كيف تكون مُبدِعاً؟
تدخل معرضاً للرسوم واللوحات الفنّية .. تتأمّل اللوحات لوحة لوحة، وقد تجتذب نظرك لوحة أو أكثر .. ولو سألت نفسك لماذا هذا الانجذاب لهذه اللوحة بالذات؟
شيء ما مختلف في هذه اللوحة هو الذي شدّك إليها.
وقد تقرأ قصيدة في مجموعة شعريّة، أو تستمع إلى قصيدة بين عدّة قصائد تُلقى في مهرجان شعريّ، وحينما تتحدّث عن المهرجان تشيد بتلك القصيدة الفريدة في صورها الجميلة التي لم تسمع مثلها من قبل.
ومن خلال خبرتك بالمطالعة والقراءة قد يلفت اهتمامك كاتب بارع يجيد طرح أفكاره وإقناع القارئ بالجديد منها ..
وفي معرض للمنتجات التقنية الحديثة قد يبهرك جهاز معيّن، وربّما كان لديك جهاز قديم من نفس الصنف، لكنّ الذي يدعوك لاقتناء الجهاز الجديد ربّما كونه أصغر حجماً، وأكثر خدمةً، وأجمل شكلاً أيضاً.
ولعلك دخلت البيت ذات يوم لترى أن شيئاً ما قد تغيّر .. قد لا تدركه أو لا تشخِّص سرّ التغيير للوهلة الأولى .. لكنّك إذا أمعنت النظر رأيت أنّ ثمة لمسات جديدة أدخلتها والدتك على ديكور المنزل ليبدو وكأنّه منزل آخر غير الذي عهدته في السابق.
هؤلاء جميعاً مبدعون:
ونحن نطلق تسمية مبدع على كلّ إنسان ينشئ شيئاً على غير مثال سابق، ونسمِّي الشيء إبداعاً إذا كان غاية في صفاته، أو فريداً في بابه.
وحينما يعبِّر القرآن الكريم عن خالق السماوات والأرض بأنّه (بديع): (بديع السّموات والأرض ) (البقرة/ 117)، فإنّه يقرِّر حقيقة مهمة وهي أنّ كل ما أبدعته يدُ الخالق الجليل الجميل هو «ايجادٌ من عدم» أي لم يكن موجوداً فوجد.
هل إبداعنا البشريّ هو من هذا النوع؟
بالطبع لا.
فليس في الوجود شيء كان عدماً فأوجدناه، وليس على سطح البسيطة شيء لم يأت على شكل مثال أو نموذج لأشياء سابقة .. دعونا نبرهن على ذلك بأمثلة قريبة إلينا.(1/1)
فصانع الطائرة .. مبدع لأنّه أنشأ واسطة نقل باهرة الصنع، رائعة الأداء، جميلة الهيئة .. لكنّه بالتأكيد استحضر هيئة الطير وهو يحلِّق في السماء، والطائرة قريبة الشكل من الطير .. وهكذا الذي صنع الغوّاصة والسيارة والقاطرة وأيّة واسطة أو جهاز آخر .. إذ لابدّ له من مثال يحتذيه، ومنوال ينسج عليه.
فحتى الفنان المبدع الذي يصوّر وينتج أفلام الكارتون المتحركة بهذه الهيئات الغريبة التي تجمع صفات الانسان مع خصائص الحيوان بالاضافة إلى سمات الأشجار إنّما أقام إبداعاته على كائنات موجودة .. وكلّ ما حققه أنّه جمع وآلف بينها بطريقة فنّية ..
وهذا ما يفعله الفنان الرسام أو النحات أو الشاعر والأديب فيما يبتدعونه من صور توليفية، كما لو كانوا يستعيرون للحصان أو للانسان أجنحة، ويخلعون على الانسان الحبيب أخلية من جمال موجود في الطبيعة، لكنّهم يلبسونه للانسان المحبوب ليبدو أكثر جمالاً .. أو لنتحسس ـ نحن القُرّاء أو المشاهدون أو المستمعون ـ جماله الباهر من خلال لفتات الأديب أو لمسات الفنان التي تضفي جمالاً على الواقع الذاتيّ للشخص نفسه.
منجم الطبيعة:
إنّ الفنان المبدع الذي استحوذ على إعجابك في بعض لوحاته .. وهو يصوِّر وجهاً جميلاً .. أو منظراً رائعاً، أو مشهداً غنياً بتعبيراته ودلالاته، حتى لو جمع وآلف بين هذا الشكل وذاك، وهذا اللون وغيره، فهو إنّما يغمس ريشته في صور الكون وألوان الطبيعة وظلالها..
والشاعر أو الروائي الذي يأتي بصور أدبية مدهشة لا يخلق تلك الصور خلقاً وإنّما تترشح صوره من خيال ارتوى من معين الطبيعة والانسان والحياة فصبّ هذا وذاك في قالب جميل مبهر.. يقال له إبداع.(1/2)
فما من مبدع إلاّ ولديه أدوات يستعين بها على إبداعه، وهي التي زوّده بها المبدع الأكبر، أي الله سبحانه وتعالى .. ولو استعرضت إبداعات الكون كلّها لرأيتها أصداء لإبداعات بديع الكون وخالقه ومحسن صوره وهو (أحسن الخالقين ) (المؤمنون/ 14).
إن إبداع الباري عزّوجلّ يتجلّى في خلق السماوات بأجرامها وأقمارها وأفلاكها، والأرض بجبالها ومياهها وصحاريها وبساتينها وما بينهما. وفي إبداعه الكائن البشري (الانسان): (ولقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم ) (التين/ 4) .. وسائر الكائنات الحية الأخرى.
خصائص الإبداع الإلهي:
ولو تأمّلنا في الإبداع الإلهي لرأيناه ينطوي على خصائص كثيرة يمكن أن نستوحيها في إبداعاتنا، ونستحضرها في تقييمنا لأي عمل إبداعي. ومن أهمّ تلك الخصائص:
1 ـ الكمال:
يقول تبارك وتعالى: (قد أحسن كل شيء خلقه ) السجدة/ 7) .. (الّذي خلق فسوّى، والّذي قدّر فهدى ) (الأعلى/ 3). فخلق الله فذّ فريد بديع، لم يكن منسوجاً على منوال سابق، بل هو المثال والنموذج .. وبديع لأنّه ليس فيه نقصٌ معيب. ولأنّه لا يستطيع الجنّ والإنس الإتيان بمثله حتى ولو اجتمعوا وكان بعضهم لبعض ظهيراً.
2 ـ التنوّع:
وهو تنوّع يتفرّع إلى:
أ ـ تنوّع شكلي: (انظر إلى أشكال وصور الناس والحيوانات والحشرات والأشجار .. ).
ب ـ تنوّع لوني: (تأمّل في ألوان البشرة والعيون والشعر والفواكه والخضار والحيوان).
ج ـ تنوّع طعمي: (تذوّق طعوم المآكل والمشارب المختلفة، حلوها ومرها وحامضها ومالحها وماسخها).
د ـ تنوّع لساني: (تأمل في اللغات الانسانية المتعددة).
هـ ـ تنوّع عطائي: (انظر إلى أن كل انسان، وكل حيوان، وكل نبات، بل وكل جماد هو مسخّر لما خُلق له).
3 ـ الإدهاش:(1/3)
فكل مخلوقات الله سبحانه وتعالى إبداعات مدهشة تثير التأمّل والتفكّر، وإذا قرأت القرآن فإنّنا ندعوك إلى أن تقف عند كلّ آية فيها تذكير ببديع صنع الله ورائع ودقيق خلقه. فحيثما يقول الله سبحانه وتعالى: (في ذلك آية ) أو (آيات ) فإنّه يريد أن يلفت أنظارنا إلى أنّ الشيء الذي هو آية إنّما هو (إبداع ربّاني) .. وإليك بعض الشواهد:
ـ (وآيةٌ لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبّاً فمنه يأكلون ) (يس/ 33).
ـ (وآيةٌ لهم اللّيل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون ) (يس/ 37).
ـ (وآيةٌ لهم أنّا حملنا ذرِّيّتهم في الفلك المشحون ) (يس/ 41).
ـ (ومن آياته خلق السّموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إنّ في ذلك لآيات للعالمين ) (الروم/ 22).
وآيات الله البديعة لا تعد ولا تحصى شكلاً ولوناً وحجماً وعطاءً، كما عبّر ذلك الشاعر بقوله:
وفي كلّ شيء له آية***تدلّ على أنّه الواحد
الفرق بين الإبداعين الإلهي والإنساني:
إذن، ما هو الفرق الأساس بين (الإبداع الإلهيّ) وبين (الإبداع الإنسانيّ):
ـ الإبداع الإلهيّ بلا مثال سابق، بينما يقوم الإبداع الانساني على مثال سابق، وينسج على منوال موجود.
ـ الإبداع الإلهيّ كامل لا نقص فيه .. أمّا الإبداع الانساني فلا يخلو من النقص مهما بدا كاملاً.
ـ الإبداع الإلهيّ منوّع في أعلى درجات التنويع .. أمّا الإبداع الانساني فمحدود رغم تعدده الظاهر.
