أهمية علم مصطلح الحديث
ذياب بن سعد الغامدي
لعلم مصطلح الحديث أهمية عظيمة؛ وقد أشار إلى أهمية هذا الفنِّ عددٌ من العلماء الأجلاَّء أذكر منهم:
الحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقي في أول "شرح ألفيته" التي لخص فيها "كتاب ابن الصلاح" في هذا الفن؛ حيث قال: "وبعد؛ فعلم الحديث خطير وقعه، كبيرٌ نفعُه، عليه مدار أكثرِ الأحكامِ، وبه يعرف الحلال والحرام، ولأهله اصطلاحٌ لا بُدَّ للطَّالب من فهمه؛ فلهذا نُدِب إلى تقديم العناية بكتابٍ في علمه"(1).
فإذا علم هذا فلا شك أن الإسناد وتأريخ الرواة، ووفياتهم، ونقد الرواة، وبيان حالهم من تزكية أو جرح، وسبر متن الحديث ومعناه، وعلم الجرح والتعديل، وعلم علل الحديث: هي شعب كبرى من "علم مصطلح الحديث"؛ فهو المَقسِم العام، وتلك أقسام منه.
وذلك أن "علم مصطلح الحديث" هو مجموع القواعد والمباحث الحديثية المتعلقة بالإسناد والمتن، أو بالراوي والمروي حتى تقبل الرواية أو ترد، التي بدأ تأسيسها في منتصف القرن الأول للهجرة حتى تكاملت، ونضجت، وانصرفت في أواخر القرن التاسع لحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدس والتزوير، والخطأ والتغيير، وهي تتصل بضبط الحديث سنداً، ومتناً، وبيان حال الراوي والمروي ومعرفة المقبول والمردود، والصحيح والضعيف، والناسخ والمنسوخ، وما تفرع عن ذلك كله من الفنون الحديثية الكثيرة، وكل ذلك يسمى: "علم مصطلح الحديث"، أو "علم أصول الحديث"، أو "علم المصطلح" اختصاراً، كما سيأتي بيانه ـ إن شاء الله ـ(2).
وللأستاذ الشيخ سليمان الندوي ـ رحمه الله ـ كلمة مهمة في بيان أهمية الرواية، وضرورة نقد المرويات أحببت أن أوردها هنا؛ ففيها خير تعريف لعلم أصول الحديث.(1/1)
قال ـ رحمه الله ـ وهو يتحدث عن "تحقيق معنى السنة ومكانتها": "الرواية أمر ضروري؛ لا مندوحة عنه لعلم من العلوم، ولا لشأن من شؤون الدنيا عن النقل والرواية؛ لأنه لا يمكن لكل إنسان أن يكون حاضراً في كل الحوادث.
فإذاً لا يُتصور علم الوقائع للغائبين عنها إلا بطريق الرواية شفاهاً، أو تحريراً.
وكذلك المولودون بعد تلك الحوادث لا يمكنهم العلم بها إلا بالرواية عمن قبلهم.
هذه تواريخ الأمم الغابرة والحاضرة، والمذاهب والأديان، ونظريات الحكماء والفلاسفة، وتجارب العلماء واختراعاتهم: هل وصلت إلينا إلا بطريق النقل والرواية؟
ولما كانت الأحاديث أخباراً وجب أن نستعمل ـ في نقدها وتمييز الصحيح من غيره ـ أصول النقد التي نستعملها في سائر الروايات والأخبار التي تبلغنا؛ فهذه القواعد وأشباهها استعملها المحدثون في نقد الأحاديث، وسموها: "أصول الحديث"، وبذلك ميزوا الأحاديث الصحيحة من غيرها"(3).
نشأة علم مصطلح الحديث:
نشأت علوم الحديث مع نشأة الرواية ونقل الحديث في الإسلام، وبدأ ظهور هذه الأصول بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حين اهتم المسلمون بجمع الحديث النبوي خوفاً من ضياعه، فاجتهدوا اجتهاداً عظيماً في حفظه وضبطه، ونقله، وتدوينه، وكان من الطبعي أن يسبق تدوين الحديث علم أصول الحديث؛ ذلك لأن الحديث هو المادة المقصودة بالجمع والدراسة، وأصول الحديث هي القواعد والمنهاج الذي اتبع في قبول الحديث أو رده، ومعرفة صحيحه من ضعيفه.(1/2)
وقد اتبع الصحابة والتابعون وتابعوهم قواعد علمية في قبول الأخبار من غير أن ينصوا على كثير من تلك القواعد، ثم جاء أهل العلم من بعدهم فاستنبطوا تلك القواعد من مناهجهم في قبول الأخبار، ومعرفة الذين يُعتد بروايتهم أو لا يعتد بها، كما استنبطوا شروط الرواية وطرقها، وقواعد الجرح والتعديل، وكل ما يلحق بذلك؛ فقد لازم نشوء علم أصول الحديث نقل الحديث وروايته، وهذا أمر طبعي؛ فما دام هنالك نقل للحديث فلا بد من وجود مناهج وطرق لذلك النقل.
ثم ما لبثت علوم الحديث أن تكاملت، وأصبحت علماً مستقلاً له شأنه بين العلوم الإسلامية(4).
ومن خلال هذا نعلم أن بدء تدوين مبادئ هذا العلم، وكذا تسجيل بعض مسائله كان ببدء تدوين التاريخ للرجال، والتصنيف للحديث في الكتب، وكان قبل ذلك محفوظاً في الصدور متردداً على الألسنة، ومع ذلك فإنه لم يؤلف فيه تأليف خاص جامع في الجملة إلا في القرن الرابع، وما جاء قبل ذلك كان رسائل مستقلة، ونتفاً وجملاً منثورة، ورسائل في بعض المسائل منه تجيء بها المناسبات.
وفي أواخر القرن الثاني بُدئ بتأليف بعض المباحث منه على شكل أبواب مستقلة في موضوعها، يجمع الموضوعَ الواحد منها جزءٌ، أو أجزاءٌ تكون كتاباً لطيفاً بمقاييسنا اليوم(5).
وإذا كان ـ كما نقل النووي عن الخطيب ـ لعلي بن المديني مئتا مصنف في الحديث فمعنى ذلك أن هذا المذكورَ من مؤلفاته ـ وقد بلغت (29) كتاباً ـ غيضٌ من فيض من تصانيفه في خدمة الحديث، فلا شك أن هناك أنواعاً أخرى ألف فيها، وانقرضت كُتُبها، ولكن أصحابه وتلامذته تلقوها عنه، واستفادوا منها، وأفادوا بها مَنْ بعدهم.
وهكذا نرى أن علي بن المديني ألف في جملة كبيرة من أنواع المصطلح وفنونه، وهو من أهل القرن الثاني وأوائل الثالث.(1/3)
وهكذا كانوا يؤلفون أول الأمر لكل فن من فنون علم الحديث كتاباً، ثم لما تقعدت المسائل، ونضجت المباحث، واستقرت الاصطلاحات جعلوا كل نوع باباً من أبواب المصطلح، كما هو الحال في كتاب الإمام ابن الصلاح: "معرفة أنواع الحديث"، وقد يطول النوع أو يقصر بحسب ما كتبوا فيه، وما دخل تحته من مسائل وفروع وفوائد وتنبيهات.
ويمكن أن يقال: إن الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ (150 ـ 204هـ)، هو أول من دوَّن بعض المباحث الحديثية في كتابه: "الرسالة"، فتعرض فيه لجملة مسائل هامة مما يتصل بعلم المصطلح، كذكر ما يشترط في الحديث للاحتجاج به، وشرط حفظ الراوي، والرواية بالمعنى، وقبول حديث المدلس، واشتهر عنه موقفه من (الحديث المرسل)، واستعمل (الحديث الحسن) كما ذكره الحافظ العراقي في حاشيته على "مقدمة ابن الصلاح"(6).
أطوار علوم الحديث:
لقد اعتاد الباحثون في علوم السنة تقسيم كتب علوم الحديث إلى طورين:
الأول: طور ما قبل كتاب ابن الصلاح "معرفة أنواع علم الحديث".
الثاني: طور كتاب ابن الصلاح، وما بعده(7).
الطور الأول:
أما بدء الطور الأول لهذا العلم فلا شك أن الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ (150 ـ 204هـ) أول من نعلمه تكلم عن بعض علوم مصطلح الحديث كلام تقعيد وتأصيل في كتابه المشهور بـ "الرسالة".
