(الغلاف)
حوار وأسرار ..
مع الملوك والرؤساء(1/1)
حواروأسرار
مع الملوك والرؤساء
الطبعة الإلكترونية الأولى
1426 هـ
2005 م(1/3)
? حوار وأسرار مع الملوك والرؤساء
? أحمد الشقيري
? الطبعة الإلكترونية الأولى 2005 م
المحرر
عبد العزيز السيد أحمد
تدقيق التنضيد والإخراج :-
المؤسسة العربية الدولية للنشر والتوزيع
هاتف: 5650630-6-962+ فاكس: 5668860-6-962+
ب.إ: arab_book@hotmail.com
جميع الحقوق محفوظة All rights reserved(1/4)
المحتويات
الوحدة العربية.............................................. ... 7
- خمسون عاماً على طريق الوحدة........................ ... 9
- أستاذ! أين طوروس؟ وأين رفح؟؟...................... ... 21
- فيصل الكبير أو بسمارك الصغير........................ ... 36
- هل تريدون من الملوك والأمراء أن يقدموا عروشهم وتيجانهم................................................ ... 50
الوحدة العربية – حوارات............................... ... 65
- حوار مع ثلاثة : طه حسين – الحاكم البريطاني- نوري السعيد.................................................. ... 67
- أيام مع : مصطفى النحاس، نوري السعيد، توفيق أبو الهدى، سعدالله الجابري، والشيخ يوسف................ ... 84
- أيام مع : رياض الصلح ، جميل مردم، والولد حسين....
- أيام مع : النقراشي، سمير الرفاعي، عبد الحميد كرامي، هنري فرعون، فارس الخوري وعزام................... ... 110
- رحم الله زعيم مصر العظيم.............................
131
150
الوحدة مع الملوك والرؤساء................................ ... 169
- رسالة إلى عبد الناصر.................................. ... 171
- الوحدة العربية عند أربعة : جمال عبد الناصر – القوتلي – الإمام أحمد- فيصل.................................. ... 191
- يا طويل العمر والدك دعا إلى الوحدة(1/5)
العربية..................................................
209
نكبة حزيران......................................... ... 235
- لو... اسقطت تل أبيب وما سقطت بيت المقدس......... ... 237
- لولا الانفصال لما سقطت سيناء ، وما سقط الجولان ... ... 256
هزيمة الوحدة...وحدة الهزيمة............................. ... 271
- صنعنا وحدة الهزيمة.................................... ... 273
- الوحدة العربية في الخرطوم وفلسفة أبورقيبة........... ... 287
إلى الوحدة... أيها الرؤساء.............................. ... 323
- دعوة.... إلى الرؤساء لا الملوك........................ ... 325
- ثلاثة أسئلة أمام الرؤساء............................... ... 342(1/6)
الوحدة العربية(1/7)
خمسون عاما على طريق الوحدة
"الحركة العربية"، "الوحدة العربية"، "القومية العربية" ثلاثة تعابير حديثة، لا يزيد عمرها على عمري، وقد تجاوزت الستين من عمري، ولعل الجيل الذي سبقني أو بعضه على الأصح، قد عرف عنها أو سمع بها...
وقد عشنا أنا وجيلي هذه التعابير تقرع آذاننا، وتملأ أفئدتنا وتحرك خواطرنا ومشاعرنا..(1/8)
والجيل الذي سبقني، هو وحده الذي "ضرب" هذه التعابير الثلاثة، كما "تضرب" النقود في دار "السكة" ثم تنزل إلى الأسواق فتتداولها الأيدي والجيوب.!!
وكنا قبل ذلك، خلال الحكم العثماني وعلى مدى أربعماية سنة، لا تدور على ألسنتنا، ولا تجول في خواطرنا هذه التعابير الثلاثة "الحركة العربية"، "الوحدة العربية".
وكنا في ذلك العهد الطويل، أمة عربية من غير شك، بلغتنا تقاليدنا وتراثنا، ولكن "شخصيتنا" العربية، كانت محتجبة بل مندمجة في شخصية أخرى، هي الشخصية الإسلامية، المتمثلة يومذاك في الشخصية "العثمانية"، في الدولة العثمانية، دولة الخلافة الإسلامية (1) .
وأحمد الله، في جملة ما أحمده عليه، أن، وهبني ذاكرة حادة، تختزن أدق مشاعري في بواكير حياتي، ففي خزائن ذاكرتي تجمعت صور واضحة عن هذه التعابير الثلاثة، كأنها صورة التقطتها "الكاميرا" بالأمس، وخرجت من غرفة "التحميض" في يومي هذا..
لقد نشأت طفلا "عثمانيا" شأن الكثيرين من ملايين أطفال العرب، كنت أتكلم اللغة العربية، وأعيش في مدينة عربية، تكاملت فيها الحياة العربية، في مأكلي ومشربي وملبسي، ولكني مع هذا كله كنت "عثمانيا" ... مواطنا واحدا في الإمبراطورية العثمانية، يؤلف العرب والترك أهم عناصرها. وأكثر سكانها عددا!!
__________
(1) * الدولة العثمانية : نسبة إلى مؤسسها عثمان أدرخان (1326-1359) م ومن هذه الصور التي لا تزال تحمل ألوانها وظلالها حتى الآن، أنني كنت مع جيلي كله "عثمانيا" " بالاسم والحقيقة، بالتفكير وبالضمير.(1/9)
وكان العرب، هم "العنصر النجيب" كما كان يسميهم الأتراك، وفي مدينتي عكا، كان الأطفال الأتراك، من أبناء المواطنين الأتراك، رفاقي في المدرسة "الاحتياطية"، كما كان اسمها آن ذاك، يعرفون أنفسهم بأنهم عثمانيّون، ولم اسمع أحداً منهم يقول إنّه تركي.. فهو يعرف نفسه "عثمانلي" وهكذا يعبرون عنها باللغة التركية!!
وفي الصباح، كنا نقف في صفوف متوازية لتحية العلم، فنرفع أبصارنا وأيدينا بالتحية إلى العلم "العثماني" بالهلال والنجمة، بخشوع صادق ورهبة مخلصة، ونصيح بالتركية بأصواتنا النقية المؤمنة: بادشاهم جوق باشا- ليعش سلطاننا طويلا ...
وكان سلطاننا هذا، نحن ذلك الجيل، السلطان محمد رشاد "سلطان البرين والبحرين وخادم الحرمين الشريفين" ... فلم أكن قد أدركت السلطان الذي سبقه، عبد الحميد، فقد ولدت عام خلعه في عام 1908.
ثم ندخل الصفوف لنقرأ التاريخ والجغرافيا بالكتب التركية، مع التركيز على تاريخ بني عثمان، وحروب بني عثمان.. ولم نكن نشعر أننا نقرأ تاريخا غريبا علينا أو أجنبيا عنا.. فذلك هو تاريخنا وتلك هي دولتنا، وهؤلاء هم سلاطيننا نعتز إذا انتصروا ، ونذلّ إذا انكسروا.. ذلك أننا "عثمانيون"، وهذه هي هويتنا وجنسيتنا..
ولم نكد نجد غضاضة في هذه الهوية وتلك الجنسية، بل كنا نشعر فيها العزة والكرامة، والفخر والمجادة.. فكم فتنتنا المصاحف العثمانية بزخرفها الجميل، وكم هزتنا الأناشيد العثمانية وهي تتغنى بالانتصارات العثمانية على الروس وشعوب البلقان.. وكم كنا نمتلئ خيلاء وزهوا حين كنا نضع في(1/10)
جيوبنا شهادة ميلادنا، موسومة "بالطغراء الهمايوني العثماني"، والخط العثماني الرائع وهو يقول عن تابعيتنا: عثماني مسجل في دائرة "النفوس".
وكانت "العثمانية" هي الهوية العليا، فيقال "محمد" عثماني من أصل عربي، "وكمال " عثماني من أصل تركي.. ولكننا نحن العرب والترك مندمجون بالهوية العثمانية. فهي مثل السماء تظللنا جميعا. ومنها تنزل علينا البركة والخير.. جميعا.!!
تلك كانت "روحي" في نشأتي الصغيرة ... وكذلك كان جيلي بأكمله ...
وهذه الروح لم تكن مغروسة في قلوبنا، ولكنها كانت نامية فيها، نابعة منها.. تماما كما يقول الشاعر وهو يصف الفارس على ظهر جواده:-
كأنهم في ظهور الخيل نبت ربى
من شدة الحزم لا من شدة الحزم
وقد تبنت ونبعت هذه الروح هكذا، لأن البيئة التي ولدنا فيها وعشنا أيامها كانت تمثل المعاني "العثمانية" بكل مقوماتها، ومعطياتها..
ولقد كان والدي وأعمامي وأبناء أعمامي، عثمانيين.. وموظفين في خدمة الدولة العثمانية.. ولم يكونوا في هذه الدولة عملاء أو مأجورين، ولكن الدولة دولتهم، يتفانون في خدمتها ويخلصون في العمل لها، تعبيرا عن ذاتهم، وتجسيدا لإيمانهم..
ولم تكن عائلتنا في بيتنا وحدها تعيش في فيض هذه المشاعر، فقد كنت أعيش مع الشعب في بلدي، طفلا وصبيا، أنزل إلى الأسواق، وأصلي الجمعة في الجامع الكبير، وأشهد الأعياد، واشترك في الأفراح، وأسير إلى المقابر وراء الجنازات، وقد كانت هذه مشاعر الناس جميعا الأحياء منهم(1/11)
والأموات.. ومثل عكا كانت سائر المدن العربية في الأصقاع العربية المترامية الأطراف..
ولكن هذه الشخصية العثمانية قد أخذت تنزاح بردائها الثقيل عما تحتها، لتبدو الشخصية العربية، تحمل معها الحركة العربية، والوحدة العربية، والقومية العربية ...
كان ذلك في أواسط الحرب العالمية الأولى، وكنت إذ ذاك في الثامنة من عمري، وبدأ حديث جديد في البيوت والشوارع والمقاهي والمدارس.. عن الأمة العربية تميّزا لها عن الأمة النركية.. وإلى جانب هذا الحديث بدأنا نسمع عن مظالم الترك على العرب.. عيد الأمة التركية وإلى جانب هذا أنا نسمع عن مظالم الترك على العرب نفي رجالنا إلى أواسط الأناضول .. إصدار الأحكام العسكرية من "الديوان العرفي" على زعمائنا. بالسجن بالإبعاد، بالإعدام على حبال المشانق أو رميا بالرصاص.
وتسربت إلى آذاننا الأناشيد العربية، والقصائد القومية، في تمجيد أمتنا العربية، وسالف حضارتنا، وتراثنا.. وبدأنا نكتشف لنا "هوية" جديدة، متمثلة في قوميتنا العربية، ولكن كانت ما تزال في إطار الشخصية العثمانية .. في جوارها، لا تحت غمارها.
ولم تكن فكرة "الاستقلال" قد استأثرت بأفكارنا بعد.. وهكذا كان كبارنا، في كل مكان وعند كل مناسبة، فقد كان الناس ما يزالون، إلى ذلك العهد، يدعون للسلطان العثماني بالنصر والتأييد : وجماهير المسلمين يرددون آمين، مخلصين صادقين..
وكان التعبير الذي يتردد على الألسنة في تلك الأيام، "اللامركزية"، ولم نكن نفهم معنى تلك الكلمة، إلا أنها تقصد إلى الخير "للعنصر" العربي..(1/12)
ومرت سنون طويلة بعدها حتى فهمنا أن "كبارنا" لا يريدون "الانفصال" عن الدولة العثمانية وإنما يريدون "الإصلاح" ضمن سيادتها وكيانها.. وكان كل ما نطمع فيه نظاما لا مركزيا للولايات العربية يقول على حكم عربي ذاتي..
والى جانب شعار اللامركزية، بدأنا نسمع شعاراً آخر انفتحت إليه قلوبنا وأخذ بمجامع مشاعرنا.. ذلك وهو شعار الاستقلال..
ولا بأس أن أذكر الأجيال العربية الصاعدة .. أنه لم يكن في صبانا راديو ولا تلفزيون .. وكانت الصحف أندر من الكبريت الأحمر، كما يقولون، ولكن رغما عن ذلك فقد التمعت أمام أبصارنا أحاديث الاستقلال في مثل وميض البرق.. وانسابت الأخبار في مجتمعنا انسياب الغدير النمير .. بأن الشريف حسين أمير مكة، قد أعلن الثورة على الدولة العثمانية، وانضم إليه أحرار العرب، وتحالف مع الإنجليز، وسيكون ملك العرب في الدولة العربية الواحدة ...
وكان الناس يجلسون حلقات حلقات، في البيوت والشوارع، ليستمعوا إلى أحدهم وهو يقرأ أخبار تلك الأحداث.. وكانوا يستعيرون الجريدة من حلقة إلى حلقة.. ومن بيت إلى بيت.. والقارئون الكاتبون قليلون، يشار إليهم بالعيون!!
ومع هذا فقد كان سواد الناس مع الدولة العثمانية ومع الخليفة العثماني، يرون في الشريف حسين خارجا على الإسلام، فقد شق عصا الطاعة على الخليفة محمد رشاد، خليفة رب العالمين.. فقد كانت العواطف العثمانية دينية في جذورها العميقة، فالمسلم أخو المسلم.. وأطيعوا أولي الأمر منكم، ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالعافية والتقوى.. واسمعوا أطيعوا(1/13)
أولى الأمر منكم ولو ولي عليكم عبد حبشي رأسه كزبيبة.. هكذا كان حديث العلماء إلى جماهير المؤمنين، عبر القرون والأجيال..
وإني لأذكر، كأنني في بلدي الآن يوم دخلت جامع أحمد باشا الجزار، مع جماهير المسلمين لنصلي صلاة الشكر، أن نصر الله "الغازي مصطفى كمال" على اليونان في أعقاب الحرب العالمية الأولى..
ولكن الجيل الناشئ قد أخذ بزمام الدعوة العربية، وخلع عن كتفيه رداء الشخصية العثمانية، وكان أن اشتدت حجته في هذه الدعوة بعد أن "كفر" مصطفى كمال بالإسلام، وندد بالعروبة، وأسقط الحجاب، وأعلن علمانية الدولة، واتجه نحو الغرب، وأبطل الكتابة بالعربية، وأحلّ محلها الأحرف اللاتينية ، وانتحل لنفسه اسم أتاتورك بدلا عن مصطفى كمال (1) .
والى جانب كفر "مصطفى كمال" جاءت خيانة الحلفاء، فنكثوا بعهودهم، التي قطعوها في الحرب العالمية الأولى، فحكموا بلادنا حكما مباشرا تحت ستار الانتداب، وأقاموا الحواجز بين البلاد العربية، فوجدت الحركة العربية زادا جديدا للتعبير عن الوحدة بدلا عن التجزئة، وعن الاستقلال بدلا عن الاحتلال.
ومضى عهد الطفولة وأصبحنا طلابا بوافع على قدر من الفهم والوعي والدراية، نتابع مسيرة الحركة العربية نتسقط أخبارها في بلادنا وفي البلاد العربية من حولنا.. وأخذنا نسير في المظاهرات مع المتظاهرين، ونهتف للوحدة العربية مع الهاتفين..
__________
(1) * أتاتورك : معناها أبو الترك.(1/14)
و لم تكن الوحدة عندنا في أوائل العشرينات "من المحيط إلى الخليج" بل كانت من "طورس إلى رفح" .. وكنا نجهل هذا الشعار يوم سمعناه في الشارع، ثم تعلمناه على الخريطة في المدرسة!!
وامتدت الأيام وابتدأ صراعنا مع الصهيونية، فأدركنا بفطرة الدفاع عن النفس أنه لا بد لنا من وحدة تنقذنا، فنحن شعب صغير فقير، والعدو يفوق طاقتنا مرات.. بل مئات المرات، ومن ذلك الوقت أصبح شعارنا القومي : الوحدة العربية..
وقبل أن نسمع بوعد بلفور، وقبل أن نرى الهجرة اليهودية.. كنا نرى في الوحدة العربية نشيدا ولحنا، وعزة ومجدا.. ولكنا بعد ذلك أصبحنا نرى فيها خلاصا وإنقاذاً ... وحماية للوجود.. أن نكون في وطننا أو لا نكون.. أن نبقى كشعب أو لا نبقى..
لقد كان هذا هو ضميرنا وفكرنا، وذلك هو حسابنا وتقديرنا، يوم كنا في عهد الصبا والشباب.. وازداد مع الأيام عمقا ورسوخا.. ولم يكن الأمر في حاجة إلى نباهة عبقرية لفهمه على هذا الوجه.. فقد كنا نرى الهجرة اليهودية الدافقة على بلادنا.. وكنا نرى الوطن القومي ينمو يوما بعد يوم وكان طبيعيا أن نخاف على وجودنا كأمة .. وكان طبيعيا أن نرى في يوم الوحدة السبيل الوحيد لخلاصنا ونجاتنا من الخطر المحدق بنا.
وهكذا رأيت منذ أن كنت شابا في فلسطين.. ومعي جيلي من الشباب، أن الوحدة العربية هي الفيصل بين البقاء والفناء.. وكان الخطر يومئذ في بواكيره الأولى، ولم تكن قد وقعت كوارث الخمسين عاما التي حلت بالشعب الفلسطيني، وبعده ، بالأمة العربية ...(1/15)
وتعاظم الخطر الصهيوني في فلسطين وتعاظم معه إيماننا بالوحدة العربية، وأصبحت القضية الفلسطينية من أكبر حوافز الوحدة العربية، إن لم تكن أكبرها على الإطلاق ... ثم جاءت الثورات الفلسطينية لتكون زخما مشتعلا تضيء مشعل الوحدة العربية.. وبرز الشعور القومي "الواحد" إزاء القضية الفلسطينية، ثم تحول الشعور الواحد إلى نضال واحد، فهبت الشعوب العربية من حولنا، تضرب معنا الإضراب الواحد. وتتظاهر معنا التظاهر الواحد، ثم بعثت بأبطالها إلى مياديننا لتقاتل معنا القتال الواحد ضد العدو الواحد..
ولقد سرتُ في موكب هذه الأحداث جميعا، وكانت الوحدة العربية شعارها، وناضل جيلنا تحت لوائها، فسجن من سجن، وعذب من عذب، واستشهد من استشهد. وبقي من هذا الجيل من بقي، "وما بدلوا تبديلا".
وفي أواخر الثلاثينات، حاولت السلطات البريطانية أن تلقي عليّ القبض فهربت إلى سوريا، ثم لجأت إلى لبنان، ومنها إلى مصر، فكان لقائي مع عدد من رجال العروبة حين كان الحوار على أشده بين دعاة القومية العربية والنزعة الفرعونية ... ويومها عقدت ندوة ساخنة حول هذا الموضوع، بيني وبين الضرير البصير الدكتور طه حسين..
ثم نشبت الحرب العالمية الثانية، ورأى الحلفاء أن يخطبوا ودّ العرب كما فعلوا في الحرب العالمية الأولى، فلم يجدوا غير "الوحدة العربية"، شعارا تهوي إليه القلوب..
وفي أوائل الأربعينات عدت إلى بلدي عكا، ولم أمكث بضعة أسابيع حتى كنت أستمع من الإذاعة البريطانية مستر إيدن وزير الخارجية البريطانية وهو يلقي تصريحه الشهير معلنا تأييده للوحدة العربية. ثم نقلت الأخبار بعد(1/16)
ذلك أن مصطفى النحاس باشا رئيس الحكومه المصرية وزعيم الوفد المصري قد وجه الدعوة إلى رؤساء الحكومات العربية السبع للتشاور حول إقامة "وحدة عربية للأمم العربية" ... وكانت الحكومات العربية المستقلة هي شرق الأردن، مصر، العراق، سوريا، لبنان، اليمن، السعودية، وكان "الاستقلال" يرزح تحت الاحتلال في الأقطار الثلاثة الأولى..
وشاءت إرادة الله، ومعها صداقات سبقت بيني وبين زعماء سوريا أن أكون المبعوث الشخصي لرئيس الجمهورية السورية، السيد شكري القوتلي، أحمل رسالته إلى الرئيس المصري مصطفى النحاس لأكون قريبا من مشاورات الوحدة، وأبعث بتقريري عنها إلى دمشق مرحلة بعد مرحلة.
وهنا بدأت لي الخطوة الأولى في الميدان العربي، على طريق الوحدة العربية، فدخلت قدس أقداسها في مشاوراتها في قصر أنطونيادس بالإسكندرية، وفي سراي الزعفران في القاهرة، ورافقت شئونها وشجونها، وعرفت كيف عقد "بروتوكول الإسكندرية للوحدة العربية"، وكيف عقد بعده ميثاق جامعة الدول العربية كخطوة أولى في سبيل الوحدة.. أو هكذا قال الرؤساء والوزراء والسفراء..
وفي ذلك العهد عرفت من رجالات مصر: مصطفى النحاس ونجيب الهلالي وصلاح الدين والنقراشي، وعبد الرحمن عزام.
وعرفت من رجال سوريا: سعد الله الجابري، وجميل مردم، وفارس الخوري.
وعرفت من رجال العراق: نوري السعيد وكفى.. فقد كان حاكم العراق، داخل الحكم أو خارجه.(1/17)
وعرفت من رجال لبنان: رياض الصلح، وعبد الحميد كرامي، وهنري فرعون.
وعرفت من رجال الأردن: توفيق أبو الهدى، وسمير الرفاعي.
وعرفت من رجال السعودية: الشيخ يوسف يسن، وخير الدين الزركلي..
وعرفت من اليمن: ممثل اليمن الصامت (الولد حسين الكبسي) كما كان يسميه إمام اليمن.
وكان لي مع هؤلاء الرجال حوار وأسرار.. ويومئذ كان مصير الأمة العربية معلقا بتلك الأسرار، مربوطا بذلك الحوار.
وجاء بعد ذلك عهد آخر.. وأصبحت فيه أمينا مساعدا للجامعة العربية، ثم سفير سوريا المتجول، ثم وزير الدولة السعودية لشئون الأمم المتحدة، ثم رئيسا لمنظمة التحرير.
وكنت في ذلك العهد بكل مراحله أسير في موكب الوحدة.. فرأيتها كيف تعثرت في داخل الجامعة العربية.
وبصرت بها خارج الجامعة، ففرحت للوحدة السورية المصرية وحزنت لانفصالها، وابتهجت للوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق وفجعت لإجهاضها.. وأملت خيرا في القيادة السياسية الموحدة بين مصر والعراق، وخاب أملي في مصيرها.
وعلى هامش هذه الوحدات، عاصرت الاتحاد العربي الهاشمي بين عمان وبغداد "والدول العربية المتحدة" التي دخلتها المملكة اليمنية المتوكلية.(1/18)
وعرفت في تلك الحقبة من الزمن، من رجال مصر الثورة، الرئيس جمال عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر.
وعرفت من رجال سوريا: الرئيس شكري القوتلي. وصلاح البيطار وأكرم الحوراني ... والدكتور ناظم القدسي.. بل ازددت معرفة بهم على وجه الدقة.
وعرفت من رجال العراق: المشير عبد السلام عارف، غير من عرفت في الماضي..
وعرفت ملوك العرب ورؤساءهم في مؤتمرات القمة من مؤتمر القاهرة حتى مؤتمر الخرطوم..
وكان لي مع هؤلاء حوار.. وكانت لي معهم أسرار، وكل ذلك كان بصدد الوحدة العربية وهي موضوع كتابي هذا..
تلك هي ذكرياتي ومذكراتي، حوار وأسرار مع الملوك والرؤساء..
أما الفصلان الأخيران من هذا الكتاب فقد كتبتهما للرؤساء لا للملوك.. وكتبتهما إلى الجماهير العربية أولا وآخرا..
وحين يقرأ المواطن العربي سيعرف الأسباب وما وراء الأسباب.. وسيرى مسيرة الوحدة العربية على مدى خمسين عاما منذ عام 1920 حتى 1970.(1/19)
أستاذ.!
أين طورس؟ وأين رفح؟؟
"الوحدة... الوحدة"
"من طورس إلى رفح"
"الوحدة ... .. الوحدة"
كانت هذه هي هتافات الجماهير المتزاحمة هي تشق طريقها في الشوارع المتعرجة العتيقة، والساحات الضيقة القديمة، والنساء تنطلق زغاريدهن من أسطحة المنازل والشرفات كما يفعلن في أيام الأفراح(1/20)
صبيان المدينة نتراكض لاهثين وراء هذه المواكب الشعبية، وقد بحت أصواتنا ونحن نصيح..
الوحدة.. الوحدة..من طورس إلى رفح..
كان ذلك في مدينة عكا، الثغر العربي الإسلامي الكبير، وكان ذلك على عتبات العشرينات، وكنت في الحادية عشرة من عمري، أو يزيد قليلا..
ولم تكن هذه الهتافات ذات معنى واضح في خاطري: فلست أدري ما هذه "الوحدة" التي كانت تنطلق من حناجرنا، بل لم أكن أدري أين طورس وأين رفح!!
وتوالت هذه المسيرات الشعبية في مدينتنا العظيمة، أسبوعا بعد أسبوع، وشهرا بعد شهر، ما نحس إلا وأنها انطلقت هادرة بهذه الهتافات، مدوية بتلك الزغاريد، فنهرول إليها من مدارسنا، لنجد أساتذتنا قد سبقونا إليها يهتفون وينشدون.
وكنا نحن نجد متعة بالغة حين نندس في صفوف الجماهير لنشترك في هتافهم ونستمع إلى أحاديثهم ومناقشاتهم. وتحولت المتعة البالغة إلى حماسة دافقة، فأصبحنا ننظم موكباً خاصا بنا، يتقدمه عريف المدرسة، ويهتف أمامنا ونحن نردد من ورائه.
وأخذ "الفهم" يتسرب إلى نفوسنا.. فقد أصبحت المدينة تتحدث عن مشاعرها وخواطرها في البيوت .. وفي الشوارع.. وفي المنازل وفي المساجد وفي المقاهي وحيثما كان وفي كل زمان..(1/21)
وصفوة الحديث الذي وصل إلى أسماعنا، أن الحلفاء قد غرروا بنا.. لقد وعدونا بالاستقلال ونكثوا.. لقد انتهت الحرب العالمية الأولى وهم يريدون الآن أن يقسموا بلادنا بينهم.. أنهم يريدون أن تكون فلسطين لليهود..
ذلك ما كانت تتحدث به المدينة شهوراً طوالا، بعد أن دخلتها القوات الهندية والأسترالية (1918)، حتى أصبح هذا الحديث شغلها الشاغل في نهارها، وسمرها في لياليها.. وكان "الديوان" في بيتنا على شاطئ البحر، حافلا بهذا السمر..
وكنا إذا أقبل الليل، فتحنا الديوان في بيتنا وأشعلنا فيه القنديل انتظاراً للزائرين من أعيان المدينة.. حتى إذا فرغ الناس من صلاة العشاء، أخذ رواد الديوان يتوافدون .. وما يكادون أن يفرغوا من شرب القهوة حتى يأخذوا بالسمر إياه.. وأنا أجلس عند الباب أستمع إلى وحوارهم وآرائهم، الخدم يروحون ويغدون وهم يتمتمون : يا رب.. يا رب.. انصرنا يا رب على القوم الكافرين.
ولم تكن تخلو ليلة واحدة من هذه الاجتماعات في "الديوان" يلتقي فيه أعيان المدينة، ومعظمهم من المتقاعدن في عهد الدولة العثمانية.. وكنت أندس بينهم، أرهف سمعي لكل ما يقولون وأتصدى لخدمتهم، فهذا أقدم له علبة "الدخان والورق" ليلف سيجارة، وذاك أحمل إليه النارجيلة أضعها بين ساقيه وألقي "المربيج" بين يديه.. وإذا نفد "الكاز" من القنديل أحمله إلى المطبخ "لأعمرِّه" وأعود به سالما إلى الديوان، وهم يقولون :الله ينوِّر عليك يا أحمد !.(1/22)
ولقد كنت أفعل هذه الخدمات لزوارنا في الديوان لكي أصبح مؤهلا للجلوس معهم والاستماع إلى حديثهم.. فلم يكن ميسورا على الصبيان أن يحضروا مجالس الرجال!!
ورحت ألتهم أحاديثهم التهاما. أصغي إليها بكل جوارحي. وبدأت أعتبر نفسي "وطنيا" صغيرا. مستعدا لأداء كل خدمة. وللقيام بكل تضحية، إذا دعا داعي الوطن!!
وكانت الخدمة التي استطعتها حينئذ. شراء الصحف.. فقد كنت بعد فراغي من المدرسة عصرا. أذهب إلى السوق لأشتري "الكرمل" و"فلسطين" الأولى تصدر في حيفا. والثانية في يافا.
وينعقد المجلس في الديوان فيأخذ عمي قاسم أفندي في قراءة الصحف من أولها لآخرها.. والجميع منصتون، تثرثر "أراكيلهم" ولا ينطقون .. ولم يكن يضايقني منهم إلا أنهم كثيرا ما يسعلون!ِ!
وكنت استمع معهم، في لهفة وذهول، فقد كان كل شيء جديدا على سمعي وعلمي.. فها هي الصحف تتحدث عن وعود الحلفاء للعرب بمنحهم الحرية والاستقلال ... وتتحدث عن الشريف حسين. أمير مكة كيف ثار على دولة الخلافة الإسلامية.. وتتحدث عن ضباط العرب الذين قاتلوا إلى جانب الحلفاء.. وتتحدث عن الشهداء الذين سقطوا في سبيل الوحدة العربية.. وتتحدث وتتحدث..
وأذكر، وما زلت أذكر إلى يومنا هذا، وقد مضى على ذلك خمسون عاما. أن عمي قاسم أفندي قد أخذ يقرأ خبراً أثار اهتمام الزائرين، فراحوا يستعيدونه، ورحت معهم ألقي إليه كل سمعي...(1/23)
قالت الجريدة، وقال الخبر، إنّ مؤتمراً وطنيا سينعقد في دمشق وسيحضره مندوبون عن كل البلاد السورية، وسيعلنون الوحدة السورية من طورس إلى رفح، وأن المؤتمر سيبايع الأمير فيصل بن الحسين ملكا على البلاد السورية.
قرأ عمي هذا الخبر فانطلق الحاضرون بالدعاء إلى الله العلي القدير أن ينصر العرب والمسلمين، ودار الحوار بينهم في حماسة وعزم وإيمان:
قال أحدهم: هذه فكرة عظيمة.. ليس لنا خلاص إلا بالوحدة.
وقال آخر: لقد عشنا كل عمرنا بلادا واحدة، فما معنى أن يفرق بيننا الإنجليز والإفرنسيين، نحن لا نريد هؤلاء ولا أولئك، نريد الوحدة من طورس إلى رفح ... وأن يكون الأمير فيصل ملكا علينا.
ولقد أمَّن الحاضرون على هذا الكلام، وزاد عليه عميّ قائلا: لا تنسوا "يا جماعة" أننا إذا أصبحنا تابعين إلى دمشق، فلن يقدر اليهود علينا، ولن يستطيعوا إنشاء الوطن القومي اليهودي، لأننا سنصبح أقوياء، فإن يد الله مع الجماعة.
وكانت ليلة بهيجة حقا، وانصرف الضيوف من الديوان، كل إلى منزله. والوحدة العربية حلمهم السعيد في تلك الليلة السعيدة، وفيصل سيصبح ملكا علينا.. فليس لنا ملك..
وقضيت ليلتي في مثل أحلامهم، وأنا فخور وفخور، أني أصبحت أجلس مجالس الرجال، أستمع إلى حوارهم وأسرارهم، أتطلع إلى اليوم الذي أكبر فيه، فأتحدث حديثهم، وأغدو "وطنيا" كبيرا، بعد أن أصبحت "وطنيا صغيرا".(1/24)
وأقبل الصيف بعد الاحتلال البريطاني (حزيران 1919) وإذا بالأخبار تملأ المدينة أن الرئيس الأمريكي ويلسون قد أرسل لجنة (كينج كرين) إلى بلادنا لتستفتي الأهلين، وتتعرف على مطالبهم الوطنية، وهلَّل الناس لهذه الأخبار، فما هي إلا بضعة أشهر حتى تنجز اللجنة مهمتها، وتقدم تقريرها إلى الرئيس ويلسون ... وننعم بالاستقلال..
وشغل "الديوان" في منزلنا بأخبار الرئيس ويلسون وتصريحاته، وكان عمي قاسم أفندي ورفاقه من المتقاعدين يرددون اسم الرئيس ويلسون كثيرا ويثنون عليه ثناء عطرا، ويمتدحون الولايات المتحدة في أنها دولة ديمقراطية، عادلة، تفتح بلادها للمهاجرين من كل أنحاء العالم.
وذات ليلة لا أنساها، فتح عمي الصحف، وراح يقرأ البشرى الكبرى.. لقد وصلت لجنة "كينج كرين" إلى يافا بالباخرة وبدأت اجتماعاتها برجال البلاد للوقوف على آرائهم، وانشرحت صدور المحاضرين لهذا النبأ العظيم وأيقنوا أن الفرج بات قريبا.
وكثر زوارنا في ذلك الأسبوع ليستمعوا إلى عمي قاسم وهو يقرأ أخبار اللجنة الأمريكية وأنها سافرت إلى القدس، ومنها إلى نابلس، ومنها إلى الرملة إلى بيت لحم.. وإنها استقبلت الجمعيات الإسلامية والمسيحية التي كانت بيدها قيادة الحركة الوطنية في البلاد.
وأصبحنا في عكا ننتظر دورنا، لتفد إلينا اللجنة الأمريكية، وتوالت الاجتماعات الوطنية وعقدت الجمعية الإسلامية المسيحية اجتماعاتها في "الديوان" عندنا.. فكتبوا المذكرات استعدادا لتقديمها إلى اللجنة الأمريكية وهي كمطالب بقية المدن الفلسطينية : الاستقلال التام، الاتحاد مع سوريا، الانتداب الأمريكي إذا لم يكن بد من الانتداب.(1/25)
ولكن اللجنة الأمريكية، لسبب لا أعرفه لم تأت إلى عكا، فقد عقدت اجتماعاتها في حيفا، وطلبت إلى الجمعية الإسلامية المسيحية في عكا، أن تذهب إليها.
وكان سرور الناس عظيما، يوم ذهبت الجمعية الإسلامية المسيحية إلى حيفا واجتمعت باللجنة الأمريكية.. كان يوما عظيما عقدنا عليه آمالنا.. وحسبنا أن الاستقلال آت لا ريب فيه، وأن الاتحاد مع سوريا قاب قوسين أو أدنى..
واستدار العام، وجاءت معه أيام حافلة بالهرج والمرج.. فإذا بي أرى جماعات الشباب يطوفون في الأسواق، وبأيديهم عرائض طويلة يحملون الناس على توقيعها، وراحت جماعات أخرى تقف على أبواب المساجد والكنائس يطلبون إلى المصلين توقيعها.. وهرول آخرون إلى الدكاكين يعرضون توقيعها على البائعين والشارين.
وكان الناس يتسابقون على توقيعها، هذا بإمضاء وذاك بخاتمه، بحماسة بالغة مع بسمات السرور. وبعضهم مع دموع الحبور.
وسألت ما هذه العرائض، فكان الجواب:- أن أهالي عكا المسلمين والنصارى، المدنيين والفلاحين، يفوضون السيد عبد الفتاح السعدي والشيخ إبراهيم العكي، أن يكونا مندوبين عنا للاشتراك في المؤتمر السوري في دمشق للمطالبة بالوحدة السورية، ومبايعة الأمير فيصل بن الحسين ملكا عليها.(1/26)
وتوالت الأيام وأنا أشهد توقيع الكثير من أمثال هذه العرائض.. هذه عريضة تطالب بالوحدة، وتلك عريضة ترفض وعد بلفور.. وأخرى.. وأخرى..
وكانت الحسرة تملأ نفسي.. ليتني كنت كبيرا لأُوّقع مع الموقعين، أو على الأقل ليتني أحمل هذه العرائض مع الحاملين.. غير أن مشهدا سيظل ذكراه في خاطري إلى قبري. قد سّرى عن نفسي بعض الشيء.
كنت في وسط السوق أسير في موكب العرائض إلى جانب الشباب .. حين اقتربوا من دكان "أبو عبده زيدان" من التجار المسيحيين المعروفين. وصاحوا بأصواتهم الفتية:
- يا أبو عبده أعطينا الختم، نريد أن نوقع هذه العريضة.
متقدما في السن، وكان كثير الزبائن، لما يعرف الناس من أمانته، وكان دائما يحمل "الذراع" ليقيس به القماش للمشترين والمشتريات، وقد شق عليه أن يترك "الذراع" ويوقع بختمه، كلما جاءه الشباب، وكلما حملوا إليه العرائض.. فصاح أبو عبده في وجه الشباب، ضاحكا:
- يا أولاد .. هذا هو الختم علقوه على باب الدكان بهذا الخيط، واختموا به ما تشاءون من العرائض، وأنا موافق على ما تختمون.. ولا تطلبوا مني شيئا بعد اليوم!!
وكان ذلك، فقد ختموا عرائضهم وذهبوا مسرورين، وأبو عبده ، المسيحي العربي، يبايع سليل النبي ...
هكذا دب دبيب الوحدة إلى قلبي منذ صباي، وأصبحت طالبا "وحدويا" أتحدث إلى رفاقي الطلاب عن الوحدة، مما كنت أسمعه في ديوان بيتنا.(1/27)
وغداة انخرطت في فرقة الكشافة أصبحت "داعية" للوحدة بين
رفاقي .. وحدث أن أستاذنا قد ذهب بنا في رحلة كشفية إلى بعض القرى القريبة من عكا، وتجمع الفلاحون الطيبون حولنا، وقد جاؤوا من منازلهم وحقولهم وبيادرهم يرحبون بنا وهم يهتفون :
يعيش ملكنا فيصل!!
تعيش الوحدة السورية!!
وفي كل قرية كنت أقف في الجامع أو في ساحة القرية، أمام الجموع بملابسي الكشفية أخطب فيهم خطبا حماسية.. وأروي ما حفظته في المدرسة من الشعر الحماسي..
والواقع أن أولئك الفلاحين البواسل لم تكن تعوزهم الحماسة.. فقد كانوا في الذروة إيمانا وعزما، يودون لو أنهم يزحفون إلى دمشق بمعاولهم ومناجلهم ليبايعوا الأمير فيصل ملكا للوحدة السورية.
وقد بالغ الفلاحون الأكارم في إكرامنا، وزاد من حماستهم أن رأوا لأول مرة مسيرة كشفية في قراهم، ونحن في ملابسنا الكاكية ننشد الأناشيد الوطنية ونضرب الأرض بخطواتنا العسكرية، ونحن نحس في قرارة نفوسنا أن جيلنا سيكون الطليعة الأولى في موكب الوحدة العربية.
ولكن "كومة" من الفلاحات لم يعجبهم هذا المشهد.. كن طاعنات في السن، تجمعن حول بعضهن، وأخذن يحملقن بنا ونحن نسير أمامهن .. لقد لاحظن أن البنطلون الذي نلبسه أعلى من الركبة بقليل، ورحن يتمتمن ويبسملن ويحوقلن، وصاحت إحداهن:
"ليش" بنطلونكم قصير.. ألا تخافون الله.
فقال أحد الرجال : هؤلاء عساكر الوطن .. أسكتي ...(1/28)
ومضينا في الموكب، والمرأة العجوز ماضية في استنكارها وهي "تبعبع" " لا .. لا .. العساكر لا يبينون سيقانهم.. العساكر أوادم محشومين.."
ولكن "احتجاج" العجائز قد طغت عليه الهتافات القاصفة، والأناشيد العاصفة، وقد بلغ صداها بعيدا بعيدا ... إلى المزارع والحقول.
ولقد كان ذلك الأسبوع من عمري، عميقا في نفسي، رأيت فيه الشعب على حقيقته وأصالته وشجاعته، وانشَّد قلبي منذ ذلك الحين إلى جماهير الفلاحين والعمال، وكأنما كان القدر يوحي إلي بأن حياتي ستكون دوما مع الشعب، وعلى موعد مع الشعب..
وعدنا إلى عكا، إلى شوارعها التي صنع فيها التاريخ، منذ القدم إلى عهد صلاح الدين إلى عهد نابليون، وإذا بي أجدها وكأنها في عرس فريد.. كان العلم العربي بألوانه الأربعة خفاقا على المنازل، رفرافا في الطرقات والساحات.. وكانت الهتافات تلعلع في أجواء المدينة.. فلم يعد نسمع أصوات المؤذنين ولا أجراس الكنائس، وعكا مدينة المساجد الزاهية والكنائس العريقة.
وسألت : ما الخبر؟
قالوا: ألا تدري!!
قلت: لا أدري.. لقد كنا في رحلة كشفية في القرى.
قالوا:عاد السعدي والعكي من دمشق.. لقد حضروا المؤتمر السوري وبايعوا الأمير فيصل بن الحسين ملكا علينا وعلى كل البلاد السورية..
وانطلقت في الشوارع أهتف مع الهاتفين وأنشد مع المنشدين، وقضيت النهار كله، وأنا وصبيان المدنية، في الشوارع والساحات، نلهو ونلعب، ونهتف وننشد، واسترحنا من الدروس والمدرسين!!(1/29)
وأقبل الليل، ورأينا أعيان المدينة وشبابها "الوطنيين" يتجهون إلى بيت السعدي في حارة القلعة، والى بيت العكي في حارة اليهود، ليسلموا على "العائدين" من دمشق بعد أن قرروا الوحدة وأعطوا البيعة..
وجلسنا نحن الصبيان على درج البيوت: ونحن نرقب الوفود الذاهبة الايبة، الصاعدة النازلة.. والخدم أمامهم يحملون لهم القناديل الكبرة، لتضيء تلك الدروب الضيقة، تعلوها القباب الواطئة، فتزيدها ظلمة على ظلمة، وتفشي فيها الرهبة والهيبة..
ولقد انقضت أيام وأيام والمدينة هانئة بعرس الوحدة.. تستيقظ وتنام، والوحدة طعامها وشرابها، والملك فيصل سمرها وسهرها!!
أكتب هذا وأنا –في عام 1970 وأستذكر مشاعري وخواطري قبل خمسين سنة مضت، فأرى أن معاني الوحدة كانت تعيش معي، ومع جيلي بأسره، لا في مدينتي الحبيبة وحدها، ولكن في الديار السورية بأسرها..
وفي ذلك العهد لم يكن " من المحيط إلى الخليج" شعارا تردده الألسنة والأقلام، إننا لم نكن نعرف هذا الشعار إطلاقا، بل إن أحداّ لو هتف به ما فهمه أحد ولا اهتز له أحد..
ولكن الوحدة العربية كانت تعيش في حياتنا اليومية في نطاق الممارسة والتطبيق فعلا لا قولا..