والأهم في ذلك أنّ إبداع الانسان هو رشحة ونفثة من نفثات الإبداع الربّانيّ: (الذي علّم بالقلّم * علّم الإنسان ما لم يعلم )(العلق/ 4 ـ 5) والذي (خلق الإنسان * علّمه البيان ) (الرّحمن/ 3 ـ 4) فما من جمال إلاّ وهو نسخة عن جماله .. وما من كمال إلاّ وهو صورة عن كماله، وما من إبداع إلاّ وهو صدى لإبداعه.
ما هو الإبداع؟
تتعدّد تعريفات الإبداع والمعنى واحد:
ـ فهو إنشاء شيء على غير مثال سابق ـ كما ذكرنا ـ .(1/4)
ـ وهو الإتيان بنموذج فريد في غاية الإبهار. يقول الشاعر أبو العلاء المعرّي:
وإنِّي وإن كنت الأخير زمانُه***لآت بما لم تستطعه الأوائل!!
ويقول الشاعر المتنبي المبدع في لغته وأدبه:
أنا الّذي نظر الأعمى إلى أدبي***وأسمعتْ كلماتي من به صممُ
أنام ملء جفوني عن شواردها***ويسهر الخلق جرّاها ويختصموا
ـ وهناك مَن يرى أنّ (الإبداع): هو كسر السائد والمألوف.
ـ وقد يرى آخرون أنّه اضافة شيء جديد لما اعتاد الناس على رؤيته صورة معيّنة لمدّة طويلة، أو هو تطوير لما هو موجود، وإدخال تحسينات عليه.
لكن الإبداع هو درجة أعلى من التجديد.
ـ والإبداع قد يكون (ابتكاراً) أو (اختراعاً). وينبغي الالتفات هنا إلى أن ابتكار شيء ما أو اختراعه لا يعني عدم وجود مواده الأساسية. فعندما نقول أنّ (الخليل بن أحمد الفراهيدي) مخترع علم العروض()، فإنّ الشعر سابق على العروض ومعرفة البحور الشعرية، ولكن الفراهيدي تتبع قصائد الشعراء فرأى أنّ هناك إيقاعاً أو أوزاناً موسيقية ينظم الشعراء قصائدهم عليها حتى وإن لم يعرفوا القوانين الخاصة بذلك.
وهكذا فإن قوانين الوراثة كانت موجودة قبل (مندل) لكنّه هو الذي اكتشفها.
ـ وقد يكون الإبداع هو الشيء المختلف عما هو مشهور ومعروف لدى الناس، أي أنّه في حالة خصام، أو مخالفة مع الواقع المعاش، لأنّ الواقع إنّما هو حالة استسلام للمسيرة الحياتية العامّة، أمّا الإبداع فهو الخروج عن تلك المسيرة والاندفاع بمجرى آخر في تيار متدفق بقوة أكبر.
المخالفة ليست دائماً إبداعاً:
الإبداع هو أن تكون مختلفاً ..
هل هذه قاعدة عامّة؟
لا .. ليس كذلك.
فأنْ تقلب الموازين رأساً على عقب .. فيفسد الذوق السليم، ويساء إلى الفضائل والقيم، فيبدو الذي يدّعي الإبداع نشازاً فيما يكتب، أو ينظم، أو يرسم، أو يرتدي، أو يتعامل، أو ينتج، على طريقة (خالف تُعرف) فهذا يمكن أن يقال عنه أيّ شيء إلاّ الإبداع.(1/5)
فالشعر الذي يغطّ في المعمّيات والألغاز ..
واللوحات الفنّية التي لا يفهمها إلاّ رسّاموها ..
والكتابات التي تحتاج إلى مترجم لفك رموزها وطلاسمها ..
ليست من الإبداع في شيء حتى أن نسبت إليه زوراً وبهتاناً ..
فالإبداع لا يعني الغموض والتعقيد، وهذا كتاب الله بين أيدينا في إبداعه الفكري والأدبيّ والتربويّ والعمليّ لا يحدِّثنا إلاّ بلسان عربيّ مبيّن.
إنّ المجموعة الشعرية، أو معرض الرسوم أو أي إبداع آخر، إذا احتاجت إلى أن نرفق معها شاعرها أو فنّانها أو مبدعها ليوضِّح لنا ما المراد من إبداعه، قد تكون أشبه شيء بالكلمات المتقاطعة التي تحتاج إلى إعمال الذهن حتى يتم تركيبها بشكل صحيح، وقد يتعذر ذلك.
الإبداع .. الخروج على السائد والمألوف .. هذا صحيح .. لكن ليس أي خروج يعدّ إبداعاً .. فوضع الرأس موضع القدم في رسم اعتيادي لا يعدّ إبداعاً، لكن رسام الكاريكاتير الذي يضع الرأس مكان القدم ليصوّر انساناً ذليلاً، يقدِّم لنا إبداعاً فنّياً.
والطبّاخة الماهرة التي تبتكر طبخة ما من خلال محاولة التأليف والتجانس بين المواد الغذائية الداخلة في الطبخة .. هي طبّاخة مبدعة، لكن التي تضع المواد المتنافرة في الطعم والذوق والنكهة في القدر وتقول لنا أنّها تبدع طعاماً جديداً .. قد ترضي غرورها .. لكنها لا ترضي قناعتنا وأذواقنا.
وهذا يعني أنّ الإبداع ليس خروجاً على (القانون)(). بل هو خروج على (العادة) و (السائد) و (المألوف) و (التقليد).
ولذا يمكن القول أن للإبداع أخلاقاً ينبغي مراعاتها، فالذي يخترع أسلحة الدمار قد يكون مبدعاً في أنّه جاء بما لم يأت به الذين سبقوه، لكنه (ابتدع) ما يخرّب ويفسد ويحطّم وينشر الدمار والرعب ويحرق الحرث والنسل.
ومثله الذي يبتكر أساليب جديدة لغواية الشبان والفتيات في أساليب الموضة الماجنة الخليعة، ومواقع الإباحية الجنسية، ومجلاّت الإثارة.(1/6)
ومثلهما النحّات الذي عندما يصنع تمثاله العاري في ساحة عامة يتفرج عليه الرائح والغادي، فإنّه يسيء إلى نظام الأخلاق والآداب العامة.
وقد يبدع شاعر، قصيدة في الهجاء تتضمن صوراً شعرية فريدة .. لكنّ تشويه صورة المهجو وتقريعه وتسقيطه على العلن .. إساءة لحرمة ذلك الانسان.
وباختصار، فإنّ المخالفة لا تمثِّل إبداعاً إذا كانت خروجاً عن حدود الأدب، واللياقة، والذوق، والعرف الاجتماعي المحترم، أي أنّ فيها إساءة لحياة وقيم وأخلاق الفرد والمجتمع.
حقائق حول الإبداع:
1 ـ لقد أودع الله قدرة الإبداع في الانسان بصفة عامة، فكل فرد يولد ولديه استعداد للإبداع، ويساهم والداه ومدرسته وبيئته بتنمية وتطوير إبداعه، أو بإضعافه وقتله. فالإبداع فطري ـ اكتسابي، بمعنى أن خميرته موجودة لدى كلّ واحد منّا، أمّا آلياته فيمكن تحصيلها من هنا وهناك.
2 ـ وحتى يتفجر الإبداع وينمو ويتطوّر فإنّه يحتاج إلى التشجيع والإسناد والتكريم والمكافأة، كما يحتاج إلى المؤثرات البيئية، والمحفّزات الاجتماعية، وإلى جوّ إبداعي حافل من النابغين والمبدعين والماهرين.
3 ـ قد لا يكون للإبداع سنّ معيّنة، لكن بعض الدراسات أظهرت أن أكثر النوابغ من الجنسين كانت بدايات نبوغهم في سنّ الشباب وربما الطفولة.
4 ـ الإبداع ليس له جنس معيّن، فهو ليس مقصوراً على الشبّان دون الفتيات ولا على الرجال دون النساء، فكم من الفتيات مَن هنّ أكثر إبداعاً من العديد من الشبان، والعكس صحيح .. فالمسألة ليست مسألة جنس ذكوريّ أو أنثويّ، وإنّما هو حصيلة عوامل متعددة.
5 ـ قيمة الإبداع أنّه مسؤول عن قيام الحضارات الزاهرة، والمدنيات الراقية، ولولاه لظلّت الحياة البدائية تراوح مكانها. وإذا انتفى أو غاب الإبداع من حياتنا فإنّ الأمم تمرّ بعصور مظلمة يسود فيها التخلّف والانحطاط.(1/7)
كما إنّ الإبداع مسؤول عن الإرتقاء بأذواق الناس، وأفكارهم، وأساليب عملهم وتعاملهم، ويرفع وتيرة التنافس الشريف بين الجادّين من الشبّان والفتيات والرجال والنساء لإنتاج المزيد من الإبداعات التي تثري حياتنا الانسانية.
وللإبداع دوره المهم في جعل المبدعين بصحّة نفسيّة رائعة، ويسهم في تنمية الصفات القيادية لديهم. هذا فضلاً عن لذة الاكتشاف، وسعادة الابداع والابتكار، في إدهاش الآخرين، واكتشاف قدرات الذات ومواهبها.
