(الغلاف)
على طريق الهزيمة..
مع الملوك والرؤساء(1/1)
على طريق الهزيمة
مع الملوك والرؤساء
الطبعة الإلكترونية الأولى
1426 هـ
2005 م(1/3)
? على طريق الهزيمة مع الملوك والرؤساء
? أحمد الشقيري
? الطبعة الإلكترونية الأولى 2005 م
التنقيح والتدقيق الفني واللغوي
عبد العزيز السيد أحمد
أ.د. عزمي الصالحي
تدقيق التنضيد والإخراج :-
المؤسسة العربية الدولية للنشر والتوزيع
هاتف: 5650630-6-962+ فاكس: 5668860-6-962+
ب.إ: arab_book@hotmail.com
جميع الحقوق محفوظة. All rights reserved.(1/4)
المحتويات
- مقدمة .......................................................... ... 7
- الملوك والرؤساء يسقطون في الامتحان ........................... ... 13
- مسكينة أنت يا فلسطين ........................................... ... 35
- تمخض الرؤساء فولدوا قراراً ..................................... ... 53
- بالله عليك اخبر الملوك والرؤساء بما رأيت ....................... ... 81
- حرب الأيام الستة ................................................. ... 105
- الملوك والرؤساء مشوا على رؤوسهم ............................ ... 137
- اتفقنا في القاهرة واختلفنا في الأردن .............................. ... 155
- عبد الناصر – سعود – فيصل من غير عنوان ..................... ... 173
- سبعون مليون جنيه دين على الملوك والرؤساء ................... ... 195
- أي جلالة وفخامة ؟؟ وأي سمو وسيادة ؟؟ ........................ ... 221
- من الحسين الكبير إلى الحسين الصغير ............................ ... 237
- قطعنا شعرة معاوية عبد الناصر وأنا .............................. ... 299
- أشبعتهم شتماً وراحوا بالإبل ...................................... ... 315
- تعال إلى المسجد الأقصى نتعاهد على كتاب الله .................... ... 329
- قررنا أن نجتمع في تموز، وانكسرنا في حزيران .................. ... 359
- فيصل وأبورقيبة والحسين يتعاونون .. على ماذا ؟ ............... ... 387(1/5)
مقدمة
على طريق الهزيمة مع الملوك والرؤساء
... ... ... هذا هو كتابي الرابع في سلسلة مذكراتي أقدمه للامة العربية، بل للتاريخ العربي المعاصر ؛ وقد سبقته كتبي الثلاثة : أربعون عاما في الحياة العربية والدولية – حوار وأسرار مع الملوك والرؤساء – من القمة إلى الهزيمة مع الملوك والرؤساء .
... ... ويسجل هذا الكتاب أهم الأحداث العربية التي وقعت في عامي 1965 – 1966 حتى ربيع 1967، ليقف عند حرب الأيام الستة، وذلك هو الكتاب الأخير في سلسلة المذكرات .
... ... وتدور أحداث هذا الكتاب حول مؤتمر القمة الثالث في الدار البيضاء في خريف عام 1965، وما سبقه ولحقه من اجتماعات مجلس رؤساء الحكومات العربية، ووزراء الخارجية العرب، ومجلس الدفاع العربي المشترك، وما تخلل ذلك من وقائع خطيرة ومواقف هامة بالنسبة للقيادة العربية الموحدة، وقضية فلسطين بصورة خاصة ..
... ... ... ولن أحاول تلخيص مواضيع هذا الكتاب، فانه بنفسه خلاصة وجيزة للمسيرة العربية التي انتهت بالكارثة الكبرى التي نزلت بالوطن العربي، وما تزال الأمة العربية تعيش ذيولها الرهيبة إلى يومنا هذا .. وأخشى أن أقول، لزمن غير قريب .(1/7)
... ... والآن، أكتب هذه المقدمة، والعدوان الإسرائيلي يدخل عامة السادس، والحكم العربي يتثاءب غارقا في الضياع في تيه كتيه بني إسرائيل، وسيجد القارئ العربي نفسه وهو يقلب صفحات هذا الكتاب أنه أمام حكم عربي مهلهل هزيل، جاء بعده حكم عربي أكثر هلهلة وأشد هزالا .. وهذا الكلام الصارم العادل، لا يخلو من استثناآت محددة، من غير شك ولا ريب، وكان الظن كل الظن، بل اليقين كل اليقين، أن الحكم العربي سيخرج من الكارثة أكثر وحدة وأصالة، وأصدق إيمانا وأمضى عزما، فخاب الظن وزال اليقين ؛ وأصبح لا محالة من ميلاد ثورة عربية كبرى تمكن الأمة العربية الماجدة من إنشاء الحكم العربي الفاضل المناضل والقيم الإنسانية للشعب وللوطن وللمواطن .
... ... ... وليس من التجني في شيئ، أن ندين الحكم العربي المعاصر بالجور حينا، والخيانة حينا آخر، فان وقائع هذا الكتاب تثبت بما لا يرقى إليه الشك أن الحكم العربي، لا الأمة العربية، هو المسئول وحده عن الكارثة الرهيبة التي نزلت بالأمة العربية، وهو المسئول وحده عن بقائها واستمرارها .
... ... ويكفي أن أدعو المواطن العربي أن يقرأ هذه الصفحات قراءة واعية عميقة، وأن يتابع معي مسيرة الملوك والرؤساء ليرى كيف (نجحت) السياسة العربية في قيادة الأمة العربية إلى الهزيمة، وأجهزة الإعلام العربية الرسمية تردد شعارات التحرير، وتلعلع بأناشيد النصر ..
... ... ويا ويح الأمة التي تصبح صحافتها وإذاعتها جهازا من أجهزة الدولة، وأداة من أدوات السلطة .. يا ويحها ثم يا ويحها . .(1/8)
... وحسبي أن أشير بصورة عابرة إلى بعض الوقائع والأحداث، كيف كانت وكيف صارت ..
... من هذه الوقائع، مؤتمر الدار البيضاء الذي وضع خطة حربية للانقضاض على إسرائيل وتدميرها في ستة أيام، وكيف أن خطة حرب الأيام الستة قد نفذت فعلا ولكن على يدي إسرائيل !!
... ... وفي هذه الوقائع، اجتماعات مجلس رؤساء الحكومات التي انعقدت لتنفيذ قرارات الملوك والرؤساء، وكانت حصيلة هذه الاجتماعات الفخيمة أن أصدرت الحكومات العربية قرارات تناشد الحكومات العربية بالتنفيذ .. كأنما الحكومات العربية التي تخلفت غير الحكومات العربية التي قررت !!
... ... ومن هذه الوقائع، الخطط العامة والتفصيلية لتنفيذ المشروع العربي لتحويل روافد نهر الأردن، فسقط المشرع حين سقطت الأرض العربية، وتولت إسرائيل تنفيذ المشروع نيابة عن الدولة العربية !!
... ... ومن هذه الوقائع، القرارات الهائجة المائجة التي أصدرها وزراء الخارجية العرب بمقاطعة ألمانيا الغربية بسبب تقديمها المعونات الاقتصادية والعسكرية الضخمة لإسرائيل .. وما انتهى إليه الأمر في ربيع 1972 من صدور قرار الجامعة العربية ( بإطلاق الحرية لكل دولة عربية بان تعيد علاقاتها بألمانيا الغربية بالطريقة التي تراها مناسبة) .. قاطعوا جماعة وتراجعوا فرادى !!
... ... ومن هذه الوقائع، الاجتماعات الصاخبة التي عقدها مجلس الجامعة العربية للنظر في موضوع افتتاح إسرائيل لمبنى الكنيست الجديد في القدس الجديدة . وكيف جاءت حرب الأيام الستة ليسقط بيت المقدس، ويسقط معها(1/9)
التاريخ والحضارة والتراث والكرامة .. ولا نجد ما نصفه إلا أن نبكي .. ولكن من غير حائط المبكى !!
... ... ومن هذه الوقائع، الضجيج العارم حول القيادة العربية الموحدة واختصاصاتها، وهل تدخل القوات العربية إلى الأردن أولا تدخل، وكيف أصبحت الأمة العربية من غير قيادة لا موحدة ولا مبددة، ... ولم يبق من المحيط إلى الخليج قيادة واحدة إلا القيادة الإسرائيلية التي تقود الجيش الإسرائيلي بضباطه وجنوده المهاجرين من إنجلترا وروسيا وفرنسا وأمريكا والهند والحبشة .. ومن كل الأجناس والألوان !!
... ... وغير هذه الوقائع كثير وكثير ..
... ... وكما جرى للكتب الثلاثة السابقة، فان الكتاب الحاضر، سيمنع بلا ريب من عدد من الدول العربية، ولا غرابة في ذلك فهذه طبيعة الحكم العربي المعاصر .
... ... إن الحكم العربي المعاصر، يخاف على وجوده من الحق .. ويخاف أن تصل كلمة الحق إلى الشعب .
... ... وكما جرى في الماضي كذلك، فان هذا الكتاب سيصل إلى المواطن العربي في الوطن العربي بأسره، ورغما عن الدول العربية إياها ؛ وسيتبادله المواطنون من بيت إلى بيت ليعرفوا الحكم العربي على ضآلته وضحالته ..
... ... ثم إن الأجهزة العربية قد تفلح في منع هذا الكتاب عن هذا القطر أو ذاك، ولكن أحدا لن يستطيع أن يمنعه من أن يدخل محراب التاريخ، فان صاحب هذا الكتاب لا يكتب على قارعة الطريق، ولكنه كان في موكب هذه(1/10)
الحقيقة التاريخية شاهد عيان وسامع آذان .. وقد بلغ من العمر مرحلة لم يعد راهبا من شيء، ولا راغبا في شيء .
... ... وإن أعتذر فلست أعتذر إلا عن شيء واحد .. والندم كل الندم يملأ مجامع قلبي ومواقع جوارحي ..
... ... أعتذر، وكأنما أجلس على كرسي الاعتراف ..
... ... أعتذر عن أكبر خطأ ارتكبته في حياتي العامة عبر أربعين عاما من عمري كله ..
... ... ذلك الخطأ الكبير هو أني سرت مع الملوك والرؤساء في مسيرة الأعوام الأربعة التي انتهت بحرب الأيام الستة . .
... ... ذلك الخطأ الكبير هو أني صدقت الملوك والرؤساء في عام 1963 يوم انعقد مؤتمر القمة العربي الأول في القاهرة، ثم سرت في ركبهم في مؤتمر الإسكندرية، وبعده في مؤتمر الدار البيضاء، وأخيرا في مؤتمر الخرطوم .. وحمدت الله أني انسحبت من هذا المؤتمر غير آسف ولا نادم ..
... ... ولو عادت بي عجلة الزمن إلى الوراء لآثرت أن أعمل مدرسا في
(روضة الأطفال) بدلا من أن أعمل مع الملوك والرؤساء .. وإذن لكان عملي أكثر جدوى، فان رفاقة الأطفال انفع من رفاقة أولئك (الأبطال) .. والآن .. أحمد الله أني في هذه لم أعد رفيقا للملوك الغابرين والرؤساء المعاصرين، فقد أصبحت رفيقا للملوك من أمثال صلاح الدين .. اجتمع بهم في مكتب لأعيش معهم في أحلى أيام النصر والبطولة، هربا من العار القائم والهزيمة الماثلة ..
... ... ... ومع هذا فان إيماني بالأمة العربية وقدراتها وبسالتها وإيمانها لن يتزعزع .. وستزول كل عوامل الهزيمة والخور والفرقة، وسيزول معها(1/11)
الحكم العربي المعاصر لينبثق البعث العربي الجديد رافعا رايات النصر من جبل الشيخ إلى شرم الشيخ ... ومن نهر الأردن إلى ثغورنا في يافا وحيفا وعكا . .
... ... ذلكم هو إيمان المؤمنين الذين يؤمنون ويعملون ويتواصون بالحق والصبر ..
... (والعصر إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ).
صدق الله العظيم
حزيران المشئوم أحمد الشقيري
1972(1/12)
الملوك والرؤساء..
يسقطون في الامتحان
... ... كان عام 1964 هو عام القرارات الفخيمة التي أصدرها الملوك والرؤساء وسط أعظم حملة من الصحافة والإذاعة، والاجتماعات السرية، والمآدب الشهية . .
... ... ففي مطلع العام (كانون الثاني) انعقد مؤتمر القمة العربي الأول في القاهرة، وفي اخرياته (أيلول) انعقد مؤتمر القمة الثاني في الإسكندرية، وعادت بي الذاكرة بعيدا بعيدا ... ثمانية عشر عاما إلى الوراء، فتذكرت .
... تذكرت أني كنت على مقربة من مؤتمر الملوك والرؤساء والأمراء في زهراء انشاص (مصر) أيار 1946 ... وتجلى أمامي الفارق بين العهدين .
... كان مؤتمر انشاص يضم سبعة ملوك وأمراء ورؤساء، كانوا كلهم فقراء في المال، جهلاء في وسائل الإعلام، وشعوبهم قد خرجت مثخنة بالجراح من معارك (1) .
__________
(1) أحمد الشقيري، أربعون عاما في الحياة العربية والدولية، دار النهار، بيروت، 1969.(1/13)
... وفي مؤامرات القمة الحديثة، أصبح الملوك والرؤساء ثلاثة عشر، استكملوا سيادتهم واستقلالهم، وكثرت ثرواتهم، واغتنوا في وسائل الدعاية، وتفتحت شعوبهم على قدر كبير من الوعي القومي .
... ... وكان من سوء طالعي، ومعي جيلي الذي عاصرته، أني كنت في ركاب هذه المسيرة الطويلة، في موكب الحكم العربي، وأنا في حيرة من أمري، وفي أزمة كبرى أمام ضميري، أسائل نفسي، هل تقدمنا أم لا زلنا : مكانك راوح، كما يقول التعبير العسكري، وكنت أهمس بمخاوفي هذه في آذان من عرفت وصادقت، في مؤتمر القمة العربي الأول في القاهرة، والثاني في الإسكندرية .
... وكان السؤال اللحوح اللجوج : هل يكون الملوك والرؤساء في الستينات خيرا من الملوك والرؤساء في الأربعينات ... وهل يكون الحكم العربي المعاصر، أكثر جدية وصدقا، من الحكم العربي الغابر، أم أن الحال هو الحال، والرجال هم الرجال .
... لقد اشتركت في مؤتمر القمة في القاهرة، وكانت المظاهر بارعة رائعة في التصريحات اللاهبة، في الاستقبالات الحافلة، في النظام البديع، في البروتوكول الرفيع، في الوفود العسكرية، بأوسمتها اللامعة، وبأزيائها البهية، بالحشود الشعبية تلعلع من صفوفها الزغاريد وتنطلق الهتافات (1) .
... عشت تلك الأيام وكنت في صميم تحركاتها،فأيقنت، أو على الأصح، جعلت نفسي أوقن ... أن الحكم العربي قد تبدل، إلى الأحسن والأفضل، عما عرفته قبل عشرين عاما .
__________
(1) أحمد الشقيري، من القمة إلى الهزيمة مع الملوك والرؤساء، دار العودة، بيروت 1971.(1/14)
... وبعد مؤتمر القاهرة، جاء مؤتمر الإسكندرية، في خريفها الفاتن الجميل، فكانت المظاهر أجل إبداعا وأسمى روعة، فقد أصبحت للملوك والرؤساء مهارة أكمل، وخبرة أعظم، في تعبئة الجماهير العربية، وخلع قلوبها من صدورها، واقتلاع عيونها من محاجرها، لتكون بين يدي الملوك والرؤساء، أطوع من بنان !!
... ولكن أصواتا حرة في الأمة العربية، ومعهم رجال مؤمنون من الصف الثاني والثالث ممن يجلسون وراء الملوك والرؤساء، كانوا يخافون أن يكون العمل العربي الرسمي ما يزال في مثل حاله، منذ أن اصبح للعرب ملوك وامراء ورؤساء .. وكنت في عداد أولئك الخائفين.
... ولقد حاول مؤتمر القمة الأول في القاهرة، أن يثبت للامة العربية جدارته، ويؤكد جديته وقدرته، وأن حكام العرب البائدين الذين قامت إسرائيل في عهدهم قد ذهبوا وذهبت معهم مفاسدهم وخياناتهم، وأن هذا الزمان هو زمن العمل الجماعي الموحد، والتضامن العربي المؤكد، والخطط المدروسة المنسقة، والقرارات التي تنفذ من غير إبطاء، وفوق هذا وذاك، فانه زمن المبادرة العربية الخاطفة لتدمير إسرائيل وتحرير فلسطين .
... ومن هنا فقد قرر مؤتمر القمة في القاهرة والإسكندرية وبصورة إجماعية لا بثوبها تردد أو تحفظ، إنشاء ثلاث مؤسسات عربية : (هيأة الروافد) لتنفيذ المشروع العربي لتحويل روافد نهر الأردن، و (قيادة عربية موحدة) لتنسيق الخطط العسكرية العربية، و(منظمة التحرير الفلسطينية) لإعداد الشعب الفلسطيني عسكريا للقيام بدوره في تحرير وطنه .
... وتوكيدا لذلك، وإمعانا من الملوك والرؤساء في إثبات رغبتهم في تنفيذ قراراتهم (الضخمة) فقد ابتدعوا أسلوبا جديدا للتنفيذ والتطبيق، لم(1/15)
يسبقهم إليه الذين سبقوهم من الملوك والرؤساء .. ومن هنا فقد اهتدى البارعون في صناعة الإلهاء، فصاغوا للامة العربية قرارا جديدا هو البند السادس من قرارات مؤتمر القمة العربي في القاهرة، تغريني عباراته الجميلة أن أنقله بنصه :
... (سادسا : المتابعة والتنفيذ – يقرر الملوك والرؤساء ... أن تشكل لجنة خاصة برياسة الأمين العام للجامعة العربية عن ممثلين لملوك ورؤساء الدول الأعضاء، منضما إليها ممثل فلسطين لدى مجلس الجامعة ويكون اختصاصها :
1- متابعة تنفيذ القرارات السابقة الذكر (وهي القرارات العسكرية والمالية والسياسية المتعلقة بقضية فلسطين) .
2- وضع الخطط اللازمة لاسترداد فلسطين إلى أهلها مستخدمين الوسائل السياسية الاقتصادية والإعلامية، وخاصة لمنع إسرائيل من تحويل مياه مجرى نهر الأردن وتجتمع دوريا بدعوة من الأمين العام، وتقدم تقريرا بنتائج كل اجتماع لها إلى رؤساء الدول .. ) .
... ويلفت النظر في هذا القرار، أن ( لجنة المتابعة) تتمتع باختصاص خطير في القضية الفلسطينية، ويزيد من خطورته أن أعضاءها متصلون بالملوك والرؤساء مباشرة، يرفعون إليهم التقارير ويتلقون منهم الأوامر . .
... وقد زاد على ذلك مؤتمر القمة العربي في الإسكندرية، بان قرر
(بان تنعقد لجنة المتابعة على مستوى رؤساء الحكومات العربية مرتين في العام لتنفيذ قرارات الملوك والرؤساء ) ..(1/16)
... وجاء عام 1965 من أوله لآخره ليكون بمثابة الامتحان الأول للملوك والرؤساء .. يوضعون فيه على (المحك) لتعرف الأمة العربية مبلغ صدقهم وإخلاصهم في تنفيذ قراراتهم .. وانعقدت لجنة المتابعة من ممثلي الملوك والرؤساء بضع عشرة مرة، كما انعقدت على مستوى رؤساء الحكومات العربية مرتين للتنفيذ، ولا شيء غير التنفيذ !!
... وقد حضرت هذه الاجتماعات كلها، فكانت لجنة الممثلين للملوك والرؤساء تجتمع مرة في كل شهر، وعقد مجلس رؤساء الحكومات العربية اجتماعه الأول في كانون الثاني، واجتماعه الثاني في أيار، وتوسطهما اجتماع وزراء الخارجية العرب في آذار .
... ... ... وعدت بالذاكرة أربعين عاما إلى الوراء، حينما كنت طالبا (نجلس) للامتحان الشهري مرة كل شهر، وللامتحان الفصلي، مرة عند كل فصل من فصول السنة .. وها نحن الآن نلتقي للامتحان الشهري والفصلي، لنقول للملوك والرؤساء (عند الامتحان يكرم المرء أو يهان) ..
... وانعقدت لجنة الممثلين للملوك والرؤساء في اجتماعاتها الشهرية، فكانت هذه الامتحانات الشهرية فاشلة في مظهرها وجوهرها .
... في مظهرها، لأنها أخذت طابع الجامعة العربية في اجتماعاتها التقليدية التي أورثت الأمة العربية السأم والضجر ... ولقد كان المفروض حين فكر الملوك والرؤساء في إنشاء لجنة المتابعة، أن يكون لكل ملك أو رئيس (ممثل خاص ) يستطيع أن يعبر عن رأيه وسياسته، ولكن سرعان ما انقلب الأمر عند التطبيق إلى اختيار سفراء الدول العربية في القاهرة ممثلين شخصيين للملوك والرؤساء، باستثناء الملك حسين فقد اختار السيد بهجت التلهوني لفترة قصيرة من الوقت، ولم يكن رئيسا للوزراء، والرئيس جمال(1/17)
عبد الناصر فقد اختار الدكتور حسن صبري الخولي .. ممثلا له واستمر يؤدي هذه المهمة حتى ( صفيت ) لجنة المتابعة في أعقاب حرب
حزيران ... في جملة ما صفي من خطط الملوك والرؤساء .
... والواقع أن الدكتور الخولي كان الوحيد بين الممثلين الشخصيين في أشياء كثيرة .. كان الوحيد بين الممثلين لمهمته، وكانت لديه ملفات ودراسات، وكان يحضر بانتظام، وكانت التعليمات بين يديه على الدوام من الرئيس عبد الناصر مباشرة .. ولو كان الممثلون الآخرون في مثل حاله .. لو ... لاستطاعت لجنة المتابعة ان تنجز شيئا غير الخيبة التي أفلحت في تحقيقها .. ولكن كان طبيعيا أن لا تنجز اللجنة على هذا الشكل أية إنجازات تتفق واختصاصاتها الخطيرة، كما وردت في قرار مؤتمر القمة، فالسفراء العرب في القاهرة الذين كانوا أعضاء هذه اللجنة يتحملون مسئوليات متعددة في مكاتبهم، ورعاية مصالح دولهم، والاجتماع بزملائهم السفراء والأجانب، واخيرا لا آخرا، فان على السفراء العرب الانتظار ساعات في المطار لاستقبال الضيوف العظام الوافدين على القاهرة، ليلا ونهارا ..وما أكثرهم.. والضيوف العرب أكثر من الهم على القلب، كما يقول المثل العامي . .
... ... ولا أعلم أننا استطعنا مرة واحدة، أن نعقد جلسة واحدة في موعدها .. وتمضى الساعة والساعتان، ونحن بانتظار هذا السفير لأنه كان مشغولا بمكالمة هاتفية مع عاصمة بلاده، وذاك السفير لان إعداد الحقيبة الدبلوماسية استنفد وقته، وذلك السفير لان عجلة السيارة (فرقعت) . وتفرقعت معها لجنة المتابعة التي تمثل أصحاب الجلالة والسمو والفخامة، والملوك والرؤساء !!(1/18)
... ذلك من حيث المظهر، أما الجوهر فهو خال من الجوهر .. فالجلسة تبدأ بتلاوة تقرير الأمين العام السيد عبد الخالق حسونة، وهو لا يعدو أن يكون سردا لقرار القمة، وتلخيصا للأحداث الجارية مأخوذا عن الصحف ووكالات الأنباء، ويعلن التقرير في النهاية الخاتمة المألوفة ( والأمر معروض على لجنتكم الموقرة للنظر، وتفضلوا بقبول فائق الاحترام ) .
... وكم تمنيت المرة بعد المرة أن يكون تقرير الأمين العام متضمنا اقتراحات معينة أو دراسات معدة، كما يفعل الأمين العام للأمم المتحدة، ولكن شيئا من ذلك لم يقع، فالسيد حسونة لا يريد أن يأخذ زمام المبادرة في أي شيء .. والدول العربية لا تعطي أمينها العام في القاهرة، ما تعطيه لأمينها العام في نيويورك .. وبهذا أصبحت الأمانة للجامعة العربية، (مكتب بريد يستقبل المذكرات من الدول العربية)، ثم يعيد طبعها ويوزعها على الدول العربية، في حين أن الأمانة العامة في الأمم المتحدة لها دور كبير في معالجة الأمور الهامة، وبصورة إيجابية .
... وكذلك الممثلون الشخصيون، فانهم يستمعون إلى تقرير الأمين، ويستمعون إلى بعضهم بعضا، وهم يعلقون على الأحداث الجارية : - عدوان إسرائيل الغاشم، موقف أمريكا الرذيل، فشل الأمم المتحدة، وما إلى ذلك من الأحاديث الشائعة التي يتداولها عامة الناس في المقاهي، ولكن على مستوى أدني !!
... أما قرار الملوك والرؤساء الذي عهد إلى لجنة المتابعة تنفيذه، وهو
(وضع الخطط اللامزة لاسترداد فلسطين لأهلها، مستخدمين الوسائل السياسية والاقتصادية والإعلامية ) فلم يشغل بال أعضاء اللجنة، ولا ألومهم..لان الملوك والرؤساء، أصلا لم يضعوا خططهم وأفكارهم أمام(1/19)
ممثليهم، وبالتالي فان فاقد الشيء لا يعطيه، كما يقول فقهاؤنا العظام، وما أروع ما قالوا، رحمهم الله .
... ومع هذا، فقد كنت أشغل كثيرا من وقت اللجنة حتى لا يمر عاطلا باطلا، ذلك أن منظمة التحرير وإنجازاتها الإعلامية والسياسية والتنظيمية والعسكرية كانت موضوع تقاريري الشهرية المتوالية، أقدمها إلى الممثلين الشخصيين ليرفعوها إلى الملوك والرؤساء، ليروا أين وصلنا في هذه المسيرة .ِ. وما كان أشقى تلك المسيرة !!
... وقد أصبح تقليدا دائما للمنظمة أن أنهي تقاريري بمناشدة الحكومات العربية بدفع التزاماتها المالية، وبتسهيل مهمة المنظمة، وبرفع القيود عن الفلسطينيين بالنسبة للسفر والإقامة والعمل .. وكان من تقاليد الممثلين للملوك والرؤساء، بدورهم، أن يصدروا القرار المألوف، ( بمساندة المنظمة ماديا ومعنويا، ومناشدة الدول العربية بدفع التزاماتها) ، وكأنهم يخاطبون دولا لا يمثلونها !!
... ذلك كان أمر لجنة المتابعة على مستوى الممثلين الشخصيين، أما أمرها على مستوى رؤساء الحكومات العربية فلا بد أن نقف قليلا أمامه نتبين صورته .. فقد اجتمع رؤساء الوزارات مرتين في عام 1964، وتوسطهما اجتماع وزراء الخارجية ..وكانت الأمور المعروضة على هذه الاجتماعات في غاية الخطورة .
... ففي مطلع عام 1965 (9/1/ 1965) توافد رؤساء الحكومات العربية على القاهرة ومعهم وزراء الخارجية والدفاع العرب، وتفننت الأمانة العامة للجامعة، وأبدعت، فأسمت الاجتماع (مجلس رؤساء الحكومات العربية) على نسق (مجلس ملوك ورؤساء الدول العربية) لتوهم الجماهير العربية أن(1/20)
جديدا قد طرأ على الحياة العربية، وأن الأمور ليست كالعهد البائد، فقد تبدل كل شيء . . وأصبحت الأرض غير الأرض، والسماء غير السماء .. والملوك غير الملوك، والرؤساء غير الرؤساء، ومن ذاق عرف !!
... وبدأت الجلسة الأولى علنية، في القاعة الكبرى للجامعة العربية، وتدافع الصحفيون ومراسلو وكالات الأنباء الأجنبية يلتقطون صور رؤساء الحكومات العربية، بين باسم، وجاد، ومقلب لأوراقه، أو ممسك بقلمه ونظارته، وجو التفاؤل يسود الجميع، فهذا أول اجتماع ( تنفيذي ) لرؤساء الحكومات العربية، لتطبيق قرارات مؤتمري القمة في القاهرة والإسكندرية .. فاشرأبت الأعناق وتطلعت الأبصار ..
... وكانت رياسة الجلسة لسوريا، فافتتح الاجتماع الدكتور نور الدين الاتاسي بخطاب ( بليغ ) أكد فيه ( أن سوريا تضع كل إمكاناتها البشرية والمادية من أجل قضية العرب الأولى في فلسطين، وهي مصممة أن تخوض المعركة المقدسة بالتعاون مع الأقطار الشقيقة الأخرى ) ، وأنه يرجو بصدق، ( أن يكون جيش التحرير الفلسطيني قادرا على جمع الطاقات المتوفرة لدى الشعب الفلسطيني ليكون طليعة للجيوش العربية ) .
... وتكلم بعده السيد عبد الخالق حسونة الأمين العام للجامعة العربية، الكلمة التقليدية عن التضامن العربي، وتضافر الجهود، وسائر هذه المعاني التي لم تكن قائمة بين الدول العربية منذ أن وقعت حرب فلسطين عام 1948، إلا على الورق في محاضر الجلسات !!
... وانتهت الجلسة العلنية، وخرجنا إلى الصالة المجاورة (للاستراحة) كأننا قد بذلنا جهدا نستحق عليه الاستراحة .. وسألني الدكتور نور الدين الاتاسي :(1/21)
قال : عسى أن يكون قد أرضاك موقف سوريا .. لقد حددنا الموقف في خطابي .. ولم نغفل جيش التحرير ..
... قلت : يا أخي نور الدين .. ليتك تقنع الحكومة السورية أن تدفعوا التزاماتكم المالية لجيش التحرير، حتى يستطيع أن يؤدي الدور الطليعي الذي أشرت إليه .. وخاصة أنك أعلنت الآن في خطابك بأن سوريا تضع كل إمكاناتها البشرية والمادية .. نحن نريد القليل من هذه الإمكانات ..
... ... ... قال : وهل الدول العربية الأخرى تدفع .. ؟
قلت : دفع البعض، ووعد البعض الآخر .. ويجب أن تكون سوريا في الطليعة ..على الأقل ادفعوا رواتب قوات جيش التحرير الفلسطيني الموجودة في سوريا !!
... ولكن هنالك ما هو أهم من الرواتب ..
قال : وماذا ..
قلت : لقد تمنيت في خطابك في جلسة الافتتاح أن يكون جيش التحرير
(قادرا على جمع الطاقات المتوفرة للشعب الفلسطيني) فأنا أطالب حكومة دمشق أن لا تتدخل في شئون جيش التحرير، وان تتيسر للمنظمة السيطرة الكاملة على جيش التحرير ضباطا وجنودا حتى نستطيع أن نحقق الغاية التي تمنيتها سيادتك ..
قال : وهل جيش التحرير الفلسطيني في قطاع غزة تحت سيطرتكم
الكاملة .. أليست القاهرة صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في شئون جيش التحرير .
قلت : صحيح انه ليست لنا سيطرة كاملة على جيشنا في غزة، ولكنا نمارس كثيرا من السلطة عليه ..وليت دمشق تعاملنا كما تعاملنا القاهرة .(1/22)
قال : هذه أمور لا أستطيع أن أبت فيها .. لا بد من عرضها على قيادة الحزب .
قلت : لقد مضى علينا عامان ونحن نناشد الحزب أن يقوم بين المنظمة والبعث تعاون قومي صادق (1)
... قال: لا أمل في التعاون ما دامت المنظمة تابعة للقاهرة، ولعبد الناصر .
... قلت : أنا لست تابعا للقاهرة ولا لعبد الناصر .
... قال : الأمر يحتاج إلى برهان ..
قلت : وما هو ؟
قال : تترك القاهرة، وتأتي إلى دمشق، ونحن نضع تحت تصرفك الإذاعة وكل أجهزة الدولة..
قلت: أريد أن أعمل مع القاهرة ودمشق .وكل رجائي ودعائي ان لا تتمزق القضية الفلسطينية على مسرح الصراعات العربية .
... واقترب منا الحاج حسين العويني رئيس وزرا لبنان، وقال الدكتور الاتاسي : وهل دفع لبنان التزاماته المالية .. ؟
... قلت : نعم دفعها كاملة للمنظمة وللجيش .
... فقال : الرئيس العويني : نحن لسنا دولة ثورية، ولكننا ندفع التزاماتنا في مواعيدها !!
__________
(1) من القمة إلى الهزيمة، مصدر سابق .(1/23)
... وأوشك العويني والاتاسي أن يدخلا في حوار بينهما، حتى جاء السيد حسونة وراح (يلم) الوفود ويدعوهم إلى الاجتماع السري، في صالة اللجنة السياسية .
... وجلسنا في الصالة إياها، أمام الطاولة المستديرة إياها، وعلى المقاعد إياها، وأنا أكاد أسمع الجدران وهي تئن من المداولات (السرية) التي تعرفها منذ أن قام هذا المبنى الجديد للجامعة العربية على أرض الثكنات العسكرية البريطانية التي كانت في عهد الاحتلال البريطاني .. وإنه ليفجعني أن أفكر في الفارق بين الحالين، جدية ونظاما .
... وتوالت الاجتماعات على مدى ثلاثة أيام، رؤساء الحكومات العربية على هيأة سياسية، ووزراء الخارجية والدفاع على هيأة مجلس الدفاع العربي المشترك، والصحافة والإذاعات العربية ترسل إلى الرأي العام العربي سيلا مدرارا من التصريحات، أو من القيء والإسهال، سواء بسواء ..ولا اعتذر عن هذا التعبير البذيء !!
... وكان أول ما واجهه رؤساء الحكومات موضوع تحويل الروافد، وفي مقدمة ذلك مشكلة الموقع .. موقع محطة الضخ الرئيسة لنهر الوزاني، وهل تكون على الأرض اللبنانية، أم داخل الأراضي السورية .. وقد حاول رئيس وزراء لبنان الحاج حسين العويني، ووزير خارجيته فيليب تقلا أن يكون هذا الموقع في الأرض السورية ..ولكن تكاثر الخبراء والفنيون وباقي رؤساء الحكومات على لبنان ..ولم تنفع لباقة (تقلا ) الوزير اللبناني، ولا مرافعته بالعربية الفصحى . .
... وأحس الحاج حسين العويني رئيس وزراء لبنان أن كل (شطارة) الجامعة العربية قد وقعت على رأس لبنان، فخلع الشيخوخة عن أكتافه وقال(1/24)
في حماسة الشباب ( إننا مستعدون لكل طارئ ..وإن كان في نية العدو الإسرائيلي أن يتوسع على حسابنا فإني أقول له ما قاله الشاعر العربي : -
فقلت التمس يا ليث غيري ... طعاماً إن لحمي كان مرا
... وسأل رئيس وزراء السودان، السيد احمد محمد محجوب : من يعني بكلمة (غيري) ؟؟ فتدخلت لأنقذ الموقف وقلت : المعنى في بطن الشاعر، لا في بطن الراوي .. والحاج حسين راوية لا شاعر .. ولكن كان ينبغي أن تسأل الحاج حسين، من يعني، حين أنشد (إن لحمي كان مرا) هل لحم الحاج أم لحم لبنان !! وكانت الابتسامات هي الجواب ..
... ومن الشعراء والرواة، انتقلنا بعد ذلك إلى مشكلة نقل القوات العربية إلى الأرض اللبنانية، وفق ما تقترحه القيادة العربية الموحدة لحماية مشروعات التحويل، وثار جدل طويل، أيما طويل !! وتعلل الوفد اللبناني بان دستور بلادهم يحول دون ذلك، وتكاثر الخبراء الدستوريون ورؤساء الحكومات العربية على لبنان (الضعيف) مرة ثانية، ووافق الوفد اللبناني على قرارا بان (تحصل الحكومة على صلاحية مسبقة من مجلس النواب اللبناني تخوله الموافقة على إدخال قوات عربية دفعا لأي اعتداء محتمل قد تقوم به إسرائيل) .
... وانتقل الرؤساء بعد ذلك إلى معالجة مشكلة أهم وأوخم .. ولم يكن لبنان (الضعيف) هذه المرة سبب المشكلة، ولكنه الأردن ..فلقد أعلن الوفد الأردني ببساطة ومن غير مبالاة أنه يعارض دخول القوات العراقية والسعودية إلى الأراضي الأردنية، وكانت القيادة العربية الموحدة قد أصدرت توصية بذلك، (لدعم الجيش الأردني في مواجهة أي عدوان يمكن أن تقوم به إسرائيل تحديا(1/25)
للمشروع العربي لتحويل مجرى نهر الأردن) .. وهذا هو قرار القيادة العربية بالنص والحرف .
... ووضع الفريق عامر، القائد العام للقوات العربية الموحدة، خرائط على الطاولة وأخذ يشرح الموقف العسكري، وتولى معاونه اللواء عبد المنعم رياض إيضاح الأسباب التي تدعو إلى (مركزة) القوات السعودية والعراقية في داخل الأراضي الأردنية .
... وأعلن الوفدان العراقي والسعودي ( أن قواتهما محتشدة منذ زمن خارج الأراضي الأردنية، تنتظر الإذن لاتخاذ مراكزها داخل الأراضي الأردنية لتعزيز الجيش الأردني).
... وتحدث اللواء عامر خماش رئيس الأركان الأردني مفندا آراء الفريق على عامر .. وامتد الحوار بين العسكريين ..ورؤساء الحكومات العربية ساكتون، وفيهم عسكريون، سابقا او لاحقا، مثل زكريا محي الدين رئيس وفد الجمهورية العربية المتحدة، والفريق طاهر يحيى الدين رئيس الوفد العراقي، ورفعت يدي استأذن بالكلام، والرؤساء يعجبون، ما عسى ان يقول هذا
(المدني) الذي قضى معظم عمره في المحافل الدولية في الأمم المتحدة .
قلت : نقطة نظام، يا سيدي الرئيس .. إن الحوار أمر طبيعي في مثل اجتماعاتنا، ولكني أحب أن أسأل : هل القيادة العربية الموحدة لجنة استشارية، من حقنا أن نناقشها ونجادلها ؟وهل عين الملوك والرؤساء الفريق عامر مستشارا عاما أم قائدا عاما ؟؟ .. وما معنى مخالفة مطالب القيادة الموحدة، ونحن ما زلنا في أول الطريق .. ولم ندخل المعركة بعد ؟ .
... وقال : العقيد هواري بومدين رئيس الوفد الجزائري : هذا سؤال جوهري، إذا كانت القيادة الموحدة لا تنفذ توصياتها، فما الفائدة من إنشائها،(1/26)
ونحن في الجزائر لا يمكن أن نوافق على مثل هذه التناقضات، ولا يمكن أن نسمح للأمور العسكرية بأن تخضع لهذه المجادلات .
... واستأنفت حديثي وقلت :إن الفرق بيننا وبين إسرائيل، أن إسرائيل لها خطة واحدة تنفذها قيادة واحدة . . لقد أعلنت إسرائيل منذ أسبوع (6 / 1 / 1965) أنها بدأت في بناء خزان لتحويل مياه الأردن من بحيرة طبريا إلى صحراء النقب، وتبلغ مساحة الخزان 250 هكتارا .. ونحن هنا ثلاث عشرة دولة نجتمع اليوم، لنجادل القيادة الموحدة التي أنشأناها بالأمس .. والموضوع المطروح أمامنا الآن هو : أن تخضع المملكة الأردنية الهاشمية لقرار القيادة العربية الموحدة .. وهذا هو الموقف بكل بساطة، وليس للوفد الأردني أن يجادل أو يناقش ..
... واستأنف العقيد هواري بومدين ملاحظاته قائلا : أعتقد أننا إذا لم نفكر تفكير دولة واحدة فان العاقبة وخيمة .. والقيادة العربية الموحدة أما أن تكون أو لا تكون .
... ورفع رئيس الأركان الأردني يده يريد الكلمة، وساد المجلس جو من الوجوم، وتدخل الرئيس وأعلن تأجيل الاجتماع لنصف ساعة للاستراحة،
(والاستراحة) مادة غير مكتوبة، في النظام الداخلي للجامعة العربية، ولكنها تستخدم على الدوام لفض المنازعات، وللتهرب من المسئوليات، وتفريج الأزمات !!
... وتفرق المجتمعون في الصالة المجاورة يطوف عليهم (ولدان) الجامعة بأكواب القرفة والشاي، والجامعة العربية ومقهى الفيشاوي في القاهرة فرسا رهان في تقديم أجود المشروبات وأزكاها .. مجانا من غير ثمن !!(1/27)
... ودارت المداولات الجانبية، وجلسنا حلقة صغيرة : العقيد هواري بومدين، وسر الختم خليفة رئيس الوزراء السوداني، وأنا، فقال الرئيس السوداني : -
... - أنت تعرف المناطق التي يجري فيها تحويل مجرى الأردن، وما رأيك في الموضوع برمته ؟
قلت : لا بد أنكم تلاحظون أن منظمة التحرير لا تبدي رأيها في الموضوع في الجلسات لأسباب متعددة . نحن لا نؤمن بهذا المشروع .. إن تكاليفه باهظة والأجدى أن تنفق على تسليح الجيوش العربية، ومن ناحية فنية ان المشروع لا يحرم إسرائيل إلا من جانب ضئيل من المياه .. وهو لا يبعد كثيرا عن مشروع جونسون الأمريكي، الذي سبق أن رفضته الدول العربية، ومن ناحية عسكرية فان إسرائيل قادرة على الدوام أن تدمر المشروع العربي، حتى ولو كنا متفوقين عسكريا على إسرائيل، لان التدمير من أسهل العمليات العسكرية .
وقال العقيد بومدين : هذا صحيح .. إن تدمير المشروع العربي لا يحتاج لأكثر من قنبلة واحدة ولكن ما ذا ترى .. ماذا تقترح ؟ .
... قلت : الرأي السديد، أن نقوم نحن، بتدمير التحويل الإسرائيلي، بدلا من أن ننشئ التحويل العربي وتدمره إسرائيل .. وأعني بكلمة ( نحن) الشعب الفلسطيني .
... وأخذت أشرح إن التدمير هو الأسهل والأرخص .. وجاء السيد حسونة يدعونا إلى الاجتماع وهو يقول : اتفق (الاخوان) على صيغة مقبولة وجميلة !!(1/28)
... وعدنا إلى الاجتماع، فأعلن رئيس الجلسة بعد الديباجة عن تفاهم
(الاخوان) على مشروع قرار يقول ( بأن المجلس أحاط علما بوجهة نظر القيادة العربية الموحدة، وهو إذ يقدر موقفها ويؤيديها فيه، يقرر رفع هذا الموضوع إلى مجلس الملوك والرؤساء الذي سيعقد في أيلول 1965 في الدار البيضاء ) .
... وتمت الموافقة على هذا القرار، ولكن بالصمت الرافض .. وكان الفريق على عامر، يجلس إلى جواري فقلت له : أن معنى هذا القرار أن تبقى القوات السعودية والعراقية خارج الأردن حتى الخريف، وان يبقى المشروع العربي من غير حماية .. وأن يظل المشروع إلى ذلك الوقت تحت رحمة الطائرات الإسرائيلية ..
واستأنفت حديثي وقلت للفريق عامر :
... ... لا شك أنك سمعت التصريحات الإسرائيلية، فقد صرح ليفي اشكول رئيس وزراء إسرائيل قبل يومين (11/1/1965) ( أن إسرائيل تعتبر المياه مسألة حيوية كالدم الذي يجري في عروقنا وسنتعرف طبقا لذلك ) . وأعلن اسحق رابين رئيس الأركان الإسرائيلي صباح اليوم (13/1/1965) أن إسرائيل ( ستعمد إلى القوة لمواجهة المشروعات العربية ) وناولت الفريق عامر قصاصة هذه التصريحات، وهو يقول : إيه .. نعمل ..لنا الله .
... قلت : ولكن الله يقول ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) وهذا الأردن يقول ( وبددوا ما عندكم من قوة ) ...
... وخرج الفريق على عامر القائد العام للقوات العربية الموحدة ومعه معاونه اللواء عبد المنعم رياض، من القاعة، ومعهما الملفات والخرائط ..(1/29)
خرجا إلى مصر الجديدة حيث مقر القيادة العربية الموحدة ليسجلا أول هزيمة في أول معركة، لا ضد إسرائيل، ولكن ضد الأردن !!
... وهكذا قدر للقوات السعودية والعراقية أن تبقى محتشدة في الصحراء بعيدة عن الحدود الأردنية .. تنتظر مصيرها الذي ينتظرها في مؤتمر الدار البيضاء في خريف ذلك العام ..ولكل خريف حديث .
... وانتقل المجلس بعد ذلك إلى بحث موضوع علاقة الدول العربية بألمانيا الغربية، وتلا السيد حسونة تقريره عما تقدمه ألمانيا لإسرائيل من معونات مالية وعسكرية وما تعتزمه ألمانيا من الاعتراف بإسرائيل وإقامة علاقات دبلوماسية معها .
... وانبرى رؤساء الحكومات ينددون بألمانيا الغربية، ويقرؤون ما في ملفاتهم من بيانات عن المساعدات المالية والعسكرية التي قدمتها ألمانيا لإسرائيل، وما تزال .
... وانتهى دور الاستعراض – استعراض الموقف – وجاء دور استعراض العضلات، وقالوا للدكتور نوفل، أمين الجامعة المساعد : اكتب لنا صيغة قرار مناسب ..
... قال : وماذا أكتب ؟
... قالوا : أكتب ما تراه مناسبا على ضوء مناقشاتنا .
... وكتب (المسكين) الدكتور نوفل قرارا فيه إنذار إلى ألمانيا الغربية بقطع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية، إذا اعترفت بإسرائيل .
... قالوا : نحن لم نتفق على هذا، إن قطع العلاقات مرحلة لم يأت وقتها بعد، يكفي الآن أن نقرر : ( تكليف الأمين العام بمراقبة تطورات الموقف بغية اتخاذ موقف عربي موحد) .(1/30)
... قلت : أرجو أن ألفت نظر الرؤساء بان هذا الموضوع قديم يرجع عهده إلى ما يزيد على عشرة أعوام، وقد اتخذ المجلس بشأنه قرارات متعددة، ولا يصح في عهد مؤتمرات القمة أن يعالج هذا الموضوع الخطير بمثل هذا القرار (الشفاف) .
... فقال : رئيس الجلسة :وما هي هذه القرارات السابقة، عسى ان نستأنس بها .
... قلت : إن ملف الموضوع هو أمامي، وقد رافقت الموضوع منذ أن كنت أمينا مساعدا للجامعة العربية ..وها أنا أضع أمامكم الوقائع كاملة .
... في 29/11/ 54 قرر مجلس الجامعة ( أن تبذل الحكومات العربية المساعي اللازمة لإحباط سعي إسرائيل لقعد قرض بمائة مليون دولار من الحكومة الألمانية، وخمسة وثلاثين مليون دولار من البيوتات المالية ) .
... وفي 1/ 12/ 1954 قرر المجلس ( ان تبذل الحكومات العربية المساعي لدى حكومة ألمانيا الاتحادية للحيلولة دون حصول إسرائيل على القرض، وأن تنبه البنوك التي يمكن أن تلجأ إليها إسرائيل إلى أن الحكومات العربية لن تسمح لها بممارسة أعمالها في بلادها إذا منحت قرضا لإسرائيل .
... وفي 14/ 10/1955 قرر مجلس الجامعة (مواصلة السعي الدبلوماسي لدى ألمانيا الاتحادية لإحباط محاولة إسرائيل الحصول على قرض منها، وكذلك تبصير الرأي العام بالاتجاهات الخطرة في سير تطبيق اتفاقية التعويضات الألمانية لإسرائيل ) .
... وفي 17/11/ 1957 قرر مجلس الجامعة بأن (يتابع ممثلو الدول العربية في بون عن كثب مسألة اعتزام ألمانيا الغربية تبادل التمثيل الدبلوماسي مع(1/31)
إسرائيل، وأن يستمروا بالاتصال بحكوماتهم وبالجامعة العربية لاتخاذ التدابير اللازمة في هذا الشأن) .
... وفي 7/9/1960 قرر المجلس إعادة ( بذل المساعي الحثيثة اللازمة لدى الحكومة والبنوك والشركات الألمانية للحيلولة دون إعطاء إسرائيل القروض المطلوبة مع تبيان العواقب الخطيرة التي تترتب على متابعة الحكومة والمؤسسات الألمانية تقديم المساعدات لإسرائيل، وما تنطوي عليه هذه السياسة من تهديد للمصالح العربية، وتصميم الدول العربية على مقاومتها بشتى الوسائل ) . .
... وفي 2/ 4/ 1963 قرر مجلس الجامعة (توجيه نظر حكومة ألمانيا الاتحادية إلى ما يترتب على تقديم المساعدات المالية والعسكرية لإسرائيل من أضرار جسيمة بالعلاقات العربية الألمانية، وأنه في حالة حدوث تطورات جديدة في علاقات ألمانيا الغربية بإسرائيل أو عدم الاستجابة للمساعي العربية ستضطر الدول العربية إلى إعادة النظر في العلاقات العربية الألمانية) .
... وبعد تلاوة هذه القرارات الستة التي أصدرها مجلس الجامعة على مدى عشر سنوات، ناشدت المجلس أن يقدم للامة العربية قرارا عمليا جديدا، وخاصة أن هذا هو أول اجتماع توضع فيه قرارات مؤتمر القمة موضع الاختبار ... وختمت مناشدتي قائلا : إنني أريد ان أسألكم لا كرئيس منظمة التحرير الفلسطينية فحسب، ولكن كمواطن عربي : ما معنى عبارة (اتخاذ موقف عربي موحد) التي تقترحونها في قراراكم الحالي .. ما هو هذا الموقف الموحد .. أخشى أن لا يكون هناك موقف .. أي موقف .. لا موحد ولا مبدد .. فأجابني رؤساء وفود المغرب وتونس وليبيا : لماذا نستبق الحوادث، لكل حادث حديث ... إذا اعترفت ألمانيا بإسرائيل فبإمكاننا ان(1/32)
نتخذ موقفا عربيا موحدا ..ومن الممكن ان نفوض الأمين العام، من الآن بان يدعو وزراء الخارجية إلى اجتماع عاجل .
قلت : لقد أعلن الملوك والرؤساء مبدأ هاما وخطيراً : (ان نحدد علاقتنا بالدول الأجنبية على ضوء موقفها من قضية فلسطين) وإذا كان رؤساء الحكومات العربية يعقدون اجتماعهم الأول بعد القمة ولا يطبقون هذا المبدأ، فمن الذي يطبقه، ومتى يحين الوقت لتطبيقه ولكن تساؤلاتي وابتهالاتي لم تجد جوابا، وانتهى مجلس رؤساء الحكومات العربية بإصدار القرارات التقليدية في إطار الأكليشيهات المعروفة : (توكيد التضامن العربي) ولم يكن هناك تضامن عربي، و(مساندة منظمة التحرير) ، وكانت المنظمة أسيرة الحكومات العربية، وصريعة الخلافات العربية.
... وصدر البيان الختامي الذي قرأه الدكتور نوفل في مؤتمر صحفي، ليعلن أن : (رؤساء الحكومات العربية تدارسوا ما تم اتخاذه من إجراءات تنفيذية تفصح عن روح التعاون والعزم الصادق على تحقيق الأهداف القومية العادلة، وبناء القوة والعزة العربية، واتفقوا على وسائل التنفيذ التام الناجز للخطط العربية، السياسية والعسكرية والفنية، والاقتصادية والعلمية وغيرها، وعقدوا العزم على أن يتبعوا خطة موحدة في مجابهة أية دولة أجنبية تسعى لإقامة علاقات جديدة مع إسرائيل ودعم مجهودها العدواني الحربي) .
... ... وقهقه القدر لهذا البيان (البليغ) الذي جاء مسبوكا محبوكا للتستر على الموقف العربي المتخاذل، في أخطر موضوعين : دخول القوات العراقية والسعودية إلى الأردن، وعلاقات ألمانيا بإسرائيل .. فلا القوات العراقية والسعودية تمركزت داخل الأراضي الأردنية كما طلبت القيادة العربية الموحدة، ولا الدول العربية حددت علاقاتها مع الدول الأجنبية(1/33)
(على ضوء موقفها من قضية فلسطين)، كما أعلن الملوك والرؤساء من مآذن القاهرة ومن منارات الإسكندرية .
... وهكذا سقط الملوك والرؤساء في الفصل الدراسي الأول من عام 1965 ، وعاد رؤساء الحكومات إلى عواصمهم ليعلنوا على شعوبهم، من الإذاعات التي يسيطرون عليها، والصحف التي يملكون زمام أمرها، انهم اصدروا القرارات السرية الخطيرة، وأن المشروع العربي لتحويل نهر الأردن يسير وفق الخطط المرسومة، وأن القيادة العربية الموحدة ماضية في تطبيق خططها العسكرية، وأن الجيوش العربية على أهبة الاستعداد، والويل لإسرائيل إن تحركت، فسننقض عليها قبل ان يرتد إليها طرفها .
... كنت أسمع هذا الضجيج الهادر من الإذاعات العربية، وكنت اقرأ هذا الكلام الثائر في الصحف العربية، في حملة كبرى لخداع الأمة العربية .. لخداع الجماهير ..ولكن الإذاعات نفسها كانت تردد صوت (المقرئ) بما هو أبلغ واصدق، وهو يتلو قوله تعالى (وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ) .
صدق الله العظيم .(1/34)
مسكينة أنت يا فلسطين
...
... منذ عرفت القاهرة عبر أربعين عاما، قبل هجرتي إليها وبعدها .. لم أجد فيها شتاء عاصفا غاضبا، ثائرا هادرا، كالذي شهدته في عام 1964 .
... ... ولست أتحلم القاهرة، فقد حباها الله سماء صافية، وشمسا ساطعة، وإزهار شذية عطرة، وجعل شتاءها ربيعا رائعا، حل قبل أوانه وتجلى في غير زمانه .
... وإنما أعني الجو السياسي لا الطبيعية، فقد تفجرت في مطلع هذا العام أزمة العلاقات العربية الألمانية وأنطلت من عقالها حتى بلغت ذروتها، وأصبحت القاهرة مسرحا لأحداث خطيرة مثيرة، ومنبرا داويا يرسل جلجلاته وصيحاته إلى دنيا العرب حينا، والى سائر أرجاء العالم أحيانا أخرى ...
... والذين عاشوا تلك الحقبة العصبية بعقولهم وأرواحهم، وأنا واحد منهم، لا يزالون يستشعرون وهج تلك الأيام الساخنة، وأنوفهم مزكومة بغبار معاركها .. حتى الآن ..
... والواقع أن العلاقات العربية الألمانية، ومنذ أوائل الخمسينات يوم عقدت اتفاقية التعويضات الألمانية الإسرائيلية، كانت أشبه ببركان عجوز (يتنفس) زماناً، ثم يأخذ في الرقاد .. ولكنه في شتاء هذا العام (1965) انفجر عن آخره وقذف ما في جوفه من حمم، وما في أحشائه من لهب ..(1/35)
... ذلك أن ألمانيا الغربية لم تكتف بتقديم التعويضات السخية كفارة عن مظالم العهد النازي التي وقعت على اليهود في الحرب العالمية الثانية، وبلغت ملايين الملايين من الدولارات وأنقذت الاقتصاد الإسرائيلي من الانهيار على مدى عشر سنوات عجاف، فقد كشفت بل فضحت الاتفاقات السرية التي عقدت بين بون وتل أبيب أن ألمانيا قد تعهدت بأن تقدم لإسرائيل مقادير ضخمة من مختلف أنواع الأسلحة مجانا ... هكذا هبة عسكرية وبلا ثمن !!
... وكذلك، فقد فضحت وكالات الأنباء أن مفاوضات تجري في الخفاء، في إطار الدبلوماسية الهادئة، حسب التعبير الأمريكي الشائع، الإقامة علاقات سياسية بين ألمانيا الغربية وإسرائيل، وان قادة إسرائيل يتمهلون في الأمر، ريثما يستطيعون تهدئة الرأي العام الإسرائيلي، ويرضونه شيئا فشيئا، حتى يعفو عن ألمانيا، وهي راكعة على كرسي الاعتراف، وعلى مذبح الاستغفار !!
... واهتاج الرأي العام العربي في غضبة عارمة، وانبرى الرئيس عبد الناصر يندد بألمانيا الغربية والولايات المتحدة والمعسكر الغربي في مجموعه، فقام بجولة واسعة في أقاليم مصر، يخاطب الجماهير ويشحن عواطفهم بعباراته الراعدة، ونكاته اللاذعة، وجمال عبد الناصر يتمتع بقدرة خارقة في إثارة الشعب وحشده وتعبئته، وغمز الملوك والرؤساء وهم في قصورهم يستمعون .
... وطفحت الصحف العربية بأنباء الأزمة، وتهيأ المسرح العربي لاجتماعات قمة صغيرة بين الملوك والرؤساء، ففي خلال شهر واحد، من منتصف شباط (فبراير) إلى منتصف آذار (مارس) توافد على القاهرة الملك(1/36)
حسين، والرئيس أبو رقيبة، والملك الحسن الثاني، وكان طبيعا أن أكون في موكب هذه اللقاءات من المطار إلى قصر القبة، إلى الجامعة العربية، إلى أسوان إلى الأزهر الشريف .. أعدو وألهث من لقاء إلى لقاء، فان الأزمة تتصل بقضية فلسطين في الصميم ..
... وكان الملك حسين أول الوافدين على القاهرة ..جاء يعرض وساطته بين ألمانيا الغربية والجمهورية العربية المتحدة، وكأنما الأزمة مع القاهرة وحدها ولا تتصل بالأمة العربة بأسرها.
... وحضرت جانبا من المباحثات بين الرئيس عبد الناصر والملك حسين .. وفي حديث مزيج من الجد والدعابة، التفت إلى الملك حسين و.. قلت : يا
(سيدنا) إنك لا تصلح وسيطا في هذه الأزمة .. أنت طرف رئيسي فيها .. إن الأردن شعبا ووطنا هو الهدف الرئيسي في صفقة الأسلحة الألمانية التي تقدم لإسرائيل، إن مصر تعرف كيف تدافع عن نفسها .. ولكن ما ذا يصنع الأردن وكيف ؟؟
... وقاطعني الرئيس عبد الناصر، قبل أن يتطور الحوار ..
قال : والله يا أخ أحمد، نحن مش عايزين نعمل مشاكل .. إذ كان جلالة الملك حسين يستطيع أن يقنع ألمانيا الغربية بالعدول عن تزويد إسرائيل بالسلاح وإقامة علاقات دبلوماسية معها، فنحن موافقون، وتكون الأزمة قد انتهت، نتصافى مع ألمانيا الغربية، ويكون الملك حسين قد أدى خدمة كبيرة .
قلت : الموضوع ليس قاصرا على ألمانيا الغربية ... إن الولايات المتحدة هي التي تحرض ألمانيا الغربية على هذه الصفقة، فلا فائدة من إضاعة الوقت في الوساطة ..ويجب اتخاذ موقف عربي واحد .. فلا يصح(1/37)
أن يكون العرب منقسمين : أحدهم وسيط، والثاني خصم، والثالث متفرج، والرابع يندفع لألمانيا الغربية مستغلا الأزمة لاقتناص معونات مالية !!
... وأنهى الرئيس عبد الناصر الحوار ..
وقال : على كل حال .. لا مانع من أن نجرب .. على بركة الله، يا جلالة الملك، نحن موافقون على الوساطة ..ربنا يوفق .
وقال الملك حسين : وكأنما يتأهب للتزحلق على الجليد : وأنا أتعهد من جانبي أن أساند القاهرة في موقفها إلى أبعد حد .. إذا فشلت الوساطة ..
... وتركنا للزمن وحده أن يقرر ما إذا كان الملك حسين سيفي بعهده، أو يكون أول الناكثين..
... وبعد الملك حسين، انفتحت أبواب القاهرة على مصاريعها إلى (المجاهد الأكبر) الرئيس بورقيبة في زيارة استغرقت سبعة أيام بلياليها (15/ 3/ 1965) طرب خلالها الرئيس التونسي لهتافات الجماهير في الساحات والميادين، وقد امتلأت جدرانها بصوره المجسمة، تلثمها شمس القاهرة، فتزيدها بهاء على بهاء، وسناء على سناء !!
... ولست أنسى يوم وقف الرئيس بو رقيبة على المنصة الرئيسية في جامعة القاهرة يلبس (روب) الدكتوراه الفخرية ووشاحها الأخضر، وهو يعلن أمام ذلك الحشد الكبير تأييده لموقف الرئيس عبد الناصر من الأزمة الألمانية وأن (المعركة في تونس والجمهورية العربية المتحدة هي معركة واحدة) (1)
__________
(1) تعرض المؤلف للرئيس بو رقيبة في كبه (الثلاثة) انظر : أربعون عاما في الحياة العربية والدولية – حوار وأسرار مع الملوك والرؤساء – من القمة إلى الهزيمة مع الملوك والرؤساء .(1/38)
... ولا أنسى كذلك تلك الاستقبالات العارمة في أسوان حين أطل الرئيس بو رقيبة على الجماهير المهللة المكبرة، وهو يعلن إليها والى الأمة العربية من ورائها في المشرق والمغرب تأييده لموقف القاهرة .. وما تزال أحجار الغرانيت بآذانها المرهفة في السد العالي شاهدة على ذلك . . .
... وبعد الرئيس بورقيبة استقبلت القاهرة الحسن الثاني، (12/ 2/ 1965)، وبدا الأزهر الشريف في أزهر أيامه حين وقف الملك المغربي والرئيس عبد الناصر يؤديان صلاة الجمعة، والخطيب يسرد الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في الحض على التضامن والتعاون لإعلاء كلمة العرب والمسلمين .. وتنتهي الصلاة، ونخرج من المسجد، والحسن الثاني يوجه إلى الحديث باللهجة المغربية قائلا : - ( يا سي احمد .. والله لا سبيل إلى رفعة الإسلام إلا باتباع أوامره واجتناب نواهيه))..
... وقلت ( إن أول هذه الأوامر الاتحاد، وأول هذه النواهي الفرقة ) .
... وقال الرئيس عبد الناصر : ان جلالة الملك ساع لتوطيد الاتحاد ونبذ الفرقة .
... وفي تلك الأيام الجياشة الحافلة، شهدت مدينة المنصورة الحشر الأكبر والحشد الأروع، من جماهير مصر، كما لم تشهد مثله إلا يوم انكسر الإفرنج في هذه المدينة التاريخية قبل سبعة قرون في حملة لويس التاسع .. وأمام ذلك البحر البشري الزاخر الهادر، وقف الحسن الثاني والرئيس عبد الناصر يعلنان على الأمة العربية التضامن الوثيق في مواجهة الأزمة الألمانية، بما تهدد من أخطار على المصير العربي وأمنه وسلامته ... وقد انفجرت الجماهير بالهتاف العاصف حين أعلن الرئيس عبد الناصر بعد أن سمع ما سمع من الحسن الثاني، أن ( وزراء خارجية الدول العربية(1/39)
سيجتمعون غدا في مقر الجامعة العربية ليتخذوا موقفا عربيا موحدا ... ولقد جاءت الآن ساعة امتحان الإرادة العربية الجماعية ) .
... وفي المأدبة التكريمية الكبرى التي أقيمت للحسن الثاني، والحديث يدور من غير تكلف حول الموضوع إياه، العلاقات الألمانية العربية، التفت العاهل المغربي وقال للرئيس عبد الناصر بلهجة حادة قاطعة :
... ... - نحن لن نترك القاهرة وحدها، هذه معركتنا جميعا ..ولقد تلقيت دعوة لزيادة ألمانيا الغربية، وقد تحدد موعدها، ولكنني قررت إلغاء هذه الزيارة تضامنا مع الجمهورية العربية المتحدة، ومع سيادتكم بالذات .. فشكره الرئيس عبد الناصر على هذا الموقف النبيل .. وثنيت على الشكر باسم الشعب الفلسطيني .. وما دريت أن حديث العاهل المغربي سيكون واحدا من الأطباق التي مضغناها وبلعناها وهضمناها، وانتهت لذتها بانتهاء الطعام . .
... وانتهت زيارة الحسن الثاني، وخرجت إلى المطار، لأقوم برياضتي المعتادة، في وداع الملوك والرؤساء ؛ وكان سلام وكان عناق، وأطلقت المدفعية إحدى وعشرين طلقة تحية للعاهل المغربي ..وكأنما كانت تتساءل المدفعية : هل ستكون خطب الملوك والرؤساء مثل هذه الطلقات من غير ذخيرة حية .. دويا وكفى .. ودخانا وانتهى ..
... وسألني الرئيس عبد الناصر، ونحن في أرض المطار ..
... - إيه رأيك في لقاء المنصورة ..
... قلت : ما أعظم الشعب ..
... قال : يعني الملوك والرؤساء مش نافعين .
قلت : سيادتك، قلتها ..(1/40)
... قال : لو كان الأمر بيد شعوبنا لاستطعنا أن نحل كل مشاكلنا .. ولكن حاتعملوا إيه غدا في اجتماع وزراء الخارجية ؟؟
... قلت :كما ذكرت سيادتكم .. سندخل الامتحان ..
... قال :إن شاء الله تنجحوا في الامتحان .
... وانصرف الرئيس عبد الناصر وخلفه الوزراء والسفراء، كل إلى طريقه، وانصرفت إلى مكتبي لأعد أوراقي وملفاتي إلى اليوم الموعود .
... وكان السيد عبد الخالق حسونة الأمين العام للجامعة قد وجهه دعوة عاجلة لاجتماع عاجل، وتوافد وزراء الخارجية العرب، وقد نفروا خفافا ثقالا من عواصمهم، والتصريحات النارية تفور من أشداقهم وتسيل من أوداجهم .. وامتدت الاجتماعات يومين كاملين (14-15 آذار) وكانت أفئدة الأمة العربية مثل أسماعها مشدودة إلى القاهرة، تنتظر من وزراء الخارجية العرب إجراء رادعا، يرد إلينا كرامتنا بعد أن ثلمتها تهديداتنا الفارغة عشرين عاما طوالا، وخاصة مع ألمانيا الغربية .
... وفي الجلسة الأولى تقدمت باسم المنظمة باقتراحات محددة : (1) قطع العلاقات الدبلوماسية (2) مقاطعة ألمانيا اقتصاديا وثقافيا (3) الاعتراف بألمانيا الشرقية ..
... وشرعت أسرد المبررات التي تدعو اتخاذ قرارات حازمة في هذا الموضوع، وذكرت بالأرقام والوقائع المقادير الضخمة من الأسلحة الثقيلة التي قدمتها ألمانيا الغربية لإسرائيل لتضرب بها المدن والقرى العربية، وأن هذا العمل من جانب ألمانيا هو عمل عدواني صريح، لا يصح أن يقابل من الحكومات العربية بقرارات إنشائية، وأن هذه الاقتراحات التي قدمتها هي ما تطلبه الأمة العربية جمعاء ..(1/41)
... ثم تناولت من بين أوراقي قصاصة من صحيفة ألمانية أعلن فيها مستشار ألمانيا ايرهارد، قبل خمسة أيام من اجتماع وزراء الخارجية (9-3-1965)، أنه ( لن يركع أمام تهديدات العرب) وأن المصلحة القومية تفرض اتخاذ موقف عربي حازم، ولو في العمر مرة .. كالحج في العمر مرة، من استطاع إليه سبيلا .
... ودارت مناقشات قصيرة بين الوزراء اشترك فيها محمود رياض (القاهرة) عبد العزيز بوتفليقة (الجزائر) فيليب تقلا (لبنان) إبراهيم ماخوس (سوريا) عمرالسقاف (السعودية) ناجي طالب (العراق) محمد أحمد محجوب (السودان) الدكتور حازم نسيبة (الأردن) ولم يشترك في الكلام وزراء تونس والمغرب وليبيا .. ووضح من الأحاديث أن الاقتراح الوحيد الذي يمكن أن يكون محل اتفاق هو : سحب جميع السفراء العرب من بون ؛ أما الاقتراحان الآخران فلم يمسهما أحد !!
... ونظر الوزراء في وجوه زملائهم : المنجي سليم (تونس) أحمد بن هيمة (المغرب) حسين مازق (ليبيا) ليستدرجوهم إلى موقف يحددونه، وعلى الأقل إلى كلمة يقولونها .. وليسعف النطق إن لم تسعف الحال !!
... وتحدث المنجي سليم، وهو ينظر إلى زميله المغربي والليبي، توكيداً لهما بأنه يتكلم بلسانهما ..
... وقال : الأخ الشقيري يفاجئنا دائما باقتراحاته ويضعنا أمام الأمر الواقع.. إلى متى نظل نتكلم بالعاطفة .. يجب أن ندرس الأمور دراسة علمية .. قبل أن نقدم على اتخاذ أية إجراءات ..
قلت : ليس في الأمر مفاجأة .. إن الرئيس بو رقيبة والملك الحسن الثاني كانا قد اجتمعا مع الرئيس عبد الناصر في القاهرة قبل شهر واحد وقد(1/42)
تداولوا في الأمر، وأعلنا مساندتهما للقاهرة ..وهذه تصريحاتهما بين أوراقي.. ثم إني لست أنكر على الأخ المنجي سليم ان الموضوع عاطفي وأنا أرجو أن يكون الآخر معي في الجانب العاطفي، ان مئات الدبابات والمصفحات والطائرات تقدمها المانيا الغربية إلى إسرائيل مجانا .. أليس ينبغي لهذا الموضوع ان يحرك عواطفنا .. ألم تتحرك عواطفكم يوم كانت القوات الفرنسية تقصف القرى والمدن التونسية بالطائرات والمدافع ... ثم إنني لا أفاجئكم ولا أضعكم أمام الأمر الواقع .. هذا موضوع قديم يزيد عمره على عشر سنوات ..وإن الأمة العربية كلها تتحدث الآن عن الموضوع خارج هذه القاعة .. وعلى سبيل المثال فان مجلس الأمة الكويتي قد طالب الحكومة بأن تقطع علاقاتها السياسية والاقتصادية مع المانيا، وهذا البرلمان اللبناني قد طالب عدد كبير من أعضائه بمقاطعة المانيا اقتصاديا وسياسيا .. وهذا وهذا . .
... فقال : نحن لا زلنا نتكلم في العموميات، يجب أن نرتقي إلى مستوى الأمم المتحدة ونتكلم بالتحديد .
... قلت : سأكلمك بالتحديد، كما تريد، وأخذت أقرأ من أوراقي الأرقام والوقائع .
... أولا : بلغ إجمالي التعويضات الألمانية لإسرائيل مبلغ واحد واربعين مليار مارك ..
... ثانيا : قامت ألمانيا بمسعى كبير في ربط إسرائيل بالسوق الأوروبية المشتركة، وصرح المستشار الألماني ايرهارد بأنه قام بجهد كبير في سبيل ذلك لدعم الاقتصاد الإسرائيلي وخفض العجز في ميزانها التجاري، باعتبار ( أن إسرائيل دعامة اوروبية في المنطقة) .(1/43)
... ثالثا : دفعت ألمانيا لإسرائيل مبالغ مالية لدعم صناعتها العسكرية، وعقدت معها صفقات كبيرة لشراء الرشاش الإسرائيلي (اوزي ) الذي يحمل على مقبضة النسر الألماني، هذا بالإضافة إلى ذخائر الأسلحة الصغيرة، والمدافع الصغيرة، والبنادق اليدوية، والملابس العسكرية لأفراد الجيش الألماني .
... رابعا : تقوم ألمانيا بتدريب العسكريين الإسرائيليين في وندسبرج على الأسلحة الأمريكية ؛ والعسكريون الإسرائيليون يلبسون الملابس العسكرية الألمانية .
... خامسا : عقدت ألمانيا مع إسرائيل اتفاقية عسكرية (اديناور – بن غورون) استلمت إسرائيل بموجبها أسلحة مختلفة بقيمة ثلاثمائة مليون مارك.. وتشمل هذه أسلحة الطائرات والدبابات، والسفن الحربية، والمدافع، وأجهزة اللاسلكي، والذخائر .
... سادسا : قدمت المؤسسات العلمية الألمانية مجموعة من العلماء الألمان إلى إسرائيل، ليعملوا في ميدان الأبحاث الذرية والتكنولوجية ؛ وقدمت ألمانيا ستة عشر مليون مارك هبة لإسرائيل، لدعم هذه الأبحاث الخطيرة
الرهيبة .. على حين تقوم الحكومة الألمانية ببذل جهود كبيرة لسحب العلماء الألمان الذين يعملون في الجمهورية العربية المتحدة .
... سابعا : وأخيرا : تتخذ ألمانيا الإجراءات اللازمة للاعتراف بإسرائيل وإقامة علاقات دبلوماسية معها .
... ولم أكد أتم حديثي حتى قاطعني المنجي سليم، وكأنما ظفر بعنقي وقال :(1/44)
... - إذا كان الاعتراف بإسرائيل جريمة فلماذا لا نقاطع دول العالم أجمع.. لماذا لا نقاطع الولايات المتحدة التي فعلت لإسرائيل أكثر مما فعلت ألمانيا الغربية ..
... فقلت : إن الاعتراف بإسرائيل ليس هو السبب الوحيد، لقد ذكرته في آخر الأسباب . وأنا معك، فان الولايات المتحدة هي المسئولة الأولى عن قيام إسرائيل ..ويجدر بنا أن تعتبرها العدو الأول اللامة العربية، ويتعين علينا أن نقاطعها قبل جميع الدول .. وإذا كان الأخ المنجي سليم يقدم اقتراحا بمقاطعة أمريكا فإني أثني عليه ...
... قال : أنا إلا أدعو لهذا ولكني ذكرت أمريكا على سبيل المثال ..
... قلت : إذن هي كلمة حق أريد بها باطل ..
... قال : على كل حال إن تونس لا توافق على اقتراحات الشقيري، ونحن نقترح أن تبقى للحكومات العربية حرية الحركة . .
... وهنا اقترح السيد حسين مازق (ليبيا) تأليف لجنة فرعية لوضع صيغة مقبولة من الجميع على أساس ما قاله الوفد التونسي ..
... وأضاف أحمد بن هيمة (المغرب) أن هناك دولا كثيرة تمد إسرائيل بالمال والسلاح لم يتعرض لها أحد .
... وأعلن عمر السقاف (السعودية) أن بلاده تعارض في الاعتراف بألمانيا الشرقية، وأنه يكفي في هذه المرحلة قطع العلاقات الدبلوماسية مع ألمانيا الغربية .
... وتشعب الحديث، وحاول محمد أحمد محجوب (السودان) أن يرد المناقشة إلى الموضوع الأصلي، ببيت من الشعر، او بنادرة أدبية، ولكن(1/45)
دولة الشعر والأدب لم يكن لها مكان في ذلك الاجتماع، كما لم يكن لدولة السياسة !!
... ورست المباحثات على قرار ينص على ما يلي : -
... أولا : سحب جميع السفراء العرب من بون فورا .
... ثانيا : قطع علاقات الدول العربية الدبلوماسية مع المانيا الغربية في حالة قيامها بإنشاء علاقات دبلوماسية مع إسرائيل .
... ثالثا : إعلان التضامن مع الجمهورية العربية المتحدة في مواقفها من المانيا الغربية، ولجوء الدول العربية إلى قطع علاقاتها الاقتصادية مع المانيا الغربية في حالة إصرارها على اتخاذ موقف عدائي من أية دولة عربية .
... رابعا : يؤكد وزراء خارجية الدول العربية من جديد ما ورد في مقررات مؤتمري القمة العربيين من أن تنظيم علاقات الدول العربية بالدول الأجنبية سيتم على أساس مواقفها من قضية فلسطين ) .
... ورغما عن أن هذه القرارات، باستثناء ( قطع العلاقات الدبلوماسية ) هي عبارات إنشائية كانت تصاغ أمثالها على مدى ربع قرن من الزمان، فان تونس والمغرب وليبيا قد أعلنت تحفظها على القرارات كلها . .
... وفي محاولة أخيرة ناشدت هذه الوفود الثلاثة أن تسير مع الركب حفاظا على الإجماع العربي، وذكرتهم أن سفراءهم في بون قد تضامنوا مع زملائهم العرب الآخرين، فأوصوا جميعا ( بضرورة قيام الدول العربية باتخاذ موقف عربي موحد متضامن بشكل كامل يضع سياسة عربية واضحة تجاه ألمانيا وموقفها من إسرائيل، وضرورة القيام برد فعل موحد قوي وحاسم على مسلك ألمانيا تجاه إسرائيل .. ) .(1/46)
... وقال المنجي سليم : وأين هذه التوصية ؟ فدفعت إليه تقرير السفراء العرب في بون، ورجوته ان يقرأها بصوت عال ... وقال بعد أن فرغ من قراءته : إن سياسة تونس تقررها الحكومة في تونس، ولا يقررها سفيرها في بون !!
... قلت : والحكومة التونسية قررت سياستها في هذا الموضوع ..
... قال : الحكومة التونسية لم تقرر شيئا ..
... قلت : لقد عقد الرئيس بو رقيبة مؤتمرا صحفيا في القاهرة في 21 –2 1965 أعلنه فيه – وأخذت اقرأ من أوراقي التي في ملفاتي – ( إننا كلنا موقفنا من ألمانيا الغربية هو موقف التضامن مع عبد الناصر وحكومته وشعبه، وقد بلغني خبر هذه الأزمة قبل سفرنا من تونس، وقد بهت وأصابتني الدهشة مما حدث في ألمانيا الغربية، وعقدنا اجتماع اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي الدستوري، وقررنا أن نقف موقف التضامن مع الرئيس عبد الناصر ؛ ولكن لا أدري كيف تأخر وصول قرارنا إلى
القاهرة .. ) وتابعت كلامي قائلا : إن هذا ما أعلنه الرئيس بورقيبة في حينه، وأيده في ذلك الملك الحسن الثاني عندما زارا القاهرة أخيرا وإني أطالب اليوم الوفاء بالوعد ؛ وأناشد الاخوة وزراء تونس وليبيا والمغرب ان لا يخرجوا على الإجماع العربي .
... وحاول محمد أحمد محجوب (السودان) تأييد اقتراحي، ولكن المنجي سليم وزميله الليبي والمغربي ظلوا مصرين على موقف التحفظ ..
... وانتهت الجلسات، وأعلن السيد عبد الخالق حسونة القرارات الأربعة التي ذكرتها على الصحافة ؛ وندم الصحفيون الأجانب قبل العرب، أنهم جاؤوا من بلادهم، وأنفقوا من الجهد والعناء، ليبرقوا بأخبار خطيرة وجدية،(1/47)
فوجدوا أنفسهم أمام انقسام في الجبهة العربية، وأمام قرار الأكثرية، وهو لا يعدو أن يكون من مخلفات العهود العربية، وأمام قرار الأكثرية، وهو لا يعدو أن يكون من مخلفات العهود العربية البائدة، التي ثارت عليها الثورات وتقلبت عليها الانقلابات !!
... وافرنقع وزراء الخارجية العرب إلى عواصمهم، ليقدموا تقريرا إلى حكوماتهم ولينشروا كلاما على شعوبهم ..ووجد وزراء المغرب وتونس وليبيا ( الشجاعة ) الكاملة في أن يقولوا للامة العربية، (إنهم متضامنون مع باقي الدول العربية، وإنهم يفتدون عروبة فلسطين بالنفس والنفيس ) .. وما أتعس هذه الموقف التعيس .
... ولكن المضحك المبكي أن الملوك والرؤساء إياهم لم يجدوا حرجا أن يصدروا تصريحات تناقض مواقفهم التي أعلنوها قبل شهر واحد .
... فهذا الرئيس بورقيبة أعلن في مؤتمر صحفي (11-3-1965) أن مشكلة العلاقات الألمانية قد وقعت دون أن يستشيرنا أحد (!!) وأن قطع العلاقات مع ألمانيا لن يؤدي إلى موتها ) .. على حين أنه لم يجف توقيعه على البلاغ المشترك مع الجمهورية العربية المتحدة الذي جاء فيه ( ويعلن الرئيسان أن تزويد السلطات الإسرائيلية بالأسلحة هو تشجيع يستدعي متابعة تطوراته باهتمام شديد حماية لسلامة الدول العربية وصيانة لأمنها ) (22-2-1965).
... وهذا الملك الحسن الثاني، راح يعلن أن زيارته لألمانيا قد تأجلت وما ألغيت، وهو الذي قال للرئيس عبد الناصر في اليوم الأول لوصوله إلى القاهرة (11-3-1965) إنه قرر إلغاء زيارته لبون (قياما بواجب التضامن العربي ومساندة الجمهورية العربية المتحدة ) .(1/48)
... وهذا الملك فيصل، أكد في مؤتمر صحفي (8-4-1965) ( أن أحداً لا يستطيع أن يجرينا للاعتراف بألمانيا الشرقية .. ونحن وكل ما نملك من اجل القضية الفلسطينية) كأنما الاعتراف بألمانيا الشرقية هو أغلى وأعلى (مما نملك .. من أجل القضية الفلسطينية) .
... وهذا الملك حسين، كان أو الناكثين :كما كنت أخشى، فقد بتبادل الاعتراف الدبلوماسي مع ألمانيا الغربية، مما حمل مجلس الجامعة العربية في جلسته المؤرخة 18-3-1967، أن يصدر قرارا يعلن فيه ( استنكاره لقرار الحكومة الأردنية بإعادة العلاقات الدبلوماسية مع جمهورية ألمانيا الاتحادية لما في ذلك من خروج على مقررات الجامعة العربية ) .
... ولم يكتف الملك حسين بهذا الموقف ( الشجاع ) ولكنه بقي مصرا عليه، إلى ان وقعت حرب حزيران، فكان أول عمل مجيد قام به هو تبادل البرقيات الودية مع مستشار ألمانيا الغربية ... وتناسى أن القدس الشهيدة قد سقطت بين فكي كماشة من الدبابات التي قدمتها ألمانيا للجيش الإسرائيلي .
... ومع ذلك كله، بل ورغما عن ذلك كله، استمرت الإذاعات العربية الرسمية تندد بألمانيا الغربية وتنذرها بالعواقب الوخيمة، وتذيع التصريحات النارية .. من ذلك أن راديو الكويت أذاع تصريحا للشيخ صباح الاحمد وزير الخارجية الكويتية أكد فيه أن الكويت (مستعدة للتضحية بجميع ثرواتها البترولية من أجل القضية الفلسطينية) . وما أغلى البترول، وما أرخص فلسطين .
... ومن ذلك ما أعلنه الملك فيصل في مؤتمر صحفي عقده في جدة من أن
(المملكة العربية السعودية ترفض رفضا باتا الصلح والمفاوضات مع إسرائيل طال الزمن أو قصر .. ولو أجمع العرب جميعا على أن يتفاوضوا أو(1/49)
يتصالحوا مع إسرائيل لخرجنا على الإجماع ) وكم وكم خرجت المملكة العربية السعودية على الإجماع !!.
... ولكن ألمانيا الغربية، ومعها دوائر الاستعمار الغربي كانت تعرف حقائق الموقف العربي، في بلاغته وتفاهته .. فقد علقت عليه صحيفة الجارديان البريطانية قبل يومين من صدور قرار وزراء خارجية الدول العربية في قولها ( إنه من السهل أن يحصل الرئيس عبد الناصر على إجماع العرب بالأقوال لا بالأعمال .. ) .
... ولقد صحت هذه النبؤءة، ولكن بأكثر مما تنبأت الصحيفة البريطانية .. ولم تبال المانيا الغربية بقرار وزراء الخارجية العرب، ومضت في سياستها العدائية نحو الأمة العربية، وواصلت معاونتها العسكرية الضخمة، والمالية الوفيرة، لإسرائيل، وتوجت ذلك كله بالاعتراف بإسرائيل وإقامة علاقات دبلوماسية معها، على حين كانت الجماهير الإسرائيلية تتظاهر في تل أبيب تحتج على إسرائيل لأنها تعتزم أن تعترف بألمانيا الغربية، ( خليفة النازية التي قتلت، وذبحت ) .. ويضحك القول المأثور : يرضى القتيل وليس يرضى القاتل!!
... ... وقطعت الدول العربية العشر علاقاتها الدبلوماسية بألمانيا الغربية، والتزمت ليبيا وتونس والمغرب بتحفظها المعروف .. ولكن بقية القرار
( قطع العلاقات الاقتصادية، بقي حبرا على ورق .. ) أو على الأصح لا حبرا ولا ورقا ...
... وهاجت الأمة العربية بالغضب والاستنكار، وأخذ الرأي العام العربي يتساءل : وأين مؤتمرات القمة وقراراتها .. أين التضامن العربي .. أين(1/50)
القرار الشهير الذي يدعو الدول العربية إلى ( تحديد علاقاتها بالدول الأجنبية على ضوء موقفها من قضية فلسطين ..) ؟
... مسكينة أنت يا فلسطين كم خاض فيك الملوك والرؤساء، وكم لعبوا بمصيرك ومصير الأمة العربية، وكأنما أشار إليهم بالذات قوله تعالى ..
(فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون)
صدق الله العظيم(1/51)
تمخض الرؤساء..
فولدوا قرارا ...
... جاء اليوم الذي كنت أخشاه، وكنت أخشاه منذ زمان .. وكان هذا اليوم على التحديد هو السابع عشر من شهر آذار (مارس) من عام 1965.
... ... ففي صبيحة هذا اليوم كنت في مكتبي في منظمة التحرير الفلسطينية في القاهرة، وإذا بقسم الاستماع في إذاعة المنظمة يرسل إلي قصاصة تقول :
(أعلن ناطق عسكري سوري أن دورية إسرائيلية مصفحة قامت باجتياز خطوط الهدنة في المنطقة النخلية ودمرت جرارين ورافعتين تعملان في مشروع تحويل الروافد . والسائق استشهد، وجرح عاملان مدنيان ..رافق اجتياز الحدود حشود مفاجئة من دبابات العدو ومشاته في منطقة دان وتل القاضي .. سورية أعلمت القيادة العربية الموحدة وهيئة الرقابة الدولية بالاعتداء .. وهذا الحادث هو السابع خلال اثني عشر يوما) .
... قرأت هذه القصاصة الموجزة، فأدركت على الفور أن العدوان الإسرائيلي ليس (موجزا ) كما وصفه البلاغ السوري .. وأيقنت أن إسرائيل قد أخذت في تنفيذ تهديداتها المتلاحقة في تدمير المشروع العربي لتحويل روافد نهر الأردن في بدايته، قبل أن يصل إلى نهايته .(1/53)
... وبدأت الأنباء تتوالى من مكتب المنظمة في دمشق، ومن التقارير العسكرية التي ترد على القيادة العربية الموحدة، بأن الغارة الإسرائيلية استهدفت (مواقع) المشروع العربي، فدمرت المنشآت والمعدات، وقتلت وجرحت عددا من العمال، وأن العمل العربي قد توقف، إلى أن تتهيأ الحماية العسكرية اللازمة ...
... وابرق إلينا مكتب المنظمة في نيويورك يقول : ( إن رئيس الوفد الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة وجه رسالة إلى رئيس مجلس الأمن أعلن فيها أن المراكز السورية بالقرب من مستعمرة دان قصفت دورية إسرائيلية كانت تقوم بأعمالها العادية، وإن القوات الإسرائيلية ردت على النار بالمثل، وإن الدبابات الإسرائيلية في المنطقة خفت لنجدة الدورية ) وهكذا زينت إسرائيل للرأي العام الدولي حسب تقاليدها المعروفة، أن ضرب مواقع المشروع العربي وتدمير منشآته ومعداته كان نتيجة قصف متبادل بدأته القوات السورية، ولم يسع القوات الإسرائيلية إلا أن ترد على النار بالمثل، قياما بحق الدفاع عن النفس !!
... وفي مثل النار في الهشيم، انتشرت الأنباء في أرجاء الوطن العربي ان المشروع العربي لتحويل روافد الأردن الذي أقره الملوك والرؤساء في مؤتمر القمة قد ضربته إسرائيل على مشهد ومسمع من الملوك والرؤساء .. ومن أراد النزال فهذا هو الميدان ..
... كان ذلك أول تحد عسكري صارخ واجهته الدول العربية بعد مؤتمر القمة الأول في القاهرة، والثاني في الإسكندرية .(1/54)
... وفي الوقت نفسه، كان ذلك أول تحد فاصل واجهته القيادة العربية الموحدة التي ألقي على كاهلها (واجب ) الحماية العسكرية لتحويل الروافد .
... وقد اشرأبت الأعناق وتطلعت الأبصار إلى الملوك والرؤساء ، والى القيادة العربية الموحدة، قرابة يوم أو يومين، وهي تنتظر أن تبادر الجيوش العربية إلى الرد على إسرائيل .. بقصف المشروع الإسرائيلي لتحويل مجرى الأردن .. فقد كان المواطن العربي يريد شيئا واحدا ولا يريد سواه ... إسرائيل ضربت مشروعا، وها نحن ضربنا مشروعهم ...
... وكان المواطن العربي على حق في تمنياته .. وعلى حق في تساؤلاته .. على حق في تمنياته، لان الملوك والرؤساء قد أعلنوا أنهم وضعوا (الخطط السياسة والعسكرية والفنية والمالية لتنفيذ المشروع العربي وحمايته من أي عدوان إسرائيلي ) .
... وكذلك، كان المواطن العربي على حق في تساؤلاته .. أين مؤتمرات القمة وقراراتها، أين الاستعدادات العسكرية، أين القيادة العربية الموحدة ... أين أين ؟؟
... وإزاء هذه التمنيات والتساؤلات راحت الأجهزة العربية الرسمية، كعادتها، ترغي وتزيد، وترسل التصريحات جزافا، حتى من أولئك الذين قصفتهم إسرائيل ألف مرة ومرة ... وأعني، بلاد تردد ولا تحفظ المملكة الأردنية الهاشمية ..
... وأذكر أنني كنت أستمع إلى إذاعة عمان بعد العدوان الإسرائيلي بيومين (19-3-65) ، وإذا بالمذيع الأردني يصيح بأعلى صوته أن ( جلالة الملك المفدى يقف إلى جانب الشقيقة سورية، بالنسبة للاستفزازات(1/55)
والاعتداءات الإسرائيلية على طول الحدود، وأن الأردن يعتبر أي اعتداء على سورية هو اعتداء على الأراضي الأردنية ) .
... وانقضت أيام الانتظار، فلم تتحرك الجيوش العربية من نفسها، ولم تحركها القيادة العربية الموحدة، وظلت الطائرات العربية في مهابطها دون أن تصدر إليها الأوامر بالانطلاق نحو أهداف العدو ... ودخل في روع المواطن العربي أن إسرائيل قد ضربت ضربتها .. وان الدول العربية لم ترد على الصاع صاعين كما أعلنت .. بل بقيت راقدة على القش، كما يقول المثل العامي البليغ ..
... ومن المصادفات الحزينة أن مجلس الجامعة العربية كان مجتمعا في دورته العادية (آذار – مارس) ونظر في التقرير المقدم من الحكومة السورية بصدد العدوان الإسرائيلي، فأصدر قراراً تحملني تفاهته أن اقتبسه بنصه الكامل : - ( ناقش المجلس موضوع العدوان الإسرائيلي المتكرر على الحدود السورية، تنفيذا لخطة إسرائيلية مدبرة، يقصد منها خلق جو من عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، وتعطيل تنفيذ المشروع العربي لاستغلال مياه نهر الأردن العربية .. ) وبعد هذه الديباجة الخطيرة، يصدر توصيته الخطيرة ... : -
... (ويقرر المجلس التضامن مع الجمهورية العربية السورية في موقفها، واعتبار أي عدوان على الأرض السورية، أو أي ارض عربية أخرى عدوانا على الدول العربية كلها تتعاون جميعا في صده طبقا لمعاهدة الدفاع المشترك والالتزامات العربية المقررة .. ).(1/56)
... وصدر القرار بالإجماع مثل جميع القرارات الإنشائية البليغة التي تصدرها الجامعة في مثل هذه المناسبات ..ولم أدع الفرصة تفوت ..فقد أعلنت في ختام الاجتماع أن هذا القرار قد صدر عن الدكتور نوفل وحده، بصفته الأمين العام المساعد للجامعة العربية، وهو من صنعه وإنشائه، ولن تنفذه أي من الدول العربية !!
... وجاء هذا القرار على هذه الصيغة الهزيلة، ليزيد المواطن العربي غضبا على مؤتمرات القمة، وعلى الملوك والرؤساء، وعلى القيادة العربية الموحدة . وهنا جاءت الفرصة الذهبية لحزب البعث في دمشق ليلعن عن عدائه السرمدي للرئيس عبد الناصر . (1)
... وراحت الدوائر الرسمية في دمشق ومعها أجهزة الإعلام الإذاعية والصحفية تشن حملة كبرى، تلميحا وتصريحا، على الجمهورية العربية المتحدة، وتتهمها بالتقاعس عن نجدة سوريا، وتندد بالقيادة العربية الموحدة. وهنا جاءت الفرصة الذهبية لحزب البعث في دمشق ليعلن العدو
الإسرائيلي .. ) .
... وبدأت تصلني الصحف ونشرات الإذاعة السورية، وقد كدت أن أقع فريسة تلك العبارات الرنانة عن ( حرب التحرير الشعبية ) ، و( تلاحم القوى التقدمية)، و( تفجر الطاقات الثورية ) و( التضامن مع القوى العالمية المناهضة للإمبريالية ) .. و .. و.. أجل كدت أن اصبح أسيرا بين يدي هذه الكلمات المجلجلات الداويات ..ولكني تذكرت قول الرسول العظيم (أبعدكم عني منازل يوم القيامة المتشدقون المتفيهقون) .