وإليك طرفاً مما قاله الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ في "الرسالة" مما يتصل أوثق اتصال بمصطلح الحديث.
قال ـ رحمه الله ـ في (باب خبر الواحد)(8): "قال لي قائل: احْدُدْ لي أقلَّ ما تقوم به الحجة على أهل العلم حتى يثبت عليهم خبر الخاصة.
فقلت: خبر الواحد عن الواحد حتى ينتهى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، أو من انتهى به إليه دونه، ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أموراً:(1/4)
منها أن يكون من حدث به ثقة في دينه، معروفاً بالصدق في حديثه، عاقلاً لما يحدث به، عالماً بما يُحيل معاني الحديث من اللفظ، وأن يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمع، لا يحدث به على المعنى؛ لأنه إذا حدث به على المعنى وهو غير عالم بما يحيل معناه: لم يَدْرِ: لعله يحيل الحلال إلى الحرام، وإذا أداه بحروفه فلم يبقَ وجهٌ يخافُ فيه إحالته الحديث.
حافظاً إذا حدث به مِنْ حفظه، حافظاً لكتابه إذا حدث من كتابه، إذا شَرِكَ أهل الحفظ في الحديث وافق حديثهم، بريئاً من أن يكون مدلساً: يحدِّث عمن لقي ما لم يسمع منه، ويحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يحدث الثقات خلافه عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ويكون هكذا من فوقه ممن حدثه، حتى ينتهي بالحديث موصولاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، أو إلى من انتهى به إليه دونه؛ لأن كل واحد منهم مثبتٌ لمن حدثه، ومثبتٌ على من حدث عنه، فلا يستغنى في كل واحد منهم عما وصفت... إلخ".
ونقل الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ في مقدمته لكتاب "لسان الميزان"(9)، كلامَ الشافعي هذا، ثم قال: "وقد تضمن كلام الشافعي هذا جميع الشروط المتفق عليها بين أهل الحديث في حدِّ من تُقبل روايته" انتهى.
وقد علق الشيخ أحمد شاكر على كلام الشافعي في "الرسالة" بقوله: "... ومن فِقْهِ كلام الشافعي في هذا الباب وُجِدَ أنه جمع كل القواعد الصحيحة لعلوم الحديث "المصطلح"، وأنه أول من أبان عنه إبانة واضحة، وأقوى من نصر الحديث، واحتج لوجوب العمل به، وتصدى للرد على مخالفيه، وقد صدق أهل مكة وبروا إذ سموه: (ناصر الحديث)، ـ رضي الله عنه ـ"(10).(1/5)
ثم تبعه الإمام الحافظ عبد الله بن الزبير الحميدي (219هـ) شيخ البخاري والذهلي وهذه الطبقة؛ فقد روى عنه الحافظ أبو بكر بن الخطيب في مواضع من كتابه: "الكفاية في علم الرواية" كلمات هامة في مصطلح الحديث يمكن أن تعد رسالة لطيفة في الموضوع، فيها التعريف الكاشف للحديث الصحيح المحتج به، ولحكم الحديث المعنعن، وما يعد جرحاً عاماً في الراوي، وما لا يُعد إلا جرحاً في بعض حديثه، وغير ذلك مما له أهميته(11).
وكذا في "الجامع الصحيح" للإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ـ رحمه الله ـ (194 ـ 256) جملٌ كثيرةٌ في مسائل مصطلح الحديث، وكذلك في مجموع كتبه كـ "التاريخ"، و"الضعفاء"، فَيُلتَقَط منها جمل جمة من علوم الحديث، لا سيما مباحث الجرح والتعديل.
ثم تبعه الإمام الحافظ مسلم بن الحجاج ـ رحمه الله ـ (240 ـ 261هـ)؛ حيث قدم لكتابه: "الجامع الصحيح"، مقدمة نفيسة تضمنت جملة صالحة من علم المصطلح، وجاءت هذه المقدمة الحديثية الاصطلاحية بالغة الروعة في لغتها، وقوتها ومضمونها، وأمثلتها.
وهناك من الأئمة المحدثين من كان يشير إلى بعض قواعد علوم الحديث من تصحيح، أو تضعيف، أو تعليل خلال كلامه على الحديث، كثيراً كان أو قليلاً.
فمن المكثرين: الإمام الحافظ محمد بن سورة الترمذي ـ رحمه الله ـ؛ ففي كتابه المشهور بـ "الجامع" جملة كبيرة من علوم الحديث نجدها مبثوثة في أبوابه، وعند الكلام على أسانيده.(1/6)
قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله في كتابه:"عارضة الأحوذي"(12): "وليس في قدر كتاب أبي عيسى مِثْلُهُ حلاوةَ مَقْطَعٍ، ونَفَاسَةَ مَتْرَعٍ، وعذوبةَ مشرعٍ، وفيه أربعة عشر علماً فرائد: صنَّف ـ أي الأحاديث ـ على الأبواب ـ وذلك أقرب للعمل ـ وأسند، وصحَّح، وأشهر، وعدد الطرق، وجرَّح، وعدَّل، وأسمى، وأكنى، ووصل، وقطع، وأوضح المعمول به والمتروك، وبين اختلاف العلماء في الرد والقبول لآثاره، وذكر اختلافهم في تأويله، وكل علم من هذه العلوم أصل في بابه، فرْد في نصابه".
وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن عمر بن رشيد ـ رحمه الله ـ: "هذا الذي قاله القاضي أبو بكر ـ رحمه الله تعالى ـ في بعضه تداخل، مع أنه لم يستوف تعديد علومه، ولو عدد ما في الكتاب من الفوائد بهذا الاعتبار لكانت علومه أكثر من أربعة عشر؛ فقد حسَّن، واستغرب، وبيَّن المتابعة والانفراد، وزيادات الثقات، وبين المرفوع من الموقوف، والمرسل من الموصول، والمزيد في متصل الأسانيد، ورواية الصحابة بعضهم عن بعض، ورواية التابعين بعضهم عن بعض، ورواية الصاحب عن التابعي، وعدد من روى هذا الحديث من الصحابة، ومن تثبت صحبته ومن لم تثبت، ورواية الأكابر عن الأصاغر، إلى غير ذلك.
وقد تدخل رواية الصاحب عن التابع تحت هذا، وتاريخ الرواة.
وأكثر هذه الأنواع قد صُنِّف في كل نوع منها، وفي الذي بيناه ما هو أهم للذكر" انتهى.
وقد ختم الترمذي ـ أيضاً ـ "جامعه"، بجزء نفيسٍ للغاية، ألحقه به، وعُرِف أخيراً بكتاب: "العلل الصغير"، جاءت فيه المباحث الكثيرة الهامة: في الجرح والتعديل، ولزوم الإسناد، والرواية عن الضعفاء، ومتى يحتج بحديثهم، ومتى لا يحتج؟ وفي الرواية بالمعنى، كما ذُكِر فيه شيء من مراتب بعض المحدثين الكبار، وصور التحمل والأداء، ومن حُكْم الحديث المرسل، واصطلاح الترمذي في وصفه الحديث بالحسن، أو الغريب في كتابه.(1/7)
ومن المقلين الإمام الحافظ سليمان بن الأشعث بن إسحاق الأزدي المشهور بأبي داود ـ رحمه الله ـ (275هـ)؛ حيث حفظ لنا قدراً حسناً من مسائل هذا العلم في "رسالته في وصف سننه" إلى أهل مكة.
وكذا الإمام الحافظ أبو عبد الرحمن بن شعيب النسائي ـ رحمه الله ـ (303هـ)، لم يخل كتابه: "السنن" من بعض مباحث علوم الحديث.
ففي خلال القرن الثالث اتضحت معالم هذا العلم ـ علوم الحديث ـ بما ذُكِر من مسائله في كتب الرجال، أو في كتب الحديث، أو في كتب مستقلة ذات موضوع واحد، مثل كتب الإمام علي بن المديني، وأكثرَ الكاتبون في مسائله: فمنهم: الإمام الحافظ الحجة أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، (181 ـ 255هـ) في المقدمة النفيسة لكتابه: "السنن"، وهو أحد شيوخ الأئمة المحدثين الكبار كالبخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وأبي زرعة الرازي، وأبي حاتم الرازي، وهذه الطبقة العالية الشأن.
