآن، وفرض مناهج في علم اللغات للتحكم فيها وتصويرها بأنها لغة قومية فحسب، أي لغة أمة، وإذا كان هذا كمنهج علمي لكل لغات العالم فإنه يعجز عن إقرار ذلك بالنسبة إلى اللغة العربية لأنها إلى جانب أنها لغة أمة، فهي لغة فكر وثقافة وحضارة ودين، وأنها تتصل بمليار من المسلمين يعبدون الله بها ويقرأون بها القرآن الحديث.
ولاريب أن هجف الحملة على اللغة العربية هو خلق عامية تقضي على لغة الفرآن وتمزق وحدة الفكر الإسلامي.(7/14)
ومن هنا تسقط كل محاولات الفكر الوافد في إثارة الشبهات حول اللغة العربية ومقارنتها باللغة اللاتينية التي ماتت ودخلت المتحف، بعد أن تفرعت منها لهجات إقليمية. وليس مثل هذا يمكن أن يحدث للغة العربية التي ما زال القرآن يظاهرها ويجعل ما كتبت به منذ أربعة عشر قرناً مقروءاً إلى اليوم بينما لم يحدث ذلك مطلقاً لأية لغة من اللغات الحية التي تتغير كل بضعة قرون. فإمرؤ القيس السابق للإسلام نقرأه نحن الآن ونفهمه بينما شكسبير لا يفهمه قومه وقد مضى عليه ثلاثمائة عام تقريباً، وهذه الظاهرة تجعل اللغة العربية أكبر من أن تخضع لعلم اللغات الذي يحاول أن يحكم على كل اللغات بظواهر عامة مشتركة.
وقد كانت اللغة العربية بطبيعة تركيبها وتميزها بالقدرة على الاشتقاق والتوالد عاملاً هاماً في مكانتها. وقد وصفها (أرنست رينان) بأنها خلافاً لكل اللغات ظهرت فجأة في غاية الكمال غنية أي غنى بحيث لم يدخل عليها حتى يومنا هذا أي تعديل مهم فليس لها طفولة ولا شيخوخة وأنها ظهرت في أول أمرها تامة مستحكمة ومن خلال هذا بالفهم علينا أن نواجه التحديات التي يطرحها التغريب من القول بتطوير اللغة أو إعلاء شأن العاميات أو الإدعاء بأنها لغة خاصة بأصحابها ونفهم أن هذه كلها محاولات ترمي إلى:
أولاً: عزل المسلمين عن العرب وعزل العرب عن الوحدة الكاملة بينهم.
ثانياً: عزل المسلمين عن العرب على مستوى البيان في القرآن الكريم.(7/15)
ولاريب أن اللغة العربية جديرة بأن تبقى دائماً في مستوى بيان القرآن الكريم وأن يرتفع الناس إليها ولاريب أن الدعوة إلى إقامة لغة وسطى بين الفصحى والعامية هي إحدى محاولات الغزو الكفري وليس لها هدف إلا إنزال اللغة العربية درجة عن كيانها الذي يرتبط ببلاغة القرآن وبذلك تنهدم ركيزة من ركائز الإسلام وهي حجب المسلمين وعن فهم القرآن واستيعابه وهو أمر خطير وهام ويحتاج إلى دوام المحافظة على بلاغة اللغة وروحها، فاللغة أساساً هي فكر الأمة والعربية الفصحى مرتبطة بذاتية الإسلام ومزاجه النفسي والاجتماعي.
عاشراً: الدعوة إلى إحياء الحضارات التي سبقت الإسلام وإعادة عرض الوثنيات والفسلفات والخرافات والأوهام. وتلك محاولة ماكرة مضللة ولكنها فاسدة فقد استطاع الإسلام خلال أربعة عشر قرناً أن يقيم منهجاً عقلياً وروحياً وأن ينشئ مزاجاً نفسياً وذوقاً خالصاً مرتبطاً بالتوحيد والقرآن ومتصلاً بأسباب الإيمان بالله له ضوؤه الباهر الذي لا تستطيع الظلمات أن تقهره.
حادي عشر: الدعوة إلى ما يسمى بالأدب العربي المعاصر، والفكر العربي المعاصر، والثقافة العربية المعاصرة، على أن تبدأ هذه الدراسات منذ حملة نابليون وربطها بالإرساليات والنفوذ الأجنبي كأنما هي من معطياته، وهي محاولة ماكرة تهدف إلى اجتثاث الفكر والأدب والثقافة (العربية والإسلام) من أصولها والفصل بين حاضر العرب والمسلمين وبين ماضيهم، وخلق ثقافة "لقيطة" لا جذور لها بل إن هناك محاولة مضللة تهدف إلى الحيلولة دون ربط الأدب أو الفكر أو الثقافة بتاريخها القديم وماضيها العريق.
ومن الحق أن اليقظة الإسلامية المعاصرة في الفكر والأدب والثقافة جميعاً بدأت من دائرة القرآن وأن جميع الحركات الوطنية والقومية إنما استمدت قوتها من مصادر الإسلام وأنه لا سبيل إلى بناء أدب حديث أو فكر أو ثقافة منفصلاً عن اللغة العربية والإسلام.(7/16)
ثاني عشر: محاولة الإدعاء بأن منطقة البحر الأبيض المتوسط شهدت حضارة واحدة هي التي بدأها الفراعنة والفينيقيون ونماها الإغريق والرومان، ثم أتمها الأوروبيون المعاصرون وأن دور العرب في هذه الحضارة كان دوراً ثانوياً، والحقيقة أن هناك حضارتين لكل منهما طابعه المميز وهما حضارة التوحيد وحضارة الوثنية. وأن الإسلام هو صانع الحضارة التي استمت بهذا المفهوم في مواجهة حضارات بدأت بمفاهيم الوثنية وانتهت بمفاهيم المادية وكانت في مختلف مراحلها معارضة للحق والعدل والرحمة والأخلاق فكانت تضرب واحدة بعد الأخرى وتسقط لأنها تعارض سنن الله في الكون.
ثالث عشر: محاولة لقاء بذور الشبهات حول صلاحية الشريعة الإسلامية للتطبيق في العصر الحديث والإدعاء بأنها شريعة صحراوية موقوتة بعصرها وبيئتها. وكل الدلائل العلمية والتاريخية تكذب هذا الإدعاء وأقربها مؤتمرات القانون الدولي 1931 م، 1937 م، 1952 م وكلها أشارت إلى أن الشريعة الإسلامية شريعة مستقلة لها كيانها الخاص وأنها تحمل منهجاً إنسانياً لم تصل إليها البشرية بعد وتجرى المحاولة التي يفرضها النفوذ الغربي بالدعوة إلى ما يسمى تطوير الشريعة ووضعها موضع الاحتواء من القانون الوضعي.
رابع عشر: استطاعت القوى الاستعمارية فرض نظام الاقتصاد الغربي في أغلب أجزاء العالم الإسلامي وهو نظام قائم على أساس الربا ومعارض أصلاً لمنهج الشريعة الإسلامية ولقد قامت حركة اليقظة الإسلامية بدراسات وساعة للكشف عن فساد نظام الربا والاقتصاد الغربي وجرت محاولات متعددة لإقامة المصرف الإسلامي على غير أساس الربا والعمل على وضع نظام تحرير المسلمين من قيود النظام الاقتصادي الوافد والكشف عن عظمة الفكر الاقتصادي الإسلامي.(7/17)
الفكر البشري القديم
الأستاذ أنور الجندي
المؤامرة الخطيرة التي تواجه الفكر الإسلامي في العصر الحديث، هي محاولة قوى التغريب (الاستشراق والتبشير) إعادة طرح الفكر البشري القديم الوثني والإباحي مرة أخرى، لتزييف هذا الفكر الرباني وتمييعه واحتوائه.ولقد كان الفكر الإسلامي دائماً متفتحاً لثمرات الفكر الإنساني، ولكنه كان قادراً حتى في أشد مراحل الضعف والتخلف على المحافظة على ذاتيته، والحيلولة دون انصهاره في الفكر الأممي، ذلك لأن مقوماته الأصلية وقيامه أساساً على التوحيد، حال دائماً دون هذا الانصهار وهذا الاحتواء الذي فرضه الغزو الخارجي عليه.
بين جولتين:
وقد كان الفكر الإسلامي في الجولة الأولى (إبان ترجمة علوم اليونان والفرس والهنود) في نهاية القرن الأول وبدلية القرن الثاني وحتى الثالث، قادراً على أن يتوقف دون ترجمة الفسلفة والقانون والشعر أول الأمر، ثم لما ترجمت الفلسفات واجهها علماء المسلمين في قوة، وكشفوا أن منهجها لا يتفق مع منهج التوحيد.
أما في الجولة الثانية (هذا العصر) فقد استطاع النفوذ الأجنبي أن يفرض ترجمات كل ركام الفكر البشري ووثنياته وإباحياته، نمن أساطير وشعر وفلسفات مادية، دون أن يكون هناك حائل لذلك، وأن تمكن أعلام حركة اليقظة الإسلامية من كشف زيف هذا الركام البشري.
ولقد كان هدف دعاة الغزو الفكري من هذه الخطة إعادة الفكر إلى الإيمان بالجبر، وعودة الإنسان إلى الوثنية، والدعوة الملحة إلى الانطلاق من القيم والتحرر من الأخلاق إلى حيوانية الطعام والجنس.
أخطر ما طرح في أفق الإسلام:
ولعل أخطر ما طرح في الفكر البشري في أفق الإسلام في العصر الحديث:
النظريات المادية الماركسية.
الأخطار الفلسفية والوجودية.
الكشوف الأنثروبويولوجية التي دعت إلى استغلال الأسطورة في تفسير الحياة الإنسانية.
المذاهب الفلسفية التي ردت الإنسان إلى الحيوانية.
نظرية دارون.(8/1)
مقارنات الأديان التي تقوم على أكذوبة أن البشرية كانت وثنية ثم اعتنقت التوحيد مع ظهور اليهودية.
ولقد دعا الإسلام معتنقيه إلى اليقظة تجاه الفكر الوافد وحرر أتباعه من التأثير الأجنبي بكل أنواعه، ودعا إلى الحرص إزاء محاولة إدعاء الإسلام تغيير المعالم الأصلية للعقيدة الإسلامية وللفكر والثقافة ومحاولة تزييف مزاج المسلمين النفسي.
وكان أعداء الإسلام يعلمون أن الطريق الوحيد إلى القضاء على "وحدة الفكر الإسلامي" هو ضرب الأمة من خلال قوائم فكرها بإثارة الشبهات وإدخال مفاهيم وتفسيرات غربية تختلف عن التفسيرات الأصلية.
وميزة الفكر الإسلامي:
كذلك كان من أكبر ميزات الفكر الإسلامي، هي قدرته الواضحة على التماس المنابع حين يفتقد النص القرآني أو التوجيه النبوي، فهو حين يتفتح على الثقافات العالية يأخذ منها بحذر ولا يأخذ كل شيء، ويرد الباقي من السيل المتدفق الذي يقدم إليه، فهو لا يأخذ إلا ما يتفق مع الأساليب والوسائل لا الأصول، وما يتفق مع طابعه وما يزيده قوة وكل ما يأخذه يصهره في بوتقته صهراً تاماً ويحيله إلى طابعه.
ولقد كان الفكر الإسلامي ولا يزال – وسيظل – قادراً على أن يعمل داخل الإطار الذي رسمه القرآن وحدده وأن يحكم المسلمون على كل ما يواجههم في ضوء القرآن والسنة لا يتعداهما إلى مصدر آخر.
وفي هذا بالمجال فرق الفكر الإسلاتمي بين المعرفة والثقافة، فالمعرفة عامة والثقافة خاصة، ولكل أمة ثقافتها المستمدة من عقيدتها وشريعتها وأخلاقها كذلك فرق بين العارض والأساسي، وبين لالمعارف الجوهرية والمعارف غير الجوهرية، ودعا إلى وحدة الفكر في قطاعاته المختلفة فلا سبيل لفهم قطاع من الفكر الإسلامي وحده منفصلاً عن قطاعاته الأخرى.(8/2)
كما فرق بين مقاييس العلوم التجريبية، ومقاييس الدراسات الإنسانية التي لا يمكن أن تخضع لأساليب العلوم التجريبية والمادية، لأنها تتصل بالنفوس والأخلاق، كما رفض الفكر الإسلامي مبدأ التقليد الأعمى ومبدأ التبعية وأقر مبدأ الأصالة والتماس المنابع.
تكامل أبعاد الفكر الإسلامي:
وقد قام الفكر الإسلامي في تكامله على أبعاد ثلاثة:
أولاً: عمق زمني: يربط الإنسان بالتاريخ والزمن والواقع وقضايا الحياة.
ثانياً: اتساع مكاني: يربطه بالأحداث العالمية في العالم المحيط به "وهذا هو الشطر الذي يعتبره الفكر الغربي الحديث أساساً وحيداً للفكر" أما الإسلام فإنه يعترف بعلاقة البيئة ولكنه لا يراها العلاقة الوحيدة.
ثالثاً: تكامل موضعي بمعنى وضع الجزء في مكانه من النظرة الكلية الجامعة.
وقد عارض الفكر الإسلامي: "الجمود" الذي يزري بقيمة العقل ويحط من كرامة الإنسان.
وعارض التعصب: الذي يمنع الإنسان من تقليب وجهات النظر المختلفة.
كما عارض التقليد: الذي يجعل الإنسان تابعاً للقديم أو الوافد دون فحص أو تمحيص.
ثم إن الفكر الإسلامي يعارض كل ما يصادم قوانين الكون ونواميس الوجود والحياة ويرى أن كل شيء يبدأ من نقطة ثابتة وينتهي إليها (حركة في إطار الثبات) وأن كل شيء يبدأ صغيراً ثم ينمو حتى يكتمل ثم يعود مرة أخرى (كالطفل والقمر).
وقد رفض الفكر الإسلامي المنطق اليوناني الذي يقوم على القياس والاستدلال النظري وأقام منطقاً جديداً مستمداً من خصائصه وهو المنهج الحسي التجريبي، وأعلن أن القياس المنطقي ليس كافياً وحده في إقامة النظريات خاصة التي تعارضت مع واقع التاريخ، وان الاستشهاد بوقائع غامضة من التاريخ – كما فعلت نظرية ماركس المادية – هو أيضاً زيف.
بين الفكر واللغة:(8/3)
وأسوأ انواع القياس: القياس الفاسد لا تؤيده حقيقة علمية وكشف الفكر الإسلامي عمق الارتباط بين الفكر واللغة وأن "منهج البحث" لأي فكر هو ما يطلق عيله لأنينا اسمن "الأورجانون" يستند أساساً إلى خصائص اللغة ولذلك فإن منهج المعرفة الإسلامي لا يمكن أن يستند إلى خصائص لغة غير اللغة العربية، ذلك لأن لكل لغة منهجها القائم على معانيها ومضامينها، وقد هاجم المسلمون المنهج الأسرسطي، وكشفوا عن أنه قائم على خصائص اللغة اليونانية التي تخالف اللغة العربية، ولذلك فهم لا يقبلون به.
كذلك الأمر بالنسبة إلى المنهج الغربي الوافد ذلك أن الفكر الإسلامي لا يستطيع أن ينطلق إلا من خلال منهج البحث الخاص به المستمد من اللغة العربية أولاً.
كما أعلن عن أن كل نظرية أو مذهب قامت أو قام في مجتمع ما. إنما أقامها أهلها على مقياس مجتمعهم. وفي ظل تحدياته الواقعية والتاريخية معاً. فهي ليست سوى استجابة ظرف وبيئة. وكذلك فهي سرعان ما تتحول مع مرور الزمن إلى أداة عاجزة عن تحقيق الهدف فيضاف إليها ويحذف منها. ولذلك فإن نقلها في حد ذاته إلى بيئات أخرى لا يحقق نتيجة ما، لأنها كالبذر الغريب، لا ينبت في غير تربته، ولقد كان المفكرون المسلمون على يقظة تامة إزاء هذا الملحظ الدقيق.
الديمقراطية والماركسية في أفق الإسلام:
ولقد كان لطرح المذهبين: الديمقارطي والماركسي في أفق الفكر الإسلامي، أبعد الأثر في الاضطرابات التي أصابت المجتمع الإسلامي خلال القرن الماضي؟، فقد اقتسم المذهبان مؤامرة الهدم.
فاحتضنت الماركسية هدم الدين والعقائد والتشكيك في القيم الإنسانية والنفسية والمعنوية.
واحتضنت الديمقراطية هدم الأخلاق ونشر الإباحية والتحلل وتوجيه السلوك توجيهاً يعلي شأن الغريزة وانطلاق العاطفة والشهوات والأهواء.(8/4)
وقد تبين أن جميع أنظمة الغرب، لليهودية العالمية أصبع في وضعها أو في احتوائها أو تعديلها وتفسيرها وتشرها. وقد خضعت إما لمصلحة أصحاب رءوس الأموال، وإما لمصلحة طائفة أخرى من أهل النفوذ والسلطان. والنظام اليهودي، قائم على تبادل المنفعة، والقانون عندهم هو الذي يتمشى مع القانون ولا تعاقب عليه المحاكم. أما النظام الإسلامي فهو قائم على مبدأ "الإيثار المتقابل".
وقد تبين للفكر الإسلامي أن المذهبية الفردي والماركسي يتقاربان في عديد من وجهات النظر، بل إنهما يقومان فعلاً على مفهوم التفسير المادي للتاريخ الذي أوشك أن يكون أساساً للرأسمالية والماركسية معاً وإن كان الغرب لا يعتمدها وحدها في تفسير الوقائع ويضيف إليها التحليل النفسي الفرويدي (أي ماركس وفرويد معاً).
وقد ظهرت نزعات العنصرية تحت اسم القوميات، كمقدمة لظهور العنصرية اليهودية، وكانت اليهودية العالمية تحمل لواء الرأسمالية والاشتراكية معاً، وهي التي خلقت الصراعات والمعارك بين الأمم تحت هذا اللواء أو ذاك، وهي التي حملت النظرية المادية في الغرب والنظرية الإشراقية في الشرق، ومن وراء الهيبز والبوذيين في نفس الوقت، ودعوات العلمانية والبيوصوفية جميعاً.
وهي التي قامت من وراء الروحية الحديثة التي تدعو إلى ظهور إله جديد اسمه "سلفريرش" ومن وراء العقلانية التي تنكر كل ما وراء الحس، وهي التي دعت إلى أن الجنس عملية بيولوجية لا علاقة لها بالأخلاق، وأن الدين شخصي لا علاقة له بواقع الحياة، في محاولة لهدم الأسرة والأخلاق، وأن القول بأنه لا علاقة بين اللباس والأخلاق، أو أن المجرم مريض، وليس مذنباً، أو السخرية بعفاف المرأة والبكارة في محاولة لدفع البشرية كلها إلى الوثنية والإباحية.(8/5)
وهكذا يطغي الفكر البشري في هذا العصر مكتسحاً مفاهيم الخلق والدين والرحمة والكرامة الإنسانية ولم تعد هناك قوة قادرة على مواجهته وصد موجته غير الإسلام: دين الله الحق الباقي، على حمل رسالة التوحيد الخالص إلى العالمين.
إثارة الشبهات حول الإسلام:
ولقد حاولت قوى التغريب والغزو الفكري إثارة الشبهات حول الفكر الإسلامي وانتقاصه بدعاوي عدة: منها... أولاً: وصف الفكر الإسلامي بالذرية (أي بالتجزئة والانفصال).
وهذا خطأ محض، لأن الإسلام إنما يقوم أساساً على التكامل وعلى التقاء العناصر المختلفة في كل موحد وهو في هذا يختلف عن الفكر الغربي القائم على الانشطارية أساساً وعلى الفصل بين الدين والدولة، بين الدين والآخرة، والذي يعلي من شأن المادية.
وقد استمد شبهة الذرية من إنتاج مرحلة الضعف والتخلف، حين علت نزعة جبرية الصوفية ومن قبلها علت نزعة عقلانية الاعتزال، وكلاهما لا يمثل السلام، وبحكم الإسلام بأحدهما وإنما يحاكم لمفهومه الأصيل في عصر قوته وهو المفهوم الجامع الذي يقوم عل أساس ترابط القيم والعناصر، وربما ارتبطت صفة الذرية بالعقل حين يعجز عن النظرة الكلية، التي تلتمس الأبعاد الكاملة ولكنها في الواقع تتعارض مع مفهوم الفكر الإسلامي المستمد من جوهر الإسلام والقائم على التكامل والسطية.
ثانياً: القول بأن الفكر الإسلامي فكر تجريدي..
وهذا خطأ محض، وأمامنا ثمرات الفقه والتشريع والعلوم كلها تكذب هذه النظرية فإن الأصول كلها ترينا واقعية الفكر الإسلامي، وكيف أنه يتناول كل حادث يقع في حينه، ثم يتناوله بالبحث ويضع له الحلول، بل إن الفكر الإسلامي أكثر إيغالاً في الواقعية من الفكر الغربي حيث يتناول الفقه مفردات الحياة اليومية ولا يقتصر على مسائل العبادات كما هو في بعض الأديان.(8/6)
ثالثاً: وصفه بالضعف وأنه مثل التولستوية أو الغاندية ذات طابع الاستسلام، ولا ريب أن الإسلام بعيد عن طابع هذه الدعوة التي تقوم على القضاء على مفهوم الجهاد الإسلامي وإنما يقوم الإسلام على القوة والرحمة معاً، كل في موضعه، ودعاة هذا المذهب يحاولون تصور الإسلام معهم، أو هم يريدونه هكذا، وهم بذلك ينكرون جانباً هاماً من جوانبه فالإسلام يقوم على السلام والتسامح في نفس الوقت الذي يقوم فيه على المقاومة والقوة إذا انتهكت أرضه أو قيمه.
رابعاً: خطأ القول بديمقراطية الإسلام أو اشتراكية الإسلام، فالإسلام ليس منهجاً خاضعاً للأيديولوجيات البشرية وليس مبرراً لأوضاع المجتمعات العالمية المنحرفة الفاسدة، وقد تلتقي بعض الخيوط هنا وهناك مع العدل الاجتماعي الإسلامي او الشورى الإسلامية، ولكن يبقى للإسلام منهجه الكامل الجامع الرباني المصدر، الإنساني الوجهة، الذي يستطيع أن يعايش الأمم والحضارات والعصور إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، دون أن يعتوره نقص أو يحتاج إلى إضافة.
الحسم والفصل:
وبعد. فيجب أن يكون موقفنا من الفكر الغربي أو و(الفكر البشري بعامة) حاسماً فاصلاً، وقد آن الأوان أن تبدأ ؤرحلة المواجهة الفاصلة حتى يعرف كل دارس للفكر الغريب مدى صلته بالفكر الإسلامي أو بعده عنه ومدى سلامته أو عجزه، ومدى صلاحيته أو فساده، ونعجب أن نقرأ في بعض المجلات العربية الإسلامية دفاعاً عن الفكر البشري الوثني المادي.
ولقد بدأ مشرق القرن الخامس عشر "عصر المواجهة" أو عصر الرشد الفكري، وأمامنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين".
ولا ريب أن الغرب يخاف نهضة العالم الإسلامي من خلال الإسلام، ذلك أن الإسلام ليس مجرد نظام من العقائد والعبادات ولكنه منهج حياة ونظام مجتمع ومدنية كاملة.(8/7)
ولما كان الفكر الإسلامي الأصيل (فكر أهل السنة والجماعة) لم يستسلم طوال أربعة عشر قرناً أمام الفكر الوافد الغريب فإنه لن يستسلم في هذا العصر وقد أعلن وجهة نظره واضحة في مختلف القضايا، وكشف زيف الدعوات الهدامة والأيدلوجيات الوافدة، وقد ظل دوماً وجيلاً بعد جيل يواجه هذه النظريات ويدلي برأيه فيها، لا يتوقف عن المعارضة ولا يتقبل كل شيء كما هو بل يرفض قبول كل ما لا يتفق مع أسسه وأصوله مع سماحته المعهودة في القبول والرفض.
عزة المسلم بالله واعتزازه بإسلامه:
يقول ستوك هروجينه: لا أعتقد أن الإسلام يسقط أمام النصرانية لأن المسلم محتاط الاحتياط لمقاومة النفوذ الأجنبي فهو يرى أن النصرانية شيء مضى ويرى تدينه بها خطوة إلى الوراء.
ويقول ولفرد كانتول سميث: ما من دين استطاع أن يوحي إلى المتدين به شعوراً بالعزة كالشعور الذي يخامر المسلم. إن الغربي لا يفهم الإسلام حق الفهم إلا إذا أدرك أنه "أسلوب حياة" تصطبغ به معيشة المسلم ظاهراً وباطناً وليس مجرد أفكار وعقائد يناقشها بتفكيره.
ويقول بارتلمي سان هيلر: أن الإسلام قد أحدث رقياً عظيماً جداً، فقد أطلق العقل الإنساني من قيوده التي كانت تأسره حول المعابد، وبين أيدي الكهنة فارتفع إلى الأولى واضطر العالم أن يرجع إلى نفسه وأن يبحث عن مستوى الاعتقاد بحياة وراء هذه الحياة وأن تحريم الإسلام للصور في المساجد قد خلص الفكر الإسلامي من وثنية القرون الأولى.. والعودة إلى خالقه".
وهكذا شهد علماء الغررب بأصالة الإسلام وفساد الفكر البشري ولكن القوى التي تستهدف السيطرة على العالنم بعد تدميره أخلاقياً هي التي تعمل على طرح الفسلفات والوثنيات والمذاهب الهدامة والماديةة في أفق الفكر الإسلامي باعتبار الإسلامك هو العقبة الوحيدة والصخرة الكبرى أمام تلك المؤامرة الخطيرة. وهذا كله إجمال له تفصيل.(8/8)
الفنون والمسرح
الأستاذ أنور الجندي
طرحت المستحدثات الوافدة في أفق فكرنا الإسلامي مفاهيم جديدة حاولت أن تكسبها طابعاً مغايراً للأصالة وللقيم والأعراف الإسلامية، وأخطر هذه المفاهيم ما يتصل بالفن والقصة والمسرح والموسيقى والغناء.
وقد اجتاحت بلاد الإسلام في السنوات المائة الأخيرة هذه الظواهر تحت اسم التسلية وتزجية الفراغ والترويح عن النفس، وبمفهوم إدخال السرور أو تخفيف متاعب الحياة أو ذهاب الغموم، دون أن تثبت في أعماق النفس الإسلامية قاعدة تهدف إلى تحويل الأعراف وتغيير القيم أو خلق طوابع جديدة من الإباحية والتحلل.
غير أن الزمن لم يلبث أن كشف عن أن تلك المسليات الساذجة إنما كانت تحمل في طياتها خطراً داهماً وتستبطن فلسفات خطيرة وتستهدف تحطيم مقومات أخلاقية وتستبطن فلسفات خطيرة وتستهدف تحطيم مقومات أخلاقية عريقة في العلاقات الاجتماعية بين الرجل والمرأة والشباب والفتيات والأسرة والمجتمع. وإنها تقوم على دعاوي مدمرة تسخر من كل الأصول الأصلية لفكرنا وعقائدنا. هذه التي قامت عليها مجتمعاتنا منذ أربعة عشر قرناً. وهي تستمد مفاهيمنا الأساسية من الفكر اليوناني الوثني القديم، بطابعه المادي القائم على التجسيم وعبادة الصور والإعجاب بالأجساد وتقديس مظاهر الجمال الحسي والقوة، والتي تدعو إلى إيقاد العواطف وإشعال الغرائز أو الإنطلاق وراء الذات، وهي في هذا كله تخالف مفهوم الإسلام الأصيل القائم على الإعجاب بالفكرة والجمع بين الروح والمادة، وتبريد العواطف وحماية الطبيعة الإنسانية من الصراع أو الانحلال.
هدف القصة:
ومنت هنا فقد تكشف بعد من خلال كلمات الأغنية ومن خلال حوار المسرحية ومن خلال أهداف القصة أن الغرض إنما يرمي إلى القضاء على الطبيعة الإسلامية للنفس البشرية وتحويلها إلى نفس أخرى وثنية إباحية لا هدف لها إلا المطامع والأهواء والاستجابة للغرائز.(9/1)
وقد استشرى هذا الخطر فأصبحت تلك المفاهيم التي تضعها المسرحيات أو حوار القصة أو كلمات الأغنية وكأنها مسلمات تجري على الألسنة. وتحاكم بها الأمور والعلاقات سواء بالنسبة للأسرة أو بين الرجل والمرأة زأخذت تحل شيئاً فشيئاً مكان القيم الأساسية التي رسمتها العقيدة والأخلاق وقد واجه الفكر الإسلامي هذه الظاهرة الخطيرة كاشفاً عن وجهة نظر الإسلام: هذا المفهوم الذي يقوم على "استحالة التناقض مع الفطرة" فإذا كانت الفنون من روح الفطرة وجب ألا تخالف أو تناقض دين الفطرة: دين الإسلام في شيء، فإذا خالفت الفنون الدين في أصوله – كما يقول الدكتور محمد أحمد الغمراوي – ودعت صراحة أو ضمناً إلى رذيلة من أمهات الرذائل التي جاء الدين لمحاربتها، وعاقت الإنسان عن أن يفعل بالفضائل التي جاء الدين لإيجابها على الإنسان حتى يبلغ ما قدر له من الرقي في النفس والروح، إذا خالفت الفنون الدين في شيء من هذا أو في شيء غير هذا، فهي بالصورة التي تخالف بها الدين فنون باطلة، فنون جانبت الحق وأخطأت الفطرة التي فطر الله عليها الناس والخلق.
ومفهوم الفن في الإسلام مباين لمفهومه في الثقافات والحضارات الأخرى: قوامه الأخلاق وطابعه التوحيد، يتسامى بالغرائز بالنفس الإنسانية إلى الكمال دون أن يبعد عن الواقع.
الفن في الإسلام:
والفن في نظر الإسلام: أداة لبيان جمال الصنعة الإلهية ووسيلة الإسعاج الروحي والنفسي بتحرير الإنسان من عالم الأهواء والغرائز وإطلاقه في نظرة حرة إلى الكون والوجود يعرف فيها قدرة الله تبارك وتعالى وعظمته ويزداد بها إيماناً.(9/2)
وقد كان الفن الإغريقي المادي الوثني جعل الأولوية للتماثيل المجسمة إعجاباً بالأجساد وعبادة لصور الجمال البدني ومظاهر القوة، ولكن الفن الإسلامي – مستمداً مقوماته الأساسية من القرآن والسنة – يجعل البيان والشعر والأدب في مقدمة قائمة الفنون، الكلمة البليغة، والفكرة الموجية، وفي ذلك انتقال من عالم المادة إلى عالم الفكر، والتأمل لأوسع العوالم، والتفكر في خلق الله أعظم معطيات العقل والروح: {ن والقلم وما يسطرون}.
وبذلك أصبح رائد الفن: البيان الذي يتمثل في أسمى صوره في القرآن الكريم وبذلك فقد دفع الإسلام الفكر البشري انتقالاً من مفهوم الماديات في الفن مفهوم المعنويات والماديات في إطار جامع متكامل وبذلك فقد حرر البشرية من مفهوم المادية الخالصة التي تقدس الجسد والشهوات والغرائز والوثنيات وتقيم لها المهرجانات والطقوس ودفع الإسلام البشرية إلى الانتقال من تجسيد البطولة في صورتها المادية إلى تكريم عمل الإنسان نفسه.
لا صراع بين الإله والإنسان:(9/3)
ومن هنا فإن أبرز سمات الفن الغربي لا تجد في مجال الفكر الإسلامي مجالاً لها، فالمسلم لا يعبد الجسد عبادة وثنية بحيث تقدم له القرابين، وكل ما يتصل بذلك من أساطير الحب والجمال عند الإغريق، وهي حافلة بالمباذل لا تجد في أفق المجتمع الإسلامي قبولاً، كذلك فالإسلام لا يقر الصراع بين الإله والإنسان أو بين القدر والإنسان على النحو الذي يقوم عليه الفن الغربي، ولا يؤمن المسلم بأن الإنسان يثبت ذاتع بمصارعة القدر والإله ولا بأن البطل الصالح يتحطم على يد القدر والآلهة، وكل هذه المعاني الماساوية لا مصدر لها في الغسلام ولا في الفكر الإسلامي، لأنها مستمدة من فكرة الخطيئة النصرانية، وكذلك فإن المسلم لا يؤمن بتعدد الآلهة ولا تجسيد الإله في صورة وثن حسي ملموس كالتماثيل العديدة في العقائد العربية في ذلك الخليط العجيب بين النصرانية والهلينية، كما ان المسلم لا يؤمن بعبادة مادة الطبيعة أو المحسوسات.
ومن هنا فإن مفهوم الفن في الإسلام محرر من كل هذه القيم التي يقوم عليها الفن العربي والتي تتعارض أساساً مع الإيمان بالله الواحد، ومن ناحية أخرى فإن الإسلام لا يقر تجسيد البطولة في صورة مادية، ليس فقط حفاظاً على مفهوم التوحيد من خطر الاتصال بالتماثيل والأصنام التي كانت تعتبر عبادات ما قبل الإسلام، ولكنه ارتفاع بالنفس الإنسانية من أن تتمثل في مفهوم مادي بينما جاء الإسلام محرراً للبشرية من التجزئة بين الماديات والمعنويات.
الأمم لا تهزم:(9/4)
هذه هي وجهة نظر الإسلام في الفن بصفة عامة ونحن نعرف أن الأمم لا تهزم إلا من انحراف فنونها وآدابها وخروجها على الضوابط والقيم، ولقد دمرت الفنون المحرمة حضارات اليونان والرومان والفرس والفراعنة، وستدمر الحضارة الغربية القائمة، فتلك سنة تبارك وتعالى التي لا تتخلف لكن المجتمعات التي تخرج عن الضوابط والحدود التي رسمها لها الدين الحق، وإن الفنون الغربية اليوم تسير في نفس الطريق الذي سار فيه الفن الروماني والوثني هادماً لكل القيم متحللاً من كل الضوابط قائماً على الإباحية والشذوذ والتشاؤم.
وقد ورثت الحضارة الغربية مفهوم الوثنية ومفهوم النصرانية المؤلهة للإنسان وورثت معها قيمها وأبرز هذه القيم نبذ "الأخلاقية" ومن ثم طغت فكرة الفن للفن على المفاهيم الأخلاقية السائدة، واشتدت الحرب عندما شرع حماة الفضائل في إدانة "الفن" على أنه لعب وحس شهواتي يحول بين الإنسان وبين الاستقامة، وفي مفهوم الإسلام أن الفن والأدب يقوم على الالتزام الأخلاقي ويتحرك في دائرة كاملة جامعة ولذلك لم يقم أي صراع في الفكر الإسلامي بين الفن والأخلاق أو بين وحدة الفن والأخلاق، أو انفصالهما لأن مفهوم الفكر الإسلامي قائم أساساً على التكامل الجامع، فلا الفن يستقل عن الأخلاق، ولا علاقة الفن بالأخلاق، علاقة خضوع أو قسر أو إيقاف له عن انطلاقته. وليس في تحرك الفن الإسلامي في دائرة الأخلاق ما يحول بيسنه وبين تحقيق هدفه من إبراز حقيقة الشر والخير، بل هو في التحرر من إبراز الصورة في قالب الإغراء بها والحض عليها المجتمع ولا يحاول أن يبرز الوذيلة أو يهدم نظم الدين والعدالة والتوحيد.
والفن الإسلامي متحرر من المادية الخالصة، جامع بين الروح والفكر، بعيد عن مفهوم الوثنية الإباحية.(9/5)
ولما كانت الفنون المعاصرة تقوم في أساسها على القصة فإن هذا يقتضينا الكشف عن أن هذا الفن عربي خالص مستحدث، يختلف اختلافاً كبيراً عما عرف في الأدب العربي من فنون، وقد بدأت القصة في الأفق العربي والإسلامي مترجمة من الآداب الغربية تتغير فيها أسماء الأفراد والأماكن ويبقى مضمونها في الحوار والأحداث ولذلك فقد حملت مفاهيم غريبة عن النفس الإسلامية واستجابات مباينة لروح المفاهيم الإسلامية العربية، وخاصة في المسائل الكبرى كالخيانة الزوجية واضطراب الأسرة والموقف من اليتامى والفقراء وعلاقة الجنس بالمال، وعديد من هذه المسائل التي يقف منها المفهوم الإسلامي موقفاً مغايراً تماماً لتصرفات المجتمع الغربي القائم على الأنانية والحقد والإباحية.
القصة فن دخيل:(9/6)
ولقد سارت القصة المكتوبة بالعربية في هذا الاتجاه فأكدت أنها فن دخيل لا يتفق والقيم العربية الإسلامية، وأن النفس العربية قد عبرت عن نفسها بأساليب أخرى ليست القصة واحدة منها، ولقد نقلت من آداب الأمم الغربية أسوأ آثارها ولم يرع المترجمون حالة البلاد ولا روح الثقافة، ولا الذوق الأدبي وكان لنقل هذه القصص أبعد الآثار في إفساد الأذواق والأخلاق لأجيال متعددة فقد طرح ركام مظلم فاسد من الحكايات الخرافية والإباحية والقصص البوليسية وكلها حديث عن بيوت الفساد وتجار الخمور، ذلك أن الكتاب المارون قد أغرقوا الأدب العربي بسيل من القصص يطفح بالإباحة والفساد أمثال نجيب الحداد وإلياس فياض وفرح أنطون وطانيوس عبده وإلياس أبو شبكة وخليل ببيدس وأمين الحداد، وقد ألقت هذه القصص إلى صغار المتعلمين وفتيات الأسر من وراء الجدران قدراً كبيراً من الرؤى الجنسية المسرفة وقدراً من اللذات الخيالية التي تتمثل في صور الترف وملامح القصور والرياش والعطور والخمور مما كان له أثره البعيد في خلق ظاهرة جديدة في المجتمع الإسلامي في ظاهرة وباء الحلم الكاذب الذي يشقي ويبعد عن الواقع وكان لهذه الأكاذيب أثرها السيء في نفوس الشباب الغريز والفتيات مما أفسد نظرتهم إلى الحياة وحال بينهم وبين رؤية الواقع وانتقلت هذه الرؤى من سطور المطبوعات إلى مشاهد مرئية على الشاشات في كل بيت.
ولاشك الآن أن هدف القصة في الآداب الغربية هو إعطاء الشعوب جرعة من الخيال للتعويض عن الواقع، وأن القصة الخرافية الوثنية هي اللذة الكاذبة التي تعطي الوهم بدلاً من إعطاء الحقيقة. أما المسلم فإنه لا يحتاج إليها لأنه يعيش في جو من الوضوح والصراحة بين أوامر الدين ونواهية.(9/7)
لقد عرف الأدب الإسلامي العربي "الصدق" القصصي فيما رؤى القرآن من قصص، وما وجه إليه الفكر من التحرك داخل الإطار الواقع لا يغرق في إدخال الشر والإباحة. ولذلك فقد كان الإسلام حريصاً على أن يعيش المسلم في واقعه وأن لا يتخذ وسائل الخداع الكاذبة المخدرة سبيلاً إلى إخراجه إلى عالم الأوهام.
نحن نقص عليك نبأهم بالحق:
ولقد قدم القرآن الكريم للمسلم القصة الصادقة بعيداً عن الأسطورة والخيال الوثني والوهم. كذلك فقد حرص علماء المسلمين على تحرير سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم من الأساطير والخرافات. التي من شأنها أن تحجب الحقيقة عن الناس. وما زال مفهوم القصة الإسلامي في اللغة العربية وهو الإخبار بالواقع المجرد، وتتبع الآثار الحقيقية، ولا يفهم منه تأليف الحكايات أو تلفيق الوقائع أو اصطناع الأخبار المكذوبة التي تصدر عن الكبت والظلم، وإذا كانت كلمة "القصة" في اللغة العربية تعني الواقع الملموس فإن معناها في اللغات الغربية مستمد من مدلول الخرافة التي عرفها العرب قبل الإسلام بقولهم أسطورة وأساطير، وقد أطلقت في القرآن الكريم على الخرافات التي ينكرها الإسلام في مقابل ما أمنوا به من أحسن القصص {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى} يوسف: 111، ولقد كشف كثير من الباحثين عن التعارض الواضح بين "الفطرة" التي هي سمة الأدب الإسلامي العربي وبين "القصة" التي عرفها الأدب الغربي وجرى تقليدها في الأدب العربي الحديث.
ومن هنا فإن النقد الأدبي الإسلامي المصر يرفض أمثال قصص شهرزاد وألف ليلة وليلة وغيرها من الأساطير لأنها لا تمثل مفهوم الإسلام الصحيح، وغاية ما يقال في هذا أن الإسلام عزل المجتمع الإسلامي عن الإباحيات والخياليات المغرقة والخرافات وطبع الفكر الإسلامي والمجتمع بطابع التوحيد والفطرة والواقعية بعيداً عن المغالاة أو الإسراف.(9/8)
أما المسرح فإنه دخيل وافد وليس فناً أصيلاً لا في الأدب العربي ولا في المجتمع الغربي ولا في المجتمع الغربي الإسلامي. وقد صدق زكي طليمات حين قال: "أنه بالرغم من انقضاء قرن وربع قرن ما برح يبدو لرجل الشارع وكأنه بضاعة مستوردة من الخارج أو هو زي من أزياء التعبير لا عهد به. وبكنه يتعطاه من باب التظاهر بالإقبال على كل جديد، ولعل أبرز دوافع الاستجابة هي عامل التسلية وفضول المعرفة والتجربة، إلا أنها دوافع يجمع بينها مظهر واحد تلحظه العين وهو "قزقزة" ثمار الفول السوداني واللب.
وعندنا أنه ليس رجل الشارع فقط بل هي الطبيعة الأعمق التي ترى في المسرح شيئاً معارضاً لفطرتها المستعلنة في البيان العربي بغير حاجة إلى هذه الأساليب المعقدة ويقول أن أعمق العوامل لمعارضتها للفطرة الإنسانية وللطبية الإسلامية أنها صورة وهمية ليست من واقع الحياة وأنها تستعمل النصوص التاريخية بغير أمانة ويرى أصحاب هذا الشأن يأسهم من نجاح هذه المحاولة، ذلك أن القالب الشكلي للمسرحية "أجنبي" من كل نواحيه إذ أنه نقل نقلاً (فوتغرافياً) سريعاً من غير تمعن في المسرحية الغربية التي استوردناها مع كثير من النحل الغربية في أواسط القرن الماضي، وبالرغم من المحاولة التي جرت خلال أكثر من مائة سنة على استنبات المسرح في التربة العربية فقد بقيت المسرحية على قالبها: غريبة المذاق عن رجل الشارع.(9/9)
ويقول زكي طليمات: أن من أبرز الأسباب التي تصرف الذعنية الإسلامية عن الأخذ بأسباب التعبير عن طريق المسرحية للدعاية والتفسير: هو أن العقيجة الإسلامية على وضوح أركانها وجلاء تعاليمها ومنطق أحكامها عقيدة لا يشوبها لبس ولا غموض يتطلبان تحايلاً في التفسير، فالواحدانية لا تقبل التأويل ولا تحتمل الشرك ولبس هناك أرباب ولا أنصاف أرباب كما هي الحال في الوثنية، كذلك لا توجد عقدة يتعذر فهمها إذ لا يوجد أب ولا ابن ولا روح قدس، كما هو الحال في العقيدة النصرانية، وشعائر الإسلام على بساطته غنية عن تقشف ظاهر فليس في حاجة إلى عازف يعزف على آلة موسيقية إذ منشد ينشد نداءات كهنوتية أو راقص يدور على نفسه، مثل هذه العقيدة القوية في معنوياتها البسيطة في شعائرها القائمة على مناهضة كل مظهر من مظاهر تعدد الأرباب وما يتصل به من فنون السحر لإحياء طقوسه ومناسكه، لا يمكن أن يتخصص عن فن تمثيلي.
فإذا أضفنا إلى ذلك أن العرب بطبيعة عقلهم ينظرون إلى الكليات عرفنا إلى أي مدى نجد التباين الضخم بين الأدب العربي والآداب الأجنبية في مجال القصة والمسرح، ومن ناحية أخرى فإن الصراع الماساوي أو الدرامي الذي هو عقدة المسرحية أو القصة لا يجد بينه طبيعية في إيمان المسلمين العرب ومعتقداتهم، ذلك أن البطل الماساوي هو في صراع دائم مع الآلهة والقدر، أما المسلم بحكم وحدانيته فإنه لا يستطيع أن يتصور صراعاً مع القدر والآلهة على نحو ما كان تصوره اليونان الذين يؤمنون بقوى متعددة ويؤمنون الحرب مع القدر وإن كانت آخرتها الهزيمة المؤسية فإنها حرب تدل على تجبر الإنسان.(9/10)
إن الصراع مع الآلهة لا يستقيم أصلاً مع التوحيد، أما الإنسان المسلم فهو في سلام مع الله الواحد الأحد. ولاريب أن رؤيا العربي المسلم واضحة غير مغيبة ولا يشوبها سحاب من الغمام وليست بين بين، وليست في صراع مع الطبيعة وكل هذه الرؤى تنعمس في الأدب الإسلامي العربي وهي مضادة لرؤية الغربي.
ويقول الأستاذ علي أحمد باكثير: إذا لم يوجد المسرح عند العرب في جاهليتهم فأحرى ألا يوجد لديهم بعد الإسلام الذي قضى على تلك الوثنية وأعاد إليهم دين التوحيد كأصفى ما يكون، وتقديس الأشخاص من مظاهر الوثنية، والإسلام ينهى عن ذلك نهياً تاماً مما أدى إلى عدم ظهور "الدراما" لألأن نشأة الدراما في عهودها الوثنية كانت قائمة على تقديس من كانوا ملوكاً أو أبطالاً ثم ألهوهم بعد وفاتهم.
ونقول: إن من أقوى عوامل التعارض بين مفهوم الفن في الإسلام وبين المسرح هو روح الإباحية الواضحة في الآداب اليونانية – حيث نشأ المسرح – والتي ورثها الأدب الغربي وهي مظاهر يصفها أنيس فريحة بأنها "تبلغ حد الفسق والعربدة ذات الطقوس، تحت شعار البغاء المقدس والذي يتضمن بيع النساء أجسادهن في أيام معدودات وشرائح وذبائح لعشتروت". هذه الصورة المقززة التي حاربتها الأديان وألغاها الإسلام إلغاء تاماً هي ثمرة الفنون المسرحية الغربية، هي تراث الأسطورة الذي تحاول أن تجدده المسرحية الغربية وهو بعيد كل البعد عن القيم التي قدمها الإسلام وحرر بها الإنسان من عبودية الوثن وعبودية الإباحية ورفعه إلى مستوى الكرامة، قد رفض العرب عندما ترجموا اليونانيات هذه الألوان من المسرحيات والملاحم. ولكن القوى الأجنبية استطاعت في العصر الحديث أن تزج بهذه السموم في الآداب العربية لتخلق ظاهرة القلق والتحلل التي ظهرت نتائجها في المجتمعات الإسلامية في العصر الحديث.(9/11)
وبالجملة، فقد كانت هذه الفنون المختلفة ومنها القصة والمسرح دخيلة على الأدب العربي والفكر الإسلامي لأنها نتاج مجتمعات أخرى وقائمة على ظروف وأوضاع لم يتعرض لها المجتمع الإسلامي القائم على روح التوحيد الخالص والذي يعتبر الأخلاق جزءاً لا يتجزأ من العقيدة الدينية.(9/12)
القاديانية "خروج على النبوة المحمدية"
الأستاذ أنور الجندي
عرض المستشرق بولس براون في كتابه (طوالع الإسلام) إلى حركات التجديد والإصلاح التي ظهرت منذ القرن الماضي في أنحاء العالم الإسلامي من الهند إلى إيران إلى مصر، وقد اعتبر اليهائية والقاديانية حركتين إصلاحيتين في الإسلام وقد تابعه في هذا بعض المفكرين المسلمين.
ولا ريب أن هذا المستشرق ومن تابعه كانوا مخطئين في هذا التصور، وإن كنا لا نخلي "الاستشراق" من تبعة العمل لدفع هذه الحركات الهدامة إلى الأمام وحتضانها، وإعداد مخططتها المسومة لخداع الشعوب الإسلامية، وإشاعة روح "التزييف" في فكرها وإثارة الشبهات حول منهجها الأصيل. ومن يتابع هاتين الدعويين المبطلتين يعرف أنهمنا استهدفتا ضرب حركة اليقظة الإسلامية التي كانت قد قطعت مرحلة كبيرة في طريق التماس المنابع الأصيلة لجوهر الإسلام بمفهوم التوحيد الخالص، وإن الحركتين قد نشأتا في أعظم قيمه الأساسية وهي "فريضة الجهاد" وقد كشفت الأبحاث التاريخية عن علاقة أكيدة بين هاتين الدعوتين وبين الاستعمار والصهيونية والهندوكية.
وأنهما حاولتا بث الفتنة وزعزعة العقائد، وإثارة الشبهات والشكوك وإضعاف شوكة المسلمين وتثبيط عزائمهم في المكافحة ضد النفوذ الأجنبي والكيد للإسلام، وتضليل المسلمين عن حقائق عقيدتهم، وتفريق وحدتهم، ولم يعد هناك ريب في أن هذه الطوائف الدخيلة، تلقى المعونة والتوجيه من المستعمرين والمبشرين واليهود، وهم يعدونها لما أسموه "حرب الإسلام من الداخل".(10/1)
وقد شنت الصحف الغربية في الفترة الأخيرة (أواخر عام 1978 م) حملات جديدة مكثفة لإحياء دعوة القاديانية وذلك بنشرها لإعلانات تقول: "بأن السيد المسيح عليه السلام لم يصلب حتى الموت كما يقول المسيحيون، أو يرفع إلى السماء دون أن يصلبه اليهود كما يقول المسلمون، ويمضي إعلان القاديانيين فيقول: إن السيد المسيح قد عوفي من جراحة بعد ذلك وغادر (جودية) وهو الاسم الذي يطلقه اليهود على الضفة الغربية من فلسطين ليبحث عن قبائل بني إسرائيل الضالة، حتى وصل إلى الهند وهناك عاش طويلاً جداً ثم دفن في كشمير.
ولا ريب أن هذه محاولة جديدة لإعادة توجيه الأذهان إلى هذه الطائفة، بعد أن أصيبت في السنوات الأخيرة بالهزيمة الساحقة، عندما أعلنت حكومة باكستان أنها طائفة غير إسلامية وقد أشارت هذه الأخبار أن هناك مؤتمراً دعى إليه مئات من المضلين يستهدف بالذات إلى اجتذاب المسيحيين إلى صفوف هذه الطائفة المارقة التي بدأت تعاني من التدهور.
القاديانية:
ظهرت القاديانية بعد أن عجزت السلطات البريطانية عن إخضاع المسلمين في الهند، عن طريق الحرب والسلطان العسكري والسجن والتشريد والنفي والقتل. فقد عمد الاستعمار البريطاني إلى محاولة إخضاع المسلمين بالتغريب والغزو الثقافي، وحاولت أن تقيم طائفة من المسلمين، تدين لها بالولاء وتضرب وحدة المسلمين وجماعتهم وتمزقهم إلى فرق، فأعدت غلام أحمد القادياني لحمل لواء هذه الدعوة التي بدأت بإدعاء الخروج عن مفاهيم التوحيد الخالص وانتهت بإدعاء النبوة، وقد مكنت لهم بريطانيا في الهند في إمارة خاصة تسمى "الربوة" داخل باكستان، وقدمت منهم من تسنهم عليا المناصب السياسية، ومن ثم تولى كبارهم مناصب الدولة والجيش، وأصبحوا عاملاً خطيراً في مواجهة أهل السنة والجماعة، وضرب مفهوم التوحيدالخالص.(10/2)
وقد كان أبرز ما دعا إليه القادياني: مهاجمة فريضة الجهاد، والدفاع عن النفوذ الأجنبي باعتباره الطاعة لأولي الأمر، وقد رحبت الهندوسية بالقاديانية، ودافعت عنها، وكان من أخطر دعاوى القاديانية رأيهم الزائف حين جاءوا بتفسير مبتدع لختم النبوة خالفوا به تفسير المسلمين المتفق عليه بينهم، من أنه صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين فلا نبي بعده، ففسروا خاتم النبيين، بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء أي "طابعهم"، فكل نبي يظهر بعجه تكون نبوته مطبوعاً عليها بخاتم تصديقه صلى الله عليه وسلم، ويكفرون من يخالفهم ويكفرون جميع المسلمين الذين لا يؤمنوا بكلام القادياني.
وقد إدعى القادياني أنه أوحى إليه بما يربو على عشرة آلاف آية، وأنه مبعوث بالرسالة بعد محمد صلوات الله عليه وسلم وأن ما ينزل عليه وحي كالقرآن والتوراة والإنجيل، وأن روح المسيح حلت فيه، وأن الحج فريضة على المسلمين إلى قاديان، وأنها بلدة مقدسة كمكة والمدينة، وأنها المكنى عنها في القرآن بالمسجد الأقصى.
(عن كتاب براهين أحمدية ورسالة التبليغ).
وكان غلام أحمد القادياني قد بدأ دعواه 1888 م حيث أسس مدرسة في قاديان لتعليم أبناء شعبه وأصدر مجلة لنشر مذهبه سماها مجلة: "الأديان" وقد مرت دعوته بعدة مراحل، كانت آخرها إدعاءه النبوة وأنه المسيح المنتظر.(10/3)
وقد قاوم رجال حركة اليقظة الإسلامية هذه الدعوى منذ اليوم الأول، وكشف العالمان البارزان: المودودي والندوي فساد هذه النخلة، وزيف فكرتها المسمومة وكشفا عن حقيقة موقف الإسلام حيث يعتقد المسلمون أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم المسلمين، وأنه لا نبي بعده إلى يوم القيامة، وأن القادياني قد فارق الإجماع وخالفه، حين فسر "خاتم النبيين" بأنه طابعهم وبأن كل نبوة لا يكون مطبوعاً عليها بخاتمه وتصديقه صلى الله عليه وسلم تكون غير صحيحة، وكشف علماء الإسلام أن هناك مخالفة تامة يبن المسلمين وبين هذه النخلة في كل شيء: في الله وفي الرسول وفي القرآن وفي الصوم وفي الحج والزكاة وهو خلاف جوهري في كل شيء، وقد كانت دعوى القادياني الخطرة، التي جعل من إدعاء النبوة مقدمة لها، هي إبطال شريعة الجهاد، والدعوة التي تقبل النفوذ البريطاني المسيطر على البلاد وإعلان الولاء له، وبذلك تكشف هدف هذه النخلة المبطلة وهو خدمة الحكومة البريطانية، وكل من يراجع كتابات غلام أحمد في مؤلفاته، يجد أسلوباً ساذجاً في الأداء وضالاً في المضمون، مثل قوله "إنني صادق كموسى وعيسى وداود ومحمد، وقد أنزل الله لتصديقي آيات سماوية تربو على عشرة آلاف سماوية تربو على عشرة آلاف، وقد شهد لي القرآن وشهد لي الرسول وأن من يخالفني فهو نصراني يهودي مشرك من أصحاب النار".
فمثال هذا الكلام لا يقنع أقل الناس ثقافة، ولا يستطيعأن يرقى لأن يكون فكراً عالمياً يمتلك النفوس ويهز الأرواح بل أنه يكشف عن زيف صاحبه وفساد هدفه، بل إن غلام أحمد القادياني قد شهد على نفسه في كتباباته بأنه تابع وخادم وعميل للحكومة البريطانية، حيث يقول في ختام كتابة (شهادة القرآن):(10/4)
"قضيت معظم عمري في تأييد الحكومة الإنجليزية ومؤازرتها، وألفت في منع الجهاد ووجوب طاعة أولي الأمر من الكتب والنشرات ما لو جمع بعضه إلى بعض لملأ خمسين خزانة، لقد ظللت منذ خحداثة سني وقد ناهزت اليوم الستين، أجاهد بلساني وقلمي لأصرف قلوب المسلمين إلى الإخلاص للحكومة الإنجليزية،ولما فيه من خيرها والعطف عليها وأنادي بإلغاء فكرة الجهاد التي يدين بها معظم جهالهم، والتي تمعنهم من الإخلاص لهذه الحكومة".
وقد كشفت العلامة المودودي في كتابه ما هي القاديانية فساد دعوى القادياني حين قال: "لقد أمدت حركة الميرزا غلام أحمد الحكومة الإنجليزية بخير جواسيسها لخدمة مصالحها الاستعمارية، وقد كانوا أصدقاء أوفياء وكانوا موضع ثقة الحكومة الإنجليزية وقد خدموها في الهند وخارج الهند، وبذلوا نفوسهم ودماءهم في سبيلها بسخاء".
وعن الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه "القادياني والقاديانية" يقول غلام أحمد في آخر كتابه شهادة القرآن: "إن عقيدتي التي أكررها أن الإسلام جزئين: الجزء الأول إطاعة الله، والثاني إطاعة الحكومة التي بسطت الأمن وآوتنا في ظلها من الظالمين، وهي الحكومة البريطانية" وقد أمدت هذه الفئة الحكومة البريطانية بخير جواسيس لمصالحها وأصدقاء أوفياء ومتطوعين متحمسين موضع ثقة الحكومة.
الأحمدية: خدعة مضللة:
توفى غلام أحمد 1908 م ثم انقسمت الجماعة الضالة إلى فرقتين، انتخب أتباعه: حكم نور الدين، ثم أنشأ محمد علي اللاهوري جماعة منفصلة في لاهور بعد أن اتخذت جماعة قاديان ابن القادياني: محمود بشير الدين رئيساً لها.
وقد حاولت هذه الجماعة اللاهورية أن تدعي أنها ليست على ضلال القاديانية وحاولت أن تنكر دعوى نبوة غلام أحمد، أو إدعاؤه النبوةى، ونشروا كتبه الأولى وحجبوا كتبه الأخيرة، وهي محاولة خادعة لتحسين الظن به توطئة لأتباعه.(10/5)
ويقرر باحث معاصر للأحداث هو (عبد الحميد السيد) أن دعاة القاديانيين اجتمعوا على محاولة استنقاذ الدعوى، وكان اختيار محمد علي اللاهوري لأنه مقرب من رجال الاستعمار البريطاني في الهند، وأريد له إصلاح الأمر بعد أن كره المسلمون ما أدعاه غلام أحمد وأنكروه، وذلك في محاولة جديدة لجمع القلوب حول باطلهم، فأدعى اللاهوري: أن غلام أحمد لم يكن غير مصلح من المصلحين وأنه لم يدع النبوة، وأعادوا طبع كتبه في الدور الأول.
يقول أبو الحسنات محمد محي الدين الهندي: لما رأى القاديانيون التشدد في الفضاء على فتنهم، بعد أن حاصرهم المسلمون في بلدتهم الصغيرة قاديان، وقاوموهم مقاومة شديدة، يجأزا إلة ظل الحكومة البريطانية، وتعهدوا بالدعاية لها والدفاع عنها، فانتهزت بريطانيا الفرصة لتفريق كلمة المسلمين عن طريق تشجيعهم، فمهدت الطرق للتبشير بالقاديانية على أساليب المبشرين، وركزوا على الدعوة لإلغاء الجهاد الإسلامي، والإدعاء بأن الإسلام لم يعد دين جهاد، بل صار الآن دين السلام، وسعوا إلى إيجاد السلام بين الإسلام والمستعمرين، وفي هذه المرحلة اتسع نطاق الدعوة تحت اسم الأحمدية، ووصل إلى بلاد كثيرة كالأفغان وغيرها في آسيا، ووصل إلى قلب أفريقيا وقد لمس الدكتور حسن عيسى عبد الظاهر نشاطها الخطير في نيجيريا وألف كتاباً في دحضها.(10/6)
يقول السيد أبو الحسنات: أنهم خداعاً للعامة قد اتخذوا سبيل التقنية، وعمل محمد علي اللاهوري الذي يلقبه المسلمون في الهند (عبد الله بن أبي سلول) الثاني، تشبيهاً برئيس المنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان من أبرز أنصار دعوة القادياني الصريحة حتى مماته وكان من أبرزهم في الخطابة وأبرعهم في الكتابة، فهو الذي ترجم القرآن إلى اللغة الإنجليزية وفسره وحرفه وغير معانيه في مواضع شتى، وفق تفسير متبوعه (غلام أحمد) وزعم أن نحلة القاديانية هي الحقة، فكل من قال لا إله إلا الله فهو مكلف شرعاً بإتباع القادياني وقد حوى تفسيره كثيراً من الشبهات والسموم، منها تفسيره لسورة الفاتحة، حين قال: إن الذين أنعم عليهم هم القاديانية والمغضوب عليهم هم المسلمون، وقال أن مريم تزوجت وزوجها يوسف النجار، وأن قول "لم يمسسني بشر" محمول على العرف الخاص، وأنكر أن سيدنا إبراهيم ألقي في النار، وأدعى في تفسيره بأنه اغترفه من فيض القادياني، وقال أنه هو المسيح وكذلك أنكر معجزة شق القمر، ولا ريب أن مراجعة ترجمة القرآن التي قدمها محمدعلي اللاهوري، تكشف عن سموم كثيرة معارضة لمفهوم أهل السنة والجماعة وأنها حاولت تقديم فلسفة القاديانية كاملة، وللاهوريين قولان: قول للمسلمين أنه مصلح، وقول لإخوانهم أنه نبي وفي السنوات الأخيرة عمدوا إلى إصدار ترجمة محرفة لمعاني القرآن، ظهرت هذه الترجمة في هولندا محشوة بكثير من التبديل والتغيير والتحريف والتشويه لمعاني كتاب الله، مع استغلال تفسير القرآن في خدمة أغراضها ونواياها وتنفيذ مؤامراتها الحاقدة إلى الإسلام لمحاولة تشكيك المسلمين في عقائدهم السمحة وتستهدف أساساً:
قطع صلة هذه الأمة بماضيها وعن خير أيامها وأفضل رجالها.
فتح الباب أمام الأدعياء ومدعي النبوة.
خروج علىى النبوة المحمدية وعلى صاحبها عليه أفضل الصلاة والسلام.
إيئاس المسلمين من مستقبلهم.(10/7)
وقد أشار إقبال إلى خطر القاديانية حين قال: "إن القاديانية مؤامرة مدروسة ترمي إلى تأسيس طائفة جديدة تدعمها نبوة جديدة منافسة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم".
ولقد امتد خطر القاديانية بلونها اللاهوري، وخدع كثيراً من الناس واتسع نطاقها واستفحل خطرها، وخاصة في باكستان نفسها، ففزعت الأحزاب والهيئات تطالب الحكومة بجعلها أقلية غير إسلامية، وكان قد صدر عام 1935 قرار محكمة مدنية بهاول ناجار، برئاسة القاضي محمد أكبر خان باعتبار أن القاديانيين غير مسلمين، وبطلان التزوج بينهم وبين المسلمين، ثم جاء قرار (7 سبتمبر 1974 م) من البرلمان الباكستاني حاسماً قاضياً باعتبار جميع الفئات القاديانية أقليات غير إسلامية، وقد جاء قرار البرلمان الباكستاني بعد دراسة للمسألة القاديانية استمرت أكثر من ثلاثين يوماً واقتضت تعديل دستور جمهورية باكستان الإسلامية على النحو التالي:
أولاً: اعتبار أتباع القاديانية أقلية غير إسلامية، واعتبار أتباع الميرزا غلام أحمد سواء أكانوا من فئة القاديانية أو من فئة اللاهورية أقلية غير مسلمة بموجب الدستور.
ثانياً: أي رجل لا يؤمن بالنبوة المطلقة لمحمد صلى الله عليه وسلم وعلى أنه آخر الرسل أو أي شخص يدعي النبوة في أي معنى أو شكل للنبوة وبأي تفسير لكلمة النبوة ليس بمسلم، وأن من يؤمن بإدعاء أي مدعٍ للنبوة أو يعتبره مجدداً دينياً يكون غير مسلم بموجب الدستور والقانون.(10/8)
المؤامرة على الفُصْحى لغة القرآن
(1)
المؤامرة على الفصحى موجهة أساساً إلى القرآن والإسلام
ما تزال المؤامرة على اللغة العربية الفصحى مستمرة لم تتوقف .. لها خيوطها المرتبطة بالاستعمار والاستشراق والتبشير والتغريب .. ثم تضاعفت الدعوة إليها وتنوعت مرتبطة بالصهيونية والماركسية .. وهي مؤامرة تلبس في بعض حلقاتها ومراحلها ثوب البحث العلمي، وتحاول أن تدعي أنها تستهدف الخير والتقدم .. والصورة المعروضة اليوم تخدع الكثيرين. وربما تجد لها من بعض الشباب الذي لم يلم إلماماً كافيا بخطوات المؤامرة، استجابة ساذجة.
وقد كانت المؤامرة على اللغة العربية أساساً تستهدف الدعوة إلى العامية، أو كتابة العربية بالحروف اللاتينية، وأخذت في بعض الأوقات الدعوة إلى معارضة مفاهيم النحو أو نطق الكلمات، وجرت في خلال السنوات الطويلة الممتدة منذ حمل لواءها المبشر الإنجليزي وليم ويلكوكس في مراحل متعددة وانتقلت من مصر إلى المغرب إلى الشام ولبنان، واستطاعت أن تجد لها دعاة ممن يكتبون بالعربية خلفوا أولئك الأجانب الذين حملوا اللواء أول الأمر ..(11/1)
والذين ينظرون اليوم في مشروع العربية الأساسية الذي تقدمت به بعض الهيئات الأجنبية في حزيران-يونيو 1973 في مؤتمر برمانا، ومنذ أن ارتفعت صيحة الدكتور عمر فروخ بالكشف عنه وإذاعته واهتمام الجهات المختصة به حتى أصدرت إحدى الهيئات الإسلامية وهي: مجمع البحوث بالأزهر تحذيرها الخطير بتوقيع الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر -أقول إن الذين ينظرون في هذا المشروع اليوم يجدونه مرتبطاً كل الارتباط بما أعلنه اللورد دوفرين في تقريره الذي وضعه عام 1882 بعد الاحتلال البريطاني لمصر حين دعا إلى معارضة اللغة الفصحى، لغة القرآن، وتشجيع لهجة مصر العامية واعتبارها حجر الزاوية في بناء منهج الثقافة والتعليم والتربية في مصر .. وحين قال في تقريره بالحرف الواحد "إن أمل التقدم ضعيف في مصر طالما أن العامة تتعلم اللغة الفصحى العربية -لغة القرآن- كما هي في الوقت الحاضر" ..
ثم لم يلبث المبشر وليم ويلكوكس الذي كان يعمل مهندساً في الحملة الاستعمارية على مصر أن دعا في خطابه المشهور عام 1883 بنادي الأزبكية إلى نشر اللغة العامية والتأليف بها. وقد أطلق على خطبته اسماً خطيراً هو: "لماذا لا توجد قوة الاختراع عند المصريين ..!"، وكانت إجابته بالطبع: "إن السر ذلك هو اللغة العربية الفصحى، وإن سبيل إيجاد قوة الاختراع هو اتخاذ العامية بديلاً ..!".
وتوالت المحاولات الماكرة اللئيمة التي كانت تستهدف أمراً واحداً هو عزل المسلمين عن بيان القرآن وعن أسلوبه وشق وحدة اللسان والكلمة بإعلاء العاميات في مختلف أنحاء البلاد الإسلامية حتى تنمو تلك العاميات وتصبح لغات منفصلة، وعندئذ يصبح القرآن (تراثاً) يترجم ويقرأ عن طريق القواميس. وهم يعضون تجربة اللغة اللاتينية بالنسبة للإنجيل في أوربا كصورة نموذجية للمحاولة، ويجهلون مدى الفارق البعيد بين اللغتين، وينسون أن الإنجيل لم ينزل باللغة أصلاً؛ وإنما ترجم إليها ..(11/2)
2- ولما عجزت خطة العامية، قدمت خطة الكتابة بالحروف اللاتينية. واضطلعت المحافل اللغة الرسمية في تقديم عشرات من المشروعات: كان أخطرها مشروع عبد العزيز فهمي باشا الذي قوبل بالسخط والنكير من جميع حماة اللغة العربية والذائدين عنها، وإن كان أتباع التغريب من أمثال لطفي السيد وطه حسين عجزوا عن أن يعلنوا رأياً صريحاً قاطعاً. ذلك أن لطفي السيد نفسه كان من أوائل المصريين الذين حملوا لواء الدعوة إلى العامية بعد أن مهد لها: (ويلكوكس – ويلمور – دنلوب).
3- ثم كانت هناك حطة ثالثة هي: (اللغة الوسطى) وتلك دعوة حمل لواءها فريد أبو حديد وتوفيق الحكيم وأمين الخولي. وهي محاولة ماكرة لفصل اللغة العربية الفصحى عن لغة الكلام ولغة الكتابة بإعلاء اللهجات واعتماد اللغة الصحفية لغة أساسية. فلا هي عامية ولا هي فصحى؛ ولكنها تنزل درجة عن الفصحى لتنفصل عن بيان القرآن وتكون مقدمة لمرحلة أخرى تصل بها إلى العامية.
4- وجاءت بعد ذلك محاولة خطيرة تولاها وتصدى لها الدكتور طه حسين، هي: تبديل الخط العربي وقواعد النحو باسم (تطوير اللغة) تحت اسم تهذيب أو تيسير أو إصلاح أو تجديد، وهي أسماء لبقة مرنة تخفي وراءها هدفاً خطيراً هو –كما عبر عنه الدكتور محمد محمد حسين: "التحلل من القوانين والأصول التي صانت اللغة خلال خمسة عشر قرناً أو يزيد) وهي القوانين التي ضمنت لنا القدرة على مطالعة تراث المسلمين والعرب خلال أربعة عشر قرناً.
فإذا ما تحققت هذه الخطة التي تسمى بالتطوير أو التهذيب وتحللنا من هذه الأصول والقوانين والقواعد التي صانت اللغة هذه القرون، كانت النتيجة هي تحقيق الهدف. في تبلبل الألسنة بين المصري والشامي والمغربي وما بين الإيطالي والأسباني .. وتصبح قراءة القرآن والتراث العربي والإسلامي متعذرة على غير المتخصصين من دارس الآثار ومفسري الطلاسم .. وعندئذٍ تصبح وحدة العرب مقدمة لوحدة المسلمين عمل باطل ..!.(11/3)
يقول الدكتور محمد محمد حسين: "ليس الخطر في الدعوة إلى العامية، ولا في الدعوة إلى الحروف اللاتينية ولا إلى إبطال النحو وقواعد الإعراب أو إسقاطها؛ وإنما الخطر في هؤلاء العتاة الذين يعرفون كيف يخدعون الصيد بإخفاء الشراك .. إن الخطر الحقيقي هو في الدعوات التي يتولاها خبثاً الهدامون مِمَن يخفون أغراضهم الخطيرة ويضعونها في أحب الصور إلى الناس ولا يطمعون في كسب عاجل، ولا يطلبون انقلاباً كاملاً سريعاً .. إن الخطر الحقيقي هو قبول (مبدأ التطوير) نفسه؛ لأن التسليم به والأخذ فيه لا ينتهي إلى حد معين أو مدى معروف يقف عنده المتطورون، ولا ريب أن التزحزح عن الحق كالتفريط في العرض.
5- كانت هناك ولا تزال خطة أخرى (وهذه الخطط كلها تعمل داخل المؤسسات) مؤسسات اللغة والتعليم. تلك هي بدعة إصلاح اللغة .. وقد ظن الكثير من البسطاء أن المسألة يراد بها سهولة الأداء، فالمصطلح خادع وماكر وسيء النية أيضاً .. وقد كشف هذه المؤامرة الدكتور علي العناني حين قال: "إن الإصلاح في الألفاظ والتراكيب والأساليب لا يكون إلا بتغيير قواعد أبنية اللغة وهي (الصرف) وتحوير ضوابط إعرابها والأحوال العارضة على الألفاظ باختلاف الوضع في الجملة وهو (النحو) وتبديل الموضع اللفظي في المفرد والمركب من حيث الحقيقة والمجاز والاستعارة والكناية وهو (البيان) وبتغيير وإهمال ضوابط الفصاحة والبلاغة وهي (المعاني)، ومعنى إصلاح قواعد الصرف انتقالاً من الصعب إلى السهل إنما يعني أن نهدم علم الصرف من أساسه وننسخه نسخاً تاماً لتعدد قواعده وتنوع ضوابطه، وبعد أن يتم الهدم يبني المصلحون على أنقاضه صرفاً جديداً محدود القواعد، قليل التنويع، خفيفاً على العقل والفكر، سهلاً على الذهن والفهم .. وكذلك الأمر في إصلاح قواعد النحو، وإصلاح علوم البلاغة.(11/4)
وبهذا يكون معنى الإصلاح في اللغة نسخ العقلية العربية وما فيها من ثقافة نظرية وعملية. ذلك أن الإصلاح هو التغيير، والتغيير يعني الإزالة والوضع.
ويقول الدكتور العناني أن تغيير قواعد اللغة العربية صرفاً ونحواً بالوضع فقط، أو بالوضع والإزالة معناه إحداث لغة جديدة بقواعد جديدة. وهذه اللغة العربية الجديدة إن صح اتصالها بالعربية الحالية المدونة اتصال اللهجة بالأم، فإنه تعبد عنها شيئاً فشيئاً حتى تختفي معالم الصلات بينهما، أو تكاد وعندئذ تكون اللغة العربية الحالية من اللغات الميتة ..
ونقول أن هذا ما يحلم به سعيد عقل، وأنيس فريحة، ولويس عوض .. وما كان يتمناه سلامة موسى، والخوري مارون غصن وطه حسين ولطفي السيد .. ومعنى هذا أن يصبح كل تراث العربية البالغ عشرات الآلاف من الكتب في مختلف مجالات الشريعة الإسلامية والأدب، والحضارة والفكر والفن عبارة عن توابيت في دار الآثار والمتاحف .. ويقول الدكتور علي العناني: "إن قواعد اللغة العربية وُضِعت طبقاً لنصوص القرآن والحديث والمسموع من العرب، فالتغيير في هذه القواعد هجر للقرآن والحديث.(11/5)
كذلك فإن الدين الإسلامي وهو عقيدة وشريعة قد استنبطت أحكامه فيما يختص بالعقيدة والتشريع في العبادات والمعاملات من الكتاب والسنة وعمل الرسول والقياس والاجتهاد. وكل هذه الأركان والينابيع لا يمكن أن يستنبط منها حكم إلا بواسطة مبادئ خاصة وقوانين معروفة بعلم الأصول. وأساس هذه المبادئ والقوانين الراسخ أو دعائم علم الأصول إنما هي فهم لغة العرب: لغة القرآن والرسول بما وضع لها من القواعد الصرفية والنحوية وضوابط علوم البلاغة، وإذا أصلحت هذه الضوابط وتلك القواعد بالإزالة والوضع انهدم أساس علم الأصول وتداعت دعائمه، وإذا انهدم الأساس وتداعت الدعائم انهدم أيضاً ما يرتكز عليها، وهو هذا العلم .. وإذا وصل هذا العلم الأساسي في استنباط أحكام العقيدة ومسائل الشريعة إلى التداعي، تداعت معه أيضاً طريقة الاستنباط وفهم ما استنبط ودون بالفعل، وضاعت العقيدة واحتجبت الشريعة وعدنا إلى الجاهلية الأولى.
6- هذه هي خلفية الصورة البراقة التي نراها اليوم يحملها مجموعة من أعداء الإسلام واللغة العربية ويدافعون عنها وينقلونها من ثوب إلى ثوب، ومن أسلوب إلى أسلوب، كلما انكشف لهم جانب أعادوا تشكيله في صورة أخرى، وهم الآن على أبواب التعليم، وهي خطوة خطيرة إذا سمح بها وأعين عليها. ومن هنا نجد عبارة شخ الأزهر واضحة في معارضة المشروع حين يقول: "إن هذا المشروع واضح الهدف في هدم معالم اللغة العربية، وتبعاً لذلك البعد بها وبأهلها عن القرآن الكريم. ثم ما ينتج عن ذلك من مساس بالإسلام وأصوله كما هي مصونة في كتاب الله وسنة رسوله الكريم، ذلك إلى إيجاد الهوة الواسعة بين ما تئول إليه اللغة (لا قدر الله) وما احتوته من تراث في صورتها السليمة يمتد عبر أربعة عشر قرناً في نحو أربعة عشر إقليماً ..(11/6)
ولذلك فإن مجمع البحوث الإسلامية يرى في هذا المشروع خطراً داهماً على اللغة العربية والعلوم الإسلامية، من شأنه أن يقطع صلة المسلم بالقرآن الكريم والسنة النبوية والتراث الفقهي الذي يعتمد فيما يعتمد عليه على دلالة المفهوم والمنطوق وأساليب القصر، والتقديم والتأخير وما إلى ذلك مما لا يتحقق في لغة أساسها العامية. بل إنه يقطع صلة المسلم بالتراث العلمي الإسلامي بصفة شاملة.
ومَن يطالع تقرير الدكتور عمر فروخ يحس بالخطر الكامن واضحاً في عبارات صريحة، يقول: "وفي أثناء الجلسات الرسمية للمؤتمر، وفي الفترات المتعددة بين الجلسات جرت بحوث واقتراحات وملاحظات جعلتني = خيفة شديدة من المشروع .. إن كل ما دار في مؤتمر برمانا كان يولد فيّ شعوراً بأن الغاية الأولى والأخيرة من المؤتمر كان الاهتمام باللغة العامية .. لقد حضر هذا المؤتمر عدد قليل من اللبنانيين ونفر من العرب غير اللبنانيين (وكثرة) من الأجانب لفتت نظري أن جلهم من الرهبان اليسوعيين ..(11/7)
ونحن نقول إنها حلقة جديدة من حلقات المؤامرة أخش أنم تقف منها المجامع العربية موقع الصمت أو التردد؛ حيث نرى بعض رجالها يؤمنون بما يؤمن بها المستشرقون ويدافعون عنه، وخاصة في محاولة تطبيق علم اللغات الحديث على اللغة العربية، وهو علم قامت نظرياته ومستخلصاته على أساس دراسة واسعة للغات الأوربية. وهذه اللغات لها تاريخ وتحديات وطرق. أما تاريخها فإنها مشتقة من اللغة اللاتينية ولغات أخرى. وقد كانت في أول أمرها لهجات عامية ثم استقلت بنفسها تحت تأثير عوامل كثيرة .. أما التحديات فإن ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة القومية الأوربية جعل الموقف جد مختلف بينها وبين العربية .. أما الطريق فهو أن اللغة العربية ارتبطت بكتاب منزل أعطاها وحماها وجعلها ليست لغة العرب وحدهم؛ وإنما لغة الثقافة الإسلامية بعامة .. ومن هنا فإن محاولة القول الذي تردد كثيراً على ألسنة طه حسين وسلامة موسى ولطفي السيد، وما يزال يتردد على ألسنة بعض من يتولون أمر اللغة، بأن اللغة العربية لغتنا ونحن أصحابها، ولنا حق التصرف فيها، هو قول باطل وغير صحيح ومردود؛ ويرده واقع التاريخ ومنطق البحث العلمي .. وربما كان قولاً صحيحاً بالنسبة للغات الأوربية، أما بالنسبة للغة العربية فإنه أمر جد مختلف؛ ذلك أن اللغة العربية منذ أن نزل التنزيل بها فقد أعطاها أبعاداً تختلف وواقعاً خاصاً ..
فاللغة العربية منذ ارتبطت بالقرآن الكريم أصبحت ليست لغة أمة هي العرب فحسب؛ بل هي لغة فكر وعقيدة ودين وثقافة للمسلمين جميعاً الذين يبلغ تعدادهم أكثر من 700 مليون.
ومن هنا فإن ارتباطها بالقرآن هو وحده الذي حماها من أن تتحول لهجاتها إلى لغات مستقلة، وأن يقرأ تراثها بقاموس .. وسيظل الترابط بين المسلمين ولغة الضاد الفصحى لغة القرآن قائماً إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها ..(11/8)
وبعد: فإن مؤامرة مشروع العربية العامية يجب أن يشجب بقوة من جميع الهيئات الإسلامية وفي مقدمتها رابطة العالم الإسلامي التي تمثل اليوم مكان الأمم لمختلف المنظمات الإسلامية. وهي ما هي غيرة وقوة وإيماناً.
(2)
الفصحى: لغة القرآن
لغة ألف مليون: هم المسلمون
وليس مائة مليون هم العرب وحدهم !
ما تزال قوى التغريب والغزو الثقافي تطارد اللغة العربية الفصحى مطاردة شديدة: وفي مؤتمر المستشرقين الأخير دارت مناقشات وأبحاث كثيرة حول ما يسمونه اللغة العربية الحديثة وحول اللهجات العامية التي يسمونها لغات.
وهناك اتجاه في بعض الجامعات التي يشرف على الدراسات الإسلامية والعربية فيها يهود صهيونيون يرمي إلى المبالغة في أهمية اللهجات العامية والعناية بدراستها باعتبارها اللغة المستعملة، وهناك دراسات عن اللهجات المصرية والتونسية والمغربية.
ويواجه الأساتذة العرب هذه الحركة بحركة مضادة معادية لهذا الاتجاه يقررون فيها ضرورة التمسك باللغة الفصحى لغة القرآن ويكشفون فساد هذا المنهج التعريبي الذي تحمل لواءه اليهودية العالمية لحساب الصهيونية وإسرائيل، ونحن نعرف أن الهدف هو القرآن والإسلام والقضاء على الوحدة الفكرية الجامعة تحت لواء الإسلام في لغة الأمم.
وفي هذا نذكر ذلك النذير الذي أصدره الأستاذ مصطفى صادق الرافعي منذ خمسين عاماً حين قال:
"إن العربية لغة دين قائم على أصل خالد هو القرآن الكريم، وقد أجمع الأولون والآخرون على إعجازه بفصاحته، إلا مَن لا حفل له به مِن زنديق يتجاهل أو جاهل يتزندق، ثم إن فصاحة القرآن يجب أن تبقى مفهومة ولا يدنو الفهم منها إلا بالمران والمداولة ودرس الأساليب الفصحى والاحتذاء بها وأحكام اللغة والبصر في حقائقها وفنون بلاغتها والحرص على سلامة الذوق بها، وكل هذا يجعل الترخص في هذه اللغة وأساليبها ضرباً من الفساد، والحال الخاصة في فصاحة هذه اللغة ليست في ألفاظها ولكن في تركيب ألفاظها".(11/9)
ويعني هذا الذي يقوله الأستاذ الرافعي رحمه الله أن اللغة العربية ارتبطت بالقرآن فأصبحت لغة أمة: ولغة فكر وثقافة ولغة عبادة للمسلمين جميعاً الذين يبلغ تعدادهم ألف مليون، وليست لغة مائة مليون هم العرب وحدهم، ولقد حماها ارتباطها بالقرآن مِن أن تتحول لهجاتها إلى لغات مستقلة وحال بينها وبين أن يُقرأ تراثها بقاموس كما يُقرأ تراث اللغات الأوربية. وسيظل الترابط بين المسلمين وبين لغة الضاد قائماً مادام القرآن الكريم وإلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.
إن اللغات الأوربية حين انسحبت من اللغة اللاتينية إلى اللهجات القومية فأصبحت لغات خاصة انقطعت عن تراثها القديم، وقد أصبح من شأن هذه اللغة أن تتطور وتتطور وهي في كل فترة تنتقل من اللغة المكتوبة إلى لغة الكلام التي تصبح بدورها لغة كتابة، ومن ثم فإن أوربا لا تستطيع أن تقرأ شكسبير أو ملتون أو غيرهما من أعلام الأدب إلا بواسطة القاموس، وليس بين اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية وبين هذا التراث أكثر من أربعمائة عام، بينما يقرأ العرب والمسلمون اليوم امرؤ القيس وبينهم وبينه أكثر من ألف وخمسمائة عام كأنما ألقى شعره في نفس اليوم، ولو أن إنساناً عربياً من الجاهلية بعث اليوم لاستطاع أن يتحدث إلينا ونتحدث إليه ويفهم منا ونفهم منه.
عن القول الباطل الذي يردده هؤلاء التغريبيون من قولهم أن اللغة العربية هي لغتنا ونحن أصحابها ولنا حق التصرف فيها هو قول غير صحيح يرده واقع التاريخ ويدحضه منطق البحث العلمي.(11/10)
وقد يكون صحيحاً بالنسبة لعلم اللغات الذي استمد مقوماته من دراسة اللغات الأوربية وأقام نظرياته على أساس واقعها وهو إذ يصح بالنسبة لكل اللغات فإنه لا يصح بالنسبة للغة العربية التي احتضنها القرآن فنزل بها ومن ثم فقد أعطاها "أبعاداً خالدة" تختلف اختلافاً واسعاً عن اللغات وقد تتباين ويتعارض معها، ذلك أن اللغات الأوربية ترجمت كتابها المقدس إلى لغاتها الجديدة، وكانت موجة القوميات الأوربية عاملاً على أن تقيم من لهجاتها لغات خاصة منفصلة عن اللغة الأم، كما انفصلت سياسياً عن النظام السياسي الغربي الذي كان قائماً ومتصلاً بالكنيسة الغربية الواحدة، وهذا أمر يختلف في اللغة العربية تماماً؛ فإن المسلمين لم يترجموا قرآنهم وما يزال يقرؤه الهندي والفارسي والتركي والبربري وغيرهم من الأجناس واللغات بنفس اللغة العربية التي نزل بها، ولذلك فهو قد أقام للغة العربية كياناً خاصاً حماها من التحول إلى العاميات، ومن ثم فإن علم اللغات الحديث الذي تجري محاولة تطبيقه على اللغة العربية هو علم قاصر قامت مستخلصاته على أساس دراسة اللغات الأوربية وظروفها، كما ذكرت ولكنه لم يدرس ظروف اللغة العربية.(11/11)
ولقد اعتقد المسلمون على مدى القرون، وهو الحق: أن لغتهم جزء من حقيقة الإسلام؛ لأنها كانت ترجماناً لوحي الله ولغة لكاتبه ومعجزة رسوله ولساناً لدعوته، ثم هذبها النبي الكريم بحديثه ونشرها الدين بانتشارها وخلدها القرآن بخلوده، فالقرآن لا يسمى قرآناً إلا بها والصلاة لا تكون صلاة إلا بها، وأن "الأرجانون" لأي فكر أو "منهج بحث" لأي فكر إنما يستند إلى خصائص اللغة ولذلك فإن منهج البحث العلمي العربي إنما يستند إلى خصائص اللغة العربية ولا يستطيع أن يستند إلى خصائص لغة أخرى، فلكل لغة منهجها الفكري القائم على معانيها ومضامينها، وكما هاجم المسلمون المنهج الأرسطي وقالوا أنه مستند إلى خصائص اللغة اليونانية التي تخالف اللغة العربية فكذلك الأمر بالنسبة للمنهج الغربي الوافد (ماركسياً أو ليبرالياً أو فرويدياً أو وجودياً)؛ ذلك لأن الفكر الإسلامي منهج البحث الخاص به ومنهج المعرفة الذي يمثله والمستمد من اللغة العربية أصلاً ومن التوحيد الخالص.
ولا ريب أن محاولة فصل اللغة العربية الفصحى عن لغة الكلام بإعلاء اللهجات أو بخلق ما يسمونه لغة وسطى أو لغة الصحافة، كل هذا له خطره وله أبعاده ومخاطره.
إن النظرة اليسيرة قد ترى في ذلك شيئاً مقبولاً، ولكن النظرة العميقة تكشف عن محاذير عميقة أبرزها: الانفصال عن مستوى البيان القرآني؛ ذلك أنه من الضروري أن تظل اللغة العربية متصلة ببيان القرآن ومرتبطة به، فإذا بعدت عنه كان من أخطار ذلك أن تنفصل أو تنعزل عن مستوى البيان القرآني. فإذا مر زمن طال أو قصر انقطعت الصلة بين البيان والأداء العربي وبين القرآن.(11/12)
واللغة العربية: لغة غنية خصبة عملاقة، يقول الخليل بن أحمد في كتاب العين: "إن عدد أبنية كلام العرب 12 مليون و305 ألف و412 كلمة"، ويقول الحسن الزبيدي أن ما يستعمل من ألفاظ اللغة العربية هو 5620 لفظاً فقط. وعندما نزل بها القرآن أزاحت السريانية والكلدانية والنبطية والآرامية واليونانية والقبطية عن مكانها في مصر والشام وأفريقيا وأدالت منها قبل أن ينقضي قرن واحد، فلما بلغت القرن الثالث تحولت الصلوات في الكنائس إليها، ثم كتبت بها اللغات التركية والفارسية والأوردية والأفغانية والكردية والمغولية والسودانية والأبجية والساحلية. كما كتب بها لغة أهل الملايو وقد حدث هذا منذ أكثر من ألف عام.
ثم دخلت إلى اللغات الأوربية كالفرنسية والألمانية والإنجليزية، وفي اللغة الإنجليزية وحدها أكثر من ألف كلمة عربية. ومن الناحية العلمية فهي تفوق أضخم اللغات ثروة وأصواتاً ومقاطع؛ إذ بها 28 حرفاً غير مكررة. بينما في اللغة الإنجليزية 26 حرفاً ومنها مكرر، كذلك فإن اللغة العربية ثراء في الأسماء فيها 400 اسم للأسد و300 للسيف و255 للناقة و170 للماء و70 للمطر؛ لكل واحد منها استعماله الخاص في حالة معينة.
ولقد عرف رجل من أشد خصوم الإسلام قدر اللغة العربية فكتب عنها في كتابه اللغات السامية، ذلك هو أرنست رينان فقال:(11/13)
"من أغرب ما وقع في تاريخ البشر وصعب حل سره: انتشار اللغة العربية، فقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادئ ذي بدء، فبدأت فجأة في غاية الكمال، سلسلة أي سلاسة، غنية أي غنى، كاملة؛ بحيث لم يدخل عليها منذ يومنا هذا أي تعديل مهم، فليس لها طفولة ولا شيخوخة، ظهرت لأول أمرها تامة محكمة ولم يمضِ على فتح الأندلس أكثر من خمسين سنة حتى اضطر رجال الكنيسة أن يترجموا صلواتهم بالعربية ليفهمها النصارى، ومن أغرب المدهشات أن نبتت تلك اللغة القومية وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحارى عند أمة من الرحل، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها وحسن نظام مبانيها، وكانت هذه اللغة مجهولة عند الأمم، ومن يوم أُعلنت ظهرت لنا في حلل الكمال إلى درجة أنها لم تتغير أي تغير يذكر حتى أنه لم يعرف لها في كل أطوار حياتها لا طفولة ولا شيخوخة، ولا تكاد تعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تبارى، ولا نعلم شيئاً عن هذه اللغة التي ظهرت للباحثين كاملة من غير تدريج وبقيت حافظة لكيانها خالصة من كل شائبة".
هذا وقد أثبت الأستاذ كامل كيلاني أنه ما من فن أو علم أو معنى في شعر أو نثر يتحدث في أدب من الآداب إلا وله ضريب في اللغة العربية، وقد جمع 18 صورة من هذه المقابلات، بينما وجد أن هناك 25 صورة من الأدب العربي لا ضريب لها في الآداب الغربية.
وقد شغلت كلمة (الوفاء) في اللغة العربية من لسان العرب صفحات 278، 279، 280، 281 من جزئه العشرين، بينما لا توجد هذه الكلمة في بعض اللغات كلية.
ولقد كتب جول فيرن الروائي المشهور قصة خيالية عن قوم شقوا أعماق الأرض طريقاً إلى جوفها فلما خرجوا سجلوا أسماءهم باللغة العربية، فلما سُئِل عن ذلك قال: لأنها لغة المستقبل.
ولذلك فمن الخطر فصل اللغة العربية عَن مستوى بيان القرآن، وذلك هو هدف التغريب الذي يعرفه جيداً جميع المستشرقين.
يقول بول كراوس: "لا لغة عربية بدون قرآن".(11/14)
ويقول سيديو: أن "اللغة العربية حافظت على وجودها وصفاتها بفضل القرآن".
ومن ثم فإن كل هذه المحاولات لإفساد جوهرها هي بمثابة هجوم على الإسلام يتخفى وراء عبارات كاذبة مضللة.
(3)
وكانت مجلة البيان الكويتية قد اقترحت أن يطلق عام 1397 عام اللغة العربية الفصحى لغة القرآن، ومن الحق أن اللغة العربية في أشد الحاجة إلى هذه النصرة والتجمع والمؤازرة في هذه المرحلة التي يمر بها العالم الإسلامي والوطن العربي بالذات؛ حيث تتجمع قوى كبيرة للتآمر عليه وقد ارتفعت الأصوات: أصوات دعاة اليقظة الإسلامية بالتحذير من تلك الأخطار التي توجه إلى اللغة العربية الفصحى ..
فإن العدو عندما عجز عن مواجهة القرآن الكريم لجأ إلى مهاجمته عن طريق اللغة في مجال البيان، ولجأ إلى التشكيك فيه عن طريق السنة في مجال الفقه. وعلى شباب المسلمين المثقف أن يحذر مما يوجه الآن إلى اللغة والسنة من مؤامرات وتحديات ..
ولقد صدرت في السنوات الأخيرة مؤلفات ودراسات تكشف عن هذه المحاذير، في مقدمتها "الزحف على لغة القرآن" للأستاذ الجليل أحمد عبد الغفور عطار، و"العامية" للدكتورة نفوسة، وصدر لكاتب هذه السطور: "اللغة العربية بين حماتها وخصومها"، ومنذ وقت قريب عُقد في الخرطوم مؤتمر بحث تطوير دراسة اللغة العربية، قرر توحيد مناهج إعداد معلمي اللغة العربية والعمل على تأكيد قرار معلمي أفريقيا الخاص باعتبار اللغة العربية إحدى ثلاث لغات أفريقيا أساسية يدرسها كل أفريقي مع لغته الأصلية، كما أوصى بالإسراع في تعريب التعليم الجامعي.(11/15)
والواقع أن مجامع اللغة التي قدمت عدداً أوفر من المصطلحات قد أصبحت اليوم محتواة بمجموعة من خصوم اللغة العربية الذين استطاعوا السيطرة عن طريق ما أسموه دراسات علم اللغة والأصوات وهم الذين يحملون لواء الدعوة إلى تشجيع العاميات واللهجات ويفسحون أمامها الطريق لتدخل القواميس ولتسطير على منهجية البيان العربي الأصيل الذي فرضه القرآن الكريم والذي يلتزم أهل العربية بالاتصال به والاستمرار في مستواه ..
والمؤامرة معروفة ومدخلها: تطوير اللغة، والقول بوضع اللغة في خدمة العصر، وهذه كلها عبارات لم تعد تخدع أحداً، ومعروف هدفها وهو الفصل بين العرب وبين لغة القرآن التي جمعتهم إلى محاولة الوصول باللهجات العامية في كل قطر إلى لغة تمزق الوحدة الفكرية والسياسية الجامعة بين العرب أنفسهم وبين العرب والمسلمين. ولقد قاومت اللغة العربية الفصحى محاولات مستمرة لم تتوقف وصمدت صموداً عنيداً أمام جميع التحديات الاستعمارية في المغرب العربي وفي سوريا وفي مصر، وفي كل مكان حيث حاول النفوذ الأجنبي ضربها ضرباً مزدوجاً باللغات الأجنبية وبإعلاء اللهجات العامية .. قاومت اللغة العربية كل المحاولات من إدماج وإزالة وإبادة؛ لأنها مدينة لقاموسها الجوهري ولنظام بناء الكلمات وتركيب العبارات والنحو والصرف، ومن هنا كانت دعوتنا إلى نقل العلوم والتكنولوجيا من أفق اللغات الأجنبية إلى أفق اللغة العربية، فنحن لا نطالب بأن ينقل الفكر؛ وإنما نطالب بأن ينقل العلم إلى أفق اللغة العربية لا أن ينتقل العرب والمسلمون إلى أفق اللغات الأجنبية. ولقد واجهت اللغة العربية الفصحى في العصر الحديث مقاومة ضخمة في كل مكان: فقد حيل بينها وبين نومها الطبيعي وامتدادها مع انتشار الإسلام إلى آفاق العالم وخاصة في أفريقيا، وتشير التقارير إلى أن اللغة العربية خارج الوطن العربي هي أكثر اللغات الوطنية انتشاراً في أفريقيا المعاصرة، وهناك دول تعتبر العربية(11/16)
فيها أكثر اللغات الوطنية انتشاراً. في موريتانيا وتشاد ومالطة، فانتشار العربية في موريتانيا لا يقل عن انتشارها في المملكة المغربية، فاللهجات البربرية المختلفة هي وسيلة التعامل المحلية عند حوالي ثلث سكان موريتانيا، ولكن نصف أبناء البربرية في موريتانيا يستطيعون التعامل في أمور الحياة باللغة العربية وفي المناطق الممتدة من السنغال ومالي إلى تشاد فإن العربية مستخدمة هناك في مناطق كثيرة كلغة أُم أو كلغة تداول، بل إن العربية هي أكثر اللغات استخداماً في المنطقة الممتدة من تمبكتوا (مالي) إلى كانم وواداي إلى غرب السودان.(11/17)
ويقول التقرير أن أهم تجمع بشري يتعامل بالعربية في هذه المنطقة يوجد في تشاد؛ حيث يعيش فيها حوالي مليون و800 ألف مِمَن يستخدمون اللغة العربية كلغة أُم. والعربية بهذا هي أكثر اللغات الوطنية انتشاراً في تشاد؛ فأبناء اللغات الأخرى يكونون 40 في المائة فقط من سكان تشاد، وهناك منطقة لم يرتبط تعريبها بالإسلام وهي جزيرة مالطة: المنطقة الوحيدة التي تخلو من المسلمين ولغة الحديث فيها إحدى اللهجات العربية، أما في موريتانيا وتشاد ومالطة فإن العربية قاصرة على أمور الحياة اليومية البسيطة، ولكن العربية بعيدة عن هذه المناطق في المجالات الثقافية واللغة السياسية، وعلى العكس من ذلك نجد الموقف اللغوي في الصومال حيث تسود في أمور الحياة اليومية البسيطة الواحدة لغة واحدة هي اللغة الصومالية، ولكن أبناءها يتوسلون بالعربية في أمور الثقافة الجادة والتعليم، ويهتم الصوماليون اهتماماً كبيراً بتعليم اللغة العربية ويحسن كثير منهم التعامل بها فتصبح بمثابة اللغة الأم الثانية .. وقدر ارتبط تعليم العربية في الصومال بحفظ القرآن الكريم وبالثقافة الدينية عموماً، غير أنه في ظل الحكم الماركسي الحالي يعاني السكان والعربية من مشاكل كثيرة ليس أقلها قفل المعاهد الإسلامية ومنع الخطابة باللغة العربية .. إنها محنة نعتقد أنها سوق تزول عن شعب الصومال .. وهناك دول، يشكل أبناء العربية فيها أغلبية سكانية ولكنهم يكونون أقليات لغوية هي (مالي والنيجر وإيران وأريتريا وأربكستان وأفغانستان)، وقد لاحظ الرحالة الغربيون أن العربية منتشرة من شمال السنغال ومنطقة النيجر إلى تمبكتو، ثم من بورنو إلى دارفور في السودان .. والمنطقة التي ينقطع فيها استخدام العربية هي المنطقة من بورنو إلى تمبكتو. كما أشار التقرير إلى أن أكبر تجمع بشري يستخدم العربية في دولة مالي والمناطق المتاخمة لها هم (ذووحسان)، وقد تُعرف لهجتهم العربية باسم (الحسانية)، وهم(11/18)
الذين يُسميهم ابن خلدون (عرب المعقل)، وأغلب الظن أنهم دخلوا هذه المنطقة قبيل دخول الهلالية إلى المغرب. كما توجد أقليات عربية اللغة في عدد من الدول الأسيوية، وفي مناطق أخرى من إيران تعيش جماعات تتعامل باللغة العربية في حياتها الخاصة ويقدر عدد هؤلاء بنصف مليون ..
أما في تركيا فتعيش جماعات عربية في منطقة ماردين ويقدر عدد أبناء العربية في تركيا بحوالي رب مليون نسمة، وهناك عدة جزر لغوية صغيرة في أفغانستان وأزبكستان ..
ويقدر الباحثون أن اللغة العربية الآن هي لغة حوالي مائة وخمسة عشر مليوناً من العرب (1970)، أما الجماعات غير العربية فهي لا تزيد عن خمسة ملايين نسمة، وقد لوحظ ازدياد انتشار العربية في الأجيال الصاعدة مع انتشار التعليم ويصدق هذا على جنوب السودان رغم البطء الشديد في نشر التعليم هناك، وأكبر جماعات بشرية غير عربية في البلاد العربية هي جماعات الأكراد (مليون) والبربر (4 ملايين) والنوبيون والمهرة وأبناء لغات جنوب السودان. وفي أقصى جنوب جزيرة العرب تجد في مناطق من جمهورية اليمن الشعبية عدداً من المتحدثين بلغة سامية قديمة هي لغة المهرية، ويعتبر النوبيون أهم تجمع بشري غير العربي في مصر (ربع مليون).
ولا ريب أن هذه الإحصائيات تعطي صورة النمو المتجدد للغة العربية في العالم الإسلامي بالرغم من كل محاولات حصر اللغة الفصحى وحجبها وتغليب اللهجات العامية واللغات الأجنبية عليها، وبالرغم من محاولات تغيير أبجديات اللغات في الملايو وبعض البلاد الأفريقية ..
ولقد كان المرحوم مصطفى صادق الرافعي من أوائل المجاهدين في الدفاع عن اللغة الفصحى، حتى وصف بأنه (حارس لغة القرآن)، يقول:(11/19)
"قد أدهشتني الكلمة التي جرت على قلم يوسف حنا من اعتقادي أني المختار لحراسة لغة القرآن، فأنا لم أقل له هذا ولم أعتقدها مطلقاً، ومن أجل ذلك أثّرت فيّ هذه الكلمة تأثيراً عظيماً وأعددتها أنباء من الغيب واعتقدتها والظاهر أنها كذلك" ..
والحق أن كتاب الرافعي (إعجاز القرآن) كان بمثابة القنبلة الخطيرة التي ألقاها الرافعي في جو ظن خصوم الإسلام والعربية أنهم قادرون فيه على الهدم دون أن يتلفت إليهم أحد ..
ولكن اليقظة الإسلامية كانت تنطلق دائماً مكتسحة كل هذا الركام الذي شيده الأعداء. وفي هذا المجال يذكر رجل آخر من المجاهدين في سبيل اللغة العربية هو أحمد السكندري:
كان الدكتور منصور فهمي يقول كلما واجهتهم في المجتمع اللغوي مشكلة:
"انتظروا السكندري، أرجئوا المسألة فعند السكندري علم ما أشكل علينا ولديه حل ما استعصى علينا"، فلما مات السكندري قال منصور فهمي: "الآن يموت حلال المشكلات والمرتجي في اللغة للمستعصيات". وكان السكندري يقول: "لا يجوز التعريب إلا إذا تحقق العجز في نقل أسماء ومصطلحات الفنون والصناعات وأنواع النبات والحيوان والجماد".
وهو واحد من مؤسسي المجمع ومن أكثر المتحدثين فيه، وقد كان عضواً في لجنة الرياضيات والعلوم الطبيعية والكيميائية وعلوم الحياة والطب، بل لقد كان عضواً في سبع لجان من أحد عشر لجنة، وهو من ذلك الرعيل الأول لدار العلوم: الخضري والمهدي وحفني ناصف -أولئك الذين كانت لم مواقف حاسمة إزاء المؤتمرات التي وجهت إلى اللغة في مطالع العصر ..
ومنذ بدأت فكرة التجمع لحماية اللغة والنظر في أمرها كان السكندري في المقدمة وهو قد شاهد توفيق البكري وحمزة فتح الله والشيخ الشنقيطي وحفني ناصف عندما احتجوا لأول مرة ووضعوا عشرات من الكلمات، ثم جاء بعدهم نادي دار العلوم فوضع مئات الكلمات وشارك هو في هذه اللجنة ..(11/20)
والسكندري: أزهري درعمي معاً: شغف باللغة وتخصص فيها وكان من أصحاب العزائم، كان مؤمناً بمبدأ لا يتزعزع: أن اللغة تكونت من عناصر تمت للأبدية والخلود، فعنده أن عناصر هذه اللغة تنسحب إلى ماضٍ لا أول له، وفي طاقتها أن تمد إلى مستقبل لا آخر له، فاللغة عنده ماضيها وحاضرها ومستقبلها وحدة قوية متماسكة تتسع لكل المصطلحات. وكان يُعَد من المتشددين في القديم. وقد جعل المجمع بالغ الحرص على توفير المظان القديمة، شديد العناية بممارسة ما احتوته من مدخور العربية وكنوزها. ولم تكن معاركه داخل المجمع وحده؛ ولكنه كان معاركاً في كل مجال من أجل اللغة. وعندما كان أحمد زكي باشا شيخ العروبة يكتب كان يتحاماه كثيرون، ولكن شيخ العروبة أراد أن يكتب عن اللغة ويتعرض لكلمات: "على الحركرك، ويا الله)، فكتب رأيه، ثم سأل أصدقائه وطالب السكندري بالذات أن يدلي برأيه في الكلمتين ..
وقال السكندري: "ظن الباشا أن صمت مثلي إنما هو علم يكتمه ولا والله ليس إلا قلة الاعتداد بما خطر على بالي والاستهانة بما سنح لي في تخريج هذا الحرف (على الحركرك)، واللهُ يقول (ولا تقف ما ليس لك به علم)، فأما إذا أحرجني الباشا مرتين ولم يرضَ لي غير إحدى خصلتين: الفتيا ولو بغير مضع، أو استحقاق الإلجام بلجام من نار، فإني أستغفر الله وأقول ما لم أتعود قوله:(11/21)
خطر ببالي أن (على الحركرك) محرف من نقطتين فصيحتين هما: حرَج الحرَج قلبت الجيم فيهما كافاً لتقاربهما في المخارج، الحرَج بفتح الراء معناه أضيق الضيق، فإذا أضيف إلى مثله كما يقول فلان في ضيق الضيق كانت المبالغة أشد، إذ هو بمنزلة أن يقال: أضيق ضيق الضيق، وهو ما تريده العامة وهو نظير قولهم (شفت فيه ويل الويل ومر المر). ويحتمل أن يكون محرفاً عن الحرَج الحرَج، فإذا كان يعجب الباشا مثل هذا التخريج فذاك، وإلا فإنني أعتقد أن إجابتي إنما هي على حرج الحرج، وأربأ بنفسي أن أكون في رأيه مستأهل الإلجام بلجام من نار والعياذ بالله" ..
وبعد فمن الحق للغة العربية أن تفرد لها عاماً يشترك فيه المجاهدون دونها، ولعل الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار أن يقدم وجهة نظره في هذه الدعوة المطروحة الآن على بساط البحث في عدد من البلاد العربية ..
(3)
لماذا دراسة اللهجات العامية والاهتمام بها ؟!
ما تزال اللغة العربية تدافع عن كيانها الذي يرهق الاستشراق والتغريب والذي تخطط له الماركسية في كل مكان تحل فيه، كما يخطط له الاستعمار والصهيونية بوصفها لغة القرآن التي تجمع العرب إلى وحدة الأمة والجماعة وتربط المسلمين إلى وحدة الفكر والثقافة، ولقد ترددتْ في المرحلة الأخيرة ظاهرة تبدو كأنها دفاع عن الفصحى ولكنها تُخفي في أعماقها حربها وخصومتها، تلك هي ظاهرة دراسة اللهجات العامية، ترى ذلك واضحاً اليوم في عديد من مجامع اللغة ومعاهد الدراسة العالية.
وقد حاول بعض الباحثين أن يدعي أن الغاية من دراسة اللهجات هو الكشف عن أنجع الوسائل المؤدية إلى جعل لغة الضاد (موحَدة وموحِدة) في جميع البلاد العربية، أي أن تكون أكبر أداة لتوحيد الشعوب الإسلامية في أمة واحدة.(11/22)
ولكن المتعمق للأمور يرى أن ذلك وَهْم من الأوهام، وأن التجربة لم تحققه؛ بل حققت عكسه، وأن بعض المعاهد التي استقدمت أمثال أنيس فريحة وغيره لم تزد أن أعطت دعاة العامية سلاحاً ضد الفصحى بالإضافة إلى أسلحتهم المشرعة اليوم في مجال المسرح والإذاعة والكاريكاتير ..
يقول الأمير مصطفى الشهابي: "إن اللهجات العربية العامية تعد بالعشرات بل بالمئات وكلها اليوم لا ضابط لها من نطاق أو صرف أو نحو أو اشتقاق أو تحديد لمعنى الألفاظ؛ فهي كلام العامة يستعمل في الأغراض المعاشية وفي علاقات الناس بعضهم ببعض .. وهذا الكلام وقتي لا يثبت على مرور الأيام، وموضعي لا يتجول من قطر عربي إلى قطر عربي آخر .. ومعناه أن اللهجات العامية لا يمكن أن تكون لغات علم وأدب وثقافة وليس في مقدورها أن تعيش طويلاً وأن يعم بعضها أو كلها، الأقطار العربية كافة، وكل ما يكتب بلهجة عامية يظل محصوراً في قطره وقلما يفهمه غير أبناء ذلك القطر أو غير طائفة من أبناء ذلك القطر، فإذا تدارسنا حقائق هذه اللهجات ووضعنا لكل منها قواعد رجراجة، فماذا تكون مغبة هذا العمل .. إن أخشى ما نخشاه أن يستهوي هذا الموضوع عقول بعض هؤلاء الطلاب فيعكفوا على معالجة تنظيم الكتابة والتأليف باللهجات المختلفة وعلى طبع هذه الرطانات ونشرها فتكون النتيجة تشويشاً وضرراً يباعِد بعض الأقطار العربية عَن بعض، بدلاً من أن يتوحد بلغتها، أي تكون النتيجة مخالفة تماماً المخالفة لِمَا يتوقع من تدريس اللهجات العامية في خدمة الفصحى".
أما القول بأن تدريس هذه اللهجات يفضي إلى معرفة مشكلات الفصحى وإلى مداواة أدوائها فهو قول ضعيف في نظرنا؛ فأدوات الفصحى معروفة تحتاج إلى مَن يعالجها بإخلاص ونشاط وصبر ومثابرة وأهمها وضع المصطلحات العلمية أو تحقيقها وتبسيط قواعد الكتابة والإعراب والصرف والنحو وتبسيط الكثير من تعليلات القواعد الصرفية والنحوية.(11/23)
وجميع هذه الأمور الشائكة يعرفها علماؤنا الأثبات ولا علاقة لها باللهجات العامة وقواعد تدريسها. ومن الطبيعي القول بأن هذا التبسيط لم يمس جوهر الفصحى وسلامتها وأنها ستظل صعبة في نظر بعض الناس ولا مجال للبحث عن بعض الآراء التي تذهب إلى جعل التبسيط تشويهاً للفصحى. المطلوب هو رد العامي إلى الفصيح، كما فعل الشيخ أحمد رضا العاملي وعلماء أثبات وفقهاء باللغة مِمَن يعرفون كيف يُفيدون الفصحى مِن دراساتهم وكيف يقربون العامية منها وكيف يمنعون طغيان العامية عليها. إن قضية الفصحى والعامية لا تُحَل بدراسة اللهجات العامية وتدريسها للطلاب؛ بل تُحَل بتيسير قواعد الفصحى مع الاحتفاظ بسلامتها، وعلى الأخص نشر التعليم في سواد الشعوب العربية، ومنها فرض التعليم بالفصحى على المعلمين وعلى التلاميذ في جميع المدارس، ومنع طبع رسائل بالعامية أو التكلم بها في المدارس والمسارح ومحطات الإذاعة ودوائر الحكومات.
(4)
الفصحى في لغات أوربا
يقول (والت تايلور) في رسالته عن الألفاظ العربية في اللغة الإنجليزية أنه في الفترة ما بعد 1450 ميلادية كان الداخل إلى اللغة الإنجليزية من الألفاظ العربية بمعدل 83 في المائة، وذلك بعد أن اتسعت آفاق التجارة وأسباب المواصلات بين الشرق والغرب، وقد كان للجزيرة الأندلسية أعظم أثر فيما قدمته العربية للغات الأوربية، فالسيادة العربية التي بقيت في تلك الجزيرة بضعة قرون قد طعمت لغتها الأسبانية والبرتغالية بعدد كبير من الألفاظ.
والذي يفتح كتاب دوزي عن الألفاظ في اللغة الأسبانية يجد فيه نحو ألف وخمسمائة كلمة من أصل عربي بعضها يرجع إلى عهود العرب الأولى في الأندلس.
كذلك فقد دخلت إلى أوربا ولغاتها مصطلحات كثيرة عن طريقة جزيرة صقلية وعن طريق الحروب الصليبية.
وقد قسم أنيس المقدسي هذه الألفاظ العربية إلى عدة أنواع:
أولاً: أعلام أشخاص وأمكنة وألقاب خاصة.
ثانياً: ألفاظ ومصطلحات مستحدثة.(11/24)
ثالثاً: مصطلحات علمية وخصوصاً الفلكية منها كأسماء النجوم (إبرة العقرب) و(الشعري) و(رأس الثعبان).
رابعاً: ألفاظ عربية تبنتها اللغة الإنجليزية أمثال منبر وكنيسة وسراط وفردوس وسكر ومسك وفندق.
وقد اندغمت هذه المصطلحات والألفاظ في اللغة الإنجليزية حتى لم تعد أصولها العربية واضحة.
ومجال القول في هذا الموضوع ذو سعة، وقد تناوله عشرات الباحثين الأجانب:
1- والتر تايلور: ما اكتسبت الإنجليزية من العربية.
2- الأب لامنسي: علاقة العربية بالفرنسية.
3- دوزي: علاقة العربية بالأسبانية والبرتغالية.
4- قاموس أكسفورد.
5- قاموس وبستر.
6- معجم الألفاظ الفلكية: أمين المعلوف.
7- معجم ألفاظ النبات: للدكتور أحمد عيسى.
8- معجم الألفاظ الزراعية: للأمير مصطفى الشهابي.
9- معجم العلوم الطبيعية والطبية: للدكتور محمد شرف.
10- معجم الألفاظ الداخلة في اللغة العربية: للقس الفيسي.
أنور الجندي(11/25)
المسلمون في فجر القرن الوليد - 22
أولاً - الحفاظ على الذاتية الإسلامية:
مع مطالع القرن الخامس عشر الهجري يجد المراقبون أن المسلمين يتقاربون اليوم في عدة مفاهيم أساسية يكادون يلتقون عندها ويكونون بها منطقاً" جديداً فيه طابع الأصالة وعلامة التحول من عصر التبعية إلى عصر الرشد الفكري. ولقد كان للتجارب التي مرت بهم خلال القرن الرابع عشر أثرها الواضح في هذا الفهم الجديد الذي يقرب بهم من الحقيقة بعد أن دفعوا ثمنها غالياً من الزمن والأنفس والأموال، وقد كانت بينة في كتاب ربهم ويبن أيديهم من قبل ولكنهم كانوا عنها غافلين، لم يستطيعوا استيعابها إلا بعد أن حزت في نفوسهم وتركت موضعها وعليه أثر كدمات الدم.
أولاً: لقد تبين للمسلمين أن جريهم وراء أسلوب العيش الغربي واندفاعهم وراء بريق الحضارة المنطلقة وراء شهوة الفم والبدن هو غواية الأمم الغربية لهم بهدف تبديد ثرواتهم وتحطيم معنوياتهم والقضاء على القوة النفسية والجسمية التي أعطاها لهم الإسلام بالاستقامة والصلاة ليكونوا قادرين على مواجهة الأحداث، مرابطين في الثغور حتى لا يفاجئهم غزو العدو ومن هنا فقد أخذوا يتحولون إلى بناء مستقبل بلادهم بهذه الثروات لتكون لهم قوة دائمة على الزمن.(12/1)
ثانياً: اكتشفوا أن مناهج السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية التي قدمها لهم الغرب (بشقيه) خلال القرن الماضي لم تكن إلا تراكمات مجتمع آخر مختلف ونتيجة تحولات في عقائد وثقافات تختلف اختلافاً واضحاً عن المجتمع الإسلامي، وهي ثمرة تكوين نفسي واجتماعي وعقلي تنازعته وثنية اليونان والرومان، وتفسيرات المسيحية، واستعلاء العقل والعلم بعد كشوف الطبيعة، وقد تشكلت في مجتمع لم يكن من دينه "منهج حياة" أو "نظام مجتمع" فإن المسيحية حين عبرت من الشرق إلى الغرب عبرت على هيئة وصايا وعبادات وتراتيل فكان أهلها في حاجة إلى أسلوب عيش امتد سريعاً بين الرأسمالية واللبرالية والماركسية والوجودية والقومية والإقليمية دون أن يجد منها بعد تجربة السنوات الطوال إلا مزيداً من الصراع والاضطراب.
ومن هنا فقد كانت مؤامرة نقلا هذه الإيديولوجيات إلى بلاد الإسلام التي تملك أعظم منهج رباني جامع خالد أضحوكة التاريخ والأجيال، إذ كيف يقترض من يملك هذا المجد الأمثل فتات الأمم ومحاولات العقول البشرية القائمة على الهوى والظن والتي لم تثبت في مجال التجربة بل لقد كشفت أبحاث العلماء عن فساد هذه الإيديولوجيات في بيئاتها التي نبتت فيها ولم تحقق مطامح النفس البشرية وخلقت ما يسمونه أزمة الإنسان المعاصر فكيف تصلح هذه لبيئات أخرى تختلف أشد الاختلاف.(12/2)
ثالثاً: آمن المسلمون بعد تجربتهم الطويلة مع الغرب إن حضارة الغرب ليست هي الأسلوب الأصلح لامتلاك الإرادة، ولتحقيق افتقاد المسلمين مكانتهم في الأرض، وإنما الأسلوب الأصلح هو التماس منهج القرآن وتطبيق شريعة الإسلام، فهذه هي "العروة الوثقى" التي كلما التمسها المسلمون على طول تاريخهم نجوا بها من أزمة التبعية والنفوذ الأجنبي وسلطان الأقوياء عليهم، وأن الحضارة المادية مهما بلغت من زخرفها لن تبرههم إلى الحد الذي يجعلهم يضحون وجودهم وكيانهم وذاتيتهم في سبيل الحصول على هذا البريق، وخاصة أن الحضارة المادية مهما بلغت من زخرفها لن تبرهم إلى الحد الذي يجعلهم يضحون وجودهم وكيانهم وذاتيتهم في سبيل الحصول على هذا البريق، وخاصة أن الحضارة الغربية اليوم لا تقدم – فيما غير العلم - إلا ذلك الانحراف الخطير في الترف والشهوات ولذائذ الماديات والإسراف في تبديد الكيان الإنساني وهو ما يتعارض مع كرامة المسئولية والالتزام الأخلاقي للإنسان الذي شرفه الحق تبارك وتعالى بالاستخلاف في الأرض وتعميرها وإقامة المجتمع الرباني بها.
هذه الحقائق التي تبدو واضحة الآن في العقل الإسلامي والنفسي الإسلامية تعطي هدفاً أساسياً هو أن القوى الأجنبية التي تتجمع اليوم لتواجه عالم الإسلام وهو يتحفز لامتلاك إرادته إنما تهدف إلى القضاء على هذه الذاتية الخاصة التي شكلها الإسلام في النفس المسلمة فأصبحت الأمة الإسلامية كالشامة في الجمع الغفير.(12/3)
هذه الغاية قائمة اليوم من وراء كل محاولات الغزو الفكري والتغريب وتحريك قوى الشعوبية والاستشراق والتبشير الغربي وضرب الإسلام من الداخل بالفرق الضالة كالبهائية والقاديانية، أو ظهور جماعات من يدعون "العودة إلى الإسلام" لكسب ثقة المثقفين عن كتاباتهم وضرب الإسلام من الداخل على النحو الذي دعا إليه عتاة التغريبيين من الشيوعيين كمحاولة ماكرة وقد تكشف فعلاً في السنوات الأخيرة أن كثيراً ممن أعلنوا عودتهم إلى حظيرة الإسلام خدعة قد وقفوا في وجه تطبيق الشريعة الإسلامية، أو التمسوا مفاهيم الباطنية وأصحاب مفاهيم الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، وذلك بعد أن رتبت لهم محاولات إبرازهم وكسب الثقة فيهم، والواقع أن بيننا وبين هؤلاء: مفهوم الإسلام الجامع الصحيح كمنهج حياة ونظام حياة مجتمع فكل نكوص أو نصول أو محاولة للتشكيك في هذه الوجهة إنما هي إقرار بالتبعية، ذلك لأن مفهوم المسلم الصحيح هو الإيمان بالمنهج الرباني وسلامة تطبيقه لا يعتوره في ذلك ذرة من الشك أو التردد أو التماس الأعذار لبقاء الأنظمة القائمة على القانون الوضعي وأخطر ما في هذا هو أن يتحدث هؤلاء عن الإسلام بمفهوم المسيحية أي يفصل بين الدين والسياسة أو بين الدين والمجتمع.
والحق أن القوى الأجنبية ما زالت قادرة على أن تقدم مموهين لهم بألفاظ براقة وكلمات خداعة، يحاولون الصد عن إحدى عقائد المسلمين اليوم وهي تطبيق الشريعة الإسلامية كمحاولة وحيدة وأخيرة لتحرير المجتمع الإسلامي من أسباب ضعفه واضطرابه. وكمنطق لامتلاك الإرادة الأساسية للأمة الإسلامية على أرضها وتأكيد وجودها ولتستطيع بعد ذلك أداء رسالتها المنوطة بها وهي "تبليغ" الإسلام للعالم المضطرب الممزق المتطلع إلى منهج جديد يخرجه من أزماته وانحلاله.
إن أخطر ما يواجه المسلمين اليوم هو حماية هذه(12/4)
"الذاتية الإسلامية" بكل شاراتها وعلاماتها ومقدراتها ربانية قرآنية كما رسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسيرته وسنته وخلقه وتصرفه اليومي في كل الأمور، ذلك أن هذه الذاتية الإسلامية هي هدف القوى الثلاث: الصهيونية والماركسية والغربية، من كل محاولات التخريب والغزو الثقافي، لأنها هي القوة الحامية لهذه الأمة من أن تذوب في العالمية والأممية الدولية وهي في مرحلة الضعف الذي تمر به وحيث أن الأممية ضالة مسرفة في الوثنية والمادية والإباحية.
ولذلك فإن أبرز مطامح القرن الخامس عشر هو تأكيد تمايز هذه الأمة عن الأمم، وهذا التمايز كما يقول الدكتور محمد محمد حسين مقصود لذاته لأن الأصل هو تباين الأمم ودفع بعضها ببعض وهو من سنن الله الكبرى، وإذا كانت النظريات الرياضية والتجريبية واحدة لا تختلف باختلاف الأمم فإن النظريات السلوكية التي تقنن سلوك الفرد وسلوك الجماعة مختلفة متباينة تباين أممهم.
"وأولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض".
"ولو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم".
ويتميز المسلمون بالمقدار الذي يعتمدون فيه على قيمهم وعقيدتهم، هذا الالتقاء على نظام يجعلهم كالجسم الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ومن طريق المخالفة لغيرهم الذي يصونهم عن الذوبان والفناء في غيرهم وهذا واضح في قوله تعالى:
"وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله".
فالآية تدعو المسلمين إلى الاجتماع على طريق الإسلام من ناحية وتنهاهم من ناحية أخرى عن إتباع طرق غير المسلمين لأنها تؤدي إلى تفرق جماعتهم. إن الخطر هو تطويع الإسلام لأشكال الحضارة الغربية ومفاهيمها وتطوير المجتمع ليكون في نهاية المطاف صورة من صور المجتمعات الغربية.(12/5)
هذا التمايز، وهذه الذاتية الإسلامية، الواضحة العميقة، لا تقتصر على مجال واحد ولا ميدان واحد، ولكنها تشمل كل الميادين والمجالات، من الاقتصاد إلى السياسة إلى الأدب إلى اللغة إلى التاريخ إلى أدق الدقائق في القضايا الاجتماعية والفكرية والثقافية.
وهذا التمايز هو الحصانة الوحيدة دون الذوبان والانصهار في بوتقة هذه الحضارة المضطربة التي تمر بأقسى مراحل أزماتها ونهايتها.
الدعوة الإسلامية تشق طريقها إلى آفاق الأرض مع عديد من التحديات والانتصارات:
ما زال الإسلام يفتح آفاقاً جديدة أمام الدعوة إلى الله عن طريق الحكمة والموعظة الحسنة في مختلف أجزاء الكوكب الأرضي على نحو هو الآن موضوع دهشة المراقبين وعجبهم نظراً لقلة الموارد المالية التي تنفق في هذا السبيل وبالرغم من كل أعمال المقاومة والحشد المبذول للحيلولة بين الناس وبين الإسلام.
وفي العالم الغربي (أوروبا والأمريكتين) بالرغم من ضخامة النفوذ الذي تفرضه الكنيستان الكاثوليكية والبروتستانتية والإنفاق الضخم والمحاولات الجديدة في كسب الشباب بفتح أبواب الإغراء بحلبات الرقص وتقبل قوانين الإجهاض وإقرار الشذوذ الجنسي والعياذ بالله ورفع الحظر عن معتنقي الماسونية فإن ذلك كله يوحي بالكساد الشديد والانصراف الشديد حتى في مجال تربية أجيال جديدة من قادة الفكر الديني فإن النسبة المطروحة توحي بالانصراف الشديد عن هذا المجال، هذا بينما يكسب الإسلام مزيداً من معتنقيه تحت تأثير قراءة النصوص الإسلامية أو الالتقاء بالدعاة المسلمين على ندرتهم في المراكز الإسلامية في بعض العواصم، بالإضافة إلى تلك الروح البارزة لإنصاف الإسلام ورسوله التي تكشف عنها الكتابات التلقائية التي لا يدرج أصحابها تحت قوائم الاستشراق والتبشير.(12/6)
وفي مناطق مختلفة من الأمريكتين واستراليا بالإضافة إلى أوروبا نفسها نجد تجمعات جديدة تمثل أقليات صغيرة مسلمة تحاول أن تقيم مجتمعاً إسلامياً خالصاً وسط هذا الركام الضخم من فساد الحضارة الغربية واضطراب المجتمعات الأوروبية.
وتجرى المحاولات لاستخلاص تصريحات من قادة المسلمين ترمي إلى القول بأنه لا فوارق حقيقية بين الإسلام والمسيحية أو الأديان الأخرى بهدف تثبيط همم الذين يزعمون الدخول في الإسلام بوصفه يمثل عقيدة التوحيد الصحيحة اليوم المحررة من الوثنية والتثنية والتعدد.
وفي الولايات المتحدة جاليات من الملونين الذين هم من الأفارقة في الأصل يمثلون تجمعاً إسلامياً، ولكن هناك أعداد كثيرة من الأمريكيين أنفسهم أخذت تدخل في الإسلام حتى يقول مديرٍ إحدى المؤسسات الإسلامية في واشنطون: "إنه لا تطلع الشمس يوماً إلا على مسلم جديد" وإن هذا يحدث في كثير من بقاع القارة الأمريكية وتتزايد هذه الظاهرة حتى تمثل علامة جديدة يصفها الدكتور محمد عبد الرؤوف بقوله:
إنني أرى أن هناك قوة خفية تعمل على نشر الإسلام في هذه البلاد وهي قوة الله تبارك وتعالى وليس عملنا إلا من وراء إرادة الله وتقديره، حيث لا ينتشر الإسلام بين الأمريكيين السود فحسب بل بين العنصر المسيحي (أنجلو ساكسون) وقد وجد طريقه إلى ذوي النفوذ في البلاد.(12/7)
وعندما تقرأ ما يكتبه أمثال الدكتور موريس بوكاي من مقارنات بين العهد القديم وبين القرآن من حيث (المصدر) حيث يكتشف "ربانية" القرآن و "بشرية العهد القديم" فإلي أي مدى تحدث هذه الآثار دوياً، فإذا أضيف إلى هذا ما تقدمه منظمات عدة في دراسات الكتب المقدسة، بالإضافة إلى ما كشفته مخطوطات كهف قمران وما تزال تكشفه الحفريات الأثرية مما يؤكد صدق نصوص القرآن الكريم وتزييف كثير من تلك المسميات الكاذبة التي تقوم عليها دراسات التاريخ القديم من حيث تجاهل (الحنيفية الإيراهيمية) ودورها في بناء ذلك التكوين الروحي الذي عرفته هذه المنطقة ممتداً من إبراهيم عليه السلام في أبنائه وفي إسماعيل إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
"ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً".
وما يتصل بهذه الرسالة من حقائق تتمثل في جماع الإيجابيات التي نراها في الجاهلية وفي فساد التفسيرات التي صرفتها اليهودية والمسيحية مما كشف القرآن زيفها مما غيره أهل الكتاب من وجهة الدين ومن إنكار الارتباط بالنبوة الخاتمة وما تزال هذه الحقائق تنكشف وما تزال قوى التزييف تحول بين الناس وبينها "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره".(12/8)
وفي الوقت الذي تتعدد فيه الجاليات الإسلامية في كل مكان في العالم وفي أوروبا وفي آسيا لم يترك النفوذ الأجنبي هذا النشاط يزدهر وعلى هذا الأساس دعم الإنجليز الحركة الأحمدية (القاديانية) في الهند وغذوها بالأموال لإيجاد بلبلة في صفوف الأمة الإسلامية، وبنى في إنجلترا مسجد للأحمدية (أو القاديانية) ليكون مركز انطلاق لهم في إنجلترا أو أوروبا. كما ساعدت إنجلترا على طبع كتب الأحمدية المضللة وخصوصاً باللغة الإنجليزية، وقد توسعت الأحمدية في قلب أفريقيا ولكنها ما تزال مرفوضة لما تخالف من مفهوم السنة الجامعة، وقد فضح أهدافها وعمالتها للاستعمار العلامة المودودي والسيد الندوي ورابطة العالم الإسلامي وغيرها من الهيئات الإسلامية وقد توسعت في عديد من البلدان الأوروبية، وتزاحم الغربيون في كل مكان أمام الأعياد الإسلامية ليحضروا ويشاهدوا شعائر الصلاة الإسلامية من قيام وركوع وسجود وتقاطروا على سماع خطبة العيد مما لفت أنظارهم فسعوا إلى الاتصال بالمراكز الإسلامية والحصول على المؤلفات الشارحة للعقيدة الإسلامية، ولاشك أنها ملأت نفوس هذه الجماعات وخاصة شباب المدارس والجامعات شدتهم إلى الإسلام لبساطة عقيدته وسلامة مبادئه وسماحته واقترابه من الفطرة وعطائه وتكامله مع أشواق النفس الإنسانية، وحيث يدعو إلى الرحمة والعدل والإخاء والتوحيد، فقد شد إليه الزنوج الأمريكيين الذين عانوا من العسف والظلم والاسترقاق على أيدي الأمريكيين البيض.
ويعاني المسلمون معاناة شديدة في مناطق كثيرة من العالم.(12/9)
وأقسى ما يواجهون ما يلقونه في المناطق الواقعة تحت سيطرة الاتحاد السوفيتي والدول الشيوعية، وهناك ما يلقاه المسلمون في مناطق كثيرة من أفريقيا إزاء الحملات التبشيرية النصرانية حيث تتركز البعثات التبشيرية في نيجيريا والكاميرون وجنوب السنغال وكينيا وحيث تندفع القبائل الوثنية إلى الإسلام وتدخل القبائل الزنجية في دين الله أفواجاً وحيث تقف الدعوة الإسلامية بقوتها الذاتية في مواجهة الإمكانيات الضخمة المتاحة لرجال الإرساليات وحيث الكنائس والأديرة والمعابد مقامة في أنحاء كثيرة من البلاد في المدن والقرى.(12/10)
وقد شهد الذين قاموا بنشر الدعوة الإسلامية بين الوثنيين بما يلقونه من ترحيب كبير وخاصة في المديريات الجنوبية الثلاث: أعالي النيل والاستوائية وبحر الغزال حيث الاتصال بالمواطنين البدائيين والضاربين في منابت الأحراش والغابات ومواطن الحشائش والمستنقعات، يقول أحدهم: "اقتنعنا بأن العمل في هذا الميدان سهل ميسور وأن ما يبذله المبشرون المسيحيون من جهود، لو بذل المسلمون عشر معشاره لأثمرت جهودهم أضعاف ما تثمر جهود المبشرين" بل إن الإسلام قد اقتحم مناطق جنوب أفريقيا: (جوهانسبرج، ديريين، ايست لندن، كيب تاون) حيث قامت مجتمعات صغيرة من المسلمين ولكنها متماسكة، فهم يجمعون الزكاة ويوزعونها على مستحقيها وينشئون المدارس الإسلامية والمساجد ويطبعون الصحف والمجلات الإسلامية والمساجد هي مركز نشاط المسلمين الاجتماعي، وكلما استولت الحكومة على منطقتهم، رحلوا إلى أرض أخرى وأقاموا مساجدهم ومساكنهم. ويتساءل بعض الذين زاروا تلك المناطق: "لماذا تتجه جميع بيوت المسلمين في جنوب أفريقيا نحو القبلة" رغم الصراع الحقيقي الذي يخوضونه مع جهاز البلدية عند تخطيط البناء. فالمسلم هنا لا ينام إلا في اتجاه القبلة ويقيم في داره ثلاث حنفيات للوضوء، وغرفة للمصاحف، ومكان للصلاة، والنساء المسلمات يخرجن محجبات ويعمل الجميع في تكامل رائع، والأطفال يحفظون القرآن ويحسنون تلاوته وتجويده، ويقبل الوثنيون في جنوب أفريقيا على اعتناق الإسلام اقتناعاً بأنه الدين الذي أوجب المساواة وذوب الفوارق بين الناس ولم يعترف بأي امتياز أو فضل أو تفوق مصدره اللون أو العرق أو المال.(12/11)
وما تزال مناطق إسلامية كثيرة تقاوم، أمثال: إرتيريا في مواجهة الحبشة المسيحية الماركسية، ومسلمي الفيليبين (شعب بانجامور) المسلم 8 ملايين نسمة في الجزر الجنوبية الخمسة الكبرى وهناك اضطهاد المسلمين المتجدد في الهند وهناك مشاكل مسلمي بورما الذين شردتهم حكومة بورما ومسلمي كمبوديا وفيتنام ولاوس وهي مثل لما يقاسيه المسلمون الذين يعيشون في الدول الشيوعية وهناك مشكلة خمسة ملايين مسلم في تايلاند.
وما يزال مسلوم قبرص يقاومون في سبيل تثبيت وجودهم في الجزيرة وحقهم في البقاء حيث لم تكن قبرص في يوم من الأيام أرضاً يونانية وحيث عمد الاستعمار البريطاني إلى تفريغ الجزيرة من المسلمين وجعلهم أقلية فيها، وقد تعرض المسلمون لصنوف بشعة من التعذيب والحرمان.
ومن الآفاق الجديدة التي فتحها الإسلام في سنوات ما قبل بزوغ فجر القرن الخامس عشر الهجري: غزوته السلمية لليابان حيث ديانته الشنتو (عبادة الطبيعة) والبوذية القادمة من كوريا والصين في القرن السادس الميلادي حيث أصبح نصف الشعب الياباني يعتنقها، والمعروف أنه بعد اندحار اليابان في الحرب العالمية الثانية ودخول قوات الاحتلال أعلن الإمبراطور للملأ أنه لم يعد إلهاً وإنما هو بشر، وقد انتهزت الهيئات التبشيرية العالمية الفرصة وركزت جهودها على اليابان متطلعة إلى أن تكون "المسيحية" هي عقيدة الشعب الياباني، وفي ظل هذا الفراغ العقائدي وجد اليابانيون في الإسلام استجابة لمطامح نفوسهم وتطلعاتها بين ثلاث حركات تتصارع هي التبشير المسيحي (حيث توجد خمس جامعات تبشيرية ومدارس ثانوية وابتدائية تضم 300 ألف) ودعوة ماركسية شيوعية واشتراكية، وحركة بوذية. وقد دخل الإسلام إلى اليابان من عدة جهات من قازان عاصمة جمهورية التتار الإسلامية، ومن الصين، مقاطعة منشوريا، ومن إندونيسيا والملايو حيث اتصل أفراد جيش الاحتلال الياباني لإندونيسيا بالشعوب المسلمة هناك.(12/12)
وما تزال الدعوة الإسلامية في اليابان تشق طريقها مع آمال عريضة. وهكذا نجد أن الدعوة الإسلامية في نهاية القرن الرابع عشر ومطالع القرن الخامس عشر تواجه عديداً من التحديات.
وسيبلغ الإسلام ما بلغ الليل والنهار مع امتداد الزمان وجهاد العاملين. والحمد لله رب العالمين.
المسلمون في فجر القرن الوليد (رد الشبهات ومواجهة التحديات):
إن العالم الإسلامي اليوم يعي في وضوح تلك المحاولة الماكرة اللئيمة التي تقوم بها قوى النفوذ الأجنبي لتحول بيته وبين انبعاث النهج الإسلامي للحياة والحضارة الذي تتطلع البشرية كلها إليه وتجد فيه أملها.
إن موجات التحامل والتشكيك في جوهر الإسلام وقدرته على العطاء، وسلامة منطلقه، وأصالة هدفه، تنطلق اليوم في عنف من الصهيونية لتثير في النفس الغربية الخوف من ضياء الإسلام البازغ من خلال السحب والغيوم. وتحاول هذه الكتابات المغرضة أن صف الإسلام على أنه دين رجعي متأخر جاد معاد للحضارة والتقدم والتطور. أو تصوير يقظة المسلمين على أنها حركة معادية للغرب الصناعي المتحضر، أو التحذير من نزعة الجهاد الإسلامية، ومن هنا تبزغ دعوة خصوم الإسلام إلى إشعال الفتن المذهبية، أو العمل على خلق صراعات طائفية في الشرق بين البلاد الإسلامية حتى تحول بين المسلمين وبين التضامن الإسلامي والوحدة الجامعة، وهم في ذلك يخدعون العرب الذي يعرف أن اليقظة الإسلامية بناءة وسمحة وكريمة، وأنها تقوم على العطاء والإيجابية والسماحة والبعد عن التعصب. ويخطئ مكسيم رودنسون حين يقول أن الإسلام لم يكف يوماً عن كونه رافضاً كل تطور لمجاراة الحياة العصرية بسبب تمسكه المتزمت بحرفية الدين.(12/13)
فالواقع أن الإسلام متفتح في مواجهة الحضارات والأمم وهو لا يعارض النظم المختلفة ولكنه يؤمن بالحفاظ على ذاتيته ومنهجه العقائدي والفكري الذي ينطلق منه إلى التعامل السمح الكريم مع الأمم والشعوب، إما أن يفرض على المسلمين أسلوب عيش غير أسلوبهم في محاولة لمسخ شخصيتهم وإذابة كيانهم الخاص في أتون الأممية العالمية أو أن يكون الإسلام مبرراً للحضارة الغربية المضطربة في مرحلة أفولها وانهيارها فإن ذلك لن يكون.
ويكفي الإسلام أنه بحافظ على كيانه ويقيم حضارته ومجتمعه ليكون نبراساً للبشرية ليهتدي به إلى طريق الله. ولكنه لن يكون عدوانياً أو مدمراً لحضارات الأمم أو وجودها.
وحين نتلفت اليوم ونحن على أبواب القرن الخامس عشر الهجري نجد المسلمين وهم يبنون كيانهم الحضاري الاجتماعي وسط المحاولات التي تحاول أن تحول بينهم وبين اكتمال إرادتهم، وفي أفغانستان يقاوم المسلمون نفوذاً غريباً يحاول السيطرة عليهم، وفي باكستان نجد العمل الجاد في سبيل إقامة المجتمع الإسلامي الأصيل، وفي تركيا نجد الاتجاه الصحيح نحو تحرير المسلمين من نفوذ الإيديولوجيات والأنظمة ماضياً في طريقه.(12/14)
يكشف هذا نجم الدين أربكان حين يقول: إن الصهيونية والماسونية حاولا عزل تركيا عن العالم الإسلامي، ومؤامرتهم مستمرة. ذلك أن المعركة بين الإسلام في تركيا والصهيونية قد اتخذت أشكالاً عدة وهي حرب طويلة المدى وهي مستمرة منذ خمسة قرون منذ فتح السلطان محمد الفاتح القسطنطينية وعمل على فتح روميه ولكن هذا الصراع في المائة سنة الأخيرة أخذ شكل مخطط أعد له سلفاً فاستطاعت بعض القوى عام 1839م أن تؤثر في جسم الدولة الفكري وتدخل القوانين الوضعية البعيدة عن الإسلام بواسطة المنظمات اليهودية الماسونية، وقسم العمل اليهودي في تركيا إلى ثلاث مراحل مدتها ثلاثون سنة وهي عبارة عن تنفيذ فكرة تيودور هرتزل بإسقاط الدولة الإسلامية في تركيا، أما المرحلة الثانية فقد استمرت عشرين سنة وهي تقسيم الدولة العثمانية إلى دويلات صغيرة، أما المرحلة الثالثة فقد استمرت خمسين سنة وكانت لإبعاد تركيا عن الإسلام.
ثم نشأ حزب الاتحاد والترقي وكانت له علاقته باليهود والماسونية، ومن ثم استطاع إسقاط السلطان عبد الحميد وبدأ في إبعاد تركيا عن الخط الإسلامي وتغريبها بطرق عديدة أهمها العلمانية التي كانت تعني في تركيا بالتحديد اضطهاد المسلمين.(12/15)
ثم بدأت تركيا الإسلامية تكشف عن وجودها، وبدأت تتحرر من أساليب التغريب، وهي اليوم على مفرق طريق اليقظة الذي يعم العالم الإسلامي كله تطلعاً إلى تحقيق أهدف كبرى، منها إنشاء الأمم المتحدة الإسلامية وإقامة السوق الإسلامية المشتركة وإيجاد الدينار الإسلامي الموحد والمعاهد الثقافية الموحدة والوحدة الإسلامية للدفاع عن العالم الإسلامي، وهناك في العالم الإسلامي كله إيمان أكيد بأنه لا تقوم للإسلام دولة إلا بتكوين الفرد المسلم الذي تربى على أساس من القرآن والسنة وهدى من السيرة. ولابد من انبثاق نظم البلاد الإسلامية وقوانينها ومعارفها واقتصادها وسياستها الخارجية من النظام الإسلامي. وحيثما ننظر من حولنا نجد أضواء الأصالة تزحف مع مطالع فجر القرن الخامس عشر. ففي اليابان يقول الدكتور شوقي فتاكي: أن هناك 30 ألف مسلم ياباني يشكلون مجتمعهم الجديد ويدعون إلى الوحدة الإسلامية والجهاد من أجل تحرير المسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي. بالإضافة إلى جميع المقدسات الإسلامية وقد وحدنا القوى الإسلامية اليابانية في دعوة للتضامن مع المسلمين ونحن ندعو اليوم إلى تجديد وصقل الوحدة والتضامن للقوى الإسلامية في العالم أجمع من أجل تحقيق تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا العالم الحديث.
ومن أفريقيا نجد المجلس الإسلامي لجنوب أفريقيا يكشف عن الأخطار التي تواجه المسلمين وخاصة في شأن تربية الأطفال تربية إسلامية، وما يتطلع إليه الشباب المسلم ليكون قادراً على مواجهة التيارات المعادية للإسلام وخاصة هجمات الماركسيين والمستشرقين ودعاة المذاهب الشرقية. ويتطلعون إلى إقرار برنامج شامل للتربية الإسلامية، مقوم على أساس تثبيت قواعد العقيدة الإسلامية.(12/16)
ويعلق المجلس الإسلامي أهمية كبرى على نشر الإسلام في جنوب أفريقيا وهذا دور المنظمات الإسلامية، ويرى أن جنوب أفريقيا مهيأ لانتشار الإسلام لأن هناك من المسلمين المقيمين بجنوب أفريقيا منذ ثلاثمائة سنة، وأن أول مسجد في مدينة الكاب يعود إلى عام 1790 كما يوجد بجنوب أفريقيا 150 مسجدًا.
وهكذا أينما يولي المسلم وجهه يجد اليقظة الإسلامية وهي تتدافع في قوة لتحقق هدفاً واضحاً في هذا القرن الخامس عشر هو الخروج نم التبعية الغربية سواء جاءت من الاستعمار أو الصهيونية أو الشيوعية، ووصولاً إلى الرشد الفكري وتحقيق غاية أساسية هي بناء الشخصية الإسلامية والحفاظ عليها والتضحية بكل عزيز وغال في سبيل هذا التميز الذي عرف به المسلمون بين الناس والملل.
وعندما نراجع خريطة المتغيرات نجد أن الدعوة الإسلامية تمضي في كل طريق وتقتحم كل مجال وتستعمل كل أسلوب على هذا النحو:
أولاً: نجد انتشار الإسلام بالدعوة الإسلامية في مختلف بقاع العالم حيث يتحقق ما وعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدخول إلى كل دار في زاوية من زوايا الأرض.
ثانياً: انتشار دعوة التصحيح وتحرير المفاهيم والعودة إلى منهج الله في كثير من بلاد المسلمين حيث تتنامى قوة المطالبة بالعودة إلى الشريعة الإسلامية واكتشاف هذه الأقوام مدى النتائج الخطيرة التي تحققت نتيجة التبعية للمنهج الوافد سواء في مجال الفكر أو الاجتماع أو الحكم.
ثالثًا: بروز الذاتية الإسلامية في بلاد قاست طويلاً من مظالم العلمانية وسيطرة الدكتاتورية الفردية الحاكمة ونماء أجيال جديدة تكشف لها زيف هذه التيارات التي جرت فيها الأمم طويلاً.
رابعًا: بروز فريضة الجهاد كعامل حاسم في حل المشاكل ووضوح هذا العمل وقيامه بدور ضخم في تحرير كثير من الأوطان الإسلامية.
خامسًا: نماء القوة العسكرية الإسلامية في مختلف أجزاء العالم بحيث تصبح قوة واحدة عندما تلتقي القلوب على وحدة إسلامية صحيحة.(12/17)
المشروع الحضاري الإسلامي
الأستاذ/ أنور الجندي
لم يعد هناك مفر من أن يتقدم كتاب ومفكرو الأمة الإسلامية بتصوراتهم للمشروع الحضاري الإسلامي الذي أصبح ضرورة ملحة بعد أن مر المسلمون والعرب خلال السنوات الأخيرة بهذه التحديات الخطيرة التي واجهتهم والأخطار التي حاصرتهم مما يتطلب وضع تصور أصيل مستمد من مفهوم الإسلام الجامع ليكون نبراسًا للخطوات المتصلة على طريق الأصالة والعودة إلى المنابع وإقامة معاصرة في دائرة الأصالة يكون فيها (البناء على الأساس) وليكون هذا المشروع الحضاري الإسلامي بديلاً للمشروع الحضاري الوافد الذي حاول السيطرة على مقدرات المسلمين والعرب خلال قرن ونصف قرن من الزمان بعد أن ثبت عجزه عن العطاء وفشله في تحقيق الأمن النفسي والمجتمع الرباني .
ولقد أقام الإسلام منهجه الأصيل على أساس وحدة الفكر الجامع التي توسع دائرة الالتقاء والتعارف وتضيق دائرة الخلافات حتى تصل الإنسانية إلى عصر التراحم والوفاء من خلال المنهج الرباني الذي رسمه الحق تبارك وتعالى بديلاً للمنهج البشري القائم على الصراع والقتال وإثارة الأحقاد والخصومات والمطامع على النحو الذي نراه اليوم .
والذي يتطلع دعاته إلى شق القوى المجتمعة وتدمير الروابط والتي تستهدف أساسا تحويل الكيان الإسلامي الكبير إلى كيانات وكانتونات متصارعة وذلك بإيقاظ الخلافات المذهبية والتفرقة العرقية .
والواقع أنه لا سبيل لأي مشروع حضاري علماني أو قومي أو بشري أن يمكن لقيام الأمة القادرة على حمل رسالة الحق تبارك وتعالى للعالمين ، إلا إذا استمد مفاهيمه من الأصل الأصيل الخالد : النص الموثق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والذي جمع مختلف القيم الربانية العليا التي وهبها للبشرية (القرآن الكريم) والسنة الشريفة .(13/1)
ومن هنا فلا بد أن يكون المنطلق الحقيقي من القرآن والسنة على النحو الذي بدأت به النهضة الأولى إيمانًا بأن القرآن كتاب البشرية الخالد الصالح لكل زمان ومكان والذي هو الينبوع الذي تنطلق منه المناهج والخبرات التي تمكن المسلمين خاصة (والبشرية عامة) من جني الثمار من خلال مخاطبة العقل والقلب والوجدان .
ومن هذا المنطلق يمكن تأصيل كل المنظمات القائمة وردها إلى منابعها : منظمة الانتماء ، ومنظمة المجتمع ، ومنظمة التعامل الخارجي مع الغير وتكامل المجتمع الداخلي وتصحيح مسار الاقتصاد ورفض النظام الربوي ووضع المرأة في مكانها الطبيعي عمادًا للأسرة والمجتمع وبناء التعليم على أسس التربية الإسلامية وتوجيه أدوات الترفية والتسلية نحو الوجهة السليمة التي تحقق هدف الترويح دون الدخول في دائرة الانحراف والتبذل وحماية الوجود الاجتماعي كله من الانحراف الأخلاقي ومن الفساد والفحشاء والإثم كله .
ولما كان الإسلام يمتلك قوة رائعة لا يمتلكها إلى منهج بشري أو أيدلوجية أخرى ؛ تلك هي الوسطية : وسطية التوازن والتكامل والمواءمة بين القيم بحيث لا يوجد من خلال ذلك أي صراع طبقي أو حصون بين الأجيال أو تضارب بين الآباء والأبناء .
هذا التكامل الجامع في الإسلام إنما يمثل ظاهرة حية نابضة بالقوة تمثل تكامل الفكر والوجدان ، وتكامل العقل والروح ، وتكامل الأصالة والمعاصرة ، تكامل النظرية والتطبيق ، تكامل الثوابت والمتغيرات هذا التكامل يفرض مسؤولية خطيرة على الفكر الإسلامي وهي أن تقف موقف المراجعة الواسعة للفكر المادي الغربي والفكر الروحي الشرقي باعتبار أم كل منهما يمثل (انشطارية) لاتحقق سلامة النظرة حيث تقف النظريات موقف التجزئة بينما يتميز الإسلام والإسلام وحده على جميع النظريات والأيدلوجيات والمذاهب في الشرق والغرب وفي القديم والجديد بكمالية النظرة والتوجه .(13/2)
ويجب أن يكون واضحًا أمام الأمة الإسلامية أن التجربة الغربية بشطريها قد انتهت إلى الفشل وأن المسلمين لا يأخذون نظم الآخرين ولكنهم يستفيدون من الأنظمة والوسائل فيصهرونها في بوتقة فكرهم ويحولونها إلى مواد خام ينتفعون بها دون أن تحاصرهم أو ينصهروا فيها .
إن المشروع الحضاري الإسلامي يقوم على أساس الوحدة الثقافية بين كل العناصر التي تستظل بلواء الأمة الإسلامية انطلاقًا من رسالات السماء التي جاء الإسلام خاتمًا لها فأحسس ثقافته وقيمه ومعالمه التي هي بالنسبة للمسلمين دين وعقيدة وبالنسبة لغير المسلمين ثقافة وفكر لأنها تقوم على أساس التوحيد والإخاء الإنساني والالتزام الاخلاقي والمسؤولية الفردية .
ذلك أن رسالة الإسلام منذ جاءت فقد صهرت كل قيم الأديان واخلاقياتها في منظور جامع واحد قوامه اللغة العربية وقد جمع القرآن الكريم أصول رسالات السماء كلها من صحف إبراهيم وتوراة موسى وزبور داود وإنجيل عيسى .
والواقع أن عوامل الوحدة موجودة وقائمة وتمثل الثقافة الإسلامية الآن ثقافة المنطقة العربية والإسلامية كلها ، وقد جاء الإسلام لإقامة وحدة جامعة ، قوامها تكريم العناصر غير الإسلامية وإعطائها حريتها الدينية وإشراكها في مجريات النهضة والحضارة والعلم كما حدث في العصور الأولى ، والعمل على رفض ومقاومة مؤتمرات الغزو الفكري التي تهدف إلى إثارة الفتن والوقيعة والصراع بين عناصر المجتمع المتكامل وقد كانت الشريعة الإسلامية عنصرًا حاميًا ومؤكدًا لحقوق العناصر المختلفة التي صهرها المجتمع الكبير في بوتقته .
إن النظام الإسلامي هو المنطلق الحقيقي لبناء المشروع الحضاري الإسلامي بقاعدته العريضة من خلال فروعه الثلاث :
1- الشورى . 2- العدل الإجتماعي . 3- الحدود والضوابط .(13/3)
وهذه القيم الأساسية هي وحدها التي تمكن المجتمع الإسلامي من التماثل المفضي إلى الوحدة الإسلامية الجامعة حيث تتسع دائرة التشابه وتمتد بمفهوم (التعارف) الإسلامي بحيث تلتقي كل العناصر والأقطار والقوميات والنحل حيث يصور الوطن الإسلامي وحدة كاملة في مجال الاقتصاد والثروة والقوى العاملة والأرض الزراعية ومعطيات الركاز مما تكشف عنه الأرض كالبترول والمنجنيز والكوبلت .
وليس هناك طريق آخر لبناء المشروع الحضاري الإسلامي غير إقامة هذا التصور السياسي والاقتصادي على أساس منهج الإسلام نفسه وليس على واقع المجتمعات القائم الأول والذي تشكل خلال السنوات الأخيرة من خيوط وافدة مغايرة لمعدنه الأصيل ومنهجه الصحيح حيث توضع قضية الديمقراطية بديلاً عن تطبيق الشريعة أو اعتمادها – أي الديمقراطية مرتكزًا أساسيًا للمشروع الحضاري الإسلامي ، ذلك أن الديمقراطية الغربية لم تستطع أن تحقق الشورى في مجتمعها الذي جاءت منه ، فبالأولى أنها لا تستطيع أن تكون قاعدة نظام يعتمد على المنهج الرباني ونحن نعرف الديمقراطية منذ جاءت من الغرب وكيف عجزت عن تحقيق أي عدل اجتماعي أو شوري حقيقية ، وأن ما نحتاجه منها وهو (الحرية) موجودة لدينا في النظام الإسلامي على نحو يعرف (بالحرية المنضبطة) وهي لن تكون إلا مدخلاً لتحقيق التصور الإسلامي أما ما يقال من أن تطبيق الشريعة (يتم في نهاية المطاف إذا قدر له) فذلك هو ما ينطلق من أهواء الذين يرمون إلى قيام مشروع حضاري إسلامي مغلوط ترضى عنه القوى الغربية ذات السلطان والتي ترغب في تفريغ الإسلام من مضمونه الحقيقي وتقص أجنحة الصحوة الإسلامية بالتمويه لتحجب مفهومات أساسية ترغب في حجبها : كالخلافة والشريعة الإسلامية والحكم وتحريم الربا ثم تضع كلمات أخرى زئبقية بحث لا يبقى بعد ذلك من الفكرة الإسلامية الأصيلة إلا تثبيت العلمانية الموجودة الآن والقائمة فعلاً بغلاف براق والحقيقة أنه لا عدل اجتماعي(13/4)
ولا حرية حقيقية (حرية منضبطة) ولا شوري ملزمة إلا من خلال المنهج الإسلامي .
والحقيقة أن المسلمين عربا وفرسا وتركا وهنودًا مسلمون تجمعهم مظلة لا إله إلا الله يليقون على مساحة واسعة من التكامل النفسي والاجتماعي ولا يحتلفون إلا في مساحة قليلة من عوامل البيئة أو ظروف العصر فالربانية هي القاعدة الأساسية لقيام المشروع الحضاري الإسلامي التي تجعل الوجهة خالصة لله تبارك وتعالى في دائرة ما أحله وتبعد عن دائرة ما حرم .
فإذا أردنا أن نتصور المنظومة الإسلامية وجدناها تتمثل في الوسطية الجامعة بين الروح والمادة والعقل والقلب والمنهج والتطبيق والوحي والنقل ، لقيم الشورى منطلقًا للحكم ولقيم الزكاة منطلقًا لحماية المجتمع وترسم الاقتصاد وفق حماية الأمة تأخذ من غنيها لتعطي فقيرها ، وتقيم حياتها كلها على أساس الأخلاق التي هي وعاء المجتمع والحضارة والفرد أيضًا .
والتي تبني الفرد المسلم على أساس المسؤولية الفردية والالتزام الأخلاقي وتجعله منطلقًا لبناء الأسرة المسلمة فالجماعة المسلمة فالحكومة المسلمة وتحقق رعاية كاملة لكل عناصر المجتمع لا تغفل الحدود والثغور وتنهض بمفهوم الجهاد الإسلامي (واعدوا) لهم ما استطعتم من قوة ترهبون بها عدو الله وعدوكم وهي ما يمسى في العصر الحديث (القدرة على الردع) وحماية أسرار الأمة وكيانها (لا تتخذوا بطانة من ذويكم) ويجب أن يكون واضحًا أن الشورى الإسلامية ليست هي الديمقراطية وأن العدل الاجتماعي ليس هو الاشتراكية كما يحاول البعض التمويه على الشباب المسلم ولنكن واعين تمامًا إلى حقيقة أساسية وهي أن الفكر الليبرالي الغربي قد اثبت منذ سنوات عديدة ومنذ عرفته البلاد العربية والإسلامية عجزه تمامًا عن العطاء حتى في دائرة بلاده حيث يطالب الناس بنظام اقتصادي جديد ، كذلك كان الأمر بالنسبة للنظام الماركسي الاشتراكي .(13/5)
وقد أكدت الأحداث هذه الحقائق حين استعلن في السنوات الأخيرة فشل الفكر الماركشي في بلاده بعد سبعين سنة من التطبيق حيث انهارت القواعد الماركسية اللينية وسقطت تماثيل ماركس ولينين وستالين في مختلف عواصم الغرب .