كانت الحياة في صباي تحمل معاني الوحدة في جوهرها، وإن كانت غير قائمة في مظهرها.
مرات ومرات ... دخلت مع رفاقي الصبيان إلى متاجر آبائهم لأجد مظاريفهم التجارية وقد كتب عليها (عكا - بيروت) والآن أين عكا وأين بيروت !!(1/30)
مرات ومرات ذهبت مع أهلي إلى ضواحي عكا في أيام النزهات والأعياد، لنمر بجانب بساتين التويني، وسرسق، وبيضون(من لبنان)، وتفوح بعطر الليمون وأزاهير الربيع.
مرات ومرات كنا نذهب إلى الميناء لنرى الباخرة "سوريا" التي كان يملكها الشيخ إبراهيم العكي تمخر البحر الأبيض بين عكا وبيروت. وتحمل الأقوات والناس، ولا يسألها أحد ما تحملين ومن تحملين، من غير جمارك، ولا جوازات..ولا ويلات!!
ومرات ومرات كنا نشهد الموظفين وهم يغدون، ويروحون إلى السراي، وقد جاؤوا من كل بلاد العرب.. هذا هاشم الأتاسي (رئيس جمهورية سوريا) متصرف عكا.. وهذا رئيس محكمة الجزاء من حلب، وهذا سامي الصلح (رئيس وزراء لبنان) ولد في عكا حين كان والده موظفا في بلدتي الحبيبة .. عكا.
وما لي أذهب بعيدا، فإن عائلتي تتجلى فيها الوحدة.. لقد كان والدي في شبابه قاضيا في اللاذقية (سوريا)، وكان عمي قاسم موظفا في جبلة وصافيتا (سوريا) وكان عمي صالح رئيس محكمة في صيدا (لبنان)، وكان جد زوجتي واليا في اليمن.. وكذلك كان الحال مع جميع العائلات التي استطاع أبناؤها أن يتعلموا، وأن يصبحوا حكاما وموظفين.. عرب يحكمون في البلاد العربية بأسرها، ولا يقول :هذا من الأغراب، وهذا من "الأجناب" (1) .
وقد بقيت تلك الأقاصيص والحكايات معي كل عمري.. يرددها معي أصحابها كلما جاءت الظروف والمناسبات.. فما من مرة التقيت فيها "بفخامة"
__________
(1) * الأجانب، كما يعبرون بالعامية في بعض البلاد العربية في هذه الأيام.(1/31)
الأتاسي الرئيس السوري في القصر الجمهوري بدمشق، إلا ويكاد يضمني إلى جبنه، ويحدثني عن أيامه في عكا، وما أحلاها.. وما من مرة اجتمعت فيها "بدولة" السيد سامي الصلح رئيس وزراء لبنان، في السراي الكبير في بيروت، إلا ويحدثني عن مولده في عكا. ثم يخرج حافظته ليستل منها (ورقة الهوية) وقد كتب فيها اسمه ومكان ولادته.. عكا.. وهو يردد ويؤكد: أنا ولدت في عكا!!
في السراي الكبير في بيروت، إلا ويحدثني عن مولده في عكا. ثم يخرج حافظته ليستل منها (ورقة الهوية) وقد كتب فيها اسمه ومكان ولادته.. عكا.. وهو يردد ويؤكد: أنا ولدت في عكا!!
كنا نعيش هكذا نحن أبناء البلاد العربية تحت الحكم العثماني.. وحدة كاملة تحت الاحتلال، نسافر أين نشاء.. ونتوظف حيث يكون، ونمتلك أين نريد، ولا يسألنا أحد من نحن.. ومن أين نحن وما نحن هنا فاعلون!!
كانت هذه هي الحياة العربية في صباي.. كانت حياة وحدة من غير اسم. ولا شعار، ولهذا كان غريبا علي أن أسمع، ونحن في عتبات العشرينات، هتاف الوحدة يملأ الشوارع وبت أتساءل لم نطلب الوحدة؟ ما هي هذه الوحدة؟ ألسنا نعيش حياة الوحدة؟!
وانتهرتها فرصة في يوم من الأيام. كنا في المدرسة نصغي إلى أستاذنا في (عكا) حسنى خليفة، وهو يملي لنا درس التاريخ.. فقلت:
- أستاذ .. أستاذ هل تسمح لي بسؤال؟
قال نعم.. ماذا تريد
- قلت: ما هذه الوحدة.. هل تشرح لنا معناها؟(1/32)
وأخذ المعلم حسني يشرح لنا تاريخ الأمة العربية وأمجادها الغابرة. وكيف وقعت تحت الاحتلال العثماني قرابة أربعماية عام، وكيف ثار الشريف حسين أمير مكة إلى جانب الحلفاء لتحرير الأمة العربية وإقامة دولة عربية مستقلة، وكيف أن الحلفاء نكثوا عهدهم، وكيف أنهم يريدون أن يقتسمونا فيما بينهم وكيف.. وكيف..
- وقلت: يا أستاذ، وأين تقع طورس، ورفح!!
وأخذ المعلم حسني يفتش عن خريطة ليرينا عليها طورس ورفح، ولما لم يجد تأوه وتأفف، وأخذ "تباشيره" ورسم على اللوح خارطة البلاد السورية، مبتدئه شمالاً من جبال طورس على الحدود التركية، إلى مدينة رفح جنوبا على الحدود المصرية.
قلت : يا أستاذ ... البلاد التركية ليست عربية، هذا مفهوم ، ولكن البلاد المصرية أليست عربية..؟ المصريون يتكلمون اللغة العربية، لماذا تنتهي حدودنا عندهم..
قال: مصر يحكمها الإنجليز الآن.. إن شاء الله حينما تتحرر سنكون كلنا في وحدة عربية.
- قلت : والمغرب الأقصى، والجزائر وتونس، وليبيا، أليست بلادا عربية..؟
وقال : نعم كلها بلاد عربية ولكنها تحت الحكم الفرنسي.. ولا يمكننا أن نصل إليها، ولا ندري متى تخرج فرنسا من تلك البلاد.
في ذلك اليوم تعلمت شيئا عن الوحدة العربية، ولكن فوق ذلك، تعلمت أين تقع رفح وأين تقع طورس.. وكنا نهتف بهما في الشوارع أياما بلياليها.
ولكن الحوار بيننا وبين المعلم حسني لم ينته في ذلك اليوم..(1/33)
لقد قضينا نيفاً وأربعة أعوام- 1919-1924- ونحن نسأل المعلم حسني والمعلم حسني يجيب، ولم يعد يعلمنا التاريخ القديم فقد كانت الدروس في معظم الأوقات التاريخ المعاصر، تاريخ القضية الوطنية: وعد بلفور، الهجرة اليهودية، الاستقلال، الوحدة العربية.
وكان المعلم حسني بقامته الممشوقة ولثغته الحلوة يحدثنا الأحاديث الوطنية وما يجري في دمشق من أحداث، ومؤتمرات، ومظاهرات.
لقد عشنا تلك السنين الأربع مع المعلم حسني أحلى أحلامنا مع الوحدة وأعز ذكرياتنا عن دمشق عاصمة الوحدة.
توالت بعد ذلك تقارير القدر العجيب الرهيب..
لقد تعاقبت خمسون عاما على تلك الأيام في مثل البرق الخاطف، لنرى المعلم حسني هاربا إلى دمشق، لاجئا مع اللاجئين بعد نكبة فلسطين في عام 1948، ثم يموت في دمشق المدينة الكبيرة التي أحبها، وعلَّمنا أن نحبها..
وفي زورة لدمشق، وقفت على قبر المعلم حسني، أترحم عليه، وعلى الوحدة، فقد دفن كلاهما في دمشق.
لقد عاش المعلم حسني في دمشق قرابة خمسة وعشرين عاما. رأى خلالها مباهج الوحدة وأفراحها في أوائل 1958، ثم امتد عمره ليرى مأساة الانفصال في خريف عام 1961، وكان قد بلغ خريف حياته.
لقد خرج المعلم حسني من فلسطين، مع جموع اللاجئين، وعاش عمره ليرى كارثة 1948، وبعدها كارثة 1967، وليموت دون أن تدوم الوحدة التي علَّمنا الكثير من شؤونها وشجونها.
ولو أن الوحدة العربية تحققت في حياته، ما كان لاجئا مع اللاجئين، ولا ضاعت فلسطين ولا ضاعت معها سيناء والجولان.. ولا ضاع بيت(1/34)
المقدس.. ولا احترق المسجد الأقصى.. ولا ضاعت فوق ذلك كرامة العرب، ومعهم كرامة المسلمين أجمعين..
الله أفسح للمعلم حسني في جنتك.. أفسح للوحدة العربية في قضائك وقدرك.. وأفسح لي من العمر يوما واحدا، لأراها بعيني، وأموت بعد ذلك حيثما أموت، وكيفما أموت.(1/35)
فيصل الكبير..
أو بسمارك الصغير
في منصف أيلول من عام 1924 وجدت نفسي على جبل صهيون، في الناحية الجنوبية الغربية من بيت المقدس، ووقفت بي العربة التي كانت تقلني أمام شيء أشبه ما يكون بالقلعة القديمة، ومع صهيل الخيل وقد أعياها الصعود إلى ذلك الجبل، قال سائق العربة...
- هذه مدرسة صهيون.. الله يوفقكم لأهاليكم..
دخلت المدرسة، طربوشي على رأسي، وحقيبتي على كتفي، والوحدة العربية تملأ جوانحي، حملتها معي من مدينتي ومدرستي.. وشعاراتها ما تزال تدوي في أذني..
وأحسست بالخيبة في نفسي منذ وطئت قدماي ساحة المدرسة.. فقد سمعت التلامذة يرطنون باللغة الإنجليزية، حتى خيل إلي أنهم من أبناء الإنجليز، جاؤوا إلى هذا المعهد ليتعلموا اللغة العربية!!
أقبلت على الأساتذة أستوضحهم أموري، فرأيتهم كذلك يتكلمون الإنجليزية .. وحان وقت العشاء فدخلت غرفة الطعام، وراح المدير يتلو صلاة "أبانا الذي في السماوات" إلى آخرها.. ولكن بالإنجليزية.(1/36)
ولم يكن الأمر في حاجة إلى ذكاء كثير، فقد اكتشفت أنني في مدرسة إنجليزية.. ومعظم تلامذتها من المسيحيين، وفيها القليل من الطلاب المسلمين.. وهذا ما قصد إليه والدي، رحمه الله، حين عزم على إرسالي مع أخي إلى هذه المدرسة.. فقد أرادنا أن نتعلم الإنجليزية، فقد كان يجيد التركية في عهد الأتراك، وعلينا أن نجيد الإنجليزية في زمن الإنجليز، ولكل زمان دولة ولسان!!
ومضت الأشهر الأولى، وأنا في نهم لاهب لتعلم اللغة الإنجليزية، قد كنت أريد أن أشارك الطلاب فيما يجدون ويمزحون، ويدرسون ويلعبون، وفي خافية نفسي كنت أريد أن أتحدث معهم عن القضية الوطنية.. وعن الوحدة العربية.. وليكن ذلك بالإنجليزية إذا امتنع علينا التحدث بالعربية!!
وقد أحزنني في بادئ الأمر أن والدي قد دفع بي إلى هذه المدرسة الإنجليزية التبشيرية، وتمنيت لو أني ذهبت إلى مدرسة روضة المعارف في القدس، أو إلى مدرسة النجاح في نابلس، حيث يتلقى الطلاب في هذين المعهدين ثقافة واسعة عن القضية العربية، فيخبطون، ويتناقشون، وينشدون.. وفي ذكرى وعد بلفور يضربون. وكان الإضراب عندنا من أروع الأعمال الوطنية!!
ولكني ما لبثت أن ارتدت إليّ سكينتي حين حشوت ذاكرتي بكثير من المفردات والتعابير الإنجليزية، وبدأت أحس أنني أستطيع أن أتحدث مع رفاقي الطلاب، عن الوحدة العربية، في هذه المدرسة البريطانية، وباللغة الإنجليزية.
وهذا ما كان فعلا، فقد أصبحت أتحدث مع رفاقي الطلاب في الشؤون العامة.. لعلهم كانوا يخافون، لعلهم كانوا يلتزمون حدودهم في بعض الأوقات(1/37)
كنا ننتحي الأماكن البعيدة عن سمع الأساتذة فتتكلم خليطا من الإنجليزية والعربية، عن الوحدة السورية.. وعن حدودها من طورس إلى رفح، وخاصة أنني صرت أعرف أين تقع جبال طورس، وأين تقع مدينة رفح!!
ومضت الأيام ومن بعدها ثلاثة أعوام-حتى عام 1926-وأنا أحمد لوالدي أن أرسلني إلى هذه المدرسة، فقد أصبحت بنفسي "خلية" سرية للدعوة للوحدة العربية.. وأصبحت مدرسة صهيون البريطانية أكثر تطرفا وحماسا من المدرستين العربيتين "روضة المعارف والنجاح".
وكان الأساتذة لا يعبئون بهذه الأمور، فهم يلقون دروسهم وكفى، وفي الأعوام الثلاثة التي قضيتها في المدرسةلم أسمع منهم كلمة واحدة في الشؤون العامة.. لعلهم كانوا يخافون، لعلهم كانوا يلتزمون حدودهم في هذه المدرسة الإنجليزية.. ولعل أكثرهم كانوا من الأسر التبشيرية التي كانت تحصر تفكيرها ونشاطها في الأمور الدينية .. إلا معلما واحدا، هو الأستاذ حنا خلف، كان يحلو له أن يلقب نفسه "أبو عمر"، كان هذا المعلم من سكان رام الله (بفلسطين) وكان يعتز بنصرانيته العربية، وأهل رام الله وما حولها المسلمون، منهم والمسيحيون على السواء، يعتزون بعروبتهم، وحتى بعصبيتهم القبلية، فهذا من قيس، وذاك من يمن.. وكان معلمنا "أبو عمر" من قيس على ما أذكر..
وكان أبو عمر يجتمع بنا في ساحة المدرسة أو في ركن من أركان الملعب، يمشي إلينا بخطى واسعة شابة، وما يكاد يصل إلينا حتى يبادرنا بالحديث عن الوحدة العربية، وعن الحركة الوطنية في فلسطين، وكنت أستزيده من الحديث بسؤال من هنا وسؤال من هناك، وأنا أؤكد له مع رفاقي الطلاب، بأننا حين نتخرج من المدرسة سنعمل جيمعا على تحقيق(1/38)
شعارنا الوطني الذي كان سائدا يومئذ في فلسطين "الاستقلال في إطار الوحدة العربية".
وكان هذا شعارنا حقا، نقرأه في الصحف التي كانت تصل إلينا في المدرسة " الجامعة العربية.. ومرآة الشرق" وكانت تصدران في بيت المقدس. وهو شعارنا الذي كانت تعتمده كل مؤتمراتنا الوطنية.
وفي ليلة صفت فيها سماء القدس، وما أحسب أن سماء أخرى تطاولها صفاء وبهاء، التقيت مع "أبو عمر" في ندوة عن الوحدة، وكان معنا طالبان من آل الحسين فقال "أبو عمر":
- هل نحن بعيدون عن الوحدة العربية أو قريبون منها؟
- قلت: نحن نقترب منها.. قريبا تستقل الأقطار العربية وتندمج في الوحدة العربية.
- وقال : لا بل نحن نبتعد عنها.. لقد كانت لنا وحدة في زمن الحكم العثماني.. على كل حال إنها وحدة ولو تحت الاحتلال، أما اليوم فنحن تحت الاحتلال وأوطاننا مجزأة.
ثم قال أبو عمر: أدعو الله أن يكتب لي الشهادة لمحاربة الصهيونية والتجزئة .. وتحقيق الوحدة ...
وانصرفنا .. وكانت ساعة التهبت فيها مشاعرنا جميعا، ووددنا لو أننا نبادر إلى حمل السلاح.. إلى الميدان.
ولقد تخرجنا من المدرسة بعد ذلك وتفرقنا. كل إلى دربه في الحياة. وتوالت السنون إلى أن جاءت ثورة فلسطين الكبرى 1936-1939) فانخرط فيها معلمنا أبو عمر، وأصابته شظية في صدره خلفت فيه عله عاشت معه زمنا حتى مات فيها.. ومات شهيدا ... وكتب علينا نحن تلامذته أن(1/39)
نعيش هذه الأيام السوداء لنرى وطننا المستباح. يحتله الغاصب الدخيل من البحر إلى النهر.. بل من القنال إلى الجولان..
ولكن الوحدة العربية لم تكن تفارقني أو أفارقها.. وكأنني كنت على موعد معها دائما وأبدا، فقد دخلت الجامعة الأمريكية في عام 1927. بعد أن تخرجت من مدرسة صهيون، وسرعان ما تفتحت نفسي على الحلم العظيم والأمل الكبير.. فقد كانت الجامعة تعج بالمئات من الطلاب توافدوا من الأقطار العربية جميعها.. وكان في الجامعة "رابطة العروة الوثقى" يلتقي فيها الطلاب العرب ويتناقشون ويخطبون.
وذات مرة وقفت أخطب عن الوحدة العربية في إحدى ندوات الرابطة فدوت القاعة بالتصفيق، واغتنمتها فرصة وقلت : نحن نريد "وحدة" لا "رابطة"، وإني اقترح عليكم أن نسمي الأشياء بأسمائها فلتكن جمعيَّتنا "الوحدة العربية"، فثار جدل طويل.. وعارض الكبار من الطلاب: فاضل الجمالي، شارل مالك، إسماعيل الأزهري وغيرهم.. وخرجنا نحن وأنشأنا جمعية "الوحدة العربية" وجعلنا في صدر ميثاقها أننا سنكرس حياتنا للعمل في سبيل الوحدة العربية.. وأقسمنا على ذلك وتعاهدنا..
ومضت بضعة أشهر، وجاء يوم يطالبني بالوفاء بما عاهدت وما أقسمت..
كان ذلك اليوم هو السادس من شهر أيار من عام 1927 يوم ذكرى الشهداء العرب الذين أعدمهم جمال باشا إبان الحرب العالمية الأولى.. وخرجت جموع الطلاب في مسيرة شعبية إلى مقابر الشهداء في بيروت.(1/40)
وصادف أن وقع الاختيار عليّ لأخطب باسم الطلاب في هذه الذكرى الجليلة ولم يكن لي أن أتردد في القبول، فإن هؤلاء الشهداء، ما خلا قلة من العملاء فيهم، كانوا من أبطال الحرية والاستقلال، ومن دعاة الوحدة العربية.
وارتجلت خطابا وطنيا تحدثت فيه عن الوحدة العربية.. ولكني دفعت الثمن.. كان لبنان وسوريا ما يزالان تحت سلطة الانتداب الإفرنسي، ولم يكن الإفرنسيون يحتملون أي "كلام" عن الوحدة العربية. فانتزعتني الشرطة الإفرنسية من حرم الجامعة إلى المحكمة، وصدر القرار بإبعادي من لبنان.. من غير بينات ولا مرافعات..
وجاءت سيارة الشرطة إلى الجامعة، وحملتني مع كتبي وثيابي إلى الحدود الفلسطينية اللبنانية، ولم تدر أنها حملت كذلك إيماني بالوحدة العربية، وقد زاده العسف مضاء ورسوخا..
وعدت ثانية إلى بيت المقدس، وعاودتني ذكرياتي في مدرسة صهيون، ولكني هذه المرة لن أكون حبيس قلعتها الصغيرة، فقد دخلت معهد الحقوق أدرس فيه ليلا.. وأعمل في الصحافة في جريدة مرآة الشرق نهارا.
وكأني وجدت ضالتي في الصحافة والحقوق معا.. وبهذا وضعت قدماي على عتبات الحياة العامة ... وأصبحت حياتي بعدها أن أعمل لتحقيق شعارنا الكبير "الاستقلال في إطار الوحدة العربية".. وأن يعمل كل جيلنا الذي واكب تلك الحقبة من الزمن.
وقضيت أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات وأنا أدعو إلى الوحدة العربية في الصحافة والنوادي، وتوالت علي الدعوات من جمعيات الشبان المسلمين، والنوادي الرياضية والنوادي الأرثوذكسية، وهذه كلها كانت تنتشر في طول البلاد وعرضها، وأنا أخطب في الوحدة العربية.. وكنت(1/41)
دائم القراءة عن نشوء القوميات الحديثة في أوروبا، عن الوحدتين الإيطالية والألمانية، وكيف كان نشوءهما بالفكرة والدعوة والتنظيم والسلاح.. ولم أكن وحدي في هذا المجال فقد كان غيري من الشبان الوطنيين يؤدون هذه المهمة القومية، وقد تطوعوا أن ينصبوا أنفسهم دعاة للفكرة القومية وللوحدة العربية..
وكانت بغداد هي كعبة الوحدة العربية في ذلك الوقت.. وكان العراق في نظرنا بمثابة "بروسيا" العرب، كما كانت بروسيا لألمانيا دعامة الوحدة الألمانية.. وكان فيصل بن الحسين ملك العراق هو " بسمارك الصغير" الذي يتطلع إليه العرب في بناء الوحدة الألمانية .. وكنا كلما سافر فيصل إلى لندن وكلما عاد، نخف لاستقباله ووداعه، نهرول للحفاوة به كلما هبط إلى القدس، أو إلى عمان، ذلك أننا كنا نرى فيه خير أبناء الحسين دفاعا عن القضية العربية.. وذلك كان تفكيرنا الصغير في بسمارك الصغير، أو فيصل الكبير!!
ولكننا كنا في قرارة نفوسنا نتساءل عن مصر.. أين هي؟ وأين ملكها لم لا يزورنا كما يفعل فيصل، ولمَ لا بزورنا زعماءنها كما يفعل زعماء العراق ...
وحدث الذي كنا نتوقعه.. حدث الذي كان نتطلع إليه..
حدث في تلك الفترة أن وفد على البلاد نخبة من رجالات مصر، فأحطنا بهم، وضربنا حولهم سرادقاً من الحفاوة والتكريم حيثما حلوا في البلاد، وكلنا طامعون أن نجعلهم أنصار الوحدة ودعاتها، فنحن نريد أن نضم جهدنا مع القاهرة إلى جانب جهدنا مع بغداد..(1/42)
كان أولهم الدكتور عبد الحميد سعيد الرئيس العام لجمعيات الشبان المسلمين، جاء إلى فلسطين ليدعو إلى تأسيس فروع لجمعيته، فطاف في البلاد بهامته العظيمة وعصاه الغليظة ومنكبيه العريضين، وأخذ يخطب في الساحات والنوادي والمساجد داعيا إلى توثيق عرى الأخوة الإسلامية، احتفينا به في عكا حفاوة رائعة، وخطب في جامع أحمد باشا الجزار خطابا إسلاميا بليغا زَينَّه بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وتبعته على المنبر في مثل نبراته وصوته، وأنّي تكون لي هامته وجثته ولحيته.. وناديت بالوحدة العربيه، بالإمبراطورية العربية، وأنا أشير إلى الأحاديث النبوية.. "إذا ذل العرب ذل الإسلام" "والعرب مادة الإسلام"..
وخرجنا من المسجد والدكتور عبد الحميد سعيد يقول لي بصوته الأجشّ:
- ما لنا وللإمبراطورية العربية، نحن نريد جامعة إسلامية، ولتكن إمبراطورية إسلامية.
- قلت : ومن أين لنا أن نبني الجامعة الإسلامية؟
- قال : ندعو إليها، ونجاهد لتحقيقها، وبالسلاح إذا دعا الداعي!!
- قلت: لقد دعا إليها قبلك السيد جمال الدين الأفغاني ، والشيخ محمد عبده، والسيد رشيد رضا وأولهما أفغاني وثانيهما مصري، وثالثهما شامي، ولم تتحقق.
- قال: ولماذا لا نتابع هذه الدعوة.. إنّكم لن تتخلصوا من الحركة الصهيونية إلا بقوة العالم الإسلامي.(1/43)
- قلت: أتمنى من كل قلبي أن تقول "إسلامية عالمية" تتصدى للصهيونية العالمية، ولكنا نرى أنه إذا كانت الوحدة الإسلامية سيقدر لها أن ترى النور، فإن الوحدة العربية هي البداية.. وإذا لم يكن العالم العربي متحدا فلن يقوم اتحاد إسلامي.. و.. و..
واستمر الحوار على هذا المنوال إلى أن ركب ضيفنا الكبير سيارته إلى حيفا، ومنها إلى القاهرة دون أن يحسم الأمر بيننا.. وحدة عربية أم وحدة إسلامية!!
وكان ضيفنا الثاني الأستاذ توفيق دباب صاحب جريدة الجهاد. فتلقفناه بالأحضان، وكان يرافقه الصحفي المصري اللبناني حبيب جاماتي. وكانت لجريدة الجهاد شهرة ذائعة بين الفلسطينيين، فهي جريدة وفدية. وكانت فلسطين وفدية من الناقورة شمالا حتى رفح جنوبا.
وجاءنا توفيق دياب إلى عكا متأخرا عن موعده أربع ساعات، وكنا أعددنا له استقبالا حافلا في حديقة البلدية في ضاحية المدينة، وانصرفت الجموع بعد أن ملت الانتظار، وأقبل المساء وإذا بسيارة الضيف الكبير تقف في ساحة المدينة، وتجمع الناس، وسارع الشاب إلى أحد المقاهي، فجاؤني بطاولة وقفت عليها لأخطب مرحبا بجريدة الجهاد وصاحب الجهاد..
وأسهبت في الحديث عن دور مصر في التاريخ العربي، وعن زعامة الوفد المصري للوطن العربي بأسره، وتمنيت على "الأستاذ الكبير والأديب التحرير توفيق دياب أن يكون فارس الدعوة للوحدة العربية وأن تكون "الجهاد" جهادا حقا في سبيل الوحدة العربية".
وقف على الإثر الأستاذ دباب بين هتاف الجماهير، وهي تهتف للوحدة، ولمصر وللوفد المصري، واشرأبت الأعناق إلى خطيب مصر المفوه لتسمع(1/44)
ما عسى يقول عن الوحدة العربية.. ومن غير مقدمة ولا ديباجة راح الأستاذ دياب يعرب عن غضبه لذلك "الاحتفال المهلهل في ذلك المكان الزري.. وأن الأمة تحتفل برجالها بكل مظاهر التكريم لا في مثل هذه الساحة ولا على مثل هذا الحال..و ... و.."
ومضى الأستاذ دياب إلى على غرار هذا الحديث، غير شاكر ولا ذاكر ولا عاذر، وجلس على الكرسي دون أن يشير إلى القضية الوطنية ولا إلى الوحدة العربية.
ووقفت اعتذر إليه بأن الاحتفال كان معدا في حديقة البلدية.. و ... ولكن والدي رحمه الله، لم يصطبر على هذا الاعتذار وانتفض من مكانه، وانتصب بقامته القصيرة وعيناه تلمعان غضبا، وكأنما خلع عن كتفيه الثمانين عاما وأصبح فتى في العشرينات، وراح يخطب ويخطب، مؤنبا الأستاذ دياب.. مذكرا إياه "بأن هذه الساحة التي نلتقي فيها هي من أشرف الساحات وأكرمها في دنيا العرب، ففيها سقط الشهداء والمجاهدون.. في عهد صلاح الدين، وفيها تخضبت الدماء الذكية في عهد نابليون، وفيها.. وفيها.. وأن صاحب الجهاد، وأسد الجهاد، لا يبالي أين يأكل وأين ينام، وأن يستقبل وأين يخطب ... و ... .و.."
وعاد والدي إلى كرسيه وكأنما "غاص" بقدميه في توفيق دياب، بوجهه وأنفه وشاربيه.. ولم يسع توفيق دياب إلا أن يقف مرة ثانية ويعتذر، ويتودد إلى الجماهير بالدعوة إلى الوحدة العربية.
ومال إلي السيد حبيب جاماتي ليقول :(1/45)
- أنا أعتذر لك عن توفيق دياب.. يكفي أن الوالد "مسح" به الأرض ... ويكفي كذلك أن خطيب عكا-والدي- هو مصري، فقد جاء والده الشيخ محمد شقير من مصر، من الشرقية.. ولا فخر لعكا على القاهرة.
وسمع الأستاذ دياب هذا القسم الأخير من الحديث، وعقب قائلا: "أهو.. بقينا حبايب"، وعاد توفيق دياب إلى القاهرة بعد أن تلقى درسا نافعا في الوحدة العربية وفي الأخلاق العربية..
وجاء ضيفنا الثالث، مكرم عبيد، وكان أكبر شأنا من صاحبيه، فقد كان سكرتير الوفد المصري أيام كان الوفد المصري هو كل شيء في مصر، وكل شيء في الوطن العربي.
واستقبلناه في عكا استقبالا شعبيا، على طريقة الاجتماعات الشعبية في مصر، ونظمنا له "مجموعة" من الشباب تهتف له هتافات سجعية كما يفعل "الهتافون" في مصر-وكل طمعنا أن نربح مكرم عبيد إلى صف الوحدة العربية، فقد كان ذلك أكبر نصر في تلك الأيام.. لو أننا أفلحنا.
فخطبت له، وخطب لنا، وكان بارعا حصيفا حقا.. وكان يتكلم باعتزاز من غير استعلاء.. ولعله سمع بحكاية توفيق دياب.. ورافقته بعد ذلك بالسيارة إلى حيفا، حيث ينتظره اجتماع شعبي كبير.
وفي السيارة، يحلو الكلام، في تلك الأيام الجميلة من فصل الربيع، البحر على ميمنتنا وكثبان الرمال على مسيرتنا ... ودار الحديث :-
قال : بلادكم جميلة "خالص" إنها أجمل من مصر..
قلت: أستغفر الله، مصر أم الدنيا، يكفيكم النيل.. إنها بستان العالم، كما يقول ابن خلدون.. ولكن(1/46)
قال: ولكن ماذا..
قلت: إنّ الإنجليز واليهود قد أفسدوا علينا جمال بلادنا.
... قال: الإنجليز موضوع مفهوم.. ولكن اليهود.. أليسوا أولاد عمكم قلت : (مازحا) لا يا سيدي إنهم أولاد عمكم أنتم، فقد كان اليهود في مصر، في عهد موسى قبل أن يأتوا إلى فلسطين!!
وتحدثنا طويلا عن الحركة الصهيونية وأطماعها، وأنا أؤكد في كل مناسبة الشعار الصهيوني "من النيل إلى الفرات" وهو يؤكد في كل مرة "من النيل إلى الفرات" هذه خرافات، ثم يتساءل-وهل هذه الحفنة من المهوسين اليهود قادرة على تحقيق خرافة (من النيل إلى الفرات) ، ثم التفت إلي بسؤال حاد..
- ما هو الحل؟
- قلت: الاستقلال في إطار الوحدة العربية.
- قال: واليهود؟
- قلت: يعيشون معنا ونعيش معهم.
- قال: والوحدة العربية.. "يعني أيه".
- قلت: نريد أن ندخل في وحدة مع شرق الأردن وسوريا ولبنان والعراق.
- قال: يعني أنتم "مش عاوزين الاستقلال".
- قلت: نحن نريد الاستقلال، ونحن نكافح من أجل بلوغه، ولكن الاستقلال عندنا هو نهاية الاحتلال، وبداية الوحدة.(1/47)
- قال: معنى هذا أن تكون فلسطين "مديرية " في دولة الشرق العربي.
- قلت بالضبط، نحن لا نريد أن نكون دولة، وإنما نريد أن نكون مديرية في دولة الوحدة.
وصلنا إلى حيفا، أسلمت ضيفنا الكبير إلى السيد رشيد الحاج إبراهيم زعيم المدينة، ويقيني أنه سيسمع منه ما سمع مني.
وعدت إلى عكا وأنا أسائل نفسي، هل أفلحت مع هذا "الفرعوني" الألمعي.. هل آمن بالوحدة العربية.. هل نستطيع أن نظفر بالوفد المصري داعيا للوحدة العربية، وهل نظفر بمصر قائدة للوحدة العربية وطليعة للأمة العربية؟؟
عدت إلى منزلي وهذه الأسئلة الحائرة المحيرة تجيش في صدري، بعيدة عنا، وهي مشغولة في مكافحة الاحتلال.
وكان المشرق العربي كله- شرق الأردن- سوريا-لبنان-والعراق، تحت الاحتلال يكافح لتحقيق الاستقلال.
كان ذلك في الثلاثينات.. وكانت مصر مفتونة بحضارتها الفرعونية، ولم تكن قد أفاقت على عروبتها الأصيلة العريقة.. وكانت مشغولة بالإلحاح على الجلاء، ولا مفاوضة إلا بعد الجلاء..
وبقيت هذه الأسئلة عندي، وعند جيلي بأسره من غير جواب.
أجل لقد بقيت عشرين عاما تعيش في تيه، أشد وأقصى من تيه بني إسرائيل!!
نعم لقد بقيت من غير جواب، إلى أن جاءت الثورة في مصر في عام 1952، وجاء الجواب بعدها عاما بعد عام.(1/48)
واكتشفت مصر ذاتها وعروبتها، وعرفت دورها في بناء الوحدة العربية.
ولقد تعثرت مسيرة الوحدة وتعسرت، مرة في دمشق، وثانية في القاهرة، وثالثة في بغداد.
ولكن القضية العربية على كل حال قد انتقلت من الفكر والضمير إلى مرحلة تقرير المصير.
وها نحن على الدرب ... بل أرجو أن نكون ...(1/49)
هل تريدون من الملوك والأمراء؟
يقدموا عروشهم وتيجانهم..
وقفت كما كان يقف امرؤ القيس..
كان يقف عند الأطلال والأحجار، ويستذكر الأحبة والأيام الخوالي.
هكذا وقفت أمام ذكرياتي وأنا أكتب مذكراتي..
وقفت أمام حقبة من الزمان امتدت عشرين عاما، بين الحرب العالمية الأولى والثانية.. ووجدت فيها صفحات متعاقبات من ذكريات الوحدة العربية، عامرة في ضمائرنا تحرك وجداننا وخواطرنا، وأرجو لها الآن أن توجه نضالنا..
لقد كانت فترة رهيبة بالنسبة إلينا نحن شعب فلسطين ... لقد نشأ جيلي ليرى الوطن القومي اليهودي بعد الحرب العالمية الأولى، وكبرنا مع الأيام والأعوام لنرى إسرائيل دولة ذات جيش وسطوة.. ولكننا، ونحن نواكب الخطر الصهيوني النامي المتعاظم، لم نغفل عن الوحدة العربية يوما من الأيام.
لقد كنا نعشق الوحدة العربية لذاتها من غير شك، لأنها تجعل منا الأمة العربية الفاضلة، والمواطن العربي الأفضل، إلا أننا نحن شباب فلسطين، كنا(1/50)
نرى فيها كذلك الطريق لخلاصنا وخلاص الوطن العربي من هذه الموجة البربرية الطاغية، المسماه بالحركة الصهيونية.
وفي كفاح شعبنا البطولي ضد الاستعمار والصهيونية معا، كان نضالنا لتحقيق الوحدة العربية متصلا متواصلا، كما كان نضالنا بذاته يمد الوحدة العربية بالوقود متصلا متواصلا.
وقد أحسست، جيلي وأنا، بهذا التبادل والتفاعل بيننا وبين الوحدة، في الصبا المبكر.. وواكبنا مسيرتها شبابا ورجالا ...
كنا في فلسطين نناضل لتحقيق الاستقلال، وكذلك كانت الأقطار العربية من حولنا، تخوض معارك التحرير.. ولكننا كنا نرى استقلالنا واستقلال إخواننا من حولنا، إنّه نهاية الاحتلال.. وبداية الوحدة.. وكان هذا الشعور يتجلى بالتعاطف والتضامن فيما بيننا، ويتمثل أكثر ما يتمثل في تمجيد أبطال الأمة العربية، ذلك أن هؤلاء لا يعملون للاستقلال فقط، ولكنهم كانوا يهيئون الأرض، أرض الوحدة العربية.
وإني لأذكر، وما أعز تلك الذكريات، أننا كنا في العشرينات نطوف بالشوارع ونحن نهتف "يحي سعد، يحيى سعد" تماما كما كان يفعل شباب مصر في مصر،
وكنت أنتظر القطار القادم من القاهرة لأختطف جريدة المقطم وأقرأ فيها أخبار الثورة المصرية.. لقد كانت الثورة المصرية ثورتنا، وسعد زعيمنا، ومصر بلدنا، والإنجليز أعداءنا ... وأصبحت خطب سعد على ألسنتنا نرددها ونتغنى بها..(1/51)
كان كل ما نستطيعه في ذلك الوقت أن نطارد الجنود الأستراليين الذين كانوا في بلادنا، بالحجارة، وحين لا نجد الحجارة، كنا نصيح في وجوههم بالإنجليزية المهشمة "يعيش سعد".
وجاءت بعد ذلك ثورة الأمير عبد الكريم الخطابي في المغرب على الإفرنسيين والإسبان.. فانشدَّت قلوبنا إليه وإليها، لم يكن عندنا إفرنسيون لنطاردهم أو نغيظهم، فجمعنا بضع مئات من الجنيهات وطبعنا بها كتبا ومنشورات ننُدّد فيها بالإسبان والإفرنسيين، وفظائعهما ووحشيتهما.
ومع الزعيم سعد، والأمير عبد الكريم الخطابي، أرهفت أسماعنا الفتية إلى أخبار الجهاد البطولي الذي قاده الشهيد عمر المختار في ليبيا، وكان حدادا عاما في منازلنا يوم قضت عليه إيطاليا بالإعدام، وما هي إلا أيام حتى كانت كل مدينة من مدن فلسطين وفيها شارع اسمه عمر المختار.
ولا بد أن مثل هذا الجهاد البطولي قد وقع في تونس والجزائر، ولكن فرنسا كانت قد ضربت سورا فلاذيِّا حول هذين القطرين العزيزين فلم تعد تصلنا أخبارهما، أو لعل أنباء الاستعمار الغربي قد اختلط بعضها ببعض، فلم نعد نميز بين المظالم الإفرنسية أو الإنجليزية أو الإيطالية ، غير أنَّ وجداننا كان دائما مع الوطن العربي بأسره ومع الأمة العربية بأسرها، وكانت هذه براعم الوحدة في أكمامها، يفوح عطرها في أنفاسنا..
والى جانب هذه الأحداث الوطنية التي وقعت في الشمال الإفريقي، نشبت الثورة في المشرق العربي، في العراق وسوريا، وتعلقت قلوبنا بأبنائها، وتابعنا مسيرتها وراء أبطالها من أمثال إبراهيم هنانو (حلب) والسيد(1/52)
محمد الصدر (العراق)، فعقدنا الاجتماعات ونظمنا المظاهرات لتأييدها، والتغني بوقائعها.
وفي أعقاب ذلك لجأ أحرار العرب إلى فلسطين،من كتاب دنيا العرب، فأصبحوا زعماءنا يشاركون في نضالنا، ويتبوأون مقاما رفيعا بيننا.
ومن هنا بدأت صلتي بعدد من رجالات العروبة، ومن هنا بدأت أرى فيهم رجال الوحدة ، وحدة النضال وصولاً إلى إقامة دولة واحدة.
عرفت أول من عرفت شكري القوتلي رئيس الجمهورية السورية لاجئاً في حيفا يجلس عند التجار "الشوام" في مدخل المدينة ليستمع إلى أخبار الوافدين من دمشق، ويحض التجار على التبرع للحركة الوطنية في فلسطين، ويتصل بالقيادات الفلسطينية ليقول: قوموا بإضراب.. اعملوا مظاهرات.. تدربوا على حمل السلاح..
وعرفت رياض الصلح "رئيس وزراء لبنان" لاجئا في كل مدينة بفلسطين، ينتقل من ندوة إلى ندوة، بطربوشه المائل وشرابته الراقصة، وحديثه عن فلسطين أكثر من حديثه عن بيروت.
وعرفت ياسين الهاشمي "رئيس وزراء العراق" لا يفتر عن زيارة فلسطين، من حين إلى حين، وكل همه أن يتحرر العراق ليعمل على تحرير فلسطين.
وعرفت نبيه العظمة (دمشق) مقيما في القدس يوكل إليه الإشراف على المعرض الوطني، وهو يزمجر على معاونيه . وعصا المارشاليه لا تفارق يده يهش بها على البائعين والشايت.(1/53)
وعرفت الأمير عادل أرسلان من قادة الثورة السورية مقيما في رام الله، تنازعه البيوت المضيافة، وفادة وكرما، وهو يحض على الثورة المسلحة ضد بريطانيا.
وعرفت سلطان باشا الأطرش- قائد الثورة السورية- يوم زرته في الكرك في الأردن مع عدد من رجالات البلاد، وأحسسنا بين يديه أنه قائد ثورتنا، وأن جبل الدروز هو جبلنا وحدنا.
وعرفت هؤلاء وغير هؤلاء من رجال العرب وشبابها.. من الذين كانوا يأتون إلى فلسطين زائرين أو لاجئين أو عابرين، وكانت الرابطة التي تجمعهم وتجمعنا، هي الوحدة العربية، نسعى لتحقيقها بتحرير أوطاننا أولا، ثم نعلن الوحدة في اليوم الثاني.
على هذا كانت تنعقد خواطرنا وآمالنا، بل على هذا كنا نتعاهد ونتحالف كل جيل مع جيله، الشباب مع الشباب، والرجال مع الرجال، والكهول مع الكهول.. والنساء مع النساء..أقول النساء مع النساء.. لا انسياقاً مع سياق العبارة، ولكني أقولها حقا وصدقا، فقد كانت نساء الأقطار العربية يفدن إلى فلسطين ويعقدن المؤتمرات مع السيدات الفلسطينيات، وعرفت منهن السيدة ماري عجمي الأدبية السورية، والسيدة نازك العابد قدمت إلينا من دمشق، وقد اشرأبت أعناق الرجال إلى هذه السافرة تحمل العصا الرفيعة بأناملها الرفيعة!! وكأنها تريد أن تسوق الناس إلى الوحدة العربية بعصا موسى!!
ولم تكن الوحدة عاطفة عابرة، ولكنها كانت تتجسد في وحدة النضال، وكانت فلسطين هي الساحة التي تتجسد فيها هذه الوحدة، فيوم كنا نسير في(1/54)
مظاهرة وطنية نجد التجاوب في المشرق العربي، فتسير المظاهرات في عمان ودمشق، وبغداد وبيروت، وحين كنا ندعو إلى إضراب كان يضرب معنا العراق ولبنان وسوريا وشرقي الأردن، وحينما بدأ الاستعمار الإيطالي والبريطاني الإفرنسي، ينزاح عن الشمال الإفريقي راحت طلائع التجاوب تنبثق من مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب، بالإضراب، وبالمظاهرات ...