__________
(1) * كتب هذا الفصل قبل تولى الفريق حافظ الأسد زمام القيادة ( الناشر).(1/57)
وبعيدا عن دمشق (الحديثة) ، فان دمشق القديمة العريقة لا تعرف المتشدقين والمتفيهقين ... أصبحت صحف بيروت منبرا عربيا للمناقشة والحوار، وكان الكاريكاتور أكثر تعبيرا وأشد إيلاما من المقال والعنوان ..
... فهذه صحيفة تهاجم الرئيس عبد الناصر لأنه لم يدفع بطائراته إلى تل أبيب انتقاما للغارة الإسرائيلية على المواقع السورية، وتلك صحيفة تندد بسياسة المزايدات التي يتبعها حزب البعث الحاكم في سوريا ... وصحيفة ثالثة تدعو العالم الإسلامي إلى الجهاد .. وصحيفة رابعة ... وأخرى خامسة، وكلها تعكس رأي القاهرة أو دمشق أو بغداد أو الكويت أو الرياض، أما عن اقتناع فكري، أو انتماء عقائدي، أو ارتباط مالي، والثالثة ثالثة الأثافي ) .
... ... وفي خضم هذه المعركة الكلامية التي نشبت بين العرب والعرب .. وجدت إسرائيل فرصتها السانحة لتضع العالم أمام الأمر الواقع، من غير مداراة ولا مبالاة ..وهي تعلم بتجاربها وممارستها أن الأمر الواقع قد يواجهه استنكار واشمئزاز .. في بدايته، ولكنه مقبولا في النهاية ...
... ومن هنا فقد شرع قادة إسرائيل على اختلاف ميولهم السياسية يكاشفون الرأي العام الإسرائيلي والدولي على السواء بالموقف الصارم الحازم : ( يجب اتخاذ إجراءات عسكرية لمنع الدول العربية من تنفيذ برامجها الخاصة بتحويل روافد نهر الأردن ) وهذا ما دعا إليه صراحة وعلانية الجنرال موشي ديان، ولم يكن يومئذ (26-3-65) إلا مواطنا إسرائيليا، ورئيس الأركان العامة للجيش الإسرائيلي السابق ..
... وصادف في تلك الفترة أن كان اشكول رئيس وزراء إسرائيل في زيارة لبريطانيا فأعلن في حديث نقلته الإذاعة البريطانية (29-3-1965) أنه ( إذا أقدم السوريون على تنفيذ مشاريعهم الحالية في تحويل المياه التي تصب في(1/58)
بحيرة طبريا فإننا سنعتبر ذلك بمثابة عدوان إقليمي، وسنرد بما هو مناسب، وستلجأ إسرائيل إلى جميع الإجراءات لتحول دون ذلك ) ...
وتجاوبت جولدا مائير مع هذا التهديد، فأعلنت أمام الكنيست أن الحكومة الإسرائيلية (مصممة على عدم السماح لعرقلة المشروع الإسرائيلي لتحويل مياه نهر الأردن ) .
... كانت هذه التهديدات الجادة تصدر عن الجانب الإسرائيلي، والامة العربية غارقة في الشجون حتى الذقون .. فقد أفلح الرئيس بورقيبة في إشغالها، في هذه الفترة بالتحديد، باقتراحاته الشهيرة بالصلح مع إسرائيل، ولم تجد المراجع العربية السياسية والعسكرية إلا أن تبحث لها عن ( فتوى تخرجها من أزمة نهر الأردن .. فكانت الفتوى أن تواصل سوريا أعمال التحويل، ولكن ( في مواقع بعيدة عن خطوط الهدنة الإسرائيلية ) !!
... ولكن هذه (الفتوى) قد سخر منها المواطن العادي، وهو على علم بان حوض نهر الأردن بكامله من منابعه إلى مصبه هو في متناول الطائرات الإسرائيلية، بل المدافع الإسرائيلية .. ولم تمض إلا أيام حتى صاح موشى ديان من تل أبيب بأن (على إسرائيل إفساد المشروعات العربية لتحويل روافد نهر الأردن وهي في مرحلتها الأولية . فان الوسائل السياسية غير مناسبة لحمل العرب على الإقلاع عن تحويله، ولذلك يجب إيقاف جرافاتهم عن العمل بطرق أخرى .. ).
... وانتهزت جولدا مائير وزيرة الخارجية الإسرائيلية فرصة اجتماع اللجنة المركزية لحزب ماباي في تل أبيب فأعلنت ( أن على العرب وقف أعمال تحويل مياه نهر الأردن فورا إذا كانوا راغبين في تجنب صدام عسكري .. ونحن لسنا على استعداد للانتظار حتى يكمل العرب مشاريعهم .. )(1/59)
... وكان لبنان يسمع هذه التهديدات وهو لا يدري ما يصنع .. لقد التزم لبنان وعلى أرضه، بتنفيذ المشروع العربي لتحويل روافد نهر الأردن، والتزم كذلك بأخذ موافقة مسبقة من البرلمان اللبناني بالسماح لجيوش عربية بالدخول إلى الأراضي اللبنانية لدفع أي اعتداء إسرائيلي .. ولكن دنت ساعة الخطر ..لقد ضربت إسرائيل مواقع التحويل في سوريا .. فهل يستمر لبنان من جانبه في مشروعات التحويل .
... كانت تلك هي الصورة التي شرحها أمامي السيد جوزف أبو خاطر سفير لبنان في القاهرة، حين زارني في مكتبي في النصف الثاني من شهر آذار (مارس) 1965 وهو يطلب (مداخلتي ) ، وقلت للسفير اللبناني ...
- أنا أعرف هذا وأكثر من هذا، وما هي ( المداخلة ) التي أستطيعها ؟
... قال : إن فخامة الرئيس الحلو سيسافر إلى فرنسا في مطلع الشهر القادم ليجتمع بالرئيس ديغول لبحث حالة التوتر في المنطقة، وقد ارتأى أن يعرج على القاهرة ليتبادل الرأي مع الرئيس عبد الناصر .
... قلت : حسنا، وماذا يطلب مني ..
قال : أنت على صلة طيبة مع المسؤولين في الجمهورية العربية المتحدة، وخاصة مع الرئيس عبد الناصر .. وإن فخامة الرئيس الحلو يطمح في أن تفهم القاهرة ظروف لبنان الصعبة، لعل بالإمكان تأجيل العمل في المشروع العربي على أراضي لبنان، ريثما تتأمن الحماية العسكرية اللازمة .. ولقد رأينا ماذا جرى في سوريا .
... قلت : يا سعادة السفير .. أنت تعلم رأيي في الموضوع، وقد أبديته أكثر من مرة في الاجتماعات الرسمية، أنا لا أؤمن بهذا المشروع من البداية.. إن تدمير المشروع يكلف قنبلة واحدة يحملها جندي إسرائيل واحد ..(1/60)
إن المشروع العربي معناه في النهاية الاصطدام المسلح مع إسرائيل .. والمطلوب هو الاستعداد للحرب ولا أعرف غير هذا ..
... وانتهي الحديث بيننا بالمجاملة اللبنانية الحلوة ... وجاء اليوم الأول من شهر أيار (مايو) 1965، وكان الرئيس اللبناني شارل حلو يحتفل مع ملايين المصريين في يوم العمال، كتفا إلى كتف مع الرئيس جمال عبد الناصر ..وخطب الرئيسان أمام الجماهير الحاشدة ..عبد الناصر باللغة العامية وباللهجة المصرية .. والحلو بالفصحى وباللهجة اللبنانية .. والجموع تصفق، وشباب الهتاف، ويقاطعون الرئيس بالنداءات والشعارات .
... ومن غير إفصاح ولا إيضاح بث كل من الرئيسين شكواه إلى الجماهير، ومن استطاع أن يفهم فيلفهم .. فقد أعلن الرئيس عبد الناصر أن
( لبنان هدف من أهداف العدوان الإسرائيلي وأن شعب الجمهورية العربية المتحدة عاقد العزم أية بقعة عربية من أرض أمتنا العربية .. ) ثم راح الرئيس عبد الناصر يكشف النقاب عن ( أن الجمهورية العربية المتحدة تواجه ضغطا اقتصاديا من قبل الولايات المتحدة، وأن الاتفاقية التي يتم بموجبها تصدير القمح الأمريكي إلى مصر تنتهي في الشهر القادم، وأن السلطات الأمريكية لم تتخذ أي خطوة لتجديدها ..) واستطرد الرئيس العربي بعد ذك إلى قضية فلسطين فقال (سيأتي اليوم الذي يجند فيه العرب مليونين وثلاثة ملايين ويحرروا فلسطين .. وإن قضيتنا ليست قضية مزايدات .. ) وراح الرئيس عبد الناصر يهاجم البعث، والجماهير من أمامه تقول ( آمين ) .(1/61)
وكان خطاب الرئيس اللبناني، في معناه ومبناه، يقدر لبنان في ظروفه المتشابكة، فأكد ( أن لبنان سيظل أمينا لمقررات مؤتمرات القمة، وأن مصير جميع العرب مرتبط بنجاح قضية فلسطين المقدسة ..ولا بد لنا من توحيد الصفوف وتشديد العزائم، فيما نحن إليه سائرون، وله عاملون من أجل إعادة الحق كاملا إلى نصابه في الأرض العربية المغتصبة..) .
... وقال لي المشير عبد الحكيم عامر ونحن خارجون من قاعة الاحتفالات ..
... خطاب الرئيس الحلو كويس أوي، مش كده ؟
... قلت : ليت الدول العربية الأخرى تعطي القضية العربية بقدر ما يعطي لبنان ..لبنان يعطي، وهذه طاقاته وقدراته ..ولكن الغير لا يعطي عشر قدراته ..
... قال :صحيح .. ليت السعودية .. ليت الكويت .. ليت ليبيا .. ليت هذه الدول البترولية تعطي بقدر ما عندها .
... قلت : عندئذ يستطيع الرئيس عبد الناصر أن يجند ثلاثة وأربعة ملايين من أجل فلسطين،كما تمنى في خطابه .
... وذهبت في المساء لزيارة الرئيس الحلو في قصر القبة، وتناولنا بالحديث العدوان الإسرائيلي على سوريا، وتوقف العمل في المشروع العربي لنهر الأردن، ومخاوف لبنان من عدوان إسرائيلي غادر، وأن الرئيس اللبناني في زيارته المقبلة لفرنسا، سيرجو الجنرال ديجول أن يبذل جهوده الدولية لحمل إسرائيل على وقف اعتداءاتها والالتزام باتفاقية الهدنة ..(1/62)
... فقلت :أرجو لفخامتكم رحلة موفقة .. ولا شك أن الجنرال ديجول يحب لبنان، وله عطف خاص على لبنان ومشاكله، ولن يتأخر عن بذل جهده في هذا السبيل ..ولكن ماذا يستطيع أن يساعد إذا كان العرب لا يساعدون أنفسهم ؟
... ورأيت الرئيس اللبناني ينظر في ساعته، فقد أزف موعد قدوم الرئيس عبد الناصر، لعقد جلسة مباحثات ..وخرجنا إلى الباب الخارجي، على حين كان الرئيس عبد الناصر يدخل القصر .. وهممت بالانصراف .. فإذا بالرئيس عبد الناصر يقول لي : -
... - تعال معنا شويه . في مانع عند الرئيس الحلو .. نحبس الشقيري معانا ساعة .. ساعتين .
... قال الرئيس الحلو : الأستاذ أحمد عربي ولكنه لبناني أيضاً إنه من مواليد لبنان .
... قلت : أنا انحبست كثيرا في زمن الإنجليز، وأريد أن اجرب حبس
(الحلو) .
... ودخلنا إلى الصالة الرئيسية، ودار الحديث طويلا حول الأوضاع العربية الراهنة، وأثار الرئيس الحلو الموضوع إياه .. المشروع العربي لتحويل الروافد، ومخاوف لبنان من العدوان الإسرائيلي ..
... وتناول الرئيس عبد الناصر الموضوع بإسهاب منذ أن نشأت أزمة تحويل مجرى نهر الأردن ..وقال : - نعمل إيه .. البعث في سوريا هو أصل المشكلة ..البعث هو اللي خلق الأزمة ... . المزايدات السورية هي اللي جابت لنا المشكلة .. موضوع نهر الأردن جزء من قضية فلسطين، وقضية فلسطين محتاجة لوقت طويل واستعداد كبير .. البعث عاوزني أحرر فلسطين(1/63)
..أنا ما اقدرش أحرر فلسطين .. البعث طرح شعارا لتحرير فلسطين، اليوم قبل الغد ..قبل ما نصنع طائرات ودبابات ما نقدرش نحرر فلسطين .. لكن نعمل إيه، البعث عاوز يحكم سوريا ... . ويحكم البلاد العربية .. أخيرا عقدنا مؤتمرات القمة، واتفقنا على كل حاجة .. إسرائيل أخيرا ضربت مواقع العمل السورية .. صاحت سوريا .. لازم نحارب .. لازم نهاجم .. أنا بقول نحن لا نقدر أن نهاجم ..يمكن لا نقدر أن ندافع في الظروف الراهنة .. لازم نكمل استعدادنا و ...
... وسأل الرئيس الحلو : وما العمل يا سيادة الرئيس .. الرأي العام في لبنان في قلق شديد ..ومناطق الجنوب عندنا تعيش في خوف والأخ أحمد يعرف ظروف لبنان ..وأن جيشنا على قد الحال ...
... فقال الرئيس عبد الناصر .. أنا عندي فكرة .. نؤجل موضوع تحويل الروافد بعض الوقت إلى أن نستكمل استعداداتنا العسكرية ..ونتشاور مع الدول العربية حول هذه الاقتراح ..
... وما هو رأي الشقيري ؟
... قلت : نحن في الأصل لا علاقة لنا بالمشروع العربي .. والرأي للدول العربية صاحبة الشأن .
... وأنا كنت شرحت لسيادتك رأيي ومخاوفي من الموضوع بعد مؤتمر القمة الأول في القاهرة .
... فقال الرئيس عبد الناصر : إن رؤساء الحكومات العربية سيجتمعون في القاهرة في 26 مايو (أيار) وأنا سأفهم زكريا محي الدين رئيس وفدنا موقفنا ..ونحن موافقون على ما توافق عليه الدول العربية .(1/64)
... وأحسست أن الموضوع الذي يهمني قد انتهي ..واستأذنت وانصرفت، وتركت للرئيسين أن يبدآ مباحثاتهما الرسمية ..وأحسب أنها كانت أقل صراحة ووضوحا من المباحثات غير الرسمية .
... وقد جاء هذا التقدير في محله فقد أعلن البلاغ المشترك الذي صدر في ختام المباحثات (4-5-1965) أن الرئيسين ( أكدا موقفهما الثابت إزاء العدوان الصهيوني على فلسطين وتصميمها على العمل لاستعادة الحق المغتصب والتزامهما بمقررات مؤتمري القمة العربيين، وبوضع هذه القرارات كاملة موضع التنفيذ ) وبدا واضحا الفارق الكبير بين كلام الغرف المقفلة، وكلام البلاغات المفتوحة التي تعلن على الجماهير !!
... ولم يكد الرئيس الحلو يغادر القاهرة، ويبدأ مباحثاته في باريس مع الرئيس ديجول حتى راحت إسرائيل تصعد الأزمة، وتنذر وتتوعد، وتطلق التهديدات علنا بأنها ستلجأ إلى القوة إذا استمر العرب في ( العدوان ) على مجرى نهر الأردن ..
... وجاء دور الاتحاد السوفيتي ليقول كلاماً: عسى ان يجدي العلاج مع إسرائيل .
... ونطق الكسي كوسيجن رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي .. وكان كلامه ساخنا بعض الشيء ..وأرسل السفير إلى مكتبي نص الكلام بكامله (9-5-65) يقول فيه الرئيس السوفيتي (إن اتفاق المصالح الاستعمارية والإمبريالية الغربية تجعلنا لا نستبعد حرب سويس ثانية ..وإن هذه الحرب إذا قامت فلن تقتصر على الجمهورية العربية المتحدة وحدها، ولكنها ستشمل المنطقة بأسرها وخاصة الدول العربية .. إن زيارة ليفي اشكول رئيس الوزراء(1/65)
ووزير الدفاع الإسرائيلي لأوروبا هي في الواقع للاتفاق على عدوان حديد .. وإن الاتحاد السوفيتي يؤيد الجمهورية العربية المتحدة بكل إمكاناته، وإنه مستعد لتقديم كل المساعدة الممكنة لها ) .
... وقد قرأت هذا التصريح ووقفت عند عبارة ( المساعدة الممكنة ) وخامرني الخوف حول ( الممكن وغير الممكن )، وخشيت أن يكون هذا التعبير مما يشجع إسرائيل على المضي في العدوان .. فان إسرائيل تتلقى المساعدات الأمريكية بلا حدود .. والجمهورية العربية المتحدة تتلقى المساعدات الروسية ( الممكنة ) ..وفوق هذا فان إسرائيل تعرف أمور العرب الداخلية، وتمزق كلمتهم، وتفرق صفوفهم، وتباين أهدافهم .. فلم لا تمضي في العدوان، وتحقق مكاسب جديدة ؟؟
... وهذا ما كان فعلا .. فقد كنت أستمع إلى البرنامج العربي في الإذاعة الإسرائيلية (17-5-65) وهي تنقل تصريحا للجنرال حاييم بارليف، رئيس التخطيط والعمليات الحربية للجيش الإسرائيلي يهدد فيه ( بأن لدى إسرائيل وسائل عسكرية لمواجهة مشروعات الدول العربية لتحويل الروافد..وأن إسرائيل لن تتنازل عن مياه الأردن ) ..
... ولم ينقض على هذا التهديد الإسرائيلي المكشوف ليلة واحدة حتى أعلن ناطق عسكري سوري في صبيحة 18-5-65 ( أن سورية تعرضت لأربعة اعتداءات جديدة في منطقة الدكة قريبا من خطوط الهدنة السورية الإسرائيلية، وأن سوريا تقدمت بشكوى إلى هيئة الرقابة الدولية).
... وفي مثل هذا الجو المأزوم المحموم هرول رؤساء الحكومات العربية إلى القاهرة (26-5-65) ليعقدوا ما يسمى ( مجلس رؤساء الحكومات العربية ) وكانوا هم الرؤساء الذين حضروا (المجلس ) الأول في مطلع(1/66)
العام، باستثناء السيد وصفي التل الذي أصبح رئيسا للوزراء، وطلب إليه الملك حسين في (كتاب التكليف السامي ) أن يمضي قدما في حمل
(رسالة الثورة العربية الكبرى . . ليكون الأردن خط الدفاع الأول عن دنيا العرب و.. و.. ) .
... وبدأنا الاجتماعات، على الصورة التقليدية المعروفة :خطبة الافتتاح، صور التيلفزيون، ولائم الليل، والمشاورات الثنائية بين فندق هيلتون وفندق شبرد .
... وبقدر ما كان جدول الأعمال بسيطا لا ينبئ عن شيء .. فقد كانت المداولات في داخل القاعة المقفلة خطيرة للغاية .
... كان المشروع العربي لتحويل مجرى الأردن يتبخر، وكان عمل القيادة العربية الموحدة يتعثر .. وتقدمت هيأة المشروع تشكو من توقف العمل في سوريا ولبنان ..وتقدمت القيادة العربية الموحدة تشكو من الدول العربية عدم تنفيذ المطالب العسكرية، وتقدمت الأمانة العامة تشكو عدم الوفاء بالالتزامات المالية !!
... وبدا واضحا لأول وهلة أن الكلام الذي قيل في الجلسة الافتتاحية على مسمع من الصحفيين لينقلوه إلى الأمة العربية ليس صحيحا على الإطلاق ..فقد أعلن السيد عبد الخالق حسونة الأمين العام لجامعة الدول العربية في كلامه العلني ( أن العمل في خطة الملوك والرؤساء العرب يسير قدما بعزم أكيد في جميع الميادين) . . كما أعلن السيد زكريا محي الدين رئيس وفد الجمهورية العربية المتحدة ورئيس الدورة في كلامه العلني أن(1/67)
( الأزمة العربية ماضية في سبيلها قدما، وأن مؤامرات التحالف الاستعماري الصهيوني وأدواته تزيدها قوة .. ).
... وها نحن قد بدأنا الجلسات السرية سواء في مجلس الدفاع المشترك أو في اجتماع رؤساء الحكومات ليتضح الفارق الواضح بين السر والعلن !!
... ولم نكد نبدأ المداولات حتى أخذ الوفد السوري برئاسة الدكتور نور الدين الاتاسي نائب رئيس الوزراء السوري يبدأ ( زحفه المقدس ) نحو المواضيع ا لمدرجة على جدول الأعمال ..بالقصف الجوي أولا، والمدفعية ثانيا، ثم بقوات المشاة !! كل ذلك بالكلمات المدوية ...
... شرح الوفد السوري في بداية الجلسة تفاصيل العدوان الإسرائيلي على مواقع التحويل وكيف أن القيادة العربية الموحدة لم تحرك ساكنا .. وأن الدول العربية لم تتدخل في المعركة ..وأنه كان يجب على الطيران المصري أن يقوم بغارة انتقامية .. ثم تقدم الوفد السوري باقتراحات محددة :إنشاء قوة عربية رادعة .. حل مجلس الدفاع العربي واللجنة العسكرية الدائمة ..إنشاء مجلس دفاع أعلى جديد يشرف على القيادة العربية الموحدة .. وأن تقوم الجمهورية العربية المتحدة، في حالة عدوان جديد، بفتح جبهة سيناء، وغزة ... وإخراج قوات الطوارئ الدولية ... ).
... ورد السيد زكريا محي الدين، بأعصاب هادئة، قائلا : نحن حاضرون لمناقشة جميع هذه الاقتراحات ولكننا نريد أن نوضح مسألة هامة ..يجب التفريق بين الاعتداءات الإسرائيلية المحدودة والاعتداءات الشاملة ..في الحالة الأولى فان مسئولية الدفاع تقع على الدولة المعتدي عليها، وفي الحالة(1/68)
الثانية فان الجمهورية العربية المتحدة وسائر الدول العربية الأخرى ملزمة بالدفاع وفق نصوص معاهدة الدفاع المشترك .
... وتدخل العقيد فهد الشاعر رئيس الأركان السوري وقال : لا يوجد في معاهدة الدفاع المشترك عدوان محدود، وعدوان شامل . .
... وقال الدكتور نور الدين الاتاسي : الاعتداء اعتداء .. هذا ما نفهمه في سوريا ..وقعت مشادة بين الفريق على عامر والعقيد فهد الشاعر رئيس الأركان السوري .. ووضعت سؤالي القديم الذي أثرته قبل خمسة أشهر في مجلس رؤساء الحكومات الأول : - هل القيادة العربية الموحدة لجنة استشارية للدول العربية، يرمي بتواصيها عرض الحائط ؟ .
... ولكن ضجيج العقيد فهد الشاعر لم يترك مجالا لأحد أن يجيب على هذا السؤال، فقد راح يرغي ويزبد، ويندد بالقيادة العربية الموحدة بأنها لم تحرك الطيران العربي لنجدة سوريا .. وراح الفريق عامر من جانبه يدافع عن نفسه بأن مصر كانت مستعدة لإرسال سرب جوي إلى سوريا تحت قيادة ضابط مصري، ولكن سوريا رفضت ذلك وأصرت أن تكون القيادة لضابط سوري.
... ولم يستطع أحد أن يفض الخلاف . . لان الاخرين عليهم مخالفات مالية أو عسكرية، أو الاثنان معا كالأردن .. ولكني عدت مرة ثانية أطرح سؤالا ثانيا، قلت : يا أخ فهد الشاعر، أنتم في حزب البعث تدعون الوحدة العربية، فما معنى الكلام عن قائد مصري وسوري ؛ هذا من ناحية سياسية ؛ ومن ناحية عسكرية هل لي أن اسأل، هل ستكون المعركة بيننا وبين إسرائيل على أساس مصري وسوري، في حين أن جيش العدو فيه البولوني والأمريكي والبريطاني والحبشي وكلهم يقاتلون تحت راية إسرائيل .(1/69)
... ولكن العقيد الشاعر لم يجب عن سؤالي .. وتشاغل في حوار جانبي مع اللواء عبد المنعم رياض عن عدد الطائرات والمدافع في الجبهة السورية .
... وهدأ الاجتماع قليلا، امتص العقيد فهد الشاعر رغوته وزبده من بين شفتيه، واقترح أن يقوم الأردن ولبنان بهجمات مضادة على إسرائيل، انتقاما لعدوانها على سوريا .. ولكن الفريق على عامر طلب وفق الحديث في الخطط العسكرية، محذرا من أن إسرائيل تريد أن تستدرج الجيوش العربية إلى معركة ليست مستعدة لها في الوقت الحاضر، وأشار على سوريا بان تقوم بأعمال التحويل في المناطق البعيدة عن ( حدود ) إسرائيل ..
... وظن السيد وصفي التل رئيس وزراء الأردن أنه وجد فرصته الذهبية، فقال إنه لا يوافق على دخول القوات العراقية والسعودية إلا بعد أن تستكمل القيادة العربية الموحدة استعداداتها العسكرية .
... واستأذن اللواء عبد المنعم رياض من رئيسه الفريق عامر أن يتكلم، فقال : إن دخول القوات العراقية والسعودية إلى مراكزها المحددة لها في الأردن هو جزء من الاستعدادات العسكرية، وإن معارضة الأردن تعطل كل خططنا العسكرية وتعرض موقفنا للخطر .
... ولم يقنع السيد وصفي التل بهذا الجواب، وراح يفند أقوال اللواء عبد المنعم رياض مستعملا بعض التعابير العسكرية مثل : الحشد، التعبئة، مركز القوة، الالتفاف، .. فسألني، جاري المزمن رئيس الوفد المغربي : وهل السيد التل عسكري ..قلت نعم .. لقد كان ضابطا في الجيش البريطاني لمدة ستة أشهر في الحرب العالمية الثانية .. ).
... وفي بداية الجلسة الثانية لاجتماع الرؤساء إياهم، طلب السيد وصفي التل الإذن بالكلام، وبدأ يقرأ من أوراقه فقال ( إن وحدات من الجيش الإسرائيلي(1/70)
مؤلفة من قوات المظلات ولواء المشاة الخاص قامت بثلاث غارات على ثلاثة مواقع أمامية في الجانب الأردني من خطوط الهدنة .. الغارات بدأت قبل منتصف الليل (28-5-65) وشملت قرية المنشية في شمال الأردن، وجنين وقلقيلية) وبعد أن سرد تفاصيل العدوان أنهى السيد وصفي التل
(بلاغه) قائلا : إن الأردن مستعد لرد مثل هذا الاعتداءات وإنه لا يطلب أي مساعدة).
... وأحسست أن هذا العدوان الإسرائيلي قد هبط من السماء لأبذل محاولة أخيرة لحمل رؤساء الحكومات العربية على اتخاذ موقف صارم إزاء الأردن فقلت : -
... - لو أن الأردن سمح بدخول القوات العراقية والسعودية إلى داخل الأراضي الأردنية كما طلبت القيادة الموحدة لأمكن الرد على الغارة الإسرائيلية .
... فقال وصفي التل : نحن لسنا كغيرنا – معرضا بسورية – نحن قادرون أن نرد الصاع صاعين .
... قلت : منذ أن وقعت اتفاقية الهدنة في 1949، لا أعلم ان الأردن قد رد على إسرائيل في غارة واحدة .. انتقاما لآلاف الغارات التي شنتها إسرائيل .
... قال : إن رقم ( آلاف ) مبالغ فيه كثيرا، وهذا هو أسلوب منظمة التحرير .
... قلت : إن معي الآن كشفا مؤرخا في 10-4-1965 موقعا من المقدم محمد داود رئيس الجانب الأردني في لجنة الهدنة المشتركة يذكر فيه : أن إسرائيل أطلقت النار على الأردن 1375 مرة، واجتازت قواتها خط الهدنة 172 مرة، وحشدت قواتها على الحدود 74 مرة، وطردت السكان العرب من(1/71)
إسرائيل إلى الأردن 77 مرة، واعتدت على مدينة القدس 531 مرة، وقامت باعتداء جوي 4299 مرة .
... وكان ما أجابه وصفي التل أن قال : ( نحن لا نريد أن ندخل في حوار مع منظمة التحرير .. ) وهكذا طوي هذا الموضوع، مع الموضوع الكبير، العدوان الإسرائيلي على سوريا ..وجرى تحويله على مؤتمر الدار البيضاء..
... ومضت بضع دقائق في تهامس بين الوفود، وإشارات وغمزات، كأنهم يهمون (باقتحام ) موضوع معين .. وانكسر الصمت على حركة ( شاعرية) من الوزير السوداني السيد محمد أحمد محجوب، فتكلم عن التضامن العربي وما تتطلبه المعركة الحاضرة من توحيد الصفوف وتنقية الجو العربي من الشوائب، وعرج على قضية اليمن، وتمنى على الجمهورية العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية أن يعملا على تسوية هذا الموضوع لتتفرغ الأمة العربية بكل طاقاتها إلى معركتها الحقيقية مع إسرائيل .
... وساد الجلسة جو من الصمت، وبقي رئيس الوفد السعودي الأمير فهد بن عبد العزيز، بوجهه الصبيح، ساكتا، كأن الأمر لا يعنيه، ومن ورائه السيدان عمر السقاف، وطاهر رضوان (السعودية) يدونان كلام الوزير السوداني، ويراقبان لمحات الوجوه على باقي أعضاء الوفود .
... وصاح السيد محجوب بسودانيته الصارمة ( تكلم يا أخ فهد ). .وتكلم الأمير فهد فقال : - نحن لسنا طرفا في النزاع، هذا موضوع يخص أهل اليمن فيما بينهم، ونرجو أن يصل الفريقان إلى تسوية بينهم تحقن الدماء، والمهم أن تكف القوى الخارجية عن التدخل في أمور اليمن الداخلية، أما نحن فلسنا طرفا في النزاع، وكل ما يهمنا ويهم كل عربي مخلص، وكل مسلم مؤمن، أن تنتهي الحرب اليمنية، وأن يقرر الشعب اليمني مصيره بنفسه ..(1/72)
( ولم يكن كلام الأمير فهد جديدا على المجلس، ولا على الرأي العام العربي، فمنذ أن نشبت الثورة في اليمن، والملك فيصل يردد هذه العبارات الجميلة من غير زيادة ولا نقصان .. وبكل براءة .. ).
... ولقد حاولت الوفود العربية أن تفتح ملف القضية اليمنية، وأن تحمل الأمير فهد أن يتزحزح قيد أنملة عن موقفه، ولكن الموضوع بقي جامدا في مكانه دون أن يستطيع مجلس الرؤساء أن يؤدي أي دور، ووضع الأمر في قائمة الديون الكثيرة المتخلفة على الجامعة العربية .
... والواقع أن قضية اليمن لم تكن مدرجة على جدول الاجتماعات العربية ولكن الوفد السوداني، قياما بدوره التقليدي في هذه القضية، كان يتسلل إلى بحثها من خلال موضوع ( الموقف العربي العام ) ، وهو عنوان مزمن قديم يدرج على جدول أعمال الاجتماعات العربية ..وأصبح مع الزمن ميدانا للخطب الحماسية، حتى غدا أشبه بسوق المزاد يتبارى فيه المشترون والبائعون ولكن من غير أن يدفعوا مالا، أو يستلموا بضاعة !!
... وهكذا انتهت قضية اليمن، القضية التي كانت تستنفذ الجهود والأرواح والأموال بلا حساب، من قبل القاهرة والرياض وصنعاء .. انتهت تلك القضية كذلك من غير نهاية، لتحسمها في النهاية قوة السلاح في الميدان ..ولتنعم إسرائيل بعد ذلك، فان الميدان بعيد بعيد ..في جبال اليمن ووديانها، لا على جبال فلسطين ولا في وديانها .
... ثم جاء دور القضية الكبيرة الخطيرة، قضية العلاقات الألمانية العربية، وتلا الأمين العام التقارير التي بعثها السفراء العرب في بون، ومناشدتهم رؤساء الحكومات العربية أن يتخذوا موقفاً موحدا حاسما ..(1/73)
... وتكلم رؤساء الوفود كلاما غاضبا مزمجرا .. واستعرضت بدوري تاريخ هذا الموضوع منذ عام 1952، منذ أن عقدت اتفاقية التعويضات الألمانية الإسرائيلية ..واستنهضت همة الرؤساء إلى المبادرة لتنفيذ القرارات السابقة، والموافقة على المقاطعة الاقتصادية وما إليها .
... وتنطح رئيس وزراء الأردن السيد وصفي التل، وهو يحسب انه ليس عندي في هذا الموضوع إلا الكلام العائم فقال : هل عندك معلومات محددة وثيقة بالأرقام .. إن معركتنا هي معركة أرقام وإحصاءات .
... قلت : نعم ..أليس عند الحكومة الأردنية أرقام وإحصاءات حول هذا الموضوع ؟
... قال : لم نحضر هذا الملف معنا .. نريد أن نعرف المعلومات التي عند منظمة التحرير..
... قلت :إذا كان الأردن لم يحضر الملف معه، فان المنظمة حاضرة إن تزودهم بما عندها.
... قال : (متحديا) إذا كان عندكم أرقام، وقائع، إحصاءات، نحن نريد أن نسمعها ..
... قلت (وهنا فتحت ملفاتي وبدأت أسرد أمام المجلس) إنه نتيجة للاتفاق السري الذي تم بن اديناور مستشار ألمانيا الاتحادية، ورئيس وزراء إسرائيل بن غوريون في عام 1960 حصلت إسرائيل على الأسلحة والمعدات الآتية: ... 1- 200 مدفع عيار 40 مليمتر من طراز 70مزود بأجهزة رادار
... 2- 50 . مدفع عيار 40 مليمتر مضاد للطائرات من نوع م –42.
... 3- 36. مدفع عيار 205 مليمتر، مزودة بأجهزة الحركة من الطراز الأمريكي .(1/74)
... 4- 15 . طائرة هيلوكبتر طراز س 58 أمريكية الصنع .
... 5- 24 طائرة نور أطلس .
... 6- 80.دبابة من طراز جنرال باتون الأمريكية وجميع هذه الأسلحة هدية بلا مقابل .
... وتابعت كلامي قائلا، ثم إنه تم اتفاق جديد لتزويد إسرائيل : -
الطائرات
... 48 قاذفة مع طائرات نقل من طراز أطلس وعدد من طائرات هيلوكبتر هـ – 34.
... 27 من طائرات المواصلات، والملاحظة الجوية طراز –5.
من المدرعات
... صفقة دبابات طراز 47، و48 جنرال باتون
... باتون مدرعة صغيرة طراز س – ج – 2 هوتشيكوس
... ناقلات مدرعة س – ج –30 لأعمال الاستطلاع الحربي
... صفقة دبابات ألمانية الصنع من الطراز الجديد ليوتارد .
من المدفعية
... 36 مدفع من عيار 105 مليمترات الحركة، ولها جرارات من النوع الأمريكي .
... 36 مدفع من طراز هاوزر 155 على جرارات أمريكية الصنع .
من القطع البحرية
... 6 زوارق طوربيد جاجوار .(1/75)
... معدات ومهمات الضفادع البشرية .
... 2غواصة ساحلية، حمولتها 250 طن، 300 طن ..
الصواريخ
... حصلت إسرائيل من ألمانيا الغربية، على عدد من الصواريخ الأمريكية الصنع من طراز حديث، تستخدم من الأرض إلى الأرض ..
... وسكت رئيس وزراء الأردن، وأنا اختم كلامي إليه قائلا: هذه بعض الأرقام، والوقائع والإحصاءات، وإذا كان يريد المزيد، فعندي المزيد وزيادة .
... وشكر الرؤساء واحد واحداً رئيس منظمة التحرير على بياناته (القيمة المسهبة التي كشفت عن خطورة هذا الموضوع ) . ولكنهم كانوا كالجبل تمخضوا فولدوا قرارا، لا جروا ولا فأرا .
... وكان القرار بنصه الكامل : ( أحاط المجلس بالتطورات الأخيرة في علاقات ألمانيا الغربية بإسرائيل، وقرر أن تتابع الأمانة العامة الموضوع، وتعرض ما يجد فيه من تطورات ..).
... وتولاني الذهول أمام هذا القرار (الرزين) المشين، فالتزمت الصمت في بقية الجلسات .. وفهمت يومئذ قيمة الكلمة المأثورة، (إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب) .. وتوالت بعد ذلك القرارات، هزيلة، ولا تزال أوراقي تئن من تفاهتها .
ومن هذه القرارات : -
1- تأكيد مسئولية الأمم المتحدة تجاه اللاجئين الفلسطينيين ..
2- تأليف لجنة مراجعة مشروع بروتوكول الإقامة والسفر والعمل للفلسطينيين .(1/76)
3- أحاط المجلس علماً بما تضمنه تقرير رئيس مجلس إدارة هيئة استغلال مياه نهر الأردن عن سير العمل في المشروع العربي الموحد .
4- أحاط المجلس علما بما تضمنه تقرير الأمين العام عن تنظيم علاقات الدول العربية بالدول الأجنبية على أساس مواقفها من قضية فلسطين) .
و.. و.. وغيرها من هذه القرارات التي تبدأ دائما ( أحاط المجلس علما) .. والتي تجعل الجامعة العربية جديدة بأن تسمى (مجلس أحاط علما) ..
... ولكن القرار الذي كان آبه في السخرية هو ما قرره المجلس في
(دعوة الدول العربية إلى المبادرة لسداد المبالغ المتأخرة، كفالة لوضع الخطط العربية موضع التنفيذ التام الناجز) .. ووجه العجب أن الدول العربية تناشد نفسها .. او كأنما مجلس الجامعة ليس مؤلفا من دول الجامعة .
... وخرجنا من قاعة الاجتماعات، مثنى وثلاث .. وكنت أسير مع السيد أحمد محمد محجوب ...
... فقال لي : هل من بيت من الشعر يواسينا ..
... قلت : ما أصدق هذا البيت على مجلس رؤساء الحكومات العربية في اجتماعنا هذا:-
... فيا حجر الشحذ حتى متى ... تسن الحديد ولا تقطع
... فدونه الرئيس السوداني في مفكرته وانصرف إلى فندقه .. وانصرفت إلى بيتي، أضع أوراقي في مكانها .. وكانت آخر عبارة دونتها .. ( لقد سقط الملوك والرؤساء في عام 1965 في الامتحانات الشهرية، وفي الفصل الدراسي الأول والثاني .. لقد تمخض الرؤساء فولدوا قرارا ) .(1/77)
... ولقد أفجعني أن العدو، في الطرف الآخر لنهر الأردن ... كان يجتاز الامتحان شهرا بعد شهر، وراح يمضى في تحويل مجرى نهر الأردن، ونحن نمضي في تحويل الرأي العام العربي بالاجتماعات والتصريحات، على غير جدوى !!
... ولقد كان من هذه التصريحات الكلمة الختامية التي تلاها رئيس الاجتماع السيد زكريا محي الدين وأعلن فيها ( أن الاجتماع قد أكد للعالم أجمع أن امتنا عرفت طريقها .. ).
... ولكن الرئيس، عبد الناصر أحس أن الأمة العربية تريد أن تسمع (على المكشوف) كما كانت تطالبه دائما .
... وهكذا كان، فقد اغتنم فرصة اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني الثاني (31-5-1965) والقى خطابا شاملا، كشف فيه عن ضعف الجامعة العربية، وهاجم الرجعية العربية، والبعث السوري، وقال : ( طيب النهارده إذا كنا غير قادرين على الدفاع إزاي نتكلم على الهجوم ... البعثتين السوريين يهاجموا الدول العربية كلها، وبهذا بنحس انهم يلمحوا علينا .. بيقولوا فيه البوليس الدولي، والبوليس الدولي يمنع مصر من الحرب .. طيب نشيل البوليس الدولي، وبعدين حانعمل إيه، بقولوا حاربوا، لازم نحارب إسرائيل النهارده، ليه ... قد تتمنى إسرائيل فعلا ان نحن نحاربها النهارده .. إذا كنا غير قادرين على تحويل النهر النهاردة نقول نؤجل التحويل لغاية منكون قادرين على حمايته) .
... ولم يمض يومان على هذا الخطاب حتى انبرى وزير الإعلام السوري ومعه الإذاعة السورية باتهام الرئيس عبد الناصر بأنه ( يحاول إرضاء(1/78)
الرجعية المتخاذلة ..وأنه يتاجر بقضية فلسطين ويدخل التقاعس إلى قلوب أبناء الشعب العربي ).
... وفي اليوم الثاني على التحديد (5-6-1965) عقد الملك فيصل مؤتمرا صحفيا في جدة أعلن فيه أنه يجب ( إثبات النية الصادقة في استرجاع فلسطين قبل البحث في وسائل استرجاعها ..وأن مؤتمرات القمة لم تفرق بين الاعتداءات العامة ) .. وقد أراد الملك فيصل بهذا التصريح أن يعرض بالرئيس عبد الناصر . . ولكن خانه ذكاؤه فقد يبقى السؤال بلا
جواب : و(ماذا عمل الملك فيصل، إذا كان الرئيس عبد الناصر قد تقاعس .. ).
... ولكن هذا الكلام العربي كله، المنبعث من العواصم العربية قد مسحه كلام مفجع، صدر عن أشكول رئيس الوزراء الإسرائيلي، تعقيبا على مؤتمر رؤساء الحكومات العربية حين قال ( إن هذا المؤتمر هو بمثابة ورق يلصق فوق الشقوق في واجهة الوحدة العربية ) ...
... لقد كان هذا الكلام أشد إيلاما من العدوان الإسرائيلي نفسه ..ولم أدر ما العمل فهؤلاء الملوك والرؤساء وكثيراً ما تقلبت في فراشي وهذا السؤال في رأس . أجل ما العمل :لم يكن أمامي إلا أن أمضي في الشوط إلى نهايته إلى يوم الكارثة إلى حرب الأيام الستة ..وليت القدر حجبها عني فلا تراني . أو ليت القبر حجبني عنها فلا أراها ..
... (يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ) صدق الله العظيم(1/79)
بالله عليك..
أخبر الملوك والرؤساء بما رأيت
... وكما كان عام 1965 امتحانا للملوك والرؤساء، كان كذلك امتحانا للشعب الفلسطيني البطل .. وعلى حين سقط الملوك والرؤساء، فقد نجح الشعب الفلسطيني رغم صعوبة الامتحان، ذلك أن الشعب إذا أراد استجاب له القدر، ولان له الحجر ..
... وحين كانت تترنح مشروعات تحويل روافد الأردن، ومعها خطط القيادة، خارجيتهم ووزراء دفاعهم في كانون الثاني وآذار وأيار من ذلك العام .. وحين كانت تترنح مشروعات تحويل روافد الأردن، ومعها خطط القيادة العربية الموحدة، كانت إرادة الشعب الفلسطيني تشق طريقها لتحقق إنجازات رائعة .
... وكان شعبنا في ظمأ لا يرتوي لاستكمال مؤسساته القومية، فلم يكتف بقيام كيانه متمثلا في منظمته، ولا بإنشاء جيشه عنوانا لآماله، ولكنه كان دائما يريد المزيد، في مثل جهنم، والعياذ بالله، تقول هل من مزيد !!
... وقد رأينا أن يكون هذا المزيد نشاطا دائبا في الخارج، وتنظيما دائما في الداخل .. وقد تمثل النشاط الخارجي في إرسال الوفود إلى أوروبا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا؛ ولقد كانت خطوة جريئة حقا أن تقوم منظمة التحرير في(1/81)
بداية نشأتها بهذه المبادرة، وهي لم تثبت بعد أقدامها على الأرض العربية، فما معنى أن تلقي مراسيها على شواطئ هذه القارات الشاسعة ؛ ولكن الشعب الفلسطيني معروف بمغامراته ومبادراته ..
... وهكذا كان فقد انطلق وفد فلسطيني إلى دول أمريكا اللاتينية وآخر إلى أوروبا، وثالث إلى أفريقيا ؛ وقد وقع الاختيار على رجال وشباب من الشعب الفلسطيني معروفين بوطنيتهم وعلمهم بالقضية الفلسطينية، ليؤدوا هذه الرسالة.
... وقد حملت الوفود معها رسائل موقعة من رئيس منظمة التحرير . إلى رؤساء الدول ووزارئها، كأول بادرة على بروز الشخصية الفلسطينية، في المجال العالمي ..
... ولم تكن الوفود الفلسطينية تصل إلى الأقطار المخصصة لها حتى بدأت تتوارد التقارير المسهبة عن نشاطها، وانفتاح الطريق أمامها للدعوة للقضية الفلسطينية ..ومع التقارير كانت تصلنا قصاصات من الصحف فيها أحاديث الوفود ولقاءاتهم مع الرجال المسئولين، من رؤساء ووزراء .. وأخذت إذاعة منظمة التحرير تنقل أخبار هذه الوفود، والشعب الفلسطيني ممتلئ طربا بهذه الأخبار، ويود لو يغني مع أم كلثوم، أغنيتها الشهيرة، (ردت الروح ) .. فالواقع أن الشعب الفلسطيني قد ردت إليه روحه ..
... ففي أمريكا اللاتينية اجتمع الوفد الفلسطيني بعدد من رؤساء الجمهوريات ووزراء الخارجية، وشرح لهم القضية الفلسطينية بكل أبعادها، وعقد مؤتمرات صحفية أوضح فيها مطالب الشعب الفلسطيني وما يعانيه اللاجئون من البؤس والحرمان ... واجتمع بالجاليات العربية ونقل إليهم تطلعات الأمة العربية وآمالها في تحرير فلسطين ..(1/82)
... وكانت الطائرات تنقل الوفد الفلسطيني من عاصمة إلى عاصمة، ومن مدينة إلى مدينة، فالبلاد شاسعة والوقت قصير .. والجاليات العربية يبرقون من قراهم يريدون أن يستضيفوا الوفد الفلسطيني، ويأخذوا معه صورا تذكارية، وليتبرعوا لمنظمة التحرير الفلسطينية .
... وبدأت ترد إلينا التبرعات، وحمدت الله أنها جاءت في وقتها، فقد نفد ما كنت اقترضته من السيد عبد الخالق حسونة الأمين العام للجامعة (مبلغ عشرة آلاف جنيه إسترليني) لتسديد نفقات الوفود، فلم يكن التخلف في دفع الالتزامات هو القاعدة، وهو الأصل !!
... ... وكان للسفراء العرب جهد مشكور في تيسير مهمة الوفد أمام الصعاب الضخمة التي كان يفتعلها سفراء إسرائيل والمؤسسات الصهيونية، حتى بلغ من وقاحة ممثلي إسرائيل أنهم احتجوا لدى دول أمريكا اللاتينية لاستقبال ( أشخاص موفدين من قبل ما يسمى بمنظمة التحرير الفلسطينية من غير أن تكون لهم أية صفة رسمية أو قانونية)، وانطلقت الصحف الموالية للصهيونية تشنع على الوفد الفلسطيني ومنظمة التحرير الفلسطينية وتنكر على دول أمريكا اللاتينية استقباله، (لأن الشعب الفلسطيني يريد براحة، إزالة إسرائيل من الوجود وهي دولة عضو في الأمم المتحدة .. وكيف ترضى بذلك دول أمريكا اللاتينية المعروفة بولائها العريق للقانون الدولي، وتمسكها بحقوق الدول وواجباتها) !!
... وفي أفريقيا كان للمنظمة وفدان يطوفان فيها، واحد مخصص للدول الناطقة بالغة الإنجليزية، وآخر للناطقة بالفرنسية ..وراح الوفدان يجتمعان بالرؤساء والوزراء يشرحان لهم القضية الفلسطينية على أنها قضية تحريرية،(1/83)
مثل قضاياهم التي كافحوا من أجلها طويلا .. وكانت لي معرفة بكثير منهم يوم وقفوا على عتبات مؤتمر باندونغ (1955) (1) حين توليت الدفاع عن قضاياهم ؛ثم ازدادت معرفتي بهم بعد ذلك وهم ينتظرون على أبواب الأمم المتحدة أعواما طويلة، وأنا امضي في نصرة قضاياهم .وهاقد جاءت الأيام ليقف الوفد الفلسطيني على أبوابهم بعد أن اصبحوا رؤساء ووزراء ..وتلك الأيام نداولها بين الناس !!
... ... وقد قام السفراء الإسرائيليون في أفريقيا في حملة مضادة لنشاط الوفد الفلسطيني، وهم يركزون دعايتهم على ان إسرائيل ( كافحت ) مثل الأفريقيين في (حرب تحريرية) ضد بريطانيا للظفر باستقلالها،وان اليهود ضحايا الاضطهاد النازي واللاسامية، تماما كالأفريقيين ضحايا التمييز العنصري والاستعمار الأوروبي !!
... وقد جاءت هذه الدعاية المضادة لتشحذ عزائم الوفد الفلسطيني فأبدى نشاطا عظيما في الكشف عن حقيقة إسرائيل، وأنها دولة عدوانية توسعية عنصرية ..
... وكما جرى في أمريكا اللاتينية، فقد نهضت الجاليات العربية في أفريقيا، ومعهم السفارات في تيسير السبيل أمام الوفد الفلسطيني للمقابلات الرسمية، وإقامة الندوات والولائم، وتحولت الاجتماعات في الدول الصديقة إلى مهرجانات شعبية لتأييد كفاح الشعب الفلسطيني .
... أما الوفد الذي سافر إلى أوروبا فلم يكن حظه كبيرا في النجاح ذلك أن النفوذ الصهيوني معشش منذ زمن طويل في الأقطار الغربية، فسيطر على صحافتها وإذاعتها وأجهزتها الرسمية..ومع هذا فقد استطاع الوفد
__________
(1) انظر، أربعون عاما، مصدر سابق.(1/84)
الفلسطيني أن يتنفس في أروقة الأوساط المسيحية، في فرنسا واليونان وغيرها .
... ولقي الوفد الموفد إلى الفاتيكان كثيرا من اليسر في أداء مهمته ..فقد سلم رسالة المنظمة إلى قداسة البابا، واجتمع بوزرائه، وشرح لهم خطر الحركة الصهيونية على المقدسات المسيحية في فلسطين ..وألقى بعض المحاضرات في الأوساط الدينية .وكانت لي علاقات وصداقات مع الفاتيكان ورجاله، فقد زرتهم غير مرة، وكنت على صلة بهم عن طريق ممثلهم في الأمم المتحدة .. (1)
... ... وعلى الجملة فقد عادت الوفود الفلسطينية من رحلاتها، بعد أن أدت واجبها على أكمله، والأمل يحدوها بان تستطيع المنظمة، إذا توافرت لها الإمكانات المالية، أن تفتح مكاتب للدعاية في هذه القارات..ولكن عسى ولعل..
... وحينما كانت الوفود الفلسطينية، تنقل إلى العالم آمال الشعب الفلسطيني في تحرير وطنه، كانت المنظمة في الوطن تحقق إنجازات أخرى لها فوائد جزيلة في الداخل والخارج.
... ... وكان من أوائل الإنجازات، قيام اتحاد الطلبة الفلسطينيين كقاعدة شعبية من قواعد منظمة التحرير، وللطلبة شأن كبير في جميع الحركات الثورية والتحريرية، وخاصة أن طلاب فلسطين، ومعهم الطلاب العرب، منتشرون في كل أصقاع العالم، ويستطيعون بالتنظيم والتوجيه أن يؤدوا خدمات كبرى لوطنهم .
__________
(1) انظر، أربعون عاما، مصدر سابق.(1/85)
... وكان من أوائل الخطوات الناجحة التي قام بها اتحاد الطلبة الفلسطينيين (الندوة العالمية) التي انعقدت في القاهرة في أواخر شهر آذار 1965، وقد دعا إليها جمهرة من أنصار القضية العربية في أوروبا وآسيا وأفريقيا بالإضافة إلى اتحادات الطلبة العرب، وعدد من المفكرين العرب ..
... ... ومع أن ظروفنا المالية لم تكن ميسرة كما ينبغي، فلم تبخل المنظمة بأي مال أو جهد لرعاية الندوة والعمل على إنجاحها .. فكانت الوفود ضيوف المنظمة في القاهرة، وفي قطاع غزة، حين ذهبوا لزيارته، وللأردن يوم ذهبوا لزيادة مخيمات اللاجئين والقرى الأمامية ..وكانت الجلسة الافتتاحية بالغة حد الروعة والإتقان والنظام، فقد قضى الطلبة الفلسطينيون أيامهم ولياليهم في الاستعداد .. وكانت القاعة الكبرى لجامعة القاهرة تحت سيادة الشعب الفلسطيني وسيطرته . .ولو لبضعة أيام !!
... ... وحضر الحفل الوزير كمال الدين رفعت مندوبا عن الرئيس عبد الناصر ؛ وافتتحت الاجتماعات، بخطاب وجهته إلى الوفود الصديقة، أوجزت فيه جوانب القضية الفلسطينية ومطالب الشعب الفلسطيني ..
... ... وفي هذه الأيام من عام 1972 والبلبلة فاشية حول القضية الفلسطينية وما تعانيه من الضياع الفكري على الصعيدين العربي والفلسطيني، ألحّت عليّ مذكراتي أن اسرد النقاط الرئيسية من ذلك الخطاب، لنرى أين كانت القضية الفلسطينية قبل النكسة : - وأين أصبحت بعد النكسة :-
... - لقد كانت فكرة جليلة حقا، أن تعقد هذه الندوة لدراسة مختلف جوانب القضية الفلسطينية، وأن تدعي إليها هذه النخبة الممتازة من رجال الفكر الحر في عالمنا المعاصر، وفيهم من ساهم في تأييد الحركات التحريرية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية .(1/86)
... - إن دراساتكم وأبحاثكم لن تكون مكرسة للعلم وحده، على جلالة قدره، فلستم أمام مسألة أكاديمية، ولكنكم ستجدون أنفسكم أمام قضية حية تفور بالآمال والآلام، وراءها شعب عريق، يهيئ نفسه للكفاح المسلح من أجل تحرير وطنه، واسترداد حريته وكرامته الإنسانية .
... - انه يبدو لنا أن حرية النشر في العالم الغربي بالنسبة لقضية فلسطين لها معنى واحد، وهو الحرية في تأييد الصهيونية ..وأن هذا الذي يسمي نفسه بالعالم الحر يفهم الحرية على أنها حرية في تأييد الحركة الصهيونية من جانب، وحرية في طمس معالم القضية العربية من جانب آخر .
... - يجب أن يكون واضحا أن تحرير فلسطين هو أكبر أهداف الأمة العربية، عليه يتوقف مصيرها ووجودها، ومن أجل ذلك فان قضية فلسطين لا تقبل أنصاف الحلول ولا تخضع للمساومات ..وليس هذا موقفا نابعا من عواطف متطرفة ..وانما أملاه التفكير الهادئ، والحساب الدقيق للخطر الصهيوني في حاضره ومستقبله، لا على فلسطين وحدها، بل على الأمة العربية بأسرها .
... - وفي خبرتي الطويلة في الأمم المتحدة تأكدت قناعتي بان قضية فلسطين ليس لها حل سياسي أو دبلوماسي، وأن حرب التحرير هي الطريق الوحيد لإعادة الوطن إلى الشعب وعودة الشعب إلى الوطن .
... - اني أحذر أن يظن أحد أن النزاع بيننا وبين إسرائيل يقوم على أساس عنصري، أو كراهية دينية، أو صراع عقائدي، أو خلاف على حدود ترسم هنا أو هناك ..(1/87)
... - نحن نرى عن حق وتصميم أن وجود إسرائيل في حقيقته وجوهره باطل من أساسه، وأنه يجب أن يزول من جذوره، كما زال الوجود الاستعماري في أقطار آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية .
... - إن التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، وهو المشكلة التي هزت الضمير العالمي، قد ترك الشعب في وطنه، أما في فلسطين فقد اقتلع الشعب من وطنه ؛ وسترون يوم زيارتكم مخيمات اللاجئين في قطاع غزة والضفة الغربية، أبشع ظلم حل بالإنسان، منذ أن كان الإنسان .
... - إن بريطانيا وأمريكا تعلنان أن إسرائيل وجدت لتبقى، ونحن نعلن من جانبنا أنه لا مكان لإسرائيل في وطننا، وعلى الذين يؤيدون إسرائيل ان يحملوها على أكتافهم ويغرسوها في أوطانهم، فان وطن العرب للعرب .
... - نحن أمة سلام، ولكن لا سلام مع إسرائيل وفيها تتمثل النازية بأبشع صورها ؛ونحن نؤمن بالتعايش السلمي، ولكن لا تعايش مع إسرائيل وفيها تجمعت عوامل الاستعمار والتمييز العنصري ؛ ونحن نؤمن بمبدأ المفاوضات، ولكن لا مفاوضات مع إسرائيل فالشعوب لا تفاوض على أوطانها ولا تساوم على حريتها وسيادتها ؛ ونحن نؤمن بحق تقرير المصير، ولكن إسرائيل أشتات من مواطني جميع الدول، وعليهم أن يقرروا مصيرهم في مواطنهم الأولى، ونحن نقرر مصيرنا في وطننا .
... - إن الحرية الإنسانية وحدة لا تتجزأ، ولكنا نشترك في حمل أمانتها السامية ؛ انتم رواد الحق، ونحن طلائع التحرير ؛ ومن أجل هذا الهدف المقدس سنحمل السلاح .(1/88)
... ... ... وانتهت جلسة الافتتاح لتعقبها جلسات العمل، تعقد صباحا وعصرا، وليلا، وقد جرت خلالها مناقشات حول القضية الفلسطينية، اشترك فها عدد من مفكري العرب، وكان بينهم اكرم الديري الوزير السوري السابق، والمهدي بن بركة رئيس الاتحاد والوطني للقوى الشعبية في المغرب، وحسين التريكي مدير مكتب الجامعة العربية في الأرجنتين، والدكتور سيد نوفل الأمين العام المساعد للجامعة العربية، وقحطان الشعبي (رئيس الجمهورية اليمنية الجنوبية فيما بعد) وجميعهم أسهبوا في شرح مختلف جوانب القضية الفلسطينية من نواحيها التاريخية والقانونية والدولية .
... وتكلم عدد من رؤساء الوفود الصديقة معربين عن وجهة نظرهم بموضوعية وعلمية، وقد اتخذوا مواقف واضحة محددة ؛ فقد أعلن انتوني ناتنغ الوزير البريطاني السابق وموقع اتفاقية الجلاء مع مصر، انه يتوقع عودة الأوروبيين الإسرائيليين بالتدريج إلى أوطانهم الأولى وإعادة إنشاء دولة فلسطين من العرب، واليهود الأصليين، وأن أجيال الشباب في إسرائيل يرفضون أسلوب دولة إسرائيل ويريدون الخروج حيث العالم الحر، وأن الحل هو إعادة فلسطين عربية على أن يعيش فيها اليهود في تعاون وسلام مع العرب.
... ... ... وأوضح نفيل بارير الكاتب المعروف، أن إسرائيل لا يمكنها الاستمرار كدولة أوروبية على أرض عربية ..وأعلن في كلام قاطع :أنني لا اعتقد بإمكان قيام قوميتين داخل فلسطين العربية ..إن بلادي كانت ضحية الحركة الصهيونية وأنني آمل أن تتطور منظمة التحرير إلى حكومة فلسطينية مؤقتة تعمل على تكتيل الشعب الفلسطينيين وتنظيمه على أنه الشعب الحقيقي) . وتكلم الدكتور هومر أحد القساوسة الأمريكان فقال :(1/89)
(وجدت في إسرائيل أقواما مختلفين، نجحوا في إقامة مزارع ومدن، وفشلوا في إقامة مجتمع كبير هو الوطن) . وخطب السيد كريشنا مينوي وزير الدفاع الهندي السابق، وكان فيما مضى من أنصار إسرائيل، فقال : (إن التفرقة العنصرية في أبشع معانيها تستخدم الآن داخل إسرائيل .. وإن الحرية تنتزع بالحق وبالسلاح) وأعلن المسيو بيرووسيه المفكر الفرنسي : (أن الصهيونية حصلت معاونة الغرب على إسرائيل عن طريق الحرب، فيجب أن يقضى عليها عن طريق الحرب ولا طريق آخر .. وأن الدعايات لن تجدي لان سياسة الغرب واضحة وجميع وسائل الإعلام تحت يد الصهيونية .. وان المأساة الفلسطينية لا تحتمل غير حل واحد فقط هو القضاء على إسرائيل).
... ... ... وألقت السيدة آثيل مانين الكاتبة البريطانية خطابا مسهبا قالت فيه :
(إن إسرائيل أوجدها الاستعمار البريطاني والأمريكي .وإنه ينبغي محو إسرائيل كدولة عنصرية عسكرية ) . وتحدث أبو بكر حليمي المدير السابق لجامعة كراتشي فقال ( إن الحل الوحيد لمشكلة فلسطين هو إزالة إسرائيل وإعادة الفلسطينيين إلى وطنهم ) .
... ... ... وفي مثل هذه المواقف الرائعة أنهت ندوة فلسطين العالمية جلساتها، وأعلنت في بيانها الختامي (التأييد الجماعي لحقوق شعب فلسطين في استعادة أراضيه المحتلة، ودمغ إسرائيل بالعدوان والعنصرية، وأنها عميلة للإمبريالية وللاستعمار العالمي، ومطالبة جميع شعوب العالم بتأييد كفاح شعب فلسطين، وأن الوحدة العربية من أهم عوامل استعادة الشعب الفلسطيني لحقوقه) . وغير ذلك من المواقف السديدة، التي تبدو في هذه الأيام (نشازا) إلى جانب المواقف العربية الرسمية التي تطالب بتطبيق قرار(1/90)
مجلس الأمن، وما فيه من اعتراف بإسرائيل وإنهاء حالة الحرب، وتصفية القضية الفلسطينية ؛ وهذه نكسة قومية أشد هولا من نكسة الأيام الستة .
... ومضى أسبوعان على ندوة فلسطين العالمية وأقبلت حركة جادة نشطة في صفوف العمال الفلسطينيين، فقد أجمعوا أمرهم على إقامة اتحاد لعمال فلسطين يجمع شتاتهم ويوحد صفوفهم ويضعهم في مكانهم الطليعي في الحركة، وتحدد يوم 14-4-1965 موعدا لعقد المؤتمر التأسيسي للاتحاد العام للعمال .
... ... ووجهت الدعوة إلى الاتحادات العربية والدولية، وكانت غزة هي مكان الاجتماع، فقد حرصت أن يبدأ هذا التأسيس العمالي على ارض فلسطينية .
... ... ... وحملتني الطائرة من القاهرة إلى العريش، وكان قطاع غزة كالعهد به في حشد كامل وتعبئة شاملة لهذه المناسبة العظيمة .. وكيف لا، أليس هذا هو يوم العمال والفلاحين ..
... ... وزاد من روعة تلك الأيام، ربيع غزة، وقد تفوحت روائح الزهور وهبت النسمات الرائقات تحمل عطر الليمون من البيارات، وهاجنا الشوق إلى يافا وبساتينها الغناء وبرتقالها الفواح ؛ ويا شقاء السمع والبصر والفؤاد، حين تهيج الذكريات ...
... ... والى سينما النصر في غزة، ذهبت إلى مكان الاجتماع، يرافقني الفريق العجرودي الحاكم العام للقطاع ؛ وكان لقاء مثيرا حقا، جمع ممثلي العمال الفلسطينيين وممثلي الاتحادات العربية العالمية، والشعب في خارج القاعة، ملا الشوارع والميادين، وملأ الفضاء بالهتاف والأهازيج ...
... وقفت أفتتح المؤتمر مرحبا بالوفود الصديقة، وقد تجشمت مشاق السفر لتشارك العامل الفلسطيني، وهو يستأنف مسيرته على درب النضال(1/91)
والتحرير .. وقلت : ( صحيح أن مؤتمركم هو المؤتمر الأول، ولكنه الأول بعد الكارثة، فلقد نشأت الحركة العمالية في فلسطين، أيام كنا في فلسطين، وأن بينكم يا عمال فلسطين من رافق هذه الحركة وساهم في نشاطها، وإن ننس، لا ننسى منظمات العمال في حيفا ويافا وعكا والناصرة وطبريا وصفد وبيسان وبئر السبع ؛ وأنا أذكر الآن مدننا الغالية في الوطن السليب .. إن علينا أن نذكر أن عمالنا في فلسطين كانوا دائما وأبدا يعيشون لفلسطين ومن أجل عروبة فلسطين، لقد كافحوا مع الفلاحين والمثقفين، ومع الطلاب الشباب، وغصت بهم السجون، وعلقوا على أعواد المشانق، دفاعا عن وطنهم وحريتهم .. إنني أثني على العمال بكل جدارة واستحقاق، فالذين هم في مثل عمري يذكرون بطولة بحارة يافا في أوائل العشرينات وهم يفجرون القنابل في وجه الهجرات اليهودية التي كانت تسندها الحراب البريطانية ..ثم نذكر كذلك الإضراب التاريخي في عام 1936 الذي امتد ستة أشهر، وكان العمال والفلاحون طليعته الثائرة .. ).
... ... واستأنفت بعد ذلك كلامي قائلا : إن أبواب جيش التحرير مفتوحة أمامكم، وان معسكرات التدريب مهيأة لكم . وإني أدعوكم إلى وحدة الهدف والصف، فإن معركة التحرير ترفض الخلاف والشقاق، والجدال، والقيل والقال، فليس لنا أن نحارب زرافات ووحدانا، ولا أحزابا وشيعا، ولكن نحارب شعبا واحدا وقلبا واحدا ..وإني أدعوكم كذلك أن يكون هدفنا الأول والأخير التحرير ولا شيء غير التحرير، فالأمة التي سلبت وطنها وأخرجت من ديارها، لا يشغلها شاغل عن التحرير، فالتحرير هو قدس الأقداس، وهو القبلة والمحراب .. ).(1/92)
... وتعاقب على الكلام ممثلو الاتحادات الدولية الصديقة من أوروبا وآسيا وأفريقيا، وكان في طليعة المشتركين وفد من جمهورية الصين الشعبية. وأعلنوا جميعا وقوفهم إلى جانب الشعب الفلسطيني في كفاحه لتحرير وطنه. (1)
... ومن الوفود العربية، تكلم السيد أديب الجادر وزير الصناعة العراقي وممثل الاتحاد الاشتراكي العراقي، والسيد أحمد فهيم رئيس اتحاد العمال في الجمهورية العربية المتحدة، فأعلنا تضامن الحركة العمالية العربية مع اتحاد عمال فلسطين والشعب الفلسطيني في نضاله لتحقيق مطالبه القومية، في الحرية والسيادة والاستقلال .
... ... وانتهت جلسات المؤتمر التاسيسي ؛ وبعد أن فرغت لجانه من وضع الدستور والأنظمة الداخلية، أعلن أمين عام المؤتمر قيام ( الاتحاد العام لعمال فلسطين ) وسط هتافات الجماهير، إيذانا بمولد قاعدة أخرى من قواعد منظمة التحرير ؛ واختتم الاجتماع بآي من الذكر الحكيم، وكانت آخر الآيات ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) فكانت مسك الختام والنور الأخضر على أول الطريق ..لا للعمال وحدهم، ولكن لجميع العاملين ..
... ... وتلقيت في صبيحة اليوم الثاني برقية من الاتحاد النسائي بالقدس لافتتاح المؤتمر العام لاتحاد المرأة الفلسطينية .. وكان عليّ أن اخرج من مؤتمر إلى مؤتمر . ولكن هاجسا ألح بالسؤال : ولماذا لا أسافر بالسيارة من غزة إلى
__________
(1) انظر : من القمة إلى الهزيمة مع الملوك والرؤساء ، عن زيارة وفد المنظمة إلى الصين.(1/93)
القدس، وهي على مرمى الحجر كما يقولون في البادية ..ألم أسافر بالسيارة بين القدس وغزة مرات ومرات ..فلماذا لا أسافر اليوم إلى القدس وأكون فيها مع الغداء ؟؟
... ... ... ولكني صحوت من هواجسي، ورجع إلى عقلي، وتذكرت.. تذكرت أن ذلك عهد مضى، وأن إسرائيل قد احتلت أرضنا وديارنا، وإنه لا طريق إلى القدس من غزة، إلا بالعودة إلى القاهرة، ومنها إلى القدس بالطائرة بعيدا عن خطوط الهدنة حيثما كانت ..
... ... وذلك ما جرى، فقد عدت إلى القاهرة، وأخذت طائرة الخطوط الأردنية لتنزل في مطار قلندية، على مقربة من القدس، فقد ضجرت من السفر إلى عمان، والحديث مع الملك حسين، عما سيكون وما كان .
... ... وأنزلت الطائرة عجلاتها في المطار، ورأيت جموع السيدات والأوانس في استقبالي، ومعهن الكشافات الفتيات بملابسهن العسكرية، فصافحتهن ملء جوانحي، وأنعم وأكرم بالمرأة العربية في الميدان .
... وكانت مصادفة غريبة أني نهضت في صباح اليوم الثاني، وإذا بألم في أضراسي لا يحتمل، ولم يكن مناص من أن أذهب إلي طبيب الأسنان وأن أعمل بنصيحة الأجداد القدامى :- اقلع الضرس واقلع وجعه .. وذلك ما جرى، فقد قلعت الضرس، ولكن وجعه بقي معي إلي سينما صلاح الدين، إلي حيث ذهبت في اليوم نفسه لافتتاح المؤتمر النسائي.
... ... وكان الحفل عظيما في تنظيمه، فقد امتلأت القاعة بوفود المرأة الفلسطينية من كل أرجاء الوطن العربي، وتراصت صفوف الوزراء والنواب والصحافيين والنقابيين ليشهدوا من جديد مولد الشخصية النسائية الفلسطينية لتستأنف رسالتها الوطنية ..(1/94)
... ... واستعرضت في كلمتي الافتتاحية تاريخ المرأة العربية في عصر الجاهلية، وفي صدر الإسلام، وعبر العصور الوسيطة، شارحاً دور المرأة الفلسطينية في عهد الانتداب البريطاني وهي تكافح الاستعمار والصهيونية مع الرجل، جنبا إلى جنب وقلبا إلى قلب .. ووقفت عند سيرة شهيرات النساء، عائشة أم المؤمنين ودودرها البطولي في عهد الخلفاء الراشدين، وأسماء بنت أبي بكر ومواقفها الفدائية الباسلة، والخنساء أم الشهداء الأربعة من أبنائها، ونسيبة بنت كعب في قتالها و.. و.. وختمت بالقول إن منظمة التحرير الفلسطينية تفتح أبوابها للنشاط النسائي في الحقل الاجتماعي والصحي، وفي مجال الإسعاف الميداني .
... ... وصاحت الشابات، وهن منبثات في كل الصفوف : بل وفي الميدان نفسه، نحمل السلاح..
... ... وأبهجني أن يخرج هذا النداء من أفواههن، ولم أجد ما يسعفني إلا أن اردد ما قاله المتنبي، وهو المسعف في كل المواقف :
ولو كان النساء كمن ( رأينا ) ... ... لفضلت النساء على الرجال
... ... وهنا ختمت كلمتي، والشابات يتفجرن حماسة وإيمانا وعزما، وعدت إلى الفندق ..وهناك ..وهناك فقط أحسست بالآم الضرس مرة ثانية .. وقد نسيته في الاجتماع، وأيقنت أن الإنسان ينسى إذا أراد ان ينسى، ويحس الألم حين يتذكر .. ووجدت في غرفتي برقية من قيادة الجيش الفلسطيني تذكر الحاجة إلى متطوعين فلسطينيين من الأردن لينضموا إلى جيش التحرير..وكانت أيسر طريقة أمامي هي أن تنشر المنظمة إعلانا في الصحف المحلية، تدعو الراغبين في التطوع إلى تسجيل أسمائهم في مكاتب المنظمة.(1/95)
... ... وذلك ما كان فعلا .. فقد نشرت الصحف في اليوم التالي الإعلان المطلوب، ولكنه كان أكثر، من إعلان فقد ابتهج أصحاب الصحف بهذا الحدث وزينوا الإعلان بإطار جذاب، ووضعوه في مكان بارز، حتى أصبح قطعة فنية، ليس له صفة الإعلان.
... وأقبل الشباب في الأيام التالية صفوفاً طويلة على مكتب المنظمة في الشيخ جراح في القدس، ليسجلوا أسماءهم .. واغتاظ حكام عمان .. واتصل الملك حسين برئيس وزرائه السيد وصفي التل، يسأل :كيف ينشر هذه الإعلان .. وكيف نسمح للشباب أن يذهبوا إلى سوريا ليتطوعوا في جيش التحرير ويتدربوا على حمل السلاح .. وكيف وكيف .. ؟
... وبينما كنت أتناول طعامي في فندق الامباسادور، جاءني محافظ القدس السيد داود أبو غزالة، ليبلغني رسالة من (دولة الرئيس التل ) يطلب فيها باسم ( جلالة الملك ) أن تتوقف المنظمة عن تسجيل المتطوعين .. وعن التدخل في الشئون الداخلية للمملكة الأردنية الهاشمية ..نطق المحافظ أبو غزالة بهذا ( الإنذار) وهو مطرق حياء من ( فلسطينيته) ولسان حاله يقول، وما على الرسول إلا البلاغ .
... وقلت للمحافظ وأنا اجتر طعامي، (أخبر الرئيس التل ليخبر (جلالة الملك ) أنه إذا كانت له شكوى على المنظمة فليقدمها إلى مؤتمر الدار البيضاء وسينعقد في أواخر الصيف .. وأنا أرفض هذا الإنذار .. وسيستمر هذا الإعلان أسبوعا آخر، وسنمضي في تسجيل أسماء المتطوعين، أو ليس يكفي أن الملك حين ينكر على المنظمة أن تكون لها كتائب فلسطينية في الضفة الغربية، وهو الآن يريدنا أن نمتنع عن تدريب شبابنا خارج الحدود،(1/96)
أهذا هو ( تأييد المنظمة إلى أبعد الحدود ) كما جاء في البيان الوزاري الذي أعلنته حكومة وصفي التل وأقره الملك حسين .. ؟ )
... وخرج المحافظ أبو غزالة، شارد الفكر في مثل شرود الغزالة ..وهو يمشي على استحياء، لا يدري أين تسير قدماه . .
... وقضيت نهاري وشطرا من الليل، وأنا استقبل الشباب من المدن والقرى وهن يسألون ويلحون، متى يسافرون إلى دمشق ؟ متي يدخلون المعسكر ؟ مني يلبسون البدلة العسكرية ؟متي يحملون ا لسلاح ؟ متى يتدربون على فنون القتال .. ؟
... ... وكانت ساعات حلوة قضيتها مع الشباب، عوطتني عن مرارة اللقاء مع الملوك والرؤساء ..فما أعظم الأولين، ولست أدري ما أقول عن الاخرين !!
ونهضت في الصباح المبكر (5-9-1965) وجلست في شرفتي
(استحم) في فيض من أنسام القدس الوديعة الطاهرة، وأمامي المسجد الأقصى، وقد أرسلت إليه الشمس تحية الصباح بأنوارها الذهبية فتألقت قبابه الفضية ؛ وراح الراديو الصغير، وهو رفيقي الذي أوسده في شنطتي إلى جوار دوائي الذي أحمله معي حيثما كنت، يرتل القرآن الكريم ؛وما أروع أن تسمعه بإذنيك، وقلبك خاشع في بيت المقدس، وعيناك شاخصتان إلى أولى القبلتين وثالث الحرمين .. وكأنك تشهد الرسول الكريم وقد أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ومنه عرج إلى السماء .
... وانتهى ترتيل القرآن ..وأعقبته نشرة الأخبار، والمذيع الأردني يتلو ما أمامه بلهجة غاضبة حزينة ( أعلن ناطق عسكري أردني أن القوات الإسرائيلية، قد شنت غارة غادرة على مدية قلقيلية تحت جنح الظلام، ودمرت أحد عشر بئرا .. واشتبكت معها قواتنا الأردنية وطاردتها إلى ما(1/97)
وراء خطوط الهدنة، ولم تقع خسائر في قواتنا وعادت إلى مراكزها سالمة..).
... ابتأست وحزنت وأنا استمع إلى هذه الأخبار، وإن كنت قد الفت مئات مثلها تقع على طول خطوط الهدنة منذ أن وقعت الهدنة عام 1949، وكان دورنا أن نحصيها عددا .. وكان سبب ابتئاسي أنه قد انقضى علي إلى ذلك العهد عام ونصف، وأنا لا أفتر عن مطالبة الملك حسين بتسليح القرى الأمامية، حتى تستطيع أن تدافع عن نفسها أمام الغارات الإسرائيلية الغادرة..
وطلبت السيارة على عجل، ودعوت رجال المنظمة، وذهبنا معا إلى قرية قلقيلية لأرى بعيني هذه الجريمة النكراء ..
... وسرنا في ذلك الطريق الضيق إلى قلقيلية، وكدت انطلق مقهقها، لولا اني خشيت أن يظن بي سائق السيارة إنني أصبت بمس في ذلك الصباح؛ فلقد تذكرت أني قلت للملك حسين في إحدى لقاءاتي معه : (لماذا لا تنظمون شبكة جيدة من الطرق بين القرى الأمامية، فان المواصلات عصب الأعمال العسكرية .. وها إن إسرائيل في الطرف الآخر من خطوط الهدنة قد أنشأت طرقا من الدرجة الأولى) فقال لي الملك حسين : (نخشى إذا تغلغل اليهود إلينا أن ينتفعوا بهذه الطرق ويجدوها جاهزة في خدمة أغراضهم التوسيعية) ..ولم أر يومها فائدة من الجدل مع الملك حسين، وحديثه يقوم على فرضية راسخة، وهي أن إسرائيل ستحتل هذه الأراضي !!(1/98)
... وقد أمسكت عن القهقهات الساخرات، لان خاطرة أخرى لمعت في ذهني تجلى فيها الفارق الكبير، كيف يفكر الملك حسين، وكيف يفكر الشعب..وأكثر ما تجلى ذلك في قلقيلية .
... وقلقيلية لم تعد اسم قرية ولكنها حكاية بطولة، وسيرة صمود شجاع، تمثل تقاليد الفلاح الفلسطيني البطل، صانع تاريخنا وانتصاراتنا ..وضحية انكساراتنا وهزائمنا ..
... في هدنة 1949 التي تمت بين إسرائيل والأردن، رسمت خطوط الهدنة في قلقيلية القرية، عند بيوت القرية، أما بياراتها ذات القطوف الدانية، أما كرومها ومروجها ومراعيها وأراضيها فقد وقعت في الجانب الإسرائيلي – هكذا أرادت إسرائيل، وكان على الأردن أن يخضع ..جرى ذلك في عهد الأمير عبد الله، وأصبح فيما بعد ملك المملكة الأردنية الهاشمية، جزاء
وفاقا ..
... ... وقد زرت قلقيلية مرارا بعد الهدنة، ووقفت على أسطح منازلها لأرى العمال اليهود يعملون في بيارات قلقيلية، ويزرعون في أراضيها ويحصدون.. ولم يكن أمام أهل قلقيلية إلا النزوح عن الديار طلبا للرزق، ولكنهم صمدوا ولم ينزحوا ..
... ... وأهل قلقيلية البواسل أرادوا غير ما أراد لهم اليهود، فعزموا على الثبات في وجه إسرائيل، وعزموا أن يصبحوا ويمسوا إلى جوار بياراتهم ؛ وقد أصبح لليهود برتقالها ولنا أريجها الحزين ..
... ... وتجمع أهل قلقيلية عائلات فيما يشبه التعاونيات، واتفقوا أن تحفر كل عائلة بئرا بحثا عن الماء، فباعوا حلى نسائهم، وأمدهم أولادهم الذين يعملون(1/99)
في الكويت بوفرهم، وراحوا ينقبون الصخر حتى تفجر منه الماء ..وكانت ثلاث عشرة بئرا.
... ثم راحوا يقلعون الحجارة، ويسوون الأرض، وينقلون التراب من التلال المجاورة، حتى أصبحت لهم أرض حول قريتهم، فأجروا عليها مياه الآبار، وزرعوا البيارات الجديدة، وأخذت تنمو الأشجار، وتحمل القطوف، ويفوح الأريج، ووجدت القرية الباسلة عزاءها عما فقدت، ورزقها فيما زرعت .
... وفي كل زورة إلى الأردن، كنت أحج إلى قلقيلية، وأرى البيارات تكبر عاما بعد عام، وشباب القرية وصباياها يقدمون إليّ عناقيد زهر الليمون..ولله ليمون فلسطين .
... كنت أفكر في كل هذه، وأنا في طريقي إلى قريتنا الباسلة الباسمة ... ووصلنا قلقيلية فوجدتها باسلة غير باسمة ..
... طاف بنا رئيس البلدية ورجال القرية على الآبار الإحدى عشرة المهدمة، بموتوراتها المهشمة، وقصوا الحكاية ببساطة، قالوا : كنا ما زلنا في ساحة القرية، عند منتصف الليل، وإذا بالجنود الإسرائيليين ينسلون من الغرب من بياراتنا، وصاح أحدهم بالعربية ان لا يتحرك أحد ..وتوجهوا نحو آبارنا ووضعوا فيها الديناميت ونسفوها ..إلا بئرين كان بجوارهما حارس معه بندقية صيد، أطلق عليهم النار فلم يقتربوا .. ثم ألقوا في القرية عشرات المنشورات باللغة العربية) .. وسلموني نسخة منها . .
... وكان أهل القرية نساء ورجالا وشبابا، وأنا أستمع إلى القصة يصيحون
( نريد السلاح، والله لو معنا سلاح ما رجع من اليهود مخبر ) ، وانقلبت(1/100)
القرية إلى مظاهرة تهتف ( يا شقيري بدنا سلاح ... هات سلاح وخذ رجال ) .. ودخلنا المضافة، وقلت لرئيس البلدية : ( هذه عشرة آلاف دينار دفعة أولى تعويضا على المتضررين ) ، وسلمته الشك، على البنك العربي في القدس .. ( أما السلاح ) فقد استأنفت حديثي، (فسنطالب الحكومة بتزويدكم بالسلاح ) .
... وبعد أن أخذنا البيانات التفصيلية، وبعض الصور الفوتوغرافية للآبار المهدمة،اتجهنا إلى سياراتنا، والشعب من حولي يصيح : بالله عليك، تخبر الملوك والرؤساء بما سمعت وما رأيت!!
... وركبت السيارة وهذه الصيحات الدواية تملأ فؤادي قبل مسمعي، ووضعت المنشور الإسرائيلي بين أوراقي لأقرأه على الملوك والرؤساء في اجتماعهم المقبل في الدار البيضاء..ووصلت إلى القدس . إلى غرفتي في فندق الامباسادور، وتناولت جهاز الترانزيستور لأستمع إلى أخبار المساء، فإذا بالملك حسين يخطب بصوت فخم كأنه يصدر عن رجل ضخم، ويتحدث إلى (أبناء أسرتي وعشيرتي) عن العدوان الغادر الغاشم على قلقيلية، فتهدد وتوعد، ( بأننا عقدنا العزم على صد كل عدوان بأقسى منه وأشد ..وأصدرنا أوامرنا إلى قواتنا المسلحة لاتخاذ الاهبة الكاملة لمجابهة كل اعتداء وحسمه بقوة مهما كانت النتائج ) وكادت الجدران في غرفتي، التي الفت مثل هذا الكلام يقال في أعقاب كل عدوان إسرائيلي، أن تنطق حجارتها صائحة .. (شنشنة أعرفها من أضرم !!) .
... ولكن قضية قلقيلية لم تنته عند هذا الحد، فقد جاءني رئيس البلدية، من آل السبع، في اليوم التالي وهو يعيد إلى شيك العشرة آلاف دينار .
... قلت : لماذا .. المبلغ قليل، ولكن هذه دفعة أولى .(1/101)
... قال : لا والله ..إنه عندنا يساوي ملايين، وإن مجيئك عندنا يساوي ملايين ..ولكن ...
... قلت : ولكن ماذا ؟؟
... قال : لقد اتصل بنا رئيس الوزراء وأخبرنا أن (سيدنا) سيقدم التعويضات الكاملة ..
... وأحسن تعيدوا المبلغ إلى المنظمة .. وأنت تعرف ظروفنا مع الأردن .. وتسلمت (الشيك) ودمعتان كريمتان تتفجران من عيني رئيس البلدية..وكأنما وقعت كارثة فلسطين في تلك الدقيقة .. من جديد ..
... ... وكان ذلك الإحساس بما سيكون، وبالكارثة الكبرى التي ستقع، وكانت الدموع استباقا لحرب الأيام الستة بكل شدائدها ..
... لقد كانت قلقيلية أمام فوهة المدافع الإسرائيلية وسقطت، ومعها سقطت كل القرى الأمامية في صبيحة اليوم الأول من حرب حزيران، ثم سقطت الضفة الغربية بأجمعها، وجاء وقت تصفية الحساب .. الحساب مع قلقيلية بالذات، التي صمدت وتحدت إسرائيل على مدى عشرين عاما .
... ... لقد دخلت القوات الإسرائيلية إلى قلقيلية، وجمعت الأهلين في ساحة المدينة وكأنهم في يوم الحشر .. وشرع سلاح المهندسين الإسرائيليين بنسف بيوت القرية واحدا بعد واحد، وأصحابها يرونها بأم أعينهم تتهاوى سقوفها وتتطاير جدرانها، حتى بلغت مائتي بيت . .
... وتقاطرت باصات (ايجد) الإسرائيلية في أرتال طويلة، وراح الجنود الإسرائيليين يسوقون الاهلين إلهيا ليركبوها، ويذهبوا بهم عبر الجسر إلى الضفة الشرقية، حتى تبقى المدينة من غير أهلها ..(1/102)
... ولكن أهل قلقيلية البواسل رفضوا أن ينساقوا إلى السيارات، وهاموا على وجوههم في الطريق إلى نابلس، وانتشروا بين كروم الزيتون، لبضعة أيام، يلتحفون السماء ويفترشون التراب، ويأكلون ما تجود به الأرض من أعشابها ؛وهرع الصليب الأحمر ومعهم مراسلو الصحف العالمية، ليروا هذه ( القطعان ) الإنسانية صامدة عازمة، لا تبرح مكانها حتى تعود إلى القرية، إلى المنازل، إلى الأرض، إلى قلقيلية الحبيبة ..
... ورأت إسرائيل نفسها أمام فضحية عالمية .. فلم يكن لها خيار إلا أن تعيد الهائمين إلى بلدهم والى أرضهم ..وهكذا عادوا ..وما قصة قلقيلية إلا قصة شعب بكامله، وحكاية وطن بأسره . .
... ... تحية إلى قلقيلية الصامدة، ونحن على موعد اللقاء، إن لم نكن نحن الجيل المعاصر ..فسيكون جيل الأبناء، أو جيل الأحفاد .. أو أي جيل يريده القدر ..
... ... ونحن على موعد مع القدر ومع النصر .
(فاصبر إن وعد الله حق )
صدق الله العظيم(1/103)
حرب الأيام الستة كانت خطتنا !!
...
... في عام 1965، كانت الغيوم الداكنة تتجمع في المشرق العربي ثم تزحف إلى آفاق المغرب العربي لتحتشد في سمائه، وتكون في استقبال الملوك والرؤساء حين يتوافدون على الدار البيضاء ليشهدوا مؤتمر القمة الثالث ..
... ... وكان العام كله سلسلة من العثرات والعقبات على الصعيدين العربي والدولي، حتى بدا كأن مؤتمر الدار البيضاء ينعقد لا للانطلاق على مواقع جديدة، ولكن لترميم المواقع السابقة، وقد أصابها الدمار والانهيار .
... ... ففي مجال العلاقات الألمانية العربية بدا واضحا أن الجبهة العربية انكشفت عن تصدع كبير وتشقق خطير، فلم يصل رؤساء الحكومات العربية إلى قرار إجماعي، والذي وصلت إليه الأكثرية كان سحب السفراء العرب من (بون) .. ووقعوا في ( بون ) , شاسع ما عاهدوا وما قرروا ..
... ... وفي مجال العمل العربي لتحويل الروافد، فقد قامت إسرائيل بضرب أعمال التحويل (14-7-1965) في الأراضي السورية ؛ ثم توالت هذه الاعتداءات، وامتدت إلى الأراضي الأردنية، وتوقفت أعمال التحويل انتظارا للحماية العسكرية العربية ...(1/105)
... ... وعلى الصعيد العسكري، نشبت مع القيادة العربية الموحدة، مهاترات من القيادات السورية، ومشاحنات من القيادة الأردنية، ومجادلات من القيادة اللبنانية، ولكها تنصب حول تحركات الجيوش العربية، لدعم القوات العسكرية لهذا البلد أو ذاك .. فقد اشترطت سورية (أن تكون القوات العربية دفاعية ومزودة بوسائل الدفاع المتفق عليها) واشترط الأردن أن (تدخل القوات العربية في حالة الحرب والدفاع) واشترط لبنان (أن يكون قد استوفى كل إجراءاته العسكرية وأن تكون السلطات الدستورية والأجهزة المختصة قد وافقت على الخطط العربية المقررة) وما إلى ذلك من الصياغات المتعددة التي تعني شيئا واحدا هو (الرفض في صيغة القبول) .. وهذا ما تعلمه العسكريون من السياسيين .
... كان ذلك هو الموقف العربي في داخل الغرف الصغيرة، المقفلة الأبواب المفتوحة النوافذ .. حتى لم يعد سرا من الأسرار .. أما المواقف العلنية فقد كانت على المنابر، وفي دور الإذاعة والتلفزيون ..
... ... ففي العيد الثالث عشر للثورة المصرية أعلن الرئيس عبد الناصر أن من المواقف المؤلمة موقف (الحبيب بورقيبة عميل الاستعمار والصهيونية) ، ومحاولته اللعب بقضايا المصير، وبالكذب على الجمهورية العربية المتحدة في أنها كانت متخلفة في تحويل روافد الأردن أثناء الوحدة ) (1) .
... ... وقبل ذلك، غداة انفرط مجلس رؤساء الوزراء العرب الثاني (26-30 مايو 19659) تفجرت موجات الأثير بين إذاعتي دمشق والقاهرة، في
__________
(1) * كل ما يذكره المؤلف عن سياسة حزب البعث في دمشق ليس له علاقة بقيادة الفريق حافظ الأسد، وكلام المؤلف يقصد فيه عهد اللواء جديد والسيد نور الدين الاتاسي ومن قبلهما عند الفريق أمين الحافظ.(1/106)
أعقاب الاعتداءات الإسرائيلية على المواقع السورية من تحويل روافد نهر الأردن، وصاح حكام دمشق في وجه الرئيس عبد الناصر : أين الجيش المصري، أين سلاح الجو المصري، أين اتفاقية الدفاع المشترك، ألم تسمعوا ازير الطائرات الإسرائيلية وهي تقصف الأراضي السورية .إلى آخر هذه الاتهامات الضاربة ... وأجاب الرئيس عبد الناصر على الصيحة بصيحة أشد في وجه حكام دمشق وهو يرد (التحية) بأحسن منها قائلا : - ( إن القضية ليست عسكرية ولكنها قضية ثقة ..ما هي الضمانة، إذا أرسلنا قوة جوية، أنهم السوريين لا يدعون بان الطيارين المصريين سيقومون بمؤامرات ضدهم..وقد قلنا لهم بأننا مستعدون أن نرسل قوة جوية إذا كانوا يعطونا قاعدة جوية يمكن الدفاع عنها بقواتنا،حتى نضمن بأنها لا تهاجم).
... ... ولم تقف الغارات الإسرائيلية، كما لم يقف التراشق العربي بقنابل الإذاعات ( .. فقد عرض اللواء أمين الحافظ رئيس مجلس الرئاسة بالرئيس عبد الناصر في مؤتمر صحفي عقده في مبنى التلفزيون السوري، حضره الدكتور منيف الرزاز الأمين العام لحزب البعث، والدكتور نور الدين الأناسي نائب رئيس الوزراء ..فقال ( إن الزعماء العرب الذين يقولون بأن قضية فلسطين كالحرب الصليبية في حاجة لمئة سنة هم زعماء ضعفاء عاجزون ومتخاذلون ..وأن قنبلة المدفع أفضل من الصواريخ التي تصنعها الجمهورية العربية المتحدة، ونحن نتمنى أن تكون هذه الصواريخ ذات رؤوس نووية). ... ...
... سمع عبد الناصر هذا الكلام، وظل رابضا إلى أن جاءت مناسبة ذكرى الثورة المصرية في 23-7-1965 فوثب على البعث في خطاب لاهب قال فيه : سياسة البعثيين هي نكسة أخرى ..هناك حقد في قلب البعثيين(1/107)
ضد الجمهورية العربية المتحدة ..والبعثيين ماعندهمش مانع يتعاونوا مع الشيطان إذا كان هذا يؤذي مصر، لان الحقد موجود في قلوبهم .. أساليب حزب العبثيين كلها أساليب غدر وخداع وطعنات في الظهر ..ولم ينالها من البعثيين إلا طعنات في الظهور ودس ودسائس ..) .