وكذلك كشفت الأحداث الأخيرة عن عجز الفكر الوافد كله سواء القومي أو الاشتراكي عن العطاء وانهارت هذه الدعوات .
وإذا كان الفكر اليساري قد عجز عن العطاء فمن باب أولى أن يعجز التيار اليساري المسمى بالإسلامي والتيار الإسلامي القائم على مفهوم الاستعلاء بالمفاهيم العقلانية المتخذة من المعتزلة والتي لا تقدم الإسلام مفهومًا جامعًا متكاملاً بين الوحي والعقل .
أما الحملة على الخلافة فهي لا تحجب دعوة الوحدة الإسلامية الجامعة التي يمكن أن تتشكل في أي صورة من صور العصر وقد قدمها بعض فقهاء القانون وغيرهم في صورة كومنولث إسلامي أو جامعة إسلامية فإذا أضفنا إلى هذا التعددية الحزبية والشورى الملزمة والعلاقات السمحة مع غير المسلمين وترابط العروبة والإسلام تشكلت أمامنا صورة واضحة لملامح وخيوط المشروع الحضاري الإسلامي الذي يتطلب العمل من الآن على : الأسس التالية .
أولاً : أسلمة المناهج والعلوم والمعرفة وتقديم البدائل الأصيلة مكان المفاهيم الوافدة في مختلف المجالات .
ثانيا : بناء قاعدة صلبة للتربية الإسلامية الخالصة التي تحتفظ بعناصر الأمة وقدرتها على الإيمان بحق الله تبارك وتعالى على المسلم في دائرة الاستخلاف والعمران والسعي والتحرر من الضعف والرخاوة والترف الوهمي وكلها من علامة الهزيمة التي تبثها أدوات الترفيه .(13/6)
ولابد أن تخرج الأمة الإسلامية من طابع الضعف وتدخل مرحلة الصمود والعزيمة وذلك حتى تستطيع أن تحقق وجودها الحقيقي وتقيم مجتمعها الأصيل الذي يحمل طابع ذاتيتها الخاصة المي دائرتحرر من التبعية وذلك حتى تستطيع أن تقدم الإسلام للبشرية كلها لتحررها من عوامل القلق الهائل الذي أصاب النفوس والأرواح نتيجة عبادة المادة وتزلزل قيم الأخلاق وهذا إجمال له تفصيل.
***(13/7)
الوجه الآخر لطه حسين من مذكرات السيدة سوزان "معك"
الأستاذ أنور الجندي
نشرت السيدة سوزان طه حسين مذكراتها عن حياتها مع زوجها في مجلة "أكتوبر" المصرية ولما كنا قد أصدرنا كتابنا (طه حسين: حياته وفكره في ميزان الإسلام) فقد طلب إلينا بعض القراء أن نقدم تصورنا لما كتبناه من قبل في ضوء هذه المذكرات وعما إذا كانت هذه المذكرات تغير شيئاً من وجهة نظرنا السابقة التي كشفناها في كتابنا وخاصة أن الحلقات بلغت بضع عشرة حلقة وتعرضت لمواقف كثيرة من حياة الدكتور ويسعدنا أن نجيب على هذا التساؤل وهو موضع اهتمامنا ولقد كان من حق قراء الاعتصام الزاهرة علينا - ونحن نشرف بأن ننتسب إلى كتابنا منذ بضع عشرة سنة - أن نقول إن ما كتبناه عن طه حسين كان محاولة لترجمة حياة رجل دوى اسمه في الشرق والغرب وسيطر سيطرة كاملة على الأدب والصحافة في الفكر سنوتا طويلة وله تلاميذ وأتباع وله فوق 1لك آراء ومفاهيم. ولقد قدمنا حياة الدكتور طه حسين مدعومة بالوثائق والأسانيد ولم نعرض لأمر ما في هذه الحياة دون أن نقدم "الوثيقة" الدالة عليه وخاصة في مجالات البحث عن علاقاته بالاستشراق وفرنسا والصهيونية والمسيحية والشيوعية ولم نكن في صف الاتهام له بأي حال وإنما كنا محايدين، غير أن مجلة "الهلال" هي التي صبغت ذلك كله بصبغة الاتهام حين أصدرت عددها "مايو 1977 م" بهذه العناوين:
طه حسين في قفص الاتهام.
هل كان طه حسين شيوعياً.
هل كان طه حسين عميلاً للصهيونية.
ها تنصر طه حسين في كنيسة في فرنسا.
ولعل القارئ المتابع لهذه المذكرات قد أحس بذلك الجو الكنائسي المليء بالتراتيل والمزامير والقداس الذي أضفته السيدة سوزان على حياتهما الاجتماعية، وهذا الاحتفال المتصل بأعياد العنصرة وعيد القيامة وكيف كان طه حسين يستمتع بهذه الأحفال.
وهؤلاء الكردينالات والقسس والآباء الذين يملأون هذه الحياة.(14/1)
وذلك الاهتمام بأجراس الكنائس حين سمي (كلود) الذي هو مؤنس ديوانه باسمها.
وذالك الهتاف الذي سجلته السيدة لابنها حين يصبح يوم الأحد "يا صباح إحدى الجميل" تقول السيدة سوزان: عندما تأسست جامعة الدول عام 1925 م اتخذ الطريق إلى بيتنا قادمون جدد، هناك بدأت جلسات الأحد التي سرعان ما اتسعت كثيراً في الزمالك، كان طه خلالها قطباً حقيقياً، إذ ما كاد الأساتذة الأجانب الذين كانوا يؤلفون أول فريق يصلون إلى مصر، حتى يأتوا بالطبع إلى بيتنا لقضاء ساعة أو ساعتين برفقة زوجاتهم، وكان منهم العميد جرايجور والفيلسوف إميل برهين، وعالم الآثار الإنجليزي بحرندور والشخصية الساحرة سكايف الذي كان أستاذاً للأدب الإنجليزي وسالمر وسانياك.
ونحن نعرف معنى هذا تماماً، لقد فتح طه حسين أبواب الجامعة (وكلية الآداب بالذات) للمستشرقين وعتاة الدراسات التبشيرية والتغريبية ليحطموا في نفوس أبناء أمتنا كل عقائدهم ومقدساتهم فكان لابد أن يصلوا أول الأمر عند هذه (القاعدة) التي بنوها في مصر، ومن هنا نجد أن السيدة سوزان تقول أنه عندما ترك طه الجامعة أعلن هؤلاء الأساتذة أنهم لن يدخلوا الجامعة إلا إذا عاد هو؛ وهذا ليس معاً يفسر على أنه مكانة عالية لطه حسين وإنما هو في الحقيقة علامة على التبعية.
وتقول السيدة طه حسين: وخاصة تلك اللقاءات التي كانت تتم بوجه خاص مع أناس قادمين من خارج مصر والتي كانت تزداد بنسبة مثيرة وكانت حصيلتها محاورات خصبة بالنتائج وتبادل الأفكار واتهامات مختلفة بقدر ما كان ينتج عنها أيضاً حجارة جديدة من أجل البناء الذي كان طه حسين يتابع إنشاءه بكتبه ونشاطه.(14/2)
ونحن نعرف أن هذه الجلسات مصدر تلك القنابل المحرقة التي كان طه حسين يلقيها على الإسلام والتاريخ الإسلامي والفكر الإسلامي يوماً بعد يوم، وأنها كانت مصدر الوحي لدراساته المختلفة التي سبق بها المستشرقون أنفسهم إلى تصورات تهدم التراث الإسلامي حتى لتقول السيدة طه حسين أنه كتب إليها مرة يقول: "إن أبحاثي الشخصية تصل إلى نتائج كبار المستشرقين نفسها. أتدرين أنني قررت ألا أقرأ أبحاثهم إلا بعد أن أنجز أبحاثي لأكون على علم بها فقط".
ومعنى هذا في تقديرنا أن طه حسين قد تمكن من العقيدة الاستشراقية بمفاهيمها إلى الدرجة التي لم تجعله في حاجة إلى أن يقرأ للمستشرقين، ونحن نعجب كيف أن طه حسين طابق المستشرقين أو سبقهم أو تابعهم في آرائه المختلفة.
في رأيه في الشعر الجاهلي الذي سبقه به مرجليوث.
في رأيه في المتنبي الذي سبقه به بلاشير.
في طريقة كتابه هامش السيرة التي سبقه بها الكاتب المسيحي فلان.
في نظرية في الأدب والنقد التي سبقه بها تين وبرونتير.
في نظرية أن الدين نبت من الأرض ولم ينزل من السماء كما سبقه بها دوركايم.
في رأيه أن وجود إبراهيم وإسماعيل لا دليل عليه تاريخياً وقد سبقه بها هاشم العربي.
ولعجب لأن السيدة طه حسين تكرر دائماً عبارة أن الطلبة حملوه على الأعناق وأن الطلبة هتفوا له وأن الأزهريين حضروا محاضراته في الجامعة الأمريكية وصفقوا له. نحن نعرف كيف كانت الحزبية تنظم هذه الاحتفالات فلا تخدعنا أبداً ونعرف أن المصريين يحبون "الفرجة" فهم يجتمعون في المحاضرات لا ليسمعوا طه حسين ولكن ليشاهدوه بعد أن عزل من الجامعة أو أخرج من الوزارة أو أي موقف آخر فليس هذا دليلاً على الحب والولاء، وليس له دليل على المتابعة في الرأي.(14/3)
نحن نعرف كيف كان الطلاب يحملون الأساتذة في مظاهرات الأحزاب ونعرف أن طه حسين عندما سافر إلى الصعيد وهو وزير المعارف كان يفاجأ بأن يهتف باسمه في كل محطة يقف فيها القطار يبتسم ويحيي هؤلاء ظناً منه أن الأمة كلها خرجت لاستقباله وقد تبين من بعد أن حزب الوفد قد حجز عربة لمجموعة من (الهتيفة) كانوا ينزلون من القطار عندمل يقف ويتقدمون إلى الديوان الذي يجلس فيه فيهتفون ثم يسرعون بركوب القطار.. ويا للسخرية.
ولقد عرفنا من مذكرات السيدة سوزان طه حسين:
صورة تدعو إلى التساؤل:
لماذا هذا الاهتمام الخطير بالاتصال بالأحزاب والصراع والخصومة مع زعماء الأغلبية – أول الأمر – والانتماء إلى أحزاب الأقلية، ثم تحوله بعد ذلك، لماذا هذا الصراع مع الأحزاب وهو الرجل الأديب في الجامعة والعالم الذي يجب أن يحتفظ بطابع العلماء وحده.
ولقد أجبنا على ذلك في كتابنا: أن طه حسين يعتصم لبالأحزاب ويقوي مركزه بها ليكون أكثر قدرة على تحقيق ما هو مطلوب منه، في تغيير المناهج وفي تعيين الأساتذة وفي استقطاب الأجيال التي تسير وراء خطته وتحمل آراء التغريب والغزو الثقافي.
وتسود مذكرات السيدة سوزان صورة الولاء الأجنبي واضحة وذلك في عدة مواضع منها زيارته لإيطاليا واشتراكه في مؤتمر المستشرقين.. تقول: كان المطران تيسيران (ولم يكن قد أصبح كاردينالاً بعد) يعرف طه حسين معرفة جيدة فأخذه من ذراعه وقال لي مبتسماً: "لا تقلقي سوف أعيده إليك" وكان المطران تيسيران هو الذي قدم طه حسين إلى البابا بيوس الحادي عشر وكان بيوس الحادي عشر مستشرقاً وكان قد أراد استقبال مؤتمر المستشرقين وقد وجه لطه كلمات في منتهى الرقة كما وجه إلي أيضاً مثلها.(14/4)
وبعد الجلسة الأولى تنازل (نلينو) عن رئاسة التعليم لطه ونحن نعرف معنى هذا كله وتقدير هؤلاء جميعاً والكنيسة الكاثوليكية كلها لأفضال طه حسين، ونعرف معنى أن يضعوه على رأس مؤتمر الاستشراق. تقول: ولم يسبق أن حدث هذا الأمر إطلاقاً. ونحن نعرف أن طه تميز عن جميع الذين اصطتعهم الاستشراق.
وتصور السيدة سوزان كيف أن جميع المستشرقين في أنحاء الأرض كانوا إذا مروا بمصر زاروا طه حسين: وأن جورج حنين والأب قنواتي كانوا يأتون بأصدقاء يمرون عبر القاهرة إلى بلد آخر، وإنها كانت وطه يلتقون بهم في بلادهم بعد: في فرنسا أو في إيطاليا.
وتعجب السيدة سوزان لأن المشايخ كانوا يحاورون بصداقة من الأدباء الدومينكان أو مع رئيس كلية الأسرة المقدسة الأب العزيز (فارغو) أو الأستاذ جورج درينتون مدير معهد الآثار أو المطران ديبس أو اديل أو ابنا ميل أو موسكاتيلي.
وتدهش لهؤلاء المشايخ، فليس هؤلاء إلا مصطفى عبد الرازق وأمين الخولي وبعض الأذلاء الطامعين في نفوذ طه حسين للحصول على درجة أو منصب.(14/5)
ولقد أضفت السيدة سوزان على مذكراتها روحاً كنسياً وطابعاً مسيحياً خالصاً مما يدهش له القارئ، ويعجب كيف عاشت هذه السيدة في مصر خمسين سنة ولم تستطع أن ينشرح صدرها لطوابع مصر الإسلامية، بل على العكس من ذلك ظل بيتها سجناً رهيباً للغة الفرنسية فلم يكن أحد فيه يتكلم العربية حتى ابن عميد الأدب لم يعرف العربية وقد استطاعت أن تبني ذلك الحاجز الخطير بين مصر وتقاليدها وقيمها العربية الإسلامية وبينها فظلت حتى آخر أيامها لا تكتب ولا تتكلم ولا تعيش إلا في جو فرنسي وما في حياتها شيء أبداً يوحي بالروح العربية أو الإسلامية فهي في ليلة عيد الميلاد تستمع إلى قداس منتصف الليل من الراديو تبحث عن محطة فرنسية، وهي لا تستقبل إلا هؤلاء القساوسة والكردينالات الفرنسيين الغربيين. لقد عاشت هذه السيدة في مصر هذه المدة الطويلة دون أن تتمصر أو تتعرب أو تجد رائحة هذا الجو وإنما عاشت في تعصب وإصرار على جوها الفرنسي الغربي المصطنع.
ولقد كشفت السيدة طه حسين تلك الصورة القاتمة التي كان يعيشها الدكتور طه حسين، أزمات وراء أزمات وأحداث متوالية من الضيق والمصاعب والمشاق والتطلعات والبحث عن الموارد الجديدة من كل مكان فما صفت الحياة يوماً وهي في كل هذه الحلقات تعطي انطباعاً سيئاً مظلماً متجهماً لحياة طه حسين وأيامه وقد صورته بصورة الرجل الخائف المذهعور الذي تنتابه الأحداث من كل ناحية فإذا به ينقبض ويعتزل بينه وبين الناس الأبواب ولا يستطيع أن يرفع رأسه إلى السماء ليدعو الله أن يفرج عنه.
وتقول السيدة: على الرغم من دعوة الجامعة والصحيفة (جريدة السياسة) فقد بقى وضعنا المادي في منتهى السوء وبعد مماطلة ومضايقات انتهى المجلس إلى الموافقة على زيادة ضئيلة قدرها أربعة جنيهات للأساتذة.(14/6)
لقد كان ذلك عام 1922 م ومع ذلك فقد ظلت السيدة تردد هذه النغمة طويلاً فما أحست أبداً أن كل ما جاء به طه حسين من التأليف والصحافة والجامعة يكفي رليحقق طموحها في الحياة على أعلى مستوى.
تقول: "كل ما كان في السنوات التالية ينذر باستمرار إذ كان كل ذلك عاجزاً عن أن يؤمن ما يسمى بمورد ثابت".
ومع ذلك فالأستاذ سلامى موسى في حديثه مع طه حسين في الهلال سنة 1924 م يحسد طه حسين على ذلك المستوى الذي لم يصل إليه هؤلاء أبداً.
وأعطت السيدة سوزان صورة مزعجة لطه حسين الذي كان قد تحول إلى نموذج أجنبي خالص حيث يشكو لها في رسالة بعض الأزمات إبان غيابها ثم يقولا: "عندما رجعت إلى البيت: ذهبت مباشرة إلى الصورة وركعت أمامها وقصصت الأمر عليها بصوت عال". هكذا كان يفعل هذا الرجل الذي كتب تاريخ الإسلام يركع أمام صورة ويشكو لها، ألا يشكو إلى الله خير له؟ وهي تصور طه حسين وقد غرق في ترنيمات الكنائس وأجراسها وتراتيلها مع الإعجاب الصادق بجو الأحفال الكنسية والموسيقى الفرنسية على نحو يعجب له القارئ.
يقول: "بالأمس كان عيد العنصرة ومرة أخرى ترد إلى خاطري بصفاء بالغ ذكرى عبد العنصرة في (بار دونيه)، كنت قد استمعت إلى القداس في الكنيسة من الأعلى، وكان الخوري العجوز قد قرأ إنجيل يوحنا، كان: (سلاماً ارتك سلامي أعطيتم) إنجيل يوحنا – ثم كررت على مسامعك (تقول لطه) هذه الكلمات بانفعال:
أذكر هذا الصباح وأفكر في ذلك التوافق السري الذي وحدنا دوماً في احترام كل منا للآخر، كنت غالباً ما تحدثني عن القرآن وكنت تقرأ التوراة وكنت أتحدث إلى يسوع، كنت تردد في كثير من الأحيان أننا لا نكذب على الله.(14/7)
وتتحدث عن شيء آخر جد خطير، فطه حسين الذي كان مؤهلاً لأن يطرح من الأفكار ما يشاء له المخطط المرسوم أن يطرح كان حريصاً على أن يكون له سناد من الحزب الذي يحميه وكان حريصاً على ألا يحال بينه وبين نشر آرائه وأفكاره المسمومة: تقول: أنه هاجم القصر، لا لكي يدافع عن الحكومة، وإنما لأن القصر يريد الحد من حرية المعتقدات فالأديان المعترف بها هي التي ستكون مسموحاً بها في مصر والملحد لا يستطيع أن يعلن نفسه ملحداً فهل يسع الإنسان الذي دافع عن كل الحريات وفي المقام الأول حرية الضمير أن يبقى لا مبالياً".
زتقول: "نعم فقد كان يريد طه حسين أن يبقى الباب مفتوحاً لكل الأديان والنحل والمذاهب" وهي تسمي ما حدث بعد صدور الشعر الجاهلي بثورة الجهل والغضب وتصور نقد النقاد له بعبارات عجيبة فتقول: هذه الأحكام البليدة والتحيز الأخرق والحقد الحاسد ضد إنسان شريف وجره إلى المحكمة والتهديد بالموت الذي كان وراء إقامة حراسة على مدخل بيتنا أمام باب الحديقة خلال عدة أشهر.
وتقول: إنه كان يستعيد فس سنواته الأخيرة تلك العقبات التي كان يواجهها والرفض الذي جوبه به والهزء بل الشتائم من أولئك الذين كانوا بحاجة إلى مرور زمن طويل حتى يتمكنوا من الإدراك. وتقول: إدراك ماذا؟.
لقد صدق هو نفسه حين عبر في آخر حياته عن حصاد حياته بعد أن تحطمت كل النظريات التي قدنها وبان عوارها وتكشف فساد كل الدعوات التي حاول أن يقيمها ولم تكن عبارته التي سجلتها السيدة سوزان إلا رمزاً لهذه الحياة: "هل يمكن أن نجعل من الأعمى قائد سفينة".
وتقدم السيدة سوزان صورة لذلك التناصر الخطير الذي قدمه المستشرقون والكردينالات ورجال الفكر الغربي لذلك الرجل وكيف استقبله البابا وفي كل مؤتمر كانت هناك محاولات ضخمة لتكريمه وإعلاء شأنه، نياشين وتحف وهدايا وتحيات.
كان يكتب له أحدهم (بيرغستراسة) هذا الإهداء:(14/8)
طه حسين الذي يناضل في الصف الأول في سبيل تقدم الروح العلمية.
ولما أخرج من الجامعة اعتصم المستشرقون (وأدال جرانت، بيرغستراسة) وقالوا: لن نعود حتى يعود طه. وكتب المستشرق ليفي ديلافيدا مصوراً مدى الخطر على خططهم من خروج طه من الجامعة ومدى جزعهم على أهدافهم التي طان يمثلها حين قال: أحزنتني هذه الأخبار بصورة عميقة. إن تاريخ النضال من أجل الحرية العلمية لم يستكمل مسيرته بعد ولكن ذلك سيتحقق يوماً وإني على اقتناع بذلك وسيتحقق ذلك بانتصار روح الحرية والحقيقة بأن المأساة التي أصابتكم ستكون عارضة وأني لعلي يقين من ذلك لأن قضية كقضيتكم بل أقول قضيتنا هي من القضايا التي لم تكن خاسرة في يوم من الأيام.
ونقول لهؤلاء: لقد خسرت قضيتكم أخيراً وانكشف فسادها.
ذلك بعض ما قدمته لنا مذكرات السيدة سوزان وإليك هذه الملاحظات:
كان الدكتور طه حسين حريصاً على أن يصور نفسه للناس على أنه غضنفر لا تجتاحه الأحداث ولا تنوشه السهام فهو قائم دائماً مقام الدفاع عن نظرياته.
ولكن مذكرات السيدة سوزان كشفت عن صور مغايرة تماماً لذلك فهي تقول مثلاً: أنه في قضية إسماعيل صدقي، مر طه حسين بساعات يائسة إلى حد أنه اعترف لي (طه حسين) بعدها أنه فكر كثيراً في الانتحار.
وتقول: لقد حدث لنا شيء مذهل أطلق نفسه عليه وصف (الشيطان) فقد وقع نتيجة الإرهاق والمرض والوضع الفاضح وتمسكه في عزل نفسه عن الناس فريسة إحدى التوبات السوداء المحنقة التي كثيراً ما عرفتها، كان إذ ذاك يحبس نفسه وراء صمت شرس مخيف كما لو أنه سقط في أعماق حفرة لا يستطيع أي شيء على الإطلاق أن ينتزعه منها، كانت حياتي تبدو كأنما قد توقفت وانسحقت بلا أمل في مواجهة عزلة مطلقة يفرضها على نفسه ورفضه العنيد سماع أقل كلمة تريد أن تحاول معونته.(14/9)
وهي تتحدث عن عمله في كوكب الشرق بعد أن خرج من حزب الأحرار وانضم إلى الوفد دون أن تشير إلى ذلك أدنى إشارة، عندما ترك أصدقاء الأمس وهددهم في كوكب الشرق بفضح أسرارهم ولكن الذي يهم السيدة سوزان هو الموارد المادية فقط.
تقول: "كان يعمل في جريدة كوكب الشرق كما يعمل محكوم عليه بالإشغال الشاقة فقد كان يقضي فيها كل ساعات الصباح وعندما حل الصيف كانت الحرارة لا تطاق وكان المتطفلون الذين يغيظونه يوجدون دوماً عنده في اللحظة التي يكتب فيها مقاله".
أمر لا يكاد يصدق، كيف أنهم لم يدركوا أنهم كانوا يسببون له المزيد من التعب بتطفلهم هذا.
وتقول: "إنه اندفع في الكتابة فأقيمت دعوى على الصحيفة، وذهب طه حسين عدة مرات إلى النيابة. أما هي فكانت قد سافرت إلى فرنسا لأنها لا تحتمل صيف مصر وتركته فكتب إليها يقول: يبدو أني أهنت الشيخ الأكبر وكل المشايخ ورئيس الوزراء وكل الوزراء بل ربما أهنت في النهاية كل الناس، كان ذلك عملاً أحمق وشريراً، بل أن المحقق نفسه لم يخف إشمئزازه مما كان يعمله وكنت أود لو سمعت إجاباتي الساخرة".
تقول: "واستعمرت الخصومات التي لا تطاق مع مالك عنيد، لم يستطع طه أن يتابع العمل في هذا الجو فالنحاس يشجعه معنوياً من ناحية وتقنطه اللامبالاة العامة من جهة أخرى" وأخرج جريدة الوادي، وتقول أنه كان "يتشاجر مع الآلات التي لم تكن تسير، ويشكو من الورق الذي لا يرسلونه وحروف الطباعة التي لم تكن تكفي".
وتصور كيف كان الموقف بعد إخراجه من الجامعة فتقول:(14/10)
كان يدفع غالياً ثمن جريدته في أن يكون إنساناً حراً، إلا أنهم كانوا يريدون سحقه حقاً هذه المرة إذ لم يكتفوا بطرده من الكلية التي كان عنواناً لعزتها وكرامتها وقوة نابضة فيها، وإنما أرادوا إحراق كتبه فأخذوا منذ بيته الذي يسكن فيه وأغرقوه بالشتائم وحاولوا أن يحرموه من كل وسيلة للعيش بمنعهم مثلاً بيع الصحيفة التي كان يصدرها وبإنذارهم البعثات الأجنبية في مصر بالكف عن أن تقدم له عروضاً للعمل ولابد هنا من الثناء على الجامعة الأمريكية في القاهرة التي تحدث هذا الإنذار وطلبت إلى طه حسين تقديم مجموعة من المحاضرات الأمر الذي قدم له دعماً لا يقدر بثمن.
تقول: ولم يقف الأمر عند هذا الحد فإن القوى قد تنادت لنصرته وسأله كبيرهم (ماسنيون) عما إذا كان على استعداد للذهاب للولايات المتحدة وتوالت دعواته إلى المؤتمرات.. أصدقاء في فرنسا وفينا وإيطاليا (ليتمان وبيرغسترا وبونكر) وغيرهم.
وكانت تصور بإعجاب موقف طه حسين وهو يرثي كبار رجال الاستشراق باسم الجامعة المضرية وكيف زار الجامعة العبرية بالقدس وكيف وقف يرلي بول دومير (مؤسس الكوليج دي فرانس) وما أدراك ما الكوليج دي فرانس إنه المعهد الاذي يخرج قادة التغريب في بلاد المسلمين.
تقول: "وقف طه حسين يلقي خطاب الجامعة المصرية في جلسة مهيبة في القاعة الكبرى بجامعة السربون، وعندما وصلنا طه حسين وأنا إلى المنصة الكبرى نزل بول درجات المنصة وجاء إلينا وتناول ذراعي طه حسين بذراعيه فصفق الحاضرون تصفيقاً بلغ من القوة حداً أثار ذهول أمي" نعم وأكثر من هذا يحدث: أليس رجلهم في مصر والشرق، ألم يكن أعظم ثمرة في الشجرة كلها: هذا الذي سموه رينان الشرق.
وكانت السيدة سوزان تعرف مهمة طه حسين وقد أفلتت العبارات منها أكثر من مرة لتكشف هذا الدور.
فهي تقول: "لم يكن مثله بالذي يقبل أن يقوم بدور محدود".
"ثم إن هنا معركته ومستقبله مهما يكن هنا مصيره ورسالة وجوده".(14/11)
وتقول في كتاب كتبه لوالدتها: "إننا نصنع على كل حال أشياء ستبقى ولن يستطيع أحد فيما أظن يقوضها".
وتقول: "لما عاد عميداً من جديد كانت كل أنواع الأفكار تدور في رأسه وكان عليه أن يضعها موضع التنفيذ" وكان هو يقول "إنك تعرفين هذا النوع من الرضا الذي يعقب القيام بالواجب وإن المرء على مستوى الرسالة التي كلف بها رغم المصاعب التي يواجهها" وكانت تشيد بمحاضراته في الجامعة الأمريكية وجمعية الشبان المسيحيين التي كان يحتشد فيها الألوف.
كان واضحاً من هذه الصورة كلها، زيارات المستشرقين والمحادثات الطويلة التي كان يصنع فيها موضوعاته، ومقابلاته هناك والاحتفاء به، وجورج حنين والأب قنواتي الذين يأتون إليه بكل من يمر بالقاهرة من الآباء والكردينالات والمطارنة.
وهم لا يتوقفون عن تشجيعه فيكتبون له بين حين وحين، تقول جوزيه كابورني: "في دوامة التيارات الثقافية بحرية وسرعان ما غدوتهم رجل الساعة ووجهتهم القوى الروحية في هذا البلد في اتجاه لا يستطيع أحد أن يتنبأ بمآله".
وفي مصر كان لطفي السيد وعبد العزيز فهمي، وثروت، وعلي عبد الرازق وعشرات من الذين يسيرون على نفس الدرب كانوا من حوله دائماً.
وتتحدث عن الزواج المختلط وتنحي باللائمة على الشيخ محمد بخيت الذي انتقد الزواج المختلط. وتنسى أن طه حسين نفسه قبل سفره إلى أوروبا حمل على المصري الذي يسافر إلى أوروبا ويتزوج أجنبية. وقالت أن الشيخ بخيت قال لطه حسين: لو كنت حراً لاشترعت قانوناً ينفي كل مصري يتزوج أجنبية يا دكتور طه، ما هي الأسباب الحقيقية التي حملتك على الزواج من أجنبية، وأنت مصري فكيف أقدمت على هذا العمل.
هذا قليل من كثير تقدمه مذكرات السيدة سوزان وملاحظتنا أن السيدة سوزان لم تتمكن من استيعاب حياة طه حسين استيعاباً كاملاً وغفلت عن جوانب كثيرة من أدق مراحلها ووجوه كثيرة من أبرز معالمها.(14/12)
ولكننا نستطيع أن نقول أنه في حدود ما رسمته السيدة سوزان فإن طه حسين كان يعيش في ثلاثة محاور:
حياة شخصية من الناحية المادية تتطلب الجهد البالغ لإعطاء المادة وتجرى التفسيرات كلها حول صورة الفقر ومحاولة الخروج منه والجري إلى حد الإنهاك في سبيل توفير حياة رضية بينما كان الدكتور طه حسين يحصل على مرتب أستاذ جامعة ومرتب محرر في صحيفة الأحرار الدستوريين فضلاً عن مكافآت كتبه ومقالاته هنا وهناك وما كانت تقدمه الجامعة له ولزوجته بمثابة بدل سفر وإقامة إلى مؤتمر سنوي للاستشراق أو لغيره ولا ريب أن هذه الصور التي رسمتها السيدة سوزان مبالغ فيها وهي توحي بأن الدافع الذي كان يسوق حياة طه حسين هو الكسب المادي فكان يلهث وراء الموارد لتمكين السيدة من أن تحيا حياة ارستقراطية باذخة.
حياة رجل مريض الأعصاب يسقط بين آن وآن ويغمي عليه مرة ومرة ولا يستطيع أن يقاوم الأحداث وتفترسه الوحدة والصمت أياماً كلما ادلهمت الأحداث ويركع أمام الصورة وأمام الأيقونة ويحدثها وربما يقول لها كلمة أخرى.
الصورة المغايرة لصورة الصلف والغرور والاستعلاء والبطولة الزائفة والشجاعة الكاذبة التي كان طه حسين يصور بها نفسه في مقالاته بينما تصوره مذكرات زوجته في صورة مغايرة تماماً.
الصورة الكنسية في أصدقاء كردينالات وآباء ورهبان وفي أعياد مسيحية وفي مناسبات غربية وفي طوابع تومئ بانفصال طه حسين تماماً عن الحياة المصرية والعربية والإسلامية بكل ملامحها فكأنه ليس أكثر من رجل مستشرق غربي أجنبي يعيش في بلادنا. وآية ذلك أنه لم يستطع أن ينقل زوجته وأولاده إلى المحيط العربيوظلت زوجته إلى اليوم وهي مصرة على وجودها الأجنبي وجوها الأجنبي بينما غيرت زوجات كثير من الأدباء الذين تزوجوا بأجانب حياتهم، وبقيت رامتان لا يؤذن فيها الله ولا تنطق فيها كلمة عربية ولا حول ولا قوة إلا بالله.(14/13)
بناء مناهج التعليم والثقافة على قاعدة الأصالة
الأستاذ أنور الجندي
تدرس جامعاتنا ومدارسنا وكلياتنا في العالم العربي كله وفي العالم الإسلامي الأوسع، دراسات الطب والفلسفة والاقتصاد والعلوم السياسية والعلوم الفيزيائية والتاريخ وعلم النفس والاجتماع، دون أن تشير بحرف واحد إلى الخخلفية التاريخية الإسلامية المصدر، أو إلى المراحل التي قطعها الفكر الإسلامي في بناء هذه العلوم وتنميتها، فلا يعرف الشباب العربي والمسلم أن أجدادهم كان لهم دور خطير في بناء هذه المناهج والعلوم، ودون أن يعرفوا وجهة نظر الفكر الإسلامي والثقافة الغربية في مختلف هذه العلوم والدراسات.
وكل ما يدرس في الجامعات ليس في الحق إلا نظريات الفكر الغربي التي تشكلت منذ أوائل عصر النهضة الأدبي في مختلف تطوراتها بين المناهج الرأسمالية والمناهج الاشتراكية، ولا تمثل تلك الدراسات في الحق إلا تاريخاً لمراحل تطور هذه النظريات وهذه الفلسفات وجوانب نقصها والإضافات التي تجددت عليها، وأوجه الصراع بين العصور والفلاسفة وبين المذاهب المختلفة المتعارضة... وهذا كله إنما يمثل تاريخ أوربا والغرب ونظريات أوربا والغرب التي لم يشارك العالم الإسلامي ولا الأمة العربية فيها، والتي حين تقدم إلينا الآن لتكون مادة الدراسة في جامعاتنا إنما تكشف عن عزلة واختلاف واضح بين مجتمع ومجتمع، وفكر وفطر، وعصر وعصر، وتشكيل نفسي وذاتي ووجداني متباين جد التباين.
الفكر الإسلامي أضاف إضافات أساسية إلى الفكر الحديث:
وليس هناك اعتراض على أن ندرس النظريات والمذاهب والأنظمة العالمية في مجال الاقتصاد والسياسة والاجتماع والنفس والتربية، ولكن:
يجب أن تكون هناك ثلاث مقدمات واضحة في نفس الشباب العربي المثقف.
أولاً: أن هذه وجهات نظر وليست قوانين مسلمة.
ثانياً: إنها وجهات نظر الغرب عن تجارب نبعت من محيطه ومجتمعه.(15/1)
ثالثاً: إن لفكرنا العربي الإسلامي "وجهات نظر" في مختلف هذه القضايا قد تختلف عن وجهة نظر الفكر الغربي.
رابعاً: إن الفكر الإسلامي قد قدم لهذه المناهج جميعاً "أوليات" وإضافات بناءة حية.
فإذا استوى أمام المثقف العربي الفهم العميق واليقين الأكيد من أن فكر أمته قد ساهم في هذا الفكر الأوربي الذي فرض نفسه على كل ثقافات البلاد التي خضعت للثقافات الغربية فإن من شأن ذلك أن يمنحه شيئاً كبيراً من الثقة والإحساس على أنه قادر في مرحلة قريبة أن يدرس – إى جانب وجهة نظر الغرب في مختلف قضايا السياسة والاجتماع والاقتصاد والنفس والتربية – وجهة نظر فكرة العربي الإسلامي الذي يستمد مقوماته أساساً من رصيد الأمة العربية ومن القرآن الكريم ومن الإسلام، وإنه قد استوى للمسلمين والعرب منذ وقت بعيد منهج فكر ومنهج حياة يختلف إلى حد بعيد وفي مسائل أساسية وجذرية مع الفكر الغربي.
ولعل أبرز ما يقدم في هذا المجال هو القول بأن الحلول الجذرية لمعضلات العصر وأزمة الحضارة والمجتمع الحديث: هذه الحلول يقدمها (الفكر الإسلامي) على نحو جامع بين المثالية والواقعية، وقي مقدمة ذلك قضية القضايا وهي ما تختلف فيها الأيديولوجيات الماركسية والغربية.
قضية الفرد للمجتمع والمجتمع للفرد:
وأنه قد وضع منذ خمسة عشر عاماً قاعدة بناءة في هذا المجال حين ربط بين الفرد والمجتمع وجعل المجتمع في خدمة الفرد، والفرد في خدمة المجتمع.
وفي قضايا: التفرقة العنصرية، والعدل الاجتماعي والإخاء الإنساني والوحدة وتقارب القوميات وضع الفكر الإسلامي – مستمداً من القرآن – قواعد ونظماً ما تزال البشرية في أشد الحاجة إلى التعرف عليها.(15/2)
فإذا استعرضنا مثلاً: دراسات الطب والعلوم الفيزيائية فإن دور العرب والمسلمين بالغ الأثر، فالمسلمون هم الذين وضعوا أساس (أساس الالمنهج العلمي التجريبي) بعد أن تخلصوا من الفلسفة النظرية اليونانية، وإنهم صححوا نظريات الإغريق في الفلك والبحار ورفضوا السحر والخرافة وأقاموا بناءً علمياً في هذه المجالات وخاصة في مجال الطب، وفرقوا بين الفلسفة الرياضية والطبيعية، وأتاحوا لها فرصة النماء، بينما عارضوا (الفلسفة الإلهية) التي تتعارض مع مفاهيمهم في التوحيد والنبوة، وأنشأوا فلسفة مؤمنة تدور في فلك الإيمان بالله تبارك وتعالى بعيداً عن شطحات الإلحاد ومغريات الإباحة.
والفكر الإسلامي له قوانينه الخاصة ونظمه المتميزة في مجال العلوم السياسية والاقتصادية والتاريخ وعلم النفس بما ثدمه الماوردي والفارابي وابن خلدون والبيروني والغزالي وابن سينا: هذه الآراء والمفاهيم التي صهرها فلاسفة الغرب في علومهم ودراساتهم وصاغوها صياغة جديدة فعزلوها عن مصادرها الإسلامية المرتبطة بالتوحيد. (نقبل فكر ابن سيما والفارابي العلمي والطبي ونرفض فكرهما الفلسفي).
وفي مجال الثقة والتشريع والقانون كان للفكر الإسلامي القدح المعلي في نظريات ما تزال حتى الآن بكراً وما تزال مناراً يهتدى به.
وإذا قلنا أن الفكر الإسلامي قد أضاف إضافات أساسية إلى الفكر الحديث في مختلف مجالاته لم نكن مبالغين ولا نكون قد عدونا الحقيقة. نحن لا ننكر فضل العاملين الذين طوروا النظريات وأضافوا إليها ولكننا يجب أن لا ننسى فضل الرائدين الأول وهم المسلمون.(15/3)
ففي علم التربية والنفس: كانت كتابات ابن سينا والغزالي والماوردي تمثل الخطوط العامة الأساسية التي ما تزال هي القاعدة العامة للنظريات التربوية الحديثة والأصول التي قدمها ابن خلدون ما تزال أساس علوم العمران (أي الحضارة) والتاريخ والاقتصاد والسياسة، وعلى شبابنا أن يذكر دوماً أن رجال فكرة العربي الإسلامي هم الرواد في هذه المجالات وأن (الماوردي) أول من نادى بفكرة التأثير المتبادل بين الفرد والمجتمع، والموازنة بين حقوق الأفرد وحقوق الجماعة من غير تضحية أحدهما لحساب الآخر، كما تحدث عن الحافز الفردي وليذكروا أن (البيروني) قدم أهم نظرية اقتاصدية عن الإدخار واكتناز الأموال وإنفاقها، وعالج قضية كنز الأموال وعدم تركها للتداول. وبين الخطر الذي يترتب على ذلك. وقال أن الحركة من ضرورات الحياة فإذا وقفت الحركة حدثت أزمة اقتصادية هائلة.
وسبق (الغزالي): ديكارت وغيره بنحو ست قرون إلى القول بأن الشكوك هي الموصلة للحق، "فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال".
وأن الغزالي سبق هربرت سبنسر أيضاً إلى تصوير الدولة أو المدينة بجسم الإنسان وقد شبه الغزالي الملك بالقلب، وأصحاب المهن الحرة بأعضاء الجسم والشرطة بعصب الإنسان والوزراء بحسن الإدراك والقضاة بالشعور.
وعرف العلماء المسلمون: بإخلاص العلم لله تبارك وتعالى. وتمحيص مادة البحث، وكراهية التعصب وبذل الجهد المحرر من المؤثرات في الأحكام والاحتياط أمام التاريخ القديم المأثور.
ويجب أن يكون في "مقدمة المناهج": إن العلماء العرب والمسلمين قد صححوا أخطاء علماء اليونان أمثال: بطليموس في نظريته القائلة بأن النسبة بين زاوية السقوط وزاوية الانكسار ثابتة وقال (ابن الهيثم): إن هذه النسبة لا تكون ثابتة بل تتغير وصدق العلم الحديث رأيه.(15/4)
وابن الهيثم هو الذي سبق بيكون في الطريقة الاستقرائية وسما عليه، وقد جمع ابن الهيثم بين الاستقراء والقياس وقدم الاستقراء على القياس. وحدد الشرط الأساسي في البحث العلمي وهو "طلب الحقيقة" دون أن يكون لرأي سابق أو نزعة من عاطفة أياً كانت دخل في الأملا، ويقول: ونجعل غرضنا في جميع ما نستقر به ونتصفحه استعمال العجل لا إتباع الهوى ونتحرى في سائر ما نميزه وننتقده طلب الحق إلا الميل مع الآراء.
ولنذكر أن (ابن القيم) أضاف في الشريعة والفقه نظريات عرفتها الدوائر القانونية في أوربا وقدرتها: من أمثال حرية النعاقد ومنع الحيل في الأحكام وإحياء أعمل الفضولي المحسن، والمحافظة على أموال الغرماء.
ولا يزال تاريخ العلم يذكر تلك الميزة الواضحة لمفهوم العلم في الفكر الإسلامي وهي اتحاد الدين والعلم وفي ذلك يقول هورتن: المستشرق الألماني في كتابه "استعداد الإسلام لقبول الثقافة الروحية":
"كان العرب في القرون الوسطى تقريباً إلى سنة 1500 م أساتذة أوربا، وإن ما نشأ من ظن الأوربيين من أن الإسلام لا يتمشى مع المدنية إنما جاء من عدم إلمامهم بحقيقة هذا الدين وعدم تعميقهم به، وفي الإسلام نجد اتحاد الدين والعلوم، وهو الدين الوحيد الذي يوحد بينهما ونجد فيه كيف أن الدين موضوع بدائرة العلم، ونرى وجهة الفيلسوف ووجهة الفقيه سائرين معاً ومتجاورتين كتفاً لكتف دونة نزاع".
ولنذكر أن فلاسفتنا وعلماءنا لم يتقبلوا الفكر اليوناني حين ترجم إليهم تقبلاً تلقائياً، ولكنهم نظروا إليه في تحفظ ونقد، وخالفوا أرسطو وأفلاطون وغيرهما من فلاسفة اليونان في كثير من النظريات والآراء فلم يتقيدوا بها بل أخذوا ما يتفق مع منهج التوحيد وصححوا ما لم يكن صحيحاً بالتجربة، وتركوا آثارهم وبصماتهم وطابعهم على مجاري الفكر الحديث.
لمناهج التعليم والثقافة مقدمات لابد منها:(15/5)
في مواجهة هذا التحدي الذي يقوده الغزو الثقافي الذي يحاول اليوم أن يسيطر على الأمة العربية والفكر الإسلامي نجدنا في حاجة إلى أ؟ن نتعرف على حقائق واضحة تختفي اليوم وراء المناهج التعليمية والثقافية التي تقوم بتدريسها الجامعات في العالم الإسلامي كله على نحو يحس معه الشباب بأن ما يقدم له في هذه الميادين وخاصة في ميادين الفلسفة والاجتماع والتاريخ والعلوم السياسية والاقتصاد والقانون، إن هذا الذي يقدم إنما هو منص ياغة الفكر الغربي وحده، فإذا توسع في ذلك شيئاً قليلاً فإنما هو مستمد من الفكر اليوناني والروماني السابق على الفكر الغربي، والمنفصل عنه بأكثر من ألف عام وحيث لا يذكر ولو على سبيل الاستعراض التاريخي أن الفكر الإسلامي كان له دوره وأثره الواضح والعميق في صياغة هذه المفاهيم والآراء والنظريات والمذاهب التي يزخر بها الفكر البشري اليوم سواء في نطاقه الديمقراطي أو الاشتراكي على السواء. لذلك فنحن في حاجة إلى أن نتعرف على هذه الحدود الواضحة والعلامات الصريحة لفكرنا العربي الإسلامي الذي يبدو أنها ضاعت أو أوشكت على الضياع في غمار التطورات والتحولات المستمرة التي تعتري الفكر والتي تتزايد على الدوام، بحيث تكاد تعزق تلك الجذور الأصيلة التي قدمها الفكر الإسلامي إلى الإنسانية وإلى الفكر البشري منذ بزوغ الإسلام والتي كانت باليقين بعيدة الأثر في تحوله ونموه، وتطوره وإخراجه من الحواجز الوثنية والطبقية الخطيرة، التي كان يعيش فيها ويتحرك من داخلها.(15/6)
إن من حق شبابنا العربي والإسلامي على مدى العالم الإسلامي وليس في الأمة العربية وحدها أن يعرف وهو يراجع نظريات الاجتماع والسياسة والتاريخ والاقتصاد والقانون أن فكرة العربي الإسلامي وأن أجداده العرب والمسلمين كان لهم أثر واضح في هذه النظريات. وإن من شأن هذا الفهم أن يزيد شبابنا قوة روحية وعقلية ونفسية تملأ مشاعره بالثقة وتدفع عنه تلك الشبهات الخطيرة والحرب النفسية المثارة عليه والتي تحاول ان تصوره وكأنه متسول لنظريات الغرب، هذه النظريات التي صاغتها العقول الغربية وحدها والتي فرض على العرب والمسلمين أن يأخذوها ليطبقوها في مجتمعاتهم، كأنما ليس لهم مفاهيم وقيم قدموها من قبل للفكر البشري فبنى عليها تلك الآراء والنظريات المستحدثة.(15/7)
ومن حق شبابنا في هذه الفترة الحاسمة الحرجة من تاريخ الأمة العربية أن تقدم للمناهج التعليمية والثقافية بمقدمات توضح هذا وتكشف عنه، وأن نقدم أسماء هؤلاء الأعلام وما قدموه من آراء استمدوها أساساً من القرآن الكريم (أبي) المفاهيم والقيم الإنسانية التي أهداها الفكر الإسسلامي للبشرية وكانت قد أهديت إليه عن طريق السماء في الأديان السابقة ولكنها صحفت وأصابها الاضطراب والتحريف وعندنا أن ذلك الفهم سيكون بعيد المدى عقلياً ونفسياً على مجرى الثقافة العربية وعلى التكوين الفكري والروحي لشبابنا، فإذا كنا اليوم قد فتحنا أبواب جامعاتنا لنظريات علمية مختلفة في الاجتماع والتاريخ والسياسة والاقتصاد والقانون، فإن لنا نظريتنا الإسلامية الكاملة التي قدمها الإسلام للبشرية جميعاً والتي اقتبستها أوربا في أوائل عصر النهضة ففتحت أمامها آفاق التحرر الفكري من قيود الكنيسة وقيود الوثنية وعبادة الفرد، وتبدو بواكير هذا الأثر واضحة في حركة لوثر وكلفن ودعوتهما إلى حرية الفكر وإلغاء الوساطة بين الله والإنسان وحق الإنسان في قراءة الكتاب المقدس وفهمه ومن ذلك تلك الثورات التي قامت لإزالة الصور من الكنائس وإزالة التماثيل.(15/8)
ولا يقف أمر الإسلام عند هذا الحد وحده بل يتجاوزه إلى إبداع المنهج العلمي التجريبي الذي قامت عليه الحضارة الحديثة كلها: هذا المنهج أبدعه المسلمون من منطلق القرآن الذي دعاهم إلى النظر في الكون، والذي كان مخالفاً مخالفة أساسية لمنهج اليونان الفلسفي والعلمي جميعاً: ذلك المنهج الذي وقف عند حدود افتراضات النظريات بينما اتجه المفهوم الإسلامي إلى التجربة أساساً، فصحح أخطاء فلاسفة اليونان وحول التنجيم اليوناني إلى علم الفلك بأصوله ومقاييسه واستطاع المسلمون أن يضيفوا إضافات واضحة في بناء الأصول الأولية وفي مقدمتها الأرقام ورقم الصفر بالذات وامتداد ذلك إلى العلوم الطبيعية والكيميائية في مختلف مجالات الطب والفلك والفيزياء.
وقد يقف كثير من الباحثين الغربيين عند هذا الجانب العلمي، معترفين بفضل المسلمين والعرب في هذا المجال، وهو أمر أصبح اليوم ذائعاً وشائعاً، بعد أن أغمضوا عنه الطرف طويلاً، ولكنهم لا يتعدوه إلى أثر الفكر الإسلامي في جالات الاجتماع والتاريخ والعلوم السياسية والاقتصاد والقانون مع أن يملك أوليات في هذه العلوم وإضافاته التي كانت بعيدة المدى وما تزال آثارها في الفكر العالمي واضحة وضوحاً لا سبيل إلى إنكاره.(15/9)
ولقد وقف الفكر الإسلامي موقفاً صريحاً واضحاً من الفلسفة الإلهية اليونانية فرفضها رفضاً صريحاً وأقر إيمانه الأساسي المستمد من "التوحيد" و "النبوة" وبذلك أنشأ فلسفته الذاتية المستقلة استقلالاً كاملاً عن مفاهيم الفلسفة اليونانية.. وإذا كانت هذه الفلسفة قد اغالت من قبل الديانتين اليهودية والمسيحية فأخضعتهما لها، وغلبت منطق أرسطو عليمها فإنها عجزت عن أن تفعل ذلك بالنسبة للإسلام، ومن الحق أن يقال: إن (الكندي والفارابي وابن سينا) قد قاموا بمحاولات في سبيل نقل منطق أرسطو إلى الفكر الإسلامي بكثير من التحوير لجعله قادراً على التشكل في إطار التوحيد والنبوة ولكنهم عجزوا لأن منطلق منطق أرسطو كان مرتبطاً أساساً بطبيعة الفكر اليوناني النظري، بينما كان الفكر الإسلامي بأصوله وأولوياته (تجريبياً) وإذا كان المفكرون المسلمون قد جروا شوطاً مع الفلسفة اليونانية ومنطق أرسطو فإنما فعلوا ذلك حين اتخذوها سلاحاً لمواجهة المتكلمين بها في مواجهة الأديان الأخرى، غير أن الفكر الإسلامي لم يلبث أن مر بهذه المرحلة سريعاً، وعاد إلى التماس جوهره، وذلك حين قرر منطلقه العلمي في المنهج العلمي التجريبي من ناحية وحين قرر الإمام الغزالي: إن أسلوب القرآن كالماء وأسلوب المتكلمين كالدواء والدواء يحتاج إليه المريض أما الماء فيحتاج إليه السليم والمريض، وأن أسلوب المتكلمين أسلوب ضرورة، ولكن أسلوب القرآن هو أسلوب الحياة الطبيعية الدائمة المستمرة. وحين نقرر مفهوم (المعرفة الإسلامي) وله جناحاه: العقلي والوجداني لا انفصال بينهما لا يستعلي أحدهما ولا ينفرد وحده. وحين كشف العلماء عن (منطق القرآن) الذي هو منطق المسلمين بديلاً لمنطق أرسطو واليونان فقد نجا الفكر الإسلامي من سيطرة الفلسفة اليونانية الوثنية واستطاع الإسلام أن يحتفظ بقيمه الأساسية ومفاهيمه الأصيلة.(15/10)
هذا كله قدمه الفكر الإسلامي للفكر البشري فحرره من قيوده ونقله نقلة واسعة من الاتجاه النظري إلى الاتجاه التجريبي ومن الوثنية إلى الربانية.
وشيء آخر قدمه الفكر الإسلامي وكان بعيد الأثر في الحضارة وإعلاء المفهوم الإنساني: ذلك هو دعوة "المساواة والإخاء بين البشر": الأسود والأبيض والعرب والعجم، وكان في ذلك قضاء على نظرية روما القائمة على الفصل بين السادة والعبيد، وفق قاعدة "روما سادة وما حولها عبيد" وعلى منطلق جمهورية أفلاطون الذي فرض للسادة التأمل والحكم وللعبيد العمل والعبودية والذل.
ومن مفهوم الإسلام نشأت كل مذاهب المساواة والعدل الاجتماعي والحرية.
والقرآن هو أول كتاب على وجه الأرض كشف عن النواميس الطبيعية والقوانين الثابتة، والتي تحكم المجتمعات والوجود كله، ومنه كان منطلق علوم الاجتماع.
ولم تكن النظرية التي قدمها ابن خلدون فبنى عليها العلماء قواعد الفلسفة الاجتماعية إلا مستمدة أساساً من القرآن. والقانون الفرنسي الذي كان مصدراً لقوانين كثير من بلاد العرب في العصر الحديث مستمد من فقه الإمام مالك وهو أحد مذاهب الشريعة الإسلامية، هذا إلى عشرات النظريات القانونية المستحدثة إنما استمدها الباحثون من فقهاء الإسلام.(15/11)
ويمكن القول بصفة عامة – أن الإسلام قدم للفكر البشري شحنة ضخمة من القيم الإنسانية العالمية التي كانت بعيدة الأثر في تطور الفكر الغربي وتحوله من جذوره الإغريقية الرومانية الوثنية تتمثل هذه الشحبة في الربط بين العقائد والمعاملات والأخلاق في إطار الإسلام، حيث لا انفصال بين الدين والحياة, أو بين الجسم والروح كما ربط الإسلام بين العلم والعمل، وحيث أطلق الإسلام العقل الإنساني من قيود التي كانت تأسره حول المعابد وبين أيدي الكهنة فارتفع إلى مستوى الاعتقد بحياة وراء هذه الحياة وخلص البشرية من الوثنية كما رفض الفكر الإسلامي تجسيد البطولة ورأى أن تقدير البطولة يكون بالرأي والفكر والاقتداء.
وليس في الإسلام خطيئة أصلية وإن كل إمرئ رهين بما يفعل كما كرم الإسلام كل الأديان وكل الأنبياء، وأقر عجز العقل وحده عن الوصول إلى الصواب وجعل بين الوجدان والعقل ترابطاً من الإيمان بالغيب أساساً لا تجاوز عنه كما رفض التقليد والتبعية سواء للماضي القديم أو للوافد من أي مكان.
ويمكن القول عن يقين أن الثورة الفرنسية في مفاهيمها ومبادئها أنما كانت تستمد جوهرها من الفكر الإسلامي، فقد قامت على أثر الدفعة الكبيرة التي أحدثها الإسلام في العقل الغربي وتؤكد ذلك العبارات التي جاءت على ألسنة رجال الثورة الفرنسية أنفسهم والذين كانوا قد طالعوا ثمرات الإسلام في الحكم والشورى والعدل والمساواة.
وقد كان رفاعة رافع الطهطاوي وخير الدين التونسي هما أوائل العلماء المسلمين العرب الذين تنبهوا إلى أثر الفكر الإسلامي في الفكر الغربي الحديث في مختلف مجالاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية وأشاروا إلى ذلك في أبحاثهم.(15/12)
كل هذه المقدمات بتفاصيلها يجب أن تكون في مقدمة دراسات العلوم، ولاشك أن ذلك يكون بعيد الأثر في النفس العربية، حافزاً لها على الثقة والإيمان والمقاومة فاليقين، لقد كان الفكر الإسلامي وكان العرب والمسلمون من أجدادنا هم صناع النظريات العقلية والعلمية التي دفعت الفكر الإسلامي هذه الدفعة الكبرى نحو النهضة والحضارة ونحن اليوم أحق الناس ونحن ندرس هذه العلوم المستحدثة والنظريات الغربية أن نعرف مصادرها وأولوياتها ودورنا في بنائها.
لابد من تحرير المناهج وتأصيلها:(15/13)
عملان هامان في مجال المناهج التعليمية والتربوية والثقافية: (أولاً): إضافة تلك الصفحات التي هي بمثابة الخلفيات والأصول والمقدمات التي سبقت الصورة القائمة في الدراسات فليس همناك علم من هذه العلوم التي ندرسها الآن في مدارسنا أو جامعاتنا إلا كان للمسلمين والعرب فيه دور وجهد وعمل هو بمثابة المقدمات التي مهدت للعلماء المعاصرين في وضع هذه العلوم في الصورة القائمة اليوم (ثانياً): تأصيل المناهج المطروحة في أفق التعليم والثقافة الإسلاميتين العربيتين وتحريرهما من الانحرافات والأخطاء وما يتصل بوجهات نظر الغرب إليها أو لما تأثر به نتيجة لمفاهيمه الدينية أو لغلبة الفكر الوثني والمادي عليه في هذه المناهج، فإن مناهج التاريخ والشريعة والاقتصاد والسياسة والتربية يجب أن تحرر من هذه الشبهات وهذه الأخطاء وهذه التبعية لتعود مرة أخرى إلى أصالتها واستمدادها من المبالغ الأصيلة التي قامت عليها في الأساس فإذا لم يقم المسلمون بهذين العملين فستظل مناهجهم الدراسية والثقافية عاجزة عن أن تحقق العملين فستظل مناهجهم الدراسية والثقافية عاجزة عن أن تحقق لهم نهضة أو تقوم لهم عقلاً، أو تزكي لهم نفساً أو تدعم لهم مجتمعاً أو تبني هذه الأجيال لتكون قوة قادرة على مواجهة الأخطار والتحديات. وإذا لم نقم بإضافة هذه الصفحات الناقصة، وتعديل تلك الصفحات المنحرفة فإن المسلمين سيظلون يدورون في تلك الدائرة الصماء المظلمة المغلقة التي حبسهم فيها النفوذ الأجنبي ليظلوا عاجزين عن التحرر والقوة وامتلاك إرادتهم وبناء مجتمعهم على قواعد "الأصالة الإسلامية".(15/14)
تصحيح المفاهيم الإسلامية
الأستاذ أنور الجندي
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو عروة حجر ضب لدخلتموه".
ويقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: "إنما ستنقض عرى الإسلام عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية".
إن أخطر الأخطار التي تواجه المسلمين اليوم: خطر التغريب.
والتغريب هو حمل المسلمين والعرب على قبول ذهنية الاستسلام والاحتواء والتحرك من داخل دائرة الفكر الوافد (وليس من داخل عقلية الغرب نفسه) ودائرة الفكر الوافد تختلف في إنها تحشد الشيء وضده، وتسوق المذاهب المتعارضة كلها في خضم جارف (وجودية وماركسية وليبرالية وهيبية ولا معقولية) حتى تسقط النفس الإسلامية ويسقط العقل الإسلامي صريع الخلاف والاضطراب ويتشكل بالسلبية المطلقة والعدمية.
والهدف من حملة التغريب هو إخراج المسلمين من دائرة فكرهم بما يخلق شعوراً بالنقص في نفوسهم وذلك بالتأثير في النفس والمزاج والروح الإسلامي لإخراجها جميعاً من مفاهيمها ومواريثها وفرض أعراف جديدة عليها مخالفة لها في الأصل مباينة لها في الجذور.
وفي مواجهة هذا علينا أن نعرف بأن هناك عالمين منفصلين: قد يؤثر أحدهما في الآخر ولكنهما لا يمتزجان أبداً ولا يخضع أحدهما للآخر، ولا يستوعب أحدهما الآخر ولا يحتويه، هما عالم الإسلام المتميز بطوابعه ومفاهيمه وقيمه وعالم الغرب.
والفكر الإسلامي له من جذوره العميقة وأصوله العريقة ما يجعله قادراً دوماً على التماس التجدد دون أن يفقد الأصالة.
والخطر كله يتمثل في بعض المفكرين من العرب الذين يفكرون من داخل دائرة الفكر الغربي ويتحركون خارج إطار الفكر الإسلامي ومن هنا تأتي أخطاؤهم ويأتي عجز نظرتهم عن أن ترى الأفق الواسع الممتد.(16/1)
إن هناك منهجاً: لا هو غربي ولا هو إسلامي، وإنما هو منهج زائف صنعته اليهودية التلمودية الصهيونية وكشف عنه بروتوكولات صهيون قد أعد خصيصاً لإدخال العرب والمسلمين فيه، فإذا دخلوا أحكم عليهم كالسجن فلا يصلون إلى شيء لا إلى معطيات الفكر الغربي ولا إلى أصولهم الأصيلة وإنما يذوبون هكذا في غير ما أفق ويدورون في غير ما سماء.
إن مناهج العلوم والنفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد التي يقدمها لنا الغرب تنقصها إضافات، الأولى: طابع التكامل والجمع بين العقل والقلب والمادة والروح والدنيا والآخرة.
والثانية: الدور الطليعي الذي قام به المسلمون في بناء هذه المناهج يوم أن كانت موجهة إلى الحق وإلى الحق وحده وقبل أن يلتهمها الإلحاد ثم تستقطبها الصهيونية العالمية.
إن هناك محاولات جادة لتقديم ثلاثة مناهج للفكر الإسلامي تحتاج إلى يقظة ومواجهة:
ما يسمى علم مقارنات الأديان الذي يقوم بأحكام مسبقة إلى تفضيل الأسبق والأول وهذا يستهدف الانتقاص من الدين الجامع الخاتم وهو الإسلام.
ما يسمى علم الأنتروبولوجيا: وهو خاص بدراسة الشعوب البدائية وهدفه استخراج مفاهيم وقيم تعارض الكتب السماوية وإلعاء شأن الأساطير والسحر والتنجيم القديم وإعلاء شأن العنصرية والدماء.
ما يسمى العلوم الاجتماعية بالإضافة إلى نظرية فرويد وتستهدف إلغاء طابع الفطرة الأصيل في الأسرة ورد دوافع الإنسان إلى الجنس وإلى الطعام.
وتسيطر الصهيونية اليوم على هذه العلوم والدراسات بغية تحقيق أهدافها التي أوردتها بروتوكولات صهيون.
وتستهدف محاولات التغريب اليوم أهدافاً متعددة:
أولاً: محاولات إسقاط أسس وقيم وفرائض أساسية كالجهاد مثلا.
ثانياً: محاولات تحريف التاريخ والنصوص الإسلامية كإسقاط رحلة سيدنا إبراهيم عليه السلام إلى الجزيرة العربية.
ثالثاً: محاولة إضافة أشياء ليست أصيلة كالإسرائيليات.(16/2)
رابعاً: محاولة الفصل بين الأدب والفكر، واللغة والدين، والدين والمجتمع.
خامساً: محاولة تمويه القيم بإعلاء القانون الوضعي على الشريعة.
سادساً: إثارة النعرات الإقليمية والعنصرية بالدعوة إلى القوميات والتجزئة.
سابعاً: محاولة التمويه بخلط الأخلاق الإسلامية المصدر بالعادات والتقاليد التي هي من صنع المجتمع.
ثامناً: محاولة تألية العقل أو تقديس العلم أو الدعوة إلى عبادة البطولة.
إن الهدف هو الحيلولة دون استئناف المسلمين حياتهم الاجتماعية على أساس الإسلام وذلك عن طريق تركيز التاريخ والتراث الإسلامي في سبيل تأكيد التبعية وفقدان الذاتية.
وقد آن للعرب والمسلمين أن يتحرروا من هذا المخطط الرهيب بالفهم والعمل.
إن الطريقة المثلى للتحرر من الزيف والخطأ من التفسيرات المدخولة: ومن التحريفات والأساطير واخطاء التهاويل هو شيء واحد: هو التماس المصدر الأصيل: وهو القرآن.
هذا المصدر الثابت الموثق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهو السور المتين والحائط الصامد الذي يعتصم به المسلمون في كل أزمة وكل جولة ومن كل غزو فكري أو تحد سياسي أو استهداف اجتماعي.
ومنهج الإسلام في القرآن هو أعلى نموذج للمنهج العلمي الأصيل، فهو يدعو إلى إنكار الظن وتحقيق الغرض ونفي الأسطورة والخرافة وإبعاد الوهم والهوى والمطالبة بالبرهان والدليل.
إن قواعد الفكر الإسلامي الأساسية قد بدأت ونمت في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم مستمدة من القرآن وأن هذه القواعد لم تتغير من بعد ولم تجر إضافة شيء إليها فظلت قيمها الأساسية كما جاء وحي السماء (القرآن) وسنن النبي في تفسيرها وتطبيقها وإنما جرت حركة العمل من داخل الإطار الذي رسمه القرآن، ولقد كان اتصال المسلمين بالفلسفات اليونانية والفارسية والهندية تجربة قاسية انتهت بانتصار الإسلام وهزيمة محاولات سيطرة الفكر الوافد أو الغزو الفكري كما نسميه بلغة العصر.(16/3)
وبقيت الحقائق الأساسية قائمة:
إن الإسلام ليس ديناً كسائر الأديان ولكنه حركة اجتماعية واسعة تشمل الاعتقاد والمجتمع والدولة ومختلف نظم الاقتصاد والسياسة والأخلاق وأن ميزة الإسلام: إن نظرته كلية شاملة وأنه لم يجرئ الحياة بل نظر إليها نظرة جامعة متكاملة كما نظر إلى الإنسان نفسه كوحدة نفسية وجسمية لا تنفصل.
ثانياً: القرآن كتاب الله ومصدر المنهج الإسلامي، يرسم صورة شاملة للقيم الأساسية وأصول مناهج المعرفة والعلوم وسنن الحياة والكون والحضارات والمجتمعات حيث يربط البشرية والكون جميعاً بخالقها وبعثها وجزائها.
ثالثاً: الرسول محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم (كان ولا يزال وسيظل) النموذج الأسمى والمثل الكامل والقائم أمام كل المجاهدين والمصلحين والنوابغ قدوة حسنة وأسوة صادقة، من نقطة حب الرسول إلى المتابعة له على طريق الحق.
وقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم آثار تستهدف تحرير البحث العلمي من كل الزيوف.
"ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان:
من إذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل.
ومن إذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق.
ومن إذا قدر لم يتناول ما ليس له".
إن الطريقة المثلى للتحرر من الزيف والخطأ ومن التفسيرات المدخولة: من التحريفات والأساطير وأخطاء التأويل هي شيء واحد، هي: التماس المصدر الأصيل موثقاً ثابتاً لا يأتيه الباطل من بين يدىه ولا من خلفه فهو بحق: السور المتين والحائط العالي الذي يعتصم به المسلمون في كل أزمة وكل جولة غزو فكري أو سياسي أو اجتماعي وقد رسم الإسلام في القرآن قاعدة المنهج العلمي فهو يدعو إلى إنكار الظن وتحقيق الغرض ونفي الأسطورة والخرافة وإبعاد الوهم والهوى والمطالبة بالبرهان والدليل.(16/4)
وبهذا المنهج الأصيل نقول أنه قد آن للعرب والمسلمين أن يتحرروا من التبعية للنظريات الغربية أو المفاهيم الوافدة وعليهم أن يفكروا بلغتهم وأن يتحركوا من داخل فكرهم وأن يتجاوزوا سارتر وفرويد وماركس ودور كايم.
وعلى المسلمين أن ينتقلوا من الإسلام إلى الإيمان ولابد أن ينكسر قيد التبعية ويتحطم قيد التقليد ويتحرر الفكر الإسلامي من الدائرة المغلقة التي فرضها عليه نفوذ المنهج الغربي الوافد ولابد أن يرتبط مفهوم "التقدم" بمفهوم الأصالة ويتحرك من داخله، التقدم بمفهومه الجامع: تقدماً مادياً ومعنوياً استمداداً من المنبع الأصيل، وإن من أخطر الأخطار أن يدخل العرب والمسلمون في مواجهة مع عدوهم بمفاهيم وافدة وقيم مضللة واعتقادات وثنية ولابد أن تفتح اللغة العربية أبوابها لاستقبال العلو والتكنولوجيا بمختلف فروعها وأنواعها وهذا شرط أساسي لقيام نهضة حقيقية، فلابد أن تنصهر هذه العلوم في بوتقة اللغة التي هي فكر الأمة ووعاء ذوقها وثقافتها، ولن تستطيع أمة أن تخطو في مجال العلوم خطوة واحدة إلا إذا كانت مفاهيم العلوم داخل إطار لغتها.(16/5)
ولقد دعا الإسلام معتنقيه إلى معارضة التقليد الأجنبي، وحذر من التشبه بالآخرين وحرص على أن تظل شخصية المسلم وفكره وحضارته ومجتمعه متميزة، وأعلن لذلك حرباً لا هوادة فيها على التقليد وعلى التبعية وحكم على من تشبه بقوم بأنه قد انفصل عن أهله وأصبح من أهل القوم الآخرين. ودعا إلى إعلان التمييز بين الأمم من حيث العادات والأخلاق. وكشف الإسلام عن مدى أثر التقليد في فقدان الشخصية وأثر التبعية في عبودية الفكر والعقل. وقد أكد المؤرخون بأن التقليد في مراحل الضعف إنما يكون في جوانب الهدم والانحلال ويتركز دائماً على الانهماك في اللذات فضلاً عن أن القوى الكبرى لا تعطي للضعفاء أسرار علومها، وإنما تلهيهم بفتات الأهواء وبريق الرغبات التي من شأنها أن تحطم المقومات وتدمر النفس البشرية وتجعلها غير قادرة دائماً على معارضة هذه القوى الكبرى.
لذلك فإن الطريق الوحيد للأمم التي تحوطها الأخطار أن تظل دائماً على تعبئة ومرابطة ومن هنا فإن الذين قالوا لنا: أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لم يكونوا صادقين في النصح والتوجيه.
وحين عمل الإسلام على تحرير أتباعه من التأثير الأجنبي بكل أنواعه، دعا إلى الحذر من الحرب النفسية التي يشنها أعداء الإسلام والتي تهدف إلى تغيير المعالم الأصيلة لعقيدتنا وفكرنا وثقافتنا ومزاجنا النفسي.(16/6)
ومن مفاهيم التبعية "إيجاد البديل في مواجهة الأصيل" والأمم العريقة التي تكامل فكرها لا تكون عادة في حاجة إلى مفاهيم وافدة، فإذا نظرت فيها فمن أجل أن تعرف أسلوبها وأهدافها، مع تقدير الفارق البعيد بين منهج جزئي انشطاري ومنهج متكامل جامع، بين منهج رباني يستقطب النفس الإنسانية من جميع أبعادها ومنهج بشري عاجز عن الاستمرار والدوام، ولقد رأينا كيف أن النظريات التي قدمها الغرب سرعان ما تصدعت وبان فسادها بمرور الزمن واحتاجت إلى إجراء تعديلات بعد تعديلات وهي في أغلبها تعديلات جوهرية، ذلك أن تحول الزمن واختلاف البيئات يفسد النظريات ويصيبها بالعطب والاضطراب ويكشف عن الفارق البعيد بينها وبين المناهج الربانية الثابتة ثبوت الفطرة وقد رأينا ذلك في الماركسية والفرويدية والوجودية.
ومن أخطر الأخطار أن تتخذ أمة الأسلوب الوافد أسلوباً أساسياً لها مع اختلاف المفاهيم والمضامين التي شكلت هذا المنهج في أساسه.
ولقد احتاجت بعض المجتمعات إلى وضع مناهج للحياة (أيديولوجيات) لأنها لم تجد مناهج في عقائدها، أما المسلمون بأنهم ليسوا في حاجة إلى بناء مناهج بشرية وعندهم منهج محكم من صنع العلي الخبير، الخبير بالنفس الإنسانية "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير" ولقد كان من أثر انطلاقة الإنسان ليضع لنفسه منهجاً أن فسر الحياة تفسيراً مادياً، وفسر علاقات الإنسان تفسيراً حيوانياً وأباح الربا وأطلق الغريزة وفلسف ذلك كله وأرضى به النفوس الصغيرة حين خالف به فطرة البشرية وحكم الله.
إن أخطر المحاولات التي تحتاج إلى الانتباه الوافر: هي محاولة وضع الإنسان في موضع تبرير القيم الغربية باسم سماحة الإسلام وانفتاحه وقابليته للجديد ومسايرته لظروف الأمم والحضارات، ولاريب أن للإسلام قواعد كلية لا سبيل إلى النزول عنها وخاصة في مسائل الربا والحدودة(16/7)
جيل العمالقة والقمم الشوامخ في ضوء الإسلام
أنور الجندي
دار الاعتصام
بسم الله الرحمن الرحيم
مدخل إلى البحث
إن من طبيعة الفكر الإسلامي أن يعقد مقارنة بين جيل وجيل لتقييم ما طرحه الجيل السابق ووزنه بميزان الأصالة والتقدير الحقيقي الحر البعيد عن الأهواء المتحرر من الولاء والخضوع لما خضع له الجيل السابق، وقد تتابعت في تاريخ الفكر الإسلامي عملية (إعادة النظر) وإعادة تقييم المراحل هذه، حتى غدت مسألة طبيعية بل وضرورية لمواكبة سير الإنسانية على الطريق الصحيح إلى الغاية الأصيلة وتصفية الفكر الإسلامي في كل مرحلة من الدخائل.
ومنذ ظهرت طلائع حركة اليقظة الإسلامية بمفاهيم المنهج القرآني الأصيلة بدأت عملية إعادة النظر في كل ما كتب في مرحلة النفوذ الأجنبي والاحتواء والسيطرة الأجنبية والتبعية للفكر الغربي المسيطر من خلال معاهد الإرساليات والابتعاث إلى البلاد الأجنبية وما حمله هؤلاء العائدون من مذاهب ونظريات وما حاولوا من خلاله إخضاع الفكر الإسلامي وتاريخ الإسلام والتراث إليه من نظريات تقوم على أساس الفلسفة المادية والانشطارية التي عرف بها الفكر الغربي وتلك قضية كبرى معروفة تحت اسم: حركة التغريب والغزو الثقافي.
واليوم ترتفع صيحة في معسكر التغريب والغزو الثقافي تعارض هذه المراجعة وتصد هذا التقييم الذي يقوم به رواد حركة اليقظة بمفاهيم الإسلام للفكر المعاصر الذي خضع فترة للنفوذ الأجنبي وجرت محاولة احتوائه وتدميره وتغريبه.
وهذه الصيحة اليوم تحمل رمزًا لامعًا خطيرًا هو التساؤل عن الخطأ الذي يجري في مواجهة جيل العمالقة والقمم الشوامخ، هؤلاء الذين قدموا للأمة ذلك الفيض الدافق من البطاقات والآراء والنظريات التي تقوم عليها الآن الدراسات العربية والأدب والشعر والفن وفي مختلف مجالات الفكر.(17/1)
###4### والحقيقة أن ما قدمته هذه المدرسة التي يسمونها تارة باسم الرواد وتارة باسم جيل العمالقة والقمم الشوامخ، ليس إلا عصارات من الفكر الغربي انتزعت من هنا أو هناك، وخلاصات ومترجمات لمضامين ذلك الفكر الذي سيطر على الغرب تحت اسم الفلسفة المادية ومدرسة العلوم الاجتماعية والتحليل النفسي، وهو خلاصة ما كتب دارون ودوركايم وفرويد وسارتر وماركس وانجلز ومترجمات للقصص الجنسي والإباحي من الأدب الفرنسي وكان الصراع في أول الأمر قائمًا بين اللاتينيون والسكسون هؤلاء مع المدرسة الإنجليزية (العقاد والمازني وشكري) وأولئك مع المدرسة الفرنسية (خليل مطران وطه حسين وهيكل).
ثم جاء الصراع الثاني بين المدرسة الليبرالية (لطفي السيد – طه حسين، وحسين فوزي وزكي نجيب محمود) ومن المدرسة الكلاسيكية (سلامة موسى وحسين فوزي ومندور) ثم جاءت المدرسة الإنسانية الماسونية (الهومنيزم) وعلى رأسها لويس عوض.(17/2)
وكل ما قدم في هذه المرحلة منذ بدأت هذه المدرسة على يد أستاذ الجيل (لطفي السيد) وحتى اليوم هو فتات موائد الغرب بشقيه، ولم يكن هؤلاء الأدباء والكتاب من أصحاب الأسماء اللامعة إلا قناطر بين الساحلين، ولم يكن ما نقل خلال هذه الفترة سواء على لسان من قدموه على أنه فكرهم الخالص أو ما ترجموه، لم يكن فكرًا حرًا خالصًا أريد به خدمة هذه الأمة، ولم يكن مقصودًا به ترسيخ الوجود الفكري الثقافي لأمة تملك مفهومًا أساسيًا جامعًا للفكر والحياة والمجتمع، وإنما كان فكرًا متحيزًا مقصود به تسميم قنوات الفكر الإسلامي وإفسادها وتحويل وجهة هذه الأمة وتغيير ملامحها والقضاء على ذاتيتها وأعرافها الإسلامية والعربية الأصيلة، كان هذا واضحًا في كل ما نقل وما ترجم حتى فيما وصى به من إحياء التراث الإسلامي العربي، كان هدف ذلك كله الدعوة إلى إخراج هذه الأمة من مقوماتها الأصيلة وصهرها في بوتقة الفكر الغربي المادي اللحد الوثني ربيب الفكر الإغريقي القائم على علم الأصنام ودفع هذه الأمة بعيدًا عن طريقها الأصيل بوصفها صاحبة المنهج التجريبي الذي صنع الحضارة المعاصرة، وصاحبة منهج المعرفة ذي الجناحين (الروح والمادة) والقائم على منهج الثوابت والمتغيرات إلى منهج انشطاري مادي خالص، وحق في هذا ما قال البعض بأنهم أخذوا المنهج العلمي ###5### التجريبي مع المسلمين وأوردوا المسلمين إلى منهج أرسطو الذي رفضه المسلمون قديمًا وهاجمته الحضارة المعاصرة في عصر النهضة.(17/3)
إذن فالحملة المثارة تحت عنوان خطير: (هدم الشوامخ من أجل من) هي محاولة جديدة لمحاولة تثبيت دعائم هذه المؤامرة القديمة التي تكشف مخططها، ومغالطة واضحة تقوم على التعميم يهدم الشوامخ فمن هؤلاء الشوامخ الذي جرى هدمهم، وهل من أجل أمثال طه حسين ولويس عوض وحسين فوزي وتوفيق الحكيم وزكي نجيب محمود يطلق اسم الشوامخ بينما حقيقة الأمر أن الشوامخ هم غير هؤلاء، إنهم أولئك المجاهدون الصادقون الذين لا يذكرهم أحد ولا يتحدث عنهم أحد، الذين وضعوا في الظن وأقيمت حولهم مؤامرة الصمت، لأنهم قدموا لأمتهم معطيات وافرة ودلوا أمتهم على طريق الأصالة والنهضة الحقيقية.
والحقيقة التي يتجاهلها أتباع التغريب والغزو الثقافي أن الشوامخ والعمالقة الحقيقيون ليسوا هؤلاء، وإنما أولئك الذين نسيهم الناس وتجاهلتهم الصحافة وحجبهم الإعلام، وإذا أيد أمر واحد منهم بتأليف كتاب عنه وقفت أمثال الدكتورة سهير القلماوي لتقول: من هذا، من هو (عبد العزيز جاويش) ذلك لأن جاويش ليس من مدرسة لطفي السيد وكان خصمًا لخصوم الإسلام والعربية ومدافعًا عن اللغة العربية أمام المستشرقين الذين حاولوا اغتيالها في مؤتمر الجزائر سنة 1905.
وكثيرون هم الشوامخ الحقيقيون، ولكن طه حسين وهؤلاء ليسوا إلا أقزام من التغريبيين غلمان المستشرقين الذين أعطاهم النفوذ الأجنبي هذه الشهرة والمكانة وظل يدافع عنهم حتى اليوم، حماية لوجودهم من خلالهم وإلا فقل لي بربك من غير طه حسين يقام له حفل سنوي يدعى إليه المستشرقون من كل مكان في أوروبا، ولماذا لا يقام هذا التقدير لمصطفى صادق الرافعي أو رشيد رضا أو شكيب أرسلان.
الحقيقة أن هذه الحملة تحت اسم هدم الشوامخ هي حملة باطلة وإلا فمن الذي هدم جمال الدين الأفغاني والمتنبي وابن خلدون في العصر الحديث، أليسوا هم أولئك الشوامخ في تقدير التغريبيين.
###6### 2- تقييم المحصول الذي قدمه جيل الرواد بميزان الإسلام(17/4)
إننا إذا أعدنا النظر في تقسيم هذا المحصول الذي قدمه جيل الرواد وجدنا فيه الشيء القليل النافع الإيجابي ووجدنا أغلبه مما قذفتنا به رياح السموم، هذه الأطروحات التي كتبها الأعلام الذين تصدروا الحياة الأدبية: ما وزنها في مجال البحث العلمي: لقد تبين أن رسالة الدكتور طه للدكتوراه في السربون عن ابن خلدون هي ترديد لأفكار اليهودي الحاقد على الإسلام وأعلامه (دوركايم) وأنها تنتقص هذا الرجل انتقاصًا شديدًا، ونجد أطروحة منصور فهمي عن (المرأة في التقاليد الإسلامية) وهي ترديد صارخ لأكاذيب المستشرقين واتهامهم للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه استثنى نفسه من قانون الزواج وهي أفكار دهاقنة اليهود، وإذا نظرنا في رسالة زكي مبارك عن (الأخلاق عند الغزالي) نجدها ترديدًا لأكاذيب المستشرقين عن الغزالي واتهامه بأنه متأثر بالمسيحية، فإذا راجعنا كتاب (مع المتنبي) لطه حسين وجدناه مأخوذًا من أحقاد المستشرقين وفي مقدمتهم (بلاشير).
فإذا راجعنا كتاب علي عبد الرازق عن (الإسلام وأصول الحكم) وجدناه مأخوذًا بكامله من رسالة لمرجليوث، وإذا نظرنا في كتاب (الشعر الجاهلي) وجدناه مرددًا لنظرية قدمها مرجليوث أيضًا عن انتحال الشعر يرمي بها القرآن نفسه، أما آراء سلامة موسى فقد كانت منقولة نقلا مباشرًا من كتابات: داروين وفرويد وماركس ودوركايم.
أما العقاد فقد تأثر تأثرًا واضحًا بنظريات مقارنات الأديان في كتابه عن (الله) وتأثر بنظريات الوراثة في كتاباته عن الصحابة.(17/5)
كان الهدف هو إخضاع الفكر الإسلامي في مختلف جوانبه للنظرية المادية الغربية، بدأ ذلك جرجي زيدان في كتاباته عن الأدب العربي والتمدن الإسلامي والروايات الإسلامية، ومضى على الطريق كل من جاء بعد ذلك، فكتاب ###7### (حياة محمد) على ما به من دفاع عن الإسلام خرج من عباءة المستشرقين وكتاب التغريب وتبنى نظريات الكاثوليكي الفرنسي (دوركايم) وأنكر ما سوى القرآن من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، ورفض مفهوم الإسراء بالروح والجسم وتبنى عديدًا من مفاهيم الفكر المسيحي الغربي.
أما الذين قدموا مفاهيم الإسلام الأصيلة فقد أبقاهم النفوذ الغربي المسيطر على الحياة الثقافية في مصر والبلاد العربية – إبقاءهم في الظل فقد سبقت ولحقت كتابات هيكل عن الرسول صلى الله عليه وسلم كتابات كثيرة: (محمد أحمد جاد المولى، محمد مصطفى نجيب).
ومن بعد جاء محمد الغزالي, محمد سعيد البوطي, أبو الحسن الندوي, وكثيرون ولكن هناك تركيز في دائرة الضوء على كتاب معين أو كتب بعينها وفي مختلف الميادين الفكرية والثقافية تجد التعتيم نحو الأسماء الكريمة الأصيلة وهناك مؤامرة الصمت قائمة إزاءها وإزاء كتاباتها:(17/6)
أي الفريقين أحق بأن يوصف بالشموخ والريادة وجيل العمالقة: هؤلاء أتباع التغريب وغلمان المستشرقين والذين حملوا لواء تزييف الفكر في كل مجال من مجالاته حيث سيطر لطفي السيد على الدعوى العامية أو قاسم أمين لإخراج المرأة من بيئتها أم سعد زغلول لدعوة تعليم اللغة الإنجليزية أم طه حسين للدعوة للأدب الفرنسي أم سلامة موسى للدعوة على دارون وفرويد وماركس، أم حسين فوزي للدعوة إلى الموسيقى الصاخبة أم لويس عوض للدعوة إلى الفرعونية أم ساطع الحصري للدعوة على القومية الغربية أم على عبد الرازق للدعوة إلى العلمانية... هؤلاء أحق بأن يوصفوا بأنهم الشوامخ وتقوم الأقلام لحمايتهم من كشف زيفهم ومن تعرية خبثهم ومن وضعهم في مكانهم الصحيح فلا تخدع بهم الأمة، أم هؤلاء الأبرار:
جمال الدين، محمد عبده، مصطفى صادق الرافعي، رشيد رضا، شكيب أرسلان، محب الدين الخطيب، أحمد زكي باشا، طاهر الجزائري، أحمد تيمور، المويلحي، الكواكبي، علال الفاسي، عبد العزيز جاويش، البكري، المنفلوطي، الزيات، ###8### الثعالبي، عبد الرحمن عزام، عبد الوهاب عزام، عبد الحميد بن إدريس، حسن البنا، حسن حسني عبد الوهاب، فريد وجدي، الغلابيني، طنطاوي جوهري، عبد الوهاب خلاف وآخرون.
هؤلاء في الحقيقة هم الذين صنعوا نهضة مصر والشرق والإسلام وخاصة في مجال النضال الوطني والتحرر من النفوذ الأجنبي هؤلاء هم الذين وضعوا قواعد البناء الفكري الإسلامي الحديث.
ولقد ادعى لطفي السيد وسعد زغلول وطه حسين أنهم أولياء جمال الدين أو محمد عبده، ولكن طريقتهم وأسلوبهم كذب هذه الدعوة وكشف زيفها، بل أن طه حسين نفسه أعلن خروجه على محمد عبده، وأحمد زكي باشا، والشيخ الخضري، أساتذته وهاجمهم.(17/7)
إن الحقيقة التي لا يختلف فيها الآن بعد أن ظهرت عشرات الدراسات مصححة للوقائع، في ضوء مفهوم اليقظة الإسلامية، أن هذه الأسماء اللامعة التي ما تزال تتردد، إنما يراد بها أن تحجب تلك الأضواء الساطعة، وهي في الحقيقة لم تصنع تلك النهضة، وإنما صنعها أولئك الأبرار ووضعوا لها القواعد، هذه الأسماء المجهلة في ميزان الشهرة المعاصرة الكاذبة التي يوقد نارها التغريب والاستشراق، أولئك المخلصون الصادقون فإن أحدًا لم يذكرهم اليوم، أما هؤلاء الذين خدعوا الناس بأن حملوا لواء قيادة الفكر فإنهم لا يمكن وصفهم بالريادة ولا بالبطولة ولا بالقيادة لأن عوامل ذلك كله تنقصهم وأبرز عوامل قبول الأمة لهم وإيمانها بصدقهم وثقتها فيهم، أنهم لم يكسبوا شهرتهم نتيجة خصوبة فكرهم أو صدق إيمانهم وإنما لأنهم عملوا في مجال السياسة والحزبية والصحافة يومًا بعد يوم، في ذلك الركام المضطرب العاصف من الصراع الحزبي والجدل السياسي والهجاء المرير فأعطاهم هذا كله: ذلك البريق وتلك الشهرة، واستطاعوا أن يركبوا كل موجة فلما جاءت موجة الإسلام ركبوها ظنًا منهم أن يسيطروا عليها ودفعًا من سادتهم لكي يحولوا وجهتها.
هذا ما أعطاهم الشهرة (وهي ليست مقياسًا حقيقيًا للبطولة) أما جهدهم الحقيقي في مجال بناء النهضة فهو قليل بل هم المعوقين لها الذين شقوا جبهتها الموحدة، ###9### وأمثال هؤلاء اللامعين لم تكن كتاباتهم في الأدب والفكر تساوي واحدًا من مائة من كتاباتهم السياسية والحزبية المنسية بأدنى ألوان الجدل والهجاء، ولم تكن تساوي واحدًا من ألف من كتابات ذوي الأصالة والثقافة والنتاج الجيد وأصحاب الأقلام الموجهة لخدمة كلمة الله الداعية لأن تكون كلمة الله هي العليا.
ولكن السياسة والحزبية والنفوذ التغريبي هو الذي أعطاهم لمعان الاسم حتى جاء اليوم الذي يسمون فيه بالقمم الشوامخ.(17/8)
إن أسماء كثيرة هي التي أعطت النهضة الإسلامية دفعتها القوية من علماء ومن كتاب يمثلون الأصالة الحقة وليس أولئك المغربون هم الذين قاموا بهذا الدور، ونحن لا ننكر عنهم أنهم شاركوا فيه بجهد ضئيل (ولكن ما قدموه وصف يومًا بأنه أشبه بالخروب: خشب كثير وسكر قليل) وكانت لهم أخطاء وانحرافات وقليل منهم من صدق الله النية في العودة إلى الحق، ذلك أنهم كانوا غربيين بحكم الثقافة الأولى التي كونتهم ولذلك كان دخولهم إلى فهم الإسلام ليس نقيًا النقاء الكامل بل كانت تختلط به تشوهات الفكر المادي وتراكمات المفاهيم الإغريقية والرومانية والمسيحية المسيطرة عن نتاج الفكر الغربي كله. ولأنهم بدأوا كتاباتهم الإسلامية بمناهج الغرب – كانوا كالمستشرقين – أعجز عن فهم مناهج الإسلام فتخبطوا وأخطأوا، ونقلوا عن كتب التبشير وكتب الاستشراق وعجزوا عن الأصالة الحقة.(17/9)
يقول الدكتور محمد محمد حسين: إن طه حسين والعقاد لا ينتميان أصلا إلى المدرسة الإسلامية من الناحية الفكرية، ولكنهما ينتميان منذ نشأتهما الأولى إلى (المدرسة الليبرالية) المتحررة التي تعتبر (لطفي السيد) أستاذها الأول في جيلها، والمدرسة الليبرالية تحكم العقل المجرد والمتحرر من كل المواريث الفكرية والسلوكية، في كل شيء، ولا نبالي أن تلتقي مع الدين في كل وجهات النظر أو بعضها أو تتعارض معه وتخالفه، ولكن طه حسين كان أكثر عنفًا وأكثر جرأة في معارضة الدين، وفي المجاهرة بما يثير الناس ليلفت إلى نفسه الأنظار، لقد هاجم طه حسين أباه فما كان يتلوه من أوراد في أعقاب الصلاة وفي الليل (في كتاب الأيام) غير أن طه حسين والعقاد قد اكتسحتهما الوجهة الإسلامية العارمة فتتابعت كتبهما بعد ###10### أصبح ذلك هو البدع الشائع الذي يغمر الأسواق، ولم يعد التشدق بالكفر ونظرياته المستوردة سمة من سمات المفكرين، تستهوي الإغراء من الثبات كما كان في العشرينات. ويرجع هذا الانقلاب الفكري إلى عدة عوامل عدلت بالناس وبكثير من المفكرين عن طريق احتذاء الحضارة الغربية والفكر الغربي وردتهم إلى طريق الإسلام منها، موجة التنصر وهجرة اليهود إلى فلسطين وسقوط الخلافة على يد الكماليين، وظهور جمعيات إسلامية عظيمة.
إن هناك قاعدة أساسية ينبغي أن توضع في الحسبان حين يوزن الأدباء والمفكرون من وجهة النظر الإسلامية، وهي أن الإسلام نظرية في السلوك بمثل ما أنه نظرية في المعرفة ولذلك كان من المهم أن لا يقبل فكر إسلامي أو أدب إسلامي من مفكر أو أدب لا يمار الإسلام ولا يلتزم به ومعروف أن طه حسين والعقاد لم يكونا ممارسين الإسلام في أصوله الأصيلة.
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن كتاب مصر هؤلاء: الشوامخ الرواد، لم يحاربوا الاستعمار ولا الاستبداد،(17/10)
حركة الترجمة
الأستاذ أنور الجندي
يواجه الفكر الإسلامي في مطلع القرن الخامس عشر الهجري عديداً من التحديات التي انطلقت منذ بدأت حركة الاستشراق والتبشير والغزو الثقافي يهدف "تغريب" الإسلام وبلاده وفكره وذلك عن طريق طرح معطيات الفكر الغربي بواسطة الترجمة على نحو بالغ الخطورة اختلط فيه النافع بالضار وغلبت مترجمات الفلسفة اليونانية والقصة المكشوفة ونظريات العلوم الاجتماعية والنفس والأخلاق الغربية ومترجمات النظريات الاقتصادية سواء الرأسمالية أم الماركسية، بل وطرحت من خلال هذه المترجمات نظريات مادية في ترجمة الحياة وتفسير التاريخ ونقد الأدب وكلها تتعارض تعارضاً تاماً مع مفاهيم البلاد وقيم الفكر الإسلامي، هذه الظاهرة الخطيرة: ظاهرة المترجمات إلى اللغة العربية من الفكر اليوناني الوثني القديم والفكر الغربي الليبرالي والماركسي تحتاج إلى نظرة فاحصة في مطلع القرن الخامس عشر بهدف تحديد موقف الفكر الإسلامي منها من حيث الوجهة التي يجب أن يتجه إليها في القرن الخامس عشر وهي وجهة التحرر من الوافد والدخيل ومن التبعية والاحتواء، واحتلال ناصية الأصالة وإعلاء الذاتية الخاصة وتمكين الوجود الأصيل المستمد من منابع الإسلام، والنظر إلى الفكر الوافد على أنه نتاج غريبلقوم لهم مفاهيمهم وقيمهم، ولا بأس من لالنظر فيه والاستئناس به للتعرف على أساليبه ووجهته، دون أن يكون مسيطراً أو موجهاً لفكرنا الإسلامي ودون أن يكون فكرنا الإسلامي - ذي الميراث الرباني والتراث العريق - خاضعاً أو منصهراً في بوتقة الأممية العالمية.(18/1)
ولقد قامت الترجمة في العصر الإسلامي الأول بإرادة المسلمين الحرة وفي سبيل الحصول على تراث الأمم العالمي باعتبار أن الإسلام هو وارث الحضارات القديمة جميعاً، ونظراً لأن الإسلام قد دعا إلى العلم وإلى النظر في الكون فحق على أهله أن يتعرفوا على ما سبقهم من تجارب في هذا المجال بغية تقييمها والنظر فيها وتصحيح أخطائها والتماس السليم الصادق منها مما لا يتعارض مع مفهوم التوحيد الخالص للبناء عليه على النحو الذي تحقق بإقامة المنهج العلمي التجريبي الإسلامي ومنهج المعرفة الإسلامي ذي الجناحين (روحاً ومادة وديناً وعلماً ودننيا وآخرة).
ومن ثم فقد أنفق المسلمون جهدهم في الحصول على أوليات العلوم الطبية والطبيعية والفلكية التي كانت ميراثاً عاماً (من بابل وفارس ومصر والهند والصين) والتي كانت قد تجمعت في بيئة اليونان والرومان ثم جاءت المسيحية فرفضتها كلية، ومن ثم كان فهم المسلمين للترجمة في العصر الأول دقيقاً وسليماً، فقد كانوا يفرقون تفريقاً واسعاً بين "العلوم" و "الثقافة" وكانوا يؤمنون بأن لكل أمة ثقافتها الخاصة بها المستمدة من عقيدتها ومفهومها للحياة وميراثها الفكري، ولما كان التوحيد هو قمة معطيات الإسلام فقد حددوا موقفهم إزاء الشعر والأدب والفلسفة وأدخلوها في دائرة ثقافة الأمم الخاصة بهم، وأخذوا في ترجمة العلوم والمعارف العامة باعتبارها ملك لجميع الأمم، ولذلك فقد سارت نهضة الترجمة في العصر العباسي على هذا الأساس لولا أن عوامل معينة تجخلت في ترجمة الفلسفات اليونانية والفارسية وخاصة ما يتصل بعلم الأصنام اليوناني المستمد من الوثنية اليونانية وكذلك ما يتصل بالغنوصية الشرقية، وكانت قد مزجت فلسفة اليونان والفلسفة الشرقية في المدرسة الأفلوطينية.(18/2)
غير أنه ما أن ترجمت فلسلفات أرسطو وأفلاطون وغيرهما حتى واجهها الفكر الإسلامي في معارضة قوية واعتبر القائمين بها أتباعاً لمدرسة اليونان حتى أطلق عليهم اسم (المشائين المسلمين) وكشف عن فساد مفاهيمها ومعارضتها للتوحيد الخالص ومن ثم نشأت مدرسة الأصالة التي بدأها الإمام الغزالي ووسد قوانينها الإمام ابن تيميه الذي كشف عما أماه "منطق القرآن" في مواجهة منطق اليونان وكان الإمام الشافعي قد بدأ هذا الاتجاه حين فرق بين أرجانون اللغة اليونانية وأرجانون اللغة العربية: لغة القرآن وخاصة فيما يتعلق بأن الفلسفة اليونانية تقوم على الوثنية والعبوية بينما يقوم مفهوم الإسلام على التوحيد والإخاء البشري.
ولكن الترجمة فيما عدا هذا الجانب الفلسفي ظلت محكومة بهدف واضح وبإإرادة قديرة. قوامها مفهوم الإسلام نفسه، وكل ما وجده علماء الإسلام ومفكروه معارضاً للإسلام نقضوه وما وجدوه مخالفاً عارضوه، وكشفوا زيفه وأعلوا شأن مفهوم الإسلام الجامع القائم على التوحيد الخالص والمسئولية الفردية والالتزام الأخلاقي.(18/3)
أما في العصر الحديث فإن الإرادة الإسلامية الحرة كانت مقيدة ومغلولة حين نشأت حركة الترجمة واستعت في ظل النفوذ الاستعماري المسيطر على البلاد العربية فكانت حركة الترجمة جزءاً من مخطط التغريب والغزو الثقافي بالرغم من أنها بدأت في عصر محمد علي بداية صحيحة راشدة، غير أنها سرعان ما فقدت أصالتها وتغلبت جماعات من المترجمين المارون اللبنانيين (شأنهم في هذا شأن جماعة السريان في العصر الأول) الذين عكفوا على ترجمة القصص الفرنسي الجنسي المكشوف ونقل القصص الفرنسي الجنسي المكشوف ونقل القصص التافه السخيف، وكانت الترجمة وسيلة كسب للعيش وليس عملاً فنياً فضلاً عن جهل لقواعد اللغة وعدم التقيد بالأصل المترجم وتشويه القصة، في لغة ركيكة مبتذلة عدداً بلغ ستمائة قصة، ثم ظهرت مؤامرة التمصير التي قادها عثمان جلال فكان يترجم القصص الفرنسية إلى العامية المصرية.
وظهرت مدرسة الترجمة من الأدب الإغريقي بقيادة لطفي السيد وطه حسين حيث ترجمت بعض آثار أرسطو والياذة هوميروس (سليمان البستاني) ومائدة أفلاطون للطفي جمعه وكثيرون.
ثم ظهرت أبعد القصص الأدبية إباحية وكشفاً حين ترجمت آثار مولير وراسين وكوررني.(18/4)
ودخلت إلى الأدب العربي مفاهيم مختلفة تمام الاختلاف عن مفاهيم المسلمين في المرأة والرجل وفي العلاقات الاجتماعية على نحو يمتهن كرامة العرض والخلق وكذلك ترجم طه حسين وغيره أسوأ أشعار الأدب الفرنسي والقصص المسرحي أمثال بودلير وتوماس هاردي، وبورجيه، وموباسان، وبول فاليري ولم يسلم من هذا الاتجاه إلا عدداً قليل جداً من أمثال فتحي زغلول وعادل زعيتر ومحمد بدران بل لقد وقع المترجمون في ذلك الفخ الذي نصبه النفوذ الأجنبي بنسبه أشعار فارسية قديمة في الخمر إلى العالم الفلكي عمر الخيام من أمثال الزهاوي والصافي النجفي وأحمد رامي وعبد الحق فاضل وأحمد حامد الصراف ووديع البستاني إلى العربية مشيدين بها وهي لم تثبت في الأصل وتبين فساد مصدرها وأنها كانت محاولة خطيرة لبث روح التحلل والفساد والتمزق النفسي في الشباب المسلم.
ويمكن القول أنه كان وراء خطة الترجمة على هذا النحو قوى كبرى تهجف إلى غاية واضحة قوامها "تغيير أعراف هذه الأمة وتدمير مقوماتها" وقد كان لهذا القصص المكشوف أثره الواضح في تدمير أعراض كثير من البيوت.
واستمرت هذه الموجة من الترجمة الموجهة ولا تزال حتى اليوم تعمل في عدة ميادين وترمي إلى غايات بعيدة منها الغض أساساً من شأن الإسلام وقيمه ومفاهيمه وشريعته ولغته وتاريخه وطرح هذا الركام المسموم في مختلف الميادين وخاصة ما طرح في ميادين العلوم (نظرية دارون) والنفس (نظرية فرويد) والعلوم الاجتماعية (نظرية دوركايم) والأخلاق (نظرية سارتر) وفي العلوم الاقتصادية (نظرية الرأسمالية ونظرية الماركسية).
وكلها تهدف إلى فرض مفاهيم ونظريات وافدة معارضة لمفهوم الإسلام الأصيل الرجامع الواضح في مختلف مجالات النفس والأخلاق والسياسة والاقتصاد والاجتماع.(18/5)
وإذا أحصينا هذه الأجناس والفنون المختلفة وجدنا أن أقلها ما ترجم في ميدان العلوم والتكنولوجيا التي هي المادة الوحيدة التي نحن في حاجة إلى نقلها من الفكر الغربي، وبالرغم من ذلك فلا تزال القيود تقيد خطوة الفكر الإسلامي فيها فلال يزال مفروضاً على الكليات العلمية (الهندسة والطب والعلوم والزراعة) أن تخضع للمصطلحات الغربية ونتعامل معها مع أن أساس النهضة الحقة أن تنقل العلوم التجريبية إلى أحضان اللغة العربية أساساً حتى يمكن أن يقوم الانبعاث على أساس مفهوم الإسلام نفسه للعلم وليس على أساس مفهوم الغرب الذي يتمثل الآن في الاستعلاء العنصري والتهديد الذري، والصراع بين المعسكرين، والحيلولة دون تمكن المسلمين والعرب من الحصول على التكنولوجيا سواء العامة أم العسكرية والحربية – وغاية ما يقال في هذا الصدد أن معركة الترجمة لم تبدأ من منهج صحيح مدروس ينظم مدى ما نحتاجه وما لسنا في حاجة إليه، وإنما أخذ التغريب والغزو الثقافي المبادرة ومضى يقدم لنا على مدى قرن كامل نتاجاً سيئاً غاية السوء، قوامه ترجمة القصة المكشوفة الأجنبية والتراث اليوناني الوثني، والمفاهيم الماديوة والإباحية في مجالات النفس والاجتماع والأخلاق والتربية ومن الأسف أن هذا الآثار قد قدمت لنا على أنها "علوم أصيلة" وليست "فروضاً قابلة للخطأ والصواب" أو وجهات نظر تمثل أممها وأصحابها ولم تسبق هذه الدراسات أن تلحق بما يكشف أمام القارئ العربي والمسلم مكانها من فكر أمتها و موقفنا كفكر له منهج متكامل جامع منها، وبذلك زيفت هذه الترجمات كثيراً من العقول وأفسدت كثيراً من النفوس وخلقت أجيالاً مضطربة لأنها استطاعت أن تقرأ الفكر الغربي القائم على عقائد ومفاهيم وقيم وأيديولوجيات، على أنه "علم غير قابل للنقض" بينما لم يكن ذلك إلا مجموعة من الفرضيات القابلة للخطأ والصواب والتي تختلف بل ربما تتعارض مع فكرنا الإسلامي العربي، وكان القائمون على هذه(18/6)
الأعمال في الأغلب من خصوم هذه الأمة وفكرها ومن الراغبين إلى: اتخاذ سلاح الترجمة سبيلاً إلى هدم هذه المقومات.
وفي نفس الوقت الذي حجبت حركة الترجمة ما يحتاج إليه المسلمون في هذا قالعصر من مجالات العلوم التجريبية والطبيعية والرياضية وغيرها، فقد طرح في أفق الترجمات ركاماً مضطرباً عاصفاً يرمي إلى هدم ذلك الحائط النفسي المرتفع القائم في النفس المسلمة بالحق والتقوى والكرامة والفضيلة والعفاف هذا الركام يصور الإباحيات الجنسية على أنها شرعة المجتمع المباحة كما يصور الجريمة على أنها ظاهرة طبيعية ويصل تأثير هذه المترجمات المسمومة إلى جميع مؤثرات العقائد والأخلاق والاجتماع، من حيث وجود تباين واضح وخلاف عميق بيثن مفاهيم الغرب ومفاهيم الإسلام حيث تقوم الحياة هناك على أساس عبادة الجسد وتقديس الجمال والنظر إلى العلاقات الجنسية نظرة حرة بعيدة عن القداسة والعفاف والإيمان بالعرض وكرامة المرأة حيث تختلط الصور في هذه الترجمات المطروحة فتحدث آثارها الخطيرة في النفس العربية الإسلامية حتى تصل إلى صميم العقيدة نفسها.
كذلك كان من أسوأ آثار الترجمة ذلك الخلط الشائن بين المذاهب المتعارضة والنظريات المتضادة وهي نظريات ومذاهب لم تظهر في وقت واحد هنالك وإنما ظهرت على أزمنة متفاوتة ولكنها حين نقلت إلى فكرنا الإسلامي أريد طرحها جملة ليكون لاضطرابها وتباينها واختلافها أبعد الأثر في تدمير هذا الفكر والإدالة من أصالته.(18/7)
ومن العجيب أن ننقل ونترجم آثار الفكر الغربي اليوم وهو يمر بمرحلة الأزمة والانهيار والهزيمة. وقد أحيط به واحتوته مقرررات التمودية وبورتوكولات صهيون وآوى أهله إلى ذلك الإحساس الرهيب بالغربة والقلق والتمرد والغثيان فنقل مسرح اللا معقول واللا أدب واللا أخلاق. ومثل هذه الفنون المضطربة التي لسنا في حاجة إليها والتي لا تستطيع أن تعطينا شيئاً يعيننا على بناء أنفسنا في فكرنا أو أمتنا وخاصة ما كتبه سارتر وكامي ومالرو من أحاسيس بالرعب والفزع والاضطراب نتيجة ذلك الانفصال الشائن عن العقيدة والأخلاق والمسئولية الفردية وهي في مجموعها تضاد الفطرة التي لا تستطيع النفس الإنسانية أن تتجاهلها أو تحتويها.
كذلك فإن هذه الترجمة تصور الفرد الغربي وهو يحتقر الأخلاق ويسخر من الرحمة والصدف والعفة والشرف ويحتقر الوطنبة ويضحك من التزام الأخلاق للمجتمع ويستخف بفكرة الأسرة والعائلة.
وتجد مثل هذه الترجمات تحمل ذلك المثل الرديء بأن لا يحترم الإنسان أحداً ولا يحترم أي مثل أو دين أو مبدأ ويعتبر ذلك تقييداً لحريته وما يتصل بهذا من إنكار له تبارك وتعالى وتهجم بالعبارات الرديئة عليه (جل جلاله) على النحو الذي عرف عن نيتشه وسارتر وبيراندلو، فضلاً عن إحياء الأساطير واتخاذها أساساً لنظريات علم النفس والأخلاق والاجتماع أو مصاجر لمفاهيم الأنثروبولوجيا وغيرها من المفاهيم.
هذه السموم جميعها تترجم إلى لغتنا العربية وتدخل إلى دائرة أدبنا وفكرنا دون أن يقول مترجموها ما هو وجه الحق فيها وما هو الزيف. وما موقفنا منها كأمة لها عقيدتها وفكرها ومفاهيمها وقيمها. وهم بذلك يطرحون أفق مجتمعنا الإسلامي موجة زائفة من اليأس والتشاؤم والملل وازدراء الحياة مما لا يتفق مع طبيعتنا المتفائلة المؤمنة بالله تبارك وتعالى التي لا تخاف شيئاً ولا أحداً غير الله والتي تعتصم دائماً برضوان الله ورحمته.(18/8)
ولعل هذه السموم التي تطرحها عملية الترجمة من أخطر ما يواجه حركة اليقظة الإسلامية اليوم وتضع أمامها صخوراً وجنادل تحول بينها وبين إكمال المسيرة إلى الحق وتحجب كثيراً من حقائق الإسلام وتفسد العقول والقلوب في أعماق شبابنا وأجيالنا الجديدة. ويتساءل كثير من الباحثين أمثال الدكتورة نازك الملائكة وغيرها عن الغاية التي سينتهي إليها شبابنا نتيجة تبنينا لهذا الفكر العربي المريض الزاحف.
ونحن نقول أننا أشد ما نكون حاجة إلى أن ننبه ونحذر من نتائج الأخطار والتي تطرحها عملية "الترجمة غير الموجهة" إسلامياً وأن نقف منها موقف التحفظ والتحذير والكشف عن أخطائها لتهدي أبنائنا إلى الحق، ونقول لهم في صراحة أن هذه المفاهيم دخيلة وافدة، وأنها ليست مفاهيم المجتمع الإسلامي العربي ولن تكون، نتيجة للخلاف العميق في الأسس والمصادر والمقومات والقيم والعقائد بين فكرنا وبين هذا الفكر ما بين أمتنا وبين الغرب.
ولقد حق علينا اليوم ونحن على أبواب القرن الخامس عشر أن يواجه الفكر الإسلامي هذه السموم والآثار التي طرحها الفكر المترجم الوافد، وقد بلغنا مرحلة الرشد والأصالة والقدرة على التحرر من التبعية والاحتواء والإذابة في بوتقة الفكر الأممي – علينا أن نعاود هذا الفكر بالنظر والتحليل وكشف الجوانب التي تتعارض مع الإسلام وخاصة ما كتب عن الرسول والإسلام والقرآن واللغة العربية وتاريخ الإسلام مما يحمل بذور الشكوك والتخرضات الضالة المضلة وهناك مجالات عديدة تحتاج إلى النظر والمراجعة:
ما ترجم في مجال الفكر الإغريقي الهليني.
ما ترجم في مجال العلوم الاجتماعية والنفس.
ما ترجم في مجال الأدب والنقد الأدبي والقصة.
ما ترجم من التاريخ وتفسير التاريخ.
ما ترجم في مجال الاقتصاد والسياسة.
ما ترجم في مجال التراجم وحياة العظماء.(18/9)
حقائق عن الغزو الفكري للإسلام
الأستاذ أنور الجندي
هناك مجموعة من الحقائق التي تكشفت أخيراً بعد أن انهارت مخططات التغريب والغزو الثقافي في العالم الإسلامي وبعد أن أوشكت جولة هذا الباطل تسربل بالعلم والبراعة واللمعان الخاطف أن تنطفئ وتنهار.
وكان حقاً علينا أن نتعرف على هذه الأمور حتى لا تخدعنا مرة أخرى حين يحاول النفوذ الأجنيب أن يغير جلده أو يعاود خداعه أو يحاول تجديد أساليب مكره.
ونحن نعرف أن هذا النفوذ الأجنبي الذي يحاول أن يحتوي أمتنا وفكرنا هو مجموعة من المؤتمرات التي يحكيها النفوذ الأجنبي والصهيوني والماركسي، وأنه بدأ بصيحات متعددة:
هي صيحة لويس التاسع وصيحة غلادستون وصيحة كرومر، وصيحة اللورد اللنبي وصيحة كامبل وهي صيحات خمس يجب أن نعيها ونتعرف عل هدفها.
أم لويس التاسع فإنه بعد أن هزم في الحملة الصليبية السابعة التي تحطمت أمام المنصورة وأقتيد وهو قائدها أسيراً حتى يفتدي نفسه وسجن في بيت لقمان.
هذا الرجل المهزوم الأسير كتب في مذكراته يقول: "لقد تبين لنا بعد هذه الجولة الطويلة أن هزيمة المسلمين عن طريق الحرب مسألة مستحيلة لأنهم يملكون منهجاً محكماً يقوم على الجهاد في بيل الله ومن شأن هذا المنهج أن يحول دون هزيمتنا عسكرياً ولذلك فإن على الغرب أن يسلك طريقاً آخر، هو طريق الكلمة، الذي يقوم على نزع الفتيل من هذا المنهج وتفريغه من القوة والصمود والبسالة، وذلك عن طريق تحطيم مجموعة من المفاهيم بتأويلها أو التشكيك فيها".
هذه الوصية كانت أساس الخطة التي قام بها الغرب من بعد عن طريق إنشاء مؤسستي التبشير والاستشراق وإثارة الشبهات حول مفهوم الإسلام الأصيل الجامع دنيا ودولة وعقيدة وشريعة وأخلاقاً، ومن ثم كانت محاولات الاستشراق تدور كلها حول تحويل الإسلام إلى دين لاهوتي عبادي منفصل عن الحياة منتزع من ميادين الاقتصاد والاجتماع والسياسة والتربية.(19/1)
ولما كان القرآن هو مصدر هذا المنهج الرباني الأصيل الذي ما هزم المسلمون إلا عندما تغافلوا عنه أو حاولوا التماس غيره فإن صيحة غلادستون في مجلس الهموم البريطاني كانت تمثل حقيقة الفهم الاستعماري الإنجليزي – وإنجلترا إذ ذاك إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس – حين وقف وهو ممسك بالمصحف يقول: "إنه لا أمل في إخضاع المسلمين ما دام هذا الكتاب باقياً في الأرض".
وكان هذا إشارة مضاعفة للعمل على إثارة الشبهات حول القرآن وعقيدته وشريعته على النحو الذي عرفناه من قراءة تاريخ التبشير والغزو الثقافي.
ثم جاء كرومر الذي أمضى ربع قرن كامل وهو الحاكم الفعلي لمصر ليبني – كما قال في تقاريره الرسمية ومذكراته – جيلاً جديداً من المتفرنجين الذين يوالون الحضارة الغربية والحاكم الأجنبي ويقبلون التعامل معه ويؤمنون بأن هذه البلاد لا تنجح إلا إذا سارت في طرق الحضارة الغربية.
وكان من ثمرة عمل كرومر: لطفي السيد الذي أعلن عداءه للعروبة وللإسلام وللعالم الإسلامي ودعا إلى الإقليمية المصرية الفرعونية. وطه حسين الذي قال: أننا يجب أن نأخذ الحضارة الغربية حلوها ومرها وخيرها وشرها وما يحمد منها وما يعاب.
ثم جاءت صيحة أشد نكراً هي صيحة اللورد اللنبي: الذي كانت دولة بريطانيا قد خدعت العرب بوعود إنشاء دولة عربية إذا هم عاونوهم في الحرب العالمية الأولى فلما فعلوه كان جزاءهم احتلال بلادهم.
فاحتل الفرنسيون سوريا ولبنان واحتل الإنجليز الأردن والعراق وفلسطين وظهر وعد بلفور الذي أعطى اليهود وطناً قومياً في فلسطين.
ثم جاء اللورد اللنبي ليقف ويقول: اليوم انتهت الحروب الصليبية. وهو يعني أن الجيوش التي هزمت وآخرها بقيادة لويس قد عادت بعد ثمانمائة سنة مرة أخرى إلى هذه البلاد منتصرة ومنهية للحروب الصليبية على نحو آخر.(19/2)
وإذا كانت هذه الخيوط يمكن أن تعطي المثقف المسلم صورة حقيقية للخلفيات لواقعنا في مواجهة النفوذ الأجنبي فإن هناك قصة أخرى وصيحة أخرى للوزير كامبل وزير خارجية بريطانيا 1907 م.
فقد توصل هذا الرجل إلى أن الحضارة الغربية وهذا النفوذ الاستعماري الضخم للدول الغربية قد دخل في مرحلة الأفول ولكنه أراد أن يجمع علماء العالم ومفكريه ومؤرخيه لوضع خطة تقول:
إذا كانت هذه هي نهاية الحضارة الغربية فمن الذي سيخلف بريطانيا والغرب، فأعلن المؤتمرون: أن المسلمين هم المستخلفون لأنهم أهل المنطقة أولاً، ولأن لهم من عقيدتهم منهج محكم يمكنهم من استعادة بناء الحضارة الإسلامية، هناك جرى التفكير حول خطة للحيلولة دون تمكن المسلمين والعرب من امتلاك هذه الإرادة وتأخير هذه الجولة ما أمكن وجرى البحث حول السبيل الذي يمكن الغرب المنهار بحكم انتهاء جولته من استبقاء نفوذه وتأخير قيام النهضة الإسلامية في بلادها، قال دهاة السياسة ودهاقين الاستبداد والاستعمار:
عليكم أن تغرسوا جنساً غريباً عن هذه الأمة في المنطقة الواقعة بين أفريقيا وآسيا حتى يحول دون امتدادها ويفصل بينها، هنالك تقدم اليهود وقالوا: نحن العنصر الغريب العازل.
ومن هنا بدأت مؤامرة الصهيونية في فلسطين وإلى يوم آخر بعيد.
هذا هو منطلق اليقظة الإسلامية إلى معرفة التحديات التي تواجه الأمة، فإذا أضفنا إليها مثلاً تقرير اللورد كرزون ضعيف ما دام العامة يتعلمون اللغة العربية الفصيحة لغة القرآن كما في الوقت الحاضر ولا يتعلمون اللغة العربية الدارجة لأن نسبة اللغة المصرية الدارجة إلى لغة القرآن كنسبة الإيطالياني إلى اللاتيني واليوناني الحديث إلى اليوناني القديم وعربية الفلاح لغة قائمة بنفسها وقواعدها خاصة بها فإذا لم تؤخذ هذه الاحتياطات يستمر الجيل الجديد مثل سابقه غير حاصل لخدمة وطنه وتظل عبارة مصر للمصريين كما كانت اسماً بلا مسمى".(19/3)
هذا هو الاتجاه الواضح للنفوذ الأجنبي نحو القرآن واللغة العربية والهدف هو قطع اللغة الحية عن القرآن ومن ثم يصبح مجهولاً ويقرأ بقاموس وتموت العربية ويموت القرآن ويذهب الإسلام.
هذا القرآن هو الذي أزعجهم، رمى به غلادستون وقال عنه كرومر أنه يؤخر التقدم ودعا كرزون إلى العامية وجاء بعد ذلك ماسينون ليدعو إلى الكتابة بالحروف اللاتينية.
وتوالت نذر التغريب وتجمعت سحبه في أفق الفكر الإسلامي لاحتوائه والقضاء على ذاتيته وخصائصه، فقالوا نابليون أيقظ الشرق، وكذبوا فإن الذي أيقظة الشرق هو محمد بن عبد الوهاب وصالح المؤمنين الذين ارتفعت صيحتهم بالعودة إلى المنابع.
وعمل الغزو الفكري في ميدان الثقافة والتعليم حتى أن 50 ألفاً من أبناء المحظوظين يتعلمون بمدارس الإرساليات كل عام ويملأون عقولهم وقلوبهم بمفاهيم مسمومة مغلوطة صاغتها قوى متآمرة من المستشرقين والمبشرين والماسون والعلمانيين والوثنيين لهدم هذه القوة التي تقف في وجه الفكر البشري الضال كله وهي الإسلام.
وقد صنع النفوذ الأجنبي تلك المحاولة الخطيرة التي أسموها التغريب والتي استهدفت تحطيم مقومات الإسلام الأساسية وإثارة الشبهات حول مقومات الفكر الإسلامي التي تتمثل في الأصول الأساسية:
القرآن والسنة وهما منهج الإسلام في بناء المجتمع وقد اتهم الدين بالجمود والعجز عن متابعة الحضارات وهو مصدر التقدم في العالم.
اللغة العربية بإعلاء شأن العاميات والحروف الأعجمية وإتهامها بأنها لغة عاجزة عن الاستجابة للتطور إذ أنها لغة دينية.
سيرة الرسول وتاريخ الإسلام بإثارة الشبهات حول وقائعه.
الحضارة الإسلامية وإنكار فضلها على الحضارة المعاصرة واتهامها بأنها حضارة غير أصيلة وإسقاطها في مجال تطور الحضارة الإنسانية.
الأدب العربي وإخضاعه لمقاييس جديدة واحدة تجرده من أصالته الإسلامية.(19/4)
التراث الإسلامي والغض من قدرة ومحاولة إحياء الجوانب المتصلة بالفكر الشعوبي والوثني والفكر الصوفي الفلسفي.
التاريح الإسلامي ومحاولة تزييفه وإثارة الشبهات حوله واتهامه بأنه مليء بالثغرات.
كذلك جرى العمل على الحيلولة دون استئناف المسلمين حياتهم أو بناء مجتمعهم على أساس إسلامي وذلك بإثارة الثغرات القومية والإقليمية والتشكيك في العقيدة وإيجاد الفرق والنحل الهدامة، وتركيز المفاهيم العلمانية والمادية وصرف الأمة عن وجهتيها التي سارت عليها أربعة عشر قرناً والقضاء على خصائصها ومحو مآثرها وتحقير ماضيها وإفساد حاضرها، وخلق جديد منهزم مفتون بالغرب وأباطيله ومفاهيمه.
ولا ريب أن أولى مطالبنا هي الأصالة الفكرية: هذه الأصالة القادرة على فرز كل ما لا يتلاءم مع روح التراث وترك كل ما هو دخيل ثم الدرة على الانفتاح على الفكر الإنساني والتطور العلمي في يقظة ووعي كاملين بحيث نأخذ الوسائل وحدها لا تستطيع أن تقدم شيئاً ذا بال أو تعطي إضافة بناءة صحيحة إذا لم تكن مرتبطة بالأصالة وبوجود الأمة وحقيقة رسالتها وهدفها، وإن التطلع إلى التقدم العلمي والتكنولوجي لن تكون له فائدة إيجابية إذا لم يصدر عن إيمان أكيد بجذور الأمة الأولى الحقيقية وأن يتحرك في داخل إطار فكرها وقيمها. كذلك فإن الحوار مع الفكر العالمي يجب أن يتم في داخل إطار "الأمانة" التي تحمل لواءها الأمة الإسلامية للبشرية كلها دفعاً إياها إلى الحق وحجزاً لها عن الشر.
إن أبرز معالم الإسلام هو التكامل بين أعماق القلب ومجرى الفكر، وإقامة مبدأ التعاون بديلاً لمبدأ الصراع، وتقدير لقاء الأجيال بوصفه أصدق من صراع الأجيال والاعتقاد بأنه ليس بين الإنسان والطبيعة صراع ولكنها محاولة سيطرة واهتداء إلى النفع بها.(19/5)
ولا ريب أن السنة الجامعة هي البوتقة الناصعة التي انصهرت فيها كل الثقافات والنحل والدعوات التي طرحت في فلك الفكر الإسلامي فاستصفتها السنة وحررتها من شبهاتها وأخذت عصارتها الطيبة فضمتها إلى كيانها.
فالسنة هي النهر الكبير والمذاهب والفرق روافد منه وقد صهرت السنة خير ما في الكلام والاعتدال والتصوف والتشيع في مضمونها الجامع الذي يستمد حقيقته ووجوده من المفهوم القرآني الأصيل.
وقد وقف الإسلام أمام الفكر اليوناني الوافد كما وقف أمام غنوص الشرق، موقف العداوة والبغضاء كاشفاً عن وجوده الخلاف بين ذلك كله وبين مفهوم التوحيد الخالص.
كذلك فقد رفض الإسلام التطور على حساب الأصالة.
ورفض التقدم على حساب التضحية بالجذور والقيم الإسلامية.
كما رفض تضحية القيم العليا في سبيل التقدم المادي ولم يخضع مفاهيمه للحضارات وأهواء الأمم، وليس في المناهج والأيديولوجيات شيء لامع إلا وعند المسلمين ما هو مثله أو خير منه وهو في الغرب مقطوع الصلة بالله ولكنه في الإسلام متصل الحلقات وهو في الفكر البشري انشطاري ولكنه في الإسلام جامع متكامل.
إن العودة إلى المنابع هي صيحة المسلمين في كل أزمة وكلما أدلهمت الأحداث وأحاطت الأزمات، كانت دعوة الغزالي وابن حنبل وابن حزم وابن القيم وابن عبد الوهاب.
وفي ضوء هذا كله نجدنا في حاجة إلى استيعاب الحقائق الآتية:
أولاً: إن انطلاق المسلمين والعرب على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية لا يمكن أن يتم بدون الارتكاز على قاعدة أساسية تكون هي المصدر والمنطلق ونقطة البدء ونقطة النهاية: هذه القاعدة ليست سوى المنهج الأصيل الذي قدمه الإسلام لبناء المجتمع.
وعلى المسلمين اليوم أن يفهموا الإسلام فهم الصدر الأول له وهو أصح فهم: قوة خالقة من وراء الإنسان والإنسان مستخلف في الأرض عن الله الخالق مسئولية، وجزاء وتعاليم أخلاقية تطبع الحياة والحركة والمجتمع. الإنسان فرد ولكنه جزء من المجتمع.(19/6)
ولا يزال الجسم الإسلامي يرفض العضو الغريب ولا يزال الكيان الإنساني يرفض الجسم الغرب.
العقيدة وليست اللغة هي علامة بقاء الجماعة فإذا زالت العقيدة زالت الجماعة وانحلت وانقرض وجودها.
كان التأويل من أخطر الأسلحة التي استعملت النصوص تفسيراً يخرجها من مدلولاتها الأصلية إلى مدلولات منحرفة ولقد حذر القرآن من هذا الخطر.
ثانياً: نحن ندرس الفلسفة ولكن نعتقد أن الفكر الفلسفي ليس هو الفكر الإسلامي ونؤمن بأن الفكر الإسلامي قرآني المصدر.
نحن لا تهزنا صور البريق وخاصة براعة البيان إلا إذا كان صاحبه يصدر عن منطلق القرآن وهدي الإيمان ويخشى الله ويبتغيه.
وقد يكون هناك نظريات لامعة تخدع العقل أو تعجب البسطاء وهذه نحذرها لأنها ليست إلا من هوى النفس ومطامع الذات.
ثالثاً: قطع الإسلام الامتداد الفكري والثقافي بين ما قبل الإسلام وبعده: قطعه عن العرب أولاً ثم عن كل مكان ذهب إليه وقد ذهب إلى قلب آسيا وأفريقيا فنزعها تماماً من عبودية ألف سنة لليونان والرومان ثم قطع امتداد العبودية الفرعونية والفارسية والقيصرية للإنسان وقطع امتداد الوثنية في العالم كله وأطلق العقل البشري من قيوده التي كانت تأسره حول المعابد ورفعه إلى اعتقاد بحياة أخرى وراء هذه الحياة.
إن الثقافة التي قدمها اليونان والرومان والتي استمرت ألف سنة قبل أن يجيء الإسلام قد تلاشت تماماً بعد أقل من قرن من دخول الإسلام وقام على الزمن حقيقة واقعة هي الانقطاع الحضاري.
عندما تشتد المحن والأزمات على المسلمين أن يعودوا إلى المنابع الأولى وأن يلتمسوا أصول الإسلام قبل ظهور الخلاف من أصوله القرآنية وأن تؤمن بأن كل ما انحدر إلينا من الماضي ليس إسلاماً كله فكثير منه وضعه شعوبيون وفلاسفة وملاحدة وأن بين الحق والباطل هوى النفس والظن فإذا تغلب الهوى استخدم العقل لتبرير الفاسد من الأمر والتمس الرخص وفارق العزائم وآثر السلامة على المعاناة.(19/7)
رابعاً: ليس الإسلام ديناً روحياً ولا مذهباً مادياً، ولكنه يجمع بين المعنويات والماديات في تناسق عجيب. وهو حين يرفض روح النسك بمفهوم الرهبانية واعتزال الحياة يرفض في نفس الوقت روح التحلل والإباحية والانطلاق بغير قيود ويقيم نظام الحياة في المجتمع في إطار من الضوابط والحدود يحول بينها وبين الارتطام والانهار.
خامساً: طبع الإسلام حياة العرب والمسلمين في الماضي ولا يزال يطبعها وسيظل يطبعها إلى مئات السنين ولذلك فإن كل حركة فكرية أو اجتماعية في التاريخ الحديث تتجاهل هذا الواقع البديهي فهي تتجاهل الإطار الطبيعي الذي يجب أن ينشأ ضمنه والأساس العملي الذي يجب أن تستند إليه، إنه يجب أن يكون في داخل الإسلام لا خارجه.
سادساً: جاء الإسلام ظاهرة مستقلة عن فعل البيئة. وكذلك جاءت النبوات فهي لم تخضع للتفسير المادي للتاريخ ولم تكن ذات علاقة بردود فعل لظروف الحضارات أو أحوال الأمم (ويخطئ من يقول أن الإسلام جاء بعد أن ضعفت الروم والفرس) أو أنه جاء نتيجة انقلاب في نظم الانتاج أو انبثاقاً من واقع اقتصادي.
ولا يمكن تفسير حروب الإسلام وفتوحه تفسيراً اقتصادياً أو القول بأنها كانت من أجل الفقر أو رغبة في الحصول على المغانم.
لقد أسقط الإسلام منطق التفسير المادي للتاريخ الذي يحتم انبثاق كل انقلاب سياسي من انقلاب مناظر في نظام الانتاج وعلاقاته.
لقد جاء الإسلام من البداية مقرراً المساواة في الغرض وضمان حد الكفاية للفرد وتحقيق التوازن الاقتصادي بين الفرد والمجتمع.
سابعاً: ليست هناك صلة بين المذاهب الاجتماعية والحقائق العلمية: الحقائق العلمية لا تثبت إلا في المعامل أما المذاهب الاجتماعية فهي نظريات من صنع عقول أو تخطئ وتصيب.(19/8)
ثامناً: لقد كان الإسلام عاملاً أساسياً في كل حركات التحرر التي قامت بها الشعوب المستعبدة في عصرنا وقد انطلقت النضالات الوطنية من تحت رأيه الجهاد في سبيل الوطن وكان الإسلام في هذه النضالات رمزاً للمقاومة الروحية والثقافية ضد الاحتلال والاستعباد.
تاسعاً: لقد انحسرت تلك الموجة الضالة التي حاولت أن تلتقط النصوص من السنة أو التراث لدعم وجهة نظر الغزو الثقافي.. وتبين أن كثيراً من النصوص التي أريد بها تأييد الديمقراطية أو الاشتراكية أو تحديد النسل ليست صحيحة.
عاشراً: فليحذر المسلمون اليوم وهم على الطريق لامتلاك أدوات الحضارة المادية وتراثها التكنولوجي والعلمي والميكانيكي أن تستوعبهم هذه الحضارة او تحتويهم في إطار الفكر الغربي الانشطاري للعناصر وعليهم أن يبدأوا من نقطة التوحيد والإيمان بالإخاء الإنساني والعدل والرحمة.
حادي عشر: إن بدايات النصر ومطالع الفجر يجب أن لا تخدع المثقفين وتخلق فيهم طمأنينة زائفة مستسلمة أو تصرفهم عن المثابرة والإصرار على تأكيد الخط الرباني الصحيح وتوسيد الطريق القرآني الأصيل وتثبيت الخطأ على الطريق المستقيم إلى الغاية الكبرى.
ثاني عشر: بالرغم من كل الضربات التي وجهت للمسلمين خلال القرن الرابع عشر فإن عددهم قد تضعفت إلى أن بلغ المليار على امتداد الكرة الأرضية كلها.
لقد تأخرت التجربة الإسلامية لتستعلن بعد أن فشلت كل التجارب يئس المصلحون العلمانيون.(19/9)
ثالث عشر: لقد أصبح المسلمون يملكون الطاقة والثروة والتفوق البشري وهم على أبواب استيعاب تكنولوجيا العلم بحيث يستطيعون استغلال مساحات واسعة من الأراضي وقدرات هائلة لم تستغل بعد، لقد جاء دور عالم الإسلام بعد أن نضبت آبار الغرب وثرواته ومصانعه التي عملت بخامات المسلمين أربعة قرون أو يزيد، وسوف تكون حضارة الإسلام متميزة بطابع العدل والرحمة والإخاء الإنساني، إن المسلمين اليوم ينتقلون من عصر اليقظة إلى عصر النهضة مروراً بمرحلة الرشد والأصالة والحفاظ على الشخصية والتماس المنابع.
رابع عشر: لا نقول قدمت أفغانستان: الفارابي وأين سينا أو قدمت فارس: الغزالي وأبو حنيفة: فالحقيقة أن الإسلام هو الذي قدمهما. وعندما يتحدث الكتاب عن الفوارق بين العقليات الفرنسية والإنجليزية والألمانية بينما هي مسيحية الأصل نجد أن للمسلمين عقلية واحدة موحدة في بلاد المسلمين جميعاً تشهد أصولها من التوحيد وجماع الروح والمادة.
خامس عشر: في مجال الدعوة إلى الحوار يجب الحذر فإن المسألة مرحلية والرأسمالية هي المسيحية. وإنهم يأخذون المسلمين ليكونوا (ردياً) للمسيحية في محاربة الشيوعية. والمعروف أن عداء المسلمين عداء قديم. ولكنها محاولة للاستفادة من الإسلام لخدمة الرأسمالية.
سادس عشر: أربع شخصيات ليست هي شخصيتنا الحقيقية:
المصرية الفرعونة، العربية قبل الإسلام، اليونانية، الأوروبية الحديثة.
سابع عشر: من الخطأ وصف الإسلام بأنه ثورة، ذلك أن الإسلام إصلاحاً لبيئة أو لعصر ولا جاء رداً على ظروف اجتماعية في القرن السابع الميلادي وليس مذهباً ولا نظرية ولكنه رسالة السماء الخالدة التي تختلف عن الأيديولوجيات والفكر البشري.
ثامن عشر: المفهوم النقي للإسلام، القرآني المصدر..
استقامة الفكر مع استقامة الخلق وطهارة الباطن مع طهارة الظاهر ونقاء الوجه مع نقاء السريرة.(19/10)
هذه الشخصية التي لا تطمح إلى شيء من متاع الدنيا وعاشت فقيرة وكانت تستطيع لو أرادت أن تحصل على الكثير ولقد عرض عليها الإغراء فأبت ورغبت فيما عند الله.
تاسع عشر: فهم الغربيون الإسلام منذ وقت مبكر، فهما أشد عمقاً من فهمنا فهموه على أنه منهج حياة ونظام مجتمع، ومن ذلك قول جوردون تشايلنن (في كتابه ماذا حدث في التاريخ) كثير من الناس يعرفون الإسلام كدين من الأديان ولكن قلما يفهمه كحركة من الحركات ولذلك يمكننا أن نختصر هذه الحقيقة في العبارة الآتية: الإسلام دين عجيب بين أديان العالم فهو يجمع بين الدنيا والدين.(19/11)
رجال اختلف فيهم الرأي \\ من أرسطو إلى لويس عوض \\
أنور الجندي
(1)
لطفي السيد
وأكذوبة أستاذ الجيل
خلفت لنا الفترة مسلمات خطيرة وكلمات دخيلة وحاولت سحب كثيرة من سحب الغزو الفكري والتغريب أن ترسم صورة خادعة لبعض الشخصيات وكان أخطر ما أطلق في هذه الفترة كلمة عميد الأدب على الدكتور طه حسين وأستاذ الجيل لطفي السيد فإلى أى مدى كان هذا اللقب صحيحاً بالنبة لمنشيء حزب الأمة مترجم أرسطو والخصم الخصيم للعروبة وللوحدة الإسلامية جميعاً.
وفي الحق إن اسم لطفي السيد لمع لمعاناً شديداً وخدع به كثيرون وكان لامتداد العمر وتغير الأوضاع واقتناص بعض الفرص التي جاءت بها الظروف عاملا من عوامل القداسة إلى سنيت بها مثل هذه الشخصيات بالرغم من فساد جوهرها.
وليس علينا أن نصدر حكما جازماً على شخصية ما يسلم به الجميع ولكن علينا أن نلقى الأضواء الكاشفة على مثل هذه الشخصية من واقع التاريخ وبالوثائق الثابتة ثم ندع القارئ ليحكم هو: هل كان لطفي السيد حقيقة أستاذ الجيل وأي جيل.
أولا: الدعوة إلى قصر التعليم على أبناء الأعيان باعتبار أنهم وحدهم الذين سيتولون الحكم ومقاومة تعليم سواء الأمة ومعارضة الاتجاه إلى المجانية وذلك حتى يمكن المحافظة على وجود طبقة معينة تتولى حكم البلاد دون أن يتاح ذلك لباقي أفراد الشعب.
وقد رد عليه مصطفى كامل صاحب اللواء ورئيس الحزب الوطني ولخص آراءه وكشف عن فسادها.(20/1)
ثانيا: الدعوة إلى العامية: وقد سار في هذا التيار مؤيداً الخطوات التي كان قد قطعها المستشرقون والمبشرون (مولار وويلكوكس) وكان أبرز ما دعا إليه إبطال الشكل وتغيره بالحروف اللينة وتسكين أواخر الكلمات وإحياء الكلمات العامية المتداولة وإدخالها في صلب اللغة الفصحى والنزول باللغة المكتوبة إلى ميدان التخاطب العامي وكانت وجهة دعوته: تمصير العربية بإحياء العامية "مقالاته في الجريدة خلال شهري إبرايل ومايو 1913 ) وقد رد عليه عبد الرحمن البرقوقي مصطفى صادق الرافعي بما يكشف زيف هذه الاتجاه.
ثالثا: مقاومة التضامن العربي الإسلامي وقد عارض مساعدة المصريين لجيرانهم فى طرابلس الغرب أثناء الغزو الإيطالي الاستعماري عام 1911 وكتب في هذه المعنى تحت عنوان "سياسة المنافع : لا سياسة العواطف" مقالات متعددة دعا فيها المصريين إلى إلتزام الحياد المطلق فى هذه الحرب الإيطالية التركية وإلى الضن بأموالهم أن تبعثر فى سبيل أمر لا يفيد بلادهم وقد أثارت هذه المقالات على لطفي السيد عاطفة بل وطعنا جارحا على حد تعبير تلميذه الدكتور محمد حسين هيكل فى مذكراته .
رابعا: أيد وجهة النظر البريطانية الاستعمارية في التعاون مع الجاليات المسيطرة المحتلة ودعا إلى أن تملك هذه الجاليات في الاراضى المصرية فيكون لها الحق فى التملك والسيطرة على البنوك والتجارة وغيرها.
خامسا: مجد اللورد كرومر: الحاكم البريطانى الذى أذل المصريين لمدة ربع قرن مسيطراً على سياسة البلاد وساحقاً لكرامتها ومغتصباً لثروتها وحياتها يوم خروجه من البلاد تحية الأبطال وقال عنه.(20/2)
"أمامنا الآن رجل من أعظم عظماء الرجال ويندر أن نجد في تاريخ عصرنا ندا له يضارعه في عظائم الأعمال: هو اللورد كرومر وقال: لو بقي اللورد كرومر عاماً واحداً فى منصبه لعيد عيده الذهبي في خدمة دولته" نشر هذه الجريدة فى نفس اليوم الذى ألقى فيه كرومر خطاب الوداع فسب المصريين جميعا، وقال لهم أن الاحتلال البريطاني باقى إلى الأبد.
سادسا: رسم لطفي السيد خلال عمله فىالجريدية (1908 – 19149 منهجا للحياة الاجتماعية والسياسية والتوبوية والاقتصادية يقوم على التبعية العامة للنفوذ الأجنبى والاحتلال البريطاني والفكر الغربي تحت اسم عبارة ماكرة خادعة هى "مصر للمصريين" وقاوم بهذا الفكر ذلك الاتجاه الأصيل الذى كان يحمل لواءه دعاة الوطنية الصادقة والفكر الإسلامى النير وكون مدرسة تحقق لها بعد الحرب العالمية الأولى السيطرة على مقدرات الأمور بعد أن أقصى رجال الوطنية الحقة.
سابعا: تبين أن مترجمات لطفي السيد عن أرسطو ( التى ترجمت من الفرنسية ) (السياسة الكون والفساد. الأخلاق) ، وهي منسوبة إليه، تبين أنه ليس مرتجمها وأن مترجمها الحقيقي هو قسم الترجمة فى دار الكتب المصرية وذلك بشهادة عديد من معصري هذه الفترة.
(الاستاذ أحمد عابدين مدير دار الكتب السابق لا يزال حيا يرزق).
ثامنا: بالرغم من دعوة لطفى السيد العريضة إلى الدستور والحرية فإن الوزارات التي قبل الاشتراك فيها كانت كلها تتسم بطابع واحد فهي جميعا وزارات انقلاب ضد الدستور والبرلمان الحريات العامة يقول الاستاذ فاروق عبد القادر: أن الباحث في حياة لطفي السيد ليس بوسعه أن يتجاهل هذا التناقض كيف للرجل الذى كتب مطالبا بالدستور مدافعا عن الحرية أن يشترك في وزارات عبثت بالدستور وصادرت الحرية. كيف يشترك فى وزارات طابعها الإرهاب والسطو على الحريات.(20/3)
تاسعاً: إن حزب الأمة الذي أنشأه لطفي السيد كان بإجماع الآراء صناعة بريطانية أراد بها اللورد كرومر أن يواجه الحركة الوطنية بجموع من الإقطاعيين والثراة والأعيان "الذين وصفهم بأنهم" أصحاب المصالح الحقيقية وقد كان هدف حزب الأمة والجريدة بقادة الفيلسوف الأكبر لطفي السيد تقنين الاستعمار والعمل على شرعية الاحتلال والدعوة إلى المهادنة مع الغاصب وتقبل كل ما يسمح به دون مطالبته لشئ.
هذه مجموعة من الخطوط العامة نضعها بين يدي القاريء العربى المثقف دون أن نقدم حكما على لطفى السيد وندعه هو أن يصدر هذا الحكم. ولقد تعددت المصادر والأبحاث التي تكشف حقيقة هذه الرجل فليرجع إليها من يشاء وكلها تجمع على أن هذه الدعوة التى حملها لطفي السيد إنما هي خطة دقيقة محكمة من خطط الاستعمار الغربي والنفوذ الأجنبي، فإن اللورد كرومر أراد في إطار عمل مرسوم أن ينشئ فى مصر جيلا جديداً يسير فى ركب الاستعمار معجبا به مقدراً له ومحبا ولذلك عمل خلال عشرين سنة أو يزيد على صياغة هذا الجيل عن طريق المدرسة وعن طريق الثقافة وكانت دعوته الملحة الحارة أن بريطانيا ستسلم مصر لأبنائها متى ظهر هذا الجيل الذى يعمل بالتعاون مع الاستعمار ولفت نظر الشباب المتعلم وهم جميعا من أبناء الطبقة التي أنشأها النفوذ الاستعماري وسودها وجعلها مركز القيادة السياسية إلى أنهم هم حكام مصر فى المستقبل القريب .. وكان حريصا على أن تتشكل هذه القوة أو هذا الحزب فى نفس الوقت الذي كان الاحتلال يضرب القوى الوطنية وأصحاب الأصالة ليقضي عليهم ويفرغ البلاد منهم وسلمها لهذا الجيل الذى كان من قيادته: لطفي السيد وسعد زغلول وعبدالعزيز فهمى وقد تشكل حرب الأمة من مجموعة من أصحاب النفوذ وكبار الباشوات والملاك مثال محمود سليمان وحسن عبد الرازق وحمد الباسل وفخري عبد النور وسليمان أباظة وعبدالرحيم الدمرداش والطرزى وغيرهم وكان رأي هؤلاء أن السلطة الفعلية قد آلت كلها(20/4)
إلى كرومر الذى يمثل سلطة الاحتلال وأن مصالحهم الشخصية تقضي عليهم أن يكونوا على وفاق معهم فألفوا حزبهم بصفة رسمية في 21 سبتمبر 1907 برئاسة محمود سليمان باشا وتولى لطفي السيد قيادة فكرهم وصحيفتهم التى جمعوا لاه فى ذلك الوقت مبلغ 30 ألف جنيه: وقد ظهرت الجريدة فى 9 مارس 1907 تصور الاحتلال على أنه حقيقة واقعة وترى أن عدم الاعتراف بشريعته لا تعني عدم وجوده ولا يقلل من سلطته أو نفوذه وكانت ترى أن هؤلاء المحتلين ماضون في طريقهم مستقلون بتصريف الأمور رضي المصريون بذلك أم كرهوا وأن التخلص من الاحتلال يحتاج إلى قوة لم تتوفر للمصريين وأن دعاة الحركة الوطنية خياليون ينفقون الوقت فيما لا طائل تحته وأنهم أصحاب خيال وتهايج.
وبذلك استطاع لطفي السيد أن يرسي مفاهيم الإقليمية المصرية الضيقة التي تكره العرب وتكره المسلمين وتعارض كل تقارب وكل صلة بل وتكره الاتصال بالفكر الإسلامي الذي هو أساس الثقافة والتعليم وقد صور هذا المعنى مستشرق غربي هو ألبرت حوراني حين قال عن لطفي السيد ما يلى: كان يرى أن بريطانيا قوية وأن لها مصالح جوهرية في مصر وأنها هي نفسها قد أعلنت عن بقائها فى مصر إلى أن تصبح هذه قادرة على حماية المصالح وإذن لا يمكن إخراجها بالقوة.(20/5)
وقد أعلنت بريطانيا تحديد احتلالها وخلقت الشعور بأنها باقية إلى الأبد وأن مصلحة مصر تقضي التعاون معها في أي تدبير تتخذه في سبيل إنماء قوة البلاد وهكذا كان ينفث لطفي السيد سموم التثبيط والدعة في وجه دعاة الوطنية ولا يقف عند هذا الحد بل يهمهم بأنهم خياليون مغالون فى الخيال ويتهم خطتهم بأنها ولاء لتركيا بينما لم يكن مصطفى كامل ومحمد فريد إلا دعاة إلى الحرية والاستقلال والجلاء دون أن يلينوا أي لين لتقبل وعود بريطانيا وكانوا في دعوتهم لا يستهدفون العودة إلى النفوذ التركي العثماني وإنما كانوا يؤمنون بأن حركة الحرية يجب أن تتم داخل إطار أوسع من الإقليمية ويجب أن تكون فىيإطار الجامعة الإسلامية والمفاهيم الإسلامية الأصلية التي كانت بريطانيا عن طريق حزب الأمة تهدف إلى تجريد المصريين منها ودفعهم إلى التعبية فى التشريع والتعليم والاقتصاد لتكون مصر خاضعة تمام الخضوع للقانون الوضعي ولمفاهيم العرب فى التعليم والثقافة ولتنقطع الصلة تماما بين مصر وبين جيرانها عرباً ومسلمين وبين الفكر والثقافة فى مصر وبين الفكرالإسلامي الأصيل المستمد من القرآن والسنة.
ولقد كان لطفي السيد فى دعوته هذه ينتقض أهمية الأرضية الإسلامية للفكر والثقافة والتعليم ويغالي فى التبعية للفكر الليبرالي الغربي الذى كان فى هذه الفترة خصيصا الدين والأخلاق.(20/6)
يقول ألبرت حوراني: " إن الانطباع القوي الذى نتركه قراءة مقالات لطفي السيد التى نشرها في الجريدة "وهي كل ثروته للفكرية" هو الاندهاش من الدور الصغير الذى لعبه الإسلام فى تفكير رجل تتلمذ على "محمد عبده" لا شك أنه كان يشعر بأنه هو ومعظم مواطنيه مسلمون بالوراثة، وأنهم جزء من الأمة، لكن الإسلام لم يكن المبدأ المسيطر على تفكيره فلم يهتم بالدفاع عن الإسلام كالأفغاني، ولا يهتم كمحمد عبده بإعادة الشريعة الإسلامية إلى مركزها كأساس خلقى للمجتمع. وفى هذا يقول لست مما يتشبثون بوجوب تعلم دين بعينه أو قاعدة أخلاقية بعينها، ولكنى أقول بأن التعليم العام يجب أن يكون له مبدأ من المبادئ تتمشى عليه المتعلم من صغره إلى كبره هذا المبدأ هو مبدأ الخير والشر.
وهكذا نرى أن مفهومه للأخلاق والدين مستمد من الفكر الغربي ويعلق حوراني فيقول : وهكذا نرى أنه تخلى عن أول مبدأ من مبادئ محمد عبده واستعاض عنه بمبادئ جديدة. ويقول: لقد أخذ يطرح أسئلة جديدة لا تدور حول الشروط التى تؤدى إلى ازدهار المجتمع الإسلامي أو انحلاله، بقدر ما تدور حول الشروط التى تؤدي إلى ازدهار أي مجتمع أو انحلاله، كذلك لم تكن للمفاهيم التى أجاب بها على هذه الأسئلة هي مفاهيم الفكر الإسلامي، بل مفاهيم الفكر الأوربي حول التقدم والمجتمع الأفضل.
ويقرر حوراني أن لطفي السيد ورفاقه تأثروا بنمطين من التفكير الأوربي:
أولا: تفكير كونت ، ورينان ، وبلى ، وسبنسر ، ودور كايم الذين ذهبوا إلى أن المجتمع البشري متجه بحكم سنة التقدم نحو طور مثالي يتميز بسيطرة العقل واتساع أفق الحرية الفردية وحلول التعاقد الحر والمصلحة الفردية محل العادات والأوضاع الراهنة.
ثانيا: تفكير جوستاف لوبرن الذي يقول بفكره الطبع القومي، وأن كل شعب له بنية ذهنية ثابتة بثبوت بنيته الجسدية.(20/7)
ويقول الحورانى: إن لطفي السيد يحدد فكرة الأئمة على أساس الأرض، لا على أساس اللغة والدين، وهو لم يفكر بأمة إسلامية أو عربية بل بأمة مصرية: أمة القاطنين أرض مصر، وكان شعوره بوجود مصر شديد بحيث أهمل الأحرار على عناصر الوحدة الأخرى. فمعظم القاطنين في مصر يشتركون فى الأصل واللغة والدين.
سعد زغلول
دعوة صريحة إلى الكتاب المؤرخين:
انشروا مذكرات سعد زغلول المخطوطة لتشكفوا حقيقة هذه الشخصية الخادعة ولتضعوه فى مكانه الصحيح من تاريخ مصر.
إن الحقائق تكشف عن دور سعد زغلول فى:
أولا: تجميد اللغة العربية وإتاحة الفرصة للغة الانجليزية بوزارة المعارف.
ثانيا:- بعث قانون كرومر للمطبوعات لمحاكمة الصحفيين والكتاب الوطنيين.
ثالثا:- التعاون مع الأجانب لإدخال الحضارة الغربية إلى مصر العربية.
سعد زغلول
كان من أهم الأسئلة فى ندوة الاعتصام ما قدمه عدد من الشباب استفساراً عن صحة ما نشر عن تاريخ سعد زغلول من فصول في إحدى الصحف اليومية ومدى تطابق هذا مع واقع التاريخ ومن خلال نظرة إسلامية صحيحة.
ولا ريب أن شخصية سعد زغلول هي واحدة من أكثر الشخصيات العمل الوطنى فى مصر بعد الحرب العالمية الأولى، ولكنه لا يمكن دراستها، ألا يفهم الاطار السياسى الذي يدأ منذ أن احتلت بريطانيا مصر وواجهت الحركة الوطنية التى قاومت النفوذ الاجنبي بقيادة مصطفى كامل ومحمد فريد وعدد من المجاهدين الذين عملت القوة البريطانية على تصفيتهم وإقصائهم وتقديم جيل جديد من أصحاب الولاء للنفوذ البريطاني وفي مقدمة هؤلاء أحمد لطفي السيد وسعد زغلول وعبد العزيز فهمي.(20/8)
هذه المرحلة السابقة لظهور هيئة الوفد المصري التي قادها سعد زغلول لها أهميتها في الكشف عن الدور الذي قام به سعد زغلول في معارضة الحركة الوطنية وكبح جماحها، وتقديم رجالها للمحاكمة كما فعل فى محاكمة فريد وهو وكبير الحقانية، وكذلك دوره في تجميد اللغة العربية وهو وزير المعارف واتاحة الفرصة للغة الانجليزية، وكذلك دوره فى إعادة بعث قانون المطبوعات القديم الذي كان كرومر قد أجاره ثم أوقفه وذلك لمحاكمة الكتاب والصحفيين الوطنيين بأقصي العقوبات، هذه الصفحة لسعد زغلول يجب أن تدرس قبل أن يقدم على المسرح كزعيم وطني بعد الحرب العالمية الأولى.
ولقد اختلفت حول سعد زغلول كتابات المؤرخين والباحثين، فوضعه كتاب الوفد وأصحاب الولاء لحزبه موضع لقداسة "وفى مقدمة هؤلاء الأستاذ العقاد". وشف عن حقيقته مؤرخو الحزب الوطني " وفي مقدمة هؤلاء الأستاذ عبد الرحمن الرافعي"، وجاءت كتابات كثيرة بعد ذلك فتضح سعد فى حجمه الصحيح، وكان فى مقدمة ذلك تلك الدعوة الصريحة الموجهة إلى المؤرخين والكتاب والباحثين أن ينشروا مذكرات سعد زغلول التى كتبها بخط يده فإنها هي وحدها القادرة على أن تقدم للناس بغير ولاء ولا خصومة حقائق هذه الشخصية ودورها وعملها وحقيقتها من خلال كتابات صاحب المذكرات نفسه، تلك التي كتبها بكل حريته وإرادته خلال فترة تزيد على ثلاثين عاما من أكتوبر 1897 إلى 1926، وتضم مراحل عضوية الجمعية التشريعية وتولية الوزارة وفترة المنفي وفترة رئاسة الوزارة وتضم ثلاثاً وخمسين كراسة فقد كان يسجل الأحداث يوما بعد يوم عقب وقوعها مباشرة.
تكشف هذه المذكرات عن أشياء كثيرة:
أولا: علاقة سعد بالإنجليز:(20/9)
يقول عن اللورد كرومر: كان يجلس معى الساعة والساعتين ويحدثني في مسائل شتى كي أنور منها فى حياتي السياسية (مذكرات سعد زغلول كراس 28، ص1516)ن والمعروف أن كرومر في تقاريره السنوية كان حريصاً على أن يذكر أنه يعد جيلا جديداً من الشباب المصرى المتفرنج الذى يعجب بالغرب ويحرص على التفاهم مع الاستعمار البريطاني وقبول العمل معهم.
ومن هنا كانت صلة كروم بسعد زغلول عن طريق صهره "مصطفى فهمى" الذى كان أول رئيس وزراء بعد الاحتلال، والذى قضى في الحكم ثلاثة عشر عاماً، وكان أثير الإنجليز محبوباً عندهم، وقد أصهر إليه سعد زغلول فأعد نفسه ليكون أول وزير مصري. ولعل من الحقائق العجيبة أن اللورد كرومر عام 1907م أعلن أنه يترك مصر مستريحاً لأنه أقام فعلا القاعدة الأساسية لاستدامة الاحتلال، وكان فى هذا العام قد ألف حزب الأمة، وأصبح لطفي السيد هو حامل لواء "الجريدة" وسعد ناظر المعارف ، وقد سخر كرومر فى خطبة الوداع الذى أقامها له رجال حزب الأمة من أولياء النفوذ الأجنبي من المصريين جميعاً، ولم يمدح فى خطابه إلا رجلا واحداً، هو سعد زغلول.
ومن هنا نجد سعد زغلول يكتب فى مذكراته أثر استعفاء كرومر من منصبه في 11/4/1907 وكان يجلس في منزله مع كل من حسن باشا عاصم ومحمود باشا شكرى عندما تلقوا خبر الاستعفاء فقال: أما أنا فكنت كمن تقع ضربة شديدة على رأسه أو كمن وخز بآلة حادة فلم يشعر بألمها لشدة هو لها ( كراس 6 ص 240) وكتب في موضع آخر يقول: "قد امتلأت رأسي أوهاماً وقلب خفقاناً وصدري ضيقاً" (كراس 6/246).(20/10)
ويقول لورد كرومر في تقريره السنوي عن تعيين سعد زغلول ناظراً للمعارف " لم يكن السبب الرئيسي في تعيينه كما يظن أحياناً أنه استياء من الحالة التى كانت تسير عليها مصلحة المعارف العمومية فلا زالت قاصرة في أن توفر أية بادرة لتغير جذري في السياسية التعليمية، إنه يرجع أساساً إلى الرغبة في ضم رجل قادر ومصري مستنير من تلك الطائفة الخاصة من المجتمع المعنية بالاصلاح في مصر".
وقال كرومر:" كما أن سعد من تلاميذ محمد عبده وأتباعه الذين أطلق عليهم "جيروند" الحركة الوطنية المصرية، والذي كان برنامجهم تشجيع التعاون مع الأجانب لادخال الحضارة الغربية إلى مصر، الأمل الذى جعل كرومر يحصر فيهم أمله الوحيد في قيام الوطنية المصرية.
وكان سعد في مقدمة الداعين لإقامة حفل لتوديع اللورد كرومر وكتب في مذكراته يعلن ضيقه بالذين انتقدوا كرومر عقب استعفائه، وقال: إن صفاته قد اتفق الكل على كمالها "كراس6/245"، وأشار إلى علاقة غورست خليفة كرومر به وأنه لما زاره قام فأوصله إلى باب حديقة دار الوكالة البريطانية.
