(الغلاف)
كلمات وفاء
لذكرى أحمد الشقيري
الجزء الأول
1980 - 2000(1/1)
كلمات وفاء
لذكرى
أحمد الشقيري
الجزء الأول
1980 - 2000
الطبعة الإلكترونية الأولى
1426 هـ
2005 م
? كلمات وفاء
?(1/3)
عرفات حجازي وآخرون
? الطبعة الإلكترونية الأولى 2005 م
المحرر
عبد العزيز السيد أحمد
تدقيق التنضيد والإخراج :-
المؤسسة العربية الدولية للنشر والتوزيع
هاتف: 5650630-6-962+ فاكس: 5668860-6-962+
ب.إ: arab_book@hotmail.com
جميع الحقوق محفوظة All rights reserved(1/4)
بسم الله الرحمن الرحيم
"مَن كانَ يُريدُ العِزَّة فَللَّهِ العِزَّةُ جَميعًا
إليه يَصْعَدُ الكَلِمُ الطّيّبُ وَالعَمَلُ الصَّالح ُيَرفَعُهُ"
... ... ... ... ... ... صدق الله العظيم(1/5)
تمهيد:
بعد وفاة المجاهد العربي الفلسطيني أحمد الشقيري في 26/2/1980م، نشرت مقالات في الصحف والمجلات، وألقيت كلمات في حفلات التأبين وإحياء الذكرى، تحدّث فيها الكتاب ورفاق الفقيد عن مناقبه وسيرته النضالية. وبمناسبة مرور عشرين عاماً على رحيل فقيدنا طيب الله ثراه، ننشر هذه المجموعة من الكلمات ... من أجل الذكرى...ومن قبيل الوفاء.
أسرة أحمد الشقيري
أيلول / سبتمبر 2000
ملاحظة: رتبت الكلمات والمقالات في هذه المجموعة ترتيباً زمنياً ابتداء بالأحدث.(1/7)
المحتويات
تمهيد ................................................. ... ...................... ... 7
القسم الأول ................................... ... ...................... ... 13
- إنصافا لمؤسس منظمة التحرير الفلسطينية ... ....... ... عرفات حجازي....... ... 15
– نصيحة ماوتسي تونغ إلى العرب .................. ... جميل بركات ......... ... 31
- عشرون سنة على غياب الشقيري المؤسس المفترى عليه ......................................... ... رشاد أبو شاور ...... ... 34
- الشقيري في الذكرى العشرين لرحيله ............. ... عدلي صادق ........ ... 40
- لاءات الشقيري في مواجهة لاءات باراك .......... ... د0اسعد عبد الرحمن ... 45
- الشقيري ..وميثاق جامعة الدول العربية............ ... جميل بركات ......... ... 49
- أحمد الشقيري ذكرى مناضل ...................... ... عبد المجيد أبو خالد .. ... 56
- كانت فلسطين جرحاً في قلبه والوحدة أمنيته الكبرى................................................ ... الاقتصاد العربي ... 59
- تاريخ أحمد الشقيري بعض من تاريخ فلسطين الحديث............................................. ... عباس صفا .......... ... 68
- من تبنين إلى الأغوار: رحلة نسيان الشقيري..... ... طلال سلمان ......... ... 71
- الصين والشقيري وتبقى الذكرى................... ... جميل بركات ......... ... 75
- أنطون سعادة وأحمد الشقيري مقارنة على الخطوط الحمراء....................................... ... د0أنيس صايغ ....... ... 78
- أحمد الشقيري, الرجل الذي حارب إسرائيل حياً وميتاً ................................................. ... د. سبع أبو لبدة ...... ... 89
- في ذكرى أحمد الشقيري .......................... ... جميل بركات ......... ... 93(1/9)
- الشقيري كما عرفته............................... ... محمد كعوش ......... ... 97
- كلمة افتتاحية في ندوة مؤسسة شومان بمناسبة ذكرى أحمد الشقيري ................................. ... د0أسعد عبد الرحمن ... 99
- أحمد الشقيري كما عرفته ....................... ... عبد المجيد شومان.... ... 102
- في ندوة مؤسسة شومان,أحمد الشقيري كما عرفته ... إبراهيم بكر إبراهيم... ... 108
- في الذكرى السادسة عشرة لوفاة المجاهد أحمد الشقيري.............................................. ... خير الدين أبو الجبين ... 121
- أحمد الشقيري فكراً وعقيدة ....................... ... د.محمد علي الفرا.... ... 127
- في ذكرى أحمد الشقيري........................... ... د.أنيس صايغ ........ ... 133
- كيف تأسست منظمة التحرير الفلسطينية، لولا الشقيري لما قامت للفلسطينيين قائمة.................. ... عرفات حجازي....... ... 144
- أحمد الشقيري , سجال مع تهم شائعة ............. ... د.أنيس صايغ......... ... 152
- دور الشقيري في تأسيس منظمة التحرير.......... ... خالد الفاهوم ......... ... 162
- مساهمات الشقيري في المحافل العربية والدولية... ... أبو ماهر اليماني...... ... 177
- سيرة حياة المناضل أحمد الشقيري................ ... رافع الساعدي........ ... 190
- أحمد الشقيري في ذكراه الخامسة عشرة.......... ... محمد سعيد صبار..... ... 199
- في ذكرى الشقيري................................. ... د. أسعد عبد الرحمن ... 204
- أربعة عشرة عاماً على رحيل مناضل كبير......... ... د.محمد على الفرا ... 206
- الشقيري, من فندق المنفى ومن فندق الاحتلال إلى الوطن ............................................... ... د. أسعد عبد الرحمن.. ... 213
- المجاهد العربي أحمد الشقيري وفلسطين عام2000............................................ ... طلعت شناعة ....... ... 215
- أوراق جديدة من ملف الأصدقاء الورقة الأولى أحمد الشقيري......................................... ... د.أسعد عبد الرحمن ... 218(1/10)
- بين جنيف وواشنطن رؤيا مبكرة لقائد فلسطيني راحل عن الحل السلمي................................ ... د.علي سعود عطية... ... 221
- أحمد الشقيري والخرافات اليهودية ............... ... إبراهيم سكجها ....... ... 227
القسم الثاني................................. ... ....................... ... 231
- هذا اليوم في التاريخ أحمد الشقيري............... ... نجدة فتحي صفوة .... ... 233
- الشقيري: غياب وحضور.......................... ... د. أسعد عبد الرحمن.. ... 237
- الشقيري في ذكراه الخامسة(لي حكاية مع حطين) ... جميل بركات ......... ... 240
- أحمد الشقيري في ذكراه الخامسة.................. ... خليل السواحري...... ... 247
- أحمد الشقيري..................................... ... الموسوعة الفلسطينية ... 249
- الصين وفلسطين................................... ... عرفات حجازي....... ... 255
- الشقيري في ذكراه الثالثة.......................... ... جميل بركات ......... ... 258
- أحمد الشقيري في ذكراه الثانية (كتاب جديد – خرافات يهودي)....................................... ... أبو محمود ........... ... 262
- الشهداء أحياء في ذكراهم ......................... ... جميل بركات.......... ... 264
- أحمد الشقيري في ذكرى 50 يوماً على وفاته..... ... جورج نعيم شامات.... ... 272
- كلمة تأبين في ذكرى الأربعين...................... ... خير الدين أبو الجبين ... 275
- كلمة تأبين في ذكرى الأربعين...................... ... جاسم القطامي ....... ... 282
- الشقيري والكلمة توأمان........................... ... شفيق الحوت......... ... 286
- كلمة تأبين في حفل جيش التحرير الفلسطيني في ذكرى الأربعين ........................................ ... محمد رشدي الخياط .. ... 295
- أحمد الشقيري.. رجل فقدناه....................... ... د.علي سعود عطية... ... 302
- رحم الله أحمد الشقيري............................ ... محمد كريشان......... ... 310
- أحمد الشقيري.. في ذمة الله....................... ... صبري أبو المجد .... ... 315
- كلمة حق ووفاء وتاريخ على طريق الهزيمة مع الملوك والرؤساء العرب .............................. ... أسامة بن منقذ........ ... 318(1/11)
- الصوت الذي خسرته القضية....................... ... الحوادث ............. ... 323
- الفارس السنديانة ................................. ... فلسطين الثورة ....... ... 325
- الشقيري وكلمة رثاء ............................. ... خالد محادين ......... ... 328
- أحمد الشقيري .................................... ... فؤاد مطر ............ ... 330
- الشقيري: خطيب العرب في الأمم المتحدة ......... ... عبد الحميد عبد الغني ... 332
- أبو مازن, رثاء القلب إلى أحمد الشقيري ........ ... ناصر الدين النشاشيبي ... 336
- أربعون عاماً من الجهاد ........................... ... شفيق الحوت ........ ... 347
- واحد من صقور فلسطين .......................... ... فهد الريماوي ........ ... 350
- ذكريات مع أحمد الشقيري......................... ... د.محمد فاضل الجمالي ... 353
- الشقيري في ذمة الله .............................. ... جميل بركات ......... ... 359
- أحمد الشقيري .................................... ... رجا العيسى .......... ... 361
- أحمد الشقيري.. صفحة من الكتاب الفلسطيني..... ... أنور الخطيب ......... ... 364
- حبيب فلسطين وفارسها ........................... ... هارون هاشم رشيد .. ... 367
ملحق ............................................. ... ....................... ... 371
- كلمة عن لجنة تخليد ذكرى المجاهد الشقيري.... ... خير الدين أبو الجبين ... 373(1/12)
القسم الأول
2000- 1990(1/13)
إنصافا لمؤسس منظمة التحرير الفلسطينية (1)
عرفات حجازي
لعل أحمد الشقيري هو الشخصية الوحيدة الذي أعاد طرح قضية الشعب الفلسطيني على المستويات الفلسطينية والعربية والاسلامية والعالمية كافة.. ولعله أكثر الشخصيات الوطنية الذي جرى التعتيم على نضالاته وإغفال ذكره وحياته وكأن وراء ذلك مشاعر الحرج للجميع الذين خرجوا عن الطريق التي رسمها لتحرير فلسطين ، فانتهت القضية إلى ما هي عليه اليوم من مأزق يهدد القضية الفلسطينية ويسلبها أركانها وثوابتها وحقيقتها . ويكفي الشقيري فخرا أنه الوحيد الذي صفع غولدا مئير عندما قالت في الأمم المتحدة أثناء بحث قضية المساعدات المالية للاجئين عندما طالبت بإلغاء هذا البند الذي تكرر لخمس عشرة سنة ، وقالت باستهتار واستفزاز أين هو الشعب الفلسطيني هذا الذي تطرحون قضية صرف المساعدات له كل عام ؟!! .. انه لا يوجد اليوم شعب اسمه الشعب الفلسطيني .
الشعب الفلسطيني حقيقة
__________
(1) * الدستور،عمان، 23و26 / 8 / 2000.(1/15)
عندما انطلقت غولدا مئير وزيرة خارجية إسرائيل في توجيه خطابها الذي استهانت فيه بالقضية الفلسطينية وبالشعب الفلسطيني وفعلاً كانت القضية الفلسطينية قد جرى التعتيم عليها حتى أن كلمة فلسطين كان يحظر سماعها في بعض البلاد العربية. وكان الشقيري بعد نكبة فلسطين قد استعانت بخبراته الحكومة السورية فعينته عضوا في بعثتها إلى الأمم المتحدة ، وكذلك أمينا عاما مساعدا للجامعة العربية ثم قامت المملكة العربية السعودية بتعيينه وزير دولة لشؤون الأمم المتحدة. وجهت غولدا مئير تلك الإهانة للشعب الفلسطيني وهنا بدأ تفجير القضية الفلسطينية عندما تصدى لها أحمد الشقيري وقال في خطاب هزّ المجتمع الدولي عندما قال وهو يشير إلى غولدا مئير : ((هذه السيدة المحترمة التي ولدت في روسيا وتزوجت في أمريكا وعاشت في بولونيا ثم استقرت في بلدي قد جاءت إليكم من تل أبيب لكي تفسر لكم لماذا وكيف وبأي حق يحتل الغريب ارض صاحب الحق وكيف وبأي حق يطرد اليهود العرب من بلادهم .. قولوا أيها السادة لهذه السيدة المحترمة, إن الشعب الفلسطيني موجود ولن تذيبه قوة في الوجود وإن عليها أن تعود إلى أمريكا أو بولونيا أو روسيا حيث بعض أهلها وأن تترك أهلي يعودون لأنهم سيعودون إلى وطنهم ذات يوم أحرارا))!
عودة اللاجئين
ومنذ ذلك اليوم أخذ الشقيري يركز في خطاباته واتصالاته واجتماعاته على أن قضية فلسطين التي تحولت إلى قضية إغاثة ومساعدة لا بد أن تأخذ وضعها الحقيقي و الصحيح وهي قضية الشعب المشرد الذي لا يريد معونات وكالة غوث اللاجئين بل إنه يريد معونات وكالة غوث اللاجئين(1/16)
بل إنه يريد تحقيق وحدة العرب من أجل أن يعود كل اللاجئين إلى وطنهم فلسطين.
ومنذ ذلك اليوم أخذ يدعو الدول العربية و الشعب الفلسطيني إلى إقامة جبهة ثورية على غرار جبهة التحرير الجزائرية لتعلن الحرب على إسرائيل حتى يعود آخر لاجئ إلى وطنه المحرر وقد رفع شعار : إن رصاصة تطلق على أرض فلسطين يتردد صداها في أروقة الأمم المتحدة أكثر من مئة خطاب وأكثر من ألف مشروع قرار !
وقد استطاع الشقيري من خلال خطاباته التي لم تنقطع في الأمم المتحدة أن يلفت أنظار الوفود العربية التي التفت حوله وأيدته إلى أن قرر الملوك والرؤساء العرب الاستعانة به لتحريك القضية الفلسطينية فجرى تعيينه في منصب ممثل فلسطين في جامعة الدول العربية وهو المنصب الذي بقي شاغرا منذ وفاة المرحوم أحمد حلمي عبد الباقي .
خطيب لا مثيل له
والمعروف عن الشقيري أنه كان خطيبا تفوَّق على كل خطباء العربية وكان معروفا عنه أنه يستمد مرادفات اللغة وتعابير اللسان وفصاحة الأسلوب بقوة وغزارة .. وكانت اللغة ملك لسانه وطوع جنانه, يخطب بروحه ويتدفق بأحاسيسه وأعصابه .. يطيل دونما ملل, وإذا شعر أنه أعطى الموضوع حقه, وللساعة التزامها, وللمستمعين واجبهم عاد إلى كرسيه وفي نفسه شيء من الحنين لكي يعود ويبدأ الخطابة من جديد .(1/17)
وعندما كان في الامم المتحدة كان مشهورا عن المسيو فيشنسكي مندوب السوفييت الدائم في الامم المتحدة بأنه من أعظم الخطباء الذين وقفوا على منبر المنظمة الدولية بل كان هو أعظم الخطباء السوفييت قاطبة ، ولكن كان الكثيرون يعتقدون أن الشقيري الذي كان يبدع في خطاباته, إن كانت باللغة العربية او الإنجليزيه أخذ يخطف الاضواء منه ، حتى أنه كان ذات يوم يحيط به عدد من المندوبين العرب عندما رأوا الشقيري مقبلا عليهم داعبوا المسيو فيشنسكي فقالوا له هذا هو الشقيري الذي نعتبره فيشنسكي العرب .. فرد عليهم المندوب السوفياتي قائلا : ولماذا لا تقولون إن فيشنسكي هو شقيري السوفييت؟!
دهشة عبد الناصر
وعندما دعينا لعقد المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الثانية في القاهرة كان مقررا أن يوفد الرئيس الخالد جمال عبد الناصر مندوبا عنه لافتتاح المؤتمر ، الذي كان الرد على غولدا مئير والذي اخذ يبرز الشخصية الفلسطينية والكيان الفلسطيني والوجود الفلسطيني ... ولكن كانت المفاجأة عندما أطلّ على القاعة الرئيس جمال عبد الناصر الذي قوبل بعاصفة مدوِّية من التصفيق ، وبعد ان هدأت القاعة افتتح المؤتمر بكلمة مؤثرة قال فيها: إنه في "آخر لحظة" قرر ان يحضر إلى المؤتمر خشية قيام الجهات الأجنبية بتفسير عدم حضوره بأنه تخليه عن القضية الفلسطينية او عدم اهتمامه ببروز الشخصية والكيان الفلسطيني .. وبعد ان تناول الوضع العام ومسؤوليات الشعب الفلسطيني لنهوض وقيادة قضيته وقف رئيس منظمة التحرير(1/18)
الفلسطينية أحمد الشقيري واخذ يتحدث عن القضايا التي تحدث في "آخر لحظة" وهي العبارة التي بدأ بها جمال عبد الناصر خطابه .
وعلى مدى نصف ساعة والشقيري يردد ما جاء في التوراة والإنجيل والقرآن وفي أحداث التاريخ وفي الحروب والاكتشافات والأنباء وما كان يرد من عظائم الأمور في "آخر لحظة" !
وكان على المسرح الذي يجلس عليه جمال عبد الناصر ويخطب من عليه أحمد الشقيري حدثان يشدان كل الحضور الأول منظر الرئيس عبد الناصر وهو يصغى مشدوها لفصاحة وبلاغة الشقيري الذي كان يتدفق في إيراد جلائل الأعمال التي تحدث في "آخر لحظة" وهو كالشعلة يلهب سامعيه بقدرته على تليين الكلمات كالعجين يستدعيها فتستجيب له ببراعة وإتقان !!
وقال لي المرحوم أحمد بهاء الدين بعد أيام: إن جمال عبد الناصر حدثهم عن خطاب أحمد الشقيري وقال إنه كان طيلة الوقت وهو يستمع له كان يفكر بدهشة من أين يأتي الشقيري بهذه الكلمات والعبارات والأمثال التي كلها كانت تدور حول عبارة عبد الناصر أنه قرر حضور المؤتمر في "آخر لحظة".
مؤسس منظمة التحرير
ولم يأخذ الشقيري منصبه في الجامعة العربية على أنه منصب بروتوكولي كما كان يظن الذين قاموا بتعيينه ، بل انطلق الشقيري في سلسلة زيارات أزعجت كل الدول العربية إذ أنه أخذ يتجول في مخيمات اللاجئين في البلاد العربية ثم اخذ يزور الدول العربية وهو يعرض عليها مشروعه لإنشاء(1/19)
الكيان الفلسطيني ووضع الميثاق القومي والنظام الأساسي و التنظيم العسكري، وكان كلما وجد معارضة في البلاد التي لم تكن تتوقع أن تتحول مهمة الشقيري إلى إقامة تنظيم يتحول في النهاية إلى جيش مسلح كان يردد باستمرار: أن الكفاح المسلح هو وحده الطريق السليم لعودة اللاجئين وان المساومات السياسية لا يمكن أن تحرر فلسطين .
ولأن الشقيري كان خطيبا مفوّها ومجاهدا مخلصا ومؤمنا بقضيته كان باستمرار يستطيع إقناع الرافضين ، خاصة من الحكام والمسؤولين ، ولأنه كان يحمل شعار عودة اللاجئين الذين قررت الأمم المتحدة في عشرات القرارات أعادتهم إلى وطنهم دون جدوى بسبب الغطرسة والتعنت والرفض الاسرائيلي ، كانت لهذا السبب حجة أحمد الشقيري قوية ، تلك الحجة القائمة على المعرفة لان الشقيري أحاط بالقضية الفلسطينية بما لم يستطع غيره الوقوف عليها وقلّ ان يجاريه فيها أحد ، ولأنه استطاع تحريك المجتمع الدولي قبل العربي وهو يعبر عن مآسي الشعب الفلسطيني بخطاباته التي تصلح أن تبقى سجلا لتاريخ هذا الشعب منذ ثورته الأولي حتي مآسيه التي يعيشها هذه الايام واستطاع ان يجعل من قضية عودة اللاجئين هي الأساس لجميع المشاريع التي أخذ يطرحها .
ولا شك أن من أبرز عوامل قوته وقدرته على الإقناع هو ايمانه بأمته العربية فكان بذلك من أشدّ أنصار الوحدة العربية وكان يرى فيها الحل الوحيد والعلاج الشافي لجميع مشاكله ولقد دعا لهذه الوحدة حتى صدمته الوقائع بأننا نزيد مع الأيام تباعدا عن هذه الوحدة.(1/20)
لهذه الصفات والمقومات مجتمعة استطاع الشقيري أن يحمل الرد العملي على مقولة غولدا مئير التي قالت أين هو الشعب الفلسطيني ؟ عندما رد عليها من مخيمات اللاجئين بعد ان رد عليها في الامم المتحدة وأثبت للدنيا أنه أقام أكبر وامتن وانجح تنظيم في تاريخ الشعب الفلسطيني وهو منظمة التحرير الفلسطينية التي حصر كل شعاراتها بحق العودة .. وبحق عودة كل اللاجئين .
لاءات الخرطوم
وكان الشقيري قد سبق جيله في التخطيط والتنظير ولعل هذا من أسباب إنهاء دوره بعد هزيمة حزيران 1967 بصورة مفاجئة ومثيرة في الوقت الذي كانت القضية بأمسّ الحاجة إليه..
فالهزيمة التي كانت نتيجتها سقوط سيناء وقطاع غزة والضفة الغربية والجولان أرعبت العرب في كل مكان وكادت روح الهزيمة تمتد إلى كل بيت، ولم يستطع الملوك والأمراء والرؤساء مواجهة بعضهم إلا بعد ثلاثة شهور من وقوع المأساة وفعلا انعقد مؤتمر القمة الرابع في الخرطوم وكان الشقيري من أبرز أعلامه وهو الذي أقنع القمة بتبني اللاءات الثلاثة: لا اعتراف ولا مفاوضات ولا صلح مع اسرائيل ، هذه اللاءات التي لولا أن الشعوب في كل مكان تمسكت بها والتزمت بمضمونها وتعاهدت على تحقيقها ما عادت المعنويات ترتفع ، والتي أعادت الروح للمقاومة التي اندلعت من جديد وعطلت فعلا على اسرائيل غزو الوطن العربي كما كانوا يخططون وكما كشف عن ذلك موشيه ديان وزير الحرب الاسرائيلي الذي كان يردد أنه(1/21)
أمضى الليالي الطويلة وهو إلى جانب الهاتف ينتظر مكالمة الرؤساء العرب لإعلان الاستسلام.
كانت الصفات التي يتمتع بها أحمد الشقيري و القدرات التي كان يمتلكها هي من الأسباب الرئيسية التي استطاع بها انتزاع موافقة الملوك والرؤساء العرب على إقامة الكيان الفلسطيني ..
كان العالم العربي بعد نكبة 1948 وقيام دولة العدو اليهودي على معظم الأراضي الفلسطينية قد تمزق بفعل الخلافات ما بين الدول العربية ، وزاد في تفكيكه قيام سلسلة من الانقلابات في كل من سوريا ومصر والعراق واليمن والاضطرابات في كل من الأردن ولبنان ، وكان كل ذلك بتخطيط أمريكي إسرائيلي لان الدول العربية انشغلت في خلافاتها الداخلية والخارجية مما ساعد إسرائيل على تثبيت مخططها الهادف إلى تصفية القضية الفلسطينية، حتى جاء يوم لم تعد القضية الفلسطينية تعرف بأنها اكثر من قضية شفقة وإحسان والبحث عن تمويل لوكالة الغوث من أجل تقديم الحليب والطحين للاجئين الفلسطينيين .
وعندما تصدى الشقيري لوزيرة خارجية اسرائيل غولدا مئير عندما قالت: إنه لا يوجد هناك شعب اسمه الشعب الفلسطيني وأخذ نجم الشقيري يرتفع في المحافل الدولية وهو يؤكد حق الشعب الفلسطيني في وطنه ، وكان بانتفاضة الشقيري أن تحركت النيران من تحت الرماد و تجاوبت كل فعاليات الشعب الفلسطيني التي كانت تنتظر من يقرع الجرس ، ولأول مرة بعد ست(1/22)
عشرة سنة أخذ الشعب الفلسطيني يعلن عن وجوده وعن حقوقه وعن قدرته على وضع الأمور في نصابها الصحيح.
قيادة الشقيري
والشقيري لم يأت ليقرع الجرس من فراغ ولم يتحرك بالصدفة فهو الابن الحقيقي الوفي للقضية الفلسطينية ، فلقد كان يعي كل صفحة من صفحات التاريخ الحديث ، وكان يحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب ، ويحفظ إلى جانب ذلك المئات من الأحاديث النبوية وأقوال الخلفاء و الصحابة وكان يصر أن يجعل كلامه ممزوجا باللغة الفصحى وأن يؤكد روايته برأي قديم أو رأي حديث ومشهور أو يضرب الأمثال بنظرية أجنبية لأنه كان يقرأ ويكتب باللغة الانجليزية تماما مثل براعته في القراءة والكتابة باللغة العربية .. وهذه الصفات جميعها أعطته قدرته على قيادة الثورة الفلسطينية بل والحركة القومية العربية .
ولقد كان الشقيري بالاضافة إلى ذلك محامي القضية الفلسطينية والقضايا العربية الاخرى ، فمنذ مطلع شبابه عندما حاولت حكومة الانتداب البريطاني تقديم أبطال ثورة البراق عام 1929 للمحاكمة كان الشقيري في مقدمة المحامين الذين تطوعوا للدفاع عن شهداء "الثلاثاء الحمراء" عطا الزير, ومحمد جمجوم , وفؤاد حجازي قبل أن تعلقهم سلطات الانتداب ، التي لم تستمع لأقوال الدفاع عن الأبطال ، قبل أن تعلقهم على المشانق. ولكن دفاع الشقيري أخذ يثير الجماهير إلى أن تواصلت الثورات وكان من بينها ثورة عز الدين القسام الذي تولى الشقيري الدفاع عن رفاقه الذين ألقت(1/23)
السلطات البريطانية القبض عليهم ونكلت بهم تنكيلا وحشيا كان مادة خصبة للشقيري الذي واصل تثوير الشعب الفلسطيني الذي لم تتوقف بعد ذلك ثوراته.
عرف اليهود على حقيقتهم
ومن خلال الممارسات التي لم تنقطع في العمل المستمر لمواجهة المخططات اليهودية التي بدأت بالهجرة غير الشرعية ومحاولات شراء الأراضي والحصول على مساحات واسعة بوساطة حكومة الانتداب البريطاني التي كانت مهمتها إقامة الدولة العبرية في قلب الوطن العربي في فلسطين . من خلال ذلك إستطاع الشقيري أن يكتسب معرفة حقيقية وواسعة ومعمقة عن اليهود وأفكارهم ومخططاتهم ولهذا خرج بقناعة وإيمان أن اليهود لا يريدون لا صلحا ولا تعايشا ولا سلاما ، وأنهم لن يقبلوا بغير الاستيلاء على كل الأرض وامتلاك كل السلطات وان لهم هدفين الاول: طرد أكبر عدد ممكن من الشعب الفلسطيني خارج وطنه أما الهدف الثاني فهو تحويل من تبقى منهم إلى عملاء وإجراء وعبيد!
ولهذا فقد كان الشقيري في كل خطبه يؤكد ضرورة التحذير من الصلح أو الاعتراف بهذا العدو الشرس ويطالب كل فلسطيني أن لا يقتنع بالصلح أو الاعتراف بهذا العدو كما كان يناشد الشعب الفلسطيني أن تبقى معركته مع اليهود مستمرة لأنها كما كان دائما يسميها معركة الحياة أو الموت!(1/24)
ولعل أهمّ ما يؤكد معرفته بحقيقة اليهود هو كتابه المميزّ الذي ألفّه بعد أن اعتزل الحياة السياسية وهو بعنوان "خرافات يهودية" وفي هذا الكتاب دراسة معمقة للتوراة بما فيها من شهادات على خسة وغدر اليهود وعدم التزامهم بل وانقلابهم حتى على أنبيائهم والافتراء على نساء الأنبياء ، بحيث أنه لم يعد لليهود من يأمن العيش معهم أو حتى التعامل معهم !
كامب ديفيد أُم المصائب
ولأن الشقيري كان يؤمن بأن الصلح أو الاعتراف باليهود هو الطريق إلى تصفية الشعب الفلسطيني والقضايا العربية ، فلما بلغه حادثة توقيع اتفاقيتي كامب ديفيد ومعاهدة الصلح بين مصر وإسرائيل وتطبيع العلاقات معها اعتبر ذلك خيانة عظمى للقضية الفلسطينية والقضايا العربية ، وقد أصيب في ذلك اليوم بغمّ وهمّ عظيمين وشعر أن الحياة أخذت تضيق به، فلم يستطع البقاء في القاهرة التي كانت إقامتها محببة له فهاجر من القاهرة في مساء اليوم الذي جرى فيه توقيع الاتفاقيات مع اسرائيل وتوجه إلى تونس وأمضى فيها خمسة أشهر وهو يصارع الهزيمة التي سيطرت على مشاعره وأحاسيسه حتى تغلبت عليه الأوجاع والآلام ، وعندما اشتدت عليه الآلام انتقل إلى عمان برغبة من الملك الحسين وأمضى أيامه الأخيرة في مدينة الحسين الطبية وفي يوم 26 شباط 1980 وقبيل أن يرتفع العلم الإسرائيلي في سماء القاهرة التقط آخر أنفاسه وأغمض عينيه وهو الذي كان يردد أن الموت له أفضل من أن يرى العلم الإسرائيلي يرفرف على أية عاصمة عربية!(1/25)
ولشدة تعلقه بالقضية الفلسطينية وبأبطال الفتح المقدس كان قبل أن يسلم الروح إلى بارئها قد أوصى بدفنه في مقبرة الصحابي أبي عبيدة الجراح فاتح فلسطين ومحرر بيت المقدس وهي المقبرة الواقعة في الأغوار الأردنية التي تبعد ثلاثة كيلو مترات عن التراب الفلسطيني ، وفعلا جرى دفنه في مقابر الأبطال وقادة الفتوحات إلى جانب أبي عبيدة الجراح ,وسعد بن أبي وقاص ومعاذ بن جبل وشرحبيل بن حسنة ، ولأنه لم تطب نفسه في تحرير القدس وبقية الأراضي المحتلة فقد طابت نفسه أنه استقر إلى جوار الذين هزموا ذات يوم الأعداء وحرروا ذات يوم أرض المقدسات!
رمي اليهود في البحر
لقد كان كل شيء في حياة الشقيري مثيرا وهذا خلق له عدة إشكاليات إذ بسبب كل ذلك كان الكثيرون يحبون الشقيري, ولكن كان أيضا الكثيرون يحسدونه على فصاحته وبلاغته وقوة شخصيته أو على إخلاصه وعدم تعبه وكلله من طيلة مشوار الجهاد الطويل ، ولم يلق سلاحه أو يخرس لسانه الذي بقي يلعلع حتى النفس الاخير ، ولكن مع كل ذلك لم يسلم الشقيري من محاولات تحميله تأليب الرأي العام العالمي ضد العرب وتأييد اليهود بسبب ما روجوه عنه أنه توعد بإلقاء اليهود إلى البحر وهو الأمر الذي رفضه المجتمع الدولي .
وفعلا استطاعت أجهزة الإعلام استغلال هذه الأقوال التي لم يتفوه بها الشقيري على الإطلاق كما استغلها خصومه من الفلسطينيين والعرب(1/26)
الذين كانوا يرون في الشقيري عقبة دون تحقيق أغراضهم وأهدافهم فقاموا من ناحيتهم بترويج تلك الافتراءات ليس خدمة لقضية فلسطين!
والمعروف أن الذي روّج لهذه الأقوال كان مندوب التلفزيون الفرنسي الذي أجرى مقابلة تلفزيونية مع أحمد الشقيري عند عودته إلى الأردن مع الملك حسين بعد مصالحة هزت الدنيا أصداؤها خاصة عندما حملت الجماهير في عمان سيارة الملك التي كان يجلس فيها إلى جانبه الزعيم الفلسطيني .
كان ذلك يوم 31 أيار أي قبل خمسة أيام من حرب الأيام الستة التي سقطت فيها سيناء والضفة والقطاع والجولان .. كان الشقيري يتهيأ لزيارة المسجد الأقصى وأداء صلاة الجمعة فيه وكان يرافقه من فندق الكونتيننتال الذي يقيم فيه إلى المسجد الاقصى أنور الخطيب محافظ القدس والذي وصف لي استقبال الجماهير في القدس للشقيري بما كان لا يمكن أن يتكرر إلا لفاتح القدس صلاح الدين الأيوبي .
ووصف لي أنور الخطيب عندما كنت أساعده على إعداد مذكراته قال لي كيف اختطفت الجماهير الشقيري وهو يسير في شوارع القدس القديمة المؤدية إلى الحرم القدسي ، وقال: إنه تذكر في ذلك اليوم احتفالات النبي موسى التي كانت الجماهير تستقبل فيها الحاج أمين الحسيني بحماس منقطع النظير .. وقال محافظ القدس انه كان مذعورا من هذا الاستقبال الذي لم تشهده المدينة من قبل و هي تهتف للشقيري ولفلسطين ، مما دفع المحافظ أن يطالب قوات الأمن بتشديد الحراسة لأنه خشي أن يندس أحد الإعداء ويقوم(1/27)
بالأعتداء على الشقيري لان أجواء المنطقة في ذلك الحين كانت كلها نذر شر..
وقال لي أنور الخطيب: إن حماس الجماهير اشتد عندما انتهى خطيب المسجد الأقصى من إلقاء كلمته وطلب من الشقيري أن يعتلي منبر صلاح الدين لترى فيه الأمة صلاح الدين القادم الجديد لتحرير فلسطين.
وأكد لي الخطيب أن الشقيري في هذا الجو الملتهب الحماسي لم يتفوه بكلمة واحدة لإلقاء اليهود بالبحر ولكنه كان يؤكد أن فلسطين لن تتحرر إلا بالحرب والاستعداد للحرب وطالب الجماهير أن تستعد ليوم القتال.
أما عن قتال اليهود في حديثه مع التلفزيون الفرنسي فقد قال لي أنور الخطيب الشاهد الوحيد على تلك المقابلة بأن الشقيري قال لهم باللغة الانجليزية أن الحرب مع اليهود آتية لا محالة وأن النصر لا بد ان يكون لأصحاب البلاد الأصليين ..
وهنا سأله أحد المذيعين : وماذا سيكون مصير اليهود بعد هزيمتهم فأجابه الشقيري بالحرف الواحد : سنسمح لمن يبقى منهم أحياء بالبقاء بيننا ، كما سنسمح للبواخر بنقل من يرغب بالعودة إلى أهله وبلاده !
هذه قصة "رمي اليهود بالبحر" التي روّجتها أجهزة الإعلام الصهيونية الحاقدة على الزعيم الذي كان لا يرى مجالا للتعايش مع اليهود(1/28)
وهي ذات قصة حاسديه من الفلسطينيين الذين استفادوا من هذه الأكاذيب من أجل إزاحته من الطريق بعد أن تأكد للجميع أنه لا أحد قادرا على مجاراته كما لا أحد يستطيع مواجهته ومناظرته وملاقاته .
كان يخشى المؤامرة
أمضى الشقيري حياته وهو يعمل بوضوح دون لف أو دوران ودون مناورات أو خداع كان يؤكد بأن الصلح مع اسرائيل من المستحيلات لأن اسرائيل تطمع في الحصول على حقوق يجب أن لا نتنازل عنها او التفريط بها ، وهذا الوضوح خلق له الكثير من العداوات والأعداء وبالرغم من إيمانه بصدق انتماء عبد الناصر لقضايا أمته إلا أنه أحرجه ذات يوم عندما سأله عما لديه من وسائل لتحرير فلسطين بعد أن تكشفت الضغوطات الأمريكية والأوروبية على بعض الدول العربية فأجابه عبد الناصر غاضبا : ليس لدي أيُّ برنامج لكي أستعيد به فلسطين .. ولكن الشقيري الذي لم يرحم أحدا من أجل فلسطين قال له محتدا : يا سيادة الرئيس إننا لم نعد نخاف من انعدام البرنامج لإنقاذ ما ضاع بقدر ما أصبحنا نخشى وجود برامج لضياع ما تبقى في أيدينا!
ولهذا كان الشقيري يردد باستمرار : بدلا من أن نظل نبدي مخاوفنا من شعار اسرائيل "من النيل إلى الفرات هذا وطن اسرائيل" علينا أن يكون الرد هو إقامة دولة الوحدة من النيل إلى الفرات .
ولم يتراجع الشقيري حتى يوم وفاته عن أن سبيل تحرير فلسطين هو فقط الكفاح المسلح وكان يقول في كل مجالسه واجتماعاته وخطاباته : إن(1/29)
رصاصة تطلق في فلسطين يتردد صداها في الأمم المتحدة أكثر من ألف خطاب وأكثر من ألف قرار ..
رحم الله الشقيري الذي نستعيد ذكراه اليوم ونحن نتابع من بعيد ما يجري لفلسطين وللفلسطينيين لان مخططات الشقيري التي أقام عليها منظمة التحرير من أجل التحرير وليس المفاوضات لو تمسكنا بها ما بلغنا ما نعيش اليوم وما بلغته القضية الفلسطينية التي تعيش اليوم في مأزق كبير ..(1/30)
نصيحة ماوتسي تونغ إلى العرب (1)
جميل بركات
عشرون عاماً مضت على وفاة الأستاذ أحمد الشقيري مهندس منظمة التحرير الفلسطينية ورئيسها الأول. فكانت وفاته في عمان في اليوم السادس والعشرين من شهر شباط 1980 حيث قدم إليها من تونس للعلاج في مدينة الحسين الطبية إثر مرض عضال لم يمهله طويلا.
وامتثالاً لوصيته كما ذكرت في مقدمة كتابه (خرافات يهودية) الذي نشر بعد وفاته ، دفن بجوار ضريح الصحابي البطل أبي عبيدة الجراح فاتح فلسطين ، ومحرر بيت المقدس ، ولعله اختار أن يرقد على امتداد تراب فلسطين السليبة في صحبة أمين الأمة ، ليدعو الأمة العربية إلى استلهام روح الأمانة والتحرير والاقتداء بسير الفاتحين الأولين ، ولهذا فإن أبا مازن قد ظل يعمل في سبيل القضية المقدسة حتى في اختياره لمدفنه ويبقى في خدمتها بعد مماته .
__________
(1) * الرأي ،عمان، 2/3/2000.(1/31)
الشقيري كان من دعاة الوحدة العربية ، أو أي اتحاد عربي لإيمانه العميق أن قوة العرب في وحدتهم ، وإذا كان الاستعمار قد عمل على تقسيم الوطن العربي وتجزئته فليس من المعقول قوميا ومنطقياً أن تقبل الأمة التجزئة ، فالوطن العربي ليس منطقة جغرافية فحسب ، إنه منطقة تاريخية واحدة ، لغته وحضارته واحدة ، تحدوه آمال وطموحات واحدة ، يتطلع إلى مستقبل يحافظ فيه على كرامة الإنسان ، وهذا ما ذكرني بزعيم الصين الكبير ، بطل تحريرها وقائد وحدتها (ماوتسي تونغ) الذي اتخذت أمته العظيمة شعارها من قوله: (احفروا الخنادق وامسكوا البنادق ، وتأملوا أحوال العالم من حولكم) .
فحين قابل الرئيس (ماو) أول وفد لمنظمة التحرير الفلسطينية برئاسة الشقيري وكان ذلك في يوم الأربعاء الموافق 24 آذار 1965 وكنت أحد أعضاء هذا الوفد ، تحدث هذا العبقري الفذ لأكثر من ساعتين ، فاستعرض الأوضاع السياسية والاقتصادية والعسكرية والمشكلات التي تجابه العالم بصورة إجمالية والوضع العربي بصورة تفصيلية ، فتساءل ثم أجاب: - هل تخشون إسرائيل أم أنها تخشاكم؟ .
إن الاستعمار الحديث يخشاكم ولهذا خلق إسرائيل لتهدد أمن بلادكم وسلامتها عسكرياً وسياسياً واقتصادياً .
إن هذا العصر هو عصر تكتل فلم لا يتكتل العرب؟ إذا تكتلتم فلن تكون هناك إسرائيل ولن تكون قواعد أجنبية في بلدانكم . فعندما تكونون دولة واحدة تصبحون من الدول الكبرى التي يحسب حسابها وفي مثل هذه الحالة(1/32)
لن يجرؤ أحد على استعمار بلادكم أو استغلال ثرواتها ولن تحرموا نعمة الاستقرار .
اتحدوا يا عرب وأخشى إذا بقيتم على هذا الحال أن تبقى اسرائيل ويبقى الاستعمار .
إننا مررنا بنفس التجربة ولولا وحدة الصين وهي أصعب بكثير من وحدتكم ما أصبحنا من الدول الكبرى . إننا ثلاث وخمسون قومية بينما أنتم قومية واحدة . . . ونحن نعطيكم تجاربنا بإخلاص .
أترك التعليق على هذا الحديث الخطير للقارئ للتأمل وبخاصة قوله:-(احفروا الخنادق وامسكوا البنادق وتأملوا أحوال العالم حولكم) . . .
يقابله اقوال لصاحب الذكرى الأستاذ الشقيري منها : (ما طعم الكسب والعمل والرزق إذا كان المرء مهدداً في وطنه وفي بقائه في وطنه! فالوطن العربي بحدوده المعروفة بما فيها فلسطين وحدة لا تتجزأ من المحيط إلى الخليج وتحرير ما هو واقع منه تحت الاحتلال واجب قومي على الأمة العربية جمعاء ، وبدلا من أن نظل نردد أن شعار إسرائيل هو إقامة دولة كبرى من الفرات إلى النيل،علينا أن نقيم دولة الوحدة من الفرات إلى النيل) .
وأضيف في خاتمة هذه الكلمة ، متى يعقد مؤتمر قمة عربي جماعي تعالج فيه قضايا الأمة المتشابكة والمعلقة ومن ضمنها تهديد وزير خارجية إسرائيل بحرق تراب لبنان ، لصدق علينا القول :- (لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا) .(1/33)
عشرون سنة على غياب الشقيري..
المؤسس المفترى عليه (1)
رشاد أبو شاور
قبل عشرين سنة رحل الأستاذ أحمد الشقيري مؤسس منظمة التحرير الفلسطينية ، الرجل المفترى عليه كما كتب الدكتور أنيس صايغ .
لو سألنا كثيرين من أبناء وبنات الأجيال الفلسطينية الذين ولدوا في الثلاثين سنة الأخيرة عن مؤسس منظمة التحرير ، فإننا لن نفاجأ إذا ما جوبهنا بالصمت ، أو الدهشة .
العنوان لهذا الخلل في حياتنا هو: التقصير ، وتعمد التجهيل ، فهناك من لا يدركون أهمية تواصل الأجيال ودور المعرفة والثقافة الوطنية في حياة الشعوب .
__________
(1) * القدس العربي، لندن، 29/2/2000.(1/34)
من حسن الحظ أن الأستاذ أحمد الشقيري كان كاتباً متألقاً ، ولقد قارن المفكر والباحث الكبير الدكتور أنيس صايغ بعض كتابات الأستاذ الشقيري بكتاب (الأيام) لطة حسين و (حياتي) لأحمد أمين000 ومن قرأ كتب الشقيري سيدهش لفصاحة اللغة ، وجمال ودقة العبارات ، وحسن الصياغة وحميمية ودفء السرد .
حياة أحمد الشقيري حياة شاقة ، فوالده الشيخ أسعد طلق والدته عندما كان (أحمد) في السنة الأولى من عمره وقد كفله عمه قاسم الشقيري بعد زواج والدته ، التي رحلت عن الدنيا ولما يبلغ سنته السابعة .
اتصفت شخصيته بالعناد وقوة الإرادة والطموح،ولذا اتجه للدراسة والاستزادة من العلم ، أنهى دراسته الثانوية وتوجه إلى بيروت للدراسة في الجامعة الأمريكية . ولبراعته في الخطابة ، ولوطنيته ، وقف خطيباً بمناسبة ذكرى شهداء أيار أولئك الذين حكم عليهم بالموت شنقاً جمال باشا السفاح (العثماني) الذي كان واليا على سوريا . فما كان من سلطات الانتداب الفرنسي إلا أن أمرت بطرده من الجامعة وترحيله إلى فلسطين ، ولكن الشقيري استأنف دراسة الحقوق في القدس ، إلى أن تخرج محامياً . وقد تدرب في مكتب المحامي الشهير مغنم الياس مغنم .
أثناء دراسته الحقوق عمل الأستاذ الشقيري في الصحافة ، ومن خلال عمله الصحافي تعرف على أحوال وطنه ، والمخاطر التي تتهدد فلسطين وأنواع الزعامات وتبايناتها وصراعاتها وأثار الشقيري ردود فعل من بعض الزعامات الفلسطينية على كتاباته الحادة التحريضية ، فقد دعا شباب فلسطين(1/35)
لتجاوز آبائهم وأخذ دورهم في ميادين النضال . شارك في التظاهرات التي تفجرت في فلسطين والتي قادها موسى كاظم باشا الحسيني ، والد بطل فلسطين عبد القادر الحسيني الذي اشتهر ببطولاته منذ مطلع الثلاثينات حتى استشهاده وهو يقود معركة القسطل عام 48 .
دافع الشقيري عن سجناء الرأي في المحاكم البريطانية وتعززت معرفته بالقساميين - جماعة المجاهد العربي السوري عز الدين القسام - بعد استشهاد الشيخ القسام عام 35 عندما تقدم مع صديقه المحامي معين الماضي ودافعا عن المجاهدين الذين أسرتهم القوات البريطانية المنتدبة على فلسطين ، والمنحازة للمخططات الصهيونية . لم ينتم الشقيري لأي من الأحزاب الفلسطينية ، وإن كان قريباً من حزب الإستقلال أكثر الأحزاب الفلسطينية وعياً وبعداً عن العشائرية والفئوية والطائفية ، والأكثر وعياً بالانتماء القومي العربي . سجن الشقيري ونفي وعاني شظف العيش بسبب انقطاعه عن العمل، وفقده لمصدر رزقه من عمله كمحام . ولكن كل هذا لم يفت في عضده . تنقل بين سورية ولبنان وتركيا - التي حاول الاستعانة بها بناء على توصية والده الذي كان تربطه صداقة وطيدة بمصطفى كمال أتاتورك وعصمت اينونو - والتي عاد منها خائب الرجاء .
حذر الشقيري من القبول بقرار اللجنة الملكية البريطانية التي زارت فلسطين عام 37 وأوصت في تقريرها بأن يتم تقسيم فلسطين إلى دولتين بين العرب الفلسطينيين واليهود (مشروع التقسيم قديم ، وهو بدأ قبل إعلانه دولياً عام 47 . . . ) عندما بدأت المداولات بشأن إنشاء الجامعة العربية كان الشقيري قريباً من تلك المداولات آملا بأن ترتد الفائدة على عروبة(1/36)
فلسطين . . . ولقد تم اختياره ليكون على رأس وفد يتوجه إلى واشنطن لتأسيس المكتب العربي الإعلامي .
بعد نكبة فلسطين عمل الأستاذ الشقيري ممثلا للدولة السورية في هيئة الأمم المتحدة . وهناك على المنبر الدولي خاض معارك الدفاع عن القضية الفلسطينية ولأنه عربي أصيل فقد تبنىّ قضية استقلال تونس ، والمغرب ، وفيما بعد : الجزائر . في دورة عام 53 للأمم المتحدة قابل وزير الخارجية السوفييتي (مولوتوف) وشرح له خفايا القضية الفلسطينية ، وما يفعله الاستعمار في بلاد العرب ، وطلب منه أن يقوم الاتحاد السوفيييتي بتزويد سورية بالأسلحة .
فقد وعى الشقيري مبكراً أنه لا أمل في عدالة الغرب ، ولا رجاء بأن تتصرف أمريكا بإنصاف بالنسبة للقضية الفلسطينية وهو توصل لهذه النتيجة بعدما رأى بعينيه مدى التغلغل الصهيوني في المؤسسات الأمريكية وتطابق المصالح الأمريكية والصهيونية .
ببعد نظر أنشأ علاقة مع رئيس وزراء الصين ( شو أن لاي) عام 53 تلك العلاقة التي أثمرت عندما أسست منظمة التحرير الفلسطينية عام 64 فاعترفت بها الصين ، ووقعت معها اتفاقية تعاون ، وأمدتها بالسلاح ودرّبت رجالها .
أحمد الشقيري مؤسس منظمة التحرير الفلسطينية وباني جيش التحرير ومؤسس مركز الأبحاث الفلسطيني والصندوق القومي الفلسطيني يكتب عنه المفكر والباحث العربي الفلسطيني الدكتور أنيس صايغ : أحمد(1/37)
الشقيري أول مسؤول فلسطيني كبير جمع حوله عدداً لا بأس به من رجال العلم والفكر والرأي من الشباب الفلسطيني المؤمن والملتزم والنظيف والواعي والجاد . وقد استقطبهم حوله ، وجنّدهم لخدمة منظمة التحرير في سنواتها الأولى ، وبشكل خاص في عضوية اللجنة التنفيذية وفي تولّي مسؤوليات الإدارات والمكاتب ، من مالية وسياسية وإعلامية وتعبوية وقانونية . ويعود الفضل إلى هؤلاء في إرساء قواعد هذه المؤسسات والإدارات على أسس سليمة وثابتة .
يضيف الدكتور أنيس صايغ: كان أحمد الشقيري حتى أيامه الأخيرة يفاخر بثلاثة إنجازات له ضمن منظمة التحرير الفلسطينية: جيش التحرير الفلسطيني ، والصندوق القومي الفلسطيني ، ومركز الأبحاث . وكان الرجل على حق في ذلك . وقد أنعم الله عليه فتوفاه قبل أن يشهد الفصول الأخيرة من صرع هذه الإنجازات بشكل أو بآخر وبسلاح أو بآخر .
ويضيف الدكتور صائغ في نفس المقدمة التي قدّم بها لكتاب " أحمد الشقيري ـ زعيماً فلسطينياً ورائداً عربياً" . فيكتب: وقد تجلّت هذه الحماية في منع التدخل بشؤون المركز وفي الحفاظ عليه ، وعلى حريته . وجدير بالذكر أن الرجل كان يقرأ ما يصدر عن المركز باستمرار . وكان يناقش ويجادل ويستفيد .
يوم 26 شباط (فبراير) 1980 في عمَّان ، انتقل أحمد الشقيري المجاهد العربي الفلسطيني ، مؤسس منظمة التحرير الفلسطينية ، إلى رحمة(1/38)
الله ، وبناء على وصيته دفن بجوار الصحابي المجاهد أبي عبيدة عامر بن الجراح في منطقة الأغوار الشمالية الأردنية .
وهكذا يكون قد مر على رحيله عقدان من الزمن . . . الزمن العربي، الذي وقعت فيه الاتفاقيات والمعاهدات مع العدو الصهيوني وتواصلت حالة الإنهيار ، لولا قلة مؤمنة ما زالت تكافح بالكلمة والفعل .
أحمد الشقيري المفترى عليه ، والذي يختزل دوره بكلمات منافقة يدبجها مراؤون يزورون الحقائق لمآربهم ، أكبر من مقالة عابرة ، وحياته وجهاده أعظم من أن يُزور ، ولا بد للأقلام المنزهة عن الغرض والهوى من أن تقدم عنه وعن غيره من قيادات فلسطين الحقائق بموضوعية وأنصاف ، لتعرف الأجيال أن النضال الفلسطيني متصل ، وأن قضية فلسطين لا تخص فئة ، ولتميّز الأجيال بين العدو والصديق .
نكتب عن الأستاذ الشقيري في ذكرى رحيله ، من أجل أن تعرف الأجيال الجديدة من هو وما هي فصول حياته وأي عمق إنساني تميّز به .(1/39)
الشقيري في الذكرى العشرين لرحيله..
حنين إلى الأمنية القصوى (1)
عدلي صادق
في يوم الثالث عشر من كانون الثاني (يناير) 1964 ، وفي الجلسة الأولى ـ المسائية ـ للقمة العربية الاعتيادية الأولى ، كان هناك رجل احتار رجال البروتوكول في أمره. فلم يكن ذلك الرجل رئيساً ولا ملكاً ولا أميراً لكي يجلس في الصف الأول على طاولة الاجتماع المستديرة ، وفي الوقت نفسه لم يكن رجلاً اعتيادياً أو موظفاً يكبر بموقعه ، وإنما كان مناضلاً سياسياً كبيراً يجر وراءه تاريخا حافلا بالكفاح ، وسيرة ذاخرة بالعطاء وشبكة واسعة من العلاقات مع العظام والمرموقين (من الأصدقاء المؤيدين للقضية الفلسطينية) على اتساع الدنيا ، وكان رجلاً يكبر به موقعه .
وفي اللحظة التي أوشك فيها المرحوم عبد الخالق حسونة ، أمين عام جامعة الدول العربية على النطق بكلمات افتتاح أعمال القمة ، دفع الرجل
__________
(1) * القدس العربي، لندن، 26/2/2000.(1/40)
كرسيه الصغير، المثبت على مسافة مترين (إلى الوراء) من طاولة الاجتماع، ليصبح في لمح البصر جالساً في مستوى الملوك والرؤساء والأمراء ، وبجانب الملك الراحل الحسن الثاني .
كان ذلك الرجل ، هو أحمد أسعد الشقيري ، الرئيس الأول للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ومؤسس هذه المنظمة التي جسدت الكيان السياسي الفلسطيني .
في تلك اللحظة ، لم تكن المنظمة قد تأسست ، وكان الشقيري ممثلاً لفلسطين لدى جامعة الدول العربية (بصيغة التمثيل المتدنية المنصوص عليها في ملحق ميثاق "الجامعة") ولم يكن المؤتمر في وارد بحث جوانب القضية الفلسطينية كافّة أو في وارد بحث مستلزمات العمل لإبراز الكيان السياسي الفلسطيني ، لكنه تصرف ، كرئيس للكيان المضمر في نفسه ، ودفع لكي لا تقتصر أعمال المؤتمر على بحث مسألة اعتزام الدولة العبرية تحويل روافد نهر الأردن وسرقة المياه ، ونجح الشقيري فيما دفع إليه ، بمساعدة جمال عبدالناصر ، ولما انتهت أعمال القمة ، ظفر الشقيري بصيغة هزيلة فيما يتعلق بموضوع إبراز الكيان الفلسطيني ، وهي تكليفه بالاتصال مع التجمعات الفلسطينية لأعداد تقرير عن السبل الكفيلة بتنظيم "قواعد وصفوف هذا الشعب" ووضع التصورات لكيفية أدائه لدوره في معركة التحرير .
وخلال ثلاثة أسابيع من الزمن ، بعد انتهاء أعمال المؤتمر ، كان الشقيري يتدبّر سبل النهوض بأعباء تأسيس منظمة التحرير انطلاقاً من تلك الصيغة الضعيفة ، وبما يشبه المؤامرة النبيلة ، حصل على موافقة عبد(1/41)
الناصر على الانطلاق في عملية التأسيس ، لكي تكون هيكلية "المنظمة" جاهزة قبل انعقاد المؤتمر الثاني في الإسكندرية (في أيلول ـ سبتمبر من العام نفسه) فسهر على إعداد خطة عمله وسافر إلى حيثما يتواجد الفلسطينيون ، واستمزج الآراء ، وقرأ الخارطة السياسية وأطلّ على الفصائل والمجموعات والأحزاب وقادتها وجهز قوائم أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني الأول، في القدس ، لينعقد ذلك المجلس في أيار (مايو) 1964 بعد جهد دؤوب لاقناع الملك حسين والتوصل إلى صيغة حول تركيبة المجلس،لم يكن بالمستطاع التوصل إلى أفضل منها .
مجموعة صيغ إعجازية ، وضعها الشقيري ، واحدة منها لأعداد قوائم الأعضاء في المجلس الوطني بما لا يتعارض مع الواقع الفلسطيني وفي الوقت نفسه بما لا يتصادم مع الأنظمة العربية وخاصة في الأردن وسورية ومصر (دول الطوق) وواحدة من هذه الصيغ لتأسيس جيش التحرير الفلسطيني (أيجاد عشرة ضباط مستقلين لبناء الجيش والتوصل إلى اتفاقات حول حدود حرية هذا الجيش وحول ارتباطاته ومرجعياته). وصيغة لضمان تمويل عملية التأسيس والاستمرار . وصيغة لأنشاء المكاتب التمثيلية في العواصم العربية ، وأخرى لإنشاء مركز الأبحاث الفلسطيني . وغير ذلك من الصيغ .
في تلك الاثناء ، لم يكن الشقيري مرتهناً لأية سياسات ، على الرغم من أن ارتباطه بعبد الناصر لم يكن سيصيبه أو ينتقص من صدقيته ، إذ كان عبد الناصر مَعقدِ رجاء الملايين .(1/42)
لكن الشقيري كان صاحب مبادرات ، لم تكن تلك المبادرات ـ بالضرورة ـ متوافقة مع مستلزمات سياسة عبد الناصر . ومن أمثلتها علاقاته المتطورة مع الصين الشعبية أثناء ذروة العلاقة المتطورة بين مصر والاتحاد السوفييتي ، وكان من حيثيات تلك الوضعية ، الاتفاق مع ماوتسي تونغ على إرسال سفينة سلاح إلى ميناء الإسكندرية ، تعود محملة برجال فلسطينيين إلى الصين للتدريب على السلاح ، الأمر الذي لم يستأذن فيه عبد الناصر وشعر بالحرج منه .
غاب الشقيري ، عن الساحة السياسية العربية ، عندما ارتسمت الفجوة بين الخطاب العقائدي (خطاب المطلقات) للقضية الفلسطينية والخطاب السياسي العربي ، ومن اللافت أن سمات الخطاب العقائدي التصقت بالشقيري صوتاً وصورة ، وكان الرجل في فترة غيابه ، قائما بما أعطى لقضية شعبه ، فالتزم منزله يكتب ويوثق ويؤرخ ، ويروي للأجيال مفارقات وأسرار عمله على امتداد نصف قرن . لاسيما عندما عمل كباحث قانوني وسياسي يعد الملفات لمقابلة اللجان البريطانية التي تعاقبت علىفلسطين أثناء فترة الانتداب ، وعندما عمل مندوباً لسورية لدى الأمم المتحدة ، وبعد ذلك مندوباً للعربية السعودية ، فقد ضحى بموقعه كمندوب للسعودية لكي لا يخذل شعب اليمن بعد ثورته ولكي لا يكون في خندق أعداء الجمهورية ، وهو الخندق الذي كان فيه (الموساد) حسب تصريحات منشورة مؤخراً .
في يوم وفاة الشقيري قبل عشرين عاماً (26/2/1980) عرف المشيعّون أنه أراد أن يُدفن بجوار مثوى أمين الأمة أبو عبيدة الجراح ، في ساحة معركة اليرموك ، في غور الأردن الشمالي ، قال الشقيري في وصيته(1/43)
أنه يريد أن يُدفن مع شهداء معركة اليرموك لعلهم يغفرون لنا أننا قد أضعنا بأيدينا ما سبق أن حرروه بأيديهم من أرض وأوطان . وكان له ذلك .
له الرحمة ولتبلّل قبره قطرت الندى .(1/44)
لاءات الشقيري..
في مواجهة لاءات باراك (1)
د. أسعد عبد الرحمن
لقد سلك طريقه بين حبات المطر ، ولم يبتل! صحيح أن المرحوم الشقيري قد لحقه ـ ولا يزال ـ بعض رذاذ البعض الشاذ النابح ضده ، لكنه صعد مثل النجم ، وهبط مثل الشهاب، ومضى بكبرياء رفيع حاملا معه أنجازات كبرى! أما نحن ـ أبناء الفصائل الفدائية ـ الذين ظلمناه لفترة أو هاجمناه لاعتبارات جوهرها الصراع والطموح السياسي طوال مدة اعتلائه صهوة حصان منظمة التحرير ، فقد رجعنا إلى الحقيقة عندما عدنا فكرمناه لحظة رحيله . يومها ، ولنتذكر جميعاً ، أنه ما من فصيل أو قوة سياسية فلسطينية (ناهيكم عن غير هؤلاء من باقي العرب والأجانب) إلا وأصدر بياناً يليق بالرجل وأانجازاته . وها قد مضى عشرون عاماً على وفاته ، وما
__________
(1) * الرأي،عمان، 24/2/2000.(1/45)
توقفنا عن تذكره واستعادة موقعه البارز الحصين في (السجل الذهبي) للشعب الفلسطيني ، بل وفي (السجل الذهبي) العربي .
وقبل أيام معدودة، ونحن بين السماء والطارق في الطائرة الصغيرة التي أقلتنا في طريق العودة بصحبة الرئيس (أبو عمار) من روما إلى عمّان، وضمن مواضيع عديدة تحدثنا فيها بحميمة شديدة ، سألته عن رأيه وتقييمه ، سواء لمعلوماته أو لتجربته، مع المرحوم الأستاذ أحمد الشقيري، وبصراحة ، فوجئت من سرعة إجابة الرئيس الذي قال: (صحيح أنه انبثق ـ رحمة الله عليه ـ من أوساط القيادات العربية الرسمية التقليدية حيث عمل معها طويلا ، إلا أنه كان غير تقليدي إطلاقا بل ثورياً جداً في إيمانه وتمسكه بنهج الكفاح المسلح الذي كنا نخوض غماره) وتابع الرئيس شهادته قائلا: (لقد أحبنا ودعمنا .. ثم لا تنس ، لا تنس أبداً أنه أسس المنظمة وجيش التحرير الفلسطيني). وبعد دقيقة عاد (أبو عمار) وأضاف: (كان إنشاء جيش التحرير إنجازا كبيراً له) .
فقط منذ سنوات قليلة ، قال العرب الذين يملكون القرار: (نحن مع السلام العادل كخيار استراتيجي) وجاءت أعمالهم لتؤكد أقوالهم ، فالتزموا حتى بما هو أدنى ـ أدنى بكثير ـ من مستوى (العدل) المنشود بل المستحق . وكان ذلك يوم قبلوا بالقرارين (242) و(338) كمرجعية للسلام ، أما (إسرائيل) التي (خزقت) رأسنا بالحديث عن السلام منذ قيامها في العام 1948 فإنها تحاول الآن ، بعد خمسين عاماً من الحديث عن السلام ، (خوزقتنا) بفرض سلامها الخاص ، سلامها الإسرائيلي الصرف! لقد بات من حقنا أن نسأل: هل يختار السيد باراك إغماض عينيه وإغلاق أذنيه عن(1/46)
سماع رأي الكاتب العبري يسرائيل سيغال (الشديد الإعجاب به وبنجاحه في التحول من الجنرال إلى السياسي) وبالذات عندما ينصحه "باستيعاب الدرس والتصرف بحكمة مع الفلسطينيين ... وغيرهم"؟ أم تراه سيغلق عينيه وأذنيه إزاء ما كشف عنه آخر استطلاع للرأي العام الفلسطيني الذي أجراه مركز البحوث والدراسات الفلسطينية في مدينة نابلس (حول ارتفاع نسبة المؤيدين للعمليات المسلحة ضد الإسرائيليين من 36% إلى 43% وهل يتابع سياساته الراهنة بحيث ترتفع النسبة إلى 80% أو 90%؟!!.
واليوم في الذكرى العشرين لرحيل الفقيد الكبير الشقيري ، وبعد هذه التجربة المريرة مع أربع حكومات إسرائيلية متعاقبة وبالذات مع الحاكم الجديد في إسرائيل وإصراره على (6) لاءات كبرى يصفعوننا بها يوميا (لكن باسم حزب العمل هذه المرة !!) لا نملك إلا أن نلحظ تزايد المتسائلين عن جدوى تنازلنا عن اللاءات الثلاث الشقيرية (لا صلح ، ولا اعتراف ، ولا مفاوضات) التي تشكل نصف عدد اللاءات الباراكية . وإذ نذكر هذه الخلاصة الأخيرة وننسب اللاءات للمرحوم الشقيري ، ولا نقول (لاءات الخرطوم) فإنما لأنها كانت تعبر ـ فيما أكدته الحقائق والوقائع ـ عن موقف الشقيري الشخصي وعن صياغاته الشخصية. تلك اللاءات الثلاث التي لولاها ـ ضمن عوامل أخرى مهمة ورجال مهمين يتصدرهم (الريس) جمال عبد الناصر ـ لما كان الصمود العربي بعد هزيمة حزيران 1967 ، ولا الانطلاقة الثانية لحركة فتح 1968، ولا كانت حرب أكتوبر المجيدة 1973، ولا صمود المقاومة اللبنانية / الفلسطينية سواء يوم غزت إسرائيل لبنان مراراً أو في معارك حصار بيروت 1982،ولا كانت الانتفاضة الفلسطينية،(1/47)
ولا مختلف أنواع المقاومات المستمرة في جميع الأراضي العربية المحتلة ، ولا اعتراف اسرائيل بالمنظمة وبالشعب الفلسطيني .
وأخيراً ، لعل أفضل إحياء لذكرى فقيدنا الشقيري، هو أن نتمسك باللاءات التي قال بها طالما أن السيد باراك لا يزال (يصدح) بلاءات نتنياهو وشارون!! بل نزيد على تلك اللاءات وضوحاً وتفصيلا فنقول ـ بعبارات الخطاب السياسي المعاصر ـ جملة حقائق ، بالأصالة عن أنفسنا وبالنيابة عن أمتنا العربية والإسلامية:
إن من يرفض دولتنا نرفض دولته، ومن يرفض عاصمتنا نرفض عاصمته،ومن يريد تعطيشنا نجفف له حلقه،ومن يزرع سرطان المستوطنات في خاصرتنا نزرعه في أحشائه، ومن يرفض الشرعية الدولية ترفضه الأسرة الدولية وقبلها العربية والإسلامية ، ومن يسلبنا (حق العودة) وفق قرار (الحل الوسط) 194 إنما يسلب الأمان والأمن من نفسه ، ومن يحاول تبليعنا (التسوية المفروضة) بدلا من (المصالحة التاريخية) و (السلام الشامل) .. نقول له: أي تسوية مفروضة هي تسوية مرفوضة ذاتياً ، مثلما هي مرفوضة موضوعيا ، إذ لا تسوية عادلة ودائمة في ظل الظلم الدائم الذي تعرضت له أمتنا العربية ، وشعبنا الفلسطيني بشكل خاص ، وجماهير اللاجئين بشكل أخص .(1/48)
الشقيري...و
ميثاق جامعة الدول العربية (1)
جميل بركات
الأستاذ أحمد الشقيري مؤسس منظمة التحرير الفلسطينية وواضع ميثاقها القومي الذي توفي في عمّان في اليوم السادس والعشرين من شهر شباط عام 1980 وامتثالاً لوصيته دفن في غور الأردن بجوار ضريح الصحابي الجليل البطل (أبوعبيدة بن الجراح) فاتح فلسطين ومحرر بيت المقدس ، اختارأن يرقد على امتداد تراب فلسطين السليبة في صحبة أمين الأمة ، ليدعو الأمة العربية إلى استلهام روح الأمانة والتحرير والاقتداء بسير الفاتحين الأولين . وبهذا فإن ابا مازن ظل يعمل في سبيل القضية المقدسة حتى في اختياره لمدفنه ويبقى في خدمتها بعد مماته كما ذكرت في مقدمة كتابه ـ خرافات يهودية ـ الذي صدر بعمّان سنة 1981 بعد وفاته بعام .
الشقيري غني عن التعريف بكفاحه ونضاله في سبيل قضية فلسطين
__________
(1) * الرأي،عمان، 6/3/1998.(1/49)
وقضايا أمته العربية والشعوب المغلوبة على أمرها ، انتقد ميثاق جامعة الدول العربية بشدة وبيّن مثالبه في كتابه الذي صدر في تونس عام 1979 ، (الجامعة العربية كيف تكون جامعة وكيف تصبح عربية) ذاكراً (( أنه يكفينا القول أن نقرر بكل صدق وأمانة أن الحاجة تلح على تطوير الجامعة العربية تطويراً جذرياً وأساسياً ، سواء فيما يتعلق بميثاقها أو مؤسساتها أو بالاتفاقات أو المعاهدات التي انبثقت عنها . وأنه يكفينا توكيداً لهذا المعنى أن نشير إلى حقيقة أساسية أنه منذ أنشئت الجامعة العربية قد تغير كل شيء في الوطن العربي إلا الجامعة العربية فقد بقيت على حالها الذي نشأت فيه يوم كانت الأمة العربية فاقدة السيادة الوطنية يسودها الفقر والتخلف والغياب عن الساحة الدولية)) .
وبهذه المناسبة أترك لأبي مازن الحديث عن علاقته الوطيدة بجامعة الدول العربية من خلال ما دوّنه في فاتحة الفصل السابع من هذا الكتاب .
((مرّ عليّ خمسة وثلاثون عاما وأنا أواكب الجامعة العربية منذ نشوئها إلى يومنا هذا . وقد عاصرتها في مولدها حين كنت مبعوث الرئيس شكري القوتلي إلى مشاورات الوحدة العربية في الإسكندرية لأكون على صلة بالوفود العربية وأتعرف على اتجاهاتهم ، وها أنا أعاصرها اليوم في كهولتي استعرض أيامها معي وأيامي معها. فقد كنت أمينا عاماً مساعداً للجامعة العربية في عهد أمينها الأول عبد الرحمن عزام ثم مع أمينها الثاني عبد الخالق حسونة ، واستقلت منها بعد سبع سنوات من العمل المتصل . ولكني عدت إليها رئيساً للوفد السوري ، ثم رئيساً للوفد السعودي ، وصعدت معها إلى الذروة فشاركت في مؤتمرات القمة الأربعة في القاهرة والإسكندرية(1/50)
والدار البيضاء والخرطوم ، وفي هذه العاصمة الأخيرة كانت نهاية المطاف الرسمي مع الجامعة لأصبح بعد ذلك كله دارساً باحثاً.وهاهي الجامعة العربية شغلي الشاغل مرة ثانية استعرض رحلتها الطويلة مع الأمة العربية)) .
فما هي هذه الجامعة؟ ماذا فعلت وأنجزت إلى يومنا هذا وإلى أين المصير؟ إن مجرد قيام الجامعة مهما قيل في خلفيات نشوئها ونشاطاتها وانجازاتها سلباً أو إيجاباً يعتبر أكبر حدث في التاريخ العربي المعاصر. ووجودها بحد ذاته هو تعبير عن الكيان السياسي والقومي والحضاري للأمة العربية رغم أنها لم تحقق الكثير من طموحات الأمة فالجامعة يومئذ هي حصيلة القدرة العربية في مجموعها وإن قيام وحدة عربية بين تلك الدول كما هي على حقيقتها ، لم يكن له حظ من النجاح إلا قليل جد قليل . وأضف على ما ذكر أن ليس بالإمكان أبدع مما كان ، حيث كانت أوضاع بلاد العرب أوطاني لا تسر ، فالمستعمرون مزقوا أوصالها وحالوا دون تقدمها .
فالجامعة لم يبن ميثاقها على أساس الوحدة ، وإنما بني على أساس التعاون كما نصت المادة الثامنة منه:
(تحترم كل دولة من الدول المشتركة في الجامعة نظام الحكم القائم في دول الجامعة الأخرى وتعتبره حقاً من حقوق تلك الدول وتتعهد بأن لا تقوم بعمل يرمي إلى تغيير ذلك النظام فيها) .
ودون مواربة أو نقاش فقد جسدت هذه المادة (معاهدة سايكس بيكو سنة 1916) التي مزقت شمل العروبة وبخاصة ديار الشام لتحول دون قيام(1/51)
دولة عربية واحدة فجعلت منها عدة دول لا تقوى على مقاومة الخطر الصهيوني الذي خطّط دُهاته بالتعاون مع الدول الاستعمارية لإقامة دولة يهودية بفلسطين . لهذا ربط الشقيري الوحدوي ببعد نظره القضية الفلسطينية بالوحدة العربية يوم وضع ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية قائلا:
((إن الوحدة العربية وتحرير فلسطين هدفان متكاملان يهيء الواحد منهما تحقيق الآخر ، فالوحدة العربية تؤدي إلى تحرير فلسطين وتحرير فلسطين يؤدى إلى الوحدة العربية ، والعمل لهما يسير جنباً إلى جنب ، وإن تحرير فلسطين هو واجب قومي تقع مسؤولياته كاملة على الأمة العربية بأسرها حكومات وشعوباً وفي طليعتها الشعب العربي الفلسطيني)) .
لقد بيّن الشقيري أن محاولات متعددة قد جرت لإعادة النظر في ميثاق جامعة الدول العربية غير أن هذه المحاولات لم تنجح . وإذا كان الاستعمارقد عمل على تقسيم الوطن العربي وتجزئته فإنه ليس من المعقول قبول التجزئة لأن الوطن العربي ليس منطقة جغرافية فحسب إنه منطقة تاريخية واحدة له حضارة وثقافة واحدة تحدوه آمال وطموحات واحدة ويتطلع إلى مستقبل واحد في ظل وحدة عربية تختارالأمة شكلها ونظامها
وحدودها .