صاح الرئيس عبد الناصر غاضبا وهو يقول (حملات البعثيين علينا مستمرة من سنين ولن تنتهي، النهاردة بيتكلموا على اليمن بيقولوا ان الجمهورية العربية المتحدة بقوتها في اليمن بتتدخل في اليمن وأننا عاوزين نترك اليمن .. طيب وانتو عملتو إيه .. انتو يا حضرات البعثيين عملتوا إيه لليمن، كل اللي عملتوه تلغراف واحد بعتوه لليمن، وقالوا ان هم مستعدين لك حتى قضية اليمن المقدسة، التي بذل فيها عبد الناصر زهرة شباب مصر، وانفق فهيا الملك فيصل زبدة الثروة السعودية، لم تخل من الحوار بين القاهرة ودمشق، فقد صاح الرئيس عبد الناصر غاضبا وهو يقول: (حملات البعثيين علينا مستمرة من سنين ولن تنتهي النهارده بيتكلموا على اليمن بيقولوا إن الجمهورية العربية المتحدة بقوتها في اليمن بتتدخل في اليمن وإننا عاوزين نترك اليمن , طيب وانتو عملتوا إيه انتو يا حضرات البعثيين عملتوا إيه لليمن كل اللي عملتوا تلغراف واحد بعثتوه لليمن وقالوا, انهم لكل مساعدة مادية ومعنوية ..طيب دفعوا إيه بعد كده ؟ دفعوا ليرة ؟ كلام جعجعة ..).
... ... هذا وغير هذا من ( التلاحم ) الثوري بين دمشق والقاهرة على الصعيد العربي، كما سمعته من الرئيس عبد الناصر وهو يخطب على الجماهير العربية، أو مما عرفته في دمشق أثناء زياراتي لها .
... أما على الصعيد الفلسطيني أو على صعيد منظمة التحرير بالذات، فقد أخذت المصاعب تتكاثر وتتفاقم، فكثير من الدول العربية تتختلف عن(1/108)
التزاماتها لجيش التحرير، حتى أن اللواء عبد المنعم رياض معاون الفريق يقوم بنفقات جيش التحرير ..ولم يخرج من مكتبي إلا بعد ان سلمته شيكا بمبلغ مليون جنيه إسترليني من أموال الصندوق القومي الفلسطيني ..ولو على سبيل السلفة ..هذا إلى جانب الشكاوي الكثيرة التي كان يرددها الضباط الفلسطينيون في جيش التحرير، من أن الضابط المصري في غزة، أو الضابط السوري في دمشق، أو الضابط العراقي في بغداد يسئ معاملتهم، أو يمنعهم من ممارسة صلاحياتهم !!
... ورأيت من واجبي قبل السفر إلى الدار البيضاء أن يكون الشعب الفلسطيني على علم ببعض المصاعب التي تعانيها منظمة التحرير الفلسطينية، فوجهت عن طريق إذاعتنا خطابا طويلا أضع أمام الأجيال الصاعدة والوافدة بعضا من عباراته لتعيش مع تلك الحقبة العربية بلحمها ودمها ..قلت : ( إن من حق الشعب الفلسطيني أن يعرف أين تقف قضيته، قبل أن يعرفها الملوك والرؤساء، فقد انتهي إلى غير رجعة ذلك الزمان الذي كانت تعالج فيه قضية فلسطين في الاجتماعات المقفلة محجبة وراء الأستار، تكتنفها أشباح من الأسرار ...، ثم تنصرف أمورها بالإشارات والهمسات بعيدة عن الشعب والشعب بعيد عنها ..لقد قامت منظمة التحرير ومعها جيش التحرير، وسائر الأجهزة المالية والإعلامية والسياسية والتنظيمية .. ولكننا لم نجد هذه الإنجازات على قارعة الطريق لقية أو لقطة ..لقد انتزعت هذه الإنجازات من مخالب النكبة ومن أنياب الكارثة .لقد وجدنا أنفسنا بعد الكارثة أمام كوارث ثلاث : الأولى أننا فقدنا وطننا، والثانية تشريد شعبنا، والثالثة أن إرادتنا الشعبية قد احتجبت، وسقط زمام القضية من أيدينا .. ولذا فان منظمتكم الآن من غير وطن ..ومن غير شعب متجمع، ومن غير إرادة(1/109)
حرة.. لقد ولدت المنظمة قبل أن تحرر الوطن السليب أسيرة الظروف العربية، ولا بد للمنظمة قبل ان تحرر الوطن السليب أن تحرر إرادة الشعب الفلسطيني ؛ ويوم يكتب تاريخ الكيان الفلسطيني هو أسراره وتفاصيله ستعرف أيها الشعب أن قيام المنظمة التحرير بذاته هو أعظم عمل نضالي ثوري تحقق بعد النكبة ..ولكن ماذا يريد الشعب الفلسطيني من مؤتمر الملوك والرؤساء الذي سينعقد بعد بضعة أيام في الدار البيضاء .. سندخل الدار البيضاء وعلى سيارة وفد فلسطين علم فلسطين ..وسنجد أنفسنا إلى جوار الملوك والرؤساء كتفا إلى كتف، نأكل معهم ونساهم في اجتماعاتهم، ونضع توقيعنا إلى جانب توقيعاتهم، وقد يكون في ذلك إشباع لضعفنا أو غرورنا الإنساني ..ولكن ما لهذا نحن ذاهبون إلى الدار البيضاء ..نحن ذاهبون للمطالبة بالتجنيد الإجباري لكل أبناء فلسطين حيثما وجدوا في الوطن العربي، ولتحصين القرى الأمامية في الأردن، ولتسهيل السفر والإقامة والعمل لأبناء فلسطين، وإنشاء معسكرات التدريب الشعبي في الضفة الغربية، ولجباية ضريبة التحرير وعلى الجملة فسنطالب بتعبئة طاقات الأمة لمعركة التحرير، ولإعداد الشعب الفلسطيني ليكون طليعة معركة التحرير .لقد ولدت المنظمة بترخيص من الدول العربية ولم يكن هذا ما اختاره الشعب الفلسطيني ولكن هذا ما فرضته الكارثة، والمنظمة ما تزال تمارس نشاطها بالقدر الذي تسمح به الدول العربية، ولكن قد آن الأوان أن تمارس المنظمة حرية العمل كاملا ؛ وهذا ما سأذكره في الدار البيضاء .. وإذا كنا فقدنا وطننا فليس لنا ان نفقد إرادتنا ..وإذا فشلت كل مطالبنا أو بعضها أو فشل مؤتمر القمة في مجموعه، فسأكاشف الشعب بالحقيقة كلها، من الدار البيضاء أو بعد الدار البيضاء، ويومئذ يقول الشعب كلمته، وكلمة الشعب هي العليا ).(1/110)
... هذه هي الصورة العامة، العربية والفلسطينية، التي كانت تسود الموقف في المشرق العربي حين كان رجال التشريفات الملكية في المغرب يروحون ويغدون بين القصور الملكية وفنادق المدينة، لوضع اللمسات النهائية على برامج استقبال الملوك والرؤساء وكفالة راحتهم وأمنهم .. ومنامهم وطعامهم .
... ... وبدأت أبحث عن طائرة ليس فيها أي من الوفود العربية، فقد كان حزب البعث في دمشق، والملك حسين في عمان، والملك فيصل في الرياض، كل بأسلوبه وبطريقته، يقولون بأن منظمة التحرير الفلسطينية ناصرية وأن الشقيري (موظف) في وزارة الخارجية المصرية وما إلى ذلك من الكلام الذي أصبحت له قيمة فقط لأنه وجد طريقه إلى مذكراتي !!
... ... وأخيرا وجدتها وركبتها، وكانت طائرة فرنسية نقلتني من بيروت إلى باريس إلى الرباط.. ومنها إلى الدار البيضاء ..
... ... وقد استبشرت أن يكون نزولي إلى المغرب ( في رباط الفتح ) وهي التي أنشأها أحد ملوك الموحدين، إيذانا بان يهيئ الله للعرب العودة للأندلس ... وقد احتجبت مأساة الأندلس أمام الكارثة الكبرى في فلسطين ..
... ... وركبت الطائرة وأنا أدعو الله أن يجعل للملوك والرؤساء من (رباط الفتح) ما يربط قلوبهم على الوحدة، ويفتح أبصارهم على العمل الجاد الهادف، فتلك هي الخطوة الأولى ( لفتح ) فلسطين ..
... ... وفي المساء وصلت مطار الدار البيضاء، وقد تحول إلى صالة استقبال كبرى بما فيه من الأعلام والأقواس ومعالم الزينة، وللمغرب تقاليد عريقة في المراسم (فالمملكة المغربية الشريفة ) عمرها كدولة ألف عام وزيادة ..(1/111)
... ومرقت سيارتي وسط شوارع المدينة، وعليها علم فلسطين رفراقا خفاقا، والجماهير المغربية تملأ الأرصفة والميادين ؛ وتصايح الناس، جمهرة تسمع عن جمهرة .. فلسطين ..فلسطين، وهتفوا ( تعيش فلسطين، تعيش فلسطين .. ) .
... ... ووصلت إلى فندق المنصور، حيث ينزل الملوك والرؤساء، فوجدته (مسورا ) بالحرس المغربي بملابسهم المزركشة وعمائمهم الملونة وسيوفهم المشرعة ؛ومجموعات من الشباب المغربي المؤنق، يرطنون بالفرنسية الباريسية، هم رجال التشريفات الملكية .
... وأذنت الساعة المحددة لجلسة الافتتاح (13-9-65) فخرج موكب الملوك والرؤساء حسب ترتيب بروتوكولي دقيق لثلاثة عشر ملكا ورئيسا، ثم سيارتي، وبعدي سيارة الأمين العام للجامعة العربية، وأمامنا ومن حولنا الموتوسيكلات والفرسان يسابق بعضهم بعضا .
... ... ولكن هذا الموكب الكبير كان كأنه يمشي على سجادة مغربية فاخرة، فلا تسمع صوت السيارات ولا الموتوسيكلات ولا وقع الخيول، لان تهليل الرجال وزغاريد النساء من حولنا كان كالرعد القاصف تسمع له هديرا وزئيرا .
... ... وجلسنا في قاعة الاجتماع، كل في مكانه المخصص له، وأمامنا، على الطاولة أوانٍ من الكريستال الرفيع جيء بها من القصور، ليشرب الملوك والرؤساء بالأقداح الملكية .ولمعت كاميرات المصورين مع الابتسامات التي يدخرها الملوك والرؤساء لمثل هذا اليوم ..وبقيت أنا، وجاري القائد علي عامر ومعاونه اللواء عبد المنعم رياض، عاكفين على ملفاتنا، غارقين في قراراتها، كأنما أوراقنا هي التي ستقرر المصير . .(1/112)
... ... وألقى الرئيس عبد الناصر كلمة الافتتاح، وكانت له دورة الرئاسة، فأشاد بالإنجازات التي تمت في مؤتمري القمة في القاهرة والإسكندرية، وما جرى بشأن تحويل الروافد وخطط القيادة العربية الموحدة، وشئون منظمة التحرير الفلسطينية ..( وأن هذا كله لا يعتبر كافيا، فان إمكانات الأمة العربية لا حدود لها، ولا نملك بديلا غير النصر .. ) ووجمت وأنا أستمع إليه وهو يقول ( ... إن عقد هذا المؤتمر في زمانه ومكانه المحددين هو من الخطوات الإيجابية ... ) وتساءلت في نفسي ..هل أصبح مجرد لقاء الملوك والرؤساء، خطوة إيجابية، جديرة بالتنويه ؟ .
... ... وانقشع وجومي وانقلب إلى رضى وطمأنينة حين أضاف الرئيس عبد الناصر قائلا : ( إن مهمة المؤتمر باختصار هي تحرير فلسطين ... ولا يمكن الفصل بين الحركة الشاملة للامة العربية من أجل تحريرها السياسي والاجتماعي والاقتصادي وتحرير فلسطين ) .
... ... ولكني عدت فاستدركت في نفسي ... وتذكرت التمزق الرهيب الذي يشمل الوطن العربي، والخلافات المستمرة بين القاهرة والرياض، والشجار الناشب بين دمشق والقاهرة، والنزاع بين هؤلاء جميعا وعمان ؛فاعتبرت أن اللقاء، مجرد اللقاء، هو إنجاز كبير ..وحسب الملوك أن يكون لقاؤهم نصرا وفخرا !! ورحم الله المتنبي حينما قال : وحسب المنايا أن يكن
أمانيا ...
... وأعقبه الملك الحسين الثاني فألقى خطابا جيد الإنشاء والبناء، استعرض فيه تاريخ نضال المغرب للمحافظة على عروبته، وركز على (مسئولية الدول العربية في استمرار كارثة فلسطين بسبب الخصومات العربية المتوالية وإضاعة الجهود في معارك جانبية .. ) ونبه إلى ان الشعب العربي(1/113)
(ليتتبع اجتماعاتنا، ومن الممكن أن يفقد ثقته باجتماعاتنا ويفقدنا الأمل بلقاءات أخرى .. والمغرب سعيد بتأدية كل التزاماته) .. هكذا بكل التزاماته !!
... ... وقد صفق الحاضرون طويلا لهذا الخطاب الرشيق الأنيق، دون أن يعرفوا أن المملكة المغربية لم تؤد شيئا من التزاماتها، فقد كانت مدينة للمؤسسات الأربع :هيئة تحويل الروافد، والقيادة العربية الموحدة، وجيش التحرير، ومنظمة التحرير الفلسطينية ..ومع هذا فقد اختار الملك الحسن الثاني أن يؤكد في ختام خطابه (المغرب سعيد بتأدية كل التزاماته) وقديما قال العرب : ختامه مسك .. وليتهم قالوا : ختامه إفك ..!!
... ... وسألني الملك الحسن الثاني، ونحن نخرج من القاعة، : كيف رأيت خطابي ..لقد وضعت النقاط على الحروف وخاصة في قضية فلسطين .. أليس كذلك يا سي أحمد ؟؟
... ... قلت : إن خطاب الحسن الثاني الملك، هو على كل حال خير من خطاب الحسن الثاني ولي العهد . .
... ... قال : مستغربا متسائلا، وماذا تعني ؟
... قلت : هل تذكر جلالتك ..لقد ترأست مؤتمرا ثقافيا في فلورانس في إيطاليا، حين كنت وليا للعهد فقلت في خطابك الافتتاحي :(هناك قضيتان ما زالتا تهددان السلام في الشرق الأوسط، القضية الجزائرية وقضية قبرص) وقد عتبنا على (سموك) يومئذ أنك لم تذكر قضية فلسطين من قريب أو بعيد!!
... ... قال : ها قد عوضنا .. أن مؤتمر الدار البيضاء هو كله من أجل فلسطين ..(1/114)
... ... وعدنا إلى الفندق، في الموكب إياه، والجماهير المغربية ما تزال في مكانها، الشباب والرجال واقفون، والشيوخ والأطفال والنساء جالسون على الأرصفة، والجميع في تهليل وتكبير، وهتاف للعروبة وفلسطين ؛ وأحسست ساعتها أن القاعة التي كنا فيها ليست مؤتمر قمة، وأن مؤتمر القمة، هو هذه الأمة، مجتمعة في هذه الساحات والميادين .
... ... وصلت إلى الفندق فأحاط بي الصحفيون يريدون تعليقا على خطابي عبد الناصر والحسن الثاني .. قلت :ليس لي كلام الآن .. ولكنني سأعقب على المؤتمر بكامله عند الانتهاء في بيان سأذيعه من إذاعة المنظمة ..والأمور مرهونة بخواتمها ..ولكن الصحفيين بقوا في مقاعدهم يتندرون، والنوادر تسلية الصحفيين حين لا يجدون الأخبار ..
... ... فقالوا :إن الطباخ الكبير في فندق الملوك والرؤساء هو يهودي وهو الآن موقوف عن العمل، مؤقتا إلى أن ينتهي المؤتمر ..
... قلت : نعم أعلم هذا، حتى لا يدس السم في طعام أصحاب الجلالة والسمو والفخامة، فالتاريخ العربي حافل بأخبار الملوك الذين ماتوا بالسم !!
... ... قالوا :لقد رأينا كتابة العبرية على بعض المخازن، وخاصة الجزارين، ورأينا كذلك يافطة كبيرة مكتوب عليها ( النادي الإسرائيلي ) .
... قلت : هذا أمر يسير، في زيارتي السابقة للمغرب، كان عدد من اليهوديات يعملن سكرتيرات في وزارة الدفاع، وقد نبهت الاخوة المغاربة المسئولين إلى خطورة هذه الموضوع، واني لأرجو أن يكونوا قد تفادوه ..
... ... وانصرف الصحفيون يفتشون عن نوادر أخرى .. وانصرفت إلى لقاءات ثنائية مع الملوك والرؤساء أبحث معهم مطالب منظمة التحرير الفلسطينية ..استنهض همتهم واستنجد مروءتهم .(1/115)
... ... وقضينا أربعة أيام في الدار البيضاء (13-17-أيلول) في اجتماعات متواصلة، مع وزراء الخارجية في الصباح، والملوك والرؤساء في المساء .
... وكانت الجلسة الأولى للملوك والرؤساء في غرفة صغيرة لا تكاد تتسع للحركة المريحة، فقد كان الشيخ عبد الله السالم الصباح أمير الكويت . يجد عسرا للمرور مع عباءته إلى مقعده .ووجد إسماعيل الأزهري رئيس مجلس السيادة السوداني زاوية صغيرة جلس فيها على كرسي في مثل ضخامته بعيدا عن طاولة الملوك والرؤساء، فقد كان السيد أحمد محمد محجوب رئيس الوزراء هو الذي جلس في مقعد السودان .. وكان الملك حسين، بجسمه الصغير، أكثر الملوك راحة وانشراحا في مجلسه، لولا أنه كان يقابلني مباشرة على الطاولة ..الوجه بالوجه .
... ... وبدأ الحديث في استعراض عام للموقف، فتحدث الرئيس جمال عبد الناصر عن استعداد الجيش المصري، تدريبا وتسليحا، وأفضى إلى الاجتماع بأنه عقد صفقة كبرى للسلاح مع السوفييت بما قيمته ماية مليون دولار، وأن مصر تعد نفسها للمعركة كما لو كانت وحدها، وأن أي دعم عربي عسكري فهو خير وبركة للمعركة .
... ووقف الرئيس عبد الناصر بعض الوقت عند بعض الأسرار الذرية، فتحدث عن جهود الجمهورية العربية في حقل الصواريخ تحت إشراف عدد من الخبراء الألمان الذين يرأسهم (أكبر عالم متخصص في هذا الموضوع) وأن العلماء المصريين بالتعاون مع الخبراء الألمان ( قد نجحوا في إطلاق أول صاروخ في منتصف عام 1960، وأن هذا النوع من الصواريخ يمكن أن يصل إلى أبعد موقع في إسرائيل ... ).(1/116)
... ... وبعد الرئيس عبد الناصر، تكلم الرئيس أمين الحافظ عما أنجزته سوريا في الميدان العسكري، وأن 60 في الماية في ميزانيتها مكرس للجيش، وأن على الدول العربية الأخرى البعيدة عن خطوط القتال، وخاصة الدول البترولية أن تؤدي واجبها كاملا ..وأن ( المال لن ينفع أصحابه، والمرؤ إذا مات لا يأخذ معه إلا قطنه تحشر في طيزه ) ..هكذا ..وكان الحافظ ينظر تارة إلى أمير الكويت وتارة أخرى إلى الملك فيصل .. ومرة ثالثة إلى ولي عهد ليبيا، وقد أعجبني في الحافظ بذاءاته وشجاعته !!.
... ... وأسهب المشير عبد السلام عارف في المدى الذي وصل إليه الجيش العراقي من الاستعداد ..وأن القوات العراقية ما تزال مرابطة في H 4 تنتظر من الملك حسين الإذن بالدخول إلى الأراضي الأردنية ..، وفق خطة القيادة العربية الموحدة .
... ... وتكلم الرئيس شارل حلو والملك حسين عن المصاعب التي تعترض أعمال وتحويل الأردن، واعتداءات إسرائيل المتكررة .
... ... وتحدث العقيد هواري أبو مدين عن تجارب الثورة الجزائرية، وأن تحرير فلسطين لا يتم عن طريق الحرب النظامية، وأن الوسيلة المثلى هي حرب العصابات . وغير ذلك لا يجدي ..
... ... وأشار الملك الحسن الثاني، إلى الدور الكبير الذي يمكن أن تلعبه دول المغرب في القضية العربية ( وأننا قادرون أن نقفل مضيق جبل طارق إذا بقي الغرب مصرا على مساندته لإسرائيل ) ، وحسبت نفسي أني استمع إلى خطبة طارق بن زياد حين عبر إلى الأندلس من طريق مضيق جبل طارق..أجل حسبت أني استمع إلى خطبة طارق، ولكن من غير عزيمة طارق !!(1/117)
... ... وأشار الملك فيصل في عبارة موجزة بأن ( لا ننسى دول العالم الإسلامي .. في قضية فلسطين، ونحن من جانبنا حاضرون للقيام بآي عمل نتفاهم عليه مع الدول الإسلامية، والأخ شارل حلو من جانبه يستطيع أن يعمل شيئا بالنسبة إلى العالم المسيحي ) .
وعقبت على كلام الملك فيصل بشان المؤتمر الإسلامي فقلت :إن العالم الإسلامي ذخيرة كبرى للقضية الفلسطينية، وليس من المعقول أن نستنجد بدولة ساحل العاج في أفريقيا، ونهمل العالم الإسلامي بإمكاناته الضخمة . ولكن المحزن حقا أن دولا كإيران وتركيا تتعامل مع إسرائيل سياسيا واقتصاديا ؛ أن هذا ليس من الإسلام في شيء، بل إنه ليس مسلما من يتعامل مع إسرائيل ..واني أعلن باسم منظمة التحرير أننا نسند جهود الملك فيصل في هذا السبيل ..ولكننا نريده مؤتمرا إسلاميا حقيقيا يساند الأمة العربية في إنقاذ الديار المقدسة من أيدي إسرائيل ..) وكان مقدرا لهذا الحديث العابر وقد عبر من غير قرار عن الاستنصار بالعالم الإسلامي، أن يكون هو الركيزة التي اعتمدها الملك فيصل فيما بعد للدعوة إلى مؤتمر للدول الإسلامية ؛فكان مثارا لشجار كبير بين الرياض والقاهرة وعدد من العواصم العربية .
وأكد الأمير عبد الله السالم الصباح ضرورة التضامن العربي وأهميته في الظروف الحاضرة وكنت ( أترجم للرئيس عبد الناصر، وأنا بجانبه، بعض الكلمات الكويتية في حديث الأمير !!(1/118)
... ... وأعلن المشير عبد الله السلال استعداد اليمن لوضع كل طاقاتها في معركة فلسطين ..بشرط أن (تسوى الأمور مع المملكة العربية السعودية، ونتصافى مع جلالة الأخ فيصل ) !! (1)
وجاء دور السيد محمد أحمد محجوب رئيس وزراء السودان، ليؤدي دوره الذي عرف به، وهو توكيد التضامن العربي كخطوة أولى في سبيل سلامة العمل العربي .. وكان قد تحدث في هذه الموضوع مع الملوك والرؤساء في اجتماعات ثنائية ..وأخرج من جيبه مشروع ميثاق التضامن العربي متضمنا(1) التضامن العربي في معالجة القضايا العربية وخاصة تحرير فلسطين (2) احترام سيادة الدول العربية وعدم التدخل في شئونها (3) مراعاة قواعد اللجوء السياسي وآدابه (4) مراعاة حدود النقاش الموضوعي والنقد الباني (5) التزام الصحافة بعدم الإساءة إلى علاقات الدول العربية او تجريح رؤساء الدول العربية ..
وكان الأمر قد ( طبخ ) في الليلة السابقة بين الملوك والرؤساء، فلم يعترض أحد إلا على لفظة ( النقد الباني ) فقد أراد بعضهم ان تكون ( النقد البناء ) وأخذ الرئيس السوداني يغوص في ( صرف ونحو ) لا يفهمه إلا هو وأنا ..فالحاضرون ليسوا من الأدباء ولا من المتأدبين، باستثناء الحسن الثاني ملك المغرب، فقد كان من فضل والده عليه، أن ثقفه ثقافة عربية..والرئيس بومدين فقد درس بعض الوقت في الأزهر الشريف ..
... ... ... وطاف الرئيس محمد أحمد محجوب على الملوك والرؤساء فوقعوا واحدا واحدا ؛ ووقعت كذلك باعتبار أن المنظمة تملك أجهزة إعلامية ثلاثة :
__________
(1) * الان في السجن بعد قيام ثورة الفاتح من سبتمبر بقيادة العقيد معمر القذافي .(1/119)
(1) الإذاعة (2) جريدة أخبار فلسطين في غزة (3) لساني ..ولعل الثالث هو الأول !!
وانفضّ الاجتماع الأول بعد المناقشة العامة المائعة، وتم توقيع الميثاق، وخرج السيد عبد الخالق حسونة إلى الصحفيين فزف إليهم البشرى الكبرى بتوقيع ميثاق التضامن العربي، وقرأه عليهم كلمة كلمة من
(الديباجة.. إلى عدم التجريح برؤساء الدول العربية) وعدنا إلى الفندق، في الموكب العظيم إياه، لأجد الصحفيين العرب والأجانب حلقات حلقات، وقد سبقونا إلى الصالة الكبرى وهم يتناقشون في عبارات ميثاق التضامن العربي ومعناها ومبناها ومداها ..وأمسكوا بالوفد السوري وهو يدخل الباب، يسألونه، إذا كانت إذاعة دمشق ستوقف حملاتها الإعلامية على الرجعية العربية، وعلى الرئيس عبد الناصر ..فأجاب الدكتور منيف الرزاز أمين عام الحزب وأيده في ذلك اللواء حافظ والدكتور نور الدين الاتاسي، ( أن ميثاق التضامن العربي لا يمكن أن يكون ستارا للخيانة ) .. ثم جاءوا إليّ فقلت لهم : نحن لا نسب حدا ..إن المنظمة ليس لها موقف من النظم الملكية والجمهورية ..ولا شأن لنا بالخلافات العربية .. إن موقفنا بسيط ..من كان مع فلسطين فنحن معه ..ومن لم يكن مع فلسطين فلسنا معه ..وان المعيار الوحيد عندنا هو الوفاء بالالتزامات وتيسير مهمة المنظمة ..والحفاظ على القضية الفلسطينية اولا وآخرا .. وهذا هو كل ما يعنينا ..
... ... وتراكض الصحفيون بعد ذلك عبر السلالم ليقصدوا الوفود الأخرى، والمراسلون الأجانب منهم، يودون أن ينهكوا ميثاق التضامن العربي قبل ان تجف تواقيع الملوك والرؤساء !!(1/120)
... ... ولم تنعقد اجتماعات في اليوم التالي، فقد كان يوم جمعة، وتهيأ الملوك والرؤساء لصلاة الجمعة ..وكان يوما مهيبا رائعا احتشدت فيه الجماهير على الأسطح والشرفات وتسلق الشباب على أعمدة الكهرباء والأشجار، وعلا تهليل الجماهير فوق آذان المؤذنين ..والناس في بكاء وضراعة، يهتفون بكل جوارحهم لتحرير فلسطين .. وكانت ضراعتي أن يهدي الله الملوك
والرؤساء ..
وركبنا عربة مكشوفة، أشبه ما تكون بعربة الترام الصغيرة، تسير الهوينا بين الصفوف، والوزراء وكبار رجال الأمن يحفون بها من كل جانب، والملوك والرؤساء يردون التحية، والملك الحسن الثاني بملابسه المغربية الوطنية، يستبطئ العربة شيئا فشيئا حتى وصلنا المسجد وأدينا الصلاة، والجماهير تؤدي الصلاة معنا خارج المسجد، على الطرقات وفي الميادين من غير بساط ولا حصير .. وفرغنا من الصلاة وعدنا الى فنادقنا، بعد أن تركنا خشوعنا ..في المسجد ..
وعادت الجماهير إلى حالها وشئونها، إلى المنازل والديار، مسرورين مبتهجين، فقد (امتص) الموكب الفخيم كل حماستهم، (وابتلع) كل عواطفهم .. وكذلك يكون تنفيس الحماس وتفريغ العواطف، بأمثال هذه المهرجانات، وقد برع الملوك والرؤساء في الأداء والإخراج !
... ... ... وتوالت الاجتماعات بعد ذلك، في اليومين الثالث والرابع، والأمة العربية من حول المؤتمر ترجو أن يكون ميثاق التضامن العربي هو المفتاح السحري الذي يفتح القلوب والجيوب !!
... ... وتولى الرئيس عبد الناصر طرح المواضيع واحدا بعد واحد ..وكان الموضوع الأول هو تقرير هيأة تحويل الروافد، فتلا الأمين العام بيانا مفصلا(1/121)
شرح فيه توقف العمل في مشروعات التحويل في كل من سوريا ولبنان والأردن، بسبب الاعتداءات الإسرائيلية المتوالية ..وطالب باعتمادات إضافية تتطلبها مشروعات التحويل في سوريا والأردن . ومعاونة الحكومة اللبنانية بتقديم قرض لمشروع ( سد النبطية ) !!
... ودافع اللواء الحافظ والملك حسين والرئيس شارل حلو كل عن موقفه بعبارات متباينة ولكنها كلها تلتقي عند عدم توافر الحماية العربية العسكرية اللازمة .. هذا مع التوكيد من كل منهم بأنه ( على أتم الاستعداد لدفع العدوان مهما أدى ذلك من تضحيات ) .
... ... وتناقش المجلس طويلا في هذه المطالب، (وفرشت ) خارطة مشروع تحويل الروافد على طاولة المؤتمر، والملوك والرؤساء ينظرون على الخطوط الزرقاء والحمراء .. ولكن أحدا لا يتحدث عن المطالب المالية ..وقالوا للامين العام السيد عبد الخالق حسونة : اكتب قرارا .. فبدأ يكتب .. هذا الملك كلمة، وذلك الرئيس عبارة .. وجمع السيد حسونة تلك الكلمات والعبارات فكانت القرار الآتي : -
1- استمرار الدول المعنية في أعمال المشروع .
2- تفويض هيئة المشروع أن تنقل بعض الاعتمادات المرصودة من قسم إلى قسم..تسديدا للأموال الإضافية المطلوبة .
3- إرجاء النظر في المبالغ الإضافية المطلوبة للأردن وسوريا إلى الدورة المقبلة .
4- تفويض هيئة الروافد، بما يمكن أن تساهم به، في القرض الذي يطلبه لبنان من المبالغ المخصصة للبنان .(1/122)
... وكان هذا القرار، بجوانبه المالية والعملية، هو عدم اتخاذ أي قرار..ونظر الملوك والرؤساء بعضهم إلى بعض، وقد أيقنوا ان ميثاق التضامن العربي لم يكن المفتاح السحري للقلوب ولا للجيوب !!
ودفع إليّ السيد محمد محجوب ورقة صغيرة كتب فيها الشعر الشهير : ( وفسر الماء بعد الجهد بالماء ) .. وكانت بيني وبينه مطارحات شعرية متواصلة في الاجتماعات، فأعدت الورقة بعد أن كتبت عليها ..
كأننا والماء من حولنا ... ... ... قوم جلوس حولهم ماء !!
... ثم انتقل الرئيس عبد الناصر إلى تقرير القائد العام بشأن الخطة العسكرية لحماية تحويل الروافد.
وأخذ الفريق عامر يشرح المصاعب التي يواجهها مع السلطات السورية واللبنانية، بصدد نقل القوات العربية وتدعيم الجبهتين السورية واللبنانية، ثم شكا من موقف العناد الذي يقفه الأردن في عدم السماح للقوات السعودية والعراقية بالدخول إلى الأردن، وأثر ذلك على الخطة العسكرية في مجموعها .
... ... ... وانبرى الملك حسين يجادل الفريق على عامر في أن دخول قوات عربية إلى الأردن من شأنه ان يستفز إسرائيل وتهجم على الأردن ..وأكد ان القوات الأردنية وحدها قادرة على الدفاع عن مشروعات التحويل !!
... ... وأفحمه الفريق عامر حين قال للملك حسين .. إذا كانت القوات الأردنية قادرة على حماية المشروع، فلماذا تخشى من إسرائيل ..إن القوات العربية هي دعم للجيش الأردني، وستردع إسرائيل عن أي محاولة للاعتداء على الأردن .(1/123)
... ... وطال الجدل بين الملك حسين والفريق علي عامر، وهم يتراشقون بالتعابير العسكرية..ولم يكن الملك حسين قد حاز بعد لقب ( مارشال في سلاح الجو البريطاني ) وهو اللقب الذي منحته إياه السيدة اليزابيث ملكة بريطانيا في اواسط 1966 !!
... ... وقال الملك فيصل : إن قواتنا تقف على الحدود الأردنية، فإذا سمح لها جلالة الأخ حسين أن تدخل دخلت، وإلا فنحن واقفون على الحدود .
... ... وقال المشير عبد السلام عارف : نحن نرى أنه يجب أن ننصاع لتوجيهات الفريق على عامر ..وأنا كرئيس دولة وكعسكري أقول .إنه ليس لنا أن نناقش القائد العام في خططه ...
... ... وفي هذه الأثناء اقتحم الباب أحد أعضاء الوفد العراقي وسلم إلى المشير عبد السلام عارف ورقة ..وخرج ..
قرأ المشير الورقة، وهمر وشخر .. وكانت شخرة عراقية ..وإذا بها برقية واردة من بغداد، بان محاولة انقلابية قد جرت في بغداد يقودها، (عارف عبد الرزاق وأنها أحبطت وقبض على المتمردين، وأن الجيش العراقي بقيادة عبد الرحمن عارف قابض على زمام الموقف ) .
... ... وساد الاجتماع وجوم وصمت ..ونهض الرئيس عبد الناصر والمشير عبد السلام عارف إلى غرفة مجاورة فاختليا قريبا من نصف ساعة .. وباقي الملوك والرؤساء يتباسطون، والملك الحسن الثاني يأمر بالشاي المغربي الفاخر .
وكنا نخرج من حين إلى حين إلى الغرف والردهات المجاورة . حيث كان وزراء الخارجية والدفاع يتسقطون أخبار الملوك والرؤساء .. ولكن نبأ محاولة الانقلاب في بغداد قد أشغلهم عن مؤتمر القمة، وانتظم(1/124)
الوزراء حلقات حلقات، يجمعهم قاسم مشترك أعظم هو الهمز واللمز .. فهذا الوزير يتساءل : هل كان من الممكن أن يقوم عميد الجو العراقي عارف عبد الرزاق بهذه المحاولة من غير ( تدبير) الرئيس عبد الناصر ؟ ويقول وزير آخر : تؤكد الأخبار أن عبد الرزاق وصل إلى القاهرة علي متن طائرة خاصة.
ويعلق وزير ثالث : عبد الناصر بارع جدا ..دبر المؤامرة أثناء وجود المشير عبد السلام عارف في مؤتمر القمة، ولكنها لم تنجح .. وها هو الآن يختلي معه .
... ... كنت أستمع إلى هذا الهمس يدور في أروقة المؤتمر، وأنا أتساءل في أعماق نفسي : هل هذا هو التضامن العربي ..بل إن سؤالا اكثر عمقاً وأشد عنفا كان يصرخ في قلب فؤادي : أهؤلاء الناس سيحررون فلسطين ..؟؟ !!
... ... وانتهت فترة الاستراحة، وعدنا إلى الغرفة الصغيرة لنستأنف المداولات، وعاد الرئيسان عبد الناصر وعبد السلام عارف من خلوتهما، وقد طغي خبر الانقلاب علي خلاف الملك حسين والفريق عامر .
... ... وقال الرئيس العراقي : الذي نرجوه هو إبراء مسئولية العراق ..
نحن لا نستطيع إبقاء الجيش العراقي عاما آخر ينتظر علي الحدود .. إذا كان الأردن يعارض دخول قواتنا، فنرجو أن تقرروا هذا، ونحن سنعود بجيشنا إلى العراق .
... ... ونظر الملوك والرؤساء إلى وجوه بعضهم بعضا.. النظرات الحائرة المألوفة، وسأل الرئيس عبد الناصر : -
- هل تريدون دخول القوات العراقية إلى الأردن ..؟ فلم يجب أحد عن السؤال ..(1/125)
... ... ثم سأل الرئيس عبد الناصر :-
-هل توافقون علي عودة القوات العراقية إلى العراق ..؟
فلم يجب أحد عن السؤال ..
... وكان الرئيس العراقي يهم بالانصراف، استعدادا للعودة إلى العراق في أول طائرة تنقله من الدار البيضاء، فقال : أنا أفهم من هذا الصمت أنكم تعفون العراق من المسئولية ... ونحن سنعيد جيشنا إلى العراق .
... ... قال الملك حسين :نعم ..إن العراق ليس بعيدا عنا .. ونستطيع أن نطلب نجدتكم في الوقت المناسب .
... ... فأومأ الملوك والرؤساء بالموافقة، وهمست في أذن الفريق عامر بما قال الفقهاء (لا ينسب إلى ساكت قول، ولكن السكوت في معرض الحاجة جواب ).
... ... فقال : رحم الله الفقهاء ما أعظم أقوالهم .. تماما علي الجرح.
... ... ونهض المشير عبد السلام عارف، وودع وانصرف، واللواء الحافظ يقول له : أريد ان أطمئنك انه لا علاقة لحزب البعث بما جرى في بغداد ..
وفي بديهة سريعة أجاب المشير عبد السلام ( والله، يا أبو عبده (كنية الحافظ) أنت لا تعرف شيئا عن حزب البعث، انهم لا يثقون بك، لقد جاءوا بك لأنهم مضطرين . ونحن نعرف بعض زين، يا أبو عبده .. ).
... وقارب موعد الطعام، وكان عشاء رسميا إقامته بلدية الدار البيضاء، فنهض الجميع . والرئيس عبد الناصر يقول لي وللفريق عامر : حضروا حالكم ..الجلسة الختامية غدا وستكون مخصصة لكم .(1/126)
ونعمنا تلك الليلة بأشهى الأطباق المغربية، والمطبخ المغربي عريق أصيل في جودة طعامه..فأكلنا وشبعنا وتخمنا ... والأمة العربية من المحيط إلى الخليج .جائعة.طاوية على أخبارنا وقراراتنا.
وتوافدنا على الاجتماع في اليوم التالي، وأنا أحمل معي ملفاتي ... ووجدت الفريق عامر قد سبقني وبين يديه أوراقه يقرؤها،ويضع علامة على هذه الصفحة أو تلك .
... ... وبدأت الجلسة بي .فعرضت على الملوك والرؤساء ما استطاعت المنظمة أن تنجزه بالنسبة إلى جيش التحرير الفلسطيني والى مؤسساتنا السياسية والإعلامية ..ثم انتقلت إلى مطالبي ومقترحاتي واحدا واحدا.والملوك والرؤساء يناقشونها واحدا واحدا،ثم لا يقررون ..واحدا واحدا..بل انهم يريدون أن يقرروها جملة واحدة، كما قالوا !!
... ... وبدأت بالأسهل، فالأسهل أو ما حسبته كذلك ..فعرضت أولا موضوع الإقامة والسفر والعمل لأبناء فلسطين وهو موضوع قديم، يرجع عمره إلى عهد النكبة، فشرحت ما يلاقيه أبناء فلسطين من المتاعب والقيود فيما يتصل بعملهم، وسفرهم، وإقامتهم .. وأن هذا لا يليق بالاخوة العربية ونحن على أبواب تحرير فلسطين .. وشرحت بعض (المفجعات) في هذا الصدد، مثل السماح (للجثمان) باجتياز الحدود بين سوريا ولبنان، وعدم السماح لأصحاب ( الجثمان ) بالمرور ..وغير ذلك من الأمور التي تشترك في مصاعبها كل البلاد العربية ..من غير استثناء ..وختمت في النهاية بان الجامعة العربية قد وضعت (بروتوكولا) لتنظيم شؤون الفلسطينيين، وهو يمثل الحد الأدنى من التسهيلات (لأبنائكم وإخوانكم وإخواتكم) من أهل فلسطين ورجوتهم في النهاية أن توقع الدول العربية على هذا البروتوكول .(1/127)
... ... وتحدث الرئيس الحلو في أن لبنان قدم كل التسهيلات الممكنة للفلسطينيين، (مع مراعاة ظروف الأمن والأحوال الاقتصادية في لبنان) وأن لبنان يستوعب من اللاجئين أكثر مما تتحمله أية دولة عربية أخرى .
... وتكلم اللواء الحافظ أن سوريا تعامل الفلسطينيين كمعاملة السوريين سواء بسواء، وان القيود التي على الفلسطينيين هي القيود نفسها التي على السوريين من حيث السفر والانتقال !!! كأنما القيود على المواطن العربي قد أصبحت هي القاعدة في الحياة العربية .
... وقال الملك حسين : نحن لا فرق عندنا بين فلسطيني وأردني .والكل متساوون في الحقوق والواجبات، أما الفلسطينيون في الخارج فيجب أن نتأكد من عدم انتمائهم إلى منظمات حزبية .
... وتكلم الملك فيصل غاضبا من هذه ( المعاملات المشينة التي يتعرض لها الفلسطينيون التي لا تتفق مع الاخوة في الدين ..أما الذين يمنعون من دخول المملكة أو يطردون منها فهي أمور متعلقة بالأمن ..والمملكة اعتمدت الهيئة العربية العليا في الموضوع، فكل من تشهد له بحسن السلوك نعطيه تصريحا) .. هكذا تحدث الملك فيصل بكل بساطة كأن المستمعين جهلاء أو أغبياء ..وقد تناسى أنه قد منع خمسة عشر فلسطينيا في المملكة من الاشتراك في المجلس الوطني الأول، الذي انعقد في القدس في ربيع عام 1964 (1) .
... ... وغرق موضوع ( البروتوكول ) في خضم هذه ( النخوات) الغارقات في بحار من التحفظات ..وبقي البروتوكول من غير توقيع، وبقي مكانه في أوراق الجامعة العربية التي تحرق كل خمسة أعوام في جملة ما يحرق من المهملات .
__________
(1) انظر : من القمة إلى الهزيمة .(1/128)
... ... وكانت الفتوى (الكريمة) للخروج من هذا الموضوع من غير قرار، أن على المنظمة أن تتصل بالدول العربية للاتفاق على التسهيلات الممكنة، فعدنا إلى حيث كان الموضوع قبل عشرين عاما، يوم خرج الفلسطينيون من وطنهم وديارهم ..وكانت الفتوى لهذه الفتوى كما أعلن الملك فيصل أنه (لا يليق بالحكومات العربية أن توقع بروتوكولا بهذا الموضوع، فان واجب العروبة والدين أسمى من ذلك . .) ولكن يليق أن يئن الشعب الفلسطيني تحت هذا العذاب.
... ... وعرضت بعد ذلك، أن تيسر الحكومات العربية للمنظمة إجراء انتخابات عامة لاختيار مجلس وطني تنبثق منه قيادة فلسطينية وأوضحت أن القضية الفلسطينية قد وصلت مرحلة تتطلب قيام قيادة منتخبة مسئولة أمام الشعب الفلسطيني .
... ... وسكت الملوك والرؤساء إلا اثنان .. وكان هذا السكوت طبيعيا فان أكثر الحكومات العربية، ملكية كانت او جمهورية، ليس فيها انتخابات، والشعب فيها مستقر في وطنه ..لا شريدا ولا طريدا ..
... ... وكان الاثنان اللذان تكلما : الملك حسين والملك فيصل، قال الملك حسين :إنه لا يمانع بالانتخابات ولكن يجب أن تكون أكثرية المجلس الوطني الفلسطيني من الفلسطينيين الأردنيين ..وأجبت بإيجاز أن هذا أمر داخلي يخص الشعب الفلسطيني، وليس للحكومات العربية دخل فيه ..وقد يكون المجلس الوطني كله من (الفلسطينيين الأردنيين) او من الفلسطينيين في البحرين..
... أما الملك فيصل فقد اشترط أن تتم الانتخابات بعيدا عن المنظمة وأن يتولى الإشراف عليها (القضاة الشرعيون) وهو اقتراح سبق أن تقدمت به(1/129)
الهيئة العربية العليا .. فأجبت بما أجبت الملك حسين، وأضفت أننا نوافق أن تجري الانتخابات تحت إشراف الجامعة العربية، ولكن الملك فيصل أصر على رأيه وألقى بكوفيته وراء كتفه وهو يقول : الجامعة العربية عندها ما يكفيها من المشاكل .. وقلت : وكذلك القضاة الشرعيون فهم غارقون في مشاكل الزواج والطلاق !!
... ... وهكذا فان الملوك والرؤساء، لم يجدوا صيغة يتفقون عليها، سوى الفتوى إياها فقرروا ( أن على المنظمة أن تتفق مع الدول العربية بشأن الموضوع ) .. وهكذا تزحلق الموضوع.
... ... ثم عرضت مسألة التجنيد الإجباري لأبناء فلسطين في الأردن، واكتفيت بالقول بأن إسرائيل في الطرف الآخر من خطوط الهدنة تفرض التجنيد الإجباري 26 شهرا للشباب و20 شهرا للشابات .فعارض الملك حسين استنادا إلى ( أسباب اقتصادية واجتماعية تعرفونها ولأننا لا نريد ان نخلق حساسية بين فلسطيني وأردني ) . وسئل الفريق على عامر رأيه في الموضوع، فقال (لقد طلبت إلى الملك حسين مرارا أن يفرض التجنيد الإجباري على جميع المواطنين في الأردن من غير تمييز بين أردني وفلسطيني، ولكن لم يوافق ).
... ... وتقحمت على الكلام فورا ,قلت :إذا كان ( سيدنا ) يعتمد التجنيد الإجباري على جميع المواطنين، فان المنظمة تتنازل عن طلبها ..فنحن طلاب وحدة، وفلسطين هي وطن الأردن كما هي وطن الفلسطينيين ..ولكن الملك حسين بقي على إصراره ..وبقي الملوك والرؤساء على إصرارهم في الصمت ..فقد أصبحت مؤتمرات القمة عند العرب كمجلس الأمن عند الدول العظمى، بحق فيه للأعضاء الدائمين أن يمارسوا حق الفيتو .. والأعضاء(1/130)
الدائمون في مؤتمرات القمة هي الدول العربية التي تستضيف على أراضيها جماهير الشعب الفلسطيني !!
... ... ... ولم يبق من المواضيع إلا إنشاء قوات فلسطينية إضافية .. سبع كتائب صاعقة، أربع منها في سوريا وثلاث في قطاع غزة، وذلك بموجب خطة القيادة العربية الموحدة، وعلى الورق كان الأمر سهلا ..(فقد قرر الملوك والرؤساء تكليف القيادة الموحدة بالاشتراك مع منظمة التحرير الفلسطينية في إنشاء القوات الفلسطينية المنصوص عليها في خطة الإنشاء) ..
... ووجه الفريق عامر سؤالا بسيطا : ( والمال، نريد اعتمادا جديدا ..).
... ... قالوا : كم هو المبلغ المطلوب ؟
... ... قال : خمسة ملايين ونصف مليون جنيه إسترليني ..
... ... فنظر الملوك والرؤساء بعضهم إلى وجوه بعض، ولم ينظروا إلى جيوب بعضهم بعض وقالوا :
يصرف المبلغ من وفورات القيادة العربية الموحدة .
فقال الفريق عامر، ليس عندنا وفورات ..كل بند في الميزانية مربوط على مخصصاته ...
... قالوا : دبر أمرك .. انقل من بند إلى بند ..وفرّ دبر !!
... وقال الرئيس عبد الناصر : -
- أمامنا الموضوع الكبير ..خطة تحير فلسطين، نستمع الآن إلى تقرير الفريق عامر ..
... وهكذا أقفلت أوراقي ..وفتح الفريق عامر أوراقه ليتحدث عن خطة تحرير فلسطين، استجابة لما طلبه الملوك والرؤساء في مؤتمر القمة الثاني في الإسكندرية .(1/131)
وراح الفريق عامر، يقرأ تقريره عن خطة تحرير فلسطين، من النسخة الوحيدة التي تملكها القيادة الموحدة .. فقد انتزعها من محفظته، وفض عنها الشمع الأحمر .. ومضى يتلو صفحة بعد صفحة، ويقف عند بعض فقراتها شارحا لبعض الوقائع، أو موضحا لبعض الأرقام ..
... ولست أبيح لنفسي أن اقف طويلا عند هذا التقرير، ولا أن أفشي كل ما فيه، فإني ما زلت أعيش تلك الساعات الثلاث التي قضيناها مع علي عامر وهو يشرح خطة تحرير فلسطين، مع ملابساتها الدولية، والتزاماتها العربية، ومختلف ظروفها السياسية والعسكرية والمالية و.. و ..
... وكانت تتنازعني أحلامي ومخاوفي في ..أحلامي لأن تحرير فلسطين هو أمنيتي وأمنية كل عربي في ليله ونهاره ..ومخاوفي لأني عرفت الحكم العربي منذ 1948، وها أنا الآن أعيشه في الدار البيضاء، 1965 ؛ ولا أراه على مستوى المعركة .
... وتحدث الفريق عامر تفصيليا عن العوامل الثلاثة في معركة التحرير : القوات العسكرية اللازمة، الأموال الكافية، التوقيت الملائم (وفي ستة أيام نكون قادرين على تحرير فلسطين) .
... ولقد أمسكت عن ذكر تفاصيل الخطة، ولكن لم أستطع أن اكتم حكاية (الأيام الستة) بعد أن هزمنا في حرب الأيام الستة .. وكأنما نحن وضعنا الخطة، وبادرت إسرائيل لتنفيذها، ولكن نصرا لها وهزيمة علينا . . وتلك حكاية رهيبة سأقصها في مكانها . . (1)
__________
(1) * في كتاب تحت الإعداد عن حرب الأيام الستة.(1/132)
... وتعاقب الملوك والرؤساء في الثناء على الخطة، والموافقة عليها ..وانه ما على العرب إلا ان يتضامنوا، ويوحدوا صفوفهم، ويستجيبوا للمطالب العسكرية والمالية التي اقترحها الفريق عامر .
... ... وجاء دوري في الكلام وقلت :ليست هذه أول مرة توضع فيها خطة لتحرير فلسطين ..لقد عشت مؤتمرات سابقة وضعت فيها مثل هذه الخطة..واني أدعو الله أن نكون اليوم أمام الخطة الأخيرة، ويتم تحرير فلسطين،لتستريح الأمة العربية إلى الأبد . .القضية الفلسطينية كلفت الأمة العربية ثمنا غاليا من الرجال والجهود والأموال ..وأن الأرخص هو تحرير فلسطين ..ولو أنكم وضعتم على هذه المائدة نصف إمكاناتكم المالية، وتقشفتم عاما او عامين لاسترحتم من إسرائيل كل العمر . .
... ... ثم قلت مستدركا، إن الخطة التي سمعتموها هي خطة هجومية انقضاضية، ولكنها تستلزم كذلك خطة دفاعية بالنسبة للقرى الأمامية وخاصة في الجبهة الأردنية، فهذه القرى مكشوفة وعزلاء ..وآخر ما وقع منذ بضعة أسابيع العدوان على قلقيلية، حيث دمر اليهود أحد عشر بئرا، وتركوا وراءهم منشورا فيه إنذار إلى أهل قلقيلية ..إني اعتبر هذا المنشور موجها إلى الملوك والرؤساء ..وها إني أضعه أمامكم بنصه الكامل، لتروا ما تضمره إسرائيل للقرى الآمنة عند أول بادرة ..إنه يقول في جملة ما يقول (إننا نحذركم بكل صراحة بأنه إذا لم يحل الهدوء على أراضينا، فلن يحل هدوء على أراضيكم، وستكون اضراركم وخسائركم جسيمة، وقد قدمنا هذه الليلية للإنذار فقط .ونحن نأمل بالا نجبر أن نقدم إليكم بوسائل تأديبية أقوى من هذا ..وقد أعذر من أنذر).(1/133)
... ... وتناول الرئيس عبد الناصر المنشور الإسرائيلي من يدي وأخذ يقرأه على الحاضرين ..وانتهى التعقيب والتعليق ..وتناول الرئيس عبد الناصر قلما وورقة وبدأ يدون تلخيصا لتقرير الفريق عامر ..ما يلزم من الجيوش، والطيارات والدبابات ومختلف الأسلحة والذخائر . وما يلزم من النفقات المالية ..ما عندنا في الوقت الحاضر من الجيوش والسلاح والعتاد، وما ينقصنا ..ما يتطلبه الوقت من التدريب والتجهيز وما ..وما إلى آخر ذلك التلخيص ..
... ... ولا أطيل ..لا أطيل فالحديث في هذا الموضوع في عام 1972 يفتح الجراح من جديد.
... ... وكل الذي يكفي أن أقوله إنه جرى توزيع الأقساط الأولى من الالتزامات المالية، حتى يمضى القائد العام في تنفيذ خطته، والتزمت مع الملوك والرؤساء بالقسط الأول الذي يخصنا .. مبلغ نصف مليون جنيه إسترليني ... التزام المترتب على الشعب الفلسطيني ..
... وختم هذا الموضوع ..على هذه الصورة، من غير تدوين، وكان على كل ملك ورئيس أن يكتب في مفكرته الخاصة، القسط الأول، المطلوب ..ولا يزيد على ذلك قليلا او كثيرا
وانتقلنا إلى القاعة الكبرى حيث كانت الوفود ومن حولهم المصورون والصحفيون في انتظار الجلسة الختامية، وجلس كل وفد في مقعده، وألقى الرئيس جمال عبد الناصر خطابا أعلن فيه : ( أن المؤتمر قد حقق نجاحا أكيدا، لأنه مهما كانت اتجاهاتنا الاجتماعية او السياسية فان حكم الطبيعة المتمثلة في وحدة التاريخ ووحدة المصير، قادر أن يخلق بيننا وحدة عمل نواجه بها كل التحديات والمخاطر ..إن هذا المؤتمر هو أخطر الاجتماعات(1/134)
العربية .. وإن كثيرين كانوا ينتظرون وربما يتمنون انفجارا يمزق هذا الاجتماع ولكن الذي حدث عكس ذلك ..).
... وانتهي مؤتمر القمة على نغمات التفاؤل الحلوة، وخرجنا من القاعة ؛ وكنا ثلاثة نمشي معا، الحسن الثاني ملك المغرب، والحسين ملك الأردن، وأنا ..فقال ملك المغرب : لماذا لا تتحول منظمة التحرير الفلسطينية إلى حكومة مؤقتة وتبدأوا بإقامة سفارات في البلاد العربية بدلا من إنشاء مكاتب، ونحن موافقون على إنشاء أول سفارة لكم في المغرب .. فقلت على الفور :إن على جلالة الحسن أن يقنع جلالة الحسين ..والحسن أخو الحسين .. ونحن حاضرون .. فقال الملك حسين ..الموضوع وراءه أمور شائكة وهو ليس بهذه السهولة، وسأشرح لكم الملابسات قبل عودتي .
... ... وانصرفنا إلى سيارتنا – إلى الفندق في انتظار أول طائرة تعود بي إلى القاهرة او إلى بيروت كيفما اتفق .. فقد كنت في سباق مع آمالي، قبل ان تجتاحها مخاوفي .
... ... ومرت الأيام والأسابيع ومؤتمر الدار البيضاء يترنح في الفضاء، بين اليأس والرجاء، فقد كان آخر مؤتمر للملوك والرؤساء .. ولم يعقد بعده مؤتمر القمة في الجزائر، كما تعاهدوا قبل أن يتفرقوا .
... ... وانقضى العامان – (1966-1967) من غير قمة، إلى أن حلت النكبة في حزيران، وأعقبتها بعد ذلك (قمة الهزيمة ) في الخرطوم ؛ و(قمة ) التمزق في الرباط .. وقمم صغيرة أخرى لدول المواجهة، ليست جديرة بالاسم ولا بالعنوان .
... ذلك كان حال الملوك والرؤساء ...
(ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة ) صدق الله العظيم(1/135)
الملوك والرؤساء..
مشوا على رؤوسهم
...
... هل كان الرئيس عبد الناصر صادق الفراسة ..؟
... بل هل كان الرئيس عبد الناصر صادقا فيما يقول ..؟؟
... أم إنه قال ما قال إذكاء للنفوس وتثبيتا للقلوب ..
... كانت هذه الأسئلة تغور في نفسي، وأنا في الطائرة من الدار البيضاء إلى القاهرة، غداة انتهى مؤتمر القمة الثالث ..
... كانت بيدي جريدة الأهرام وقد امتلأت صفحاتها بأخبار مؤتمر القمة وإنجازاته، وقد تصدر ذلك قول الرئيس عبد الناصر ( هذا أنجح مؤتمر حضرته في حياتي) .
... وبدأت أبحث في أعماق نفسي عن إنجازات هذا المؤتمر .موضوعا موضوعا ..ورحت أضرب وأطرح، وأجمع وأقسم ..وتساءلت :الخطة العسكرية لتحرير فلسطين ..عبارة رائعة، ولكن أنّى للدولة العربية الممزقة المتباغضة المتحاسدة أن تحارب، وإذا حاربت أنّى لها أن تنتصر ؟؟
... ... المشروع العربي لتحويل الروافد .. يحتاج إلى أموال وحماية . ولا هذه موفورة، ولا تلك ميسورة ... فمن أين للمشروع العربي أن ينجح ؟؟(1/137)
... ... ومطالب منظمة التحرير الفلسطينية، في التجنيد والتدريب، وحرية الإقامة والعمل والسفر، و.. و.. وسائر الأمور خرجت من مؤتمر الدار البيضاء بصفحة بيضاء، فأين المفر والمقر ؟؟.
... ... وفي النهاية رسا مؤتمر القمة في نفسي على إنجازات لا أراها إنجازات.. من ذلك أن علم تونس قد أنزل من مقر المؤتمر احتاجا على موقف الرئيس بورقيبة من قضية فلسطين . وعلم تونس ملك الشعب وليس ملك رئيسه ؛ ومن ذلك إجلاء عدد كبير من يهود المغرب عن الدار البيضاء أثناء انعقاد المؤتمر .. ولكن المؤتمر لم يكن على مستوى الخطر الصهيوني المحدق بالوطن العربي بأسره فضلا عن الوطن المغربي ؛ ومن ذلك مبادرة الملوك والرؤساء إلى صلاة الجمعة في موكب فخيم، ولم تكن مظاهرة لله بقدر ما كانت مظاهرة لامتصاص عواطف عباد الله !!
... ... ومن ذلك، أخيرا، أن وزراء الخارجية قد رفضوا أن يدرجوا على جدول الأعمال مذكرة مرسلة من الرئيس أبو رقيبة إلى (1) المؤتمر تفنيدا
( للوحدة العربية ) ؟ وكان الأجدر بالمؤتمر أن يسير خطوة واحدة على طريق الوحدة العربية، بدلا أن يعلن رفضه لأراء أبو رقيبة ..
... هذا كل ما استقر في ذهني عن إنجازات المؤتمر ..وسألت نفسي مرة ثانية : لماذا قال الرئيس عبد الناصر عن المؤتمر ما قال ..أنا أكبره بعشر سنوات في ميدان العمل .ولكنه يكبرني بأعوام في الممارسة والمعاناة، وهو يعرف من تخلف الحكم العربي الرسمي أكثر ما أعرف .
__________
(1) انظر: حوار وأسرار مع الملوك والرؤساء، دار العودة ، بيروت،1971 .(1/138)
... ... وأبقيت هذه الخواطر حبيسة في نفسي بضعة أيام، إلى أن عاد الرئيس عبد الناصر من المغرب، وطلبت موعدا عاجلا ؛ وفي منزله في منشية البكري في مصر الجديدة اجتمعت به قريبا من ساعتين، ونحن نتحدث في الشئون العربية، وما انتهى إليه مؤتمر الدار البيضاء من قرارات، وما هي بقرارات .
... ... ولم يكد يلفظ هذه ( الأدلة ) على الحكم العربي، حتى بادرته بالسؤال : ولماذا ذكرت الأهرام على لسانك بأن مؤتمر القمة في الدار البيضاء يعتبر أنجح مؤتمر شهدت في حياتك .فبادرني على الفور قائلا : وهل تريدني أن أدفع الأمة العربية إلى اليأس .وهل تريد أن تيأس الأمة العربية من ذاتها بعد ان يئست من حكامها .
... قلت : ولكن الأمر يحتاج إلى شيء من المكاشفة .
... قال : نعم، ولكن بمقدار ..
قلت :أنا لست من حكام العرب، فلا أنا ملك، ولا أنا رئيس، وإني عازم أن أقوم بدور المكاشفة.
قال : ذلك أمر ضروري، من غير شك، ولكن بمقدار، وبحذر ..
وانتهي الحديث بيننا على هذا ( الاتفاق ) وقضيت ليلتي أعد خطابا عن مؤتمر القمة في الدار البيضاء، أكاشف فيه الأمة العربية والشعب الفلسطيني، ولكن (بمقدار وبحذر) . كما قال الرئيس عبد الناصر .
وفي اليوم الأول من شهر تشرين الأول 1965 كنت في طريقي إلى إذاعة منظمة التحرير، في شارع الشريفين في القاهرة أحمل معي خطابي، وفي نفسي آلام أكثر مما كتبت، وآمال دون ما ذكرت :(1/139)
... ودخلت حجرة المذياع، كأنني في المحراب، وألقيت خطابي، وكانت نبراتي أكثر تعبيرا عن كلماتي ..فإذا كنت قد حبست الكلمات ولكني لم استطع أن أحبس النبرات ..
... ولتعيش الأجيال العربية مشاعر تلك الأيام، بآمالها وآلامها .. بل لأضيف صفحة حية إلى سجل تلك الحقبة من تاريخ الأمة العربية، فقد انتزعت ذلك الخطاب من بين أوراقي وضممته إلى مذكراتي ..ليعلم المواطن العربي ما هو كائن ؛وما سيكون مما هو كائن ..وما هو أهم من ذلك، ليتعرف على ذلك المؤتمر الذي وضع خطة لتحرير فلسطين في ستة أيام !!
... وهذا هو مؤتمر الدار البيضاء في خطاب ..في خطاب غاضب على
(الحاضر) الذي كان، خائفاً على (المستقبل) الذي سيكون .. وها أنا أضع الخطاب، الخائف الغاضب، أمام المواطن العربي، ليقرأ كيف مشى الملوك والرؤساء إلى الهزيمة على رؤوسهم قبل أقدامهم : -
... (يا أبناء فلسطين :يا رجالها ونساءها – يا شبابها وطلابها – يا فلاحيها وعمالها استمعوا الي .
... يا أبناء فلسطين – في الأردن – حيث أرضنا الطيبة وشعبنا البطل .
... يا أبناء فلسطين في قطاع غزة – حيث الرقعة الغالية تضم المقيمين والعائدين .
... يا أبناء فلسطين – في سورية ولبنان – في العراق والكويت – والخليج – في السعودية والعربية المتحدة .
... يا أبناء فلسطين – في الشمال الأفريقي من الوطن العربي حتى المحيط .(1/140)
... أنصتوا الي جميعا، وأعيروني سمعكم وعقلكم وضميركم، لأحدثكم عن القضية المقدسة التي تملك عليكم سمعكم وعقلكم وضميركم، بل كل جوارحكم وكل حياتكم .
... ولست أحدثكم عن ماضي قضيتكم، فانتم تعيشون إلى يومكم هذا قضية فلسطين، وكارثة فلسطين، تعيشونها في الخيام المهلهلة التي مزقتها السنون، وفي الكهوف التي احتوتكم الأعوام تلو الأعوام، في مدننا المشرفة على أرضنا السليبة، وفي قرانا المطلة على شاطئنا الخصيب وقد احتله الغاصب الدخيل .
... ولكني أحدثكم عن حاضر قضيتنا الفلسطينية إلى المرحلة التي بلغتها؛ أحدثكم عن منظمة التحرير إلى النقطة التي وصلت إليها ؛ أحدثكم عن مؤتمر الدار البيضاء، وفيما نجح وفيما فشل وأخفق ؛ وسأحدثكم يا إخواني أبناء فلسطين، حديثا واضحا صريحا كما أحدث نفسي في نجواي، لا أخفي عنكم أمرا إلا ما ينفع العدو او يشمت له، فعند ذلك الحد وقوفي وصمتي .
... لقد انعقد مؤتمر الدار البيضاء على شواطئ المحيط، وانعقدت حوله آمال الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، وكان على جدول أعماله، عدة مواضيع، لو جمعنا أطرافها لالتقت كلها تحت عنوان واحد عمره سبعة عشر عاما، إلا وهو، تحرير فلسطين.
... وتحرير فلسطين، في أبسط بديهياته، يقوم على حقيقتين راسختين تسيران جنبا إلى جنب في ترابط وانسجام .
... الأولى – إعداد الشعب الفلسطيني إعداداً روحيا وعسكريا ليخوض بنفسه معركة التحرير كطليعة للبذل والفداء .(1/141)
... والحقيقة الثانية – تعبئة طاقات الأمة العربية، الروحية والمادية والعسكرية منسقة منظمة موحدة، تناضل كلها في ميدان التحرير .
... ومن هنا كان إنشاء القيادة العربية الموحدة لتكون الأداة الفعالة للكفاح العربي، ومن هنا كان إنشاء – منظمة التحرير – وجيش التحرير – لتكون الأداة المنفذة لحشد شعب فلسطين استعداداً لتحرير فلسطين .
... وقد أمضى مؤتمر القمة العربي في الدار البيضاء كل أيامه وبعض لياليه يبحث موضوع تحرير فلسطين ؛ ولو أننا استثنينا الأمور العسكرية، فإن الحوار الذي دار في الجلسات المقفلة ليس سراً نخشى إذاعته، فإنه الحوار الذي يدور على السنة الملايين من الأمة العربية، في الحواضر والبوادي : إنه السؤال القديم الذي انطلق منذ النكبة، متى يكون تحرير فلسطين ؟ وكيف ؟
... ولقد دخل هذا السؤال إلى الغرفة المقفلة التي التقى فيها الملوك والرؤساء فهو سؤال كالموت يقتحم على الناس خلواتهم ولو كانوا في بروج مشيدة، فماذا كان الجواب ؟ على الصعيد العربي أجاب مؤتمر القمة في الدار البيضاء على هذا السؤال الكبير . بتوقيع التضامن العربي . وإقرار خطة القيادة الموحدة لتحرير فلسطين .
... والتضامن العربي وثيقة لا يمكن أن ننقص من قدر المبادئ التي تضمنها، والجديد فيها توكيد التوكيد : فجميع هذه المبادئ مودعة في ميثاق الجامعة العربية وقراراتها، في أجمل عبارة وأكمل صياغة ؛ ولقد مضى على الدول العربية عشرون عاماً منذ وقعوا ميثاق الجامعة . ولم يستطيعوا أن يحققوا التضامن العربي فيما بينهم : ومع هذا فإن منظمة التحرير لا تستطيع أن تنكر هذه الخطوة الجليلة إذا نفذت بروح من الجد والإخلاص،(1/142)
ويصح اعتبارها من أروع إنجازات مؤتمر القمة العربي، فإن تضافر الجهود العربية هو بداية الطريق لتحرير فلسطين .
... وحين تحدثت باسم منظمة التحرير، عن موضوع التضامن العربي، أعربت عن الرجاء الملح والدعاء الحار أن يشطب هذا الموضوع من جدول أعمال القمة العربي إلى الأبد. وأكدت أن قضية فلسطين، بقداستها وفداحتها، تدعو إلى التضامن من غير شك، ولكن تكرار هذا الموضوع على جدول أعمال الملوك والرؤساء، ليس دليل خير، بل إنه دليل شر . إن وجود هذا الموضوع على جدول الأعمال ينبئ أننا مختلفون على الدوام، وأننا كلما التقينا تعاهدنا على التضامن، لنلتقي في العام التالي ونتعاهد على التضامن مرة أخرى !!
... ولقد ناشدت مؤتمر القمة بأن نبطل الشعار المألوف (فلسطين فوق الخلافات) فهذا شعار جميل حقاً، ولكن ما هو أسمى وأروع أن نرفع شعاراً أحق وأجدر بأن ( لا خلافات وفلسطين محتلة) .
... أما بالنسبة للخطة العربية لتحرير فلسطين، فإن الذي تم الاتفاق عليه في هذه المرحلة. أدنى بكثير من الإمكانات الضخمة التي تملكها الأمة العربية. بل إنها ليست في مستوى الذروة حقاً ؛ ومع هذا، إذا استطاع الجهد العربي الموحد أن ينقل هذه الخطة من الورق إلى الميدان، يكون مؤتمر الدار البيضاء قد حقق إنجازاً جديراً بالتقدير . وستظل الأمة العربية ومعها شعب فلسطين على موعد حاسم مع مؤتمر القمة المقبل . في الجزائر تتطلع يوماً بعد يوم خلال العام كله في لهفة حائرة لترى من الذين صدقوا فيما عاهدوا ومن الذين تخلفوا ؛ والواقع أن التخلف قد بدأ يتسلل إلى مؤتمر القمة العربي بعد أن أنهك الجامعة العربية منذ أن نشأت الجامعة العربية !!(1/143)
... ولقد أصبح معروفاً أن الأردن عارض في دخول القوات العراقية والسعودية . وبهذا أصبح المشروع العربي لتحويل الروافد من غير حماية عسكرية . لقد بدأنا المشروع بجلجلة صارخة، ثم تركناه تحت رحمة القدر، فتحول التحويل إلى طريق آخر لا نعرف نهايته .
... ولم يكن التخلف وحده هو الذي تسلل إلى مؤتمر القمة، فقد أخذ الروتين يزحف إليه زحفاً ؛ ولقد ناشدت باسم منظمة التحرير أن لا تقع مؤتمرات القمة ضحية الروتين كما وقعت الجامعة العربية . وقد ضربت على ذلك مثلاً حياً يتجسد فيما انتهى إليه مشروع المؤسسة المالية لتحرير فلسطين ؛ هذا المشروع تقدمت به المنظمة إلى مؤتمر القمة في الإسكندرية، وهو مشروع وضعه نفر من الأخصائيين العرب يهدف إلى إنشاء مؤسسة مالية ذات موارد ثابتة تتولى تمويل حركة الكفاح العربي لتحرير فلسطين . ومؤتمر الإسكندرية أحال المشروع لدراسته على لجنة متخصصة تؤلفها الجامعة العربية ؛ وقد قامت تلك اللجنة بدرسه فعلاً، ووافقت على الكثير من الأسس التي اقترحتها المنظمة ؛ فماذا كان مصير المشروع في الدار البيضاء ؟ لقد تأجل مرة ثانية لدراسة ثانية !!
... هذا هو أسلوب الروتين الذي نخر العمل العربي خلال سبعة عشر عاماً طوالاً، ونحن في سباق مع الزمن، والزمن لا يرحم ولا يمهل .
... ليس هذا أسلوب الثورة، وليس هذا أسلوب التحرير، وإذا دخل الروتين إلى مؤتمرات القمة، تهاوت القمة إلى القاع، وهوى معها تحرير فلسطين .
... والروتين لا يحول دون تحرير فلسطين فحسب . بل إنه يؤدي في النهاية إلى تحقيق أطماع إسرائيل وأحلامها في عدوان جديد وتوسع جديد .(1/144)
ذلك لأن الزمن يسير في صالح إسرائيل وليس في صالح العرب، وإذا لم نبادر إلى اختزال الزمن بمضاعفة الجهد، فسيقع تحرير فلسطين تحت رحمة الأسلحة الذرية . حين لا ننفك من قبضتها . إلا بصنع السماء.
... فهذا هو الموقف العربي كما انتهى إليه مؤتمر القمة في الدار البيضاء، موقف إذا رافقه التنفيذ الجاد المخلص . لا نستطيع إلا أن نباركه ونفرح له . وإن كانت الكارثة لم تترك في قلوبنا مكاناً للفرح والسرور .
... وأنتقل بكم الآن – يا إخواني أبناء فلسطين – إلى شؤوننا المباشرة، إلى مطالب منظمة التحرير الفلسطينية، التي تقدمت بها إلى مؤتمر القمة في الدار البيضاء .
... ولقد كنت على حسرة في نفسي، أن أتقدم بهذه المطالب إلى مؤتمر الملوك والرؤساء؛ كان ينبغي أن لا يكون لشعب فلسطين في الوطن العربي أية مصاعب وأية مطالب . فقضية فلسطين هي قضية الأمة العربية بأسرها، مصيراً ووجوداً، وشعب فلسطين فلذة من الأمة العربية التي تعيش في الوطن العربي الكبير، ومن حقنا أن تستجاب مطالبنا من غير طلب . فما هي مطالبنا وماذا كان مصيرها ؟ خدمة العلم – التجنيد العسكري، كان أول مطالبنا ؛ والأمر واضح بذاته لا يحتاج لإيضاح ؛ إن شعب فلسطين متلهف لخوض معركة التحرير، فلم لا تتيسر له أسباب التجنيد في جميع الدول العربية ؛ لقد تشتت شعب فلسطين بعد الكارثة، وشاء القدر أن تكون تجمعاته الكبيرة وراء خطوط الهدنة في قطاع غزة، وفي الأردن، وفي سورية وفي لبنان ؛ ومنذ أن وقعت الكارثة وشعب فلسطين يطالب الدول العربية بأن تفتح أمامه أبواب التجنيد ؛ وحين قامت منظمة التحرير أخذت على عاتقها المسؤولية الوطنية في تعبئة الشعب الفلسطيني حيثما كان في(1/145)
الدفاع المشترك، وأمام الملوك والرؤساء، وتركز الحوار في الدرجة الأولى مع الأردن، فإن الأردن هو المنطلق الكبير للتحرير .
... وإذا كان لدى بعض الدول العربية أسباب تحول دون التجنيد . ومنظمة التحرير لا تقرها، فإن موقف الأردن ليس له ما يبرره، ففي الأردن بقية وطننا، أو بقية شعبنا ؛ وحرام أن يحرم أبناء فلسطين من شرف التحرير، كائنة ما كانت الأسباب . فإن كل الأسباب يجب أن تخضع لهدف التحرير .
... أما مطلبنا الثاني فهو حرية السفر والإقامة لأبناء فلسطين ؛ ولقد كاشفت الملوك والرؤساء بالقيود الثقيلة التي فرضت على أبناء فلسطين بشأن سفرهم وإقامتهم وعملهم في عدد من الدول العربية ؛ وتلوت على مؤتمر القمة بعض الرسائل التي تلقيتها من أبناء فلسطين تشرح ما يعانونه من متاعب ؛ وقد أكدت للملوك والرؤساء الأهمية البالغة لهذا المطلب لكل مواطن فلسطيني في حياته اليومية، وأنه إذا كانت الكارثة قد شردت هذا الشعب البطل، فإنها كارثة أخرى أن يرسف الشعب في هذا العناء سبعة عشر عاماً، وفي الوطن العربي الرحيب .
... وأوضحت بعد ذلك أنه، لتحرير الأرض السليبة، لابد من تحرير إرادة الإنسان الفلسطيني، فيعمل ويسافر ويقيم كأي مواطن في بلده، ذلك لأن سبعة عشر عاماً تحت أي قانون في العالم، مهما كان صارماً، تكفي لتمنحه حقوق المواطن . ونحن لا نطالب من هذه الحقوق إلا بحرية السفر والإقامة والعمل .
... ولكن هذا المطلب الأساسي لم يجد استجابة كاملة، فقد تحفظت عدة دول، ولم يكن يصح لمؤتمر القمة العربي وهو الذي يخطط لتحرير فلسطين،(1/146)
بكل ما ينطوي عليه من تضحيات جسام ومسؤوليات عظام أن يواجه شعب فلسطين في هذا الأمر اليسير بهذه التحفظات .
... ثم جاءت بعد ذلك المطالب الأخرى المتصلة بالتنظيم الشعبي وضمان الحرية لانتخابات المجلس الوطني المقبل، وما يتبع ذلك . والواقع أن هذه المطالب تقع تحت عنوان واحد ألا وهو حرية الشعب الفلسطيني في ممارسة نشاطه الوطني، شأنه في ذلك شأن جميع الشعوب العربية الأخرى في مراحل كفاحها .
... ولم أدخر جهداً في شرح الضرورة القومية لتيسير الطريق أمام الشعب الفلسطيني لتعبئة طاقاته وتنظيم صفوفه، وأنه، كائنة ما كانت الخطة لتحرير فلسطين، فلا بد في هذه المعركة من شعب فلسطين ولا بد لشعب فلسطين أن يكون منظماً معبئاً وراء قضيته ؛ وناشدت مؤتمر القمة أن ييسر جميع الأسباب للتنظيم الشعبي . فإذا كانت الشعوب الآمنة في ديارها، المستقرة في وطنها تلجأ للتنظيم الشعبي لحماية مكاسبها الوطنية . فإن الشعب الفلسطيني . المشرد عن وطنه المشتت في مهاجره . ليس في حاجة إلى التنظيم الشعبي فحسب، بل إلى الحرية الكاملة للعمل الوطني الكامل، وفي جميع المجالات، النشاط العسكري، والسياسي على السواء .
... ولكن هذا الموضوع الخطير، لم يجد استجابة من بعض الدول العربية، وفي مقدمتها الأردن ؛ وحين أخصص الأردن، لا أفعل ذلك عن حقد وضغينة، ولكن إدراكاً كاملاً لدوره الكبير الذي هيأته له النكبة لإزالة النكبة .
... وقد بدا واضحاً بعد أن رفضت مطالب المنظمة في مجموعها، أن منظمة التحرير في حاجة إلى تحرير، قبل أن تدخل معركة التحرير ؛ بل(1/147)
وضح فوق ذلك أن شعب فلسطين في حاجة إلى تحرير إرادته، قبل تحرير أرضه .
... ولقد عدت من مؤتمر القمة في الدار البيضاء، وفي ضميري سؤال كبير، ماذا حققت منظمة التحرير في هذا المؤتمر ؟ لقد عاد كل ملك ورئيس إلى شعبه يحدثه عن إنجازات المؤتمر .. وسألت نفسي، ماذا أقول أنا اللاجئ، للشعب اللاجئ، للشعب الطريد ؛ وعزمت أن لا أقول إلا الحق ؛ فإذا كنا فقدنا في هذه الكارثة، الوطن ومعه الكثير والكثير، فليس علينا أن نفقد كلمة الحق .
... وكلمة الحق أن منظمة التحرير لم تجد في مؤتمر الذروة ما كانت تطمح في تحقيقه، فإن مطالبها وهي مطالب الشعب، لم تجد الاستجابة الجديرة بالتحرير، وأهداف التحرير .
... لقد رفض الأردن التجنيد والتنظيم الشعبي وكل نشاط لمنظمة التحرير؛ ولم يكن يسيراً أن نحاسب دولاً عربية أخرى على مواقفها السلبية ؛ فإذا كان حراماً على منظمة التحرير أن تعمل في وطنها ومع شعبها في الأردن، فماذا نقول لأطراف المحيط وأطراف الخليج ؟
... أما بالنسبة للسفر والإقامة والعمل لأبناء فلسطين، فالأمر باق على حاله، ولم يستطع مؤتمر القمة العربي أن يقدم لشعب فلسطين أكثر من الأمر الواقع، وما له من دافع !!
... ولهذا فإن منظمة التحرير تواجه في عامها الثاني مصاعب، كان ينبغي أن لا تجدها في طريقها، حتى تستطيع أن تتفرغ بكل جهودها للمهمة الكبرى، مهمة التحرير، بدلاً من أن يستغرق وقتها ونشاطها في معالجة أمور السفر والعمل وما إليها، ألا يكفي أن منظمة التحرير تعمل من غير(1/148)
أرض، ومن غير شعب متجمع، على غير ما تعمل الشعوب المناضلة لتحرير وطنها .
... إذا كانت لدينا قضية اسمها قضية فلسطين . فيجب أن يكون لها شعب اسمه شعب فلسطين ؛ فلا يمكن أن نتحدث عن قضية دون أن يكون لها شعب، يحمل اسمها وعلمها ويكافح من أجلها .
... وإذا كان هنالك شعب اسمه شعب فلسطين . فيجب أن يكون هذا الشعب حراً في ممارسة نشاطه الوطني، لا وصاية عليه، لا أغلال تكبله، ولا قيود تكتفه .
... إن انطلاق الشعب الفلسطيني في تعبئة طاقاته هو أول الطريق لتحرير فلسطين ؛ ومن غير شعب فلسطين، حراً منظماً معبئاً، فإن أية خطة عربية لتحرير فلسطين مبتورة لا تؤدي إلى نهاية ظافرة .
... ولقد اعتمد الملوك والرؤساء في الإسكندرية منظمة التحرير ممثلة لإرادة الشعب الفلسطيني في كفاحه لتحرير وطنه، وتعاهدوا فيما بينهم بأن ييسروا للمنظمة مهمتها القومية، ولكن المنظمة تجد بعد مؤتمر الدار البيضاء أن مقرها العام في القدس قد أصبح سجيناً بين الجدران الأربعة، بعيداً عن الشعب، والشعب بعيد عنه ؛ وأصبح لا بد من تحديد الموقف تحديداً واضحاً.
... وتحديد الموقف هو حق الشعب وواجبه، والأمر مطروح على الشعب ليقول كلمته، فليست المنظمة هي رئيس المنظمة وأعضاؤها ولا مدراؤها ؛ المنظمة هي الشعب، والشعب هو المنظمة .
... وإن رئاسة المنظمة ليست عندي وظيفة أتقاضى عنها راتباً، أو أتطلع من ورائها إلى جاه أو مغنم .(1/149)
... هذا المنصب كله متاعب ومصاعب ؛ كله عناء وابتلاء .
... هذا المنصب هو الأرق الممض في وحشة الليل البهيم .
هذا المنصب هو الصراع الرهيب في أعماق النفس عن يوم التحرير، متى وكيف ؟
... هذا المنصب تلتقي فيه آلام الهجرة وذكريات الوطن .
... وهذا المنصب، فوق كل ذلك تتجسد فيه نكبة شعب، وكارثة وطن .
... وإن المرء ليستعذب هذا العذاب كله، ما بقي في الميدان قائماً للنضال، وما بقي الطريق مفتوحاً للكفاح .
... إن تجربة حكومة عموم فلسطين ما تزال ماثلة في خواطرنا، وأن شعب فلسطين يرفض أن تتكرر هذه المأساة، ويرفض أن تصبح المنظمة دمية يلهو بها، وقد ضاع من عمره سبعة عشر عاماً طوالاً .
... وإذا كان الطريق مسدوداً أمام المنظمة هنا أو هناك، فإن هذا الشعب البطل الذي ألف الكفاح والنضال، لابد من أن يجد كل وسيلة ليشق للمنظمة طريقاً ثانياً، خارج مؤتمر القمة، طريقاً تحت الأرض، وستكون الأمة العربية يومئذ في هذا الطريق لأنه طريق الكفاح والنضال).
... ولقد عدت إلى بيتي، بعد أن أفرغت ما في نفسي، قياماً بواجبي وراحة لضميري .. واسترسلت تلك الليلة في نوم عميق، لم أنم بمثله منذ سنين ..
... ونهضت إلى مكتبي في الصباح نشيطاً متحفزاً لعمل، وكأنني قد تخففت من أحمال ثقيلة كانت تنوء بها كتفاي .. ومسكين هذا الإنسان يعيش بمشاعره، ليسعد بها ويشقى ..(1/150)
... وعند الظهيرة، رن جرس التلفون في مكتبي، كان المتكلم السيد سامي شرف مدير مكتب الرئيس عبد الناصر فقال : الرئيس استمع إلى خطابك كله .. وهو مسرور جداً .. وهو يرى أنك وضعت النقط على الحروف .
... قلت : أرجو أن تبلغ سيادة الرئيس تحياتي وشكري ..
... ولقيت الرئيس عبد الناصر، بعد بضعة أيام، في قصر عابدين في واحدة من الحفلات الرسمية التي يقيمها لضيوف القاهرة .. فبادرني الحديث قائلاً :-
... الخطاب كان ( موفق أوي .. لقد خطبت بلساني .. ).
... قلت : أرجو أن تكون المكاشفة قد تمت بمقدار وبحذر، كما أردت..
... قال : إنه بالقدر اللازم .. المهم أن لا نصل إلى درجة الانفجار ..
... قلت : سأحرص على الدوام أن لا أصل مع الحكومات العربية إلى درجة الانفجار..
... ومضيت إلى مكاني على مائدة العشاء، وأنا أؤكد في نفسي أن أتجنب نقطة الانفجار .
... وقد التزمت هذه النصيحة زمناً طويلاً .. ولك نقطة الانفجار قد وقعت .. ووقعت على غير اختيار ..
... أجل ! لقد تفجر الموقف في وجه الناصح والمنصوح، على الرئيس عبد الناصر وعلي.
... ولكن (اللغم) قد انفجر تحت قدمي أولاً ؛ ففي أواخر شهر تشرين الأول 1965، دعيت لمقابلة الرئيس عبد الناصر في مكتبه بقصر القبة ..(1/151)
ودخلت على الرئيس فوجدته يقلب ملفاً أمامه، ويؤشر على بعض أوراقه وبادرني بالقول : الملك حسين عتبان علي وزعلان عليك !!
... قلت : زعلان علي، مفهوم .. ولكن عتبان على سيادتك ليه ..؟؟
... قال : وصلتني منه رسالة مطولة يتكلم فيها عن الخلافات مع المنظمة.. هذه صورة منها لك لتطلع عليها .. أنا من جانبي لا أريد أن أتدخل بينك وبينه .. المهم أننا لا نصل معه إلى نقطة الانفجار ..
... قلت : يا سيادة الرئيس .. ما أظن أحداً يستطيع أن يصبر على الملك حسين أكثر مما صبرت .. أرجو أن تقدروا ظروفي .. أنا أعمل مع شعب شرد عن وطنه .. الأسرة الهاشمية لها تاريخ مرير مع الشعب الفلسطيني .. إنه يعتبر الملك عبدالله أساس نكبته ..
... قال : كل هذا مفهوم .. وأنا أشعر معك تماماً .. ولكن ابذل كل جهدك للتفاهم مع الملك حسين عسى الله يهديه ..
... قلت : كان الله في عوننا على قضية فلسطين، وعلى الملك حسين ..
... وودعته وانصرفت .. ودخلت سيارتي، وأخذت أقرأ رسالة الملك حسين إلى الرئيس عبد الناصر، ابتداء من أخي (الأعز) إلى (وتفضلوا يا سيادة الأخ بقبول فائق الاحترام ووافر التحيات والتمنيات) . وكانت تقع في خمس صفحات، تجلت فيها صناعة البديع والبيان، فيما هو مأثور عن الديوان الهاشمي في عمان !!
... ويشير الملك حسين في رسالته، بعد (التحية القلبية الصادقة) إلى
(الحملات المتجنية المتوالية التي يشنها السيد أحمد الشقيري ورهطه من وراء مذياع فلسطين في القاهرة على الأردن قبل أن يجف الخبر الذي كتبت به مقررات مؤتمر القمة الثالث الذي كان لحنكتكم ودرايتكم أبلغ الأثر في نجاحه(1/152)
العظيم .. إن الحجة التي يتذرع بها السيد الشقيري في مهاتراته هي أن الأردن يعيق عمل المنظمة ولا يسمح لها بحرية العمل .. وحرية العمل في مفهومه تستهدف سلخ المواطن الأردني الفلسطيني غربي نهر الأردن عن أخيه في شرقه .. وتفتيت وحدة الشعب والجيش .. وقد أحزننا أن يتجاهل السيد أحمد الشقيري ومذياعه الذي يبث من أرض الكنانة الشقيقة مقررات مؤتمر القمة، وأن يذهب مذاهبه المشبوهة في التهجم على المملكة الأردنية الهاشمية .. وقد بلغت بنا الحساسية مبلغها فأصبحنا لا نطيق النكران والجحود .. إن أعوان الشقيري هم الذين زينوا له مثل هذا السلوك .. وأخشى ما أخشاه أن توصد تصرفات الشقيري الباب نهائياً أمام كل مجال للتعاون معه، ما لم يعد إلى رشده، ويسلك الطريق السوي المستقيم الواضح، خدمة لفلسطين ولأهداف أمتنا العربية . نحن نكرم أنفسنا أن ننزل إلى درك النداءات والهتافات التي انطلقت من حشود الشقيري موجهة إلى شخصنا وإلى بلدنا، في الوقت الذي كنا نعتقد أن عهد هذه الغوغائية قد انقضى إلى غير رجعة .. وإن كرامتي وكرامة العاملين معي هي جزء من كرامتكم .. وإنه ليسعدني أن أترك بين يديكم دقائق الموقف برمته، وكلي ثقة بأنكم ستتولون بحسن رعايتكم وعنايتكم وحرصكم على المصلحة القومية هذا الموضوع بما يحقق رتق الفتق . وتقويم الاعوجاج تمشياً مع ميثاق التضامن) إلى آخر الرسالة ...
... ضحكت ملء الرئتين والشدقين، وأنا أقرأ هذه العبارات من رسالة الملك حسين، وقد وشاها بالعسل المصفى من المديح الذي كاله للرئيس عبد الناصر من غير حساب .(1/153)
... ضحكت .. وضحكت معي الأقدار لأن هذا الثناء العاطر على الرئيس عبد الناصر لم يدم إلا عاماً واحداً فقط ؛ ففي اليوم السابع من شهر تشرين الأول من عام 1966 أدلى الملك حسين بحديث طويل لمراسل جريدة الهرالدتربيون، حمل فيه هذه المرة، لا على الشقيري، ولكن على الرئيس عبد الناصر قال فيه ( إن الرئيس المصري عميل للاتحاد السوفياتي ) .!!
... وبعد، لقد كانت رسالة الملك حسين حلوة الألفاظ، عذبة العبارات، لو سمعها المرء من غير الملك حسين الذي عرفناه وعرفته معنا الأمة العربية، لأثارت الإعجاب، ولكن الله قال، وقوله الفصل :
( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام، وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد )
صدق الله العظيم
...(1/154)
اتفقنا في القاهرة..
واختلفنا في الأردن
...
... انتهى مؤتمر القمة الثالث في الدار البيضاء في خريف عام 1965، وعاد الملوك والرؤساء إلى شعوبهم وأوطانهم .. أما أنا فما عدت إلى شعبي ولا إلى وطني .. ذلك أن وطننا تحت الاحتلال، وشعبنا مشرد في الآفاق .
... ولم يكن من سبيل أمامي إلا أن أتصل بالشعب عن طريق إذاعتنا بالقاهرة فهي الطريق المختصر (للاجتماع) بالشعب في مهاجرة من المحيط إلى الخليج .. وكان خطابي الذي كشفت فيه عن الحق من غير زيادة ولا نقصان ..
... ولكن (الحق) قد أغضب الملك حسين وأثار حفيظته، وشن حرباً شعواء على المنظمة ورئيسها، وكان ذلك بداية صراع طويل بيني وبين الملك حسين، تمت خلاله بيننا هدنات وتسويات، ونشبت معارك وخصومات، يتحمل النظام الأردني مسئوليتها كاملة، فتلك طبيعته منذ نشأته، بل إنه وجد من أجلها، ولأجلها وجد ..
... استمع الملك حسين إلى خطابي عن مؤتمر الدار البيضاء، وأنا ألقيه على الهواء، واستمع معه الشعب كله في الأردن بضفتيه، فغضب الملك وانشرح الشعب .. غضب الملك لأني نطقت بالحق .. لأني كاشفت الشعب(1/155)
أن مليكه يعارض في تدريبه وتسليحه، يعارض في تحصين القرى الأمامية، ويعارض أن يكون لجيش التحرير الفلسطيني مكان في وطنه ومع شعبه ..
... ولقد انشرح الشعب لأني قلت هذا القول، وكان هذا ما يقوله الشعب في مدنه وقراه .. في اربد قبل نابلس، وفي عجلون قبل جنين، وفي عمان قبل القدس .. فأبناء ( شرق الأردن ) وأبناء فلسطين، ينتمون إلى وطن واحد وشعب واحد .. ومن كان في شك فليرجع إلى التاريخ، فإن قوله الفصل وما هو بالهزل ..
... وانبث أعوان القصر الملكي، ومعهم أجهزة الدولة، في أرجاء البلاد يحرضون الناس على (منظمة الشقيري ) التي هاجمت (سيدنا) ، فباءت الحملة بالفشل، إلا من بعض برقيات (طيرها) أصحابها إلى (منقذ البلاد وحامي حمى الوطن) تستنكر ( تهجم الشقيري على مقام سيد البلاد) .
... كنت أستمع إلى هذا اللغو من الإذاعة الأردنية، والرسائل تصلني من الأردن تروي نوادر طريفة .. منها أن أحد المخاتير كان يقول لأعوان القصر ( اقطعوا يدي، ووقعوا بها البرقية التي تريدونها) .. وأحد الوجهاء غادر بيته إلى المقبرة عدة ساعات، هرباً من إلحاح السلطة عليه للاشتراك في الاستنكار .. ومنها .. ومنها .. مما يؤلف كتاباً يوازي الكتاب العربي الشهير : المستطرف في كل فن مستظرف !!
... وأدرك الملك حسين، أن حملة الاستنكار قد فشلت، فلم يشترك فيها أحد له قيمة أو مكانة في بلده، أو قريته أو في أسرته ؛ فسار خطوة أخرى في الحملة، فقد دعا إلى اجتماع في قصر بسمان (5-10-1965) شهده أعضاء مجلس الأمة وقادة الجيش الأردني، وأعوان القصر الملكي ؛ وكررت الإذاعة الأردنية الإعلان عن مكانه وزمانه .. ليذاع على الهواء .(1/156)
... وجلست إلى جوار الراديو ذلك اليوم لأستمع ماذا عسى أن يقول الملك .. وضحكت طويلاً وأنا أستمع إلى هتاف هزيل وتصفيق نحيل، تردده فرقة موظفي الهتاف ومستخدمي التصفيق، التي تكون حاضرة دائماً عند الطلب لتقوم بدورها المطلوب !!