ثانيا: أخلاقيات سعد
وتكشف المذكرات أخلاقيات سعد ومواقفه المتعددة من الحياة الاجتماعية: وأبرز هذه الجوانب علاقته بالقمار وقد كتب فيها طويلا فقال في "كراس 26 – ض1390"، " كنت أتردد بعد عودتي من أوربا على الكلوب "أي نادى محمد على" فملت إلى لعب الورق، ويظهر أن هذا الميل كان بداية المرض فإني لم أقدر بعد ذلك أن أمنع نفسي من التردد على النادي ومن اللعب وبعد أن كان بقليل أصبح بكثير من النقود وخسرت فيه مبلغا طائلا.(20/11)
وقد بدأ ذلك حوالى 1901، فقد كتب في إبريل 1913، يقول: كنت قبل 12 سنة أكره القمار واحتقر المقامرين وأرى أن اللهو من سفه الأحلام واللاعبين من المجانين ثم رأيت نفسى لعبت وتهورت في اللعب وأتى عليّ زمان لم أشتغل إلا به ولم أفتكر إلا فيه ولم أعلم إلا له ولم أعاشر إلا أهله حتى خسرت فيه صحة وقوة ومالا وثروة "مذكرات سعد كراس 3/129".
وكتب خلال زيارته لأوربا صيف 1908 " أفطر مع الست والباشا "أي مصطفى فهمي" وحسين "ابن محمود صدقي" في الساعة تسعة وبعد أن نتمشى مع الباشا قليلا نعود إلى البيت لتلعب البوكر مع الست وحسين إلى الساعة ثمانية ونتمشى قليلا ثم نعود لنلعب البوكر إلى الساعة 11 مساء وقد انفعل أثناء اللعب عند الخسارة وصادف أن الزهر كان يعاكس وكان زهر حسين سعيد ولكن مع ذلك كسبت ولم أخسر غير أن حارق كانت من طريقين: طريقي وطريق الست "كراس 24 ص1300 – 1301".
ويتساءل سعد عن الأسباب التى دفعته إلى المقامرة فيكتب ما يلى:
أريد أن أعرف ما أريد حتى أتمكن من معالجة نفسي من هذا الداء، هل أريد بسطة في الرزق، أنه يقبضه في الكثير الغالب، هل أريد سعة في الجاه، أنه يضيقه بما يحط من القدر في نفوس الناس، هل أريد تناسي آلام تتردد على النفس عند خلوها من الشغل وهو كثير، لا أشعر بهذه الآلام، ويقول: ما كنت أصغى لنصائح زوجتي ولا أرق لتألمها من حالتى ولا أرعوى عن نفسى، وأشار إلى توباته المتعددة، وعودته عنها فيقول: وقد بخيل لي أن كتابة هذه الخواطر وتسجيل هذه الواردات مما يساعد على الاستمرار في ارتكاب هذا الإثم، كأن النفس تجد في هذه الاعترافات المكتوبة والاشمئزازات المرسومة، فضيلة تكفها عن الإنصاف بها وعن الإقلاع عن نفس الرذيلة أو أن الاعتراف كفارة عن الذنب المقترف والجريمة المرتكبة ترجيحا.(20/12)
ويقول: إلى أوصى كل من يعيش بعدي من لهم شأن في شاني أني إذا مت من غير أن أترك اللعب أن لا يحتفلوا بجنازتي ولا يحدوا على ولا يجلسوا لقبول تعزية ولا يدفنوني بين أهلي وأقاربي وأصهاري، بل بعيداً عنهم وأن ينشروا على الناس ما كتبته في اللعب حتى يروا حالة من تمكنت في نفسه هذه الرذيلة وبئست العاقبة. الكراسة 28 ص 1571":
وتفيض مذكرات سعد زغلول بالتفاصيل المسهبة التى تبين هدى سيطرة هذه الغواية عليه ومحاولة الإقلاع عنها وللتخلص منها وعودته إليها المرة بعد المرة فقد وردت تفاصيل ضافية في الكراسات 3 و 28 و 29 و 30 في اثنى عشر موضعا من هذه الكراسات.
وقد أشارت المذكرات بوضوح إلى أثر القمار في حياة سعد وخاصة حياته الاقتصادية كما يشير إلى ذلك الدكتور " عبد لخالق لا شين"، فقد وقع سعد الذي يقتني الضياع الواسعة تحت طائلة ديون كثيرة مما دفعه عام 1910م إلى أن يبيع الضيعة التي اشتراها بناحية قرطسا "بحيرة" لقاء اثنى عشرة ألف جنيه: يقول : " بعت هذه الأطيان وذهب كل ثمنها أدراج الرياح فلم استفد منه فائدة" كما باع الضيعة الأخرى بدسونس ومطوبس عام 1918 بمبلغ 16 ألف جنيه وصاع كل إيرادات سعد في مدى عامين وكانت 3000 جنيه مرتب النار " الوزير" و 1500 جنيه إيجارات باقي أطيانه وأصبح مدينا بمبلغ 6550 جنيها وبذلك بدد سعد الكثير من ممتلكاته يقول في مذكراته "25 مارس 1912":
أصبحت منقبض الصدر، ضائق الذرع، ولم أنم ليلى بل بت وله تساورني الهموم والأحزان وأتنفس الصعداء على فرط منى من اللعب وضياع الأموال التى جمعتها بكد العمل وعرق الجبين وصيرورتي إلى حال سيئة".(20/13)
وهكذا أجهر القمار على ثروته التى كونها من المحاماة وكانت لا تقل عن 400 فدان و 18 ألف جنيه فضلا عما ورثه من صهره مصطفى فهمي: الذى كان يملك 648 فدانا، و 8600 جنيه وألف أردب قمح وألقي جنيه مواشى وكانت صفية زغلول الى أطلق عليها "أم المصريين" واحدة من ثلاث بنات خلفها مصطفى فهمي جلاد شعب مصر ثلاثة عشر عاما.
وبعد فهل هذا وحده ما تكشفه مذكرات سعد زغلول التى تطالب بطبعها وإذاعتها لترسم صورة حقيقية لهذه الزعامة التى اختلف فيها الرأى فرفعها بالهوى والصداقة والولاء السياسي لبعض الناس إلى قداسة وبطوله وخفضها آخرون بالخلاف السياسي إلى مكان آخر، وما نريد أن نظلم أحداً ولكنا تطالب بالكشف عن الحقائق عن طريق الوثائق وما يمكن أن توجد وثيقة أشد صدقا من مذكرات كتبها الرجل عن نفسه.
ومن خلال المذكرات تتكشف أشياء كثيرة خطيرة ومثيرة.
3
قاسم أمين
كانت حركة تحرير المرأة قادها قاسم أمين مؤامرة استعمارية تستهدف تدمير الأسرة المسلمة وتحطيم اليت المسلم حتى قال محمد فريد: إن دعوة قاسم أمين قد أحدثت تدهوراً مريعا في الآداب العامة وأحدثت انتشاراً مفزعاً لمبدأ العزوبة وأصبحت ساحات المحاكم غاصة بقضايا هتك الأعراض وعرب الشابات من دور أهلهن.
لقد تراجع قاسم أمين بعد قليل من دعوته إلى تحرير المرأة وجاءت هدى شعراوي فاحتضنها دوائر الماسونية والتغريب واليهودية العالمية.(20/14)
في محاولة لتقويم حركة قاسم أمين لتحرير المرأة بعد أن قربت وثائق عدة تكشف عن خطة أشبه بالمؤامرة وراء هذه الدعوة، وتطرقت الأسئلة إلى أم المصريين "صفية زغلول" وإلى زعيمة النهضة النسائية في مصر " هدى شعراوي" التى دعت بعض الأقلام التى تجهل الحقيقة أو تخدع كتابها إلى إقامة تمثال لها والحقيقة أنه لكي نعرف خلفيات هذه القضية يجب أن نذكر شيئا مهما هو أن كتابا ظهر في مصر عام 1894 " أي بعد الاحتلال البريطاني بعام واحد لمحام مصري موال لكرومر والنفوذ الأجنبي يدعى "مرقص فهمي" تحت عنوان "المرأة في الشرق" صور فيها خطة الاستعمار في المطالبة بتحقيق أربعة أغراض:
أولا: القضاء على الحجاب الإسلامي.
ثانيا: إباحة الاختلاط للمرأة المسلمة بالأجانب عنها.
ثالثا: تقييد الطلاق ووجوب وقوعه أمام القاضي.
رابعا: منع الزواج بأكثر من واحدة.
خامسا: إباحة الزواج بين المسلمات وغير المسلمين.
وكان هذا المخطط هو النواة الأساسية للنفوذ الأجنبي الذى تدرس على ضوئه حركة قاسم أمين وهدى شعراوي. ذلك أنه لما تمض سنوات خمس حتى ظهر كتاب " تحرير المرأة" فكان ذلك خطوة على الطريق ظن البعض وما يزال يظن سلامتها ونقاءها وبعدها عن الهوى وتحررها من أي خلفية موحية.
فما هي هذه الخلفيات لذلك الحدث الخطير؟!
أولا: كتب داود بركات رئيس تحرير الأهرام بجريدته الصادرة في 4 مايو 1927 مقالا:(20/15)
فقال فيه: إن قاسم أمين قرأ كتاب الدوق داركير "المصريين" ورد عليه بكتاب باللغة الفرنسية وفند اتهاماته .. قلما ظهر هذا الكتاب وصف بأنه لم يكن في صف النهضة النسائية .. فقد رفع الكتاب من شأن الحجاب وعده دليلا على كمال المرأة، كما ندد بالداعيات إلى السفور وقد رأت فيه الأميرة نازلي فاضل تعريضا بها .. ثم استطرد يقول " وكانت الأميرة نازلي فاضل ولها صالون يحضره سعد زغلول ومحمد عبده وجماعة من الطامعين إلى تولي السلطة في مصر تحت قيادة النفوذ البريطاني وبرعاية اللورد كرومر".
ويقول داود بركات متابعا:
وقد أشير على جريدة المقطم – وهي لسان الانجليز في مصر في ذلك الوقت – أن تكتب ست مقالات عن الكتاب تفند أخطاء فاسم في هذا الاتجاه، ودفاعه عن الحجاب. واستنكاره اختلاط الجنسين .. ثم أوقفت الحملة بعد اتفاق الشيخ محمد عبده وسعد زغلول مع قاسم أمين على تصحيح رأيه .. وقد حمل الشيخ محمد عبده الدعوة إلى تحرير المرأة في دروسه في " الرواق العباسي " بالأزهر حين أعلن أن الرجل والمرأة متساويان عند الله . وقد ترددت آراء كثيرة بأن الشيخ محمد عبده كتب بعض فصول الكتاب أو كان له دور في مراجعتها ومما أورده لطفي السيد أنه اجتمع في جنيف عام 1897 بالشيخ محمد عبده وقاسم أمين وسعد زغلول وأن قاسم أمين أخذ يتلو عليه فقرات من كتاب تحرير المرأة وصفت بأنها تنم عن أسلوب الشيخ محمد عبده نفسه.
* * *
ثانيا: كتب فارس نمر صاحب المقطم مقالا في مجلة الحديث "الحلبية" عام 1939 وأشار إلى هذا الحادث فقال:
"أنه ظهر كتاب للدوق دار كير يطعن فيه على المصريين طعنا مراً، ويخص النساء بأكبر قسط منه .. إذ رماهن بالجهل وضعف مكانتهن في المجتمع .. فاهتاج الشباب وتطوع قاسم أمين للرد على كتابه.
ويستطرد فارس نمر يقول:(20/16)
وهنا أشير لحقيقة لا يكاد يعلمها إلا ندرة في مصر. هذه الحقيقة أن كتاب قاسم أمين الذى رد فيه على "دوق دار كير" لم يكن في صف النهضة النسائية التى كانت تمثلها الأميرة نازلى .. بل كان الكتاب يتناول الرد على مطاعن المؤلف الفرنسي، ويرفع من شأن الحجاب، ويعده دليلا على كمال المرأة، ويندد بالداعيات إلى السفور، واشتراك المرأة في الأعمال العامة.. ولما ظهر كتابه هذا ساء ما به إخوانه من أمثال محمد المويلحي، ومحمد بيرم، وسعد زغلول. ورأوا فيه تعريضا جارحاً بالأميرة نازلي، وتشاوروا فيما بينهم في الرد، واتفقوا أخيراً أن أتولي الكتابة عن هذا الموقف وعرض فصوله وانتقاد ما جاء به خاصا بالمرأة وبدأت في كتابة سلسلة مقالات عنه. ولكن ذلك النقد لم يرق في نظرة قضاة محكمة الاستئناف؛ ورأوا فيه مساسا بهم. لأن قاسم أفندي كان أحدهم ورأوا أن أفضل وسيلة يبذلونها لكي أكف عن الكتابة أن مؤلفه يرجوا الأميرة نازلي فاضل لكي تطلب إلى ذلك.. وتطوع الشيخ محمد عبده للقيام بهذه المهمة.. وذات مساء حضرت إلى صالون الأميرة كما حضر الشيخ محمد عبده ومحمد بيرم والمويلحي .. وبعد قليل تحدث الشيخ محمد عبده مع الأميرة في هذا الشأن.. فالتفتت إلى سموها وقالت لي: أنها لا تجد بأسا في أن أكف عن الكتابة في الموضوع .. وكانت هي لم تقرأ الكتاب ولم تعرف أنه يشمل الطعن فيما تدعو إليه .. فلما رأي ذلك محمد المويلحي قال لسموها: أنه يدهش من طلب الأميرة وخاصة لأن الكتاب تعرض لها .. فبنت الدهشة عليها، وكانت إحدى نسخ الكتاب موجودة عندها. وعبثا حاولت أن أقفل باب الحديث في هذه الشأن وخاصة بعد أن لمحت عليها معالم الاضطراب والجد والعنف .. فلما اطلعت على ما جاء به ثارت ثورة شديدة ووجهت القول بعنف إلى الشيخ محمد عبده .. لأنه توسط في هذا الموضوع .. ومرت الأيام بعد ذلك واتفق محمد عبده وسعد زغلول والمويلحي وغيرهم على أن يتقدم قاسم أمين بالاعتذار إلى سمو(20/17)
الأميرة .. فقبلت اعتباره ثم أخذت يتردد على صالونها .. وكلما مرت الأيام ازدادت في عينه، وارتفع مقامها لديه .. وإذا به يضع كتابه الأول عن المرأة الذى كان الفضل فيه للأمير نازلي والذي أقام الدنيا وأقعدها بعد أن كان أكثر الناس دعوة إلى الحجاب".
انتهى كلام فارس نمر.
ثالثا: أشارت هدى شعراوي في محاضرة لها إلى هذا المعنى، وكشفت هذا السر الذي ظل خافيا زمنا طويلا ولم يكشف إلا بعد وفاة قاسم أمين بعشرين سنة:
غير أن الذي يلفت النظر أن قاسم أمين عدل عن رأيه هذا من بعده، وتبين له أنه أخطأ الطريق .. وقد تبين هذا حين صرح قاسم أمين في حديث له إلى صحيفة "الظاهر" التى كان يصدرها المحامي محمد أبو شادي حيث أعلن رجوعه عن رأيه، وأعلن أنه كان مخطئا في "توقيت" الدعوة إلى تحرير المرأة.. هذا التصريح نشرته جريدة "الظاهر" في أكتوبر 1906.
قال قاسم أمين:
"لقد كنت أدعو المصريين قبل الآن إلى اقتفاء أثر الترك بل الافرنج في تحرير نسائهم وغاليت في هذا المعنى حتى دعوتهم إلى تمزق ذلك الحجاب .. وإلى إشراك النساء في كل أعمالهم ومآدبهم وولاتهم . ولكني أدركت الآن خطر هذه الدعوة بما اختيرته من أخلاق الناس.. فلقد تتبعت خطوات النساء في كثير من أحياء العاصمة والإسكندرية لأعرف درجة احترام الناس لهن، وماذا يكون شأنهم معنهن إذا خرجن حاصرات فرأيت من فساد أخلاق الرجال بكل أسف ما حمدت الله على ما خذل من دعوتي واستنفر الناس إلى معارضتى .. رأيتهم ما مرت بهم امرأة أو فتاة إلا تطاولوا إليها بألسنة البذاء، ثم ما وجدت زحاما في طريق فمرت به امرأة إلا تناولتها الأيدي والألسن جميعا .. أنني أرى أن الوقت ليس مناسبا للدعوة إلى تحرير المرأة بالمعنى الذى قصدته من قبل".(20/18)
ومعنى كلام قاسم أمين أمير هذا الذي نشره قبل وفاته بعام ونصف عام أن قاسم قد اكتشف بعد سبع سنوات من دعوته "التى جاءت استدراجا ومرضاة لنفوذ وليست خالصة لوجه الله تعالى:" أنها لم تكن قائمة على أسسها الصحيحة وهي الدعوة إلى تربية الخلق والإيمان بالله، وأنها لم تكن على طريق الحق.. أو ربما أن قاسم رأى بعد أن تغيرت الظروف بزوال كرومر ووفاة محمد عبده وانطفاء نفوذ نازلي فاضل "رتيبة كروم" أن يتخفف من هذه التبعة.. وربما كان لبعض التجارب أثرها في نفسه .. ومما يروى أن صديقا عزيزاً زاره ذات مرة فلما فتح له الباب قال: جئت هذه المرة من أجل التحدث مع زوجك !! فدهش قاسم .. كيف يطلب مقابلة زوجته .. فقال له صديقه : ألست تدعو إلى ذلك؟! إذن لماذا لا تقبل التجربة مع نفسك .. فأطرق قاسم أمين صامتا .. ومما يذكر أن السيدة زوجة قاسم أمين كتبت منذ سنوات تعلن أن دعوة قاسم أمين كانت خطيرة وأنها لم تكن قائمة على أساس صحيح.
وقال محمد فريد وجدى:
أن دعوة قاسم أمين قد أحدثت تدهوراً مريعاً في الآداب العامة، وأحدثت انتشاراً مفزعاً لمبدأ العزوبة، وأصبحت ساحات المحاكم خاصة بقضايا هتك الأعراض وهرب الشابات من دور أهلهن.
ونعت الدكتورة بنت الشاطش ما تكشف من حركة تحرير المرأة مما أسمته مهزلة أليمة موجعة. تقول بنت الشاطئ:
"إن الرجال ساقونا لنعمل لحسابهم.. وهم يوهموننا أننا نعمل ويعملون معنا لحسابنا.. ذلك أن الرجال وثبوا لنا الخروج زاعمين أنهم يؤثروننا على أنفسهم.. ولكنهم كذبوا في هذا المزاعم فما أخرجونا إلا ليحاربوا بنا السآمة والضجر في دنياهم".
ثم قالت بنت الشاطئ:(20/19)
"إن المرأة دفعت ضريبة فادحة ثمنا للتطور ويكفي أن أشير في إيجاز إلى الخطأ الأكبر الذي شوه نهضتنا.. وأعني به إنحراف المرأة الجديدة عن طريقها الطبيعي وترفعها عن التفرغ لما تسميه: خدمة البيوت وتربية الأولاد .. ونحن نرى البيوت أصبحت مقفرة منهن .. أما الأبناء فتركوا لخدم .. وقد نشأ هذا الإنحراف الضال نتيجة لخطأ كبير في فهم روح النهضة .. وبلغ من سواء ما وصلت إليه أن نادت مناديا بحذف نون النسوة في اللغة كأنما لأنوثة نقص ومذلة وعار .. وأهدر الاعتراف بالأمومة كعمل من الأعمال الأصيلة لنا حتى سمعنا عن يسأل كيف تعيش أمة برئة معطلة .. يقصد بالرئة المعطلة هؤلاء الباقيات في بيوتهن يرعين الأولاد .. وزعموا أن المرأة تستطيع أن تجمع بين عملها في البيت ووظيفتها في الخارج".
انتهى كلام الدكتورة بنت الشاطئ.
***
أما ما هي ملابسات زعامة هدي شعرواي للحركة النسوية فالواقع أن هناك عدة ملابسات لا يفسرها إلا فهم تاريخ الحركة الوطنية في مصر لرجلين.. أحدهما والدها محمد باشا سلطان والآخر زوجها على باشا شعراوي.
أما والدها محمد سلطان فيقول الدكتور عبد العزيز رفاعي في كتابه "محمد سلطان أمام التاريخ":(20/20)
إنه كان من أعلام الثورة العرابية. ولكنه تنكر لها في أحلك أوقاتها، ومشى في ركاب أعدائها: الخديو والانجليز، حتى نال حظوته من الخديوي بالإحسان، ومن الإنجليز بالتقدير، وقد أثبت ما أورده السيد محمد رشيد رضا في كتابه: "الأستاذ الإمام محمد عبده"، جـ1 ص 258، 259، عن الدور الذي لعبته محمد سلطان في خدمة مخابرات الانجليز في سبيل الوصل إلى معسكر العرابيين في التل الكبير وهكذا حمل لواء الخيانة للثورة العرابية، وطاف ببورسعيد والإسماعيلية لمعاونة الجيش الإنجليزي الزاحف والإيقاع بجيش عرابي معلناً الثقة في الجيش الغازي ومطمئنا الأهالي على حياتهم، وقد أفهمهم حسن نيات الإنجليز إزاء المصريين، وأبان لهم أنهم لا يستهدفون غزو البلاد، بل يستهدفون تأديب العصاة.
وتابع سلطان نشاطه فأخذ يفرق الناس عن عرابي، ويجمعهم لمعاونة الإنجليز فأرسل إلى شيخ بدو الهنادي المقيم في الصالحية ويدعى سعود الطماوي والآخر إلى محمد صالح الحوت ليتفق معهما على استمالة العربان ولم يكتف محمد سلطان بنشاطه في الجاسوسية وبث الدسائس في منطقة القناة وفي ميدان المعركة، بل مد نشاطه إلى داخل البلاد ليقضى على كل معاونة شعبية لحركة عرابي، ورافق "ولسلي" قائد القوات البريطانية للتفاوض مع مشايخ العربان.
كما كانت الأموال التى أعدها الخديو لرشوة شيوخ البدو في عهدة سلطان "راجع بلنت: التاريخ السري ومذكرة سلطان إلى الخديو في الإسماعيلية بدار المحفوظات التاريخية دوسية رقم 2".
وكان سلطان هو الذي أبلغ الخديو هزيمة عرابي، ودخل سلطان القاهرة مزهوا يتطلع لفجر جديد في حياته بعد أن سجل خيانته، وكتب تاريخها بنفسه، وقلده الخديو النيشان المجيدي الأول رفيع الشأن ووضعه على صدره بيده، وأعطاه عشرة آلاف جنيه تعويضا للأضرار التي لحقت به ثم عينه رئيسا لمجلس شورى القوانين.(20/21)
ولكن ضربة القدر لم تمهله ليتمتع بما اشترى من أطيان فداهمه مرض السرطان واشتد به المرض وتوفي في أوربا سنة 1884 ، وقد أنعم الإنجليز عليه بنيشان سان ميشيل وسان جورج الذي يخول صاحبه لقب "سير".
هذه هي خلفية الحياة الإجتماعية لقائدة النهضة النسوية والتى تزوجت وهي في الرابعة عشر من رجل غني موسر صديق لوالدها يبلغ الخمسين من العمر هو على شعراوي باشا أحد الثلاثة الكبار الذين قابلوا المندوب البريطاني بعد انتهاء الحرب العالمية الأولي "سعد زغلول و عبد العزيز فهمى" بوصفهم من رجال حزب الأمة الموالى للاستعمار البريطاني لعرض مطالب البلاد.
ولم يلبث شعرواي باشا أن توفي وقد كان الثلاثة هم دعاة الولاء البريطاني والتعامل مع الإنجليز والشاجبين لمفاهيم الحزب الوطني في المفاوضة قبل الجلاء.
وقد وجدت السيدة هدى شعرواي الفرصة سانحة للتبريز خاصة وأن السيدة صفية زغلول ابنة مصطفى فهمى الذى حكم مصر بالحديد والنار خلال أول الاستعمار البريطاني ثلاثة عشر عاماً وزوج سعد زغلول والمساماة بأسماء الاضداد " أم المصرين" تستأثر بالزعامة السياسية فأرادت تفتح مجالا جديداً تنفرد فيه بالزعامة فكان ذلك هو مجال المرأة خاصة وأنها نزعت نقابها في ثورة 1919.
ولقد تلقفتها جماعات تحرير المرأة العالمية والمنبثة في أوربا وخاصة في باريس وبرلين وبروكسل والتابعة للمحافل الماسونية ومنظمات الصهيونية العالمية ووجدت فيها طيراً سميناً فدعتها إلى حضور المؤتمرات النسوية العالمية التى كانت الصهيونية العالمية تديرها من وراء، والتى كانت تستهدف بأحداث الضجيج حول حقوق المرأة السياسية في البرلمان والحكم خلخلة المجتمعات الإسلامية ودفعها إلى طريق الانهيار.(20/22)
والمعروف أن هدى شعرواي لم تنطلق في دعوتها من أي منطلق إسلامي، بل على العكس من ذلك كانت سيدة سافرة رزة لها صالون ويتحلق حولها عدد من الرجال المجندين لكتابة الخطب والكلمات التى كانت تلقيها في الاحتفالات وكانت تنفق على ذلك أموال سلطان باشا التى دفعت ثمنها الثورة العرابية، وكان في مقدمة هؤلاء إبراهيم الهلباوي باشا محامي دنشواى والشيخ محمد الأسمر الشاعر .. وقد استطاعات أن تجند بعض الشباب، وأن ترسل بهم في بعثات تعليمية خاصة على حسابها إلى أوربا/ ومنهم من عمل في الصحافة من بعد، وحمل لواء الدعوة إلى تقديس هدى شعراوى، ودعا إلى تلك الأفكار التى تحرض المرأة على التحرر من القيود الاجتماعية، والانطلاق حتى كان أحدهم يقول لواحدة سألته:
" لو كنت بغير أولاد لقلت لك اتركيه ورزقك على الله، والمعروف أن السيدة هدى شعراوى لم تكن تعبأ في دعوتها بالمفهوم الإسلامي المرأة، أو تصدر عن فهم حقيقي لرسالة البيت والأسرة ولم تكن تتحرك في هذا الإطار .. وإنما كانت تضع أمامها المرأة الغربية كمثل أعلى .. وذلك فقد شجعت أسباب الزنة والأزياء والمودات المستحدثة. وكانت أجنحتها من المثقفات ثقافة فرنسية وذات الولاء الماركسى والصهيوني، ولم يكن للمفهوم الإسلامي لديهم أي أهمية.
ويقول الأستاذ حسين يوسف:
إنه لم يكن عجبا أن يعمل الاتحاد النسائي بزعامة هدى شعرواي الأهداف التي يحرص الاحتلال على الوصول إليها، وإن يردد في عام 1923 نفس المبادئ التى نادى بها مرقص فهمى من قبل، وتورط فيها قاسم أمين .. ولما كان داة تدمير مفاهيم المرأة المسلمة لا ينامون فإنهم يدعون اليوم إلى تجديد ذكرى هدى شعراوى بإقامة تمثال لها.. والهدف هو دعو هذه الأفكار المسمومة التي تستهدف تدمير الأسرة المسلمة وتحطيم البيت المسلم.
(4)
طَه حسَين
عميد الأدب العربى الذى مازالت مؤلفاته تحمل سموم الاستشراق
وتهاجم الإسلام والقرآن(20/23)
عن مجلة الاعتصام – نشرت جريدة المجتمع الكويتى، بعددها رقم 177 بتاريخ 13 من ذي القعدة سنة 1393 ( 1973/ ، مقالا مطولا كشفت فيه عن كثير من الحقائق التي لابد لأبناء الجيل الإسلامي الحالي، أن يعرفوها، حتى لا ينخدعوا بالدعاوات الكاذبة التى ملأت الآفاق في رثاء طه حسين، وتمجيده في حين أنه كان صنيعة لأعداء الإسلام، وداعية للمدنية الغربية بكل مفاسدها وشرورها.
وفيما يلي بعض ما تضمنه المقال المذكور من وقائع، وفيها الكفاية لإدراك الحقيقة.
استطارت في صحف البلاد العربية كلمات عجلى ومرات سريعة خاطفة حاولت أن تسد فراغاً صحفياً على وجه العجلة فلم تتمكن من أن تراجع التاريخ أو تنثبت من الوقائع، وربما صاحب ذلك هوى من شأنه أن يتعارض مع الحق، وربما كانت كتابات بعض المتصدرين في مجال الصحافة ممن لم يحسنوا مراجعة الآثار المكتوبة حول القضايا المثارة ومنهم من شهد السنوات الأخيرة فنشأ طفلا يرى "طه حسين" رجلا كهلا تحيطه هالة، أو تدرس كتبه في الجامعات أو يشرف على بعض المؤسسات الثقافية واللغوية فظن هؤلاء – وبعض الظن إثم – أن الرجل له تاريخ مشرف جديد بأن يشاد به ويرثى ولقد حوت كتابات الكتاب الكثير من الخطأ ومن الهوى، ومن عجب أي بعض المؤمنين لحق بمن كتبوا عن الإسلام أو هاجموا بعض خصومة أمثال لويس عوض وسلامة موسى وغيرهم يسقطون في هوة الخداع إزاء طه حسين وهو أشد خطراً من هؤلاء جميعا وأبعد أثراً.
ولسنا الآن في مجال الحديث عن موقع طه حسين من الأدب العربي أو الفكر الإسلامي فذلك أمر له من بعد دراسات ومراجعات ولكننا تقف عند حد تصحيح بعض الأخطاء التى تضمنتها هذه المراثي التى أعادت الرجل حيا بعد أن مات موتا معنويا منذ عشر سنوات عندما توقف عن الكتابة وداهمه المرض الذى كان حفيا بأن يفسح له سبيل العودة إلى الله ولقد كان يتردد في هذه السنوات بل كان الدكتور نفسه يقول:(20/24)
إنه لا يسمع من الإذاعة غير القرآن المرتل وكان بعض السنج من الناس يقول: لقد تاب الرجل وأناب.
وكذلك قالوها يوم اصدر كتابه "على هامش السيرة" ولكن الفهم السليم للإسلام يدعونا إلى أن تتحرز من مثل هذه المظاهر الكاذبة وأن نتعمق مفهوم التوبة في الإسلام وهو مفهوم يفترض على صاحبه أن يرجع عن كل ما خالف به أصول الإسلام أو حقائق القرآن وأن يعلن على ذلك على الملأ وأن يحجب مؤلفاته التى نشر ذلك من قبل بل وعليه أن يصحح ذلك ويوضحه وأمامنا مثلان:(20/25)
مثل في القديم هو أبو الحسن الأشعرى" حين خرج عن فتنة الاعتزال إلى ضوء السنة الصحيحة فإنه لم يلبث أن وقف في المسجد الجامع بعد الصلاة على كرسى وأعلن توبته بل وخرج من ملابسه وقال: لقد خرجت من الأثم الذي كنت فيه كما أخرج من ثوب هذا وألقى إلى الناس بمؤلفاته الجديدة التى يعارض بها قديمه الذى خرج عنه وأمامنا الدكتور محمد حسين هيكل الذى أعن في مقدمة كتابه "منزل الوحى" أنه قد خاض في شبابه لجج النظريات وكان مخطئا حين حاول أن يختار لبني وطنه فكر الغرب أو منهج الفرعونية وأنه عاد إلى الحق حين تيقن أن الإسلام هو المنطلق الوحيد للمسلمين إلى النهضة. فهل فعل طه حسين شيئا من ذلك إذا كان حقيقة قد تحول، نحن نعتقد أن طه حسين لم يتحول حتى مات عن مفاهيمه الأولي وأنه أصر على فكره إصراراً كاملا حتى حين كتب إسلامياته المتعددة وأن المراجعة الدقيقة لهذه المؤلفات تكشف عن أنها تحول في المظهر أو كما يقول الغربيون أن طه حسين غير جلده، أو أنه حسين سقط في نظر الناس بعد كتاب "الشعر الجاهلي" إنما أراد أن يعود إليهم كاسبا ثقتهم بالكتابة عن "هامش" السيرة وكانت خدعة أخرى كشفها صديقه ورفيقه على الطريق في المرحلة الأولي الدكتور هيكل حين قال إن إحياء الأساطير في هامش السيرة خطر على السيرة نفسها لأنه يعيد إليها ما حررها منه علماء المسلمين أربعة عشر قرنا وحرصوا على حمايتها منه وقال عنها مصطفى صادق الرافعي إنه تهكم صريح.
لقد خدع طه حسين الكثيرين بكتاباته الإسلامية ولكن هذا الخداع لم يطل فقد كشفه كثيرون في مقدمتهم محمود محمد شاكر الذي كشف فصولا متعددة عن "الفتنة الكبرى".
* * *
من أبرز ما يحاول الذين رثوا طه حسين أن يثبتوه أن طه حسين في مؤلفاته وكتاباته كان خصماً سياسياً الذين هاجموه, وألبوا عليه وأن ما أورده في كتبه لم يكن على هذا النحو من الخطر في مهاجمة الإسلام.(20/26)
وذلك هو أسلوب الاستشراق في مواجهة الأمور وهو نفسى أسلوب طه حسين الذي كان إذا أراد أن يهاجم الإسلام هاجم الأزهر وإذا أراد أن يرد عادية خصومه قال إنما يهاجمون حزبه السياسي ولقد حرص طه حسين حين اشتدت الحملات عليه عاما بعد عاما بعد كتابه الشعر الجاهلي أن ينفصل من معسكر الأحرار الدستوريين وأن يلجأ إلى معسكر الوفد حتى يحتمي به.
وقد أكسبه ذلك سناداً ضخماً أعانه ليس فقط على الاستمرار في الحركة – ولكن مكنه من توصيل إلى ضربة أخرى وجهها إلى الفكر الإسلامي تلك هي كتابه: "مستقبل الثقافة " وكذلك فقد استفاد طه حسين من السياسة فهي التي حمته من العزل ومن المحاكمة ومن أشياء كثيرة، بل هى التى كانت تسهل له أن ينتقل بالرغم من مواصلة كشف أساليبه – من منصب أستاذ الجامعة إلى عميد كلية الآداب إلى مدير الجامعة إلى وزير المعارف.
وإذا كان رثاة طه حسين يريدون حقاص أن يصدقوا الناس ويقولوا لهم أن طه حسين عندما كان في حزب الأحرار الدستوريين – قد هاجم سعد زغلول بأكثر من "مائة مقال" في خلال سنوات "1922 – 1927" حتى وفاته فلما تحول طه حسين إلى الوفد بعد ذلك كتب عن سعد زغلول وخطب يرفعه فوق هامة الدهر دون أن يحس بالخزي أو الخجل ودون أن يرى ابتسامات السخرية من سامعيه وقارئيه لكذبه فى الأولى وفي الآخرة وتضليله وغشه.
وتردد مراثي طه حسين عبارات تقول أنه أضهد ككل أصحاب الرسالات فأى نوع من الاضطهاد شهده طه حسين. هل اعتقل ليلة واحدة في أي عهد هل قدم للمحاكمة مرة واحدة هل عذب؟ هل حيل بينه صيف واحد وبين السفر إلى فرنسا حتى في أشد أيام أزمة الشعر الجاهلي . لم يحدث ذلك قط وإنما كان ذلك من لغو القول وباطله.(20/27)
إن طه حسين كان يعرف أنه في حماية قوى كبرى ربما ليست ظاهرة ولكنها تختفي وراء الأحزاب، وراء عدلي وثروت، وتلتمس أسلوبها إلى ذلك بالعطف على الكفيف والرحمة بالمجنون. كما قال سعد زغلول للأزهريين : هبوا أن رجلا مجنوناً قال ما قال، وماذا علينا إذا لم يفهم البقر!!
ويردد أصحاب المرائي أن لطه حسين حياة حافلة بالنضال ولكنه أي نضال، لقد بدأ طه حسين حياته في محيط حزب الأمة الذي أنشأه كرومر وفي أحضان لطفي السيد داعية الولاء للاستعمار البريطاني تحت اسم مصر للمصريين وعدو الجامعة الإسلامية والعروبة والشريعة الإسلامية واللغة العربية وتعليم أبناء الفقراء.
ولقد لقى طه حسين في حياته "عبد العزيز جاويش" وبيئة الحزب الوطني ولكنه سرعان ما أعرض عنها، لأنها ليست ممهدة الطريق ولأنها كانت تحمل مفاهيم النضال والجهاد، وكسب صلته بأصحاب البيوتات وفي مقدمتهم آل عبد الرزاق الذى كان أثيراً لدى عطفهم ومعونتهم ولما عاد من أوربا اندمج في حزب الأمة المجدد تحت اسم "الأحرار الدستوريين" ولم يدخل الوفد إلا بعد أن فقد الحزب أمانته للأمة وانصهرت فيه العناصر اليسارية والشيوعية.
أما أخلاقه التى يشيدون بها فهى تنجلى صراحة في موقفه من اساتذته الذين عاونوه في أول الحياة والذي شقوا له الطريق فلم يلبث أن هاجمهم في عنف وصلف واحتقار، بل وعارض مفاهيمهم الأصلية: وفي مقدمة هؤلاء الشيخ المهدى ومحمد الخضرى وأحمد زكي باشا وأعلن أنه يرفض المنهج الذى رسمه الشيخ محمد عبده.
وقد سجل جميع الباحثين في سيرته وفي مقدمتهم أولياء الثقافة الغربية من أمثال إسماعيل أدهم أحمد أنه لم يكن عالما ولا صاحب منهج، وأنه صاحب هو وغرض وأن ذلك الطابع يسود كل انتاجه.(20/28)
أما مفاهيمه العامة فقد أثار الدنيا حين أعلن أن العرب استعمروا مصر كالرومان وحرقت مؤلفاته في ميدان عام في دمشق، وقال أن مصر جزء من حضار البحر المتوسط، وهاجم المجاهدين من أهل المغرب في رسالته وصور استعمار فرنسا خدمة عظمى تقدمها لهم فرنسا. وكان له موافقة في معارضة العروبة والرابطة الإسلامية في دعوته إلى تمصير اللغة وإلى تمصير الأدب، وكلها دعاوى زائفة مشبوهة.
وكانت دعوته إلى الحضارة الغربية فاسدة لأنه لم يأخذ فيها بأسلوب الحيطة أو أسلوب العلم بل كان حريصا على أن تنصهر مصر والبلاد العربية في هذه الحضارة على النحو الذى صوره حين قال " أن نقبل من الحضارة ما يحمد منها وما يعاب وما يجب منها ما يكره".
كان داعية الفناء في الغرب تحت خدعة زائفة ظل يروجها وكانت موضع سخرية الناس لسذاجتها وهي قوله: أننا لن نستطيع أن نساوى الغرب إلا إذا سرنا سيرته، وكيف يمكن ذلك وقد سارت تركيا ومع ذلك سخر منها الغرب لأنها عجزت عن أن تقدم شيئا في مجال العلم وما زالت عالة عليه بعد أن فقدت شخصيتها الإسلامية.(20/29)
ويكذب أو يخدع أولئك الذين يقولون أن طه استوعب ثقافة التراث أو أنه نقل ثقافة التراث أو أن وجهته في الكتابات الإسلامية كانت خالصة لوجه الله أو العلم أو الحق ذلك أن طه حسين قد أراد أن يتخذ من التراث منطلقا إلى تحقيق جانب من رسالته، تلك هي إثارة الشبهات والروايات الباطلة، والتقليل من جلال أبطال الإسلام، وتصويرهم بصورة رجال السياسة في الغرب المسيطرين على مطامع الحكم ومطالب الحياة، ولا يستطيع أن يفهم التراث أو يقدمه المسلمين في هذا العصر إلا رجال آمنوا بالإسلام دينا ونظلم حياة وعمرت قلوبهم تلك الأمانة للإسلام والغيرة على معطياته ومنجزاته. أما طه حسين فقد عاش حياته كلها يسخر بعظمة أمة الإسلام وبما في صفحاتها من بطولات ويفسرها طبقا للمذهب الاجتماعي الفرنسي، المتصل بالتفسير المادي للتاريخ القائم على الجبرية وهو مذهب ينكر عظمة النفس الإنسانية وجلال الروح ومكانة المعنويات - كان طه حسين كذلك في أول ما كتب "ذكرى أبي العلاء" وظل كذلك إلى آخر ما كتب "مرآة الإسلام والشيخان".
وكل ما يحاول الإغرار أن يجمعوه من آرائه عن القرآن أو الإسلام أو التاريخ فإنما يقدم إليه مفهومه الباطل فيجعله هباء منثوراً، فهو لا يرى في القرآن أكثر من أنه كتاب بلاغة" ولا يرى في البطولات إلا أنها من نتاج البيئة، ولا يرى في النبوة إلا أنها قدرة رجل عظيم استوعب فكرة عصره، فهو لا يؤمن بالنبوة، وذلك واضح من كتاباته ومن مراجعات الباحثين لآثاره وهي كثيرة ومقدمتها كتاب غازى التوبة ومحمد محمد حسين والرافعي ومحمد أحمد الغمراوي وكاتب هذه السطور.
إن طه حسين مع الأسف لم يكن يؤمن بشئ، كان ساخراً وكان مشككاً وكان متقلباً ولقد كدت أكتب عبارة "أولها حرف ر".(20/30)
وآية ذلك أنه ألقى العمامة في البحر عندما ركب السفينة أول مرة إلى أوربا في مشهد درامي، تمثيلى، وأنه كان يقول القول وينقضه فقد أعلن إمارة العقاد للشعر ثم سحب ذلك في سنواته الأخيرة، أما قدره العلمى فقد كشف عنه سكرتيره البير بيزان وسكرتيره زكي مبارك وظهر ذلك واضحاً في سقطات فاضحة.
من مثال قوله:" وقد وقعت بين القيسية واليمانية معركة "مرجرات" ثم اتضح من بعد أنها "مرج راهط" ولكن هكذا يكتبها المستشرقين وقد أشار زكي مبارك إلى ذلك في دعاية ساخرة حين قال : أن طه حسين دخل حديقة المستشرقين بالليل ليسرق ثمرة أو ثمرتين فصادفته هذه الثمرة المعطوبة" ولا شئ يستطيع أن يحمى طه حسين من شبهة الاتصال بالصهيونية أو اليهودية العالمية في مجال الفكر وربما عن طريق آخر بالإضافة إليهما، ولذلك قصة طويلة لها وقائعها الثابتة والأكيدة والمتصلة طوال حياته منذ أعلن عن عدم وجود إبراهيم إسماعيل عام 1926 إلى أن صير مديراً لدار الكتاب المصري 1946 وبين ذلك تاريخ طويل يمكن أن يروى في مقال متصل ويؤيده ما قاله شارل مالك في رثاء طه حسين.
هناك سؤال لماذا انقلب إسلاميا داعيا إلى التراث؟
والإجابة السريعة قبل إيراد التفاصيل هي محاولة تمكينه من أن يكون مرجعا إسلامياً يستغله للتبشير والاستشراق في السنوات الخمسين القادمة ولذلك فقد حولوه من مغايظة الجماهير إلى إرضاء الجماهير، إرضائها بالخداع والزيف.
وكلام عن الإسلام كله بمفهوم الإسلام الغربي المسيحي: أنه علاقة بين الله والإنسان، عبادة، لاهوت وليس أكثر من ذلك ، وطه حسين يعتنق ما كان يعتنقه فولتير ورينان غيرهما من التفرقة بين الإيمان بالقلب والكفر عن طريق العقل. هذه الإزدواجية التى يعرفها الغربيون ويفخرون بها، وتعتنقها بعض الفضائل المضللة من توابع المستشرقين في البلاد العربية ممن لا قيمة لم ولا وزن وممن لن يتبقى لهم آثار ولا أعمال.(20/31)
إن طه حسين بالعمل فى مجال الإسلاميات منذ أصدر هامش السيرة 1933 ونشره في الرسالة كان يفتح صفحة جديدة وأخيرة في تاريخه وتاريخ الفكر الإسلامي هي صفحة تقديم البديل من أجل القضاء على الأصيل ومع الأسف فقد شارك هيكل والعقاد وانكشف أمرهم عام 1939 حين قاله لهم إمام كبير:
" بيننا وبين الإسلام أن تؤمنوا بأن الإسلام نظام حكم وفهم مجتمع، فصمتوا صمت القبور. استطاع طه حسين من خلال كتاباته الإسلامية أن يصور الروابط بين الصحابة على نحو مؤسف ردئ، وكان قد أعلن من قبل في رده على العلامة: رفيق العظم احتقاره التاريخ كما اتخذ في بعض الشعراء الماجنين دلالة على فساد القرن الثاني الهجرى الحافل بأعلام المسلمين في الفقه والعلم والتصوف والأدب والفكر كله.
لقد تحول طه حسين في أساليبه يخوض معركة أشد خطراً، هي معركة تزييف مفهوم الإسلام والتاريخ الإسلامي، وقد جرى في ذلك مع منهج الاستشراق الذى تغير في أواخر الثلاثينات حين تحول من مهاجمة الإسلام علانية إلى خداعه بتقديم طعم ناعم في أوائل الابحاث ثم دس السم على مهل ومن خلال فقرات وكان هذا هو أسلوب الاستشراق اليهودي الماكر.
وقد استخدم طه حسين هذا المنهج ببراعة ونجح فيه. فلم يكن طه حسين يؤمن بالدين ولا بالتراث ولا بعظمه هذه الأمة ولا بأمجادها الإسلامية ولا بحركة اليقظة فيها، ولقد تهدمت كل أعماله قبل وفاته وخذلته كل الكتابات الجديدة والإيجابية عن الشعر الجاهلي وعن ابن خلدون، وعن مفهوم العروبة المرتبط بالإسلام وعن هزيمة الفرعونية وعن اندحار دعوته إلى الغض من شأن الأزهر.
سلامة موسى
محاولة إعادة سلامة إلى الحياة محاولة خاسرة وقد باءت بالفشل الذريع. سلامة موسى الرجل الذي لم يعرف في تاريخه الطويل موقف يدعو فيه لتحرير مصر من الاستعمار البريطاني وقد سقطت جميع آرائه وكشف حركة اليقظة عن زيفها وفسادها.(20/32)
لقد كانت كل كتابات سلامة موسى وأفكاره في حقيقتها جماع خيوط المخطط الماسوني التلمودي بباطله وهدمه وأخطاره ولقد عرف أن سلامة موسى كان يلفظ الإسلام والمسيحية معاً وهو الذي أضاف إلى قائمة الرسل والأنبياء فرويد وماركس ودارون ولينين.
كان السؤال الهام في الندرة عن تلك الظاهرة الخطيرة التى حاولت بها بعض الجهات طرح كتب سلامة موسى في السوق مرة أخرى بأعداد كبيرة، ونشرت عديداً من كتبه ما عدا كتابه " اليوم والغد" الذي قال بعض أصحاب الولاء أنهم أن يعيدوا طبعه والسر أن هذا الكتاب يكشف حقيقة سلامة موسى، ودعوته المسمومة، والشعوبية والماركسية جميعاً.
والحق إن كتابات سلامة قد تجاوزها الزمن، ولم تعد تمثل أى عطاء ثقافي بعد أن سقطت كل هذه الدعاوى التى روجها الاستشراق والتغريب في الثلاثينات والأربعينات.. شأنه في هذه شأنه في هذا شأن طه حسين ومحمود عزمي وعلىعبد الرازق ومن تبعهم أمثال حسين فوزى وتوفيق الحكيم ولويس عوض وغيرهم.
والواقع أن النفوذ التغريبي لا يمهد ولا يتوقف عن غاياته وإن بدأ أنه يغير جلده بين حين وآخر ليخدع أجيالا جديدة بتلك السموم التى قدمها على أيدى عملائه ثم تكشف زيفها.
دعا سلامة موسى إلى استعمال العامية وهدم العربية، وجدد الدعوة لويس عوض في مصر ويوسف الخال وأنيس فريحة في الشام وكانت النتيجة هي الفشل المحقق.
دعا سلامة موسى إلى الفرعونية وجدد الدعوة بعده كثيرون ولم يصلوا إلى الشئ.
دعا سلامة موسى إلى الفرعونية، وجدد الدعوة إلى إبطال حكم من أحكام الدين وذلك بشأن ميراث المرأة، وقد لنه الباحثون دراس قاسياً مريراً.
دعا سلامة موسى إلى الماركسية وقد كشفت الأيام زيف دعوته وفساد جهته.(20/33)
والحقيقة أن سلامة موسى لم يكن إلا رجلا يحمل الغرب فيذروه في وجهه الناس حقداً وكراهية لهذه الأمة أن يتحقق لها امتلاك إراداتها وخدمة لكل التيارات الحاقدة عليها والكارهة لها، ولقد كان الكاتب في هذه الفترة يعرف بأنه ماركسي أو غربي أو داعيا لفرنسا أو انجلترا ولكن سلامة موسى كان يعمل لكل هذه الجهات عن طريق الماسونية والمخطط الصهيوني الذى كان يحتضن كل فكر هدام.. فكان ينثر من كنانته كتابات عن "دارون" ومذهبه، وعن "فرويد" ومذهبه، وعن إقليمية مشوبة بالفرعونية، وعن العامية مشوبة باللاتينية ويحتضن كل كتاب هذه السموم من "ولكوكس" إلى " ماركس" ويدعى ويناقض دعوته بمدح الخديو إسماعيل، وموالاة الاستعمار البريطاني ولا ريب فقد تخرج سلامة موسى من مدرستين:
من مدرسة تربية أبناء العرب الذين يقعون في فخاخ القوى العظمى فقد ذهب سلامة موسى إلى بريطانيا وفرنسا في ذلك الوقت الباكر وجند لهذه الغاية، أما الأخرى فقد كان تابعا لمدرسة شلبى شميل، وجورجي زيدان، وفرح أنطون، ويعقوب صروف هذه المدرسة التى كونها التبشير في بيروت، ثم قذف بها إلى مصر والبلاد العربية فتولت مقاليد الصحافة والثقافة وحملت حقدها الوافر على الإسلام والخلافة الإسلامية، واللغة العربية، وتاريخ الإسلام وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
إن هناك وقائع خطيرة كاشفة لحقيقة سلامة موسى بعد أن فضحه أصحاب دار الهلال الذى كان يعمل عندهم، ويتصل من ورائهم ببعض الجهات ليشي بهم " إبريل 1931 – مجلة الدنيا الجديدة" وقد نشرت الزنكفراف خطاباته التى يقول فيها لمسئول:(20/34)
"فإنا أكتب لسعادتكم وإرادة الهلال تهيئ عدداً خاصا من المصور لسعد زغلول تستكتب فيه عباس العقاد وغيره من كتاب الوفد ومثل هذا العمل يتفق مع التجارة ولكنه لا يتفق مع الدعوة للحكومة الحاضرة ومشروع المعاهدة .. لأن الإكبار من ذكر سعد. وتخصيص عدد له هو في الحقيقة أكبار من شأن الوفد ودعوة إليه إني مستعدة الدعوة للمعاهدة فهل لي أن انتظر معاونتكم".
كتب هذا أبان وزارة اليد الحديدية التى شكلها محمد محمود، وتاريخ الخطاب 22 أغسطس 1939 وهو لا يزال في دار الهلال ما يزال يتقاضى مرتبة منها، ويدخلها كل يوم يبتسم في وجه أصحابها، ويظهر لهم الود والإخلاص وفي الوقت نفسه يدس لهم، ويتجسس عليهم، ويرسل التقارير إلى وزارة الداخلية.
ثم عاد يتمسح بالوفد "إبريل 1931" فكشفت دار الهلال هذه الوثيقة وقالت:" أنت تتمسح اليوم بأعتاب الوفد، وتتعلق زعماء الوفد .. إن لدى دار الهلال البرهان القاطع على تلونك وغدرك".
ولم يقف الأمر عند هذا الحد .. فقد أرسل خطابا "نشرت صحف دار الهلال" صورته الزنكفرافية موجها إلى الأستاذ حسين شفيق المصري في 3 نوفمبر 1930 هذا نصه".
عزيزي حسين:
بعد التحية: تعرف الخصومة بينى وبين السوريين "أي أصحاب دار الهلال" فأرجو أن ترسل لي خطابات على لسان سوري وقح يشتمني فيه بإمضاء اسكندر مكاريوس أو غيره من الهكسوس .. وأنا في إنتظار الخطاب.
أخوك سلامة موسى
وقد علق الأستاذ شفيق المصرى على هذا يقول:
كان يريدنى أن أزور خطابا، وأن افترى على أمة، وأن انزل إلى الدرك الأسفل من النذالة بالكيد لقوم ليس بيني وبينهم يغر الصداقة والمودة.(20/35)
هذا اللعب من لعب الصبيان فعجيب أن يكون منه وهو ينادي بأنه فيلسوف من علماء النفس، أغفر له كل شئ لا أن يظن بى ما ظن من الجهل والحمق .. وهو يدعوني إلى كتابة ذلك الكتاب الذي اشتمه فيه بتوقيع رجل برئ لا ذنب له إلا أن في الدنيا رجالا لا يحاسبون ضمائرهم، ولا يرون أبعد مما بين أنوفهم وجباههم.
* * *
بل ويذهب سلامة موسى إلى أبعد من ذلك فيقول:
"ومما يدل على أن حركتنا الوطنية بأيدي ناس غير قادرين على الاضطلاع بها أن الحركة التي قامت في العام الماضي وكانت غايتها اصطناع القبعة قاومها زعماؤنا وقتلوها في مهدها.. فأثبتوا بذلك أنهم لا يزالون أسيويين في أفكارهم، لا يرغبون في حضارة أوربا إلا مكرهين.. وقد أدرك مصطفى كمال الذى لم تنجب بعد نهضتنا رجلا مثله ولا ربعه ولا يعرف مقدار ما للقبعة من القيمة والإعلان بالإنسلاخ عن آسيا، والانضمام إلى أوربا، ولم يمنع من استعمال السيف في هذا".
ويقول:
"هذا هو مذهبي الذي اعمل له طول حياتي سراً وجهراً فأنا كافر بالشرق، مؤمن بالغرب وفي كل ما أكتب أحاول أن أغرس في ذهن القارئ تلك النزعات التى اتسمت بها أوربا في العصر الحديث، وأن أجعل قرائي يولون وجوههم نحو الغرب، ويتنصلون من الشرق.. ليس هناك حد يجب أن نقف عنده في اقتباسنا من الحضارة الأوربية ويقول:
"وليس علينا للعرب أي ولاء، وإدمان الدرس لثقافتهم مضيعة الشباب، وبعثرة لقواهم .. وكيف يمكننا أن نعتمد على جامعة دينية بينما فى العالم نظرية تقول: أن الإنسان لم يكن راقيا فانحط كما تقول الأديان. بل هو كان منحطا فارتقى، تعنى بها نظرية التطور بل كيف يمكن لإنسان مستنير قرأ تاريخ السحر والعقائد أن يطلب منه أن يخدم جامعة دينية، إن الجامعة الدينية في القرن العشرين وقاحة شنيعة".
ويقول :(20/36)
"لا عبرة بما يقال من أن الإسلام أمر بالشورى فإن خطب جميع الخلفاء نثبت أنهم كانوا ينظرون إلى أنفسهم نظراً بابويا بل البابا نفسه إذا قيس إليهم في بعض الاشياء يعد دستوريا".
ويقول:
"إن أكبر تجربة اجتماعية رآها العالم هي الشيوعية الروسية الحديثة وظهور الشيوعية هو بمثابة حاجز بين الماضي والمستقبل فهي تفصل الاثنين فصلا واضحا وهي على ما فيها من نقائض لليوم وعلى ما ينال الناس البعيدين عنها من الرعب فإنها ستكون بذرة لجملة أنظمة اجتماعية في المستقبل".
وهكذا تحوى كتابات سلامة موسى كل السموم التى علموه أن يثيرها في أفق العرب والمسلمين يوما بعد يوم، علموه أن الاشتراكية هي الهدام الأكبر للمسلمين وازدراء كل ما هو عربي، والدعاية للشيوعية، وكذلك الدعاية للإباحية.
يقول سلامة موسى:
"ليس من مصلحة الإنسان أن يعيش في قفص من الواجبات الأخلاقية، يقال له هذا حسن فاتبعه، وهذا سئ فاجتنبه".
وعلموه الدعوة إلى التبعية للغرب وللاستعمار.
يقول سلامة موسى أيضا:
"أجل يجب أن نرتبط بأوربا، وأن يكون رباطنا بها قويا نتزوج من أبنائها وبناتها، ونأخذ عنها كل ما يجد فيها من اكتشافات واختراعات وننظر الحياة نظرها، ونتطور معها تطورها الصناعي، ثم تطورها الاشتراكي والاجتماعي، ونجعل أدبنا يجرى وفق أدبها بعيدا عن منهج العرب، ونجعل فلسفتنا وفق فلسفتها.
هذا هو سلامة موسى الذي يريدون أن يحيوه مرة أخرى ويجددوا فكره. هذا الفكر الذي تجاوزه المسلمون والعرب اليوم وإن كانوا قد خدعوا به هناك يوم كان دعاة التغريب تعوى كتاباتهم بالسموم!!(20/37)
إن كل ما قدمه سلامة موسى عن الماركسية والفرويدية والدارونية هي كلمات مجمعة قد جاوزها البحث العلمي الآن، وكشف زيفها فقد ظهر الآن فساد ما دعا إليه دارون وتبين أن وراء إذاعة دعوتها ونرها كانت التلمودية التى تريد أن تقول أن الإنسان حيوان لتمهد لفرويد اليهودي نظريته في الجنس وكانت الماركسية والفرودية والداروينية من أدوات الفكر الصهيوني. الذي حاول أن يؤسس مدرسة في البلاد العربية والإسلامية. كما دعا إلى البهائية التى عرفها في لندن سنة 1910 عندما اتصل بجماعة الدهريين ولم يدع كتابا لم يقرأه وكانت معظم مؤلفاتهم في نقض الأديان السماوية – على حد تعبيره – ولا بد أنه اتصل بمحافل الماسونية، وتعلم فيها فإن كل اتجاهه كان ماسونياً تلمودياً ولم تعرف حقيقته إلا بعد أن ترجمت بروتوكولات صهيون إلى اللغة العربية عام 1948، وأن كل محاولاته وخططه كان ثمرة هذه التبعية الماسونية التلمودية وقد أشار كثيرون إلى أنه لم يكن مسيحياً صادقاً وإنما كان ولاؤه لفرويد وماركس.
وقالوا الشجرة الفاسدة تثمر ثمراً رديئا وكل شجرة لا تثمر ثمراً جيداً تقطع وتلقى في النار.
ولا ريب أن دعوة سلامة موسى إلى وحدة الأديان هي من مفهوم البهائية وأن اهتمامه بالسلطان "أكبر" الهندي الذي أجرى هذه التجربة داخل في دعوته كذلك دعوته إلى وحدة الوجود، ومذهب "سبينورا" في وحدة المادة، والقوة والروح والجسد هي من طريق خطة الواضح، وكذلك فهو يرى أن حرق جثمان الميت أطهر وأنظف !!(20/38)
وقد تمنى سلامة موسى أن يحرق جسده بعد موته، وقد عمل على نشر آراء تولستوي وغاندي لأنه تحاول مواجهة مفهوم الإسلام الجامع ومفهوم الجهاد وحتى ديانته المسيحية فإنها لم تسلم من هجومه وهو يعتقد أنها حجبت عن عقول الناس نور الثقافة اليونانية وحريتها، وأن هذا الحجب والحجر ظل ألفا وخمسمائة سنة حتى بدت بشائرالنهضة الأوربية التى كان أساسها الخروج عن سلطان الكنيسة وأطباقها على النفس والعقل البشريين، والعودة إلى أسس الثقافة اليونانية وحريتها.
وقد بشر بدين جديد دعا إليه ودخل هذا الدين في عقيدته أنه دين البشرية كما يسمه وهو ما دعا إليه أوجست كونت ويرى أن دين البشرية بذرة من ديانة بوذا وهو دين لا يدعو إلى الإيمان بالله، أو الخلود في العالم الثاني، ولا ريب أن هذا الاتجاه الذي استكمله بأنبياء آخرين آمن بهم هم ماركس وفرويد يوحي بماسونيته وولائه التلمودى الصريح، كذلك فإن دعوته إلى العالمية هي دعوة الصهيونية العالمية التي تريد هدم الأمم المسلمة في مرحلة ضعفها واحتوائها للسيطرة عليها وتذيبها في أتون الأممية.
ولا ريب أن حملة سلامة موسى على اللغة العربية العظمى، والشعر والأدب العربي هي دعوة مبطنة للحملة على الإسلام والقرآن وهي الدعوة التى حمل لواءها لويس عوض من بعد وتؤكد دعوته في مجموعة موالاة الدعوة الشعوبية التى ترمى من وراء القضاء على العرب وكيانهم إلى القضاء على الإسلام باعتبار أن تلك هي قاعدته الأساسية.
قد كانت أصدق كلمة لباحث معاصر أنه لم يعرف لسلامة موسى مقال وطني واحد دعا فيه إلى تحرير مصر من الاستعمار البريطاني.
إن محاولة إعادة سلامة موسى إلى الوجود محاولة باطلة فقد سقطت آراؤه جميعا وكشفت حركة اليقظة عن زيفها وفسادها.
ما هو رأي مصطفى صادق الرافعي في سلامة موسى؟
يقول الاستاذ مصطفى صادق الرفعي:(20/39)
رأيي في سلامة موسى معروف لم أغيره يوماً، فإن هذا الرجل كالشجرة التي تنبت مراً. لا تحلو ولو زرعت في تراب من السكر. ما زال يتعرض لي منذ خمس عشر سنة. كأنه يلقي على وحدي أنا تبعة حماية اللغة العربية وإظهار محاسنها وبيانها، فهو عدوها وعدو دينها وقرآنها ونبيها. كما هو عدو الفضيلة أين وجدت في إسلام أو نصرانية.
دعا هذا المخذول إلى استعمال العامية وهدم العربية. فأخزاه الله على يدي، ورأيته أنه لا في عيرها ولا نفيرها. وأنه في الأدب حائط لا قيمة له. وفي اللغة دعي لا موضع له. وفي الرأي حقير لا شأن له فلما ضرب وجهه عني هذه الناحية وافتضح كيده دار على عقبيه واندس إلى غرضه الدنئ من ناحية أخرى. فقام يدعو إلى "الأدب المكشوف" فأخزاه الله مرة أخرى ولم يزد بعمله على أن انكشف هو. فلما خاب فى الناحيتين. اتجه الشارع الثالث فانتحل الغيرة على النساء والإشفاق عليهن. وقام يدعو المسلمين إلى إبطال حكم من أحكام دينهم وإسقاط نص من نصوص قرآنهم ظنا منه أنهم إذا تجرأوا على واحدة هانت الثانية. وانفتح الباب المغلق الذى حاول هذا الأحمق فتحه طول عمره من نبذ القرآن وترك الإسلام وهجر العربية كأن إبليس لعنه الله قد كتب على نفسه "كمبيالة" تحت إذن وأمر "سلامة موسى" إذا محيت العربية أو غير المسلمين دينهم أو أبطلوا قرآنهم. فكانت البدعة الثالثة أن يدعو المسلمين جهرة إلى مساواة الرجل بالمرأة في الميراث. فأخزاه الله.
ثم قام هذا المفتون يدعو إلى الفرعونية. ليقطع المسلمين عن تاريخهم. وظن أنه في هذه الناحية ينسيهم لغتهم وقرآنهم وآدابهم، ويشغلهم عنها بالمصرولوجيا، والوطنولوجيا. ثم أتم الله فضحه بما نشره أصحاب دار الهلال.
ويقول الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني تحت عنوان:
سلامة موسى ليس بشئ إن لم يكن دجالا !!(20/40)
بضاعته بضاعة الحواة والمشعوذين وله حركاتهم وإرشادتهم وأساليبهم يزعم نفسه أديباً، وتعالى الأدب عن هذا الدجل. ويدعى العلم، وجل العلم أن يكن هذا دعاؤه، ويحاكي الملاحدة ليقول عنه المغفلون أنه واسع الذهن، وليتسنى له أن يغمز الإسلام ويبسط لسانه في العرب، والحقيقة أنه لا أديب ولا عالم، وإنما هو مشعوذ يقف في السوق، ويصفر ويصفق ويصخب، ويجمع الفارغين حوله بما يحدث من الصياح الفارغ، والضجة الكاذبة.
لقد آن لمن تعنيهم كرامة الأدب أن يقتلعوا هذه الطفيليات، وأن يطهروا من حشراتها ونباتها رياضه، وأن يقصو عن مجاله هؤلاء الواغلين الذين يتخذون اسمى ما في الدنيا وأجل ما في النفس طبولا لهم، ويتذرعون بالتهجم على الدين –على دين واحد في الحقيقة– وعلى العلم والفلسفة والأدب لنيل ما يستحقون، ويفسدون عقول الناس، ويبلبلون خواطرهم بما يغالطونهم فيه ويخادعونهم".
على عبدالرازق
كتاب الإسلام وأصول الحكم
ليس من تأليفه وإنما هو من تأليف المستشرق اليهودي مرجلبوت كان هدف الكتاب ضرب الإسلام في عقيدة من أكبر عقائده، وفريضة من أعظم فرائضه وهو أنه دين ودولة ونظام مجتمع. ومن ثم فقد عبر الكتاب عن وجه نظر الاستشراق اليهودي التلمودي الهدام.
وكان الكتاب لعنة على علي عبد الرازق فقد أصاب حياته بالظلام والغربة، فمات الكتاب قبل أن يموت وانطوت صفحته وهو حي، ومازالت قوى التغريب تعيد طبع الكتاب ونشره مع مقدمات ضافية يكتبها كتاب شعوبيون أو شيوعيون يضللون الناس ويخدعونهم بأسمائهم وألقابهم لإحياء فكرة مسمومة.
صادر القضاء الكتاب وأصدرت هيئة كبار العلماء قرارات بإدانة المؤلف بعد زعم أن نظام الحكم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان موضع غموض وإبهام وموجب للحيرة.(20/41)
كان السؤال في الندوة عن دعوى على عبدالرازق في كتابه الإسلام وأصول الحكم" التى ما تزال قوى التغريب والغزو الثقافي والماركسيون والشعوبيون تجدد نشرها والحديث عنها بوصفها أسلوباً من أساليب العمل لخداع جماهير المسلمين عن حقيقة دينهم، وإذاعة مفهوم الدين العبادي القائم على الروحيات والمساجد وإنكار حقيقة الإٍسلام بوصفه دينا ومنهج حياة، ونظام ومجتمع.
ويتقول الادعاء الخبيث الذي يثيره الاستشراق والشعوبيون على أن في الإسلام مذهبين أحدهما يقول بأن الإسلام دين ودولة والآخر يقول: بأن الإسلام دين روحى ويضعون على عبدالرازق على رأس الفريق الذي يقول هذا القول.
والواقع أن الإسلام ليس فيه غير رأي واحد. وهو الرأي الأول وأن ما ذهب إليه على عبد الرزق عام 1925 لم يكن من الإسلام في شئ ولم يكن على عبد الرازق نفسه إماما مجتهداً وإنما كان قاضيا شرعياً تلقفته قوى التغريب فاصطنعته تحت اسم "التجديد" ودعى على عبد الرازق إلى لندن لحضور حلقات الاستشراق التي تروج للأفكار المعارضة لحقيقة الإسلام وعدم مقوماته وأهدى هذا الكتاب الذي وضع عليه اسمه مترجما إلى اللغة العربية وطلب إليه أن يضيف إلى مادته بعض النصوص العربية التى يستطيع اقتباسها من كتب الأدب.
أما الكتاب نفسه فان من تأليف قزم من أقزام الاستشراق وداهية من رجال الصهيونية واليهودية العالمية هو المستشرق "مرجليوث" الذي تقضى الصدف أن يكون صاحب الأصل الذى نقل عنه طه حسين بحثه عن "الشعر الجاهلي" والذى أطلق عليه محمود محمد شاكر "حاشية طه حسين على بحث مرجليوث" ويمكن أن نطلق الآن اسم "حاشية على عبد الرازق على بحث مرجليوث" وقد كشف هذه الحقيقة الدكتور ضياء الدين الريس في بحثه القيم "الإسلام والخلافة في العصر الحديث".(20/42)
وهكذا نجد أن السموم المثارة في أفق الفكر الإسلامي توضع أساساً من رجال التغريب ثم تختار لها أسماء عربية لتحمل لواءها وتذيعها إيماناً بأن الاسم العربي أكثر تأثيراً وأبعد أثراً في خداع الجماهير.
ولقد طالما تحدث التغريبيون عن كتاب "الشعر الجاهلي" و"الإسلام وأصول الحكم"، على أنهما دعامة النهضة في الفكر الحديث ونحن نرى أنهما دعامة التغريب التى حاولت خداع جماهير المسلمين عن حقائق الإسلام العظيم.
ومع أن حركة اليقظ الإسلامية واجهت كتاب على عبد الرازق المنحول، وفندت فساد وجهته وأخطائه فإن قوى التغريب ما تزال تعيد نشره وطبعه. مع مقدمات ضافية يكتيبها كتاب مضللون شعوبيون يخدعون الناس بألقابهم وأسمائهم. وهم يجدون في هذه المرحلة التي يرتفع فيها صوت تطبيق الشريعة الإسلامية. والدعوة إلى الوحدة الإسلامية مناسبة لنفث هذه السموم مرة أخرى ولن يجديهم ذلك نفعا فإن كلمة الحق سوف تعلو وتنتشر وتدحض باطل المضللين مهما تجمعوا له وقموه في صفحات براقة مزخرفة وأساليب خادعة كاذبة.
أول من كشف حقيقة الكتاب
إن أول من كشف حقيقة الكتاب هو الشيخ "محمد بخيت" الذى رد على الشيخ على عبدالرازق في كتابه "حقيقة الإسلام وأصول الحكم" وهو واحد من الكتب التى صدرت في الرد عليه حيث قال:(20/43)
"لأنه علمنا من كثيرين ممن يترددون على المؤلف أن الكتاب ليس منه إلا وضع اسمه عليه فقط فهو منسوب إليه فقط ليجعله واضعوه من غير المسلمين ضحية هذا العار، وألبسوه ثوب الخزى إلى يوم القيامة" وقد علق الشيخ علي عبد الرازق على هذا المعنى حين قال الماركسيين الذين اتصلوا به سنة 1964 لإعادة طبع كتابه إن هذا الكتاب كان شؤما عليه، وقد ألصق به كثيراً من المتاعب والشبهات والحقيقة أنه بعد أن طرده الأزهريون من "هيئة كبار العلماء" ظل منفياً ومهجوراً وعاش بقية حياته منقطعاً عن الحياة العامة. بالرغم من أن محاولات جرت لإعادته إلى زمرة العلماء، وإلى مجمع اللغة ، فقد كان الكتاب أشبه باللعنة على حياته كلها.(20/44)
ومن هذا الخيط الرفيع بدأت محاولة الدكتور ضياء الدين الريس فاستطاع أن يصل إلى الحقيقة بأن كاتب الكتاب في الحقيقة هو مستشرق إنجليزي يهودي الأصل شن الهجوم على الخلافة لأن بلاده "بريطانيا" كانت في حرب مع تركيا وقد أعلن الخليفة العثماني الجهاد الديني ضدها والنصوص في الكتاب قاطعه بأنه كان موجها ضد الخلافة العثمانية. فإنه يذكر الاسم "السلطان محمد الخامس" الخليفة في ذلك الوقت الذى كان يسكن قصر يلدز" وهناك نص على جماعة الاتحاد والترقي" وهي التي كانت تحكم تركيا. أي دولة الخلافة طوال أعوام الحرب العالمية الأولى. ويقول أن الاتحاديين تلاميذ الماسونيين، وقد تربوا في محافلهم واعتنقوا شعارهم ومفاهيمهم، وقاموا بدور مسموم وهو فتح باب فلسطين أمام اليهود المهاجرين. وكان السلطان عبدالحميد قد رفض ذلك، وكانوا هم: أي الاتحاديون أداة الصهيونية العالمية في إسقاط هذا السلطان الشهيد ورجح الدكتور الريس أن مرجليوث اليهودي الذى كان أستاذاً للغة العربية في اكسفورد ببريطانيا هو كاتب الكتاب. لأن آراء الكتاب هي آراؤه التى كتبها من قبل عن الدولة الإسلامية، وفندها الدكتور الريس في كتابه "النظريات السياسية في الإسلام"، وأثبت خطأها وبطلانها بالأدلة العلمية. وهو يكتب عن الإسلام بنزعة حقد شديد، ويتسم أسلوبه بالمغالطات والمعلومات المضللة والقدرة على التمويه. كما يتصف بالالتواء. وهذا الصفات كلها تظهر في هذا الكتاب المنسوب إلى الشيخ عبدالرازق. ومعروف أن الشيخ على عبدالرازق ذهب إلى بريطانيا وأقام فيها عامين فلابد أنه كان متصل بالمستر مرجليوث، أو تتلمذ عليه. وكذلك "توماس أرنولد" الذي يشير إليه الشيخ ويصفه بالعلامة قد ألف كتابا عن الخلافة بوجه عام، والعثمانية بوجه خاص. وقد نقدناه "يقول الدكتور الريس" في كتابنا "النظريات السياسية الإسلامية".(20/45)
والقصة تتلخص في أنه أبان الحرب العالمية الأولى والحرب دائرة بين الخليفة العثماني وبريطانيا أعلن الخليفة الجهاد الدينى ضد بريطاني ودعا المسلمين أن يهبوا ليحاربوها، أو يقاوموها. وكان بريطانيا تخشى غضب المسلمين الهنود بالذات أو ثورتهم عليها. في هذه الفترة كلفت المخابرات البريطانية أحد المستشرقين الإنجليز أن يضع كتابا يهاجهم فيه الخلافة وعلاقتها بالإسلام، ويشوه تاريخها ليهدم وجودها ومقامها ونفوذها بين المسلمين. وقد استخدمت السلطات البريطانية هذا الكتاب في الهند وفي غيرها. وبعد أن انتهت الحرب كان الشيخ عبد الرازق قد اطلع على هذا الكتاب أو عثر عليه. هذا إن لم يفترض أن هذا كان باتفاق بينه وبين هذا المستشرق الذى اتصل به حينما كان في انجلترا أو في بعض الجهات البريطانية التى كانت تعمل في الخفاء للقضاء على فكرة الخلافة، أو التى تحارب الإسلام فأخذ الكتاب فترجم إلى اللغة العربية. أو أصلح لغته إن كان بالعربية، وأضاف بعض الأشعار أو الآيات القرآنية التى تبدو أنها لم تكن في أصل الكتاب وبعض الهوامش والفقرات، وأخرجه للناس على أنه كتاب من تأليفه ظنا منه أنه يكسبه شهرة. ويظهره باحثاً علمياً، ومتفلسفاً ذي نظريات جديدة. غير مدرك ما في آرائه أو في ثناياه من خطورة. ولا يستغرب هذا لأنه لم يدرك أن إنكار القضاء الشرعي هو إنكار لوظيفته نفسها وعمله، وإلغاء لوجوده وكانت هذه هي البدعة السائدة في ذلك الوقت بين كتاب " السياسة" جريدة من أسموا أنفسهم، حزب الأحرار الدستوريين" وهذا هو الذي فهمه "أمين الرافعي" فكتب في جريدة الأخبار أنه لم يستغرب أن يقدم الشيخ على عبد الرازق على إصدار هذا الكتاب لما عرفه عنه من الضعف في تحصيل العلوم، والإلحاد في العقيدة. ثم قال: هذا إلى أنه انغمر منذ سنين في بيئة ليس لها من أسباب الظهور سوى الافتئات على الدين، وتقمص أثواب الفلاسفة والملحدين، وصار خليقا باسم " الاستاذ المحقق"(20/46)
والعلامة الكبير.
ولم يعرف الأستاذ الرافعي أن المؤلف الحقيقي ربما كان غير الشيخ عبد الرازق. ولكن كلامه يكاد يكون إثباتا لذلك. وهناك قرائن أخرى.
أولا: ذكر اسم كتاب مترجم عن التركية طبعة 1924. بينما هناك فقرة تنص على أن تاريخ التأليف قبل عام 1918. وأنها ذكرت اسم السلطان محمد الخامس وقيل في الهامش أنه كتاب في عهده. وأقرب تفسير لذلك أن الكتاب ليس من تأليف شخص واحد.
ثانيا: يتحدث المؤلف عن المسلمين كأنه أجنبي عنهم وهم منفصلون عنه. فيذكرهم بضير الغائب ولا يقول عندنا أو العرب. أو نحو ذلك كما يقول المسلم عادة.
ثالثا: يكرر الشيخ عبد الرازق "عيسى وقيصر مرتين" ويكرر هذه الجملة التى يسميها الكلمة البالغة "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله " مع أن أي مسلم صحيح الإسلام لا يمكن أن يؤمن بهذا التعبير. وأن قيصر وما لقيصر لله رب العالمين.
رابعا: يتعاطف مع المرتدين الذين خرجوا على الإسلام، وشنوا الحرب على المسلمين. فيدافع عنهم. في نفس الوقت الذي يحمل على رأي أبي بكر الصديق المسلم الأول بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فينكر خلافته. ويقول إن محاربته لهؤلاء المرتدين لم تكن حربا من أجل الدين. ولكن نزاعا في ملوكية ملك ولأنهم "رفضوا أن ينضموا لوحدة أبي بكر " وما هي وحدة أبي بكر يا عدو أبي بكر والإسلام.. أليست هي وحدة أبي بكر يا عدو أبي بكر أو ليست هي وحدة المسلمين حكومة الإسلام والمسلمين. ويتكلم عن أبي بكر هكذا بغير احترام أو تبجيل كأنه رجل عادي. أو كما يتكلم عدو.
هل هذا هو أسلوب المسلم. فضلا عن الشيخ. في الكلام عن الصحابة وعن أفضل الناس وأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وخير من دافعوا عن الإسلام، وجاهدوا في سبيل الله عز وجل.(20/47)
خامسا: أن الأسلوب الذي كتب به الكتاب أسلوب غريب، ليس مألوفا في الكتب العربية. فهو أسلوب مناورات ومراوغة، ويتصف بالالتواء واللف والداو والدوران. فهو يوجه الطعنة أو يلقي بالشهبة ثم يعود فيتظاهر بأنه ينكرها ولا يوافق عليها ويفلت منها ثم ينتقل ليقذف بشبهة أو طعنة أخرى على طريقة "اضرب واهرب" رجل سياسى متمرن في المحاورة والمخادعة. وهو أشبه بالأسلوب الإفرنجي، وأسلوب الدعايات السياسية، أو الدينية التبشيرية، وليس هو أبدا الأسلوب العربي الصريح. فضلا عن أسلوب أحد الشيوخ المتعلمين فى الأزهر. وهذا مما يغلب الرأي بأنه كتاب مترجم.
سادسا: ولم يعرف عن الشيخ على عبد الرازق – من قبل – أنه كان كاتباً تمرس في الكتابة، ومرن على التأليف .. فيكتب بهذا الأسلوب، ويتعمد الطعن في الإسلام وتاريخه وعظمائه رجاله. ولم يعرف للشيخ كتاب أو مقالات قبل هذا الكتاب "أي في السياسة والتاريخ" بل كل ما كتب من قبل كان "كئيبا" في اللغة أو في علم البيان وهذا كل انتاجه في أربعة عشر عاما بعد تخرجه من الأزهر، ثم بعد أن كتب هذا الكتاب ظل أربعين عاما لم يكتب كتابا آخر في نفس موضوعه أو مثله، ولم يحاول أو لم يستطع حتى أن يدافع عن نفسه ويرد على خصومه بكتاب آخر.(20/48)
سابعا: هناك من القرائن والأدلة العديدة ما يدعو العقل إلى أن يرجح صحة الخبر الذى رواه فضيلة المفتى الشيخ محمد بخيت نقلا عن كثيرين من أصحاب الشيخ على عبد الرازق المترددين عليه من أن مؤلف الكتاب شخص آخر من غير المسلمين. وقد غلبنا نحن أنه أحد المستشرقين .. ولكننا نقيد هذا الخبر بأن الشيخ قد أضاف بعض فقرات وتعليقات، وأنه هو الذي أورد الآيات من القرآن.. والظاهر أنها محشورة حشراً مجموعات في مكان واحد وأبيات الشعر التى استشهد بها. كما كتب المقدمة التى زعم فيها أنه بدأ البحث في تاريخ القضاء منذ سنة 1915، وذلك ليغطى المفارقة الظاهرة بين وضع الكتاب ووقت صدوره. فإنه من غير المعقول أن يستغرق تأليف كتيب لا يزيد عن مائة صفحة عشر سنوات.
ثامنا: كانت هناك أسباب ودوافع مختلف دفعت الشيخ إلى إصدار هذا الكتاب. ولكن كان أقواها في نهاية الأمر حب الظهور والرغبة في الشهرة، وأن يوصف بأنه باحث أو محقق أو مجدد. كما فعل غير من قبل .. ونحن نعرف أن مسألة مألوفة في الشرق .. ولا سيما في النقل من الكتب الأجنبية.
وفي مثل هذه المسائل بالذات. فإن هذه الحالة أسهل. لأن النقل أو الترجمة من كتيب مجهول. أو كانت المسألة بتصريح أو اتفاق لخدمة غرضين فالطرف الأول يريد نشر آرائه لغايات سياسية ودينية والطرف الثاني له مأرب سياسي. ولكن الدافع الذاتي إنه يريد الشهرة أو الظهور أو الغرور.
من تقرير هيئة كبار العلماء في كتاب "الإسلام وأصول الحكم"
والخلاصة أنه إذا رجعنا إلى هدف الكتاب الحقيقى وجدناه يتمثل في الحقائق التالية كما فصلها تقرير هيئة كبار العلماء.
أولا: جعل المؤلف الشريعة الإسلامية روحية محضة لا علاقة لها بالحكم والتنفيذ في أمور الدنيا مع أن الدين الإسلامي على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عقائد وعبادات ومعاملات الإصلاح أمور مشتمل على أحكام كثيرة في أمور الدنيا، وأحكام كثيرة في أمور الآخرة.(20/49)
ثانيا: زعم أن الدين لا يمنع من جهاد النبي صلى الله عليه وسلم كان في سبيل الملك. لا في سبيل الدين، ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين.
ثالثا: زعم أن نظام الحكم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان موضع غموض وإبهام، أو اضطراب أو نقص، وموجباً للحيرة.
رابعا: زعم أن مهمة النبي صلى الله عليه وسلم كان بلاغا للشريعة. مجرداً من الحكم والتنفيذ.
خامسا: انكر إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام، وعلى أنه لابد لسلامة من يقوم بأمرها في الدين والدنيا.
سادسا: أنكر أن القضاء وظيفة شرعية. وقال: إن الذين ذهبوا إلى أن القضاء وظيفة شرعية جعلوه متفرعا من الخلافة.
سابعاً: زعم أن حكومة أبي بكر والخلفاء الراشدين من بعده –رضى الله عنهم- كانت لا دينية. وهذه جرأة لا دينية.
وهكذا تتكشف تلك المؤامرات الخطيرة التى استغلها الاستشراق وبعض التغريبيين خصوم الشريعة الإسلامية للقول بأن هناك رأيين: بينما لا يوجد غير مفهوم واحد . هو أن الإسلام دين ومنهج حياة ونظام مجتمع. وأن ما قال به على عبد الرازق هو وجهة نظر الاستشراق الصهيوني التلمودي الهدام .. وأنه ليس رأي أي مجتهد أو عالم أو إمام في الإسلام. وأن على عبد الرازق لم يكن إلا مضللا أو مخدوعا.
(7)
سَاطع الحصري(20/50)
سقطت نظرية ساطع الحصرى فيلسوف القومية العربية، لأنها قامت على أساس التفسير الغربي للتاريخ، ففصلت العروبة عن الإسلام وهو أول من جعل العنصرية والعرق والدم بديلا لمفهوم الإسلام الذى يقوم على الإخاء الإنساني، وهو أول مسئول عن التعليم العالي التركي في الوزارة التى شكلها الاتحاديون بعد سقوط الخلافة مباشرة وأول من صرح بأن قومية إسرائيل تقوم على الدين وأن الإسلام دين تعبد وينكر أنه نظام حياة ومجتمع، والحقيقة أنه ما ذنب العروبة والإسلام إذا كان ساطع الحصرى غربي الفكر والذوق أعجمي النطق يتجاهل أن لغتنا لغة فكر وعقيدة وأن ديننا يجمع بين المادة والروح بين العقل والقلب وبين الدنيا والآخرة.
حدثني الدكتور مختار الوكيل مدير مكتب الجامعة العربية في جنيف، وهو رجل صادق مؤمن، أنه في خلال عمله زار الأستاذ ساطع الحصرى في سويسرا ورأي السيد عبد الفتاح حسن السفير المصري دعوته إلى طعام للغداء فلما قدم مع الدكتور الوكيل حياة السفير المصري فقال:
"مرحبا بالمناضل الكبير في خدمة العروبة والإسلام" وقد عجب الرجلان من ساطع الذى رد في عنف وحدة:
"عرب نعم .. إسلام لا .. أنا لاييك .. أنا لاييك".
وكلمة "لاييك" تعنى أن صاحبها علماني أو لا دينى.
* * *(20/51)
ما نزال ندوة الاعتصام تركز على تاريخ الإسلام والعرب المعاصر وعلى الأعلام البارزين: سعد زغلول، لطفي السيد، ساطع الحصرى إلخ وقد أحرز ساطع الحصرى شهرة وافرة في سنوات مابعد الحرب العالمية الثانية باعتباره "فيلسوف القومية العربية، حيث روج لنظرية خطيرة كانت بعيدة الأثر في حجب مفهوم العروبة الأصيلة المرتبطة بالإسلام فكراً وعقيدة، وبالعالم الإسلامي تكاملا وإخاء .. لقد كان دعاة حركة اليقظة في البلاد العربية يرون أن الجامعة الإسلامية قائمة بين العرب والمسلمين "فرساً ودركاً" بعد زوال الدولة العثمانية. ولكن ساطع الحصري كان من أوائل الدعاة إلى فصل العرب عن المسلمين بمفهوم القومية الغربي الوافد الذي طرحه في أفق الفكر السياسي العربي. وهذا يرجع إلى أن ساطع الحصري كان ثمرة من انضج ثمار المدرسة الاتحادية التركية، وأكبر الدعاة الذين نقلوا مفهوم القومية الطورانية التركية إلى أفق العروبة التي كانت ترتبط بمفهوم الإٍسلام في العلاقة بين الشعوب التي جمعها التوحيد والقرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم والفكر الإسلامي الأصيل.
لقد كان ساطع الحصري مديراً للتعليم في الدولة الاتحادية التي حكمت تركيا بعد إسقاط السلطان عبد الحميد بمفهوم العلمانية بالطورانية.
وقد تعلم في مدرسة الاتحاديين، وآمن بفلسفتهم، ونقل فكرهم ومضامينهم إلى العرب، وذلك في سبيل تمزيق الوحدة الإسلامية الجامعة عرباً وتركاً وفرساً، وخلق أسلوب القوميات والاقيلميات التى تقوم على الصراع والاستعلاء بالجنس والعنصر.(20/52)
وهو أول من حمل لواء العنصرية والعرق والدم بديلا لمفهوم الإسلام الذى يقوم على الإخاء الإنساني. وقد كان فلاسفة الفكر القومي التركي من الاتحاديين تلاميذ الفلسفة الوضعية متشبعين بالنزعة الطورانية العدوانية. وقد استمد ساطع الحصري مفهومه للعروبة من مفهوم القومية الغربية، والنظرية التى طبقها الاتحاديون في تركيا. فقد ركز على اللغة والتاريخ وعزلهما عن الفكر الإسلامي الجامع ككل كما ركز طه حسين على الأدب وعزله من وحدة الفكر الإسلامي.
ونظرية ساطع الحصري التى روجت لها بعض الأحزاب السياسية العربية قد اثبتت خلال أكثر من ثلاثين عاما فشلها الذريع، وعجزها عن العطاء، لأنها فرغت مفهوم العروبة من قيمه وتاريخه وعناصره الأخلاقية والروحية وجعلته مفهوماً مادياً خالصاً.
وقد اعترف ساطع الحصرى بأن إسرائيل قومية تقوم على الدين ورفض اعتبار الإسلام مقوماً بوصفه دينا. ذلك أن مفهوم ساطع الحصري للإسلام ناقص، فهو يراه دينا لاهوتياً وليس ديناً ومنهج حياة ونظام مجمتع على النحو الذي يؤمن به دعاة العروبة الإسلامية.
لقد فهم الإسلام على أنه "عين عبادي" كما فهم الأوربيون المسيحية، ولم يفرق بين الدين بعامة والإسلام، ولم يفرق بين العصر والبيئة والجذور الثقافية التي يختلف فيها عن مفهوم القومية في أوربا. ولقد كان مفهومه العروبة ناقصاً. فلم يصل إلى مفهوم العروبة المترابط مع الإسلام. هذا الترابط الجذري الذي لا سبيل للانفكاك عنه.
ويرى كثير من الباحثين أن ساطع الحصري لم يعايش المناخ العربي قبل أن يضع مجموعة آرائه، وأنه استهدي بمناخ البلقان والنظرية الألمانية في حركته القومية التي رفع فيها شعار اللغة في مواجهة الدولة العثمانية المتحرر منها. وأنه كان حاقداً على الترك حقد المحافل الماسونية التى احتضنت الاتحاديين ووجهتهم وجهتها، ودفعتهم إلى الدعوة إلى الذئب الأغبر كرمز لها بدلا القرآن.(20/53)
وقد كان أكبر أساتذته في مفهوم القوميات "ماكس مولر" "وتوردو" وهما فيلسوفان يهوديان قصداً من وراء نظرية اللغة إلى إحياء القومية اليهودية.
وقد اعتبر ساطع الحصري اللغة أساس القومية، وعارض نظرية الأرض التى دعا إليها أنطون سعادة دون أن يتنبه إلى أن الفكر لا اللغة هو مصدر الوحدة.
وقد أجرى ساطع الحصري الجدل حول عديد من النظريات الأوربية في القومية دون أن يواجه جوهر المفهوم العربي الإسلامي المصدر والجذور. هذه الجذور التى تجعل من العسير فصل اللغة عن الفكر واعتبارها مقوماًَ منفصلا، أو الاعتماد على نظرية بقاء اللغة أو ضياع اللغة مع أن الأساس هو بقاء للعقيدة والفكر الذى يحمى وجود الأمة الحقيقى.
والواقع أن ساطع الحصري كان غربي الفكر أساساً بل وغربي الذوق أعجمي النطق، وأن تركيبه الثقافي والاجتماعي يحول بيته وبين تبنى نظرية عربية أصلية مستمد من واقع الأمة العربية وكيانها، وذاتيتها وقيمها التى لا تنفصل فيها اللغة والتاريخ عن الفكر نفسه. وفي ذلك مغالطة أو جهل. ذلك أن اللغة العربية ليست لغة أمة فحسب ولكنها في نفس الوقت لغة فكر وعقيدة فإذا كان العرب وهم مائة مليون يتحدثون بها فإنها لغة العقيدة والفكر لألف مليون من المسلمين مرتبطين بالقرآن الكريم والسنة الشريفة، وذلك التراث الضخم من الفقه والعلم والتاريخ. وأن اللغة لا تنفصل عن الفكر وأن تاريخ العرب لا ينفصل عن تاريخ الإسلام.
ومرجع ذلك إلى أن ساطع الحصري نشأ – كما ذكرنا – في بيئة الاتحاديين الأتراك الذين كانوا صنائع للفكر الغربي، والذين نشأوا في أحضان المنظمات الماسونية، وحملوا لواء الإيمان بالفصل من الدين والمجتمع، وفهموا الإسلام فهما غربيا على أنه دين لاهوتي.(20/54)
وعلى هذا الفهم الخاطئ القاصر قامت نظرية ساطع الحصري التى لمعت تحت تأثير الخداع والأهواء حتى أن بعض دعاة الماسونية في العالم العربي راح يفسر عن طريقها تاريخ الإسلام كله فيرى أنه تاريخ قومي عنصري عربي. ومن ثم وجهت عبارات الحقد والخصومة إلى الأمة الإسلامية، وهذا هو الثمرة الحقيقية التى تهدف إليها حركة الغزو الثقافي والتغريبي من طرح هذه النظرية القومية، الإقليمية الضيقة العدوانية الوافدة. بديلا عن المفهوم الأصيل للعروبة في إطار الإسلام كما كان يفهمه شكيب إرسلان ورشيد رضا ومحب الدين الخطيب وحسن البنا ومصطفى السباعي ومحمد المبارك.
هذه النظرية المضطربة التى خدع بها ساطع الحصرى الكثيرين، والتى سايرها كثير من المثقفين قبل أن يعرفوا سمومها العميقة. فلما عرفوها هاجموها وكشفوا زيفها.
والنظرية مضطربة من أساسها. ولو كان ساطع الحصرى حسن النية لصحح موقفه من فهم الدين فهما غربيا لا تركيا وفهم الإسلام بمعناه الجامع بين العقيدة ونظام المجتمع. لقد اعتمد أساس نظرية مفهوم الدين اللاهوتي بمفهوم أوربا والغرب للدين، ولذلك عجزت النظرية عن أن تنجح في إطار الفكر الإسلامي، بل إن كل العناصر التى عالجها كانت عناصر البيئة الغربية في مواجهة الصدع بين الجامعة المسيحية الأوربية وبين القومية الإقليمية والتي كانت وراءها اليهودية الصهيونية لتمزيق هذه الوحدة والسيطرة على كل قطر على حدة. وهو نفس ما أرادته بالنسبة للجامعة الإسلامية التركية التى وقفت أمام دخول الصهيونيين إلى فلسطين وموقفهم من السلطان عبد الحميد واضح معروف.
إن كل التحديات التى تعالجها نظرية القومية الوافدة لا توجد أساساً في المناخ الإسلامي. هذا فضلا عن اختلاف مفهوم "العروبة" عن مفهوم القومية في الغرب فضلا عن اختلاف مفهوم الإسلام عن مفهوم الدين بصفة عامة.(20/55)
ومصدر خطأ ساطع الحصرى أنه عجز عن فهم أبعاد الفكر الإسلامي وأعماقه، وعلاقة العرب بالإسلام، وعاش في مؤلفاته خادماً لنظرية القومية الأوربية الوافدة التى قدمها النفوذ الأجنبي من بين ما قدم ليحطم الوحدة العربية الإسلامية الجامعة بعد أن عجز عن فرض الإقليميات القائمة على التاريخ القديم كالفرعونية والفينيقية والأشورية والبابلية.
وذلك أنه لما رأي هذه المحاولات تتهادى ورأي أن العرب يتجهون إلى الوحدة أراد أن يفرغ هذه الوحدة من مضمونها العقائدي الجامع بين الروح والمادة والعقل والقلب والدنيا والآخرة إلى مفهوم اقتصادي مادي صرف، وبذلك فشلت نظرية القومية الوافدة كما فشلت مناهج التعليم الغربي، والقانون الوضعي وأسلوب التنظيمات السياسية الليبرالية وغيرها.
ولقد وقف ساطع الحصرى في وضوح موقف الخصومة والحقد والتعصب على الإسلام كلما عرض له، وقد تجاهله طويلا في أبحاثه كأن العرب لم يعرفوه خلال تاريخهم الطويل. وكانت محاولاته للفصل بين اللغة العربية والفكر الإسلامي من ناحية. وبين تاريخ العرب وتاريخ الإسلام محاولة ساذجة. ثم كشف نفسه وأسقط مكانته كاملة حين اعترف بالقومية اليهودية القائمة على الدين، بينما عارض عنصر الدين في فهم القومية العربية وإن كانت كلمة "دين" لا تؤدي معنى الإسلام حين يكون البحث حول العروبة.
وقد ثبت أن ساطع الحصرى قد خدم بدعوته وفكره مفاهيم الماسونية والنظرية القومية الوافدة التى كان النفوذ الغربي حريصا على تلقينها العالم العربي. وهي ليست إلا صورة مفهوم الإقليمية اللبنانية والمعروف أن ساطع الحصري كان من أعمدة وزارة المعارف في تركيا منذ أوائل حكم الاتحاديين في تركيا العثمانية إلى أن انتهت الحرب الأولى. وإنه كان من أخطر الموجهين للبرامج التربوية والتعليمية في العراق. حيث عمد إلى فصلها عن الإسلام فصلا تاماً. وكان دوره أشبه بدور الدكتور طه حسين في التعليم المصري.(20/56)
لقد حاول ساطع الحصرى أن يقيم "فكراً عروبياً إقليميا". منفصلا عن الإسلام في روحه ومضامينه وشريعته. ولقد تجاهل أعماق الأثر الذي تركه الإسلام في الفكر والثقافة، واللغة والتاريخ وتجاهل أثر القرآن الكريم في اللغة العربية وفي العرب، ومدى ترابط ذلك إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة بالأمة الوسطى الحنيفية السمحاء التى جاء بها إبراهيم عليه السلام فربطت هذا العالم الوسط "عالم العرب والإسلام" بروابط تاريخية وثقافية عميقة دعمتها الأديان السماوية التى نزلت في أرض الرافدين، وختمتها رسالة الإسلام العالمية التى نزلت في الجزيرة العربية.
(8)
محمد التابعي
الرجل الذي أنشا صحافة البحث وراء أسرار البيوت والذي نقب عن خفايا الأسر والأعراض، وهو الرجل الذى دعا رجاله الثورة إلى ديكتاتورية الحزب الواحد وحرض على الدعاة إلى الله بالقتل والإبادة.
انتهت حياة الرجل الذي كان له أكبر الأثر في إنشاء الصحافة الهزلية: الكاريكاتير الساخر، والبحث خلف أسرار الناس والتطلع إلى ما وراء الأبواب المغلقة. ذلك هو الأستاذ محمد التابعي الذي تصدر هذا الفن في الصحافة المصرية الحديثة منذ عام 1926م حينما تولى إصدار مجلة "روز اليوسف" مع السيدة فاطمة اليوسف صاحبة هذا المجلة، ثم انفرد بهذا الفن حين أصدر مجلة "آخر ساعة" عام 1934 وكانت فنون الكاريكاتير السياسي والسخرية قد بدأها "سليمان فوزي" صاحب "الكشكول" التي كانت تحمل على حزب الوفد حملات قاسية مما دعا مكرم عبيد إلى اقتناص محمد التابعي ليحمل لواء هذا الفن للدفاع عن الوفد بنفس أسلوب الصحافة الهزلية والكاريكاتير والسخرية من كل القيم والإيغال في مهاجمة كل الأخلاقيات واقتحام أسوار الأسر والبيوت لابتداع فن الخبر الاجتماعي المثير الذي كان سلاحاً قاسيا في ضرب السياسيين القدامى ورجال الأحزاب بعضهم ببعض.(20/57)
وقد بلغ الأستاذ محمد التابعي بإشرافه على مجلة روز اليوسف قمة التعريض والهجاء والنقد اللاذع عن طريق الخبر والكلمة والصورة.
وقد بدأ التابعي عمله في الصحابة ناقداً مسرحياً ثم تحول إلى التعليق السياسي وعندما حُوكِمَ وصدر الحكم عليه بالحبس سنة أشهر مع إيقاف التنفيذ لم يكن ذلك في سبيل الدفاع عن حقوق وطنيه وإنما كان من أجل مقالات عن مقالات عن مغامراته في أوربا تحت عنوان "ملوك وملكات أوربا تحت أجنحة الظلام". يقول الصحفي محمد على غريب: إنه لما كانت توجد مجلة الكشكول وقد تخصصت في مهاجمة سعد زغلول ولقيت الرواج العجيب، لذلك صح الرأي في أن تصبح روز اليوسف مجلة سياسية واستطاع التابعي أن يجهز على مجلة الكشكول وقد عرف أسلوب التابعي بالسخرية القاسية والدعاية العنيفة.
ويعد محمد التابعى صاحب هذه المدرسة التى سارت عليها من بعد كل صحف الكاريكاتير في مقدمتها روز أليوسف، وأخبار اليوم.. ويعد مصطفى أمين ومحمد حسنين هيكل وإحسان عبد القدوس من تلاميذ هذه المدرسة العتيدة. وقد تعود التابعي كما كتب على أمين في آخر ساعة ألا يعود من الخارج إلا ليحزم حقائبه لرحلة جديدة حتى إنه لم يكن يستقر في مصر أكثر من شهرين في السنة فيقضى الشتاء في سان مورتز والربيع في باريس ومونت كارلو، والصيف بين رأس البر والاسكندرية وإيطاليا، والخريف في القاهرة ليستريح من عناء رحلات الشتاء والربيع والصيف، وإنه يوما في جزيرة كابري ويرها في مونت كارلو وإنه يسافر ومعه أكثر من عشرين حقيبة ملابس الصيف والشتاء والربيع والخريف وملابس الصبح والضحى وبعد الظهر والمساء والليل وإنه ينزل في الجناح الملكي لفندق سوفرنيا.(20/58)
وقد دمغ القضاء المصري صحافة الكاريكاتير الهزلية هذه في كثير من المحاكمات التى قدم لها التابعي بأنها "تنشر فاحش القول وسقطه وإنها غالت في الاقذاع في الناس، والبحث وراء أسرارها في تعريض وتلميح، وإن أصحابها يغمسون أقلامهم في السموم القاتلة والتصادير الخلاعية التى كان لها أسوأ الأثر في قرائها من الشباب المراهقين. وكان التابعي حريصاً على فضح أسرار الأسر والبيوت وكشف خفاياها وأعراضها لحساب الخصومة الحزبية.
هذا هو الأثر الأول والضخم في حياة محمد التابعي الذى نماه من بعده وطوره اتباعه وتلاميذه وحواريوه بكل الدول الصحفية تقريباً والذى كان ولا يزال بعيد الأثر في الصحافة المصرية الحديثة. وما كتابات إحسان عبد القدوس التى ينشرها بالأهرام هذه الأيام عنا ببعيد.
أما الأثر الثاني في حياة محمد التابعي فهي موقفه الخطير فى التحريض على الدعاة في سبيل الله ورجال الدعوة الإسلامية كراهية في تطبيق الشريعة الإسلامية، وعملا على تدمير القوى المؤمنه التى تحمل لواء الدعوة إلى تحرير الحياة الفكرية والاجتماية من التحريض على الفساد والشهوات والصور العارية والقصص الماجنة وغيرها من الأساليب التى كان يعمل لها أصحاب التابعي وتلاميذه وهم يبثون في ثنايا كتاباتهم ذلك اللون الخطير الذي أريد به إفساد شباب الأجيال وتدميرهم وانحلالهم.
وقد وقف التابعي مرتين موقف التحريض على "جماعة الإخوان المسلمين" في محاولات الحل الذى تعرضت له مرتين عام 1949م وعام 1954 . وفي كل مرة كان قاسيا على أهل القرآن، متهما إياهم بكل نقيصة، محرضا عليهم بالقتل والسحق والإبادة حتى لا يجد قلما أو لساناً ينقد تصرفه الفاسد ودعوته الضالة.(20/59)
أما الأثر الثالث الذى يوضع في ميزان أعماله عند الحساب فهو دعوته الحادة المسمومة إلى ديكتاتورية "الحزب الواحد" وتنكره لكل أساليب الديمقراطية والنظم التي تسمح بالرأي الآخر أو وجهة النظر الأخرى.. وقد غالى التابعي في الدعوة إلى الحزب الواحد وأغرى به حكام مصر في فترة من أدق فترات التاريخ السياسي كان المصريون يتطلعون فيها إلى نظام دستوري يحقق الشورى والعدل، فإذا به يظاهر دعوة الدكتاتورية القابضة على الرقاب والعقول والنفوس فكانت تلك هي آخر كلماته التى عارضه فيها أقرب الناس إليه وتلميذه الأثير "مصطفى أمين". ثم أصابت التابعي على أثر ذلك ضربة القدر التى لا تتخلف إزاه كل ظالم ومدمر لقيم هذه الأمة وأخلاقها.
(9، 10)
مدحت وأتاتورك
المؤامرة على تركيا الخلافة مؤامرة على الإسلام بدؤها مدحت ووسطها الاتحاديون. وختامها أتاتورك.
"الرد على عبد الحميد الكاتب"
لماذا هذا الحقد الشديد البالغ من أقلام عربية لكتاب مسلمين جغرافيا على الخلافة الإسلامية والجامعة الإسلامية والوحدة الإسلامية والتضامن الإسلامي الذي تشرق في هذه الأيام شمسه وتبدو علاماته وتعلو راياته بعد أن تعددت كتابات الكتاب عن الصحوة الإسلامية ولماذا يوصف عمل مصطفى كمال أتاتورك بإسقاط الخلافة الإسلامية بأنه "ضربة موفقة" أو قول أحد المؤرخين الشعوبيين: "وهكذا سقطت الخلافة الإسلامية إلى الأبد"!(20/60)
وقد نسى هؤلاء وأولئك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أول دينكم نبوة ورحمة تكون فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله جل جلاله. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله جل جلاله. ثم يكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعه الله جل جلاله. ثم يكون ملكا جبرية فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعه الله جل جلاله. ثم تكون خلافة راشدة على منهاج النبوة تعمل في الناس بسنة النبي ويلقى الإسلام يجرانه على الأرض يرضى عنها ساكن السماء وساكن الأرض. لا تدع السماء من قطر إلا صبته مدراراً، ولا تدع الارض من نباتها وبركاتها شيئا إلا أخرجته، وما ينطق عن الهوى. وهذا الحديث الصحيح يؤكد عودة الخلافة الإسلامية مرة أخرى على نحو أوثق صلة بحكم الله ونظامه الذى جاء به القرآن الكريم. ولقد كان سقوط الخلافة الإسلامية "حدثا" خطيراً لم يكتب عنه بعد، وكان له أثره في نفوس العاملين في حقل اليقظة الإسلامية، وقد كان مصدراً لقيام المفهوم الصحيح للإسلام بوصفه منهج حياة أو نظام مجتمع. وما من دعوة إسلامية إلا وقد أخذت على أهلها العهد بالعمل لعودة الخلافة الإسلامية متى جاء أوانها، وما تزال الحركات الإسلامية كلها عاملة على هذا النهج سائرة في هذا الطريق.
ولا ريب أن قيام عدد من المنظمات الإسلامية العالمية هي بشائر الخير في هذا الطريق. فإن الدعوة إلى قيام الجامعة الإسلامية أصبح اليوم عملا ضروريا بعد أن فسد الدعوات الإقليمية والقومية، وفي مقدمتها الجامعة العربية. ولابد للمسلمين من أن يصلوا إلى الطريق الحقيقي لمواجهة تآمر الغرب والصهيونية والشيوعية عليهم وهو إحياء جامعتهم وإقامة خلافتهم.
معلومات مسمومة:
ولست أدرى لماذا هذا الاهتمام بإعادة طرح معلومات مسمومة كاذبة مضللة انتشرت زمناً وكانت أشبه بالمسلمات، روجها اليهود والمارون ثم تبين زيفها وتكشفت الحقائق التى تدحضها؟(20/61)
لماذا العودة إلى الزيف بعد أن ظهرت الحقائق؟!
ولماذا الادعاء بأن مدحت مصلح. وأن مصطفى كمال أتاتورك مجاهد؟!!
والحقيقة أن الرجلين ومن بينهما من رجال "الاتحاد والترقي" هم عملاء النفوذ الاجنبي والصهيونية. لقد تكشفت هذه الحقائق في العالم الإسلامي كله ولم يعد في إمكان كاتب ما أن يضلل الناس بإعادة هذه الأكاذيب ورصفها، وخداع الناس في أمر رجل كان والده حاخاما يهوديا مثل "مدحت" أو رجل هو من الدونمة أصلا مثل "أتارتورك" إن الدعاوى الصهيونية والغربية قد خدعت المسلمين طويلا بتزييف "صفحة الدولة العثمانية" والسلطان عبد الحميد من أجل هدف معروف وواضح هو إسقاط هذا السلطان، وإزالة الدولة العثمانية وهدم الخلافة الإسلامية لتمكين الصهيونية العالمية من الوصول إلى فلسطين، والاستقرار في القدس!!(20/62)
لقد كان أتاتورك والاتحاديون هم مادة تجربة جديدة فاسدة أريد بها القضاء على النظام الإسلامي وهدم الشريعة الإسلامية وإقرار نظام العلمانية والمادية والوثنية في المجتمع والتربية والسياسة في البلاد الإسلامية، ومحاولة لجعله مثلا أعلى للتقدم والتجديد ثم جاءت أحداث التاريخ بعد خمسين عاماً لتكشف زيف هذه المحاولة وفسادها بعد أن تعددت حلقات هذا الغزو التغريبي الذى جاءت ثورة إيران اليوم بمثابة الدليل الأكيد على فساد هذه التجربة وعلى سقوط هذا المنهج ومؤكدة بأن المجتمع الإسلامي الأصيل القائم على فكرة التوحيد الخالص منذ أربعة عشر قرنا يرفض العضو الغريب، ويتأكد له بعد التجربة المتصلة مع الديمقراطية الغربية والاشتراكية الماركسية وفشلها أن السبيل الوحيد أمامه هو المنهج الرباني الأصيل، وإن الذين حرضوه طوال هذه السنين بالتماس المنهج الغربي "شرقية وغربية" سبيلا للنهضة في العالم الإسلامي لم يكونوا صادقين في دعواهم، فإن هذا الأسلوب في الاحتواء والعمل على صهر المسلمين في بوتقة الأممية الغربية كان من نتائجه سقوط الخلافة الإسلامية، والدولة العثمانية، وسقوط فلسطين والقدس في أيدي الصهيونية والحيلولة دون امتلاك المسلمين لإرادتهم وتطبيق شريعتهم الإسلامية والعمل على منعهم من أداء فريضة الجهاد، أو امتلاك القوة القادرة على تجديد بناء الحضارة الإسلامية القائمة على العدل والرحمة والإخاء الإنساني.
مدحت باشا:(20/63)
إن الصورة التى رسمتها تلك الكتابات المسمومة لمدحت باشا كاذبة ومضللة. فلم يكن مدحت بطلا قومياً ولكنه كان واحداً من قوى المؤامرة التى أعدت بإحكام للقضاء على الخلافة الإسلامية والدولة العثمانية، وقد كان أمره مكشوفاً لدى السلطان عبدالحميد الذى كان قد وضع يده على مخطط الدونمة بالاشتراك مع أحرار الترك الذين كانوا قد جندوا لخطة إزالة الدولة العثمانية والخلافية الإسلامية من طريق الصهيونية بعد أن حققت قبل ذلك إزالة الجيتو بالثورة الفرنسية وما كان مدحت شهيداً في الحقيقية، لأن الشهادة لا تكون للخونة، وما قتلوه في الحقيقة ولكنه قتل نفسه بخيانته لوطنه وللإسلام، والعمل على تمكين اليهود من النفوذ، وهو من الدونمة الذين دخلوا في الإٍسلام تقية لإخفاء هويتهم، ولتدمير الدولة العثمانية من الداخل. وكان يعمل بتوجيه من المتآمرين المقيمين في باريس، والمتآمرين المقيمين في سالونيك. ولم يكن الدستور الذى دعا إليه مدحت إلا محاولة لإخراج الدولة العثمانية من النظام الإسلامي والشريعة الإسلامية وتغليب نفوذ العناصر المعادية للإسلام، وتمكينها من الانقضاض على الدولة.
وكان السلطان عبد الحميد يعلم مدى ما تهدف إليه المخططات الصهيونية. ولقد شهد المؤرخون المنصفون بأن الدولة العثمانية الإسلامية قد تسامحت إلى أبعد حد مع العناصر غير الإٍسلامية، ومكنتهم من أداء عباداتهم وإقامة شعائرهم، وفتح المدارس وإقامة الجماعات إلى الحد الذى كان عاملا من عوامل تمكنهم من التآمر على الدولة وإسقاطها. ولقد كان السلطان عبد الحميد هو نقطة المؤامرة في الحقيقة لأنه وقف أمام مطامعهم وأهوائهم، ورد "هرتزل" عن محاولاته ومؤامراته بالرد الحاسم وسمع من تمثل اليهود أن ذلك سيكلفه عرشه أو حياته .. وقد كشف السلطان عبد الحميد في مذكراته دور الدونمة ورجال الاتحاد والترقي.
الانتقاص من قدر الخلافة الإسلامية:(20/64)
وإذا كانت هناك محاولة للانتقاص من قدر الخلافة الإسلامية، واتهامها بالتقصير. فإن هناك ما يؤكد كذب ذلك، وما أورده جمال الدين في حديثه إلى المخزومي باشا في كتابه "خاطرات جمال الدين"، يكشف عن مدى قدرة السلطان عبد الحميد على فهم تيارات الغربيين وقدرته على ضرب مخططاتهم وضرب بعضهم ببعض. ولقد قام السلطان عبد الحميد بإعلان تلك الصيحة المفزعة التى عجلت به. وهي قوله:" يا مسلمى العالم اتحدوا" وكان هدفه أن يجمع المسلمين ممن هم خارج الدولة العثمانية "العرب والترك" تحت لواء الخلافة والوحدة. وفزع الغربيون واليهود من ذلك فزعاً شديداً. فقد مضى بخطى حاسمة وحقق نتائج هامة.
ولقد كان عقلاء المجاهدين المسلمين يؤمنون بأن المحافظة على الدولة العثمانية إحدى العقائد الإسلامية بعد التوحيد والنبوة. ومن ذلك محمد عبده وشكيب أرسلان ورشيد رضا وغيرهم. وقد كانت الدعوة الحقيقية هي محاولة إصلاح الدولة العثمانية من تحت مظلة الخلافة وتعديل تنظيمات الحكم دون إسقاط الدولة. كان ذلك فهم أحرار العثمانين والعرب جميعا، وقد كان هذا ممكناً لولا ذلك الدور الذي قامت به الماسونية واليهودية العالمية في سبيل تحطيم نفوذ السلطان عبد الحميد، وإحلال نفوذ الاتحاديين أعوانهم الذين تربوا في محافلهم. والذين سلموا لهم فلسطين، وسلموا للإيطاليين في طرابلس الغرب، وأدخلوا الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى ولا ناقة لها فيها ولا جمل حتى يحطموها ويقضوا عليها.
وحدة إسلامية وليست عنصرية
كذلك فإن علاقة مصر والبلاد العربية بالدول العثمانية لم تكن علاقة استعمار. فإن كلمة استعمار لا تطلق إلا على النظام الغربي الحديث وإنما كانت علاقة ترابط تحت لواء الأخوة الإسلامية، واستعانة البلاد المستضعفة بالدولة القوية، والمصريون والجزائريون وغيرهم هم الذين طلبوا من الدولة العثمانية الارتباط بها خوفا من تجدد مؤامرات الحروب الصليبية.(20/65)
زيف ما في كتب الموارنة واتباعهم:
ولاشك إنه من أكبر أخطاء الباحثين هو إعادة نشر ما جاء في الكتب المدرسية والدراسات التاريخية السابقة لظهور "بروتوكولات حكماء صهيون" عن السلطان عبد الحميد وتركيا العثمانية. وهذا كله زائف ومن صنع الصهيونية وأعوانها من الموارنة. أما اليوم فإن الرؤية التاريخية المنصفة قد اتسعت ومن الظلم أن يقف الباحثون عند الحملات الكاذبة المضللة وتجاهل الرؤية الصحيحة لإبعاد الواقع التاريخي لقد حملت كتب جورجي زيدان وأحمد أمين وغيره صورة مضللة زائفة للسلطان عبد الحميد، وصورة براقة زاهية للاتحاديين الذين علقوا العرب على المشانق ومكنوا للصهيونية وحطموا الدول العثمانية وهم الذين تربوا في أحضان المحافل الماسونية. وعلى الباحث المنصف أن يرجع إلى الإضافات الجديدة التى ظهرت بعد الخمسينات والتى تكشف فساد ما كتبه جرجي زيدان وفارس نمر وسليم سركيس.
والجديد يجلو الحقيقة، فما كتبه جواد رفعت ومحمد جميل بيهم، وعبد الله التل، والعقاد وخليفة التونسي وعجاج نويهض وتوفيق بروه فإن هذه الكتابات قد غيرت تلك الصورة الزائفة التى ما زال يعتمد عليها خصوم الإسلام.
والقضية أن اليهود عندما أحسوا بأن السلطان عبد الحميد قد وقف في طريقهم نهائيا عملوا على تصفيته، ومهدوا لذلك باتهامه بالاستبداد والفساد، وأذاعوا ذلك في صحف الموارنة في مصر مثل المقطم والهلال والمقتطف وغيرها.
ثم جاء أحمد أمين وأمثاله فنقلوا منهم. لأن الحقائق لم تكن قد تكشفت بعد، ولم تكن البروتوكولات قد ترجمت إلى العربية، فلماذا هذا التزييف يحجب مرحلة من الحقائق، والعودة إلى إذاعة ما قبلها من الضلال بإعلاء شأن مدحت وأتاتورك، وهما من هما في الخيانة والتبعية.
حقيقة أتاتورك :(20/66)
إن أتاتورك في الحقيقة لم يكن مجاهداً ولا مصلحاً، وإنما كان تتمة الاتحاديين. لقد أخروا دوره في المرحلة الأولى قبل الحرب ليتولى الدور الثاني. فالاتحاديون أسقطوا الدولة العثمانية بأن أدخلوها الحرب لتصفى ماليتها ووجودها. وجاء أتاتورك ليفرض عليها اللون الغرب، وينقلها نقلة واسعة من دولة الخلافة الإسلامية إلى دولة علمانية تكتب بالحروف اللاتينية، ويقضى على الإسلام تماماً، ومعاهدته السرية المعروفة التى عرفت بمعاهدة لوزان تكشف ذلك في وضوح وقد استطاع أتاتورك إخفاء وجهه الحقيقي حتى يؤدى دوره كاملا فخدع المسلمين في المرحلة الأولى بالصلاة وإمساك المصحف، وطلب الدعاء منهم. أما دوره في الجهاد في أزمير فقد كشفت الوثائق أنه كان زائفا، وأن غيره هو الذى قام بدور البطولة، وأنه استلب منهم هذا المجد وحطمهم ونسبه إلى نفسه.
ولقد كان أتاتورك عميلا غربيا كاملا، وعميلا صهيونيا أصيلا، وقد أدى دوره تماما. وأقام تلك التجربة المظلمة المريرة التى تركت آثارها من بعد العالم الإسلامي كله، والتي كشفت الأحداث في الأخير فسادها، وتبرؤا الأتراك المسلمون من تبعتها، وكانت ظاهرة عودتهم إلى الأصالة مرة أخرى. وذلك دليل على أنها كانت تجربة زائفة مضادة لفطرة ولطبائع الأشياء، والدليل إن المسلمين لم يتقبلوها بل رفضوها، وقد كشف أكثر من مستشرق وفي مقدمتهم "هاملتون جب" إن العرب لم يقعوا في براثن هذه التجربة التى خرجت بهم عن الأصالة وعن الذاتية الإسلامية.
ولقد كان من أكبر معالم اضطراب كمال أتاتورك أنه عندما أحس بدنو أجله أن دعا السفير البريطاني ليتولى بدلا منه رئاسة الدولة التركية. وكان كعلامة من علامات الخسة والنذالة والخيانة!!(20/67)
وقد صفع المؤرخ العالمي أرنولد توينبي التجربة الكمالية التى يفخرون بها ويمجدونها الآن بعد أن رفضها أهلها وحكموا بفسادها. لقول توينبى إن الأتراك كانوا عالة على الحضارة الغربية وأنهم تغربوا ولم يقدموا أي شئ إلى هذه الحضارة، فكانوا عاجزين عن الإبداع في أي مجال من مجالات الإنتاج.
والواقع أن مصطفى كمال أتاتورك لم يكن كما يدعى المدعون شيئا جديداً ولكنه كان حلقة في المؤامرة التى بدأها مدحت وكان وسطها رجال الاتحاد والترقي للقضاء على السلطان والدولة العثمانية. ثم ختمها أتاتورك بالقضاء على الخلافة الإسلامية، ولا ريب أن انتقاص قدر الدولة العثمانية وحكامها مجاف لواقع التاريخ، وهو من عمل أتباع التغريب والشعوبية، وهو عمل ضمن مخطط يرمى إلى إثارة الخلافات والخصومة بين عناصر الأمة الإسلامية، ودعوة للوقيعة بين العرب والترك والفرس. وهم عناصر الأمة الواحدة التى جمعها القرآن وقادها محمد صلى الله عليه وسلم وآمنت بأنه لا إله إلا الله مهما كانت هناك خلافات فرعية فإنهم جميعا أمة واحدة، ولو كان هناك قليل من الإنصاف والأمانة التاريخية لدى كتابنا المزيفين لراجع الكاتب ما كتبه استيورت وهو غربى في كتابه "حاضرالعالم الإسلامي قبل أربعين عاما" وكيف تحدث عن عظمة الدولة العثمانية " ودورها الذى قامت به في وجه الصليبية الغربية.
أما صيحة العناصر والأجناس التى حاول كاتب أخبار اليوم يجعلها قضية فإنها لم تكن كذلك في ذلك الوقت، وإنما هي المؤامرة التي عمد النفوذ الأجنبي بها إلى استغلال صيحة القوميات لتفكيك عرى الدولة العثمانية. أما المسلمون فلم يكونوا يعرفون مصرية وسورية وجزائرية وغيرها ولا كلمة العروبة نفسها، ولكنهم كانوا مسلمين فحسب وإنما ظهرت هذه الدعوات إلى الإقليمية والقوميات بتحريض عناصر غير مخلصة لتفكيك عرى الوحدة، وهدم هذه الجامعة الإسلامية التى كان الغرب يخشاها، ولإقامة قومية زائفة هي القومية الصهيونية.(20/68)
ولا ريب أن الأسلوب الذى اتخذ في إسقاط السلطان عبد الحميد هو أسلوب لم يعرفه النظام الإسلامي في تاريخه كله وهو من صنع المؤامرة الصهيونية التلمودية التى استطاعت أن تحمى وتحرك هذا الخداع عن طريق قوة عسكرية تتحرك هاتفة بإسم السلطان خدعة ثم تكون في نفس الوقت متآمرة عليه لخدمة هدف غامض على كل الذين قاموا به، ولا يعرفه إلا القليل وهو إعادة اليهود إلى فلسطين.
كذلك فإن ما قام به أتاتورك لم يكن نصراً عسكرياً أو سياسياً وإنما كان هناك إشارة بقبول التوجيه الغربي: وتوقيع ملحق معاهدة لوزان وهو الذى فتح الطريق إلى كل شئ، وبه حلت جميع المشاكل، وانسحبت كل الجيوش، وتحقق ما يسمى النصر والاستقلال. وكتبت على أثر ذلك آلاف الكتب في تمجيد البطل الذى لم يكن إلا عميلا من عملاء الخيانة لحسابه الصهيونية العالمية، والنفوذ الغربي، والشيوعية أيضا فإن الشيوعيين هم أول من عاونه لقاء موقفه من عداء الإسلام.
ولا شك أن الضربة الذى وجهها أتاتورك إلى الخلافة الإسلامية قد فتحت صفحة خطيرة في تاريخ الإسلام الحديث، وأن الذين فرحوا لذلك من كتاب يكتبون باللغة العربية سوف يرون أنهم كانوا غير بعيدي النظر في فهم الأمور، وأنهم استعدوا ذلك الفرح من مشاعر حافلة بالحقد والكراهية للإسلام، وأن الخلافة الإسلامية عائدة لا محالة، وأنها هي العنوان الحقيقي للجامعة الإسلامية والتضامن الإسلامي، وأنه لا سبيل إلى نهضة المسلمين إلا بقيام الخلافة الإسلامية. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله وعندها ستنكس روؤس الظالمين.
المعاهد السرية
التى عقدها أتاتورك والتى سميت بشروط كرزن الأربعة:
ينص بروتوكول معاهدة لوزان المعقود بين الحلفاء والدولة التركية عام 1923 المعروفة بشروط كرزن الأربعة على ما يلى:
أولا – قطع كل صلة بالإسلام.
ثانيا – إلغاء الخلافة الإسلامية.
ثالثا - إخراج أنصار الإسلام من البلاد.(20/69)
رابعا – اتخاذ دستور مدني بدلا من دستور تركيا القديم المؤسس على الإسلام.
غاندي
غاندي سرق الحركة الوطنية من المسلمين. والهندوسي الهندي المتعصب الذي أخفى هندوسيته البغيضة وراء المغزل وللشاة.
وكان أول سياسي طالب بتأجيل الاستقلال منادياً بمهادنة السلطة وعدم مناوأة حكومة الاستعمار.
وكانت فلسفة غاندي التي استقاها من تولستوى ولقنوها لنا في الشرق هي التعامى عن تصرفات المستعمر والاستسلام له.
والحقيقة أن الزعماء المسلمين هم الذين أعلنوا استقلال الهند الحقيقي وعينوا قضاة المحاكم وحكام المقاطعات وتجاهلوا جميع كل السلطات وقد ظهرت آثار المسلمين واضحة في الحركة الوطنية وضعفت وطنية الهندوك فحاربوا المسلمين بكل سلاح حتى سلاح الفتنة الوطنية والدس الرخيص.
كان السؤال: حول غاندي وتكريمه، والأحاديث التى تنشر عنه في الصحف، وتصويره بصورة البطل: ومحاولة القول بأنه كان رمزاً للمصريين أبان الحركة الوطنية المصرية بعد ثورة 1919 وكانت الإجابة كالآتي:
بدأت الحركة الوطنية لتحرير الهند في أحضان الحركة الإسلامية وقد أزعجت الاستعمار البريطاني هذه الخطوة فعمد إلى القضاء عليها بأسلوب غاية في المكر والبراعة نحى بها المسلمين عن قيادة الحركة الوطنية وأسلمها إلى الهندوس، وأجراها على الأسلوب الذي سيطر على الهند بعد ثورة 1957 التى قادها المسلمون كان حريصاً ألا يتحقق للمسلمين السيطرة على الهند بعد أن ظلت تحكم الهند أكثر من خمسمائة عام مرة أخرى بعد أن أسقط دولتهم ..(20/70)
والمعروف أن المسلمين قاطعوا مدارس الاحتلال وعزفوا عنها حتى أتيح لهم إقامة نهضة تعليمية داخل إطار دينهم وثقافتهم وذلك بإنشاء عدد من المعاهد الإسلامية، انتشرت في "لاهور" و " لكنؤ" ولم تلبث أن حققت تقدما واضحا في هذا المجال. ثم اتجه العمل لتحرير الهند فألفت الجمعية الإسلامية العامة في لكنؤ (بمباوي) وكان يشرف عليها كبار المسلمين في الهند مطالبين بحقوق المسلمين في الهند كوطنيين وكان الهندوك قد أعلنوا إنشاء المؤتمر الوطنى العام وسموه المجلس الملى الوطنى الهندى العام. وكان غايته أن ينالوا حقوقا سياسية تخولهم السيادة على الأقليات "وهم لا يريدون من كلمة الأقليات غير المسلمين" وفي عام 1916 تنبهت حكومة الاحتلال إلى حركة الجمعية الإسلامية فأوعزت إلى محمود الحسيني أن يغادر الهند وقبض على أعوانه: أبو الكلام أزاد، حسرت مهاني، ظفر الله خان، محمد على، شوكت على .ولما عقدت الهدنة في 11 نوفمبر 1918، أعلنت الحكومة البريطانية استعدادها لإجراء إصلاحات في قانون الهند. فاتفق الفريقان "المسلمون والهندوس" على عقد مؤتمر في لكنؤ يجتمع فيه زعمالء الفريقين.(20/71)
وفي عام 1919 أطلقت الحكومة سراح المسجونين السياسية المسلمين، فاجتمع زعماءهم في لكنؤ بدعوة مولاى عبد البارى رئيس علماء أفرنجى محل فتداولوا في تأسيس جمعية إسلامية لتنظيم مطالب الاستقلال وكان قد ظهر في هذا الوقت تآمر الدول الكبرى على تمزيق شمل الدولة العثمانية. فأطلق هذه الجماعة "جمعية إنقاذ الخلافة من مخالب الأعداء الطامعين" وتأسست جميعة الخلافة في بومباي "18 فبراير 1920" برئاسة غلام محمد فتو، ميان حاجى خان. ودخل في عضويتها الزعماء المسلمون المعرفون في الهند. ودعت اللجنة المسلمين إلى جمع الإعانات للدفاع عن حوزة الخلافة، فأقبل المسلمون بسخاء وجمع ما لا يقل عن سبعة عشر مليون روبية إلى أضعاف ذلك كما يقول السيد عبد العزيز الثعالبي الزعيم التونسى الأشهر في تقريره الذى قدمه للأزهر الشريف في يونيو 1937 بعد زيارته للهند ودراسته لأحوال المسلمين هناك.(20/72)
كان "غاندى" إلى تلك الآونة غير معروف في الهيئات السياسية في الهند، وكان متطوعاً في فرقة تمريض الجنود، ولما انتهت الحرب وانفصل عنها كانت جمعية الخلافة في بدء تأليفها فأقبل عليها وكان اسمه غير معروف إلا بين الأفراد القلائل الذين عرفوه في الناتال وجنوب أفريقيا. فتيامن به زعماء المسلمين رغم تحذير المولدى "خوجندى" وكان على صلة به من قبل، ويعلم من أمره ما لا يعلمون وبالأخص من ناحية تعصبة للهنادكة مع المسلمين. وشاءت الغفلة أن تنطوى هذه الحركة العظيمة على يديه. فقعد في جمعية الخلافية مقعد الناصح الأمين وجعل يشير عليها باستئلاف الهنادكة فقبل الأعضاء نصحه عن حسن نية، وتدبوه السعى إلى ذلك فقام وطاف الهند على حساب الجمعية يدعو إلى الوفاق ويقول المطلعون على خفايا الأمور أنه كان يتصل بالهنادكة، ويتآمر معهم على شل الحركة الإسلامية ولما عاد من الرحلة سعى إلى إقناع جمعية الخلافة بالانضمام إلى الكونجرس "المؤتمر الوطني" الذى تأسس لملاحقة المسلمون، وانتزع حقوقهم في الهند. فانضمت إليه جمعية الخلافة وتبعتها بقية الأحزاب الإسلامية المعروفة ارتكازاً على الثقة في "غاندي" وعقد الكونجرس اجتماعا فوق العادة بعد انضمام المسلمين إليه في مارس ولما تلى عليهم القانون الأساسى اقترحوا تعديل المادة التى تقول باصلاح حالة الهند إلى عبارة "استقلال الهند" فوافق على ذلك المؤتمر، وشرعت الأحزاب الهندوكية منذ ذلك الوقت تطالب بالاستقلال التام طبق رغبة المسلمين وكانوا قبل ذلك لا يطالبون إلا باجراء إصلاحات. فارتاعت الحكومة "البريطانية" لهذا التغيير وعدته فاجعة في سياسة البلاد وعلى أثره ألقت القبض على الزعماء، وزجتهم في السجون. واجتمع قادة الحركة وعرض أبو الكلام آزاد اقتراحا باسم الأعضاء المسلمين يتضمن إعلان "الأمة الهندية" وبأن الحكومة الحاضرة غير شرعية مع دعوة البلاد إلى مقاطعتها فوافقت الجمعية، وانعقد على أثره "مؤتمر(20/73)
جمعية الخلافة" فأعلن موافقته أيضا بالاجماع. وبعد أن جرى تصديق المؤتمر على قرار المقاطعة قام غاندى خطيبا وقال، إن اتحاد الهندكة مع المسلمين يبقى متينا ما لم يشرع المسلمون في مناوأة الحكومة، ويشهروا السلاح في وجهها. ورد عليه أبو الكلام آذاد فقال:
"إن كان غاندي يتصور أن أعمال المسلمين في الهند لا تقوم إلا على مساعدة الهنادكة فقد آن له أن يخرج هذه الفكرة من دمائه وليعلم غاندى أن المسلمين لم يعتمدوا قط على أحد إلا على الله عز وجل وعلى أنفسهم".
وشرعت الأمة الهندية عقب ذلك في مقاطعة الحكومة وإظهار العصيان المدني فامتنعت عن دفع الضرائب والرسوم، وتخلى المحامون عن الدفاع أمام المحاكم. وأعاد الناس الرتب النياشين، والبراءات للحكومة، وأحرق التجار المسلمون جميع ما في مخازنهم من البضائع الانجليزية، وترك المسلمون الموظفون مناصبهم في الحكومة فحل الهنادك محلهم وهاجر كثير من المسلمين إلى الأفغان بعد أن تركوا أملاكهم وأرضهم في الهند واشتدت المقاطعة في البنغال اشتداداً عظيما ليس له مثيل. فقد امتلأت سجونها بالمقاطعين من المسلمين حتى إذا أعيى الحكومة أمرهم صارت تقبض كل يوم على ألف شخص في الصباح وتطلقهم في المساء لأن السجون لم تعد تسع المعتقلين. وخطب اللوردريدنج "الحاكم العام" في كلكتا فقال:
إننى شديد الحيرة من جراء هذه الحركة ولست أدرى ماذا أصنع فيها.(20/74)
ومن هذا السياق تستطيع أن تصور قوة المسلمين في الحركة الوطنية، وضعفها في الهندوكية ولا شك أن الهندوكي بالغاً ما بلغ من النشاط السياسى لا يستطيع أن يجابه الحكومة، كما لا يستطيع أن يحارب المسلمين إلا بسلاح الدس. وقد اجتمع زعماء المسلمون في عام 1921 وأعلنوا استقلال الهند استقلالا فعليا وعينوا ولاة الولايات، وحكام المقاطعات، وقضاة المحاكم في جميع المدن. فكان الوطنيون يرفعون قضياهم أمامهم، ويتجاهلون محاكم الحكومة وبسبب ذلك تعطلت أعمال الحكومة والبوليس، وحدث إرتباك شديد في الدوائر العالية بالهند غير أنها بدلا من أن تستعمل سلاح القوة القاهرة لكفاح الشعب الأعزل لجأت إلى المناورات السياسية وهي أشد خطرًا، وكان بطل هذه المناورات المهاتما غاندى، فقد اتفق اللورد ريدنج مع غاندى على حل الوفاق القومي بين المسلمين والهندوك وقد أذيع الحديث بواسطة المصادر البريطانية بعد ستة أشهر. فقد نقل إلى اللورد قال لغاندى:
"إن مصدر الحركة الاستقلالية في الهند هم المسلمون، وأهدافها بأيدي زعماءها فلو أسرعنا وأجبناكم إلى طلباتكم، وسلمنا لكم مقاليد الأحكام ألا ترى أن مصائر البلاد آيلة للمسلمين. فماذا يكون حال الهنادكة بعد ذلك؟ هل تريدون الرجوع إلى ما كانوا عليه قبل الاحتلال البريطاني وهل تفيدكم يومئذ كثرتكم وأنتم محاطون بالأمم الإسلامية من كل جانب، وهم يستعدون قوتهم منها عليكم. إذا كنتم تريدون أن تحتفظوا لأنفسكم باستقلال الهند فعليكم أن تسعوا أولا لكسر شوكة المسلمين وهذا لا يمكنكم بغير التعاون مع الحكومة وينبغي لكم أيضا تنشيط الحركات الهندوكية للتفوق على المسلمين في جميع الأعمال الحيوية وفي بلوغهم الدرجة المطلوبة فإنى أؤكد لكم أن حكومة بريطانيا لا تتصل في الاعتراف لكم بالاستقلال".(20/75)
وقبل انصراف غاندي أوعز اللورد إليه أن يشير على "مولانا محمد على" كتابة تعليق على خطاب كان ألقاه في مؤتمر الخلافة، وحمل فيه على الحكومة حملة عنيفة .. يقول في هذا التعليق:
"أن ما فهمته الحكومة كان مخالفاً لمرادى" فصدع غاندي بالأمر ودعا محمد على لكتابة هذا البيان بعد أن أفهمه أن الكتاب سيكون سرياً لايطلع عليه أحد غير اللورد فكتب البيان تحت التأثير السحرى الذى كان لغاندي عليه. وما كاد الخطاب يصل إلى اللورد حتى أذيع في جميع أقطار الهند بعد أن صورته الحكومة بمقدمة قالت فيها:
"إن محمد على تقدم إلى الحكومة يطلب منها العفو عن الهفوة التى ارتكبها".(20/76)
وأنهم محمد على من المسلمين بالتراجع، ورمى بالخور والضعف غير أنه لم يحاول أن يصحح موقفه إلا حين مؤتمر الخلافة في كراتشى "أغسطس 1920" حين أعلن سياسة المناوأة للحكومة لا موالاتها. فتلقى منه الهنادكة والمسلمون هذا التصريح بالارتياح التام ولكن عقب انقباض المؤتمر أمرت الحكومة باعتقاله مع ستة آخرين من الزعماء: شوكت على، حسين أحمد، كثار أحمد، بير غلام محمد، الدكتور سيف الدين كتشلو. وساقتهم جميعاً إلى المحكمة المخصوص للمحاكمة. فرفضوا الاعتراف بالحكومة وهيبة المحكمة عملا بقرار المؤتمر السابقة وامتنوعا عن الدفاع عن المتهم. ولكن المحكمة أدانتهم بمجرد الاتهام، وحكمت عليهم بالحبس عامين مع الأشغال الموجهة إليهم. وبعد الحكم أصدر محمد على، سيف الدين كنشلو منشوراً بتوقيعهما يخاطبان فيه الشعب وينصحانه بعدم الاهتمام بما حصل ويعدانه بأن الزعماء المعتقلين سيحضرون اجتماع الكونجرس القادم في ديسمبر بمدينة "أحمد أباد" سواء رضيت الحكومة أم كرهت لاعتقادهما أن الكونجرس سيعلن بصفة رسمية استقلال الهند، وتأليف حكومة وطنية التى ستقرر الإفراج عنهم، ولكن الحكومة لم تأبه لهذا المنشور لأنها كانت واثقة من أن الكونجرس لن يفعل. ولما عقد اجتماع الكونجرس "ديسمبر سنة 1920" حضر غاندي وقال:
"بما أن الزعماء يعتقلون، ولا سبيل للمداولة معهم في منهاج أعمال المؤتمر فاقترح عليكم تعيينى رئيسا للمؤتمر، وتخويلى السلطة المطلقة لتنفيذ ما أراه صالحاً من الاجراءات".
فوافقته اللجنة على ذلك دون أن تتنبه إلى ما كان يغمره هو من المقاصد التى قد لا تنفق مع خطة المؤتمر، وتقرر فيها أيضا إسناد رئاسة مؤتمر الخلافة إلى أجمل خان، ومؤتمر مسلم ليك إلى حسرت مهاتى. وقبل اجتماع مؤتمر الخلافة قال غاندى للحكيم أجمل خان:
"إن إعلان الاستقلال في الظروف الواهنة غير مناسب".(20/77)
وما زال به حتى أقنعه بالعدول عن إعلان ذلك مع أن الزعماء المسيحيون كانوا ينتظرون بفارغ الصبر، وكانت الحكومة تتوقع صدوره من أحزاب المسلمين بقلق شديد وما عساها تصنع لو تخلف غاندي عن الوفاء لها بوعده. وفي أغسطس 1921 اجتمع الكونجرس تحت رئاسة غاندى في أحمد أباد فأعلن أن الوقت الذى يصر فيه المؤتمر باستقلال الهند لم يحن بعد، فهاج الأعضاء وماجوا. وعقب انتهاء جلسات المؤتمر انعقد مؤتمر الخلافة، وتهيب الحكيم أجمل خان أن يثير عاصفة من قبل المسلمين فأمسك عن إعلان الاستقلال. أما حسرت مهاتى فقد أعلن في مؤتمر مسلم ليك أن الهند تريد أن تعرب بواسطتهم عن إراداتهم في الاستقلال. فعلى الهنود أن يشعروا اليوم بأنهم مستقلون وألا يعترفوا بقوانين الحكومة الملغاة. فأمرت الحكومة بالقبض عليه وحكم عليه بالسجن عشر سنين مع الأشغال، وأجمعت الصحف الهندية على نقده ووصفه بالشدة وخفضت العقوبة إلى سنتين. وعقب ظهور هذا الفشل الكبير في سياسة البلاد اعترت المسلمين شكوك في تصرفات غاندى، واستيقنوا أن زعماء الهنادكة متفقون على ذلك فدب الانشقاق بين الطرفين:
هذا هو النص الذى أورده العلامة الزعيم عبد العزيز الثعالبى عن دور المسلمين في الحركة الوطنية الهندية وكيف قضى عليه غاندى بالتآمر مع النفوذ البريطاني فانهار مخطط الاستقلال. وفي خلال سجن زعماء الحركة المسلمين تسلم غاندى الحركة وحولها إلى وجهة أخرى مخالفة مما دعا المسلمين من بعد إلى المطالبة بكيان خاص لهم.(20/78)
هذا هو غاندي في حقيقته التى لم تعرف في بلادنا وفي المشرق. والتى أخفيت عنا تماماً خلال تلك الفترة التى كان المصريون بتوجيه من السياسة البريطانية يعجبون بغاندي ويدعون بدعوته إلى الاستسلام النفوذ الأجنبي وقبول ما يعرض وعدم العنف. وهذه هي الفلسفة التى استقاها غاندي من تولستوي وذاعت كثيراً في بلاد المسلمين معارضة لمفهوم الإسلام الصحيح من الجهاد المقدس في سبيل استخلاص الحقوق المغتصبة أبان الحركة الوطنية المصرية حيث كانوا يجدون في غاندي وأخباره ما يؤيد النفوذ الأجنبي ويدفع الوطنيين المصريين ناحية التفاهم مع الاستعمار البريطاني ولذلك فإن هذه الصفحات التى ينشرها بعض الكتاب لرسم صورة مزخرفة لغاندى يجب أن لا تخدعنا كثيراً فإنه رجل هندوسي متعصب لهندوسيته كاره للمسلمين. وقد كان هو وتلميذه نهرو أشد عنفاً وقسوة في معاملة مسلمى الهند، وقد كانت أنديرا غاندى ابنة نهرو أبان حكمها قد حكمت على المسلمين في بعض المناطق بتعقيمهم عن طريق العمليات الجراحية عملا على الحد من تعداد المسلمين في الهند. فيجب علينا أن نعرف الحقائق ولا تخدعنا الأوهام الكاذبة والصور البراقة التى يراد بها تغطية حقيقة وجريمة كبرى هي أن غاندي في الحقيقة سرق الحركة الوطنية من الزعماء المسلمين وتآمر عليهم مع الحركة البريطانية وأدخل أمثال محمد على وشوكت على وأبو الكلام آزاد وهم من أقطاب المسلمين، أدخلهم السجون، وسحب الحركة الوطنية بالتآمر من أيديهم، وحال دون قيام حكومة هندية حرة يكون المسلمون فيها سادة. وذلك للعمل لخدمة الاستعمار البريطاني وتسليم الهند إليه لتحويل المسلمين إلى أقلية فيها مما دعا المسلمين إلى العمل على قيام باكستان والتحرير من نفوذ غاندي والهندوكية والاستعمار البريطاني.
(12)
زكي نجيب محمود(20/79)
كان السؤال في الندوة عن مخططات التغريب والعزو الثقافي في هذه المرحلة لمواجهة حركة اليقظة الإسلامية، وانكشاف مخططات الاستشراق والتبشير، وافتضاح كل خيوط المؤامرة التى جند لها عدد كبير من التغريبيين بقيادة "المعلم" طه حسين. ثم تحطم كل هذه المخططات قبل رحليه.
والحقيقة أن النفوذ الأجنبي قد غير جلد طه حسين وحاول أن يقدم مخططاً جديداً لقيادات جديدة بعد أن هلك هذا التغريبى الكبير ووضع أمر ذلك في عدة خطوات اتخذت بسرعة لتغطية الفراغ .. منها عقدة مؤتمر ثقافي مغلق في الكويت ضم مجموعة من اتباع الاستشراق والتغريب، واليساريين، وأتباع الفلسفة المادية. وكان على رأسهم "زكي نجيب محمود" و " محمد النويهي" لمواجهة الموقف بعد وفاة ذلك الزعيم الصنم الذى كان يمر في السنوات الأخيرة من حياته بمرحلة الاحتضار.
وكذلك كلف المستشرق "جاك بيرك" بالطواف في البلاد العربية . ودول الإمارات لإلقاء محاضرات من طه حسين في محاولة لاستعادة الثقة به بعد أن تحطمت هذه تماماً نتيجة للأبحاث الى كشفت عن دخيلته وخاصة ما كاتب محمود محمد شاكر ومحمد نجيب البهيتى وكاتب هذه السطور.
كذلك فقد حاولت جريدة الأهرام في عهد هيكل أن تجمع في نطاقها مجموعة كبيرة من دعاة التغريب أمثال توفيق الحكيم الذى وصف إسرائيل بأنها دولة متحضرة. وحسين فوزى الذى تنكر لعروبته واعتز بفرعونيته ورضى لنفسه أن يجعل درجة الدكتوراة من جامعات العدو. ونجيب محفوظ الذى عرف بتلمذته لزعيم التغريب سلامة موسى وهي ما تزال تحتفظ بهم إلى اليوم بعد أن أضيف إليهم أنيس منصور ويوسف إدريس.(20/80)
وقد بدأ في السنوات الأخيرة أن الأضواء كلها قد ركزت تماماً على الدكتور زكي نجيب محمود كقائد لهذه الكتيبة التغريبية وقد مهد الدكتور لذلك بأن أعلن أنه أعاد النظر في التراث الإسلامي "وأسماء العربي" في محاولة لخداع البسطاء ولتغطية ماضى طويل في الفكر المادي كانت قمته كتاب المعروف "خرافة الميتافيزيقا" أي بمعنى صريح اتهام مفهوم الغيب الذى جاء به الإسلام بأنه خرافة. وإنكار كل ما سوى المحسوس والمعفول متابعة في ذلك للمذهب الفلسفي الذى اعتنقه طوال حياته مقلداً في ذلك فيلسوفاً أوربياً مادياً ملحداً ينكر الأديان المنزلة ويفاخر بأنه يمثل مدرسته "أوجست كونت" وفي طريق كسب الأنصار والتقرب إلى الشباب الواعي المثقف يتحدث الدكتور زكي نجيب محمود عن الإيمان بالله وعن الإيمان باليوم الآخر، وعن أعلام التراث: الغزالى وغيره. وذلك كله محاولة لإلقاء حاجز بين الماضى والحاضر وإحراز الثقة التى تمكنه من بث مفاهيمة وآرائه.
ونحن لا نتهم أحداً في عقيدته ولا تتعقب العورات ولا نلتقط ما نتكشف عنه السرائر من وراء الوعى ولكننا نقرر بدأءة بأن المنهج الذى يدعو إليه زكي نجيب محمود معارض لمفهوم الإسلام الصحيح من جوانب عديدة وخاصة بالنسبة لتلك القضية الكبرى التى يثيرها في كل كتاباته وهي مسألة العقل والعقلانية فالإسلام لا يعطى العقل هذا السلطان المطلق كله، ولا يقر مثل هذا المعنى. وإنما يرسم للعقل طريقا كريماً في ضوء الوحى. والعقل في الإسلام مناط التكليف ولكنه ليس حكماً على كل شئ ذلك لأن العقل أداة تصلح إذا صلح تكوينها وتفسد إذا فسد تكوينها. وهي إن اهتدت بالوحى أضاءت وأشرقت عليها أنوار الفهم. أما إذا اهتدت بالفكر البشري فإنها تكون بمثابة أداة تبرير لكل شر ولكن أهواء النفس.(20/81)
فالعقلانية بالمعنى الذى يدعو إليه زكي نجيب محمود نظرية مادية صرفة ومرفوضة تماماً. وإذا كان هو وجماعة المستشرقين والتغريبيين يعتزون من التراث بالجانب الخاص بالمعتزلة فإن هذا الاعتزاز لا يمثل إلا إنحرافاً في مفاهيم الفكر الإسلامي. فالمعتزلة خرجوا عن مفهوم الإسلام الجامع المتكامل بين العقل والقلب، والروح والمادة، والدنيا والآخرة. وأعلوا مفهوم العقل. فانحرفوا وتحطموا وحكمت عليهم الأمة كلها بأنهم خرجوا عن مفهوم الإسلام الصحيح حين دعوا إلى خلق القرآن واستعدوا الخلفاء على المسلمين والعلماء. وقد هزمهم الله شر هزيمة على يد الإمام أحمد بن حنبل، وأعاد للإسلام مفهومه الأصيل الجامع.
والموقف نفسه يقفه الإسلام بالنسبة للدعوة إلى التصوف كمنطلق وحيد لهم الحياة والأمور من خلال الحدس والروحانيات وحدها ولقد كان هو زكي نجيب محمود في دراساته في التراث مع ذلك المفهوم العقلاني الذى انحرف عن مفهوم الإسلام الجامع، والذى استمد مادته من الفلسفات اليونانية الوثنية المادية، والالحادية الإباحية التى غامت سحابتها على الفكر الإسلامي ثم انقشعت تحت تأثير أضواء المفهوم القرآنى الأصيل.
كذلك فإن مفهوم الدكتور زكي نجيب محمود للألوهية مفهوم ناقص وقاصر لا مفهوم الإسلام "على النحو الذى أورده في مقاله في الهلال".
لقد مرت البشرية بمراحل كثيرة في فهم الألوهية ناقصة ومنحرفة وجاء الإسلام بالمفهوم الجامع الحق فلم يعد هناك مجال لإعادة ترديد هذه المفاهيم بعد مرور أربع عشر قرنا على نزول دعوة التوحيد الخالص.
إن الذى يقبله شباب الإسلام اليوم من الباحثين هو مفهوم الله الحق لا مفهوم الآلهة كما فهمه الوثنيون أو المعددون، أو المشركون الذين كانوا يؤمنون بالله خالقا ولا يؤمنون به مصرفاً للأمور كلها .. وقد جاء الإسلام ليكشف هذه الحقيقة وحدها، ويدعو إليها وهي: "إسلام الوجه لله".(20/82)
أما مفهوم الإيمان بالله على النحو الذى كتب عنه الدكتور زكي نجيب محمود فهو عرفه المشركون ولم يقبله منهم الإسلام. ولعل من أكبر الخطأ عرض مفهوم أرسطو وأفلاطون في الألوهية ومحاولة تفسيره بمفهوم الإسلام مع أنه كان أبعد ما يكون عن ذلك بل إن القرآن الكريم دحض كثيراً من مفاهيم أرسطو وأفلاطون والفلسفات اليونانية والوثنية والعنوصية لنقضها وقصورها. وخاصة ما ادعاه هؤلاء من أن الله تبارك وتعالى يدير ظهره الكون ولا يعلم الجزئيات، وأن المادة خالدة إلى غير ذلك من تلك التفاهات بل إن مفاهيم أرسطو وأفلاطون للألوهية تدخل تحت ما أسموه "علم الأصنام" فكيف يقدم هذا المفهوم الشباب المسلم اليوم على أنه مفهوم الألوهية الحقة؟! ولقد كشف علماء المسلمين منذ وقت بعيد فساد مفاهيم الفكر البشرى ونقصه. وكيف أنها منحرفة . وكيف أن الله تبارك وتعالى يعلم الأمور كلها " وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس".
وأن هذا الكون ليس مخلداً، ولا باقياً وأن له نهاية كما كانت له بداية، وأن الله تبارك وتعالى يمسك هذا الكون لحظة بعد لحظة ويديره ساعة، وأن كل ما يقوله الفلاسفة هراء.
والمسلمون يعلمون أن الكتب المنزلة حرقت وغيرت مفهوم الألوهية الحقة "الله رب العالمين" فنسبه البعض إلى أنفسهم وقالوا: إنه رب الجنود وربهم وحدهم. وقال الآخرون بأن لله ولداً وكذبوا "ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه".
وليس مفهوم الألوهية صحيحاً ولا كاملا إلا فى الإسلام وحده. مفهوم إسلام الوجه لله: "إياك نعبد وإياك نستعين".(20/83)
وقد حاول الفكر البشرى أي يزيف مفهوم الألوهية الحقة. وأخطأت الماسونية حين قالت:" المهندس الأعظم" وهناك انحرافات الباطنية والماديين والوجوديين ودعاة وحدة الوجود والحلول والاتحاد على النحو الذى عرف عن كثيرين. وهناك مفهوم الإسلام بوصفه ديناً لاهوتياً. والحقيقة أن المطلوب ليس إثبات وجود الله تبارك وتعالى ولكن المطلوب معرفة حقيقة هذا الوجود بعيداً عن هذه المفاهيم المنحرفة ويستتبع الإيمان بالله تبارك وتعالى، والإيمان بشريعته.
ولكن الدكتور زكي نجيب محمود لا يلبث أن ينتقص من شأن هذه الشريعة وبصفها بأنها قاصرة ومجافية للعصر ويطالب بتخطيها في سبيل تحقيق المعاصرة، وهو يقبل بالحضارة الغربية كما كان يقبل بها سلفه طه حسين "حلوها ومرها وما يحمد منها وما يعاب" فما عرف عنه أنه دعا المسلمين إلى أخذ العلوم مثلا دون أسلوب العيش ولكنه يدعو إلى شئ غريب هو أن المسلمين ليس لهم فلسفة حياة وهو ادعاء باطل وظالم.
فكيف يمكن أن يقال لأصحاب القرآن الذى وضع منهجاً للحياة والمجتمع غاية في الاحكام جربته الشعوب والأمم ألف عام فأقام فها حياة الرحمة والعدل والإخاء البشري. كيف يمكن أن يقال لهذه الأمة إنها لا تمتلك منهج حياة. وكيف يقبل وهو العقلاني الصحيف هذا المنهج الذي يعيش الغرب سواء الغرب الليبرالى أم الماركسى في ذلك الخضم العفن الفاسد المتآكل من الشهوات والإباحيات والانحراف والتحلل والغربة بشهادة كتاب الغرب والشرق على السواء.(20/84)
وكيف يغض وهو الأمين على الكلمة عن أزمة الحضارة وأزمة الإنسان الغربي. وقد قرأ عشرات من الكتابات آخرها ما كتبه "سلجوستين" ودمغ به حضارة لغرب التى يكبرها زكي نجيب محمود وحسين فوزي وتوفيق الحكيم. ويفخرون بها ويغوصون بأقلامهم في تلك الحمم من الدماء والعفن والفساد. وهم يقولون لا إله إلا الله على الأقل وراثة، ويرون كيف يقدم الإسلام ذلك المنهج النقى الطاهر الأخلاقي الكريم الذى يرفع من قدر الإنسان. وكيف يحق لأمة تحمل لواء القرآن "ألف مليون مسلم" أن تتخلى عن رسالتها في تبليغ كلمة الله الحق إلى العالمين وتنصهر في بوتقة الأممية والحضارة المنهارة التى تمر بآخر مراحلها.
وهل من الأمانة أن يدعو هؤلاء أمتهم إلى هذا وهم روادها، والرائد لا يكذب أهله ولا يغشها. إن مسئولية القلم وريادة الفكر هو أضخم المسئوليات عند الله تبارك وتعالى يوم الحساب. وقد كان أولى بهم جميعاً أن يصدقوا أمتهم النصح ويدعونها إلى أن تقميم حضارة الإسلام مجددة في إطار "لا إله إلا الله" والأخلاق والرحمة والإخاء الإنساني وأن يلتمسوا أسلوب العيش الإسلامي ليقدموا للبشرية نموذجاً جديداً نقيا تتطلع إليه النفوس والأرواح اليوم بعد أن عم الفساد البلاد الغربية كلها من جديد. ولن يكون غير الإسلام وسوف يدمغهم التاريخ بأنهم كانوا رواداً غير مؤتمنين على الأمانة. وسوف تكتب أسماؤهم في سجل الذين عجزوا عن أن يقولوا كلمة الحق، وأن ينصحوا لأمتهم وهم الذين عاشوا حياة الغرب، وعرفوا فساد مناهجه وأساليب حياته، وعرفوا أن هذه الأمة الإسلامية الكريمة على الله أعز من أن تسحق في أتوان الشهوات وأن تدمر بأيدى أبنائها ودعاتها الذين تلمع أسماؤهم وتخدع الناس شهرتهم.
إن الدكتور زكي نجيب محمود قد أخطأ الطريق حين فهم التراث الإسلامى ذلك الفهم الذى جعله يكرم أمثال "ابن الراوندى" "ومزدك"، و"مانى"، و"الحلاج"، و"الباطنية"، و"الشعوبية" و"إخوان الصفا" وتلاميذهم.(20/85)
كذلك فهو مؤمن بمجموعة من المسلمات الخاطئة من عصارة مفاهيم الفكر البشري الوثني المادي فضلا عن أن إيمانه بالعلم والعقل وحدهما وهو في مفهوم الإسلام قصور شديد عن المفهوم الجامع.
وإني لأسأل الدكتور زكي نجيب محمود: هل يؤمن بالوحي؟ هذا هو مقطع المفصل بيننا وبينه. وإذا كان يؤمن به فلماذا لم يعلن فساد منهج كتابه "خرافة الميتافيزيقا" ولماذا لا يؤمن بهذا الوحى الذى جاء به القرآن شريعة ومنهج حياة؟
وإذا كان الدكتور زكي نجيب محمود قد تراجع عن، خرافة الميتافيزيقا" وغيرها من آرائه. أليس من الشجاعة أن يعلن ذلك صراحة حتى يستطيع أن يكسب إلى صفه بعض الناس.
إن محاولة اقتعاد مكان طه حسين اليوم هو أمر مضيع. فقد انتهى ذلك العهد وصحا الناس وخطت حركة اليقظة الإسلامية خطوات واسعة فكشفت عن فساد تلك النظريات والأطروحات الزائفة التى قدمها الآباء العتاة الذين كانوا يستقبلون أبناءنا في الجامعات الأوربية وهم من اليهود أمثال مرجليوث ودور كايم غيره.