فما هو الميثاق الذي يريده الشقيري للجامعة؟
بادئ ذي بدء من دراسته المتعمقة ، إن جامعة الدول العربية بميثاقها الحالي عبارة عن (جمعية) دولية أسستها مجموعة من الدول بموجب (ميثاق) اسمه في القانون الدولي (معاهدة) وهذه المعاهدة هي نوع من أنواع الاتفاقات(1/52)
التي تعقد بين الدول الأجنبية لتنظيم علاقاتها فيما بينها شكلا وموضوعاً .. إذاً ليس لأي عربي أن يفاخر بأن ميثاق جامعة الدول العربية أرقى مستوىً من أي اتفاق دولي . فهي هيئة دولية وميثاقها معاهدة دولية والقانون الذي يحكم وجودها واختصاصها هو القانون الدولي العام والأمة العربية اليوم تعيش في ظلها..
وبدلاً من أن يكون استقلال كل (قطر) خطوة على طريق الوحدة أو التوحيد في أدنى الصور أو الأشكال ، برز الإستقلال عملاقاً جباراً يضع في قبضة كل دولة عربية أبناء تلك الدولة ، ويحوز كذلك في قبضته أراضي تلك الدولة ، لا يدخلها العربي إلا بإذن ولا يعمل فيها إلا بإذن ولا يدفن فيها إلا بإذن . وإذا ولد فيها مولود عربي فهو غريب عنها وهيهات هيهات أن يحظى منها بشهادة ميلاد. من أجل ذلك فإن هذه الجامعة لا تصلح للحاضر ولا للمستقبل ولا بد لنا من جامعة جديدة من أجل المستقبل، مستقبل أكرم
وأعظم .
وإن المبادئ الإساسية لها سأذكرها دون الدخول بتفاصيلها مع شرح موجز لبعضها وهي:
أولاً: أن الأمة العربية وحدة لا تتجزأ .
ثانيا: أن الوطن العربي من المحيط إلى الخليج بما فيه فلسطين وحدة لا تتجزأ وأن أقطاره ليست تعريفات سياسية ولكنها تعريفات إدارية وجغرافية .(1/53)
ثالثا:أن الدفاع عن السيادة العربية علىالوطن العربي واجب الأمةالعربية في كل أقطارها .
رابعاً: أن القومية العربية هي تعبير عن وجود الأمة العربية بالمعنى الثقافي والحضاري .
خامساً: أن الوحدة العربية هي التعبير الإيجابي الحي عن وجود الأمة العربية والسبيل الأقوم لتحقيق الحياة الأفضل والأعدل لجماهيرنا من غير تفريق ولا تمييز وأن المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات .
وبناء عليه فإن الإساس الذي يجب أن يقوم عليه الميثاق الجديد هو الوحدة المدروسة المحددة على أن تقطع مسيرتها خطوة خطوة ابتداء بتوحيد الشهور فالمقاييس والموازين والجوازات والمصطلحات والمواطنة العربية وحقوقها وما إلى ذلك من الجوانب الاقتصادية والعسكرية وأن تسمى جامعة الأمة العربية بدلا من جامعة الدول العربية ، لأن تعبير (الأمة) يحمل معنى الوحدة وتعبير (الدول) يبرز التجزئة .
وكما ذكرت في مطلع هذه الكلمة فإن أبا مازن ظل يعمل في سبيل القضية الفلسطينية والوحدة العربية حتى بعد مماته . ولا تزال كلماته التي خطّها إليّ برسالة بعثها من القاهرة بتاريخ 21/6/1978م تذكرني فيه صباح مساء ومما ورد فيها (( إذا هبت رياحكم غرباً فابعث بسلامنا إلى بيت المقدس فليس عنها سلوان ولا عزاء فالخطب فيها جلل . وما أعظم قول رسولنا العظيم عنها: (إن الجنة لتحن شوقا إلى بيت المقدس) ونحن في مثل هذا الشوق اللهم أبلغ أشواقنا الغاية والمنى)) . رحمه الله.(1/54)
(إيه خطيب فلسطين وحجتها
من أي صفحاتك الغراء أنتهل
وأنت عمر بلادي عمر غضبتها
وعمر من صمدوا فيها ومن بذلوا)
من قصيدة الشاعر هارون هاشم رشيد .(1/55)
أحمد الشقيري ـ ذكرى مناضل (1)
عبد المجيد أبوخالد
صادف يوم الخميس الماضي الذكرى الثامنة عشرة لرحيل المناضل العربي الفلسطيني الشهيد المحامي أحمد الشقيري والذي أوصى بأن يدفن في منطقة أبوعبيدة في غور الأردن على بعد ثلاثة كيلومترات فقط من فلسطين .
تحتفل إسرائيل في هذه الأيام بمرور خمسين عاماً على اغتصابها لفلسطين ، وتهجير وطرد أهلها الأصليين منها بعد المجازر وأعمال الإرهاب التي قامت بها العصابات اليهودية ضد الفلسطينين بمساعدة بريطانية ومؤامرات دولية كانت بحجمها أكبر بكثير من هذا الشعب الذي كتب عليه التشرد والنضال لاستعادة وطنه وحقوقه المسلوبة في مستنقعات سياسية صعبة الحركة . أقول في مثل هذه الأيام يذكر أيضا الشعب الفلسطيني بكل فخر واعتزاز النضال الكبير الذي خاضه أحد ابنائها وهو المرحوم أحمد الشقيري الذي وقف في وجه الاحتلال البريطاني لفلسطين وناضل ضد اغتصاب اليهود لها وعاش نكبة فلسطين بكل ألوانها المأساوية المريعة وكان
__________
(1) * الدستور،عمان، 2/3/1998.(1/56)
أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية سنة 1964 للعمل على تحرير الأرض الفلسطينية .
أحمد الشقيري وضع نفسه خدمة لوطنه وأمته العربية ، عندما قررت سوريا الاستفادة من خبراته في مجال السياسة الخارجية وتعيينه عضواً في بعثتها إلى الأمم المتحدة من سنة 1949 إلى سنة 1950 ، ثم عين أمينا عاماً مساعداً للجامعة العربية بوصفه حاملا للجنسية السورية ، حتى عام 1957 حين عين وزير دولة لشؤون الأمم المتحدة في العربية السعودية وسفيراً دائماً لها لدى هيئة الأمم المتحدة ، حيث كان خير محام للدفاع عن القضايا العربية والفلسطينية حتى عام 1963 حين أنهت السعودية عمله في الأمم المتحدة .
أحمد الشقيري وضع أسس العمل والأنظمة في منظمة التحرير الفلسطينية وانشأ الدوائر الخاصة بها ومكاتبها في الدول العربية والأجنبية وعمل على بناء الجهاز العسكري لها تحت اسم " جيش التحرير الفلسطيني".
أمضى الشقيري حياته مناضلا مخلصا من أجل فلسطين والأمة العربية حتى انتقل إلى جوار ربه في السادس والعشرين من شهر شباط عام 1980 وخلَّف وراءه عدداً كبيراً من الدراسات والمؤلفات .
نذكر رحيل الشقيري ونحن نعيش ذكرى الخمسين عاماً لاغتصاب فلسطين واستيلاء اليهود عليها الذين جاءوا من أصقاع الدنيا لاحتلالها .
العرب الفلسطينيون وأبناؤهم الذين اقتلعوا من أراضيهم لم ولن ينسوا(1/57)
فلسطين كما أعتقد الغزاة ، لم ولن ينسوا مدنهم وقراهم وبياراتهم .
هل نذكر بطولات ونضالات أحمد الشقيري الذي عاش في زمن صنع رجالا أو في زمن صنع فيه رجال كرامة أمة؟ أم نذكر مناقب وصفات لرجل صاحب مواقف وطنية قومية لاخلاف حولها؟ أم نذكر شجاعاً كان لفلسطين والعروبة سنداً وعوناً حتى رحل إلى جوار ربه قبل ثمانية عشر عاماً؟
"الفاتحة لروح المرحوم أحمد الشقيري بمناسبة الذكرى الثامنة عشرة لوفاته" . هكذا كانت العبارة التي نشرت في الصحف الأردنية يوم الخميس الماضي .(1/58)
كانت فلسطين جرحاً في قلبه..
والوحدة أمنيته الكبرى (1)
الاقتصاد العربي
الرجل الذي عاش حياته في صخب مات بهدوء في عمّان ، ودفن في مقبرة عربية في غور الأردن على مشارف فلسطين ، وحياة أحمد الشقيري تجسيد لحياة جيل عاش بواكير النهضة العربية ، ثم شارك في صنع أحداثها وتاريخها . ومهما اختلف الرأي في الرجل سلباً وإيجاباً فإن أحداً لا ينكر عليه أنه كان وفياً لأمته العربية ، ولأمنيتها الكبرى في الوحدة واستعادة أرضها المغتصبة .
اسمه أحمد الشقيري ابن الشيخ أسعد الشقيري ، وجده هو الشيخ محمد شقير من محافظة الشرقية في مصر وقد جاء إلى فلسطين مع حملة إبراهيم باشا واستوطن في مدينة عكا .
__________
(1) *الاقتصاد العربي، 15/12/1997.(1/59)
كان والده عضواً في (مجلس المبعوثان) _ البرلمان العثماني _ من عام 1908 ـ 1912 . كما كان عضوا في جمعية الاتحاد والترقي ، ولما اندلعت الحرب العالمية الأولى أصبح الشيخ أسعد مفتياً للجيش التركي الرابع. ومن هنا كانت صلته بأنور وطلعت الزعيمين التركيين البارزين في تلك الفترة ، واختار أن يحمل رأياً مخالفاً لرجالات العرب ـ آنئذ ـ الذين كانوا ينادون بالانفصال عن الدولة التركية والتعاون مع الحلفاء . وكان يلتقي في هذا المجال مع الأمير شكيب أرسلان .
ولما انهزمت الدولة العثمانية انسحب الشيخ أسعد وعاد إلى
استمبول . ولما هدأت الحرب نهائياً عاد إلى عكا ، ولكن السلطات البريطانية اعتقلته في حيفا وأعادته إلى ضواحي القاهرة حيث بقي معتقلاً هناك لمدة سنتين مع نفر من رجالات العرب المؤيدين للعثمانيين . وفي فلسطين ، بعد عودته إليها قاد الشيخ أسعد المعارضة ضد سياسة الحاج أمين الحسيني مما كان له أثر كبير على مجرى حياة ولده ـ أحمد ـ فيما بعد .
ولد أحمد الشقيري في قلعة تبنين من أعمال لبنان الجنوبي ، وذلك في الفترة التي كان والده فيها قيد الإقامة الجبرية بأمر من السلطان عبد الحميد .
أتم أحمد دراسته الثانوية في عكا ، ثم في كلية صهيون في القدس . دخل الجامعة الأمريكية في بيروت عام 1926 ، ولكنه لم يتمكن من إكمال دراسته العليا فيها بعد ان صدر أمر عسكري فرنسي قضى بطرده من لبنان ومنعه من دخوله لمدة عشر سنوات . كان ذلك بسبب مشاركته في مهرجان(1/60)
خطابي مع رياض الصلح وجبران التويني والأمير سعيد الجزائري دعوا فيه للوحدة العربية .
اختيار طريق القومية العربية:
من بيروت توجه إلى القدس ، فدخل معهد الحقوق ومنه تخرج محامياً في عام 1931 ، مارس المحاماة وانتمى للحركة الوطنية الفلسطينية دون أن ينتسب إلى أي حزب سياسي ، ولكنه شارك في معظم المهرجانات السياسية ولا سيما مهرجانات حزب الاستقلال في الثلاثينات . وكان يعمل في جريدة (مرآة الشرق) رئيساً للتحرير.
سنة 1937 حضر مؤتمر بلودان الذي انعقد على إثر صدور تقرير لجنة (بيل) الداعي إلى فكرة تقسيم فلسطين ، وهناك اتسعت دائرة نضاله علىالمستوى القومي بالاتصال مع شباب من أمثال يونس السبعاوي وفريد زين الدين ، ويشهد للشقيري بكونه خطيباً مفوّهاً منذ شبابه ، وربما كان واحداً من اثنين أو ثلاثة ممن دانت لهم المنابر واعترفت لهم بجزالة البيان وفصيح الكلام .
سنة 1945 وكان قد أصبح نقيباً للمحامين عين في المكتب العربي بواشنطن ثم عين أميناً عاماً مساعداً للجامعة العربية ورئيساً للوفد السوري في الأمم المتحدة ، ومندوباً أمام لجنة التوفيق الدولية (1949 - 1956) ، ثم استعارته المملكة العربية السعودية من سوريا وزير دولة لها في الأمم المتحدة (1957 ـ 1962) وأخيراً تم اختياره رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية في أيار(مايو) 1964، وذلك في أول مجلس وطني عقده(1/61)
الفلسطينينون بعد الكارثة، واتفقوا فيه على إقامة منظمة التحرير الفلسطينية.
ولعل مشاركته في مؤتمرالقمة في الخرطوم في آب (اغسطس) 1967 كان آخر انجازاته الرسمية في المنظمة ، إذ قدّم استقالته في أواخر عام 1967 .
بين عام 1908 الذي ولد فيه أحمد الشقيري وعام 1980 الذي توفي فيه ، حقبة غير عادية في تاريخ العرب بل وتاريخ العالم كله ، تذخر بالأحداث والمتغيرات . فقد قامت دول وزالت دول . وأقيمت حدود وامحّت حدود. وهبطت أنظمة وصعدت أخرى ، ولعل أبرز ما يهمنا ، ويهم صاحب السيرة هو الغزوة الصهيونية التي تعرض لها الوطن العربي في أحد أعز أركانه ، في فلسطين التي تقع في القلب بين مشرق الوطن ومغاربه .
في بداية عمره شهد انحلال الدولة العثمانية وصراع الايديولوجيات بين التيار القومي المتصاعد والتيار المتمسك بوحدة الخلافات الإسلامية . ورغم نشأته في ظلال بيت كان ربه من أركان التيار الإسلامي فلقد اختار الولد في شبابه التوجه القومي ، راضياً بتحدياته وعواقبه .
ولم تكن تلك العقدة الوحيدة التي أورثها الوالد الشيخ إلى ولده المتوثب ، فلقد كان لمعارضة والده لسياسة مفتي فلسطين ، الحاج أمين الحسيني أثرها على منحى الولد فيما بعد . فهو رغم ولعه بالسياسة ورغم انتمائه للحركة الوطنية لم يستطع إلا أن يبقى مستقلاً دون إنتساب حزبي ، خصوصاً وقد اغتيل شقيقه الدكتور أنور الشقيري في ظروف غامضة ردّها(1/62)
البعض إلى الخلافات السياسية المحلية .
ومن الطبيعي أن يؤثر ذلك على أحمد الشقيري الذي لو لم يكن على ما عرف عنه من قوة الشخصية والرغبة في الإقدام لوقع بين ما يشده إليه الوطن وما تشده إليه عواطف القربى وأهل البيت الواحد .
ولما كان قومي التوجه ويعرف ما يربط بين المصير الفلسطيني والمصير العربي ، كان طبيعياً أن يبحث عن منابر قومية ليدافع من فوقها عن قضيته ، ولعل ذلك ما أوصله إلى مواقعه التي أشرنا إليها في موجز سيرته كأمين عام مساعد للجامعة العربية ، ثم كمندوب لسوريا ، وفيما بعد للعربية السعودية في الأمم المتحدة .
وللحق أن الرجل لم يدّخر أي وسع في الدفاع عن جميع قضايا العرب وثوراتهم وله من المواقف ما يشهد له بالباع الطويل في الحوار والنقاش ولا سيما في المحافل الدولية التي اعترفت له بالحجة القوية والجملة المعبرة بالعربية الفصحى وبالانكليزية السليمة . ومن هنا فلقد توثقت صداقته مع القادة العرب على امتداد الوطن الكبير مما عبّد الطريق أمامه فيما بعد لاختياره كممثل لفلسطين في الجامعة العربية ثم رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية بعد ذلك .
ولادة جديدة مع فلسطين:
في أيلول (سبتمبر) 1963 ، أي قبل ثلاثة أشهر من خطاب عبد الناصر ودعوته لمؤتمر القمة الأول ، اتصلت الأمانة العامة للجامعة العربية(1/63)
بالسيد أحمد الشقيري وأبلغته عن رغبة أكثرية الدول الأعضاء بتسميته ممثلاُ لفلسطين لدى مجلس الجامعة .
وكان الشقيري ، وهو الذكي الطموح ، مدركاً لما كان يعتمل في نفوس أبناء شعبه ، مطلعاً على تحركاتهم وتنظيماتهم ورغبتهم في استعادة مكانتهم الوطنية من خلال كيان ثوري قادر على بعث الحياة السياسية واستئناف النضال من أجل تحرير الوطن المحتل .
ومهما قيل في حينه ، يوم بدأ التحرك من أجل خلق مثل هذا الكيان . فإن أي منصف يتوخى وجه الله والحقيقة لا يمكنه إلا أن يقر ويعترف للرجل بالدور الكبير الذي تحمله في سبيل انجاز هذه المهمة ، خصوصاً عندما يتذكر ذلك الدرك المتدني الذي كانت قد وصلت إليه قضية فلسطين حتى في الأوساط العربية نفسها . ففي عام 1963 لم يكن لفلسطين من يمثلها في القمة العربية المنشودة ، وخصوصاً عندما نتذكر أن الدول العربية لم تكن مجمعة على الشقيري ، والمعارضون لهم أسبابهم ونفوذهم،وأخيرا ًلما تمت دعوة فلسطين بشخص الشقيري لوحظ في (البروتوكول) أنه لا يجوز أن يكون كرسي الشقيري مماثلاً لكرسي الملوك والرؤساء وأنه لابد أن يتخلف الكرسي بعض المسافة عن كرسي البقية من الحكام .
وخاض الشقيري معركة (المنظمة) داخل مؤتمر القمة والمستمعون إليه يتراوحون بين متحفظ وآخر غير مبال وثالث يعطف ولكنه لا يريد أن يتورط . وانشغل الملوك والرؤساء يومها بقضية مجرى نهر الأردن وبقضاياهم الثنائية ، وخرجوا بالنسبة لفلسطين بهذه السطور:(1/64)
(يستمر أحمد الشقيري ممثل فلسطين لدى جامعة الدول العربية في اتصالاته بالدول الأعضاء والشعب الفلسطيني بغية الوصول إلى إقامة القواعد السليمة لتنظيم الشعب الفلسطيني وتمكينه من القيام بدوره في تحرير وطنه وتقرير مصيره) .
وبهمة يُحسد عليها من كان بعمره ، مضى الشقيري يسعى ويجهد ، من عاصمة إلى أخرى ، ومن مخيم للفلسطينين إلى مخيم آخر ، وفي كل مكان كان يجد من الصعوبات فوق ما يحمل البشر ، اللهم ذاك النوع المؤمن بقضيته لحدود الاستشهاد في سبيلها .
وأخيراً ،التحفظ يلف كل خطواته ،عربيا وفلسطينياً ، تمكن ونفر من الشخصيات الفلسطينية من اختيار أعضاء المجلس الوطني الأول وتحديد موعد ومكان انعقاده في الثامن والعشرين من أيار (مايو) 1964 في مدينة القدس .
وكان ذلك اللقاء التاريخي ، ولأول مرة بعد ست عشرة سنة من الشتات واليتم والتمزق يلتقي الفلسطينيون مع بعضهم البعض وهم حيارى بين نشوة اللقاء وفرحة جمع الشمل وبين القلق من هذه القفزة الخطرة وتحمل المسؤولية الوطنية .
ومن القدس ، وفي جيبه إعلان قيام منظمة التحرير الفلسطينية وميثاقها القومي ونظامها الداخلي ، توجه الشقيري إلى الإسكندرية لطرح (كيان فلسطين) على القمة الثانية في الخامس من أيلول (سبتمبر) 1964 .(1/65)
وكادت السبحة أن تنفرط مرة أخرى لولا تدخل عبد الناصر وبن بيلا ومبادرة عراقية أريحية ثم جمع خمسة ملايين دينار كانت أول دفعة إلى الصندوق القومي الفلسطيني .
وانطلقت المنظمة بقيادة أحمد الشقيري لتبني من الصفر أوما دونه ما يستلزمه الكيان الوطني من مؤسسات ودوائر وقوات مسلحة ، واتخذت من القدس مقراً رئيسياً لها ، وافتتحت لها الفروع في عواصم العرب .
وإذا كان بعض حكام العرب يشدون المنظمة للتروي والبناء البطيء وعدم اللجوء إلى أي سلاح غير سلاح الكلمة ، فلقد كان شعب فلسطين في المقابل يشد في المنظمة باتجاه مناقض يحثها على مباشرة الكفاح المسلح وخوض المعركة .
ووقع الشقيري بين نارين ، نار الأنظمة ونار الثوار المستعجلين ، وانتقل الصراع داخل أجهزة المنظمة ، وهو الصراع الذي لم يحسم إلا بعد هزيمة حزيران ، التي أسقطت بسقوطها الكثير من المفاهيم وأساليب العمل ، استقال الشقيري وتسلمت المنظمات الفدائية من بعده مسؤولية القيادة الشرعية، وهكذا تم ـ كما قيل يومئذ ـ زواج الشرعية الفلسطينية بالثورية الفلسطينية وكان ذلك في عام 1968 .
واعتكف (أبو مازن) بعد ذلك ولكنه لم ينقطع عن الحياة العامة والمشاركة في إبداء الرأي والتوجيه كلما سنحت له الفرصه غير أن أهم ما أنجزه بعد استراحته من المسؤولية هو تلك الكتب المتعددة التي أصدرها(1/66)
والتي تعتبر من أهم مراجع المرحلة التي عاشها . وفيها من التفصيل ما قد يشفي ظمأ أي متعطش لمعرفة الكثير من الحكايات والأسرار التي شهدتها مؤتمرات العرب وقصور الملوك والرؤساء .(1/67)
تاريخ أحمد الشقيري..
بعض من تاريخ فلسطين الحديث (1)
عباس صفا
كتاب ((أحمد الشقيري زعيماً فلسطينياً ورائداً عربيا))
هذا الكتاب أعدّته الدكتورة خيرية قاسمية في إطار نشاط لجنة تخليد ذكرى المجاهد الفلسطيني أحمد الشقيري الذي حمل مشعل القضية الفلسطينية على مدى سنوات بحيث تحول إلى جزء من تاريخ فلسطين الحديث في ظل الاغتصاب الصهيوني والمحاولات التي جرت لابرازالشخصية الفلسطينية في المحافل العربية والعالمية .
ولد أحمد الشقيري في قلعة تبنين (لبنان ) العام 1908م ، والده الشيخ أسعد الشقيري عضو البرلمان العثماني ينتمي إلى أسرة عربية نزحت من الحجاز إلى مصر ، أمه تركية طلقها والده ثم ماتت أمه وهو في السابعة من
__________
(1) * الحياة ، لندن،28/11/1997.(1/68)
العمر ، فانتقل ليعيش في كنف والده . كان محباً للعلم درس في ثانوية صهيون والتحق بعدها بالجامعة الأمريكية في بيروت حيث انضم إلى نادي (العروة الوثقى) ذي الميول الوحدوية . وفي فورة الحماس القومي ارتجل خطبة أدت إلى إبعاده (بقرار من المستعمر الفرنسي) إلى خارج الحدود اللبنانية ، فغادر إلى عكا وكان ذلك نقطة تحول في حياته ألقت به في ميادين العمل الوطني .
مارس العمل الصحافي في جريدة (الزمر) وراح يدعو إلى مقاومة الحركة الصهيونية والاستعمار . درس الحقوق في القدس ثم مارس مهنة المحاماة إلى جانب الصحافة . فرضت عليه الإقامة الجبرية في بيت آل السعدي في قرية الزيب قرب عكا . شارك في أعمال اللجان التي شكلت من أجل القضية الفلسطينية ومنها (لجنة شو) . عين أميناً عاماً مساعداً لجامعة الدول العربية في 2/2/1951 ، ثم مندوباً لفلسطين لدى جامعة الدول العربية في عام 1963 م ثم انتخب رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية .
عاش نكسة 1967 ، وشارك في الاجتماعات التي عقدت بعد النكسة . واختلف مع القادة العرب على التوجه الذي يجب اعتماده بعد الهزيمة الأمر الذي أدى إلى تقديم استقالته من رئاسة المنظمة في 24/12/1967 ، لكنه لم يهدأ واستمر في الدفاع عن القضية الفلسطينية إلى أن توفاه الله في 26/2/1980 ودفن على تخوم فلسطين في منطقة الأغوار وَفقاً لوصيته .
كان موقفه من الحركة الصهيونية موقف عداء لا مجال فيه للصلح ، بدأ بشكل عفوي ووصل إلى العقل عن طريق الإدراك والوعي ، فتتبعّ نشوء(1/69)
الحركة الصهيونية ، مفندّاً مزاعم اليهود في حقهم في أرض فلسطين ، ومدركاً مطامع إسرائيل التوسعية وعدوانيتها .
والشقيري هو المناضل من أجل تكوين الشخصية الفلسطينية
وكيانها ، وقد لعب الدور الأبرز الذي أنتج منظمة التحرير وجيش التحرير وكان واثقاُ من أصالة الأمة العربية وقدرتها ، فالعرب أمة تملك كل مقومات القومية الأصيلة وكل مرتكزات الوحدة الكاملة . ولذلك أصبح صوت الوحدة العربية من فوق منبر الأمم المتحدة . وهذا الحماس سبب له الكثير من المشاكل مع الأنظمة العربية والحكام العرب .
عاش الشقيري ولادة جامعة الدول العربية . وكان له مع مؤتمرات القمة العربية حكايات ومعاناة ، وهي التي أوصلته بعد مؤتمر الخرطوم وخلافاته مع قادة المؤتمر إلى تقديم استقالته من رئاسة منظمة التحرير .
ويتناول الكتاب مواقف الشقيري من دول العالم وكتله ، وهي مواقف تكونت كردة فعل على سياسات تلك الدول من القضايا العربية ومن هذه الدول: بريطانيا،الولايات المتحدة، فرنسا، الاتحاد السوفياتي (السابق) الصين الشعبية ، ومجموعة الدول الآسيوية والإفريقية ، ويشير الكتاب أيضا إلى مواقفه من بعض القضايا العالمية التي حصلت خلال حياته السياسية ، مؤكداً أن الشقيري لم يكن يرى أي أمل في الأمم المتحدة ، بل الأمل كله في استنهاض العالم الإسلامي من أجل القضية الفلسطينية .(1/70)
من تبنين إلى الأغوار :
رحلة نسيان الشقيري (1) ..!
طلال سلمان
باسمك وحدك تدخل التاريخ وتعيش فيه وقد تموت فيه ، وباسم مدينتك أو قريتك تجد فجأة أن الجغرافيا قد زرعتك في قلب التاريخ ، أو أن التاريخ قد خرج مثلك من رحم جغرافيتك .هل هي الأسماء والبشرة والبيئة أم أنه أيضا الائتلاف الفذ إلى حد التنافر الكلّي بين الصحراء والبحر والإنسان المضيعَّ بين التيه والتيه ، يلغي كل شيء أويقزم كل شيء فلا تبقى إلا منارة المطلق : الله؟
من هامش منسي في التاريخ جاء أحمد الشقيري . وإلى تاريخ منسي لأن أهله دونه ذهب أحمد الشقيري . واختار بقرار منه ، أن يستقر مع من افترض نفسه منهم ممن أعادوا صياغة التاريخ والجغرافيا واعطوا للناس والأمكنة والأشياء أسماء جديدة .
__________
(1) * السفير، بيروت، 6/6/1997.(1/71)
تقول الدكتورة خيرية قاسمية في الكتاب الذي أصدرته "لجنة تخليد ذكرى المجاهد أحمد الشقيري" (زعيما فلسطينيا ورائداً عربيا) .
(أوصى الشقيري أن يدفن على تخوم فلسطين في منطقة الأغوار التي امتلأت من العقبة جنوبا إلىاربد شمالاً بمقابر الشهداء من الصحابة والتابعين، منذ صدر الإسلام ، أيام معارك مؤتة وتبوك واليرموك وأجنادين وبيت المقدس ، إلى عهد صلاح الدين بطل معركة حطين إلى السلطان قطز بطل معركة عين جالوت) .
أذكر كم كان الشقيري ممتلئا بهاجس التاريخ ، وكم كان حريصا على موقعه فيه ، وكم كانت كلماته تستظل أسماء صحابة الرسول ، ومعها مسرى السيد المسيح في فلسطين .
- هل تعرف من سبق فدائيينا إلى الأغوار؟
قبل أن أَهمّ بجواب ، يضيف (أبو مازن):
- خذ يا سيدي ... عندك أبو عبيدة بن الجراح وزيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبدالله بن رواحة ، ثم يستدرك ليقول: هل نسينا شرحبيل بن حسنة؟
ولقد سمعت منه قبل أن أقرأ عبارته (لعلنا إن انتمينا إليهم وجاورناهم يغفرون لنا أننا قد أضعنا ما سبق لهم أن حرروه بأيديهم ودمائهم من أرض وأوطان) .(1/72)
هو الآن في الأغوار إلى جانب فاتح فلسطين ومحرر بيت المقدس الصحابي الجليل أبي عبيدة بن الجراح .
من قلب الشقاء جاء الطفل أحمد الشقيري ، وفي قلب الشقاء عاش حياته الحافلة بالمواجهات والمصادمات ، وفوق قمة الشقاء ونكران الجميل والإساءة المقصودة أنتهى ذلك المناضل الذي يلخص ـ بشخصه ووقائع حياته الذاتية ـ نصف قرن أو يزيد من محاولات النهوض والانتكاسات حتى إذا جاءت الهزيمة في العام 1967 قدم كبش فداء للمنتصرين بها، فانصرف يكتب مرثاة الأمة حتى وقعت يده ومعها قلمه الفصيح .
(أهلا يا سلمان! اتعرف حكاية الرسول الكريم محمد بن عبد الله مع الصحابي سلمان الفارسي؟ . أتعرف لماذا قربه بعد إيمانه وقال فيه: سلمان منا آل البيت ، دعني أرويها لك000 عندما حاصرت قريش الجاهلية الرسول وصحبه المؤمنين في يثرب (المدينة المنورة) بدا الموقف العسكري حرجاً للغاية ، فالمهاجمون كثرة والمدافعون قلة والسلاح عزيز ، وتقدم سلمان من النبي المهموم يقول له: كنا في فارس إذا حوصرنا خندقنا ، قال النبي محمد: وما الخندقة يا سلمان؟ قال سلمان: أن يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بأن يحفر كل قبره على شكل طوق من حول المدينة . وأخذ الرسول المعول فضرب وضرب المسلمون فكان أول خندق في الإسلام ، وهُزم المشركون وتم النصر لكلمة الله) .
في كل لقاء تقريباً كان أحمد الشقيري يستهل حديثه معي بحكاية الخندق، وما كنت أعرف ولا أظنه كان يقدَّر أنه سينتهي محاصراً معزولا(1/73)
ومحملاً أعباء الهزيمة ومشهراًبه بتهمة دولية عنوانها: (رمي اليهود في البحر) .
مؤخراً ، قادتنا الذكرى إلى كيفون و(قصر الشقيري) على كتفها، كأنه مرابط يحمي الثغور .
الدار خربة ، ليس بالهجر وحده بل بتقصد الايذاء فحين اجتاح الاسرائيليون لبنان في مثل هذه الأيام من العام1982 كان بين أهدافهم منزل الشقيري .
أما أركان "القيادة الثورية " ، التي اختطفت الراية من أحمد الشقيري ثم رمته إلى النسيان منبوذاً ومداناً ، فقد انتهت مسؤوليتها عن القصر الذي سكنه بعض (الابوات) منها وغادرته مشرع الأبواب للريح والطاعون الإسرائيلي ، مع بعض الآثار العسكرية التي تكفل تدميره .
تحية لأحمد الشقيري والذين استذكروه فحاولوا ويحاولون إعادته إلى ذاكرة أبنائنا في رحلته الطويلة بين قلعة تبنين في جبل عامل ، حيث للصليبيين بعض الاثر ، وبين الأغوار حيث ينتظر الذين حرّروا بيت المقدس أول مرة "الصحابة الجدد" المنتدبين لتحريرها غداً .(1/74)
الصين والشقيري ..
وتبقى الذكرى (1)
جميل بركات
الوفاء كما تعلمون سيد الأخلاق . حين قرأت في جريدة (الرأي) الغراء عن قبول التعازي في سفارة الصين . أكبر دولة في العالم من حيث المساحة والسكان، بمناسبة وفاة رئيسها الكبير (دينغ شاوبينغ) فتذكرت في التو أن لهذه الأمة العريقة واجباً عليَّ حيث كان لي الشرف أن أكون ضيفا عليها في شهر آذار عام 1965 كعضو في أول وفد لمنظمة التحرير الفلسطينية يمثل السلطتين التنفيذية والتشريعية برئاسة الزعيم المناضل الأستاذ أحمد الشقيري مؤسس المنظمة وأول رئيس لها ، وقد شاهدت أعظم استقبال رسمي وشعبي للوفد في بكين وشنغهاي ومدن صينية أخرى كانت الهتافات فيها تدوي مؤيدة لحق الشعب العربي الفلسطيني المشروع في العودة من الشتات إلى وطنه وسيادته فوق أرضه وتأييداً للشعوب العربية في تحقيق
__________
(1) * الرأي، عمان، 9/3/1997.(1/75)
سيادتها ووحدتها ، فالأمة الصينية ، كما كانوا يهتفون ، صديقة وفية للأمة العربية يمكن الاعتماد عليها في كل الظروف ، لأن النضال الطويل ضد العبودية والاضطهاد الاستعماريين ربط الأمتين ربطاً محكماً ، فوقع أول بيان رسمي اعترفت فيه الصين بمنظمة التحرير الفلسطينية ، وبهذا كانت أول دول أجنبية في العالم خطت هذه الخطوة الحكيمة لمساندة شعب فلسطين لاسترداد حقوقه المغتصبة ، ولا تزال الصين وفية لمبادئها ، فإذا مات رئيس أعقبه رئيس فالمبادئ الثابتة في عرف الصينيين لا تتغير .
ومن الصدف أن تأتي ذكرى وفاة الشقيري يوم 26 شباط الحالي بعد يوم واحد من جنازة كبير الصين وزعيهما الراحل (دنغ شاوبينغ) الذي حكم الصين ثمانية عشر عاماً وجعل منها دولة مستقلة كبرى تسير قدما لمنافسة الدول الكبرى في التنمية فالانسان أخو الانسان أحب أم كره .
(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) صدق الله العظيم .
وفي يوم ذكرى الشقيري هذه اقتطف الأبيات التالية من قصيدة الأستاذ الشاعر هارون هاشم رشيد في رثاء (أبي مازن):
إيه خطيب فلسطين وحُجًّتها ... من أي صفحاتك الغراء انتهل
وأنت عمر بلادي عمر غضبتها ... وعمر من صمدوا ومن بذلوا
أهكذا ، هكذا تمضي وترتحل ... والبيت مغتصب والشعب معتقل
فعزاء لأمة الصين العريقة ، بوفاة رئيسها الكبير الراحل . وتبقى(1/76)
الذكرى يوم زرت الشقيري في مدينة الحسين الطبية بعمّان بعد أن جيء به من تونس للعلاج وهو يصارع الموت ويتكلم بصعوبة بالغة فقال: لنا وقفة لنا أحاديث لنا ذكريات كيف حال الأخ بركات .
ومهما قيل من ثناء في هذا الزعيم المناضل ، فإنه علم بارز من أعلام الفكر العربي الذي دافع بحماس منقطع النظير عن قضايا الأمة العربية في المحافل الدولية وكان يؤمن إيماناً راسخاً بأن خير العرب هو في تآخيهم ووحدتهم ، وهكذا يكون الرجال .(1/77)
أنطون سعادة وأحمد الشقيري..
مقارنة على الخطوط الحمراء (1)
د. أنيس صايغ
رجلان ، قائدان ، تجاوزا في تاريخنا النضالي الحديث الخطوط الحمراء وتقدما في طريق الكفاح الوطني والقومي إلى ما وراء الحدود التي فرضتها القوى الأجنبية والمحلية على مسيرتنا العربية. واختلف كل من القائدين عن الآخر في الكثير من النواحي في الطبيعة والظروف والأنجازات. حتى أن القارئ يستغرب أن نتحدث عنهما في مقال واحد ، إلا أن رفضهما للواقع المشين لأمتهما وتحمسهما لواجبهما في تغييره جامع مشترك يبرّر هذه المقاربة الواحدة لهما معاً، خاصة أننا نحتفل غداً في الأول من آذار بالذكرى الثالثة والتسعين لمولد أنطون سعادة ، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه (1904-1949) وكان الأول من أمس في السادس والعشرين من شباط الذكرى السابعةعشرة لوفاة أحمد الشقيري مؤسس منظمة
__________
(1) * السفير ،بيروت، 28/2/1997.(1/78)
التحرير الفلسطينية ورئيس لجنتها التنفيذية (1908 ـ 1980) . ويقدم الرجلان في سيرة حياتهما ومسيرة نضالهما عبرة وقدوة لبني جيلهما والجيل التالي، وخاصة لأهل السياسة وأصحاب المشاريع والطروحات الوطنية لبناء غد أفضل ومجتمع أسلم يصلحان أن يكونا بديلين ليومنا التعيس ومجتمعنا المهترئ .
كانت الأمة في مطلع الثلاثينات حينما بدأ سعادة ينشط عمليا في الحقل السياسي ، صريعة وحش مثلث الرؤوس: وحش الاستعمار الذي سجن البلاد السورية بمعناها الواسع في قفص الانتدابين البريطاني والفرنسي وحال دون استقلال الكيانات ووحدتها السياسية وفرط ببعض أراضيها فسلب منها شريطها الشمالي وسلمه للأتراك وعمل على سلب شريطها الجنوبي وتسليمه للصهيونيين . ووحش التفكك الداخلي وانقسام المجتمع على نفسه وتعدد الولاءات اللاقومية كالطائفية والمذهبية والعرقية والاقطاعية والأسرية والإقليمية . ووحش ثالث سخر النظام العام والحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية للعبة سياسية وحزبية تقليدية اختار لاعبيها من القيادات المنحرفة والمتعاملة والضعيفة والمستسلمة ، فعزّزت الاوضاع المتردية والفساد وكبت الحريات وخنق الحقوق الإنسانية الطبيعية وإذكاء الفتن . وهكذا كانت السهام التي تدمي جسم الأمة من أجنبية ومحلية ، تنطلق من جعبة واحدة وتسعى لغرض واحد هو منع نهضة الشعب ووقوفه في وجه ذلك الوحش الثلاثي الرؤوس .
رفض سعادة الواقع وثار عليه فأسس حزباً عقائديا منظماً مناضلا ، وكان هو الأول من نوعه: حزب يتبنى عقيدة محددة وواضحة ، ويعمل في(1/79)
إطار مؤسسي له قوانينه وأنظمته ويبشر بأفكاره وينشرها غير آبه لقرارات المنع الرسمية (التي تضمنت محاكمات وأحكاماً بالسجن والاعتقال والنفي والحظر) ، وبذلك كان الحزب السوري القومي (السوري القومي الاجتماعي في السنتين الاخيرتين من حياة سعادة) رائداً في الطرح العلمي الواضح والمركز في تحدي القيود والعراقيل،الحكومية(الاجنبية والمحلية) والسياسية والاجتماعية التقليدية والمفاهيم الانقسامية والتقسيمية الشائعة .
وكانت فلسطين في مطلع الحياة السياسية لأحمد الشقيري ، أواخر العشرينات وفي الثلاثينات ، تتعرض هي الأخرى لوحش مثلث الرؤوس ، الاستعمار ومخططاته وأدواته القمعية، والمؤامرة الصهيونية التي سعت لسلب فلسطين من شعبها وطرده والاستيلاء على أرضه واقامة دولة يهودية على ترابه الوطني ، والتخلف الداخلي الذي تجلى في الانقسامات السياسية والتفكك الحزبي والشلل في التصدي للتآمر الاستعماري الصهيوني ، وقد رفض الشقيري هذا الواقع ، وخاض درب النضال ، مشاركاً في الصفوف الخلفية ثم في الصفوف الأولى ثم قائداً ، بأشكال مختلفة كانت في البدء كتابة في الصحف ثم ترافعا في المحاكم ثم تمثيلاً لقضية بلده ودفاعاً عنها في المحافل الدولية ، وأخيرا في إنشائه الكيان الوطني الفلسطيني ممثلاً في منظمة التحرير الفلسطينية بإداراتها وأقسامها وأجهزتها ومكاتبها السياسية والإعلامية والعسكرية والثقافية والمالية .
وكان لكل من الرجلين أسبابه الموضوعية في اختيار الوعاء الأنسب، حسب الظروف وطبيعة الصراع مع العدو ، لمقارعة الوحش ، بتجاوز الخط الفاصل بين ما هو مسموح به وما هو ممنوع، بجرأة واستمرارية وتضحية .(1/80)
اختار سعادة الحزب العقائدي ، لأن الأرضية التي نشط فوقها (لبنان وسورية في الدرجة الأولى) كانت لاتعرف إلا الأحزاب والتكتلات الطائفية أو التقليدية أو المحلية التي تخلو برامجها من الرُّؤى بعيدة النظر للمستقبل الوطني ، ولأنه رأى أن اكتشاف ماهية الأمة ، وتعريف شعبه عليها ، ودعم افكاره بما أوتي من علم وبحث ومنطق ، والتركيز الشديد على وحدة كل من الأمة والمجتمع ، هو السبيل الذي يكفل تحقيق الاستقلال واسترجاع السيادة وتوحيد الكيانات بل هو يرمي أيضا إلى ما هو أبعد من ذلك: وضع أسس الأمة الجديدة التي تحقق ذاتها ورسالتها وأصالتها عبر مفاهيم وقواعد ومسلمات محددة حرص سعادة علىالبحث عنها والكتابة فيها وشرحها وتفسيرها والدعوة لها طيلة حياته .
أما الشقيري فلم يكن الظرف الذي نشط فيه يسمح له بأن ينظر في هوية الأمة ويحدد طبيعة المجتمع ويسعى لبناء أجيال تلتزم مفاهيم عقائدية تتعارض مع الرأي الشائع (كأمة سورية في وجه فكرة الأمة العربية التي كان الإيمان بها كاسحاً وكمجتمع علماني في وجه تراص المجتمع العربي في فلسطين متحرراً من وباء الطائفية والمذهبية) بل كان عليه أن يكتفي بتحديد معالم الدرب الذي يؤدي إلى حماية الشعب الفلسطيني من الخطر الاستيطاني الصهيوني المدعوم بالرضى والحماية الاستعمارييْن .
وكانت الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني ، ضمن الإطار القومي العربي هي المسألة التي على الشقيري وأية قيادة فلسطينية أن تعمل علىالحفاظ عليها ، بعيداً عن دخول حلبة الصراعات العقائدية أو الحزبية والسياسية المحلية ، وبشكل أخص بعيدا عن التفكير بانشاء حزب سياسي(1/81)
معين للحفاظ على هذه الهوية (مع التذكير بأن فكرة إنشاء حزب قومي عربي راودت الشقيري في وقت من الأوقات في النصف الأول من الأربعينات لكنه سريعا ما انكفأ وفضل السعي لإشراك الاحزاب والقوى الموجودة على الساحة في عمل جبهوي) .
وأكثر ما بانت الحاجة إلى إحياء الهوية الفلسطينية والحفاظ عليها بعد تشتت الشعب الفلسطيني في أعقاب حرب 1948 ولجوء أغلبيته إلى الدول العربية الأخرى (وإلى دول العالم المختلفة) وبالتالي نشوء مجتمعات شتات فلسطينية متعددة لا يخشى من قيام تباينات في المفاهيم والعادات والمشاعر الفلسطينية فحسب وإنما يخشى أكثر من ضياع الهوية وضياع التراث والانتماء والأصالة الوطنية معها ، أي أن الخوف لم يكن من مجرد نمو التعددية لأن التعددية لا تكون شراً مطلقا بل كان الخوف من تقطّع الانتماء الفلسطيني (لأرضه وتراثه وبلده) وتقطع علاقاته ببني شعبه المتفرقين والخاضعين لمؤثرات الزوال والانصهار، الأمر الذي يهدد الإيمان بحق تحرير الوطن والعودة إليه .
إضطر أحمد الشقيري، القومي العربي، أن يضع صيغة وطنية لا تتعارض مع الانتماء القومي العربي للشعب الفلسطيني ولكنها في الوقت نفسه تحمي هويته الوطنية أي تحمي حقه الفلسطيني المقدس بالتحرير والعودة وبناء المجتمع السليم على أرضه الأصلية ، وحتى يحقق الشقيري ذلك كان عليه أن يتجاوز الخط الأحمر الذي اشترك في وضعه الاستعمار والحكومات العربية . إذ أن مؤتمر القمة العربية الأول (يناير 1964) اكتفى بتكليفه بإجراء اتصالات مع الشعب الفلسطيني حول فكرة إنشاء كيان فلسطيني إلا(1/82)
أنه ذهب بهذا التكليف إلى أبعد مما أراد اصحاب الجلالة والسمو والفخامة والسيادة من الملوك والرؤساء العرب، وقام باتصالات وجولات ومباحثات مع القوى والتجمعات الفلسطينية في بلاد الشتات العربي انتهت بإعلانه إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية ممثلا للشعب الفلسطيني في مؤتمر وطني تأسيسي عقده في القدس (مايو 1964) وإذا لم يكن المجلس الوطني المذكور الذي تبنى الميثاق الوطني ودستور المنظمة وأنظمتها وهيكليتها تحقيقا لحلم استقلالي فإنه كان بلا شك الخطوة الأولى في طريق تحقيق هذا الحلم ، بما انبثق عن المنظمة وتشكل من هيئات وإدارات وأجهزة عسكرية وسياسية ومالية وثقافية وإعلامية .
وضع الشقيري المسؤولين العرب أمام الأمر الواقع في مؤتمر القمة الثاني في الإسكندرية (سبتمبر1964) وأطلعهم على قرار الشعب الفلسطيني، بتشكيل كيانه الوطني وكان هذا هو التجاوز الشقيري الأول للخطوط الحمر ، ثم تلاه تجاوز ثانٍ ربما كان أكثر خطورة وجرأة حينما أعلم القائد الفلسطيني إخوانه من الملوك والرؤساء المجتمعين في الخرطوم (أواخر اغسطس 1967) في أعقاب هزيمة حزيران 67 رفضه الحازم لموافقتهم على قرار الامم المتحدة رقم 242 ، أي الاعتراف باسرائيل والتعهد بالحفاظ على أمنها مقابل انسحاب جيوشها من الأراضي التي احتلتها في تلك الحرب في أيام خمسة فقط ، وقد عبّر الشقيري عن معارضته للقرار العربي الرسمي في الخرطوم بما عرف باللاءات الثلاث : لا صلح ، لا تفاوض ، لا اعتراف .(1/83)
لم يكفِ الشقيري أن دعا إلى الكفاح المسلح ضد العدو الصهيوني ، وإنشاء جيش التحرير الفلسطيني، وعمل وسعى إلى إنشاء الأحلاف العسكرية العربية ، كما دعا إلى مقاومة الضغوط الأميركية ورفع سلاح النفط في وجهها (وما كان لهذا السلاح من قوة آنذاك) بل أنه تجرأ وخرج عن الوصاية العربية الرسمية على المنظمة، وعلى شعب فلسطين من خلالها. ذلك كله لم يرق لأهل السلطة العرب وكان لا بد لهم من إزاحة الرجل، وتمّ لهم ذلك في أواخر 1967، أي بعد عصيان فلسطين على الاستسلام العربي وبعد تحدي الشقيري المستمر مدة خمسين شهرا تقريبا ، لكن الرجل كان كبيرا وكان متحديا حتى في رضوخه للاستقالة، إذ قدم كتابه بهذا الشأن إلى الشعب الفلسطيني ومناضليه وتجاهل الملوك والرؤساء .
ومثل الشقيري ، كان لابد من معاقبة أنطون سعادة. وقد أمهلته الظروف سبعة عشر عاماً لإسقاطه وربما أطال في عمر وجوده السياسي أنه قضى نصف هذه الفترة منفيا في المهجر، أقول إنه كان لا بد للنظام السائد المحلي، المرتبط بالمشاريع الأجنبية المشبوهة، من أن يؤدب الزعيم ويرتاح منه لأنه تجرأ أولا على إنشاء حزب معادٍ للتيار السائد السياسي والعقائدي والاجتماعي الرسمي والمحلي ، ولأن الحزب نجح في استقطاب جماهير واسعة (تعدّى نفوذ الحزب لبنان وسورية إلى فلسطين وشرق الأردن وإلى دول عربية وأجنبية أخرى هاجر سوريون إليها) وفي يوم عودته إلى الوطن في مطلع آذار 1947 استقبله جمهور حزبي يزيد عدده على أربعين ألف محازب ، وهوعدد لم تكن البلاد تشهد مثله في ذلك الزمان .(1/84)
وربما كان هذا الالتفاف الشعبي حول الحزب ، إلى جانب خطأ سعادة في الثورة على السلطة المحلية في لبنان في حزيران 1949 ، الأمر الذي دعا السلطة إلى قمع الثورة المسلحة بالقوة والقبض على سعادة (في صفقه مريبة مع الحكم الاستبدادي في دمشق أنذاك) ، والحكم بالإعدام وتنفيذه فوراً في فجر الثامن من تموز 49 . ومثل الشقيري حينما اضطرته القوى النافذة إلى الاستقالة فقد تقبل سعادة الحكم بعد المحاكمة الصورية التي تسجل صفحة من الشجاعة والثقة ورباطة الجأش بكبرياء ، حتى أنه حيَّا الجنود المصطفين لإطلاق النار عليه ورفض أن يعصب إحدى عينيه . وبينما أعدم سعادة صيف 49 حيث استقبل كالفاتحين ربيع 47 ، دفن الشقيري حسب وصيته في مقبرة أبي عبيدة الجراح بجوار هذا الصحابي الكبير, وسعد بن أبي وقاص, وشرحبيل بن حسنة في غور الأردن على بعد ثلاثة كيلو مترات فقط من أرض فلسطين .
لا نهدف من هذ المقال إجراء مقارنة أو مفاضلة بين القائدين الكبيرين سعادة والشقيري ، لكننا نشعر بضرورة الإشادة ببعض النواحي التي تميز كل منهما عن زميله في تصدّيه للممنوع وخروجه على الطاعة وقيادة الشعب إلى مثل وقيم جسّدهما الرجلان وعملا من أجل نشرها وتحقيقها .
كان سعادة معلماً بالدرجة الأولى ، مفكرا نظرياً يحاول أن يجسد افكاره ويحققها من خلال عمل سياسي وبنائي في آن . أدرك ان تجاوز الخطوط الحمر لا يكون بالبحث العلمي المجرد بل يحتاج إلىعمل منظم يستنير بهذا البحث . وأدرك أن الأيديولوجية فاشلة إذا لم تمارس سياسيا وثقافيا ، كما أن الممارسة السياسية والثقافية فارغة إذا لم تحمل مضموناً(1/85)
أيديولوجيا . وهكذا كان الحزب طبقاً لحمل العقيدة ، وكانت العقيدة محصلة لنظر شامل في الحياة والكون والمجتمع والأمة ، وحتى يكون صادقا مع نفسه ودعوته ، كان لا بد له من أن يخرق التقاليد والبنى والمفاهيم السائدة حتى لو أدى ذلك إلى هدم الجدران على نفسه وحياته ، فالبعث القومي لا يتم بالمصالحة ولا يقبل بالتسوية ولا يعترف بأنصاف الحلول .
ومثال على وصف سعادة بالمعلم تلك الأدبيات التي وضعها ونشرت في حياته أو بعد وفاته . إنها كلها كتب في شرح العقيدة ونشر الفكر البكر ، من "نشوء الأمم" ، الذي كان أول دراسة علمية عربية في تكوين الأمة (مهما كنت مقتنعا أومعارضاً للقومية السورية التي دعا الكتاب اليها) إلى كتب "التعاليم" و"الرسائل" "والمحاضرات" التي يمكن تشبيهها برسائل رسل المسيح في العهد الجديد من الإنجيل في شرح أفكار المسيح وتعاليمه ، أي في وضع أسس فلسفة الإيمان المسيحي . أي أن سعادة المؤمن بالاعم (ربما بتأثير مدرسة غوبلز في الحزب النازي الذي تأثر سعادة ببعض أساليبه وشعاراته ورموزه) حول الإعلام إلى تبشير بالقضية ودعوة للمبادئ السياسية والإصلاحية .
أما أحمد الشقيري ، على الطرف الآخر ، فكان رجل سياسة . صحيح أنه كان قانونياً بارعاً (كمحام أولاً ثم كمدافع قانوني عن الحق الفلسطيني والحقوق العربية الاخرى ، ثم كدستوري يضع الأنظمة والقوانين لمؤسسات المنظمة والوحدة العربية المرجوة ، وككاتب في القانون ربما ينفرد بأنه العربي الوحيد الذي وضع دراسة قانونية حول المياه الإقليمية) كان أيضاً كاتباً وصحافياً في فترة من الفترات المبكرة ، الا أن همه الأول وشاغله(1/86)
الأكبر كان سياسيا: كيف يصل بشعبه الفلسطيني إلى حقوقه الكاملة . من هنا لم يبشر الرجل بدعوة عقائدية ما (بالرغم من إيمانه القومي العربي الكامل) بل إنه لم يُعن كثيراً بماهية الأمة بقدر ما عني بتحقيق إرادة الأمة وحمايتها من المخاطر والمؤامرات .
ونحن نمثل على ذلك بسلسلة كتب السيرة التي وضعها الشقيري من بين أكثر من خمسة عشر كتاباً الفها في حياته . إنها مجموعة من المذكرات والذكريات التي تسجل مسيرة الرجل السياسية الصرف (بعلاقاته ومراسلاته ويومياته وأعماله ووقائع المؤتمرات والمباحثات والاجتماعات والاتصالات ، وخلفياتها ونتائجها) لا تقدم لنا هذه الكتب الخمسة عشر التي نشرها في مدى عشر سنوات 1968-1978 معلومات غزيرة وأولية وموثوقة عن حقبة مهمة من تاريخنا النضالي الفلسطيني العربي فحسب ، بل هي تعكس صورة ذلك الرجل القائد على حقيقته وتكشف عن أغوار نفسه وتطلعاته ضمن حدود مصداقية السيرة الذاتية عموماً ، وهو بالتالي لا يبشر في كتاباته مثل سعادة بل يسجل ويؤرخ عملاً سياسياً وطنياً .
هناك أمور كثيرة تتشابه أو تتعارض بين أنطون سعادة وأحمد الشقيري ، إذ أن لكل منهما شخصيته ودوره وظروفه وأسلوبه المميز جداً عن الآخر ، إلا أنهما يبقيان ويُخلدان ، علمين بارزين في قيادة نضال لا يعترف بالحدود والقيود ، ويكون دوماً سباقاً إلى ما وراء الحدود وفوق القيود ، ولعل أهم ما في سيرتهما أنهما سقطا شهيدين ويبقيان شاهدين على القائد الأقوى من أعدائه وخصومه ، والأقوى من الموت .(1/87)
أحمد الشقيري ...
الرجل الذي حارب اسرائيل حياً وميتاً (1)
د. سبع ابو لبدة
كتب الدكتور أسعد عبد الرحمن مجدداً وقبل أعوام في ذكرى المرحوم أحمد الشقيري مبيناً بعض فضائله ومع أننا نتفق مع الدكتور اسعد في معظم ما ذكر ، إلا أننا نختلف معه في بعض ما أورده ودعاه بالسلبيات يومذاك ومن ضمن ذلك أن عدد السنوات التي اعتلى فيها الشقيري مسرح العمل الوطني الفلسطيني كان قليلا ، في الستينات صعد وهبط ، كان معتزا برأيه لدرجة أنه أصبح ينزع إلى الفردية ، كما كان متمكنا من لغته العربية لدرجة أنه أصبح ينزع معها إلى اللفظية وتقييد يديه بشباكها .
ولما كان الدكتورأسعد يريد من الجيل الصاعد أن يتذكر الشقيري وينهج نهجه فإنني أشعر أنه من الواجب تصحيح بعض ما قاله ، فليس صحيحاً أن عدد السنوات التي اعتلى فيها المرحوم أحمد الشقيري المسرح
__________
(1) * المجد ، عمان، 8/4/1996.(1/88)
السياسي كان قليلا ، فقد كانت فترة عمله السياسي طويلة جداً ، كان فترة حياته كلها تقريباً . إذ انفق أربعين عاما في الحياة العربية والدولية كما يقول أحد عناوين كتبه ، وقد امتدت حقبة جهاده منذ أن ألقى خطابه القومي في بيروت عام 1927 في ذكرى الشهداء العرب ، وطرد من قبل الاستعمار الفرنسي في لبنان إلى أن انتقل إلى جوار ربه في عام 1980 . بل امتد نضاله السياسي إلى ما بعد وفاته إذ صدرله كتابه القيم (خرافات يهودية) ، بعد عام من انتقاله إلى الرفيق الأعلى ، فكان بذلك الرجل الذي حارب إسرائيل حّياً وميتا، وإذا أخذنا بعين الحسبان الأثر الذي ستتركه كتبه وخطبه ومقالاته في قرائه ، فإن نضاله السياسي سيبقى مستمراً ما دام هناك عرب ومسلمون .
لقد ساهم الشقيري (رحمه الله) كمحام في الدفاع عن المجاهدين أمام المحاكم العسكرية البريطانية الهمجية ، وفي إعداد الوثائق والمذكرات لوضعها أمام لجان التحقيق ، كما ساهم في توعية أبناء أمته بخطبه ومقالاته، وأسس المكتب العربي في الولايات المتحدة عام 1945 كما كان أمينا عاما مساعداً للجامعة العربية ثم ممثلاً لسوريا في هيئة الأمم المتحدة ، وبعدها ممثلا للسعودية في الهيئة المذكورة فصال وجال في خدمة فلسطين وقضايا التحرر في العالم الثالث . وقد أصبحت خطبه في هيئة الامم ، دفاعاً عن فلسطين والجزائر وغيرها ، مشهورة ومعروفه للقاصي والداني وعندما اختلفت السعودية مع عبدالناصر وأرادت من الشقيري باعتباره ممثلها أن يشكو للأمم المتحدة استقال من منصبه إذ كان يتمتع رحمه الله بحسّ وطني سليم ، فرأى أن تقديم الشكوى يتناقض مع المهمة التي نذر نفسه من أجلها وأنه بهذه الشكوى يطعن حليف نضال ورفيق كفاح وبذلك طوى صفحة من(1/89)
استخدامه لمنابر الدول العربية في الامم المتحدة من أجل القضية الفلسطينية ومصارعة الاستعمار أينما كان .
أما من حيث تمكنه من اللغة العربية ونزوعه إلى اللفظية فهذا قول أوافق على الجزء الأول منه وأرفض الجزء الثاني . ولم يكن المرحوم متمكنا من لغته العربية فحسب بل ومن اللغة الإنجليزية أيضا ، كما كان موسوعي الثقافة ، يلم بكل صغيرة وكبيرة ، فقد سأله الصحفيون الأجانب ذات مرة عن القضية الفلسطينية بعد انفضاض جلسة لمجلس الجامعة العربية فكان يرد على كل منهم ببيت من أحدى مسرحيات شكسبير مما أثار إعجابهم واحترامهم .
ومما يدل على عمق ثقافته ومحكم تفكيره أنه في الستينات عندما حاولت إسرائيل أن تركب موجة استقلال الدول الافريقية وتربط بين الاستعمار والاضطهاد والعرب . ووقفت جولدا مائير على منبر الأمم المتحدة تقول مؤلبة الدول الإفريقية على العرب (لقد كان العرب تجار عبيد يخطفون الإفريقيين ويبيعونهم) ، فأوغرت بذلك صدور الأفريقين وأججت مشاعرهم ضد العرب . لم يجد العرب من محيطهم إلى خليجهم فارس نزال خيراً من الشقيري ، رجل المهمات الصعبة ، وسيد القول والكلمة ليرد على جولدا ماير ويفهمها من هم تجار العبيد . فقال لها من على منبر الأمم المتحدة . لقد وجدت بالأمس في الموسوعة اليهودية المنشورة من قبل دار (دبل أي) في مدينة نيويورك في الصفحة كذا أن تجار العبيد في أفريقيا كانوا يهوداً ، وهم علان وفلان وفليتان ، فمن فمك يا جولدا أدينك وبشهادة شهود من أهلك . وكالحاوي الشاطر أو الساحر الماهر مسح بهدوء مشاعر البغض والكره من قلوب الإفريقيين وأحل محلها مشاعر الحب والصداقة وغرس في(1/90)
نفوسهم أن العرب رفاق نضال وشركاء كفاح وأنهم مثلهم ضحايا الاستعمار والعنصرية ، وأن إسرائيل ليست إلا أداة استعمارية في يد مستعمر الطرفين فليحذروا منها وليبتعدوا عنها ، إنها القفاز الجديد للإستعمار .
والشيء بالشيء يذكر فعندما كان الشقيري يطرق أبواب الدول العربية ليقنعها بالموافقة على فتح مكاتب لمنظمة التحرير ، جاء إلى الكويت ودعا إلى اجتماع شعبي حافل في ملعب ثانوية الشويخ وهوملعب دولة لا مدرسة فقط وكان الأخوة الفلسطينيون العاملون في الكويت على الرغم من صلاتهم الطيبة برجالات الدولة قد فشلوا في إقناعهم بالموافقة على ذلك . فزحف الفلسطينيون من مختلف أرجاء الكويت وتقاطر العرب الآخرون من كل حدَب وصوْب ، وحضر الرسميون الكويتيون وعندما جاء الشقيري دخل الملعب بسيارة مكشوفة ومع أن المنصة كانت بجانب الطرف الذي دخل منه إلا أنه طلب من السائق أن يدور بسيارته على جميع اضلاع الملعب وكان المرحوم يلوح للجماهير بيدين متشابكتين فسرت رعدة العزة والكرامة في قلوب محبّيه وخصومه وكان ذلك اليوم حقاً من أيام العرب . فدوّت جنبات الملعب بالتصفيق الذي وصل في أطراف الدنيا ، وعندما اعتلى الشقيري المنصة تكلم بلغة عربية ممتازة وقد ارتجل خطابه ، فلم يخن أويشت بل كان كلامه سلساً عذبا منسابا متدفقا كالسيل العرم ، فدخل كلامه الآذان بدون استئذان واستقر في مجامع القلوب .
وقد سمعتُ جاري الكويتي يقول لزميله لم أكن أعلم أن الفلسطينيين عرب أقحاح بالفطرة ، مَن في العالم العربي يستطيع الكلام بلغة سليمه مبنى ومعنى كالشقيري؟ ومما قاله المرحوم في خطابه آنذاك . (أيها الفلسطينيون(1/91)
في الكويت أنتم المهاجرون والكويتيون الأنصار) ، وأمير الكويت أمير المهاجرين والأنصار . فربط الحاضر بالماضي والدين بالدنيا والتاريخ بالجغرافيا .
في هذه العجالة لا أستطيع أن أُوفي الرجل بعض حقه ، كما أنها لاتتسع لتفنيد دعاوى ناقديه وخصومه ، ولعل عذره في فرديته أنه لم يقف أحد معه, وأنه كان يحاول أن يلم شعث شعبه أولاً ، كما كان عليما ببواطن الأمور يميز الأسود من الأبيض ، ولذا ما هان ولا استكان حتى بعد موته . إذ ربض في غور الأردن بصحبة أمين الأمة أبي عبيدة محرر بلادنا من الرومان فكأن المرحوم يستنهض هممنا لنثب معهما على فلسطين فنعيد تحريرها من الغاصبين .
لم يساوم الشقيري أو يهادن في سبيل قضية العرب والمسلمين ، وقد اختلف مع الجميع من عبد الناصر إلى ياسر ، ذلك كان من أجل امته ووطنه وحضارته ، لا طمعاً في حظوة او جاه أو سلطة بل اشترى الآخرة بالدنيا . رحم الله الشقيري فقد كان رجلا يوم عَزّ الرجال ، كان رجلا في أمة ، وأمة في رجل .(1/92)
في ذكرى أحمد الشقيري (1)
جميل بركات
توفي أحمد الشقيري عن اثنتين وسبعين سنة يوم 26 شباط 1980 بعد حياة حافلة بالكفاح المرير في سبيل فلسطين وقضايا أمته العربية والشعوب المغلوبة على أمرها .
وكان لوفاته صداها في الوطن العربي الكبير وفي العالم ، وامتثالاً لوصيته ، دفن بجوار ضريح الصحابي البطل (أبو عبيدة الجراح) فاتح فلسطين ومحرر بيت المقدس ولعله ، كما ذكرت في تقديمي لكتابه خرافات يهودية الذي طبع بعد وفاته سنة 1981 ، اختار أن يرقد على امتداد فلسطين في صحبة أمين الأمة ليدعو الأمة العربية إلى استلهام روح الأمانة والتحرير ، والإقتداء بسير الفاتحين الأولين . وبهذا فإن أبا مازن قد ظل يعمل في سبيل القضية المقدسة حتى في اختياره لمدفنه ويبقى في خدمتها بعد مماته .
__________
(1) * الرأي ، عمان، 26/2/1996.(1/93)
بدأ نضاله وهو طالب آمن بمبادىء الثورة العربية الكبرى التي تنكر لها الحلفاء وعملوا على إحباطها وهي وحدة العرب بدولة عربية واحدة موحدة .
وحيث أنه لا منعة ولاكرامة للأمة العربية إلا بهذه الوحدة فقد عمل الشقيري من أجلها بهمة ودأب غير عابىء بما يلحقه من أذى في سبيلها فاعتقل ونفي وشرد أيام الانتداب البريطاني لمواقفه الجريئة المشرفة بعد أن صاحب القضية الفلسطينية منذ بدايتها ، ويقول الشقيري في أحد مؤلفاته:
(لقد ِسرت في موكب الأحداث جميعها وكانت الوحدة العربية شعارها وناضل جيلنا تحت لوائها ، فسُجن مَن سُجِن ، وعُذّب مَن عُذبّ ، وأستشهد من أستشهد وبقي من هذا الجيل من بقي وما بدّلوا تبديلا . وها نحن على الدرب بل أرجو أن نكون .
وكانت ساحة الوحدة فلسطين بأجمعها على مدى عشر سنوات متعاقبات. شهدت أرضها طلائع الوحدة العربية . تقاتل بالسلاح ، من سنة 1930 إلى 1940 وفي هذه الحقبة الماجدة توافد على فلسطين آلاف من المجاهدين من كل أقطار العرب ليحاربوا تحت راية الوحدة سعياً وراء شعارنا في فلسطين "الاستقلال في إطار الوحدة") .
بعد كارثة فلسطين سنة 1948 مثَّل الشقيري سوريا في هيئة الأمم المتحدة وعمل أميناً عاماً مساعداً للجامعة العربية حتى عام 1957 وأصبح بعدها وزير دولة للمملكة العربية السعودية وممثّلا لها في هيئة الأمم المتحدة إلى عام 1962 وكان في هيئة الأمم خير مدافع عن قضايا أمته العربية في(1/94)
المشرق والمغرب ، وفي طليعتها قضية فلسطين والجزائر .
وفي عام 1963 شغل مقعد ممثل فلسطين لدى الجامعة العربية وقام باتصالات مكثفة مع الحكومات العربية والتجمعات الفلسطينية في أماكن وجودها إلى أن نجح بتأسيس منظمة التحرير التي جسدت كيان الشعب الفلسطيني وآماله ، ومما ورد في الميثاق:
(أن الوحدة العربية وتحرير فلسطين هدفان متكاملان يهيىء الواحد منهما تحقيق الآخر ، فالوحدة العربية تؤدي إلى تحرير فلسطين وتحرير فلسطين يؤدي إلى الوحدة العربية ، والعمل لهما يسير جنباً إلى جنب وإن تحرير فلسطين هو واجب قومي تقع مسؤولياته كاملة على الأمة العربية بأسرها حكومات وشعوبٍ وفي طليعتها الشعب العربي الفلسطيني) .
ولا أزال أذكر حين صحبته إلى زيارة الصين في شهر آذار عام 1965 مع وفد برئاسته يمثل السلطتين التنفيذية والتشريعية ، حيث وقع أول بيان مع رئيس وزرائها (شو إن لاي) اعترفت فيه الصين بمنظمة التحرير وبهذا كانت أول دولة أجنبية ساندت شعب فلسطين رسمياً لاسترجاع حقوقه المشروعة وهذا عمل عظيم أنجزته الصين في زمن الرئيس (ماو) .
ولا تزال خطبه باللغة الإنجليزية في عشرات الألوف من الصينيين في بكين وشنغهاي تطنّ في أذني ومنها قوله (فلسطين أرضنا نحن الشعب العربي الفلسطيني إنها جزء لا يتجزأ من أرض الأجداد الممتدة من المحيط إلى الخليج وببساطة إن فلسطين عربية كما هي الصين صينية ، إن طبيعتنا كلاجئين تعني أن قلوبنا حزينة ولن يعود لها انشراحها إلا إذا عدنا لبلدنا(1/95)
فلسطين وسيظل شعبنا يقاوم الظلم إلى أن تعود إليه حقوقه ويسترد أراضيه وحريته لأن قوة الشعب أقوى من مختلف الأسلحة التي اخترعها الإنسان) .
وفي أواخر عام 1967 استقال الشقيري في ظروف معينة نتيجة لأوضاع فلسطينية وعربية في أعقاب قمة الخرطوم وعكف بعدها على كتابة مذكراته وإصدارها بكتب وضع فيها خلاصة تجاربه لما رأى وسمع
وتحدّث ، منها الكتب التالية : (أربعون عاماً في الحياة العربية والدولية) ، (حوار وأسرار مع الملوك والرؤساء) ، (فلسطين على منبر الأمم المتحدة) ، (علم واحد وعشرون نجمة) ، (دفاعاً عن فلسطين والجزائر) وغيرها من الكتب والدراسات والأبحاث.
ولعل آخر رسالة تسلمتها منه بتاريخ 21/6/1978حين كان يقيم في القاهرة اختتمها بقوله:
(وإذا هبّت رياحكم غربا فابعث بسلامنا إلى بيت المقدس فليس عنها سلوان ولا عزاء ، فالخطب فيها جلل ، وما أعظم قول رسولنا العظيم عنها : "إن الجنة لتحنّ شوقا إلى بيت المقدس" ونحن في مثل هذا الشوق اللهم أبلغ أشواقنا الغاية والمنى) .
رحل الشقيري وبقيت آثاره . ولم تهب رياحي غربا منذ أُسِرت القدس والله المستعان .. مختتما هذه الكلمات بأبيات من قصيدة المناضل الشاعر هارون هاشم رشيد في رثائه له:
إيه خطيب فلسطين وحجتها من أي صفحاتك الغراء أنتهلُ
وأنت عمر بلادي عمر غضبتها وعمر من صمدوا فيها ومن بذلوا
فنم قريرا فلسطين لنا أبداً كما تحب بنا تبقى وتكتمل(1/96)
الشقيري كما عرفته (1) ..
محمد كعوش
على الرغم من نعمة النسيان وضعف الذاكرة في هذا الزمن المر تذكرت اليوم المرحوم الأستاذ أحمد الشقيري أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية بل مؤسسها في العام 1964م . في زمن المد القومي ، يوم كانت القضية الفلسطينية هي القضية المركزية العربية .
تذكرته عندما قرأت أن ندوة ستعقد في مؤسسة عبد الحميد شومان يشارك فيها السادة عبد المجيد شومان ، د. محمد الفرا ، إبراهيم بكر ، وخير الدين أبو الجبين بعنوان: أحمد الشقيري كما عرفته .
في هذه المناسبة تذكرت السياسي الفلسطيني الكبير الذي رحل
فنسيناه ، بعد حياة حافلة انتهت بصمت مُر ، وحمّلناه أكثر من قدرته وأكثر من مسؤوليته ، فكان المشجب الذي علقنا عليه فشل العمل العربي ونتائج كل الهزائم . فظلمناه .. وظل صامتا جندياً في سبيل فلسطين كما أعلن يوم ترك المنصب ولم يترك المسؤولية .