... وألقى الملك حسين واحداً من الخطب الإنشائية البارعة التي تخصص الديوان الملكي بتسجيعها وترصيعها .. وأعلن جلالته أنه ( يرفض التمييز بين المواطن الأردني والمواطن الفلسطيني .. وأنه لا تجنيد لأحد خارج القوات المسلحة .. وأن القرى الأمامية محصنة مسلحة، وأن التدريب العسكري ينتظم كل أبناء البلد .. وأن الحملة المريبة التي يوجهها إلينا رئيس المنظمة وأجهزته لا يمكن أن تفسر بغير كونها تستهدف تمزيق الأسرة الواحدة .. وترمي إلى نسف التضامن العربي .. كل ذلك في لغة مجموعة ولفظ نازل .. وبما أن الجيش الأردني هو وريث جيش الثورة العربية الكبرى فلا مكان إذن لغيره (جيش التحرير) .. وإن وجودنا عقبة، ولكنها عقبة في وجه تصفية القضية الفلسطينية .. ويوم تزول هذه العقبة التي نحن، كما يسموننا زوراً وبهتاناً فستحل بأمتنا الكارثة التي ما بعدها كارثة .. ) إلى آخر ما ورد في ذلك الخطاب ..
... وانتهى الاجتماع والخطاب في جو فاتر، لأن الذين شهدوه في القصر، والذين سمعوه في الوطن، يعلمون علم اليقين، أن الشعب كله، غير مدرب على القتال، والمدن مكشوفة، والقرى عزلاء .. وأن (دفاع) الملك حسين عن (جلالته) يفتقر إلى دفاع !!
... وثار المسئولون عن إذاعة منظمة التحرير في القاهرة، يريدون أن يردوا على الملك حسين، الصاع صاعين، والكيل كيلين ؛ وهم قادرون على(1/157)
ذلك، لأن قصور الملك حسين كلها من زجاج .. ولكني آثرت أن أبقي شعرة معاوية قائمة بيني وبين الملك حسين، فطلبت إليهم أن يردوا برفق وبموضوعية كاملة ؛ وبدأت إذاعة المنظمة حملة توعية تشرح مطالب المنظمة في التدريب والتنظيم، والتسليح، وأنها مطالب الشعب، لا مطالب الشقيري .
... وانبرى رئيس وزراء الأردن وصفي التل، ليؤيد مليكه، فعقد مؤتمراً صحفياً أعلن فيه (أن منظمة التحرير هي منظمتنا ونحن وطنها ونحن سندها .. وليست منظمة الشقيري .. وأن مؤتمرات القمة استثنت الأردن من نشاطات المنظمة .. وأن الأردن قائم بواجبه الكامل في التنظيم والتدريب والتسليح .. وأن لديه عشرات المعسكرات للتدريب .. وأن الحكومة وزعت الأسلحة على الأهلين، وعلى القرى الأمامية .. وأن الاتصالات مستمرة مع الجمهورية العربية المتحدة لإسكات صوت منظمة التحرير الفلسطينية في القاهرة الذي لا يخدم أحداً إلا إسرائيل ).
... وبدأت تتوالى علي العرائض والبرقيات من تجمعات الشعب الفلسطيني، كلها تؤيد موقف المنظمة، وتستنكر خطب الملك حسين ورئيس وزرائه ؛ ولم يعد يتسع منزلي للوفود الفلسطينية التي هبت للدفاع عن كيانها ومنظمتها ومطالبها .. ودعيت إلى عدة اجتماعات شعبية في الجمهورية العربية المتحدة ؛ فلبيت الدعوة، وكان في مقدمتها اجتماع شعبي كبير في بور سعيد، تزاحم فيه المصريون قبل الفلسطينيين .
... وخطب الخطباء في ذلك الاجتماع الحاشد، وارتفعت هتافات عدائية للملك حسين من صفوف الشباب والطلاب ؛ فقلت في صدر كلامي وكان يذاع على الهواء مباشرة – رأساً من بور سعيد إلى الوطن العربي بأسره :(1/158)
( أرجو أن تكفوا عن الهتاف ؛ لا تهتفوا لي، ولا ضد الملك حسين إن تحرير فلسطين لا يتم بالهتاف والتصفيق .. لقد هتفنا طويلاً وصفقنا كثيراً، وإسرائيل ما تزال تحتل أرضنا وديارنا ؛ إن تحرير فلسطين لا يتم إلا بالتدريب والتسليح والتجنيد والتنظيم، وهذه هي مطالبنا الأربعة التي ندعو الملك حسين أن يعمل على تحقيقها، وليس لنا مطلب خامس .. إن منظمة التحرير تكون خائنة للأمانة إذا كانت لا تصر على هذه المطالب .. وإن منظمة التحرير تطرح مطالبها في وضح النهار، فلم المخاوف ولم الهواجس؟؟ ونحن نخص الأردن بهذه المطالب، لأن في الأردن أكبر منطلق للتحرير، أرضنا وشعبنا .. الضفة الغربية هي قاعدة الانطلاق الكبرى .. ونحن نريد أن نناضل في الضفة الغربية لا أن نحكم .. نحن لسنا طلاب حكم ولكنا طلاب تحرير .. فليعلم الملك حسين أننا لا نريد أن نقيم دولة في الضفة الغربية، ولكننا نريد أن نتعاون معه على إقامة قاعدة انطلاق، قاعدة وثوب وتحرير، ولقد قلت للملك حسين قبل عام مضى، وكنا جمعاً كبيراً في قصر (رغدان) ، لو كنت أرى خيراً في إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية لأعلنتها من قصر رغدان .. إن أي واحد من المنظمة يصلح أن يكون رئيس وزراء للأردن بأسره، فليس للملك حسين أن يخشى أن نسلخ الضفة الغربية لنقيم فيها دولة ممسوخة .. نحن منظمة وحدوية لا نعمل للتجزئة والانفصال، فليطمئن الملك حسين وليكن مستريح البال .. كل ما نريده من الملك حسين أن تكون كل مدينة، كل قرية، كل مخيم تحت السلاح .. ونحن لا نرسل الكلام في الهواء، فنحن مستعدون أن نرسل السلاح إلى الملك حسين، وننقش عليه اسمه ليوزعه على الشعب الفلسطيني هدية من ( جلالة مليكه) .. وإن السلاح موجود عندنا، وأنتم ترون أن خطابي يسجل كلمة كلمة،(1/159)
ليذاع من إذاعة منظمة التحرير .. وها أنا أدعو الملك حسين أن يوافق اليوم، لنرسل له السلاح غداً .. ).
... وهاجت الجماهير وماجت، وأنا أمنع الشباب والطلاب من إطلاق الهتافات العدائية ؛ ثم تحدثت إلى الجماهير المصرية في بور سعيد وقلت : ( أنتم تذكرون أيها الأخوة تلك الأيام الخالدة التي قاتلتم فيها قتال الشوارع في معركة بور سعيد أثناء العدوان الثلاثي .. إنكم تذكرون، إخوانكم الفلسطينيين في بور سعيد قد قاتلوا معكم جنباً إلى جنب .. فإذا كانوا يحسنون القتال في بور سعيد فلم لا يقاتلون من أجل فلسطين .. وفي فلسطين ) .
... ومضيت أخاطب الجماهير بهذه المعاني، من غير تهجم ولا تشهير، ولعلي ضايقت الطلاب والشباب بعض الشيء، لأني منعتهم أن يفرغوا غضبتهم في صيحاتهم وهتافاتهم ..
... وأمضيت أياماً وأياماً، وأنا أنتقل من اجتماع إلى اجتماع، وأنا أشرح وأشرح، وسفير الأردن في القاهرة السيد أنور الخطيب يتردد بين الخارجية والرياسة، وهو ينقل احتجاج الملك حسين على إذاعة منظمة التحرير، وعلى خطب رئيس منظمة التحرير، والهتافات العدائية التي يطلقها الشباب والطلاب في ندواتهم .
... وذهبت إلى منزل الرئيس جمال عبد الناصر في منشية البكري، بناء على إشارة تلفونية من مكتبه، فقال الرئيس :-
- الملك حسين عتبان علي، وغضبان عليك ..
قلت : خيراً إن شاء الله ..
قال : لقد خرقت ميثاق التضامن العربي، وبدأت تحمل على الملك حسين بالإذاعة، وبالاجتماعات العامة ؛ وقد كلمني بالتلفون أمس(1/160)
ليلاً يطلب مني إيقاف الإذاعة، لأن ذلك يعتبر عملاً غير ودي من قبل القاهرة .
... قلت : الإذاعة مستقلة عن القاهرة .. وكذلك المنظمة ؛ أما ميثاق التضامن العربي فقد نص على النقد البناء، وأنا لم أتعد حدود الميثاق .. الملك حسين يجب أن يشكرني ...
... قال : (وهو يقاطعني) يشكرك ليه ؟؟
... قلت : لقد منعت الطلاب والشباب من الاسترسال في الهتاف ضد الملك حسين .. فضحك الرئيس عبد الناصر واحدة من ضحكاته التي يعرف معناها من يعرفه جيداً ..
... وقال : طلبت من الملك حسين أن يتم التفاهم بينكما ؛ وأرى أن تسافر إلى عمان في أقرب فرصة وتبذل أقصى جهدك للاتفاق معه على أمور المنظمة .
... قلت : إن أملي ضعيف .. إن الملك حسين واقع تحت مخاوفه، وتحت سيطرة الإنجليز والأمريكان، وإلى جانبه وصفي التل رئيس وزرائه.. ومع هذا فإني سأسافر .. وسأجرب .. ... وانصرفت من منزل الرئيس عبد الناصر إلى مكتبي، واتصلت بالسفير الأردني، وقلت له : أرجو أن تبرق ( لسيدنا ) بأنني سأسافر إلى عمان للتفاهم .
... وبعد يومين (19-11-1965) ، كنا، سفير الأردن وأنا، في الطائرة، في طريقنا إلى عمان، وقد حرصت فور وصولي أن أذهب من المطار إلى القصر الملكي، لأفتح قلب الملك حسين على مطالب المنظمة .
... قلت للملك حسين : يا سيدنا .. لو أنني أطمع أن أكون رئيس وزراء عند جلالتكم، لاستأجرت بيتاً في عمان، وأصبح بعد أسبوع رئيس وزراء(1/161)
.. وأنتم تعلمون جلالتكم، من غير تفاخر، أن رئيس وزرائكم الحالي السيد وصفي التل، كان موظفاً عندي في المكتب العربي بالقدس (1946) ؛ كل الذي أريده أن تتعاون منظمة التحرير مع جلالتكم لخير البلد ..
... قال : سيجتمع بكم رئيس الوزراء لبحث هذه الأمور كلها .. والشريف ناصر (خال الملك) سيناقش معكم المسائل العسكرية .
... قلت :(مازحاً) إذا لم يوافق سيادة الخال، فسأستأنف ضد قراره إلى((سيدنا ) .
... وخرجنا من القصر إلى رياسة الوزراء، فعقدنا اجتماعاً تمهيدياً، أعقبته اجتماعات متوالية، قبل الظهر وبعد الظهر ؛ ودعوت أعضاء المنظمة الموجودين في الأردن أن يشتركوا فيها ..
... وفي تلك الفترة صادف يوم الإسراء والمعراج، فذهبنا مساء إلى بيت المقدس لشهود الحفل الديني الكبير الذي يقام في المسجد الأقصى ؛ وقلت للسيد وصفي التل، وقد رأى الجماهير، وهي تهتف على مسمع منه في ساحة المسجد ( يا شقيري بدنا سلاح ) :- ( هذا هو مطلب الشعب في كل مكان .. والأمر يحتاج إلى درس واجتماعات ) .
... وكانت ليلة روحانية خطب فيها وفود عديدون من كافة الأقطار الإسلامية، وعدنا بعدها إلى عمان لنستأنف في اليوم التالي اجتماعاتنا .
... وكان وصفي التل يحاور ويناور، ونحن نعرض قضيتنا ببساطة ؛ هو يريد أن يحيل كل شيء للجيش، ونحن نقدر الجيش، ولكن نريد إلى جانب الجيش أن يكون الشعب كله تحت السلاح ..(1/162)
... وطال الجدال والأخذ والرد .. وزعم السيد التل في الجلسة الأخيرة، أن الحكومة وزعت السلاح على المدن والقرى .. وأن الطلاب يدربون على حمل السلاح !
... قلت : هل إذا نزل المظليون الإسرائيليون في الخليل بلد سفيركم أنور الخطيب، أو اربد، بلد رئيس الوزراء، يكون الأهالي قادرين على اصطيادهم أو التعرض لهم ؟؟
... قال : نعم بكل تأكيد .. وقادرون على إبادتهم !!
... قلت : الذي أعرفه أن أهالي اربد وغيرهم ليس عندهم سلاح لمقاومة الإسرائيليين .. وأدعو الله أن لا تأتي الأيام لتكذبك يا ( أبو مصطفى ) (وهذه كنيته) .. وقد جاءت الأيام لتكذبه بعد بضعة أسابيع حين قامت إسرائيل بغارتها الشهيرة على السموع .. وسأرويها في زمانها ومكانها ..
... وانتهى الاجتماع بيننا إلى فشل، واكفهر جو الحديث وقلت :- لقد ضاعت هذه الأيام من عمر قضية فلسطين .. وعلينا أن نضمها إلى العشرين سنة الماضية .. ضاعت كلها من عمر شعبنا الشريد ...
... وقضيت يومين آخرين بين عمان وبيت المقدس، وأنا أشرح للوفود الفلسطينية حقائق الموقف ؛ وبعضهم يناشدني أن لا أهدم الجسور بيني وبين الملك حسين، وأنا أقول وأين هي الجسور ؟ والبعض الآخر يقول : أنت حسن الظن كثيراً في عمان .. وهم لا يعرفون أني سيئ الظن بعمان ولكنها محاولة لإرضاء الضمير .. والتاريخ .
... وعدت إلى القاهرة، وقد سبقتني برقياتي التي كنت أرسلها إلى الرئيس عبد الناصر عن طريق سفارته في عمان عن سير المباحثات في عمان، وكيف أخفقت ؛ فهو الذي اقترح علي المبادرة ..(1/163)
... وشاء الله أن تبدو حكومة عمان على حقيقتها، كاذبة وفي الميدان ؛ فلم تمض أيام (30-10-1965) حتى قامت القوات الإسرائيلية بالاعتداء على المنطقة الحرام في اللطرون، فدخلتها الجرارات الإسرائيلية وبدأ المزارعون الإسرائيليون في زراعتها ..
... استمعت إلى الإذاعة الأردنية، وهي تنقل هذه الأخبار الرهيبة ؛ والمذيع الأردني المسكين يتلعثم ؛ وهو يذيع أن الملك حسين ؛ يرافقه السيد وصفي التل، قد توجه إلى مكان الحادث أنه أصدر أمره إلى ( القوات الأردنية بالرد على الاعتداءات الإسرائيلية بأشد منها ) !!
... لم أنم ليلتي تلك .. فلم يكن لدى الأهلين سلاح يدافعون به عن أراضيهم، وزاد من حزني أن اللطرون قلعة من قلاع صلاح الدين، استبسل بالدفاع عنها أيام حروبه مع الإفرنج.
... وهاج الشعب في الأردن وماج، وكان طبيعياً أن لا تسكت منظمة التحرير ؛ وانطلقت إذاعتنا من القاهرة تفضح الملك حسين ورئيس وزرائه، وتذكرهما بمطالب المنظمة، واجتماعات عمان، وكيف ظهر الكذب، حين قالوا إن السلاح موفور بين أيدي الشعب، وإن القرى الأمامية مسلحة محصنة، آمنة مطمئنة .. وهكذا بدأ الصراع مرة ثانية بين الملك حسين والشعب، والمنظمة تعبر عن رأي الشعب ...
... ونشط الملك حسين في تجواله في البلاد ليجمع الأنصار من حوله، ويصطنع الاستقبالات الشعبية ؛ ولكن هذه المحاولات ما باءت بالفشل فحسب، بل انتشرت المظاهرات في المدن والقرى تتحدى الملك حسين، والجماهير تطالب بالسلاح ..(1/164)
... وعقد الملك حسين مؤتمراً في قصر بسمان (5-1- 1966) أعلن فيه أن مطالب الشقيري ( خيانة .. ففيها تعريض لوحدة البلد ... وسنقف منها موقف الضراوة الذي نقفه مع إسرائيل والصهيونية .. وأن حملات الشقيري تستهدف ضعضعة الأوضاع في الأردن ... وهي خدمة كبرى للصهيونية وأهدافها .. ولا مجال عندنا لأية تشكيلة عسكرية مهما صغرت لا تخضع لقيادة الجيش الأردني ..ولا مجال للارتجال والغوغائية والتهريج .. ).
... سمعت هذا الكلام من الملك حسين، فلم يعد عندي مكان للصمت ؛ فتصديت للملك حسين في الاجتماعات الشعبية، وعن طريق الندوات الإذاعية وأنا أقول : ( إن ترك الشعب بلا سلاح هو أكبر خدمة للصهيونية .. وهل مطالبنا الأربعة : التدريب والتسليح والتنظيم والتحصين، ارتجال أو تهريج أو غوغائية .. إن شعبنا أذكى من أن تجوز عليه أقوال الملك حسين.. إن الملك يخطب بلسان الصهيونية والاستعمار ) .. وكان الشعب في الأردن يترقب مواعيد إذاعتنا، ترقب مدفع الإفطار في رمضان، ( ليفطر) على الملك حسين !!
... وصادف أن أقيم مهرجان البرتقال في مدينة أريحا (10-1-1966)، فحضره الألوف من أبناء الشعب، وزحف اللاجئون من مخيم عقبة جبر على بعد بضعة كيلومترات، وهم يتوقعون حضور الملك حسين ؛ فما أن شاهدوه حتى أخذوا يهتفون الهتاف الذي كان يزعجه على الدوام ( يا شقيري بدنا – سلاح – يا شقيري هات سلاح وخذ أرواح ) ؛ فخرج الملك حسين غاضباً من المهرجان، وانبرى رجال الأمن يلقون القبض على الشباب الهاتفين.. ووصلتني في ذلك اليوم برقية عن طريق دمشق تنبئ أن الشرطة الأردنية تحاصر مقر المنظمة في القدس، وتحقق مع الداخلين والخارجين .(1/165)
... واشتد الخلاف بيننا وبين الملك حسين، ومعه اشتد الخناق على منظمة التحرير في الأردن ؛ وسارع الشعب إلى تأييد المنظمة بالمظاهرات والمنشورات وسائر وسائل التأييد ؛ ونشطت قوات الأمن الأردنية في مداهمة البيوت واعتقال الطلاب والشباب، وإفشاء جو الإرهاب، واعتقلت قرابة 400 مواطن من أنصار المنظمة في أسبوع واحد .
... ونشطت الدوائر العربية في القاهرة للتوسط بين المنظمة والملك حسين، وقام السيد خالد العدساني سفير الكويت بجهد بارز في هذا المضمار... وسافر سفير الأردن أنور الخطيب إلى عمان عدة مرات، وهو يحمل رأي القاهرة ودوائر الجامعة العربية بضرورة إزالة الخلاف، .. وعقدت اجتماعات في مكتب الأمين العام للجامعة العربية السيد عبد الخالق حسونة كنت خلالها أعلن أنه ( لا خلاف بيني وبين الملك حسين .. إذا استجاب الملك لمطالب الشعب ينتهي الخلاف .. وتتوقف إذاعة المنظمة ) .
... وأخيراً، وبعد محادثات تلفونية بين الرئيس عبد الناصر والملك حسين، وصل إلى القاهرة وفد أردني برياسة الوزير السيد عبد الوهاب المجالي يضم في عضويته السادة : عبد المنعم الرفاعي، أنور الخطيب، اللواء الركن عامر خماش، عن الحكومة الأردنية، للتفاوض مع منظمة التحرير ..
... وعقدت الاجتماعات في الجامعة العربية برياسة السيد عبد الخالق حسونة الأمين العام؛ وامتدت أيام في نقاش تفصيلي ؛ واللاسلكي بين السفارة الأردنية في القاهرة والملك حسين في عمان ينقل ما يدور في الجلسات ويتلقى التعليمات .. واضطر رئيس الوفد الأردني عبد الوهاب المجالي غير(1/166)
مرة أن يطير إلى عمان، ليطلع الملك حسين على ما لم يستطع اللاسلكي أن يحمله !!
... وتقدمت المنظمة بمذكرة تفصيلية تشرح فيها مطالب الشعب، وتفند موقف الحكومة الأردنية، مؤكدة انه ( لمناسبة ما جاء في خطب الملك حسين من تركيز موجه إلى رئيس المنظمة الفلسطينية، ترى المنظمة أن تؤكد أن رئيس المنظمة مرتبط في قوله وعمله بالشعب الفلسطيني، وهو وحده الذي يمنحه الثقة أو يحجبها عنه .. وأن المنظمة التي تلتزم بعدم التدخل في شئون الأردن الداخلية، تطالب الأردن أن لا يتدخل في
شئونها ..) ومضت المذكرة بعد ذلك في سرد مطالب الشعب المعروفة ..
... وفي اليوم الأول من شهر آذار 1966 وبعد أيام مضنية من النقاش والحوار تم التوصل إلى اتفاق بين الوفد الأردني ووفد منظمة التحرير الفلسطينية ؛ ووقعه الجانبان في دار الأمانة العامة وكانت أهم مواده :-
1- تواصل الحكومة الأردنية دراسة موضوع التجنيد الإجباري على أن يتفق والمصلحة القومية، بحيث يكون تطبيقه حسب الظروف العامة وعلى ضوء متطلبات القيادة العربية الموحدة .
2- إحالة موضوع تشكيل كتائب جيش التحرير إلى القيادة العربية الموحدة لدراسته وإبداء الرأي بشأنه ..
3- تنشئ منظمة التحرير معسكرات في فصل الصيف للتدريب العسكري للطلاب والشباب .
4- المبادرة إلى تسليح المدن والقرى الأمامية في الأردن ودعم مستواها الاجتماعي والاقتصادي ؛ وتنظم المنظمة أسبوعاً في العالم العربي يعرف بأسبوع الخطوط الأمامية لتمويل هذا المشروع .
5-(1/167)
يكون للمنظمة مكاتب فرعية في جميع محافظات الأردن وخاصة من الناحية العسكرية، وتعقد الاجتماعات والمؤتمرات الشعبية في جميع المناسبات القومية، وتتولى الجباية الشعبية وضريبة التحرير .
وهذا الاتفاق، وإن يكن دون المستوى المطلوب، وخاصة من الناحية العسكرية، غير أنه حقق للمنظمة مكاسب كبيرة، ذلك أنها أصبحت فريقاً رئيسياً يفاوضه الملك حسين ؛ ولم يكن لنا يومئذ من قوة إلا إذاعة المنظمة، التي ينام عليها الشعب ويستيقظ .
... ووجهت كلمة بالإذاعة إلى الشعب في الأردن، أكدت فيها أن الاتفاقية (ليست نصراً للملك حسين، ولا لأحمد الشقيري، ولكن للقضية الفلسطينية) .. وأن المنظمة ستلتزم بالاتفاق نصاً وروحاً .. وأنها حريصة كل الحرص على التعاون مع الملك حسين وحكومته على طريق التحرير .. وأنني سأسافر إلى الأردن قريباً لنعمل على تنفيذ الاتفاق بروح الأخوة والنضال .. وأننا سنشرع بأسبوع الخطوط الأمامية في العالم العربي، لنبدأ تسليح القرى الأمامية وتحصينها) .
... ثم عدت أؤكد هذه المعاني وقلت : ( ليس المهم أن تتلاقى تواقيعنا على الورق، بل المهم أن تتلاقى عزائمنا في الميدان، وأن ينفذ هذا الاتفاق بكل إخلاص وأمانة ... وقد يسأل سائل : هل كان الاتفاق نصراً للمنظمة أو لحكومة الأردن .. والواقع إني أرفض أن يوضع هذا السؤال، وبالتالي فإني أرفض الجواب عليه .. فلا المنظمة انتصرت ولا الحكومة الأردنية انهزمت، وإنما الذي انتصر هو قضية فلسطين .. إن نشاطنا القومي لا يستهدف إلا إعداد الشعب للمعركة، ليكون سنداً وظهيراً للجيش الأردني البطل، بضباطه الشجعان وجنوده البواسل .. ).(1/168)
... وسارعت في اليوم التالي، وهذا الكلام لا يزال ساخناً كالدم الحي، إلى السفر لعمان ؛ ووصلت إلى مطار قلندية في ضاحية القدس، فوجدت الجموع محتشدة، ووفوداً من القرى الأمامية تدوي صيحاتها في جنبات المطار، ( يا شقيري هات سلااح وخذ أرواح ) .
... ومكثت نصف ساعة مع الجماهير ؛ الشباب والطلاب يطالبون بمعسكرات التدريب، وسكان القرى يذكرون أنواع الأسلحة التي يحتاجون إليها ؛ وأنا أعدهم أن يمهلوني بعض الوقت حتى أجتمع مع (سيدنا) في عمان، ونرى كيف نرتب الأمور .
... وأقلتني الطائرة إلى عمان، والبحر الميت على يميني ونهر الأردن على شمالي، وفي حقيبتي الاتفاقية مع الملك حسين، ومصيرها معلق بين الأرض والسماء .
... وفي مطار عمان، لقيت عدداً من الطلاب والشباب الأردنيين، من أبناء ( شرق الأردن) ، يواجهونني بالاحتجاج وهم يقولون :
لقد جئنا نحتج على الاتفاقية التي عقدت بينكم وبين حكومة الأردن في القاهرة ..
قلت : وما هو سبب احتجاجكم .. أنا أقبل كل شيء إلا غضب الشباب .
قالوا : نحن نريد أن ندخل معسكرات الشباب، مع إخواننا الفلسطينيين .
قلت : أهلاً وسهلاً ومرحباً .. إن أبواب المعسكرات مفتوحة لكم مع إخوانكم أبناء فلسطين .
... قالوا : ولكن الاتفاقية قاصرة على أبناء فلسطين .(1/169)
... قلت : أولاً، أنتم من أبناء فلسطين .. إن الكرك من فلسطين، وكذلك اربد وجرش والسلط ؛ إن الإنجليز هم الذين أسموكم بشرق
الأردن (1) ..
... وثانياً أرجو أن تقرأوا الاتفاق ؛ لقد ذكرنا معسكرات للشباب والطلاب ولم نقل الفلسطينيين .. وأخيراً .. أنتم طلاب .. اذهبوا و اقرأوا رحلة ابن جبير الأندلسي حين جاء إلى الكرك، وقال عنها أنها أطيب أرض في فلسطين .. اعقلوا واهدأوا .. وموعدي معكم في معسكرات الشباب ..
... قالوا : لقد زرنا رئيس الوزراء السيد وصفي التل، وقال لنا، أن هذه المعسكرات خاصة بالفلسطينيين ..
... قلت : حين نفتح المعسكرات ستدخلون إليها معي إذا شئتم، وليمنعكم السيد وصفي التل إذا كان يقدر على ذلك .
... وانتهينا من هذا الحوار، وعاد الشباب ( الأردنيون ) وهم يصيحون، كلنا فلسطينيون ويهتفون لمنظمة التحرير . وذهبت إلى الفندق، وإلى غرفتي إياها التي أصبحت داري .. وهتافات الشباب تتجاوب في فؤادي، وأنا أدعو في نفسي : اللهم اجعل الحكم العربي كله على هذا المستوى الرفيع .
... وقضيت بضعة أيام في عمان، بين الملك حسين ورئيس وزرائه، نبحث في وسائل التنفيذ، وتوقيته ومراحله ؛ وشعرة معاوية تتأرجح بيننا ؛ وقال لي الملك حسين في إحدى الجلسات :
- وماذا نفعل بأبناء الضفة الشرقية ؟؟
قلت : ما هو المقصود، ماذا تعني ( سيدنا ) .
__________
(1) أربعون عاما، مصدر سابق .(1/170)
قال : إنهم يريدون أن يدخلوا في معسكرات الشباب .
قلت : نحن نرحب بذلك، إنهم إخوان الفلسطينيين، إنهم إخوان السلاح .. إخوان في الوطن ..
قال : ولكن .. لا داعي أن تتصل المنظمة بالأردنيين .
قلت : من الذي يفرق ( يا سيدنا ) بين الفلسطيني والأردني .. هل هو أنا .. ؟؟ !!
قال : (مقطباً، عابساً) على كل حال .. الحكومة تدرس الاتفاق، وهي مشغولة الآن ببحث جدول أعمال اجتماع رؤساء الحكومات العربية الذي سينعقد قريباً (14آذار 1966) ولا بد أنك ستحضره .. فلنرجئ الموضوع إلى فرصة أخرى .. فلا بد أنك تجتمع مع الوفد الأردني أثناء وجوده في القاهرة .. ويمكنك أن تبحث معهم في التفاصيل .
... لزمت الصمت، فلم أعقب على هذا الحديث، فقد كان السفير المصري في عمان يزورني يوماً بعد يوم، وهو يبلغني رغبة الرئيس عبد الناصر بأن أجنح إلى الروية، ولا أقطع الحبل مع الملك حسين ؛ وكذلك كان السفير العراقي ينقل إلي مثل هذه الرغبة من الرئيس العراقي المشير عبد السلام عارف ... أما السفير الجزائري فلم تكن عنده إلا كلمة واحدة يرددها باللهجة الجزائرية : (الأخ بومدين يقول لك يجب أن يكون لكم موضع قدم في الأردن .. ) .
... وخرجت من القصور الملكية، والصحفيون يطاردوني بأسئلتهم، وأنا أمضي في الصمت ؛ وهم يثيرون آلامي قائلين : يجب أن تكاشف(1/171)
الشعب بالحقيقة .. هذه قضية مصيرية لم تعد تتحمل الدبلوماسية، أنت مسئول أمام الشعب .. الشعب يريد أن يعرف متى تنفذ الاتفاقية ؟؟
... واعتصمت بالسكوت .. كمن ينطوي على جراحه ليوقف نزيفه .. وعدت إلى القاهرة، وأنا أحمل معي الاتفاقية إياها .. واجتازت السيارة بي شوارع القاهرة وميادينها، وأنا أستعرض في ذهني مواقف الملك حسين معي .. كم عاهدني ؟ وكم حلف الإيمان، وكم .. وكم ؟ .
... ولقد كنت أعرف الجواب عن هذه الأسئلة، ولكن الجواب المحكم كان في محكم آياته.. في قوله تبارك وتعالى :
... (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ) .
صدق الله العظيم(1/172)
عبد الناصر .. سعود ..فيصل..
من غير عنوان
... أطل عام 1966، وأطلت معه البشائر والنذر تتصارعان على أشد ما يكون الصراع من غبر هوادة ولا رحمة .
... وكان الملك فيصل عاهل المملكة العربية السعودية يقود حملة البشائر، يمني العرب والمسلمين بأحلى الأماني وأسعد الأيام تنتظرهم على الأبواب . ...
... وكان الرئيس عبد الناصر يقود حملة النذر يخوف العرب والمسلمين من الخطر الداهم يحيط بهم من كل جانب .
... وكان الملك فيصل هو البادئ في هذه الحملة، فقد خرج من مؤتمر القمة في الدار البيضاء في خريف 1965 يشمر عباءته ويشد عقاله لينزل إلى ساحة العالم الإسلامي يصول فيها ويجول .
... وقد وجد الحافز إلى ذلك، وكان ينتظر هذا الحافز منذ زمن، في حديث عابر في الجلسة الأخيرة في مؤتمر الدار البيضاء حين تواصى الملوك والرؤساء أن يعبئ كل منهم طاقاته المعنوية، في نصرة القضية الفلسطينية ؛ وأعلن الملك فيصل في هذا الصدد أنه سيطلب نصرة العالم الإسلامي، كما(1/173)
أعلن الرئيس اللبناني شارل حلو أنه سيسعى لنصرة العالم المسيحي ؛ وانفض مؤتمر القمة، على هذه التمنيات العذاب .
... ومضى الخريف، وبعده أقبل شتاء الحجاز بكل خيراته، وتحرك الملك فيصل يدق أبواب الدول الإسلامية يدعوها إلى اجتماع – مؤتمر – إلى لقاء، ولتكن الأسماء ما تكون ..
... وحامت في الآفاق الدولية والإسلامية أطياف (المؤتمر الإسلامي) ، تحملها الرياح من سماء إلى سماء .. وحسب العادة فقد توافدت هذه الأطياف، أول ما توافدت، من بعيد، من الغرب .. من الصحافة الغربية، الأمريكية والبريطانية على السواء .. وكل مقالاتها وأخبارها وتعليقاتها تؤذن بمولد خطة جديدة تجر الوطن العربي إلى فلك المعسكر الغربي .. وأعلنوا أن
(المؤتمر الإسلامي) سيكون هذا المولد .
... وبدأ التحرك من جدة .. خرج الملك فيصل عن قاعدته المعروفة،
(السكوت من ذهب) ، وبدأ يتكلم عن الحاجة الماسة إلى عقد مؤتمر إسلامي، (للنظر في شئون المسلمين وتوحيد كلمتهم) . وأسهب في الحديث عن مزايا هذه الفكرة، وهو المعروف بالإيجاز بل بالإقلال من الكلام .. وتلك واحدة من فضائله، ولا أتحدث عن معايبه !!
... ثم جاء تبادل الزيارات بين الملك فيصل وبين الملك حسين، وتبادلا الخطب على الموائد الرسمية، تشيد بعقد مؤتمر إسلامي لنصرة القضية الفلسطينية .. والقضية الفلسطينية هي قميص عثمان، عند حكام العرب أجمعين، وما تزال ..(1/174)
... كنت أستمع إلى هذه الخطب، وأذني مسلطة على إذاعة عمان وإذاعة جدة، وزملائي في منظمة التحرير يسألون : هل تم الاتفاق في مؤتمر الدار البيضاء على عقد مؤتمر قمة إسلامي .
... قلت : لم يقرر مؤتمر القمة شيئاً من هذا على الإطلاق .. كل الذي جرى في الدار البيضاء في صدد الاستنصار بالعالمين الإسلامي والمسيحي، أن يبذل الملك فيصل مساعيه لدى الدول الإسلامية، وأن يقوم الأستاذ شارل حلو الرئيس اللبناني بمثل هذا المسعى لدى الفاتيكان والدول المسيحية .
... وجرى نقاش طويل بيننا في المنظمة حول هذا الموضوع انتهى إلى الاتفاق بأن تعبئة العالم الإسلامي إلى جانب قضية فلسطين شيء، وإقامة حلف إسلامي يسير في فلك السياسة الغربية شيء آخر .. وأن على المنظمة أن تلتزم الصمت في هذا الموضوع، إلى أن ينجلي الموقف ..
... وبدأ الرأي العام العربي يتململ من تصريحات الملكين فيصل وحسين حول هذا الموضوع، وخاصة بعد أن انضم إليهما في (الأوركسترا) الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، وهو الذي أثار ثائرة الأمة العربية بتصريحاته المعروفة عن الصلح مع إسرائيل . وتحول التململ العربي إلى تجهم، بعد أن انضم إلى قافلة المؤتمر الإسلامي شلة إيران ؛ وإيران الرسمية، على غير ما يريد الشعب الإيراني، لها علاقات وثيقة مع إسرائيل .
... وأقبل عيد الوحدة (22 فبراير 1966) وهي مناسبة قومية يخطب فيها الرئيس عبد الناصر في القاهرة، وتعطل الدوائر الرسمية في دمشق .. وتتساءل الأمة العربية في ذلك اليوم : إذا كانت القاهرة ودمشق تبكيان الانفصال، فلم لا تقوم الوحدة بينهما ؟؟ .. أبكاء أم تباكٍ !!(1/175)
... وشهدت الاحتفال، مع الوفود الرسمية والشعبية التي تتوافد على القاهرة في مثل هذه المناسبة القومية، ودخل الرئيس عبد الناصر قاعة الاحتفال، وكان متجهماً على غير عادته .. واستشعرت في ملامح وجهه، وأنا قريب منه على المنصة الرئيسية .. أن الرئيس عبد الناصر سيفاجئ الأمة العربية بجديد .
... ووقع الذي توقعته، وألقى الرئيس العربي خطاباً طويلاً، لم يصل فيه إلى الخاتمة، ( والسلام عليكم ورحمة الله ) ، حتى تجاوز الساعتين، حمل خلالهما على الرجعية العربية وعلى الحلف الإسلامي .. وهو يذكر بالاسم شاه إيران، والملك فيصل، وأبو رقيبة، والملك حسين .
... وكانت هذه أول مرة، بعد مؤتمرات القمة الثلاثة، وبعد ميثاق التضامن العربي، وبعد اجتماع الدار البيضاء الذي وصفه الرئيس العربي بأنه ( أنجح اجتماع شهده في حياته ) يتعرض فيها الرئيس عبد الناصر إلى الزملاء، من الملوك والرؤساء .
... وبدأ الرئيس عبد الناصر حملته بإيران، وانشدت إليه إبصار جميع رجال السلك الدبلوماسي العربي والأجنبي وهو يعلن بأن ( إيران باستمرار تمثل خطر الاتجار بالدين . وتضليلها باسم الإسلام .. واعترفت بإسرائيل .. وبفضل حكم شاه إيران الرجعي فتحت الوكالة اليهودية فرعاً لها في طهران . وأصبحت إيران قاعدة إسرائيلية . وأن بن غوريون عقد محادثات مع رئيس وزراء إيران في مطار طهران .. وأن .. ).
... وانتقل الرئيس عبد الناصر بعد ذلك إلى الحديث عن بقية الرفاق .. فرفع صوته عالياً وهو يقول ( إن الملك فيصل أوفد صديقه المغربي محمد الكتاني في مهمة سرية إلى دول المغرب .. مهمة تستهدف إنشاء حلف(1/176)
إسلامي مقدس يتصدى للثورات التقدمية في المنطقة .. الصحف الأمريكية اعترفت أن واشنطن كلفت الملك فيصل وشاه إيران القيام بمهمة تشكيل الحلف الإسلامي .. وأن إسرائيل إذا دعيت للاختيار بين جبهة الملوك والجبهة المتحررة، فإنها ستختار بالتأكيد جبهة الملوك .. ) .
... وكان الرئيس عبد الناصر يمد يده إلى ملف مملوء بالقصاصات الصحفية، الأمريكية والبريطانية والافرنسية، يشير إليها وهي تتحدث عن دور الملك فيصل في إقامة حلف إسلامي يكون في خدمة السياسة الغربية .
... وكنت أجلس إلى جوار المشير عبد الحكيم عامر النائب الأول لرئيس الجمهورية فقلت له : لابد أن يكون للرئيس جهاز كفء يتابع الصحف العالمية بمثل هذه السرعة .. فقال : ( أمال .. هي المسألة لعب، الريس لا يلقي الكلام على عواهنه وفي الهواء ) ..
... وتابع الرئيس عبد الناصر حديثه، وهو يعلم أم مئة مليون عربي، ومعهم ملايين المسلمين يستمعون إليه، ويلتقطون إشاراته الهادرة الساخرة، فقال : (الحلف الماضي سموه حلف بغداد .. وجدوا له اسم عربي، لبسوه عقال وعباية علشان يخبي بينهم إنجلترا وأمريكا .. الحلف الجديد لبسوه عمة علشان يسموه الحلف الإسلامي، علشان يضحكوا على المسلمين باسم الدين)..
... ولم يفلت الرئيس التونسي أبو رقيبة في ذلك اليوم من الكماشة، فراح الرئيس عبد الناصر يقول (استطاع الاستعمار إنه يحرك بورقيبة اللي كان جه في مؤتمر القمة العربي الأول، وتبنى قضية فلسطين، وقال إنه مستعد يبعث جيش تونس علشان يقف على حدود فلسطين .. جاء السنة اللي فاتت ونادى بتصفية قضية فلسطين، ونادى بالتفاوض مع إسرائيل .. ولم(1/177)
يكن إلا عميل فعلي للاستعمار، من إمتى أبو رقيبة بيدافع عن الإسلام .. هو اللي لغى إجازة العيد كلها وخلاها يوم واحد .. ).
... ومضى الرئيس عبد الناصر : يهاجم الحلف الإسلامي وأنصاره، مقتبساً أقوال الدوائر الغربية وصحافتها، داعياً الجماهير العربية إلى النضال؛ وختم خطابه بكلمة صارمة حازمة وهو يقول (وستسقط الشعوب العربية الحلف الإسلامي المزعوم كما أسقطت حلف بغداد ) .
... وعاد الرئيس عبد الناصر إلى مقعده، والجماهير الحاشدة، تهتف وتصفق، وترغي وتزبد، وتنادي بحياة القومية العربية وبسقوط الأحلاف .
... وغادرنا مكان الاجتماع لنودع الرئيس عبد الناصر وهو يبادرني بالسؤال : يا أخ أحمد.. أنت حضرت مؤتمر القمة في الدار البيضاء .. هل اتفقنا على الدعوة لمؤتمر إسلامي كما يدعي فيصل ؟ .
... قلت : ( أبداً .. لم يصدر قرار بهذا الشأن .. كل الذي جرى، وفي حديث عارض، أن يستنهض الملك فيصل المسلمين أثناء الحج لنصرة القضية الفلسطينية، وأن يتصل الرئيس اللبناني الأستاذ شارل حلو بالفاتيكان لمؤازرة القضية الفلسطينية ) .
وتدخل أحد الصحفيين العراقيين وقال : يا سيادة الرئيس، وما هو دور الملك حسين في موضوع الحلف إلا سلامي فقال الرئيس مقهقهاً : الملك حسين ده حصة الأخ أحمد .. على كل حال يجي دوره بعدين .. مش حننساه.. ولا الشقيري حينساه .
وغادر الرئيس عبد الناصر بموكبه، والسيد أنور السيادات يسألني: أنتم في المنظمة رأيكم إيه في الحلف الإسلامي ؟؟ .(1/178)
قلت : في نفس الملك فيصل عقدة الشقيري ..، وفي نفسي عقدة إسمها عقدة فيصل، ونخشى إذا تكلمنا إن نتهم بالانحياز .. وخطاب الرئيس يغني عن كل خطاب .
... وغادرت المكان إلى مكتب المنظمة، ورجال الإذاعة ينتظرونني ليسجلوا لي تعقيبا في الموضوع .. قلت لهم ( أنتم تعرفون ما بيني وبين الملك فيصل (1) ... لا نريد أن نؤذي المنظمة .. اتركوا الأمر بين عبد الناصر وفيصل ) .. قلت هذا، وقد بدأت أفكر في مصير مؤتمر القمة، وفي مصير المؤسسات التي انبثقت عنها : القيادة العربية الموحدة، منظمة التحرير وجيشها، وأخيراً هيئة تمويل الروافد .. وإن كنت لا أؤمن بهذه لا شكلاً ولا موضوعاً .
... فكرت في هذا، وقدرت أن الرئيس عبد الناصر يخطط لمنهج ثوري جديد، بعيد عن مؤتمرات القمة، وتأكد لدي هذا الحدس حين ذكر لي الوفد الصحفي العراقي ما قال له الرئيس عبد الناصر بالأمس : (إن الرجعية العربية استفادت نتيجة لمؤتمرات القمة من المهادنة ولن نسكت على أي تحرك للرجعية العربية) .
... ولكن هذا الهجوم الضاري الذي شنه الرئيس عبد الناصر على المؤتمر الإسلامي، قد عاد بذاكرتي من الستينات إلى الخمسينات .. وتدافعت الأحداث في مخيلتي كما تتدافع الصور المتعاقبة على شاشة السينما .. وكنت في صميم هذه الأحداث حيناً وعلى هامشها حيناً آخر .
... وبدأت أستعرض الذكريات، بعضها اختزنته في ذاكرتي وبعضها اختزنته في أوراقي .. وعلى مسرح تلك الذكريات انتصب أمامي الرئيس
__________
(1) من القمة إلى الهزيمة، مصدر سابق .(1/179)
عبد الناصر، والملك سعود، والأمير (الملك فيصل) ولدا العاهل العربي عبد العزيز آل سعود .. وكانت لي معهم صلات ومواقف .. حول الموضوع المثير الذي اتخذ أسماء عديدة (الحلف الإسلامي) المؤتمر الإسلامي، التعاون الإسلامي، وغير ذلك من الأسماء التي أثبت الزمن أنه ليس فيها شيء إسلامي .
... ومن أوائل ذكرياتي في هذا السياق زيارتي للرئيس عبد الناصر في سراي الثورة بالجزيرة في أوائل الخمسينات، يوم حملت إليه مذكرة مطولة عن القضايا العربية .. ودخلت معه في نقاش مترامي الأطراف، تعرفت خلاله على رأيه في الشئون العامة – خارج حدود مصر – وكانت شئون العالم الإسلامي في المقدمة . (1)
... ثم جاء بعد ذلك كتابه ( فلسفة الثورة ) فوقفت طويلاً عند كلامه عن العالم الإسلامي وهو يطرح السؤال الكبير : ( أيمكن أن نتجاهل عالماً إسلامياً تجمعنا وإياه روابط لا تقر بها العقيدة الدينية فحسب، وإنما تشدها حقائق التاريخ ) .
... بل إن الرئيس عبد الناصر قد راح يجيب نفسه عن سؤاله الذي طرحه على نفسه، حين يدعو أن يكون موسم الحج ( قوة سياسية ضخمة .. بوصفه مؤتمراً سياسياً دورياً يجتمع فيه كل قادة الدول الإسلامية ورجال الرأي فيها، وعلماؤها وكتابها، وملوك الصناعة فيها، وتجارها وشبابها، ليضعوا في هذا البرلمان الإسلامي العالمي خطوطاً عريضة لسياسة بلادهم وتعاونها معاً ..).
__________
(1) انظر، حوار وأسرار مع الملوك والرؤساء ، أربعون عاماً في الحياة العربية والدولية .(1/180)
... ورأيت في هذا الكلام بلسماً لجراح فلسطين ؛ فقد كنا نحن العاملين في الحقل الوطني الفلسطيني نمد أبصارنا صوب العالم الإسلامي نستنجده ونستصرخه، ونرسل الوفود تلو الوفود، لتنشئ ( الإسلامية العالمية) لتواجه (الصهيونية العالمية) في غزوتها العدوانية على الديار المقدسة .
... وقلت للرئيس عبد الناصر في إحدى لقاءاتي الكثيرة : إذا كان العالم الإسلامي هو الدائرة الثالثة لمصر، بعد الدائرة العربية والدوائر الإفريقية، كما عبرت في ( فلسفة الثورة) فنحن أهل فلسطين نرى أن العالم الإسلامي هو ( الدائرة الأولى ) ، فما رأيك في توطيد العلاقات بين مصر والمملكة العربية السعودية، حتى نستطيع إقامة ( البرلمان الإسلامي ) الذي نتحدث عنه .
... وقال الرئيس عبد الناصر، لقد كنت في البعثة المصرية التي سافرت إلى المملكة العربية السعودية لتقديم العزاء في وفاة الملك عبد العزيز .. وفي مكة المكرمة تفتح عقلي على الطاقات الهائلة التي يملكها العالم الإسلامي .. وأذكر أني تحدثت إلى الملك سعود بالفوائد العظمى الكامنة في حكمة الحج، ورأيت عنده استعداداً لتفهم هذه المعاني .
... قلت : ألا ترى يا سيادة الرئيس أن نعمل على توطيد العلاقات بين مصر والمملكة العربية السعودية تحقيقاً لهذه الغاية .
... قال : نحن بدأنا من جانبنا، وإذا كان أحد من الأخوة العرب يسعى معنا فنحن موافقون.
... استمعت إلى هذا الكلام فوجدت فيه حافزاً جديداً يدعو إلى العمل فإن الصهيونية العالمية تحشد كل طاقاتها في جميع أرجاء العالم، فلم لا نحشد طاقات العالم الإسلامي في هذه المعركة دفاعاً عن قضيتنا المقدسة .(1/181)
... وبدأت بالعمل، وكنت يومئذ أميناً مساعداً للجامعة العربية ورئيساً لوفد سوريا في الأمم المتحدة .. فتحدثت إلى الرئيس السوري شكري القوتلي في الأمر، وكان على صلة وثيقة برجال المملكة العربية السعودية، فوجدت عنده استجابة كاملة، وأخذ يتصل بالرياض، عن طريق الرسل والرسائل ..
... وأنا، كواحد من عشرات العاملين في الحقل الوطني الذين وثقوا صلاتهم بالمملكة العربية السعودية، اغتنمت كل فرصة للتحدث إلى الملك سعود، وإلى ولي عهده الأمير فيصل بهذا الشأن، وكانت تربطني بالثاني صداقة وطيدة، كانت نهايتها حين ابتدأت ثورة اليمن !!
... وأفلحت الجهود من كل جانب .. الجهود المصرية السورية الفلسطينية، تحقيقاً، لهذه الغاية ؛ وتم الاتفاق بين الرئيس عبد الناصر والملك سعود على التعاون في حشد طاقات العالم الإسلامي لما فيه الخير لكافة الأقطار الإسلامية، وفي إطار هذا الاتفاق أنشئت (الأمانة العامة للمؤتمر الإسلامي) واختيرت القاهرة مقراً لها، والسيد أنور السادات أميناً عاماً لها ..
... وفي ذهابي وإيابي إلى مكتبي في الجامعة العربية، كنت أعرج على مقر الأمانة العامة للمؤتمر الإسلامي، قريباً من منزلي في القاهرة، وأجد عدداً وافراً من الكفاءات المصرية وهي تعد الخطط والدراسات والأبحاث، للحاضر والمستقبل ؛ وانشرح صدري أن طريقنا إلى العالم الإسلامي قد أصبح معبداً .. وأن بشائر الخير لفلسطين قد أصبحت قاب قوسين أو أدنى .
... وتشاء الأقدار، أو ظروف خليج العقبة، وقد شرحتها فيما سبق (1) ، أن أصبح رئيساً للوفد السعودي في الأمم المتحدة ؛ وبهذا أصبحت أكثر
__________
(1) أربعون عاما، مصدر سابق .(1/182)
اتصالاً بالملك سعود والأمير فيصل أدعوهما على الدوام، في كل مناسبة، إلى توثيق الصلات بالقاهرة، كما كنت أناشد الرئيس عبد الناصر في زياراتي للقاهرة على الانتفاع بالثورة الروحية والمادية التي تملكها المملكة العربية السعودية، وما تستطيع أن تفعله في بناء المدارس والمستشفيات والمساجد في آسيا وأفريقيا، مما يعود خيره على المسلمين، وعلى العرب، وعلى فلسطين ..
... ولكن هذه الأموال بدأت تتضاءل . وأصبح مقر المؤتمر الإسلامي في القاهرة يأخذ بالضمور . وبدأ الملك سعود ينسل من الساحة، مثلما أخذ الرئيس عبد الناصر ينسحب من الميدان، بانتظام وانتظام، تماماً كما يفعل الجندي في الميدان .
... وقد حاولت جهدي من جانبي أن أزيل السباب، كما فعل غيري من العاملين في الحقل الوطني .. ولكن القوى التي تواجهنا، كانت أقوى منا جميعاً .. ولعلها أقوى من الرئيس عبد الناصر، ومن الملك سعود، مجتمعين .
... وفي كلام موجز، يمكن فهمه من غير إسهاب، كان الخطر الإسرائيلي يشد الرئيس عبد الناصر نحو المعسكر الشرقي، كما كان الخوف من الشيوعية الدولية، يرمي بكل ثقل الولايات المتحدة على المملكة العربية السعودية .. ولم يكن الملك سعود ولا ولي عهده الأمير فيصل، من طراز الرجال الذين يقولون للولايات المتحدة .. لا .. لا .
... وازداد الموقف توتراً بين القاهرة والرياض، حين ذهب الملك سعود إلى واشنطن في زيارته الشهيرة للجنرال ايزنهاور في عام 1957 .. ولم يكن الأمر يحتاج إلى (التجسس) على ما دار بين الرجلين، فقد ألح الرئيس(1/183)
ايزنهاور بطريقته المألوفة، على الملك سعود أن يسعى لتأليب الشعور الإسلامي ضد ( الشيوعية الدولية ) .. والملك سعود، كذلك بطريقته المعروفة لم يكن أمامه إلا أن يقول نعم .. فإن ملوك العرب يرون الشيوعية أخطر عليهم من الصهيونية ... أو هكذا تجرعوا هذه ( العقيدة ) !!
... وبدأت أجهزة الإعلام في القاهرة تغمز الملك سعود وتثير الشكوك حول زيارته لجنرال ايزنهاور .. والملك سعود يصبر على القتال، ولكنه لا صبر له على القيل والقال..
... وأذكر أني كنت في مجلس الملك سعود، بعد عودتي من الأمم المتحدة في أوائل عام 1958 فوجه إلي الكلام قائلاً :
- يا شيخ أحمد .. أصحابك في القاهرة يهاجمونني .. لقد أرسلت إليهم خلاصة محادثاتي مع الجنرال ايزنهاور .. وكل ما فيها خير للعرب وللمسلمين، فلماذا يهاجمنا الرئيس عبد الناصر في صحفه في القاهرة وبيروت .
قلت : يا طويل العمر .. الأخوة يقع بينهم اختلاف ولكن لابد أن يعودوا إلى الصفاء ..
وطلب الملك سعود إلى الشيخ يوسف ياسين، أن يأتي بملف المراسلات بينه وبين الجنرال ايزنهاور، وأخذ يقرأ الترجمة العربية لآخر رسالة جاءته من البيت الأبيض .. قال :
- هذه هي آخر رسالة تسلمتها من الجنرال ايزنهاور بنفسه .. وهذا هو الأصل باللغة الإنجليزية وبتوقيع الرئيس ايزنهاور بنفسه .. أنت خذها إلى القاهرة، واقرأها على الرئيس عبد الناصر حتى يتأكد أننا لا نضمر شراً لعبد الناصر ولا لأي عربي ولأي مسلم .(1/184)
... وهكذا كان .. استلمت الرسالة، وأقلتني أول طائرة إلى القاهرة لأحاول رأب الصدع بين القاهرة والرياض .. وكل اعتمادي على الله، وعلى رسالة الرئيس ايزنهاور !!
... وكانت هذه الرسالة جواباً على كتاب بعث به الملك إلى الجنرال ايزنهاور يشرح فيه التوتر السائد في منطقة الشرق الأوسط بسبب إسرائيل واعتداءاتها، ويناشد فيها أن لا تتخذ منظمة حلف الأطلنطي التي كان من المزمع انعقادها في باريس في أواسط 1958 أي قرار ضار بشأن النزاع العربي الإسرائيلي .. وكان مجمل جواب الرئيس ايزنهاور، أن ( نشاطات الشيوعية الدولية لا بد أن تبحث في إطار أية مداولات دولية .. وأن شعوب منظمة الأطلنطي تدرك تماماً الفرص المتاحة أمام الشيوعية الدولية بسبب التوتر في الشرق الأوسط وخاصة بالنسبة إلى المضاعفات الناشئة عن النزاع القائم بين الدول العربية وإسرائيل كما وصفتها جلالتكم .. )
... وبكرت في اليوم التالي إلى جهاز التلفون أتصل بمكتب الرئيس عبد الناصر أطلب موعداً عاجلاً لأمر عاجل .
... ومضت قرابة أسبوعين، وأنا أتوسل وأناشد .. ولكن لا سبيل إلى ذلك، وكان الجواب من مكتب الرئيس : والله الرئيس لم يحدد الموعد بعد .. سيادة الرئيس مشغول كثير في مواعيد كثيرة . ممكن تتصل بوزارة الخارجية لتطلعهم على الموضوع .. إذا تحدد موعد نبقى نتصل فيك بالتلفون، عندنا رقم تلفون المنزل .. ) !!
... وأدركت أن الرئيس عبد الناصر لا يريد مقابلتي .. والرئيس عبد الناصر لطيف جداً حينما يريد، وخشن جداً حينما يريد، ولا يبالي(1/185)
بالبروتوكول، وهو مستعد أن يهتك عرض الدبلوماسية من غير تحفظ ولا تردد .. وهو يرى أن ذلك أسلوب من الأساليب الدبلوماسية ..
... ووقعت في حرج شديد .. وأحسست أن كرامتي ومهمتي في الميزان.. ولولا قضية فلسطين ما كان لي أن أعرض نفسي لهذا الهوان ..
... وزاد من ألمي أن الصحافيين المصريين، لم يكفوا عن متابعتي بالتلفون سائلين :-
... -(هل قابلت سيادة الرئيس – هل سلمته الرسالة الخاصة التي تحملها من الملك سعود) وكان بعضهم يريد أن يستغضبني .. وكنت أكظم ألمي فلا أنبس ببنت شفة .. خاصة وأنا أعلم أن تلفون منزلي واحداً من عشرات التلفونات الخاضعة للرقابة، من (صباح الخير إلى الحمدلله على السلامة ..).
... وضجرت ويئست .. وعزمت أن أعود إلى الرياض وأن تعود الرسالة معي .. ولا بد أن الله تبارك وتعالى سيلهمني عذراً لطيفاً كاذباً القيه بين يدي الملك سعود، دون أن تزداد الفجوة بينه وبين الرئيس عبد الناصر.. والملك سعود، خلافاً للأمير فيصل، يمكن استرضاؤه، حتى ببشاشة مصطنعة .
... وحزمت حقائبي، وحجزت لي مكاناً في الخطوط السعودية، وأخذت طريقي إلى مطار القاهرة الدولي وأنا أسب الساعة التي أقحمت نفسي في هذا الموضوع ؛ ولكنها فرجت .. بعد أن ضاقت واستكملت حلقاتها ..
... ذلك أني لم أكد أصل إلى صالة الانتظار حتى كان ضابط المطار وأعوانه يبحثون عني .. وميكروفونات التلفون تلعلع باسمي (الأستاذ الشقيري، يتصل بضابط المطار .. وشكراً .. ).(1/186)
... وجاءني ضابط المطار يقول : السيد سامي شرف مدير مكتب الرئيس يريدك أن تكلمه بالتلفون .. الآن وحالاً ..
... وقال السيد سامي شرف وأنا أكلمه على التلفون :-
- لقد تحدد موعد سيادتك، لمقابلة سيادة الرئيس غداً الساعة 12 ظهراً..
قلت : أنا في طريقي إلى الرياض .. وقد حجزت مكاناً في الطائرة السعودية .
قال : أرجوك أن تلغي سفرك ..
قلت : لقد أبرقت إلى الملك سعود بسفري – ماذا أفعل الآن ؟؟
قال : اعتذر بما تشاء .. الموقف حساس و .. و ..
وعدت إلى بيتي وعادت معي الرسالة إياها ..
وفي اليوم التالي وفي الموعد المحدد كنت مع الرئيس في منزله في منشية البكري
وهو يبادرني بالحديث ..
... - إزاي كنت عاوز تسافر إلى الرياض .. مهما كانت علاقتنا بالملك سعود، إنت عارف مكانتك في القاهرة .. بس أنا كنت مشغول أوي في الأسبوع الماضي، وأنا قلت الأخ الشقيري نسيبه للآخر، هو في بيته في القاهرة ..
... قال الرئيس عبد الناصر هذا الكلام، وما هو أكثر منه حلاوة، ليزيل المرارة في نفسي .. وشرعت بعد المقدمات والديباجات أحدث الرئيس عبد الناصر عن ضرورة التفاهم مع المملكة العربية السعودية ومع الملك سعود بالذات، وأنه يسهل ( قياده ) بالكلمة الطيبة، وأنه يحسن أن(1/187)
( نخطفه) من الجنرال ايزنهاور، ومن براثن السياسة الأمريكية وأنه ..
وأنه ..
... وأخرجت من حقيبتي رسالة ايزنهاور فقرأها الرئيس عبد الناصر بإمعان وقال ..
... - عندك مانع تبقى الرسالة عندي يومين ثلاثة .. أنا أحب أن يقرأها المشير عبد الحكيم عامر .
- قلت : لا مانع ..
قال : على كل حال، أنا أرى أن هذه الرسالة تضع المملكة العربية السعودية على مفترق الطرق، فأما أن يسير الملك سعود في فلك السياسة الأمريكية، وحينئذ لا تعاون بيننا، وأما أن يظل في الحظيرة العربية ويبقى التعاون بيننا .
... قلت : أنا أرجو أن يبقى التعاون بينكما، ويزداد .. أنا أذكركم
(بالدائرة الثالثة) ، العالم الإسلامي، كما عبرت عنه في كتابك فلسفة الثورة، وسيطالبك التاريخ ..
... قال : الأمر مرهون بالمستقبل، فأما صداقة مع السعودية، وأما عداوة، وأنا أرحب بالأولى .
... قلت : هذه خاتمة طيبة، وسأنقل إلى الملك سعود تحياتك وتمنياتك ..
... قال : لا مانع .. ونسأل الله التوفيق .
... وانتهى الاجتماع، وخرجت من منزل الرئيس عبد الناصر، تاركاً عنده رسالة الجنرال ايزنهاور، وأنا أعلم أن مكتب الرئيس سيصورها بالزنكوغراف لضمها إلى ملف الوثائق السرية، ولم أر حرجاً في ذلك .. فقد(1/188)
عادت إلي سليمة بعد ثلاثة أيام واحتفظت بها هذه السنين، وهذه صورة زنكوغرافية عنها ليقرأها المواطن العربي . (1)
... ولكن مهمتي بين الرئيس عبد الناصر والملك سعود لم تفلح، وانتابتها مضاعفات دولية وعربية، فازدادت سوءاً على سوء ..
... وكان النزاع بين الأخوين سعود وفيصل من أهم المضاعفات، وهو خلاف على السلطة يؤلف فصلاً بذاته، ولا أحسب أن له مكاناً في مذكراتي إلا بقدر ..
... وأعني بهذا القدر علاقتي بهذا الصراع، فقد انقسم رجال المملكة إلى فريقين حول هذا الصراع .. هذا يؤيد الملك سعود نهاراً ولكنه يتسلل بالليل إلى قصر الأمير فيصل لينقل إليه الأخبار .
... وذاك يمثل الدور على الوجه الآخر .. وكان كل من سعود وفيصل يستعين على الآخر بالجهات العربية والأمريكية على السواء !!
... ومن ذلك أن الملك سعود كان يبعث إلي رسولاً خاصاً من رجاله إلى القاهرة يحمل إلي بريداً منتظماً عن الخلاف بينه وبين أخيه الأمير فيصل .. وقد اخترت لمذكراتي واحداً من هذه الرسائل يطلب فيه (بعد قراءة الكتاب مزقوه) وأن أشرح نواياه (للجماعة) وهو يعني بالجماعة الرئيس عبد الناصر ..
... ولكني لم أستجب لرغبة الملك سعود فلم أتصل بالرئيس عبد الناصر فيما لا ينفع القضية التي كرست حياتي لها، وكذلك لم أمزق الكتاب، فهو
__________
(1) * نص الخطاب في ملزمة الصور.(1/189)
نموذج صالح على الحكم العربي المعاصر ... وها إني أضعه أمام المواطن العربي للتاريخ .. وهذه هي صورة زنكوغرافية أخرى . (1)
... ودارت الأيام دورتها، ونجح فيصل في خلع أخيه سعود عن الملك، تحت ظروف لم يسبق أن وقع مثلها في تاريخ البيت السعودي ؛ وجاءت حرب اليمن ورافقها ما رافقها من أزمات عربية ودولية، وتوتر الموقف بين الرئيس عبد الناصر والملك فيصل، ولم تفلح مؤتمرات القمة، ولا وساطة بريطانيا وأمريكا في رأب الصدع وجمع الشمل .. وعاد الحديث عن الحلف الإسلامي إلى ساحة الصراع .
... وأصبح الملك فيصل غير الأمير فيصل، فقد كان في الماضي ينعى على أخيه سعود خلافه مع الرئيس عبد الناصر، فلما أصبح الآن ملك البلاد والعباد تصدى للرئيس عبد الناصر بكل إصرار وعناد واختار موضوع المؤتمر الإسلامي ميداناً للنزال .. والله وملائكته ورسله يشهدون أن الميدان الحق هو في فلسطين وفي فلسطين وحدها !!.
... وبدأ الملك فيصل عهده بزيارة الدول الإسلامية، يحضها على
(الاجتماع والتعاون لما فيه خير المسلمين ومناهضة الشيوعية والانحلال) ، مؤكداً بالإيمان المغلظة أنه لا يريد إنشاء حلف إسلامي بل أن الأمر لا يتعدى دعم الأخوة الإسلامية، فالمؤمنون أخوة وكفى ...
... وراح الرئيس جمال عبد الناصر من جانبه يهاجم الملك فيصل، ويتصدى لكل ملك أو رئيس يلتقي معه، ومن هنا كان هجوم الرئيس عبد الناصر على شاه إيران ورئيس تونس وملك الأردن .
__________
(1) * نص الخطاب في ملزمة الصور.(1/190)
... واستمر الرئيس عبد الناصر في كل مناسبة قومية عامة يندد بالمؤتمر الإسلامي، ويحمل على الملك فيصل باعتباره الداعية الأول لهذه الفكرة، ومضت هذه الحملة قرابة عام ونصف، ولم تتوقف إلا قبيل حرب حزيران بأيام معدودات ..
... وخلال تلك الحقبة التاريخية (1966 –1967) اجتمعت بالرئيس عبد الناصر أكثر من مرة، وفي كل مرة كان يسألني :-
- رأيك إيه في الحلف الإسلامي ؟؟
... وكنت أجيبه دائماً : أنا لست من أنصار الحلف الإسلامي، ولكن لا أرى داعياً لمهاجمة الملك فيصل وشركاه ..
... قال : نتركهم كده، يجروا العالم الإسلامي في فلك أمريكا ..
... قلت : إن الحلف الإسلامي، يحتاج إلى جهد، وسخاء، ومثابرة،
(إن فيصل وشركاه) لا يملكون شيئاً من ذلك .. أنت تملك هذه الصفات متجمعة وأنت الوحيد القادر على تعبئة العالم الإسلامي .. وأن فيصل والحسين وأبورقيبة ومعهم شاه إيران أقل شاناً من أن يستطيعوا تقديم أية خدمة لأمريكا !!
... قال : يعني نسيبهم يسرحوا ويمرحوا على كيفهم ..
... قلت : هذا هو رأيي بالضبط وليعقدوا المؤتمر الإسلامي .. إنهم لن يقدموا أية خدمة للمسلمين، ولا لقضية فلسطين .
... قال : ولكن يجب كشفهم أمام الرأي العام الإسلامي .
... قلت : المؤتمر الإسلامي بنفسه سوف يكشفهم، فأنا أعرف الكثير عن حكام المسلمين، ولن يقدموا لفلسطين غير الكلام .(1/191)
... ولكن الرئيس عبد الناصر كان مصمماً على الحيلولة دون عقد المؤتمر الإسلامي بأي ثمن، فقد كان يخشى أكثر ما يخشى أن تستطيع الولايات المتحدة عزل الجمهورية العربية المتحدة وتطويقها ومحاصرتها بهذا الذي يسمى الحلف الإسلامي .
... ومرت الأيام، وشاء الزمن، أن يوضع المؤتمر الإسلامي في الامتحان .. وأن يسقط ملوك الإسلام في الميدان، الميدان الذي اختاروه ..
... وكانت المناسبة المفجعة إحراق المسجد الأقصى في صيف 1969، واهتز العالم إسلامي في مشارق الأرض ومغاربها، وتطلعت الجماهير الإسلامية الغاضبة إلى ملوكها وأمرائها ورؤسائها داعية إلى الجهاد، منادية بالاستشهاد .
... ووثب الملك فيصل على هذا الحدث المفجع، ووجد فيه الحجة التي لا ترد ؛ ووثب معه الحسن الثاني ملك المغرب، والحسين ملك الأردن، وغيرهم وغيرهم يجددون الدعوة للمؤتمر الإسلامي .. ورضي الرئيس عبد الناصر، رضاء المقهور .. فقد قهرته حرب الأيام الستة .. وقهرته فاجعة المسجد الأقصى، ولينعقد المؤتمر الإسلامي، لعل وعسى ..
... وبعد أن تصايح الملوك والرؤساء وتناوحوا في أرجاء العالم الإسلامي شدوا رحالهم إلى المغرب ليعقدوا المؤتمر العتيد، والدنيا بأسرها تتساءل : ماذا سيصنع ملوك المسلمين لبيت المقدس، أولى القبلتين وثالث الحرمين وموطن الإسراء والمعراج ؟؟
... وهكذا التقى في مدينة الرباط أربعة ملوك، وخمسة رؤساء جمهورية، وثلاثة رؤساء برلمانات، وستة عشر وزيراً، ومعهم جيش من(1/192)
السفراء والخبراء والمستشارين والصحفيين، وآلات التصوير وأجهزة التلفزيون ..
... وامتد المؤتمر أربعة أيام معدودات، واجه خلالها أربع أزمات ..
... في اليوم الأول : نشبت الأزمة الأولى : منظمة التحرير الفلسطينية.. هل تمثل في المؤتمر، هل تحضر كمراقب، هل يسمح لها بالكلام .. ولم تجد الأزمة حلاً يليق بشعب فلسطين وهم سدنة المسجد الأقصى ..
... وفي اليوم الثاني : نشبت الأزمة الثانية بين الهند وباكستان .. هل تحضر الهند أو لا تحضر، وانتهت الأزمة بحل كريه، أغضب الهند وباكستان معاً ..
... وفي اليوم الثالث : نشبت أزمة ثالثة .. هل تكون الجمهورية العربية المتحدة عضواً في لجنة الصياغة أو لا تكون .. واضطر السيد أنور السادات رئيس الوفد المصري أن يخاطب شاه إيران ببيت من الشعر الفارسي معناه : (أن الذي يأكل خبزاً بعرق جبينه لا يحتاج منة أحد) ..
... وفي اليوم الرابع : نشبت أزمة رابعة حول جدول الأعمال، وهل تصدر عنه قرارات أم توصيات ..
... وانتهى المؤتمر كما بدأ بدون جدول أعمال .. وختم أيامه التعيسة الأربعة من غير قرارات .
... وكل ما تمخض عنه الملوك والرؤساء في دنيا الإسلام أنهم أصدروا بياناً اجتمعت فيه بلاغة العرب والعجم يعلن (أن المؤتمر يرفض أي حل لا يعيد القدس إلى وضعها قبل حرب يونيو، ويوجه نداء حاراً إلى الدول المسئولة عن حماية الإسلام في العالم بأن تضاعف جهودها على المستوى(1/193)
الفردي والجماعي لانسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي العربية
المحتلة .. ).
... وقد صدرت ( الإرادة السنية ) من (السدة العلية) لملوك المسلمين وامرائهم، فجرى إرسال هذا البيان (البيان السامي) إلى السيد يوثانت ليجعله وثيقة من وثائق الأمم المتحدة !!
... وهكذا كان، فقد أصبح وثيقة من وثائق الأمم المتحدة .. وكفى الله المؤمنين القتال ... والجدال .
... وهكذا ابتدأت حكاية المؤتمر الإسلامي، ومعها انتهت قصة الصراع بين الرئيس عبد الناصر والملك فيصل .. وسجل التاريخ أن عام 1969 قد شهد حدثاً رهيباُ، وعاراً مهيناً .
... كان الحدث الرهيب إحراق المسجد الأقصى على أيدي إسرائيل ..
... وكان العار المهين مؤتمر الملوك والأمراء المسلمين .
... ولست أعتذر ولا أستغفر ؛ ولكني أقولها، صائحة نائحة، باكية غاضبة، حزينة مزمجرة، إن الملوك والأمراء المسلمين قد أنزلوا بالإسلام إذلالاً بالغ العار، تجاوز ما اقترفته إسرائيل من عبث في المقدسات وهتك الحرمات .
... وبهذا كان ملوكنا وأمراؤنا أشد بلاء على الإسلام والمسلمين، من إسرائيل وأنصار إسرائيل، فأصبحوا من الخاسرين .. الأخسرين ..
(قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً) .
صدق الله العظيم(1/194)
سبعون مليون جنيه دين..
على الملوك والرؤساء
... كانت نهاية عام 1963 ، البداية، البداية لمؤتمرات القمة، وبعد ثلاثة أعوام جاء عام 1966 ليشهد البداية، ولكن هذه المرة، بداية النهاية، نهاية مؤتمرات القمة .. وكان من قدري بوصفي رئيساً لمنظمة التحرير أن أكون في مشهد الولادة، كما رويتها، وأن أسير في موكب الجنازة، وليس من يبكي أو يرثي ..
... فما أن انتهى مؤتمر الملوك والرؤساء في الدار البيضاء حتى بدأ التشقق في جدران القمة، وأخذ التصدع في قوائمه يبدو للجماهير العربية .. وكان ( خطاب السويس ) هو القشة التي قصمت ظهر البعير .
... وأحسب أن المواطن العربي يعرف من غير تعريف، أني أعني بخطاب السويس خطاب الرئيس عبد الناصر الذي ألقاه في مدينة السويس (22-3-1966) ولم يكن يخاطب جماهير السويس بقدر ما كان يخاطب جماهير الأمة العربية من المحيط إلى الخليج .
... تلقيت الدعوة من الأمانة العامة للاتحاد الاشتراكي فلبيت ؛ وفي السويس لم أجد براً ولا بحراً، ولا أرضاً، ولا شارعاً ولا ميداناً ؛ فقد كانت الجماهير المتراصة تغطي كل شيء وتحجب كل شيء .. ولولا أن سيارات(1/195)
المطافئ كانت هي التي تشق الطريق للوفود العربية لكان علينا أن نستمع إلى خطاب الرئيس من راديو سياراتنا !!
... وكانت عناوين الصحف في القاهرة تلمح أن الرئيس عبد الناصر سيوجه خطاباً هاماً ... وهذا ما كان فعلاً .. فقد مضى الرئيس في خطابه، كعادته، من الأمور الداخلية إلى الشئون العربية، وأرسل صوته داوياً حين قال ( أن الجمهورية العربية المتحدة على وشك اتخاذ قرار بعدم جدوى العمل المشترك من خلال مؤتمرات القمة بعد أن اتضح أن الرجعية في العالم العربي تخشى من قوى التقدم العربي أكثر من العدو المشترك ) وانهال الرئيس عبد الناصر بعد ذلك على الحلف الإسلامي ودعاته :- فيصل والحسين وأبورقيبة وشاه إيران، لم يترك شعرة في رؤوسهم إلا وأصلاها بعباراته الكاوية !!
... وعدت إلى القاهرة في ساعة متأخرة من الليل، وأنا أضرب وأطرح، كما يقولون، وأتساءل، ماذا عسى أن يريد الرئيس عبد الناصر بعد هذا الإنذار الموجه إلى الحكومات العربية الرجعية .
... وقضينا أياماً، أنا والسفراء العرب ونحن يراهن بعضنا بعضاً فيما يعتزمه الرئيس عبد الناصر ؛ ولكن أحداً لم يربح الرهان، فلم تقدّر، يومئذ، أن الرئيس عبد الناصر سيختم بالشمع الأحمر على مؤتمرات القمة .. فقد بقي هذا الموضوع في ذهنه أشهراً أخرى قبل أن يكشفه في صيف ذلك العام..
... ودعتني شئون منظمة التحرير الفلسطينية، وما كان أكثرها، إلى دمشق، لحضور مناورة بالذخيرة الحية تقوم بها كتائب جيش التحرير الفلسطيني في درعا .. وكان سروري بالغاً حينما ذهبت برفقة الرئيس(1/196)
السوري أمين الحافظ، إلى معسكراتنا ورأيت جنودنا يقتحمون النيران، ويأكلون الأفاعي، ويقفزون فوق الأسلاك .. وقد حمدت للرئيس الحافظ أنه كان يقدمني أمامه في صف الاستعراض .. وهو يقول (أنا اليوم ضيفكم .. وهذا جيشكم واليوم يومكم .. فشكرته على هذه الأريحية وقلت له مازحاً : لماذا لا يكون جميع البعثيين مثل أبو عبده (وهذه كنيته) ..لماذا يغلق البعث الباب على نفسه ؟ لماذا لا ينفتح على الناس ؟ ألا يكون الإنسان العربي وطنياً مخلصاً إلا إذا كان بعثياً مسجلاً ؟ .. واكتفى أبو عبده بأن قال : سنبذل جهدنا للانفتاح على الجماهير).
... وفي تلك الزيارة، انفتحت أبواب الدولة، ولعل الفضل يعود في ذلك إلى عدد من القيادات البعثية من الصف الثاني، فمكنت لي السلطات السورية أن اصلي الجمعة في مسجد اليرموك في ضاحية دمشق .. وكان جليلاً مهيباً، فزحف الفلسطينيون من كل أرجاء دمشق، وصلينا معاً، ودعونا معاً، وكانت الجموع تهتف بحياة منظمة التحرير .. وقد بالغوا في رفع أصواتهم حتى يسمع قادة حزب البعث في دمشق، أين عواطف الشعب الفلسطيني ..
... وبالغ حزب البعث بالحفاوة بي في هذه الزيارة بالذات وخاصة على مشهد ومسمع من الجماهير الفلسطينية، فقد أراد أن يكفر عن سيئة صغرى في شكلها، كبرى في مضمونها .
... وخلاصة الحكاية، وهي حكاية مضحكة مبكية حقاً، إني كنت في أوائل هذا العام (1966) على موعد مع جيش التحرير الفلسطيني أزوره في ثكناته في درعا .. وقد فاجأني مطار القاهرة يبلغني تلفونياً أنه تلقى رسالة لاسلكية من دمشق، (أنه يحسن تأجيل زيارتي إلى سوريا إلى إشعار آخر) ونمت على هذا الخبر المريح، فقد أراحني من الحوار الذي كنت أتوقعه من(1/197)
الإخوان البعثيين ؛ وأضفت هذا الحدث إلى قائمة المصاعب الصغيرة والكبيرة التي لقيتها من الحكومات العربية، وأنا أسير معها على طريق القضية الفلسطينية بكل تعرجاتها ومزالقها .
... وفي صباح اليوم التالي جاءني السفير السوري إلى مكتبي ..
... يقول : نحن آسفون لتأجيل زيارتك إلى دمشق .. هنالك أسباب لا أعرفها دعت لذلك .. ولكن سنعمل على ترتيب موعد آخر .
... قلت : يا سيادة السفير ... لقد منعني الانتداب الافرنسي في عام 1927 من دخول سوريا .. (1) وها إن التاريخ يعيد نفسه، وهذا هو الحكم الوطني الاستقلالي يمنعني من الوصول إلى دمشق والاتصال بشعبنا الشريد الطريد ؛ وإذا فقدت أملي في سورية فأين أضعه ؟!
... قال : أرجو أن لا تنظر إلى الموضوع على هذه الصورة ..
... قلت : بالعكس .. أنا أنظر للأمر ببساطة .. ومن غير استغراب ولا استهجان .. إن الحكم السوري في عام 1961 قد منع إقامة حفل تأبين للمرحوم جميل مردم في دمشق، وكذلك فقد منع وضع إكليل من الزهور على ضريح سعدالله الجابري في حلب .. وهذان الرجلان بلا جدال من بناة الاستقلال .. ولهذا فإني لا أستغرب أن أمنع من دخول دمشق !!
... ومضى الحديث بيننا على هذا الحال .. السفير يعتذر وأنا أهزأ وأسخر . ومرت بضعة أيام وانتشر الخبر بين جماهير الفلسطينيين والسوريين على السواء فأثار موجة من الاشمئزاز والاستنكار، ووجدت قيادة البعث نفسها أمام حرج كبير حتى أمام قواعدها من الشباب والطلاب وعاد إلي السفير السوري في القاهرة ليعتذر ويعتذر، ويلح علي بالسفر إلى
__________
(1) أربعون عاما، مصدر سابق .(1/198)
دمشق .. وهي (وطنك ووطن العرب أجمعين) ، تلك هي الحكاية الصغيرة الكبيرة !!
... وما دمت في صدد حكاياتي مع حزب البعث، فإن ذاكرتي تعود بي إلى زيارة لاحقة، بعد واحد من الانقلابات، التي ينقلب فيها البعث على البعث تجديداً وتصحيحاً، حينما أقيم مهرجان تأسيس حزب البعث (7-2-1966) وخطب أحد قادة حزب البعث قائلاً : إن الحزب عمل على خلق منظمات فلسطينية حزبية تحمل شعار الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وقد تبنى المؤتمر القطري هذه الفكرة .. ) .
... قلت يومها للرئيس السوري الدكتور نور الدين الأتاسي، وأنا أزوره في القصر الجمهوري : ولماذا ( تخلقون ) منظمات فلسطينية .. أليس هذا هو هدم لمنظمة التحرير .. أليس هذا هو تمزيق للشعب الفلسطيني، والوحدة شعار الحزب .. ) .
... ولكن الرئيس السوري .. انصرف عن هذا الحديث وراح يسألني عن الأمور في القاهرة .. وقال لي، وفي ثنايا حديثه غمزات ولمزات : هذا بيان القيادة القطرية لحزب البعث (4- 4 - 1966) .. وسلمني صورة عن البيان، يعلن فيه حزب البعث ... ( أن مؤتمرات القمة فيها عودة إلى العمل التقليدي إزاء تحرير فلسطين وتضليل للشعب العربي، ومحاولة لإجهاض أية حركة ثورية لتحرير فلسطين، وهي سياج يحمي الرجعية العربية من غضبة الجماهير .. إنه تهرب من المعركة وانهزامية .. ) وواضح أن هذه الإشارة كانت موجهة إلى القاهرة والرياض معاً .. الأولى ( تهرب من المعركة ) .. والثانية ( رجعية تحميها مؤتمرات القمة ) ..(1/199)
... طويت البيان في جيبي، وخرجت من القصر الجمهوري الذي ألفت جدرانه منذ عهد الاستقلال، أيام شكري القوتلي وهاشم الأتاسي .. وأنا أتساءل في، في : هل يرضى البعثيون على المنظمة إذا أصبحت بعثياً .. ؟ وأنا لا أرى بأساً أن أكون بعثياً بشرط أن أنفتح على الناس، فإن مبادئ حزب البعث هي مبادئ كل مؤمن بالعروبة، بل يجب أن تكون ..
... ومن دمشق سافرت إلى بيروت، فقد كانت الجماهير الفلسطينية في لبنان غاضبة هائجة، فقد تواترت الأنباء أن السلطات اللبنانية كانت قد ألقت القبض على الفدائي الفلسطيني جلال كعوش، وأنه، باختصار مات تحت التعذيب .. ووصلت إلى مكتب المنظمة في بيروت ؟ في شارع كورنيش المزرعة، لأجد الجماهير قد سدت المسالك والمنافذ، وهي تسير في مظاهرة صاخبة، فعدت إلى أيام شبابي، وسرت في المظاهرة مع المتظاهرين، واشتبكوا مع رجال الأمن ووقع بعض الجرحى .
... وقال لي أحد الفلسطينيين وأنا أسير في المظاهرة .. أن جلال كعوش هو من رجال ( فتح ) .. وليس من مؤيدي المنظمة، فكيف تسير في المظاهرة ..
... قلت : فليكن .. إنه عندي شهيد .. وهو من أبطال فلسطين ... ولا فرق عندي أن يكون من رجال ( فتح ) ، أو من رجال أية منظمة أخرى .
... قال : المهم أن تقدر ( فتح ) هذا الموقف .
... قلت : أنا لم أفعل ما فعلت من أجل خاطر ( فتح ) .. إنه من أجل فلسطين وآمل من ( فتح ) وغيرها من المنظمات الفلسطينية أن ترقى إلى مستوى المسئولية .(1/200)
... وطلبت إلى مكتب المنظمة في بيروت، أن يقوم بواجب الشهيد جلال كعوش، كما لو كان واحداً من جنود جيش التحرير .
... وقضيت بضعة أيام، وأنا أتصل بالمسئولين في بيروت، أبحث معهم مضاعفات قضية كعوش، وهم يعتبون على ( رئيس المنظمة الذي تصرف تصرفاً غير دبلوماسي ) .
... وقلت لهم ( أنا لست رئيس دولة .. هل نسيتم أن زعماء لبنان كانوا قد تصدوا للقوات الفرنسية في الشارع – بعد الحرب العالمية الثانية، مطالبين بالجلاء وبالاستقلال، فلماذا تعيبون علي أن أسير في مظاهرة مع الشعب ..
... فخجلوا وسكتوا .. !!
... ومن بيروت سافرت إلى القاهرة التماساً لبعض الراحة، واستعداداً لمؤتمر رؤساء الحكومات العربية الذي سيعقد في القاهرة .. ولكن أية راحة، وعيد النصر في قطاع غزة يلح علي بشهوده، وهو عيد جلاء القوات الإسرائيلية بعد العدوان الثلاثي في عام 1956 .
...(1/201)
صورة(1/202)
صورة(1/203)
صورتان(1/204)
صورتان(1/205)
صورتان(1/206)
رسالة(1/207)
رسالة(1/208)
رسالة(1/209)
وصلت قطاع غزة، فوجدت الشعب يحتفل ببطولاته التي تجلت أثناء الاحتلال الإسرائيلي .. وجدته يتحدث عن بسالات رجاله ونسائه في تلك الأيام السوداء .. ومن تلك الأحاديث التي تلقفتها من ألسنة الشعب رحت أخطب في غزة وخانيونس، ورفح، أخطب عن الشعب الذي أضرب عن دفع الضرائب، والموظفين الذي توقفوا عن العمل ..عن الشباب الذين كانوا يفجرون القنابل في صفوف القوات الإسرائيلية، عن الطلاب الذين كانوا يخطفون البنادق من الجنود الإسرائيليين ويردونهم صرعى..عن ..وعن..عن شجاعة شعبنا حين يملك السلاح، ويضع يده على الزناد .
وكان من بين هتافات الجماهير ..(تعيش جمهورية فلسطين)..يرددونها في كل مكان ؛ وفي كل مكان كنت أصد الجماهير عن هذا الهتاف، خشية أن يسمع الملك حسين، وعمان ليست بعيدة عن غزة .. وأنا أقول للجماهير : ( ما لنا وللجمهورية .. نحن نريد فلسطين ولا شيء غير فلسطين ) .
... غادرت قطاع غزة إلى القاهرة، وأنا مشحون بعواطف الشعب الجياشة، لاشترك في اجتماع الجامعة العربية، وهو يحمل اسما فخما ضخما (اجتماع مجلس رؤساء الحكومات العربية) ..وكفى ..!!
... ومما زاد الاجتماع فخامة وضخامة، الصحافة العربية .. ولا لوم على الصحفيين بالذات، فان الصحافة جهاز من أجهزة الدول في عدد من الدولة العربية .. وكان طبيعيا أن تفخم وتضخم الصحافة مجلس رؤساء الحكومات، كما عبرت صحيفة الأهرام بأن ( جدول الأعمال المعروض على مجلس رؤساء الحكومات يحتوي اثنين وعشرين مسألة، واربعة عشر تقريرا تتناول القضايا السياسية والعسكرية والفنية والمالية والاقتصادية(1/210)
والإعلامية والثقافية والقانونية ..ويحتمل أن تضاف إليه أمور أخرى ) . كأنما تقاس هذه الاجتماعات (بطول ) جدول الأعمال، وعدد المواضيع المدرجة عليه ..وقلت في نفسي وأنا اقرأ هذه العناوين : الآن عرفت لماذا أنت ساكت ابد الدهر يا أبا الهول .. !!
... انعقد الاجتماع العتيد في دار الجامعة العربية (14-3- 1966) وسط المظاهر المألوفة، وهو يحمل اسمه إياه، وكان ثالث اجتماع على هذا المستوى، ينعقد لتنفيذ مقررات مؤتمر القمة ..وقد حضره من رؤساء الحكومات العربية : زكريا محي الدين (القاهرة) وصفي التل (الأردن) والشيخ جابر الأحمد الصباح (الكويت) عبد الرحمن البزاز (العراق) محمد أحمد محجوب (السودان) رشيد كرامي (لبنان) الفريق حسن العمري (اليمن) وكان الآخرون وزراء او أنصاف وزراء وسفراء ..وهم عبد العزيز بوتفليقة (الجزائر) عمر السقاف (السعودية) إبراهيم ماخوس (سوريا) أحمد البشتي (ليبيا) محمد الشرقاوي (المغرب) .
... وفي الجلسة العلنية حاول رئيس الدورة السابقة رئيس وزراء الجمهورية العربية المتحدة وهو يلقي خطابه، ان يسدل ستارا على الفشل العربي الذي كان يتحدث عنه الوطن العربي في الشوارع والمقاهي .. ولكن كلمته الافتتاحية قد فضحت الموقف العربي برفق، حين قال : (إن ما نفذناه حتى الآن لا يتلاءم وخططنا المرسومة .. فالقيادة العربية الموحدة يجب أن تمارس أعمالها في فاعلية أعظم ..والمشروع العربي لاستثمار مياه الأردن يجب أن يمضي بخطى حثيثة في جميع الأقسام ..والكيان الفلسطيني يجب أن يحمل مسئولياته كاملة) وكان المعنى الواضح لهذا الكلام الناعم ان الحكومات العربية لم تنفذ التزاماتها ازاء القيادة العربية الموحدة، هيئة تحويل(1/211)
الروافد، ومنظمة التحرير الفلسطينية .. وهكذا تشكو الحكومات من الحكومات!! .
... وبعد هذا البيان، ألقى رئيس الدورة الحاضرة الفريق حسن العمري رئيس وزراء اليمن خطبة الافتتاح، فأعرب عن أمله في ( ان يتم السلام وحسن الجوار بين المملكة العربية السعودية وجمهورية اليمن، كما أبدى اسفه لفشل مؤتمر (حرض) الذي عقد للمصالحة بين مختلف الفرقاء المعنيين..) ولم يعقب الوفد السعودي على هذا الحديث ..ولولا شيء من الحياء لرفض الاشتراك في اجتماع يرأسه وفد يمني يمثل الجمهورية اليمنية.
... وجاءت كلمة الجامعة العربية من إعداد الدكتور نوفل، وإلقاء السيد عبد الخالق حسونة، فكانت خاتمتها الآية القرآنية (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ..) وكان معنى هذه المناشدة القرآنية أن الحكومات العربية لم تعمل عملا يراه الله ورسوله والمؤمنون ..
... ولم يكن هذا هو تفسيري المبكر لاجتماع الرؤساء الذي ينعقد تحت قبة مؤتمر القمة، وقد بدت الشقوق في قبابها والصدوع في جدرانها .. بل كانت هذه هي حصيلة الأيام الأربعة التي قضيناها في الجامعة العربية ..، فضاعت من عمر الأمة العربية كما ضاعت من قبلها الأعوام والأعوام !!.
... وكان (التضامن العربي) الموضوع الأول على جدول الأعمال .. فكان صمت وكان وجوم، وتولى (إطلاق النار) الرئيس السوداني أحمد محمد محجوب وهو صاحب صياغة الميثاق في الدار البيضاء، وقال إن ميثاق التضامن العربي لم يعد موجودا .. فتصدى له الرئيس الأردني وصفي التل وقال :الحمد لله .. الميثاق قائم ..والاخوة العربية سليمة !!(1/212)
... قلت : (الحمد لله) صحيح ..لأنه لا يحمد على المكروه سواه ... إن كلام الأخ محجوب صحيح ..إن ميثاق التضامن العربي لم يعد قائما .. الحملات الإعلامية بين دمشق وبغداد وصلت إلى عنان السماء ..الحكومة المغربية سحبت سفيريها في دمشق وبيروت، ثم قطعت علاقاتها الدبلوماسية بالجمهورية العربية السورية .. وعاد التوتر بين القاهرة وصنعاء والرياض بسبب أزمة اليمن .. وبالنسبة إلى الخلاف بين المنظمة والأردن فقد سوي على الورق، ولم نستطع الوصول إلى مرحلة التنفيذ ..و..و.. الخ ) .
... واقترح الدكتور عبد الرحمن البزاز رئيس الحكومة العراقية المبادرة لإقامة محكمة عدل عربية لتسوية جميع الخلاقات العربية ما دام ميثاق التضامن العربي غير نافذ، وما دامت الحكومات العربية لا تلتزم بنصوصه..
... وقاطعت الدكتور البزاز قائلا : (سيادة رئيس الوفد العراقي يتكلم الآن كأستاذ حقوق في جامعة بغداد ..إذا كان الأردن يخالف ميثاق التضامن العربي فلا تنفع معه محكمة العدل العربية، ولا محكمة العدل الدولية .
... وهنا تدخل الشيخ جابر الأحمد، وقد خشي أن ينفجر الموقف إلى ما هو أوخم، فدعا إلى التآخي والتفاهم، وإزالة الأسباب التي أدت إلى خرق الميثاق .
... ولكن أحداً لم يجرؤ على بحث الأسباب، فقد كانت أزمة اليمن فاغرة فاها كالضبع، يبتلع من يدنو .. ولو من بعيد .
... وتغلب أسلوب الجامعة المعروف، في التلفيق والتزويق والتنميق، فصدر القرار مؤكدا (دعم ميثاق التضامن العربي، والتقيد به وتنفيذه نصا وروحا) .. وهذه ألفاظ تكررت على مدى عشرين عاما منذ ان أنشئت الجامعة العربية بميثاقها الشهير !!(1/213)
... وانتقلنا من هذا القرار الهزيل إلى موضوع خطير، أشغل الأمة العربية حينا من الدهر، كما يقول خطباء المساجد، وهو موضوع العلاقات العربية الألمانية ..وانبرى رؤساء الوفود في الكلام الطويل العريض عن المساعي الدبلوماسية التي بذلتها حكوماتهم على غير طائل ..وأن الأمر خطير يقتضي موقفا حاسما حازما ..ورددوا جميعا عبارة ( موقفا حاسما حازما ) . فهي الصيغة التي تعارفوا على إطلاقها في تصريحاتهم الصحفية ..ولم أتكلم في الموضوع، فقد واكبته على مدى عشر سنوات في الجامعة العربية، ورأيت أن الخوض في هذا الأمر، على خطورته القصوى، هو مضيعة للوقت، ومهانة للعقل !!