أما قول الدكتور زكي نجيب محمود أن الثقافة الإسلامية في العصر العباسى قد اغترفت ثقافات الدنيا بغير حساب فهو قول باطل. لقد وقفت الثقافة الإسلامية موقف التحليل والغربلة لكل ما ترجم، وأخذت منه ما وجدته صالحاً ومطاباق لمفهوم التوحيد الخالص. أما ما عدا ذلك فقد رفضته وشنت عليه حربا عنيفة، وأخرجت دعاته من طريق الفكر الإسلامى فأطلقت عليهم اسم "المشاؤون المسلمون" إعلانا لتبعيتعم المشائين اليونانيين، ولم تقبل منهم ما جاءوا به.(20/86)
وأعلن المسلمون أن منهج اليونان أو منهج العنوصية الشرقية كلاهما باطل وأن للإسلام منهج خاص مستقل كما نفعل نحن اليوم إزاء ما يقدمه التغريبيون من فكر الشرق والغرب مما هو ليس مقبولا في الإسلام بحال.كذلك فإن نظرية زكي نجيب محمود بالتوفيق بين المترجم الوافد الغربي وبين المجدد من التراث الإسلامي "وهو ما يسميه بالعربي استنكاراً" هذه نظرية ليست متسحدثة بل هي نظرية طه حسين وهيكل والزيات وغيرهم. وهي نظرية اتضح بطلانها. أما ما تعارفت عليه اليقظة الإسلامية فهى أن يقوم أساس إسلامي أصيل من مفهوم الإسلام الجامع "بوصفه منهج حياة ونظام مجتمع" وفي ضوئه يحاكم التراث كله والوافد كله، ولا يقبل إلا ما يزيد هذا المنهج قوة وعماً مع الاحتفاظ بأسلوب العيش الإسلامي "عقيدة وشريعة وأخلاقا" ودعوى زكى نجيب محمود بالمواءمة مرفوضة. فالمسلمون على استعداد التضحية بالتقدم المادي في سبيل الاحتفاظ بالقيم الأساسية التي هي في حقيقتها ليست معوقة للتقدم المادي ولكنها حائلة دون فساد الحضارة الغربية وزيفها وانحلالها الذى يود هؤلاء القوم إغراق هذه الأمة فيه والله يقول الحق وهو يهدى السبيل.
(13)
سارتر
وعبد الرحمن بدوى
جرى التساؤل في الندوة حول نظرية الوجودية بعد أن هلك سارتر وما هي الآثار التي تركتها على جبين الأدب العربي والفكر الإسلامي؟(20/87)
والواقع أن نظرية الوجودية قد نفقت قبل هلك سارتر بوقت طويل وإن حاول هذا الشقي أن يمد من عمرها بانتمائه في السنوات الأخيرة إلى الشيوعية واحتضانه لقضايا الصهيونية إذ هو نصف يهودي كما كان يطلق عليه عباس العقاد لأن أمه يهودية. وقد خدع بعض البلهاء من المصريين حتى أعدوا له زيارة ليحصلوا منه على تصريح يخدم القضية الفلسطينية بعد أن نقلوه إلى خيام اللاجئين في غزة . فما أن غادرها حتى كشف عن هويته الصهيونية اليهودية وأعطى الماركسيين الذين احتفلوا به درساً كشف عن عمالتهم هم، ومكره هو والذين رافقوه ومع هذه اللطمة القاسية فإن كتاباً مصريين وعرباً ما زالوا يذكرون سارتر ويتحدثون عنه ويشيدون بمذهبه وبما يسمونه الوجودية العربية التى قادها عبدالرحمن بدوى وكان لها على فترة طويلة أعواناً.
وكات كتب سارتر تظهر في باريس بالفرنسية وفي بيروت بالعربية في وقت واحد. وربما ندم بعض الكتاب عن تبعيتهم لسارتر، وأحسوا أنهم أخطأوا الطريق بعد أن قرأوا ما كتبه "جاك بيرك" مثلا حين قال:
"إن سارتر عقل كبير ولكنه مع الأسف يفتقر إلى الذكاء السياسى وليس من الضروري أن يكون العقل الكبير عقلا سياسيا ولكن المشكلة عند سارتر أنه يريد أن يكون سياسياً فيما يجابه من التيارات اليسارية ومنها الشيوعية بنوع من العقد النفسية .. ومن المؤسف أن سارتر الذى يبقى معظم فلسفته على فهم الآخر لا يفهم الآخر ولا يحس به . لم يستطيع سارتر أن يتغلب على ما أحيط به من الدعاية والتضليل الصهيوني. فاعتبر إسرائيل "صيحة" وقلب القصة فاعتبر إسرائيل "مدعى عليها" وقد بلغت الدعاية الصهيونية به أن يقلب الحقيقة التاريخية في أوربا كلها . إنهم ينفون أن يكون الوجود الصهيوني استعماراً.(20/88)
ويردد كثير من أنصار سارتر فشل سارتر وكيف تبخرت مفاهيمه التى ضللت الشباب العربي ردحا من الزمن، وكيف انقشع بريق اسمه فظهرت الوجودية فلسفة للفوضى والانحلال، وكيف هوجمت فلسفة سارتر من كلتا النزعتين الرأسمالية والشيوعية ورفضوا مفهومه عن الحرية ووصفوها بأنها حرية فوضوية ومن ثم حاول سارتر أن يتقرب إلى الشيوعيين وتراجع عن كثير من آرائه السابقة.
وفي مصر تقدم عبدالرحمن بدوى برسالة دكتوراه عن "الزمان الوجودي" ورأس الحفل الدكتور طه حسين واشترك مع المستشرق بول كراوس وأعلن طه حسين أن عبد الرحمن بدوى أول فيلسوف وجودي مصري، وقد قدم بدوي الفكر الوجودي وترجم كل المصطلحات الوجودية الشاقة وترجم كتاب سارتر الضخم: "الوجود والعدم".
ولم يلبث عبد الرحمن بدوى أن اختفى وطوته الموجة التى تطوى كل المذاهب الضالة والمنحرفة، وكشف الفكر الإسلامي عن آصالته في أنه يرفض كل ما ليس متصلا بقيمه الأساسية مهما بدأ يوماً وله بريق أخاذ.
لقد كان فلسفة سارتر شؤماً عليه. فقد أضفت عليه ظلال مظلما ما زال يلاحقه.
وقدكان عبد الرحمن بدوي قبل سارتر تابعاً للفلسفات الباطنية والمحسوية يحييها ويرد إليها الروح، ويقدم شخصيات قلقة في تاريخ الإسلام ويشيد بأمثال الرواندي والحلاج وغيرهما من الزنادقة. وإلى جانب ذلك فقد قدم في الفلسفة الإسلامية الجانب الصوفي المتصل بوحدة الوجود والحلول وأشاد بالسهروردي وابن عربي وابن سبعين: تلك الشخصيات الضالة التى عمل استاذه الأول ماسينون" على إحيائها. وكان طه حسين هو صاحب الدعوة إليها في الأدب العربي منذ أعادة انبعاث "إخوان الصفا" وكما سقط الفكر الباطني سقط الفكر الوجودي وانهارت تلك الصروح على رؤس أصحابها {أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير، أمن أسس بنيائه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم}.(20/89)
وإذا كان الأدب الغربي قد عرف وجودية كيركجارد، وكامي، وسارتر، فإن ذلك كله مستمد من أصول أصيلة فيه تقوم على فكرة الخطيئة المسيحية، أما في الفكر الإسلامي فإن محاولة زكي نجيب محمود عن المنطق الوضعي وفؤاد زكريا عن الفلسفة الماركسية وعبدالرحمن بدوي عن الفلسفة الوجودية هي محاولات ضالة باطلة سرعان ما لفظها الفكر الإسلامي صاحب الصرح الشامخ القائم على فكرة التوحيد الخالص والإخاء الإنساني والعدل والرحمة.
وقد ذابت محاولات إحياء الفلسفة الصوفية التى قام بها "ماسنون" أربعين عاماً بإحياء الحلاج لأن المسلمين عرفوا طريقهم إلى التوحيد الخالص . فقد اسقطت حركة اليقظة محاولات إحياء الفلسفة، والتصوف الفلسفي، والكلام ، والاعتزال، وجعلته ركاماً حين أحيت "المنهج القرآني" الأصيل حيث بدت كل محاولات الفلاسفة الإسلاميين المعاصرين وكأنها مقدمات موقوفة انطوت صفحتها حين برز نور المفهوم القرآني: مفهوم أهل السنة والجماعة على نفس النسق الذى واجه المشائين القدامي أمثال ابن سينا والفارابي. وقد تكشفت نزعتهما إلى الباطنية الإسماعيلية في الأخير بعد أن خدع بهما الكثيرون، وحين يتنادى باسمه اليوم بعض غلمان المستشرقين فإن الأمر لا يخدع أحداً ذلك أن الحقائق التى تكشفت قد ردت كبار الكتاب عما خدعهم به البريق الخاطف.
يقول أنيس منصور:
"من الضروري أن نفلت من جاذبية شخص كبير لتجد نفس ومعك حريتك. لقد وقعنا في غلطة حين تأثرنا بأستاذنا عبد الرحمن بدوى ذلك أن كثيراً مما رآه رؤيته هو والذي وجده شاتا كان مشكلته هو والذي أحبه كان مزاجه هو ولكن في السنوات الأخيرة عاودت قراءة الفلسفة من ينابيعها التى أفزعنا منها عبد الرحمن بدوى فلم أجدها كذلك.
وهكذا تبين أن هذه الهالة كانت باطلة، بل إن أنيس منصور يبشرنا بأن سارتر عندما مات قال على فراش الموت: لا شئ ، كل شئ عدم.(20/90)
ويستطرد أنيس منصور قائلا: سارتر الفيلسوف الوجودي الملحد كانت آخر كلماته لا شئ. أي لا فائدة من أي شئ. فهى يرى أن الوجود والعدم لهما نفس القوة ولهما نفس المعنى. فهي كالليل والنهار لا ينفصلان، ولا تعرف على أي شئ أجاب سارتر لآخر مرة بكلمة لا شئ، ولا فائدة، لا معنى، لا هدف، كل شئ عدم، أو كل وجود عدم، أو كل موجود معدوم.
* * *
وهكذا يندم أنيس منصور على أنه تابع هذا الفكر الضال أكثر من عشرين عاماً من عمره قضاها في تحسين هذا الفكر وزخرفته وتقديمه إلى الشباب في عشرات من الكتب التى طبع منها مئات الألوف لتخدعهم عن الحقيقة ولتزيف لهم الواقع ولتردهم عن الفم الأصيل. عندما كتب مقالاته عن رحلته إلى الأراضى المقدسة، وكان عليه أن يعلن انسحابه من كل هذه المفاهيم والعقائد، وأن يصحح موقفه أمام قرائه خلال هذه السنوات الطويلة. واليوم يصف فلسفة الوجودية بأنها فلسفة المقابر، لأن سارتر تحدث عن الموت والدمار والخراب، والوحدة والقلق والفزع، والخوف والغثيان والعدم، والتقت كل هذه المعاني السوداء في قلمه وفي خياله. هناك وجودية ملحدة عند سارتر وكامي وهيدجر واسبرز وأونامونو. ووجودية مؤمنة عند جابريل مارسيل، وبرديالف، وجاك مارتيان.
وكان حقا على أنيس منصور أن يقرأ الفكر الإسلامي الأصيل ويعرف زيف الوجودية جملة بمفهوم الانطلاق من الضوابط والحدود والقيم التى رسمها الدين الحق، وأن يعلم أن نظرية الوجودية كما جاء بها سارتر إنما كنت تمثل تحدياً خاصاً مر بالشعب الفرنسي بعد سقوطه في قبضة ألمانيا إبان الحرب. هذا السقوط الذى كشف كما قال زعيمه "بيتان" عن انهياره الأخلاقي العاصف.(20/91)
ولما كانت الصهيونية العالمية هي التى صنعت هذا بالثورة الفرنسية فإنها قدمت سارتر على جميع أجهزة الإعلام والدعاية لتفتح صفحة أشد عنفاً من الانهيار الخلقى والاجتماعي. تلك التى صنعتها فلسفة سارتر بظهور جماعات الوجوديين الذين تشكلوا في الغرف المظلمة والحوارى الضيقة وتحت أسطح العمارات ليمارسوا أسوأ صور الجنس ويعلنوا احتقارهم للمجتمع. ومنهم نشأت بذرة "الهيبية" التى تعم الآن العالم كله.
ولقد كان أخطر ما في الدعوة الوجودية إنكار الله تبارك وتعالى والسخرية بالأديان واعتبار الإيمان بالله عائقا كبيراً عن حرية الإنسان وأن أثر التعاليم الربانية على الإنسان جد خطير لأنه يضيع عليه فرصة التمتع بالأهواء والتمرغ في الشهوات. فالوجودي لا يؤمن بوجود الله "تبارك وتعالى" ولا يؤمن بنظام خلقى يسود على الإنسانية. الإنسان عندهم حر ومسئول أمام نفسه فحسب . لا أمام الله. وهكذا تجد سارتر يدعو إلى الحرية المطلقة من كل قيد!!
ولقد جاء سارتر إلى مصر ترافقه سيمون دي بوفوار، التى قالت لنساء مصر في صراحة تامة: نحن نريد أن نحطم "قوامة" الرجل ودعت إلى حياة زوجية محررة من "العقد الشرعي" كحياتها هي مع سارتر، ولقد كشفت إحدى المرافقات لسارتر خلال رحلته إلى مصر في الفترة الأخيرة خفايا كثيرة في الزيارة اللعينة. فأشارت إلى أن
"رفيق" سارتر وسيمون كان رجلا يهودياً "كلود لانزمان"، وهو الذى وجه الزيارة على النحو الذى أرادته الصهيونية. وقد أشارت إلى أن كتاب اليسار استقبلوا سارتر بتقدير بالغ كان موضع دهشته هو أساساً. وذلك مثلا حين كتب أحد الشيوعيين مقالا عنوانه "سارتر ضمير العصر" وكان سارتر يتساءل بعدها "أنا ضمير العصر كله؟!
أنا لست حتى ضمير نفسى" ثم يطلب ضاحكا من لاتومان أن يتحمل عنه بعض هذه الألقاب.
وتقول الكاتبة :" لقد سمع ورأى. ولكنه لم يتأثر فيه أنمله بما سمع ورأى.(20/92)
"ولقد كان استقبالنا لسارتر أشبه بمظاهرة. وكان كلامنا معه أشبه بالصدى في وادى مهجور. إلا أن الصهيونية كانت أذكى منا وأكثر دقة في قيادته إلى أهدافها. فقد دست "كلود لانزمان" بفكره الصهيوني المغلف بطبقة مزيفة من الفكر التقدمي التضليل. دسته على سيمون في وقت كان فيه سارتر يتأرجح بين وجوديته والشيوعية فاستطاعت سيمون بتأثير من "لانزمان" أن تسوق سارتر إلى أن يخرج عن قاعدته ويسير وراءها منوما أو كالمنوم. فانبهر بما قدم إليه فترة. قبل أن يعود إلى قواعده سالماً. وقد رأينا كيف كان لانزمان يقف في الظل وراء سارتر في كل زياراته ليسمعه صوت "هرتزل" واضحا مجلجلا وهو يهمس به إليه.
كان هذا في مارس 1967 وفي نوفمبر من نفس العام اكتملت الصورة. فقد منحت إسرائيل شهادة الدكتوراة الفخرية لسارتر في سفارة إسرائيل بباريس بحضور عدد من المثقفين الفرنسيين على رأسهم سيمون وفرانسواز جيرو وزيرة الثقافة الفرنسية، وأذاع التلفزيزن الفرنسى كلمة سارتر التى قال فيها:
"إن قبولي لهذه الدرجة العلمية التي اتشرف بها له مدلول سياسي في القبول يعبر عن الصداقة التى أحملها لإسرائيل منذ نشأتها.
هذا سارتر الذي كتب "المسألة اليهودية" وهو الذي زار إسرائيل وأشاد بها، وهو الذي شارك في المظاهرات، ووقع البيانات المويدة لإسرائيل. وقد قبل سارتر الدكتوراة الفخرية منالجامعة العبرية بينما رفض من قبل كل الجوائز التى أهديت له بما فيها جائزة نوبل.(20/93)
وكان سارتر قد قام بزيارته لإسرائيل قبل حرب 1967 ببضعة شهور. وما لبثت نذر الحرب بعد عودته إلى فرنسا أن بدت في الأفق في مايو 1967 فسارع سارتر ومجموعة من المثقفين الفرنسيين الآخرين إلى إصدار بيان في تأييد إسرائيل التي سيدمرها العرب. ولكن إسرائيل بدأت بالهجوم، واحتلت من الأرض ، وقتلت من العرب ودمرت. فلم يراجع سارتر نفسه، ولم يعدل موقفه إلا بعد أن اشتعل النضال الفلسطيني بعد الهزيمة، وامتدت نيرانه إلى بعض العواصم الأوربية.
وبعد فلقد سقط فكر سارتر قبل أن يذهب لأن دعوته هي نوع من هوى النفس. وهي مواجهة لتحد عاشه في عصره. ولكن الزمن يتحول ، والفكرة التي تكون اليوم استجابة لوضع معين .. فإنها سرعان ما تسقط مع تحولات الزمن والبيئات. ولذلك فغن الوجودية لم تستطع أن تكون مذهباً قائماً أو مستمراً . وهكذا كل الأيدلوجيات البشرية التى صنعها الفلاسفة. وظنوا أنهم قد استطاعوا حل مشاكل عصرهم. ذلك أن هناك منهجاً واحداً: هو الذى يستطيع أن يحل مشاكل الإنسان في كل العصور والبيئات. ذالك هو منهج الله الحق "لا إله إلا الله".
(14)
لويس عوض
*توفيق الحكيم يرى عزل مصر عن البلاد العربية وتحويلها إلى فندق سياحي عالمي للوافدين العرب تقدم لهم كرم الضيافة من المتعة والراحة.
*لويس عوض يحاول تحطيم دور مصر الرائد في مواجهة الفكر العربي وموقفها التاريخي من الإعصار التتري والحروب الصليبية.
*كراهيتهم الإسلام ثابتة في الأعماق لا تظهر على السطح ولكن بتدو في التصرفات وطريقة معالجة القضايا والمشاكل.
*طه حسين يقول في تمجيد الفرعونية وإعلاء شأنها على الإسلام: إذا كان الإسلام سيقف حجر عثرة في طريق مصريتنا الفرعونية لنبذناه.
*كان الإسلام وما يزال روح المجتمعات الدولية ومهد الحضارات الإنسانية ووقود الحركات الوطنية والتحررية.(20/94)
*لا غرو فالإسلام هو الذى صنع الشخصية المصرية منذ أربع عشر قرناً والإسلام اعتنقه المسلمون ديناً واعتنقه غير المسلمون حضارة وثقافة وعادات.
دارت التساؤلات حول يوميات كتاب الصحف اليومية وما أثاره لويس عوض وتوفيق الحكيم والسيد ياسين من وجوه النظر حول علاقة مصر بالتاريخ الغربي والإٍسلامي، وبالدولة العثمانية والغرب، ومحاولة تصوير مصر على أنها شخصية فرعونية غارقة في الوثنية أو منحازة إلى الغرب. وتتجاهل هذه الدراسات أن الإسلام هو الذي صنع الشخصية المصرية منذ أربعة عشر قرناً وأن التاريخ وعلماء التاريخ قد أعلنوا بما لا يحتاج إلى مزيد من الإيضاح .. سواء منهم الغربيون أو العرب، أنه قدحدث انقطاع حضاري جب كل ما كان قبل دخول مصر في الإٍسلام، وأن تاريخاً ضخماً طويلا استمر أكثر من ألف سنة من تاريخ اليونان والرومان في هذه المنطقة من الشام إلى مصر إلى أفريقيا كل هذا التاريخ بقرائه ولغاته ومفاهيمه وقيمه قد أصبح في خبر كان بعد دخول الإٍسلام بقرن واحد فقد اعتنقت المنطقة كلها الإٍسلام .. اعتنقه المسلمون دينا واعتنقه غير المسلمين حضارة وثقافة وعادات". وقد أشار كرومر إلى هذا المعنى حين قال: إن المسلمين والمسيحيين يضدرون عن أخلاقي واجتماعي واحد مع طول التأثر.(20/95)
ولكن إخواننا ينسون هذه الحقيقة الواضحة ويناقشون الشخصية المصرية على أنها منعزلة لم يصنعها القرآن أو الثقافة الإسلامية أو الفكر الإسلامي أو اللغة العربية، وينسون أن المنطقة كلها هجرت لغاتها القديمة بعد قرنين من دخول الإسلام إليها، كذلك فقد كان الإسلام ولا يزال روح المجتمعات وشارة الحضارة ووقود الحركات الوطنية والتحريرية، ولقد كان الدعوات إلى الإقليمية والقوميات واحدة الفكرة والمنهج .. ولذلك سرعان ما عجزت عن تحقيق أشواق النفس العربية الإٍسلامية. وستظل هذا الظاهرة الإسلامية الفكرية والاجتماعية أساساً مكيناً وحصناً حصيناً للشخصية المصرية ما عاشت .. لأنها عميقة الجذور من ناحية ولأنها منصهرة فيها انصهاراً عضوياً يعجز خصوم الإسلام عن القضاء عليه.
إن الدكتور لويس عوض لا يستطيع أن يخرج عن التفسير الفرعوني الوثني الذى سار عليه كل كتاباته وعرف به ومن ثم فقد أصبح في تقدير الباحثين غير منصف ولا راغب في معرفة الحقيقة الخالصة لوجه الحق وحده.
ولقد جاءت تساؤلات عن محاولات توفيق الحكيم في تحييد مصر عن البلاد العربية وعزلها، والدعوة إلى جعلها فندقاً عالمياً سياحياً يقدم للوافدين من كل مكان المتعة والترفيه، وكان في ذلك مشاركاً للدكتور لويس عوض في تحطيم دور مصر العالمي الذى عاشت تقوم به في مواجهة التيارات الغازية والغزوات الطامعة التى واجهت عالم الإسلام، وكان لها دورها الخطير في رد هذه الغزوات وحماية عالم الإسلام وحماية الغرب نفسه كما حدث في الإعصار التتري وفي الحرب الصليبية وفي الاستعمار الغربي الحديث، وسوف يكون لها دورها الخطير في دفع الغزوة الصهيونية ووقاية المسلمين والعرب منها..(20/96)
ولا ريب أن دعوة توفيق الحكيم تصدر عن مفهوم بعيد أشد البعد عن الانتماء العربي الإسلامي .. ولقد كان توفيق الحكيم طوال حياته يفخر بذلك معليا شأو العنصرية في حديثه عن مصر، كارهاً لطابع مصر العربي الإسلامي .. وبالرغم من أن الدكتور طه حسين أعلى من شأن الفرعونية على الإسلام حتى قال قولته المشهورة: "إذا كان الإٍسلام يقف حجر عثرة أمام مصريتنا وفرعونيتنا لنبذناه" بالرغم من هذا فإن الدكتور طه حسين يرى أن رأي توفيق الحكيم في العرب أشد تحاملا وتعصبا من رأي كثيرين من متعصبة المستشرقين أمثال رينان ودوزى. ولعل التقارب في الرأي بين توفيق الحكيم ولويس عوض يرجع إلى مصادر الثقافة الغربية الواحدة التى تأثر بها كلاهما في فترة كانت البعثات الأجنبية سواء إلى فرنسا أو إلى انجلترا تستهدف سحق مقومات هذه الأمة وإلقائها في أتون الإقليمية فهي كراهية مشتركة للعروبة والإسلام، وهو ممتدة إلى اللغة العربية وإلى القرآن وهي مبثوثة في الأعماق لا تظهر على السطح ولكنها تبدو في التصوف وفي تناول القضايا.(20/97)
وبالرغم من أن توفيق الحكيم قد لخص تفسير القرطبي وظن بعض الذين يأخذون بظواهر الأمور أنه في الطريق للتعرف إلى الإسلام إلا أنه لم يلبث أن كشف عن تلك المحاولة المسمومة التى ترددها طائفة معروفة الآن باسم طائفة الخادعين المسلمين بالحديث عن الشريعة الإسلامية وذلك حين ردد ما كان يقوله منذ سنوات عن تطوير الشريعة الإسلامية وهي دعوة يحمل لواءها من وقت بعيد: محمد النويهي وعبد الحميد متولى ومحمد أحمد خلف الله وآخرون بهدف تذليل الشريعة لتبرير أوضاع المجتمعات الحديثة وفي مقدمتها الربا وعلاقات المرأة والرجل خارج نطاق الزواج، واحتواء الشريعة الإسلامية ونصوصها في داخل القانون الوضعى على النحو المسموم الذى دعا إليه عبدالرازق السنهوري منذ سنوات وهي دعوى ممتدة يغذيها النفوذ الأجنبي ليحول بها دون تطبيق المجتمعات الإسلامية للشريعة الإسلامية أو عدوتها إلى طريق الأصالة، ومن أهم هذه المحاولات المسمومة: القول بتغير الأحكام مع تغير الزمان " وهو قول محدود جداً يتصل بالفرعيات ويعتمد في ذلك على نص للشيخ محمد عبده الذي يعتمد عليه الماركسيون وأعداء الشريعة لا يمثل الإمام المجتهد ولا المتخصص في هذا الأمر، وإنما هي اجتهادات كان لها وضع وظروفها في وقت كانت الشريعة الإسلامية تضرب بالسياط على أيدى كروم في مصر وليوق في المغرب وهي لا تمثل اجتهاداً يمكن الأخذ به ، كذلك الخطأ الذى وقع فيه على عبد الرازق حين أراد أن يصف الإسلام بأنه دين روحاني ويلغى نظامه الاجتماعي إلغاء تاماً وتلقف بعض المستشرقين هذه النصوص الزائفة التى لم يعتمد فيه على كتاب أو سنة لضرب الإسلام. كذلك هناك ما يثار من شبهة الشبهات والتغيير ومحاولة وضع العقيدة في مكان الثبات والشريعة في مكان المتغير وهذا أيضا غير صحيح على إطلاقه. وأن الشريعة الإسلامية إنما جاءت خالصة ثابتة صالحة لكل العصور والبيئات إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.(20/98)
وقد دحض الدكتور عبد المنعم النمر شبه توفيق الحكيم هذه التى ما زال يرددها منذ سنوات حين قال له : كان الحكيم يريد أن يجعل كل ما شرعه الله لتنظيم حياة الإنسان خاضعا للتغيير بتغير المجتمع وراثة، ومن هنا تهب ريح الخطأ في التفكير، بل والخطر أيضا على شريعة الله إذ معنى ذلك ومؤداه لو قبلناه أن لنا أن نبيح الزنا والخمر والرقص متى قبل المجتمع ذلك ونتحلل من عقوبات السرقة والحرابة والزنا ومن كل شئ حرمه الله ورسوله لو قبل المجتمع ذلك !! وهذا اتجاه خطير يهدم الشريعة ويزلزل كيانها لأنه يجعلها تابعة وخاضعة لهو الناس وما يتجهون إليه في حياتهم في أي مكان وفي أي عصر والله تبارك وتعالى يقول لرسوله:{ ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تبع أهواء الذين لا يعلمون}.
ونقول أن الجماعة ينتدبون أحدهم فترة بعد فترة ليثير القضية ثم ينظرون ثمة ليعود آخر إلى إثارتها وكل همهم أن يخرج المجتمع الإٍسلامي العربي والمصري من شريعة الله إلى قبول الربا والرشوة والتساهل في أمر العرض واستعراض المرأة لمفاتن جسدها ومراقصة الأجانب. وهكذا.
الحقيقة أن قضية المرأة تأتي في المقام الأول من عملية تحطيم المجتمع، وهي تهدف إلى تدمير الأسرة وتعاون على ذلك قوى كثيرة منها القصة والمسرحية والأغنية والصورة العاربة وبعض كتاب اليوميات الذين يزينون التيارات التى تهدم المجتمع ممثلة في بعض الروايات الجنسية والكرة والرقص.
وتجرى الصحف لاهثة وراء تفاهات يسمونها نصراً للمرأة سواء في مجال الرقص أو الغناء أو قيادة السيارات وكلها أمور لا أهمية لها تستهدف إخراج المرأة من مكانها الحق ووضعها الصحيح. وتلك مجموعة أخرى من الكتاب لها صلاتها بالروتاري والليونز ومخططات الهدم والتدمير.
سجلت صفحات الدكتور لويس عوض أحقاداً وسموماً بالغة الخطر عمقة الأثر:(20/99)
(أولا) من أخطرها حملته على اللغة العربية الفصحى ودعاواه الكاذبة في مواجهتها كراهية الإسلام والقرآن، وقد كان من أخطرها كتابه "مدخل إلى فقه اللغة العربية" التى حاول فيه الادعاء بأن العرب جاءت من القوقاز، وأن اللغة العربية لغة آرية ليس لها أي تميز خاص وقد خاض في شبهات حول الإعجاز القرآني وغير على نحو مضلل.
(ثانيا) موقفه من الشعر العربي وهجومه على الأصالة واحتضانه لشعراء التفعيلة من أمثال: صلاح عبد الصبور وأدونيس والسياب وغيرهم ودعوته إلى تحطيم عامود الشعر وكسر بلاغة اللغة العربية وهي دعوى قديمة ما زال يرددها ويجددها.
(ثالثا) موقفه المتعددة من التراث الإسلامي والفكر الإسلامي وهي مواقف توحى بالشبهة في سلامة البحث وعلميته، والالتجاء إلى أفكار المستشرقين ومتابعتهم وكراهية أمة العرب والإسلام، والتى تكشف عن أحقاد دفينة.
وقد واجهه كثير من المفكرين وكشفوا زيفه، وفي مقدمتهم الأستاذ محمود محمد شاكر في كتابه "أسمار وأباطيل".
محتوى الكتاب
الموضوع……… الصفحة
1- لطفي السيد
2- سعد زغلول
3- قاسم أمين
4- طه حسين
5- سلامة موسى
6- على عبد الرازق
7- ساطع الحصرى
8- محمد التابعي
9-10- مدحت وأتاتورك.
11- غاندي
12- زكي نجيب محمود
13- سارتر وعبدالرحمن بدوى
14- لويس عوض(20/100)
فلنذكر دائمًا الغاية الأساسية ولا تشغلنا الجزئيات
الأستاذ/ أنور الجندي
ما تزال الكلمة الأولى هي الكلمة الأخيرة : هذا وطن الإسلام الذي سرق منه واستولى عليه الاستعمار وحاصر دينه وعقيدته في مؤامرة ضخمة لتدميرهما وتحويل هذه الأمة إلى عبودية الأممية والخضوع للحضارة الغربية والانصهار في المجتمع العالمي المادي العلماني الذي مرق من العبودية لله تبارك وتعالى مفكرًا هذه الرابطة متحللاً منها داعيًا إلى نقضها في محاولة للخروج عن سنن الله تبارك وتعالى.
وبالرغم من مرور أكثر من مائة وخمسين عامًا على الوطن الإسلامي وهو محاصر في دائرة النفوذ الغربي بشكل أو بآخر، وبالرغم من جهاد الأبرار على طول هذا المدى في سبيل الحفاظ على البيضة وحماية الفكرة .. فإنه مهما بدا أنه حر في حركته فهو مقيد محاصر مصادرة ثرواته ومقدراته ، مغرّب شبابه ورجاله حيث تحتويه دعوات الماركسية والليبرالية والقومية والفرعونية في محاولة مستمينة لفصله عن عقيدته ولتحطيم وحدته الكبرى بعد أن أسقطت خلافته ليظل دائمًا ممزقًا مستدلاً .
ولقد عملت اليقظة الإسلامية دائبة على تحريره من قيوده وخطت في سبيل ذلك خطوات واسعة انتقالاً إلى الصحة) في سبيل الوصول إلى (النهضة) غير أن كثافة ردود الأفعال ومضاعفة النفوذ الغربي لعمليات التغريب والغزو الفكري فإنها ماتزال تعمل في محاولة مستميتة لتصهرنا في بوتقة الغرب .
يأتي هذا الخطر عن طريق التعليم والثقافة والصحافة مما يتطلب منا الإلحاح الدائم على تذكر الغاية الأساسية وهي حماية أمتنا من الخطر المسلط على منهجنا الأصيل .(21/1)
إن تتابع محاولات الاحتواء التي تجري اليوم تحت أسماء مختلفة تحاول أن تصورنا في صورة الأمن الخادع ظنًا منا أننا قد امتلكنا إرادتنا فلا خوف من صهرنا في بوتقة الأممية العالمية أو القضاء على تميزنا وخصوصياتنا ، التي أعطانا إياها الإسلام منذ أربع عشر قرنًا ، والتي ما تزال هي أخطر مايجب الحفاظ عليه وحمايته والتضحية بكل شيء في سبيل الدفاع عن هذه الخصوصية وهذا التميز فهو عنوان إسلامنا الذي ندافع عنه بالأرواح وبالأجساد المتراصة .
إن مهمتنا الحقيقية هو (البناء على الأساس) لسنا نطالب بالعودة إلى الماضي أو إحياء التاريخ ولكنا ندعو إلى التماس أصول منهجنا الذي بني عليه كياننا منذ أربعة عشر قرنًا : هذا المنهج المرن الواسع الأطر القابل لمتغيرات العصور والبيئات دون أن يتهم بالجمود أو التطرف إن النفوذ الأجنبي بهذه الجريمة التي ارتكبها منذ مائة سنة حين حجب منهجنا الإسلامي وشريعتنا وهدم وحدتنا الكبرى قد خالف طريقنا وفتح أمامنا السبل المتفرقة المضطربة وقسم عقيدتنا ومزق وجهتنا بين مذاهب وايدلوجيات بشرية مضطربة وقع الغرب في منزلقها لأنه اختار أن يترك ميراثه السماوي جملة ، أما نحن المسلمون فقد وجدنا أنفسنا على الجادة إزاء رسالة خالدة وكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ومنهج أصيل جامع وتاريخ عريق تتمثل فيه تجربة المسلم في سبيل بناء المجتمع الرباني (وإن لم يصل بعد إلى تحقيقها على الوجه الصحيح) .
فإذا نحن طالبنا أن نزيل هذه المرحلة المظلمة من التبعية للغرب حين فرض علينا قانونه الوضعي ونظامه الربوي ومنهجه العلماني ارتفعت الأصوات تصفنا بالجمود والتخلف والرجعية ، وما نحن من ذلك كله في شيء ، ولكنا فور أن نصحح الخطأ ونزيل تبعية فرضت ولم نقبل بها يومًا واحدًا من أيام حياتنا الماضية وكنا نتطلع في كل صباح لأن نعود إلى المنابع ونلتمس أصالتنا ونلتمس طريقنا الأصيل عملاً بالآية الكريمة .(21/2)
?وَأنَّ هَذَا صِرَاطِيْ مُسْتَقِيْمًا فَاتَّبِعُوْهُ وَلاَ تَتَّبِعُوْا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيْلِه ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِه لَعَلَّكُمْ تَتَّقُوْنَ? سورة الأنعام آية153.
نحن نختلف عن أصحاب الولاء للتبعية الغربية في أننا نطالب بتصحيح المسيرة ، مستمدين ذلك من واقع حياتنا ، فهي ليست معارضة خلاف أو خصومة ، ولكنها مراجعة تلتمس الوصول إلى الجذور والمنابع والبناء عليها ، مراجعة تحرير من تبعية هدف غربي أو ولاء لهذا المنهج أو ذاك من مناهج البشرية التي أثبتت التجربة فساد تطبيقها وسقطت في بلادها التي أنشأتها، وهي مراجعة يطالبنا بها العالم كله اليوم بعد أن أصبح الإسلام هو الأمل الوحيد للبشرية لإخراجها من الظلمات إلى النور .
فها نحن نرى أعلام الغرب وعلماءه يعلنون موقفهم من الإسلام ويكشفون عن فساد تلك الايدلوجيات واضطرابها وعجزها عن العطاء وها هم رجال القانون الغربيون في عديد من المؤتمرات العالمية يعلنون أن الشريعة الإسلامية هي أمل البشرية ومطمع أهلها ، يقولون هذا بينما أهلها مازالوا غارقين في تبعية بغيضة للقانون الوضعي بكل سوءاته وآثامه وحرمانه للأمة الإسلامية من حماية حدود الله تبارك وتعالى وتطبيقها .
2- إننا في حاجة دائمة إلى وعي رسالتنا وأمتنا ومهمتنا التي سوف نسأل عنها بين يدي الله تبارك وتعالى ، وهي الذود عن أمانة الدعوة إيمانًا بأن هذه الأمة الإسلامية هي الأمة الخاتمة المصطفاة لحمل رسالة التوحيد إلى العالمين حتى يرث الله الأرض ومن عليها .
وأن جميع الرسالات التي سبقت كانت بمثابة تمهيد وإعداد لهذه الرسالة الخاتمة وأن (الصحوة) في الأمة تنبعث دائمًا من داخلها من منطلق تصحيح المسيرة وليس بعامل خارجي إلا أن يكون الوعي بالخطر الذي يحيط بها .
وقد صدقت مقولة شيخنا أبي الحسن الندوي حين يقول:(21/3)
(إن الصحوة الإسلامية هي صفة الإسلام ويجب أن تتصل اتصالاً وثيقًا في حلقاتها لأنها الأمة المختارة والأخيرة والمبعوثة للإنسانية كلها) . وقد امتاز الإسلام بأنه يختلف عن الدعوات السابقة بأن له فترات إصلاحية فورية جذرية تدعو إلى العودة به إلى الأصل الأول.
حيث لم تخل مرحلة من وجود مصلح أو مجدد أو داعية للصحوة الإسلامية في هذا البلد أو ذاك على اختلاف المساحات والأرجاء فالصحف الإسلامية في الحقيقة من طبيعة الإسلام ويجب أن تتصل اتصالاً وثيقًا في حلقاتها فإنها الأمة المختارة أو الأمة المبعوثة للإنسانية جمعاء ومن هنا نفهم معنى (الأمانة) الكبرى التي يحملها المتصدرون للدعوة الإسلامية ومدى خطر المسؤولية الملقاة على عاتقهم وأهمية الدور الذي هم مكلفون به ، والذي يجب أن يصل بهم إلى اليقين الوثيق في صدق هذه الدعوة وانتصارها وضرورة بذل النفس والنفيس في سبيل تبليغها وحمايتها وتصحيح المفاهيم ويبدو ذلك واضحًا في حديث رسول الله.
يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف المغالين وتزييف المبطلين وتأويل الجاهلين:
فمهما ادلهمت الأحداث واستعلى الباطل وارتفع صوت الضلال وظن الناس أن الأمور كلها قد اسلمت نفسها إلى هذا الانحراف الذي تنطلق به عجلة الحضارة المعاصرة والدول التي تسوقها نظم السيطرة الربوية العالمية بكل ما تمثله من فساد خلقي وانحراف وإسراف واندفاع نحو الهاوية ، فإن نور الحق لابد وأن يسطع وأن ترتفع كلمة الحق ، ولابد أن تغلب وكل من يسير في غير اتجاه الحق فإنما يسير ضد تيار التاريخ والفطرة.(21/4)
ومن سار ضد تيار الفطرة لابد أن يتحطم ويدمر ولقد استعلت الحضارة الغربية بالباطل وساقت العالم كله وراءها الآن ، وفرضت مفاهيمها وقيمها وبقي ضوء الإسلام ممتدًا وإن كان خافتًا لم ينطفئ أبدًا ، ولاتزال الضربات تتوالى على المسلمين في كل مكان : ضربات الاقتصاد والتحلل الاجتماعي وكلها تستهدف أن يستسلم المسلمون ويقبلون بالانصهار في هذا النظام المنهار المتعفن الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة.
ولكن بقي على المسلمين أن ينظروا إلى غد وأن يؤكدوا موقفهم المسؤول عن الأمانة التي حملهم إياها الحق تبارك وتعالى ولا يتراجعوا أو ينزعجوا أمام التضخم والاستعلاء واتساع منطلقات الباطل وظلمه وفساده وتعدد معسكراته ، وعليهم أن يثبتوا واثقين بالنصر من الله لهم وكل يوم لهم فتح قريب.
ويجب أن يعلم المسلم أن كل هذا الفساد إلى زوال وأن الله تبارك وتعالى يأتي الأرض ينقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحمه ومن هنا فيجب أن يكون المسلم مطمئنًا إلى اليقين في الله وأن يظل المسلم مقاتلاً لا يستسلم أمام أهواء الحضارة أو فساد التيارات الفكرية العصرية غير مستسلم لها ، يقيم شرعة الله في نفسه وبيته وآله والمسلم مهما ادلهمت الأحداث فهو واثق من فرج الله ولا يميل أبدا إلى سوء الظن ولا يتقبل صور التشاؤم أو ظلام الأحقاد مهما كان قائلها بارز الصيت أو مكتوبة في صحف لامعة أو شهيرة فذلك وما يريده العدو الذي يطمع في أن يصل المسلم إلى مرحلة الاستسلام واليأس وكيف ينفض المسلم يده من الأمر وهو يعلم مسؤوليته أمام الله تبارك وتعالى على هذه الأمانة القائمة في عنقه وذلك الوعيد الصادق الأكيد بالنصر مهما ادلهمت الأحداث ؛ حتى إذا استيأس الرسل وظنوا انهم قد كذبوا أتاهم نصرنا . وباب السماء مفتوح ونصر الله قريب إن مسؤوليتنا أن نصمد في موقفنا مؤمنين بأننا على الحق مرابطين حتى ننتصر أو نستشهد.(21/5)
إن الوعي بحقيقة المخطط المرسوم لاحتواء الإسلام والمسلمين يجعلنا قادرين على التماس الطريق الذي رسمه الحق تبارك وتعالى لنا للخروج من كل مأزق ، وعلى شبابنا المسلم أن يكون على وعي كامل بعدة حقائق أساسية:
أولاً : أن مجتمعنا القائم الآن يمكن أن يكون نقطة انطلاق إلى واقع إسلامي لأن قاعدته الأساسية ماتزال سليمة وصالحة إذا أحسن توجيهها نحو البناء على الأساس وفق مفهوم النظام الإسلامي ، غير أن هذا الواقع القائم الآن ينقصه الكثير ويتطلب تصحيح كثير من مفاهيمه وقيمه وتعديل مساره نحو الطريق الأصيل وأهم ما يتطلبه هو التعامل الاجتماعي من قاعدة (الحفاظ على الحلال وتجاوز الحرام) سواء في المعاملات التجارية أو في العلاقات بين الرجل والمرأة.
ذلك لأننا كمسلمين وقد تشكل مجتمعنا منذ أربعة عشر قرنًا على مفاهيم الإسلام نؤمن بالقاعدة الأخلاقية الثابتة أساسًا متينًا للبناء الاجتماعي والتعامل الاجتماعي محررًا من شبهة الربا في الاقتصاد وشبهة الإباحة في المجتمع .
وهذا التوجه هو الذي تنظمه الشريعة الإسلامية فتحفظ المسلم من الانحراف وتحمله على تجاوز الحرام سواء في تعامله الاقتصادي أو الاجتماعي . وهذا ما ينقص مجتمعنا اليوم الذي يندفع بقوة نحو البحث عن الموارد والكسب والتعامل التجاري دون أن نضبط تعامله إسلاميًا بتحريم الربا أو أخلاقيًا بتجاوز الحدود.
ومن هنا فنحن في أشد الحاجة إلى الدخول في مرحلة تصحيح الوجهة ، وذلك بإقامة معاملاتنا سواء في مجال التجارة أو ااجة إلى الدخول في مرحلة تصحيح الوجهة وذلك بإقامة معاملاتنا سواء فيًا بتجاوز الحدود .
لاقتصادي أو الاجتماعي . لزراعة أو الاقتصاد على أساس تحري الحلال وتجاوز الحرام وكذلك إقامة علاقاتنا الاجتماعية على أساس نفسه.
وفي هذا المنطلق نحن في حاجة إلى تحرير أساليب التسلية والترفيه (سواء منها المسرح أو التلفزيون أو غيرها) .(21/6)
من القصص الماجن والروايات والأفلام والمسلسلات المنحرفة التي تجعل مآثم المجتمعات وكأنها حقائق مشروعة وذلك لحماية شباب الأمة من الوقوع في الخطأ أو الخطر.
ثانيًا : إن الأصول الإسلامية لمجتمعنا يجب أن تكون واضحة في حركة الفكر فلا نجد المناهج والأبحاث تقدم وجهة نظر الفكر الليبرالي أو الفكر الماركسي على أوسع نطاق دون أن تقدم وجهة النظر الإسلامية سواء في مجال القانون أو الاقتصاد أو التربية في محاولة لإعلاء التصور الغربي وحجب التصور الإسلامي في محاولة لإعلاء منهج مغلوط هو أن الإسلام لا صلة له بالمجتمعات من حيث توجيهها ورسم مناهج تحركها ومعاملاتها لإفساح المجال أمام القانون الوضعي وإعلاء مفاهيم العلمانية .
وهذا التصور في مجموعه لا يمثل حقيقة مجتمعنا القائم أساسًا على الشريعة والذي يطالب بتطبيقها في مختلف المجالات السياسية .(21/7)
(2)
في سبيل إعادة كتابة تاريخ الإسلام
تتعالى الصيحات في الوقت الحاضر بالدعوة إلى إعادة كتابة تاريخ الإسلام بعد أن تبين للعلماء والباحثين أن الصورة الموجودة الآن في أيدي شبابنا وطلبة مدارسنا وجامعاتنا والتي صنعت في ظل الاستعمار وتشكلت أولاً في هذه البلاد التي سيطر عليها ليست بالصورة المثلى، ذلك أن هذه الصورة نبتت أساساً في ظل الاحتلال بعد أن انفصلت عن الدولة الأم: الدولة العثمانية. وعن الطابع الأساسي الذي أريد لها هو أن تكون كتابات محلية خالصة: لا تستهدف كتابة تاريخ الإسلام نفسه ولكن كتابة تاريخ الأوطان، ومن ثم انحازت هذه الكتابات للأمة أو القطر أو البلد وأعلت من شأن وجوده الخاص، وتاريخه القديم، واستوحت أشد الصفحات بعداً عن الأصالة وعن الرؤيا الصحيحة، فأعلى شأن الفرعونية والفينيقية والبابلية والآشورية والبربرية والزنجية وغيرها. فإذا عرض أمر الإسلام فإنما يعرض على هون وفي أسلوب يوحي بأن الأمم أو الأقطار كانت أكبر منه وأنها حين دخل عليها أقامته وسيطرت عليه، وعَدّته بعض الكتابات استعماراً أشبه بالاستعمار الفارسي والروماني.
ويرجع ذلك كله إلى أن النظرة الأساسية التي قامت عليها كتابة التاريخ نظرة استعمارية ووافدة، وحين فتحت الأفاق لدراسة تاريخ الإسلام، درس على أنه تاريخ الدولة أو الإمبراطورية التي قامت ثم تمزقت إلى دول. وحين عرض لم يعرض إلا من خلال خلافات بعض الملوك والأمراء والحكام وصراعاتهم الخاصة.
وكان التركيز شديداً على الخلاف الأول بين الصحابة (عثمان وعلي ومعاوية). في محاولة لتفسيره تفسيراً مادياً خطيراً بأنه صراع على الحكم.
وغلبت على دراسة التاريخ مذاهب الاستشراق وهي مذاهب غربية أصلاً قامت في ظل تاريخ أوربي وغربي له تحدياته وظروفه، مثل الصراع بين الكنيسة والعلماء، وبين الأمراء والشعب، وصراع المذاهب الكاثوليكية والبروتستانتية وذلك القتال الرهيب بين الملوك والدول والأمم.(22/1)
هذا المذهب في تفسير التاريخ الذي كان مطبقاً في الغرب حاول المستشرقون نقله إلى أفق التاريخ الإسلامي رغبة في محاكمة هذا التاريخ إليه، فكان خطراً وفاسداً ومضطرباً؛ لأنه ليس متسقاً معه وليس منبعثاً من وجوده ومذاهب التاريخ والأدب والنقد وغيرها جميعاً لا يمكن أن تنقل من بيئة إلى أخرى، وإنما هي تنبع من بيئتها لأنها جزء من الثقافة الذاتية الخاصة القائمة على العقائد والتراث والعادات والطوابع العميقة للأمم.
ولكن الاستعمار ومن ورائه التغريب والغزو الثقافي فرض هذا المنهج من تفسير التاريخ على التاريخ الإسلامي فمزقه إرباً وأحاله أركاماً، فهو أولاً يدرسه مجزءاً واقعة واقعة، أو أنه يرجح رواية توافق الهوى أو أنه لا يفهم تيار التاريخ الإسلامي نفسه، هذا التيار الذي لا يفهمه إلا من يعرف منطلقه الأساسي كما رسمه القرآن الكريم وصورة الإسلام في أصوله وقيمه.
وقد استهدت هذه الدراسات بالطابع الوطني الخالص، الذي حجب عنها الصورة الكاملة للتاريخ بأبعادها حيث عجزت هذه الصورة أو تعمدت إلا تشير إلى أن هذا الوطن وهذه الدولة، ليست إلا جزءاً من الوطن الإسلامي ومن الدولة الإسلامية أساساً وأن الروابط بين الجزء والكل لا يمكن أن تنفصم؛ لأنها روابط عقدية ولغة وشريعة وتاريخ طويل وأمة وسطى جامعة لا يستطيع جزء منها أن ينفصل أو ينغلق مهما حاول ذلك أو حاوله له الاستعمار.
وفضلاً عن هذا فإن هذه النظرة الوطنية الضيقة التي جهلت مكانها كجزء من الكل، لم تتوقف عند هذا الحد، بل أنها أعلنت استعلاءها بخصائصها التاريخية القديمة أو طبيعتها الخاصة، ثم ذهبت إلى أبعد من ذلك حين أعلنت الحرب والخصومة على الأجزاء المجاورة لها وإقامة سد عالٍ بينها وبينه؛ وذلك بهدف ألا تتصل الأجزاء مرة أخرى ولا تلتقي.(22/2)
ولقد استمر هذا الاتجاه طويلاً، ثم جاءت بعد ذلك الدعوات القومية والدعوة العربية بالذات فكان لها أيضاً محاذيرها في كتابة التاريخ. فقد أخذ العرب يفصلون تاريخهم عن تاريخ الأمة الإسلامية، ويفصلون جغرافيتهم عن جغرافية العالم الإسلامي، وبدا كأنما العرب أمة قائمة بنفسها فكان لها تاريخها الخاص في الجاهلية ولم يكن الإسلام إلا نبتاً من النبات، وما تزال الأمة العربية هي الأمة العربية التي لم يغير فيها الإسلام شيئاً، ثم يجئ بعد ذلك الاستعلاء بدور العرب في الفتح والتوسع والحضارة.
وكل هذا أيضاً من آثار السيطرة الاستعمارية على التاريخ الإسلامي؛ في محاولة تمزيقه إلى تاريخ دول وأمم وإلى صبغ هذه التجزئة بالتعصب والاستعلاء العنصري.
ولذلك فقد كان من أخطر ما واجه التاريخ الإسلامي، هذه المجموعة من أتباع المستشرقين وحملة ألوية الفكر الغربي ودعاة التغريب الذين سيطروا على مجال التربية والتعليم، والذين مازالوا منبثين في عديد من الجامعات ومعاهد الإرساليات، حيث نجد الشباب المسلم يعرف عن نابليون أكثر من خالد بن الوليد وطارق بن زياد.
هؤلاء الذين يريدون تفسير تاريخنا الإسلامي في الإطار المحلي أو الإقليمي أو القومي أو الوطني؛ في سبيل إعلاء دعوة العنصرية أو العرق، مع أن الإسلام جاء ليقضي على استعلاء العنصرية والعرقية ويدعو إلى إقامة مجتمع الإخاء الإنساني العالمي.(22/3)
كذلك فإن الدعوة إلى ربط التاريخ الحديث بالتاريخ القديم السابق للإسلام جاهلياً أو فرعونياً أو فينيقياً، إنما هو دعوة إلى أمر مستحيل؛ حيث سيطر الإسلام على الساحة الفكرية والاجتماعية والروحية والنفسية وللبشرية بعد أربعة عشر قرناً وقطع الصلة بينهم وبين الماضي قطعاً لا سبيل إلى إعادته، وقد أكد علماء كثيرون غربيون أيضاً نظرية "الانقطاع الحضاري ولا استمرارية التاريخ" في هذه المنطقة، والحاجز الضخم الذي أقامه الإسلام بين الأمم وبين ما كان لها من تاريخ ودين وعقيدة وفكر من قبل.
ذلك أن ظهور الإسلام –وهو كذلك في تقدير الباحثين الغربيين المنصفين- هو علامة بارزة على بدء تاريخ العصر الحديث حتى بالنسبة لعوالم الغرب نفسه، وأن كل ما سبق الإسلام من حركات التاريخ إنما كانت تمهيداً له، فالإسلام هو الذي حمل إلى البشرية لأول مرة "الأخوة البشرية" ووحدة الجنس الإنساني ووحدة الدين ووحدة الفكر بديلاً عن الوثنية في الفكر والعبودية في المجتمع، فهو الذي حرر الفرد في الجماعة وحرر النفس من عبادة غير الله وحرر العقل بالنظر إلى الكون؛ فدفعه إلى إنشاء المنهج العلمي التجريبي قاعدة الحضارة القائمة ولم يكن يعرف منه قبل الإسلام شئ ما.
كذلك الخطر الذي نواجهه في دراسة التاريخ: وهو تاريخ إسلامي أم تاريخ عربي أم تاريخ إسلامي عربي، وفي تسمية الحضارة هل هي إسلامية أم عربية، والفتوحات هل هي إسلامية أم عربية، والعلماء والمفكرون هل هم عرب أم فرس أم ترك.
كل هذه محاولات للتزييف وإثارة الشبهات وصرف الشباب المثقف عن الحقيقة التي هي معروفة ومقررة من أن الإسلام هو الذي أعطى العرب هذه الوحدة وهذه المكانة وهو الذي دفعهم في الأرض وأن هذه الحضارة وذلك الفتح وهذا العلم كله إنما جاء من الإسلام ولولا الإسلام ما استطاع العرب أن يقتحموا الآفاق أو يقيموا حضارة ما.(22/4)
ونحن نعرف أن التراث الفكري الذي كان موجوداً قبل الإسلام سواء تراث بابل الغنوصي أو تراث فارس الوثني أو تراث اليونان المادي، إنما كان عبارة عن محاولات من البشر لتبرير رغبات الإنسان ومطامعه وأهوائه دون أن تكون قائمة على توحيد أو عدالة أو رحمة، وأن تراث الأديان نفسه كان قبل ذلك كله هو الضوء الوحيد الذي عرفته البشرية في طريقها، وأن هذا التراث قد حاولت التفسيرات الزائفة والدعوات المضللة أن تبدده وتمزقه وتخرجه عن مضمونه، حتى جاء الإسلام فألقى إلى البشرية تلك الحصيلة الضخمة البارة من العلم والفهم والإيمان والضياء؛ لإخراجهم من الظلمات إلى النور، وأن هذه الحصيلة وحدها هي التي فتحت الآفاق إلى النهضة والحضارة التي شملت أغلب أجزاء العالم إذ ذاك –هذا وإن كانت الحضارة الإسلامية قد استصفت إليها كل عصارات الفكر القديم وما وجدته صالحاً وصهرته في بوتقتها- ولم تترك إلا الزائف الفاسد.
ومن هنا فالحضارة إسلامية حقاً، وهؤلاء العلماء ليسوا غرباً وليسوا فُرساً وليسوا أتراكاً، وإنما هم مسلمون كونت عقلياتهم فكرة التوحيد وملأت نفوسهم كلمة القرآن وعمرت أرواحهم دعوة الله إلى النظر في السماوات والأرض، فكل ما أنتجوا إنما جاء من محيط القرآن والإسلام وليس من محيط بلادهم أو تراثهم، ذاك أن الإسلام إنما أعاد صياغة عقليات وقلوب ونفوس أربابه وأصحابه خلقاً جديداً فشكلهم على نمط جديد هو روح الإسلام، ومن قلب هذا الروح كان نتاجهم، ومن هنا فإن هذا التكوين النفسي والعقلي هو بمثابة الجنس والأخوة الإسلاميين.(22/5)
إن منهج تفسير الإسلام للتاريخ هو المنطلق الوحيد للنظر في التاريخ الإسلامي العربي وإعادة كتابته من جديد، فإن التاريخ المكتوب الآن واقع تحت تأثير النظرة الاستشراقية التي تغض من شأن الإسلام لحساب خلفياتها الاستعمارية، أو النظرة القاصرة التي تستمد قدرتها من العقلية الغربية المسيحية التي لم تستوعب الفارق البعيد بين العقائد والأخلاق والقيم والتي تنطلق من مصدر واحد هو أن الإسلام دين عبادي لاهوتي محض، وهي نظرية المسيحية، أو نظرة الفكر الغربي المسيحي التي لا تعترف بأن الإسلام إنما هو نظام اجتماعي ومنهج حياة أصلاً وأن الدين بمعنى العبادة واللاهوت جزء منه.
فالغربي ينطلق من قاعدة أن الدين لله وأن المجتمع بكل شرائحه الاجتماعية والاقتصادية السياسية يخضع لنظريات بشرية وأيدلوجيات يصنعها الفلاسفة وليس كذلك الإسلام: الإسلام الذي أنزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ليكون منهج حياة لهذه الأمة التي شرقت وغربت ووصلت إلى حدود نهر اللوار في فرنسا وإلى أسوار فينا في قلب أوربا والتي يشمل ضياؤها ذلك المدى الممتد من الصين إلى غرب أوربا، ومن هنا تبدأ القاعدة التي تقوم على التفسير الإسلامي للتاريخ.(22/6)
فهل آمن دعاة إعادة كتابة التاريخ بهذه القاعدة الأصولية، أن عليهم أن يعلنوا ذلك صراحة وأن يلتزموا ذلك في كتابة أبحاثهم على أن يختار لهذا العمل كل من آمن بالإسلام وعاش له وامتلأت نفسه إيماناً بصدقه وبقدرته على تغيير حياة المسلمين ودعوتهم إلى القوة والعزة من جديد؛ ذلك لأن التفسير الإسلامي للتاريخ يؤمن بأن هزيمة المسلمين في السنوات الماضية وتقلبهم بين الغزو والنكسة والنكبة واقتطاع فلسطين وبيت المقدس، كل هذا إنما جاء ثمرة (التحول) الخطير الذي دفعهم إلى نفض أيديهم من مناهج مجتمعهم ونظام حياتهم الأصيل القرآني المصدر الرباني الأساسي، إلى التماس مناهج الأمم، هذه المناهج البشرية سواء منها الغربية أو الماركسية وأن هذا التفريط في منهجهم هو الذي ألقى إليهم هذه الهزائم والنكبات وأنه لا خلاص لهم مما هم فيه من هزيمة وتخلف إلا بالعودة مرة أخرى إلى التماس منهجهم الأصيل والاستمداد من النبع الأول: القرآن الكريم.
وأن هذه الظاهرة قد تكررت خلال تاريخهم مرات ومرات، فهم كلما نفضوا أيديهم من منهج القرآن ضربهم الله بالذل حتى يعودوا إليه (سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً).
ذلك تفسير حركة التاريخ الإسلامي بين النصر والهزيمة.
كذلك فإن هناك ملحظاً أساسياً لابد من تقديره هو أن هناك فرقاً بعيداً وبوناً شاسعاً بين "المنهج" وبين "الواقع": بين المنهج الرباني الذي جاء به الإسلام والذي لا يتخلف ولا يتعثر والذي يحمل في تضاعيفه أسباب النصر والقوة ووسائل الهزيمة والتخلف.
وبين الواقع التاريخي الذي عاشه المسلمون والذي هو التاريخ الإسلامي ولا يمكن أن يكون التاريخ الإسلامي حجة على المنهج أو مثاراً لتوجيه الشبهة إليه، بل على العكس من ذلك: أن المنهج هو الحجة لأنه هو عنصر الثبات وهو القوة التي يستمد منها المسلمون أسباب حياتهم وطريق عيشهم. فالمسلمون حين ينحرفون عنها تقع الأزمة وتبدأ عوامل الهزيمة.(22/7)
وتاريخ الإسلام فيه النصر وفيه الهزيمة وكلاهما يرد إلى تطبيق المنهج أو التخلف عنه.
وفي تاريخ الإسلام الذي يعرض الآن ويقدم لأبنائنا زيف كثير لأنه يحاول أن يعلي شيئاً كثيراً من الروايات الباطلة في سبيل إثارة جو من الخصومة والخلاف بين الفرق المختلفة أو الأحزاب والدول، وذلك مما فرضه الاستعمار والاستشراق حتى يحتقر المسلمون تاريخهم وتضعف مكانته في نفوسهم.
وكذلك فإن هناك ازوراراً كبيراً عن المواقف الحاسمة والبطولات الضخمة، وذلك حتى لا ينبهر المسلمون بعظمة أجدادهم، ولا يعرفون حقيقة الدور الذي قاموا به في بناء الحضارة.
وكذلك فإن هناك ازوراراً كبيراً عن المواقف الحاسمة الاجتماعي آثاراً في التاريخ ولكن ليس لأحدهما أن يفترض أنه وحده العامل المؤثر؛ وإنما هي في مجموعها عوامل ذات أثر بدرجات متفاوتة، وهناك عامل آخر له أهميته ولا ينفصل أبداً في دراسة تاريخ الإسلام هو عامل العقيدة والوحي والنبوة، وإرادة الله العليا التي تتحرك من داخلها إرادة الإنسان والتي تفرض وجودها على حركة الكون كله.
وبعد فإننا نتطلع إلى إعادة كتابة تاريخ الإسلام بحرص كبير ونأمل من الغيورين أن يكونوا عوناً لأمتهم لتخرج من دائرة سيطرة الاستشراق والتغريب والغزو الثقافي.
(2)
إن المحاولة التي جرت منذ وقت بعيد في سبيل تفسير الإسلام (حركته ودعوته) تفسيراً مادياً صرفاً لا ريب تعجز أشد العجز عن أن تقول الكلمة الفاصلة؛ لأنها تعجز عن أن تستوفي الأبعاد المختلفة، والجوانب المتعددة، حين تضع بينها وبين الحقيقة حجاباً، هذه الحقيقة الممثلة في العوامل النفسية والمعنوية والروحية والفكرية وهي عوامل أشد أثراً وأبعد عمقاً وأكثر أهمية من الجانب المادي الواحد الذي هو أحد جوانب التفسير لا محالة ولكنه ليس واحدها وليس أكبر أهمية.
إن التفسير المادي أو الاقتصادي للتاريخ الإسلامي إنما يحاول أن يواجه البحر بإناء من ماء، أو الجنة الفيحاء بفسيلة من حطب.(22/8)
لقد حاولت كتابات كثيرة في السنوات الأخيرة أن تتمثل الإسلام وكأنه ثورة الفقراء ضد الأغنياء فحسب، والحق أن الإسلام ليس ثورة موقوتة ولكنه حركة شاملة من حيث الزمن ومن حيث المضامين لتغير أشياء كثيرة: تغيير المجتمع وتغيير النفس وتغيير الأخلاق وتغيير الاقتصاد.
ومن هنا فإن الإسلام ليس هو التفسير الاقتصادي وليس محمد صلى الله عليه وسلم هو المصلح الاجتماعي أو رسول الحرية، وليس يكفي حين يذكر أن تورد شطر الآية الكريمة (قل إنما أنا بشر) فهذا تزييف؛ فإن الآية تقول (قل إنما أنا بشر يُوحَى إليّ أنَّما إلهكم إلهٌ واحِد).
لقد جاءت كتابات التفسير الاقتصادي ثم المادة متباينة حذرة في (على هامش السيرة وفي الفتنة الكبرى) ثم اتسعت بعد ذلك في (محمد رسول الحرية)، ونمت شبهاتها حتى لقد حرص الكثيرون على أن يربطوا بين هذه الآثار على ما بينها من فروق في الزمن واختلاف في المصادر والموارد، في إدعاء كاذب بأن مثل هذه الكتابات قد حاولت أن تعتمد على الوقائع لا على الخوارق، وقد ظن أصحابها أن المعجزات يمكن أن تسلك فيما يوصف في الغرب بأنه أساطير، ولا ريب أن لرسول الله معجزات غير القرآن، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يجد الطريق سهلاً إلى رسالته ولم يجد العرب مستعدين للنهضة فنهض بهم -كما يردد البعض- ومن هنا فإنه في نظرهم لم يكن في حاجة إلى معجزات أو خوارق.
ولا ريب أن هذا الادعاء باطل وأن وقائع حياة رسول الله بعد بعثته إلى هجرته خلال ثلاثة عشر عاماً تكشف في وضوح مدى المعاناة والظلم والاضطهاد في عشرات الصور والمواقف، مِما يدهش معه أي باحث كيف واجهت قريشاً والعرب دعوة التوحيد وقاومتها.
ومن هنا نعجب من قول أحدهم حين قال: "ومحمد بهذا ليس في حاجة إلى خارقة تعينه على إقناع الناس بما يقول؛ لأنه بما يقول إنما يستجيب لآمال الناس وأحلامهم".(22/9)
ولقد تردد هذا القول قديماً في (النثر الفني) وفي بعض كتابات (الشعر الجاهلي) وغيره، وهو من زيف المستشرقين الذين يهدفون به إلى التقليل من عظمة الرسالة الإسلامية.
ولقد واجه العلامة فريد وجدي مثل هذه الشبهة حين قال: "إن قريشاً وهي أرقى القبائل لغة وفهماً ومكانة لم تقبل دعوة النبي إلا رجالاً ونساءً لا يزيد عددهم على بضع عشرات. ولو كانت قريش أقرب العرب إلى الحضارة لقبلت دعوة محمد بصدر رحب وأحلتها المكان اللائق بها ونهضت تحت قيادته لجمع كلمة القبائل وإبطال دينهم.
"إن اتباع النبي الأولين اضطهدوا اضطهاداً شديداً حتى هاجروا إلى بلاد الحبشة، وأن الجاهلين كانوا يهزءون بالدعوة للدين وبالداعي إليه، وأن النبي لبث على هذا الحال من الاضطهاد ثلاث عشرة سنة، ولما أنست قريش من النبي الهجرة قررت قتله وأرصدت له، ولما علم أهل مكة بأفلاته اقتفوا أثره، كل هذا ينطق بلسان فصيح أن قريشاً وهي مظنة النجابة والفهم من العرب في ذلك العهد لم تكن (وقد استعدت للملك بعد تطورات عديدة) فإن المجتمع الذي يقاتل الداعي للتجديد والنهوض بهذا النفور ويصبر عليه ثلاثة وعشرين سنة لا يزداد بعدها إلا عناداً وتشدداً لا يمكن أن يوصف بأنه مجتمع كان مستعداً للنهوض وأنه سرعان ما نهض مع النبي صلى الله عليه وسلم ..
كذلك فإن قريشاً لم ترفض الإسلام لأنه يقضي على نفوذها الاقتصادي وحده، ولكنها كانت تعلم أنه قضاء على كيانها الفكري والاجتماعي والديني جميعاً.
ومن هناك كان خطأ القائلين بالتفسير الاقتصادي، ذلك أن الأديان السماوية إنما تغير المجتمع كلية ومن الأساس، وهي حين تقصد أول ما تقصد فإنما تبني النفس الإنسانية وتشكلها تشكيلاً جديداً فيه صمود وصبر وقدرة على مواجهة الاضطهاد واحتمال البلاء وتهيئها لعمل كبير توهب فيه الأرواح والنفوس ويجل عن المعاني المادية.(22/10)
ومن هناك كانت دهشة المستشرقين وغيرهم لعظمة الفتح الإسلامي الذي صنعه هؤلاء الذين بناهم محمد في خلال ثلاثة عشر عاماً في مكة وغير بهم الدنيا كلها وليس جزيرة العرب وحدها، لقد نظروا إلى هذا الفتح الذي تم في خلال بضع وسبعين سنة على أنه معجزة لم تفسر: نعم كانت تعرف قريشاً أن معارضة محمد لهم لن تفقدهم نفوذهم الاقتصادي ولكنها ستلغي كيانهم إلغاءً كاملاً بكل فكره وماضيه ومواقفه الاجتماعية والأدبية.
إنه تغيير جذري ليس الاقتصاد إلا جانب منه، تغيير في نظام الموءودة وزواج الأخت في العلاقة بين الأهل وفي القضاء (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا: اعدلوا هو أقرب للتقوى)، كان القوي إذا أذنب تركوه وإذا أذنب الضعيف أقاموا عليه الحد، الله تبارك وتعالى هو المشرع، تجريد الفرد من سلطانه ومن الخضوع لمقاييس الهوى، مقاييس جديدة ربانية لكل الأمور.
موقف جديد بالنسبة للقيم الكبرى: الحرب والعلم والكرم، فهي ليست موجهة للظهور أو الاستعلاء أو الجاه؛ ولكنها موجهة لله وحده، شعار لا إله إلا الله يغير المجتمع كله ويغير النفس الإنسانية على مختلف المستويات الدينية والاجتماعية والفكرية والنفسية والأخلاقية، ليست حركة طبقة ضد طبقة، ولا ثورة الفقراء على الأغنياء؛ فقد اشتركت فيها الطبقات واشترك فيها الأغنياء والفقراء، وخرج الأغنياء عن مالهم، وخرج الأبناء عن آباءهم وأنكروا ترفهم وفجورهم.
ويبدو ذلك واضحاً في لقاء المشركين للنبي:
إن كنتَ تريد ملكاً ملكناك علينا. وإن كنتَ تريد مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً. وتكون إجابة الرسول هي منطلق تفسير الإسلام: (والله يا عم: لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه: ما تركته).(22/11)
ولم يكن موقف الرسول موقف المزايدة أو الموائمة أو الالتقاء في منتصف الطريق؛ بل كان حاسماً وكان رفضه لقيم المجتمع القديمة صريحة، أما ما أقره الإسلام من قيم الجاهلية، فكان من أنقاها، وتلك هي بقايا دين إبراهيم مِما لا يتعارض مع التوحيد.
وكان أبرز ما في دعوة الإسلام بناء الرجال على الصمود والصبر والجلد وعزلهم عن مجتمع الجاهلية بمختلف ألوان فجوره، حيث أجرى الإسلام تغييرهم من أعلى الرأس إلى أخمص القدم (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
كانت دعوة الإسلام مفاصلة بين الله وحده وبين الأهل والولد ومتاع الحياة كله، ولذلك فإن عدد الداخلين فيها كان قليلاً، وكانت المحن تتوالى لتصفية هذا القليل ودحر صلابة عوده.
كان الإسلام يستهدف بناء إنسان في سبيل فكره، ليس له في الدنيا نهمة ولا مطمع إلا أن يقدم روحه خالصة لله.
ومن هنا تعجز مقاييس التفسير المادي للتاريخ أو التفسير الاقتصادي للتاريخ أن تحيط بذلك كله وأن تعرف الفرق بين هذه القيم المعنوية التي لا تقاس بالمقاييس المحسوسة.
وإذا كانت هذه القيم المعنوية لا تقاس؛ لأنها ليست مادية محسوسة، فإنها تستطيع أن تكشف عن نفسها بآثارها، إن آثارها التي أنتجتها والتي يقف أمامها أصحاب المنهج المادي واجمين عاجزين هو الدليل عليها.
"ليس من المنهج العلمي الحق أن ينكر وجود القيم المعنوية أو الروحية أو النفسية لمجرد أنه لا يمكن أن يلمسها أو يراها، كما تلمس أو ترى الأشياء المادية فإن الأثر الذي تحدثه ينهض دليلاً محسوساً على وجودها".(22/12)
إن المقاييس المادية والاقتصادية لتعجز أن تفسير كيف يبكي العائدون من الغزوات لأنهم لم يستشهدوا، ولا الذين لقوا لآبائهم في صفوف الكفار فقتلوهم، ولا الذين هاجروا وتركوا أموالهم وأولادهم واستأنفوا حياتهم في المدينة بدينار اقترضوه، ولا يستطيعون أن يفسروا كيف تنكسف الشمس يوم موت إبراهيم بن النبي، ثم يقف النبي فيعلن أن الشمس لا تنكسف لموت أحد، أو أن يقف النبي في حجة الوداع فيقول أنه يلغي كل الربا ويضعه، وأول ربا يضعه تحت قدميه هو ربا عمه العباس بن عبد المطلب"، أو يقول "والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها"، أو أن توضع الحجارة المحماة على صدر بلال فلا يزيده ذلك إلا أن يقول: أحد أحد.
كل هذا يعجز عن تفسيره المذهب المادي والمذهب الاقتصادي.
لقد كانت دعوة الإسلام شاملة تعجز عنها تفسيرات مذاهب الماديين، ويصدق في هذا نموذجان من القول:
أما أحدهما فقول فيليب حتي:
"لم يسجل التاريخ أن رجلاً واحداً سوى النبي محمد كان صاحب رسالة، وباني أمة ومؤسس دولة، هذه الثلاثة التي قام بها محمد كانت في نشأتها وحدة متلاحمة لا يمكن أن تنفصم الواحدة منها عن الأخرى، وكانت إلى حد ما متوافقة يشد بعضها أزر بعض، وكان الدين من بينها على مدى التاريخ القوة الواحدة، وكان أبقاها زمناً حتى إذا رحت تعد الناس في العالم اليوم وجدت أن السابع أو الثامن منهم يدعو نفسه مسلماً".
أما النص الثاني فهو قول: الأستاذ تريتون في كتابه "الإسلام عقيدته وعبادته":(22/13)
"إذا صح في العقول أن التفسير المادي يمكن أن يكون صالحاً في تعليل بعض الظواهر التاريخية الكبرى وبيان أسباب قيام الدول وسقوطها، فإن هذا التفسير المادي يفشل فشلاً ذريعاً حين يرغب في أن يعلل وحدة العرب وغلبتهم على غيرهم وقيام حضارتهم واتساع رقعتهم وثبات أقدامهم. فلم يبق أمام المؤرخين إلا أن ينظروا في العلة الصحيحة لهذه الظاهرة فيرى أنها تقع في هذا الشيء الجديد: ألا وهو الإسلام" ..
ويقول ولفرد كانتول سميث في موقف الأمم المختلفة من تفسير التاريخ:
"الرجل الهندي لا يأبه للتاريخ ولا يحس بوجوده؛ فالهندي مشغول بعالم الروح ومن ثم فكل شيء في عالم الفناء المحدود لا قيمة له عنده ولا زون، أما المسيحي فيعيش بشخصية مزدوجة أو في عالمين منفصلين لا يربط بينهما رباط والمثل الأعلى عنده غير قابل للتطبيق والواقع البشري المطبق في الأرض منقطع عن المثل الأعلى.
أما الماركسي فهو قوي الإيمان بحتمية التاريخ، بمعنى أن كل خطوة تؤدي إلى الخطوة التالية، فهو لا يؤمن إلا بهذا العالم المحسوس، بل لا يؤمن إلا بالمذهب الماركسي وكل ما عداه باطل، والماركسي يتبع عجلة التاريخ ولكنه لا يوجهها.
أما المسلم فإنه يحس بالتاريخ إحساساً جاداً، إنه يؤمن بتحقيق ملكوت الله في الأرض، يؤمن بأن الله قد وضع نظاماً واقعياً عملياً يسير البشر في الأرض على مقتضاه، ويحاولون دائماً أن يصوغوا واقع الأرض في إطاره. ومن ثم فهو يعيش كل عمل فردي أو جماعي، وكل شعور فردي أو جماعي بمقدار قربه أو بعده من واقع الأرض لأنه قابل للتحقيق" ..
(3)
خطأ التفسير المادي لحياة الرسول
هناك محاولة مستمرة منذ أربعين عاماً تحاول أن تفسر حياة الرسول عليه الصلاة والسلام وتاريخ الإسلام تفسيراً اقتصادياً أو مادياً، وهي ترمي من ذلك إلى أن تجعل من حياة الرسول بطولة عربية أو بطولة إقليمية أو بطولة أمة أو عبقرية أو دعوة إلى الحرية.(22/14)
بدأت هذه المحاولات بكتابات عن حياة الرسول مجردة من المعجزات، محاولة أن تفسر جوانب الوحي وما يتصل بكثير نواميس الكون وقوانينه تفسيراً مجازياً أو منامياً، أو غير ذلك، ثم اتسع نطاق هذه المحاولات فوصفت حياة الرسول بأنها بطولة أو زعامة، ولا ريب أن الهدف من نفي النبوة هو مقدمة لنفي الألوهية.
وأن الهدف من نفي النبوة هو إنكار الوحي وبالتالي إنكار رسالة السماء جملة ومن هنا جاءت المحاولات المتعددة لوصف البطولة الإنسانية ووضع مقوماتها على نحو مختلف كل الاختلاف عن النبوة التي يختار الله تبارك وتعالى من يشاء لها من عباده ويعده في الأصلاب والأرحام جيلاً من بعد جيل.
1- فإذا تقررت في نظر الناس قوانين معينة للبطولة الفردية البشرية أمكن الطعن في النبوة؛ لأن هذه القوانين لا تتفق مع تقديرات الله التي تعلو على القوانين وتأخذ طابع المعجزات.
فالبطل في النظرية المادية، لابد أن يصدر عن أسرة موسرة، وعن ثقافة عالية، وعن أبوة حكيمة، أما بيئات الفقراء والأيتام والأميين فهي لا تصلح لإخراج البطل.
بينما تنقض النبوة هذه النظرية المادية نقضاً كاملاً وتكشف عن كذبها وتضليلها وتكشف عن قدرة الله في إغناء النبي بعد فقره وتعليمه وهدايته بعد أمية وإيوائه بعد يُتم، وفي هذا معنى المعجزة الإلهية التي تنكرها نظرية البطولة الغربية الوافدة.(22/15)
2- والإسلام يقرر المعجزة، وهي الأمر الخارق الذي يحصل على يد نبي مرسل؛ تأكيداً لصدق نبوته، وليس في المعجزات منافاة للعلم المادي؛ وإنما هناك قصور من أجهزة العقل والإدراك عن معرفة الأسباب التي انعقدت لها المعجزة، فضلاً عن إيمان المسلم بأن الله تبارك وتعالى هو صانع السنن والنواميس والقوانين وهو وحده القادر على خرقها على النحو الذي كشفت عنه الكثير من المواقف مع الأنبياء، كالولادة لهم بعد سن الكبر للرجال واليأس للزوجة، والولادة من غير أب كما حدث للسيد المسيح عيسى بن مريم، وكتجريد النار من خاصية الحريق كما حدث لسيدنا إبراهيم، أو تجريد الخنجر من خاصية الذبح كما حدث لسيدنا إسماعيل، وهكذا، وتعرف المعجزة في علم المصطلحات الإسلامية بأنها حقيقة تخالف القواعد العامة وتعارض المجرى العادي للحوادث، وسببها فوق إدراك البشر، وهي حقيقة تتحدى كل مَن يرتاب فيها.
وفي مقدمة المعجزات معجزة القرآن فهي معجزة قائمة أبد الدهر، تمتاز عن معجزات الرسل والأنبياء بأنها باقية، ومعجزة القرآن إنما تمثل في مطابقته الدائمة لحقائق الماضي والحاضر والمستقبل، وصدق تحدياته للبش في عجزهم عن معارضته، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وفي الآيات التي أثبتتها ما تزال قائمة، تعجز الملوك والدول والأمم عن مواجهتها. وما تزال قائمة، تعجز الملوك والدول والأمم عن مواجهتها.
3- من ناحية أخرى فإن النبوة ضرورة أساسية للحياة البشرية وبناء الإنسان الفكرى والاجتماعي؛ فهي التي تحسم عشرات القضايا المصيرية التي تبقي بلا جواب عندما تقوم الريبة والشك في حقيقة الوحي.
إن الوحي هو الذي يضع النقاط على الحروف في تلك الشبهات التي تثير عوامل القلق والتمزق والصراع النفسي الذي يواجه الآن مجموعة الأمم التي ألحدت وفصلت ما بينها وبين نور الله.
4- إن عجز العقل عن فهم الغيبيات وما يتصل بها يكشف عن ضرورة الوحي والنبوة، فالعقل غير كاف وحده وغير قادر وحده.(22/16)
"والوحي يعاضد العقل ويؤكد حكمه ويجعله موثوقاً فيما يصل العقل إلى معرفته فيكونا دليلين على مدلول واحد يرشد العقل ويهديه فيما لا يستقل بمعرفته مثل المعاد ويكشف عن وجود الأشياء التي لا يدرك العقل كنهها ومنهجها".
وقد التقى الوحي والعقل في القرآن لأول مرة في الفكر الإنساني والإسلام وأهله يؤمنون بأن المعرفة الإنسانية ليست قاصرة على معطيات الحس، وعلى حد تعبير الشيخ محمد عبده وقد نقلناه عنه "قد يعرص الدين شيئاً يتجاوز حدود الفهم، ولكن لا يعرض شيئاً يتجاوز حدود الإدراك مطلقاً".
5- ولقد امتدت النظرية الوافدة في البطولة والوحي والنبوة إلى القول بأن القرآن انطباع في نفس محمد صلى الله عليه وسلم.
وهو ليس كذلك أبداً؛ فهناك فارق واضح وعميق بين كلام النبي محمد ونظم القرآن الكريم يعرفه أهل البيان واللغة ويعرفون أبعاده ومداه.
وليس صحيحاً أن القرآن فيض من العقل الباطن في محاولة دعوة الإشادة بعبقرية محمد وألمعيته وصفاء نفسه، ولا ريب أن لمحمد كل صفات السمو النفسي، ولكنه وصفه بالنبي نسبة إلى الوحي الإلهي هي أكبر معطياته.
ومثل هذا القول إنما يرمي إلى محاولة خادعة لقطع الصلة بين المسلمين والقرآن؛ فإنه إن كان كلام محمد كان من عمل البشر.
وبذلك يفقد معناه الأسمى وجلاله الأعظم ويفقد "ثباته" الذي يعطيه تلك القدرة الضخمة على أن يكون الأساس الذي يرتبط به كل فكر والقاعدة التي يمتد عليها كل بناء والإطار الذي تجري فيه كل حركة، وهناك أدلة كثيرة تدحض هذه الدعوة، وأبسطها "أن محمداً كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، فمن الذي أطلعه على أن ما في القرآن مصدق لما في التوراة" "وكان علمه بشئون قومه لا يزيد على علم غيره" فمن الذي أطلعه على تاريخ الأمم وقصص الأولين.
(وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطِلون).(22/17)
6- ولقد جلى الباحثون المسلمون ظاهرة الوحي: وأكدوا "أنها ليست ظاهرة نفسية داخلية تنبعث من كيانه صلى الله عليه وسلم؛ وإنما هي حقيقة خارجية عن ذاته استقبلها من خارج كيانه، كما ينطق بذلك حديث بدء الوحي ومشاهد أخرى"(1).
"وإنما رأى محترفو الغزو الفكري في (ظاهرة الوحي): المنبع الأول للحقائق الدينية والكليات الاعتقادية ورأوا أنهم إذا استطاعوا تكدير صفاء هذا المعين الأول أمكنهم تكدير صفاء كل ما يتفرع منه واقتحام أسباب الدس والتشويش عليه.
"من أجل هذا زعم بعضهم أن الوحي في حياته صلى الله عليه وسلم إنما كان نوعاً من الإلهام الخفي، وزعم آخرون أن ذلك كان إشراقاً روحياً معيناً وأصرت جماعة أخرى على أنه كان يصاب بالصرع".
"والعجيب الرائع حقاً في حياته صلى الله عليه وسلم أن أمر الوحي له قام على أسس وحقائق تصفع هذه الأوهام صفعات تلقيها في متاهات الحمق والجنون".
7- ولقد تواجه الفلسفات الغربية حقيقة النبوة وظاهرة الوحي فتصفها بأنها وصاية على الإنسان الذي بلغ رشده وأصبح في غير حاجة إلى وصاية ما.
وذلك قوة من الزيف المسرف في إحسان الظن بالبشرية.
__________
(1) راجع كتاب "قصة السيرة" للدكتور محمد سعيد البوطي.(22/18)
فهل استطاعت البشرة حقاً بعد هذا الزمن الطويل الذي قطعته(1) أن تكون راشدة، الواقع الذي تثبته وثائع التاريخ وأحداث الزمن أن البشرية ما زالت عاجزة عن حماية نفسها من المطامع والأهواء والحروب والمذابح والمظالم، بل لعلها قد بلغت بفضل تقدم العلم قدراً أكبر فهي التي تمضي في تهديد الأمم الضعيفة بقوى الذرة والتكنولوجيا، ولم يستطع تقدمها العلمي أن يرد إليها شيئاً من الإيمان أو العدل أو السماحة أو الارتفاع فوق الأهواء. ولذلك فهي لازالت في حاجة إلى رعاية رسالات السماء وفد أشد الحاجة إلى الوحي والنبوة، لقد تقدم الإنسان في مضمار السباق العلمي، ولكنه عجز عن فهم نفسه وحماية كيانه من المطامع وما تزال أهواؤه تحول بينه وبين توجيه هذه المعطيات لخير الإنسان.
ومن الحق أن يقال أن الإنسان لم يزل بعد عاجزاً عن أن يكون أميناً على نفسه أو جنسه ولن يستطيع ذلك إلا إذا آمن بالوحي والنبوة.
8- في ضوء هذا كله ننظر إلى تلك المحاولات التي جرت في تزييف سيرة الرسول:
أولاً: بإضافة الأساطير القديمة في (هامش السيرة).
ثانياً: بإنكار أن الإسراء كان بالروح والجسد في (حياة محمد).
ثالثاً: إنكار النبوة والوحي في (محمد رسول الحرية).
رابعاً: وصف النبي بالعبقرية دون الرسالة في (عبقرية محمد).
ولا ريب أن أبلغ أخطاء وصف النبوة بالعبقرية إنما هو في تعميم هذه الصفة على شخصيات أخرى لم تنفرد بالنبوة مما تجعلها تبدو كأنها محاولة إلى فرض مفهوم البشرية على الرسول الذي تفرد بالعصمة والوحي وامتاز بهما عن سائر صحابته.
__________
(1) بتصرف من بحث للأستاذ محمد المجذوب.(22/19)
ولا ريب أن العبقريات وقعت تحت سلطان الفكر الغربي الذي تشكل الكاتب في أحضانه ثم نفذ منه إلى دراسة الإسلام دون أن يقدر مدى الفارق الدقيق والعميق بين ذاتية الإسلام في مفاهيمه ومناهجه والعوامل التي شكلت أهله، ولم يلتفت أيضاً إلى تميز النبوة الوافر، فالنبي في (عبقرية محمد) إنسان له مواهب وملكات منفصلة تماماً عَن وحي السماء. وحين تجري مقارنته بنابليون أو غيره لا يلتفت تماماً إلى اختلاف النوع وانعدام الصلة حتى ليبدو إغفال الوحي إغفالاً كاملاً في دراسته. ولم يرد إعجاب المسلمين بالرسول وحبهم له دون حدود إلى الإسلام نفسه وإنما رده إلى شخصية الرسول.
يقول غازي التوبة في دراسته عن العبقريات: "فلو اقتص دخول المسلمين على إعجابهم بشخص الرسول وحبهم له وافتنانهم به لانتهت الدعوة الإسلامية بوفاة الرسول عليه الصلاة والسلام أو بعد فاته ريثما يزول سحر الافتتان، ولكن الدعوة الإسلامية استمرت قروناً طويلة؛ وما ذلك إلا لملاءمة الإسلام للفطرة البشرية التي انجذبت إليه في زمن الرسول ثم استمر الانجذاب في الأزمان التالية".
9- وغاية القول أن اعتماد كتابنا العرب والمسلمين في النظرة إلى النبوة والبطولة في ضوء تفاسير غربية إنما يحجب عنهم شيئاً كثيراً من الحق.
ذلك أن الغربيين عن طريق مفاهيم عقائدهم وفكرهم لا يفرقون بين الألوهية والنبوة، بينما نحن نفرق بينها تماماً.
كذلك فهو يرى أن الكتب المقدسة كتبها الرسل، ونحن نؤمن بأن الكتاب المنزل هو وحي من الله وليس من عمل النبي.
كذلك فهم يعيشون في إطار مفهوم الوثنية اليونانية القائمة على عبادة البطولة ورفع الفرد إلى مصاف الآلهة وأنصاف الآلهة. بينما يقصر المسلمون العظمة كلها والعبودية كلها لله سبحانه وتعالى.
كذلك فهم يجسدون البطولة في تماثيل، بينما لا يؤمن الإسلام بتجسيد البطولة ويركز مفهوم تقديرها في توجيه العمل البطولي نفسه خالصاً لله.(22/20)
وقد رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قبل من أن الشمس كسفت لموت ابنه، واتخذ عمر من الهجرة مبدأ للتاريخ الإسلامي ولم يجعله شبيهاً بالأديان الأخرى حين اتخذوا مولد أنبيائهم.
10- أن أخطر ما استُدرج إليه الكتاب المسلمون والعرب من التبعية للمناهج الغربية في تقدير البطولة أو تفسيرها ذلك الاتجاه نحو الوراثة والطبائع الفردية، بينما يقوم منهج تفسير البطولة الإسلامي على تقدير الأثر الخطير الذي تُحدثه التربية والعقيدة في توجيه الإنسان وتحويله من حال إلى حال، ومن هنا يبدو خطأ الاعتماد على رأي لونبروزوا ومدرسته في تكوين البطل أو العبقري، ومن التعسف البالغ رد عظمة أبي بكر وعمر إلى ملكاتهم دون تقدير أثر الإسلام في تغيير النفوس وإعادة تشكيلها مرة أخرى.
لا ريب أن العقيدة الإسلامية هي التي حولت هذه الشخصيات وأعادت صياغتها من جديد في ضوء التوحيد وأخرجتها من شخصيتها القديمة وأن أي مقارنة بين حياة عمر قبل الإسلام وبعده تكشف عن ذلك بوضوح، كذلك يبدو هذا في نماذج أقل بطولة: يظهر ذلك في تحول الخنساء مثلاً.
ومن الحق أن يقال أن هذا الزيف في فرض منهج أو مذهب في تفسير النبوة على أنها بطولة أو عبقرية أو دعوة إلى حرية؛ إنما هو من أعمال الأيدلوجية التلمودية التي تهدف إلى تدمير قيم الوحي ورسالات السماء.
أنور الجندي(22/21)
في مواجهة الفراغ الفكري والنفسي في الشباب
إن من أكبر المهام التي يفرضها علينا "التحدي الذي تواجهه الأمة الإسلامية": تحدي الصهيونية والاستعمار والماركسية: ممثلاً في التغريب والغزو الثقافي والشعوبية: هو بناء ذاتية المثقف المسلم العربي.
إن أي ثقافة أو قراءة أو إطلاع دون هوية ومعرفة للهدف ودون إيمان برسالة الإيمان والحب لهذه الأمة والذود عنها وافتداء عقائدها ووجودها، لا قيمة لها، بل إنها سوف تكون مصدراً من مصادر الشقاء لأنها سوف تدفع صاحبها ليجري مع كل ريح، وسوف يعجز عن تحديد موقفه من أهواء المذاهب وتيارات النظريات وزخارف التعابير المنمقة الكاذبة نحن مطالبون أولاً بأن نعرف ركائز فكرنا وعقيدتنا، فإذا عرفناها آمنا بها واعتنقناها وملأنا بها كياننا الروحي والنفسي والعقلي، واستطعنا في ضوئها أن نواجه كل ما يقدم إلينا من هذا الشتات الكثير المختلط، إن الخطر الذي اجتاح بعض من غلبوا على أمرهم فانحازوا إلى هذا الفكر أو ذاك إنما كان مصدره "منطقة الفراغ" التي دفعت الرياح الهوج لتملأها ولو أنهم كانوا قد عملوا على ملأها بالحق والخير والإيمان والنور المستمد من العقيدة الصافية والفكر الأصيل لما استطاعت الأهواء أن تجتاحهم، لقد برقت يف عيونهم كلمات خادعة لفرويد ونيتشه وماركس وسارتر، ولو تعمقوها لوجدوها سماً زعافاً. إن المثقف المسلم الأصيل، المؤمن بأمته وعقيدته لا تخدعه الأسماء اللامعة ولا المطبوعات الفاخرة ولا الكلمات البراقة وإنما يعرف الرجال بالحق فمن عرف الحق عرف أهله ومن ثم فإن هذه الركائز قد تكون قادرة على إلقاء الضوء الكاشف أمام النفوس المستشرفة للضوء والعقول المتطلعة إلى النور.(23/1)
إن أمتنا ليست في حاجة إلى أن تعتنق مذهباً ما من هذه المذاهب المطروحة أمام الفكر، أو نظام مجلوب من خارج دائرة ثقافتها. وهل يجوز لأمة لها هذا التاريخ العريق والدور الأصيل في بناء حضارة الإنسانية أن تحتوي، أو تصهر في أتون فكر الأمم، أو أن تستبعد لنظريات الفكر البشري وعندها الفكر الرباني الخالص الأصيل المستمد من وحي السماء. إن أبرز طوابع أمتنا هي الأصالة والاحتفاظ بالكيان الخالص والذاتية التي لا تنصهر ولا تذوب في فكر الأمم، ولأمتنا المنهج الأصيل الذي يحقق لها إذا أخذت به أسعد ما تتطلع إليه الأمم من نظم الاجتماع والفكر استمداداً من التوحيد الخالص والالتقاء بالفطرة والتجاوب مع الطابع الإنساني، إن نظرة فكرنا الإسلامي العربي نظرة رحبة عميقة واسعة الآفاق والأبعاد جامعة بين الروح والمادة والعقل والقلب، والدنيا والآخرة في إطار الالتزام الأخلاقي والمسئولية الفردية والإيمان بالبعث والجزاء. هذا الفهم الجامع الكامل الرحب من شأنه أن يثرى آفاق حياتنا في مواجهة التحدي الاستعماري الخطير الذي يلتمس الآن أصول فكرنا لتزييفه واحتوائه من خلال مؤسسات ظاهرة هي التبشر والاستشراق ومن خلال قوى خفية تتمثل في بروتوكولات صهيون وما تدبره في خفاء عن طريق الفكر والصحافة والثقافة وبواسطة مذاهب فلسفية تدور حول النفس والأخلاق والاجتماع ومقارنات الأديان وذلك في سبيل تحقيق هدفها الخطير المعلن وهو السيطرة على العالم بعد القضاء على كل قيمه ومثله وأخلاقياته.(23/2)
ومن هنا فإن هذا التحدي يجب أن يكون قائماً في نفس كل منا وعقله، لا يغيب عنا لحظة ولا تجدنا ننظر في أمر من هذا الخطر الذي ترمي إليه كل القوى الطامعة في بلادنا والتي ترى أن خير وسيلة لاحتوائنا هو استقطاب فكرنا، حيث أننا أمة لا يمكن أن تخضع إلا إذا أزيلت رواسيها: القرآن والإسلام واللغة العربية. لقد تنبهنا لهذا الخطر منذ وقت طويل وبقى أن نحول هذا الفهم إلى إرادة حية تصد هذا الكيد وتحمي هذا الميراث وتحمل تلك التبعة وتزود عن هذه الأمانة بكل مرتخص وغال، ذلك أن أي إنسان منا ما هو إلا ابن هذه الأمة وهذا الفكر وهي بنوة عريقة ونسب كريم فقد حمل آبائنا أشرف رسالة وأعظم دعوة وكانوا من المجاهدين في سبيل هذا الحق، قادة للهدى والنور والخير في كل أرض وعصر ومن حقهم علينا أن نسير على طريقهم في النضال وأن نحمي هذه الأمانة ونذود عنها وأن نظل قادرين على حمل اللواء، وأن نقدم الإسلام إلى الأمم الحائرة التي تعيش اليوم في قلق وتمزق نتيجة غلبة النزعة المادية عليها.
ومن أجل تحقيق هذا كله أردت أن أضع بين أيديكم هذه المجموعة من الحقائق الفكرية والثقافية كأساس لبناء نظرة صحيحة إلى الحياة.
(أولاً): إن التدين جزء من الطبيعة البشرية ولا يستطيع الإنسان أن يعيش بغير دين وقد عجزت الأيديولوجيات والمذاهب الحديثة أن تقدم له بديلاً عن الدين يرضي روحه ويسعد حياته.
لقد حررت الأديان الإنسان من عبودية المجتمع وعبودية الفرد ليتجه إلى الله وحده ولكن هذه الأيديولوجيات أعادت الإنسان إلى سجن المجتمع – لقد تضاءل الإنسان ليصبح مجرد نملة اجتماعية في مجتمع النمل.
لقد علمت الأديان أنه ليس حشرة اجتماعية ولكنه إنسان ذو كرامة. فاستطاعت أن تمنح معتنقيها هداية لا تستطيع أن تجاريها فيها الأيديولوجيات التي فصلت الإنسان من عبادة قوى الطبيعة إلى عبادة قوى المال والمادة.(23/3)
(ثانياً): إن الإنسان ليست له أزمة ولا قضية حادة في ظل مفهوم الإسلام ذلك أن الإسلام نظر إلى الإنسان نم خلال طبيعته الجامعة بين الروح والجسم والعقل القلب. نظر إليه بوصفه كياناً متكاملاً وبذلك أقر رغباته المادية كلها وأباحها له دون أن يقيدها إلا بضوابط معينة قصد بها حماية الإنسان نفسه من الانهيار والتدمير وحتى يكون قادراً على أداء رسالته في الحياة ومواجهة مختلف التحديات دون أن يضعف أو ينهار.
(ثالثاً): ألغى الإسلام الفكرة الوثنية القديمة (التي تتجدد عن طريق الأيديولوجيات) القائلة بأن هناك صراعاً بين الجسم والروح، وأعلن أن الجسم والروح متكاملان وبذلك عارض مفهوم الرهبانية ومفهوم الإباحية معاً ودعا إلى التوازن وإلى إعلاء الرغبات حتى تتحقق القدرة على تنفيذها على النحو الطبيعي السليم.
لقد وضع الإسلام ضوابط من ثلاث عناصر:
الاعتدال – الحلال – العفة.
ولذلك فقد عجزت أزمة الجنس أن تمد لها مجالاً في محيط الإسلام لأنها لم توجد أصلاً. وفي الغرب (وفي الفكر الغربي الوافد الذي نراه في المسرحيات والسينما ونقرأه في الكتب والروايات) نجد مجتمعاً آخر، يختلف اختلافاً أساسياً عن مجتمعنا. لقد كانت أوروبا تعيش في ظلال القسر الشديد ثم انطلقت إلى الإطلاق الشديد وبذلك كانت مضطربة في الأولى لأنها خالفت الفطرة، ممزقة في الأخرى لأنها جاوزت الطبيعة.(23/4)
أما الإسلام فقد قبل مبدأ الفطرة القائم على التوازن. أعلن وجود الرغبات من مال وطعام وجنس ولكنه وضعها في إطارها الصحيح ولم يجعل الطعام قضية تفوق القضايا أو تسيطر عليها ولم يجعل الجنس قضية القضايا كما نرى فيما ينقل إلينا ولكنه جعل الحياة متكاملة في عناصرها متوائمة في رغباتها وحدودها بعيدة عن الزهادة والسرف والرهبانية والتحلل والإطلاق والكبت وجعل للحياة أفاقاً أوسع من المادة وأعلى من الرغبات جعل هناك الأشواق الروحية والنفسية والعقلية إلى الثقافة والعلم والعبادة. فالإسلام لا يرفض الرغبات الحسية ولكنه يضعها في إطار واضح. فيجعل تحقيقها عن الطريق الطبيعي بالزواج في حالة القدرة أو التسامي والإعلاء بها بعد في حالة عدم الاقتدار. وذلك: دون أن تفقد هذه الرغبات حقها المعترف به في حالة الاستطاعة.
رابعاً: كذب الإسلام ودحض الافتراض القائل بأن الدين يصرف الإنسان عن النضال والعمل وأعلن أن الدين يدفع إلى القوة والتقدم والكشف والعمران جميعاً إيماناً بدعوة الله للإنسان إلى العمل واستخلافه في الأرض.
ولا ريب أن دعوة الإسلام إلى امتلاك الإرادة الخاصة ورفض القيود ومقاومة الغزو كانت مصدر كل النضالات الوطنية التي انطلقت في العالم الإسلامي منذ جاءت موجة الاحتلال الأجنبي إلى الآن.
خامساً: أعلن الإسلام عن قيام الإرادة الحرة لكل مسلم وكل إنسان.
فكل إنسان مريد وقادر على العمل والتعبير، وقد هدي إلى الطريقين: طريق الخير وطريق الشر وعليه أن يختار أحدهما وفطرته تهديه ودين الله المبلغ له عن طريق الرسل والكتب ترشده.
هذه الإرادة لها تبعتها: هي المسئولية والحساب والجزاء الأخروي. فلا إرادة بلا مسئولية ولا مسئولية بلا جزاء.(23/5)
أما الذين يقولون بالجبرية والصدفة وبأن الحياة مطلقة وأن من حق الإنسان أن يأخذ منها ما يشاء قبل أن يدركه الموت فذلك ليس مفهومنا، وهو في ذاته مفهوم باطل بحكم العقل والقياس وأن ترتيب البث والجزاء بعد الموت ليس أمراً مستحيلاً ولا متناقضاً مع العقل والفطرة، ذلك لأن للإنسان رسالة في الحياة، هو مطالب بأن يقوم بها على الوجه الصحيح، في سبيل إقامة مجتمع يرضى عنه الله تبارك وتعالى، فله في ذلك أجر الإحسان وجزاء الخطأ فإقرار البعث مطابق للفطرة ولا يشكل تناقضاً عقلياً بل إن إنكار البعث هو الذي يشكل التناقض، ويصور هذه الحياة، على أنها مسرحية هزيلة أو لعبة أو لهواً وهي ليست كذلك بالقطع، الإنسان له رسالة وهو محاسب عليها (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون).
سادساً: قرر الإسلام أن هناك قاسم مشترك أعظم على مختلف القيم والتصرفات: والأخلاق مقررات جاء بها الدين من عبد الله وهي ثابتة ثبات الفطرة الإنسانية نفسها، لا تتغير بتغير الزمان والمكان.
(فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله).
وقاعدة الأخلاق الأساسية في الإسلام هي أن الحق واحد والخير واحد وانهما لا يختلفان ولا يتعددان وكذلك الشر والباطل.
والأخلاق هي تمييز بين الحق والباطل والخير والشر، وسيظل الخير هو الخير والشر هو الشر على اختلاف الأزمنة والبيئات ولن يتحول يوماً إلى ضده.
ولقد دعانا الإسلام إلى أخلاقية الحياة وأقام الالتزام الأخلاقي في كل الأعمال والتصرفات وجعله جزءاً من الدين فالدين في الإسلام جامع بين العقيدة والشريعة والأخلاق وهي لا تنفصل ولا تتجزأ.(23/6)
أقول هذا لنكون في يقظة إزاء المذاهب التي تقول بأن الأخلاق نسبية، لا، ليست الأخلاق ولكنها التقاليد. أن الأخلاق من عند الله والتقاليد من صنع المجتمع نفسه. فالتقاليد متغيرة نعم، أما الأخلاق فلا ولقد يظن دعاة الفكر المادي أن الأخلاق كالدين نبعت من الأرض ولم تنزل من السماء ولذلك فهم يرونها متغيرة أما نحن: المسلمون فنفرق بين الأخلاق والتقاليد ونرى أن الأخلاق ثابتة كثبات القيم الأساسية وأن التقاليد متغيرة ويجب أن تتغير مع اختلاف العصور والهيئات.
والقاعدة أن هناك ثوابت وهناك متغيرات: والتطور والتغير والتحول إنما يشمل المتغيرات أما الثوابت فشأنها شأن الأفلاك والمدارات التي تتحرك فيها الكواكب فهي ثابتة. ذلك في الإسلام أفلاك ثابتة وقيم لا يمكن أن تتغير ولكن ما في داخلها يتغير ويتحرك.
وتلك ميزة الإسلام:
سابعاً: هناك منهجان مختلفان: منهج للعلوم ومنهج للإنسانيات: منهج العلوم يستمد قوته من المادة ويتحرك في فلكها ولكنه لا يصلح للتطبيق على الإنسان: ولا يستطيع مقايسة الأخلاق والنفس والمجتمع. إن المفاهيم التي ترتبط بالإنسان في مشاعره وعواطفه يصعب إخضاعها لقوانين الظواهر الطبيعية. ذلك لأنها تتعرض لظروف مختلفة تتعلق بأعماق النفس ولا تخضع للتجربة.
ثامناً: لا تصدقوا الفكر الذي تقدمه الروايات والأفلام السينمائية والمسرحيات ولا تعتبروه مسلمات. ذلك لأنه لا يصدر عن حقائق وإنما عن أهواء وخيال.
الواقع هو المجتمع الذي نعيش فيه بما قامت عليه أعمدته من مقومات رسمها الدين الذي هدى البشرية إلى الحق، ثم جاءت العلوم مفسرة له: أما ذاك عالم الخيال والوهم:(23/7)
إن الإسلام قد قدم لنا كل المفاهيم والقيم والتفسيرات لمختلف قضايا المجتمع والإنسان والأخلاق والنفس على نحو كريم، فيه السماحة واليسر، وفيه قبول الاضطرار والمغفرة عند الإساءة. والتوبة من الذنب، إطارات واسعة فسيحة وقيم أساسية: ثم بعد ذلك قدرة على الحركة دون تزمت أو ضيق فإذا جاءت اليوم الرواية الخيالية والمسرحية وأفلام السينما لتقدم لنا مفاهيم أخرى مخالفة للفطرة أو مضادة للحق فما أحرانا أن نعرف وجه الحق وأين هو ولا نتحول تحت تأثير البريق الخاطف أو الضوء الساطع، أو التقاء هذه المفاهيم مع أهواءنا ورغباتنا، لا نتحول إلى اعتناق مفاهيم ليست من الأصالة في شيء ولنعرف تماماً أن الرواية والمسرحية والقصة السينمائية ليست إلا ملهاة وتسلية أريد بها إزجاء الفراغ وإدخال شيء من الترويح على الناس ولكنها لا تكون أبداً نظماً ولا عقائد ولا قوانين مقررة نحاول أن نطبقها في المجتمع فننقل أحكام عالم الخيال إلى عالم الواقع والعكس هو الصحيح.
فهي لن تزيد عن أن تكون مخدراً يريد به أصحابه نقل الناس ساعات من واقعهم إلى عالم غريب خيالي ثم إذا هم عادوا وجدوا الواقع قائماً بقوته واستمراره لا مفر من التسليم له والاعتراف به والتجاوب معه.
ولنكن قادرين على الفهم الواسع العميق للفارق البعيد بين حقائق الأمور كما جاءت بها رسالات السماء وبين نظريات الفكر البشري التي وضعها الإنسان وفق هواه وفي سبيل تحقيق رغبائه متجاوزاً ما يراد له من الخير إلى ما يريد هو من الشر، لنفرق دائماً بين الواقع القائم في عالم الحياة والوجود، ومكاننا منه ومسئوليتنا إزاءه وبين هذا العالم الوهمي الخرافي الذي صنعه الإنسان ليدخل على بعض النفوس تسلية أو ملهاة ولا نخلط أبداً بين العالمين: عالم الواقع وعالم الوهم والخيال.(23/8)
نحن نعي أننا ملتزمون أمام الله بمسئولية الفرد إزاء المجتمع، الفرد الذي يملك إرادة التصرف والذي يتحرك في الحياة بين قوى الخير والشر فيختار ما يشاء ويتحمل مسئوليته: مسئولية الجزاء والعقاب والثواب في عالم آخر بعد أن نموت ونبعث. فإذا جاء عالم الوهم والخيال من خلال الرواية أو القصة أو المسرحية ليشكك في ذلك ويقدم لنا صوراً زاهية براقة من معطيات الجنس أو الطعام أو الترف فذلك كله خداع وتضليل، ولذلك نحن نرفضه ونبتسم ونسخر منه، لأننا نعلم أنه يريد أن يخرجنا من أرض الواقع التي يجب أن عيشها دائماً، ويخرجنا من أصالة مفاهيمنا حين يريد أن يصور لنا الحياة وكأنها متعة طيبة من خلال أصواء وترف وذهب وحرير، كل هذا هو عالم الوهم الذي يخذل من يصدقه، لأنه لا يلبث بعد أن ينتهي من قراءته أو مشاهدته أن يجد نفسه في عالم الواقع القائم المستمر، بل ويجد الحسرة تملأ النفس على حد تعبير القصص القديمة: نظر نظرة أعقبتها ألف حسرة.
فماذا يجد بعد: ما هو رد الفعل: إنه ذلك الإحساس بالتمزق والحرمان إذا ما اندمج في الخيال وظن أنه الواقع.
لنقبل إذن عالمنا الواقع الحي على حقيقته ولا نسرف في خداع أنفسنا بالخيال والوهم لبضع لحظات مع أغنية لا تصور إلا أكاذيب الشعراء أو مسرحية أو فيلماً لا يصور إلا أوهام الذين يريدون تدمير النفس الإنسانية، لنحاول أن نعيش واقعنا فإذا لم يكن ما نريد فلنرد ما يكون، فإن علينا أن نعمل ونتقدم ونضيف ونجدد ونكافح حتى نحقق الحياة الطيبة التي نرجوها.
تاسعاً: في مجال النظرة إلى الأمور يجب أن نفرق بين أمرين هامين:
هناك أمور مشتركة بين الأمم هي العلوم فالعلم عالمي عام.
وهناك أمور خاصة مطبوعة في كل أمة بطابعها: هي الأخلاق والأدب والفن. لكل أمة مزاجها وذوقها وتقاليدها وعقيدتها.
ويمكن أن تلتقي الأمم في العلوم وفي المعارف العامة أما ما سوى ذلك فيؤخذ بحذر شديد.(23/9)
وقد حرص الإسلام على أن يحفظ شخصية أهله ولذلك دعاهم إلى معارضة التقليد وإنكار التبعية وكفل لهم منهجه الرصين المحكم القادر على ملاقاة كل بيئة وعصر – وكفل لهم كل ما يحتاجونه في مجال الاجتماع والسياسة والاقتصاد والتربية.
ولم يمنع الإسلام الانفتاح والالتقاء بالثقافات المختلفة ولكن على قاعدة أساسية واضحة: هو أن لا تحجب الشخصية الأصلية ولا الملامح العامة ولا تهدم قيمة من القيم الأساسية.
وقد دعا الإسلام إلى إعلان التمييز بين المسلمين وغيرهم في العادات والأخلاق وأسلوب العيش والحياة. وأعلن أن التقليد فقدان للشخصية وأن التبعية عبودية للفكر والعقل.
عاشراً: الإسلام ليس ديناً فحسب ولكنه نظام مجتمع والدين جزء منه.
والإسلام منهج حياة وليس نظرية، وهو منهج متكامل لا يقبل التجزئة ولا يقر النظرة الانشطارية التي ترى رؤية أهل التخصص الحديث فليس علم النفس وحدة أو علم الاجتماع أو السياسة أو الاقتصاد هو وحدة كل شيء، ولكن هذه العلوم والمفاهيم قاصرة بذاتها ولا تصلح إلا حين تتكامل في إطارها لخدمة الإنسان نفسه فلا تقوم نظرية في واحدة منها على نقيض حقيقة في الأخرى، هذا التكامل هو الذي يحول دن التمزق حين يعلي قوم العقل أو يعلي قوم الوجدان. أما نحن فنوازن بين العقل والوجدان والروح والمادة والدنيا والآخرة فلا نفقد الطمأنينة النفسية والسكينة الروحية والثقة العقلية.
كذلك فإن منهج المعرفة الإسلامي يقوم على الترابط بين القيم ويتخذ من الوحي هادياً للعقل ومن الفطرة سبيلاً إلى العلم، هذا المنهج الذي يقوم على التحرر من الهوى والتعصب. ويتجاوز الرغبة الخاصة إلى الغاية الكبرى.(23/10)
حادي عشر: قرر الإسلام أن الإيمان بالله قوة دافعة تعطي الأمل وتحول دون اليأس وتبعث الثقة المتجددة في النفس الإنسانية، وتحرص على المعاودة في حالة الإخفاق وليس الإيمان مضاداً للمعرفة ولكنه ضوءها الكاشف فالإسلام لا يقف بالإنسان عند مفهوم المعرفة القائم على الحس والتجربة بل يضيف إليه علماً آخر جاء به الوحي وسجله القرآن وفيه تفصيل عالم الغيب وعالم الآخرة وقد جعل الإسلام الإيمان بالغيب شرطاً أساسياً من شروط المعرفة.
ثاني عشر: إن من أخطر ما يطرح في أفق مجتمعنا: القول بأن كل إنسان حر، ومعنى الحرية هنا أنه يرفض التجربة التي قدمتها له الأجيال السابقة وذلك عين الضعف والقصور والعجز، فالشخصية القوية الرحبة تكون قادرة على مناقشة وجهة النظر الأخرى، ولو كانت خاطئة، والنظر في تجارب الذين مضوا على الطريق، إما أن يحجب الإنسان نفسه عن ذلك فإنه سوف يتقوقع في أضيق الحدود وسوف يعجز عن اقتحام الحياة وتحقيق النجاح.
علينا أن نواجه خبرات الناس وتجاربهم ومعنا ضوئنا الكاشف ومقاييسنا الأصلية. بل علينا أن نطالب الأجيال التي سبقتنا بتجربتها، وعلينا أن نكون منصفين فنأخذ خير ما فيها، ثم نحاول أن لا نقع فيما وقعوا فيه من أخطاء. تلم هي ضرورة الالتقاء بين الأجيال، وحتمية الحلقات المتتابعة ببين الأمم، ليس بين الأجيال صراع كما يقولون، بل بينها لقاء وتكامل.(23/11)
لقد استشرى هذا الخطر: خطر رفض تجربة الأجيال السابقة، والنظر إليها في شيء كثير من الانتقاض أو الزهد فيها وذلك من شأنه أن يفوت خيراً كبيراً، ولقد تعالت صيحات تقول: إن على الأبناء أن يشقوا طريقهم دون توجيه من أحد وأن عليهم أن يستعلوا على تجربة الأجيال التي سبقتهم وكيف يستعلي من لا يملك شيئاً. كيف يستعلي من يجهل. وكيف يرى نم ينظر في الظلام، إننا دائماً في حاجة إلى أمرين وكل الأمم الناهضة تتشبث بهما: منهج أصيل هو ضوء كاشف نعرض عليه كل شيء ولا نقبل إلا ما يقره. وتجربة للذين سبقوا على الطريق وبنوا قبلا حتى نعرف موضع اللبنة التي سيقدر لنا أن نضعها، إن هؤلاء الذين يعلنون تلك الصيحة ليسوا لنا بناصحين ولا أمناء، إنهم يريدون تحطيم الرابطة الأصلية بين الأجيال وإيجاد الصراع بينها، ونحن جميعاً نعرف بروتوكولات صهيون وما نصت عليه في هذا الشأن: إنها تريد تدمير هذه الأمة الصامدة في وجه الغزو الفكري والاستعمار والصهيونية. إنهم يطمعون في إخراج أجيال مدمرة ممزقة نفسياً متحللة من كل القيم والضوابط فهم يدفعون الأجيال إلى التمرد على القيم الأساسية للمجتمعات، وعلى الآباء وعلى المربين وعلى الأساتذة (صحيح أن بعض الآباء والمربين والأساتذة ليسوا مستوى المثل الأعلى) ولكن: ليس الطريق هو إزاحتهم ورفضهم وإنما الطريق هو الوصول إلى التجارب وفحصها: والأخذ بالنافع وأمن عثار الضار منها، إن الشباب وهو يحمل أمانة الغد لابد أن يبني على الأساس وأن يتحرر من أخطاء السابقين وأن يستمد التجربة والمثل الأعلى والأسوة من المنهاج وهو القرآن والنموذج الكامل وهو محمد صلى الله عليه وسلم قدوة الأجيال والعالم.
ثالث عشر: إن الإسلام يدعونا إلى المجاهدة والمذاهب النفسية الحديثة تدعونا إلى الانطلاق فأيهما الخير من أجل بناء الشخصية الإسلامية القادرة على مواجهة أخطار المجتمع وصناعة الحياة والدفاع عن القيم والمقدسات.(23/12)
إن المجاهدة بمعنى معارضة الأهواء والمطامع والكظم بمعنى تأجيل الرغبة ليس هو الكبت الذي صور فرويد أخطاره وبالغ في التخويف منها. تلك المخاطر الوهمية التي أذاعها فرويد عن الكبت تختلف تماماً، ذلك أن الكبت إنما يستمد معناه ومدلوله من إنكار الرغبات أساساً وتحريمها عقيدة وعدم الاعتراف بها واحتقارها: كاحتقار الجنس أو المال أو الطعام بينما الإسلام يقرها جميعاً وينكر تحريمها: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة): إن الإسلام لا يحتقر الرغبات وإنما يعترف بها (نفسية وحسية) اعترافاً كاملاً دون إنكار لها وإن كان يدعو إلى الاعتدال في استعمالها أو تأجيل ممارستها حتى تتحقق القدرة التي تضعها في إطارها المشروع والصحيح. فتأخير ممارستها ليس كبتاً وإنما هو إعلاء.
إن خطر الكبت الذي تفترض الفرويدية أنه يؤدي إلى العصاب لا يتحقق إلا نتيجة الإنكار والرفض والاحتقار للرغبات، أما الاعتراف بها مع التأجيل فذلك مما لا يتعارض مع الطبيعة البشرية وهو ما ترضاه وتحتمله، ولقد هللت طويلاً دعوات التربية الحديثة بأن توجيه الأطفال وعقابهم يؤدي إلى كذا وكذا من الأمراض ثم أثبتت التجارب التي أجريت على الطبيعة وبالإحصاء الدقيق أن ذلك محض وهم، وإن النفس الإنسانية قابلة للتوجيه والتحذير والعقوبة دون أن يحدث ذلك عندها شياً البتة مما يسمى بمركبات النقص أو غيره.
ونحن نؤمن أن صانع النفس البشرية (جلا وعلا) أقدر على فهمها وآمن عليها من الأخطار وهو الحامي لها من أولئك الفلاسفة الماديين، وأن ما رسمه لها من أساليب تحذير وضوابط ومناهج ترغيب وترهيب إنما هو دوائها الحق وأنه متقبل منها وليس بشاق عليها ولا خطر فيه وليس له ضرر ما على النحو الذي تهول به الفلسفات المادية والوثنية.(23/13)
وإن كنا نريد أن نعرف الخلفيات فلنذكر أن الهدف هو تفكيك عروة الشباب منذ الطفولة وبناء أجيال متحللة مدمرة ورفع يد الآباء عن التوجيه وخلق جو من الكراهية في محيط الأسرة حتى يفقد الشباب تلك الثمرة الخصبة "تجربة الجيل" وثمرة العبرة من كفاح الآباء وذلك في طريق هدف بروتوكولات صهيون الصريح: الذي يقول: "يجب تدمير المجتمعات الإنسانية قبل السيطرة عليها".
رابع عشر: أعطى الإسلام البشرية: التفسير الجامع (الرباني المصدر الإنساني الهدف) لا ريب أنه صدق التفاسير، لقد أهمل التفسير المادي جوانب المعنويات والقوى الذاتية والدين والأخلاق وهي جميعها بعيدة الأثر في مقدرات التاريخ وحركة المجتمعات وسيظل الدين بمفهومه الإسلامي الواسع الجامع عنصراً هاماً من عناصر تشكيل الذاتية الفردية والاجتماعية.
وأن القائلين بأن الدين ليس مصدراً من مصادر التوجيه أو ليس عاملاً من عوامل بناء الحضارات وحركة التاريخ إنما يتجاهلون شطراً هاماً من طبائع النفوس وخصائص الأشياء.
خامس عشر: ما يزال الإسلام والإسلام وحده هو المنهج القادر على إعطاء النفس العربية والإسلامية، بل النفس الإنسانية ريها وسكينتها، وقوتها وحيويتها. إن الخطأ هو اعتناق عقائد المجتمعات التي تشكلت على نحو خاص، والخطأ هو أن تأخذ الأمور من نهاياتها فهذه الحضارات قد شاخت وبان عوارها وفسدت ولم تعد تنفع أهلها، وحاول أصابها تعديل مناهجها مرة بعد مرة، ومع ذلك فلم تحقق لهم ما يطمعون فيه، إن ما يطمعون فيه لا يوجد لأنهم يقيسون بمقياس واحد: مقياس جزئي، هو مقياس العقل والعلم والمادة بينما يقيس الإسلام بمقياس متكامل:عقل وقلب وعلم ووحي وروح ومادة.
إن حضارة الإسلام لا تقوم على العلم وحده ولكن على العلم في إطار العقيدة.(23/14)
سادس عشر: إن تخلف المسلمين في العصر الحديث قضية مستقلة، عن منهج الإسلام ذاته، فمنهج الإسلام حين طبق أمام تلك الحضارة الباذخة وحين غفل عنه المسلمون وتجاوزونه وقعوا في هوة التخلف فالعيب ليس عيب المنهج، لأن المنهج رباني وقد سجلت تجربته بصماتها على التاريخ. إن القيم الإسلامية في تقدميتها ونصاعتها ليست مسئولة عن التخلف، وإنما جاء التخلف نتيجة تجاوزها وإهمالها، يقول ولفرد كانتول سميث: "إنه دين استطاع أن يوحي إلى المتديئين به شعوراً بالعزة كالشعور الذي يخامر المسلم من غير تكلف ولا اصطناع".
ولقد يرى البعض أن تخلف المسلمين ليس له إلا سبب واحد: هو سقوط العزيمة، سقوط الإرادة: الغفلة عن الأخطار المحدقة من كل جانب (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم): (ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم).
إن ظواهر التخلف ظهرت في اليوم الذي بدأ فيه المسلمون يميلون إلى الحلول السهلة، ويسترخون، ويتجاهلون الخطر المحدق. ويبتعدون عن حياة اليقظة التامة والمرابطة الدائمة في الثغور، والانحراف عن مبادئ القرآن. هذه أمة الرباط إلى يوم القيامة كما حدث الصادق المصدوق، لقد فقد المسلمون التحدي فسقطت العزيمة: غفلوا عن المجاهدة، فقدوا روح الصلاة والإيمان واكتفوا بالمظاهر، عن ذلك دارت الدائرة عليهم، يقول أرنولد تويئبي: إن الغرب وضع الحبل في رقبة العالم الإسلامي منذ القرن الخامس عشر وكان يتهيب أن يشده، ثم بدا له المسلمين في نوم عميق فشد حلبه وسيطر عليهم.(23/15)
سابع عشر: إن دخائل كثيرة دخلت على المسلمين وأفسدت حياتهم وأعلت من شأن المتعة والترف وأبعدتهم عن الاخشيشان والقدرة على الصمود، وفرغت حياتهم من فريضة الجهاد وتخلفوا عن مفهومهم الأصيل: احرص على الموت توهب لك الطريق، وغفلوا عن بذل النفس رخيصة في سبيل الحق، وتقهقروا إلى الحرص والخوف والجبن والذلة بما أعجزهم عن مواجهة الموت في ميادين المقاومة. وقبلوا بالحياة ذليلة، ولو علموا أنهم سيموتون في نفس اللحظة التي ينتهي فيها الأجل لما حرصوا ولا جزعوا. واليوم حين تعود فريضة الجهاد إلى حياتهم يبدأون عصراً جديداً.
ثامن عشر: أقر الإسلام حرية الفكر والعقيدة: "لا إكراه في الدين" ودعا إلى المطالبة بالبرهان والدليل ونهى عن تحكيم الهوى وفتح باب الاجتهاد ودعا إلى عدم الانخداع بالأوهام والاغترار بالظنون وأنكر القول بغير دليل وقرر عدم كتمان العلم وأطلق حرية البحث ودعا إلى التحرر من التبعية والتقليد وأقر مبدأ الأصالة.
وفرق بين العقائد والمعارف. وجعل العقائد خاصة وجعل المعارف عامة وفرق بين الأساس والعارض وفرق بين المعارف الجوهرية والمعارف غير الجوهرية (من لغو القول وإزجاء الفراغ) ودعا إلى الأخذ من كل علم بأحسنه كما دعا إلى التحري عن الحق وأفهم أهله بأن من كرامة العلم الربط بين العقيدة والعمل بها ورفض مبدأ العلم لذاته وقرر أن العلم يعترف بالحق إذا تبين وأن يغير العالم رأيه إذا جاء الدليل وإنما يطلب العلم من أجل العمل بع وأقام الإسلام الفطرة ودعا إلى نقاءها وشدد بالنهي عن إفسادها بالتعاليم الضارة. ودعا إلى التحري عن الحق وطالب أهله بأن من كرامة العلم أن نعترف بالحق إذا تبين وأن نرجع إلى الحق إذا جاء الدليل ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس ثم هديت فيه لرشدك أنه تعود إلى الحق فإن الحق قديم وإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.(23/16)
قضايا الشباب المسلم
تدور في نفوس شبابنا وفي أذهانهم وعلى ألسنتهم كلمات حائرة وتساؤلات مستقيمة، عن كثير مما يقرأن في كتابات مترجمة تملأ الأسواق والمكتبات جاءت من بلادها وتعرضت لقضايا أممها، ولكنها في نطاق الرواية أنما تمثل فكراً عالمياً يستوحي النفس الإنسانية ويستعرض مشاعرها فإلى أي حد يستطيع هذا الفكر أن يطابق النفس العربية المسلمة، قبولاً أو رفضاً، وكيف يجد هذا الشباب السبيل وعقائدها ومشاعرها عما يراه في مجتمعه ويعيشه في حياته. إن هذه الكلمات أحياناً تدير الرؤوس وتلهب العواطف، وتدفع إلى غايات وأهواء وتصور الحياة بصورة قلقة وهي تلقى مع الشباب المسلم العربي في مطالع العمر، وفي سن المراهقة ووسط أجواء حافلة بالصورة العارية والقصة المكشوفة، والفيلم الماجن، والمسرحية الصارخة، ومن خلال مجتمع مختلط فيه الملابس الكاشفة والصدور العارية، والكلمات الجريئة والزحام الشديد، والاختلاط الغريب وكل ما يقر أ أو يسمع يعين على الغواية ويدفع إلى التقليد ويجرئ على التجربة ومن وراء ذلك نتائج قاسية خطيرة.(24/1)
إن هذا الشباب الريفي المليء بالحياء والخلق، قد جاء إلى المدينة ووقع على (كامي وسارتر وفرويد) ومن ورائهم عشرات الكتب والقصص ووجد من يروج لهذا كله ويعرضه فير فصول وكتابات وفي مسرحيات وشعر وقصص، وهو يريد أن يعرف: هل هذا كله يمثل أنفسنا، أليست النفس الإنسانية واحدة؟ هل نحن في حل من أن ننطلق وراء الغرب في دعوته إلى الانطلاق حيث لا توجد حدود توقف ولا أبواب تحول؟ ثم هو لا يلبث أن يجد الكاتب من صميم بلده ودينه، صورة طبق الأصل بل ربما أشد عنفاً من هذا الكاتب الغربي، فهذا الذي يفترض أن المجتمع كله قد دخل دائرة الرغبة واللذة، وأن هذه الظاهرة التي لا تعدو واحدا في المائة في مجتمعاتنا قد أصبحت تستوعب المجتمع كله، وأن الناس لا يلتقون إلا ليتحدثوا في هذا الأمر، بل أنهم ليسخرون من أولئك الذين ما زالوا مقيدين بقيود الدين والأخلاق!.
هذه هي القضية التي تتطلب إيضاحاً، وتسأل عن حل، وتتطلع إلى معرفة وجه الحقيقة. ومن الحق أنها قضية، بل هي معضلة من معضلات عصرنا وأزمة من أزمات المجتمع الإسلامي في العصر الحديث.
ولكن لكي نستطيع أن ننظر في الأمر علينا أن نعرف أبعاد القضية وخلفياتها وتاريخها، في العلاقة بين مجتمعنا الإسلامي العربي وبين مجتمع الغرب، وبين الظروف التي حكمت بأن يسيطر الغرب عن طريق الاستعمار على هذه الأرض فيعمل على فرض مفاهيمه وأفكاره ونظرياته في الاجتماع والأخلاق والنفس والتربية إيماناً منه بأن هذه الأمة لا تقاد إلا من حيث تجرد أولاً من عقائدها ومفاهيمها وان تحتوي في دائرة فكر الغرب نفسه حتى يسلس قيادها وتكون تابعة راضية بتبعيتها.(24/2)
ومن هنا كانت تلك الدعوة إلى وحدة الفكر البشري ووحدة الحضارة ووحدة النفس الإنسانية، ومن ذا الذي يستطيع أن ينكر هذا كله، لقد كان ذلك صحيحاً ولكن بني البشر لم يقبلوا هذه الوحدة حين أنشأوا فكراً بشرياً مختلفاً عن الفكر الرباني الذي هدتهم إليه الأديان ورسالات السماء. ومن هنا وقع الخلاف فقد ذهبت النفس الإنسانية وراء أهوائها وعمدت إلى الضوابط التي أقامتها الأديان بالحدود والأخلاق حماية للكيان الإنساني نفسه منى الانهيار، فحطمتها باسم التحرر من القيود. ثم حين ذهبت وراء مطامعها إلى التماس متع الحياة على النحو المسرف المندفع دون تقدير لحق الناس جميعاً في هذه المعطيات. ثم حادت عن فهم رسالة الإنسان في الحياة ومسئوليته والأمانة التي وكلت إليه، فأرادت أن ترى الحياة متعة خالصة تجرى وراءها، وأن الخطأ والفساد "جبرية" للمجتمع لا حساب للفرد عنها، وأنه ليس وراء هذه الحياة حياة وأن الموت بالمرصاد من وراء الحروب والذرة، فليندفع الناس إلى الحياة يقتحمون متعها قبل أن تزول.
ومن أجل أن تحقق النفس الإنسانية أهواءها فقد كان عليها أن تبرر ذلك بالعقل والفلسفة، فتقطع علاقتها الكاملة بالمسئولية فتنكر ما وراء الواقع المحسوس، وتعلن كما فعل "نيتشة" "موت الإله وترى الدين (أفيون الشعوب) وتحتقر الأخلاق وتراها ضعفاً وذلة، وهكذا جاءت الفلسفة المادية لتحرر الإنسان من تبعته ومسئوليته وأمانته، ولتطلقه وراء لذاته وأهوائه ومطامعه: ومن هنا كانت فلسفة (الماركسية) وفلسفة الجنس (الفرويدية) وبينهما تعيش النفس الإنسانية، ومن هذه المفاهيم يصدر كامي وسارتر وعشرات من كتاب القصة والمسرحية والشعر.(24/3)
هذه النفس الإنسانية ليست هي النفس المسلمة التي ما تزال تؤمن بالله وتؤمن بمسئولية الإنسان في الحياة وجزائه الأخروي، وأمانته، وتؤمن بالضوابط والحدود والأخلاق التي تصنع الإطار الذي يتحرك فيه، ولهذا ما يكتب هؤلاء، إنما تحس بالدهشة، والدهشة مزيج نم الخوف والشوق، أما الشوق فيصدر عن هذه النفس الشابة في سن المراهقة المتطلعة إلى اللذات والرغائب، أما الخوف فيصدر عن ذلك الإحساس الداخلي بالإيمان بالله والجزاء والحساب. وهي بين ذلك تتدافع وتتارجع ولكنها لا تسقط إلا إذا فقدت عنصر الإيمان الذي كونته الأسرة وصنعه الأب والأم.
ولقد تتراوح النفس المسلمة بين الخطأ والصواب، والضلال والهدى، وكنها إذا ما عرفت الحقيقة التي هي كامنة في الأعماق، عادت إلى طبيعتها وأصالتها وفطرتها.
هذا هو سر القلق الذي يملأ مشاعر شبابنا حين يقرأ عبارات لكامي أو سارتر أو فرويد تخالف فطرته الإسلامية الأصيلة، غير أنه نتيجة عجزه عن معرفة "خلفيات" هؤلاء الكتاب يطن أنهم يكتبون بحسن نية، والواقع غير ذلك.
فهم أولاً يصدرون عن مجتمع مختلف عن مجتمعنا. ومن خلال رد فعل لتحديات لم نمر بها، ذلك أن الفكر الديني الغربي الذي فرضته تفسيرات المسيحية، وهو ليس مفهوم الدين الحق المنزل، وإنما من عمل القائمين عليها قد أوجد "سوء فهم" للعلاقة بين الإنسان والحياة، والإنسان والمرأة.
ومن هنا ظهرت بادرات الرهبانية التي أنكرت التعامل مع المجتمعات كلية والتي افترضت في المرأة جنساً غريباً نجساً يحسن تجنبه والانصراف عنه.(24/4)
هذه القضية: كان لها أبعد الأثر في تدمير المجتمع الغربي وسقوط الحضارة، حتى جاء الإسلام وبلغت أشعته أوربا وأعادت مفهوم الإرادة الإنسانية والعمل، وكان للعلوم الإسلامية أثرها في النهضة الغربية الحديثة، ومن ثم بدأ التحول أيضاً في مفهوم المرأة التي كرمها الإسلام وأعاد لها اعتبارها أن المجتمع الغربي في اندفاعاته الخطيرة قد تجاوز حدود الاعتدال وانتقل من الثورة على المرأة إلى "ثورة الجنس" كما يطلقون عليها الآن، وجاءت آراء الفلاسفة الماديين دافعة إلى الانطلاق والتحرر من كل القيود وجاءت نظرية فرويد الذي رد كل تصرفات الإنسان إلى الجنس وهدد البشرية كلها بخطر الأمراض العصبية إذا ترددت في الانطلاق.
وهكذا نرى أن المجتمع الغربي له خليفته فيما نراه اليوم من كتابات وفلسفات وقصص، التي هي تطبيق للقاعدة المعروفة: رد فعل مساو في القوة، مختلف في الغاية، فقد عاشت أوربا قروناً تحت مفهوم كراهية المرأة ونجاستها وعادت اليوم إلى مفهوم الانطلاق في العلاقة بها إلى أبعد الحدود وإخراجها من كل الأوضاع السليمة للأسرة، وإغرائها بالتعري والإباحة، ودفعها إلى المواخير وشواطئ البحار وساحات الرقص واللعب، تلك قضية الغرب وحده، وما كان لنا فيها من مشاركة، ولم تكن هذه القضية واردة في مجتمعنا الذي كرم المرأة وأعلى شأنها وأقام الأسرة وحماها بالشرف والعرض والكرامة والذي لم يقع في مشكلة الكبت أو التحلل.
غير أن للقضية بعداً آخر، هو دوافع التلمودية الصهيونية، هذه الدوافع التي أعلت من شأن الجنس والمادة وجعلت لذلك كله قوانين وفلسفات ومناهج عقلانية، حتى تبرر وجوده والاستمرار فيه، ومن هنا نرى أن فلاسفة الجنس كلهم من اليهود والدعاة إلى تحطيم نظام الأسرة، وتحطيم الدين، وتدمير الأخلاق، وإفصاد المجتمعات:(24/5)
دوركايم وسارتر وليفي بريل وماركوز بالإضافة إلى فرويد وماركس، هذه الخلفية جدير بأن تكون في نظر شبابنا وهم يسألون عن هذا الركام المتدفق على اللغة العربية والذي يدير الرؤوس لأنه مكتوب على ورق لامع وغلاف أنيق، وثمن رخيص، ولأنه يتصل بالنفوس الشابة قبل أن تكتمل قدرتها على الفحص، وتجربتها التي تعرف بها الزيف والصواب، فضلاً عن القصور الشديد الذي يواجهه مجتمعنا عن وضع كتب طيبة طيلة في أسلوب عصري عن معضلات النفس والحياة في أيدي شبابنا تطرح أمامهم وجهة نظر الإسلام التي تلتقي دائماً مع العصر والبيئة، ولا تجمد أو تتخلف.
ومن الحق أن يقال أن هؤلاء الشباب الذين تلمع أسماؤهم اليوم في ميدان القصة أو الشعر والذين يجرون وراء هذه المدرسة أنما بدأوا حياتهم في فراغ وتساؤل، فلما لم يجدوا أمامهم في فكرهم الإسلامي ما يجيب على أسئلتهم، وجدوا كتابات نيتشة وماركس وفرويد يسيرة بفضل أمثال سلامة موسى وفيلكس فارس وغيرهم فتقبلتها نفوسهم لأنها كانت تحس بالفراغ بينما قصرت بيئاتهم وبيوتهم عن أن تمد لهم يد المعونة بالإيمان والعلم الصحيح.
وإذا كان لنا أن نقول شيئاً لأبنائنا الذين يتساءلون عن هذه الفلسفات المطروحة تحت اسم "النفس الإنسانية" فإنما نقول لهم لهم أن كل ما يبرق أمام أنظارهم ليس ذهباً، وأن الأسماء اللامعة لا تخدعهم، وأن أحداً لم يستطع حتى الآن أن يقول للنفس الإنسانية الحق ويكشف لها عن جوهرها، وهداها، وطريقها وأمانتها إلا هذا الكتاب المنزل بالحق: "القرآن".
إن على شبابنا أن يعلم كل ما يعطيه الرغبات المطلقة، والكلمات البراقة، والأهواء الشائقة، ومطامح الغرائز والشهوات، إنما يضله ويسمم فكره، ذلك أن حقيقة العطاء أنما هي إيمان بمسئولية الإنسان في الحياة، في سبيل إقامة المنهج الرباني الذي يحقق الأمن النفسي والسعادة الحقة.(24/6)
أما هذا العطاء البشري الذي يقدمه فرويد وسارتر فإنه لا يحقق السعادة ولا الأمن النفسي ولكنه يحقق القلق والتمزق والضياع والغثيان، ذلك لأنه يفصل الإنسان عن نفسه، ويمزق وجوده، ويقضي على تكامله، ويعلي من شأن جانب فيه على حساب جانب آخر، وذلك هو خطر المادية وأهوائها: وهو الطابع الصريح الواضح الآن للأدب الوجودي عامة، هذا الإحساس بالخوف المتمثل في أن الإنسان وحده في هذه الدنيا، وذلك الخوف من الموت، وتلك المشاعر القلقة المضطربة، إنما مصدرها الحقيقي هو انفصال الشخصية، وإنكار الإيمان بالله، ذلك أن الإنسان في تكوين ذاته نفس وجسد وعقل وقلب ومادة وروح، فإذا جاءت الفلسفات المادية لتقول أن الإنسان نفس وعقل ومادة فقد شطرت الإنسان وأعلت منه جانباً وتجاهلت الجانب الآخر، هذا الجانب لا يموت ولكنه يظل يرسل أحاسيسه ويملأ صاحبه غماً وقلقاً واضطراباً، لأنه جانب موجود وله حق الحياة وتلك هي أزمة الحضارة والإنسان المعاصر. أما المسلم فإن موقفه من ذلك يختلف تماماً، فالمسلم يؤمن بأن الله سبحانه وتعالى خلقه من طين ثم نفخ فيه من روحه فهو متكامل التشكل: مادة وروحاً، لا سبيل إلى إعلاء جانب منه على الآخر، بل هو في الحقيقة حين يؤمن ينتقل من المادة إلى الروح فيكون قادراً على البذل والعطاء، وتلك هي قدرته على التسامي من الفردية إلى الغيرية، ولكنه في مفهوم الإسلام أيضاً له حق الحياة والمتاع بها دون انفصال عنها أو عزلة عن المجتمع، فهو متكامل جامع، وهو في فهمه للحياة وتحركه فيها أنما يجمع دائماً بين الزمني والروحي والمطلق والنسبي، واللانهائي والمحدود، يجمع بين معطيات الدنيا وخلود الآخرة.
تلك مقدمات يسيرة بين يدي تساؤلات الشباب في مواجهة الفكر البشري من فلسفات ومفاهيم.(24/7)
يرسم الإسلام الطريق إلى تكوين الأجيال على نحو غاية في الأصالة وغاية في التقدم في نفس الوقت، فهو لا يدعو إلى تربية مغلقة جافة أو إلى تقليد الآباء، وهو في نفس الوقت لا يطلق الأجيال دون أن تأخذ قدراً من الحصانة والحماية وفهم الوجهة والغاية.
ومن هنا فإن التربية الإسلامية تختلف في منهجها عن التربية التي تقدمها المناهج والمذاهب العالمية على السواء في أنها تجمع بين الدائرة الثابتة والدائرة المتحركة. وذلك حتى لا تنفصل الشخصية الإنسانية عن جذورها التي شكلتها الأديان والعقائد والقيم والبيئة، ثم تكون لها القدرة من خلال هذا الإطار الثابت المرن على تقبل روح العصر من نمو وحركة وتطور وتقدم وعصرية، شريطة أن يكون روح العصر قادراً على التشكيل والانصهار داخل إطار روح الأمة الأصيل.
وتلك قاعدة أساسية من قواعد الفكر الإسلامي تقوم على التكامل والنظرة الجامعة، وعلى ترابط العناصر وتفاعلها بحيث لا يطغى عنصر منها على الآخر ولا يستعلي وبحيث تحقق في مجموعها الاستجابة لتركيب الإنسان نفسه الجامع بين المادة والروح والعقل والقلب.
وعنصر الثبات دائماً يتصل بالإنسان وبخالقه وبالكون وبالتاريخ وبأول الأشياء وبالقرآن وبالفطرة وبالدين، أما عنصر الحركة المتغير فهو يجعله دائماً قادراً على الحياة في للبيئة والعصر مع ظروف التحول والتغير والتطور.
وفي التربية تقوم القاعدة الإسلامية على ركيزتين متوازيتين:
الأولى: إعطاء الأبناء قدرة على الحركة إلى المستقبل.
الثانية: إعطاء الأبناء قوة على الثبات داخل قيم الدين والأخلاق.
وبغير هذا الترابط الجامع يسقط أعظم عامل من عوامل السلامة والقوة في بناء الأمم، وهو عامل "الأمن النفسي" الذي اختفى تماماً من الأمم التي اتخذت من المناهج البشرية الجزئية والإنشطارية منهجاً للحياة وللتربية.(24/8)
وذلك لأن هذه الأمم قد قبلت مبدأ التغير الدائم، التحول المستمر، ففقدت قاعدتها الأصيلة، ومحورها الذي تدور في فلكه، وبذلك ذهبت بعيداً في "تيه" من العسير استعادتها منه.
ولا ريب أن النظرة الإسلامية الجامعة (وهي نظرة ربانية) هي أقرب ما تكون إلى سلامة القصد، وأكثر ما تكون قوة على حماية البناء الاجتماعي كله من أن يتبدد أو ينهار أو تتدافعه الرياح الهوج.
والمسلمون يؤمنون بالتقاء الأجيال وتكامل الأجيال ولا يؤمنون بصراع الأجيال. وهم يفرقون بين فريضة تقديم التجربة الكاملة من أهل جيل سابق إلى جيل جديد، وبين ما يوصف بأنه "وصاية" على الأجيال الجديدة.
ذلك أن من حق الأجيال الجديدة على الأجيال السابقة: أمرين:
أمانة التجربة والالتزام بإضاءة الطريق أمام النشئ النامي حتى يستطيع أن يمتلك إرادته، لفت نظره إلى ما في الطريق من عقبات، أما الجيل الجديد فمن قه أن يقبل التجربة القديمة أو ينقدها، ولكنه لابد أن يبني على نفس الأساس وإن كان من شأنه أن يجدد أو يغير في الفروع والجزئيات. أما جوهر البناء فهو ملتزم به لأنه ليس ميراثاً عن الآباء فحسب، ولكنه لأنه إلى ذلك قائم على دعامة منهج أصيل متميز، رباني غير وضعي ولا بشري، ويجب أن لا يدفعنا أي دافع إلى التضحية بهذا الأساس إزاء وهم أو بريق خادع من شأنه أن يخرجنا عن الإطار والضوابط والحدود التي رسمها لنا الإسلام.
ويقضي تكوين الأجيال أن تتوازى فيه عوامل ثلاثة:
قدر من الإيمان، وقدر من الثقافة، وقدر من التجربة.
1- فالإيمان هو العامل الأول الذي يضيء القلب ويكشف عن المهمة الحقيقية للإنسان في الأرض، لماذا جاء؟ وما هي أمانته؟ ورسالته وغايته ومسؤوليته. هذا القدر من الإيمان لا يعطيه إلا الدين الحق، والقرآن هو العامل الأول في بناء العقيدة وكشف الوجهة وتزكية النفس والقلب.(24/9)
2– ثم يجئ العامل الثاني وهو الثقافة الأصلية التي تكشف للعقل عن دوره ومهمته في ضوء التوحيد والإيمان والوحي، وتبسط أمامه الآفاق الواضحة لدور المسلم في الحياة، وللتحديات التي تواجهه في هذا العصر وفي كل عصر حتى يعرف مدى المسؤولية الملقاة عليه، ومدى الخطر المحدق بأمته وأرضه وعقيدته.
3- ثم يجئ العامل الثالث وهو التجربة التي تتكون مع ارتفاع السن والعمل، والاتصال بالمجتمع والناس. ومن شأنها أن تزيد الإيمان والثقافة عمقا وأن تمنحها الرصيد الذي يؤكد الحقائق ويزيدها ثباتا في النفس والعقل.
فإذا خرج الجيل الجديد إلى الحياة دون أن نزوده بالإيمان فإننا نكون قد فتحنا الطريق أمام الفكر البشري ليغزو هذه النفس الناشئة وليملأ هذا الفراغ الذي عجزت عن ملئه الأسرة والأبوة والقدوة.
ومن هنا يبدأ الانحراف ويبدأ الخطر، ثم تكون الثقافة الزائفة الملقاة على الأرصفة هي الزاد حيث لم نهيئ له الزاد الأصيل.
وفي القصة والرواية والفلسفات شبهات وأخطار وصور براقة تنفذ بسرعة إلى القلب الغض والخيال الساذج، وتجد قبولا لأنها ترضي الغريزة والهوى والنفس الأمارة، ومن ثم تحجب الطريق الصحيح.
ثم لا تكون التجربة بعد ذلك إلا في مجالات الأهواء واللذات والرغائب الصغيرة وهكذا تتعرض الأجيال الجديدة للخطر الذي يجعلها تتنكب طريق الخير فلا تعطي لأمتها ما تتطلع إليه من قوة دافعة بل تكون عاملا من عوامل الهزيمة والانحراف.(24/10)
ومن شأن التربية الإسلامية أن تنقل الأجيال من الأنانية إلى الغيرية، ومن التطلعات الفردية إلى خدمة الجماعة فالأمة والرسالة، فلا يكون الإنسان دائراً في إطار ذاته وأهوائه ورغبائه، ولكنه يكون في خدمة هدف ورسالة وغاية تستوعب كل وقته وفكره وحياته، ولا يتحقق هذا إلا إذا فهم الأبناء مسئوليتهم إزاء ربهم وأمتهم وجيلهم. فليست الحياة متعة تساق، ولا لذة تبتغى، ولا تطلعاً إلى شهرة أو مال أو مجد شخصي، وإنما هي "رسالة" ومسئولية والتزام وأمانة، الخدمة فيها موجهة باسم الحق تبارك وتعالى لإقامة المجتمع الكريم الذي يحقق منهج الله في الأرض.
إن أخطر ما يواجه الأجيال في مطالع الحياة: خطر يتصل بالعقيدة وخطر يتصل بالغريزة، وفي الفلسفات المنثورة تبرير للانحرافيين، وفي التربية الأصلية في مجال الأسرة منذ أول الخطو الحماية والحياطة وإقامة الجدار المكين الذي يحفظ العقل والنفس جميعاً من مهاوى التدمير التي تواجه الأجيال. فإذا أمكن هذا التكوين السليم حفظ النفس والعقل جميعاً من أن يستعلي شيء على العقيدة، فلا ترى النفس في تلك الصورة البراقة الزاهية ما يخلب لبها أو يخدعها، ذلك أن أول عوامل الوهن أن يحس المسلم بقصوره وقصور مجتمعه وأمته عن الأمم الأخرى، فيخدع بالظن بأن هذا التخلف مرتبط بهذه العقيدة وما هو كذلك، ذلك أن الحقيقة هي أن التراخي عن العقيدة هو الذي أحدث التخلف وليس العكس.
ولذلك فإن أول البناء في تكوين الأجيال هو الإيمان بذاتية خاصة لها قيمها ووجودها وكيانها وتاريخها، مختلفة عن غيرها، وأن هذا التخلف القائم هو مرحلة من المراحل، جاءت بعد مراحل من القوة والتمكن، شأن دورة الحياة والتاريخ بكل الأمم والشعوب، وأنها حالة مؤقتة، وأن الالتزام بالأصل والجوهر الرباني، من شأنه أن ينهي هذه المرحلة ويرد المسلمين مرة أخرى إلى مكانهم في تاريخ البشرية وأن ما يطيل أمد التخلف هو التماس مناهج الآخرين.(24/11)
إن منهج الإسلام جماع للروح والمادة، والعقل والروح، والدنيا والآخرة، وهو وسيلتهم إلى النجاح وسبيلهم إلى التمكن، وليس لهم من دونه طريق أو سبيل، تلك هي أمانة الأجيال الحقة التي يجب أن يقدمها لهم هذا الجيل ليكونوا من بعد قادرين على الدفاع عنها والحفاظ عليها والقيام بها.
إن السؤال الذي هو بمثابة أكبر معضلات العصر هو موقف شبابنا إزاء هذا الفيض المتدفق من النظريات والمعلومات والأفكار عن طريق الصحافة والإذاعة والكتب العربية المترجمة والقصص وما يدرس في مدرجات الجامعات وما تتناوله الكتب الرخيصة المنثورة على الأرصفة وعلى أسوار الحدائق وكيف يواجه شبابنا ذلك الركام الهائل المعروض عليهم عرضاً حراً مطلقاً كأنما هو من المسلمات أو الحقائق الثابتة.
إذا أردنا أن نعرف ما هي الأدوات التي يمتلكها هذا الشباب للحكم على ما يقدم له لم نجد أكثر من قدرة يسيرة على القراءة ونفوس غضة متطلعة إلى كل طريق وجميل وملون وأنيق، وخاصة إذا صحبته أسماء لامعة مثال فرويد أو سارتر وبودلير وكافكا. كيف يستطيع أن يكتشف الحقيقة ويعرف الأصيل من الزائف وقدته العقلية يسيرة، ومحصوله العلمي قليل، وذخيرته الفكرية والروحية والدينية بسيطة، وعنصر الحرص من الخطر معدوم تماماً.
إن شبابنا يقبل ببساطة على هذا الركام، وهو مستسلم له تماماً خالي الذهن من تلك المعركة الضخمة الدائرة نم وراء هذه المطبوعات، والتي ترمي إلى إغراقه واحتوائه والقضاء على كيانه واستلاب قدراته التي وهبتها له أمته من أجل الدفاع عن القيم والمقدسات المعرضة للخطر.
لذلك فإن القراءة الآن أصبحت فناً خطيراً وأمانة الكاتب موضوعة الآن في الميزان ومسئولية القارئ يجب أن تكون واضحة إزاء ما يكتب وما يقدم.
إن خطر الأجنبي المترجم ليس أقل أثراً من الغربي المكتوب بالعربية والمقدم للشباب على أنه نتاج عربي.(24/12)
وهذا الغربي المكتوب باللغة العربي وبأقلام عربية، ما مدى أصالته، وما مدى سلامته وما مدى إيمان أصحابه بأمتهم وبأمانتهم لها. لقد أصبح هناك صنفان من الكتابات أحدهما ولاؤه للفكر الغربي بمفهومه ديمقراطياً ووجودياً وإحياء الوثنية الإباحية الهلينية وهذا الفكر يحاول أن يتعرض للإسلام ولتاريخ الإسلام ولشريعة الإسلام بإثارة الشبهات وبالدعوة إلى استغلالها لتبرير الواقع وتبرير الحضارة التي تمر بمرحلة الأزمة الصاعقة. والتي تقدم أسوأ معطياتها اليوم وأقسى صور حياتها في صورة الوجودية والهيبية الناقمة المنحرفة الرافضة لكل قيم المجتمعات وضوابطها.
ومن الكتابات ما نجد وراءها الفكر الماركسي المادي بمفهومه المنحرف الداعي إلى صراع الطبقات المحرضة على الهدم والتدمير والدماء والقائم على الجماعية التي تحتقر الفرد ولا ترى إلا أنه ترس في آلة، والتي تنكر الأسرة والزواج وتنظر إلى الأخلاق والدين والصلة بالله وبالسماء نظرتها الرافضة المحبوسة في حدود المحسوس والمادي وهي تحاول أن تفرض فلسفتها هذه على المجتمع الإسلامي وتعمل على تفسير التاريخ تفسيراً مادياً، محدوداً، قاصراً لا يعترف بالروح ولا بالمعنويات.
ومن عجب ألا يتوقف هذا التيار الصاعق عند دعوته ولكت يقتحم الفكر الإسلامي ليفرض منهجه المادي عليه، ومن هذه المحاولات الخطرة:
أولاً: إقامة جسور وقناطر بين الفكرة الإسلامية والنظريات العربية، ماركسية ووجودية وديمقراطية، بدعوى أن الإسلام فيه ديمقراطية وعدالة اجتماعية واعتراف بالفردية.
ثانياً: محاول تفسير التاريخ الإسلامي تفسيراً مادياً لتحرك التاريخ الإسلامي أو اتخاذ التفسير المادي المنكر للغيب والنبوة وما وراء المادة أساساً للتفسير.(24/13)
ثالثاً: محاولة لوضع الشريعة الإسلامية في مجال تبرير الواقع المعاصر في الأمم والحضارات المعاصرة وذلك بالقول بأن الشريعة الإسلامية مرنة وقابلة للحضارات وتغيرات العصور والأزمان، وأنها تقوم على أساس قواعد عامة ترتضي القوانين الوضعية مع تعديلات يسيرة.
ولا ريب أن هذه كلها مؤامرات زائفة، ومحاولات مغلوطة، تفسر الشريعة الإسلامية والمفهوم الإسلامي على الانصهار في بوتقة الحضارة القائمة بكل فسادها وانحلالها وتبريرها من ناحية والقبول بها من ناحية ذاتية الإسلام المفردة ذات الطابع المفرد وأهم من ذلك كله القضاء على الطابع الخاص المتميز الذي يختلف اختلافاً واضحاً عن الواقع الإسلامي المعاش والمستمد من الحضارة الغربية التي شكلتها مفاهيم الوثنية اليونانية والقوانين الرومانية وتفسيرات المسيحية الغربية بما فيها الخطيئة الأصلية والفصل بين الدين والدولة، والقول بالتطور المطلق ونسبية الأخلاق.
###الشباب وكيف يواجه ركام الفكر الوافد
إن الماركسيين يحاولون خداع المسلمين بأن الماركسية والإسلام يلتقيان في العدل الاجتماعي وأن الغربيين الليبراليين يحاولون خداع المسلمين بأن الديمقراطية والإسلام يلتقيان في الشورى التي تسمى في الديمقراطية التمثيل النيابي وكلا الأمرين فيه تمويه وزيف كثير فلا العدل الاجتماعي في الإسلام مشابه للماركسية ولا الشورى مشابهة للتمثيل النيابي.
ونحن نعرف أن الاستعمار والصهيونية والماركسية يتعاونون على هدف واحد وإن اختلفوا في مطامع السيطرة، هذا الهدف هو تدمير المعنوية والأصالة والذاتية في الأمة الإسلامية حتى تخضع وتدخل دائرة الاحتواء وتنصهر في الأتون اللعين، أنون الأممية. ومن ثم تفقد ذلك الشيء الذي يميزها ويجعلها أمة لها قدرتها الخاصة على إقامة كلمة الله، وعلى العمل لإقامة المجتمع الرباني.(24/14)
جاء الاستعمار وهدفه إحلال مخطط جديد وفكر جديد مختلف في الغاية والوجهة، هو إدخال المسلمين في الدائرة الغربية المغلقة، وإخراجهم من الدائرة الربانية الموسعة الجامعة، مستهدفاً حصرهم واحتواءهم، ولقد جرب الغرب أسلوبه في الديمقراطية الغربية وأحس العالم الإسلامي أنها جسم غريب، ثم جاءت الموجة الأخرى المتابعة لها وهي الماركسية ورفضها الجسم الإسلامي والعقل الإسلامي، وأثبت الروح الإسلامي أنه غير قابل للاحتواء والانصهار في أي النظامين، غير أن التجربة المظلمة: تجربة تطبيق النظام الغربي في المجتمع والتعليم والسياسة والاقتصاد والقانون كانت مصدراً للهزائم المتوالية التي وقعت فيها المنطقة العربية، نكبة ونكسة وهزيمة، واحتلال فلسطين والقدس، كانت أفكار القومية والإقليمية والتجزئة مصدر التمزق والهزيمة، لقد كانت الهزيمة نتيجة هجر المنهج الإسلامي، منهج الأصالة والذاتية، والانصهار في مناهج الغرب التي لم تكن صالحة لأهلها أو محققة لهم قيام المجتمع الأمثل، أن الذي هزم هو التخطيط العسكري والسياسي الوافد، أما الإسلام فإنه لم يكن موجوداً أو مطبقاً حتى تنسب الهزيمة إليه، بل كان قد أبعد تماماً وحوصر.
إن التجربة التي بدأت بالاحتلال الغربي وانتهت بهزيمة 1967 م يجب أن تضع تحت لأعيننا رصيداً ضخماً من الوعي واليقظة والحذر، تجاه فكرة تقليد الغرب بشقيه، أنماط الغرب، الترف، الاستهلاك، الانحلال، التمزق، الغربة، الغثيان، كلها هي ميراث هذا الفكر الغربي الوافد الذي يقدم لنا عن طريقين: عن طريق مترجمات غثة رديئة، لا نختار إلا الإباحيات والسموم والانحراف وتدع كل ما هو إيجابي وصالح ونافع، لم تقدم هذا على أنه مسلمات وحقائق، بينما هو لم يبلغ درجة النظرية، وليس درجة العلم إنما هو ركام شديد السوء تقدمه أقلام مليئة بالحقد والكراهية والتعصب، مدفوعة إلى تدمير المجتمعات وهزيمة القيم وإثارة الشبهات والشهوات والإباحيات.(24/15)
لقد علمنا الإسلام أن نقف من المعارف المعروضة علينا موقف التعرف الصحيح على قيمها الحقيقية، وعلى مصادرها، وعما إذا كانت نافعة أم ضارة، إيجابية أم سلبية، وأن علينا أن نرفض الزيف والتفاهات أن ننبه عليها.