فإن هذه المقدمة نفيسة الموقع كل النفاسة؛ إذ تعرض فيها للتعريف بصاحب السنة الشريفة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما كان الناس عليه قبل مبعثه، كما تعرض لذكر أول شأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ وما أكرمه الله به من معجزات، وما خص به من الصفات المحمدية، والأخلاق النبوية، ولذكر وفاته، وللزوم اتِّباعه، والأدب مع سنته، وأوامره، ونواهيه.
وتوجد ـ أيضاً ـ جملة من ألفاظ الجرح والتعديل، والمصطلح، في كتاب "الثقات" للعجلي: أبي الحسن أحمد بن عبد الله بن صالح العجلي الكوفي ثم الطرابلسي (261هـ) ـ رحمه الله ـ.(1/8)
وكذلك في كتاب: "تاريخ أبي زرعة الدمشقي" (200 ـ 281هـ) ـ رحمه الله ـ كلام كثير جداً في الرجال، ومسائل من علوم المصطلح، بل هو محشو حشواً بتلك الفوائد والمسائل، حتى إن تلميذه أبا بكر الخلال أحمد ابن أحمد بن هارون (311هـ) سمى كتاب شيخه هذا: "كتاب التأريخ وعلل الرجال"؛ ففيه نُقُول في مسائل هامة من علم مصطلح الحديث من كلام أئمة القرن الثاني والثالث، كالإمام التابعي محمد بن شهاب الزهري (124هـ) ـ رحمه الله ـ، وكلام الإمام الأوزاعي (157هـ) ـ رحمه الله ـ، وكلام الإمام مالك (179هـ) ـ رحمه الله ـ ومن كلام كثير سواهم.
وقد جاء في كلام هؤلاء الأئمة: التوثيق، والتضعيف، والجرح والتعديل، والتفضيل لبعض الرواة الثقات على بعض، وذكر من يدلس، ومن لا يدلس، والمفاضلة بين الحافظ والأحفظ، والفقيه وغير الفقيه...، وحكم التحديث، والإخبار، والإجازة، والقراءة على العالم والسماع منه، وكيف يروى عنه في ذلك، وذِكْر مصطلح بعض المحدثين كدحيم شيخ أبي زرعة الدمشقي، وذِكْر من حظي بالصحبة واللقاء، والإدراك للنبي صلى الله عليه وسلم وعدمه، وذِكْر الموالي ومواليهم، والأسماء المتفقة والمفترقة، وأنساب الرواة، وألقابهم، وكناهم، وبيان مواليدهم، ووفياتهم، وبعض شيوخهم، والجرح ببدعة القدرية والخوارج، وبالزندقة، وباللصوق بالسلطان والخروج عليه، وغير ذلك من المسائل الهامة المفيدة.
وكذلك في كتاب "المعرفة والتأريخ" للحافظ الإمام يعقوب بن سفيان الفَسَوي (200 ـ 277 هـ) جملة صالحة من علوم المصطلح منثورة في خلال بحوثه، يقف عليها الباحث المتتبع بيسر وسهولة.
وكذا للحافظ العلامة أبي بكر أحمد بن عمر بن عبد الخالق البزَّار (290هـ) جزءٌ في معرفة من يُترك حديثه، أو يقبل، ذكره الحافظ العراقي، ونقل عنه في شرحه "للألفية".(1/9)
وهكذا تعددت التآليف، وتنوعت التصانيف، وكثرت الروافد والأصول، حتى جاء في القرن الرابع الهجري أئمة أعلام لم يفتؤوا من العناية، والكلام عن الحديث ومصطلحاته، ومباحثه.
وفي منتصف القرن الرابع توجهت أنظار بعض العلماء إلى جمع تلك المباحث والقواعد المتفرقة في كتاب جامع ناظم لمسائل هذا العلم العظيم ـ علوم الحديث ـ.
فقد كتب الإمام الحافظ الناقد ابن حبان البُستي مقدمة صحيحه: "التقاسيم والأنواع"، ومقدمة كتابه الآخر: "المجروحين"، ومقدمة كتابه الثالث: "الثقات"، وتعد هذه المقدمات ـ وخاصة مقدمة الصحيح والمجروحين ـ من أهم ما كُتبَ في علوم الحديث لما حوته من مباحث مهمة، وقواعد لا يستغنى عن العلم بها.
وفي القرن الرابع أيضاً كتب الإمام أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي (388 هـ) مقدمة كتابه: "معالم السنن"، ومع كونها صغيرة إلا أنها تعتبر أول باكورة في تقسيم الحديث إلى ثلاثة أقسام: صحيح، وحسن، وضعيف.
ثم كتب ـ أيضاً ـ الإمام أبو الحسن علي بن محمد بن خلف القابسي (403هـ) مقدمة كتابه: "مختصر الموطأ عن مالك"، المعروف بـ "الملخَّص" تناول فيها مسائل في: الاتصال والانقطاع، وصيغ الأداء، والرفع وأنواعه، ونحوها.
وهكذا تتابع العلماء كتابةً في هذا الفن ـ علوم الحديث ـ وما زالوا على هذا المنوال حتى تصدى بعض أهل العلم للكتابة والتدوين لهذا الفن استقلالاً.
التدوين استقلالاً:
ومن أول من دوَّن فيه تدويناً مستقلاً الحافظ القاضي الإمام البارع الذواقة أحد أئمة هذا الشأن ـ دون شك ـ: أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاَّل الفارسي الرَّامَهُرْمُزي، (265 ـ 360 هـ) ـ رحمه الله ـ، فألَّف فيه كتابه الرائد الماتع الشهير بـ "المحدث الفاصل بين الراوي والواعي"، وهو كتاب جليل عظيم النفع جمع فيه مادة ضخمة منوعة في فنون الرواية وآدابها.(1/10)
وكذلك نجد كتاب: "المحدث الفاصل" معتمداً الاعتماد كله على كلام أئمة النقد من أئمة الحديث في القرن الثالث الهجري؛ حيث بيَّن فيه منهجهم في مسائل "علوم الحديث".
وكذلك لأبي عبد الله بن منده الحافظ (395هـ) ـ رحمه الله ـ "جزء" في شروط الأئمة في القراءة، والسماع، والمناولة، والإجازة ذكره الحافظ سبط ابن العجمي في كتابه: "التبيين لأسماء المدلسين".
وكذا قام الإمام الحافظ أبو عبد الله الحاكم النيسابوري ـ رحمه الله ـ (405هـ)، بتأليف كتاب مستقل فيما نحن بصدده، وذلك هو كتابه العظيم: "معرفة علوم الحديث".
فجاء كتاب الحاكم وكأنه مختص بما كان أهمله كتاب الرَّامَهُرْمُزي ـ رحمه الله ـ من الاعتناء بمصطلح الحديث، وشرح معناه، وضرب الأمثلة له.
وقد تكلم ـ رحمه الله ـ عن العالي والنازل، والموقوف والمرسل والمنقطع، والمعنعن،والمعضل، والصحيح، والسقيم، وغير ذلك من الأنواع، التي بلغت عنده اثنين وخمسين نوعاً.
وكتابه هذا صريح كله بأنه ناقل لما عليه أئمة الحديث من شيوخ الحاكم ومَنْ قبلهم، وخاصة أئمة القرن الثالث الهجري.
وعلى هذا المنهج نفسه ـ في الأغلب ـ صنف الحافظ أبو نعيم الأصبهاني "مستخرجه على معرفة علوم الحديث للحاكم"(13)؛ لأن طبيعة المستخرجات تُلزم بذلك.
وهنا ننتهي من الكلام على مصنفات علوم الحديث في القرن الرابع، وندخل في القرن الخامس الهجري؛ إذ تتابع فيه التأليف، وتعدد فيه التصنيف، فألف فيه حافظ المشرق الخطيب البغدادي أبو بكر أحمد بن علي ابن ثابت (392 ـ 463 هـ) فأكثر، وأوعبَ، وأطالَ، ونَوَّعَ؛ وقد قال عنه ابن نقطة الحنبلي: "له مصنفات في علوم الحديث لم يُسبق إلى مثلها ولا شبْهها عند كل لبيب. إن المتأخرين من أصحاب الحديث عيالٌ على أبي بكر الخطيب"(14). انتهى.(1/11)
وعنه قال ابن حجر: "قلَّ فن من فنون الحديث إلا وقد صنف فيه كتاباً مفرداً"(15)؛ إلا أن أجلَّ كتبه، وأنفعها في علوم الحديث هو: "الكفاية في علم الرواية".