... وكان الأمر كما توقعت، فقد صدر القرار، بعد أن عرضت عدة صياغات، بأن (يستمر الأمين العام في متابعة الموضوع) وسألت : هل هذا قرار او فرار : وأنشد الرئيس السوداني، قائلا : - (وقال أصيحابي الفرار أم الردى) .
... فأكملت : (فقلت هما أمران أحلاهما مر) ..وهو البيت الشهير لأبي فراس الحمداني .
... وطلب السيد إبراهيم ماخوس وزير الخارجية السورية الكلمة فقال : الآن وقد صدر القرار، أحب أن أسأل : هل صحيح ما تردده الصحافة الأجنبية من أن مفاوضات سرية تدور بين ألمانيا الغربية وبعض الدول العربية بشأن هذا الموضوع .. وأخذ يقرأ من بين أوراقه ( نشرت جريدة فرانكفورت زايتونج أن مفاوضات سرية جرت ببين ألمانيا الغربية والدول العربية لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما على أن تدفع ألمانيا الغربية ألفا(1/214)
وثمانمائة مليون مارك مساعدات للدول العربية تنال منها الجمهورية العربية المتحدة ألف مليون مارك) .
... وقال رئيس الوفد المغربي ..إن هذا السؤال ليس موجها لنا، لأننا نحن لم نقطع علاقاتنا بألمانيا الغربية .. وإذا كانت الدول العربية الأخرى عندها ما تقوله فلتتفضل .
... وأقفل رئيس الجلسة الفريق حسن العمري رئيس الوفد اليمني المناقشة حول هذا الموضوع بلهجة عسكرية وقال :أريد أن أطمئن الأخ وزير الخارجية السورية، باسم جميع الدول العربية : أن هذا الخبر مختلق من أساسه ولا داعي لإضاعة وقت المجلس في مثل هذه الأمور) وهكذا كان الرئيس اليمني (حكيما) ، وقديما قال العرب : الحكمة يمانية !!
... ومن هذا الموضوع المرير، انتقلنا إلى ما هو أدهى وأمر : -
( تزويد الولايات المتحدة لإسرائيل بالسلاح ) ..فلم يبق رئيس ولا وزير ولا سفير إلا وتكلم وأفحم .. مع شرح مستفيض في خطورة الموضوع على قضيتنا المقدسة ( قضية فلسطين) . ورحم الله فلسطين وشعب فلسطين !!
... وخضت مع الخائضين، ولكن من زاوية أخرى، وقلت :إذا كان اجتماعنا سينتهي إلى قرار نعلنه في الصحف، فلن تبالي بنا الولايات المتحدة وستمضى في تزويد إسرائيل بالسلاح والمال معا .. هذا موضوع خطير يتصل بسلامة الأمة العربية وأمنها ..هذا السلاح الأمريكي سيضرب مدننا وقرانا .. وليس أمامكم إلا أن تنفذوا المبدأ الذي اجتمعتم عليه، المرة بعد المرة، وهو، أن تعاملوا أمريكا على ضوء موقفها من الأمة العربية ..(1/215)
... وقفت عند هذه العبارة ..وكان صمت مثل صمت أهل الكهف، ولكن السيد الشرقاوي مندوب المغرب وجد مهربا، فقال : هذا موضوع خطير، يجب أن يبحث على أعلى مستوى ..فليكن أمام القمة المقبلة في الجزائر !!
وكان الهروب من هذا الموضوع الخطير بصيغة (رهيبة ) أقرها المجلس تقول:-
(ونظر المجلس ببالغ القلق والاهتمام موضوع تزويد الولايات المتحدة لإسرائيل بالسلاح ..ويرى أن ذلك دعم للعدوان، وإحجاف صارخ بحق شعب فلسطين العربي في وطنه ..ويؤكد رفضه القاطع لأي مبرر لتزويد إسرائيل بالسلاح ..وينبه المجلس إلى خطورة الأمر الذي دفع بالسياسة الأمريكية إلى نتائج ضارة بالعلاقات العربية الأمريكية ) .
وسألت : ما معنى هذه ( النتائج الضارة ) وما مداها ..
... فقال السيد زكريا محي الدين :هل السؤال موجه لي أم للمجلس كله..
... قلت : انه موجه للمجلس بأجمعه، الرئيس والأعضاء ..
وتكلموا جميعا فأطالوا .. ولكن صفوة الحديث رست على أتعس عبارة في اللغة العربية .. فقالوا ( لكل حادث حديث ) .. وإذا كانت هذه هي عبارة البادية، فان عهد الصواريخ يفرض أن يكون لنا كلام آخر ..
( الحديث قبل الحادث ) .
... ثم أخذ السيد عبد الخالق حسونة يتلو التقارير المقدمة من قبل القيادة العربية الموحدة وهيئة تحويل الروافد ومنظمة التحرير الفلسطينية .. وكلها تلح على مطالب عسكرية وفنية ومالية ..
... فتناول الكلام الوزير اللبناني جورج حكيم، وفي أسلوب أكاديمي كأنه يحاضر على طلابه في الجامعة الأمريكية أعلن (أن أعمال المشروع(1/216)
العربي لتحويل مجرى نهر الأردن على الأراضي اللبنانية قد توقفت منذ أن تعرضت إحدى الأقنية في سورية لحادث تخريب من قبل القوات الإسرائيلية.. وأنه متى استأنفت سورية العمل على أراضيها فإن لبنان مستعد أن يستأنف العمل على أراضيه .. والأمر موقوف على تأمين الحماية العسكرية).
... وعند (الحماية العسكرية) لزم الصمت جميع رؤساء الحكومات العربية، العسكريون منهم قبل السياسيين .. وتفرس الفريق علي عامر القائد العام للقيادة العربية الموحدة، في وجوههم ؛ وتشاغل بعضهم بالقراءة، وبعضهم بالكتابة وبعضهم بالرسم والتصوير على أوراقهم . كيفما اتفق !!
... وسألني الفريق عامر، ومقعدي إلى جوار مقعده دائماً : ما العمل يا أخ أحمد ..
... قلت : اقرأ سورة البقرة .
... قال : أقرأ سورة البقرة كلها ؟؟
... قلت : يكفي منها آية : ( صم بكم عمي فهم لا يعقلون ) .
... وعاد المجلس إلى تلاوة التقارير التي أمامه، واستمع الرؤساء بعناية واهتمام، وراحوا يدونون في مفكراتهم، كأنهم يسمعون جديداً ولأول مرة .. ولكن أحداً لم يبحث ولم يناقش .. وصدرت ثلاثة قرارات : - هامة، وهامة جداً !!
... أولاً – المجلس يعرب عن أجزل الشكر للقائد العام وعظيم التقدير لجهوده وجهود أعضاء القيادة العامة، ويرجو لها أن تحقق جميع الأهداف القومية المنوطة بها ..(1/217)
... ثانياً – يعرب المجلس عن التقدير للمنظمة ورئيسها على جهودهم المخلصة ويرجو لهم اطراد التوفيق في مهمتهم القومية) .
... ثالثاً – يعرب المجلس عن الشكر لهيأة استثمار مياه نهر الأردن وروافده على ما بذلته من جهود ...
... كان مجلس الرؤساء كريماً في الشكر، وفي الشكر فقط، لأن الحكومات العربية، ومن فوقها الملوك والرؤساء أبعد ما يكون عن الأداء والوفاء .. مع أنهم ارتبطوا ( بكلمة الشرف ) حسبما جاء في بيانهم الختامي في مؤتمر الإسكندرية ... ( وكلمة الشرف ليس تعبيري .. إنه تعبير الملوك والرؤساء سجلوه بتواقيعهم .. ). (1)
... وبدا واضحاً في ذلك الاجتماع، بعد مؤتمرات ( القمة ) شامخة، في القاهرة والإسكندرية والدار البيضاء، أن القيادة العسكرية غير قادرة على تحريك القوات العسكرية، وأن هيأة تحويل الروافد لا تجد حماية عسكرية، وأن منظمة التحرير في حاجة إلى تحرير، قبل أن تدخل معركة التحرير .
... وبدا مفضوحاً كذلك، أن ست جمهوريات ومملكة واحدة متخلفة عن التزاماتها المالية لثلاث سنوات : وهي تونس، الجزائر، السودان، العراق، اليمن، لبنان، والمغرب ... وأن مملكتين، وهما الأردن وليبيا متخلفتان عن أداء التزامهما لسنتين ..
... ومن أجل هذا تستطيع الأمة العربية أن تفهم معي، لماذا كان مجلس الرؤساء كريماً في المديح، وسخياً في الثناء .. للقيادة الموحدة، وهيأة الروافد، ومنظمة التحرير .
__________
(1) من القمة إلى الهزيمة، مصدر سابق .(1/218)
... كان كريماً في الثناء، لأن تقرير الإدارة المالية، قد أعلن بالرقم الذي لا يجامل ولا يماري بأن الحكومات العربية مدينة بمبلغ يزيد عن ثلاثين مليون جنيه إسترليني، طبقاً لقرارات مؤتمرات القمة الثلاثة .. أي نعم بكل بساطة ثلاثين مليون جنيه إسترليني .. فكيف تستطيع الأجهزة الثلاثة المنبثقة عن مؤتمرات القمة أن تنفذ قرارات الملوك والرؤساء ..
... وكان على الرؤساء العرب بديلاً عن تمنيات ( التوفيق ) أن يدفعوا التزاماتهم المالية؛ فالتوفيق ( شيكات ) لا تمنيات ..
... ولكن هذا الموضوع (المالي التعيس) قد انتهى بقرار أتعس .. فقد قرر الرؤساء بأن (يوصي المجلس سداد الالتزامات المطلوبة) .. وهكذا أصدرت الحكومات العربية توصياتها إلى الحكومات العربية .. وانتهى الاجتماع، والرؤساء الكرام يوصي يعضهم بعضا!!
... وقال لي الرئيس السوداني ونحن خارجون من القاعة، قال الشاعر..
المستجير بعمرو عند كربته ... ... كالمستجير من الرمضاء بالنار
واستدركت، بل قال الشاعر :
لا خيل عندك تهديها ولا مال ... ... فليسعف النطق إن لم يسعف الحال
وسمعني الصحفيون وقالوا : أهذا تصريح صحفي ؟؟
... قلت : نعم ..
... قالوا : اشرحه لنا ..
... قلت، اطلبوا من رؤساء الوفود أن يشرحوه لكم .. اذهبوا إليهم وافرنقعوا عني ..(1/219)
... فذهبوا إلى رؤساء الوفود، وكانت الصحف في صباح اليوم التالي طافحة بالعناوين المزخرفة والعبارات المزركشة، وتحتها صور الرؤساء يرغون ويزبدون ..
... يرغون على أمريكا، ويزبدون على ألمانيا !!
... وحين كنت أقلب الجداول المالية بين أوراقي، وأنا أراجع مذكراتي بعد الهزيمة، تجلت أمامي أرقام تصرخ بالويل والثبور على جباه الملوك ورؤوس الرؤساء .. لقد تجلى لي أن الملوك والرؤساء بلا استثناء قد أصبحوا مدينين لمؤتمرات القمة، في حزيران 1967، بمبلغ سبعين مليون جنيه إسترليني ..
... وبعبارة مفجعة، فإن الدول العربية قد اقتحمت، أو أقحمت حرب الأيام الستة، وهي مدينة بهذه الملايين من الجنيهات، ونتساءل : بعد ذلك لماذا انكسرت الأمة العربية ؟؟.
... وأحسب أن الرؤساء سيقرأون هذه المذكرات، وهم يعجبون ويضحكون ..
... ( أفمن هذا الحديث تعجبون، وتضحكون ولا تبكون ) .
... ... ... ... ... ... صدق الله العظيم(1/220)
أي جلالة وفخامة ؟؟
وأي سمو وسيادة ؟؟
... شهر أيار من كل عام، هو شهر الشعب الفلسطيني، شهد نكبته الكبرى، ومأساته العظمى في قيام إسرائيل على وطنه، وتشرده في الآفاق، فوق كل أرض وتحت كل سماء..
... ومنذ عام 1948، وإلى أن تزول إسرائيل، يتنادى الشعب الفلسطيني في مهاجره إلى اجتماعات كبرى يجدد العهد ويؤكد العزم على النضال من أجل تحرير الوطن السليب، مهما طال الزمان ومهما تعاظمت التضحيات .
... وفي شهر أيار من هذا العام (1966) كان الشعب الفلسطيني يجتمع على هذه الذكرى المشئومة وهو أكثر عزماً ومضاء .. ففي السنين الخوالي كان يعلن عن آماله الوطنية بالكلمة الواعية .. ولكنه في هذا العام قد حشد القوة إلى جانب الكلمة .
... ولقد اخترت لفظة ( الحشد ) ، لأن الشعب قد بدأ في هذا العام يستشعر ذاته ويحس قوته .. وتجلى ذلك أكثر ما تجلى لمناسبة انعقاد المجلس الوطني في دورته الثالثة في غزة .(1/221)
... كان ذلك في العشرين من شهر أيار، وقد آثرت أن أذكر هذا التاريخ بالحروف لا بالأرقام، حتى لا تطمسه الأيام، إذا طمسه النسيان ..
... منذ مطلع الشهر، والاستعدادات قائمة على قدم وساق، لعقد المجلس الوطني في غزة.. كانت الطائرات العربية من كل العواصم العربية تنقل أعضاء المجلس الوطني إلى القاهرة .. وبالتأكيد من المحيط إلى الخليج، فإن الشعب الفلسطيني وممثليه يقيمون في الوطن العربي الكبير، ينتظرون يوم العودة إلى الوطن الصغير .
... ومن القاهرة أعددنا قطاراً خاصاً ينقل الوفود الفلسطينية إلى قطاع غزة .. وكان ميسوراً أن ننقلهم بالطائرات .. ولكننا أردناها عن قصد .. أردنا أن يسير القطار وئيداً بالوفود الفلسطينية وهي ترى قطاع غزة من جنوبه إلى شماله : مدينة مدينة، قرية قرية، مخيماً مخيماً، بيارة بيارة، فإن اجتلاء طلعة الوطن مصدر الوحي والإلهام .. وغصت الفنادق بهؤلاء الفلسطينيين الوافدين على قطاع غزة ؛ العدو أمامه، والبحر وراءه ولا نصر له إلا بالقتال ..
... وكذلك غصت كثير من البيوت، فلا زال الناس على تقاليدهم، يأبون أن يتركوا أصدقاءهم في الفنادق .. هذا عيب، وعيب كبير .
... وكان الوافدون فريقين .. الأول جيل الرجال والكهول، وهؤلاء عرفوا قطاع غزة في الماضي، وجاؤوا اليوم بعد السنين ليروا هذه الرقعة الغالية من وطنهم، ما آل إليه حالها وحال شعبها المقيم منهم واللاجئ .. والفريق الثاني : الجيل الصاعد، يدخل وطنه الذي لا يعرفه ولا يعرف شعبه، يعرفهما بما قرأ وسمع .. ولم يكونوا يقدرون أن ما هو آت سيكون أشد ويلاً وهولاً مما فات ، وأعني أيام حزيران المشئومات !!(1/222)
وكان أهل القطاع في مثل هذه الحالات الوجدانية..كانوا فرقين .. الأول: جيل الرجال والكهول يلتقون مع لداتهم لأول مرة بعد أعوام..والثاني: جيل الشباب يتعرفون على من لا يعرفون من أبناء وطنهم .
وكانت أياما هبت فيها رياح الوجد، فاحتفى هؤلاء بأولئك..وسعد اؤلئك بهؤلاء..وما هؤلاء واؤلئك ألا أبناء الوطن الواحد والشعب الواحد..تمزقوا..تفرقوا أيدي فلسطين..بدلا من القول الشهير تفرقوا أيدي سبأ..
وصلت إلى قطاع غزة تغمرني هذه الخواطر والأحاسيس، وأنا أرى الشعب في الشوارع والميادين، زرافات ووحدانا، يتعانقون، يتباسطون، يتناجون ويتشاكون... ويتعارف بعضهم على بعض .. وكان أول لقائي مع الوفود في حفل غذاء أقامته بلدية غزة في مطعم على الشاطئ .. وأكلنا جميعا أسماك بحرنا، وطيور برنا..كانت أيدينا في أطباق الطعام، ولكن أبصارنا كانت مشدودة إلى البحر..بحرنا..نحن الشعب الفلسطيني.
وبدأ جيل الرجال والكهول من أبناء يافا،يستذكر ويتكلم ويتساءل ( ألسنا في قهوة أبو شاكوش على شاطئ يافا. أيام كنا نأكل الحمص والكباب ) ؟ وتساءل أبناء حيفا ( ألسنا في الكازينو في حيفا، أيام كنا نأكل السمك يأتينا من البحر وهو ( يلعبط ) ؟؟ وتساءل أبناء عكا ( ألسنا في قهوة أبو محمد أمام السور، أيام كنا نسبح في البحر ولا نشبع .. ) ؟؟.
... وكان جيل الشباب من الوافدين يستمعون إلى هذه الحكايات والتشبيهات، وهم في حيرة مما يسمعون .. إنهم لا يعرفون مرابع الوطن السليب الحبيب ... كانت الوليمة في غزة .. ولكن جيل الرجال والكهول كانت الوليمة في خيالهم، في فلسطين بأسرها .. في مرابعها ومغانيها ..(1/223)
... ونهضنا بعد الفراغ من الطعام، وكادت أن تقعد بنا الذكريات، وانصرفنا إلى ساعة من الراحة، استعداداً لشهود الجلسة الافتتاحية الأولى للمجلس الوطني .
... وفي الموعد المحدد كان المجلس الوطني الفلسطيني متكاملاً في سينما النصر .. وبدأ الاجتماع بآي من القرآن الكريم، وبكلمة ترحيب من السيد محمود نجم رئيس المجلس التشريعي بغزة، وبخطاب من اللواء عبد المنعم حسني حاكم القطاع نيابة عن الرئيس عبد الناصر .
... ووقفت على المنصة، والحشود محتشدة من الداخل ومن الخارج .. في الداخل من الأرض حتى السقف عند الشرفات ؛ وفي الخارج حشود مقرفصة في الشوارع والساحات والميادين، وقد صعدوا برؤوسهم وعيونهم وآذانهم صوت مكبرات الصوت المنصوبة فوق الجدران والعمدان والأشجار.
... ولم يكن من السهل أن أخاطب الشعب الفلسطيني ومن ورائه الأمة العربية ؛ ففي تلك الظروف التي يجتازها الوطن العربي، كانت مؤتمرات القمة الثلاثة تترنح في الهواء، وكان الوطن العربي يعرف كل شيء .. ولا يغيب عنه شيء .. كانت أمام القيادة العربية الموحدة مصاعب، وأمام هيئة تحويل الروافد متاعب .. وأمام منظمة التحرير نوائب !!
... وقد زاد من صعوبتي أن الشرفات كانت مملوءة بالشباب والطلاب، وهم يهتفون من حين إلى حين .. (بدنا نحكي على المكشوف) وهي العبارة التي صاغتها الجماهير في القاهرة، في لقاءاتها مع الرئيس عبد الناصر .
... وبدأت أتحدث فيما أعددت نفسي له .. ولكني وجدتني أمام حالة فريدة لم أواجهها في (حياتي) الخطابية كل عمري .. ذلك أن الشباب والطلاب قد وقفوا في الشرفات يصيحون بصوت واحد، وهم يلحون أن(1/224)
أتكلم في هذا الموضوع أو ذاك ... والجمهور يهتف من ورائهم وأمامهم مؤيداً صيحاتهم .. وكان الحماس بالغاً أشده بحيث لم يعد أمامي إلا أن أسلم إليهم لساني، ليتحرك فيما يريدون !!
... صاحوا أولاً : حدثنا عن إنجازات المنظمة .. نريد أن نسمع عن الإنجازات قبل كل شيء ..
... قلت : إن إنجازات المنظمة تتحدث عن ذاتها .. وإنها مصادفة كريمة أن ينعقد المجلس الوطني في غزة حتى يرى الإنجازات على الطبيعة .. إن جيش التحرير الفلسطيني قائم في قطاع غزة، ولم يمض على إنشائه إلا عام وبعض عام، . ولقد كنت في الأسبوع الماضي مع الفريق فوزي (وزير الحربية فيما بعد) نتفقد وحدات جيشنا، فأعجب بالتدريب والكفاءة .. وقبل شهر كنت مع الفريق عامر القائد العام للقيادة العربية الموحدة، وشهدنا معاً مناورة لوحدات جيش التحرير في سوريا، فكان مأخوذاً بالمستوى الرفيع الذي بلغه جيش التحرير، وقد عجب كيف استطاع في مثل هذا الوقت القصير أن يحقق هذا التقدم الباهر .. فقلت له يومئذ : لا تعجب، فهذا هو شعب فلسطين ..
... وما أن قاربت على نهاية الكلام عن جيش التحرير، حتى صاح الشباب من الشرفة : وماذا عن زيارتك لبكين، نحن لم نسمع إلا القليل ؟؟
... قلت : نعم، أنتم لم تسمعوا إلا القليل، لأننا أثرنا الصمت لظروف وأسباب .. ولكني أجد نفسي قادراً الآن على مسمع من المجلس الوطني، ومسمع من الشعب في غزة، بل والعالم أجمع، أن أكشف الستار عن بعض الأسرار .. ولقد وافقت جمهورية الصين الشعبية أن تزودنا بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة .. ولقد وصلت شحنات الأسلحة إلى ميناء عربي .. وليس هذا(1/225)
فحسب، فإنه منذ بضعة أيام وصل أول فوج من ضباطنا إلى بكين ليدخلوا أحد المعاهد الحربية للتدريب على فنون حرب التحرير (1) ..
... وتعالت الهتافات من الشرفات، والجموع تصفق لماوتسي تونغ، وشو آن لاي، .. وأخذ أعضاء المجلس الوطني بزمام المبادرة هذه المرة بدلاً من الطلاب والشباب، وصاحوا : نريد أن تحدثنا عن موقف الاتحاد السوفييتي .. نريد أن نعرف الحقيقة، وبصراحة .
... كان هذا السؤال رهيباً ومحرجاً، فالاتحاد السوفييتي لم يكن موقفه من المنظمة إيجابياً طوال العامين الماضيين .. قلت، وأنا أحاول أن أصرف الجماهير عن هذا الموضوع : سنخصص جلسة مقفلة لبحث هذا الموضوع مع مواضيع أخرى تتطلب السرية .. فوقف أعضاء المجلس وهم يصيحون بأعلى أصواتهم : نحن المجلس الوطني، لا نريد جلسة مقفلة .. يجب أن يكون كل شيء مكشوفاً .. لقد اجتمعت بكوسيجن في القاهرة .. نريد أن نعرف ماذا جرى .. وكما تحدثت عن الصين نريد منك أن تتحدث عن موسكو ..!!
... ولم أجد مفراً من أن أتحدث عن الاتحاد السوفييتي، فخضت في حديث طويل عن الماضي لأهرب من الحاضر ؛ وأسهبت في الكلام عن تأييد الاتحاد السوفييتي لنا في الأمم المتحدة وخاصة في مجلس الأمن، وكيف أن الفيتو الروسي قد أنقذنا في مجلس الأمن من حبائل الولايات المتحدة، ومحاولاتها المتعددة لاستصدار قرارات من المنظمة الدولية بدعوة الدول العربية إلى المفاوضات المباشرة وعقد الصلح مع إسرائيل ؛ ثم عرجت على المعاونات العسكرية التي يقدمها الاتحاد السوفييتي إلى الجمهوريات العربية
__________
(1) من القمة إلى الهزيمة ، مصدر سابق.(1/226)
في القاهرة ودمشق وبغداد والجزائر .. وبعد أن ( أغرقت ) المجلس الوطني في هذا الحديث الطويل عن الاتحاد السوفييتي تعرضت بصورة موجزة إلى لقائي مع السيد أليكسي كوسيجن رئيس وزراء الاتحاد السوفييتي، وأنني قدمت إليه خمسة مطالب باسم منظمة التحرير الفلسطيني وأنه وعدني بعرضها على المجلس الأعلى للاتحاد السوفييتي لدرسها واتخاذ الموقف اللازم بشأنها .. فهدأ روع المجلس الوطني لهذا الإيجاز، وسكنت ثائرة الشباب والطلاب لهذا الحديث، وقد كنت فيه نصف كاذب، ونصف صادق .. ذلك أني لم أذكر لهم وقوفي على أبواب السفارات السوفييتية، في العواصم العربية، طيلة عامين طويلين، ألتمس العون من الاتحاد السوفييتي كائناً ما كان .. ولكن على غير جدوى ..
... وسأل الشباب : وما هي المطالب الخمسة التي قدمتها إلى السيد كوسيجن .
... قلت : سأذكرها لكم حينما يصل جواب موسكو .. وسأذكر لكم ما قبل منها وما رفض .. وأرجو أن لا يرفض شيء .. وأن تقبل برمتها .. وعلى كل حال فلا حاجة بي أن أذكر لكم تلك المطالب لأنكم تعرفونها .. ولو سألتم ضمائركم وعقولكم لوجدتم الجواب .. إن المطالب الخمسة التي قدمتها، هي ما تفكرون فيه وما تضمرون، هي ما تحتاج إليه المنظمة في هذه المرحلة من نضالكم، والإشارة تغني عن العبارة، والتلميح يغني عن التصريح .. فاسكتوا واصبروا .. وانتظروا إني معكم من المنتظرين ..
... فسكت الشباب عن هذا الموضوع .. وأفلت من أزمة موسكو، لأسمع الشباب والطلاب يفتحون موضوعاً شائكاً انقسمت حوله الدول العربية إلى معسكرين .. ذلك هو موضوع الحلف الإسلامي، والأحلاف بصورة(1/227)
عامة .. وكنت إلى ذلك العهد أتجنب الخوض في هذا الموضوع، خوفاً من التهمة إياها .. الشقيري عميل عبد الناصر .. وهي التهمة التي ألصقتها بي دمشق والرياض معاً .. رغماً عن اختلافهما في أي شيء، وعلى كل شيء، فقد اتفقتا أني عميل عبد الناصر ؛ وكم أعلنت أني مع عبد الناصر زميل لا عميل، زميل نضال وكفاح ... ولكن أنى للفجار أن يؤمنوا !!
... وشرحت الجانب الإسلامي في قضية فلسطين، منذ الإسراء والمعراج، إلى الفتح العربي، إلى حروب صلاح الدين .. مؤكداً أن فلسطين وطن الإسلام بعد الديار الحجازية، وأن الجهاد في تحريرها هو فريضة على كل مسلم .. وأنه إذا كان انعقاد المؤتمر الإسلامي وقيام الحلف الإسلامي، هو لإعلان الجهاد، والزحف المقدس، فنحن مع الحلف الإسلامي، ولكن .. ولكن إذا كان الحلف الإسلامي سيكون اجتماعاً يضم الحكومات التي اعترفت بقيام إسرائيل، وتتعاون مع إسرائيل، مثل تركيا وإيران .. فنحن لسنا مع الحلف الإسلامي ... وذلك بطبيعة الحال، ما هو حلف ولا هو إسلامي ... لأن الإسلام دين الجهاد .. وليس مسلماً من يوالي إسرائيل .. سواء كان ملكاً أو مملوكاً، أميراً أو مأموراً ؛ وتلوت الآيات القرآنية في هذا الصدد، وما أكثرها ...
... وهكذا مضيت أخطب قريباً من ساعتين، أنتقل من موضوع إلى موضوع فيما يريده المجلس الوطني مرة، وما يريده الشباب والطلاب مرات .. وكنت كمن ينهض من حفرة ليقع في حفرة أخرى .. وحمدت الله أني خرجت من هذه الحفائر سليماً معافى، والغبطة تملأ فؤادي أني خطبت لا بما أريد، ولكن بما أرادوا .. وفي النهاية نجوت ..(1/228)
... وأعلنت في ختام الاجتماع، أننا سنعقد جلسة فريدة، ليس لها مثيل ولا سابقة، ( سنعقد جلستنا المقبلة في الهواء الطلق، في صحراء من الصحراء .. جلستنا ستكون صباح الغد، مع جيش التحرير، في مناورة بالذخيرة الحية ..) .
... ووقف المجلس الوطني، يتفجر حماسة، ويصفق بيده وعلى الكراسي والمناضد ؛ حتى العلماء والشيوخ خرجوا عن وقارهم وهيبتهم، فلوحوا بعمائمهم وبدت نواصيهم على حقيقتها، الأصلع أصلع، والأشيب أشيب، والصابغ مفضوح !!
... وخرجت من القاعة .. لأجد الجماهير وقد افترشوا الساحات والميادين والشوارع والاسطحة والشرفات .. ولولا سيارات الشرطة التي شقت لنا الطريق، لقضينا ليلتنا في دار السينما نشاهد فيلماً حياً عن الشعب، وهو في ذروة حماسته ..
... وأقلتنا السيارات في صبيحة اليوم التالي إلى صحراء في الصحراء.. لنعقد المجلس الوطني تحت الخيام .. وكانت كتائب جيش التحرير على أتم الاستعداد .. وبدأت المناورات بالذخيرة الحية .. وبدأت كتيبة المدفعية تضرب الأهداف واحداً بعد واحد .. فتصيبها كلها إصابات مباشرة ؛ وينتصب أعضاء المجلس الوطني ليروا هذا المشهد الرائع .. والدموع تتساقط من عيونهم فرحاً وابتهاجاً .
... وسمعت واحداً خلفي يسأل : ( أهؤلاء مصريون ؟) فسكت، وعزمت أن يجيب جنودنا على هذا السؤال بأنفسهم، بألسنتهم ..
... وتقدم إلينا الجنود بالتحية، بعد انتهاء المناورة، وكنت أدعوهم واحداً، واحداً، وأنا أسألهم بصوت عال :
-(1/229)
اسمك ؟
قال : محمد بن علي القاسم
قلت : جنسيتك ؟
قال : فلسطيني .
قلت : بلدك ؟
قال : من سكنة أبو كبير يافا .
وهكذا كنت أسألهم .. وهكذا كانوا يجيبون .. وشهدت السماء والصحراء أن جيشنا من أبناء فلسطين، من مدنها وقراها، لا شك في ذلك ولا ريب .. ولقد أطلت في السؤال على هذا المنوال لسببين مختلفين .. الأول أن الإذاعة السورية كانت تهاجم المجلس الوطني صباح ذلك اليوم، وتقول عن الاجتماع أنه واحد من (مسرحيات الشقيري) .. والسبب الثاني أن عدداً من أعضاء المجلس الوطني الوافدين من الأردن، كانوا يظنون، كما أوحت إليهم الأجهزة الأردنية الرسمية، أن جيش التحرير الفلسطيني جله من المصريين ضباطاً وجنوداً، وأن هذه المناورة، بالتالي، هي مناورة مصرية، وأن دور الفلسطينيين فيها هو حفر الخنادق ونصب الأهداف ... ودور المصريين إطلاق النار !!
... ووقفت بعد انتهاء المناورة، وأعلنت : لقد انتهت الآن جلستنا المكشوفة في الهواء الطلق .. وغداً وبعد غد تكون جلسات اللجان الفرعية لتدرس شئون المنظمة من مختلف جوانبها .
... وعدنا في ذلك اليوم الأغر إلى غزة، وأعضاء المجلس الوطني يقولون : ما لنا حاجة باجتماعات اللجان .. لقد رأينا جيشنا في الميدان، ومن(1/230)
يموت منا بعد اليوم، سيكون مطمئناً في قبره أننا على طريق التحرير .. ومهما طال الزمان .
... وقضينا يومين، والبارعون في صناعة القلم واللسان، يكتبون ويصوغون، ويتحاورون ويتجادلون .. وأخيراً اتفقوا على التوصيات اللازمة، ودعي المجلس الوطني إلى الجلسة الختامية، فناقش تقارير اللجان الفرعية، في جو كامل من التقاليد البرلمانية، ونحن لا أرض ولا دولة .. وأصدر المجلس قراراته، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا ويحدد فيها موقفاً.. كما يلي :-
- المبادرة إلى إجراء انتخابات حرة للمجلس الوطني المقبل ..
- أول واجبات العمل الفلسطيني أن تستكمل العدة للاشتباك المسلح مع إسرائيل ..
- المطالب التي تقدم بها رئيس المنظمة إلى الحكومة الأردنية هي الحد الأدنى ..
- مطالبة الدول العربية بأن تلتزم بتنفيذ قرارات مؤتمرات القمة ..
- قضية فلسطين ليست قضية الشعب العربي الفلسطيني وحده، وأن مستقبلها مرتبط بمستقبل الثورة العربية ..
- إن الوقت قد حان للانتقال من مرحلة الاستعداد إلى مرحلة التهيئة الفعلية النهائية، وإن واجب إشعال المعركة يقع على قوى الثورية العربية ..
- إن القبول بالتجزئة بديلاً عن الوحدة يعتبر تخلياً عن الأهداف الثورية العربية ..
- ضرورة استخدام البترول العربي سلاحاً أساسياً لاسترداد الوطن السليب
- شجب الأحلاف مهما كان شكلها أو تسميتها ..(1/231)
كانت هذه زبدة القرارات التي أصدرها المجلس الوطني، من غير ديباجتها وأسبابها الموجبة ؛ ثم جاءت بعدها قرارات بتأييد الثورة اليمنية، والجنوب المحتل، واستنكار مواقف أمريكا والإمبريالية العالمية في تأييد إسرائيل .
... ولكن (توصية) استغرقت قرابة نهار بكامله، دار حولها الحوار طويلاً، واشترك فيها معظم أعضاء المجلس الوطني، وهي أن (تظل القضية الفلسطينية في منأى عن الخلافات العربية) وقد تركت المجلس يناقش هذا الموضوع طويلاً، فقد كان الشعب الفلسطيني مشغولاً فيه منذ أن قامت منظمة التحرير الفلسطينية، دون أن يصل إلى رأي حاسم..
... كان هذا النقاش الطويل يدور، وأنا ساكت، أدير الجلسة، أعطي الكلمة لمن يطلبها من الأعضاء .. وقال الأعضاء .. نريد أن نعرف رأي رئيس المنظمة ..
... قلت : ليس عندي رأي بصيغة نعم أو لا .. الأمر يحتاج إلى إيضاح.. وضحك الجميع وأنا أقول لهم، ( أنا موافق على رأي الفريقين منكم .. المنظمة فوق الخلافات العربية ويجب أن تكون .. وكذلك فإن المنظمة في صميم الخلافات العربية ويجب أن تكون .. حين تكون الخلافات لا تتصل بالقضية الفلسطينية فنحن فوق الخلافات .. ومثال ذلك خلافات الحدود بين الجزائر والمغرب .. نحن فوق هذا النوع من الخلافات بقطع النظر عمن يكون على حق، ومن يكون على باطل .. أما حينما يكون الخلاف متصلاً بالقضية الفلسطينية فنحن في صميم الخلافات، ومثال ذلك الخلاف بين الدول العربية بشأن موقف أبو رقيبة .. ونحن لا يمكن أن نكون(1/232)
في معزل عن قضيتنا، أو في حالة حياد مع قضيتنا، حين يكون الخلاف العربي على قضيتنا .. و .. و .. ).
... ومضيت على هذا النحو، أجمع آراء الفريقين المتناحرين ؛ وطرح كل منهما صيغة قرار .. ولكن المجلس رفض الصيغتين، ووافق بالنهاية أن ( يثبت الإيضاح الذي قدمه رئيس المنظمة في مضابط الجلسة تعبيراً عن رأي المجلس الوطني) وبهذا انتهينا من معركة فكرية ثورية، كادت تعصف بالمؤتمر .
... وانتهى المؤتمر إلى إجماع كامل في جميع قراراته فكان مدعاة لاعتزاز الشعب الفلسطيني بمنظمته ؛ وكنت أسعد من المنظمة ومن الشعب على السواء .. ذلك أن المجلس الوطني قد أسبغ علي قلادة لا تزال مستقرة في فؤادي، ولن ينتزعها إلا غاسل القدر وحافر القبر .. تلك التوصية الكريمة التي صدرت بإجماع المجلس، يقرر فيها ( اعتبار فلسطين المحتلة دائرة انتخابية واحدة، لها مقعد واحد، وانتخاب الأستاذ أحمد الشقيري رئيس منظمة التحرير الفلسطينية نائباً عن هذه الدائرة، واعتباره عضواً طبيعياً في المجلس الوطني الذي سيجري انتخابه في العام المقبل ) .
ولم أستطع أن أحبس هذه الغبطة من أن تنساب إلى مذكراتي ..
... ومن قاعة سينما النصر انتقلنا إلى معسكر كتيبة غزة، وهو على قيد خطوات .. فذهبنا إليها مشياً .. وهناك كان اللقاء بين الشعب وجيشه .. قامت الكتيبة بتمارين رياضية بارعة .. وقامت فرقة الصاعقة بالهرولة الشجاعة، وهم يصيحون عودة .. عودة .. وهبت نسائم الجنوب كأنها تسوقنا شمالاً .. شمالاً .. إلى فلسطين .. ونحن على مقربة منها .. بل أقرب من حبل الوريد.(1/233)
... وقفنا أمام هذه المشاهد .. وبكينا جميعاً، الرجال قبل النساء، والكهول قبل الفتيان، وتملكت قلوبنا نفحات روحانية نورانية .. كأننا اجتمعنا عند سدرة المنتهى، غير بعيد عن الحضرة الإلهية ..
... وهذه المرة، وقفت أخطب كما أريد، لا كما يريدون، وقفت أخطب، والوجدان من غير بدن .. والضمير من غير سكن، وقد بدأت سائلاً ومجيباً :
... (لقد بكينا جميعاً .. ولكن لم البكاء وفيم هذه الدموع .. لقد مضت علينا السنون السالفات ونحن نبكي .. بكينا بدموع حزينة، بدموع منكسرة، حنيناً إلى الديار، حنيناً إلى مدننا الجميلة وإلى قرانا الوادعة، وإلى مضاجع الأحبة من الآباء والأجداد الذين ضمهم الثرى .. أما دموع اليوم فليست حزينة ولا ذليلة .. ولكنها مملوءة بالإباء والكبرياء .. إنها دموع فرحانة جذلانة .. لأنها دموع تتطلع إلى النصر والتحرير .. ومن حقنا أن نفرح ونحن في هذه الأمسية مع جنودنا وضباطنا، كتيبة الصاعقة ؛ وكل واحد منهم في هرولته، في صيحته وخطوته، كتيبة صاعقة بنفسه .. نحن الآن مع شعبنا وعلى أرضنا .. شعبنا صنع البسالات والبطولات على مر الأجيال .. وأرضنا أرض معطاء .. وفي زماننا هذا نبتت على أرضنا هذه ثورة 23 يوليو، أعظم ثورة عربية شهدها تاريخنا الحديث .. نحن نناشد كل ملك وكل رئيس أن يكون مع شعب فلسطين .. مع الكفاح لتحرير فلسطين ؛ ومن كان معنا فنحن معه، ومن لم يكن معنا فلسنا معه، وليست الأمة العربية معه .. نحن لا نريد أن نكون على خلاف مع أي ملك أو رئيس، ولكن يجب على كل ملك أو رئيس أن لا يكون على خلاف معنا .. وكل ملك أو رئيس يختلف معنا فإنه على باطل، لأن شعب فلسطين على حق .. لقد مرت السنون بعد(1/234)
النكبة وعلى ألسنتنا تجري ألقاب رفيعة : صاحب الجلالة، صاحب الفخامة، صاحب السمو، صاحب السيادة .. ولكن أي جلالة وفخامة وفلسطين سليبة، وأي سمو وسيادة وشعب فلسطين شريد .. إن هذه الألقاب الرفيعة جديرة بأصحابها حين يتم تحرير فلسطين، حين يعود شعبها كريماً إلى وطنه، حين يغسل هذا العار الذي لم تشهد الأمة العربية مثيلاً له في تاريخها الطويل .. ولقد سئم شعبنا أن يقوم الحوار بيننا وبين هذه الحكومة أو تلك حول ما يكون وما لا يكون .. نحن لا نضمر شراً لأحد، ولا نحمل حقداً على أحد .. ولا نريد أن نفتح الحساب القديم وكيف وقعت النكبة .. نحن نريد أن نعيش حاضرنا لمستقبلنا .. و .. و .. ).
... ومضيت في هذا الحديث لا أعرف كيف بدأت، ولا أعرف كيف انتهيت .. وما أن عدت إلى مكاني، حتى انبرى السيد سيف الدين الكيلاني، أحد أعضاء المجلس الوطني، ووقف بقامته الفارعة، يلقي قصيدة عصماء أشاد فيها بمنظمة التحرير وجيش التحرير، وبكى واستبكى وتجاوب معه الرجال بالتهليل والتكبير، وتصايحت معه النساء بالزغاريد ..
... كان السيد الكيلاني سفيراً للملك حسين عند الملك الحسن في المغرب، وجاء خصيصاً ليحضر اجتماعات المجلس .. ولقد خشيت عليه وأنا أستمع إلى قصيدته الرائعة .. خشيت عليه من غضب الملك حسين ..
... وجاءت خشيتي في محلها .. فما أن عاد الكيلاني إلى مقر عمله في المغرب، حتى صدرت الإرادة الملكية من عمان بإنهاء عمله .. وبقي الكيلاني في المغرب أستاذاً في جامعتها، وتوفاه الله بعد ذلك ببرهة وجيزة .(1/235)
... وكان حقاً علي وأنا أكتب مذكراتي هذه، أن أترحم على الكيلاني، واحداً من شهداء الشعب .. الشهداء الذين يسقطون في حلبة الصراع القائم الدائم بين الملوك والشعوب .
(إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها)
صدق الله العظيم(1/236)
من الحسين الكبير..
إلى الحسين الصغير
... انتهى المجلس الوطني من دورته الثالثة التي عقدها في غزة في شهر أيار من عام 1966، وعاد الأعضاء إلى مهاجرهم في الوطن العربي، وهم يتحدثون عن جيش التحرير في معسكراته وفي مناوراته، ويخصون بالذكر كتائب الصاعقة وكيف كانت تهز الأرض تحت هرولتهم الضاربة، وتهتز الأجواء على رجع نبراتهم، ( عودة، عودة، عودة .. ) وهي صيحتهم المحببة ..
... وعاد فيمن عاد، أعضاء المجلس الوطني الفلسطينيون الأردنيون .. وكانت عودتهم إلى الأردن أشبه بطوفان اجتاح المدن والقرى، وحمل في تياره الدافق الأخبار والأخبار عن منظمة التحرير وإنجازاتها، وكتائب جيش التحرير وبسالاته .. وبدأ الأعضاء يتحدثون في المضافات والدواوين والمقاهي والبيوت عن المجلس الوطني في غزة، ولقاء الشعب في غزة، ومنجزاتنا في غزة .. فكان سمر الناس حين يمسون وحين يصبحون .. وكأنما عادت البلاد سيرتها الأولى قبل قرون، في أيام السمر والسمار، والقصص والقصاصين ..(1/237)
... واشتعلت خواطر الأهلين بالحماسة، في القرى الأمامية ابتداء من قلقيلية، إلى القرى الخلفية انتهاء بأريحا، وبالمدن الكبرى والصغرى من الخليل جنوباً حتى جنين شمالاً ؛ وكانت مخيمات اللاجئين على امتدادها في الضفة الغربية، أكثر ولعاً وكلفاً بالحديث عن المجلس الوطني في غزة .. فقد عاد إليها ممثلوهم في المجلس الوطني، وهم يحدثونهم كيف تحولت مخيمات اللاجئين في غزة إلى معسكرات .. يتدرب فيها على السلاح، كل قادر على حمل السلاح ..
... وفي أعقاب هذه الأحاديث، وقد أضفى عليها الحب غلالة من الزيادات والمبالغات، قفزت الأسئلة الحائرة، وما كان أكثرها :-
- لماذا كانت تكذب علينا الحكومة الأردنية وتقول لا يوجد جيش فلسطيني، هذا جيش مصري ؟
- لماذا يعارض الملك حسين في إنشاء جيش تحرير فلسطين في الضفة الغربية ؟
- لماذا لا يسمح الملك بدخول جيش التحرير الفلسطيني إلى الأردن ؟ .
- لماذا يعارض الملك في إنشاء معسكرات للتدريب في مخيمات اللاجئين ؟ .
- ولماذا يترك الملك حسين القوى الأمامية مكشوفة عزلاء .
ولماذا .. ولماذا .. وعشرات من هذه الأسئلة أصبح يتداولها الأهلون، في الضفة الغربية، كلما تبادلوا التحية والسلام .(1/238)
... وتضايق الملك حسين من هذه الموجات الروحية التي وفدت على الأردن من غزة، كالحمى الوافدة وأشد أثراً وخطراً .. وازداد ضيقاً حين تحولت التساؤلات إلى نشاطات .. نشاطات قام بها الطلاب والشباب، وكل فئات الشعب .
... وحتى قبل انعقاد المجلس الوطني كانت قد بدأت الندوات والاجتماعات تطالب بتنفيذ الاتفاق الذي عقد بين المنظمة والحكومة الأردنية (آذار 1966) بشأن التجنيد والتدريب والتسليح والتنظيم .. وقد مضت أشهر من غير إنجاز ولا تنفيذ .. وبدأت العرائض تصل إلى الملك حسين مطالبة بهذه المطالب ؛ ومع العرائض جاءت تقارير الأجهزة السرية لتقول أن هناك حركة عدائية ضد النظام .. ضد سيدنا ( وأرث الثورة العربية الكبرى ) !!
... وصدرت الأوامر من (سيدنا ) بالقبض على ( المخربين ) حيثما وجدوا في البلاد ومحاصرة مقر منظمة التحرير الفلسطينية في القدس .. وانطلقت قوى الأمن تداهم البيوت وتعتقل الشباب والطلاب تحت تهم شتى : شيوعيين، حزبيين، مخربين، عقائديين، تحرريين، بعثيين، قوميين عرباً.. إلى آخر جمع المذكر السالم .. ولم يكن جلالته إلى ذلك الوقت قد استعمل جمع المؤنث السالم ليعتقل، الأوانس والسيدات، من المدنيات والفلاحات .. فقد جاء دورهن فيما بعد .. ومع تشديد النون الثقيلة !!
... وساد الجو شعور متزايد بالقلق والتوتر .. ووصلتني هذه الأخبار وأنا في القاهرة، وتابعت تطوراتها في الإذاعة الأردنية ..
... وباكرت في الصباح إلى السفارة الأردنية (14-4-66) واجتمعت بالممثل الخاص لجلالته، السيد سعد جمعة، (رئيس وزراء الأردن فيما بعد) لأستوضح الموقف ..(1/239)
... قال : جميع المعتقلين هم من أعداء منظمة التحرير .. الشباب الذين كانوا يسبونك دائماً .. ألا تذكر القوميين العرب الذين كانوا يوزعون المنشورات ضدك .. والبعثيين الذين يقاومون منظمة التحرير .. وجماعة
( فتح ) الذين يتحينون الفرصة للاستيلاء على منظمة التحرير ..
... قلت : أنا لا أعرف المعتقلين .. ولا أسماءهم، ولا أحزابهم .. أنا أعرف أنهم فلسطينيون .. أنهم أبناء الشعب .. أبناء المنظمة .. وقد يكون بينهم من كان يشوش على المنظمة، ولكن واجبي أن أدافع عنهم .. إنهم في السجن فلسطينيون ولا أعرف لهم صفة أخرى .
... قال : هذا الموضوع من اختصاص الحكومة .. يمكنك أن تكتب إلى (سيدنا) .
... قلت : هذا رأي سديد ..
... وتناولت واحدة من أوراق السفارة ووجهت رسالة إلى ( جلالة الملك حسين المعظم ) قلت فيها : ( إن الاعتقالات قد امتدت إلى عدد كبير من المواطنين، وقد استمعت خلال الأيام الأربعة الماضية إلى تعليقات الإذاعة الأردنية وفيها عبارات تدين المعتقلين وهم لا يزالون رهن التحقيق قبل أن يدينهم القضاء، وإني أرجو جلالتكم أن تصدروا أوامركم بالمبادرة إلى إطلاق سراح أولئك الذين لا تتوافر عليهم الدلائل الصادقة في جو من التحقيق النزيه الأمين، وأمام القضاء العادل .. إن تكامل أسباب الطمأنينة والاستقرار في الأردن فيه كفالة راسخة لتعبئة جميع الطاقات الشعبية والقوى الوطنية في معركة التحرير، وهذه هي الروح التي أملت علي أن أكتب لجلالتكم في الأمر .. ).(1/240)
... وبعد يومين جاءني الجواب من الملك حسين مؤلفاً من كلمتين، وأصبح بعد الديباجة سطرين .. وكل ما فيه .. ( أن هذه الإجراءات هي أمور داخلية اقتضتها مصلحة الأمن ) .
... واتسع نطاق الاعتقالات فامتدت أيدي الشرطة إلى عدد من زعماء البلاد أنصار المنظمة، وكل ذنبهم أنهم يريدون أن يجعلوا من الضفة الغربية ما رأوه في قطاع غزة .
... ووجهت إلى الملك حسين رسالة ثانية، أرى من الأمانة للتاريخ، أن اقتبسها بكاملها بعد التحية : ( خلال السبعة عشر عاماً التي أعقبت الكارثة، انخرط عدد وافر من شبابنا وطلابنا في منظمات حزبية وعقائدية، وعسكرية . وكان ذلك أمراً طبيعياً فإن الفراغ الذي عاشته فلسطين في تلك الفترة قد دفع بالعديد من أبناء فلسطين إلى سلوك هذا الطريق إيماناً منهم بأنه هو الطريق لتحرير فلسطين .. ولما قامت منظمة التحرير، طرحت شعار الوحدة الوطنية، وعملت على تحقيقه بكل ما استطاعت من جهد .. وفي المرحلة الأخيرة قطعت شوطاً حسناً في دعوة المنظمات الفلسطينية إلى التجمع على العمل الواحد ضمن إطار منظمة التحرير وعلى هدي من ميثاقه.. والواقع أنه ما لم تكن هنالك جريمة عادية، فإن الحزبية بهذه الصفة لا تعالج بالاعتقال، بل تعالج بالتوجيه القومي في ميادين النشاط العامة ؛ وهنا يبدأ دور منظمة التحرير، وهذا هو الأسلوب البناء الإيجابي في توحيد الطاقات الوطنية لشعب فلسطين ولا أعرف له بديلاً ؛ وإني أتطلع أن تتفضلوا جلالتكم بإعادة النظر في هذا الموضوع من هذه الزاوية التي أضعها أمامكم ؛ سدد الله خطاكم وألهمكم التوفيق .. ) 10-5-1966 التوقيع : أحمد الشقيري .. رئيس منظمة التحرير الفلسطينية .(1/241)
... ولم يصلني جواب من الملك حسين .. فقد (شكاني) إلى الرئيس عبد الناصر، عن طريق السفير الأردني في القاهرة، الذي حمل إليه صورة عن رسالتي .. وهو يقول .. وهل الشقيري يريد أن يعلم (سيدنا) قانون العقوبات، وأسلوب المحاكمات !!
... وطلب إلي مكتب الرئيس أن أحضر لمقابلته .. وفي مكتبه في منشية البكري تحدث الرئيس عبد الناصر عن ( الظروف الراهنة التي تفرض علينا أن لا يفلت الملك حسين من اليد، ويقع في قبضة الملك فيصل .. وأنت عارف دسائس الاستعمار لإنشاء الحلف الإسلامي) .
... قلت : وماذا تنصح .. لقد ضجرت من تصرفات الملك حسين، والشعب الفلسطيني يلهب ظهري، يريد كل شيء، والملك حسين لا يوافق على شيء ..
... قال : أرى أن تسافر إلى عمان، وتجتمع بالملك حسين، وسأطلب من سفيرنا في عمان أن يهيئ الجو المناسب .
... قلت : على بركة الله .
... وعدت إلى مكتبي، وأنجزت في خلال بضعة أيام كثيراً من الأمور العاجلة التي كانت تهب علي كالأعاصير من كل أرجاء الوطن العربي .
... وسافرت إلى عمان، وما أن وصلت إلى الفندق، حتى اتصلت
( بالمقر) أطلب موعداً لمقابلة ( جلالة الملك ) .. ومضى اليوم كله من غير جواب .
... وفي اليوم الثاني، استوضحت وأكدت، فجاءني الجواب عند المساء، أن (سيدنا) مريض وقد دخل المستشفى العسكري لإجراء فحص عام ..
قلت : شفاه الله .. وكنت أدعو له بشفاء الروح قبل شفاء الجسد ..(1/242)
... وجاءتني الصحف في صباح اليوم التالي، لأجد البيان المعتاد الصادر عن التشريفات الملكية بأن جلالته قد استقبل دولة فلان، ومعالي فلان، وسعادة فلان .. وفريق البولو الإيراني !!
... وانتظرت يومين آخرين بعد هذا الكذب الواضح، وأنا أتصل
( بالمقر) ورجال التشريفات يتلعثمون بأن (سيدنا مريض ) .. وأنا أقول في نفسي : ناقل الكذب ليس بكاذب!!
... ولم يعد في قوس الصبر منزع، كما قال الأجداد الأكارم، فخرجت من عمان ؛ فلم يكن ميسوراً علي أن أمكث فيها طويلاً، فإن التحضير للدورة الثالثة للمجلس الوطني يلح بالعودة العاجلة إلى القاهرة .
... وكتمت إهانتي، لا امتثال للقول المأثور، ( الكريم من كتم إهانته ) بل ضماناً لنجاح المجلس الوطني وتجنباً لتصدعه وفيه كثير من الأخوة الفلسطينيين الأردنيين .. وبدأ المجلس الوطني في غزة وانتهى، وتحدثت في كل شيء .. في كل شيء إلا في حكاية استقبال الملك حسين لفريق البولو الإيراني ورفضه استقبال رئيس منظمة التحرير الفلسطينية .. ولقد كتمت ذلك حرصاً على المجلس الوطني، وخشية أن يعود أعضاؤه الأردنيون إلى المطار، ومنه إلى السجون والمعتقلات .. وللأردن سيرة شهيرة في هذا الميدان !!
... وأصبح من واجبي، بعد القرارات التي أصدرها المجلس الوطني، أن أوجه رسالة ثالثة للملك حسين تكون أكثر شمولاً وتحديداً .. وبصيغة موضوعية هادئة، لا أستطيع أن تصفها مذكراتي بأكثر من اقتباسها بنصها الكامل .. وهي كما يلي :-
... صاحب الجلالة الحسين المعظم ملك المملكة الأردنية الهاشمية .(1/243)
... تحية العروبة وبعد أكتب إلى جلالتكم مع أني لم أتلق جواباً على كتابي بشأن المعتقلين المؤرخ 10-5-1966، ورغم أني في زيارتي الأخيرة لعمان ما أتحتم لي الفرصة لمقابلتكم والتحدث إليكم بشأن مختلف جوانب القضية الفلسطينية .. ولكني قياماً بمسئولياتي أرى من واجبي أن أواصل السعي مع جلالتكم للاستجابة لمطالب منظمة التحرير الفلسطينية، لا يثنيني عن ذلك ما ألاقي من المواقف السلبية أو مصاعب الطريق ؛ وخاصة أن موضوع هذا الكتاب يتصل بصورة مباشرة بهدف التحرير الكبير مما لا يصح أن يحول دونه حائل ؛ وتعلمون جلالتكم أن الاتفاق الذي تم بين الحكومة الأردنية والمنظمة قد تناول في جملة ما تناول موضوع التجنيد الإجباري وإنشاء كتائب جيش التحرير .. وقد أصدر المجلس الوطني في دورته الثالثة، الذي انعقد في غزة في العشرين من شهر أيار 1966 قراراً إجماعياً بالمطالبة بتطبيق قانون التجنيد الإجباري وإنشاء كتائب جيش التحرير الفلسطيني في الأردن ؛ وكان هذا القرار نتيجة دراسة موضوعية عميقة، أخذت بعين الاعتبار ظروف الأردن من مختلف نواحيها، وفي مقدمتها دور الأردن الكبير شعباً وأرضاً في معركة التحرير ؛ وما هو حري بالذكر أن القيادة العربية الموحدة قد أعربت عن تأييدها لتطبيق التجنيد الإجباري وإنشاء كتائب التحرير في الأردن ؛ وأن تنفيذها ينتظر موافقة الأردن . لهذا رأيت أن أكتب إلى جلالتكم، وكلي أمل ورجاء بأن تصدروا جلالتكم توصياتكم الكريمة إلى الحكومة الأردنية للمبادرة إلى سن التشريع اللازم لتطبيق التجنيد الإجباري على جميع المواطنين من أبناء الأردن، وتيسير إنشاء كتائب جيش التحرير الفلسطيني حسب الخطة التي وضعتها القيادة العربية الموحدة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ) .(1/244)
... (التوقيع – أحمد الشقيري – رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ) .
... وهذا الكتاب يغني عن التعليق، موضوعية ووضوحاً، ولطفاً، استنفاداً لكل وسائل اللطف !!
... سلمت هذه الرسالة الثالثة إلى السيد سعد جمعة، وكان ما يزال ممثل (جلالته) في لجنة المتابعة في القاهرة، وطلبت إليه أن يقرأها قبل أن أقفلها .. ووقف عند عبارة ( القيادة العربية الموحدة قد أعربت عن تأييدها لتطبيق قانون التجنيد الإجباري في الأردن الخ .. وقال:
- متى كان ذلك .. نحن لا نعلم شيئاً عن هذا الموضوع .. وأعتقد أن جلالته لا يعلم..
قلت : هذه هي صورة من كتاب الفريق عامر القائد العام للقيادة العربية الموحدة ..).
وسلمته صورة من الكتاب مصورة بالزنكوغراف .
... وكان كتاب الفريق عامر صريحاً غاية الصراحة، بالموافقة، من غير شرط ولا تحفظ، على ( ضرورة تطبيق نظام التجنيد الإجباري في الأردن، لإمكان إيجاد تشكيلات احتياطية تستدعي عند الطوارئ ) .
... وهذه الرسالة الثالثة التي وجهتها إلى الملك، ليست في حاجة إلى تعقيب، موضوعية ووضوحاً، وقد شفعتها برأي القيادة العربية الموحدة .. ومضت أيام وأيام والملك حسين لا يجيب .. إلا بازدياد الاعتقالات وإفشاء حملات الإرهاب في البلاد .
... ونشطت في تلك الفترة، كأن الأمر على ميعاد، حملة أمريكية إسرائيلية على منظمة التحرير الفلسطينية .. في أنها أثارت حماسة الجماهير العربية في قضية فلسطين بعد سكون دام بضعة عشر عاماً، وأن الأحلام(1/245)
الأمريكية للوصول إلى تسوية سلمية آخذة بالانهيار .. وأن ( الشقيري عميل لموسكو، ولعبد الناصر ) .
... وفي أوائل الشهر (حزيران 1966) خطب روبرت همفري نائب الولايات المتحدة، مندداً بالشعب الفلسطيني وبقضية فلسطين، وأن منظمة التحرير ( خطر على إسرائيل ) ... ثم جاء بعده السناتور الأمريكي الصهيوني غاربنشين وقدم اقتراحاً بإلغاء وكالة الإغاثة ودفع الأموال رأساً إلى الدول المضيفة .. وجاء بعد ذلك ماكلوفسكي المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الأمريكية وطالب بقطع الإغاثة عن الفلسطينيين الذين ينضمون إلى جيش التحرير .. وجاء بعد ذلك كندي الصغير شقيق كندي القتيل يحمل على القضية العربية وعلى شعب فلسطين ومنظمة التحرير وجيش التحرير .
... وفي غمرة هذه الحملة الأمريكية الإسرائيلية على منظمة التحرير، وضعت ( الجماعة الأمريكية لمنع الحرب الثالثة ) وهي منظمة صهيونية، نشرة دورية جرى توزيعها بالآلاف على كافة أرجاء العالم، تحذر ( العالم المتحضر من أحمد الشقيري أحد دعاة الحرب في العالم، وأحد العاملين على إثارة الفتن والقلاقل بين الشعوب .. وأن الشقيري وأمثاله، إذا تركوا وشأنهم، سيدفعون العالم إلى حرب عالمية ثالثة .. )
... كانت هذه هي موجة الغضب، الأمريكي الإسرائيلي، حين كانت رسائلي الثلاث تصل إلى عمان .. فركب الملك حسين موجة الغضب هذه، وألقى خطاباً، هائجاً مائجاً، اشتهر فيما بعد بخطاب عجلون ..
... كان ذلك في 14 حزيران 1966، وكانت المناسبة : الاحتفال بخريجي معاهد المعلمين والمعلمات في عجلون ..(1/246)
... لم يكن خطاب ( جلالته ) في هذه المناسبة العلمية، تهنئة للخريجين ولا تمجيداً للعلم؛ كما تفرضه هذه المناسبة الكريمة .. واختار الملك حسين أن يخطب في كل شيء .. في القضية الفلسطينية، وفي القضية العربية، وفي المشاكل العالمية، فهاجم منظمة التحرير في شيوعيتها، وغوغائية رئيسها، وندد بالقومية العربية وقادتها، وحمل على الاتحاد السوفييتي والصين ؛ وأثنى على العالم الغربي ومؤسساته الدستورية ؛ ودعا إلى الحلف الإسلامي ؛ ومجد الأسرة الهاشمية وتضحياتها في الثورة العربية الكبرى .. وعلى الجملة فإنه لم يترك شاردة ولا واردة إلا وحدد موقفه منها .
... ولقد كان بوسعي أن أكتفي بهذا التلخيص لخطاب عجلون، لولا أن سلسلة من الأحداث العربية والدولية قد تعاقبت بعده، كان آخرها هزيمتنا الكبرى في حرب حزيران .. فلم يعد أمامي إلا أن أنتزع خطاب الملك حسين من مكانه وأضمه إلى مذكراتي بنصه الكامل .. وأن أتبعه بجوابي عليه .. خطاباً بخطاب، والبادئ أظلم ..
... وإني أفعل ذلك، لا ليقرأ الجيل المعاصر والجيل المقبل، سرداً تاريخياً للوقائع والأحداث، بل ليتعرف بقلبه ووجدانه على أسباب الهزيمة .. فإن في خطاب الملك حسين بعض هذه الأسباب .. بل أن هذا الخطاب هو واحد من هذه الأسباب .. وأن جوابي عليه نابع من ضمير الأمة العربية، بجماهيرها الفلسطينية والعربية على السواء ..(1/247)
خطاب الملك حسين
... أيها الأخوة
... " بالأمس القريب، وقفت مع أبنائنا في الجامعة الأردنية الفتية نتطارح الأحاديث في سيرنا واتجاهنا، ونتبادل الرأي في مظاهر نهضتنا ومقومات حضارتنا وفي مدلولات أمانينا القومية .
... ولقد كنت معهم كشأني معكم اليوم، وكعهدي في كل موقف يجمعني بأبناء أسرتي الحبيبة، خاصة الطلائع الذين نعلق عليهم أكبر الآمال، لربط حاضرنا بماضينا، والمشاركة القاصدة في إعلاء البناء للمستقبل الأفضل .. كنت معهم .. وها أنذا معكم اليوم .. أحدثكم حديث القائد الذي لا يخدع جنده، والرائد الذي لا يخون عهده، حديث المحبة والمودة، والإيثار .. إذ ليس كالمطارحة الصريحة، وصدق النية في السر والعلن سبيلاً بيننا إلى الصراط القويم .
... وأنه ليسعدني حقاً أن ألقاكم وأنتم على أهبة الانتقال من مرحلة إلى مرحلة .. من مرحلة الاستعداد والتلقي، إلى مرحلة الخدمة والعطاء .. من جو الدراسة المثالي .. إلى أجواء الحياة الفسيحة بتجاربها، ومشاكلها، وآلامها، وآمالها .. ولعلي لو أردت أن أصوغ شعاراً واحداً يلم كل ما نتمناه لكم ونأمله فيكم، لقلت : أنه الشعور بالمسؤولية .. بمسئوليتكم تجاه مجتمعكم.. تجاه بلدكم .. فقد اختارتكم العناية لتكونوا النواة لأجيالنا الطالعة.. ومن حق تلك الأجيال عليكم أن تصدقوا لها الخدمة، وتخلصوا لها النصيحة، وأن تحموها من مزالق الانحرافات الضالة .. ومتاهات العقائد المستوردة .. صيانة لموروث تقاليدنا وقيمنا الروحية وشخصيتنا القومية .. مدركين كل(1/248)
الإدراك أن مناخ الجامعة أو الكلية أو المدرسة، إنما هو حرم مقدس، مكرس للعلم وحده .. وأن ما ابتليت به هذه المنطقة في البضع عشرة سنة الماضية، من افتعال السياسة والحزبية في مرابع الطلبة، قبل أن يقوى عودهم ويشتد ساعدهم ويتكامل تفكيرهم وتنمو ملكاتهم الواعية، هو سبب ما تعانيه بلادنا من فراغ أنصاف المتعلمين الذين هجروا مقاعد الدرس إلى مطارح الاستغلال .. وأصبحوا أداة هينة في يد كل دعوة مشبوهة، وكل مبدأ مدخول، وكل عقيدة مستوردة تخرج بهم عن نطاق دينهم وقوميتهم وتراثهم التاريخي العظيم، لقد بددت طاقات هائلة أضعناها، واستغل عنفوان الشباب أبشع استغلال، واستخدمت جذوة الحماس فيهم فغدوا أدوات هدم بدل أن يكونوا دعائم بناء وكانت الضحية الأولى لذلك المصلحة العربية العليا، وكانوا هم أنفسهم الضحية الثانية . وفي يدكم أنتم المساهمة الفعلية في تقويم المعوج، وإعادة الضال إلى جادة الصواب، وتبصير من غطت أبصارهم غشاوة الهوس وملأت قلوبهم نزوات الغرور . ولعل من أهم واجباتي نحو أمتي وأسرتي ونحوكم بشكل خاص أن أبصركم ولو بإيجاز حول وضعنا ومسيرتنا وأهدافنا وأمانينا القومية، شأني كلما واتت الفرصة وسمحت الظروف .
... ونحن نؤمن قبل كل شيء أننا عرب وأن فكرة القومية العربية لا تكون ذات جدوى ومدلول إلا حين تكون في إطارها الديني، فالإسلام والقومية العربية كالصورة والمحتوى، صنوان متلازمان مترابطان لا ينفصمان، وكل انحراف عن هذا المفهوم هو باطل يراد به حق، ودعوة مدسوسة يراد بها تقويض دعائم عقيدتنا، وتخريب أسس قوميتنا وتغليف قدسية الفكرة بشعارات الجدلية المادية والمذهب الماركسي، ولقد أثبتت(1/249)
التجارب العالمية ومنها تجربتنا الخاصة في هذا البلد، أن مبادئ الديموقراطية والحرية تتفق مع مبادئ ديننا الحنيف، وهو دين التطور والتقدم . ولذا فهي أقوم النظم لتوطيد الأمن والاستقرار وإشاعة الخير وتحقيق الازدهار وتعميم العدالة الاجتماعية، وبناء المجتمع على أسس روحية أخلاقية تحترم الفرد وتقدس الحرية وتحمي الملكية وتشجع المبادهة الخاصة والمساواة في الفرص والحد من الجشع والاستغلال والفروق الطبقية ويكون الفرد فيها لبنة صالحة في بناء سليم لا آلة صماء في مجتمع بوليسي رهيب، ولذا فنحن ننتمي إلى أسرة الأحرار في هذا العالم ولا ننتمي لسواها.
... ونحن نؤمن أن القضية الفلسطينية، هي قضيتنا الأولى والأخطر والأهم، لأنها بالنسبة لنا، قضية حياة أو موت .. بقاء أو فناء، وهي التحدي الكبير الذي نجابه في هذه المنطقة قبل سوانا .. ولذا فكل ما صنعناه ونصنعه في هذا البلد هو لفلسطين ومن أجل فلسطين .. وجهدنا وحشدنا هو استمرار لمبادئ الثورة العربية الكبرى ورسالتها العظيمة التي كان قائدها أول ضحايا فلسطين .
... ومهمتنا كما قلنا مراراً، مهمة مزدوجة فنحن من جهة عملنا ونعمل بكل ثقة وإيمان لتقوية جيشنا ودعم قواتنا المسلحة لنبلغ مكان القوة الرادعة ثم نهيئ أنفسنا لاستعادة الحق العربي المهدور، وقد قطعنا أشواطاً في هذا الطريق توحي بالثقة وتبعث على الاعتزاز، حتى أصبحت قواتنا المسلحة، في مستوى عالمي تدريباً وتنظيماً وتسليحاً مثلما كانت دائماً مضرب الأمثال بسالة وإقداماً ..
... وإنها لدعوى فارغة أن نعتبر الاستعمار وقواه وراء كل ما حل بنا من نكبات دون تحديد واضح لما نعنيه، فحقيقة الأمر أن الحركة الصهيونية(1/250)
تدعمها اليهودية العالمية، تمكنت بفعل التخطيط والتنظيم والتصميم والاستعداد لكل تضحية مهما غلت من أن تفرض نفسها في هذا العالم على مجتمعاته المختلفة وفي شتى المجالات والميادين فتحولت من خلال علمائها ومفكريها ورجال مالها وصناعتها والمختصين منها في شؤون الدعاية والإعلام إلى قوة هائلة لها وزنها وتأثيرها على العالم ودولة كبيرة كانت أم صغيرة، فالقول بأن قلب وطننا العربي المحتل هو ركيزة من ركائز الاستعمار فحسب، هو قول ناقص لأن هذا الجزء في الحقيقة على صغر مساحته وقلة سكانه هو قاعدة ومقر ومنطلق استعمار خطير قادر، ومن خلال الوعي والتصميم والاستعداد للتضحية لدى الكثيرين جداً في هذا العالم ممن يدورون في فلك الصهيونية العالمية، على أن يحرك الأمور وفق مصلحته وما يحقق أهدافه .
... ولقد كانت القضية الفلسطينية تتأرجح في دوامة المزايدات والمساومات والاستغلال حتى استهدى العرب في مطلع سنة 1964 إلى وجوب لقاء عربي جماعي، وخطة عربية موحدة، ومنهاج قومي مشترك واستعداد علمي كامل مدروس لدرء الخطر واسترجاع الحق السليب .
... وكانت مؤتمرات القمة وما نجم عنها من مقررات حتى الآن حداً فاصلاً بين التخبط والارتجال من جهة، وبين استهلال العمل الهادف من جهة أخرى .. وكانت آخر فرصة وأمل للأمة العربية في تعميق الشعور بالمسؤولية وإدراك أبعاد القضية على مستوى خطورة المعركة الحاسمة التي تنتظرنا وقد تفرض علينا غير بعيد .
... وقد استطعنا منذ أول مؤتمر للقمة إلى الآن لا أن نحقق كل ما كان يمكن تحقيقه، ولكننا حققنا بالفعل الكثير مما كان يخامر عقولنا ولا نستطيعه،(1/251)
نتيجة تخاذل العرب وتصدع صفوفهم وتشتت أهوائهم وانشغالهم بالمعارك الجانبية عن معارك المصير خلال سنوات الضياع التي انقضت . ويسرني أن أشير إلى المهرجان القومي الذي عشناه في هذا البلد قبل أسابيع وأرسينا فيه الحجر الأساسي لمشروع سد خالد ومعنا إخواننا من كافة الدول العربية الشقيقة دلالة واضحة على العمل القومي المشترك والحشد العربي الموحد .
... إننا نؤمن بأن الوحدة العربية ستتحقق عندما يشارك كل العرب في دولهم المختلفة المتناثرة ضمن وطنهم الكبير في وضع أسسها وإرساء دعائمها، وحدة أنداد لا وحدة قسر أو تسلط أو استبعاد، يمليها مستقبل واحد ومصير ينتظر الجميع أفلحوا أم فشلوا ويمليها كونهم أخوة متساوين يكمل بعضهم بعضاً مثلما تمثل بلادهم بخيراتها ومميزاتها وخصائصها كلا رائعاً ما في ذلك ريب .. إننا نؤمن أن الجامعة العربية وقد بعثت مؤتمرات القمة العربية فيها روحاً جديدة هي خطوة مكينة على الطريق الصحيح تستحق كل دعم وكل رعاية . وهذه المؤتمرات والقيادة العسكرية الموحدة المنبثقة عنها تشكل الأمل القوي، الأمل الأول والأخير لا لاستعادة حقوقنا فقط وإنما لتحقيق أغلى أهدافنا وأعز أمانينا في وحدة شاملة تبني في ظلال الحرية والقوة العربية والحياة الأفضل وتحقق استعادة المكانة المرموقة التي كانت لنا بين الأمم والشعوب .
... إننا نؤمن أن كل ذلك لن يتم إلا إذا بقيت القمة فعلاً في استمرار وجودها في كل ما يصدر عنها بدافع من حرص القادة العرب على المصلحة العربية وبفعل التصميم الهادف لديهم على بلوغ الأهداف العربية السامية، وإذا بقيت القيادة الموحدة في منأى عن كل الخلافات الجانبية التي ينبغي على القادة مجتمعين مواجهتها وتصفيتها مرة واحدة، وإننا لنؤمن أن كل عمل(1/252)
خارج هذا النطاق هو استهتار بالمصلحة العليا وهدر للطاقات والجهود، وتمييع لقضيتنا المصيرية، وأن الوعي العربي سيكشف كل خروج عن وحدة الصف وخطة التضامن وأنه قادر على أن ينبري وهذا واقع لا ريب فيه، ليضع حداً لكل محاولة لهدم مؤتمرات القمة وتعطيل مقرراتها والتخلي عن مسؤولياتها وبالتالي تطويح القضية إلى ما هو أسوأ من سيرتها الأولى، في متاهات المساومات والمزايدات والارتجالية نحو نهاية مظلمة حتمية .
... لقد توافق القادة العرب في أول مؤتمر للقمة على وضع القضية الفلسطينية فوق كل خلاف .. ومن المحزن أن نرى الخلافات الجانبية تطغي على القضية المصيرية وتكاد تعصف بها، وأن نجد أنفسنا والفلسطينيين من أبناء النكبة سواء من انتمى إلى أسرتنا الأردنية أو من كان بعيداً عنها، مسافة لا واقعاً، والعرب من حولنا، في دوامة فارغة بعد أن عصفت بالمنظمة منظمة التحرير التي كانت لنا اليد الطولى في إنشائها الأهواء فأصبح القائمون عليها بعد طغيان الحزبيين المخربين عليها، معاول هدم لما بنيناه لا لأنفسنا وإنما لفلسطين ومعاول هدم لوحدة الصف العربي والعمل الموحد وقروحاً تترعرع فيها جراثيم غريبة عن وطننا الكبير، وأن تذهب كل محاولاتنا لإصلاح اعوجاجها أدراج الرياح حين غدت قطب الرحى في إذكاء الخلافات العربية والانقضاض على التضامن العربي وكل ما من شأنه أن يجمع الأفئدة حول القضية ويخدم مصلحتها . إنه ليحز في نفسي ويؤلمني أشد الألم أن أصرح بأن كل أمل حرصنا على إبقائه ولو كان بصيصاً خافتاً قد خبا وزال حول إمكان التعامل مع هذه المنظمة بمضمونها الحالي جملة وتفصيلاً .(1/253)
... أرجو أن أوضح هنا وبما لا يدع أدنى مجال لسوء فهم أو تفسير أننا قد عملنا وبمنتهى الإخلاص وحسن النية لنجسد فكرة الكيان إلى حقيقة ونمكن كل فلسطيني من ممارسة حقه في خدمة قضيته بفعالية وجدارة، أردنا المنظمة لتكون البرهان الساطع أمام العالم أجمع على أن شعب فلسطين باق تدعمه الأمة العربية برمتها في انتظار أن يستيقظ الضمير العالمي من غفوته فيمنحه ذلك الحق المقدس الذي حرم من ممارسته إلا وهو حق تقرير المصير ولتكون الدليل القاطع على أن الحق لن يضيع، والقضية لن تميع مهما طال الزمن وتعاقبت السنون .. أردنا المنظمة مثلما أردنا القضية ولمصلحتها أولاً وأخيراً ولمصلحة أمتنا التي لا تنفصل عنها أن تكون للجميع مشعلاً يلم الشعب كلما أوشك البعض أن يضل الطريق تأكيداً لإيماننا الذي لن نحيد عنه. إن قضية فلسطين هي قضية العرب أجمعين . وأردنا أن يعبأ كل فلسطيني قادر ليؤدي واجبه في خدمة قضيته وخدمة أمته، وأعطينا من خلال تجربتنا المثالية في هذا البلد شعباً وقوات مسلحة مثالاً جديراً بأن يحتذي للمشاركة الفعلية والاندماج الصحيح الذي يفرضه كوننا شعباً واحداً ضمن حدود بلدنا وضمن حدود وطننا الكبير وتفرضه وحدة الهدف والمصير .
... ثم إننا قد انتفضنا دائماً على المنطق السقيم والسياسة الهزيلة القائمة بوجوب إبقاء الفلسطينيين قيد خيامهم ومعسكراتهم وضمن أسلاكها الشائكة حيث تكون حقيقة القضية وحياتها دولياً مجرد قضية إغاثة وإعانة يقاس لها النجاح أو الفشل بالمقدار المتوفر منها سنة بعد سنة، وليكون البؤس والشقاء محتوى الصورة التعيسة التي يتناولها الخطباء في كلماتهم التقليدية في الأمم المتحدة كل عام للقيام باستجدائهم المستمر . نحن انتفضنا ضمن إمكانياتنا على سياسة أمانة شعب بأسره وأمانة معنوياته وإبقائه تحت رحمة ما ينال من(1/254)
فتات البطاقات التي لا تليق بكرامة إنسان ولا بكرامة شعب كشعبنا الذي ينتمي له مثل هذا الإنسان .
... فشعب يعيش على العدم ويقتات الفتات والفضلات تموت كرامته وتضيع قضيته معها . والقول بأن هذه التعاسة تولد الحقد وأن الحقد والجوع والجهل هي السبل المؤدية إلى النصر، هو منطق فارغ وحجة سقيمة . الشعب الذي ينتصر هو الشعب الذي يعيش كريماً في أرضه وأرض أهله وإخوانه ينمي ملكاته صحيحاً في جسده وذهنه وتفكيره ورزقه، فبقوته فقط يقوى حقه فيكسب الجولة وينال مناه .. الذئاب الجائعة تهاجم دون وعي أو تمييز ما يواجهها ولكنها أيضاً تأكل بعضها بعضاً ويمكن صدها والقضاء عليها . أما الإنسان الواعي المثقف المهيأ للمعركة سليماً في معتقده قوياً في صحته متحكماً في إرادته وتصرفاته قوياً في حقه فهو المنتصر أخيراً دون أدنى شك .. هذه كانت أهدافنا وستبقى في هذا البلد وسيبقى سبيلنا إلى النصر واضحاً لنا جميعاً أسرة واحدة مهاجرين وأنصاراً نمد أيدينا إلى كل يد عربية يحركها قلب عربي يؤمن بأن النصر لن يتم إلا من خلال إرادة عربية هادفة لا شرقية ولا غربية ولا صينية ولا ماركسية، وبتضحيات عربية شريفة على الطريق الطويل .
... فلسطين القضية كان يمكن قبل عام 1948 أن يقبل رأي البعض في أسلوب معالجتها تكتيكياً وليس واقعياً بأن تعتبر قضية أبناء فلسطين وحدهم باعتبارهم أصحابها وبيدهم حلها، وكان يمكن أن يقبل رأي البعض في أسلوب معالجتها عن طريق مد الفلسطينيين بكل ما يحتاجونه لخوض المعركة نظراً لحالة الضعف وفقدان التخطيط وانعدام التنظيم العربي بمستوى المعركة آنذاك، ولكن القضية قد زالت عنها صبغتها الفلسطينية المطلقة منذ اللحظة(1/255)
التي دخلت فيها الجيوش العربية أرض فلسطين . لو كانت فلسطين القضية قضية أبناء فلسطين وحدهم دون سواهم لما اصطدمت الثورة الكبرى بمخططات الصهيونية والاستعمار ولما كان قائدها الحسين بن علي أول ضحاياها وشهدائها، ولما تمزق الكيان العربي الواحد إلى دول متعددة عجزت عن أن تكون بمستوى المعركة فوقع ما وقع عام 1948 - - ومع هذا كله فقد استمر الكثيرون في عالمنا العربي وحتى يومنا هذا وعلى ما يبدو يؤثرون في وجه التحدي أن يعتبروا قضية فلسطين قضية أهلها وحدهم على ما في ذلك من خور وقصر نظر . وكنا نحن في هذا البلد قلب الوطن الكبير النابض ودرع الأمة المتين الواقي من مواجهة الخطر على الخط الطويل نشكل عقبة في وجه أصحاب هذه المدرسة ومن يدور في فلكهم، وسنظل نشكل عقبة لا في وجوههم فحسب وإنما في وجوه الكثيرين من المتاجرين بالقضية والمهرجين الذين تحركهم الأيدي الخفية والمخربين الذين كفروا بعروبتهم يوم اعتنقوا كل مبدأ هدام وفكر دخيل ووحدوا صفوفهم اليوم في العمالة للشيوعية الدولية ليطلوا اليوم جميعاً بوجوههم الكالحة وحقدهم الأسود ونواياهم الخبيثة من خلف أقنعة البطولة والحرص على القضية التي ارتدوها في غفلة من الزمان، فأوصلتهم فيما أوصلتهم حتى إلى منظمة التحرير ليهيمنوا عليها ويحاولوا من خلال ما كنا نأمله فيها ونريده لها جميعاً أن ينفذوا مخططاتهم الشريرة لنسف وحدة الصف العربي ووحدة الجهد العربي وكل ما بنيناه لفلسطين، وتمادوا حتى أنكروا على أبناء هذا البلد وهم الأكثرية الفلسطينية المطلقة حقهم وهم الذين صمدوا على أرضهم في وجه الخطر وتصدوا يواجهون التحدي أسرة واحدة، و أنكروا عليهم حقهم حق(1/256)
الأكثرية في منظمتهم منظمة التحرير وحاولوا أن ينصبوا من أنفسهم أوصياء علينا وعلى فلسطين وشعب فلسطين .
... ونحن في هذا البلد نؤمن إيماناً راسخاً أن وحدة الضفتين هي وحدة باركها الله وأيدها الشعب وهي نواة طليعية للوحدة الكبرى، وقد استطاعت هذه الوحدة الرائدة المقدسة أن تحمي بقايا أشلاء الوطن السليب لتصبح منطلق خطة الحشد، ويصبح جيشنا الرابض في خنادقه هو جيش التحرير .. جيش فلسطين .. وأيدينا ممدودة لكل عربي وفلسطيني في وطننا الكبير ليلتقي معنا على درب البناء والواجب ونحن أصحاب قضية لا نقدم على عمل إلا إذا وجدناه يتفق ومصلحتها .. وكل دعوة للازدواجية أو لتقطيع أوصال هذه الوحدة وتفتيت عراها،هي دعوة لا يقصد بها وجه الله .. ( وكل يد تمتد إلى هذه الوحدة، إلى هذا البلد الواحد المناضل بسوء سنقطعها، وكل عين تنظر إلينا شزراً سنفقؤها، ولن نتهاون أو نتساهل قيد أنملة بعد الآن .
... وعجبي لأناس يتعشقون البطولات المسرحية، كيف تفوتهم هذه البداهة، فيجهلون أو يتجاهلون أن خطة الحشد ليست خطباً رنانة ومظاهر زائفة، بل هي تعب وعرق وتقشف وعمل صامت دؤوب .
... نحن في هذا البلد نؤمن أن بداية انقسام العرب فيما بينهم وفي معاركهم الجانبية أكثر وأكثر سوف يجعل وطنهم الكبير مسرحاً لمعارك عنيفة لا يفيدون منها بقدر ما تفيد القوى الدولية المتقابلة المشتبكة في معركة مصيرية هائلة .. ونؤمن أن الأيديولوجية الماركسية تستهدف التسلل إلى بلادنا، عن طريق النزوات العاطفية والدعاوي العاطلة من كل قيمة صحيحة.. وهي أيديولوجية تتعارض مع معتقداتنا وموروثاتنا ومقوماتنا الروحية فوق أن الأحزاب العميلة لها في المنطقة تدعو بصراحة ووقاحة،(1/257)
إلى الصلح مع إسرائيل على أساس طمس قوميتنا وإلغاء ديننا والاستعاضة عنها بشعار الأخوة الشيوعية .. لقد كانت هذه المنطقة الاستراتيجية الهامة بحكم موقعها هدفاً تطمع روسيا القيصرية بالاستيلاء عليه وبقيت هدفاً للشيوعية بشقيها السوفياتي والصيني لما فيها من مصادر بترولية إذا أمسكت بها أمسكت بخناق القوى التي تقابلها، ولكونها منطقة تشقها خطوط مواصلات ذات أهمية استراتيجية كبرى إلى أنحاء العالم المختلفة، ولكونها تشكل جسراً لو تمكنت الشيوعية من أن تعبره فإنها عندئذ تكون قد وصلت واتصلت بأفريقيا وتكون عندئذ قد خطت خطوة هائلة نحو بلشفة العالم والسيطرة عليه، نحن نعلم والألم يحز في نفوسنا أن هناك ثغرات كثيرة رغم الانتكاسات التي واجهتها الشيوعية في ديارنا يمكنها استغلالها وهي تستغلها فعلاً وفي طليعتها الخلافات العربية الجانبية وضعف بعض الأنظمة في بعض أجزاء وطننا إلى درجة جعلتها تترامى في أحضان المعسكر الشيوعي طلباً للبقاء، ولو كان هذا على حساب مستقبل الأمة ومصيرها . ونحن نعلم أن عدم الاستقرار من العوامل التي تشجع على نمو الشيوعية حيث تتسلل من خلال الضعف والفقر وفقدان الأمل إلى أهدافها، ونحن نعرف أن السلاح السوفياتي الذي أغرق المنطقة أو أي سلاح من أي مصدر آخر لن يكون سلاحاً عربياً إلا عندما تحمله أيد عربية أصيلة تأبى أن تكون مطية لأية قوى خارجية، وقلوب عربية تعز عليها معتقداتها ومقوماتها فترفض أن تستبدلها بكل مستورد غريب، نحن نرفض وسنقاوم حتى الموت بكل ضراوة أي تسلل إلى هذه المنطقة، أينما كان وكائناً ما كان شكله ولبوسه، ولن تكون انتفاضة العرب هذا القرن وثورتهم انتفاضة الموت ما دمنا أحياء .. ثم أننا نرفض أن نكون من السذاجة بحيث يستغفلنا هذا القبيل أو ذاك أو يجعلنا نعتقد(1/258)
أن الاتحاد السوفياتي أو الصين الشيوعية حليفتانا الوحيدتان الراغبتان مخلصتين إحداهما أو كلاهما في تمكيننا من إنهاء قضية فلسطين لصالحنا .. إن وجود القضية وبقاءها هكذا كان وسيبقى وسيلة مثالية تستغلها هذه القوى للتسلل إلى المنطقة بأسرها . نحن نؤمن أن الثغرات لن تسد في وجه كل القوى الطامعة إلا من خلال الإرادة العربية الواعية المؤمنة التي تستطيع أن تجند كل الطاقات العربية وتستخدم كل الأسلحة لخدمة المصلحة العربية القومية العليا دون سواها . نحن نرحب بالتعاون مع السوفييت ومع كل دولة في هذا العالم عندما تدرك كل دولة أننا عرب نعتز بعروبتنا نحترم من يحترمنا ونعادي من يعادينا نملك امرنا ونتعامل من مركز قوة لا ضعف . إن استمرار الخلافات ووجود الثغرات ستنقل بلادنا أكثر وأكثر نحو المعترك العالمي الكبير وسنكون نحن الخاسرين عندئذ أولاً وأخيراً . وأما بالنسبة لفلسطين فلا بد من اعتبار العالم أجمع ميدان معركة بين حقنا وباطل أعدائنا ميداناً لا ننسحب من أي جزء منه لمجرد أن إسرائيل دخلته أو احتلته، ميداناً نقابل فيه الصهيونية أينما كانت وحيثما وجدت حتى ننتصر .
... إننا نعتقد أن لا شيء يحد من غلواء الدعوة الشيوعية الهدامة وسواها كالتمسك بشعائر ديننا الحنيف التي تناسب كل زمان ومكان والتي وضعت أنسب الحلول العملية لإقامة المجتمع السليم .. ولهذا فكل دعوة مخلصة إلى لقاء إسلامي وحل للمشاكل القائمة بين بعض الدول العربية والإسلامية يؤدي إلى تضامن إسلامي يحف بالتضامن العربي يجب أن تدرس دراسة واعية بناءة بغية تلاقي الدول، والشعوب الإسلامية على كلمة سواء بينهما، تؤمن بالله وتأمر بالمعروف وتنتهى عن المنكر وتستمد من مبادئها الروحية سنداً يحميها من المد الإلحادي والأخطار مع مناشدة تلك الدول والشعوب الأخذ(1/259)
بناصر القضايا العربية على ضوء الأخوة الإسلامية، خاصة قضية فلسطين، وبتر كل علاقة لبعضها بإسرائيل .. وتحقيق ذلك متيسر وممكن لو عاملنا هذه الدول بما نحب أن تعاملنا به واحترمناها وقدرنا ظروفها بمثل ما نرغب في أن تحترمنا وتقدر ظروفنا، ونصرناها بمثل ما نتوقع أن تنتصر لنا ولحقنا ولقضيتنا الواحدة المتمثلة في الأخوة الإسلامية التي تفرضها ما بيننا من صلات روحية وما للإسلام من مقدسات في هذه الأرض التي ندافع عنها ونكافح لتبقى لنا وللمسلمين في هذا العالم.
... إن الهجوم على بعض الدول الإسلامية التي تقف في مواجهة القوى الشيوعية مباشرة لا يخدم المصلحة العربية بقدر ما يخدم أهداف الشيوعية . وأي مصلحة عربية تتحقق لو انهارت دولة من هذه الدول أو أكثر وأصبحنا ذات يوم لنجد الشيوعية بقواها ومخططاتها لبلشفة العالم التي يتضاءل بالمقارنة بها الخطر الصهيوني ذاته على أبواب وطننا العربي . وكيف ترى يصح في عقل أو منطق أو خلق أو ضمير أن تهاجم كل دعوة إلى الاعتصام بحبل الله وإعلاء راية الدين وإلى التعاطف بين المسلمين ؟ أم لعل تردي وتهافت المبادئ المستوردة يجعلها ترتعد أمام جبروت العقيدة السمحة والدين الحنيف فتحاول أن تخنق أي صوت يدوي بالحق أو يعارضها وتكتم أنفاسه بشتى الأساليب .. وما التلاقي الإسلامي إلا جزء من حملة روحية تسود العالم اليوم وترمي إلى مقابلة لا أخلاقية الإلحاد .. ولا أخلاقية الظلم والاستبداد، وكل مؤمن بالله مدعو إلى الانضواء تحت رايتها والمساهمة في حرب مقدسة مفروضة عليه تعيد إلى البشر اطمئنانهم الروحي وسمتهم الخلقي في نطاق مخافة الله وشرف الضمير .(1/260)
... إن ألف جيش تحرير لن يتمكن إذا انهارت القمة وانهار التعاون العربي أن يملأ الفراغ في حين نعلم نحن جيداً أن كل فلسطيني عربي مخلص يضمه جيش التحرير أو أي تنظيم فلسطيني سيلتقي بنا وينضم إلى صفوفنا لنعمل معاً في ظل القمة والتعاون العربي وخدمة للمصلحة القومية العربية العليا ومصلحة القضية الفلسطينية التي لا تنفصل عنها إن عاجلاً أو آجلاً . أما إذا انهارت القمة وانهار التعاون فسنكون على شفا هاوية وستفرض علينا جميعاً معارك هائلة لن يكون فيها خاسر إلا العرب والعروبة إجمالاً، وإن كان هذا الشعب في الوطن الكبير يملك من الخصائص ما قد يمكنه من الصمود والبقاء في خاتمة المطاف .
... أما إذا فرضت علينا المعركة فإننا نقسم بالعزيز القدير لنخوضها بضراوة لن يعرف لها الوجود مثيلاً وخلفنا ألف وثلاثمائة وستة وثمانون عاماً حافلة بقوافل شهدائنا مستعذبين الموت على أن نعيش نهاية أمة ننتمي إليها .
... إن من المؤلم حقاً أن نسمع من هنا وهناك من يطعن مؤتمرات القمة ويخذل المسيرة القومية، وكأنما القضية شارة يصطنعها بعض القادة العرب للتزيين بها حتى إذا لم تشبع أنانيتهم ضربوا بها عرض الحائط، وتنكروا للوعود والعهود كأنما هي تسلية هينة ولعبة حمقاء .
... إن جوابنا على هذا الانهيار في التفكير والقول والعمل، أن نهتف في وجوه هؤلاء السادة : اتقوا الله فيما تفعلون .. إن القضية أخطر مما تصوره لكم أوهامكم، والتاريخ لا يرحم وإذا لم تلفظكم شعوبكم فإن الأجيال العربية القادمة ستصب على رؤوسكم بما فرطتم، أبشع اللعنات .(1/261)
... ولقد دعونا قبل أيام بإخلاص وصدق وحمية إلى وحدة الصف ونبذ التخالف والاستئناس بالتجارب الماضيات، وتمكين خطة الحشد ودعم مقررات القمة .. وأننا لنرجو ونأمل أن تصل هذه الدعوة إلى كل زاوية في الوطن العربي، وأننا ندعو الله أن يوفقنا على أية حال لنكون دائماً جند أمتنا وجند الحق " هنا انتهى خطاب الملك حسين .