وأنة نعرف أن لنا من العلوم موقفاً ومن الثقافات الأممية موقفاً، ومن هذا الركام الزائف المنشور في كتيبات تباع على الأسوار موقفاً آخر، وعلينا أن نعرف الفرق بين العلوم والفلسفات، فالفلسفات نظريات فردية قوامها فروض تصح وتخطئ، وهي مرتبطة عادة ببيئتها وعصورها، وليست صالحة لعصور أو بيئات أخرى لأن جانبها الذاتي بالإضافة إلى صدورها عن تحديات مجتمعها وعصرها وأمور مجتمعها كل هذا يجعلها أقل صلاحية لأن تكون إنسانية أو عامة.
والعلوم التجريبية شيء غير الفلسفات وغير الثقافات، ومن حق الشباب علينا أن نقدم لهم مترجمات عن الفكر الغربي ولكنها يجب أن تكون مسبوقة باستعراض لها، فإذا قدمنا لهم ماركس أو سارتر، أو هيجل، أو فرويد، فعلينا أن نقدم ذلك في إطار عصره وفكره، وأن نقدم أيضاً وجهة نظر فكرنا في هذا العمل أو ذاك. ذلك أن للفكر الإسلامي منهجه ومنطلقه وطابعه الخاص به، وهو مختلف عن مناهج ومنطلقات وخواص وطوابع الفكر العربي: الذي مر بمراحل مختلفة، وتركز في صور عديدة، منها الاقتصاد والنفس، والاجتماع والقانون، وكلها تختلف عن مفهوم الإسلام.
فلنكن على حذر مما يقدم إلينا من هذه المترجمات.
أما ما تكتبه الأقلام العربية من مصدر ولاء للفكر الغربي أو الفكر الماركسي، فإن علينا أن نعرف موقف الإسلام من كل ما يقدم، وإلا تختلط علينا المفاهيم فتجرفنا إلى ما يخرجنا من طوابعنا وذاتيتنا، حتى لا نسقط في فخ الفكر العالمي، الأممي الذي يستهدف صهرنا وإذابتنا في بوتقته حتى تضيع تلك الصفة الخاصة التي يتميز بها المسلمون: وتلك هي أخطر التحديات التي تواجه "الأصالة".(24/16)
كمال أتاتورك وإسقاط الخلافة الإسلامية
الأستاذ أنور الجندي
حاولت أجهزة الدعاية الغربية والصهيونية إعطاء "مصطفى كمال" أتاتورك حجماً أكبر بكثير من حجمه الطبيعي، وذلك عن طريق عشرات المؤلفات التي طبعت ووزعت في مختلف أنحاء العالم، بتضخيم حجم هذا العمل التغيريبي التخريبي الخطير، الذي قام به.
ولقد حظيت اللغة العربية بعدد من هذه الكتب، منها كتاب "كمال أتاتورك" الذي كتبه "محمد محمد توفيق" واعتمد على 53 مرجعاً إنجليزياً وفرنسياً، وما زال يعد في نظر التغريبيين مرجعاً أساسياً في تقديم هذا النموذج الأول الذي هو بمثابة المثل البكر لتجربة التغريب في العالم الإسلامي، والتي فشل تطبيقها في البلاد العربية وسقطت أخيراً في إيران.
ولا يمكن فهم حقيقة كمال أتاتورك إلا بالعودة إلى السلطان عبد الحميد ومحاولة إسقاطه، التي تمت عام 1909 م والتي تولى الاتحاديون بعدها زمام الحكم إلى نهاية الحرب العالمية الأولى 1918 م، كمرحلة إعداد الدور الذي قام به كمال أتاتورك من بعد.
بداية مريبة:
وما إن أسقط السلطان عبد الحميد حتى تحول الأمر في الدولة العثمانية إلى شيء خطير، فقد فتحت الأبواب لكل الأقطار والدعوات المعارضة للوحدة الإسلامية والخلافة الإسلامية والإسلام نفسه، وأتيحت الفرصة لكل الغلاة وخصوم العرب والإسلام، في أن يذيعوا كل ما من شأنه أن يحقق للاستعمار الغربي واليهودية العالمية مطامعها وأهدافها، وخرجت جماعات خريجي الإرساليات التبشيرية والمحافل الماسونية، لتسيطر على الرأي العام عن طريق الصحافة، وتولت الحكم وزارة في الدولة العثمانية بها ثلاثة وزراء من اليهود.
ثم انفتح الطريق إلى فلسطين وأتيح لسماسرة بيع الأراضي العمل في حرية كاملة، ونشط اليهود والدونمة والماسون من ورائهم للعمل.
وأسفرت عن نفسها:(25/1)
وبدأت الحركة الطورانية تشق طريقها في تمزيق وحدة العرب والإسلام واندفعت جمعيو الاتحاد والترقي إلى تتريك العناصر الداخلة ضمن الامبراطورية. وكان التركيز على تتريك العرب شديداً.
وكانت أولى خطوات الاتحاديين في الحكم: بناء منهج سياسي فكري للدولة العثمانية، مستمد من النظرية الغربية العلمانية، جرياً وراء الخطة التي رسمنتها الماسونية للثورة الفرنسية، وإلغاء المفاهيم الإسلامية وإحلال مفاهيم غربية خالصة بدلاً منها، وسارع الاتحاديون بإصدار تصريحات تقول بعزل النظام السياسي القائم، وقام أحدهم: أنه لا محل للجامعة الإسلامية في برنامج تركيا الفتية.
وقد جرت مهمة الاتحاديين في هذه الفترة على إعداد الدولة العثمانية لحركة التغريب في عديد من الجهات:
استسلامهم لبريطانيا استسلاماً كاملاً.
تسليم طرابلس الغرب لإيطاليا.
فتح الطريق أمام اليهود إلى فلسطين.
وضع العقبات أمام وحدة العرب والترك بتعليق العرب على المشانق في الشام.
محاولة تتريك الأعراق البشرية الداخلة في نطاق امبراطوريتهم وخاصة العرب.
إعلان فكرة الطورانية وإعلاء الجنس التركي على العالم كله.
وهكذا فإن كل ما حدث في فترة السنوات العشر السابقة للحرب العالمية الأولى إنما كان تمهيداً لما جاء بعد ذلك. في تركيا أو في مصر أو لبنان، وذلك في ضوء التحول الخطير الناتج عن إسقاط الدولة العثمانية وتمزيقها، وقد تحقق ذلك بالفعل، نتيجة لدخول الاتحاديين الحرب العالمية في صف الألمان. فكانت هزيمة الألمان في الحرب هزيمة لهم مما أدى إلى السيطرة على تركيا وإذلالها، وفرض نفوذ فكري سياسي غربي عليها، حتى ينتهي هذا الوجود الإسلامي المرتبط بالخلافة والوحدة الإسلامية، وحتى لا تكون تركيا مرة أخرى منطلقاً للإسلام إلى أوربا، أو مصدراً للخطر، أو جرثومة لتجمع إسلامي.(25/2)
نعم كانت فترة السنوات العشر للاتحاديين مقدمة لما بعد ذلك، وتمهيداً للمخطط التغريبي العنيف، الذي نفذه مصطفى كمال أتاتورك بقوة القانون.
مصطفى كمال والأهداف:
وقد كان مصطفى واحداً من الاتحاديين بين زملائه طلعت وجمال وجاويد، ولكنه لم يلمع تحت الأضواء في هذه الفترة فقد استبقاه التخطيط الدقيق ليحمل لواء المرحلة التالية. وليصبح بعد الحرب امتداداً لهم. ونقطة تجمع لهذه القوى. لتشكل مرة أخرى على نحو آخر، بعد أن حققت أكبر أهدافها وهي:
إسقاط الدولة العثمانية وتمزيق وحدة العرب والترك التي هي مظهر وحدة العروبة والإسلام. فقد كان أتاتورك واحداً من رجال جماعة سالونيك ومحافلها الماسونية، ومن أبرز رجال الاتحاد والترقي، مؤمناً بتلك المبادئ والمخططات التي نفذت فلم يكن حرباً عليها وأن أعلن اختلافه معها – في ظاهر الأمر – ولكنه كان يحقق مرحلة جديدة، فيها إعادة النظر إزاء بعض الوسائل مع الاحتفاظ بالغاية الكبرى، والوصول إليها بأساليب أشد إحكاماً.
والتي تكن معارضته لفكرة الدعوة الطورانية إلا من هذا القبيل، وإذا كان الاتحاديون قد حطموا الدولة العثمانية، وفرقوا رابطة العروبة والإسلام. فإن أتاتورك قد حقق عملاً واحداً في التاريخ الإسلامي أشد قسوة وخطراً من كل عمل، وهو "إلغاء الخلافة الإسلامية" وتحويل تركيا من دولة إسلامية تحمل لواء الجامعة الإسلامية والخلافة وقيادة الأمم الإسلامية، إلى دولة غريبة خالصة تكتب من الشمال وتطبق القانون السويسري المسيحي.
بروتوكول لوزان:
وأبرز هذه الأعمال إقرار تلك الوثيقة الخطيرة: بروتوكول معاهدة لوزان المعقود بين الحلفاء والدولة التركية عام 1923 م المعروفة بشروط كرزون الأربعة وهي:
قطع كل صلة بالإسلام.
إلغاء الخلافة.
إخراج أنصار الخلافة والإسلام من البلاد.
اتخاذ دستور مدني بدلاً من دستور تركيا القديم المؤسس على الإسلام.(25/3)
ويؤكد أرنست أ. ر أفرور. وصديقه آرنست باك. وبمراجعة كتاب أرمسترونج "الذنب الأغبر": عن حياة مصطفى كمال: أنه كان ماسونياً وأن المحفل الإطيالي الذي ساعد الاتحاديين عام 1908 م على نجاح حركتهم كان معاوناً له في نجاح حركته. ولعله أحس بعد أن نجحت حركته أنه لا حاجة إلى الجمعيات الماسونية في بلاده، فألغاها بعد أن تحققت كل أهدافها.
من هو مصطفى كمال:
ولاشك أن العنف الذي واجه به مصطفى كمال مؤسسات الإسلام، وما قام به من دحر لنفوذه في تركيا، يكشف بوضوح عن أنه كان من أخلص رجال المحافل الماسونية، بل يصل إلى أبعد من ذلك عندما يؤكد اما ردده كثير من الباحثين من: أن مصطفى كمال نفسه من أصل يهودي من الدونمة في سالونيك، وأنه كان يتخفى بالمكر والخديعة في معاركه حتى استطاع كسب قلوب المسلمين، فأرسلوا له من التبرعات والأموال الشيء الكثير حتى إذا تمكن من امتلاك أزمة الأمور سحق أنصار الإسلام سحقاً.
والواضح من دراسة تاريخ حياة مصطفى كمال أمور عدة:
أولاً:
أنه لم يكن هو قائد معركة التحرير ضد القوات الأوروبية واليونانية وإنما هو الذي سيطر على هذه القوات من بعد وسحب أسماء الأبطال الذين بدأوا هذه المعارك.
وكان لهم دور كبير في تحقيق النصر وإن الفضل الأول كان للقائد قره بكير وغيره.
ثانياً:
إن أوربا قد سلمت لمصطفى كمنال بزعامة تركيا وانسحبت أمامه، بعد أن وقع على وثيقة رسمية دولية في مؤتمؤ الصلح. قرر فيها إزالة الإسلام والخلافة وإخراج زعماء المسلمين، والحكم بالقوانين الغربية وإلغاء اللغة العربية بعد أن اطمأنت إلى أن تركيا – عنصر المخافة – قد انتهت.
ثالثاً:(25/4)
إن هذه البطولة التي حكيت لها أثوابها، ووضعت في هذا الطابع من الروعة والبهاء، إنما كانت خدعة النفوذ الاستعماري لتأكيد وجوده وسلطانه، ومنحه القوة على تدمير كل المؤسسات الإسلامية، حتى لا يبقى منها شيء يخيف أوربا أو يزعج اليهودية العالمية، التي كانت تطمع منذ وقت بعيد إلى أحد أمرين:
القضاء على الدولة العثمانية واتخاذ إلغاء الخلافة الإسلامية طريقاً للوصول إلى فلسطين.
وظهر على حقيقته:
ولقد دفع مصطفى كمال تركيا دفعاً قوياً إلى العلمانية، وألغى القوانين الإسلامية واضطهد المسلمين والإسلام أبشع اضطهاد، وقتل العشرات وعلق جثثهم على أعواد الشجر، وأغلق المساجد ومنع الآذان والصلاة باللغة العربية. وأعاد مسجد أيا صوفيا كنيسة ومتحفاً. واستبدل بالشريعة الإسلامية قانوناً وضعياً، واتخذ الحروف اللاتينية بدلاً من العربية في كتابة الأبجدية التركية (2) وألغى تدريس الإسلام في المدارس والجامعات ودعا إلى قومية طورانية عرفية متصلة الأواصر بالوثنيين السابقين للإسلام.(25/5)
ولقد كان منفذا أميناً للمخطط الذي رسمه الاستعمار واليهودية العالمية وهو إزالة الخلافة، وفصل تركيا عن العالم الإسلامي والأمة العربية، وبذلك حقق مصطفى كمال – في العالم الإسلامي وفي مواجهة العروبة – أخطر حركة استغراب، وفرضها فرضاً على الأمة التركية، ولم يحققها تدريجياً، أو على نحو التقبل والتطور والمرونة، فقد كان مدفوعاً من القوى الأجنبية إلى تنفيذ ذلك في أقصى سرعة وأبعد مدى، وإقامة هذا النظام على أساس السلطة الحاكمة والقوانين والإرهاب الدموي، وذلك حتى لا توجد ثغرة من بعد للتفتح على الإسلام من جديد أو الترابط بين العرب والترك، ولقد جمع الاتحاديون الشمل المشتت بعد الحرب العالمية خلف مصطفى كمال فتسموا بالقوى الكمالية ولا فارق بين الدعوة الاتحادية والدعوة الكمالية في أبرز مخططاتها وهو إعلاء العنصرية التركية وكتابة اللغة التركية بالحروف اللاتينية وتنفيذ نظام سياسي واجتماعي غربي لا ديني منفصل عن الإسلام والشريعة والقيم والمعتقدات الإسلامية التي عرفتها الدولة العثمانية أكثر من أربعمائة عام وقبل قيام الدولة العثمانية كان الأتراك مسلمين منذ عهد العباسيين.
آراء مؤرخي الغرب:
ولقد كان انتماء تركيا إلى الغرب سبة في تاريخها. فلم تسلم من قام مؤرخ أو فيلسوف، فما استطاعت تركيا أن تعطي الحضارة الغربية شيئاً ما. بعد أن انتمت إليها كما أعطتها شعوبها. إلا أنها كانت ولا تزال ذيلاً لها.
وقد أشار أرنولد توينبي إلى ذلك صراحة في موسوعته وقال: إن تركيا حين تغربت لم تقدم شيئاً إلى الغرب أو جديداً إلى الحضارة وعاشت عالة على القوانين والمنظمات الغربية.(25/6)
وكما قال عبد الله التل: كان تخلي تركيا عن الإسلام ثمناً لتأييد دول الحلفاء لها في حركتها التي قادها مصطفى كمال. ولقد كان الوسيط الذي أشرف على اتفاق الحلفاء مع مصطفى كمال هو الحاخام "حاييم ناحوم" الذي كان رئيساً لليهود في ترطيا قبل انتقاله إلى مصر. وهو الوسيط القوي الذي أوفده مصطفى كمال إلى دول الغرب في مؤتمر لوزان فحقق لتركيا ما أراد الغرب.
دراسات جادة:
وقد ظهرت في السنوات الأخيرة دراسات جادة تكشف حقيقة "كمال أتاتورك" منها كتاب الالدكتور رضا نور. حيث كشف جرائم أتاتورك وماخزيه وخياناته في أكثر من ألفين من الصفحات تحت عنوان "حياتي وذكرياتي" كما صدر كتاب "الرجل الصنم" لأحد الضباط المقربين من أتاتورك.
وقد هدمت هذه المؤلفات بناء الأكذوبة الأسطورية التي خدعن الأتراك والمسلمين في بعض البلاد إلى حين وألقت الأضواء الحقيقية على حياة المغامر الخطير. بل لقد تحدثت في جرأة شديدة على مولده وظروف حياته الأولى.
بل أن هذه الظروف قد أوردتها كتب ناصرت أتاتورك وأهمها كتاب "الذنب الأغبر" الذي يقول بالنص:
كان بفطرته ثائراً لا يحترم رئيساً أو إنساناً. أو وضعاً من الأوضاع ولا يقجس شيئاً على الإطلاق. وإنه كان يشرب ويلهو كل ليلة حتى مطلع الفجر في المقاهي وأوكار الغرام. وقد مارس جميع الرذائل وجرب كل الموبقات. وانغمس فيها حتى أذنيه ثم دفع الثمن مرضاً جنسياً وصحة منهارة.
ويقول أرمسترونج أيضاً. أنه كان ولوعاً بالأحاديث الخليعة والإفراط في الشراب والمغامرات الماجنة والليالي الحمراء في رفقة النساء.
عنف وتسلط:
وهناك جوانب أخرى يعف القلم عن ذكرها أو ترديدها.
وعندما نستعرض حياة كمال أتاتورك منذ تولي السلطة حتى وفاته 1938 م. نجد صورة عاصفة من العنف والظلم والتسلط البالغ المدى في سبيل تثبيت دعائم هذا النظام الوافد وآية ذلك الولاء المزدوج لبريطانيا وروسيا الشيوعية في آن.(25/7)
وأبرز هذه المواقف صلته بالإنجليز وما تحمله الوثائق مشيرة إلى عبارة: قيامه ببيع الوطن إلى الإنجليز. ومن ذلك موقفه إبان المرض. عندما استدعى السفير البريطاني في تركيا وطلب إليه أن يتولى منصب رئيس جمهورية تركيا وفزعت بريطانيا لذلك.
ولقد استطاع أن يحقق للصهيونية العالمية خطتها في السيطرة بإلغاء الخلافة والوجهة الإسلامية والحروف العربية والشريعة والمواريث والأوقاف والتعليم الديني.
إسقاط الخلافة الإسلامية:
وإذا كانت تركيا تحاول أن تعود اليوم إلى طابعها الإسلامي الأصيل فإن محاذير كثيرة تعمل لتصدها عن تحقيق هذه الغاية ولكن الله غالب على أمره (3) ولكن التجربة كلها تثبت أن مجاوزة الفطرة ومحاربة الدين هي محاولة باطلة لا يمكن أن تستمر ولابد أن يحطمها الزمن لمجافاتها لسنن الأمم والحضارات والتاريخ.
وإذا أردنا أن نتحدث عن كمال أتاتورك في كلمة، قلنا: إن تاريخه قد ارتبط بأخطر حدث في تاريخ الإسلام. وهو إلغاء الخلافة الإسلامية بعد تدمير الدولة العثمانية أكبر مركز تجمع للأمة الإسلامية وهو آخر المراحل التي تطلع إليها الاستعمار واليهودية العالمية من أجل تمزيق وحدة الإسلام والعروبة. والقضاء على آخر صرح جامع للعرب والترك يحمل لواء الجامعة الإسلامية ويتنادى بالمسلمين في كل بقاع الأرض.
لقد كان إسقاط الخلافة عام 1924 م من أخطر الأحداث في العالم كله وسيظل من الأعمال الكبرى ضد الإسلام وسيحمل لاسم مصطفى كمال أكبر التبعات في حكم التاريخ. فقد فتح الباب واسعاً أمام صراع الإقليميات والقوميات التي تتحرك في فراغ دون أن ترتبط بدائرة أساسية هي دائرة الفكر الإسلامي أو الوحدة الإسلامية للجامعة في مجال الجغرافيا أو في مجال الفكر.(25/8)
غير أن إلغاء الخلافة الإسلامية لم يحقق ما توقعه الاستعمار واليهودية العالمية من تمزق الإسلام أو اضطراب المسلمين والعرب. الذين أغرقوا على التو في أتون الأجناس والعصبيات والعنصرية. بقصد تعميق عوامل الخلاف ودعمها، والحيلولة دون قيام وحدة فكرية أو اجتماعية بينهم لقد ركزت هذه الدعوات التغريبية على الازدراء بالخلافة العثمانية والجامعة الإسلامية. وعلى إثارة الصراع بين الإسلام والعروبة وبين القومية والوطنية وبين الإقليمية والقومية وبين العناصر المختلفة وبين الأديان والمذاهب، وذلك كله لإذابة كل هدف سليم واضح تطرحه حركة اليقظة الإسلامية في الطريق الصحيح إلى معرفة الحقيقة. وإلى اتخاذ الأسلوب الأصيل لمواجهة الأخطار ونتيجة للضعف السياسي الذي كان يمر بالعالم الإسلامي.
فقد عجز قادة المسلمين عن إعادة بناء الخلافة الإسلامية مربة أخرى بعد أن أسقطها مصطفى كمال، وإن ظلت عنصراً أساسياً في مناهج الدعوات الإسلامية وخطة واضحة في برنامج حركة اليقظة العربية الإسلامية.وما زال المسلمون يبحثون عن صيغة تحمل لواء الوحدة، بديلاً من الخلافة أو مقدمة لها. ولقد كانت مكة وجامعتها في أيام الحج. وكان الأزهر، من القوى التي ساندت حركة اليقظة الإسلامية بعد سقوط الخلافة، وكان انتعاش السلفية الجديدة في الجزيرة العربية واليقظة الإسلامية في مصر وباكستان وغيرها، من علامات التعويض السريع ثم جاءت بعد ذلك مؤتمرات التضامن الإسلامي – وما زالت تخطو خطوات بطيئة ولكنها ثابتة.
آثار إلغاء الخلافة:
وقد صور الدكتور عبد الوهاب عزام الآثار التي ترتبت على إلغاء الخلافة في العالم الإسلامي فقال: إن عمل الكماليين من بعد. دل على أن إلغاء الخلافة لم يكن نزوة عابرة. بل كان الحلقة الأولى في سلسلة مصنوعة والخطوة الأولى من خطة موضوعة: خطة أملاها عليهم الروس والإنجليز وأوربا.(25/9)
لقد كان إلغاء الخلافة من هذه الخطوب المكفهرة لحل رباط حزمة من التعصب في ريح عاصف بلغت من المسلمين أسوأ مبلغ. وبلغت بأعدائهم أبعد غاية. ولا ينكر هذا إلا جاخل بطبائع الأمم. وأحسب أن الإنجليز كان يهون عليهم أن يبذلوا ملايين الجنيهات ليبلغوا الغاية التي بلغهم إياها الكماليون بغير بذل ولا كد.
أمر مقرر؟؟
وهناك من الدلائل ما يؤكد أن إلغاء الخلافة الإسلامية كان أمراً مقرراً منذ اليوم الأول للانقلاب العثماني. الذي قام بإسقاط السلطان عبد الحميد عام 1909 م، ولكنه نفذ على مراحل واتخذت إجراءاته واحدة بعد أخرى، حتى تم تنفيذه على يد مصطفى كمال عام 1924 م، بعد أن أسقط الخلافة الزمنية، وأقام بدلاًً منها خلافة منفصلة عن السلطنة توطئة للإجهاز عليها، جملة.
وسيظل تاريخ مصطفى كمال أتاتورك مرتبطاً بإسقاط الخلافة الإسلامية إلى أن تعود بإذن الله تبارك وتعالى خلال القرن الخامس عشر.(25/10)
مؤامرة تحديد النسل وأسطورة الانفجار السكاني
تكشف الأبحاث والإحصائيات العالمية أن العالم الآن يضم 3.5 مليار من السكان، ترتفع إلى 7 مليارات نسمة في نهاية القرن الحالي، وقد زاد الجنس البشري سبعمائة مليون نسمة في السنوات العشر الأخيرة، وفي كل عام يولد بالعالم 127 مليون طفل ويصل إلى سن التعليم منهم 95 مليون طفل وإن الدول النامية: في آسيا وأمريكا اللاتينية هي أكثر الدول تأثراً بهذه الزيادة إذ أن ثلثي سكان العالم يعيش في هذه المناطق وأن خمسة أسداس الزيادة المنتظرة في عدد السكان تكون أيضاً في هذه المناطق، وقد أصبح الوافدون يزيدون عن الراحلين في الشهر الواحد، بما لا يقل عن سبعة ملايين نفس فالعالم الآن يستقبل كل يوم 30 ألف نسمة زيادة صافية بعد الخسائر.
العبرة لم يؤمن:
وقد استغرق العالم ثلاثة آلاف عام بأكملها قبل أن يتضاعف تعداده ولكنه الآن يتضاعف تلقائياً كل خمسة وأربعين عاماً. ولا ريب أن لنا نحن المسلمين عبرة في دراسة هذه الأرقام. فنحن نؤمن بأن الكون كله لله تبارك وتعالى وأنه هو الخالق، وأن ظاهرة التفوق البشري هذه ظاهرة طبيعية، في طريق اكتمال صورة الكون والأرض على النحو الذي أشار إليه القرآن الكريم، لتأخذ الأرض زخرفها وزينتها، ولتخرج الأرض مذخورها من معطيات الحياة من قلب البحار ومن قلب صخور الجبال ومن جوف الأرض. وأن للمسلمين في هذه الثلاثمائة ألف طفل يومياً أكثر من 219 ألف طفل يومياً، وهذا يدل على أن ظاهرة "التفوق البشري" تمثل جيشاناً ضخماً في عالم الإسلام بما يدل على تفوق ظاهرة لهذه القوة المؤمنة بالله، بينما نجد أن الانحسار السكاني واضح الدلالة في عالم الغرب.
ظاهرة غريبة:(26/1)
وفي إحصائيات أخرى نجد أن عدد سكان العالم الآن هو 3700 مليون نسمة وأنه إذا سار معدل المواليد على حالته الآن فإن العدد سيتضاعف خلال 26 سنة – أي في نهاية القرن الميلادي – ويكون الرقم قد ارتفع إلى 7400 مليون نسمة، وأن هذه الزيادة ستكون من نصيب الدول النامية في آسيا وأفريقيا أي أنه من بين 224 طفل يولدون في الدقيقة الواحدة 202 طفل في الدول النامية "العالم الإسلامي" و 22 طفلاً في الدول المتحضرة "الغرب".
وهذه الإحصائيات تعطينا مؤشراً واضحاً للأحداث.
ذلك أن ظاهرة تقلص حجم المواليد في عالم الغرب، وزيادة هذا الحجم في عالم الإسلام، من الظواهر التي تزعج الرأسمالية الغربية والنفوذ الغرب المسيطر اليوم في بلاد المسلمين والعرب إزعاجاً شديداً، ذلك لأنهم يحسون بمدى الخطر الذي ينتظرهم في السنوات القادمة، ويترصد بهم نتيجة نضوب المواليد نسبتها في البلاد الغربية بينما تزداد هذه النسبة وتتضاعف في بلاد أفريقيا وآسيا.
محاولة خداعة تحت اسم مثير:
ولما كانت هذه الظاهرة ستصبح بعيدة المدى في متغيرات موازين السيطرة والنفوذ وتملك الموارد الطبيعية والطاقة وغيرها في السنوات القادمة فإن الغرب يشن حملة شديدة وعاصفة عنيفة على هذه الزيادة المضطرة بوصفها بعيدة الأثر في عالم الإسلام تحت اسم مثير هو ما يطلق عليه اسم "الانفجار السكاني" ويجند له عشرات من الأقلام والمفكرين والساسة دون أن يشير إلى حقيقة الموقف وطبيعة التحول الاجتماعي والحضاري الذي يوحي بأن فساد المجتمعات الغربية، قد أدى إلى نضوب منابع "الوالدية" بها، نتيجة لشيوع الخمر والماريجوانا والترف، وانصراف المرأة الغربية عن رسالتها كلية وكراهيتها الشديدة للولادة وتربية الأولاد، والإسراف في عمليات الزواج غير الشرعي وظاهرة اللقطاء واستعمال حبوب منع الحمل.
انهيار الحضارة الغربية:(26/2)
هذا الاضطراب الاجتماعي في عالم الغرب المرتبط بمرحلة الانهيار في الحضارة الغربية، هو مصدر انخفاض نسبة المواليد بما أدى إلى انزعاج الغرب لهذا السبب، وما يحاوله الآن من إغراء وتشجيع الزواج والولادة بإغراءات خطيرة دون جدوى، بينما يشن في الناحية الأخرى حملة شديدة على الولادة المتزايدة في البلاد النامية والمتخلفة وينفق ملايين كثيرة في بلاد العرب والإسلام من أجل "تحديد النسل" وتعقيم الرجال، والإغراء بإعطاء الحبوب واللوالب وغيرها من أجل تقليل نسبة المواليد.
ولا شك أن الغرب يرى في ظاهرة التقلص في مواليده وزيادة نسبة مواليد المناطق التي تسمى "البلاد النامية" خطراً شديداً على نفوذه وعلى المقدرات التي يحصل عليها من الخامات والثروات والمواد الأولية وعلى كل ما يعنيه على التفوق المتصل على عوالم أفريقيا وآسيا المتخلفة.
أبعاد المؤامرة:
من أجل هذا نجد المجتمع الغربي لا يتبنى فكرة تحديد النسل فحسب، بل يفرضه فرضاً على عالم الإسلام، بينما يعلن البابا بيوس الثاني عشر رأيه صراحة في تأييد المسيحية لكثرة النسل، ويواجه المسلمون – مع حملة تحديد النسل – ذلك التحدي الخطير: تحدي الهجرة والنمو المتزاد لليهود في فلسطين ونمو المسيحية في أوربا وفي أجزاء كثيرة من العالم الإسلامي، بينما يجبر المسلمون بوسائل شتى فيها الإغراء أو التعقيم الإجباري "كما حدث لمسلمي الهند على يد أنديرا غاندي" على خفض تعدادهم، وهنا تنكشف المؤامرة، ويتبين أن هناك خطة مدبرة ضد المسلمين بالذات ذلك أن غير المسلمين يخشون تكاثر المسلمين، ويحاولون إيقاف هذا النمو والتزايد بكل وسيلة ومن هنا جاءت الدعوة إلى تحديد النسل والحد من تعدد الزوجات.
وبينما يطلب إلى المسلمين تحديد نسلهم، تترك الصين ليتزايد سكانها بمعدل 14 مليوناً كل سنة.
الأكذوبة:(26/3)
ولا ريب أن تهديد العالم الثالث بنضوب الثروات هو أكذوبة كبرى، فإن الخطر الحقيقي كله كامن في سوء استخدام الثروات والكنوز التي تفيض بها الأراضي البكر. وسوء التخطيط لتطوير إنتاجي أفضل. وبينما تنقل هذه الخامات إلى بلاد الغرب وتنهب، ثم تعيد تصديرهما للأمم المترفة الاستعمارية لا يحصل أصحاب هذه الثروات إلا على الفتات.
الانحسار السكاني في الغرب:
وتتحدث الأبحاث عن ظاهرة الانحسار السكاني في الغرب، وتصفها بأنها ظاهرة مخيفة وخطيرة تقلق الخبراء الاجتماعيين والسياسيين ورجال الأعمال، فأمريكا تتجه نحو حالة الصفر في النمو السكاني. فهي تقف الآن في النقطة التي يكون فيها عدد المواليد مساوياً لعدد الوفيات. وتتحدث الأبحاث عن هذا الخطر الهائل الذي يتهدد الولايات المتحدة والدول الغربية على بعد بضعة أجيال، مما يؤدي إلى انخفاض القوة العاملة وما يؤدي إلى ركود الإنتاج، في حين أن الدول الفقيرة تنموا نمواً متزايداً.
وتقول الأبحاث أن عدد سكان أمريكا (212 مليون نسمة) وأن النمو السكاني في أمريكا يصل إلى درجة الصفر (2 / 2) عندما يبلغ السكان 260 مليون نسمة. ويشارك الولايات المتحدة في هذه الظاهرة "السويد وألمانيا الغربية، اليابان، هنغاريا، رومانيا" وأن نسبة المواليد في هذه الدول في هبوط مستمر منذ الحرب العالمية الأخيرة، وأن الهبوط كان هائلاً في السنوات الأربع الماضية، في السويد وفنلندا والنمسا وبلجيكا وألمانيا. أما هنغاريا وبريطانيا فقد بلغت درجة الصفر. والقلق ناجم من أن القوة العاملة سوف تتضاءل في المستقبل بما يؤدي إلى ركود الإنتاج، ومن أجل ذلك شددت بعض دول أوروبا في قضايا الإجهاض وفرضت عقوبات على من يفعله، ومنع السوقيات تداول الحبوب المانعة للحمل. وأعطوا إجازات أطول للزوجة الحامل.(26/4)
ويتوقع الخبراء أن تصل أكثر دول أوروبا إلى درجة الصفر في النمو السكاني في بداية القرن الواحد والعشرين، كما يرى بعض الخبراء أن الانحسار السكاني إلى درجة الصفر سيؤدي إلى ركود اقتصادي واجتماعي خطير.
التعقير أو التحديث:
ويرجع الخبراء هبوط الخصب في المدى البعيد في الدول المتطورة إلى مجموعة عوامل يطلقون عليها "التعقير أو التحديث" ويقول الخبراء أن موانع الحمل والإجهاض قد خفضت المعارضة الأخلاقية لضبط النسل، وأن ثلث السكان من النساء الكاثوليكيات يمارسن موانع الحمل. بالرغم من تعاليم الكنيسة الكاثوليكية، التي تقول أن موانع الحمل أمر خاطئ غير مستحب، كذلك فإن الموجة الجديدة للأنوثة قد ساعدت على جعل نسبة المواليد منخفضة حيث شجعت المرأة على تحدي دورها كربة بيت وأم.
وقال الدكتور جو يلدز: أن المرأة لم تشعر بأن عليها إنجاب الأطفال لتصبح إنساناً بشرياً، ويرى كثير من النساء أن مساهمتهن في المجتمع أو تحقيق اكتفاء ذاتي أكبر، يكون ببقائهن في أعمالهن، بدلاً من البقاء في البيوت مع الأطفال وأن المرأة شيئاً مهملاً إذا كانت أماً أو ربة بيت (6.5 مليون امرأة عاملة تؤلف 46% من القوة العاملة في الولايات المتحدة).
صيحات الخبراء:
ويشير التقرير إلى خطورة امتناع الشباب المتزوج عن إنجاب الأطفال يقول "بول ايرليس" في كتابه "القنبلة البشرية" عام 1968 وكتاب آخر "حدود النمو" أن العالم يواجه كارثة إذا تقلص النمو السكاني. وقال ولفريد نيكرمان: أن الإنسان قد استخف بحجم الموارد الطبيعية الهائلة في العالم. وهناك إشارة إلى أن التضخم الاقتصادي يعد عائقاً في إنجاب الأطفال وأنه بوجود دخلين في الأسرة، غداً في مقدور الكثير من الأزواج التمتع بالأمور الترفيهية.
هنا يكمن السبب:(26/5)
وهكذا نجد الخلفية الواضحة لموقف الغرب إزاء التفوق البشري في عالم الإسلام، وتجنيده اتباع المحافل الماسونية وأندية الروتاري والليونز للكتابة عن الانفجار السكاني والأخطر المتوهمة للكوارث التي ستصيب البلاد من زيادة السكان. وهذه الحشود من العلماء الذين تجمعهم مؤتمرات الوالدية في تحديد النسل ومؤتمر الغذاء العالمي وقد أكدت عشرات المصادر والدراسات أن الخوف من نمو السكان في البلاد النامية والمتخلفة، هو الذي يقلق سادة الغرب فإن هؤلاء سيصبحون قوة عددية متزايدة على غير هوى المتصدرين للنفوذ الاقتصادي العالمي.
وسوء النية:
ويشير البرفسور خورشيد أحمد الأستاذ بجامعة كراتشي في بحثه الضافي عن سوء نية الأوروبيين، والتخطيط الاقتصادي لإدامة سيطرة الدول المتقدمة على الشعوب النامية، ويقول: "أن آسيا والعالم الإسلامي هي أكبر كمناطق الأرض اليوم ازدحاماً بالسكان". وما عدد السكان في البلاد الغربية بالقياس إليها إلا قليل، وأن هذا التفوق السكاني سوف يقضي على الأسس التي أقامها الغرب لسيادته السياسية العالم منذ القرون الخمسة الماضية، وعلى ذلك التفوق الفني والعلمي الذي كان له على الشرق، والذي به استطاع أن يقيم احتكاره السياسي على العالم. لقد آمن الاستعمار إلى أبعد الأبعاد، على الرغم من قلة سكانه، ولكن الأوضاع الحالية والحقائق الجديدة في العالم، قد فندت هذا الخيال الخاطئ وماطت اللثام عن وجه الحقيقة، وأنه لاجل التناقض المضطرد في عدد سكان البلاد الغربية.
حصاد النتائج:(26/6)
فقد ظهرت بوادر الانحطاط والأفول في السياسة، رغم الشعور بعد الحرب العالمية الأولى خاصة، بأن خطة تحديد النسل ضررها أكر من نفعها من الوجهتين السياسية والاجتماعية، كان من نتائج ذلك أن فقدت فرنسا مكانتها العلمية شيئاً فشيئاً وأعلن المارشال بيتان عقب الحرب العالمية الثانية اعترافه بأنه من الأسباب الرئيسية التي عملت على توهين قوة فرنسا وزاحتها عن مكانتها العالمية: قلة عدد الأطفال والسكان. وقد بدأت آثارها السيئة في حياة إنجلترا وغيرها وأوجست خيفة من آثارها السويد وألمانيا وفرنسا وإنجلترا وإيطاليا، وشعرت بحاجة ماسة إلى إعادة النظر في خطتها بشأن عدد السكان، ولذا فهي تبذل الآن جهوداً متتابعة لزيادة عدد سكانها بدلاً من تقليله.
إلا أن الغرب لن يستطيع مع كل هذه الجهود أن يزيد عدد سكانه إلى حد يستطيع معه أن يحتفظ بمكانته السياسية ويبقى متربعاً على كرسي السيادة العالمية، بل الذي لاشك فيه أن سيعود عاجزاً في المستقبل عن مقاومة الشرق والعالم الإسلامي مهما بذل من جهوده لزيادة عدد السكان في أقطاره، وأشار الدكتور خورشيد إلى أن عدد السكان في بلاد الشرق أكبر بدرجات من عدد السكان في الغرب، وأن هذا معناه أنه ليس في الإمكان بقاء شعوب الشرق محكومة مغلوبة على أمرها بعد تدربها على الآلات الميكانيكية وتصنيعها في العلوم الفنية، بل سيكون من النتيجة اللازمة لهذه النهضة كسابق الفطرة، أن يفقد سادة الغرب على العرب أزهى أيام حياتها، وأن تبرز القيادة العالمية في أماكن فيها زيادة السكان ولها في نفس الوقت خبرة فنية وتكتيكية حربية، فكل ما يصنعه الغرب اليوم للاحتفاظ بسيادته العالمية في مثل هذه الأوضاع خطير للغاية، وأن أي محاولة للحد من زيادة السكان في الشرق عن طريق تحديد النسل ومنع الحمل مسألة فاشلة تماماً".
الخوف الرأسمالي:(26/7)
وهكذا يتبين لنا ارتباط أبعاد هذه المحاولة الخطيرة التي يقوم بها الغرب لإيقاف النمو السكاني والتفوق البشري في عالم الإسلام، وكذلك لإيقاف القدرة على استعمال التكنولوجيا والسيطرة عليها، وتحويل إرادة المسلمين والعرب لتوجيه مقدراتهم وثرواتهم مقدارتهم الاقتصادية المالية إلى طريق الاستهلاك والترف، يقول الدكتور خورشيد: "إن هذيان أمريكا ما تبذل من النصائح والمواعظ عم مشكلة السكان إنما هو نتيجة إلى حد كبير لشعورها بخطر تلك النتائج والمؤثرات السياسية المتوقعة على أساس تغير الأحوال في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
يقول آرثر كرومول: إنه لما يعجب الناس في البلاد المتقدمة إعجاباً فطرياً أن يزداد عدد سكان الناس في البلاد غير المتقدمة، وذلك أنهم يرون في زيادتهم المضطرة خطراً داهماً على مستواهم الرفيع في المعيشة وعلى سلامتهم السياسية.
كيف أعلنوا نواياهم؟:
وقد أشار "ميك كارل" إلى هذه المؤامرة الخطيرة لإنقاص سكان العالم الإسلامي فقال "إن أهل الشرق سوف لا يلبثون إلا قليلاً حتى يطلعوا على حقيقة هذا الدجل ثم لا يغتفرونه لأهل الغرب، لأنه استعمار من نوع جديد، يهدف إلى دفع الأمم غير المتقدمة ولا سيما الأمم السوداء إلى مزيد من الذل والخسف، حتى تتمكن الأمم البيضاء من الاحتفاظ بسيادتها وأن القوة الغالبة لا تكون في المستقبل إلا للبلاد التي تتمتع بزيادة السكان وتحلى في نفس الوقت بالعلوم الفنية. وأن محاولة أمم الغرب للاحتفاظ بسيادتها وقيادتها للعمل، هي التي تدعوها إلى العمل على نشر حركة تحديد النسل ومنع الحمل في بلاد آسيا وأفريقيا، في نفس الوقت التي تعمل البلاد الأوروبية الآن ما في وسعها لزيادة سكانها، وفي نفس الوقت تستعين بأحسين ما عندها من أساليب الدعاية لتقيم حركة تحديد النسل في البلاد الآسيوية والأفريقية. وللأسف أن كثيراً من المسلمين يتقدمون ليقعوا في شرك دجلها.
محمد إقبال:(26/8)
وقد تنبه لهذا المعنى الفيلسوف الإسلامي محمد إقبال فقال:
كل ما هو واقع اليوم أو على وشك الوقوع في الغد القريب في بلادنا أن هو إلا من آثار دعاية أوروبا، هنالك سيل عرم من الكتب والرسائل الأخرى قد انحرف في بلادنا لدعوة الناس إلى اتباع خطة منع الحمل وتشويقهم إلى قبول حركتها، على حين أن أهل الغرب في بلادهم يتابعون الجهود الفنية لرفع نسبة المواليد وزيادة عدد السكان.
ومن أهم أسباب هذه الحركة تدهور عدد السكان في أوروبا وتناقصه مضطرداً، بناء على الظروف التي ما خلفتها أوروبا إلا بنفسها وقد استعصى عليها اليوم أن توجد لها حلاً مرضياً، وأن عدد السكان في الشرق على العكس من ذلك في زيادة مضطردة ما ترى فيه أوروبا خطراً مخيفاً على كيانها السياسي.
ويقول العلامة علال الفاسي: أن أكبر الخطر أن تدرس حركة تحديد النسل منفصلة عن سياقها السياسي والتاريخي فنحن لا نستطيع أن نفهمها على حقيقتها. ولا أن نرسم لأنفسنا خطة عملية راشدة إلا داخل نطاق التحدي، فإذا أضفنا إلى هذا: الخطط الصهيونية لإجلاء العرب عن الشرق الأوسط، وتهجير أكبر عدد مكن من اليهود إليه، وخلق حركات داخل كل بلد إسلامي وعربي من الاقليات، التي يصل بها التعصب أحياناً إلى الانفصال عن الوطن الوالد، عرفنا أن التنقيص في عدد المواليد لا يخدم إلا مصلحة الاستعمار والصهيونية، كذلك فإن عدداً من علماء الطب والاجتماع والدين من جهة وعلماء الاقتصاد من جهة أخرى، يرون أن تحديد النسل خطر على قوة الدولة العددية وعلى زيادة إنتاجها ويقاومون الدعوات التي سبقت في بلادهم والحركة التي نشأت عنها فكيف يمكننا نحن الذين ما زلنا في طور التخلف وما زلنا نأمل أن يكون من شعبنا قوة مادية وإنسانية، أن نتجه إلى معالجة ضعف الإنتاج الاقتصادي بأضعاف الإخصاب الإنساني.
موقف الإسلام:(26/9)
يقول علماء الإسلام: أنه لا يجوز للإنسان أن ينظم تخطيطاً جماعياً على الشكل الذي تدعو إليه هذه المنظمات، لأن ذلك يتنافى مع مقاصد الشريعة الإسلامية التي جعلت من غايات الأسرة "تكثير النسل" وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة".
وقد نص الإمام الشاطبي في الموافقات على أن مما أجمعت عليه الملل والنحل وجوب حفظ المال والنفس والعرض والنسل فمحاولة المساس بواحدة من هذه الأربعة بغير حق مناف للشرائع كلها ولا يقع إلا من الظالمين الذي قال الله تعالى فيهم:
"وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد" سورة البقرة: الآية 205، وقد التبس على بعض المتملقين ما قاله بعض الفقهاء في مسألة إباحة العزل، مع أن قضية العزل هي قضية التخطيط العائلي لأنها مسألة تتعلق بحالات فردية اختيارية، لا تتدخل فيها الدولة ولا تنظمها ولا تدعو إليها وتجعلها جزءاً من برنامجها يقول العلامة علال الفاسي: إما إدعاء أن التنقيص من عدد السكان ضروري لتنفيذ التخطيطات الاقتصادية وتحقيق النمو فهو خطأ من الناحية الاقتصادية ومن الناحية الاجتماعية، لأن المواليد لا يولدون بأفواههم فقط بل يولدون بعقولهم وسواعدهم، فهم مادة وعامل قوي في النمو الاقتصادي وتقوية الإنتاج، وليسوا مجرد طفيليين في المجتمع وإنما عجز التدبير من الحاكمين وسوء توزيع الثروة على المواطنين، والتخلي عن الأقاليم الوطنية للمستعمرين هو الذي يدفع إلى هذا التفكير الكسول، الذي يرضي بهذه التدابير غير الإنسانية، ولا يعلم أن مقتضيات التطور الحديث يقضي بتحمل الدولة لتكاليف العائلة.
حكم التعقيم:(26/10)
ومن جهة أخرى فقد نص الفقهاء على أن خصى المواطن ممنوع شرعاً بالإجماع لكونه يعوق عن الغاية المقصودة من الشارع كما نصوا على أن أخذ الأدوية لمنع الحمل ممنوع، كما في النوازل الموجودة في كتاب الجامع من المعيار "للونشريشي". وأحسن من هذه الكتاب كله قول الله تبارك وتعالى: "ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم" سورة الإسراء، الآية رقم 30. وفي الآية الأخرى: "ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقهم وإياهم" سورة الأنعام، الآية رقم 150.
وقد أوضحت الشريعة الإسلامية سفه الذين يقتلون أولادهم مخافة الفقر "قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله" سورة الأنعام، الآية رقم 139.
من فعل الناس بأنفسهم:
أما الرزق فإن الله تبارك وتعالى قد يسر طريقه وجعله مستطاعاً وأعطى الإنسان أدواته من صيد ونار وغيره ولكن صعوبة الرزق بدأت بعد أن تدخلت أهواء الناس ومطامعهم وظهرت عمليات الاحتكار والاحتجاز، وظهرت عوامل التفرقة والاستغلال، والقوى الذي يسيطر على الكثير فلا يترك للضعفاء والفقراء ما يطعمهم أو يقوتهم، هذه هي الأزمة وهي ليست أزمة الرزق نفسه وإنما هي أزمة الجشع والتسلط.
وتقدير الله بالخير:
وهناك قانون الوفرة الذي يؤكد وجود ثمرات طيبات لكل من يعيش على ظهر الأرض مهما بلغ عدد هؤلاء السكان وذلك بتقدير الله تبارك وتعالى وما تزال هناك مذخورات كثيرة في البحار والجبال، وقد أعطى الحق تبارك وتعالى عهده وميثاقه إلى البشر بضمان الطعام وضمان الرزق لكل مخلوق ودابة وحشرة، بحيث تطمئن النفس الإنسانية إلى عهد الله تبارك وتعالى الصادق الأكيد، فلا تكون مثل هذه الصيحات الضالة مصدراً لزعزعة الإيمان، فلقد حفظ الله تبارك وتعالى للإنسان هذه الموارد التي لا تنضب في نفس الوقت الذي دعاه إلى السعي في الأرض والأكل من رزق الله.(26/11)
ولو وضعت الموازين الحقيقية لقضية الطعام ولو روعي في توزيعه ما أمر الله تبارك وتعالى به، لأمكن للإنسانية أن تتجنب الكثير من عمليات البخل والشح، حيث ينفق بعض الأفراد في بعض البلاد ما يوازي عشرات أضعاف ما ينفقه الآخرون. وهناك في بعض البلاد المنتجة تغرق المحاصيل في البحر أو تحرق للمحافظة على مستوى أسعار التصدير بينما يقتل الجوع الملايين وذلك من أساليب الاستعمار الرأسمالي والماركسي للسيطرة على القوى البشرية بإجاعتها.
كذلك فإن حاجة المسلمين في الدرجة الأولى إلى التوالد والتناسل لأن الإسلام مهدد في معاقله الأولى ويواجه حرباً صهيونية استعمارية لا قبل له بها وأن هذه الحرب ستطول، ويسقط فيها كثير من المسلمين وأن تعبئة الأمم في ميادين النمو الاقتصادي بوسائل العمل المنظم تغني عن كل تدبير مناف لطبائع الأشياء وأن هذه المبالغ الضخمة التي تصرف في مجال تحديد النسل وإنشاء مستشفيات التعقيم وإنتاج حبوب منع الحمل وهي تزيد على 100 مليار من الدولارات لو أنفقت في مجال النمو الاقتصادي لجاءت بنتائج إيجابية وعلينا أن نذكر أن من مقاصد الشريعة الرغبة في تكثير سواد الأمة الإسلامية وقد أمتن بالتكثير في القرآن إذ قال: "واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين" سورة الأعراف: الآية رقم 85.
الإطار الصحيح:
ولا ريب أن كل مشاكل الأمم يمكن التغلب عليها بالتفوق البشري شريطة أن يتحرك هؤلاء البشر من خلال عقيدة صحيحة كتلك التي حركت المسلمين الأوائل، والإسلام وحده هو العقيدة القادرة على إطلاق الطاقات المفطورة في أعماق هذه الأمة، وما استطاع مجتمع متخلف أو نام أن يحقق التقدم ويصل إلى القوة من خلال اعتناقه عقيدة المجتمعات الأخرى.(26/12)
ومن هنا يتبين أن قصة الانفجار السكاني ليست أسطورة يراد بها تقليل عدد المسلمين ونسلهم في سبيل التمكين للنفوذ الأجنبي والوافد وعمليات التهجير بما يزيد غيرهم بالاستيطان وامتلاك الثروة.(26/13)
ماذا يقرأ الشباب المسلم
يجب أن يستجيب الكاتب المسلم في هذه الآونة لهذه الدعوة الملحة الموجهة من الشباب تحت عنوان (ماذا نقرأ) حتى تكون في مأمن من ذلك الإعصار الخطير الذي يتمثل في عشرات من المؤلفات ذات مظهر براق وعناوين لامعة وتخفي في أطوائها السموم.
يجب أن لا تخدعنا الأسماء ذات الدوى ولا الأثواب البراقة ولا أرقام التوزيع أو براعة الإعلان وأن نكون قادرين على الحكم على الكتابات المطروحة من خلال قيمتها الحقيقية ومن خلال معرفتنا لمدى إيمان كتابها بأمتهم وفكرهم، ذلك أن هذه الدعوة: هي بمثابة خطوة أساسية وثابتة على الطريق الصحيح. ذلك أننا أنما أوتينا من قبل الكتب اللامعة والأسماء البراقة.
وأن أول علامات الصحة في حكمنا على الأمور أن نحاكم الفكر نفسه بإخلاص والإيمان وأن يكون الكتاب المقرون لدينا الأثيرون عندنا، نأخذ منهم ونتلقى عنهم، هو أولئك الذين عرفوا بنصاعة الصفحة وصدق الإيمان وسلامة الماضي ونقاء الوجهة والتحرر من التبعية والولاء لغير هذه الأمة وفكرها. وهناك عشرات من الأسماء ذات الأصالة يستطيع الكاتب أن يقرأ لها وهو على ثقة بأنه في الطريق الصحيح:
وهناك كتب ضرورية وأساسية:
1- الغارة على العالم الإسلامي:
تأليف شاتليه وترجمة محب الدين الخطيب.
2- محاضرات في النصرانية:
محمد أبو زهرة.
3- الإسلام على مفترق الطريق:
محمدان (ليوبولبر فابس).
4- بين الدين والعلم:
الدكتور محمد أحمد الغمراوي.
5- الخطر المحيط بالإسلام:
الجنرال جواد رفعت.
6- منهج التربية الإسلامية:
محمد قطب.
7- قادة الفتح الإسلامي:
محمود شعيب خطاب.
8- التبشير الاستعمار:
دكتور عمر فروخ.
9- في وكر الهدامين:
محمد محمد حسين.
10- مؤامرات ضد الأسرة المسلمة:
محمد عطية خميس.
11- ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين:
أبو الحسن الندوي.
12- أحجار على رقعة الشطرنج:
الأميرال ويام جاي كار.
13- الخطر اليهودي (بروتوكولات صهيون):(27/1)
ترجمة محمد خليفة التونسي.
14- جذور البلاء:
عبد الله التل.
وليكن دليلنا دائماً: أن نقرأ الكاتب قبل كتابه، فإذا طبقنا علم الجرح والتعديل استطعنا أن نعرف مدى إيمان الكاتب وصدق انتمائه إلى أمته وفكرها، وهذا هو ما نتقبل منه عطاءه أما غيره فلنكن منه على حذر فإذا قدم شيئاً نافعاً فلنقبله إيماناً بأن الحكمة ضالة المؤمن أن وجدها فهو أحق الناس بها ولنكن على إيمان كامل بأن الكاتب الصادق يستمد قوته من الحق ويستمد مظهره من تراث الأنبياء والأبرار ويكون في دعوته وهدفه وكتاباته مطابقاً للآية الكريمة: "تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً" – القصص آية 83 – فهو لا ينكر العلم ولا يكتمه، وهو في نفس الوقت لا يشتري بالحق ثمناً قليلاً.
ولا يكون أبداً أداة لتزييف الحق أو تضليل الناس أو إعلاء شأن الأهواء وخداع الناس بها تحت عناوين الفكر الحر أو الانطلاق أو غيرها.
###مسئولية القارئ
إن الكاتب الذي يطمع في أن يكتب ثقة الشباب المسلم المثقف يجب أن يكون قادراً على تحمل أمانة الكلمة مقدراً للأبعاد المختلفة لهذه الأمة وفكرها والتحديات التي تواجهها.
وأن يكون من كرامة الشخصية بحيث لا يغش ولا يموه ولا يزدري مقدرات هذا الفكر. وليعلم أنه سوف لا يمر وقت طويل حتى تكشف الحقائق أمره ودوره ونحلته ومن ثم يسقط سقوطاً لا سبيل معه إلى استعادة الثقة.
ذلك أن القارئ المثقف في هذا العصر على الرغم من وجوده على حافة الدائرة وليس في قلبها فإنه قد آمن بأن أمته تواجه اليوم تحديات خطيرة عن طريق الغزو الثقافي والتغريب وأن الثقة لم تعد في المستطاع الحصول عليها إلا لعدد قليل ممن برهن تاريخهم وكشفت وقائع حياتهم عن الصدق والإخلاص.(27/2)
إن في الساحة كتاباً كثيرين، وهناك من قد يستطيعون عن طريق البراعة والذكاء وإحسان العبارة وإخفاء الهوى أن يصلوا إلى بعض العقول والنفوس نتيجة لمرحلة القصور الذاتي الموجودة بين الشباب الذي لم يتعلم من أصول فكره الإسلامي العربي إلا شذرات قليلة، بينما اتخم بفنون مختلفة من فكر الغرب. إن الكتب البراقة والصحف اللامعة والأسماء الشهيرة قد كانت على مدى هذا العصر الحديث تخطت الأبصار ولكنها كانت عاجزة عن أن تمتلك القلوب والنفوس. أن عشرات من هذه الأسماء التي لمعت لم تلبث أن سقطت وانكشفت زيفها، وأن عشرات من هذه الكتب التي أحدثت ضجة لم تلبث أن انطوت وظهرت عشرات الكتب والأبحاث في كشف زيفها والرد عليها.
إن هناك نظريات كثيرة سادت بسلطان التغريب زمناً ثم سقطت. فعلى الكتاب الذين يتصدرون اليوم أن يعرفوا هذه الحقيقة. إنهم سوف لا يستطيعون الصمود فوق المسرح وتحت الأضواء إلا زمناً قليلاً ثم ينكشف زيفهم.
أما الكتاب الصادقون فإنهم مهما عجزوا عن تسنم المنابر الضخمة والصحف الكبرى، فإنهم معروفون بأعيانهم أن وجودهم في الظل هو علامة على قدرتهم على التمسك بالحق وصمودهم بعيداً عن مغريات الأضواء.
إن الكاتب الذي يصطفيه الشباب المسلم هو القادر على أن يقول الحق، وأن ينصح للأمة، وأن يدل على الطريق الصحيح.
وأن أخطر أخطاء الكتاب هو التعصب الخفي المستور وراء مظاهر المنهج العلمي، بينما تبدو الأحقاد واضحة ليست في حاجة إلى من يكشف عنها.
وأن أكبر أخطاء الكتاب العجز عن النظرة الكلية والكلمة المنصفة.
إن الكاتب القادر على الإنصاف من النفس هو القادر على أن يكسب ثقة القارئ، ليس من شأن الكاتب أن يجعل نظرته الذاتية قانوناً شاملاً. وليس من شأن الكاتب أن يتطرف إلى جانب أو يقف عند النظرة الجزئية.
ليكن الكاتب منتمياً إلى أمته وفكرها وعقائدها.
وليكن صادقاً في هداية قومه إلى الحق.(27/3)
ذلك أن الباطل مهما أسبغ عليه من صور العلمية أو بريق العبارة، فإنه سوف ينكشف ويتعرى، والشيء المصادم لطبائع الأشياء لا يدوم.
إن كل دعوى إلى نظرية لا تندمج في العقيدة الأساسية للأمة سوف يرفضها هذا الفكر مهما حشد لها من قوى وأقلام كما يرفض الجسم الحي أي جسم أجنبي غريب.
إن الكاتب الذي هو معقد المسئولية والأمانة: من إذا رضي لم يدخله رضاه في باطل وإذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق.
وهو الذي يتعصب للحق وحده، وينكر ذاته وينكر التبعية عن أي صورة من صورها. ولا قيمة للكاتب الذي يفصل بين القيم فيعجز عن معرفة الصورة الكاملة، ويجهل أبعاد القضايا.
لا قيمة لكاتب بلا عقيدة كاملة، تستطيع أن تضع كل شيء موضعه، وتقف من كل الأمور موقفاً حاسماً.
إن الكاتب بلا عقيدة كالربان الذي فقد اتجاه الريح، وعلامات السماء، لقد استطاع الفكر الوافد أن يخلق طبقة تقول أنني مشتغل بالأدب فلا أعرف في العقائد أو المناهج، بينما كل ما يعرض عليها في الفكر الغربي من وجودية أو علمانية أو مادية أو لا معقول له ارتباط كامل بكل قيم الإنسان. والمجتمع مؤثر فيها، هادف إلى أحداث آثار بعيدة المدى بالقيم والعقائد.
على الكاتب الذي يحمل أمانة هذه الأمة أن يكون قادراً على التحرر من التبعية الفكرية وأن يكافح من أجل تحرير فكره وأمته منها وأن يعرف أن المعرفة الإنسانية عامة وأنة العلم عالمي وأن العقائد والثقافات خاصة بكل أمة.
وأن يؤمن بأن هذه الأمة لها رسالة مستمرة ما زالت تؤديها للبشرية.
وأنه ليس من عمل الكاتب المسلم تبرير الواقع بل عليه أن يضع المعالجات لإصلاحه وأن يدعو إلى تغييره إذا تطلب التغيير. وأن يرد كل تغيير وإصلاح إلى الإطار الأصيل الذي يتحرك فيه الفكر الإسلامي العربي.
وليؤمن الكاتب الذي يريد أن يكسب ثقة الشباب المثقف أن انبعاث الأمم إنما يستمد قوته من فكرها ومقوماتها وأن انبعاث المسلمين والعرب لن يكون من خارج مقومات فكرهم وعقائدهم.(27/4)
وأن الكاتب ليس بهلواناً جاء لإضحاك الناس وإرضاء غرائزهم وهدهدة أهوائهم، ولكنه جاء ليصحح الأخطاء ويكشف الزيف ويضيء الطريق إلى الحق.
وليؤمن الكاتب بأمته وفكرها والدور الذي قامت به في التاريخ والفكر البشري، ليؤمن بأن الفكر الإسلامي رفض المنطق الأرسطي وأقام منهجاً جديداً هو المنهج التجريبي وليؤمن بأن أصول مختلف العلوم التي تدرس الآن في الجامعات كالطب والآداب والاجتماع والتاريخ والقانون والفلك والتربية بدأت من نقطة الإسلام وحضارة القرآن.
وليؤمن بأن كل ما يقال عن النضال أو الصراع بين العلم والدين أنما يقصد به تاريخ الغرب وليؤمن بأن ضعف المسلمين أنما يرجع إلى إغفالهم تعاليم الإسلام وليس إلى منهج الإسلام نفسه وأن الإنسان ليس حيواناً كما تقول النظريات المادية ولا آثم بحكم ولادته ولا مجبور التناسخ، وإنما هو مستخلف في الأرض.
وأن أزمة القلق التي يعانيها الشباب اليوم قد صدرت عن الفصل بين الدين والمجتمعات وبين الأخلاق والتربية.
وأنه ما من علم أو فن يتحدث عنه الناس في أدب من الآداب إلا له ضريب في اللغة العربية.
وأن أهم ما في الفكر الإسلامي المطابقة بين الكلمة والسلوك.
وأن على الكاتب المسلم أن يفرق بين المعارف الجوهرية والمعارف غير الجوهرية من ناحية وأن يفرق بين المفاهيم الأصلية والمفاهيم الزائفة الوافدة.
وأنه لا خطأ في الإسلام وإنما الخطأ في طريقة إسلامنا وأن فترة ضعف الإسلام لا تمثل حقيقة جوهره، وإن من أكبر الأخطار التي تواجه الكاتب المسلم هي تلك النظرة الخاطئة التي تحاول أن تعطي الأدب مكاناً أكبر من حجمه الحقيقي في عالم الفكر، ومن ثم كان تجاوزه الخطير لمهمته ومفهومه.
وإن لا تناقض في الفكر الإسلامي بين العلم والأدب، ولا بين العقل والقلب، ولا بين الروح والمادة، بل هناك تكامل وترابط.(27/5)
وإن الإسلام لا يعلى الجنس أو الشهوة وإن كان يعترف بالرغبات البشرية ويفتح الطريق لها عن طريق طبيعي مع وضع الضوابط والحدود التي تحول دون التحلل والسقوط.
وإن على كتاب الإسلام أن يغربلوا ذلك الركام الضخم ويكشفوا عن الأصيل والزائف والأساسي والدخيل.
وعلى الكاتب المسلم أن يكون مقاوماً، داعياً إلى الله وليس مستسلماً أو موالياً للباطل وليس لفهم الفكر الإسلامي سبيل إلا النظرة الكلية الجامعة.
وليؤمن كاتب الإسلام أن الإسلام منذ انتشر لم يتغلب عليه متغلب، وإن تغلبت على أممه الشدائد ومنذ ظهر الإسلام وكل حدث في العالم مرتبط به وأن العمل على الالتقاء بين روح العصر وروح الأمة لا يكون على حساب القيم الأساسية بل في ضوئها وعلى هداها. وأن الإسلام قد رفض مبدأ التبعية ولم يستسلم في تاريخه الطويل لأي نظرية وافدة.
وأن التجديد في الأدب كالتجديد في العلم لا يمكن أن يقوم إلا على أساس تعاون الماضي والحاضر.
إن بريق الأسماء لا يغني شيئاً عن الحقائق.
إن محاولة رفع أسماء بعينها سوف تكشف زيف الأيام.
إن كل صيحة علت بغير الحق لم تلبث أن تحطمت.
إن الضجيج والبريق ليسا شيئاً إلا في الأمد القصير.
"أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض". صدق الله العظيم.
###في سبيل بناء مشروع إطار للقراءة
هذه محاولة لاقتراح مشروع إطار للقراءة يقوم على أساس تحديد النظرة، بحيث لا تضطرب أمام الكثير المطروح في السوق، مع اتساع الآفاق لمعرفة ما وراء هذه الألوان والأنواع المختلفة المتضاربة.
وأساس النظرة وقمتها هو القرآن الكريم: هو المختبر الأصيل الذي يبقى دائماً موضع الثبات والصدارة والقدوة، وعلى ضوئه يختبر كل فكر وكل كتاب فما التقى معه ينظر فيه ويقبل، وما يتعارض معه لا بأس من النظر فيه مع الاحتفاظ والتحفظ.
والمسلمون أساساً ليسوا في حاجة إلى مذاهب من خارج فكرهم فقد كفاهم غنى، إذ قدم لهم ثلاثة مناهج أساسية هي:(27/6)
أولاً: "منهج الغيب": أو "ما وراء المادة" وقد كشف القرآن للمسلمين صورة كاملة لهذا الجانب المتصل بعالم الشهادة المرتبط به وبذلك كفاهم أمر البحث فيه، حيث أن العقل البشري في ذاته قاصر عن أن يدرك هذا العالم بنفسه أو يصل إليه بالبحث التجريبي أو المناهج المجردة.
ثانياً: منهج المعرفة: وقد أعطي القرآن المسلمين منهجاً كاملاً قائماً على العقل والقلب، وتجربة التاريخ وعبرة الكون القائم أمام أعين الناس وبذلك أعطاهم أوسع منهج للمعرفة وأكمله وأكثره إيجابية وسماحة.
ثالثاً: منهج العلم التجريبي: فقد دفع القرآن المسلمين إلى النظر في السماوات والأرض، والتماس التجربة، والبحث عن البرهان والدليل فاستطاعوا إنشاء المنهج العلمي التجريبي الذي هو مصدر النتاج العلمي الحديث كله (وليس في هذا مبالغة بل هي شهادة علماء العلم أنفسهم وفي مقدمتهم: بريفولت ودرابر وجوستاف لوبون ودكتورة هونكة).
ثم قدم الإسلام للمسلمين: منهج المجتمع ونظام الحياة وهي شريعة الإسلام الخالدة التي اعتمدت قيم ثلاث أساسية:
أولاً: المسئولية الفردية للإنسان وإرادته الحرة في عمله.
ثانياً: القانون الأخلاقي.
ثالثاً: الجزاء الأخروي.
وقد قامت هذه المناهج كلها على قاعدة أساسية هي "التوحيد".
ولقد التقى القرآن إلى المسلمين حصيلة ضخمة وافرة من معطيات الاجتماع والسياسة والأخلاق والاقتصاد والتربية والقانون، كان أبرز ما فيها: أنها ليست موقوفة على عصر ما أو بيئة ما، بل هي خالدة باقية مرتبطة بالإنسان نفسه من حيث هو كيان متكامل: (روح ومادة).
وهي بذلك لم تتشكل في هيئة قانون له مواد، بل قدمت على هيئة إطار واسه من قابل من داخله للتغيير والحركة والتطور بما يناسب العصور والبيئات، ولذلك جاءت أساساً على هيئة قيم كبرى فيها طابع الثبات وقادرة في أطرافها على الحركة.(27/7)
وهي في ضوابطها وحدودها عمدت إلى حماية الفرد نفسه من الانحراف إلى أحد القطبين:الجمود أو الانحلال، ولذلك فقد أبعدته عن الزهادة والترف معاً وإقامته في توسط يحفظ له كيانه العقلي والجسدي من العطب ويجعله قادراً دائماً على ممارسة دوره في الحياة وأداء رسالته.
ومن هنا فإن السؤال القائم في هذا الموقف هو هل المسلمون في حاجة إلى إيديولوجية أو مذاهب أو دعوات تطرح عليهم إذا كان منهجهم كاملاً، وقد طبق فعلاً فأحدث تقدماً عظيماً وسيطر على البشرية عطاء وعدلاً أكثر من ألف عام؟
والإجابة: أن لا. وهنا يجيء السؤال الآخر: إذن لماذا تخلف المسلمون؟ والإجابة هي أنهم تركوا المنهج الذي صيغت عليه حياتهم، وشكل وفقه مزاجهم النفسي والاجتماعي، وتخلفوا عنه ضعفاً وجموداً، أو انطلاقاً وانحرافاً. ومن هنا فإن أمة تشكلت على منهج مدى أربعة عشر عاماً من العسير أن يصلح لها منهج آخر وافد، خاصة إذا كانت هذه الأمة قد كانت على حذر دائم وعلى طبيعة أساسية ترفض الدخيل ولا تقبل لا ما يزيدها قوة وما ينصهر داخل كيانها ومفهومها في هذا الضوء يمكن أن يقرأ الشباب المسلم وينظر في هذا الحشد الهائل الضخم الذي تطرحه عليه المطابع هو يعرف مقدماً أن ليس كل من كتب له إنما يريد به الخير، أو يقول له الحق. وأن هناك ملابسات كثيرة وأساليب دقيقة وبريق خاطف وكلمات براقة يراد بها إخراج الأمة عن الأصالة وعن الذاتية.
إن هذه الأمة ما تزال تواجه التحدي وستظل تواجهه وقتاً طويلاً:
تحدى الاستعمار والصهيونية والقوى الغازية والمتربصة والطامعة. ولذلك فإن ما يطرح في سوق القراءة خاضع لهذه التيارات.
وإذا كان القارئ المسلم يستطيع أن يقرأ لكتاب يعرف صدقهم، فإنه في المرحلة التالية مطالب بأن يقرأ كل شيء يعرف الزيف من الصحيح وليكشف هذا الزيف، ويصحح الأخطاء، ويحرر المفاهيم على الضوء الكاشف الذي تعرض عليه كل شيء وهو (القرآن).(27/8)
ونحن نعرف أن حركات التبشير والاستشراق والغزو الثقافي مما نطلق عليه اسم "التغريب" قد غيرت جلدها فلم تعد تهاجم في صراحة ولا تنتقد في جرأة، وإنما اتخذت أسلوباً جديداً: هو أن تدخل إلى البحث في رقة وأن تتكلف من كلمات المدح والإنصاف صفحات حتى تكسب ثقة القارئ، ثم لا تلبث أن توجه إليه شكوكاً قليلة، وتعود مرة أخرى إلى الإنصاف والمجاملة، إلى أن تصل في النهاية إلى شيء يثير الصدر، ويفسد الحقيقة الأصلية، دون إزعاج أو إثارة عواطف.
فلننتبه إلى هذا الاتجاه الجديد ولنجعل رائدنا أساساً: أن تكون حقائق الإسلام الأساسية هي المصادر والدعامات التي لا تتخلف ولا نقبل أن نفرط فيها.
هناك محاولات الآن للقول بالتطوير: تطوير الإسلام أو تطوير الشريعة الإسلامية، والتطور لا يدخل إلا على الأشياء التي أنشأها الإنسان لأنها تعجز عن أن تستمر مع تغير الأزمان ولذلك فقد تعرضت عقائد ومذاهب وإيديولوجيات كثيرة للتطور إما بالنسبة للدين الحق، الذي صاغه خالق الإنسان وفق علمه الواسع بطبيعة الإنسان، وتحولات المجتمعات فإنه لا يخضع للتطور. وهناك أسسه القائمة الثابتة التي لا سبيل إلى الاجتهاد حولها، ولكن الإسلام مع ذلك يعتبر الاجتهاد قاعدة أصلية في المتغيرات وفي الفروع، أما محاولة البعض في تبرير الحضارة والمجتمعات الغربية القائمة فإن ذلك مما لا يقره الإسلام، كذلك محاولة استخدام الإسلام لإقرار مذهب معين من الديمقراطية أو الاشتراكية، فإنه مما يتعارض مع ذاتية الإسلام التي تتمثل في منهج متكامل له أبعاده واستقلاليته.
وما أكثر محاولات التشكيك والاحتواء! وما أكثر اختلاف المناهج وتفسيرات القيم! وكل منهج مرتبط بثقافته وعقائده وتحدياته التاريخية. ومن المستحيل أن ينقل مجال المعركة أو التحدي من أمة إلى أخرى أو من ثقافة إلى أخرى.(27/9)
والفكر الإسلامي لا يعرف العنصرية ولا يعرف التفرقة بين الدين والمجتمع، ولا يعرف عزلة الإنسان عن المجتمع باسم العبادة. وهو يربط الفرد بالمجتمع والمجتمع بالفرد، ويؤمن بالله، والتدين جزء من الطبيعة البشرية، وأن الإنسان جامع بين العقل والروح، وأنه ليس روحاً خالصة، ولا عقلاً خالصاً وأن له رغباته المادية وتطلعاته الروحية في إطار ضوابط قصد بها حماية الإنسان نفسه من الانهيار.
والحرية في مفهوم الإسلام هي التحرر من قيد الوثنية والجهل والخرافة والتقليد ومن أهم ما دعا إليه الإسلام المطابقة بين الكلمة والسلوك.
وينكر الإسلام عبادة الجسد وتقديس الشهوة، وتأليه الأبطال والعظماء، وقد فرق الإسلام بين المعارف الجوهرية والمعارف غير الجوهرية.
وأن أبرز مفاهيم الإسلام الذي انتصر بها هو أن قيمة وحدة متكاملة لا يصح تجزئتها أو تفتيتها، أو الأخذ بنوع منها دون الآخر أو إعلاء عنصر منها على مختلف العناصر فكل يؤثر في الآخر ويتأثر به، ولقد عمل الإسلام على تحرير أتباعه من التأثير الأجنبي بكل أنواعه ودعا إلى اليقظة إزاء الحرب النفسية والشبهات والمحاولات التي تهدف إلى تغيير المعالم الأصلية. وقد ربط الإسلام بين العقيدة والتطبيق، وقرن العلم بالعمل، ورفض مبدأ العلم لذاته، وقرر أن العلم إنما يطلب من أجل العمل به والاستفادة منع في تحسين الحياة الإنسانية وتقدمها.
ومن أبرز مفاهيم الإسلام: الوضوح الصادق حيث لا تأويل ولا كناية ولا غمغمة، وحيث لا يحمل اللفظ أكثر مما يطيق، أو يؤدي أكثر من معنى وحيث الحق والباطل باطل.
وقد ألغى الإسلام الفكرة التي تقول بأن هناك صراعاً بين الروح والجسم، وأعلن أن الروح والجسم متكاملان، ودعا إلى الاهتمام بهما معاً.(27/10)
وأن من أبرز مفاهيم الإسلام التي تميزه تميزاً واضحاً في مجال الفكر البشري كله أن الإسلام فصل بين الله والعالم، وفصل بين الألوهية والنبوة، وفصل بين الألوهية والبشرية، وألغى الوساطة بين الإنسان وربه، وأمكر سقوط التكاليف الشرعية عن أي إنسان مهما بلغ قدره من الإيمان. وبذلك أسقط الإسلام نظريات وحدة الوجود والحلول والاتحاد، وحرر الفكر من الأساطير.
وقد أسقط الإسلام نظريتين باطلتين: الأولى أن الناس كانوا وثنيين في الأصل ثم عرفوا التوحيد، وأن الدين ينشر بالظروف المادية والعوامل الاقتصادية.
والإسلام في حقيقته منهج وليس نظرية: منهج متكامل يستهدف تحقيق إقامة المجتمع الإنساني الرباني المصدر وما يزال ارتباط الإسلام بمنابعه الأصلية من القرآن والسنة. ونصه الموثق هو العامل الأول والأكبر الذي يحول دون سقوطه في هوة الانحراف، والذي يعطيه القدرة على استعادة تشكيل نفسه بعد الأزمات وفي مواجهة التحديات. وأن وضع الإسلام تحت ضوء أي منهج من المناهج المستمدة من الفكر المادي تعجز عن استيعاب حقيقته وأبعاده. وأن علم الأديان المقارن لا يستطيع أن يعالج الإسلام كبقية الأديان دون اعتبار أن هذا الدين هو دين الله، وأنه ليس من صنع البشر، وأنه فوق أهواء المذاهب والنظريات والفلسفات والمناهج البشرية، وهو يستمد أصالته من مصدره الرباني أولاً، ويتجاوب في نفس الوقت مع الفطرة والعقل والعلم، ولا يتعارض مع الطبيعة البشرية أو يضادها.
في ضوء هذا الإطار يستطيع الشباب المسلم أن يجد الضوء الكاشف لمعرفة الفكر الصحيح من الفكر الزائف، فيما يطرح الآن في السوق من كتابات وآراء ونظريات.
ويبقى أن يعرف شبابنا المسلم: ما هو الدور الذي أداه أجداده وتاريخه للبشرية في مجال الحضارة الإنسانية والتمدن البشري وموعدنا به في بحث فقادم.(27/11)
محاذير وأخطاء في مواجهة إحياء التراث والترجمة
الأستاذ أنور الجندي
يهدد الفكر الإسلامي خطران مزدوجان هما خطر إحياء التراث الإسلامي على ذلك النحو الذي تزيفه قوى التغريب والغزو الثقافي وتشارك فيه مفاهيم الفكر المادي والوثني والإباحي لتخرجه من مفاهيمه وأصوله أو تحجب أصالته وتذهب بضوئه الناصع ونوره الساطع.
وتلك الخطة المسمومة التي قامت عليها الترجمة من الآداب الأجنبية والفكر الغربي قد نقلت إلى آفاق الفكر الإسلامي واللغة العربية حصيلة ضخمة من الترجمات القصصية المكشوفة والمفاهيم المادية الملحدة ولذلك فقد حق على كل باحث مسلم أن يواجه هذين التيارين مواجهة صحيحة ليكشف عن أخطارهما ومحاذيرهما.
التراث الإسلامي
إن محاولة احتواء التراث الإسلامي تجرى في ثلاثة ميادين:
في نوعية بعثه.
في طريقة إحيائه.
في أسلوب تفسيره.
فهي لا تترك حركة إحياء التراث على وجهها الصحيح ولكنها ترفض انبعاث جوانب معينة منه، ليست هي بالطبع أجودها، ولكنها أشدها سوءاً، إن محاولات الانبعاث التي يقوم بها (التغريب والغزو الثقافي) يستهدف انبعاث تراث الفلسفات والفكر الباطني والوثني والمذاهب المنحرفة والمتحللة وخاصة ما يتعلق بالشعر الإباحي والفكر الفلسفي الصوفي وتتجاهل عامدة مختلف الجوانب الأصيلة. كذلك فهي تحاول إحياءه بإعادة كتابته على نحو يغاير تمام المغايرة ما استهدفه أصحابه أولاً وما هو في حقيقته وذلك باستخدام أسلوب الاتكاء على بعض النصوص واستخدامها استخداماً خاصاً لكي تحقق شيئاً ليس هو في الحقيقة واقع الأمر، كما تغضي إغضاء شديداً عن جوانب هامة لأنها لا تتفق مع الوجهة التي يقصد إليها المتطلعون إلى الأحياء.
(ويبدو ذلك واضحاً في كتابات طه حسين للفتنة الكبرى)(28/1)
أما أسلوب تفسير التراث فإن هناك محاولات لإخضاعه لغير مذهب من المذاهب المطروحة في أفق البحث العلمي وكلها غريبة عنه، ومنها المنهج المادي والمنهج الاقتصادي والمنهج الماركسي والصهيوني. وكلها مذاهب تقف من تاريخ الإسلام ومن تراثه موقف خصومه، وتهدف إلى تزييفه والإدالة منه (تفسيرات عبد الرحمن الشرقاوي وأحمد عباس صالح ومحمد عمارة).
كان الغرب يعرف عظمة هذا التراث ويعرف الآثار البعيدة التي تقدمه لهذه الأمة إذا ما تحقق إحياؤه على الوجه الصحيح وعرف المسلمون ما هي الجوانب التي تبعث، لقد شارك التراث في مختلف ميادين الأدب والفقه والعلوم التجريبية والكلام والفلسفات والتربية والاقتصاد والاجتماع والسياسة.
ولأن الغرب استطاع أن يسيطر على هذا التراث وأن ينقل ذخائره إلى مكتبات الغرب فلقد استطاع أن يقول أن المسلمين ليس لهم منهج في العلوم وكذلك استطاع الغرب أن يحيي تراث الإباحيين من الشعراء والمنحرفين من رجال التصوف والغلاة من الفلاسفة والباطنيين بينما لم يكن هذا هو التراث الذي ينشده المسلمون ليدفعهم إلى الأمام.
وهناك تلك المحاولة التي يرمي بها الغرب إلى إحياء تراث الوثنية اليونانية والجاهلية العربية والمجوسية الفارسية والأساطير والخرافات، ومع هذه المحاولى ينكر التغريبيون تراث الإسلام الذي هو أقرب زمناً وأكثر أصالة وأصدق استجابة للنفس الإسلامية وللفطرة الإنسانية.
وإذا تحدثوا عن التراث قالوا قولتهم الظالمة إن الأموات يتحكمون في الأحياء غير مفرقين بين تراث الميراث القائم بالحق: والقرآن والسنة، وبين عمل البشر الذي جاء تفسيراً لهذين النيرين.(28/2)
وما كان المسلمون يوماً عبيداً لتراثهم ولكنهم كانوا يستهدفون به ويأخذون هذه التفرقة بين الميراث الرباني وبين التراث الذي صنعه البشر من حيث أن تراثهم كله بشري، ولكنا نحن المسلمين نفرق بين التراث والميراث أما الميراث الذي قدمته لنا رسالة السماء بالوحي وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم فهو ليس موضع بحث، وأنما هو الأساس المكين والمنابع الأصيلة والقيم الأساسية للكيان الإسلامي في وجوده كله، ويجيء التراث الذي كتبه علماء المسلمين كاشفاً ومفسراً وموضحاً لذلك الميراث ؤفي مواجهة تغيرات العصور واختلاف البيئات فهو ضوء كاشف نأخذ منه ونترك، فضلاً عن أن هذا التراث قد دخلته دخائل كثيرة نتيجة ما كتبه الزنادقة والملاحدة وأصحاب الأهواء ودعاة الفرق، فهذا نحن ننظر فيه في ضوء الميراث الأصيل فإن وافقه قبلناه وإن عارضه نبذناه ولدينا في هذا الميراث والتراث كل خصائص أمتنا وحاجاتنا في مجال التشريع والسياسة والاجتماع والتربية، فلسنا في حاجة إلى المناهج الوافدة لتقدم لنا في منهج الحياة ونظام المجتمع شيئاً، ذلك أن خلافاً عميقاً واقعاً في الأساس بين المجتمع الإسلامي والمجتمع الغربي من ناحية العقائد والأخلاق والقيم والمفاهيم الإنسانية والبشرية، ونحن في هذا نؤمن بما جاء به كتاب الله: {يريد الله أن يبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم}.(28/3)
ولاريب أن هذه القيم الأساسية في مجال المجتمع والأخلاق التي صنعها الإسلام وربى عليها الأجيال: جيلاً بعد جيل لا تزال حية في النفوس وفي أعماق القلوب يتلقاها الأبناء عن الآباء عن طريق القدوة والمثل، وهي تحكم سلوكنا 0وتنظم حياتنا قوامها هذه اللغة وهذه العقيدة وصلات الأبوة والبنوة الزوجية والقيم الخلقية ومفاهيم الحلال والحرام كلها تضرب جذورها في ماضي سحيق، هذا هو التراث الحي الذي يريد الغزو الفكري أن يقتلعه، ويريد خصوم الإسلام والمسلمين أن نتخلى عنه، بينما هو من أساس البناء "وقد بقي حياً لأنه صالح للحياة ولن يستطيع الحاضر أن يحكم عليه بالموت لأنه لا يجد ما هو خير منه ولأنه متقبل من الفطرة والعقل، سائر مع الحياة".
وليس في هذا معنى السلطان المطلق للماضي على الحاضر فليس كل الماضي سوءاً وليس الماضي بهذه الأصالة معوقاً عن النهضة بل إن الأمم التي تفقد موروثاتها الثرية ومنابعها الأصيلة لا تستطيع أن تبني بديلاً منها مهما استطال بها الزمان وتظل عاجزة عن اللحاق بركب النهضة أو اقتعاد مكانها في موكب الحياة.
وليس أدل على أصالة تراثنا من شهادة الأجانب والأعداء له:
حيث يقول هاملتون جب: إنه ليس في وسع العرب أن يتحرروا من ماضيهم كما فعل الأتراك وسيظل الإسلام أهم صفحة في هذا السجل الحافل إلى درجة لا يمكن أن يغفل عنها الساعون إلى إنشاء مثل عربية عليا.
ويقول مفماير: لن ينفصل العرب عن الماضي المجيد في التاريخ الإسلامي، وليس من الممكن أن يحدث في هذه الأقطار شيء يشبه ما حدث في تركيا. بل إن استعادة هذا الماضي وتجدد الحديث عنه هو أحد العوامل في حركة البعث الوطني والديني. إن حركة بعث الإسلام لا يمكن أن تنقطع أو توقف لأن الناس في حاجة إليها فهي أحد مقومات نهضتهم الحقيقية.(28/4)
ويؤكد هذا المعنى كثيرون يؤمنون بأن الشرقيين لا يمكن أن تصبح لهم حياة عقلية من غير ثراثهم الذي ينتمي إليهم ويصطبغ بصبغتهم، فقد يمكن أن نجعل العلم الطبيعي تراثاً شرقياً أو غربياً بأية صفة من الصفات وغير ممكن كذلك: إن نجعل العلم الرياضي تراثاً ينتسب إلى الشرقيين أو إلى الغربيين وإنما يقوم تراثهم على مالهم من أشعار ومواعظ وأمثال وآداب وقواعد سلوك وفي طليعة روح العقائد وما يصاحب ذلك من فقه وشريعة ودين.
ولقد كانت القيم الأصيلة دوما وفي كل مكان من بلاد المشرق عاملاً على حفظ الشخصية الوطنية من الذوبان والانهيار.
ولقد ظل ما يجري تجديده من الفلسفات والفكر الباطني والتراث الصوفي الفلسفي وكتب العصور المعاصرة والانحلال الاجتماعي (كألف ليلة والأغاني) وكتب المذاهب الهدامة والحلول والاتحاد من التراث الموفوض.
فنحن لا نقبل بمفهوم الباعثين للتراث الشعوبي تحت اسم الأدب أو الوجد الفني أو أي مفهوم من مفاهيم الأهواء المضلة ومقياسنا هو الإسلام وحده وهو الحكم في مختلف مجالات البحث فكل ما يختلف عنه فهو من الشعوبية مهما حاول الدعاة إلى بعثه وزخرفته وتزيينه وتصويره على أنه فن أو شعر أو أدب ولاريب أن كل المعتقدات الفاسدة التي أخذت طريقها إلى الشعراء أو النثر أمثال ابن الفارض أو نثر ابن عربي أو الحلاج أو السهر وردي أو غيره فهي كتابات باطلة ليست من تراث الإسلام الأصيل.
ولقد كانت كتابات زكي مبارك في التصوف وزكي نجيب محمود في أدب الباطنية وتراث الزنادقة والشعوبية وإحياء طه حسين لتاريخ الأساطير الجاهلية وإضافتها إلى السيرة أو كتابته عن علي ومعاوية وما تلا ذلك من كتابات عبد الرحمن الشرقاوي وغيره، كل هذا من إحياء التراث الفاسد المضلل الذي يراد به الهوى والذي يحقق غايات بعيدة ترمي إلى إقامة الأساطير مرة أخرى أو إشاعة الإسرائيليات وتجديدها في الفكر الإسلامي الحديث.(28/5)
ونحن ننكر الدعوة القائمة على الفصل بين ماضي هذه الأمة وحاضرها تحت اسم الفكر العربي الحديث، أو الفكر المصري الحديث. وهي كلمات زائفة، فلقد قام الفكر الإسلامي المعاصر على امتداده الطبيعي منذ نشأة الإسلام، وكذلك قام الفكر الغربي المعاصر على أساس التراث الروماني واليوناني مستمداً منه أبرز قيمة ودعائمه محاولاً الارتباط به والاتصال بالرغم من أنه انفصل عن هذا التراث الإغريقي ألف عام، أما العرب والمسلمون فإنهم لم ينفصلوا عن تراثهم وقيمهم يوماً واحداً ولم يزل حاضرهم استمداداً لماضيهم، وقد انتهى الإغريق والرومان ومع ذلك فقد أحيا الغرب تراثهم، أما التراث الإسلامي فإنه ممتد ومتصل فهو تراث أمة لم تنته ولم تذهب لغتها إلى المتحف وما زال فكرها حياً متفاعلاً في وجود أمتها وفي البشرية كلها ولم يتوقف تفاعلها مع فكرها لحظة واحدة ولذلك فنحن حين نؤكد حقيقة الامتداد التاريخي للتراث الإسلامي مع واقع المسلمين والعرب ننكر ذلك الزيف والدخيل الذي أدخله المجوس والباطنية ومترجمو الفلسفات اليونانية والفارسية والهندية.
وكل ما يتأكد بالأصول القرآنية والحديث الصحيح فهو من التراث الصحيح، ولقد واجهت أصالة التراث هزة شديدة بعد نكسة 1967م حيث علن أصوات المارقين من دعاة التغريب إلى القول بأن التراث الإسلامي هو مصدر الهزيمة وكذبوا فإن التراث الإسلامي لم يكن مطابقاً ولا معمولاً به في ذلك العالم الذي شاهد الهزيمة، بل إن الذين هزموا العرب كانوا هم الذين أحيوا تراثهم الزائف. بينما حجبوا المسلمين عن تطبيق مفاهيم تراثهم وقيم فكرهم الأصيل.(28/6)
ولا تزال النظرة إلى الارتباط بالتراث نظرة أصيلة وثابتة عن حقيقة أساسية هي أننا لم نكن نصدر – إذ ذاك عن قيمنا الأصيلة، وإننا مغرقين في تبعية وافدة كانت بعيدة الأثر في شخصيتنا وقد تبين لنا أن كل ما تقع الأمم فيه من أخطاء إنما يعود إلى التفريط في التراث والانسحاب من قيمه والتحرك خارج دائرة الأصالة كما تبين أن الذين دعوا هذه الأمة إلى أن تنفصل من التراث ومن الماضي – وهم من أبناء جلدتنا – كانوا غاشين لنا وسوف يحملهم التاريخ مسئولية الهزائم والنكسات وإثمها وتبعتها ولقد تبين لنا أننا عندما عدنا والتمسنا أصالتنا وتراثنا وبدأنا نتجه صوب المنابع تحول الموقف واستطعنا أن نكون على طريق صحيح.
ومن هنا وجب علينا اليقظة إزاء محاولات التغريبيين (شعوبيين وماركسيين وغربيين) لإحياء التراث ونقده وتفسيره وخاصة أولئك الذين يريدون أن يجعلوا من الزيوف والركام والرواسب الفلسفية والفكرية التي نفاها الفكر الإسلامي وتخلص منها وألقاها بعيدة عنه، يريدون أن يجعلوا منها تراثاً وأن يعيدوها مرة أخرى ليلقوها في النهر الناصع لتسممه وتسوده كما فعل طه حسين وعلي عبد الرازق وزكي نجيب محمود ولويس عوش وحسين فوزي وتوفيق الحكيم وعبد الرحمن الشرقاوي فقد حاول هؤلاء وغيرهم عدة محاولات:
إفساد التراث وتزييف التراث وتسميم النظرة إلى التراث وعلينا أن نعي تماماً تلك التفسيرات الخاطئة والمفاهيم المسمومة التي طرحتها هذه الكتابات في محاولة لجعلها من مفهوم الإسلام أو من تاريخه حتى تصبح بين أيدي الأجيال القادمة وكأنها من المسلمات.
فعلينا إمعان النظر في تلك الأساليب الدخيلة والزائفة والمحرفة التي طرأت في السنوات الخمسين الأخيرة منذ الشعر الجاهلي لطه حسين إلى تجديد الفكر العربي لزكي نجيب محمود.
وهكذا نرى أن التغريب والغزو الثقافي ليس قاصراً على إدخال الوافد المسموم بل هو أيضاً يرمي إلى تزييف التراث الأصيل.
محاذير الترجمة(28/7)
في مواجهة تلك الظاهرة الضخمة في الفكر الإسلامي الحديث وعن طريق الأدب العربي في الأغلب ندرس ظاهرة الترجمة من الفكر الغربي: سواء الفكر اليوناني القديم أو الفكر الغربي الحديث.
وهي ظاهرة شبيهة بسابقتها في القرن الثالث الهجري وإن كانت تختلف في أمر واحد هو مفتاح كل الأمور: ذلك هو امتلاك الإرادة التي كان يتميز بها منهج الترجمة في العصر الأول ومع ذلك فقد ترجمت كتب الفلسفات والوثنيات وأحدثت شرخاً هائلاً وصدعاً ضخماً لم تستطع حركة الأصالة جبره إلا بعد معركة طويلة استمرت مدى قرنين من الزمان.
أما معركة الترجمة المعاصرة فإنها أشد خطراً وأبعد أثراً فقد جاءت على حين فترة من الزمن لم يكن المسلمون والعرب يمتلكون إرادة الاختيار فيها ترجم لهم واستطاعت حركة التغريب والغزو الثقافي أن تسيطر وأن تترجم لهم ما ليسوا في حاجة إليه أصلاً ونحت عنهم ما هم في حاجة إليه وكانت حفية بأن تترجم لهم الفكر الوقني والفلسفات والمذاهب المادية والإيديولوجيات المتضاربة في حين أنها حالت بينهم وبين ترجمة العلوم والتكنولوجيا بل حالت بينهم وبين إحياء تراثهم الأصيل ولذلك فإن آثار هذه المعركة ستظل إلى مدى بعيد عميقة الأثر في النتائج الفكري المعاصر تاركة ظلالها السوداء على كثير من صفحاته.(28/8)
إن معركة الترجمة لم تبدأ من منهج صحيح مدروس ينظم مدى ما نحتاجه وما لسنا في حاجة إليه، وإنما أخذ التغريب والغزو الثقافي بالمبادرة ومضى يقدم لنا على مدى قرن كامل نتاجاً سيئاً غاية السوء، قوامه ترجمة القصة المكشوفة الأجنبية، والتراث اليوناني الوثني، والمفاهيم المادية والإباحية في مجالات النفس والاجتماع والأخلاق والتربية وقد قدمت لنا هذه الآثار على أنها علوم أصيلة وليست فروضاً قابلة للخطأ والصواب أو وجهات نظر تمثل أممها وأصحابها، ولم تسبق هذه الدراسات أو تلحق بما يكشف أمام القارئ العربي والمسلم مكانها من فكر أمتها وموقفنا كفكر له منهج متكامل جامع منها وبذلك زيفت هذه الترجمات كثيراً من لالعقول وأفسدت كثيراً من النفوس وخلقت أجيالاً مضطربة لأنها استطاعت أن تقرأ الفكر الغربي (القائم على عقائد ومفاهيم وقيم وإيديولوجيات) تختلف عن فكرنا الإسلامي العربي وكان القائمون على هذه الأعمال في الأغلب من خصوم هذه الأمة وفكرها ومن الراغبين إلى اتخاذ سلاح الترجمة سبيلاً إلى هدم هذه المقومات.
ولقد كانت الترجمة في أول أمرها في عصر محمد علي على النحو الذي قام به رفاعة الطهطاوي ومدرسة الترجمة الأولى بالغ الأصالة فقد عمد إلى تقديم نتاجه مدروساً وجاداً ومغطياً لجوانب كثيرة فقيرة وخاصة في لمجال العلوم التجريبية والطبيعية وغيرها، غير أن النفوذ الأجنبي لم يلبث أن سيطر من بعد على هذه الحركة وحولها إلى ترجمات القصص المكشوف وفنوناً مختلفة من أهواء النفس وضلالات الفكر البشري.(28/9)
وهكذا استطاع التغريب والغزو الثقافي أن يحجب عن المسلمين والعرب ما كانوا في حاجة إلى ترجمته من الفكر الغربي (وهي مجالات العلوم التجريبية والطبيعية وغيرها) وطرح في أفق الترجمات ركاماً مضطرباً عاصفاً يرمي إلى هدم ذلك الحائط النفسي المرتفع القائم في النفس المسلمة بالحق والتقوى والكرامة والفضيلة والعفاف ويصور الإباحيات الجنسية على أنها شرعة المجتمع المباحة كما يصور الجريمة على أنها ظاهرة طبيعية ويصل تأثير هذه المترجمات المسمومة إلى جمع مقررات العقائد والأخلاق والإجماع والتدين حيث يوجد تباين واضح وخلاف عميق بين مفاهيم الغرب والإسلام حيث تقوم الحياة الاجتماعية على عبادة الجسد وتقديس الجمال والنظر إلى العلاقات الجنسية نظرة حرة بعيدة عن القداسة والعفاف والإيمان بالبكارة، وحيث تختلط الصور في هذه الترجمات المطروحة فتحدث آثارها الخطيرة في النفس العربية الإسلامية حتى تصل إلى صميم العقيدة نفسها.
ولقد كان لهذه الترجمات آثارها البعيدة في هدم طبائع الأمة التي تختلف تماماً، وفي التمرد على وجودنا وطبيعتنا تحت تأثير الانبهار بهذا الجانب من مدينة الغرب القائم على الزخرف والأضواء والرقص والفنون.
كذلك كان من أسوأ آثار الترجمة ذلك الخلط الشائن بين المذاهب المتعارضة والنظريات المضادة، وهي نظريات متفاوتة، ولكنها حين نقلت إلى فكرنا الإسلامي أريد طرحها جملة باضطرابها واختلافها لتكون عاملاً شديد التأثير في إفساد هذا الفكر والإدالة منه.(28/10)
ومن العجب أن ننقل ونترجم آثار الفكر الغربي اليوم وهو يمر بمرحلة الأزمة والانهيار والهزيمة، ثوقد أحيط به واحتوته مقررات التلمودية وبروتوكولات صهيون وآوى أهله إلى ذلك الإحساس الرهيب بالغربة والقلق والتمرد والغثيان فنقل مسرح العبث واللا معقول واللا أدب واللا فن ومثل هذه الفنون المهومة المضطربة التي لسنا في حاجة إليها ولا هي تستطيع أن تعطينا شيئاً يعيننا على بناء أنفسنا أو فكرنا أو أمتنا وخاصة ما كتبه سارتر وكامي ومالرو من أحاسيس بالرعب والفزع والاضطراب نتيجة ذلك الانفصال الشائن عن العقيدة والدين والأخلاق وهي في مجموعها الفطرة التي لا تستطيع النفس الإنسانية أن تتجاهلها أو تحتويها.
كذلك فإن هذه الترجمات تصور الفرد الغربي وهو يحتقر الأخلاق ويسخر من الرحمة والصدف والعفة والشرف ويحتقر الوطنية ويضحك من الإخلاص للمجتمع ويستخف بفكرة الأسرة والعائلة.
وتجد مثل هذه الترجمات تحمل ذلك المثل الرديء بأن لا يحب الإنسان أحداً ولا يخدم أي مثل أو دين أو مبدأ، ويعتبر ذلك تقييداً لحريته وما يتصل بهذا من إنكار لله تبارك وتعالى وتهجم بالعبارات الرديئة عليه على النحو الذي عرف عن نيتشه وسارتر وبيراندللو وفضلاً عن إحياء الأساطير واتخاذها أساساً لنظريات في علم النفس والأخلاق والاجتماع أو مصادر لمفاهيم الأنثروبولوجيا وغيرها من المفاهيم.
هذه السموم جميعها تترجم إلى لغتنا العربية إلى أدبنا وفكرنا دون أن يقول لنا مترجموها ما هو الحق فيها وما هو الزيف، وما موقفنا منها كأمة لها عقيدتها وفكرها ومفاهيمها وقيمها.
وبذلك يطرحون في أفق مجتمعنا الإسلامي موجة زائفة من اليأس والتشاؤم والملل وازدراء الحياة مما لا يتفق مع طبيعتنا المتفائلة المؤمنة بالله التي لا تخاف شيئاً والتي تعتصم دائماً برضوان الله ورحمته.(28/11)
ولعل هذه السموم التي تطرحها حركة الترجمة من أخطر ما يواجه حركة اليقظة الإسلامية اليوم ويضع أمامها صخوراً تحول بينها وبين إكمال المسيرة إلى الحق وتحجب كثيراً من حقائق الإسلام وتفسد العقول والقلوب في أعماق شبابنا وأجيالنا الجديدة وحسبما تقول الدكتورة نازك الملائكة: ما من شيء يستطيع أن يفسد علينا جهودنا مثل تبنينا لهذا الفكر الغربي المريض فإذا اتخذ شبابنا نماذجه الأدبية والفكرية من أعلام الغرب المعاصر مثل سارتر ومورافيا وكافكا فالي أين سينتهي؟.
ونحن نقول أننا أشد ما نكون حاجة إلى أن نتنبه ونحذر مثل هذا الفكر الوافد وأن نقف منه موقف التحفظ وأن نكشف حقيقته لأبنائنا ونقدمه في صراحة ووضوح ونقول لهم إن هذه المفاهيم ليست مفاهيم المجتمع الإسلامي العربي ولن تكون للاختلاف العميق في الأسس والمصادر والمقومات والقيم والعقائد بين فكرنا وبين هذا الفكر وبيننا وبين الغرب.
وتقول نازك الملائكة: إن اتجاهات الكتب المترجمة عن الغرب تقلقنا حتى أصبحنا نخشى على نفسية القارئ العربي من رشائش هذه الموجة التي تأتينا رافضة هو صفتها من وجهة نظر الأمة العربية. إن لنا حاجاتنا العربية وهي تملي علينا أحكامنا الاجتماعية وينبغي أن تمليها.
ولقد أعلن كثير من الباحثين الغيورين تخوفهم من موجة الترجمة التي انطلقت خلال تلك السنوات الطويلة بغير ضابط لها وغير مراجع يدفع عن الفكر الإسلامي شرها ويذود عن المجتمع الإسلامي آثارها وسمومها وقد حق اليوم وقد بلغ الفكر الإسلامي مرحلة الرشد والأصالة والقدرة على التحرر من التبعية معاودة هذا الفكر كله بالنظر والدحض وخاصة ما كتبه المستشرقون عن الرسول والإسلام والقرآن واللغة العربية وتاريخ الإسلام مما يحمل بذور الشكوك والتخرصات الضالة المضلة.(28/12)
وفي يقيني أن مترجمي هذه الكنب لم يكونوا حسنى النية في نقلها ولم يكونوا يحاولون تقديم الجديد الذي يطمعون به في بناء أممهم، ولكنهم كانوا ضالين في محيط دقيق للغرب والغزو الثقافي وإلا لحالوا دون ترجمة السموم ولأردفوا ما ترجموه بوجهة نظر الفكر الإسلامي العربي فيما قدموه.
ولا يمكن أن يكون الكاتب الغيور على أمته المؤمن بحقها في الوجود الحافظ لكيانها هو ذلك الذي يترجم لها ما يذلها وما يستبعدها وما يوردها مورد الهوان والخيبة والعبودية حين يحطم لها قيمها ويدمر لها تقاليدها وأصولها بما يحرضها عليه من إثم وفسوق.
إن اختلاف الذوق واختلاف العقيدة واختلاف القيم والتقاليد يجب أن يكون حاجزاً أصيلاً في مجال الترجمة فما يجوز لنا أن ننقل إلى بناء أمتنا ترجمة لقصة مستهجنة أو مسرحية آثمة أو كتاب فاحش مكشوف فما أعتقد أنه ينفع أمتنا على أي نحو من الأنحاء.(28/13)
ومهما يكن من تقدير الغربيين له فإنه لا حاجة لنا به مطلقاً، وإنما نحتاج إلى ترجمة ما يهذب الأذواق ويجدد النفس ويخلق صورة طيبة للتعامل الاجتماعي بين الرجل والمرأة، وهو ما يفتقده الأدب الغربي في مراحله الأخيرة هذه بعد أن خضع خضوعاً خطيراً لنزعات الجنس والإباحيات والفحش والعرى ومذاهب الغربة والقلق والتمزق. ولعله يوجد في الأدب الغربي كثير من الآداب ما يرقى الذوق ويهذب النفس ولكن مترجمينا لا يطلبون هذا ولا يرضون ترجمته وإنما يترجمون تلك الآثام وتلك السموم لأنها تروج في سوق التجارة فيكسبون منها مالاً ويتركون شرورها في عقول المسلمين والعرب وفي قلوبهم ولقد كان واضحاً تماماً أن حاجتنا إلى الترجمة من الغرب هي في مجال العلوم التجريبية والطبيعية والطب والجغرافيا والفلك والتنولوجيا فهذه هي الميادين التي تقدم لنا ما يدفعنا إلى النهضة والقوة وامتلاك إرادة الحياة، أما ما يتصل بالمفاهيم النفسية والاجتماعية والأخلاقية وما يتصل بالفنون والقصص والآداب فذلك ما لسنا في حاجة إليه لأن لكل أمة آدابها وقيمها.
ولقد كان لنا دائماً نظرتنا في مجال نقد الأدب وفي مجال الفنون ولنا مفاهيمنا الاجتماعية والأخلاقية في مجا الاقتصاد والسياسة والتربية ولنا مفهوم متكامل جامع هو بمثابة نظام مجتمع ومنهج حياة فلماذا تحاول حركة الترجمة، والقائمون عليها تدمير هذا النظام والتشكيك فيه وذلك بترجمة كل ما يعارضه وما يختلف معه، بل وما رماه به المستشرقون من اتهامات وشبهات. الحق أن خطة الترجمة آثمة أشد الإثم، وعملية وخاطئة.(28/14)
والواقع أننا يجب أن نعرف الفكر الغربي ونرد عليه، نعرفه على أنه فكر أمة أخرى غير أمتنا وأنه يحمل وجهة نظر أخرى تختلف كثيراً عن وجهة نظرنا وقد نلتقي في بعض الجزئيات ولكنا يجب أن نكون مؤمنين أشد الإيمان بمنهجنا الرباني المصدر الإنساني الاتجاه الجامع المتكامل الذي يستهدف بناء الحياة من أجل الخير والعدل والحق واستخلاف الإنسان في الأرض من أجل إسعاد البشرية كلها، وأن نقف موقف المعارضة لكل ما يحاول أن يفسد هذا المفهوم أو يزيفه أو ينقلنا إلى طوابع تغلب عليها الأنانية أو الإباحية أو الاستعلاء العنصري أو الظلم أو الاستبداد او تملك مفاتيح العلوم والتكنولوجيا وقصرها على أمة لعبثها وحرمان البشرية كلها منها.
وإننا يجب أن نحرص على حماية شخصيتنا الإسلامية وذاتيتنا القرآنية من أن تنصهر في العالمية أو تندمج في الأممية أو يحتوي في ذلك الركام البشري الزائف ولما كنا في مرحلة من مراحل حياتنا لا تزال قوى الاستعمار والصهيونية والماركسية تحيط بنا وتحاول احتواءنا والسيطرة علينا وما زلنا في جهاد عنيف لكل قوى الغزو فإننا أشد ما نكون في حاجة إلى أن نقف من الفكر الوافد موقف الحيطة والحذر فإن أغلب ما يكتب عنا فيه مكتوب بروح التعصب والحقد والرغبة في إزالتنا وتدميرنا وأغلب ما يكتب عن أهله يمثل مرحلة متأخرة من مراحل الحضارة الغاربة المعزولة في مفاهيمها وقيمها البعيدة عن روح الله، المعزولة عن دين الله المنكرة للقيم الربانية الهازئة بالأخلاق الدينية ولنضع تجربة المسلمين الأولى أمامنا، هؤلاء الذين رفضوا أن ينقلوا الوثنيات والماديات والإباحيات ورفضوها رفضاً تاماً والذين واجهوا ما ترجم من الفلسفات مواجهة صارمة فكشفوا زيفها وأجلوها وخلصوا المجتمع الإسلامي من الفرق الضالة والمذاهب الهدامة وأقاموا المنهج الإسلامي الأصيل: منهج أهل السنة والجماعة.(28/15)
مصححوا المفاهيم: الغزالي، ابن تيمية، ابن حزم، ابن خلدون
الأستاذ أنور الجندي
أولاً:
في مراجعة لتطور الفكر العربي الإسلامي يلتفت النظر بقوة إلى عدد من الشخصيات البارعة، ذات الطابع القوي الواضح، في مقدمتهم ابن حزم والغزالي وابن تيمية وهم يمثلون مرحلة تالية لمرحلة بناء السنة والفقه والعقائد:
فقد عرف الفكر الإسلامي في مجال بناء السنة وتحقيقها: البخاري ومسلم. وفي مجال بناء الفقه: مالك وأبو حنيفة والشافعي وابن حنبل.
وفي مجال العقيدة: الأشعري والجويني.
أما أمثال ابن حزم والغزالي وابن تيمية فلم يكونوا متخصصين في منهج من هذه المناهج العلمية ولكنهم كانوا شيئاً آخر يمكن أن يطلق عليه اسم "مصححوا المفاهيم ومجددوا بناء الفكر الإسلامي" وتلك مهمة ضخمة لم يتصدر لها إلا قليل، من أبرزهم هؤلاء العمالقة الذين ظهروا في مراحل مختلفة متوالية وفي فترة من أدق فترات تبلور الفكر الإسلامية وسعيه إلى بناء منهج شامل يضم مختلف التيارات ويشجب مختلف الانحرافات التي أثارتها الدعوات الباطنية والمخاصمة للإسلام أساساً، هو منهج أهل السنة والجماعة.
ويمثل كل منهم تحدياً واضحاً لخطر من أخطار الغزو المتصل من المذاهب والدعوات المعارضة، كما يبدو منهج كل منهم في كلمة واحدة هي: "التماس مفهوم القرآن أساساً" شجباً لكل انحراف يحاول أصحابه صرف الفكر الإسلامي عن مجراه الأصيل ومنهجه الطبيعي.
كان المفهوم الذي دافع عنه ابن حزم هو: الوقوف عند النص في مقابل الإسراف في تجاوزه والمبالغة في الاستنساج منه وتحميله الكثير المختلف مما يحتمل وما لا يحتمل - على حد تعبير الأستاذ طه الحاجري - فقد استفاضت في عصره نزعة تدعو إلى التوسع في تحميل آيات القرآن ما تطيق وما لا تطيق واجتلاب الأخبار والآراء من هنا وهناك والتكثر من ذلك لإقحامها في تفسير القرآن.(29/1)
فدعوة ابن حزم أساساً: معارضة التأويل والتماس المفهوم القرآني الواضح والوقوف عنده. وقد رأى ابن حزم أن القياس والرأي قد بدعدا بين المفهوم الأساسي، وبين التفسير الذي وصل إليه الفقهاء، وأن ذلك كان مصدر الفساد الذي تعرضت له الحياة الاجتماعية في بيئته الأندلسية، فكانت دعوته هي صدى تيار القياس الذي أصبح وسيلة سهلة في أيدي بعض الفقهاء تكاد تخرج بالناس عن الحدود والضوابط التي رسمها القرآن، لتبرر أوضاع الحضارة والحياة الاجتماعية التي خرجت عن مبادئ الأخلاق والضمير في قرطبة.
وقد رأى ابن حزم أن القياس والاستحسان قد خرجا عن الحدود التي وضعت لهما بحيث أصبحت الأمور أشبه "بالفوضى التي لا ضابط لها".
وقد رسم ابن حزم مفهومه على هذا النحو:
"جملة الخبر كله أن تلزموا ما نص عليه ربكم تعالى في "القرآن" بلسان عربي مبين، لم يفرط فيه من شيء، وما صح عن نبيكم صلى الله عليه وسلم برواية الثقات من أئمة أصحاب الحديث رضي الله عنهم، مسنداً إليه عليه السلام، فهما طريقان توصلكم إلى رضى الله عز وجل. وأعلموا أن دين الله ظاهر لا باطن له، وجهر لا سر تحته، كله برهان لا مسامحة فيه، واتهموا كل من يدعو إلى أن يتبع بلا برهان، وكل من إدعى للديانة سراً وباطناً فهي دعاوى ومخارق، وأعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكتم من الشريعة كلمة فما فوقها ولا أطلع أخص الناس به من زوجة أو ابنة أو عم أو ابن عم أو صاحب، على شيء من الشريعة كتمه عن الأحمر والأسود ورعاة الغنم، ولا عنده عليه السلام سر ولا رمز ولا باطن، غير ما دعا الناس كلهم إليه، ولو كتمهم شيئاً لما بلغ كما أمر، ومن قال هذا فهو كافر، فإياكم وكل قول لم يتبين سبيله، ولا وضع دليله ولا تخرجوا عما مضى عليه نبيكم صلى الله عليه وسلم.(29/2)
ويقول: إن كلام الله تعالى واجب أن يحمل على ظاهرة ولا يحال عن ظاهره البتة، إلا أن يأتي نص أو إجماع أو ضرورة على شيئاً منه ليس على ظاهره، وأنه قد نقل عن ظاهره إلى معنى آخر فالانقياد واجب علينا لما أوجبه ذلك النص أو الإجماع أو الضرورة، لأن كلام الله تعالى وأخباره وأوامره لا تختلف، والإجماع لا يأتي إلا بحق، والله تعالى لا يقول إلا الحق، وكل ما أبطله برهان ضروري فليس بحق.
وقد كشف ابن حزم عن جوهر رأيه ومفهوم في موسوعته الضخمة "المحلى" واستطاع أن يجدد شباب الفكر الإسلامي والفقه الإسلامي وأن يقدم آراء ناصعة جديدة دفعت تيار الثقافة الإسلامية إلى الأمام وأعادت صياغة مفهوم الفكر العربي الإسلامي على نحو يجري مع العصر المتطور والبيئة المتغيرة دون أن يخرج عن أرضيته الأساسية وقاعدته الأصيلة.
ومن اجتهاده الذي جدد به الفكر الإسلامي قوله:
إن كل مسلم عاقل بالغ من ذكر أو أنثى، حر أو عبد تلزمه الطهارة والصلاة والصيام فرضاً بلا خوف من أحد من المسلمين، وتلزم الطهارة والسلاة المرضى والأصحاء، ففرض على كل من ذكرنا أن يعرف فرائض صلاته وصيامه، وكذلك يلزم كل من ذكرنا أن يعرف ما يحل له ويحرم عليه من المآكل والمشارب والملابس والفروج والدماء والأموال والأعمال فهذا كله لا يسع جهله أحد من الناس، ويجبر الإمام أزواج النساء وسادات الأرقاء على تعليمهم ما ذكرنا، أما بأنفسهم وإما بالإباحة لهم لقاء من يعلمهم، وفرض على الإمام أن يأخذ الناس بذلك وأن يرتب أقواماً لتعليم الجهال.
ثانيا:(29/3)
في مجال الفكر الإسلامي نجد دعاة ومجددون ينتظمون تاريخه كله، أما الدعاة فهم أولئك الأبرار الذين ينطلقون في الأرض ينشرون كلمة الله ويذيعونها في الآفاق. وقد حقق هؤلاء نتائج بالغة الأثر والأهمية وتم على أيديهم طوال تاريخ الإسلام دخول عدد كبير في الإسلام. لم تكن أداتهم في ذلك غير شخصية مؤمنة في التعبير عن عقيدة سمحة يسيرة، تؤدي القدوة فيها عملاً أضخم من كل كلام في الإقناع بشخصية المسلم.
أما المجددون ومصححو المفاهيم فقد حفل بهم تاريخ الفكر الإسلامي، ولم ينقطع تواردهم في كل عصر، وبيئة، يدعون الناس إلى التماس قيمهم من القرآن أساساً، ويردون على الشبهات المثارة، ويصححون المفاهيم التي تكون قد انحرفت نتيجة دخول مفاهيم غريبة عليها في محاولة للقضاء على القيم الأساسية التي يتسم بها الفكر الإسلامي.. وفي مقدمة هؤلاء ابن حزم والغزالي وابن تيمية..
أما ابن حزم فقد جابه موجة الجمود والتقليد التي كانت تسود عصره، وجدد الفكر الإسلامي ملتمساً أصوله من القرآن والسنة الصحيحة. وآراؤه واعية إيجابية قوامها الصراحة والاحتكام إلى العقل ومقاومة التقليد.
أما "الغزالي" فقد واجه عناصر عديدة من خصوم الفكر الإسلامي كالباطنية والدهرية وفلاسفة الإلهيات وعلماء الكلام وشجب مفاهيمهم جميعاً وأعلن أن أسلوب القرآن هو أعلى الأساليب وأبلغها وأدقها وأقربها إلى مختلف العقول والنفوس، وأنه أصدق من أسلوب المتكلمين وأنفع وأعم وأشمل للطبقات والمستويات الفكرثية المختلفة، وإن علم الكلام علاج مؤقت، نشأ في ظروف معينة للرد على شبهات وشكوك مثارة، ولا حاجة للطبائع السليمة والعقول المستقيمة إليه، أما "القرآن" فالغذاء الصالح والماء السائغ يحتاج إليهما كل إنسان وينتفع به آحاد الناس ويستضر به الأكثرين.
وواجه الغزالي الفلسفة فأثبت حقها في مجال الفلسفة الطبيعية والرياضيات وهاجم "الفلسفة الإلهية" وحدها.(29/4)
وقال أن أغلب هذه العلوم (الفلسفة) الطبيعية والرياضية) أمور برهانية وأنه لا يخدم الإسلام إنكارها، وليس في الشرع تعرض لهذه العلوم بالنفي أو الإثبات ولا في هذه العلوم تعرض للأمور الدينية.
أما الفلسفة الإلهية ففيها أكثر أخطائهم، وقال أنهم ما قدروا على الوفاء بالبراهين على ما شرطوه في المنطق ويرجع ذلك إلى أن الإلهيات ليست كالعلوم الأخرى (الرياضة والطبيعة) وليس لها مقدمات ومحسوسات ومبادئ و "لهذا كثرت فيها أغلاطهم وتخيلاتهم" وقال إن خطر الفلسفة على أذهان الناشئة هو أن "يجدوا أصحابها لامع رزانة عقولهم وغزارة عملهم منكرين للشرائع والنحل جاحدين لتفصيل الأديان والملل، وقد ألحدوا وأنكروا الدين تطرفاً وتكايساً" ووجه هدفه إلى "تهافت عقيدة فلاسفة اليونان" وتناقض كلمتهم فيما يتعلق بالإلهيات وأن هذه المسائل ليست حقائق علمية:
وحصر الغزالي خلافه معهم فثي ثلاث مسائل:
ققولهم بقدم العالم.
قولهم بأن الله – سبحانه وتعالى – لا يحيط علماً بالجزئيات الحادثة من الأشخاص.
إنكارهم بعث الأجساد وحشرها.
وقال إن هذه المسائل الثلاثة لا تلائم الإسلام بوجه.
ومن هنا فإن الحملة دوماً إلى الغزالي بأنه خصم الفلسفة هي دعوى باطلة، وإنما هاجم الغزالي "الفلسفة الإلهية الإغريقية الوثنية" التي لا تتفق مع عقيدة التوحيد، وكشف عن أثر هذه الفلسفة في نفوس من يتمسحون بها ليثيروا الشكوك والأوهام حين ينكرون الأديان والشرائع. ولم يهاجم الغزالي إلا ما يصادم استدلالهم وتناقضهم واختلافهم وتهافت عقيدتهم.
وقد استطاع الغزالي بقدرته الفكرية العريضة يستصفي الفكر الإسلامي من الدعوات المنحرفة التي اتصلت به عن طريق الشعوبية والباطنية في محاولة لتغيير مفهومه أو هدم مقوماته. فرد على كل هذه الفرق، وكشف عن دسائسها وشبهاتها الخفية الدفينة.(29/5)
وكان مجمل دعوته التماس مفهوم الفكر الإسلامي والمجتمع الإسلامي في القرآن نفسه باعتباره المصدر الأصيل الذي بدأت منه رحلة الفكر نفسه، وبحسبان أن منهجه وأسلوبه هو أصفى الأساليب وأقومها وأبسطها وأبعدها عن التعقيدات فضلاً عما له من "منطق" خاص، يتصل بالفطرة والذوق – وبذلك أعاد الغزالي صياغة الفكر الإسلامي من جديد.
وقد اختار الغزالي منهج "التعليم والثقافة" بدلاً من أسلوب "الجدل الكلامي" وناقش المسائل على أساس "العقل المتأدب بالشرع".
وهو يمزج علم النفس بالأخلاق والدين ويرى أن هدف الدراسات النفسية هو أن تكون وسيلة إلى تهذيب النفس ويرى أن دوافع السلوك في الإنسان هي: الطعام والجنس والمال والجاه.
وقد سبق الغزالي بهذا الرأي ما ذهب إليه فرويد وإدلر وأولهما رد السلوك الإنساني إلى الغريزة الجنسية والثاني رده إلى غريزة السيطرة.
وإذا كان الغزالي قد واجه مشكلات عصره ووضع النهج القويم لعلاجها، فإنه من خلال ذلك قد
واجه أكبر معضلات الفكر الإسلامي كله وهو العمل على تكامل الفكر الإسلامي بالتقاء الفقه بالتصوف والفلسفة والدين والعقل والقلب. وقد عمل الغزالي على إطلاق الحركة للعلم والفلسفة والعقل داخل إطار الفكر الإسلامي لا خارجه.
ويرى الغزالي أن للعقل مهمة كبرى لاشك فيها ولاريب، هي إدراك التناقض في الآراء والقضايا النظرية واستبعاد الأحكام المتناقضة في ميدان العلم وفي ميدان الآراء الدينية.
وبالجملة فإن الغزالي قد أعاد صياغة الفكر الإسلامي من جديد ملتمساً مصدره الأساسي من القرآن الكريم: "عقيدة وعبادة ومعاملة وخلقاً".
ثالثاً:
من أهم قوانين الفكر الإسلامي ظهور مصلح مجدد، يصحح المفاهيم كلما اضطربت ويعيد بناء هذا الفكر من خلال مفهوم "القرآن" نفسه بحسبانه حجر الأساس والمصدر الأصيل لمفاهيم الإسلام.(29/6)
وقد ظهر عدد من هؤلاء المصلحين والأئمة والمفكرين على فترات متعددة خلال حركة التاريخ الإسلامي والفكر الإسلامي في مقدمتهم: ابن حزم والغزالي وابن تيمية.
واجه الغزالي تحديات الغزو الصليبي بإعادة صياغة الفكر الإسلامي على أساس "الوسطية والتكامل" بصهر الاتجاهين اللذين كانا يسودان الفكر الإسلامي ويحاول كل منهما ان يعتبر نفسه ممثلاً للإسلام دون الآخر: الفقه والتصوف. أما الفقهاء فقد كانوا يقفون عند حدود النصوص، بينما كان الصوفية يحاولون تجاهل النصوص فلما جاء الغزالي مزج الفقه بالتصوف، والعقليات بالروحيات، وفق مفهوم الإسلام نفسه تكاملاً بينهما ووسطية بعيداً عن الجمود والانحراف، ثم سرى منهجه وتوسع، غير أن سقوط بغداد في أيدي المغول والتتار في منتصف القرن السابع كان بعيد الأثر في غزو فكري جديد – فقد سيطرت مرة أخرى انحرافات جديدة في مجال مفهوم التوحيد بالذات وغلبت الدعوة إلى الحلول والاتحاد بانحراف يتعارض مع مقومات الإسلام وأصوله.
وكانت الفلسفة الباطنية المعادية للسنة – التي هي أساس الإسلام – هذه الفلسفة قد خلقت مفاهيم جديدة أخذت تزداد قوة على مرور الزمن وتحاول أن تغلف قيم الإسلام الأساسية حتى كانت هذه المفاهيم المنحرفة أن تأخذ مكان المفهوم العقائدي الصحيح.
وكان الغزو الشعوبي يعمل أصلاً على تدمير أعظم حصون الإسلام والفكر الإسلامي وهو "التوحيد" ومن ثم فضت البدع والمحدثات، وغلبت أفكار الفلسفات اليونانية وأفكار المجوسية وتغلغلت في العقائد والعبادات وألوان السلوك ولاسيما في مجال التصوف وما يتصل به من رموز ودعاوى وتلبيسات، وغلبت على العلماء نزعة التقليد مع التعصب المذهبي، وكانت الأفكار الوافدة من الفلسفات الهندية واليونانية حول الحلول والاتحاد من أخطر هذه الآراء.
وكان معنى هذا كله انحراف مفهوم الإسلام انحرافاً خطيراً عن "القيم الأساسية في القرآن" وهي حجز البناء في الفكر الإسلامي الغربي.(29/7)
وأصبح التحدي الناتج عن هذا الركام الهائل من الأفكار والمذاهب والفلسفات الدخيلة دافعاً إلى ظهور مصلح جديد متكامل الفهم للإسلام (عقيدة وشريعة وأخلاق) قوي العزيمة والإرادة لتمزيق هذه الشبهات ودحض المحاولات المتوالية لصبغ الفكر الإسلامي بلون غريب بعيد عن طابعه الأصيل. وكان تقي الدين أحمد بن عبد الحليم الشهير بابن تيمية وهو حامل لواء الوسطية في مواجهة الانحراف، والتكامل في مواجهة التجزئة. والحركة في مواجهة الجمود. وفق سنة ثابتة وقانون صارم يتمثل في مجرى الفكر الإسلامي منذ نزال القرآن، ويسجري وفق إعادةت صياغة الفكر الإسلامي على أساس مضامين القرآن وأسسه الأصلية.
وقد هاجم ابن تيمية كل انحرافات الفكر الإسلامي الخارجة عن مفهوم القرآن، وأعلن أن الأساس الأصيل لهذا الفكر إنما يتمثل في الكتاب (القرآن) والسنة مفسرة له وموضحة. وقال أن الكتاب (القرآن) ليس علم عقائد بالخبر والنقل وحسب، بل بالدليل والبرهان. وأن النبي فسر القرآن كله لأنه هو الذي عليه أن يبينه ويوضحه، وبيانه من أركان تبليغ الرسالة.
وقد تلقى الصحابة تفسير القرآن كله وعلمه كله، وعلى الإنسان ألا يتبع إلا الدليل من الكتاب أو السنة أو آثار السلف الصالح، ويستأنس بأقوال التابعين أساساً وربما جاز التقليد في فروع الدين من غير أصوله لأن العقيدة أصل الدين.
ويرى ابن تيمية أن "منهاج القرآن" ليس هو منهج الفلاسفة ولا المتكلمين ولا الماتريدية ولا الأشاعرة، بل هو غيرها، لأن العقائد لا تؤخذ إلا من النصوص ولا تؤخذ أداتها إلا من النصوص، فأصحاب هذا المنهج يؤمنون بالنص وبالأدلة التي يؤمئ إليها النص، لأنه وحي أوحي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأن الأساليب العقلية المنطقية مستحدثة في الإسلام ولم تكن معروفة قطعاً عند الصحابة والتابعين.(29/8)
ولا سبيل إلى معرفة العقيدة والأحكام وكل ما يتصل بها إلا من "القرآن" والسنة المبينة له والسير في مسارهما، فما يقرره القرآن وما تشرحه السنة مقبول لا يصح رده، فليس للعقل سلطان في تأويل القرآن وتفسيره أو تخريجه إلا بالقدر الذي تؤدي به العبادات، وسلطان العقل هو في التصديق والإذغان، وبيان تقريب المنقول من المعقول. وعدم المنافرة بينهما، فالعقل يكون شاهداً لا حاكماً ويكون مقرراً ومؤيداً لا لا ناقصاً ولا رافضاً ويكون موضحاً لما اشتمل عليه القرآن في الأدلة.
هذا هو "منطق القرآن" الذي ينطلق منه مفهوم الفكر الإسلامي وهو غير منطق أرسطو الذي سيطر فترة ما، وعند ابن تيمية أن منهج الفلاسفة مضطرب حين سعوا إلى بناء طريقهم على ترتيب الإقيسة العقلية فقد فاتهم إن العقل وحده عاجز عن درك حقائق الدين، ولابد من النص، وعنده أن العقل يتجه إلى القرآن ويتفهمه بالفكر، أي بموازنة آيات القرآن بعضها ببعض، فيكون تأويل القرآن من القرآن، لا من أقوال الفلاسفة والمتكلمين. ويأخذ ابن تيمية على الفلاسقة طريقهم في التفكير والمقدمات التي يبنون عليها النتائج التي وصلوا إليها. ويرى أن القرآن والسنة قد أشارا إلى "المقدمات" التي تهدي إلى سواء السبيل.
وجملة منهج ابن تيمية: "إن الفساد لم يأت من قبل النصوص فهي حق في معناها ولا تحتاج إلى تأويل، وإنما جاء من حملها على معان فاسدة ليست معانيها المرادة بها" وبذلك حرر ابن تيمية الفكر الإسلامي من الأزمة التي مرت به حين يقوم من يدعو إلى رأي منحرف فيستغل النصوص ويلوي أعناقها والإسلام بعد ذلك سمح رحب، سائر بالحياة، متصل بها، مفتوح الآفاق على الفكر الإنساني كله.
رابعاً:(29/9)
يرى الكثيرون أن "ابن خلدون" لا يعدو كونه مؤرخاً إسلامياً، أو واضع علم الاجتماع الإسلامي، وتلك حقيقة أعترف بها عدد كبير من الباحثين الغربيين المنصفين، بعد أن أنكره بعض أهله من الباحثين العرب وأوسعه ذماً وانتقاصاً وهو طه حسين.
غير أن ابن خلدون لا يرى منفصلاً عن مجرى الفكر الإسلامي. ولا يمكن تناوله إلا من خلال تحديات عصره وجيله. فقد جاء ابن خلدون في القرن الثامن الهجري وقد تغير "عالم الإسلام" تغيراً كاملاً، بعد أن مرت به جحافل الصليبيين والتتار وصارعته وبعد أن غلب عليه طابع جديد: ساير مرحلة العصر العثماني غلب فيه الجانب العقلاني، وبدأ كأنما يواجه الفكر الإسلامي أزمة من أزماته.
وقد كان ابن خلدون على مستوى الثلاثة الكبار (ابن حزم والغزالي وابن تيمية) في تجديد الفكر الإسلامي حين هاجم أسلوب الجدل اللفظي والمماحكات اللفظية في التأليف والشرح والتعليم، وأنكر منهج التقليد ودعا إلى التماس منابع الفكر الإسلامي في الإسلام نفسه. وأنكر الطريقة التي شاعت في عصره.. طريقة الجمع والاختصار واعتماد كل العالم على علوم من سبقه والوقوف عندها. ودعا إلى طريقة التماس المصادر الأساسية، وعقد في مقدمته فصلاً هاجم فيه كثرة الاختصارات المؤلفة في العلوم وقال إنها مخلة بالتعليم، ونقد التعليم في عصره وبين الطرق الصالحة فيه، وهو أخطر الأدواء التي عرفها عصره.
وكان ابن خلدون على قدر وافر من الإحاطة بالحركة العلمية في العالم الإسلامي كله، فلم يتقوقع ويقف عند بيئته وحدها، بل أحاط وواصل الإحاطة بكل الحركات العلمية في بلاد المسلمين من مشرقها إلى مغربها وفي بلاد أوربا أيضاً.
وقد كان ابن خلدون وسطاً بين رأي ابن رشد في الفلسفة ورأي الغزالي في التصوف فلم يذهب إلى الفلسفة ذهاب ابن رشد ولم يعارض التصوف وأخذ فيه بمنهج الغزالي.(29/10)
وإذا كان الفكر الغربي قد أفاد من حصيلة الفكر الإسلامي في مجال "منهج العلم التجريبي، الذي أنشأه المسلمون، فإن عصارات ضخمة من الفكر الإسلامي في مجال الاجتماع والاقتصاد والسياسة والتربية قد حصل عليها الفكر الغربي وحاول الإدعاء بأنه مبتدعها أصلاً وكتابات ابن سينا والغزالي وابن خلدون والماوردي وعشرات غيرهم قد كانت (الأصول المؤصلة) لعشرات من النظريات العلمية الحديثة في مجال الفكر.
وآراء ابن خلدون في طليعة هذه الحصيلة فهو:
أولاً: اكتشف نظرية الأجيال الخاصة بظهور الأسرار ونهضوها قبل أن يعرفها (أوتوكار لوتيس) في أواخر القرن التاسع عشر.
ثانياً: عرف ابن خلدون قانون (التشبه بالوسط) قبل أن يعرفه العالم الطبيعي (دارون) بخمسة قرون.
ثالياً: اكتشف مبدأ وجود المادة قبل أن يكتشف ذلك العالم الألماني أرنست هيجل بأكثر من خمسة قرون أيضاً.
رابعاً: سبق ميكافيلي ومونتسكيو وفيكو في وضع أصول الاجتماع.
خامساً: اكتشف مبادئ العدالة الاجتماعية قبل كونسبدران وماركس وباكوتين بخمسة قرون.
سادساً: اكتشف مبدأ الحتمية الاجتماعية قبل رجال الفلسفة الإسبانية وعلم النفس بقرون عديدة. وقبل مونتسكيو. وأعلن تبعية المجتمعات لقوانين ثابتة في القرن الرابع عشر الميلادي.
سابعاً: أدرك أن علم الاجتماع يضم مظاهر كثيرة كعلم السياسة والاقتصاد والعلم والتعليم وبعد بخمسمائة عام قال الفكر الغربي أن العلوم كلها مظاهر من علم الاجتماع.
ثامناً: قوى من الروح التجريبية والنظر العلمي الواسع الأفق.
خامساً:
الإمام الغزالي – البحث عن الحقيقة:(29/11)
"... وكان قد ظهر عندي أنه لا مطمع في سعادة الآخرة إلا بالتقوى، وكف النفس عن الهوى. وإن رأس ذلك كله قطع علاقة القلب عن الدنيا بالتجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود. والإقبال بكنة الهمة إلى الله تعالى. وإن ذلك لا يتم إلا بالإعراض عن الجاه والمال والهرب من الشواغل والعوائق. ثم لاحظت أحوالي فإذا أنا منغمس في العلائق، وقد أحدقت بي من جميع الجوانب، ولاحظت أعمالي وأحسنها التدريس والتعليم، فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة ولا نافعة في طريق الآخرة، ثم تفكرت في نيتي في التدريس فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت، فتيقنت أنني على شفا جرف هار، وأني قد أشرفت على النار، إن لم أشتغل بتلافي الأحوال، فلم أزل أفكر فيه مدة، وأنا بعد على مقام الاختيار، أصمم العزم على الخروج من بغداد، ومفارق تلك الأحوال يوماً، وأحل العزم يوماً، وأقدم فيه رجلاً وأوخر عنه أخرى، لا تصدق لي رغبة في طلب الآخرة بكرة، إلا ويحمل عليها جند الشهوة حملة فتغيرها عشية، فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام، ومنادي الإيمان ينادي الرحيل الرحيل، فلم يبق من العمر إلا القليل، وبين يديك السفر الطويل، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل، فإن لم تستعد من الآن للآخرة فمتى تستعد؟ وإن لم تقطع الآن هذي العلائق فمتى تقطع؟ فبعد ذلك ينبعث العزم على الهرب والفرار. ثم يعود الشيطان ويقول: هذه حالة عارضة، وإياك أن تطاولها فإنها سريعة الزوال، فإن أذعنت لها وتركت هذا الجاه العريض، والشأن المنظوم الخالي من التكدير والتنغيص، والأمر المسلم الصافي من منازعة الخصوم، ربما لا يتيسر لك المعاودة. فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة قريباً من ستة أشهر، آخرها رجب سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى حد الاضطرار، إذ قفل الله علي لساني(29/12)
حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوماً واحداً تطبيقاً لقلوب المختلفين إلى، فكان لا ينطلق لساني بكلمة ولا أستطيعها البتة، ثم اورثت هذه العقلة في اللسان حزناً في القلب، بطلت معه قوة الهضم، وقرب الطعام والشراب، فكان لا تستساغ لي شربة ولا تنهضم لي لقمة، وتعدي ذلك إلى ضعف القوى، حتى قطع الأطباء طمعهم في العلاج. وقالوا هذا أمر نزل بالقلب، ومنه سرى إلى المزاج، فلا سبيل إلى العلاج".
هذا هو أعظم حادث، على وجه التحقيق، في حياة الإمام الغزالي، تحولت به نفسه وعقله وحياته من وضع إلى وضع. وهذه الصفحة من مذكراته تكشف عن طبيعته وكيف أخذت تنتقل حثيثاً من الفلسفة
إلى التصوف، إذ خلع "الغزالي" على أثر هذه "العقلة" رداءه الذي اتشح به أربعين سنة، وترك العلم، وهجر بغداد، وساح في الأرض حتى بلغ منارة مسجد دمشق، وبينها وبين الصخرة في بيت المقدس وضع أعظم آثاره، وأجل مؤلفاته: "إحياء علوم الدين" الذي كان بعيد الأثر في تاريخ الفكرة الإسلامية.
واستطاع الغزالي بكتابه "الإحياء" أن يفصل في القضية التي ظلت أكثر من ثلاثة قرون موضع الخلاف بين أنصار الفقه وأنصار التصوف.
هذه القضية التي وصل فيها الخلاف أشده وأقصاه، واتسعت فيها شقة الجدل، وبلغت المساجلات إلى أبعد حدود الهجاء والصراع.
كل من الفقهاء والمتصوفة يرى نفسه على الحق، وقف الفقهاء ينقضون آراء الصوفية ويرونها زيفاً في الدين، وقال الصوفية أن الفقهاء لا يؤمنون إلا بظاهر الشرع.
ثم جاء الغزالي فحسم المسألة، وفصل في القضية، وقضى بأن الفقه والتصوف ليسا شقين للإسلام، وأنهما لا سصطدمان ولا يختلفان، وكان كتاب "الأحياء" صورة واضحة لهذا الفهم الجديد.
مفتاح حياة الإمام الغزالي هو البحث عن "الحقيقة". وقد كلفه هذا مشقة وأهوالاً كباراً، فقد قضى زهرة عمره باحثاً منقباً، مسافراً متنقلاً، حتى وصل أخيراً.(29/13)
حاول الوصول إلى "الحقيقة" عن طريق العقل والمنطق والفلسفة. ثم حاول ذلك عن طريق العلم والتصوف والروحية، وظل بين موجات الشك العاصفة، ولمعات اليقين الصادقة، خلال فترة شبابه الحاد القوي.
وكان في قلب بغداد وفي صدر المدرسة النظامية، يتألق كعالم، ولكنه كان في صميم نفسه يقاسي موجة عاصفة من الشك، وكان المنطق والعلم يضيقان بما يريد من فهم "كنه" الحياة.
وإذا به فجأة، وعلى غير انتظار، ينقطع عن الدرس، وينعقد لسانه عن الكلام وينصرف عن الطعام، ويدخل في مرحلة عجيبة من الغيبوبة والتهويم.
ولم يجد مخرجاً من هذا الحرج إلا أن يذهب إلى الحجاز، ويترك التدريس، ويدخل الخلوة، ويعكف على الرياضة الروحية.
وكانت هذه "الأزمة"، ولاشك، قمة حياته العلمية التي أوشكت على الانتهاء، ليبدأ حياة تقوم على الوجدان والروحية والتصوف.
ثم ترك الحجاز إلى دمشق، واعتكف في منارة الجامع الأموي، ولبس الثياب الخشنة، وزهد في الطعام والشراب، فلم يكن يأخذ منهما إلا القليل الذي يتبلغ به.
وانتقل إلى دمشق إلى بين المقدس واعتكف في المنارة الغربية من المسجد الأقصى، وقضى بها وقتاً طويلاً كتب فيه أصول كتابه الضخم "إحياء علوم الدين".
ثم رحل إلى الإسكندرية، فأمضى بها فترة من الزمان، وفي هذه الرحلة الطويلة تبلورت نفس الغزالي وتفتحت لفهم الحقيقة. وانتهت الأزمة النفسية الضخمة التي ألمت بهذه الشخصية الكبرى.
ويبدو الإمام الغزالي خلال هذه الأزمة بصورة الرجل الذي يستهدف الوضوح، ويتجه إلى النور، والذي يصر على أن يصل إلى ما يريد دون أن يعبأ أو يضيق بما يكلفه ذلك من أهوال.
وفي سبيل الغاية التي وطن عليها نفسه هاجر وانتقل وطوف، وقضى أكثر من عشر سنوات في ذلك الطواف.
خرج وهو قمة الشك والاضطراب وانعقاد اللسان، وعاد وقد انجابت عنه الأزمة، وتفتح له طريق اليقين.(29/14)
وكسب التراث الإسلامي من أزمة الغزالي هذا الكتاب القيم "الإحياء" لالذي يعد الآن، وبحق، منار الراغبين في العلم والفقه والتصوف جميعاً.
وقد هداه طول البحث إلى حل أزمتين: أزمة نفسه، وأزمة الفكرة الإسلامية. فهو حين قضى على الصراع النفسي الداخلي في أعماقه قضى أيضاً على الخلاف الذي نشب طويلاً بين الصوفية والفقهاء، وامتد زمناً، واتسعت معه شقة الجدال والسجال. فمزج بين الصوفية والفقه في أسلوب بارع، وطريقة واضحة.
وإن كان قد فات الغزالي أن يجمع الأنصار وإن يكون الدعاة وهو حي، فقد ظلت آثاره تجمع الأنصار طوال القرون المتوالية، وتظل دستوراً للدعاة إلى الإسلام في كل مكان.
وأبرز ما في حياة الإمام الغزالي "السفر" والترحال، وهو عند الباحثين النفسيين دليل الحيوية والقوة الروحية، لاسيما في ذلك العصر الذي كان الانتقال فيه غاية في العسر، وقطعة من العذاب.
فقد ولد بطوس، وهاجر إلى جرجان في مطلع شبابه، حيث اتصل بالعلماء، ثم عاد كرة أخرى إلى طوس وانقطع للعلم. ثم ضاق بها، فرحل إلى نيسابور، واتصل بالإمام الجويني، فأخذ عنه مذاهب الجدل والأصول والمنطق.
ومضى يدرس إلى أن قضى أستاذه، ففارق نيسابور قافلاً إلى بغداد، واتصل في بغداد بنظام الملك الذي ولاه التدريس في "النظامية". وتألق نجم الغزالي في بغداد، واتسعت حلقات دروسه.
ثم جاءت القارعة، وتطورت حياته على ما وصفنا.
وكان الغزالي حرباً علمية، غاية في الصرامة والقوة والعنف، على الباطنية، فقد مزق آراءهم، وسفه أفكارهم.(29/15)
ولا يشك الباحث الذي يقرأ فصوله في السفر، والزواج، والمعاملة، والصداقة، أنه مجرب خبر الحياة، واتصل بها أوثق اتصال. هذا إلى أنه دفع التصوف بالقواعد التي قعدها له إلى السنة، ونقاه من الأخطاء التي تجمعت حوله. بل إنك لا تجانب الحق حين تقول أن الغزالي لم يدع مادة من علوم زمانه دون أن يحيط بها أو يتناولها بالدرس والنقد وقد تبلورت علومه في كتاب "الأحياء" بالذات.
ولا يزال "الغزالي" علماً من أعلام الفكر الإسلامي، كما أنه سيظل رمزاً على القوة النفسية التي تتمثل في الرجل الذي آمن بهدفه، فأمضى حياته سائحاً في سبيل الوصول إليه.(29/16)
(6)
موقف الإسلام من العلم والفلسفة الغربية
هل للفكر الإسلامي خصائص ذاتية متميزة تفرق بين دين الفكر البشري وتحول بينه وبين الانصهار في العالمية والأممية ؟
إن كثيراً مما يكتبه الباحثون في شئون الفكر والفلسفة والعلوم يحاول أن يصل إلى مسلمة تقول بأن الفكر الإسلامي هو أحد أطراف الفكر العالمي الذي تشكل في إطار الفكر اليوناني القديم والذي يسبح الآن في إطار الفكر الغربي العالمي وهذه المسلمة مرفوضة، وإن كان دعاة التغريب يرددونها ويكررونها حتى يثبتوها في الأذهان وهي في الحقيقة ليست صحيحة مطلقاً، بل وليس لها أي وجه من وجوه احتمال الصحة. وهي في غايتها محاولة للتآمر على الفكر الإسلامي وإخراجه من إطاره الخاص وطابعه المميز. ولقد يذهب البعض في التعليل الزائف والتحليل الباطل إلى القول بأن الفكر الإسلامي تأثر أو تشكل في ضوء أو في إطار الفكر اليوناني القديم (أو الفكر البشري كله هندياً وفارسياً وفرعونياً وبابلياً)، وهو الآن في نهضته الحديثة لا ضير أن يستمد من ثمرات الفكر الغربي الذي هو وليد الفكر اليوناني القديم.
وهذا القول مرفوض قطعاً، وقد كشف زيفه -عندما استعلن لأول مرة على لسان الدكتور طه حسين وقلمه- عشرات من الكتاب والباحثين.
والواقع أن "الفكر الإسلامي" هو وليد القرآن الكريم والسنة المطهرة، وأن هذا المنهج الرباني قد جاء للإسلام في صورته النهائية والكاملة والباقية بقاء البشر معلناً كلمة الله التي ألقاها إلى أنبيائه ورسله منذ بدأت رحلة النبوة والوحي بين السماء والأرض إلى أن توقفت بخاتم الرسل والرسالات والكتب.
ومن هنا فإن الإسلام جاء بالحقائق التي أرسل الله بها رسله وأنبياءه إلى الأمم، هذه الحقائق التي حرفت وغيرت وبدلت وتأولها المفسرون على النحو الذي نقلها من إطار الفكر الرباني الخالص المجرد المبرأ من كل شئ إلى الفكر البشري القائم على الهوى والمطمع والغايات الخاصة والمنحرف عن الأصل الحقيقي.(30/1)
جاء الإسلام لتقرير الحقائق الربانية الأصيلة في مواجهة الفكر المختلط، الذي كان ربانياً في أصله ثم شابته زيوف وإضافات وحذوف، ومن هنا فإن الفكر الإسلامي مستمداً من الإسلام نفسه يجب أن تكون له خصائص ذاتية مميزة تفرق بينه وبين دين الفكر البشري، وحتى تظل البشرية سائرة في ضوء الهدي؛ لأنه لا بد أن يظل قادراً على رد كل زيف أو تحريف، وإن يكن ممتنعاً عن الانصهار في الفكر البشري أو محتوى منه أو داخلاً فيه.
وذلك لأنه هو في جوهره وأصوله القرآنية الأصيلة هو الشاهد والمهيمن على اضطراب الفكر البشري وزيف التغيرات والإضافات التي أصابته على مدى الأزمان والعصور.
ومن هنا فإننا نجد الفكر الإسلامي يعارض الجمود والتعصب والتقليد ويعارض كل ما يصادم قوانين الكون ونواميس الوجود ويرى أن كل شئ يبدأ من نقطة ثابتة وينتهي إليها "الحركة في إطار الثبات" وأن كل شئ يبدأ صغيراً ثم ينمو حتى يكتمل ثم يعود مرة أخرى في دورة جديدة، وهناك ارتباط جذري بين الفكر الإسلامي واللغة العربية؛ ذلك لأن كل لغة لها منهجها القائم على معانيها ومضامينها، ولقد هاجم المسلمون المنهج الأرسطي؛ لأنه مستند إلى خصائص اللغة اليونانية التي تخالف اللغة العربية وكذلك الأمر بالنسبة للمنهج الغربي.
(2) والفكر الإسلامي لا يعمل إلا ضمن النطاق الذي رسمه القرآن وحدده، ويحكم على كل ما يواجه المسلمين في ضوء القرآن نفسه ولا يحكمون منه منهجاً آخر، وهو في نفس الوقت متفتح على الثقافات العالمية يأخذ منها ويترك، وهو لا يأخذ إلا ما ينفعه ويتفق مع طوابعه وما يزيده قوة، وكل ما يأخذه يصهره صهراً تاماً في بوتقته، ولقد حرر الإسلام أتباعه من التأثير الأجنبي بكل أنواعه ودعا إلى اليقظة إزاء محاولة تغيير المعالم الأصلية لعقيدتهم وفكرهم وثقافتهم ومزاجهم النفسي.
ويعتبر المسلمون أن كل ما يقدمه الفكر العالمي هو مادة خام يأخذون منها ويدعون دون أن يكون مفروضاً عليهم.(30/2)
ويؤمن الفكر الإسلامي بأن كل نظرية أو مذهب قام في مجتمع ما، فإنما أقامها أهلها على مقياس مجتمعهم وفي ظل تحدياته الواقعية والتاريخية معاً، فهي استجابة لظروف البيئة، ولذلك فهي سرعان ما تبدو مع مرور الزمن عاجزة عن تحقيق الهدف فيضاف إليها ويحذف منها، ولذلك فإن نقلها إلى بيئات أخرى عسير لأنها تعجز عن الحياة والنماء.
ولقد كان الفكر الإسلامي دائماً متفتحاً لثمرات الفكر البشري ولكنه كان قادراً حتى في أشد مراحل الضعف والتخلف على المحافظة على ذاتيته والحيلولة دون انصهاره في الفكر الأممي.
وقد رفض الفكر الإسلامي الفلسفة اليونانية واستعلاء الاعتزال وجبرية التصوف.
(3) والفكر الإسلامي لا يقر مفهوم "الانشطار" أو التجزئة؛ ذلك لأن الإسلام يقوم أساساً على التكامل وعلى التقاء العناصر المخلفة في كل موحد، وهو في هذا يختلف عن الفكر الغربي، كذلك لا يقر دعوة التولستوية والغاندية المتجزئة التي لا تقر مفهوم الجهاد. والإسلام يقوم على السلام والتسامح في نفس الوقت الذي يقوم فيه على المقاومة والقوة.
وللفكر الإسلامي أبعاد هامة:
(1) التكامل بمعنى وضع الجزء في مكانه من النظرية الكلية الجامعة في نظرة شاملة واعية بالحياة.
(2) العمق الزمني الذي يربط الإنسان بالتاريخ والواقع وقضايا الحياة.
(3) اتساع مكاني يربطه بالأحداث العالمية.
(4) العمق العقدي الذي يربط الإنسان برسالة السماء منذ بدئها إلى ختامها، ومنها ارتباط الأرض بالسماء، وارتباط الدنيا بالآخرة، وامتدادها إلى ما بعد الموت، بعثاً ونشوراً.
(5) تعليل الظواهر بعللها الطبيعية التي ترجع في نهايتها إلى إرادة الله.
(6) الالتزام الأخلاقي الذي هو عماد العلاقات بين القوى المختلفة، وأساسه التقوى.
ما هو العلم :(30/3)
(4) إن الخلاف بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي ليس مع العلم التجريبي ولكن مع الفلسفة، هذه الفلسفة التي أخذت إطارات العلم وحاولت أن تستعين بها على إذاعة مفاهيم المادة، وعلى الباحث المسلم أن يتنبه بأن هناك فاصلاً واضحاً وعميقاً بين العلم التجريبي وبين الفلسفة، ومن شأن هذا الفارق أن تتقبل العلم التجريبي؛ لأنه من المعرفة الإنسانية العامة، ويتحرر من تقبل الفلسفة؛ لأنها من المعطيات الذاتية الخاصة بالأمم والعقائد. والثقافات تختلف من أمة إلى أمة ومن عصر إلى عصر.
فالعلم لا ينكر وجود الله ولا ينكر الغيب، ولكنه يقصر جهده على عالم المحسوس والملموس من حيث هو تجربة مادية خالصة، ولكنه لا يدعي أنه يقدم نظرة كاملة للحياة. وقد تكشف للعلماء التجريبيين الآن بعد انفلاق الذرة أن هناك باتا قد فتح لعالم غيبي مجهول ضخم يعجز العلم بأدواته العاجزة عن اقتحامه، ولكنهم يعلمون الآن بوجوده ويقرون به.
وقد أعلن العلم أنه يعجز عن حل المشاكل، وقال العلماء أن الذهن البشري وحده لا يستطيع فهم حقائق الحياة. وقد تبين بعد طول الجهد المبذول أن العلم لا يكشف المجهول من الأسباب، ولكنه يدرس الظواهر وأنه يقوم في أول أمره على فروض، فإذا ثبتت بالتجربة أصبحت صحيحة وإذا فشلت لم تكن شيئاً.
وأهم ما تجاوزه العلم في المراحل الأخيرة اقترباً من مفهوم الدين هو تحطيم نظرية الجوهر الفرد، فإن فهم الذرة وانفلاقها قد ألغى تلك الفوارق التي تفصل بين المادة والطاقة ومن ثم أصبح معلوماً أن المادة تصبح طاقة والطاقة تصبح مادة.
والعلماء يقررون (حسب ما يقوله العلامة سبانيه في كتابه فلسفة الدين) أن ما عرفه العلماء من العلم هو جزء محدود وهو ليس إلا عدماً بالنسبة لما يجهلونه. وأن نظريات العلم نظريات وقتية مستعدة للتحوير والتغيير متى آن أوان ذلك.(30/4)
يقول كاميل فلامريون: "لقد عجز العلماء عن حل مسألة استمرار الوجود ودوامه؛ فهم مُقِرون بضرورة وجود الخالق وبتأثيره الدائم المستمر، وذلك ليمكنهم تفسير تعاقب الكائنات وإدراك سر أصول الأشياء". ويقول: "إن الروح موجودة وجود كائن مستقل عن الجسم وهي متمتعة بخصائص لم تزل للآن مجهولة لدى العلم ويمكن للروح أن تؤثر أو تتأثر من بعد".
ويقول إميل بوترو، في كتابه العلم والدين: "عجز العلم عن حل كل المشاكل، والعلم مهما تقدم فهو محدود، لا يوجد غير الدين الذي يسد الفراغ".
وبذلك كله تغيرت المفاهيم المحدودة الأولى التي اختطها الفلاسفة وبنوا عليها نظريات وأيدلوجيات: ومن النظريات الزائفة قولهم أن المادة هي أساس كل شئ، ثم قولهم أن المادة عمياء صماء، وكيف يمكن أن يكون البديع الدقيق على تنوع كائناته وتباين موجوداته مادة، أو صدفة، إن المادة منقادة بواسطة قوانين ونواميس إلى التشكل وفق نسب مقدرة، ومن هنا فقد تبين زيف القول بأن المادة ذات كيان مستقل، والمادة في مفهوم العلم الحق اليوم ليست قديمة ولا باقية، وقد خلقها الله تبارك وتعالى وتبقى إلى أجل مسمى عنده، وليس شئ في هذا العالم من الصدفة أو الضرورة. أو أنه اعتباطي بغير غاية.
وفي ضوء هذا لا نقبل التمويه بأن العلم التجريبي المتصل بالمادة يصلح لدراسة الإنسانيات، ولابد أن يكون هناك منهج آخر لدراسة النفس والأخلاق والإنسان والمجتمع، غير منهج العلوم المادية والتجريبية.(30/5)
ولقد شقيت البشرية في العصر الحديث؛ لأنها توسعت في العلوم المادية وقصرت في العلوم الإنسانية، وبذلك خلقت فجوة ضخمة وأزمة عميقة. وأصبح ذلك من أكبر الأخطار التي تواجه العالم المعاصر والإنسان الحديث، ذلك العجز عن التوازن بين مطالب الروح والفكر والنفس، المطالب المعنوية، وبين مطالب الجسد والمادة، وقد نتج عن ذلك ما تواجهه البشرية الآن من أزمة القلق والتمزق والضياع، وقد عبر عنه برجسون حين قال: "إن جسم البشرية قد تضخم تضخماً خارقاً للمادة، بينما ضعف روح البشرية وتضاءل".
ما هي الفلسفة :
ولقد حاولت الفلسفة أن تسد هذا الفراغ بتصورات مختلفة عن الكون والغيب والوجود والإنسان: لماذا جاء وإلى أين يذهب، ولكنها عجزت تماماً. عجزت لأنها حاولت أن تستعمل أسلوب العلم التجريبي فافترضت أن الإنسان مادة وحاكمته على هذا الأساس.
وفشلت لأنها ظنت أن العقل البشري قادر على إدراك حقائق الأشياء خارج نطاق وظيفته الخاصة ونطاقه المحدود.(30/6)
ولقد كان لطغيان المفهوم المادي أثره البعيد في الفلسفة التي حاولت أن تلغي كل ما وراء الطبيعة ولا تعترف به. غير أن العلم اليوم أصبح يعترف بأن هناك عالماً آخر، وأن أمام العلماء من الدلائل ما يؤكد ذلك، فكيف تنكر الفلسفة هذا العالم؛ إنها اعتمدت على العقل والحواس وهما قاصران، والعلم نفسه يعترف بأن العقل البشري لا يستطيع أن يدرك شيئاً إلا عن طريق الحواس، ولذلك فإن كل ما يقع وراء الحس والعقل لا يمكن للعلم أن يبحث فيه أو أن يعرف عنه شيئاً. ولقد تبين أن هناك مسائل عديدة لا يستطيع العلم أن يجد لها حلاً ولا يصل إلى فهمها، واعتماد الفلسفة والعقل والحس لا يؤدي إلى شئ، إذن فهناك علم آخر مكمل لهذه العلوم: هو ذلك العلم الذي أرسل الله به الرسل وجاء به الوحي، وقرره كل كتاب سماوي. وإذا عجز العلم، وطاشت الفلسفة، فإن في أيدينا نحن المسلمين ما يسد الفراغ، ولقد أعطانا الدين الحق صورة كاملة لهذه الجوانب التي يعجز العقل والعلم عن الكشف عنها؛ حتى لا تكون في متاهة البحث الشاق تغير أدوات، والذي لا يصل إلى شئ، ولقد جاءت رسالات الأنبياء لتمنح الإنسان ذلك الأفق الواسع الرحب من الفهم، ليعرف أبعاد وجوده وكيانه وحياته ومصدره وماله، ويعرف ما بعد الموت، وما بعد الطبيعة جميعاً حتى تكون رؤيته للأشياء وتقديره سليماً وحتى تكون إرادته الخاصة ومسئولياته الفردية قائمة على أساس من الفهم والعدل.