وجاءت أحداث الاعتداءات اليهودية على حائط البراق الشريف (حائط المبكى) في بيت المقدس في عام 1929 لتعطي الوحدة العربية مزيدا من الوقود.
كنت في ذلك العام في القدس محاميا تحت التمرين.. وقضيت مع إخواني ورفاقي عامين كاملين نستثير العالمين العربي والإسلامي، وكان للسيد أمين الحسيني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في القدس جهد كبير في الدعوة لعقد مؤتمر إسلامي يدعم الحق الإسلامي في (حائط المبكى) وهو جدار المسجد الأقصى. (1)
وانعقد المؤتمر في كلية روضة المعارف في شهر كانون أول من عام 1931، ولعله كان أكبر تجمع إسلامي شهده العصر الحديث، وطبيعي أن معه كذلك أكبر تجمع عربي.
وخطر لنا نحن الشباب أن نغتنم هذه الفرصة، ونتصل بقادة العرب ونسعى معهم للدعوة لمؤتمر عربي عام توضع فيه أسس الوحدة العربية،
__________
(1) راجع كتاب المؤلف: "أربعون عاما في الحياة العربية والدولية ...(1/55)
وأخذنا نتصل بهم، واحدا واحدا.. في الفنادق مرة، في المسجد الأقصى مرة أخرى، وفي ردهات المؤتمر مرة ثالثة.
وكان المؤتمر الإسلامي يضم جمهرة من رجال العرب، وكأني أرى الآن وجوههم تتعاقب على مخليتي، وأصواتهم تتوالى على أذني، وحديث الوحدة العربية يغمرنا جميعا، وكأنما جرى ذلك كله في الليلة البارحة، لا في أوائل عام 1931.
وكنا نحن الشباب، قد اقترحنا على رجال العروبة الذين توافدوا على المؤتمر الإسلامي أن يعقدوا اجتماعا فيها بينهم، ليتداولوا شؤون الوحدة العربية، في، و أن يصدروا بيانا إلى الأمة العربية يعلنون فيه استئناف نشاطهم في ميدان الوحدة، ويشرعوا في اتخاذ الخطوات العملية لتحقيق هذه الغاية، وكان أن وافقوا على اقتراحنا، صاح فينا أحدهم – رياض الصلح - قائلا..
- يا شباب، أنتم تطلبون منا كل شيء، اعملوا شيئا أنتم، أعدوا بيانا ونحن ننظر فيه..
وكنا قد أعددنا صيغة البيان فيما بيننا.. فأخرجته من جيبي وقلت:
- هذا هو البيان، يا رياض بك، وبالإضافة إلى ذلك، فنحن مستعدون لتنفيذ كل ما تقررون..
وهنا قال شكري بك القوتلي بصوته الفخم: والله، يا رياض، الشباب غلبوك..
وقد أفلحت تلك الخطوات المتواضعة التي قمنا بها من جانببا.(1/56)
فقد اجتمع أولئك الزعماء في مؤتمر تحضيري في 13 كانون أول 1931 ضم رجالات العروبة من فلسطين وسوريا ولبنان والعراق وشرق الأردن والمغرب العربي، وأصدروا بيانا يتضمن ميثاقا قوميا أعلن:
أولا) أن البلاد العربية وحدة تامة لا تتجزأ، وكل ما طرأ عليها من أنواع التجزئة لا نقره ولا نعترف به.
ثانيا) توجه الجهود في كل قطر من الأقطار العربية إلى وجهة واحدة هي استقلالها التام كاملة موحدة، ومقاومة كل فكرة ترمي إلى الاقتصار على العمل للسياسات المحلية والإقليمية.
وبعد أن استنكر البيان الانشغال (بالقضايا الإقليمية المصطنعة والأوضاع المحلية المتقلصة)، أعلن أن المجتمعين سيدعون إلى مؤتمر عربي قومي عام يعقد في إحدى العواصم العربية "ليبحث الوسائل المؤدية
إلى رعاية الميثاق والخطط التي ينبغي السير عليها لتحقيقه".. وقد وقع هذا البيان رشيد رضا، محمد بهجت الأثرى، إبراهيم الواعظ، خير الدين الزركلي، إبراهيم الخطيب، علي عبيد، علي ناصر الدين، صلاح عثمان بيهم، رياض الصلح، شكري القوتلي، سالم هنداوي، محمد طاهر الجقة، محمد علي بيهم، نبيه العظمة، صالح العوران، مصطفى الغلايني، حسين الطراونه، عوني الكعكي، خليل التلهوني، سامي السراج، محمد بنوتة، سعيد ثابت، سليمان السودي، محمد حسين الدباغ المكي، وقد وقع معهم عدد من زعماء فلسطين.
وفي أعقاب هذا البيان، قمت بحملة صحفية، في مقالات متلاحقة، أدعو فيها "أن لا يكون اجتماع القدس هو البداية والنهاية"، والواقع أن النية قد اتجهت لعقد هذا المؤتمر في بغداد في ربيع 1933، وتألفت له لجنة(1/57)
تحضيرية من قادة العراق المعروفين ياسين الهاشمي، وجميل المدفعي، وعلى جودت الأيوبي، ومولود مخلص، وسعيد ثابت، وغيرهم.
ولكن المؤتمر العربي العام، أملنا المرتجى وحلمنا العظيم، لم ينعقد لأسباب عربية وغير عربية : منها وفاة الملك فيصل، ومنها الضغوط البريطانية المتلاحقة.. وهكذا كان الخط البياني للوحدة العربية على الدوام، ضعف عربي وتدخل أجنبي.
أقول " ضعف عربي" لأن كثيرا من الموقعين على هذا البيان، وهم الذين تعاهدوا على "مقارنة التجزئة" وعلى محاربة "الاقتصار على السياسة الإقليمية" هم هم الذين دافعوا عن الإقليمية ورسخوا التجزئة بعد خمسة عشر عاما، حينما قامت هذه "الاستقلالات" الصغيرة المسماة بالدول العربية.. وحينما قامت الجامعة العربية..
أجل إن الذين تعاهدوا في بيت المقدس، وبجوار المسجد الأقصى، على العمل للوحدة العربية هم هم بأشخاصهم وأسمائهم الذي أصبحوا فيما بعد رؤساء، ووزراء، وسفراء في حكومات عربية.. تتعهد فيما بينها في ميثاق جامعة الدول العربية على "المحافظة على سيادتها واستقلالها".
وسأفصل ذلك في حينه تفصيلا، وفي هذا الكتاب
ولكن الشعب، بعيدا عن القادة، قد مضى في مسيرته يعمل للوحدة من غير مؤتمر ولا ميثاق، وكانت ساحة الوحدة هي أرض فلسطين بأجمعها، ولم تكن الوسيلة الخطب والبيانات، ولكن الوسيلة كانت الثورة والسلاح، ذلك بأن الوحدة العربية كانت تلقى تصميماً من الشعب، وتراخيا من القادة، وتجسدت الوحدة، بالثورة والسلاح.(1/58)
وعلى مدى عشر سنوات متعاقبات.. شهدت أرض فلسطين طلائع الوحدة العربية.. تقاتل بالسلاح.. ، من 1930 حتى 1940..
وفي هذه الحقبة الماجدة، وقد عاشها جلينا بكل تطلعاته وتضحياته، توافد على فلسطين آلاف من المجاهدين من كل أقطار العرب، ليحاربوا الصهيونية لا لأنها طامعة في فلسطين فحسب، ولكن باعتبارها إسفيناً يفصل الأمة العربية، مشرقها عن مغربها، ويعمل على إشغالها عن وحدتها.. وقد عرفت الكثيرين من هؤلاء .. وناضل جيلي معهم، تجمعنا الوحدة العربية، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر..
وبين الذين قضوا نحبهم، من سقط شهيدا، في المعركة في ظل راية الوحدة، سعيا لتحقيق شعارنا في فلسطين " الاستقلال في إطار الوحدة".
وكان في مقدمة هؤلاء الشيخ عز الدين القسام- من اللاذقية- جاء إلى حيفا "لاجئا" وما هي إلا بضع سنوات حتى أصبح "اللاجئ" قائد الثورة المسلحة في فلسطين.
عرفته إماما وخطيبا، وعرفته زميلا في جمعيات الشبان المسلمين، ورفيقا في المؤتمرات الوطنية الفلسطينية، وفي الثلاثينات سقط شهيدا، في 20 تشرين ثاني سنة 1935، في أحراش يعبد (بفلسطين) في معركة غير متكافئة مع القوات البريطانية.
وأثناء ثورة فلسطين 1936-1939 مر بنا القائد سعيد العاص، (سوريا) في عكا وجهزناه بالمؤن والسلاح.. ومضت أشهر وهو يقود الثورة(1/59)
في جنوب فلسطين وسقط شهيدا في معركة الخضر، في 6 تشرين أول (1) 1936.
وقد عدت إلى أوراقي، وأنا أكتب هذه المذكرات، أبحث عن قوائم طويلة كنت أعددتها عن أسماء الشهداء العرب الذين سقطوا في ميدان المعركة في فلسطين، قبل أن تقوم في الوطن العربي حكومات عربية وجيوش عربية.. وجامعة عربية.
ولقد كتبت تلك القوائم الطويلة يوما بعد يوم، وعاما بعد عام، حينما كنت في بلدي-عكا-، وكنت أتساءل دائما: ماذا أصنع بهذه القوائم الكريمة العزيزة.
وخطر لي، وأنا أمام هذه السؤال الكريم، أن أزين مذكراتي بأسماء بعضهم، وأختار واحدا من كل قطر عربي، ولكني لم أجد تلك القوائم العزيزة بين أوراقي.. وأغلب الظن أنها بقيت في مكتبي في عكا، ونهبتها إسرائيل في جملة ما نهبت.. ولم أجد عزاء إلا أن أصيح وتصيح معي مذكراتي: تحية إلى الشهداء المجهولين..
لقد سقط هؤلاء الشهداء، والآلاف من أمثالهم على جبال فلسطين، ووديانها، ناهيك بآلاف آلاف من شعبنا الفلسطيني ، ولكن راية الوحدة العربية لم تسقط، لقد مضى جيلنا العربي يحملها على أكتافه في جميع أرجاء الوطن العربي، وكل بلد حسب ظروفه وأحواله.
وكنا، نحن الجيل الصاعد في فلسطين، نتصل بالحكومات العربية من حولنا، ولم تكن على شيء من الاستقلال الوطني إلا مصر، وشرق الأردن،
__________
(1) * في الطبعة الأولى 12 شباط 1936، والصحيح ما ورد أعلاه: أنظر بهجت أبو غربية، خضم البضال العربي لفلسطين، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 1983، ص 84 .(1/60)
واليمن، والمملكة العربية السعودية.. أما باقي الأقطار العربية فكانت ترزح تحت نير الاستعمار سواء منها ما كان في المشرق أو الغرب.. وكنا، في كفاحنا ضد الاستعمار البريطاني، نستنجد الملوك والأمراء، ونستصرخهم للعمل العربي الموحد، من اجل فلسطين، ومن أجلهم، ومن أجل العروبة جمعاء.
وفي هذا المجال، كتبنا المقالات، ونظمنا القصائد، وألفنا الوفود للوقوف على أبوابهم نطالب بالنجدة والعون.. هذا إلى جانب تضحياتنا جميعا، فقد كان كل شعبنا في ا لمعركة..
ووفد علينا، في جملة من كان يفد إلينا في فلسطين، الأمير(الملك سعود) فأقمنا له استقبالات شعبية رائعة، واستصرخنا العروبة والإسلام.. وزمجر أحد شعرائنا، عبد الرحيم محمود وهو يخاطبه:
"المسجد الأقصى أجئت تزروه : أم جئت من قبل الضياع تودعه"
سمعنا يومئذ هذه الصيحة الغاضبة، وقال البعض إنّه "شاعر مجنون"، هكذا قال القرآن"، ولكن عبد الرحيم محمود لم يكن شاعرا فحسب بل كان ثائرا، فقد انضم إلى الثورة وسقط شهيدا في معركة الشجرة طبريا (1948، وقال القرآن "وحسن أولئك رفيقا.."
وجاءت حرب حزيران 1967، وسقط بيت المقدس، ومعه سقط المسجد الأقصى، ثم جاء صيف 1969 ومعه حريق المسجد الأقصى، وتمتم الشاعر الثائر عبد الرحيم محمود من قبره وهو يتلو القرآن "وما صاحبكم بمجنون".
وتمر أربعة أعوام (1936-1939)، فأعلن الشعب الفلسطيني إضرابه الكبير ستة أشهر بكاملها، ونشبت الثورة الفلسطينية خاضها الشعب(1/61)
الفلسطيني، رجال ونساء، واستصرخنا، نحن الشباب، الأمة العربية في كل أقطارها وأمصارها، واستجابت على الصعيد الشعبي بالعون والمدد والنجدة، بالسلاح والرجال والأموال، فجاء كل ذلك تجسيدا للوحدة العربية، بالتضحيات لا بالشعارات.
وتلاحق استصراخنا للملوك والأمراء، فانفرجت شفاههم عن عبارات العطف وجيوبهم عن تزر يسير من العون.. وكان ذروة النجدة، وقمة العون، أنهم وجهوا إلى "إخوانهم وأبنائهم عرب فلسطين نداء يدعونهم فيه إلى وقف الإضراب والثورة والإخلاد إلى السكينة.. اعتمادا على حسن نوايا صديقتنا بريطانيا العظمى ورغبتهما المعلنة لتحقيق العدل".
ونشبت الحرب العالمية الثانية في أيلول 1939، وتوقف كفاح الشعب الفلسطيني ومعه "رقدت" الدعوة إلى الوحدة العربية، وأصبحت ندواتنا حديثا عن ماضيها، وتطلعا إلى مستقبلها.
وفي ندوة من هذه الندوات، دخل علينا "أبو فريد" من أعيان البلدة وكان من "المتقاعدين" من مخلفات الدولة العثمانية، وأخذ يستمع إلينا ونحن نتحدث عن الوحدة العربية.. وعن موقف الملوك والأمراء..
ولقد طال الحديث بيننا، وأبو فريد لا يشارك من قريب أو بعيد، كان مستمعا يجيل بصره فينا، وكأنما عيناه تطلان من القرن الغابر.
ووقف أبو فريد فجأة، وقد أحنت السنون كتفيه، وقوست ساقيه، وغادر المجلس وهو يقول يصوت يلهث: ماذا تريدون من الملوك والأمراء، هل تريدون أن تبنوا الوحدة العربية بالملوك والأمراء.. وهل تريدون من الملوك والأمراء أن يقدموا إليكم عروشهم وتيجانهم لتصنعوا منها دولة الوحدة؟ هل تريدون هذا أيها المهاويس".(1/62)
قالها "أبو فريد" بحشرجة حزينة وانصرف.. ومات بعدها بأيام ... ولكن قولته لم تمت، فقد بقيت تعيش معه ومع جيلي..
رحم الله "أبو فريد" لقد مات، ولكن قولته بقيت على قيد الحياة .. وما تزال .(1/63)
الوحدة العربية ...حوارات(1/65)
حوار مع ثلاثة..
طه حسين.. الحاكم البريطاني
نوري السعيد
كان الشتاء باردا هذا العام (1970) في القاهرة، وجلست في مكتبي ألتمس الدفء بين أوراقي القديمة، وعادت بي الذكريات إلى القاهرة قبل نيف وثلاثين عاما، حين كنت أقيم فيها لاجئا مع الكثيرين من إخواني الفلسطينيين الذين هربوا من عسف السلطات البريطانية في فلسطين.
كان ذلك في عام 1938، وكنت أقيم في مصر الجديدة، أبيت فيها ليلا، وأقضي نهاري في القاهرة متنقلا بين جريدة الأهرام، والفنادق المصرية التي تعج بالوافدين من الأقطار العربية.
وكانت جريدة الأهرام ملتقى رجالات العرب، يتجمعون فيها ليتحدثوا عن القضايا العربية، وكان مكتب السيد أسعد داغر محرر الشؤون العربية، هو دار الندوة في بعض الأحيان.(1/67)
ولم يكن لنا من حديث إلا موضوع الوحدة العربية.. فقد كان الحوار على أشده في ذلك الوقت بين فريقين من المفكرين المصريين، الفريق الأكبر ينادي بالفكرة الفرعونية صريحة واضحة، والآخر يدعو إلى الوحدة العربية، ولكن على نحو غير واضح ولا صريح.
وضمنا مجلس في ندوة الأهرام، كان فيه عبد الرحمن عزام بك (أمين الجامعة العربية فيما بعد). وحانت مني التفاته إلى المجلات المكدسة على طاولة أسعد داغر فرأيت بينها مجلة المكشوف وفيها مقال مكشوف..
المقال عن الوحدة العربية.. وكان كاتبه الدكتور طه حسين..
قرأت، ويا لهول ما قرأت.. كان المقال رائعا ورفيعا. وكان غنيا بالجمال والاتساق.. ولكن في دعوة إلى الباطل.. إلى نبذ الوحدة العربية والاستمساك بالفرعونية.
فرغت من قراءة المقال.. وألقيت بمجلة المكشوف، وقلت في عصبية ظاهرة: هذه هرطقة قومية.. هذا كفر عربي.. إنّ طه حسين يكفر بالوحدة العربية، بالعربية الفصحى التي تعلمها بالأزهر الشريف، وليته كتبها باللغة الفرنسية التي تعلمها بالسوربون في باريس!!
وأمسك عبد الرحمن عزام بالمجلة، كما لو كان شرطيا يمسك بالمجرم من تلابيبه، وراح يقرأ المقال بصوت، عال مرة، وخافت مرة أخرى.. وكان يؤشر بقلمه على الفقرات الفرعونية الصارخة، ثم صاح وهو يقول ..
- شوف الأعمى "ده" يكتب آيه!!
وأخذ يقرأ من المقال "أن الفرعونية متأصلة في نفوس المصريين، وأنها ستبقى كذلك، بل يجب أن تبقى وتقوى.. ولا تطالبوا من مصر أن تتخلى عن مصريتها وإلا كان معنى طلبكم إهدمي يا مصر أبا الهول(1/68)
والأهرام، وتغاضي عن جميع الآثار التي تزين متاحفك ومتاحف العالم، وانسي نفسك واتبعينا.. إنّ الأكثرية الساحقة من المصريين لا تمت بصلة إلى الدم العربي بل تتصل مباشرة بالمصريين القدماء".
فرغ عزام قراءة المقال وهو يقول : الأعمى "ده " يعرف أدب عربي، ولكنه لا يعرف التاريخ العربي، وراح عزام بأسلوبه القصصي الطريف يحكي تاريخ القبائل العربية في مصر، ومنازلها في وادي النيل، من السودان جنوبا حتى الإسكندرية شمالا..
وقلت: الله قد أراد بالعروبة خيرا..
قال عزام: كيف .. ولماذا..
قلت : لقد أحسن الله صنعا أن جعل هذا العبقري طه حسين، ضريرا.
قال: وماذا تعني؟
قلت: ألم تسمعه يتغنى بالآثار الفرعونية هو ما رآها، فماذا يقول ولو كان بصيرا ورآها!!
قال: حقا.. لو كان طه حسين بصيرا ورأى بعينه هذه الآثار الرفيعة لكان فرعون هذا الزمان.
والتفت إلينا أسعد داغر وهو يقول: وما الفائدة من هذا الحوار .. أنا رأيي أن تذهب أنت يا عزام، ومعك الشقيري إلى طه حسين وتجادلوه بالحسنى..
فقال عزام: والله أنا سئمت الكلام مع هؤلاء المصريين الذين لا يعرفون مصلحتهم، وأنا أفضل أن يذهب إليه الشقيري.. وليسمع طه حسين كلام "الشوام".(1/69)
وتناول أسعد داغر التلفون واتصل بمنزل طه حسين وتحدد موعد اللقاء بعد خمسة أيام لأن "سعادة الدكتور" كما قال السكرتير، مشغول في اجتماع مع المستشرقين الموجودين في القاهرة.
وكان هذا التأخير ملائما لي، فقد رأيت فيه فسحة كافية من الوقت، كنت أفكر فيها كيف انتزع فرعون من فرعونيته، وأجعله عربيا صريحا مثل معد بن عدنان بن قحطان.
وذهبت في الموعد المحدد إلى منزل الدكتور طه حسين.. فوجدتني في دار أنيقة تحيط بها حديقة جميلة، وجلست في صالة نسقت مقاعدها الوثيرة أحسن تنسيق، وبدأ فيه ذوق زوجته الافرنسية، أو "زوجه" حتى لا تغضب الفصحى عند طه حسين!!
قلت لنفسي، وأنا أجيل بصري بهذه الصالة الأنيقة، أن هذه السيدة الافرنسية قد أفسدت طه حسين طموحه في أن يكون شبيها للضرير العظيم أبي العلاء المعري.. كان أبوا لعلاء يعيش في دار متواضعة ويعيش العيش الخشن.. ولم تكن زوجته "لا إفرنسية ولا عربية"!!
وفيما أنا في هذا الحوار بيني وبين نفسي وإذا بي أسمع نحنحة قادمة إلي، تنبئ أن الدكتور طه حسين في طريقه إلينا، ولعلها من بقية نحنحاته التي اكتسبها في الأزهر الشريف!!
ودخل طه حسين، وخطوت إليه أسلم عليه، وهو يرحب بي ويقول:
- لقد جئت أهلا ونزلت سهلا، يا مرحبا، إني مسرور دائما بلقاء إخواننا من الأقطار الشرقية!!!
ووجدت فرصتي الذهبية عي عبارة الترحيب هذه. وقلت :
- وهل يسمح لي أستاذنا الكبير أن أرد التحية.. بغير التحية..(1/70)
قال: ولكن بأحسن منها أو بمثلها..
قلت: ومن أين لي مع أستاذنا العميد أن أردها بأحسن منها أو بمثلها.
قال: لا .. بل أنتم في ديار الشام،تجيدون التحية بأجود منها.
قلت : بل أنا أحمل إليك الحساب والعتاب من أهل الشام. ولو كان زميلك (المعري)، الراقد في معرة النعمان (سوريا) قادرا على الكلام لكان هو الذي يسوق إليك الحساب والعتاب..
أنا أولا من الأقطار الشقيقة، ولست من الأقطار الشرقية!!
وفرغننا من هذه الديباجة إلى صلب الموضوع، وتحدثت إليه بما كان من أمر الندوة في دار الأهرام، والمقال الذي قرأناه في مجلة المكشوف.. قال، وهو يؤكد كلماته بحروفها، حرفا حرفا، تخرج من حلقه، ومن بين أسنانه، ومن شفتيه، وهو يلفظها بإشباع وتوكيد وتشديد: وماذا عسى أن يكون في المقال.. إنه الحق كل الحق..
قلت لست أجادلك إلا بما جاء بالقرآن "لم تلبسون الحق بالباطل.
قال: ولكن هذه الآية كانت خطابا لأهل الكتاب. وعليك أن تتلو الآية كلها "يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل".
قلت : ونحن أولى بها من أهل الكتاب ... ألم تكن هذه هي حجة القرآن على أهل الكتاب..
ومضيت بعدها أفند ما جاء في المقال.. مقطعا مقطعا، وهو يصغي إلى حينا ويجادلني حينا آخر. وقرأت عبارته عن أبى الهول والأهرام والآثار المصرية مؤكدا له اعتزازنا بهذه الحضارة العريقة وقلت متسائلا.؟
- ومن الذي دعا إلى هدم الأهرام وأبي الهول. من الذي دعا إلى التخلي عن تلك الآثار الرائعة، ومن الذي دعا إلى التخلي عن مصريتكم..(1/71)
وأن تسيروا وراء العرب والعروبة.. إنني أعرف مشاعر العرب في كل أقطار العرب، العرب لا يريدونكم أن تتخلوا عن مصريتكم، ولا أن تهدموا آثاركم، ولا أن تتبعوا العرب.. إنّ العرب يريدون أن تسيروا أمامهم، وهم يسيرون معكم ووراءكم لخير الأمة العربية جمعاء، ومصر في الطليعة، وهل لك أن تدلني على زعيم عربي واحد، أو مفكر عربي واحد، أو صحفي عربي واحد، دعاكم إلى التنكر لمصريتكم وحضارتكم؟؟!!
قال: وهو يتململ في مجلسه: هلا مضيت في حديثك.
قلت : وإني لا أزيدك علما.. إنّ أستاذنا يعلم أنّ الوحدة العربية كانت قائمة في التاريخ العربي. أحقابا طويلة من الزمن، وكانت "عواصم" هذه الوحدة في مكة. وفي دمشق. وفي بغداد. وفي القاهرة.. وبقي أهل الحجاز والشام والعراق ومصر، كل في أقطارهم وشؤونهم.. والوحدة العربية لم تهدم أبا الهول ولا الأهرام، وبقيت مصر هي مصر، وتوغلّتْ، بعد ذلك، في استعراض تاريخ مصر، وأنه كان على الدوام جزءاً من التاريخ العربي، منذ كان التاريخ إلى "يومنا هذا من عامنا هذا".
ورفع طه حسين كتفيه حتى أذنيه وقال : إنها دعوى جريئةوجريئة جدا أن تقول إنّ تاريخ مصر هو جزء من تاريخكم إلى "يومنا هذا من عامنا هذا".
قلت : أرجو عميدنا أن يترك قراءة الأدب حينا من الزمن، ويصرف بعض وقته في قراءة التاريخ . قراءة دراسة..
قال: (وفي كلامه بعض السخرية). وماذا تقول القراءة الدارسة يا أهل الشام؟
قلت: لقد كانت طيبة (مصر) عاصمة الشرق العربي خمسة عشر قرنا قبل الميلاد، وعلى مدى مئات السنين بعد ذلك كان تاريخ مصر هو تاريخ(1/72)
الشام، والعكس بالعكس، أما بعد الإسلام، فقد جاءت رابطة روحية جديدة تزيد وشائج القربى بين القاهرة ودمشق وبغداد وغيرها من حواضر الإسلام والعروبة.
قال: ما لنا ولهذا التاريخ القديم..
قلت : والتاريخ الحديث بين أيدينا، لقد كانت القاهرة عاصمة الأقطار العربية لمدة عشرين عاما (1821-1841) في عهد محمد علي باشا الكبير، فقد انهزم الجيش التركي أمام الجيش المصري حتى قونية، واعتبرت اتفاقية كوتاهية أن الحدود المصرية تصل حتى جبال طورس شمالا..
قال: (وكأنما وجد مخرجا) إنّ محمد علي باشا وأولاده ليسوا عربا..
قلت: إنّ عروبة الأهداف التي كانت وراء هذه الحملة تجدها في تاريخ بلدي عكا (فلسطين).
قال: وكيف ذلك..
قلت: حينما كان الجيش المصري محاصرا عكا سئل القائد، وكان غير عربي، أين سيقف الجيش المصري، فأجاب إنّه حيث تقف اللغة العربية.
واقتربت من أذن الدكتور طه حسين لأقول له مداعبا، وبصوت خافت: أنا مصري من بقايا الحملة المصرية على عكا، وبهذا أصبح المصري فلسطينيا عربيا، أرجو أن يصبح الفرعوني المصري عربيا، ونعيش جميعا في دولة الوحدة.
ولم يكن من الدكتور طه حسين إلا أن ألقى رأسه خلف كتفيه، في قهقهة عالية، متقطعة في مثل نبراته، وموزونة في مثل عباراته..
قال: ولنفرض جدلا.. .. أنني وافقتك على الوحدة العربية، فيكف تقوم الدولة، وكيف نختار حكامها..(1/73)
قلت: ليس هذا بالأمر العسير.. هذه تفصيلات.. يكفي أن أذكر لأستاذنا، أن رجال الحركة العربية القدامى في دمشق كان في برنامجهم أن يختاروا الأمير عبد القادر، المجاهد الجزائري المعروف، ملكا على ديار الشام.. وفي عهد محمد علي كان حاكم بيروت، محمود سامي وهو مصري، وفي العهد الفيصلي في أوائل العشرينات كان بين حكام الشام عراقي ولبناني وفلسطيني وحجازي.. وإنا لنطمع أن يكون الدكتور طه حسين وزير المعارف في الدولة العربية المتحدة..
قال: ولكنا يجب أن نفهم الوحدة العربية في نطاق التعاون، على نحو ما يفهمه العقل الحديث في الدول المتحضرة..
وقاطعته قائلا: إن البلاد المتحضرة الحديثة تفهم الوحدة، كما نريد الوحدة العربية، هذه بريطانيا العظمى إنها دولة اتحادية..وهذه الولايات المتحدة يدل عليها اسمها، وهذا الاتحاد السوفياتي يدل عليه اسمه.. ناهيك عن الدول الاتحادية الصغيرة مثل سويسرا وغيرها.. وكلها بلغت الذروة في الحضارة.. وإني أعرب عن الرجاء والأمل، مرة ثانية أن نراك قريبا وزيرا للمعارف العربية في دولة الوحدة العربية.
ووقفت لأودعه، فقد امتد الحديث قرابة ثلاث ساعات، وسار معي خطوتين وهو يقول: لقد كانت جلسة ممتعة حقا، وإني أرجو أن اراك مرة ثانية.
وأردت أن ينتهي حديثنا عند خاتمة مثيرة، كما لو كنت أتحدث في قضية مسلمة: على كل حال، صواب لا أحسب أننا على خلاف.. لست أنازع أن المصريين فراعنة، وليس لك أن تنازع أن الفراعنة عرب..(1/74)
وقف طه حسين عند هذا الكلام وقفة فارس يتربص بفريسته، وهو يقول : هذه دعوى عجيبة .. دعوى جريئة حقا..
قلت: ليست عجيبة وليست جريئة.. أرجو أن تطلب إلى سكرتيرك أن يقرأ لك كتاب المؤرخ الشهير جيمس بريستد، وسيحدثك أن سكان مصر القدماء جاءوا إليها من جزيرة العرب قبل ستة آلاف سنة، وأن الأسر الفرعونية الأولى من هؤلاء العرب..
قال: يبدو أنك جئتني بكامل أسلحتك .. كل شيء على أطراف أناملك.
قلت: لا يا سيدي.. هذا الموضوع، لي ولجيلي بأسره، هو قضيتنا الوحيدة، حفظناها منذ الصبا، وازددنا مع السنين بها علما ...
قال: وأنا أدعو الله، رب زدني علما.
وخرجت من دار الدكتور طه حسين إلى المنزل الذي أقيم فيه في مصر الجديدة، وأنا أدعو الله في نفسي أن يفتح عيني هذا الضرير العظيم على قضيتي العظيمة.. قضية الوحدة العربية..
وقضيت عاما آخر في القاهرة، وأنا أسعى مع الساعيين، في كسب المزيد من الأنصار للوحدة العربية، نكتب ونخطب، ونناقش ونجادل، والمفكرون في مصر قد أخذوا يكتشفون عروبتهم..
ولقد حمدت الله أن رجالا، كانوا أكبر مني عمرا وقدرا، قد قصدوا لهذا الموضوع وأوفوه حقه من الدعوة والدراسة، ففي ربيع 1939 أصدرت مجلة الهلال "العدد الذهبي عن والعرب والإسلام في العصر الحديث" ظهر فيها مقالان رائعان عن الوحدة العربية.(1/75)
كان المقال الأول بقلم مكرم عبيد عنوانه " المصريون عرب".. ومكرم في ذلك الوقت كانت له مكانة مرموقة في مصر والبلاد العربية، ويكفي أن يكون صاحب هذا العنوان، ناهيك عن المقال.
أما المقال الثاني فكان بقلم الزعيم السوري المعروف الدكتور عبد الرحمن شهبندر.. ذهب فيه مذهبا لا ندعو إليه في يومنا هذا، وقد مضى عليه ثلاثون عاما، فقد أعلن بعبارة صارخة:
"نحن إمبراطورية، شاء الإقليميون الضيقون منا أم أبوا.. وإذا قدر لنا أن نتبادل محصولنا ونزيل الحواجز بيننا فإن يوم الإمبراطورية العربية لا يكون بعيدا".
وليس للقومية العربية أن تنسى الأستاذ أحمد{حسن} الزيات، الأديب المصري الكبير، الذي ضرب الدعوة الشعوبية في مصر على أم رأسها، حين صاح صيحته المصرية ليقول :" انثروا ما ضمت القبور من رفات الفراعين، واستقطروا من الصخور الصلاب أخبار الهالكين، وغالبوا البلى على ما بقي في يديه من أكفان الماضي الرميم، ثم تحدثوا واطيلوا الحديث عن فخامة الآثار وعظمة النيل، وجمال الوادي، وحال الشعب، ولكن اذكروا دائما أن الروح التي تنفخونها في مومياء فرعون هي روح عمرو، وأن اللسان الذي تنشرون به مجد مصر هو لسان مضر، وأن القيثار الذي توقعون عليه ألحان النيل هو قيثار أمرئ القيس، وأن آثار العرب المعنوية هي أدعى للفخامة وأبقى على الدهر، وأجدى على الناس، من صفائح الذهب وجنادل الحجارة.."
واستمرت هذه الصيحات تتوالى وتتوالى إلى أن أعلنت الحرب العالمية الثانية-أيلول 39-وطغت أخبار الحرب، وطوت هذا الحوار المثير.. ولكن ليعود.. وليعود من الباب آخر، وهو باب الحرب نفسها.(1/76)
عدت إلى بلدي عكا في ربيع 1940، فقد أعلنت السلطة البريطانية العفو عن جميع المعتقلين والمبعدين والنازحين، وأنا أحسب أن قضية الوحدة ستطويها ظروف الحرب، فلقد أصبحت مخاوفنا تحوم حول وجودنا، قبل وحدتنا.. غير أن قضية الوحدة عادت لتطل برأسها ولكن رأسها هذه المرة في قبضة بريطانيا.
وحدث أن مضت الشهور "المجيدة" التي حقق فيها هتلر انتصاراته الكاسحة، وبدأ الفلك يدور دورته في صالح دول الحلفاء. فلقد قضت بريطانيا على ثورة رشيد عالي في العراق. واحتلت القوات البريطانية سوريا ولبنان بعد أن انتزعتهما من السلطة الإفرنسية (حكومة فيشي) وأصبحت بريطانيا صاحبة الشأن في البلاد العربية باستثناء السعودية واليمن.
وعلى الصعيد العالمي فقد حقق الحلفاء انتصارات بارزة في مختلف الجبهات.. ولكن.. ولكن الرأي العام العربي لم يكن مع الحلفاء، خلافا لتصريحات الحكام العرب الذين أعلنوا انضمامهم إلى الحلفاء.. كان الرأي العام العربي مع هتلر، والناس يدعون له بالنصر في المساجد والشوارع والبيوت، وكنت أنا من الذين يدعون له في البيوت.
وأرادت بريطانيا أن تجتذب إليها الرأي العام العربي فلم تجد إلا أن تداعب أحلى أحلامهم، وهل أحلى وأعز من الوحدة.
وفي ربيع 1941 دق جرس التلفون في منزلي بعكا، ليقول سكرتير الحاكم البريطاني:- "إنّ المستر ما كلفري سيكون عندك في البيت غدا في المساء".. ودهشت لهذه المفاجأة ولكنها كانت هكذا، أمر واقع.. وفي اليوم التالي جاءني الحاكم البريطاني المستر ماكلفري وتبادلنا السلام والتحية،
وقال : إني مسرور أن يكون تعارفنا في هذه المناسبة السعيدة.(1/77)
قلت: وما هذه المناسبة السعيدة.. نحن في أيام هذه الحرب الطاحنة، وما عسى أن تكون هذه المناسبة السعيدة.
قال: إنّ الحكومة البريطانية تريد أن تعاونكم على إقامة الوحدة العربية
قلت : وكيف..
قال: لقد أعلن وزير خارجيتنا المستر أيدن في مجلس العموم تأييدنا في مساعيكم نحو الهدف، ولا ينبغي أن نغفل الرد على هذا البيان التاريخي .
وأخرج من جيبه نص التصريح فأخذت أقرأ:-
" إنّ لبريطانيا تقاليد طويلة من الصداقة مع العرب، وهي صداقة قد أثبتتها الأعمال وليس الأقوال وحدها، ولنا بين العرب عدد لا يحصى ممن يرجون لنا الخير، كما أن لهم هنا أصدقاء كثيرين، وقد قلت منذ أيام في مجلس العموم إنّ حكومة جلالته تعطف كثيراً على أماني سوريا في الاستقلال. وأود أن أكرر ذلك الآن، ولكن سأذهب إلى أبعد من ذلك فأقول إنّ العالم العربي قد خطا خطوات عظيمة منذ التسوية التي تمت عقب الحرب الماضية، ويرجو كثير من مفكري العرب للشعوب العربية درجة من الوحدة أكبر مما تتمتع به الآن... وإنّ العرب ليتطلعون إلى نيل تأييدنا في مساعيهم نحو هذا الهدف، ولا ينبغي أن نغفل الرد على هذا الطلب من جانب أصدقائنا.. ويبدو أنه من الطبيعي ومن الحق وجوب تقوية الروابط الثقافية والاقتصادية بين البلاد العربية، وكذلك الروابط السياسية أيضا.. وحكومة جلالته سوق تبذل تأييدها لأي خطة تلقى موافقة عامة".
وما أن فرغت من قراءة البيان حتى بادرني الحاكم البريطاني بالسؤال:
- وما رأيك في بيان وزير خارجيتنا، إنّه بيان عظيم، أليس كذلك؟؟(1/78)
قلت: وما الذي أعجبك في هذا البيان؟
قال: أنا من أصدقاء العرب، وقد عملت في بلاد عربية كثيرة، وأعتقد أن هذا البيان سيخدم القضية العربية، وكل ما نرجوه أن ننتصر في هذه الحرب على دول المحور حتى تستطيع حكومتنا أن تنفذ هذا البيان.
قلت: وهل تريدون أن تنتصروا لتنفذوا هذا البيان؟؟
قال: طبعا، لا، ولكنه سيكون من أغراضنا الرئيسية، غير أني أرجو أن أسمع رأيك بصراحة، وأنا أعلم أنك لست صديقا لنا، ونريد أن نعرف رأي الجميع.
قلت: سأقول لك رأي الجميع، ولا أعتقد أن رأي أصدقائكم له أي قيمة في هذا الموضوع.. لأن الشعب في واد وأصدقاءكم في واد.
قال: وما هو رأي الشعب في نظرك..
قلت: لقد سمعنا هذا البيان بالإذاعة منذ بضعة أيام، ولم يحرك اهتمام الشعب، من قريب أو من بعيد.
قال: ولماذا؟ إن البيان يتحدث عن الوحدة العربية.. وهذا هو أعظم آمالكم..
قلت: نعم، الوحدة أعظم آمالنا.. ولكن الشعب لا يثق بهذا البيان.
قال: ولكن أريد أن أعرف السبب.. أنا مكلف رسميا أن أعرف رأي الشعب.
قلت: إنه مضيعة للوقت أن نتحدث بتفصيل عن العلاقات العربية معكم في الحرب العالمية الأولى، إن قصة الشريف حسين ومراسلاته مع مكماهون معروفة.. يكفي أن نتيجتها بالنسبة للوطن العربي كانت التجزئة والتقسيم، وبالنسبة إلى فلسطين كانت إنشاء الوطن القومي اليهودي. إن مراسلات(1/79)
حسين-مكماهون في الحرب الأولى أقوى من بيان وزيركم الآن، ونحن في الحرب الثانية.
قال: وهل إذا وضعنا صيغة أقوى يكون الأمر مقبولا..
قلت: إن الموضوع لا يتصل بالصيغة، إنها الثقة، وهذه مفقودة بين بريطانيا والشعوب العربية.
قال: وما الذي يعيد الثقة، أليس موقفنا من الوحدة العربية كافيا.
قلت: بعد الحرب العالمية الأولى عملتم على التجزئة، وبعد الحرب العالمية الثانية تريدون أن تعملوا للوحدة!! ولكن وحدة تقيمونها كما تشاءون..
قال: ولكن ما هو الدليل الذي تريدونه لإثبات حسن نيتنا..
قلت: أن توافقوا على استقلال فلسطين وإقامة حكومة فلسطينية، وستكون حكومتنا مع الحكومات العربية الأخرى- مصر والعراق والسعودية واليمن وإمارة شرق الأردن - على استعداد لإعلان الحرب على دول المحور والانضمام إلى صف الحلفاء، تماما كما فعل الشريف حسين في الحرب العالمية الأولى..
قال: ولكن اليهود يرفضون.
قلت: إذن تحالفوا مع اليهود.. ونحن لا حلف بيننا وبينكم.
قال: والوحدة العربية؟
قلت : اتركوا الوحدة العربية وشأنها.. ونحن كفيلون بإنشائها وحدنا..
وطال الحوار بيننا على هذا المنوال، وخرج الحاكم البريطاني من منزلي وهو يقول: إن أصدقاءنا في مصر والعراق والأردن والبلاد العربية الأخرى يتجاوبون معنا، وسنتعاون معهم على إنشاء الوحدة العربية.
قلت: المستقبل وحده هو الذي سيكشف كل شيء..(1/80)
... وتواترت الأخبار بعد ذلك عن لقاءات واجتماعات تمت بين حكام العرب آنذاك وسفراء بريطانيا العظمى في العواصم العربية بصدد موضوع الوحدة العربية، ووثب الأمير عبد الله من عمان في حملة كبرى معززة بالخطب، والرسل، والاجتماعات، والأموال، للدعوة لمشروع سوريا الكبرى.. ونشط نوري السعيد رئيس وزراء العراق في الطواف على البلاد العربية.. يتصل بزعمائها داعيا إلى مشروع آخر، الهلال الخصيب.
ولم يغفل نوري السعيد عن زيارة فلسطين، فهو يعلم أثر القضية الفلسطينية، في أي مشروع عربي.. وجاء إلى حيفا في ربيع 1942 ونزل في المصح الألماني في جبل الكرمل، مدعيا أنه جاء إلى فلسطين للاستجمام.. وهكذا أذاعت وكالات الأنباء.. وهكذا قالت الصحف!!
وكان أن أقيمت له حفلة شاي في بيت إبراهيم صهيون من أعيان حيفا، جمعت نخبة من الشباب والمثقفين وأصحاب الرأي.. وانقلبت الحفلة إلى ندوة خطابية، وامتدح بعض المتكلمين "جهاد" نوري السعيد في الحرب العالمية الأولى في ثورة الشريف حسين.. وجعلت كلمتي في ختام الحفل حتى تجب ما قبلها..