... ألقى الملك حسين خطابه هذا، والطلاب والطالبات، يعجبون .. لماذا اتخذهم الملك حسين مطية في ذلك اليوم حتى يقول ما يريد أن يقول .. وقد وجم الحضور لهذا الخطاب التائه، في تيه الباطل والضلال ؛ حتى أن أشد المعجبين بشباب الملك ومغامراته، قالوا إن الملك خانه التوفيق ..
... واستمع الشعب إلى الإذاعة الأردنية، وهي تعيد خطاب الملك حسين، وسط هتافات خافتة تنبعث من الصفوف الخلفية في قاعة الاجتماع .. وأصيبت جماهير الشعب بالدهشة والذهول .. وتواترت التساؤلات في كل مكان .. لم هذا الهجوم على الاتحاد السوفييتي والصين، وهما الصديقان الباقيان لنا في هذه الدنيا ؛ ولم الثناء على المعسكر الغربي، وهو الذي يضم أعداءنا ولا أعداء لنا سواه .. ولم التصدي لمنظمة التحرير، ورئيسها الذي وقف طويلاً على أعتاب الملك، وبذل ماء وجهه بين يديه وهو يناشده التعاون مع منظمة التحرير ؟؟
... وبدأت جماهير الشعب عند الأمسيات تدير مفتاح الراديو على إذاعة منظمة التحرير .. لتسمع ماذا ستقول المنظمة ورئيسها رداً على تلك الحملة الظالمة ..(1/262)
... وقضيت يوماً بكامله وأنا أفكر .. ماذا أصنع .. هل أتكلم أم أصمت.. وعزمت أن أتكلم فإن هذا الهجوم الكاسح الذي شنه الملك حسين على الأمة وقادتها، وعلى الشعب الفلسطيني ومنظمته، لا يصح معه السكوت .
... ثم قضيت يوماً آخر، وأنا أكتب خطاباً أنبش فيه حفائر التاريخ .. فلم يعد بعد مجال للمجاملة .. ولقد بدأ الملك حسين المعركة وليس لنا أن نهرب منها .
وبدأت إذاعة المنظمة، في (17 حزيران 1966) تذيع في نشراتها الثلاث تنبيهاً إلى الشعب بأن (رئيس المنظمة سيلقي خطاباً يرد فيه على خطاب الملك حسين الذي ألقاه في عجلون).
... وفي مساء ذلك اليوم، كما أخبرني سفير القاهرة في عمان، خلت الشوارع من المارة في كل أنحاء البلاد، وأقفل الناس حوانيتهم في موعد مبكر، وغدا الشعب كله وراء الجدران في منازلهم ومخيماتهم إلى جوار أجهزة الراديو، ينتظرون موعد إلقاء الخطاب .. وكان الملك حسين، في قصره، يداعب جهاز الراديو، مع المنتظرين ليسمع ما سيقوله ( الشقيري، العميل الشيوعي، المأجور، الغوغائي ..).
... وفي الموعد المحدد ذهبت إلى إذاعة منظمة التحرير الفلسطينية في القاهرة، وألقيت خطاباً، كنت فيه مثل قصاص الأثر، أتابع الملك حسين في خطابه فقرة فقرة، ما خلا الاستهلال المعروف (بسم الله الرحمن الرحيم ) فإنه لا معقب لكلمات الله ..
... وهنا كذلك، وجدت أن تعريف الجماهير العربية المعاصرة والمقبلة، بأسباب الكارثة، تفرض علي أن أنتزع خطابي من ملفاتي وأضمه إلى مذكراتي، لتكون الصورة في وجهيها بارزة واضحة .. وخاصة أن خطابي(1/263)
تناول القضية العربية والظروف التي تكتنفها، وأشار إلى موقف الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية، وأوجز السياسة الهاشمية من عهد الحسين الكبير إلى حسين الصغير ..و .. و.. و ...
... وهذا هو الخطاب للتاريخ وللتاريخ فقط :
... ((أيها الأخوة المواطنون ..
... كان يوم الثلاثاء الماضي يوماً رائعاً حقاً، يوماً مجيداً لأنه كان يوم الخريجين في عجلون .
... ((والمنظمة تعتبر الخريجين أبناءها، وتعتبر عجلون بلدها، والأهل أهلها، فكل مواطن في الأردن هو عضو طبيعي في المنظمة، وكل بلد في الأردن هو بلد المنظمة، والشعب كله في الأردن هو شعب المنظمة .
... ((كل شيء في ذلك اليوم كان رائعاً ومجيداً، إلا الملك حسين وخطاب الملك حسين. فقد كان خطاب الملك حسين، دون مستوى الخريجين، دون المستوى بكثير، في كثير من القضايا التي عالجها . فقد تحدث الملك حسين عن القومية العربية، عن الدين الإسلامي، عن الشيوعية، عن الاتحاد السوفياتي، عن الصين الشعبية، عن الحلف الإسلامي، عن منظمة التحرير، عن مؤتمر القمة ؛ وتحدث أخيراً عن خطر أنصاف المتعلمين .
... ((وقد أثبت خطاب الملك حسين خطر أنصاف المتعلمين ؛ فالمواطن، أي مواطن، إذا كان من أنصاف المتعلمين فإنه خطر على الوطن بلا ريب وخطر على الأمة بلا ريب، ولكن إذا كان الملك، أي ملك، هو من أنصاف المتعلمين فذلك هو الخطر كل الخطر على الشعب وعلى الأمة .
... ((ولقد لقي هذا الخطاب، خطاب الملك حسين، استياء عاماً لدى الشعب الفلسطيني كله، ولدى الأمة العربية بأسرها .(1/264)
... ((الشعب في الأردن، كل الشعب، ناقم ساخط على خطاب الملك حسين ؛ المواطنون جميعاً في الضفة الشرقية وفي الضفة الغربية أجمعوا على استنكار خطاب الملك حسين .
... ((الجيش الأردني ضباطه الشجعان وجنوده البواسل، كلهم غاضبون، كلهم ناقمون على خطاب الملك حسين . إخواننا في المدن وفي القرى، في المخيمات وفي الخطوط الأمامية جميعاً غاضبون، وجميعاً ناقمون .
... ((ولكن الذي يبتهج لخطاب الملك حسين إسرائيل وإذاعة إسرائيل، بريطانيا وإذاعة بريطانيا، وأمريكا وإذاعة أمريكا ؛ فهنيئاً للملك حسين بإسرائيل، وهنيئاً للملك ببريطانيا، و هنيئاً للملك حسين بأمريكا ؛ ونحن نقدم هذه التهنئة للملك حسين بقلوب حزينة لأننا لا نريد لأي ملك عربي، ولا لأي زعيم أن يحشر نفسه في معسكر إسرائيل وفي معسكر الاستعمار ؛ ولكن حسين اختار أن يكون في معسكر إسرائيل وفي معسكر الاستعمار فهنيئاً له ما اختار، ويا شر ما اختار !!
... ((أيها الأخوة المواطنون : لقد كنت حريصاً على الدوام أن لا أقحم الملك حسين في أي خلاف بين المنظمة والأردن ؛ بل كنت حريصاً على الدوام أن أجامل الملك حسين، وأن أذكره بالثناء والتقدير، كما كنت حريصاً على الدوام أن أزيل مخاوف الملك حسين وما أكثر مخاوفه، وأن أزيل هواجس الملك حسين وما أكثر هواجسه، وأن أملأ قلبه بالطمأنينة، ولم يكن في قلبه مكان للطمأنينة .
... ((أعلنت مائة مرة ومرة أننا لا نريد أن نتدخل في الكيان الأردني ..(1/265)
... أعلنت مائة مرة ومرة أننا لا نريد أن نسلخ الضفة الغربية من الشرقية .
... أعلنت مائة مرة ومرة أننا لا نريد أن نقيم حكومة فلسطين لا في الوطن ولا في المحجر .
... أعلنت مائة مرة ومرة أننا لا نفرق بين المواطنين من الضفة الشرقية أو من الضفة الغربية .
... (( ولقد وضعنا في ميثاقنا الوطني مادة صريحة أننا لا نريد أن نمارس سيادة إقليمية على الضفة الغربية ؛ ولقد ضجت الطائرات وأنا أسافر إلى عمان ذهاباً وإياباً، لأزيل مخاوف الملك حسين وهواجس الملك حسين . ولقد اتهمت غير مرة من شبابنا المتحمس، أنني أسلمت المنظمة للملك حسين، وأن المنظمة لم تعد فلسطينية، وإنما أصبحت أردنية تابعة للملك حسين ..
... ((ويوم تم توقيع الاتفاقية مع الأردن، واتهمت المنظمة بالتقصير، وبالتقصير الشديد ؛ ويوم تقرر وقف الحملات الإذاعية بين المنظمة والأردن، كاد العاملون في الإذاعة، في إذاعة منظمة التحرير : المذيعون والكتاب والمحررون والسعاة والحجاب، كاد هؤلاء جميعاً أن يضربوا عن العمل احتجاجاً على هذه الهدنة ؛ ويوم رفض الملك حسين مقابلتي في عمان كتمت الخبر وما سمحت بنشره .
... ((لقد لقيت هذا وغير هذا، من العنت والإرهاق، الذي طال اصطبارنا ؛ لقيت هذا وغير هذا طمعاً في أن يسير الملك حسين مع منظمة التحرير بكل إخلاص وبكل أمانة لننسى الماضي القريب الحزين، ونعيش حاضرنا مع الملك حسين، ومن أجل مستقبلنا مع التحرير، بل إنني كنت(1/266)
أطمع أن يصبح الملك حسين محرراً عظيماً، لا ملكاً له في التاريخ سطر واحد أو كلمة واحدة . كانت هذه آمالي في الملك حسين ؛ أو كانت هذه، إن شئتم، سذاجتي في التفكير، بالنسبة للملك حسين ؛
... ((الملك حسين في خطابه في عجلون يشكو من المعارك الجانبية، ولكنه أباح لنفسه أن يفتح هذه المعركة الجانبية مع المنظمة، مع شعب فلسطين، بل مع الأمة العربية جمعاء .. ونحن وإن كانت تحزننا هذه المعركة الجانبية، إلا أننا نعرف نتيجتها، نعرف مصيرها، إنها ستكون انتصاراً للمنظمة، انتصاراً للشعب، وهزيمة للملك حسين ومن هم وراء الملك حسين ( أقول هزيمة للملك حسين ولمن هم وراء الملك حسين، لا ظلماً ولا بهتاناً، ولكن لأن خطاب الملك حسين يوم الثلاثاء الماضي في عجلون لم يكن مصادفة في توقيته، بل لقد كان كجزء من حملة أمريكية مركزة، حملة أمريكية مركزة على القضية العربية، حملة أمريكية على قضية فلسطين، حملة أمريكية على منظمة التحرير وعلى جيش التحرير .
... ((في أوائل هذا الشهر خطب روبرت همفري نائب رئيس الولايات المتحدة مندداً بالقضية العربية فحمل على شعب فلسطين، وعلى قضية فلسطين ؛ وقال إن منظمة التحرير هي خطر على إسرائيل .. ثم جاء بعده السناتور الأمريكي الصهيوني غاربنشتين وقدم اقتراحاً بإلغاء وكالة الإغاثة ودفع الأموال رأساً إلى الدول المضيفة ؛ وجاء بعد ذلك ماكلوفسكي المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الأمريكية وطالب بقطع الإغاثة عن الفلسطينيين الذين ينضمون إلى جيش التحرير الفلسطيني ؛ وجاء بعد ذلك كنيدي الصغير شقيق كنيدي القتيل يحمل على القضية العربية، يحمل على شعب فلسطين وعلى منظمة التحرير وعلى جيش التحرير .(1/267)
... ((وفي يوم الثلاثاء منذ ثلاثة أيام وقف الملك حسين في عجلون يخطب ضد القومية العربية، ضد قضية فلسطين، ضد شعب فلسطين، ضد منظمة التحرير وضد جيش التحرير .. وحين يترجم هذا الخطاب، خطاب الملك حسين إلى اللغة الإنكليزية، أو إلى اللغة الأمريكية يبدو تماماً أن هذا ليس خطاباً عربياً، وإنما هو خطاب أمريكي على لسان ملك عربي، فبئس الخطاب وبئس الذي خطب .
... ((أيها الأخوة المواطنون : لست أقول هذا الكلام جزافاً، ولكني أقوله عن روية وعن تفكير ؛ لقد قرأت خطاب الملك حسين ثلاث مرات، ثم استمعت لتسجيل كامل له حتى تصدق أذناي ما قرأته عيناي ؛ وليت أحداً في بسمان يبحث عن الملك حسين اليوم يوم الجمعة ؛ وأحسب الآن أنه في العقبة حسب عادته في يوم الجمعة ؛ ليت أحداً في بسمان يبحث عنه حتى يستمع إلى جوابي كما استمعت إلى خطابه .
... ((لقد تحدث الملك حسين عن القومية العربية فأبدع وأجاد، وقد حسبت وأنا أستمع إليه أنه طالب يخطب في مباراة خطابية ؛ الصوت فيه نبرة قوية، والعبارات جميلة فيها سجع وإيقاع ؛ دعا الملك حسين إلى أن تكون القومية العربية في إطارها الديني، ( القومية العربية في إطارها الديني) هذا ما دعا إليه الملك حسين في عجلون، تحدث طويلاً عن الدين الحنيف، عن القيم الروحية الأخلاقية، عن الشريعة السمحاء وآدابها ؛ ثم حض على الاعتصام بحبل الدين، وإعلاء راية الدين والتعاطف بين المسلمين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
... ((كل هذه هي عبارات الملك حسين ؛ ولا أحسب عربياً يخالفه في هذه الدعوة، ولكن نريد أن نتساءل أين موضع الملك ( المعظم ) ؟ أين(1/268)
موضع الملك المعظم من هذه الدعوة العظيمة ؟ أين موقع الملك حسين من الشريعة السمحاء، من الدين الحنيف، من القيم الروحية التي أمر بها الدين الحنيف ؟ أين، أين ؟
... ((نحن في المنظمة لا نتعرض للشئون الشخصية لأي ملك، لأي رئيس، نحن لا نتعرض لسلوك الملك حسين في ليله ونهاره، في عقبته وفي بسمانه، في سره وفي علانيته ؛ ولكن إذا كان الملك حسين يتحدث بإسهاب عن الدين الحنيف، فمن حقنا نحن الشعب أن نسأله عن مكانه من الدين الحنيف ..
... ((سيدنا عمر قال : ( من رأى منكم في اعوجاجاً فليقومه ) .. ولما قال له أحد المسلمين والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بحد السيف . أجابه عمر : ( أحمد الله أن جعل في المسلمين من يقوم اعوجاج عمر بسيفه ) . هذه هي القيم الروحية .. هذا هو تراث الإسلام، هذه هي مبادئ الإسلام التي يتحدث عنها طويلاً الملك حسين من وراء المذياع وفي خطبته في عجلون ؛ فهل لنا نحن الشعب أن نسأل الملك المعظم الداعي إلى الإسلام : كم مرة صلى الجمعة في المسجد الأقصى منذ تولى الملك ؟ جماهير المسلمين في الأردن تؤم المسجد الأقصى لصلاة الجمعة، إخواننا القرويون من حول مدينة القدس يؤمون القدس مشياً على أقدامهم .. والكثيرون من مدننا وقرانا بفلسطين يجهزون أنفسهم ليوم الجمعة لأداء صلاة الجمعة في المسجد الأقصى ؛ إخواننا السوريون في دمشق يركبون السيارات كل جمعة إلى القدس للصلاة في أول القبلتين وثالث الحرمين ؛ فهل صلى معهم الملك المعظم مرة واحدة ؟ هل صلى ملك الشعب مع الشعب ؟.(1/269)
... ((وفي أسفاره الكثيرة إلى باريس، إلى لندن، إلى أمريكا، هل خطر في بال الملك حسين مرة واحدة أن يصلي في مساجدها حتى ترى الدول الغربية أن الملك حسين قائم بشعائر الإسلام التي جاء ليدعو إليها أخيراً، وفي خطابه في عجلون .
... ((إن رؤساء الدول الغربية جميعاً : الملكة اليزابيث، ديجول، أديناور، جونسون، جميع هؤلاء وفي مناسبات متعددة يذهبون إلى الكنيسة يوم الأحد، فهل خطر على بال الملك حسين أن يذهب إلى المسجد في باريس حتى يسر المسلمون : إخواننا المغاربة، الجزائريون، المراكشيون، التوانسة، المصريون، والعرب المسلمون الموجودون كلهم في باريس، حتى يسروا بلقاء الملك حسين يسجد لله في بيت الله، خاضعاً، خاشعاً ؛ وحتى يرى الشعب الفرنسي رجاله ونساؤه أن مليكنا الشاب الذي يدعو إلى الإسلام في عجلون يعرف حق الله في باريس ؟ ولا يذهب به الشيطان إلى غير طاعة الله .
... ((لقد دعوت الملك حسين أن يقتدي برؤساء الدول الغربية لا لأنني أريد هذا .. أبداً .. لا أريد لعربي أن يتخذ من رؤساء الدول الغربية قدوة أو أسوة .. ولكن حسين هو الذي أراد لنفسه هذا .. هو الذي أراد أن يكون رؤساء الغرب له قدوة وله أسوة ... قال في خطابه في عجلون : ( أنه ينتمي إلى أسرة الأحرار في العالم ) ؛ من هي هذه الأسر التي ينتمي إليها ؟ ومن هم أولئك الأحرار الذين ينتمي إليهم الملك حسين ..؟ أسرة أحرار العالم .. نريد من الملك حسين أن يدلنا عليها .. إن أسرته من أحرار العالم، هم رؤساء الدول الغربية، هؤلاء هم أسرته ؛ ألا بئست الأسرة، وبئس ما كانوا يفعلون .(1/270)
... ((وليس للملك حسين أن يغضب من هذه المصارحة، هذه هي القيم الروحية الإسلامية التي سنها الإسلام، والإسلام ليس خطباً رنانة، ولكنه شعائر تؤدى، وواجبات يحاسب عليها القافلون حساباً عسيراً .
... ((ولقد كان الملك حسين فصيحاً وبليغاً في حديثه عن الإسلام، ومن حقنا أن نحاسبه، بل من حقنا أن نناقشه، وأن نبحث عن مكانه الصحيح من الإسلام الصحيح .
... ((وقد مضى الملك حسين في خطابه يندد بالإلحاد، ويدعو إلى التمسك بأهداب الدين، ولا أحسب عربياً، مسلماً كان أو مسيحياً، يحالف الملك حسين في هذه الدعوة ؛ ولكن ما مناسبة هذه الدعوة، ما مناسبة هذا الكلام في هذه الأيام ؟ الأمة العربية أمة متدينة، متمسكة بعقيدتها، والإسلام بخير في الأمة العربية، والأمة العربية بخير في إسلامها ؛ وليس في الوطن العربي إلحاد ولا دعوة إلى الإلحاد ؛ الشعوب العربية مؤمنة كل الإيمان ؛ الشعوب مؤمنة في الوطن العربي بأسره ؛ وإذا كان الملك حسين يقصد بدعوته التلميح إلى الاشتراكية، فإن الاشتراكية كنهج وأسلوب تهدف إلى العدل، والعدل روح الإسلام ؛ وقبل يومين في اجتماع شعبي كبير في البحيرة قدم محافظها المصحف الشريف الكريم إلى الرئيس جمال عبد الناصر، ومثل هذا يحدث في دمشق وفي بغداد وفي الجزائر وغيرها من الحواضر العربية ؛ فعلام هذا النواح على الإسلام ؛ وعلام هذا العويل على حضارة الإسلام ؛ الإسلام بخير، ولكن الملك ليس بخير .
... ((الملك حسين يدعو من وراء هذا الكلام إلى حرب مقدسة ضد الاتحاد السوفييتي وضد الصين الشعبية .. الحرب المقدسة كلام ورد في خطاب الملك حسين وليس هذا كلامي، إن شعب فلسطين ومعه الأمة(1/271)
العربية، لا تدين بالشيوعية ولا تريد أن تدين بالشيوعية ؛ إن الأمة العربية لها دينها وتقاليدها ولها حضارتها وتعتز بها، ولكن الدعوة إلى حرب مقدسة ضد الاتحاد السوفييتي وضد الصين الشعبية هو كلام دالاس الراقدة عظامه تحت تراب الولايات المتحدة، وزير الخارجية الأمريكية الذي دعا إلى حرب صليبية ضد روسيا وضد الصين ؛ وهكذا يبدو جلياً، مرة ثانية، أن خطاب الملك حسين لو ترجم إلى لغة دالاس لبدا أنه خطاب أمريكي بلسان ملك عربي .
... ((والملك حسين المعظم يرتكب خطأ أعظم ؛ إنه يقارن بين خطر الشيوعية وخطر الصهيونية فيقول في خطابه، وهذا كلامه : ( إن خطر الصهيونية يتضاءل حين يتقارن بخطر الشيوعية ) ، إن منظمة التحرير نعلم جيداً أن للدول، جميع الدول، لها مطامعها وخططها .. ولسنا نريد أن نكون تبعاً للدول الشيوعية ؛ لسنا تبعاً للمشرق أو للمغرب ؛ ولكن الشيوعية بالنسبة لنا، كائناً ما كان ضررها أو خطرها، فإنها خطر محتمل وقوعه، ولكن الصهيونية خطر قائم، خطر واقع، فكيف يجوز للملك حسين أن يجعل الصهيونية أقل خطراً من الشيوعية ؟ إن الشيوعية على أسوأ حالاتها تفرض نظاماً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وكفى ؛ ولكنها تبقي الشعب في وطنه، وتبقي الوطن للشعب .. أما الصهيونية فقد طردت الشعب ؛ الصهيونية اغتصبت الوطن، فكيف يجرؤ الملك حسين على هذه المقارنة الغاشمة ؛ المقارنة الفاضحة الظالمة ؛ هذا هو الإلحاد .. الإلحاد القومي من غير شك ولا ريب .. وقد وقع الملك حسين في الإلحاد الذي يندد به، فكان ملحداً في مقارنته بين الشيوعية وبين الصهيونية .(1/272)
... ((وانطلاقاً من الحملة على روسيا راح الملك حسين يقول : ( إن الأسلحة السوفياتية قد أغرقت المنطقة . هذا كلام الملك حسين كما جاء في خطابه، وليس كلامي ؛ وإنها لكارثة عقلية ووجدانية أن يتحدث الملك حسين بهذا المنطق ؛ وأقولها مرة ثانية : لو ترجم هذا الكلام إلى اللغة العبرية لكان منطقاً إسرائيلياً تماماً ؛ هذا هو كلام إسرائيل، وهذا هو كلام أمريكا مع إسرائيل ؛ وما فتئت إسرائيل تقول بملء صوتها أن الأسلحة السوفييتية قد أغرقت المنطقة . الأسلحة السوفييتية هي في أيدي جيوش عربية، جيوش ثورية، وراءها شعوب عربية ثورية ودول عربية ثورية : الجمهورية العربية المتحدة، وسوريا، والعراق، والجزائر ... ماذا يريد الملك حسين من وراء هذا الكلام عن الأسلحة السوفييتية في المنطقة ؟ بل ماذا يكون حال الأردن، حال الأردن بالذات، بدون الأسلحة السوفييتية في القاهرة ودمشق وبغداد وفي الجزائر، ؟ على الملك حسين أن يجيب على هذه الأسئلة بشجاعة، أمام الشعب، فإن الشعب يعرف كيف يحاسبه .
... ((ولقد كانت لنا تجربة مريرة في حرب فلسطين عام 1948 . الدول الغربية منعت عنا السلاح والذخيرة وقطع الغيار ؛ الدول الغربية ترفض أن تسلح الدول العربية إلا بشروط وبشروط ثقيلة في الأعناق، وعلى أساس التوازن مع إسرائيل ؛ فهل نضع أنفسنا مرة ثانية، هل نضع شرفنا مرة ثانية، هل نضع مصيرنا مرة ثانية، تحت رحمة السلاح من بريطانيا ومن أمريكا ؟ إذا كان الملك حسين لا يستطيع أن يشكر .. فلماذا يكفر ؟ .
... ((ولكن الملك حسين له أسباب كثيرة يكره من أجلها السلاح السوفييتي، إن الملك حسين يكره السلاح السوفييتي لا لأن الأمر يتصل بالدين، أو يتصل بالعقيدة أو بالإلحاد .. إن الأمر يتصل بالمال .. إن السلاح(1/273)
الغربي يكلف خمسة أضعاف ثمن السلاح الشرقي، وبهذا يكون القومسيون من السلاح الغربي أكبر وأكبر، والسلاح السوفييتي على كل حال ليس عليه قومسيون أو سمسرة، لا للوسطاء ولا للسماسرة، حتى ولو كانوا ملوكاً أو أشباه الملوك .
... ((الملك حسين لا يكتفي بالحملة على روسيا والصين .. ولكنه يمضي إلى أبعد من هذا، الملك حسين يبرئ الاستعمار الغربي وقد تعجبون من هذا.. الملك حسين يدافع عن الاستعمار الغربي، وقد تعجبون من هذا، ولكن حسين في خطابه يقول وأنا أقتبس كلماته : (إنها لدعوة فارغة أن نعتبر الاستعمار وراء ما حل بنا من نكبات) وإني أعوذ بالله أن يقول ملك عربي بل إنسان عربي، بل إنسان منصف في هذا الوجود، مثل هذا القول الغاشم الآثم ؛ إن الذين كتبوا هذا الخطاب للملك حسين قد أساؤا إليه وإلى العروبة وإلى التاريخ .. وكيف يرضى الملك نفسه أن يقرأ هذا الخطاب، أليس هو الاستعمار هو السبب المباشر في نكبة فلسطين ؟ أليس الاستعمار هو أس الداء ورأس البلاء ؟ إن الذي يدافع عن الاستعمار ليس له مكانة في الأمة العربية، وليس جديراً بشرف الإقامة بين ظهرانيها أو الانتساب إليها .
... ((ويتحدث الملك حسين بعد ذلك عن الوحدة العربية، حديثاً جميلاً كريماً ؛ يقول في خطابه : ( يجب أن نبذل في سبيل تحقيقها أقصى جهدنا وغاية طاقاتنا ) . والحديث عن الوحدة العربية إذا كان الشاعر مبدعاً، أو الخطيب مصقعاً، صفقنا له، لأن الشاعر والخطيب لا يملك إلا أن يتمنى بنثره ويتمنى بشعره، وليثير أحاسيسنا لتحقيق ما يتمنى ؛ ولكن الملك يوم يتحدث عن الوحدة ؛ ولكن حسين حين يتحدث عن الوحدة العربية ويدعو إلى أن نبذل في سبيل تحقيقها قصارى جهدنا وغاية طاقاتنا، يجب أن نحاسبه،(1/274)
ويجب أن نطالبه ؛ وها نحن الآن في ساحة الطلب وفي ساعة الحساب ؛ وعلى حسين أن يقف أمام الشعب يؤدي الحساب .
... ((الأردن أيها الأخوة المواطنون، أكثر الأقطار العربية حاجة إلى الوحدة العربية . إذا كانت الوحدة العربية ضرورة قومية في المغرب، فهي للأردن تحرير ؛ والأردن ليست له مقومات الدولة وهو يعيش عالة على الولايات المتحدة .. ويحزننا هذا، ويفجعنا أن يكون قطر عربي ودولة عربية تعيش منة على الولايات المتحدة ؛ لكن هذه هي الواقعة، تركة الكارثة : كارثة فلسطين . الأردن له حدود طويلة مع العدو، 650 كيلومتراً مع إسرائيل ؛ والشعب في الأردن والجيش في الأردن على شجاعتهما لا يملكون وسائل الدفاع فضلاً عن الهجوم .. فإذا تخلت الدول العربية كلها عن الوحدة العربية فليس للأردن أن يتخلى عنها، لأن الوحدة للأردن هي دفاع وهجوم، هي إنقاذ وتحرير، هي بقاء أو فناء .. على ميمنة الأردن سوريا، وفيها شعب أكبر ولها جيش أكبر وحدودها مع العدو 75 كيلومتراً، لا 650 كيلومتراً كما هو الحال بين الأردن وإسرائيل ؛ وخلف الأردن العراق، فيه شعب أكبر، فيه جيش أكبر، فيه موارد أكبر، فإذا الملك حسين جاداً في الكلام عن الوحدة العربية فما عليه إلا أن يعلن الوحدة مع العراق أو سوريا أو كليهما ؛ وأنا هنا لا أذكر الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة لأني حريص على أن لا يغمى على الملك حسين، ونحن نذكر الجمهورية العربية المتحدة .
... ((يقول الملك حسين في خطابه : إن قضية فلسطين هي قضيتنا الأولى . فإذا كان هذا الكلام صحيحاً فإن الوحدة هي الطريق إلى التحرير ؛ إن العقبة أمام هذه الوحدة هي إنسان واحد، إنسان واحد فقط، اسمه الملك(1/275)
حسين . العقبة هي العرش، وعلى الملك حسين أن يختار بين العرش والوحدة، بين العرش والتحرير . بين العرش وفلسطين، إذا كان الملك حسين صادقاً في خطابه فعليه أن يختار فلسطين، أن يختار الوحدة، أن يختار التحرير ؛ فإن فعل ذلك .. ونحن نرجو أن يفعل ذلك، كان صادقاً في خطابه ونزل في التاريخ كأعظم مواطن في المشرق العربي . ولكنه إن لم يفعل كان من حق الأمة العربية أن تحسب الملك في حديثه عن فلسطين، في خطابه عن الوحدة، إنما هو في عداد خطبائها الصغار ؛ وكفى الله المؤمنين هؤلاء الصغار .
... ((أقول هذا لأن الملك حسين في خطابه يعلن أن تحرير فلسطين ليس خطباً رنانة ؛ رحم الله عبد السلام عارف ؛ في مؤتمر الإسكندرية مؤتمر القمة العربي الثاني، عبد السلام عارف رأى الملك حسين يسحب خطاباً من جيبه ليقرأه، فصاح : يا أخي ما جئنا هنا لنخطب؟
... ومع هذا فإن الملك حسين مازال يخطب .
... ((وبعد الحديث عن الوحدة العربية يمضي الملك حسين، إلى تأييد الجامعة العربية ووجودها، ويدعو إلى دعمها وتأييدها ؛ وطبيعي أن الملك حسين يريد من الجامعة العربية ما يحلو له منها . الجامعة العربية تجمد الأوضاع العربية القائمة ؛ فلم لا يدعم الملك حسين الجامعة العربية ؟ الجامعة العربية قراراتها غير نافذة إلا لمن يرضاها، فلم لا يدعم الملك حسين الجامعة العربية ؟ من أجل هذا فإن الملك حسين يمجد الجامعة، ولكنه لا يتقيد بها إلا فيما يحلو له أن يتقيد به .
... ((لست أريد أن أعود بالذاكرة بعيداً وبعيداً .. إلى قرار صدر في الجامعة العربية سنة 1950 ؛ ذلك القرار الذي يعلن عدم الموافقة على ضم(1/276)
الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية واعتبار فلسطين وديعة في المملكة الأردنية ؛ فذلك حديث قديم وقديم، لا أريد أن أعود إليه ؛ ولكن الأمر الحادث الحديث أن الجامعة العربية أرادت أن تعقد مؤتمراً لإجهزة فلسطين في القدس في هذا الشهر ؛ إن في ذلك تعزيزاً للأردن ولقضية فلسطين ؛ وإذا جاز للسودان مثلاً أن يعتذر عن عقد هذا الاجتماع لسبب أو غير سبب، فلا يجوز للأردن أن يعتذر كائنة ما كانت الأسباب ؛ يجب أن تفتح عمان وأن تفتح القدس لهذا الاجتماع ؛ الملك حسين يقول أن قضية فلسطين هي قضيتنا، فكيف يجوز أن يعتذر الأردن عن هذا الاجتماع العربي بل الاجتماع الفلسطيني على أرض فلسطين ومع شعب فلسطين . صحيح أن قضية فلسطين هي قضية الأردن، ولكن على صعيد الشعب الشجاع، على صعيد الجيش الباسل ؛ أما على صعيد الملك حسين ومن حول الملك حسين فهي قضية خطب رنانة، وسلام ملكي يعزف من حين إلى حين، وأقواس نصر تقام هنا وهناك، وليكن بعد ذلك ما يكون .
... ((ولسنا نقول هذا الكلام جزافاً، فإن قضية فلسطين عند الملك حسين ليست إلا خطاباً عابراً ؛ لو أن قضية فلسطين هي عنده قضية حياة أو موت، كما قال في خطابه، فمن حقنا أن نسأله عن موقفه من الحبيب بورقيبة .. الحبيب بورقيبة دعا إلى التعايش السلمي، إلى التفاوض مع إسرائيل .. وأول ما دعا حينما كان في الأردن، وعلى أرض الأردن، وعلى مسمع من مليك الأردن ؛ فماذا كان موقف الملك حسين ؟ الملك حسين منع المظاهرات الشعبية، منع إرسال البرقيات إلى المنظمة لاستنكار موقف بورقيبة .. لقد غضب شعبنا في الأردن، وكان من حقه أن يغضب على بورقيبة وهو يدلي بتلك التصريحات الآثمة الخائنة على أرضنا وعلى مسمع من شعبنا، ولكن(1/277)
ملك الأردن لم يغضب مع الشعب ؛ فالشعب في واد والملك في واد، وشتان بين مشرق ومغرب .
... ((ولكن الملك حسين قد هوى إلى الحضيض، بل إلى قاع الحضيض.. حين يتحدث عن القمة – عن مؤتمرات القمة، إنه حديث عن القمة ولكن من حضيض إلى الحضيض، لقد شكا الملك من الهجوم على مؤتمرات القمة ... وقد يلوح أنه كان يبكي ؛ الصحيح أنه كان يتباكى على مؤتمرات القمة، لقد قال : إن نسف مؤتمر القمة هو نكسة كبرى، وأن مؤتمر القمة يجب أن يكون قمة فعلاً .
... ((ونحن نرفض هذا الكلام من الملك حسين، ولو قاله فلسطيني أو عربي يحس القضية العربية من ضميره وأعماقه، والنكبة إلى قراراتها، لقبلنا منه هذا الكلام ؛ ولكننا نرفضه من الملك حسين ؛ ليس المهم أن الملك حسين كان أول من استجاب لدعوة الرئيس عبد الناصر، حيثما دعا إلى مؤتمر القمة ؛ ليس المهم أنه أول من استجاب، لكن المهم أن نعرف سلوك الملك حسين، تصرفات الملك حسين تجاه مؤتمر القمة .
... ((الملك حسين يشكو من محاولة نسف مؤتمرات القمة، ولكن الملك حسين هو أول من طعن، وهو أول من خالف قرارات مؤتمر القمة ؛ منذ كانت القمة، والملك حسين يخطب عن مؤتمرات القمة، بمناسبة أو غير مناسبة، يتمسح بأعتاب مؤتمر القمة ويتبارك بخيرات مؤتمر القمة، وينعم بأموال مؤتمر القمة ؛ ولكن لا يقوم بمسئوليات القمة، ولا بواجبات القمة ؛ الملك حسين كذلك يتمسح بالقيادة العربية الموحدة في كل تصريح ؛ في كل خطاب نسمع الملك حسين وهو يقول : نحن ملتزمون بخطة القيادة العربية(1/278)
المتحدة حتى كأنه يبدو لنا إذا قلنا للملك حسين صباح الخير قد يفكر أن لا يرد علينا التحية، لأن صباح الخير لم ترد في خطة القيادة العربية الموحدة!!
... والواقع أن الملك حسين هو أول من خالف مؤتمر القمة، وأول من خالف القيادة العربية الموحدة ؛ ودعوني أقلها لكم بصراحة، لأن الأمر لم يعد سراً، الخطة العربية الموضوعة كانت تقضي بأن تدخل القوات السعودية والعراقية إلى داخل الحدود الأردنية، ولكن الملك حسين رفض قرار القمة ؛ رفض قرار القيادة الموحدة ؛ ولو أن القوات السعودية والعراقية كانت متمركزة في الأردن إلى جانب الجيش الأردني الباسل بجنوده الشجعان، بضباطه الأبطال، لو أن القوات العراقية والسعودية كانت متمركزة في داخل الأردن، ما جرؤت إسرائيل أن تضرب قرية رافات في الشهر الأخير، وتلقي إلى أطفالنا الشيكلاته الحلوة وهي أمر من العلقم في الهزؤ والسخرية!!
... ((بل إنه ما كان لإسرائيل أن تجرؤ على ضرب القرى الأمامية ؛ لو كانت القرى الأمامية مسلحة، ما كان لإسرائيل أن تعبر خط الهدنة 10860 مرة ؛ وهذا رقم الحكومة الأردنية وليس من أرقام المنظمة ولا من أرقام الصحف العربية أو الأجنبية ؛ والمسئولون عن الهدنة في عمان صرحوا أخيراً بأن إسرائيل منذ وقعت اتفاقية الهدنة خرقت خط الهدنة 10860 مرة ؛ لو كان التجنيد الإجباري معمولاً به على جميع المواطنين لهب الشعب يرد هذا الخرق لاتفاقية الهدنة، على مسمع وعلى بصر من الأمم المتحدة ومن العالم بأسره .
... ((إن القيادة العربية الموحدة منذ أنشئت، وهي تلح على الملك حسين أن يطبق التجنيد الإجباري، ولكن من غير جدوى . القيادة العربية الموحدة، إلى الفجر، في ليال متعاقبة في عمان، تلح على المسئولين في الأردن أن(1/279)
يطبقوا التجنيد الإجباري في الأردن .... على الميمنة الأردنية نرى الجمهورية العربية المتحدة تطبق التجنيد الإجباري، وعلى الميسرة نرى الجيش السوري يطبق التجنيد الإجباري، وأمامكم العدو الإسرائيلي يطبق التجنيد الإجباري، 26 شهراً للشباب وللرجال، و20 شهراً للمرأة والفتاة الإسرائيلية ؛ ومع هذا فإن الملك حسين في كل مناسبة وفي غير مناسبة يخطب بأعلى صوته مطالباً بالتزام خطة القيادة العربية الموحدة، والملك حسين بعد ذلك لا يلتزم بالقيادة الموحدة ؛ ليست خطط القيادة العربية خطباً فارغة ؛ القيادة العربية شرف الالتزام لأن شرف التحرير يدعو إلى شرف الالتزام .. إذا كان الملك حسين عامراً قلبه بالتحرير فأقل واجباته القومية أن يلتزم بخطة القيادة العربية بتطبيق التجنيد الإجباري على جميع المواطنين في الأردن، على الشعب في الأردن بأسره .
... ((والملك حسين يقفز بعد ذلك من التاريخ الحديث إلى التاريخ القديم ؛ الملك حسين في خطابه تحدث عن الثورة العربية الكبرى وصلتها بقضية فلسطين ؛ إن الثورة العربية الكبرى فيها جوانب مشرفة، مشرفة في غاياتها وفي دوافعها، وفي من سقط فيها من الشهداء من أبناء فلسطين وسوريا ولبنان والعراق وغيرها من البلدان العربية ؛ ولكن الثورة العربية الكبرى فيها جانب مظلم، جانب مظلم جداً، هو الشريف حسين، شريف مكة، وإنني لا أحمل حسين الصغير أوزار حسين الكبير، فلا تزر وازرة وزر أخرى .. وحسين الكبير – على غير ما قال حسين الصغير – ليس أول شهدائها ولا أول ضحاياها كما يقول في خطابه في عجلون، على العكس.... إن قضية فلسطين، إن الوحدة العربية، هي أول ضحايا حسين الكبير .(1/280)
... ((إن الشريف حسين قد اشترك في الثورة التي أشعل نارها الشباب العربي في فلسطين وسوريا ولبنان والعراق وغيرها من البلاد العربية .. لكن الشريف حسين اشترك فيها لا من أجل الأمة العربية، ولكن من أجل الملك، ومن أجل العرش، ومن أجل التاج ؛ وكان الملك كل همه ؛ لقد دخل في مراسلات مع مكماهون الذي كان هنا في القاهرة في الحرب العالمية الأولى، دخل معه في مراسلات لمدة أشهر والشريف حسين يتساءل عن حدود مملكته، لا عن حدود الوطن العربي الذي يجب أن يحرر ؛ وكانت الصهيونية معروفة يومئذ بكل أخطارها .. الحديث عن الصهيونية كان في أوربا كلها، وكان في الدول العثمانية، كان في البرلمان العثماني، وأولاد الشريف حسين كانوا نواباً عن الحجاز في البرلمان العثماني، واستمعوا إلى نواب القدس ... الخالدي والحسيني وغيرهم من نواب فلسطين في مجلس المبعوثان ن يذكرون خطر الصهيونية ؛ فالشريف حسين كان يعلم خطرها وكان يعلم بمكرها وأطماعها في فلسطين .. كانت بينه وبين إنجلترا ثماني رسائل : أربع من الشريف حسين وافدة إلى القاهرة . وأربع من مكماهون عائدة من القاهرة إلى مكة بشأن الحدود، ولكن الشريف حسين لم يكلف قلمه مرة واحدة، أن يكتب مرة واحدة، كلمة واحدة، في هذه الرسائل الثماني، كلمة فلسطين . لم يطالب مرة واحدة أن تكون فلسطين داخلة ضمن حدود الاستقلال .. وعلى العكس من ذلك فبعد أربعة أشهر من تاريخ صدور وعد بلفور كتب الشريف حسين وفي جريدته المسماة (القبلة) التي كانت تصدر في مكة، كتب بتاريخ 23آذار سنة 1918 مقالاً يدعو فيه السكان العرب في فلسطين إلى أن ( يضعوا نصب أعينهم أن كتبهم المقدسة وتقاليدهم تحتم عليهم واجب الكرم والضيافة والتسامح، ويحثهم على الترحيب باليهود(1/281)
كأخوة، وعلى التعاون معهم من أجل الخير المشترك) . هذا ما كتبه الشريف حسين بعد وعد بلفور ببضعة أشهر . لذا كان حسين الصغير لا يعرف أين ورد هذا الكلام فإن منظمة التحرير الفلسطينية مستعدة أن تعلمه، وهي تفعل ذلك كجزء من واجب التوعية في القضية الفلسطينية .
... ((ثم أن فيصل .. فيصل بن الشريف حسين، بأمر من والده اجتمع بالدكتور وايزمن في الصحراء في خيمة، هي خيمة فيصل بن الحسين شريف مكة، اجتمع به في شهر حزيران سنة 1918 بعد تصريح بلفور ؛ ولم يكن فيصل يجهل تصريح بلفور ؛ وفيصل كان على علم بأخطار الصهيونية، كان نائباً في الأستانة وهو يستمع إلى النقاش العربي حول خطر الصهيونية ؛ اجتمع وايزمن وفيصل في الصحراء على بعد بضعة أميال شمال العقبة، العقبة عقبة الأردن، وهي العقبة التي لا يجهلها الملك حسين ؛ وقد نتج عن هذا الاجتماع بين وايزمن وفيصل اجتماع آخر في لندن عاصمة بريطانيا صاحبة وعد بلفور . اجتمع به في 4كانون الثاني سنة 1919 ؛ هناك التقى وايزمن وفيصل، وهناك كانت المساومة ؛ فيصل يريد الملك له ولإخوانه، يريد الملك لأبيه، يريد أن يعرف حدود هذا الملك وحدود هذه الدولة؛ كان فيصل يساوم زعيم الصهيونية، وهو يعرف قوة الصهيونية في أوربا يوم ذاك وقدرتها على أن تؤيد مطالب فيصل ؛ فكانت فلسطين هي البضاعة، وكانت فلسطين هي السلعة ؛ ووقع الاتفاق بين فيصل وبين وايزمن، وورد في المادة الثالثة من هذا الاتفاق قبول وعد بلفور، وقبول بتطبيقه في فلسطين . وبسبب هذه الاتفاقية، نحن الوفود العربية، قضيناها أياماً مريرة لثمانية عشر عاماً في الأمم المتحدة ؛ وكل مرة إسرائيل تقدم لنا هذه الاتفاقية، اتفاقية فيصل ووايزمن ؛ ووقع علينا العبء المرير أن ننفذ(1/282)
هذه الاتفاقية ؛ ولكن الحقيقة المريرة أن فيصل قد ارتضى بالمادة الثالثة من تلك الاتفاقية بقبول وعد بلفور وتطبيق وعد بلفور في فلسطين .. صحيح أنه ورد في ذيل هذا الكتاب أن هذه الاتفاقية تعتبر باطلة إذا لم تنفذ مطالب فيصل، يعني إذا لم تهيأ العروش والتيجان لأبناء الحسين، حينئذ تعتبر هذه الاتفاقية لاغية .. ولكن هنالك السم الزعاف قد تجرعه فيصل وأراد أن يجرعه إلى الشعب الفلسطيني وإلى الأمة العربية ؛ وما نزال حتى يومنا هذا نحمل هذه التركة الثقيلة على أكتافنا، التركة التي خلفها الحسين وخلفها أبناؤه، وخلفها فيصل في اتفاقيته مع وايزمن بالموافقة على وعد بلفور .
... ((هذا هو دور الشريف حسين في إنقاذ فلسطين .. ولم يكن الحسين هو الضحية ولكن فلسطين كانت الضحية .. صحيح أن الشريف حسين فيما بعد، اعتقل في قبرص، وأهين في قبرص ؛ ولكن هذا نتيجة غفلته في المفاوضات مع بريطانيا بمكرها ؛ فما استطاع الحسين أن يعرف خباياها، فكان اعتقاله في قبرص .. ومرة سيق إلى المحكمة، محكمة صغيرة في قبرص، وقاضاه صاحب البيت الذي يسكن فيه يطالبه بأجر البيت، وأبناء الحسين ملوك في الشرق العربي ؛ الملك علي في الحجاز، وفيصل في العراق، وعبد الله في الأردن، وأبناؤه ملوك، ووالدهم العجوز يتقاضى في قبرص على إيجار الدار التي يسكنها ؛ وإذا كان الأبناء على مثل هذا العقوق مع والدهم، فكيف يكون وفاؤهم للأمة العربية .
... ((أما الضحية الثانية للشريف حسين فقد كانت الوحدة العربية التي يخطب عنها الملك حسين . لقد كان المشرق العربي، في أيام الدولة العثمانية، من جبال طوروس شمالاً إلى اليمن جنوباً، بلاداً واحدة في السفر والإقامة وفي العمل، في كل مظاهر الحياة، وفي كل مظاهر الوجود ؛(1/283)
ولكن المطالبة بالعروش قد هدمت تلك الوحدة، فقامت إمارة فيصل في سوريا ثم انهارت، ثم قامت ملكية فيصل في العراق ووقعت تحت الانتداب، ثم قامت إمارة لعبد الله فيما بعد سمي شرقي الأردن وورثت نكبة فلسطين ؛ ثم قامت بعد ذلك مملكة في الحجاز لعلي بن الحسين ولكنها انهارت أيضاً، وهكذا، أقيمت هذه الدويلات في الوطن الواحد في المشرق العربي من أجل الحسين وأبناء الحسين، فيصل وعبدالله وعلي ؛ ثم يأتي اليوم الحسين الصغير ليتحدث عن الوحدة العربية، فليرجع إلى التاريخ إذا كان لا يعرف التاريخ، وإن كان لا يعرفه فالمنظمة مستعدة أن تعلمه تاريخ الوحدة العربية.
... ((ولا يكتفي الملك حسين بالحديث عن الثورة العربية، بل يتطرق إلى الحديث عن كارثة فلسطين في سنة 1948 ويتعرض فيها لشعب فلسطين، وقد عجبت كيف جرؤ الملك حسين أن يتحدث عن كارثة فلسطين سنة 1948 ؛ لقد تعرض لشعب فلسطين، ولكن شعب فلسطين لم يكن مسئولاً عن كارثة فلسطين، شعب فلسطين دافع عن وطنه بشجاعة، دافع عن وطنه ببسالة، ولكن الأمير عبدالله ابن شريف مكة كان من أهم أسباب هذه الكارثة .
... ((وما كنت أريد أن أتعرض للموتى، لأنهم في ذمة الله ؛ وشعب فلسطين شعب مروءة وشعب نخوة ؛ ونحن نضعف أمام الموتى في قبورهم، ونتركهم للحساب أمام الديان، ونتركهم للتاريخ ليحاسبهم ؛ وما كنت أريد أن أنكأ الجراح القديمة، ولا أن أرجع إلى جذور الكارثة، لولا أن الحفيد حسين هو الذي نبش التاريخ .. ونبش العظام، ونبش القبور فكان علينا أن نذكر له التاريخ الصحيح .(1/284)
... والتاريخ الصحيح هو أن الأمير عبدالله كان موافقاً على تقسيم فلسطين منذ عام 1937، حتى تكبر إمارته وتصبح مملكة .. الأمير عبدالله كان يريد أن يكون ملكاً، كان هذا الحلم يعيش في قلبه ويعيش في خياله ؛ كلما سمع بالملك فيصل ملكاً في العراق تحركت الغيرة في أعماقه، في قلبه ؛ كان الأمير عبدالله يريد أن يكون ملكاً ولو على أشلاء فلسطين ؛ يريد أن يكون ملكاً على المملكة الأردنية التي تضم أشلاء فلسطين .. ووصولاً لهذا الهدف كان الأمير عبدالله يتفاوض مع إنجلترا ويتفاوض مع اليهود على السواء ؛ ولما وقعت حرب فلسطين لم يدخلها للتحرير وإنما دخلها ليقتطع منها ما يقدر، ويضمها إلى الإمارة الأردنية ويجعلها المملكة الأردنية الهاشمية . وهكذا كان .
... ((ولقد اجتمع الأمير عبدالله بزعماء اليهود في أثناء حرب فلسطين وبعد حرب فلسطين .. اجتمع في الشونة، بين القدس وعمان، مع زعماء اليهود : قادة الوكالة اليهودية، شرتوك وجولدا مائير وعدد من الضباط الإسرائيليين ورجال السياسة الإسرائيليين ... هذه الحقائق تاريخية نزلت في التاريخ، فيها وثائق وفيها سجلات تاريخية ؛ وليست شائعات وليست أراجيف ولكنها حقائق أصيلة عميقة . لقد سلم الأمير عبدالله اللد والرملة إلى اليهود، وهذه حقائق تاريخية يشهد بها الألوف من اللاجئين من اللد والرملة، الرجال والنساء، الذين خرجوا من بيوتهم حفاة وعراة، لأن الأمير عبدالله سلم المدينتين العربيتين الكبيرتين : اللد والرملة .وبقي إلى الآن بضع مئات من إخواننا الفلسطينيين يعيشون في اللد والرملة يعذبون كل يوم، ويهانون كل يوم، ويضربون كل يوم ؛ ولا أدري إذا كان الأمير عبدالله في قبره يستمع إلى هذا العذاب، إلى هذا الهوان، الذي يلقاه أبناء فلسطين في اللد(1/285)
والرملة . وبعد اتفاقية رودس سلم الأمير عبدالله إلى اليهود المثلث العربي بقراه الجميلة، بأراضيه الخصبة، أخصب أراضي فلسطين ؛ سلمهما الأمير عبدالله ويشهد عليها كل ضحايا النكبة، كل العائدين في الخيام، في عقبة جبر وغيرها من مخيمات الأردن، لم يكن شعب فلسطين سبب النكبة، لقد كان الأمير عبدالله هو سبب النكبة من أولها لآخرها .. وإننا خشوعاً أمام الله وأمام الديان نترك حسابه إلى الله .. إلى الله العلي القدير .
... ((هذه هي أسرار النكبة كما اقترفها الأمير عبدالله .. الأمير عبدالله كان جارنا، جار الفلسطينيين ؛ والأمير عبدالله عربي يعرف تقاليد الجوار، الجار يحسن الجوار، ولا يخفر ذمة الجوار، ولكن الأمير عبدالله قد أحسن جوار اليهود، ولم يحسن جوار إخوانه عرب فلسطين، الرجال والنساء، والشيوخ والأطفال، الذين شردوا من وطنهم ؛ ونزل بالأمة العربية هذا العار الكبير الذي لم تعرف الأمة العربية مثيلاً له في تاريخها الطويل ؛ يكمن وراء كل هذا إنسان اسمه الأمير عبد الله بن الحسين، وأنا لا أحمل الأوزار على الملك حسين ملك المملكة الأردنية الهاشمية، فلا تزر وازرة وزر أخرى، ولكني أريد من الملك حسين إذا تحدث عن التاريخ أن يرجع إلى التاريخ الصحيح، وأن يقول الحق ولو على آبائه، فهذه هي القيم الروحية الإسلامية التي يدعو إليها الملك حسين .
... ((غير أن خطاب الملك حسين في عجلون، يضع الملك حسين أمام أوزاره بالذات ؛ إن الملك حسين يريد أن يصفي قضية فلسطين، وهذا واضح في خطابه، وهذه كلماته : ( إنه منطق سقيم، وسياسة هزيلة، إبقاء الفلسطينيين قيد خيامهم ) . هذا هو كلام الملك حسين ؛ التوطين وراء هذا الكلام، التصفية وراء هذا الكلام، وخصوصاً فيما يدعو السناتور الصهيوني(1/286)
الأمريكي في واشنطن في مجلس الشيوخ، إلى إلغاء الوكالة، وإلى إعطاء أموالها للدول العربية المضيفة ؛ وحسين في عجلون يسرع في الجواب ليقول : ( إنها مهزلة ومنطق سقيم أن يبقى اللاجئون في الخيام ) ؛ والملك حسين يقول في خطابه : إن قضية فلسطين قد زالت عنها صفتها الفلسطينية المطلقة منذ اللحظة التي دخلت فيها الجيوش العربية عام 1948؛ هذا ما يقوله الملك حسين في زوال الصفة الفلسطينية عن القضية الفلسطينية. ولكن هذا الكلام هو كلام إسرائيل الذي حاربناه في الأمم المتحدة لمدة ثمانية عشر عاماً .
... ((جولدا ماير وزيرة خارجية إسرائيل، المرأة العجوز، ومن قبلها ابا ايبان الذي هو الآن نائب رئيس الوزراء، على مدى ثمانية عشر عاماً قالوا في الأمم المتحدة أنه لم تعد هنالك قضية اسمها فلسطين، فهنالك دولتان : إسرائيل في الغرب والأردن في الشرق ؛ فلسطين قسمت، والشعب الفلسطيني اندمج في الأردن، وكلمة فلسطين لم تعد موجودة على خريطة العالم بعد قيام إسرائيل .
... ((هذا هو كلام جولدا ماير، هذا كلام ايبان منذ 1947 . وهذا ما يقوله الملك حسين في عام 1966 من شهرنا هذا في عجلون . إن قضية فلسطين قد زالت عنها الصفة الفلسطينية.
... ((ثم يتحدث الملك حسين بعد ذلك عن وحدة الضفتين، وهذا الحديث أصبح ممجوجاً مملولاً ؛ إن أحداً في الأردن أو خارج الأردن، لا يتحدث في سره أو علنه عن وحدة الضفتين؛ ولكن الملك حسين يتحدث عن الضفتين ووحدة الصفتين من زاوية العرش، من زاوية التاج ؛ والمنظمة تتحدث من زاوية الشعب، زاوية الوطن، زاوية التحرير .. الملك حسين لا يعرف التاريخ وأن واجب المنظمة أن تعلمه التاريخ . هذا وطن واحد، وهذا شعب(1/287)
واحد، والأردن نهر من أنهار فلسطين، وإننا نقول أنه نهر تجاوزاً إذا قيس بالأنهار . فما هو إلا ساقية صغيرة ؛ الأرض أرضنا، والوطن وطننا، والشعب شعبنا، وأن أول من سلخ الضفة الشرقية عن الضفة الغربية هو الأمير عبدالله بن الحسين، لما أسس له الإنجليز إمارة أسموها شرقي الأردن، و (إمارة شرقي الأردن) لم يكن هذا الاسم معروفاً قبل ذلك في تاريخ العرب ولا في جغرافية العرب، وإذا كان الملك حسين يقول في خطابه في عجلون إن (كل يد تمتد إلى هذه الوحدة بسوء سنقطعها وكل عين تنظر إلينا شزراً سنفقؤها) ، فإن المنظمة ستقطع اليدين الاثنتين، وتفقأ العينين الاثنتين، لأن الوطن وطن المنظمة والشعب شعب المنظمة ؛ وعلى الملك حسين أن يعلم أن كل عين عربية تنظر إلى الأردن بالحب والتأييد ؛ ملايين العرب في الأمة العربية في الوطن العربي الكبير عيونهم ممدودة إلى الأردن وطناً وجيشاً وشعباً، بالحب والتأييد، والإعزاز والإكبار ؛ ولكن عيناً واحدة هي التي تنظر للأردن بشزر، ولكن يداً واحدة هي التي تمتد للأردن بالعدوان، هذه العين هي عين إسرائيل وحدها، هذه اليد هي يد إسرائيل وحدها، إن موشى ديان له عين واحدة فقئت، فليتفضل الحسين بأن يفقأ عينه الثانية، حتى يكون مع أبناء فلسطين : أم أن الحسين ( أسد علي وفي الحروب نعامة).
... ((ويتحدث الملك حسين طويلاً عن خطة الحشد في الأردن، بعبارات جميلة، مرصعة مزينة موشاة، فيقول عن هذه الخطة وأنا هنا أقتبس
كلماته : ( إن الخطة ليست مظاهر زائفة بل هي تعب وعرق وتقشف ) . هذا هو كلام الملك حسين عن التعب، وعن العرق وعن التقشف، كل هذا صحيح لا خلاف فيه، وفي الأردن تعب وفي الأردن عرق، وفي الأردن(1/288)
تقشف ؛ الشعب الباسل والجيش البطل هو الذي يتعب، هو الذي يعرق، هو الذي يتقشف ؛ القرى الأمامية، وسكان الخيام من شعبنا، هم الذين يتعبون، هم الذين يعرقون، هم الذين يتقشفون .
... ((ولكن هل الملك ومن حول الملك في تعب وفي تقشف وفي عرق ؟ سواء في بسمان أو في العقبة ؟ هل الأسفار إلى أوربا تعب وعرق ؟ هل الأموال التي تودع في بنوك أوربا عرق وتقشف ؟ هل هدايا الميلاد التي تنقل بالطائرات من لندن إلى عمان تعب وعرق ؟ هل أراضي الشعب التي تصادر في الغور وفي القدس وفي غيرها تعب وعرق ؟ هل ثروات الحشيش الكبرى تقشف وتعب وعرق، هل تجارة الأسلحة الرابحة تقشف وعرق وتعب ؟ إن أموال الملك، أموال الأمراء، إن أموال الشرفاء والشريفات من الأسرة الهاشمية، كافية لتحصين القرى الأمامية، كافية لإيواء الأيتام، كافية لتعليم أبناء الشهداء، كافية لتحسين أحوال العائدين من سكان الخيام، الذين يقول عنهم الملك حسين في خطابه إنهم ( ذئاب جائعة يأكل بعضهم بعضاً ) ؛ إن شعبنا ليس شعب ذئاب جائعة ولكنه ذئاب تفترس أعداءها حيثما كان أولئك الأعداء ..
... ((هذه الثروات كلها يجب أن تقدم للشعب، لأنها مال الشعب في أصله، سواء خرجت من مال الشعب في الأردن، أو في الأمة العربية . إن الشعب من حقه في الأردن أن يقول للملك والأمراء وللأشراف وللشريفات من أين لكم هذا ؛ ( من أين لكم هذا ) .. هذه المقولة الإسلامية الشهيرة ؛ الحسين يتحدث عن مآثر الإسلام، وعن القوى الروحية في الإسلام، وعن السلف الصالح في الإسلام، وهذه الصيحة المشهورة : ( من أين لك هذا ) ؟ ما أرادها قائلها أن تكون كلمة في التاريخ، ولكنه أرادها أن تكون حية في(1/289)
الأمة العربية، ويعمل بها ملوكها ورؤساؤها وأمراؤها، فمن أين لك هذا ؟ هذه صيحة الشعب إلى ملك الأردن، والأمراء في الأردن، والأشراف والشريفات في الأردن ؛ هذه الأموال التي خرجت من الشعب يجب أن تعود إلى الشعب إلى القرى الأمامية، إلى أبناء العائدين، إلى أبناء الشهداء، فأبناء الشعب أحق بأموال الشعب ؟
... ((وختام الحديث في خطاب الملك حسين كان إفكاً ولم يكن مسكاً ؛ كان عن منظمة التحرير الفلسطينية، منظمة الشعب الفلسطيني ورمز كفاحنا، وعنوان نضالنا ؛ يقول الملك حسين إنه كانت له اليد الطولى في بنائها ؛ أريد أن أكون منصفاً، لقد كانت له يد، وإن لم تكن طولى، كانت له يد في بنائها لأنه أرادها منظمة له، لأنه أرادها منظمة تابعة لعمان، تسير وفق هواه، وتسير وفق مشتهاه ؛ ولكن الشعب، شعب فلسطين، أراد منظمة التحرير أن تكون لنفسه، أن تكون منظمة فلسطينية لا تتبع عمان ولا ملك عمان ؛ منظمة التحرير الفلسطينية تتعاون مع كل ملك يتعاون معها، ولكنها لا تكون عميلاً لهذا الملك ولهذا الرئيس ؛ فمن تخلى عن المنظمة ملكاً كان أو رئيساً فالشعب يتخلى عنه، والأمة العربية تتخلى عنه .
... ((يقول الملك حسين في حديثه عن المنظمة، ( إنه لا أمل في التعامل معها ) .. ولقد قرر الملك حسين في خطابه في عجلون أن لا يتعامل مع المنظمة، وبالأمس ليلاً إذاعة عمان في تعليقها حول قرار الملك حسين تركت كل شيء في منظمة التحرير، وركزت على رئيس منظمة التحرير، وأعلنت إن رئيس المنظمة ينحرف بالمنظمة صوب الصين الشعبية، ينحرف بالمنظمة صوب الاتحاد السوفييتي، وان رئيس المنظمة يسير في عمله نحو تصفية القضية الفلسطينية، هذا هو تعليق عمان ؛(1/290)
وبوصفي رئيساً للمنظمة أقول للملك حسين أن يفتح استفتاء شعبياً في الأردن بضفتيه الشرقية والغربية، استفتاء حراً نزيهاً تحت إشراف الجامعة العربية، واطرح الثقة أمام الشعب ؛ رئيس المنظمة يقف وجهاً لوجه أمام الشعب ليسأل : إذا كان يقر سياسة المنظمة أو سياسة الملك حسين .. يقول الملك حسينإنه لا أمل في التعامل مع المنظمة، وأنا أشدد على كلمة ( تعامل المنظمة) لأني ضحكت طويلاً من هذا الكلام ؛ وشعب فلسطين في الأردن الذي شهد المنظمة منذ نشأتها إلى يومنا هذا لا بد أنه ضحك على هذا الكلام الذي يصدر عن الملك .. يقال إن كلام الملوك .. ملك الكلام .. لكن هذه المرة كلام الملك هو ضحك الكلام .. لأن هذا الكلام ليس إلا هزءاً بالمنطق، وليس إلا سخرية بالواقع ؛ الملك حسين يقول ( لا نريد أن أتعامل مع المنظمة) ، لكن متى تعامل الملك حسين مع المنظمة، حتى يوقف تعامله مع المنظمة ؟ الملك حسين لم يتعامل مع المنظمة يوماً واحداً، لم يتعامل مع المنظمة ساعة واحدة ؛ لقد كان يجامل المنظمة . لكنه لم يكن يعامل المنظمة، وشعب فلسطين لا يريد المجاملة ولكنه يريد المعاملة ؛ وأنا هنا دعوني أن أعلم الملك حسين شيئاً من الصرف والنحو ..
... ((إن كلمة تعامل في اللغة العربية، كما يعرف كل طالب في اللغة العربية، نحواً وصرفاً تدل على المشاركة، على وجود عمل مشترك ؛ فما هو العمل الذي اشتركنا فيه مع الملك حسين منذ أن قامت المنظمة إلى أن خطب الملك حسين في عجلون .
... الملك حسين منع المنظمة من التجنيد الإجباري .
... الملك حسين منع المنظمة من التنظيم الشعبي .(1/291)
... الملك حسين منع المنظمة من إنشاء كتائب جيش التحرير وإنشاء معسكرات الشباب والطلاب .
الملك حسين منع المنظمة من تحصيل ضريبة التحرير .
الملك حسين منع المنظمة من كل نشاط للمنظمة في الأردن .
الملك حسين منع تنفيذ الاتفاق الذي تم بين الأردن والمنظمة .
... ((والملك حسين حينما ذهب إليه رئيس المنظمة ليحدثه بشأن المعتقلين أقفل أبوابه في وجه رئيس المنظمة، ثم يقول الملك حسين في خطابه إنه يلتزم بقرارات مؤتمرات القمة، وأول قرار من مؤتمر القمة بشأن الكيان الفلسطيني يقول : إن منظمة التحرير الفلسطينية تمثل إرادة الشعب الفلسطيني في كفاحه، وعلى الدول العربية أن تسهل مهمة منظمة التحرير الفلسطينية ؛ فهل هذا تسهيل لمنظمة التحرير الفلسطينية أن يقفل الباب في وجه رئيس المنظمة ؛ لكن رئيس المنظمة لا يغضب، والشعب لا يغضب، إذا كان قد أقفل باب بسمان، فقد فتحت في وجه المنظمة كل الأبواب، ملايين الأبواب وملايين القلوب في الأمة العربية .. وشعب الأردن بالذات .
... ((إن المنظمة لا تجزع لهذا القرار الذي اتخذه الملك حسين أبداً ؛ نحن شعب لا نخاف ولا نهاب، ولا نجزع لهذا القرار .. الشعب سيتعامل مع المنظمة وهذا يكفينا، إذا كان الملك لا يتعامل معنا، يكفينا أن نتعامل مع الشعب والشعب يتعامل معنا ؛ إن المنظمة ستتعامل مع الجيش الأردني ويكفيها هذا، ولا نجزع إذا كان الملك حسين لا يتعامل معنا ؛ ويكفينا الشعب ويكفينا الجيش، حينما يتعاملان مع المنظمة وتتعامل المنظمة معهما ؛ ولا يضير شعب فلسطين أن يتخلى عنه الملك حسين والرئيس بورقيبة منفردين أو مجتمعين، لا يضيرنا هذا ؛ يستطيع الملك حسين أن يقفل مكاتب المنظمة(1/292)
في القدس وأن يعتقل رجالها في الأردن ؛ ولكننا مستعدون لأن نهاجر بقضيتنا ومنظمتنا إلى بلدنا وإلى وطننا في غزة، ولنا أسوة في هجرة الرسول العظيم من مكة إلى المدينة ؛ ولكننا سنعود إلى القدس كما عاد نبينا العظيم إلى مكة .
... ((يستطيع الملك حسين أن يمنع عنا مساهمة الحكومة الأردنية في ميزانية المنظمة، ولكن الأمة العربية قادرة على سد العجز وشعب فلسطين قادر على سد العجز وشعب فلسطين كثير المروءات وغني النجدات ؛ نحن غير مستعدين أن نبيع قضية فلسطين لقاء مساهمات مالية من الملك حسين والرئيس بورقيبة، فإن القضية في غنى عنهم وعن أموالهم، لأننا – والحمد لله – في غنى كبير بشعبنا وبالأمة العربية .
... ((لقد أراد الملك حسين أن ينصب نفسه وصياً على شعب فلسطين في الأردن وعلى حقوقه في المنظمة ؛ كان الملك حسين قبيل انعقاد المؤتمر الوطني في غزة، يحرض أبناء فلسطين في الأردن على أن يطالبوا بأن تكون لهم الأكثرية (الثلثان) في عضوية المجلس الوطني المنتخب ؛ ونحن لا نفرق بين فلسطيني في الأردن وفلسطيني خارج الأردن، إن نظام انتخاب المجلس الوطني عرض لمدة سنتين كاملتين في الصحف ؛ نشر في الإذاعة فلم يعترض عليه فلسطيني واحد في الأردن ولم تتلق منظمة التحرير الفلسطينية اعتراضا واحداً من أي فلسطيني حول هذه النسبة من الأردن أو من خارج الأردن ؛ لقد رضي إخواننا في الأردن أن يكون لهم في المجلس الوطني ستون نائباً، لأن النظام أعطى للفلسطينيين في السعودية، في العراق، في الكويت، في قطر، في ليبيا، في الجزائر وللمغتربين في المهاجر الأمريكية ثلاثة وعشرين مقعداً .. وهؤلاء كلهم من أبناء فلسطين في(1/293)
الأردن، منازلهم في الأردن، مزارعهم في الأردن، متاجرهم في الأردن، عائلاتهم في الأردن ؛ يعملون خارج الأردن ويعودون في إجازاتهم إلى مدنهم وإلى قراهم وإلى عائلاتهم ومزارعهم، وبهذا تكون حصة الفلسطينيين في الأردن 83 نائباً من أصل 140 نائباً، فهم الكثرة وهذه هي الكثرة الحقيقية، هذه هي الأرقام التي لا تكذب، وليست الخطب التي تكذب ؛ هذه أرقام ووقائع موجودة في نظام الانتخابات بالمجلس الوطني ؛ لكنا نريد أن نسأل الملك حسين : ما دخل الملك حسين في هذا الموضوع ؟ هذا موضوع يتعلق بأبناء فلسطين . وأبناء فلسطين ارتضوا لأنفسهم هذا التوزيع ؛ طرح الأمر على المجلس الوطني في اجتماعه الأخير في غزة ورضي بهذا التوزيع، فما شأن الملك حسين في هذا الأمر ؛ لم يتكلم عبد الناصر في هذه النسبة، فيما يتعلق بالفلسطينيين بقطاع غزة أو الفلسطينيين في الجمهورية العربية المتحدة ؛ وقد سمعت شكوى من بعض إخواننا الفلسطينيين في الجمهورية العربية بأن ثلاثة مقاعد قليلة لأن عددهم كبير ومن حقهم أن يكون عددهم أكثر من ثلاثة .. لم يشك الرئيس عبد الناصر ولم يتدخل في هذا الموضوع، لا هو ولا غيره ولا أي ملك ولا أي رئيس . ونريد أن نسأل : لم يتدخل الملك حسين ؟ هذه أمور داخلية تتعلق بمنظمة التحرير الفلسطينية، ليس للملك حسين ولا لأية دولة عربية ولا لأي رئيس أن يتدخل في الشئون الداخلية لمنظمة التحرير الفلسطينية؛إن شعب فلسطين يرفض وصاية الملك حسين، ويرفض وصاية أي ملك أو أي رئيس، وشعب فلسطين هو سيد أمره وصاحب مصيره ؛ ولكني أقولها صريحة للملك حسين : إذا كان يوافق على التجنيد الإجباري في الأردن، إذا كان حسين يوافق على إنشاء كتائب جيش التحرير في الأردن فإني مستعد أن أدعو اللجنة التنفيذية إلى اجتماع(1/294)
عاجل وأن أناشدها بكل قوتي أن تجعل أعضاء المجلس الوطني، كل أعضاء المجلس الوطني، من أبناء فلسطين في الأردن فإن فعل الملك فإنا فاعلون .
... ((لكن على الملك حسين قبل أن يتحدث عن حق الشعب الفلسطيني في المنظمة أن يذكر الإهانة الكبرى التي يوجهها إليهم، إلى شعب فلسطين، حين يقول إنهم أردنيون من أصل فلسطيني، إنهم أردنيون من وإنهم فلسطينيون على السواء لا فرق عندنا، ولكن ( أنهم من أصل فلسطيني ) فهذا كفر وطني وإلحاد قومي . بل إن الملك حسين قبل أن يتحدث عن أبناء فلسطين في الأردن، وحقوقهم في المنظمة أن يسأل نفسه عن حقوق أبناء فلسطين في الأردن، إن حقهم على الصعيد الشعبي قائم وكامل ؛ أبناء فلسطين في ضفتي الأردن على الصعيد الشعبي متمتعون بكافة حقوقهم . إنهم قائمون بكل واجباتهم مع إخوانهم في الضفة الشرقية ؛ نحن معهم إخوان، كرم ومروءات، وما أكرم إخواننا في الضفة الشرقية وما أكبر مروءاتهم ؛ ولكن على الصعيد الرسمي أين هي الأخوة ولا أقول أين هي الأكثرية والأقلية فالمنظمة ترفض التفريق بين المواطنين، أكثرية أو أقلية ؛ ولكن النظام، نظام الدولة، في الأردن، قائم على التفريق والتمييز بين المواطنين، كثرة وقلة ؛ فإذا كان هذا النظام شراً كل الشر على الصعيد الرسمي، يعزينا أنه على الصعيد الشعبي هو خير كل الخير، وأنعم وأكرم بإخواننا في الضفة الشرقية لأنهم كلهم خير كل الخير .
... ولي كلمة أخيرة أريد أن أقولها للملك حسين .
... ((إن شعب فلسطين شعب البطولات والبسالات، وقد تمرس في تاريخه الطويل بالكوارث والنكبات فلن يستطيع أحد أن يقهر إرادته أو يثنيه عن عزمه . لقد اتهم الملك حسين شعب فلسطين بأن فيه ( وجوهاً كالحة(1/295)
وقروحاً عفنة) فهذا الكلام الكالح والكلام العفن .، وشهد الله أن شعبنا شعب طهور زاده النضال الطويل طهراً ونوراً، وأن الوجوه الكالحة والقروح العفنة ليست إلا في أنسباء الملك حسين الذين كانوا سبب الكارثة واصل النكبة . أنسباءه من الإنجليز، ولا حاجة لمزيد من الإيضاح والتعريف ..
... إن قضية فلسطين قضية حق وعدل، وأن الله العلي القدير، لابد أن ينصر الحق وأن ينصر العدل، وأن منظمة التحرير باقية إلى يوم التحرير، باقية إلى يوم تقرير المصير . الملوك والرؤساء يروحون ويغدون .. الملوك والرؤساء يموتون أو يخلعون، ولكن الأمة العربية باقية، ولكن شعب فلسطين باق وخالد .
... ((هذا هو وحي العروبة، وهذا هو هدي الإسلام، ومن يضلل الله فما له من هاد .. صدق الله العظيم . )
... ولكن الأمر لم ينته عند هذا الحد، فقد مضى الشعب في الأردن يستمع ليلة بعد ليلة لخطابي مسجلاً .. فقد سجله عدد كبير من الأسر، وأصبحوا كلما تضايقوا من تصرفات الملك حسين في أي من الأمور، استمعوا إلى التسجيل، حتى أصبح الطلاب والشباب يحفظون عن ظهر قلب كثيراً من فقراته، وراح الصغار يلقونه بصوت صاحبه محاكاة وتقليداً !!
... وسكت الأعضاء .. فليس عند أحد إنجازات يذكرها .. فأصبحت الجلسات الأربع، على مدى ساعات طوال .. حديث رئيس المنظمة عن خطاب الملك حسين في عجلون .
... وكان يمثل الملك حسين في تلك الجلسات ممثله الخاص السيد سعد جمعة (رئيس الوزراء فيما بعد) فأراد بادئ ذي بدء أن يتجنب الخوض في(1/296)
الموضوع استناداً إلى خطاب (جلالته) ليس معه، وأنه لا يريد أن يتحدث من الذاكرة .
... فدفعت إليه صورة عن خطاب الملك حسين، وأنا أقول له : هذا هو خطاب الملك حسين، لا داعي لأن تستعين بذاكرتك .. وأنت على كل حال شاركت في كتابة هذا الخطاب؟!
... فعاد السيد سعد جمعة إلى حجة ثانية قائلاً : إن خطاب الملك يمكن أن يناقش أمام الملوك، ولنترك هذا الموضوع إلى مؤتمر القمة في الجزائر الذي سيعقد بعد بضعة أسابيع ..
... قلت : ليس لأي ملك أو رئيس حصانة بالنسبة للقضايا العربية وخاصة قضية فلسطين.. ولم تلتفت لجنة الممثلين إلى النقاط (القانونية) التي تذرع بها السيد سعد جمعة !!
... ومضيت أفند ما ورد في خطاب الملك الحسين، في شروح وإيضاحات، طبعت فيما بعد، في كراس مستقل، وبلغت مئة وخمسين صفحة .. وقد توسع النقاش بحيث تناول القضية العربية برمتها منذ عهد الشريف حسين الكبير، إلى أيام الملك حسين .. مستعرضاً موقف الملك عبدالله من القضية الفلسطينية .
... وفي الجلسة الأخيرة قدمت لكل عضو من أعضاء اللجنة ملفاً كاملاً يحتوي عشر صور زنكوغرافية تتضمن المراسلات التي تبودلت بين الملك عبدالله من جانب، وبن غورين، وغولدا مايير، وساسون، من الجانب الآخر .. مع تفصيل عن اللقاءات التي تمت بين الملك عبد الله وزعماء إسرائيل، في قصره في الشونة – الأردن – وكيف أن غولدا مايير دخلت(1/297)
إلى القصر، في إحدى زياراتها، من باب المطبخ، وفي ملابس سيدة مسلمة !!
... وكان السيد سعد جمعة (حكيماً) فقد اعتمد الإيجاز في إجابته، فلم يكن عنده ما يقوله رداً على الحجج والأسانيد الدامغة .. واقتصر كلامه على القول بأن (الشقيري من أتباع ماوتسي تونغ .. ونحن لا نلتفت إلى افتراءاته وتهجماته على سليل بيت النبوة، ووارث النهضة العربية) !!
... وكانت تلك الجلسات أشبه بمحكمة مجرمي الحرب في نورمبرغ، استعرضت فيها مواقف المملكة الأردنية، من أيام حسين الكبير إلى عهد حسين الصغير .
... أقدمت على ذلك العرض، بضمير مستريح وقلب مطمئن، غير خائف من دعوى الانتساب إلى بيت النبوة، وأنا متحصن بقوله تعالى
( إن أكرمكم عند الله أتقاكم )
صدق الله العظيم(1/298)
قطعنا شعرة معاوية..
عبد الناصر وأنا
... في مساء اليوم الثاني والعشرين من شهر تموز (يوليو) 1966، كنت في طريقي إلى ميدان الجمهورية في القاهرة لأشهد المؤتمر الشعبي الكبير لمناسبة العيد الرابع عشر للثورة المصرية .. وكانت حرارة الجو في ذلك اليوم في ثورة حقاً، وآمنت بالقول العامي المعروف في ديار الشام ..
( في تموز بتغلي المية بالكوز .. ).
... ولكن كان مقدراً لذلك اليوم أن تصل فيه الحرارة إلى درجة الانفجار، وأن يكون خطاب عبد الناصر في عيد الثورة قمة الانفجار، تشهد الأمة العربية في أعقابه النهاية والبداية .. النهاية لمؤتمرات القمة والبداية لمسيرة جديدة عاجلتها الأحداث بالضربات تلو الضربات حتى سقطت في أول الطريق .. على عتبات حرب الأيام الستة ..
... جلست على المنصة إلى جوار رؤساء الوفود وقد تقاطروا من كل أرجاء الوطن العربي .. وكان السرادق أمامنا مكتظاً بجماهير الشعب المصري، وأمامهم الوفود الشعبية العربية، تنبئ عنهم وجوههم، وهي تئن من وهج ذلك اليوم الأغبر الأغر .(1/299)
... وقعقعت الموتوسكلات مؤذنة بمقدم الرئيس عبد الناصر، فصعد إلى مكانه في المنصة، كالعهد به، وليس في وجهه ما ينم عن القذيفة التي يحملها بين طيات لسانه، ويتردد دويها في كل أرجاء الوطن العربي .
... وتكلم الدكتور عبد الرحمن البزاز رئيس وزراء العراق، وأعقبه السيد شريف بلقاسم نيابة عن مجلس الثورة الجزائري، فأشادا بالثورة المصرية وبقائدها .
... وكان من ضمن البرنامج أن أتكلم بعدهما .. غير أن مدير مكتب الرئيس اقترب مني وهمس في أذني وقال : سيادة الرئيس يريدك أن تتكلم في المؤتمر الشعبي في الإسكندرية في الثامن والعشرين، وسأرسل لك غداً مظروفاً خاصاً .. قلت .. حسناً، الخيرة فيما يختاره الله..
... ووقف الرئيس عبد الناصر، وفتح ملفه المعتاد، وبدا أن الخطاب
(سمين) ، ودخل في صلب موضوع الثورة وإنجازاتها، وأسهب في الحديث عن السد العالي، وعن التحول الاشتراكي، وعن الخطة الخمسية، وعن سائر المشاكل الاقتصادية والاجتماعية في مصر منتقلاً من موضوع إلى موضوع، مع الاستشهاد بالأرقام والإحصاءات ..
... وكان بجانبي السيد حسين مازق ممثل ليبيا آنذاك فقال : يظهر أن الرئيس سيقتصر خطابه على الشئون الداخلية .. وما أن فرغ من هذه الملاحظة حتى أعلن الرئيس .. ( أنتقل الآن إلى العمل العربي ) .. وأشرأبت الأعناق وتطاولت الآذان، وأحسب أن الملايين من الأمة العربية التي كانت تستمع إلى الخطاب في ذلك اليوم قد أمسكت بأنفاسها لترى ما سيقوله الرئيس عن العمل العربي .. يوم كان رجل الشارع يرى أن العمل العربي قد هوى إلى الحضيض .(1/300)
... وتحدث الرئيس عبد الناصر عن العمل العربي من أول بداياته فقال
( في آخر 1963 دعيت إلى مؤتمرات القمة لتوحيد العمل من أجل فلسطين لأن الدول العربية كانت متخلفة .. طبعاً كنا نعرف إنه فيه دول رجعية وفيه دول متحررة .. وكان رأيي أننا يجب أن ننساها .. ثم بعد هذا اجتمع مؤتمر الإسكندرية وبعده مؤتمر الدار البيضاء .. لقد هادنا الرجعية على أساس أنها تشترك في وحدة العمل من أجل فلسطين . ولكن هذه السنة بدأت حملات علينا .. انصرف خمسة مليون جنيه لمؤسسة أمريكية من السعودية بالذات علشان تعمل دعاية ضدنا توزعها في أمريكا .. وهذه الدعاية ما فيهاش ولا كلمة ضد إسرائيل، كل الكلام إلي فيها ضد الجمهورية العربية المتحدة .. أما راح الحجاج السعودية السنة دي توزعت منشورات ضدنا ..
... وانتقل الرئيس عبد الناصر بعد ذلك إلى الحلف الإسلامي فقال :
( الحلف الإسلامي موضوع مش جديد .. ده سنة 1957، أما سعود رجع من أمريكا قالوا له الأمريكان اعمل حلف إسلامي .. وجه سعود تكلم معانا، وايزنهاور كتب هذا الكلام في مذكراته .. الحلف الإسلامي موجة ضدنا وضد قوى الثورة في العالم العربي .. كلنا نعرف أن شاه إيران واقف في وجه رجال الدين في بلده، ويقضي أكثر أوقاته في أوربا .. وبورقيبة أدى فتوى بإفطار رمضان وأبطل الصوم ونادى بالصلح مع إسرائيل .. بورقيبة مهووس . هؤلاء هم القائمون بالمؤتمر الإسلامي من أجل وضع البلاد العربية داخل مناطق النفوذ .. نشوف موضوع السلاح .. إللي سلح إسرائيل هو اللي سلح السعودية .. فيه طبعاً في السعودية بعثة عسكرية أمريكية وفيه بعثة عسكرية إنجليزية .. أصبحت وحدة الرجعية العربية مع الاستعمار .. ).(1/301)
... وشخصت الأبصار إلى الرئيس عبد الناصر، وحتى الوفود الجالسون على المنصة لووا أعناقهم إليه، وهو يقول : إيه الجدوى إن إحنا نروح ونحضر المؤتمر، وده الجو .. حنروح نعقد اجتماع عربي ونقعد نقول لبعض إزيك سلامات وإزاي القمة ونشرب قهوة ونشرب شاي .. ومعنى هذا إن إحنا برأنا العناصر الرجعية براءة كاملة من التهم التي يدينهم بها الشعب العربي في كل مكان .. ).
... وإلى هذا الحد كان الرئيس عبد الناصر لا يقول جديداً، فذلك ما كانت تقوله الجماهير العربية ذلك العام بأجمعه .. ولكنه أخيراً جاء بالجديد، وتفجر السرادق بالهتاف والتأييد والتصفيق حين أعلن الرئيس عبد الناصر
( استقر رأينا على الآتي .. إحنا لا نستطيع أن نجلس مع هذه القوى الرجعية في مؤتمرات قمة قادمة .. إحنا الجمهورية العربية المتحدة لن نذهب إلى مؤتمر القمة القادم .. وحطلب من الجامعة العربية أن يؤجل مؤتمر القمة إلى أجل غير مسمى .. إذا أرادوا باقي الدول أن يعقدوا المؤتمر، يعقدوا المؤتمر ولكن لن نستطيع أبداً أن نحضر هذا المؤتمر والحال على ما هو عليه ) ..
... ألقى الرئيس عبد الناصر بهذه القنبلة، وكأنما ألقاها كل مواطن مصري وعربي شهد ذلك الاجتماع التاريخي .. فقد كان هذا ما تريده الجماهير العربية، لقد تقززت النفوس من مؤتمرات القمة، وعاف الناس الملوك والرؤساء، اجتمعوا أو لم يجتمعوا !!
... ولكن الرئيس عبد الناصر عاد وأمسك بشعرة معاوية بين يديه وهو يقول ( إذا رجعنا وشفنا إن فيه إمكانية وحصل كلام شرف واتفاقيات حقيقية على عدم الغدر كان بها يبقى فيه فرصة لعقد المؤتمر ..).(1/302)
... لكن الجماهير، لم تعد تؤمن بشعرة معاوية مع الملوك والرؤساء، فصاح الصائحون من السرادق .. ( كلام شرف.. ما فيه شرف عند الخونة).
... وأنهى الرئيس عبد الناصر خطابه وعاد إلى منزله في منشية البكري، لتهتز موجات الأثير، مع الإذاعات والتعليقات لا في العواصم العربية فحسب، ولكن في العالم بأسره من القطب في الشمال إلى القطب في الجنوب ..
... وقضيت ليلتي وأنا أسأل، وماذا بعد خطاب عبد الناصر .. وماذا سيكون مصيرنا نحن، منظمة التحرير الفلسطينية وجيش التحرير .. وأغمضت عيني على رأي لم أجد له بديلاً .. وعزمت أن نبدأ علاقات ثنائية مع الدول العربية، مع كل دولة بمفردها .. ونرجو أن نثير فيهم روح التنافس .. وعلى هذا الرأي نمت واسترحت ..
... وذهبت إلى مكتبي في اليوم التالي لأجد أحد رجال (الياوران) لرئاسة الجمهورية بانتظاري، ومعه مظروف كبير مختوم بالشمع الأحمر .. فكسرت ومزقت وقرأت، وإذا بها رسالة من الملك حسين إلى ( سيادة الأخ الرئيس جمال عبد الناصر حفظه الله ) مؤرخة 14تموز سنة 1966.
... قرأت الرسالة وقرأت عجباً .. أربعة عشر صفحة وكلها تدور وتدور حول (السيد أحمد الشقيري وما آلت إليه منظمة التحرير بعد أن استولت عليها قوى مخربة مريضة وعميلة) .. والمنظمة ما آلت إلى شيء .. كانت كحالها الذي بدأته يوم حضر الملك حسين افتتاح المجلس الوطني الأول في بيت المقدس في أيار 1964 (1) .
__________
(1) من القمة إلى الهزيمة ، مصدر سابق .(1/303)
... وقد تضمنت الرسالة كثيراً من عبارات الثناء والمديح يكيلها الملك حسين بلا حساب إلى الرئيس جمال عبد الناصر، إلى ( سيادة الأخ .. ذلك المسئول العربي الكبير) كل ذلك كمدخل إلى الطعن بالمنظمة والتنديد برئيسها .
... وفي فقرات قصيرة، من باب التنويع، ينتقل الملك حسين في رسالته للرئيس عبد الناصر إلى عتاب (غرامي) وهو يقول (وكم آلمني يا أخي وحز في نفسي ما بلغني من قولك مؤخراً وفي كلمة وجهتها ما معناه : الشخص الذي ما استطاع دخول حلف بغداد يبشر الآن بحلف إسلامي .. ولا أخال غيري هو المقصود بها، أفلا يحق لي يا أخي أن أعتب وأن أتألم) .
... والملك حسين كان على حق فيما فهم، فإن الرئيس عبد الناصر قصده بالذات .. ثم يعود الملك حسين إلى المنظمة ويقول : ( لقد أصبح واضحاً من تصرفات الشقيري أن هدف المنظمة بعد أن سيطر عليها الحزبيون والهدامون والمخربون هو شرق خط الهدنة لا غربه .. ونحن قد فهمنا من البداية أن تشكيل المنظمة ما هو إلا لملء الفراغ في المجتمعات الدولية وإبقاء القضية الفلسطينية حية في الأذهان والقيام بتنظيم وتعبئة طاقات الفلسطينيين خارج الأردن، إذ إن الأردن مستمر في ذلك التنظيم منذ زمن طويل .. إنه لا يجوز خلق ازدواجية في داخل الأردن .. ثم إنه لا يجوز أن تكون المنظمة أداة لحركة مذهبية محلية أو دولية .. )
... وبعد كلام طويل على هذا النمط، ختم الملك حسين كتابه بعبارة حاسمة قال فيها : ( لقد أصبح واضحاً لدينا أن هدف المنظمة هو نسف للأردن ونسف لمؤتمرات القمة، ولذا لم يعد بإمكاننا التعامل مع المنظمة لما نعرفه عن سوء نواياها ..) .(1/304)
... ثم عاد الملك حسين، إلى الغراميات مع (أخيه) الرئيس عبد الناصر، فقال : ( وقد حرمتني تلك الحملات المتجنية على شخصي وحكومتي وبلدي، تطلقها على أمواج الأثير منظمة التحرير والقوى الواقفة وراءها، من إمكان الاتصال المباشر بأخي كما اعتدت من قبل .. ويحز في نفسي أن أقف من أخي موقف العاتب .. ضع نفسك في مكاني وقل لي بربك ماذا يكون موقفك .. وربما يكون الرد على هذا السؤال أن إذاعة منظمة التحرير لا سيطرة لكم عليها، والجواب : ضع نفسك في مكاني، وقل لي ماذا يكون موقفك .. ضع نفسك في مكاني .. وانظر واستمع إلى قبور آبائك وأجدادك .. وهي تنبش صباح مساء .. أيحق أن ننكأ جراحنا كل مرة .. ضع نفسك في مكاني يا أخي وقل لي ماذا تفعل ؟ ومرة أخرى تطالعني صحف قاهرية لتقول أن الأردن يحرص على مؤتمرات القمة لأنه كسب منها مادياً .. ) إلى آخر هذه التساؤلات الذليلة المنكرة ..
... قرأت هذا الكتاب بكامله، وفهمت لماذا أراد الرئيس جمال عبد الناصر أن أؤجل خطابي من المؤتمر الشعبي في القاهرة إلى المؤتمر الشعبي في الإسكندرية .
... وكان اللقاء الكبير في الإسكندرية في مساء الثامن والعشرين من شهر تموز (1966) في الهواء الطلق، في ساحات جامعة الإسكندرية، واكتظ الوفود الرسمية والشعبية على المنصة الرئيسية .. ووصل الرئيس إلى مكان الاجتماع وسط هتافات الجماهير الحاشدة في تلك الأمسية التي حشدت فيها الإسكندرية كل نسماتها الناعمة ..(1/305)
... وقال الرئيس عبد الناصر .. (لا بد أنك قرأت رسالة الملك حسين.. إنت تخطب زي ما إنت عاوز.. بس لا تذكر اسمه .. المنظمة حرة في إذاعتها في القاهرة .. ولكن هنا في المؤتمر سيكون خطابك محسوب علي..)
... وتدخل المشير عبد الحكيم عامر، وكان يجلس بيني وبين الرئيس عبد الناصر مباشرة، وقال : وصاحبك فيصل، حاتعمل فيه إيه ؟؟
... قلت (ضاحكاً) : فيصل مشكلته معك في اليمن .. أما نحن فمشكلتنا الرئيسية هي في الأردن، مع الملك حسين .
... وبدأ الحفل، ودعي إلى الكلام، اللواء شاكر محمود شكري وزير الدفاع العراقي .. فألقى كلمة حيا فيها الثورة المصرية وقائدها الرئيس عبد الناصر، وهاجم الاستعمار والصهيونية .
... ثم دعيت إلى الكلام، وفي ذهني كل النقاط التي وردت في رسالة الملك حسين .. فعزمت أن أفندها واحدة واحدة .. وإنها لفرصة على الهواء مع ملايين الأمة العربية التي شدت آذانها إلى إذاعات القاهرة ..
... وبدأت حديثي عن مؤتمر الإسكندرية، مشيداً بالشعب السكندري وكيف استقبل الملوك والرؤساء نيابة عن الأمة العربية بأسرها، وهو يهتف في آذان الملوك والرؤساء بتحرير فلسطين .. وأن هذه المشاعر الوطنية ليست غريبة على الإسكندرية وهي الثغر العربي الكبير الذي لعب دوراً كبيراً في الكفاح العربي في وجه الحملات الصليبية .. ثم تطرقت إلى أن مؤتمر القمة في الإسكندرية هو الذي قرر اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية، ممثلة للشعب الفلسطيني في إرادته وتصميمه على تحرير وطنه .. وأن هذا القرار معناه تجميع طاقات الشعب الفلسطيني وتوجيهها طليعة للأمة العربية في معركة التحرير .. وأن الأردن هو منطلق التحرير أرضاً وشعباً .. وأن(1/306)
على عمان أن تفتح قلبها للمنظمة، لتنظيم الشعب وتدريبه وتسلحه .. ومضيت في هذا السياق أجادل الملك حسين من غير أن أذكر اسمه .. والجماهير تهتف لمنظمة التحرير، والرئيس عبد الناصر يشترك في التصفيق، وأول من يبدأ وآخر من ينتهي ..