أما منهجه في كتابه هذا فقد صرح به الخطيب ـ رحمه الله ـ في مقدمته تصريحاً واضحاً؛ حيث قال: "وأنا أذكر ـ بمشيئة الله تعالى وتوفيقه ـ في هذا الكتاب: ما بطالبِ الحديث حاجةٌ إلى معرفته، وبالمتفقه فاقةٌ إلى حفظه، ودراسته من بيان أصول علم الحديث وشرائطه، وأشرح من مذاهب السلف الرُّواة والنَّقلة في ذلك ما يكثر نفعه.
ومن أعيان هذا القرن ـ الخامس ـ الحافظ أبو يعلى الخليل بن عبد الله بن أحمد الخليلي (446 هـ)؛ فقد كتب في مقدمة كتابه: "الإرشاد في معرفة علماء الحديث" مقدمة نفيسة تعرض فيها لمصطلحات مهمة بالشرح والتمثيل لها، وكلامه فيها من معين المحدثين، ومن صافي مشاربهم، ولا أثر فيها لأي علم غريب.
وكتب ـ أيضاً ـ في هذا القرن الإمام البيهقي (458هـ)، ـ رحمه الله ـ كتابه: "المدخل إلى السنن الكبرى".
وقد طبع القسم الثاني من هذا الكتاب، وهو الموجود من مخطوطته، وبقية الكتاب شبه مفقودٍ، فكان مما فقدنا من هذا الكتاب القسم الذي خصَّه البيهقي لعلوم الحديث، ومصطلحاته، وأصوله ـ والله أعلم!
وقد جعل الحافظ ابن كثير (701 ـ 774 هـ) ـ رحمه الله ـ كتاب البيهقي هذا مرجعه الثاني بعد كتتاب ابن الصلاح في كتاب: "اختصار علوم الحديث"، كما صرح بذلك في مقدمة كتابه(16).
غير أن محقق كتاب البيهقي: الشيخ محمد ضياء الرحمن الأعظمي قد جمع مجموعة من النقول عن القسم المفقود من "المدخل إلى السنن" من كتب علوم الحديث المتأخر مصنفوها عن الإمام البيهقي(17).
فـ "المدخل إلى السنن الكبرى" عبارةٌ عن كتابٍ لإسناد أقوال أئمة الحديث في القرن الرابع فما قبله المتعلقة بأصول الرواية وقواعدها.(1/12)
كما ألف فيه ـ أيضاً ـ حافظ المغرب الإمام ابن عبد البر الأندلسي: أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر، (368 ـ 463هـ)، وذلك فيما أودعه في مقدمته النفيسة الواسعة الشاملة لكتابه العُجاب الفريد: "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد" في ستين صفحة.
وقد نقل الحافظ ابن الصلاح ـ رحمه الله ـ كلام الحافظ ابن عبد البر في علم المصطلح في غير موضع من كتابه: "معرفة أنواع علم الحديث".
فإذا انتهينا من مقدمة ابن عبد البر نذكر ـ تبعاً ـ قرينه أبا محمد ابن حزم: علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي الظاهري، (456هـ)، وإنما قلت: تبعاً؛ لأنه تعرض لعلوم الحديث في كتابه: "الإحكام في أصول الأحكام"، وهو كتابٌ في أصول الفقه لا في علوم الحديث، ولا مقدمة لكتاب في الحديث!
والكتاب، بعد ذلك وعلى هذه الشاكلة، يمثل قواعد ابن حزم ـ رحمه الله ـ ومصطلحه، لا قواعد الحديث، ومصطلحه عند أهله!
وجاء بعد الحافظين الكبيرين ـ الخطيب البغدادي، وابن عبد البر الأندلسي ـ الحافظ القاضي عياض اليحصبي (479 ـ 544 هـ) ـ رحمه الله ـ فألف كتابه الماتع: "الإلماع إلى معرفة أصول الرِّواية وتقييد السَّماع".
ولهذا الإمام تعرُّضٌ واسع لأبوابٍ من علوم الحديث، في كتابين له هما: "الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع"، ومقدمة كتابه: "إكمال المعلم بفوائد مسلم"، للمازري.
إلا أن كتابه الأول "الإلماع" كتاب مختص بأصول الرواية (طرق التحمُّل وحجيتها)، وتقييد السماع (كألفاظ الأداء)، وما يتعلق بذلك، وبعض الآداب وما شابهها.
فليس في الكتاب اهتمام بالمصطلحات الحديثية لأقسام الحديث التي هي مدار حديثنا!
أما كتابه الآخر: فهو شرح لمقدمة الإمام مسلم لصحيحه، وحيث تعرض الإمام مسلم في مقدمته لصحيحه لبعض القضايا المهمة في علوم الحديث تناولها القاضي عياض بالشرح.(1/13)
وبما أن القاضي عياض ـ رحمه الله ـ فقيه وأصولي لذلك فقد حشا كتابه: "إكمال المعلم" بالنقل عن الفقهاء، والأصوليين، والمتكلمين حتى غلب النقل عنهم على المتحدثين(18)!
ثم جاء بعده قاضي الحرمين أبو حفص الميَّانِشيّ: عمر بن عبد المجيد بن عمر القرشي، نزيل مكة (583 هـ) ـ رحمه الله ـ وكتب رسالته الصغيرة المسماة بـ "ما لا يسع المحدث جهله"، وهي رسالة مختصرة جداً، وغالبها نقل واختصار من كتابَيْ: "معرفة علوم الحديث" للحاكم، و"الكفاية" للخطيب، ولم تَخلُ من فائدةٍ.
وقد أغفل الحافظ ابن حجر ـ أيضاً ـ في سلسلة من كتبوا، أو ألفوا في (المصطلح): الإمام مجد الدين أبا السعادات مبارك بن محمد المشهور بابن الأثير، (544 ـ 606 هـ) وما كتبه في مقدمة كتابه: "جامع الأصول في أحاديث الرسول #"، وذلك في الباب الثالث في بيان أصول الحديث، وأحكامها، وما يتعلق بها(19).
وقد بلغ هذا الباب (111) صفحة فهو كتاب وليس بباب صاغه الإمام ابن الأثير ـ رحمه الله ـ بفصاحة عبارته، وجمال أسلوبه، ودقة صياغته، واستوفى فيه أهم مباحث المصطلح تقريباً.
واستخلص ذلك من كتب الترمذي، والحاكم، والخطيب، البغدادي وغيرهم، كما أشار إلى ذلك في فاتحة ذلك الباب.
وبقي في هذا الطور مشاركات عدة مما بلغنا، وما فُقِدَ فأكثر!
لكن ما بلغنا من هذه المشاركات: إما أنه لم يقصد إلى شرح مصطلحات، وإنما اعتنى ببيان بعض القواعد، والأصول، أو أنه نقل محض تندر فيه الإضافة المؤثرة.
ومن أمثلة تلك المشاركات:
كتاب: "شروط الأئمة الستة" لأبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي (507 هـ).
ومقدمة كتاب: "الوجيز في ذكر المجاز والمجيز" لأبي طاهر أحمد بن محمد السلفي (576 هـ).
وكتاب: "شروط الأئمة الخمسة" لأبي بكر محمد بن موسى الحازمي (585هـ ).
وبهذا نكتفي بما ذكر مما ألف في هذا الطور طلباً للاختصار، وما ذُكر فيه كفاية ـ والله أعلم.
الطور الثاني:(1/14)
وهذا الطور لا شك أنه أخذ حجماً كبيراً، وميداناً واسعاً في كثرة التأليف في فن "علم الحديث"، حتى إنك قد تعجز عن حصر الكتب التي اعتنت بهذا الفن، لذا لن نتوسع في ذكر كتب المصطلح التي صنفت في هذه الحقبة الزمنية خشية الإطالة والخروج عن مقصدنا؛ ومنه سنكتفي ـ إن شاء الله ـ بذكر كتابين عظيمين، وكذا ما تعلق بهما سواءاً اختصاراً، أو شرحاً، أو تنكيتاً، أو تعليقاً؛ لأنَّ في ذكرهما وذكر ما تعلق بهما كفاية، ووفاية ـ والله أعلم ـ، وهما:
الأول: كتاب: "معرفة أنواع علم الحديث"، للإمام ابن الصلاح ـ رحمه الله ـ.