وألقيت خطابا مسهبا استعرضت فيه وعود بريطانيا للشريف حسين، وتصريحات الحلفاء في الحرب العالمية الأولى وبعدها، والمظالم التي أنزلتها بريطانيا في البلاد العربية عامة وفلسطين خاصة، وأنهيت كلامي وأنا أقول "نرحب بالجنرال"، نوري باشا، ونحن نريده أن يعمل على تسليحنا فإن اليهود ماضون في التسليح.. نريده أن يحصن ثغورنا فإنها ثغور العراق على البحر الأبيض المتوسط.. نريده.. نريده..".(1/81)
وانقلب الأمر من حفلة شاي إلى حفلة وطنية، ولم يرد نوري باشا بشيء، وبقي معتصما بالصمت على شيء من الابتسام... والتفت إلى المحامي صبحي الخضراء (صفد) وهو من الضباط الأحرار الذين التحقوا بثورة الشريف حسين وقال: يا صبحي.. أنتظرك في المصح مع الشقيري غدا..
وحملتنا السيارة في اليوم الثاني، على ذلك ا لطريق الفريد، الصاعد إلى جبل الكرمل، وخليج عكا على ميمنتنا والحدائق على ميسرتنا، ووجدنا "فخامة" الباشا في انتظارنا في الصالة.. ولم يكن في الفندق إلا رجال المباحث البريطانيين، فإن سيماهم لا تخطئ.. وأنا أعرفهم من شعرهم المهفهف، والجاكتة المخصرة، والبنطلون المشدود!!
وأخرج الباشا من محفظته ملفين، واحد لي وواحد لرفيقي..
وقال: يا صبحي.. هذا الشقيري ما "يفتهم".. السياسة شيء .. والحماسة شيء آخر..
وكان الملف يحتوي مشروعه الذي عرف فيما بعد " بالكتاب الأزرق" وقد قدمه إلى وزير الدولة البريطانية في القاهرة في عام 1942 وهو يدعو إلى إنشاء سوريا الكبرى، على أن تدخل في اتخاد فدرالي مع العراق..
قال: إذا استطعنا أن نقنع بريطانيا بمساعدتنا فنكون قد حققنا حلمنا الذي حاربنا من أجله يا صبحي، أليس كذلك..؟؟
قال: لقد اتصلنا بهم.. هؤلاء بدو لا يصلحون لشيء..
قلت: مصر؟
قال: لقد اتصلت بهم أيضا هؤلاء فراعنة.. لا ينفعون لشيء.(1/82)
قلت: لو فرّ هؤلاء الفراعنة من العروبة لوجب علينا أن نمسك بتلابيبهم حتى نعيدهم إليها..
قال: ولكن مصر تحت الاحتلال البريطاني، ولا تملك زمام أمرها.
قلت: ومن من العرب ليس تحت الاحتلال أو النفوذ البريطاني..!!
... ومال نوري باشا إلى صبحي الخضراء وقال له : يظهر أن صديقك لا يعرف المصريين جيدا..
فأجاب صبحي الخضراء قائلا: والله يا باشا.. المصريون مثلنا، فيهم ما فينا من الخير، فيهم ما فينا من الشر، ونحن وإياهم سواء.
وانتهى الحوار، وخرجنا من الصالة، ونوري باشا، يطقطق بالمسبحة بين يديه، وهو يردد قول الشاعر:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا
ويأتيك بالأخبار من لم تزود.
أنشد نوري باشا هذا البيت، وهو ينصب المبتدأ ويكسر الخبر.. وقلت له: نعم ستبدي لك الأيام.. وسنرى ما ستبدي لك الأيام!!
وخرجنا من الحديقة، ورجال المباحث البريطانية يسيرون معنا حتى السيارة.. وأنا أقول لهم بالإنجليزية: لسنا بحاجة إليكم.. اذهبوا إلى فخامته.. إنه في حاجة إليكم..
...(1/83)
أيام مع: مصطفى النحاس..نوري السعيد،توفيق
أبو الهدى، سعد الله الجابري، والشيخ يوسف
كانت بريطانيا تخوض غمار الحرب العالمية الثانية (1939-1945) بكل سلاح.. وقد بذلت جهودا ضخمة لتجعل الوحدة العربية واحدا من هذه الأسلحة..
وقد بلغ من اهتمامها بالشؤون العربية في ذلك الوقت، أن عينت "وزير دولة" لشؤون الشرق الأوسط، وجعلت مقره القاهرة، وقد تعاقب على هذا المنصب.. "كيسي".. "موين".. والثاني هو الذي اغتاله الإرهابيون اليهود، في وضح النهار، وفي أبرز شوارع القاهرة..
وكان في البلاد العربية نخبة من السفراء البريطانيين العارفين بالبلاد العربية، ليعاونوا وزير الدولة البريطانية.. والجماهير العربية تعرفهم بأسمائهم لما أبدوا من نشاطات وتحركات.. وكان منهم:- كلايتون وسمارت في القاهرة، كورناليس في بغداد.. والجنرال سيبرز في بيروت ودمشق.. أما في عمان فيكفي وجود كلوب باشا، قائد الجيش الأردني وصاحب الدور البارز في كارثة فلسطين سنة 1948، والحاكم الفعلي للمملكة الأردنية الهاشمية، لسنوات وسنوات!!
وكان شعور الرأي العام يتصاعد كل يوم تعاطفا مع دول المحور، ألمانيا وإيطاليا، ويتزايد نقمة على الحلفاء.. وكل ما أفلح فيه هؤلاء السفراء(1/84)
الفرسان أن "سحبوا" إلى صفوف الحلفاء بعض الحكام العرب، يعربون عن تعاونهم وصداقتهم، ولكن بأَلْسِنة متلعثمة!!
ولم يفلح كذلك تصريح المستر إيدن وزير الخارجية البريطانية (مايو 1941) في تأييد الوحدة العربية، فقد تهاوى كلامه أمام تصريحات المراغي شيخ الأزهر حين أعلن "أننا لا ناقة لنا ولا جمل في هذه الحرب" . فكان المثل الرائع للعالم الذي يقف في وجه السلطة والسلطان..
ولما لم توافق القاهرة وبغداد على إعلان الحرب إلى جانب الحلفاء، لجأت بريطانيا العظمى إلى قوة السلاح فقضت على ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق (1941) وخلعت وزارة علي ماهر سنة (1942) وجاءت حكومة الوفد برئاسة النحاس باشا.
وقدرت الحكومة البريطانية أن الظروف أصبحت مواتية الأمير عبدالله وجد مقاوبة عنيدة في سوريا وكذلك فإن لتعاود البحث في الوحدة العربية بصورة شاملة، فإن مشروع سوريا الكبرى الذي دعا إليه مشروع نوري السعيد "الهلال الخصيب".. فقد ظفر، بمعارضة عارمة في البلاد العربية كلها.. ولهذا عاد المستر أيدن، فأدلى (شباط 1942) بتصريح قال فيه :-
إنّ الحكومة البريطانية تنظر بعين العطف إلى كل حركة بين العرب لتعزيز الوحدة الاقتصادية والثقافية أو السياسية بينهم، ولكن من الجلي أن الخطوة الأولى لتحقيق أي مشروع يجب أن تأتي من جانب العرب أنفسهم.. والذي أعرفه أنه لم يوضع حتى الآن مثل هذا المشروع الذي سينال استحسانا عاما".(1/85)
سمعت هذا التصريح بنصه الإنجليزي من إذاعة الشرق الأدنى وكان مركزها في "قبرص" وأحسست في قرارة نفسي بأن هذه هي دعوة مفتوحة للحكام العرب بأن يشرعوا في العمل.. للوحدة العربية!!
وقد جاء ظني في محله، فلم تمض ثلاثة أسابيع على تصريح وزير الخارجية البريطانية حتى ألقى النحاس باشا في مجلس الشيوخ المصري (آذار سنة 1943) بيانا قال فيه..
"منذ أعلن مستر أيدن تصريحه رأيت أن الطريقة المثلى هي أن تتناول هذا الموضوع الحكومات العربية.. وعلينا أن نبدأ باستطلاع آراء الحكومات على حدتها، ثم نبذل الجهود للتوفيق فيما بينها، ثم ندعوهم بعد ذلك إلى مصر معا في اجتماع ودي حتى يبدأ السعي للوحدة العربية بجبهة متحدة بالفعل.. فإذا تم التفاهم وجب أن يعقد في مصر مؤتمر لإكمال بحث الموضوع واتخاذ ما يراه من القرارات محققا للأغراض التي تنشدها الأمة العربية".
ونقلت وكالات الأنباء أن النحاس باشا قد وجه الدعوة إلى الحكومات العربية للتباحث معها، على حدة، وانطلق عنوان كبير، كنار في الهشيم، في جميع أرجاء الوطن العربي، وكان هذا العنوان: مشاورات الوحدة العربية. وشاء القدر أن تكون لي، منذ ذلك الوقت، ذكريات ومذكرات عن الوحدة العربية بعضها شقي، وبعضها سعيد..و أنا في حيرة ، ما هي صفوة الحساب!!
في تموز من عام 1943، كنت أصطاف في فندق بلودان الكبير، في ضاحية دمشق وأراد القدر أن أغادر تلك الروابي الشامخة، الفريدة بجفافها لأنغمر في رطوبة الإسكندرية قرابة ثلاثة أشهر بأيامها ولياليها.. فلقد(1/86)
استدعاني إلى دمشق السيد شكري القوتلي، رئيس الجمهورية السورية، وكانت لي به معرفة وطيدة في زياراته المتعددة لفلسطين، وإذا به يفاجئني قائلا:
- النحاس باشا وجه دعوة للحكومات العربية للتشاور بشأن الوحدة العربية، وقد رأيت مع الإخوان أن نوفدك إلى الإسكندرية لتكون قريبا من هذه المباحثات، وتبعث إلينا بتقاريرك من حين إلى حين.
قلت: يا "أبو حسان" .. وماذا نرجو من هذه "الوحدة" العربية البريطانية.
قال: إذا كنا لا نستطيع أن نجعلها خيرا، فلنبذل جهدنا أن لا تكون شرا.. أنت تعلم أن الأمير عبد الله يعمل لتحقيق سوريا الكبرى .. ونوري السعيد يعمل لإنشاء الهلال الخصيب.. ويكفينا ما أصابنا من الطرفين في الماضي، فلنعمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه للحاضر والمستقبل..
قلت : ولكن..
قال: لا أريد أن أسمع ولكن.. يجب أن نبادر إلى العمل قبل أن يفوتنا القطار..!!
وفي اليوم التالي سافرت إلى حيفا ومنها بالقطار إلى القاهرة، وأنا أحمل كتابا من السيد شكري القوتلي رئيس الجمهورية السورية إلى " صاحب المقام الرفيع مصطفى النحاس باشا رئيس مجلس وزراء وزير خارجية المملكة المصرية،" باعتمادي مبعوثا خاصا، يتابع تفاصيل مشاورات الوحدة العربية مع الحكومات العربية الشقيقة، إلى أن يصل الوفد الرسمي للحكومات السورية.(1/87)
ولم تكن ليالي القاهرة كالعهد بها، فقد كانت الحرارة على أشدها ولم أجد فندق سميراميس على النيل مجالا للنوم، فأسرعت بالفرار إلى الإسكندرية، وقضيت ليلتي في فندق سان استفانو أنعم بأنسامها الناعمة.. مثقلة بالرطوبة.. ولكنها أرحم من القاهرة على كل حال.
واستقبلني "رفعة الرئيس" في جناحه في فندق استفانو في اليوم الثاني لوصولي، هاشا باشا على طريقته المعروفة.. سلمته الرسالة.. يا أهلا وسهلا.. يا مرحبا.. وأنت على الرحب والسعة، أنت تتصل بالخارجية بصلاح الدين (سكرتير عام مجلس الوزراء) وهو يبلغك كل شيء .. ويقدم لك جميع المحاضر والمذكرات.. يا مرحبا..
وخرج "الرئيس الجليل" وشباب الوفد ينتظرون في الردهات، هذا يهتف بحياته، وذاك يقبل يده- والمرافق يرش "الكولونيا" على يدي رفعة الرئيس..
وهكذا بدأت مهمتي الجديدة.. مبعوثا خاصا لمتابعة مشاورات الوحدة العربية.
وكان نوري السعيد أول الوافدين على مصر، ومعه بدأت مشاورات الوحدة العربية في قصر أنطونيادس بالإسكندرية، واستغرقت أسبوعين كاملين في أربع جلسات طويلة.. مع ما صاحبها من مذكرات مكتوبة ومحادثات شفوية..
ومنذ بداية المباحثات بدت فروق واضحة بارزة بين الوفدين المصري والعراقي، فقد كان النحاس باشا ورفاقه من رجال القانون والسياسة، معهم خبراؤهم في الصياغة ومختلف الشؤون الدولية، وبين أيديهم دراسات عن أشكال الوحدة في العالم.. على حين كان فخامة رئيس وزراء العراق وحيدا إلا من مسدس تحت جاكته، وملف يحتوي مذكرة أو مذكرتين، يضاف إلى(1/88)
ذلك أن نوري السعيد لا يحسن الكلام، وقد وقع بين فرسان الكلام من رجالات مصر.
وكنت أتردد بين قصر أنطونيادس ومكاتب الخارجية خلال تلك المدة، لاجتمع مع "صاحب العزة محمد صلاح الدين بك" (الدكتور محمد صلاح الدين باشا وزير الخارجية فيما بعد) وأقف على مراحل التشاورات، واحدة بعد الأخرى.. وأبعث بالمحاضر إلى دمشق.
وكان نوري السعيد بدوره يتردد على السفير البريطاني "كليرن" واللورد "موين" وزير الدولة البريطانية لشؤون الشرق الأوسط في القاهرة، فقد كان نوري السعيد باعترافه في أحاديثه الخاصة وتصريحاته الصحفية من أصدقاء بريطانيا في العالم العربي، وها قد جاءت بريطانيا لتبني الوحدة العربية، فلم لا يسير مع القافلة..
وكان نوري السعيد في صراع مع نفسه.. هو يريد تحقيق مشروع الهلال الخصيب، والإنجليز يريدون " تنظيما" يشمل كل البلاد العربية، وليكن اسمه الوحدة العربية.
وكذلك كان الأمير (الملك) عبد الله، يريد سوريا الكبرى ليكون ملكا عليها، والإنجليز يريدون أن يترابطوا مع الدول العربية جميعها، فلا يفلت أحد منها خارج الحظيرة..
وكان الوفد المصري من جانبه حديث عهد بالقضية العربية، فقد ابتدأ النحاس باشا مشاوراته مع نوري باشا بالبحث عن " مشروع" لأبحاث الوحدة العربية" على حد تعبيره، وهل تكون "حكومة مركزية إلى جانب الحكومات الإقليمية لكل أمه من الأمم العربية"، وكيف يمكن تكوين "اتحاد بين الأمم العربية".(1/89)
كنت أقرأ هذه العبارات في محاضر المشاورات، وأنا في غرفة نومي، فيستبد بي الأرق حتى الفجر، وأنا لا أستطيع أن أهضم هذا الكلام عن الأمم العربية، وتساءلت في نفسي: كم عدد هذه الأمم العربية، فقد عرفناها أمة واحدة، فما معنى الكلام عن الأمم العربية؟
ومن البداية سقط مشروع إيجاد حكومة مركزية، كما تسقط حبة واحدة في مسبحة " الكهرمان" التي لا تفارق يدي نوري السعيد، ذلك أن البحث وراء حكومة مركزية، كما قال نوري _ باشا هو "مضيعة للوقت" وهو الذي قضى من وقته ثلاثة أعوام طوال يعمل لإنشاء حكومة مركزية في نطاق الهلال الخصيب!!
وعلى هذا فقد استبعدت "الوحدة العربية" من مشاورات الوحدة العربية، من أول الطريق.. وكان هذا هو رأي النحاس باشا، ولكنه أرادها أن تخرج من فم نوري-وهذا هو الأسلوب العربي، الذي يعيش إلى يومنا هذا.
وفي الجلسة الختامية قدم نوري السعيد رسما بيانا لما يمكن أن تكون عليه الوحدة العربية، على صورتين: الأولى، مجلس اتحاد تنفيذي يكون له رئيس، وهيأة تنفيذية تكون لها سلطة تنفيذية تلتزم بها دول الاتحاد حتى لو كانت مخالفة لرأيها، والثانية، مجلس اتحادي تكون قراراته غير ملزمة إلا لمن يقبلها.
وكان نوري باشا حريصا أن لا يلتزم بأي من هاتين الصورتين تاركا الثناء "لرفعة الرئيس أن يستطلع آراء بقية الدولة العربية".. وأضاف نوري باشا بأن العراق "يوافق على ما توافق عليه دول العربية" فكانت هذه صيغة أخرى من الكلام العربي الذي يعيش معنا إلى اليوم..(1/90)
يضاف إلى هذا أن نوري باشا قد انحلت عقدة لسانه.. وهو يغدق الثناء على رفعة النحاس باشا فقد أراد أن يشبع في النحاس باشا شهوة "الزعامة المقدسة للزعيم الأوحد" حتى يتحرك في إطار للوحدة العربية، على أن تدخل في النهاية دولة الهلال الخصيب.. مؤلفة من العراق وسوريا وشرق الأردن ولبنان وفلسطين، وحتى يتحقق المفهوم البريطاني الهاشمي للوحدة العربية..
وفي الجلسة الختامية التي تمت بين الرئيسين سأل رفعته فخامته..
-وما هي وجوه التعاون التي يصح أن تشترك فيها "الأمم العربية".
قال نوري باشا: التعاون يتناول الشؤون السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية ، ويتناول كذلك حماية الأقليات!!.
وسأل النحاس باشا مندهشا: يعني "إيه" حماية الأقليات..
فأجاب نوري باشا: سيكون عندنا في دولة الهلال الخصيب اليهود في فلسطين، والموارنة في لبنان والأشوريين والأكراد في العراق!!
وانتهت مباحثات الوحدة العربية بين النحاس باشا وهو يتحدث عن "الأمم المتحدة" ونوري باشا وهو يتحدث هم الأقليات العربية وغير العربية.. وكأنما بعث الشاعر العربي من مرقده ليقول: شتان بين مشرق ومغرب..
وأقام النحاس باشا حفلة شاي كبرى لنوري السعيد قبل عودته إلى بغداد.. وقد حضرها عدد كبير من المشتغلين بالقضية العربية وبدأت كأنها مهرجان قومي.. ودخل النحاس باشا ونوري باشا طافحين بالبشر والسرور.. وسلمت مع المسلمين.. أمسكني نوري السعيد بذراعي إلى زاوية في القاعة، وهمس في أذني:(1/91)
- يا أحمد .. هذه الوحدة العربية "لقلقيات"، أخبر الرئيس القوتلي أن المصريين لا يريدون وحدة عربية.. إنهم يريدون أن يتزعموا على العرب.. ما فيه فايدة من هذه المشاورات.. أحسن طريقة أن تتفاهم العراق وسوريا .. و... و....
قلت : يا باشا.. العراق ملكية، وسوريا جمهورية.. العراق مرتبط بمعاهدة مع بريطانيا، وسوريا غير مرتبطة بأي معاهدة..
ومر النحاس باشا بجانبنا فقال :
ماذا يتحدث الباشا مع المبعوث السوري..
فقال نوري باشا متلعثما: نحن نبحث إمكانية قيام الحكومة المركزية!!
قلت: أنا من أنصار فكرة الحكومة المركزية.
قال النحاس باشا: ولكن نوري باشا غير مرافق..
وارتبك نوري باشا فقد توسعت حلقة الحاضرين.. وانتقل الحديث، كالعادة إلى الجو، والى صيف الإسكندرية وهوائها العليل..
ومن الحفل سافر نوري السعيد إلى بغداد يحمل تحت إبطه محاضر مشاورات الوحدة العربية، مربوطا بخيط رفيع مع ملف "الهلال الخصيب" ليجعله الهلال الجديب !!
وجاء دور إمارة شرق الأردن، فقدم إلى الإسكندرية توفيق أبو الهدى باشا رئيس وزرائها.. وكان مثله نوري باشا، فقد جاء الرئيس الأردني وحده يرافقه سليمان سكر، "مساعد مدير عام الجمارك بحكومة الأردن" كسكرتير خاص لدولة توفيق أبو الهدى باشا، وهكذا وصفته المحاضر الرسمية!!(1/92)
أما وفد مصر فكان فيه بالإضافة إلى النحاس باشا، أحمد نجيب الهلالي باشا، وزير المعارف، العالم السياسي الأديب، ومعه محمد صلاح الدين سكرتير عام جلس الوزراء..
ولم يكن توفيق أبو الهدى غريبا عني، فهو من بلدي من عائلة معروفة في عكا، وقريبي عن طريق زوجتي، وقد فرضت علي هذه الرابطة الاجتماعية أن أكون في استقباله في محطة سيدي جابر يوم وصوله إلى الإسكندرية، وأن "نتعازم" على العشاء في فندق سان أستفانو ، وقد عرفت ما في جعبته من خلال أحاديثنا الخاصة، أكثر مما عرفت من المحاضر السرية الخاصة، في السطور أو بين السطور!!
وقد استغرقت المشاورات بين النحاس باشا وأبو الهدى باشا، جلستين طويلتين وجلسة ثالثة شكلية، ولم تزد كلها عن أربعة أيام.. فقد كان كل شيء حاضرا في ذهن توفيق أبو الهدى، يعرض آراءه ويمضي في متابعتها بالبحث والمناقشة إلى النهاية.. على حين كان نوري السعيد على مدى خمسة عشر يوما، يغير ويبدل، ويتعرج ويتراجع، كما رأى النحاس باشا غير مستريح إلى مشروع الهلال الخصيب..
وفي الجلسة الأولى، وفي قصر أنطونيادس، بدأ الحديث عن الوحدة العربية بين الوفدين المصري والأردني، وراح النحاس باشا بشرح حرصه على جميع كلمة العرب " وأنّي معنى من قديم بأحوال الأمة العربية والمعاونة على تحقيق آمالها في الحرية والاستقلال، سواء في ذلك أكنت في الحكم أم خارج الحكم"، وقد كرر هذا المعنى غير مرة مؤكدا عبارة "من قديم".. ذلك أن بعض الصحف المصرية كانت في ذلك الوقت تصف الوحدة العربية بأنها "وحدة أيدن".. وأن النحاس يسير في فلك السياسة البريطانية.(1/93)
وبعد أن لخص النحاس باشا "وجوه التعاون" التي استعرضها مع نوري السعيد، الاقتصادية والثقافية والاجتماعية و السياسية، وجه السؤال إلى توفيق باشا:- وهل تريد حكومة شرق الأردن الاشتراك في هده الوجوه، كلها أو بعضها؟
وقال توفيق باشا: إنّ مصر دولة مستقلة، والعراق دولة مستقلة، ومن السهل أن يتفقا على التعاون فيما بينهما، وكذلك الحال بالنسبة إلى السعودية إذا شاءت.. ولكن الأمر يختلف بالنسبة إلى "الأقطار الأربعة" التي تتألف منها سوريا الكبرى: سوريان شرق الأردن، فلسطين، لبنان.
... وبدا تماما للوهلة الأولى، أن توفيق باشا يعرض على النحاس باشا موضوع الوحدة السورية، قبل أن يبدي رأيه في الوحدة العربية.
... فقال النحاس باشا: أريد أن أعرف رأي دولتكم في هذا الموضوع وبالتفصيل.. فقد خاضت فيه الصحف كثيرا، كما قرأت تصريحات صاحب السمو الأمير عبد الله بصدده..
... فأخذ توفيق أبو الهدى يسرد على النحاس باشا، تاريخ "الأقطار الأربعة" في عهد الدولة العثمانية، ثم ما جرى بشأنها بعد نظام الانتدابات، وخلص من ذلك إلى
القول إنّ "الأقطار الأربعة لم تظفر بعد باستقلالها فإنها ترمي الاتحاد فيما بينها.. وبعد ذلك تدخل هذه المجموعة في الاتحاد العربي الذي يتألف من مصر والعراق واليمن والسعودية".
... وفي كلمة موجزة فإن توفيق أبو الهدى كان يحاول أن يقنع النحاس باشا بإقامة اتحاد عربي خماسي تدخل فيه مصر والعراق وسوريا الكبرى والسعودية واليمن، على حين كان نوري باشا يدعو إلى اتحاد رباعي، جاعلا(1/94)
سوريا الكبرى جزءاً من دولة الهلال الخصيب ومعها مصر والسعودية واليمن..
... واستطرد توفيق باشا قائلا: وإني لأرجو رفعة الرئيس "بما له من نفوذ شخصي بصفته صاحب الزعامتين في المملكة المصرية، على أن ننال نحن الأقطار الأربعة ما نصبو إليه.. فإن هذه الأقطار إذا بقيت مجزأة فلا يمكن أن تشترك في كل وجوه التعاون التي بحثتموها مع نوري باشا".
... وكان على النحاس باشا أن يفهم من هذا الكلام أن أمير شرق الأردن يريد الوحدة السورية أولا، والوحدة العربية ثانيا..
... وفي مزيد من الإيضاح أضاف توفيق باشا حجتين لتأييد موقفه: الأولى عربية، والثانية بريطانية..
... الحجة العربية الأولى أن "الفلسطيني يرغب في الوحدة ليتخلص من الخطر اليهودي، والسوري لتتسع مملكته، والأردني حتى لا يبقى بلده معدما فقيرا.. واللبناني لتكون له منافع كثيرة إذا اختار الاتحاد"..
... وقد فات توفيق باشا في رأس هذه الأسانيد أن صاحب السمو الأمير عبد الله أمير شرقي الأردن يريد أن يكون صاحب الجلالة "ملك المملكة الهاشمية السورية" !!
... أما الحجة البريطانية الثانية، فقد بسطها توفيق باشا بصراحة حين قال: "على أثر تصريح المستر ايدن جاءنا المستر كلنتون وزير الدولة البريطاني.. فأفضيت إليه بآمالنا في أن تساعدنا بريطانيا العظمى في موضوع الوحدة السورية.. وقد جاءنا الجواب بأن الحكومة البريطانية تنظر بعين العطف، إلى الوحدة وستعمل على مؤازرتها بعد انتهاء الحرب..".(1/95)
... وفي مبالغة بالغة في إقناع النحاس باشا بهاتين الحجتين قال توفيق باشا: "نحن جميعا نركن في تحقيق الوحدة السورية إلى رفعة النحاس باشا بصفته زعيم الأمم العربية.. وهذا هو رأي سمو الأمير وحكومته وشعبه".
... وتهلل وجه النحاس باشا لهذا الثناء الرفيع، لصاحب المقام الرفيع، وسأل: كيف ترون تحقيق الوحدة أو الاتحاد بين الأقطار الأربعة.. ؟؟
... أجاب توفيق باشا: إذا اقتصر الحال على شرق الأردن وسوريا لسهل أمر الوحدة، لأن الاختلاف على نظام الحكم لا يكون سببا لترك الوحدة.. وأعتقد أن السوريين لا يتأخرون عن تغيير نظام الحكم من أجل الوحدة فإنهم لا يضحون بالوحدة بسبب نظام الحكم.. ولكن الصعوبة تأتي في موضوع لبنان وفلسطين..
... وسأل النحاس باشا: وما رأيكم أنتم في نظام الحكم؟
... قال توفيق باشا: أرى أن يكون النظام ملكيا.. !!
... وقال النحاس باشا: ولكن النظام في سوريا جمهوري.
... فأجاب توفيق باشا: أنا أعلم أن الكثيرين من السوريين ميالون إلى النظام الملكي.
... واستغرق توفيق باشا في حديث طويل عن الوفود السورية التي تؤم عمان من حين لحين لتعلن مبايعتها للأمير عبد الله، و.. و..
... وهنا رفعت الجلسة، فقد كانت طويلة، ولم يستوعب النحاس باشا التفاصيل الجزئية للمشاكل السورية، وصدر البلاغ المشترك عن مباحثات تلك الليلة، مشيرا إلى "جو المودة الصادقة والرغبة المتبادلة في الوصول إلى جمع كلمة الأمم العربية وتحقيق التعاون فيما بينها"..
وتناولنا العشاء سوية تلك الليلة، توفيق باشا وأنا، وقلت له من غير مقدمة:(1/96)
... -وهل اقتنع النحاس باشا بوجهة نظركم في سوريا الكبرى؟
... قال: وهل أخبرك صلاح الدين بك؟
... قلت: لا داعي لأن يخبرني أحد بما جرى.. إن رسائل الأمير عبد الله إلى الشعب السوري ومنشوراته تعلق على جدران المساجد في دمشق.
... قال: وهل أنت مخالف للوحدة السورية؟
... قلت: إذا انتهت المعاهدة البريطانية مع شرق الأردن، فأنا مع الوحدة السورية، ويستفتى الشعب في نظام الحكم.. إن سوريا هي الدولة العربية الوحيدة من غير ارتباط مع الأجنبي.. فلماذا نكبلها بالمعاهدة البريطانية وقد خلصت من الحكم الافرنسي بالأمس..
وما هي إلا لحظة وعبر النحاس باشا في موكب فخيم إلى جناحه الخاص في الفندق فنهضنا مع الناهضين لتحيته فقال: أرى دولة الرئيس مع المبعوث السوري..
... قلت: الرئيس أبو الهدى وأنا من بلدة واحدة.. وكلانا من سوريا الجنوبية، نحن من مدينة عكا..
... قال: وهل أنت موافق على سوريا الكبرى؟
... قلت: موافق يا رفعة الرئيس – سوريا للشعب، والشعب لسوريا.
... ولم يعلق رفعة الرئيس فقد كانت كل جوارحه مع المسلمين والهاتفين، والمتزاحمين على تقبيل يديه..
... وانعقدت الجلسة الثانية، بعد يومين، ليستوعب رفعة الرئيس موضوع سوريا الكبرى الذي اقتحمه شرق الأردن على مباحثات الوحدة العربية..
... وفي بداية الجلسة الثانية، طرح النحاس باشا السؤال: أريد أن أتعرف رأي توفيق باشا في طريقة تكوين الوحدة السورية؟(1/97)
... وألقى النحاس باشا كتفيه على كرسي الرئاسة الفخم، فقد دخل شهر رمضان، وحلا لرفعة الرئيس بعد وجبة الإفطار أن يستمع.. ومضى توفيق باشا يقول: لقد فكرت مليا في موضوع إعادة تأليف سوريا الكبرى فوجدت أن أحسن ترتيب عملي، إذا أمكن، هو تكوين وحدة من الأقطار الأربعة، فإذا اعترضت سبيل ذلك قضية فلسطين أمكن إعطاء اليهود في فلسطين استقلالا إداريا.. وإذا قامت موانع دون الوحدة الشاملة أمكن تحقيق الوحدة بين سورية الصغيرة وشرق الأردن، ثم يكون اتحاد بينهما وبين فلسطين ولبنان.. أما عن نوع الاتحاد فلا أرى منه فائدة علمية إلا إذا كان على طراز الولايات المتحدة أو على طراز الاتحاد السويسري!!
... وأفاض توفيق باشا في شرح مصاعب السوريين مع فرنسا المنكسرة، ومع فرنسا الحرة، والمساعي التي بذلها أمير شرق الأردن لدعم استقلال سوريا تمهيدا لإنشاء سوريا الكبرى، وكشف عن مراسلاته واتصالاته بالحكومة البريطانية "بصفته مسؤولا وصديقا لبريطانيا".
... كان النحاس باشا يصغي إلى هذا الحديث وكأنه في سهرة رمضان، ولكنه اعتدل في مجلسه "وخرج" من راحته، وسحب تمدده في كرسيه، حين راح توفيق باشا يقول: وقد اقتنعت لندن بعد مخابراتنا بأن لا بأس من أن يعمل شرق الأردن للاتحاد مع سوريا.. وقد قبل الإنجليز أن نبحث ونفكر في إعداد مشروعات تكون جاهزة عندما تنتهي الحرب، أو عندما تسنح فرصة قبل نهايتها، وعلى هذا الأساس أعددنا بعض المشروعات..
... وكان الهلالي باشا يجلس خلف النحاس باشا، فدفع إليه ورقة تأملها النحاس باشا وأخذ يقرأ منها "يمكننا، إذن أن نلخص موقف شرق الأردن بأنه يدعو إلى قيام وحدة من الأقطار الأربعة، والتغلب على العقبة التي قد تنشأ(1/98)
بسبب اليهود في فلسطين بإعطائهم استقلالا إداريا، فإذا لم تتيسر الوحدة الشاملة فيمكن تأليف وحدة من سوريا الصغيرة وشرق الأردن ثم يكون اتحاد منهما ومن فلسطين ولبنان..".
فقال توفيق باشا: نعم هذا هو رأينا ملخصا أحسن تلخيص.
وعاد النحاس باشا إلى سؤاله الذي طرحه في الجلسة الأولى قبل ثلاثة أيام: وما هي أوجه التعاون التي يرغب شرق الأردن أن يشترك فيها مع الأمم العربية؟!
وتحدث توفيق باشا طويلا في هذا الموضوع مشيرا إلى علاقات شرق الأردن ببريطانيا، وأعلن أنه مستعد للتعاون السياسي بقدر محدود وأنه حين يتخلص من قيود المعاهدة البريطانية فإنه يتعاون في الامور الخارجية تعاونا تاما.. وفيما يتعلق بالنواحي الاقتصادية والثقافية والاجتماعية فإنه يرغب في تعاون كامل مع الأمم العربية..".
... وسأل النحاس باشا: وما هي أداة التعاون التي ترونها، وقد أوجزت لكم رأي نوري باشا في هذا الموضوع في الجلسة السابقة..
... فقال توفيق باشا على الفور: "نحن نستعبد الحكومة المركزية، ونوافق على الأداة التي توافق عليها البلاد العربية".. وهذه هي الصيغة العربية القديمة الجديدة، إجابة من غير استجابة!!
... وانتهت الجلسة عند موقف واضح أعلنه شرق الأردن: حكومة مركزية للأقطار العربية الأربعة، ولكن.. استبعاد حكومة مركزية للدول العربية السبع..
... ولم تكن الجلسة الثالثة التي عقدت في اليوم التالي، إلا جلسة مجاملة، تلي فيها المحضر السابق، وشكر النحاس باشا لتوفيق باشا تصريحاته "الرقيقة(1/99)
الأخوية" التي أدلى بها إلى جريدتي المقطم والوفد المصري، ثناء على رفعة الرئيس، "زعيم الأمم العربية"..
... وصدر البيان المشترك عن المشاورات التي تمت بشأن "وحدة الأمم العربية وتعاونها واستعراض الوضع الحالي لشرق الأردن، ووضعه المأمول سواء فيما يتعلق بعلاقته بسوريا ولبنان وفلسطين، أو بعلاقته بسائر الأمم العربية".
... ولقيت توفيق باشا أبو الهدى، مستبشرا ضاحكا بكل وجهه، وقل أن يضحك حتى بشفتيه، وهو يقول لي: "لا بد أنك قرأت البلاغ المشترك.. لقد خطونا خطوة طيبة في موضوع سوريا الكبرى..".
... قلت له: إن الكلمة في هذا الموضوع ليست للنحاس باشا، ستأتي غدا الوفود السعودية والسورية واللبنانية.. وستكون الكلمة الأخيرة للملك عبد العزيز، والرئيسين شكري القوتلي والشيخ بشارة الخوري، ولا يعدو أن تكون عبارة "الوضع المأمول" كلمة إنشائية..
... وسافر توفيق باشا إلى عمان يحمل إلى الأمير عبد الله البلاغ المشترك وفيه العبارات والإشارات عن سوريا الكبرى، وهو يحسب أن الملك يبن بالبلاغات والكلمات..
... وبعد أيام وصل الوفد السعودي بكامل هيئته مؤلفا من ثلاثة، الشيخ يوسف ياسين، ولحيته المصطبغة، وغمغمته المصطنعة، وكان هذا هو كل الوفد السعودي.
... والشيخ يوسف ياسين (اللاذقية) واحد من رجالات العرب الذين التحقوا بخدمة الملك عبد العزيز آل سعود فرارا من الاستعمار، ومنهم الشيخ خالد القرقني والسيد بشير السعداوي (ليبيا) والسيد رشيد عالي الكيلاني(1/100)
(العراق) وفؤاد حمزة (لبنان) والدكتور مدحت شيخ الأرض (سوريا) ورشدي ملحس وجمال الحسيني (فلسطين) وكان الشيخ يوسف أقدمهم عهدا وأكثرهم تفانيا في خدمة المملكة العربية السعودية.
... وبدأت المباحثات مع النحاس باشا في جو يسوده التكتم والحذر، عبر خمس جلسات متعاقبة، كانت أكثرها شفوية باعتراف المحاضر نفسها، والمكتوبة منها لا تتعدى بضعة أسطر.
... ولم يخل يوم من لقائي مع الشيخ يوسف، إما في غرفته أو على مائدة الطعام وهو يردد لي قوله: تستطيع أن تكون مطمئنا إلى سير المباحثات.. إن جلالة الملك عبد العزيز لا يوافق على سوريا الكبرى ولا على الهلال الخصيب.. وأن شكري بك يعرف كل شيء.. ويمكنك أن تكتب إليه أن المباحثات تسير على ما يرام..
... ولكن جو الحذر والكتمان الذي ساد المباحثات لم يحجب عني حقيقة الموقف، فقد كانت المملكة العربية السعودية تريد أن تفهم ماذا يريد النحاس باشا بهذه "الوحدة العربية" قبل أن تدلي بدلوها.. واكتفت في تلك المرحلة بعبارات عامة ذات معان خاصة، لا يفهمها إلا الذين يستطيعون الوصول إلى أغوار الشيخ يوسف.
... ومن هذه العبارات "العمل لمصلحة الأمة العربية جمعاء، دون النظر لبعضها على حساب البعض الآخر.. وأن نتقي المخاطر والمشاكل التي تضر بالمصلحة العربية..".
... ومن هذه العبارات "أن أمنية البلاد العربية السعودية أن تصل البلدان العربية لما فيه المصلحة لأي بلد عربي.. وبما لا يكون مضرا بمصلحة العرب وأصدقاء العرب..".(1/101)
... ومن هذه العبارات "أن أمنية البلاد العربية السعودية أن تصل البلدان العربية لما تتمناه من الهناء والسعادة".
... ولكن الموقف السعودي لم يخل من وضوح حين أكد الشيخ يوسف ياسين في مباحثاته مع النحاس باشا أمورا أربعة..
... أولا) "لو أردنا مثلا أن نجمع الأمة العربية كلها في دولة واحدة لتعارض ذلك مع الأوضاع القائمة، وقد ينشأ عنه صدام ليس لأحد مصلحة فيه".
... ثانيا) إن التعاون في المسائل الاقتصادية والثقافية لا نمانع فيه، عندما يكون ذلك في الإمكان ويكون الوقت ملائما له.
... ثالثا) نرى تأجيل البحث في التعاون السياسي في الوقت الحاضر إلى أن تتغير الظروف القائمة.
... رابعا) "جلالة الملك عبد العزيز، يتمنى للبلاد الشامية جمعاء كل خير في ظل حكمها الجمهوري القائم في سوريا ولبنان".
... وانتهت المباحثات وأعرب الشيخ يوسف عن رغبته في أن لا يصدر أي بلاغ مشترك، فهذه على حد تعبيره "مباحثات أخوية والبلاغات المشتركة تتم بين الغرباء".
... وسألت الشيخ يوسف قبل سفره، وهل يمكنني أن ألخص موقفكم في أنكم ترون إرجاء موضوع الوحدة العربية في الوقت الحاضر، وأنكم تعارضون عمان وبغداد معا في مشروعي الهلال الخصيب وسوريا الكبرى.
... قال: نعم هذا هو موقفنا، وإن جلالة الملك سيكتب إلى شكري بك القوتلي، بما يلزم..(1/102)
... وقلت للشيخ يوسف وهو يهم بمغادرة الفندق قبل سفره: لقد طلبت من النحاس باشا أن لا تفضي مشاورات الوحدة العربية إلى أي ضرر بمصلحة العرب، وأصدقاء العرب، فهل لك أن تذكر لي من هم أصدقاء العرب هؤلاء؟
قال: ولماذا تتغابى.. الإنجليز هم أصدقاؤنا.. بل وحلفاؤنا.. وأنت من هم أصدقاؤك وحلفاؤك؟؟
قلت: أصدقائي وحلفائي هم الألمان والطليان..
قال: لا تخطئ كما أخطأ صديقنا الحاج أمين.. ستهزم دول المحور. والحلفاء سينتصرون.
قلت: أنت تعلم ماذا فعل الإنجليز في فلسطين.
قال: (وهو يشد بكفيه على لحيته) جلالة الملك عبد العزيز أخذ وعودا قاطعة من الإنجليز والأمريكان بالوقوف إلى جانبنا في قضية فلسطين.
... قلت: لقد قالوا مثل هذا للشريف حسين أمير مكة في الحرب العالمية الأولى، وأنت يا شيخ يوسف كنت في خدمته..
... قال: الظروف تغيرت.. عبد العزيز "مش" بسيط مثل الشريف حسين..
... قلت: سنرى..
... ودخل الشيخ يوسف إلى السيارة، ودخلت معه لحيته المصطبغة، وغمغمته المصطنعة، وسافر إلى الملك عبد العزيز ليجلس القرفصاء بين يديه، ويحدث "طويل العمر" بما قال.. وما قالوا..
... وفي أواخر تشرين أول من عام 1943 وصل الوفد السوري، فكان الوفد العربي الوحيد الذي يصل بكفاءة كاملة وهيأة شاملة، فقد كان فيه سعد الله الجابري رئيس الوزراء، وجميل مردم وزير الخارجية، ونجيب(1/103)
الارمنازي الأمين العام لرئاسة الجمهورية السورية، وصبري العسلي نائب دمشق، وعلي حيدر الركابي رئيس ديوان وزارة الخارجية السورية.
... وقد حرص النحاس باشا في بداية المباحثات مع الوفد السوري على أمور ثلاثة:-
... أولا) الترحيب الغامر بالوفد السوري، فقد كانت لسوريا سمعة مجيدة لدى الشعب المصري لما قامت به من الكفاح ضد الاستعمار الافرنسي، وها قد تألفت الحكومة السورية من الدعاة إلى الوحدة العربية.
... ثانيا) نفي التهمة التي أخذت تروجها بعض الصحف العربية من أن بريطانيا تقف وراء مشاورات الوحدة العربية، وأنها متفاهمة مع النحاس باشا في الأمر، ولهذا فقد حرص النحاس باشا أن يعلن للوفد السوري أن اهتمامه بهذه المسائل "لا يقتصر على الوقت الذي أتولى فيه الحكم، بل أنا أهتم به سواء كنت في الحكم أو خارج الحكم".
... ثالثا) تحديد موقف مصر، فقد استغل الأمير عبد الله البلاغ المشترك الصادر عن المباحثات المصرية الأردنية وإشارته إلى "وضع الأردن المأمول فيما يتعلق بعلاقته بسوريا ولبنان وفلسطين"، وانطلق مؤيدوه في سوريا يعلنون أن مصر موافقة على مشروع سوريا الكبرى.