... وختمت خطابي وأنا أقول ( من هذا الثغر العربي الكبير أعلن إلى الملوك والرؤساء أننا نمد أيدينا إليهم جميعاً على هدف التحرير .. نتعاون معهم جميعاً على هدف التحرير .. لا نختلف مع أحد، ولا نحقد على أحد .. ولا ندير انقلاباً على أحد .. نحن في منأى عن الخلاف العربي ما دام الخلاف في منأى عن قضية فلسطين .. ومن كان معنا من الملوك والرؤساء فنحن معه، ومن لم يكن معنا فلسنا معه، وليست الأمة العربية معه ..).
... وانفجر الجمهور حماسة، والميكروفون ينقل عباراتي الصارمة إلى أرجاء الساحة الرحبة، وجماعات الشباب والطلاب يقفزون في الهواء ويلوحون بأيديهم .. وكان من حسن حظ الملك حسين في ذلك المساء أن البحار والقفار تفصل الإسكندرية عن عمان، وعن قصر رغدان !!
... ووقف الرئيس عبد الناصر ليلقي خطابه، فازدادت الجماهير هياجاً وحماسة ومكث مدة واقفاً حتى هدأت الجماهير وسكنت .
... وحسب العادة، بدأ الرئيس كلامه في الأمور الداخلية، عن شئون المجتمع المصري في ظل الثورة والاشتراكية، وانتقل في النهاية إلى الحديث عن الأعداء في الخارج بعد أن أجهز على الأعداء في الداخل .. مركزاً على (خيانة الرجعية العربية في عام 1948 .. ونحن جلسنا مع الرجعية العربية في مؤتمرات القمة بهدف واحد هو تحرير فلسطين وليس لأي مصلحة مصرية .. وإننا اتخذنا قرارنا بتأجيل مؤتمرات القمة بكل ألم .. الرجعية(1/307)
العربية تكرهنا أكثر مما تكره إسرائيل .. السعودية عليها أن تتحرر أولاً من القواعد الأمريكية والبريطانية ثم تتجه إلى فلسطين .. والرجعية العربية لن تحارب إسرائيل ..).
... ثم خص الإخوان المسلمين، الذين يعملون في الخارج بجانب كبير من الحملة بعد ذلك ( إن المعركة اللي موجودة ضدنا منذ قامت الثورة معركة تحالف فيها قوى مختلفة : الاستعمار مع الصهيونية مع الرجعية العربية مع النظم الإقطاعية في البلاد العربية .. الرجعية في السعودية والرجعية في الأردن استخدموا الإخوان المسلمين .. ولهذا احتضنت السعودية والأردن بعض أفراد الإخوان المسلمين الذين تآمروا علينا في الماضي .. وطبعاً اللؤم في هذه العملية هو لؤم دولي، لؤم سعودي، على لؤم إخوان مسلمين .. ).
... وفرغ الرئيس عبد الناصر من خطابه، وأخذ يهم بالانصراف .. فمد ذراعه إلي رافعاً يدي بيده، تحية للجمهور، وليلتقط المصورون هذه الصورة، لتكون جواباً للملك حسين على رسالته .. وكأن لسان حاله يقول:- ها قد أعلن الشقيري أنه لا يشتم ولا يهرج ولا يريد إلا إعداد الشعب الفلسطيني للمعركة .
... وانتهى الاجتماع، وغادرت المنصة، وأساتذة جامعة الإسكندرية يقبلون علي مصافحين وهم يقولون : لقد عدت بنا إلى أيام زمان .. حين كان زعماء الوفد يخطبون بالفصحى في عهد الثورة المصرية .. وشكرت لهم تحيتهم، وهربت من الشباب والطلاب إلى سيارتي .. وإلى بيتي في القاهرة طلباً للنجاة .. من حماسة الجماهير .. وأيقنت يومئذ أن شعرة معاوية التي ربطت بين مؤتمرات القمة، قد انقطعت بعد خطاب الرئيس عبد الناصر وخطابي:(1/308)
... وشهدت القاهرة بعد ذلك أياماً حافلة، كان مكتبي خلالها يغص بالسفراء العرب والأجانب، والصحفيين، والجميع يتساءلون عن مصير مؤتمرات القمة بعد خطاب الرئيس عبد الناصر .. ودارت الاتصالات بين الجامعة العربية والحكومات العربية لتحديد الموقف، وكان علينا في المنظمة أن نفتح ملفاً جديداً عنوانه ( تأجيل مؤتمر القمة ) ..
... وجاءت المبادرة الأولى من السيد محمود رياض وزير خارجية الجمهورية العربية المتحدة فأرسل في صبيحة اليوم التالي لخطاب الرئيس عبد الناصر في ميدان الجمهورية بالقاهرة (25-7-1966) مذكرة، كل ما فيها، ( أنه نظراً لما اتضح للجمهورية العربية المتحدة من أن عقد المؤتمر الرابع للملوك والرؤساء في الخامس من شهر سبتمبر 1966، بمدينة الجزائر لن يحقق في الظروف العربية الحالية، الأهداف التي من أجلها نادت الجمهورية العربية المتحدة إلى عقد هذه المؤتمرات، فإن وزارة خارجية الجمهورية العربية المتحدة، تطلب تأجيل المؤتمر إلى أجل غير مسمى ) .
... وراحت الأمانة العامة للجامعة العربية، تباشر مهمتها البريدية المعتادة، فعممت مذكرة الجمهورية العربية المتحدة على الحكومات العربية، وفي خلال بضعة أيام جاءت الموافقة على التأجيل من لبنان والمغرب واليمن والعراق وسوريا وليبيا والكويت والسودان، وعارضت كل من الأردن والسعودية في التأجيل .
... ولقد رجعت إلى ملف الموضوع، وأنا أكتب مذكراتي فوجدت
(طرائف) عربية تغريني أن أضعها أمام الأمة العربية لتتعرف على جوانب معينة من الفكر العربي الرسمي ..(1/309)
... من ذلك ما جاء في المذكرة اللبنانية من أن (لبنان يتقيد بمؤتمرات القمة، والتي لا يشك بأن سائر الدول الشقيقة تتقيد بها أيضاً) ، مع أن لبنان لم يقم بكامل التزاماته بالنسبة لمشروع تحويل الروافد على الأرض اللبنانية، وكذلك فإن الدول الشقيقة الأخرى لم تف بالتزاماتها المالية والعسكرية !!
... ومن ذلك أن المذكرة المغربية أعربت عن خشيتها (أن يفهم الرأي العام العربي والدولي أن تأخير المؤتمر لأجل غير مسمى يعني إقبار مؤتمر القمة بصفة نهائية، الشيء الذي يسجل إخفاق الدول العربية ويسبب لشعوبها خيبة ) وقد تناسى المغرب أنه ساهم في (إقبار) مؤتمر القمة، لأنه لم يساهم في دفع التزاماته المالية للقيادة العربية الموحدة ولمنظمة التحرير ولجيش التحرير !!
... ومن ذلك أن مذكرة المملكة العربية السعودية، وقد وصلت برقياً، لجأت إلى التهديد بأنه، ( في حالة الأخذ بمبدأ التأجيل فإن المملكة العربية السعودية ترى نفسها مضطرة لتجميد كافة التزاماتها تجاه مؤسسات المؤتمر..) وبهذا لجأت السعودية إلى العقوبات المالية لفرض رأيها .. وهكذا أصبحت السعودية تمارس حق الفيتو شأنها في ذلك شأن الاتحاد السوفياتي في مجلس الأمن !!
... ومن ذلك المذكرة السورية التي أكدت (عدم جدوى هذه المؤتمرات، ولأنها استغلت من قبل الرجعية العربية لضرب الحركة التقدمية والثورية في الوطن العربي) وقد تجاهلت المذكرة السورية الحرب الساخنة التي شنتها القيادة العسكرية السورية على القيادة العربية الموحدة .
... ومن ذلك أن المذكرة الأردنية التي أعلنت (أن أي زعزعة لمؤتمرات القمة تعني زعزعة للعمل العربي الموحد) على حين أن الأردن كان من أهم(1/310)
الأسباب في هذه (الزعزعة) بعد أن رفض دخول القوات السعودية والعراقية إلى الأردن، وخالف كثيراً من توصيات القيادة العربية الموحدة .
... وكانت مذكرات الدول العربية الأخرى موجزة، خالية من الأسباب والمبررات، وبهذا كفت نفسها مئونة التعليق .
... وأخيراً اكتمل البريد في الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، فأصدرت مذكرة (5-8-1966) تقول في ختامها ( وبناء على ما تقدم فإن تأجيل المؤتمر قد أصبح أمراً مقرراً) وكان هذا هو كل دور الأمانة العامة للجامعة العربية !!
... وفي الوقت الذي كانت فيه الجامعة العربية في شغل شاغل في هذه الأوراق كانت سياسة التكتلات والمحاور آخذة طريقها بين حكام العرب، وحكام العرب ينسون أن المواطن له ذاكرة حادة، يستطيع بها أن يعرف موقف الحاكم بالأمس، وموقفه اليوم ... ومن طول الإدمان يستطيع أن يعرف موقفه غداً !!
... وجاءني في تلك الأيام أحد مندوبي إذاعة صوت العرب يسألني رأيي في زيارة الملك فيصل لتونس .. وكانت هذه واحدة من تلك التكتلات والمحاور ..
... قلت : ما هي المناسبة ؟
... قال : الملك فيصل قام بزيارة للرئيس أبو رقيبة في تونس، وعقد مؤتمراً صحفياً في نهاية الزيارة قال فيه إن آراء الرئيس بورقيبة عن القضية الفلسطينية لا تختلف عن آراء غيره من رؤساء العرب ) .. وهو يقصد بذلك الرئيس عبد الناصر .(1/311)
... قلت : ليس هذا هو الجانب المهم في الموضوع .. في الاجتماع الذي عقده رؤساء الحكومات العربية قرروا بالإجماع، ومنهم الوفد السعودي، إدانة تصريحات الرئيس بورقيبة، فما الذي جعل الملك فيصل يتراجع عن موقفه من الرئيس بورقيبة .. وإني لأتساءل ألم يسمح الملك فيصل بما أذاعته وكالات الأنباء العالمية (12-7-1966) من أن الرئيس بورقيبة أرسل برقية يعتذر فيها عن عدم حضوره الاحتفال بوضع حجر الأساس لمركز السلام الذي أقامته إسرائيل في القسم المحتل من القدس ( نظراً لارتباطاته السابقة، متمنياً النجاح للمركز)، وقد نشرت جريدة الجروسالم بوست الإسرائيلية صورة زنكوغرافية عن البرقية .
... قال : وهل تأذن لي بإذاعة هذا التصريح .
... قلت : لا أريد أن أفتح جبهة ثانية مع الملك فيصل، ونحن مشغولون بالجبهة الرئيسية مع الملك حسين .
... ولم أكد أفرغ من حديثي عن المعركة مع الملك حسين، حتى جاءني مدير مكتبي ليعلمني أن ثلاثة من موظفي الإذاعة الأردنية قد وصلوا اليوم إلى القاهرة، فراراً من اضطهاد الحكم الأردني وأنهم يريدون الالتحاق
( بإذاعتهم) إذاعة منظمة التحرير .
... قلت : فليدخلوا .. المنظمة لهم، والإذاعة إذاعتهم .
... فدخلوا إلى المكتب، ووجوههم طافحة بالشر فقالوا :
- كنا نعيش في جحيم .. كانوا يجبرونا أن نذيع السباب والشتائم لمنظمة التحرير ورئيسها، وللجمهورية العربية المتحدة وقائدها .. وأخيراً قررنا الهرب من عمان وتركنا أهلنا وراءنا في الضفة الغربية تحت المملكة الأردنية الهاشمية ..(1/312)
قلت : أهلاً بكم ومرحباً، اذهبوا الآن إلى إذاعة منظمة التحرير، وثقوا أنكم لن تذيعوا سباباً على الذين سبوا منظمة التحرير .
... قالوا : إن عدداً من أصدقائنا، من ضباط الجيش الأردني، ينتظرون منا إشارة، ليهربوا إلى القاهرة وينضموا إلى جيش التحرير .
... قلت : أرسلوا إليهم إشارة عاجلة .. قولوا لهم لا تهربوا .. ابقوا في مواقعكم في الأردن فأنتم جيش التحرير .. ونحن نعتبر الجيش الأردني بأسره ضباطاً وجنوداً، هو جيش التحرير .
وذهب الشباب الثلاثة، وهم من أبناء الضفة الغربية، إلى إذاعة منظمة التحرير الفلسطينية، ليفاجئوا الشعب في الأردن، في ذلك المساء، أنهم يذيعون من إذاعة منظمة التحرير .. وأنهم براء من إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية ..
وسألني المذيعون الثلاثة قبل انصرافهم :
- ما هي تعليماتكم ؟؟
قلت : توخوا الحق والصدق .. إن قضيتنا ليست في حاجة إلى الكذب .. وإن شعبنا في الأردن يريد منكم الدعوة الحسنة، بالكلمة العفيفة المهذبة..
... قالوا : والشتائم، والإقذاع، والأراجيف التي ترددها الإذاعة الأردنية ..
قلت : الدفاع عن الأنفس فرض محتوم .. اجهروا بالحق .. ويقول الله تعالى في كتابه الكريم (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) .
صدق الله العظيم
...(1/313)
أشبعتهم شتما وراحوا بالابل
... في شهر آب اللهاب، الذي يجيد الشعب العراقي وصفه بأنه (يذيب المسمار في الباب، ويقلل الأعناب ويكثر الأرطاب، ويفتح الى جهنم باب)..
في هذا الشهر من عام 1966 كان السيد عبد الخالق حسونة الأمين العام لجامعة الدول العربية، يتحرك بدبلوماسيته الهادئة كالمعتاد .. يستقبل السفراء العرب في القاهرة ويتبادل الرأي معهم حول ما ينبغي عمله بعد أن وافقت معظم الدول العربية على اقتراح الرئيس عبد الناصر بتأجيل مؤتمرات القمة الى أجل غير مسمى..
ودعيت لحضور أحد هذه الاجتماعات، فنعمت ساعة من الزمن في مكتبه المبرد، وتخلصت من مكتبي، وليس فيه الا مروحة تحتاج أن يقيم إلى جوارها عامل فني ليصلحها كلما عرجت أو تعطلت..
ولخص السيد حسونة مواقف الدول العربية، وأنه يرى أن ينعقد مجلس الجامعة العربية في الدورة المقبلة (أيلول) على مستوى وزراء الخارجية.
قلت : وماذا ترجو من اجتماع المجلس على هذا المستوى ؟
قال : نعطي الرأي العام العربي والأجنبي الدليل على تضامننا، ووقوفنا صفا واحدا.(1/315)
قلت : في ديار الشام مثل لطيف، لا أدري إذا كان معروفا في مصر.. يقول المثل العامي (تغطي السموات بالأبواب..) أن العام كله يعلم أنه لا يوجد صف عربي، ولا تضامن عربي ... فأية فائدة من هذه الاجتماعات ؟؟
قال : إن مجلس الجامعة كان ينعقد منذ مدة طويلة على مستوى السفراء، فإذا عقدناه، هذه المرة، على مستوى وزراء نكون قد أعطينا دعما للجامعة.
قلت : مرة ثانية .. إن الأمثال الشعبية غنية بالحكم .. يقول العامة (هذه الخميرة من هذه العجينة..) ماذا يفعل الوزراء بعد أن فشل الملوك والرؤساء.
قال : إنها تجربة على كل حال .. ولكني أردت أن أرجوك أن تعاونني في موضوع أعتقد أنه بسيط .
قلت : خيرا إن شاء الله ؟ وأرجو أن يكون الأمر بسيطا.
قال : أتمنى عليك في الاجتماع المقبل أن لا تكون قاسيا مع الأردن والسعودية حتى توفر للاجتماع كل أسباب النجاح؟
قلت : بالنسبة للسعودية، أنا لم أتعرض لها، لا في خطبي، ولا في الإذاعة، ولا في اجتماعات الجامعة العربية ؛ وبالنسبة للأردن، انه هو الذي شن عليّ حملة السباب والشتائم، وقابلتها بالرد الموضوعي .. ومع هذا فإنني لن ابلغ ما بلغه الرئيس عبد الناصر من القسوة والعنف في حملاته الضارية على السعودية والأردن والبعث وتونس.. فإذا كان لهذه الدول أن تغضب فعليها ان تغضب على عبد الناصر، وهو قادر أن يؤلب عليها الجماهير .. أما نحن في المنظمة فليست لنا قدرة الرئيس عبد الناصر .. ومع(1/316)
هذا نحن فان الدول العربية تحاسب المنظمة ورئيسها على أتفه الأخطاء .. نحن حيطنا واطي أليس كذلك ؟؟..
وانتهت الجلسة بيننا على (اتفاق الجنتلمان) بان لا أكون البادئ بإطلاق النار، وأن من حقي الدفاع عن النفس كائنا من كان المهاجم.
وانعقد مجلس جامعة الدول العربية في دورته العادية (10 أيلول 1966) على مستوى وزراء الخارجية .. وقد حضره السيد إبراهيم المفتي (السودان) الدكتور عدنان الباجه جي (العراق) السيد فيليب تقلا (لبنان) الدكتور إبراهيم ماخوس (سوريا) السيد محمود رياض (القاهرة) الدكتور حسن مكي (اليمن) الشيخ صباح الأحمد (الكويت)..
أما الدول العربية الأخرى فلم يكترث وزراء خارجيتها لهذا الاجتماع، وأنابوا عنهم سفراءهم في القاهرة.
... وبدأ الاجتماع في ظل التقاليد والمراسيم التي ألفها الصحفيون على مستوى وزراء الخارجية لزمن طويل، حتى أصبحوا قادرين أن يكتبوا في صحفهم وصفا دقيقا عن الاجتماع قبل انعقاده، وعن الخطب قبل إلقائها، وعن القرارات قبل إصدارها، وأخيرا عن التصريحات قبل انطلاقها من البطاريات العربية، وكان حظ الوزراء العرب سيئا هذه المرة، فقد انعقدت هذه الدورة وكأنها على موعد مع الأحداث .. الأحداث الخطيرة التي تتطلب موقفا حاسما.
... من هذه الأحداث، أن إسرائيل قد قامت باحتفالات كبرى لمناسبة افتتاح مبنى الكنيست الجديد في القدس (30 آب 1966)، وكان الحاضرون في هذه الاحتفالات، بالآلاف تجمعوا من كافة دول العالم ..(1/317)
وكان بينهم وزراء وبرلمانيون يمثلون واحدا وأربعين دولة، جاءوا ليسمعوا زعماء إسرائيل وهم يجددون العهد بأن مدينة القدس هي عاصمة إسرائيل الخالدة، وأن إسرائيل من غير القدس جثة بلا رأس وجسد بلا روح.
... ومن هذه الأحداث التي واجهت مجلس الجامعة ما تناقلته وكالات الأنباء عن تزويد أمريكا لإسرائيل بأسلحة هجومية، وكذلك موضوع القنبلة الذرية التي تمضي إسرائيل في صنعها.
... وفي بداية الجلسة خطب رئيس الدورة السابقة، وتبعه رئيس الدورة اللاحقة ؛ في خطابين أشبه ما يكونان بالخطب المنبرية التي كانت تعد للجمعة الأولى في رمضان، والجمعة الأخيرة في شوال، وهكذا لكل جمعة خطبة، دون ما اعتبار إلى أحداث تلك الجمعة
... ثم تلا الأمين العام تقريره عن إنجازات لم تنجز، وقرارات لم تنفذ، والتزامات لم تدفع ؛ فلم يبال أحد بهذا الجانب ؛ ولكن وفود السعودية والمغرب وليبيا والأردن قد رقصت حواجبهم حين أشار الأمين العام في تقريره إلى ( اندفاع الصين الشعبية مع الحق العربي في فلسطين، وهي ما تفتأ تؤكد ذلك قولا على ألسنة زعمائها، وعملا بما تقدمه لجيش التحرير الفلسطيني من أسلحة وعون فني) وحمدت الله أن هذه الإشارة قد عبرت من غير تعقيب.. (1)
__________
(1) انظر: من القمة إلى الهزيمة مع الملوك والرؤساء ، في موقف جمهورية الصين من قضية فلسطين .(1/318)
... وانتقل المجلس بعد ذلك إلى دراسة جدول الأعمال في جلسات متعاقبة لبضعة أيام، وقد استحوذ موضوع القدس على اهتمامهم، وأعطوه عنوانا مثيرا (محاولة إسرائيل تهويد مدينة القدس).
... وحسب العادة القديمة .. كانت خطب الوزراء بليغة، واشهد أن الخطب في الجامعة العربية على مدى خمسة وعشرين عاما، وقد سمعت معظمها بأذني، ليس عليها اعتراض إطلاقا.. ذلك أن الخيبة العربية لا تتجلى إلا حين تنتهي الخطب وتبتدئ صياغة القرارات، وبعدها تنفيذ القرارات !!
... واشترك الوزراء جميعا في صياغة قرار عن ( تهويد القدس) وجوّدوا الألفاظ وسكبوا كل (الديكور) العربي على العبارات، وأعلنوا في قرارهم أن (الأمة العربية إذ ترفض التسليم بالأمر الواقع المتمثل في قيام إسرائيل بفلسطينها المحتلة، تؤكد أن مدينة القدس عربية باعتبارها جزء من فلسطين العربية، وأن القدس الجديدة جزءاً لا يتجزأ من بيت المقدس، وأن الوجود الإسرائيلي فيها مرتبط بالاحتلال الإسرائيلي العدواني لفلسطين .. وأن افتتاح المبنى الجديد المسمى بالكنيست (البرلمان) الإسرائيلي في القدس المحتلة، يمثل تحديا جديدا للحق العربي في فلسطين ..).
... صدر هذا القرار بالإجماع، وبسرعة .. فليس فيه التزام بشيء، ولا مانع فيه من الإجماع ما دام كلاما في كلام..!!
... قلت : أنا أوافق على هذا القرار، وأعارضه ..
... فنظر إلىّ السيد حسونة، وفي عينيه تذكير لي، بان ابر بوعدي السابق الذي قطعته له، في اجتماعنا الأخير في مكتبه .. بان التزم جانب الهدوء والسكينة.(1/319)
... ثم استأنفت حديثي وقلت : أريد أن يكون واضحا أنى لا أريد من كلامي أن انكأ جراحا أرجو أن تكون قد اندملت .. أنا لا أخص في حديث دولة بالذات .. غن اعتراضي ينصب على القرار في مجموعه .. إنه قرار إنشائي مثل جميع القرارات التي أصدرتها جامعة الدول العربية عن القضية الفلسطينية، منذ أنشئت الجامعة .. قبل ربع قرن من الزمان..
... فتنطح الوفد الأردني وكأنه وجد فيّ مقتلا فقال بلهجة الساخر (الشقيري هو أستاذنا الكبير، وخاصة في القضية الفلسطينية، فهل يتفضل بأن يدلنا على قرار عملي غير هذا القرار الذي اتخذناه) ؟!
... قلت : نعم .. عندي اقتراح عملي .. أنا سأتكلم وأنت اكتب ..وضحك الوزراء .. وقلت لهم :، ولا باس أن تكتبوا معه .. ومضيت أتكلم وهم يكتبون ..
... وبعد مقدمة عن أطماع إسرائيل في بيت المقدس، أتيت فيها على أقوال زعماء الصهيونية من هرتسل، وايزمن، بن غوريون – إلى جولدا مايير وأبا ايبان، قدمت ثلاثة اقتراحات :-
... أولا : نقترح على الحكومة الأردنية، كواجب قومي أسمى أن تبادر إلى إعلان القدس عاصمة للبلاد بأسرها، ومن جملتها فلسطين المحتلة ؛ وان تنقل الوزارات ومؤسسات الدولة الرئيسية إلى مدينة القدس، باعتبار أن الأردن هي فلسطين، وفلسطين هي الأردن..
... ثانيا : نظرا للخطر الإسرائيلي المحدق بمدينة القدس، التي تعتبر تراثا دينيا وحضاريا في المقام الأول، ولان الدفاع عن هذه المدينة العربية، يعد مسؤولية عربية مشتركة، تكلف القيادة العربية الموحدة أن تضع خطة كاملة تلتزم الدول العربية بتنفيذها من أجل الدفاع عن القدس ؛ وأن منظمة(1/320)
التحرير الفلسطينية مستعدة أن تشترك بقوات جيش التحرير في هذا الواجب المقدس، باعتبار أن الأردن وفي مقدمتها القدس هي وطن المنظمة ؛ وأن جيش التحرير مستعد أن ينتقل فورا إلى مدينة القدس لأداء هذا الواجب.
... ثالثا : تلتزم الدول العربية في القيام بمشروعات إنشائية وعمرانية في مدينة القدس، حسب خطة مدروسة، للعمل على تنشيط المدينة وأهلها والقرى العربية التي حولها .
... وحتى لا أدع مجالا لمناقشات بيزنطية، قلت : أنا لا أطالبكم بالموافقة الفورية على هذه المقترحات .. كل ما أريد أن تحال هذه المقترحات للحكومات العربية وللقيادة العربية لتحديد الموقف بالنسبة لها ..
وفي رأيي المتواضع أن هذا اقتراح عملي يضع الحكومات العربية والقيادة العربية الموحدة أمام مسئولياتها وليس كالقرار الإنشائي الذي أصدرتموه قبل قليل ..
تململ الوفد الأردني في مقاعده، وهو يرى الوفود الأخرى أمام اقتراح لا تستطيع رفضه ؛ فطرح سؤالا أراد من ورائه أن يوقع بين منظمة التحرير والدول البترولية، فقال : ومن الذي سيتولى الإنفاق على المشروعات الإنشائية والعمرانية التي تقترح إقامتها في القدس والقرى المحيطة بها ؟
قلت : إذا كنا نريد بقاء القدس عربية، فعلينا جميعا يقع واجب الدفع.. إن مبنى الكنيست الجديد قد كلف إسرائيل مبلغ عشرين مليون ليرة إسرائيلية، وقد تبرعت بمعظمه عائلة يهودية واحدة .. هي عائلة روتشليد .. أن في الوطن العربي، أسرات عربية كثيرة، حاكمة وشبه حاكمة، تستطيع أن تقوم بهذا الواجب.(1/321)
ورأى الوفد الأردني أني فوت عليه (المقلب) ففكر في مقلب آخر فقال : ولماذا تطالب المنظمة بان يتولى مجلس الجامعة إحالة هذا الموضوع إلى الحكومات العربية .. كل وفد منا سيحمل هذه المقترحات إلى حكومته، ولا داعي أن يذكر شيء عن الموضوع في مضابط الجلسة.
قلت : أنتم قطعتم علاقتكم بالمنظمة، ولا تعترفون بها .. بل إنكم ترون أن هذه الأمور ليست من اختصاصنا .. ولذلك أنا أصر أن يصدر القرار من مجلس الجامعة..
قال : على العكس .. نحن نعترف بالمنظمة .. نحن نؤيد المنظمة .. نحن..
قلت : أنا أعني ما أقول .. ورئيس وزرائكم السيد وصفي التل يعني ما يقول ..
قال : وماذا يقول رئيس وزرائنا..
فمددت يدي إلى حقيبتي، وتناولت ملفا فتحته، وقلت : لقد أعلن رئيس الوزراء السيد وصفي التل أمام مجلس الأمة في الجلسة التي عقدها في 17-7-1966 أن قضية فلسطين كانت تشكو من ثغرة، في المجالات الدولية ؛ ينحرج العرب في بعض الأحيان لعدم وجود هيئة تمثل الفلسطينيين، وعلى هذا الأساس برز موضوع الكيان الفلسطيني.. وهذه التعريفات التي وضعناها في الأردن عن منظمة التحرير أخذت بها مؤتمرات القمة .. إن الكيان الفلسطيني هو ضرورة دبلوماسية لمساعدة المجهود العربي الدبلوماسي في المجالات الدولية .. وأننا بعد أن تكشفت لنا وللعالم نوايا الشقيري وجدنا انه لا بد من قطع العلاقة مع المنظمة ..).(1/322)
ثم مضيت قائلا : وإذا كان الوفد الأردني لا يعرف ما يقوله رئيس وزرائه فانه له العذر في ذلك !!
وبعد أن انتهت (المقالب) الأردنية، جاء الوفد السعودي بمقلب آخر، فقال وهو يتحدث إلى رئيس المجلس : يا سيادة الرئيس، إن موقفنا واضح.. الحكومة السعودية قررت تجميد التزاماتها بالنسبة إلى مؤسسات مؤتمرات القمة وهي القيادة العربية الموحدة ومنظمة التحرير الفلسطينية وهيئة تحويل الروافد، ولذلك فنحن لا نستطيع الموافقة على اقتراحات رئيس المنظمة.
قلت : إن القدس توأم مكة والمدينة المنورة .. والمملكة العربية السعودية دستورها الإسلام، فهل جمدتم التزاماتكم تجاه بيت المقدس وهي موطن الإسراء والمعراج واولى القبلتين وثالث الحرمين .. وهل جمدتم التزاماتكم تجاه الإسلام، ومقدسات الإسلام.. ولم يجب الوفد السعودي، لأنه لم يكن لديه تعليمات بالإجابة !!
وكانت هذه المقالب تدور في أروقة الجامعة، وجهاز اللاسلكي بين السفارة الأردنية في القاهرة والملك حسين، يعد مقلبا آخر .. وجاء المقلب سمجا، تفكيرا وإخراجا..
وجاء هذا المقلب عن طريق برقية وصلتنا من الأردن، أثناء انعقاد المجلس، موقعة من الشيخ محمد علي الجعبري رئيس بلدية الخليل وهو من المعروفين بولائه للملك حسين، يقترح فيها أن (تنقل القيادة العربية الموحدة مقرها من القاهرة إلى القدس) وواضح أن هذا كان اقتراحا مضادا لاقتراحنا بنقل العاصمة من عمان إلى القدس!!(1/323)
ولم يناقش المجلس برقية الشيخ الجعبري، أو بالأحرى برقية الملك حسين، ولم يعقب عليها رؤساء الوفود بغير الابتسامات ؛ وأطرق الوفد الأردني بعدها متشاغلا في أوراقه!!
وجاء بعد ذلك موضوع كبير انتهي إلى قرار صغير .. ذلك هو موضوع الاعتداءات الإسرائيلية على المشروع العربي لتحويل روافد نهر الأردن .. فقد قامت إسرائيل بالإغارة على المواقع التي يقوم بها العمل، واشتبكت الطائرات الإسرائيلية بالطائرات السورية في معركة جوية .. وكانت النتيجة أن دمرت معدات العمل تدميرا كاملا، كما أصيب عدد من العمال إصابات مختلفة.
وتلي تقرير الأمين العام في هذا الصدد، موضحا الخسائر المادية التي لحقت بالمشروع العربي .. وتحدث رؤساء الوفود مستنكرين مؤيدين ؛ مستنكرين العدوان الإسرائيلي، مؤيدين للموقف السوري ..
وأسهب رئيس الوفد الأردني، السيد عبد المنعم الرفاعي الشاعر الناغم والدبلوماسي في الإشادة بموقف سوريا وبسالة الجيش السوري .. وتبعه رؤساء الوفود الآخرون..
وتحمس الدكتور إبراهيم ماخوس، وهو يستحث المجلس على اتخاذ قرارات إيجابية تكون على مستوى الأحداث، بعد أن سمع هذه التصريحات الدسمة.
وجاء دوري في الكلام فقلت : إن أسهل الأمور أن نشيد في موقف سوريا .. ونحن هنا لسنا في ندوة شعر حتى ننظم القصائد نمتدح الجيش السوري .. لقد قام العدو بهذه الإغارة، واعترف بها، وأبلغ مجلس الأمن أنه قام بها .. وإن اشكول وزير الدفاع الإسرائيلي هو الذي أمر بها، كما(1/324)
أشارت إلى ذلك الصحف الإسرائيلية ذاتها .. إن خير وسيلة لتأييد موقف سورية هو أن تقوم الدول العربية بالوفاء بالتزاماتها العسكرية والمالية .. على الصعيد العسكري على الأردن أن يسمح بدخول القوات العراقية والسعودية إلى الأراضي الأردنية .. وعلى الصعيد المالي أن تبادرالدول العربية إلى الوفاء بالتزاماتها المختلفة وقد بلغت الملايين والملايين .. وإنني ألفت نظر المجلس الكريم إلى خطورة الموضوع، فان مؤتمرات القمة العربية قد انعقدت أصلا من أجل موضوع تحويل روافد الأردن، فإذا فازت إسرائيل (بالابل) هذه المرة، فإنها تكون قد عرفت الطريق إلينا ؛ ولا يهمها بعد ذلك أن نشتم إسرائيل ونمدح سوريا..
فسال الدكتور إبراهيم ماخوس.. ما هي حكاية الإبل..
قلت : إنها حكاية الأعرابي الذي سطا عليه اللصوص، فسرقوا الإبل وأشبعهم بالشتائم، وذهب القول المأثور .. أشبعتهم شتما وراحوا بالابل..
ودار حوار طويل وطويل انتهى بقرار إنشائي بتوجيه (التحية إلى الجمهورية العربية السورية حكومة وجيشا وشعبا للبطولة والبسالة في رد العدوان الإسرائيلي .. واستنكار موقف الولايات المتحدة ومن سار معها في رفض الشكوى السورية.)
وكان مجلس الأمن قد درس الشكوى السورية في عدة جلسات متعاقبة، إلى أن ختمت المسرحية الدولية (3-8-66) برفض الشكوى السورية .. ولست في حاجة أن أذكر أن الولايات المتحدة كانت هي السبب، فهي جذر البلاء وأس الداء.(1/325)
وانفتح الموضوع مرة ثانية وانصبت اللعنات على الولايات المتحدة، وكيف أنها استعملت حق الفيتو فصوتت ضد مشروع القرار الذي يشجب العدوان الإسرائيلي.
وعدنا مرة ثانية إلى السؤال القديم، وعمره ربع قرن، ماذا يجب أن نفعل بالولايات المتحدة . هل سنظل نصب عليها اللعنات وانتهى ؟.
... وقلت : إنني لا أريد أن اشترك في أوركسترا اللعنات، وما أظن أحدا منكم قد هاجم الولايات المتحدة بمثل ما فعلت، وفي نيويورك بالذات، وفي الأمم المتحدة .. ولكني أناشدكم لمرة واحدة أن تتخذوا إجراء تأديبيا واحدا .. ولو صغيرا ..، وهو الامتناع عن شرب زجاجة واحدة من الكوكاكولا.. على الأقل!
... ولكن هذه النكتة الموجعة، لم توجع أحدا، فأصدر المجلس القرار المعتاد ؛ بالنص المعتاد ..( التزام الدول العربية بتحديد علاقات الدول العربية بالدول الأجنبية على أساس مواقفها من قضية فلسطين) .
... وقلت تعقيبا على هذا القرار : ولكن الولايات المتحدة قد حددت موقفا.. إنه موقف عدائي، وقد بقي علينا أن نحدد موقفنا .. ويكفي أن تعملوا أن مساعد وزير الخارجية الأمريكية السيد سيسكو كان يتغدى في وزارة الخارجية الإسرائيلية في تل أبيب حين كانت الطائرات الإسرائيلية تقصف الأراضي السورية (14-7-1966).. في اليوم نفسه، وربما في الساعة نفسها ..
... وقاطعني رئيس الوفد الأردني وهو يقول : إيه الحكاية .. إيه الحكاية..
...(1/326)
قلت : الحكاية بسيطة – وتناولت جريدة جروسالم بوست الإسرائيلية التي تصدر باللغة الإنجليزية – هذه هي الجريدة الإسرائيلية وهذا هو خبر الوليمة.. ...
وقرأ السيد حسونة الخبر الإسرائيلي بالإنجليزية (المصرية).. ولكن وزراء الخارجية العرب التزموا الصمت واكتفوا بالقرار الذي أصدروه بشجب واستنكار موقف الولايات المتحدة..
ولم تعبأ الدول الأجنبية ؛ وعلى رأسها الولايات المتحدة، بهذا القرار ذلك أنها على يقين تام، بأن مصالحها المتعددة في هذا الجزء من العالم مصونة في أمان وعافية .. إسرائيل تصون المصالح الأمريكية الاستراتيجية، والحكم العربي الرسمي يصون مصالحها البترولية .. وماذا تريد أمريكا أكثر من هذا .. وليصدر العرب ما شاؤوا من القرارات، فالقافلة تسير، ويصيح من يصيحون، ولا أقول لينبح من ينبحون !!
وانتهى اجتماع مجلس الجامعة الذي أرادوا له أن يكون على مستوى الوزراء، وعقد الأمين العام للجامعة مؤتمرا صحافيا أعلن فيه القرارات والتهديدات.
وخرجنا من قاعة الاجتماع، وأحاط بنا الصحفيون يسألون ويستوضحون، وتجنب الوفود أن يتكلموا بعد أول اجتماع للجامعة ينعقد بعد تأجيل مؤتمر القمة لأجل غير مسمى، فأحالوهم على رئيس منظمة التحرير الفلسطينية.
فقلت : أوسعتهم شتما وراحوا بالابل..
قالوا : وما تفسير ذلك.(1/327)
قلت : اذهبوا إلي عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، وهو يشرح لكم ما تسألون..
(يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء أن تبد لكم تسؤكم ) .
صدق الله العظيم(1/328)
تعال إلى المسجد الأقصى..
نتعاهد على كتاب الله
... دق جرس التلفون، وقال :-
... (سيادة الفريق أول علي عامر القائد العام للقيادة العربية الموحدة، يريد أن يكلم سيادتك .. لحظة معاي من فضلك ).
... هكذا فاجأني عامل التلفون في القيادة العربية الموحدة، وكأنه يملي عليّ أمرا عسكريا .. وانتظرت لحظة، وإذا بالفريق أول علي عامر يتحدث بنبرة عصبية:-
... قال : لا بد أن أخبار العدوان الإسرائيلي على السموع قد وصلتك ..؟
قلت : نعم لقد وصلتني . أنا هنا مع إذاعة الأردن وإذاعة إسرائيل منذ الصباح..
قال : أنت شاهد يا أخي .. كم مرة حذرت الأردن .. والبلية أن السيد وصفي التل يخبرنا بهذا العدوان بعد أربع ساعات من انتهاء الغارة .. بعد أربع ساعات من انتهاء الغارة .. بعد أربع ساعات من انسحاب القوات الإسرائيلية.
قلت : وأنت شاهد أيضا .. كم مرة طالبت الأردن بتسليح القرى الأمامية وتحصينها.(1/329)
وتبادلنا بعد ذلك الكلام عما سمع وما سمعت بصدد الغارة الإسرائيلية وتفاصيلها .
كان ذلك في الثالث من شهر تشرين الثاني من عام 1966 وهو يوم ليس للأمة العربية أن تنساه.
ففي فجر ذلك اليوم، حين دقت ساعة الصفر، انطلقت القوات الإسرائيلية مخترقة خطوط الهدنة الأردنية تدعمها الدبابات والمصفحات، وتسندها المدفعية من مختلف العيارات، وتحميها مظلة من الطائرات المقاتلة – تقدمت هذه القوة الضخمة خمسة كيلو مترات بين الجبال صوب قرية السموع (الخليل)، وهي واحدة من عشرات القرى المكشوفة العزلاء، الرابضة على خط الهدنة الإسرائيلية الأردنية.
وعلى مستوى ست ساعات كاملة، اتخذت القوات الإسرائيلية مراكزها الاستراتيجية حول مدخل القرية ومخارجها، وراحت فرق النسف والتدمير تبث المواد المتفجرة في المنازل والساحات العامة، وهي مطمئنة أن أحدا لن يخدش أسماعها بطلقة أو صيحة .. فقد خلا لها الجو .. وكان الجو ينشد معها:
خلا لك الجو فبيضي واصفري و دمري ما شئت أن تدميري (1)
... واهتزت الجبال الوادعة والوديان الآمنة من حول القرية، حين كانت منازلها تتساقط بجدرانها وسقوفها، فلم تستثن مدرسة ولا مصحاً ولا جامعاً . واصبح كل شيء في القرية قاعا صفصفا، إلا المئذنة فقد بقيت قائمة بعد أن سددت إليها قذيفة اخترقت خرطومها الأعلى .. وكأنما أرادت إسرائيل أن تقول لمن يرى هذه الإصابة المسددة : أرأيتم !! وهذه مئذنتكم تحت رحمتنا..
__________
(1) * بيت الشعر في الأصل : و(نقري ما شئت ان تنقري ) .(1/330)
... ومع النسف والتدمير، قامت القوات الإسرائيلية بحملة التقتيل والترويع ؛ حتى إذا فرغت من هدم عشرات البيوت وقتل العشرات من الرجال والنساء والشيوخ، عاد الجنود الإسرائيليون إلى ما وراء خطوط الهدنة، وهو ينشدون ويهزجون .. كما أوصاهم التلمود في وصاياه البربرية في قتال الأعداء، بلا شفقة ولا رحمة..
... وفي تقرير أولي وصلني من مكتب الأمم المتحدة في القاهرة، أعلن الجنرال أود بول كبير مراقبي الهدنة ( أن الغارة الإسرائيلية كانت تسندها ثمانون مصفحة، وثمانون دبابة، واثنتا عشرة طائرة مقاتلة ؛ وان عدد المنازل المدمرة مئة وخمسة وعشرون، وان القتلى والجرحى قد تجاوزوا المائتين). ...
... كنت في صباح ذلك اليوم أدير مفتاح الراديو بين إذاعتي عمان وإسرائيل، وأنا استمع إلى أخبار هذه الغارة المجرمة .. وقد روعني من أنبائها أمور ثلاثة:-
... الأول : أن البلاغات الأردنية قد أكدت (أن العدو كان يستهدف احتلال قرية السموع .. ولكن القوات الساهرة قد أجبرته على الانسحاب بعد أن لقنته درسا قاسيا ..) وتمنيت لو كان هذا الكذب صحيحا، ولو بعض الشيء!!
... الثاني : أن الإذاعة الإسرائيلية قد أكدت ( أن الغارة التي قام بها جيش الدفاع الإسرائيلي لم تكن تستهدف الملك حسين، وإنما تستهدف تأديب أهالي القرى القائمة على خطوط الهدنة) .. وفجعت أن يكون الملك في واد، والشعب في واد، وفي نظر إسرائيل بالذات..(1/331)
والثالث : أن الغارة قد وقعت في صبيحة اليوم الذي وصل فيه إلى عمان، في زيارة رسمية، المشير أيوب خان رئيس الجمهورية لأكبر دولة إسلامية .. وكأنما مصادفة الأقدار، لتقول إسرائيل في يومها للعالم الإسلامي، هل من مبارز ..؟ أين السبعماية مليون مسلم؟؟ ولم يكن هذا التحدي للعالم الإسلامي من وحي الخيال .. فان السموع، واحدة من قرى مدينة الخليل، وهي مدينة خليل الله إبراهيم، وفيها المسجد الإبراهيمي الجليل؛ ولعله رابع المقدسات الرفيعة في الإسلام، بعد بيوت الله في مكة والمدينة وبيت المقدس...
ومضت أيام رهيبة، وبدأت الرسل تتوالى بين المنظمة وبين الوطن.. فقد كان الملك حسين قد أعلن أنه قطع علاقته بالمنظمة وسحب اعترافه بها، وأغلق مقرها العام في القدس وختمه بالشمع الأحمر .. ولم يعد أمامنا من سبيل للاتصال بجماهير الشعب إلا بإذاعة المنظمة في القاهرة، نخاطب من خلالها أهالي السموع، والخليل، والشعب أجمع في الوطن بأسره..
وحجزنا طائرة خاصة حملت الصحفيين العرب والأجانب ومراسلي الإذاعة والتلفزيون إلى الأردن ونقلوا صورة رهيبة عن التدمير النازي والتنقيل البربري الذي اقترفته القوات الإسرائيلية على الحجر والبشر .
ولكن الصحفيين شاهدوا انفجارات أروع وارفع .. لقد شاهدوا خلال إقامتهم في البلاد وعلى أيام وأيام انفجار الشعب على الملك حسين فقد اندلعت المظاهرات في مدن الضفة الغربية ؛ ومنها انتقلت إلى الضفة الشرقية، وخرج الشعب إلى الشارع وهو يهتف صارخا متمزقا يطلب : السلاح ..(1/332)
تسليح القرى الأمامية .. التجنيد الإجباري .. دخول جيش التحرير الفلسطيني لحماية القرى الأمامية ..
واشترك في هذه المظاهرات الشعب بكل فئاته ؛ ولم يسع رجال الأمن إلا أن يساهموا في هذه المسيرات الشعبية ؛ وبلغ الغضب ذروته فهتفوا بسقوط الملك حسين، ومزقوا صوره في دواوين الحكومة ؛ وحملوا الولاة على أكتافهم واجبروهم أن يصيحوا ليسقط الملك حسين !! فهتفوا ملء قلوبهم وأفواههم...
وكان ميسورا على الملك حسين أن ينحني أمام العاصفة حتى تعبر ؛ ولكن المطلب الرهيب : دخول جيش التحرير إلى الأردن : لم يكن بوسعه أن يحتمله ولا أن يصبر عليه .. فصدرت الأوامر الملكية، إلى رئيس وزرائه السيد وصفي التل، كما رددتها إذاعة عمان، (بالضرب على المشاغبين بيد من حديد وبلا رحمة)..
وازداد الموقف توتراَ، وازدادت مضاعفاته، وشمل الهياج جماهير الأمة العربية في الوطن العربي بأسره ؛ فقامت المظاهرات في العواصم العربية ؛ وأقيمت صلوات الغائب على أرواح الشهداء، وتنادى الطلاب العرب في القارات الست إلى مسيرات هائجة، واقتحموا السفارات الأردنية وبعثروا أوراقها، ومزقوا صور الملك حسين، وداسوا ما لم يستطيعوا تمزيقه.
وفي تلك الأيام الحالكة، كان لا بد من الصفاء والصوفية في القول وفي العمل، ورأيت أن ابدأ بنفسي .. رأيت أن استأنف الاتصال بالملك حسين، رغما عن القطعية التي بيننا .. واحتشدت في نفسي كل آلام الوطن وكل عذاب الشعب، فوجهت إلى الملك حسين رسالة (15-11-1967) قلت(1/333)
فيها :- (منذ أن ألقيت خطابك في عجلون انقطعت الصلة بيننا، وأصبحت المنظمة غريبة في وطنها، بعيدة عن شعبها..)
(ولكن هذا الوطن الجريح، ليس لي وليس لك، فأنّا كلينا إلى زوال، وهذا الوطن هو الذي يبقى، وهذا الشعب هو الذي يدوم، ولست في حاجة أن أجعل لحديثي مقدمة أو ديباجة .. فان الهجمة الإسرائيلية الغادرة على لواء الخليل، أبلغ من كل مقدمة وافصح من كل ديباجة.)
(وإن الغارة الإسرائيلية قد حققت أغراضها، وفق الخطة التي وضعتها لها القيادة الإسرائيلية .. وهذه الغارة لم تكن تستهدف احتلال الأرض، أبدا، لم يكن هذا ضمن خطتها ؛ كان هدفها الشعب، الشعب الآمن، الشعب الأعزل، فأنجزت الغارة الإسرائيلية ما أرادت، ثم انسحبت، وتركت وراءها الأرواح وقد أزهقت، والمنازل وقد دمرت ؛ وكان ضحاياها الشيوخ والنساء والرجال والأطفال ؛ ومثل هذه الغارة بل أشد منها سيقع على وطننا وعلى شعبنا، حينا بعد حين).
(سيقع مثل هذا بل أشد من هذا في الخليل، وفي القدس، وفي نابلس وطولكرم، وفي جنين، وفي اربد، وفي جميع المدن والقرى الأمامية على طول الخطوط الأمامية، على خطوط الهدنة) .
لقد عرضتم الشكوى الأردنية على مجلس الأمن، وهذا عمل لا طائل تحته ؛ وخذها عني أيها الملك حسين، خذها عني خبرة السنين، إن مجلس الأمن لا يحمي شعبنا ووطننا من غدر إسرائيل بالمدافع والدبابات والطائرات التي ضربت قرى الخليل أول أمس.
ومنذ قامت منظمة التحرير، وهي تخشى وقوع الذي وقع، بل إن منظمة التحرير الفلسطينية منذ قامت وهي تدعو إلى التجنيد الإجباري،(1/334)
وتسليح المدن والقرى الأمامية، وإنشاء معسكرات للتدريب على أعمال المقاومة الشعبية.
وإني أذكر الآن للتاريخ والعبرة، أنه يوم التقينا في رياسة الوزارة في عمان لبحث مطالب منظمة التحرير الفلسطينية، وجهت السؤال واضحا صريحا إلى السيد وصفي التل رئيس الوزراء : هل إذا هبطت فرقة من المظليين الإسرائيليين على الخليل، هل أهالي الخليل قادرون على الدفاع عن أنفسهم ؟.. فأجابني رئيس الوزراء فورا، نعم إن أهل الخليل قادرون على الدفاع عن أنفسهم.
وأحسب أنني كنت أتكلم يومئذ بلسان الغيب، فها قد وقعت الواقعة، وعلى أهل الخليل بالذات .. فما استطاعوا الدفاع عن أنفسهم، فقتل من قتل وذبح من ذبح ؛ وإن هذا المصير ينتظر أهالي القدس وبيت جالا، ورام الله، ونابلس وجنين وطولكرم، وجميع مدننا الأمامية وجميع قرانا الأمامية..
وليس الوقت الآن وقت ملامة وحساب، لسنا نريد أن نعود إلى الماضي قريبا كان أو بعيدا ؛ ولا نريد أن نتحدث عن الأسباب والنتائج، وما كان بين المنظمة وعمان ؛ فان الزمن زمن كفاح وجهاد، وزمن إعداد واستعداد ؛ وإن منظمة التحرير الفلسطينية ليست لها مطالب شخصية تعرضها عليكم ؛ إنها مطالب التحرير : هذا الشعب يجب أن ينظم ؛ هذا الشعب يجب أن يدرب ؛ وهذا الشعب يجب أن يسلح.
وحين نقول هذا الشعب يجب أن ينظم، فإنما نعني إنشاء فرق شعبية للمقاومة الوطنية في كل مدينة، في كل قرية، في كل مخيم ؛ وحين نقول هذا الشعب يجب أن يدرب، فإنني أعني إنشاء معسكرات للتدريب في طول البلاد وعرضها، يدرب فيها الشباب والطلاب والنساء والرجال على حمل(1/335)
السلاح بكل أنواعه ؛ وحين نقول هذا الشعب يجب أن يسلح، فإنما أن تسلح المدن ، وأن تسلح القرى الأمامية على طول خطوط الهدنة لتكون قادرة على الدفاع .. الدفاع عن الحياة وعن الوجود ..
وإن منظمة التحرير لا تقدم اقتراحاتها إلى الملك حسين كلاما وتمنيات، ولكن تشفعها عزما وتصميما، عملا ونضالا.
أن منظمة التحرير الفلسطينية لا تؤيد الأردن كبلد شقيق . إنها تؤيده، لأنها تؤيد ذاتها ووجودها ومصيرها، ليس الأردن عندنا بلدا شقيقا .. إنه بلدنا فيه وطننا، وفيه شعبنا، وله علينا حق النضال وواجب الجهاد.
إن منظمة التحرير الفلسطينية مستعدة أن تنقل جميع وحدات جيش التحرير من غزة، من سوريا، من العراق، إلى ارض الوطن في الأردن، لتتخذ مراكزها في المواقع التي تخصصها القيادة العربية الموحدة، وإن تعمل تحت إمرة القيادة الموحدة .. وبهذا يجد الجيش الأردني الباسل توأمه الشقيق جيش التحرير الفلسطيني، تجمعهما اخوة الدم واخوة السلاح في معركة التحرير وعلى أرض التحرير .
إن منظمة التحرير الفلسطينية مستعدة أن تقدم إلى المدن والقرى الأمامية في الأردن جميع أنواع الأسلحة الخفيفة والأسلحة المتوسطة، بما فيها الأسلحة الأتوماتيكية والأسلحة المقاومة للطائرات والدبابات .
إن منظمة التحرير الفلسطينية مستعدة أن تضع إمكانياتها المالية والمعنوية لإنشاء فرق للمقاومة الشعبية، ولإقامة معسكرات للتدريب، حتى تجعل الشعب كل الشعب سندا قويا للجيش الأردني البطل.(1/336)
وإنني في هذه اللحظات الحاسمة أطلب إلى الملك أن يتأمل مليا وعميقا هذه المرحلة الخطيرة التي تواجه شعبنا ووطننا ؛ إنها مرحلة تاريخية تضعنا جميعا أمام المسؤولية القومية وجها لوجه.
إن منظمة التحرير الفلسطينية تريد أن تعبئ الشعب كل الشعب لمعركة التحرير ؛ هذا هو هدفها الوحيد في الحياة .. بل هذا ما قامت من أجله منظمة التحرير.
أريد أن أقولها كلمة صريحة للملك حسين : لسنا طلاب حكم، ولكننا طلاب تحرير ؛ الوطن الواحد، الشعب واحد، والمصير واحد.
نحن نطالب الملك حسين، على مسمع من شعبنا الصابر، ومن الجيش الأردني البطل، أن يبادر بنفسه إلى دار الإذاعة الأردنية ليحدد موقفه من هذه الخطة النضالية التي تعرضها المنظمة..
نحن نتطلع إلى الملك حسين أن يعلن قبوله لها ؛ فان قبل، فستكون المنظمة، قيادتها، جيشها، وأجهزتها وأموالها، وكل طاقاتها وقدراتها، ستكون في الأردن غداً مع الشعب البطل، مع الجيش الباسل نكافح معا من اجل تحرير الوطن السليب.
نحن ننتظر الجواب من عمان ومن الملك حسين بالذات.
لا نقول هذا تحديا ولا حوارا.
ولكننا نقوله قياما بواجب النضال، وقياما بواجب الجهاد.
نحن ننتظر الجواب من عمان، نحن ننتظر الجواب من الملك حسين، فان قبل فنحن على موعد على اللقاء في أرضنا، وفي وطننا، ومع جيشنا ؛ سنكون كلنا في المعركة.قيادة المنظمة، جيشها، أجهزتها، قواعدها، شعبها، كلنا في أرض المعركة(1/337)
وجهت هذه الرسالة إلى الملك حسين بنفس صافية وأنا اطمع أن يقابلها من جانبه بنفس صافية .. ولكنه حسب أني استعطفه واستنجده .. وكأنما قرية السموع هي داري التي تهدمت، وجئت اليوم أطلب نجدته ..
ونام الملك حسين على رسالتي بضعة أيام، وإذا بالإذاعة الأردنية في عمان تذيع نص رسالة ملكية سامية وجهها جلالة الملك المفدى (إلى عزيزنا دولة الرئيس وصفي التل)، ثم يذيع بعد ذلك رسالة جوابية من رئيس الوزراء مروعة إلى (أعتاب مولانا صاحب الجلالة وارث الثورة العربية).
استمعت إلى الرسالتين دون أن تتقزز نفسي من عبارات التفخيم العظيم التي تبادلها الملك ورئيس وزرائه، فقد تبلد إحساسي منذ زمن طويل وأنا استمع إلى هذه الصياغات وهي أشبه ما تكون (بالمجوهرات)) العصرية بقيمة الجنيه وأنصاف الجنيه، مما يباع على أرصفة الشوارع !
وقد استمع الشعب إلى هاتين الرسالتين، ودماء الشهداء ما تزال طويلة على ترابنا الطهور، وكل ما فيهما هجوم على منظمة التحرير التي (تسعى إلى تخريب هذا البلد، والتفريق بين أبناء الوطن الواحد) وأن رسالة رئيس المنظمة تهدف إلى (تعطيل جهودنا المتواصلة التي تهدف إلى التعبئة والحشد على خط الدفاع الأول عن دنيا العرب). وطلب الملك حسين في رسالته من رئيس وزرائه بأنه (إذا ظهر بيننا من تسول له نفسه الانصراف إلى الفوضى والتخريب فليعاقب دون هوادة..) وأجاب رئيس الوزراء على ذلك بقوله (أن ما يسمع من أصوات منكرة إنما هي أصوات عميلة مأجورة)!!(1/338)
وكان هذا الوعيد والتهديد أشبه بغاز البترول مسته ولعة من نار، فتأججت مشاعر الشعب وازدادت غضبا واستنكارا ؛ وأصبحت المظاهرات والمسيرات من الأعمال اليومية تمارسها الجماهير الحانقة، وليس لها من مطلب ألا السلاح .. السلاح..
وفي قرية السموع بالذات، بلغ الإلحاح على السلاح ذروته ؛ فقد أرسلت السلطات الأردنية سيارات محملة بالخيام ليأوي إليها الأهالي الذين دمرت منازلهم، وكان أن جمعت هذه الخيام في ساحة القرية كومة واحدة، وتقدم الشباب وصبوا عليها الجاز وأحرقوها لتصبح رمادا تذروه الرياح .. والشباب يصيحون : نحن لا نريد الخيام .. نريد السلاح ..
ومرة ثانية، وبنفس أصفى من عين الديك كما يقول المثل العامي، بعثت إلى الملك حسين رسالة ثانية (22-11-1966) لعل الله أن يهديه، وقلت:-
مرة ثانية أوجه إليك هذه الرسالة لأعبر عن مشاعر الشعب المناضل والجيش الباسل ؛ ولست أريد أن أتحدث عن رسالتك لرئيس الوزراء، ولا إلى جوابه إليك، فليس هذا وقت الحوار والجدال .. ولكنه وقت الكفاح والقتال.
إن مناقشات مجلس الأمن بصدد العدوان الإسرائيلي على قرية السموع تدور في حلقة مفرغة .. وإن صدور القرار بإدانة إسرائيل لا يشفي غليل الأمة ولا يثأر لشهداء الشعب والجيش، ولا يعمر الخراب والدمار .. ولا يأسو جراحنا القديمة والحديثة .. ولن تكون الإدانة أكثر من قرار يضاف إلى قرارات عديدة أصدرتها المنظمة العالمية، فكانت كلاما على كلام، وتراكمت أوراقا على أوراق.(1/339)
ونحن لا نتوقع أكثر من هذا، فان مجلس الأمن فيه الولايات المتحدة التي أقامت إسرائيل بالأموال الأميركية والأسلحة الأميركية . مجلس الأمن هذا لا يحمي شعبنا ووطننا، يحميه شعبه وجيشه، وتحميه الأمة العربية، وليس لنا أن نرجو غير هذا، أو نطمع في غير هذا.
ولو شاءت الولايات المتحدة، حتى من غير حاجة لمجلس الأمن، أن تقف إلى جانب الحق لمنعت عن إسرائيل المال والسلاح عاما واحدا . ويومها سنرى إسرائيل جاثمة على جبهتها، خاضعة مستسلمة ؛ ولكن إسرائيل هي القاعدة الأمامية للاستعمار وعلى رأسه أميركا . وقد آن لنا أن نغسل أيدينا من السياسة الغربية في قضية فلسطين . فان الغرب هو الذي كان وما يزال أصل الكارثة وسبب البلاء، وإنه لعبث ما بعده عبث أن نجعل من الخصم حكما، وأن نلتمس من العدو حقا وعدلا.
وفي رسالتي الأولى إليك عرضت عليك أيها الملك الحسين خطة نضالية وضعتها منظمة التحرير لنقابل بها الأحداث الخطيرة التي تجابه وطننا في حاضره ومستقبله .
ولم أتلق منك جوابا مباشرا حتى الآن، ولو كان الأمر بيننا يتناول أمورا شخصية لأمسكت عن الاتصال بك، فاني كعربي فلسطيني يعتز بكرامته، ولا أسمح لنفسي أن اقف على العتبات أمام الأبواب المقفلة.
ولكن الأمر يتعلق بالوطن والشعب ؛ يتعلق بالمصير الخطير الذي ينتظرنا ؛ فكان لا بد لي أن اعتصم بالصبر، وان أضع الكرامة الشخصية جانبا؛ فان فلسطين فوقك وفوقي، وفوق جميع الملوك والرؤساء ؛ ولا حرج علي ؛ من أجل فلسطين أن أظل واقفا على الأبواب اقرع وأطالب ؛ فلا يضيع حق وراءه مطالب، وشعب مطالب.(1/340)
والأمر الذي أريد من الملك حسين أن يتأمله مليا، ويفكر فيه عميقا أن الفدائيين المناضلين من أبناء فلسطين سيواصلون ضرب إسرائيل في المنطقة المحتلة ؛ الفدائيون سيزدادون عدة وعددا . الفدائيون سيزدادون نضالا وعزما ؛ الفدائيون سيثأرون لشهداء الجيش والشعب ؛ انهم سيثارون لشهداء الجيش والشعب ؛ انهم سيثارون لأهالي الخليل، بل لأهل فلسطين بل للامة العربية بأسرها.
هذا ما انتهى إليه عزم الفدائيين المناضلين من أبطال فلسطين ؛ انهم سينطلقون من كل شبر من أرض الوطن، من العقبة جنوبا إلى عجلون شمالا ؛ هذا هو علم اليقين وستعلمون نبأه بعد حين.
ولقد مات نصف شعبنا على فراشه تحت الخيام المهلهلة منذ وقعت الكارثة ؛ فالفدائيون المناضلون من أبناء فلسطين طال انتظارهم، ونفذ اصطبارهم ؛ ولم يعد أمامهم ألا أن يبدأوا معركة التحرير، وأن يجعلوا دماءهم فداء لاسترداد الوطن السليب..
على الملك حسين أن يدرك هذا كله، وأن يدرك حق الشعب وحق الجيش في هذه المعركة، وأن يدرك إلى جانب ذلك كله واجب منظمة التحرير إزاء هذا الهدف المقدس.
ولقد سمع الشعب أنباء البلاغات الرسمية التي أذيعت من عمان عن الهجمة الإسرائيلية الغادرة على لواء الخليل ؛ وإنني امتنع الآن بكل قصد وتصميم عن ذكر حقائق هذه المعركة ونتائجها فان الشعب يعرفها، ويعرفها رجل الشارع في صميم الشارع.
ولذلك فان الحاضر الذي يواجهنا، والمستقبل الذي ينتظرنا، يفرض علينا جميعا أن نتقي الله جميعا في وطننا وشعبنا، وأن نرتفع إلى مستوى(1/341)
المعركة وأن نعيشها بكل عزائمنا وبكل جوارحنا ؛ وها أنت أيها الملك حسين تسمع صيحات المتظاهرين ونداءات الشعب تنطلق من الشباب والطلاب من الرجال والنساء، ومن الفلاحين والعمال ومن جميع فئات الشعب على السواء.
وحين عرضت في رسالتي الأولى إليك أن تتحرك المنظمة فورا بقيادتها وجيشها وأجهزتها إلى أرض الوطن إلى أرض المعركة، كما أردت من وراء ذلك معاونة الأردن ومساندة الجيش والشعب . هذا تصور خاطئ نرفضه بكل شمم وإباء، نحن لا نقدم معاونة إلى الأردن . ليس الأردن بلدا شقيقا، الأردن فيه وطننا وفيه شعبنا .. وانه واجبنا المقدس بل حقنا الأسمى للدفاع عن وطننا، وأن نسارع لنذود عن شعبنا كتفا إلى كتف مع الجيش الأردني الباسل، وعلى الملك أن يكون في استقبال كتائبنا، كتائب جيش التحرير، فذلك ما يدعو إليه شرف الكفاح والجهاد .
لقد عرضنا أن نقدم جميع الأسلحة إلى المدن والقرى الأمامية على طول خطوط الهدنة..
ومنظمة التحرير تقول اليوم للملك حسين إننا مستعدون أن نقدم هذه الأسلحة إليك لتوزيعها، بكلتا يديك على أبناء الشعب، وأبناء الشعب لو أصغيت إلى صيحاتهم يطالبون بالسلاح، ونحن حاضرون أن نقدم السلاح .
لقد عرضنا أن ننشئ المعسكرات للتدريب الشعبي على جميع فنون القتال، ونحن نعرض على الملك حسين أن يفتتح بنفسه هذه المعسكرات حتى يصبح الشعب كل الشعب، قادرا على حمل السلاح وأن يتصدى للعدو هجوما ودفاعا في المدن والقرى، في المزارع والمصانع، في الساحات وفي الشوارع.(1/342)
ولقد عرضنا أن ننقل جيش التحرير لفلسطيني فورا إلى مراكزه التي تحددها القيادة العربية الموحدة وأن يكون تحت إمرة القيادة العربية الموحدة ؛ ومنظمة التحرير تقول اليوم للملك حسين إننا مستعدون أن يتحرك عشرة آلاف جندي . نعم عشرة آلاف جندي ومعهم قادتهم وضباطهم إلى وطنهم فلسطين . إلى وطنهم الأردن .. ليكونوا مع الجيش الأردني الشجاع جنبا إلى جنب، وإن شئت المزيد فان جيش التحرير قادر وحاضر للمزيد.
وجيش التحرير الفلسطيني كله من أبناء فلسطين لحما ودما، وإن شئت فأنه كل من أبناء الأردن لحما وعظما ودما .. فالأردن وفلسطين اسمان مترادفان للوطن ؛ إن وحدات جيش التحرير في غزة وسوريا، والعراق قد بلغت مستوى رفيعا من النظام والتدريب ودرجة عالية من الكفاءة والقتال .. ذلك هو تقرير السيد علي عامر القائد العام للقيادة العربية الموحدة، والتقرير عندكم في ملفاتكم ؛ وإذا أضفنا إلى ذلك شجاعة أهل فلسطين وتمرسهم بالقتال والنضال عبر العصور والأجيال، حينئذ يطرح السؤال الخطير نفسه أمام الملك حسين :- ماذا تفعل كتائب جيش التحرير في العراق ولواء الخليل يضرب بالحديد ويقذف بالنار ؟ ماذا تفعل كتائب جيش التحرير في سوريا والمدن والقرى الأمامية في وطننا مكشوفة عزلاء ؟ ماذا تفعل وحدات جيش التحرير في غزة وإسرائيل تتوعد شعبنا في الأردن ؟ أن الملك حسين وحده مطالب بالجواب.
وجيش التحرير، أقولها للملك حسين على مسمع من الشعب، مؤلف من وحدات فدائية ونظامية، مجهز بمختلف الأسلحة الهجومية والدفاعية بما فيها الأسلحة المضادة للطائرات والدبابات ؛ ويطرح السؤال الخطير نفسه مرة ثانية على الملك حسين: لماذا لا يكون جيش فلسطين على ارض(1/343)
فلسطين، ومع شعب فلسطين، يناضل ويقاتل مع الجيش الأردني الباسل، إن الملك حسين وحده مطالب بالجواب.
ولست أعلنها كلاما ولكني أعلنها قسما إن جيش التحرير يوم يدخل وطنه في الأردن سيكون للتحرير ولا شيء إلا التحرير، فلا المناصب هدفنا، ولا الرواتب مطمعنا، ولا الحكم غايتنا .. الوطن السليب قبلتنا بعد قبلتنا، وكعبتنا يعد كعبتنا ؛ والتحرير هو إيماننا بعد إيماننا.
أما أنا فإنني لا أصلح للقتال، وأنا أقترب من الستين من عمري، ولكني أصلح لما أصلح له ؛ ان أعمل مع قادة الشعب نزيد جيشنا طاقة وعدة، وصبرا وعزما وأملا وإيمانا ؛ فان النصر معقود اللواء للذين يقاتلون بصبر وعزم وإيمان.
مرة ثانية أطلب إلى الملك حسين أن يكون في استقبال كتائب جيش التحرير حين يدخل أرض الوطن ؛ فان رضي الملك حسين، وهذا هو رجائي ودعائي، فسيدخل جيشنا إذا ؛ وأرجو أن يكون لقاؤنا الأول مع الملك حسين في المسجد الأقصى، لنتعاهد على التحرير في أولى القبلتين وثالث الحرمين وفي موطن الإسراء والمعراج ؛ فان لم يرض الملك حسين بهذا فستكون الكلمة للشعب المناضل، والجيش الأردني الباسل .
كانت تلك هي رسالتي الثانية إلى الملك حسين، ولكن .. ولكن لم تجد توسلاتي إلى الملك حسين، فآثر الإصرار على موقفه ؛ وازداد الشعب إصرارا على مطالبه ؛ وتطايرت شرارات الثورة في البلاد، فأخذ الأهالي يهاجمون مراكز الشرطة للاستيلاء على ما فيها من الأسلحة ؛ وأضربت المدارس ؛ وتداوت أصوات الانفجارات في الليل والنهار ؛ واعتصم الجيش في ثكناته يرفض الانصياع إلى الأوامر للبطش في الشعب ؛ فان واجبه الأول(1/344)
والأخير التصدي لإسرائيل، لا التنكيل بالآمنين الأبرياء، من أبناء الشعب الشرفاء..
ومع اضطراب الحال في داخل الأردن، اضطرب اثنان خارج الأردن .. إسرائيل والولايات المتحدة، فقد بدأ الإسرائيليون يدركون أن (الغارة الإسرائيلية كانت خطأ سياسيا فادحا، فان الملك حسين معروف بصداقته الشديدة للغرب، وإن إخراجه من الحكم ضربة قاسية لكل العرب المحافظين ولإسرائيل نفسها)، وهذا ما نشرته الاسوشيتدبرس لمراسلها في تل أبيب ..
أما الولايات المتحدة فإنها أصدرت أوامرها إلى الأسطول الأمريكي بان يكون على قدم الاستعداد للتدخل، لحماية الملك وعرش الملك .. وأن على وحدات الأسطول الأمريكي أن تتخذ مراكزها شرقي البحر الأبيض المتوسط لإنزال الجنود في الأردن عند طلب الملك حسين ) وهذا ما نشرته النيويورك تايمز (28-11-1966).
وكان الشعب يتابع أخبار مجلس الأمن في مناقشاته الهزيلة للشكوى التي تقدم بها الأردن ؛ ويستمع إلى خطب مندوبي الدول الأربع وهم ينددون بالغارة الإسرائيلية على قرية السموع، والى مندوب الأردن وهم يطالب بإنزال العقوبات السياسية والاقتصادية بإسرائيل .. دون أن ينحرف مجلس الأمن عن إطار القرار التقليدي (بإدانة إسرائيل على غارتها المخالفة لنصوص اتفاقية الهدنة، ومطالبة جميع الفرقاء بالتزام وقف إطلاق النار) ..(1/345)
وفشلت جهود الملك حسين في استدراج الجيش الأردني من ثكناته ليتصدى للشعب ؛ فتحركت مفارز من الجيش السعودي إلى الأردن، فالمملكة العربية السعودية لا تستطيع أن تحتمل رؤية العرش الهاشمي يترنح في عمان .. ولقد عشت وجيلي أخبار الحروب الطاحنة بين السعوديين والهاشميين، وكيف انتهت بجلاء الهاشميين عن ملكهم في الحجاز .. غير أن الظروف قد تبدلت، وصارت الرياض ترى في عمان قلعتها الأمامية .. وذلك ما حدا بالقوات السعودية أن تتحرك إلى الأردن، حينما كان الشعب يتحرك حول القصور الملكية في عمان.
وفي هذه المرة رأى الشعب أن الملك حسين قد إذن للقوات السعودية بان تتجاوز الحدود وتدخل الأراضي الأردنية، إن لم يكن قد دعاها هو بنفسه، بعد أن بقيت هي والقوات العراقية عاما بكامله دون أن يؤذن لها بالدخول، لتكون في مواجهة إسرائيل.
واتخذت القوات السعودية مواقعها في الخطوط الخلفية من البلاد شرقي نهر الأردن وخشيت أن تتطور الأمور إلى ما هو أسوأ، وتشتبك القوات السعودية مع الشعب، وإسرائيل على مرمى البصر تتفرج .. فغادرت مكتبي إلى منظمة التحرير، أناشد القوات السعودية .. الإسلام .. الإسلام، والقرآن والقرآن، في رسالة قلت فيها :
(بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد المرسلين ...
(أيها الضابط الشجعان، إليها الجنود البواسل من الجيش العربي السعودي..
(أحييكم تحية العروبة والإسلام، وأسلم عليكم سلام الاخوة والإيمان، وها أني أحدثكم اليوم، تفصنلي عنكم البراري والقفار، ولكنا(1/346)
نحن وإياكم اقرب من حبل الوريد، فإنما المؤمنون اخوة، وعروة الإيمان وثقى لا انفصام لها، أماتنا الله وأحيانا على الإيمان، (قل إن صلاتي ونسكي، ومحياي ومماتي، لله رب العالمين).
(واني بعد اخوة الإسلام، لست غريبا عنكم، فقد عرفتكم في الحجاز، مهبط الوحي العظيم، وفي نجد موئل الشمائل الإسلامية والبطولة العربية ؛ عرفت الكثير من ضباطكم وجنودكم ؛ عرفت قبائلكم التي تنتسبون إليها، وهم الذين قاتلوا قتال الأبطال تحت راية بطل الجزيرة العربية، المرحوم عبد العزيز آل سعود، نور الله مرقده، وطيب ثراه.
(اجل إنى لست غريبا عنكم، وقد مثلت العربية السعودية، سنين طوالا في الأمم المتحدة، فأعربت عن آمالكم الكبرى في القضايا العربية، وفي مقدمتها قضية العرب الأولى، قضية فلسطين، بل قضية الإسلام والمسلين، وهو القائل (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) ؛ وقد تواترت الأنباء أنكم تتهيأون للدخول إلى الأردن من تبوك ؛ وإن شعب الأردن، وإني أحدثكم بلسان كل واحد منهم، من الصحراء شرقا إلى أسوار القدس غربا، يسعدهم جميعا أن تدخلوا بلدكم، أن تدخلوا المدن والقرى والمخيمات، والبوادي والحواضر، فانتم على الرحب والسعة، حيثما حللتم، وأينما نزلتم، إخوان في الله والإيمان، وإخوان في الجهاد، تأتون أهلا، وتنزلون سهلاً..
(وإنه لمن بوادر الخير أنكم تخرجون من تبوك، وانتم عارفون بقدرها وفضلها في الإسلام، فغزوة تبوك قادها رسولنا العظيم بنفسه، في السنة التاسعة للهجرة ؛ وكانت تبوك آخر ما وصل إليه نبينا الكريم، صوب(1/347)
فلسطين ؛ ويقيني أنكم في طريقكم إلى فلسطين ستحملون معكم في قلوبكم رسالة الجهاد في سبيل الله، التي قاتل من أجلها رسول الله ..
(ولست أعرف التعليمات التي لديكم، ولا ما هي الواجبات العسكرية التي ستوكل إليكم، أعلم أنكم وافدون من بلاد دينها الإسلام، ودستورها القران ؛ والإسلام فوق كل تعليمات، والقران يعلو على كل توجيهات . فما هو واجب الإسلام من قضية فلسطين ؛ وما هو أمر القران فيما يجري من الأحداث على أرض فلسطين ؟.
(أيها الضباط الشجعان، أيها الجنود البواسل من الجيش العربي لسعودي، إن الخلاف القائم الآن بين الشعب والملك حسين، ليس خلافا سياسيا، ولا عقائديا، ولا اجتماعيا، ولا اقتصاديا، وإن الشعار الوحيد الذي يطرحه الشعب في هذه المرحلة من حياته القومية، هو شعار التحرير لا شيء غير التحرير.
(ومنذ أن وقع العدوان الإسرائيلي الأخير على لواء الخليل، هب الشعب الأردني وعلى رأسه زعماؤه يطالبون بالسلاح، دفاعا عن الوطن، ثأرا لشهداء الجيش والشعب ؛ وانطلقت المظاهرات في جميع أنحاء البلاد، تدعو إلى دخول الجيوش العربية وفي طليعتها جيش التحرير الفلسطيني.
(وبدلا من أن يجيب الملك حسين على هذه المطالب العادلة، سلط زبانيته من المرتوقة على الشعب، فقتلوا العشرات من أبناء الوطن، وامتلأت المستشفيات بالجرحى، وغصت السجون بزعماء البلاد وأحرارها، حتى لقد أصبحت غارات الملك حسين على الشعب، أشد من الغارة الإسرائيلية، تقتيلا وترويعا ؛ والشعب كله، وهو يقلب بين يديه، صفحات(1/348)
القران الكريم من أبناء الشعب يريد من الملك حسين أن لا يصد عن سبيل الله، والجهاد في سبيل الله.
(اجل بدلا من أن يتجه الملك حسين صوب إسرائيل لينتقم منها، وبدلا من أن يثأر لشهداء الشعب والجيش، وبدلا من أن يستمع إلى القران الكريم وهو يقول (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال) ؛ بدلا من كل هذا اتجه الملك حسين صوب الشعب، بالتنكيل والتقتيل، والترويع والتدمير ؛ وقد وجد نفرا من الزبانية المرتزقة الذين حملوا السلاح في وجه الشعب الأعزل، فقتلوا النساء والأطفال، والمقيمين واللاجئين، وهم خارجون من بيوت الله، بعد صلاة الجمعة فحق عليهم قول الله تعالى (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها، وغضب الله عليه، ولعنه، وأعد له عذابا عظيماً).
(والآن ما هو واجبكم الذي يدعوكم إليه واجب الجهاد ؛ إني لا ابتدعه لكم وليس لمخلوق على هذه الأرض أن يبتدع لكم واجبا غير ما أوجبه القران، والقران يقول، (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر) فاحذروا أن توجهوا سلاحكم إلى صدور إخوانكم في الأردن، فهؤلاء قوم مؤمنون بالله واليوم الآخر، إنهم مجاهدون من غير سلاح، معكم عن وطن العروبة والإسلام، فقد كانت هذه سيرة الأنصار مع المهاجرين في المدينة المنورة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ؛ الأنصار قاسموا المهاجرين كرومهم وأعنابهم . منازلهم ونخيلهم، وطعامهم وسلاحهم.
(ورابطوا أيها الشجعان في الخطوط الأمامية، في المقدمة لا في المؤخرة، فانتم جديرون بالمقدمة وأمامها الخطر الكبير، تجدونه على مرمى أبصاركم، متجسدا في قيام إسرائيل.(1/349)
(رابطوا في بيت المقدس، وفيها أولى القبلتين وثالث الحرمين، ووطن الإسراء والمعراج.
(رابطوا في المدن والقرى التي شهدت دعوة السيد المسيح عليه السلام.
(رابطوا في الخليل في مدينة خليل الله إبراهيم عليه السلام، ولتكن لكم نظرة على السموع، لتروا ما بجنباتها من الخراب والدمار، يفوح من أرجائها عطر الدماء الزكية، ما تزال ندية على أرضنا الطهور.
(رابطوا في رام الله والبيرة ونابلس وجنين وطولكرم واربد وعلى طول خطوط الهدنة لتشهدوا إيمان الشعب البطل، وهو صامد في وطنه أمام العدو الغادر، منذ أن كانت الكارثة.
(ثم انتقلوا إلى مخيمات العائدين، لتروا كبرياء هذا الشعب في خيام مهلهلة، تحتها عزة وكرامة، ووطنية واباء، وصبر على المحنة والبلاء.
(إن دخولكم أيها الشجعان إلى الأرض المقدسة، هو لملاقاة العدو ؛ وإن عدوكم لواحد هو إسرائيل ؛ الشعب ليس عدوكم ؛ وكل واحد من هذا الشعب هو أخ لكم، مؤمن إيمانكم، يردد قول الله في قرانه الكريم (لئن بسطت اليّ يدك لتقتلني، ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك، إني أخاف الله رب العالمين).
(ولقد عرضنا على الملك حسين، أن يدخل من جيش التحرير الفلسطيني عشرة آلاف جندي، معهم قادتهم وضباطهم وسلاحهم، لكن حسين أبى واستكبر، وطغى وتجبر، وصدق فيه قول الله (وخاب كل جبار عنيد).(1/350)
(ولو رضي الحسين، لكان لنا شرف كبير، أن نقاتل معكم، ومع إخواننا في الجيش الأردني الباسل، كتفا إلى كتف، في هذه المعركة المقدسة؛ ولكن الحسين قد اختار أن يصد عن سبيل الله، وأن يمنع الجهاد في سبيل الله، وأن يحول بين جيشنا ووطنه، وأن يمنع السلاح عن الشعب، وكان على الحسين حتى يزكي نسبه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام أن يذكر قول الله إلى رسوله (وإذا غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد القتال)؛ ولكن الحسين لا يعرف القران ولا حكم القران .
(أيها الشجعان من الجيش العربي السعودي.
(الديار المقدمة وطنكم، فاتقوا الله في وطنكم، وشعب الأردن إخوانكم فاتقوا الله في إخوانكم، وليس أمامكم إلا إسرائيل، فقاتلوها وحدها، ولا تقاتلوا سواها ؛ واحذروا أن تقتلوا أخا من أخواتكم، طفلا أو رجلا، امرأة أو كهلا ؛ ويكفي أن إسرائيل منذ قامت تقتل رجالنا ونساءنا، ويكفي أن الحسين يقتل شبابنا، وطلابنا وشيوخنا ؛ اتركوا الشعب وشأنه، يهيئ نفسه لمعركة التحرير، وإياكم أن تتعرضوا من قريب أو بعيد، إلى الفدائيين من أبطال فلسطين، الفدائيين الذين سينطلقون إلى أرضنا المحتلة، وقد عزموا على الشهادة في سبيل الله.
قاتلوا العدو ولا تقاتلوا سواه؛ ذلك هو حكم القران وحكم الإسلام
(ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب) صدق الله العظيم . كان ذلك حديثي إلى الجيش السعودي الذي كتب على رايته (لا اله إلا الله محمد رسول الله).
وفي الوقت الذي كان كانت تدور فيه المعركة بين الشعب والملك في الأردن، امتدت معركة السموع إلى خارج الحدود حتى شملت الدول العربية(1/351)
جمعاء .. وكان من أسباب ذلك أن الملك حسين قد ألقى جميع تبعات الغارات الإسرائيلية على عاتق القيادة العربية الموحدة، مرة، وعلى عاتق الدول العربية مرة أخرى.. وكانت قد بدأت هذه الحملة في مؤتمر صحفي عقده السيد وصفي التل رئيس وزراء الأردن (21-11-1966) فأبرأ ذمة الحكومة الأردنية من كل شيء .. وألقى اللوم كل اللوم على الجمهورية العربية المتحدة، لأن ( مسئولية التدخل الجوي لحماية جنوب الأردن تقع على سلاح الطيران المصري) . وعلى القيادة العربية الموحدة، لأنها (لم تطلب إلى الجيوش العربية التحرك لنجدة الأردن) ، وعلى الجمهورية العربية السورية لأن ( سلاح الطيران السوري كان بوسعه أن يقصف الأهداف الإسرائيلية الحيوية، ويخفف الضغط على الأردن..) وعلى أحمد الشقيري ( لأنه لم يفتح جبهة ثانية في سيناء بتحريك جيش التحرير الفلسطيني المرابط في قطاع غزة..).
وزرت الرئيس عبد الناصر في منزله بمنشية البكري (23-11-1966) ودار الحديث بيننا حول العدوان الإسرائيلي على قرية السموع، وما تطور إليه من مضاعفات عربية ودولية..
قال : إن الموقف في الأردن خطير .. عندنا معلومات أكيدة أن القوات الأمريكية تتأهب للنزول في الأردن، كما جرى في عام 1958 أيام أحداث لبنان .. وان من المصلحة إن نعمل على التهدئة في الظروف الحاضرة..
قلت : وهذه مخاوفنا في المنظمة .. ومن أجل ذلك فقد ناشدت الملك حسين ان يستجيب لمطالب الشعب، بلهجة بعيدة عن العنف والاستفزاز .. وبقي على سيادة الرئيس أن يقول كلمة في الموضوع..(1/352)
قال : هل تريد مني أن ابعث إليه برسالة عن طريق سفيرنا في عمان؟؟
... قلت : هنالك ما هو أجدى من ذلك ..
... قال : وماذا تقترح ؟
... قلت : سيادتك ستخطب غدا في مجلس الأمة لمناسبة انعقاد دورته الرابعة، وهذه مناسبة حسنة للتحدث في الموضوع، حتى تسمع الأمة العربية، ويسمع الملك حسين ..
... وخرجت من بيت الرئيس عبد الناصر، دون أن يعلق على كلامي.. فهذه عادته .. لا يقبل ولا يرفض حتى يعطي لنفسه فرصة للروية..
... وذهبت في اليوم الثاني إلى قاعة مجلس الأمة، وجلست في شرفة كبار الزوار استمع إلى خطاب الرئيس .. فتحدث وأطال، وتناول مختلف الشئون المصرية والعربية والدولية.. وفي نهاية خطابه تعرض لمعركة السموع، فتشدد بصره على أوراقه أمامه لا يرفع عينيه عنها ؛ فقد حرص أن يلتزم بالنص الذي أمامه، وان يلتزم كذلك بنبرة هادئة ؛ وخلص إلى القول إنه ( بالنسبة لجبهة الأردن لا بد من تسليح سكان القرى الأمامية ولو بالقدر الذي يمكنهم من الدفاع عن النفس والقيام بدور المعوق حتى تصل النجدات العسكرية النظامية .. إن أي جيش لا يستطيع أن يحمي جبهة واسعة كجبهة الأردن أمام عدو غادر كالعدو الإسرائيلي بدون نظام للدفاع يعتمد على تسليح أهل القرى الأمامية ... هذا هو رأينا في العدوان الإسرائيلي الغادر على السموع ..).(1/353)
... وصفق أعضاء مجلس الأمة طويلا وهم يصعدون بصرهم اليّ وأنا جالس في شرفة الزوار، ولسان حالهم يقول : هذا تأييد لمنظمة التحرير .. وعلى الملك حسين أن يسمع ..
... وخرجنا من قاعة المجلس، والسفراء العرب يحمدون للرئيس العربي أنه ضبط أعصابه وتناول قضية السموع باتزان وموضوعية .. وقلت للسفير الأردني وهو يؤيد وجهة نظرهم : اللاسلكي مفتوح بينك وبين عمان الآن .. ابرق إلى الملك حسين أن يبادر إلى تهدئة الموقف.
... قال : وماذا تقترح ؟
... قلت : فليتفضل الملك بزيارة القرى الأمامية وليعلن أنه سيمد الأهالي بالسلاح ويعمل على تحصين قراهم ..
... وعلى هذا الحديث انصرفنا جميعا كل إلى مكتبه .. والأردن يغلي كالمرجل، وهو يتساءل هل يستمع الملك حسين إلى نصيحة الرئيس عبد الناصر..
... وأحست العواصم العربية أن عليها أن تحدد موقفها، ولو على صعيد الكلام ... بعد أن كان الرئيس عبد الناصر كلمته .. وصادف في تلك الفترة أن كان الرئيس السوداني السيد إسماعيل الأزهري .. في زياره رسمية للمملكة العربية السعودية (26-11-2966) ؛ وفي حفلة العشاء التي أقامها الملك فيصل على شرف ضيفه وجد الفرصة مناسبة لأن يشير إلى معركة السموع بقوله ( اعذروني يا فخامة الرئيس إذا كنت صريحا أكثر من اللازم، إذا قلت إننا بهذا الأسلوب وبهذه الطريقة التي نعيشها اليوم كان من نتائجها أن العدو المتربص بنا كانت له الحرية أن يتعدى على قطر من أقطارنا واخوة من أشقائنا، ويفعل ما يشاء، وينسحب، ولا يجد منا نحن العرب من(1/354)
يقول له قف مكانك، أو يحرك ساكنا..) سمعت هذه الكلمة من الإذاعة السعودية بصوت الملك فيصل، وهو يرسل هذه الصيحة، يحمل غيره المسئولية، وهو بريء الذمة ؛ وكل دور جلالته أن يقول للعرب تحركوا وهو رابض في الرياض!!
... وكذلك، فان معركة السموع، كانت فرصة ليقول حزب البعث كلمته ويحدد موقفه .. فاجتمعت القيادة القومية لحزب البعث وأصدرت بيانا سياسيا (29-11-2966) هاجمت فيه الحكم القائم في الأردن، وأن (الحل العملي الموضوعي هو لقاء القوى التقدمية بهدف قيام حرب شعبية شاملة .. وأنه يجب تشكيل جبهة تقدمية في القطر العربي الأردني ... وأن حرب التحرير الشعبية هي التي تستطيع أن تطيح بالعرش الهاشمي وتدك إسرائيل من جذورها .. وأن الحل هو الاستمرار في الثورة إلى أن يزول العرش الخائن من الوجود ... اليوم تحرير الأردن وغدا تحرير فلسطين..).
... وزارني السفير السوري الدكتور سامي الدروبي، وهو من أدباء الشام المعروفين، فقدم اليّ بيان القيادة القومية لحزب البعث، مزهوا بعباراته، وهو يقول:-
هذا أقوى بيان عربي صدر بتأييدكم في موقفكم ضد الملك حسين ..
قلت : المثل المصري العامي يقول ( يا بايع المي في حارة السقايين) ويقابله بالفصحى ( يا بائع التمر في هجر ..) إذ أن المنظمة لا يعوزها الكلام؛ نحن نريد مساندة حقيقية .. نحن نريد أن ينفتح البعث على المنظمة .. نريد تعاونا إيجابيا مع البعث..(1/355)
تلك كانت هي الملابسات التي عشتها في غضون معركة السموع، رحت أستذكرها صفحة بعد صفحة، وأنا اقلب أوراقي، لأرى ما أختار منها لمذكراتي .. لأضعها في محراب التاريخ.
ورأيت بين أوراقي تصريحات عربية عن معركة السموع، تصلح أن تكون نموذجا للحكم العربي الرسمي المعاصر، فيما يرسل من الكلام .. وهذه هي القصاصات تتحدث:-
- وزارة الخارجية العراقية أصدرت بيانا عن الاعتداء الإسرائيلي على الأردن استنكرت فيه الاعتداء الإسرائيلي وأعلنت استعداها لتقديم كل المساعدات الممكنة للأردن لصد العدوان.
- الحكومة الكويتية أبلغت الحكومة الأردنية أنها تضع كافة إمكاناتها تحت تصرف الأردن لصد أي اعتداء عليه.
- ناطق سوري ندد بالعدوان الإسرائيلي على الأردن .. وأعلن أن سورية استعدت لكل احتمالات الموقف.
- أعلن الأمين العام لجامعة الدول العربية السيد عبد الخالق حسونة أن الدول العربية تعتبر العدوان على الأردن عدوانا عليها جميعا..
- أعلن الرئيس اليمني استنكاره للاعتداء الإسرائيلي على الأردن ووقوف الجمهورية اليمنية إلى جانب أية دولة عربية يعتدي عليها.
- رئيس الحكومة اللبنانية، أعلن استنكاره للغارة الغاشمة على الأردن ووقوف لبنان بجانب الأردن.
- وزير خارجية السودان أذاع بيانا استنكر فيه الاعتداء الإسرائيلي على الأردن، ودعا الدول العربية إلى اتخاذ الخطوات الكفيلة لوقف هذه الاعتداءات وأكد وقوف بلاده إلى جانب الشعب الأردني بدون تحفظ..(1/356)
تلك كانت القصاصات التي وجدتها في ملف السموع، ولكن قصاصة أخيرة وقفت أمامها، حائرا متأملا..
قالت تلك القصاصة : (نشرت جريدة الصنداي تايمز البريطانية مقالا لمراسلها في تل أبيب ذكر فيه أن ليفي اشكول رئيس الوزارة الإسرائيلية ووزير دفاعها قد أصدر بنفسه الأمر إلى القوات الإسرائيلية بالهجوم على السموع ؛ وأنه فعل ذلك ليغطي موقفه المهتز في داخل إسرائيل ؛ وأنه أراد أن يثبت انه إنسان شديد المراس، يحارب من أجل بقاء وزارته في الحكم..) قارنت بين هذه القصاصة والقصاصات التي سبقت .. وبدأ الفارق كبيرا، الحاكم اليهودي يعمل ليبقى في الحكم .. وأما الحاكم العربي فانه يرسل التصريحات تلو التصريحات ليبقى في الحكم .. وإن قلمي يتلعثم وأنا استحي أن أسأل : هل يستوي حكام إسرائيل وحكام العرب ؟؟!!
(وما يستوي الأحياء ولا الأموات ) ..
صدق الله العظيم(1/357)
قررنا أن نجتمع في تموز..
وانكسرنا في حزيران
... أقفلت الأبواب على أخطر اجتماع عقده مجلس الدفاع العربي منذ أن تم التصديق على اتفاقية الدفاع المشترك، واقترنت بتوقيع الملوك العظام والرؤساء الفخام !!
... كان ذلك في اليوم السابع من الشهر الأخير من عام 1966، وكان صاحب الدعوة لهذا الاجتماع الفريق أول علي عامر قائد القيادة العربية الموحدة، وكان موضوع الاجتماع : معركة السموع عبرها ودروسها، موقف الأردن منها، واجبات القيادة العربية حيالها، التزامات الدول العربية بشأنها .. ونتيجة لذلك كله، قيمة العمل العربي الموحد، ومدى صدق الملوك والرؤساء داخل مؤتمرات القمة وخارجها..