__________
(1) * الدستور، عمان،26/2/1996.(1/97)
عرفته عن قرب يوم وضع الحجر الأول في قاعدة بناء منظمة التحرير باجتماع حاشد في صالة (المبرة السعودية) في حي المزرعة ببيروت ، تحضيراً لاجتماع القدس الأول ، فكان له حضوره المميز ، فهو الخطيب المفوَّه والمحامي القدير الذي قدم قضية فلسطين للعالم في المحافل الدولية ومنابر الأمم المتحدة من خلال تواجده هناك ، فكان يختزن كل تفاصيل القضية الفلسطينية في ذاكرته . عرفته عن قرب في حوارات طويلة بمنزله في كيفون .
فكان يردّد دائماً أن منظمة التحرير يجب أن تدار بعقول الشيوخ وتتحرك بدم الشباب ، من أجل ديمومتها وتحقيق أهدافها ...
الشقيري كان زاهداً لا يسعى إلى سلطة ، ولا يطمع في منصب أوجاه أو مال ، وهو المقتدر صاحب الكفاءة والكفاية .. ترك منصبه كرئيس لمنظمة التحرير بهدوء دون نقاش أوضجيج أو مشاكسة .
الآن ، وفي ذكراه نعترف ، أننا كنا نعرف أن أحمد الشقيري كان ضحية لأنه لا يجيد اللعب على التناقضات والخلافات العربية وسياسة المحاور التي قضت على كل الأحلام الجميلة للأمة العربية... له الرحمة .(1/98)
كلمة افتتاحية (1) ..
في ندوة مؤسسة شومان بمناسبة ذكرى أحمد الشقيري
د. أسعد عبدالرحمن
كان المرحوم الأستاذ أحمد الشقيري نسيجاً فريداً تلاقحت فيه عوامل متعددة أثرت وجدانه طفلاً وعمقت فكره رجلا ، فقد أخذ عن والدته لغتها التركية ومن بيئته استمد اللغة والتراث العربيين ، وقيّضت له تنقلاته بين لبنان وفلسطين أن يُخصب رؤاه ، وقد دفعته سنوات الحرمان الأولى لا سيما بعد وفاة والدته وهو لم يزل في السابعة من عمره إلى خوض معركة إثبات الذات ، بخاصة بعدما انتقل للإقامة في بيت والده وعانى هناك من محاولة التهميش الأُسرى من قبل زوج أبيه ، فوجد أن خير وسيلة لذلك أن ينكبّ على الدرس والاجتهاد. فالتحق بالمدرسة وواظب على دروسه باندفاع شديد، فأظهر تفوقاً كبيرا ساهم في تحسين وضعه داخل الأسرة ، ومن ثم داخل مجتمع مدينة عكا حيث أصبح أكثر اتصالا بالمدينة ومعرفة بشؤونها.
__________
(1) * ندوة مؤسسة شومان، عمان ،26/2/1996.(1/99)
وعلى أمواج البحر المتوتر في عكا تحفّزت روحه فبدأ يموج بالتساؤل والقلق حول ذلك الغبش الذي يكتنف فلسطين. فكل شيء حوله ينذر بطوفان قادم لا محالة. ولأنه يمقت الحياد ويكره الهوامش التي عانى منها في طفولته، فقد وجد نفسه يقفز إلى خضم العمل الوطني دون تردد. فبدأ بمحاولة فهم ما يجري أولا ملتمساً ذلك من خلال المواظبة على حضور مجالس والده وعمه التي كانت تضم نخباً ضليعة في علوم الدين والأدب والشخصيات الفكرية والوطنية ، كما واظب على حضور الدروس في الجوامع.
كانت خيول الحرية تركض في صدره جامحة تطرق قفصه الصدري صباح مساء ، فما أن يجد الشقيري مدى رحباً حتى يسارع إلى إطلاق تلك الخيول ، وهو ما حدث حين التحق بالجامعة الأمريكية في بيروت فأدهشته الجامعة بحياتها الداخلية التي تضجّ بالحرية ، فانضم إلى نادي "العروة الوثقى" الذي كان يعتبر آنذاك مجتمع الطلاب من جميع الاقطار ، وأحس فيه بروح الأمة العربية ووحدتها . وهناك بدأ الشقيري يشارك في النشاطات الوطنية مندفعاً بحسّه الفطري ، مما أثار السلطات الفرنسية ضده فأبعدته عن لبنان في 12/5/1927 وعاد إلى عكا.
أحتدم فيه الإصرار بعد طرده من بيروت ، فالتحق بمعهد الحقوق الفلسطيني وأدار جريدة (مرآة الشرق) المقدسية ، وقد فُرضت عليه الإقامة الجبرية مراراً لكثرة نشاطاته ، وفي العام 1948 أصبح مستشاراً للوفد السوري في الجامعة العربية ثم عمل في الأمم المتحدة رئيساً للوفد السوري,(1/100)
ورئيسا للوفد السعودي ,وساعد في الدفاع عن القضايا العربية في ذلك المحفل الدولي الهام ، وبقي في هيئة الأمم المتحدة خمسة عشر عاماً.
ربما دخل الحياة من الهامش فقيراً محروماً يعاني عقدة الأسرة التي لم يستشعر دفئها لكن الشقيري بالتأكيد أوجد فيما بعد أسرة أكبر. أسرة لكل الشعب الفلسطيني الذي وجد نفسه بعد نكبة عام 1948 بلا أسرة حقيقية تجمع أشتاته. لقد ظل هذا اليتم الذي عاناه الشعب الفلسطيني هاجساً مؤرقاُ في نفس الشقيري ، فآلى على نفسه أن لا تهدأ حتى يعيد لهذا الشعب هويته المطاردة بكل محاولات الطمس ، سواء من قبل الصهيونية أومن قبل بعض الأنظمة العربية ، وقد بزغ الفجر أخيراً حين تكللت جهود سنوات مضنية بذلها الشقيري بإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية ، التي اعتبرت بحق (الوطن المعنوي للفلسطينيين). وقد رأس الشقيري لجنتها التنفيذية وبقي كذلك حتى استقال وتفرغ للكتابة في 24/12/1967.(1/101)
أحمد الشقيري.. كما عرفته (1)
عبد المجيد شومان
لأنني أمضيت طفولتي والمراحل المبكرة من شبابي في الولايات المتحدة الامريكية ، ولم أعد إلى فلسطين إلا في صيف عام 1936 حيث وجدت أمامي عدداً من المشاكل ، أهمها اعتقال والدي مع العديد من الوطنيين الفلسطينيين في صرفند لمواقفهم الوطنية ولمقاومتهم الغزو الصهيوني ، والاستعمار البريطاني ، والفراغ الذي تركه هذا الاعتقال في إدارة البنك العربي ، لهذا لم تتح لي فرصة معرفة المرحوم أحمد الشقيري إلا في منتصف الأربعينات حيث كان لقائي الأول معه في بيت والده في عكا عندما قمت بزيارة لهذه المدينة الحبيبة ، التي ما تزال آثارها تقف بشموخ تنطق بعظمة هذه المدينة وعظمة تاريخها وعظمة حاكمها أحمد الجزار ، الذي دحر نابليون بونابرت الذي قاده عجزه عن قهر عكا إلى الانسحاب من سوريا بأكملها ، وبدت عكا في عهد الجزار أعظم مدن الساحل.
__________
(1) * ندوة مؤسسة شومان، عمان ، 26/2/1996.(1/102)
عندما قمت بإحدى الزيارات لمدينة عكا. زرت عدداً كبيراً من المعالم منها جامع الجزار ومنزل العالم الجليل المرحوم أسعد الشقيري ، فكانت تلك البداية ، أما النهاية فقد امتدت ولم تنتهِ إلا بانتقال هذا المناضل الفلسطيني الصلب إلى الرفيق الأعلى بتاريخ 26/2/1980.
إن تلك المعرفة ،التي بدأت في ذلك اللقاء القصير ، أخذت تتوثق وأخذت تتيح لي المجال للتعرف عن قرب على شخصية هذا الوطني الفلسطيني والعربي الفذ الذي امتطى صهوة النضال منذ نعومة اظفاره ولم يترجل إلا عندما قضى نحبه راضيا مرضياً. لقد تميزت لقاءاتنا بالنقاش المطول حول مشكلة أرضنا وشعبنا. وكنا نلتقي حول الحق الفلسطيني في كامل الأرض والتراب ، وكنا نلتقي حول البعد العربي للقضية الفلسطينية ، وكنا نشترك دائما في الألم الذي يعتصر قلبينا على ما آل إليه مصير أرضنا وشعبنا.
ولد الشقيري في المنفى بعيداً عن أرض فلسطين ومات بعيداً عنها ، وبين ولادته ووفاته كان تاريخاً حافلا بالكفاح الشخصي لتحقيق الحلم الذاتي والنضال السياسي لأجل الوطن الذي أحب ، والذي مضى من أجله قبل أن يتحقق حلمه بالتحرير والاستقلال ، لقد ولد في تبنين منفى والده من قبل السلطان عبد الحميد ، وتعلم في عكا والقدس ، وبسبب مواقفه المناهضة للاحتلال الفرنسي حُرم من اكمال دراسته في الجامعة الامريكية ، فعاد إلى القدس ثانية ليدرس الحقوق ودفن في غور الأردن ، إلى جانب الصحابي الجليل المجاهد أبو عبيدة عامر بن الجراح في المكان الأقرب إلى أرض فلسطين وإلى عكا بالذات.(1/103)
لقد بدأ نضاله السياسي مع أستاذه في المحاماه المرحوم عوني عبد الهادي ، الذي عرّفه على العديد من رجالات الثورة السورية ، أمثال شكري القوتلي ورياض الصلح ونبيه العظمة ، وعادل أرسلان ، الذين كانوا يعيشون في فلسطين والأردن ، لاجئين سياسيين مبعدين من ديارهم من قبل السلطات الفرنسية التي كانت تحتل في ذلك الوقت سوريا ولبنان.
لقد كان الشقيري فلسطينيا قوميّ النزعة ، وقد عبَّر عن قوميته من خلال ما كان يطرحه من أفكار ، ومن أبرز التعبيرات عن هذا التوجه القومي انتقاده الشديد لميثاق الجامعة العربية لأنه لم يقم على أساس تحقيق الوحدة العربية ، ولتركيزه على الدول العربية والبلاد العربية بدلا من تركيزه على الأمة العربية والوطن العربي.
أحمد الشقيري ، عدا عن كونه سياسياً ومناضلاً فلسطينيا ووطنيّ المشاعر وقومياً عربياً صميماً ، فهو محام بارع وخطيب مفوَّه ، وقد أضافت الجرأة التي يتمتع بها وأفكاره المتقدمة معاني لأقواله أعجبت الكثيرين ، لكن لم يأخذ بها من كانوا في موقع المسؤولية في ذلك التاريخ ، فكان ما كان من نكبة وتشرد وضياع ،ولم يستبينوا النصح إلا في ضحى الغد كما قال شاعرنا العربي.
لقد كان والدي المرحوم عبد الحميد شومان من الناس الذين أعجبوا بأحمد الشقيري ، وبفكره وبقدراته ووطنيته الصادقة ونضاله المتواصل في سبيل فلسطين وبلاغته وقدرته على ارتجال خطبه. ولكل ما كان يتمتع به الشقيري من قدرات ، فقد تم انتخابه عضوا في مجلس إدارة البنك العربي(1/104)
خلال الفترة من 1954 إلى 1962 وللأسف لم تستمر هذه العضوية طويلا لأنه كان يرى في النضال السياسي الطريق الأقصر إلى الوطن.
ومن المحطات البارزة في علاقتي مع المرحوم أحمد الشقيري لقاؤنا في فندق القدس انتركونتننتال ، وذلك في عام 1964 ، عندما اجتمعنا ونخبة من رجالات فلسطين برعاية جلالة الملك الحسين المعظم بهدف نقل النضال الفلسطيني إلى مرحلة جديدة ، فكان إعلان قيام منظمة التحرير الفلسطينية التي هي إحدى إنجازات الشعب الفلسطيني ، وقد تم انتخاب أحمد الشقيري رئيساً لها ، كما تم اختياري رئيساً للصندوق القومي الفلسطيني ، ومن خلال رئاستي لهذا الصندوق خلال الفترة ما بين 1964 و1969 عملت مع المرحوم أحمد الشقيري عن قرب ، الأمر الذي أتاح لي فرصة أوثق للتعرف على شخصية الشقيري وفكره القومي.
لقد كنت معجباً بمواقف أحمد الشقيري النضالية وتساميه وبعد نظره ووضوح رؤياه وبعده عن المساومة ، لكنه بهرني عندما قبل التخلي عن قيادة المنظمة في عام 1967 لمناضل آخر شعر أنه قد يخدم القضية الفلسطينية أيضا بنفس الحماس ، لكن هذا التخلي عن القيادة لم يؤد إلى انعزاله ولم يثنه عن مواصلة العمل من موقع جديد لصالح القضية الفلسطينية والعربية دونما غضاضة في النفس. لقد استمر يحارب ويقود بفكره وآرائه وبقي الهمّ الفلسطيني همّه الأول.
لقد كان أحمد الشقيري مثقفاً ومفكراً ومناضلاً وخطيباً مفوها ومحامياً بارزاً ، وقد وظف جميع هذه القدرات في خدمة وطنه وأمته والإنسانية ولقد(1/105)
شهدت منابر الامم المتحدة ومنابر الجامعة العربية والمنتديات السياسية والفكرية صولات أحمد الشقيري وجولاته وعلو صوته في الدفاع عن الحق الفلسطيني وعن الحق العربي وعن الحرية لكل الشعوب المستضعفة والمغلوبة على أمرها.
لقد عاصر الشقيري مراحل النضال الفلسطيني الثلاث ، التي بدأت بالنضال ضد الغزو الصهيوني في مراحله الأولى ، ثم في مرحلة تعريف العالم بمأساة الشعب الفلسطيني وتشريده ، وأخيراً في تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية التي أخذت زمام النضال الفلسطيني المنظم. وكان في كل هذه المراحل النضالية واضح الهدف غير مساوم عليه ، كان هدفه تحرير فلسطين ، كل فلسطين، ولم يحد عن هذا السبيل طوال حياته.
إن أهم ما يميز الدور الذي لعبه أحمد الشقيري في النضال الفلسطيني هو إبقاء شعلة هذا النضال متقدة ، خاصة بعد الهزيمة التي ُمني بها الشعب الفلسطيني والأمة العربية عام 1948 ، والتي أدت إلى تشتيت الجزء الأكبر من هذا الشعب في مختلف بقاع العالم ، لاجئين مشردين يكافحون من أجل لقمة العيش والمأوى ، وفي ظل هذا الضياع والتشرذم انطلق صوت أحمد الشقيري قوياً ينادي بحق الشعب الفلسطيني ، في منابر الأمم المتحدة والجامعة العربية ، وعندما وجد الوقت مناسباً لخلق إطار منظم للنضال الفلسطيني بذل جهدا موفقاً في تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية التي قادت النضال الفلسطيني منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم.(1/106)
لقد سخّر الشقيري قدراته المتميزة في القانون والمنطق في الدفاع عن الحق الفلسطيني وعن المناضلين الفلسطينيين أمام المحاكم البريطانية ، وقد أعطى من جهوده اهتماماً خاصاً لقضايا الأراضي ، وتمكن من منع تسرب الكثير من الأراضي العربية لليهود الذين كانوا يبحثون عن شرعية لعدوانهم على الحق الفلسطيني وعلى الوطن الفلسطيني من خلال استملاك الأراضي.
كان الشقيري مناضلاً وسياسياً واضح الرؤية ، فقد وازن بين النضال السياسي والعسكري والفكري ، ولهذه الغاية أقام ، إلى جانب منظمة التحرير جيش التحرير الفلسطيني, والصندوق القومي الفلسطيني, ومركز الأبحاث ، وأحاط نفسه بمجموعة من المفكرين والمثقفين الفلسطينيين الملتزمين ، وسلمهم مسؤولية العمل في مختلف أنشطة منظمة التحرير الفلسطينية ، بالرغم من تباين الاجتهادات مع بعضهم ، طالما كان الهدف واحداً.
وأنا أختم حديثي ، لا بد من الاعتراف بأن الشقيري كان فلسطينيا وعربياً أصيلاً وسياسياً كبيراً وصاحب رؤية مستنيرة ، وسيبقى ذكره عطراً في وجدان الشعب الفلسطيني والعربي ، وسيكون له مكان واسع في سفر النضال الفلسطيني ، عندما يعاد كتابة هذا التاريخ يوم ينتهي شتات الشعب الفلسطيني ، وتقام دولته الحرة على أراضيه.(1/107)
في ندوة مؤسسة شومان..
أحمد الشقيري كما عرفته (1)
إبراهيم بكر إبراهيم
يتعين لي أولاً أن أقول أن شيخ المحامين العرب هو الأستاذ أحمد الشقيري ، فبعد أن أصبح مجازاً في المحاماة كان يتبرع في الدفاع عن جميع الموقوفين والثوار بدون مقابل ، وأنا ومن هم من جيلي ، وبعد جيلي ، تعلمنا الدفاع عن المناضلين السياسيين بدون مقابل من مدرسة الشقيري.
قبيل حرب حزيران 1967 كانت العلاقات متوترة جداً بين الحكومة الأردنية وبين منظمة التحرير الفلسطينية ، ولم تكن اللجنة التنفيذية للمنظمة في حينه تضم أيّ عضو من الأردن.
وعندما أجرى الرئيس جمال عبد الناصر المصالحة بين جلالة الملك حسين والأستاذ أحمد الشقيري ،جاء الأستاذ أحمد الشقيري بعد انقطاع طويل
__________
(1) * ندوة مؤسسة شومان، عمان، 26/2/1996.(1/108)
إلى الأردن على متن الطائرة الملكية مع جلالة الملك ، وكان ذلك قبل نشوب الحرب بأيام قليلة وكانت جميع الدلائل تشير إلى أنها واقعة لا محالة.
أجرى الاستاذ نمر المصري عضو اللجنة التنفيذية في حينه اتصالات مع عدد من شخصيات الضفة الغربية طالباً إليهم الانضمام إلى عضوية اللجنة التنفيذية معبرا في ذلك عن رغبة الأستاذ أحمد الشقيري وعن رغبة الأستاذ نمر الخاصة.
وفي أعقاب تلك الاتصالات عقد اجتماع في بيت الأستاذ بهجت أبو غربية ضم أكثر من 15 شخصاً لبحث الموضوع منهم : ابراهيم بكر ، عبدالمجيد شومان ، داود الحسيني ، إسحق الدزدار، يحيى حمودة ، عبد الخالق يغمور، صلاح عنبتاوي ، بهجت ابو غربية ، وآخرين ، وبعد المداولات اتفق المجتمعون على مايلي:
1- بناءً على خطورة المرحلة وافق المجتمعون على انضمام عدد منهم إلى عضوية اللجنة التنفيذية للمنظمة.
2- يجري الاتفاق مع الأستاذ الشقيري على عدد من المسائل الهامة منها تسمية أعضاء اللجنة التنفيذية من الأردن الواجب ضمهم إلى اللجنة التنفيذية.
وقد أختار المجتمعون الأشخاص التالية اسماؤهم للانضمام لعضوية اللجنة التنفيذية: الاساتذة يحيى حمودة ، عبد الخالق يغمور ، إسحق الدزدار ، بهجت أبوغربية.(1/109)
ولما عرضت وقائع الاجتماع وقراراته على الأستاذ الشقيري في اليوم التالي وافق عليها بدون تردد ، وبعد يومين أوثلاثة وقعت حرب الخامس من حزيران.
وكما هو معروف فإن قمة الخرطوم كانت أول قمة عربية انعقدت بعد انتهاء حرب حزيران. ونظراً للخلافات الحادة جداً التي نشأت بين الرؤساء العرب وبين اللجنة التنفيذية ممثلة برئيسها الأستاذ أحمد الشقيري ، أصدر وفد المنظمة البيان الذي أعلن فيه انسحابه من المؤتمر وهو البيان التالي نصه:
بيان وفد منظمة التحرير الفلسطينية حول انسحابه من مؤتمر القمة العربية في الخرطوم 1/9/1967:
(تعلن منظمة التحرير الفلسطينية من هذا البلد العربي المناضل (السودان) إلى الشعب الفلسطيني والأمة العربية ، أنها قررت الانسحاب من مؤتمرالقمة العربي المنعقد في الخرطوم وهي إذ تعلن ذلك لا تستهدف التهجم على أحد او التنديد بأحد ، وإنما تفعل ذلك بروح أخوية عربية وبكل تقدير واحترام ، وإن الدافع الوحيد لإعلان هذا الانسحاب هو إطلاع الشعب الفلسطيني والأمة العربية على حقيقة موقف المنظمة من ناحية قومية ، خاصة وأن القضية الفلسطينية هي أمانة غالية وتقضي هذه الأمانة كواجب مقدس أن يكون الشعب الفلسطيني والأمة العربية على علم بالحقائق الواضحة والظروف الموضوعية ، ولا تريد المنظمة في هذه المرحلة
بالذات ، أن تكشف عن جميع الأسباب التي دعت إلى هذا الموقف حتى لا(1/110)
تزداد القضية الفلسطينية خطراً على خطر ، وإنما تقتصر المنظمة في بيان السبب الرئيسي الذي تسمح الظروف بإعلانه ، ذلك السبب في مجمله أن منظمة التحرير الفلسطينية قد عرضت على المؤتمر مذكرة تتضمن ستة مبادىء أساسية يجب أن يرتكزعليها أي حل للقضية الفلسطينية، وخصصت المذكرة بالتحديد أنه لا يحق لأية دولة عربية أن تنفرد بقبول أي حل للقضية الفلسطينية ،مؤكدة بذلك أن القضية الفلسطينية هي قضية عربية مصيرية ولا يجوز أن تقبل فيها أي حلول سياسية إلا إذا اتفقت عليها الدول العربية في اجتماع كامل مسؤول تشترك فيه منظمة التحرير الفلسطينية.
في الجلسة الأخيرة المقفلة التي عقدها مؤتمر القمة شرح وفد المنظمة (برئاسة الأستاذ الشقيري) بصورة وافية وجهة نظره في كيفية معالجة القضية الفلسطينية على الصعيد العربي والدولي ، غير أن مؤتمر القمة لم يوافق على مقترحات المنظمة ، ونظراً لأن وفد المنظمة يرى أن موقف مؤتمر القمة هذا أصبح يواجه مسؤولية خطيرة لا تستطيع المنظمة أن تشارك في تحملها ، لم ير وفد المنظمة أمامه بديلا إلا الانسحاب من المؤتمر اعلانا منه عن عدم الموافقة على ما انتهى إليه المؤتمر بالنسبة إلى قضية فلسطين.
ويبقى بعد ذلك على المنظمة أن تتصل بمختلف الوسائل بجماهير الشعب الفلسطيني والقوى الوطنية في الأمة العربية لتحديد معالم المسيرة المقبلة التي يتعين على منظمة التحرير الفلسطينية أن تقوم فيها على ضوء ظروف المحنة المريرة التي نزلت بالوطن العربي في فلسطين ، وإن وفد منظمة التحرير الفلسطينية يرى لزاما عليه أن يعرب عن عظيم شكره(1/111)
وأخلص تقديره للشعب السوداني ولمجلس السيادة في السودان والحكومة السودانية لما لقي من حفاوة بالغة ورعاية أخوية كريمة).
وبرغم انسحاب وفد المنظمة فان الموقف الذي عبرت عنه اللجنة التنفيذية جعل المؤتمر يستجيب لجانب من مقترحات المنظمة التي أصبحت تعرف بـ"لاءات" قمة الخرطوم.
وفيما بعد وعندما اشتد الخلاف حول أسلوب العمل فيما بين الأستاذ أحمد الشقيري من جهة ، وفريق من أعضاء اللجنة التنفيذية من جهة ثانية ، الذي يتكون من الأعضاء السادة عبد الخالق يغمور ، بهجت أبو غربية ، أسامة النقيب ، يحيى حمودة ، وجيه المدني ، نمر المصري ، يوسف عبدالرحيم ، قدم الأستاذ أحمد الشقيري استقالته إلى الشعب الفلسطيني كما هو واضح من كتاب الاستقالة الموجه منه إلى اللجنة التنفيذية وهي الاستقالة التالي نصها والتي أذاعها الأستاذ الشقيري من إذاعة صوت فلسطين في القاهرة.
كتاب استقالة السيد أحمد الشقيري الموجّه إلى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية 24/12/1967:
(إخواني أعضاء اللجنة التنفيذية:
أقدّم استقالتي إلى الشعب الفلسطيني ، الشعب الأسير الشريد المهاجر الطريد ، وأقدّم استقالتي كذلك إلى الفدائيين الأبطال الذين يخوضون في هذه الأيام غمرات النضال على أرض الوطن الحبيب ، وابتهل إلى الله العلي(1/112)
القدير أن يحفظ شعب فلسطين ويحفظ قضيته ، وأن يصون نضاله ويصون منظمته ، وعهدي لمن يأتي بعدي أن أكون له سنداً وعضداً ، أضع بين يديه كل تجربتي وطاقتي ، في طاعة الجندي بين يدي القائد ، فتلك سيرة سيدنا خالد ، قاتل قائداً وقاتل جندياً . والحمد لله أولا وآخرا).
لقد كان الأستاذ أحمد الشقيري عملاقا في ميدان المحاماة وكان أيضاً عملاقا في ميدان السياسة للدفاع عن قضية الشعب العربي الفلسطيني وعن قضايا العديد من الأقطار العربية عندما كان ممثلاً لسوريا والسعودية في مؤسسات هيئة الأمم المتحدة.
ومن هنا فإن الأستاذ الشقيري يتمتع بحب عميق في نفوس أبناء الأقطار العربية في الشمال الإفريقي التي دافع دفاعاً عنيفا في سبيل تحررها من نير الاستعمار وحصولها على الاستقلال التام.
وبالنظر لمكانة الأستاذ الشقيري في نفوس أبناء الأمة العربية من الأجيال التي كانت تتابع مواقفه في أثناء حياته ، فإنه لدى وفاته بتاريخ 26/2/1980 وعلى امتداد فترة طويلة بعد ذلك استمرت الإشادة بمواقف الأستاذ الشقيري وأعماله ، سواء من خلال ما ألقي في حفلات التأبين من كلمات ، أو ما نشر في الصحف والمجلات العربية من مقالات تحدّث فيها أصدقاؤه ورفاقه عن مناقبه وسيرته المهنية والنضالية.
وهنا يجب أن يقال أنه يعود الفضل إلى أسرة الأستاذ أحمد الشقيري، وعلى وجه الخصوص ابنه الأستاذ إياد الشقيري ، بالاهتمام بسيرته وأعماله ومؤلفاته ، كما يظهر ذلك مما صدر ونشر ووزع من مؤلفات تسجل سيرة(1/113)
الأستاذ أحمد الشقيري وخصوصا فيما يتعلق بالدفاع عن القضية الفلسطينية وفيما يتعلق أيضا بكثير من قضايا الأقطار العربية التي لم تكن قد استكملت استقلالها بعد.
ويستطيع الإنسان أن يشير بالإضافة لما تقدم إلى ما هو مدون في الموسوعة الفلسطينية لعام 1984 عن الأستاذ أحمد الشقيري.
وما أرغب في الاستشهاد به في هذا المقام ما ورد في رثاء الأستاذ ناصر الدين النشاشيبي المنشور في جريدة الأنباء بتاريخ 29/2/1980
يقول الأستاذ ناصر الدين النشاشيبي:
(رأيت أحمد الشقيري يدلي بشهادته أمام لجنة التحقيق الانكلوأميركية في أوائل عام 1946 باسم المكتب العربي وسمعت رئيس اللجنة البريطاني السير جون فلنجتون يسأله بعصبية ظاهرة: ألا تعتقد أن دخول قوات الحلفاء إلى المشرق العربي في الحرب العالمية الأولى كانت عملية تحرير للعرب؟ وسكت الشقيري ولم يجب ، وعاد رئيس اللجنة يكرر السؤال ولكن أحمد الشقيري لم يجب ، وعندما أطلق الإنكليزي سؤاله للمرة الثالثة ارتفع صوت أحمد الشقيري للرد قائلا في عصبية ثائرة: (كان دخولكم لبلادنا سبباً في تجزئتها وهدمها وتخريبها وتقسيمها لا لتحريرها ولا لخدمة شعبها !).
وعندما سأله العضو الآخر في اللجنة : كيف يصف وجود قوات الحلفاء في المشرق العربي خلال الحرب العالمية الثانية لحماية العرب ضد(1/114)
النازية، أجابهم: (قواتكم لم تأت لحمايتنا وإنما جاءت لحماية اليهود وحماية طرق مواصلاتكم إلى الهند!).
ورأيت أحمد الشقيري يخطب في الأمم المتحدة بنيويورك ورأيته يشير إلى غولدا مائير التي كانت تحتل مقعد إسرائيل في الجمعية العمومية ويسخر منها قائلا: ( هذه السيدة التي ولدت في روسيا وتزوجت في أميركا وعاشت في بولونيا ثم استقرت في بلدي قد جاءت إليكم من تل أبيب لكي تفسر لكم الآن لماذا وكيف وبأي حق يحتل الغريب أرض صاحب الحق وكيف وبأي حق يطرد اليهود العرب من بلادهم ، قولوا لهذه السيدة أن تعود إلى أميركا أو بولونيا أو روسيا حيث يعيش أهلها وأن تترك أهلي يعودون إلى بلدهم أحرارا).
لقد عرفه جميع مندوبي الأمم المتحدة وأحبوه واحترموه وقال لي مداعباً عندما التقينا في بيروت عام 1954 بعد عودته من حضور إحدى دورات الجمعية العمومية: لقد ألقيت خطبتي ذات مرة فالتف مندوبو الدول حولي يهنئوني ، كانت خطبة عامرة ملتهبة كبقية خطبي في الجمعية العمومية ، وكان بين الوفود التي التفت حولي المسيوفيشنسكي مندوب السوفييت الذي اشُتهر ببلاغته وسحره وقدرته على الخطابة ، وقال أحد السفراء العرب للسيد فيشنسكي ، وهو يشير نحوي ، هذا أحمد الشقيري يا سيدي هو بالنسبة الينا "فيشنسكي العرب"واجابهم فيشنسكي السوفييتي ضاحكا ولماذا لاتقولون أن فيشنسكي هو "شقيري الروس"؟!).(1/115)
وعن الكذبة التي اختلقتها الأوساط الصهيونية ومؤيّدوها ونسبوها إلى الأستاذ أحمد الشقيري أنه قال يجب أن يقذف اليهود إلى البحر ، يقول الأستاذ ناصر الدين النشاشيبي مايلي:
(وقلت له ذات يوم أساله:
- هل حقّاً يا أخي أحمد أنك قلت في أوائل حزيران عام 1967 بأنك تريد أن تقذف باليهود إلى البحر وأن سمك البحر الابيض ينتظر بفارغ الصبر لكي تدق ساعة الحرب فيشبع السمك ويأكل ما يشتهي من جثث اليهود؟
قال الشقيري:.
(يشهد الله أنها كذبة من أكاذيب إسرائيل وأنا أتحدى أي شخص أو دولة أو إذاعة أو صحيفة قادرة أن تثبت لي مثل هذا السخف بصوتي أو على لساني ، الصهيونية يا صديقي تعيش على بث أسطورة سياسية ونفسية معينة تصورها بأنها هي وحدها الضحية المهددة بالفناء على يد المتطرفين العرب، هذه الأسطورة تضمن لليهود تدفق المال العالمي على خزائن إسرائيل واستمرار الحماية الأميركية لسياسة اسرائيل، ولست غبياً لكي أطلق مثل هذا القول,ولكن اليهود ماهرين في فنون الدعاية واختلاق الأقاويل، لقد وضعوا مثل هذا الكلام على لساني ونشروه في العالم بينما أنا منه براء، حاولت أن أنفي فلم يستمع لي أحد، أصدرت بياناتي المتعددة فلم ينشرها أحد، وقد زاد من ألمي وحسرتي أن معظم أهلي وإخواني من العرب قد صدقوا مثل هذا الباطل وراحوا يعاتبونني عليه وكأنه حقيقة قائمة ثابتة)).(1/116)
وفي هذا الخصوص يقول الأستاذ محمد حسنين هيكل في حديث المبادرة عن الكذبة الصهيونية إياها مايلي :
(ولعلي استطرد هنا إلى رواية القصة الحقيقية لهذا الشعار الذي ألصق افتراء بالحركة القومية العربية ففي ذات يوم من سنة 1966كان الرئيس بروز تيتو يتحدث مع جمال عبد الناصر عن المشكلة الفلسطينية وقال الرئيس تيتو في إخلاص صديق ، إن قضيتكم لا يساعدها أن تطلقوا شعاراً كشعار القاء اليهود في البحر.
وقال جمال عبد الناصر: إنني لم استعمل هذا الشعار في حياتي ، وانا لست متحمساً له.
وقال تيتو في دهشة: الغريب أنني كنت أظنك صاحب هذا الشعار. واتذكر أنني حضرت هذا الحوار بين الاثنين وأتذكر أن جمال عبدالناصر بعد لقائه بالرئيس تيتو طلب إجراء تحقيق في أصل هذا الشعار ومصدره.وجرى تحقيق واسع النطاق شاركت فيه في ذلك الوقت كل أجهزة رئاسة الجمهورية ووزراء الإرشاد القومي في مصر ووزراء الخارجية ، وأسفر التحقيق عن أن مصريا مسؤولا أو غير مسؤول لم يطلق هذا الشعار. بل إن أحداً من المسؤولين العرب لم يطلقه كذلك ، وكان أقرب شيء إليه وإن اختلف معناه عنه هو جواب أعطاه السيد عبد الرحمن عزام أمين عام الجامعة العربية سنة 1947 وفي جو صدور قرار التقسيم.فقد توجه إليه صحفي بريطاني بسؤال عن السبب الذي يدعوه إلى معارضة قرار تقسيم فلسطين ، وعما يمكن أن يفعله المهاجرون اليهود القادمون(1/117)
بالبواخر من أوربا إلى فلسطين. وكان رد عبد الرحمن عزام هو قوله: (لقد جاءوا بالبحر ويستطيعوا أن يعودوا منه إلى حيث جاءوا). وهو معنى يختلف كثيرا عن معنى إلقاء اليهود في البحر. وأتذكر أن نتيجة التحقيق ارسلت إلى الرئيس تيتو في يوغسلافيا. واتذكر أيضا أنني رويت القصة فيما بعد لعدد من الأصدقاء البريطانيين ، وبينهم الوزير السابق كريستوفر مايهيو ، وسألني كريستوفر مايهيو عما إذا كنت متأكداً مما أقوله، وهكذا كتب كريستوفر ما يهيو مقالا أعلن فيه عن استعداده لتقديم خمسة آلاف جنيه استرليني لأي شخص يستطيع نسبة شعار إلقاء اليهود في البحر إلى مسئول مصري أو عربي ، وبادر أحد الصحفيين الإسرائيليين العاملين في لندن إلى رفع قضية على كريستوفر مايهيو يطالبه بالخمسة الاف جنيه ، وطالبه كريستوفر مايهيو أمام المحكمة أن يقدم أدلة على نسبة تصريح إلى أحد من العرب المسئولين وعجز الصحفي الإسرائيلي، وحكمت محكمة بريطانية برفض الدعوى).
أما وإن الحديث يدور عن الأكاذيب الصهيونية ،فإن الكذبة الكبرى هو ما زعمته الأوساط الصهيونية من أن اللاجئين الفلسطينيين غادروا مدنهم وقراهم في حرب سنة 1947-1948 بطلب من قيادتهم الفلسطينية تارة وبطلب من الحكومات العربية تارة أخرى إلى آخر ما ورد في مسلسل أكاذيب الصهاينة.
ولكن أصبحت الآن كل هذه الأكاذيب مفضوحة ، وثبت بشكل قاطع من المستندات الإسرائيلية الرسمية التي رفعت عنها السرية أن القوات العسكرية الاسرائيلية هي التي قامت بعملية الطرد تنفيذاً لأوامر قادة الوحدات(1/118)
العسكرية في الميدان ، ومنهم الضابط اسحق رابين الذي أصبح فيما بعد رئيس وزراء إسرائيل ، وذلك تنفيذا لأوامر بن غوريون الذي كان رئيس وزراء اسرائيل في ذلك الوقت.
يكشف عن ذلك كتاب (طرد الفلسطينيين) تأليف نور الدين مصالحة الصادر في سنة 1992 عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
وما يهم في هذا الخصوص ويدمغ حكام إسرائيل وقادتها العسكريين بخرق كل القوانين والأعراف الدولية والإنسانية ، هو ما ورد في كتاب:
The Palestinian Catastrophe
The 1948 Expulsion of a People from their Homeland
MICHAEL PALUMBO ... تأليف: ... ... ... ... ... ...
وفي هذا الكتاب الموثَّق يروي المؤلف الحقائق عن نكبة الشعب العربي الفلسطيني ، كيف طرده الصهاينة من مدنه وقراه تنفيذا لخطة بن غوريون بطرد العرب والحلول محلهم.
يضاف إلى جميع ما تقدم فإن المؤلف يكشف من واقع المستندات والشهادات سفالة وحقارة العديد من العسكريين الاسرائيليين في الاعتداء على العرض ، الذي تمثل في ممارسة جرائم اغتصاب النساء والفتيات في أثناء عمليات احتلال المدن والقرى الفلسطينية.(1/119)
إذن يقرر واقع الحالة الموثّق أن لا الأستاذ الشقيري ولا القائد الخالد الرئيس جمال عبد الناصر له علاقة بالكذبة الصهيونية عن (قذف اليهود في البحر) وإنما القادة الصهاينة السياسيون والعسكريون من مستوى بن غوريون وإيغال آلون وإسحق رابين هم الذين طردوا الفلسطينيين العرب من مدنهم وقراهم ، وهدموا في حينه القرى العربية المهجورة لاستبعاد إمكانية عودة أصحابها إليها بعد أن نهبوها من الأثاث كما سبق ونهبوا أثاث المنازل المهجورة في المدن.
إني أنهي حديثي بهذا القول ، وقضايا اللاجئين والنازحين تُبحث في هذه الأيام ، أتمنى على الجهة المفاوضة أن تشتري الكتاب المذكور.(1/120)
في الذكرى السادسة عشرة
لوفاة المجاهد أحمد الشقيري (1)
خير الدين أبوالجبين
أيها الأخوة والأخوات:
السلام عليكم ورحمة الله وبعد ،
فشكراً لمؤسسة شومان الثقافية على مبادرتها الكريمة بإحياء ذكرى المجاهد أحمد الشقيري ، مؤسس منظمة التحرير الفلسطينية ، وسأحاول في الدقائق القليلة المخصصة لي أن أشير إلى بعض إنجازات هذا البطل وشمائله الحلوة التي لمستها خلال علاقتي الشخصية به.
كنت في فجر شبابي أسمع الكثيرعن الشقيري ، رجلالمواقف الوطنية والخطيب والمحامي المبدع ، ولكن معرفتي الشخصية به بدأت في شهر أيار
__________
(1) * ندوة مؤسسة شومان، عمان ، 26/2/1996.(1/121)
عام 1945 في ملعب البصة بيافا ، عروس فلسطين ، عندما شارك في احتفال منظمة النجادة الفلسطينية بتأسيسها حيث قدمته للجمهور الكبير ، وارتجل خطبة هزّت المشاعر بيَّن فيها المخاطر التي تحيق بشعبنا ودعا إلى التنظيم والإعداد السليم ووحدة الصفوف لمواجهتها. وفي ذلك الاحتفال أعجبت كل الإعجاب بالشقيري ورأيت فيه الزعيم الوطني الواعي والخطيب المفوه البليغ.
وبعد النكبة بسنوات وفي آذار 1964 ، حضر الشقيري إلى الكويت داعيا للكيان الفلسطيني ضمن جولة عربية له لهذا الغرض ، وقد أجرى عدة لقاءات واشتركت مع أعضاء اللجنة التي انتخبها الفلسطينيون في الكويت في مناقشته في مضمون الكيان الفلسطيني.
وفي المهرجان الخطابي الذي أقيم في ملعب ثانوية الشويخ آنذاك قدمت الشقيري إلى الجماهير الكويتية والفلسطينية فتحدث عن الكيان بحرارة وكان موضع تقدير وإعجاب كل من سمعه.
وفي المؤتمر الفلسطيني الأول بالقدس ازداد احتكاكي بالشقيري ، وخصوصاً في لجنة الميثاق التي كنت عضواً فيها والتي بذل الشقيري فيها كل جهد لإقرار مشروع الميثاق القومي الفلسطيني الذي قدمه للمؤتمر ، ورأيت أثناء النقاش كم كان الشقيري معتزاً بفلسطينيته مؤمناً بعروبته مؤكداً على البعد الإسلامي للقضية ومصراً على إبراز (أن استرداد فلسطين لا يتم إلا بالقوة العسكرية) وكان محاوراً بارعا لبقاً مدركاً لحساسية أمور كثيرة في الساحة عارفاً بالصعوبات والمعوقات التي تقف أمام إبراز الكيان(1/122)
الفلسطيني وهكذا نجح في إقرار الميثاق وأعلن المؤتمر قيام منظمة التحرير الفلسطينية.
وبعد اختياري مديرا لمكتب المنظمة في الكويت رافقت الشقيري في زياراته للأمير ولمست في تلك الزيارات مدى تقدير واحترام الأمير والمسؤولين له لدفاعه المجيد عن القضايا العربية في الأمم المتحدة ، كما لمست قدرة الشقيري الفائقة على الحوار حيث تمكن آنذاك من إقناع الأمير الشيخ عبد الله السالم بفرض ضريبة التحرير على الفلسطينيين في الكويت كما أقنعه بفتح معسكر في الكويت لتدريب الفلسطينيين على السلاح وتم فعلا بعد ذلك تدريب المئات منهم بإشراف ضباط كويتيين.
وأعجبت بجرأة الشقيري في المجلس الوطني الثاني في القاهرة حيث رد على الرئيس جمال عبد الناصر الذي افتتح المجلس بعد أن كان قد قرر عدم الحضور لخلافه مع الشقيري حول زيارة وفد المنظمة للصين ، وقال الشقيري في كلمته أن الرئيس قد ألهم الحق والصواب إذ قرر الحضور في آخر لحظة فالقضية وتحرير فلسطين يدعوان إلى ذلك.
كما قال تعريضا بمن يتهمه والمنظمة بالتبعية لعبد الناصر: (أعلن من هذا المنبر على مسمع من الرئيس عبد الناصر أن منظمة التحرير ليست عميلة لأحد ولا تابعة لأحد ، إنها ملك الشعب الفلسطيني وحده ، أما أنا فإني أرفض أن أكون عميلاً لأحد ، ما أنا بعميل ، أنا زميل لعبد الناصر ، نحن وإياه رفاق طريق على درب الكفاح ، وأن شعبنا يلتقي مع عبدالناصر لقاء الثوار بالثوار والأحرار بالأحرار).(1/123)
وفي أيار عام 1966 ، خطب الشقيري أمام المجلس الوطني الثالث في غزة لمدة ساعتين والجماهير تستمع إليه في الساحات المجاورة ، وتحدث عن انشاء جيش التحرير الفلسطيني في سوريا والعراق وقطاع غزة وعن إنشاء دوائر المنظمة ومكاتبه ، وكذلك مركز الأبحاث وأشار إلى انتظام عمل الصندوق القومي والبدء بالتنظيم الشعبي.
كما تحدث عن رحلته إلى الصين واتفاقه مع شو إن لاي على تزويد المنظمة بالسلاح وتدريب الشباب الفلسطيني على حرب التحرير وافتتاح مكتب للمنظمة في بكين.
وبعد الجلسة ذهبت مع أعضاء المجلس الوطني إلى معسكر خارج غزة حيث شاهدنا مناورة بالذخيرة الحية لجيش التحرير.
وفي الجلسة الثانية للمجلس رأيت أبا مازن يدعو إلى إجراء انتخابات لاختيار أعضاء المجلس الوطني... (وبالمناسبة فقد صدرت إلينا التعليمات فيما بعد كمدراء مكاتب بعمل الترتيبات اللازمة لاجراء الانتخابات وقمنا بذلك في الكويت ولكن حلت النكسة وتوقف كل شيء).
وبعد استقالته من المنظمة في 24/12/1967 استمرينا في تبادل الزيارات ، وأكثر رحمه الله من زيارة الكويت حيث كان يحب اللقاء بإخوانه المحببين، لتبادل الرأي معهم وتبصيرهم، وكتب في صحف الكويت كما عقد مؤتمراً صحفياً مبيناً مخاطر توقيع اتفاقية كامب ديفيد.(1/124)
وقد كلَّفني في عام 1978 بالإشراف على طباعة كتابين له في الكويت ، هما كتاب (علم واحد وعشرون نجمة) وكتاب (الطريق إلى مؤتمر جنيف) ومن خلال قيامي بهذه المهمة وكذلك من قراءتي لكتبه الأخرى ازددت اعجاباً بالشقيري المفكر والكاتب ورأيت فيه باحثاً رصيناً وأديباً مبدعاً ومحاميا ضليعاً.
هذا وضم الكتاب الأول تلخيصاً لكل محاولات الوحدة التي جرت ودعوة إلى إقامة الدولة العربية المتحدة في نظام فيدرالي يشمل الوطن العربي كله ، وبين الكتاب حتمية الوحدة وضرورتها للجميع وفنّد مزاعم كل من يعارضها.
كما كان في الكتاب الثاني رد مفحم على كل المبررات التي يسوقها دعاة الصلح مع العدو ، حيث كان الشقيري يرفض ذلك ويقول (إن الوطن ليس موضع مساومة) كيف لا وهو صاحب لاءات الخرطوم الثلاث.
وكان الشقيري يكتب لي في المناسبات المختلفة.. كتب لي في نيسان 1971 بعد قيام اتحاد الجمهوريات العربية المتحدة يقول :
( أنا وإياك من الجيل الذي عاش وناضل من أجل الوحدة وإني أدعو الله أن ينقضي الفاتح من أيلول والوحدة قد نجت من المحاولات التي تحيط بها وأن تتجسد الفكرة على صورة جدية قادرة على مواجهة الأحداث).
وكتب لي عدة رسائل أثناء مرضه الأخير في تونس. منها رسالته الأخيرة التي كتبها في 7/10/1979 وقال فيها :-(1/125)
(بقي أن أرجوك أنت وإخواننا في النضال أن تنصبوا أنفسكم حراساً على القضية الفلسطينية وأن تداوموا على نصح إخواننا الذين ألقت المقادير بين أيديهم قيادة القضية الفلسطينية ألا يفرطوا بأي شبر من وطننا المقدس ،ولا ذرة من تراب وطننا الغالي ، فإن تجربة السادات الخائن أثبتت أن كل تفريط واستسلام يقابله العدو بالمزيد من الأطماع والتوسع والعدوان ، وهذه هي وصيتي لشعبنا البطل ، أرجو أن تحفظها بين أوراقك وأسال الله لقادتنا الهدى ولشعبنا النصر المبين).(1/126)
أحمد الشقيري فكراً وعقيدة (1)
د. محمد علي الفرا
كان أحمد الشقيري متعدد المواهب والقدرات ، فهو السياسي اللامع والمحامي البارع ، والأديب البارز ، فأنت حينما تقرأ له أو تستمع إلى خطبه يشدك إليه بأسلوبه الأدبي الرفيع فتخاله أديباً مطبوعاً تنصاع له الكلمة ، فهو كمن يغرف من بحر وغيره ينحت في الصخر، تقرأ كتبه فيجذبك أسلوبه المتميّز ووصفه الشيّق وبخاصة حينما يكتب عن عكا مدينته أو فلسطين موطنه ومهبط وحيه ، فتراه يتغزل في أرضها وبحرها وسمائها وجوها ، ويتفنّن في وصف سهولها وتلالها وجبالها ووديانها ، وكأنه يرسم صورة حية نابضة بالمشاعر والأحاسيس المليئة بحب الوطن ، ويجعلك تعيش واقعاً حقيقياً تلمسه بحسك وتدركه بوجدانك وتتذوقه بعقلك. تأمل وصفه الرائع الجميل للطريق من عكا إلى القدس: (ولقد أخُذِتُ بهذا الجمال وأنا أسلك ذلك الطريق لأول مرة في حياتي. وما سلكته مرة إلا رأيت صفحة جديدة من الجمال الرائع الفتّان. ولقد قُدِّر لي في أسفاري أن أشهد مواطن بارعة ومفاتن رائعة في هذه الدنيا ، ولكني كنت على الدوام أرى أن هذا الطريق من عكا
__________
(1) * ندوة مؤسسة شومان، عمان، 26/2/1996.(1/127)
إلى بيت المقدس وما حوله من المدن والقرى والهضاب والوديان والمروج والسهول والزروع ، أروع جمالا وأرفع حسناً).
ولا تشك في أن أسلوب الوصف الممتع هو أجمل ما يتميز به الشقيري حينما يكتب عن فلسطين أرضاً وحضارة وشعبا. وعلى الرغم من هذا كله فإن شهرة الشقيري السياسية تطغى على شهرته الأدبية ، ولكنه في كتاباته السياسية يمزج الأدب بالسياسة والسياسة بالأدب ، مما يجعلنا أمام كتابات ذات طابع خاص ولون جديد يحق لنا أن نطلق عليه أدب السياسية أو سياسة الأدب.
وإذا كان الأسلوب الأدبي للشقيري يطغى عليه الوصف فإن كتاباته السياسية تميل إلى منهج التحليل والتركيب ، فهو يحلل الكل إلى جزئياته ليتمكن من فحصه وكشف الروابط التي تربطه بغيره ثم يعيد تركيبه حتى تتضح الصورة بكل أبعادها مما يسهل على القارئ فهم الحقيقة واستيعابها وهذا ما يطلق عليه علماء المنطق (منهج الاستقراء) والذي يبدأ بالجزئيات وينتهي بالكليات. ويبدو لنا أن هذا المنهج الاستقرائي الذي سار عليه الشقيري ينسجم مع طبيعة تخصصه كحقوقي يعالج قضاياه بجمع الأدلة التي يصوغ بها فرضياته ويفحصها ليبني عليها نظرية تمكنه من تفسير الواقع واستشراف آفاق المستقبل.
وانسجاماً مع هذا المنهج العلمي الرصين فإن الفكر السياسي الشقيري كان يدور على محورين متكاملين ومتداخلين أولهما : المحور الوطني, وثانيهما: المحور القومي ويركز المحور الأول على النقاط الرئيسية التالية:
1-(1/128)
تحرير فلسطين واسترجاعها بالكامل.
2- استقلال فلسطين استقلالا غير منقوص.
3- وهذا الاستقلال لا يكتمل ولا يصبح له معنى إلا بإرجاعها إلى أصلها العربي.
وهذه النقاط تشكل معادلة صعبة ومعقدة تعترضها الكثير من المشكلات والعقبات ، منها كثرة الدول وتعددها في الوطن العربي ، فلكل دولة فلسفتها وبرامجها وطروحاتها وآراؤها حول القضية الفلسطينية مما يجعل من الصعب ـياغة موقف عربي موحد تلتزم به جميع الدول العربية ، ومنها تشتت الشعب الفلسطيني وتوزعه على مختلف الساحات العربية والأجنبية مما أدى إلى تصدع بنائه الاجتماعي ، وتعدد مذاهبه ومعتقداته واتجاهاته ومصالحه.
وعلى الرغم من هذا التعقيد فإن الشقيري يرى بأن العروبة متأصلة في فلسطين ، وأنها جزء لا يتجزأ من الوطن العربي أرضا وشعباً وحضارة وقضية ، وهي جزء من النضال العربي كما أن كيانها القطري جزء من الكل العربي الواحد. ولكن هذا لا يُعفي الفلسطينيين من المسئولية الأولى نحو وطنهم ، فهم قبل غيرهم يجب أن يتحملوا مسؤولية النضال والكفاح من أجل التحرير وأن الشعب الفلسطيني يجب أن يكون طليعة الطليعة وأن عليه أن يناضل بكل السبل المتاحة والممكنة عسكرياً وسياسياً ودبلوماسياً وفكرياً. وحتى يتمكن من تحقيق هذا كله أنشأ الشقيري الجيش الفلسطيني ليكون في مقدمة الجيوش العربية لتحرير فلسطين، وأنشأ مركز الأبحاث الفلسطيني لإيمانه بأهمية البحث العلمي في النضال والتحرير، فالجانب(1/129)
العلمي والبحثي في المعركة له أهميته وخطره وقيمته ، ذلك أن نضالنا وكفاحنا هو في بعض جوانبه نضال حضاري وعلمي. كما أنشأ الصندوق القومي الفلسطيني ليقوم بمهمة تمويل جميع متطلبات التحرير ، وأنشأ الإدارة السياسية وما يتبعها من مكاتب في مختلف بلاد العالم ، وألحق بها دوائر للإعلام مدركاً دور الإعلام في الوقت الحاضر في عملية التحرير.
وكان الشقيري يحذر من دخول الفلسطينيين وقضيتهم في الصراعات والخلافات العربية وحاول جهده أن يبعد المنظمة عن سياسة المحاور والاستقطاب مؤمنا بأن فلسطين يجب أن تكون المركز الذي يستقطب الفلسطينيين ويوحد الأمة العربية ، وكان يؤمن بضرورة توحيد كل الطاقات العربية من أجل الهدف الأسمى وهو تحرير فلسطين.
وإذا كان البعد الوطني بارزاً في الفكر الشقيري ويتجلى في بعض كتاباته وبخاصة مذكراته الشخصية التي نشرها في كتابه (أربعون عاماً في الحياة العربية والدولية) فإن البعد القومي كان بمثابة المنطلق الأساسي له ويتجلى في جميع رسائله وخطبه وكتبه وخاصة (معارك العرب) بيروت 1975 و(علم واحد وعشرون نجمة) بغداد 1978و(الجامعة العربية كيف تكون جامعة وكيف تصبح عربية؟) تونس 1979.
إن حب الشقيري لوطنه لم يكن حباً فطرياً ضيّقا وحبيساً ضمن حدود سياسية ضيقة رسمها الاستعمار لبلده ، لقد كان حبه أكبر من ذلك بكثير وأسمى من هذا ، فقد كان ذا فكر قومي وحدوي يؤمن بالعروبة وبأن القضية(1/130)
الفلسطينية هي قضية العروبة جمعاء ، تاريخيا وثقافة ومصيراً ، وأيقن بأن تحرير الوطن المغتصب مرتهن بعمل عربي تاريخي عظيم قوامه الوحدة ، فالوحدة هي الحمى والموئل ومنها المدد والخلاص.
وقد استطاع الشقيري أن يرسخ هذه المفاهيم الوطنية والقومية في الميثاق الوطني الفلسطيني والذي يعتبر من أهم الانجازات التي حققها مع زملائه المخلصين من أبناء فلسطين ، ولكنك حينما تقرأ الميثاق تجد في كل كلمة من كلماته وفي كل فقرة من فقراته ، وفي كل بند من بنوده ، روح الشقيري وقد حلت فيه ، وأفكاره وقد امتزجت به ، فمادته الأولى تقول: (فلسطين وطن عربي تجمعه روابط القومية بسائر الأقطار العربية التي تؤلف معها الوطن العربي الكبير) وجاء في المادة الحادية عشرة ما نصه: (الشعب الفلسطيني يؤمن بالوحدة العربية ، ولكي يؤدي دوره في تحقيقها ، يجب عليه في هذه المرحلة من كفاحه أن يحافظ على شخصيته الفلسطينية ومقوماتها ، وأن ينمي الوعي بوجودها ، وأن يناهض أياً من المشروعات التي من شأنها إذابتها أو إضعافها.
وتقول المادة الثانية عشرة: (الوحدة العربية وتحرير فلسطين هدفان متكاملان يهيىء الواحد منهما تحقيق الآخر، فالوحدة العربية تؤدي إلى تحرير فلسطين ، وتحرير فلسطين يؤدي إلى الوحدة العربية ، والعمل لهما يسير جنباً إلى جنب).
وفي اعتقادنا أن فكر الشقيري يظهر واضحا بل ويتجسم بشكل فاعل في المؤسسات التي أنشأها والتي من أبرزها مركز الأبحاث, والدائرة(1/131)
السياسية ودائرة الإعلام والميثاق الوطني الفلسطيني ، وهذه جميعها كانت بمثابة البنية التحتية لمنظمة التحرير الفلسطينية. فتخليدا لذكرى الزعيم الفلسطيني الخالد والعربي الرائد ، علينا أن نحافظ على هذه المؤسسات ونصونها من الضياع والتدهور وأن نتمسك بميثاقنا الوطني ونسير على الدرب الذي رسمه قادة الكفاح الفلسطيني منذ مطلع هذا القرن ، ورسخ مفاهيمه ودعم أركانه وأسَّسه أحمد الشقيري الذي نحتفي اليوم بذكراه السادسة عشرة.
بسم الله الرحمن الرحيم
(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلاً ) صدق لله العظيم(1/132)
في ذكرى أحمد الشقيري (1)
د. أنيس صايغ
شيء ما يجرّ قلمي إلى الكتابة عن المرحوم أحمد الشقيري في مثل هذا الأسبوع من كل عام ـ أي في ذكرى رحيله ـ بعض "الشْيء ما" هذا وفاء لرجل كبير أعطى بلده عطاء كبيراً، وبعضه إنصاف لسياسي ظلمه معظم سياسيّي بلده (وغير بلده) وإعلامييه، وبعضه واجب وخدمة لتاريخنا المعاصر. وبعضه، أخيراً وليس آخراً ، حب واحترام وتقدير دون أن يعني ذلك تملقا وموالاة ومجاملة، فقد أصبح الرجل في ذمة التاريخ ، ولم يعد يحق لنا إلا قول الحقيقة بحد أدنى من المشاعر والأهواء.
جسدّت (الشقيرية) وخاصة في الخمسين شهرا التي تولى خلالها مسؤولية النضال الفلسطيني (63 - 67) إيمانها (بالوحدة الوطنية) الفلسطينية في محاولة إشراك ممثلي كل الفلسطينين في إنشاء منظمة التحرير ثم في تغذيتها بالطاقات والكفاءات ، من يسار ويمين وعلمانيين ونقديين ومحافظين وتقليديين ، من الشباب المتوثب والثائر إلى شيوخ السياسة التقليدية ، وإذا
__________
(1) * السفير، بيروت، 23/2/1996.(1/133)
كانت المحاولة لم تنجح فإن الشقيري لم يكن المسؤول الوحيد عن فشلها ، فقد جابه هيئات رفضت ، من الإساس ، التعاون معه لأنها اعتبرته قد (سحب السجادة) من تحت أقدام زعاماتها التاريخية التي كانت ستقف ضد أي قيادة جديدة خارج دائرة سطوتها ، وجابه جماعات عقائدية حاولت جعل المنظمة ستاراً للتغلغل والسيطرة وضرب بعضها بعضاً. ثم واجه فصائل تتناحر في إطار المنظمة وتطعن بها بمثل ما يطعن بعضها بعضاً. وكان الشقيري ، في الواقع ، يحرص على إبقاء المنظمة لجميع القوى ، وهو ما زال بالفعل ، بعد سنتين فقط من تخلّيه عن منصبه في المنظمة. ومنذ ربع قرن والمنظمة ، بعد الشقيري ، أسيرة فصيل واحد.
وترسيخاً لفكرة الوحدة الوطنية تميز عهد الشقيري بميزتين لافتتين للنظر: منع الاغتيال والإرهاب (الرسمي) وهو ما لطخ سيرة النضال الوطني من قبله ، ومنع فتح الدكاكين الإعلامية والمخابراتية والمالية والارتزاق من هذه الدكاكين ، وهو ما لطخ ويلطخ المسيرة النضالية من بعده. ففلسطين الواحة المتوحدة ، هي لجميع أبنائها ، هذا هو جوهر (الفلسطينية).
لم تتحول هذه (الفلسطينية) عند الشقيري في يوم من الأيام إلى تعصب انزواء قطري. وظلت محصورة في إطارها الصحي السليم. وحدة القطر من أجل حمايته من الداخل والحؤول دون استمرار ضياعه وخسارة أرضه وتهجير شعبه وضرب أهدافه. وكانت(الفلسطينية) وخاصة من بعد قيام (الكيان) الفلسطيني 1964 ، هوية للنضال العربي ، وخندقاً متقدماً للصراع ضد العدو الذي يتهدد الفلسطينيين وسائر العرب بالتساوي وإنْ على مراحل زمانية والذي يشكل خطراً على امتداد الوجود(1/134)
العربي (أرضاً وأمة وحضارة ومصالح وكرامات) من محيطه إلى خليجه ولا ينحصر بين بحر ونهر.
من هنا نجد المحور الثاني للشقيرية ، العروبة ، التزاماً قوميا أصيلاً لم يخرج الشقيري عن مساره طيلة الأربعين عاماً من نضاله السياسي ، والأمثلة العملية والتاريخية على صحة هذا الزعم أكثر من أن تحصى في هذه العجالة.
يسعى في شبابه(في الأربعينات) إلى إنشاء حزب قومي عربي، مرتبط أو متفرع عن الحركة القومية العربية التي نشطت في الأنحاء الأخرى من الهلال الخصيب (لبنان وسوريا والعراق ، وإلى حد أقل شرق الأردن) وعملت في قنوات متعددة بعضها سرّي (أحزاب نضالية وخلايا سياسية منظمة) وبعضها علني (نواد ومراكز وجمعيات ثقافية وطالبية وكشافة)، تجمع بينها خيوط سرية محبوكة جيداً، دستورها واحد (الكتاب الأحمر) ودماغها واحد (الدكتور قسطنطين زريق) عبر عدد من أوائل المريدين والدعاة.
ويتحمس لمشروع إنشاء جامعة للدول العربية ، وهو بعد في مراحله الأولى التي كانت تسمى (لخداع الناس) مشاورات الوحدة العربية ويشارك في وضع جانب من الميثاق (1944-1945) إلى جانب ممثل فلسطين (موسى العلمي) ويلتحق بالجامعة 1952 أمينا عاماً مساعداً (والحقيقة أنه كان أنشط الأمناء العامين المساعدين واعتبره الكثيرون من المراقبين الأمين العام الفعلي من وراء الستار) ولم يتخل عن منصبه إلا ليلتحق بوزارتين للخارجية(1/135)
في قطرين عربيين : سوريا والسعودية ، لمدة طويلة امتدت حتى العام 1963 ، فمثل البلدين واحداً بعد الآخر ، في الجمعية العمومية للأمم المتحدة وفي عشرات المؤتمرات والاجتماعات الدولية السياسية والفنية. ولا أظن فلسطينيا واحداُ شارك في مؤتمرات واجتماعات عربية ودولية مدة ثلاثين سنة (1937 حتى تخليه عن العمل السياسي عام1967) بمثل ما فعل الشقيري ، ممثلا لفلسطين أو لسوريا أو للسعودية أو للجامعة العربية: من بلودان 1937 إلى (المائدة المستديرة) في لندن 39 ، إلى قمة أنشاص 46 ، إلى لجان التوفيق في لوزان 48 ، إلى عدم الانحياز في باندونغ 55 ، إلى دورات متتالية في الأمم المتحدة 1946 ـ 1963.
صحيح أن مهمته واهتمامه الأساسيْينِ كانا في هذه الاجتماعات المسألة الفلسطينية، لكن انتماءه العربي جعله يشارك في المساعي الدبلوماسية والدولية ,خاصة في إطار الأمم المتحدة ، من أجل تحرير واستقلال الأراضي العربية الأفريقية كلها (في وادي النيل والمغرب العربي): مصر والسودان وليبيا وتونس والجزائر ومراكش (المغرب فيما بعد) ولا أحسب تاريخ استقلال أي من هذه الاقطار يكتب بموضوعية ولا يتطرق إلى جهود الشقيري ومساعيه ,في خطب ومذكرات واتصالات رسمية وخاصة وأحاديث صحافية.
أي أنه ، وفي عشرين سنة التي سبقت إنشاء منظمة التحرير الفسطينية 1964 ، عمل مع العرب ولدى العرب ، من أجل العرب ، ولم يحصرعمله ضمن النطاق الفلسطيني قط ، وقد توّج إيمانه القومي العربي هذا بدراسته القانونية الشهيرة في إنشاء الدولة الاتحادية العربية قبيل تقاعده(1/136)
بوقت قصير، ولعل أفضل برهان علىنقاء إيمانه القومي الذي ينفي ارتباطه بنظام عربي معين أو (عمالته) لحاكم عربي أنه كان يدفع باستمرار ثمن هذا الولاء القومي المتعارض مع النظر الضيق لهذا النظام أو ذاك. فطََرده قُطْر من سلكه الدبلوماسي لانه رفض أن ينحاز مع نظام عربي ضد آخر، ومنَعَه قطر من دخول أراضيه بسب ارتباطاته القومية مع قطر ثاني، ومن دواعي السخرية أن القطرالثاني هو الذي عمل على إقصائه عن رئاسة منظمة التحرير بعد سنتين. ومنع قطران عربيان آخران الشقيري من حرية الاتصال بالجماهير والأوساط الفلسطينية بتهمة التحريض ضد نظامي القطرين اللذين كانا على طرفي نقيض سياسياً.
يمكننا تلخيص المفهوم الشقيري للعلاقات الفلسطينية العربية ، أي للتداخل الوطني القومي ، بأنه استخدام الطاقة القومية للمصالح الوطنية ، جند العرب لخدمة القضية الفلسطينية، أولنقل أنه حاول ذلك . وفي الوقت نفسه وبالحجم ذاته وضع الشأن الفلسطيني في إطاره العربي الصحيح، وجند النضال الوطني ضد الصهيونية والاستعمار في سبيل حماية الوطن العربي كله من هذين الشرين اللذين هما في آخر الأمر أعتى خطرين جابههما العرب في القرن العشرين.
المحور الرئيسي الثالث في السياسة الشقيرية هو فن استعمال وسائل مختلفة، تتناسب والظروف والإمكانات العملية والقدرات، لتحقيق الهدف الواحد الذي هو صيانة عروبة فلسطين وحمايتها من المخططات والمؤامرات الصهيونية والدولية (قبل 1948) ثم استرجاع الحقوق بعودة الأرض إلى أصحابها وعودة الشعب إلى موطنه (بعد نكبة 1948) أي أن الاهداف ثابتة ،(1/137)
المتحول هو اختيار السبل لتحقيق هذه الأهداف ، دون أن يتنكر سبيل لهدف من هذه الأهداف / الثوابت، من جهة، ودون أن تتجمد الوسائل مع ثبات الاهداف فتخسر حركتها ومرونتها وقدرتها على إيصال الحق إلى أصحابه.
الوسائل التي اعتمدها أحمد الشقيري مجموعة حلقات تكمّل بعضها بعضاً وتتواصل وتلتقي، أبرز هذه الحلقات وأفعلها وسيلتا العلم والإعلام ، وعلى ما يبدو من تناقض بينهما (إذ اعتاد التقليد العربي أن ينظر إلى الاعلام كفن عاطفي يصل أحياناً إلى حد الغوغائية التي تفتقد إلى الأصول الموضوعية) فإنهما انطلقا عند الشقيري من أرضية واحدة يسعيان نحو هدف واحد هو عرض قضيتنا (حقوقاً وتاريخاً وشرعية ومواثيق) عرضا علمياً يقوم على الوقائع والاصول الموثوقة ويخاطب العقل، وإنما من خلال إعلام قوي ومتناسب مع رصانة الرسالة التي يعهد إليه ببثها.
أتقن الشقيري فن إعداد المذكرات الموضوعية. وجمع في صناعتها الهواية والاحتراف في آن. ولا أظن أن هناك سياسياً عربياً واحداً وصل إلى الرتبة التي وصلها الشقيري في إتقان هذه الصنعة واعتمادها سلاحاً قويا في الدفاع عن قضيته. وخاصة على الصعيد الخارجي والدولي.
أطلعني مرة على نصوص مجموعة ضخمة من المذكرات (الفلسطينية) التي أعدها وقدمها، بناءً على تكليف من هذه الجهة أو تلك ، لتقدم إلى هذه اللجنة أو الجمعية أو الحكومة أو ذاك المؤتمر أو الاجتماع. من المؤتمر الفلسطيني العربي 1928 إلى مؤتمر الشبان المسلمين في مصر(1928 أيضاً) إلى لجنة شو 1929 إلى مؤتمرات الشباب (في(1/138)
الثلاثينيات) إلى مؤتمر لندن 1939 إلى 1946 حينما أشرف على، وشارك في إعداد، واحدة من أرقى المذكرات التي عرضت ظلامة المسألة الفلسطينية في هذا القرن أعني بها المذكرة التي قدمها المكتب العربي في القدس للجنة التحقيق الأنجلو ـ أمريكية 1946. ولا أبالغ إذا قلت أني لم أطلع على مذكرة تضاهيها بهذه الموضوعية والرصانة والحجة القانونية والمنطق.
وتكاد لا تخلو ملفات مؤتمر هام ، يتعاطى الشأن الفلسطيني ، من ورقة وضعها الشقيري ، بتوقيعه أو بدون توقيعه.
ومن بينها اجتماعات الجامعة والأمم المتحدة (ومنظماتها المتخصصة) ، ومؤتمرات عدم الانحياز والمؤتمرات الإسلامية ولجان التحقيق الدولية ، وغيرها. ولم يكن المرء بحاجة أحياناً لمن يعرفه بهوية كاتب مذكرة ما قدمت وحفظت دون أن تحمل توقيعاً. فمتانة أسلوبه وقوة حجته ، وتسلسل أفكاره وعمق تحليله كانت تشير إلى أن الشقيري ، دون غيره هو صاحب هذه المذكرة.
مظهر ثانٍ لالتزام الشقيري بالأصول الموضوعية في معالجة قضية بلده تلمسه في الكتب التي ألف ، وغالبيتها نشر بعد اعتزاله ، أي في سنوات العقد السبعين. وإلى جانب ذكرياته السياسية ، نجد في هذه المؤلفات تسجيلاً رائعاً لأحداث المسألة الفلسطينية (ومن ضمنه تحليل ودرس هادئان) التي جرت في الأربعين سنة تقريباً ، من أواخر العشرينيات حتى أواخر الستينيات. يضاف إليها غوصه في التاريخ القديم ، أو في القوانين الدولية ، أو في المياه الإقليمية ، أو غيرها من الموضوعات التي قلما استطاع سياسي(1/139)
عربي معاصر أن تجرأ على الخوض بها بثقة عالم التاريخ أو القانون.
أما قصة مباركته ودعمه لمشروعي مركز الأبحاث والموسوعة الفلسطينية ، ولعلهما أبرز مساهمتين علميتين للعمل الفلسطيني في الثلث الأخير من القرن ، فقصة طويلة ليس هنا مكان سردها. حسبنا أن نشير إلى أن المشروعين الثقافيين البارزين ما كانا ليريا النور ولينطلقا بقوة وثبات ، لولا رعايته وحمايته ومساندته. وقد عاش المشروعان في السنوات التي عاشاها ، قبل وأدهما بتعمد وإصرار ، بما تبقى لديهما من زاد (معنوي في غالبه) كانا قد اختزناه منذ أيام الشقيري.
لم يخف الشقيري من قول كلمة الحق ، لأنه آمن بها ، أولا ، ولأنه عرف كيف يقولها بمنطق وموضوعية ، ثانيا ، ولأن جرأته أتاحت له التعبير عن إيمانه بعناد وصراحة وعلنية مطلقة. من هنا فنحن لا نتذكر الشقيري إلا ونتذكرمؤلفاته ومذكراته ومشروعيه الثقافيين (مركز الأبحاث والموسوعة).
لكن هذا التركيز على العلم في إبراز الحقيقة وإعلانها لم يمنع الشقيري من الاهتمام بأمر الإعلام ، مدركاً ضرورته وأهميته في دعم وجهة النظر الفلسطينية العربية ونشرها وإقناع الرأي العام العالمي بها ـ وأقول الرأي العام العالمي وليس الفلسطيني أوالعربي. لأنه حصر اهتمامه الإعلامي بالنطاق الخارجي الشعبي والرسمي والدولي ، دون اهتمام كبير بالنطاق الداخلي المحلي الذي شعر أن الذي ينقصه هو وعي ثقافي وإدراك علمي لأصول القضية وليس حماس عاطفي وإيمان عفوي موروث بعدالة القضية.