الثاني: كتاب: "نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر"، للإمام ابن حجر ـ رحمه الله ـ.
كتاب: "معرفة أنواع علم الحديث":
ثم بعد هذا وذاك جاء الحافظ ابن الصلاح: أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشَّهْرَزُورِي، الشافعي (577 ـ 643 هـ)، فألف كتابه العظيم في علوم الحديث المسمى بـ "معرفة أنواع علم الحديث"، وقد اشتهر أخيراً بـ "مقدمة ابن الصلاح"، ووقف التأليف في "علوم الحديث"، عند كتابه هذا، فإنه جمع فيه عيونه، واستوعب فيه فنونه.
وغدا هذا الكتاب ـ لمحاسنه الجمة، وتفوقه على كل من سبقه ـ المنهل العذب المورد في المصطلح لكل حديثي ومحدث وعالم، وتوجه العلماء من بعده إليه بشرحه، أو اختصاره، أو تحشيته، أو نظمه.
قال الحافظ السيوطي ـ رحمه الله ـ عنه: "... إلى أن جاء الشيخ تقي الدين ابن الصلاح، فجمع "مختصره" المشهور، فأملاه شيئاً بعد شيء لما ولي تدريس دار الحديث الأشرفية ـ بدمشق ـ فهذب فنونه، ونقح أنواعه، ولخصها، واعتنى بمؤلفات الخطيب، فجمع متفرقاتها، وشتات مقاصدها، فصار على كتابه المعوَّل، وإليه يرجع كل مختصر ومطول". انتهى.(1/15)
وعنه يقول الحافظ ابن حجر: "فهذب فنونه، وأملاه شيئاً بعد شيء؛ فلهذا لم يحصل ترتيبه على الوضع المتناسب، وضم إليها نخب فوائدها، فاجتمع في كتابه ما تفرق في غيره؛ فلهذا عكف الناس عليه، وساروا بسيره، فلا يحصى كم ناظم له ومختصر، ومستدرِك عليه ومقتَصر، ومعارضٍ له ومنتصر!"(20).
فإذا علم هذا فإننا نجد أهل العلم لم يألوا جهداً في العناية بكتاب ابن الصلاح ـ هذا ـ ولذا تضافرت جهودهم في الاهتمام به شرحاً، أو نظماً، أو اختصاراً، أو تنكيتاً، أو تعليقاً، أو تعقيباً، وهكذا لم يبرحوا عن متابعة خدمة هذا الكتاب الجليل، وهو كذلك؛ فقد أتعب ابن للصلاح ـ رحمه الله ـ من بعده، وحاز سعده؛ حيث أصبح كتابه همّاً للاحقين، ومفزعاً للطالبين، والله يؤتي الفضل من يشاء من العالمين، والحمد لله رب العالمين.
هذا، وبقي كتاب الحافظ ابن الصلاح: "معرفة أنواع علم الحديث" المنهل الوحيد المفضل في علم المصطلح نحو مائتي سنة حتى جاء الإمام الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ فألف رسالته المختصرة التي سماها: "نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر"، كما سيأتي الكلام عنها ـ إن شاء الله ـ.
نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر:(1/16)
لقد ألف الإمام الحافظ شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد العسقلاني، المشهور بابن حجر ـ رحمه الله ـ (773 ـ 852 هـ)، أمير المؤمنين في الحديث، رسالته المختصرة الجامعة التي سماها: "نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر"، ثم شرحها بالكتاب الذي اشتهر ـ أيضاً ـ باسم: "نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر"، فاتجهت أنظار العلماء إليه، وعوَّلوا في علم المصطلح عليه؛ لاختصاره وتنسيقه، وتمحيصه وتحقيقه، واحتوائه لزيادة جملة هامة من أنواع علم الحديث خلت عنها مقدمة الحافظ ابن الصلاح؛ فمن ثم صارت "نخبة الفكر"، وشرحها محل الدرس والنظر من علماء الأثر، فكثر شراحها، ومختصروها، وكاتبوا حواشيها، وناظموها، كثرة بالغة كادت تبلغ ما بلغته مقدمة ابن الصلاح؛ فلا يحصى كم ناظم لها ومختصر، ومستدرك عليها ومقتصر، ومعارض لها ومنتصر(21)!
ومن خلال ما ذكرناه عن كتاب ابن حجر ـ رحمه الله ـ فإنه لم يكن أقل حظاً من كتاب ابن الصلاح؛ لذا نجد أهل العلم ـ أيضاً ـ لم يألوا جهداً في العناية به؛ حيث تضافرت جهودهم في الاهتمام به سواءاً: شرحاً، أو نظماً، أو اختصاراً، أو تنكيتاً، أو تعليقاً، أو تعقيباً.
الهوامش:
(1)انظر كتاب :" شرح الألفية" للحافظ العراقي (3).
(2) انظر كتاب : "لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث" للشيخ عبد الفتاح أبو غدة ـ رحمه الله ـ(198ـ200) بتصرف .
(3) انظره في مقاله المانع:" تحقيق معنى السنة ومكانتها" المنشور في مجلة المسلمون. في المجلد السادس، ص565،في العدد السادس منه، ص49.
(4) انظر كتاب :" أصول الحديث" للشيخ محمد عجاج الخطيب (14ـ15).
(5) انظر كتاب :" لمحات من تاريخ السنة"للشيخ عبد الفتاح أبو غدة (200ـ201).
(6) انظر كتاب:" التقييد والإيضاح" للحافظ العراقي(8ـ38)، وكتاب:"لمحات من تاريخ السنة" للشيخ عبد الفتاح أبو غدة(205ـ206).(1/17)
(7) انظر كتاب :" نزهة النظر" لابن حجر ـ رحمه الله ـ ،ص (46ـ519)، وكتاب:" تدريب الراوي" للسيوطي ـ رحمه الله ـ (1/35ـ36)، وكتاب:" لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث" للشيخ حاتم الشريف (183ـ وما بعدها) وقد ذكر الأخيران جملة من مباحث هذين الطورين، وهناك كتب أخرى سيأتي ذكرها ـ إن شاء الله ـ.
(8)انظر" الرسالة" للشافعي، ص (8،38).
(9)انظر لسان الميزان لابن حجر (1/18ـ19).
(10) انظر: ما علقه الشيخ أحمد شاكر على كتاب" الرسالة" للإمام الشافعي،ص (369).
(11) انظر هذه الكلمات في كتاب" الكفاية" للخطيب ـرحمه الله ـ في الصفحات التالية (40،41،133،146،175،179،181،265،412،429)، نقلا عن الشيخ أبو غدة في كتابه السابق (215ـ216).
(12) انظر عارضة الأحوذي لأبي بكر العربي(1/5).
(13) ذكر هذا المستخرج، الحافظ ابن حجر في كتابه:" نزهة النظر"(47)، والسيوطي في كتابه:" التدريب"(1/35).
(14) انظر كتاب:" التقييد لمعرفة رواة السنن والمسانيد"لابن نقطة، ص(154)، و"تكملة الإكمال" (1/103).
(15) انظر كتاب:" نزهة النظر"لابن حجر، ص (48).
(16) انظر كتاب:" اختصار علوم الحديث" لابن كثير، ص (1/96).
(17) انظر مقدمة محقق "المدخل إلى السنن"(75ـ83).
(18) انظر كتاب:" المنهج المقترح..." لحاتم الشريف، (206ـ207).
(19) انظر كتاب" جامع الأصول..." لابن الأثير، (1/68ـ178).
(20) انظر كتاب:" نزهة النظر" لابن حجر(51).
(21) من كلام ابن حجر في "نزهة النظر" عن كتاب ابن الصلاح(51).(1/18)
" بسم الله الرحمن الرحيم "
موضوع البحث
" مباحث الجرح والتعديل ورواة الحديث المحتاج إليها في علم التخريج "
مُلخص من كتاب التخريج ودراسة الأسانيد
للدكتور محمود الطحان
تلخيص
أحمد محمد بوقرين
طالب الماجستير بالجامعة الأمريكية المفتوحة قسم أصول الدين
بسم الله الرحمن الرحيم :
إن الحمد لله نحمده و نشكره و نستهديه و نستغفره و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له و من يضلل فلا هادي له و اشهد ألا إله إلا الله و أشهد أن محمدا عبده و رسوله .
اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك و من الأمل إلا فيك و من التسليم إلا لك و من التفويض إلا إليك و من التوكل إلا عليك و من الرضا إلا عنك و من الطلب إلا منك و من الذل إلا في طاعتك و من الصبر إلا على بابك و من الرجاء إلا في يديك الكريمتين و من الرهبة إلا بجلالك العظيم .
اللهم تتابع برك و اتصل خيرك وكمل عطاؤك و عمت فواضلك و تمت نوافلك وبر قسمك
وصدق وعدك و حق على أعدائك وعيدك ولم يبقى لي حاجة هي لك رضا و لي صلاح إلا قضيتها و أعنتني على قضائها يا أرحم الراحمين .
وبعد :
فإني سأحاول - بعون الله تعالى - أن أتناول في هذا البحث ملخص لمباحث الجرح والتعديل ورواة الحديث المحتاج إليها في علم الجرح والتعديل وسوف أبدأ في بحثي هذا بتعريف الجرح والتعديل وكذلك التخريج في اللغة و كذلك في الاصطلاح ثم أعرج على موضوع ما يشترط في الجارح والمعدل من علم وتقوى وورع وغيرها من الصفات الواجب توفرها في المجرح والمعدل ثم سوف أتطرق إلى موضوع آخر وهو بما يثبت الجرح والتعديل من الاستفاضة والشهرة و نص أحد علماء الجرح أو التعديل ثم سأتطرق إلى موضوع شروط قبول الجرح والتعديل ثم ننتقل إلى موضوع تعارض الجرح والتعديل ثم بعد ذلك سأذكر ألفاظ الجرح والتعديل سائلا الله عز وجل التوفيق والتيسير.
المبحث الأول ـ تعريف الجرح والتعديل وعلم التخريج :
تعريف الجرح والتعديل:(2/1)
الجرح لغة:
مصدر جرح يجرح، أي أثر فيه بالسلاح ونحوه.
واصطلاحاً:
هو الطعن في راوي الحديث بما يسلب أو يخل بعدالته أو ضبطه.
ومعنى: يسلب، أي: يزيل بالكلية، كالوصف بالكفر المزيل للعدالة بالكلية، والوصف بالخرف المزيل للضبط بالكلية.
ومعنى : يخل، أي: يضعف العدالة كالوصف بالفسق، أو يضعف الضبط كالوصف بكثرة الأوهام.
التعديل لغة:
هو التقويم، أخذا من قولهم: عدله تعديلاً فاعتدل، أي: قومه فاستقام.
واصطلاحاً: هو وصف الراوي بما يدل على عدالته وضبطه.
مشروعيتهما:
الكلام في الرجال جرحاً وتعديلاً واجب على الكفاية بإجماع المسلمين احتياطاً في أمر الدين، وتمييزاً لمواقع الغلط في هذا الأصل العظيم (السنة) الذي عليه مبنى الإسلام، وأساس الشريعة لكي يعرف من ترد روايته من تقبل.
والأصل في ذلك قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا).
وروى الشيخان عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رجلاً استأذن على رسول الله (ص)، فقال: ائذنوا له بئس أخو العشيرة. أو ابن العشيرة.
ولا يعد الكلام في الرجل جرحاً من الغيبة.. ذكر ابن المبارك رجلاً، فقال: يكذب، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن تغتاب؟ قال: اسكت، إذا لم نبين كيف يعرف الحق من الباطل؟.
وقال يحيى بن سعيد: سألت سفيان الثوري، وشعبة، ومالك بن أنس، وسفيان بن عيينة عن الرجل واهي الحديث، فأسأل عنه، فأجمعوا أن أقول: ليس هو ثبتاً، وأن يبين أمره.
وقال أبو تراب النخشبي الزاهد لأحمد بن حنبل: يا شيخ! لا تغتب العلماء، فقال له أحمد: ويحك هذا نصيحة، ليس هذا غيبة.
التخريج:
التخريج لغة ً :
هو اجتماع أمرين متضادين في شئ واحد ويطلق أيضا على معان أخرى منها الاستنباط .
التخريج اصطلاحا :
هو الدلالة على موضوع الحديث في مصادره الأصلية التي أخرجته مع بيان درجته صحة أو ضعفاً عند الحاجة إلى ذلك.(2/2)
والمراد بالمصادر الأصلية: هي الكتب التي تُروى بالأسانيد من المؤلف إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
قال الإمام السخاوي في فتح المغيث: "والتخريج: إخراج المحدث الأحاديث من بطون الأجزاء, والمشيخات, والكتب, ونحوها. وسياقها من مرويات نفسه, أو بعض شيوخه, أو أقرانه, أو نحو ذلك. والكلام عليها, وعزوها لمن رواها من أصحاب الكتب, والدواوين, مع بيان البدل والموافقة ونحوهما...".
قال الزيلعي في نصب الراية : "لأن وظيفة المحدث أن يبحث عن أصل الحديث فينظر من خرجه ولا يضره تغير بعض ألفاظه ولا الزيادة فيه أو النقص. وأما الفقيه فلا يليق به ذلك لأنه يقصد أن يستدل على حكم مسألة ولا يتم له هذا إلا بمطابقة الحديث لمقصوده".
المبحث الثاني : الحاجة إلى علم الجرح والتعديل :
إن الحاجة ماسة جدا إلى علم الجرح والتعديل للحكم على رجال الإسناد ، وبالتالي لمعرفة مرتبة الحديث لأنه لا يمكن أبدا دراسة الإسناد إلا بعد معرفة قواعد الجرح والتعديل التي اعتمدها أئمة هذا الفن ، ومعرفة شروط الراوي المقبول وكيفية ثبوت عدالته وضبطه وما إلى ذلك من الأمور المتعلقة بهذه المباحث ، لأنه لا يتصور أن يصل الباحث في الإسناد إلى نتيجة ما مهما قرأ في كتب التراجم عن رواة هذا الإسناد ، إذا لم يكن عارفا من قبل قواعد الجرح والتعديل ، ومعنى ألفاظهما في اصطلاح أهل هذا الفن ، ومراتب هذه الألفاظ من أعلى مراتب التعديل إلى أدنى مراتب الجرح.
المبحث الثالث ـ ما يشترط في الجارح والمعدل:
يجب أن يتوفر في الجارح والمعدل الخصال التي تجعل حكمه منصفاً كاشفاً عن حال الراوي، وهي:
1 ـ أن يتصف بالعلم والتقوى والورع والصدق لأنه إن لم يكن بهذه المثابة فهو محتاج إلى من يعدله فكيف يكون حاكماً على غيره بالجرح والتعديل والحالة كما ذكر.(2/3)
2 ـ أن يكون عالماً بأسباب الجرح والتعديل لأنه إن لم يكن بهذه الصفة ربما جرح الراوي بما لا يقتضي جرحه، أو بأمر فيه خلاف قوي، وربما عدل الرجل استدلالاً ببعض مظاهره دون خلطة ومعرفة وسير لأحواله.
3 ـ أن يكون عالماً بتصاريف كلام العرب لا يضع اللفظ لغير معناه، ولا يجرح بنقله لفظاً هو غير جارح.
المبحث الرابع : شروط قبول الراوي :
أجمع جماهير أئمة الحديث والفقه على أنه يشترط فيمن يحتج بروايته شرطان أساسيان هما :
1. العدالة :
ويعنون بها أن يكون الراوي مسلما بالغا عاقلا سليما من أسباب الفسق , سليما من خوارم المروءة .
2. الضبط : ويعنون به أن يكون الراوي غير سيء الحفظ ولا فاحش الغلط ولا مخالفا للثقات ولا كثير الأوهام ولا مغفلا .
المبحث الخامس ـ بم يثبت الجرح والتعديل :
يثبت الجرح والتعديل بواحد من طرق ثلاثة:
الأول:
الاستفاضة والشهرة، فمن اشتهر بين أهل الحديث بعدالته، وشاع الثناء عليه استغنى عن بينة شاهدة بعدالته، وهؤلاء مثل مالك، وشعبة، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، و عبدالله بن المبارك، ووكيع، وأحمد بن حنبل، فمثل هؤلاء لا يسأل عن عدالتهم، لأن شهرتهم بالعدالة أقوى في النفس من شهادة الواحد والاثنين بعدالتهم.