6 ـ الإبداع يبدأ طفلاً صغيراً ثمّ ينمو وينضج ويزدهر .. وهو عادة ما يبدأ بالمحاكاة والتقليد ثمّ يختار له طريقاً آخر يشقّه بنفسه، ولا يتأتى ذلك إلاّ بعد معاناة وتعب وصبر ومواصلة.
يقول (انشتاين) عن العبقرية أنّها 1 % موهبة و 99 % مثابرة!
7 ـ الإبداع لا يعني خلوّ العمل المبدع من الأخطاء أو النقائص، والمبدع حريص دائماً على تتبع النقد لأعماله والأخذ بالصالح والعمليّ منها .. إنّه يقبل النصيحة الصادرة عن أهل الخبرة والصنعة والإبداع.
8 ـ ليس للإبداع حقل معيّن، فهو يشمل مناحي الحياة كلّها وبدون استثناء.
9 ـ معرفة طرق الإبداع وصفات المبدعين تمنحك الفرصة لكي تكون أنت بدورك مبدعاً .. فهي قابلة للاكتساب والتنمية، كما أنّها ليست حكراً على المبدعين المشهورين بإبداعاتهم، ولا النابغين من أصحاب المهارات المعروفة.
10 ـ لنا في إبداع الخالق ـ في أرضه وسمائه وما ضمّته الأرض وحوته السماء ـ منجم ومقلع إبداعي لا ينفد، وإيحاءات وإلهامات ثرّة لا يستغني عنها مبدع مهما أوتي من ملكات ومواهب.
والقرآن محفّز على الإبداع في كلّ آية جاءت فيها دعوة إلى النظر والتأمّل:
(أفلم ينظروا إلى السَّماء فوقهم كيف بنيناها وزيّناها وما لها من فروج ) (ق/ 6).
(أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السَّماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت )؟! (الغاشية/ 17 ـ 20).
وهو يدعونا إلى الأخذ بـ (الأحسن) دائماً:
((1/8)
ليبلوكم أيّكم أحسن عملاً ) (الملك/ 2).
(الّذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) (الزمر/ 18).
وعلى منواله جرت السنّة المطهّرة: «رحم الله امرئً عمل عملاً صالحاً فأتمّه وأتقنه» و «قيمة كلّ امرئ ما يُحسنه».
11 ـ الإبداع مسؤولية المبدع وليس ترفاً أو لهواً عابثاً، فكل موهبة وطاقة وقدرة آتاك الله إيّاها أنت مسؤول عنها فيما تقدمه من خدمات ومساعدات وإنجازات يتنعّم بها الآخرون، وبذلك تكون قد شكرت الله على ما آتاك من نعمه. ومَن لم يضع موهبته وإبداعه في إطارهما الصحيح فإنّه يعدّ كافراً بنعمة الله وفضله:
ـ (هذا من فضل ربِّي ليبلوني أ أشكر أم أكفر ) (النمل/ 40)
ـ (ربِّ بما أنعمت عليَّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين ) (القصص/ 17).
مصادر الإبداع:
ـ من أين يأتي الإبداع؟
ـ ليس للإبداع مصدر أو طريق واحد يأتي منه .. إنّها روافد متعددة تصبّ في مجرى أو نهر واحد يسمّى (الإبداع). ولذلك فنحن لا نستطيع حصر تلك المصادر بنقاط معيّنة، فقد تختلف من مبدع إلى مبدع آخر، ولكن هناك مشتركات أو مصادر أساسية، يمكن أن نشير إليها فيما يلي:
1 ـ اللبنات الأولى:
فقد تظهر ملامح الإبداع في شخصية الطفل في أسئلته المذهلة، والدالّة على حجم عقله، أو في قدرته على إجادة صنع وتركيب بعض الألعاب، والتفنن في استحداث طرق متنوّعة لصناعة دُماه وألعابه، وفي سرعة التقاطه للتعليمات، والدقّة في التنفيذ، وإتقان ما يراد منه.
2 ـ الحسّ الإبداعيّ:
وهو ما يطلق عليه بـ (الحس المرهف) فليس الشاعر أو الأديب أو الفنان هو وحده الذي يمتلك هذا النوع من الإحساس، فحتى العالم الفيزيائي أو الكيميائي أو الرياضي أو المعلّم أو المهندس أو أي حرفي نجاراً كان، أو حداداً، أو صائغاً، أو خيّاطاً، أو فلاّحاً، لديه درجات من هذا الإحساس الفني القادر على التعامل مع الحرفة بشكل غير تقليدي.(1/9)
فحتى تكون مبدعاً تلمّس هذا الحسّ في داخلك وغذّه بالتمرين الدائب والممارسة الطويلة.
3 ـ التأمّل:
ما من مبدع إلاّ ولديه خلوات فكرية .. وتحليقات ذهنية .. ونظرات عميقة في المسائل التي يمرّ عليها الناس مرور الكرام .. ففي كل شيء بالنسبة للمبدع مادة للدرس والتأمّل والتعمّق وسبر الأغوار.
والتأمّل هو حالة التفكّر في أيّ شيء، وإمعان النظر فيه حتى تتجلى روائعه .. انظر إلى القرآن كيف يعلِّمنا أن نتأمّل في كل المخلوقات صغيرها وكبيرها. من (الذبابة) و (البعوضة) إلى (الشمس) و (القمر) والكواكب والأجرام السماوية الأخرى: (ويتفكّرون في خلق السّموات والأرض، ربّنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار ) (آل عمران/ 191).
إنّ النتيجة التي يتوصل إليها المبدع المتأمّل ـ وبإمكانك أن تجرِّب ذلك شخصياً ـ هو أنّه سيهتدي إلى (جمالات)() لم تكن تخطر على بال غيره.
4 ـ الربط بين الأشياء:
الأشياء من حولنا عوالم وآفاق .. وهي متصلة وليست منفصلة عن بعضها البعض وإن بدت ـ في الظاهر ـ كذلك .. وحدهم المبدعون الذين يلتفتون إلى العلاقات الكامنة في تلك الأشياء، والتي تربط بعضها ببعض بخيط سريّ تكون مهمة المبدع تلمسه واكتشافه وإعادة تركيبه.
إنّ الذي استخلص من البخار المتصاعد من الماء المغلي الذي يرفع غطاء القدر بيد خفيّة، كان قد ربط بين (قوة البخار) وبين (توليد الحركة).
وهكذا اهتدى من هذه الفكرة الصغيرة إلى الإبداع الكبير .. القطار.
5 ـ تحليل الأشياء:
وهذه قدرة معاكسة لقوة وقدرة المبدع على (الربط). فالتحليل يتطلّب أن تعيد الشكل المركب إلى شكله الأوليّ .. وإلى تفاصيله ومفرداته لتدرس من خلال ذلك العمل الوظيفي لكل قطعة من قطع ذلك الشيء أو المخلوق أو الجهاز .. ولذلك يقال أنّ الطفل الذي يكسر لعبته يريد ـ أحياناً ـ أن يكتشف تركيبها أو عالمها الداخلي .. وهو بذلك .. مشروع مبدع!
6 ـ الخيال:(1/10)
لكلّ منّا قدرته الواسعة على التخيّل .. تلك نعمة الله التي آتاها عباده، لا ليخفف عنهم الآلام فقط بتخيّل واقع أفضل، بل بدفعهم إلى تنشيط القدرة الخيالية لإنتاج إبداعات حقيقية كانت ذات يوم جنيناً في رحم الخيال.
وقد تقرأ أنّ الكثير من الإنجازات والإبداعات كانت حلماً أو خيالاً ثمّ تحوّلت تحت ارادة وتصميم المبدع إلى حقائق تتجسّم أو تمشي على الأرض.
إنّ المهندس المعماريّ الذي أنشأ أو صمّم هذا المبنى الجميل الرائع الذي يدهشك وأنت تتأمّله .. كان قد صمّم المبنى أولاً على لوحة خياله، ثمّ سكبه على الورق مخططاً هندسياً .. ثمّ عمد إلى إنزاله إلى الواقع مبنى شاخصاً يمثل تحفة فنيّة ومعمارية تسرّ الناظرين.
إذا كنت مبدعاً .. أو تطمح إلى أن تكون مبدعاً .. فلا تهمل خيالاتك .. إنّها جزء من رأس المال .. والمعين الذي تستقي منه .. إنّها مصدر مهم من مصادر إبداعك.
7 ـ روح المغامرة:
المبدع جريء وغير هيّاب .. يقتحم المجالات الجديدة بأقدام ثابتة .. هو يعلم أنّ المبادرة أو المغامرة قد تكلّفه باهضاً، لكنّ الثمن الذي يقبضه من نجاح مخاطراته أو مغامراته كبير ..
إنّه لا يستسلم لما نُسمِّيه بـ (الأمر الواقع) ولا يرضخ للأعمال الهيِّنة التي لا تطلب جهداً فائقاً، ولا يخشى الدخول في مغامرة قد تجلب له كلاماً جارحاً من الراكدين المتثائبين التقليديين .. إنّه مَن يعلِّق الجرس في رقبة القطّ، ولذلك أصبح مبدعاً!
