بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
أخي الحبيب .. يا من طالت شكواه من قسوة قلبه: ألم يَأْن بعد أن يخشع قلبك؟
أخي الحبيب .. كم حدثتني والأسى باد عليك على دمعة لم تنحدر من خشية الله؟.
أخي الحبيب .. لأني أحبك في الله وأحب لك ما أحب لنفسي، تألمت لك كثيرًا وودت أن أجد الطريقة التي أحقق لك أمنيتك الغالية.
أخي الحبيب .. لقد أقضت شكواك مضجعي، وتجافي بسببها الكري عن عيني، وها قد أزف الليل على الرحيل ولم يبق على بزوغ الفجر سوي القليل، قمت فتوضأت ثم وقفت بين يدي ربي أناجيه وأسأله أن يلهمني الوسيلة والطريقة التي بها أحقق رجاءك ومطلبك.
أخي الحبيب .. لقد ألهمني ربي أن آخذك لزيارة لأحد الوعاظ الكبار الذي يسكن في أحد الأحياء القديمة، مررت بك ذلك اليوم بمركبتي فركبت معي معلقًا آمالك كلها – بعد الله – بهذه الزيارة التي سوف تقوم بها.
أظنك تذكرت تلك الزيارة، ولعلك تتذكر تلك اللحظات التي كانت مركبتي تشق فيها شوارع المدينة باتجاه ذلك الحي القديم، ها نحن نقترب من سكن ذلك الواعظ الكبير، وأراك تنظر بازدراء إلي سور مسكن الواعظ. «يا أخي . لا يحملك تهالك الأسوار وقدمها على احتقار الواعظ، فالوعاظ مخابر لا مظاهر».
أظنك تذكر عندما نظرت إليك فوجدت علامات التعجب بادية عليك، وعندما سألتك عن السبب أجبتني: «لا أري زائرًا سوانا لهذا الواعظ!».
أخي الحبيب .. إن قلة الزائرين لهذا الواعظ ليس لعيب فيه أو نقص، لكنه الجهل الذي جعل كثيرًا من الناس اليوم يزهدون في هذا الواعظ وفي زيارته، دعنا ندخل إليه ونقابله حتى تسمع لوعظه وتعلم كم لوعظه من قوة تلين القلوب القاسية، وتذلها وتكسرها وإن كانت أغلظ من الحديد.(1/1)
«ما لي أراك مرتبكًا وملامح الاضطراب تبدو عليك، أتخشي مقابلة الواعظ؟ هون عليك فإن واعظنا اليوم لا يري ولا يسمع ولا يتكلم إنما يعظ صامتًا».
أتذكر عندما دَلفنا إلي الداخل وقابلنا الواعظ؟ أتذكر كيف سلمنا عليه بسلام لم نعتد أن نسلم على غيره به، أتذكر ذلك السلام؟ كثير من الناس يجهلونه أو علموه يومًا ما ثم نسوه. إني أذكرك بصيغته «السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون غدًا مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون»، «السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم».
أتذكر عندما نظرت إلي الأرض الواسعة المنبسطة فتعجبت من أكوام صغيرة مصطفة بجوار بعضها البعض لا يزيد ارتفاع أحدها عن الشبر، وقد غرس على بعضها أحجار أو ألواح فسألنا الواعظ عن هذه الأكوام فقال لنا: «هذه مساكن أهلي ومعارفي» فسكت قليلاً ثم قال: «ما رأيكم أن أعرفكم ببعض أهلي وأقاربي»؟ .
وقتها رحبنا بالفكرة، فانطلق مسرعًا إلي أحدها وقال: «تعالا هنا لأعرفكما على هذا الساكن»، فلما وقفنا على المسكن، قال واعظنا: «يسكن هنا رجل كان من أغني أغنياء الدنيا، كان يملك الأرصدة الكبيرة في بنوك عديدة في الداخل والخارج، كانت له تجارات كثيرة محلية وعالمية، كان يسكن القصور الواسعة ويركب المراكب المترفة ويلبس الملابس الناعمة الغالية، ولديه من الخدم والحشم وخدمهم ما لا يحصي، ولديه من العقارات والأملاك ما يغني القبيلة من الناس أتعلمان آخر أمره؟».
قلنا: «لا».