... ولهذا، تصدى النحاس باشا، على خلاف طريقته في المشاورات ومع وفود العراق والأردن والسعودية، فاستعرض مراحل المباحثات ولخص وجهات النظر ثم تطرق إلى موضوع "تحقيق الوحدة بين الأقطار الأربعة: سوريا، لبنان، الأردن وفلسطين" وقال: لست أخفي عليكم أني أحسست صعوبات تعترض تحقيق هذه الغاية.. فإن لكل قطر من هذه الأقطار كيانه(1/104)
ونظامه.. بعضها جمهورية، وبعضها إمارة.. وكيف نتغلب على الصعوبة الناشئة من امتيازات الموارنة في لبنان، ومركز اليهود في فلسطين.
... ألقى النحاس باشا "قنبلته" محددا موقف مصر بصورة عامة من مشروعات الهاشميين في بغداد وعمان، بالنسبة إلى الهلال الخصيب وسوريا الكبرى، تاركا للوفد السوري أن يتحدث فيما يشاء، وقد مهد له الطريق أن يتحدث كما يشاء!!
... واسترسل سعد الله الجابري فيما يعرفه كل سوري عن تاريخ بلاد الشام في عهد الدولة العثمانية، وأنها وحدة جغرافية تمتد من طورس إلى رفح.. وأن جبل لبنان كانت حدوده "فرن الشباك (بيروت) غربا، والمعلقة شرقا، والبترون شمالا، وشمالي صيدا جنوبا.. وأنه كان متصرفية "مديرية" ضمن الدولة العثمانية.." ومضى الجابري في سياق هذا التاريخ الطويل، والنحاس باشا يستوعب بعضه ولا يفهم بعضه الآخر..
... وبعد أن أشار الجابري إلى سلخ المناطق السورية: بعلبك، والبقاع، وطرابلس، وصيدا، وصور، ومرجعيون عن سوريا وضمها إلى لبنان القديم.. انتقل إلى التحدث عن فلسطين وأسهب في موضوعها مشيرا إلى أن الإنجليز "قد احتلوها قبل غيرها من بلاد الشام".
... ومد النحاس باشا رأسه، ويده على أذنه، حين وصل سعد الله الجابري، إلى الأردن وهو يقول "وأما شرق الأردن فقد كانت في العهد العثماني مقاطعة تابعة لدمشق.. ولكن المؤتمر البريطاني الذي عقد سنة 1921 في فندق سميراميس في القاهرة برياسة وزير المستعمرات المستر تشرشل، قرر فصل شرق الأردن عن سوريا، وإعلان الأمير عبد الله أميرا على البلاد".(1/105)
... ولم يتمالك النحاس باشا الصمت، فسأل "في فندق سميراميس – بتاعنا – في القاهرة؟!"
... فقال سعد الله الجابري، نعم – يا رفعة الرئيس – في فندق سميراميس – في القاهرة..
... وعاد سعد الله الجابري إلى حديثه عن الوحدة، بحماسة صادقة مؤكدا أن "السوريين يريدون الوحدة.. ونحن من غير غرور ولا ادعاء.. نحن الجبل الذي حملنا أعباء الدعوة العربية التي كانت دمشق مبعثها، فلا تستطيع عمان.. أن تحل محلها.. فدمشق هي التي حفظت الإسلام وهي.. وهي.. فدمشق إذن لا تستطيع أن تتنازل عن مركزها.. وهي بالإضافة إلى ذلك جمهورية، وتود أن تحافظ على نظامها.. ولا ترضى عن نظامها الجمهوري بديلا"..
... وارتفع صوت سعد الله الجابري، حين كان يتحدث عن فضائل النظام الجمهوري، وكأنما يود النحاس باشا أن يخفت صوته على أرض المملكة المصرية العلوية.. مع أن الإشارات كانت منصرفة إلى العرشين في عمان وبغداد، لا إلى العرش العلوي في القاهرة!!
... وتعاقبت الجلسات الثالثة التالية في مباحثات تفصيلية عن "الوحدة العربية"، النحاس باشا يقرأ أسئلة مكتوبة أمامه، وسعد الله الجابري يجيب.
... وتركز البحث مرة ثانية على الوحدة السورية فقال سعد الله الجابري "إن القضية السورية تحتل المكان الأول بين القضايا العربية.. إن توحيد سوريا هو الهدف الذي كنا نسعى إليه في الماضي.. غير أنه بعد مرور عشرين سنة أصبح لا بد من تبديل الأسلوب.. نحن نصر على دمشق كعاصمة، والنظام الجمهوري كأساس.. بالنسبة إلى سكان لبنان فأكثريتهم(1/106)
الساحقة يرغبون في الانضمام إلى سوريا.. ولكننا اعترفنا باستقلال لبنان خوفا من الارتماء في أحضان فرنسا، وتفاهمنا مع رجال الحكم في لبنان بألا يسمحوا بالسيطرة على لبنان.. أما بشأن فلسطين فنحن نخشى من انتشار اليهود في سائر الأقطار العربية.. ونتمنى أن تخطو بريطانيا خطوة جديدة نافعة بأن تسمح للأجزاء الواقعة تحت سيطرتها – شرق الأردن – بالإفصاح عن رغبتها بحرية".
... وختم سعد الله الجابري هذا الحديث عن الوحدة، وهو يردد النشيد المعروف..
بلاد العرب أوطاني ... ... ... من الشام لبغدان
ومن نجد إلى يمن ... ... إلى مصر فتطوان
... وكان الهلالي باشا، العالم الأديب، وراء النحاس باشا يهتز للشعر.. ولعلها كانت هذه هي المناسبة التي انطلقت خلالها بمصر الحكاية، صدقا أو كذبا، التي تقول أن النحاس باشا سأل الهلالي باشا: دي تطوان تبقى فين؟!
... ويبدو أن النحاس باشا قد "تخم" من الكلام عن الوحدة السورية في تلك الجلسات الطويلة، فعاد إلى الموضوع الأصلي وهو "الوحدة العربية" وطرح سؤاله التقليدي: وما هي أداة التعاون التي تقترحونها لجمع كلمة "الأمم العربية".
... فتحدث سعد الله الجابري بإسهاب مسهب وختم بالقول: إن سوريا تؤثر الحكومة المركزية، فإن تعذر ذلك فإننا نرضى أي اتحاد أو اتفاق أو حلف...
... وانتهت المباحثات مع الوفد السوري وصدر البلاغ المشترك بالعبارات المعتادة.(1/107)
... ووصل بعد ذلك الوفد اللبناني، فلم يكن فيه أحد من المسؤولين الكبار، فقد كان لبنان مشغولا بالانتخابات النيابية وتأليف أول حكومة لبنانية، وجاء الوفد اللبناني إلى النحاس باشا حاملا إليه مذكرة فيها أفكار صغيرة لطيفة، كأطباق "المازة" اللبنانية صغيرة ولطيفة، وكانت خلاصتها: المحافظة على استقلال لبنان وضمان سيادته "وموقفه المتحفظ من الوحدة العربية" مع الرغبة في التعاون مع جميع الأقطار العربية على أساس السيادة والاستقلال.
... وعاد الوفد اللبناني إلى بيروت بعد أن اطمأن أن المذكرة اللبنانية قد سجلت في محاضر الوحدة على أساس الاستقلال والتعاون الحر!!
... وقد قضي علي أن أبقى عدة أيام أخرى، في الإسكندرية، انتظارا لمجيء الوفد اليمني، لأطلع على ما عنده، أو في الأصح، على ما ليس عنده!!
... وجرت مشاورات بين مصر واليمن.. فلم تكن شفوية ولا مكتوبة، ذلك أن المسكين السيد الكبسي، ممثل جلالة الإمام يحيى حميد الدين المتوكل على الله رب العالمين كما كان يختم رسائله، لم يكن عند شيء يقوله..
... وكل ما جاء في محضر المشاورات "أن اليمن ترحب بفكرة التعاون الثقافي والاقتصادي بين البلاد العربية بشرط أن تحتفظ كل دولة بسيادتها وحقوقها..".
... وسافر الكبسي إلى صنعاء ليقدم تقريره إلى المتوكل على الله رب العالمين.
... وسافرت إلى دمشق وقدمت تقريري إلى فخامة الرئيس شكري القوتلي، في عشرين صفحة كان آخرها.. "وهكذا ترون فخامتكم أن(1/108)
مشاورات الوحدة العربية قد تناولت كل شيء.. إلا الوحدة العربية.. وتفضلوا بقبول فائق الاحترام
أحمد الشقيري المبعوث الشخصي لفخامتكم".(1/109)
رياض الصلح.. جميل مردم..
والولد حسين
... ولدت الجامعة العربية بعد حمل دام ثمانية عشر شهرا .. !! وتكفي هذه المدة أن تلد ولدين، ولكنها تمخضت وسنرى ما ولدت !!
... في خريف 1943 بدأت المشاورات الثنائية لإقامة الوحدة العربية بين الدول العربية السبع: مصر والعراق والسعودية واليمن وسوريا ولبنان وشرق الأردن.
... وجاء خريف 1944 ليشهد المباحثات الجماعية بين رؤساء الحكومات السبع.. ثم لتمتد إلى شتاء عام 1945، وليطل بعدها الربيع (آذار 1945) حين انتهت مشاورات الوحدة العربية إلى "ولادة" الجامعة العربية.
... وقد سرت في هذا الموكب من بدايته إلى نهايته وأنا أستمع إلى مخاض الولادة متعسرة حينا، متعثرة حينا آخر، تماما كما كنت في صباي أستمع إلى الحوامل في "حارتنا" صارخات مستنجدات.. ولا مغيث ولا مجير، إلاّ ما تجري به المقادير !!(1/110)
... ففي 25 أيلول من عام 1944 وفي مساء ذلك اليوم العليل، كان قصر أنطونيادس شعلة من نور، وكانت حدائقه تزدان بالمصابيح الكهربائية، وأصحاب الدولة والمعالي والسعادة والعزة رؤساء الوفود العربية يتبوؤن مقاعدهم الأنيقة في انتظار قدوم الزعيم الجليل مصطفى النحاس باشا.
... وكنت أجلس في مقاعد الوفد السوري أستمع مع المستمعين إلى أنغام الموسيقى الشجية.. وأحسب أن مائة مليون عربي كانوا في تلك اللحظات يتوجهون بكل جوارحهم إلى قصر أنطونيادس، وهم يرون فيه مستودع آمالهم ومستقر أحلامهم..
... وكانت الحفلة على شرف الوفود العربية، وكانت المناسبة بداية المباحثات الرسمية لإقامة "الوحدة العربية"، وهذا هو الاسم البريطاني لما أصبح يعرف فيما بعد بالجامعة العربية..
... وأطل النحاس باشا وحوله الوزراء والمرافقون، وأطلت معه إشراقته، وصعيديته الطيبة، وانطلقت "فرقة" الهتافين في الطرف الأيسر من الحديقة، تهتف للرئيس الجليل، وهو يرفع يديه الاثنتين بالشكر والتحية.
... وكانت حفلة خطابية، ألقيت فيها خمس خطب، فقد تخلف عن الحضور وفدا السعودية واليمن.. وبدأ التهامس بين الحاضرين أين السعودية؟ وأين اليمن؟ ولكن أحدا لم يسأل أين فلسطين؟؟
... وخطب النحاس باشا، فحمدت الله أن زعيم مصر الأول ورئيس حكومتها قد جاءت خطبته هذه المرة لتحسم الصراع القديم بين الفرعونية والعروبة، فأكد "الصلات الأخوية بين الدول العربية التي تقوم على روابط الأصل واللغة والطباع والتقاليد والآمال والآلام" فكان هذا أول توكيد رسمي تعلنه مصر تأييدا للقومية العربية، من غير أن يطلق عليها اسمها هذا..(1/111)
... على أن خطاب الرئيس المصري، لم يخل من السجعات "الوفدية" المعروفة، فقد دعا إلى الإسراع في الخطى "حتى لا يفوتنا القطار فيحق علينا الخسار"، ولم يخلُ كذلك من العبارات الإنشائية التي ترضي تطلعات الجماهير.. فأشار إلى "مشروع الوحدة العربية" ولم يكن بين يديه حتى ذلك الحين، ولا بعد ذلك.. "مشروعا للوحدة العربية".
... ووقف بعده سعد الله الجابري رئيس وزراء سوريا، وفي احمرار وجهه تمتلئ كل حماسة سوريا للوحدة العربية، فتلا خطابا، اشترك في كتابته نجيب الأرمنازي أمين القصر الجمهوري وصبري العسلي نائب دمشق.. وقد حمل الخطاب "أماني الشام في وحدة قوية في السلم والحرب" كما نقل إلى الحفل الجامع موقف الرئيس القوتلي في "أن البلاد السورية تأبى أن يرتفع في سمائها لواء يعلو عل لوائها إلا لواء الوحدة العربية"، وصفق الحاضرون تصفيقا طويلا، وأبصرت بالسيدين نوري السعيد وتوفيق أبو الهدى وكأنهما يتساءلان: ما معنى هذا الكلام في حفل الافتتاح !!
... ثم جاء دور العراق، فوقف السيد حمدي الباجه جي رئيس وزراء العراق فألقى خطابا يحمل كل آراء نوري السعيد، وكان في تلك الفترة عضوا في الوفد دون أن يكون في الحكم.. ذلك أن نوري السعيد كان يحكم العراق، في الحكم وخارج الحكم.. وقد بدأت كلمة العراق بالإشارة إلى "بزوغ فجر النهضة العربية في عهد ثورة المغفور له الملك حسين" فكانت تنبيها إلى الوفود العربية – أن الهاشميين هنا.
... ولم يشأ توفيق أبو الهدى أن ينكشف بما انكشف له وفد العراق، فألقى خطابا من سبعة أسطر، فابتدأ بالشكر وانتهى بالشكر، دون أن يقول شيئا.. فقد كان توفيق باشا حريصا أن يقول كل شيء، ولكن، داخل الغرف المقفلة،(1/112)
وبين يدي المحاضر السرية.. ذلك أن توفيق باشا أبو الهدى كان يصدر في رأيه في الوحدة العربية من منطلق الولاء لبريطانيا.. ففي أول تموز 1941 حمل توفيق باشا إلى سمو الأمير (الملك) عبد الله قرار مجلس الوزراء الأردني الذي سجل فيه أن "التصريح الأخير على لسان المستر ايدن قد قوبل بالاغتباط والشكر من حكومة سموكم.. ولهذا فإن الموقف يتطلب جمع الكلمة في البلاد السورية على الولاء التام للحلفاء بحيث يثق الرأي العام بأن تحقيق أمانيه القومية منوط باضطراد الإخلاص والولاء للحلفاء ..".
... وفي مثل هذا الفلك يسبح كثير من حكام العرب، يتحدثون عن الوحدة العربية من منطق الولاء لبريطانيا، وإن كان توفيق باشا أكثر منهم صراحة وصدقا..
... وكانت الكلمة الأخيرة لوفد لبنان، وبدا واضحا أن لبنان جاء
يشترك في مباحثات الوحدة العربية ليحصل من الدول العربية على ضمان أكيد باستقلال لبنان بحدوده الحاضرة، مرددا العبارات اللبنانية التقليدية في أن لبنان لن يكون للاستعمار مقرا أو ممرا، وأن لبنان "لم يكن بين الأمم العربية إلا ابن العربية البار"، وقد ألقى خطاب لبنان سليم تقلا وزير خارجية لبنان، فقد اختار رياض الصلح رئيس وزراء لبنان، وهو العربي الوحدوي القديم، أن يجيء هذا الكلام اللبناني على غير لسانه.
... وانتهى حفل الافتتاح على النشيد الوطني لكل من لبنان وسوريا والأردن والعراق، وشرق الأردن.. وسرنا في طريقنا، رياض الصلح وأنا، من الحدائق إلى قاعة الاجتماعات، وسأل النحاس باشا.. "ازاي" النشيد الوطني لبلادكم..(1/113)
... قلت: إنه متقن لغاية، يا رفعة الرئيس.. إنه خير من الأصل..
... قال: وكيف خطاب لبنان؟
... قلت: كان الفلاح الأمي في بلاد الشام يرجو أحد جيرانه أن يكتب له كتابا لأهله.. ويصر أن يكتب في نهاية الكتاب.. "هذا الكتاب كتابي، النص نصي، والحرف حرفي، والخط خطي، والسلام"..
... وقلت هذا حال دولة الرئيس الصلح، الخطاب خطابه، والنص نصه، والخط خطه وقد طلب إلى غيره أن يلقي خطاب لبنان.
... فضحك النحاس باشا وقال: الرئيس الصلح بارع جدا.. ولو كان عندنا في مصر لجعلته سكرتير الوفد. وكنا استرحنا من مكرم عبيد !!
... وحين بدأت الجلسة الرسمية "استعمل رياض الصلح ذكاءه أول ما استعمله على النحاس باشا نفسه.. فقد تم توزيع محاضر المشاورات السرية على الوفود العربية، ورفع رياض بك يده ليسأل: وأين المحضر الخاص برأي مصر ؟؟ ".
... فقال النحاس باشا: ببساطة "ليس لدى مصر ما تلخصه، غير أننا سندلي حتما عند المناقشة بآرائنا في جميع الموضوعات" وكان هذا الكلام البسيط ينبئ بالتكتيك المصري، فقد كان الموقف المصري جاهزا في الملفات من الألف إلى الياء، ولكن النحاس باشا كان يريد أن يأتي كل شيء على لسان الوفود العربية، وأن يعرضه على الاجتماعات العربية على سبيل التوفيق بين الاختلافات والمتناقضات العربية، وما كان أكثرها !!
... ولم تكن الجلسة الأولى جلسة عمل، بل كانت جلسة طرح فيها السؤال الكبير: وما العمل...؟ ما العمل مع السعودية واليمن؟ .. فلم يصل وفدا السعودية واليمن، وكيف تبدأ مشاورات الوحدة العربية في غيابهما..(1/114)
واستقر الرأي أن ترسل برقيتان إلى الملك عبد العزيز آل سعود، والإمام يحيى حميد الدين، بنص واحد يعرب فيهما رؤساء الحكومات العربية عن "الفراغ الذي تشعر به وفود الدول المجتمعة اليوم في اللجنة التحضيرية للمؤتمر العربي العام لعدم وصول مندوبي جلالتكم..".
... وهكذا انتهت جلسة العمل الأولى بإرسال برقية.. ولكن البرقية إلى صنعاء لم ترسل من القاهرة، فلم تكن مواصلات سلكية أو لا سلكية بين صنعاء والقاهرة، فأرسلت إلى الديوان العالي للمملكة العربية السعودية في الرياض "لإرسالها إلى صنعاء"..
... وعقدت الجلسة الثانية في 28 أيلول 1944 فكانت جلسة أخرى من غير عمل.. فقد استمعت إلى السيد حسين الكبسي مندوب اليمن ليلقي كلمة يقول فيها أنه يحضر الاجتماع بوصفه "مستمعا فقط"..
... ولو اقتصر الأمر على "مستمعا فقط" لهانت المصيبة لكن برقية الإمام يحيى كانت أشنع وأبشع، فقد جاء في جوابه إلى رؤساء الوفود العربية قوله "وقد أمرنا السيد حسين الكبسي بالحضور في المؤتمر التمهيدي بصفته مستمعا لسد الفراغ الذي أشرتم إليه في برقيتكم"..
... وقد جلس الكبسي في مقعده، وجلست معه عمامته اليمانية، وجبته وحزامه، وجلس معه خنجره المذهب، ممتثلا لأوامر الإمام في أن يكون مستمعا فقط، فلا يتكلم إلا ردا للتحية، أو جوابا عن الصحة والعافية، وبهذا امتلأ الفراغ، ولم يعد مقعد اليمن شاغرا، فها هو السيد الكبسي هنا، بقامته وهامته وعمامته، وعجره وبجره وخنجره !!
... وعقدت الجلسة الثالثة في أول تشرين أول 1944، لتشهد الوفد السعودي ممثلا بالشيخ يوسف ياسين، ومعه الشاعر الناثر خير الدين(1/115)
الزركلي، وقد أفرغ كل بلاغته في خطبة تلاها الشيخ يوسف ياسين بلهجة "منبرية" وقال فيها:
... "أحيي هذا البلد العربي الأبي – مصر العزيزة، وجلالة عاهلها الأكبر مجدد نهضتها ورافع لواء العمران والعرفان فيها.. كما أحيي مصطفى مصر" ثم أردف الشيخ يوسف يقول .. "قدمت إليكم من موطن العروبة وعرينها، من منشئها ومنبتها .. إن العروبة أم جامعة يتلألأ نور وحدتها، منبعثا من البلاد التي أتشرف بأن أنطق بلسان مليكها" .. وغير ذلك من الكنايات والمجازات النابعة من علوم "البيان والبديع" فكانت خطبة نموذجية شقت الطريق، على مدى خمسة وعشرين عاما، أمام الخطب الإنشائية البليغة التي ألقاها، السفراء والوزراء، ثم الملوك والرؤساء، ابتداء من اجتماعات الجامعة العربية إلى مؤتمرات القمة العتيدة .. ويا ويح مقامات الحريري وبديع الزمان الهم
ذاني ..!!
... وتوالت بعد ذلك ست جلسات عمل واجهت فيها قضية الوحدة العربية ثرثرة وجرجرة وصرصرة لا مثيل لها.
... وكان أول عمل قام به رياض الصلح، في أول جلسة عمل رسمية تشترك فيها الوفود العربية، أن أبدى تحفظا "هاما" على ما ورد في محاضر المشاورات، فقد اطلع على البيان الطويل الذي كان قد أدلى به في المحادثات الثنائية سعد الله الجابري رئيس وزراء سوريا.. من أن "لبنان جزء من سوريا، وأن صور، وصيدا وطرابلس، والبقاع وبعلبك ومرجعيون، قد سلخها الانتداب الافرنسي عن سوريا وضمها إلى لبنان..".(1/116)
... قرأ رياض الصلح هذا الكلام فوقع في صراع بين رياض العربي السوري الوحدوي، ورياض الصلح، رئيس الوزراء اللبناني الذي يشترك في مشاورات الوحدة لتثبيت "استقلال لبنان وسيادته بحدوده الحاضرة".
... ولم يجد رياض الصلح رئيس وزراء لبنان، بدا عن التخلي عن رياض الصلح السوري الوحدوي، فأعلن في الاجتماع وهو يوجه حديثه إلى الوفد السوري أن "للبنان ملاحظات على الملخصات التي وزعت على أعضاء الوفود من الوجهتين التاريخية والسياسية، أحتفظ لنفسي بالحق في إبدائها".. وكان رياض الصلح حصيفا ولبقا، فقد سجل هذا التحفظ في محضر الجلسة.. ولكنه لم يسرد تلك الملاحظات "التاريخية والسياسية" لا في تلك الجلسة
ولا في غيرها من الجلسات !!
... ولقد واجه المجتمعون منذ البداية، ما معنى كلمة "الوحدة" في مشاورات الوحدة.. وأدلى الرؤساء بآرائهم منتقلين من الغمغمة إلى الإيضاح.. إلى الإفصاح.. وكانت "الكرة" بيد رياض الصلح يلقيها على رؤساء الوفود واحدا واحدا.. فقد كانوا جميعا لا يريدون أن يبدؤوا الحديث في الموضوع، وآثروا أن يتركوا القيادة لهذا اللبناني - رياض الصلح - الذي جاء ليدافع عن استقلال لبنان وحدود لبنان.
... لقد كان رؤساء الوفود العربية في تلك الأيام، شأن خلفائهم في هذه الأيام، يتكلمون بلسانين ولغتين ولهجتين.. كانوا يتحدثون إلى الصحافة مؤكدين أن الوحدة العربية يجب قيامها من اليوم قبل الغد، وأن هذه هي عزيمة الأمة العربية وأن.. وأن.. أما في الاجتماعات الرسمية فكانوا يغمغمون ويتعلثمون.. كانوا يخشون أن يسجل عليهم في المحاضر الرسمية(1/117)
أنهم لا يرغبون في الوحدة العربية أو أنهم لا يقدرون عليها.. ومن هنا كانت لهفتهم أن يجدوا بينهم كبش الفداء ليلقوا على أكتافه كل الأحمال..
... ولم يكن عسيرا عليهم أن يجدوا في رياض الصلح ذلك الكبش.. فهو الآن رئيس وزراء لبنان، ولبنان جاء إلى مشاورات الوحدة العربية على شرط واحد: استقلال لبنان بحدوده الحاضرة، أولا وآخرا..
... ونظر الوفود بعضهم إلى بعض، وبدأ الحوار بينهم طريفا، وأنا أستمع إلى العبارات الناعمة، مغطاة بغلالات من الرقة والعذوبة... وقذف الهلالي باشا "الكرة" أولا، ثم تبادلوا الكرة:
... الهلالي باشا: (مصر) أعتقد أن المصلحة تقتضي أن نبدأ بمناقشة أداة التعاون قبل البحث في مدى التعاون.
حمدي الباجه جي: (العراق) لقد وصلنا إلى النقطة الحساسة الدقيقة، ومن المناسب أن نعرف رأي مصر.. الموضوع خطير.
... النحاس باشا: سنبدي رأينا فيما بعد.. ولكننا نفضل إبداءه على ضوء المناقشات !!
... رياض الصلح: اسمحوا لي أن أبدي رأيي بكل صراحة... يجب أن نبحث قضية الاستقلال أولا.. الاستقلال والوحدة لازم وملزوم.. نحن نحرص على استقلال لبنان.. ربما يكون قد تبادر لذهن البعض أن المقصود من الوحدة هو الإنقاص من استقلال أي بلد، فلو تقرر هذا الأمر لقضي على التعاون بيننا..
... سعد الله الجابري: نحن في سوريا لا نرضى عن الوحدة بديلا... أما وقد قضت الظروف أن تكون هناك دول عربية متعددة لشعب عربي واحد... فنحن مضطرون بحكم الظروف أن نبحث الأمر على هذا الضوء..(1/118)
... رياض الصلح: الذي أراه أنه عندما نشرع في إعداد الصيغ نبدأ بقضية الاستقلال أولا.. من أجل تطمين الخواطر.. وأنا لو كنت ممثلا لسوريا لتكلمت عن الوحدة العربية كما تكلم دولة سعد الله الجابري عن سوريا... وأرجو أن لا يقال إنّ لبنان هو العقبة الوحيدة في سبيل الوحدة العربية... لقد ارتأت دولتان عربيتان أعرق عروبة منا (اليمن والسعودية)، كما جاء في محاضر المشاورات، أنهما تريدان تأجيل التعاون السياسي حتى تتغير الظروف القائمة.
... الهلالي باشا: كان مفهوما لدينا جميعا أننا دول مستقلة..
... نوري السعيد: نعم نحن جميعا مستقلون ... ونرغب في زيادة التضامن والتعاون ..
... النحاس باشا: هل توافقون على استبعاد فكرة إنشاء الحكومة المركزية لكل البلاد العربية، وأن تحتفظ كل دولة باستقلالها وسيادتها ..
جميل مردم: نريد أن نسأل رأي مصر أولا ...
النحاس باشا: إن مصر ترى استبعاد الوحدة .. نستبعد إنشاء الحكومة المركزية ..
جميل مردم: يجب علينا أن نتعاون فيما بيننا مع احتفاظ كل دولة باستقلالها وسيادتها.
الشيخ يوسف ياسين: ولماذا لا نكرر الاعتراف باستقلال الدول العربية
جميعا ؟ ..
صبري باشا أبو علم (مصر) : استقلال الدول العربية جميعا هو أساس وجودنا ها هنا ..(1/119)
الشيخ يوسف ياسين: ولماذا لا نكرر التأكيد على استقلال الدول العربية جميعا ..
وقال النحاس باشا: لماذا نكرر التأكيد باستقلال دولنا .. إن التكرار في السياسة مدعاة إلى التشكيك.
وعاد الحوار على هذا المنوال بين رؤساء العرب، بين متردد وصريح، وأعلن النحاس باشا في النهاية "إذن قد تقرر بإجماع الآراء بما في ذلك رأي مصر استبعاد تأليف حكومة مركزية للبلاد العربية كلها .. لمساسه باستقلال كل بلد .. وهي جميعا تريد المحافظة على هذا الاستقلال " ..
ودارت عينان صغيرتان ، في وجوه رؤساء الوفود العربية ، وكانتا عيني الشيخ يوسف ياسين..
فقال: أقترح أن تكون مناقشاتنا وقراراتنا سرية !!
فقالوا: يجب أن تظل سرية ولا ينشر منها شيء.
وهكذا اتفقت كلمة الوفود العربية وفي ساعة واحدة من الزمن، على استبعاد فكرة الوحدة العربية من المشاورات على أن يظل اسمها "مشاورات الوحدة العربية" !!
وكان القرار جرعة مرة، رأى الحاضرون معها أنه لا بد لهم من "استراحة قصيرة"، وكان كذلك، فقد خرجوا إلى القاعة، وقد عرضوا وجوههم الضاحكة على المصورين .. وكان مع كل وفد مجموعة من الصحفيين قدموا معهم ليغطوا المشاورات مثلا رؤساء الوفود بصحافييهم ومراسليهم، وأدلى كل منهم بما عنده، وما أن انتهت هذه الخلوات، حتى راح كل صحفي يبرق إلى بلده: "كان اجتماع اليوم هاما وحاسما وخطيرا .. وقد بحث موضوع الوحدة العربية بصورة جدية تفصيلية، وقد أدلى وفدنا ببيانات فائقة، وأصر(1/120)
على قيام الوحدة مهما كلّف الأمر .. ولكن الدوائر المقربة من المؤتمر ألمحت إلى أن عددا من الوفود العربية الأخرى لا توافق على مبدأ الوحدة وإنما تصر على التعاون والتنسيق .. ولكن وفدنا يصر على موقفه ويحاول إقناع الوفود المترددة بالموافقة على وجهة نظره في الوحدة".
وكان طبيعيا أن تنشر الصحف العربية في كل عاصمة عربية، أن حكومتها مع الوحدة .. وعلى الجماهير العربية أن تصدق .. وأن تقول آمين مع الضالين المضللين !!
وانتهت فترة الاستراحة، وعادت الوفود العربية إلى قاعة العمل، وأخذوا أماكنهم، وملفاتهم أمامهم وكان آخر ما سطروه: "تقرر بالإجماع استبعاد إنشاء الحكومة العربية المركزية".
وهنا بدأت مصر تدلي برأيها شيئا فشيئا، فقال الهلالي باشا، وكان هو العقل المفكر المدبر للوفد المصري: الخلاصة أن الإجماع منعقد على تكوين هيئه للأمم العربية، والخلاف هو هل يكون رأي هذه الهيأة ملزما أو غير ملزم ؟ .
وهكذا بعد أن انحلت العقدة بانحلال الوحدة، دار الحوار حول العقدة الثانية: هل تكون القرارات ملزمة أو غير ملزمة، فكان إبهام، ثم غموض، ثم تلميح، ثم توضيح، وغدا كل وفد يرمي الكرة على صاحبه ثم يلقون بها جميعا في وجه رياض الصلح رئيس وزراء لبنان، لتخرج على لسانه لا على لسانهم .. واستمعت مرة ثانية إلى الحوار الناعم، وإلى لعبة الكرة، يتقاذفونا وهم جلوس:
سعد الله الجابري: أرى أن نعود إلى كلام دولة رياض بك الذي قاله عن الاستقلال ..(1/121)
... جميل مردم: أنا أرى أن يكون الإلزام في السياسة الخارجية .. إذا وحدناها ..
... رياض الصلح: لأجل أن ننظر في الإلزام أو عدم الإلزام يجب أن ننظر في الموضوع .. وإذا كان لدى مصر مشروع يجمع بين آراء الجميع فنرجو عرضه علينا .. فلا يضيع الوقت ..
... نوري السعيد: في المسائل التي يكون فيها مساس بكيان الدولة، يكون القرار غير ملزم ..
... رياض الصلح: نريد مثلا ..
... نوري السعيد: مثلا لا يصح أن تتوجه بعض الدول العربية إلى اتجاه سياسي يضر بالدولة العربية الأخرى.
... رياض الصلح: كأن نطلب الانتداب ثانية !!! وأنا أعود وأرجو مصر إذا كان لديها مشروع أن تعرضه علينا.
وهنا سحب النحاس باشا من ملفه ورقة بدأ يقرأ منها "تؤلف جامعة الدول العربية .. ويكون لهذه الجامعة مجلس يسمى مجلس جامعة الدول العربية .. وتكون قرارات المجلس ملزمة لمن يقبل بها .. و .. و .."
... وتحركت رواسب الوحدة في نفوس الوفد السوري، فاقترح جميل مردم أن تحل كلمة "حلف" محل "جامعة"، وثار جدل لغوي حول اللفظين اشترك فيه من يعرف اللغة ومن لا يعرفها، إلى أن تصدى السياسي العالم الهلالي باشا فقال:
- إن كلمة "جامعة" أقوى من كلمة "حلف" والعرب يستعملون كلمة جامعة لأداء معاني الارتباط الوثيق، فيقولون "الصلاة جامعة" و "يد الله مع الجماعة"(1/122)
.وسكت الوفد السوري، وسكت الآخرون، وأعلن سليم تقلا وزير خارجية لبنان "إن كلمة جامعة" موفقة جدا.
... وأفاق نوري باشا على الصيغة المصرية التي تلاها النحاس باشا بإنشاء "جامعة الدول العربية المستقلة .. وأن قراراتها لا تلزم إلا من يقبلها، ورأى في ذلك أن مشروعي سوريا الكبرى والهلال الخصيب قد دفنا إلى الأبد، فعاد .. وفتح الموضوع مرة ثانية .. وتكلم طويلا، مكررا معيدا وهو يقول: "إني لا أزال أعتقد أنه إذا ما اتفق أصحاب الشأن يمكن تكوين وحدة .. وإذا رغب أهل الأقطار السورية في الوحدة، ما عدا فلسطين ولبنان، أو أرادوا تأليف حكومة مركزية لهم، فهذا يكون من شأنهم" وانطلق الحوار من جديد .. بمداورات بارعة تارة، وغير بارعة تارة أخرى !!
... جميل مردم: نحن نرغب في تحقيق الوحدة السورية .. ولكنكم تعرفون ظروف لبنان .. وهناك قضية فلسطين، وشرق الأردن، وهما القطران اللذان نعتبرهما جزءاً من سوريا .. فلسطين تعرفون ظروفها الدولية .. أما شرق الأردن فقد كان متصرفية أو مديرية في سوريا . وهو الآن ما زال مقيدا بمعاهدة انتدابية مع بريطانيا.
... توفيق أبو الهدى: (بهدوء ومكر) أنا أؤيد دولة مردم بك، لأن شرق الأردن يعتبر نفسه جزءاً من سوريا، ويسره أن يندمج في سوريا الكبرى في دولة واحدة .. وأقترح أن يحصل شيء من الاتصال بيننا وبين سوريا لنتباحث في هذه النقطة ونضع مشروعا .. حتى إذا حان الوقت لم نتأخر في تنفيذه.
... جميل مردم: لا مانع عندي من هذا الاتصال .. ولكن هناك أسباب تحول دون الاتفاق .. إن أمر شرق الأردن ليس بيده.(1/123)
... قال جميل مردم هذا الكلام، وهو يثبت نظارته على أنفه الأقنى، تعلوه عينان نضاحتان، تشعان بذكاء دمشق ..
... وكان الشيخ يوسف ياسين يصغي بعينيه وأذنيه إلى هذا الحوار الذي فجره نوري السعيد، فسحب عقاله وكوفيته عن جبهته، وألقى بنفسه في هذا الحوار الذي كان يدور عن سوريا الكبرى ورفع يده وصوته، سائلا:
... - لي سؤال أحب إبداءه لمناسبة الحديث الدائر بين توفيق باشا ومردم بك .. هل المقصود إيجاد حكومة مركزية للبلدين ؟؟ ..
... أبو الهدى: الموضوع هو إعداد فكرة للوحدة أو الاتحاد أو التعاون ؟
... الشيخ يوسف: هل يتناول البحث إيجاد حكومة مركزية بين البلدين ؟؟
... جميل مردم: نحن نرغب في ذلك.
... أبو الهدى: نحن نرغب في الوحدة ، وسوريا كذلك ..
... الشيخ يوسف: إذا قررتم إيجاد حكومة مركزية للبلدين، يهمنا معرفة شكلها ؟
... جميل مردم: نحن بكل صراحة جمهوريون.
... رياض الصلح: إن هذا الأمر يرجع إلى رغبة الأهالي ..
... واستراح الشيخ يوسف قليلا، وعادت عيناه وأذناه إلى محاجرهما وقال: لقد ذكرنا عند اعترافنا باستقلال سوريا بأنها جمهورية ..
... وهبطت على أجواء الجلسة سحابة من الراحة بعد لحظات من التوتر والقلق، فقد كان واضحا أثناء المباحثات الثنائية التي جرت بين النحاس باشا والوفد السعودي، أن المملكة العربية السعودية تعارض في "سوريا الكبرى" "والهلال الخصيب" وأن بقاء كل من سوريا ولبنان دولتين مستقلتين وعلى(1/124)
أساس النظام الجمهوري، هو شرط أساسي لدخول المملكة العربية السعودية أية "هيئة" عربية مهما كان اسمها، وكائنا ما كان ميثاقها ..
... ولكن نوري النحاس باشا عاد لينبش الموضوع مرة ثانية وقال: لا يحق لنا أن نتدخل في نظم الحكم.
... فانتصب النحاس باشا من مجلسه وفي وجهه كل إمارات الجد وقال: المسألة خطيرة .. ويجب التوضيح فيها، لأن لكل عضو منا أن يتحفظ .. وقد رأى سعادة الشيخ يوسف أن يتحفظ .. وأرجو أن يلاحظ أننا قد استبعدنا هذا النوع من النظام في علاقاتنا العامة .. و .. و ...
... وهنا وجد جميل مردم في هذا الحديث تشجيعا على المضي، فراح يقول: بكل وضوح وصراحة نحن جمهوريون اليوم وغدا .. وسنظل جمهوريين.
... فتهللت أسارير الشيخ يوسف ياسين، مندوب النظام الملكي لهذا الموقف الجمهوري، وقال:
... - أشكر مردم بك على بيانه الذي أوضح ما أردت أن أستفسر عنه.
... وسكت نوري باشا وتوفيق باشا .. وأغلق الموضوع، وفتح موضوع لبنان، وكان هذا سهلا، وقد زاد من سهولته أن تولى زمام المبادرة رئيس وزراء سوريا، صاحب "الدعوى" في الأقضية الأربعة، بل وفي لبنان بأسره .. فطرح مشروع قرار تعلن الدول العربية بموجبه "احترامها لاستقلال لبنان وسيادته بحدوده الحاضرة" فتمت الموافقة بالإجماع على المشروع، واستراح لبنان من (الدعوى) السورية القديمة وقد "سحبتها" سوريا بنفسها .. وأعلن رياض الصلح أن لبنان سيظل عربيا حرا مستقلا، ولن يكون "للاستعمار مقرا(1/125)
ولا ممرا .. وهو الشعار اللبناني الذي صاغه رياض الصلح في أوائل عهد الاستقلال.
... واستشعر الرؤساء أن الاتفاق قد أصبح وشيكا على إقامة جامعة الدول العربية، وارتأوا من "اللائق" واسترضاء للرأي العام العربي أن يستمعوا إلى السيد موسى العلمي، فكان قد وصل إلى الإسكندرية ليكون على مقربة من المشاورات، موفدا من قبل الأحزاب العربية في فلسطين ..
... وهكذا كان، فقد نودي على السيد العلمي، فدخل القاعة ورحب به النحاس باشا استجابة لداعي الوحدة العربية، وألقى موسى العلمي بيانا مطولا استعرض فيه قضية فلسطين من جوانبها المتعددة، مبرزا الخطر الذي يتهدد عرب فلسطين بسبب الهجرة اليهودية المتزايدة، والإرهاب اليهودي، وتقدم بمطالب الشعب الفلسطيني لمساندته بالمال والسلاح حفاظا على عروبة فلسطين ..
... وقد شكر النحاس باشا مندوب فلسطين، ولم يتعرض أحد لمطالب الشعب الفلسطيني، بغير الوعود الإنشائية المعروفة، بالتأييد والمساندة من غير تأييد ولا مساندة .
... ثم اقترح النحاس باشا، بعد أن تمت الموافقة "على إنشاء جامعة الدول العربية المستقلة" أن يعهد إلى لجنة فرعية بأن تضع بروتوكولا يتضمن ميثاق الجامعة ونظامها ..
... والواقع أن البروتوكول كان جاهزا، فقد أعدت مصر المشروع أثناء سير المشاورات، فنظرته اللجنة الفرعية بعد أن ناقشته مادة مادة، ووافقت عليه بالإجماع واقترحت (7 تشرين أول 1944 موعدا لتوقيع البروتوكول).(1/126)
... وعقد الاجتماع الختامي، وإذا بالنحاس باشا، يفتح الجلسة ببشرى "حلوة"، فيقول "أبشركم يا حضرات الزملاء المحترمين بأن سعادة زميلنا سعادة السيد حسين الكبسي تلقى اليوم برقية من حضرة صاحب الجلالة الإمام يحيى نصها كالآتي:
... "من ملك اليمن يحيى إلى الولد حسين الكبسي ..
آمركم بالاشتراك في اللجنة التحضيرية مع مندوبي البلدان الشقيقة بشرط عدم التقيد بشيء إلا بعد العرض علينا لنوافق على ما نرى إن شاء الله، والله الموفق".
استمع الوفود إلى هذه البرقية "التوكلية" التي وصلت إلى "الولد" حسين الكبسي بعد أن انتهت اللجنة من أعمالها .. وأوشكوا أن يضحكوا، حين كاد النحاس باشا، وهو يقرأ البرقية، أن يقول "الود" حسين الكبسي، بدلا عن "الولد حسين الكبسي".
ولكن الجو عاد وتجهم بعد الابتسامات الخفاف، والارتسامات اللطاف، حين دخل أحد موظفي الخارجية ووضع أمام النحاس باشا برقية عاجلة، وصلت في تلك اللحظة .. وكانت من سمو الأمير عبد الله أمير شرق الأردن .. فلم يسع النحاس باشا إلا أن يقرأها:
"صاحب المقام الرفيع مصطفى النحاس باشا رئيس اللجنة التحضيرية للمؤتمر العربي العام – الإسكندرية ..