ومع أن قصة الشقيري مع الإعلام تبدأ قبل نهاية العشرينات ، حينما(1/140)
تولى تحرير جريدة (مرآة الشرق). بدأ إسهامه الجاد في مجال الإعلام الفلسطيني العربي أواسط الإربعينيات ، حينما كان من مؤسسي ، ثم ركنا أساسيا ومشرفا رئيسياً ، على (المكاتب العربية) التي انشأتها جامعة الدول العربية بعد وقت قصير من قيامها (1945) وتفرغ لها كادر ثقافي ضخم ورفيع المستوى قوامه أكثر من عشرة من الخبراء والعلماء والمحللين والدارسين والأساتذة الفلسطينيين والعرب. في القدس ولندن وواشنطن. أما دورالشقيري في هذا المشروع فكان متعدداً: المساهمة بإقناع الجامعة وبعض دولها بالإنشاء ثم التمويل ، وإنشاء مكتب واشنطن وإدارته 45 ـ 46 ، ثم إدارة مكتب القدس الرئيسي والإشراف على المشروع كله الذي ترأسه المرحوم موسى العلمي وعرف باسمه.
بعد حوالي عشرين عاما ، جدد الشقيري اهتمامه الإعلامي من خلال منظمة التحرير التي أعلن قيامها ، برئاسته 1964 ، فأولى الإعلام عناية خاصة ، وفرغ له دائرة رئيسية وانتدب لها ثلاثة من أفضل الإعلاميين الفلسطينيين: نقولا الدر, وفايز صايغ ,وراجي صهيون.
أبرز ما تميز به الإعلام في عهد الشقيري القصير نسبياً هو الانفتاح على الآخرين " على الغير " أي على من هم ليسوا من شعبنا ولا في صفنا، وهو منطلق لابد منه لإقامة إعلام ناجح وفاعل.
لا أنسى حادثة تبدو اليوم عادية ومحتومة ولكنها كانت في ذلك الوقت (1966) مفصلية: نقل الكاتب المصري الدكتور علي السمان الينا رغبة الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر إصدار ملف ضخم من مجلته(1/141)
(الازمنة الحديثة) عن المسألة الفلسطينية بحيث يعطي المجال مناصفة بين العرب واليهود لتقديم وجهات نظرهم بشكل بحوث ودراسات. ولما حوَّلت الاقتراح إلى قيادة المنظمة وقف الشقيري وحده ، أو وحده تقريباً ، يدعو إلى قبول التحدي والمشاركة ، بينما اتخذت غالبية المسؤولين المعنيين موقفاً سلبياً. وأسند الشقيري موقفه بالقول: (لماذا نؤسس إعلاماً إذا كنا نخاف من اعتلاء منبر رفيع الشأن بحجة أن عدونا قد اعتلاه قبلنا أو سيعتليه بعدنا).
من المؤسف أن يقع قائد يدرك قيمة الإعلام ويجله وينفتح "على الغير" من خلاله ضحية الإعلام نفسه ، فينهزم سلاح الإعلام الصادق الذي رفعه الشقيري في وجه العدو أمام سلاح الإعلام الكاذب والخادع والمزوّر الذي رفعه العدو في وجوهنا ، ومن المؤسف أن يقع الشقيري أكبر ضحية لذلك الإعلام المعادي ، لا من حيث تزوير الحقيقة واختلاق الكلام وتحريفه وتفسيره بشكل مغاير ومن ثم نشره على أوسع نطاق في العالم كله (بما فيه الوطن العربي الذي ينبهر بالإعلام الأجنبي وتنطلي عليه حيله) فحسب ، بل أيضاً بالتصاق اتهامات الدسّ الإعلامي المعادي باسم الشقيري إلى آخر يوم من حياته ، وربما إلى ما بعد وفاته. أعني بذلك حادثة ما نسب إليه من دعوة إلى (رمي اليهود في البحر) في المؤتمر الصحافي الذي عقده في القاهرة قبل أيام قليلة من حرب حزيران 1967 ، فمع كل الوثائق والشهادات المحايدة والرصينة والمجردة التي تثبت أن الشقيري لم يقل الكلام المنسوب إليه ، وأن كلامه حُرَّف وُبّدل ليفسر بالشكل الذي أراده الإعداء ، ومع وجود صحافيين كثيرين ، عرب وأجانب ، أكدوا أن الرواية التي أذيعت تقوم على الافتراء والتزوير والتحريف ، ظلت صورة الشقيري ، في وسائل الإعلام الأجنبية (وفي بعض وسائل الإعلام العربية ، التي نقلت الرواية وكررتها عن غباء أو(1/142)
عن سوء نية) هتلرا جديداً ، بطّاشا دمويا عنصريا يريد ذبح اليهود وإفناءهم كما حصل في معسكرات الإعتقال والإبادة النازية في النصف الأول من الأربعينات.
الإعلام سلاح ذو حدين ، كما نعرف ، ومن سوء حظ أحمد الشقيري أنه تخلى عن منصبه بعد أشهر قليلة من نشر تلك الرواية المختلقة على أوسع نطاق ، فلم يُتح له أن يرد عليها ، وتجاهلت المنابر ووسائل الإعلام (صحف وإذاعات وتلفزيونات ووكالات الانباء) ما صدر عنه ، وعن القليلين من الإعلاميين المنصفين , من تصحيح وتصويب وكشف للحقيقة وتفنيد للمزاعم.
وكما عانى أحمد الشقيري ، في طفولته ، من بعض الإجحاف والظلم (العائلي الخاص) ، اعتزل القيادة أواخر 1967 ثم غادر الدنيا أوائل 1980 وهو يعاني من إجحاف بعض أبناء شعبه وظلمهم ، ممن اقتصرت سيرته العملية على النضال من أجلهم.
عرف العالم الشقيري ، أكثر ما عرفه ، بلاءاته الثلاث التي أعلنها في الخرطوم 1967. لا للصلح ولا للتفاوض ولا للاعتراف. وسخر الكثيرون منها ، ومنه ، بسببها. وبعد أقل من ربع قرن كانت القيادة الفلسطينية تخرق هذا الميثاق الصريح ، فتفاوض وتعترف وتصالح ، وبمعنى أصح تتنازل وتستسلم. لكن الشقيري سيظل حياً ، عند الذين تبقى فلسطين حية في قلوبهم وإيمانهم.(1/143)
كيف تأسست منظمة التحرير الفلسطينية
لولا الشقيري لما قامت للفلسطينيين قائمة (1)
عرفات حجازي
النهوض الفلسطيني
حتى عام 1963 لم يكن هناك شيء يشير إلى وجود الشخصية الفلسطينية والهوية الفلسطينية ، لأن معظم الشعب الفلسطيني أصبح إما أردنيا على الأراضي الأردنية أو انه بدأ بالذوبان في المخيمات السورية واللبنانية والمصرية. وقد ساعد على اختفاء الهوية الفلسطينية استسلام حكومة عموم فلسطين التي تألفت عام 1948 في قطاع غزة وقامت حكومة النقراشي باشا فيما بعد بإجبار أعضائها على التخلي عن مناصبهم وعن الأرض التي التصقوا بها ، فرحل الزعيم التاريخي الحاج أمين الحسيني فاختار منصورية المتن في جبل لبنان حتى انتقل إلى رحمة الله. كما انتقل المرحوم أحمد حلمي
__________
(1) * الأردن، عمان، 29/1/1996.(1/144)
باشا إلى القاهرة حيث تسلم منصب ممثل فلسطين في الجامعة العربية ،وهو منصب بروتوكولي إلى أن توفاه الله عام 1963 ، دون أن يتمكن من عمل أي شيء بالنسبة للقضية الفلسطينية أو الشعب الفلسطيني من خلال وجوده في الجامعة العربية.
كان أحمد الشقيري قد برز عندما قام بتأسيس المكتب العربي في واشنطن عام 1945 ، ثم انتقل إلى القدس وقام بتنظيم عملية إسماع الصوت الفلسطيني إلى المحافل العالمية عن طريق دعوة لجان تحقيق غربية تتحدث أمامها شخصيات فلسطينية عن الحقوق التاريخية والشرعية للشعب الفلسطيني في وطنه. كما برع في الدفاع عن المتهمين الفلسطينيين الذين كانت تعتقلهم حكومة الانتداب البريطاني بتهمة حيازة السلاح ونجاحه في تبرئة العديدين وإخراجهم من وراء القضبان.
ولم يترك فرصه إلا ولجأ اليها من أجل إعلان اسم فلسطين الذي أخذت الأيام تلفه في النسيان ، فعمل ممثلا لسوريا في الأمم المتحدة حتى عام 1957 ، وبعدها عمل وزيراً للدولة في المملكة العربية السعودية وممثلا لها في الأمم المتحدة ، وخلال وجوده في المنصبين كان يتحدث عن القضية الفلسطينية مئه مرة أكثر مما تحدث عن سوريا والسعودية ، كما عمل الشقيري مساعداً لأمين الجامعة العربية ( 1950- 1957) .
وعندما تسلم الشقيري منصبه الجديد ممثلا للشعب الفلسطيني في الجامعة العربية عام 1963 ، وجد أنه لا توجد أية مهمة أو عمل أو حتى جهاز داخل مكاتب الجامعة العربية، وكانت الأمة العربية تمر في ذلك العام(1/145)
بأسوأ مراحلها حيث أن القطيعة والتفرقة قد فرقت الجسد العربي خاصة بعد محاولات الوحدة وعمليات الانفصال، ولكن كان في الأمة العربية في ذلك الوقت شخصية قوية هي شخصية جمال عبد الناصر الذي أصبح أمل الملايين ولكنه محط مؤامرات الآخرين.
واستطاع أحمد الشقيري التقرب من عبد الناصر وإقناعه أنه قادر على جمع الصف العربي عن طريق إحياء القضية الفلسطينية ، وقدم له ملفا عن مشروع إسرائيلي بتحويل مجرى نهر الأردن وهو مشروع يهم الأردن وسوريا والعراق ، قبل أن يهم أي بلد عربي ، وكانت الخلافات العربية على أشدها بين الأردن وسوريا والعراق واقتنع المرحوم عبد الناصر أنه عن طريق إحياء القضية الفلسطينية فإنه يستطيع أيضا تأمين وحدة الصف للدول الشقيقة الأردن وسوريا والعراق فأعلن في احتفال عيد النصر الذي أقامه في مدينة بور سعيد المصرية يوم 23 كانون أول 1963 دعوته الدول العربية إلى عقد مؤتمر عاجل يطرحون فيه خلافاتهم جانبا ويواجهون مسؤولياتهم القومية نحو قضاياهم المصيرية.
ولم يصدق المراقبون العالميون السرعة التي استجاب فيها جميع ملوك وأمراء ورؤساء الدول العربية الذين كانوا يمرون بأسوأ مراحل خلافاتهم عندما عقدوا مؤتمر القمة العربي الأول الذي استمر من 13حتى 17 كانون الثاني 1964 في جامعة الدول العربية.(1/146)
وتحول مؤتمر القمة الأول في الاجتماعات الثنائية والثلاثية, التي كانت تعقد في أجنحة الملوك والرؤساء ,تحول في النهاية من مؤتمر للوفاق إلى مؤتمر يبحث في القضية الفلسطينية وفي كيفية إعادة إحيائها.
وحاول الشقيري أن يحصل من المؤتمر على قرار بإنشاء كيان فلسطيني، إلا أن الفكرة لم تكن مستوعبة بالنسبة للدول المضيفة للفلسطينيين، ولكن المؤتمر خرج بأهم قرارين وضعا القضية الفلسطينية مرة واحدة في مقدمة الاهتمامات والقضايا العربية، وكان القرار الأول هو إنشاء قيادة عربية موحدة لجيوش الدول العربية، وطبعاً كان مبرر إنشاء هذه القيادة هو لمواجهة إسرائيل وأطماعها، وهي خطوة لتحميل الدول العربية مسؤولياتها لإعادة (نبش) القضية الفلسطينية التي لم يكن لها وجود على مستوى الدول العربية.
اما القرار المهم الثاني فكان تفويض أحمد الشقيري بالاستمرار في إجراء اتصالاته بالدول العربية وبالشعب الفلسطيني بغية الوصول إلى إقامة القواعد السليمة لتنظيم الشعب الفلسطيني وتمكينه من القيام بدوره في تحرير وطنه وتقرير مصيره.
المجلس الوطني الفلسطيني
وانطلق الشقيري بعد هذا الإنجاز الذي حققه في الجامعة العربية ، انطلق إلى إخراج الحلم إلى حيز الوجود ، فأخذ يعقد الاجتماعات مع الشخصيات والفعاليات الفلسطينية إلى أن انتهى إلى وسيلته لاختيار مجلس وطني فلسطيني فاعل ، ليس على شاكلة المجالس السابقة التي كانت تعتمد على القوى العشائرية وعلى الأقارب والمحسوبين ، بل هذه المرة اعتمد(1/147)
الاستعانة بالدول العربية المعنية لاختيار ممثلين عن كل بلد عربي على أن يكونوا الصفوة والقدوة والخيرة والكفاءة.
وذات يوم ، بينما كنت في مكتبي بعمّان ، تلقيت اتصالاً هاتفيا من المرحوم بهجت التلهوني رئيس الديوان الملكي الذي طلب مني سرعة الحضور لمكتبه ، ولما دخلت عليه فوجئت بوجود المرحوم أحمد الشقيري الذي بادرني بالحديث أنه يقوم بالتعاون مع الحكومة الأردنية على اختيار حصة الفلسطينيين المقيمين في الأردن من أجل تعيينهم في المجلس الوطني الجديد ، ولكن مع مراعاة أن هؤلاء الأعضاء لابد أن تتوفر فيهم صفة التمثيل الحقيقي لشريحة من شرائح الشعب الفلسطيني.وقال إن الظروف لا تسمح بإجراء انتخابات حرة ونزيهة وبعيدة عن تدخل الدول المضيفة ، لهذا فإن أسلوب الاختيار سيعتمد صفة التمثيل غير المباشر ، أي بمحاولة اختيار الأعضاء من أعضاء مجالس النواب أو رؤساء البلديات والغرف التجارية والنقابات والجمعيات ، وهي مؤسسات لا يتسلم فيها المناصب إلا من جرى انتخابه ، وبهذا فإنه يكون ممثلاً حقيقياً للشريحة التي يعمل في وسطها.
وعندما عرض عليّ قبول عضوية المجلس الوطني الفلسطيني شعرت بالاعتزاز لأنني سأجد ميداناً آخر أواصل فيه إعلاء الصوت من أجل قيام الدولة الفلسطينية المستقلة.
وعندما انعقد المجلس الوطني الفلسطيني في شهر أيار من عام 1964 على جبل الزيتون المشرف على المسجد الأقصى وأسوار المدينة العريقة ، كان أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني الذين تجمعوا من مختلف(1/148)
مناطق الشتات العربية والعالمية ، يعتبرون الممثلين الحقيقيين للشعب الفلسطيني ، لأنهم جميعاً يتمتعون بمواقعهم الشعبية من خلال انتخابات حقيقية أوصلتهم إلى تلك المواقع ، ولم يكن بين هؤلاء الأعضاء قريب أو نسيب أو صديق للشقيري ، كما لم يكن له حزب اعتمد عليه في تشكيل الأغلبية حتى يضمن الموافقة على كل طروحاته.
وكان المجلس الوطني الفلسطيني بشهادة كل المراقبين والمهتمين يمثل الشعب الفلسطيني تمثيلاً وطنياً وسياسياً واجتماعياً لا يمكن لانتخابات حرة ونزيهة أن توفر فرص الفوز للممثلين الحقيقيين كما وفرّته القاعدة التي اعتمدها المرحوم الشقيري في اختيار الكفاءة والقدرة والإخلاص.
معركة القرار الفلسطيني
وبعد أقل من عام ، انعقد مؤتمر القمة الثاني في الخامس من أيلول 1964 في الإسكندرية ، وكان من أهم الأوراق المطروحة للنقاش هو الاعتراف بتأسيس "منظمة التحرير الفلسطينية" على أن تكون هي الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني ، وكذلك تأسيس جيش خاص بالفلسطينيين يعرف باسم "جيش التحرير الفلسطيني".
وكان واضحاً أن المؤتمر تحوّل إلى مشاريع فلسطينية قدمها أحمد الشقيري أوقدمتها جهات بالتنسيق مع الشقيري ، ولكن جميعها تصب في خانة إحياء القضية الفلسطينية وتبنيها وتوظيف كل امكانيات الأمة العربية من أجلها.(1/149)
ولكن موضوع إنشاء منظمة التحرير وتحويل صلاحيات الدول العربية برعاية الشعب الفلسطيني إليها كان واضحاً أنه سيكون مدار جدال وخلاف عربي ، لهذا فعندما افتتح الرئيس جمال عبد الناصر المؤتمر قال في خطابه (إن شعب فلسطين ـ أيها الأخوان ـ ينتظر منكم كل مجهود).
وحاولت عدة دول عربية أن تؤجل البت في قضية إنشاء منظمة التحرير,وجيش التحرير ، كما حاولت أكثر من دولة اقتراح إحالة الموضوع على لجان من مختلف الدول العربية لاستكمال دراسته ، إلا أن أحمد الشقيري الذي عرف في تلك الجلسة بأنه كان فارسها ، رفض كل المحاولات ، مستغلا قوة بيانه وفصاحته ووضوح منطقه وبلاغته ، إلى أن أخذ يهدد بأنه سينسحب من الجلسة ويتخلى عن منصب ممثل الشعب الفلسطيني في الجامعة العربية.
وعندما احتدّت الأجواء ، رفع الرئيس عبد الناصر الجلسة ،وقام بمشاورات جانبية مع الملوك والرؤساء ، ثم صدر قرار القمة التاريخي بالموافقة على إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية على أن تكون الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني وأن يجري إنشاء جيش تحرير فلسطيني في مصر والعراق وسوريا واستثناء الأردن على أساس أن الفلسطينيين يعملون بكثافة في القوات المسلحة الأردنية.
وقد اعتمدت الدول العربية موازنة بقيمة ستة ملايين جنيه استرليني ، خمسة ملايين منها لتأسيس جيش التحرير الفلسطيني ومليون لمنظمة التحرير.(1/150)
واليوم وبعد أن جرى انتخاب المجلس التشريعي الذي جرى وضع قانونه من قبل إسرائيل ، وجرت الموافقة على أسماء الناخبين وأسماء المرشحين على السواء من قبل إسرائيل ، هذا المجلس الذي جاء سابقة لحرمان بقية الشعب الفلسطيني من المشاركة في اختيار ممثليه ، مما وضع سابقة من أخطر ما يواجه الشعب الفلسطيني ، وهي بادرة التنازل عن حق العودة للاجئين الفلسطينيين ، واعتبار هؤلاء الذين جرى انتخابهم باشراف إسرائيل هم وحدهم الممثل الحقيقي للشعب الفلسطيني.
إننا ونحن نتطلع إلى المجلس التشريعي أن يتحمل أعضاؤه مسؤولياتهم ويرفضوا بإصرار تحميلهم صفة تمثيل الشعب الفلسطيني ، فإننا نطالبهم أن يحافظوا على المجلس الوطني الفلسطيني الذي لولا الشقيري لما كان موجوداً حتى الآن. ولولا وجود المجلس الوطني لبقي الشعب الفلسطيني في غياهب النسيان.(1/151)
أحمد الشقيري.. سجال مع تهم شائعة (1)
د. أنيس صايغ
أحمد الشقيري قائد ظُلم في حياته ولم يُنصف بعد غيابه ، استهدفته القوى المعادية بهجماتها وشائعاتها واتهاماتها الباطلة وهو حي ، ولم ينبرِ عارفو الحقيقة لإنصافه في مماته.
إني ما فتئت ، منذ خمس عشرة سنة ، أنتهز كل فرصة لأدعو الدارسين والباحثين إلى العناية بموضوع أحمد الشقيري ، وأخذه مادة للدرس والتحليل.سيرة وتاريخاً ، نضالا وفكراً ، إنجازات ومؤلفات ، فلسطينيا وعربيا ودولياً.
إن رجلا في حجم الشقيري لا يجوز أن يهمله التاريخ وينساه الناس ويتجاهله أصحاب العلم والرأي والقرار.
حجمه كبير في أكثر من معنى:
__________
(1) * السفير، بيروت، 4 نيسان 1995.(1/152)
حياة طويلة ، على امتداد اثنتين وسبعين سنة ، حفلت بأهم الأحداث التي مرّ بها الشعب العربي الفلسطيني وقضيته. كان له دور وأثر في معظم هذه الأحداث والسنوات وإسهام يشتد مع الأيام حتى صح أن نقول فيه أنه كان واحداً من أهم ثلاثة فلسطينيين كان لهم شأنهم السياسي العام في السبعين السنة الأخيرة ، بل وربما في قرن كامل من الزمان ، أي منذ قيام الحركة الصهيونية حتى اليوم.
وإذا كانت الفترة التي ارتقى فيها سدة القيادة كانت أقل من خمسين شهراً ، فإن وجوده في الساحة السياسية ، قبل تسلم القيادة ـ ثم انزواءه بعد اعتزاله ـ لم يكن ضعيف الأثر بأي شكل من الأشكال. كان هو واضع حجر الإساس في قيام الكيان الفلسطيني 1964 بعد سنوات من التمهيد والسعي الحثيث لقيام هذا الكيان وإنجاحه. كما بقي ، وهو يعتزل العمل الرسمي ويتنقل صامتاً بين بيروت وعمّان وتونس ، الشخص الذي يحسب حسابه والناصح الذي يقصده الوطنيون للاستشارة والاستنارة.
حتى المرء يتساءل ، وهو يتتبع مسيرة منظمة التحرير الفلسطينية في أكثر من ثلاثين عاماً: هل كانت هذه المسيرة تبدأ ، وهل كانت تستمر ، لولا رجل واحد اسمه أحمد الشقيري؟ وهل كانت المسيرة تحتفظ بزخمها ، وتتحول إلى ثورة يحسب حسابها ، وتقيم المؤسسات الإدارية والعسكرية والمالية والإعلامية والثقافية ، لولا رعاية الشقيري لهذه المؤسسات لسنوات عدة واحترامه لاستقلالها وتوفير المناخ اللازم لتتمكن من العطاء؟ ونتابع التساؤلات ، هل كان من المعقول أن تنحرف قيادة المنظمة ، وتتهاوى ، وتتنكر للمبادىء وللقيم وللحقوق وللشعب والقضية ، لو كان زمام المنظمة لا(1/153)
يزال بيد أحمد الشقيري؟ وهل كانت معارضة الانحراف تظل مهلهلة ومبعثرة وغارقة في وحول الانقسام والتلهي والعجز لو كان الشقيري على رأسها يدافع عن المنظمة التي أنشأها ، والميثاق الذي صاغه والشعارات التي رفعها وظل يرفعها حتى في أحلك ليالي الهزيمة وأيام الإحباط؟
ثم إن حجم الشقيري كبير ، أيضاً ، بكتاباته ، لعله أغزر زعيم عربي احترف السياسة وخاض غمار النضال تأليفاً ونشراً ، بضع عشرات من الكتب في عقد ونصف العقد فقط. كتب في السيرة الذاتية ، وتاريخ القضية، وتاريخ فلسطين ، وفي السياسة والقانون والإعلام والوحدة والعروبة. حسبي أن أشير هنا إلى كتاب واحد هو (أربعون عاماً في الحياة العربية والدولية) اعتقد أنه واحد من أفضل الكتب العربية في فن السيرة.
كذلك كان حجم الشقيري كبيراً كرجل مثقف ، قارئ نهم يجول ويصول في مكتبة خاصة ضخمة وفي مواضيع متعددة ، تترابط في جوهرها أمام عينه الفاحصة وان كانت لا تبدو كذلك للعين المجردة ، وتظهر كأنها مواضيع متباعدة وقلما يطالعها كلها انسان مثقف واحد وكانت هذه المطالعات الواسعة تتضح في مناقشاته وأحاديثه وفي كتاباته ومذكراته وكانت جلساته ندوات علمية موضوعية وهادئة مثلما هي جلسات أساتذة الجامعات وأهل العلم عموماً.
واتخذت ثقافته الواسعة مسلكين سار فيهما قبل أن ينصرف للمسؤوليات السياسية الرسمية ( في خدمة الحكومتين السعودية والسورية ومندوبا في الأمم المتحدة وفي جامعة الدول العربية أميناً عاماً مساعداً ،(1/154)
وفي منظمة التحرير الفلسطينية رئيساً للجنة التنفيذية) وهما المحاماه والصحافة. وكان ذلك في فلسطين منذ العشرينات حتى أواخر الأربعينات كمحام ، وككاتب صحافي ، كان الشقيري من الأشهر في فلسطين. يقف في مقدمة المحامين مع مغنم مغنم, وحنا عصفور, وصبحي الخضرا ,وعبد اللطيف صلاح ، وحنا صلاح وهنري كتن ، ويقف في مقدمة كتّاب المقالة مع إبراهيم الشنطي ويوسف حنا, وبولس شحادة ,وأميل الغوري.
ثم سلك ، منذ منتصف الأربعينات حتى نكبة العام 1948 ، طريقاً ثالثاً برز فيه أيضاً وظل يحنّ إليه وظل أثره واضحاً ، وهو مجال الإعلام للقضية الفلسطينية ، فكان الشقيري السند الأقوى لموسى العلمي والمكاتب العربية التي أنشأها العلمي للدعوة للقضية الفلسطينية في القدس ولندن ونيويورك. وحينما يعرج مؤرخ القضية الفلسطينية على موضوع هذه المكاتب يجد أمامه التجربة الصحيحة الأولى في اعتماد الموضوعية والعلم في الدعوة للقضية والتخطيط السياسي والإعلام الخارجي. ولعل أولئك الذين قاموا بالدعوة ووضعوا الدراسات ووقفوا أمام الصحافة الأجنبية والمحافل الدولية ، والشقيري على رأسهم ، أنجزوا ما عجز عن إنجازه المئات من المثقفين والسياسيين الفلسطينيين في الخمسين سنة الأخيرة.
هذه مجرد ملامح وجوانب من أهمية الرجل الذي نتذكر اليوم في مرور خمسة عشر عاماً على غيابه.(1/155)
لكن أهم مآثر الرجل الكبير أنه كان صاحب رؤية في العلاقة الحرجة بين الحس الفلسطيني والمحيط العربي ، بين الوطنية الفلسطينية والقومية العربية ، بين مسؤولية الإنسان الفلسطيني والبعد العربي لقضيته ونضاله وكيانه ، من هنا كان (الميثاق) وهو دستور النضال الفلسطيني منذ 1964 ، ميثاقاً وطنيا فلسطينياً وقوميا عربيا ، صهر الفلسطينية والعربية في مطلب واحد. فجعل الحق الفلسطيني واجباً عربياً مثلما جعل الحق العربي واجباً فلسطينيا ، وما كنا نتلمس أهمية هذه الرؤيا وخطورتها لو لم يأت بعد الشقيري من يفصل بين العمل الوطني والعمل القومي ، فيحاول أن يخنق النضال الفلسطيني العربي بإقليمية دخيلة هدامة ، ويسعى لأن يبعد العرب عن المسألة الفلسطينية وينفرهم منها ، حتى قام في النهاية شرخ بين الفلسطينية والعروبة ذو أرضية من الحقد والعداء.
لقد خلا الخطاب السياسي في العهد الشقيري من نغم القطرية ، كان شهداء فلسطين ، شهداء للعرب ، وكان الشهداء العرب شهداء فلسطين. واتسع بذلك حيز العمل الفلسطيني ليشمل الوطن العربي بأسره ، وانتعش الضمير العربي ليتحسس بالهمّ الفلسطيني هماً خاصًا به بدون اكتراث إلى أي قطر عربي انتمى صاحب ذلك الضمير.
حلم جميل عشناه أيام الشقيري ، ولكنه سريعاً ما بدأ يضعف ويتبدد. حتى أصبح بعض العمل الرسمي الفلسطيني الآن ، ومنذ اتفاقات أوسلو وواشنطن والقاهرة ، تآمرا على العرب وطعنا في الظهر ونكراناً للنضال المشترك ، وهو ما أسهم أيضا في تفريط بعض المسؤولين العرب بحق الشعب الفلسطيني وبحقوق شعوبهم الوطنية على حد سواء ، والتقت القيادة(1/156)
الرسمية الفلسطينية مع قيادات عربية أخرى في جبهة واحدة تخدم (إسرائيل) وتسهل عليها قضم الأراضي والحقوق العربية في فلسطين وفي مختلف أرجاء الوطن العربي.
كان أحمد الشقيري مثال القومي العربي في تسلمه مسؤوليات عمل قطري ، فبعد أن عمل من أجل استقلال ليبيا وتونس والجزائر والمغرب بموازاة نضاله الفلسطيني ، وبعد أن خدم الدبلوماسية السورية والسعودية بأمانة ضاهت خدماته الفلسطينية ، دعا إلى الوحدة العربية (وكتب فيها بحوثا ودراسات قيمة في الدقة والتشديد ذاتيهما اللذين عمل فيهما للكيان الفلسطيني الذي أرسى قواعده في 1964). فعالج موضوع الكيان كمجرد خطوة لا بد منها نحو الوحدة الشاملة ، ونظر إلى الوحدة كسياج ضروري لتحرير الكيان وحماية شعبه.
يزيد في ضرورة وأهمية إعطاء أحمد الشقيري ما يستحق من درس وعناية أن من سوء حظ الرجل أن جيله لم يحكم عليه من خلال كتاباته وأفعاله بقدر ما حكم عليه من خلال أعين الأعداء وأقلامهم وأحكامهم، وأكاد أقول دسائسهم وتخرصاتهم وإشاعتهم. والشقيري ، كما يعلم الجميع ، أحد اثنين نالهما الطعن والتجريح الظالم المعادي ، الصهيوني والاستعماري ، أكثر مما نال ذلك أي زعيم فلسطيني وربما عربي آخر غير جمال عبد الناصر.
حتى لا يوحي كلامنا هذا بالتملق أو بابراز نواحٍ معينة ، إيجابية ، من سيرة أحمد الشقيري على حساب أمور ونواح فيها بعض السلبية ،ومن أجل أن نكون صادقين في دعوتنا إلى دراسة الرجل دراسة معمقة وشاملة(1/157)
منصفة وموضوعية ، وهي دراسة لاتتم إلا بتقصي التقصيرات أو الثغرات أو الأخطاء مثلما تتقصى الإنجازات والعطاءات والخدمات والفضائل ، من أجل ذلك كله أتوقف ، متعمداً ، عند اتهامات ثلاثة طالما وجهها الآخرون إلى أحمد الشقيري ، في العلن أو بالسر ، وعارضه بعضهم من أجلها أو استغلها بعضهم لتبرير معارضته له ، أو وجد فيها آخرون سبيلا سهلاً لإضعاف مركزه أو تحطيم صورته أو ربما لإزاحته عن كرسي القيادة للجلوس عليها.
وتتلخص الاتهامات الثلاثة بالفردية (إلى حدود الاستبداد بالرأي) والغوغائية (إلى حدود اللاعقلانية) ، والتصلب والتشدد (إلى حدود التحجر).
أبدأ بالاعتراف بأن شيئاً من كل من التهم الثلاث صحيح. لكنه لا يجوز أن نطلق هذه الاتهامات ، ونمشي ، دون أن نتوقف عند بعض ظروفها وآثار تلك الظروف.
نعم ، كان أحمد الشقيري (فردياً) في الكثير من تصرفاته وقراراته ، ولكن (من كان منا بلا خطيئة فيرمه أولا بحجر) . دلوني على ذلك الزعيم أو المسؤول الفلسطيني أو العربي في المئة سنة الأخيرة الذي تعامل مع الناس ومع القضايا بديمقراطية.
من هو ذاك الذي يسأل ويسأل ، ويستشير ويستنير برأي أصحاب الرأي قبل أن يبت بأمور عامة؟
يكفي الشقيري ، الفردي ، أنه أول قائد فلسطيني مسؤول يبني مؤسسات للعمل الفلسطيني ويعززها بالقدرات المالية والبشرية ويحترم(1/158)
استقلالها ويحميها من تدخلات أهل السياسة والسلطة والفصائل ، وذلك على الصعد العسكرية والمالية والثقافية والإعلامية والمدنية والإدارية ، وهذا ما لم يحصل قبل الشقيري ولا بعد الشقيري. بل إن الذي حصل بعده أن سحبت عن هذه المؤسسات استقلاليتها وهرب أصحاب الكفايات منها وعطلت نشاطاتها.
ويكفي الشقيري ، الفردي ، أنه مد يده إلى أكثر الجماعات الفلسطينية في ذلك الوقت تنظيماً وقدرة ونظافة ومصداقية وتعاون معها لفترة ما ، انقطع التعاون بعدها لسوء الثقة بين الطرفين والأخطاء وأنانيات لدى الطرفين.
ويكفي الشقيري ، ثالثا ، أنه احترم المجلس الوطني الفلسطيني أكثر من أي مسؤول آخر في السنوات الثلاثين التي مضت على قيام هذا المجلس. واحترم قراراته وتقيّد بها ، وخدم ميثاقه بمنتهى الإخلاص والصدق.
أما (غوغائية) أحمد الشقيري فأنا أنظر اليها من زاوية علاقاته بالجماهير. فقد فضل أن يتصل بالجماهير مباشرة ، قافزا فوق الأحزاب والمنظمات والجمعيات والاتحادات وغيرها ، كان يخاطبها مباشرة. ويتواصل معها بدون حواجز ولا قيود ، ويحاول أن يتكلم اللغة التي تفهم وتستوعب بسهولة. من هنا نشأ عنده الخطاب الحماسي العاطفي المشحون بالمشاعر الملتهبة وقلما تحدث إليها بهدوء العالم وعقلانية المفكر وجدلية الفيلسوف ، مع الإشارة إلى أنه كان يهوى الخطابة ويتقن فنها حتى كان سيّد المنابر في فلسطين في ما بين مطلع الأربعينيات وأواخر الستينيات ، علماً أنه كان قادرا على ذلك لو أراد. فقد كان رصيده الثقافي والعلمي يكفي لأن يرتقى بخطابه(1/159)
السياسي الجماهيري إلى مستوى المحاضرة الفكرية. لكنه لم يفعل ذلك عن قصد. وهو سلوك اتبعه قادة جماهيريون كثيرون في العالم ، وخاصة في عهد الثورات وأيام الانتفاضات الشعبية ، مع الإشارة هنا إلى أنه كان صادقاً في مضمون خطابه السياسي ، ولم يكن يبالغ ولا يكذب في المعلومات والحقائق وإن كان يبالغ في اللهجة الحماسية والنبرة الصوتية.
أما الشقيري (المتصلب) ، في علاقاته مع الآخرين ، أفراداً وجماعات وفصائل وحكومات ، فلا أحسب أنها انبثقت عن ضعف في الدبلوماسية ، وهو سيد الدبلوماسيين الفلسطينيين وإمامهم في الأربعينات والخمسينات والستينات، بل عن أمانة في حمل المسؤولية ورسوخ في تبني الأهداف وعناد في الدفاع عنها، وإذا جاز للمرء أن يعمم بعض انطباعاته وتجاربه الفردية فأنا أزعم أن الشقيري ، المتهم بالعناد والتصلب ، إنما كان مرنا وسهل التعامل ، وكان يتقن عملية الجدل ومحاولة الإقناع أو الاقتناع ، في علاقاته مع مركز الأبحاث التي امتدت خبرتي معه فيها عشرين شهراً، وأشهد ، هنا ، أنه لم يتصلّب مرة واحدة في رأي تمسك به ورفض أن يستمع إلى رأي يعارضه ، وكانت كل مناقشة بيننا ، وما أكثر ما جرى من مناقشات ، تنتهي بإقناع الواحد للآخر ، والتزام الآخر بالرأي الذي اقتنع به بعد جدل طويل.
ثم علينا ألا ننسى أن ما من زعيم سياسي فلسطيني خاض غمار التعامل الدبلوماسي ، عبر المؤتمرات واللجان والمجالس الأجنبية والدولية ، وأتقن فنه مثلما فعل الشقيري طيلة أربعين سنة ، أي منذ أعقاب انتفاضة (البراق) 1929 إلى اعتزاله النشاط الرسمي أواخر 1967 ، كان الشقيري(1/160)
قاسماً مشتركاً أعظم في كل الإطلالات الوطنية الفلسطينية على المحافل الدولية: هو الذي يعد للوفود الفلسطينية والعربية أوراقها ، وهو الذي يقدم الدراسات ويدافع عنها ويناقش ويحاور. مستفيداً من خبرة في القانون الدولي واطّلاع على المواثيق والقرارات والتعهدات وإتقان اللغة الانكليزية وفهم لعقل المستعمر وأساليبه ومنطقه وحيله.
إننا اليوم، ونحن نقف أمام جريمة التسوية الاستسلامية، ونحترق بنيرانها ، وتحترق معنا حقوق الشعب الفلسطيني وكرامته ونضاله ومسيرته وأهدافه الوطنية والقومية ، نجد صلابة الشقيري وعناده تمسكاً بثوابت تنازل عنها من خلفه تنازلا رخيصا ، ونجد في تلك الصلابة وذلك العناد ، بالتالي ، شيمة نفتقدها وفضيلة تغيب عن صانعي قرار مصيرنا من بعد أحمد الشقيري.
وإذا كنا نفتقد البدر في هذه الليالي الظلماء ، فالأحرى بنا أن ننصفه في غيابه ، وقد ظلمناه في حياته.(1/161)
دور الشقيري في تأسيس منظمة التحرير (1)
خالد الفاهوم
في البداية أود أن أتقدم بالتقدير والشكر للأخوة في اللجنة الفلسطينية للدفاع عن الثقافة الوطنية لاهتمامها بالحفاظ على التراث وترسيخه وتقديمه بما يستحقه من عناية للأجيال القادمة، لأن الصراع العربي الصهيوني وجوهره قضية فلسطين ليس صراعا على حدود بل صراع على الوجود ، وسيستمر إلى أن يزول الاحتلال وتندحر الهجمة الصهيونية الشرسة.
لكن منظمة التحرير الفلسطينية من أكثر إنجازات العمل الفلسطيني في فترة بعد النكبة عام1948, وإذا ذكرنا م.ت.ف وأهميتها وإنجازاتها في تجسيد الشخصية الفلسطينية العريقة نقضاً للصهيونية والاحتلال وإسرائيل فلا نستطيع إلا أن نتكلم عن الأستاذ أحمد الشقيري مؤسس هذه المنظمة وباني أجهزتها المختلفة ، وعلى رأسها اللجنة التنفيذية وجيش التحرير الفلسطيني والصندوق القومي. وسأحصر كلامي في هذا المجال عن الأستاذ الشقيري في فلسطين ورئاسته للمكاتب الإعلامية العربية في واشنطن والقدس في
__________
(1) * اللجنة الفلسطينية للدفاع عن الثقافة الوطنية، دمشق، 3/4/1995 .(1/162)
الأربعينات وتمثيله لأكثر من دولة عربية في المؤتمرات الدولية والأمم المتحدة ومنها مؤتمر باندونج الذي عقد في أندونيسيا في الخمسينات ، حيث كان الشقيري عضواً في الوفد العربي السوري ، وفي الأمم المتحدة ، كما مثّل السعودية كوزير دولة لشؤون الأمم المتحدة ، وقد دافع وهو بهذه الصفة عن قضايا العرب واستقلالهم وخاصة قضايا أفريقيا والمغرب وتونس وليبيا وأخيرا وليس آخراً الثورة الجزائرية الكبرى وحتى التحاقه بجامعة الدول العربية وتأسيسه م. ت.ف.
أيها الأخوة....
منذ أن تم إنشاء جامعة الدول العربية التي شارك في تأسيسها الدول العربية المستقلة أو شبه المستقلة وهي مصر ، العراق ، سوريا ، لبنان ، السعودية ، اليمن ، الأردن. قررت الجامعة والدول السبع المؤسسة لها تمثيل فلسطين الواقعة تحت الانتداب البريطاني ، بممثل في الجامعة العربية وذلك تأكيداً من الدول العربية على عروبة فلسطين وعدم الاعتراف بوعد بلفور ، ورفض الغزوة الاستيطانية الصهيونية التي كانت تهدد مصير الشعب العربي الفلسطيني كما كانت تشكل رأس الحربة التوسعية الصهيونية ضد أقطار أمتنا العربية ، وقد بقيت فلسطين ممثلة بجامعة الدول العربية بعد نكبة 1948 حيث تشرد أكثر من نصف الشعب الفلسطيني في الأقطار المجاورة نتيجة لقرار تقسيم فلسطين الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947 ، واحتلال معظم فلسطين من قبل العدو الإسرائيلي، وكان ممثل فلسطين في الخمسينات المرحوم أحمد حلمي باشا الذي كان يشغل في نفس الوقت منصب رئيس حكومة عموم فلسطين، والتي قامت بعد النكبة كمحاولة للحفاظ على(1/163)
الشخصية الفلسطينية وقيادة النضال الفلسطيني ، وبقي المغفور له أحمد حلمي باشا يشغل منصب ممثل فلسطين في الجامعة العربية حتى انتقاله إلى جوار ربه في أوائل الستينات وبذلك شغر منصب ممثل فلسطين، ووقع اختيار الجامعة على المرحوم الشقيري ليكون ممثلاً لفلسطين .
وكان الأستاذ الشقيري قبل ذلك يشغل منصب وزير الدولة السعودي في الأمم المتحدة وفي تلك الفترة قامت الثورة الوطنية في اليمن، بقيادة المشير عبد الله السلال، ووقفت مصر بقيادة جمال عبد الناصر إلى جانب الثورة بينما وقفت السعودية ضدها، وحدث قتال شرس وصدام مسلح في اليمن، بعد أن قرر المرحوم عبد الناصر مد اليمن بقطاعات من كافة الأسلحة المصرية، وعلى إثر ذلك طلب الأمير فيصل بن عبد العزيز وزير خارجية السعودية من الأستاذ الشقيري تقديم شكوى إلى مجلس الأمن ضد مصر بسبب إرسال قواتها إلى اليمن ، لكن الشقيري رفض بإصرار تقديم مثل هذه الشكوى ضد عبد الناصر، لذلك تمت إقالته من الأمم المتحدة، فجاء إلى مصر.
وفي عام 1964 أعلنت إسرائيل عزمها على تحويل نهر الأردن مما شكل خطراً جسيماً على الأقطار العربية المجاورة وقد يؤدى إلى تهديد استقلالها وحرمانها من مياهها ، فدعى أكبر القادة العرب وأقواهم وأعظمهم في ذلك الوقت الرئيس المرحوم جمال عبد الناصر إلى عقد مؤتمر قمة عربي حضره ملوك ورؤساء الدول العربية لمواجهة الخطر الصهيوني ، باعتبار أن قضية فلسطين هي قضية العرب جميعاً ورد الغزوة الاستيطانية هي مسؤولية الأمة العربية جمعاء.(1/164)
وعقد مؤتمر القمة العربي الأول في 13/1/1964 في القاهرة وكان الأول في سلسلة من المؤتمرات كان آخرها مؤتمر القمة العربي الذي عقد في القاهرة عام 1990 لمعالجة الاحتلال العراقي في الكويت، وفي مؤتمر القمة الأول قرر الملوك والرؤساء العمل على إنشاء الكيان الفلسطيني ، كردّ على التحدي الصهيوني الذي عمل جاهداً على طمس الشخصية الفلسطينية وتذويب أبناء فلسطين في أماكن الشتات وصدر عن مؤتمر القمة الأول قرار بتكليف السيد أحمد الشقيري ممثل فلسطين في الجامعة العربية بالسعي لإنشاء الكيان الفلسطيني على خير القواعد السليمة والعودة بنتيجة اتصالاته ودراساته إلى مؤتمر القمة العربي الثاني. وقد قام المرحوم الشقيري بجولة ، زار خلالها الدول العربية واتصل بأبناء فلسطين ووضع مشروع الميثاق والنظام الأساسي لـ.م.ت.ف.ثم اختار لجاناً تحضيرية في جميع البلاد العربية المضيفة للفلسطينيين وقامت هذه اللجان بالاتصال بأبناء فلسطين في أماكن تواجدهم وتجمعاتهم وتحضير قوائم بأسماء المرشحين لعضوية المجلس الوطني، كما اختار الشقيري لجنة عليا أطلق عليها اسم لجنة التنسيق قامت بتنسيق أسماء المرشحين لعضوية المؤتمر الفلسطيني الأول وأعدت قائمة نهائية بأسمائهم ومنهم الأعيان والنواب والوزراء ورؤساء البلديات والمجالس القروية في المملكة الأردنية الهاشمية، ورجال الدين، والمحامون والأطباء والصيادلة والمهندسون وأساتذة الجامعات، وممثلو اتحاد الطلاب وأعضاء المجلس التشريعي في قطاع غزة، والفلسطينيون العاملون في سوريا ولبنان ومصر، والمغتربون في أميركا ، وممثلو العمال، والعائدون في المخيمات، بحيث جاء تمثيل المؤتمر الأول شاملا قدر الإمكان لأبناء فلسطين حيثما وجدوا.(1/165)
وفي صباح يوم الخميس الواقع في 28/5/1964 التأم عقد المؤتمر الأول في القدس ، وقد شهد المؤتمر وافتتحه الملك حسين ووفود ممثلي العديد من الدول العربية (تونس ، الجزائر ، السودان ، سوريا ، العراق ، مصر ، الكويت ، لبنان ، ليبيا ، المغرب ، اليمن).
وقد ألقى الأستاذ الشقيري خطاباً شاملا في هذا المؤتمر حدد فيه مستقبل الكيان الفلسطيني وقيام منظمة التحرير وفيما يلي مقتطفات من خطاب الشقيري:
" في هذا اليوم التاريخي، وفي مدينة القدس الخالدة، يجتمع شعب فلسطين لأول مرة بعد كارثة فلسطين، وإننا إذ نعقد هذا المؤتمر الوطني، تطالعنا معانِ بارزةٌ واضحةٌ، وأكبر هذه المعاني أننا نجتمع لأول مرة بعد 16 عاماً من عمر الكارثة، فقد تألبت على هذا الشعب الباسل القوى الصهيونية والاستعمار مجتمعة متساندة ، فأقامت إسرائيل على أرضنا وتحالفت على إخراجنا من وطننا وهي تحسب أن هذا الشعب لن يجتمع أبداً ، ولكن مؤتمرنا هذا يعلن للدنيا بأسرها أننا نحن أهل فلسطين وأصحابها الشرعيين قد التقينا ، وقد اجتمعنا على تحرير فلسطين.
وإني إذ أتحدث عن كيان فلسطين ، أجدني أمام حقيقة مفجعة ، لقد تداولنا هذا التعبير (الكيان الفلسطيني) سنوات عديدة ، إنه تعبير غريب على الحياة العربية والدولية ، إنه تعبير جديد ، لا سابق له في تاريخ الأمم ، لم يعرف تاريخ الكفاح العربي شيئاً باسمه,الكيان السوري،المصري،العراقي الجزائري ، ولكن فلسطين فريدة الكارثة وحيدة الفاجعة ، وواضح أن السبب(1/166)
في ذلك أن كل الشعوب التي ابتليت بالاستعمار بقيت مستقرة في وطنها تكافح في أرضها لكن شعب فلسطين قد اقتلع من وطنه ، وأخرج من دياره وهدم كيانه فأصبح لا بد له من أن يبني لنفسه كياناً ليستأنف حياته القومية وينهض بدوره الكامل في تحرير وطنه وتقرير مصيره.
أقول هذا لأن الشعب الفلسطيني منذ أن حلت الكارثة بوطنه قد أفلت الزمام من يده ولم يعد يمارس مسئولياته القومية والوطنية ، لذلك كانت الحاجة ملحة في أن يقوم الكيان الفلسطيني ، وأن تتهيأ الفرصة كاملة أمام الشعب الفلسطيني لينهض بتبعاته الوطنية في تحرير وطنه.
وإنكم لتجدون أيها الإخوة الهيكل العام للكيان الفلسطيني في مشروعين: الأول الميثاق القومي ، والثاني النظام الأساسي لمنظمة التحرير ، وهما مطروحان أمام المؤتمر للدرس والمناقشة ، والتعديل والتبديل ، إنهما مطروحان للقبول والرفض ، فإن قضية فلسطين هي ملك شعب فلسطين ، هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة بشأن قضية فلسطين.
ولكن كائنة ما كانت البداية فإن هناك أمرا ثابتا لا يرقى إليه الشك ، ذلك أن الكيان الفلسطيني يجب أن يبنيه شعب فلسطين ، وهناك حقيقة صارخة يجب أن لا تغيب عن بالنا ، أن الكيان الفلسطيني لا يكون قوياً وثورياً بقوة التعابير التي نكتبها ولا بثورة الشعارات التي نرفعها ، ولكنه يكون قوياً وثورياً بالإمكانات الثورية التي تضعها الدول العربية تحت تصرف الشعب الفلسطيني ، وهنا يبرز جسد الكيان وروحه ، يبرز فعله وضميره ، بأن الكيان الفلسطيني فلسطيني وعربي ، وهنا لابد لي أن أعلن بصراحة أننا نحن(1/167)
أهل فلسطين سنرفض السير في أي طريق إلا طريق الكفاح والسلاح ، فقد سئم شعب فلسطين ، ومعه الأمة العربية ، القرارات التي لا تنَّفذ ، والتصريحات التي لا تطبقَّ.
وإنني كواحد من هذا الشعب الباسل أعلن من مؤتمرنا هذا أنه يجب أن يجنَّد القادر على حمل السلاح ، وهذا هو جوهر الكيان ، وإذا خلا الكيان من الناحية العسكرية كان كلاماً في كلام ، وكيانا من غير كيان".
وتوزع أعضاء المؤتمر إلى لجان وصدر العديد من القرارات في شتى المجالات السياسية والمالية ، والإعلامية والعسكرية ، وفيما يلي قرارات المؤتمر الخاصة:
أ- إعلان قيام. م.ت.ف. وذلك بالنص التالي:
(إيمانا بحق الشعب العربي الفلسطيني في وطنه المقدس فلسطين وتأكيداً لحتمية معركة تحريرالجزء المغتصب منه، وعزمه وإصراره على إبراز كيانه الثوري الفعال ، وتعبئة طاقاته وإمكاناته وقواه المادية والعسكرية والروحية ، وتحقيقاً لإرادة شعبنا وتصميمه على خوض معركة تحرير وطنه، طليعة مقاتلة فعالة للزحف المقدس.. نعلن بعد الاتكال على الله، باسم المؤتمر الفلسطيني الأول المنعقد بمدينة القدس في 28/5/1964 قيام م. ت. ف. قيادة معبئة لقوى الشعب الفلسطيني لخوض معركة التحرير، ودرعاً لحقوق شعب فلسطين وأمانيه ، وطريقاً للنصر.(1/168)
ب- المصادقة على الميثاق القومي لمنظمة التحرير الفلسطينية.
ج - المصادقة على النظام الأساسي واللائحة الداخلية للمجلس الوطني والصندوق القومي الفلسطيني.
د - انتخاب السيد أحمد الشقيري رئيسا للجنة التنفيذية وتكليفه اختيار أعضاء اللجنة التنفيذية وعددهم 14 عضوا.
هـ- يصبح المؤتمر بكامل أعضائه المجلس الوطني الأول لمنظمة التحرير الفلسطينية.
و- انتخاب السيد عبد المجيد شومان رئيساً لمجلس إدارة الصندوق القومي وعضواً في اللجنة التنفيذية.
أما من الناحية العسكرية ، فقد قرر المؤتمر تشكيل كتائب عسكرية نظامية وكتائب فدائية قادرة وفعالة.
وبعد التصديق على القرارات ، فوّض المؤتمر الشقيري باختيار أعضاء اللجنة التنفيذية الأولى لمنظمة التحرير الفلسطينية ، وبعد التشاور مع أعضاء المجلس الوطني في مختلف أماكن التجمع قرر الشقيري تشكيل اللجنة التنفيذية الأولى من الأخوة:
1- بهجت أبو غربية
2- د. حيدر عبد الشافي
3- حامد أبو ستة
4- خالد الفاهوم(1/169)
5- د. قاسم الريماوي
6- عبد الخالق يغمور
7- عبدالمجيد شومان
8- د. وليد قمحاوي
9- فلاح الماضي
10- قصي العبادلة
11- عبد الرحمن السكسك
12- نقولا الدر
13- فاروق الحسيني
14- اللواء وجيه المدني
وقد عقدت اللجنة التنفيذية عدة اجتماعات في مقر المنظمة بمدينة القدس وقام الشقيري بتوزيع العمل على أعضائها كما يلي:
1- اللجنة العسكرية من الأخوة: وجيه المدني ، بهجت أبو غربية ، قصي العبادلة.
2- لجنة التنظيم الشعبي من الأخوة: حامد أبو ستة ، حيدر عبدالشافي ، عبد الخالق يغمور ووليد قمحاوي.
3- خالد الفاهوم: رئيساً للدائرة السياسية للشؤون الخارجية
4- فاروق الحسيني: ممثل لفلسطين في الجامعة العربية
5- فلاح الماضي: أمينا للسر
6- قاسم الريماوي :رئيساً للدائرة السياسية للشئون العربية.(1/170)
7- عبد الرحمن السكسك :نائباً للرئيس
8- عبد المجيد شومان: رئيساً للصندوق القومي
9- نقولا الدر :رئيسا لدائرة الأعلام.
ومن الجدير بالذكر أن أعضاء اللجنة التنفيذية تم انتقاؤهم من الأردن ، سوريا ، لبنان ، مصر ، وغزة ، وكان للمرحوم الشقيري الدور الأبرز في قيام المجلس الوطني الأول واللجنة التنفيذية في المجلس ، كما كان له أثر كبير في صياغة قرارات المؤتمر جميعها.
وفي الخامس من أيلول 1964 انعقد مؤتمر القمة العربي الثاني ، في الإسكندرية ، وكان على جدول أعماله عدد من القضايا الهامة وفي مقدمتها الكيان الفلسطيني والقيادة العربية الموحدة. وقد قدم الشقيري إلى المؤتمر تقريرا عن أعمال المؤتمر الأول وتشكيله ممثلاً لشعب فلسطين ، وطالباً الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ولجنتها التنفيذية ، ودعمها بالمال والسلاح ، لتتمكن من إدارة شؤون الشعب الفلسطيني وتمثيله في شتى المحافل ، ومن أجل تمكين المنظمة من تشكيل الكتائب العسكرية المسلحة بالتنسيق مع القيادة العربية الموحدة ، وما يتطلبه ذلك من دعم مالي.
فقد أكد السيد الشقيري في تقريره الخطّي إلى القمة العربية الثانية أن اختيار أعضاء اللجنة التنفيذية لقي ارتياحاً عاماً من قبل الأوساط الفلسطينية.
ولا بد لنا من الإشارة في هذا الصدد إلى بعض الصعوبات التي واجهت الشقيري في القمة العربية، والتي تمكن الشقيري بجرأته ومهارته في النقاش ، ودعم الرئيس عبد الناصر له ، من التغلب عليها وأهمها:(1/171)
1- بالنسبة للإعلان عن قيام م.ت.ف. أشارت بعض الوفود العربية إلى أن مؤتمر القمة الأول كلف السيد الشقيري بإجراء الاتصالات مع أبناء فلسطين والحكومات العربية بما يتعلق بإنشاء الكيان الفلسطيني على أن يعود بنتائج اتصالاته إلى القمة العربية الثانية لتقرير ما تراه مناسباً في هذ الشأن ، وذكرت هذه الوفود العربية أن الشقيري قد تجاوز الصلاحيات الممنوحة له عندما وجه الدعوة لانعقاد المؤتمر الأول وعندما أعلن قيام م.ت.ف. دون الرجوع إلى القمة العربية.
وقد أثار هذا الأمر جدالاً ونقاشاً حاداً داخل القمة العربية إلا أن الشقيري أكد للمؤتمر أن إنشاء الكيان الفلسطيني وقيام م.ت.ف. إنما هو من اختصاص الشعب الفلسطيني.
2- بالنسبة لإنشاء جيش التحرير الفلسطيني:
أبدى بعض القادة العرب اعتراضهم على إنشاء قوات مسلحة فلسطينية ذات استقلال وقيادة ،وقد بذل الشقيري جهوداً كبيرة للخروج بقرار عربي حول الموضوع العسكري ، لأن المؤتمر الفلسطيني أكد على ذلك واعتبر الكيان الفلسطيني بدون قوات مسلحة كياناً هزيلا مرفوضاً ، وقد ساعد الشقيري في هذا الصدد عدة وفود عربية وبشكل خاص وفود مصر وسوريا والعراق التي أعلنت ترحيبها بقيام قوات فلسطينية مسلحة وأبدت استعدادها للسماح لهذه القوات بالعمل على أراضيها ، ولذلك تقرر إنشاء قوات مسلحة من أبناء فلسطين على الأرض المصرية وفي قطاع غزة وفي القطر العربي السوري وفي العراق ، ومنعاً للحساسيات التي أثارتها بعض الدول العربية(1/172)
وافق الشقيري على أن يقوم تعاون وتنسيق مع القيادة العربية الموحدة في التشكيل والتدريب والتسليح والعمليات ، كما وافق أيضاً على أن يكون التشكيل باسم كتائب فلسطينية بدلا من جيش التحرير الفلسطيني.
3- بالنسبة للدعم المالي:
وافق المؤتمر على تقديم مبلغ مليون دينار أردني سنوياً لتغطية نفقات إنشاء القوات الفلسطينية ، ومبلغ مليون دينار أردني آخر للمساعدة على تغطية نفقات م.ت.ف. غير العسكرية يدفع مباشرة للصندوق القومي.
وبعد اختتام مؤتمر القمة العربية الثاني عقدت اللجنة التنفيذية برئاسة المرحوم الشقيري اجتماعاً في القاهرة وضعت فيه أسس الدوائر في م.ت.ف. كما افتتحت اللجنة بعد ذلك مكاتب المنظمة في عواصم الدول العربية وبعض بلدان أوروبا والولايات المتحدة والصين وأفريقيا وآسيا.
كما قامت المنظمة بإنشاء محطة إذاعية تنطق باسم م.ت.ف. في القاهرة وقد انطلقت هذه الإذاعة باسم "صوت فلسطين ـ صوت منظمة التحرير الفلسطينية".
في بيروت أنشأ المرحوم الشقيري مركز الأبحاث الفلسطيني ، وتم البدء بإنشاء القوات المسلحة وتقرر تسمية القوات العاملة في قطاع غزة ومصر باسم عين جالوت ، والعاملة في سوريا باسم حطين ، وعلى أرض العراق باسم القادسية.(1/173)
وتنفيذاً لما ورد في المادة 8 من النظام الأساسي التي تنص على أن ينعقد المجلس الوطني دورياً بدعوة من رئيسه مرة كل سنة ، وبناء على الدعوة الموجهة من الرئيس ، عقد المجلس الوطني دورته الثانية في القاهرة وقد افتتح رئيس الجمهورية العربية المتحدة جمال عبد الناصر المؤتمر بخطاب قومي أكد فيه حرصه على قيام م. ت. ف. ودعمه لها بالإمكانيات كافة.
واستعرض المجلس ما أنجزته اللجنة التنفيذية ، وفي ختام الجلسات قدم المرحوم الشقيري استقالته إلى المجلس الذي قبلها وكلف الشقيري بإعادة تشكيل اللجنة التنفيذية على أن يكون له الحق في اختيار أعضائها.
وقد استمرت اللجنة التنفيذية الثانية في عملها حتى عقد المجلس الوطني دورته الثالثة في مدينة غزة في 20/5/1966 في جو من التوتر الشديد بين م. ت.ف. والأردن ، بسبب الحملة الإعلامية التي كانت دائرة بين م.ت.ف. وحكومة الأردن لأسباب كثيرة.
طلب الشقيري من المجلس الوطني تعديل المادة 22 من النظام الأساسي قائلا: "تبدأ هذه المادة بتشكيل وحدات فلسطينية خاصة... بداية هزيلة وعبارة نحيلة.. أما اليوم فإني اقترح على مجلسكم الموقر أن تعدل هذه المادة التي كتبت في القدس ، وهو بلد عزيز علينا ، ونعدّلها في غزة ، وأقترح أن تصبح المادة 22 على الوجه التالي:
" تنشيء م.ت.ف. جيشاً من أبناء فلسطين ، يعرف بجيش التحرير الفلسطيني ، له قيادة مستقلة ، واجبه القومي أن يكون طليعة التحرير في معركة التحرير".(1/174)
وبنهاية أعمال الدورة الثالثة قدم الشقيري استقالته ، وقد قبلها المجلس وكلفه بإعادة تشكيل اللجنة، ثم قام العدوان الصهيوني على فلسطين ، وبعض البلدان العربية المجاورة في 5/6/1967 وأدى كما هو معروف إلى احتلال الضفة الغربية وغزة، والجولان وسيناء، مما كان له أكبر الأثر على م.ت.ف. حيث أصبح أكثر من نصف الشعب الفلسطيني يرزح تحت الاحتلال، ومنهم قسم كبير من أعضاء المجلس الوطني مما أدى إلى خلل في تركيب هذا المجلس ، وتصاعدت المقاومة ضد الاحتلال في الداخل ومن كافة جوانب المواجهة بشكل علني ، كما نشأت منظمات عديدة للعمل الفدائي، وأصبح هذا العمل ضد الاحتلال أملا ليس فقط لأبناء فلسطين بل لأبناء الأمة العربية واستقطب العمل الفدائي أفئدة العرب.
وكان من نتيجة هذا العدوان الصهيوني أن عقدت القمة العربية في الخرطوم (أيلول /سبتمبر 1967) وفي هذه القمة حصلت مشادات بين الشقيري وبعض القادة العرب ، والحقيقة أنه قبل العدوان الإسرائيلي ، جاء إلى القاهرة المئات من الصحفيين ومندوبي وكالات الأنباء ، وقد طلبوا جميعهم مقابلة الشقيري ، وسأله بعضهم عن مصير الإسرائيليين بعد الحرب القادمة ، فكان جوابه (يعودوا إلى البلدان التي قدموا منها).
كان الرئيس الراحل عبد الناصر قد اقترح على الزعماء العرب تفويض الملك حسين بأن ينطق باسمهم جميعاً في زيارته القادمة لكل من موسكو وواشنطن ، لكن الشقيري أصر على المؤتمر أن يخرج بقرار يحدد كيفية التحرك ووافق المؤتمر على أن يكون من حق العرب العمل على إزالة آثار(1/175)
العدوان ، شريطة أن لا يكون هناك مفاوضة أو صلح أو اعتراف. وقد عرف هذا القرار بقرار اللاءات الثلاث.
وتحرك بعض أعضاء اللجنة التنفيذية ، وطلبوا من الشقيري الاستقالة بعد أن اصبح العمل الفدائي مهوى جميع الأمة العربية وبسبب فتور الدعم العربي للشقيري ، ونتيجة لذلك قدم المرحوم الشقيري استقالته إلى الشعب العربي الفلسطيني في كانون الأول/ ديسمبر عام1967 ، واجتمعت اللجنة التنفيذية ، واختارت عضو اللجنة السيد يحيى حمودة ، ليكون رئيساً للجنة التنفيذية بالنيابة ، وأصدرت اللجنة بياناً أعلنت فيه أنها ستعمل بالتعاون مع القوى الفلسطينية العاملة على قيام مجلس وطني جديد لـ.م. ت.ف. والتنسيق على قيادة جماعية مسئولة تعمل على تحقيق الوحدة الوطنية ، وتعبئة الجهود القومية ، وتطوير أجهزة المنظمة ، وعقد المجلس الوطني الرابع في تموز 1968 وكان أول مجلس تنضم له فصائل حركة المقاومة.(1/176)
مساهمات الشقيري في..
المحافل العربية والدولية (1)
أبو ماهر اليماني
شكراً للأخوة أعضاء لجنة الدفاع عن الثقافة الوطنية الفلسطينية لإقامة هذه الندوة في الذكرى الخامسة عشرة لوفاة المرحوم الزعيم العربي الفلسطيني البارز ، سيد المنابر السياسية والقانونية ، الكاتب والمؤرخ الأستاذ أحمد الشقيري ، الذي كرس حياته للدفاع عن عروبة فلسطين ، وحقوق وحرية أبنائها في مواجهة أعداء الأمة: الاستعمار والصهيونية ، والذي نقل قضية فلسطين وقضايا عربية أخرى إلى الرحاب العالمية والمحافل الدولية ، داحضاً المزاعم الصهيونية والسياسة الاستعمارية بالحجة العلمية والسند القانوني والحقيقة التاريخية.
لقد آمن الفقيد بالوحدة العربية ، سبيلاً لبناء مجتمع ديمقراطي تحرري ، كما آمن بالبعد الإسلامي في معركة تحرير الأرض المقدسة ، أولى القبلتين
__________
(1) * اللجنة الفلسطينية للدفاع عن الثقافة الوطنية، دمشق، 3 /4/ 1995.(1/177)
وثالث الحرمين الشريفين ، حمل آلام الشعب وقضيته العادلة وراح يدافع عن الحقوق المضيعة ويعلي صوت الحق والعدل ، في كل ميدان وعند كل مناسبة ، وفوق كل منبر عربي أو غير عربي ، إقليمي أو دولي ، بهمة لا تفتر ، وعزم لا يلين.
شارك، وهو ابن العشرين، في المؤتمر الفلسطيني السابع الذي عقد في القدس عام 1928 بصفته مدير تحرير صحيفة مرآة الشرق، التي كان يصدرها بولس شحادة، ونقل وقائع المؤتمر، ودافع عن قراراته بسلسلة من المقالات التعبوية كما شارك في العام نفسه (1928) في مؤتمر جمعيات الشبان المسلمين، الذي عقد في القاهرة، وكان في المؤتمريْن خطيباً بارزا يهاجم الاستعمار البريطاني ويدعو إلى مواجهة الغزاة الصهاينة، الذين كانت الحكومة البريطانية تسهل إدخالهم إلى فلسطين، وتقدم لهم الأراضي الأميرية لإقامة دساكرهم عليها، تنفيذاً لوعد بلفور على طريق إقامة الوطن القومي لليهود.
ساهم الأستاذ أحمد الشقيري بإعداد ملف قضية فلسطين الذي قدّم للجنة البرلمانية التي انتدبتها الحكومة البريطانية للتحقيق بأسباب هَبّة البراق عام 1929 والمعروفة باسم لجنة شو ، وقام بدور مسؤول في توضيح قضية فلسطين وشرح الوثائق التي تؤكد عروبتها مندداً بالسياسة الاستعمارية البريطانية المنحازة لليهود.(1/178)
شارك الأستاذ الشقيري في المؤتمر الوطني الذي عقد في يافا عام 1933 ودعا رجالات الحركة الوطنية على اختلاف انتماءاتهم إلى إقامة جبهة وطنية عريضة ، تضم جميع الزعماء لقيادة الكفاح الوطني.
في عام 1937 اشترك في مؤتمر بلودان الذي عقد بدعوة من لجنة الدفاع عن فلسطين في سوريا ، وطالب المؤتمر برفض مشروع التقسيم الذي أوصت به اللجنة الملكية البريطانية برئاسة اللورد بل ، داعياً إلى مقاومة مشروع إنشاء دولة يهودية ، ومطالباً بإلغاء وعد بلفور ، وإبعاد اليهود الذين تم إدخالهم إلى فلسطين ، رغم إرادة أهلها.
ساهم الأستاذ الشقيري بإعداد المذكرات والدراسات التي حملها الوفد الفلسطيني إلى مؤتمر لندن الذي عقد في شباط 1939 بحضور ممثلين عن بعض الدول العربية في المشرق العربي ، إلى جانب ممثلي عرب فلسطين ومن جهة أخرى ممثلي الوكالة اليهودية بإشراف الحكومة البريطانية. بعد فشل المؤتمر أعّد الأستاذ الشقيري دراسة قانونية وسياسية وافية حول الكتاب الأبيض ، والذي أصدرته بريطانيا تعبيرا عن خطتها السياسية المقبلة في فلسطين ، وقد رفضت اللجنة العربية العليا ما جاء في الكتاب الأبيض ، لتجاوزه الحق العربي في فلسطين ، وانحيازه الواضح إلى الجانب الصهيوني.
وعندما عقد الزعماء العرب اجتماعاً تحضيريا في الإسكندرية عام 1944م لدراسة إنشاء جامعة الدول العربية، قدّم الأستاذ الشقيري بالتعاون مع موسى العلمي مذكرة تشرح تطورات قضية فلسطين والنشاط الصهيوني، وتواطؤ بريطانيا مع اليهود، وتسهيل الهجرة. راح بعد ذلك يشارك بعقد(1/179)
الاجتماعات وإقامة الندوات وإلقاء المحاضرات في المدن الفلسطينية داعيا إلى بعث الحركة الوطنية الفلسطينية من جديد.
وبعد قيام جامعة الدول العربية في 22 آذار 1945 قررت الجامعة تأسيس مكاتب عربية للإعلام وانتدبت الأستاذ الشقيري لتأسيس مكتب عربي للإعلام في واشنطن ، ورافقه في تلك الرحلة السادة خلوصي الخيري ، وعوني الدجاني ، وعمر أبو خضرا ، وفي نهاية أيلول سبتمبر 1945 عقد الشقيري مؤتمراً صحفياً في واشنطن أعلن فيه افتتاح المكتب العربي ، عارضاَ إبعاد قضية فلسطين والقضايا العربية ، وراح بعد ذلك يجري المقابلات ويلقي المحاضرات ويشترك في المساجلات الإذاعية حول قضية فلسطين ، والقضايا العربية المثارة.
وفي عام 1946 استدعته الجامعة العربية من واشنطن ليتولى مسؤولية مكتب الأعلام المركزي في القدس ، ومن هذا الموقع قدم في العام نفسه دراسة وافية للجنة التحقيق الأنجلو اميركية وأدلى ببيان تفصيلي رفض فيه أن يكون لتلك اللجنة الحق في تقرير مصير الشعب الفلسطيني ، ودار بينه وبين رئيس وأعضاء اللجنة نقاش وجدل حادان ، وقف الشقيري كعادته صلباً قوي الحجة سريع البديهة واضح البيان.
بعد ذلك اجتمع أعضاء المكتب العربي في القدس مع عدد من العاملين في الحقل الوطني وتدارسوا الأمر وانتهوا إلى أنه لا بد من اللجوء إلى الكفاح المسلح كوسيلة فعالة في الدفاع عن الحقوق، ودعوة الدول العربية لدعم هذا الكفاح ، ثم دعا المكتب مراسلي الصحف الفلسطينية والعربية ، وحثهّم على(1/180)
القيام بحملة صحفية مكثفة ، تدعو للكفاح المسلح ، وإنشاء لجان طوارئ في البلاد.
وعندما تنادى الملوك والرؤساء العرب لعقد مؤتمر أنشاص عام 1946 طلب الرئيس السوري شكري القوتلي من الشقيري أن يكون إلى جانبه ليستشيره في الشوؤن الفلسطينية ، وقبل اختتام المؤتمر أطلعه الرئيس القوتلي على الفقرة المتعلقة بفلسطين في مشروع البيان الختامي الذي سيصدره المؤتمر فاعترض الشقيري على نصّها وبين للرئيس القوتلي جوانب الضعف فيها ، وخاصة أنها تصف بريطانيا والولايات المتحدة بالدول الصديقة ، رغم سياسة الدولتين المنحازة للصهيونية العالمية ، وقدّم للرئيس القوتلي صيغة جديدة لتلك الفقرة ، وبعد المؤتمر خصصت وزارة الخارجية السورية مكتباً خاصاً فيها للشقيري يمارس منه نشاطاته الفلسطينية كمستشار في وزارة الخارجية.
حضر الشقيري في أوائل آذار 1947 اجتماع مجلس جامعة الدول العربية بصفته مستشاراً للوفد السوري وقدم للمجلس مذكرة قانونية حول مفهوم حق تقرير المصير.
كما حضر بالصفة نفسها اجتماع مجلس الجامعة الذي عقد في تشرين الأول عام1947 وأعدّ مع مستشار الجامعة الأستاذ عبد المنعم مصطفى المذكرة التي بعثتها الجامعة إلى الأمم المتحدة لشرح الحقوق العربية في فلسطين ووقوف الدول العربية إلى جانب الشعب الفلسطيني في دفاعه عن حقوقه إذا اعُتدي عليه أو سلبت حقوقه.(1/181)
وعندما انتدبت الأمم المتحدة الكونت برنادوت كوسيط دولي اختارت الجامعة العربية الأستاذ أحمد الشقيري ، ليكون ناطقاً باسم الوفد العربي الذي سيتعاطى مع الكونت برنادوت وكلّفته بشرح وجهة النظر العربية ، وبعدما اغتال الصهاينة الوسيط الدولي وتباكت عليه الدول التي انتدبته ، ثم تناسته ، راح الشقيري يردد :
" من أولويات قواعد السياسة الدولية التي يجب أن لا تغيب عن بالنا هي (أن الأقوى هو الأبقى) ، فلنعمل كأمة عربية لامتلاك القوة حتى نحافظ على بقائنا وننال حقوقنا ".