قال واعظنا: «لقد ترك كل ما يملك وجاء إلي هنا راغمًا، حمله أقرب الناس إليه وجاءوا به سراعًا وألقوه عنهم ووضعوه هاهنا ثم تركوه وحيدًا فريدًا ومضوا يقتسمون أمواله وأملاكه من بعده ولم أر أحدًا منهم يمر عليه بعد ذلك، أتعلمان ماذا يتمني الآن؟».
قلنا: «وماذا يتمني؟».(1/2)
قال واعظنا: «يتمني أن يقدم جميع ما كان يملك من أموال وأملاك مقابل ساعة يعود فيها إلي الدنيا ليتزود فيها، ولا يهمه أن يعيش تلك الساعة فقيرًا معدمًا».
تقدم واعظنا إلي مسكن آخر وأشار إليه «تعالا هنا وانظرا إلي هذا القبر».
فتقدمنا إليه، فقال لنا: «أتعلمان من يسكن هنا؟».
قلنا «لا».
قال واعظنا: «إنه مسؤول كبير وصاحب منصب عال، كان يأمر ولا أحد يجرؤ على رد أمره، وكان ينهي ولا أحد يجرؤ على ارتكاب ما نهي عنه، كان الناس تحت طوعه وسلطانه، وكان طلاب الشفاعات لا ينقطعون عنه لحظة واحدة، حتى طلبه ملك الموت فلم ينفعه منصبه ولا أمره ونهيه، فقد انتشله الموت من مكانه ليحل فيه غيره ويحل هو هنا ساكنًا جديدًا».
أمسك واعظنا بيدي ويد صاحبي وانطلق بنا إلي قبر آخر، فلما وقفنا بجواره قال: «أتعرفان صاحبه؟» قلنا: «ومَنْ صاحبه؟».
قال واعظنا: «صاحب هذا القبر طبيب كبير وجراح نطاسي، كم أنقذ الله على يديه من المرضي بعد أن أشرفوا على الهلاك، فلما دارت الدائرة عليه وأشرف هو على الموت لم ينتفع بطبه ولم يستطع أن يؤخر الموت عن نفسه ساعة واحدة».
توقفت متأملاً حال هذا الطبيب فلم يرعني إلا صوت واعظنا وقد وقف على قبر آخر: «تعالا هنا وانظرا إلي هذا القبر الكبير».
تقدمنا إليه وتعجبنا من القبر الكبير فقلنا لواعظنا: «ما شأن هذا القبر؟».
قال واعظنا: «إنه لرجل رياضي فارع الطول ممتلئ الجسم مفتول العضلات، كان في صباه لا يغلبه أحد في العراك والمصارعة، فالكل يخافه، وازداد عنفوانًا وقوة بتوجهه العسكري وإتقانه للسلاح فخافته الأعداء ووضعوا له مئات الحسابات، فهو طوال تاريخه البطولي لم يسجل سوي هزيمة واحدة، وذلك عندما تعارك مع الموت فطرحه الموت من أول ضربة ولم تغن عنه فتوته وقوته شيئًا، ولم يهنأ الدود بمأدبة مثله منذ زمن طويل».(1/3)
تقدم واعظنا قليلاً حتى أشرف على أحد القبور وقال: «تعالا هنا وانظرا إلي هذا القبر فإن ساكنة مهندس معماري، كم شهدت له المحافل بالإبداعات الهندسية في تصميم المنازل والمباني، حتى كانت تصميماته مثالاً يحتذي وعلم يشار إليه بالبنان، فلقد كان يبذل الوقت والجهد الكبير في التصميمات التي يعدها للناس بينما لم يبذل الحفار إلا وقتًا وجهدًا يسيرًا في شق لحده في مسكنه هذا».