إن وراء العقل الروح ووراء البصر البصيرة. والعقل هاد يستمد ضياءه من الروح وكلاهما العقل والبصر لا يدرك ما فوق مرتبته ولكنه يستطيع أن يعلم، فإن لو رأيت حجراً يرتفع في الهواء لعلمت أن رامياً رمى به، فعلمك أن رامياً رمى به ليس من قبل البصر، بل هو من قبل العقل؛ لأن العقل هو الذي يميز ويعلم أن الحجر لا يذهب علواً من تلقاء نفسه، أرأيت كيف أن البصر وقف عند حده فلم يتجاوزه فكذلك يقف العقل عند حده من معرفة الخالق تبارك وتعالى فلا يعدوه.(30/7)
وعدم العلم بوجود الشيء لا يعني عدم وجوده، وعدم القدرة على الإحاطة بوجود الشئ لا يعني عدم وجوده، إذا كان الجهاز المستعمل (وهو العقل) في ذلك أقل وأصغر من الموجود نفسه.
وهنا نعرف محدودية العقل ومحدودية مهمة العلم وعجز الفلسفة عن طريق العقل عن الوصول إلى كُنه الأشياء وحقائق الوجود، والله تبارك وتعالى لا تدركه الأبصار؛ ولكنها تعرفه في خلقه ونظام كونه (وفي أنفسكم أفلا تبصرون).
العلم والفلسفة:
إن المعرفة التجريبية هي التي أخذت مفهوم العلم ولكن الفلسفة ليست إلا افتراضات خارج دائرة التجريب تحاول أن تصطنع الأسلوب العلمي في النظر والاستدلال. ولا تخلو من الأهواء والمطامع. وهي حين تحاول أن تنقل التجريب إلى عالم النفس والإنسانيات والأخلاق تتعثر وتخطئ. فإن مفاهيم الاجتماع والنفس والتربية والأخلاق لا تخضع للتجريب؛ لاختلاف النفوس والطبائع والبيئات والعصور، ولكن العلوم المادية تخضع لذلك. وكل ما يقال عنه في هذا المجال أنه علم فهو فلسفة. والفلسفة المعاصرة حسية مادية واقعية لا تعترف مطلقاً بغير ما يقع تحت التجربة من محسوس وملموس. ولذلك فهي تنكر العوالم الغيبية التي أصبح العلم يعترف بها. وهي تنكر الوحي والألوهية والنبوة والبعث والجزاء والأديان والكتب المنزلة. وهي لذلك قاصرة عن فهم أبعاد الحياة والوجود التي يعرفها المؤمن بالله، ومن أجل ذلك فقد اختفت في صياغة حياة ناجحة أو نافعة؛ لأنها عجزت عن العطاء الأخلاقي الذي يشكل الوازع النفسي. وقد جاء هذا النقص نتيجة الغلو في النظرة المحسوسة والتجارب الآلية والرياضية –كما يقول الدكتور محمد البهي- لأن هذا الغلو ركز القيمة كل القيمة فيما يدركه الحس وينشأ عن التجارب المادية، ولذا ألغى اعتبار المثل والقيم الرفيعة في حياة الإنسان كما ألغى رسالة الدين في توجيه الناس نحو الله.(30/8)
ولقد حاول العلم الإدعاء وتحاول الفلسفة الإدعاء باسم العلم اليوم، إنها ستقضي على الدين ولكن كل الدلائل تؤكد زيف هذا الإدعاء، إن العلم سوف يعجز عن القضاء على الدين، بل إنه سوف يؤكد وجود الدين، وإذا كان الدين الحق لا يفسر ظواهر الكون كالعلم فإنه يضع الإطار الأخلاقي للحياة ويرسم منهج العلاقة بين الله والإنسان. والإسلام هو الذي أقام للعم منهجه التجريبي ووضع له آدابه وقيمه من حيث حرية البحث وكرامة العلماء وسمو الغاية وبعدها عن التدمير والشر.
وخطأ الفلسفة في نظرتها إلى الدين يرجع إلى أنها تظن أنها تصلح بديلاً له في تفسير أمور الطبيعة والحياة. كما أنها تتجاوز حدود الحق حين ترى أن الدين الحق عائق عن التطور.
ولقد توزعت الفلسفة بين اتجاه مادي واتجاه عقلي واتجاه روحي، في محاولة استخدام العقل في فهم الكون والطبيعة وعجز العقل، ولم يحقق هذا التمزق شيئاً؛ فإن الاتجاه المادي يرى أن العالم لم يزل موجوداً بنفسه وبلا صانع. والاتجاه العقلي يرى أن مشاكل ما وراء الطبيعة والأخلاق والدنيا والآخرة إنما يحلها العقل بأقيسته= وبراهينه، والاتجاه الروحي يعتمد على الحدس أو الإلهام وحده، بينما الاتجاه الإسلام إنما يقوم على مفهوم جامع شامل متكامل فيه العقل والقلب، والمادة والروح، وهو يتمثل الإنسان نفسه الجامع بينهما، فيكون أصدق نظرة وأعمق فهماً.(30/9)
ولقد أكد الباحثون في الفلسفة أنفسهم: أن أي فلسفة مثالية أو مادية، روحية أو عقلية لم تصل إلى ما وصل إليه الإسلام من تحرير عقل الإنسان وتحطيم أغلاله الموروثة؛ فهو يخاطب العقل والقلب معاً، وقد أكد وحدانية الله وكرامة الإنسان: والقرآن يدعو إلى أسهل العقائد وأقلها غموضاً وأبعدها عن التقليد بالمراسم والطقوس وأكثرها تحرراً من الوثنية الكهنوتية؛ فقد أبطل القرآن سلطان الأحبار والرهبان والوسطاء بين العبد والرب، ولم يفرض على الإنسان قرباناً يسعى به إلى المحراب بشفاعة من ولي ولا ترجمان بين الله وعباده يملك التحليل والتحريم والغفران ويقضي بالحرمان أو النجاة. والخطاب أيما يتجه في القرآن إلى عقل الإنسان حراً طليقاً من سلطان الهياكل والمحاريب وسلطان كهنتها وسدنتها، وكل هذا من شأنه أن ينمي في الفرد الإحساس بالمسئولية ويفتح بضميره منفذاً واسعاً إلى الألوهية يربطه بها ربطاً مباشراً محكماً يرفع كل حجر على وجدانه. ولقد علم القرآن أتباعه أن يواجهوا الحياة بواقعية ورباطة جأش لا مثيل لهما في الأديان الأخرى وحثهم على الإقبال عليها والزهد بها في آن واحد، مع توازن مدهش، لا تفريط فيه ولا إفراط، شعاره الدين والدنيا.
"ليس بين الكتب التي توصف بالقداسة وتنسب إلى السماء كتاب كالقرآن: يدعو أتباعه على الدوام أن يكونوا أعزة أقوياء ولم يصلح في هذه الدعوة كتاب آخر كما أفلح القرآن" -دكتور محمد عبد الرحمن مرحبا.
وهكذا نرى أن النظر الفلسفي الخالص لا يمكن أن يكون أساساً للفكر الإسلامي؛ ذلك أنه لا يمكن الوصول إلى الحقائق الأولية إلا عن طريق الوحي، والفلسفة ليست قرينة الوحي، ولا مناظرة له؛ فهي لا تزيد عن أن تكون استخداماً للعقل.
الوثنية:(30/10)
والظاهرة الواضحة الآن أن جميع الفلسفات المعاصرة تقوض دعائم الاعتقاد بوجود إله واحد بغض النظر عن البديل المقترح، فمنها مَن تقترح ألوهية المادة ومنها ألوهية الإنسان، ومنها ما يجعل الغريزة محور تفسير الوجود، وهدف الفلسفات الآن تدمير عقيدة التوحيد؛ لأنها العقيدة التي تحول دون سيطرة نفوذ المادية على مصير البشرية.
ويرى كثير من الباحثين أن تسلط النزعة المادية على الحضارة والفكر قد خلق وثنية جديدة أخطر من الوثنية التي جاء الإسلام للقضاء عليها. والوثنية هي عبادة المجسد. وهي اليوم عبادة المال وعبادة القوة وعبادة السلطان، وعبادة العلم وعبادة الحضارة وعبادة العبقرية وعبادة الكلمة وعبادة اللذة والترف والرفاهية. إن معنى الوثنية أن يخلق الإنسان إلهاً يعبده ويتخلى عن عبادة الله الحق، إن التلمودية اليهودية قد سيطرت على الفكر الغربي فنقلته من عبادة الله إلى عبادة العجل الذهبي "المال" وسيطرت لبناء إمبراطورية الربا.
إن العلم الذي هو معبود الغرب اليوم لم يستطع أن يقدم للبشرية حلاً لأزماتها ومشاكلها فيما سوى المتاع المادي، أما النفس الإنسانية فإنها تواجه أزمة خطيرة حانقة هي أزمة الضياع والتمزق والانهيار. العالم ليس مادة فقط وليس علماً وعقلاً فقط ولكنه إلى ذلك روح ووجدان وقلب وعاطفة.
لقد تبين أن الإنسان عاجز عن أن يقدم لنفسه الحلول الملائمة لمشاكل النفس ومشاكل الحياة الاجتماعية؛ وإنما يحتاج دائماً أن تقدم له هذه الحلول من جهة أعلى من عقله وقدرته وأسمى من أهوائه ومطامعه. ولن يكون ذلك إلا عن طريق الدين الحق.(30/11)
يقول هارولد لاسكي: "عالم اليوم يعاني الشعور بخيبة الأمل، إن جيلنا فقد قيمه، لقد حل "الشك" السافر محل "اليقين" واليأس محل الأمل، ويبدو أن الاتجاهات الحديثة في الفن والأدب والموسيقا لا تعترف بالتراث الذي أبدع روائع الماضي، وأن الحرب قد سددت ضربتها القاضية للمعتقدات الدينية التي كانت مقياساً دائماً للسلوك، لقد انتصرت روح الإنكار على روح اليقين. إن منهج الغرب في الحياة قد وضع في بوتقة الانصهار. في مقدور هذا العلم أن يتيح الرفاهية المادية ولكنه يبدو عاجزاً عن اكتشاف مبادئ الرضا الروحي. ومنذ قرن مضى كان في مقدور الدين أن يتيح للكثيرين الأمل في تعويض ما نالهم من الحياة وذلك في الحياة الأخرى، أما الآن فقد أطفأ العلم أنوار السماء ولا طريق للخلاص إلا في ظل الحاضر العاجل".
ويقول خليل حاوي: "إن فجيعة القلوب هي في أن العقل محدود المعرفة عاجز عن إدراك حقائق الإيمان والدين. فمن المستحيل إدراك المطلق عن طريق العلم (أي التجربة) أو العقل لتعالي المطلق عن التجربة والواقع. والإنسان ليس كائناً يعقل فحسب؛ بل هوا كائن له قلب وإدراك، ومن حق الإرادة الإيمان بأشياء لا يثبتها العقل ولا ينفيها، فمن حقها أن تؤمن بمعتقدات الوحي والدين وخلود النفس وجود الله تبارك وتعالى؛ لأن العقل لا يستطيع أن ينفيها، وهكذا نرى أهل الفكر البشري في حيرة شديدة رحمنا الله منها بمفهومنا المتكامل الجامع بين الروح والمادة، دون أن يسقط في محظور المادية ودون أن يسقط في أزمة وحدة الوجود.
ونجد الفلسفة الغربية اليوم قد وصلت إلى مرحلة شاقة: ذلك أنها تجعل مهمتها قاصرة على جبرية النظرة؛ فهي تصور الواقع وتعايشه وتعلن الشبهات والشكوك، ثم تقف دون أن تضع الإجابات وبذلك تخلق الحيرة الشديدة في وجدان أتباعها. أما الإسلام فهو يختلف تماماً؛ إنه يدعو إلى تحرير المواقف وتصويبها في ضوء هدف أساسي تعرض عليه المواقف المختلفة ضمن إطار واضح محدد.(30/12)
أما الغربي فإنه ينطلق من واقع غير مقيد بأي إطار أو ضوابط أخلاقية أو دينية، إنه يتحرك في إطار أوضاع الحياة وتحديات المجتمع، مؤمناً بالنسبية في الأخلاق والتطور المطلق في الحركة، والجبرية التي تسوقه دون إرادة، فهو لا يصل إلى غاية ولا يجد الاستجابة لكوينه النفسي والمعنوي والروحي الذي يصرخ في داخله تحت قسوة ضربات المادة والجنس والتحلل وحرية الإباحية.
وبذلك نجدنا تماماً أمام حقيقة لا ريب فيها يعبر عنها العلامة المودودي حين قال: "إن النظريات التي وضعها الإنسان عن نفسه وعن الحياة الدنيا وعن نظام الكون وعن ذات الإله مدفوعاً بدراسته الشخصية وتقديراته الخيالية وخضوعه لسلطان الأهواء ثم المواقف التي اتخذها على أساس تلك النظريات، فإنها في حقيقتها باطلة ومهلكة للإنسان نفسه من ناحية المصير، وإنما الحق هو الذي علمه الله للإنسان حين جعله خليفة في الأرض، وبموجب هذا الحق ليس من منهج من المناهج إلا المنهج الذي هو: المنهج الصحيح".
نعم: لقد فشل الفكر الغربي الحديث في استيعاب الحقيقية الإنسان وعجز عن تعيين أبعادها وحبس نفسه في إطار ضيق خانق هو إطار المادة، وبذلك عجز عن وضع الحلول المناسبة لأزماته وفشل في تفهم معضلاته الاجتماعية والأخلاقية التي باتت تعصف بمجتمعه اليوم وتهزه من الأساس.(30/13)
وحين انتقل هذا الإعصار إلى أفق الفكر الإسلامي وجد من بعض العقول الساذجة بريقاً ومن بعض النفوس البسيطة تقبلاً، ثم تكشف زيفه سريعاً في محيط أمة مؤمنة بالله، وإيمانها عميق وراسخ في أعماق أربعة عشر قرناً، فلم يجد قبولاً أن يقال أن الطبيعة تدبر نفسها وأنها لست في حاجة إلى فاعل أو خالق، وما كان لهذا البريق أن يستمر ولا لهذا الصوت أن يعلو؛ لأنه يناقض مناقضة صريحة كل خلة في الإنسان، عقله وقلبه وفطرته ويناقض العلم ويناقض هذا الميراث الضخم من التوحيد الذي قضى على الغنوصية والهلينية قديماً وقضى معها على الوثنية وبيوت النار وكل ما سوى عبادة الواحد القهار، وما كان التاريخ يعود القهقري بهذه الأمة التي حملت رسالة التوحيد والتي هي خير أمة أخرجت للناس. ولذلك سرعان ما انقضت على هذا التيار قوى التصحيح والتحرر من الزيف والعودة إلى المنابع واستلهام الحق، كاشفاً بتلك الأصالة التي تؤمن بالله وبإرادة الإنسان ومسئوليته والتزامه الأخلاقي وخلود روحه وتوقه إلى ربه خالقه ومبدعه. ومهما علت دعوات المادية أو الماركسية، أو الوضعية المنطقية، أو الوجودية فإنها لن تجد سوقاً ولن تجد إلا أولئك الذين عجزوا عن فهم حقيقة دينهم، فالقرآن يقرر أن الدين فطرة في الإنسان فطر الله الناس عليها وأن أساسه الاعتقاد بخالق الكون وأنه واحد لا شريك له وما هدانا إليه القرآن لا يعارض العقل أو الفطرة.
{ فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم }.
أنور الجندي(30/14)
(8)
نظريات وافدة كَشَفَ الفكر الإسلامي زَيفها
في حوالي القرن الأخير (1870 تقريباً إلى) اليوم ألقى الفكر الإسلامي والثقافة العربية نظريات ومذاهب وافدة كثيرة، في مختلف مجالات اللغة والدين والاجتماع والحضارة التربية والتراث.
وهي نظريات فرضت في الأغلب فرضاً تحت ضغط ظروف الغزو الاستعماري والاحتلال البريطاني والفرنسي للعالم الإسلامي. وقد ألقيت هذه النظريات من خلال الإرساليات ومعاهدها وفروعها، وكان مجال الصحافة والتعليم والثقافة أبرز ميادينها.
وقد غلف الدعاة إلى هذه النظريات دعوتهم بحماسة الرغبة في النهضة والتجديد والاستجابة لروح العصر، والخروج من الجمود، وكسر قيود التقليد ومقاومة الرجعية والتماس مناهج الغرب الناهض في خطوه، لمساواته ومحاذاته.
وقد حملت هذه الدعوات أساساً فكرة واضحة، هي أن أمتنا وأوطاننا ليست من العرب ولا متصلة بأفريقيا وآسيا ولا تربطها بالصحراء العربية رابطة، ولكنها متصلة باليونان قديماً، وبالغرب حديثاً.
وقد امتدت هذه النظريات إلى العقل فقالت أن العقل المصري والسوري والمغربي هو عقل أوروبي، وأن الفكر الإسلامي هو فكر يوناني، وما إلى ذلك من مجازفات خارجة عن أدنى حدود العلم والمنطق والتدقيق. وكلها تهدف إلى عزل كل وطن عربي عن العرب كأمة وعرق من ناحية وعن الإسلام كفكر وثقافة من ناحية أخرى.
وقد صدرت مؤلفات تحمل مثل هذه الآراء أريد بها إحداث ضجة كبرى، كعامل هام في سبيل ترديد هذه النظريات الوافدة وإعادة غرسها في العقول والنفوس. وقد جرت المساجلات ساخنة ومثيرة، حول هذه الأفكار ثم انتقلت هذه القضايا من أعمدة الصحف إلى منابر الجماعات إلى مجال البرلمان، وكان نفوذ الاستعمار وقواه تعمل في مجال البرامج التعليمية والمناهج الجامعية والصحف الكبرى والأسماء اللامعة من أجل إقرار هذه الآراء.(31/1)
غير أن هذه النظريات لم تلبث طويلاً حتى تحطمت، وما عتمت هذه التيارات أن قضي عليها، وفشلت في تحقيق الهدف منها، ذلك أن ذاتية الفكر العربي الإسلامي المستمدة من قيمه ومقوماته الأصيلة عميقة الجذور قد رفضت هذه المحاولات التغريبية لإخراج هذه الأمة من جلدها وإذابتها في الفكر الأممي الشعوبي، غير أن الأمر لم يتوقف بالتغريب عند حد الهزيمة فإنه سرعان ما جدد هذه الدعوات وألبسها صورة جديدة وقدمها مرة أخرى وما تزال رحى المعركة دائرة بين الزيف والصحيح، وبين الأصالة والتبعية.
في مقدمة هذه النظريات تكريم أدب الإغريق وإعلاء أدب اليونان على الأدب العربي، ودعم شأن الإقليميات الضيقة: كالمصرية والفينيقية والبربرية وغيرها من الدعوات، والنهي على العرب ومحاولة انتقاص وجودهم وكيانهم، وإثارة الخلاف ومحاولة تمزيق الرابطة العضوية بين العروبة والإسلام، ومعارضة الشريعة الإسلامية وإثارة الشبهات حول أصالتها، ومقاومة اللغة العربية الفصحى والدعوة إلى العامية، هذا إلى المحاولات الضخمة المبذولة من أجل دحر الحقيقة الواضحة الكبرى وهي أن الإسلام دين ونظام اجتماعي معاً، هذا فضلاً عن محاولة توجيه النقد إلى القرآن ووصفه بأنه كتاب أوربي أو كتاب وضعه النبي محمد وكذلك إلى إسقاط الحضارة الإسلامية وإنكار عطائها للحضارة العربية، والدعوة إلى ما يسمى عالمية الثقافة، وهو تذويب قيم الثقافة العربية في أتون الفكر الغربي مع الفروق الواضحة بينهما. ومحاولة توسيد قيم وافدة في مجال التربية والتعليم تتعارض مع ذاتية الأمة ومزاجها النفسي، وذلك إلى مهاجمة التراث العربي الإسلامي وإثارة الشكوك حوله وانتقاصه.(31/2)
كما عهدت حركة التغريب إلى إذاعة نظريات فرويد تتعارض مع قيم الفكر الإسلامي، ومن أبرز هذه المخططات العمل على انتقاص أعلام الإسلام وأبطاله، فضلاً عن طرح مفاهيم غربية في البطولة نفسها تستمد طابعها من مفهوم المسيحية الغربية القائم على ما يسمونه الخلاص، وكذلك إذاعة الأدب المكشوف والإباحية الفكرية مع الدعوة إلى الإلحاد من خلال مفاهيم الفلسفة المادية، هذا بالإضافة إلى محاولة إعلاء اتجاه التعبير المادي في مجالات التاريخ والاقتصاد والاجتماع.
وقد راجت هذه الأفكار رواجاً شديداً، ووجد النفوذ الاستعماري عن طريق أدواته العديدة، وفي مقدمتها المدرسة والصحيفة مجالاً كبيراً لإذاعة هذه الأفكار ودعمها.
وصدرت في ذلك كتب عديدة وأثيرت مساجلات ومعارك أدبية متعددة.
غير أن هذه النظريات لم تلبث في ضوء الحقيقية أن سقطت وتحطمت.
حاولت هذه الكتابات أن تنقل وجهات النظر التغريبية إلى مجال الفكر العربي الإسلامي في مختلف مفاهيمه واعتمدت على وجهات نظر المبشرين والمستشرقين وهي وجهات نظر خطيرة مغرضة مصاغة بعناية وحذر يراد بها إغراء القارئ العربي -وخاصة ذلك الذي لم يعرف كثيراً عن الفكر الإسلامي- حتى يتقبلها بسرعة، وقد استخدم لها باحثون ألقيت إليهم أضواء واسعة من الشهرة والمكانة.
وقد اتصلت هذه الكتابات بالتاريخ والأدب والاجتماع واللغة العربية، وحاولت أن يتجرد من كل صلة لهذه العلوم بالإسلام في محاولة للتعمية والتضليل.
ولما كان الفكر الإسلامي يمثل وحدة كاملة، وكانت هذه العلوم أجزاء منه يتكامل بعضها مع البعض الآخر، دون أن ينفصل أحدها أو يشكل وحدة مستقلة، فقد رأى دعاة التغريب في مكر بالغ، أن يبتعدوا عن (الإسلام) كدين بصورة واضحة، وأن يجعلوا ضرباتهم موجهة إلى هذه الجوانب حتى يكونوا في مأمن من حملات العلماء، وحتى يتحقق لهم بهدم هذه النواحي إصابة الإسلام في قلبه وأعماقه.(31/3)
فهذا كتاب يريد أن يصل صاحبه في بحث له طابع علمي براق إلى أن الخلاقة ليست أصلاً من أصول الإسلام وأن نظام الحكم كان حراً طليقاً، إلى هنا والمسألة في نظر الباحث غير المتعمق -يسيرة وربما مقبولة، ولكن هناك هدف المحق وراء ذلك، ذلك هو الإدعاء بأن الإسلام كان ديناً روحياً خالصاً وأن شئون السياسة والمجتمع والحكم لم تكن منه جزءاً لا يتجزأ، وبذلك أحدث الكتاب ثلمة خطيرة في أدق مقومات الإسلام الأساسية التي تفرق بينه وبين الأديان القائمة على العقائد وحدها دون الشريعة، وعلى اللاهوت وحده دون نظام المجتمع، ولكي نعرف مدى خطر هذا الرأي أن تلقفه المستشرقون ومضوا يصرخون بأن في الإسلام مذهبين وليس مذهب واحد أحدهما يقول بأن الإسلام دين وليس له دولة، وحيث أن مستشرقاً لم يجرؤ على هذا الإدعاء قبل أن يصدر مثل هذا الكتاب، وهذا الكتاب ما يزال في الأيدي، وهناك أكثر من بحث للرد عليه ودحض مزاعمه، ولقد كان علينا أن نعلم ما هي خفايا هذا البحث والغرض منه هنالك نجد أنه عمل سياسي أصلاً، أريد به معارضة اتجاه لإحياء الخلافة ومن ثم فقد انتصرت الدعوة في مجال الخصوم الحزبية والسياسية ولكنها تركت آثاراً مريرة في مجال الفكر الإسلامي، فقد أدخل مفهوماً ليس إسلامي الأصل، من مفاهيم الفكر الأوربي المسيحي القائل بالفصل بين الدين والدولة وهو ما لم يعرفه تاريخ الإسلام، ومن عجب أن كتاباً في الفقه الإسلامي لا تجد فيه مرجعاً واحداً من كتب الفقه؛ وإنما يعتمد على مثل الأغاني والعقد الفريد !!(31/4)
وهناك كتاب شهير أراد صاحبه أن يدعو الباحثين والأدباء إلى أن يحجبوا دينهم وقوميتهم وهم بسبيل البحت في الأدب، وكان ذلك جرياً وراء تغريب الأدب العربي بإخراجه من وضعه الصحيح في الفكر الإسلامي كجزء منه لا ينفصل، ولا يمكن دراسته إلا في موضعه الصحيح؛ فلقد كان للإسلام في الأدب العربي أثر ضخم بعيد المدى، ومن هنا فإنه من العسير أشد العسر أن ينفصل الأدب عن الفكر الإسلامي ولأن أن= يدرس حراً من هذا الارتباط الاجتماعي والأخلاقي، وهو ارتباط عضوي أصيل.
ولقد جنى الأدب العربي من هذا المذهب الوافد في النقد الأدبي آثاراً مريرة عظيمة، فقد فتح الباب أمام إنكار نصوص الكتب المنزلة وفي مقدمتها القرآن، كما فتح الباب أمام محاولة نقد آيات القرآن وانه جزا الأدباء على التركيز على أبي نواس وبشار والضحاك على أنهم نماذج الأدب العربي، بينما أبعدت آثار الغزالي وابن تيمية وابن حزن، فضلاً أنه فتح الباب أمام الإباحيات والأدب المكشوف وإعلانه، والجرأة على قيم الإسلام، فضلاً عن خطأ إعطاء الأدب هذه الحرية في الحكم على أمور لا تدخل تحت نفوذه، وفي التوسع لفرض سلطانه على قضايا المجتمع والدين والتربية والأخلاق، وهذا ما لم يكن من مفهوم الفكر العربي الإسلامي المتكامل الشامل.(31/5)
ولقد كان ذلك اتجاهاً خطيراً في خطة التغريب يهدف إلى تحقيق نتائج مضللة تنكشف، فنحن نرى كيف أصبح مثل كتاب (الأغاني) مرجعاً من مراجع البحث العلمي والتاريخي تؤخذ منه النصوص ليُستدل بها في قضايا الدين والاجتماع والتاريخ، بينما لم يكن هذا الكتاب في الواقع إلا مجموعة من الأصوات الغنائية وقد وضعه مؤلفه للملوك والخلفاء لإزجاء فراغهم بقصص ذوي الأهواء وأهل الفن وأنه في ذلك لا يدخل في باب المراجع الموثوق بها ولا المصادر العلمية، وهو إلى ذلك لا يستطيع أن يمثل صورة حقيقية للحياة السياسية والاجتماعية في مجتمع زاخر بالقوى الفكرية من الفقهاء والعلماء والفلاسفة والصوفية والمؤرخون، وقد تأكد أكثر من مصدر أن أبا الفرج الأصفهاني ليس مؤرخاً ولا يصلح كتابه لأن يكون مادة تاريخ؛ وإنما هو جماع لقصص فيه الصحيح والزائف جمعه من الأسواق، وقد شهد عليه كثيرون بالانحراف: فقال اليوسفي المؤرخ: "إن أبا الفرج أكذب الناس؛ لأنه كان يدخل سوق الوراقين وهي مملوءة بالكذب فيشتري منها شيئاً كثيراً من الصحف ويحملها إلى بيته، ثم تكون رواياته كلها منه"، بل إن المؤرخين قد وصفوه بأنه رجل عار عن الثقة به.
والحق أن الباحثين المسلمين قد التفتوا منذ وقت بعيد إلى خطر المصادر الأدبية كمراجع للبحوث العلمية والتاريخية، وقد أشار العلماء إلى مَن أسموهم "أهل الغفلة والهوى الذين اعتمدوا في تاريخهم على كتب الأدباء وأسفار الأخبار"، فأهل الأدب كما يقول القاضي أبو بكر ابن العربي: "هم الذين غلبت عليهم صناعة الأدب فمالوا إلى كل غريب من الأخبار دون أن يتحروا الصدق ويهتموا بالرواية والإسناد"، يقول القاضي ابن العربي في كتابه العواصم من القواصم: "لتحذروا من أهل الأدب؛ فإنهم أهل جهالة بحرمات الدين أو على بدعة مصرين فلا تبالوا بما رووا".(31/6)
من خلال الاعتماد على مثل كتاب الأغاني (وكتب المحاضرات جميعها مردودة كمصادر علمية وتاريخية) وصل بعض الباحثين إلى القول بأن القرن الثاني من الهجرة كان عصر شك ومجون، وأن هذا الحكم قد صدر اعتماداً على دراسة بعض الشعراء المجان، فاستطاع هذا الكاتب في جرأة عجيبة أن يقول بأن هؤلاء الشعراء يمثلون عصرهم ويخولون له الحق في إصدار حكم على العصر كله، بينما يوجد في ذلك العصر عشرات من الأدباء والعلماء والمفكرين والباحثين، ولا يمكن أن تتم صورة عصر إلا بدراسة النماذج المختلفة فيه.
وبعد فإن على شبابنا المثقف وكتابنا وأدبائنا أن يقفوا موقفاً علمياً كلما صدفهم مرجعاً أو مصدراً من المصادر الشهيرة، وأن يسألوا أنفسهم سؤالاً صريحاً:
ألم تصدر في مناقشة هذه الآراء ردود أو معارضات.
ثم عليهم بعد ذلك أن يبحثوا عن هذه الكتب ويقرأوها.
فإذا كان من مصادر الكاتب أو الباحث كتب مثل: الشعر الجاهلي أو الإسلام وأصول الحكم أو فلسفة ابن خلدون الاجتماعية أو تحرير المرأة أو نظرية التطور أو حديث الأربعاء أو هامش السيرة أو مع المتنبي، أو مستقبل الثقافة أو الأخلاق عند الغزالي أو النثر الفني، أو غيرها من مؤلفات، فإن ضرورة التحقيق العلمي تقضي على القارئ أن يراجع كل ما كتب عن هذه الأبحاث من ردود ومعارضات؛ ذلك أن هذه الأبحاث لم تكتب إلا في ضوء تحديات خطيرة، هي تحديات الغزو الفكري والتغريب، وأن كُتابها يجب أن يعرضوا على قانون "الجرح والتعديل".(31/7)
في عام 1971 كتبت إلى مجلة دعوة الحق الزاهرة البحث الأول في هذا الموضوع، ثم شغلت عنه وكان الهدف هو لفت نظر الباحث المسلم إلى أن هناك نظريات وافدة طرحت في أفق الفكر الإسلامي وقد تناولها الباحثون بالنقد والرد والتفنيد في وقتها، غير أن ذلك لم يجمع في حينه في كتاب، ومن ثم ظلت هذه الكتب التي تحمل النظريات متداولة كأنما هي حقائق ثابتة وأعيد طبعها مرات ومرات، ولقد لاحظت ذلك وتأثرت به حين رأيت الكثيرين من شبابنا المسلمين القادمين من كل مكان في العالم الإسلامي يبحثون عن سلامة موسى وطه حسين وعلي عبد الرازق ومحمود عزمي، فيجدون مقالاتهم المليئة بالشكوك مجموعة في كتب أنيقة ثم لا يجدون ما وُجه إليها من ردود وما فُند من اتهامات؛ لأنها لا تزال مدفونة في بطون الصحف والدوريات، ولقد دعاني هذا أن أجمع في مجلدين كبيرين أغلب هذه المعارك تحت عنوان (المعارك الأدبية) وتحت عنوان (المساجلات والمعارك الأدبية)، وذلك في محاولة لكي أضع تحت عين القارئ وجهة النظر الأخرى التي كانت غائبة عنه والتي تكشف أن لكل رأي رداً وأن مثل هذه المحاولات في فرض نظريات وافدة قد استشرى في فترة الثلاثينيات وما بعدها، واتسع نطاقه حتى شمل مختلف ميادين الفكر، ولكن الحق أن قضية ما من هذه القضايا لم تمر دون تمحيص؛ =ككتاب طه حسين عن الشعر الجاهلي ووجه بالرد من كثيرين وصدرت كتب عديدة في تفنيده منها (تحت راية القرآن) لمصطفى صادق الرافعي، كما صدر كتاب محمد فريد وجدي وكتاب محمد لطفي جمعة وكتاب للشيخ الخضر حسين وكتاب (النقد التحليلي) للدكتور محمد أحمد الغمراوي، هذا بالإضافة إلى عشرات الموضوعات والبحوث التي حفلت بها الصحف وجمعت بعد أطرافها في كتابيّ المذكورَين عن المعارك الأدبية. كذلك صدرت في السنوات الأخيرة أطروحة الدكتور ناصر الدين الأسد عن حقيقة الموقف في الشعر الجاهلي وانتحاله.(31/8)
وبالنسبة إلى كتاب علي عبد الرازق عن الإسلام وأصول الحكم صدرت في حين صدوره رسائل مطبوعة للشيخ الخضر حسين ومحمد الطاهر عاشور والشيخ رشيد رضا، وصدر في العام الماضي كتاب ضخم مفصل عن هذه القضية للدكتور ضياء الدين الريس.
أما بالنسبة لما أثاره سلامة موسى عن اللغة العربية فقد نوقش وجمع، وكذلك ما اتصل بآراء ساطع الحصري ومحمود عزمي.
ولقد عورضت نظريات لطفي السيد عن الإقليمية المصرية وآرائه عن التعليم، ووجدت نظرية ثقافة البحر التي أثارها طه حسين ومحمود عزمي تفنيداً وتصحيحاً، وكذلك عارض الباحثون نظرية أمين الخولي عن إقليمية الأدب، ورد الدكتور محمد أحمد الغمراوي على محاولات نقد النص القرآن التي قام بها زكي مبارك، وكذلك رد كثيرون على محمد أحمد خلف الله ورسالة القصص الفني في القرآن.
أما النظرية المادية التي عرضها شبلي شميل وسلامة موسى من بعد فإنها لم تمضِ بدون نقد ومراجعة وكذلك نظريات الدين في التربية.(31/9)
وكانت أكثر الشبهات التي طرحت في أفق الفكر الإسلامي تستهدف السيرة النبوية والقرآن واللغة العربية والحضارة الإسلامية والتاريخ الإسلامي، وفي معظم هذه النظريات فقد غلفها بريق كاذب وحاول صياغتها ووضعها في إطار علمي وصاحبتها دعوة طنانة إلى النهضة والتجديد والاستجابة لروح العصر والخروج من الجمود وكسر قيد التقليد ومقاومة الرجعية، وفي أعماقها دعوة صريحة إلى التبعية والانصهار في الفكر الغربي؛ إيماناً بأن هذا هو الطريق الوحيد لمساواته ومحاذاته، وقد حملت هذه الدعوات أساساً فكرة أن أمتنا ليست من العرب وأن الإسلام قد مر عليها كما تمر كل الدعوات وأن العقل المصري أو السوري أو المغربي هو عقل أوربي وأن الفكر الإسلامي أصلاً هو فكر يوناني، وما إلى ذلك من مجازفات تستهدف عزل المسلمين عن فكرهم الأصيل وعن كيانهم الخاص وذاتهم التي تتماثل. وقد صدرت مؤلفات أحدثت ضجة كبرى، لم تكن هذه الضجة بالقبول ولكنها كانت بالرفض، وجرت مساجلات ساخنة ومثيرة انتقلت من أعمدة الصحف إلى أندية الجمعيات إلى منابر الجامعات، ولكن هذه النظريات لم تجد قدرتها على الحياة؛ لأنها دخيلة وزائف ونبت لا يقوى على الحياة في أرض لم تمتصه وطقس لم يستسيغه، ولذلك ما لبثت أن تحطمت، وإن عمد الدعاة إليها إلى تجيدها مرة بعد مرة وإثارتها في صورة وأخرى، ومن هذه النظريات:
(1) إعلاء أدب الإغريق على الأدب العربي ومحاولة فرض الذوق الهليني على العرب.
(2) إعلاء شأن الإقليميات الضيقة كالمصرية والفينيقية والبربرية وغيرها.
(3) النعي على العرب والمسلمين ومحاولة انتقاص وجودهم وكيانهم.
(4) معارضة الشريعة الإسلامية وإثارة الشبهات حول أصالتها.
(5) مقاومة اللغة العربية الفصحى والدعوة إلى العاميات.
(6) التنكر للحقيقة الواضحة وهي أن الإسلام دين ونظام مجتمع في آن.
(7) محاولة توجيه النقد إلى أسلوب القرآن ووصفه بأنه كتاب أدبي.(31/10)
(8) محاولة إسقاط الحضارة الإسلامية وإنكار إعطائها للحضارة الغربية.
(9) الدعوة إلى ما يسمى "عالمية الثقافة" ومحالة تذويب قيم الثقافة الإسلامية في أتون الفكر الغربي مع تجاهل الفوارق الواضحة بينهما.
(10) محاولة إثارة الشبهات حول العلاقات الجذرية بين الإسلام والعروبة.
(11) محاولة توسيد قيم مقتبسة في مجال التربية والتعليم تتعارض مع ذاتية الأمة ومزاجها النفسي.
(12) مهاجمة التراث العربي الإسلامي وإثارة الشكوك حوله وانتقاصه.
(13) إذاعة نظريات فرويد في النفس وسارتر في الوجودية ودور كايم الاجتماع، وكلها تتعارض مع قيم الفكر الإسلامي.
(14) انتقاص أعلام الإسلام وأبطاله.
(15) إذاعة الأدب المكشوف والإباحية الفكرية مع الدعوة إلى الإلحاد.
(16) محاولة إعلاء اتجاه المادية في مجالات التاريخ والاقتصاد والاجتماع.
وقد راجت هذه الأفكار رواجاً شديداً وكثير ترديدا حتى كادت أن تصبح من المسلمات، ووجدت النفوذ الاستعماري عن طريق أدواته العديدة، وفي مقدمتها المدرسة والصحيفة مجالاً كبيراً لإذاعة هذه الأفكار ودعمها.
وصدرت في ذلك كتب عديدة، منها: مؤلفات جورجي زيدان (التمدن الإسلامي)، ومؤلفات طه حسين (حديث الأربعاء – في الأدب الجاهلي – مستقبل الثقافة – مع المتنبي – هامش السيرة)، ومؤلفات سلامة موسى (اليوم والغد – البلاغة العصرية)، وعلي عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم)، ولطفي السيد (ترجمات أرسطو)، بالإضافة إلى بعض كتابات توفيق الحكيم ومحمود عزمي، وزكي مبارك وإبراهيم مدكور وأمين الخولي وحسين فوزي ولويس عوض وزكي نجيب محمود.
غير أن هذه النظريات لم تلبث أن انكشف فسادها وزيفها وعرف المثقفون الأهداف القائمة وراء إذاعتها وترديدها.(31/11)
ولقد أحدث الشيخ علي عبد الرازق "ثلمة" في الإسلام سيظل يحمل وزرها أمداً طويلاً؛ فلأول مرة يجرؤ عالم أزهري مسلم إلى القول بأن الإسلام دين روحي وأنه لا صلة له بنظام الحكم، مهما كان سياق الدعوة أو ظروفها السياسية التي أراد أن يخدم بها حزب الأحرار الدستوريين أو الإنجليز أو المعارضين للملك فؤاد، فإنه في سبيل غاية هينة قد استخدم نصوصاً أراد بها أن يحجب حقيقة أساسية هي أن الإسلام نظام مجتمع ومنهج حياة متكامل، ومنذ ذلك اليوم يكتب المستشرقون فيقولون: إن في الإسلام نظريتين: إحداهما تقول بأن الإسلام دين ودولة، والأخرى تقول أن الإسلام دين روحي وصاحب هذه النظرية هو علي عبد الرازق ومَن سار على طريقه من بعده ومن خريجي الأزهر أيضاً مع الأسف.
هذه الثلمة تكذبها كل الوقائع التاريخية وكل النصوص والأسانيد. ومن يقرأ بحث علي عبد الرازق الذي حاول دعاة التغريب في السنوات الأخيرة إعادة طبعه ونشره بعد أن مات وانطوى أكثر من أربعين عاماً-يجدون أنه لم يعتمد على كتاب من كتب الأصول؛ وإنما كان اعتماده على مراجع أدبية كالعقد الفريد وغيره. وقد كان جُل اعتماد علي عبد الرازق على بعض الكتب التي صدرت في تركيا لتبرير إلغاء الخلافة وهي مؤلفات كتبها اليهود الدونمة الذين كانوا يطمعون في تحطيم هذا البناء منذ وقت طويل؛ حتى يستطيعوا أن ينفذوا إلى فلسطين بعد أن وقف السلطان عبد الحميد في وجههم سداً منيعاً، وكل ما جاء به علي عبد الرازق نقلاً من هؤلاء إنما هو مستمد من نظريات الفكر المسيحي حول البابوية والفصل بين الدين والدولة وهو النهج الذي وصلت إليه أوربا بعد الصراع الطويل بين الكنيسة والشعب، وكان جُل اعتماده في نصوصه المنقولة على شطائر تؤيد وجهة نظره استعان بها وترك الأجزاء الباقية مغالطة منه وتبريراً لوجهة نظره، بالإضافة إلى اعتماده على كتب المحاضرات والأدب وهي ليست مراجع للبحث الفقهي الجاد.(31/12)
والحق أن الباحثين المسلمين قد التفتوا منذ وقت طويل إلى خطر المصادر الأدبية كمراجع للبحوث العلمية والتاريخية، وقد أشار كثيرون إلى "أهل العقل والهوى الذين اعتمدوا في تاريخهم على كتب الأدب وأسفار الأخبار"، فأهل الأدب كما يقول القاضي أبو بكر ابن العربي في كتابه "العواصم من القواصم": "هم الذين غلبت عليهم صناعة الأدب فمالوا إلى كل غريب من الأخبار دون أن يتحروا الصدق ويهتموا بالرواية والإسناد، وهم أهل جهالة بحرمات الدين أو على بدعة مصريين".
أما كتاب في الشعر الجاهلي والأدب الجاهلي من بعده، فإن القضية الكبرى والأساسية التي حاول مؤلفه أن يفرضها هي أن على الباحثين أن يحجبوا دينهم وقوميتهم وهم بسبيل إلى البحث العلمي، نقول (حتى إذا كان دينهم هو الإسلام) الذي هو مصدر كل مناهج البحث وأساس علوم المعرفة والذي هدى البشرية إلى نقد الرواة وإلى الجرح والتعديل وإلى التأكد من سلامة المصادر.(31/13)
ولكن المؤلف لم يكن ليؤمن بذلك أساساً؛ لأنه حاول إنكار نصوص من القرآن عن إبراهيم وإسماعيل وقال: "مهما تحدثنا التوراة ويحدثنا القرآن عن إبراهيم وإسماعيل فإن الحقيقة التاريخية تقول إنهما من الشخصيات التي لم توجد أساساً"، ولقد كان الهدف الرئيسي في الشعر الجاهلي أساساً هو انتقاص هذه الأسس في الإسلام وانتقاص رسوله الكريم الذي قال عنه: (لأمرٍ ما كان لابد أن يكون محمد من قريش)، ومَن يراجع الكتب التي تصدت لهذا الكتاب والأبحاث والمعارك التي دارت حوله يجد تحدياً واضحاً صريحاً للحقائق الإسلامية والسنة الصحيحة ولكل ما يتصل بتاريخ رسول الله وأصحابه، فإذ ربطنا هذا بكتاب هامش السيرة وجدنا جانباً آخر أراد طه حسين أن يطعن فيه؛ ذلك هو إعادة الأساطير مرة أخرى إلى هذه السيرة بعد أن نقاها المسلمون منها وحرروها، ونحن لسنا الذين نقول ذلك ونأخذه عليه؛ ولكن ذلك ما يقوله رفيق شبابه الدكتور محمد حسين هيكل صاحب كتاب حياة محمد. ونجد الجانب الثالث من العمل الخطير متمثلاً في كتاب (الفتنة الكبرى)، وهنا نجد طه حسين يحاكم صحابة رسول الله على أنهم بعض السياسيين في العصر الحديث ورجال الأحزاب وأصحاب المطامع والمؤامرات ومحاولة إزاحة ذلك الجو الرفيع الذي يجب أن ينظر فيه إلى هؤلاء الصحابة الكرام، وتلك هي أهداف طه حسين كما أشار إليها هو نفسه في أكثر من موضع "إسقاط التقديس لكل قديم".(31/14)
وإذا كان هذا من الأطروحات الغربية التي عرفها الفكر الأوربي بعد الثورة الفرنسية وتحت ضغط خلافات عميقة بين رجال العلم ورجال الدين وتحت تأثير جمود الفكرة الدينية وفسادها في الغرب، فما شأننا به نحن في عالم الإسلام حيث نجد الفكر الإسلامي بسماحته وسعته وقدرته الوافرة على العطاء في كل المجالات، وحيث لا يصطدم الدين بالعلم، وحيث لا تتعارض الثوابت والمتغيرات، وحيث أن القديم ليس فكراً بشرياً يكتنفه الفساد والاضطراب؛ ولكن القديم هو ذلك الهدي الرباني الكريم (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه).
تلك كانت غاية طه حسين واضحة في كتاباته الإسلامية كلها من الأدب الجاهلي إلى هامش السيرة إلى الفتنة الكبرى: (إسقاط التقديس لكل قديم)، دون تحديد لهذا القديم هل هو الأصل الرباني الموحى به أم العمل الفكري الذي قام عليه، فضلاً عن إحيائه لتراث الزنادقة والشعوبية وإعادته طبع إخوان الصفا ومقدمة ابن المقفع لكتاب كليلة ودمنة، والدعوة الملحة التي ظل يدعوها طوال حياته بفضل الهلينية والفكر الإغريقي على الفكر الإسلامي وهي دعوة زائفة مبطلة كذبتها مدرسة كاملة قادها الشيخ مصطفى عبد الرازق وتابعها كثير من الأعلام في مقدمتهم الدكتور علي سامي النشار ومحمود قاسم.(31/15)
ولو كان طه حسين ناقداً سليم القلب لفرق بين الميراث الإسلامي السماوي والسنة الصحيحة وصادق ما كتب أهل السنة والجماعة وبين التراث الإسلامي المتصل بالشعوبية والزندقة والباطنية، ولكنه كما يبدو واضحاً من كل كتاباته إنما كان يغمغم في هذه الدعوى وهو يقصد: الوحي والنبوة والقرآن، وإن كان لا يقدر على أن يكشف عن ذلك خوفاً وفرقاً مما كاد يصيبه عندما أصدر كتاب في الشعر الجاهلي، لقد فتح الباب لكل شبهة وحملت مؤلفاته أوشال الشعوبية القديمة وزيف آراء المستشرقين في كل الجوانب التي يمكن أن يصل إليها الباحث لم غادر منها واحداً مستعملاً أسلوب (الشك الفلسفي)؛ لبث الشبهات والتساؤلات دون أن يدل أحداً على ضوء من رأي صحيح، ولكنها المحاولة المستمرة للتشكيك؛(31/16)
فهو الداعي إلى الفرعونية والأدب المكشوف وأن عصر الإسلام الأول عصر شك ومجون، وهو الذي سخر بابن خلدون علامة فكرنا، ووصف المتنبي شاعرنا الأكبر بأنه لقيط ليس له أب، وهو الذي قال لطلبته في كلية الآداب أن القرآن كتاب أدب يوضع موضع النقد ويقال أن هذه الآية كذا وكذا، وهو داعية (عالمية الثقافة) لينصهر الفكر الإسلامي في بوتقة الأممية، وداعي نقل مناهج التعليم والتربية الغربية، وهو الذي اتخذ من كتاب الأغاني مصدراً لدراسة المجتمع الإسلامي وهو كتاب غير مؤهل لهذه الدراسة. وهو الذي فتح الأبواب لهؤلاء جميعاً الذين جرأوا على مواريث الإسلام، ومِن الحق أن يقال أن الباحثين المسلمين لم يؤمنوا لحظة بمذهب تقديس السلف سواء في التاريخ أو غيره؛ ولكنهم كانوا يؤمنون ولا يزالون بحماية هذا الميراث العظيم الذي أعطاهم الإسلام وتكريم هؤلاء الصفوة من الصحابة الأعلام الذين شادوا هذا المجد، وتجاوزهم البحث في هذا الخلاف الذي دخلته زيوف كثيرة وأكاذيب كثيرة، وكانت وجهتهم دائماً إلى القرآن وحده وإلى التماس الأسوة من الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو المعصوم والمؤيد بالوحي، وقد فضلوا دائماً بين (منهج الإسلام) وبين (تاريخ الإسلام)، ولكنهم لم يكونوا ليجرؤا على تناول تراثهم على هذا النحو من الاحتقار والسخرية والمهانة التي حاول طه حسين أن يتناوله بها.
أنور الجندي(31/17)
هل غير الدكتور طه حسين آراءه في سنواته الأخيرة - 23
الأستاذ أنور الجندي
كان السؤال المطروح هو: هل حقيقة أن الدكتور طه حسين غير آراءه في سنواته الأخيرة؟ وكانت الإجابة على الوجه الآتي:
إن الدفاع عن طه حسين من بعض عارفيه ومريديه وكل من كان له عليهم فضل أو لهم به صلة، هو من حقهم.. ولكن المعادلة الصعبة هي أن المسئولية الأخلاقية أمام الأجيال هي اكبر بكثير من العاطفة الفردية والهوى الشخصي.
إن هؤلاء القوم ما كادوا يرون هذه الصورة التي كشفت حقيقة طه حسين تنشر على الناس حتى بادروا إلى الدفاع عنه بالقول:
لقد غير الدكتور طه حسين آرائه في آخر حياته.
لقد تراجع الدكتور طه حسين عن أخطر آرائه.
والقصة تسمعها من الكثيرين.. ولكن هل هي صحيحة حقاً؟.
الواقع أن هناك ما يمكن أن يقوله هؤلاء: أن الدكتور طه كتب "على هامش السيرة" وبه كفر عن "الشعر الجاهلي"، وكتب كتابه "الشيخان" عن أبي بكر وعمر.. وبه كفر عن "مستقبل الثقافة".
وذلك كله خداع وباطل.. فإن الدكتور طه لم يغير آرائه مطلقاً.. لأنه كما يقول الدكتور محمد نجيب البهبيتي: كان له حارس وديدبان يحول بينه وبين ذلك.. هذا الحارس مقيم في بيته يلفت نظره دائماً إلى الخط المتفق عليه.. ولكن الدكتور طه حسين غير أساليبه ووسائله في سبيل أن يصل إلى قلب القارئ المسلم. وبعد أن كانت أساليبه هي الهجوم على الإسلام أصبحت تقوم على ترضي الإسلام داخلياً ودس السم على مراحل خلال البحث، ولا يقل السم المدسوس في كتاب "الشيخان" عن السم المدسوس في "هامش السيرة" أو في "الشعر الجاهلي" ولكن القوم لا يعلمون وسائل إخفاء الشبهات.(32/1)
إن الذي يتردد على الألسنة هو: أن كثيراً من أصدقاء طه حسين واجهوه برأيهم في "الشعر الجاهلي" أو "هامش السيرة" أو "مستقبل الثقافة" فقال لهم: "لو استقبلت من أمري استدبرت ما كتبت الشعر الجاهلي" أو قوله: "اكتم عني" أو قوله للسفير المسلم أحمد رمزي عن كتاب مستقبل الثقافة: "إنني متفق معك على أن في الكتاب أخطاء كثيرة" ذلك هو أسلوب طه حسين المرن الماكر الخادع الذي لا يواجه بالمعارضة أو الهجوم، ولكنه يلين حيث يرى أن صاحبه واع لسمومه، فإذا وجد من يجهل لم يمتنع عن خداعه. وقصته مع اللواء محمود شيت خطاب معروفة. فقد قال في آخر أيامه أن القرآن كان غير منقوط فكان يقرأ على قراءات مختلفة ففي آية: "يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا" كانت تقرأ فتثبتوا" فرده محمود شيت خطاب وقال له: هذا كلام أعداء الإسلام..
أما القول بالتراجع فإن هناك من الأدلة الكثير الذي يكذبه:
أولاً: أن أسلوب التراجع معروف.. وهو أن يعلن الكاتب أنه كان يقول بكذا ثم تبين له سوى ذلك، وأن يوقف على الفور ما له من مؤلفات في هذا الصدد.
ثانياً: أن يعلن أنه اتخذ هذا الأسلوب كوسيلة للعمل ثم تبين له أنه لا ينتج وأنه تحول عنه.
ومثل الحالة الأولى الإمام الأشعري، ومثل الحالة الثانية الدكتور محمد حسين هيكل.. فهل تراجع طه حسين حقاً، عن رأي من آرائه وهو حي، وأعلن ذلك.. ذلك ما لم يحدث.. وهل يكفي أن يتراجع طه حسين عن رأي أو آخر في مساره خاصة مع صديق، دون أن يوقف هذا الرأي عن الذيوع والانتشار.. إن ذلك لا يكفي، بل إن هذا يؤكد إصرار الدكتور طه على الرأي وحرصه على أن يذيعه في الناس فيفسد به مزيداً من العقول والقلوب.. ولقد أشار كثيرون إلى وقائع الدكتور أحمد الحوفي والسيد محمد بهجت الأثري، وسعيد الأفغاني، ولكت هل توقف طه حسين عن آرائه، هل حدث تلاميذه بشيء من هذا التراجع، إنذ ذلك الأمر ظل قاصراً على مسمع عدد قليل من أصدقائه.(32/2)
هذا شيء.. وهناك شيء آخر.. إن بعض مقالات الدكتور طه التي نشرها في أول الشباب وفيها آراؤه الجارحة قد عاد فجمعها في مؤلفات صدرت في آخر حياته.. وهذا يعني إصراره على تلك الآراء وأنه لم يتنازل عنها.
أما القول بأن كتبه على "هامش السيرة" أو "الفتنة الكبرى" أو "الشيخان" هي تراجع عن آرائه السابقة وتحول إلى الإسلام فذلك قول سائج وقد فندنا ذلك في كتابنا عن طه حسين.. ونضيف بأنه كانت هناك مؤامرة وفشلت.. هذه المؤامرة ترمي إلى تنصيب الدكتور طه (إماماً للإسلام) وقد غضب القوم عندما هاجم الإسلام بعنف في المرحلة الأولى وطلبوا إليه أن يدخل الإسلام من باب آخر حتى يمكن أن تكون آراؤه حجة على المسلمين من بعد في فتوى ضالة على النحو الذي حاول أن يتحدث به في مؤتمر الحوار بين الإسلام والمسيحية.. وهو حوار مشبوه، ولكن آراء طه حسين التي قدمها في هذا المؤتمر لم تلبث أن أصبحت حجة من بعد ووصفت بأنها مبادرة طيبة ومقدمة لما قام به البعض بعد ذلك في طريق محفوف بالمخاطر والشبهات.
وكانت الخطة أن يعود طه حسين إلى الإسلام في ضجة ضخمة، واختاروا لها وسيلة وخطة: أما الوسيلة فهي كتابه على هامش السيرة، أما الخطة فهي الانضواء تحت لواء حزب الأغلبية (الوفد) لتكون قدرة طه ونفوذه أقوى في تحقيق الأهداف المرسومة.. ولقد خدع كتاب هامش السيرة كثيرين وظنوا أنها دعوة حارة إلى الدين، وخفى عليهم جانب السخرية والتهكم الواضح فيه والذي كشفه الرافعي منذ اللحظة الأولى.
أما "الفتنة الكبرى" فإنه محاولة جريئة لتبرئة اليهود من فتنة (عبد الله بن سبأ) وهي فتنة جذور عميقة في تاريخ الإسلام فأراد طه حسين أن يخدم اليهودية العالمية بعمل آخر مضاف إلى قولته في إبراهيم وإسماعيل، وفي كتابته عن قضية اليهود في ألمانيا وأوروبا، ويتصل ذلك بإصدار مجلة الكاتب المصري ومحاضراته في الدور الإسرائيلية في القاهرة والإسكندرية.(32/3)
وهناك الوثيقة التي تدحض كل الشبهات وهي حديثه مع مجلة الاثنين التي كانت تصدرها دار الهلال. والاتهام موجه فيها صراحة إلى الدكتور.
وإذا كانت هناك محاولة لتبرئة الدكتور من آرائه القديمة فإننا نقبل بأي نص صحيح يكون فيه الدكتور طه قد تراجع عن رأي من هذه الآراء الخطيرة التي قدمها خلال حياته ومن خلال كتبه وآثاره.
وفي هذا رد على محاولة البعض بالقول بأن طه حسين صحيح العقيدة.
وهذه هي الوثائق:
رأيه في الدين:
إن الدين حيث يثبت وجود الله ونبوة الأنبياء ويأخذ الناس بالإيمان بهما يثبت أمرين لم يستطع العلم أن يثبتهما.. فالعلم لم يصل بعد إلى إثبات وجود الله ولم يصل بعد إلى إثبات نبوة الانبياء.
إن العلم ينظر إلى الدين كما ننظر إلى اللغة وكما ينظر إلى الفقه وكما ينظر إلى اللباس من حيث أن هذه الأشياء كلها ظواهر اجتماعية يحدثها وجود الجماعة وتتبع الجماعة في تطورها بما تتأثر بما تتأثر به الجماعة.
إذن فالدين في نظر العلم الحديث ظاهرة كغيره من الظواهر، لم ينزل من السماء ولم يهبط به الوحي وإنما خرج من الأرض كما خرجت الجماعة نفسها.
"وهذه آراء الفيلسوف اليهودي دوركايم.
رأيه في القرآن:(32/4)
لاشك أن الباحث الناقد والمفكر الحر الذي لا يفرق في نقده بين القرآن وبين أي كاتب ديني آخر يلاحظ أن في القرآن أسلوبين متعارضين لا يربط الأول بالثاني صلة ولا علاقة مما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن هذا الكتاب قد خضع لظروف مختلفة وتأثير بيئات متباينة.. فمثلاً نرى القسم المكي فيه يمتاز بكل ميزات الأوساط المنحطة، كما نشاهد أن القسم المدني اليثربي تلوح عليه إمارات الثقافة والاستنارة.. وإذا دققتم النظر وجدتم القسم المكي ينفرد بالعنف والقسوة والحدة والغضب والسباب والوعيد والتهديد، ويمتاز كذلك بتقطيع الفكرة واقتضاب المعاني وقصر الآيات والخلو التام من التشريع والقوانين، كما يكثر فيه القسم بالشمس والقمر والنجوم إلى آخر ما هو جدير بالبيئات الجاهلية الساذجة التي تشبه بيئة مكة تأخراً وانحطاطاً، أما القسم المدني فهو وديع لين مسالم يقابل السوء بالحسنى ويناقش الخصوم بالحجة الهادئة والبرهان الساكن الرزين، كما أن هذا القسم ينفرد بالتشريعات الإسلامية كالمواريث والوصايا والزواج والطلاق والبيوع وسائر المعاملات، ولاشك أن هذا أثر واضح من آثار التوراة والبيئة اليهودية التي ثقفت المهاجرين إلى يثرب ثقافة واضحة يشهد بها هذا التغيير الفجائي الذي ظهر على أسلوب القرآن.
"وهذه آراء الفيلسوف اليهودي جولدزيهر".
رأيه في الرسول صلى الله عليه وسلم:
ونوع آخر من تأثير الدين في انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين وهو ما يتصل بتعظيم شأن النبي من ناحية أسرته ونسبه من قريش فلأمر ما اقتنع الناس بأن النبي يجب أن يكون من صفوة بني هاشم وأن تكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف وأن يكون بنو عبد مناف صفوة بني قصى، وأن تكون قصى صفوة قريش، وقريش صفوة مصر، ومضر صفوة عدنان، وعدنان صفوة العرب، والعرب صفوة الإنسانية.
"وهذه آراء الفيلسوف اليهودي مرجليوث".
هذه هي آراء طه حسين موجزة في الإسلام والقرآن والنبي، فهل غيرها".(32/5)
الواقع أنه ليس هناك دليل من كتاباته الأخيرة أو آثاره من نص يمكن أن يدل على تغير هذه النظرة، بل إن كل الكتابات توحي بأنها أساس لفكرته عن الإسلام ومفهومه له.
حادث السطو التاريخي:
عاد السؤال الملح الحائر حول الدكتور طه حسين مرة أخرى.. بعد أن عادت الصحف إلى إعادة تقييمه ومحاولة رد اعتباره بكتابات ساذجة لا تخدع أحداً.. وكان أولى أن يوضع طه حسين في قائمة كتاب السياسة الحزبية المتصارعة قبل عام 1952 م بكل ما صنعت من توسيد لمفاهيم الهجاء والكلمة الجارحة التي امتد أثرها إلى مجالات الكتابة الأدبية والاجتماعية.. وقد كان طه حسين أحد الهجائيين الكبار.. فضلاً عن ولائه للقصر، وإدعائه من بعد أنه كان مبعداً أو مغضوباً عليه.. وهو الذي ترقى من أستاذ في الجامعة إلى عميد إلى مدير إلى وزير التعليم.. ولم تكن عبارته الصارخة في مدع الملكين فؤاد وفاروق إلا رمزاً لتلك العبودية، وذلك الذل والخضوع.. وقد كان أولى أن يسقط طه حسين من ذلم الركام الذي مضى وانتهى.. ولكنع أعيد لما يحمل من مفاهيم مسمومة يراد لها أن تنتشر وتشير أبحاث خصوم العرب والإسلام إلى دعمها وحمايتها.
ولقد كان كتاب (طه حسين.. حياته وفكره في ميزان الإسلام) خنجراً في صدور الكثيرين حتى جرت محاولاتهم لرد اعتبار طه حسين.. وسافر مستشرقون إلى البلاد العربية للحديث والمحاضرة عنه، والاعتذار عن أخطائه.. وجرت تلك القلة المضللة بأنه تخلى عن أفكاره المسمومة.. ولكن الله تبارك وتعالى الذي يريد أن يظهر الحق ويؤكده شاء أن تصدر في الفترة الأخيرة ثلاثة مؤلفات هامة وضخمة لرجال ثلاثة هم:
الأستاذ محمود محمد شاكر.
الدكتور نجيب البهبيتي.
الدكتور عبد المجيد المحتسب.(32/6)
وهذه الكتب الثلاثة كشفت مزيداً من الحقائق، ودحضت كثيراً من أهواء القوم.. فهذان رجلان تتلمذا على عميد الأدب في الجامعة، وقد شاء الله لهما أن يكشفا هذه الصفحة الخطيرة: صفحة السطو والمراوغة والمكر التي أخفاها وراء مظهره الأنيق وكلماته البراقة.
فيكتب الأستاذ محمود محمد شاكر في كتابه "المتنبي" فصلاً مطولاً في 160 صفحة عن هذه العلاقة بين الأستاذ والتلميذ على نحو يكشف عن المرارة الشديدة التي دفعت الطالب الصغير إلى أن يترك كلية الآداب نهائياً تقززاً وكراهية لذلك الأسلوب المسموم الذي يصطنعه عميد الأدب العربي فيقول فيما يقول:
الأمر وما فيه هو أن الدكتور طه حسين أراد أن يثيرنا نحن طلبة الجامعة يومئذ بمسألة غريبة هي مسألة "الشعر الجاهلي".. هذه المسألة من حيث أن الشعر الجاهلي منحول موضوع، وأنه شعر إسلامي صنعه الرواة في الإسلام مسألة كنت أعرفها قبل أن أدخل الجامعة، وقبل أن يلقي علينا الدكتور ما ألقى.. لأني كنت قرأتها في مقالة الأعجمي "مرجليوث" ثم جاء الدكتور طه حسين يردد أقوال مرجليوث وآراءه وحججه.. بجوهرها ونصها.. فلم يزد الأمر عندي على أن يكون ما استمع عليه "حاشية" على متن من المتون.. ولكنها حاشية من نوع مبتكر.. هي حاشية الدكتور طه.. على متن مرجليوث (وهي المعروفة عند الناس باسم كتاب في الشعر الجاهلي).(32/7)
تتابعت المحاضرات وكل يوم يزداد وضوح السطو العريان على مقالة مرجليوث وهي مسألة فارغة.. بذرتها ثرثرة، وشجرتها ثرثرة، وثمرتها ثرثرة أنشأت عندي قضية هي قضية السطو على أقوال الناس وآرائهم وأعمالهم، ثم إدعاء تملكها بملك عزيز مقتدر، ثم الاستعلاء بهذا الملك المغصوب، والاستطالة به على الناس.. وأبشع من ذلك أن ينكشف أمر هذا الغصب والسطو ويتسامع به الناس، ويدل الكتاب والعلماء على الأصل المغصوب كتابة موثقة منشورة، فلا يبالي الساطي بشيء من ذلك كله.. بل يزداد جرأة وتيها، وإدعاء واستعلاء واستطالة.. وكأن الذي قيل عن سطوه لم يقل، وكأن ظهور سطوه فضيلة ترفع من قدره، وتنوه به في المجامع.. أما أنا فلم أزل أعد هذا المسلك احتقاراً للناس أي احتقار، وازدراء بهم وبعقولهم، وإنزالاً لهم منزلة من لا يبصر ولا يسمع ولا يعقل ولا يحسن.. هذه هي القضية التي لم تزل حية في نفسي منذ خمسين عاماً. وكل يوم أقول لنفسي عسى ولعل.. وأتوقع أن يذكر الدكتور طه اسم مرجليوث مرة وينسب إلى الرجل رأيه في السعر الجاهلي مجرد إشارة.. يا لحيرتي وعجبي.. لو مرة واحدة ذكر الدكتور طه اسم مرجليوث لنجوت من هذه "الغول" التي كانت تفزعني وتتشبث بي جارة لي في قاعة المحاضرات وخارج القاعة.. وتفاقم أمر قضية السطو في نفسي واستبدت بي جارتي الغول حتى لم تدع يوماً بعد يوم قعقعة معنى الجامعة في نفسي وهو يتقوض يريد أن ينقض.. وفي خلال ذلك كان مني ما كان يوم وقفت أجادل الدكتور طه في "المنهج" و "الشك" حتى انتهرني، ثم استدعائي فدخلت عليه فعاتبني وأنا صامت لا أستطيع أن أرد.. لم أستطع أن أكاشفه بأن محاضراته التي نسمعها مسلوخة كلها من مقالة مرجليوث.. لأنها مكاشفة جارحة من صغير إلى كبير.. ولكني كنت على يقين من أن يعلم أني أعلم من خلال ما أسمع من حديثه.. ولكني لم أكتمها في حديثي مع الدكتور طه.. وهي انه سطا سطواً كريهاً على مقالة المستشرق الأعجمي.. صارحت(32/8)
بذلك "نلينو" و "جويدي" من المستشرقين وكانا يعرفان.. ولكنهما يداوران.. وطال الصراع غير المتكافئ بيني وبين الدكتور طه زماناً إلى أن جاء اليوم الذي عزمت فيه على أن أفارق مصر كلها لا الجامعة وحدها".
تلك هي كلمات قليلة مما كتب الأستاذ محمود شاكر عن الدكتور طه أستاذه في الجامعة تكشف في وضوح خلفية طه حسين الذي يتشدقون بعظمته وفضله، ونبل خلقه وعلمه.. ولكن مهلاً.. فإليكم صورة أشد قوة يقدمها الدكتور محمد نجيب البهبيتي في مقدمة كتاب ضخم بلغت صفحاته 660 صفحة من القطع الكبير أخلصه كاملاً للرد على سموم طه حسين وهذه هي الصورة التي رسمها بعلاقته به في الجامعة.
أولاً: فتح لطفي السيد باب الجامعة القديمة أمام هذه (المستشرقة) فأتاح لها في ظل الشرعية العلمية فرصة العمل على تنفيذ برنامجها المخطط.. وطه حسين تكفل بالدعاية لها وبالمناداة على ما عندها.. وكان دخول هذه الموجة التبشيرية الجديدة في زفة العروس العامل الأول الذي غطى حقيقتها.(32/9)
ثانياً: هذه المؤسسة التي سميت تجاوزاً وطموحاً بـ "الجامعة المصرية القديمة"، ما كانت إلا مؤسسة ثقافية عامة يدب إليها من شاء دون شروط أو قيود.. فالتفت فيها المتباينات، وأصبحت مورداً مباحاً للطموحات غير المتوازنة.. فدخلها طه حسين وهو الرساب بالجهل المركب في (عالمية العميان) بالأزهر ولعل الدكتوراه لم توجد ابتداء في هذه المؤسسة المتواضعة إلا لانتشاله من الهوة التي ألقى به إهماله فيها وهو طالب في الأزهر.. فلقد كان المشرفون على هذه الجامعة الإسمية يستأجرونه لحسابهم في النيل المزرى بخصومهم.. ودخل طه حسين الجامعة في حماية لطفي السيد وحزبه.. وكان معروف الاسم بما شتم الشتم الذريع لألمع شخصيات ذلك العصر.. ولم يكن بعد غريباً أن يسحبه (سانتيلاتا) إلى مجالس الأزهريين ليحرج بالوحي المستنزل عليه أساتذته الأزهريين.. ومن هذه الهالة الجامعية بدأت أعمال التخريب للحياة الإسلامية وكبدها وقلبها الحياة العربية.
ثالثاً: كانت سياستهم بالقياس إلى بناء طه حسين تتلخص في نقاط أربع:
تكبيره بالشهادة المصنوعة وبالدعاية.(32/10)
نلقه نقلاً تاماً إلى معسكرهم عن طريق إيداعه داراً وإعطائه حياة يصبحان القالب الدائم الملازم له في أيامه، قالب من حرير لكنه صفيق لا يلين ولا يتبدل.. ومن هنا كانت المرأة الوفية جداً التي تزوجها في باريس بواسطة قسيس ذكروا أنه توسط في إقناع أهلها على الموافقة بعد رفض.. وقصة الرفض هذه لم تكن واردة قط.. فالفتاة فقيرة.. ولعل الشقة التي أنزل فيها طه حسين في باريس كانت هي مصدر العيش الذي كانت الأم تعيش منه مع راتب ابنتها مع عملها على صندوق محل حلاقة في الحي الجامعي في باريس.. وقد ظلت الأم تؤجر غرف هذه الشقة لمن تشاء حتى أيام كان الدكتور محمد القصاص في باريس نزل عندها وظلت طوال الليل تحدثه عن ابنتها.. وقضى ليلة واحدة نجا بعدها بجلده خوفاً من أن يبلغ خبره طه حسين فيمسخه قرداً.. فالأم وحيدة.. ولم يظهر في الأفق المعروف لزيارات طه حسين لباريس أي عرض يشير إلى أقرباء للزوجة أو خالات أو أعمام أو جد للأولاد أو صهر للرجل.. وطه حسين لو جد أهلاً يصلحون للحديث ما وفره (ص 20 مقدمة كتاب الدكتور البهبيتي).
السفر كان كل صيف إلى باريس.. ونفقاته تدبر من هنا في مصر ومن هناك.
حكى لي الأستاذ إبراهيم مصطفى قال: إن طه كسب كثيراً.. ولكن إسراف إمرأته لا يبقي على شيء.. كنت أودعه على الباخرة الحاملة له إلى أوروبا كل صيف فأجد رجلاً من أصحاب دار المعارف في وداعه معي فإذا لقيه سلمه صكاً بألف جنيه على مصرف فر فرنسا ليغطي بعض نفقاتهم هناك.. أما في فرنسا فقد كان طه حسين ابن فرنسا البار الوفي يلقى بما يلقى به الأوفياء وما عاد طه حسين إلا ومعه كتاب كتبه هناك لاشك يلخص النتائج التي انتهى إليها الاستشراق إلى إخراجها في تكتيك العمل المتصل على تنفيذ الخطة المرسومة.(32/11)
البيت الذي ينزله في مصر لابد أن يكون قطعة تتم الصياغة التي عاد بها من أوروبا، ومن فرنسا خاصة.. ولم يكن ينقصه إلا السكرتير فكان (جزويت القاهرة) يتولون توفير هذه اللمسة الأخيرة.. وفريد شحاته كان إحدى هباتهم له.. كان هبة كاملة لا ينقصها شيء: أعطى له عبداً لا يملك لنفسه شيئاً.. فهو رهن أمره في الليل وفي النهار وهو عكازته التي يتوكأ عليها حيثما ذهب.. عمل معه منذ نعومة أأظافره لا يكاد يتم السادسة عشرة وطرد بلا رحمة وقد أشرف على الهرم.. وعاش فريد مملوكاً لطه حسين ما يقارب نصف قرن.. وهكذا قضى طه حسين عمره الطويل الذي جاوز فيما أعتقد التسعين في هذا القالب الحديدي.. بين إمرأة نصرانية وسكرتير مسيحي منتدب من قبل الجوزيت لا يغيب طه حسين عن عينه وهي عين الجزويت وولدين كلود ومرجريت لا يناديهما الأب أو الأم أو السكرتيرة أو الخادم إلا بهذين الاسمين.. كلود ومرجريت.
رابعاً: الدكتوراه التي يحملها طه حسين ليست دكتوراه الدولة.. لأنه لم يكن حصل على الشهادة الثانوية.. وقد امتحن في غير مادة الشهادة التي منحت له اسماً.. ثم عاد إلى منصر ليدرس التاريخ الروماني في ظل شهادة اسمية.. والواقع الذي أعرفه عن طريق ابتلائي بالرجل أنه لم يكن يعرف اللاتينية التي طالما ملأ شدقيه بالقول أنه درسها فضلاً عن جهله الكامل للغة اليونانية.
خامساً: ما كدت أقترب منه حتى فجعت في الصورة الخيالية التي كانت تقوم له في ذهني.. كان يقع وراء أسوار الجامعة كياناً طرياً جداً، كما تقوم القوقعة تحت الصدفة لا تكاد تمد يدك إلى ما وراء الصدفة حتى تصادف كياناً هالكاً.. فقد كان ذهناً هشاً، ومنهجاً مراوغاً زواغاً هراباً إلى السكوت عند احتدام الصراع وكان دائم التكرير لنفسه ما يقوله في هذا العام هو نفسه في العام المقبل".(32/12)
وبعد.. فما قاله الدكتور البهبيتي في كتابه الضخم: "المدخل إلى دراسة التاريخ والأدب العربيين" كثير ويمكن تقديمه للسادة المغرورين في "عظمة" عميد الأدب ونحن على استعداد لأن نهدي لهم هذا كله – بالإضافة إلى ما قدمناه لهم في كتابنا "طه حسين.. حياته وفكره في ميزان الإسلام" نقدمه لرجاء النقاش وعبد المنعم شميس والآخرين".
أما الدكتور المحتسب فقد كان كتابه: "طه حسين مفكراً" عملاً جديراً بالتقدير.. فهو رسالة جاكعية قدمت لكلية الآداب في الأردن.. وكاتبها لم يقرأ إلا أعمال طه حسين، ولم يتصل بالبيئة التي شاهدت عمل هذا الرجل ووجوده.. فكانت كلمته رمزاً على الحق الخالص.
يقول: "أربعون عاماً ينفقها طه حسين في الدعوة للفكر الرأسمالي، والثقافة الفرنسية الفرعونية.. ثم ينقلب ويتحول إلى الدعوة القومية العربية.. وطه حسين من بناة الفرعونية طيلة أربعين عاماً.. فكيف يصير واحداً في بلاد المسلمين مع الأفكار الغربية الرأسمالية وقد وظف طه حسين نفسه للترويج والدعوة – التي لا تعرف الملل أو الكلال – إلى الفرعونية والدعوة إلى القومية بضاعة أوروبية رأسمالية في العصر الحديث.
وإذا كان طه حسين يروج للفكر الرأسمالي والحضارة الغربية فلا غرابة في دعوته وترويجه "للثقافة اليونانية والثقافة الفرنسية".
وقد وجد كتاب الدكتور المحتسب من أولياء التغريب خصومة شديدة.. فمنهم من حاربه كعمل جامعي، ومنهم من حاربه كعمل أدبي.. وما كان الرجل طامحاً إلا إلى أنر واحد أن يصدع بكلمة الحق ويكشف زيف هذا الطاغوت الواسع الشهرة.
ولا ريب أن هذه الكتابات الخالصة لوجه الله والحق تكشف فساد تلك الحملات الواسعة التي تجرى لرد الاعتبار لعميد الأدب بمحاضرات يلقيها المستشرقون في الدول العربية أو فيلم سينمائي ساقط أو ربط طه حسين بالسيرة النبوية فما يستطيع ذلك كله بعد اليوم أن يحجب حقيقة طه حسين.(32/13)
ومهما تكن عند امرئ من خليقة * * * وأن خالها تخفي على الناس تعلم
مهرجان طه حسين:
كانت أكثر أسئلة الندوة منصبة على "مهرجان طه حسين" الذي عقد بهدف إعادة الثقة في طه حسين وفكره ومفاهيمه بعد أن اهتزت في العام الأخير (1978 م) اهتزازاً شديداً بظهور عدد من الكتب والأبحاث تكشف كثيراً من الأسرار.. وبالرغم من الجهد الذي بذله المستشرقون في المهرجان للدفاع عن وجودهم من خلال الدفاع عن طه حسين.. فإن الأحداث نفسها أرادت أن تؤكد الحقائق الصحيحة، وتكشف الزيف المصنوع.. وكان من أبرز هذه العوامل فشل فيلم "قاهر الظلام" بعد أن عدل أكثر من مرة.. لأنه لم يستطع أن يقدم للناس إلا صورة رجل محمول على أكتاف الفرنسيين، وحياته كلها كراهية للإسلام وهجاء للأزهر فهم عند ذلك أنه هجاء للإسلام نفسه غير أنه مغلف بهجاء العلماء.. وقد حمل أكثر من خطيب في المساجد يوم الجمعة على حلقات الأيام التي عنى بإذاعتها استكمالاً لحملة إعادة الثقة إلى الجثمان الهامد.
وكان أخطر أحداث هذه الساعات هو الخبر الذي نشرته مجلة أكتوبر والذي تسرب مرة من أن الدكتور طه حسين زار اليهود وأم الجامعة العبرية بالقدس عام 1944 م حسب رواية الدكتور حسين فوزي.. وكان إذ ذاك مديراً للجامعة المصرية بالنيابة.. وقد تكتم الدكتور طه وأصحابه هذا الخبر طويلاً وإن كان صمت طه حسين عن مسألة فلسطين خلال أربعين عاماً يوحي بما يوحى فقد عرف أنه لم يكتب كلمة واحدة عن فلسطين حياته كلها.. وقد كان هذا اللقاء في تل أبيب مقدمة لإنشاء مجلة الكاتب المصري التي مولها اليهود والتي يلفت النظر فيها مقاله في العطف على مهاجري اليهود الذين نزلوا في ميناء حيفا وهو مسافر بالباخرة إلى بيروت.(32/14)
كذلك فقد كانت كلمة الأستاذ الكبير أحمد حسين رئيس حزب مصر الفتاة، والمؤرخ الكبير الذي عايش الأحداث في مجلة وزارة الثقافة إبان الاحتفال بطه حسين هي قنبلة الموسم.. فقد أشار إلى ما كان قد كتبه الأستاذ فريد شحاته سكرتير الدكتور طه حسين
لأربعين سنة في مجلة الإذاعة المصرية قبيل وفاة العميد بأن العميد اعتنق النصرانية في فرنسا، وأقيمت الطقوس المؤدية إلى ذلك في كنيسة قروية بفرنسا.. وأشار الأستاذ أحمد حسين إلى أن طه حسين "يمثل الفترة المرفوضة في تاريخ مصر" ومن ذلك ما ذكره من أن طه حسين كان يكتب في صحيفتين متعاديتين في وقت واحد.. كل منهما كان يعتبر الآخر كافراً.. ومع ذلك فقد كانت كلتا الجريدتين تفسح صدرها لهذا الطالب الأزهري الكفيف.. وإن كانت هذه الواقعة تقطع بذكاء طه حسين فإنها تقطع بثورته على القيم السائدة.
وقال: ومن ذلك مقالاته في الهجوم على الأستاذ مصطفى لطفي المنفلوطي.. نرى أنه كان شعاراً لغره ممن يريدون النكاية بالمنفلوطي دون أن يجدوا في أنفسهم الشجاعة.. فاستخدموا هذا الفتى الضرير الذي لم تنقصه الشجاعة في تحدي الجماهير، وكان يحصى عليه الألفاظ والتراكيب.. وغني عن البيان أنه ما كان لشاب مبتدئ فوق كونه كفيفاً أن يخوض مثل هذا المعركة إزاء شيخ من فحولها.. وقيل أن الأستاذ محمد صادق عنبر هو الذي كان يزود طه حسين بمادة مقالاته (مع ملاحظة أننا ذكرنا هذه الواقعة بالتفصيل في كتابنا) "طه حسين.. حياته وفكره في ميزان الإسلام".
ويقول الأستاذ أحمد حسين:(32/15)
"ونراه على سبيل المثال قطباًَ من أقطاب الأحرار الدستوريين.. ثم نراه يتحول إلى قطب من أقطاب الوفد.. وهو وضع انفرد به طه حسين.. وقد شاهدت مصر أقطاباً يخرجون من الوفد ليصبحوا من معارضيه.. ولكنا لم نجد أبداً مع الوفد إنساناً عارض الوفد ثم أصبح من أقطابه حتى ليدخل الوزارة.. ولكن طه حسين كان هذا الإنسان الفذ الذي خاصم الوفد أشد الخصام عندما كان الوفد هو القوة الساحقة الشعبية في مصر، ثم أصبح من أقطابه دون أن يرى في ذلك أي حرج!!.
ثم قال الأستاذ أحمد حسين:
إن ذلك يقطع بأنه لا يحترم المبادئ، ولا يقيم وزناً للقيم التي تعارف عليها البشر، وأن كل ما يعنيه هو إثبات ذاته من خلال الخروج عن المألوف وما تواضع عليه المجتمع.. لنتصور أنه منذ سبعين سنة تقريباً حيث كانت فرنسا حامية المسيحية قد تزوجت فتاة فرنسية مسيحية من أسرة ممعنة في المسيحية شاباً مصرياً فقيراً كفيفاً مسلماً.. وتم ذلك بماركة الأسرة كلها بما في ذلك القسيس قريبها.. أقول إن تصديق هذه الصورة لا يكون إلا بإلغاء عقولنا وتكون رواية الأستاذ فريد شحاته أقرب الناس إلى طه حسين أربعين سنة هي الرواية الوحيدة التي تفسر لنا هذا الذي حدث.. فلابد أن يكون أشخاص ذوو نفوذ قد أشرفوا على العملية كلها ومولوها، وتحدثوا عن الدور الخطير الذي سوف يقوم به هذا الشاب الذي وإن كان ضريراً فهو مقتدر.. وسوف يعهد له بدور خطير في حياته، وبغير هذا الضمان والتمويل المالي بمبالغ باهظة مع الوعد بتقديم مبالغ أكثر وأن يعتنق طه النصرانية كتأكيد لذلك كله هو الذي يفسر لنا لماذا تم الزواج بموافقة الأسرة كلها.. ولماذا وافقوا على أن تسافر الزوجة إلى المجهول.. إلى أفريقيا، مع شاب فقير ضرير.. إنها قصة لو لم تكن حدثت بالفعل لما صدقها إنسان، ولا تعليل لها إلا أنها من نوع قصص المبشرين الذين قصدوا مجاهل أفريقيا".(32/16)
هذا الذي ذكره رجل جليل الشأن، وزعيم بارز.. هو الأستاذ أحمد حسين إنما يمثل صوت الحق الذي أطلقه الله تبارك وتعالى في احتفالات تكريم طه حسين ليكون تأكيداً لما قررناه وقرره محمود محمد شاكر، ومحمد نجيب البهبيتي، وعبد الحميد المحتسب وكثيرون.. وقد عرضنا لهذه النقاط في كتابنا. ولكنا لم نتوقف عند نقطة اعتناق المسيحية وتركناها ليجليها الزمن، والمعاصرون للواقعة وغيرها.. وعندنا أن ما فعله طه حسين هو أكبر من هذا الحدث لأنه كان ولاء للقوى العالمية الكبرى التي كان عليها أن تحارب الإسلام في قيمه وتاريخه، وقرآنه ورسوله ولغته.. وهو ما فعله طه حسين.. ولقد حاول كثير من خطباء المهرجان الدفاع عن طه حسين على طريقة من الطرق.. ومن يقرأ كلام الأستاذ أحمد حسين علي يجد فيه الرق المفحم على ما نشره "كمال قلته" في مجلة الجديد حين قال: "إن طه حسين يتسم بالشموخ".. ولست أدري.. أي شموخ هذا.. هل في استسلامه للمستشرقين، أم لرجال الأحزاب، أم للملك، أم لكل حاكم؟!! إن أصح ما يوصف به موقف طه حسين هو "الذلة" التي ما بعدها ذلة والتبعية التي وصلت إلى أبعد حدود العبودية!!.(32/17)
وفي خضم هذه الأحداث وصلت مجلة الأزمنة العربية التي تصدر بدولة الإمارات، وفيها مقال للأستاذ محمد راشد شبيطة عنوانه: "سبعة دكتوراه ضد العروبة والإسلام" وهو فيه يتساءل لماذا أعطت هذه الدول الأوروبية للدكتور طه حسين هذه (الدكتوراهات) أليس ذلك أمراً مثيراً للدهشة.. وهو يدل على شدة اهتمام الغرب بطه حسين، وغرس أفكاره في نفوس الناس لأنها ضد الإسلام.. وكذلك أشار إلى الظاهرة الخطيرة التي دعت إلى إرسال مستشرق إلى أبو ظبي وغيرها من البلدان للمحاضرة عن طه حسين.. ولماذا لم يحاضر مثلاً عن ابن خلدون.. ويقول: أنه لم يأت ليتأكد أننا ما زلنا نقدس طه حسين.. وإذا كنا فعلاً كذلك فإنه سيعود إلى أوروبا مطمئن النفس إلى كوننا ما زلنا في سبات عميق وإن لم نكن كذلك فسيتكفل بغرس أفكاره في نفوسنا وعقولنا.
وفي مجلة الثقافة على عددين متتاليين (أبريل 79، مايو 79) كشف فيها الكتاب حقائق مذهلة عن طه حسين.. فالأستاذ محمد عبد الغني حسن عضو المجمع اللغوي يتحدث فسي ست صفحات مطولة عن جريمة طه حسين في حق الشاعر محمود أبو الوفا حين يكتب مقالاً حمل فيه على محمود أبو الوفا عام 1934 م قال:
"إن نقد طه حسين لأبي الوفا وشعره لم يصدر عن براءة وتنزه وحيدة.. ولكن أصدرته نفس فيها موجدة كثيرة على (أبو الوفا) وما أكثر ما كان الدكتور طه حسين يخضع نقده لاعتبارات خاصة وعوامل شخصية بعيدة عن نزاهة الرأي.. وذنب الشاعر أبو الوفا عند طه حسين أنه لم يكن من شيعته ولا من حزبه وبطانته".
ويكفينا هذا من الأستاذ محمد عبد الغني حسن.
أما الموضوع الثاني فهو تعليق الأستاذ أحمد حسين الطماوي على كتاب فتحي رضوان (أفكار الكبار) فأشار إلى هجوم طه حسين على صوم رمضان في أشعاره القديمة وقوله:
لو أن لي في الناس حكماً نافذاً * * * ألزمت بالإفطار كل الناس(32/18)
وقد أورد في مقاله الذي هاجم فيه الصوم (مجلة مصر الفتاة 15/9/1909) حيث قال: "نبغض الصوم ونمله" واستشهد في ذلك بشعر لأبى نواس قال فيه، إذا مضى من رمضان النصف حل لنا اللهو والقصف، وشعر لابن الرومي وصف فيه شهر رمضان بأنه شهر ثقيل بطيء الظل والحركة.
وهكذا تنكشف خبيئية طه حسين قبل سفره إلى أوروبا وهو ما أشار إليه الأستاذ أحمد حسين من أنه لا يحترم المبادئ، ولا يقيم وزناً للقيم التي تعارف عليها الناس، وأنه منذ اتصل بالمستشرقين في الجامعة المصرية القديمة فقد أعد نفسه لحياة معينة.. وأشار الكاتب إلى مغالاة طه حسين في مدى تأثير الثقافة اليونانية على المصريين عل نحو ما نقرأ في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" غلواً شديداً أخرجه عن دائرة الصواب في كثير مما قاله.
وردد الكاتب ما ذكره فتحي رضوان في دراسته عن طه حسين ليوضح لنا أثر الثقافة الغربية ويمهد لهذا بقوله:
"وقد كانت نفس طه حسين كالمكان الفارغ.. فإنه لم يحصل من العلم الأجنبي قبل وفوده إلى مونبيليه وباريس إلا قليلاً، ومن هنا كان يفرح بكل ما يصل إليه من كتب فرنسا وأساتذتها وعلمائها، ويعجب به ويتأثر به ظاهراً وباطناً، ويراه المثل الأعلى".
ومن بين ما تعلمه طه حسين في فرنسا (علمانية الدولة) و (نزع قداسة الدين من النفوس) وراح يفصل ويبين أثره في تكوين أفكار طه حسين وبالأخص الآراء التي أثبتها في كتابه (في الشعر الجاهلي) وردود رجال الدين والفكر عليها.(32/19)
ولكن لماذا تأثر طه حسين بالثقافة الغربية، وجنح إلى التطرف والغلواء وخاصة فيما يتعلق بالعقيدة. إن من يراجع مقالات طه حسين وقصائده المبكرة التي كان يكتبها في الجرائد قبل اتصاله بفرنسا عام 1914 م يقف على حقيقة مرة.. وهي أن هناك أفكاراً غربية تكشف عن طبيعة عقديته الدينية، وإن هذه الكتبابات تدعونا إلى القول بأن نفسية طه حسين كانت مهيأة ابتداء لتلقي الآراء والأقكار التي ألقيت عليه في السربون والتجاوب معها.. وإلا فبماذا نفسر عدم اعتناق الدكتور محمد صبري السربوني لمثل هذه الآراء المتطرفة، بل إن صبري رد على ما كتبه طه حسين عن الشعر الجاهلي مع الأخذ في الاعتبار
أن زوجته كانت أوروبية أيضاً واسمها سوزان أيضاً".
كل هذا الذي نشر عن طه حسين مفرقاً وحول المهرجان الذي حشد فيه المستشرقون الذين كانوا يدافعون عن فكرهم ووجودهم في العالم الإسلامي وأثرهم فيه.. وكذلك التغريبيون من خلال طه حسين وإحساساً بأن هدم طه حسين هو أكبر معول في مؤامراتهم الخطيرة على الإسلام واللغة العربية والتاريخ والرسول صلى الله عليه وسلم.. كل هذا هو صوت الحق الذي شاء الله تعالى أن ينشر ليحق كلمة خالصة، من خلال رجال أعلام: أمثال أحمد حسين وفتحي رضوان.. ولا ريب أن هذه الخيوط تكمل ما ذهبنا إليه، وما نشره تلاميذ العميد وأقرب المقربين إليه.(32/20)
ومن حسن الحظ أن هذا كله نشر في مجلة وزارة الثقافة كما نشر بها مقال محمود محمد شاكر الذي يسجل فساد الاتجاه الأدبي في الجامعة وكلية الآداب بفضل طه حسين ويأتي في نفس الوقت الحديث عن مؤامرة طه حسين في "الانتماء المصري للعروبة والإسلام" وهو الموضوع الذي أثاره (عبد الحميد الكاتب) والذي يكشف بوضوح عن جريمة طه حسين في تجريد المصريين من طابعهم كعرب وكمسلمين، وربطهم بالفرعونية قديماً وبالبحر الأبيض والغرب والحضارة اليونانية على نحو ذلك الأسلوب المضلل الذي ساقه في كتابه "مستقبل الثقافة" والذي جاراه فيه بعض التغريبيين، والذي أثبتت الدراسات والأحداث فساده وكذبه، وهزمته الحقائق التي تكشف عنها وجه مصر العربي الإسلامي الذي شكل مصر أساساً، وتكشف معه ضلال فكرة السبعة آلاف عام.. فقد أجمع المؤرخون المنصفون على أن هناك "انقطاع حضاري" بين عصر الإسلام وما قبله، وأن الإسلام قد غير هذه البلاد جميعاً، وعزلها عن اللغات والعقائد والتقاليد، والأساطير والوثنيات القديمة التي عاش فيها خلال ألف سنة من حكم اليونان والرومان، وفتح صفحة جديدة من التوحيد الخالص عن طريق القرآن واللغة العربية والإسلام ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وإن كل المحاولات الباطلة والزائفة لإعادة الفرعونية أو الفينيقية أو غيرها من الدعوات لم تنجح.. لأنه لا يوجد لها تراث أو ولا ثقافة لها أصول يمكن الارتباط بها، وهذه الدعاوي من أمثال ما كتبه محمد حسين هيكل وغيره.. وكذلك من ناحية أخرى فشلت دعوى المتوسطية والفكر اليوناني التي دعا إليها طه حسين ومحمود عزمي وأولياء النفوذ الفرنسي السياسي في الثلاثينيات والأربعينيات وتبين أن مصر تتجه إلى قبلة الكعبة وإلى مصدر النور والرسالة الفكرية الثقافية والعقائدية.. الإسلام الذي جاء خاتماً للأديان وجاء كتابه مهيمناً على الكتب وجاء كما قال الحق تبارك وتعالى: "ليظهره على الدين كله".(32/21)
(1)
الخنجر المسموم الذي طُعِن به المسلمون
ما هو الخنجر المسموم الذي طعن به المسلمون ؟!
ذلك هو السؤال الذي تلح الأحداث المتوالية في العالم الإسلامي على إلقائه وتطلب الإجابة عليه، وهو تساؤل مقدم اليوم على كل سؤال، لقد تحدث المصلحون عن مقاتل متعددة أصيب المسلمون بها في كيانهم وذكروها وأولوها اهتمامهم وبحثوا أمرها، ولكنهم لم يركزوا كثيراً على "الخنجر" الذي طعنوا به في هذه المقاتل، وأولى لهم أن ينتزعوه من جسمهم أولاً قبل أن يعالجوا مكانه النازف بالدم، ذلك لأنهم إذا لم ينتزعوه فسوف يظل ينزف وسوف لا يكون جدوى لشيء ما من إصلاح أو تصحيح أو تحرير أو علاج، إذ لابد أن يبدأ العمل من نقطة أولية:
هي نقطة الخنجر، ذلك الخنجر في تقديري وفيا وصل إليه اعتقادي واعتقاد الكثيرين من العاملين نفي دراسات التغريب والغزو الثقافي هو "التعليم" وما يتصل به من شأن التربية والثقافة، هذا هو الخنجر المغروس في الجسد الإسلامي، ومازال ينزف دماً، ولقد كان المستعمرون غاية في الدهاء عندما بدأوا معركتهم مع المسلمين والعرب من المدرسة وعن طريق برامج التعليم ومن خلال الإرساليات والسيطرة على أجهزة المعارف والتخلص من المناهج والمقررات والكتب التي كانت تدرس في مختلف أنحاء العالم الإسلامي والبلاد العربية الأزهر والزيتونة والقرويين ومعاهد الحديث ورجالها والعاملين بها وإحلال مناهج جديدة ومقررات جديدة وإذا كان يرمز إلى هذا بدنلوب في مصر فإن البلاد الإسلامية قد عرفت عشرات من أمثاله وأنداده.
وإذا كان المسلمون قد طعنوا في شريعتهم فأقصيت عن ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ومجتمعنا فإنما مرد ذلك كله إلى هذا الخنجر المدفون في أعماق الجسم الإسلامي.
وإذا كان المسلمون قط طعنوا في شريعتهم فأقصيت عن مجال التطبيق في مجتمعاتهم وحل محلها القانون الوضعي فإنما مرد ذلك إلى التعليم الذي خرج أجيالاً تحتقر الشريعة وتؤمن بعظمة قانون نابليون.(33/1)
وإذا كان المسلمون قد طعنوا في لغتهم وبرزت دعوى العاميات في مختلف أنحاء الوطن العربي وغيرت الأبجديات في بعض الأقطار الإسلامية فإنما مرد ذلك إلى مناهج التعليم التي خدعت العرب والمسلمين بدعوى عظمة اللغات الأجنبية ودخول اللغة اللاتينية إلى المتحف فلماذا تبقى العربية العجوز. وإذا كان المسلمون قد طعنوا في مفهومهم الإسلامي للاقتصاد فإنما يرجع ذلك إلى أن المسلمين والعرب درسوا في مدارس الإرساليات وفي المدارس الوطنية الموجودة في العالم أن الربا هو القاسم المشترك الأعظم على كل الأنظمة والمشروعات.
وإذا كان المسلمون قد طعنوا في مفهومهم السياسي الإسلامي فإنما يرجع ذلك إلى تلك الصور الزاهية التي قدمت لهم في مدارسهم وجامعاتهم عن الديمقراطية والليبرالية والجماعية وغيرها من أنظمة الغرب فخدعهم.
وإذا كان المسلمون قط طعنوا في مفهومهم للعلم فإنما يرجع ذلك إلى تلك المقررات المدرسية والجامعية التي ترد العلوم الحديثة من كيمياء وفيزياء وفلك وطبيعة وتكنولوجيا إلى علماء الغرب وحدهم متجاهلة ذلك الدور الخطير الذي قام به المسلمون والعرب في بناء الطابق الأساسي من منشئة العلم وأنهم هم الذين قدموا المنهج العلمي التجريبي إلى البشرية كلها.
وإذا كان المسلمون قد طعنوا في مفاهيمهم الاجتماعية فإنما مراد ذلك إلى مناهج التعليم الذي يدرس المجتمعات الغربية ومنهج مدرسة العلوم الاجتماعية الذي يقوم على إنكار فطرية الأسرة وأصالة الدين وثبات الأخلاق ويدعو إلى التطور المطلق وإلى الجيرية الاجتماعية، كل ذلك بدراسة أبناء المسلمين في مدارسهم ومعاهدهم وجامعاتهم على أنه حقائق مقررة، لا على أنه نظريات مؤقتة مرتبطة ببيئاتها وعصورها، قابلة للخطأ والصواب لأنها من نتاج عقليات بشرية تخطئ وتصيب.(33/2)
هذا هو الخطر الواضح من وراء الخنجر الذي طعن به المسلمون ومفهوم هذا الخطر أن النفس الإسلامية في العالم الإسلامي كله من حيث أنها قد انحسرت في بيوتها مفاهيم الثقافة الإسلامية القائمة على القرآن والسنة، وضعفت القدرة التي تبني الشباب، فإنها تسلم إلى المدرسة شباباً غضاً، يحس بالفراغ في مجال وجدانه وعاطفته وفكره، فلا يجد إلى مفاهيم الإسلام سبيلاً، ثم إذا به يلتقي بتلك المفاهيم التي تصور له فكر الغرب على صورة العقيدة، وتملأ نفسه بحب تاريخ الغير، وترفع في نظره شأن لغة الغريب وتقدم له العلم والاقتصاد والقانون والاجتماع من نتائج مجتمعات أخرى على أنه هو الفكر الإنساني والثقافة البشرية.
وأين الفكر الإسلامي في ذلك كله والمسلمون لهم منهج حياة كامل وله مفهوم جامع للحياة والمجتمع والسياسة والاقتصاد والتربية.
هذا كله مما لا يزال ضائعاً ولا يزال ناقصاً ولا يزال مهملاً.
ومن هنا فإن النفس المسلمة التي عجزت عن أن تملأ فراغها الروحي والفكري بمقدراتها وقيمتها لا تلبث أن تملأه بأي شئ، وبما يقدم إليها زاهياً براقاً في كتب ملونة مزخرفة، بينما هي تعجز عن أن تجد من فكرها ما يرد عنها الخطر أو يصحح لها الخطأ أو يزيح عن نفسها الشبهات.
تلك هي القضية الأولى أيها السادة في التحدي الخطير الذي يواجهه المسلمون اليوم في كل مكان، ومن هذه النقطة نصل إلى كل قضية وكل أزمة، وكل موقف ومن خلال الطريق الطويل استطاعت قوى الصهيونية والاستعمار والشيوعية أن تحقق ما وصلت إليه لأنها استطاعت أن تبث فكرها في النفس الإسلامية وأن تحتويها وأن تنقلها من دائرة الإسلام المرنة الجامعة المتكاملة الوسيطة إلى دائرة الغرب المغلقة القاتلة.(33/3)
ومن هذه النقطة نصل إلى كل ما تطمعون فيه من وحدة وتقدم وقيام أمة الإسلام في أرضها بدورها الرباني الإنساني العالمي الذي هو مفروض عليها والذي هو حق في أعناقنا جميعاً والذي يجب أن نلقى (الله) عليه صادقين وإلا فنحن آثمون مقصرون مأخوذون بجريرة الذنب.
لكي نفهم هذه القضية الكبرى أعمق فهم لابد أن نبحث عن أبعادها إلى أقصى مدى ولا نقع في الأخطاء التي فرضها علينا نفوذ الدائرة المغلقة بأن نقصر البحث على ما هو أمامنا من واقع لأن كل واقع أمامنا لابد أن يكون متصلاً بأبعاد أخرى غير منظورة في المكان أو التاريخ ونحن في الإسلام نؤمن بالتكامل والنظرة الجامعة ونرى كل العناصر مؤدية إلى بناء عمل واحد فلا نفرق بين التربية أو الأخلاق أو الاقتصاد أو الاجتماع أو السياسة أو الفن.
كذلك فنحن في واقعنا القائم يجب أن تكون نظرتنا ممتدة إلى يوم أن بعث الله رسوله بهذه الرسالة من ناحية وإلى اليوم الآخر الذي يقع فيه الجزاء حتماً وأن نعرف أن روابطنا بالأمم ليست حديثة وإنما هي قديمة جداً، وليست اقتصادية أ وسياسية أو دينية وإنما هي كل هذا.
ولنعرف الحقيقة الكبرى التي رسمها القرآن وهي أن عالم الإسلام تكون من قلب عالم أهل الكتاب وهو منذ وجد في صراع معه وسيظل إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.
هذا هو التحدي القائم الذي يجب أن يظاهر حياة المسلمين وحضارتهم ولا يغيب عنهم لحظة، ذلك أن الأمم لا تموت إلا إذا فقدت عنصر التحدي أو الطموح، ولقد كانت أزمة المسلمين في مرحلة ضعفهم وتخلفهم هي فقدان عنصر الطموح والاستنامة إلى ما وصلوا إليه، هنالك اندفع العدو الذي يرقبهم وينتظر منهم لحظة غفلة فأدال منهم.(33/4)
(ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة)، فليأخذ المسلمون بالحذر ليجعلوا التحدي نصب أعينهم، هذا التحدي الذي هو صورة مغايرة لهدف محدد يتكرر تحت أسماء مختلفة في التاريخ من حروب صليبية في المشرق إلى حروب الفرنجة في المغرب إلى حروب التتار إلى الاستعمار الحديث إلى الصهيونية العالمية إلى الدعوات الهدامة من شيوعية وإباحية والحادية ووثنية ومادية.
ونحن نعرف أن معركة حاسمة دارت بين الإسلام والغرب هي معركة الحروب الصليبية، وقد عاشها المسلمون بالمقاومة والجهاد مائتي عام وانتهوا منها بالنصر، ولكن هل كان هذا هو نهاية الشوط بالنسبة للغرب، وهل توقف طموحه للسيطرة على أرض الإسلام وبلاد الإسلام، أن شيئاً من ذلك كله لم يحدث، لقد استمرت المؤامرة واضطردت وتبلورت في مفهوم جديد.
كان ذلك المفهوم يتصور أن المسلمين قد غلبوا الغرب وهزموه لأنهم متقدمون حضارياً وعسكرياً فلابد من هزيمتهم حضارياً وعسكرياً، فانقض الغرب على ميراث المسلمين ونقل منهج العلم التجريبي وانطلق وسبق به المسلمين حتى كانت معارك الدولة العثمانية مع الغرب في أخرها تمنى دائماً بهزيمة المسلمين لأمر واحد هو أن الغرب استحدث أساليباً في الصناعة والحرب عجز عنها المسلمون.(33/5)
غير أن الغرب لم يقف عند هذا في صراعه ومؤامراته ولكنه وصل إلى مقطع الأمر كله وذلك عندما قرر أن تكون الحرب الموجهة إلى عالم الإسلام هي حرب فكر، ذلك أن المسلمين مهما تخلفوا في ميادين الصناعة والعلم فسوف تبقى لهم عقيدتهم الراسخة التي تحمل طابع الجهاد والتي تدفع بألوفهم إلى ساحات الاستشهاد في سبيل الدفاع عن الحق، وعن الأرض، وعن العرض، إذن فالمعركة يجب أن تبدأ أولاً من هذه النقطة الخطيرة ولابد من تزييف هذه العقيدة وامتصاص ما فيها من قوة وجهاد وإيمان حتى يفقد المسلمون هذا السر الخطير الكامن في نفوسهم، وقد تصور الغرب أنهم عندئذٍ يصبحون قطيعاً من السائمة التي تنطوي وتقهر، ومن هنا بدأت المعركة أطلق عليها أسماء كثيرة:
(التبشير، الاستشراق، التغريب، الغزو الثقافي، الاحتواء).
الوثيقة الأولى:
لقد وضعت الخطة منذ وقت مبكر وإن لم تستكشف إلا بعد سنوات طويلة وكانت أولى علاماتها المستكشفة في وصية لويس التاسع بعد هزيمته في المنصورة بما يمكننا من القول بأن نهاية الحروب الصليبية كانت بداية المخطط الجديد للغزو الثقافي والفكري ودحر الإسلام كفكر بعد العجز عن دحر أمته.
وتعد وصية لويس التاسع أخطر وثيقة في هذا الاتجاه فهي التي فتحت الباب واسعاً أمام عملية التبشير والاستشراق.
وعلى أثرها مباشرة بدأت حركة أوربا المعروفة إلى ترجمة القرآن والتعرف على الإسلام، وبدأت نواة التبشير والاستشراق في المعاهد الأوربية: دراسة للغة العربية والإسلام والقرآن بمفهوم الرد عليه وإنقاصه وإثارة الشبهات حوله.(33/6)
وقد ظاهر هذه الحركة عملية "سرقة" التراث العربي الإسلامي من البلاد العربية والإسلامية بواسطة القناصل والتجار وأستميحكم العذر في أن أقول "سرقة" لأن عملية الاستيلاء على الفكر الإسلامي في الأندلس أيضاً كانت "سرقة" بالرغم من أن المسلمين كانوا يؤمنون بأن العلم للجميع حتى العلم التجريبي الذي هو الآن من أسرار الأمم الحديثة والتي عجز المسلمون والعرب خلال قرن ونصف قرن في الحصول عن أصوله ومعادلاته.
أما المسلمون فكانوا يعملونه في جامعات الأندلس وجزيرة صقلية في حرية تامة، غير أن الغرب في تناهي حقده لم يقف عند هذا الحد، بل إنه عزل الموقع الإسلامي كله وصادره بما في وأخرج من المسلمين إخراجاً، وكذلك فعل في الأندلس حيث أحرزت أوربا كل ثمرات النتاج الإسلامي العلمي والفكري بأرضه ومعامله ومعاهده وحوائطه، ولم تبق للمسلمين حتى مجرد القدرة على استئناف تجاربهم وهم في أرض أخرى هاجروا إليها.(33/7)
لقد عكف لويس التاسع بعد هزيمته في المنصورة خلال محبسه في دار ابن لقمان يفكر ويستعرض هذه الحملات الصليبية المتوالية على بيت المقدس ودمشق ومصر وكيف هزمت هزيمة منكرة وكيف هزمت حملته في قلب دلتا النيل، وسبق إلى الاعتقال، وكيف كان المصريون والعرب المسلمون يقاتلون ببسالة عجيبة في الدفاع عن بلادهم خلال سبع حملات متوالية ووصل إلى نتيجة حاسمة: هي أن المسلمين لا يهزمون ما دام فكرهم باقياً وما دامت عقيدتهم قائمة، ذلك لأنهم تدفعهم في قوة إلى الاستشهاد في سبيل حماية الزمار ومقاومة الغاصب وتطهير الأرض من دنس الغزاة، والإسلام يجعل القتال في سبيل تحرير الأرض من دنس الغزاة، والإسلام يجعل القتال في سبيل تحرير الأرض ديناً وعقيدة ولذلك فإن سبيل الغرب إلى الانتصار على المسلمين والسيطرة على أرضهم يجب أن تبدأ أولاً من حرب الكلمة ولابد من أن تقوم في الغرب قوى من الباحثين والدارسين يترجمون القرآن ويدرسون العربية ويعملون على القضاء على تلك المفاهيم القوية التي تتصل بالجهاد في سبيل الله، فإذا استطاع الغرب أن يفعل ذلك فقد استطاع أن يقضي على القوة الروحية والنفسية القائمة وراء تلك المقاومة الجبارة وعندئذٍ يمكن للغرب السيطرة على العالم الإسلامي ومن هذه النقطة بدأت حرب الكلمة بالتبشير والاستشراق والتغريب والغزو الثقافي والسيطرة على التعليم والتربية والثقافة والفكر والصحافة، وقد استطاعت هذه الخطة أن تحقق للغرب انتصاراته التي يمكن أن يطلق عليها الاستعمار الغربي الحديث، ولا ريب أن وثيقة لويس التاسع تنصح بهذا الاتجاه الخطير وتدعو إليه.
ولقد بلغ لويس درجة القداسة في نظر الغرب؛ لأنه حمل الصليب وحارب به في مصر، ثم كانت حملته التاسعة المشهورة على تونس.(33/8)
وإذا كانت الحملات الصليبية ثم توقفت منذ استعاد المسلمون عكا بقيادة الأشرف خليل عام 690 هجرية/ 1291 ميلادية، وعلى أثر ذلك قامت الدولة الإسلامية العثمانية الكبرى بعد تسع سنوات لا غير من سقوط الحروب الصليبية وهزيمة أوربا، هذه الدولة التي استمرت حتى عام 1337 هجرية الموازية لعام 1918 الميلادي أي أنها استمرت تحمل لواء الإسلام خمسة قرون ونصف القرن.
نقول إذا كانت الحملات الصليبية قد توقفت منذ عام 690 هجرية فإن أوربا لم تتوقف فقد استأنفت حركتها مرة أخرى بعد وقت قصير حين تدافعت بعد سقوط الأندلس على الطريق الأفريقي من ناحية الغرب دون توقف: الأسبان والبرتغال ومن ورائهم الإنجليز والفرنسيين والهولنديين.
أما في أفق البلاد العربية فإن عام 830 كان علامة الخطر حين بدأت فرنسا في غزو الجزائر وامتدت المعركة إلى تونس فمصر والسودان. منذ ذل كاليوم بدأت طلائع التبشير تعمل وأخذت حركة الاستشراق تزدهر وكانت بؤرة العمل هي ساحل البحر الأبيض الشرقي: في مواجهة الشام من الشرق وإستانبول من الشمال ومصر من الجنوب.
وانتقلت المطابع وبدأت المدارس وتصارعت قوى البروتستانتية الأمريكية والكاثوليكية الفرنسية على تقديم مناهجها.
ثم جاءت حكومات الاستعمار في كل البلاد العربية فأخذت مناهج مدارس الإرساليات ونفذتها تواً.
وفي عديد من مصادر تاريخ اللقاء بين الشرق والغرب نجد إشارة إلى وصية لويس التاسع الذي كان أول من أشار إلى تجنيد المبشرين الغربيين في معركة سلمية لمحاربة تعاليم الإسلام ووقف انتشاره ثم القضاء عليه معنوياً واعتبار هؤلاء المبشرين في تلك المعركة جنوداً للغرب.(33/9)
وإذا كانت الحروب الصليبية منذ بدأت 1299م وانتهت 1499 فإن انسحاب المسلمين من الأندلس انتهى 1493 وكان ذلك بعد انم استولى محمد الفاتح على القسطنطينية عام 1354 (857 هجرية) في ظل ذلك كله بدأ العمل تواً على إنشاء قاعدة للغرب في قلب الشرق العربي يتخذها نقطة ارتكاز له ومعقلاً لمعركته العقائدية الفكرية التي تستهدف حصار الإسلام والوثوب عليه.
وقد اختيرت هذه الأراضي على شاطئ البحر الأبيض الشرقي مسرحاً لهذا العمل منذ ذل كالوقت وتحرك العمل بين بيروت والقاهرة والقسطنطينية. وفي نفس الوقت الذي كان عمل مماثل يتحرك في تونس والجزائر ومراكش، وأعمال أخرى في المناطق الإسلامية في الهند وفي جاوة وأندونيسيا والفيليبين.
الوثيقة الثانية:
أما الوثيقة الثانية فهي تقرير من أحد معاهد الإرساليات بقلم الأستاذ نبيه أمين فارس يكشف فيه إبعاد الخطة كلها وهي في نظرنا وثيقة تطبيقية لمخطط لويس التاسع يقول: "بينما كان الشرق الأدنى مطمحاً لأفكاره بناء الإمبراطوريات كان أيضاً مطمح إنظار جماعة أخرى من الناس تنشد أن تنجز عن طريق "الكلمة" ما عجز أجدادها الصليبيون عن تحقيقه عن طريق السيف. وبعبارة أخرى تنشد احتلال مهد المسيحية وإخضاع العالم كله للمسيح. إن هذا الحلم المسيحي قديم-قدم المسيحية ذاتها وهو يستمد وحيه الدائم من الوصية العظمى كما سجلها أبو المبشرين، القديس بولس.(33/10)
ولعل سبب سيطرة هذه الوصية كرة أخرى على عقول المسيحيين يعود إلى اليقظة الدينية التي عمت إنكلترا في أواخر القرن الثامن عشر، واليقظة الدينية المقابلة لها في الولايات المتحدة التي تمثلت فيما سمى بروح إنكلترا الجديدة، وعلى ذلك فقد شهدت السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر والسنوات الأولى من القرن التاسع عشر ظهور كثير من الجمعيات التبشيرية التي كرست نفسها لحمل الإنجيل إلى جميع البشر، ويمكن أن يضاف إلى هذين العاملين عامل آخر هو ازدياد المطامع السياسية والاقتصادية في ممتلكات رجل أوربا المريض (يقصد الدولة العثمانية الإسلامية) ومن المحتمل أن يكون لهذا العامل الأخير علاقة باختيار الشرق الأدنى ميداناً مفضلاً للنشاط التبشيري.
ومن أهم هذه الجمعيات التبشيرية التي ظهرت في هذه الفترة: الجمعية التبشيرية الكنسية التي أسست في لندن 1799 والمجلس الأمريكي لمندوبي البعثات التبشيرية. وقد أرسل المجلس الأمريكي بعد تسع سنين من تأسيسه أول مبشرة إلى الشرق الأدنى، ولما كانت المشكلة الأولى التي واجهت أولئك المبشرين هي اختيار مركز ملائم لهم. وقدم سوريا 1823 مبشراً آخرين وانتقلوا إلى بيروت وكان غرض البروتستانت أن يتمكنوا بالاشتراك مع كنائس الشرق الناهض من كسب الكفار إلى دين المسيح غير أنهم سرعان ما وجدوا أن الإسلام لم يكن قد فقد سيطرته على قلوب المؤمنين وصمم المبشرين منذ البداءة على استعمال الكلمة حيث فشل استعمال السيف، وفي سبيل هذه الغاية أسسوا المطبعة الأمريكية أولاً في مالطة 1822 ثم في بيروت 1834، وأخذوا يفتحون مدارس للبنين والبنات بصورة منتظمة حتى بلغ عدد هذه المدارس ثلاثاً وثلاثين في أقل من هذا العدد من السنين وعكفوا على إنجاز تلك المهمة العظيمة: مهمة إعداد ترجمة عربية صالحة مقروءة للتوراة.(33/11)
وعدوا فوق ذلك حمل لواء الحرية الدينية بصورة خاصة والمطلقة بصورة عامة(1).
الوثيقة الثالثة:
ومن الجزائر تقدم تقم هذه الوثيقة: من قلم الدكتور محمد تقي الدين الهلالي نشرها في الفتح عام 1931.
"إن هؤلاء الأوروبيين الفاتحين المبعدين للأحرار المحربين للديار مازالوا يحرمون عبيدهم من كلمة الجهاد ويعدون ذكراه فضلاً عن فعله من أعظم الذنوب وهو آية الهمجية والتعصب الديني الممقوت، وبلغ بعضهم الأمر أن حرموا على المسلمين تفسير آيات الجهاد في كتب الفقه وبعيني شاهدت صحيفة الأذن Permited التي حصل عليها شيخنا محمد بن حبيب الله الشنقيطي رحمه الله في مدينة المشربة قسم وهران من الجزائر وفيها أن الإذن بتدريس علوم الدين مقيد بأن المدرس لا يفسر أي آية أو حديث يدل على الجهاد وأن لا يدرس شيئاً من أبواب الجهاد في كتب الفقه ولما راجت دعاية هؤلاء في الشرق صار المسلمون ينفرون من لفظ الجهاد".
ويعد المبشرون أن أولى فرصتهم جاءت بعد سقوط السلطان عبد الحميد عام 1908 حيث أمكن منذ ذلك الوقت تفسيخ الدولة العثمانية وتوسع بعثات التبشير على النحو الذي حقق تنفيذ مناهج التعليم على النحو الذي رسمته مخططات الغزو حتى ليقول الدكتور زويمر زعيم المبشرين وكبيرهم في الشرق في مثل هذا التاريخ الذي نقلنا فيه وثيقة الجزائر تقريباً ما يأتي:
إن السياسة الاستعمارية لما قضت من نصف قرن –أي منذ عام 1882 تقريباً- على برامج التعليم في المدارس الابتدائية أخرجت منها القرآن ثم تاريخ الإسلام وبذلك أخرجت ناشئة لا هي مسلمة ولا هي مسيحية ولا هي يهودية. ناشئة مضطربة مادية الأغراض لا تؤمن بعقيدة ولا تعرف حقاً فلا للدين كرامة ولا للوطن حرمة.
الوثيقة الرابعة:
__________
(1) مجلة الأبحاث أيلول-سبتمبر 1958، م 11، ص 383.(33/12)
وهذه الوثيقة يقدمها عميد المبشرين في البلاد العربية في الثلاثينات (وهي أخطر مراحل تاريخ العالم الإسلامي الحديث فهي مرحلة تكوين الأسس والقواعد والخطط التي خرجت من بعد نتائجها الخطيرة).
يقول صمويل زويمر في تقريره في مؤتمر المبشرين سنة 1924: "في كل حقل من حقول العمل يجب أن يكون العمل موجهاً نحو النشء الصغير من المسلمين وموزعاً فيما بينهم ليحيط بهم وليكونوا منه على صلة مباشرة، ويجب أن يقدم هذا على كل عمل سواه في الأقطار الإسلامية فإن تنور روح الإسلام في الناشئ الحديث يبتدئ باكرا من عمره فيجب والحالة هذه أن يؤتي بالنشء الصغير من المسلمين قبل أن يتكامل نمو عقليتهم وأخلاقهم وحينئذ يستعصي على المبشر ولم يزل التعليم التبشيري هو أفضل طريقة للوصول إلى المسلمين".
ويعود في المؤتمر التالي بعد عشر سنوات 1933 فيصور ما تحقق من نتائج وما يجب التأكيد عليه في المرحلة القادمة في مؤتمر المبشرين في القدس"
"إن مهمة التبشير الذي ندبتكم دول المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية ليست هي إدخال المسلمين في المسيحية فإن ذلك هداية لهم وتكريماً. وإنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله، وبالتالي لا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها وبذلك تكونون أنتم بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية.
هذا ما قمتم به خلال الأعوام المائة السابقة خير قيام.(33/13)
لقد قضينا في هذه الحقبة من الدهر من ثلث القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا على جميع برامج التعليم في الممالك الإسلامية، ونشرنا في تلك الربوع مكامن التبشير والكنائس والجمعيات والمدارس المسيحية تلك التي تهيمن عليها الدول الأوربية والأمريكية. ولذلك جاء النشء الإسلامي طبقاً لما أراده له الاستعمار المسيحي لا يهتم بالعظائم ويحب الراحة والكسل ولا يعرف أهمية في دنياه إلا الشهوات فإذا تعلم فللشهوات وإذا جمع فللشهوات وإذا تبوأ أسمى المراكز ففي سبيل المال يجود بكل شئ.
وفي نفس الطريق تقول المبشرة (أنامليجان):
"ليس ثمة طريق إلى حسن الإسلام أقصر مسافة من هذه المدرسة، إن المدرسة أقوى قوة لجعل الناشئين تحت تأثير الدين المسيحي، هذا التأثير يستمر حتى يشمل أولئك الذين سيصبحون يوماً قادة أوطانهم.
الوثيقة الخامسة:
وهنا وثائق أخرى حية: تتمثل في أفراد وأحداث، أما في 1909 فقد ثار الطلاب المسلمون في إحدى مدارس الإرساليات الكبرى لإجبارهم على الصلاة المسيحية يومياً فأصدرت هذه الكلية بياناً قالت فيه:
"إن هذه الكلية مسيحية أسست بأموال شعب مسيحي هم اشتروا الأرض وهم أقاموا الأبنية ولا يمكن للمؤسسة أن تستمر إذا لم يسندها هؤلاء، وكل هذا قد فعله هؤلاء ليوجدوا تعليماً يكون الإنجيل من مواده فيعرض منافع الحقيقة المسيحية على كل تلميذ وكل طالب يدخل مؤسستنا يجب أن يعرف سابقاً ماذا يطلب منه.
ثم جاء النص الآتي: "إن الكلية لا تؤسس للتعليم العلماني ولا لبث الأخلاق الحميدة ولكن من أولى غاياتها أن تعلم الحقائق الكبرى التي في التوراة وأن تكون مركزاً للنور المسيحي".
الوثيقة السادسة:
قد كشف ذلك طالب عربي معروف هو عبد القادر الحسيني (ابن كاظم باشا الحسيني وبطل معركة القسطل فيما بعد) الذي وقف في حفل توزيع الدبلومات في إحدى العواصم العربية على المنصة وفي يده الشهادة التي أخذها ثم اتجه إلى الحاضرين وكانوا علية القوم وقال:(33/14)
"إن هذه الجامعة تظهر أمام الناس في مظهر المدرسة العلمية ولكنها في الحقيقة بؤرة إفساد للعقائد الدينية وهي تطعن في الدين الإسلامي ولذلك لا يصح للمسلمين أن يبقوا أولادهم بها".
كان ذلك يوم 27 مايو 1932.
فاهتزت الدنيا للحدث وأسرع المبشرون الأساتذة يمزقون الدبلوم من يد الطالب وينهرونه، ولم يلبث عبد القادر أن نشر قصته في الصحف وأعلن عن الكتب المقررة التي تهاجم الرسول والإسلام وحاولت الجامعة أن تتنصل وتقول إن هذه الكتب ليست مقررة.
***
وكان الدكتور وطسون مدير الجامعة قد أعلن قبل ذلك بقليل.
إن المعتقدات الإسلامية آخذة في الانحلال وأنها غير ملائمة للحالة الحاضرة وأن الجيل الناشئ الذي تنصل به نراه مهتماً كل الاهتمام لا بالإسلام ولكن بالمسائل المادية والإلحاد، ونحن نسر حين نستطيع أن نجعل فتى مسلماً يقبل مبادئ المسيحية ووحي المسيح.
وقال الدكتور وطسون:
"وإننا نراقب سير القرآن في المدارس الإسلامية ونجد فيه الخطر الداهم ذلك أن القرآن وتاريخ الإسلام هم الخطران العظيمان اللذان تخشاهما سياسة التبشير".
الوثيقة السابعة:
وهناك وثائق تشهد على أصحاب المخطط نفسه ذلك أنه عندما بدأت حركة التغريب التي تضم التبشير والاستشراق في تقييم عملها تقدم خمسة من المستشرقين لدراسة العالم الإسلامي كله وقدموا تقارير شاملة عن مختلف الأقطار نشرت تحت عنوان هوزر إسلام (المترجمة وجهة الإسلام).
وفيها يتحدث كبيرهم هاملتون جب عن التعلم فيقول -وهي وثيقة أخرى نقدمها للباحثين:(33/15)
"إن إدخال طرائق جديدة في البلاد الإسلامية كان سيطلب نظاماً جديداً في التربية من عهد الطفولة في المدارس الابتدائية والثانوية قبل الانتقال للدراسات العالية، وأن إصلاح التعليم على النحو لم يكن في ذلك الوقت يخطر على بال السلطات المدنية الإسلامية، ولكن هذا الفراغ ملأه هيئات أخرى؛ فقد انتشرت في منتصف القرن التاسع عشر شبكة واسعة من المدارس في معظم البلاد الإسلامية ولاسيما في تركيا وسوريا ومصر وذل يرجع غالباً إلى جهود جمعيات تبشيرية مسيحية مختلفة. وربما كان أكثرها عدداً المدارس الفرنسية وقد كانت المدارس الإنجليزية في الإمبراطورية العثمانية أقل منها في الهند وكانت المدارس الهولندية قاصرة على جزء الهند الشرقية.
هذه المدارس صاغت أخلاق التلاميذ وكونت أذواقهم والأهم أنها علمتهم اللغات الأوربية التي جعلت التلاميذ قادرين على الاتصال المباشر بالفكر الأوربي فصاروا في سبيل حياتهم مستعدين للتأثر بالمؤثرات التي فعلت فعلها أيام الطفولة (أي التعليم على الطريقة المسيحية).
وفي أثناء الجزء الأخير من القرن التاسع عشر نفذت هذه الخطة إلى أبعد حد من ذلك بإنماء التعليم العلماني تحت الإشراف الإنجليزي في مصر والهند، ولعل هناك نصيباً من الحق في التهم التي ترمي بها هذه المدارس الأجنبية من أنها مفسدة لقومية التلاميذ وإن كنا لا نستطيع القول بأن التطورات السياسية التي أعقبت ذلك في البلاد الإسلامية أيدت هذه التهمة.
ولكن الذي فعلته بلا ريب أنها ربت في التلاميذ خروجاً على الأنظمة الاجتماعية وأضعف من هذه الوجوه سلطان النزعة الإسلامية القديمة على التلاميذ وأخلت في بناء المجتمع الإسلامي أداة هامة وقطعت بعض الأوامر التي كانت تربطه وتحفظه".(33/16)
ويقول جب راسماً خطة المستقبل: "لقد استطاع نشاطنا التعليمي والثقافي عن طريق المدارس العصرية والصحافة أن يترك في المسلمين ولو من غير وعي منهم آثرا يجعلهم في مظهرهم العام لا دينيين إلى حد بعيد ولا ريب أن ذلك خاصة هو اللب المثمر في كل ما تركت محاولات الغرب لحمل العالم الإسلامي على حضارته من آثار".
هذه صورة سريعة للخنجر الذي غُرس في جسم الأمة الإسلامية جاءت بعد خمسين عاماً محققة للهدف مكونة للأجيال التي أرادها الاستعمار.
تحقق هذا منذ أن دعاء إليه لويس التاسع وحدده غلادستون عندما وقف في مجلس العموم البريطاني ومعه المصحف الشريف وقال: "إننا لا نستطيع أن نحكم المسلمين مادام هذا الكتاب باقياً في الأرض".
ثم جاء كرومر وقال: "جئت لأمحو ثلاث: القرآن والكعبة والأزهر"، وجاء تقرير لورد دوفرين إلى اللور جرانفيل وزير خارجية إنجلترا بعد الاحتلال البريطاني لمصر محدداً الخطة التي توقف نمو الأزهر وتركز على التعليم المدني وترفع من شأن العامية وتخفض من شأن القرآن. قال دوفرين في تقريره الذ نشرته "المقتطف" في المجلد السابع ص 668: "إخال أن أمل التقدم في مصر ضعيف طالما أن العامة تتعلم اللغة الفصيحة العربية، لغة القرآن، كما في الوقت الحاضر حالة كونها لا تتعلم اللغة العربية الدارجة؛ لأن نسبة اللغة المصرية الدارجة إلى لغة القرآن كنسبة الإيطالياني إلى اللاتيني والإغريقي القديم، وعربية الفلاح لغة قائمة بنفسها وقواعدها خاصة بها، وإذا لم توجد الاحتياطات الفردية للحصول على النتائج المقبلة في المدارس العديدة التهذيبية التي أشرت إليها يستمر الجيل الجديد كسابقه وغير صالح لخدمة وطنه، وساء كان للقيادة العسكرية أو في الصنائع أو في الخدمات، وتبقى عبارة مصر للمصريين كما كانت اسماً بلا مسمى".
ولقد كانت مهمة كرور واضحة ومستمرة؛ فهو دائب في كل عام أن يرددها:(33/17)
"في مصر جيل جديد يختلف عن أجداده في أشياء كثيرة فيمكن أن تحدثه نفسه يوماً بأن يمد إلى تلك الأركان القديمة يداً لا تعرف حرمة القديم، فيكون أشد عليها من يد حكومة تمدها اليوم طبقاً لإرشاد قوم لا شأن لهم في الأمر (يعني الإنجليز)؛ لأنهم لا يدينون بالدين الإسلامي، فإذا كان لهذا الحساب نصيب من الصواب فالأجدر بأبناء اليوم أن يشرعوا في الإصلاح ويلاقوا الأمر قبل حلوله".
هذا في مصر، والتاريخ يحفظ مثله في تونس والمغرب والجزائر لكرومرها ودنلوبها: وفي كل بلد إسلامي كرومر ودنلوب يجري على نفس الخطة وينفذ نفس المخطط.
ويعلق اللورد لويد (المندوب السامي في مصر) بعد كرومر بعشرين عاماً في كتاب له تحت عنوان (مصر منذ أيام كرومر) على خطة التعليم فيقول:
"إن التعليم الوطني (في مصر) عندما قدم الإنجليز كان في قبضة الجامعة الأزهرية الشديدة التمسك بالدين والتي كانت أساليبها الجافة تقف حاجزاً في طريق أي إصلاح تعليمي وكان الطلبة الذين يتخرجون من هذه الجامعة يحملون معهم قدراً عظيماً من غرور التعصب الديني، فلو أمكن تطوير الأزهر لكانت هذه خطوة جليلة الخطر، فليس من اليسير أن يتصور لنا أي تقدم طالما ظل الأزهر متمسكاً بأساليبه هذه، ولكن إذا بدا أن مثل هذه الخطوة غير متيسر تحقيقها فعندئذٍ يصبح الأمل محصوراً في إيجاد التعليم اللاديني الذي ينافس الأزهر حتى يتاح له الانتشار والنجاح" اهـ .
وقد حقق الاستعمار هذا تماماً حين فرق التعليم في العالم الإسلامي إلى ديني ومدني فجمد الأول وحجب تخريجه عن مناصب القيادة ودفع الثاني دفعة قوية إلى الصراع والتعارض والخصومة وأعلاه في خبث ومكر شديدين.(33/18)
وجملة القول في هذا أن الخنجر الذي طُعِن به المسلمون قد وُضِع بذكاء في موضع القلب وقصد به أن تكون المناهج كلها وخاصة في العقيدة والتاريخ واللغة قائمة على أساس فلسفة الغرب ومفاهيمه وإعلاء شخصيته وتاريخه وحتى يكون تاريخ الإسلام وعقيدتهم ولغتهم هي موضع احتقار شبابها ومثقفيها. ولن أحدثكم عن النتائج فأنتم تعلمونها وأن كل ما يتصل بأزمة المسلمين والعرب اليوم إنما مرده إلى هذا الخنجر المغروس قريباً من القلب وهو ما يزال ينزف بغزارة. أناشدكم الله أن تبحثوا عن السبيل الذي يمكنكم من اقتلاعه وتضميد جراحه.
أنور الجندي(33/19)
(7)
تحديات في وجه المجتمع الإسلامي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد؛ فمنذ كانت البشرية والفكر الرباني في صراع مع الفكر البشري وعلى مدى التاريخ ولما جاء القرآن نسف هذا الفكر كله وصيره ركاماً وكشف زيفه وضلاله وفساده ودعا البشرية من جديد إلى التوحيد بوصفه المنطلق الوحيد إلى إقامة المجتمع الرباني الأمثل. فهزم الإسلام العبودية البشرية في حضارات اليونان والفرس والهند والفراعنة وأقام حرية الإنسان متطلعاً إلى الإخاء البشري وجعل عبوديته لربه وحده دون الخلق جميعاً .. ثم هزم العبودية الوثنية لغير الله وحرر العقل البشري وأطلقه ليجد طريقه إلى معرفة سنن الله في الكون، ومن هذه النقطة أنشأ المسلمون المنهج التجريبي الذي هو قاعدة الحضارة المعاصرة.
غير أن محاولات الهدم لم تتوقف وتجددت مرة أخرى وأخذت تصوغ من ذلك الركام القديم مذاهب جديدة عرفت في العصور السابقة بأسماء كثيرة منها الغنوصية والتناسخ والدهرية وإخوان الصفا والسبئية والحلول والاتحاد ووحدة الوجود، وظهرت فرق متعددة تحمل لواء هذه الدعوات.
ولقد واجه علماء المسلمين الأبرار هذه المذاهب الهدامة بقوة وحطمت أعمال الشافعي وابن حنبل والأشعري والغزالي ثم ابن تيمية وابن القيم هذه الأعمال الزائفة التي كان لهما زخرف ولمعان يخطف الأبصار الساذجة.
حتى جاء عصرنا فتجددت هذه الدعوات مرة أخرى عن طريق القوى الثلاث التي تواجه عالم الإسلام اليوم: الاستعمار والصهيونية والماركسية والتي تحمل لواءها دعوات: التبشير والاستشراق والتغريب والغزو الثقافي. ومنذ جاء الاستعمار وهو يعمل على هدم ثلاث قيم أساسية:
التعليم - الشريعة - اللغة.(34/1)
وهي التحديات الحقيقية التي تواجه مجتمعنا اليوم وما زالت قائمة بالرغم من التحرر السياسي والعسكري الذي قضى على النفوذ الاستعماري. ذلك أن الاستعمار كان يعد قبل خروجه محاولة لبقائه واستمراره تمثل في هذا السلطان الفكري والاجتماعي الذي مازال يحول بيننا وبين امتلاك إرادتنا الحقة. ومن هنا فإننا مطالبون أن نواجه هذا المخطط بقوة ليس على مستوى المفكرين المسلمين فحسب؛ بل على مستوى كافة المسلمين.
ومنطلق هذه المواجهة هي أن نعرف خلفيات ما يُعرض لنا مما هو مكتوب ومذاع ومنشور. سواء أكان صحيفة أو كتاباً، أو مسرحية أو فلماً سينمائياً. ذلك هو العمل الحقيقي الذي يمكننا من معرفة الأصالة من الزيف، والحق من الباطل، والخير من الشر.
ولذلك فقد أردت أن أطلق اسم "قبل أن تقرأ" عليك أن تكون واعياً لمِا تقرأ: مَن الذي يقدمه لك، ما مدى سلامته، ما مدى صلته بأمتنا وديننا وعقيدتنا، إننا يجب ألا نضع ثقتنا إلا في الفكر الأصيل. إن هناك اليوم قوى كثيرة تطرح فكرها وتنفث سمومها، وشبابنا في حاجة إلى ضوء كاشف يهديه، إنه ينظر فيرى هذه الكتب مكدسة في كل مكان، مترجمة أو مؤلفة، كُتابها مسلمون أو عرب أو أجانب فيقرؤها دون أن يلتفت إلى الغاية أو الخلفية ويظن أن كل ما يقرأ صحيح أو حق، فيأخذ به، وهذا هو مصدر الخطر.
لذلك أردت أن ألقي بعض الأضواء الكاشفة حتى لا تنخدع بالأسماء اللامعة أو الكتب الأنيقة أو العبارات الخلابة، لقد دخل إلى فكرنا زيف كثير، وفُرضت مسلمات كثيرة، في حاجة إلى أن نعيد النظر فيها.
نحن نعرف الرجال بالحق ولا نعرف الحق بالرجال، وهذا الحكم قانون يضئ لنا الطريق.
إن علينا أن نعرف أن أمتنا تقع في مكان الصدارة من العالم كله، ولذلك فهي مطمع الغزاة من قديم، ونحن نعيش الآن الغزوة الصهيونية بعد غزوة الاستعمار الفرنسي الإنجليزي الإيطالي الهولندي.
ومن قبل جاءت موجة الحروب الصليبية وحروب الفرنجة.(34/2)
كل هذا يقنعنا بصدق الوصية التي دعانا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "ستفتح عليكم بعدي مصر فاتخذوا منها جنداً كثيفاً؛ فإنهم خير أجناد الأرض، وهم في رباط إلى يوم القيامة".
وهكذا نرى من عبارة الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة" وأن المواجهة لن تتوقف بين أهل الإسلام وبين خصومه أبداً، وان علينا أن نكون مرابطين إلى يوم القيامة ندافع عن أرضنا وقيمنا وعقيدتنا.
ولقد خدعنا الاستعمار حين دعانا إلى مناهجه وهجر مناهجنا حين حجب الشريعة الإسلامية والتربية الإسلامية واللغة العربية، ودعانا إلى مفاهيمه وخدعنا رجاله ورجال مِنا أمثال طه حسين وغيره، حين قالوا لنا أن أسلوب الغرب هو الأسلوب القادر على إعطاء صفة التقدم.
وكذبوا؛ فإن الغرب لم يكن ليسيطر على بلادنا ويدعو إلى تغريب فكرنا ثم يسمح لنا بأن نصل إلى وسائل التقدم وامتلاك الإرادة.
لقد خدعنا بأسلوب الغرب في الحكم والتربية والاجتماع وجرينا وراء التجربة الغربية حتى نهايتها التي كانت سقوط فلسطين في يد الصهيونية، ثم جرينا وراء التجربة الماركسية حتى كانت نهايتها سقوط القدس في يد الصهيونية وتعرية المجتمع العربي تعرية كاملة، حتى تعرف أن الهزيمة والنكبة والنكسة التي توالت منذ 1948 حتى 1967 إنما كان مصدرها التماس أسلوب الغرب وحجب أسلوب الإسلام.
وعندما حطمنا هذا القيد والتمسنا أسلوب الإسلام لمن تمضِ إلا سنوات قليلة حتى كان نصر رمضان المؤزر الباذخ الذي هو علامة على الطريق الجديد الذي يجب أن يسلكه المسلمون والعرب: طريق الأصالة، طريق الجهاد والقوة، طريقة الشريعة الإسلامية والتربية الإسلامية، طريق (الله أكبر)، ذلك السلام الكوني الذي تدرسه الآن الأكاديميات العسكرية؛ لترى أنه كان أشد خطراً من القنبلة الذرية والهيدروجينية معاً.(34/3)
لقد اعتدل الطريق بنا وكان حقاً علينا أن نحطم قيود التغريب والغزو الثقافي التي تتكاتف الآن؛ محاولة أن تردنا مرة أخرى إلى الاحتواء والسيطرة.
يجب أن نقف موقف الحذر من كل ما تقليه إلينا هذه المصادر الغربية الوافدة، ولقد واجه المسلمون مثل هذه التجربة وانتصروا فيها وعلينا نحن أيضاً أن ننتصر. نحن المسلمين، لا يمكن أن تؤكل ولا أن تحتوينا المذاهب، إن مذهبنا هو مذهب القرآن الجامع الذي لا يحرف، ليس هو مذهب الفلسفة ولا العقلانية الخالصة، ولا الجبرية الصوفية ولا الحدس الوجداني، كل ذلك ركام باطل جددته الباطنية والمجوسية والشعوبية، وأعادت صياغته من جديد لتضرب به مفهوم التوحيد الخالص.
إن أخطر ما يتحدى المثقف المسلم هو النظرة الجزئية، أو الرؤية المحدودة، التي تقف عند حادث من الأحداث، أو خبر من الأخبار، أو موقف من المواقف، فتنظر إليه وتحاول أن تحلله أو تحكم عليه دون أن تبحث عن خلفياته أو أبعاده أو أرضيته، ومن هنا تكون تلك النظرة ناقصة، أو جزئية أو غائمة، وليس كذلك يفعل الناصحون الذين رباهم القرآن وعلمهم الإسلام، وإنما تكون النظرة فاحصة ويكون الحكم سليماً إذا ما استوفى شرائط التقدير والبحث عما يتصل بالحدث أو الخبر أو الموقف مِما سبق في الزمن، ومِما جرى وأوشك أن يغيب وراء الأفق؛ ذلك لأن الأمور لا تجري منفصلة عن سوابقها ولواحقها، خاصة فيما يتعلق بتحديات الغزو الفكري والتغريب.
أضواء كاشفة لأبعاد الغزو الفكري ومخططات التغريب(34/4)
وهذه أضواء كاشفة وخيوط عامة لنا جميعاً، ولكننا ننظر إليها مع الأسف مفرقة وموزعة، ولا نستحضرها عند النظر أو البحث في حادث ما أو خبر ما أو موقف ما، ولذلك يفقد الأمر خطره، ولقد عرف خصومنا فينا هذه النظرة الجزئية فباعدوا بين الأحداث اعتماداً على أننا لن نربطها بعضها ببعض أو ننظر إليها نظرة كلية، هذه الجزئيات المبعثرة للنظر السريع هي في حقيقتها عناصر كاملة لخطة عامة وخطيرة، فلننظر.
ثلاث قوى
(أولاً): هناك ثلاث قوى لها أثرها البعيد في أزمة المسلمين:
"التعليم – الثقافة – الصحافة".
وما تزال مؤسسات التبشير والاستشراق تعمل من خلالها.
وهناك خطة واضحة للغزو الفكري وخطة للتغريب وخطة للشعوبية.
وهناك أساليب متعددة لإثارة الشبهات حول الإسلام: (القرآن – الرسول – تاريخ الإسلام).
وهناك دعوة إلى إخراج المسلمين من "ذاتيتهم" باسم "المعاصرة". ودعوة إلى إخراج المسلمين من "قيمهم" باسم "التحرر". فيجب ألا تخدعنا الأسماء البراقة فنسلم بكل ما تقول؛ لأن في ما تقوله زيفاً كثيراً وحقاً قليلاً. ويجب ألا نخاف عبارات الرجعية والجمود والتخلف؛ فنها كلمات فقدت معناها وهي تطلق دائماً على أهل الأصالة والحق.
علينا ألا تخدعنا الأسماء البراقة؛ لأنها ليست أصيلة، ولا نصد عن الأسماء الزائفة؛ لأن الدعوى المُدعاة لها ليست صحيحة.
نحن طلاب (أصالة) تكون منا بمثابة (الإطار الثابت) والحجاب الحاجز نتحرك من داخله إلى المعاصرة والتقدم والتحرر.
إن قيمنا القرآنية الإسلامية الربانية هي الأعمدة الثابتة التي يقوم عليها البناء، ثبات في الأسس وحركة من فوقه أو من حوله. ثبات (القطب) وحركة كحركة الأرض حول محورها.
إن كل المؤامرات قد أثبتت حقيقة واحدة: أن الإسلام هو الهدف الذي تعمل القوى الخفية لضربه: (الصهيونية والليبرالية والماركسية).(34/5)
الهدف: هو أن يظل الإسلام بعيداً عن دائرة العمل والتنفيذ وألا يمتلك المسلمون إرادتهم القادرة على الانتقال من الدائرة الضيقة التي حبسهم فيها الغزو الثقافي والتغريب إلى الدائرة المرنة التي أنشأها لهم الإسلام.
إن هدفنا اليوم هو تحطيم هذه الدائرة الضيقة والتماس دائرتنا ومنهاجنا ومصادرنا ومنابعنا الثرة الخالدة.
والأمل هو أن يعرف المسلمون أنه ليس ثمة طريق آخر.
لقد جربوا: مختلف الأساليب والسبل والمناهج التي راوحت بينهم وبين الفكر الغربي والفكر الماركسي: ودخلوا البوتقة وفشلت التجربة وتأكد لهم بعد سبعين عاماً وهم تائهون بين الشرق والغرب، حائرون بين الأيدلوجيات الوافدة – أنه لا سبيل لهم غير منهجهم الأصيل. لقد عجزت هذه المذاهب والمناهج جميعاً أن تعطيهم التقدم أو التحرر أو امتلاك الإرادة وأعطتهم بدلاً من ذلك: الهزيمة والنكسة والنكبة، وعرضتهم للفناء، ومن ثم تبينوا أنه ليس غير الإسلام "سبيل ونصير ونور".
حقائق
(ثانياً) إن بين أيدينا حقائق طازجة يجب أن تكون موضع نظركن وتقديركم وأنتم بسبيل دراساتكم:
أولى هذه الحقائق ما أعلن منذ وقت قصير من "إلغاء" الاستشراق. فقد اجتمع المستشرقون في مؤتمرهم السنوي بعد أكثر من سبعين عاماً ليعلنوا انهم قد ألغوا الاستشراق وإن الاجتماعات القادمة ستكون تحت اسم "مؤتمر العلوم الإنسانية".
ومعنى هذا في نظر أصحاب اليقظة: أن الاستشراق يغير جلده، كما سبق أن غير التبشير جلده، الهدف واحد والأساليب تتغير مع الأزمة والظروف، وإذا كانت سمعة الاستشراق قد ساءت فإن على أهله أن يغيروا أسلوبهم وإن لم يغيروا هدفهم.
ونحن نذكر الآن: كيف يتحرك "الاستشراق اليهودي" بعد أن تقدم للسيطرة خلفاً أو شريكاً للاستشراق الغربي المسيحي، وتعرف المخططات التي يقوم بها في سبيل "احتواء" الفكر الإسلامي والتاريخ الإسلامي.
ومن ذلك ما نجده من بروز أسماء لامعة خطيرة في مجالاته المتعددة:(34/6)
"جولد زيهر" في الشريعة الإسلامية.
"مرجليوث" في التاريخ الإسلامي.
"برنارد لويس" في مفاهيم الأمم والقوميات؛ مستهدفاً إيجاد صراع بين العروبة والإسلام.
وفي العام الماضي أنعمت (إسرائيل) على "برنار لويس" بلقب الدكتوراه؛ تحية له عن محاولاته لهدم المفاهيم العربية الإسلامية.
وعلينا أن نذكر في هذا المجال أن معظم كراسي الأدب العربي والدراسات الإسلامية في أغلب جامعا تالغرب يسيطر عليها مستشرقون يهود.
ويتصل بهذا محاولات السيطرة على دوائر المعارف العالمية، وخاصة دائرة المعارف الإسلامية، والسموم التي حملتها مادة "عرب" ومادة "إبراهيم" ومادة "إسماعيل"؛ في محاولة لتزييف الروابط الأساسية بين سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل وبين سيدنا إسحق، وفصل إسماعيل عن ميراث إبراهيم لجعله كله في نسل إسحاق.
وتلك مؤامرة ضخمة في حاجة إلى عناية شديدة.
كذلك فإن الأمر يتصل بمؤامرات تحريف التاريخ الإسلامي، وفي مقدمتها (مؤتمر بلتيمور) الذي عقد عام 1948 والذي حضره لفيف منقادة الصهيونية، وفي مقدمتهم بن جوريون؛ لوضع خطة تستهدف تنظيم ومضاعفة عمليات تزييف تاريخ العرب وإخراج دراسات جديدة تحمل الشبهات التي تتصل بمؤامرة القرامطة والزنج والباطنية، وإعادة طرح أفكارها وتاريخها في أفق الفكر الإسلامي بوصفها حركات تهدف إلى العدالة الاجتماعية. وقد ظهرت مؤلفات كثيرة بعد ذلك المؤتمر تحاول أن تطبق ما استهدفته هذه التوصيات.
ويتصل بهذا مؤتمر البهائيين العالمي الذي عقد في القدس المحتلة عام 1968 وما كشف عنه من صلة جذرية بين تاريخ البهائية وبين الحركة الصهيونية. كل هذا يجب أن نكون على وعي به ونحن نقرأ وندرس ونتابع.
دلالات خطيرة
(ثالثاً) يجب أن يكون أمامنا ونحن نطالع تاريخ المسلمين والإسلام في العصر الحديث عدة حقائق من شأنها أن تشكل قاعدة أساسية للبحث:(34/7)
هذه الحقائق لا توردها كتب التاريخ التي بين أيدينا إلا لماماً، وربما أوردت ما يخالفها من شبهات ظلت تتردد حتى أصبحت في منزلة المسلمات.
أولى هذه الحقائق ما طرحه (غلادستون) رئيس وزراء بريطانيا على مجلس العموم البريطاني عام 1883 حين حمل المصحف وقال: "مادام هذا الكتاب باقياً في الأرض فلا أمل لنا في إخضاع المسلمين، بل ونحن على خطر في أوطاننا".
وعلينا أن نفهم معنى هذا ومداه.
يُضاف إلى هذا قول اللورد اللنبي حين دخل القدس عام 1917 حين قال:
"اليوم انتهت الحروب الصليبية".
فإذا ذكرنا أن الحروب الصليبية كانت قد انتهت قبل ثمانمائة عام، عرفنا ماذا كان يريد أن يقول اللورد اللنبي متابعة مع خطة لويس التاسع بعد هزيمته في "المنصورة" حين دعا في وثيقة رسمية معروفة إلى بدء حرب الكلمة على المسلمين بعد فشل حرب السلام، وأن ما أشار إليه اللورد اللنبي إنما يعني نجاح هذه الخطة، فهذا قول خطير له أبعاده ومداه ولم يدرس بعد الدراسة الكافية.
فإذا ذكرنا كيف أن وزير خارجية بريطانيا (بترمان) تقدم عام 1907 بوثيقته المعروفة التي كانت خلاصة خبرة المفكرين والسياسيين من أجل دعم وحماية الاستعمار الغربي والتي تقول:
"لكي يظل الاستعمار قادراً في السيطرة على المسلمين والحيلولة دون توحدهم ونهوضهم، لابد من إقامة حاجز بشري معادِ للمسلمين في مكان ما بين أفريقيا وآسيا، على أن يكون هذا الحاجز من جنس غريب عنهم. ومن شأن هذا الحاجز أن يحول دون وحدة المسلمين".
وقد كان الجواب حاضراً؛ فقد تقدم اليهود وقالوا: "نحن الحاجز الغريب".
كل هذه الخطوط مجتمعة ترسم صورة وتخلق تحدياً وتكشف عن خلفيات لا توردها كثيراً كتب التاريخ التي بين أيدنا أو التي تُدرس في مدارسنا، ولكن هذه التحديات ذات دلالات خطيرة، ويجب أن تكون واضحة أمامنا ونحن نقرأ وندرس ونستوعب، وهي تعطينا فكرة واضحة وهي:(34/8)
أن هناك تعصباً وحقداً وخصومة ورغبة في ألا يستعيد المسلمون حقهم ولا يستكملون إرادتهم.
مناهج تخريبية
(رابعاً) يجب أن تكون أمامنا نظرة واضحة لعلاقة الفكر الإسلامي مع الفكر الغربي:
الفكر الغربي يعمل في محاولة دائبة منذ بدأ الاستعمار من أجل "احتواء" الفكر الإسلامي والحيلولة دون سيطرته على المجتمع الإسلامي، ويبدو ذلك في عدة مواقع:
1- التعليم: وهو خاضع للمناهج الغربية وهو الخنجر المسموم الذي طعن به المسلمون.
2- الجهاد: جربت المحاولات لتأويله وإقصائه عن حياة المسلمين.
3- الشريعة الإسلامية: سواء في مجال القانون أو الاقتصاد، وقفت الحوائل دون تحقيقها.
4- اللغة العربية: جرت المحاولات المتصلة للهجوم عليها وانتقاصها؛ محاربةً للقرآن الكريم.
ثم جاءت الموجة التالية وتتمثل في الغزو الثقافي والتغريب:
1- محاولة السيطرة على البلاد الإسلامية بالنظم الديمقراطية والقومية والماركسية.
2- محاولة سيطرة مفاهيم النفس والاجتماع والأخلاق على أسلوب العيش الإسلامي.
وقد جاء هذا مرحلة تالية لسيطرة الصهيونية العالمية على الفكر الغربي سيطرة كاملة. فقد برز زعماء اليهود كمفكرين مسيطرين على جميع مجالات الفكر الغربي؛ حيث حولوا المفاهيم التلمودية اليهودية إلى نظريات حديثة لها طابع علمي زائف ولكنه براق.
وسيطر اليهود الأربعة: هرتزل وماركس وفرويد ودوركايم، وجاء بعدهم سارتر وهو يهودي الأم.
الأهداف:
1- تحويل الفكر البشري ناحية الطعام والمادة.
2- تدمير النفس الإنسانية عن طريق الجنس.
3- إعلاء العنصرية والقوميات والدماء.
4- تأكيد الانشطارية بين الروح والمادة مع إعلاء المادة.
وبرزت الفرويدية والماركسية ومدرسة العلوم الاجتماعية (دور كايم وليفي بريل) ومدارس مقارنات الأديان وعلم اللغة وعلم الأنتثروبولوجيا، وكلها علوم تستهدف إعلاء الفكر التلمودي الوثني المادي الإباحي وبعث تراث التلمود والغنوصية والفكر البابلي القديم.(34/9)
أما بالنسبة للمسلمين فقد وقعوا تحت تأثير الاحتواء فترة ثم بدأوا يستفيقون، ونحن نرجو أن يكون "عصر التبعية" قد انتهى، وبدأ "عصر الترشيد"، ويمكن القول بأننا الآن في مرحلة الفهم والعلم والوعي بالخطر الذي يراد بنا ويجب علينا الانتقال بقوة وفوراً: إلى مرحلة الإرادة والتغيير.
كذلك يجب أن تكون نظرتنا إلى الغرب واقعية.
العالم الغربي الآن يمر بمرحلة "الأزمة" وبدور "النهاية"؛ فقد عجزت الحضارة عن أن تعطيه سكينة النفس أو طمأنينة القلب بعد أن فصل بين الروح والمادة، ومن ثم كانت أبرز مظاهر حياته الآن:
التمزق والضياع والعبث:
فهل المسلمون في حاجة إلى فتات الموائد وحثالات الأطباق !
البروتوكلات
(خامساً) إن الأخطار التي تواجهنا الآن هي بمثابة مؤسسات ظاهرة ومنظمات خفية، فلا نغفلن أبداً عن ذلك.
أمامنا: الماركسية والاستعمار والصهيونية مؤسسات ظاهرة، ولكن هناك منظمات خفية، هي الماسونية والروتاري والليونز.
وهناك أخطار فكر فرويد وساتر ودور كايم، تبدو واضحة الأثر في نفسيات الشباب وفي مفاهيمهم. وفي مفاهيم المرأة وقضاياها، وكلاهما تتمثل في أخطر قضيتين:
1- إيجاد الصراع بين الآباء والأبناء وتغذية روح الكراهية بينهما.
2- إثارة الشبهات حول قوامة الرجل على المرأة وخلق روح الكراهية بينهما.
وهما قضيتان بالغتا الخطورة، فيجب أن تدرسا بدقة وأن تعرف أبعادهما وخلفيات الخطر القائم وراءهما، وهو يتمثل في (بروتوكلات صهيون) وما كشفت عنه من هدف الاستيلاء على العالم وتدميره أخلاقياً قبل السيطرة عليه.
وبعد: فهذه خلفيات وأبعاد أرجو أن تكون في تقدير مثقفينا وهم يناقشون ويدرسون، وهي تحديات حقيقية؛ فإنها إذا ما استحضرت سوف تعطيهم فهماً أعمق وقدرة أوسع على الإحاطة بالأزمة وعلى إيجاد الحلو الناجعة.(34/10)
لقد تبين تماماً أن التجربة التي قام بها المسلمون والعرب للنظم الغربية، سواء الليبرالية أو الماركسية، قد فشلت تماماً في تحقيق المطمح الأسمى لأمة القرآن، وبذلك أصبح الطريق أمامهم مفتوحاً نحو خط واحد لم يجربوه وهو خطهم الأصيل وهو ملاذهم الوحيد الذي لن يجدوا دونه محيصاً الذي صاحبهم أربعة عشر قرناً وحماهم وأكد وجودهم ودافع عنهم، وسيظل يحميهم من عاديات الزمن وأحداث الأيام ما استمسكوا به.
نقاط هامة
(سادساً) في التاريخ الإسلامي الحديث "نقاط" ما تزال في حاجة إلى توضيح وبيان:
وأبرزها العلاقة بين المسلمين والعرب، وبين الدولة العلمانية والعرب، وبين العروبة والإسلام في مواجهة دعوات القومية والعنصرية والإقليمية وغيرها.
أما السلطان عبد الحميد فقد رد إليه اعتباره الآن بعد أكثر من ستين عاماً كان فيها في نظر المؤرخين مستبداً وسلطاناً أحمر، مع أنه كان من أشرف الشهداء الذين ضحوا بأنفسهم وملكهم في سبيل دفع جائحة الصهيونية العالمية عن السيطرة على فلسطين. ومذكرات هرتزل تثبت ذلك وتكشف عن مدى الدور الذي ظل خافياً عن العرب والمسلمين سنوات طويلة وإن كانت القضية ما زالت في حاجة إلى نصوص أوفى ووثائق أخرى لتحرير تاريخ السلطان تماماً من كل ما علق به.