حضر الشقيري اجتماع لجنة التوفيق الثلاثية الذي عقد في بيروت في نهاية كانون الأول عام 1948 مستشاراً للوفد السوري وألقى بيانا مطولاً ركز فيه على حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة غير المشروطة إلى ديارهم التي شردهم الغزاة الصهاينة بالقوة عنها. وناقش اللجنة ، مناقشة قانونية وافية ، وبعد ذلك انتقلت اللجنة إلى لوزان ، وهناك وضعت الصيغة النهائية لما يسمى بروتوكول لوزان في 12/5/1949 ، وكان البروتوكول منحازاً بكليته للكيان الصهيوني العنصري ، واعتمدته الأمم المتحدة كوثيقة لقبول الكيان الصهيوني عضوا فيها ، وقد حزن الشقيري لهذه النهاية وأثاره الموقف الرسمي العربي الضعيف ، وما كان يقدمه المندوبون بتعليمات دولهم من تنازلات متتالية.
أثناء فترة عمله الدبلوماسي وحضوره دورات الأمم المتحدة كان يبذل جهوداً قدّرها له أعضاء الوفود العربية والصديقة ، فقد كان يكثف اجتماعاته(1/182)
مع الوفود ، ويناقش في اللجان ولا سيما اللجنة القانونية ،ويعقد المؤتمرات الصحفية ، ويجري المساجلات الإذاعية.. وأدرك مع كل ما كان يقوم به بأن الأمم المتحدة لعبة بيد الدول الكبرى ، يبدو ذلك واضحاً عند اتخاذ القرارات وعدّ الأصوات ، إذ لا مكان في الأمم المتحدة إلا للأقوياء ، والويل كل الويل للضعفاء.
شارك الشقيري في دورة الأمم المتحدة التي عقدت في باريس خريف عام 1951 كنائب لرئيس الوفد السوري الأستاذ فارس الخوري ، الذي فوضه العمل ، والرأي والمشورة ، مما ضاعف من عزيمته وحماسه في الشرح والتحليل ، وفضح ادعاءات الصهاينة. ودافع عن القضايا العربية التي عرضت في هذه الدورة وبينها قضية السودان ، والقضية الجزائرية والقضايا التونسية والليبية والمراكشية ،وكان جريئاً في مناقشة مندوبي الدول الاستعمارية عندما عرض مختلف هذه القضايا ، يحاور، يناقش ويقترح ، حتى أطلق عليه الأستاذ فارس الخوري لقب (نجم الدورة)
في عام 1952 كان الشقيري أميناً عاماً مساعداً في جامعة الدول العربية ورئيساً للوفد السوري في الأمم المتحدة ، وكانت قضية فلسطين تواجه آنذاك أكبر خطر يهددها بعد قرار التقسيم ، حيث راحت الولايات المتحدة الأمريكية بدعم مشروع وكالة الغوث الدولية (الأنروا) لدمج اللاجئين الفلسطينيين في حياة البلدان العربية الاقتصادية لتوطينهم فيها ، وأوفدت بعثة برئاسة غوردن كلاب ، وراحت أجهزة الأعلام الأمريكية تتحدث عن السلام بين العرب والصهاينة ، وعن المفاوضات المباشرة ، وراح وزير خارجية الكيان الصهيوني أبا إيبان، يعرض في أروقة الأمم المتحدة الخطوط(1/183)
العريضة لما سماه مشروع سلام. فاتفقت الوفود العربية على أن يتولى الشقيري الرد باسمهم على كل ما يطرحه أبا إيبان والمندوب الأمريكي، فراح خلال الأيام الخمسة التي دارت فيها المناقشات يفضح أساليب التضليل في الدعاية الصهيونية ووسائل الأعلام الأمريكية ، ومؤامرات الإدارة الأمريكية ، وحليفتها بريطانيا منذ وعد بلفور عام1917، وتناول بالنقد قرار التقسيم، وما نتج عنه من تشريد الفلسطينيين، وتدمير مدنهم وقراهم واغتصاب أرضهم وممتلكاتهم، وفندّ ما كان يطرحه أبا أيبان معتمداً في كل ذلك على المصادر العلمية والمراجع القانونية.
ترأس الشقيري في خريف 1953الوفد السوري إلى الأمم المتحدة ، وكانت الجمعية العمومية ستناقش قضيتي تونس ومراكش ، فضم إلى عضوية الوفد السوري كلاً من الباهي الأدغم من تونس ، وأحمد بلا فريج من مراكش كمستشارين لتمكينهما من حضور الدورة في مقاعد الوفود ، مما أثار غضب المندوب الفرنسي ، واعتراضه على حضورهما مطالبا بإبعادهما ، فانبرى له الشقيري مفنداً حجج الفرنسيين وراح يهاجم استعمارهم للشمال الإفريقي ونهب ثرواته.
وفي عام 1954 استضافت الحكومة الليبية الشقيري ، لتقف على رأيه في موضوع الممتلكات الإيطالية في ليبيا ، بعد أن نالت استقلالها ، فشجع الليبيين على وضع اليد على تلك الممتلكات والاتفاق فيما بعد مع الحكومة الإيطالية بشأن التعويضات.(1/184)
شارك الشقيري في الوفد السوري إلى مؤتمر باندوج في نيسان 1955 وتصدى لمحاولات بعض الدول الآسيوية التي عارضت إدراج قضية فلسطين في جدول أعمال المؤتمر ، وتحدث باسم الوفود العربية جميعاً مصراً على طرح هذه القضية المصيرية أمام المؤتمر ، وحُسم الأمر بعد ذلك ببحث القضية في لجنة تقرير المصير. وكان للشقيري لقاءات متعددة على هامش المؤتمر لعل أهمها اللقاء بين الوفدين السوري والصيني ، حيث تعهد شو أن لأي بتأييد القضايا العربية وقضية فلسطين خاصة.
عاد الشقيري في خريف عام 1955 إلى الأمم المتحدة ليدافع عن قضية فلسطين ، وقضايا الجزائر، تونس ، مراكش ، وقد اغتنم مناسبة يومي الأمم المتحدة ، وحقوق الإنسان فركز على معنى حقوق الإنسان ، في خدمة قضية فلسطين والقضايا العربية المثارة.
بعد العدوان الثلاثي عام 1956 دفعت قضية حرية الملاحة في خليج العقبة الملك سعود إلى استعارة الأستاذ الشقيري من سوريا ليصبح ممثل السعودية في الأمم المتحدة وعينه وزير دولة لشؤون الأمم المتحدة وسفيراً دائما للسعودية في هيئة الأمم.ولم يمنعه مركزه الجديد من التصدي بعنف لوزراء خارجية أميركا وبريطانيا وفرنسا الذين كانوا يهاجمون القومية العربية وسوريا ومصر والثورة الجزائرية ، وقد احتج سفراء الدول الغربية الثلاث لدى وزارة الخارجية السعودية ، فطلبت منه وزارة الخارجية التوقف عن مهاجمة مندوبي تلك الدول الصديقة ، والتقيد بالتعليمات وعدم الخروج عليها لأن مصلحة المملكة تستوجب ذلك ، فقدم استقالته لكنها لم تقبل في حينه.(1/185)
عندما تفجرت الإحداث عام 1958 وقامت الوحدة بين مصر وسوريا ودخلت اليمن في اتحاد فيدرالي معها ، وأسقطت الملكية في العراق ، ونشبت أحداث خطيرة في الأردن ولبنان ، وأنزلت الولايات المتحدة قواتها في لبنان وأنزلت بريطانيا قواتها في الأردن ، انعقدت الجمعية العمومية للأمم المتحدة في دورة طارئة ،وخطب الرئيس الأميريكي دوايت ايزنهاور منذراً ومحذراً ومثله فعل سلوين لويد وزير خارجية بريطانيا ، فانبرى لهما أحمد الشقيري وألقى خطاباً مطولاً رد فيه على أيزنهاور ولويد مذكراً بالسياسة الاستعمارية لبلديهما مما أثار ضجة صحفية عالمية ركزت على ردود الشقيري ومهاجمته لأيزنهاور.
بعد دخول القوات المصرية اليمن عام1962 بطلب من الحكومة اليمنية، طلبت وزارة الخارجية السعودية من الشقيري بصفته ممثلاً لها أن يقدم شكوى إلى مجلس الأمن يتهم القوات المصرية بالمرابطة على حدودها وانتهاك حرمة تلك الحدود ، فرفض تقديم الشكوى ورد على وزارة الخارجية بأن هذه الخلافات يمكن عرضها على جامعة الدول العربية ومعالجتها في نطاق الأسرة العربية الواحدة ، وقد ظل على رأيه بالرغم من إصرار الأمير فيصل عليه ، ومطالبته الالتزام بالتعليمات لا تفسيرها. وقد كانت نتيجة هذا الموقف أن صدر عام 1963 قراراً بإنهاء عمله كرئيس للوفد السعودي في الأمم المتحدة ، فعاد إلى مكان إقامته في لبنان.
كان هذا الموقف نقطة تحول في حياة الشقيري ، حيث راحت الوفود الفلسطينية في لبنان تفد إلى داره في قرية كيفون ، مقدرة موقفه في الدفاع عن قضية فلسطين ، والقضايا العربية وتتمنى عليه التفرغ لتنشيط الحركة(1/186)
الجماهيرية الفلسطينية ، بعد تلك السنوات الطويلة من الأسفار والعمل الدبلوماسي في الجامعة العربية وهيئة الأمم المتحدة.
شكراً للأخ خالد الفاهوم الذي شارك الأستاذ الشقيري منذ تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 ، فقد حدثنا بموضوعية عن دور الشقيري في تأسيسها والإشراف على دوائرها.
رحم الله المغفور له الأستاذ أحمد الشقيري ، وافته المنية مرتاحاً من رؤية ما حل بمنظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها التي قادها بأمانة وكفاءة عدة سنوات ، وكيف تحول رئيس لجنتها التنفيذية وعدد من أعضائها من قادة للمنظمة مؤتمنين على ميثاقها الوطني ، وحقوق الشعب التاريخية ، إلى أدوات عميلة تذعن وتنفذ بإذلال ما يقرره الغزاة الصهاينة ، وحلفاؤهم في الإدارة الأمريكية ، وكيف تحول بعض قادة وكتائب جيش التحرير الفلسطيني إلى أجهزة شرطة وأدوات قمع تطلق النار على كل من يقذف حجرا على صهيوني ،وتعتقل من تشك بأنه ربما فكر بقذف حجر على صهيوني في المستقبل ، أو من أعلن موقفا ضد من فرطوا بالحقوق الوطنية والقومية وعقدوا اتفاقات الذل والإذعان مع الغزاة الصهاينة مغتصبي الأرض ، مرتكبي المجازر ، مشردي أهل الوطن.
وافته المنية مرتاحاً من معرفة ما حل بجامعة الدول العربية التي عايش تكوينها كأمين عام مساعد قبل نصف قرن ، وكيف أصبح اليوم ملوك دولها وأمراء مشيخاتها والقسم الأكبر من رؤساء أنظمتها يتراكضون لاهثين(1/187)
لمصالحة الكيان الصهيوني والاعتراف بشرعيته ، وشرعية اغتصاب فلسطين وأجزاء أخرى من الأقطار العربية المحيطة بفلسطين.
أيها الحفل الكريم:
قبل اختتام هذه المداخلة المتواضعة عما قدمه الأستاذ أحمد الشقيري في خدمة قضية فلسطين والقضايا العربية ، لابد من التأكيد بأنه رغم كل ما حصل وما يحاك ضد امتنا العربية من مؤامرات استعمارية وصهيونية ، ومن تهديد الوجود العربي وتمزيق وحدته التاريخية والجغرافية ونهب ثرواته، والتحكم بمقدراته ، وبالرغم من كل ما قدمه وأقدم عليه حكام أغلبية أنظمة الدول العربية والقيادة المنحرفة في منظمة التحرير الفلسطينية من تفريط وتنازلات وعقد اتفاقات ذل وإذعان في المرحلة الراهنة ، فإن الجماهير العربية على امتداد ساحة الوطن العربي لن تيأس ولن تستسلم ولن تفرط بأي حق من حقوقها التاريخية الثابتة وغير القابلة للتصرف ، لإيمانها المطلق بأن الصراع مع العدو الصهيوني العنصري صراع وجود ولن يتحول يوماً إلى مجرد نزاع على الحدود.
لقد أثبت التاريخ أن مسيرة التحرير في إحدى مراحل الكفاح العربي البارزة قد انطلقت من سوريا، يوم توحدت القوى في ملحمة عسكرية وصراع سياسي عقائدي واقتصادي مع الغزاة الإفرنج ، فحطمت مؤسستهم العسكرية وهزمت جيوشهم الجرارة وطردت ملوكهم وأمراءهم وقادة فيالقهم من المشرق العربي كله ، وحررت القدس والأرض العربية كلها.(1/188)
إن الجماهير العربية المؤمنة بعدالة قضاياها الوطنية والقومية، والمتمسكة بكامل حقوقها التاريخية الثابتة، والرافضة للمساومة أو التنازل أو التفريط بأي حق من حقوقها، والمستعدة لمواصلة الكفاح،واستمرار البذل والتضحية والعطاء مهما طال الزمن، تتطلع إلى سوريا الصامدة ، تحيي جماهيرها وقواها الوطنية والقومية وجيشها وقادتها، وفي مقدمتهم القائد المناضل حافظ الأسد ، الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي ، الذي يعلن في كل مناسبة، وعلى رؤوس الأشهاد، التمسك بالحق القومي العربي الكامل والدفاع عنه على طريق استكمال شروط مسيرة التحرير للأرض العربية كلها من العدو الصهيوني وحلفائه الاستراتيجيين وعملائه المحليين.
المجد والخلود لشهداء الأمة العربية وشهداء الحرية في كل زمان ومكان.(1/189)
سيرة حياة المناضل أحمد الشقيري (1)
رافع الساعدي
لا تقاس حياة أحمد الشقيري ببضع عشرات من الكيلو مترات تفصل ما بين قلعة تبنين في جنوب لبنان حيث ولد منفياً مع أسرته من الأتراك ، وبين مقبرة الصحابي الجليل أبو عبيدة بن الجراح ، في غور الأردن ، حيث مثواه الأخيرة مهجراً من الصهاينة.
لا تحصر حياته بالعقود التي تجاوزت السبع قليلا التي عاشها من عام 1908-1980 بل أنها تأثرت بما سبق وأثرت بما لحق.
- ولد الشقيري في قلعة تبنين الشهيرة ، في جنوب لبنان ، في العام 1908 الذي سُمي عام الحرية وكان والده الشيخ أسعد الشقيري عضواً في البرلمان التركي (المبعوثان) منفيا لمعارضة سياسة السلطان العثماني عبد الحميد الثاني.
__________
(1) * اللجنة الفلسطينية للدفاع عن الثقافة الوطنية، دمشق في 3/4/1995.(1/190)
- والدته تركية تزوجها أبوه على زوجة تركية أخرى ثم طلقها فسافرت مع طفلها أحمد في صحبة أسرة عمه قاسم الذي نقل عمله إلى طولكرم.
- توفيت والدته في السنة الثانية من الحرب العالمية الأولى اثر مرض عضال وهو في السابعة من عمره ، وكان قد أحبها حباً كبيراً ، وعنها أخذ اللغة التركية.
- في صيف العام 1916 بدأت رحلة الالتحاق بالوالد في عكا.
- كان أحمد الشقيري طالباً مجداً مجتهداً أحب الكشافة وانتمى إليها كما واظب على حضور الدروس في المساجد والكنائس ومجالس والده ، والقراءة في مكتبته ، حيث تجلت قدراته الخطابية وأتقن علوم اللغة ، مبكراً ، حتى عرف باسم الشقيري الصغير تمييزاً له عن والده. أنهى دراسته الثانوية في القدس في العام 1926 حيث التحق مع أخيه بالجامعة الأمريكية في بيروت ، وهناك انضم إلى نادي العروة الوثقى.
- في السادس من أيار/ مايو 1927 ، قاد الشقيري المظاهرة الطلابية التي انطلقت من الجامعة الأمريكية بمناسبة الذكرى (11) لشهداء أيار/ مايو 1916 ، حيث ألقى خطبة حماسية في ساحة الشهداء في بيروت ندد فيها بالاستعمار والاستبداد العثماني.
- إثر تلك المظاهرة وفي 13/5/1927 أقدمت سلطات الانتداب الفرنسي على إبعاد الشقيري من لبنان إلى فلسطين عن طريق رأس الناقورة ،فعاد إلى عكا وكان ذلك نقطة تحول هامة في حياته السياسية .
-(1/191)
باشر يكتب المقالات الوطنية في جريدة (الزمر) لصاحبها خليل زقوت في عكا.
- عام 1928 التحق الشقيري بمعهد الحقوق في القدس ، مجسداً مقولته (إذا كنتُ خطيباً فلم لا أكون محامياً؟).
- ثم باشر العمل بجريدة (مرآة الشرق) التي يصدرها بولس شحادة.
- وقد حضر الشقيري المؤتمر الفلسطيني السابع في القدس في العام ذاته بصفته صحفياً.
- شارك في (جمعيات الشبان المسلمين) فألقى المحاضرات وألهب الحماس في مواجهة الاستعمار والصهيونية ، فاعتقلته الشرطة ونقلته إلى قرية الزيب في إقامة جبرية في بيت آل السعدي .
- في العام 1930 اعتزل العمل في جريدة (مرآة الشرق) للتفرغ للدراسة.
- عمل متمرناً في مكتب المحامي مغنم مغنم ، ثم انتقل لأسباب سياسية إلى مكتب المحامي عوني عبد الهادي ، باعتباره أحد رجالات الحركة العربية الأوائل.
- ازداد تمرس الشقيري في المحاماة في أوائل الثلاثينات في ميدان القضايا الوطنية الثورية ، عبر المشاركة في إعداد ملف القضية الذي قدم إلى(لجنة شو) عدا عن الدفاع عن الشخصيات الوطنية وقضية أراضي عرب وادي الحوارث.
- تزوج عام 1933 من السيدة نسيبة بنت عبد الفتاح السعدي رئيس بلدية عكا وأنجبت له أولاده الستة.
-(1/192)
في 5/1/1936 شارك الشقيري في تأبين شيخ الشهداء المجاهد عز الدين القسام فألقى كلمة بمناسبة أربعين القسام.
- نتيجة لمشاركة أحمد الشقيري في الحركات الثورية التي شهدتها فلسطين في الثلاثينات مناضلاً بلسانه وقلمه ، متصدياً للانتداب البريطاني والمطامع الصهيونية ومدافعاً عن المعتقلين والثوار العرب ، لاحقته السلطات البريطانية بعد انتهاء الثورة الفلسطينية الكبرى 1939 فغادر فلسطين إلى سوريا ثم لبنان فمصر.
- في شباط / فبراير 1940 نعى إليه وهو في مصر والده الشيخ أسعد الشقيري مع موافقة السلطات البريطانية على عودته إلى عكا ، حيث عاد وافتتح مكتباً للمحاماه اختص بالدفاع عن المناضلين الملاحقين وقضايا الأرض.
- في 26/7/1945 عُيّن الشقيري أول مدير للمكتب العربي في واشنطن.
- ثم بعدئذ نقل مديراً لمكتب القدس وبقي على رأس عمله هذا إضافة للمحاماه حتى وقعت نكبة عام 1948 ، وقد دأب المكتب العربي على الدعاية للقضية الفلسطينية في أمريكا وبريطانيا.
- شارك في اجتماعات تأسيس جامعة الدول العربية وفي اجتماعات مجلس الجامعة العربية في بلودان 1946م.
- إثر النكبة هاجر إلى سوريا ثم إلى لبنان حيث استقر في بيروت.
- بتاريخ 2/2/1950 عين الشقيري أميناً عاماً مساعداً لجامعة الدول العربية إضافة لعمله في الوفد السوري إلى الأمم المتحدة.
-(1/193)
كان له الدور الأبرز في إعداد ملفات القضية الفلسطينية ثم الدفاع عن القضايا العربية في فلسطين والجزائر وتونس وليبيا والسودان ومراكش، إضافة لمشاركته في مؤتمرات عديدة من أهمها مؤتمر باندونغ (ربيع 1955).
- في العام 1957 عُين وزير دولة لشؤون الأمم المتحدة في حكومة الرياض ومندوباً دائما لها في هيئة الأمم المتحدة ، حيث تابع رسالته في الدفاع عن القضايا القومية العربية.
- في شهر أب أغسطس 1963 وبينما كان الشقيري يمضي إجازته السنوية في لبنان ابلغ قرار الأمير فيصل بن عبد العزيز إنهاء عمله رئيساً لوفد حكومة الرياض في الأمم المتحدة.
- في أيلول/ سبتمبر 1963 زار السيد عبد الحميد غالب سفير الجمهورية العربية المتحدة في بيروت الشقيري في منزله ببلدة كيفون اللبنانية وأبلغه رسالة شفوية من الرئيس جمال عبد الناصر، وبرقية الجامعة العربية بترشيحه لمنصب ممثل فلسطين في الجامعة العربية ، بعد وفاة السيد أحمد حلمي عبد الباقي، مندوب فلسطين في الجامعة (الذي توفي في حزيران / يونيو 1963م).
- في 19/ 9/1963 حضر الشقيري اجتماعات مجلس جامعة الدول العربية ، حيث رُشح مندوباً لفلسطين بمعارضة حكومتي الرياض وعمّان ، وعُين بذلك مندوباً لفلسطين في الجامعة.
- شارك أحمد الشقيري في مؤتمر القمة العربي الأول الذي عقد في القاهرة بين 13-16/1/1964 برئاسة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، وقد كلف المؤتمر السيد أحمد الشقيري ، ممثل فلسطين في(1/194)
جامعة الدول العربية، الاتصال بأبناء فلسطين من أجل إنشاء الكيان الفلسطيني والعودة بنتيجة اتصالاته إلى مؤتمر القمة العربي الثاني.
- استثمر الشقيري بخبرته الواسعة الظروف المستجدة بعد مؤتمر القمة العربي الأول ، والموقف الداعم للزعيم القومي جمال عبد الناصر ، والتوجهات القومية لثورة الثامن من آذار ، وانتصار الثورة الجزائرية ، فالتقط اللحظة التاريخية ،وتحرك حارقاً المراحل ، فقام بجولة واسعة زار خلالها الدول العربية ، التي تضم التجمعات الفلسطينية ، حيث شكلت اللجان التحضيرية لعقد مؤتمر فلسطيني عام.
- في القدس وصباح 28/5/1964 وفي أجواء احتفالية وعواطف جياشة ، عقد المؤتمر الفلسطيني الأول برئاسة أحمد الشقيري وحضور الملك حسين ، وأمين عام الجامعة العربية.
وقد أعلن قيام منظمة التحرير الفلسطينية وتمت المصادقة على (الميثاق القومي) و(النظام الأساسي) وانتخب الشقيري رئيساً للجنة التنفيذية وكلف اختيار أعضاء هذه اللجنة ، وعددهم خمسة عشر عضواً . كما أقر إعداد الشعب الفلسطيني عسكريا ، وإنشاء الصندوق القومي الفلسطيني.
- قَّدّم الشقيري إلى مؤتمر القمة العربية الثاني بالإسكندرية (5 ـ 11/9/1964) تقريرًا عن إنشاء الكيان الفلسطيني ، وقد وافق المؤتمر بعد طول نقاش على ما قام به الشقيري ، وفي يوم 10/9/1964 تأسس (جيش التحرير الفلسطيني).
-(1/195)
ترأس الشقيري الدورة الثانية للمجلس الوطني الفلسطيني في القاهرة ، ما بين 31/5 ولغاية 4/6/1965 والدورة الثالثة في غزة من -24/5/1966وكُلف في المرتين بإعادة تشكيل اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
- بعد خلافات مريرة مع حكومة الأردن ، وصل أحمد الشقيري مع الملك حسين وبطائرته إلى عمان يوم 30/5/1967 قادما من القاهرة ، بعد أن وقعت هناك معاهدة الدفاع المشترك بين عمّان والقاهرة.
- قام في الفترة من 2-5 حزيران 1967 بجولة واسعة شملت مواقع المواجهة في الضفة الغربية ، وقد غادر القدس الشريف صباح يوم الاثنين الخامس من حزيران وهو لا يعلم أنه يغادرها إلى الأبد.
- في مؤتمر قمة الخرطوم 29/8 ـ 1/9/1967م كان للشقيري دور بارز في تثبيت لاءات الخرطوم الشهيرة (لا تفاوض لا صلح لا اعتراف) قبل انسحابه من الجلسة الختامية للقمة محتجاً.
- تعرض الشقيري بعد قمة الخرطوم لحملة واسعة في الصحف العربية وتحديداً الصحف المصرية منها , حتى تلقى يوم 14/12/1967 رسالة موقعة من سبعة من أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية تطالبه بالاستقالة من رئاسة المنظمة.
- قدم أحمد الشقيري استقالته إلى الشعب الفلسطيني عبر (إذاعة صوت فلسطين) يوم 24/12/1967 ، كي تبقى منظمة التحرير ، وقد قبلتها اللجنة التنفيذية في اليوم التالي وكلف السيد يحيى حمودة رئيسا بالوكالة للجنة التنفيذية.
-(1/196)
رفض الشقيري بعد استقالته أي عمل أو منصب رسمي ، وانصرف للكتابة.
- اعتبر الشقيري اتفاقيتي كامب ديفيد ومانتج عنهما (خيانة عظمى للقضية الفلسطينية والعربية) لذلك غادر القاهرة إلى تونس عام 1979م ، فور توقيع تلك الاتفاقيات.
- قضى الشقيري بضعة أشهر في تونس وأصيب خلالها بمرض عضال ، نقل على إثره إلى مدينة الحسين الطبية في عمان.
- توفي في عمان يوم 26/2/1980م، قبيل رفع العلم الصهيوني في سماء القاهرة، ودفن بناءً على وصيته في مقبرة الصحابي الجليل أبو عبيدة بن الجراح ، في منطقة الغور قريبا من فلسطين.
- كان الشقيري من الزعماء القلائل الذين أغنوا المكتبة العربية بواحد وعشرين كتاباً سياسياً لها قيمة فكرية ، حيث امتاز عن سواه بتدوين تجربته النضالية في مجموعة من الكتب ، تفرغ لها وصاغها فيما يشبه المذكرات الشخصية، وشكلت رصيداً ثقافياً وأدبياً وفكرياً وسياسياً متميزاً ، تحدثت عن أهم الحقب التاريخية للشعب الفلسطيني والأمة العربية وامتداداتها في العالم الإسلامي.
- وكان ( أبو مازن) حتى أيامه الأخيرة يفاخر بخمسة إنجازات هامة له هي: تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية ، وجيش التحرير الفلسطيني ، والصندوق القومي الفلسطيني ، وإذاعة صوت فلسطين ومركز الأبحاث.(1/197)
وقد أنعم الله عليه فتوفاه قبل أن يشهد فصول التآمر على هذه المنجزات من قبل مَن يُفترض فيهم أن يكونوا أمناء عليها ، لكن الأحداث أكدت أنهم لم يكونوا كذلك.
رحم الله أحمد الشقيري.(1/198)
أحمد الشقيري..
في ذكراه الخامسة عشرة (1)
محمد سعيد صبار
البعض الناس العاديين أو القادة قد تقابلهم فتخرج من مقابلتهم بانطباع ينطبق عليه المثل العامي القائل (بحساب الباشا باشا اتاري الباشا زلمة) والبعض الآخر تخرج من عنده بذخيرة من الخبرة والدراية تترسخ في أعماق نفسك ما حييت،ومن هذا الصنف الأخير المرحوم أحمد الشقيري.
دفعني لهذا القول عندما وقعت عيناي على إعلان قراءة الفاتحة على روح الفقيد والمنشور على صفحة الدستور الغراء يوم 26 رمضان سنة 1415هـ الموافق 26ـ 2ـ1995 بمناسبة الذكرى الخامسة عشرة لوفاته ، فما أن رأيت الإعلان حتى ثبتت عيناي في تلاوته المرة تلو المرة وقفز بي شريط ذكرياتي إلى الأيام الخوالي أيام الثورة الفلسطينية عام 1936ـ 1939 ثم فترة الحرب العالمية الثانية وما تلاها من أحداث عندما كنا تلاميذ في
__________
(1) * الدستور،عمان، 8/3/1995.(1/199)
الصفوف الابتدائية أيام فترة الانتداب البريطاني اللعين على فلسطين وبعض الأطار العربية التي تقاسمها الحلفاء من تركة الدولة العثمانية.
عادت بي الذكريات إلى أيام الثورة العارمة في فلسطين التي فجرها أبناء فلسطين بقيادة الشيخ عز الدين القسام رحمه الله وانضم اليها ليس الشعب الفلسطيني بجميع فئاته من شباب وشيوخ ونساء وأطفال بل وأيضاً من الأخوة العرب بجميع أقطارهم حيث جسدت تلك الوحدة في القتال صدق الإحساس بأن الأمة العربية أمة واحدة بالرغم من حدود (سايكس بيكو) الوهمية. وتذكرت كيف كنا نحن تلامذة المدارس في القرى العربية والمدن الفلسطينية ننشد ونحن نتبع جنائز الشهداء أو حتى والنساء ينقلن الجرحى والمصابين برصاص الطائرات البريطانية الذي لم يكن يفرق بين مجاهد أو راعي غنم أو بين شيخ أو امرأة في طريقها إلى أرض الفلاحة تحمل الطعام لزوجها أو أبيها أو أخيها. تذكرت كيف كنا ننشد الأناشيد التي غذانا بها معلمونا في المدارس مثل (دمت يا بلادي ما دام الزمن) أو (هيو ولوا) أو (ياأوروبا لاتغالي لاتقولي الفتح طال) إلى غير ذلك من الأناشيد الحماسية والوطنية وكيف كنا نشتعل حماساً حتى أننا كنا نقلد آباءنا الذين كانوا يحملون البندقية والجناد (حزام الفشك)، فنعمل بنادقنا من أعواد الزيتون والتين والمطاط المأخوذ من الكاوتشوك.
ثم من بعد ذلك إلى فترة الحرب العالمية الثانية التي توقفت فيها الثورة بناء على وعود (ونحن دائما ضحايا الوعود) ففي خلال فترة الحرب كنت أسافر إلى حيفا وكرمِها الأشم للالتحاق بوالدي وكيف كنت وبعض الرفاق نذهب إلى الطرف الشمالي من الخليج العجيب الجميل من خليج عكا(1/200)
لزيارة مدينة الجزار التي تحدت نابليون وغيره من الغزاة. وكيف كنا نتعمد المرور من أمام مكتب المحامي الشاب الأنيق الذي يرتدي الطربوش الأحمر والذي اتخذ مكتباً له على السور ذلك هو أحمد الشقيري ـ رحمه الله فنتعمد إلقاء السلام عليه كل مرة ليرد أهلا بالشباب.
كنا نفعل ذلك نحن الفتيان لننال شرف رد التحية من الشقيري ـ ذلك المحامي الذي ذاع صيته وكبرت سمعته الجهادية والنضالية بالدفاع عن قضية بلده وعن قضايا مواطنيه.
ومضت السنون وانتهت الحرب العالمية الثانية بهزيمة ألمانيا وحلفائها من دول المحور وبترسيخ الاستعمار الغربي على الدول العربية.
ثم وقعت الأحداث بين العرب واليهود الذين قويت شوكتهم بفضل الانتداب والذين تعظم حشدهم المدرب على القتال في فلسطين (خلال فترة الحرب العالمية الثانية وما تلاها). ووقعت الكارثة (النكبة) وتشرد الشعب الفلسطيني بتخطيط وتدبير مدروس وانتشر في أرجاء المعمورة كافة. وليس المقام الآن لسرد تلك الاحداث لأن ذلك كله سجل في أطنان من الورق والكتب ، ولكني أريد أن أصل إلى لقاء عابر مع المرحوم أحمد الشقيري في عام 1971 وإلى حديث دار وقتها.
ففي صيف عام 1971 بينما كنا نؤدي الامتحانات في جامعة بيروت العربية، وبعد الانتهاء من أحد الامتحانات اقترح بعض الزملاء المتواجدين بالساحة أن نطلع على الجبل ونروح عن أنفسنا قليلا استعدادا للامتحان القادم بعد الغد وكان دوري بسيارتي فعملت لهم سائقا وكنا خمسة زملاء وتسلقنا(1/201)
الجبل فقادنا دليلنا المرشد النبيه إلى طريق غير نافذ ضيق بحيث لا تستطيع السيارة على الاستدارة للرجوع. فاضطرنا إلى مواصلة السير في ذات الطريق حتى وصلنا إلى مدخل قصر كان لا بد لنا ان نستدير أمامه والعودة، وفي أثناء عملية الاستدارة جاءنا رجل مهرولا يدعونا للتوقف فاستغربنا ذلك لأننا لا نعرف أحداً في تلك المنطقة ولم يسبق لأقدامنا أن وطأت تلك الأرض. فاستفسرنا شو فيه!! فقال البيك عاوزكم تفضلوا، قلنا مين البيك قال أحمد الشقيري وكان خارج أي عمل رسمي، نظرنا بوجوه بعضنا وتساءلنا شو حد فيكم بيعرف الشقيري أو سبق أن تعرف عليه فكانت الإجابة طبعاً لا. نعرفه فقط من خلال أعماله والصحافة ، حاولنا أن نعتذر إلا أنه أشار إلينا أعلى الهضبة أن ادخلوا، فقلنا خلينا ندخل ونسلم على الزلمة ونتعرف عليه مش غلط.
أوقفنا السيارة رجوعاً داخل البوابة ونزلنا الخمسة وصعدنا الدرج إلى الرجل وبادرناه بالتحية وهو يرحب بنا. وبعد أن صافحناه، قال من الأخوة قلنا أردنيون من أصل فلسطيني فقال كلنا عرب يا مرحبا يا مرحبا اتفضلوا اشربوا فنجان قهوة، وسمعناه يحدث شخصا باسمه ويقول له (قول لفلان بيك أنا رايح أتاخر حوالي ساعة) فقلنا جميعا بطريقة عفوية والله يابيك ما دام الأمر هيك ساعة ما بيكفي عاوزين أكثر، فصمت ثم أردف خليهم ساعتين.
وبعد أن أجلسنا في المكان المعد لذلك قال عرفوني بأنفسكم وبلدانكم وكنا أربعة من بلدة عصيرة الشمالية والخامس من يافا ، وجميعهم مدرسون إلا أنا.(1/202)
وبعد الترحيب قال أنا أعرف عصيرة الشمالية. زرتها عدة مرات اثناء الثورة ، وتغديت تحت أحدى شجرات أحراج الزيتون وأعرف المختار وفلان وفلان وسمى لنا أسماء كلها الآن في ذمة الله. وجميعهم كانوا من الثوار ضد الانجليز.
وحدثنا بإسهاب عن بطولات ثوار سنة 1936 وكذلك عن أحداث سنة 1947 وسنة 1948 ثم مراحل ما بعد ذلك وكنا بالحقيقة نسأله كثيرا كثيرا فيعتذر أحيانا عن الإجابة وأحيانا أخرى يجيب حرصا منه رحمه الله على المصلحة الفلسطينية والعلاقات العربية.
وكان من جملة الأسئلة سؤال هو الذي أردت أن أصل إليه من كل هذه المقدمة ، وبعد أن دخلت الأمة العربية في مسألة السلام العربي الإسرائيلي.
كان السؤال هل تتقابل بالسيد أبو عمار (ياسر عرفات) قال نعم فإنه يأتيني كثيرا كلما جاء لبنان وقبل فترة وجيزة كان معي وكان يجلس هنا وأشار إلى مكان ما.وقد قلت له (احذر يا ياسر أن تكونوا انتم المنظمة أو الفلسطينيون الجسر الذي يعبر عليه العرب للصلح مع إسرائيل). رحمك الله يا شقيري ، هذه كانت رؤياك قبل أربعة وعشرين عاماً، من أين أتيت بها؟!. نعم إن هذا ما كنت تخشاه بفضل مخزونك السياسي وكفاحك النضالي وتعاملك الدبلوماسي مع الدول العربية وغيرها من خلال عملك بالجامعة العربية وهيئة الامم مندوباً لبعض الدول العربية ثم عملك رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية.
فاهنأ يا شقيري في مثواك ، جعله الله روضة من رياض الجنة.(1/203)
في ذكرى الشقيري (1)
د. أسعد عبد الرحمن
عيب وإذلال! إنه لعيب والله وإذلال أن يراد لنا تصديق ما يكتبه (أعداء الأمس) و(أصدقاء اليوم) من الحلف الاسرائيلي الصهيوني العربي المتصهين عنا ، فبعد كل ما (باعونا) بل (بلعونا) إياه حتى الان ، ها هم يزيفون تاريخنا ويقومون بتسويقه علينا ، فينجحون معنا في حين تراهم يفشلون مع الباحثين الاسرائيليين (وعلى رأسهم كل من بني موريس وساسر وسمحة فلابان) ومناسبة هذا الحديث ليس ما فعله هؤلاء الباحثون اليهود الاسرائيليون من أصحاب الضمير العلمي الذين نسفوا التاريخ المزيف الذي شجعته ، بل رعته ، دولتهم ومنظمتهم الصهيونية وتحالفاتهما ، إذن المناسبة اليوم ليست بسبب ما فعله أولئك الباحثون في نسف التاريخ المزيف ، وإعادة كتابته في ضوء الحقائق الصلبة التي تنصفنا ، بقدر ما هي مناسبة أتاحتها الذكرى الخامسة عشرة لرحيل المناضل الأستاذ أحمد الشقيري القومي العربي الأصيل الفلسطيني الموزَّع في خدمة العرب والذي ختم حياته بتأسيس (الوطن المعنوي الفلسطيني) _ منظمة التحرير الفلسطينية.
__________
(1) * الأسواق، عمان، 6/3/1995.(1/204)
كم حاول الحلف الإسرائيلي / الصهيوني/ العربي المتصهين تشويه صورة زعماء عرب ومن ضمنهم المرحوم أحمد الشقيري ولا غرابة في ذلك، لكن الغريب العجيب أن بعضنا ـ عن سوء نية ، أو عن جهل طيب النية ـ سعى إلى ذلك ، أو هو سعى إلى ابتلاع البرشامة التي أعدها لنا ذلك (الحلف) رغم ما تحتويه من سموم ، قالوا لنا إنه مجنون مشعوذ لأنه أصر على أطروحة أحقية العرب التاريخية في كامل (أرض فلسطين) وتجاهلوا الحديث عن الرموز الاسرائيلية العنصرية الفاشية ، التي تقود في أسوأ الأحوال نصف المجتمع السياسي الاسرائيلي والتي لاتزال تصر على أطروحة أحقية اليهود التاريخية في كامل (أرض أسرائيل) ، ثم هم اتهموا الأستاذ الشقيري بأنه أراد إلقاء اليهود في البحر كي يأكلهم السمك ، وصدقنا أكذوبتهم تلك رغم أنهم كانوا يومئذ هم الذي يلقون بنا في أعماق الصحراء.
العيب والإذلال ليس في حقيقة كونهم يزيفون تاريخنا ، لكن العيب والإذلال في حقيقة كوننا نتعامل مع أكاذيبهم باعتبارها حقائق ، فمتى نتوقف عن ذلك متى؟!.(1/205)
أربعة عشر عاما ..
على رحيل مُناضل كبير (1)
د. محمد علي الفرا
مما لاشك فيه أن من سمات الأمم والشعوب الحية تكريم أبطالها وقادتها المخلصين الذين ساهموا في بنائها أو ناضلوا من أجل حريتها ورفعتها ، وتاريخ فلسطين المعاصر حافل بالكثير من البطولات والشخصيات التي كان لها دور كبير في المسيرة النضالية الطويلة للشعب الفلسطيني ، وأن من حق أبناء هذا الجيل الصامد أن يعرف ولو شيئاً عن رموز النضال الفلسطيني ومساهماتهم في مختلف مراحل القضية ، وفي المقابل فإن من واجب كتابنا وحملة الأقلام النهوض بهذه الأمانة.
وإيمانا مني بذلك وإحساساً بما يمليه علي الواجب اغتنمت مناسبة الذكرى الرابعة عشرة لوفاة المجاهد الكبير أحمد الشقيري مؤسس منظمة التحرير الفلسطينية وأول رئيس لها لأكتب عنه كلمات ربما ساهمت في
__________
(1) * الدستور، عمان، 1/3/1994.(1/206)
تعريف الجيل الناشئ به وبخاصة أنني كنت من الذين يعرفونه شخصياً ومن ضمن أعضاء اللجنة التي خلدت ذكراه في كتاب أعدته المؤرخة والأستاذة الجامعية الدكتورة خيرية قاسمية.
وعلى الرغم من انقضاء أربعة عشر عاما على رحيل هذا المناضل الكبير إلا أن لذكراه اليوم معنى وأهمية مميزة، لقد حلت علينا هذه الذكرى والقضية الفلسطينية تواجه منعطفاً خطيراً وتتعرض لتحديات لم يسبق أن تعرضت لها من قبل. فمنذ عقد مؤتمر السلام في مدريد والمفاوضات المعلنة منها والسرية لم تحقق للشعب الفلسطيني ما كان يتطلع إليه من عودة كريمة إلى وطنه أو استرجاع للأرض التي احتلت في حرب حزيران 1967، والمتتبع اليوم لما يجري على الساحة الفلسطينية يرى انحسار الاهتمام العالمي بالقضية ويلمس تجاهلا عربيا لفلسطين والتي كانت في يوم من الأيام قضية العرب الأولى. ومما يحز في النفس ويدمي القلب ما نراه اليوم من تنازلات تقدم لإسرائيل سيسفر في النهاية إلى كيان محدود خاضع للسيطرة الإسرائيلية مع بقاء المستوطنات فيه لتظل كمسمار جحا نقاط توتر وبؤر قلاقل تهدد أية محاولة للإرتقاء بهذا الكيان إلى أي شكل من أشكال الوجود المستقل أو نواة لدولة فلسطينية قد تقام في المستقبل.
كان الشقيري من الرعيل الأول من القادة الفلسطينيين الذين ناضلوا قبل نكبة عام 1948 وواصلوا مسيرة النضال حتى وافاهم الأجل فقد انتقل رحمه الله إلى الرفيق الأعلى في السادس والعشرين من شباط عام 1980وربما تميز الشقيري عن بعض أقرانه من القادة الفلسطينيين بتوجهه للعمل على الساحة العربية من أوسع أبوابها ، فقد ساهم وشارك في التحضير(1/207)
لأنشاء جامعة الدول العربية في الأربعينات وعمل كأمين عام مساعد في الخمسينات حينما كان عبد الرحمن عزام باشا أول أمين عام لها وقد انتدب بعدها لرئاسة الوفد السوري في هيئة الأمم المتحدة ثم ممثل للمملكة العربية السعودية في نفس الهيئة الدولية ، وفي التاسع عشر من أيلول عام 63 أختير الشقيري ليكون ممثل فلسطين في الجامعة العربية بعد وفاة ممثلها السابق أحمد حلمي عبد الباقي باشا والذي كان رئيساً لحكومة عموم فلسطين التي أسسها الزعيم الفلسطيني الحاج أمين الحسيني في القاهرة عام 1949.
وحينما عقد أول مؤتمر قمة عربي في شهر كانون الثاني عام 64 بمبادرة من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لمواجهة عزم إسرائيل وتصميمها على الاستيلاء على معظم مياه نهر الأردن طرح الشقيري فكرة إنشاء كيان فلسطيني ولاقى هذا الاقتراح ترحيباً من القادة العرب ، وكلفوا الشقيري بالتشاور مع الجاليات الفلسطينية المنتشرة في ربوع الوطن العربي وتقديم مشروع لهذا الكيان المقترح يعرض على القمة العربية القادمة ، وقد حدثني رحمه الله بأنه على الرغم من أنه لم يكن مخولا بإنشاء هذا الكيان إلا أنه اعتبرها فرصة لن تتكرر فطاف الأقطار العربية واجتمع بالفلسطينيين وعمل بكل طاقاته وإمكاناته لتوحيد صفوفهم وجمع كلمتهم في ظروف بالغة التعقيد ، وعلى الرغم من الصعوبات والعقبات الكثيرة التي واجهته إلا أنه نجح في النهاية في عقد أول مؤتمر وطني في مدينة القدس في الفترة ما بين 28/5/64 - 2/6/64 وفي هذا المؤتمر أعلن عن قيام منظمة التحرير الفلسطينية وانتخب الشقيري رئيساً للجنة التنفيذية للمنظمة وعبد المجيد شومان رئيساً لمجلس إدارة الصندوق القومي الفلسطيني ، وفي هذا المؤتمر صادق الحضور على ميثاق المنظمة الذي كان للشقيري الدور الأكبر في(1/208)
صياغته بحكم خبرته القانونية الواسعة ، ولعل من أهم بنود هذا الميثاق اعتبار فلسطين بحدودها التي كانت قائمة في عهد الانتداب البريطاني وحدة إقليمية لا تتجزأ وأن شعب فلسطين يقرر مصيره بعد أن يتم تحرير وطنه ، وأن كلا من وعد بلفور وصك الانتداب باطلان وكذلك كل ما يترتب عليهما ، وأن دعوى الروابط التاريخية أو الروحية بين اليهود وفلسطين لا تتفق مع حقائق التاريخ ولا مع مقومات الدولة في مفهومها الصحيح ، وأن اليهودية بوصفها ديناً سماوياً ليست قومية ذات وجود مستقل وكذلك فإن اليهود ليسوا شعباً واحداً له شخصيته المستقلة وإنما هم مواطنون في الدول التي ينتمون إليها وأن الصهيونية حركة استعمارية في نشوئها عدوانية وتوسعية في أهدافها عنصرية تعصبية في تكوينها وفاشستية بمراميها ووسائلها ، وأن إسرائيل بوصفها طليعة هذه الحركة الهدامة وركيزة للإستعمار مصدر دائم للقلق والاضطراب في الشرق الأوسط خاصة وللأسرة الدولية بصورة عامة، ومن أجل ذلك فإن أهل فلسطين جديرون بعون الأسرة الدولية وتأييدها.
وربما كان من أهم انجازات الشقيري إنشاء جيش التحرير الفلسطيني وتشكيل المجلس الوطني الفلسطيني واللجنة التنفيذية وإذاعة فلسطين ومركز الأبحاث الفلسطيني والصندوق القومي الفلسطيني وافتتاح مكاتب للمنظمة في الأقطار العربية وفي الخارج.
كان الشقيري وهو رأس المنظمة شعلة من النشاط المستمر يعمل ما وسعه العمل لما فيه خير وطنه ومنفعة شعبه ولكن أخذ البعض عليه فرديته فكثيراً ما كان يتصرف بنفسه دون أن يستشير زملاءَه أعضاء اللجنة التنفيذية ، وهو لاينكر هذا ,ففي مذكراته يذكر حادثة تدل على انفراده في(1/209)
اتخاذ القرار وذلك حينما انسحب من مجلس رؤساء الحكومات العربية في مايو 1965 ومطالبته بفصل تونس من الجامعة العربية على إثر تصريحات الرئيس بورقيبة في آذار ، ولكنه لم يُكِن راغباً في فرض نفسه على زملائه الذين كان يكن لهم كل احترام وكانوا يقدرونه غاية التقدير وعلى الرغم من هذا فبمجرد أن شعر بانزعاج زملائه من فرديته قدم استقالته إلى المجلس الوطني الفلسطيني وخاطب الأعضاء قائلا (ومن رأى إعوجاجاً فليقوّمه إن الأمانة بلاء وعناء والجبال أبين أن يحملنها وأنا حاضر أن أردّ الأمانة إلى الشعب فإنه وحده صاحبها).
كان الشقيري يؤمن بالعمل المنظم المدروس فالكيان الفلسطيني عنده لا معنى له إذا لم يكن قائما على تنظيم وقوة تسنده وكفاح يدعمه ، إنه تنظيم وعمل وتحرير ، إنه قوة طليعية نضالية في ميدان النضال العربي ، إنه تضحيات وبطولات ، إنه عرق لا يجف ودمع لا يكفكف ودم غير ضنين ، إنه أداة نضالية تمكن أهل فلسطين من النضال وتكفل التدريب والسلاح للقادرين على حمله.
ومن منطلق إيمانه المطلق بأن الكفاح المسلح هو طريق التحرير قام ـ كما قلنا ـ بإنشاء جيش التحرير الفلسطيني ليكون طليعة البذل والتضحية والعطاء وكان دوماً يصر على أن شعب فلسطين يجب أن يكون في طليعة الطليعة في حرب التحرير وكان يرى أنه لا يمكن التخلي عن الكفاح المسلح من أجل تحرير فلسطين.(1/210)
وعلى الرغم من إنشاء الشقيري لجيش التحرير الفلسطيني إلا انه كان يشيد بالعمل الفدائي وبخاصة بعد نكبة حزيران عام 1967 لكنه كان يلح على ضرورة توحيد المنظمات الفدائية والمنظمات السياسية خوفا على العمل الفدائي من التفرقة والانقسام ويرى بأن جميع هذه المنظمات يجب أن تتوحد تحت لواء منظمة التحرير الفلسطينية وقد بذل جهوداً كثيرة ومساعيَ حقيقيةً من أجل تحقيق هذا الهدف.
وعلى الرغم من استقالة الشقيري إلا أنه ظل حاملا مسؤولية وطنه وحاملا في فكره ووجدانه هموم شعبه إلى أن مات واقفاً كما تموت الأشجار الباسقة ، لم يكن رحمه الله راضيا عن تخلي العرب عن الكفاح والنضال لإيمانه بأن النزاع العربي الإسرائيلي ليس نزاع حدود وإنما هو صراع على الوجود وأن التعايش بين العروبة والصهيونية أمر لا يمكن تحقيقه وكلما التقى بنا كان يوصينا بعدم التفريط في حقوقنا أو التهاون في مطالبنا وتجاوز ثوابتنا وأن لا نطمئن لنوايا إسرائيل.
كان الشقيري يؤمن بالعروبة ويعتز بأمته ويعمل في خدمتها ويصر على أن فلسطين قضية عربية ، وكانت الوحدة العربية هاجسه الأكبر وكثيراً ما كان يقول عن نفسه (أنا وحدوي الهوى والنشأة). ويقول في أحد كتبه: (إن الوحدة فكراً وعقيدة ودولة هي أمل الأمة العربية وإذا كانت قد أصبحت من غير روح فالتبعية على الحكم العربي المعاصر أو معظمه).
وعلى الرغم من إيمان الشقيري بالعروبة وتعلقه بها إلا أنه كان حريصا على عدم زج المنظمة في الخلافات العربية حتى لا ينعكس ذلك على(1/211)
الشعب الفلسطيني المشتت والمبعثر في جميع البلاد العربية وقد اثبتت الأحداث بعد نظره وصدق فراسته وحرصه على تجنيب شيعته من أخطار الصراعات والنزاعات العربية والتي لم تهدأ في يوم من الإيام.
وإلى جانب إيمان الشقيري بالعروبة كان قلبه معلقا بالإسلام ونبيِّه يتطلع دوماً إلى الصحابة الأبرار الذين جاهدوا في سبيل نشر الدين وفتحوا البلاد وأقاموا الدولة الإسلامية ولذلك أوصى أن يدفن بعد موته عند مقامات الصحابة بغور الأردن وعلى مقربة من مقام الصحابي الجليل أبي عبيدة عامر بن الجراح والذي دعاه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أمين الأمة.
ولما اشتد المرض على الشقيري وعلم جلالة الحسين بذلك ، وهو الذي يعرف الرجال وأقدارهم ، بادر على الفور بدعوته ليعالج في مدينة الحسين الطبية بعمان ولبى الشقيري هذه الدعوة الكريمة وشكر جلالته على لفتته الكريمة ، وطيلة إقامة الشقيري بالمدينة الطبية وهو محاط برعاية الحسين واهتمامه إلى أن وافاه الأجل وانتقل إلى الرفيق الأعلى في السادس والعشرين من شباط عام 1980 ودفن حيث أراد على مقربة من مقام أبي عبيدة بن الجراح ، وبذا طويت صفحة مشرقة من صفحات النضال العربي والكفاح الفلسطيني.(1/212)
الشقيري..من فندق المنفى..
ومن فندق الاحتلال.. إلى الوطن (1)
د. أسعد عبد الرحمن
كم تذكرتك في القدس التي أحببتها أكثر من مدينتك عكا ، فأنت كعادتك تنكر الخاص من أجل العام ، تنكر الرابط الخاص الذي يربطك بمدينتك من أجل الرابط العام الذي يجمعك بالقدس التي بارك الله من حولها.
وكم تذكرتك في القدس حيث أقمت ليومين في آخر رحلاتي للقدس في فندق الإمباسادور الذي شهد على يديك أساساً ميلاد منظمة التحرير الفلسطينية وطننا المعنوي إلى حين يتحقق وطننا الملموس المتجسد في أرض فلسطين.
كنت أراك ـ صدقني ـ في كل قاعة ، في كل ردهة ، عند المدخل ، قرب منصة الاستقبال ، في هواء الفندق الوافد من عبق القدس.
__________
(1) * الرأي، عمان، 1994.(1/213)
ولم أكن في كل ذلك وحدي، كلنا هناك تذكرناك مثلما في الليلة الظلماء يفتقد البدر، تذكرناك في جلسات مع الدكتور حيدر عبد الشافي نائبك الاول، وتذكرناك مع د. نصير عاروري ود. محمد الحلاج ود. غسان الخطيب وعشرات المواطنين الفلسطينيين الذين تظللوا بسقف الفندق الذي شهد ميلاد المنظمة.
ويا أيها الراحل الكبير، نحن شعب فلسطين العربي لا نزال نعيش في فندق المنفى أو فندق الاحتلال ففي الحالتين نعامل كما يعامل الغريب ، أو السائح في وطنه ، فيا رب أرحمنا بعودة الوطن الذي سعى من أجله أحمد الشقيري أو ارحمنا بالالتحاق بذلك الرجل الكبير.(1/214)
المجاهد العربي أحمد الشقيري..
و(فلسطين عام 2000) (1)
طلعت شناعة
انقضى أكثر من عشر سنوات على وفاة المجاهد العربي الفلسطيني أحمد الشقيري ، وكأي مجاهد مخلص ومفكر زاد قلقه على مصير أمته بتقدم سنه ، حاول هذا المفكر أن يستقدم المستقبل الذي يمكن أن يخذله فلا يعيش وقائعه ، ليرى ما سيحدث لأمته بعد 25 عاماً من الزمان. لذلك لجأ في دراسته عام 1975 (فلسطين في عام 2000) إلى تحليل تاريخ الأمة العربية مقارنا اياه بالواقع العربي في أواسط السبعينات مستقرئاً مستقبل هذه الأمة بواسطة المنطق الرياضي والرسم البياني المعرفي لأحداثها وحراكها ونموها.
ولعل ما يدهش المتفحص لهذه الدراسة ليس تحقق الكثير من (نبوءاته) فحسب ، بدءاً بالتسوية الفردية والسلام الهش ومروراً بحتمية ظهور القائد العربي ذي الجيش المسخر لخدمة الأمة ، وانتهاء بمعركة العدل
__________
(1) * الدستور، عمان، 24/7/1993.(1/215)
والسلام في المنطقة ، بل العوامل الموضوعية والعلمية التي من خلالها خرج بهذه النتائج التي تبعث الأمل بالانسان العربي وهذه الأمة.
وثمة عامل موضوعي يجدر بالقارئ لهذه الدراسة الوقوف عنده والتوغل مع الكاتب في التاريخ العربي المعاصر ونكباته منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى عام 1975 (تاريخ وضع هذه الدراسة) ليجد نفسه أمام عامل مستوى القدرة القومية ونموها في مجالات التقدم الحضاري والتنمية الشاملة والقوة العسكرية التي يعتمد عليها حسم المعركة حتمية الوقوع.
وبتفاؤله الرياضي بمستوى تنامي القدرة العسكرية العربية عام 2000 لم ينس مجاهدنا الكبير القدرة العسكرية الإسرائيلية ، ولكنه نزع عن إسرائيل هالتها الميتافيزيقية العسكرية التي ساهمنا بخوفنا نحن العرب ، في نسج خيوطها ، وبالمقابل بات يقنعنا بقدرتنا المتنامية في مستقبل عام 2000 أو ما بعده بسنين طويلة ، وقد كان ذلك باستخدامه لمنطق الحساب والرسم البياني المعرفي لنمو كلا الخصمين ، ونصل إلى نتيجة أن (دولة إسرائيل) وصلت حد الإشباع بامتلاكها القنبلة الذرية ، وعند هذا الحد تتوقف عن التنامي لعدم قدرتها بمقوماتها المهترئة كدولة أن تستوعب هذا الزخم العسكري الذي ينهال عليها.
وبالمقارنة مع إحداثيات الرسم البياني للقوة العسكرية العربية في الماضي في أوائل هذا القرن وحتى أواسطه ، نجد أنه كان هابطاً ، إلا أنه اخذ يصعد ، ولم يصل إلى درجة الإشباع لأسباب عدة منها: البقعة الجغرافية العربية ، تعداد سكان الوطن العربي ، وقد تحتاج هذه الأمة إلى قرن أو(1/216)
قرنين من الزمان لتصل إلى حد الإشباع ، وفي مسار هذا الصعود تنبأ مفكرنا الكبير بسرعة امتلاك القدرة العربية لسلاح الدمار الشامل ، وهي خطوة في مراحل الصعود وليس الإشباع ويطبق هذا المفهوم على باقي المجالات الحضارية والتنموية في الوطن العربي.
ويضيف الأستاذ أحمد الشقيري بأن لا مناص من تقاطع هذين الخطين البيانيين: الخط العربي الصاعد والخط الاسرائيلي المشبع، لتقع بذلك المعركة الحتمية وستكون معركة حضارية بكل معانيها لتحقيق العدل والسلام.
وأخيراً أقول لهذا المفكر العربي الراحل الحاضر ، وبغض النظر عن مدى تحقق بعض توقعاته إلا أنه قد نجح في سبق الزمن ليعيش معنا هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ أمتنا العربية وتاريخ فلسطين وقضيتها ، وإنْ قدر لهذه الأمة أن تتعثر في خطوات الحرب والسلام ، فلتؤول إلى رسمه البياني المعرفي، وحسابه المنطقي لثوابت التقدم والنمو الحضاري والقومي لهذه الأمة، ليبعث فينا الأمل بتحرير الإنسان العربي من كوابح التقدم ، لذا سيبقى هذا المجاهد العربي الكبير حياً معنا في كل إحداثية حربية كانت أم سلمية يرسمها واقعنا العربي على بيانها الصاعد والثابت ، مهما تعرضت أمتنا إلى انكسارات. والكتاب (فلسطين في عام 2000) صادر في عمان عام 1990، وقد تم نشر هذه الدراسة التي كتبت بخط يده وذلك بمناسبة مرور عشر سنوات على وفاته ولم يسبق أن نشرت في حياته.(1/217)
أوراق جديدة من ملف الإصدقاء..
الورقة الأولى .. أحمد الشقيري (1)
د. أسعد عبد الرحمن
الأولوية هنا هي للفلسطيني الأول في الستينات ، للصديق الراحل الكبير ، صاحب القلب الكبير ، أحمد الشقيري ، فمع مجيء ذكرى رحيله الثانية عشرة قبل أيام ودون وعي مني لهذه الحقيقة في حينه ، لا أدري لماذا وكيف تهاطل ذكره على لساني في أكثر من مناسبة اجتماعية سياسية طوال الأسابيع القليلة الماضية سواء في بيروت أو في عمان ، هل لأنني قابلته في عاصمة (بلاد الأرز) لأول مرة في العام 1964؟ هل لأنني في زيارتي الأخيرة لبيروت ـ مررت بأطلال (مركز الابحاث) الفلسطيني الذي ما كان ليكون لولاه ولولا الصديق الغالي المرحوم الدكتور فايز صايغ ، وهل لأننا بعض أصدقائي وأنا- نمارس هذه الأيام بشكل عفوي أقصى درجات الحنين للماضي المبهج مقابل الحاضر المحزن ، فنكثر من رواية حكايات الأمس هروباً من الحديث حول أحداث اليوم؟ ومهما كان السبب الإضافي في
__________
(1) * الدستور، عمان، 7/3/1992.(1/218)
هذا لاشك في أن السبب الحقيقي يكمن في أن للراحل الكبير حضوراً كبيراً كان ولم يزل.
يوم التقيته لأول مرة كان جموح الشباب عندي ـ والحديث عن القضايا العامة ـ أشبه ما يكون بالطوفان ، ويومها كان طموح الشاب والحديث أيضا عن القضايا العامة يصل إلى قبة السماء ، وكان طبيعياً يومها أن يكون لسان الانتقاد عندنا ـ في القضايا العامة ـ على أطول ما يكون. ويومها أذكر أنهم حين سجلوا معي حديثاً بصفتي رئيساً لفرع الاتحاد العام لطلبة فلسطين في لبنان في إذاعة (صوت فلسطين) في القاهرة وأذاعوه لاحظت كم أنني حاولت التذاكي بتوجيه نقد بين السطور استهدف الأداء السياسي الذي كان يمارسه المرحوم الشقيري ، وكنت يومها ، وليغفر الله لي، أقصد (الإساءة المؤدبة) لنهجه بل وربما له شخصيا ، حيث اعتبرته وحده (وليس الإمبريالية ولا الصهيونية ولا معظم النظم العربية .. وغير ذلك كثير) مسؤولا عن واقع فلسطيني لم أكن راضياً عنه.
يومها توقعت من المرحوم الشقيري أن يغضب ، وتوقعت منه فور سماعه لحديثي المبادرة إلى فصلي من عملي في (مركز الأبحاث) الذي كنت قد بدأت العمل فيه وأنا ما زلت طالب ماجستير في الجامعة الأميركية ببيروت ، وفعلا جاء رد فعله سريعاً.
يومها أرسل لي الأستاذ الشقيري رحمة الله عليه ورضوانه مع د. أنيس الصائغ ، مدير عام مركز الأبحاث في حينه ، ما شكل بداية صداقة شخصية معه امتدت سنوات غالية وتخللتها لقاءات غنية. يومها وعلى عكس(1/219)
توقعاتي أرسل لي رساله تقدير على جرأتي وعلى ما أسماه قوة وعيي السياسي وتمكني من اللغة ، وشجعني على مزيد من الانتقاد ، ثم الانتقاد ثم الانتقاد!!.
كم كان رحمه الله كبيراً ، وكم كنت وغيري صغارًا !!.(1/220)
بين جنيف وواشنطن..
رؤيا مبكرة لقائد فلسطيني راحل عن الحل السلمي (1)
د. علي سعود عطية
تصادف هذه الأيام ذكرى وفاة المرحوم الأستاذ الشقيري الذي انتقل إلى جوار ربه يوم 26/2/1980.
وما دام السلام والحل السلمي هو هاجس الناس كافة هذه الأيام ، فإننا سننظر لصورة هذه السلام في ذهن زعيم فلسطيني عانى بداية طرح الحل السلمي كوسيلة لحل الصراع العربي الإسرائيلي ، وبخاصة بعد حربي 1967و 1973.
بين يدي مجلة اليقظة الصادرة في الكويت بتاريخ 31 يناير 1977 بعد صحوة حرب رمضان التي توقع الكثيرون أن تتجلى عن حل مقبول للقضية الفلسطينية ، وعلى غلاف المجلة عنوان كبير لتصريح للأستاذ
__________
(1) * الدستور، عمان، 3/3/1992.(1/221)
الشقيري (أرفض جنيف وأطالب بواشنطن) فأي جنيف يرفض الشقيري وأي واشنطن يريد ، هذا ما سيدور حوله حديثنا.
جنيف التي يرفضها الأستاذ الشقيري هي جنيف التي حضرها زعماء العرب الذين حاربوا في حرب تشرين ، وحضرتها معهم الدول الكبرى في مجلس الأمن ، وغابت عنها منظمة التحرير الفلسطينية ـ أما لماذا يرفضها الشقيري ويقبل بواشنطن فهو للأسباب التالية:
- لأنها مؤتمر تصفية للقضية الفلسطينية.
- لانها لا تتيح المجال للشعب الفلسطيني لتحقيق الحل الذي يصفه الشقيري بأنه حل مقبول يعطي للشعب الفلسطيني فسحة من التنفس وأرضاً يستطيع معها أن يمد رجليه وساقيه ، لكن أن تُعطى له أرض تشكل فقط 15% من أرضه ، لا يستطيع أن يمد فيها أصابعه فضلا عن جسمه الكامل ، فإن الأمر عندئذٍ يختلف.
- لأن المؤتمر سيحقق الاعتراف بإسرائيل على المستوى العربي، وهنا يتحدث الشقيري أن المرحوم الملك فيصل كان قد أعطى تصريحاً لإحدى الصحف ذكر فيه أن السعودية غير مستعدة أن تعترف بإسرائيل حتى لو اعترفت بها الدول العربية الثلاث عشرة ،وكانت الدول العربية يومئد أربع عشرة دولة.
- لأن صفات الدولة الفلسطينية المقترحة لن تفي بالغرض، فهي ستكون دويلة فلسطينية فريسة للمقص الإسرائيلي يخرج منها أولا القدس الكبرى التي تبدأ من جنوب بيت لحم ، وتنتهي بجنوب رام الله ثم يتجه المقص(1/222)
شرقا ، فيضم اليه شريطاً عازلاً يحصر في طياته 20 مستعمرة ستكون كل منها بمثابة ترسانة عسكرية.
أما الكوريدور المقترح بين قطاع غزة ، والضفة الغربية ، فسيكون أشبه بالمزلقان ، الذي يرتفع وينخفض ، ليقف جندي اسرائيلي عليه ، ليسمح للفلسطيني أن يعبر من الضفة إلى غزة بعد اجراء التفتيش اللازم.
أما قطاع غزة ، فليس فيه ما يؤخذ لأن(القطاع مجروم على العظم) ، ولعله من هنا تأتي الإشاعات التي تردد هذه الأيام بأن الاسرائيليين يريدون التخلي عن قطاع غزة فقط لا أكثر ولا أقل.
- لأنه لا حل جديا لمشكلة الشعب الفلسطيني كشعب إذ أن 15% من مساحة فلسطين لا تكاد تتسع لأهلها فكيف يمكن أن تستوعب البقية الكبرى من أولئك الأخوة الذين يعيشون بعيدا (ملايين من الشعب الفلسطيني لا يوجد لهم حل في جنيف ، ولا اتفاقيات جنيف).
- لأن هذا الحل مرفوض عربيا (ورحم الله الشقيري رحمة واسعة وسقى الله تلك الايام)!
تلكم هي الرؤيا التي يضعها الشقيري لمؤتمر السلام بين العرب والصهاينة وما يمكن أن يتمخض عنه ، وهو على هذا يحذر منه لأنه لن يأتى سوى بالثبور ، وعظائم الأمور.
فهل اثبتت الوقائع بعد 15 عاماً صحة رؤيا الشقيري: ما بين يدينا من وقائع ، ونتائج مؤتمر السلام الذي بدأ بمدريد ، ومر بموسكو ، وعاد إلى(1/223)
واشنطن تدل على أن رؤيا الشقيري صحيحة ، وقع الحافر على الحافر, كما يقول المثل العربي ، فالذي جرى حتى كتابة هذه السطور، ونحن لا نحمل الوقائع والأحداث فوق ما تطيق ، يدل على أنه لا ضوء في نهاية النفق المظلم ، وأن التاريخ يسير عربيا بالمقلوب.
آية ذلك أنه بدلا من مؤتمر دولي يفرض الحل ، قبل العرب بمفاوضات ثنائية يظهر أن لها بداية، وليس لها نهاية، وبدلا من حضور منظمة التحرير الفلسطينية كعضو كامل العضوية في مؤتمر السلام أقفلت دونها الأبواب حتى في مؤتمر متعدد الأطراف الذي حضرته دول كثيرة في العالم ، ومن بينها دول العالم العربي ، ما عدا الجهة المركزية العربية في القضية وحلها.
وإنه بدلا من أن يذهب العرب إلى المؤتمر من موقع القوة والوحدة يذهبون إليه وهنالك خلل لا يؤذن بأي توازن ، أو اتزان في المستقبل المنظور فهناك فراغ استراتيجي عربي تعمل قوى كثيرة على استدامته وتعميقه يوما فيوماً أمام تصاعد قوى إقليمية أخرى مثل إيران ، وتركيا ، وتزداد صورة القوة العربية الذاتية قتامة عندما نعلم أن العرب قد انتقلوا من حروب أهلية إلى حرب باردة فبعض الدول التي تسمى عادة بالدول المساندة تصر على جعل المواجهة مع العدو سياسية وتقصر المواجهة العسكرية على العرب بين أنفسهم ، والعرب في هذه الأيام يتسابقون على التنازلات تشهد بذلك صحافة التطبيع ، والتطبيل ، في أكثر من عاصمة عربية وعندما تعرض الصحف على الأجيال القادمة سوف نجد عناء في الاقناع انها كانت(1/224)
تصدر من العواصم العربية ، بإيجاز هنالك انهيار لمشروع الأمن القومي العربي.
أمام هذا الواقع الذي هو أشبه بالكارثة يطرح السؤال الطبيعي ما هو البديل؟ الشقيري رحمه الله يضع لنا الحل كما تصوره آنذاك. بكلمات قليلة ، وهنا تأتي الاجابة , على ما أشرنا اليه أعلاه ماهو المقصود بمؤتمر واشنطن ، فهو يقول: بما أن مؤتمر جنيف لن يأتي بالنتيجة المرجوة فإنه لا بد من مؤتمر واشنطن ، ولكن أي واشنطن : واشنطن التي يلتقي فيها فريقان ، فريق عربي واحد مرصوص الصف ، والفريق الآخر هو أمريكا وهو بهذا يسمى الأشياء بأسمائها ، فأمريكا ، هي الطرف الآخر ، وليست إسرائيل ، لأنها هي الطرف المباشر في القضية الفلسطينية، هناك النبع الذي يفيض على إسرائيل بالمدد من المدفع إلى الرغيف.
على أن الشقيري لا يكتفي بوضع النقاط على الحروف في حقيقة الصراع بل يقول: إن النضال أثناء مؤتمر واشنطن ، بمعنى المؤتمر الذي يستطيع أن يضع الحل ، يجب أن يستمر ، فالنضال هو رأس الأمر كله ، وهو يشير إلى شعبنا في الضفة والقطاع الذي يتصدى بالحجارة للعدو الإسرائيلي هذا الشعب الصامد الصابر.
ولكن وآهٍ من لكن ، كيف لنا أن نجمع أمة العرب على موقف واحد وهدف واحد ، فعربنا هذه الأيام أيها الأستاذ الشقيري ، أصبحوا أعراباً وليسوا موقفا واحداً ، وانما مواقف ، وليسوا وفدا واحداً ، وإنما وفود. ولقد(1/225)
تمادى بعض العرب في الهروب إلى الأمام حتى أن عدداً منهم قد وصل إلى تل ابيب وألقى عصاه واستراح.
وبعض العرب هذه الأيام لا يريدون أن يكونوا عرباً ، وربما يفضلون أن يكونوا صينيين والبعض الآخر يصدر فتوى بأن النزاع سياسي ، وليس ديني ، ومن هنا فهم يستبعدون قضية المسجد الأقصى ، والقدس الشريف التي تريدها إسرائيل عاصمة أبدية لها ، لأنه تحت بند السياسة تستبعد كل القداسات ، والمقدسات ، ويتوقف الجهاد وكفى الله المؤمنين القتال.
لقد كنا في مصيبة واحدة ، فأصبحنا في مصيبتين كنا نريد أن نوجه الزخم العربي نحو بؤرة الصراع الحقيقية ، فأصبحنا نعمل أو اصبح من الواجب علينا أن نلملم جوانب الأمة العربية التي أصبحت شراذم متناثرة يسهل اغتصابها.
نقول ، ولكل عربي مخلص ، سيظل الصراع يراوح مكانه حتى نحقق قومية المعركة ، ونكون بحق عرباً ، فليس هناك بلد عربي واحد يمكن أن يكون بديلا عن الوطن ، وليس هناك شعبٌ واحدٌ يمكن أن يكون بديلا عن الأمة.
من هنا البداية ومن هنا النهاية ، وفي النهاية لا يصح إلا الصحيح.(1/226)
أحمد الشقيري..
والخرافات اليهودية (1)
إبراهيم سكجها
كثيرون من القراء والأصدقاء هاتفوني مستغربين أولاً ثم مستفسرين: منذ متى بدأت أحفظ أسفار التوراة ، حتى أخذت استشهد بالإصحاحات إصحاحاً بعد إصحاح ، كلما أحوجتني بربرية اليهود إلى الاستشهاد ب.بربرية 0.آبائهم وأجدادهم وأجداد أجدادهم ، كما وردت في التوراة.