لم يدع لنا واعظنا وقتًا لنتأمل بعض الشيء في حال المهندس، بل جذب أيدينا وتقدم نحو قبر آخر، توقف واعظنا حيال القبر ثم جثا على ركبتيه وأحنى برأسه جهة القبر واضعًا أذنه على القبر كأنه يصغي إلي شيء ما، ثم خاطبنا وهو على هيئته تلك: «تعالا واستمعا» فجلسنا على هيئة واعظنا وبعد أن أصغينا طويلاً لم نستمع إلي شيء فازددنا عجباً، ثم اعتدل واعظنا فاعتدلنا معه. قال صاحبي: «إننا لم نسمع شيئًا» قال واعظنا: «وأنا كذلك» فنظرت نحو صاحبي بتعجب فبادلني التعجب، قال واعظنا: «هنا يسكن أديب ألمعي نال السبق في النثر والشعر، لسانه لا يبارى ولا يجارى، كان إذا تكلم سحر الأسماع بحديثه حتى تذهل عن نفسها وعمن حولها لما لحديثه حتى تذهل عن نفسها وعمن حولها لما لحديثه من الحلاوة والطلاوة، كانت حاجته تقضي بين يدي لسانه ولا يرد له رجاء، كم ترصدت للسانه أعداؤه رجاء أن يظفروا منه بسقطة فعادوا مخذولين، فلما نزل به الأجل المحتوم أخرس منه اللسان فكأن لم يكن ربيب البيان».
سكت واعظنا فأردت أن أستزيده من أخبار الأديب فلم يمهلني بل انطلق إلي قبر آخر، فلما وقف عليه أشار إلينا أن هلموا. فأسرعنا إليه فلما وقفنا بجواره، أكثر واعظنا من ترديد بصره بين القبر وبيننا – أنا وصاحبي – فلما وجلت قلوبنا من نظراته تلك قلت له: «ما شأننا وشأن صاحب هذا القبر؟».
قال واعظنا: «إن بينكما وبينه قرابة».
قلت لواعظنا: «لكنني لا أذكر قريبًا لي دفن هنا».(1/4)
قال واعظنا «ليست القرابة التي بينكما وبينه بقرابة نسب».
تعجبت من قوله ثم نظرت إلي صاحبي فرأيت ما لحقني من العجب قد لحق به.
قال واعظنا: «لا تعجبا فالقرابة بينكما وبينه ليست بقرابة نسب وإنما هي قرابة عمر، فإن ساكن هذا القبر شاب مثلكما بل هو في عمر أقل منكما، فهو لتوه تخرج من الثانوية بمعدل ممتاز، لقد رسم الخطوط العريضة لمستقبله وتعلق بحبال الأماني والآمال العريضة التي لا تقوى على حملها الجبال الرواسي، لقد كان صاحب همة عالية وطموح غير محدود، فقد كان يحلم بالكثير والكثير: شهادات عالية وتجارات واسعة وزوجات حسان وأولاد بارين متفوقين، لقد كان يرى مستقبله الطموح بين عينيه، وفي أكمل مراحل عنفوان أحلامه انتزعه الموت من بين تلك الأحلام والأماني والآمال بعد أن وضع قدميه في أول طريقها، وها هو يقبع في قبره مخلفًا طموحاته من ورائه».
خنقتني العبرات وكدت أبكي لكن واعظنا كعادته قطع علي الطريق بمناداته لنا: «تعالا هنا وانظرا إلي هذا القبر» فلما وقفنا عليه، قال واعظنا: «أحدَّا النظر إليه، فهل تريان شيئًا؟».
قلنا: «لا نرى سوى التراب».
قال واعظنا: «ليت هذا القبر ينشق حتى تريا من منظر صاحبه عجبًا!».
قلت لواعظنا: «صفه لنا كأننا ننظر إليه».
قال واعظنا: «أما العينان فقد ساحتا على الخدين وأما الشفاه فقد انحسرت عن الأسنان، وأما الجلد فقد تلاشي وبدا من تحته اللحم والعظم، وأما اللحم فكأنتن ما يكون قد أخضر وأسود وأما سوائل الجسم فقد تسللت إلي الخارج وبدت في أبشع منظر وصورة ورائحة».
عندها أحسست بشيء من الاشمئزاز فقلت لواعظنا: «اتضحت لنا صورته فكأني بمنظره أقبح ما يكون!».
قال واعظنا: «أما وقد تجلي لكما وصفه الآن وما بلغه من قبح المنظر، فقد كان لمنظره في السابق شأنا».
قال صاحبي: «بالله عليك حدثنا عن شأنه الأول».(1/5)
قال واعظنا: «لقد كان صاحب هذا القبر ممن أوتي حظًا وافرًا من الحسن والملاحة حتى أن العيون لتسترق النظر إليه من جمال ما تري من صورته». سكت واعظنا برهة من الزمن فقال له صاحبي: «يا واعظنا، زدنا من حديثه وشأنه».