بمناسبة قرب انتهاء عمل اللجنة التحضيرية لمؤتمر الوحدة العربية أرغب إلى رفعتكم واللجنة المحترمة قبول تحياتي وأطيب دعواتي لتوفيقهم في عملهم في البداية المرضية، والنهاية الخيرية، وأقول إن الأمة العربية تدين بالوحدة وترضي بالاتحاد، وإنا لنرجو أن يتلو ذلك بعضه بعضا، ما(1/127)
دامت النيات حسنة والأماني غير متفاوتة .. كبرهان على صدق النية في وحدة هذه الأقطار .. وفقكم الله للخير جميعا مع التحية المكررة".التوقيع ( عبد الله )
... ولم تكن برقية الأمير عبد الله التي تصل في آخر اجتماع للجنة التحضيرية، في حاجة إلى تفسير أو إيضاح، فقد فهم منها المؤتمرون أن الأمير عبد الله له ماض في سعيه للاتحاد "يتلو بعضه بعضا" رغما عن قيام جامعة الدول العربية !!
... وكادت البرقية أن تفجر موضوع الاتحاد من جديد بعد أن طواه النحاس باشا قبل وصول البرقية بساعة واحدة .. وسأل الشيخ يوسف: وهل نعود إلى بحث الموضوع ..
ورفع نوري باشا رأسه وقال: إن برقية سمو الأمير عظيمة الأهمية وقد وصلتنا في الوقت المناسب ..
وتدخل رياض الصلح، وجميل مردم، كل يؤكد نظامه الجمهوري وكادت الجلسة الختامية أن تنفرط عل غير اتفاق .. وتحرك الهلالي باشا من مقعده، ودفع ورقة إلى النحاس باشا، وقرأ النحاس باشا: لا داعي لأن نتحدث طويلا في أمر برقية سمو الأمير .. ولقد تلوتها عليكم لتأخذوا علما بها، ولا أظن أن هنالك حاجة للرد عليها .. ونحن نكلف دولة أبو الهدى باشا حين عودته إلى عمان أن يبلغ سمو الأمير تحياتنا .. والموضوع انتهى .. وسنعود إلى الاجتماع مساء لتوقيع البروتوكول".
وأومأ الحاضرون برؤوسهم بالموافقة على هذا الحل، وانصرفوا انتظارا للجلسة الختامية.(1/128)
وخرجت من فندق سان أستفانو قبل الموعد المحدد، في نزهة على شاطئ الإسكندرية، وكان البحر في أروع صفائه، وقد أرسلت الشمس خيوطا ذهبية من أشعتها الفاتنة، وإذا بالهلالي باشا، السياسي العالم، يلوح بعصاه في وجهي وهو يقول بلهجته العربية المميزة:
وهل وجدت الوحدة العربية على الشاطئ ؟؟
قلت: نعم لقد وجدتها، وأقسم أني وجدتها على شاطئ البحر ..
قال: أو تقسم على ذلك أيضا ..
قلت: لقد وجدت أعظم أعلام الوحدة العربية على شاطئ الإسكندرية.
قال: ومن هؤلاء الأعلام ..
قلت: هذا شاطئ سيدي بشر، وذلك شاطئ سيدي جابر، وبعده شاطئ الشاطبي، وما بشر وجابر والشاطبي إلا أكبر علماء الأندلس الذين نزلوا في الإسكندرية، وقضوا عمرهم فيها يؤلفون ويعظون ويدرسون حتى ماتوا في الإسكندرية، وهذه مساجدهم لا تزال تحمل أسماءهم في الإسكندرية .. أليست هذه هي الوحدة العربية قبل سبعمائة عام.
قال: صدقت وعليك أن تضيف مسجد أبي العباس المرسي .. فهو من أولياء الله، من مواليد الأندلس، ومن فقهاء المالكية العظام، ويتبارك الناس بضريحه في الإسكندرية ..
... قلت: إذا كانت هذه معالم الإسكندرية تشهد للوحدة العربية، في عهد القوافل والجمال، فلماذا لا تدخل الوحدة العربية إلى قصر انطونيادس، في عهد الطائرات ..
قال (مستشهدا بالقرآن) "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم".
... قلت: ولكن القرآن يقول: "إن هذه أمتكم أمة واحدة" ..(1/129)
ونظر كل منا إلى ساعته، فقد حان الموعد، وافترقنا ..
... وفي الساعة المحددة سارعت إلى جامعة فاروق الأول بالإسكندرية حيث مكان الاجتماع المخصص للتوقيع على البروتوكول، وكانت الجماهير تملأ الشوارع، تقودها فرقة الهتافين وهي تهتف، يعيش الزعيم الجليل، "تعيش الوحدة العربية".
... ولكن الجماهير استمرت تهتف: يعيش الزعيم الجليل، تعيش الوحدة العربية، وكانت تتعالى هتافات الشعب كلما رأوا سيارات الوفود العربية تصل إلى مبنى الجامعة .. وكأنما تململ أمير الشعراء، شوقي، في مرقده فأشفق على الشعب المخدوع، فراح يتمتم:
ياله من ببغاء ... ... عقله في أذنيه
... وفي الساعة المحددة اكتمل عقد الاجتماع وتعاقب "أصحاب الرفعة والدولة والمعالي والسعادة والعزة" على توقيع بروتوكول الجامعة العربية الذي عرف في المحاضر الرسمية "بروتوكول الإسكندرية بشأن مشاورات الوحدة العربية" ..
... ولكن لم يوقعه الشيخ يوسف ياسين لأنه مفوض بالاشتراك لا بالتوقيع.
ولم يوقعه "الولد" حسين الكبسي لأنه مفوض بالاشتراك لا بالتوقيع.
ولم يوقعه كذلك من هو أعظم منهما، وأعظم من رؤساء الوفود الآخرين ..
أجل .. لم توقعه الوحدة العربية ..
... ولم توقعه الأمة العربية .(1/130)
أيام مع:
النقراشي.. سمير الرفاعي.. عبد الحميد كرامي
هنري فرعون.. وفارس الخوري ..وعزام
في اليوم السابع من شهر تشرين أول عام 1944، وعلى هتاف الجماهير المنتشرة في ميادين الإسكندرية وشوارعها، وقع النحاس باشا ورؤساء الحكومات العربية بروتوكول الوحدة العربية ..
... وفي اليوم الثامن من الشهر ذاته ومن العام نفسه، أقال الملك فاروق النحاس باشا ووزرائه، ووقع عبء "الوحدة العربية" في مصر على أكتاف وزارة مصرية جديدة مؤلفة من جميع الأحزاب، ما خلا حزب الوفد. ... ومضت أربعة أشهر في مراسلات بين القاهرة والعواصم العربية لتحديد موعد اجتماع اللجنة الفرعية المكلفة بوضع مشروع ميثاق الجامعة العربية .. تمهيدا لتقديمه إلى اللجنة التحضيرية العامة لإقراره من قبل المؤتمر العربي العام.
... وأخيرا، وفي 14 شباط سنة 1945، عقد اجتماع اللجنة الفرعية في دار وزارة الخارجية المصرية في القاهر، ووفدت على مصر وجوه جديدة: سمير باشا الرفاعي رئيس وزراء شرق الأردن .. هنري فرعون وزير(1/131)
خارجية لبنان .. محمود فهمي النقراشي باشا، وزير الخارجية المصرية ومعه عبد الرحمن عزام – بك – الوزير المفوض بوزارة الخارجية المصرية.
وفي الموعد المحدد، وبصفتي الأولى المبعوث الشخصي للرئيس القوتلي، كنت في طريقي إلى دار وزارة الخارجية المصرية، مع جميل مردم بك وزير الخارجية السوري. وبدأ الاجتماع، وفيه من الوجوه القديمة، نوري السعيد ولم يكن رئيس وزراء ولكن نوري السعيد وكفى، كما كان فيه خير الدين الزركلي مستشار السفارة السعودية في القاهرة، والتحق به الشيخ يوسف ياسين فيما بعد ..
... وافتتح النقراشي باشا الاجتماع بوصفه رئيسا للجلسة بخطاب يختلف عن الخطب الافتتاحية التي كان يلقيها النحاس باشا أثناء مشاورات الوحدة العربية في الإسكندرية .. فقد تحدث النقراشي باشا عن "اتحاد الشعوب العربية ومجدها ورسالتها" .. وعن "التعاون في ساحة الشعوب العربية، وعن الدول العربية المتحدة في الجامعة العربية: .. وكان واضحا تماما أن موضوع "الوحدة العربية" كنظام سياسي، ليس في ذهن المسؤولين في مصر، وأن على الدول العربية الأخرى أن تفهم ذلك جيدا، وبالتالي يجب على "الشعوب العربية" أن لا تطمع بأكثر من التعاون .. وكفى.
... ولم يخطب أحد من رؤساء الوفود إلا اثنان: سمير الرفاعي رئيس وزراء الأردن، ألقى كلمة مجاملة ومودة وتحية، وهنري فرعون وزير خارجية لبنان، ألقى خطابا حمله من لبنان يؤكد فيه الاتجاه اللبناني في "التقارب بين الأقطار العربية" وإنماء صلات المودة مع سائر الأقطار العربية.. وشق طريق التعاون بين الأقطار العربية، ولم يجد وزير الخارجية(1/132)
اللبنانية إذ ذاك حاجة إلى استبعاد "الوحدة العربية" "والحكومة العربية المركزية" فقد أعلنت الدول العربية في اجتماعها في الإسكندرية قبل ثلاثة أشهر "اعترافها باستقلال لبنان بحدوده الحاضرة".
... ومع هذا فقد أطل شبح الوحدة على السيد هنري فرعون حين بدأ البحث في موضوع تمثيل فلسطين في الاجتماعات ... فأغرق الجلسة أربع ساعات طوالا في جدال ونقاش، واستمعت أنا الفلسطيني إلى حوار طويل عن تمثيل فلسطين، عن شرعيته وملاءمته وطريقته !! وتحدث الوزراء ..
... جميل مردم: يجب أن نبحث عن الطريقة التي نشرك بها معنا مندوب فلسطين بما يتفق مع بروتوكول الإسكندرية.
نوري السعيد: لقد اشترك معنا السيد موسى العلمي في مشاورات الإسكندرية ولا أرى مانعا من أن يشترك معنا في دراسة نظام الجامعة العربية.
خير الدين الزركلي: لا أرى مانعا من حضوره.
سمير الرفاعي: إن عدم حضور مندوب فلسطين قد يساء فهمه أو يؤول تأويلا آخر، وأرى أن يجلس معنا.
هنري فرعون: إن شعور لبنان نحو فلسطين هو مثل شعوركم .. ولكن هل هذا العمل قانوني، إن فلسطين غير مستقلة ونحن دول مستقلة.
سمير الرفاعي: لا أرى مانعا من تمثيل فلسطين.
هنري فرعون: إذا شئتم فلتمثل فلسطين ولكن بطريقة رسمية .. نحن نوافق ولكن بطريقة رسمية !!(1/133)
نوري السعيد: فلسطين تحت الانتداب، وحكومتها أجنبية ولا يمكن أن تمثل معنا .. ولا يوجد مانع شرعي أو قانوني يحول دون حضور السيد العلمي معنا وهو يمثل جميع الأحزاب الفلسطينية.
هنري فرعون: إن فلسطين تستطيع أن تدخل الجامعة بعد الاستقلال .. إن موسى العلمي يمثل جميع الأحزاب الفلسطينية، إلا أني أعتقد أن وجود دولة غير مستقلة معنا يضعف حجتنا في المستقبل في المجالات الدولية .. !!
سمير الرفاعي: أرى أن يترك الباب مفتوحا لكل قطر عربي للاشتراك في الجامعة، سواء كان مستقلا أو غير ذلك.
هنري فرعون: وهل إذا تقدم اليوم من يمثل مراكش أو الجزائر، وطلب الاشتراك معنا نستطيع قبوله ؟؟
النقراشي باشا: أخشى أن يفسر عدم حضور السيد موسى العلمي مندوبا عن فلسطين بأننا قد أغفلنا قضية فلسطين ..
جميل مردم: السيد موسى العلمي حضر معنا مباحثات الإسكندرية، ولم يوقع بروتوكول الإسكندرية ويمكن أن يشترك معنا الآن دون أن يوقع ميثاق الجامعة .. وبهذا نكون قد وفقنا بين الناحية الدولية التي أشار إليها هنري بك والناحية الواقعية، وبهذا نثبت للملأ مدى اهتمامنا بقضية فلسطين.
هنري فرعون، وهل إذا وافقنا اليوم على دعوة مندوب فلسطين، نوافق غدا على دعوة مندوب مراكش والجزائر .. ؟
وطال الأخذ والرد في هذا الموضوع، واقترح البعض حذف كل ما جاء في المحضر بصدد هذا الموضوع، واقترح آخرون صياغات متعددة:(1/134)
يحضر السيد موسى العلمي شخصيا .. يحضر السيد موسى العلمي مندوب فلسطين، يحضر السيد موسى العلمي ممثل الأحزاب الفلسطينية، و ... و ... ثم رسا الخلاف على اتفاق، بأن يدعى "السيد موسى العلمي" بلا صفة ولا عنوان .. وأعلن هنري فرعون أن حضوره سيكون استشاريا ..
... ولقد صدر هذا القرار بعد أن أكدت بقية الوفود العربية لوزير خارجية لبنان أن هذا الاستثناء قاصر على فلسطين لما لها من أهمية خاصة .. وأن هذا.. الاستثناء لا يطبق على الجزائر ومراكش .. وهكذا تم الاطمئنان .. على المخاوف الافرنسية، والمصالح الافرنسية !!
... والواقع أن هذا الموقف من هنري فرعون لم يكن بدعا في ذلك العهد، في أوائل الأربعينات وما بعدها .. فقد كان عدد غير قليل من ساسة العرب موزعي الصداقة والولاء، هذا إلى جانب بريطانيا، ذاك إلى جانب فرنسا .. وذلك إلى جانب أمريكا .. وكان ذلك ينعكس على الاجتماعات العربية في الغرف المقفلة لسنين طويلة .. أما القومية العربية فكان يمثلها الشعب العربي نفسه لا في داخل هذه الاجتماعات، بل في الشارع.
... وإني لأذكر في ذلك الاجتماع بالذات، أن أحد موظفي الخارجية المصرية قد دخل إلى قاعة الاجتماعات، ووضع أمام النقراشي باشا مظروفا كبيرا، ففتحه ووزع ما فيه على الوفود العربية وقال:
- جاءني خطاب من وزير أمريكا المفوض في القاهرة أرسل معه نسخا بالعربية لوثائق مؤتمر "دومبارتون اوكس" أتشرف بتوزيعها على حضراتكم للإفادة منها، وأعتقد أنكم تشاركوني في تقديم الشكر لجنابه على ما أبداه من اهتمام في إرسال هذه النسخ في الوقت المناسب".(1/135)
... وهذه "المقترحات" هي التي تم الاتفاق عليها في عام 1944 في واشنطون في قاعة "دومبارتون اوكس"، بين ممثلي الولايات المتحدة والصين وأمريكا وبريطانيا والاتحاد السوفييتي لإنشاء الأمم المتحدة، وسميت المقترحات في ذلك الوقت باسم القاعة التي عقدت فيها الاجتماعات.
... وصدر القرار من الوفود العربية بشكر الولايات المتحدة ... وكانت الوثائق التي أرسلها وزير أمريكا المفوض في القاهرة .. جاهزة باللغة العربية تتضمن مشروع ميثاق "الأمم المتحدة"، التي كانت إذ ذاك في حيز التفكير .. وهكذا أرادت أمريكا بهذه المبادرة أن توحي للحكومات العربية بأن ينشئوا جامعة الدول العربية على غرار الأمم المتحدة !!
... ثم دخل موظف آخر يحمل ملفا وضعه أمام الوفد المصري، فتناوله النقراشي وراح يقرأ برقية من جلالة الإمام يحيى حميد الدين بأن "حكومتنا ستقرر موضوع الاشتراك في الجامعة العربية مع التحفظات .. وأن توقيعنا للبروتوكول لا بد وأن يكون مقترنا ببعض التحفظ الذي نراه لازما .. وما مانع عند الجماعة من الموافقة عليه .. و .. ".
... كان النقراشي يقرأ تلك البرقية الطويلة، ويميل على السيد عبد الرحمن عزام لكي يشرح له بعض عباراتها وخاصة عبارة "لا مانع عند الجماعة من الموافقة" .. ثم يقوم عزام بدوره بالشرح اللازم..
... وأخذ النقراشي بعد ذلك يقرأ مذكرة من المملكة العربية السعودية بموافقتها على بروتوكول الإسكندرية وفيها التوكيد الجامع المانع بأن "تكافل العرب وتضامنهم ليس موجها إلى أية غاية عدائية نحو أية أمة أو دولة أو جماعة من الدول .. ويجب أن يكون مفهوما من البداية، أن نظام سوريا ولبنان كجمهوريتين سيستمر، كما هو مفهوم أن استقلالهما متفق عليه ..".(1/136)
... وقد تفرست في وجوه الوفود العربية، حين كان النقراشي باشا يقرأ التحفظات السعودية .. فكان الوفدان العراقي والأردني متجهمين، فإن المذكرة السعودية موجهة إلى شجب الهلال الخصيب ومشروع سوريا الكبرى. "وكظم" الوفدان السوري واللبناني سرورهما كأنما المذكرة السعودية لا تقول شيئا .. أما النقراشي باشا فلم يبد على وجهه شيء من السرور أو الفتور، فهو إنسان يعرف كيف يحبس عواطفه، أمام هذه التيارات العربية، وهو يواجهها لأول مرة في حياته السياسية ..
... وتوالت اجتماعات اللجنة بعد ذلك وبلغت ست عشرة جلسة امتدت حتى 3 آذار 1945، وكانت منصرفة خلالها إلى وضع مشروع ميثاق الجامعة العربية.
... وقد وقعت خلال هذه الاجتماعات "أمور صغيرة" تشير إلى مستوى الحكم العربي في ذلك العهد، وما يزال حتى الآن كثير من هذه "الأمور الصغيرة" وعلى مقياس أكبر ..
... من ذلك أنه حدث أثناء الاجتماعات أن انهالت على وزارة الخارجية المصرية أكداس من البرقيات من الوطن العربي ومن الخارج، وكلها تعرب عن الآمال العظام والأماني الجسام، وكان بين هذه برقيات من:
1- اللجنة العليا للدفاع عن الجزائر
2- رابطة الدفاع عن مراكش.
3- رابطة الدفاع عن تونس.
4- جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية.
5- العرب في أمريكا.
6- جامعة الصداقة العربية الكندية.(1/137)
وقد ثار نوري السعيد، وأثار موضوع البرقيات في إحدى الجلسات وكان الحوار .. صغيرا وحقيرا:
نوري السعيد: يجب أن نعمل ضمن اختصاصنا، نحن مجتمعون لنضع نظام الجامعة العربية، لا للنظر في البرقيات والرسائل .. إنه لا يجوز لنا أن نثبت برقيات في المحضر ونهمل أخرى قد يكون فيها فائدة .. وإذا جاءتنا برقيات، علينا أن نرفعها إلى هيئة المؤتمر بقرار، أو بدون قرار لينظر فيها !!
جميل مردم: أظن أن موضوع البرقيات داخل في اختصاصنا ..
سمير الرفاعي: أنا لا أوافق .. يجب أن لا نتعدى اختصاصنا ..
نوري السعيد: البرقيات قد تحتاج إلى رد، وهذا ليس من اختصاصنا، يجب أن نرفعها إلى المؤتمر العام !!
يوسف ياسين: أقترح الإشارة إلى جميع الرسائل في محضر الجلسة، ولا حاجة إلى إثبات نصها..
... هنري فرعون: هذا رأي صواب ..
... ولكن أحدا من هؤلاء الرؤساء لم يفصح عن سبب هذه الثورة التي شغلت حيزا في المحاضر، ووقتا ضائعا كان يجب أن يصرف في "الوحدة العربية"، لا في إثارة موضوع البرقيات والرسائل ..
... لقد كان سبب هذه الثورة – ومن حق الأجيال أن تعلم – أن برقية جامعة الصداقة العربية الكندية، قد أثبت نصها الكامل في المحضر، على حين أن البرقيات الأخرى قد أشير إليها من غير إثبات النص !!(1/138)
... وكان "النص" في برقية جمعية الصداقة الكندية هو الذي أثار نوري باشا وثار معه بقية الزملاء العظام، فقد ورد في ختام البرقية، وهي موجهة إلى رئيس الوزارة المصرية أن "أنظار الدول الديمقراطية تتطلع إلى العهد العربي الجديد تحت زعامتكم".
... "تحت زعامتكم" ... هذا هو سبب الثورة، ثورة نوري السعيد ورفاقه الأكرمين ..
... وقد تخلف نوري السعيد غير مرة عن حضور الجلسات، بسبب هذه البرقية، وهل تثبت في المحضر أو لا تثبت .. إلى أن جاء يوم آخر .. وجاءت رسالة من السيد محمد إدريس المهدي السنوسي، وقد أصبح ملكا فيما بعد، يقول فيها:
... "إن بلادي الليبية التي تحررت، والآن بيد الإدارة العسكرية البريطانية المؤقتة، والتي أتشرف بتقديم هذا لمعاليكم نيابة عنها، أتعشم بأن لا تحرم من أن تمثل بجامعة الوحدة العربية عند أول ما يمكنكم ذلك لأنها بلاد عربية، وشعب عربي جاهد وكافح كفاحا مجيدا في سبيل حريته واستقلاله مدة ثلاثين عاما، الشيء الذي هو معلوم لديكم من قديم وحديث".
... وما أن انتهى النقراشي من قراءتها، حتى وقف نوري باشا على قدميه وهو يقول باللهجة العراقية ...
... آغاتي .. هذه برقية معقولة .. ما فيها لا زعامتكم ولا رياستكم .. يجب إثباتها في المحضر !!
... وضحك النقراشي باشا والوفود الأخرى، بين جاد وساخر، وكانت "جامعة الوحدة العربية" التي أشار إليها السيد السنوسي .. من الساخرين ..(1/139)
... وفي مثل هذا الجو، وبهذه الروح، مضت المباحثات لوضع ميثاق للجامعة العربية .. وتقدم الوفد اللبناني بمشروع تولى السيد هنري فرعون عرضه وشرحه .. وبدأ يتكلم:
... "لقد استبعدت الحكومات العربية في مباحثات الإسكندرية موضوع الوحدة وفكرة الحكومة المركزية، ولهذا فإن مشروعنا يقوم على أساس السيادة والاستقلال .. .. وعلى ذلك فنحن لا نوافق أن يكون للجامعة العربية شخصية دولية مستقلة .. هذا هو رأي العلماء والفقهاء .. ولا نوافق أن تتولى الجامعة العربية أي اختصاص إلزامي لأن ذلك يخل بسيادتنا .. ولا .. ولا .. وكل ما نوافق عليه هو التعاون بحرية واختيار، من غير إلزام ولا إجبار" !!
... واستطرد هنري فرعون يقول: "أنا لا أقبل إعطاء الجامعة شخصية دولية، لقد جئت إلى هنا على أساس أن الجامعة ليست مؤسسة دولية .."
... وعلق الأعضاء على هذا الكلام بصورة عامة، وقدم نوري السعيد مشروعا آخر للجامعة العربية .. وحصل نقاش حول إدماج المشروع العراقي بالمشروع اللبناني .. واستقر الرأي أن يقرأ كل منهما مادة مادة، وأصبح الوزراء لجنة صياغة .. يتناقشون حول الألفاظ، من ذلك ما قاله نوري السعيد:
... أقترح أن نضع "إثبات الصلات" بدلا عن "تثبيت الصلات" لأني سمعت من جملة علماء، ومنهم السنهوري بك أن "إثبات" غير "تثبيت".
... ومن ذلك أن المشروع اللبناني قد نص في أحد مواده "أن يكون مقر مجلس الجامعة الدائم في مصر، وله أن يجتمع صيفا في لبنان .." فاقترح الشيخ يوسف ياسين أن يقال "في الصيف" بدلا من "صيفا" لأن هذا أصح في اللغة !!(1/140)
... ومنها أن هنري فرعون وضع نصا يقول "إن الدخول في جامعة الدول العربية لا يمس استقلال الدولة التي تدخل فيها، ولا سيادتها سواء في الداخل أو في الخارج" وانشغل الاجتماع بهذا النص الهزيل، وزاد عليه نوري السعيد بتعديل هزيل آخر حين قال أن كلمة الدخول في الجامعة غير صحيحة، والأفضل أن نقول "الانضمام" إلى الجامعة، فزاد تعديلا تافها على اقتراح تافه !!
... ولم يكتف نوري السعيد بالبحث اللغوي وهو لا يفهمه، بل أصبح يبحث في شؤون الموظفين، فقد اقترح أن يكون للدول المشتركة في الجامعة موظفون في سكرتيرية الجامعة .. ووافقه على ذلك جميل مردم وسمير الرفاعي .. استحيى النقراشي باشا أن يتضمن ميثاق الجامعة مثل هذا النص، فقال "نكتفي أن نثبت هذا في المحضر دون ما حاجة إلى صياغة مادة خاصة، وعلى كل حال فإن مجلس الجامعة حين ينعقد لتنظيم أموره سيتولى هذا الأمر".
... وتعاقبت الاجتماعات، ورؤساء الوفود يصوغون مشروع الميثاق مادة مادة، إلى أن انتهوا إلى اتفاق على "مشروع ميثاق الجامعة العربية" مؤلف من "اثنتين وعشرين مادة، مع ملحقين أحدهما خاص بفلسطين والآخر خاص بالبلاد العربية"، وتقرر رفع هذا المشروع إلى اللجنة التحضيرية العامة، لتنظره وتقرره، ومن ثم يعلنه المؤتمر العربي العام.
... وفي الموعد المقرر، في 17 آذار 1945، تكاملت الوفود العربية بالرؤساء والوزراء والسفراء على شكل هيئة تحضيرية عامة، وشهدت القاهرة مرة أخرى تجمعا عربيا كبيرا في سراي الزعفران في القاهرة، وسط(1/141)
حفاوة بالغة ومظاهرات حاشدة لا تتقنها غير مصر، فقد أصبحت من مهاراتها القومية.
... وأجلت بصري في قاعة الاجتماعات فأبصرت بين الوفد المصري شخصيات ضخمة، منها عبد الحميد بدوي وزير الخارجية المصرية، ومحمد حسين هيكل باشا رئيس مجلس الشيوخ، ومكرم عبيد باشا وزير المالية، ومحمد حافظ رمضان باشا وزير العدل، وعبد الرزاق أحمد السنهوري بك وزير المعارف، ولكل من هؤلاء تاريخ حافل في النضال المصري، فضلا عن كفاءاتهم العلمية الفذة ..
... أما الوفود العربية الأخرى فقد كانت الوجوه الجديدة فيها السيد عبد الحميد كرامي رئيس وزراء لبنان، والسيد أرشد العمري وزير خارجية العراق، والسيد سعيد المفتي وزير داخلية الأردن .. والسيد فارس الخوري رئيس وزراء سوريا .. والوجوه السابقة بقيت على حالها ..
... وتخلف نوري السعيد عن الحضور فقد رأى أن الأمور تجري على غير هواه، وأراد أن يحتفظ لنفسه بحرية العمل في مشروعاته العربية واتجاهاته الدولية .. وقد أوضحها المستقبل في حلف بغداد، وقد دخل فيه مع إيران وتركيا وباكستان، بالإضافة إلى الإنجليز والأمريكان !!
... وافتتح النقراشي باشا الاجتماع بخطاب ترحيبي تولى فيه الدفاع عن الحكومات العربية أمام غضبة الرأي العام العربي .. فقد كانت صيحات "الوحدويين" في الوطن العرب تتعالى .. تنتقد وتستنكر ذلك العمل العربي الهزيل تحت ستار الوحدة العربية، فأعلن النقراشي في كلمته "أن الميثاق هو الخطوة الأولى في سبيل تعاون أكمل واتحاد وثيق .." ثم أردف قائلا "نعم قد يكون لبعض الناس رأي في أن هذا المشروع لم يصل إلى المدى الذي يرجوه(1/142)
الرأي العام العربي، وتشرئب إليه أعناق أنصار الوحدة في الأقطار العربية كلها .. ولكن الجميع متفقون على أنه أداة تسمح بما يطمع إليه الجميع من تعاون واتحاد" ..
... وأغلقت الأبواب وخرج الصحفيون والمصورون، بعد هذا الدفاع الذي لم يثبت مع الأيام والأعوام، وبدأت اللجنة التحضيرية في إعداد مشروع ميثاق الجامعة بصورة نهائية .. فانعقدت جلستان طويلتان، للقراءات الأولى والثانية والثالثة لإقرار مشروع الميثاق.
... وأخذ عبد الحميد تدري باشا وهو الفقيه الدولي المعروف، يقرأ المشروع مادة مادة، والأعضاء من ورائه يعدلون ويبدلون .. ولكن في الكلمات والألفاظ .. إلى أن عيل صبر رئيس الجلسة النقراشي باشا فقال: إن مشروع الميثاق متفق عليه بيننا ولا تبقى إلا الصياغة .. وإن عبد الحميد بدوي باشا، هو خير من يرشدنا إلى الصياغة المناسبة، وسكت الجميع .. إلا فارس الخوري رئيس الوزراء السوري فقد رفع يده وليقول:
... لقد تحدث مشروع الميثاق عن السعي للتنسيق السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، ولكنه لم يتحدث بشيء عن تنسيق التشريع وتوحيده بين البلاد العربية.
... وخشي المجتمعون أن يكون هذا الكلام هو عودة إلى بحث موضوع "الوحدة"، وسوريا كانت دائما هي التي تحمل "الملقط" لتحرك الجمر .. وثار الحوار من جديد، بين أصحاب الكفاءات القانونية، وسلطوا سوط القانون، ليحولوا دون وحدة القانون .. وكان مما قالوه:
... حافظ رمضان باشا: يصعب جدا توحيد التشريع ..(1/143)
... مكرم عبيد باشا: هل من المصلحة أن تكون أنظمتنا الدستورية
واحدة .. ؟
... عبد الحميد بدوي باشا: إن وحدة التشريع ليست صورة من صور التعاون ..
... السيد أرشد العمري: أرى أن نترك هذا الموضوع الآن.
... محمد حسين هيكل باشا: إن التوحيد في التشريع يكون بين الدول التي تقوم على أسس مشتركة مثل الدول اللاتينية، أما الدول المشتركة في الجامعة فليست متحدة في أسس التشريع.
... فارس الخوري: ولماذا لا نسعى لنتحد في التشريع .. ؟ !
ولم يجد هذا السؤال جوابا بين الحاضرين .. إلا من عبد الرحمن عزام فقد أسهب في الكلام في هذا الموضوع، مؤكدا أن الرأي العام العربي "يحن إلى هذه الفكرة حنينا قويا".
... وانهزمت آخر محاولة ضئيلة للوحدة، وعاد عبد الحميد بدوي باشا يقرأ الميثاق مادة مادة.
... وبعد أن فرغت الهيئة من تلاوة مواد الميثاق الخاصة "بالتنسيق" و"التعاون" بين الدول العربية، التفت النقراشي باشا، إلى وفد لبنان وقال "هذه هي المسائل التي تهم لبنان" فقال السيد عبد الحميد كرامي: إن لبنان يريد دائما أن يسير بجانبكم، وهو يعتبر نفسه من البلاد العربية ومن صميمها".
... ولقد اعتبر هذا الكلام قويا جدا – في ذلك العهد – فصفق الحاضرون طويلا، ومما جعل هذا التصفيق حارا أن السيد عبد الحميد كرامي كان قد سبق وأعلن في البرلمان اللبناني "نحن الذين كنا ننادي بالوحدة السورية(1/144)
والإمبراطورية العربية قد عدلنا الآن عن رأينا، وأردنا لبنان مستقلا بحدوده الحاضرة، لا خوفا من أحد، ولا مجاملة لأحد، بل عن عقيدة وطنية ..".
... والواقع أن السيد عبد الحميد كرامي قد جاء إلى تلك الاجتماعات وهو يريد أن يتعاون إلى أوسع مدى .. ففي معرض الجدال حول نصوص الميثاق أعلن قائلا: "هناك فكرة منطبعة في الأذهان تقول إن لبنان هو الذي يتحمل مسؤولية النصوص المرنة في الميثاق، وأنا أقول إن لبنان مستعد أن يجاريكم في كل شيء، وأرجو أن لا تعتبروا أنه حجر عثرة في سبيل الوحدة العربية"، وقال في مناسبة أخرى "إن لبنان لا يثير جدلا" .. فصفق الحاضرون مرة أخرى.
... كما أنه الواقع مرة ثانية، أن الوفود العربية التي لم تكن تريد السير في نطاق الوحدة كانت "تتسلح" بلبنان، وكانت تقول في كل مناسبة، لا يمكن السير في الوحدة، أنتم تعرفون ظروف لبنان.. يجب أن لا يخرج لبنان من اليد – علينا أن نسير في سير أضعفنا – وغير ذلك من العبارات التي جعلت الوفود العربية أكثر "لبنانية" من رئيس جمهورية لبنان !!
... هكذا كانوا يهربون من الوحدة ويلقون "اللعنة" على لبنان ويتمسحون بلبنان .. وأنه لولا لبنان لكانت الوحدة، وكانت الحكومة العربية الواحدة !!
... واستأنفت اللجنة التحضيرية مسيرتها للوصول إلى "وحدة الألفاظ" لا إلى الوحدة السياسية .. ومن الطرائف التي ما تزال عالقة في ذاكرتي ذلك الحوار الطويل حول هذه الكلمة أو تلك .. مثلا أن تكون عبارة "دعم هذه الروابط وتوطيدها" بدلا من "توطيد الروابط ودعمها" .. وأن تكون كلمة "مستوفاة" بدلا من كلمة "مستوفية" ، و"تثبيتا للعلاقات الوثيقة" بدلا من "إثباتا للعلاقات الوثيقة".(1/145)
... وانتهى مشروع الميثاق، وانتهى معه ملحقان: واحد لفلسطين وآخر للبلاد العربية غير المستقلة، ثم اقترح النقراشي باشا اختيار السيد عبد الرحمن عزام أمينا عاما للجامعة العربية "وهو منكم وليس غريبا عنكم"، فدوت القاعة بالتصفيق ..
... وفي النهاية تحدد يوم 22 آذار موعدا لتجتمع اللجنة التحضيرية على شكل مؤتمر عربي عام لتوقيع الميثاق.
... وفي عصر ذلك اليوم من ربيع القاهرة الزاهر .. كانت سراي الزعفران تخفق على سواريها أعلام الدول العربية السبع، والوفود العربية يدخلون إلى قاعة الاجتماع بعضهم بالطربوش الفاقع، وبعضهم حاسر الرأس الناصع، وهذا بالعمامة المكورة، وذاك بالعقال المائل، وذلك بالقبعة المحدبة .. وجاء دود الكلام، فأجادوا وما أفادوا.
... فأعلن النقراشي باشا: (مصر) أنه يوم أغر مجيد يؤذن بميلاد جامعة الأمم العربية .. والميثاق وثيقة أصلها ثابت في الرأي العام، وفرعها باسق بيد الملوك الصيد والرؤساء الفخام ..".
... وأعلن فارس الخوري (سوريا): إن سوريا التي كانت مبعثا لأشعة العروبة .. مطمئنة إلى أن هذه البداية المتواضعة ستأخذ مجراها في طريق النمو إلى الوحدة".
... وأعلن سمير الرفاعي (الأردن): إنه منذ فجر النهضة العربية الحديثة التي رفع لواءها المغفور له جلالة الملك حسين .. عمل العرب على جمع كلمتهم وتوحيد صفوفهم .."(1/146)
... وأعلن أرشد العمري (العراق): أنه في غضون الحرب العالمية الأولى كان للرصاصة الأولى التي أطلقها الملك حسين بن علي دوي عظيم في العالم العربي .. وها نحن الآن نؤسس جامعة الدول العربية .. وأن هذا الميثاق هو الطلقة الثانية .. وسنسير جنبا إلى جنب مع حلفائنا لإحراز
النصر .."
... وأعلن الشيخ يوسف ياسين (السعودية): في هذا اليوم الأغر المحجل قد بنينا بيتا لأمتنا في هذا الميثاق، جعلناه فسيح الأرجاء متسع الجوانب ليسعنا جميعا .. وسنحيط هذا البيت بحصون من اجتماع كلمتنا، ومعاقل من حسن نيتنا، لنرد عنه كيد الكائدين ونحميه من عيون الحاسدين ..."
... وأعلن عبد الحميد كرامي (لبنان): علينا أن نمجد في هذه الساعة المجاهدين الأولين في كل قطر من أقطار العرب، من استشهد منهم ومن كتبت له الحياة ليشهد هذا اليوم الأغر في تاريخ العرب".
... وأعلن الإمام يحيى من خلال برقيته التي تليت في الاجتماع، فقال: "سيكون ما سترسلونه إلينا موضوع أتم العناية والتقدير إن شاء الله".
... وكان عبد الرحمن عزام آخر المتكلمين فأعلن "إن الميثاق الذي أمضيتموه ليس إلا عنوانا لميثاق غير مكتوب .. وإني أكرر الشكر لكم إذ تفضلتم فأكرمتموني بأن أكون حرفا في هذا العنوان".
... وأقبل رؤساء الوفود العربية على السجل المفتوح الدفتين، ليوقعوا ميثاق جامعة الدول العربية نيابة عن حكوماتهم، وسط مظاهر بالغة من الحماسة الرائعة ..
... وفي اليوم الذي كان فيه الوفدان العراقي والأردني في سراي الزعفران يوقعان الميثاق ويلتزمان بأحكامه، بل لعله في الساعة ذاتها ..(1/147)
كانت الأسرة الهاشمية قد تجمعت من بغداد وعمان لتلتقي في الشونة – الأردن – تحت رياسة الأمير عبد الله أمير شرق الأردن .. لتبحث مستقبل الأسرة الهاشمية، ومستقبل المشروعات الهاشمية، أيهما أقرب وأيسر: سوريا الكبرى أم الهلال الخصيب .. ؟ وما لنا وما للجامعة العربية !!
... وهكذا أنشئت الجامعة العربية التي كانت الجماهير العربية تترقبها، منذ أن أعلن المستر ايدن وزير الخارجية البريطانية تصريحه الشهير عن الوحدة العربية في ربيع 1941.
... وغادرت سراي الزعفران مع عبد الرحمن عزام في سيارته، وكانت الجماهير على طول الطريق تهزج وترقص، وتنشد وتهتف: "تعيش الوحدة العربية .. ".
... فقلت لعزام: هل سمعت ماذا يريد الشعب.
... قال: هذا صحيح، ولكن أنت تعرف ظروف الحكومات العربية الرسمية ..
... قلت: أنا أعرف .. ولست أطمع في قيام حكومة مركزية عربية الآن .. ولكن ميثاق الجامعة قد كرس التجزئة، وأرسى قواعد الانفصال.
... قال: وكيف؟
... قلت: كل نصوص الميثاق .. وكل نشاطات الجامعة قائمة على أساس السيادة والاستقلال.. أي على أساس التجزئة والانفصال .. والقرارات إذا صدرت، يقبلها من يشاء ويرفضها من يشاء، ولا أظن أن الإنجليز يريدون جامعة عربية، خيرا من هذه لهم، وشرا من هذه علينا ..
... قال: لا تكن متشائما إلى هذا الحد ..
... قلت: كان الله في عونك على هذا التفاؤل ..(1/148)
... قال: (وأنا أغادر السيارة إلى الفندق) إنها خطوة .. الخطوة الأولى، نرجو أن تعقبها خطوات نحو الوحدة العربية الكاملة ..
... قلت: نعم إنها خطوة .. ولكن خطوة إلى الوراء !!
... قال غاضبا: فال الله ولا فالك .. تفاءلوا بالخير تجدوه ..
... ودخلت الفندق أترحم على أرواح الشهداء الذين سقطوا من أجل الوحدة العربية، ولم أكن أدري أن القدر يخبئ لي أن أكون أمينا عاما مساعدا في هذه الجامعة العربية، وأن أكون زميلا لعبد الرحمن عزام، وبعده لعبد الخالق حسونة .. لأرى بالأعمال، لا بالجدال، أن الجامعة العربية كانت على صعيد الوحدة، خطوة إلى الوراء ..
... ومن شاء أن يعلم، فليقرأ .. وليقرأ بفهم وإمعان ..
... فهذه مذكراتي وهذه ذكرياتي ..(1/149)
رحم الله زعيم مصر العظيم ...
قال: وهل تحب الوحدة العربية ؟
... قلت: أحبها، إنها ليلاي وأنا مجنونها ..
... قال: وهل تريد أن تكون لك خطوة على طريقها ؟
... قلت: أعطيها كل جهدي، كل عمري ..
... قال: إذن، تعال واعمل معي في الجامعة العربية ..
... كان ذلك في أوائل الخمسينات وفي القاهرة .. كان الحديث بيني وبين السيد عبد الرحمن عزام الأمين العام للجامعة العربية .. وكان الحاضرون السيد رياض الصلح رئيس وزراء لبنان والدكتور ناظم القدسي رئيس وزراء سوريا، ومعهما وزراؤهما ..
... ولقد بدأ الحديث أول ما بدأ عن أمرين، أحدهما طريف
والآخر جاد ..
... الطريف، أن الجامعة العربية، كما شكا الحاضرون، قد أصبحت "فوضى" وأن عزام هو من رجال الحركة العربية الأوائل في مصر، ولكنه "فوضوي" في عمله ودوامه ومقابلاته، ولا بد من معاون ينهض معه بأعباء(1/150)
الجامعة ... ، وأن "المعاون" الذي يصلح لهذه المهمة هو "الشقيري" فهو ليس سوريا ولا عراقيا ولا مصريا، ولا يثير وجوده الحساسيات العربية التي كانت تسود الوطن العربي، وما تزال !!
... أما الحديث الجاد، فهو أن الجامعة العربية قد وجدت في الأصل لتكون الخطوة الأولى على طريق الوحدة، وأن ذلك يقتضي أن تعبأ الأمانة بالكفاءات العربية، لتعد للأمة العربية المشروعات السياسية والدفاعية والاقتصادية والثقافية التي تمهد للوحدة العربية، فنبنيها حجرا حجرا، مرحلة بعد مرحلة ..
... اعتذرت بادئ الأمر، لسبب واضح غني عن الإيضاح، فقد سبق لي أن كنت على مقربة من مشاورات الوحدة العربية في الإسكندرية، ورأيت بأم عيني، وأذني، كيف استبعدت الوحدة العربية.
... وبينما كنت أشرح أسباب اعتذاري رفع رياض الصلح طربوشه عن رأسه ووضعه على الطاولة بغير رفق .. وقال، بألمعيته التقليدية .. ويده على كتفي ..
... والله .. نحن ما أتيحت لنا مثل هذه الفرصة، يوم كنا نجاهد في شبابنا من أجل الوحدة العربية ..