والحقيقة أنني لم أحفظ وإنما اقتصرت في جهدي على مطالعة ومراجعة ما في مكتبتي من مراجع ، أما الفضل كله فقد كان لأستاذنا وزعيمنا الراحل أحمد الشقيري ، وكل ما فعلته أنا هو أنني تذكرت كتابه القيم (خرافات يهودية) فعدت إليه ، ونسخت منه غير مرة ، كان آخرها بالأمس ، عندما قارنت بين يوشع وموشي ، واستخلصت العبر من الإصحاح السادس
__________
(1) * الرأي، عمان، 25/9/1990.(1/227)
من سفر يشوع ، وإسقاطاته بين أريحا أيام يوشع بن نون ، وبين البريج أيام موشي بن أرينز.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر ، ويذكِر (بشدة وكسرة على الكاف) فإن أول علاقة لي بالأستاذ الزعيم أحمد الشقيري تعود إلى عام 1946 ، وقد كانت روحية وعابرة رأيته خلالها ، وما رآني ولكنها تركت في ذاكرتي وفي نفسي أثراً لم تمحه السنون.
في ذلك العام ، كنا في يافا قد أنهينا تدريبنا شبه العسكري في منظمة النجادة ، وكان يتبنى تنظيمنا النادي الرياضي الإسلامي ، وكان يقودنا المحامي المرحوم محمد نمر الهواري ، ويدربنا المرحوم صلاح الحاج مير وكان ضابطاً قد ُسّرح لتوّه من الجيش البريطاني ، وكان تدريبنا على سطح النادي يقتصر علىالمشِية العسكرية ، أما ضرب النار فكان يتم في الخلاء.
وعلى ذكر المشية العسكرية يحضرني الآن مشهد قوات من جيش تابع لأحدى الدول العربية الشقيقة كانت فصائل منه ترابط في جنوبي الأردن في أواسط الستينات ، وكان على رأس وزارة الإعلام في أردننا وزير معروف بعلمه وفضله وسعة اطلاعه ، وبخفة دمه وسرعة بديهته ، وأذكر أننا سألناه عما تفعله تلك القوة العربية في جنوب الأردن. فقال: إن أفرادها يتلقون تمرينات في المشية العسكرية يعني (ليفت رايت).
فإذا عدنا إلى يافا والنجادة والشقيري عام 1946 أقول أننا بعد أن أنهينا تدريبنا شبه العسكري أقيم لنا عرض ضخم حاشد على ستاد البصة ، تكلم فيه عدد من المتكلمين فكانوا ـ للحق ـ مملين ، إلى أن وقف واحد لامع ألقى خطاباً انتزع التصفيق ، والهتافات من الجمهور الحاشد ، فرفع(1/228)
ذراعيه طالباً من الجمهور السكوت ، فسكت فقال بصوت جهوري مؤثر كأنه مكرم عبيد: هل أعجبكم خطابي. هل أصلح للدعاية لقضيتكم. أنا أحمد الشقيري الذي عُينت مديراً للمكتب العربي في واشنطن ، وعاد الجمهور الحاشد يصفق ويهتف من جديد لأحمد الشقيري.
وتدور دورات الزمان والتقى الأستاذ الزعيم للمرة الثانية عام 1964 في فندق الانتركونتننتال في القدس ، ففي ذلك اليوم افتتح جلالة الملك الحسين المعظم المؤتمر التأسيسي للمجلس الوطني الأول لمنظمة التحرير الفلسطينية وانتخب أحمد الشقيري أول رئيس للمنظمة.
وبعد أن تقاعد الزعيم الفلسطيني في أواخر عام 1967 انصرف إلى التأليف وكتابة المذكرات ، وعندما وجه مناحيم بيغن خطابه المشهور إلى الشعب المصري في 11 تشرين الثاني 1977 إثر إعلان الرئيس السادات عن استعداده لزيارة القدس ، والاجتماع بقادة إسرائيل ، كتب الزعيم أحمد الشقيري كتابه (خرافات يهودية) معتمداً كما يقول الصديق جميل بركات في تقديمه للكتاب: على نصوص التوراة لنسف ادعاءات بيغن من أساسها. وليثبت أن عروبة فلسطين قديمة قدم الزمن قبل مجيء الغزاة الإسرائيليين.
فاستاذنا وزعيمنا المرحوم أحمد الشقيري هو الأصل في ما علمت من أسفار التوراة و(الخرافات اليهودية) هي المصدر الذي نسخت من نصوصها حول ما ارتكب بنو إسرائيل من جرائم في أريحا بقيادة يوشع بن نون ، وقارنته بما يرتكب بنو إسرائيل من جرائم في البريج بقيادة موشى بن أرينز.
ورحم الله الشقيري وأمد في عمر أبنائه وخلفائه وأصدقائه ومريديه.(1/229)
القسم الثاني
1989-1980(1/231)
هذا اليوم في التاريخ..
أحمد الشقيري (1)
نجدة فتحي صفوة ...
في مثل هذا اليوم قبل تسعة أعوام، أي في26 شباط(فبراير) سنة 1980 ، توفي المجاهد الفلسطيني والشخصية العربية والدولية ، أحمد الشقيري.
عاصر الشقيري التطورات التي مرت بها البلاد العربية بصورة عامة ، والقضية الفلسطينية بصفة خاصة في مرحلة من أخطر مراحل التاريخ العربي الحديث شهدت أكبر نكبة في تاريخ العرب والإسلام، وكان خلال القسم الأعظم من هذه التطورات في قلب الأحداث وتحت الأضواء، واتسمت مواقفه وجهوده على الدوام بالوطنية والأخلاص ، ولكن من الطبيعي لشخصية بمثل هذه النشاط الواسع النطاق ، والتاريخ الطويل ، والارتباطات العديدة أن يكون لها منتقدوها ومعارضوها بل وخصومهاً أيضاً، إلى جانب
__________
(1) * الشرق الأوسط، لندن، 25/2/1989.(1/233)
الأصدقاء والمؤيدين. ومع ذلك فإن انتقادات منتقديه ، ومآخذ خصومه ، كانت تقوم على اختلاف في وجهات النظر، وأساليب العمل ، ولم يطعن أحد ـ حتى من خصومه ـ في صدقه ولا في إخلاصه لقضية بلاده وأمته.
ولد أحمد الشقيري في قلعة تبنين بلبنان الجنوبي عام 1908 حيث كان والده الشيخ أسعد الشقيري منفيا إليها من قبل السلطات العثمانية ، ونشأ في طولكرم ، ودرس في عكا ثم انتمى إلى الجامعة الأمريكية في بيروت ، وكان من الشبان المتحمسين في نشاطهم الوطني والمتصلين بأوساط (حركة القوميين العرب) ، والمشاركين في (جمعية العروة الوثقى) وقد طرد من الجامعة الأمريكية بقرار من سلطات الانتداب الفرنسي لمشاركته في قيادة مظاهرة ضخمة بمناسبة يوم 6 أيار (مايو) الذي أعدم فيه جمال باشا السفاح عدداً من رجالات العرب الوطنيين ، وعلى إثر ذلك عاد الشقيري إلى القدس، حيث درس الحقوق ثم مارس المحاماة في مكتب عوني عبد الهادي ، وشارك في الثورة الفلسطينية عام 1936ـ 1939 وفي مؤتمر بلودان الذي عقد عام 1937 ، واعتقلته السلطات البريطانية ، فلجأ إلى بيروت ، ثم إلى القاهرة ، ولم يعد إلى فلسطين إلا في عام 1940.
ولما تقرر تأسيس المكاتب العربية في عدد من العواصم الأجنبية برئاسة موسى العلمي ، عين أحمد الشقيري مديراً لمكتب واشنطن ، ثم انتقل إلى المكتب الرئيسي في القدس ، وبقي في عمله هذا إلى جانب ممارسته المحاماة إلى أن وقعت نكبة فلسطين عام 1948 فاضطر إلى الهجرة إلى لبنان واستقر في بيروت.(1/234)
ورأت الحكومة السورية أن تفيد من خبرات الشقيري فعينته عضوا في بعثتها إلى الأمم المتحدة (1949ـ 1950) وفي شباط (فبراير) عام 1951 اختير أمينا عاماً مساعداً لجامعة الدول العربية وهو أول من شغل هذا المنصب. وكان تعيين شخصية فلسطينية لهذا المنصب العربي الرسمي الرفيع له أهميته ومغزاه ، وقوبل بارتياح عام. وقد نهض الشقيري بمهامه بكفاءة واندفاع وبقي في هذا المنصب حتى عام 1957 حين عُين وزير دولة لشؤون الأمم المتحدة في المملكة العربية السعودية وممثلاً دائما لها في الأمم المتحدة، وكان الشقيري في الامم المتحدة صوتاً عربياً مدويا ، وخاض معارك عديدة في نصرة القضايا العربية ، ودافع باندفاع وحماسة شديدين عن القضية الفلسطينية وقضايا العرب الأخرى ، وخاصة قضايا الجزائر والمغرب وتونس ، وكان خطيباً بليغ العبارة ومع ذلك فقد أخذت عليه إطالته وحماسته الزائدة ، وقد استغرقت إحدى خطبه في الجمعية العمومية تسع ساعات وكان يعمد إلى المحسنات اللفظية ، بل ويلتزم السجع باللغة الإنكليزية أحياناً ، وإليه تنسب مقولة: (إلقاء اليهود في البحر) في حين أنه حتى في صحة صدورها عنه ، فمن الواضح أن المقصود بها كان مجازياً ، وهو تحرير فلسطين من مغتصبيها ، ولكن الصهاينة وأنصارهم استغلوا هذه العبارة أبشع استغلال.
بعد انتهاء خدمته في الأمم المتحدة أصبح ممثلاً لفلسطين في الجامعة العربية (1963) ثم أناط به مؤتمر القمة العربي الأول في سنة 1964 إنشاء الكيان الفلسطيني وهو أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية.(1/235)
وقد تعرض خلال وجوده على رأس هذه المنظمة لحملات إسرائيلية وأمريكية جائرة. وفي آخر عام 1967 استقال من رئاسة المنظمة ومن منصبه ممثلاً لفلسطين لدى جامعة الدول العربية ، وأقام في القاهرة متفرغاً لكتابه مذكراته وإصدار الكتب التي سجّل فيها أراءه ، وبرر مواقفه السابقة التي أخذت عليه ، وتلك التي ندم عليها.
عارض الشقيري اتفاقيتي كامب دافيد ومعاهدة الصلح مع إسرائيل واعتبرها خيانة عظمى للقضية الفلسطينية ، ولذلك غادر القاهرة إلى تونس في عام 1978 ، وبعد بضعة أشهر أصيب بمرض عضال ، نقل على إثره إلى عمّان ، وأدخل فيها مدينة الحسين الطبية ، وبعد أسابيع ، خفت صوت من أعلى الأصوات وأبلغها في الدفاع عن فلسطين التي كانت محور حياة ذلك الرجل وهدفه ، وشاغله الرئيسي في يقظته ومنامه ، وفي سره وجهره ، وكان ذلك في مثل هذا اليوم قبل تسعة أعوام.(1/236)
أ حمد الشقيري ..غياب وحضور (1)
د. أسعد عبد الرحمن
بدبلوماسية مشهودة اعتلى أحمد الشقيري قمة مسرح العمل الوطني الفلسطيني في النصف الأول من الستينات ، وبدبلوماسية ملحوظة هبط من على خشبة ذلك المسرح في النصف الثاني من الستينات ، ومع أن عدد تلك السنوات كان قليلاً إلا أن ما حملته في طياتها كان ـ بالتأكيد ـ حاسماً.
لقد مضى ذلك الرجل إلى العالم الآخر بعد أن ترك وصية طلب فيها دفنه مجاورا لفلسطين قرب ضريح الصحابي أبي عبيدة بن الجراح فاتح القدس ومحرر بيت المقدس ، وبهدوء المتنسك مضى الشقيري ، وودعه جيلنا والأجيال التي سبقت ببعض ما يستحق ، ومنذئذ ، لم تنسه تلك الأجيال بل هي كثيراً ما تتذكره وتذكره ، ولعلي لا أجانب الصواب عندما أسجل حقيقة أن الشقيري يزداد حضوراً مع كل يوم يمضي على رحيله الأبدي ، فبماذا نتذكره ، وبماذا يجدر بالجيل الصاعد ـ في كل زمان آت ـ أن يتذكره.
__________
(1) * الرأي، عمان، 23/11/1986.(1/237)
من عادة شعوب كثيرة ـ ومن ضمنها العرب ـ أن تقتصر ألسنة ذاكرتهم على ذكر محاسن موتاهم ، غير أن أمانة الموقف التاريخي وجلال الذكرى التاريخية يقتضيان الصدق المطلق ، وفي هذا السياق ، ولأنه ما من أنسان كامل ، ها نحن نتذكره ونتذكر مسيرته بسلبيتين ، ونقدره كل التقدير بإيجابيتين:
1. فقد كان ـ رحمه الله ـ معتزاً برأيه وبرجاحة عقله وبسداد موقفه إلى درجة أصبح معها ينزع إلى الفردية وإلى الوقوع في شباكها.
2. وكان ـ رحمه الله ـ متمكناً من لغته العربية ومستشعراً قدرته البلاغية إلى درجة أصبح ينزع معها إلى اللفظية وإلى تقييد يديه بحبالها.
غير أن قيمة أحمد الشقيري العامة كانت دوماً أكبر من سلبياته وثغراته الشخصية ، وفي هذا الصدد ، لابد لنا من أن ننسجم مع التاريخ عندما يسجل حقيقة أن الشقيري:
1- أسس الإطار المعاصر للهوية الوطنية الفلسطينية يوم أقام منظمة التحرير الفلسطينية (ميثاقاً قومياً ومجلساً تشريعيا ، وقيادة تنفيذية ، وجيشا نامياً). ولا يعرف قيمة هذا الإنجاز الكبير سوى من عاني نتائج تغييب الشعب الفلسطيني تمهيدا لتغييب قضيته ، ولا يدرك هذا الإنجاز الكبير سوى من عرف صعوبة السباحة عكس التيار ، وعلى الرغم من قوة التيار الرسمي العربي المُعادي لتأسيس (الوطن(1/238)
المعنوي) و (الوطن التنظيمي) للشعب الفلسطيني ، نجح الشقيري ـ بجرأة مشهودة ، وبحصافة معروفة وبتكتيك محسوب ، وبقدرة خطابية متميزة عبأت الشعب والأمة ـ ويومئذ نجح في تكسير أمواج ذلك التيار.
2- تمسك بضمير الموقف السياسي الشعبي الفلسطيني بل والعربي ، فبرغم الدعاوي (الواقعية الاستسلامية) التي بدأت تطفو على سطح الواقع العربي في بداية ومنتصف الستينات ، وضع الشقيري (الميثاق القومي الفلسطيني) وحماه بقوة صحبه من القوى الوطنية والقومية والتقدمية العربية ، وبالرغم من الهزيمة الكبرى في حرب 1967 ، صاغ الشقيري (لاءات الخرطوم) التي أرست الأرضية السياسية والفكرية للمجابهات العربية ـ الصهيونية التالية... والقادمة.
رحم الله الشقيري وأسكنه فسيح جناته مثلما أسكنه الشعب فسيح قلوبه.(1/239)
الشقيري في ذكراه الخامسة
( لي حكاية مع حطين) (1)
جميل بركات
صادفت أمس (الثلاثاء 26/2/1985) الذكرى الخامسة لوفاة المرحوم الأستاذ أحمد الشقيري ، وهو غنيّ عن التعريف بكفاحه ونضاله ودفاعه عن القضايا العربية وبخاصة القضية الفلسطينية قضية العرب الأولى.
وبهذه المناسبة لن أتطرق للحديث عن هذه المواقف ، مواقف الرجال العاملين لما فيه خير أمتهم وصلاح أمورها مكتفيا أن أسجل إيمانه العميق بأن قوة العرب في وحدتهم وضعفهم في تفككهم واختلاف آرائهم ، وأن الظروف المحيطة بهم تحتم على قادتهم وزعمائهم أن يتآخوا ويتضامنوا ويتعاونوا في هذه المرحلة الراهنة على البرّ والتقوى من أجل الحفاظ على التراب الوطني والمصير العربي المشترك ولا سبيل إلى ذلك إلا بانعقاد مؤتمر قمة عربي شامل يوحد ولا يفرق تصفى فيه القلوب مما علق بها من شوائب.
__________
(1) * صوت الشعب، عمان، 27/5/1985 .(1/240)
وفي يوم هذه الذكرى الكريمة يسرني أن أنشر مقالا مما كان قد كتبه الأستاذ الشقيري بعنوان ( لي حكاية مع حطين) وهو عبارة عن قطعة أدبية وطنية رائعة... نسأل الله لأبي مازن الرحمة في يوم ذكراه وسلام عليه في دار الخلود.
لي حكاية مع حطين:
ما أكثر القرى في هذه الدنيا ، إنها تعد بالآلاف والكثير منها رائع وجميل بل ما أكثر الحواضر والعواصم إنها تعد بالعشرات والمئات ، والكثير منها فاتن وبديع.
ولكن قرية عربية واحدة تفردت بين آلاف القرى ، ومئات الحواضر والعواصم ، ذلك أن التاريخ قد حطّ رحاله على سهولها ، وبسط ذراعيه على جبالها. لقد عرفتها في صباي ، أنا وجيلي أيام رحلاتنا ونزهاتنا ، فراعنا جمالها ، وبهرتنا كرومها ومروجها.
ثم قرأت تاريخها في شبابي فازددت تعلقاً بها وعاودت زيارتها مرات ومرات ، باحثا دارساً بين مرابعها وتلالها ، وأنا أسأل شيوخ القرية ، ما اسم هذا الجبل وما اسم ذلك الموقع؟.
وفي يوم مشرق من أيام الربيع ،ولست أنسى ذلك اليوم ما حييت وما نسيت ، كانت لي زيارة لتلك القرية العربية وأبصرت جمعا من الرهبان يقفون صفا واحداً كأنهم في صلاة يتعبدون ، وما أن دنوت منهم حتى سمعتهم يقرؤون من الإنجيل (موعظة الجبل) الشهيرة ... (من لطمك على خدك(1/241)
الأيمن فحوّل له الآخر أيضا ومن سخرك ميلا فاذهب معه اثنين. أحبوا أعداءكم باركوا لاعينكم وبالكيل الذي به تكيلون يكال لكم ... أحذروا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان ، كل شجرة لا تضع ثمراً جيداً تقطع وتلقى في النار فإذا من ثمارهم تعرفونهم...)
وأخذت بدوري أقرأ معهم (موعظة الجبل) من ذاكرتي حتى غدوت كأني واحد من الرهبان من غير جبة ولا طيلسان !
وسألني أحدهم وهل تحفظ (الموعظة) كلها إنها جميلة وهذا هو الجبل الذي وقف فيه المسيح وألقى كلماته المجيدة.
قلت نعم ، لقد حفظتها في جملة ما حفظت من الإنجيل حينما كنت طالبا في بيت المقدس في مدرسة المطران في أوائل العشرينات.
وتركت الرهبان وشأنهم في عبادتهم وذهبت لشأني في عبادتي ذلك أن القرية العربية أصبحت معبدي من غير قبة ولا منارة ولا محراب.
وكذلك كانت عبادتي من غير ركوع ولا سجود ، ولكنها كالصوفية كانت إطالة التأمل وإدامة النظر ، أتأمل في كل رابية وأنظر في كل هضبة ، أبحث عن آثار بطل ، عن موضع أقدامه ، عن كره وفره ، عن خيمته ، عن مربط حصانه ، عن أصداء صيحاته ، وعن رجع تكبيراته.
إنها حكاية قرية ،وسيرة بطل... وكان من سجع الزمان أن القرية اسمها حطين ، والبطل اسمه صلاح الدين ، وما ذكرت القرية إلا ويذكر البطل ، ومعهما يذكر التاريخ في أروع صفحاته وأمجد ذكرياته.(1/242)
وغداة اشتغالي بالمحاماة ، كنت كثير السفر في منطقة الجليل ، من عكا إلى صفد إلى طبرية ، إلى غور الأردن ، وكنت أعرج على حطين في ذهابي وإيابي ، كلما وجدت إلى ذلك سبيلاً.
وكان يصاحبني في سفري هذا رفاق من صفوة العلماء ، أتعلم بين يديهم حكاية تلك القرية وسيرة ذلك البطل وكان أولئك الرفاق الأجلاء ثلاثة:
الأول: القاضي الفاضل ، عبد الرحمن البيساني ـ العسقلاني المولد ، المصري الدار ، وزير صلاح الدين الأيوبي وصفيه وخليله.
الثاني: العماد الأصفهاني, صديق صلاح الدين ورئيس ديوانه، شاعر غزواته وناثر انتصاراته.
والثالث: القاضي بهاء الدين بن شداد ، قاضي عساكر صلاح الدين ومؤرخ حياته من مولده إلى وفاته.
وكان هؤلاء الثلاثة هم أعرف الناس بحطين وصلاح الدين ، وعنهم تعلمت حكاية القرية وسيرة البطل ،وقصة المعركة في حطين.
ثم حملتني أسفاري إلى عواصم كثيرة في العالم ، فزرت متاحفها ومكتباتها ، وساقني ولوعي بحطين وصلاح الدين أن ابحث عن المزيد ، وإذا بي أمام تراث ضخم من كنوز المعرفة تُعجِز الإحاطة والاحصاء.
لقد رأيت لوحات ولوحات عن صلاح الدين وحطين، وكانت غاية في الإبداع والروعة ، تحكي المعركة بين الشرق والغرب ، ولا ينقصك وينقصها(1/243)
إلا أن تسمع من ظلالها وألوانها صهيل الخيل وصليل السيوف ، إلى جانب صيحات المنتصرين وأنات الجرحى.
ورأيت قوائم المراجع العلمية القديمة ، باللاتينية والإفرنسية والعربية والعبرية والسريانية والأرمنية والكرجية والصقلية، هذه باللغات القديمة، أما باللغات الحديثة من الإنجليزية إلى الروسية، فإنه عسير العد والحصر.
ورأيت مجموعات من الملاحم الشعرية، والقصص الأدبية والأساطير الشعبية ، والأناشيد القومية ، كلها عن حطين وصلاح الدين ، تحتاج قراءتها إلى عمل طويل ، وإلى صبر جميل.
وعدت من أسفاري ببعض الكتب وبعض اللوحات عن صلاح الدين وحطين ، وضممتها إلى مكتبتي ، وكفلت بترتيبها حتى أصبحت حطين ليلاي، وأصبحت مجنون حطين وصلاح الدين.
وكان أهل القرية قد بنوا على تلة حطين قبة تعرف بقبة النصر، تخليدا لذكرى تلك المعركة المجيدة، ولكن يبدو أن ما تلا من الفتن والحروب قد أزال معالم قبة النصر فلم أجد لها أثرا في زيارتي للقرية ، وبهذا خسر التراث الإسلامي علما عزيزاً من تلك الذكريات العزيزة.
وقرأت في جملة ما قرأت أن صلاح الدين قد أنشأ مجموعة من المواسم في فلسطين ليعزز الروح القومية في صراعه مع الإفرنج ، مثل موسم النبي موسى ، موسم النبي روبين ، موسم... موسم... وحزنت لأن(1/244)
صلاح الدين قد جعل مواسم بكل الأسماء ، ولكن لم يجعل موسماً باسم صلاح الدين.
وكنا نحن في فلسطين في صراعنا مع الصهيونية والاستعمار البريطاني في حاجة إلى مواسم قومية وأيام وطنية فاقترحت على نفر من المشتغلين بالحركة الوطنية أن ننظم يوماً لصلاح الدين نحتفل فيه بذكرى موقعة حطين.
وكان ذلك ، وجرى في شهر تموز من عام 1935 وفي مدينة حيفا ، واحتشدت في ساحة مكشوفة جماهير غفيرة من الشعب.
وتقاطرت وفود كثيرة من سائر أرجاء البلاد ، وكان عريف الحفل السيد رشيد الحاج إبراهيم ، من زعماء فلسطين المعروفين.
وخطب في الحفل نفر من رجالات فلسطين ، كان بينهم الأستاذ إسعاف النشاشيبي الذي كان يحلو له أن يلقب أديب العربية ، فألقى خطاباً وطنياً رائعا فألهب الجماهير بحركاته وإشاراته حتى راحت تردد سجعاته ،كما تفعل مع المطربين والمنشدين.
وكنت واحدا من خطباء الحفل ، وتحدثت طويلا عن أخطار الوطن القومي اليهودي وسيل الهجرة اليهودية إلى فلسطين.
ودعوت الشعب في فلسطين والأمة العربية من حولها أن تهب للذود عن عروبة الوطن ، وإلا فستسقط فلسطين وتسقط معها حطين.(1/245)
ومضت ثلاثة عشر عاما ، بعد هذا الحفل ، إلى أن جاء عام 1948 ، فسقطت فلسطين ومعها حطين في حوزة إسرائيل.
ولم تكن نبوءتي وحياً من السماء ، بل وحياً من الأرض فقد كانت الأرض ، تنجر من تحت أقدامنا ، كانت الهجرة اليهودية بالألوف ، والأسلحة اليهودية بالأكداس والمنظمات العسكرية اليهودية في إزدياد يقابلها تعذيب واضطهاد للشعب العربي على يد السلطة البريطانية ، وكان طبيعيا أن تسقط فلسطين ومعها حطين ، قد تهيأ كل شيء ولم يبق إلا أن يحين الزمن.
ولكن الأمة العربية ، التي تجمعت جيوشها حول حطين في عام 1187 ، سوف تتجمع ، لا محالة ، مرة ثانية ، لتحرير فلسطين في معركة حطين الثانية.
وسيحتفل أبناؤنا ، بذكرى حطين الأولى والثانية ، سيحتفلون بالذكرى إلى أجل لا يفنى.. وسيقٍّبلون الثرى إلى زمن لا يبلى.
ونحن جيلنا الذي يدفن بعيدا عن مراقد الآباء والأجداد ، سنكون معهم نمجد الذكرى ونقبل الثرى بأرواحنا وأفئدتنا وتلك غاية المنى.
يا رب حقق هاتيك المنى بعد الوفاة إذا لم نبلغها في الحياة.
أحمد الشقيري ــ 1975(1/246)
الشقيري في ذكراه الخامسة (1)
خليل السواحري
الذكرى الخامسة لوفاة أحمد الشقيري ، التي صادفت يوم أمس ، بعثت في النفس فيضاً من الذكريات ،وأعادت إلى الذهن تلك الأيام التي كان صوت الشقيري يملأ فيها الأسماع ، والآفاق ، ويهز المنابر.
وأحمد الشقيري ، الذي يرقد الآن في الأغوار الشمالية إلى جوار الصحابي الفاتح ( أبي عبيدة) ، لم يزل صوته المكتوب ينطلق محرضا ومبصرا ، فسنوات الاعتكاف الاثنتا عشرة الأخيرة من حياته ، التي قضاها متفرغا للكتابة والتأمل وإعادة النظر ، أوصلته إلى نتائج مذهلة ومغايرة تماما للمسيرة الطويلة التي قطعها بين أروقة الجامعة العربية ، والأمم المتحدة ، وفوق منابرهما.
لقد أدرك الشقيري بتجربته النضالية الغنية والتي امتدت زهاء أربعين عاما أن النضال السياسي غير المدعوم بالقوة والموقف الموحد الصلب ، لا
__________
(1) * الدستور، عمان، 27/2/1985 .(1/247)
يمكن أن يقود إلى شيء ، تلك كانت حصيلة تجربة النضال التي شارك فيها الشقيري بدءاً من الجامعة العربية ، حين عمل مساعداً لأمينها العام ، وانتهاء برئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ، التي امتدت أربع سنوات.
وليست تجربة الشقيري وحدها هي التي قادته إلى هذه النتيجة ، ولكن أحوال العرب التي ظلت تسير من سيئ إلى أسوأ هي التي بعثت في نفسه كل تلك السوداوية والجنوح إلى منطق القوة.
يخلص الشقيري في كتابه الأخير (خرافات يهودية) ، الذي صدر في عمان بعد وفاته ، والذي كان مكرساً للرد على خطاب مناحيم بيغن إلى مجلس الشعب المصري يوم 11/11/1977م ، وتخرصاته عن (أرض إسرائيل) وعن أجداده الذين عمروها وعن حق اليهود المقدس فيها.. الخ. يخلص الشقيري إلى أن المنطق الوحيد الذي يمكن أن يعيد الصواب والتوازن إلى العقول الإسرائيلية المتطرفة هو مواجهتهم بنفس الأسلوب والتصدي لهم بنفس المنطق الذي يحكم أعمالهم وسياساتهم.
وإذا كان الشقيري قد فنّد في كتابه ، ومن خلال دراسة متقصية للتوراة وحقائق التاريخ ، أكاذيب مناحيم بيغن ، فإن التفنيد الحقيقي لكل المزاعم العرقية المتغطرسة ، يجب ألا يتوقف عند دراسة التاريخ واستقراء حقائقه ، فالشروع في العمل هو الأساس ، وتجربة الجنوب اللبناني هي خير دليل لمن فاته الدليل.
ورحم الله الشقيري ، مناضلا ومفكرا ومعلماً..(1/248)
أحمد الشقيري (1)
الموسوعة الفلسطينية
محام فلسطيني ، وأول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية. ولد في بلدة تبنين ، جنوبي لبنان ،حيث كان والده الشيخ أسعد الشقيري منفياً لمناهضته سياسة السلطان العثماني عبد الحميد وتسلطه. ثم انتقل ، وهو طفلٌ إلى مدينة طولكرم للعيش مع والدته. وفي سنة 1916 انتقل إلى عكا حيث أنهى دراسته الابتدائية والإعدادية ، وأتم دراسته الثانوية في القدس سنة 1926 ، والتحق بالجامعة الأمريكية في بيروت ، ولكنه طرد منها في العام التالي بقرار من سلطة الانتداب الفرنسي لمشاركته في قيادة مظاهرة ضخمة قام بها الطلاب العرب في الجامعة الأمريكية بمناسبة ذكرى يوم السادس من أيار. فعاد إلى فلسطين ، وانتسب إلى معهد الحقوق في القدس يدرس ليلاً ويعمل نهاراً في صحيفة مرآة الشرق ، دون أن يشغله ذلك عن القيام بواجبه تجاه وطنه. وبعد تخرجه من هذا المعهد عمل وتمرن في مكتب المحامي عوني عبد الهادي ، أحد مؤسسي حزب الاستقلال في فلسطين. وتعّرف خلال
__________
(1) * الموسوعة الفلسطينية،هيئة الموسوعة الفلسطينية، دمشق،1984 .(1/249)
هذه الفترة على عدد من رجالات الثورة السورية الكبرى الذين لجأوا إلى فلسطين ، ومنهم شكري القوتلي ورياض الصلح ونبيه العظمة وعادل أرسلان.
عاشت فلسطين في العشرينات والثلاثينات من هذا القرن ثورات متتالية ، كان أهمها الثورة الفلسطينية الكبرى (1936 ـ 1939م) ، وقد شارك الشقيري فيها مناضلاً بلسانه وبقلمه ضد الانتداب البريطاني والصهيونية ، ومدافعاً عن المعتقلين والثوار العرب الفلسطينيين أمام المحاكم البريطانية. وحين انتهت تلك الثورة لاحقته سلطات الانتداب البريطاني فغادر فلسطين إلى مصر حيث أمضى بعض الوقت، ثم عاد إلى فلسطين في أوائل الحرب العالمية الثانية فافتتح مكتبا ًكبيراً للمحاماه، واختص بالدفاع عن المناضلين الملاحقين ، وبقضايا الأراضي فعمل على إنقاذ قسم من الأراضي العربية ومنع تسربها إلى الصهيونيين. ولما تقرر تأسيس المكاتب العربية في عدد من العواصم الأجنبية برئاسة موسى العلمي، عيّن الشقيري أول مدير لمكتب الإعلام العربي في واشنطن، ثم نقل مديراً لمكتب الإعلام العربي المركزي في القدس. وقد ظل على رأس عمله هذا، إضافة إلى المحاماة، إلى أن وقعت نكبة 1948، فاضطر إلى الهجرة إلى لبنان ، واستقر مع أسرته في بيروت.
قررت الحكومة السورية أن تفيد من خبرات الشقيري في مجال السياسة الخارجية فعينته عضوا في بعثتها إلى الأمم المتحدة (1949 ـ 1950 م) . ثم عُيّن أمينا عاماً مساعداً للجامعة العربية بوصفه يحمل الجنسية السورية. وقد بقي في منصبه هذا حتى سنة 1957 ، حين عين وزير دولة لشؤون الأمم المتحدة في الحكومة السعودية ، وسفيرا دائما لها لدى هيئة الأمم(1/250)
المتحدة. وكان الشقيري خلال وجوده في الأمم المتحدة خير محامٍ عن القضية الفلسطينية ، وعن قضايا العرب الأخرى ، ولا سيما قضايا المغرب والجزائر وتونس. وفي سنة 1963 أنهت المملكة العربية السعودية عمل الشقيري في الأمم المتحدة.
لم يبتعد الشقيري عن الحياة العامة، فقد وقع اختيار الملوك والرؤساء العرب عليه، فور عودته من الأمم المتحدة، ليشغل منصب ممثل فلسطين في جامعة الدول العربية، بعد وفاة ممثلها أحمد حلمي عبد الباقي. ثم اتخذ مؤتمر القمة العربي الأول المعقود في شهر كانون الثاني يناير سنة 1964م قراراً بتكليف الشقيري، بوصفه ممثل فلسطين في الجامعة، بإجراء اتصالات مع أبناء الشعب الفلسطيني حول إنشاء الكيان الفلسطيني على خير القواعد السليمة ، والعودة بنتيجة اتصالاته ودراساته ومساعيه إلى مؤتمر القمة العربي التالي، فقام الشقيري بجولة في الدول العربية التي يعيش فيها الفلسطينيون، ووضع مشروع الميثاق القومي والنظام الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، وتم اختيار اللجان التحضيرية التي وضعت بدورها قوائم بأسماء المرشحين لعضوية المؤتمر الفلسطيني الأول (28 أيار ـ 2 حزيران 1964م) الذي أطلق عليه اسم المجلس الوطني الفلسطيني الأول لمنظمة التحرير. وقد انتخب هذا المؤتمر أحمد الشقيري رئيسا له، وأعلن قيام منظمة التحرير الفلسطينية، وصادق على الميثاق القومي والنظام الأساسي للمنظمة. ثم انتخب المؤتمر الشقيري رئيساً للجنة التنفيذية للمنظمة، وكلّفه اختيار أعضاء هذه اللجنة وعددهم خمسة عشر. كما قرر إعداد الشعب الفلسطيني عسكرياً وإنشاء الصندوق القومي الفلسطيني.(1/251)
قدّم الشقيري إلى مؤتمر القمة العربي الثاني (5/9/1964م) تقريرا عن إنشاء الكيان الفلسطيني ، وأكد فيه على الناحيتين التنظيمية والعسكرية للكيان، من أجل تحقيق هدفي التعبئة والتحرير. كما قدّم إلى المؤتمر أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. وقد وافق المؤتمر على ما قام به الشقيري ، وعلى تقديم الدعم المالي للمنظمة.
تفرّغ الشقيري لرئاسة اللجنة التنفيذية في القدس ، ولوضع أسس العمل والأنظمة في منظمة التحرير الفلسطينية ،وإنشاء الدوائر الخاصة بها ومكاتبها في الأقطار العربية وفي الدول الأجنبية ، وبناء الجهاز العسكري تحت اسم جيش التحرير الفلسطيني.وفي الدورة الثانية للمجلس الوطني الفلسطيني (القاهرة 31 أيار ـ 4 حزيران 1965م) بين الشقيري ما قامت به اللجنة التنفيذية برئاسته، ومن ذلك إنشاء القوات العسكرية، والصندوق القومي ، ودوائر المنظمة ومقرها العام في القدس. ثم قدم استقالته، فقبلها المجلس ، ثم جدد رئاسته للجنة التنفيذية ومنحه حق اختيار أعضائها.
وبعد عدوان حزيران سنة 1967م حدث تغيير كبير على الساحتين العربية والفلسطينية، كما قام تباين في وجهات النظر بين بعض أعضاء اللجنة التنفيذية للمنظمة ورئيسها، فتقدم الشقيري في كانون الأول سنة 1967باستقالته إلى الشعب العربي الفلسطيني. وقد قبلت اللجنة التنفيذية تلك الاستقالة.
رفض الشقيري، بعد استقالته ، أي عمل أو منصب رسمي ، وانصرف إلى الكتابة فكان يقيم في منزله في القاهرة معظم أيام السنة ، وينتقل صيفاً(1/252)
إلى منزله في لبنان.
لم يكن بيته في القاهرة يخلو من زائريه الفلسطينيين وعرب الأقطار الأخرى ، يتبادلون فيه الأحاديث ويديرون النقاش حول شتى القضايا العربية والدولية. وكان يؤكد دائماً أن المساومات السياسية لن تحرر فلسطين ، وأن الكفاح المسلح هو وحده الطريق السليم للتحرير. كما كان يؤكد وجوب محاربة الإمبريالية الأمريكية باعتبارها الجهة التي ترتبط ارتباطاً موضوعياً مع الصهيونية (وإسرائيل) ومخططاتها ، وهي التي تعمل على فرض سيطرتها على الأمة العربية ونهب ثرواتها.ويؤكد ضرورة استعمال النفط سلاحاً من أسلحة التحرير ومحاربة الإمبريالية.
وقد عدّ توقيع اتفاقيتي كامب ديفيد ومعاهدة الصلح المصرية ـ الإسرائيلية، وتطبيع العلاقات بين مصر والكيان الصهيوني خيانة عظمى للقضية الفلسطينية والعربية ، لذلك غادر القاهرة إلى تونس سنة 1979م.
أمضى الشقيري بضعة شهور في تونس حيث أصيب بمرض عضال نقل على إثره إلى مدينة الحسين الطبية في عمان ، وقد توفي فيها يوم 26/2/1980م. ودفن ، بناءً على وصيته ، في مقبرة الصحابي أبي عبيدة بن الجراح في غور الأردن ، على بعد أقل من ثلاثة كيلومترات من حدود فلسطين المحتلة ، تلك المقبرة التي تضم عدداً من قادة الفتوحات الإسلامية ، ومنهم سعد بن أبي وقاص ومعاذ بن جبل ,وشرحبيل بن حسنة.
خلف الشقيري وراءه عددا كبيرا من الدراسات والمؤلفات، تدور حول القضايا العربية والقضية الفلسطينية ، ومنها:(1/253)
1- ... من القدس إلى واشنطن.
2- ... قضايا عربية.
3- ... دفاعاً عن فلسطين والجزائر.
4- ... فلسطين على منبر الأمم المتحدة.
5- ... أربعون عاماً في الحياة العربية والدولية.
6- ... حوار وأسرار مع الملوك والرؤساء.
7- ... من القمة إلى الهزيمة.
8- ... معارك العرب .
9- ... علم واحد وعشرون نجمة.
10- الطريق إلى جنيف.
11- الجامعة العربية.
12- خرافات يهودية(1/254)
الصين وفلسطين (1)
عرفات حجازي
المرحوم أحمد الشقيري لم يأخذ حقّه من التكريم كمناضل فلسطيني ، كان له الإسهام الكبير في تأسيس منظمة التحرير.. فقد كافح وناضل في مؤتمرات وزراء الدفاع والخارجية ومؤتمرات القمة العربية حتى استطاع بمساعدة بعض الشخصيات العربية والفلسطينية من انتزاع قرار تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية.
فالذي يجب أن لا ينكر، أن حضور وجهود وعلاقات الشقيري كان لها تأثيرها في إلقاء مرساة المنظمة على ساحة النضال الوطني العربي والعالمي.
ولكن هناك حقيقة أخرى، وهي أن منظمة التحرير اليوم، ليست هي منظمة تحرير نشأتها.. إذ أنها عندما تأسست قبل عشرين عاماً كانت تسعى
__________
(1) * الشرق الأوسط ،لندن،27 /5/1984.(1/255)
وراء العالم حتى يعترف بها بينما اليوم أصبحت كياناً موجوداً لا يستطيع حتى المكابر أن يغفل هذا الوجود..
والذي أعادني إلى ذكرى المرحوم أحمد الشقيري ، هذه الزيارة التي قام بها السيد ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية.. إذ أن زيارة عرفات لبكين تعتبر زيارة تاريخية في أهدافها ومعانيها ومضمونها وأبعادها...
ففي تاريخ الصين الحديث لم يجر استقبال رسمي فوق العادة إلا لثلاثة أشخاص من مختلف أنحاء العالم... فالصينيون لا يستقبلون كبار ضيوفهم من رؤساء الدول بإطلاق المدفعية واحداً وعشرين طلقة.. إنما خرج القادة الصينيون على هذا التقليد لثلاثة أشخاص فقط هم الرئيس الياباني والرئيس الأمريكي .. والثالث كان رئيس منظمة التحرير الفلسطينية!!
وعلاقة المرحوم أحمد الشقيري بهذه الزيارة التي قام بها (أبو عمار) للصين ، هو أن الشقيري كان أول رئيس لمنظمة التحرير يزور الصين.. وكانت المنظمة في بداياتها عندما اجتمعنا في المجلس الوطني الفلسطيني بالقاهرة في آخر يوم من شهر (مايو) أيار 1965 ، وقال لنا المرحوم الشقيري والدنيا لا تكاد تسعه من الفرح والسعادة ، إنه استطاع تحقيق إنجاز عظيم للشعب الفلسطيني لأنه وقّع بلاغاً مشتركا عن زيارته للصين مع الرئيس الصيني شو اين لأي، وأجرى محادثات مع الزعيم الصيني ماوتسي تونغ.(1/256)
وكان الشقيري رحمه الله يصرخ وهو يدلل على الاعتراف الجديد بالشخصية الفلسطينية عندما يقول: شو أين لأي يوقع البلاغ الصيني ــ الفلسطيني على الميمنة واحمد الشقيري يوقع على الميسرة!!
نعم ... كان ذلك حدثا تاريخيا بالنسبة للقضية الفلسطينية ومنظمة التحرير.. ولكن إذا ما قورن اليوم ذلك الحدث ، بما جرى من استقبال ومحادثات للسيد ياسر عرفات ، ندرك أي شوط قطعته المنظمة في رحلتها النضالية الشاقة الطويلة على مدى عشرين عاما أصبح لها وجودها وحضورها في كل مكان في العالم...
وحتى نحتفظ للشقيري بإنجازه الكبير في لقائه مع ما وتسي تونغ وشو اين لأي لا بد أن نعترف أن التطورات الضخمة على القضية وعلى المنظمة التي امتدت مؤسساتها وكادت توازي مؤسسات أي دولة كبرى، هذه التطورات وخاصة التي ساعدت على تحويل شعارات المنظمة السياسية إلى عمل نضالي وقتالي، هي التي وضعت المنظمة على قائمة الاهتمامات العالمية.(1/257)
الشقيري في ذكراه الثالثة (1)
جميل بركات
أحمد الشقيري من الشخصيات العملاقة الذي تحلو الإشادة بذكرهم وإحياء أسمائهم ،عرف طريقه في خدمة قضايا العرب عامة وقضية فلسطين خاصة ، لم يعش لذاته ولعائلته بل عاش لأمته العربية وناضل من أجل حقوقها وقضاياها ، وكانت له صولات وجولات في المحافل الدولية وعلى منبر هيئة الأمم المتحدة لمدة خمسة عشر عاما. الشقيري العقل المفكر الذي وضع الميثاق القومي لمنظمة التحرير الفلسطينية ونظامها الأساسي ،وكان أول رئيس لها ، داهم الجنود الإسرائيليون منزله في كيفون حين غزوا لبنان وجمعوا كتبه وأوراقه الخاصة وعبأوها في صناديق لتنقل إلى تل أبيب .. ولم يكتفوا بذلك فحملوا مكتبه على مقدمة دبابة إمعاناً للتحدي والإيذاء.
فما يضير الشقيري الذي اغتصب الصهاينة الغزاة بلاده وشرَّدوا أهلها عنها بعد أن قتلوا منهم من قتل واستولوا على كل شيء فيها ، أن
__________
(1) * صوت الشعب، عمان، 26/2/1983 .(1/258)
تنهب مكتبته. فالشقيري بعد أن رحل من الدنيا والتحق بالرفيق الأعلى تحول إلى رأي وفكر ،وسيظل اسمه خالداً خلود الزمن بما تركه من آثار قلمية طابعها الكلمة الجريئة وبلاغة الأسلوب وصدق الإحساس.
تأملوا في قوله يوم وقع عليه الاختيار عام 1963 ليكون ممثلا لفلسطين في الجامعة العربية.
( إنني اعتبر منصبي الذي عُهد به إليّ بأنه منصب نضالي تملكه أمة تريد أن تناضل من أجل تحرير الوطن).
وقد أقرن القول بالعمل ،لم تثْنه الصعوبات التي وضعت أمامه ، فكافح كفاح الأبطال في سبيل تحقيق الكيان الفلسطيني غير عابئ بتشريد أو اضطهاد ، وفي هذا يقول:
(بدأْتُ أول ما بدأْتُ بأن أخذت أضع الكيان الفلسطيني على الورق ... تماما كما يفعل المهندس ... يضع خارطة البناء بأسسه وتفاصيله ومقاييسه،وكتبت وعدّلت وحذفت وقدّمت وأخّرت إلى أن وضعت الميثاق القومي والنظام الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، وكنت أبيتُ غير مرة على كلمة أو عبارة ليلتين أو ثلاثاً، فأنا أمام أجيال فلسطينية تقرأ ما بين السطور أكثر مما تقرأ في السطور، فأبرزتُ صورة الكيان الفلسطيني ، وكتائب فلسطينية تجسّد النشاط العسكري الفلسطيني، وصندوق قومي لتمويل الحركة الفلسطينية، ومكاتب في العواصم العربية وجهاز إعلامي(1/259)
للدعوة للقضية الفلسطينية، ذلك هو الهيكل العام للكيان الفلسطيني كما رسمته في الميثاق والنظام الأساسي).
وكان الشقيري من دعاة الوحدة العربية أو أيّ اتحاد عربي لإيمانه العميق بأن قوة العرب في وحدتهم لا في تجزئتهم ، وفي هذا المجال يقول:
(إذا كان الاستعمار قد عمل على تقسيم الوطن العربي وتجزئته فإنه ليس من المعقول قوميا ومنطقيا أن تقبل الأمة العربية التجزئة، لأن الوطن العربي ليس منطقة جغرافية فحسب ، إنه منطقة تاريخية واحدة، له حضارة وثقافة واحدة، تحدده آمال وطموحات واحدة ويتطلع إلى مستقبل واحد ،في ظل وحدة عربية تختار الأمة شكلها ونظامها وحدودها).
وحين زار الجزائر لأول مرة بعد حرب التحرير وحصولها على سيادتها واستقلالها قال:
(لم أكن قد عرفت هذا القطر المجاهد إلا من خلال كفاحه الطويل، وحين وصلت المطار كدتُ أهوي على أرضه ساجدا أُقبّل الثرى الطاهر وقد رواه دم الشهداء عبر السنين والأجيال).
ومن أقواله المأثورة التي نبعت من تجاربه خلال كفاحه الطويل:
إن الإسلام دين جهاد ، يستهين معه المؤمن بحياته في سبيل الله والوطن.
ما طعم الكسب والعمل والرزق إذا كان المرء مهدداً في وطنه وفي بقائه في وطنه.(1/260)
الصداقة الدولية أشبه ما تكون بأزهار الربيع تنتهي بانتهائه ثم تصبح هشيماً تذروه الرياح.
رحم الله أبا مازن وتغمده برحمته ورضوانه ، فإذا نهب الصهاينة برابرة القرن العشرين كتبه وأوراقه فإنهم لم يتمكنوا من السطو على آرائه وأفكاره التي أوضحها في آخر كتاب ألفه وطبع بعد مماته (خرافات يهودية) .. وقد فضح فيه زيف الصهيونية وأكاذيبها ومؤامراتها عبر التاريخ إلى يومنا هذا، وعرَّف القارئ على حقيقة العدو الإسرائيلي الذي ابتليت به الأمة العربية ، خاصة أهل فلسطين، واكتفني في يوم هذه الذكرى باقتباس الفقرة التالية منه:
(إن عبارة الضيافة التقليدية التي يتمسح بها مناحيم بيغن تثير الغضب على هذا الكذب، فإن الذين نهبوا ثروات الشعوب بالربا والابتزاز والاختلاس ناهيك عن الوسائل الأخرى المنافية للشرف والقيم الأخلاقية ، وكذلك فإن الذين اغتصبوا وطناً بكامله وسرقوا ممتلكات الشعب الفلسطيني من مدنه إلى قراه، إلى مزارعه إلى مصانعه، إلى فراشه وأثاثه، إلى مدخراته ومقتنياته، هؤلاء إنما يوجهون أكبر إهانة لكلمة (الضيافة) حينما يلوكونها بألسنتهم .. ومتى كانت اللصوصية الدولية كرماً وضيافة...).(1/261)
أحمد الشقيري في ذكراه الثانية
(كتاب جديد ـ خرافات يهودية) (1)
أبو محمود
تصادف اليوم ـ الجمعة ـ الذكرى الثانية لغياب مناضل عربي فلسطيني قضى عمره في الجهاد وعرفته المحافل العربية والدولية لأكثر من خمسين عاماً وهو يعمل من أجل الوحدة والتحرير .. وذلك هو المناضل أحمد الشقيري.
وبهذه المناسبة قامت أسرته بطباعة الجزء الأول من آخر مؤلفاته وهو بعنوان (خرافات يهودية وجهالات عربية) وجاء في كلمة التقديم للكتاب أن أسرته قامت بطباعته عملا بوصيته التي جاء فيها (حرصت كل أيام حياتي أن أترك لأمتي ميراثا من الرأي والجهد في سبيل قضايانا القومية وشؤوننا العامة، وقد هيأ الله لي في سبيل هذا القصد مجالا رحباً من التأليف والترجمة
__________
(1) * الدستور، عمان، 26/2/1982.(1/262)
والخطب والمقالات، أما موضوع كتبي وأوراقي فإنني أدعو أبنائي وجميع أصدقائي في الوطن العربي أن يراجعوا هذه الكتب بالتصحيح والتنقيح).
وقد قدّم الكتاب السيد جميل بركات فاستعرض تاريخ نضال الشقيري وحياته الحافلة بالعمل من أجل القضية الفلسطينية وتحريرها والقضايا العربية ووحدتها.
وكتاب (خرفات يهودية) يشتمل على خمسة عشر فصلا أولها بعنوان : (لستم أبناء إبراهيم .. انتم أبناء إبليس) وآخرها بعنوان (عروبة القدس ــ الحفائر والمقابر والتوراة كلها تدين بيجن) . ومن هذه العناوين للفصول ندرك أن كتاب الشقيري الأخير الذي تمت طباعته في ذكرى وفاته الثانية هو امتداد لنضال الشقيري في محاولاته تعرية الحركة الصهيونية وإظهار زيفها وتزويرها وقد استند رحمه الله في هذا الكتاب إلى نصوص توراة اليهود لدحض ادعاءات وأكاذيب مناحيم بيجن التي وردت في خطابه الموجه إلى الشعب المصري بتاريخ 11 تشرين ثانٍ 1977 كما أنه يكشف فيه ممارسات اليهود ومؤامراتهم عبر التاريخ ليبرز الحقائق الخافية على الكثير ويفضح باطل الصهيونية داعياً لأن يكون الإيمان بالحق العربي موازياً على الأقل لإيمان اليهود بباطلهم.
وإذا كانت ذكرى رحيل المناضل الكبير العريق كافية لحملنا على استذكار فصول مأساتنا المتواصلة منذ نصف قرن ، فإن كتابه الجديد الأخير هو مناسبة دائمة لتذكير العرب والمسلمين بل والعالم أن هذا الأخطبوط السرطاني الذي نسميه إسرائيل سيبقى الخطر الذي يهدد مستقبل الأجيال ومصير هذه الأمة وتراثها وحضارتها إذا لم ينتفض العرب والمسلمون لتحطيم هذا الخطر وإنقاذ الأجيال من الفناء المحتوم.(1/263)
الشهداء أحياء في ذكراهم (1)
جميل بركات
لنا وَقفة... لنا أحاديث... لنا ذكريات.... كيف حال الأخ بركات! هكذا خاطبني يوم زرته لأول مرة في مستشفى مدينة الحسين الطبية بعد أن قدم من تونس للعلاج وهو يصارع الموت ، ثم أجهش بالبكاء...
فقالت قرينته الفاضلة ( أم مازن) التي كانت تقف بجوار رأسه، هذا حاله بعد أن رُمي بالمرض ، فكلما تعرف على قريب أو صديق لم يره منذ زمن ، وتذكره ، بكى.
ولكن، أنىّ للدمع يذرف من عيني وأنا الحزين المفجوع فقد تجمد الدمع يوم قامت دولة إسرائيل على جزء غال من أرض فلسطين ، نزح أهله العزل قسراً تحت وطأة السلاح من عكا وحيفا ويافا واللد والرملة، من سمخ وطبريا وصفد وبيسان والناصرة من السهول الخصبة ومن هضاب الجليل ، من جنات القدس وضواحيها، من بئر السبع والنقب ومنطقة الخليل، يوم أقدمت
__________
(1) * الصباح، تونس، 5/3/1981.(1/264)
الدول الكبيرة والصغيرة منها ـ إلا من عصم ربك ـ على شهادة زور وبهتان في هيئة الأمم المتحدة فأُعلن التقسيم، وصار للعدو الصهيوني كيان وأصبح عرب فلسطين أصحاب البلاد بلا كيان.. فسُمّوا لاجئين والشقيري واحد من هؤلاء اللاجئين.
لم يستطع الشقيري احتمال صدمة توقيع اتفاقية كامب ديفيد، فمزَّقت أعصابه مع تمزيق لاءات الخرطوم الثلاث وراح ضحيتها بل وشهيدها، والشهداء أحياء في ذكراهم كما تعلمون.
كررتُ الزيارة ثانية وثالثة ورابعة مرة كل أسبوع، ولكن البطل المثخن بالهموم كان مغشياً عليه ، نام ولم يستيقظ ولم يبق فيه إلا نبضات قلبه تشير إلى أنه على قيد الحياة، هذا كان واقعه لأربعة أسابيع لم ينفع معها علاج أو دواء رغم سهر الأطباء البارعين وبذلهم كل جهد في سبيل إنقاذ حياته ، فدنا الأجل وقيل الشقيري إلى رحمة الله... فحُمل إلى مثواه الأخير ليدفن في غور الأردن كما أوصى ، بالقرب من ضريح أبي عبيدة الجراح فاتح فلسطين ومحرر بيت المقدس، الذي عقد له الخليفة أبو بكر الصديق قيادة جيوش الفتح المتجهة لبلاد الشام لتحريرها والذي قال عنه الخليفة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ حين سئل إثر اغتياله، يا أمير المؤمنين مَنْ تستخلف؟ فأجاب عمر، قبل أن يفارق الحياة، لو كان أبو عبيدة الجراح حياً لاستخلفته فإن سألني ربي قلت سمعت نبيك يقول : (إنه أمين هذه الأمة).
ترى هل أراد الشقيري بما أوصى أن يسكن بجوار هذا الأمين لينبئه ما آل إليه الحال وليتلو عليه الدعاء الذي فاه به يوم وقعت القدس في الأسر؟(1/265)
(اللهم رحماك إن هذا فوق طاقتنا وفوق صبرنا، اللهم نصْرك الذي وعدتنا إن النصر في طاقتنا وقدرتنا في وحدتنا.. في الوحدة وحدها، ما أنا إلا واحد من اللاجئين، أعيش آلامهم واحلم أحلامهم، غضبتهم غضبتي ونقمتهم نقمتي ورضاؤهم رضائي).
ولعله لو امتد به العمر لأضاف على هذا الدعاء: لسنا ضد الغرب ولا مع الشرق ، وكل ما نطمح إليه أن نعيش في بلادنا أحراراً آمنين مطمئنين ، متعاونين على صيانة حقوق الإنسان وحفظ كرامته وإبعاد الأذى عنه، وشطب كلمة لاجئين من قاموس البشر أجمعين.
ومهما قيل في اللاجئ الأستاذ أحمد الشقيري، فإنه عَلم من أعلام الفكر العربي الذين يؤمنون بأن خير العرب واستعادة حقوقهم وأمجادهم تكمن في تآخيهم ووحدتهم لا في فرقتهم وتجزئتهم ، وقد نمت معه هذه العقيدة منذ كان فتىً صغيراً، وزاد إيمانه بها بعد أن تكشفت له الحقائق وشاهد بأم عينه هجرة اليهود الوافدة من أوروبا وغيرها تحت حماية حراب البريطانيين المنتدبين على فلسطين من قبل ما كان يسمى بعصبة الأمم، وذلك لإقامة وطن قومي يهودي على أرضها الطهور، وقد أخذ هذا الإيمان يتجسد في نفسه الكبيرة ويتعاظم كلما تعظم الخطر الصهيوني، فأصبح شغله الشاغل العمل من أجل هذه الوحدة التي يرى فيها الحماية والإنقاذ والخلاص، حيث تأكد له أن أطماع الصهيونية لن تقف عند حدود وأنها ماضية في طريقها العدوانية تَحيك المؤامرات وتُضمر السوء للعرب كما أوضحت حكوماتها الإسرائيلية في بياناتها الرسمية:(1/266)
(نحن لم نرث بلاداً واسعة ولكننا وصلنا بعد مجهود سبعين سنة إلى أول مراحل استقلالنا في قسم من بلادنا الصغيرة وأن مهمتنا كانت وما تزال حل المشكلة اليهودية عن طريق جمع شتات الشعب اليهودي).
لهذا كان الشقيري يقول نكون أو لا نكون وكان يردّد، إذا كنت مأكولا فكن خير آكلي ، وإلا فادركني ولما أمزق.
لم ينتم الشقيري إلى حزب ولم يذعن بالتبعية لأحد مهما سمت منزلته أو امتد نفوذه فمبدؤه أن يعمل مع العاملين لإنقاذ فلسطين من محنتها وإقالتها من عثرتها متمسكا بحقوق الأهل أصحاب الحق الشرعي في تقرير المصير، مؤمناً بأن الوجود العربي من المحيط إلى الخليج مرتبط بمصيرها.
قبل النكبة يوم كان كفاح عرب فلسطين على أشده ضد الاستعمار والصهيونية ، ضد وعد بلفور وصكّ الانتداب وضد الهجرة اليهودية ، ساهم الشقيري المحامي الشاب بمواهبه للدفاع عن المجاهدين والمناضلين أمام المحاكم العسكرية البريطانية التي كانت تحكم بالإعدام على أي عربي لو وجدت في حوزته (رصاصة) فما بالك لو كانت بندقية...كما ساهم في إعداد المذكرات والوثائق التي كانت توضع أمام ما يسمى بلجان التحقيق الموفدة إلى فلسطين، كلما اشتد الخطب ووقعت النزاعات بين عرب فلسطين من جهة وبين قوات حكومة الانتداب الظالمة واليهود الغازين من جهة ثانية، وذلك لتطييب الخواطر وإيهام العرب بأن الدولة المنتدبة تهتم بشؤونهم ويشهد الله أنها هي بيت الداء وأساس البلاء.(1/267)
وكان كلما سنحت الفرص، وما أكثرها بفلسطين المكافحة حينذاك ، ينتقل من مدينة إلى أخرى محاضرا وخطيباً يبيِّن للمواطنين مكامن الخطر الذي يتهدد مصيرهم ويدعوهم لتناسي الأحقاد وضم الصفوف ووحدة الكلمة.
فحين كان طالباً بالجامعة الأمريكية في بيروت عام 1927 ألقى خطاباً قوميا في يوم ذكرى الشهداء ، دعا فيه للخلاص من الاحتلال الأجنبي فأبعدته على إثره السلطات الفرنسية المهيمنة على لبنان يومئذ وقذفت به إلى حدود فلسطين فعاد إلى بلدته عكا التي هوى نجم نابليون عند أسوارها وهو أقوى إيماناً وأمضى عزيمة، ومن ثم واصل الدراسة في معهد الحقوق بالقدس كما واصل الكفاح بالقلم واللسان من خلال الصحف ومكتب الدعاية العربي لفلسطين.
ومن وقت لآخر كانت سلطات الانتداب البريطاني تقبض عليه لتزجَّه في السجن أو ترسله للمنفى شأنه شأن الألوف من الفلسطينيين الذين عملت هذه السلطة الغاشمة على إذلالهم طيلة مدة حكمها ومن ثم انسّلت يوم 15 أيار عام 1948 من فلسطين بعد أن سلّمت الصهاينة اليهود كل شيء ، باستثناء شيء مهم واحد لم يكن أمره بيدها هو حق الدفاع عن النفس الذي أشهره الفلسطينيون منذ النكبة ومازالوا يحملون لواءه جيلا بعد جيل إلى أن يعودوا إلى ديارهم وممتلكاتهم التي اغتصبت منهم ويتم التحرير، لهذا لم يترك الشقيري فرصة إلا وانتهزها من أجل هذا المطلب القومي المجني عليه .. فضاعف نشاطه بعد إعلان دولة إسرائيل وخروجه من البلاد فعمل أميناً مساعداً للجامعة العربية وممثلا لسوريا في هيئة الأمم حتى عام 1957 ثم استعارته المملكة العربية السعودية من سوريا ليكون وزير دولة وممثلا لها(1/268)
في الهيئة نفسها وظل هناك حتى عام 1963، وفيما بعد عهد إليه بتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية التي ورد في ميثاقها أن فلسطين وطن عربي تجمعه روابط القومية العربية بسائر الأقطار العربية التي تؤلف معها الوطن العربي الكبير، وأن تقسيمها باطل من أساسه مهما طال عليه الزمن لمناقضته للمبادئ العامة التي نص عليها ميثاق الأمم المتحدة وفي مقدمتها حق تقرير المصير.
وكان من خلال المراكز التي تبوأها والفرص التي سنحت له يعمل للدفاع عن قضايا الجزائر وتونس ومراكش التي ثارت شعوبها على الاستعمار الفرنسي، كما كان يذود عن الشعوب المضطهدة المغلوبة على أمرها ويسعى سعياً حثيثاً لكسب التأييد لمطالبها، لما أوتي من سعة اطّلاع ومعرفة وقوة حجة وطلاقة لسان، وإيمان بحقوق الإنسان ومواقفه في هيئة الأمم المتحدة شاهدة على ذلك.
شعاره أن الوحدة العربية هدف مقدس وهي ليست وحدة إمبراطورية أو إمبريالية فالعرب أمة واحدة لها تاريخ مشترك ولغة وآمال واحدة.
من أجل ذلك ألّف كتابا عنوانه (الجامعة العربية كيف تكون جامعة وكيف تصبح عربية) وقد طبع هذا الكتاب في تونس قبيل وفاته وخلاصته في عبارات وجيزة أن كل شيء من المحيط إلى الخليج قد تغير إلا الجامعة العربية التي كان ميثاقها في الأصل صيغة مصالحة وتوفيق بين الدول العربية السبع عند تأسيسها فإذا أريد لها البقاء فلا بدأن يعدَّل ميثاقها أو تكتب مواده من جديد بحيث يمتنع أي عضو من أعضائها عن التفاوض والتعاقد مع(1/269)
أية دولة أجنبية إلا بعد أن يقرر مجلس الجامعة أن الالتزامات التي تحويها الاتفاقية لا تتعارض مع مصالح أعضائها، وباعتقاده وهو المجرِّب الواعي أن المحور الذي يجب أن يدور حوله الميثاق الجديد هو الوحدة المدروسة التي يسبقها تنسيق وتمهيد،وبكلمة موجزة وحدة المراحل المحدودة بتوقيت زمني تواريخه مكتوبة عاما وشهراً ويوماً، وقد ضرب على هذا بالأمثلة وأسقط كل الحجج التي تقف في الطريق ذاكرا أننا لا نعرف دولة اتحادية في المشرق والمغرب على السواء خالية الفوارق والتباين والتضارب وأن الذين يدرسون مشاكل الاتحادات المعروفة في دول كالهند وأندونيسيا ويوغسلافيا سيصلون إلى الحقيقة المشرقة وهي أن (الاتحاد) فيها هو عنصر سلام ووفاق ورخاء بالرغم من تعدد شعوبها ولغاتها والعديد من عقائدها.
وإنه لولا الاتحاد فيما بينها لكانت أوطانها ساحة صراع وتفكك وانحلال، وذكر أن (الاتحاد) في بلاد مثل روسيا وأمريكا الشمالية هو السر الأكبر في قوتها وعظمتها وازدهارها ولو أن الأولى كانت مؤلفة من ست عشرة جمهورية والثانية مؤلفة من إحدى وخمسين دولة مستقلة لما كان الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة بهذه القوة ولكان كل من هذين العملاقين مجموعة من الأقزام.
ومن تجاربه الطويلة في هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن تأكد له أن فلسطين لن تعود عن طريق القرارات أو المفاوضات وإنها لن تحرر إلا بواحدة من تلك الفتوحات التاريخية التي عرفها التاريخ الإنساني، لأن العدو الصهيوني أذناه لا تسمع وعيناه لا ترى إلا ما هو لصالحه ، ولان حق الرفض (الفيتو) الذي يستعمل في مجلس الأمن من قبل أي عضو من(1/270)
الخمسة الكبار يحول دون فرض أية عقوبة، وهذا ما تلجأ إليه حكومة الولايات المتحدة بالنسبة لإسرائيل لوقايتها من العقوبات ، مما حال بين الشعب الفلسطيني خلال نيف وثلاثين سنة من الوصول إلى الحد الأدنى من حقوقه المشروعة وهي عودته إلى دياره وممتلكاته وتقرير مصيره، فالصهيونية العالمية كما ذكر هي قوة ديناميكية هائلة لا يمكن أن يقف أمامها إلا وحدة عربية، لها جيش عربي واحد على رأسه دولة اتحادية واحدة، دولة واحدة حول إسرائيل على الأقل.. وبدلا من أن نظل نردد أن شعار إسرائيل إقامة دولة كبرى من الفرات إلى النيل علينا أن نقيم دولة الوحدة من الفرات إلى النيل.
سنة مضت على وفاة مؤسس منظمة التحرير الفلسطينية الأستاذ أحمد الشقيري المجاهد المكافح في سبيل قضايا فلسطين والعرب والمضطهدين في كل مكان، كأنها ثوان عابرة تذكرنا بأن حياة الإنسان قصرت أم طالت فمصيرها إلى نهايتها المحتومة وتبقى الذكرى.
رحم الله الشقيري فقد كان واحداً من رجال فلسطين والعرب الذين أفنوا حياتهم في سبيل أمتهم وبلادهم..(1/271)
أحمد الشقيري في ذكرى..
50 يوماً على وفاته (1)
جورج نعيم شامات
يقول الزعيم الهندي غاندي (ما دام الحق في جانبك فلا تخف...ولو وقفت في وجه العالم أجمع ).
ستقوم لهذا الشعب الصابر الصامد حكومة بفضل وحدة الصف والقوة والعزم وستملك كل مقومات النجاح ونظم الحياة الإدارية والسياسية والتجارية والاقتصادية وسيمتد نفوذها ومكانتها إلى سائر أنحاء العالم.
لا تناموا على الجهة اليسرى حتى لا يتعب القلب ، عليكم بالسير يومياً فالسير أفضل الرياضات ،لا تتناولوا الطعام بين فترة الصباح والغداء للمحافظة على مكانة المعدة،عليكم يوميا بالصلاة. هكذا زرعت كلية صهيون الشهيرة (بالقدس الشريف) هذه التعاليم في الدين والدنيا في صدور طلابها
__________
(1) * الرأي العام، الكويت،8/5/1980.(1/272)
الذين أصبحوا من أقطاب العلم والمال والأعمال والتجارة أمثال مكاريوس زبانة المحامي ، سعيد علاء الدين وزير التجارة الأردني، موسى ناصر وزير الخارجية الأردني، قدري طوقان وزير الخارجية الأردني، والخطيب الشهير أحمد الشقيري والقاضي مصطفى الدباغ وغيرهم كثير.
واليوم بمناسبة مرور 50 يوما على رحيل الزعيم الشقيري أبكي فيه خدمة الواجب القومي والسياسي ،إني أبكي فيه الشهامة والنخوة والإخلاص والوطنية الموروثة.
كان نور الله مرقده النجم المتألق في كل المناسبات الوطنية والقومية والعائلية.
لقد عاصر الشقيري فلسطين منذ صدر شبابه، وورث عن والده فضيلة الشيخ أسعد الشقيري خطيب الثورة الفلسطينية عام 1936 روح الخطابة والفصاحة والجرأة ، وشارك أبو مازن بروحه ودمه وجهوده سائر تطوراتها البناءة ومراحل نهضتها الشماء وأحداثها وثوراتها الرائدة ، وكافح بجلد وإيمان ولم يتقاعس يوماً واحداً بل ظل وفيا لبلده وأمته وقضيته يعمل ويتجاوب لبناء قواعد الأسرة الفلسطينية الواحدة في نطاق التربية وسمو الخلق وكمال الدين، وقد تركت كل أعماله واتصالاته الخيرة بصمات وضاءة لخدمة أبناء الشعب الطيب والإنسانية الحائرة التي قدّم لها ما لا يعد ولا يحصى، هذا كله بالإضافة لخدماته ومواقفه في خدمة دول العروبة لاسيما المملكة العربية السعودية وسوريا.(1/273)
رحم الله أحمد الشقيري القاضي النزيه والوطني الأمين المخلص والمربي الفاضل ورجل الخير الذي كانت وفاته خسارة فادحة ليس للأهل بل لإخوانه وعارفي فضله ومقدّري جهاده وكل ثوار وشعب فلسطين الصامد ، رحم الله كل شهداء فلسطين الأبرار الذين سقوا بدمائهم تراب الوطن الغالي. وإلى جنة فيها نعيم مقيم يا أحمد ، واسلم يا وطني.....(1/274)
كلمة تأبين في ذكرى الأربعين (1)
خير الدين أبو الجبين
أيها السادة: إخواني وأخواتي:-
نلتقي اليوم في بيت فلسطين، في مقر منظمة التحرير الفلسطينية بالكويت، لتأبين أول رئيس لها ، ابن فلسطين البار ، المجاهد الكبير المرحوم أحمد الشقيري.
وإننا إذ نؤبن الشقيري اليوم، فإننا نكرّم نضاله الطويل، ذلك النضال الذي لم ينقطع إلا عند وفاته في الأردن في آخر شباط الماضي، حيث نعاه الأخ أبو عمار: وبكاه شعبنا كما يبكي أكرم الرجال.
ويحلو لنا الآن وفي هذا الحفل الكريم أن نتذكر أستاذنا الكبير أبا مازن، ونذكر شمائله الحلوة ، ونستذكر مراحل جهاده الطويل من أجل أمته العربية وفلسطين التي أحبها كل الحب، ووهبها كل حياته، فظل يعمل ويكتب ويخطب من أجلها.. ما نسيها لحظة من لحظات عمره.
__________
(1) * الكويت ، 9/4/1980.(1/275)
وكلماتي هذه ليست إلا دمعة تقدير وانحناءة إجلال وإكبار لذكرى هذا الصديق والقائد الكبير.
عرفت الشقيري رحمه الله أول ما عرفت خطيباً مملوءاً بالحماسة والوطنية، يأخذ بألباب مستمعيه، يدعو الشعب إلى النضال ومقاومة الانتداب والصهيونية وكان ذلك في فجر شبابي عندما قدمته إلى جماهير شعبنا في المهرجان الوطني الكبير الذي أقامته منظمة النجادة الفلسطينية في ربيع عام 1945م في مدينة يافا عروس فلسطين. وكان الشقيري في ذلك الاحتفال الفارس المجلّي. وقد ترك خطابه وأسلوبه الأخاذ أثراً كبيراً في نفسي. وبعد ذلك أصبحت من المعجبين بشخصيته ووطنيته ومقدرته الخطابية. وازددت إعجابا به عندما تابعت نشاطاته في الأمم المتحدة وهو يدافع عن قضية فلسطين وقضايا استقلال المغرب وتونس والجزائر وليبيا.
وقد بدأت أعرف الشقيري عن كثب منذ آذار عام 64 عندما حضر إلى الكويت في إحدى جولاته لإبراز الكيان الفلسطيني حيث قدمته إلى الجمهور الكبير بملعب ثانوية الشويخ فخطب وأبدع وتحدّث عن الكيان الفلسطيني، وذكّر الشعب بأيامنا الزاهرة واحتفالاتنا الوطنية في فلسطين، وفي ذلك الحفل وصف أهل الكويت بأنهم الأنصار والفلسطينيين هنا المهاجرين ووصف سمو أمير الكويت الراحل المغفورله الشيخ عبد الله السالم بأمير المهاجرين والأنصار فكان موضع إعجاب وتقدير كل من سمعه.