أما الخلاف بين العرب والدولة العثمانية: فهو في الحقيقة خلاف مع الاتحاديين الذين حكموا من عام 1909 إلى عام 1918، وورثوا مصطفى كمال نظامهم التلمودي الماسوني الصهيوني، هؤلاء هم رجال "الاتحاد والترقي" الذين تشكلوا في أحضان المحافل الماسونية والذين عملوا لخدمة الصهيونية العالمية، فأسقطوا عبد الحميد ومهدوا لإلغاء الخلافة وسلموا طرابلس الغرب لإيطاليا، وفتحوا الطريق أمام اليهود إلى فلسطين وكانوا حاضرين في ضمير اللورد اللنبي عندما قال بعدد سيطرة الإنجليز على القدس: "الآن انتهت الحروب الصليبية".(34/11)
ثم جاءت المؤرخة اليهودية فقالت: "إن وصول الإنجليز إلى القدس عام 1917 كان يعني أنها صبحت في قبضة اليهود، وقد تم ذلك فعلاً عام 1967 ...".
فالخلاف إنما كان مع الاتحاديين وليس مع الدولة العثمانية نفسها.
ومن هنا يجري الحديث عن القوميات وعن تمزق "وحدة العالم الإسلامي" إلى كيانات بادئة بالطورانية في تركيا ومقابلها القومية العربية ..
وما اتصل بعد ذلك بمفاهيم الغرب وبسيطرة النظرية الغربية في القوميات على النحو الذي عرف في كثير من الدراسات، وقد فشلت هذه المفاهيم تماماً في ضوء الوحدة الإسلامية التي تبين أنها الطريق الصحيح والأوحد وذلك بعد التجربة المريرة وبعد هزيمة 1967.
هذه مجموعة من الحقائق لا أعتقد باحثاً أو مثقفاً يستطيع أن يستغني عنها في مواجهة قراءاته ودراساته سواء في تاريخ الإسلام أو التاريخ الحديث. وفي مواجهة الاستعمار والمذاهب السياسية والنظريات العربية بشطريها، ولهذه الأضواء الكاشفة والنقاط السريعة تفصيل واسع وأبعاد هامة يجب أن تتابع، ومن هذه الخيوط المجمعة الآن في كلمة واحدة نستطيع أن نستكشف الآفاق البعيدة ونعرف الخلفيات الظاهرة والخفية ونتابع الأحداث والأخبار في وضوح وفهم.
وهذا ما أعددته وأردت أن أقوله لشبابنا المثقف حين دُعيت لإلقاء كلمة في جامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة.
أنور الجندي(34/12)
تصحيح أكبر خطأ في تاريخ الإسلام الحديث
الأستاذ أنور الجندي
تكشفت في السنوات الأخيرة حقائق كثيرة كانت خافية وأذيعت أسرار كثيرة ظلت في طي الكتمان أعواماً وأجيالاً. وقد كان لظهور هذه الحقائق والأسرار أثرها البعيد في مجالات مختلفة وأمور كثيرة وكان أبرز هذه الوثائق "بوتوكولات صهيون" وكانت قد أصبحت كالمسلمات مما استدعى إعادة النظر فيها ومراجعتها من جديد. وكان من أبرز هذه الأمور ما اعترض تاريخ الإسلام الحديث من مواقف ارتبطت بالدولة العثمانية والصهيونية العالمية ومحاولة استيلاء اليهود على فلسطين، ففي خلال هذه الفترة من حياة الدولة العثمانية كانت المطامع المتضاربة بين الدول الغربية من ناحية والصهيونية العالمية من ناحية أخرى قد عملت على حجب كثير من الحقائق وتزييف جانب آخر منها في محاولة عاتية لتمزيق الوحدة الإسلامية للإنالة من الخلافة الإسلامية ولفتح الطريق للقوى الصهيونية إلى فلسطين وإقامة الحواجز الإقليمية العميقة بين أجزاء العالم الإسلامي وخاصة بين أقطار البلاد العربية وذلك حتى تتمكن هذه القوى الجديدة من الوثوب والسيطرة باعتبارها شريكاً للاستعمار الغربي وبديلاً عنه من خلال مطمع عقائدي يرتبط الميعاد وبتاريخ قديم لليهود متصل بها ومن خلال هذه المحاولات الواسعة زيف تاريخ الإسلام الحديث ووضعت خطط وكلمات ومصطلحات أصبحت بمثابة المسلمات التي رددتها كتب المدارس وأبحاث الجامعات ومقالات الصحف على أنها التصور الحقيقي للأمور وكلها تقول: بالسلطان الأحمر والاستعمار التركي والاستبداد العثماني والصراع بين العرب والترك والقومية الطورانية. ومن هنا نشأ تصور ما زال مطروحاً في أغلب كتب التاريخ والأدب العربي وخاصة في المناهج المدرسية والجامعية قوامه:
أن السلطان عبد الحميد كان رجلاً مستبداً ظالماً، وأنه كانت يلقى خصومه بالعشرات في الدردنيل وكانت له قوى ضخمة تشتغل بالجاسوسية وتصادر الحريات.(35/1)
أن الدولة العثانية كانت دولة مستعمرة سيطرت على البلاد العربية بالقوة وجنت إليها ثمراتها وتركت تلك البلاد فقيرة ضعيفة.
أن الاتحاديين في الدولة العثمانية كانوا قوة تقدمية عصرية بينما كانت القوى الأخرى قوى رجعية متخلفة.
أن دعوة السلطان عبد الحميد إلى الوحدة الإسلامية كان قد تجاوزها الزمن وفات أوانها وأن الدعوات القومية كانت هي أسلوب العصر.
منذ أن عقد مؤتمر بال في سويسرا عام 1897 م بزعامة الصحفي اليهودي هرتزل وبعد صدور كتاب الدولة اليهودية بقلمه كان قد انفتح مجال جديد للعمل في مواجهة العالم الإسلامي لشق الطريق إلى فلسطين لإقامة وطن قومي لليهود بها من خلال مخطط القوى الاستعمارية التي كانت قد انطلقت منذ 1799 م إلى مصر تحت اسم الحملة الفرنسية ثم إلى الجزائر 1830 م ثم إلى مصر مرة أخرى 1882 م وإلى تونس قبل ذلك بعام واحد، وفي هذه المرحلة كان الصراع قوياً بين الاستعمارين الفرنسي والإنجليزي في المنطقة التيس تضم الدولة العثمانية التي كانت تمثل الوحدة العربية التركية – ولكي تكتمل الصورة فإن هولندا كانت قد سبقت ذلك بوقت طويل بالاستيلاء على الملايو وجاوه وما يطلق عليه الآن إندونيسيا وكانت بريطانيا قد احتلت الهند وكانت أجزاء من الخليج قد سقطت في أيدي إسبانيا والبرتغال ثم ورثتها بريطانيا وكان هذا كله جزءاً من مخطط الاستعمار الغربي الحديث الذي تكامل في نهاية الحرب العالمية الأولى بإيقاع الصراع بين العرب والترك في المناطق الغربية (الحجاز والشام والعراق) وحلول فرنسا وإنجلترا بدلاً من الدولة العثمانية في هذه المناطق بعد معركة أدارتها إنجلترا بقيادة لورنس الذي وصف في يوم من الأيام بأنه ملك العرب غير المتوج.(35/2)
كان المخطط معداً لأن تعطي فلسطين في هذا المسرح الذي مثلت عليه هذه الرواية كلها للصهيونية العالمية. وأن استيلاء بريطانيا على فلسطين عام 1948 م كان تمهيداً لأن تقع بما فيها المقدس في أيدي اليهود.
ومراجعة الأحداث تنبئ بهذا التخطيط الواسع البعيد المدى الذي بدأ منذ وقت باكر يسبق لقاء هرتزل للسلطان عبد الحميد. وهو في حقيقته صراع بين إرادتين. الإرادة الأولى: هي إرادة السلطان عبد الحميد الذي تولى الملك في سبيل الوحدة في مواجهة الاستعمار تحت اسم الجامعة الإسلامية لتعمل مع جميع مسلمي العالم خارج نطاق الدولة العثمانية ولتوحيد كل القوى والمذاهب والأقطار.(35/3)
ولا ريب كانت هذه الحركة مضادة لإرادة أخرى كانت تستهدف تمزيق الدولة العثمانية نفسها وليس لتمكينها من أن تجمع إليها أقطار المسلمين الأخرى التي في خارجها ولذلك كان لابد من إزاحته، كذلك فإن اليهودية العالمية القوى كلها في سبيل السيطرة على البلاد الإسلامية وتقسيم الإمبراطورية العثمانية بعد أن عمدت إلى إنهاكها سنوات عدة بالحروب والمؤامرات وحين باتت لقمة سائغة جاء السلطان عبد الحميد ليعقد الخناجر على مقاومة الاستعمار وذللك كان لابد من إزاحته، كذلك فإن اليهودية العالمية كانت ترى أن الدولة العثمانية هي مدخلها إلى فلسطين وكانت تعد العدة منذ وقت بعيد في بؤرة خطيرة داخل تركيا هي سالونيك التي كانت تتجمع فيها (الدونمة) أولئك الذين دخلوا الإسلام تقية، من يهود إسبانيا الذين هاجروا بعد خروج الحكم الإسلامي منها، والذين كانوا قد أنشأوا المحافل الماسونية لإعداد خطة الانقضاض على الدولة العثمانية. والذين استطاعوا احتواء جماعة الاتحاد والترقي والتغلغل فيها والسطرة عليها ومن ثم استطاعوا بها إقصاء السلطان عبد الحميد وإسقاط مشروعه والقيام على الدولة لتمزيقها والقضاء عليها، ولا عجب ففي ظل حكم الاتحاديين بعد إسقاط عبد الحميد منذ عام 1909 م إلى 1918 م هزمت الدولة في الحرب العالمية وسلمت طرابلس الغرب إلى بريطانيا وفتحت الطريق أمام اليهود إلى فلسطين.
هذه المرحلة الدقيقة الخطيرة من تاريخ الإسلام في العصر الحديث ما زالت تشوبها الشوائب وتحول قوى كثيرة دون الكشف عن حقيقتها، وما زالت الصورة التي رسمتها الصهيونية والاستعمار لها هي الصورة الرسمية القائمة في كتب المدارس والجامعات بالرغم من الحقائق الكثيرة التي تكشفت والتي أزاحت الظلم عن وجه الرجل الكريم السلطان عبد الحميد وعن موقفه.(35/4)
والحق أنه ليست هناك شخصية في تاريخ الإسلام الحديث هوجمت بمثل ذلك العنف والتعسف الذي هوجم به السلطان عبد الحميد حتى كشفت الوثائق في السنوات الأخيرة ليس عن براءته بل عن بطولته ومن عجب أن أبرز النصوص التي أحقت الحق، جاءت في مذكرات هرتزل التي نشرها باللغة العربية.
ولنعد إلى حقيقة الصراع بين القوى الإسلامية بقيادة عبد الحميد وبين القوى الاستعمارية واليهودية لنعرف مدى ما حققته إسقاط عبد الحميد لإلغاء الخلافة الإسيلامية.
لكي نعرف حقيقة حركة الوحدة الإسلامية الجامعة التي قام بها عبد الحميد يجب أن نتصور بوضوح واقع الدولة العثمانية والعالم كله خلال النصف الأخير من القرن التاسع عشر وقد بلغت الدولة العثمانية أشد مراحل الضعف وقد تجمعت الدول الغربية على وضع الخطط للقضاء عليها وتمزيقها وإذلالها. وقد كانت روسيا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا جميعاً بالإضافة إلى البابوية تشترك في رسم هذه الخطط وفي انتزاع الأجزاء الأوروبية من الدولة واسترجاعها والاستعداد لتقسيم أجزاء العربية في الدولة وهي الشام والعراق والجزيرة العربية.(35/5)
وكانت مخططات الصهيونية العالمية تركز تركيزاً شديداً على الدولة العثمانية من أجل الوصول إلى فلسطين وتحقيق حلمها في إقامة هيكل سليمان. فلما ولي السلطان عبد الحميد الحكم خليفة للمسلمين وسلطانها للدولةى العثمانية واجه الموقف على نحو يختلف عما واجهه به سلاطين آل عثمان الذين سبقوه وكانت مواجهته جادة حاسمة. كان إحساسه بالتبعية كبيراً وكان ذكاؤه وسعة فكره وإلمامه بالتيارات المختلفة بالغاً، ومن هنا فقد جرى من الأحداث في طريقها المرسوم شوطاً ثم لم يلبث أن وضع خطته المحكمة التي رأى أنها الطريق الوحيد لمواجهة الغزو الاستعماري الزاحف والذي كان قد تشكل داخل الدولة العثمانية في مؤسستين خطيرتين. إحداهما: المحافل الماسونية في سالونيك وتركيا الفتاة التي سميت بعد (الاتحاد والترقي) والتي ضمت مجموعة من المثقفين ثقافة غربية ومن أصحاب الولاء الفكري الغربي وخاصة الفرنسي ومن الذين أغروا عن طريق المستشرقين وكتاب الغرب بأنه لا سبيل أمام الدولة العثمانية لكي تصل إلى التحرر والقوة إلا بالتماس مناهج الغرب التماساً كاملاً وطرح فكرها وأسلوبها ومنهجها الإسلامي القديم والتخلص منه إلى غير رجعة، غير أن هذه الجماعة لم تستطع أن تقف وحدها فالتمست العون من المحافل الماسونية ومن ثم احتوتها الحركة الصهيونية وسيطرت عليها ووجهتها الوجهة التي ارتضتها في القضاء على الدولة العثمانية وكان السلطان عبد الحميد قد حدد هدفه في مواجهة النفوذ الغربي على هذا النحو: أن الوسيلة الأساسية لمواجهة النفوذ الاستعماري هي تجمع المسلمين في كل مكان تحت جناح الخلافة الإسلامية الذي تحمل لواءه الدولة العثمانية الجامعة في كيانها بين العرب والترك، ومن هنا كان على السلطان العثماني الذي هو خليفة المسلمين أن ينادي المسلمين في جميع أنحاء الأرض أن يقفوا معه في صف واحد في مواجهة النفوذ الغربي ومن هنا كانت صيحته المعروفة المشهورة التي هزت الغرب كله:(35/6)
"يا مسلمي العالم اتحدوا".
ومن هنا بدأ الخطر الذي واجهته الدول الأوروبية والاستعمار والبابوية والصهيونية العالمية في عنف وأخذت في التماس كل وسائل التآمر والغدر في سبيل تحطيم الخطة والقضاء على القائم بها. ولكن السلطان عبد الحميد استطاع أن يصمد لذلك وقتاً طويلاً وأنه كان قد بدأ في هذه الحرةك عام 1879 م على وجه التقريب فقد ظل يحمل هذا اللواء في قوة في مواجهة عواصف السياسة الأوروبية ثلاثين عاماً كاملة دون أن يتزلزل أو يضعف.
لم يكن السلطان عبد الحميد يملك من القووة العسكرية ما يستطيع أن يواجه به أوروبا والغرب المتجمع باسم كلمة (لا إله إلا الله) وتحت لواء قوة عارمة خشيت بأسها أوروبا وحسبت لها ألف حساب، فقد كان المسلمون الموالون للسلطان تحت النفوذ الغربي في عديد من الأقطار التي احتلتها بريطانيا وفرنسا وخاصة قارة الهند يمثلون قوة روحية ذات أهمية خطيرة. ولقد مضى السلطان في تنفيذ مخططه في قوة وسرعة، بحيث شملت الدعوة كل الآفاق الإسلامية وذاعت في كل مكان وحملت معها عملاً إيجابياً نافعاً قوامه المدارس والمنشآت في كل صقع من البلاد الإسلامية وكان قد أنشأ مدرسة للدعاة الذين سرعان ما انبثوا في كل أطراف العالم الإسلامي إلى الهند والصين وجزائر المحيط ومصر وأفريقيا وتركستان وأفغانستان وبلاد العرب وأطراف المملكة العثمانية، كما عقد مع الأمراء في شتى هذه البقاع مراسلات وعقود وعمق روابط الود والإخاء الإسلامي فيما بينهم وبين دولة الخلافة حتى قيل أنه لم يبق مسلم واحد لم يعرف طرفاً عن هذه الدعوة. وقد جعل السلطان عبد الحميد أمامه أمرين هامين:
الأول: أن يكون أهل بلاد العرب هم ساقة هذه الدعوة وحملة لوائها ومن هنا فقد اتخذ في كل قطر عربي "مشيراً" له فجمع حوله علماء وأمراء من الجزائر والشام ومكة ومنهم أبناء الأمير عبد القادر الجزائري وغيره من أمراء المسلمين.(35/7)
الثاني: هو إنهاء الخلاف الذي أحجبه الاستعمار بين السنة والشيعة أو بين الأتراك والفرس وقد استخدم لذلك علامة كبيراً هو السيد جمال الدين الأفغاني وأجرى صلحاً مع شاه فارس وصفي أمر الخلافات كلها.
ولم يتوقف عند هذه الحركة الفكرية وحدها إنما جعلها واجهة لعمله الكبير الذي بدأه في بناء القوة الحربية والعسكرية وتقوية جيوشه وأساطيله فقد استخدم بعثة ألمانية ولم يلبث أن أنشأ معاهد عسكرية دخلها عدد كبير من الشبان الممتازين من شباب العرب من العراق وسوريا ومصر. وقد مضت الخطة إلى غايتها المرجوة فاشتد عصب المسلمين بالترابط وتوحدت فكرتهم بالعمل الجامع، وكان دعاة الفكرة الإسلامية ينشرون ثقافة جديدة قامها مواجهة الاستعمار الغربي الزاحف والخطر الأوروبي القيصري الصهيوني جميعاً، وتركزت الآمال حول السلطان عبد الحميد خليفة المسلمين وترابطت الدول الإسلامية وأهلها حول عاصمة الخلافة علت نحو بلغ غاية القوة (فكانوا يذكرون اسمه في خطب الجمعة ويدينون له بالولاء والطاعة الروحية وباسم خلافته على المسلمين كافة) وجعلهم من رعايا دول أوروبا في الهند وجزر الهند الشرقية وشمال أفريقيا، وكان السلطان على حد تعبير محمد رفعت باشا في كتابه التوجيه السياسي للفكرة العربية "يفاوض الدول الكبرى ويساومها بل يهددها أحياناً ملوحاً بسلاح الجهاد الديني، واستطاع السلطان أن يجمع تحت لواء الدعوة أبرز المسلمين في مجال الفكر والسياسة وفي مقدمتهم: خير الدين التونسي وجمال الدين الأفغاني وأبو الهدى الرفاعي الصيادي وأبناء الأمير عبد القادر الجزائري".(35/8)
وأقام من العرب فرقة خاصة ضمها إلى الحرس السلطاني وولى كثير منهم مناصب رئيسية في الدولة وفي مقدمتهم أحمد عزت العابد. وكان من أكبر أعمال السلطان في هذا الصدد: إنشاء سكة حديد الحجاز التي تربط بين دمشق والمدينة وكذلك فرعها الذي يربط الحجاز وبغداد وقد وجد هذا العمل تقديراً بالغاً من المسلمين في كل مكان وتبرعوا له بأكثر من ثلاثة ملايين من الجنيهات الذهبية، فكان من أخطر المشروعات التي عجلت بالقضاء على السلطان فقد كان منذراً للغرب بتغيير إسلامي كبير. وقد استهدف في الأغلب القضاء على دسائس الإنجليز ومؤامراهم في البحر الأحمر والجزيرة العربية وكان من أخطر مواقف الحركة الإسلامية الواحدة التي دعا إليها وحمل لواءها عبد الحميد: هو معارضة أهداف الحركة الصهيونية في السيطرة على فلسطين ومواجهتها.
ومن هنا انطلقت الصحافة الأوروبية وتباعتها الصحافة العربية التي ظهرت في مصر والتي قاد حركتها خريجو الإرساليات التبشيرية، من أمثال: سليم سركيس وفارس نمر ويعقوب صروف وفرج أنطون وغيرهم الذين حملوا لواء التشهير باللواء ومعارضته وإشاعة الاتهامات المحتلفة حول شخصيته وتصويره ومعارضته وإشاعة الاتهامات المختلفة حول شخصيته وتصويره بتلك الصورة الرديئة لحساب الصهيونية العالمية التي انطلقت لإشاعة روح االكراهية والانتقاض للرجل بعد موقفه الحاسم الكريم من مطالبهم وكان أعظم ما تركز عليه هذه الحملة إثارة عوامل الفتنة بين قيادة الحركة الإسلامية وبين العناصر المختلفة في الدول العثمانية وخارجها.(35/9)
وكان أقوى من هاجم حركة السلطان عبد الحميد في مصر اللورد كرومر الذي حمل على فكرة الجامعة الإسلامية حملة ضارية ودعا الدول الأوروبية في تحريض سافر إلى التجمع للوقوف في وجه هذه الدعوة وكذلك هاجمها هانوتو الفرنسي واللورد غراي ووصفوها بأنها بؤرة التعصب الديني وأنه ليس القصد منها إلا تحدي قوات الدول الغربية المسيحية وقد حملت جريدة المقطم في مصر لواء معارضة هذه الدعوة.
ولقد شهد كثيرون بأصالة هذه الحركة وقوتها وأثرها، يقول الدكتور توفيق برو: أنها كانت كرد فعل للحركة الاستعمارية الأوروبية الطاغية وأن قادتها كانوا من الدعاة المبرزين وقد أذكى نار هذا الشعور أئمة من أفاضل العلماء أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومصطفى الغلاييني ورشيد رضا الذين قاموا باستغلال هذا الشعور في سبيل سيطرة السلطان في الداخل وتقرير مكانة الدولة في الخارج.(35/10)
وبعد فلقد كان السلطان عبد الحميد سياسياً قديراً وقرماً من أقرام السياسة الدولية وأولا ذلك ما استطاع أن يصمد في وجه هذه الرياح العاتية وكان قادراً على التعرف على مختلف التيارات والمؤامرات وكان يفهم أبعاد الخطر الداخلي الذي يؤججه الاستعمار والصهيونية عن طريق حزب تركيا الفتاة وكيف تسيطر عليهم الماسونية العالمية وتوجههم لصالحها كما كان يعرف نقاط الضعف في الدول الغربية وأوجه الخلاف بين بعضها البعض فيستغلها ويستفيد منها. ولست أستطيع أن أصور هذا المعنى بأعظم مما صور به جمال الدين الأفغاني: الذي التقى بالسلطان ساعات ومرات وتدارس معه شئون العالم الإسلامي ومخاطر السياسة الأوروبية ومخططاتها. وذلك بعد أن قدم إلى الآستانة قال: رأيته يعلم دقائق الأمور السياسية ومرامي الدول الغربية وهو معد لكل هوة تطرأ على الملك مخرجاً وسلماً وأعظم ما أدهشني ما أعده من خفى الواسائل وأمضى العوامل كي لا تنفق أوروبا على عمل خطير في الممالك العثمانية ويريها عياناً محسوساً، إن تجزئة السلطنة العثمانية لا يمكن إلا بخراب يعم الأمم الأوروبية بأسرها. وقال: إن ما رأيته من يقظة السلطان وشدة حذره وإعداده العدة اللازمة لإبطال مكايد أوروبا وحسن نواياه واستعداده للنهوض بالدولة قد دفعني إلى مد يدي له فبايعته بالخلافة والملك. أ. هـ.
ولقد أكد كثيرون من المؤرخين والباحثين في إنصاف أن السلطان عبد الحميد كان آخر الحصون التي دافع بها الإسلام عن وجوده العالمي وبعد انهياره تمت مؤامرات الغرب وربيبته الصهيونية. ومن الحق أن يقال أن الحركة التي حمل لواءها السلطان عبد الحميد في تجميع المسلمين تحت لواء الخلافة كانت اتجاهاً طبيعياً وأملاً يملأ كل النفوس، ولذلك فقد حققت نجاحاً كبيراً، أزعج الاستعمار والصهيونية إزعاجاً شديداً مما استدعى العمل من جانبهم لإجهاضه والقضاء على حامل لواء الدعوة أصلاً كوسيلة للقضاء عليها وتدميرها.(35/11)
في هذا الضوء يتمثل العمل الذي قامت به الصهيونية من جانبين:
أولاً: من جانب الدونمة داخل الدولة العثمانية وخاصة في محاصرة السلطان والتآمر عليه.
ثانياً: الدونمة: هي القوة اليهودية الكامنة داخل الدولة العثمانية التي اختارت مدينة سالونيك ودخلت الإسلام بعد تاريخ طويل معروف، وهي التي أنشأت المحافل الماسونية في الدولة العثمانية لهذه الغاية واتصلت بجماعة الاتحاد والترقي (وحزب تركيا الفتاة) وأفسحت له في محافلها الفرصة للعمل، وتلاقت الرغبات على التخلص من الوجه الإسلامي لتركيا، ومن السلطان عبد الحميد وكان ذلك قد بدأ يأخذ طريقه بقوة منذ أعلن السلطان عبد الحميد دعوته إلى المسلمين. وكانت قوى كثيرة تشارك اليهودية العالمية في هذا الاتجاه وقد كان السلطان عبد الحميد يعرف هذه القوى التي يواجهها في الداخل ويعرف المؤامرة التي تدبر لفكرته وله وكان يعرف أبعاد المخطط كله: فئة المثقفين الغربيين الذين سيطرت عليهم أفكار الثورة الفرنسية ربيبة المحافل الماسونية من ناحية وحركة الإرساليات الأجنبية في لبنان وثمارها المنبثة في مصر وسوريا والبلاد الإسلامية تحمل أحقادها على الإسلام والوحدة الإسلامية والمحافل الماسونية في سالونيك. وإذا كان السلطان قد عارض مدحت وحزب تركيا الفتاة فقد كان عالماً بأنهم واقعون تحت نفوذ الماسونية العالمية أداة الصهيونية العالمية في ذلك الوقت وأن موقفه دون تمكين اليهود من فلسطين قد حرض كل هذ ه القوى وأمدها بإشارة الانقضاض. إن تصريحات كثيرة للسلطان عبد الحميد تكشف أنه كان عالماً بأهداف الصهيونية في هذا الوقت المبكر، ولذلك فقد كان وقوفه في وجه الاتحاديين وتركيا الفتاة وعمله على تحطيم مخططاتهم ليس نابعاً من كراهية لنهضة الدولة العثمانية ولكنه كان عمقاً في النظرة إلى الأهداف البعيدة لتدمير هذه القوة التي كانت تحمي آمال المسلمين داخل الدولة وخارجها.(35/12)
ولقد صدقت نظرة السلطان عبد الحميد على الاتحاديين بعد أن دخلوا التجربة فعلاً وسيطروا على الحكم من 1909 م إلى 1918 م وما قاموا به من تسليم كامل للدولة وتبعية كاملة لمخططات الاستعمار والصهيونية مما كشف أصالة عبد الحميد وبعد نظره وجلال موقفه الحاسم في وجه النفوذ الاستعماري نفسه بالدعوة إلى الوحدة الإسلامية وفي نفس الوثت بمقاومة هذه التبعية التي كانت تحمل مظهراً براقاً هو الإصلاح على طريقة الغرب بينما كانت تحمل في أعماقها إيماناً بالفناء في الغرب كله، ولقد خدع المسلمون والعرب بالاتحاديين وأقاموا الأفراح وسرعان ما اكتشفوا أنهم سلموا أنفسهم إلى فك الأسد وأنيابه. إن مقدرة السلطان عبد الحميد على فهم ما يحيط به كانت مما يظن كثيرون ولكنه كان في موقف لا يستطيع معه أن يكاشف المسلمين بالأخطار التي تحيط به.
قد كان اليهود يرون في السلطنة العثمانية شبحاً مخيفاً خطراً على مستقبلهم كما يقول الدكتور محمد علي الزغبي في كتابه الماسونية في العراء، وكانت الدونمة بكل مؤسساتها وتداخلاتها أداة التنفيذ في الوقت المناسب.
ثانياً: بعد أن عقد مؤتمر بال 1897 م وكانت حركة الوحدة الإسلامية قد استحصدت، كانت وجهة نظر اليهود هي اقتحام فلسطين ولذلك فقد تركزت الخطط حول الدولة العثمانية وحول السلطان عبد الحميد في محاولة لاحتوائه ظناً منهم أنه في ظرف من الضعف وفي حالة من الاستدانة تجعله يخضع للإغراء، إغراء اليهود بالذهب وهم من قبل أصحاب العجل الذهبي، وبدأت المحاولات منذ ذلك الوقت واتخذت وسائط كثيرة وووسائل متعددة منها وساطة الإمبراطور غليوم ولقاء اليهود الثلاثة (مزارحي قراصوا – جال - ليون) ولقاء هرتزل ومعه موشي ليوي حاخام اليهود في الدولة العثمانية ولقاء السفير اليهودي غوش وهي سابقة على مقابلة اليهود الثلاثة ثم لقاء هرتزل للسلطان ولرجال قصره.(35/13)
وقد عرض من خلال هذه المقابلات مشروع يرمي إلى تقديم قرض للدولة العثمانية يبلغ خمسين مليوناً من الجنيهات الذهبية وخمسة ملايين جنيه لخزانة السلطان الخاصة. بناء أسطول كامل للدفاع عن أراضي العلية.
وذلك في مقابل السماح لليهود بإنشاء مستعمرة صغيرة لهم قرب القدس ينزل بها أبناء جلدتهم.
وحتى لا نطيل والتفاصيل كلها موجودة والمراجع ثابته: فنوه بالرد النهائي للسلطان عبد الحميد: بلغوا الدمتور هرتزل ألا يبذل بعد اليوم شيئاً عن المحاولة في هذا بالأمر (التوطن بفلسطين) فإنس لست مستعداً أن أتخلى عن شبر واحد من هذه البلاد لتذهب إلى الغير فالبلاد ليست ملكي بل هي ملك شعبي روى ترابها بدمائه. فليحتفظ اليهود بملايينهم من الذهب فإن الدولة العلية لا يمكن أن تختبئ وراء حصون بنيت بأموال أعداء الإسلام.
لست مستعداً لأن أتحمل في التاريخ وصمة بيع بيت المقدس لليهود وخيانة الأمانة التي كلفنى المسلمون بحمياتها.
إن ديون الدولة ليست عاراً لأن غيرها من الدول الأخرى مدين مثل فرنسا.(35/14)
إن بيت المقدس قد افتتحه المسلمون أول مرة بخلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولست مستعداً أن أتحمل في التاريخ وصمة بيعها لليهود وخيانة الأمانة. وقد أورد هرتزل في مذكراته التي طبعت بالألمانية في تل أبيب عام 1924 م قصة هذه المحاولات وقال بعد فشل المحاولة الأخيرة: إن السلطان عبد الحميد الشريف الفذ الذي أخفى المسلمين والعرب منذ عام 1909 م حتى سنوات قريبة عندما ترجمت مذكرات هرتزل وكان أول من أشار إلى هذا النص الأستاذ أحمد الشقيري في دروسه في معهد الدراسات العربية بالقاهرة منذ عشر سنوات وقد ظل المسلمون والعرب خلال فترة لا تقل عن خمسين عاماً يرمون الرجل عن قوس واحدة لأن الاستعمار والصهيونية والصحف العربية التي أصدرها تلاميذ مدارس الإرساليات وخاصة في مصر (المقطم، الأهرام، الهلال، المقتطف، مجلة سركيس) وعشرات من الصحف كانت تصف عبد الحميد بالسلطان الأحمر المستبد. وقد انتقلت هذه العبارات من الصحف إلى كتب التاريخ وكتب تاريخ الأدب العربي، وما من كتاب أرخ هذه الفترة إلا احتوى على هذه العبارات التي أصبحت مسلمات بالإضافة إلى تغير آخر سنعود له من بعد وهو "الاستعمار التركي العثماني".
كانت هذه العبارات النارية التي وجهها السلطان عبد الحميد إلى هرتزل عام 1902 م إيذاناً بتلك الحملة العاتية على السلطان بعد أن تقرر إزاحته وكانت هذه الحملات التي وجهت إليه تمهيداً وإعداداً للرأي العام لهذا الغرض. ولقد جرت منذ ذلك الوقت محاولات لاغتياله وإسقاطه حتى وقع ذلك عام 1908 م بالإنقلاب الذي قام به الاتحاديون بالاشتراك مع الماسونية ممثلة في الدونمة.(35/15)
ولا تزال عبارات عبد الحميد نبراساً مضيئاً وتاجاً لامعاً وشرفاً ما بعده شرف، يتوج جبينه في تاريخه المعاصر، وعند ربه، ويتردد عنه ومن حوله كل الإشاعات والشبهات والأضاليل. وقد تبين من بعد في وثائق كثيرة وانكشف الستار عن مؤامرة قلب الدولة العثمانية وإنزال عبد الحميد بالذات كخطوة أولى لتنفيذ هذه الجريمة البشعة. والمؤامرة العالمية لتحطيم الوحدة الجذرية والرابطة العضوية القائمة بين العروبة والإسلام. ولقد تحقق فعلاً لليهود وللاستعمار بإسقاط عبد الحميد كل ما كانوا يرجونه ولم تلبث الهجرة إلى فلسطين أن بدأت سافرة منذ ذلك الحين وتحقق ذلك الأمل الذي استعصى سنوات وسنوات، وكان ذلك مقدمة لاشك فيها للقضاء على الخلافة الإسلامية.
ولقد كان ضرورياً للباحث المتمهل المنصف أن يقف دائماً من تاريخ الدولة العثمانية في العصر الأخير موقف العدل والصدق وأن يفرق بين عهدين: عهد السلطان عبد الحميد الذي انتهى عام 1908 م تقريباً وعهد حكم الاتحاديين الذي بدأ منذ ذلك الوقت وظل مستمراً حتى أسلم أمره إلى الكماليين بعد الحرب العالمية الأولى. فهذه التفرقة واضحة وضرورية خاصة بالنسبة لنا في المشرق: ذلك أن سوريا ولبنان والعراق قبل ذلك تعيش في هذا الاتجاه المعارض للخلافة والسلطان بينما كانت مصر التي سقطت عنها ولاية الدولة العثمانية وسيطر عليها الاستعمار البريطاني منذ 1882 م تؤيد الخلافة والسلطان. ولقد كان لموقف حكومة الاتحاد التركي من أهل سوريا ولبنان ومحاكمة رجالهم وتعليقهم على المشانق عام 1916 م أثر نفسي يعيد في نظرتهم الكلية إلى الدولة العثمانية والحقيقة أنها يجب أن تكون قاصرة على الاتحاديين وحدهم.(35/16)
ومن هنا وجب التفريق بين مرحلة السلطان عبد الحميد التي انتهت عام 1908 م وهي فترة كان موقف الدولة العثمانية فيها بالنسبة للعرب والمسلمين موقفاً كريماً، وكانت الحركة الإسلامية الواحدة من أعظم الأعمال، أما الفترة التالية التي حكم فيها الذين أسقطوا السلطان فإنها تمثل أسود صفحات الحكم التركي ولاء للصهيونية والاستعمار وضرباً للوحدة الإسلامية وإعلاء للحركة الطورانية، ومحاولة لتتريك العرب في سوريا وتعليق زعمائهم على المشانق، هذه الفترة وحدها هي التي يقف فيها العرب من سوريا موقف الخصومة للترك وهي ليست من حساب الدولة الإسلامية العثمانية في الحقيقة.
كذلك نجد أنه من الضروري أن نصحح عبارة "الاستعمار التركي" أو العثماني. والواقع أن كلمة استعمار كلمة مستحدثة مرتبطة إلى حد كبير بدول مسيطرة بقوة الحديد والنار تأخذ ثروات الأمم بأبخث الأثمان لتجعلها مورداً خاماً لمصانعها ثم تعيد إلى هذه الأمم منتجاتها لتبيعها بأعلى الأسعار، وهذا النظام الاستعماري لم يكن موجوداً في هذه الفترة ولم تكن الدولة العثمانية بهذا المعنى دولة مستعمرة، كذلك فإن الأجزاء العربية التي انضمت إلى الدولة العثمانية لم تكن قد انضمت باحتلال وقسر ولكنها كانت برضاء ودعوة، فقد وجد العرب أنفسهم بعد ضعف المماليك في حاجة إلى الالتقاء تحت اسم الإسلام مع هذه الدولة الكبرى رغبة في الوحدة وحافظة على النفس. وبعد أن تعرضت سوريا ومصر لمحاولات غزو صليبي متجدد من الغرب، والمعروف أن العرب في مصر وسوريا قد رحبوا بالوحدة الإسلامية العثمانية ولم يعارضوها حيث وجدوا في العثمانيين إخوانهم في العقيدة والدين منتعشاً جديداً للإسلام. وقد أكد المؤرخون والباحثون إن هذا الالتقاء بالعرب والترك في ظل الدولة العثمانية قد حمى العالم الإسلامي أكثر من أربعمائة عام من الغزو الصليبي الذي لم يلبث أن جاء بعد ضعف الدولة العثمانية.(35/17)
والواقع أن الدعوة إلى الوحدة الإسلامية لم يتجاوزها الزمن ولقد تبين للمسلمين اليوم بعد سنوات طويلة من الدعوات الإقليمية والقومية أن الوحدة الإسلامية هي الأصل الأصيل والوجهة الصحيحة وكل الدلائل تؤكد أن المسلمين سائرون إلى طريق الوحدة الذي حطمته اليهودية والاستعمار بإسقاط عبد الحميد وإلغاء الخلافة.
حاشية:
عندما عقد الملتقى الإسلامي الثامن في ولاية بجاية من جمهورية الجزائر عام 1974 م وأثار كعادته في كل عام عدداً من القضايا والمعضلات التي تواجه الفكر الإسلامي في العصر الحديث وقد اشترك في الملتقى عدد كبير من الباحثين والعلماء من مختلف أنحاء العالم الإسلامي كما شارك فيه ممثلون للمسلمين في الهند واليابان كانت أبرز القضايا التي تناولها البحث:
وضع الأقليات والجاليات عموماً والإسلامية خصوصاً في كثير من بلدان القارات الخمس وواجب العلماء والمفكرين ورجال الإعلام نحوها.
وقد أشارت الدكتورة ليلى الصباغ من أساتذة التاريخ بجامعة دمشق إلى الدولة العثمانية إشارة ظالمة حين قالت:
أنها أشلمت البلاد العربية لقمة سائغة للاستعمار العربي.
وقد تصدى لها عدد من الباحثين الجزائريين وعرضوا لوجهة نظرهم إزاء الدولة العثمانية والدور الكبيرة الذي قامت به إزاء حماية المغرب كله من الغزو الأوروبي وتوالت المطالبة بمعرفة دور المشرق وقد تصدى كاتب هذه السطور ذللك فقال:(35/18)
رغبة في تغطية قضية الدولة العثمانية نظر المشرق والعرب ومصر بالإضافة إلى وجهة النظر المغربية الجزائرية في هذه المسألة نقول: لقد تأثرنا في مصر والمشرق في كتبنا المدرسية وأبحاثنا التاريخية بوجهة النظر الغربية تجاه الدولة العثمانية، وهي وجهة خاصة للغربيين، نتيجة التوسع التركي عرفتها مناطق البلقان وغيرها في القرن التاسع عشر، وقد نقل الاستعمار البريطاني في مصر، والفرنسي في سوريا، وجهة النظر هذه إلى كتب التاريخ التي تدرس في مدارسنا وجامعاتنا، كما تأثر بها بعض مؤرخينا متابعة للنظرة الغربية، أو تحت تأثير الدعوات الإقليمية كالفرعونية الفينيقية وغيرها غير أن هذه النظرة تعمقت من بعد وبلغت أقصى غاياتها في تجاوز الحقيقة، على أثر ظهور الصحافة العربية التي حررها وأخرجها اللبنانيون المارون، خريجو معاهد الإرساليات، وأصحاب العداء الواضح للدولة العثمانية.
وزاد هذه النظرة عنفاً وتعصباً: تلك المحاولة الخطيرة التي طرحتها الصهيونية العالمية بعد عام 1902 م اتشويه شخصية السلطان عبد الحميد ةرميه بالاتهامات كأمثال السلطان الأحمر والمستبد العثماني وغيره، وكلها كانت محاولات أريد منها تهيئة الأذهان للقضاء عليه وانتزاعه من مكانه، وقد عاونت المقطم والأهرام والهلال والمقتطف وكلها كانت لبنانبة الأصل في هذه الحملة وكان ذلك على أثر الموقف الحاسم الذي وقفه السلطان عبد الحميد من المحاولات المتصلة التي جرت خلال الأعوام السابقة لعام 1902 م والذي أرسل فيه السلطان خطابه التاريخي إلى الصحفي اليهودي ثيودور هرتزل صاحب كتاب الدولة اليهودية ومرؤسس الصهيونية الحديثة وقد جاء في هذا الخطاب بالنص:
قولوا للدكتور هرتزل لا يتصل بي مرة أخرى، أن بلادي تفضل أن تظل مدينة على أن تسدد ديونها من ذهب اليهود، إن فلسطين هي بلاد العرب ولا أستطيع أن أفرط في شبر منها.(35/19)
وكان الدكتور هرتزل قد عرض على السلطان عبد الحميد خمسين مليوناً من الجنيهات الذهب لخزانة الدولة وخمسة ملايين من الجنيهات الذهب لخزانة السلطان الخاصة إلى مشاريع أخرى كثيرة لدعم الدولة العثمانية اقتصادياً.
وقد سجل هرتزل في مذكراته كيف حاول إغراء ذلك الرجل الكريم أشد إغراء ثم كشفت وثائق التاريخ من بعد كيف جرت المحاولات لقتله ثم إسقاطه وقد أغري أشد إغراء وهدد أشد تهديد ولكنه صمد صموداً مشرفاً وظل موقفه هذا محجوباً عن الصحافة وعن المدارس والجامعات وكتب التاريخ سنوا طويلة حتى ترجمت مذكرات هرتزل في السنوات الأخيرة، وظل اسم السلطان عبد الحميد يذكر في كتبنا المدرسة مشفوعاً بأبشع الاتهامات حتى أحق الله الحق وكشف ذلك الزيف الذي حاول به الاستعمار وحاولت الصهيونية إيقاع الفرقة والخلاف بين العرب في مصر والشام وبين الدولة العثمانية.
وللحقيقة فإننا يجب أن نفرق بيين عهدين في تاريخ علاقتنا بالدولة العثمانية: فترة السلطان عبد الحميد التي تنتهي عام 1908 م باستيلاء الاتحاديين تلاميذ حزب الاتحاد والترقي وإنباع الماسونية وربائب الدونمة وبين الفترة التالية التي استمرت حتى عام 1918 م وهي الفترة التي تمثل أسود صفحات العلاقة بين العرب والترك، وهي ليست من حساب الحكم التركي الإسلامي ولكنها مرحلة متقدمة لخدمة الصهيونية العالمية ونصرها وتشكيل أول محاولة لضرب الوحدة الإسلامية العربية، بإعلاء الدعوة الطورانية، ومحاولة تتريك العرب في سوريا وتعليقهم على المشانق، هذه الفترة وحدها هي التي يقف منها العرب في سوريا موقف الخصومة للترك وهي ليست من حساب الدولة الإسلامية العثمانية في الحقيقة.(35/20)
كذلك فإن النظرة إلى الدولة العثمانية عام 1619 م عندما انضمت الأجزاء العربية في العراق وسوريا ومصر إليها، فإنها في التحليل التاريخي الدقيق ليست سوى التقاء بين عنصرين مسلمين. وقد وجدت من جانب العرب تقبلاً صادقاً فهي ليست في حقيقتها إلا محاولة طبيعية من محاولات الالتقاء والتكامل بين أجزاء العالم الإسلامي في مواجهة الأخطار وقد جاءت هذه الوحدة الإسلامية بين العرب والترك على أثر ضعف قوى المماليك وتعرض الأجزاء العربية وخاصة الشام ومصر لتجدد الغزو الصليبي. والمعروف أن العرب في مصر وسوريا قد رحبوا بالوحدة الإسلامية العثمانية ولم يعارضوها، حيث وجدوا في العثمانيين إخوانهم في العقيدة والدين منتعشاً جديداً للإسلام وقوة شابة بدوية مقاتلة رفعت راية الإسلام خفاقة عالية. وقد أكد الباحثون أن هذا اللقاء بين العرب والأتراك قد حمى العالم الإسلامي أكثر من أربعمائة عام من الغزو الصليبي للمرة التالية.
ومن الحق أن يقال أن العثمانيين قد قاموا في هذه المرحلة الأولى بالأخذ بمفاهيم الإسلام في نطاق الحكم وتحركوا من خلال إطاره. ويشهد المؤرخون غير المتعصبين على الإسلام أو الناقمين على الدولة العثمانية بأن العثمانيين قد اقتفوا أثر الخلفاء الأولين في العدل والتسامح وتمثلوا أعمالهم واتخذوهم قدوة وعملوا على جمع القلوب إليهم بتقدير العلماء ةإنشاء المساجد والمدارس ومن هنا جرت محاولات البحوث الاستعمارية على وصف العلاقة بين العرب والترك بأنها نوع من الاستعمار وهي ليست كذلك في الحقيقة وإنما هذه هي النظريات المدخولة التي يحاول الغزو الفكري والتبشير إذاعتها لإقرارها في الأذهان.(35/21)
ولقد مرت الدولة العثمانية ككل كائن حي بمرحلة القوة ثم بمرحلة الضعف، ولكن السلطان عبد الحميد كان يعرف أساليب الاستعمار ويواجهها في دهاء وبراعة وقد شهد جمال الدين الأفغاني حين التقى به بأن عبد الحميد يدبر لأوروبا في مواجهة كل محاولة رداً وفي مقابل كل مؤامرة أمراً.
لم يكن الخلاف أذن بين العرب والترك ولكنه كان بين العرب والاتحاديين دعاة الطورانية فلنفرق دائماً بين هذه المراحل ولنعرف أنه قد نشأ في مصر والبلاد العربية الآن تيار قوي لتصحيح هذه الأخطاء على ضوء ما كشفته الوثائق من بروتوكولات صهيون أو ما نشر عن مؤامرات الماسونية على النحو الي يعيد الحقائق إلى نصابها في طريق وحدة الفكر الإسلامي المتجه إلى وحدة الفكر الإسلامي كمقدمة للوحدة الإسلامية التي هي أمل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.(35/22)
عقيدة الكاتب المسلم
الأستاذ أنور الجندي
تتمثل عقيدة الكاتب المسلم الفكرية في إيمان صادق عميق يتكامل الإسلام وقصور المفهوم الوطني والقومي والأدبي، ويتكامل المواجهة، ليست الماركسية وحدها ولكن الفكر الوافد جملة.
وتقرر هذه النظرة خطر المفهوم الجرئي والانشطاري الذي تنطلق منه النظريات الوافدة وكل منها يتوقف عند بعد من الأبعاد لا يتعداه بينما يستقطب المفهوم الإسلامي جميع الأبعاد: من حيث الزمن واختلافه ومن حيث البيئة وتنوعها ومن حيث جمع العناصر كلها في منظومة واحدة متكاملة.
كذلك فإن مهمة الكاتب المسلم: هي جزء من مهمة الدعاة إلى الله عليهم أن يحرروا الشخصية الإسلامية من التبعية بكل صورها وألوانها والتوصل إلى تأسيس وتأصيل مدارس واتجاهات إسلامية تسعى وتستوعب العلوم الحديثة وتفرغها في إطار إسلامي، وتعمل على تأصيل الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
ومن عقيدة الكاتب المسلم الإيمان بأن حركات التحرر من الاستعمار في العصر الحديث لم تنجح إلا عندما ارتكزت على الإسلام، وقد انتصر المسلمون في كل معارك الغزو بالمفهوم الإسلامي لا بالمعنى القومي وكل قضاياهم التي عالجوها بالمفهوم الوطني أو القومي لم تحقق نجاحاً.
ومن عقيدة الكاتب المسلم: الإيمان بأن لإنهيار الأمم أسباباً كثيرة من أخطرها قطع الصلة بالماضي (التاريخ)؛ أو قطع الصلة بما وراء الطبيعة (الغيب)، أو قطع الصلة بالمجتمع، فإذا انقطعت الصلة بواحدة من هذه جاء الخوف والقلق والتمزق. وإن علاقات الإنسان بربه وبنفسه وبالكون وبالناس هي مصدر قوته وأصالته.(36/1)
ومن عقيدة الكاتب المسلم: الإيمان بأن الحياة ليست منفعة أو مادة ولكنها جماع المعنويات والماديات وإن الإنسان تحركه إرادة حرة ولكنها حرية غير مطلقة لأنها تتحرك داخل إرادة الله. وإن الكون قوانين ثابتة وسنن طبيعية ولكنها تخضع للمعجزة الإلهية وإن الله تبارك وتعالى قادر على نقض هذه القوانين متى شاء وإيقافها متى أراد. وأن في الفكر عقلانية ولكنها ليست كل شيء فهناك الوجدان، وإن هناك مادية ولكنها ليست كل شيء فهناك الروح، وإن حرية الإنسان مقيدة بالضوابط الأخلاقية والمسئولية الفردية التي أقامها الدين، وهناك ضوابط وحدود، والاقتصاد عامل مؤثر في مجرى التاريخ ولكن ليس الأكبر أو النهائي أو الوحيد.
ومن عقيدة الكاتب المسلم أن الفكر الغربي قد سيطرت عليه الفلسفة الماديوة فأصبح لا يعني بالروح أو المعنويات وأصبح انشطارياً غير متكامل، وأن حضارة الغرب تمر الآن بمرحلة الأزمة فقد عجزت عن أن تعطي سكينة النفس وأن الفكر التلمودي أصبح الآن مصاغاً في مناهج وفلسفات منها الوجودية والفرويدية والماركسية ومدرسة العلوم الاجتماعية وأن فردريك ودوركايم وسارتر وماركس يمثلون سيطرة التلمودية على الفكر البشري.
ومن عقيدة الكاتب المسلم التفرقة بين الشريعة الإسلامية وتاريخ الإسلام فهذه هي رسالة السماء وتلك هي تجربة الإنسان في محاولة إقامة المجتكع الرباني على الأرض، والتفرقة أيضاً بين التقاليد والأخلاق فالتقاليد من صنع المجتمع والأخلاق جزء من الحقيدة المنزلة. والتفرقة بين الأصيل والوافد، بين الفكر الرباني والفكر البشري الواقع في الوثنية والمادية والإباحية.
ومن عقيدة الكاتب المسلم أن يواجه ثلاثة تحديات خطيرة في المجتمع الإسلامي:
الأول: التحدي المنبعث من واقع المسلمين: الجمود والجبرية وكتب البدع والخرافات.
الثاني: التحدي المنبعث من الغزو الفكري والتغريب والشعوبية.(36/2)
الثالث: التحدي المنبعث من الهزيمة النفسية إزاء إباحيات الحضارة.
وأن يؤمن بأن هدف التغريب (في خدمة النفوذ الأجنبي والشيوعية والصهيونية) هو هزيمة العقل الإسلامي بإذاعة الإلحاد وتعويض المجتمع والأسرة بنشر الإباحية وخلق مركب نقس في أعماقنا يشعرنا بالهزيمة إزاء حضارته المادية وأن يستقصي أنفسنا كاملة لها تراثها وتاريخها وعقيدتها التي تتميز على كل العقائد والقيم بأنها وبائية المصدر وأنها سبيل الرشاد والهدي إلى الحق.
ومن عقيدة الكاتب المسلم: رفض التطور على حساب الأصالة ورفض التقدم على حساب التفريط في الجذور والقيم الإسلامية، كما رفض تضحية القيم العليا في سبيل التقدم المادي وأن الإسلام لم يخضع مفاهيمه للحضارات وأهواء الأمم ذلك أنه ليس في المناهج والدعوات والإيديولوجيات المطروحة من شيء إلا وعند المسلمين في ميراثهم وتراثهم نظيره وخير منه وهو في الغرب مقطوع الصلة بالله ولكنه في الإسلام متصل الحلقات، هو في الغرب انشطاري ولكنه في الإسلام جامع متكامل.
ومن عقيدة الكاتب المسلم: أن المحاولات التي ترمي إلى استقطاب المسلمين واحتوائهم في إطار الحضارة الغربية التي تمر بأسوأ مراحلها والتي يصرخ أهلها طلباً للتحرر منها هي محاولات باطلة غاشة زائفة، فقد كان موقف الإسلام على مدى تاريخه وحياته واضحاً أنه لا يحتوي ولا ينصهر ولا يبرر الواقع الفاسد ولا يؤول ثوابت نصوصه لخدمة الحضارة الزائفة.
ومن عقيدة الكاتب المسلم: أن إنطلاق المسلمين على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية لا يمكن أن يتم دون الارتكاز على قاعدة أساسية تكون هي المصدر والمنطلق. منها نقطة البداية وإليها نقطة النهاية.
هذه القاعدة ليست سوى المنهج الأصيل الذي قدمه الإسلام لبناء المجتمع وعلى هذه القاعدة تقوم الثقافة ويقوم النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتربوي.(36/3)
ومن عقيدة الكاتب المسلم: أن من طبيعة الإسلام الحسم والثبات وأنه لا يفسح مجالاً لأنصاف الحلول ولا اتفاق مع أعداء الإسلام على حساب المبدأ ولا قبول للتبعية ولا استسلام للاحتواء في إطار الأممية العالمية وإنما يطالب الإسلام المسلمين بتغيير وسائلهم وتحسين أساليب معيشتهم من وقت لآخر داخل الإطار العام لمبادئه الأساسية ولمواجهة الظروف دائمة التغيير في العالم المتطور إيماناً بأن هزائم المجتمعات الإسلامية هي نتيجة انحرافها عن الإسلام.
ومن عقيدة الكاتب المسلم: أن كلاً من التجربتين الغربية والشيوعية مرفوضتان في أفق المجتمع الإسلامي وأن التجربتين كانتا لمجتمعين مختلفين عن مجتمع الإسلام وإن الماركسية ما هي إلا جزء من نظام غربي وأنها رد فعل لواقع الرأسمالية الغربية التي عجزت عن إقامة مجتمع سليم وإن كلا الرأسمالية والماركسية من مصدر واحد قوامه سيطرة الربا على الاقتصاد العالمي.
وأن الفكر الغربي محاضر الآن بثلاث نظريات: هي النظرية المادية والدوافع الاقتصادية والدوافع الجنسية وأهواء الوجودية وكلها تحتقر الإنسان احتقاراً شديداً، وهناك الجبرية التي تريد أن تخلي الإنسان من المسئولية الفردية وتلقي هذه المسئولية على المجتمعات.
وتلقي هذه النظريات على المجتمعات الغربية طوابع المتع الحسية والنهم والقسوة والحقد والبغض والاهتمام بالكم وتضحية النوع والكيف وأن ذلك كله يقوم في نظام مفهوم مادي خالص.(36/4)
على المفكر المسلم أن يكون على إحساس واع بالنوافذ والأبواب الخارجية وما يهب على المسلمين منها من رياح وتيارات وأن لا يغلق الباب عليه ويظن أنه أصبح في مأمن وأن لا يمنعه قضاء قضاه أو رأي ارتآه في يومه ثم هدي إلى الحق فيه أن يعود إلى الحق وأن يواجه الأمور والقضايا في أسلوب الإسلام الجامع، واقعياً في دراسة المشكلات والقضايا متكامل النظرة في علاجها يجمع بين المثالية والتجريبية، بين خطرة الفكر ونفثة الروح بين العقلانية والوجدانية ويجب أن يعي بأن هناك أفكاراً دخلت على المسلمين من شأنها أن تحطم الشخصية أو تدمر الأسرة هي أفكار عبادة الحياة واللذة والضور المعلقة فوق السرر.
وليعلم أن أعلى درجات الرقى والثراء والغنى هي أعلى درجات التمزق والانتحار والغربة وأن المجتمع المتحضر الآن في ذروته يعكف على الموبقات والمخدرات أو الانتحار ويواجه أزمة النهاية ليفسح مكانة لتجربة أخرى.
وعلى المفكر المسلم أن يؤمن بأنه لم يخلق ليندفع مع التيار ويساير الركب البشري حيث سار بل خلق ليوجه العالم والمجتمع والحضارة ويفرض عليهم مفهوم لا إله إلا الله وأن يوقن بأن النظرة الإسلامية هسي النظرة الجامعة التي لا تقف عند الجانب المادي أو الدنيوي في أي تجربة من تجارب الحياة فهي تجمع العصر والعلم والتحضر والأخلاقيات بمقياس لذلك كله وميزان وأن يعلم بأن الجسم الإسلامي ما زال يرفض العضو الغريب وأن الكيان الإسلامي ما زال يرفض الجسم الغريب.(36/5)
وعلى المفكر المسلم أن يؤمن بأن من أخطر المحاولات التي تجرى هي ضرب الإسلام بالإسلام أو ضربه من الداخل أي ضرب الإسلام الأصيل ببعض الفرق الضالة والطوائف الدخيلة مثل القاديانية والبهائية وكلها تتلقى التوجيه والمعونة من المستعمرين والمبشرين واليهود هذه الفرق التي تشرع لإتباعها من الدين ما لم يأذن به الله مستغلة اسم الإسلام لهدم الإسلام ولقد خدعت هذه الفرق بعض كتاب الإسلام وظنوا أنها من علامات اليقظة والنهضة.
وبعد: فإن هناك قدراً ضخماً من المعلومات والأفكار والأخبار تطرح يومياً في أفق المجتمع الإسلامي عن طريق الصحافة والإذاعة والكتب المترجمة أو دور الإعلام المختلفة، هي وجهات نظر متراكمة لمجتمعات أخرى فيها مادة نافعة قليلة وفيها زيف كثير فكيف يكون موقفنا منها نحن. الكتاب المسلمون والصحفيون المسلمون.. وهي تمثل وجهات نظر تختلف الأغلبية وتتعارض في الأكثر مه مفاهيمنا الأساسية وقيمنا الثابتة، ذلك لأن كل ما يطرح من خبر أو فكر إنما يشتمل على جزئين متداخلين.
حقيقة ما هي عبارة عن خبر ووجهة نظر أو تعليق أو تحليل لهذه الحقيقة تمثل رؤية الذين بثوا هذا الخبر. ونحن نعرف أن هناك غرابيل دقيقة جداً لا تنفذ منها الأخبار حين تبث في العالم الثالث إلا وهي مطعمة بوجهة نظر الصهيونية أو النفوذ الأجنبي أو الشيوعية فكيف يكوون موقفنا نحن المسلمين من هذا الإعصار الضخم المدمر الدائم المستمر يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة.
لقد علمنا الإسلام أن نقف من المعرفة المعروضة علينا موقف اليقظة والحذر: وأن نتعرف عليها في ضوء قيمنا وعقيدتنا وأن نفررق بين العلوم وبين الثقافات، وبين المعارف النافعة والمعارف الضارة من لهو الحديث ليضل الناس بغير علم.(36/6)
ونعرف أن هذه المحاولة في طرح معلومات بوجهات نظر تختلف عن وجهة نظرنا إنما تهدف إلى احتوائنا والسيطرة علينا وإدخالنا في دائرة الأممية. ومن أجل هذا فإن علينا أن نفرق تفرقة واعية ودقيقة وعميقة بين وجهة نظر الإسلام في كل الأمور وبين وجهة نظر الفكر الغربي بشقه على أساس أصيل ثابت: هو أنا نقوم على أمانة الفكر الرباني القائم على التوحيد الخالص والرحمة والعدل والإخاء الإنساني وأن ذلك الإعصار الجائح الذي يتحرك نحونا هو من الفكر البشري القائم على المادية والعلمانية والوثنية.(36/7)
على الفكر الإسلامي أن يتحرر من سارتر وفرويد ودوركايم
الأستاذ أنور الجندي
استطاع فرويد أن يخدع الفكر البشري أكثر من سبعين عاماً قبل أن تكتشف هويته. وبالرغم مما أوردته بروتوكولات صهيون من إشارة إلى انه - هو وماركس - من مخططات اليهودية العالمية، فقد ظل كثير من الرازحين تحت أحمال التبعية الفكرية الوافدة ينظرون إليه في تقدير كبير وخاصة أولئك الذين احترفوا تدريس مادة علم النفس في الجامعات وفي البلاد العربية كان سلامة موسى في مقدمة من دعا إلى هذا الفكر وظل يكتب عنه يوماً بعد يوم لا على أنه نظريات أو فروض وإنما على أنه حقائق علمية وصلت مكان الكمال المطلق وجرت على الألسنة كلمات: مركب النقص والعقل الباطن وغيرها من مصطلحات حتى جاء الوقت الذي استطاع علماء النفس أنفسهم أن يضعوا الحقائق كاملة بين أيدي المثقفين والباحثين عندما أعلن المتخصصون منهم أن ما أورده فرويد من أصول لنظريته جرت مجرى العلم الصحيح ما هي إلا أصول الفلسفة التمودية الصهيونية اليهودية مجددة ومصاغة في قالب علمي براق استطاع أن يخدع الكثيرين وقد كشف الدكتور صبري جرجس في كتابه (التراث التلموي الفرويدي) عن هذه المؤامرة الخادعة، أما سلامة موسى فلم يكن عالماً متخصصاً بقدر ما كان مروجاً للفكر الغربي الصهيوني في عشرات من النظريات والأفكار التي دعا إليها ورددها في مؤلفاته (وسوف يأتي الوقت الذي نحصي هذه الشبهات) بل إن الدكتور صبري جرجس بوصفه مسيحياً - يرى مدى الخطر الذي يحيط بعقيدته من جراء استسلامه لزيوف الفكر التلمودي اليهودي الذي قام أساساً لضرب المسيحية الغربية وتدميرها والذي استغل كلمات (نيتشة) ورينان وأوجست وماركس وفرويد وسارتر ضد الدين والتي كانت موجهة أساساً إلى المسيحية الغربية وحدها باعتبارها "الموقف" العقلي لمرحلة من الفكر الغربي إزاء العقيدة القائمة في مجتمعه. ومن هنا كانت حملة الدكتور صبري جرجس الذي لم يكن يكتشف هذا(37/1)
الخطر لولا أن بعض مؤرخي اليهود أعلنوا أن فكر فرويد هو من صميم مذهبهم التلمودي الذي يقوم على أساس إثارة روح التحلل والفسا
في حياة فرويد نفسه ما يوحي بأنه كان صديقاً (لهرتزل) الذي حمل لواء الدعوة إلى الصهيونية والذي كان على رأس مجموعة الحاخامات الثلاثمائة في بازل عام 1892 م ومعهم صحائف (بروتوكولات صهيون) التي أشارت إلى هذا المخطط والتي لا يزال كثير من الذين يكتبون بالعبرية يدافعون عن الصهيونية وينفسون نسبة هذه البروتوكولات إليها (ولا ريب أن كل دعاة الفصل بين اليهودية والصهيونية وهؤلاء المدافعين باسم التحقيق العلمي المضلل إنما هم من أتباع الماركسية التي هي وليدة الصهيونية أساساً والتي تحاول أن تحافظ على هذه العلاقة السرية).
ولقد كان علينا نحن العرب والمسلمين أن نتحرر من مفاهيم فرويد الذي لم يتوقف عند التحليل النفسي (وله فيه آراء صائبة مستمدة من الفكر الإسلامي أساساً) ولكنه مضى حتى وضع أيدلوجية كاملة شملت الأدب والفن والمجتمع والعقائد جميعاً، وحاولت في أهم ما رمت إليه إلى التركيز على الفصل بين الاعتقاد والعمل، أو بين العلم والسلوك وذلك بالقول بأنه هناك عقل باطن منفصل عن العقل الظاهر، وفي ذلك محاولة خطيرة للإخلال بحقيقة أساسية في تكوين الإنسان وهي الترابط بين المعرفة والإرادة، وتعد هذه النظرية ضربة موجهة إلى الفطرة وإلى اليقين النفسي الذي جاءت به الأديان هذا بالإضافة إلى مؤامرته تحت اسم الجنس، ولعل هذا الاتجاه كله هو نتاج من التوزيع الدقيق للأدوار في مسألة الصراع الفكري، فحيث كانت آراء ماركس في أساسها من مخططات التلمودية اليهودية مصاغة في قالب اقتصادي عصري، فإن هنا يتمثل الجانب الاجتماعي وبذلك يسيطر الفكر اليهودي التلمودي على الفكر البشري كله في مجالات الاقتصاد والاجتماع والنفس والأخلاق ومنها يمتد إلى الأدب والفن ولا يبقى شيء بعد ذلك صالحاً لأن تقال فيه كلمة حق.(37/2)
كل هذا الذي نقول يعد الآن من البديهيات التي ليست في حاجة إلى إعادة، ولكنا نريد أن نرى إلى أي حد واصل البحث طريقه في الكشف عن زيف فرويد.
هذا كتاب جديد تأليف بول روزن أستاذ علم النفس بجامعة هاروفارد تحت عنوان (قصة فرويد وتايزك) يزيح فيه فيكتور تايزك معاصر فرويد وأحد رواد علم النفس حقائق خطيرة.
ويكشف عن مدى أحقاد فرويد التي ساقها حرباً شعواء ضد هذا الباحث نتيجة غيرته منه، وفي سبيل عرقلة جهوده وأبحاثه في حقل علم النفس مما دفع به (دفع بتايزك) في النهاية إلى الانتحار بإطلاق الرصاص على نفسه في 3 يوليو 1919 م وكان قد رحل إلى فينا لدراسة علم النفس، وقدر لأبحاثه الرواج والانتشار، مما لفت نظر فرويد وقد كشف المؤلف عن غيرة وحسد فرويد من تايزك لنبوغه وأصالة أبحاثه، حتى أنه رفض معالجته عندما اشتدت أزمته النفسية وحين أوكل علاجه إلى تلميذه فرويد (هيلبي ديتش) بل إن فرويد وصل إلى حد تهديد تلميذته ومنعها من مساعدته مما دفعه في نهاية الأمر إلى نوع من اليأس القاتل بإطلاقه الرصاص على نفسه.(37/3)
وفي فرنسا صدر كتاب عن فرويد بقلم (لوس إيرا جراي) التي تنتمي إلى المدرسة الفرويدية ، والكتاب اسمه (المنظار الطبي للمرأة الأخرى) وقد أحدث ضجة كبرى رغم أن مؤلفته قد طردت بسببه من الجامعة لاحظت المؤلفة أن فرويد عندما يتكلم عن المرأة يضيع عقله ويشتد شريط تحليله ومنطقيته فهو يشعر دائماً أنه السيد، وهو عندما يتكلم عن المرأة يتجه إلى الرجال على أساس أن المرأة لا يجب عليها معرفة شيء من أمورها حين يناقش الرجال الموضوع وأن مشكلة الأنوثة تهم الرجال ولكنه بالنسبة للمرأة الموجودة معهم، وترى المؤلفة أن المرأة عند فرويد لغز عجز الرجال عن اكتشافه. وبذلك بقيت المرأة بمثابة (الأرض الموحشة) في علم النفس وتحاول المؤلفة أن تصل من هذا إلى أن فرويد بالرغم من كل ما يحاول إعلانه من استقامة البحث لا يرى في المرة كائناً إنسانياً، وأنه لم يأت بجديد سوى أنه صقل تحاليل أفلاطون، وتقول المؤلفة أنه ربما كان فرويد مريضاً ويعاني عقدة إزاء المرأة. وتقول أن تحويل المرأة إلى لغز عند فرودي يعتبر سلباً لطابعها الإنساني وتحويلاً لها إلى شيء خارجي.
وعندنا أن رأي فرويد مستمد أيضاً من مفهوم التلمود، فهو يحاول أن يصورها على أنها أداة جنسية للمتعة، ولذلك فهو ينكر إنسانيتها واستقلالها ويرى فيها رأي الفسلفات القديمة التي تحتقر المرأة.
4- عالج فيلكس وجاناري في كتابهما (إنني أوديب) نظريات فرويد وأشارا إلى أن فرويد هو مفتاح الإمبراطورية البروسية، وأن علم النفس التحليلي الذي أسسه فيما بعد. كما أشار بنيامين نيلسون في كتابه فرويد والقرن العشرين إلى أن فلسفة فرويد مادية صرفة، تنكر الروحانية والحرية، وأنه يعد الحالات النفسية العليا كالإلهام الشعري والحب الصوفي مجرد تحويلات وأقنعة للغريزة الجنسية.(37/4)
وأن رأي فرويد في قصور الإنسان دون الوصول إلى الكمال لم يستمده من المسيحية بل من دارون وأن فرويد قد اعتمد على أساطير قديمة كالمأساة اليونانية في عقدة أوديب وعقدة الكترا والصراع بين إيروس إله الحب والحياة وثاناسوس إله الموت، وأنه غارق في فكرة الخطيئة الأولى.
ولا ريب أن هذه الحقائق التي لم يكتشفها الفكر الأوروبي إلا أخيراً كانت واضحة في عقل الباحثين المسلمين منذ اليوم الأول لنظزرهم في فكر فرويد، بل إن كتاب الإنسان بين المادية والإسلام الذي كتبه مؤلفه في سن باكرى وهو يدرس في قسم الفسلسفة وعلم النفس في كلية الآداب ما زال حتى الآن بالرغم من مضي أكثر من ربع قرن على ظهوره واضح الدلالة في عجز نظرية فرويد عن فهم النفس الإنسانية، وأن معطيات القرآن والسنة النبوية والفكر الإسلامي في هذا المجال بالغة القوة والحيوية والصدق.
ولكن الفكر الغربي لم يتنبه إلا أخيراً لفساد نظرية فرويد يعرف أن أي نقد لها اليوم لا قيمة له لأنها قد تغلغلت تغلغلاً كاملاً في كل أعمال الأدب والفن والقصة والمسرحية حتى لم يعد هناك تراجع في أثر هذه النظرية التي أرادت تدمير الفكر الغربي المسيحي ورده إلى الوثنيات والأساطير والخرافات.
ونحن نعرف أن فرويد حين بدأ مع (ادلرويونج) في أوائل هذا القرن كان عنيفاً في فرض اتجاهه بالتفسير الجنسي الذي خالفه فيه صاحباه وانفصلا عنه كما اختلف مه جيمس حين التقى به في أمريكا بعد ذلك، وأنه لم يبق معه إلا اليهود: رانك وجونز وبريل.(37/5)
ولكن إذا كان فرويد على خطأ – وهو على خطأ معارض للفطرة والعلم والعقل في دعواه – فلماذا أتيح له هذا النفوذ الخطير وهذا الدوى المدوى، لم يكن ذلك لوجه العلم وحده، ولم يكن ذلك طبيعياً، ولكنه كان بقوة من الدفع اليهودي الصهيوني المسيطر على النظريات والمذاهب، القادر على فرض ما يشاء منها ومن قبل كان والأس قد سبق دارون وكان أقرب منه إلى الفطرة والعلم الصحيح ومع ذلك فقد دوى صوت دارون لأنه اتخذ منطلقاً إلى النظرية المادية وإلى فرض نظرية التطور الاجتماعي المطلق وكانت نظريته قاصرة على مجال البيولوجيا وحدها.
وكذلك كان الأمر بالنسبة لفرويد مه أدلرويونج، فقد قالا بأن العامل الجنسي ليس هو المصدر الأوحد للتصرف الإنساني ولكنه واحد من عوامل كثيرة منها تأكيد الذات ومركب النقص، ولكن دعوى التحدي بالجنس وحده كمصدر لتصرفات الإنسان هي التي شاعت وذاعت.
ونحن نجد النظرية تسقط اليوم سقوطاً علمياً شديداً، ولكن أصحاب الفلسفة المادية يحاولون تمديدها بربطها بالماركسية من ناحية، وبالدعوة إلى ما يطلق عليه الثورة الجنسية وبربطها بالوجودية وهذا ما سنتحدث عنه بعد.
ثانياً: سارتر:
إن أي نظرية يتقدم بها فيلسوف أو مصلح تتمثل فيها حقائق هامة:
أولاً: إن هذه النظرية هي فرضية افترضها هذا الفيلسوف بناء على نظرته إلى الأمور.
ثانياً: إنها نظرية تتصل اتصالاً تاماً بالتحديات الخاصة بشخصية هذا الفيلسوف وبيئته وعصره ومجتمعه وظروف معينة قائمة.
ثالثاً: إن الإنسان على أعلى درجة من التفكير والنظر لا يستطيع أن يخرج عن أبعاد وجوده البشري والعقلي والنفسي ولا يستطيع أن يشرع للمجتمع الإنساني كله.(37/6)
ومن ثم فإن كل ما يقدمه الفكر البشري هو فرض يقبل الخطأ والصواب، ويصلح لمجتمع ولا يصلح لآخر، وينفع في عصر ولا ينفع في جميع العصور، ولقد اعتورت النظريات والمناهج أسباب القصور وحل بها النقص واحتاجت إلى الإضافة والحذف على مدى قريب من ظهورها وذهب بعضها وأنطوى عجزاً وفساداً وليس أدل على ذلك من ناحية أخرى على نحو يوحي بإنقاذ المراكب الغارقة، العصر الذي اضطربت وعجزت في بيئاتها الخاصة واضطرب أصحابها إلى تعديلها بالإضافة والحذف ومحاولة الربط بين الوجودية والماركسية من ناحية وبين الفرويدية والماركسية من ناحية أخرى على نحو يومي بإنقاذ المراكب الغارقة، وعلى بعد ما بين الأيديولوجيات الثلاث من تناقض واختلاف.
ونحن نعرف أن الوجودية "صيحة أزمة" تعالت في فرنسا بعد انهيارها في الحرب العالمية الثانية حين هوت تحت سنابك خيل الألمان صريعة الانحلال الخلقي. فجاءت الوجودية التي دعا إليها سارتر ليطلق للشباب أمر التهالك على الشهوات تحدياً للخطر الماحق الذي يعيش تحته العالم، وبعد أن أفقدت الحرب أمم أوروبا زهرة شبابها التي تجاوزت المائة مليون. ولقد كانت وجودية سارتر وجودية ملحدة نابعة من الفكر المادي وإن حاولت أن توجد للإنسان منطلقاً عاصفاً حيث جردته من مسئوليته الفردية وإلزامه الأخلاقي وأحالت ذلك كله على المجتمع.(37/7)
ومن ثم أنطلقت تلك الصورة المدمرة في كل أنحاء العالم توحي بالتفكك والتحلل والتمزق والضياع. ولقد صدق جاك بيرك حين قال أن الوجودية ظاهرة زمنية عابرة لن يلبث الإنسان أن يتخطاها، وهي ليست روحاً "وأنا لا أستنتج منها نتيجة متشائمة بل واقعاً يجب أن يعترف به" وهي في تقديرنا علامة على دخول أزمة الإنسان المعاصر في مرحلة الانحدار، ودخول أوروبا والغرب والفكر الغربي كله مرحلة التمزق الذي فرضته عليه الفسلفة المادية التي قادها فلاسفة اليهود التلموديين، وإن كانت لا تخلو من تمثل أخطر ما أطلقته التعبيرات المسيحية حول نظرية "الخطيئة الأصلية" ذلك السوط الذي ما زال يلهب ظهور الفريقين ويسوقهم إلى الدمار النفسي.
ولا ريب أن فلسفة سارتر الوجودية الملحدة هي بديل "الإيمان" الذي عجز الغرب عن الحصول عليه عجزاً مطلقاً، ولا ريب أن البشرية حين انطلقت لترسم لنفسها طريقاً بعيداً عن طريق الله فإنها ستظل تائهة في مضارب الصحراء، وما دام الإنسان قد شرع لنفسه ورفض الأسس التي قدرها الحق تبارك وتعالى لينظم المجتمع البشري فإنه ليس هناك قواعد ما يمكن أن تفرق بين الحق والباطل ذلك تداخلت أهواؤه ومطامعه وشهواته، وأصبحت الأمور كلها نسبية وليس لها ضوابط أو حدود أو قيم ثابتة راسخة تحاكم إليها، أو ليس هناك من نقطة بداية ونقطة نهاية وإنما يصبح الكون دائراً في دوامة لا نهاية لها ولا غاية منها وقد جهل الإنسان سر وجوده وهدفه في الحياة ورسالته في الأرض ومسئوليته وجزاءه وحسابه وتلك هي الحيرة التي تذوب فيها البشرية نفسها اليوم بعد أن خالفت عن منهج الله. ومن ثم تصبح حياة الإنسا نليس بها طعم، حياة القلق والتمزق والألم والإحساس بالغثيان والضياع، ذلك أنها فقدت المعنى الذي وضعه الحق تبارك وتعالى لها، والذي هو سر الحياة نفسها، الأمل والإيمان والهدف والمسئولية والرسالة التي وجد الإنسان من أجلها في الحياة.(37/8)
إن الوجودية تثور على مفاهيم سحق الإنسان التي تقدمها الماركسية ولكنها مع الأسف تسحق قلب الإنسان ولا تراه إلا من وجهة النظر المادية الصرفة: وهم حين ينكرون أن يصبح الإنسان ترساً في آلة، يحيلونه إلى شعور بالضياع والفراغ، ويفرغونه من معناه الاجتماعي ويجعلونه أنانياً لا هم له إلا مطامعه التي تقوده إليها غرائزه كالحيوان في الغابة.
ولا تزال الوجودية تدفع أهلها من قيد إلى قيد ومن تمزق إلى مزيد من التمزق نراه الآن في الهيبية والخنافس.
وحين يقولون أن الوجودية تحرر الإنسان نجد كتابات أهلها لا تحمل إلا اليأس القائم: فهم يقولون عن أنفسهم أنهم جيل بلا أمل، بلا عمق، بلا مستقبل وأن عمقهم هو الهاوية، وحبهم هو الوحشية، وحياتهم علب من الورق فراغة وقابلة للتمزق، وليست الوجودية إلا تعبيراً عن هذا الهوان أين هذا من الإسلام الذي يقدم للبشرية الأمل وللنفس الإنسانية السكينة والإيمان، حيث يرفض اليأس والقلق والشك والحقد، وهو لا يترك الناس صرعى في أوهامهم، ولكنه يقدم لهم الترياق، يقدم لهم العون، يطلب لهم المبررات، ويفتح لهم الآفاق التي تخفف الشهوات، ويحررهم من قيود الحيوان، ويراوح بينهم دين السماء والروح والمعنويات، هو لا يحرمهم رغائبهم الجسدجية ولكنه يبني فيهم الروح والعقل.
إن أخطر ما تقدمه الوجودية التشاؤم وهو طابع عام لكل معطيات الفكر الغربي البشري، الضال عن الإيمان بالله والروح والمعنويات. إن مصدر التشاؤم في الفكر الغربي هو عدم الاقتناع العقلي لوراثة البشر جميعاً لما يطلق عليه الخطيئة الأصلية" هذه التي ينكرها الإسلام إنكاراً كاملاً ولا يرى أن إنساناً مسئولاً عن خطأ الآخر، ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى.(37/9)
ومن خلال أيديولوجية الخطيئة الأصلية السوداوية المتشائمة تنشر على أوسع نطاق في الفكر الغربي نظرة "لا معقولية الحياة" وعبث الوجود، ثم جاءت الوجودية لتكون أعلى مراتب التشاؤم.
وهذه كلها أفكار غريبة عنا كل الغرابة مختلفة عن طوابع الفكر الإسلامي والمجتمع الإسلامي، ولا تتصل بسبب إلى ثقافتنا أو قيمنا أو عقائدنا وهي توحي بأن الفكر الغربي والمجتمع الغربي يمر بمرحلة انهيار كامل يتمثل في الأسرة والفكر والمجتمع. وأن طوابع المادية الخالصة قد صرعته تماماً، وأن إنكاره للروح والدين والخلق والإيمان بالله قد دمره تماماً.
ولذلك فهي تبدو غريبة عنا دخيلة علينا متناقضة مع جوهر الإنسان، ومع فطرته وأغرب ما فيها أنها حين تعتز بحق الفرد في الوجود – وهو مفهوم إسلامي، فإنها تغطي عن أعظم معطيات الإنسان والركن الركين في وجوده على الأرض ولبس المسئولية الفردية والالتزام الأخلاقي الذي يحاسب على أساسه ويقرر جزاؤه. ولا ريب أن إفسادها يتمثل في أنها ترى أن الإنسان يكون نفسه مستقلاً عن الدين والتقاليد والمجتمع، وأن الزواج نظام عتيق، وأن الطلاق لا يبقي بإرادة الزوج فضلاً عن إنكارها "قوامة الرجل" ودعوتها إلى حرية الصداقة، وإسقاط الدين كله من حساب الحياة. وهي لأنها تعارض الفطرة الإنسانية لم تجد قدرة على البقاء وتساقطت جوانبها، إلا من تلك النزوات التي يقوم بها المنحرفون ولا ريب أن المفاهيم الوجودية كلها إنما هي تعبير فكري ونفسي وأخلاقي عن الفراغ الروحي المخيف.(37/10)
ذلك أن رفض فكرة الالتزام، وفكرة الرقيب النفسي "الضمير" وفكرة الفضيلة وفكرة الخير، وفكرة الإيثار وفكرة العدل وفكرة المسئولية إنما تجرد الإنسان من كل قدراته ومعطياته التي تجعله قادراً على أداء دوره الحق في الحياة وأن أخطر ما تدعو إليه الوجودبية هو "أنانية" الفرد في مواجهة المجتمع بإنكاؤ دوؤه في العطاء والبذل والإنفاق والعطاء للآخرين، ومن فسادها قولها أن الإيثار يعني أن يصبح الإنسان مجرد أدارة للآخرين، بينما يدعو الإسلام إلى أن الإيمان هو انتقال الإنسان من الأنانية إلى الغيرية.
ولا ريب أن موقف سارتر من الألوهية موقف أشد عنفاً وخطراً مما يقول به الملحدون أو المشركون، فهو يضع الذات الإلهية في مقام التزاحم مع الإنسان وأن وجود أحدهما يلغي وجود الآخر تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، والإنسان ليس في الحقيقة إلا خلق الله وعبده وفضل من فيض فضله وعطائه.
وإذا قيل أن الوجودية تحمل مفهوم الحرية، فإنما هي الحرية بمفهوم تحرير الإنسان من مسئوليته وإطلاق أهوائه إلى أبعد مدى وكيف تستقيم أمر نظرية تدعي أنها علمية حين تنكر وجود الحق تبارك وتعالى وكيف يمكن أن تعلل وجود العالم، وكيف يمكن القول مع الوجودية بأن العالم وجد بلا داع ويمضي لغير غاية ونحن نقرأ قول الله تبارك وتعالى (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون).(37/11)
ولا ريب أن الفرد هو موضوع هام شغل الفلاسفة وأصحاب الأيديولوجيات ولكن أهم ما هنالك: هو مسئوليته وموقفه من الجماعة، وتلك هي القضايا التي تتلاعب بها أهواء الفكر البشري، وحين تراه سيداً مؤلها، وحين تراه حيواناً وحين تراع ترساً في آلة، وقد برأ الإسلام من ذلك كله ووضعه في موضعه الحق، واعترف برغائبه المادية وأشواقه الروحية جميعاً، فليس الفرد مؤلها ولا معبوداًً ولا حيواناً ولكنه من أعظم ما خلق الله لو استقام على الطريقة واهتدى إلى الحق، وقد حدد الإسلام موقفه من ربه ومن الكون ومن المجتمع وحدد مسئوليته ورسالته وجزاءه، وعلاقته بالدنيا وبالآخرة وبالوجود كله، على نحو تعجز كل الفلسفات والمذاهب عن الوصول إليه، أما الغرب فإنه حين أنكر الألوهية والدين والوحي فإنه ذهب وراء الأهواء كل مذهب في سبيل مفهوم للحياة وللإنسان.
ولكن الإسلام وهو وحي الله ورسالة السماء كان أصدق من كل هذه المذاهب والأيديولوجيات وأقربها إلى الفطرة وأبعدها عن الغلو والاضطراب، ومن ثم فهو أصلح المناهج للبشرية على مدى العصور وعلى اختلاف البيئات لأنه قدم الشريعة المحكمة الخالدة القائمة على إطار ثابت مع القدرة على التغير والحركة والتطور، رابطاً بين العقل والقلب، والروح والمادة، والدين والعلم، والدنيا والآخرة.
ولقد سقطت الوجودية وتجاوزها الزمن لأنها خالفت الفطرة، ولم تستطع أن ترضي العقل، ولم تعترف بالروح، فهي تجعل الإنسان في عزلة عن الجماعة أنانياً غاية الأنانية أولاً وتجعله يستطيب أبرز القبيح من جوانب الطبيعة الإنسانية؛ ثانياً، وتجعله يفصل نفسه عن ربه وعن السماء وعن الدين ويتنكر لكل القيم الخالدة؛ ثالثاً ولأنه يؤوس قنوط قلق ممزق لا يجد قرارة ولا راحة ولا طمأنينة ولا أمنه النفسي، بينما الإسلام هو ما عكس هذا كله، نوراً وهدى.
ثالثاً: دوركايم:(37/12)
منذ سنوات ومن خلال الضباب المخيم على آفاق الفكر الإسلامي ارتفعت صيحة صاعقة ثم سرعان ما انطفأت وساد الصمت بعدها. كان صاحب هذه الصيحة هو أستاذ العلوم الاجتماعية في إحدى الجامعات العربية، قال الدكتور عاطف غيث: إن علم الاجتماع الذي يدرس بجامعاتنا بصورته ومادته الحالية
أداة انهزامية في مجتمعنا العربي. إن مدعم علم الاجتماع الذي نعتمد على نظرياته في جامعاتنا هو العالم اليهودي الفرنسي إميل دوركايم الذي حاول مع من ردد آراءه أمثال "ماكس فيبر" الألماني "وظفر" الإيطالي، أن يطمسوا فعالية الإنسان ويجعلوه عبداً لمصير مجهول، وحاولوا كذلك أن يميعوا حركة التاريخ ويبعدوا الأحداث التاريخية عن مضمون الواقع المعاصر حتى لا يتعرف الباحث على حقيقة مسيرة التاريخ نحو هدفه الذي لابد منه وهو ضرورة تحرير المجتمع الإنساني من القيود التي كبلته قروناً عديدة.
ودوركايم هو صاحب الأفكار التي تعوق النزعات الحرة كلها ويقف حائلاً أمام تخطيط الإنسان لمستقبله.
إن خطر علم الاجتماع يتضح عندما تعلم أن موضوعه الرئيسي هو دراسة بناء المجتمع وعوامل تغييره وهو ما نعتبره أساس معركة النضال للخلاص من الثغرات التي خلفها الاستغلال والاستعمار في المجتمع العربي.
ولاشك أن علم الاجتماع الذي يدرس الآن في جامعاتنا بوضعه الحالي عاجز تماماً عن متابعة التغيرات فهماً أو تقويماً ولذلك فإن بناء قيم جديدة وصناعة جيل جديد، لا يمكن أن يحظى من علم الاجتماع بوضعه الحالي بأدنى اهتمام وهو بوضعه الحالي أداة لتحويل الأنظار عن أوجه النضال الاجتماعي والاقتصادي. ولذلك فإننا نعتبر نقله دون تغيير إلى بلادنا يعتبر أداة إنهزامية يجب القصاء عليها.(37/13)
هذه هي الصيحة التي استعلنت منذ عشر سنوات ثم سرعان ما انطوت: صيحة لا تقف عند علم الاجتماع وحده ولكنها ستصل بعدد من العلوم التي ندرسها في جامعاتنا وهي في ذاتها علوم وافدة ونظريات أجنبية صممت على مقاييس مجتمعات أخرى في الشرق أو في الغرب وسيطر عليها فلاسفة لهم اتجاهات واضحة وأهداف صريحة ويجرون في موكب "الصهيونية وأهداف بروتوكولات صهيون التي يقودها دوركايم وليفي بريل وغيره من اليهود ولكن الأمر يتصل بعلوم الأخلاق والنفس والتربية والعلوم السياسية والتاريخ والفن... ففي كل مجالات هذه العلوم تجد نظريات وافدة تقتضي الأمانة بعلمائنا أن يعرضوها على أنها ليست العلم العالمي كما يدعون ويقولون أو أنها نتائج أعلى العقول البشرية فليس الأمر كذلك في الحقيقة، ولكنها نظريات وفروض وضعها مجموعة من الباحثين والفلاسفة في ضوء عاملين خطيرين:
العامل الأول: عامل البيئة الغربية التي صنعتها عوامل ثقافية ودينية واجتماعية معينة.
والعامل الثاني: عامل العصر المعين الذي يقع في منتصف القرن العشرين الميلادي.
وفيما قبل ذلك بعقد أو عقدين من الزمان كانت هناك مواهب أخرى وحلقات متصلة بذلك الزمن، كما كانت هناك مذاهب فلسفية مختلفة ولا تزال في ألمانيا لها طابعها الوجودي وفي فرنسا لها طابعها الماركسي وفي أمريكا لها طابعها البرجماتي وهكذا.
فكيف يصح في الأذهان أن تنقل هذه المذاهب إلى مجتمع كالمجتمع العربي الإسلامي الذي يعيش عقيدته وآدابه وأخلاقه ومفاهيمه وطباعاته الخاصة التي ما زالت تستمد جذورها من القرآن والتوحيد والشريعة الإسلامية، بالرغم من مرحلة الاضطراب التي فرضتها ظروف الاستعمار والغزو الثقافي، كيف يمكن أن ننقل هذه المناهج فتدرس في الجامعات على أنها علوم مقررة وأن فروضها ونظرياتها تعلم على أنها حقائق نهائية.(37/14)
وكيف يمكن لمجتمع ناهض مختلف عن المجتمعات الغربية التي استكملت وجودها، وتعيش الآن مرحلة الرفاهية والاستهلاك وقد وضعت نظرياتها في ظل هذه الأوضاع كيف يمكن أن تطابق هذه النظريات مجتمعنا وكيف تستطيع أن تعطيه، وهذه العقلية العربية الإسلامية التي تقوم على مفهوم الإيمان بالله وإرادة الفرد والالتزام الأخلاقي والمسئولية والجزاء كيف يستطيع أن يتعامل مع نظريات تقوم على الجبرية وتحاول أن تصور المجتمع بصورة الصراع وأن تقيم التناقضات أساساً بينما تقوم المجتمعات العربية الإسلامية على التقاء العناصر والأجزاء في كل متكامل، دون صراع بينها أو جبرية.
ذلك هو الخطر الذي يصل إلينا، لا عن طريق الفكر المفتوح حتى نناقشه ونكشف عن زيفه، ولكن عن طريق الجامعة فإذا هو من المسلمات في عقول أبنائنا بينما هو في الحقيقة ليس كذلك في نظر أصحابه الذين طالما غيروا لأن الزمن لا يدعهم في راحة، إن ما ذهب إليه – دوركايم – في مذهبه الاجتماعي الذي يضمه كتابه "قواعد المنهج في علم الاجتماع" ليس إلا نظرية وفرضية بناها عقله في ضوء تحديات كثيرة منها التحديات العامة ومنها التحديات الخاصة ولكل فيلسوف من ظروفه الخاصة ظل وأثر على آرائه لا ريب في ذلك. أما التحديات العامة فذلك أن دوركايم هو ربيب الثقافة الماركسية أو المذهب الماركسي والنظرية المادية أصلاً، ومفهومه معارض تماماً لكل القيم الأساسية التي جاءت بها الفطرة، أو صاغتها الأديان في منهجها الرباني القائم على الفطرة، وهو في كل دعاواه يأخذ الطرف الثاني المعارض فإذا أعانت الأديان أن الدين فطرة وأن الأسرة فطرة أعلن هو عكس ذلك تماماً فقال أن الجريمة هي الفطرة، ولكن الدين والأسرة ليسا من الفطرة في شيء.(37/15)
وهو في كل ما يدعو إليه تابع للمدرسة التي بدأها سنبسر وكانت وهو تابع في نفس للوقت للمدرسة التي بدأها ماركس في التفسير المادي للتاريخ، فهو واحد من كبار الدعاة إلى إنكار الفرد ومسئوليته ودوره وإلعاء شأن الظاهرة الاجتماعية وتحميلها كل النتائج على النحو الذي يؤدي إلى أخطر الآثار التي يترتب عليها إنكار مسئولية الفرد والتزامه الأخلاقي وجزاؤه.
ومن شأن هذا أن يبرر للأفراد تصرفاتهم ويحررهم من التبعية ويلقيها كلها على المجتمع ولا ريب أن هذا الاتجاه معارض معارضة جوهرية لمفهوم الدين الحق ولقاعدة أساسية من قواعد الإيمان بالله التي يقوم عليها المجتمع العربي الإسلامي.
يقول دوركايم: إن الفرد لا قيمة له ولا معنى للتشبث بالحرية الفردية، وإنما القيم كلها للمجتمع الذي يخلق الأديان والعقائد والقيم الروحية وكلها عبث لا قيمة لها.
وهو في هذا يحاول إرساء قاعدة فاسدة تتعارض مع الفطرة البشرية ترمي إلى القول بأن التحلل والانحلال أمر حتمي.
وأهم ما يريد دوركايم أن يصل إليه هو:
أولاً: إقامة فكرة التطور التي تلغي مفهوم الإسلام القائم على إطار من الثوابت في داخله حركة وتغيير.
ثانياً: الدعوة إلى فكرة القهر الخارجي الذي يقهر الفرد على غير رغبة منه وذلك ليلغي مفهوم الإسلام القائم على الإرادة الفردية والمسئولية الفردية والجزاء الفردي.
ثالثاً: تفسير الإنسان وفق مذاهب المادة وعالم الحيوان وذلك في مواجهة مفهوم الإسلام الذي يكرم الإنسان ويجعل له منهجاً خاصاً لفهمه يختلف عن المادة وعن الحيوان.
رابعاً: إنكاره القواعد الخلقية وثبات القيم الأخلاقية وهو ما يقرره الإسلام.
خامساً: إنكار فطرة الدين والأسرة والزواج وفي ذلك معارضة لأصول أصيلة من النظام الإنساني.(37/16)
سادساً: لا يعترف دوركايم بأن الحياة البشرية يمكن أن تفسر عن كريق نفسية الفرد وطبيعته وكيانه الفردي وإنما يفسرها العقل الجمعي وهذا الرأي معارض مع مفهوم الإسلام الذي يقرر أن كل إنسان مسئول عن نفسه مسئولية خاصة. وأن تعلله بفساد المجتمع أو اضطرابه لا ينجيه من الجزاء.
سابعاً: نحي القداسة عن الدين والأخلاق والأسرة والتشكيك في قيمها وهو يدعو إلى تحطيم الدين لأنه قد يعوق التطور، وليس فطرة إنسانية وتحطيم قيود الأخلاق لأنها لا وجود لها في ذاتها.
هذه هي النظرة المادية الخالصة التي تقوم عليها مفاهيم علم الاجتماع كما دعا دوركايم وكما يدرس الآن في الجامعات العربية حيث ينشئ أجيالاً تقوم عقليتها على أساس النظرة المادية الخالصة إلى الإنسان، وحيث ننظر بسخرية إلى الأخلاق والدين والأسرة، وترى أن هذا الذي تدرسه هو الحقائق العلمية والمسلمات التي لا مرد لها، بينما هي لا تعرف وجه الحقيقة بالنسبة لمفهوم الإسلام الحق بينما هي لا تعرف وجه الحقيقة بالنسبة لمفهوم الإسلام الحق الذي هو فطرة الله التي فطر الإنسان عليها، والمفهوم الأصيل الذي يقرر أن الإنسان روح وجسد وعقل وقلب وأنه لا يمكن تفسيره عن طريق المذاهب المادية التي تعامله كالحيوان أو التجريبية التي تعامله كالمادة الصماء.(37/17)
ولا ريب أن نظرية دوركايم في علم الاجتماع حين تلتقي بنظرية فرويد في علم النفس ونظرية ماركس في الاقتصاد من شأنها أن تشكل إنساناً مضطرباً مزعزع الوجدان، واليهود الثلاثة هم القادة المسيطرون على هذا الفكر العربي الذي يفرض الآن على أنه هو الفكر العالمي. بينما تختفي مفاهيم الإسلام في النفس والأخلاق والاجتماع وتتضاءل ولا تعرض حتى على أنها وجهة نظر أخرى بل لعل شبابنا في الجامعات يرى أنه ليس هناك مفهوم إسلامي هو أعمق وأصدق وأكثر أصالة من هذا المفهوم الذي يقوم عليه مجتمعات الغرب والذي به وصلت إلى الأزمة الطاحنة المستحكمة التي يعانيها الآن من تخلخل المجتمع إلى اضطراب الأسرة التي تمزق النفس البشرية.
وبينما يجد المسلمون عندهم منهجاً صادقاً متكاملاً تترقبه البشرية كلها وتتطله إليه، ويجد كل مطلع شمس من يؤمن به من أهل الغرب، فإن العرب والمسلمين محجوبون تماماً عن منهجهم هذا في مدارسهم وجامعاتهم، ولقد كان من الضروري أن يكون للعرب والمسلمين منهجهم الاجتماعي الأصيل المستمر من فكرهم وعقائدهم وبيئتهم، ومنهم خرج مؤسس علم الاجتماع الذي يعترف الغربيون بريادته وأثره وهذا ما قاله الدكتور غيث ما هي الحقيقة التي تختفي وراء ترك علمائنا لواجب البحث والتألف في علم كعلم الاجتماع الذي نشأ عندنا وترديد النظريات الأجنبية بكل علاتها. لقد كان من الضروري أن يقوم علم اجتماع عربي إسلامي في بلادنا على أساس يختلف عما علمه الغرب لأبنائنا وهناك فارق بين منطق العلم وحقائق العلم "إن منطق العلم ومنهجه لا يختلف عليه اثنان مهما كان لونهما وأيديولوجيتهما ولكن تفسير الحقائق وإبراز بعضها وإغفال بعضها الآخر، واستخراج نتائج متميزة هو الذي يجب "أن نتنبه إليه تماماً".(37/18)
إن أخطر ما يفرضه منهج دوركايم في علم الاجتماع هو "إن إرادة الإنسان ليست بالانطلاق الذي يمكنه من تغيير المجتمع وأن الأفراد وهم ورثة النظام الاجتماعي ليسوا إلا صوراً متشابهة متكررة كما أن إطار الدراسة فيه يدور حول مجموعة من المسلمات" هذه المسلمات الباطلة الزائفة التي لا يقرها الفكر الإسلامي.
ويقول الدكتور غيث: إن الرد على دوركايم ومن قبله أوجست كونت يقوم على أساس أنهما في تفسيرهما للعوامل الموجهة لحركة التاريخ والمجتمع الإنساني يغفلان عمداً الصراع الذي خاضه الإنسان المغلوب على أمره ضد طغيان العبودية.
لا ريب أن دوركايم ومعه زملاؤه اليهود، قد صدروا في مذهبهم عن هدف واضح وجرياً في نطاق واضح بدأه ماركس، وأكمل شطره فرويد، وجاء دوركايم ليحكم الحلقة ولا ننسى في هذا ما كتبه الأستاذ محمد قطب في كتابه "التطور في حياة البشرية" فإنه بلا ريب قد كشف وجوهاً كثيرة وخلفات خافية مما يريده مفسرو البروتوكولات من أهداف وغايات بالبشرية. وليس هناك انتصار أكبر من أن نظرياتهم وفروضهم تدرس الآن على أنها (حقائق العلم) والجديد في هذا الأمر أن الجزائر قد حاولت في مؤتمر علم الاجتماع الذي عقد بها عام 1974 م أن تدعو إلى إنشاء علم اجتماع عربي والتحرر من منهج علم الاجتماع الوافد الاستعماري الطابع وقد دعا عدد من علماء الجزائر إلى:
"الرجوع إلى الأصالة"
باعتباره أحد الحلول المطروحة الآن... غير أن الأمر ما زال في حاجة إلى نظرة إسلامية تكشف عن جوهر مفهوم علم الاجتماع الإسلامي ولذلك فإني أتوجه إلى الدكتور علي عبد الواحد وافي راجياً أن يدلي بدلوه في هذه القضية التي تعد إحدى معضلات الفكر الإسلامي المعاصر وبوصفه من رجال الفكر الإسلامي وممن درسوا علم الاجتماع الفرنسي.(37/19)
إن التحديات التي تواجه المسلمين اليوم عن طريق العلوم الاجتماعية والنفسية والأخلاقية هي من أخطر التحديات لأنها تمثل في الحقيقة يد الصهيونية التلمودية الطائلة في داخل عقولنا وفكرنا ومجتمعنا في حاجة إلى أن نتحرر عقلياً من هذه المدرسة التي صاغتها بروتوكولات صهيون وغزت بها الفكر العربي المعاصر الذي ما زال يقاوم ونحن أولى بأن نكسر هذه القيود ونحرر فكرنا ومجتمعنا من مذاهب هدامة أثبتت فشلها وزيفها في بيئاتها وما أحق أن نكشف عن مفاهيمنا الأصلية وأن ندعو الإنسانية إليها فإنها ستتطلع الآن إلى ضوء كاشف لن يأتيها إلا من عالم الإسلام.(37/20)
وحدة الفكر الإسلامي مقدمة للوحدة الإسلامية الكبرى
الأستاذ أنور الجندي
## 5 ##
بسم الله الرحمن الرحيم
1
إن العالم الإسلامي الآن بعد أن مر بمرحلة "الاستعمار" التي تمثل النفوذ العسكري والسياسي الغربي الذي سيطر على أغلب أجزائه، ثم انحسر عنها يواجه في الوقت الحاضر، مرحلة أشد عنفًا وقسوة:
تلك هي: "مرحلة التبعية والاحتواء".
هذه المرحلة تمتد جذورها عند نهاية المرحلة السابقة والتي حرص الاستعمار على بناء قاعدتها من خلال المدرسة والصحيفة والثقافة والنفوذ الاجتماعي والتي لم تتكشف آثارها بصورة واضحة إلا بعد أن انحسر النفوذ الأجنبي السياسي والعسكري.
وقد جاء مصاحبًا لها ومتعاملًا معها ما تمكنت الصهيونية العالمية من إحداثه في بناء رأس جسر في فلسطين أرادت أن يمتد إلى قلب الأمة العربية مهددا الإيمان والأمن في حمي العالم الإسلامي كافة. ## 6 ##
وقد وجدت مرحلة الاستعمار مواجهة صادقة بأعمال المقاومة والمعارضة والانسحاب من التعامل مع منظمات القانون الوضعي والربا والفساد الخلقي، وهي مرحلة جاهد فيها الأبرار من رجالنا جهادا مستميتًا عنيفًا في ميدان النضال والفكر وقدموا أرواحهم رخيصة في سبيل دحر هذا النفوذ وتدميره.
كذلك لقيت "مرحلة الاحتواء" مواجهة صامدة من المفكرين الأبرار الذين مازالوا منذ ثلاثين عاما أو يزيد يكشفون عن هذا الخطر الكامن ويصححون زيفه ويفندون شبهاته ويسحقون خطره الممتد إلى العقيدة والمجتمع جميعا.(38/1)
ولقد تعالت صيحة المقاومة للغزو الفكري والتغريب والاحتواء الثقافي من كل مكان، حتى يمكن القول الآن بأن هذه الحقيقة قد تمكنت من كل وجدان وبقي أن تكون حافزًا بالإرادة الصادقة لدحر هذا الخطر واستخلاص النفس الإسلامية والعقل الإسلامي من براثنها حتى تستطيع الأمة الإسلامية أن تستشرف خلال سنوات قليلة من الآن مرحلة جديدة بإذن الله هي مرحلة "الرشد الفكري" وتأكيد الذاتية والتحرر الكامل من التبعية والاحتواء في كل صوره وأشكاله وفي مختلف مجالاته قانونًا بالشريعة الإسلامية، واقتصادًا بالمنهج الإسلامي، ومجتمعًا بالأخلاق الإسلامية وتربية بأسلوب الإسلام. ## 7 ##
ولذلك فنحن في حاجة إلى وحدة الفكر الإسلامي الجامعة التي تنطلق فيها كل قضايا الأدب والثقافة ومفاهيم الاجتماع والاقتصاد مستمدة مصادرها من دعوة التوحيد التي استعلنت من أربعة عشر قرنًا وتجددت قبل قرن ونصف فكانت مصدرًا لحركة اليقظة الإسلامية المعاصرة وعلامة على بزوغ فجر العصر الحديث في العالم الإسلامي كله وذلك قبل وصول طلائع الحملة الفرنسية وإرساليات التبشير بأكثر من خمسين عامًا.
وتلك حقيقة يجب أن تظاهرها كتب الدراسات الأدبية والتاريخية، وأن تصحح بها ذلك الخطأ الشائع الظالم الذي يدعي أن الغرب هو الذي أيقظ المسلمين.
2
ولكي نستطيع أن نمضي في الطريق إلى الغاية المرتجاة علينا ان نذكر أن الأمة الإسلامية بعد أن واجهت "أزمة الحروب الصليبية" التي استقطبت جهدها خلال مائتي عام كاملة من المقاومة والجهاد لم تلبث أن عاشت مرحلة "مد إسلامي" لم تتح له فرصة الوصول إلى الأعماق في العقيدة، وإن استطاع أن يمتد زمنيًّا إلى أكثر من أربعمائة عام حمى فيها الأمة العربية من أوضاع الغزو الغربي المتجدد، فقد قامت الدولة العثمانية الإسلامية التي خضعت كأي كيان ## 8 ## اجتماعي لسنن الله في الأمم والحضارات من حيث النمو والقوة والضعف والانحسار.(38/2)
ولقد واجهت الدولة العثمانية الإسلامية في سنواتها الأخيرة مرحلة جمود وتخلف أمسكت المسلمين عن أمرين خطيرين من أمور القوة والسيادة:
أولًا: وهن القوى المادية وضعف أدوات الحرب والعتاد وعلومهما والانفلات من فريضة الجهاد الإسلامي بكل مستلزماته من مرابطة في الثغور وحماية للمواقع ووقف دائم في وجه الخطر المتحفز المترقب الذي لم يتوقف لحظة منذ انتهت الحروب الصليبية عن الزحف والتآمر، وإن كان قد عجز عن استئناف الجولة في جبهة المتوسط الشرقية التي كانت قوية صلبة وإن كان قد طاف حول إفريقيا من الغرب وأزال كثيرًا من نفوذ المسلمين فيها.
ثانيًا: ضعف التيار الفكري الإسلامي الذي التزم المسلمون بميثاق التوحيد أن يكون متجددًا ناميًا متصلًا دائمًا بمنابع القرآن مستمدًا قوته ونصرته من أصول الإسلام الأصيلة من مناهج الحكم والتربية وأنظمة الاحتجاج والاقتصاد ونتيجة لهذا كله علت موجة المد الغربي التي أخذت في تطويق عالم الإسلام وكانت تخشاه من قبل، فلما اقتحمته وجدته هشًا طريًا لأنه كان قد فقد قوته المادية العسكرية وجمد تجديده الدائم المتصل واستنام إلى الدعة، وزايل طموحه ## 9 ## وحيويته وتأهبه لمواجهة أعدائه الذين لم يكونوا قد ناموا بل استيقظوا، غير أن العالم الإسلامي القائم على مفهوم الإسلام وفكره المتجدد لم يكن لينتظر أن يوقظه أحد ما من خارج محيطيه، فقد بدأت حركته ذاتية من قلب الجزيرة العربية في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي حيت حمل لواء دعوة التوحيد الإمام محمد بن عبد الوهاب فكان ذلك علامة على فجر جديد اطلع المسلمين لالتماس أصول عقيدتهم، وامتلاك ينابيع فكرهم واتخاذها جميعًا مصدرًا لليقظة.(38/3)
وقد جاءت هذه الحركة مصدقة ومؤكدة لذلك القانون الذي عرفه المسلمون خلال تاريخهم كله والذي انتظم ماضيهم وحاضرهم بانبعاث حركة اليقظة كلما انحرف الطريق من قلب الإسلام نفسه وبأيدي أولئك الأبرار الذين أذن الله تبارك وتعالى بظهورهم على مدى الأجيال واستدارة الزمان، ومنذ ذلك اليوم وإلى اليوم وحركة الصراع دائرة بين قوى الغزو الأجنبي وبين حركة اليقظة الإسلامية في محاولة للسيطرة عليها وتنحيتها عن مكانها واستبدالها بحركة أخرى من اتباع له جرت المحاولات للتمكين لهم بالسيطرة على مقدرات التعليم والثقافة والصحافة، ثم كشفت أضواء الإسلام زيفهم وأفسدت هدفهم، وحررت منهم المناهج وإن كانت قوى الغزو الأجنبي لا تتوقف ولا تريد أن تبأس. وما أظن المسلمين إلا في جهاد لا يتوقف لمقاومة تيار هذا الغزو.
وقد عملت حركة اليقظة الإسلامية منذ يومها الأول بوعي ## 10 ## عميق وجددت منهجها ووسعت أبعاد حركتها لتستوعب مخططات الغزو جميعًا وقد استطاعت بفضل صدق دعاتها وقادتها ونضارة فكرها وأصالته وارتباطه بالفطرة والحق أن تستعيد الروح الأصيل الذي لم يكن للمسلمين نهضة إلا به ذلك هو روح "لا إله إلا الله".
ولقد مضت حركة اليقظة الإسلامية إلى العمل في ميدانين متكاملين.
الأول: تحرير العقيدة من زيف الجمود وما دخلها من أوهام الباطنية والغنوصية وشبهات المجوسية وتلفيقات الوثنية الهلينية.
ثانيًا: استعادة قدرة الإنسان المسلم على المقاومة والدفاع وإعادة فريضة الجهاد مرة أخرى إلى ساحة المجتمع الإسلامي وإحياء مفاهيم النضال والاستشهاد والكشف عن صفحات التاريخ الحافل بالبطولة والمجد ومحاولة استئنافها تطبيقًا واسترخاصًا للأرواح في سبيل إعلاء كلمة الله.(38/4)
وقد مضت المعركة سجالًا يقتحمها المجاهدون المسلمون ويثبتون فيها، وقد ذهل الاستعمار لهذه المعارضة القوية، وغير أساليبه وخططه مرات ومرات دون أن يتحول عن غايته وحاول إقصاء العناصر القوية والنماذج الرائعة عن مجال النضال وأقام دائرة ضيقة لها نفوذ، قصرها على رجاله الذين ## 11 ## كونهم وشكلهم واستأنف بهم سيطرته على مقدرات الأمم والشعوب.
وقد كشفت أحداث السنوات الخمسين الأخيرة في العالم الإسلامي كله عن فشل تجارب الغرب بمنهجيه الليبرالي والماركسي في مجال السياسة والاجتماع والاقتصاد والتربية، وعجزت النظم المختلفة عن أن تقدم للنفس الإسلامية والمجتمع الإسلامي ما يسد حاجته أو يمكنه من أن يجد ذاته وتكلفت النتائج الحاسمة عن عجز التجارب الغربية بشقيها واستعلنت الحقيقة الصادقة العميقة المغزى أمام العالم الإسلامي كله بأنه لا طريق له بعد أن جرب كل الطرق إلا طريقا واحدا: هو طريق التوحيد والقرآن والشريعة الإسلامية وأنه ليس له سبيل سوى الإيمان بالإسلام نظام مجتمع ومنهج حياة.
ويمكن القول أن الطبول تدق في كل مكان اليوم معلنة أنها تلتمس طريقها من خلال الشريعة الإسلامية وأن فريضة الجهاد حين دخلت مرة أخرى إلى حياة المسلمين غيرت باسم الله والله أكبر الكثير وأدالت من العدو وكشفت عن قدرات رائعة في النفس المسلمة بحيث لا يقف أمامها أي خطر وكان ذلك الالتقاء على عقد الخناصر وترابط القوى، مذهلًا لقوى الغزو والاستعمار.
وهناك بوادر كثيرة في تطبيقات الاقتصاد الإسلامي ## ص 12 ## والمجتمع الإسلامي والشريعة الإسلامية سوف تحقق الكثير مما يطمع فيه أصحاب دعوة الحق وبناة اليقظة.(38/5)
ولا ريب أن ذلك كله منطلق لما بعد من خطوات حتى يستطيع الباحث المسلم أن يعلن دون أن يخشى شيئًا أن (عصر التبعية) بهذه الخطوات أنما يتدافع إلى نهايته بعد أن انتهى من قبله عصر الاستعمار وأن عصرًا جديدًا يوشك أن يشرق فجره، من حول الكعبة المباركة ومن الارتباط بالقبلة.
ذلك هو عصر "تأكيد الذاتية" وبناء "الرشد الفكري" ودعم وحدة الفكر الإسلامي على نحو يؤهل المسلمين إلى تقديمن رسالتهم عما قريب إلى البشرية كلها، هذه البشرية التي يجتاحها القلق الصارم والتمزق النفسي الشديد والتي أوفت على مراحل اليأس القاتل بعد أن فشلت تجاربها خلال أكثر من مائتي عام تقريبًا في أن تقيم مجتمعًا كريمًا أو تحرر النفس البشرية من أسرها، فقد فشلت التجارب وعجزت الأيدلوجيات ويئس الفلاسفة إلا من ضوء واحد لا يزال في نفوسهم منه شيء هو ضوء الإسلام.
3
غير أن هذه المهمة الخطيرة التي هي أمانة في الأعناق للأمة الإسلامية في حاجة إلى جهد مضاعف وعمل مكثف وهذا يتطلب بالتالي إلقاء أضواء كاشفة على تلك الخلفيات البعيدة الخطر التي تبدو من وراء "حركة التبعية والاحتواء" التي تتضافر فيها جهود الاستعمار والمادية والصهيونية وأتباعها جميعًا في مواجهة الإسلام. ## ص 13 ##
ولقد كان للدور الذي لعبته الأيدلوجية الصهيونية التلمودية في العصر الحديث منذ الثورة الفرنسية إشارة بعيدة في السيطرة على الفكر الغربي نفسه واحتوائها له، وله إشارة بعيدة أيضًا في مناهج الاستشراق والتبشير والتعليم.
وعلى المفكرين المسلمين كشف أبعاد هذا المخطط حتى يسهل القضاء عليه توطئة للدخول في مرحلة الرشد الفكري المبتغاة وبين يدي هذا العمل أقدم هذه الحقائق:
أولًا:
من أخطر ما كشف عنه الوثائق في السنوات الثلاث الأخيرة "بروتوكولات صهيون"، وقد بدأ الحديث عنها بعد حرب 48 حثيثًا ثم ترجمت إلى اللغة العربية بعد ذلك بقليل.(38/6)
والمعروف أن هذه البروتوكولات ظهرت في أواخر القرن الماضي الميلادي، أي أنها ظلت محجوبة عن المسلمين والعرب قرابة خمسين عامًا لم تشر إليها أية صحيفة أو مجلة من الصحف العربية خلال هذه الفترة ويرجع ذلك بالطبع إلى أن الصحف التي كانت قادرة في هذا المجال كلها كانت من أصحاب العمالة الاستعمارية الصهيونية، وكانت ذات ولاء واضح للماسونية وما وراءها من مخططات فلما انكشفت البروتوكولات في منتصف هذا القرن تبين أن كثيرًا مما جاء بها كات قد تم تنفيذه فعلًا وفي مقدمة هذا تمزيق العالم إلى كتلتين، والقضاء على الخلافة الإسلامية والدولة العثمانية الجامعة للعرب والترك. غير أن الباحث يستطيع أن يعرف أن مضامين هذه ## 14 ## البروتوكولات التي كانت قد بدأت تنكشف بعد إسقاط السلطان عبد الحميد رحمه الله عام 1908 – 1909 م وعلى التو تكشف مخطط ما يعرف بالماسونية التي دخلها كثير من الأعلام المسلمين بحسن نية وظنًا بأنها تعني ما تعلن عنه مما أطلق عليه (حرية – إخاء – مساواة) ولم تكن أبعاد الأمور قد انكشفت لهم بعد على نحو ما انكشف لنا بعد ذلك. غير أن السلطان عبد الحميد كان على معرفة عميقة بهذا التيار الذي سرعان ما اتضحت آثاره بعد سقوطه مباشرة، وجرت الإشارة إليه وقد أثبته كذلك السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار وحذر المسلمين من مخطط واسع أحد طرفيه الماسونية والطرف الآخر هو الصهيونية.(38/7)
وقد انكشف موقف السلطان عبد الحميد جليّا في السنوات العشر الأخيرة بعد أن ظل غامضًا مضببًا على نحو من الظلم والاتهام في الباطل وذلك بعد أن ترجمت مذكرات هرتزل إلى اللغة العربية وسجلت – والحق ما شهدت به الأعداء – أن هذا الرجل الكريم أغري أشد إغراء ثم هدد أشد تهديد، ولكنه صمد صمودًا تامًا وكان موقفه من الملايين الخمسة والخمسين من الذهب التي عرضت عليه مشرفًا وكريمًا، وكانت رسالته الحاسمة الأخيرة، وهذه الوثيقة تستطيع أن تصحح الخطأ الذي عاش سنوات وسنوات في معظم كتب التاريخ والأدب في البلاد الإسلامية محاولًا أن يلقي على شخصية السلطان عبد الحميد ظلال التشكيك والاتهام ومجافاة الحرية والعدل. ## 15 ##
في عام 1902 م بدأت المعركة مع السلطان عبد الحميد لإسقاط الدولة العثمانية والخلافة وكان ذلك مطابقًا للبروتوكولات، وفي عام 1909 م تم إقصاء السلطان عبد الحميد وفيما بعد سقطت الخلافة.
وكانت ثمار مدارس الإرساليات هي القوى ذات الأسلحة الحاسمة في مجال الصحافة والتي حملت لواء هذه الدعوة الضالة فقد كان التبشير قد ركز نفسه وأنشأ جامعاته ومن أوائل خريجيها جاء هذا الفوج الذي قاد الصحافة العربية مع الأسف في هذه المرحلة وأعلن الحملة على السلطان عبد الحميد وعلى الخلافة وعلى الإسلام.
ثانيًا:
أعتقد أن البحث يقتضينا أن نذهب إلى أبعد من ذلك عمقًا في التاريخ فنرجع إلى السنوات التي بدأت فيها فكرة هرتزل عام 1897 م وهو العام الحاسم الذي أعلنت فيه الدعوة الصهيونية بعد أن أعدت خيوطها الأولى ممثلة في ماركس من قبل وفرويد الذي كان صديقًا لهرتزل ومشاركًا له في المؤسسات الصهيونية، وبذلك انتظمت الخيوط كلها في طريق واحد: طريق تهديم البشرية وسحقها توطئة للحلم اليهودي بالسيطرة العالمية.(38/8)
عن طريق إعلاء العنصرية بالدعوات المتصلة ## 16 ## التي أعلنها مارس مولر اليهودي وماكس نوكدو خليفة هرتزل وذلك لخلق الدعوة إلى عنصرية شعب الله المختار.
عن طريق تحويل الفكر البشري كله ناحية الطعام والمادة بما أعلنه ماركس وإنجلز من نظريات للتفسير المادي للتاريخ وما يتصل بالنظرية الربوية العالمية.
عن طريق تدمير النفس الإنسانية بالدعوة إلى تحويل الفكر البشري كله من ناحية الجنس والغرائز وإطلاقها وهو ما أعلنه فرويد.
وقد كشفت الأبحاث من بعد عن الصلات الوطيدة بين الفروع الثلاثة المتصلة بالدعوة الأساسية إلى الصهيونية العالمية من خلال إعلاء نص محرف يفصل بين إبراهيم عليه السلام من جهة وبين ابنه الأكبر إسماعيل جد العرب والمسلمين من جهة أخرى وإسحاق جد اليهود والمسيحيين من جهة أخرى، في محاولة مضللة لشجب الجناح الإسماعيلي العربي المتصل برحلة إبراهيم إلى مكة المكرمة ونشأة فرعه الإسماعيلي فيها.
ولقد كان دهاء الصهيونية بارعًا منذ ذلك الوقت البعيد وذلك بالسيطرة على مصادر العلوم وفي مقدمتها (دوائر المعارف) فقد استولى اليهود على إعادة صياغة دوائر المعارف والموسوعات العالمية وفيها ركز الصهيونيون محاولتهم في توجيه جميع المواد التاريخية على النحو الذي يشك ## 17 ## في حقائق الإسلام ووقائع التاريخ وفي علاقة المسلمين والعرب بإبراهيم عليه السلام.
ولقد عمد بعض الكتاب العرب متباعة لهذا المخطط إلى إنكار وجود إبراهيم وإسماعيل والتشكيك في اللغة العربية وصلتها بالقرآن.
وكأنما كان ذلك نذيرًا لمن ألقى السمه وهو شهيد إلى ما بعد ذلك من محاولات تزييف للتاريخ الإسلامي يراد أن تجرى أولًا من خلال دراسات الأدب وثانيًا من أقلام كتاب عرب يتسمون بأسماء إسلامية.(38/9)
وفيما يتصل بهذا ما كشفته الأخبار عن اجتماع البهائيين في مؤتمر عالمي في القدس المحتلة 1968 م وما أعلنوا من أن دعوتهم مستمدة من الصهيونية أساسًا والتاريخ يثبت كيف كان لهم نشاطًا في يافا إبان الاحتلال الإنجليزي لفلسطين ومنه امتد إلى كثير من البلاد الإسلامية والعربية وأنهم خدعوا كثيرًا من الناس دون أن يتبين الكثيرون مدى صلتهم بالتلمود.
ثالثًا:
ولكي تكتمل أبعاد الصورة أقدم هذه الوثائق المتلاحقة التي يمكن تجميعها في إطار واحد لكي تشكل بعدًا جديدًا لما نريد أن نصل إليه – هذا (غلادستون) بعد احتلال مصر يقول عام 1897، بعد أن يصعد إلى منبر مجلس العموم ومعه نسخة من القرآن الكريم يلوح بها في وجه ## 18 ## الأعضاء ويقول: "إنه ما دام هذا الكتاب باقيًا في الأرض فلا أمل لنا في إخضاع المسلمين".
وكان هذا علامة إنطلاقة خطيرة للاستشراق لها آثارها الكبيرة بالنسبة للمخطط الذي طرحته الشبهات في كل مجالات الفكر الإسلامي لتوهين مفهوم الإيمان بالله والصمود والمواجهة للعدو والجهاد والمجابهة للغزاة في كل مكان وكان كرومر قد أعلن منذ عام 1883 م موقفه حين قال: "إنما جئت لأهدم ثلاثة: الكعبة، والأزهر، والقرآن".(38/10)
وفي عام 1907 م يتقدم "بيترمان" الوزير البريطاني بوثيقته المعروفة التي تقول: إنه لكي يظل الاستعمار قادرًا في السيطرة على المسلمين والعرب والحيلولة دون نهوضهم لابد من "إقامة حاجز بشري" يفصل بين مسلمي أفريقيا وآسيا وكان الجواب حاضرًا وربما كان ذلك تمهيدًا لما يراد أن يقال حيق تقدم اليهود فقالوا: إنما نحن الحاجز البشري المعادي للمسلمين، ثم كان وعد بلفور بعد ذلك خطوة تالية على الطريق، فإذا ربطنا بين تقرير "بيترمان" وبين إسقاط السلطان عبد الحميد عام 1909 م وفتح الطريق أمام اليهود إلى فلسطين عن طريق الدونمة والاتحاديين وصلنا إلى لورنس البريطاني ودوره في تمزيق الرابطة بين العرب والترك التي جمعهما لواء الإسلام، وفي هذه الفترة الحاسمة استطاع أتباع المحافل الماسونية وخريجوها بين 1909-1918 م أن يضيعوا طرابلس الغرب وأن تهزم الدولة العثمانية وأن يصل اليهود إلى الأرض المقدسة حتى جاء اليوم الذي وقف فيه اللورد اللنبي في القدس ليقول: ## 19 ## "الآن انتهت الحروب الصليبية":
وقف القائد الفرنسي (جيرو) في دمشق أمام بطل حطين صلاح الدين وهو يقول: ها نحن عدنا يا صلاح الدين.
وفي نفس اليوم الذي دخل فيه الإنجليز القدس بقيادة اللورد اللنبي صاح صائح يهودي يقول: إن هذه المعركة هي لحسابنا ونحن ورثة البريطانيين في السيطرة على القدس، قالوا ذلك قبل عام 1967 م بأكثر من خمسين عامًا.
لقد كانت الحملة الصليبية باسم الدفاع عن قبر المسيح وجاءت الحملة الصهيونية باسم الدفاع عن حائط المبكى.
وكلعا دعاوى تبرر الغزو فما كان قبر السيد المسيح إلا مكرمًا في أيدي المسلمين، وما كان حائط المبكى محظورًا على اليهود أن يصلوا إليه، ولكنها حيل التاريخ وقضايا الماضي تحاول أن تحول دون وحدة المسلمين وقيام نهضتهم من جديد.(38/11)
ونحن نعرف أن المعركة قديمة قدم الإسلام نفسه وأن الغرب لن يتوقف عن مهاجمة معاقل المسلمين، وأنه حتى في خلال فترة وجود الدولة العثمانية الإسلامية لم يتوقف عن التآمر عليها، وقد أحصى الوزير الإيطالي (دجوفارا) أكثر من مؤامرة على الدولة العثمانية لتدميرها في كتابة الموسم باسم: «مائة مشروع لتمزيق الدولة العثمانية». ## 20 ##
رابعًا:
ولكي تكون أبعاد الصورة مكتملة تحت أبصار المسلمين لابد أن نتحدث عن ذلك العمل الذي صاحب هذه المحاولات كلها وكان عقدة العقدة فيها، ذلك هو "التغريب" المخطط والمنظمة التي تستهدف تحويل هذه الأمة الإسلامية عن أصالتها وهدم ذاتيتها وتذويبها في أتون الفكر العالمي وإحوائها في الأممية، والفكر العالمي اليوم صريع الفكر الصهيوني مصاغًا في قوالب ذات طابع علمي براق خادع لأصحاب النظرة الخاطئة والفكرة الساذجة ولأولئك الضحايا الذين ما زال الفراغ النفسي والروحي والديني يجتاح نفوسهم نتيجة لقصور المناهج التربوية في بلاد المسلمين فهم أقرب الناس إلى التقاط عدوى الغزو حيث لا توجد الحصانة التي تدفع عنهم أو تحميهم من أخطار السهام المنطلقة من كل مكان.(38/12)
ولا ريب أن أبرز مؤسسات هذا الغزو هما مؤسستا: الاستشراق والتبشيبر وقد اتخذتا مجالهما في ميادين التعليم والثقافة والصحافة واتخذتا لهما هدفًا حاسمًا، وأن تغيرت الأساليب والوسائل بين آن وآن حسبما تكشف التجارب وتقضي الظروف. ولقد بدأت حركتا التبشير والاستشراق عملهما على نحو عنيف عاصف واتصل أمرهما في أول الأمر بالكنيسة ثم امتد إلى وزراء الاستعمار فلما لم يجدا من رد فعل غير الإنكار من جانب المسلمين عدلا اتجاههما في الأربعينيات تعديلًا فاختفى التبشير وراء التعليم، واصطنع الاستشراق ## 21 ## أسلوبًا خادعًا يقدم تمهيدات فيها بعض الاستحسان للإسلام ثم يدس السم بعد ذلك خفيفًا خفيفًا حتى لا يثير الشبهات إلا بعد كسب الثقة بالتمويه. ثم سيطرت اليهودية التلمودية والصهيونية على الاستشراق والتبشير واستخدمته في سبيل قضيتها، كانت قضية الاستشراق الغربي في كلمة هي إخراج المسلمين من مفهوم (الإسلام نظام مجتمع) إلى مفهوم مأخوذ من الغرب يرى أنه لا صلة بين العبادة والمجتمع وذلك حتى ينفسح المجال للقانون الوضعي بدلا من الشريعة، وفي مجال الاقتصاد المصرفي الربوي بدلًا من مفهوم {وأحل الله البيع وحرم الربا}، وفي مجال الاجتماع بإطلاق الغرائز وتطوير الأخلاق بدلًا من ضوابط الإسلام وحدوده.
أما الاحتواء الصهيوني للاستشراق والتبشير فقد استحدث ضرب مفهوم العلاقة بين العروبة والإسلام وإعلاء شأن العنصرية وطرح نظريات باطلة في مقارنات الأديان والأخلاق والاجتماع والتفسير المادي للتاريخ والتربية.
ولقد سئل الدكتور زويمر - كبير المبشرين في البلاد العربية - في الثلاثينيات عن فشله في إدخال المسلمين إلى المسيحية فأجاب تلك الإجابة الخطيرة التي يجب أن تكون موضع تقدير الباحثين المسلمين في مجال الغزو الثقافي والتغريب: إن الهدف من التبشير ليس إدخال المسلمين في المسيحية فإن ذلك جد عسير ولكن الهدف هو إخراجهم من الإسلام.
خامسًا:(38/13)
في السنوات الأخيرة سيطر الاستشراق اليهودي على الاستشراق الغربي وقدم عددًا من أعلامه: ##22 ##
مرجليوث وجولد سيهر وبرنارد لويس في مجال الدراسات العربية.
دوركايم وليفي بريل وفرويد وسارتر في مجال الاجتماع والأخلاف (هذا بالإضافة إلى ماركس).
وبدت واجهات العمل في أفق الفكر الإسلامي ولها صورة أخرى أشد عمقًا ومكرًا وهذه جريدة التيمز تتحدث عن الإسلام في إفريقيا فتقول: "كان الاعتقاد قديمًا أن الإسلام دين شعوب الصحراء وقد يتقدم إلى الحضر، وما كان أحدًا يصدق أنه يستطيع أن يخترق المناطق الاستوائية ويصل إلى جنوب إفريقيا" ليس هذا هو المهم من النص وإنما المهم يأتي من بعد، يقول: "ويختلف الغربيون في اتجاههم الفكري نحو مستقبل الإسلام في إفريقيا، من قائل أن تقدم الإسلام لن يضر بالمصالح الاستعمارية إذا ما سار الإسلام في الخطوات التي رسمها له الاستعمار بينما يرى آخرون ضرورة (الحد من تقدم الإسلام) عن طريق نشر البدع والخرافات (أي إدخال البدع المخالفة لأصل الإسلام لإفساده وإزالة حقيقة الإسلام عنه ثم بقاء اسم الإسلام عنوانًا لها) حتى يكون ذلك بمثابة حائل يقف أمام ضغط الاستعمار المتزايد".
وهذا نص يؤكد: أن هناك محاولتين في مواجهة الإسلام:
الأولى:
أن يتحرك الإسلام في الخطوط التي رسمها ## 23 ## الاستعمار في دائرة أنه دين لاهوتي فحسب وليس دين شريعة ونظام مجتمع.
ثانيًا:
نشر البدع والخرافات بما يعني تحريف المفاهيم والقيم وهذا ما يطلق عليه محاولة هدم الإسلام من الداخل.
وإن نظرة واحدة إلى هدف التغريب كما صوره دهاقنة الاستعمار والنفوذ الغربي ليؤكد هذا المعنى: فهم يهدفون من خلال دراسات الاستشراق المبثوثة في معاهد التعليم والصحافة والمؤلفات الثقافية إلى إنشاء عقلية عامة تحتقر كل مقومات الحياة الإسلامية وتنفر من الدين وتعمل على إبعاد العناصر التي تمثل الثقافة الإسلامية عن مراكز التوجيه.(38/14)
ونحن حيث نبحث النظريات الحديثة (الوافدة) المطروحة في أفق الفكر الإسلامي في العصر الحديث – يتبين لنا أنها على وجه العموم بدأت بكتابات المبشرين والمستشرقين ثم سلمت إلى الجيل التابع الذي تشكل في دائرة الاحتواء، فقد حمل الدعوة إلى العامية في البلاد العربية دعاة من أمثال ولكوكس وولموز وسبيتا في مصر وكولون في الجزائر وماسنيون في المغرب، كما تؤكد الأبحاث التاريخية أن أول من نادى بالطورانية والفرعونية والفينيقية وغيرها كان من المستشرقين ثم جاء بعد ذلك طه حسين وسلامة موسى وساطع الحصري وعلي عبد الرازق ومحمود عزمي وغيرهم.
وقد كان هدف حركة الاستشراق واضحًا وهو كما عبر ## 24 ## عنه أربابه يتلخص في عبارة حاسمة: "وضع العلم في خدمة السياسة والاستعمار" وقد استهدف غايات بعيدة أهمها:
أولًا: إذابة الشخصية الإسلامية والقضاء على ذاتيتها الخاصة وطابعها المفرد واحتواؤها.
ثانيا: قطع الصلة بين حاضرها القائم وبين أصولها الإسلامية في محاولة ربطها بماضيها الوثني السابق على الإسلام.
ثالثًا: إثارة الشبهات بهدف خلق جو من الازدراء والاستهانة بالميراث الإسلامي.
رابعًا: كان الاستشراق هو المصنع الذي يقدم السموم لمدارس التبشير وإرسالياته لتطبيقها في مناهجها التي انتقلت إلى المدارس الوطنية.
خامسًا: استهدف هذا العمل تمزيق وحدة فكر العالم الإسلامي وتشتيته بما سمي إسلام عربي وإسلام فارسي وإسلام تركي وهكذا، وبما جرى التركيز عليه من مفاهيم العنصريات وإعلائها حتى ليقول (هاملتون جب): أن أولى النتائج التي نجمت عن الغزو الفكري أنه زعزع فكرة أن العالم الإسلامي وحدة ثقافية واحدة وتسيطر عليه تقاليد واحدة.
حقًا، لقد بقيت رابطة العطف والماضي المشترك والعقيدة المشتركة ولكن امتزاج الأفكار المأخوذة من الغرب بدرجات ## 25 ## متفاوتة كان قد بدأ ينزع إلى كل مملكة من الممالك الأخرى".(38/15)
وهذا هو ما يستدعي العمل لوضع قاعدة: وحدة الفكر الإسلامي إزاء كل ما يراد به وأن نبدأ في بناء مناهجنا التربوية والثقافية والاجتماعية على هذه القاعدة.
إن العالم الإسلامي الذي يضم الآن قرابة ألف مليون مسلم ويتكلم أكثر من عشر لغات يستطيع أن يتخذ من (القرآن) لغة جامعة تقوم على أساسها زعامة فكرية رصينة تقف في وجه كل هذه المؤامرات والمحاولات التي ترمي إلى تدمير ذاتيته وحصره في بوتقة (التبعية) بعد أن بدت بوادر فجر الانطلاق نحو مرحلة: الرشد الفكري كمقدمة لقيام المسلمين بتبليغ رسالتهم إلى العالمين كرة أخرى.
وأمامي تقريران: أحدهما :
عن مؤتمر بتليمور الذي عقد بإشراف الصهيونية العالمية في إحدى الجامعات المصرية والذي يعد في نظر الباحثين نقطة التحول في اتجاه الصهيونية لتزييف التاريخ الإسلامي وذلك عام 1948 م وقد حضر (بن جوريون) هذا المؤتمر وقاد أعماله إلى هدفها، وكان مما تقرر فيه: تنظيم ومضاعفة عمليات تزييف التاريخ العربي وطرح دراسات جديدة تحمل الشبهات التي تتصل بمؤامرة إسرائيل. ## 26 ##
وقد أعدت الصهيونية عناصر هامة من الباحثين استطاعوا السيطرة على كراسي دراسات التاريخ الإسلامي في أغلب الجامعات الأوروبية والأمريكية – وذلك على حد تعبير الدكتور إبراهيم العدوي – لدعم النشاط السياسي ضد العرب في العالم والتوصل إلى خلق حركة ثقافية عنصرية تساعد على تفتيت العرب وعلى هزيمتهم أمام العالم وأمام المسلمين تاريخنا. ومن أمثلة هذه النظريات التحريفية التي يطرحها الاستشراق اليهودي محاولة تصوير العرب والمسلمين بصوره الوحشية، ورد مقومات ثقافتهم إلى أصول يونانية رومانية وإحياء الحركات الهدامة في التاريخ الإسلامي كالقرامطة والباطنية والزنج والحلاج وغيرها.(38/16)
وإثارة الشبهات حول سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل وخاصة فيما يتصل بالمرحلة التاريخية التي عرفت باسم الحنيفية والسابقة لليهودية. كذلك تركز الصهيونية على تخويف الغرب من قيام دولة عربية كبرى واحدة وتعيد إثارة صفحات التاريخ فيما يتعلق بالخلاف بين المسلمين والغرب وخاصة في الأندلس والبلقان وغيرها. ويؤسفني أن أقول أن كثيرًا مما نشر في العالم الإسلامي في السنوات الأخيرة كان استجابة وتطبيقًا لهذا المخطط.
الثاني: تقرير عن الحرب المعلنة على العقائد الدينية وعلى أمور الوحيث والنبوة والغيب. والفلسفات المطروحة التي ترمي إلى إلغاء القيم الثوابت وإبدالها بنظرية التطور ## 27 ## المطلق، وتجاوز المعنويات والروحيات وإقامة المادية وحدها مقاعدة الفكر وإلغاء الضوابط الأخلاقية والمسئولية الفردية والدعوة إلى رفع الوصاية عن الشباب والعمل على إخراج العرب والمسلمين من إطارات الدين مما أطلق عليه بعد النكسة (علمنة الذات العربية) كذلك هناك دعوات إلى إعادة طرح الأساطير والإباحيات في أفق الفكر الإسلامي والأدب العربي عن طريق القصة والمسرح والصحافة. ومحاولات أخرى لإحياء الجاهلية العربية والوثنية الإغريقية والمجوسية الباطنية.
وقد تجد هذه الدعوات تقبلًا من شباب قليل الخبرة ممن عجزت المناهج الجديدة أن تمدهم بزاد نفسي وروحي يسد حاجتهم من القيم العاصمة من الزلل.(38/17)
وهناك محاولات تضع تخلف المسلمين والعرب وهزيمتهم الماضية في كفة في مواجهة ضرب الفكر الإسلاميه ورميه بأنه مصدر الهزيمة مع أنه لم يكن خلال تلك الفترة مطبقًا أو معتبرًا أسلوبًا للحياة حتى يتحمل مسئولية الخطأ، وإنما تتحمل مسئولية الخطأ تلك المناهج الوافدة، ولو التمس المسلمون منهجهم أسلوبًا للحياة لما تعرضوا لهذا الخطر ولما هزموا، والحقيقة أن هذه الهزيمة لم تأت من مصدر واحد، هو التبعية واعتماد أساليب الفكر الوافد، ثم أنهم بعد ذلك لم ينتصروا إلا عن طريق التمساهم منهجهم الأصيل ## 28 ## الذي انتصروا به خلال تاريخهم كله وسوف يكون نصرهم حاسمًا ما تعمقوا هذا المنهج واستوعبوه بالتطبيق الكامل في مختلف مناحي الحياة.
ولقد نسي العرب والمسلمون في مرحلة التبعية والاستعمار أن منهجهم يختلف اختلافًا كبيرًا عن مناهج المستعمرين من ناحية وأن المستعمرين لم يقدموا للمسلمين إلا كل زائف ومضطرب وفاسد، وأنهم حجبوا عامدين وما زالوا يحجبون أسرار العلم وأسباب القوة ووسائل التقدم.
لعلي لا أعدو الحقيقة إذا رددت هذه الكلمة التي يؤلف عنها مجلد كامل، تلك هي: "إن الأهداف الصهيونية تحولت إلى مذاهب فلسفية لها دعاة ومدافعون، وأن بعض أهلنا قد استخدموا – بغير أجر ولا مثوبة – لخدمة هذه المخططات على سذاجة منهم وغرور، وأن الخطر ليس خطر المؤسسات المعروفة، ولكن الخطر الأشد، هو الذي يختفي وراء بريق التقدم والعلمانية والعصرية وغيرها".
وقد آن للعرب وللمسلمين أن يتجاوزوا هذه المناهج، أن يتجاوزوا فرويد وماركس وسارتر إلى آفاق أكثر سعة وأكثر اتصالًا بذاتيتهم وقيمهم، وهم لم يجدوا هذه الآفاق إلا في الإسلام وفي معطياته المثمرة وحلوله الحاسمة لكل ما تعاني البشرية من مشاكل وأزمات وفي قضاياها الثلاثة الكبرى: الحرية والعدل والشورى. ## ص 29 ##(38/18)
لقد سقطت تلك المناهج الوافدة في بلادها، وفقدت قدرتها على العطاء، وعجزت عن إسعاد النفس أو تأهيل المجتمع للطمأنينة وهي أعجز بالنسبة لمجتمع غير مجتمعها، ولذلك لم يبق للمسلمين والعرب من سبيل إلا أن يعودوا إلى معطياتهم. وهي معطيات ربانية المصدر، إنسانية الطابع، تحمل الصدق والحق واليسر بعيدًا عن التعقيدات الفلسفية، والمذاهب والأهواء، وهي خير عطاء للبشرية لو فقهت البشرية حاجتها الحقيقية وهديت إلى ذلك الضوء الساطع العميق.
إن على المتابعين للحضارة العربية منا أن يذكروا كيف أن أصحابها قد فقدوا الأمل فيها وهذا (أرنولد توينبي) في كتابه: «الحضارة والغرب» يعلنها صيحة مدوية حين يقول: "إن الحضارة الغربية تمر الآن في طور التدهور والانحلال الذي مرت به الحضارة الرومانية من قبل. من أجل هذا لم تعد فنون الصناعة أو الاقتصاد أو غيرها من المعارف كافية لتوفير الاستقرار والسعادة للمجتمع الإنساني، ذلك أن الروابط الروحية هي العمد الحقيقية التي لا يمكن أن يقوم بدونها صرح المجتمع ويتماسك بناؤه"!. فكيف إذن نلتمس من الضائعين الضوء وهم في حاجة إلى أن نعطيهم إياه. لقد استطاعت حركة اليقظة الإسلامية أن تكشف كثيرًا من زيف الاستشراق وخطل رأيه من أبرز وجوه ذلك عجز الاستشراق نفسه عن تصور النفس الإسلامية والعقل الإسلامي تصورًا صحيحًا لأسباب عديدة منها:(38/19)
- عجز المستشرقين أنفسهم عن فهم البيان العربي، هذا ## 30 ## إذا خلصوا من تعصبهم، أما إذا اجتمعت الأهواء مع العجز عن الفهم يكونون قد بعدوا تمامًا عن فهم المسلمين والعرب. إننا لا نغلق أبوابنا أمام الفكر البشري، وسمة فكرنا الأساسية أنه متفتح، ولكنه قائم على قاعدته يأخذ ما يزيده قوة ويرد ما سوى ذلك، ولقد كان المسلمون يؤمنون على مدى العصور أن الفكر الوافد ما هو إلا بمثابة (مواد خام) لهم الحق في استعمالها وتشكيلها على النحو الذي يرونه نافعًا لهم ولهم الحق أيضًا في ردها والاستغناء عنها.
إننا مطالبون بأن نحمي تاريخنا من الزيف، ونصون تعليمنا من مادية الفكر، ونحن في حاجة دائمة إلى التفرقة بين الأخلاق التي هي جزء من الدين وبين التقاليد التي هي من نتاج المجتمعات، كذلك علينا التفرقة بين مفهوم الإسلام نفسه كما جاء به القرآن وبين التطبيق التاريخي الذي أصاب فيه المسلمون وأخطأوا حيث لا تعد ممارستهم حجة على الإسلام بل يكون الإسلام حجة عليهم، علينا أن نفرق بين الأصيل والوافد، علينا أن نؤكد مفاهيمنا في الثقافة والتربية والسياسة والاجتماع والأخلاق والقانون وأن نعرف مكانة اللغة العربية فينا، لغة القرآن يجب أن نجري بها على مستواه ولا ننزل عنه إلى العاميات أو ما يسمى باللغة الوسطى فذلك كله من دعوات التغريب والغزو الثقافي.(38/20)
لقد حاول الاستشراق في طوره المعاصر أن يزيف التاريخ الإسلامي ليفسر مفهوم البطولة الإسلامية تفسيرًا ماديًا خالصًا ## 31 ## وأن يثير الشبهات حول النبوة والوحي، وأن يحاكم أعلام المسلمين إلى البيئة والعنصر والعرق، كما حاول كثيرًا بالنسبة لمفاهيم النفس والاجتماع، والأخلاق والتربية، وهنا يبدو مدى خطر دخول العرب المسلمين في مواجهة مع عدوهم بمفاهيم وافدة واعتقادات مضللة. كان قد فرضها هذا العدو عليهم من قبل ليتعاملوا معه بها ومن شأن هذا أن يحول بينهم وبين القدرة على مقاومة العدو، وهنا يبرز الخطر: خطر الاعتماد على المصادر الوافدة والنظريات الوافدة والنظر إليها على أنها حقائق بينما هي فروض تصدق وتخيب.
ولن تبدأ نهضة المسلمين الحقة إلا من خلال العقيدة الإسلامية عقيدة التوحيد فهي وحدها العقيدة القادرة على إطلاق طاقتهم ودفعهم إلى الآفاق.
إن تقدم المسلمين والعرب لا يقوم على العلم وحده، كما قامت نهضة الغرب فأصابها التمزق والانفصام والانحراف ولكنها تقوم على العقيدة والعلم جزء منها ولن يتحرر العرب والمسلمون ويسودوا قبل أن يتحرروا من كل قيود التبعية والغزو الثقافي.
وليعلموا أنه ليس من سبيل إلى فصل هذه المرحلة المعاصرة عن تاريخهم كله، المتصل الحلقات الممتد عبر أربعة عشر قرنًا، والذي يتمثل منذ أن جاء الإسلام واستقر مجتمع المسلمين في إطار لغته وعقيدته وتاريخه على نحو لا سبيل إلى فصل مرحلة عن أخرى، وحيث لا يمكن دراسة أزمة من أزمات المسلمين أو نصر من انتصاراتهم إلا في إطار تاريخهم كله، وليس اتصال المسلمين بالغرب في العصر ## 32 ## الحديث شيئًا مستقلًا ولكنه حلقة من حلقات متصلة تأثرًا وتأثيرًا – فعلًا ورد فعل.(38/21)
ومن الحق أن نقول أن الإسلام قد أعطاهم ما تعجز مناهج الدنيا كلها أن تعطي مثله، أعطاهم جُمَّاع الحريات والضوابط وتكامل الفردية والجماعية، وتلاقي العلم والدين، وترابط الروح والمادة، وتلاقى الوحي والعقل وتوازن الدنيا والأخرى، وارتباط الغيب والشهادة، والتقاء الثبات والتطور وتتابع الماضي والحاضر.
وبعد.. فلابد أن يخرج المسلمون من مرحلة التبعية إلى مرحلة الترشيد بإذن الله، ولقد قامت الحجة عليهم بما لا مزيد عليه من تجربة. فقد جربوا فكر الغرب الليبرالي وفكر الشرق الماركسي، وامتحن الفكر الإسلامي خلال ذلك امتحانًا شديدًا فصمد للمحنة وثبت في الأزمة ونجح في الامتحان وأثبت أنه أقدر المعطيات قاطبة ليس للمسلمين وحدهم بل للإنسانية كافة ولذلك فلابد أن يلتقي المسلمون على وحدة فكر تكون مقدمة لوحدتهم الشاملة وبها يدخلون عصرًا جديدًا.
أنور الجندي(38/22)
سلسلة دراسات إسلامية معاصرة النفس
منشورات المكتبة العصرية
صيدا - بيروت
الطبعة الأولى
1401 هـ - 1982 م
النفس
إن فهم النفس الإنسانية جزء من فهم الإنسان، والنفس الإنسانية من أجل ذلك، لها مفهوم مختلف في كل ثقافة وكل نظرية اجتماعية وكل فلسفة، وموقف الإسلام منها شأنه في موقفه من الإنسان: من أرحب هذه المناهج نظرة، وأوسعها أفقًا، وأعرفها بميول الإنسان وغرائزه ورغباته، وأكثرها للنفس تحريرًا ودعوة إلى الخير والهدى، والارتفاع عن الدنايا، ولا ريب من أجل ذلك، يقال: إن للإسلام علم نفس خاصًا مختلفًا عن المفاهيم التي طرحتها بعض النظريات التي قامت على الخطيئة والخلاص وإذلال النفس بتحريم الطيبات، وكراهية الرغبات، وسد باب الغرائز، ثم إن هذه المفاهيم الإسلامية - في مجموعها - تختلف عما يطلق عليه في العصر الحديث: "علم النفس" الذي هو - في حقيقته - ###4### مجموعة من العقائد التلموذية مصاغة في أسلوب له طابع علمي خادع.
ولا ريب أن فيما طرح من أفكار ونظريات نفسية عن طريق المدارس المختلفة الموجودة الآن حقائق وأخطاء، وتصورات صحيحة وفاسدة، وفرضيات قد تصدق في بعض المجتمعات، ولا تصدق في البعض الآخر غير أن الأصول الأصيلة لمفاهيم "النفس" إنما هي ميزات النبوة، وما قدمه القرآن، وصاغه العلماء المسلمون مما لا زال هو خير ما هنالك.
فلقد قدم علماء المسلمين مجموعة من الأصول العامة لفهم النفس الإنسانية، تمثل نظرة الإسلام الجامعة الكاملة المتوازنة القائمة أساسًا على المجاهدة والكظم في مواجهة الرغبات المذلة، والتماس الفطرة، والإعتدال في الرغبات المباحة.(39/1)
ولقد جعل الإسلام معرفة النفس سبيلا إلى إصلاحها وإلى تهذيب الأخلاق، وكلمة: (اعرف نفسك) التي تطرحها الفلسفات الوافدة كلمة مضلة، فإن الإنسان لا يعرف نفسه إلا إذا عرف ربه، ولذلك كانت القاعدة الإسلامية الأولى: "اعرفوا ربكم، تعرفوا أنفسكم" ومن عرف ربه ###5### جل، ومن عرف نفسه ذل، وتهذيب الأخلاق لا يتأتى إلا بمعرفة عيوب النفس التي ينبغي على الإنسان أن يتجنبها حتى يسير في "الطريق المستقيم"، فلكي يرى الإنسان النفس عليه أن يراقب سلوكها الظاهر.
يقول ابن عباس: إن في ابن آدم نفسًا وروحًا بينهما مثل شعاع الشمس، والنفس هي التي بها العقل والتمييز، والروح هي التي بها النفس والتحرك، إلا أن النفس والروح يتوفيان عند الموت في حين أن النفس وحدها هي التي تتوفى عند النوم.
ويتبع هذا المعنى: أن النفس ليست بجسم، وإنما هي من الجسم بمثابة العرض من الجوهر، كما أنها هي الحياة، التي بها يصير البدن حيًا بوجودها فيه، وأن البدن هو صورتها ومظهرها: مظهر كمالاتها وقواها في عالم الشهادة.
ويفسر الإمام الغزالي مظاهر سلوك الإنسان بأربع دوافع أساسية: هي شهوة الطعام، والجنس، والمال، والجاه. وأساس هذه الدوافع كلها غريزة الطعام، إذ تتفرغ الرغبة الجنسية، وحب المال والسلطان منها، ويسمي الغزالي هذه الغريزة البطن.
ويقول: إن الاعتدال هو الميزان الصحيح لجمي أنواع السلوك، والخروج عن حد الاعتدال إلى الإفراط أو التفريط، ###6### هو مصدر الأمراض النفسية، والعلاج هو العودة إلى الاعتدال الواجب.
والغاية من كل سلوك: معرفة الله ومراعاة ما أمر به في كتابه ليهتدي الناس إلى الصراط المستقيم واتباع سبل التقوى.(39/2)
والغريزة الجنسية – عند الغزالي – ركبت لفائدتين: اللذة وبقاء النسل، ومع ذلك فإن اللذة ليست مطلوبة لذاتها، أو لبقاء النسل، بل لشيء آخر أسمى وأرفع، هو أن يدرك الإنسان لذاته، فيقيس لذات الآخرة، والغزالي يرى أن للشهوة مراحل ثلاثًا: إفراطًا وتفريطًا واعتدالا.
فالإفراط ما يقهر العقل حتى يصرف همة الرجل إلى الاستمتاع بالنساء والجواري، فيحرم من سلوك سبيل الآخرة، أو يقهر الدين حتى يجر إلى اقتحام الفواحش، والتفريط في هذه الشهوة، هو الضعف، وهو مذموم، أما المحمود، فهو أن تكون معتدلة ومطابقة للعقل والشرع.
ورسم الغزالي لعلاج هذه الشهوة أمورًا ثلاثة هي:
1- الجوع. 2- غض البصر. 3- الاشتغال بشيء يستولي على القلب.
وإذا نظرنا في مفاهيم علم النفس المطروحة الآن، نجد أن فرويد رد السلوك الإنساني إلى الغريزة الجنسية، وأن ادلر رد ###7### السلوك الإنساني إلى غريزة السيطرة، وأن الغزالي رد السلوك الإنساني إلى: شهوة الطعام، ومن شهوة الطعام إلى سائر الشهوات. وكان ذلك شأن النظرة الإسلامية في كل الأمور، فهي أوسع أفقًا وأقدر على معرفة الأبعاد المختلفة للشخصية الإنسانية.
والإسلام ينظر إلى النفس الإنسانية في إطار "التوازن" بعيدًا عن طرفي الزهادة والإباحة، فهو يعارض الإسراف والجمود معًا.
وقد أباح الإسلام شهوة الطعام والجنس والاستمتاع بطيبات الحياة، ولكنه وضعها في إطار يحمي به النفس الإنسانية من الانحراف، وحفظها لكي تكون قادرة على التماس طريقها إلى أشواقها الروحية ودون أن يغلق عنها هذا الباب الذي هو أحد بابيها الأصليين: من حيث هي سلالة من طين، ونفحة من الروح.
2- إذا التمسنا مطالع علم النفس الإسلامي من القرآن وجدناها واضحة صريحة: «ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها» [الشمس: 7].(39/3)
هذه هي الحقيقة الأولى التي تقرر أن النفس الإنسانية ###8### مؤهلة لطريق الخير وطريق الشر، وأن إرادتها الحرة، هي التي تتجه بها إلى أحدهما، ومن أجل ذلك جاء الدين الحق عن طريق الوحي ليهدي الإنسان إلى أحسن السبل، وليحذِّره من الطرق المنحرفة.
وقد سبق الإسلام علم النفس الحديث في ذلك بأكثر من ثلاثة عشر قرنًا، وقد وصل المسلمون إلى أن النفس شيء، ليس بالجسم، وليس بجزء من الجسم، وأنه شيء آخر له جوهره وأحكامه وخواصه وأفعاله، يتشوق إلى العلوم والمعارف كتشوق البدن إلى المأكل والمشرب.
وقد أورد القرآن ثلاث نفوس، هي مراحل للنفس الإنسانية النفس الأمارة، النفس اللوامة، النفس المطمئنة.
أما النفس الأمارة، فهي التي تمثل الطبيعة البدنية، وتأمر باللذات والشهوات الحسية، وتجذب القلب إلى الأهواء.
وأما النفس اللوامة، فهي التي تنورت بنور القلب، وتنبهت عن سنة الغفلة، كلما صدرت عنها سيئة بحكم طبيعتها، أخذت تلوم نفسها، وتنوب عنها.
أما النفس المطمئنة، فهي التي وصلت إلى درجة اليقين، وتحررت من صفاتها الذميمة، وتخلفت بالأخلاق الحميدة.
###9### 3- وللنفس أثرها في الجسم، نتيجة الارتباط الوثيق بينهما، فإن ما يصيب النفس من الشك أو الملل أو القلق أو الخوف، له أثره في الجسم، وإذا كانت البحوث النفسية قد تقدمت في السنوات الأخيرة، وقررت استحالة الفصل بين الجسم والنفس، وأن الفصل بينهما فصل لجوهرين متلازمين، يتأثر أحدهما بالآخر، وأن العلاج الصحيح ينبغي أن يوجه إليهما معًا، فإن هذا كله مما قرره علماء المسلمين منذ أكثر من عشرة قرون.(39/4)
فالحكمة في النفس، والإيمان والرضى، والغضب والسخط من النفس، وإن الوعد بالجنة كان للنفس، ولم يكن للجسم: «يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فأدخلي في عبادي، وأدخلي جنتي» [الفجر: 27] فالوعد بالجنة والخلود للنفس، وليس للجسم، وكل الفضائل والرذائل منها، وهي التي تقود إلى الشر، وتقود إلى الخير.
وفي كل نفس منطقة للخوف، ومنطقة للأمان، يتوازيان في الحالة السوية، فإذا طغت إحداهما على الأخرى، كانت النفس غير سوية، والإيمان هو مصدر السكينة والطمأنينة والأمن، فإذا تنكرت له النفس، وانطلقت إلى ###10### الأهواء، عاشت في الخوف والقلق والتمزق حتى تعود إليه مرة أخرى، وإذا كانت أزمة الإنسان المعاصر الآن هي الخوف والقلق، وما أحدثت من تدمير خطير، فإنما يرجع ذلك إلى أن النفس أنكرت وجودها الحقيقي، وهذه واحدة من الحقائق التي قررها علم النفس الإسلامي: "إذا تغلب الخوف على الإنسان، فقد اتزانه وقدرته، وأصبح إنسانًا خائفًا من الحقيقة والخيال، ومن الممكن، وغير الممكن".
والمسلم يقف بين الخوف والأمان، وهما لا يستقران في النطاق المعقول إلا بالإيمان بالله ومعرفته التي هي العاصم من الخوف، والإيمان ضياء ونور، فهو يبدد ظلمات النفس حتى تطمئن، والإنسان يخاف ما يجهل، فكلما كان نطاق الجهل كبيرًا، كان الخوف أعظم.
كذلك دعا الإسلام الإنسان إلى أمرين: 1- إتقاء شح النفس بالإنفاق. 2- والإنصاف من النفس بالإعتراف بالخطأ.
فإذا استطاع الإنسان التغلب على نفسه، كان على غيرها أقدر؛ ولن يكون الإنسان قزو فعالة إلا إذا تحرر من مطامعه وأهوائه، واستطاع كبح غرائزه وشهواته.(39/5)
كذلك دعا الإسلام الإنسان إلى تغيير النفس، وأنه هو ###11### مصدر الإنتصار الحقيقي، فإذا استطاعت الأمة أن تغير نفسها، فإنها تصل إلى مرحلة أعظم من درجات القوة والسيادة: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» [الرعد: 11] «ذلك بأن الله لم يك مغيرًا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» [الأنفال: 53].