8 ـ طرح الأسئلة:
المبدعون كثيرو السؤال .. أسئلتهم لا تهدأ .. يطرحون أسئلة عن كلّ شيء .. فالأسئلة بالنسبة للمبدع مفاتيح الأبواب المغلقة .. منها يمكنه الدخول على العوالم التي لم تفتح من قبل .. وقد يقضي المبدع وقتاً طويلاً حتى يصل إلى جواب سؤال يشغله .. وقد لا يهتدي إليه إلاّ بعد رحلة عناء فكري وعملي طويلة.
فالاختراعات .. تبدأ بالأسئلة.
والاكتشافات .. تنطلق من الأسئلة.(1/11)
والعلوم والتجارب والنظريات والأساليب الحديثة .. كلّها كانت أسئلة في البداية.
سُئِل (رابي) الحائز على جائزة نوبل في العلوم، لماذا اختار أن يكون فيزيائياً فكان ردّه أنّ أمّه كانت تسأله كلّ يوم عند عودته من المدرسة عن الأسئلة الجديدة التي سألها في يومه!
وكان الفيلسوف اليوناني الشهير (سقراط) يعلِّم تلامذته أيّة مهارة علمية عن طريق طرح الأسئلة ..
إنّ أسئلة المبدعين تتراوح بين:
ـ (الأسئلة الاحتمالية) .. ماذا يحدث لو .. ؟
ـ (الأسئلة الافتراضية) .. لو عملنا كذا .. ماذا يحصل أو ينتج؟
ـ (الأسئلة التخمينية) .. من قبيل .. أرجِّح هذا الأمر .. أقدِّر أن ذلك ناتج عن .. أظنّ أنّنا لو عملنا ذلك فلربّما انتهينا إلى النتيجة التي نريد ..
ـ (الأسئلة التشكيكية) .. مثل: مَن يقول إن هذا هو الصحيح؟ مَن يدري فقد لا يكون هذا هو الحل ..
ـ (الأسئلة الترابطية أو التركيبية): كيف يحصل هذا؟ وما علاقته بكذا، وإذا حصل فماذا يمكن أن يكون الناتج؟ وإذا أضفنا إلى ذلك ما يلي .. فماذا يمكن أن نجني؟ ولو نزعنا أو سلخنا منه كذا، فما هي المحصلة؟ وما إلى ذلك.
ـ (الأسئلة السببية) .. وهي المتعلقة بالإجابة على سؤال (لماذا)؟
ـ (الأسئلة الماهية) .. وهي المتعلقة بالإجابة على سؤال (كيف)؟
وبالجملة، فإنّ الأسئلة المثيرة التي تستثير التفكير وتتسلسل به إلى النتائج، هو ما يشغل بال المبدعين .. وقديماً قيل: «العلم صناديق مقفلة مفاتيحها الأسئلة».
فإذا كنت سؤولاً .. أي كثير الأسئلة .. وأسئلتك ليست من النوع الترفيّ فأنت مبدع، والبحث عن إجابات لتلك الأسئلة سيتيح لك قدراً أكبر من الإبداع.
9 ـ تعدّد الحلول والبدائل والخيارات:
لا يكتفي الانسان المبدع بتقديم حلّ واحد للمشكلة أو المسألة .. إنّه يأتي بعدد من الحلول، ويُقدِّم الكثير من البدائل والخيارات، وهذا ما يطلق عليه من الناحية العلمية بـ (الطلاقة)().(1/12)
وقد تكون بعض حلوله وبدائله مبتدعة، أي أنّه يشير إلى حلول غير روتينية، أي لم تطرح من قبل .. نعم، كانت ممكنة وموجودة ولم يكن يلتفت إليها إلاّ عقل المبدع الذي يتحرك ـ كما في رقعة الشطرنج ـ على أكثر من مربّع وفي أكثر من بُعد واتِّجاه.
10 ـ الدراسة المقارنة:
فالمبدع كثيراً ما يستعين بمعرفة نقاط ودرجات التشابه، ونقاط ودرجات الاختلاف، ليصوغ من المتشابهات شكلاً جديداً للسياق الموجود بينها فهو يمزج ويخلط ويطعّم ويركّب، ومن المختلفات ينشئ هيئة مغايرة لم تخطر على بال، وإذا به يدهشنا كيف لم ننتبه إلى أن بين المختلفات علاقة، أو قدرة على التآلف والانسجام .. لا يتاح اكتشافها لغير المبدعين.
11 ـ المبدع يستخدم كلّ حواسه:
المعروف ـ علمياً ـ أنّ حاستي (السمع) و (البصر) هما من أهم الحواس التي يستخدمها الانسان وصولاً إلى المعرفة.
المبدع أيضاً يستخدم سمعه وبصره لاكتشاف العالم من حوله .. أو لنقل العوالم المحيطة به .. فهو يسمع أكثر مما نسمع، ويرى أكثر مما نرى لا لاختلاف أو تمايز في الخلقة، فله عينان ولنا عينان، وله أذنان ولنا أذنان، لكن عين المبدع حساسة تلتقط حتى الجزئيات، وسمعه مرهف بحيث يستمع لأدق وأدنى الإشارات .. تلك ليست بمعجزة .. ذلك هو التمرين والتدريب، والاستخدام الذكي للحواس بأقصى طاقاتها.
بل إنّ المبدع يستخدم حواسه الأخرى أيضاً في التعامل مع المعارف والخبرات والإبداعات الجديدة.
يقول (هادرد جاردنز) صاحب نظرية (الذكاء المتعدِّد): «إنّ الذكاء ليس أحادياً، والفرق بين الأفراد ليس في مقدار أو درجة الذكاء بل بنوعيّته» وهذا يعني أنّ (النوعية) تأتي بالمران والممارسة والتدريب العالي.
12 ـ دراسة إبداعات المبدعين:
لا يستغني المبدع عن الاطلاع ومتابعة ما يجري في عالم الإبداع. سواء في حقلة التخصصي .. أو فيما سواه من حقول .. فالإبداع ليس إقطاعيات منفصلة، بل يتنافذ على بعضه البعض.(1/13)
إنّ أصحاب المصانع والشركات الكبرى يستعينون في الترويج لبضائعهم بالمهندس الفني، كما يستعينون بالرسام والفنان والأديب لإنتاج صناعات فيها من الذوق والجمالية مثل ما فيها من الدقّة والتطور التقنيّ.
فإذا أردت أن تبرع أو تبدع في مجال ما، فحاول أن تدرس نتاجات المبدعين السابقين والمعاصرين لتقليدهم ابتداءً، ولمعرفة أسرار إبداعهم، تمهيداً لأن تختط لك طريقاً إبداعياً خاصّاً يمثِّل شخصيتك المبدعة واستقلالك الفذ.
ملامح الإبداع:
كيف نعرف أنّ هذا أو ذاك عملاً مبدعاً؟
حتى يقال عن عمل إنّه إبداعيّ، لابدّ من أن تتوافر فيه عدد من الخصائص والملامح، ومنها:
1 ـ الدقّة والإتقان والجودة:
فالعمل الارتجالي السريع وغير الناضج، أو غير المطبوخ على نار هادئة هو عمل فجّ كالثمرة الفجّة التي تقتطف قبل أوانها. و (الدقة) و (السرعة) لا يجتمعان إلاّ في النادر .. والإتقان يحتاج إلى صبر وإلى وقت كاف حتى يخرج العمل الإبداعي مبرّأً ـ إلى حد ما ـ من النقائص والعيوب.
إنّ المعلّقات السبعة التي علّقها فحول الشعراء على جدران الكعبة في الجاهلية كانت تستغرق كل معلقة من شاعرها حولاً (سنة كاملة). فما يهمّ المبدع ليس (الكثرة) ولكن (النوع) .. والأعمال الخالدة في الأدب والفن والعلم كانت نتاج صبر ومعاناة طويلين.
2 ـ الاستيعاب والإحاطة:
من طبيعة المبدع ـ أياً كان حقله ـ أن ينقِّل بصره في مختلف جوانب المادة الإبداعية .. يحاول جاهداً أن يدرس الأشياء من حوله دراسة شمولية لا تدع شيئاً منها يفوته. فبغير الإحاطة لا يتأتى له أن يتقن عمله، أو يحقق من درجات الكمال ما يستطيع.
ولأن عقلية المبدع استيعابيّة، فإنّ تفكره أو تأمله يقوده باستمرار إلى إبداعات جديدة.
3 ـ كمال العمل وتمامه:(1/14)
ولأنّ المبدع لا يتعجّل العمل، ويعيد النظر فيه مراراً وتكراراً، فإن أعماله ـ في الغالب ـ تأتي بما يشبه الكمال، فالكمال المطلق هو للمبدع الخالق وحده وهو الله سبحانه وتعالى. والكمال بالنسبة للانسان المبدع نسبي، أي نقول عنه كامل أو خال بدرجة كبيرة من العيوب، قياساً بأعمال انسانية أخرى هي دونه في المستوى الإبداعيّ.