وكانت زيارته هذه للكويت ، وزياراته لمختلف الأقطار العربية آنذاك من أجل إبراز الكيان الفلسطيني الذي بذل الشقيري في سبيل إبرازه جهوداً(1/276)
مضنية يحتاج الحديث عنها إلى صفحات وصفحات. وقد وصف الشقيري المرحلة التي سبقت إبراز الكيان الفلسطيني بقوله (كان الهدف واضحاً ومعروفا ولكن أسلوب العمل كان تائها وسط بحور الكلمات الرنانة والألفاظ الحماسية وكانت قضية فلسطين تعلو في كل الأوقات فوق أيّ اعتبارات أخرى. ولكن طريق العودة لشعبها لم يكن مرسوماً ولا مخططاً).
وقد استطاع الشقيري أن يحول قرار مؤتمر القمة الأول في كانون الثاني 64 (بتكليفه بالاتصال بالشعب الفلسطيني والدول العربية بغية وضع القواعد السليمة لإنشاء كيان فلسطيني) حول هذا القرار من قرار مكتوب إلى واقع ملموس ولم ينتظر الموافقة بل أعلن قيام منظمة التحرير الفلسطينية باسم المؤتمر الفلسطيني الأول الذي انعقد بالقدس في 28 أيار 1964 وأبلغ ذلك إلى مؤتمر القمة الثاني الذي عقد في الإسكندرية في أيلول من ذلك العام.
وبعد قيام المنظمة بدأ الشقيري بإنشاء ثم تدعيم أركانها الأربعة كما كان يسميها وهي جيش التحرير والمكاتب السياسية والصندوق القومي والتنظيم الشعبي.
وقد رافقت الشقيري في هذه المرحلة في جلسات المجلس الوطني الأول والمجلسيْن المتعاقبيْن، وكذلك أثناء عملي في مكتب المنظمة في الكويت. وخلال هذه السنوات وما تلاها منذ استقالته حتى وفاته لازمت أبا مازن فعرفت فيه صدق العزيمة والإيمان المطلق بقدرات شعبنا وأمتنا العربية مع دعوته لأن يكون لقضية فلسطين بعدها الإسلامي إلى جانب بعدها العربي. وعرفت في الشقيري مناضلا شريفاً حصيف الرأي مبدعاً في الخطابة(1/277)
والكتابة والقانون والفقه والحديث والسياسة والدبلوماسية ذا حافظة قوية وذهن متوقد.
وكان الشقيري وفيا للمجاهدين وذكراهم يقدر لهم جهادهم حتى لو كانوا من خصومه السياسيين ، وأذكر إنه عندما انتقل مفتي فلسطين وزعيمها الحاج أمين الحسيني إلى الرفيق الأعلى كان الشقيري في مقدمة المعزّين فيه رغم ما كان بينهما من خصومة. وقال لي يومها في منزله بكيفون إنني أعزي في المفتي لأنه في جهاده الطويل لم يلن ولم يهادن المستعمر بل كان يرفض الانتداب والصهيونية على الدوام.
لقد كان الشقيري معلما لنا ولرفاقنا، علّمنا الكثير من دروس الوطنية الصادقة. علمنا أن لا نهادن العدو أبداً مهما بدا أنه أقوى. علمنا لاءات الخرطوم الثلاثة وكان يقول لنا أن الوطن يحتاج إلى عمل مخلص مستمر شريف وإن يد الله دائما مع الجماعة.
لقد تعّلمنا من الشقيري الإيمان بحتمية الوحدة العربية وإن الوحدة هي العلاج الناجح والوحيد لكافة مصائبنا وآلامنا، وكان رحمه الله يقول إن الصهيونية العالمية وفي طليعتها إسرائيل قوة ديناميكية هائلة لا يمكن أن يقف أمامها إلا وحدة عربية لها جيش عربي واحد على رأسه دوله اتحادية واحدة ، وبدلا من أن نظل نردد أن شعار إسرائيل من النيل إلى الفرات علينا أن نقيم دولة الوحدة من النيل إلى الفرات.
وكان الشقيري يؤمن بضرورة الاستعداد المبكر لمجابهة العدو قبل أن يقوى ويشتد. وقال لنافي إحدى زياراته لمكتب المنظمة بالكويت عام 1965(1/278)
إن ثمن التحرير يتضاعف سنة بعد سنة فإذا كان التحرير يكلف الآن بليوناً فإنه سيكلف في السنة المقبلة عشرة وفي السنة التي تليها مئة، فعلينا أن نسرع في تجميع قوانا وإعداد أنفسنا لخوض معركة التحرير.
وكان رحمه الله يؤمن إيماناً راسخاً بأن طاقات الأمة العربية وإمكانياتها لو تجمعت كافية لقهر العدو والقوى التي تسانده.
وبعد أن ترك الشقيري رئاسة المنظمة عام 68 لم يخلد إلى الراحة بل استمر في خدمة وطنه، وكان بيته في القاهرة وكيفون وتونس ملتقى لرجالات فلسطين والعروبة يتدارسون فيه سبل التحرير وطريق الوحدة. وانصرف إلى الكتابة فأصدر نيفا وعشرة كتب ضمنها مذكراته وتجاربه وآراءه في كل ما يتعلق بالوحدة العربية وتحرير فلسطين.
وعندما بدأ السادات مسيرته الخيانية وجد الشقيري أنه لا يمكنه الاستمرار في العيش في القاهرة.
قال لي في زيارته الأخيرة للكويت في آذار من العام الماضي ـ وكان رحمه الله يحب كثيرا القيام بهذه الزيارات للالتقاء بإخوانه ومحبيه من أجل تبصيرهم وتوعيتهم ـ لقد أصبحت حياتي في القاهرة لا تطاق وأنا مراقب أينما ذهبت حتى عندما أذهب في رياضتي اليومية وتليفوني مراقب ورسائلي مراقبة.وإنني أشعر وكأن مانشيتات الصحف اليومية القاهرية ومقالاتها المضللة لشعبنا العربي في مصر رماح تغرز في صدري صبيحة كل يوم لما تحتويه من أضاليل وأكاذيب وما تدعيه من إخلاص للسادات وسعيه لخير شعب فلسطين. لهذا فقد قررت مرغما أن أترك القاهرة التي أحببت.(1/279)
وفي أول رسالة بعثها لي بعد ذلك قال إنه اختار أن يقيم في تونس فشعبها طيب وهي مقر الجامعة العربية وبذلك يمكنه الالتقاء دوماً برجالات العرب الذين يفدون للجامعة في شتى المناسبات ليحدثهم عن القضية المقدسة ويتدارس معهم سبل العمل .
ولكن المرض لم يمهل الشقيري ولم يسمح له بتحقيق أمنيته هذه، إذ أصبح من الصعب عليه بسبب مرضه أن يجتمع بزائريه الكثر، ولكنه مع ذلك لم ينقطع عن الكتابة.
وفي آخر رسالة كتبها لي من تونس يصف حالته المرضية، أورد فقرات ضمَّنها رأيه وتجربته فيما يمكن أن يسمّى وصيته فقال: ( بقي أن أرجوك أنت وإخواننا في النضال أن تنصبوا أنفسكم حرّاسا على القضية الفلسطينية وأن تداوموا على نصح إخواننا ألا يفرطوا بأي شبر من وطننا المقدس ولا ذرة من تراب وطننا الغالي، فإن تجربة السادات الخائن قد أثبتت أن كل تفريط واستسلام يقابله العدو بالمزيد من الأطماع والتوسع والعدوان ، وهذه هي وصيتي لشعبنا البطل أرجو أن تحفظها وتدوّنها بين أوراقك ، وأسأل الله لقادتنا الهدى ولشعبنا النصر المبين ، ولا بأس أن تنشر هذه المعاني في صحفنا الوطنية في الكويت، إعزازاً لقضيتنا المقدسة واستمساكا بوطننا الغالي).
وبعد ... فيا حبيب فلسطين، يا فارسها، يا ابنها البار يا صوتها الراعد الجبار... نم قرير العين فإن شعلة النضال باقية. إن راية الثورة... راية منظمة التحرير الفلسطينية ستظل تواصل مسيرتها النضالية مستلهمة روحك(1/280)
الغالية وروح أمثالك من المناضلين الكبار من أبناء شعبنا وأمتنا العربية. عهداً أبا مازن أننا سنحمل الراية إلى فلسطين ولن نتراجع مهما كانت التضحية.(1/281)
كلمة تأبين في ذكرى الأربعين (1)
جاسم القطامي
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الحفل الكريم:
من عادة الشعوب والأمم الحية أن تكرم أبناءها البررة ورواد نضالها بإحياء ذكراهم بعد مماتهم، ففي الذكرى شحذ للهمم وشحن لما اختزن من طاقات وتجديد للآمال والطموحات. وما تلك المناسبات الجليلة إلا محطات تقف عندها الأمم تستعرض مراحل نضالها وما تحقق من أهدافها من ثم تحاسب نفسها وتستشرف المستقبل فتتزود بوقود يحفظ للمسيرة النضالية زخمها ويحثها الخطى نحو تجسيد آمال وطموحات وتطلعات المستقبل.
وما أجدرنا نحن أبناء الأمة العربية والوفاء من شيمنا الأصيلة أن نكرم اليوم رائداً أمينا من رواد أمتنا.
__________
(1) * الكويت ، 9/4/1980.(1/282)
إننا نحتفل اليوم بذكرى الأربعين لوفاة فقيد العروبة وفلسطين الأستاذ أحمد الشقيري. والشقيري ليس مجرد اسم مقترن بمرحلة بل هو من رموز الأمة العربية الأساسية في مرحلة اتسمت بالنهوض الجماهيري والمد الثوري. لقد كان رحمه الله وطيب ثراه عروبي الانتماء وقومي الجذور بقدر ما كان فلسطيني الهوية إنساني النزعة، ولا يمكن لنا أن ننسى مواقفه العربية المخلصة وصوته العروبي المدوي في أروقة المنظمة الدولية وقاعات الجامعة العربية، فمواقفه أكثر من أن تعد أو تحصى وهو يدافع الحجة بالحجة ويقارع الخصوم منتقلاً من حلبة نضال إلى أخرى دونما كلل أو وهن فاستحق بذلك لقب خطيب الأمم.كيف لا والفقيد سيد البيان وربيب الفصحى فكانت العربية طوع لسانه وهو الأديب المتبحر والقانوني الضليع والخطيب الذي لا يشق له غبار ولا يجاريه في هذا المضمار أحد. كما لا ينبغي لنا أن ننسى أن الفقيد قد وضع النضال الفلسطيني في مساره الصحيح وبدأ رحلة التثوير والاستنهاض للإنسان الفلسطيني وإثراء هويته بالمضمون النضالي والقومي وربط القضية الفلسطينية بالقضية العربية ربطاً عضويا ومصيرياً.
أيها الحفل الكريم:
كان فقيدنا أبو مازن زميل نضال وصديق فكر ورفيق درب جمعتنا معاً مبادئ الأنتماء العربي والفكر القومي فشدت أواصرنا وقربت أرواحنا وأتاحت لنا أن نلتقي في أكثر من منتدى وتجمع بهدف تحذير الفكر العربي وطرح آفاق جديدة للنضال القومي. والحقيقة أن القومية في فكر الشقيري لم تكن مجرد شعارات تطرح وجملا جوفاء مفرغة المضامين تلقى في المناسبات بل كانت رسالة وإيمانا وممارسة وإلهاما وكان يردد دوما أن(1/283)
إسرائيل هي قضية قومية في المحل الأول والأخير وإذا كان الخندق الفلسطيني قد سقط فإن الخنادق العربية ينبغي لها أن تظل صامدة يقاتل من خلالها العرب كل العرب وفي طليعتهم الفلسطينيون.
وكانت قناعته التي يروج لها دائما أن إسرائيل بكل المقاييس والمعايير والتقييمات ليست إلا مرحلة عابرة لأنها قبض الريح وباطل الأباطيل، وانها تستمد قوتها وعدوانيتها من واقع الضعف العربي ولا بد لهذا الكيان العدواني الإستعماري العنصري أن يزول عند يقظة قومية توحد فيها الجهود وتحشد الطاقات وتعبأ الامكانات في معركة مصيرية مع الكيان الصهيوني الآثم، ومن هنا كان قربه وثقته بقيادة عبد الناصر، وأذكر أن الشقيري كان يردد دائما بعد نكسة 1967 أن عبد الناصر قد ازداد تجربة وأصبح أكثر إيماناً بقدرات جماهير الأمة العربية وقدرتها على العطاء وأكثر إصراراً على أن يجمع الطاقات العربية والعالمية حول النضال الفلسطيني برؤيا ثورية مستنيرة.
أيها الأخوة:
لقد كان فقيدنا أبو مازن يعيش لفلسطين وبفلسطين ، يراها نبض العالم العربي وضميره ومن خلال الولاء لفلسطين ومبلغ الإخلاص تتحدد هويات الأنظمة ومواقف الحكومات. ولم يكن الفقيد العزيز يعرف معنىً لليأس أو يترك للحقد الشخصي أو السياسي مكاناً في قلبه حتى تجاه أشد معارضيه فكرا ورأياً ، وكان يؤمن بأن فلسطين للعرب ولكل أبنائها وان حتميات التاريخ وقدرات الأمة العربية ستحقق الانتصار طال الزمن أم قصر.وهناك(1/284)
حلم ملأ عليه حياته. فكانت الوحدة العربية بالنسبة لمناضلنا هاجسه اليومي وشغله الشاغل يرى فيه البداية والنهاية والمنطلق والملجأ والهدف والقدر ، وانعكس ذلك في أدبياته المتناثرة وتصريحاته وخطبه ومؤلفاته العديدة وآخرها( علم واحد وعشرون نجمة) استعرض بين جنبات كتابه هذا مختلف مراحل تطور الوحدة العربية وأسباب انتكاساتها ومعوقاتها مع طرح آفاق وتوجهات جديدة لتحقيقها ،لم يضعف إيمانه بقدرات هذه الأمة العظيمة رغم النكسات والتراجعات ، وكان ينظر إلى الواقع الحالي على أنه سحابة صيف مظلمة سرعان ما تزول،لأن عظمة الأمة العربية وطاقاتها المخزونة وإرادتها الجبارة تكمن في توجهاتها الوحدوية وطموحاتها القومية، وبقدر ما تتوحد إرادة الأمة بقدر ما تزول ملامح الضعف الحضاري وعلائم التخاذل السياسي فتهيأ لها فرص النهوض والانتفاض على الواقع المرير والتصدّي لكافة الحلول الاستسلامية المطروحة والهجمات الإمبريالية الصهيونية الشرسة.
وربما كان وداع الشقيري للعالم في يوم فتحت فيه قاهرة المعز وعبد الناصر ذراعيها لتستقبل أول سفير صهيوني أمرا له دلالته، فهو صيحة احتجاج ، مظاهرة رفض، وموقف اختيار من قبل مناضل تعوّد أن يجهر بالحقائق ويتخذ المواقف حتى في لحظة وداعه للدنيا.
فيا أخي أبا مازن نم قرير العين مستريح الضمير، واثق الوجدان بقدرات أمتك العربية وشعبك الفلسطيني الجريح وعهداً أن نحمل الراية ونسير على درب الرواد من أمثالك، فالرائد لا يكذبّ أهله..(1/285)
الشقيري والكلمة توأمان (1)
شفيق الحوت
ما أصعبها مهمة أن ترثي رجلا مثل أحمد الشقيري! إذ ماذا يمكن للكلمة أن تقول في رثاء أميرها وفارس مواقعها.
ويلها أن هي تخاذلت فصمتت فأقرّت يتمها. وويلها إن هي تحاملت على جرحها وحكت فبلّل الدمع أحرفها. وهي التي كانت فوق لسانه سيفا للعنفوان وصولجانا للعزة والكبرياء.
الشقيري والكلمة توأمان مثل السيف والغمد. البندقية والرصاصة ، الحق والسلام ، الوطن والمواطن.
كانت هي سلاحه الأوحد وكان هو قلعتها والسنديانة التي تحنو عليها بالظلال والفيء وكما المقاتل الذي يحتضن بندقيته بعد المعركة ، فيعمل فيها تنظيفا ومسحاً وتلميعاً، كان الشقيري يحنو على كلمته يصفّف أحرفها ويدوزن أنغامها ويمعن في استخراج أحلى معانيها وأدق مضامينها.
__________
(1) * شؤون فلسطينية ، بيروت، نيسان 1980.(1/286)
في هذه الحقيقة يكمن سران: سر قوة الشقيري وسر ضعفه في آن واحد. لقد كان إيمانه بالكلمة سلاحا من العوائق التي واجهته في أثناء قيادته منظمة التحرير الفلسطينية في وقت كانت فيه جماهير شعبنا وطلائعنا قد مجت الكلمة وفقدت الثقة في قدرتها على إحداث التغيير المطلوب.
وليس في هذا ما يعيب الراحل الكبير، إذا توخينا الموضوعية وأحطنا بالظروف السياسية والنضالية التي كانت تحيط بنا.
أما وقد أشرت إلى ذلك. فلا بد أن أسارع لأقول أنه على الرغم من ذلك، استطاع الشقيري أن يكون رجل المرحلة المؤهل وحده لتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية والخروج بها إلى حيز الوجود في وقت كانت ( الكلمة) فيه وحدها القادرة على الفعل والتأثير.
فعندما كلّفه الملوك والرؤساء العرب، في مؤتمر قمتهم الأول بالقاهرة سنة 1964، أن يقوم بالاتصالات لتنظيم الحياة السياسية لأبناء فلسطين.لم يجودوا عليه بأكثر من ثلاثة أو أربعة سطور لا تغني ولا تسمن من جوع جاء فيها:-
(يستمر السيد أحمد الشقيري ممثل فلسطين لدى جامعة الدول العربية في اتصالاته بالدول الأعضاء والشعب الفلسطيني بغية الوصول إلى القواعد السليمة لتنظيم الشعب الفلسطيني وتمكينه من القيام بدوره في تحرير وطنه وتقرير مصيره).(1/287)
توصية عامة لا ذكر فيها لكلمة(كيان) أو(منظمة) أو (شخصية وطنية) أو أي شيء من هذا القبيل،غامضة وملغمة،وترجح الاتصال بالدول، وتعطيه أولوية على الشعب صاحب القضية.
وكان الله في عون الشقيري، وراءه شعب لا يرحم يريده أن يقول لـ (الكيان) كن فيكون ، ووفق تأملات وتصورات لا حدود لها ، وأمامه حكام لا يرحمون ، لكل واحد منهم هواه وسياسته وتحالفاته ونكاياته.
وبهمة يُحسد عليها من كان في عمره، راح الشقيري يسعى ويجتهد ويجد، يحمل في حقيبته مسوَّدة لميثاق قومي ونظام أساسي لما عرف فيما بعد بمنظمة التحرير الفلسطينية، وانطلق من القاهرة التي منحته الضوء الأخضر.
كان الشقيري كمن يريد أن ينجو من البلل وهو يمشي تحت سماء ممطرة، بل فاتحة لكل قربها. ولكنه ، وبأسلوب العارف بطبيعة الحكام، واعتماداً على تأييد جماهيري عارم لم تخفف منه( المعارضة) الفلسطينية، استطاع الشقيري أن ينتزع موافقة العديد من عواصم العرب ، كما استطاع أن ينتصر على خصومه في الساحة الفلسطينية ، الجُدد منهم والقدامى.
وفي الثامن والعشرين من أيار (مايو) 1964 ، استطاع الشقيري أن يعقد ذلك اللقاء التاريخي في فندق (انتركونتيننتال) فوق إحدى روابي مدينة التاريخ التي كل منها التاريخ ولم تكل هي منه : القدس.(1/288)
ولأول مرة، بعد ستة عشر عاما من التيه والضياع والتمزق، التقى الفلسطينيون "بعضهم ببعضاً "، وهم حيارى ، فرحين بنشوة اللقاء ، قلقين من تحمل المسؤولية الوطنية من جديد.
كانت أياما كلها تاريخ، نغض الطرف ــ الآن ــ عن تفاصيلها لنكتفي بالقول : إن المجلس الوطني الأول- كان في حركة دائبة-، نقاش مستمر، شكوك لا تنقطع، مؤامرات لا تنتهي، مزايدات، تهاون ، تهديدات بين التلميح والتصريح، ولجان تسجل وتشطب وتطبع، ثم تلغى وتسجل من جديد وتشطب ثانية وتطبع من جديد.
ووصلنا أخيرا... وفي جلسة الختام، أعلن المؤتمر الوطني هذا قيام منظمة التحرير الفلسطينية ، بعد أن أقرّ ميثاقها ونظامها الأساسي ، وانتخب الشقيري رئيساً لأول لجنة تنفيذية فلسطينية، وما كان هذا كله ليتم لولا الجهود الخارقة التي بذلها الرجل دون كلل أو ملل ودون أن يتسرب اليأس أو الوهن إلى روحه.
انتهينا من الشرعية الفلسطينية ، وبقي أمام المنظمة أن تستوفي شرعيتها العربية ، ولم يكن ذلك بالسهل أو الهين ، وعلى قمم الأنظمة من له تحفظاته على المشروع ، أو على الشقيري بالذات ، ولا داعي أيضا للتفاصيل الآن ، ولنكتف بالقول أنه كان أمام رئيس المنظمة الوليدة مهمات عسيرة وعقبات كأداء لا بد من الانتصار عليها وتجاوزها. وتمكن الشقيري من إنجاز هذه المهمات وانتزع الشرعية العربية في قمة الإسكندرية يوم الخامس من أيلول (سبتمبر) 1964. وانطلقت قيادة المنظمة بعد ذلك ، بقيادة الشقيري ، لتبني ،(1/289)
من الصفر أو ما دونه، ما يستلزمه (الكيان) من مؤسسات ودوائر وقوات مسلحة، واتخذت من القدس مقراً لمكتبها الرئيسي، وافتتحت الفروع في العواصم العربية.. التي سمحت بذلك.
وبدأ الشقيري معاناة (المسؤول) بعد أن وصل إلى موقعه، علما بأنه كان لا يزال بلا إمكانيات وحتى بلا صلاحيات، وتتطلع إليه الأبصار وكأنه امتلك العصا السحرية، وليس عليه إلا أن يحركها لتأتيه بالمعجزات، وشعبنا ، شعب فلسطين ، شعب صعب ، معطاء وسخي وكريم، ولكنه شعب من القادة والرؤساء ، والكل كان مستعجلا التحرير، وهذا حق ، ولكن ما كان لجنين أن يفد إلى هذه الدنيا بمجرد التقاء النطفة ببويضة الرحم دون مرور تسعة أشهر على الأقل!
في تلك الأيام كان مجرد رفع (علم) فلسطين فوق شرفة أي مكتب من مكاتب منظمة التحرير، يحتاج إلى صراع طويل عريض مع الدولة المضيفة، وكأن سماء العرب الطافحة بسواري الرايات القطرية قد ضاقت براية فلسطين، سقت هذا مثلا لكي يتذكر القارئ ما كنا عليه في الستينات من أوضاع.
إنصافا ، نعترف للراحل الكبير بقدرته وكياسته وصلابته في خوض معاركه في هذا المجال من التحديات التي واجهت منظمة التحرير ، وبالإنصاف نفسه ، نقول أن الحظ لم يحالفه في معاركه الداخلية ، سواء مع (جيل الشباب) ممن انخرطوا في المنظمة وارتضوا بها إطاراً لنضالهم ، أو مع المنظمات المسلحة التي كانت لا تزال مترددة في موقفها من المنظمة(1/290)
واعتمادها أرضيه مشتركة لنضالاتها، ولا أريد هنا الخوض في التفاصيل أو إصدار الأحكام لسببين: الأول أن جلال المناسبة التي من أجلها كان هذا الحديث يفرض علينا ذلك، والثاني، أنني كنت طرفاً في هذا الصراع ولا يجوز لي بالتالي أن أكون حكما أو مقيماً. كل ما أستطيع قوله ـ وفي هذا عودة على ما قدمت به هذا الحديث ـ أن الرجل وهو المناضل العنيد، كان كذلك أسير جيله وتكوينه السياسي المديد ، وإذا تذكرنا أن الشقيري لم ينتم في حياته الوطنية كلها إلى أي حزب سياسي، ندرك بالتالي خلفية الأسباب التي حالت دون نجاحه في التعامل مع الأحزاب وعدم تجاوبه مع الأفكار التنظيمية التي كانت تلح على خواطرالشباب ممن ارتضوا العمل معه. وعلى كل حال ليس الشقيري فريد نوعه بالنسبة لهذه القضية، ولاسيما في الوطن العربي والعالم الثالث ، حيث الحياة السياسية تقتصر على رأس واحد وجماهير عريضة من حوله! ولابد قبل الانتقال من هذا الموضوع ، من الاعتراف بأن الخلاف التنظيمي شيء والخلاف السياسي شيء آخر فقد تختلف سياسيا وتتفق تنظيميا والعكس كذلك وارد. أي تتفق سياسياً ولكن تختلف حول أساليب العمل وأطره وتنظيماته.
وكان الشقيري بطلا من أبطال السياسة القومية الفلسطينية، فهو رغم نشأته في بيت كان ربّه من أركان التيار الإسلامي الرافضين للتيار القومي الصاعد آنئذٍ ، فإن أحمد الشقيري ، الطالب في جامعة بيروت الأمريكية ، سجّل في العام 1927 أول وِقفاته القومية في خطاب ألقاه في مهرجان شارك فيه كل من رياض الصلح وجبران التويني وسعيد الجزائري. يومها اعتقلته سلطات الانتداب الفرنسي وأبعدته عن سوريا ولبنان، فتوجه إلى القدس حيث دخل معهد الحقوق فيها وتخرج منه محاميا بارعا في سنة 1931. وتشهد كل(1/291)
السنوات التي تلت، بأنه كان سيّد المنابر النضالية والندوات والمحاضرات السياسية، مضافاً إليها، بالطبع، نضاله المؤثر في المحافل الدولية دفاعاً عن فلسطين وكل قضايا العروبة.
ولقد كان لإلمامه الواسع بالقانون الدولي ،ولتفوقه في اللغة ، ولتحكمه بنبرة الخطابة ، ما جعله موضع إعجاب الكثيرين ، وهو متحدث لبق ، يعرف كيف يشدّ المستمع إليه ، ومن أين يلج الموضوع الذي يريد التحدث عنه ، وكان ذكياً بتفوق ، ولا تفوته النكتة إذا ما حبكت ، ولا سيما إن كانت لاذعة وتخدم قضيته.
وكان صلباً غير هياب في مواقفه. أشهد له في مؤتمر القمة في الخرطوم، ولم يكن حوله يومئذ من نصير، بأنه كان في مرافعته أمام الملوك والرؤساء وفياً أكبر الوفاء لمشاعر وقناعات شعبه ، بل أمته العربية جمعاء ، يومها لم يهُن ولم يلن، وكان بين الملوك والرؤساء من يحاول إلباسه مسؤولية الهزيمة الكبرى وكأنه ـ ويا للغبن ـ كان مسؤولاً عن قيادة الجيوش أو قيّماً على مفاتيح الخزائن العربية.
هو من غير ريب صاحب الفضل في (لاءات) الخرطوم الشهيرة، ولولا انسحابه من المؤتمر لربما ما وردت هذه اللاءات التي للأسف سقطت منها رغم ذلك واحدة أصرّ الشقيري عليها وهي (لا انفراد بحل). أن من يشهد مأساة اليوم بعد (انفراد) السادات بحل لا يستطيع أن ينكر ما كان عند الشقيري من قدرة على التنبؤ ومن يقظة وحذر.(1/292)
ولكن هزيمة حزيران بقيت أقوى من قمة الخرطوم وأقوى من الشقيري وكل قادة العرب، وإذا شاءت الظروف أن يكون الشقيري أول ضحاياها، فإنها في النهاية لم توفر أحداً على الإطلاق.
بعد الهزيمة وما أفرزته من نتائج وعبر استشعر كل عربي والفلسطيني أكثر من غيره ، الضرورة إلى (جديد) في الوطن العربي والساحة الفلسطينية ، وربما استشعر الشقيري نفسه ذلك ، ولكنه تطلع إلى قيادة هذا (الجديد) بنفسه ، غير أن الرياح كانت أشد مما احتملت أشرعته ، و(الجديد) المطلوب كان يتجاوز الشكل إلى المضمون والرموز ، وكان الشقيري رمزاً أدّى قسطه للقضية وللكيان، وهو قسط كبير، وأكبر مما يستطيعه أي إنسان عادي، ويتجنى على الحق من ينكرعليه ذلك.
وفي الرابع عشر من كانون الأول (ديسمبر) 1967 ، تلقى الشقيري مذكرة من أعضاء اللجنة التنفيذية التي شكلها بنفسه، ليتحدى بها معارضيه، يطلبون منه فيها التنحي عن منصب رئاسة المنظمة ، وهكذا صار ، غير أن الشقيري ، وهذا ما كان متوقعا منه، قدم استقالته ووجها إلى الشعب لا إلى اللجنة. وكان ذلك في الخامس والعشرين من الشهر نفسه، وبعد أن تأكد من أنه لم يعد أمامه من مخرج أو سبيل. وباستقالته هذه دخلت المنظمة عهداً جديداً هو عهد التنظيمات الفدائية إذ كان يستحيل على من كانوا معه، وهم على شاكلته، أن يستمروا من بعده. وهكذا، لم تمض أشهر قليلة حتى استقال يحيى حمودة وتسلم ياسر عرفات رئاسة المنظمة وقيادة القوات المسلحة ، وتم بذلك زواج الشرعية الفلسطينية بالثورية الفلسطينية.(1/293)
وبعد ،
فلقد ظننت في بداية حديثي أني أكتب رثاء، فإذا بي انتهي إلى تسجيل سريع لسيرة الراحل بما لها وما عليها. ولكن هل كان يمكنني غير ذلك ؟ أو ليست سيرته، بما لها وما عليها، خير ما يمكن أن يقال في مجال رثائه؟ وما يهمه لو انقسم الرأي من حوله؟ أو ليست تلك هي العادة حول كل الأقوياء أو الكبار؟ وماذا يضيره لو قال فيه زيد أو عمرو كلمة نقد هنا أو هناك وهو الذي كانت تلتف من حوله مئات الألوف من أبناء شعبه، وهو الذي يوم رحل ترك كل فلسطيني يشعر وكأن فلسطين سقطت يوم رحيله.
رحم الله أبا مازن الشقيري، فلقد كان راية وصرخة مدوية، فهو وإن مضى ، سيبقى كذلك في ضريحه في الأغوار على بعد كيلومترات من وطنه، ومن حوله أضرحة القادة من أبطال العرب والمسلمين الذين كانت سيرهم من أهم مصادر إلهامه.(1/294)
كلمة تأبين في حفل جيش التحرير
الفلسطيني في ذكرى الأربعين (1)
محمد رشدي الخياط
أيها السادة:
لقد قضي على العرب في حياتهم الحديثة أن يعيشوا في دوامات من الآلام.. ففي كل حفل نقف دقيقة صمت حداداً ـ أسفاً ـ حزناًـ على أرواح الشهداء...
يا رب ... يا سواعد الشباب ... يا حكمة الشيوخ ... يا أمة العرب... متى يأتي اليوم الذي نقف فيه دقيقة فرح على نصر نلناه، على حق انتزعناه.. على أرض استرجعناها ؟ على وحدة أقمناها ولم نفرط فيها ؟ على رجل وهبنا الله إياه، فعضضنا عليه بالنواجذ... رضينا به وآزرناه
__________
(1) * دمشق ، 5/4/1980.(1/295)
بخيره وبشره، بحسناته وبسيئاته... بما أصاب في أعمال قام بها ، وبما أخطأ في أعمال ..
أيها السادة من هو أحمد الشقيري؟ ...
لقد كان الفيلسوف اليوناني (ديوجين) يحمل مصباحه في وضح النهار ويسير في الشوارع يفتش في زوايا عن شيء ... وحين كانوا يسألونه عما يفتش كان يجيب (إني ابحث عن الرجل)...
وكان الزعيم الراحل جمال عبد الناصر حين يخطب في الجنود والشباب يخاطبهم بقوله: أيها الرجال... وكان يهزني هذا النداء. لأنه يعني الكثير... الرجل... نعم بكل ما تحويه هذه الكلمة من معان: فكرية ـ وخلقية ـ وسلوكية...
الرجل: نعم...الرجل في شخصيته حين تنظر إليه يقتحم عليك عينيك فيملؤها.. وحين تسمع منه يأخذ عليك مسامعك.. وحين تدعوه يكون في مقدمة الملبين... وحين يكون الحافز الذاتي نابعا من الأعماق... يندفع الرجل.. غير مبال بالأخطار وغير راض إلا لخالقه حكما...
أيها السادة:
بكلمة موجزة ... لقد كان أحمد الشقيري رجلا.. كان رجلا عمل أصاب وأخطأ.. ومن لا يعمل لا يخطئ .. ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها.كفى المرء نبلا أن تعد معايبه، كان الفقيد... قريباً مني... بعيداً عني.. هو ابن(1/296)
مدينتي عكا.. هو ابن الشاطئ الغربي الممتد أمام بيت والده.. ولم أعرفه في يفاعته لأنه يزيدني بعشر سنين عمراً..
وأول ما عرفته.. في بيروت وهو طالب في الجامعة الأمريكية، وأنا طالب في الكلية الإسلامية ... والتقينا في ذكرى شهداء السادس من أيار.. شباب عربي متفتح ، وظهر أحمد أنذاك خطيباً مفوهاً... ثائراً تخرج الكلمات من فمه قنابل.. وقبض عليه ليسجن ويرحل فلا يعود للجامعة..
عرفته بعد ذلك طالبا في مدرسة الحقوق في القدس.. يتم تعليمه ويكتب في بعض الصحف..
عرفته حين تخرج وذهبت في صحبة أخي وأخيه الأستاذ محمد رفيق اللبابيدي نهنئه فإذا المكتب يكاد يكون خاويا إلا من أحمد.. المربوع القامة ، المكتنز الجسم ، الثابت الخطوة ، تحس أنه يضرب الأرض بقدميه يبغي إلى ما في الحضيض سبيلا.. كما قال المتنبي في وصفه للعظمة...
عرفته جاري (حيط بحيط) كما يقولون... نلتقي صباح مساء في تحية عابرة .. بعد أن استقل في حياته وتزوج...
عرفته على بعض منابر عكا.. في المولد النبوي الشريف حيث كانت المدينة ملتقى المهرجانات الوطنية.. وانتقلت هذه المهرجانات بعد ذلك إلى حيفا عندما بدأ اليهود يسيطرون على المدينة عدداً ،وقوة مال، وقدرة تنظيم..
عرفته في المعتقلات في ثورة 1936 شمالي عكا وكان في صحبة العديد من الرجال.. وكان شديد القرب إلى والدي يأنسان لبعضهما .. وجد أبي(1/297)
فيه:عزيمة الشباب ، وشدة البأس ، واللسان الكتوم المؤتمن على السر كما كان يقول لي أبي... وعرف هو في أبي: حنكة الشيوخ ، وإصرار العزيمة.
وأشهد أنك يا فقيدنا كنت الرجل بحق، الرجل في سيرك النضالي وفي حنكتك السياسية .. وفي صلاتك التي امتدت من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب... باحثا نواحي العمل الإيجابي ، مداريا ظروفا وطنية وظروفا عربية،وظروفا دولية...
كنت سيداً من سادات المنابر... في المشرق وفي المغرب.. في مؤتمرات العرب وفي ندوات هيئة الأمم...
وإذا كانت العاطفة تهزك أحيانا فتخرجك من هدوئك واتزانك لتقول ما كان من الأفضل أن لا يقال في مواقف معينة، فحسبك إنك أخلصت واجتهدت، فأصبت كثيرا ، وأخطأت قليلا...
أيها السادة:
أشهد اني لم أقل في الفقيد ما يجب أن يقال...
وأشهد اني لم أجامل فيما قلت..
وأشهد اني وقد انتقل الصديق إلى الرفيق الأعلى ، وارتفعت من النفوس ـ الأنانيات ـ وذابت مواقف الصراع ، والمنافسة ...(1/298)
أشهد أن فقيدنا كان رجلا .. رجلا ... بدأ من الصفر، لم يعتمد على زعامة أبيه وجاهه.. وإنما بنى حياته ومجده بذراعيه، معتمداً على نفسه، مؤمناً بقضية أرضه، ووطنه... رجلا عمل... وعمل... وعمل.. فعرف لذة العلو والارتفاع.. وشعر بأثر الهزيمة والانكفاء.. ولكنه في الحالتين كان رجلا..
رجلا.. إذا طالعك وأنت مقدم عليه .. أشعرك بقوة شخصيته وابتسامته الساحرة.. أنك أنت الشخصية الأولى... ليسير بك فيما بعد في دهاليز ما يريد... فيحتويك ، وتخضع لما يقول..
رجلاً في اعتلائه المنابر ، في قوة حجة ، وجهارة صوت ، وهدير حياة ، وتدافع كلمات .. تنطلق كالصواريخ من قمة متدافعة.. مسرعة...
كان رحمه الله خطيب الجماهير الأول..
رجلا.. في دهاليز السياسة والمرونة...
رجلا... وصل إلى أن يكون المستشار الكبير لقضية فلسطين، وإني أتمنى أن يكون الجيل الصاعد قد استرشد ببعض خبراته ومعلوماته..
رجلا... جمع القضية العربية في عقله، وعمل لكل قضايا العرب كما عمل لأرضه فلسطين...
وكان عمله لسوريا الحبيبة مضاعفا بل أكثر من مضاعف ، عمل لها في جامعة الدول العربية، وعمل لها في هيئة الأمم... أحبّها وأحبّته ولا غرابة(1/299)
في هذا فقطرنا العربي السوري كان دوماً سباقا لتكريم العاملين للعروبة وللوحدة.. وكانت صلاته برجال سورية العروبة متينة.
وبعد وفاته صح فيه ما كان يردده في خلواته..(ولكن حمزة لا بواكي له).
وهذا قول للرسول الكريم عليه السلام، قاله بعد معركة أحد.. وقد رأى النساء يبكين موتاهن.. فيما عدا حمزة الذي لم تبكه امرأة فقال: (لكن حمزة لا بواكي له)
رحمك الله أبا مازن.. كنت تقول هذا في شعبك ، في أرضك ، في وطنك، الذي لم يبكه الأقربون.. كما لم يحزن على فقده الأبعدون...
وكأنك كنت تنظر بعين الغيب .. وقد وقفت شطراً من نضالك على القضايا العربية... لأنك كنت تؤمن بأن فلسطين في عروبتها ، ولا عروبة بدون فلسطين، وعندما التحقت بالرفيق الأعلى ضنّ عليك الأقربون بوِقفة وداع والوداع الأخير.. فلم يمش في وداعك مسؤول عربي...
لم تكن وحدك أبا مازن من يلقى هذا من الأقربين.. فهناك شعبك كله.. الذي حق فيه قول الرسول الكريم : (ولكن حمزة لا بواكي له).. نعم .. ولكن فلسطين لا بواكي لها.. ومع هذا فأنت ونحن...عرب ـ عرب فلسطينيون ـ نعيش من أجل العروبة... ومن أجل فلسطين... منا الفدائيون ... منا الشهداء .. منا المشرّدون في الخيام... منا المرابطون الصامدون.. منا(1/300)
المحرومون ... منا المسجونون وان كانوا يسيرون في سجون واسعة لا سقوف لها .. منا المكبّلون بحيث تسدّ في وجوههم الحياة...
أهلوك يا أبا مازن.. يخشاهم الأقربون كما يخشاهم الأبعدون...
ومع كل هذا فنحن للعروبة.. نحن لفلسطين.. نحن للعذاب... وللاستشهاد..
أيها السادة:
كان أحمد الشقيري رجلا أحبَّه الكثيرون، وأبغضه الكثيرون وسيحكم التاريخ على من أصاب من محبيه ، وعلى من أخطأ من مبغضيه...
رجلا ستظل بصماته عميقة على القضية ، بقوته وبضعفه ، بشخصيته ، وبإنسانيته ونبضاته..
رحمك الله أبا مازن...
آمنت بالنصر حياً، وآمنت بالنصر ميتاً.. عملت لأرضك فأردت أن تدفن في أقرب بقعة إليها.. لأن يوم النصر آت... وعندئذ تنقل رفاتك إلى أرض الوطن ، لتستقر هانئة..
فليت الأحياء يذكرون الأموات فيحسنون إلى ذكراهم.
لعل الأحياء يذكرون وصايا الأموات...
رحمك الله أبا مازن.. عشت رجلا ـ ومت رجلا والرجال قليلون...
والمستقبل لنا بإذن الله وبإرادتنا .. والسلام عليكم ....(1/301)
أحمد الشقيري ... رجل فقدناه (1)
د.علي سعود عطية
عندما نعى الناعي الأستاذ أحمد الشقيري ، قبل أيام ، دخل الحزن إلى كثير من البيوت العربية في فلسطين المحتلة وخارجها من أرض العرب: الحزن لموت الأستاذ الشقيري من ناحية وارتباط هذا الموت بحدث جلل من ناحية أخرى. ذلك الحدث الجلل الذي تمثل في رفع الأعلام الإسرائيلية على ضفاف وادي النيل من أرض الكنانة العزيزة..
كان ذلك لأن الشقيري رحمه الله، حفر مكانته عميقة وعظيمة في مسيرة التاريخ العربي المعاصر، كما أن موته جاء في وقت لا يحسد العرب عليه. فقد بلغ التراجع العربي في بعض جوانبه الحضيض.
ليس من شأن هذه المقالة أن تؤرخ لإنجازات الأستاذ الشقيري في الحقل الوطني، فهذا أمر متروك لدراسة متأنية يتناولها المؤرخون، ويولونها ما
__________
(1) * القدس،القدس، 12/3/1980.(1/302)
تستحقه من عناية واهتمام ، وبحث واستقصاء ، ولكن الذي نريده هنا ، قول كلمة بين يدي رحيله.. ونحن نستودعه الله الذي لا تضيع عنده الودائع!
محام القضية العربية:
مفتاح شخصية الشقيري ـ كما أن لكل شخصية مفتاحاً نفسرها به ـ هو أنه كان محاميا بكل ما في هذه الكلمة من معنى الدفاع عن الحق والانتصار له، ومحاربة الباطل وملاحقته حتى الإجهاز عليه. وقام بذلك على مستوى الأفراد والجماعات والأوطان. دافع الشقيري عن أبطال فلسطين المجاهدين في انتفاضة البراق 1929 وبالذات فؤاد حجازي، وعطا الزير، ومحمد جمجوم قبل أن تعلقهم السلطات البريطانية على المشانق وتبكيهم فلسطين من أقصاها إلى أقصاها.. ودافع أيضا عن رفاق الشهيد عز الدين القسام بعد انتفاضته العظيمة في عام 1935م ، وبعد قضية اغتيال أندروز حاكم الجليل في عام 1937. ودافع عن القضية الفلسطينية في الأمم المتحدة وغيرها من المنابر العالمية. وشمل دفاعه كل قضية عربية مظلومة مثل قضية الجزائر وتونس وليبيا.وتجاوز ذلك، إلى الدفاع عن كل قضية مظلومة في العالم. وكان الشقيري نصيراً للمظلومين والمستضعفين في الأرض أمام شرور الامبريالية والصهيونية، ولقد امتد به الزمن محاميا مناضلا عن القضايا المظلومة وطاف في ذلك أركان الأرض، وشرق وغرب وسار كما يقول هو (طريقاً طويلاً من الحياة السياسية العامة ، امتدت أربعين عاماً بدأتها في بيت المقدس معقل الحركة الوطنية ، آنذاك ، وانتقلت بعدها في عواصم الدنيا ، في واشنطن ونيويورك وباريس وموسكو وجنيف ولندن وطوكيو ونيودلهي(1/303)
وكراتشي وبكين، وباندونغ فضلا عن العواصم العربية وقد رحت انتقل بينها كأني انتقل من حي إلى حي في المدينة الواحدة).
لقد ترسخ في وجدان الشقيري من خلال قضيته المظلومة، ظلما فظيعاً مريعا، مبدأ الدفاع عن كل قضية مشابهة وهو يقول أيضا: (واكبت حركات التحرر في العالم، ورحت أبحث عن كل قضية حيثما وجدتها دفاعاً عن أوطان الشعوب وثأراً لوطني المغلوب).
كان الشقيري نشيطا حيويا دؤوباً مثابراً متحفزاً يمتلئ بأخلاق الفروسية والنجدة والشهامة ، مثله في ذلك مثل المؤمن الذي ورد في الحديث النبوي الشريف (مثل المؤمن كرجل أخذ بعنان فرسه كلما سمع هيعة ـ صيحة ـ طار إليها). وكان استنفاره وتحفزه أشدّ ما يكونان عليه عندما يتعلق الأمر بفلسطين من قريب أو بعيد.
وذو الشوق القديم وان تعزى مشوق حين يلقى العاشقينا
لقد كانت فلسطين قدس أقداسه، الوتر الحساس في قيثارته الذي ما أن تمسه حتى تنقدح في ذهنه شرارة الإلهام وتجود القريحة ويكون البيان.
الخطيب:
ولقد رزق الأستاذ الشقيري كل الصفات التي تؤهله للخطابة: جرأة كجرأة الأسد الهصور، وصوت جهوري. أتقن اللغة العربية لغة القرآن سليقة ودراسة . كما أتقن الإنجليزية وتحدث بها بمقدرة كبيرة . وخطب باللغتين . وقد ورث الشقيري موهبة الخطابة عن أبيه ، كابراً عن كابر،(1/304)
فقد كان أبوه أسعد الشقيري مَن أفصح من خطب باللغتين العربية والتركية. ولقد جاء وقت على الشقيري في شبابه أدمن فيه الخطاب، وصار رجل المنابر الذي لا يبارى ولا يجارى . طبيعة أخرى وفضيلة أضيفتا إلى طبائعه وفضائله الكثيرة : (ولكن أصبحت لي شهرة بأنني خطيب كما لو كنت مطرباً، يحرص الناس كل الحرص على أن أغني لهم وأطربهم!) كما تميز الشقيري بحضور بديهة عجيب . سأله أحدهم وقد وقف خطيباً : أيهما نقاوم الصهيونية أو الاستعمار فقال على الفور :
لا تقطعن ذنب الأفعى وترسلها إن كنت شهماً فاتبع رأسها الذنبا.
ولعل الذي زاد في ترسيخ مقدرة الشقيري على الخطابة والمقدرة على التأثير في الجماهير العريضة، أنه توجه بإخلاص إليها وتبنى منطلقاتها وعبرّ عن توجهاتها ، فوقف في ذلك على أرض صلبة.
منطلقاته وتوجهاته:
آمن الشقيري بعدالة قضية فلسطين كأنها يقين اليقين.والحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وحمل في حناياه وبين جوانحه التراجيديا الإنسانية لكل فلسطيني كأنها أسطورة من أساطير الأولين.
إيمانه العميق بالوحدة:
كما آمن الشقيري بالصلة الوطيدة بين فلسطين وأرض العروبة والإسلام وهنا، أدرك الشقيري أن فلسطين إحدى الدوائر الثلاث في الكيان العربي الإسلامي: الدائرة الصغرى والقلب فلسطين، والدائرة الثانية الأكبر الوطن(1/305)
العربي، والدائرة الثالثة هي الدائرة الإسلامية، وإن العمل لكل هذه الدوائر عمل متداخل مكمل لبعضه بعضاً. ورغم أن الشقيري كان يؤمن بأن على العرب الفلسطينيين أن يكونوا طليعة الطليعة ـ كما كان يكرر دائما ـ في قضية العالم العربي والإسلامي الأولى ، قضية فلسطين ، إلا أنه كان يؤمن بأن العمل المبتور على مستوى القضية الفلسطينية فقط أو الوحدة فقط ، عمل لا يمكن أن يفلح ! بل هناك رابطة جدلية أو ديالكتيكية بين الجبهتين.. من فلسطين ننطلق إلى الوحدة، الوحدة التي ستعمد بالدم العربي المقدس يجري على الأرض المقدسة.. كما أن أي شكل من أشكال الوحدة العربية خطوة على الطريق سيعود بالخير والبركة على قضية فلسطين ، وقضايا العرب الأخرى.
لقد شعر الشقيري بأن العمق الاستراتيجي العربي الإسلامي أمر حتمي للتحرر ومن هنا، طالما ردد القول: ( الصهيونية العالمية وفي طليعتها إسرائيل قوة ديناميكية هائلة ، ولا يمكن أن يقف أمامها إلا وحدة عربية لها جيش عربي واحد، على رأسه دولة اتحادية واحدة، دولة واحدة حول إسرائيل على الأقل. وبدلا من أن نظل نردد أن شعار إسرائيل من النيل إلى الفرات ، علينا أن نقيم دولة الوحدة من النيل إلى الفرات).
ولقد كان أحد طموحات الشقيري الأساسية طوال الوقت ، تكوين جبهة رديفة للعرب الفلسطينيين من العرب والمسلمين على غرار رديف الصهيونية من عالم اليهود والغرب. يذكر (سألت نفسي لم لا تكون جباية شعبية منظمة كما يفعل اليهود. لم لا تكون (عربية عالمية) و(إسلامية عالمية) تمدنا وتقوي(1/306)
صمودنا وثباتنا في وطننا وتكون درعاً وحصنا لنا، على غرار ما تفعله الصهيونية في بناء الوطن القومي اليهودي حماية ورعاية).
عمل تاريخي عظيم:
آمن الشقيري من خلال تجربته العظيمة، تجربة خمسة عقود طويلة ساهم فيها مساهمة جذرية بالقضية الفلسطينية وانغمس فيها حتى الأعماق ، اقول آمن بعمق بأن تحرير الوطن المغتصب لن يكون إلا بعمل تاريخي عظيم مرتبط بالوحدة ونتيجة من نتائجها الحتمية: (لن تعود فلسطين إلى أهلها بالسياسة ولا بالدعاية، ولكن بواحدة من تلك (الفتوحات) التاريخية التي عرفها التاريخ الإنساني .. أجل إنه فتح قريب ولكن بالوحدة وبالوحدة وحدها لا بغيرها).
تحرير القدس:
وعندما يتحدث عن تحرير القدس، القدس التي لها في قلبه مكانة خاصة ، والتي طالما تغنى بها في كتبه واستشهد بها في خطاباته، ووقف عند كل حجر فيها أثناء دراسته وإقامته فيها واختزن في كيانه ذكريات وذكريات عنها... هذه القدس التي أحبها وعشقها وبكاها عندما سقطت عام 48 ،67 ، هذه القدس لا يمكن أن تتحرر إلا على الكيفية التالية:
( أجل لن تخرج إسرائيل إلا إذا خضناها حرباً طاحنة لا تبقي ولا تذر، تترك بيت المقدس حجرا على حجر، من المسجد الأقصى إلى كنسية(1/307)
القيامة..وإذا كان هذا هو الثمن فإن الأرض الطهور في بيت المقدس ستبقى ، ويومئذ سنبني عليها مسجدنا وكنيستنا ،وسنعيد بناء التاريخ).
الانبعاث الفلسطيني ومنظمة التحرير:
وبعد، فإن التاريخ لن ينسى لهذا الراحل العظيم أنه كان رائداً من رواد الانبعاث الفلسطيني بعد النكبة.وذلك لأنه كان الذي دق ناقوس بناء الكيان الفلسطيني، وتحويل الشعب الفلسطيني من لاجئين إلى ثوريين أصحاب قضية وطلاب وطن ، يطالبون بتقرير مصيرهم ويسعون وراء هوية سياسية لأنفسهم. لقد دعا الشقيري إلى نقل الفلسطينيين من مرحلة الضياع والتشتت إلى اللقاء والتجمع والتوحد في ظل مؤسسة سياسية وتنظيمية عامة واحدة هي منظمة التحرير الفلسطينية التي هي ـ مع الثورة المسلحة ـ من أعظم الإنجازات الفلسطينية بعد النكبة، وإلى هذا فإن الشقيري لم يدع لتأسيس منظمة التحرير لأمر أقل من التحرير الكامل الشامل من النهر إلى البحر... وهو صاحب فكرة اللاءات الثلاث التي صدرت عن مؤتمر الخرطوم: لا صلح ولا مفاوضات ولا اعتراف.وكان الشقيري رافضاً صامداً وظل كذلك إلى أن لقي ربه.
أجل لقد توفي الشقيري الذي حمل تاريخ فلسطين على ظهره وسار به ، كما قيل يوما عن ديغول، وهو يشدد على مواصلة النضال وعدم إلقاء البندقية حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا !
قال لي أحد أصدقاء الأستاذ الشقيري أنه تلقى رسالة منه قبيل وفاته، وهو على فراش المرض، يوصيه فيها: إحذروا الصلح أو الاعتراف بعدوكم(1/308)
فإنه عدو شرس ، لن يقنع منكم بالصلح ولا بالاعتراف! وعلى هذا فلتكن معركتكم معه معركة مستمرة ، ولتكن معركة حياة أو موت!
هذه خلاصة رأي رجل درس التاريخ ووعاه وعاشه وكان أديبا خطيباً ، إنساناً ، ذا بصيرة ثاقبة وفراسة أكيدة.
رحم الله الأستاذ الشقيري رحمة واسعة في الخالدين.(1/309)
رحم الله أحمد الشقيري (1)
محمد كريشان
مات الشقيري ، مات الرجل الذي أحببته دون أن أتعرف عليه بل وحتى دون أن أعرف عنه الشيء الكثير.
كل ما أعرف عنه أنه كان رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية قبل ياسر عرفات وأنه عين في فترة ما رئيسا للوفد السعودي في المنتظم الأممي (الأمم المتحدة).
ولكن الشيء الذي جعلني أكتب عن هذا الرجل العظيم بعد رحيله هو كتابه (علم واحد وعشرون نجمة) عن الوحدة العربية، الذي كتبه الراحل سنة 1977 وهو يحتوي على قرابة 400 صفحة كلها عن الأمة العربية كيف تبلورت عبر التاريخ ، وعن الوحدة العربية كيف يجب أن تكون وعلى أي أسس، وإلى أي شيء يعود فشل عديد المشاريع الوحدوية في تاريخ العرب المعاصر.
__________
(1) * الصباح، تونس، 7/3/1980.(1/310)
عشت معه عبر صفحات الكتاب وكأنه بجانبي يحدثني عن هذه الوحدة العربية التي آمن بها إيمانا لا يفوقه إلا إيمانه بالله.كان يتحدث عن حتميتها وكأنه يراها ويغازلها وكأنها فتاة جميلة تتبختر أمامه، حديثه عنها لم يكن أبدا حديث خطيب بارع يتقن دغدغة أحاسيس الجماهير العربية بل كان حديثاً رصينا ممتعاً تلمس من خلاله أن الرجل أرهق نفسه وهو ينقب في الكتب والمراجع والمجلدات ، ومما زاد في روعة الكتاب وحيويته ما أقحمه الكاتب من وقائع وأحداث بحكم المناصب السياسية التي تقلب فيها.
كان الشقيري يرى في الوحدة مطمح الشعوب العربية كافة وغاية المنى بالنسبة إليها ، ولكن مصيبة العرب في حكامهم الذين يقفون حجر عثرة في طريقها ، فمنهم من ينادي بها ويلوح وهو لها طاعن في الخفاء ، ومنهم من يرى أنها حلم لذيذ وغاية بعيدة المنال، والكل يتلاعب بالجماهير العربية ويبعد ساعة خلاصها من التخلف والتبعية والذل، سواء كان ذلك عن قصد أو عن غير قصد.
لم ير الشقيري في الجامعة العربية إلا جامعة أنظمة مختلفة المشارب منها من يقوده الكرملين ومنها من يقوده البيت الأبيض ومنها من يشطح بجنون بين هذا وذاك. وهذه الجامعة لم تبعث حسب رأيه إلا لامتصاص تطلع الجماهير العربية نحو وحدة حقيقية فعالة بين أرجاء الوطن العربي كافة، فكانت شعارات (وحدة الموقف والكلمة) و(التضامن العربي) وغير ذلك مما ينطبق عليه المثل القائل: (تسمع جعجعة ولا ترى طحنا).(1/311)
كان يسجل بمرارة أن معظم القادة العرب يتاجرون بقضية فلسطين، معلنين تأييدهم ووقوفهم إلى جانب الشعب الفلسطيني في محنته، على أن هذا التأييد لم يكن يرى النور إلا في اجتماعات القادة على مستوى الخطب الجوفاء، أو على أعمدة الصحافة التي تلوك قضية فلسطين لأنها لم تجد غيرها موضوعا يمكن أن يكتب فيه في أي وقت، وكل ما قدمه جلّ القادة العرب للقضية الفلسطينية كان مجموعة من بالونات الكلام ولا شيء غير ذلك.
كان الشقيري ـ رحمه الله ـ يرى أن الوحدة العربية حتمية أفرزها التاريخ المشترك للشعوب العربية كافة وواجب أملاه ميزان القوى السياسي والاقتصادي على المستوى العالمي، ولم تكن أمنية معزولة عن أية عمليات موضوعية تفرض قيامها، لقد سعى الاستعمار من خلال انتصابه على أجزاء مختلفة من وطننا العربي إلى تجزئة هذا الأخير وهي نفس التجزئة والانفصالية التي يعمل الاستعمار اليوم على تكريسها حتى لا تقوم للعرب قائمة أبداً.
لذا فالشقيري ينطلق من هذا المعطى التاريخي والسياسي ليطرح وحدة واقعية تنسجم ـ على الأقل في هذه الظرف ـ مع واقع العرب الحالي، فهو ينادي بوحدة كنفدرالية شبيهة بالقائمة حاليا في الولايات المتحدة واتحاد الجمهوريات السوفياتية، ومن هنا نلمس أن الشقيري لم يكن طوباويا ولا ضبابيا في طرحه للوحدة العربية، وهو يرحب بكل وحدة سليمة في أي جزء من الوطن العربي بإمكانها أن تمثل خطوة على الدرب السليم، درب الوحدة الشاملة من المحيط إلى الخليج.(1/312)
أما عن النظام الاقتصادي الذي يجب أن يسود البلاد العربية بعد قيام الوحدة فهو النظام الاشتراكي ولا نظام غيره يمكنه أن ينهض بالجماهير العربية ويجعلها تشعر بكرامتها وتشعر أنها تساهم في عملية التنمية العربية وهي أول مستفيدة منها، ويرجع الشقيري إلى التاريخ الإسلامي من عهد الرسول عليه الصلاة والسلام والخلفاء الراشدين وبخاصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليحدد معالم الاشتراكية الإسلامية وذلك بقصد الاعتبار بها في حياتنا الحاضرة. إذ أن لنا في تاريخنا العربي الإسلامي ومضات اشتراكية رائدة علينا أن نعيد لها الحياة مستفيدين، إلى جانب هذا التراث الاشتراكي، من الفكر السياسي العالمي دون التذرع بأنها أفكار مستوردة.
فالشقيري يرى في ممارسة أبي بكر لمانعي الزكاة ثورة اشتراكية يسميها (ثورة ربيع الأول) وهي المعركة التي دارت في الجنوب الشرقي لنجد في الربيع الأول من العام 13 للهجرة، كما يرى أن السياسة الاقتصادية في عهد عثمان كانت ذات طابع رأسمالي ومسار استغلالي فاحش ألبّ الناس على عثمان فكان مقتله ثورة ضد الإقطاع واستغلال النفوذ، وكان الشقيري شديد الإعجاب بشخصية عمر ابن الخطاب صاحب النفس الاشتراكي الإنساني الرائع.
هذا هو الشقيري كما عشت مع أفكاره في كتابه (علم واحد وعشرون نجمة). مات الشقيري بعدما ألزمته الفراش الصراعات والخلافات العربية ، لكنه لم يمت إلا يوم رفع العلم الصهيوني في سماء مصر العربية، إن هذا المؤمن بالوحدة العربية إيمانا صلبا عنيداً لم يستطع أن يقف أمام هذه الصدمة ، أمام هذه الطعنة.(1/313)
مات الشقيري وهو يتمزق على ما آل إليه حال العرب، مات وهو يتلظى بين ما يطمح إليه وبين ما يراه بأم عينيه وهو لا يكاد يصدق! لو كنت صديق الشقيري أو أحد أفراد أسرته لأمرت بأن ينقش على قبره :(صرعه العرب جميعا وعلى رأسهم السادات).(1/314)
أحمد الشقيري في ذمة الله (1)
صبري أبو المجد
حزنت إلى أبعد حدود الحزن، لوفاة الأستاذ أحمد الشقيري، الزعيم الفلسطيني المعروف، صاحب التاريخ المشرق الوضاء في خدمة القضية الفلسطينية بصفة خاصة، والقضايا العربية ، وكلها وبدون استثناء بصفة عامة، وأشهد وقد عرفت الرجل سنوات طويلة أنه كان دائما، وباستمرار صاحب رأي، وعقيدة وفكر، نتفق ونختلف معه في آرائه، وعقائده، وأفكاره، ولكننا في كل حالات الاتفاق والاختلاف، لا نستطيع إلا أن نحترمه ونقدره، إلى أبعد درجات الاحترام والتقدير: كان أحمد الشقيري بلا جدال خير محام للقضية الفلسطينية، وإليه وإلى بعض رفاقه يعود فضل تعريف الرأي العام العالمي ، بالقضية الفلسطينية.
وقد كان من أهم آراء أحمد الشقيري، أن القضية الفلسطينية يجب أن ترتفع فوق كل الخلافات والاختلافات العربية، كما أن على كل الأنظمة
__________
(1) * المصور، القاهرة، 7/3/1980.(1/315)
العربية أن ترفع يدها عن القضية الفلسطينية وتترك للفلسطينيين وحدهم فرصة حل خلافاتهم الداخلية ، واختيار طرق كفاحهم ، ونضالهم.
وقد كان أحمد الشقيري بحق مناضلا من نوع خاص ،لا يهمه ميدان المعركة ، وإنما يهمه السلاح الذي يستخدم في تلك المعركة ، عمل محامياً للقضية الفلسطينية ، وهو في منصب وزير دولة في حكومة المملكة العربية السعودية كمندوب لها في الأمم المتحدة ، وعمل أيضا محامياً للقضية الفلسطينية ، وهو مندوب سورية في الأمم المتحدة ، ولم يكن أحمد الشقيري أثناء قيامه بتلك المهام ، محاميا للقضية الفلسطينية وحسب ، بل كان محامياً للقضايا العربية وخاصة قضايا المغرب والجزائر وتونس ، أثناء عرضها على الأمم المتحدة ، وقد ظلم أحمد الشقيري عندما نسب اليهود إليه أنه القائل بضرورة رمي اليهود في البحر ، وأكد لي عشرات المرات ، أنه لم يقل ذلك قطّ ، وأن الصهيونيين قد تعودوا على إطلاق هذه التهمة ، على كل من يعاديهم. وقد لا يعرف الكثيرون أن أحمد الشقيري عندما كان مندوباً للمملكة العربية السعودية في الأمم المتحدة برتبة وزير ، رفض أن يثير في الأمم المتحدة شكاوى السعودية ضد القاهرة وصنعاء ، مؤكداً أن مكانها الجامعة العربية، لا الأمم المتحدة، وقد أدى هذا إلى أن السعودية استغنت عن خدماته.
وأحمد الشقيري أول رئيس للمجلس الوطني الفلسطيني، وأول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية ، وحياته مليئة بكل صور الكفاح والنضال ، التي يجب أن تخصص لها الكتب والدراسات، وإذا كانت إسرائيل قد رفضت مطالب الصليب الأحمر الدولي بدفن جثمان أحمد الشقيري في بلدته عكا ـ(1/316)
كما قالت وكالات الأنباء ـ فإننا نؤكد لحكومة إسرائيل أن مثل هذه الأمور لا يمكن أن تعوق مسيرة الكفاح الفلسطيني.
رحم الله أحمد الشقيري، فقد كان رجل كفاح وكان رجل مبدأ، وكانت حياته كلها قصة نضال دائم رائع، يجب أن يقرأها ويعيها جميع العرب وخاصة الفلسطينيين منهم.(1/317)
كلمة حق ووفاء وتاريخ على طريق
الهزيمة مع الملوك والرؤساء العرب (1)
أسامة بن منقذ
في كل يوم تفقد الأمة العربية أبطالاً لها وتودع رجالا وتذرف دمعها عليهم، لا لفقدان البطولة العربية ولكن لأن هؤلاء الأبطال كانوا يمثلون الوطنية في أصدق معانيها وأنبل أغراضها وأسمى أهدافها وأنقى رسالتها.
وإذا كانت البطولة العربية قد شوهتها (أخلاقية) السلطة العربية باعتبارها كانت نضالا في الجبهتين الداخلية والخارجية، فإن فقدان أحمد الشقيري والعلم الإسرائيلي يرفع في حي الدقي بالقاهرة، يعتبر اغتيالا سياسيا وجدانيا بيد عربية جاءت بالعدو ليرفع علامة انتصاره و(سلامه) على حساب الفلسطينيين وقضية فلسطين المشروعة.
__________
(1) * الرأي، تونس، 7/3/1980.(1/318)
لذلك فإن سقوط أحمد الشقيري كان نتيجة لرياح هبت في المنطقة العربية، فإذا بصقر قريش يلفظ أنفاسه الأخيرة .. عين له على القاهرة المقهورة ،وقلب له يخفق مضرجا بحب فلسطين ، ولسانه يتلو آيات الذكر الحكيم في قلب ( القدس) الشريفة ، قبلة الإيمان.
في عجالة:
- ولد الشقيري سنة 1908م.
- في سنة 1934 بدأ ممارسة المحاماة في فلسطين.
- في سنتي 1938 و 1939 شارك عمليا في الثورة الفلسطينية.
- في عام 1945 ترأس مكتب الإعلام الفلسطيني في الولايات المتحدة الأمريكية.
- منذ عام 1945 إلى عام 1962 أصبح عضوا في العديد من المنظمات العربية والعالمية وممثلا لفلسطين في المؤتمرات الدولية.
- من 1964 إلى 1967 تولى رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية.
ومن مؤلفاته: من القدس إلى واشنطن ـ قضايا عربية ـ دفاعاً عن فلسطين والجزائر ـ قصة الثورة الجزائرية ـ فلسطين على منبر الأمم المتحدة ـ مشروع الدولة العربية المتحدة ـ حوار وأسرار مع الملوك(1/319)
والرؤساء العرب ـ أربعون عاماُ في الحياة العربية والدولية ـ من القمة إلى الهزيمة مع الملوك والرؤساء.
وآخر كتاب صدرله بتونس يخص تاريخ ودور ورسالة جامعة الدول العربية.
مواقف ومجابهة:
عُرف الفقيد المناضل أحمد الشقيري بمواقفه الشجاعة وتحديه للمناورين وسماسرة السياسة العربية والدولية.
ولأنه كان خطيباً بارعا يملك الحجة والمنطق ويستحضر التاريخ البعيد عن التشويه والضلال فكم قدمته أجهزة الإعلام العربية في صورة المتلاعب بأعصاب وأحاسيس الجماهير، ولأنه كان لا يساوم ولا يهادن فكم تعرض الشقيري ـ برّد الله بالرحمة مثواه ـ إلى ردود الفعل العربية الرسمية ذلك أنه لم يكن ( سياسياً) بالحجم العربي الرسمي وبالصورة التي يريدها الحاكم العربي.
سارية الوطن:
وقد أشار في كتابه (على طريق الهزيمة مع الملوك والرؤساء) إلا أن (أكبر خطأ ارتكبته في حياتي هو السير في الأعوام الأربعة 1964 ـ 1967مع الملوك والرؤساء العرب ، ذلك الخطأ الكبير هو أنني صدّقت الملوك والرؤساء العرب في العام 1964 يوم انعقد مؤتمر القمة العربي الأول في القاهرة ، ثم سِرت في ركابهم في مؤتمر الإسكندرية وبعده في مؤتمر(1/320)
الدار البيضاء، وأخيرا في مؤتمر الخرطوم... وحمدت الله أنني انسحبت في هذا المؤتمر غير آسف ولا نادم...).
وإذا كانت القيادات العربية على أخلاقياتها المعهودة فإنها لن تستطيع أن تمحو من تاريخ الشقيري دوره في تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية وبنائه لكيان المنظمة سياسيا وعلمياً ودولياً.
وفي نعي ياسر عرفات للفقيد الشقيري أشار وأشاد لحجم المناضل في قوله:
(لقد تنقل الراحل الكبير في العديد من المواقع السياسية البارزة على المستوى العربي والدولي وكان أول رئيس للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وكان صوته وكانت كلمته ترتفع دائماً على سارية الوطن الفلسطيني وترفرف في مختلف أرجاء العالم ).
وسواء حذفت محاضرات ومواقف الشقيري من ذاكرة المسؤولين العرب، وهو أمر طبيعي لا نشك فيه ، فإن الشعب العربي سيذكر دائماً أن الشقيري كان مناضلاً عربيا قاعدته الجماهير ولغته الجماهير وهدفه الجماهير.
وفي اعتماده لغة الجماهير وصدق الجماهير خالف الشقيري ـ رحمة الله عليه ـ جل الرؤساء والملوك العرب الذين يتعاملون مع القضية الفلسطينية في حدود .. اللهم حوالينا ولا علينا.(1/321)
ولعله من أوكد واجبات الثورة الفلسطينية اليوم أن تضع الشقيري في منزلته الحقيقية فتطلق اسمه على خلية من خلاياها الثورية وتحفر صورته في وثائقها التاريخية.. ليعلم الجيل الفلسطيني الحاضر والقادم أن رجلا كبيراً مات..
من مات في فزع القيامة لم يجد قدما تشيع أو حفارة ساعي
هذا الذي مات في فزع القيامة السياسية العربية.. سوف لن يموت في الذاكرة الفلسطينية التي تعلمت من الشقيري حب الوطن الفلسطيني على الصورة التي عليها الوطن، لا على الصورة التي يريدها اليوم من بيدهم خريطة الوطن.(1/322)
الصوت الذي خسرته القضية (1)
الحوادث
كان أحمد الشقيري يعتبر الموت بعيداً عن فلسطين انفجارا يؤدي إلى نهاية الحياة، وكان يعرف رحمه الله، أنه لن يعيش ليموت على أرض فلسطين، فطلب أن يدفن في ترابها على أقل تقدير.
وحين توفي الشقيري، في الأسبوع الماضي، رفضت سلطات الإحتلال الإسرائيلي أن يدفن في عكا فهو في مماته قد يكون أكثر خطورة عليها من حياته.
وأحمد الشقيري هو أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية. قضى عمره في خدمة فلسطين وقضايا الأمة العربية. وقبل أن يتسلم الشقيري رئاسة منظمة التحرير كان مندوبا دائما للمملكة العربية السعودية في الأمم المتحدة. بنى صداقة حميمة مع الملك فيصل، فاختاره لتمثيل بلاده في أعلى منبر
__________
(1) *الحوادث، بيروت، 7/3/1980.(1/323)
عالمي، تماماً كما اختارته سوريا مواطنا من مواطنيها وأحد أوائل روادها في المحافل العالمية.
كان الشقيري أحد أفضل رجال المنابر باللغة الإنكليزية، كان صوت فلسطين في كل محفل دولي.
قال المحللون الأجانب أن مشكلة الشقيري أنه جعل لفلسطين صوتاً عاليا، ولم يعطها فكراً عاليا، كانوا يريدون إعطاء إسرائيل المبرر الذي اتخذته ضده. كانت تقول: إنه يريد رمينا بالبحر، فقط لأنه طالب بالتحرير، وأنشأ جيش التحرير ، ومارس حرب التحرير.
كان الشقيري صوتاً عالياً ، وكان ممارسة فلسطينية عالية أيضاً. لقد أصبح الشقيري بنضاله الطويل، أسلوباً ومدرسة خطابية تأثر بها قادة كثيرون في العالم العربي.
سافر الشقيري إلى الصين ، واختار بزة ماوتسي تونغ. ووعد أن لا يخلعها قبل التحرير.. ولكنه تخلى عنها إلى جيل الشباب الفلسطيني ، ترك البزة والبندقية إلى ياسر عرفات ، وانصرف إلى كتابة مذكراته وتجاربه مع الملوك والرؤساء العرب على الورق لأنه اعتقد أن التجربة مرة وقاسية ويجب أن تصبح ملك الجماهير. إن أهم ما خلفه الشقيري هو فلسطينيته بأذرعتها العربية.لقد كان مواطناً فلسطينيا ، بامتدادات وتطلعات عربية واسعة. فهو واحد من الأوائل الذين مزجوا النضالين الفلسطيني والعربي فأعطاهما بعدا قومياً لم يعد أحد يستطيع فصلهما، حتى ولا اتفاقيات كامب ديفيد.(1/324)
الفارس السنديانة (1)
فلسطين الثورة
مهما كان رأيك في سياسته أو مسيرة حياته ، يبقى أحمد الشقيري علماً من أعلام النضال العربي والفلسطيني ، وصوتا عربياً مدوياً في حياتنا القومية والدولية، وفارساً مناطحاً مقداماً ،ومناضلاً سياسياً بلسان ذرب دانت له منابر الخطابة ، بلاغة في القول ، وفصاحة بالكلمة ، وجزالة في البيان.