4- أعلن القرآن قيام الحارس والرقيب اليقظ في النفس الإنسانية، يذودها عن الشر، ويدعوها إلى الخير، وينقلها من الخطأ إلى الصحيح؛ ويسمي القرآن هذا الرقيب باسم النفس اللوامة: «واللذين إذا فعلوا فاحشة، أو ظلموا أنفسهم، ذكروا الله، فاستغفروا لذنوبهم، ومن يغفر الذنوب إلا الله» [آل عمران: 53].
وهذا ما يسمى في العصر الحديث بالضمير، فالنفس اللوامة حافظة للإنسان من الإنحرافات.
وقد أودع الله النفس البشرية هذه الملكة "الرقيب" أو الحارس اليقظ، تحاسب الإنسان على تصرفاته، وقد تؤرق نومه إذا تلكأ في إصلاح أمره؛ ولكن هذا الرقيب يبدأ ضعيفًا في نفس الإنسان، ثم يستطيع الإنسان تنميته وتقويته، وقد ###12### يتركه الإنسان، فيضعف عن المقاومة، وقد يتلاشى أمام التبريرات الوهمية.
5- يدعو الإسلام الإنسان أن يفهم ذاته، ويفهم الكون وما وراء الطبيعة، وذلك من منطلق رسالة الدين الحق، أما فكرة اكتشاف الفرد لنفسه بغير معين أو دليل أو علم أصيل، فإنها وسيلة إلى تدميره.
ولقد هدى الدين الحق الإنسان إلى مكانه في الكون ورسالته ومسؤوليته وأمانته، وعلمه فهم العلاقة بين العوالم الثلاثة: عالم الطبيعة، وعالم الإنسان، وعالم الغيب؛ ودعاه إلى الحذر من أن تبهره الكشوف الطبيعية، فإن في نفسه ما هو أدق من ذلك صنعًا: «وفي أنفسكم أفلا تبصرون» [الذاريات: 21].
كذلك أعلن الإسلام وحدة النفس البشرية فهي من أصل واحد، ووحدة الإنسان جماعًا بين الروح والجسم، ووحدة الحياة جماعًا بين الدنيا والآخرة.(39/6)
وأرسى التوازن بين النفس الإنسانية والجماعة، وحدد علاقة الإنسان بنفسه وبالإنسان وبالجماعة، وأشاع روح الطمأنينة إلى فضل الله والأمل فيه وبه، فألغى بذلك فكرة ###13### التشاؤم والقلق. كذلك رفض فكرتي التهافت على الحياة، والهروب من الحياة.
وحال بين الجفاف العقلي والجمود العاطفي، فأعطى النفس عطاء العقل، وكرم الوجدان الذي هو منبع فياض إلى جوار العقل الذي هو مصدر المقايسات، فخاطب الوجدان بالكون والطبيعة، وخاطب العقل بالعلم، ولما كانت النفس البشرية معارضة لموجات من الشك والطمع والأهواء، فقد دعا الإسلام إلى تزكية النفس وتطهيرها الدائم وتحريرها، وإظهار الفطرة، وإتاحة الفرصة لها، وكشف الأغشية عنها، وذلك بتربية الفرد، وتطهير الإنسان مما يغشى القلوب المريضة، والنفوس المنحرفة.
6- لا يستطيع الإنسان أن يفهم حقيقة النفس إلا إذا التمس الخيط الذي كشف عنه الدين الحق، وهو أنه مخلوق لغاية ورسالة؛ ولم يخلق عبثًا أو سدى، وأن الدين هو العامل الذي رفع الإنسان من ضعف البشر إلى سمو الإنسان، ورقاه من الحيوانية المتصلة بتركيبه الجسماني إلى الروحانية المتصلة بتركيبه النفسي، فإذا عجز الإنسان عن أن يرقى، ويرتفع فوق ماديته، فقد سجل على نفسه الفشل في رسالته وأمانته في هذه الحياة: «واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا، فانسلخ منها ###14### فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين، ولو شئنا لرفعناه بها، ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه» [الأعراف: 176].
7- أن النفس الإنسانية – فيما قدم الدين الحق للإنسان – واضحة المعالم والاتجاه تمام الوضوح، لو أن الإنسان في العصر الحديث التمس هذا العلم، أما العلم التجريبي فإنه ما زال قاصرًا عن فهم الإنسان؛ وسيظل قاصرًا إلا في المجال المادي فقط، لأن فهم النفس الإنسانية مما لا يستطال بالأدوات الموجودة الآن في أيدي العلماء، وهي العقل والتجربة والعمل.(39/7)
يقول الدكتور اليكسيس كاريل: "إن أغلب الأسئلة التي يلقيها عن أنفسهم أولئك الذين يدرسون الجنس البشري تظل بلا جواب، لأن هناك مناطق غير محدودة في دنيانا الباطنة ما زالت غير معروفة، عنحن لا نعرف الإجابة على أسئلة كثيرة مثل: كيف تتحد جزئيات المواد الكيماوية التي تكون المركب، والأعضاء المكونة للخلية، كيف تتقرر "الجينيس" ناقلات الوراثة الموجودة في نواة البويضة الملحقة؟ كيف تنتظم الخلايا في جماعات من تلقاء نفسها: مثل الأنسجة والأعضاء؟ فهي كالنما والنحل تعرف مقدمًا الدور الذي قدر لها ان تلعبه في حياة المجموع.
###15### ما هي طبيعة تكويننا النفسي والفسيولوجي؟ إننا نعرف أننا مركب من الأنسجة والأعضاء والسوائل والشعور، ولكن العلاقات بين الشعور والمخ ما زالت لغزًا، إننا ما زلنا بحاجة إلى معلومات كاملة تقريبًا عن فسيولوجية الخلايا الغضبية، أي: إلى أي مدى تؤثر الإرادة في الجسم؟ كيف يتأثر العقل بحالة الأعضاء؟
على أي وجه تستطيع الخصائص العضوية والعقلية التي يرثها كل فرد أن تتغير بواسطة الحياة والمواد الكيماوية الموجودة في الطعام والمناخ، هذا التعقيد في تركيب الكائن الإنساني، وفي وظائفه وأوجه نشاطه، هو الذي يتسق مع ضخامة وتشعب وظيفته الأساسية في خلافة هذه الأرض تعقيدًا ما زال مستعصيًا على العقل البشري لأنه فوق وأكبر منه"، اهـ.
وصدق الله العظيم: «هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم» [النجم: 32].
ويرد كاريل دراسة الإنسان المعقدة إلى أنه: إنسان كائن له عالمه الفرد الخاص الذي لا مثيل له في سائر أفراده، وله عالم جامع للخصائص الإنسانية المشتركة.(39/8)
يقول: إن الفردية جوهرية في الإنسان؛ إنها ليست مجرد جانب معين من الجسم، إذ أننها تنفذ إلى كل كياننا، وهي ###16### تجعل اللذات حدثًا فريدًا في تاريخ العالم، إنها تطبع الجسم والشعور؛ كما تطبع كل مركب في الكل بطابعها الخاص، وإن ظلت غير منظورة، وتميز الأفراد كل منهم عن الآخر بسهولة بواسطة: تقاطيع وجوههم وإشاراتهم وطريقتهم في المشي، وصفاتهم العقلية والأدبية الخاصة، ومع أن الزمن يحدث تغييرات كثيرة في مظهر الأفراد، إلا أنه يمكن دائمًا معرفة كل فرد بواسطة إبقاء أجزاء معينة من هيكله، وكذلك فإن خطوط أطراف الأصابع مميزات قاطعة للفرد؛ ومن ثم فإن بصمات الأصابع هي التوقيع الحقيقي للإنسان.
ومن المحتمل أنه لم يوجد فردان بين ملايين البشر الذين استوطنوا هذه الأرض، وكان تركيبهما الكيماوي متماثلا، وترتبط شخصية الأنسجة التي تدخل في تركيب الخلايا والاختلاط بطريقة ما زالت غير معروفة حتى الآن، ومن ثم فإن فرديتنا تتأصل جذورها في أعماق ذاتنا.
إننا عاجزون عن اكتشاف الصفات الجوهرية لشخص بعينه، فضلا عن أننا أكثر عجزًا عن اكتشاف إمكانياته.
ويصل اليكسيس كاريل إلى حقائق ثلاثة:
حقيقة أن الإنسان كائن فريد في هذا الكون.
حقيقة أن الإنسان كائن معقد أشد التعقيد.
###17### حقيقة أن الإنسان يشتمل على عوالم منفردة عددها عدد أفراده.
ويقول: إن هذه الحقائق تقتضي منهجًا للحياة الإنسانية يرعى تلك الاعتبارات كلها، يرعى تفرد الإنسان في طبيعته وتركيبه، وتفرده في وظيفته وغاية وجوده، وتفرده في مآله ومصيره، كما يرعى تعقده الشديد وتنوع أوجه نشاطه، ثم يرعى فرديته هذه مع حياته الجماعية.
وبعد هذا كله تضمن له أن يزاول نشاطه كله وفق طاقاته كلها بحيث لا يسحق ولا يكبت، كما لا يسرف ولا يفرط. وبحيث لا يدع طاقة تطغي على طاقة، ولا وظيفة تطغي على وظيفة، ثم يسمح لكل فرد بمزاولة فرديته الأصيلة. مع كونه عضوًا في جماعة.(39/9)
ولذلك فإن مناهج الحياة التي اتخذها البشر لأنفسهم لم تستطع وضع شيء مناسب لأنها لم تصل بعد إلى أغوار حقائق هذا الكائن، والمنهج الوحيد الذي راعى هذه الاعتبارات كلها، هو المنهج الذي وضعه للإنسان خالقه العليم بتكوينه ونظرته، الخبير بطاقاته ووظائفه، المنهج الذي يحقق غاية وجوده، ويحقق التوازن في أوجه نشاطه، ويحقق فرديته وجماعته.
###18### ونحن نرى أن هذا التوقف الذي وقفه العلم الحديث، إنما جاء من اعتقاد هذا العلم بقدرته على أن يكتشف الإنسان، بينما لم يكن ذلك في مقدوره، وبينما وجد المنهج الخاص بالإنسان والنفس الإنسانية كاملا عميقًا ما زال متدفقًا بالحياة منذ جاء الإسلام، وما زال صالحًا للتطبيق، ومعلنًا أن كل هذه المذاهب التي صنعها الإنسان لم تكن بقادرة على أن تدله أو تهديه، أو تكشف له أعماق نفسه.
إن المنهج الرباني في الإنسان والنفس، هو الأمل الوحيد الآن للبشرية كلها بعد أن تساقطت المذاهب والنظريات كما تساقطت أوراق الخريف.
ولقد كشف كارل يونج الباحث النفسي عن الخطر الذي يواجه النفس الإنسانية في هذا العصر بالتمزق والمرض.
يقول في مقدمة كتابه (النفس غير المكتشفة):
"استشارني خلال الأعوام الثلاثين الماضية أشخاص من مختلف شعوب العالم المتحضرة، وعالجت مئات من المرضى فلم أجد مشكلة واحدة من مشكلات أولئك الذين بلغوا منتصف العمر – أي: الخامسة والثلاثين – لا ترجع في أساسها إلا إلى افتقارهم إلى الإيمان، وخروجهم على تعاليم الدين، ويصبح القول بأن كل واحد من هؤلاء، وقع فريسة المرض ###19### لأنه حرم سكينة النفس التي يجلبها الدين – أي دين – ولم يبرأ واحد من هؤلاء المرضى إلا حين استعاد إيمانه، واستعان بأوامر الدين ونواهيه على مواجهة الحياة.(39/10)
8- ويقول يونج: إن سر أزمة الإنسان هو أنه لم يستكشف ذاته، وأن تحرر الإنسان من التحديات التي تواجهه، إنما يرجع إلى فهم النفس والتغلغل في أعماقها والوصول إلى معرفة كافية للإنسان وإلى إقامة تقييم سليم له، هذا الإنسان الذي يسحقه الآن التطور الآلي، وتعصف بقلاعه، وأن لذة المعرفة، هي السلام الوحيد الذي يقف أمام التدهور الروحي والاستخذاء الجماعي إزاء أنظمة الاستبداد. ويقول: إن النظريات العلمية لا نفع فيها، فبقدر ما تكون النظرية شاملة، بقدر ما تعجز عن الإلمام بالواقع الخاص بالذات، وكل نظرية تعتمد على التجربة، هي بالضرورة نظرية إحصائية، فهي لا تقدم إلا متوسطًا حسابيًا، ويرى يونج أن عملية اغتيال الذات الفردية، ليست قاصرة على الشرق أو على الغرب، فهما يسلبان الحرية الفردية.
ويقرر أن نفس الإنسان كائن مستقل، هو نقيض المادة والجسم، وعنه تصدر ظواهر الوعي والشعور والإرادة، وله ###20### وجوده القائم بذاته وقوانينه الخاصة المميزة.
ثم يقف يونج على مفرق الطريق ليرى المنهج الصالح لدراسة النفس الإنسانية، فهو يرى أنه ليس مذهب زميله وصديق شبابه فرويد، وليس مذهب الفكر الغربي وليس مذهب الماركسية.
والواقع أن المنهج الصالح هو الذي يقدمه الإسلام، والذي لم يحاول الفكر الغربي بعد أن يدرسه، أو يجربه، ولو فعل لوجد فيه عامل تحرره.
أما الدعوة إلى الوجودية أو منهج الاستيطان الذاتي أو منهج البوذية أو غيرها من الدعوات المادية الخالصة، أو الروحية الخالصة من الشرق أو من الغرب، فإنها لن تؤدي إلى فهم حقيقة النفس لأنها غالبًا ستحجب تلك العروة الوثقى القائمة على الترابط الأصيل بين الروح والمادة، والنفس والجسم التي يمثلها منهج الإسلام.(39/11)
9- لقد مرت البشرية بمرحلتين من الدعوة إلى فهم الإنسان، والنفس الإنسانية، ولم يفلح كلتاهما، لأن الأولى غلبت المادية الصرفة، وجاءت الأخرى، فغلبت الروحية الصرفة، وتركت كل منهما تراثًا، فلم تجد البشرية أمامها طريقًا صحيحًا حتى جاء الإسلام، فوقف موقفًا وسطًا فهو: "لا ###21### يفرض القيود إلى الحد الذي يرهق النفس، ويبطل دفعة الحياة، ولا يطلق الإنسان من عقاله إلى الحد الذي يرده حيوانًا، ويلغي ما تعبت الإنسانية في الوصول إليه في جهادها الطويل من ضوابط لنزع الحيوان".
وفي هذا المجال الواضح يقدم الإسلام مفهومًا واضحًا:
أساسه الاعتراف بحقوق الإنسان وميوله وعواطفه، والنظر إلى كل ما يتصل بعلم النفس على أنه نظرية وفروض، وليست حقائق علمية مقررة، قامت أساسًا على تجارب خاصة للباحثين، منهم من له ظروفه الخاصة العقلية والاجتماعية، من اضطراب عقلي أو اضطهاد، ويرى ضرورة الحذر من أهواء الفلاسفة والباحثين التي لا ترتقي إلى مستوى القيم الثابتة التي لا تتغير بتغير الظروف أو الأزمان أو البيئات واعتبار أن العلم هو كل ما يتعلق بالمختبرات العلمية والتجريب، أما النظريات الفلسفية، فهي ليسن سوى وجهات نظر تخطئ وتصيب.
كما يلاحظ أن الموجات السياسية المختلفة من استعمارية وشعوبية وصهيونية، إنما تحاول الاستفادة من بعض النظريات التي تتفق مع وجهة نظرها، أو التي تستهدف احتواء الأمم والشعوب وتحويلها عن نظرتها الأصيلة.(39/12)
###22### ولقد أولى الإسلام تقديره واهتمامه لميول الإنسان وعواطفه وغرائزه الطبيعية باعتبارها فطرية، ولم يمنعها حقها، أو يدمرها أو يقضي عليها، كما فعلت بعض الأديان، بل أفسح لها الطريق الطبيعي والمعتدل، ووضع لها ركائز وضوابط، وأجراها في طريق معبد: قوامه التوسط والبعد عن الغلو والإسراف من ناحية، والتجميد من ناحية أخرى أو الإلغاء من ناحية ثالثة، وعدت الإنسان السوي هو الذي يحتفظ بقواه العقلية والروحية والجسمية، ويطبقها في الاتجاه الطبيعي.
ويرى الإسلام أن وقف تيار هذه الميول بصنوف الرياضات وأشكال الحرمان سبب لتعطيل قوى النفس الإنسانية وصدها عن استخدام جميع وسائلها، وبذلك يتوقف ظهور آثارها في عالم الحس، لذلك جاء الإسلام معترفًا بهذه الميول الطبيعية داعيًا إلى الاعتدال: (كلوا واشربوا ولا تسرفوا) [الأعراف: 7].
وصفوة القول في الصلة بين عالم النفس والإسلام أن دراسات العلماء تجمع الأدواء النفسية كلها في داء واحد، هو داء الضمير المدخول أو الضمير المنقسم على نفسه، وأنها تجمع الطب النفساني كله في دواء واحد، هو داء اليقين والإيمان، ###23### وذلك دواء الدين وليس منه عند العلم إلا القليل، لأن العلم سبيل ما يعرف، ولا حاجة به إلى ثقة وتسليم، وإنما يؤمن الإنسان ليعرف كيف يثق، وكيف يبصر موئل الأمان، ثم يركن إليه ركون العارف الآمن.(39/13)
ويشير الإمام محمد عبده إلى أن الفلاسفة والعلماء الذين اكتشفوا كثيرًا مما يفيد في راحة الإنسان، أعجزهم أن يكتشفوا طبيعة الإنسان، ويعرضوها عليه، حتى يعرفها ويعود إليها. هؤلاء الذين صقلوا المعادن حتى كانت من الحديد اللامع المصفى، أفلا يتيسر لهم أن يحلوا الصدأ الذي غشي الفطرة الإنسانية، ويصقلوا تلك النفوس حتى يعود إليها لمعانها الروحي؟ فالدين هو الذي كشف الطبيعة الإنسانية، وعرفها إلى أربابها في كل زمان، ولكنهم يعودون، فيجهلونها، وأن العقدة النفسية الكبرى في أعمال النوع البشري، قد تتلخص في كلمتين: "المخاوف المجهولة" وإن الشفاء في تلك العقيدة، يتلخص في الإيمان لأنه أمان وائتمان.
ويصور جون كارل فلوجل في كتابه (الإنسان والأخلاق والمجتمع) عجزت العلوم الحديثة عن الوصول إلى الحقيقة، فيقول: إن موقف علم النفس الآن أشبه بموقف الطبيب يشاهد مريضًا بين الموت والحياة دون أن يستطيع تشخيص ###24### الداء عن طريق الحدس والتخمين، وإن مكتشفات التحليل النفسي ونظرياته في ميدان الغريزة الجنسية، قد صدمت شعور كثير من الناس، فهم يشعرون أن علماء النفس حين يحاولون فهم البواعث التي ترتكز عليها القيم الخلقية والدينية، قد يحطمون هذه القيم عينها، بل لعلهم يعملون فعلا على تحطيمها.
وحذر فلوجل من نتائج هذه الأبحاث، وخاصة ما يتعارض منها مع النظم والعقائد، وقال: ربما كان علماء النفس هم أنفسهم من المصابين بتلك العقد التي يحلو لهم الحديث عنها، ولذلك جاءت معظم أحكامهم مشوبة بالهوى، قائمة على معرفة مبتسرة.
وقال: إن علم النفس علم مهمته مقصورة على وصف حقائق الحياة العقلية وتصنيفها؛ فلا شأن له بالقيم ذاتها.(39/14)
ويقول العقاد: إن أكبر معالجات علم النفس، هو القلق: مصدر المرض النفسي والانقسام الداخلي وانفصام الشخصية؛ ويقترن بهذا الخطر – وقد يكون من أسبابه – داء الحيرة بين حياة الروح وحياة الجسد؛ وبين تغليب الروح بالجور على المتعة الجنسية، وتغليب حياة الجسد بالاسترسال مع الشهوات والإقبال على اللذات الحيوانية دون غيرها؛ وفي ###25### الإسلام عصمة من كل داء من أدواء هذا الفصام الذي يمزق طوية الفرد، أو يمزق صورة الوجود كله بين خصومات الفكر وخصومات العقيدة وخصومات المثل العليا في كل قبلة يتجه إليها، فليس في الإسلام عداء بين الروح والجسد؛ وليس للجسد فيه محنة تمتحنه بالصراع بين الطيبات من متعة الروح أو متعة الجسد.
10- ومن كل هذه المراجعات في موقف الأديان والفلسفات والمذاهب: تجد أن التصور الإسلامي، هو أعمق هذه التصورات وأوسعها وأكثرها عمقًا؛ وأصدقها تعرفًا إلى الفطرة، وأقربها إلى العلم والعقل. فالإنسان – في نظر الإسلام – كائن كريم لا هو بالملاك ولا هو بالشيطان؛ له مطامع تشده إلى الأرض، وله أشواق تربطه بالسماء، والإسلام من أجل إقامة التوازن بين نوازعه وأشواقه، يرسم لها طريقًا وسطًا، ويعمد إلى إيجاد الموائمة في نفس الفرد بين قواه المختلفة مما يؤدي إلى سلامة الكيان البشري وحسن تناسق الفرد مع المجتمع، فهو يحفظه دون أن يجمد بالرهبانية، أو يتمزق بالإباحة حتى يستطيع أن يكون قادرًا على أداء رسالته ومسؤوليته، وهو يحقق له رغبات جسده وعقله وروحه؛ واعتراف الإسلام بالطبيعة البشرية وبحق ممارستها مع وضع ###26### الضوابط والحدود لها: يحول دون كل ما يسمى من كبت أو تمزق أو ضياع.(39/15)
كذلك فإن من أبرز معطيات الإسلام: التفاؤل برحمة الله، فليس في الإسلام أي ملمح ليأس أو انهزامية أو ضعف أو تشاؤم؛ كذلك فإن هذا الاتجاه الجامع الوسط يحول دون طوابع الوثنية أو عبادة الشهوة أو عبادة الفرد، كذلك فإنه يدفع إلى التضحية والتقوى والبذل والفداء.
…………………الأستاذ/ أنور الجندي(39/16)
سلسلة على طريق الأصالة: في مواجهة ركام الفكر المطروح على الساحة اليوم - 11
قراءات الشباب المسلم في مواجهة ركام الفكر المطروح على الساحة اليوم:
[ما هي المحاذير التي يجب ألا يقع فيها الشباب المسلم عند قراءة كتاب وكيف يقرأ المسلم الكتاب وماذا يقرأ المسلمون حتى يحصنوا أنفسهم ضد موجات الغزو الفكري؟].
هذه أسئلة تتردد كثيرًا ويطلب من الباحثين المسلمين الإجابة عليها والواقع أن الإسلام لا يحرم قراءة أي نوع من الكتب بشرط أن يكون لدى القارئ خلفية من الفهم والثقافة والقدرة على معرفة الغث من السمين، ولقد حدد الإسلام الوجهة في أن يتابع المثقف المسلم العلوم النافعة أساسًا ولا يشغل نفسه بالكتب التي تعني بالذات والشهوات والإباحيات وما يروي أحاديث البغاة والزنادقة الذين يصورون الشهوات سواء أكان ذلك في صورة قصة أو في ديوان شعر أم في كتابة عامة، فهذه الكتب التي تنتشر كثيرًا هذه الأيام لمؤلفين مجهولين أو التي تعيد إحياء فكر الباطنية والزنادقة: أمثال أبي نواس وبشار وغيرهم من الكتب التي تصنف تحت عنوان الأدب أو التي تحاول أن تقدم صورًا عاصفة من أحاديث الرواة التي كان يقدمها القصاص في بعض المجالات العابثة أو الندوات الصاخبة، فهذه كلها كتب لا تفيد ولا تعطي النفس المسلمة ما تتطلع إليه من إيمان ويقين وتقوى، وقد نبذت هذه الكتب طوال فترات تماسك المجتمعات الإسلامية، وعندما كانت الأمة الإسلامية مشغولة بالمهام الكبرى في بناء حضارتها وعلومها.(40/1)
فلما ضعفت الأمة وركنت إلى الرخاوة والضعف استطاع الزنادقة والشعوبيون ودعاة الإباحة استنساخ هذه الكتب وإذاعتها من جديد ونحن نقف في هذه الكتب موقف الحذر فلا نتخذها مراجع في أبحاثنا العلمية ولا نصدق ما جاء بها ولا نؤمن بما أورده كتاب التغريب من أن هؤلاء الزنادقة كان لهم وزن في مجتمعهم أو تأثير، والمراجع الحقيقية تؤكد أنهم كانوا فئة مرذولة مقصاة عن المجتمع الزاخر بالعلماء والباحثين الخلص في عصرهم وأن كل ما حاول طه حسين وجماعته من أن يجعل لهؤلاء ولآثارهم وجود حقيقي إنما كان من باب الهدم، ولذلك فنحن لا نثق بما جاء في كتاب (الأغاني) ولا نثق في مؤلفه (الأصفهاني) ولنرجع إلى ترجمته فنجد إنه كان رجلاً شعوبيًا معاديًا للإسلام مواليًا لأعداء الإسلام وخصومه، وإنه جمع هذه الأشعار والروايات ليرضي طبقة من المترفين الفاسدين، وأن ما رواه في كتابه مضطرب لا يثق به أحد، وأنه ما قصد علمًا ولا بحثًا جادًا ولكنه أراد غواية وإفسادًا كان من بين خطط الشعر وبين الذين هم دعاة التغريب في ذلك العهد، وكذلك نقف هذا الموقف من كتاب (ألف ليلة) هذا الكتاب اللقيط الذي ليس له مؤلف معين والذي جمعت رواياته من مجتمع فارس الوثني قبل الإسلام وأضيفت إليه بعض قصص عراقية ومصرية، كذلك كل ما أورد من شعر منسوب إلى عمر الخيام لم يصح فيه شيء إلا القليل فلم يكن الخيام في الحقيقة شاعرًا وإنما كان عالمًا فلكيًا ولكن بعض القوى التغريبية أرادت أن تتخذ منه تكأة لإذاعة شعر فارسي في الخمر لم يعرف له مؤلف على النحو الذي قام به (فتزجرالد) وترجمة عصبة من الشعراء العرب الذين خدعوا أو جرى التأثير عليهم ثم كشفت الحقيقة من بعد.(40/2)
أما ما يتردد دائمًا على ألسنة بعض المغرضين من الإشارة إلى الشعر الغربي الذي عرف في مرحلة من مراحل المجتمعات الإسلامية سواء من شعر الخمر أو الجنس أو الغلمة فإن هذا وافد معروف وفد على الأدب العربي تحت تأثير الظروف التي واجهها المجتمع الإسلامي بعد ترجمة آثار اليونان والفرس والهنود من كتابات إباحية وجنسية تأثر لها بعض الشعراء والكتاب وهي مرحلة مضطربة معروفة – استطاع الفكر الإسلامي والأدب العربي أن يخرج منها ويعود إلى أصالته. ومن هنا فليست هذه النصوص مما تؤخذ على الأدب العربي وهذه المرحلة قد حفلت أيضًا بالفكر الفلسفي والفكر الصوفي الفلسفي الذي أثار نظريات وحدة الوجود والحلول والتناسخ وما يتصل بها من نظريات العقول العشرة والفيض والنرفانا وغيرها وهذه كلها نظريات واجهها الفكر الإسلامي وكشف عن زيفها وكتب عنها أئمة أعلام: كالشافعي وأحمد بن حنبل والغزالي، وكان قمة من وصل إلى الغاية في هذا الإمام ابن تَيْمِيَّة.
ومن هنا فإن الشباب المسلم يجب أن يكون على وعي بهذه المرحلة من تاريخ الفكر الإسلامي التي تأثرت بترجمات الفكر اليوناني والفارسي والهندي، وما أثاره من قضايا وما جرت من محاولات الفلاسفة للربط بين الإسلام وهذا الفكر وما بلغوا من فشل في هذا المجال، وما دحض به مفكروا الإسلام أخطاء الفكر اليوناني وفساد وجهته.
ولما كان الإسلام ومنهجه كله (في مختلف جوانبه عقيدة وشريعة وأخلاقًا) قد اكتمل قبل أن يختار الرسول صلى الله عليه وسلم الرفيق الأعلى (اليوم أكملت لكم دينكم) فإن كل هذه المطروحات التي حاولت أن تجد مكانًا لها في الفكر الإسلامي بعد ترجمة الفلسفات قد بانت غربتها واختلافها بل وتعارضها مع مفهوم الإسلام الذي جاء بمنهج مختلف عن منهج الحضارات العبودية التي سبقته وخاصة حضارات اليونان والرومان والفرس والفراعنة والهنود، هذه الحضارات التي قامت على أمرين رفضهما الإسلام وأنكرهما إنكارًا تامًا:(40/3)
أولاً: الوثنية وعبادة الإنسان للصنم.
ثانيًا: الرق وعبودية الإنسان للإنسان وإعلان الفلسفات جميعها (وخاصة فلسفة أرسطو وأفلاطون) بأن الرق حجر أساسي في بناء الحضارات، وقد رفض الإسلام ذلك كله وهدمه وحطم وجوده.
هذه هي الخلفية الأساسية للشباب المسلم المثقف في النظر إلى الفكر البشري الذي جاء الإسلام ليكشف زيفه ويقيم منهج النبوة الصحيح للإنسانية كلها على نحو مخالف تمامًا قوامه التوحيد الخالص وإسلام الوجه لله تبارك وتعالى وإقامة العدل والإخاء البشري والرحمة "وليظهره على الدين كله"، فلك يلبث أن قامت الأمة الإسلامية من حدود الصين إلى نهر اللوار في أقل من ثمانين عامًا، وقد قدمت الأمة الإسلامية للغرب المنهج العلمي التجريبي الذي أنشأ الحضارة المعاصرة وقد قبلت أوروبا منهج العلم ولم تقبل منهج الفكر والعقيدة، فأقامت حضارة ينقصها البندين الأساسيين للحضارة الإسلامية، وهما البعد الرباني والبعد الأخلاقي ومن ثم أخذت تواجه الارتطامات والصدمات والعواصف والأزمات حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم من اضطرابات ولسوف يصيبها ما أصاب الحضارة الوثنية التي سبقتها ولابد أن تواجه الانهيار.
ولقد قدمت الحضارة الغربية للعالم منهجين: أحدهما رأسمالي والآخر اشتراكي، وقد تبين بعد مرور الوقت الكافي بعجز كلا المنهجين عن أن يقدما للبشرية أشواق الروح أو طمأنينة النفس وتعالي الصيحات اليم تطالب بمنهج جديد وتلفت علماء الغرب الذين استطاعوا أن يتحرروا من أسر التقليد والتبعية فنادوا بالعودة إلى الإسلام بوصفه المنقذ الوحيد للبشرية من أزمتها الخانقة.(40/4)
في ضوء هذا المفهوم يجب أن يقرأ الشباب المثقف بوعي وحرص ما يقدم عليه فلا يخدعه أحد من الأسماء اللامعة أو الصحف الواسعة الانتشار ولا المؤلفات البراقة، والعبرة بالمضمون والرائد لا يكذب أهله فإذا كذبها كان حقًا على الأمة أن تكشف زيفه وأن تنحيه، ولقد كانت هناك أسماء لامعة خدعت الناس طويلاً لأنها دعت أمتها إلى التبعية وإلى الاستسلام أمام الغرب الذي لم يكن في يوم من الأيام إلا خصمًا يطمع في احتواء عقليات المسلمين ويرغب في تزييف منهج الإسلام.
على هذا النحو الذي رسمه كرومر ودنلوب وزويمر، والذي وكل المستشرقون أتباعهم من أصحاب الأسماء العربية أن يكملوا المهمة، إيمانًا بأنهم أقدر على كسب ثقة أهليهم، ولقد تكشفت هذه السموم وارتدت هذه الأسهم إلى صدور أصحابها ولم يعد في الإمكان إعادة الثقة إلى كل من خان هذه الأمة أو خدعها أو دعاها إلى التنكر لدينها أو عقيدتها أو لغتها أو قرآنها. هذا هو المنطلق الأول لفهم الوجهة في قراءة ذلك الركام الهائل المطروح أمام المثقف المسلم (أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).
في مواجهة ركام الفكر المطروح على الساحة اليوم: نظريات مضللة نكشف زيفها:
يجب أن يكون موقفنا نحن المسلمين واضحًا من كل ما يقدم على الساحة حتى نستصفي مفهومنا الصحيح للثقافة والعلوم والمجتمع وقضايا السياسة والاقتصاد والتربية وغيرها فقد حدث خلط كثير خلال هذه السنوات التي مرت وخاصة سنوات الاحتلال الأجنبي وما ترك من رواسب لا تزال قائمة في مجالات الفكر والثقافة والتعليم والصحافة في محاولة لصبغ فكرنا بلون غربي أو مغرب.(40/5)
كان النفوذ الأجنبي ظاهرًا في عصر الاحتلال وكانت المرحلة واضحة التبعية للاتجاه الغربي الليبرالي والرأسمالي، وكانت كل المؤسسات خاضعة لتلك الوجهة، وكانت هناك وطنية تعمل على التحرر من النفوذ الأجنبي، ولكن كان هناك من يخدمون هذا النفوذ. ومن هنا فإن تاريخ الحركة الوطنية أيام الاحتلال يجب أن يدرس بعناية وأن ينظر فيه إلى ما مقام به كرومر من بناء نماذج كانت تؤمن بالالتقاء مع النفوذ الأجنبي في منتصف الطريق وتقبل منه القليل، وقد اعتمد الاستعمار على التعليم في تكوين هذه القيادات وكانت التجربة السياسية القائمة على النظام الغربي زائفة، وكانت التبعية للنظام الغربي وسيطرته الاقتصادية حتى بعد انتهاء الاحتلال العسكري واضحة وقائمة.
ثم جاءت بعد ذلك مرحلة التجربة الماركسية وكانت تمثل تبعية من نوع آخر، عانى خلال مرحلته المفهوم الإسلامي الأصيل أشد المعاناة، فقد حجب وراء تصور قاصر، يجعل الإسلام دينًا لاهوتيا قاصرًا على العبادة والمساجد بعيدًا عن مفهوم الإسلام الحقيق: مفهوم المنهج الرباني القائم على خضوع الحياة الاجتماعية والسياسية له بوصفه نظام مجتمع ومنهج حياة، وكان لهذا المفهوم أثره الواضح في مجالات الثقافة والتعليم والصحافة وخضعت المناهج التعليمية والجامعية إلى النظم الليبرالية والماركسية، وقامت الحياة الثقافية على هذا المنهج أو ذاك دون أن يتاح للمنهج الإسلامي الذي هو الأصل أن يستعان أو يدافع عن مفهومه ووجوده إلا من خلال صحف متواضعة وكتب قليلة، وكتابات تقوم على الدفاع والرد على الشبهات المثارة ولا تملك أن تقدم منهجها الأصيل بصورة حقيقية.(40/6)
وهكذا كان الفكر الحديث الذي يقدم من خلال مناهج العلوم الاجتماعية والنفس والفلسفة والاقتصاد والأدب والتاريخ مشوبًا بالتصور الغربي، لا يضع للدور الإسلامي في تاريخ العلوم أو الفكر كبير اهتمام، بل إن العلوم التي كان للإسلام دوره الرائد في صياغتها تدرس الآن دون إشارة إليه وتبدأ من حيث أخذها الغرب وتجاهل دور المسلمين فيها، فإذا اتصلت هذه العلوم والمناهج بتاريخ المسلمين أنفسهم أو بتراثهم قدمت على نحو متعسف مضلل، فهي تتناول تاريخ الإسلام بأسلوب علماني وتحكم عليه من خلال منهج التفسير المادي للتاريخ وتقلل من عظمته وتفرغه من شحنته الروحية وتجعله باردًا كالثلج، وتلك محاولة مقصودة من أجل إطفاء نوره وإذهاب طابعه القادر على بناء النفس المسلمة من جديد.
إن هناك أسماء كثيرة لمعت بفضل النفوذ الأجنبي ووضعت في موضع القيادة الفكرية يجب أن يعاد النظر فيها على ضوء الحقائق التاريخية التي ظهرت ووفق مفهوم الأوضاع التي كانت تحجب الأضاليل فسعد زغلول ولطفي السيد وعبد العزيز فهمي وجرجي زيدان وطه حسين وسلامه موسى وتوفيق الحكيم، كل هؤلاء يجب أن يعاد النظر إليهم في ضوء الحقائق التي عرفت، وخاصة ما يتصل بها الماسونية وبروتوكولات صهيون، وأن هناك أسماء أخرى ظلت تحت تأثير الموجة الطارئة يجب أن يعاد النظر إليها أمثال المتنبي والغزالي وعمر الخيام والسلطان عبد الحميد.(40/7)
ولابد من وقفة حاسمة عند دور المماليك والدولة العثمانية في تاريخ مصر والبلاد العربية، فما تزال القوى التابعة للنفوذ الأجنبي تحاول أن تثير الاتهامات والشبهات مرضاة للغرب الذي يعلن عن كراهيته للمماليك الذين قضوا على نفوذه وأزالوا وجوده في الحروب الصليبية وإخراجه مهزومًا من بلاد المسلمين بعد قرنين من الزمان وكذلك كراهيتهم للسلطان محمد الفاتح الذي انتزع القسطنطينية والدور الذي قامت به الدولة العثمانية في وجود مصر وشمال إفريقيا وخاصة الجزائر وتونس من النفوذ الغربي الزاحف.
ولابد من الاهتمام بالدعوات المضللة التي استطاع النفوذ الأجنبي إبرازها والتركيز عليها خاصة قضية تحرير المرأة، والانفجار السكاني والفلكلور، وأن يكون هناك موقف قائم على الأصالة من الترجمة بصفة عامة ومن ترجمة الروايات العالمية التي لا تمثل مشاعرنا ولا قيمنا والتي تركز على الإباحيات والكشف على النحو الذي نشر في مصر أخيرًا ووجد في كلية الآداب، فهذا عيب كبير أن تكون مصر قائدة الأصالة العربية الإسلامية هي التي تصدر هذه النماذج العارية المكشوفة والإباحية.
إننا نطالب في مقدمة كل كتاب يترجم إلى اللغة العربية بيانًا عن ضرورة هذا العمل وميزاته ووجه المقارنة بينه وبين ما يوجد في لغتنا وثقافتنا وأن يكون واضحًا أنه عمل مرتبط بعصر وبيئة وأنه ليس على الإطلاق قواعد فكرية أو قوانين علمية، فنحن لا نقبل فكر الآخرين إلا إذا كان بمثابة (مواد خام) نشكلها في إطار فكرنا كما نشاء.
لقد قدمت لنا في العقود الماضية نظريات كثيرة في القومية (ساطع الحصري) وفي العلمانية (طه حسين) وفي الأدب المكشوف (توفيق الحكيم وإحسان عبد القدوس وغيرهما) وفي الماركسية (محمد مندور) وفي الجنس (فرويد وسلامه موسى) وفي مذهب العالمية الماسونية (لويس عوض) وإحياء التراث وتزييفه (طه حسين، عبد الرحمن الشرقاوي).(40/8)
وكل هذه الكتابات يجب أن تقرأ بحذر وأن يكون معروفًا هدف كتابها ومصادر ثقافتهم والغاية التي يتوخونها من طرح هذه الكتابات.
ولقد قدم بعض الكتابات (الأغاني، وألف ليلة، ورسائل إخوان الصفا، وكليلة ودمنا) على أنها مراجع يمكن اعتمادها في كتابات الأطروحات العلمية.
وقد كشف الباحثون عن فساد هذه الكتب وعجزها عن أن تكون مصادر صحيحة وقدمت في خلال العقود الماضية مذاهب ونحل مضللة كالبهائية والقاديانية وعنيت الصحب بالعباس البهاء وبعض مؤسسي الصهيونية الذين قدموا كمفكرين عالميين.
لقد كشفت دوائر العلوم في الغرب فساد كثير من النظريات المطروحة في أفق الفكر الإسلامي ومناهج الدراسة والتعليم على علوم حقيقية. بينما لم تكن في الحقيقة إلا نظريات وفروض عقلية قابلة للخطأ والصواب.
ولقد تكشفت في الغرب مفاهيم جديدة حول نظرية دارون ونظرية فرويد ونظرية سارتر ونظرية دوركايم. كما تبين أكذوبة ما يسمى بالحضارة العالمية. وتعالت الأصوات باضطراب مفاهيم العلوم الاجتماعية والإنسانية.
وتبين أن هناك محاولة ملحة في إثارة النعرات الإقليمية والقومية والعنصرية وإحياء التاريخ القديم السابق للإسلام.
وهناك هجوم كاسح على اللغة العربية بقصد اختراقها لأنها الفصحى لغة القرآن. وهناك محاولات مستميتة لإحياء العاميات سواء في المسرح أو المسلسلات أو الصحافة أو القصة فضلاً عن إنكار فضل المسلمين على الحضارة والتجريب ومحاولة حجب الشريعة الإسلامية وإعلان القانون الوضعي.
كما تبين فساد مفاهيم الاقتصاد السياسي الربوي وعلم النفس الفرويدي ومفاهيم ماركس ودوركايم وسارتر وفساد فكرة وحدة الأديان أو وحدة الثقافة كما كشف الباحثون عن تناقض الكتب القديمة واستحالة اندماج الإسلام في الإيدلوجيتين الليبرالية والشيوعية.(40/9)
وتميز الإسلام بالنسبة للأديان السماوية والوضعية جميعًا بذاتيته الخاصة وكتابه الخالد النص الثابت الموثق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
أخطر القضايا التي تواجه الشباب المسلم اليوم التبعية للفكر الوافد.
التبعية للفكر الوافد:
ما يزال الشباب المسلم في هذا العصر في حاجة إلى معرفة أبعاد القضية الكبرى التي تمتلك عليهم اليوم فكرهم وينقسمون إزائها تحت تأثير الخدعة التي جرت على أقلام أتباع الاستشراق والتغريب وهي اصطناع أسلوب الغرب في مواجهة التفوق عليه والتحرر من نفوذه. وهي خدعة ضخمة كشفت الأحداث خلال أكثر من قرن كامل عن فسادها فقد استهدف النفوذ الأجنبي بها احتواء المسلمين في دائرة مغلقة هي دائرة فكره والتبعية له، والانحباس بها دون امتلاك إرادة فكرهم المشرق والمنطلق الذي يحمل لواء النظرة الجامعة وبكامل عناصر المادة والروح والذي يحمل شارة العزة والكرامة والعبودية لله تبارك وتعالى وحده من دون الأمم أو الحضارات أو الإيدلوجيات والمذاهب الوافدة.
بل إنه لمن العجب أن نجد مسئولاً يحمل مسئولية النيابة عن العرب في منظمة دولية كبرى يقول هذا القول ويردد الفكرة الباطلة المسمومة حين يقول: "إنه من الصعب إن لم يكن من المستحيل استيراد الحضارة الحديثة دون استيراد قيمها معها فنحن فيما يرى هذا التغريبي لا يستطيع استيراد المنتجات التكنولوجية للعالم الحديث دون تبني نفس القيم التي كانت خلف الحضارة التكنولوجية فالحضارة كل متكامل لا يتجزأ".(40/10)
ونقول لو أن رجلاً مثل فرنسيس بيكون، أو جلبرت سلفستر الثاني قال لقومه في مطالع عصر النهضة الأوروبية هذا القول لجعلوه أضحوكة الدهر ولكن من قومنا من يقول هذا ويردده دون أن يشعر بأنه يخدع أمته خداعًا شديدًا، ذلك أن مفهوم الحضارة المادية بمعنى المادية ليست إلا تجارب علمية في مجال الطبيعة والكيمياء والعلوم التجريبية لا تفرض في حاملها أو القائم بها أن يكون مؤمنًا بمفاهيم الخطيئة والمادية والعلمانية أو يكون مؤمنًا بأن يجعل هذا التقدم العلمي كله في سبيل تدمير البشرية بالقنبلة الهيدروجينية أو نشر أساليب الإباحة والفساد والانحراف تحت اسم الفن أو المسرح وإفساد المجتمعات وهدم الأسرة ودفع الشباب إلى الانحراف تحت اسم الوجودية أو الهيبة، إن هناك فاصلاً عميقًا بين التجربة العلمية التي يطمع المسلمون في الحصول عليها وبين أسلوب العيش الغربي الذي يطبق هذه المعطيات الحديثة، ولقد كانت معطيات المنهج العلمي التجريبي الذي بدأه المسلمون تنطلق من خلال مفاهيم الرحمة والعدل والإخاء الإنساني فاستطاع الغربيون أن ينقلوا المقايسات المادية إلى إطار فكرهم دون أن يأخذوا نفس القيم الإسلامية التي كانت تقوم عليها وقد كان ذلك سببًا هامًا من أسباب انحراف الحضارة وفسادها وظهور أزمة الإنسان الغربي المعاصر.
لقد ردد هذه المفاهيم كثير من دعاة التغريب وكانوا في ذلك مخادعين مضلين، ولم يعد مثل هذا القول يخدع أحدًا فقد تكشف الأهداف الخطيرة القائمة وراء دعوة المسلمين إلى أسلوب العيش الغربي بفساده وانحرافه وخمره وإباحياته وإن كان المسلمون قد جروا من الشوط ثمة فإنهم يعرفون الآن أن هذه التبعية هي التي اجتاحت وجودهم وأدخلتهم في الأزمة الخطيرة التي يعانونها وهم يواجهون أهواء البشرية كلها ممثلة في النفوذ الأجنبي والصهيونية والماركسية جميعًا.(40/11)
لقد كان المفكر والشاعر المسلم محمد إقبال في الثلاثينات من هذا القرن قد حذر قومه من هذه الأخطار حين قال:
على المسلم المعاصر أن يحذر الوقوع في الخطر الذي يمكن فيما ينطوي عليه الفكر الأوروبي الجديد من إلحاد وخصوصًا أن أساليب الخداع فيه كثيرة فقد انخدع به كثيرون من المسلمين كما انخدع بالفعل به بعض الدعاة في الهند فعلينا أن نعيد النظر في تفكيرنا الإسلامي من جانب نمحض هذا الفكر الجديد بروح مستقلة يقظة من جانب آخر. إن أخف الأضرار التي أعقبت فلسفة الغرب المادية هي ذلك الشلل الذي اعترى نشاطه والذي أدركه هكسلي وأعلن سخطه عليه.
وللاشتراكية الحديثة الملحدة، ولها كل هؤلاء الدعاة المتحمسين المضللين، لقد استمدت أساسها الفلسفي من المتطرفين من أصحاب مذهب هيجل، فقد أعلنت العصيان على ذات المصدر الذي كان يمكن أن يمدها بالقوة والهدف فهي إذ ليست بقادرة على أن تشفي علل الإنسانية.
وعلى المسلم أن يقدر وأن يعيد بناء حياته الاجتماعية في ضوء الميادين القاطعة في الإسلام كمبدأ التوحيد وختم الرسالة وأن يستنبط من أهداف الإسلام التي لم تنكشف إلا الآن تكشفًا جزئيًا تلك الديمقراطية التي هي الحكاية الأخيرة للإسلام ومقصده.
إن المسلم القوي الذي أنشأته الصحراء وأحكمته رياحها الهوجاء أضعفته رياح العجم فصار منها كالناي تحولاً ونواحًا وإن الذي كان تكبيره يذيب الأحجار انقلب وجلاً من صفر الأطيار والذي هز عزمه شم الجبال غل يديه ورجليه بأوهام الاتكال والذي كان ضربه في رقاب الأعداء صار يضرب صدره في اللاواء والذي نقشت قدمه على الأرض ثورة كسرت رجلاه عكوفًا في الخلوه والذي كان يمضي على الدهر حكمه وتقف الملوك على بابه رضى من السعي والقناعة وذلة الاستخدام والخشوع.(40/12)
ويقول إقبال: إن أوروبا اليوم هي أكبر عائق في سبيل الرقي لأخلاق الإنسان. أما المسلم فإن له هذه الآراء النهائية القائمة على أساس من "تنزيل" يتحدث إلى الناس من أعماق الحياة والوجود وما تعني به هذه الآراء من أمور خاصة في الظاهر يترك أثره في أعماق النفوس الأساسي الروحي للحياة عند المسلم بإيمان يستطيع المسلم أن يسترخص الحياة في سبيله.
وقد تعددت كتابات الكاشفين عن فساد التبعية وعن فساد الصنم المعبود الذي هوى. يقول أحدهم: إن المجتمع البشري اليوم قد سئم ويئس من منبع أوروبا الذي فقد زمنه، ولم يستطع خلال هذه النهضة الهائلة الطويلة أن يضيف إلى رصيد الإنسان إلا الحديد والنار والبارود والدخان والقنابل المدمرة والغازات السامة والآلات المبيدة. إن الفراغ الذي حدث في قيادة الإنسانية اليوم فراغ رهيب ولكنه فراغ لا يستطيع أحدًا أن يملأه إلا العالم الإسلامي ونقول: بل دعوة التوحيد الخالص التي حملها الإسلام وما زال محجوبًا من المسلمين.
ويقول باحث آخر: إن أولئك الرجال الذين اعتنقوا الأفكار الغربية (قومية وليبرالية واشتراكية) ظنًا منهم أنها تحرر القدس أو توحد الأمة أو تعيد للمسلمين والعرب كيانهم، هم مخدوعون وعليهم أن يعودوا إلى مفهوم الإسلام بعد أن أصبحت تلك الشعارات والأفكار هباءً منثورًا وألفاظ بلا مضمون ولا تؤدي إلى سراب خادع وهم بالتأكيد ما لجأوا إلى ذلك إلا هربًا من الإسلام وخطره على النفوذ الأجنبي والشيوعية والصهيونية التي ينتمي إليها زعماء تلك التيارات والاتجاهات ومؤسسوها أ. هـ.
وهكذا نجد أن الطريق قد وضح وأن الرؤيا أصبحت قادرة على استيعاب الأبعاد والغايات الخطيرة التي تستكن وراء التغريب وإخراج المسلمين من ذاتيتهم وهويتهم وقيمهم الأساسية.
………………………الأستاذ أنور الجندي(40/13)
على طريق الأصالة: الأريوسية الموحدة - 12
منذ وقت بعيد وعلى ألسنة عدد من العلماء والباحثين المسيحيين تتردد الدعوة إلى إعلان بشرية السيد المسيح ونبوته للخالق تبارك وتعالى ومعارضيه ما تردده التفسيرات المسيحية التي تتحدث عن ما يسمى ألوهية السيد المسيح ولقد ظلت هذه الدعوة خافتة حتى جاءت ظاهرتان خطيرتان في الأيام الأخيرة إحداهما ذلك الكتاب الذي صدر في باريس تحت اسم: The Myth of God Incarnat
والذي كتبه سبعة من كبار رجال الكهنوت يعلنون فيه إنكار ألوهية السيد المسيح ويقرون ببشريته فقط. أما الأمر الآخر فهو تلك المخطوطات التي اكتشفت في كهف قمران والتي تثبت أن السيد المسيح نبي مرسل من عند الله وليس إلهًا ولا ابن الإله وإنما هو بشر اختاره الله تبارك وتعالى واصطفاه بالنبوة وأرسله لبني إسرائيل.
وترجع نسبة الأريوسية إلى أريوس الأسقف المصري الذي عارض محاولات تفسير الديانة المسيحية ونسبتها إلى مفاهيم قديمة بالتثليث أو ما يسمى بالطبيعة المزدوجة (وكلها مذاهب وفلسفات قديمة كانت قبل المسيحية وكان أن اقتبسها بولس في تفسيراته للمسيحية وبها نقلها من الديانة الربانية السماوية إلى ديانة بشرية ويقرر الأستاذ رشيد سليم الخوري في وصيته (تموز 1977 م):
إن الكنيسة المسيحية ظلت حتى القرن الرابع الميلادي تعبد الله على أنه الواحد الأحد وأن يسوع المسيح عبده ورسوله حتى تنصر قسطنطين عاهل الروم وتبعه خلق كثير من رعاياه اليونان والرومان فأدخلوا عليها بدعة التثليث وجعلوا لله سبحانه وتعالى أندادًا شاركوه منذ الأزل في خلق السماوات والأرض وتدبير الأكوان وما لأهم الأسقف الأنطاكي مكاريوس الذي لقب نفسه أرثوذكسي (أي مستقيم الرأي) فثار زميله الأسقف آريوس على هذه البدعة ثورة عنيفة شطرت الكنيسة واتسع بين الطائفتين نطاق الجدل حتى أدى إلى الاقتتال فانعقدت المجامع للحوار وفاز أريوس بالحجة القاطعة فوزًا مبينًا.(41/1)
بيد أن السلطة التي هي أصل البلاء وضعت ثقلها في الميزان فأسكت صوت الحق ونفذت الباطل واستمر المسيحيون ممعنين في ضلالتهم والحق يتململ في قيده منتظرًا أريوسًا جديدًا يعيده إلى نصابه.
وكانت صيحة الشاعر القروي تتمثل في قوله: "لكم أتمنى وأنا الأرثوذكسي المولد أن يكون هذا الأريوس بطريركيًا أرثوذكسيًا بطلاً ليصلح ما أفسده سلفه القديم ويمحو عنا خطيئة ألصقها بنا غرباء غربيون ولطالما كان الغرب ولا يزال مصدرًا لمعظم عللنا في السياسة وفي الدين على السواء".
هذه هي صيحة الضمير التي هزت من الأعماق كثير من المسيحيون المثقفون والعلماء وفي مقدمتهم هؤلاء الخمسة نفر من رجال الكهنوت الذي أصدروا كتابهم الذي هو الحياة الفكرية والاجتماعية في أوروبا هزًا عنيفًا. إذ أن هذه الصيحة إنما جاءت بعد إرهاصات كثيرة متعددة سبقها فئة من رجال الدين في اليونان ترفض القول بألوهية المسيح.
وسبقها ظهور كتاب لأستاذ في جامعة السربون هو الأستاذ شارل كينيبر وسبقه ما أعلنه القس دافيد إدوارز من كنيسة وسمنستر أما هؤلاء الخمسة ففي طليعتهم القس موربس ولز رئيس لجنة المعتقدات في كنيسة إنجلترا وأستاذ الإلهيات في جامعة أكسفورد، وكلما تنبني الرأي الإسلامي القائل بأن السيد المسيح لم يتخذ لنفسه طابع الألوهية وإنما جعل إلهًا فيما بعد بتأثيرات وثنية في أوائل القرون الأولى للمسيحية.(41/2)
وتقرر هذه الآراء في مجموعها كما فضها الدكتور معروف الدواليبي بأن القول بألوهية المسيح وبالتثليث وبأنه ابن الله لم يعرف شيء من تلك في حياة المسيح نفسه وتجزم هذه الآراء في مجموعها بأن القول بأن المسيح ابن الله وأنه إله وأنه واحد من ثلاثة: إنما هو صورة للعقائد الوثنية في الهند والشرق الأقصى نقله إلى أوروبا وخاصة إلى روما في هجرات الشعوب "الهند وأوروبية" ثم أدخلت في عهد الامبراطورية الرومانية على الديانة المسيحية لتحتل في شكلها الجديد محل عقيدة التثليث في عقائد روما الوثنية من غير تبديل إلا في الأسماء.
وهذا هو ما سهل على الروم بعد ذلك قبول المسيحية في نفس روما الوثنية من غير تبديل إلا في الأسماء وهذا هو ما سهل على الروم بعد ذلك قبول المسيحية في نفس شكل الوثنية عندهم وكل ذلك كان مجهولاً في بلاد المسيح خاصة وقد أرسل المسيح إلى بني إسرائيل ولم يكن لديهم حينذاك شيء من ذلك، بل كانوا موحدين.
فإذا أضفنا إلى هذه الظاهرة: ظاهرة أخرى أشد قوة هي أن مخطوطات قديمة ظهرت فجأة في كهف قمران وكلما تؤكد البشرية للسيد المسيح وتنفي عنه الألوهية.
وإن هذه مخطوطات مكتوبة في القرن الأول للسيد المسيح عرفنا إلى حد تتجلى اليوم هذه الحقيقة التي ظلت مطموسة أكثر من ستة عشر قرنًا أي منذ عقد مؤتمر شيعة عام 350 ميلادية وقرر أن السيد المسيح إله وابن إله مخالفًا بذلك كل النصوص والوثائق والكتب المحصورة في ذلك العهد.
ولقد كان من أخطر الأحداث ذلك الكشف الأثري الخطير الذي وقع عام 1947 م على شاطئ البحر الميت عندما عثر أحد البدو حينما ضلت عنزاته فاهتدى إلى أحد الكهوف على تلك الجرار الحجرية الغربية التي تشتمل على مخطوطات دينية أذهلت العالم المسيحي بأسره وقد أطلق عليها كشوف شاطئ البحر الميت أو خربة قمران التي تقع جنوب مدينة أريحا (ثمان أميال).(41/3)
وقد عرف من بعد أن هذه الكتابات مما لا يقدر بثمن لأنها ألقت الضوء على مرحلة خطيرة من تاريخ المسيحية وتاريخ السيد المسيح نفسه والتي كتبت قبل مولد السيد المسيح بسنين طويلة وقد أسرعت بعثات الجامعات والفاتيكان إلى الحصول على هذه الملفات أو أجزاء منها وأنفقت الحكومة الأردنية خمسة عشر ألف دينار في سنة واحدة لشراء هذه المخلفات الأثرية العظيمة.
وقد أجريت فحوص دقيقة على هذه المخطوطات من قبل مؤتمر للمستشرقين عقد في باريس أثبتت فيها أنها وثائق حقيقية لا زيف فيها ولا تلاعب وقد وصفها واحد من أعظم علماء الآثار من المتخصصين في آثار التوراة وهو الدكتور ألبرايت من الولايات المتحدة بقوله (إنها أعظم اكتشاف للمخطوطات في العصر الحديث وأفضل تاريخ يمكن أن تكون كتبت فيه هو مائة سنة قبل الميلاد بالحساب التقديري المعروف الآن).
وقد تبين كما يقول الدكتور صبحي الدجاني إن هذه الملفات كتبت بأيدي كتبة في (دير الاسينين) الذي ما زالت خراثبه وأطلاله وبقاياه بادية للعيان إلى يومنا هذا على مقربة من الكهف الذي اكتشفت فيه أول مجموعة من هذه الملفات.
هؤلاء الاسينيون كانوا طائفة يعتقدون أنهم ورثة عهد النبوة وكانت طقوسهم وتعاليمهم وثيقة الصلة بتعاليم الدين المسيحي، وقد أودعوا جميع ما عندهم من ملفات في الكهوف عندما فروا ليأمنوا شر الاضطهاد الروماني الذي كان واقعًا عليهم في ذلك الحين.(41/4)
ويقول العلماء إن السيد المسيح عليه السلام ربما يكون واحدًا من هؤلاء الاسينيين وأنه كان متأثرًا إلى حد بعيد بطقوسهم وعقائدهم. وكان الاسينيون يعتبرون ثروتهم حصة مشتركة بينهم وأنهم يعتقدون بخلود الروح وتتحدث نصوصهم عن واحد منهم يعلو عليهم كثيرًا ويسمونه "السيد الأكبر" المدهون بالزيت أو المسيح الذي اختاره الله وتتحدث وثائق الاسينيين الذين كانوا يقيمون في الدير على مقربة من البحر الميت أنهم كانوا يشعرون بتسام روحي له شكر موجه إلى الله تبارك وتعالى الواحد الأحد.
وتتحدث الوثائق عن حياة هذا السيد بما يشبه حياة السيد المسيح وقد استقرت في الأذهان فكرة مؤداها أن هذا السيد أو المعلم الذي كان ينزل عليه الوحي.
ويقول (ج. ل. تيتشر) أحد أساتذة كمبردج: إن أحد المراجع الأساسية في ملفات البحر الأسود، إن معلم البر والتقوى الذي يتحدث عنه الاسينيون هو نفسه يسوع المسيح ولا أحد غيره.
ويقول جون كلارك صاحب بحث صاف عن الوثائق أنه من الممكن أن المسيح قد عاش قبل مائة سنة قبل التاريخ الذي أجمع الناس عليه حتى الآن وإن في ذلك جواب مقنع للذين طالما أعربوا عن شكوكهم في الأدلة التاريخية الواردة عن مولد السيد المسيح لأنها قليلة ومليئة بالمتناقضات.
ويقول إبراهيم مطر: إن هذه المكتشفات قد اقتضت دراسة استمرت سنوات طويلة ولا تزال. ويعتقد العلماء أنه قد برحت جماعة من الناس المحبة للعزلة إلى تلك الواقعة بجوار البحر الميت فرارًا من المدن الصاخبة وسكنت هذا الغور المقفر عند طرف الصحراء الموحشة فالتجأت إلى نظام رهباني شديد وحياة مشتركة شاملة.(41/5)
وقد هزت هذه المكتشفات الأوساط المسيحية والغربية ورجال الآثار حيث وجدت أدراج وأطمار ومخطوطات متنوعة وقطع من النقود الوفيرة والأواني المطبخية والجرار الفخارية كما عثر على مختلف أسفار العهد القديم ما عدا سفر (استير) فضلاً عن بضعة آلاف من المخطوطات الممنوعة ذات القيمة التاريخية والأثر العظيم وحمله القول أن كشوف كهف قمران تؤكد وجود السيد المسيح البشر النبي المرسل إلى اليهود.
وقد استتبع هذا الكشف هجرة عدد من علماء اللاهوت المسيحيين لدراسة هذه المخططات وقد نشرت مجلة (تايم) في عددها المؤرخ (11 نوفمبر 1966 م) بحثًا مطولاً تحت عنوان (انقلاب أو ثورة أجراها القس المسيحي بايك وقد صدرت غلاف المجلة صورته وهو قس مسيحي أمريكي قالت المجلة أنه يتسم لا بالجمود الفكري ولا بالجمود العقائدي بل بالبحث عن الحقيقة. وكان قد ذهب بعد ذلك وفقد هنا لك وألفت زوجته كتابًا في البحث عنه ويقول الأستاذ محمد عزة دروزة أن البحث قد كشف عن أن فرقًا من النصارى ظلت محافظة على عقيدة التوحيد وظل لبعضها أتباع كثيرون حتى أواخر القرن السادس الميلادي ثم انقرضت كلها بعد ذلك بسبب اضطهاد الدولة الرومانية بعد أن قضت على عقيدة التوحيد واعتقدت عقيدة التثليث رسميًا في مؤتمر نيقة 325 م ومن أهم هذه الفرق (الاريسيون) وهم أتباع اريوس وإليه ينسبون والمعروف أن اريوس كان قسيسًا في مدينة الإسكندرية في أوائل القرن الرابع الميلادي وكان راعيًا قوى التأثير في سامعيه واضح الحجة جريئًا في المجاهرة برأيه وقد قاوم وقتئذ ما ذهب إليه بطريرك الإسكندرية (مكاريوس) من القول بألوهية المسيخ وبنوته لله إذ قام اريوس يقرر ويعلن أن المسيح ليس إلهًا ولا ابنًا للإله وإنما هو بشر مخلوق ورسول الله وأنكر كل ما جاء في جميع الكتب الأربعة (أناجيل متى ومرقص ولوقا ويوحنا).(41/6)
وما ألحق بها من رسائل وهناك فرقة ميلتوس وكان قسيسًا في كنيسة أسيوط يرى ما يراه الاريسيون من أن المسيح عليه السلام ليس إلهًا ولا ابنًا للإله وإنما هو بشر رسول مخلوق.
وقد ذكر ابن البطريق في تاريخه وهو من رجال القرن الثالث الهجري وكان من مترجمي الخليفة المأمون – قال في بيان مذهب اريوس: إنه كان يقول إن الأب وحده هو الله وأن الابن مخلوق مصنوع وقد كان الأب حينما لم يكن الابن وقد تبعه مشايعون كثيرون وكانت كنيسة أسيوط على هذا الرأي وعلى رأسها ميلتوس.
وكان أنصاره في الإسكندرية نفسها، وتبعه خلق كثير في فلسطين ومقدونية والقسطنطينية وحكم عليه بالطرد من الكنيسة في مجتمع نيقة 325 وتكفيره بعد أن أصدر ذلك المجمع قراره بألوهية المسيح وهناك بولس الشعشاطي تحدث عنه ابن حزم في كتابه "الفصل والملل والنحل"، وكان يقول: وإن عيسى عبد الله ورسوله كأحد الأنبياء عليهم السلام خلقه الله في بطن مريم من غير ذكر وأنه إنسان لا إلهية فيه وقد أشار القرآن إلى تلك الفرق النصرانية التي حافظت على عقيدة التوحيد النقي وانقرضت قبل ظهور الإسلام وأثنى عليها القرآن وحكم بنجاة أفردها من العذاب.
(ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون. يؤمنون بالله واليوم الآخر) الآية.
(إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم) الآية.
(وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا. أولئك لهم أجرهم) الآية.(41/7)
وقد أثبتت الأبحاث الحارة أنه بتقليب (الكتاب المقدس) يتبين أنه لا يوجد به أي شيء من عقائد النصارى الحالية أي لا توجد فيه قصص الآب والابن أو الثالوث وألوهية المسيح وصلبه أو موته وقيامته أو المعمودية بمفهوم النصرانية للغفران من خطيئة آدم أو ما يشير إلى اتحاد الابن الأزلي بالأب أو ما شابه ذلك.
وإن عقائد النصرانية المشار إليها لا توجد في أقوال المسيح إلا في أقوال تلاميذه الذين آمنوا به وسمعوا عنه تعاليمه مما تعيقه معه أن مسائل التثليث وتأليه المسيح وتأليه روح القدس أمور لا أصل لها في كتب الله وفي جوهر الديانة ولكنها أمور مخترعة بعضها اخترع بمعرفة بولس: الذي كان عدوًا للمسيح وأتباعه في أول أمره كما أن المسيح لم يختره من تلاميذه فضلاً عن أنه لم يرد المسيح ولم يسمع عنه مواعظه.
وبعض الأمور اخترع بمعرفة آباء الكنيسة ومجامعها المسكونية في القرون التالية للمسيحية وأن بشارات الأنبياء التي أعلنت مجيء المسيح في العهد القديم ما ذكرت عنه إلا كونه نبيًا من أنبياء دون أي إشارة إلى أنه سيقتل أو يصلب.
ولقول دائرة معارف لاروس: إن تلاميذ المسيح الأولين الذين عرفوا شخصيته وسمعوا قوله كانوا أبعد الناس في الاعتقاد بأنه أحد الأقانيم الثلاثة المكونة لذات الخالق وما كان بطرس تلميذ المسيح يعتبر المسيح أكبر من رجل يومي إليه من عند الله.
وأشار هربرت ولز إلى أن هذه المبارد والشعائر موضوعة ولا سند لها في الأناجيل.
ومن العسير أن نجد آية كلمة تنسب فعلاً إلى المسيح فسير فيها مبادئ الكفارة والفداء أو خص فيها أتباعه على تقديم القرابين أو اصطناع عشاء رباني.
ويقول أن كلمة (أقنوم) لا وجود لها حتى في تلك الأناجيل أو الرسائل الملحقة بها بل ولا في العهد القديم.(41/8)
وقد كشف الباحثون بما لا يدع مجالاً للشك بأن المطلع على الأناجيل الثلاثة الأولى المنسوبة إلى متى ومرقص ولوقا يجد أنها لا تحوي أي إشارة عن التثليث أو ألوهية المسيح أو ألوهية روح القدس أو عقيدة الفداء (وهو تجسيد الابن وظهوره بمظهر البشر ليصلب تكفيرًا لخطيئة آدم) كما يزعمون.
وإن ما جاء في ألوهية المسيح فقد جاء بإنجيل يوحنا، وهذا الإنجيل لا يسلم به محققوا النصرانية، فعلماء النصرانية في أواخر القرن الثاني الميلادي أنكروا نسبة هذا الإنجيل إلى يوحنا الحواري وهذا يقطع بأن الإنجيل المنسوب إلى يوحنا مزور النسبة إلى يوحنا الحواري.
وقال العالم أستاولن في العصور المتأخرة (لقلة صاحب كاتلك المجلد بالمطبوع 1944 م، إن كافة إنجيل يوحنا تصنيف أحد طلبة مدرسة الإسكندرية في ذلك الوقت).
تلك المدرسة التي اعتنقت مبادئ الثالوث وألوهية المسيح والروح القدس وبشرت بها جاء ذلك في دائرة المعارف البريطانية التي اشترك في تأليفها 500 من علماء النصرانية ما نصه:
أما إنجيل يوحتا فإنه لا مرية ولاشك كتاب مزور.
يقول: أكهارن في مقدمة أبحاثه أن كثيرًا من العلماء كانوا شاكين في الأجزاء الكثيرة من أناجيلنا لذلك كان من التجوز إضافة مجموع العهد الجديد إلى الله أو إلى المسيح بل إنه يضاف إلى مصنفه فقط كما يقال حاليًا: إنجيل كذا ورسالة كذا:
كذلك فإن المسيح ما جاء أساسًا إلا لشعب اليهود يدعوهم إلى عبادة الله وحده وإلى ترك ما هم فيه من شرور وآثام، وقد ورد في (إنجيل متى اصحاح 15) لم أرسل إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة، وقد دعا المسيح تلاميذه الاثنى عشر إلى تبشير بني إسرائيل فقط لذلك لم تكن رسالة المسيح إلا رسالة قومية يهودية إلى قومه من اليهود وليست رسالة عالمية كما يزعم الرهبان والقساوسة حاليًا بل إن هذا من مخترعاتهم التي لا أساس. والإشارة السابقة تؤكد هذا النظر ذلك أن هؤلاء الاثنى عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قائلاً:(41/9)
إلى طريق أمم لا تمضوا وإلى مدينة ليسامرين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالجري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة. وقد حسم القرآن الكريم الموقف في قوله تعالى (ورسولا إلى بني إسرائيل).
وقد عقدت مجلة تايم (فبراير 1978 م) بحثًا هامًا اشتغلت به دوائر وجامعات وكنائس العالم الغربي وهو: ظاهرة الدعوة إلى إنسانية المسيح أو بشرية المسيح والمعارضة لألوهية المسيح فقالت:
إن موجة الرفض لفكرة ألوهية السيد المسيح أو ازدواج طبيعة تزداد قوة وانتشارًا في أوساط المفكرين واللاهوتيين سواء في الجامعات أو في الكنائس الغربية وهؤلاء الرافضون يعلنون أنه لا توجد في الإنجيل ولم يثبت عن السيد المسيح القول بألوهيته، ويؤكدون أنه عليه السلام بشر عادي. وتقول مجلة تايم:
إن هؤلاء الرافضين يمثلون مجموعة دولية تطالب الكنيسة الكاثوليكية باتخاذ موقف شجاع في هذه القضية.
فإذا عرفنا أن مخطوطات كهف قمران قد أهيل عليها التراب بعد قليل وحجبت عن البحث الحر ومات القس الذي ذهب إلى هناك ولم يستطيع أحد التوصل إلى شيء عرفنا إلى أي مدى تحاول دوائر الغرب مواجهة الموقف على طريقة النعامة التي تدفن رأسها في الرمال ولكن إلى متى، فإذا أضفنا إلى هذا كله ما أعلنه دكتور بركاني في كتابه عن زيف النصوص الموجودة في العهد القديم عن خلق الكون وغيره عرفنا إلى أي حد تتهاوى هذه الكتب، وذلك أن الكتب القديمة تواجه تحديًا خطيرًا نتيجة بروز منهج العلم والبحث العلمي القائم على التجربة والنظر وللمقارنة وقد جاءت الكشوف الأثرية في السنوات الأخيرة فكشفت عن زيف كثير من دعاوى الصهيونية عن إبراهيم وإسماعيل وتجاهلها وحجبها لرحلتهما إلى الحجاز وإعادة بناء الكعبة.(41/10)
ويقول رودلف بولتمان أستاذ علم اللاهوت في جامعة ماربورج (المدينة الألمانية العتيقة) إن العهد الجديد (أي الإنجيل) يجب أن يجرد من العناصر المثيولوجية (الأسطورية) التي فيه إذا كنا نريد لهذا الكتاب المقدس أن يعني شيئًا حقيقيًا ما بالنسبة إلى الرجل العادي اليوم، ويقول:
إن عالم الأناجيل يبدو في نظر الرجل المعاصر مختلفًا عن عالمنا اختلاف المريخ عن الأرض، فالكون في العهد الجديد أشبه ما يكون ببيت مكتظ ويقول إن لغة الميثولوجيا التي كانت ذات مغزى في أيام العهد الجديد والمستمدة في الدرجة الأولى من الغنوصية الإغريقية والرؤية النهوية (كرؤية يوحنا وما إليها) ويعتقد أننا لو توقعنا من العصريين من الناس الإيمان بذلك كشيء حقيقي يكون توقعنا هذا عملاً أحمق، وهكذا نرى أن البحث العلمي الغربي أصبح ينظر إلى الكتاب المقدس من كلا النواحي التاريخية والأثرية والعلمية نظرة مغايرة لنظرة التسليم القديمة التي كانت تقوم على الإيمان أولاً ثم التفكير ثانيًا وهنا يبرز مدى الخلاف بين القرآن الكريم الذين يقوم على البرهان والدليل وتقديم سنن الله في الكون والأمم والحضارات والتأمل في خلق الله والنظر في الكون لتكون وسيلة إلى الإيمان بالله وبين هذا الأسلوب.
ومن هنا نرى أن الشاعر القروي: رشيد سليم خوري قد تفتح قلبه على هذه المعاني وقال: إنه كان ينوي إعلان إسلامه ولكنه رأى أن يقوم بدور هام في المسيحية يكون قدوة لإخوانه أدباء النصرانية، وتلك عبارته: وهو أن أصحح خطأ طارئًا على ديننا قررت أن تكون الخطوة الأولى لي في إيقاظ (الأريوسية الموحدة) من رقادها الطويل حتى تزول العقبة المغلقة بين الإسلام والنصرانية وقال إني أعلن عزوفي عن أرثوذكسيتي المكاريوسيه إلى الأرثوذكسية الأريوسية ومطالبة الأرثوذكسية بالعودة إلى أصلها التوحيدي الفطري إلى الجناح الذي كان يمثله "آريوس" الذي رفض التثليث ويقول:(41/11)
"لكم أتمنى أنا الأرثوذكسي المولد أن يكون هذا الأريوسي بطريركيًا بطلاً ليصلح ما أفسده سلفه القديم ويمحو عنا خطيئة ألصقها بنا غرباء غربيون ولطالما كان الغرب ولا يزال مصدرًا لمعظم عالمنا في السياسة وفي الدين على السواء".
هذه الأريوسية التي ذكرها الشاعر القروي والتي تتردد الآن على ألسنة الباحثين اللاهوت هي التي أشار إليها الرسول صلى الله عليه وسلم في كتابه إلى قيصر الروم حين وجه إليه الدعوة إلى دخول الإسلام وحين قال "فإن أبيت فعليك إثم الأريسيين" وقد حاول مفسروا الحديث تفسيرها فقيل أنهم العشارون أو الأكارون أي الفلاحون أو الحرثين وقيل الضعفاء والأتباع أو أهل المكوس وبمراجعة كتب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس وكثري والنجاشي نجد أن العبارة ترد هكذا وإلا فعليك إثم القبط إثم المجوس، إثم النصارى من قومك فهي تحمل الملوك تبعة أهل دينهم ولم يرد فيها أي ذكر للفلاحين أو الأكاريين وهكذا وصل الدكتور الدواليبي إلى أن الخطاب حمل هرقل تبعة أهل دينه وخاصة الأريسيين (أتباع أريوس) ممن ثبت أنهم كانوا الفئة الغالبة لدى الروم وأنهم كانوا يؤمنون ببشرية المسيح وينكرون ألوهيته والتثليث والحلول وأنهم كانوا يكرهون على القول ضد ذلك وإلا فالقتل والتنكيل والتحريف لهم ولكتبهم ومعابدهم.
وهي تعني في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إن في رهط هرقل فرقة تعرف بالأريوسية فجاء النسب إليهم كما أورده ابن الأثير حين قال "قوله الأريسيين هو جمع أريسي وهو منسوب إلى أريس بوزن فعيل"وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله خبر أريوس عن كتب النصارى أنفسهم حتنيال كما قال: إن التابعين لأريوس والقائلين بمقالته قد سموا (أريوسيين) مشتقًا من اسمه.(41/12)
وكان أريوس من كبار رجال النصرانية من أهل الإسكندرية ولد 285 بعد الميلاد وتوفي 336 ميلادية وكان معاصرًا لقسطنطين وقد وقف بكل قواه ضد قرارات المجمع المسكوني الأول الذي دعا إليه قسطنطين والذي تبنوا فيه "وثنية" روما في شكل مسيحي في اجتماع لرجال الدين ضم نحوًا من ألفين وخمسمائة رجل حيث رفضت أناجيلهم التي بلغت المائة ومنها إنجيل الحواري "برنابا" ولم يقبل منها غير الأربعة المعروفة اليوم والمقبولة فقط من قبل نحو مائتين من أصل الحاضرين الذين بلغ عددهم نحوًا من ألفين وخمسمائة رجل.
وهكذا ولدت الديانة الجديدة والكاثوليكية منذ ذلك التاريخ في مطالع القرن الرابع بقرار من نحو مائتين من كهنوت الروم مدعمين بسلطة قسطنطين ولم يسمح بعد ذلك بالاعتماد على واقع المسيحية وتاريخها السابقين أو على أحد أناجيلها الباقية والبالغة (96 إنجيلاً) وقد عارض أريوس بكل عنف قرارات المجتمع المسكوني بألوهية المسيح وبعقيدة التثليث معلنًا بشرية المسيح مجاهرًا بأن الله واحد ومنزه عن الحلول بأحد وقد هزت وقفته الجبارة هذه الإمبراطور قسطنطين نفسه، لذلك عقد المجمع الثاني ممن قالوا بألوهية المسيح والتثليث وبنوة المسيح لله فقط ليناقشوا أريوس فيما يدعو إليه ولكن أريوس ظل كالطود في عقيدته فحكموا عليه بالكفر والنفي وأخذوا ينكلون بمن كان يقول بقوله.(41/13)
ويحرقون أناجيلهم وكنائسهم، حتى أرغموا الناس على التظاهر بقبول العقيدة الكاثوليكية وقد كان في الإمبراطورية الرومانية ثلاثة بطاركة في (استانبول) وأنطاكية والإسكندرية وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيميه عن كتبهم في كتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح فقال: إنه كلما عين الإمبراطور بطرقًا على هذه المدن الثلاث لا يلبث أن يظهر لهم أنه (أريوس) فيقتل أو يطرد وينكل به وبأصحابه حدث هذا وظل مستمرًا حتى جاءت دعوة الإسلام وكتب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يقول "فإني أدعوك بدعاية الإسلام: أسلم تسلم فإن توليت فعليم إثم الأريسيين وهكذا ارتفع صوت رسول الإسلام لحماية الأريسيين من مذابح الكاثوليكية. ومهد لدعوة الإسلام بالقبول الفوري لدى النصارى في كل من سوريا ومصر من بعد.
وقد ظل تاريخ الأريوسية مجهولاً كما يقول الدكتور الدواليبي الذي نقلنا عنه هذه النصوص التاريخية، حتى جاء اليوم، الذي يتحدث فيه كتاب الغرب من لاهوتيين وغيرهم عن هذه الدعوة التي وأدتها الكاثوليكية وبعد أن كشفت الأبحاث العلمية، ومفاهيم الإسلام المنقولة إلى الفكر الغربي عن فساد التفسيرات التي أضافها بولس وغيره إلى حقيقة الدين المنزل على السيد المسيح وأنها معارضة للفطرة ولسنن الله في الكون والمجتمعات وعلت اليوم الصيحة التي سوف يحتاج في السنوات القادمة كل الركام البشري دعوة (بشرية المسيح) ووحدانية الله تبارك وتعالى من غير حلول ولا تثليث.
……………الأستاذ أنور الجندي(41/14)
سلسلة دراسات إسلامية معاصرة الفرويدّية
أنور الجندي
منشورات المكتبة العصرية
صيدا - بيروت
الفرويدية
كان علم النفس قبل هذا القرن يبحث في الإنسان، وكأنه روح بلا جسد؛ وكان يهمل دراسة الحيوان وبعض بني الإنسان كالأطفال والبدائيين والشواذ، وكان معظم دراسته للإنسان كفرد منعزل.
أما الآن، فقد سيطرت العلوم الوضعية - كالطبيعة والكيمياء وعلم الحياة - عليه منذ أواخر القرن الماضي، وأصبح يدرس الإنسان كأنه مادة فقط. ثم انحرف عن أسلوب العلاج إلى أسلوب التقرير، فأصبح "جبريًا" يرى أن الإنسان مسير أمام جملة من العوامل التي يحكمها العقل، وأصبح عاجزًا عن أن يخلق المثل الأعلى لأنه غير قادر على تثبيت قيم الأشياء. ولأنه علم وضعي يسير في نطاق ضيق من التجارب، لم يدع علم النفس إلى المجاهدة؛ وإنما دعا إلى ###30### الاستجابة للأهواء والرغبات المذلة؛ لم يرفع الإنسان أمام نفسه إلى الاستعلاء فوق الغرائز؛ ولكن دعاه إلى الاستجابة لها، ولقد كان من ذاته، ولكنها وسيلة إلى مراقبة السلوك، وقد التمس الإسلام طابع الاعتدال في السلوك، والتوسط في الحركة. وقد نما علم النفس في العصر الحديث على الأسس التي رسمها المفهوم الإسلامي، غير أنه لم يلبث أن تحول تحت تأثير المذاهب الفلسفية، وخاصة الفلسفة المثالية، ثم لم يلبث أن انحرف بعد ظهور الفلسفة المادية حتى انتزع كل مقومات التوجيه والخلق، وأصبح علمًا إحصائيًا محضًا يتوقف عند تصوير الواقع، ولا يتعرض للعلاج، ثم هو يتحول عن طبيعة العلوم النفسية والاجتماعية في الدعوة إلى ضبط النفس وحماية الإنسان ومعارضة الشهوات المذلة، إلى الإسراف في الدعوة إلى الإطلاق.
وهذه النقطة بالذات هي مفرق الطريق عن قيام مفهوم علم النفس على تقدير كامل للإنسان روحًا وجسمًا، وبين تحول علم النفس إلى المادية وسقوطه تحت سيطرة المدرسة المنكرة للدين جملة.(42/1)
ولقد ظهرت مدرسة علم النفس الحديثة ممثلة في ثلاثة هم: فرويد، وادلر، ويونج، الذين سرعان ما ظهرت ###31### عوامل الخلاف بينهم، ثم علا شأن المفهوم الأبعد عن الفطرة والذي رده العالمان الآخران؛ مفهوم فرويد في إعلاء الجنس. جراء استسلام علم النفس الحديث إلى الجبرية أثر بالغ في انبعاث روح الشك في العقائد والأديان.
ولأنه علم تجريبي، فقد عني بالحالات الشاذة، وجعلها أساس البحث، من غير أن يقيم المعايير التي يستطيع المرء أن يتخذها لنفسه غاية، وعلماء النفس يصفون حالات الجماعة ونفسية الجماهير بما يحكمها من عقلية الرعاع، وبما يشينها من العقل الباطن غير المفكر؛ وكان حقيقًا بكل ذلك أن يدفع بالعالم إلى الشك، وأن يزعزع إيمان الناس في سمو المثل الأعلى، فقد أصبح الفرد يرى نفسه غير ملوم، لأنه يتخذ من وجوده في الجماعة ذريعة للتبرؤ.
2- يتصل علم النفس بالأخلاق اتصالا أساسيًا؛ فالأخلاق معرفة وسلوك، وعلم النفس هو ما كان يطلق عليه علم السلوك. وقد قطع الفكر الغربي الإسلامي شوطًا طويلا في مجال دراسة النفس مستمدًا مفاهيمه الأساسية من القرآن الكريم؛ هذه المفاهيم التي تتمثل في حقائق مترابطة، ألقت الضوء الحقيقي على هذه اللطيفة الربانية. وقد عمد الفكر الإسلامي في معرفة النفس أن يكون سبيلا إلى إصلاحها ###32### وتهذيب الأخلاق الذي لا يتأتى إلا بمعرفة عيوب النفس حتى يمكن إصلاحها، فليست معرفة النفس هدفًا مجردًا في.
3- تقوم نظرية فرويد في النفس على الأصول الآتية:
أولا: الحياة النفسية للإنسان المسيطر على كل أفعال الإنسان.
ثانيًا: إن غرائز الإنسان هي التي تحكمه وتسيطر على نشاطه، وإن الجانب المسمى بالروح لا وجود له على الإطلاق.
ثالثًا: الدين والأخلاق ليسا قيمًا أصيلة في الحياة البشرية، ولكنهما انبثاق جنسي.
رابعًا: القيم خرافة، وهي نفاق العقل للنفس والمجتمع.
خامسًا: تفسر النفس كلها من خلال الجنس.(42/2)
سادسًا: رد كل الحوافز الإنسانية إلى الجنس.
ويرى فرويد أن الإنسان في جوهره حيوان كغيره من الحيوانات، وأن الإنسان يولد جنسيًا خالصًا، وأن كل أعمال الطفل تعبير عن طاقة الجنس، وأن الطفل يعشق أمه بدافع الجنس، ثم يجد الأب حائلا بينهما، فيكبت هذا العشق، فتنشأ في نفسه "عقدة أوديب" والطفلة تعشق أباها بدافع ###33### جنسي، فتكبت هذا العشق، فتنشأ في نفسها "عقدة اليكترا".
وهكذا يدخل فرويد الإنسان حظيرة الحيوان، ويثبت أنه عبد لنزواته، وأن العقل الباطن هو المسيطر الفعال في توجيه الإنسان، وأن غرائزه وميوله الفطرية، هي الأساس لسلوكه في الحياة، وهي التي تحكمه، وتسيطر على نشاطه.
ومن نظرية فرويد ظهرت نظريات في الأدب والفن والأخلاق، وفي مقدمتها: السريالية ثم الوجودية.
ولكن هذه النظرية لم تكن مقبولة منذ اللحظة الأولى بين علماء النفس، وقد وجدت معارضة شديدة من حيث معارضتها للفطرة، ومن حيث تغليب عنصر الجنس ورد كل حوافز الإنسان إليه.
4- من حيث المصادر، فقد اعتمد فرويد على الأساطير القديمة، وعدها حقائق علمية، كذلك فقد اعتمد على حالات المرضى الفردية، واتخذ منها أسسًا عامة للأسوياء، وقد أشار العلماء إلى أن فرويد أقرب إلى المتنبئين منه إلى العلماء، وأنه مخترع للفرضيات أكثر منه مجربًا لها، وأنه يرمي بنظرياته وآرائه دون أن يقدم لها البرهان العلمي والسند الواقعي، وأنه يفترض، ثم يصدق ما يفترض ويبني عليه، ###34### وكأنه حقيقة علمية لا يأتيها الباطل، وأن ملاحظاته تتعلق بالمرضى على الأخص؛ ومن ثم يجب ألا تعمم الاستنتاجات النابعة منها بحيث تشمل الأشخاص العاديين، وبخاصة أولئك الذين وهبوا جهازًا عصبيًا قويًا وسيطرة على أنفسهم.(42/3)
كذلك أشار العلماء إلى أن نقطة الضعف الأساسية في فرويد كعالم، هي أنه اتخذ من دراسة نفسه وطفولته قاعدة للتعميم والوصول إلى قوانين عامة، وقد ترك فرويد من كتاباته عن نفسه وعن حياته ما يثبت أنه كان يتخذ من تحليل أحلامه وهواجسه ومشاكل صباه كيهودي في النمسا المتعصبة ضد اليهود قاعدة لكل تصميماته.
5- خالف فرويد في نظريته كلا من: ادلر ويونج وستيكل.
وقال يونج: إن آراء فرويد ذات جانب واحد، وإنها غير ناضجة كل النضوج، وإن مصدر سرور الطفل في الحصول على الغذاء يجب ألا يوصف بأنه جنسي أبدًا، وذلك على اعتبار من أن الدافع الجنسي، لم يتميز في نفسه بعيدًا عن الميل الابتدائي للحياة، وينكر يونج أن اللبيد جنسي بكليته وهو يعد اللبيد أنه إرادة الحياة.
ويقول يونج: إن الجنس ليس أساس الدوافع ###35### الإنسانية، وإنما هو دافع واحد من عدة دوافع.
وهو يخالف فرويد في صميم النظرية، ويرى أن الدافع الإنساني الأول هو الرغبة الملحة في التفوق، وأن الغريزة السائدة في الإنسان هي الرغبة في التفوق والسيادة، وليس الحب، ويقرر أن إرادة القوة، هي الإرادة الصادقة الأصيلة في نفس كل إنسان، ويرى ادلر أن النقص يكاد يكون هو السبب الأساسي للنبوغ.
وقد دعا ادلر إلى نبذ أهمية الغريزة الجنسية النبذ كله، وأرجع تكوين الشخصية ونشأة الأمراض العصبية إلى مجرد الرغبة في القوة وحاجة الإنسان إلى التعويض عن أي نقص في كيانه.
ويقول ادلر: إن الدافع الجنسي ليست له هذه الأهمية الشاملة التي ينسبها فرويد إليه، وأن حافز توكيد الذات (Self asnertive empulse) وليس الدافع الجنسي هو القوة السائدة الإيجابية في الحياة.
وقال ادلر: إن الطفل قبل الخامسة لا يعرف القيم والمعايير الخلقية، بل يكتسب أسلوب الحياة بالقدوة والمثال من البيئة التي يعيش فيها.(42/4)
ويقرر ادلر الاضطرابات التي تعتري حياة الأطفال ###36### النفسية ترجع إلى عدم شعورهم بالمحبة؛ وهو يذهب إلى أن قسوة المستبدين وكراهيتهم ترجع إلى ذلك العامل الذي يثبت في نفوسهم عند الطفولة، وأن الأبناء الذين يفقدون حب آبائهم، يصبحون مصدر مشكلات كثيرة، لأن الطفل الذي يلتمس الحب، فلا يجده، يركبه الحسد والغيرة، ويميل إلى سلوك يحاول به لفت الأنظار وإثبات سيطرته، وقد يدعى المرض أحيانًا التماسًا للعطف.
كذلك أثبت يونج ومكدوجل أن العقل الباطن ما هو إلا خرافة، وقد نوقش فرويد في مسألة العقل الباطن وعقدة أوديب، فأنكرهما أخيرًا.
6- ولقد توالت المعارضات لمفاهيم فرويد في النفس، ولكن نظرية فرويد شقت طريقها في عنف، وسيطرت على جميع ميادين الدراسات النفسية، وكانت من ورائها قوى تدفعها إلى الأمام.
وقد سجلت بروتوكولات صهيون إشارة إلى فرويد فقالت: "يجب أن نعمل لتنهار الأخلاق في كل مكان، فتسهل سيطرتنا؛ إن فرويد منا، وسيظل يعرض العلاقات الجنسية في ضوء الشمس، لكي تبقى في نظر الشباب شيء ###37### مقدس، ويصبح همه الأكبر هو إرواء غرائزه الجنسية، وعندئذ تنهار أخلاقه".
ومن هنا يرجح الكثيرون أن هدف فرويد كان داخلا ضمن المخطط الذي رسمته الصهيونية للسيطرة على العالم بعد تدمير أخلاق البشرية.
ولقد امتد أثر فرويد نتيجة لذلك حتى شمل الأدب والقصة والسينما والمسرح والإذاعة والتليفزيون، ووصل إلى بيوت الأزياء وأدوات الزينة. وفي أصول نظرية فرويد يبدو هو غير منطلق مع الفطرة، بل معارضًا لها، ذلك أنه يرى أن التسامي نوع من الشذوذ، وأن الأخلاق تتسم بالقسوة، وتعوق التطور، كل ذلك دون سند علمي، وأنه في أخطر من هذا كله يقف عند عرض المسائل، ثم يترك الشباب بدون توجيه رغبة في إثارة القلق والاضطراب.(42/5)
ويقرر الباحثون أن ليهودية فرويد دخلا كبيرًا في صياغة الكثير من نظرياته وفرضياته وتعليلاته، ذلك لأنه كان ينتمي إلى الحركة الصهيونية التي أقل ما ينسب إليها حب المال؛ والانغلاق، والتعصب؛ ومن هنا انبعثت فلسفته التي وصفت بأنها ميكانيكية جبرية؛ لأنها تنظر إلى الإنسان كأنه آلة عديمة الحرية، خاضعة كل الخضوع لقوى خفية لا يمكن التغلب ###38### عليها إلا بالحيلة، وهو بذلك قد فرض على علم النفس مبدأ الجبرية، وأنكر الإرادة الفردية القادرة على مقاومة الغرائز.
وقد وصف فرويد بأنه كان يمر بأزمات نفسيه، وهو يعالج مريضة أشبه بالهوس الجنسي – هي سيسلي المصابة بعقدة أوديب – وبينما فرويد يقوم بعلاج هذه الفتاة يتكشف له في نفسه أنه مصاب بعقدة أوديب، وأنه كان يتجه إلى أمه، ويغار من أبيه، وأنه اتهم أباه ظلمًا بجريمة أخلاقية رهيبة.
إن أسطورة أوديب الإغريقية التي تتحدث عن ابن ارتكب جريمتين، فقتل أباه، وارتكب خطيئة أخرى، ثم عافت نفسه بأن فقأ عينه، هذه الأسطورة جعلها فرويد حقيقة يؤمن بها، ويفسر بها سلوك الآخرين، وقد رسمت وقائع حياة فرويد صورة شخصية مضطربة مريضة جديرة بأن تبحث عن من يعالجها، لا أن تكون مصدرًا لرسم أسس لدراسة النفس البشرية.(42/6)
فقد كان فرويد مجموعة من العقد النفسية والعادات الغريبة، ولم يستطع أن يشفي عقله الباطن من هذه العقد النفسية إلى آخر حياته، كان ينسى الأسماء، ومنها اسم أحد معارفه الدكتور فرويد، وكان من يتبع أوراقه التي تدخل في ترجمة حياته فيحرقها، وكان يؤمن بأنه سيموت في نهاية الحرب ###39### العالمية الأولى، فمات في بداية الحرب العالمية الثانية، وكان يدخن عشرين سيجارًا في النهار ليهدئ من ثوراته العصبية، وكان فرويد عرضة للإغماء على أثر المفاجآت، وكانت مرارة الطبع خلة ملازمة له في علاقاته بغيره، وكانت لأحلامه وجوه خفية ترمز إلى دلائلها في سريرته الباطنة، وكانت له ضروب من القلق، تنم على باعث من بواعث الحيرة المكتومة وكان أطهر حالاته الخاصة أنه يحارب التشبث في العقائد الدينية والعادات الخلقية، ولكنه يتشبث بالتفسير الجنسي للعقائد والعادات تشبثًا يربو في إصراره وشدته على تعصب المتعصب اللدود لمذهبه ودينه.
ومن قوله ليونج: عدني أنك لن تتخلى يومًا عن الإيمان بالتفسيرات الجنسية، غير أن يونج لم يلبث أن تزحزح تفكيره شيئًا فشيئًا عن ذلك الإغراق في العصبية الجنسية التي تحيط بكل على، ويتغلغل وراء الأسرار في أعماق كل طوبة، وقد خالفه تلميذه الفرد ادلر كما خالفه يونج.
وكان في طفولته ينسى نفسه ليلا في فراشه، وكان يخشى من السفر بالقطار، ويحضر إلى المحطة قبل موعد قيامه بنحو ساعة، وكان دائم العزلة، لا يسمح لأحد أن يصاحبه طويلا.(42/7)
###40### 7- ولقد حاولت نظرية فرويد السيطرة على مناهج التعليم والتربية والدوائر العلمية، غير أنها في السنوات الأخيرة، انكشف عوارها، وبان فسادها حتى إن الأطباء النفسانيين الذين اجتمعوا لإحياء ذكرى فرويد في مدينة شيكاغو عام 1956، وعدتهم نحو أربعة آلاف، قد فوجئوا بحملة عنيفة على فرويد ومذهبه، يتولاها رجل مسؤول عن مركزه العلمي هو الدكتور برسيفال بيلي مدير معهد النفسيات بولاية ألنيواز. وخلاصة حملته: أن البقية الباقية من طب فرويد قليلة لا يؤبه بها، وأن آراءه لا تضيف شيئًا إلى القيم الإنسانية لأنه يرتد بالإنسان إلى أغوار الباطن، ويهمل جانبه المنطقي الشاعر، وأنه لم يكن يفهم المرأة. ولم يكن يتذوق الموسيقى، ولا يحس جلال العقيدة.
وهكذا يرى المراقبون أن العالم استطاع أن يضع فرويد على المشرحة قبل أقل من عشرين عامًا من وفاته، وأن الدكتور أرنست جونس هو تلميذه الوحيد من غير اليهود.
ومما أورده أرنست جونس في كتابه "حياة وأعمال فرويد" خطابه إلى صديق له يقول: لست في الحقيقة رجلا من رجال العلم، ولا من رجال الملاحظة ولا التجربة، لست مفكرًا، أنا لست إلا مغامرًا بطبيعة مزاجي وتكويني، ولديَّ ###41### كل ما عند المغامر من فضول ومثابرة وجسارة.
ويقول الباحث: إن نظرية فرويد عن العقل الإنساني لا تقوم على أكثر من افتراضات خيالية، انتزعت مادتها من الأساطير والتخمينات التي سبق رفضها في مجال الدراسات المتعلقة بتاريخ الإنسان، ونقول: والتي جاءت حقائق الأديان، وفي خاتمها الإسلام لتقضي عليها، وتكشف عن زيفها وعدم صلاحيتها لأن تكون قاعدة لأي مذهب علمي في فهم النفس الإنسانية.(42/8)
وقد كشفت الأبحاث التي نشرها الكتاب اليهود في السنوات الأخيرة عن علاقة جذرية وعميقة بين نظريات فرويد وبين نصوص التلمود، وقد ظلت هذه النظرية تخدع مئات العلماء ببريقها الزائف سنوات طويلة حتى أعلنت هذه الحقائق، ومن بين الذين كشفوا هذا السر الدكتور صبري جرجس في كتابه: "التراث اليهودي الصهيوني في علم النفس ونظرية فرويد" حيث أشار إلى التركيز الخطير الذي قامت به القوى المسيطرة على الإعلام والآداب والفنون والجامعات في الغرب على نظرية فرويد واحتضانها على هذا النحو المريب، بالرغم من أنها لم تكن صحيحة علميًا، بينما أخفتت أصوات النظريات الأخرى الأكثر قربًا من الحقائق العلمية، يقول ###42### الدكتور صبري جرجس: لفت انتباهي حقيقة كبرى، تلك العلاقة الوثيقة بين فرويد رجل العلم والتحليل النفسي والفكر العالمي من ناحية، وبين التراث اليهودي الصهيوني والصهيونية، والعمل السياسي الديني العنصري من ناحية أخرى، وكما تبدي لي ليست علاقة مصادفة، ولكنها علاقة أصل ومسار وهدف، وأشار إلى أن فرويد وأصحابه الذين حملوا لواء فكرته من بعده كانوا جميعًا من الصهيونية "ساخس، رايك، سالزمان، زيلبورج، شويزي، وتيلز، فرانكل، كاتز، فينكل" وأشار إلى عدة عبارات وردت في كتابات يهودية لفتت نظره إلى ما يراه الآن من علاقة بين الصهيونية وبين نظرية فرويد، وليس ذلك إلى ما أشار إليه باكان في بعض خفايا التراث اليهودي الصهيوني التي لها علاقة بالتحليل النفسي، بل إلى ما ذكرته صراحة الكتابة "ترود، وايز، مارين" عن: كيف تحتقر اليهودية العقل الغربي مزيفة في سبيل ذلك وقائع الماضي وأحداث الحاضر، آمنة بعد ذلك من الافتضاح، ومطمئنة آخر الأمر إلى التصديق.(42/9)
ثم يتساءل الباحث: كيف لم يتنبه أحد، وقد ناهز عمر التحليل النفسي الفرويدي سبعين عامًا؟! وكيف لم يتنبه أحد إلى هذا الأمر؟! وكيف فاتت هذه العلاقة بين الفكر التحليلي ###43### والفكر الصهيوني جميع من شغلهم التحليل النفسي: من تابعوه ومن نقدوه.
ويقول: إن مفاهيم التحليل النفسي، قد قدمت في أواخر القرن الماضي في إطار علماني؛ ثم ما لبثت الأبواق الخفية والمقَّنعة للدعاية اليهودية والصهيونية أن أحاطت هذا الفكر وصاحبه بهالة من النزاهة الفكرية، منعت حتى أعنف معارضيه من أن يستريبوا حتى في أصوله، وإن أنكروا مفاهيمه، ذلك على الرغم مما تسرب في كتابات فرويد وأصحاب فكره من عبارات تكشف عن يهودية صهيونية واضحة التعصب.
وقد فات مدلول هذه العبارات الأكثرين من الناس، حتى رفعت الصهيونية العالمية كل الأقنعة التي تتستر وراءها، وظهرت واضحة لا خفاء فيها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية من ناحية؛ وحتى انصرف أحد أبنائها "دافيد باكان" ينقب في حفريات التراث اليهودي الصهيوني محاولا الربط بينه وبين الفكر الفرويدي.(42/10)
ويقول: إن الفكر الفرويدي المنبعث أصلا من التراث اليهودي والصهيوني، كان يهدف أساسًا إلى تقويض الأسس التي تقوم عليها حضارة الغرب، وإن هذا الفكر لم ترد به أية ###44### دعوة انحلالية صريحة "وكذلك الوجودية" وإنما كانت الإيحاءات الانحلالية تتخلل المفاهيم الفرويدية، ثم قامت أجهزة الإعلام الصهيوني بتقديم هذه المفاهيم لتنظيم الأدب والفن على نحو يغري الناس بالتحلل، وييسر لهم سبيله، والمعروف أن الدعوة الفنية، وخاصة إذا مست "قيمًا" يحرص الناس على بقائها، قد تكون أشد فاعلية في زعزعة إيمانهم بها من الهجوم الجريء السافر عليها. ويلاحظ الدكتور صبري جرجس أن التحليل النفسي "الفرويدي" يكوَّن لدى أصحابه وحدة عضوية وأيديولوجية، إما أن تقبل كلها، أو ترفض كلها، ولا سبيل فيها إلى التجزئة، ثم يصل من ذلك إلى الحقيقة التي تقول: بأن هناك علاقة أكيدة بين نظرية فرويد "في النفس" التي هزت الفكر الإنساني كله، وأثرت فيه، وبين الصهيونية ومخططاتها، وإن هذه النظرية وتطوراتها تسير جنبًا إلى جنب مع المخطط الصهيونية، وأن التحليل النفسي الذي ابتدعه فرويد مع ظهور الحركة الصهيونية منذ سبعين عامًا، لم يكن علمًا مجردًا، ولكنه وثيق الصلة في جوانبه المرضية والحضارية معًا بالفكر اليهودي الصهيوني الذي ظهر في التراث منذ عهد التوراة وما بعدها.
###45### وأنه من أجل ذلك سخرت الصهيونية اليهودية حربها الإعلامية والدعائية لنشر مفاهيمه والدعوة له في أوسع نطاق مستطاع، حتى أصبحت الفرويدية من أقوى العوامل أثرًا في التوجيه الفكري والخلقي لعالم الغرب.
وقد كان فرويد يهوديًا قحًا، وعضوًا عاملا وفخريًا في بعض منظمات الصهيونية، وصديقًا شخصيًا لهرتزل أبي الصهيونية.(42/11)
وعندنا أنه لا يستبعد أن يكون قد دخل عمله ضمن مخطط البروتوكولات لأنه جرت الإشارة إليه فيها على أنه دعامة من دعامات الخطة إلى تدمير العالم والسيطرة على الأمم والمجتمعات العالمية عن طريق هدم قيمها وأخلاقياتها.
ويقول الدكتور صبري جرجس أخيرًا: "إن العلاقة العضوية والمصيرية، والمصلحية بين اليهودية والصهيونية والاستعمار الإمبريالي من ناحية، وبينها وبين التحليل النفسي الفرويدي من ناحية أخرى، قد جعلت من الحركات الثلاث "ثالوثًا" قوامه العنصرية، وروحه الاستعلاء، ووسيلته الإفساد، وهدفه الاستغلال، وهو بشكل يواجه البشرية ومستقبلها"
ويمكن العودة إلى ما دعت إليه الصحافة الصهيونية في ###46### أعقاب عدوان يونيه 1967 حين طالبت بالمزيد من الحرب النفسية ضدنا، ودعت إلى استخدام علم النفس الفرويدي بشكل أعمق وأدق؛ وذلك لأن علم النفس علم يهودي، وخليق باليهود بصورة تجعلهم أقدر الناس على استخدامه.
وقد تبين في وضوح أن تعاليم فرويد تؤازر الدعوة التلمودية إلى إشاعة الفاحشة في الناس ومعارضة التعاليم الدينية التي تدعو إلى ضبط الغرائز ومغالبة الشهوات وإرساء القيم الأخلاقية، وهي أساس من أسس الفلسفات الحديثة التي تدعو إلى إطلاق الغرائز وإشعالها بالفنون واستثارتها بالصورة والكلمة والملابس.
وقد نبذت بلاد كثيرة طريقة فرويد في العلاج النفسي والعقلي، وأعلنت فساد نظريته التي ترد كل الاضطرابات النفسية إلى أسس جنسية بحتة.
وقال الدكتور ناثان كلاين، الطبيب النفسي السوفيتي: إن هذه النظرية ليست سوى معول هادم لعقول الشباب، ومخدر مميت لنفوس أبناء الشعب، وهو يرجح عليها نظرية إيفان باملتوف التي ترى أن البيئة هي المسؤول الأول عما يصيب الإنسان من انحراف نفسي وعقلي.
والإسلام يرد كلا النظريتين، ويرى أن كلا منهما ترتكز ###47### على واحد من جملة عوامل هي مصدر الإرادة الإنسانية.(42/12)
8- وفي أخطر نظرية قدمها فرويد أثبتت الأبحاث التجريبية خطأه وفساد رأيه، وهي مسألة الطفولة، وما يدور حولها، فقد أعلن فرويد بأن معارضة رغبات الطفل في صغره ومحاولة الأهل في أن يروضوه على النظام وأصول السلوك تؤثر في تصرفاته إذا كبر.
ولذلك فإنه يجب أن يترك الطفل حرًا بدون توجيه حتى لا يكون ذلك مصدر تعرضات وعقد في حياته.
وقد روج علماء النفس والتربية لهذه النظرية على نحو اتخذ منها وسيلة لهدم أصول التربية وبناء الشباب تحت تهديد وهمي، غير أن العلماء الذين قاموا بإحصائيات وتجارب في البيئة نفسها، تبين لهم فساد هذه النظرية وعدم جدواها، وأن بعض العلماء الأمريكيين أعلن بعد دراسات طويلة بضرورة استخدام الضرب كوسيلة لتقويم الطفل، وقيد الضرب؛ وقد التقى في ذلك بعلماء المسلمين القدامى، أمثال الغزالي وابن خلدون والقابسي.
كذلك دعا إلى أخذ الأبناء بالرفق واللين حتى لا يكون نقدهم مصدر الإحساس بالحيرة والقلق، وهو ما دعا إليه علماء المسلمين أصلا.
###48### وقال: إن مسلك الطفل لا يتأثر بعامل واحد كما ذكر فرويد، ولكنه يتأثر بعدد كبير من العوامل، منها: البيئة والوسط والحالة الاجتماعية، فلا سبيل لإخضاع الطفل إلى نسق واحد.
وقد أجرى الدكتور اسكندر توماس عددًا من البحوث بمعرفة فريق من الأطباء النفسيين، انتهى منها إلى أن نظرية فرويد لم تكن مطلقة، وأنهم درسوا في تجربتهم أحوال 158 طفلا غير منحرفين، منهم الفقراء والأغنياء، وقد نشأ الأولاد أصحاء مستقيمين بالرغم من القيود القاسية في تربيتهم، ودل ذلك على أن مسلك الطفل لا يتأثر بالتوجيه الأبوي، ولا بالزجر أو بالضرب.(42/13)
كذلك أثبتت الدراسات العلمية بما لا يقبل الجدل أن الدافع الجنسي يأتي في مرتبة أدنى من كثير من الدوافع الأخرى كالدافع إلى الهواء أو الشراب أو المال. ثم إن هذا الدافع الجنسي يخضع للتربية والتوجيه، بمعنى أننا نستطيع تربية الإنسان على العفة بحيث يضبط دافعه الجنسي، ويتحكم فيه.
وبذلك تكون العفة أمرًا ليس ممكنًا فحسب، بل ضروريًا، كذلك أثبتت الأبحاث أن هناك تنظيمًا طبيعيًا ###49### للشهوة في الإنسان بحيث يستطيع كثير من الوسائل كالرياضة الجسدية أو الروحية أو الشعر أو الموسيقى أن تستوعبه.
كذلك قال الباحثون: إن دعوى فرويد الأساسية هي أن المرض العصبي "العصاب" ينشأ عن أمور جنسية طفولية مكبوتة، ولكن البحث أثبت أن الأمور الجنسية الطفولية المكبوتة ليست وقفًا على الذين …أصيبوا بعصاب في وقت ما في حياتهم، ولكنها موجودة عند كل إنسان، وتشكل عاملا هامًا في حياته.
وهكذا نجد أن ما دعا إليه فرويد من أن الطفل يعاني مما أسماه كبت الميول الجنسية، ليس إلا أكذوبة، أراد بها تبرير الإباحة، وأثار بها الخوف في النفوس حتى يحول بين إعداد الشباب وتربيتهم وإعدادهم إعدادًا خلقيًا، وأن ما يرمي إليه من ترك الميول حرة تسلك سبيلها إلى ما تشاء، وأن ييسر لها هذا السبيل ليس إلا دعوة صريحة إلى الإباحية.
9- وقد تختلف المذاهب الغربية عن الماركسية في تفسير فرويد، ولكنهما يجتمعان في الواقع عند المادية والجبرية، ونظرية فرويد هي كالجبرية.
ووجه الخلاف الوحيد هو أن نظرية فرويد في نظر الماركسيين، وضعت لتبرير النظرية الفردية وحذفها، غير أنهم ###50### يرون أن فرويد عامل هام يحقق أهدافهم في تحطيم المقدسات، وتلويث المجتمعات، وتصوير القيم والحدود، والضوابط الدينية والأخلاقية على أنها قيود ابتدعها المجتمع لحماية ذاته، فإذا تحطمت، كسبت الماركسية نصف المعركة. ولا ريب أن المخططات كلها ملتقية، وأن الماركسية تتصل بنسب إلى الفرويدية.(42/14)
وتلتقي الماركسية والفرويدية في أكثر من نقطة، وأهمها: النظرة المادية والحيوانية إلى الإنسان، تلك النظرة التي تنفي الجوانب الروحية والمثل العليا والأخلاق، وتؤمن بعالم الجسد وحده، وبالواقع الذي تدركه الحواس وحده، ولكنها تختلف مع الماركسية في تقديم أيهما: لقمة العيش، أو الجنس.
وهكذا نرى أن أبرز تفسيرين للتاريخ والإنسان، وهما الاقتصادي والجنسي مصدرهما يهودي، والإسلام يرفض خضوع الإنسان للتفسير الاقتصادي أو الجنسي أو المادي جملة. والمعتقد أن الفكر الإنساني قد تجاوز هذين التفسيرين تمامًا بعد أن تمزقت النظريتان بالتناقضات، وثبت فشلها بالتجربة، مما أكد عجزهما عن البقاء والاستمرار.
…………………الأستاذ/ أنور الجندي(42/15)
سلسلة دراسات إسلامية معاصرة الجنس
أنور الجندي
منشورات المكتبة العصرية
صيدا - بيروت
الجنس
علت صيحة "الجنس" في السنوات الأخيرة، وحاولت أن تأخذ حجمًا أكبر من حجمها الطبيعي في مجال الثقافة، والصحافة والسينما والمسرح، ولم يكن ذلك ناتجًا عن وجود مشكلة أساسية بقدر ما كان نقلا عن أجواء أخرى، وبيئات مغايرة، وظروف غير طبيعية.
ذلك أن الجنس في نطاق الفكر الإسلامي والمجتمعات الإسلامية، لا يشكل ظاهرة خاصة منفصلة عن الحياة الاجتماعية، وليست له أزمة معينة فرضتها عوامل قديمة، تغيرت من النقيض إلى النقيض.
ذلك لأن الإسلام بطبيعته يلتمس فطرة الإنسان ويعترف برغائبه، ويفتح له الطريق إلى تحقيق الصلة بين الرجل والمرأة على أحسن أسلوب وأسمى طريق.
###54### ومن ثم فلا تقوم في المجتمع الإسلامي حالة من حالات التحدي التي تدعو إلى الصراع النفسي بالمنع، أو الكبت أو احتقار الصلة الطبيعية القائمة بين الرجل والمرأة على النحو الذي شهدته بيئات الغرب، والتي كانت مصدر الدعوة الصارخة إلى إطلاق الجنس، وتحرير وسائله وأسبابه.
ذلك أن الأزمة التي عرفتها أوروبا والتي جاءت من تفسيرات قدمت للدين على أنه دعوة إلى مطالبة البشر بأن يزهدوا في رغائد الجسد، وأن يكبتوا النوازع الفطرية إعلاءً للروح وسموًا بها، وبذلك علت الدعوة إلى إنكار الصلة الطبيعية مع المرأة، ووصفت المرأة بأنها شيطان مريد، واعتزل الناس الحياة على الجبال والأكنان في اقتناع بأن هذا، هو الطريق الصحيح إلى مرضاة الله.
ولقد كان لهذا المفهوم أثره البعيد المدى على النفس الإنسانية، والحياة الاجتماعية جميعًا، فقد عاشت النفس الإنسانية حياة مريرة، تمزقها المحاولة التي تعمل على العزلة عن الحياة بقهر النوازع الفطرية بحجة أن هذه النوازع دنس يجب أن يتطهر منه الأتقياء.(43/1)
وبذلك أوشكت الحياة أن تتعطل، فقد انصرف الناس إلى الأديرة، وهجروا السعي في الأرض؛ ولم يكن ذلك إلا ###55### فهمًا باطلا لدعوة الدين في إعلاء القيم الروحية والنفسية دون الحرمان من الاستجابة للرغبات والنوازع الفطرية.
ومن هذا الانحراف الشديد الذي استمر مسيطرًا على الحياة الاجتماعية في الغرب قرونًا طويلة، تولدت الدعوة إلى الانطلاق والتحرر وإعلاء الجنس انطلاقًا من القاعدة التي تقول: إن كل فعل، له رد فعل مساوٍ له في القيمة، مختلف عنه في النتيجة.
وهكذا انتقلت أوروبا من النقيض إلى النقيض؛ وجاء فرويد فدعا إلى إعلاء الجنس وإطلاق الجنس، وحمل راية التهديد والوعيد بالمرض والعصاب لكل من يعترض على دعوته، وبذلك انفتح الباب واسعًا أمام الفكر الغربي والمجتمع الغربي إلى معارضة النظرة القديمة وحربها دون هوادة على أسلوب حاد عنيف، لا يلتمس الاعتدال أو التوسط أو النظرة الموضوعية، ولكنه يجري في اندفاع خطير، فيدمر كل شيء.
ولقد كانت نتيجة هذا التحول خطيرة وبالغة الأثر، وقد ظهرت آثارها سريعًا، فقد هدمت القيم الروحية والنفسية والأخلاقية؛ وفكت القيود والضوابط، ودفعت الناس دفعًا إلى الفاحشة والتحلل والإباحية على نحو، كان له آثاره الخطيرة ###56### في هذه الأزمة التي يمر بها الإنسان الغربي والمجتمع الغربي نتيجة التمزق والشك والصراع والاندفاع الجنوني نحو إرضاء الغرائز دون تقدير لأي نتائج تتعلق بكيان الإنسان نفسه أو بالمجتمع الذي يعيش فيه.
2- أما الإسلام، فقد نظر إلى الجنس نظرة الفطرة، وحرره من معتقدات الرهبنة والرياضيات القاسية، كما حماه من أخطار التحلل والتدمير، وأعلن أن الرغبات من طبيعة الإنسان التي لا سبيل إلى الوقوف في وجهها؛ وإن كنا من المقدور ضبطها وتعديل مسارها وتخفيف أخطارها وتذليلها لتؤدي الغاية منها دون إسراف أو فساد أو تجميد، ومن هنا وضع لها ضوابط من الحلال والاعتدال والعفة.(43/2)
كذلك فإن الإسلام كشف عن مهمة الجنس ودوره؛ وكيف أنه جزء من مهمة كبرى للإنسان، وليس الغاية الكبرى في حياته، وأنه وسيلة إلى بناء الأسرة وإنشاء الجماعة، وتوالي حركة المجتمع ونموه ليحقق إرادة الله الكبرى في تعمير الأرض، وليس الجنس هو غاية الحياة كما تقول الفلسفات الغربية، وليس هو أكبر أهدافها.
ومن هنا فقد عجزت قضية الجنس التي هي نبت غربي خالص أن تجد مجالا في محيط الإسلام لأنها لم توجد أصلا، ###57### نظرًا لسماحة الإسلام واعترافه بالرغبات، وإباحة الاستجابة لها في إطار العقد الشرعي، وإن السر في انطلاق هذه الظاهرة بشدة وعنف، هو انتقال الغرب من القسر الشديد إلى الإطلاق الشديد، أما الإسلام، فقد أعلن منذ يومه الأول وجود الرغبات في كيان الإنسان من مال وطعام وجنس، ولكنه وضعها في إطارها الصحيح، ولم يجعل الطعام قضية أولية، ولكنه نظر إلى الحياة نظرة متكاملة في عناصرها؛ متوائمة في رغباتها وحدودها متوازنة تهب النفس الإنسانية السكينة والطمأنينة وشفاء القلوب وقضاء الحاجات بعيدًا عن السرف والزهادة والكبت وبعيدًا عن التحلل والانطلاق.
ومفهوم الإسلام في الغرائز والرغبات يقوم على تحقيقها في حال القدرة، وفي حدود قواعد الزواج، ويقوم على التسامي والإعلاء في حال عدم القدرة دون أن يفقد ذلك الإعلاء هذه الرغبات حقها المعترف به في حالة الاستطاعة.
كذلك أقام الإسلام إلى جانب ذلك نظام الطهارة الجسدية والنفسية، وأباح المصادر الشريفة للمال والطعام والجنس، كما أباح ظروف الاضطرار، وعفا عنها.(43/3)
والإسلام لا يفتح الباب أما الكبت، بل يزيله قبل أن ###58### يحدث، ولا يترك فرصة مهيأة لحدوثه؛ فهو يعترف بالرغبات، ويقرر إقامة الحدود التي تحفظ النفس البشرية من الانهيار في نفس الوقت، هذه الحدود تنظم مدى القيام بالنشاط الحيوي، وتحدد له ميادين معينة، يكون فيها مأمون العاقبة دون أن تحرم الإنسان من الإحساس به والرغبة فيه؛ ودون أن تحول بينه وبين حقه في أنه مباح له، مسموح به؛ وليس في مزاولته أي نوع من الحجر، حلالا ليس حرامًا؛ بل وهناك ترغيب فيه ودعوة إليه حتى لا يوضع في غير مكانه، كل ذلك شريطة أن يتم في إطاره الشرعي ومع ضوابطه.
ومن هنا فإن النفس الإنسانية عند المسلم، هي دائمًا مستريحة راضية مطمئنة إلى أن الطريق إلى الغابة مفتوحة وشرعية ومأجور عليها صاحبها، أما أمر الوسائل، فهو شأن من يسرع بسرعة القادرين أو يتأخر حتى الله له:
«وليستعفف الذين لا يجدون نكاحًا حتى يغنيهم الله من فضله» [النور: 33].
ومعنى هذا أن الإسلام يحول دون الكبت لأنه يعترف بالواقع البشري، ويضع الضوابط في حالة التنفيذ.
3- إن من أعظم معطيات الإسلام هو أنه ضبط الرغبة، ولم يحقق لها الإباحة الكاملة. ذلك لأنه لا يريد أن ###59### يظن الإنسان أن هذه الرغبة هي غايته الكبرى، أو أن يدمر كيانه الخاص من جراء الإسراف في مزاولتها، فجاءت تلك القيود ضرورة ملحة لازمة لحفظ كيان الفرد ذاته، وحماية المجتمع نفسه، ودفع الإنسان إلى الأمام إلى الغايات الكبرى التي هو مؤهل لها في تعمير الأرض وتحقيق إرادة الله في تنفيذ النظام الرباني بالعدل والإخاء والبر والرحمة، وتلك هي رسالته الكبرى، وليست الرغبة الحسية العاجلة.
ولقد حفظ التاريخ عشرات المواقف التي انهارت فيها الأمم نتيجة التحلل والانهيار الخلقي.
وفي السنوات الأخيرة خلال الحرب العالمية انهارت أمم تحت أول ضربة من خصومها، وأعلن قادتها أن مصدر ذلك هو التحلل الخلقي.(43/4)
فالإسلام يعمل على حفظ أمته من هذا الخطر.
كذلك فإن القول بأن إطلاق الحرية في الرغبات يزيد المتعة أو يعطي النفس حال الاكتفاء؛ هذا القول مردود بالتجربة والدراسة، فإن اللذات لا تنتهي ولا تشبع منها النفس، ولا يحس صاحبها أبدًا بالاكتفاء، فينصرف عنها، سواء أكان ذلك في مجال الطعام أو مجال الجنس.
وإنما تنشأ من الإسراف طبيعة نهمة مسرفة من شأنها أن ###60### تهدم الجسد الإنساني، ومن أجل هذا دعا الإسلام إلى التوسط والاعتدال: «كلوا واشربوا ولا تسرفوا» [الأعراف: 31] ودعا إلى حماية البدن (إن لبدنك عليك حقًا).
فالنظرية التي تقول: بأن إطلاق الحرية يؤدي إلى أن يفرغ الإنسان من ضغط الغرائز على أعصابه، يمكن أن تحقق بالمنهج المعتدل الذي شرعه الإسلام في أمر الجنس والطعام وغيره، وذلك بالتوسط وعلى فترات منظمة؛ أما إطلاق اللذات إطلاقًا كاملا، فإنه لا يؤدي إلى الغاية المرجوة؛ بل إنه يزيد الشهوات اشتعالا "إن الطعام يقوي شهوة النهم" فالإسلام لا يقبل هذا النهج؛ ولا يسمح بالانطلاق الذي لا تحده ضوابط أو حدود، ذلك لعجز الجسد نفسه عن احتمال الجهد الدائم، مهما تقوي بالطعام أو بغيره.
ومن شأن كل شهوة يباح لها التفريغ الدائم الذي يؤدي بدوره على الظمأ الدائم: أن تفسد العقل، وتذهب الصواب، وتجعله عرضة للهبوط والانحلال، ومن هنا كانت الضوابط والحدود عاملا هامًا في ضبط كيان الفرد ومصلحة الجماعة.
والقيد المفروض على الشهوة الجنسية، هو قيد لصالح المجتمع حماية له من اختلاط الأنساب وتفكك الأسرة ###61### واضطراب عواطف الناس، وهو في نفس الوقت حماية للفرد ذاته من الاضطراب النفسي.
ومن شأن هذا التنظيم أن يقيم العلاقة الطيبة بين الفرد والمجتمع.(43/5)
ولما كانت شهوة الجنس ليست غاية في ذاتها، وإنما هي عامل بقاء النسل واستمراره، فقد وضعت في حجمها الطبيعي حتى لا تفسد الرسالة الأساسية للإنسان، ولا الهدف الصحيح له، وحتى يظل الكيان الإنساني محتفظًا بقدرته وقوته فترة طويلة سليمًا قادرًا على النسل لحفظ النوع في الأرض.
4- وليست نظرية فرويد في الجنس وإطلاقه مما يقبله علماء النفس والطب على علاته، بل هو قول مردود في نظر أصحاب التجارب.
ومن ذلك ما يقول الدكتور لويس بنس الطبيب النفسي: إن الدافع الجنسي لدى الفرد دافع غريزي فطري، ولهذا فهو شأن كل الدوافع الفطرية، يحاول أن يعبر عن نفسه، ويطالب بالإشباع، وفي المحاولة الدائمة لاستمرار البقاء تدفع الحياة الأفراد إلى أن يتناسلوا، ولن يتم التناسل إلا عن طريق الاتصال الجنسي بين الذكور والإناث.
إن الدوافع الغريزية الجنسية دوافع غريزية، تحاول أن ###62### تعبر عن نفسها، ولكن هذا لا يعني أبدًا أن عدم الإشباع أو على الأصح وضع هذا الإشباع في المقام الأول من حياتنا يؤدي إلى دمار البشرية.
والواقع أن هناك ثمة رجالا ونساءً، أفلحوا في تجنب الجنس والحياة بدونه نهائيًا، وهناك آلاف النساء لم يتزوجن لأنهن لم يقعن في الحب، أو لأن فرصة الزواج لم تتح لهن، والقول نفسه يسري على رجال كثيرين، لم يتزوجوا أيضًا. ومعنى ذلك أن التعبير عن الجنس ليس ضرورة مطلقة، وليس هناك ثمة ضرر جسمي أو عقلي ينتج عن الامتناع عن الجنس.
ويقول: وقد سألتني إحدى السيدان: هل الجنس ضروري لكي يتم للإنسان اتزانه العقلي؟ قلت: - وأنا أعني كل حرف مما أقول -: بالطبع لا، إن كل ما سمعته من أن السعادة ليست ممكنة فقط بالزواج، فهناك رجال ونساء عاشوا سعداء دون أن يمارسوا الجنس.(43/6)
ودعوني أكرر مرة أخرى أن الجنس في أصله مسألة عقلية قبل كل شيء، وبالرغم من أن الدافع الجنسي غريزي فينا، وغالبًا ما يطلب الإشباع إلا أنه في معظمه ينشأ في عقولنا قبل كل شيء، والتفكير هو الذي يدفع الجسم إلى الفعل.
ورغم أن أغلب أجزاء المثير الجنسي تتكون بتأثير العالم ###63### الخارجي إلا أن العقل يلعب في ذلك دورًا كبيرًا يفوق في أغلب الأحيان الدور الذي يلعبه المثير الأجنبي؛ وبعبارة أخرى: إن ما تتخيله عقولنا عن الجنس يكون أشهر إثارة من الجنس في واقعه الموضوعي الخارجي.
من ثم نستطيع أن نقول: إن الكتب الجنسية وأفلام السينما والنكات الخارجية، وما إلى ذلك هي المسؤول الأول عن إثارة الحيوان الكامن في أعماقنا، وليس الجنس في حد ذاته. إن التخيل، وهو من نتاج الذهن يلعب الدور الرئيسي بالنسبة لدوافع الإنسان الجنسية؛ وما أكثر الصور المجموعة غير الواقعة التي يقدمها لنا، وعلاج الجنس هو الزواج أو الكظم الذي لن يضر شيئًا.
ولا ريب أن هذه وجهة نظر أخرى، تختلف مع مفهوم الإسلام في بعض النقاط، ولكنها تعارض ما ذهب إليه فرويد.
ويصور ليوبولدفايس "محمد أسد" مفهوم الإسلام بالنسبة إلى الجسد والجنس بالنسبة إلى مفاهيم الأديان والمذاهب والنظريات الغربية فيقول:
"يعتبر الإسلام من دون الأديان السامية جميعًا روح الإنسان ناحية واحدة من شخصيته، وليست ظاهرة مستقلة، ###64### وبالتالي فإن نمو الإنسان الروحي في نظر الإسلام مرتبط ارتباطًا لا ينفصم بجميع نواحي طبيعته الأخرى، إن الدوافع الجسمانية جزء متمم لطبيعته، فهي ليست نتيجة أي خطيئة أولى، ذلك المفهوم الغريب عن تعاليم الإسلام، بل هي قوى إيجابية، وهبها الله للإنسان، فيجب أن يتقبلها ويفيد منها بحكمه على أنها كذلك.
ومن هنا فإن مشكلة الإنسان ليست في: كيف يكبت مطالب جسمه؟ بل كيف يوفق بينهما وبين مطالب روحه بطريقة تجعل الحياة مترعة وصالحة؟".(43/7)
5- هل علاقة الرجل بالمرأة هي علاقة جنس؟
هذا ما تحاول النظرية النفسية والاجتماعية الغربية أن تصوره، لتجهل هذه العلاقة قاصرة على الغريزة، وبذلك تنهدم كل الروابط الروحية والنفسية والاجتماعية بين الرجل والمرأة التي هي دعامة قيام الأسرة. ولا ريب أن هذه المحاولة إنما ترمي إلى هدم الكيان الاجتماعي كله بالعمل على تغيير التركيب الفكري للجنس البشري، وبإضعاف العوامل الأساسية لقيام الأسرة؛ وهي محاولة لم تتوقف على مدى التاريخ من جانب القوى الهدامة، ولكنها لم تحقق شيئًا، وكان مصيرها دائمًا الهزيمة والانحدار لأنها ضد طبيعة الأشياء ومعارضة للفطرة.
###65### إن نظرة الإسلام(43/8)
سلسلة دراسات إسلامية معاصرة الوجودية
أنور الجندي
منشورات المكتبة العصرية
صيدا - بيروت
الوجودية
ظهرت الفلسفة الوجودية بعد الحرب العالمية الثانية كرد فعل للآثار الخطيرة التي أحدثتها الحروب في أوروبا، والنتائج الضخمة التي أصابت الأسر والأمم بفقد زهرة شبابها وحيرة أبنائها، حتى لم يعد بيت في أوروبا بدون قتيل أو جريح، ومن ثم علت الصيحة إلى الفزع من الخطر الذي تفرضه أخطار السياسة، وصراع الدول على المجتمعات الآمنة بما يهدد الحياة، ويجعل أهلها يعيشون في خطر الحرب الدائم، وقد زاد من هذا الخطر الجديد الذي خلفته القنابل الذرية، كل هذا استجاش النفس الغربية بالدعوة إلى تأكيد الذات وإعلائها والدعوة إلى تحريرها من كل قيود المجتمعات واندفاعها إلى الرغبات، تسابق فيها خطر الحرب المائل، وتشفي غلتها من مطامعها دامت لا تضمن الحياة الرخية المستمرة، وما دامت ###82### ليست للحياة غاية واضحة إلا هذا المتاع السريع الذي قد يزول في أي لحظة حين تنفجر الحرب، وينتقل الملايين من الشباب إلى ساحة الموت.
ذلك هو العالم الحقيقي الذي واجه الفكر الغربي الذي هو بطبيعته فكر يقوم على الحرية والفردية والديمقراطية والرأسمالية، من خلال إيمان بسيادة الرجل الأبيض وسيطرته على مقدرات الشعوب والأمم الضعيفة، واعتصار ثرواتها وخيراتها، ونقلها إلى هذا المجتمع المترف الحافل بكل أدوات النعيم والمتعة والرخاء، فلما أحس الناس بخطر الحرب تأكل الملايين، ثارت في النفوس الرغبة إلى مزيد الاندفاع نحو الترف والمتعة حيث لا توجد غاية واضحة للحياة إلا الرفاهية والحرية.(44/1)
ومن هنا نجد أن انتقال مفاهيم الوجودية إلى أفق المجتمع الإسلامي العربي لا تستطيع أن تجد أسبابها ولا استجاباتها، فإن الأمر جد مختلف، ذلك أن الفكر الغربي لم يصل إلى الدعوة الوجودية على النحو الذي ظهر في الحرب العالمية الثانية إلا بعد أن قطع مراحل كثيرة من التحرر من العقيدة والدين، وإنكار قيود الشرائع الربانية، والسيطرة الظالمة على الأمم الملونة، واعتناق فكرة الرجل الأبيض، سيد ###83### الأرض الذي لا يهزم، والذي يعلم البشرية ويرقيها، ويملك في يديه كل ثرواتها والمتصرف فيها بما يشاء.
كذلك فإن المسلمين والعرب يختلفون مع الغرب فيما يتصوره الغربيون من أخطار الحروب وتحديات الذرة، ذلك لأن الصراع قائم بين طرفيه، فهم يخافون الحرب، ويرهبون الموت لأنهم يريدون استئناف حياة رخية مترفة، أما المسلمون والعرب، فإنهم يواجهون قضايا التحرر والتخلف من الاستعمار والصهيونية، ويعدون أنفسهم للمواجهة الدائمة بكل أخطارها. فضلا عن أن مفاهيمهم الأصلية تجعلهم بمنأى عن الخوف من الموت أو الحرب أو الخطر، فقد صاغهم الإسلام ليكونوا على حذر دائم، وعلى تعبئة كاملة في كل وقت لمواجهة أخطار عدوهم، وللعمل على نشر رسالتهم وتحقيق إرادة عقيدتهم، فضلا عن أنهم لا يؤمنون بالحياة المترفة الرخية، ويرفضونها ويرون نهايات الألم وعلامات الفناء القريب.
2- تركز الوجودية على الفرد الاعتزاز بحقه، وهو الكيان الثابت، وتقدم وجود الفرد على المجتمع؛ وترى أن الفرد له الحرية التامة في تحديد مكانه في الحياة، فإذا اختار لنفسه، فلعيه أن يتحمل نتائجه؛ وهو صاحب الحق في أن ###84### يحكم على الأمور بأنها خير، أو أنها شر حتى لو كان الحق في نظره شرًا في نظر غيره، أو في نظر المجتمع.(44/2)
وترفض الوجودية: قيم الالزام، والضمير؛ والفضيلة والخير والعدل والمسؤوولية، وتقف في أنانية عالية النبرة تقول: لا تنكر وجودك حتى تصير مجرد أداة للآخرين، وتجنح الوجودة إلى الوجدان، وتعلى شأن الحدس، وترفض العقل والحكمة، وتسخر بهما.
ولا ريب أن رفض فكرة الالتزام، هي أخطر مقومات الوجودية، وأخطر معارضاتها للفطرة الإنسانية وللدين الحق.
وهي في مجموع القيم التي ترفضها، إنما ترفض كل ما يضبط الشخصية الإنسانية، ويحميها ويرتفع بها ويقيم لها وجودها الحق؛ فهي بذلك تدفع الإنسان إلى أهوائه لتدمره، وإلى مطامحه لتحطمه.
فالالتزام هو حق الجماعة، والفضيلة هي حماية الذات من حق غيرها، فإذا رفضت النفس الإنسانية المسؤولية، فماذا يكون موقعها في المجتمع، وفي الحياة نفسها؟
وعلى هذا النحو يصدق قول الباحثين من أن الوجودية إنما تعني التحرر من المجتمع ومسؤوليته، ومن كل القيم التي ###85### جاءت بها الأديان والشرائع، ومن الضوابط التي استقر عليها مفهوم الأخلاق.
ويتصل بهذا المفهوم موقف الوجودية من الزواج والطلاق وحرية الصداقة وإسقاط الدين كله من حساب الحياة والاندفاع إلى الأهواء والرغبات بغير حساب يحسب لشيء ما.
وبذلك تتجاوز الوجودية حدود الحرية وضوابط المجتمع إلى الاعتداء على حقوق الآخرين، والعودة بالإنسان إلى عهود الهمجية وشريعة الغاب.(44/3)
3- يحاول الباحثون في الفكر الغربي تقسيمه إلى فكرين: فكر مادي، وفكر وجودي؛ أما الفكر المادي، فهو الفكر العلماني الذي انبعثت منه المناهج السياسية والاقتصادية، سواء الديمقراطية منها، أم الماركسية؛ أما الفكر الوجودي فهو الفكر الإنساني المتصل بالوجدان والنفس والحياة؛ ويرى أتباع الفكر الوجودي أن الفكر المادي صهر الإنسان، وحوله إلى ترس في آلة، ولذلك فهو يبحث عن وجوده، ويريد أن يختار موقفه في الحياة وطريقه، ويتحمل مسؤولية اختياره، ثم يخطو سارتر بالفكر الوجودي خطوة أخرى، فيتحرك داخل إطار الفكر المادي، فينكر الإله والبعث والجزاء، ثم يتجه مرة أخرى إلى الارتباط بالفكر ###86### الماركسي، ثم يأتي مذهب الشخصاينة: فرع من الفكر الوجودي، فيختلف معه.
ونظرنتا نحن أخل الفكر الإسلامي إلى ذلك كله، هي نظرة واحدة، فالفكر الغربي منذ انفصل عن المسيحية، وما زال يصارع في سبيل تكوين منهج للحياة ومفهوم للنفس والإنسان، وهو ما يزال مضطربًا غاية الاضطراب، متحولا دائم التحول لا يتوقف عن الجري إلى غاية غير واضحة.
قد سيطر الاتجاه المادي على الفكر الغربي في طرفيه الليبرالي والماركسي، وسيطر على الفكر النفسي فرويد، والفكر المتصل بوجود الإنسان والوجودية، وسيطرة الاتجاه المادي تعني غلبته الكاملة على الوجهة بحيث لم يعد هناك سبيل للاعتراف بالجانب الديني والروحي الذي يشكل الشق الثاني للتكوين الإنساني، والذي يفقد الإنسان بتجاهله وحجبه الضوء الصحيح إلى الطريق الصحيح.
ومن هنا فنحن نرى ثمرة الوجودية واضحة أشد الوضوح في آثارها وإنتاجها وكتاباتها، وهي مزيج من التشاؤم والقلق والاغتراب والخوف من الموت والتمزق والضياع.
وتمكن القول بأن الفلسفة المادية أنشأت الآن فلسفة الجماعة في الماركسية، وفلسفة الفرد ممثلة في الوجودية.(44/4)
###87### ومعنى هذا أن كلا من المذاهب الثلاث: الماركسية؛ والفرويدية، والوجودية، قد انبثق من المذهب المادي، واختار فكرة العدمية، وإنكار وجود الله أساسًا له. وهذه المذاهب ليست إلا امتدادًا للحملات التي بدأت في الفكر الغربي ممثلة في فولتير ونيتشة وكير كجورد، وموجهة إلى الدين، وإذا كان ماركس قد افترض أن تفسير التاريخ والإنسان أن يبدأ من الطعام، وأن الفردية جعلت حركة الإنسان منبعثة من الغريزة، فإن الوجودية ترمي إلى كسر جميع القيود والضوابط سواء منها الدينية أو الاجتماعية او الأخلاقية التي تحيط بالإنسان، حتى يتمكن من تحقيق ذاته منفصلا عن كل قيد، وفي سبيل هدف الوجودية هذا، ولانفصالها عن الشطر الروحي والديني القائم في أعماق الإنسان، وجدت الوجودية أن العالم كله خداع، وأن الإنسان موجود بدون سبب، وأن العالم يمضي لغير غاية.
ومن حق الوجودية أن تفهم هذا، لأن الإجابة الصحيحة التي تكشف عن هدف وجود الإنسان، وغاية العالم إنما تكمن في الدعوة التي وجهتها الأديان إلى الإنسان من خالقه لتفسير ما ليس في استطاعته الوصول إليه دون عون من الوحي والنبوة ورسالة السماء.
###88### فإذا تجرد الإنسان باعتناق الوجودية من هذا الفهم، فإنما تبدو الحياة له وهمًا كبيرًا، وظلامًا كبيرًا، لأن الغاية الحقيقية التي جاء من أجلها، قد أصبحت محجوبة عنه.(44/5)
وتصدق الوجودية حين ترى أن أزمة العصر هي غربة الإنسان، ونقصد هنا الإنسان الغربي، وذلك حين نرى أن التقدم التكنولوجي قد جعل منه ترسًا في ماكينة أو قطعة غيار في جهاز، ولكن المسلم ليس كذلك، ولا يفهم هذا الفهم لأن دينه علمه مهمته ورسالته، وكشف له عن الغاية، وبذلك عرف أن له دورًا وسعيًا وحركة واسعة، هو مقبل عليها في صدق وإيمان، لأنه يعرف أن من وراء سعيه كسبًا حقيقيًا وبلوغًا لدرجة أرقى ومكانة أعظم، ثم إن المسلم يؤمن بأنه له إرادة مسؤولة يجزى عليها بالخير، أو بالشر في حياة أخرى، وأنه مطالب بأن يخوض معركة الحياة في أخلاقية التقوى والثقة بالله والرحمة بالإنسان، ومن هنا يحس أن حياته جزلة وعامرة وحافلة بالضياء والخير.
وهو في سعيه إلى الغاية الربانية، وفي توكله على الله واستعانته به لا يواجه أبدًا أزمة القلق ولا أزمة التشاؤم، ولا يخاف الموت، فالحياة الإسلامية التي تعرف أبعاد وجودها ورسالتها وغايتها جميعًا تواجه الحياة مواجهة الطمأنينة ###89### والسكينة، والعمل الجاد الدائب دون أن تفقد لحظة واحدة وجهتها، أو تقع في بيداءا اليأس سواء أكانت الحياة يسيرة أو عسيرة، فإن النفس المسلمة ترضى باليسير، وإذا جاء العصر، جالدته صابرة حتى ينطوي دون أن تحس بالقلق أو الحزن.
وهي تعرف أن مع العسر يسرًا، وأن الفرج مع الكرب.(44/6)
4- ولا ريب أن الوجودية ليست إلا اسمًا جديدًا لطابع التشاؤم القائم في أعماق الفكر الغربي منذ وقت بعيد، وأ\ن طابعها موجود في كثير من الفلاسفة السابقين غير أت ميزة الصورة الجديدة على يد سارتر هو غلبة الطابع المادي عليها غلبة مطلقة، أما الفكر الغربي فهو مصبوع منذ يومه الأول بصبغة التشاؤم، هذا التشاؤم الذي ينبعث من عدم الإقناع العقلي بوراثة البشر جميعًا لما يطلق عليه الخطيئة الأصلية. فقد ساد الغرب طابع الوجدان المتشائم نتيجة هذه القضية، وظهرت آثارها القوية واضحة على مختلف نماذج الآداب والفنون والفلسفة والأخلاق، ومن خلال هذه الأيديلوجية السوداوية المتشائمة: تنتشر على أوسع نطاق في عالم الغرب أفكار عن "لا معقولية للحياة" وعبث الوجود حتى أصبح المفكرون المتشائمون ###90### يشنون هجمات هستيرية على كل فكر معارض.
ويرى الباحثون أن (الوجودية) هي أعلى مراتب التشاؤم، ويرد البعض ذلك أثر الماكينة التي انقلبت على صاحبها، وأصبحت وحشًا مدمرًا يحاول أن يقضي على عقله وقلبه، ويجعله آلة طيعة له.
ويرى البعض أن الفرويدية والسريالية كانت نتاج الحرب العالمية الأولى، وأن الوجودية والهيبية، هي نتاج الحرب العالمية الثانية في طريق واحد.
يقول الدكتور حامد عمار: كانت محنة الحرب العالمية الثانية، وما أنشأته من وسائل الدمار والفتك تجربة بشرية قاسية، وفي مثل هذه الظروف كان الجو ملائمًا لظهور أفكار الوجوديين وتفسيراتهم التشاؤمية، هذا الوجدان القلق عند الإنسان الذي يشعر بأن الكون سائر نحو العزلة والعدم، وهذا الشعور المرضي الذي يشبه الغثيان على حد تعبير "سارتر" وهذا الذي نعيش فيه عالم هش قابل للانكسار السريع والتحطم المروع.(44/7)
ما سبيل النجاة من هذه الغاشية التي تحيط بهم، صورة الحياة القائمة، يقولون: "إن الوجود الذاتي هو الشيء الوحيد الذي يملكه الإنسان، ومن ثم عليه أن يخلق نفسه بنفسه، وأن ###91### يختار بنفسه حيث يحيا الإنسان وجوده الحقيقي غير عابئ, بل مجاهد لما يمكن أن يجد في هذا الوجود الذاتي من حدود، أو يعترضه من قيود".
ومعنى هذا أن سارتر والوجودية ترى أنه إزاء هذه الجائحة المجنونة للحرب والموت، فإن على الإنسان أن يحطم كل قيود الخلق والاجتماع والدين، وأن ينطلق إلى لذاته وغاياته غير عابئ لشيء، ذلك لأنه لا يؤمن للحياة بغاية، فمن أجل أي شيء يبقي على شيء.
وهذا حل ساذج أرعن، لا يؤدي إلى مزيد من تدمير الحياة، وهي صيحة الضعف البشري والقصور الذاتي، والعجز عن فهم هدف الحياة ورسالة الإنسان، وهي استجابة للحيرة والقلق بمزيد من الحيرة والقلق، وهو دعوة انهزامية للتدمير.
ولا ريب أن الوجودية ظاهرة زمنية عابرة، لن يلبث الإنسان، أن يتخطاها، وهي – كما يقول جاك بيرك – ليست روحًا، وهي فلسفة عدمية سلبية من ألفها إلى يائها، تود أن تقتل في الإنسان التفكير، وتشل القدرة على استعمال العقل والنطق، وتقول: إذا أردت خلاصًا، فاقتل في نفسك العقل والمنطق هذا فضلا عن إنكار الخلق والدين.
###92### 5- أبرز نتائج الوجودية: القلق والتمزق، والخوف من المجهول والرعب.
ولا تقع النفس الإنسانية في هوة القلق والتمزق إلى بنتيجة الصراع بين الروح والمادة، وانفصال الإنسان عن اليقين الذي يملأ روحه وعقله بالثقة.(44/8)
فقد عزلت الوجودية الإنسان عن كل ركيزة، يمكن أن تحميه أو تطامن نفسه، أو تملأه بالثقة، هذه الركيزة لا تأتي إلا من مصدر واحد، هو الدين. ومن ثم كان إنكار الدين منطلقًا للعدمية التي تفجر كل أنواع القلق والخوف والرعب، فنظرة الإسلام للإنسان هي نظرة التكامل بين رغائبه وأشواقه بين المادة والروح، ولكن النظرة المادية الخالصة من شأنها أن تخلق طابع التشاؤم والشك الذي يحس معه الإنسان بأنه وحيد، وشقي وغريب، وهذا معنى التمزق والضياع، أما حيث يحل في النفس الإيمان بالله، فإنما تحل معه الثقة والتفاؤل، فالإيمان بالله قوة دافعة تعطي الأمل، وتحول دون اليأس، وتبعث الثقة، وتدعو إلى المعاودة في حالة الإخفاق.
ومنذ انعزلت المجتمعات الغربية عن الدين، وعجزت عن أن تبحث عن الدين الحق، فقد حلت فيها روح اليأس ###93### والقلق والتمزق، وعجزت الأيديلوجيات المختلفة عن أن تحقق السعادة.
إن الإنسان الذي صنع من قبضة الطين ونفحة الروح، لا يمكن تفريغ كيانه من مضمونه أو النظر إليه على أنه الهيكل البشري الخالي من الروح والوجدان والقلب والبصيرة، ومن هنا فقد بدت هذه المفاهيم غريبة عنا، وعن مجتمعنا وعن قيمنا كل الغرابة لسبب أنها ثمرة من ثمار تحديات مجتمع معين في ظروف معينة، إن الإنسان الغربي يمر بأزمة خطيرة، فهو ضحية الصراع الذي أعلى من شأن المادة، وأنكر القيمة الروحية والدينية والأخلاقية.
لا ريب أن القلق النفسي الذي يجتاح الإنسان المعاصر بنتيجة مفهوم الوجودية، هو قضاء ماحق للوجود الإنساني الحقيقي.(44/9)
ولذلك فإن دعوة الوجودية إلى الانطلاق لتحقيق اللذة بحسبان أنها الحال الوحيد، هذا الحل لن يحقق التكامل أو الطمأنينة أو السكينة النفسية، بل سيزيد الإنسان نهمًا واضطرابًا حتى يصبح ضحية لمطلب نهم، ما يكاد يتم أشباعه حتى يعود الإلحاح على صاحبه. "سواء الخمر أو المخدرات أو أي لذة أخرى" فإن الامتلاء الذي تلوح لنا به اللذة لا يهيء ###94### الشعور بالطمأنينة أو الإحساس بالسلم، وهيهات أن يشبع الامتلاء نهم الإرادة البشرية.
ولا ريب أن الإنسان إذا ما قطع صلته بالله وبالبعث والجزاء فإنه يعيش مرارة اليأس والظلام ومدافعة المصير المحتوم الذي ينتظر الجميع دون جدوى، فليست هناك فرجة للحياة، ويرون أنهم أشبه بـ "سيزيف" المسكين بطل قصة "العبث" الي حكم عليه بأن يحمل صخرة ثقيلة ليصعد بها قمة الجبل، وسرعان ما تهوى إلى قرار سحيق، فيعيد الكرة. أما المسلم فإن حياته غنية خصبة ثرية مليئة بالثقة والتفاؤل والأمل في الغد، وفي البعث وفي الحياة كلها لأنه ينطلق من رسالة واضحة إلى هدف محدد، يستهدي فيه الله ربه لإقامة المجتمع الرباني الكريم.(44/10)
وهكذا تتجدد فلسفة العدم التي عرفتها الفلسفات المادية قبل الإسلام، حيث كان الإنسان يبحث عن الخلود، فيصدمه الموت، ويحاول أن يتوحد مع ذاته، فتسحقه المتناقضات، ولم يكن ثمة أمل إلا في الدين، فلما جاء الإسلام كان نصرًا سحقًا للإنسان المعذب على مأساته في كل مكان وزمان، فقد جاء له بالخلود عندما علمه أنه على مدى موعد مع الله، وأنه سوف يبعث بعد موته ليحاسب على مدى فاعليته في ###95### الحياة الدنيا: «وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى» [النجم: 39] وفهم سارتر زائف وبعيد عن الحقيقة، فلو فهم سارتر "الله" تبارك وتعالى حق الفهم عن طريق الدين الحق لوجد أن الله، قد أعطى للإنسان إرادة حرة، تجعل له حق التغيير والإضافة، وأنه في ظل هذه الإرادة التي أعطاها لهم، كرم عملهم إذا كان خيرًا وحقًا، ونوه بهم في الدنيا، وجزاهم أحسن الجزاء في الآخرة، أما هذا الفهم الذي يصدر عن سارتر، فهو إنما يستمده من الأساطير الإغريقية، ومن بعض تفسيرات الغرب للدين، وهي تفسيرات زائفة لأن الفكر الغربي فهم العلاقة بين الله والإنسان فهمًا غير صحيح، تداخلت فيه أخطاء العلاقة بين النبي والله، وبين النبي والإنسان، كذلك فإن اعتقاده بنظرية الخطيئة، جعله أشد اضطرابًا في فهم العلاقة بين الله والإنسان.
وإذا كان الغاية من الوجودية هي أن يحقق الإنسان وجوده، فإن ذلك مقرر في الإسلام في إطاره الطبيعي وضوابطه الأصيلة التي تحمي وجوده وكيانه، وليس للإنسان أن يطلق العنان للذاته ومتعه، أو يتمرد على أوضاع المجتمع أو القيم الأخلاقية لأنه بذلك يكون قد خرج عن رسالته الحقة التي جاء ###96### إلى هذه الأرض من أجلها، والوجودية بهذا تكون فلسفة الانحلال والعدم والفوضى التي لم تفهم رسالة الإنسان وحقيقة وجوده في الحياة على على النحو الصحيح.(44/11)
وإذا كانت الماركسية والفرويدية هي رد فعل لمفاهيم التفسيرات الدينية الغربية، فإن الوجودية هي أيضًا رد على تحديات الدعوة إلى العزلة والرهبانية والخطيئة. كذلك جاءت الوجودية رد فعل على طغيان المذاهب المادية على عقول الناس.
لقد خدعت كل فلسفة من هؤلاء خدعت الناس بمظهرها؛ ثم تكشف من بعد هدفها حين دعت الماركسية إلى العدل الاجتماعي، ثم تبين أنها ترمي إلى هدم الدين والأخلاق، وحين دعت الفرويدية إلى حل العقد النفسية، ثم تبين أنها ترمي إلى تدمير المجتمعات؛ وحين دعت الوجودية إلى كرامة الفرد لتجنح بها إلى حيوانية تصيب الفرد والجماعة بالقنوط والانحلال.
6- أشار الباحثون إلى أن الوجودية، قد قدمت إلى الفكر البشري في العصر الحديث أزمات الغربة والغثيان، والعبث والتمرد واللامعقول:
وأشار كولن ولسون في كتبه "اللامنتمي" إلى أن الغربة ###97### مرض متصل بتصدع الذات أو انشقاقها نتيجة لعدم توائمها أو انسجامها مع المجتمع الذي تعيش فيه، وأن التصدع بين الذات والجماعة مشكلة اجتماعية تقوم على شعور الفرد بالانفصام عن مجتمعه، وقال: إن الرومي القديم برغم حيرته وشكه في سبيل العثور على الحقيقة، لم يفقد الإيمان بها، وهو لم ييأس اليأس التام.
أما غريب العصر، فهو لا يفهم ما يعنيه الناس بالحقيقة، فهو إنسان عاجز عن الإيمان بوجودها؛ فالعالم في رأيه عالم مفتقد للحقيقة، عالم زائف قائم على اللامعقول والفوضى، وهما وحدهما في نظره، هما الحقيقة ويعتقد كثيرون أن العقل وحده، ليس بقادر إذا عمل منفردًا على بلوغ الحقيقة وراء هذا العالم، ومن هنا جاءت الغربة التي هي أزمة الإنسان الذي فقد إيمانه بالله، ولم يجد ما يعوضه عن هذا النقص. إنها أزمة العقل المسيطر على الإنسان الذي أضعف مركز الإشعاع العاطفي في الإنسان، وهو العقيدة الدينية.(44/12)
ويقول: إنه ليس الإنسان بقادر على أن يجلو عن نفسه، ما يعتريه من صدأ أو يغلف إحساس من سماكة إلا ما ظفر بشيء من السلام النفسي والهدوء الروحي.
ولكن كولن ولسون عندما يصل إلى هذه النقطة ###98### الصحيحة، يعجز عن الانتقال منها إلى الحل الصحيح، وهو التماس الدين الحق، فإنه ما زال يعيش في دعوات المتصوفة الهنود حيث يدعو إلى تنمية ملكة الرؤيا والكشف الصوفي، أما المسلمون فيعرفون الطريق الصحيح، وهو الإيمان بالله والتماس رحمته، فليس للإنسان في حالة الغربة أو التمزق أو الخوف إلا ملجأ واحد، وسند واحد، هو الله، وبالالتجاء إليه يجد الإنسان السلام والأمن والسكينة؛ ولكن هذا الطريق ما زال بعيدًا عن أصحاب الأزمة، فهم لا يرونه، إن الإسلام يدعو إلى أسلوب أشد عمقًا من الرؤيا والكشف: هو النظر في ملكوت السماء والأرض ذاكرًا عظمة صنع الله وجلال قدرته، وهذه وحدها هي القوة التي تملأ النفس باليقين، وتحقق الوحدة بين الإنسان والوجود.
أما تلك النظريات المهومة التي تتحرك من فراغ، ولا تجري في دائرة التوحيد والإيمان بالله والتماس منهجه في الحياة والعبادة، فإنها لا تصل بالإنسان إلا إلى مزيد من القلق والاضطراب لأنها لم تجد طريقها الصحيح.
وكل ما نستطيع أن نصل إليه مما أورده الباحثون أمثال كولن ولسون وغيره إلى أن أزمة الغربة هي أزمة فقدان الإيمان وأن هذه الأزمة يظل صاحبها على حال من القلق والتململ ###99### والعذاب حتى يعود إلى منطقة الإيمان.
ولقد أصبحت هذه الحقيقة معروفة الآن في الغرب، ولكن السبيل إلى تحقيقها ما زال غامضًا ومغلقًا لأن الغرب لا يجد فيما بين يديه ما يدله على ذلك الطريق الذي هدى الله إليه المسلمين، وكل من حاول أن يهتدي برسالة القرآن.
والعقيدة الدينية هي المفقود الأول، وهي البلسم الأخير، ولكن على صورة بعيدة عن تشوهات الفلسفة والمنطق، وأهواء النفس المتداخلة إلى الحقائق.(44/13)
إن الفكر العقلي المجرد – كما يقول ولسون – لا يحل أزمة الغريب، هذا حق، وإن العاطفة الدينية، هي التي تستطيع أن تحل أزمته، وهذا حق، ولكن كيف السبيل إلى هذه العاطفة إلا بإيمان صادق راسخ بالله رب العالمين: خالق كل شيء، وخالق الإنسان، وواهب الحياة.
ويدعو كولن ولسون إلى حلول جزئية، فيقول: إن تحرير الإنسان يجب أن يبدأ أولا بتحريره من فكرة الخطيئة الأولى التي تسيطر على الإنسان الغربي، والتي تقف حائلا بينه وبين رؤية الحقيقة.
ويقول: إن هذا جزء من الحرية الكاملة التي يعطيها الدين الحق للإنسان، والتي تجعله يؤمن أولا بأن لوجوده ###100### رسالة وغاية وهدفًا وأمانة ومسؤولية، وأن الحياة ليست عبثًا، وليست لعبة، وليس مصادفة بحال.
فالإيمان بالله الواحد الخالق المدبر الذي يرجع إليه الأمر كله، هو المصدر الوحيد للأمن والسكينة، وسوف تفشل كل هذه المحاولات الجزئية أو الحلول التي تستمد مصادرها من فلسفات باطنية أو هندية.
على الإنسان الحديث أن يسلم وجهه لله أولا، ويعتقد بأنه الخالق، وبأنه صاحب الإرادة العليا، وأنه خالق الإنسان لغاية، ورسم له نهجًا، فإذا ما التمس الإنسان غايته ونهجه، طابت نفسه واستقرت، وبدأت الحياة تأخذ طابعها المستقر المليء بالطمأنينة والسكينة، وما دام الإنسان الحديث مصرًا على أنه سيد نفسه، وأنه القادر على إدارة الحياة هازئًا بكل قوة عليًا، ساخرًا من الوصاية والمنهج الرباني، فإنه سوف يلقي هذا الألم الذي يسحق نفسه سحقًا دون أن يقر له قرار.(44/14)