... ولقد شهدت كثيراً من اجتماعات مجلس الدفاع مع وزراء الخارجية والدفاع العرب ومعهم رؤساء الأركان والخبراء والسياسيون والعسكريون منذ الاجتماع الأول في عهد ( صاحب المقام الرفيع) مصطفى النحاس رئيس وزراء مصر)، وصاحب الفخامة نوري باشا السعيد (رئيس وزراء العراق)؛ ولكن هذا الاجتماع الذي عقد اليوم في دار الجامعة العربية، وقد شهده ما يقرب من ثمانين من رجالات العرب، بين وزير وسفير، وضابط كبير وصغير، كان أخطرها على الإطلاق..(1/359)
... أجل، كان أخطرها، لأن الاجتماعات السابقة كانت كلها على الورق من غير اختبار ولا امتحان ؛ وكان من السهل أن تمر الأمور على الورق من غير عناء ؛ وكان من السهل كذلك أن تمر الأمور على (عقل)) الأمة العربية في يسر وسهولة .. فالحكم العربي مسيطر على أجهزة الإعلام في الوطن العربي بالأكاذيب على أنها حقائق، وبالأباطيل على أنها الصدق الصادق .. والويل للأمة، أي أمة، لا تملك صحافتها وإذاعتها، ويملكها حكامها، وحكامها وحدهم!!
... ولكن معركة السموع التي التقى مجلس الدفاع لمناقشتها، قد كشفت وفضحت؛ وامتدت أصابع الاتهام عالية تطالب بالحساب، وصاحت الجماهير العربية تريد أن تعرف الحق .. كال الحق .. بعد أن تشدق الإعلام العربي الرسمي كثيرا وكثيرا عن عناوين كبيرة تشيد بمؤتمرات في القاهرة والإسكندرية والدار البيضاء، وتتغنى بخطط القيادة العربية الموحدة، وتمجد التعزيزات العسكرية، وما إلى ذلك من التعابير الفخيمة.
... وقد زاد من أهمية الاجتماع مناورات ومهاترات (احتشدت) بالوطن العربي لمدة ثلاثة أسابيع، وحمل الأردن لواءها من غير وجل ولا خجل .. ذلك أن الملك حسين ورئيس وزرائه السيد وصفي التل قد قاما بحملة تشهير على القيادة العربية الموحدة، وعلى الدول العربية، وعلى الجيوش العربية ؛ فعقدا المؤتمرات الصحفية والندوات الإذاعية، معلنين إلى العالم أجمع أن الدول العربية قد تخلت عن الأردن في معركة السموع .. وأن القيادة العربية الموحدة قد تركت الأردن وحده يخوض هذه المعركة..
... ووصلت (الشجاعة) بالسيد وصفي التل أن قرأ في مؤتمره الصحفي فقرات من تقارير القيادة العربية الموحدة عن (دور سلاح الجو المصري في(1/360)
المعركة المقبلة في حماية قطاع القدس وما حولها ..) وعن توصيات القيادة العربية الموحدة ( بمنع الفدائيين من التحرك من الأراضي العربية المحيطة بإسرائيل إلى أن يتم استكمال الاستعداد العربي حتى لا تستدرج الدول العربية إلى المعركة مع العدو قبل الوقت المناسب)..
وزاد السيد التل على ذلك بأنه مستعد أن ينشر بالزنكوغراف صورا عن هذه القرارات..
... وفي أواخر الشهر (تشرين الثاني 1966) اتصلت بالقيادة العربية الموحدة، وتحدثت إلى الفريق علي عامر عن حملة الزور والفجور التي يشنها الأردن .. فقلت له :-
... أرى أن تدعو إلى دورة استثنائية لمجلس الدفاع العربي..
... قال : القلوب عند بعضها .. كنت أتذاكر في هذا الموضوع مع اللواء عبد المنعم رياض وأركان القيادة ..
... قلت : لقد مضى أسبوعان على معركة السموع حتى الآن، والأردن يطبق القول المعروف ( رمتني بدائها وانسلت ) ؛ بل رمتني بدائها وتواقحت..
... قال : والله يا أخي أنا لا أعرف الفصحى .. المثل عندنا يقول (الفاجر يأكل مال التاجر..) وهذا هو السيد وصفي التل معنا..
... قلت : سيادتك لا تعرف الأردن .. الملك حسين ورئيس وزرائه على استعداد أن يأكلا الفاجر مع مال التاجر!!
... وفي اليوم الأول من شهر كانون الأول (تحرك) الفريق عامر ؛ فوجّه الدعوة إلى الحكومات العربية لحضور دورة طارئة لاجتماع مجلس الدفاع(1/361)
العربي في دار الجامعة العربية في الساعة الخامسة من يوم الأربعاء 7-12-1966..
... ووافقت الدول العربية على الاجتماع، والزمان والمكان ألا .. ألا دولة واحدة أعلنت ترددها .. وكان ينبغي أن تتولى هي بنفسها الدعوة إلى هذا الاجتماع .. واحسب أن المواطن العربي يدرك بداهة وفراسة أن تلك المتمردة هي المملكة الأردنية الهاشمية !!
... ففي اليوم الثالث من الشهر (كانون الأول) كنت أستمع إلى الإذاعة الأردنية وهي تنقل تسجيلا للمؤتمر الصحفي الذي عقده الملك حسين، فإذا
( بجلالته) يعلن ( أن الأردن قد لا يحضر اجتماع مجلس الدفاع نظرا لقصر الوقت)) واستأنف جلالته يورد عذرا آخر، عذرا أقبح من ذنب، يقول فيه
( ثم إن رئيس الأركان اللواء عامر خماش مسافر إلى الخارج ولا يمكن المشاركة في هذا الاجتماع ) !!
... ولكن الملك حسين لم يستطع أن يقعد على هذه المعاذير، فقد ازداد هياج الشعب في طول البلاد وعرضها، وارتفع صوت الشباب من ضباط الجيش الأردني يتساءلون : لماذا ؟؟ وتراجع الملك بعد ذلك عن تردده، وأعلن (6-12-1966) أن الأردن سيشترك في اجتماع المجلس .. وهكذا أسدل الستار على هذه المسرحية الصغيرة .. لتبدأ المسرحية الكبيرة، لتمثل فيها المأساة الخطيرة..
... ودخلنا قاعة الاجتماع إياها في دار الجامعة العربية، وافتتح الجلسة رئيس الدورة الوزير اللبناني السيد فؤاد بطرس بالكلمة التقليدية منوها بخطورة الموقف، وداعيا إلى وحدة الكلمة والخروج بقرارات رشيدة، ثم تبعه الفريق أول علي عامر القائد العام للقيادة العربية الموحدة فتلا تقريرا من(1/362)
اثنتي عشرة صفحة، استعرض فيه تاريخ إنشاء القيادة العربية الموحدة واختصاصاتها، وما صدر عنها من توصيات، وما واجهت من صعوبات ومخالفات .. ثم تكلم عن معركة السموع من الناحية العسكرية وأنها عدوان محدود لم يكن يستهدف الاحتلال .. ثم شرح مخالفات الحكومة الأردنية لتواصي القيادة العربية من حيث ( التسليح والتجنيد وبناء المطارات وإنشاء الأسراب الجوية).. وانتهى إلي القول بان ( القيادة العربية الموحدة ترفض جميع الاتهامات التي وجهت إليها.. وقد دعونا إلى هذا الاجتماع الطارئ لتحديد المسئولية، ولنطرح عليكم سؤالا مهما، هل تريدون قيادة فعالة أم لا تريدون ) ؟؟...
... وبعد أن فرغ الفريق عامر من رد الاتهامات عن نفسه، تبعه السيد محمود رياض وزير الخارجية ليقوم بدوره برد الاتهامات عن الجمهورية العربية المتحدة .. ذلك أن الأردن لم يدع أحدا يسلم من شره .. فقد قدمت الحكومة الأردنية مذكرة تتعلل فيها بأنها غير مستعدة أن تنفذ تواصي القيادة العربية الموحدة قبل أن تنسحب قوات الطوارئ الدولية من سيناء وقطاع غزة، (فان وجود قوات الطوارئ الدولية على الأرض العربية يشكل عائقا يحول دون تنفيذ خطط القيادة العربية الموحدة..)
... فأخذ الوزير رياض يتلو بيانا من بضعة صفحات، استعرض فيه تاريخ قوات الطوارئ الدولية، ومهمتها، والظروف التي أحاطت بإنشائها .. ثم خلص إلى القول بأن ( قوات الطوارئ الدولية لا تشكل أي قيد على الجمهورية العربية المتحدة أو على حريتها في العمل الذي تراه مناسبا، ونستطيع أن نطلب سحب هذه القوات في أي وقت نشاء..)(1/363)
... أنهى السيد محمود رياض بيانه، وساد الجلسة سكون .. وقد نظر الحاضرون إلى السيد عمر السقاف رئيس الوفد السعودي، والى السيد أكرم زعيتر وزير خارجية الأردن .. فقد كانت السعودية والأردن لعدة سنوات مضت تثيران هذا الموضوع ن وتتساءلان : ( كيف يستطيع جيش الجمهورية العربية المتحدة أن يتحرك وأمامه قوات الطوارئ الدولية ..؟) وتكلم السيد أكرم زعيتر بالثناء على ( البيان الموضوعي الذي ألقاه سيادة الوزير الدكتور محمود رياض .. وأننا نحن في الأردن ما أردنا إثارة هذا الموضوع بقصد التهجم، بل بقصد الاطمئنان، وقد حصل الاطمئنان والحمد لله ..) وحمدت الله في نفسي أن فلسطينية الوزير الأردني قد تغلبت على حكومته وعلى منصبه، وعلى مليكه!! وأما الوزير السعودي فلم يتكلم .. فعند السعودية الصمت والبترول من ذهب، الأول هو من الذهب الأصفر والثاني هو الذهب الأسمر !!
... وطلبت الكلمة، لا لأتحدث في موضوع قوات الطوارئ الدولية، ولكن في صلب الموضوع : معركة السموع ما قبلها وما بعدها .. فقال الوزير الكويتي الشيخ صباح الأحمد .. ( نحن نعلم أن الأخ احمد عنده كلام مستفيض في هذا الموضوع يستغرق عدة جلسات فلنؤجل الاجتماع إلى الغد).. وهكذا كان ..
وفي بداية الجلسة، صباح اليوم التالي، تحدث السيد إبراهيم المفتي وزير الخارجية السودانية عن التضامن العربي مناشدا ( الأخ الشقيري أن يرجئ بيانه إلى الجلسة الأخيرة حتى يستطيع أصدقاء الطرفين التوسط بين المنظمة والأردن ...) وتبعه الدكتور أحمد البشتي وزير خارجية ليبيا، والسيد محمد(1/364)
الشرقاوي وزير خارجية المغرب بتأييد الاقتراح .. ووافق المجلس على هذا الرأي بالصمت..
... قال الوزير اللبناني رئيس الجلسة : فلننتقل ألي جدول الأعمال، وليتفضل من يريد الكلام .. ومرت فترة طويلة والأعضاء ينظر بعضهم إلى بعض دون أن يتكلم أحد..
... وعاد الرئيس يقول : هل من يريد الكلام ؟ ولكن أحدا لم يتكلم .. وعندها اقترح الدكتور ماخوس الوزير السوري ( أن نسمع الأخ الشقيري، فماذا نقول للصحافة إذا أعلنا انتهاء الجلسة الآن .. وقد لا يكون من يريد أن يتكلم في جلسة المساء..)
... وهكذا ( رسا علي المزاد) لأشغل الجلسات الأربع المتوالية في الكلام .. وهممت بفتح ملفاتي، وإذا بالوزير الأردني السيد أكرم زعيتر يقول للمجلس : أن استماعنا لحديث (المتكلم) لا يعني اعترافنا بالمنظمة، الحكومة الأردنية قد سحبت اعترافها بالمنظمة إلى أن تتغير قيادتها الحاضرة.. ونرجو أن تسجلوا هذا التحفظ في مضبطة الجلسة..).
... وبدأت حديث قائلا : إن رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الذي اختاره الشعب الفلسطيني يعلن إلى (المتكلم السابق) أن مجلس الدفاع قد اجتمع لأمور خطيرة، لا للبحث في السفاسف الصغيرة .. لقد وقع على قرية السموع عدوان إسرائيلي شنيع، وانطلقت بعده اتهامات أردنية أشنع .. ونحن هنا نريد أن نكشف عن الحق والحقيقة..
فقال الرئيس : أرجو أن نحصر الكلام في الموضوع الذي اجتمعنا من أجله .. واني باسم المجلس أرجو من رئيس المنظمة أن يكون كلامه محددا، نقطة نقطة، حتى نستطيع أن نفهم موقف الأردن على حقيقته..(1/365)
وبدأت حديثي قائلا : وهذا ما أنا عازم عليه .. سأتكلم بالتحديد .. وأول هذه الأمور المحددة أن القيادة العربية الموحدة منذ إنشائها في 1964، قد أوضحت بعد دراسة الموقف العسكري العربي، أن هناك نقصا كاملا في مرافق الدفاع الجوي في المملكة الأردنية الهاشمية .. وأن التغطية الجوية يجب أن تنبع من أرض الدولة ذاتها، فالنجدة الجوية من الخارج متعذرة، وذلك لقصر مدى عمل الطائرات المقاتلة .. وعلى هذا فقد طالبت القيادة العربية الموحدة في جميع تقاريرها المقدمة إلى مؤتمرات القمة الثلاث أن تتمركز المقاتلات العربية في الأراضي الأردنية، وقد رفضت السلطات الأردنية هذا الطلب إلى يومنا هذا..
وثاني الأمور المحددة، أن القيادة العربية الموحدة كانت قد عرضت على السلطات الأردنية أن تورد لها طائرات روسية مقاتلة جديدة من أحدث طراز في العالم فورا، ولكن السلطات الأردنية أصرت على شراء طائرات أمريكية قديمة مجددة، ويبلغ ثمن الطائرة ثلاثة أضعاف التي عرضتها القيادة العربية الموحدة، وهذه الطائرات الأمريكية يتم توريدها خلال سنتين أو ثلاثة !!
وثالثها، أن القيادة العربية الموحدة، تبين لها من دراستها لمسرح العمليات في الأردن، عدم توفر القواعد الجوية التي تصلح للطائرات المقاتلة، فألحت على الحكومة الأردنية أن تنشئ قاعدة جوية صالحة، وقدمت القيادة بدورها إلى الأردن نفقات إنشاء هذه القاعدة في شهر حزيران 1964، ولم يبدأ العمل بإنشائها إلا بعد فوات سنتين كاملتين، أي في حزيران 1966، هذا على حين أنه أوشك الانتهاء من إنشاء القواعد الجوية التي أوصت القيادة العربية الموحدة بإقامتها في البلاد العربية الأخرى.(1/366)
ورابعها : أن القيادة العربية الموحدة قد طلبت وألحت على الأردن، في جميع مؤتمرات القمة، واجتماع رؤساء الحكومات العربية السماح للقوات السعودية والعراقية، بالدخول إلى الأراضي الأردنية للاشتراك في الدفاع عنها وذلك لطبيعة الجبهة الأردنية الطويلة، ولعدم كفاية القوات الأردنية للدفاع عن أراضيها، وقد رفضت السلطات الأردنية مطلب القيادة العربية الموحدة.
وخامسها : أن خطة القيادة العربية الموحدة، التي أقرها الملوك والرؤساء، والملك حسين واحد منهم، قد نصت على (مسئولية كل دولة في رد غارات العدوان عليها) طالما لم يؤد ذلك إلى احتلال جزء من أراضيها.
وسادسها : أن القيادة العربية الموحدة قد طلبت المرة بعد المرة، كتابة وشفاها إلى الحكومة الأردنية فرض التجنيد الإجباري العام حتى يمكن إنشاء احتياطي للجيش الأردني يستدعى عند الحاجة .. ولكن الملك رفض ورفض..
وأخذت بعد ذلك أشرح هذه الأمور الست المحددة، واحدا واحدا، مستشهدا بتقارير القيادة العربية الموحدة، أقرأ صفحاتها وفقراتها، تماما كما يفعل المحامون أمام القضاء وهو يترافعون، ويستشهدون بالمقتبسات القانونية من هذا المرجع أو ذاك.
ثم فاجأت المجلس بعد ذلك قائلا : وسأحدثكم الآن عن النعوش الطائرة .. فقال الشيخ توفيق المدني رئيس الوفد الجزائري، وهو من العلماء والأدباء .. حمانا الله من نعوش الجو ونعوش الأرض .. ما هي حكاية النعوش الطائرة ..(1/367)
قلت : النعوش الطائرة لها حكاية .. حكي والله اعلم أن الولايات المتحدة عندها طائرات اسمها ( سار فايتر ) من طراز المقاتلات القديمة، قدمتها إلى ألمانيا الغربية بعد أن جددتها ودهنتها بطلاء خلاب .. وما أن استلمتها الحكومة الألمانية وبدأت باستعمالها حتى أصبحت تتهاوى على الأرض واحدة بعد الأخرى .. وكان أن قتل فيها عدد من الطيارين الألمان وهم يقومون بتجاربهم عليها .. بل إن عددا من جنرالات ألمانيا قد قتلوا في هذه الطائرات، وضج الشعب الألماني من الطائرات الأمريكية وأطق عليها اسم ( النعوش الطائرة)، ثم قرأت على المجلس فيضا من القصاصات الصحفية عن أخبار هذه الطائرات، والأزمة الكبرى التي أحدثتها في صفوف ألمانيا، الجيش والشعب على السواء..
واستطردت بعد حديث طويل إلى القول بان الملك حسين يزود الجيش الأردني بهذه النعوش الطائرة، وإن أحد نسور الجو الأردنيين قد سقط قبل شهرين وهو يقوم بأعمال تدريبية على هذه الطائرة .. في الوقت الذي يرفض فيه عرض القيادة العربية الموحدة لتوريد أحسن الطائرات المقاتلة، ثم يعلن بعد غارة السموع أن القاهرة لم تؤمن له غطاء جويا !!
وشرحت للمجلس في الجلسات التالية تفاصيل غارة السموع، كيف بدأت وانتهت، وقدمت ملفا كاملا يحتوي عشرات الصور عن الدمار الذي حل بالقرية، وعن الجثث المحترقة، والأشلاء المهشمة للشيوخ والنساء والأطفال .. وملفا آخر عن صور المظاهرات الشعبية التي اندلعت في أرجاء البلاد وهي تطالب الملك حسين بالتجنيد والتسليح والتدريب، وقد ظهرت فيها اللافتات الكبرى كتب عليها : ( نؤيد مطالب المنظمة ) ، ( نريد دخول جيش التحرير ) .. ولافتات أخرى فيها تنديد بالملك حسين، بالقلم العريض!!(1/368)
وانتقلت بعد ذلك إلى موقف الأردن من مطالب الشعب، وأن السلطات الأردنية قامت بالإرهاب والقمع بدلا من أن تستجيب لمطالب الشعب، وأن قوات الأمن أخذت تداهم القرى الأمامية بحثا عن السلاح، بدلا من أن تزودها بالسلاح .
وأحسست أن المجلس قد أثقلته معركة السموع والمخالفات الخطيرة التي اقترفتها الأردن، فرأيت أن اختم حديثي إلى الوزراء بالترفيه .. ولكنه ترفيه أكثر أيلاما من الحديث الجاد..
قلت : الأمثال العامية غنية بالحكم .. ويقول واحد من هذه الأمثال
( العليق يوم الغارة خسارة ) ..
قالوا ما تفسير ذلك .. وما علاقته بما نحن فيه ..
قلت : إن هواة الجياد العربية الأصلية لا يعنون بالجواد في يوم السباق .. إنهم يعنون به لزمن طويل، بالعلف الجيد والمران الدائم، والنظافة المستمرة .. ولكن الجواد إذا أهمل في كل هذا، وأتخم بالتبن والشعير والماء في يوم الغارة، فستكون النتيجة خسارة .. انه لن يقدر على الجري، وقد امتلأ كرشه في يوم السباق..
واستدركت بعد ذلك إلى القول إن الملك حسين قد وقع في الخسارة لأنه أراد أن يعلف الجواد يوم الغارة .. بعد معركة السموع راح الملك حسين يشدد النكير على القيادة العربية الموحدة وهو يسألها، لماذا لم تتحرك الجيوش العربية لنجدة الأردن .. وقد فات الملك حسين أن يتذكر أن القوات العراقية قد حشدت في الرطبة خارج الحدود الأردنية وبقيت في عرض الصحراء ما يزيد على العام دون أن تسمح لها السلطات الأردنية بالدخول، مما دعا إلى سحب هذه القوات داخل الجمهورية العراقية بقرار من مجلس(1/369)
الملوك والرؤساء الثالث في الدار البيضاء في أيلول 1965، بعد أن
( أصاب معداتها التلف وهبطت روح رجالها المعنوية ) كما يقول تقرير القيادة العربية الموحدة، بالنص والحرف..
فرغت من بياناتي المسهبة وتنفس الصعداء الفريق علي عامر، وهو يجلس بجواري، فقد وجد فيّ محاميا أترافع بالنيابة عنه، أدافع عن خططه وتوصياته، وعن موقفه .. ولسانه قصير .. أولا لأنه عسكري، وثانيا لأنه متهم، يجد الحرج أن يثنى على جهوده ..
وتدخل الفريق فوزي الأمين العام المساعد العسكري (وزير الحربية فيما بعد) وقال : لقد قرأت التقارير السرية التي قدمتها القيادة العربية الموحدة على مدى ثلاثة أعوام، إلى الملوك والرؤساء والى رؤساء الحكومات، وإني الفت نظركم إلى الفقرات الهامة التي تتصل بالموضوعات المطروحة أمامنا .. وأني أقرؤها عليكم .. وراح يقرا المقتبسات الخطيرة الآتية:
11- من تقرير القائد العام للقيادة العربية الموحدة إلى مجلس الملوك والرؤساء الثاني المنعقد في الإسكندرية في سبتمبر 1964، بند 23 صفحة 14...
(يجب أن تكون كل من الدول العربية المحيطة بإسرائيل قادرة على الصمود لهذا العدوان إلى أن يكون لعمليات الجيوش العربية الأخرى التأثير المطلوب على العدو . وهذا لا يطبق على القوات الجوية إذ إنها قادرة على القيام بعملياتها فورا، فيما عدا قوات الدفاع الجوي التي يجب أن تنبع من أرض الدولة نفسها ) .(1/370)
2- من تقدير موقف خاص باستخدام القوات العربية الموضوعة حاليا بإمرة القيادة العربية الموحدة مرفوع إلى مجلس الملوك والرؤساء الثاني بالإسكندرية في سبتمبر 1964، بند هـ ص14.
(لما كانت وسائل الدفاع الجوي سواء بالمقاتلات أو بالمدفعية أو بالصواريخ يجب أن تنبع من أرض الدولة ذاتها لقلة المدى المؤثر لهذه الأسلحة بطبيعتها، كما أن إنشاء تشكيلات جديدة لهذا الغرض بهذه الدولة سيستغرق وقتا طويلا لا يقل عن 2-3 سنوات، من هذا نرى حتمية دعم وسائل الدفاع الجوي لهذه الدول من الدول العربية الأخرى إلى أن تقام بها تشكيلاتها المطلوبة ) .
3- من تقدير موقف خاص باستخدام القوات العربية الموضوعة حاليا بأمرة القيادة العربية الموحدة والمرفوع إلى مجلس الملوك والرؤساء الثاني بالإسكندرية في سبتمبر 1964، بندا و ص15.
(يجب دعم الموقف الجوي وخاصة فيما يتعلق بالدفاع الجوي في كل من الأردن وسوريا ولبنان بقوات الدول العربية الأخرى تعمل من أراضى هذه الدول ) .
4- من تقرير القائد للقيادة العربية الموحدة المرفوع إلى مجلس رؤساء حكومات الدول العربية الأول في يناير 1965، بندا صفحة 5.
(قرر مجلس الملوك والرؤساء الثاني منح القائد العام حتى التصريح المطلق بالتحركات العسكرية على أن يراعى في تحركات القوات من دولة إلى أخرى قبل وقوع القتال، الأحكام الدستورية والنظم المرعية في كل دولة. وبالاتصال بالسلطات الأردنية بشان تواجد قوات الدعم اللازمة لها من القوات العراقية والقوات السعودية وافقت على دخول المستلزمات الإدارية(1/371)
اللازمة لهذه القوات فقط، مع خبراء بملابس مدنية، ولم تسمح بدخول القوات إلى أراضيها مما اضطر القيادة إلى حشد هذه القوات في (H 3) للقوات العراقية، وتبوك للقوات السعودية . ولا زالت القيادة ترى أن وجود هذه القوات على مسافات شاسعة من مسرح العمليات تشكل خطرا على الموقف العسكري في المملكة الأردنية إذ أن إجراء تحركات لهذه القوات عند العمليات سيكون في ظروف موقف جوي قد لا يكون في صالحنا، وترى القيادة أن هذا الوضع يشكل خطرا على الجبهة الأردنية، ولا زالت ترى أنه من الصالح لسلامة الموقف العسكري في الجبهة الأردنية أن تتواجد التشكيلات المعاونة لها من العراق والسعودية في أراضيها من الآن ).
5- من تقرير القائد العام للقيادة العربية الموحدة المرفوع إلى مجلس رؤساء حكومات الدول العربية الثاني المنعقد في مايو 1965 . بند 17 صفحة 7.
(كما سبق أن أوردت في تقريري فقد نبهت القيادة إلى مثل هذا الموقف وخاصة موقف الدفاع الجوي الذي يجب أن ينبع من أراضى الدولة ذاتها وذلك في تقريرها وتقرير الموقف الذي رفع إلى مؤتمر الملوك والرؤساء الثاني قبل إعطاء الأمر بالبدء في عمليات التحويل . وكما سبق أن ذكرت فان السير بالخطوات الحالية لن يجعل الدول المعنية في موقف يسمح لها بالدفاع الجوي محليا عن أراضيها في وقت قريب بدون الدخول في معركة شاملة لا نختار نحن وقتها) .
6- من تقرير القائد العام للقيادة العربية الموحدة المرفوع إلى مجلس رؤساء حكومات الدول العربية الثاني المنعقد في مايو 1965 بند 19 ب، ج صفحة 8.(1/372)
(وقد قامت القيادة بالتخطيط لذلك فعلا ولكن ضعف الموقف العسكري بريا وجويا في كل من الأردن ولبنان وجويا في سوريا يقيد تصرف وحركة هذه القيادة . وفي نفس الوقت لا تسمح كل من الأردن ولبنان بدخول قوات عربية عسكرية إلى أراضيها لتعزيز دفاعها إلى أن يتم استكمال التشكيلات الجاري إنشاؤها بها والذي سيستغرق فترة تقرب من العام من الآن).
7- ومن نفس التقرير السابق بند د صفحة 8.
(كذلك لم تقبل هذه الدول عمل هذه الطائرات من أراضيها في حالة وجودها وذلك كما طلبت القيادة في تقريرها المقدم إلى مؤتمر الملوك والرؤساء الثاني).
8- ومن نفس التقرير السابق بند 20 صفحة 8.
(لمجابهة هذا الموقف تتقدم القيادة إلى مجلسكم الموقر بالتوصيات الآتية:-
أ دخول القوات العربية إلى لبنان والأردن لدعم موقفها الدفاعي بما يدعو إلى الاطمئنان حتى تتمكن القيادة من العمل بحرية في الرد على اعتداءات العدو.
ب زيادة القوات الجوية الموضوعة بأمرة القيادة وخاصة المقاتلات من الجمهورية العراقية والمملكة العربية السعودية وباقي الدول العربية الأخرى والتصريح لها بالعمل من أراضى لبنان وسوريا والأردن فورا حتى تتمكن من مواجهة التفوق الجوي المعادي.
9- ومن نفس التقرير السابق بند 20 ج صفحة 9).(1/373)
(هذا مع العلم إذا لم يتحقق ذلك ستظل هذه القيادة مقيدة الحركة في الرد على اعتداءات العدو وكفالة حماية العمل في مشروعات التحويل كما ورد في قرارات مؤتمر الملوك والرؤساء الثاني ).
10- من تقرير القائد العام للقيادة العربية الموحدة الى مجلس الملوك والرؤساء الثالث المنعقد في الداء البيضاء في سبتمبر 1965 . القسم الأول صفحة 4.
(إلى أن يتم استكمال وتدريب القوات البرية الجاري إنشاؤها في كل من الأردن ولبنان وذلك في النصف الثاني من عام 1966 فالموقف البري في هاتين الدولتين لا يدعو إلى الاطمئنان في حالة قيام العدو بالتعرض عليهما في هذه الفترة سيما وان هاتين الدولتين لا تسمحان بدخول القوات المعاونة من السعودية والعراق أو سوريا إلى أراضيها . أما من الناحية الجوية فالموقف في هاتين الدولتين سيئ ولا ينتظر تحسنه في القريب العاجل. فمن ناحية حتى لو تم التعاقد على الأسلحة الجوية اللازمة لهما الآن فلن يظهر اثر ذلك عسكريا قبل مضي سنتين على الأقل وذلك بعد توريد المعدات وتدريب الطيارين والفنيين الذي يستغرق وقتا طويلاً.
ومن ناحية أخرى فهاتان الدولتان لا تقبلان مركزة قوات عربية في أراضيها ولا يمكن لمقاتلات الدفاع الجوي ذات المدى المحدود بطبيعتها أن تقوم بحمايتها من الأراضي العربية المجاورة حتى لو توفرت هذه القوات، ولا ينطبق هذا جزئيا على لبنان الذي يمكن حماية معظم أراضيه من القواعد الجوية في الجمهورية العربية السورية).(1/374)
11- ومن نفس التقرير السابق القسم الأول صفحة 5 (وليس من المستعبد أن يقوم العدو بتكرار اعتداءاته هذه على الدول العربية الأخرى المحيطة بإسرائيل أثناء قيامها بتنفيذ العمليات الفنية للتحويل مستغلا ضعف الموقف الجوي بها طالما بقي على ما هو عليه).
12- ومن نفس التقرير السابق القسم الأول صفحة 6 ( على ضوء هذه الاعتبارات فإن القيادة تتقدم لمجلسكم الموقر بعرض الآتي : ( إننا نجابه عدداً أعلى صراحة نيته في الاعتداء إذا استمرت الدول العربية المحيطة في تنفيذ مقرراتكم والسير في تنفيذ الأعمال الفنية، وقد قام بالاعتداء فعلا أكثر من مرة وأصبح لزاما علينا أن نتخذ الأوضاع العسكرية الصحيحة للرد على هذا العدوان، أما الاستمرار في تنفيذ الأعمال الفنية مع علمنا بأوجه النقص في استعداداتنا العسكرية وعدم تقبل الحلول المعروضة لإصلاحها فهو طريق لا يتمشى مع المنطق السليم.
وكما سبق أن ذكرت هذه القيادة في تقريرها المرفوع إليكم في شهر سبتمبر 1964 وفي تقريرها للموقف الذي قرئ على مجلسكم الموقر في نفس الاجتماع لن يكون الموقف العسكري سليما إلا بأمرين:-
1- دخول قوات الدعم من الدول العربية المحيطة بإسرائيل وإتخاذها مواقع تحشد سليمة من وجهة النظر العسكرية . وطبقا لتخطيط هذه القيادة وأذكر هنا في هذا المجال أنه لا فائدة من قوات عسكرية توضع بإمرة هذه القيادة تتمركز في مواقع حشد تمليها الحدود السياسية والحساسيات الإقليمية أكثر مما تمليها المتطلبات العسكرية فنحن في مواجهة قضية عسكرية من الدرجة الأولى تتطلب حلولا عسكرية صحيحة أولا مع طرح جميع الاعتبارات الأخرى جانبيا.
2-(1/375)
زيادة القوات الجوية من المقاتلات بإمرة هذه القيادة بما يعادل أربعاً على الأقل ومركزتها في الأراضي المحيطة بإسرائيل إذ أن طبيعة هذه الأسلحة لا تمكنها من القيام بعملياتها من مسافات بعيدة – ولن يكون الموقف مطمئنا في الدول الشمالية لبنان – سوريا- الأردن كما لن تتمكن قواتها البرية من العمل في حماية حدودها بغير وجود هذه القوات,
(هذا وقد تقدمت هذه القيادة بهذين المطلبين في العام الماضي وكان الاعتقاد السائد عندئذ أن القيام بالأعمال الفنية لن يدعو إسرائيل إلى القيام بالعدوان، ولكن ثبت عكس ذلك ولم يعد خافيا استعداد إسرائيل للعدوان وإعلانها ذلك صراحة، وهذا يدعونا أن نعيد النظر في إجراءاتنا وتفسيرنا للموقف كما أرجو أن يدعو ذلك إلى استجابة طلبات هذه القيادة وتقديم الاعتبارات والسلامة على غيرها من العوامل ).
وعند هذا التحذير الخطير، وقف الفريق فوزي في تلخيصه المدون..
ولقد أبحث لنفسي أن أدخل هذه الفقرات في مذكراتي لسببين:
الأول أنها تعد أسرارا عسكرية بعد أن وقعت هزيمة الأيام الستة ؛ فقد فات زمانها وأوانها ولم تعد لنا قيادة عربية موحدة .. والثاني، أن الأمانة القومية تفرض عليّ أن أضع أمام الجيل المعاصر والوافد حقيقة الأوضاع العربية في عام 1966، وقبل حرب الأيام الستة ببضعة شهور.. وأن يعرفها من أعلى مصدر عسكري مسئول .. هو القيادة العربية الموحدة التي كانت تضم قرابة مئة ضابط عربي ممتاز، يمثلون العسكرية العربية من المحيط إلى الخليج.(1/376)
... وعقد مجلس الدفاع جلسته الأخيرة لتلخيص الموقف فبدأ واضحا انقسام الدول العربية إلى ثلاثة معسكرات : الأول تقف فيه الجمهورية العربية المتحدة، وسوريا، والعراق، والجزائر، واليمن ؛ والثاني وتقف فيه السعودية والأردن والمغرب وليبيا (1) ؛ والثالث وتقف فيه الكويت ولبنان والسودان ؛ والمعسكران الأول والثاني يمثلان اتجاهين مضادين، بينما يقف المعسر الثالث وسطا بينهما يحاول أن يوفق .. أو يلفق، إن لم يستطع أن يوفق .. ولكن معركة السموع وما أعقبها من غضبة الشعب الفلسطيني والجماهير العربية قد دخلت إلى قاعة الاجتماعات ولم يعد ميسورا على (أصدقاء ) الأردن أن يؤيدوه في مخالفاته المكشوفة المفضوحة .. وما كان أكثرها ..
وجاء دور صياغة القرارات، فالح الفريق علي عامر أن يصدر المجلس قرارا بالموافقة على دخول القوات العراقية والسعودية في مدة أقصاها شهران .. .. ولم يستطع الوفد الأردني، وزيرا وضباطا أن يعارض هذا المطلب، والمجلس مشحون بكارثة السموع .. وكذلك أصر القائد العام أن يصدر المجلس قرارا نهائيا يطلب إلى الدول الأعضاء أن تفي بالتزاماتها المالية، وأن يدعى وزراء المالية العرب إلى الاجتماع في كانون الثاني (1967) لاتخاذ الخطوات التنفيذية في هذا الصدد.
... ووافق جميع الوفود على هذه التوصية المالية، وخاصة بعد أن ألقي الأمر على كاهل وزراء المالية، ما عدا .. ما عدا الوفد السعودي فقد قال السيد عمر السقاف إنه ( يتحفظ على هذا القرار لأن المملكة العربية السعودية
__________
(1) * قبل ثورة الفاتح من سبتمبر.(1/377)
عند موقفها الذي أعلنته فيما سبق وهو تجميد التزاماتها المالية إزاء جميع مؤسسات مؤتمرات القمة إلى أن ينعقد مؤتمر قمة جديد..
قلت : ولكن هذا يخالف تماما ما أعلنه جلالة الملك فيصل..
قال : وماذا أعلن جلالته..
... قلت : بين أوراقي صحيفة البلاد السعودية الصادرة في جدة، نشرت (8-10-1966) خطابا لجلالة الملك فيصل لمناسبة عودته من سفرته إلى أوروبا وأمريكا قال فيه :- نحن نرفض رفضا باتا قرارات الأمم المتحدة، لأننا إذا قبلنا بها نكون اعترفنا بدولة الصهاينة .. .. ولن نقبل بتقسيم فلسطين ولو أجمع العرب جميعا على قبوله .. وإذا رضوا بوجود إسرائيل وتقسيم فلسطين فلن ندخل معهم في هذا الاتفاق .. ونحن لسنا ممن يريدون المعارك من وراء المكاتب وأجهزة التلفون، فإذا دق جرس الحرب والنضال، فستروني أنا بنفسي وإخواني وأبنائي أمامكم أيها الاخوة . واستأنفت حديثي قائلا : ( هذا هو خطاب جلالته .. وإن جيش التحرير الفلسطيني عازم على خوض المعركة التي أشار إليها جلالته، ونحن نناشده أن يستمر في دفع التزاماته لجيش التحرير .. وإذا كان مؤتمر القمة قد تأجل أو سقط، فليس معنى هذا الواجبات القومية قد تأجلت أو سقطت..) ولكن رئيس المجلس أراد أن ينقذ الوفد السعودي من هذا الحديث الدامغ، فطلب إقفال الموضوع ملتمسا العذر للسيد عمر السقاف بأن ( الوفد السعودي لا يملك أن يتجاوز تعليماته، وهذه هي تعليماته ..)!!
... وأنهى مجلس الدفاع جلساته بهذه القرارات التي أصدرها على أن يعود إلى الاجتماع في شهر آذار من عام 1967 ليواصل ( الإشراف على تنفيذ مخططات القيادة العربية الموحدة) .(1/378)
... وانطلقت إذاعات القاهرة على جميع موجاتها تنقل إلى الجماهير العربية خلاصة موجزة عن أعمال مجلس الدفاع، وفيها نغمة من التفاؤل الحذر بأن قرارات المجلس قد أخذت بالإجماع، وأن الوفد الأردني قد وافق على القرارات العسكرية وتعهد بالالتزام بها.
... وفتحت الإذاعة الأردنية في مساء ذلك اليوم، في الساعة الحادية عشرة، بعد ارفضاض مجلس الدفاع بست ساعات ؛ فإذا بالمذيع يقول
( أعلن مصدر رسمي أن الأردن له تحفظات فنية وموضوعية على قرارات المجلس سيبديها في اجتماع المجلس القادم ..)!!
... وكان في بيتي في ذلك الوقت بعض الوفود العربية من مدنيين وعسكريين، جاءوا ليزورني فقلت لهم : أرأيتم، إن الوفد الأردني في القاهرة وافق في الساعة الخامسة من هذا اليوم على القرارات العسكرية، والحكومة الأردنية في عمان تنقض القرارات في الساعة الحادية عشرة..
أرأيتم الحكم الأردني .. إن عمان 1948 هي عمان سنة 1966 . ولم يتغير شيء .. لقد كانوا ينقضون في النهار ما يبرمون في الليل، أثناء حرب فلسطين 1948 .. وإنهم اليوم يلعبون الدور نفسه.
... وقد صدقت فراستي في الأردن فهذه طبيعته وطبعه ؛ فبعد أسبوع (20-12-66) أعلن متحدث بلسان وزارة الخارجية العراقية أن ( القطعات العراقية التي أرسلت إلى الحدود الأردنية، طبقا لقرار مجلس الدفاع، لم تسمح الحكومة الأردنية بدخولها لتتمركز في الأراضي الأردنية في المواقع التي تحددها القيادة العربية الموحدة..).
ومضت ثلاثة أشهر من القلق والحيرة، يسودان العالم العربي، ونحن على قمة الحيرة والقلق، بعد أن سقطت مؤتمرات القمة .. وسجلت(1/379)
(يومياتي) خلال تلك الفترة أحداثا مثيرة ذيلتها بتعليقات صغيرة.. وهذه بعضها:
... 30/12/1966، بدأت الحكومة الأردنية تشوش على إذاعة منظمة التحرير الفلسطيني .. وقد جاءت بأجهزة التشويش بالطائرات إلى الأردن، بعضها من ألمانيا وبعضها من أمريكا .. وقلت في نفسي ليت الأردن يشوش على إسرائيل.
8/1/1967، أعلن الجنرال موشي ديان تعليقا على أحداث الأردن فقال فيه : إن (الخطر الوحيد هو قيام انقلاب في الأردن يطيح بالملك حسين، فانه عنصر الاستقرار الوحيد في منطقتنا واختفاؤه عن المسرح سيكون له نتائج خطيرة علينا ..) قلت : ( والفضل ) ما شهدت به الأعداء..
5/2/1967، وصل من الأردن الرئيس الركن رشيد محمد يوسف الحمارنة من ضباط الجيش الأردني، لاجئا إلى القاهرة، وأعلن (أن المخابرات الأردني كانت كلفته بمهمة اغتيال رئيس المنظمة) وألقيت بيانا في إذاعة المنظمة ختمته بالآية القرآنية ( أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ) .
7/2/1967، صدر بيان مشترك عن محادثات الرئيسين عبد الناصر وعبد الرحمن عارف في القاهرة جاء فيه :- (ولقد استمع الرئيسان باهتمام إلى عرض شامل، أدلى به السيد أحمد الشقيري رئيس منظمة التحرير الفلسطينية .. وأكد الرئيسان في هذا الصدد من جديد تأييدهما الكامل لمنظمة التحرير الفلسطينية وأعربا عن إعجابهما وتقديرهما لشجاعة الشعب الفلسطيني وبطولته وصموده أمام صنوف البطش والإرهاب) وكان هذا الكلام موجها إلى الملك حسين .. ولكن لا سميع ولا مجيب.(1/380)
9/2/1967، بعث السيد أمين الحسيني رئيس الهيئة العربية العليا مذكرة إلى الملك حسين يثني على مواقفة الشجاعة ويعرب عن تأييد الشعب الفلسطيني .. قلت : ولله في خلقه شئون..
13/2/1967، أقام الملك حسين وليمة للملك فيصل في عمان أعلن فيها أنه ( لن يسكت على حمام الدم الذي يجري في اليمن، وندد بالغزوة الماركسية التي تتعرض لها المنظمة، وحمل على الرئيس عبد الناصر، وأشاد الملك فيصل بموقف الأردن وأكد أن المؤتمر الإسلامي هو طريق الخلاص .. قلت : ليت هذه الوليمة أقيمت في بيت المقدس، حتى يشهد المسجد الأقصى على هذا الكلام..
22/2/1967، خطب الرئيس عبد الناصر لمناسبة ذكرى الوحدة، فشن حملة مركزة على أبو رقيبة وفيصل والحسين والمؤتمر الإسلامي، قلت : هذه الحملة تغني عن التعليق..
1/3/1967، قام الحاج أمين الحسيني بزيارة الأردن، واجتمع بالملك حسين ونزل في قصر الملك في بيت حانينا، تحت حراسة كتائب البادية .. قلت : سبحان مغير الأحوال ومقلب القلوب !!
2/3/1967، أعلن الملك حسين استئناف العلاقات الدبلوماسية مع ألمانيا الغربية قلت : لقد ضربت إسرائيل قرية السموع بالأسلحة الألمانية التي وصلتها هدية سخية..
وفي جو هذه المعالم الصغيرة التي سجلتها (يومياتي) انعقد مجلس الدفاع العربي في اليوم الثاني عشر من شهر آذار 1967 .. كما قررت الدول العربية فيما سبق..(1/381)
ولكن الأردن والسعودية قد تضامنتا على عدم الحضور ؛ الأردن لأنه لا يريد أن يواجه القيادة العربية الموحدة أمام المجلس بصدد عدم موافقته على دخول القوات العربية .. والسعودية، لأنها لا تحضر أي اجتماع منبثق عن مؤتمرات القمة قبل أن ينعقد مؤتمر قمة جديد ؛ وكلتا الدولتين قد أدخلتا في حسابهما أن معركة السموع قد بردت، وثائرة الرأي العام العربي قد سكنت، فلم العناء، ولم الحضور ؟.
وانعقد مجلس الدفاع في جو متوتر ..وتلا الفريق علي عامر تقريرا عصبيا استغرق القاؤه خمس دقائق طالب فيه من المجلس أن ( يبت في أمر القيادة العربية الموحدة حتى لا تبقى بدون عمل .. وأن تصارح الدول العربية الأمة العربية بالحقيقة .. وأن قوات الدعم العربية لم تدخل الأردن .. وأن عددا من الدول العربية لم تف بالتزاماتها المالية .. وأن توقف الدول عن سداد التزاماتها سوف يؤدي بالوضع العسكري إلى موقف خطير ..) وختم الفريق عامر تقريره بإنذار قصير قال فيه : ( إن القيادة العربية الموحدة ترى أن واجب الأمانة يطالبها بأن تبلغ مجلسكم الموقران استمرار هذه الأوضاع لا يمكنها من تنفيذ المهمة التي أقرها مجلس الملوك والرؤساء في الإسكندرية).
وتكلم الوزراء السادة جورج حكيم (لبنان) أحمد البشتي (ليبيا) عبد العزيز بوتفليقة (الجزائر) اللواء شاكر محمود شكري (العراق) ، حسن عوض الله (السودان) محمود رياض (ج.ع.م) الشيخ صباح الأحمد (الكويت) اللواء عبد الله جزيلان (اليمن) ؛ تكلموا في نبرات مختلفة، وأعربوا عن أسفهم لغياب الأردن والسعودية عن هذا الاجتماع الخطير بعد(1/382)
أن حضروا الاجتماع السابق .. ثم أثنوا على جهود القيادة العربية الموحدة، وخصوا بالمديح الفريق عامر على صبره واستقامته وشجاعته..
وفي لهجة غاضبة تحدث الوزير السوري الدكتور إبراهيم ماخوس فطالب بأن يعاد النظر في خطط القيادة العربية الموحدة مع (إسقاط الأردن والسعودية وتونس من الحساب) .
وجاء دوري في الكلام، فقلت : إن تخلف السعودية والأردن عن هذا الاجتماع لا يخلو من دلالات خطيرة ؛ ولكن تخلف الأردن هو الأخطر ..
فان قضية فلسطين هي في قلب الأردن وطنا وشعبا، وإن الأردن كان سبب الكارثة في 1948؛ وبعد مؤتمرات القمة قالت الأمة العربية الطيبة (عفا الله عما سلف) ، وها نحن نرى الآن أن الأردن قد نفذ شيئا واحدا فقط من مؤتمرات القمة، هو أنه قبض 22 مليون إسترليني من القيادة العربية الموحدة دون أن ينفذ خططها .. وبالإضافة إلى ذلك فقد قبض 3 ونصف مليون جنيه من إمارات الخليج لتسليح الشعب، وأبقى الشعب مجردا من السلاح).
ومضى مجلس الدفاع يومين متعاقبين من غير عمل، فقد كان الفريق عامر يجري مباحثات جانبية في قيادته في مصر الجديدة، مع اللواء عامر خماش رئيس أركان حرب الجيش الأردني، واللواء عبد الله مطلق رئيس أركان الجيش السعودي، فقد وصلا إلى القاهرة ( ليجتمعا بالفريق عامر لا ليحضر مجلس الدفاع !!) كما أعلنا إلى الصحف ..
وكانت تلك الاجتماعات أشبه ما تكون بالمناورات العسكرية، ولكن بالذخيرة الميتة .. فقد كان اللواء خماش يصر أن لا ينفذ خطط القيادة قبل أن تدفع مزيدا من المال إلى الأردن ؛ وكان اللواء مطلق يكرر ويعيد بان(1/383)
السعودية لن تدفع المال قبل أن ينعقد مؤتمر قمة جديد .. وأصبحت القضية قضية مال، لا قضية رجال !!
والتأم مجلس الدفاع في الجلسة الختامية فوضع توصيات موجزة :-
1- أن تفي الدول العربية بالتزاماتها المالية في موعد لا يتجاوز أول تموز 1967.
2- تكليف القيادة العربية الموحدة بوضع تقدير جديد للموقف العسكري، على ضوء تخلف السعودية والأردن وتونس.
3- توزيع الاعتمادات المخصصة للأردن على كل من سوريا ولبنان وجيش التحرير لاستكمال تعزيزاتهم العسكرية.
4- عقد مجلس الدفاع المقبل في 4 تموز 1967..
... وسخر القدر من التوصية الرابعة فان مجلس الدفاع لم ينعقد في تموز، لأن الكارثة الكبرى وقعت في حزيران . تماما كأنها كانت مع الهزيمة على ميعاد، ويا بئس هذا الميعاد..
... ولم يكن وقوع الكارثة عجيبا ولا غريبا .. بل العجيب أن لا تقع الكارثة .. والغريب أن لا تقع الهزيمة..
... فقد كانت طوالع النجوم في السماء العربية تشير إلى الكارثة .
وكانت معالم الأحداث على الأرض العربية تسير نحو الهزيمة..
وإن الكوارث والهزائم لا تبالي بالكثرة المتفرقة المتبددة، حتى ولو كان على رأسها ثلاثة عشر ملكا ورئيسا، وثلاثة عشر جيشا ؛ بل أن الأمة، أية أمة، إذا كان على رأسها ثلاثة عشر ملكا ورئيسا كمن عرفت وزاملت،(1/384)
لا بد أن تنهزم .. لا بد أن تنكسر .. وقد قال الله تعالى..
(ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ).
صدق الله العظيم(1/385)
فيصل وأبو رقيبة والحسين
يتعاونون ..على ماذا ؟
... في مطلع عام 1967 بدت طلائع معركة ضارية على المنظمة التحرير الفلسطينية، وكان الفرقاء في هذه المعركة : الولايات المتحدة، إسرائيل، وبعض الدول العربية، والدول العربية التي أعنيها : الأردن والسعودية وتونس !!
... وكنت في خضم هذه المعركة منذ بدايتها .. وكانت بدايتها هي بداية منظمة التحرير، وكان (القتال) في هذه المعركة مختاراً مع فريق، ومفروضاً مع فريق آخر .. هجومياً مع الأول ودفاعياً مع الثاني .. وكانت الولايات المتحدة وإسرائيل هي الفريق الذي اخترت القتال معه والهجوم عليه .. وكانت الدول العربية هي الفريق الذي فرض علينا القتال معه والدفاع ضده .. مكرهين لا مختارين .. (كتب عليكم القتال وهو كره لكم) .
... ولم يكن قتالنا مع الولايات المتحدة وإسرائيل حباً في القتال .. ولكن القتال معهما كان قدراً محتوماً ؛ ذلك أن الشعب الفلسطيني قد طرد من وطنه ؛ وكان طبيعياً وإنسانياً أن يقاتل الذين طردوه .. ومن دياره أخرجوه .
... وكان قيام منظمة التحرير الفلسطينية، مجرد قيامها، هو بداية المعركة مع الولايات المتحدة وإسرائيل ؛ فقد استشعرت (اسرائيكا) ، وهو(1/387)
الاسم المزجي الذي سأعتمده كلما أردت أن أتحدث عن إسرائيل وأمريكا مجتمعين ؛ استشعرت (اسرائيكا) أن قيام المنظمة معناه قيام الشعب الفلسطيني ؛ وقيام الشعب الفلسطيني معناه قيام الأمة العربية ؛ وذلك معناه قيام الحركة العربية لتحرير فلسطين .
... وقد حسبت (اسرائيكا) بعد انتهاء حرب فلسطين في 1948 أن القضية الفلسطينية قد انتهت، فالأرض الفلسطينية أصبحت إسرائيل في الغرب، والأردن في الشرق، وكلاهما عضو في الأمم المتحدة .. ولم يبق من القضية الفلسطينية إلا اللاجئون، وهؤلاء تعنى بهم وكالة الإغاثة، إلى أن يموتوا، وتموت معهم آخر بقايا القضية الفلسطينية ..
... وقد شجع (اسرائيكا) على هذا الحساب أن الدول العربية، وقد انهزمت في عام 1948، لجأت إلى السياسة (الواقعية) فلم تعد تتحدث عن تحرير فلسطين، بل نادت بتنفيذ قرارات الأمم المتحدة .. وأول هذه القرارات هو قيام إسرائيل، دولة ذات سيادة، كأية دولة أخرى في العالم !!
... ومرت خمسة عشر عاماً والقضية الفلسطينية يأكلها الزمن، والتقاعس العربي ؛ واسرائيكا تتطلع باطمئنان وتفاؤل إلى حمل الدول العربية على التفاوض مع إسرائيل وعقد الصلح معها، وكتابة الصكوك، وتوقيع شهادة الوفاة للقضية الفلسطينية .. وفاة طبيعية عادية!!
... ولست أقول هذا من باب الفراسة، ولكني أقوله من باب الدراسة ؛ فقد شاء القدر أن أكون في الأمم المتحدة خمسة عشر عاماً، رئيساً للوفد السوري، ثماني سنين ؛ ثم رئيساً للوفد السعودي سبع سنين أخرى ؛ ورأيت دورة بعد دورة أن (اسرائيكا) تسعى في تصفية القضية الفلسطينية بصورة هادئة ناعمة ؛ وبلغ من حرصها على تحقيق هذه الغاية أنها كانت تؤكد أن(1/388)
( فلسطين) لم تعد قائمة في جغرافيا العالم الدولي ؛ وأن هذا الاسم ليس له وجود في قاموس العلاقات الدولية المعاصرة .. وكم وكم قام الحوار المرير في الأمم المتحدة بيني وبين ايبان وجولدا ماير حول لفظ (فلسطين) ، هل هو موجود دولياً، أم أنه مضى منذ زمان وانتهى ..
... وحسبت (اسرائيكا) أن الأمل بتصفية القضية الفلسطينية وإذابة شعبها قد تحقق أو كاد .. ولكن حسابها قد أخطأ الحساب ؛ فقد فوجئت بعد انتهاء مؤتمر القمة الأول في القاهرة (1964) بقيام منظمة التحرير الفلسطينية والتفاف الشعب الفلسطيني حولها، وانطلاق شعار التحرير بين الجماهير الفلسطينية والعربية على السواء .
... كان ذلك خيبة أمل كبرى ( لاسرائيكا ) بعد جهود دامت خمسة عشر عاماً ؛ ومن هنا بدأت المعركة بين ( اسرائيكا ) ومنظمة التحرير الفلسطينية .. وكانت أجهزة الإعلام الغربية من صحافة وإذاعة وتلفزيون هي ميدان هذه المعركة .
... وبدأت أجهزة الإعلام التابعة (لاسرائيكا) تهاجم منظمة التحرير الفلسطينية، في أنها تريد أن تخلق التوتر في الشرق الأوسط، وتحول دون الاستقرار والأمن، وتخرب مساعي السلم بين الدول العربية وإسرائيل .. وفي ثنايا هذه الحملة، كانت أجهزة الإعلام الغربية تؤكد على الدوام أن رئيس المنظمة عميل شيوعي، وأنه وأنه ..
... وقد ازدادت التهمة الشيوعية بعد أن قمت بزيارة جمهورية الصين الشعبية (1965) وبلغت ذروتها حينما أصبح معروفاً أننا نتلقى أسلحة من بكين، وأن عدداً من ضباطنا يتدربون على حرب العصابات في الصين . (1)
__________
(1) من القمة إلى الهزيمة ، مصدر سابق .(1/389)
... وفي كانون الثاني 1967، عقد وزير الخارجية الأمريكية مؤتمراً صحفياً هاجم فيه منظمة التحرير الفلسطينية وجيش التحرير، وأعلن
(أن الولايات المتحدة تعارض أهداف منظمة التحرير الفلسطينية) .. فكانت هذه ساعة الصفر للهجوم على منظمة التحرير، مع التركيز على رئيسها
(الشيوعي) والعمل على إسقاطه، حتى يسقط الحجر الأول في هذا البناء .
... وقد جاهرت الولايات المتحدة بهذا الموقف بعد أن أيقنت أن منظمة التحرير الفلسطينية قد أصبحت قوة فاعلة في الوطن العربي .. فقضية فلسطين أصبحت قضية الجماهير العربية، وشعار التحرير أصبح فوق كل شعار في الوطن العربي، وإذاعة المنظمة أصبحت إذاعة المواطن العربي في الوطن العربي، يسمعها قبل أن يسمع إذاعته المحلية .. وعلى العموم فقد أصبحت المنظمة هي القوة الدافعة المحركة في العمل العربي، ابتداء من مؤتمرات القمة إلى مؤتمر ضباط مقاطعة إسرائيل ..
... وانطلاقاً من هذا التقييم، فقد وجه مندوب صحيفة الاوبزرفر البريطانية (5/2/1967) سؤالاً إلى الرئيس عبد الناصر يقول فيه : (هل تعتقدون أن جهود منظمة التحرير الفلسطينية قد غيرت سياسة مؤتمرات القمة وعملت على احتمال الصدام المسلح مع إسرائيل ؟ ) وهذا السؤال ينبئ بصورة جلية عن مخاوف الإمبريالية الغربية بأجمعها من منظمة التحرير الفلسطينية ؛ كما ينبئ عن السبب الواضح في الحملة على منظمة التحرير الفلسطينية، والمبادرة إلى تحطيمها .
... والمنظمة من جانبها لم تكن تترك فرصة إلا وتنتهزها في الحملة على (اسرائيكا) ؛ ولا أذكر خطاباً ألقيته في عشرات المناسبات القومية إلا وأعلنت العداء على (اسرائيكا) ؛ وأن الأمة العربية تغسل يديها نهائياً وإلى(1/390)
الأبد من الولايات المتحدة، ومن أي أمل بأن تقف موقف العدل والإنصاف، أو موقف الحياد على الأقل ..
... كان ذلك على الصعيد الدولي، وكان هذا واضحاً لا يحتاج إلى إيضاح، فإن معركتنا مع (اسرائيكا) هي معركة لا مفر منها ولا محيص عنها ؛ فقد يجامل المرء أو يتساهل .. ولكن حينما تتصل القضية بالوطن وبالشعب، وجوداً واستمراراً، تكون المجاملة تفريطاً مجرماً، ويصبح التساهل خيانة عظمى .
... أما المعركة على الصعيد العربي، فقد عزمت منذ البداية، .. من أول يوم لإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية أن أتجنبها بكل جهدي .. فأنا صاحب الميثاق الوطني الفلسطيني، ولا فخر، وقد أكدت فيه ( إن تحرير فلسطين تبعة قومية كبرى تقع على عاتق الأمة العربية حكومات وشعوباً، وفي طليعتها شعب فلسطين) وقد حرصت على الدوام أن تكون الحكومات العربية جميعها في الميدان .. كما حرصت أن تكون قضية فلسطين فوق الخلافات العربية، وفي منأى عن التناقضات العربية .
... ولكن ما ذنبي وذنب المنظمة إذا وقعت هذه الخلافات والتناقضات على رأس القضية الفلسطينية، على غير إرادتي .. وما ذنبي إذا كانت بعض الحكومات العربية هي التي فتحت النار أولاً، ولم يكن أمامي إلا أن أقابل النار بالنار .. وهذا أول بند في حقوق الإنسان منذ كان الإنسان .
... وكانت أولى هذه المعارك مع الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة حين دعا إلى الصلح مع إسرائيل (1965) ؛ فرأيت من واجبي أن أتصدى له بكل صرامة، ضارباً عرض الحائط صداقتي ( العتيقة ) معه ..(1/391)
... وكانت المعركة الثانية مع الملك حسين الذي ألقى خطاب عجلون الشهير في حزيران 1966 وأعلن الحرب على المنظمة وسحب اعترافه بها، وأغلق مكاتبها، واعتقل رجالها، بعد أن كلمته سنتين كاملتين بالحسنى لتلبية مطالب الشعب .. ولم يعد أمامي إلا أن أرد له الكيل اثنين .
... وكانت المعركة الثالثة مع الملك فيصل ؛ وكانت معركة صامتة، نابعة من أسلوب الملك فيصل في القتال الصامت ؛ فقد توقف عن دفع التزاماته للمنظمة لا لذنب إلا التهمة الباطلة بأن الشقيري هو عميل الرئيس عبد الناصر والشيوعية العالمية معاً !!
... وهكذا أصبحت المنظمة تواجه حلفاً ثلاثياً بين فيصل والحسين وبرقيبة .. وبدأ الثلاثة يتحركون ( لخلع ) الشقيري من منظمة التحرير الفلسطينية .. وكانت بداية هذا التحرك في نهاية عام 1966، وبداية العام الذي يليه ..
... وبدأ الملك فيصل المعركة .. فقد أدلى بحديث صحفي لجريدة السياسة الكويتية (2/11/1962) أعلن فيه أن السعودية قررت تجميد التزاماتها لمنظمة التحرير الفلسطينية ( لأن جيش التحرير الفلسطيني يدرب في فيتنام، على حين أنه يجب أن يعمل لتحرير فلسطين بدلاً من أن يعمل لتحرير فيتنام) .. وقد بادرت إلى تكذيب هذا الخبر بأرق العبارات وأعذبها في حديث لوكالة أنباء الشرق الأوسط، رجوت فيه أن ( يتفضل جلالة الملك فيصل بإرسال لجنة تحقيق من قبله لزيارة معسكرات جيش التحرير، والاطلاع على سجلاتنا حتى يتأكد أننا لم نرسل أي جندي فلسطيني إلى فيتنام، وأننا لن نحارب إلا على أرض فلسطين ) .(1/392)
... ولم يستجب الملك فيصل لاقتراحي، وهو أذكى من أن يصدق في قرارة نفسه ما يقوله على لسانه !!
... وفي تلك الفترة أعلن الرئيس بورقيبة من تونس أنه مستعد للعودة إلى الجامعة العربية، وإلى مؤتمرات القمة العربية ولكنه ( لا يمكن أن يجلس مع السيد أحمد الشقيري تحت سقف واحد ) . وقد كتب مستشاره السيد سيسل حوراني مقالاً في الصحافة الأمريكية يطلب فيه إلى الدول العربية ( أن تختار بين التعاون مع الرئيس بورقيبة أو مع السيد أحمد الشقيري الذي لا يمثل
أحداً). وقد فاته بان رؤساء الحكومات العربية في اجتماعهم في ربيع 1965 قد أدانوا موقف الرئيس بورقيبة بالإجماع ..، ومعهم الأردن والسعودية .. يومئذ .. فلم أكن وحدي في هذا الموقف ..
... ولكن هذه الجهود لم تثمر، فقد بقي الشقيري على رأس منظمة التحرير الفلسطينية ولم يفلح الحسين وفيصل وبورقيبة في خلعه .. وكان لا بد من خطوة عملية أخرى ..
... وجاءت الخطوة العملية على شكل مذكرة رقم (8-7-17) قدمتها الحكومة الأردنية إلى الجامعة العربية (29-1-1967) جاء فيها ( أن رئيس منظمة التحرير الفلسطينية السيد أحمد الشقيري منذ اللحظة الأولى لإنشائها، وخاصة بعد مؤتمر القمة الثالث، قد انحرف عن النهج الصحيح وعن المهمة الحقيقية الني أنشئت من أجلها إلى الزج بها في أمور ليست من اختصاصها، وإلى دفعها لتكون طرفاً في الخلافات العربية والمعسكرات الدولية .
... وما أن تولت الأمانة العامة تعميم هذه المذكرة على الحكومات العربية، حتى بادرت السعودية إلى تأييدها بمذكرة تقول ( تهدي وزارة خارجية المملكة العربية السعودية أطيب تحياتها إلى الأمانة العامة لجامعة(1/393)
الدول العربية، وبالإشارة إلى مذكرة وزارة خارجية المملكة الأردنية الهاشمية رقم 8-7-17 تاريخ 29/2/1967 بشأن منظمة التحرير الفلسطينية، تتشرف بإفادتها بأنها تؤيد ما لاحظته وزارة خارجية المملكة الأردنية الهاشمية بصدد انحراف السيد أحمد الشقيري عن النهج الصحيح وعن المهمة الأساسية التي أنشئت المنظمة من أجلها، خاصة وأنه دأب على التصريح في كثير من المناسبات بأنه لم يعد يعترف بمؤتمرات القمة، ولا يتقيد بقراراتها، متجاهلاً أن تكوين المنظمة التي يرأسها لم تكن إلا بقرار من مؤتمرات القمة ؛ وترى السيد أحمد الشقيري فيما انحرف إليه وانساق وراءه قد خرج عن الخط القومي لهذه القضية إلى الحد الذي أصبحت لا ترى فيه الشخص الجدير بتمثيل الكيان الفلسطيني المنبثق عن مؤتمرات القمة ) .. هكذا اختار الملك فيصل أن يوجه هذه التهم الخطيرة من غير قرينة أو دليل .. وإلى رجل قضى أربعين عاماً في خدمة القضايا العربية على الصعيدين العربي والدولي وكان في السبع السنين الأخيرة رئيساً للوفد السعودي في الأمم المتحدة !!
... وتعزيزاً لهذا الجهد في محاولة خلع الشقيري، فقد اتصل الملك حسين بالرئيس بورقيبة لعله يستطيع أن يقنع ليبيا والمغرب بتأييد هذه الجهود في داخل الجامعة العربية ؛ فأرسل إليه رسالة (1-2-1967) يقول فيها
( تعلمون فخامتكم أن رئيس منظمة التحرير السيد أحمد الشقيري قد انحرف عن خطة العمل الموحد والالتزام بمؤتمرات القمة إلى جر المنظمة لتكون طرفاً في الخلافات العربية بل في الخلافات الدولية، هذا بالإضافة إلى موقفه الصريح من إثارة الفتنة في هذا البلد المرابط، والتحريض على الثورة، وتقويض الكيان الأردني وبذر بذور الشقاق بين أبناء البلد الواحد، والحض(1/394)
على التخريب والتدمير والقتل ؛ وأعلنها صريحة في جميع اللقاءات المنبثقة عن مؤتمرات القمة أنه لا يلتزم بأي قرار، وأنه يعمل منفرداً على الوجه الذي يحلو له ؛ ثم أن المذكور قد أثبت في نظرنا أنه غير أمين على سر يفترض بقاؤه على الكتمان بعد أن يتفق على وجوب ذلك في أي اجتماع يعقد، مثلما أنه غير أمين حتى في ما يتمادى بكشفه مشوهاً محرفاً مليئاً بالحقد والدس والتزوير) .. هكذا هكذا !!
... وحين كان الثلاثة فيصل وبورقيبة والحسين يتداولون الأمر لخلع الشقيري من منظمة التحرير الفلسطينية، كنت أجلس إلى جوار السيد أنور السادات نائب رئيس الجمهورية على المنصة الرئيسية، في جامعة القاهرة أستمع إلى خطاب الرئيس عبد الناصر لمناسبة ذكرى الوحدة (22/2/1967) وهو يزمجر غاضباً .. طلع الخواجه بورقيبة يساوم على قضية فلسطين، وطالب بالتفاوض مع إسرائيل والصلح معها .. بورقيبة عميل استعماري .. ثم بدأ الملك فيصل يعمل من أجل الحلف الإسلامي لخدمة مصالح أمريكا وإنجلترا .. وبعدين بيطلع الملك حسين و ينضم إلى فيصل في هذا الطريق ؛ فيصل والحسين يخدموا الأمريكان و الإنجليز .. الاستعمار لا يريد الكيان الفلسطيني ولا منظمة التحرير ولا جيش التحرير .. بقاء النظام العميل في الأردن يخدم بقاء إسرائيل ..إسرائيل راضية من سياسة الملك حسين .. نظام الأردن حماية لإسرائيل ؛ وزير خارجية أمريكا قال إن أمريكا لا توافق على قيام منظمة التحرير وأهداف جيش التحرير، وهذا هو موقف الملك فيصل من منظمة التحرير، فيصل يحارب المنظمة ويبعث يجيب الحاج أمين الحسيني يدي له فلوس علشان يهدموا المنظمة .. الملك حسين ملك فاجر عاهر .. ).(1/395)
... كان الجمهور الحاشد في جامعة القاهرة يستعيد الرئيس عبد الناصر هذه العبارات ليزدادوا حماسة وطرباً، ولتزداد الجماهير العربية في تونس والسعودية والأردنية استماعاً لها وتوكيداً لمعانيها .
... وقال لي السيد أنور السادات ونحن خارجون من قاعة الجامعة : سيادة الرئيس أخذ بثأرك ..
... قلت : بل إنه ثأر للعرب أجمعين .. إن الأمة العربية بأسرها هي القاعدة الكبرى لمنظمة التحرير .. وإن تحرير فلسطين لم يعد مسئولية الشعب الفلسطيني وحده .. إنه مسئولية الأمة العربية بأسرها ) .. خرجنا من ميدان الجامعة لنجد جماهير القاهرة تملأ الساحات والشوارع وهي تهتف لتحرير فلسطين وتنادي بسقوط الثلاثة إياهم .. الثلاثة الذين حمل عليهم الرئيس عبد الناصر في خطابه .. فيصل والحسين وأبورقيبة ..
... وجاءت الدورة العادية لمجلس الجامعة العربية (14 آذار 1967) ؛ قدر الثلاثة فيصل والحسين وابورقيبة أن ساعة الصفر قد دنت، وأن الوقت قد حان لخلع الشقيري من منظمة التحرير الفلسطينية، ووزعت الأدوار .. وكان الدور الأول على المملكة الأردنية الهاشمية ..
... وانعقد مجلس الجامعة العربية على مستوى الوزراء .. وكان يرأس الوفد الأردني السيد مدحت جمعة السفير الأردني في بيروت ؛ وكان يرأس الحكومة الأردنية في تلك الفترة السيد سعد جمعة، فلم يطمئن لأحد يلعب الدور إلا لشقيقه السيد مدحت .
... وبدأت الاجتماعات الجانبية لتلطيف الجو .. وقام الوزير الكويتي الشيخ صباح الأحمد بدور بارز .. واتصل بي يناشدني أن لا أتعرض للأردن وأن ينحصر النقاش في جدول الأعمال، وان السيد مدحت جمعة قد وعده(1/396)
بأن يلتزم جانب السكينة، فقلت له : لك علي أن لا أتعرض للأردن من قريب أو بعيد .. ودخلت قاعة الاجتماع، دون أن يدر أحد ما يضمره ويدبره السفير الأردني، شقيق الرئيس الأردني، وممثل الملك الأردني !!
... وبدأ الاجتماع بكلمات الترحيب المعتادة، والتحيات المألوفة، وخرج الصحفيون، وأقفلت الأبواب .. ورفع السفير الأردني يده يطلب الكلمة .. ويا بئست الكلمة .. ووقعت المفاجأة، وكانت مفاجأة حقاً .. فقد فتح السفير الأردني ملفه، وأخذ يقرأ خطاباً مكتوباً مطبوعاً، حملة من عمان، وألقاه في الاجتماع بالقاهرة .. دون أن يستفزه أحد، أو يستدرجه أحد .. قال فيه ( لقد عرفت ردهات الجامعة العربية وقاعات اجتماعاتها الشقيري خطيباً لا ينطق إلا عن الهوى، ولا يقول إلا اللغو وينضح عن طبيعته في الشتم يوزعه هنا وهناك، إن الشعوب العربية وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني الذي يزعم الشقيري أنه يتكلم باسمه قد ملوا بضاعة الشقيري من الكلام والشعوذة والضحك على العقول والأردن يحتفظ بحقه في عدم حضور أي اجتماع للجامعة العربية على أي مستوى إذا حضره الشقيري، وأن مجرد وجود الشقيري في أي اجتماع بعد أن عرف عنه إفشاء الأسرار العسكرية الخطيرة والتجني على الحقيقة، وتزوير التاريخ، كفيل بأن يجعل ذلك الاجتماع عديم الجدوى والفائدة، والأردن إذ يتخذ هذا الموقف يرجو بذلك أن يتأثر الآخرون بموقفه الحق العادل، ويعلن الوفد الأردني بعد هذا البيان انسحابه من الاجتماع .. ).
... خرج الوفد الأردني من قاعة الاجتماع، واستمرت الجلسة في جو غاضب، وأرى أن خير ما أفعله الآن أمانة للتاريخ، أن أقتبس أقوال الوزراء من المحاضر الرسمية للجامعة العربية (مضابط الجلسات الاجتماع(1/397)
العادي السابع والأربعين 14 مارس 1967) .. وقد جرى الكلام على الوجه التالي :-
... السيد رئيس منظمة التحرير الفلسطينية : لقد خرج الوفد بحمد الله من هذا الاجتماع، إن وفده وحكومته وملكه خارجون على الأمة العربية .. ونحمد الله أن الجامعة العربية تطهرت الآن من حكومة خائنة للقضية العربية والقضية الفلسطينية .. إن الخطاب الذي ألقاه السيد مدحت جمعة، جاء به من عمان .. من بسمان ومن رغدان، وبسمان ورغدان يغوصان الآن في وحل الخيانة، بدلاً من أن يكونا انعكاساً للرغد والابتسام .. لقد عشت كل عمري في المحافل الدولية والعربية ولكني لم أسمع بمثل هذا الكلام البذيء، وما رأيت مستنقعاً عفناً نتناً يخرج منه مثل هذا الكلام البذيء .. وكنت أتمنى لو بقي الوفد الأردني حاضراً حديثي لأرد عليه وعلى حكومته وملكه العميل الخائن وجهاً لوجه .. إن الأردن كان ينبغي أن يطرد من الجامعة العربية عام 1948 لأنه خان قضية فلسطين وخان العرب أجمعين .. وها نحن الآن أمام ضلال الملك حسين، ونحن لا نستطيع أن نهديه فإن من يضلل الله ما له من هاد .. وأنتم تعلمون أن الدوائر الأمريكية قد وصفت الأردن أخيراً بأنه قاعدة لحلف الأطلنطي، ونحمد الله أن هذه القاعدة خرجت الآن من مجلسكم الكريم .. ونرجو أن يكون ذلك إلى الأبد إلى أن يتحرر الأردن من هذا النظام .. من هذا النظام العميل ويعود الشعب الأردني إلى هذا المجلس ممثلاً بالحكم الوطني الأصيل .. ولقد سمعتم أشكول رئيس وزراء إسرائيل وايبان وزير خارجيته وقد أعلنا في الشهر الماضي بأن إسرائيل لن تقف مكتوفة اليدين إذا حدث أي تغيير في النظام الأردني .. وبات واضحاً أن الحسين هو في حماية إسرائيل، تحميه من الشعب الأردني الباسل .. ومن كان تحت(1/398)
حماية إسرائيل فليس له مكان بيننا .. وأن مقعد الأردن الشاغر سيملؤه الحكم الوطني الأردني الذي يمثل الشعب وشرف النضال، ولا يستطيع الملك حسين أن يحتمي وراء ميثاق التضامن العربي، لأن التضامن العربي لا يحمي من الخيانة .. ولا حصانة لأي ملك أو رئيس اقترف الخيانة .. ومعركة السموع كلكم تعرفون تفاصيلها .. لقد زعم الملك حسين أن الأردن قد أسقط طيارتي ميراج من سلاح الجو الإسرائيلي .. لقد تمنيت لو كان هذا صحيحاً .. شباب فيتنام الذين كانوا يفدون على القاهرة كنت أرى في أصابعهم خواتم مضيئة مصنوعة من معدن الطائرات الأمريكية التي يسقطها أبطال فيتنام .. وكنت أتمنى لو أن الملك حسين قد وضع في رقبته طوقاً من معدن الميراج الإسرائيلية .. ولو فعل لأكبرته ومجدته .. إن الخطاب الذي ألقاه مندوب الأردن هو خطاب عاهر وماجن .. وفي عيد الوحدة الأخير خطب الرئيس عبد الناصر فقال إن الحسين عاهر وفاجر .. وهذه حقيقة وليست صفة .. وإن خطاب الأردن هو دليل اليوم على ذلك .. أما بصدد المذكرتين السعودية والأردنية حول ما قيل عن انحرافاتي عن النهج الصحيح وعدم جدارتي بأن أكون رئيساً لمنظمة التحرير فالأمر يدعو إلى السخرية .. إن الأمر لا يتصل بأحمد الشقيري، فأنا إنسان زائل، وسيأتي غيري رئيساً للمنظمة يختاره الشعب الفلسطيني، لا يختاره ملك أو رئيس، هذا هو حق الشعب الفلسطيني الذي يرفض كل وصاية، إن رئيس منظمة التحرير الفلسطينية موجود هنا معكم بإرادة الشعب الفلسطيني لا بإرادة أي ملك تمثلونه، ولا بأي رئيس تمثلونه، ولا بالملوك والرؤساء مجتمعين .. إن الشعب الفلسطيني وحده هو الذي يختار من يتكلم باسمه ويتولى الدفاع عن قضيته، وهو وحده الذي يقرر إذا كنت جديراً برياسة المنظمة، أما القول(1/399)
بأني انحرفت عن النهج فإني أترك لكم الرد عليه، وأنتم جميعاً تعرفون من هو رئيس المنظمة .. أقولها بكل تواضع واعتزاز، لقد قضيت زهرة شبابي في الدفاع عن القضايا العربية في المحافل الدولية .. لقد دافعت عن قضية ليبيا في عام 1949 كواحد من أبناء ليبيا، وعن قضية المغرب في عام 1951 كواحد من أبناء المغرب، وعن قضية تونس عام 1955 كواحد من أبناء تونس، وعن القضية الجزائرية ما بين أعوام 1957 – 1962 كواحد من أبناء الجزائر، ودافعت عن فلسطين، وطني الصغير سنوات وسنوات .. فهل أصبحت الآن منحرفاً وخائناً .. أنا حاضر للحساب أمام الأمة العربية ولكني أرفض بكل شمم وإباء هذا الكلام الخائر .. وقد آن لي أن أتكلم من غير تواضع .. لقد بنيت المنظمة من العدم، وأنشأت الجيش من الصفر، وأبرزت الشخصية الفلسطينية من بين الأنقاض .. وكل ذنبي أني أخذت سلاحاً من الصين، وأرسلت ضباطنا ليتدربوا على حرب التحرير في الصين ومن كان قادراً أن يأتينا بسلاح من واشنطن فليتفضل، ومن كان قادراً على أن يدرب شبابنا في لندن فليتفضل، وإني أناشد الملك فيصل أن يكون عوناً لنا على لندن وواشنطن .. لست شيوعياً ولا أريد أن أكون .. أنا فلسطيني عربي مسلم نذرت كل عمري من أجل فلسطين .. يقولون إن الشقيري عميل لعبد الناصر، وأنا أرفض هذا القول .. أنا زميل لعبد الناصر، ورفيق درب وسلاح، نحن لا شأن لنا بالخلافات العربية ما دامت لا تمس قضيتنا . ولم يقع خلاف بيننا وبين ليبيا الدولة الملكية الرأسمالية لأنها لم تتعرض لقضيتنا بسوء .. ولكننا اختلفنا مع جارتها تونس الدولة الجمهورية الاشتراكية لأن الرئيس بورقيبة تعرض لقضيتنا بسوء، إنه دعا للصلح مع إسرائيل .. وكذلك الملك حسين لم نتعرض له إلا حين هاجم المنظمة ورماها بالشيوعية،(1/400)
وأعلن أن المهمة الرئيسية للجيش الأردني هي مقاومة الشيوعية، وأن الشيوعية أخطر من الصهيونية .. هذا هو موقفنا بإيجاز .. ونحن هنا معكم لا صدقة ولا منة، نمثل شعبنا كما تمثلون شعوبكم .. ولا أريد أن أطيل لأترك المجال لغيري أن يتكلم ما يشاء .. ).
... السيد محمود رياض وزير خارجية الجمهورية العربية المتحدة : إن البيان الذي أدلى به مندوب الأردن خطير، ولا يمكن أن نفض هذه الجلسة قبل أن يتخذ المجلس قراراً بشأنه .. إن بيان المندوب الأردني يحمل الكثير من الشتائم والمفتريات ليس فقط ضد رئيس المنظمة، بل ضد هذا المجلس، لأننا في هذا المجلس لا يمكن أن نقبل افتراءات وادعاءات وشتائم توجه إلى رئيس المنظمة، إن من يتهم رئيس المنظمة بالخيانة هو الخائن في الواقع، فنحن نجل رئيس المنظمة ونعرف قدره، ونعرف مواقفه الوطنية، في كافة الميادين والمنظمات الدولية التي دافع فيها ليس عن قضية فلسطين فقط بل عن جميع القضايا العربية، فمنذ أن أنشئت الأمم المتحدة كان يدافع دفاع المستميت، وكسب الأعداء من كافة الدول الاستعمارية الذين كانوا على الدوام يناهضونه ويقاومونه، وهم يعلمون مدى صلابته في الحق ومدى قدرته وكفاءته للصمود أمام الاستعمار وعملاء الاستعمار وألاعيب الاستعمار، فكان دائماً شوكة في حلق الاستعمار وفي حلق مندوبي الدول الاستعمارية في الأمم المتحدة، وكلنا استمعنا إليه بتقدير وإعجاب، ونعلم الجهد الذي يقوم به والذي نقدر أنه سيقوم به على الدوام في المستقبل ليس فقط من أجل القضية الفلسطينية بل من أجل كافة قضايا الحرية، ولذا فإننا نرفض تماماً أن نسمع هذا الكلام من ممثل الخيانة .. فقد سجل التاريخ على هذه الأسرة التي تحكم في الأردن، سجل التاريخ عليها الخيانة فعلاً،(1/401)
والخيانة مستمرة متوارثة، لأنه لا يمكن إصلاح الخائن وأن يعود لوطنه وقومه وشعبه، لذلك أعتقد أن خروج مندوب الأردن لا يسيئنا إطلاقاً بل هذا يسهل عملنا، فلم تعد هناك أية فائدة عندما نناقش القضية الفلسطينية أن يستمر أو نتعاون مع أي خائن للقضية الفلسطينية .. وأعتقد أنه لا يمكننا في هذه اللحظة أن ننتهي قبل أن نتخذ قراراً، وإني أعرض على المجلس الموقر قراراً محدداً نصه ما يلي : يقرر مجلس الجامعة العربية بعد أن استمع إلى البيان الذي ألقاه مندوب المملكة الأردنية الهاشمية والذي هاجم فيه رئيس منظمة تحرير فلسطين رفض كل ما جاء في هذا البيان من ادعاءات وافتراءات، ولذا يقرر المجلس أن يعبر عن تقديره واحترامه وثقته الكاملة في رئيس منظمة تحرير فلسطين ) ..
... الشيخ صباح الأحمد وزير خارجية الكويت : أؤيد الزميل الأخ السيد محمود رياض في اقتراحه الذي أتى به الآن، وأود أن أسجل تقديري واحترامي للزميل الكريم رئيس المنظمة واحترام حكومتي له .. وكنت طلبت هذا المساء من السيد أحمد الشقيري أن يكون موضوعياً حباً في جمع الكلمة، وكل ما طلبته منه قد استجاب له، ولذلك فإني شاكر له ومقدر، ونؤيد اقتراح السيد وزير خارجية الجمهورية العربية المتحدة ..
... السيد عبد العزيز بوقفليقة وزير خارجية الجزائر : أؤيد الزميل الأخ برئيس المنظمة أرى من الواجب المقدس على وفدي أن نشكره على ما قام به شخصياً من تضحيات ومجهودات لا تعرف التواني، ولا تعرف أي تردد في خدمة القضية الجزائرية على الخصوص والقضية العربية على العموم، وهو إذ يعتبر في بعض الدول الشقيقة خائناً للقضية العربية فإننا نعتبره في الجزائر لا رئيساً ولكن مجاهداً مكرماً كريماً في سبيل القضية العربية،(1/402)
ومجاهداً كسائر المجاهدين الجزائريين الذين ناضلوا في صفوف جيش التحرير أو في السجون في المنظمات التي كانت تقاوم الاستعمار حينذاك أيام الاحتلال الفرنسي في الجزائر .. فإن الأستاذ الشقيري أدى واجبه المقدس في ميادين الكفاح وخدم القضية الجزائرية، وقام في وجه الاستعمار الأجنبي أينما كان وعلى أي شبر وعلى أي رقعة من البلاد العربية، إن تضامننا مع القضية الفلسطينية يعد قسطاً ضئيلاً للدين الذي علينا من الكثيرين من أبناء فلسطين وعلى رأسهم رئيس منظمة التحرير الفلسطينية .. ثم إنه من حقنا أن نسأل هل تغير الشقيري الذي عرفناه منذ سنوات بين عشية وضحاها وأصبح المنحرف الخائن .. وإذا كان الشقيري قد خان القضية فأعتقد أنكم من دون استثناء شاركتموه في الخيانة .. وبعد أن قال الأردن رأيه فيما يتعلق بالشقيري فإن عهدنا في الشقيري الوفاء وعهدنا فيه التشبث بالقضية العربية .
... السيد حمد عوض الله وزير خارجية السودان بالإنابة : إني متفق مع السيد وزير الخارجية الجزائري في كل الحديث الذي جاء به مختصاً بالسيد الشقيري ونضاله وبتاريخه وبمواقفه العديدة الرائعة، فقد وهب نفسه للقضية الفلسطينية، وهو يعتبر بحق أبو القضية الفلسطينية . لقد التقيت بالسيد الشقيري منذ أكثر من عشر سنوات في إبريل 1955 في مؤتمر باندونغ في أندونيسيا حيث لم يكن رئيساً للمنظمة، واستطاع بقوته وإيمانه بالقضية الفلسطينية أن يشق طريق تلك القضية في ذلك المؤتمر الكبير، واستطاع أن يكسب تأييد ذلك المؤتمر للقضية، وما زلت أذكر ذلك الحديث الوطني الرائع الذي تحدث به والذي مازالت أصداؤه ترن في أذني حتى هذه اللحظة . ونأتي بعد أكثر من عشر سنين لنلتقي بالسيد الشقيري في هذه القاعة فإذا بالرجل نفس الرجل، وإذا بالإيمان نفس الإيمان، وإذا بالثقة في(1/403)
الشعب الفلسطيني وفي القضية الفلسطينية لم يتغير ولم يتبدل، فهنيئاً للشعب الفلسطيني المناضل أن يوجد فيه هذا الرجل، إني قد تحدثت معه قبل هذه الجلسة، جلسة السيد الشقيري، وأريد أن اسميها بهذا، لأنها كشفت عن الكثير عن قيمة وقدر هذا الرجل، وتوجهت إليه بالدعوة لزيارة السودان لأن الشعب السوداني يعرف السيد الشقيري ليس عن طريقي ولكن عن طريق القضية الفلسطينية، وعن طريق الدور الهام الذي قدمه لها . ولذلك أقول باسم السودان أننا نثق كل الثقة في رئيس المنظمة ونقول له إلى الأمام، فالمجاهدون الصادقون دائماً هم عرضة للنقد والتجريح، ونحن نؤيد الاقتراح الذي تقدم به وزير خارجية الجمهورية العربية المتحدة .
... الدكتور عبد الحسن زلزلة رئيس الوفد العراقي : أؤيد كل ما قاله إخواني الذين سبقوني في الكلام، ويؤسفني أن أرى أن أروقة الجامعة وسجلاتها لم تشهد مثل هذه التمزقات والمغالطات التي شحن بها خطاب مندوب الأردن، إن ذلك الخطاب أهان الأمة العربية والشعب الفلسطيني الذي اختار السيد الشقيري معبراً عن إرادته وممثلاً له، وأظنكم تشاركوني جميعاً الاستنكار الشديد للتجريح والاتهام الباطل الذي كاله الخطاب للسيد رئيس المنظمة، وهو الشخصية العربية المناضلة التي ناضلت بكل صدق وإخلاص وصلابة في سبيل قضايانا العربية ومقاومته الاستعمار، وأرى أن يصدر المجلس فوراً قراراً يوضح ثقته الكاملة برئيس المنظمة وإكباره لجهوده وتضحياته، مع ضرورة شجب بيان الأردن واستنكار تهجماته حرصاً على كرامة المجلس والمنظمة .
... الدكتور إبراهيم ماخوس وزير الخارجية السورية : بعد أن استمعنا إلى البيان الذي أدلى به مندوب المملكة الأردنية والموقف الذي اتخذه(1/404)
بتعليمات من سيده، متضمناً افتراءات وازدراء حقيقياً بشعبنا، يعطي صورة حقيقية عن تلك الحكومة، وقد أغنانا السيد رئيس المنظمة في بيانه القيم عن طرح المواقف المخزية التي وقفها الأردن .. كل هذه الإهانات التي وردت في البيان الأردني والتي وجهت إلى السيد رئيس المنظمة لا نقبل بها بأي شكل من الأشكال، إن أضعف الإيمان أن نتخذ قراراً حاسماً إزاء موقف الحكومة الأردنية ذلك الموقف الخائب الخائن، وإني مع تأييدي الكامل لمشروع القرار الذي اقترحه وزير خارجية الجمهورية العربية المتحدة أرى أنه يجب علينا إدانة حكومة الأردن بإضافة عبارة مناسبة تحمل معنى الإدانة.
... السيد محمد عبد العزيز سلام وزير الخارجية اليمنية : لقد استمعنا بكل اعتزاز وإكبار للسيد أحمد الشقيري، وأقول ان الكلام الذي قاله مندوب الأردن كان متوقعاً، وأقول ( إذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل ) فهذه تزكية كبيرة للسيد أحمد الشقيري الذي كافح من أجل القضية الفلسطينية، ومن أجل اليمن، ومن أجل الجنوب اليمني المحتل، ومن أجل الجزائر، ومن أجل المغرب، ومن أجل ليبيا، ومن أجل العالم العربي بأكمله من المحيط إلى الخليج، وإني أؤيد مشروع القرار الذي تقدم به وزير خارجية الجمهورية العربية المتحدة بإدانة الخونة في الأردن ) .
... الدكتور جورج حكيم وزير خارجية لبنان : أؤيد الزملاء الذين تقدموني بما أبدوه من تقدير لرئيس المنظمة، إن الوفد اللبناني يأسف شديد الأسف لما سمعناه في البيان الأردني الذي هاجم الأخ الشقيري .. وبهذه المناسبة أؤكد بأن رئيس المنظمة يحظى بكامل ثقتنا، وأننا نكن له كل الاحترام، ونؤيد الاقتراح من وزير خارجية الجمهورية العربية المتحدة .(1/405)
... السيد محمود رياض وزير خارجية الجمهورية العربية المتحدة : كلمة إيضاح سيدي الرئيس للأخ وفد المغرب الذي حضر الآن فقد كان في اجتماع مع الرئيس عبد الناصر .. لقد اتهم مندوب الأردن الأخ الشقيري بأنه خائن اتهمه بأنه يبيح الأسرار العسكرية الخاصة بمجلس الدفاع .. فلا يمكن أن نذهب إلى منازلنا هذه الليلة قبل أن نجلي هذه النقطة، فيجب أن نبرئ الشقيري ونبرئ أنفسنا قبل الشقيري من الخيانة، ويجب علينا أن نقرر حذف البيان الأردني من مضبطة الجلسة، ونظهر تقديرنا وثقتنا في رئيس المنظمة) .
... الدكتور أحمد البشتي وزير الخارجية الليبية : أعلن باسم الوفد الليبي أننا نؤيد تأييداً كاملاً شاملاً منظمة التحرير ورئيسها الأستاذ أحمد الشقيري وننزهه ونرتفع به عما ورد في كلمة الوفد الأردني وكلنا لا يشك ولا ينكر نضال المنظمة ورئيسها الكريم، ونحن نعرب عن الأسف الشديد لما ورد في كلمة مندوب الأردن ونؤيد مشروع القرار المقدم من وزير خارجية الجمهورية العربية المتحدة ).
... وانتهت كلمات رؤساء الوفود، وطرح للتصويت مشروع القرار الذي تقدم به وزير خارجية الجمهورية العربية المتحدة، فتمت الموافقة عليه بالإجماع، وامتنع عن التصويت وفد المملكة العربية السعودية .. من غير إيضاح .. وهذه مرة أخرى خرج فيها الوفد السعودي عن الإجماع !!
... وخرجنا من قاعة الاجتماع بعد منتصف الليل بقليل، والصحفيون ينتظرون في معابر الجامعة ليستمعوا إلى ما قرره المجلس بشأن الأردن .
... وسألوا هل قررتم طرد الأردن من الجامعة ؟(1/406)
... فقال لهم الدكتور إبراهيم ماخوس الوزير السوري : سنتقدم بهذا الاقتراح في الدورة المقبلة .
... وتلا السيد عبد الخالق حسونة الأمين العام للجامعة العربية القرار الذي اتخذه المجلس، وترجمه إلى اللغة الإنجليزية إلى مندوبي الصحف الأجنبية .
... وكان أطرف تعليق صدر من مندوبي الصحافة الأجنبية ما قاله مراسل النيويورك تايمس من أن ( أبورقيبة وفيصل والحسين قد تعاونوا على خلع الشقيري من رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية .. تعاونوا على هذا الهدف، ولكنهم لم يستطيعوا .. )
... حقاً إنهم لم يستطيعوا في مطلع عام 1967، ولكنهم استطاعوا بعد أشهر معدودات، في أخريات العام نفسه ..
... لقد استطاعوا خلع الشقيري بعد الهزيمة، بعد حرب حزيران، وفي ظروف عربية ودولية سأشرحها في حينها مع ذكرياتي عن الهزيمة النكراء ؛ ولا أريد أن أعتذر عن اقتباسي كلمات رؤساء الوفود العربية فقد أوردتها لا لما حوته من الثناء، ما لهذا قصدت ..
... لقد كان قصدي من كتابة هذا الفصل كله أن أضرب مثلاً واحداً حياً كما وقع، لما تعانيه القضية الفلسطينية من بلاء وعناء، وأردت أن يكون ذلك المثل، هو رئيس منظمة التحرير، بلحمه ودمه، وأيامه وأعوامه ..
... (ضرب لكم مثلاً من أنفسكم ) صدق الله العظيم(1/407)