وهو في ذروة إنجازه، القابلة التي ولدت منظمة التحرير الفلسطينية على يديها ، في أعسر عملية ولادة وطنية شهدها الوطن العربي بعد كارثة 1948م، ولا ينكر عليه هذه الحقيقة إلا مكابر يتطاول على الحق أو جاهل لا يعرف التاريخ.
وهو أيضاً ـ إحقاقاً للحق ـ صاحب الفضل في (لاءات) مؤتمر الخرطوم التي أصبحت ركيزة العمل القومي الثابتة إلى أن خرج عليها حاكم مصر الحالي المرتد عن كل ما هو قومي وعربي وشريف.
__________
(1) * فلسطين الثورة، بيروت، 3 /3/1980.(1/325)
هذا هو الفارس الذي هوى، ليدخل في رحاب الله والتاريخ ابناً باراً لشعبه وأمته وللقضية التي نذر حياته من أجل خدمتها.
وتلكم هي السنديانة الوافرة الظل، أو الزيتونة المباركة ، التي أسلمت الروح بعد أن شاءت لها الأقدار أن تحيا مرحلة من عمر أمتنا مليئة بالأحداث والمتغيرات: مرحلة اندحار الدولة العثمانية، فعهود الاحتلال الأجنبي، ثم الاستقلال الوطني وأخيراً عهد الطغيان الصهيوني والغزوة البربرية الجديدة التي تسببت بضياع فلسطين وتشريد شعبها.
كان الشقيري جيلا بكامله، ودورة سياسية كاملة.وبين أبناء جيله كان طليعيا في تحطيم قيود الماضي ورواسبه، وفي مجابهة الراهن وتحدياته، وفي التطلع للمستقبل الحر وما يتطلبه ذلك من عناء وشقاء.
وعندما يسقط من كان مثله تشعر وكأن فلسطين فقدت مدينة أخرى من مدنها أو جبلا من جبالها أو شريطاً من ساحلها. لأن من كان مثله ، وفي موقعه ، كان في واقع الحقيقة وجوهرها ركنا من أركان الصمود والصراع ، وشاهداً حياً على الجريمة التي ارتكبت بحق فلسطين والفلسطينيين، ومحامياً لا تأخذه في الحق لومة لائم. يقول كلمته ولا يمشي من بعدها وإنما كان ييمترس حولها يكر ولا يفر حتى يستسلم خصمه.
وأيام رئاسته لمنظمة التحرير كانت أياما عصيبة، ولم يكن الفلسطيني بعد قد استرجع مكانه ومكانته حتى بين أفراد أسرته العربية.ومع ذلك فلقد استطاع الشقيري،وهو الأعزل يومئذ من كل سلاح، إلا سلاح الكلمة المدوية، أن يحتل المكان وأن ينتزع المكانة.(1/326)
فهمه البعض خطأ إذ ظنوا أنه في مقارعته هذه كان يسعى لجاه شخصي أو مكانة ذاتية، والحق كل الحق أنه كان يفعل ذلك من أجل فلسطين وشعب فلسطين.
وكلمته المشهورة عن وقفته (كتفا إلى كتف مع الملوك والرؤساء) ما قصد منها ولا رمى إلى مسألة بروتوكولية، وإنما قصد ورمى إلى مسألة وطنية تتعلق بكرامة شعب وضرورة بعث حياته الوطنية وكيانه الوطني.
وهو لذلك ، وككل مناضل سياسي عنيد ، استهدف أكثر من مرة ولم يكن شخصه الهدف وإنما ما كان يمثل ويجسد.
ونحن أبناء فلسطين ، وفي الثورة الفلسطينية بالذات ،الذين تعودنا الوفاء لكل من حمل راية الجهاد والكفاح ، لا نستطيع اليوم سوى الإقرار للرجل الذي قضى بفضل جهاده واجتهاده والاعتراف بالدور التاريخي الذي قام به في عملية إحياء الكيان الوطني الفلسطيني وتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية.
وسيبقى لأحمد الشقيري في تاريخنا الثوري الصفحات التي يستحقها والتي سطرها بيديه وبمعاناته وبنضاله.
فله ، ولكل شهدائنا من كل جيل ، تحية التقدير والإجلال والاحترام.
رحم الله الشقيري أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية ، وعزاؤنا بأننا نحن معشر الفلسطينيين لا زلنا ـ في سبيل الوطن ـ نطلب الموت لتوهب لنا الحياة.(1/327)
الشقيري... وكلمة رثاء (1) ..
خالد محادين
ليس ثََََََََََََمّ أسوأُ من كلمة رثاء...
وفي زمن بالغ السوء مثل زمننا، حيث يخرج المرء من جلده داخل الوطن وينفلت من جواز سفره خارج حدوده ، لا يكون أمامنا سوى أن نقول تلك الكلمة.
والشقيري الذي حمل جراحه وآلامه ، وحمل أحلامه وأمانيه ثم رحل، واحد من قليل ظلوا تحت جلودهم داخل الوطن ، وظلوا تحتها خارج حدوده، ومن حقه علينا، وما أقل أن نعرف أو نتعرف على واجبنا ،أن نقول فيه ولو كلمة وداع ، وان ظل في أعماقنا بعض وفاء فكلمة رثاء. فالشقيري حمل أوجاع هذه الأمة قبل أن يحمل أوجاع شعبه، وقاتل دفاعاً عن قضاياها قبل أن يقاتل دفاعاً عن قضاياه ، ولهذا تجيء خسارة الأمة أكبر بل أعمق من خسارة شعبه له.
__________
(1) * الرأي،عمان، 1/3/1980.(1/328)
كان الشقيري عربيا في المنطلق والهدف والسلوك، وكان عربيا في حزنه وفرحه وآلامه وآماله ، ولهذا لم تكن مجرد مصادفة موجعة أن يتوقف قلبه عن الخفقان بينما الراية الصهيونية ترتفع فوق بيت عربي في مصر العربية، واذكر الآن آخر لقاء لي معه في فندق البحر الأبيض في طرابلس الغرب، سألته تلك الليلة عما إذا كان من الممكن أن يجيء يوم ترتفع فيه راية العدو فوق بلد عربي ، صمت لحظات كانت في طول معاناته وقال: أرجو ألا أكون آنذاك حياً.
وهكذا رحل الشقيري يوم ارتفعت تلك الراية، وظل صوته في أعماقي: سوف يظل الوطن العربي يتساقط شبراً شبراً إلى أن يأتي جيل لا ولاء فيه إلا لعروبته ولا انتماء له إلا لأمته.
ويرحم الله الشقيري الذي عاش عربيا ورحل عربياً في زمن بالغ السوء مثل زمننا.(1/329)
أحمد الشقيري (1)
فؤاد مطر
منذ عدة أسابيع وأنا واحد من كثيرين سمعوا بمرض الصديق أحمد الشقيري ، ندعو له بالعافية وبأن يجتاز الظروف الصحية الدقيقة التي فاجأته.
وقبل أربعة أيام بلغنا نبأ وفاته شاباً في الثانية والسبعين استمر حتى اللحظة التي فاجأته فيها الظروف الصحية الدقيقة يحلم بفلسطين التي أعطاها أصفى سنوات عمره في الخمسينات والستينات، وحتى بعدما أصبح بعيداً عن المناصب الرسمية غارقا في أوراقه يقلب فيها ويختار ماذا يذكر وإلى أي واقعة يشير وهل يطرق الأسرار العربية والدولية وهي كثيرة، وهو يعرفها.
وقصة أحمد الشقيري بدءاً من عكا وانتهاء برئاسة منظمة التحرير الفلسطينية التي حتمت متغيرات النضال الفلسطيني أن يتولاها ياسر عرفات بعد الظروف المرة الناشئة عن هزيمة 1967م ، هي قصة فلسطين التي يتزايد التلاعب بها.
__________
(1) * المستقبل، بيروت، 1/3/1980.(1/330)
ويحتار الواحد منا ، نحن الذين عرفنا أحمد الشقيري وتابعناه وحاورناه وناقشناه في مجالس الشاي الصيني الذي يعبق أريجه في منزله في القاهرة ، ماذا نتذكر من كلامه المتصل بالظروف السياسية الراهنة في المنطقة العربية، ولكن تحليلاته في معظمها أصابت ، ورؤيته قبل خمس سنوات لما ستنتهي إليه الأمور مستقبلا كانت إجمالا في محلها ، وفي استمرار أتذكر قوله لي مرة أن روجرز فشل لأنه مسيحي متدين وسيحقق كيسنجر ما يريد لأنه يهودي شاطر.
أليست اللحظة البالغة المرارة التي عاشتها مصر يوم وفاة الشقيري وتمثلت بتسلم الرئيس السادات في قصر عابدين أوراق اعتماد السفير الإسرائيلي هي بعض المكاسب التي حققها لإسرائيل اليهودي الشاطر كيسنجر؟.
ويبقى أن وفاة الشقيري تمت في عمّان وليس في أي عاصمة أخرى ،ونعي أبو عمار له ووصفه إياه بأنه (بطل من أبطال الأمة العربية) ، يشكلان بقية إنصاف للرجل الذي قاد مسيرة العمل الفلسطيني بإخلاص بضع سنوات تشكل مرحلة ولادة الكيان الرسمي للثورة الفلسطينية المستمرة حتى اليوم ... وحتى النصر.(1/331)
الشقيري: خطيب العرب في الأمم المتحدة (1)
عبد الحميد عبد الغني
إذا ذكرت قضية فلسطين ذكر معها اسم أحمد الشقيري الذي مضى إلى رحمة الله في هذا الأسبوع .
كان الشقيري يمثل مرحلة من مراحل القضية الفلسطينية ولم تكن مرحلة حل القضية لا حلا عسكريا بعد أن أثبت الجانب العربي قصوره عن هذا.. ولا حلا سلميا لأن الجانب العربي والجانب الإسرائيلي لم يكونا قد تهيئا لقبول هذا حتى ولو كان حلا عادلا.. ولكنها كانت مرحلة محاولة تعريف الرأي العام في العالم بالظلم الذي وقع على الشعب الفلسطيني.
ولا شك في أن هذه المحاولة ( الإعلامية) كانت ضرورية في تلك المرحلة الأولى، لأنه كان التمهيد اللازم لكي يتحرك الرأي العام العالمي في يوم من الأيام ليساند القضية وليطالب بحلها حلا سلمياً عادلاً.
__________
(1) * أخبار اليوم، القاهرة، 1/3/1980.(1/332)
ورغم هذا فقد قام عدد قليل من الفلسطينيين المخلصين من أمثال موسى العلمي وأحمد الشقيري وأميل غوري وعزت طنوس بمحاولة اقتحام الأسوار التي أحاطت بالرأي العام في أمريكا .. وفي أي مكان يمكن أن تصل إليه أصواتهم بما في أيديهم من وسائل قليلة ضعيفة.. ولاشك في أنهم قد استطاعوا أن يفعلوا أكثر مما استطاعت أن تفعل خلال تلك الفترة الحكومات العربية بما لديها من وسائل وأموال.
وقبل أن تنشئ الجامعة العربية أيَّ مكتب للإعلام في الخارج وقبل أن تنشئ أي دولة عربية مكتباً للدعاية في أمريكا أو في أوروبا. قبل هذا بسنوات قامت ( الهيئة العربية العليا) التي كان يرأسها مفتي القدس فانشأت مكتبها في واشنطن رأسه موسى العلمي ثم أحمد الشقيري.وبهذا المجهود الفردي أمكن الاتصال بعدد من رجال الكونجرس والصحافة،وأساتذة الجامعات، ورؤساء الكنائس.
ثم قامت الأمم المتحدة فصار أحمد الشقيري هو خطيب القضية الفلسطينية على منبرها، ولم يكن يستطيع أن يقف على هذا المنبر إلا إذا كان ممثلا لإحدى الدول العربية. فأسندت إليه المملكة السعودية مهمة تمثيلها في الجمعية العامة وقبل ذلك أسندت إليه سوريا مهمة تمثيلها في الأمم المتحدة، وأمضى في هذه المهمة سنوات عديدة ألقى خلالها عشرات وعشرات من الخطب المستفيضة في بسط القضية الفلسطينية .. وفي الدفاع عن القضايا العربية الأخرى، ومنها قضية استقلال تونس والمغرب ، وصار معروفا في الأمم المتحدة بأنه خطيب العرب.(1/333)
وكان يعد خطبه بنفسه ويملؤها بالبيانات والوقائع كأنه محام يقدم ملفا كاملاً إلى محكمة الرأي العام.
وكان الشقيري يخطب كثيرا وطويلا في قضية فلسطين.. وأذكر ملاحظة قالها ذات مرة عندما سألته لماذا لم يخطب في إحدى الدورات، فيما ألقى من خطب، عن قضية الجزائر وكانت ثورة الجزائر حينذاك في عنفوانها، فقال لي: في الأمة العربية الآن قضيتان : قضية حية هي قضية الجزائر، فأي خطاب لن يكسبها شيئا، وقضية ميتة هي قضية فلسطين، فيجب أن أخطب ويخطب غيري مئات المرات على أمل أن ننفث فيها شيئا من الحياة.
واقتنع الشقيري بعد هذا بأن الخطابة والدعاية لا تكفي، كما أقتنع بأن أسوأ ما أصيب به الشعب الفلسطيني هو أنه ترك زمامه في يد الدول العربية، ففرضت عليه وصايتها ، وأخذت تتاجر بالقضية الفلسطينية.
وقال لابد أن يقف الشعب الفلسطيني على قدميه أولا وقبل كل شيء.. وان ينتزع القضية من أيدي الحكومات العربية التي تتاجر بها.وأقدم وسط الظلام المحيط بقضية بلاده فأنشأ ( منظمة التحرير الفلسطينية) وكان هذا في سنة 1964م ، وبعدها بثلاث سنوات جاءت الهزيمة الكبرى ، والصدمة الهائلة التي هزّت الشقيري هزة عنيفة فاعتزل العمل السياسي ، وقرر أن يترك القضية لجيل آخر من الفلسطينيين.
وعاش الشقيري في مصر معظم هذا الوقت. عاش في مصر التي عاش فيها جده الأكبر الشيخ محمد شقير الذي جاء من الحجاز، واستوطن الشرقية،(1/334)
ثم ذهب منها جنديا في جيش إبراهيم باشا إلى الشام، وأقام هناك في عكا. حيث صار أحمد الشقيري أحد كبار محاميها، إلى أن استولت عليه القضية الفلسطينية فوهبها كل حياته إلى أن مضى إلى رحمة الله.(1/335)
أبو مازن..
رثاء القلب إلى أحمد الشقيري (1)
ناصر الدين النشاشيبي
ما عرفت خطيباً يستمد من مرادفات اللغة وتعابيرالبيان وفصاحة الأسلوب قوة وعزيمة كأحمد الشقيري. كانت العربية ملك لسانه وطوع جنانه ، يخطب بروحه ويتدفق بأحاسيسه وأعصابه ، يطيل دونما إسفاف ويعيد دونما ملل ، حتى إذا شعر بأنه أعطى للموضوع حقه وللساعة التزاماتها وللمستمعين واجبهم عاد إلى كرسيه وفي نفسه شيء من الحنين لكي يعود ويبدأ الخطابة من جديد...
وكقضية بلده ، كان الشقيري بروحه وجديّته أبعد من مجرد الحدود الجغرافية التي ولد وانتسب إليها ، فقد رحل من عكا إلى القدس ثم رحل من القدس إلى دمشق ثم غادر دمشق إلى القاهرة ثم هجر القاهرة إلى السعودية ثم تنقل بين أمريكا والمشرق العربي ، تارة هو ذلك الدبلوماسي السوري
__________
(1) * الأنباء، الكويت، 29/2/1980م.(1/336)
المساعد لأمين الجامعة العربية ، وطوراً هو ذلك الممثل السعودي في الأمم المتحدة ، ومرات هو القائد الفلسطيني ينظم المقاومة ويحشد الإمكانيات.وفي كل مرحلة كان الهدف هو فلسطين وكانت تلك المراحل مجرد محطات وقف عندها أبو مازن لكي يطل منها على قضيته ووطنه وشعبه. وكما أن القضية نفسها قد عاشت ملتهبة متأججة ثائرة فكذلك الشقيري عاش معها ملتهباً متأججاً متفجراً. ومن مرارة مشاعره تجاه قضيته عاش يتنفس المرارة ويحياها ، وبسبب الطابع المتأجج لتلك القضية اختلف مع جميع الذين عمل معهم. فقد اختلف مع السوريين والسعوديين والمصريين وحتى لم يوفر على نفسه اختلافا مع بعض إخوانه من الفلسطينيين انطلاقا من شعوره بأن القضية قضيته،وأن صفاء حبه لها أو اندماجه فيها يعطيه الحق لكي يضحي بالصداقات في سبيل المبادئ، وإن الخدمة العامة لا تسمح للمشاعر الخاصة بالتدخل، وأن الاجتهاد في معرض خدمة هذه القضية حرام وأن التطرف في الالتزام بها واجب مفروض ، وأن العمر القصير للمرء الواحد لا يكفي لكي يمنحه فدية وحباُ وثمناً وعربون ولاء!.
رأيت أحمد الشقيري يدلي بشهادته أمام لجنة التحقيق الأنكلو أمريكية في أوائل عام 1946 باسم المكتب العربي وسمعت رئيس اللجنة البريطاني السير جون فلنجتون يسأله بعصبية ظاهرة (ألا تعتقد أن دخول قوات الحلفاء إلى المشرق العربي في الحرب العالمية الأولى كانت عملية تحرير للعرب؟) وسكت الشقيري لم يجب، وعاد رئيس اللجنة يكرر السؤال ولكن أحمد الشقيري لم يجب، وعندما أطلق الإنجليزي سؤاله للمرة الثالثة ارتفع صوت أحمد الشقيري للرد قائلا في عصبية ثائرة: ( كان دخولكم لبلادنا سبباً في تجزئتها وهدمها وتخريبها وتقسيمها لا لتحريرها ولا لخدمة شعبها!).(1/337)
وعندما سأله العضو الآخر في اللجنة: كيف يصف وجود قوات الحلفاء في المشرق العربي خلال الحرب العالمية الثانية لحماية العرب ضد النازية ، أجابهم: (قواتكم لم تأت لحمايتنا وإنما جاءت لحماية اليهود وحماية طرق مواصلاتكم إلى الهند !).
ورأيت أحمد الشقيري يخطب في الأمم المتحدة بنيويورك وسمعته يشير إلى غولدا مائير التي كانت تحتل مقعد إسرائيل في الجمعية العمومية ويسخر منها قائلا : (هذه السيدة التي ولدت في روسيا وتزوجت في أمريكا وعاشت في بولونيا ثم استقرت في بلدي قد جاءت إليكم من تل أبيب لكي تفسر لكم الآن لماذا وكيف وبأي حق يحتل الغريب أرض صاحب الحق ، وكيف وبأي حق يطرد اليهود العرب من بلادهم. قولوا لهذه السيدة أن تعود إلى أمريكا أو بولونيا أو روسيا حيث يعيش أهلها وأن تترك أهلي يعودون إلى بلدهم أحراراً).
وأنظر إلى وجه غولدا مائير فأرى الحمرة المجمدة الجامدة تملأ ملامحها ثم ما تلبث أن تمد يدها إلى علبة السجائر وتأخذ منها سيجارة تمشي بها إلى خارج القاعة لكي تشعلها بعيدا عن كلام أحمد الشقيري وعن ضرباته !
لقد عرفه جميع مندوبي الدول لدى الأمم المتحدة وأحبوه، وقال لي مداعباً عندما التقينا في بيروت عام 1954 بعد عودته من حضور إحدى دورات الجمعية العمومية. (لقد ألقيت خطبتي ذات مرة فالتف مندوبو الدول حولي يهنئوني، كانت خطبة عامرة ملتهبة كبقية خطبي في الجمعية العمومية، وكان بين الوفود التي التفت حولي المسيو فيشنسكي مندوب السوفييت(1/338)
الذي اشتهر ببلاغته وسحره وقدرته على الخطابة، وقال أحد السفراء العرب للسيد فيشنسكي وهو يشير نحوي: هذا أحمد الشقيري يا سيدي هو بالنسبة إلينا "فيشنسكي العرب" وأجابهم فيشنسكي السوفييتي ضاحكا " ولماذا لا تقولون أن فيشنسكي هو شقيري الروس؟". ولكن مواهب أحمد الشقيري المتعددة الجوانب الصارخة الطباع كانت محسوبة عليه أيضا، كان ذكاؤه محسوب عليه كما كانت قدرته الخطابية ومواقفه القومية وكفاءاته العلمية محسوبة عليه، ومن هنا كثر حساده ومن هنا تضاعفت خصوماته، ومن هنا اختلف الناس في الحكم عليه،هل هو رجل دولة أم هو مجرد سياسي؟ هل هو زعيم؟ هل هو دبلوماسي الأزمات أم صاحبها أم الرجل الذي يركب موجاتها، فقد اختلف الشقيري مع المعتدلين من العرب كما اختلف مع المتطرفين منهم، وهجر القاهرة كما سبق له وهجر دمشق والرياض، ولا يعرف العرب فلسطينيا أحبهم وهاجمهم، وعرفهم واتهمهم ، وزاملهم في الاجتماعات وقسى عليهم خارجها ، كما فعل أحمد الشقيري مع زعماء العرب، كان فريدا إذا أحب وفريدا إذا غضب أو ضرب....!
لقد نشأ الشقيري في بيت عز ونسب وحسب وكان والده الشيخ أسعد هو رجل الأدب والعلم والحجة والكفاءات، وليس سراً أن اختلف الابن مع أبيه في اجتهاد كل منهم ونظرته إلى قضية بلده، وكان أحمد صاحب دنيا خاصة به فهو استقلالي النزعة مع عوني عبد الهادي, وهو متطرف الهوى مع الحاج أمين, وهو دبلوماسي المواقف مع راغب بك, وهو مؤيد للعمل السياسي المنطقي الهادئ الموزون مع موسى العلمي، كلهم إخوته كلهم خلانه كلهم زملاؤه وكلهم اختلف معهم، فقد اعتاد الطير أن يسبح في الفضاء لوحده(1/339)
كما أعتاد النسر أن يحلق في العلو الشاهق بمفرده ، هكذا ولد وهكذا عاش وهكذا مات!.
قال لي في لندن في الصيف الماضي وكان قد جاء إليها ليرافق زوجته في علاجها على يد الأطباء:
- لقد أصبحت حياتي في القاهرة لا تطاق، لقد قررت أن أترك القاهرة وأن أسافر إلى تونس، إن حالة لبنان لا تسمح لي بأن أذهب إلى (كيفون) وأن ألازم بيتي الصيفي بجوار سوق الغرب. تونس عظيمة يا أخي وقائدها صديقي منذ أيام تشرده في فلسطين وسأبقى هناك حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا....
وكان أبو مازن يحدثني وخيوط الدمع ترتسم فوق عينيه، كان متشائما حزيناً قانطاً يتحدث عن ذكرياته بمسحة الألم ويتحدث عن مستقبله برعشة الخوف ويتحدث عن حياته بنبض الضياع.
وقلت له ذات يوم أسأله:- هل حقا يا أخي أحمد أنك قلت في أوائل حزيران من عام 1967 بأنك تريد أن تقذف اليهود إلى البحر وأن سمك البحر الأبيض ينتظر بفارغ الصبر لكي تدق ساعة الحرب فيشبع السمك ويأكل ما يشتهي من جثث اليهود؟.
وعبس أبو مازن في شبه غضب وقال لي:(1/340)
-( يشهد الله إنها كذبة من أكاذيب إسرائيل وأنا أتحدى أي شخص أو دولة أو إذاعة أو صحيفة قادرة أن تثبت لي مثل هذه السخف بصوتي أو على لساني).
ثم استطرد أحمد يقول لي:
- الصهيونية يا صديقي تعيش على بث أسطورة سياسية ونفسية معينة تصورها بأنها هي وحدها الضحية المهددة بالفناء على يد المتطرفين العرب ، هذه الأسطورة تضمن لليهود تدفق المال العالمي على خزائن إسرائيل واستمراراً للحماية الأمريكية لسياسة إسرائيل، ولست غبياً لكي أطلق مثل هذا القول ولكن اليهود ماهرون في فنون الدعاية واختلاق الأقاويل، لقد وضعوا مثل هذا الكلام على لساني ونشروه في العالم بينما أنا منه براء، حاولت أن انفي فلم يستمع لي أحد ، أصدرت بياناتي المتعددة فلم ينشرها أحد، وقد زاد في ألمي وحسرتي أن معظم أهلي وإخواني من العرب قد صدقوا مثل هذا الباطل وراحوا يعاتبونني عليه وكأنه حقيقة قائمة ثابتة...!
وروي لي أبو مازن قصة آخر لقاء له مع القدس في صبيحة يوم الخامس من حزيران في عام 1967م وكيف استقل السيارة إلى عمّان وكيف سمع نبأ العدوان من راديو السيارة وماذا فعل في عمّان ثم رحلته إلى دمشق وعودته إلى بيروت ، وأنهى كلامه لي قائلا في حزن عميق:
- إني أحس بأنني لن أرى القدس مرة أخرى يا أخي. إني أحس أن العدو اغتصبها ولن يعيدها وستمضي عدة سنوات طوال قبل أن يعرف العرب والمسلمون قيمة القدس ويعدوا أنفسهم عسكريا ونفسيا وسياسياً(1/341)
لاستخلاصها، ومن الآن إلى أن تتحقق المعجزة سنعيش نحن وأمثالنا في ضياع ومقت وتفتت وألم دفين!
لقد عرف أحمد الشقيري حياة السجون والمعتقلات على يد الأتراك والإنكليزوالفرنسيين وبقدر ما كان يعتز بصفحات تشرده واعتقاله كان يضحك من تلك الصفحات وعليها ويهزأ من الذين اعتقلوه وسجنوه ، ويروي طرائف عن حياة السجن وحياة المعتقل مع رفقائه من أمثال عبد الحميد شومان ورشيد الحاج إبراهيم وعوني عبد الهادي وسليم عبد الرحمن وواصف كمال ونبيل العظمة. كان موسوعة في سرد الطرائف والأحاديث والأقاويل عن مختلف رجالات فلسطين في مختلف مدنها ، كما كان حجة في استيعاب الجوانب القضائية والحقوقية لقضية بلده، ومن هنا ما أكثر ما كانت تختلط في جوانب عمله خيوط حياته الخاصة مع خيوط حياته العامة!
فالفلسطيني عنده بريء وشريف وأمين وضحية من ضحايا بريطانيا والصهيونية إلى أن يثبت العكس ، والفلسطيني على حق إلى أن يثبت العكس ، والفلسطيني لا يخالف قانوناً ولا يعادي إنسانا ولا يعتدي على أحد إلى أن يثبت العكس، يكفي الفلسطيني شرفا في نظر أحمد الشقيري أنه فلسطيني، ويكفي الفلسطيني عذابا عنده أنه فلسطيني، وكان يقول دائما أن الفلسطيني سيدخل جنة ربه بلا حساب لأن الله لا يحاسب حسابيْن ولا يعاقب عقابيْن، وقد كفى الفلسطيني ما قاساه وما عاناه من شقاء في حياته المضنية الشقية الطويلة.(1/342)
وقد أحس الشقيري منذ شهور بخطورة مرضه فقرر أن يترك تونس ويأتي إلى عمّان لكي يستسلم للعلاج ، فإذا حمى القدر كانت وفاته في أقرب بقعة إلى أرض بلده وكان قبره عند موقع الصحابي أبي عبيدة في غور الأردن حيث قبور الصحابة والشهداء وأبطال العرب لتحرير فلسطين.
وكان في الأيام الأخيرة من عمره أسير الشعور بالحزن ، كان وجهه يتجهم ويتصبب العرق من عينيه ويبكي بكاء حارا عندما يتبين من خلال قسوة المرض ملامح الزائر العزيز الذي يقف أمامه، هكذا رأيته في فراش مرضه الأخير وهكذا حدثني أيضا عنه معظم أصدقائه الذين زاروه في أيامه الأخيرة في مستشفاه بمدينة عمّان، كان يوصي ولده بأن ينفذ وصيته وان يجعل قبره ملازما لقبر أبي عبيدة الصحابي الجليل.
لقد كان يشعر رغم صفاء وطنيته وطول جهاده بأن أهل فلسطين لم يعطوا بلدهم كل ما يستحقه البلد من تضحيات ودماء ، وكان يشهد على ذلك بصور الملاحم العربية الخالدة والقصائد العربية القديمة والأحاديث العربية الفريدة ، وكان يعي كل صفحة من صفحات التاريخ الحديث ، وكان يحفظ القرآن عن ظهر قلب ، ويحفظ إلى جانب ذلك المئات من الأحاديث النبوية وأقوال الخلفاء والصحابة، وكان يصر أن يجعل كلامه ممزوجا باللغة الفصحى وأن يؤكد روايته برأي قديم أو رأي حديث مشهور أو نظرية أجنبية، فقد كان يقرأ بالعربية كما يقرا بالإنجليزية وتشهد مكتبته الكبيرة والتي تضم آلاف المجلدات في القاهرة وفي لبنان على صدق هذا القول...(1/343)
لقد كتب أحمد الشقيري عدة مؤلفات لم يرض بعضها إلا أحمد الشقيري نفسه! فقد كانت صراحته أكبر من أن تتحملها المواقف وكانت ثقته بنفسه تحمل أحيانا طابع الاستهانة بغيره وكان أسلوبه قاسيا وهجماته حارة ونقده مريراً وعتابه صارخاً، ولكن الذين عارضوه وقاوموه وانتقدوه ووجهوا له النقد واللوم والتقريع، حتى هؤلاء، لا ينكرون على أحمد الشقيري صدق وطنيته وصادق جهاده.
لقد عمل كثيراً لقد تكلم كثيراً وكتب كثيراً وخطب كثيراً، لذلك فقد كان عدد خصومه بين العرب كعدد خصومه بين الأعداء، ولكنه لم يأبه ولم يضعف ولم يسكت ولم يهادن ولم يساوم ولم يركع، فقد بقي كالطود،كالهرم ، شعره الأسود الكثيف الذي تحول فيما بعد إلى كتلة بيضاء، ووجهه الأسمر الملفوح بشمس الشاطئ الفلسطيني الحبيب،ومشيته الشامخة، ووقفته المملوءة بالعز ، كل ذلك يجعلنا اليوم نحزن لوفاة رجل أحب فلسطين كما لم يحبها أحد وبكاها كما لم يبكها أحد، حتى أصبح جزء اً منها وأصبحت هي جزءاً منه.
ثم جاء دورنا اليوم لكي نبكيه قائلين له من بعيد:
أبا مازن! قسماً بمن عبدت ومن جاورت ومن أحببت لن تلين قناتنا حتى تعود إلينا عكا!
أبا مازن...(1/344)
الشعرة الرفيعة الخفية بين الوطنية المطلقة المتطرفة وبين الجنون العبقري هي التي جعلت بعض الناس يظلموك ، ولكن الهزيمة أو النكبة وحدها هي التي جعلت الناس يبحثون عن كبش فداء بشخصك، لا تكترث! فقد يختلفون معك في كل شيء ، ولكن لا خلاف معك ولا عليك، على أنك كنت الوطني الشريف وكنت الطيب وكنت العاطفي، وكنت الحبيب الأبي النقي الرضي!
أبا مازن.
حتى جمال عبد الناصر في ساعة من ساعات ضعفه وبأسه قال لنا ولك نحن الذين رافقنا بعض خطوات ثورته في مصر.
ـ ليس عندي أي برنامج لكي أستعيد لكم فلسطين!
وسمعناك بآذاننا تقول له بمنزله في منشية البكري في القاهرة:
- سيادة الرئيس لم نعد نخاف من انعدام البرنامج لإنقاذ ما ضاع بقدر ما أصبحنا نخشى وجود البرنامج لضياع ما تبقى في أيدينا.
ثم أنهيت كلامك قائلا:
- أتركوا الموضوع لنا يا سيادة الرئيس فنحن أعلم بالطريق إلى خلاصنا!(1/345)
ثم مضى الرئيس...ومضيت أنت بعده..وبقينا نحن من بعده ومن بعدك نبحث عن برنامج الخلاص المطلوب فلا نجده!
أبا مازن...
ضاعت الأرض وضاع البرنامج ،لقد رحمك الله فلم تشهد سفير إسرائيل يقدم أوراقه لأنور السادات بجوار منزلك على شاطئ النيل في صباح يوم وفاتك.
رحمنا الله جميعا يا أبا مازن.(1/346)
أربعون عاماً من الجهاد (1)
شفيق الحوت
رفضت السلطات الصهيونية السماح لآل الشقيري بدفن عميدهم المرحوم الأستاذ أحمد الشقيري في مدينة عكا في فلسطين. هذا ما ورد في الأخبار الصحافية ، ولكني أشك في الخبر. وإن صح فلا بد عندئذ من تفسيره وتوضيحه وإزاحة لبس كبير عنه.
لقد عرفت الشقيري عن قرب وتعاونت معه مدة أربع سنوات. واعتقد أني مؤهل لنفي الخبر أو لتفسيره فيما لو كان صحيحاً. إن أبا مازن ، ذلك الفارس العربي ، والمناضل السياسي ، والخطيب المفوه ، الذي قضى أربعين عاماُ في الجهاد دفاعاً عن فلسطين وقضايا العرب ، لا يمكن ولا بحال من الأحوال أن يوصي باستئذان سلطات الصهاينة لتسمح بدفن جثمانه في عكا التي لم يعش ليدخلها حراً طليقاً وسيداً فوق ترابها. وإن كان قد فعل فيكون بذلك قد أطلق ، وهو على فراش الموت ، آخر سهم من كنانته بقصد إحراج العدو وفضحه وكشف مدى عنصريته وغطرسته ، ولذلك وكما ورد في بقية
__________
(1) * الوطن العربي، بيروت، 29/2/1980.(1/347)
الخبر، كان طبيعياً أن يختار أول رئيس لمنظمة التحرير مقبرة الصحابي أبي عبيدة عامر بن الجراح في غور الأردن لتكون مثواه الأخير أسوة بالقادة الأبرار ممن استشهدوا بعيداً عن ديارهم ومنازلهم.
وبعد ......
مثل أي علم من أعلام النضال العربي ينقسم الرأي حول شخص كبير مثل أحمد الشقيري ، ولكن مهما كان الرأي فيه ، يبقى أحمد الشقيري راية قومية عربية ومناضلاً فلسطينيا كبيراً يعود له الفضل الأكبر في تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية ورد الروح إلى الكيان الوطني الفلسطيني بعد أن كادت المؤامرة أن تدمره نهائيا وتحول دون انبعاثه إلى الأبد.
كان رمزا للعنفوان الفلسطيني يرفض لمن يمثله أن يكون أقل رتبة أو أدنى منزلة من أي عربي آخر.ومن هنا توهم البعض خطأ أنه كان يغالي في مطالبه ( البروتوكولية) علما بأن الرجل كان ـ وهذا للحق ـ يطلب ذلك لشعبه وليس لنفسه.
و( لاءات ) الخرطوم من صنعه ، ولولا صلابته وجرأته ، لما كانت هذه اللاءات التي أثبتت الأيام كم كانت ضرورية ولا سيما بعد خروج السادات عليها وخروجه من أمته العربية وخطها القومي الاستراتيجي.
وإنصافا للرجل ينبغي لنا أن نتذكر بأنه قاد السفينة في وقت عصيب وأيام حرجة. ولم يكن بين يديه من سلاح إلا سلاح الكلمة التي كانت تلين(1/348)
بين يديه كالعجينة فتتحول إلى رصاص وصواريخ ، وكأن وراء من يقولها ألف كتيبة وكتيبة.
كما وصفوه هو الآخر بين المخضرمين من قادة فلسطين. كان سنديانة وافرة الظلال وزيتونة مباركة. وبفقدانه يشعر الفلسطيني اليوم وكأنه فقد قطعة من فلسطين يوم قضى الرجل.
ويضيق المقام بما يمكن أن يقال عن الرجل فمن كانت نشأته وسيرته كأحمد الشقيري ، يكون جيلا بأسره ، شاءت أقداره أن يحيا في حقبة تاريخية من حياتنا حفلت بالكثير من الآلام والآمال.
ولعل عزاءه قبل أن يسلم الروح أنه عاش ليرى جحافل من المقاتلين الفلسطينيين، وهو الذي يوم أسس المنظمة ، لم يكن ليجد مرافقا مسلحا حوله.
رحم الله أبا مازن يوم توفي ، ويوم ننقل رفاته إلى عكا الحبيبة.(1/349)
واحد من صقور فلسطين (1)
فهد الريماوي
يا شقيري بدنا سلاح......
ويهدر الصوت، يجلجل، ليس حلية من الكلمات، بل شلالا من العزم، طوفاناً من التصميم.. التحرير همنا ومهمتنا تحرير كامل التراب الفلسطيني ليس إلا.
أيها الرجال: استعدوا لقد بدأت تحت بيارق جيش التحرير المسيرة نحو فلسطين، وينفعل الرجال، تتحول الأعصاب إلى شبكة من الأسلاك الفولاذية وتنفر العروق ويستقر الدم دورته وثورته.يصبح الموت أمنية تحتل أكبر مساحة من أعماق الرجال.
يا شقيري بدنا سلاح..
__________
(1) * الدستور،عمان، 28/2/1980.(1/350)
الجماهير تطالب بالحاح ، والشقيري من على منبره يعد بالتسليح ، يعد بالحرب ، يعد باستعادة الوطن السليب سنقاتل ،سنقاتل.
بطل تعبئة معنوية ، أم بطل حرب ، ذلك الشقيري؟ ليس التصنيف مهما ، المهم أن الرجل سيد الأفئدة ، يزرعها تصميما ، يملؤها أملا بالغد ، بالتحرير ، بالعودة.
يا شقيري بدنا سلاح..
الجماهير تلح، بل تلهف في الرجاء، وهو يبتسم، لقد وصل إلى غايته ، إنه أسعد الناس بهذا الطلب ، بل إنه أكثر الفلسطينين عشقا للسلاح وانفعالا بنشوة البارود.
ويأتي السلاح وتبدأ مسيرة التحرير والموت ، ولكن ويل للشجاع من الظروف الجبانة ، ويل للرجال من الزمن الرديء !
ويموت الشقيري ، يهوي صقر من صقور فلسطين ، إي والله ، لقد عاش الشقيري ومات صقراً لا يقل صلابة عن أشد صقور إسرائيل تطرفاً. مات الشقيري منفيا بينما خصمه ونديده بيغن يصول في فلسطين ويجول في مصر.
مات الشقيري في نفس اليوم، بل نفس الساعة التي قدم فيها سفيرا مصر وإسرائيل أوراق اعتمادهما، يا لَلمصادفة، بل يا لَعبقرية الصدفة! إنه الإلهام حتى لحظة الموت، الموت الذي يوحدنا بينما تفرقنا الحياة.(1/351)
عاش الشقيري ومات وعلى لسانه شعار (سيرجعون إلى البحر) ما نسيه لحظة ولا تركه يوما. ولكنا كدنا نتبرأ من شعار الشقيري كي نبدو أمام العالم (متحضرين) غير أني أشهد روحك يا أبا مازن أنني كنت وسأظل من أنصار شعارك، فليذهب الماكياج السياسي إلى الجحيم، وسحقا للسياسة، بما تعني من مناورات وحوارات، إذا كانت بديلاً للحقائق التاريخية أو القضايا المبدئية.
سحقا لفلسطيني أو عربي يرضى أن يكون نصيبه في فلسطين أقل من فلسطين كلها، فالوطن كالحقيقة لا يتجزأ، وسحقا لعربي يرضى أن يكون إخلاصه لفلسطين أقل من جشع الصهاينة، فلماذا يكون إخلاصنا لحقنا أقل من إخلاصهم لباطلهم؟ ولماذا يكون تصميمنا على الموت في سبيلها أقل من تصميمهم؟.
يا أبا مازن ، لن تنام قرير العين ، ففلسطين فوق قمة مأساتها تعاني جور العدو وظلم الشقيق ، وشعار: ( سيرجعون إلى البحر) عائد إلى الوجود كما أنت صائر إلى الخلود ، ذلك منطق التاريخ. إذ لا خيار لنا أو لأعدائنا، فإما أن نرميهم في البحر وإما أن يلقون بنا في فيافي التيه والذل والعبودية، لا خيار لنا أو لهم، فإما أن تنتصر حركة القومية العربية وصقور فلسطين في طليعتها وإما أن تواصل حركة المد الصهيوني انتصارها، لا خيار ! لا خيار!(1/352)
ذكريات مع أحمد الشقيري (1)
د.محمد فاضل الجمالي
( الله أكبر ! الله أكبر! الله أكبر!)
لقد حملت إلينا أمواج الأثير النبأ المفجع ، نبأ انتقال الأستاذ أحمد الشقيري إلى رحمة الله تعالى ، ولما كانت تربطني بالفقيد صلات أخوة وزمالة منذ بداية العشرينات من هذا القرن ، يدفعني الواجب لأن أسجل بعض ذكرياتي عن هذا المجاهد العربي الثائر الذي فقدنا ، وذلك بإيجاز كلي:
كان تلاقينا للمرة الأولى في أوائل العشرينات من هذا القرن في الجامعة الأمريكية في بيروت ، وكانت الجامعة الأمريكية آنذاك ملتقى للطلاب من أبناء المشرق العربي الذي ترزح بلادهم تحت الحماية أو الانتداب البريطاني أو الفرنسي. فتكونت فيما بينهم صلات أخوة على أسس العقيدة القومية وكان حماس الشباب القومي يدفعهم في المناسبات الوطنية إلى تنظيم المظاهرات
__________
(1) * الصباح، تونس، 28/2/1980.(1/353)
ضد الانتداب الفرنسي، وكان أحمد الشقيري في مقدمة المتظاهرين والخطباء المفوهين في مثل هذه المناسبات.
وفي مناسبة ذكرى الشهداء قامت مظاهرة طلابية في بيروت ألقت السلطة الفرنسية على إثرها القبض على عدد من الطلاب من جملتهم السيد أحمد الشقيري (من فلسطين) والسيد يوسف الكيلاني (من العراق) وأخرجتهم من لبنان.
لم أر الشقيري بعد ذلك الحادث إلى نهاية الحرب العالمية الثانية حين بدأ يتعاون مع الأستاذ موسى العلمي في إدارة مكاتب الدعاية لفلسطين في إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية، وكانت الحكومة العراقية آنذاك هي الممول الرئيسي لهذه المكاتب.
وبعد أن وقعت نكبة فلسطين بقرار التقسيم الغاشم جاء الشقيري إلى الأمم المتحدة عضوا في الوفد السوري، الذي كان يرأسه الأستاذ فارس الخوري، وبدأ التعاون الجدي فيما بيننا آنذاك في الدفاع عن القضية الفلسطينية ومكافحة الاستعمار في كل المجالات ولا سيما العمل في سبيل تحرير الشمال الإفريقي، كنت رئيسا للوفد العراقي وكان الشقيري العضد الأيمن للأستاذ فارس الخوري رئيس الوفد السوري.
كان الشقيري خطيباً مفوهاً ومناضلاً عنيفاً لا تأخذه في الحق لومة لائم ، ولما رأى التحيز السافر إلى جانب إسرائيل لم يتورع في مهاجمة السياسة الأمريكية بأعنف الخطب.(1/354)
في سنة 1950 كنت أمثل العراق في مجلس الوصاية المنعقد في جنيف، ولما كان المجلس ينظر في موضوع تدويل القدس حضر الشقيري مراقباً في المجلس عن سورية ، فكانت بيننا صلات أخوة وتعاون وثيقتين في اجتماعات ذلك المجلس والتي دامت عدة شهور ، وكان همنا الأول آنذاك دحر إسرائيل وحرمانها من السيطرة على القدس وقد نجحنا في اتخاذ قرارات لم تطبق فيما بعد.
وفي أوائل الخمسينات أقرت اللجنة السياسية للأمم المتحدة مشروعاً يقضي بفتح المفاوضات بين العرب وإسرائيل، ولما كنا نعتبر آنذاك أن كل اعتراف بإسرائيل أو تفاوض معها بمثابة خيانة قومية، اقترحت في الجمعية العامة إعادة فتح باب المناقشة في القرار الذي اتخذته اللجنة السياسية، ومن حسن الصدف أن جريدة (النيويورك تايمز) ظهرت ذلك الصباح حاملة تصريحا لـ بن غوريون يرفض فيه رفضاً باتاً عودة الفلسطينيين النازحين إلى ديارهم كما يرفض رفضاً باتا إعادة أي جزء من الأراضي التي تحتلها إسرائيل إلى سكانها العرب كما أنه يرفض رفضاً باتا التخلي عن الجزء الذي تحتله إسرائيل من القدس.
إن هذا التصريح أعطانا سلاحا منطقياً، توجهت إلى المنصة وتساءلت لماذا التفاوض مع إسرائيل؟ مع من نتفاوض وعلى أي الأسس؟ فهذه البيانات التي أدلى بها بن غوريون أغلقت كل باب للتفاوض.(1/355)
بعد كلمتي توجه الشقيري إلى المنصة فوجه ضربات موجعة للعدو الإسرائيلي وأهدافه الاستعمارية ، وبعد انتهاء المناقشة نقضت الجمعية العمومية قرار اللجنة السياسية الداعي للتفاوض !
بقينا أنا وأحمد متعاونين في معالجة القضايا العربية والدفاع عنها، وفي مقارعة العدوان الإسرائيلي في منظمة الأمم المتحدة، ثم التقينا في المؤتمر الأسيوي الإفريقي المنعقد في باندونغ سنة 1955 حيث كنت أرأس الوفد العراقي وكان الشقيري عضوا في الوفد السوري الذي كان يرأسه المرحوم خالد العظم.
كانت الوفود العربية تجتمع في منزل المغفور له جمال عبد الناصر في باندونغ، فقررت الوفود المجتمعة أن أقوم أنا (العراق) ـ واحمد الشقيري (سورية) ـ وشارل مالك (لبنان)، وانضم إلينا الأستاذ عبد الخالق حسونة الأمين العام للجامعة العربية، بوضع صيغة قرار يعرض على مؤتمر باندونغ حول القضية الفلسطينية ، فقمنا بالمهمة متفقين.
ولكن حدث في باندونغ خلاف جوهري بين الوفود حول موقف المؤتمر من المعسكر الشيوعي، فقد كانت أغلبية الوفود ومن ضمنها العراق تناهض المعسكر الشيوعي آنذاك، أما الوفد السوري فقد كان منفتحاً على المعسكر الشيوعي والشقيري كان عضواً عاملا في الوفد السوري.
جرى حوار جدي بيني وبين أحمد فاتفقنا على ألا نختلف ، اتفقنا على أن أسعى جهدي لكسب ما يمكن كسبه بالتعاون مع المعسكر الغربي ، وهو(1/356)
يسعى لكسب ما يمكن كسبه من المعسكر الشرقي ، كان اتفاقا أخويا بيننا على تفاهم تام.
إن تفكيري آنذاك كان مبنياً على معادلة بسيطة : بالتعاون مع الغرب نكب العرب
في فلسطين، وبالتعاون مع الشرق ينكب العرب في فلسطين وبأنفسهم، نكبة العرب في فلسطين لا شك في أنها وقتية ولا يمكن أن تدوم، أما نكبتهم بأنفسهم فتلك الطامة الكبرى! فمن ينقذ فلسطين إذا مسخت القومية العربية وديست المعتقدات الإسلامية؟ على كل بقينا أنا وأحمد أخوين لم تباعد بيننا الاجتهادات السياسية.
ولما حصل خلاف بين مصر والعراق في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كان الشقيري متعاوناً معه وكنت أنا أمثل السياسة العراقية آنذاك.
لم أر الشقيري بعد قيام الثورة العراقية والحكم علي بالإعدام سنة 1958 وقضائي في السجن ثلاث سنوات إلا بعد أن قدمت إلى تونس وجاء إليها الشقيري سنة 1964 على ما أتذكر، وكان آنذاك رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية، زارني الشقيري في داري وقد كان مثال الأخوة والوفاء، فجرت بيننا أحاديث وذكريات وقد علمت منه أنه لم يكن لينساني يوم حوكمت بالإعدام بل قام بما يستطيع، كان أحمد قد ذهب إلى روسية السوفياتية ونزل ضيفا على خروشوف في مصيفه على البحر الأسود، سألته إن كان قد حصل من السوفيات على ما كان يأمل، أجاب نعم السوفيات يؤيدوننا، سألته إن كان التأييد سياسيا(1/357)
وعسكرياً أم أنه سياسي فقط؟ أي إذا دخل العرب الحرب مع إسرائيل هل سيتحرك السوفيات فيقفوا إلى جانبهم عسكريا إذا لزم الأمر؟ قال إنه لم يحصل على وعد كهذا. قلت له إذا لم تفعل روسية للعرب ما تفعله الولايات المتحدة لإسرائيل ما الفائدة من التأييد السياسي والمعنوي؟ قال لي على كل لا يمكن أن تصبح الأوضاع أسوأ مما هي عليه الآن! كان ذلك قبل حرب حزيران 1967 طبعاً.
لم أر الشقيري منذ ذلك الاجتماع سنة 1964 حتى عدت هذه السنة الدراسية من العطلة الصيفية، فعلمت أن الشقيري موجود في تونس وانه مريض.زرته في مصحة التوفيق فكان لقاء وكان بكاء، فقد تهيج كلانا في التلاقي بعد أن حل بأمتنا ما حل بها من نكبة الصلح بين مصر وإسرائيل، والشقيري في حالة صحية متدهورة لا يستطيع أن يزيل عن أمته الشر.
لم اكرر زيارتي له لكي لا أسبب له الهياج والانزعاج! وها أنا أتلقى نعيه من الإذاعة فأسكب الدمع وألهث بالحسرات على أخ غيور مجاهد، كان شعلة متوهجة يلهب سامعيه وأبناء أمته بالحماس والإيمان بالقضية! قاسى في سبيل أمته الكثير من العناء وتحمل الكثير من الدعايات المغرضة والافتراءات الكاذبة التي وجهها إليه الصهاينة ومؤيدوهم. ولئن غاب عنا أحمد فإن رسالته حية خالدة يحملها أبناؤه وإخوانه أبطال الثورة الفلسطينية.
عزاؤنا لعائلته الكريمة ولمنظمة التحرير الفلسطينية ولعارفي فضله من أبناء الأمة العربية ، وإنا لله وإنا إليه راجعون.(1/358)
الشقيري في ذمة الله (1)
جميل بركات
ودّع الأستاذ أحمد الشقيري عالمنا الفاني أمس ليلقى وجه ربه، بعد حياة مليئة بالكفاح في سبيل قضية فلسطين وقضايا الأمة العربية والشعوب المغلوبة على أمرها في كل مكان.
وقد كان رحمه الله من المؤمنين بعدالة مطالب الشعوب في الحرية والاستقلال ومواقفه المشرفة في هيئة الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية كانت نابعة من قلب إنسان كبير، وعقل واسع التدبير، ما تخاذل ولا تراجع بل ظل شامخ الأنف مرفوع الرأس بالرغم مما أصاب بلاده فلسطين من كوارث وما نزل بأهلها من نكبات على أيدي الصهيونية الباغية والاستعمار البغيض.
لقد ظل الشقيري يكافح ويناضل، وجاب أقطار الدنيا في سبيل إيقاظ الضمائر الإنسانية لتتعاطف مع عدالة قضية فلسطين طالباً العون والسند لها بعد أن يئس من هيئة الأمم المتحدة ومنابرها.
مات أحمد الشقيري مؤسس منظمة التحرير ، بعد أن عاهد ربه ألا صلح ولا مفاوضة ولا استسلام أو تفريط بحق الشعب الفلسطيني، فالشقيري رحمه
__________
(1) * الدستور،عمان، 27/2/1980م.(1/359)
الله جزء من تاريخ قضيتنا وقضايا العرب، وقد غادر الدنيا وهو مكتئب حزين بعد أن فجع لفرقة العرب وبعد أن قدم النصح تلو النصح، بعدم المهادنة والمصالحة وتوقيع الاتفاقيات على حساب فلسطين وشعبها المكافح الصابر.
والشقيري المجاهد الخطيب الفذ، مهما قيل في سيرته لن يوفيه حقه. فقد كان بطلاً من أبطال العرب، وكان وطنياً صادقاً قارع الاستعمار وفضح أساليبه وآمن بأن طريق الخلاص لن تكون إلا بالكفاح والنضال لمقاومة الصهيونية الباغية والتصدي لأطماعها في البلاد العربية.
وإذا كنت في هذه الكلمة القصيرة أشعر بالحزن لفداحة الخسارة فإن عزاءنا في الفقيد أنه من أعلام أمتنا الذين ما هانوا ولا استكانوا، وعاشوا حياتهم كلها يعملون في سبيل الله والوطن بصدق وإخلاص.
رحمك الله يا أبا مازن، وأدخلك فسيح الجنان مع الصديقين والنبيين والشهداء ، وحسن أولئك رفيقاً ، وإنا لله وإنا إليه راجعون.(1/360)
أحمد الشقيري (1)
رجا العيسى
خط العمر الذي بدأ في قلعة (تبنين) بجنوب لبنان وانتهى في مقبرة أبي عبيدة بن الجراح المطلة على فلسطين من غور الأردن. خط العمر هذا، الذي بدأ على حدود فلسطين الشمالية وانتهى على حدودها الشرقية، هو قصة مجاهد فلسطيني عاش قضية بلاده وناضل وسجن في سبيلها واكتوى بنكبتها.
هذه قصة أحمد الشقيري، الذي أصبحت حياته جزءاً من تاريخ قضية فلسطين.
كان الشقيري في مطلع شبابه ثائراً، فقد نفي من بيروت وهو طالب في الجامعة الأمريكية، وكانت خطبه فيما بعد، ناراً ثائرةً ،وأسواطاً لافحة على الاستعمار والصهيونية، وكان تقريعه للضمير العالمي لسان حال الشعوب المغلوبة على أمرها المسلوبة حقوقها.
__________
(1) * الرأي ، عمان، 27/2/1980.(1/361)
كانت جهوده في الأمم المتحدة على مدى 15 عاما سفراً من أسفارِ الجهادِ الدبلوماسي الذي عرَّف الدنيا بقضية بلاده، يوم لم تكد تسمع بها معظم دول العالم.
وعلى مر السنين انتقل أحمد الشقيري من سهول فلسطين وجبالها، ومن بسط قضيتها لكل لجنة جاءت تحقق في قضيتها، إلى منابر المنظمة الدولية ومؤتمرات القمة العربية وأصبح الشقيري دبلوماسياً ثائراً. وكيف لا يثور من يستذكر مأساة قضية فلسطين ويستعرض تآمر القوى الفاعلة في العالم على أهلها ، وتخلف الأقربين عن واجبهم نحوها.
لقد طوع الشقيري اللغة الإنجليزية التي كان يخاطب بها العالم من على منبر الأمم المتحدة لأسلوب الخطابة العربي. حتى أنه كان يعتبر واحداً من أشهر الخطباءِ الذين عرفتهم المنظمة الدولية، ولن أنسى في حياتي يوم خرجت جولدامئير رئيسة الوفد الصهيوني من قاعة الجمعية العمومية، حين كان أبو مازن يرسل حممه وحججه، وجلست تستمع إليه على التلفزيون الداخلي من قاعة المندوبين وكنت أرقبها. كانت تشعل السيجارة من السيجارة. وكانت عند كل عبارة تضرب الأرض بقدمها حانقة متأثرة غاضبة.
مات الشقيري وفي قلبه حسرات ، لكنه مات وهو مؤمن بأن الشعب ، الذي خرج منه، لابد وأن يستعيد وطنه وحقوقه ولو طال الزمن. ذلك أن هذا الشعب كالشقيري في سيرة جهاده، هو الصخرة الصلبة التي تقف في وجه كل الأعاصير والرياح ، حتى تروح الأعاصير وتزول الرياح.(1/362)
في يوم فراقك يا أبا مازن، ونحن نودعك وأنت قرير العين بما أديت، يسرنا أن نبعثها على لسانك تحية إلى (الشعب الأسير في الوطن الأسير).(1/363)
أحمد الشقيري ..
صفحة من الكتاب الفلسطيني (1)
أنور الخطيب
نعت أنباء عمان أحمد الشقيري ابن فلسطين عامة وابن عكا خاصة، قضى بعيداً عن مدينته عكا ، ومضى وهو يتحرق شوقا لرؤية بحرها الجميل ، وسورها التاريخي العظيم،وأن يضم ترابها المقدس جثمانه ليكون على مقربة من سابقيه من آبائه وأجداده.
وسيرة أحمد الشقيري هي سيرة مواطن عربي عاش الحياة العربية العامة فسار في مواكبها وتمرس في أحداثها وساهم في صنع وقائعها ، وذلك خلال حقبة حافلة امتدت أربعين عاما أو يزيد.
لقد عاش الشقيري عهود فلسطين كلها، عاشها طفلا ثم صبياً وشاباً ورجلاً وكهلاً، وعاش أيامها البهيجة والشقية، وكان أبهجها مواكب الاستقلال
__________
(1) * القدس، القدس،27 /2/1980.(1/364)
وأشقاها كارثة حزيران التي ما زال شعبنا الفلسطيني وشعوبنا العربية تتلظى بنارها وتحاول الخلاص من آثارها.
لسنا في صدد سرد حياة المرحوم أحمد الشقيري فذلك يطول، لأن للرجل سجلاً حافلاً، في عالم الكفاح عن القضايا العربية، سواء من على منابر الأمم المتحدة، أو قاعات الجامعة العربية أو صالات مؤتمرات القمة. وللشقيري مكانة مرموقة في المغرب العربي ، فقد دافع عن تونس والمغرب وليبيا وشهد استقلال الجزائر.
ولما قرر مؤتمر القمة إنشاء الكيان الفلسطيني وقع الاختيار على الشقيري ليكون طليعة هذا الكيان وبانيه، وفعلا بذل جهوداً مضنية حتى تم انعقاد المؤتمر الفلسطيني الأول في فندق الإنتركونتيننتال على جبل الزيتون في القدس. وسارت القافلة وبدأ الشقيري يحمل هموم الشعب الفلسطيني ومآسيه إلى المؤتمرات والأندية وإلى الدول المغربية يحاول التخفيف من القيود المفروضة على هذا الشعب الشريد، ويحاول بناء كيانه،ولكنه اصطدم بأنظمة هدت من قوته ، وفي كثير من الأحيان أخرست لسانه ، وهو الخطيب المفوّه ، وصاحب اللسان المدرّب.
أبرز ما في الشقيري أنه أحاط بالقضية الفلسطينية إحاطة قلّ أن يجاريه فيها أحد، وعبرّ عن مآسي الشعب الفلسطيني بخطابات تصلح لأن تكون سجلاً لتاريخ هذا الشعب منذ ثورته الأولى حتى يقظته الحالية.
ولقد أتحف الشقيري المكتبة العربية بأن ألف عدة كتب على شكل مذكرات ولكنها أرخت القضية الفلسطينية بشكل خاص والقضايا العربية(1/365)
بشكل عام وفضحت مواضع الضعف والعجز والخيانة. وهي مؤلفات يجب أن يقرأها الجيل الجديد من أبناء شعبنا ليأخذ منها العظة والعبرة.
ولقد ختم الشقيري مذكراته بأن أهداها إلى مكتبة التحرير في فلسطين تمجيداً لبطولات شعبنا وبسالات أمتنا ، ونحن نرجو الله أن يجيء اليوم الذي نؤسس فيه هذه المكتبة على أرض فلسطين لتضم جميع أسماء شهداء النضال الفلسطيني.
كان الشقيري من أشد أنصار الوحدة العربية، وكان يرى فيها الحل الوحيد والعلاج الشافي لجميع مشاكله، ولقد دعا لهذه الوحدة حتى صدمته الوقائع بأننا نزيد مع الأيام تباعداً عن هذه الوحدة.
غنى العروبة دهراً ، وعاش حتى رثاها.
رحم الله الشقيري رحمة واسعة ، وأثابه ثواب من أخلص وجاهد في سبيل هذه القضية ، وخاصة تعلقه الصوفي في مدينة القدس. وقد انضم إلى قافلة الذين تضمهم مقبرة الصحابي الجليل والقائد المظفر أبي عبيدة عامر بن الجراح في غور الأردن المجاور ، بناء على وصيته ، بعد أن حرم عليه تراب عكا بلده ومسرح حياته.(1/366)
حبيب فلسطين وفارسها (1)
هارون هاشم رشيد
أهكذا ، هكذا تمضي وترتحل ... والبيت مغتصب، والشعب معتقل
والأهل قد نهجوا دربا لعودتهم ... إلى الديار، ولما بعد لم يصلوا
يقاتلون فما هانت عزائمهم ... في ساحة الحق، أو أعياهم الكلل
والصامدون أقاموا في مواقعهم ... هناك، وانزرعوا في أرضهم جُبلوا
هم في انتظارك، يا ادي مواكبهم ... ففيم تمضي، ويمضي الموكب العََجل
أساءك اليوم أن الفرية انتشرت ... في مصر، والأمة الشماء تقتتل
أساءك اليوم أن الأزهر انتهكت ... حرماته ،ومشى في ساحته هُبل
أساءك اليوم أن النيل معتكر ... وأن قاهرة الإسلام تندمل
أساءك اليوم أن الصمت منتشر ... في موطن بهزيل الأمر ينشغل
وأن سيف صلاح ادين منكسر ... وأن رايته تُسبى ،وتُبتذل
وأن عكاء أسوار ملطخة ... مشى الغزاة عليها فوقها نزلوا
أيا حبيب فلسطين، وفارسها ...
__________
(1) * الصباح، تونس، 27/2/1980.(1/367)
ويا لسانا لها بالحق يرتجل
يا صوتها الراعد الجبار منتصبا ... على المنابر كالبركان يشتعل
أمضيت عمرا ثريّاً بالعطاء فما ... بخلت أو هزك الحكام والدول
قالوا (الكيان) وظنوا أنه غبش ... من السراب وقالوا ينفع الرجل
فجئتهم بكيان، قائم ابداً ... له جذور إلى الأعماق تتصل
لولاك ظل كلاماً في محاضرهم ... طال الحوار به واستفحل الجدل
وقفت في قمة الخرطوم منتصبا ... كالسيف لا خائف منهم ولا وجل
وقلتها كهديرالرعد عاصفة ... مليون لا، إننا للعبء نحتمل
ولا نُفرّط بالأرض التي جُبلت ... بالدم، كلا ولا للأمر نمتثل
قالوا أحب فلسطيناً وهام بها ... وعاش من أجلها يشدو وينفعل
وأي عيب إذا ما قلت كل ثرى ... هذي الديار ثرانا كله الأمل
وأي عيب إذا ما قلت أن لنا ... النهر، والبحر ، والهضاب والجبل
وأي عيب إذا ما قلت أن لنا ... في القدس بيت به نزهو ونكتحل
وأي عيب إذا ما قلت من دخلوا ... بالسيف لابد أن يمضوا كما دخلوا
ماذا أفاد مصر من أطاح بها ... وراح يحتضن الباغي، ويحتفل
هل سلم المعتدي هل مد راحته ... إلا وخنجره بالدم يغتسل
وهل أعاد إلى مصر كرامتها ... والخصم بالجبهة الشماء ينتحل
قد مرغ الوثبات الشم دنََّسها ... وداسها ومضى يزهو ويحتفل
تأبى الدماء التي سيناء تعرفها ... هذا الذي تم تأبى وترفض المثل
قد قلت: لن يتركوا شيئا فإنهم ... مراوغون أذلاء، وقد فعلوا
في هيئة الأمم اهتزت مواقفهم ... لما تصديت، ريعوا، زُُلزلوا، خُذلوا
وحاربوك طويلاً أينما وجدوا ... سلاحهم في الصراع الزورُ والدجل
إيه خطيب فلسطين، وحجتها ...(1/368)
من أي صفحاتك الغراء انتهل
وأنت عمر بلادي عمر غضبتها ... وعمر من صمدوا فيها،ومن بذلوا
أنت الرعيل الذي راد الطريق ... إلى هذا المسار وأنت الفارس البطل
كم هاجك الشوق فاخضلت مقرحة ... منك العيون، وراح القلب يشتعل
عكاء يا ويلتاه، ماذا نقول لها ... وأحمد، غائب عنها، ومرتحل
أين أبا مازن، ماذا يراد بنا ... وخطة الإثم،تستشري، وتكتمل
والمجرمون الأُلي اغتالوا مواطننا ... يؤيدون بمن ضلوا، ومن خذلوا
ونحن ليس لنا إلا بنادقنا ... فهي الأمان لنا،والوحي، والأمل
عد أبا مازن سنحملها ... إلى فلسطين نمضي كلنا الرجل
إنا نذرنا لها أرواحنا ثمنا ... ولا تراجع، مهما كانت العِلل
فنم قريرا فلسطين لنا أبداً ... كما تحب بنا تبقى وتكتمل(1/369)
ملحق(1/371)
كلمة عن لجنة تخليد ذكرى المجاهد أحمد الشقيري
الآن وقد مضت عشرون سنة على وفاة الزعيم الفلسطيني والرائد العربي الكبير الأستاذ أحمد الشقيري، نرى أنه من الضروري إطلاع أجيالنا الصاعدة على سيرة هذا القائد العظيم ومواقفه الوطنية الصلبة وأعماله الجليلة، وذلك بعد أن بتنا نشعر أننا بحاجة إلى مثل هذا الرجل ونحن نرى أن قضيتنا المقدسة على وشك التصفية، وأن جماهيرنا الواعية غير راضية عما يجري في الساحة وهي لا زالت تعتز بطروحات الشقيري رحمة الله عليه في الوحدة العربية والتحرير.
إذ أنه على إثر وفاة الشقيري أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية في عمّان في 26 شباط/فبراير من عام 1980 تداعت ثلة من محبيه وأصدقائه وعارفي فضله والمؤمنين بطروحاته فأنشأوا في الكويت :"لجنة تخليد ذكرى المجاهد أحمد الشقيري".
وقد قامت هذه اللجنة بعد تشكيلها بنعي ذلك البطل إلى جماهير شعبنا وأمتنا العربية، وكتب عدد من أعضائها وغيرهم المقالات المطولة في الصحف العربية المختلفة مشيدين بمآثره وأعماله المجيدة، التي كان تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية أجلّها وأعظمها، وقد نظمت اللجنة حفل تأبين أقيم(1/373)
في مكتب المنظمة في الكويت بمناسبة مرور 40 يوماً على وفاته وتحدث في ذلك الحفل عدد من أعضاء اللجنة إلى جانب شخصيات فلسطينية وعربية، منهم السيد جاسم القطامي نائب رئيس مجلس الأمة الكويتي الأسبق والرئيس الحالي للمنظمة العربية لحقوق الإنسان. والدكتور إبراهيم مصطفى مكارم المستشار القانوني المصري.
كما كلفت اللجنة المؤرخة الفلسطينية أ.د. خيرية قاسمية فقامت عام 1987م بإعداد كتاب قيم عن حياة الزعيم الكبير وآرائه وجهوده في سبيل وطنه فلسطين وأمته العربية، وهو كتاب "أحمد الشقيري زعيماً فلسطينياً ورائداً عربياً." وقد أتمت اللجنة طبع الكتاب ونشره ووزع على أوسع نطاق.
وقد تشكلت هذه اللجنة من السادة :
1- أحمد السعدي: خبير اقتصادي وعضو سابق في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
2- د. أسعد عبد الرحمن: أستاذ جامعي عضو في اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير الفلسطينية.
3- أكرم الشقيري: شاعر فلسطيني من العاملين في حقل التعليم.
4- حسن صرصور: موجه تربوي، الأمين العام لاتحاد المدرسين الفلسطينيين بالكويت سابقاً.
5- خليل السالم: مهندس زراعي (توفي رحمه الله).
6-(1/374)
خير الدين أبو الجبين: (مقرر اللجنة) أول ممثل لمنظمة التحرير الفلسطينية في الكويت وأمين سر مجلس إدارة الصندوق القومي الفلسطيني سابقاً.
7- درويش حمودة أبو زور: كاتب فلسطيني وموجه تربوي.
8- عبد المحسن القطان: الرئيس الأسبق للمجلس الوطني الفلسطيني ونائب رئيس مؤسسة التعاون في جنيف.
9- د. عصام الطاهر : كاتب سياسي، ومن رجال الأعمال.
10- علي سعود عطية: كاتب صحفي وأستاذ جامعي (توفي رحمه الله).
11- محمد أبو سخيلة: محام وعضو سابق في المجلس الوطني الفلسطيني.
12- د. محمد علي الفرا: كاتب سياسي وأستاذ جامعي.
13- محمود هشام البورنو: من رجال الأعمال الفلسطينيين في الكويت.
14- نادر خير الدين أبو الجبين:عضو اتحاد المهندسين الفلسطينيين وعضو اللجنة العربية الأمريكية لمكافحة التمييز A.A.D.C.
15- نواف شاكر أبو كشك: عضو سابق في المؤتمر الفلسطيني الأول والمجلس الوطني الفلسطيني.(1/375)
وبعد حرب الخليج نزح معظم أعضاء اللجنة من الكويت واستقر عدد منهم في الأردن وتابعت اللجنة اجتماعاتها في عمان وقد انضم إلى هذه اللجنة أعضاء جدد هم السادة:
1- إياد أحمد الشقيري: أحد مدراء البنك العربي.
2- جميل بركات: من رجال الأعمال في الأردن: نائب سابق لرئيس مجلس إدارة الصندوق القومي الفلسطيني.
3- د. جميل مرقة: عضو في المجلس الوطني الفلسطيني ونقيب الأطباء الأردنيين سابقاً.
4- د. سليمان أبو ستة: طبيب مختص بأمراض الأطفال.
5- مصطفى سحتوت: مهندس ومن رجال الأعمال في أمريكا وأول ممثل لمنظمة التحرير الفلسطينية، ورئيس سابق لمجلس إدارة الصندوق القومي الفلسطيني.
كما انضم إلى اللجنة من بيروت الدكتور أنيس الصايغ وهو أول رئيس لمركز الأبحاث الفلسطيني ورئيس هيئة الموسوعة الفلسطينية سابقاً.
ومن دمشق أ.د. خيرية قاسمية وهي مؤرخة فلسطينية وأستاذة في قسم التاريخ في الجامعة السورية.
وقد نظمت ندوة عن المرحوم الشقيري أقيمت في شباط عام 1996م في مؤسسة شومان في عمّان تحدث فيها عضوان من اللجنة وأيضاً(1/376)
صديقان للشقيري هما السيدان: المحامي المرحوم إبراهيم بكر وعبد المجيد شومان رئيس مجلس إدارة البنك العربي.
وكلفت اللجنة الباحث الفلسطيني السيد أنور جرار بإعداد دراسة علمية عن الزعيم الكبير نال بموجبها درجة الماجستير في التاريخ من الجامعة الأردنية عام 1996م.
كما قام عدد من أعضاء اللجنة مع غيرهم من الكتاب العرب في شهر شباط/فبراير الماضي بنشر مقالات عن الزعيم الكبير بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته.
وقد تم في هذا العام إنشاء موقع على شبكة الإنترنت باسم أحمد الشقيري ويجري تغذيته باستمرار.
وتعمل اللجنة حالياً على إعادة طبع وتوزيع كتب الشقيري المختلفة، وهي بصدد إعادة طبع كتاب(علم واحد وعشرون نجمة) الذي تحدث فيه الشقيري عن الوحدة العربية وضرورتها.
واللجنة مستمرة في عملها لإبراز منهج الزعيم العربي الكبير وتخليد ذكراه.
وختاماً فإني أرجو أن يجد شبابنا الصاعد في هذا الكتاب بما يحويه من كلمات ومقالات متنوعة ما يعينه على معرفة شخصية ذلك الزعيم ومبادئه وإنجازاته في الحقلين الوطني والقومي، والله الموفق.
خير الدين أبو الجبين
مقرر لجنة تخليد ذكرى المجاهد أحمد الشقيري
عمان في 1/10/2000م(1/377)