... قلت: على بركة الله .. وإذا عزمت فتوكل على الله .. فعزمت وتوكلت ..
... ولم أكد أوافق، ونحن ما زلنا في الفندق في جلستنا تلك، نتحدث عن الوحدة العربية، حتى أثار عزام مسألة "إقليمية" لها صفة قانونية، قال:(1/151)
... إن نظام الجامعة يشترط في تعيين الموظفين أن يكونوا من رعايا دول الجامعة .. والشقيري فلسطيني، فما العمل ؟ وما هو الحل ؟ هذه
مشكلة !!
... رياض الصلح: "دبرها" يا باشا .. الفتوى عندك ..
... عزام: ليس عندي فتوى .. إن تدبيرها عندكم .
... رياض الصلح: يا ناظم بك .. الشقيري فلسطيني صحيح .. ولكن فلسطين هي سوريا الجنوبية .. فما هو رأيك ؟
... ناظم القدسي: يا عزام باشا .. نطرح الموضوع غدا على مجلس الجامعة .. وأنا أرسل إليك اليوم كتابا، ونقترح تعيين الشقيري "باعتباره سوري" .
... وكان الأمر كذلك، فقد اجتمع مجلس الجامعة في اليوم التالي، ووافق على تعييني أمينا مساعدا، ووقع عزام باشا القرار بتعيين "السيد أحمد الشقيري من الجنسية السورية مساعدا للأمين العام" .
... وأخذت طريقي إلى الأمانة العامة للجامعة العربية في شارع البستان في القاهرة، المبنى القديم، وأنا أقدم رجلا وأؤخر أخرى، فقد تهيبت العمل في الجامعة العربية بعد أن تهاوت كرامتها في أعقاب عام 1948.
... وقضيت أسابيع متوالية وأنا جالس في مكتبي أدرس حال الجامعة العربية من الداخل، بعد أن كنت أراقب مسيرتها من الخارج.
ثم أخذت أبحث عن العلة .. العلة في ركود الجامعة .. وانعدام إنتاجها .. وبعدها عن مشاعر الجماهير العربية، فقد كانت سمعة الجامعة في ذلك العهد في الحضيض، سخرية الساخرين، وتفكهة الفاكهين.(1/152)
... وبدأت بدراسة الأمانة العامة وجهازها ودوائرها وموظفيها وأمينها العام .. فلم أجد خللا يذكر .. فقد كان الموظفون من الكفاءات الجيدة .. وكانت الدوائر تعمل في نطاق اختصاصها .. وكان عزام يتكلم باستمرار .. ويتحرك على الدوام .. وهذا هو دور الأمين العام، بل إنه لم يكن يملك غير هذا، ولا أكثر من هذا .. ثم زرت السفارات العربية في القاهرة، لأتحدث مع السفراء عن العلة ... فوجدتهم جميعا يشكون ويتبرمون، وينعون على الجامعة أنها تخلفت وقصرت.. وسألتهم واحدا واحدا.
... من هي الجامعة العربية ؟ أهي عزام ؟ .. أم الحكومات العربية ؟ أهي موظفو الأمانة العامة، أم أنتم ؟
... وكان يلحون دائما بأن الحكومات العربية هي المسؤولة عن تقصير الجامعة .. ولكن الحديث في النهاية ينتهي عند التهمة الشائعة .. الجامعة العربية هي المقصرة، وهم يعنون بالجامعة ذلك المبنى القديم في شارع البستان، بمن فيه من الموظفين، وما فيه من الملفات ..
... وإني لا أتجنى الآن، حين أقول أن عزام باشا قد أعان على "خلق" هذه التهمة الشائعة، فإنه بماضيه العربي في الكفاح، وبشخصيته الأنيسة الذكية، وبصداقاته مع قادة العرب، وزعمائهم قد جعل نفسه هو الجامعة، وهو الحكومات العربية، وكان من الطبيعي أن يتحمل أوزارهم .. وجنت على نفسها براقش، كما يقول المثل العربي القديم..
... ومضيت في عملي، وانعقد مجلس الجامعة العربية في دوراته العادية، مرتين في العام، ما خلا الدورات الاستثنائية، فالتقيت بوزراء الخارجية العرب ثم برؤسائهم .. وأنا أبحث عن العلة .(1/153)
لقد تحدثت إليهم في فنادقهم .. في حجرات نومهم .. وتحدثت معهم في ردهات الجامعة... ونقلت إليهم ما يقوله رجل الشارع، فكانوا يلقون اللوم على الجامعة العربية.. وكان بعضهم يلقي اللوم على عزام.. كأنما نصبوا ... عزام في المنصب كبش المحرقة.. وكنت أسأل على الدوام..
-ولكن من هي الجامعة العربية...؟ هل هي عزام... أم أنتم...؟
وفي إحدى هذه الاجتماعات، وأثناء فترة الاستراحة وقف سمير باشا الرفاعي، رئيس وزراء الأردن، يقص على زملائه الحاضرين رأي الملك عبد الله في الجامعة العربية، فروى بصوت مليء بالنغم والإنشاد، كأنه يتلو قصيدة عصماء.. إن الملك عبد الله قال :" إن الجامعة العربية أشبه ما تكون بجراب أدخلت فيه سبعة رؤوس، وكل رأس فيها مقيد بدولة أجنبية متسلطة..."، إشارة إلى الدول العربية السبع!!
وراح سمير باشا يرسل قهقهتة الموصوفة وشهقته المعروفة، وهو يشرح رأي الملك عبد الله في الجامعة العربية..
وكانت بيني وبين سمير باشا معرفة وطيدة، فكلانا من فلسطين، هو من صفد، وأنا من عكا فقلت له:
- يا سمير باشا.. أليس الملك عبد الله أحد السبعة في هذا الجراب!!
فتوقف عن قهقهاته، وقهقهة الآخرين.
وعدنا إلى قاعة الاجتماعات بعد أن فرغنا من هذا المزاح.. الغارق في الجد كل الجد..
وأثناء الاجتماعات الرسمية.. كنت أتفرس في وجوه الوزراء إياهم.. في وجوه الرؤساء إياهم.(1/154)
وأنا أرى عزام يدعوهم إلى العمل.. ويكاد يؤذن: حي على العمل.. حي على العمل.. فيقترح أحدهم التأجيل.. ويقترح آخر التعديل.. ويقترح ثالث المزيد من الدرس..
وكانت مسألة الدفاع العربي أكبر المشاكل التي تواجه العمل لعربي في الجامعة العربية... فقد انهزمت الدول العربية السبع أمام العصابات اليهودية في فلسطين في عام 1948، وتعالت الصيحات العربية في كل أرجاء الوطن العربي تطالب باستئناف القتال، واسترداد فلسطين، ومعها استرداد الكرامة العربية الجريحة..
ومع هذه الصيحات تعالت التساؤلات عن أسباب الكارثة.. أهي فساد السلاح.. أهي ضعف التدريب.. أهي .. أهي.. أهي، واهتدى الفكر العربي، أن الجيوش العربية لم تقاتل وفق خطة واحدة تحت قيادة واحدة.. ومن هنا كانت بداية الطريق الجديد، أو ما ظنناه الطريق الجديد..
قال لي عزام باشا في إحدى جلساتنا التي كنا نقلب فيها الأمور "يجب أن نضع مشروعا للدفاع العربي المشترك.. عساه أن يكون خطوة على طريق الوحدة.. وأن يكون سبيلا لتحرير فلسطين". ومضيت أعمل لإعداد المشروع.. فهل هناك ما هو أعز من الوحدة، وما هو أغلى من التحرير.
ورحت أدرس السوابق الدولية و الاتفاقات العربية التي أبرمت حتى ذلك الحين فيما يختص بالتعاون العسكري، ووضعت "مسَّودة" مشروع تقوم بموجبه قيادة عسكرية واحدة، ذات اختصاصات واسعة لتعمل على توحيد الخطط والأسلحة والأنظمة العسكرية العربية.. وقدمته إلى عزام باشا.
فلم يكد يفرغ من قراءته حتى قال : هذا مشروع طموح جدا.. ولو أن الدول العربية أخذت بنصفه ، فسنكون في عيد كبير"!!(1/155)
وأعدت الخارجيات العربية من جانبها مشروعاتها إلى جانب مشروعي، وقد عرف فيما بعد بمشروع عزام.. وانعقد مجلس الجامعة فأحال الأمر إلى الحكومات لتدرسه. حتى إذا جاء الاجتماع التالي لمجلس الجامعة أحاله إلى الخبراء العسكريين لدراسته.. ورفعه الخبراء بدورهم إلى الجامعة لينظر فيه .. فبحث في عنوانه ومضمونه وصياغته.. إلى أن "مسخ" أخيرا فيما هو معروف الآن " بمعاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي" فأقره مجلس الجامعة في ربيع عام 1950، ثم أقر فيما بعد ملحقا وبروتوكولاً للأمور التفصيلية.. وقد وقعه مصطفى النحاس باشا عن مصر،= ورياض الصلح عن لبنان، ونوري السعيد عن العراق، وناظم القدسي عن سوريا، ويوسف ياسين عن السعودية، وعوني عبد الهادي عن الأردن.
ولقد لعب نوري السعيد دورا بارزا في " مسخ" هذا المشروع.. فكان في كل جلسة يأتي بنص جديد، ثم يعود ليعدل ما كتب، وينتهي في النهاية بشيء جديد.. وكان النحاس باشا وباقي الوفود يحاورونه، في كل ما يطلب، فقد كانوا جميعا يحرصون أن لا يعطوا نوري السعيد أية فرصة لإفلات العراق من الحظيرة العربية..
ومع هذا فإن نوري السعيد قد رفض أن يوقع المعاهدة إلا بعد أن ذيلها بتحفظ، لم يفهمه أحد، ولم أفهمه حتى الآن، وقد انقضى عليه قرابة عشرين عاما.
لقد فعل ذلك نوري السعيد، للمشاكسة والمعاكسة، وليبرر تحت ذلك التحفظ الغامض، أي تحرك سياسي له في المستقبل. وقد قلت لعزام بعد جلسة التوقيع: لقد طار مشروعنا في الهواء(1/156)
قال: ألم أقل لك ذلك.. أنا أعرف الحكومات العربية أكثر منك.. لقد عرفتهم في حرب فلسطين..
ورغما عن رخاوة المعاهدة في أحكامها فلم تصدق عليه الحكومات العربية إلا بعد عامين كلت الأمانة العامة خلالهما وهي تكتب إلى الحكومات مناشدة.. التصديق.. التصديق.. أيها العرب!
وقد وقعت المملكة اليمنية بعد ذلك على المعاهدة بتحفظات غير مفهومة أيضا.. وبعد استقلال البلاد العربية الأخرى انضمت إلى المعاهدة المغرب، الكويت، ليبيا، تونس، والسودان، الجزائر ما بين 1953-1964.
وقد عمت الوطن العربي موجه من الفرح والابتهاج غداة تمت الموافقة على معاهدة الدفاع المشترك.. وازداد السرور حينما علمت الشعوب العربية أن المعاهدة قد نصت على قيام مجلس للدفاع المشترك مؤلف من وزراء الخارجية والدفاع، ولجنة عسكرية دائمة، وهيئة استشارية عسكرية.
ولم أشارك في هذه الفرحة، بل إنني كنت منقبضا يوم دخل الصحفيون والمصورون على مجلس الجامعة بهيئته الكاملة يتصدره النحاس باشا ومن حوله الرؤساء والوزراء ليعلنوا القرار الإجماعي بالموافقة على المعاهدة.. وأن "كل اعتداء يقع على أية دولة عربية يعتبر اعتداء عليها جميعا"، وأن "الدول العربية تلتزم بأن تبادر إلى معونة الدولة المعتدى عليها.. بكل الوسائل بما فيها القوة المسلحة".. كما جاء في أحكام الميثاق..
وكان السبب في انقباضي، أنني كنت استمع إلى المجادلات والمشاحنات في الغرف المقفلة، كما كنت أستمع إلى التهامسات في الردهات الجانبية.. وأنا أقول في نفسي ليت الأمة العربية معي هنا.. لترى بعينها وتسمع بإذنيها هذا الحكم العربي المتهالك المتخاذل..(1/157)
أكتب هذا الآن وقد مضى عشرون عاما على معاهدة الدفاع المشترك.. كانت كل مادة من موادها موضع اختبار وامتحان.. فلقد قامت إسرائيل باعتداءات متلاحقة تعد بالمئات، مذبحة قبية، ونحالين، وقلقيلية والتوافيق، وغزةِ، ومئات غيرها، فلم تتصد أية دولة عربية للدفاع عن الدولة العربية المعتدى عليها. وتعللت الحكومات العربية، ما بين ناطق وأخرس، أن هذه الاعتداءات "محدودة ومؤقتة" وليست ذات صفة عسكرية هامة.. واستطاعت إسرائيل في ظل هذه التعللات والتفسيرات العربية أن تستولي على جميع المناطق المجردة من السلاح في فلسطين وتضمها إلى سيادتها، وتنتزعها من القطاع الأردني والسوري والمصري، واتفاقية الدفاع العربي تتفرج!
وأصبح يتردد على لسان المسؤولين الحديث الكثير " عن معاهدة الضمان الجماعي"، وهو اسم آخر لمعاهدة الدفاع المشترك، فظنت الجماهير العربية أن في الأمر شيئا جديدا، حتى إذا وقع العدوان الثلاثي عام 1956، والعدوان الإسرائيلي عام 1967، تكشف نتائج الامتحان عن مأساة رهيبة.. أن الدول العربية لم تهب لنجدة الدولة المعتدى عليها.. وأن القيادة العربية المشتركة، والقيادة العربية الموحد من بعدها، لم يكن لها علم، ولا وجود في هذه المعركة، وقرأت أخبارها في الصحف، تماما كما قرأها البقال والحمال، ورنة الخال والخلخال!!
كانت هذه ذكرياتي عن الجامعة العربية كخطوة أولى في طريق الوحدة، على الصعيد العسكري.. أما بالنسبة للجوانب الأخرى التي نص عليها ميثاق الجامعة العربية فقد عانيت منها الخيبة إياها وزيادة.(1/158)
أقول وزيادة لأني قدرت، ويا بئس ما قدرت، أن الأمور غير العسكرية قد تكون أهون، وأن أمرها، أيسر.. فضربت في مضمارها أجربها ساحة ساحة..
ففي الميدان الثقافي أقر مجلس الجامعة معاهدة ثقافية جاء في صدرها "الرغبة في توحيد اتجاهات الدول العربية في المجالات الثقافية"،
فكان التصديق عليها بعد عامين من قبل المملكة المصرية، وبعد اثني عشر عاما من قبل الجمهورية السورية!!
وفي عام 1964 أقر مجلس الجامعة العربية "ميثاق الوحدة الثقافية العربية" ولم تصدق عليه إلا : الأردن والعراق وليبيا.
كان ذلك من الناحية النظرية، أما من الناحية العملية فقد بذلت كل جهدي مع عزام باشا ومع حسونة باشا من بعده، لإنشاء معهد للدراسات العربية العاليا، ليخرج جيل الوحدة العربية، بين المثقفين.. وثار جدال في داخل مجلس الجامعة حول فائدة هذا المعهد، فقال هذا الوزير: هل وظيفتنا أن نفتح مدارس؟ وقال آخر: هذا لم يرد في الميثاق، ولم يوافق المجلس إلا بعد عناء وبلاء.. ولم يكد يفتتح المعهد إلا وراح المجلس يناقش ويجادل ساطع الحصري الذي وقع الاختيار عليه ليكون مديرا للمعهد في الصغيرة والكبيرة، ولم يتعففوا أن يجادلوا في ميزانيته، ولم تكن تجاوزت عشرة آلاف جنيه، فاضطر ساطع الحصري، وهو "مجنون" الوحدة العربية، أن يستقيل بعد أن طفر من هؤلاء "الأولاد" ، السفراء والوزراء!!
ثم خضت في ميدان المواصلات، شعورا مني بأن الاتصال المادي يفضي إلى الاتصال الروحي، فأخذت اقتحم ميدانا لا أعرفه، أحمل ملفا لا(1/159)
أفهمه، من مجلس الجامعة إلى لجنة الخبراء، ثم أعود به إلى المجلس، حتى أقر "اتفاقية الاتحاد العربي للمواصلات السلكية واللاسلكية " وحزنت على الجهد الذي بذلته في هذا الميدان، يوم كنت بالمصادفة في بيروت، حين شكا إلى أحد أخواني اللبنانيين من الفوضى العربية البريدية، وهم يقدم لي هذه القائمة لثمن طوابع البريد:-
قرشا لبنانيا
25 إلى الكويت
5ر27 ونصف إلى السعودية
20 إلى مصر
45 إلى الجزائر
40 إلى أوروبا..
كان ذلك في ميدان لا أفهمه .. ورأيت أن انتقل إلى ميدان أظن أني أفهمه حق الفهم .. ذلك هو الإعلام، أو الدعاية العربية .. ولي في هذا المجال خبرة غير متواضعة.. فأخذت أعد الدراسات حول هذا الموضوع .. واستعنت بكل من له خبرة في الوطن العربي.. فتألفت اللجان، وعقد المؤتمرات، ثم أعدت الدراسات عن الدعاية العربية، بأهدافها ووسائلها ومراكزها .. حتى لم يبق مقال لقوال، ولا مجال لجوال، ولا كلام لمختال !!
... وأقر وزراء الأعلام كل هذه المشروعات .. وأقر مجلس الجامعة كل التوصيات، وخرجت من الجامعة بعد سبع سنوات دون أن يكون للجامعة العربية جهاز إعلامي لا في الداخل أو الخارج .. وإني لأذكر أني لقيت أمين الجامعة السيد عبد الخالق حسونة بعد ذلك بسنين، وهو يبشرني أن مجلس الجامعة قد أقر ميزانية محترمة لمكاتب الدعاية العربية .. ويوم كنت أكتب(1/160)
هذا الفصل من مذكراتي طلبت ميزانية 1969-1970 فوجدت نفقات الدعاية كما يلي:
... دولار
... 140.000 مكتب نيويورك
... 35.780 مكتب كندا
... 10.000 مكتب شيكاغو
... 10.000 مكتب سان فرانسيسكو
... 10.000 مكتب واشنطن
... 10.000 مكتب دالاس
... 35.780 مكتب بيونس ايرس
... 35.780 مكتب ريودي جانيرو
... 35.780 مكتب لندن
... 22.190 مكتب باريس
... 35.780 مكتب جنيف
... 35.780 مكتب روما
... 35.780 مكتب بون
... 35.780 مكتب نيودلهي
... 35.780 مكتب طوكيو
وقلت للسيد عبد الخالق حسونة، بعد أن اطلعت على هذه الأرقام "السخية"، أن هذه المكاتب العربية ستقوم في الخارج بدعاية ضخمة، ولكن(1/161)
على الدول العربية.. وها إني أنشرها في مذكراتي لتكون دعاية على الدول العربية في الداخل، قبل أن تكون دعاية علينا في الخارج!!
وكما ظننت بالجامعة العربية خيرا في أول الطريق، فقد خامر الرئيس عبد الناصر مثل هذا الظن في فترة من الفترات.. كل ذلك يوم صدر الميثاق الوطني في 21 مايو 1962... وكنت يومها في جامعة القاهرة، أجلس في صفوف الدبلوماسيين العرب، استمع إلى الرئيس عبد الناصر وهو يلقي الميثاق القومي ويتناول الشؤون العربية، وجاء دور الجامعة العربي فأعلن " أنه إذا كانت الجامعة العربية غير قادرة على أن تحمل الشوط العربية إلى غايته العظيمة البعيدة، فإنها تقدر على السير به خطوات، إن الجامعة العربية قادرة على تنسيق ألوان ضرورية من النشاط العربي المرحلة الحاضرة، ولكنها لا يجب أن تتخذ وسيلة لتجميد الحاضر كله وضرب المستقبل به."
وخرجنا من القاعة وسط الزحام الهائل في ذلك اليوم الذي أعلن فيه الميثاق القومي في عبارات عميقة رشيقة، وسألني وزير الخارجية محمود رياض، وتمتد معرفتي به إلى عشرين سنة مضت في الأمم المتحدة وفي الجامعة العربية، قائلا: هل أعجبك حديث الميثاق عن الجامعة العربية،
قلت: لقد أعجبني ولم يعجبني..
قال: كيف..
قلت: "إن الجامعة العربية سارت بالعمل العربي خطوات".. هذا لا يعجبني فالجامعة سارت بالعمل العربي خطوات ولكن إلى الوراء.. وأعجبني "أن لا تكون الجامعة العربية وسيلة لتجميد الحاضر كله وضرب المستقبل به" .. وهذا ما هي عليه الجامعة في الوقت الحاضر., ..(1/162)
قال: نحن نترك لغيرنا أن يحدد موقفه من الجامعة...
ولم يمض على هذا الحديث غير عام ونصف حتى جاءت جلسة التشهير الشهيرة، التي انعقدت في شتورة في صيف 1963، يوم قدم الحكم الانفصالي في دمشق التهم "الخطيرة" على القاهرة، بخيانة القضية الفلسطينية مما دعا وفد الجمهورية العربية المتحدة لأن ينسحب من الجامعة، وأن يعلن محمود رياض أن "الجامعة العربية قد هانت على دولها.. وأن العمل العربي الخالص من أجل المستقبل العربي لم يعد مجاله الجامعة العربية.. وأنها ما زالت حتى الآن، بكل الأثقال التي تفرضها عليها النظم الرجعية المتعاونة مع الاستعمار، غير قادرة على شيء إلا أن تكرر نفسها بمثل ما حدث في نكسة 1948".
وخرجت من الجامعة العربية، بعد أن سلخت فيها من عمري سبع سنوات، كانت سنوات عجافا، لم أستطع أن أحقق فيها خطوة متواضعة على طريق الوحدة، وكان أن استخرت واستقلت..
ومع هذا فقد كنت دائم الاتصال بالجامعة العربية، ممثلا لسوريا مرات، وللسعودية مرات.. وكنت أتابع "إنجازات" الجامعة العربية على درب الوحدة، وأنا أعلل نفسي بأن الحكم العربي في الوطن العربي أصبح يشق طريقه نحو الأكمل والأفضل.
وهكذا شهدت في الميدان الاقتصادي كثيرا من الاتفاقيات ذات الأسماء الرنانة، تسهيل التبادل التجاري، انتقال رؤوس الأموال بين البلاد العربية، جدول موحد للتعريفة الجمركية، المؤسسة المالية العربية للإنماء الاقتصادي، الوحدة الاقتصادية، السوق العربية المشتركة، وغيرها وغيرها من الاتفاقات، فلم أجد فيها، وأنا أجول بين البلاد العربية من المحيط إلى الخليج،(1/163)
إلا عناوينها الضخمة وتعابيرها الفخمة، وجموع التجار والفلاحين وأصحاب الأعمال يجأرون بالشكوى من قيود التعامل والتبادل، ومن مشاكل النقد، ومن أذونات الاستيراد والتصدير، ومن بلايا الجمارك، ومن متاعب الطلبة الوافدين حين يلتحقون بالجامعات العربية..!!
ومشاكل النقد مثلا تتجلى فيها " خيبة الجامعة العربية" فمنذ تأسيس الجامعة والحديث عن توحيد النقد في البلاد العربية لا ينقطع، وبقيت المشاكل قائمة.. والمواطن العربي يسافر في الوطن العربي ليتفرس في الليرة اللبنانية والسورية، والتونسي، والدرهم المغربي، والريال السعودي، ووراء كل هذا النقد العربي الجنية الإسترليني، أو الدولار، أو الفرنك الفرنسي.. وفي اليمن بلد المآسي، يمثل ريال الملكة ماريا تريز الافرنسية (1783-1866) النقد المعتمد المتداول في الجمهورية اليمنية إلى يومنا هذا.
وحين يئست أن تكون الجامعة خطوة أولى في سبيل الوحدة، طمعت أن تكون أداة التعاون والتنسيق، فإذا بي أرى نفسي مرة ثانية أمام العناوين الضخمة الفخمة..
وشهدت توقيع اتفاقات أخرى.. اتفاقية التعاون العربي في استخدام الطاقة الذرية في الأغراض السلمية. فلم أجد ذرة واحدة في هذا التعاون الذري و"اتفاقية الشركة العربية لناقلات البترول" والبترول العربي يسأل أين الناقلات العربية... و"اتفاقية الشركة العربية للملاحة البحرية" وما تزال البحار تنتظر.. وتنتظر .. و"اتفاقية مؤسسة الخطوط الجوية العربية العالمية" والأجواء تصيح أين هذه " الشركة" و"اتفاقية شركة البوتاس العربية" التي أنشئت لمئة عام ولم تدفع الدول العربية كامل مساهمتها وهي الآن تحت(1/164)
التصفية.. و "اتفاقية ... واتفاقية، وكلها في حقيقتها اتفاقيات للنكوص عن الاتفاقيات.
ولقد شهدت هذه "الويلات" من داخل الجامعة ومن خارجها، وكانت في مجموعها ذكريات حزينة في مذكراتي.. ولكن أشدها حزنا وأسى.. هو ما وقع في مؤتمر القمة العربية في مؤتمر الخرطوم.. وأنا لا أتعرض الآن لكل جوانب ذلك المؤتمر التعيس..
لقد أدرت بصري في وجوه الحاضرين في مؤتمر الخرطوم، فرأيت الملوك والرؤساء حول تلك الطاولة المستطيلة، الرئيس عبد الناصر على طرفها، والرئيس إسماعيل الأزهري على طرفها الآخر، وبينهما الملوك والرؤساء ومن ورائهم جميعا الوزراء.
وكنت أجلس إلى جانب السيد إسماعيل الأزهري، وكان رئيس الجلسة، فسألته: وأين السيد عبد الخالق حسونه الأمين العام لجامعة الدول العربية..؟
قال: لم نوجه إليه الدعوة.
قلت: كيف يجوز أن لا يدعى أمين الجامعة، وقد حضر مؤتمرات القمة الثلاث..
قال: لقد اتفقنا على هذا.. فالبعض لا يريدون إشراك الجامعة العربية في مؤتمر القمة.
قلت: ولكن الجامعة هي أنتم كلكم.. إذا كان حسونة لا يعجبكم
اعزلوه.. ولكن ما دام الأمين العام، فيجب دعوته.
قال: بالعكس إن حسونه مرضي عنه تماما.. ولكن البعض لا يريدون الاجتماع في إطار الجامعة..(1/165)
قلت: هذه نكسة سياسية نضيفها إلى النكسة العسكرية، لقد هزمتنا إسرائيل عسكريا.. وها نحن نهزم أنفسنا سياسيا.. وهل أصبحت الجامعة العربية من رجس الشيطان.. فاجتنبوه!!
وانقض المؤتمر في الخرطوم، وحسونه يقلب ملفاته في القاهرة..
ومرت أيام وأيام.. وخلوت إلى مكتبي أكتب هذا الفصل من مذكراتي، وأنا أمام مصادفة غريبة حقا.
كان ذلك في 22 مارس 1970 والجامعة العربية تحتفل بذكرى ميلادها، في مثل ذلك اليوم.. في ميلادها الخامس والعشرين.
لقد مضى خمسة وعشرون عاما على ميلاد الجامعة العربية، وأنا أواكب مسيرتها الطويلة، وقد ظنها جيلي بأسره، وبعض الظن إثم، أنها خطوة على طريق الوحدة. أو في طريق التعاون على الأقل.. وتذكرت الكلمة المفجعة التي قالها زعيم مصر العظيم سعد زغلول قبل أربعين عاما.
لقد روى لي عبد الرحمن عزام في ساعات غضبه على الجامعة العربية أنه كان يحاول مرة أن يقنع سعد زغلول بالتعاون مع الحكومات العربية... فلم يكن من سعد إلا أن قال:-
صفر +صفر يساوي صفر هذا هو تعاون الحكومات العربية.
ولقد صح هذا الحساب في الجامعة العربية.. فكان حكما على الحكومات العربية.. وأحمد الله، أنه لم يكن حكما على الأمة العربية.. فالأمة العربية بخير وألف خير. ويكفي أن الأمة العربية تقف مع زعيم مصر العظيم، في هذا الحكم الأليم..
ورحم الله سعد ...
لقد كان يعرف الحساب جيدا..(1/166)
لقد عرف أن صفر زائد صفر يساوي صفر..
رحم الله زعيم مصر العظيم، لقد سقط أمام بصره حجاب الغيب، ورأى الجامعة العربية بعد خمس وعشرين عاما من مولدها، تحقق صفرا في كل عام ..
... وجمعنا خمسا وعشرين صفرا، فكان المجموع صفرا ..
... وكانت هذه هي حصيلة الوحدة العربية، في الجامعة العربية، على مدى خمسة وعشرين عاما..
... وبقي علينا أن نراقب الوحدة العربية خارج الجامعة ..
... فلنتابع السيرة والمسيرة ..
... "ثم لترونها عين اليقين"
صدق الله العظيم(1/167)
الوحدة مع الملوك والرؤساء(1/169)
رسالة إلى عبد الناصر
... كنا نتناول العشاء معا، الشيشكلي رئيس الجمهورية السورية وأنا، وكان ذلك في لبنان وفي "نبع الصفا" حيث صفا الماء والهواء .. وكان ذلك في يوم ليس ميسورا على ذاكرتي أن تحفظه، لولا أنه أصبح فيما بعد يوما من أيام التاريخ .. إنه 23 يوليو من عام 1952.
... وكان بين أطباق الطعام جهاز الراديو الترانسزتور الذي لم يكن يفارق الرئيس الشيشكلي في حله وترحاله .. فإذا بنا نستمع إلى الخبر المثير الكبير، وكأنما وقف الزمان ليستمع: الثورة في مصر.. خلع الملك فاروق ... الضباط الأحرار يعلنون الجمهورية المصرية ..
... ذهلنا ودهشنا، ونحن نستمع إلى هذا الخبر المدهش المذهل .. وأمسكت عن الطعام .. وأمسك الشيشكلي عن الشراب .. وأدرت "زر" الراديو لأستمع إلى محطات متعددة، فقد يكون الخبر مدسوسا .. وتأكد الخبر وتبدد الشك باليقين .. وصحا الشيشكلي بكل جوارحه، وحمل نفسه إلى سيارته، ومعه حرسه إلى دمشق.
... وخلوت إلى غرفتي، ولكن هل من سبيل إلى النوم، وقد هوى أكبر عرش في أكبر بلد عربي.. وراح هذا الحدث المثير الكبير يمطرني بالأسئلة:(1/171)
ما هو لون هذه الثورة، ومن هم هؤلاء الثوار ؟ هل يدينون بالعروبة، أم أنهم مفتونون بالفرعونية ؟ وما هو مصير الوحدة العربية معهم ..
... ولقد نمت واستيقظت على هذه الأسئلة، وأنا موزع بين الخوف والرجاء، الخوف في أن تندفع مصر إلى العزلة عن الأمة العربية بعد أن هزمت في حرب فلسطين، ووقع فيها من الخيانات ما وقع.. والرجاء في أن تندفع إلى الالتحام بالعرب والعروبة، وتغسل العار وتعيد الوطن المستباح..
وبقيت أياما على هذا الحال، تنازعني هذه الأسئلة وقد ضاق بها صدري.. فقطعت إجازتي وعدت إلى عملي في الجامعة العربية في القاهرة، وظلت هذه الأسئلة تطاردني في مكتبي، وفي بيتي، في ليلي ونهاري..
وبدأت الثورة تكشف عن ذاتها شيئا فشيئا.. وبدأ رجال الثورة يتحدثون عن آمالهم وأحلامهم.. وامتلأت القاهرة بالاجتماعات والمؤتمرات.. والضباط الأحرار يعقدون الندوات والحلقات، يتحدثون عن العهد البائد، يتطلعون إلى العهد المشرق المجيد..
ومضت الأسابيع والشهور، ومصر مغمورة بحملة إعلامية هائلة نكتشف عن جوانب الفساد ومساوئ الحكم في حياة مصر، وتغدق على الشعب وعودا ضخمة بإصلاح الشعب، ورفع مستوى الشعب.
وكنا، سفراء العراق وسوريا ولبنان وأنا، نجتمع في مكتبي أو في سفاراتهم والسؤال الكبير يتردد على ألسنتنا: ما هو مكان القضية العربية في هذه الثورة المصرية..؟ ولم يكن عندنا جواب نطمئن إليه يومذاك.. فلم تكن الثورة قد كشفت عن موقفها العربي. بل كنا أكثر ميلا إلى الخوف.. الخوف أن يكون المصريون قد قرفوا من العرب و العروبة، ليلبسوا الثوب(1/172)
الإفريقي وعليه تاج فرعون، مفتونين بالحضارة المصرية القديمة، ويفتتنون ببديع روائعها، ورائع بدائعها..
وبدأ الضباط الأحرار يتوافدون عليَّ في مكتبي في الجامعة العربية.. يطلبون ميثاق الجامعة وقراراتها.. ثم يعودون ليسألوا عن مراجع القضية العربية.. ثم يأتون الي في منزلي في مصر الجديدة لنتحدث عن الدول العربية وشؤونها ومواقفها..
وبدأت الثورة المصرية تكشف عن هويتها وذاتها.. وبدأت الخطب والتصريحات من قادة الثورة تتحدث عن القضية العربية حديثا تفتحت له الآذان والأذهان.
وتعددت لقاءاتي بقادة الثورة.. كنت ألقاهم في المهرجانات الشعبية، وفي نادي الصحافة، وفي الأزهر، حيث كانوا يخطبون.. والشعب يلحق بهم من ساحة إلى ساحة.
ولم يكن قد مضى عام وبعض عام على ثورة 23 يوليو حتى بدأت أحس أن مصر ستزداد التحاما بالقضية العربية، وأن في تضاعيف ثورتها قبسا من الوحدة العربية.
ولقد تجلى هذا المعنى أكثر ما تجلى يوم كنت أستمع إلى رئيس مجلس الثورة، وهو يخطب في دار الأوبرا في 23 يوليو 1954، لمناسبة الذكرى الثانية لقيام الثورة المصرية..
وكانت قاعة الأوبرا محتشدة بجمهرة كبيرة من المشتغلين بالقضية العربية الذين توافدوا من جميع أرجاء الوطن العربي ليستمعوا إلى ما ستقوله مصر في تلك المناسبة التاريخية.. وانطلق رئيس مجلس الثورة في خطابه ليعلن "أن كل فرد في البلاد العربية مصريا أو سودانيا أو لبنانيا " أو(1/173)
حجازيا" أو عراقيا أو أردنيا أو يمنيا، أو مغربيا أو ليبيا أو كويتيا يؤمن أيمانا قاطعا بأن الوحدة الحقيقية بين البلاد العربية هي السبيل الوحيد لتحقيق أمانيهم وآمالهم، ودرء الأخطار عنهم".
وصفق الحاضرون بجوانحهم قبل أيديهم.. وتدلى السامعون من الشرفات العالية، وهم يستعيدون الرجل دعوته للوحدة.. وهتف الرجال والنساء طويلا.. "وحدة وحدة" .. هكذا بصورة عفوية...
ولقد أقبلت الوفود العربية على الرئيس تصافحه وتحييه، وتعاهده على السير معا في طريق الوحدة.. وذهبنا في اليوم التالي، وفدا عربيا كبيرا في منزله، لنعرب له باسم الشعوب العربية عن تقديرنا العظيم لهذا الكلام الواضح الصريح الذي خلع في دقيقة واحدة القناع عن الثورة المصرية، أبان وجهها العربي الأصيل.
وقد استقبلنا الرجل في الروب والبيجامة..وقد ذهبنا إليه على غير موعد.. وكان المنزل غاصّاً بالضباط الأحرار وممثلي الصحافة العربية والأجنبية، وتحدث مندوبو العراق والأردن وسوريا والأقطار العربية الأخرى مشددين على وحدة عربية تكون مصر طليعتها، وأصبحنا وكأننا في مؤتمر عربي عام، ولم يبق لنا إلا أن نعلن الوحدة، ونبادر إلى إنشاء الدولة العربية المتحدة..
وسألني الرجل بصوته الأجش، ووجهه يطفح طيبة وحمية.. وما هو مصير الجامعة العربية بعد الوحدة..؟
قلت: تصبح الجامعة دارا للحكومة العربية الاتحادية.
قال: وإذا لم توافق بعض الحكومات العربية على الوحدة؟..(1/174)
قلت: إذن تبقى الجامعة.. ولكن تكون فيها الحكومة العربية الاتحادية، والحكومات العربية الأخرى التي لا تريد الوحدة.. وبدلا من جامعة الدول السبع، تكون جامعة الدول العربية الأربعة.. وكلما قل هذا العدد ازددنا قوة وصفة ومنعة..
قال: وأنت "تبقى" أمين مساعد في الجامعة العربية.. وإلا آيه؟!
قلت: أرجو أن يكون لي مكان في الحكومة الاتحادية.
قال: وتختار ماذا من العمل في الحكومة العربية المتحدة؟!
قلت: أكون مسؤولا عن جهاز الإعلام والإرشاد القومي.
قال: وتعمل ماذا؟
قلت: أدعو الدول العربية الأخرى إلى الدخول في الاتحاد..
وضحك الرجل، وضحكنا جميعا.. وكانت ساعة مشرقة تفتحت فيها قلوبنا على آمالنا وأحلامنا.. والعراقي ينظر في وجه السوري، واللبناني ينظر في وجه الأردني. وكلهم ينظرون في وجوه ضباط مصر الأحرار.. وكأنما تسأل عيونهم: متى هذا اليوم العظيم..؟
وذات يوم جاءني الصاغ صلاح سالم (وزير الإرشاد القومي فيما يعد) إلى بيتي، يقول لي إن مجلس الثورة يريد ملفا كاملا عن القضية العربية من البداية إلى النهاية..
قلت له : سيكون الملف عندكم بعد أسبوع، وسأبعث إليكم بكل ما عندنا في الجامعة العربية في هذا الموضوع.
وانفتح موضوع الوحدة العربية مع الصباغ صلاح سالم، وكان هو أحد الحاضرين جلستنا إياها في منزل رئيس مجلس القيادة الثورة، فاغتنمتها(1/175)
فرصة لأشرح له تاريخها ومقوماتها، ولهفة العرب في المشرق العربي على تحقيقها.
قال: كيف ترى أن نبدأ.
قلت: لولا ظروف معروفة، هي من رواسب الماضي اللعين، لقلت فلنبدأ الوحدة بين مصر والسودان فإن كل مقومات الوحدة قائمة في وادي النيل.. ولكني أرى أن تبدأ الوحدة مع سوريا..
قال: وهل يقبل السوريون؟
قلت: لقد أعلن شكري القوتلي أول رئيس للجمهورية السورية، أن راية الوحدة تعلو على الراية السورية، وفضلا عن ذلك فإن الدستور السوري لعام 1950 قد تبنى الوحدة وفرض على رئيس الجمهورية ونواب البرلمان السوري، أن يقسموا يمين الولاء للوحدة والعمل لتحقيقها..
قال: إلى هذا الحد..؟ وهل أعلن الدستور السوري كل ذلك..؟
قلت: سأرسل لك النص الكامل للدستور السوري مع ملف القضية العربية.
ونهضنا من جلستنا، بعد أن امتدت ثلاث ساعات ونحن نبحث في قضية الوحدة العربية، وقال لي وهو يهم بالانصراف:
-جمال عبد الناصر هو عقل الثورة المفكر، ورأسها المدبر..وأرى أن تكتب له مذكرة مفصلة عن الوحدة العربية .. وترسلها إلى مدير مكتبه..
قلت: حبا وكرامة.. أشكرك على هذه الملاحظة. سيكون كل شيء جاهزاً.. وخرج صلاح سالم من منزلي، وخطواته الشابة تدب حماسة ونظارته، السوداء تحجب وراءها عينين تريان نورا جديدا.. نور الوحدة العربية..(1/176)
وكنت قد لقيت جمال عبد الناصر في الاجتماعات الشعبية. ولم تهيئ لي الظروف إذ ذاك أن ألتقي معه في جلسة طويلة، فقد كان يقضي ليله ونهاره في مكتبه يعد ويخطط، ليثبت دعائم الثورة، في حين كان معظم رجال الثورة يطوفون البلاد ويخطبون على الشعب..
ووصلت يدي بعد ذلك الوقت إلى كتابة فلسفة الثورة "لمؤلفه" جمال عبد الناصر، وتراءي لي لأول وهلة أنه قد يكون شبيها بكتاب "كفاحي" لهتلر.. ولكن رأيته غير ذلك..
كان كتيبا صغيرا .. ولكنه كان شيئا جديدا علي من مواطن مصري، فلقد ألفت أن أقرأ لقادة مصر السابقين خطبا وكتبا، رائعة، بما فيها من فن وإبداع.. وكان هذا الكتيب شيئا آخر تماما..
هذا الكتيب قد أغراني بقراءته في جلسة واحدة.. وسمعت في عباراته القصيرة المتقطعة طلقات.. أشبه ما تكون ببندقية تقذف الطلقات القصيرة المتقطعة .
ولم يكن النغم العسكري هو الذي أغراني بقراءته المرة بعد المرة.. فقد سمعت فيه صوتا جديدا.. لم يكن لي عهد أن أسمع مثله في مصر.. وقد قرأت كثيرا وسمعت مصر كثيرا، منذ أن كنت طالبا في المدرسة الثانوية في عكا، أتابع مع جيلي أخبار الثورة المصرية بعد الحرب العالمية الأولى.. (1)
قرأت الضابط المصري جمال عبد الناصر وهو يقول :" إن هناك دائرة عربية تحيط بنا، وإن هذه الدائرة منا ونحن منها، امتزج تاريخها بتاريخنا.. حقيقة وفعلا لا مجرد كلام.. إنها الدائرة التي عانينا فيها نفس المحن وعشنا
__________
(1) * ) راجع كتاب المؤلف "أربعون عاما في الحياة العربية والدولية".(1/177)
نفس الأزمات، وحين وقعنا تحت سنابك خيل الغزاة كانوا معنا تحت نفس السنابك".
ثم قرأت لجمال عبد الناصر، كيف تفتح الوعي العربي في نفسه طالبا في المدرسة الثانوية حين كان يخرج مع رفاقه الطلبة لمناسبة 2 نوفمبر ذكرى وعد بلفور، وكيف نما هذا الوعي فيه إلى أن دخل حرب فلسطين، وأحس في أعماق نفسه أنه " لا يقاتل في أرض غريبة وإنما يقاتل كواجب حتمه الدفاع عن النفس".
قرأت هذا الكلام النابض كأنه يخرج من فوهة مدفع محتشد،يرسلها طلقة وراء طلقة، وقلت في نفسي "أين كلام هذا الضابط المصري من كلام الزعيم المصري مصطفى كامل، حين قال قبل خمسين عاما: إن مصر
ليست عربية، ومسلمو مصر بلا نزاع مصريون ومعظم أجدادهم من الفراعنة".