سئل الإمام أحمد بن حنبل عن إسحاق بن راهويه، فقال: مثل إسحاق يسأل عنه؟! إسحاق عندنا إمام من أئمة المسلمين.
وحكم الجرح فيما سبق كالتعديل.
الثاني:
أن ينص اثنان من أهل العلم على عدالته أو جرحه، وهذا باتفاق الجماهير من العلماء قياساً على الشهادة حيث يشترط في تزكية الشاهد اثنان.
الثالث: أن ينص واحد من علماء الجرح والتعديل على عدالة ذلك الراوي أو جرحه على الصحيح المختار الذي رجحه الخطيب البغدادي وابن الصلاح وغيرهما، واستدلوا على ذلك بأن العدد لم يشترط في قبول الخبر، فقد تقدم أن الحديث الغريب قد يكون صحيحاً، فإذا كان كذل فلا يشترط في جرح الراوي أو تعديله أكثر من معدل أو جارح واحد.(2/4)
وخالف بعض العلماء فقالوا: لا يثبت التعديل والجرح إلا باثنين قياساً على الجرح والتعديل في الشهادات.
وقد أثبت بعض أهل العلم الجرح والتعديل بغير ما ذكرناه من الطرق الثلاثة، فمنها:
1 ـ التعديل على الإبهام: ومثال ذلك أن يقول المحدث: حدثني الثقة، أو من لا أتهم دون أن يذكر اسمه، والصحيح أنه لا يكتفي بهذا التعديل المبهم، لأنه وإن كان ثقة عنده فربما لو سماه لعرفناه بجرح هو يجهله.
2 ـ إذا روى الراوي العدل عن راو وسماه لم تكن روايته عنه تعديلاً له عند الأكثرين من أهل الحديث، وهو الصحيح، لأن كبار الأئمة كانوا يروون عن الثقة وغيره، كما جاء ذلك عن سفيان الثوري، ومعتمر بن سليمان، وغيرهما، وإنما يروون عن الضعفاء لأن أحاديثهم ترتقي إلى درجة الاحتجاج إذا كثرت طرقها.
قال سفيان الثوري: إني لأروي الحديث على ثلاثة أوجه، أسمع الحديث من الرجل أتخذه ديناً، وأسمع الحديث من الرجل أوقف حديثه، وأسمع الحديث من الرجل لا أعبأ بحديثه وأحب معرفته.
3 ـ إذا عمل العالم وأفتى على وفق حديث يرويه فلا يعتبر ذلك تصحيحاً منه لذلك الحديث، ولا توثيقاً لرجاله، لأنه ربما عمل بذلك الحديث على سبيل الاحتياط، أو لدليل آخر وافق هذا الخبر، أو نحو ذلك، إلا إذا نص العالم على أن عمله وفتياه كان لأجل ذلك الخبر فإنه يعتبر تصحيحاً منه لذلك الخبر، وتوثيقاً لرجاله.
وكذا إذا عمل العالم وأفتى بخلاف حديث لم يعتبر ذلك منه تضعيفاً لذلك الحديث ولا قدحاً في رجاله، لأنه ربما كان ذلك لمعارض قوي أو تأويل، وقد روى مالك عن نافع حديث ابن عمر: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)، ولم يعمل بظاهره، ولم يكن ذلك قدحاً منه في شيخه نافع.(2/5)
4 ـ ذهب ابن حبان إلى أن الراوي العدل هو من لم يعرف منه الجرح، وهذا مذهب مردود لأن شرط الرواية ثبوت العدالة للراوي لا انتفاء الفسق فحسب، وقد قال الله تعالى في شأن الشهادة: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) فاشترط أن تثبت عدالتهم، ولم يكتف بأن يكونوا منا، أي مسلمين فقط، وقد جر هذا المذهب ابن حبان إلى توثيق جماعات من المجهولين وإيداعهم في كتابه (الثقات).
المبحث السادس ـ شروط قبول الجرح والتعديل:
يشترط لقبول الجرح والتعديل شرطان:
الأول: أن يصدرا ممن استوفى شروط الجارح والمعدل ، فإن اختل بعض شروط الجارح والمعدل لم يقبل جرحه ولا تعديله، ولذلك صور منها:
أ ـ أن يكون الجارح نفسه مجروحاً: ومثال ذلك ما قاله الحافظ ابن حجر في التهذيب في أحمد بن شبيب الحبطي البصري ـ بعد أن نقل توثيقه عن أبي حاتم، وأهل العراق، وابن حبان: وقال أبو الفتح الأزدي: منكر الحديث غير مرضي، قلت ـ القائل ابن حجر ـ : لم يلتفت أحد إلى هذا القول، بل الأزدي غير مرضي.
ب ـ أن يكون الجارح من المتشددين الذين يجرحون الراوي بأدنى جرح: ومثال ذلك قول الإمام الذهبي في الميزان في محمد بن الفضل السدوسي شيخ الإمام البخاري، الملقب بعارم بعد أن ذكر توثيق الدارقطني له: قلت ـ أي الذهبي ـ : فهذا قول حافظ العصر الذي لم يأت بعد النسائي مثله، فأين هذا القول من قول ابن حبان... في عازم: ((اختلط في آخر عمره، وتغير حديثه حتى كان لا يدري ما يحدث به، فوقع في حديثه المناكير الكثيرة، فيجب التنكب عن حديثه فيما رواه المتأخرون، فإذا لم يعرف هذا من هذا ترك الكل ولا يحتج بشيء منها)) قلت: (القائل الذهبي) ولم يقدر ابن حبان أن يسوق له حديثاً منكراً، فأين ما زعم؟.
ج ـ أن يكون غير عارف بما يستدل به على العدالة، فيعدل الرجل بما لا يقتضي تعديله.(2/6)
الثاني: أن يكون الجرح مفسراً، وأما التعديل فلا يشترط تفسيره، وسبب التفريق بينهما أن أسباب التعديل كثيرة يصعب حصرها، فإن ذلك يحوج المعدل إلى أن يقول: فعل كذا وكذا، فيذكر كل ما يجب عليه أن يفعله، ويقول: لم يكن يفعل كذا وكذا، فيعد كل ما يجب عليه أن يجتنبه وهذا أمر شاق جداً، وأما الجرح فإنه يثبت في الراوي ولو بخصلة واحدة مما يقتضي الجرح.
وهناك سبب آخر للتفريق بينهما، وهو أن الناس اختلفوا في أسباب الجرح، فربما جرح بعضهم الراوي بما ليس بجارح عند التحقيق، فكان لا بد من الاستفسار عن سبب الجرح لينظر، هل هو جرح أم لا، وليس الأمر كذلك في التعديل.
هذا هو مذهب الجمهور، واختار الخطيب البغدادي قبول الجرح المجمل ـ أي: الذي لم يفسر ـ إذا صدر من العالم بما يصير به الراوي مجروحاً، لأنا متى استفسرناه عن سبب الجرح فقد شككنا في علمه، فنقضنا ما بنينا عليه أمره من الرضى به والرجوع إليه.
المبحث السابع : هل يقبل الجرح والتعديل من غير بيان الأسباب ؟
أ - أما التعديل فيقبل من غير بيان سببه على المذهب الصحيح والمشهور ، لأن أسبابه كثيرة يصعب ذكرها ، إذ يحتاج المعدًل أن يقول مثلا : " لم يفعل كذا ، لم يرتكب كذا ، أو يقول : هو يفعل كذا ، ويفعل كذا ... " فيعدد جميع ما يفسق بفعله أو بتركه ، وذلك شاق جدا
ب - وأما الجرح فلا يقبل إلا مفسرا مبين السبب ، لأنه لا يصعب ذكر سببه ، ولأن الناس يختلفون في أسباب الجرح . فقد يجرح أحدهم بما ليس بجارح.(2/7)
قال ابن الصلاح : " وهذا ظاهر مقرر في الفقه وأصوله " وذكر الخطيب الحافظ أنه مذهب الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده ، مثل البخاري ومسلم وغيرهما ، ولذلك احتج البخاري بجماعة سبق من غيره الجرح لهم ، كعكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما . وكإسماعيل بن أبي أويس ، وعاصم بن علي ، وعمرو بن مرزوق وغيرهم . واحتج مسلم بسويد بن سعيد ، وجماعة اشتهر الطعن فيهم ، وهكذا فعل أبو داود السجستاني ، وذلك دال على أنهم ذهبوا إلى أن الجرح لا يثبت إلا إذا فُسر سببه "
المبحث الثامن : هل يثبت الجرح والتعديل بقول واحد ؟
الصحيح أنه يثبت الجرح والتعديل بقول واحد من أهل الجرح والتعديل ، ولو كان عبدا أو امرأة ، وقيل لابد من اثنين كالشهادة ، وهذا القول ضعيف غير معتمد.