4 ـ الوضوح:
من الخطأ أن تتصور أن الإبداع هو في العمل الغارق في الغموض والتعقيد، فلكلّ عمل إبداعيّ رسالة يريد إيصالها إلى المتلقّي، وإذا تعذّر استقبالها منه انتفت الغاية من العمل.
لذا ننصح بعدم اللجوء إلى التعقيد في العمل المبدع، وبدلاً من ذلك نعمد إلى إتقان العمل واستيعابه وإتمامه .. وهناك من المبدعين مَن يرى أن من شروط الإبداع البساطة .. وهي لا تعني (التسطيح) بل الوضوح.
5 ـ الإدهاش:
إذا لم يتوفر عملٌ ما على صفة الإدهاش، فلا يقال له بأنّه عمل مبدع. وهذه الصفة هي التي تميِّز عملاً عن عمل، ومدى إبداعية كل منهما، ولولا الإدهاش لكانت قصائد الشعر والروايات الأدبية والأعمال السينمائية والتقنيات واللوحات وغيرها، نسخاً متكررة لا تجتذب جمهوراً، ولا تلقى رواجاً، ولا تحظى بالدوام والخلود.
ويتبيّن الإدهاش من خلال ردّ فعلك على عمل ما، بقطع النظر عن رؤية الآخرين إليه، فإذا ما أدهشك فهو مبدع من وجهة نظرك على الأقل.
6 ـ الصدق والتفاعل:
لقد شاهدتَ ـ حتماً ـ الكثير من الممثلين المبدعين الذين يشدّون انتباهك فتنسى إنّك تشاهد عملاً تمثيلياً، وإنّما ترى أشخاصاً من واقع الحياة يتفاعلون بدون أدنى شك في صدقهم.
هذا الاندماج أو الاندكاك بالدور هو شرط الإبداع، وهو الصدق في تقمّص الشخصية والشعور بمشاعرها، والتلبس بانفعالاتها.
وهذا الشرط في الإبداع يمكنك أن تسحبه على أي عمل إبداعىّ.
7 ـ انسانية العمل المبدع:(1/15)
حينما تقرأ سيرة لمصلح .. أو رواية أدبية عالميّة، أو مقالاً معبِّراً عما يعتمل في ذهنك، أو تجد الشفاء في دواء فعّال، أو تتأمّل في شخصيّة معلِّم أثر في نفسك عميقاً .. تجد إلى جانب صدقه وتفاعله وإتقانه لعمله وإحاطته به، أن عمله ليس ناطقاً عن شخصيّته فحسب، بل هو ناطق باسمك أيضاً، فإذا قلت: «أجدني في إبداعه»!! «إنّه يصوّرني» «أتمنّى لو كنت مثله» فإنّ إبداعه ينتقل من دائرته الشخصية إلى المساحة الانسانية الواسعة ..
وما من عمل إبداعي إلاّ ويمتلك هذه الصفة .. أي أنّ انسانيته هي التي تؤهله لعالميته ولخلوده وتجدّده، ولتعاطي الأجيال معه وكأنّه ابن عصره، فهذه مسرحيات الأديب الإنجليزي (شكسبير) تعرض على خشبات المسرح في الكثير من بلدان العالم سنوياً ولا يكسيها الزمن الشائخ إلاّ نضارة. وتلك قصائد الشاعر أبي الطيّب المتنبّي تنتصب قامة شامخة كلّما أحنى الدهر ظهره.
صفات المبدعين:
هناك سؤالان مترابطان:
ـ هل شخصية المبدع مميّزة؟
ـ هل صفات المبدع وراثية أم مكتسبة؟
قد تكون للوراثة دورها .. لكن الاكتساب أكبر مساحة في حياة المبدعين وكما تعرّفت على مواصفات (الإبداع) .. فإنّك بحاجة إلى أن تتعرّف على صفات (المبدعين)، لتتعرف بالتالي على ما تتحلّى به منها، وما ينبغي عليك السعي لاكتسابه من الخصائص المميزة الأخرى.
وعلى نحو الاختصار، نشير إلى:
1 ـ فهم المبدع للاطلاع والقراءة:
فكثير من المبدعين بل غالبيتهم العظمى هم (دودة كتب) .. يقرأون كلّ شيء .. وفي كلّ شيء، حتى الأمور التي هي خارج اختصاصهم.
يقول أحد الكُتّاب المبدعين (عباس محمود العقّاد): «أحبّ الكتب لأنّ حياة واحدة لا تكفي»!
2 ـ القدرة على التفكير والتأمّل:
ذلك أن تأمّلات المبدعين ليست سبحات فكرية أو تحليقات في فضاءات وهميّة .. نعم، قد تكون تحليقات خارج الفضاء المعهود لكنها وهي تمد رأسها إلى الأعلى لا ترتفع بقدميها عن الأرض.(1/16)
إن تفاحاً كثيراً كان يسقط قبل (نيوتن) مكتشف الجاذبية، وصابوناً كثيراً كان يزيح من الماء بقدر كثافته قبل (ارخميدس) صاحب نظرية الكثافة والإزاحة، ولكن تفاحة واحدة وتفكِّر واحد من قبل نيوتن هما اللذان أنجبا كانون (الجاذبية) .. وصابونة واحدة وعقل واحد استخدم أرخميدس هما اللذان صدرت عنهما صرخة (وجدتها .. وجدتها)! حين اكتشف قانون الإزاحة.
3 ـ القدرة على التذكّر:
فذاكرة المبدع حيوية نشطة وحاضرة للاستدعاء كلّما أراد المبدع منها شيئاً، فهي (تعينه) ولا (تخونه).
كان الشاعر أبو العلاء المعرّي وهو أعمى يتمتع بحاسة سمع حادّة، حتى أنّه استلم ذات مرّة رسالة باللغة الفارسية وهو لا يعرف هذه اللغة الأجنبية من شخص كان يسأل عن جار له فحفظها وسلّمها بأمانة لجاره حين عودته!
4 ـ الاستقلالية في التفكير والأداء:
فالمبدع لا يستطيع أن يعمل تحت الضغوط والتدخل بشؤونه وبالسير على طريقة العرف السائد .. له منهجه الحرّ في التفكير .. ولو لم يكن كذلك لما كان مبدعاً.
5 ـ عشقه لعمله:
فلقد ثبت بالتجربة، وهذا ما أثبته أيضاً تاريخ الإبداع والمبدعين، إنّ الذي يتمحّض في عمل ما، ويوقف جهده وفكره وطاقته عليه، فإنّه حتماً سوف يبدع فيه.
ولا تذهب بعيداً .. تأمّل في حركة الفنّان المبدع الذي يهوى مهنته، وحركة الحرفي اليدوي الذي يعمل بالمطرقة وأداة النقر والحفر، ماذا تبدع أنامله .. وفي النجار الذي لم يتخرج من معهد النجارة وإنّما صاحبَ مهنته منذ نعومة أظفاره .. كيف يلين الخشب تحت يديه حتى يكون مطواعاً لصناعة أي إبداع يريد!
إنّ لاعب الكرة البرازيلي الشهير (بيليه) كان يستطيع أن يحاور بالكرة (10) لاعبين ويتسلل عبرهم إلى حارس المرمى من دون أن تؤخذ الكرة منه!
6 ـ بصمة المبدع:(1/17)
فالمبدع لا يكرِّر نفسه، وإنّما يحاول أن يبدو في كلّ عمل جديد يخرج به إلى الناس جديداً أيضاً .. إنّها بصمة الإبداع الحاذق التي تمهر العمل باسم صاحبها وشخصيته المبدعة، حتى أنّك لو لم تقرأ اسمه عليها لعرفت إنّها له.
7 ـ التنظيم:
فالتنظيم سمة الإبداع والمبدعين، ولا نعني بالتنظيم هنا الجدول الزمني الرتيب، فقد ينقلب المبدع على جدوله وأجندته إذا كانت قيداً يقيِّده .. ولكننا نعني بالتنظيم لدى المبدعين إنّهم يخططون لكلّ شيء بدقّة وعناية بما يضفي على أعمالهم الإبداعية سمات الإتقان والكمال.
8 ـ الشجاعة:
فلو كان المبدع خائفاً متردداً يخشى كلام الناس، ويهاب الأعراف الاجتماعية الجامدة، ويرتعد من النقد والتجريح، لمّا شهدنا مبدعاً واحداً .. ذلك أن غالبية المبدعين تحمّلوا ضربات موجعة بثقة عالية بالنفس، وبالمبدأ الذي يعتنقونه فقاوموا .. فنجحوا .. وأصبحوا مثلاً أعلى.
9 ـ المثابرة:
فالأعمال الإبداعية تحتاج إلى نفس طويل وإلى مداومة على العمل، وإلى الجديّة في متابعته وتطويره بهمّة عالية، فإذا رأيت عملاً إبداعياً فلا تسأل كم استغرق من الزمن والجهد .. بل اسأل: كم هناك وراء هذا العمل المبدع من روح كبيرة؟!