قال واعظنا: «صاحب هذا القبر فتاة قد وهبها الله من الجمال ما لو كان المقال في غير هذا المقام لاسترسلت في وصفه وتجليته، وحسبها كثرة طرق الخاطبين لبابها، فلما ظفر بها أحدهم ومنى نفسه بها، وأعد ليوم زفافه بها كامل العدة فلما كان يوم الظفر انتزعها الموت منه وزفها إلي مسكنها هذا».
كأني بقلبي قد توقف وهو يسمع عن أحوال ساكني هذا المكان وما هم فيه من الأمور العجيبة، ولكن قلبي قد صحا وعاد إليه نبضه على صوت الواعظ ينادينا وقد وقف على قبور بعيدة منعزلة لوحدها، فلما قدمنا إليه تعجبنا من صغر مساحتها، فقال واعظنا: «أترون كم هي صغيرة؟ تعالا لأعرفكما على بعض ساكنيها، فهذا القبر الصغير لطفل لم يتجاوز السابعة بعدُ لقد كان ريحانة والديه، وكانا يعلقان عليه الآمال الكبيرة، فلما بلغ معهما السعي اخترمه الموت من بين يدي والديه ولم يفرق بينه وبين الكبير، لأن له أجلاً مضروبًا لا يحيد عنه ولا يميد».
تسمرت نظراتنا من عجب ما سمعنا من واعظنا، فلما عرف واعظنا ذلك منا، أشار إلي قبر صغير جدًا، قال لنا: «لا تتعجبان فهذا قبر ساكنه أعجب من الذي قبله، إنه لجنين لم ير الحياة بعد، فهو حمل في شهره الخامس لم يمض على نفخ الروح فيه سوي شهر أو أقل، لكنها الآجال المضروبة والأعمار المقدرة من عند الله تبارك وتعالى، حيث قضي – ولا راد لقضائه – على هذا الجنين بالموت وذلك قبل أن يرى الدنيا ويكابد الحياة فيها».
أخي الحبيب .. أتذكر عندها كيف دمعت عيناك وشعرت برغبة ملحة تدعوك للبكاء؟ وقتها أشفقت عليك ودعوتك لنغادر المكان، وسرنا نحث الخطي عبر الطريق الذي يشق المقبرة.(1/6)
أتذكر وقتها واعظنا وهو يصيح بنا: «انتظروا لماذا تهربان لا يزال هناك الكثيرون من أهلي ومعارفي لم تتعرفا عليهم»؟.
وقتها أسرعنا حتى خرجنا من عند الواعظ خروجًا لا نعلم أنرجع إليه مرة أخرى ونحن زوار، أم نرجع إليه نزف ساكنًا جديدًا، أم نرجع إليه لنسكن فيه.
برنامج عملي لزيارة القبور
أولاً: استحضر النية وأخلص العمل لله تعالي:
زيارة القبور سنة سنها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمر بها صحابته، فهي عبادة كغيرها من العبادات تحتاج إلى النية والإخلاص.
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى». متفق عليه.
ثانيًا: حدد هدفك من الزيارة:
لزيارة القبور أهداف كثيرة ومتنوعة، أهمها:
أ- إحياء السنة: فإن زيارة القبور من السنن التي هجرت واندرست حتى لا تكاد ترى من يقوم بها في هذا الزمان إلا من رحم الله، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا» الحديث رواه مسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي، ومن سن السنن إحياء ما هُجر منها واندرس.
ب- تذكرة الآخرة: فالقبر أول منازل الآخرة، لذا كانت زيارة القبور مما يذكر بالآخرة، وما أحوجنا في هذا العصر إلي ما يذكرنا بالآخرة، بعد أن انغمسنا بالكلية في الدنيا وتناسينا الآخرة، إننا لا نكاد نجد اليوم من يذكرنا بالآخرة، فمجالسنا عامرة بذكر الدنيا، وقلما تجد ذلك الصاحب الذى يذكرك بالآخرة، فما أحوجنا إلى زيارة القبور لأنها كما أخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - تذكر بالآخرة، وهي بذلك تحفزنا للعمل للآخرة الباقية والزهد في الدنيا الفانية، فالقبور خير من كثير من مجالسنا التي تحفزنا لمزيد من الانغماس في الدنيا ومزيد من الغفلة عن الآخرة.(1/7)
ج- ترقيق القلوب: من منا اليوم لا يشكو من قسوة قلبه؟ لا يكاد يمر علي أسبوع دون أن أسمع أو أقرأ شكوى صديق أو قريب يشكو من قسوة قلبه، وسبب ذلك كثرة تعرضنا للفتن وضعف الإيمان، وقد أرشدنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى دواء من أعظم الأدوية التي ترقق القلوب، ألا وهو زيارة القبور حيث قال - صلى الله عليه وسلم - عنها: «إنها ترق القلب وتدمع العين وتذكر الآخرة؛ فزوروها» رواه أحمد من حديث أنس بن مالك (حديث 1000).