المبحث التاسع : اجتماع الجرح والتعديل في راو واحد :
إذا اجتمع في راو واحد الجرح والتعديل . فالمعتمد أنه يقدم الجرح على التعديل إذا كان الجرح مفسرا ، وإن كان الجرح مبهما غير مفسر قدم التعديل .
وقيل إن زاد عدد المعدلين على عدد الجارحين قُدم التعديل ، لكن هذا القول غير معتمد .
المبحث العاشر ـ تعارض الجرح والتعديل:
إذا تعارضت أقوال أهل العلم في الراوي فوثقه بعضهم وجرحه بعضهم، فلا يخلو الأمر حينئذ من حالين:
أولاً:
أن يمكن الجمع بين كلام الموثق وكلام الجارح في ذلك الراوي، وذلك بأن يحمل التوثيق على أمر خاص، والتجريح على أمر خاص آخر، ولذلك صور:
أ ـ أن يكون التوثيق للراوي في روايته عن أهل بلده، والجرح له في روايته عن غير أهل بلده، وذلك مثل إسماعيل بن عياش الحمصي، فإنه إذا حدث عن الشاميين فحديثه عنهم جيد، وإذا حدث عن غيرهم فحديث مضطرب.(2/8)
ب ـ أن يكون التوثيق للراوي في وقت من عمره، والتجريح في وقت آخر من عمره، وذلك في حق الرواة المختلطين فيؤخذ من حديث هؤلاء ما روي عنهم قبل أن يختلطوا، ويضعف من حديثهم ما روي عنهم بعد الاختلاط، ومن أمثلة هذا النوع عطاء بن السائب، وسعيد بن أبي عروبة، وصالح بن نبهان مولى التوأمة، هذا فيما إذا استمر المختلط في التحديث بعد اختلاطه، فأما إن توقف عن التحديث أو حجب عنه الناس كما في شأن جرير بن حازم، وعبدالوهاب بن عبدالمجيد الثقفي فإن حديثه مقبول ولا يضره اختلاطه.
ج ـ أن يكون التوثيق للراوي في روايته عن بعض شيوخه، والجرح في روايته عن شيوخ معينين.
ومثال ذلك حماد بن سلمة، فإنه ثقة وخاصة في روايته عن ثابت البناني، ولكن روايته عن قيس بن سعد لا يحتج بها، قال الإمام أحمد: ضاع كتابه عنه، فكان يحدث من حفظه فيخطئ، ومثل هشام بن حسان الأزدي، فإنه ثقة مشهور، لكن تكلم في روايته عن بعض شيوخه، قال يحيى بن معين: يتقى من حديث عن عكرمة، وعن عطاء وعن الحسن البصري.
ثانياً:
أن يتعذر الجمع بين الجرح والتعديل، وهنا يقدم الجرح على التعديل، لأن المعدل يخبر عما ظهر له من حال ذلك الراوي، والجارح يخبر عن باطن خفي عن المعدل، فمعه زيادة علم، فيقدم قوله، ولكن ذلك بشروط ثلاثة:
1 ـ أن يكون الجرح مفسراً.
2 ـ أن لا يكون الجارح متعصباً على المجروح أو متعنتاً في جرحه.
3 ـ أن لا يبين المعدل أن الجرح قد انتفى عن ذلك الراوي بدليل صحيح، وذلك مثل أن يجرحه الجارح بأمر مفسق فيبين المعدل أنه قد تاب من ذلك العمل.
المبحث الحادي عشر ـ ألفاظ الجرح والتعديل:
اصطلح علماء الحديث على ألفاظ يصفون بها الرواة ليميزوا بها بين مراتب أحاديثهم من حيث القبول والرد، وهذه الألفاظ كما يلي:
ألفاظ التوثيق:
1 ـ أعلاها وصف الراوي بما يدل على المبالغة في التوثيق، وأصرح ذلك التعبير بأفعل، كأوثق الناس، أو أثبت الناس، أو إليه المنتهى في التثبت.(2/9)
2 ـ ثم ما كررت فيه صفة التوثيق ـ لفظاً ـ كثقة ثقة، ـ أو معنى ـ كثقة حافظ، وثبت حجة، وثقة متقن.
3 ـ ثم ما انفرد فيه لفظ التوثيق، كثقة، أو ثبت، أو إمام، أو حجة. أو تعدد، لكن مجموعة بمعنى المفرد، مثل: عدل حافظ، أو عدل ضابط.
4 ـ ثم ما قالوا فيه: لا بأس به، أو ليس به بأس ـ عند غير ابن معين ـ أو صدوق، أو خيار، وأما ابن معين فإنه قال: إذا قلت لك: ليس به بأس فهو ثقة.
5 ـ ثم ما قالوا فيه: محله الصدق، أو إلى الصدق ما هو، أو شيخ، أو مقارب الحديث، أو صدوق له أوهام، أو صدوق يهم، أو صدوق إن شاء الله، أو أرجو أنه لا بأس به، أو ما أعلم به بأساً، أو صويلح، أو صالح الحديث.
حكم هذه المراتب:
من قيل فيه من الرواة لفظ من ألفاظ المراتب الثلاث الأولى، فحديثه صحيح، وبعضه أصح من بعض، وأما أهل المرتبة الرابعة فحديثهم حسن، وأما أهل المرتبة الخامسة فلا يحتج بحديثهم بل يكتب حديثهم للاعتبار فإن وافقهم غيرهم قبل، وإلا رد.
ألفاظ الجرح:
وهي على مراتب أيضاً:
1 ـ فشرها الوصف بما دل على المبالغة في الجرح، وأصرح ذلك التعبير بأفعل، كقولهم: أكذب الناس، أو إليه المنتهى في الكذب، أو هو ركن الكذب.
2 ـ ودونها ما قيل فيه: وضاع، أو كذاب، أو يضع الحديث، أو يختلق الحديث أو لا شيء عند الشافعي.
3 ـ ودونها ما قيل فيه: متهم بالكذب، أو بالوضع، أو يسرق الحديث، أو ساقط، أو هالك، أو ذاهب الحديث، أو متروك الحديث، أو تركوه، أو فيه نظر، أو سكتوا عنه عند البخاري في اللفظتين الأخيرتين فقط، أو ليس بثقة.
4 ـ ودونها ما قيل فيه: ردوا حديثه، أو ضعيف جداً، أو واه بمرة، أو تالف، أو لا تحل الرواية عنه، أو لا شيء، أو ليس بشيء عند غير الشافعي، أو منكر الحديث عند البخاري.
5 ـ ودونها ما قيل فيه: ضعيف، أو ضعفوه، أو منكر الحديث عند غير البخاري، أو مضطرب الحديث، أو لا يحتج به، أو واه.(2/10)
6 ـ ودونها ما قيل فيه: فيه مقال، أو فيه ضعف، أو ليس بذلك، أو ليس بالقوي، أو ليس بحجة، أو ليس بالمتين، أو سيئ الحفظ، أو لين، أو تعرف وتنكر، أو ليس بالحافظ.
حكم هذه المراتب:
الحكم في المراتب الأربع الأولى أنه لا يحتج بواحد من أهلها، ولا يستشهد به، ولا يعتبر به، فأهل المرتبة الأولى والثانية حديثهم موضوع، وأهل الثالثة حديثهم متروك، وأهل الرابعة حديثهم ضعيف جداً.
وأما أهل المرتبة الخامسة والسادسة فيكتب حديثهم للاعتبار، فيرتقي إلى الحسن إذا تعددت طرقه.
خاتمة :
وبهذا نكون قد ختمنا هذا البحث والذي هو عبارة عن تلخيص مباحث الجرح والتعديل ورواة الحديث المحتاج إليها في علم التخريج قمت بتلخيصها من الكتاب المقرر وهو " التخريج ودراسة الأسانيد " للدكتور محمود الطحان وقد اكتفيت بأهم مباحث الجرح والتعديل ورواة الحديث التي يحتاج إليها الباحث في التخريج وأسأل الله أن يوفق وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
??
??
??
??
16(2/11)