10 ـ الذكاء:
وذكاء المبدع وفطنته قد يكون 20 % وراثة و 80ب% اكتساباً، يأتي من خلال عمله المتواصل، وثقافته النامية، وتأملاته الاستيعابية، وطريقته في التفكير، وأسلوبه في العمل، وإصراره على التفوق، وقدرته على التنبّؤ.
11 ـ الخيال الخصب:
ويمكنك أن تتأكد من أنّ الكثير من الأعمال الإبداعية المنجزة كانت تطوف في ذهن المبدعين كأحلام اليقظة التي تعيشها أنت، لكن الفرق أنّ المبدع يحوّل (الخيال) إلى (مادة) عمل .. والآخرون يستغرقون في الخيال كبائعة اللبن التي كانت تحلم بما تشتريه من ثمن لبنها فلما سقط اللبن سقطت أحلامها جميعاً!
12 ـ الانفتاح:(1/18)
فالمبدع ليس متعصباً ولا منغلقاً في دائرة ضيِّقة، بل يفتح صدره للنقد، وعقله لتجارب الآخرين.
ومن جرّاء هذا الانفتاح فإنّك ترى المبدع ذا روح مرحة، وأخلاق متواضعة، ذلك أنّ التواضع زينة المبدعين.
وسائل تنمية الإبداع:
الكلمات التالية قد يكون المعني بها بدرجة أكبر المربّون والمسؤولون عن رعاية الشباب، لكننا ندرجها هنا ليطلع الشاب على مسؤولياته التي تخصّه، والمسؤوليات التي يفترض به أن يطالب بها أولي الأمر من المعنيين بشؤون الشباب.
1 ـ البيئة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية:
فالبيت والمدرسة والمحيط الاجتماعي العام يترك بصماته على شخصية المبدع، فـ (الخنساء) الشاعرة العربية المعروفة، و (بلقيس) ملكة سبأ، والسيِّدة (زينب) بطلة كربلاء، و (انديرا غاندي) رئيسة وزراء الهند في وقتها، لابدّ وأن يكنّ قد تلقين تربية واسعة وغنيّة حتى أصبحن في المواقع التي يشير إليهنّ بنان التأريخ بالإجلال والتعظيم.
وإذا كانت البيئة الاجتماعية والفكرية ذات تأثير واضح على شخصية المبدع، فإنّ البيئة الاقتصادية ليست شرطاً في الإبداع، فلقد نبغ مبدعون في حقول إبداعية شتى من خلال بيئات فقيرة، كان الفقر عاملاً محفّزاً على إبداعاتهم.
2 ـ تنمية القدرات والقوى العقلية وصقلها وتدريبها على الدوام، وهي:
أ ـ الإدراك: (أي إدراك العلاقات بين الأشياء ومعرفة أسرارها وأبعادها).
ب ـ الذكاء: وهو القدرة على الابتكار والتفنن في ايجاد الحلول والبدائل، والقدرة على الاستدلال.
ج ـ الذاكرة: وهي الخزين الفكري والشعوري.
د ـ التحليل: وهو القدرة على دراسة الأشياء والحوادث والأفكار والخروج باستنتاجات واضحة.
هـ ـ الملاحظة: وهي ليست المشاهدة البصرية فقط بل تشمل الاستعانة بوسائل الملاحظة الأخرى من أجل المقارنة والتقييم والتنبؤ والتصنيف.
و ـ التفكير المنطقي السليم: والذي يعتمد التسلسل في الأفكار، وإبداء الرأي فيها والخروج باستنتاجات مناسبة.(1/19)
3 ـ تنمية الميول العقلية:
كالميل إلى الاطلاع أو ما يسمّى بـ (حبّ الاستطلاع) والميل إلى البحث، والميل إلى التنقيب، والميل إلى المعرفة.
4 ـ الإفادة من القوانين والقواعد والسنن:
لإدراك النظم التي تسير بموجبها الأشياء، فالمبدع ـ كما قلنا ـ ليس خارجاً على القانون، وإنّما هو خارج على السائد الجامد، والرتيب الروتيني التقليدي.
5 ـ أجواء الإبداع:
وتشمل (الحبّ) فحيثما يجد المبدع صغيراً كان أو كبيراً أجواء الحب والاحترام والتقدير والاحتفاء بإنجازاته وتكريمه ينمو إبداعه ويتطور أكثر فأكثر والعكس صحيح، فكم قتل الحقد والحسد والتخلّف مواهب وإبداعات كان من الممكن أن تثري الواقع الانساني.
وتشمل أيضاً (الحريّة) ففي أجواء الاستبداد والتزمّت والقمع والتبعيّة .. لا ينمو إبداع، ولا تتفتح طاقة، ولا ينشأ نبوغ.
عوائق الإبداع وآفاته:
ذكرنا من مثبطات الإبداع أو معوقاته: القيود والضغوط الاجتماعية والسياسية، والتقليد الأعمى، وأجواء الكراهية والحسد، والبيئة المتخلِّفة التي تكثر فيها العقول المتحجرة، والاتكالية، وانعدام النقد والحريّة في التعبير.
ويمكن أن نضيف إلى ذلك، فقدان الأمن، وتقديس التراث، وشيوع الأسلوب التنظيري في قبال انعدام أجواء التجريب والمختبرات والورشات.
كما إنّ الخوف من طرح الأسئلة، والهروب منها، وعدم الإجابة عنها بشفافية تعيق الإبداع وتعرقل سيره وتربك خطاه.
أمّا أسلوب التلقين في التعليم وحفظ المعلومات واستذكارها وتقدير معدلات النمو والتفوّق بالعلامات المدرسية، دون الالتفات إلى السعي السنويّ من حيث المساهمة في النشاطات، والنقاش، وطرح الأسئلة، فهو مما يخنق الإبداع أيضاً.
هذا فضلاً عن أنّ الاستخفاف والاستهزاء والتوهين والسخرية وأساليب التشويه التي يواجه بها المبدع وهو في ريعان إبداعه قد تكسر ميوله إلى الاستمرار والتطلّع إلى إبداعات أوسع.(1/20)
لقد كتب الشاعر المصري الكبير (إبراهيم ناجي) أيام شبابه قصيدة وأرسلها إلى مجلّة أدبية، فما كان من المحرّر إلاّ أن نصح الشاعر بعدم دخول عالم الشعر لأنّه لا يصلح كشاعر وحين قرأ إبراهيم ردّ المجلّة أصيب بالخيبة وارتطم بعمود الكهرباء أثناء سيره إلى البيت وكسرت ساقه!
لكنّ إبراهيم ناجي .. أفاق بعد ذلك من ذهوله وخيبة أمله ليصبح شاعراً مبدعاً من الطراز الأوّل، ولو كان استسلم للصدمة لحرم الأدب العربي من قصائد وجدانيّة غاية في الروعة والإبداع.
ويمكن أن نشير أيضاً إلى آفات أخرى تؤثر على شخصية المبدع وعلى مستواه الإبداعي، ومنها:
1 ـ الغرور: فالغرور قاتل الإبداع لأنّه يوحي لصاحبه أنّه بلغ الكمال وأنّه الأفضل بين الآخرين، ومَن كان هذا شأنه فهو إلى الانهيار والتراجع أقرب منه إلى الارتقاء والتطور.
2 ـ الإحساس بالحقارة أو الدونية: وهو شعور مناقض للشعور السابق لكن نتيجته مؤسفة أيضاً، فهو يقعد بصاحبه عن أيّ إبداع حينما يرى نفسه أقلّ وأصغر وأضأل من الآخرين، وقد يمتلك بعض نوازع ومقومات الإبداع لكن انعدام ثقته بنفسه يميت إبداعه ويحطمه.
3 ـ العجلة والتسرّع: فكما قلنا فإنّ (الإتقان) و (السرعة) لا يجتمعان ولا تجد عملاً إبداعياً ـ إلاّ ما ندر ـ جاء على وجه السرعة. فقد يترك المبدع عمله الإبداعي الجديد فترة من الزمن قبل أن يباشر في تنفيذه وذلك لغرض التمكّن الكامل منه.
4 ـ الاستجابة للضغوط: فإذا خضع مبدع لشروط صاحب المال أو السلطة أو المؤسسة، أو لواقع اجتماعي متعسِّف، فإنّه سيحطِّم إبداعه بيديه، لأنّه سيفقد عاملاً أو شرطاً من شروط إبداعه وهو (الحريّة) و (الاستقلاليّة).(1/21)
5 ـ المسكّرات والمخدّرات والدخان: فهذه كلّها تفعل فعلها التخريبيّ في الخلايا الدماغية والعصبية والجسدية، الأمر الذي يهدد بأمراض تضعف القابلية على الإبداع كاضطراب الغدد وتأثير ذلك على السلامة النفسية، فاضطراب غدة (الثايارويد) مثلاً قد تؤدِّي ـ كما يقول أهل الاختصاص ـ إلى البلادة! وإذا لم ترشح الغدة الدرقية مادة (التيروكسين) فإن ذلك سيضعف الذكاء ويزيله، كما أن زيادة أو ضعف الكالسيوم في الجسم يسبب اختلالاً نفسياً، وما أكثر الأمراض المشخّصة وغير المشخّصة التي تسببها المسكّرات.