فإلى الأخوة الذين أكثروا من شكوى قسوة قلوبهم أقول: أين أنتم من زيارة القبور؟ فإنها ترقق القلوب وتدمع العيون.
د- نفع الميت القريب أو الصديق أو من تربطنا به رابطة محبة: فما انتفع الموتى بمثل دعاء الأحياء لهم وخاصة من قرابتهم ومحبيهم؛ لأن القرابة والمحبة تبعث على صدق اللهج بالدعاء وعلى الإلحاح في الطلب. وشتان بين الدعاء للميت في حالة الزيارة لقبره، والدعاء له في مكان آخر، فإن الدعاء له في حالة الزيارة له حرارة لا يعرفها إلا من جربها.
هـ- النفع العام لموتي المسلمين: فإن الزائر للقبور يسلم على أهلها وفي سلامه دعاء لهم بالسلامة، وأيضًا فالزائر يدعو لأهل القبور بالمغفرة والرحمة ومحو الذنوب وغير ذلك من الأدعية التي ينتفع بها الموتى من المسلمين.
وبعد:
فهذه الأهداف الخمسة أهم الأهداف التي يتطلع لها زائر المقبرة، وقد يزور المسلم المقبرة لتحقيق أحد هذه الأهداف الخمسة أو اثنين منها أو أكثر، والأولى لمن أراد الزيارة أن يستحضر هذه الخمسة كلها حتى يكون له من الأجر الشيء الكثير، فيحيي السنة ويتذكر الآخرة ويرق قلبه ويدعو للخاصة والعامة.
ثالثًا: اصطحب في بعض زياراتك بعض أقاربك وأصدقائك أو جيرانك:
لأنك بذلك تكون ممن أعان على الخير وممن نشر هذه السنة بين الآخرين، وفي الزيارة عظة ودعوة لمن تصطحبه معك.(1/8)
رابعًا: عند دخولك للمقبرة أو المرور بها فابدأ بالسلام الذي كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يسلم به على أهل القبور:
وكان يعلم أصحابه هذا السلام. ومن ذلك حديث عائشة – رضي الله عنها – وفيه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - علمها السلام على أهل القبور بـ «السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون» الحديث رواه مسلم في كتاب الجنائز (1619، 1620).
خامسًا: تقيد بالآداب الخاصة بزيارة القبور والتي منها:
أ- البعد عن كل ما يغضب الله تعالي، وخاصة الشرك بالله كدعاء الأموات أو الاستغاثة بهم من دون الله، أو الذبح لهم أو عندهم ونحو ذلك من الشركيات.
ب- عدم الجلوس على القبر لحديث أبي مرثد الغنوي قال: سمعت الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تصلوا إلي القبور، ولا تجلسوا عليها» رواه مسلم.
ج- عدم المشي بين قبور المسلمين في النعلين؛ لحديث بشير بن الخصاصية، وفيه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رأي رجلاً يمشي بين القبور عليه نعلان فقال: «يا صاحب السبتتين ألق سبتتيك» الحديث أخرجه أصحاب السنن وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
سادسًا: اجعل أحداث وصور الزيارة باقية في مخيلتك ماثلة أمامك بعد الزيارة:
فإذا تكاسلت نفسك عن طاعة من الطاعات تذكرت الزيارة فذكرتك بالآخرة مما يحفزك للطاعة، وإذا همت نفسك بفعل معصية تذكرت الزيارة فذكرتك بالآخرة مما يحجزك عن المعصية.
أخيرًا - عد سريعًا:
لا تجعل الزيارة في أوقات فراغك من الأشغال، بل اجعلها شغلاً من أشغالك، وأوقاتها متقاربة بقدر الإمكان فإنها من أغذية الروح وأدوية القلب التي لا غنى لك عنها.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(1/9)