ولا نعتقد بصحة ما يشيعه البعض من أن هذه الخبائث والشرور والمواد السامّة الفتّاكة تساعد المبدع على المزيد من الإبداع .. إنّها تضرّ به وتضعفه، وقديماً قيل: «العقل السليم في الجسم السليم».
6 ـ الشيخوخة: فكلّما تقدّم العمر بدأت علامات النبوغ والإبداع بالأُفول والاضمحلال والتلاشي كجزء من حالة الانحدار الصحيّ التي تصيب المتقدِّم بالسنّ.
يقول (شارل ريشيه): إنّ قوى الذهن وجميع القوى المتعلِّقة بها تضعف بالتدريج بعد سن (45) سنة، وإن قوة الابداع والابتكار التي تنبع من الذكاء والفراسة تصل إلى ذروتها بين سن الثلاثين والأربعين حتى سن الخمسين، ثمّ تأخذ بالضعف بعد ذلك بالتدريج وتصاب بالركود في السبعينات من العمر، رغم انّه يوجد في مثل هذه المرحلة نوابغ() في العالم.
فالقاعدة هي أن ملامح الإبداع قد تبدأ من الطفولة ثمّ تظهر بشكل بارز في مرحلة الشباب فهي المرحلة المؤهلة للإبداع، أو لمستوى إبداعيّ قابل للنمو والتكامل، وهذا هو السرّ في اغتنام الشباب قبل الهرم.
7 ـ القناعة: ومن محبطات الإبداع القناعة بما وصل إليه المبدع، والرضا بمستوى أو مرحلة معيّنة من العطاء، والنوم على أمجاد الماضي .. إنّ المراوحة في المكان قد تبدو غير الرجوع إلى الوراء .. لكنها في حساب الزمن والعطاء كذلك.
دروس وصور في الإبداع:(1/22)
يمكنك أن تلتقط الكثير من دروس الإبداع في الحياة من حولك .. التقِ بأيّ عامل ماهر، أو أي صاحب مشروع ناجح، أو تجربة غنيّة في أي حقل .. استمع إليه. ستحصد من لقائك معه العديد من التجارب والأفكار الإبداعية كالتي ننقل لك بعضها على سبيل المثال فقط:
1 ـ يقول أحد التلاميذ: لم يلفت نظري في أسلوبه المميز، بين المعلّمين الكثّر الذين تعاقبوا على تعليمي، سوى أستاذ واحد، كان مدرساً لمادة التأريخ .. فكان قبل البدء بالدرس يضع على اللوح بخطّه الجميل ثلاثة أو أربعة أسئلة تلخِّص الإجابةُ عنها الموضوع كلّه.
منه تعلّمنا .. كيف نطرح أسئلتنا .. وكيف نجيب عليها .. وكيف نكون منهجيين في الطرح والمعالجة والانتقال من مقطع إلى مقطع، أو فكرة إلى فكرة أخرى، في تسلسل موضوعيّ ..
كان أستاذاً مبدعاً!
ملاحظة: تذكّر أن طرح الأسئلة أسلوب إبداعيّ كما سبقت الإشارة.
2 ـ قال لي صديق يحبّ تصليح الأجهزة العاطلة: أتدري كيف تعلّمت ذلك؟
قلت: في معهد ما؟
قال: لا .. بل من البيت.
قلت: كيف؟
فقصّ لي قصته مع أوّل جهاز تعطل في البيت وتولّى تصليحه في الوقت الذي كانت أمّه قد طلبت من أبيه أن ينقله إلى المصلِّح المختصّ ..
يقول صاحبي: فتحت الجهاز واكتشفت الخلل وذهبت لشراء القطعة التالفة وركّبتها وعاد التلفاز يعمل كما كان .. وحينما جاء أبي أخبرته بما فعلت، ففتح الجهاز وتأكّد بنفسه .. ومع إشراقة الشاشة الصغيرة أشرق وجهه بالإعجاب .. وقال: أنا فخور بك يا ولدي!
كانت مكافأته الجزيلة وهي عبارة: «أنا فخورٌ بك» بمثابة القوة الدافعة لإبداعات مستقبلية حتى أنّه كان إذا استعصى عليه شيء طلبني لحلّه.
ملاحظة: إنتبه إلى أسلوب التشجيع في رفع معنويات المبدع ومستوى إبداعه.(1/23)
3 ـ قال المعلِّم لتلاميذه، وهو يطمح أن يراهم أكثر من متلقين سلبيين: اعرضوا المسألة التي أطرحها عليكم على أذهانكم عدّة مرّات فربّما يأتيكم في المرّة العاشرة إشكال يكون مفيداً أو صحيحاً .. فليس من الضروري أن يكون ما أطرحه عليكم صحيحاً دائماً ..
من حينها والتلاميذ يناقشون أستاذهم نقاشا فكرياً حرّاً فتح له ولهم أبواباً أوسع من دائرة المعلومات المسطّرة في الكتاب!
ملاحظة: التفت إلى صيغة مراجعة المسائل بذهنية ناقدة ..
4 ـ طلب أستاذ في إحدى كُلِّيات الطبّ من طلاّبه، بعد أن درسوا أمراض القلب، أن يذكروا له احتمالات إصابة القلب، فراح الطلبة يعدّدون تلك الأمراض التي يصاب بها القلب عادة والواردة في المنهج المقرّر .. ثمّ طرح الأستاذ سؤالاً مفاجئاً: وماذا بعد؟ أي ماذا غير هذه الاحتمالات المدرجة على اللوح.. فصمت الطلاّب ليقولوا بصمتهم أن لا شيء يذكر، وأنّهم لم يدعوا مرضاً قلبياً دون أن يذكروه.
أخذ المعلِّم الطبشور ووضع في أسفل قائمة الاحتمالات علامة (× ) .. ولفت نظر طلاّبه إلى أنّ الاحتمال (× ) يجب أن يحضر في أذهانهم كأطباء، فإذا ما استعرضوا كافّة الاحتمالات ولم يكن أيّ منها هو الصحيح أو المرجّح .. فليبحثوا عن الاحتمال (× ) غير المعلوم، مذكّراً إيّاهم انّه احتمال قائم ليس في الطبّ وحده بل في جميع الحقول العلمية والفكريّة.
ملاحظة: تذكّر أنّ الاحتمال (× ) .. هو الذي يفتح أبواب الإبداع غير المفتوحة من قبل.
5 ـ قضى رسّام ياباني عدّة سنوات وهو لا يرسم سوى الأعشاب، وعندما سُئِل مرّة: لماذا الأعشاب دائماً؟ قال: يوم رسمت العشب فهمت الحقل، ويوم فهمت الحقل أدركت سرّ العالم!
ملاحظة: إنّ الانطلاق نحو الإبداعات الكبرى قد يكون مدخله إبداع صغير، وفهم أسرار الأشياء الكبيرة قد يأتي من فهم سرّ الشيء الصغير .. هل توافقه؟(1/24)
6 ـ يقول كاتب أميركي روائي أصيب بمرض أقعده عن السير (82) عاماً: منذ أن أصابني المرض الذي كاد أن يقتلني، كتبت أربع كتب، وهذا هو جوابي على الخوف من الموت .. فإذا ما بقيت دون أن تفعل شيئا فإنّك تموت بسرعة!!
ونضيف على ما يقوله: أمّا إذا فعلت شيئا نابعاً من صميم تفكيرك الشخصيّ، وكانت فيه لمسات إبداعية، وكنت ترى فيه نفسك وموهبتك فإنّك تحيّا كأجمل ما تكون الحياة الحافلة بالإنتاج والإبداع والإمتلاء.
وقد لا يكون (الإنتاج) إبداعياً لكنه ـ مع الحبّ والمداومة ـ يقود إلى الإبداع.
ملاحظة: الكاتب الروائي يقول لك: افعل شيئاً ذا قيمة .. يكن مبدعاً.
7 ـ الإبداع أيضاً .. تطوير للوسائل والأجهزة والأنظمة القديمة: فلقد اخترع أحدهم فرشاة ذات خزّان تستخدم للدهان، وتقوم فكرته على الحاق خزّان يمدّها بصورة مباشرة بمادة الدهان من خلف شعيراتها، فيملأ الخزان بمادة الدهان بعد تصفيتها من العوالق ثمّ يغلق جيداً ويعلّق على الكتف .. مما يوفِّر الوقت والجهود والدهان أيضاً.
واختراع مبدع آخر سريراً دائرياً متعدد الأغراض يمكن استخدامه كسريرين منفصلين، ويمكن تحويله إلى أريكة كما يمكن فصل الأريكة إلى جزئين كلّ جزء يحمل أربعة أشخاص، وتستخدم الأماكن السفلية للتخزين ..
ميزة السرير إنّه متعدد الأغراض .. يستخدم في الأماكن الضيِّقة .. كما أنّه رخيص الثمن! ()
8 ـ راجع الصور التالية:
ـ إعادة ترتيب الغرفة بشكل مغاير لوضعها السابق لإعطائها مساحة أكبر وإزالة الزوائد غير الضرورية .. وجعلها أكثر حميمية بإضافة لمسات بسيطة في الديكور والإنارة وتغيير الأثاث.
ـ تنظيم الحديقة وتقليمها حسب الذوق .. وتوزيع أزهارها بشكل منضّد .. وتوزيع المناضد بشكل جمالي لافت.
ـ إعداد طبخة معروفة .. ولكن بشكل غير مألوف من خلال إدخال تحسينات في المواد والنكهات وأسلوب العرض والتقديم.
ـ إعادة ترتيب مكتبة بتبويب وترقيم وعرض جديد ..(1/25)
ـ عرض بضاعة في واجهة محلّ تجاري، أو بقاليّة، أو أزياء، أو أحذية بطريقة تجتذب الزبائن وتلفت أنظار المارّة والمتسوّقين وتستهويهم للاطلاع .. فربّما يقبلون على الشراء في المرّة القادمة.
ـ كتابة رسالة إخوانية لانسان عزيز على القلب بطريقة غير تقليدية.
أليست هذه وسواها وما شاكلها كلّها إبداعات ولو بسيطة ..
أليست تنمّ أو تدلّ على ذوق رفيع، وقدرة على التجديد، وهما من أخوات الإبداع وشقائقه ..
تأمّل في حياتك اليومية لترى كمّ من الإبداع فيها؟ أو كم من الإبداع يمكن أن تضيفه إليها!
من سير المبدعين:
سندعهم يتكلمون عن أنفسهم:
ابن سينا (أبو الطبّ):
«حفظتُ القرآن وأنا ابن عشر سنين .. ثمّ تعلّمت الفلسفة، ثمّ قرأت ظواهر المنطق، وأخذت أقرأ الكتب بنفسي وأطالع الشروح، فقرأت كتاب (اقليدس) .. ولمّا قاربت ست عشرة رغبت في علم الطبّ فقرأت الكتب المصنّفة فيه، ودرست تجارب علم الأمراض .. ».
انظر إلى أسباب إبداعه:
ـ التبكير في التعلّم .. (ابن عشر سنين).
ـ الاعتماد على الذات .. (أقرأ الكتب بنفسي).
ـ الرغبة والميل .. (رغبتُ في علم الطبّ).
ـ الجمع بين (النظريات) وبين (التطبيقات) .. (فقرأت الكتب المصنّفة فيه، ودرست تجارب علم الأمراض).
الخوارزمي (أبو الجبر):
يقول في كتابه (الجبر والمقابلة): «إنِّي لمّا نظرت فيما يحتاج إليه الناس من الحساب وجربت جميع ذلك عدداً، وجدت جميع الأعداد إنّما تركبت من الواحد، والواحد داخل في جميع الأعداد».
أنظر إلى إبداعه من خلال:
1 ـ النظر والتفكّر .. (إنِّي لمّا نظرت).
2 ـ التأمّل فيما يلبِّي حاجات الآخرين .. (فيما يحتاج إليه الناس).
3 ـ العثور على الحلول والاختراعات المناسبة .. (وجدت جميع ذلك عدداً).
جابر بن حيان (أبو الكيمياء):(1/26)
يقول عن اكتشافه لـ (نظرية السعير): «كنت أتأمّل الأجسام القابلة للاحتراق وأرى ما ينطلق منها عند الاحتراق، فوجدت أنّ السعير يخرج على شكل لهب أسود أو حرارة».
ألا تلاحظ أنّنا جميعاً نشاهد هذا المشهد المألوف .. لكن كم من الناس قبل (ابن حيان) اكتشف السعير؟!
السرّ في إبداعه:
(النظر والتأمّل والبحث والخروج بنتائج) جدير بالذكر، أنّ العالم الفيزياوي (باسكال) صاحب قاعدة الأواني المستطرقة، كان يعالج صداعه بـ (التفكير العميق)! فتأمّل!!
أبو بكر الرازي (جالينوس العرب) ومؤسِّس علم الكيمياء الحديث:
يقول الرازي: «حينما أراد المنصور إنشاء مشفى في بغداد طلب منِّي تحديد المكان الأنسب معتمداً على التجربة والمشاهدة، فجئت بذبيحة وعلّقتها في مكان ما .. ثمّ عددت أماكن تعليقها في مناطق مختلفة من بغداد .. بالتجربة والمشاهدة عرفت المكان الأفضل وهو الذي لم تتعرض فيه الذبيحة إلى التفسخ»!
السرّ في إبداعه إذن هو (التجربة) و (المشاهدة) و (الاختيار).
الشريف الرضي (الشاعر الشهير):
«ابتدأت بنظم الشعر وأنا ابن عشر سنين ففقت به أهل زماني، وقد حفظت القرآن على الكبر .. ».
ـ تأمّل في عمر (10 سنين) وقارنه مع ابن سينا الذي حفظ القرآن في (10 سنين) .. لا تعجب إذن من النبوغ أو الإبداع المبكر.
ـ وتأمّل أيضاً في الحفظ على الكبر .. لكي لا تيأس من فوات الأوان ففي الحديث: «لو تعلّقت همّة أحدكم بالثريا() لنالها».
أديسون (مخترع الكهرباء):
« .. ما يعلمه الناس عنِّي إنِّي مخترع الكهرباء .. ولكنّني سجّلت باسمي (1093) اختراعاً»!!
الإبداع إذن قد يقود لمزيد من الإبداعات .. والاختراع يجرّ إلى الاختراع و .. مَنْ سار على الدرب وصل.
هل أنت مُبدِع؟
سنترك لك تقييم إبداعك من خلال الإجابة عن عدد من الأسئلة المتعلِّقة بالإبداع من قريب .. فحتى لو أجبت بنعم على بعضها .. فأنت مبدع .. وبإمكانك أن تطوّر إبداعك في الأمور الأخرى() ..(1/27)
1 ـ هل أنا طموح؟ هل لطموحاتي حدود؟
2 ـ هل أصلح كقائد لمجموعة؟
3 ـ هل أعمل تحت الضغوط؟
4 ـ كيف أنفق وقتي؟
5 ـ هل أعمل بشكل روتيني رتيب؟
6 ـ هل أحبّ القراءة؟
7 ـ ما هي مواهبي الخاصّة؟
8 ـ في أي المواهب أجد نفسي واهتمامي .. في أيّها أرغب أكثر؟
9 ـ هل اجتزت دورات تدريبية وتأهيلية لعمل ما؟
10 ـ في أيّ المواضيع يكون إنجازي أفضل؟
11 ـ هل عملي هو صورة مطابقة لمؤهلاتي العلمية والفنّية؟
12 ـ هل أنا بحاجة إلى شهادة تخرج في اختصاص ما .. هل عليَّ أن أحصل عليها قبل مباشرة العمل والانغماس فيه؟
13 ـ لماذا اخترت هذا الاختصاص؟
14 ـ هل تحمّلت مسؤوليات سابقة؟
15 ـ هل عملي موافق لما أبحث عنه من موقع؟
16 ـ ما هي مزاياي وسماتي الشخصية الجيِّدة والرديئة؟
17 ـ هل أحبّ المناقشة؟
18 ـ هل أعمل بشكل جيِّد مع الآخرين أم بشكل منفرد (مستقل)؟
19 ـ هل أنا قائد أم مقود .. تابع أم متبوع؟
20 ـ هل أعمل بسرعة أم بطريقة عادية؟
21 ـ هل أحبّ السفر لتنمية مواهبي واختصاصي؟
22 ـ هل أنا مقتنع بما حقّقته لحدّ الآن؟
23 ـ هل أبحث عن المردود المادي لعملي فقط؟
24 ـ في أيّة بيئة صحِّية أستطيع أن أعمل؟
25 ـ إذا أردت تصميم عمل خاص بي، فأيّ السمات أريدها له؟
26 ـ ما هي أهدافي القريبة والبعيدة؟ وما هي الوسائل التي أصل بها لتلك الأهداف؟
27 ـ ماذا أريد عمله خلال خمس سنوات؟
28 ـ هل أجد متعة في عملي؟
29 ـ هل أميل لصحبة المبتكرين والمجددين والمبدعين وأصحاب الرؤى الخاصة؟
30 ـ هل أنا هاو أم محترف؟
تنويه:
نتمنّى أن تكون قراءة هذا الكتاب مدخلاً لإبداعك .. فإذا حفّز فيك الرغبة لأن تحصل ولو على درجة من الإبداع .. فهذا أملنا ..
إطلب الإبداع ..
وفِّر مستلزماته .. أو بعضها.
ستكون .. بإذن الله .. مبدعاً.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
الفهرس
هؤلاء جميعاً مبدعون ... ... 6
منجم الطبيعة ... ... 8
خصائص الإبداع الإلهي ... ... 9(1/28)
الفرق بين الإبداعين الإلهي والإنساني ... ... 11
ما هو الإبداع؟ ... ... 12
المخالفة ليست دائماً إبداعاً ... ... 14
حقائق حول الإبداع ... ... 17
مصادر الإبداع ... ... 21
ملامح الإبداع ... ... 30
صفات المبدعين ... ... 34
وسائل تنمية الإبداع ... ... 39
دروس وصور في الإبداع ... ... 46
من سير المبدعين ... ... 52
هل أنت مُبدِع؟ ... ... 56(1/29)