لقد قالها هكذا من غير مبالاة، زعيم مصر يومئذ، وإن كان بعض السبب فيها أنه قرف من بعض اللبنانيين الذين كانوا من باعثي اليقظة العربية، في ذلك العهد، "ولا تزر وازرة وزر مع الإحتلال البريطاني جواسيس وعملاء.. وحمداً لله أن لبنان كان أخرى".
وعزمت أن أمكث أياما في بيتي لأكتب لهذا الضابط المصري جمال عبد الناصر، مذكرة مفصلة عن حركة الوحدة العربية لعله أن يكون له فيها دور.. ذلك أنه كان نفسه يتمثل دوره الذي ينتظره في المستقبل، وأنا أقرأ كلماته في "فلسفتة الثورة" وهو يقول : وإني أعود إلى الدور التائه الذي يبحث عن بطل يقوم به. ونحن وحدنا بحكم "المكان" نستطيع القيام به".(1/178)
لقد كانت الخاتمة من فلسفته، هي البداية في مذكرتي التي أخذت في إعدادها.. فقد قلت في صدرها "إن البطل الذي يقوم بالدور هو واحد منكم أنتم ضباط مصر الأحرار.. وأما المكان فإنه مصر.. وقد كانت مصر في تاريخها الطويل هي قلب العروبة النابض".
لقد كانت مذكرتي طويلة تقع في خمس وثلاثين صفحة استعرضت فيها نشوء حركة الوحدة العربية إلى يومنا ذاك.. وإني لأرى من حق الأجيال العربية الصاعدة أن أوجزها فيما يلي:-
أولا: إن حركة الوحدة العربية المعاصرة لا تستهدف بناء حياة عربية جديدة، ولكنها تتطلع إلى إعادة بناء الحياة العربية الواحدة التي عاشتها الأمة العربية أحقابا طويلة من الزمان..
ثانيا: إن الاستعمار الأوروبي هو الذي خلق هذه الحدود المصطنعة القائمة بين البلاد العربية، وقد كان الوطن العربي في عهد الاحتلال العثماني على مدى أربع مئة سنة من غير حواجز ولا حدود.. وكان ذلك شأنه قبل ذلك، في عهد الحكم العربي، أمويا وعباسيا وفاطميا.
ثالثا: إن العرب في المشرق العربي قد بدأوا المحاولة الأولى في إقامة دولة الوحدة في دمشق، عقب الحرب العالمية الأولى مباشرة، ولكن الحلفاء حطموا تلك الخطوة التاريخية. ...
رابعا: إن الثورة العربية التي قادها الشريف حسين مع أحرار العرب أثناء الحرب العالمية الأولى لم يكن هدفها إقامة دويلات وإمارات، وإنما كان هدفها الكبير إقامة الدولة العربية الواحدة.
خامسا: إن المشرق العربي قد رفض التجزئة التي فرضتها الاتفاقات الاستعمارية، فقد انعقد في دمشق في يوم واحد (8آذار 1920) مؤتمران(1/179)
عربيان كبيران، المؤتمر السوري وقد أعلن وحدة ديار الشام، والمؤتمر العراقي وقد أعلن الرغبة في قيام اتحاد بين العراق وسوريا..
سادسا: قد اتسع نطاق الجهود لتوحيد المشرق العربي إلى مجال الوحدة العربية الشاملة بحيث تشمل كل دولة عربية مستقلة، وقد تجلى ذلك أول ما تجلى في المؤتمر العربي المنعقد في جنيف في آب 1929، وضم مندوبين عن الاتحاد السوري، والمؤتمر الفلسطيني، ومجلس الإدارة اللبناني وممثلين عن الجمعيات العربية في المهاجر، وكان في طليعة ما اتخذه من مقررات مطالبة عصبة الأمم " بالاعتراف بحق هذه البلاد بأن تتحد معا في حكومة واحدة.. وأن تتحد بدورها مع باقي البلاد العربية المستقلة في شكل ولايات متحدة، فدراسيون".
سابعا: إن المساومات التي تمت بين فرنسا وبين بريطانيا هي التي فرضت الحدود القائمة في المشرق العربي، ومن الأدلة الفاضحة على ذلك أن انسلخت بيروت عن دمشق وهي مرفؤها التاريخي، وانفصل شرق الأردن عن دمشق وهو متصرفية الكرك.. وانشطرت فلسطين بحدودها الحاضرة عن ديار الشام وهي سوريا الجنوبية، انفرز العراق ولم يكن إلا ولاية من الولايات العربية التي تحكمها الدولة العثمانية..
ثامنا: ليس بين البلاد العربية ما يمنع الوحدة، بل كل الأسباب تدعو إليها .. فليس بينها من الفوارق اللغوية والعرقية والاجتماعية ما بين شعوب الاتحاد السوفياتي، أو بين شعوب بريطانيا العظمى، أو الولايات المتحدة. وهذا الاتحاد السويسري يضم أجناساً متعددة تتكلم الافرنسية والايطالية والألمانية، ولغة رابعة أخرى مجهولة الأصل والهوية!(1/180)
تاسعا: إن الوحدات الألمانية والإيطالية والأمريكية والروسية تنبئ كلها عن حقيقة ملهمة، وهي أن الدور الوحدوي يجب أن ينهض به القطر الأكبر والبطل المؤهل.. وأن مصر هي القطر الأكبر .. أما البطل المؤهل، فأرجو أن يكون واحدا منكم أنتم يا رجال الثورة الأبطال.
فرغت من المذكرة.. ووضعتها في مظروف كبير من مظاريف الجامعة العربية وحملها أحد السعاة إلى سراي الثورة بالجزيرة وعاد ليقول لي: لقد سلمتها باليد إلى السيد على صبري (نائب الرئيس فيما بعد) مدير مكتبه..
وبعد أسبوع وصلني كتاب من السيد علي صبري "نتشرف بالإفادة أن مذكرتكم بشأن الوحدة العربية هي قيد الدرس من قبل مجلس الثورة.." ومضت بضعة أيام على ذلك، وإذا بالتلفون يدق في مكتبي من سراي الجزيرة:-
- سيادة البكباشي جمال عيد الناصر حدد لكم موعدا اليوم، الساعة السادسة مساء..
وذهبت في الموعد المعين وكان ذلك أول لقاء لي معه في غير المؤتمرات الشعبية.. وكانت المذكراة أمامه وهو يقلبها بين أنامله، وأرى إشارات القلم تحت كثير من سطورها.. فقال:-
- يا أخ أحمد.. المذكرة طويلة "أوي" وتحتاج إلى وقت طويل لدرسها، ووقت أطول لمنقاشتها، وأنت تعرف مشاغلنا الكثيرة في الوقت الحاضر.. مشاكلنا في الداخل، ومشاكلنا مع الإنجليز.(1/181)
قلت: الوحدة العربية عمل ضخم، وإني لا أطالب بإنجازها غدا.. لكني أريدها أن تكون في برامجكم.
قال: هل قرأت كتابي فلسفة الثورة.. نحن لسنا فراعنة .. نحن عرب أولا وآخرا.. وهل تعتقد أننا نستطيع أن نبدأ الوحدة العربية عن طريق الجامعة العربية.
قلت: لقد كان هذا ظن المشتغلين بالقضية العربية... وأنا الآن في الجامعة العربية اجتاز مرحلة التجزئة.. غير أني أخشى أن تصبح الجامعة بديلا عن الوحدة..
قال: أنظر إلى هذا "الدولاب"، فيه الآن الرسائل والبرقيات من كل أنحاء الوطن العربي، كلها تطالب بالوحدة.. ومنذ أن قامت الثورة ونحن نستقبل الوفود العربية وهي تطالبنا بالعمل للوحدة العربية.. فماذا تريدنا أن نعمل.. وماذا نستطيع أن نعمل في ظروفنا الحاضرة؟؟
قلت: إن الوحدة لا تبنى في يوم وليلة.. إن أمام الوحدة العربية مقومات وأمامها صعوبات.. فلنحافظ على المقومات حتى تزول الصعوبات..
قال: وكيف ذلك .. بالتحديد؟؟
قلت: أريد أن تتبنّى مصر الوحدة العربية لا لفظة لغوية أو عبارة عاطفية، وإنما تتبناها كفكرة قومية سياسية ، وأن تنادي بها في كل مناسبة حتى تتعمق جذورها في مصر، وفي البلاد العربية كلها.. وسيأتي يوم تنتقل فيها الوحدة العربية من مرحلة التبني إلى مرحلة البناء..
قال: وما معنى هذا الكلام عمليا؟...(1/182)
قلت : أمامكم إصلاحات ضخمة في مصر، وهذه تتطلب سنين طويلة، ولكن ذلك لم يمنع أنكم بدأتم بها..وأريد أن تكون الوحدة العربية على برامجكم وأن تبدأوا العمل لها، ولو اقتضى ذلك سنين طويلة، شأن مشروعاتكم الوطنية الداخلية.
وتكاثرت التلفونات على السيد عبد الناصر، وتكاثر الواقفون على الباب، وأحسست أني ظلمت الرجل بما فيه الكفاية، فقد حملته على قراءة مذكرة من خمس وثلاثين صفحة.. ثم جئت اليوم أبحث معه موضوعا كبيرا وخطيرا، وذهنه وقلبه في شغل شاغل، في مشاغل الثورة ومشاكل مصر.
فوقفت أهم بالإنصراف، ووقف جمال عبد الناصر بكل هيكله، وبقامته الطويلة ومنكبيه العريضين، وعيناه النفاذتان تتفرسان بي، وأنا أقول : إن بناء مصر الحديثة على عظمته سيكون له سطر واحد في التاريخ، ولكن بناء الوحدة العربية سيكون له فصل كبير، وسيكون الذين يصنعونه من صانعي التاريخ.. وإن الذي صنع الوحدة العربية أيام الحروب الصليبية كان مقيما على مقربة منكم.. وأشرت إلى قلعة صلاح الدين، على الطرف الآخر من النيل..
واهتز جمال عبد الناصر لهذه الإشارة التاريخية وهو يقول : أرجو أن نستطيع أن نصنع شيئا بمعاونتكم جميعا.. أنتم الأخوة العرب.. وأرجو أن نلتقي كثيرا، فالطريق أمامنا طويل..
غادرت سراي الجزيرة وأنا أقول في نفسي "لقد خلعت مصر من تلك "المدرسة" السياسية التي كانت تدعو قبل سنين إلى إنشاء اتحاد فدرالي بين(1/183)
مصر والسودان وإرتريا والحبشة، ويوغندا، لإنشاء دولة حوض النيل.. تريد الآن أن تبني دولة المحيط والخليج..
وهذا الذي يجري في القاهرة من لقاءات شعبية ورسمية بصدد الوحدة العربية سبقته موجات عارمة من التصريحات الرسمية في البلاد العربية الأخرى وكلها تنادي بالوحدة العربية. منها ما هو منبعث عن إيمان عميق، ومنها ما هو زلفى إلى الجماهير..
وكانت قد دخلت هذه الأصداء العارمة إلى حرم الجامعة العربية التي خنقت أنفاس الوحدة العربية، فإذا بالمشاعر العربية تفرضها على جدول أعمال الجامعة في شكل مشروعات ومقترحات.. وكنت كمن يتلقف كرة ويحاول أن يدفعها من لاعب إلى لاعب حتى تدخل الهدف، ولكن عبثا وعبثا حاولت.. فإنه باطل الأباطيل أن تُبنى الوحدة العربية من داخل الجامعة العربية.
وكان أول هذه المشروعات، المشروع الاتحادي الذي قدمه الدكتور ناظم القدسي رئيس وزراء سوريا في سنة 1951 إلى الجامعة العربية، وكان الدكتور القدسي قد قام بزيارة للدول العربية ليمهد لمشروعه- وحينما حلت الدورة العادية، جاء إلى القاهرة وطرحه على مجلس الجامعة.
والتقيت بالدكتور القدسي غير مرة في الفندق وفي الجامعة، أستطلعه الدوافع الحقيقية وراء هذا المشروع، فقد قيلت حوله أشياء كثيرة في ذلك الوقت.. فأفضى إلي بالخلافات التي كانت تدور في داخل صفوف حزب الشعب-وهو الحزب الحاكم في ذلك العهد-بشأن موضوع الوحدة ...فمن قائل باتحاد القطرين العراق وسوريا.. ومن قائل بأن نوري السعيد يريد الاتحاد يوما ويتنكر له يوما آخر.. ومن قائل إن الملك عبد الله قد يثب على(1/184)
سوريا عاجلا أم آجلا.. ولم يكن يبد أمام هذه الأسباب إلا المطالبة باتحاد عربي شامل..
والواقع أنه كان هنالك سبب فوق هذه الأسباب، أعرفه بحكم اتصالي بالأحداث السورية، وهو أن الشعب كان يدعو حزب الشعب إلى الحساب ويصرخ بالسؤال الكبير.. أين الوحدة التي وعدتم بها..؟ لقد دخلتم الانتخابات على أساس الوحدة العربية، فأين وعدكم الذي وعدتم..
وانعقد مجلس الجامعة وفق تقاليده المعتادة، وخرج المصورون من أمام القاعة بعد أن صوروا أولئك السفراء، لتظهر صورهم في اليوم الثاني أمام الأمة العربية، بين مبتسم ومتجهم، ومتأمل ومتسائل..
وابتدأت الجلسة كالمعتاد بتلاوة الرسائل، ثم انتقلنا إلى جدول الأعمال، وكان على رأسه : مشروع سوريا.. وقرأت المذكرة السورية بكاملها.. وكانت مذكرة طويلة عن خطورة الحالة الدولية التي كانت سائدة آنذاك، ثم استعرضت الخطر الإسرائيلي، ودعت إلى قيام اتحاد عربي يشمل الدول العربية جميعها، في شؤون الدفاع القومي والسياسة الخارجية والنواحي الاقتصادية، وبسطت المذكرة، بعد ذلك، أشكال الاتحاد الثلاثة: الدولة المتحدة، الاتحاد الفدرالي، والاتحاد الكونفدرالي، وأن الشكل الأول هو الأجدر والأنفع، واقترحت المذكرة في النهاية أن يعلن مجلس الجامعة موافقته من حيث المبدأ على المذكرة السورية، ومن ثم تؤلف لجنة فرعية : للاتصال السريع بعواصم الدول العربية لعرض الفكرة وتذليل الصعوبات وتحضير النصوص والوثائق اللازمة.. ثم يدعى مجلس الجامعة لإقرار ما تم عليه الوفاق".(1/185)
وفرغت من قراءة المذكرة بكاملها، ورفعت رأسي لأتفرس في وجوه المجتمعين، فرأيتهم يتشاغلون في الكتابة.. هذا يكتب في مفكرته.. وذاك يؤشر على ما يراه مليحا أو قبيحا في المذكرة.. وذاك يكتب برقية عاجلة إلى حكومته يسأل عن المخرج من ورطة "الاتحاد العربي".
ولم ينبس أحد ببنت شفة.. وقال الوزير العراقي الدكتور الجمالي بلهجة حادة كأنما يوشك أن يعلن شيئا هاما:- نحن نرى .. أن يتفضل الدكتور القدسي بإيضاح المذكرة!!
ومع أن المذكرة السورية كانت مسرفة في الشرح والإيضاح، فقد أعاد الدكتور القدسي الحديث في موضوعها شارحا مختلف جوانبها، موضحا ما ليس في حاجة إلى الإيضاح..
وهنا بلغت الساعة الثالثة بعد الظهر.. فكانت فرصة ذهبية.. فأعلن الرئيس تأجيل الجلسة إلى اليوم الثاني.. "حتى ندرس المذكرة بصورة أوفى.. فإنها مذكرة قيمة تحتاج إلى درس.."!!
ودعاني الدكتور القدسي إلى فندق سمير أميس لتناول الغذاء، وعدنا إلى بحث الموضوع إياه.. وبدأه القدسي، وهو يجفف نظارته فقد أعياه الجهد الذي بذله في مجلس الجامعة:-
قال: وكيف رأيت الشرح الذي أدليت به في الجامعة.
قلت: كانت محاضرة علمية جيدة، ولكنها غير نافعة ولا مجدية...
قال: ولماذا. لقد دعمت مذكرتنا من جميع جوانبها..
قلت: كل ذلك ليس بنافع.. لا المذكرة ولا الإيضاح.
قال: ولماذا: أريد أن أعرف رأيك بصراحة- أنت هنا في القاهرة-وفي وسط الجامعة..(1/186)
قلت: وهل تنتظر من الجامعة العربية أن تقرر الوحدة وهي التي قامت أصلا، على التجزئة، وعلى تكريس استقلال الدول العربية، السبع، بحدودها الحاضرة، تماما كما أقامها الاستعمار قبل الجلاء..
لقد سبقك سعد الله الجابري رئيس وزراء سوريا ومعه وزير خارجيته جميل مردم في مشاورات الوحدة في الإسكندرية، فاقترحا إنشاء الدولة العربية المركزية.. وأنت تعرف مصير الاقتراح، لقد رفضه الجميع.. وعاد الوفد السوري إلى دمشق بخفي حنين أو بغير حنين.
قال: ولكن الظروف تغيرت.. كان ذلك في عام 1944، ونحن
الآن في عام 1951، لقد انهزمنا في حرب فلسطين..
قلت: إن سوريا هي الجمهورية العربية الوحيدة في العالم العربي، باستثناء لبنان، والدول العربية الأخرى خمس ملكيات، فمن الذي يتحد معكم؟
قال: إذن لا فائدة من المذكرة؟
قلت: إنها دعوة إعلامية لإبقاء الوحدة العربية حية دائما. . ولا ضرر من التجزئة على كل حال.
وافترقنا، الدكتور القدسي وأنا، لنلتقي في اليوم الثاني، في اجتماع مجلس الجامعة.. وأعلن الرئيس افتتاح الجلسة "نستأنف البحث في المذكرة السورية"... ولكن أحداً لم يستأنف البحث... سكت الجميع، ونظر الجميع بعضهم إلى بعض.. وقال الرئيس لربما يكون من المفيد أن يعيد الدكتور القدسي شرحه للموضوع حتى نستذكره جيدا، ونفهمه مليا.. وعاد الدكتور القدسي، والغضبة الحلبية في وجهه، يشرح ويشرح، مناشدا في النهاية "مجرد تبني الفكرة من حيث المبدأ، ودرس التفاصيل في اجتماعات مقبلة".(1/187)
ولكن أحداً في المجلس لم يعر انتباهاً للمذكرة السورية-وكانت الصيغة "الكريمة" التي توصل إليها، قرارا يقول "بإحالة المذكرة إلى الحكومات العربية لدرسها"!
وصاح الدكتور القدسي: لقد أرسلنا هذه المذكرة منذ شهرين إلى الحكومات العربية، ولكن رئيس الجلسة صاح بدوره: سيد شقيري.. انتقل إلى الموضوع الثاني على جدول الأعمال..
وقد أحيلت المذكرة السورية إلى الحكومات العربية، فلم يعقب أحد.. وأدخلت المذكرة إلى "المخزن" في الجامعة العربية، ولعلها أحرقت، في جملة ما يحرق من المهملات في كل بضع سنوات..
ثم أفاق النظام الملكي في العراق على فكرة الوحدة العربية، فأعلنت الحكومة العراقية في خطاب العرش في أواخر عام 1953- وكان ذلك
بمثابة رد على المذكرة السورية-استمرارها في السعي لتحقيق الاتحاد العربي.
وفي الدورة العادية التي عقدها مجلس الجامعة في ربيع 1954 تقدم الدكتور فاضل الجمالي وزير جارجية العراق بمذكرة مختصرة تقترح إقامة اتحاد عربي تنضم إليه الدول التي توافق على الاتحاد، وتعلن استعداد العراق " للدخول في الاتحاد مع أي قطر من الأقطار العربية الراغبة فيه".
وكما جرى بالمذكرة السورية قبل عامين-قرأت المذكرة العراقية على مجلس الجامعة.. وشرحها الدكتور فاضل الجمالي، ولكن بحماس أقل مما فعل الدكتور القدسي بمذكرته.. وكان واضحا من لهجة الوزير وطريقة عرضه للموضوع أنّ الحكومة العراقية كانت تجامل الشعب العراقي في(1/188)
طموحه للوحدة، وتداعب آماله في قيام دولة الوحدة.. وكان ذلك كل ما أرادته الحكومة العراقية..
وأحيلت المذكرة العراقية كأختها السورية إلى الحكومات العربية لتدرسها وتبدي رأيها في الاجتماع المقبل، فما علقت عليها الحكومات العربية، ولا أثارها الوفد العراقي فيما بعد..
وحين انتهت اجتماعات المجلس، دخل الدكتور الجمالي إلى مكتبي انتظاراً لسيارته.. فقال:
ولماذا كنت تقرأ مذكرتنا بصورة ساخرة..؟
قلت: لم أكن ساخراً.. ولكني كنت في الواقع غير جاد في قراءتها.
قال: ولماذا.؟
قلت: كنت غير جاد في قراءة مذكرتكم، لأن الحكومة العراقية غير جادة في تقديمها.
قال: ولكن هذا الموضوع تضمنه خطاب العرش،
قلت: نعم، لأن خطاب العرش تضمنه، فإني لا آخذه مأخذ الجد، وبصراحة فإني لا أعتقد أن الوحدة يمكن أن تأتي عن طريق الهاشميين.
قال: أنت عندك عقده الهاشميين.. أنت تكرههم.. لقد كنت عميلا لسوريا..وأنت الآن عميل لمصر.
قلت: أنا لست عميلا لسوريا ولا لمصر.. إنما عميل للوحدة العربية.
قال: أنت تظلم الهاشميين.. بلا سبب ولا برهان.. هكذا للشيطان!!
قلت : إن الهاشميين يظلمون أنفسهم.. لقد ألقوا بأنفسهم في أحضان الإنجليز، ويكفي أن تتذكر كلمة الأمير- الملك-عبد الله.. ألا تذكرها يا فاضل..(1/189)
قال: وماذا قال الأمير عبد الله، هل كفر.. ماذا قال؟
قلت: لقد كتب إلى والده الشريف حسين يقول " وما مثل الذين يعترضون عليكم في موالاة الإنجليز إلا كمثل من يحاول الاعتراض على ا
لله في تدبير شؤونه التي يبديها ولا يبتديها.."
ووصلت سيارة الدكتور الجمالي إلى فناء الجامعة وانتهى هذا الحوار بيننا، نحن الصديقين اللدودين، والعدوين الودودين، كما كنت أردد له دائما، فقد كنا صديقين أيام كنا في الجامعة الأمريكية، وأصبحنا فيما بعد عدوين في السياسة العربية..
وانتهى المجلس في تلك الدورة ليكون الدليل الأخير والبرهان الكبير.. أن الجامعة العربية أصبحت مهربا.. تهرب الحكومات العربية من خلاله، من شعوبها ومن مطالب شعوبها في الوحدة العربية..
وقد برع الحكام العرب في الانتفاع بهذه الجامعة، فكانوا كلما عادوا إلى بلادهم وسألتهم شعوبهم ماذا صنعتم بالوحدة العربية.. كان الجواب على ألسنتهم بأصوات عالية:-
" لقد فعلنا كل شيء.. ولكن الجامعة العربية لم توافق.."
تلك كانت كلماتهم في الوحدة وفي غير الوحدة.. وذلك ما قالوه على مدى خمسة وعشرين عاما.
وقال الله غير ما قالوا :" كبرت كلمة تخرج من أفواههم، إن يقولون إلا كذبا".
صدق الله العظيم.(1/190)
الوحدة العربية عند أربعة:جمال عبد الناصر..
القوتلي.. الإمام أحمد..فيصل
كان الشَّطر الثاني من الخمسينات "وقفا" على الوحدة العربية، فانحبست تلك السنون على حركتها ونشاطها وتعاظمها، سواء في ذلك الصعيد الشعبي والصعيد الرسمي..
وكان زمام المبادرة في يد القوى الشعبية، من قادة الفكر العربية: فقد طال انتظارها للوحدة العربية، ، وخاب أملها بعد تجارب السنين، فلم تعد الجامعة العربية خطوة على الطريق.
ولم تكد الثورة المصرية توطد أقدامها، وتكشف عن عروبتها حتى غدت القاهرة المقر الدائم للجامعة العربية، وللمؤتمرات العربية الشعبية.. ولكن بفارق واحد كبير...
ذلك الفارق الواحد الكبير هو أن المؤتمرات العربية الشعبية كانت تعمل بوحي من نظرتها العربية الواسعة والمؤتمرات الرسمية تعمل بوحي من نوازعها الإقليمية، الضيقة..
وهكذا تعاقبت المؤتمرات العربية للأطباء والمهندسين والصحافيين والصيادلة والمحامين والمعلمين والعمال، و... وأصبحت القاهرة وعلى مدى(1/191)
السنين، خلية نحل تعج بالوفود العربية من كل أرجاء الوطن العربي.. ومع الوفود نساؤهم وأطفالهم، بين رضيع وفطيم!!
وكان كثير من هذه الوفود يزورون الجامعة العربية ليروا أين وصلت.. وماذا أنجزت، حتى أصبحت الجامعة ومن فيها، من المعالم السياحية في القاهرة، وكنت أكشف لهم الحقيقة التي بلوتها وعجمتها، وكأنما أصبحت وظيفتي كأمين عام مساعد للجامعة العربية، أن اكشف عن معايب الجامعة وسوآتها..
ولكني كنت "انتفع" بهذا المنصب لأمثل الجامعة العربية في هذه المؤتمرات الشعبية، وأتحدث فيها مع المتحدثين، عن الوحدة العربية..
ولم تعد هذه المؤتمرات تعنى بأمورها المهنية، فقد طغت تطلعاتها القومية على الطب والهندسة والمحاماة والصيدلة و.. و... بل لعل الارتباطات المهينة أصبحت عند الكثيرين وسيلة لعقد الاجتماعات، وتنظيم المؤتمرات، للبحث في أمر واحد، لا سواه، هو موضوع الوحدة، العربية.. كيف نبنيها، ومتى؟؟
وإني لأذكر مؤتمر المهندسين العرب الذي انعقد في قصر عابدين، وخطبت فيه باسم الجامعة العربية، وتحدثت عن فن العمارة في مصر القديمة، واليمن، باعتبارهما طلائع الحضارة الإنسانية في البناء.. واستطردت من ذلك إلى القول إن البناء الكبير الذي نستطيع أن نقدمه لتاريخنا المعاصر، هو أن نبني الوحدة العربية.. وليتفضل المهندسون البناؤون..
وهكذا كانت كل المؤتمرات العربية الأخرى تدعو إلى الوحدة.. في الخطب والقرارات، فتنقلها الصحافة والإذاعة إلى الوطن العربي من المحيط(1/192)
إلى الخليج، .. وهذه المؤتمرات نفسها هي التي صاغت " من المحيط إلى الخليج" شعارا للوحدة العربية.
وكانت هذه الوفود العربية وهي في القاهرة، تلتقي بقادة مصر، وخاصة الرئيس جمال عبد الناصر، في المؤتمرات والندوات، وفي البيوت، والحديث دائما هو الحديث إياه.. الوحدة العربية.. كيف تبنى، ومتى؟
وفي واحد من هذه اللقاءات، وكان الجو مرحا فيه مباسطة ومكاشفة، قلت للرئيس جمال عبد الناصر:
- إلى متى تظل مصر مشغولة بأمورها المصرية؟.
قال: وماذا تعني؟
قلت: ومتى تدخل مصر الساحة العربية؟
قال: إن إصلاحاتنا في مصر هي في صميم الساحة العربية.. ولكن ماذا تعملون أنتم في الجامعة العربية؟
قلت: نحن نعمل كل شيء، إلا في الشؤون العربية.!!
قال: (وهو يضحك ضحكة عالية) ولكن ماذا تريدون من مصر أن تعمل.. نحن مع الشعوب العربية في كل ما تريد..
قلت: الوحدة العربية هي مطلب الأمة العربية. وهي الشعار الذي يجب أن يعلو على كل شعار..
وتحدث آخرون من الوفود العربية بهذه المعاني، وهم يدعون مصر أن تقوم بدورها لتحقيق هذه الغاية، وعبد الناصر يعود ليكرر قوله: نحن مع الشعوب العربية..(1/193)
... وكانت مصر في ذلك الوقت ما تزال غارقة في أمورها الداخلية، وخاصة تجربتها الأولى بإنشاء الاتحاد القومي- وهو الذي سبق الاتحاد الاشتراكي.
وازدحمت القاهرة بالوفود العربية، بين مدعو ومتطوع، لمناسبة انعقاد المؤتمر الأول للاتحاد القومي.. وكانت الفنادق كلها أشبه بندوات عربية، تسمع فيها اللهجات العراقية والشامية والأردنية واللبنانية، كلها تتحدث في موضوع الوحدة العربية..
وأيقنت أن عبد الناصر، وله في رأسه "رادار" سريع الالتقاط للأحاسيس العربية، وفي معدته عصارة سريعة "الهضم" للأفكار العربية.. وأيقنت أنه لا بد أن يحدث الأمة العربية عن آمالها في الوحدة العربية..
وقد صح ظني، فقد التقينا في السرادق الكبيرة في اليوم المحدد، والوفود الشعبية تحتل الصفوف الأولى .
وتحدث عبد الناصر عن الوحدة العربية بكلمات واعية جامعة..
فقال: " إنه ليشرفنا أن نكون دعاة وحدة عربية شاملة.. إنّ العرب أمة واحدة. إن ثورتنا العربية التي تبلورت في عقيدة القومية العربية باعتبارها طريقنا للوحدة كانت فكرا واعيا بقدر ما هي طبيعة أصيلة.. وإننا نناصر كل وحدة عربية إلى أي مدى.. ومع أي شعب عربي آخر، إيمانا صادقا منا بأن الوحدة العربية هي أعلى مراحل الوطنية العربية".
عند هذه الكلمات الرائعات وقف الشعب كله يهتف "وحدة وحدة" ولم يقتصر الهتاف على شباب الاتحاد الذين تمرسوا بهذا النوع من النشاط التنظيمي، بل وقفت الوفود العربية، وقد علا صوتها على صوت الشعب المصري، وهي تصيح بنداءات الوحدة..(1/194)
قد سرني أن عبد الناصر كان يقرأ من خطاب مكتوب على غير عادته في معظم الأحوال.. فهذا أول كلام مصري مسؤول، فيما أرجح عن الوحدة، وما أردته أن يكون خطابا مرتجلا ساقته عاطفة عابرة.. وكان الله يحب المحسنين.
نظر أعضاء الوفود العربية بعضهم إلى بعض، وهم من المدمنين على المجيء إلى القاهرة للدعوة إلى الوحدة العربية، يغمرهم السرور، وقد رأوا أن المؤتمرات العربية الشعبية قد آتت أكلها، وهذا خطاب عبد الناصر يتجاوب مع الجماهير العربية.
ولو أن زعيما عربيا من المشرق العربي تحدث يومئذ عن الوحدة العربية، بمثل ما تحدث به عبد الناصر لكان أمرا عاديا، فلم تكن هذه الدعوة غريبة على العراق والشام.. ولكن الحدث الخطير، أن تخرج هذه الدعوة من مصر، ومن مصري مسؤول، وبهذا الوضوح الحاسم القاطع، بعد أن كانت مصر وقادة مصر، ولسنيين طويلة يتحدثون عن "الرابطة الشرقية" "والأقطار الشرقية" حين تدور ألسنتهم عن الأقطار العربية..
ولكن القوى الشعبية في العالم العربي، لم تصفق لعبد الناصر وانتهى، ولم يدخل في حسابها أنه سيصنع الوحدة العربية ويقدمها في باقات من الزهور للأمة العربية.. بل مضت في أداء دورها القومي في الدعوة للوحدة العربية.. وتأليب الجماهير حول شعاراتها، ومناشدة القادة العرب أن يضطلعوا بمسؤولياتهم لإنجازها.. ذلك أن الحاكم إذا ترك ترك..
ولم يعد أمام الرأي العام العربي في عام 1954 والأعوام التي تبعت، إلا موضوع الوحدة العربية، ونشطت جمهرة المثقفين للإعداد لمؤتمر يضم خريجي الجامعة الأمريكية.. ووصلت إلى القاهرة هيئته التحضيرية التي(1/195)
كان يرأسها السيد أميل البستاني، صاحب الأعمال، اللبناني المعروف، وطافوا على دور الصحف واتصلوا بالاتحاد القومي المصري.. وجاءني بوصفي منتسبا إلى الجامعة الأمريكية وأنا واحد من المتخرجين، والأمين العام المساعد في الجامعة العربية...
واعتذرت عن الاشتراك في المؤتمر، ولكني "سأساهم في أكبر موضوع يهم الأمة العربية في ظروفنا الحاضرة"، وسأل أميل البستاني بجثته المكتنزة بالأعمال والأموال: يا ساتر وما هو الموضوع؟
قلت: لدي مشروع كامل عن دستور "الولايات العربية المتحدة" كنت وضعته منذ مدة، وها أنا أقدمه لكم ليكون بين ملفات المؤتمر. عدلوه، بدلوه، المهم أن تضعوا لنا دستورا للولايات العربية المتحدة..
وانعقد المؤتمر في صيف 1954، وشهده الخريجون من أنحاء الوطن العربي، وعرض مشروع "الولايات العربية المتحدة " فعدل وبدل، وأقر دستورا كاملا وشاملا، وفي عام 1955 انعقد المؤتمر ذاته على نطاق أوسع حضره ما يقرب من خمسماية مندوب يمثلون نخبة الفكر العربي الواعي، فأجمع على مطالبة قادة العرب "بأن يبادروا إلى العمل لإقامة الاتحاد العربي..".
وفي ربيع عام 1956 عقد المحامون العرب مؤتمرهم الكبير في القاهرة، ووجهت إلي اللجنة التحضيرية الدعوة، بوصفي محاميا، وأنا معتزل المهنة من أيامي في فلسطين منذ عام 1945، فبعثت إلى المؤتمر برسالة اعتذر وأشكر، أرفقتها بمشروعي الذي أعددته قبل عامين "دستور الولايات العربية المتحدة".. ولم يكن المحامون وبينهم العارفون بالدساتير الاتحادية، بحاجة لهذا المشروع، بل إنهم لم يكونوا بحاجة إلى من يستنهض(1/196)
همتهم، فقد أصبحت الوحدة العربية قضية قومية شعبية فأعلن المؤتمر بالاجماع أن تحقيق الوحدة العربية هو أكبر أهداف الأمة.. وأن على مصر وسوريا "المبادرة لإقامة اتحاد فدرالي بينهما يكون مفتوحاً لكل دولة عربية لها مقومات التحرير..."
وفي أوائل صيف 1956، صادف أن دعيت إلى دمشق، لأقدم إلى الحكومة السورية رأيي في كيفية معالجة القضية الفلسطينية في الدورة المقبلة للأمم المتحدة، فقلت: ما لكم وللأمم المتحدة، إن خير ما تخدمون به القضية الفلسطينية هو أن تبادروا إلى إقامة اتحاد مع مصر.. لقد أصبح الاتحاد مطلبا شعبيا.. وقال رئيس الوزراء السيد خالد العظم:
-كأننا وإياك على ميعاد.. لقد كنا نبحث هذا الموضوع في القصر الجمهوري بالأمس، وإنّ النية متجهة لإصدار قرار يتبنى الاتحاد بيننا وبين مصر.. وسنطرح الأمر على مجلس النواب.. ولكن هل تعتقد أن عبد الناصر يوافق على هذه الخطوة.. أنت مطلع على الأمور في مصر، فما هو تقديرك..؟
قلت: لا أستطيع أن أقول على وجه التحديد.. أنا لم أبحث هذا الموضوع مع المسؤولين المصريين منذ عهد قريب..
قال: إن معلومات سفارتنا في القاهرة... أن عبد الناصر ليس مستعدا للدخول في الوحدة في الظروف الراهنة..
قلت: إنّ دعوة الوحدة قد انطلقت منذ البداية من دمشق.. وعليكم أن تقنعوا عبد الناصر، بل إني أرى أن تتخذوا قراركم، وتضعوه أمام الأمر الواقع.. ولا أظن أنه يتردد إذا رأى منكم موقفا حازما..(1/197)
وكانت ليلة الخامس من تموز عام 1956 من أحلى ليالي دمشق في عهد الاستقلال.. ففي ذلك المساء قرر مجلس الوزراء السوري قراره التاريخي بتبنى الدعوة لإقامة اتحاد عربي بين مصر وسوريا.. وطرح الأمر في اليوم التالي على مجلس النواب.. فأقره بإجماع رائع، ألهب الأكف بالتصفيق... وبرّد المآقي بدموع الفرح... وكان عيدا.... وكان مهرجانا.. وسهرت الشام على الحلم الكبير حتى الفجر، فقد رأت فيه فجر آمالها المجيدة وأمانيها العتيدة..
وتفجرت مع فجر ذلك اليوم البهيج مشاعر الفرحة العارمة في أرجاء الوطن العربي، كما لم تشهده إلا يوم زوال الاحتلال..
وصحَّ ظني، فقد أعلن عبد الناصر ترحيبه بذلك القرار التاريخي وأعاد إلى الأذهان أن الدستور المصري الجديد قد قرر " أن مصر جزء من الوطن العربي وأن شعب مصر جزء من الأمة العربية"، وبهذا اسلّم الشعب العربي مشعل الوحدة إلى أيدي القادة في دمشق والقاهرة.
ومضى عام أو يزيد قليلا على فكرة الاتحاد المصري السوري، وهي في حيز الإعلان والبيان، حتى أخذت سوريا زمام المبادرة مرة ثانية، فقد أصبح الشعب السوري يتساءل: ثم ماذا؟ والشام وطن الوحدة منذ انبلاج الحركة العربية، فوجهت الحكومة السورية دعوة إلى مجلس الأمة المصري لزيارة دمشق.. وكانت فرحة كبرى للقاء رسمي بين وفد مصر ولجنة الشؤون الخارجية السورية (تشرين ثاني 1957)، وانتهى اللقاء إلى قرار يعلن "رغبة الشعب العربي في مصر وسوريا بإقامة اتحاد فدرالي بين القطرين، ودعوة حكومتي مصر وسوريا للدخول فورا في مباحثات مشتركة،(1/198)
بغية استكمال أسباب تنفيذ هذا الاتحاد" ووافق البرلمان السوري بالإجماع على هذا القرار، ووفد مصر موافق ومصفق..
ولم تكد إذاعة دمشق تعلن على العالم هذا القرار، حتى بادر مجلس الامة المصري وفي نفس الليله إلى الموافقة عليه بين التصفيق اللاهب والهتاف المدوي والنشيد البهيج. كنت في منزلي بالزمالك في القاهرة وقد لصقت أذني ذلك المساء إلى الراديو وهو يذيع قرار البرلمان السوري ثم قرار مجلس الأمة، والتلفون يدق في منزلي، ورنات جرسه جذلانة فرحانة.. والتهاني تنهال عليّ من أصدقائي المصريين، والوزراء والصحفين، وهم يقولون، بارك الله فيكم.. أنتم السوريون أصحاب الفضل.. والفضل للمتقدم.. وتلجلج لساني في تلك الليلة، وكان عهدي به أن يسعفني كلما دعوته، ولكن ارتج على جوارحي كلها.. تريد أن تفرح لا أن تتكلم ..
وتوالت الاجتماعات والزيارات بعد ذلك بين دمشق والقاهرة، وبالعكس لاتخاذ الإجراءات التنفيذية لإقامة دولة الوحدة.. وأصبحت دار جمال عبد الناصر في منشية البكري ندوة عربية لبحث أمور الوحدة العربية، دون أن يكون فيها للشؤون المصرية إلا حظ قليل..
وكانت الوفود السورية، العسكرية منها والمدنية تفد على القاهرة، وفي كل مرة معها جديد.. يوم بوحدة فدرالية، ويوم بوحدة اتحادية، ويوم بنظام برلماني، ويوم رياسي.. حتى سئم العسكريون من السياسيين، وضجر السياسيون من العسكريين. لقد كانت سوريا مسكينة حقا في تلك الأيام.. شعب عظيم كل عمره للوحدة، ولكن قيادته الممزقة، كانت ممزقة فيما بينها، حول ما يكون وما لا يكون..(1/199)
وفي أوائل عام 1958 قدم إلى القاهرة وفد سوري كبير على رأسه شكري القوتلي، وفيه خالد العظم وصبري العسلي وصلاح البيطار ومأمون الكزبري وفاخر الكيالي، وعفيف البزري وغيرهم من رجالات سوريا، العسكريين قبل المدنيين..
وحملتني "سوريتي" وصلاتي القديمة أن أذهب للسلام عليهم في قصر القبة فرأيتهم في غرفهم يتجادلون ويتباحثون، فلم يكونوا قد اتفقوا إلا على موضوع الاتحاد، بالاسم والعنوان.. وبأي آلاء ربكما تكذبان!
ودخلت غرفة الرئيس القوتلي ومعه خالد العظم، وكانا مقطبين واجمين، فسلمت وجلست..
وقلت: خيرا يا فخامة الرئيس.
قال: نحن ننتظر مشروع بيان عن الاتحاد، يعده الإخوان في الغرفة المجاورة، وقد مضى عليهم يومان ولم ينجزوا شيئا..
قلت: ولم التأخير..
قال: الأخوان مختلفون على دستور الاتحاد.. خالد بك له رأي في الموضوع..
ودخلت في استيضاح، فبدا لي أن الرئيس القوتلي قد تعب وضجر، وهو يوافق على أي شيء.. وأن خالد العظم مصر على اتحاد فدرالي، وأن باقي أعضاء الوفد خرجوا من دمشق يريدون الاتحاد، ولما وصلوا إلى القاهرة أصبحوا يطالبون بالوحدة!!
وما هي إلا لحظة حتى دخل الفريق "المشير" عبد الحكيم عامر ومعه بقية أعضاء الوفد السوري: وهم يقولون لقد اتفقنا.. وقال الرئيس القوتلي وخالد العظم: الحمد ..(1/200)
وخرجت .. فقد أصبحت الجلسة رسمية، ولم يعد لي فيها مكان.. وأدركت أن الأمر قد أدرك النهاية..
وفي مساء اليوم الأول من شباط من عام 1958 كنت منطويا على نفسي في غرفتي، وهو يوم لا أنساه كل حياتي.. وإذا بأولادي يتراكضون إلي: بيان مهم.. في صوت العرب.. وفتحت الراديو على النبأ الكبير الكبير..
كان المذيع ينطق، وكأنما أوتار صوته قد انشدت إلى قلوب الملايين من الأمة العربية.. لقد كان يعلن "توحيد سورية ومصر في دولة واحدة اسمها الجمهورية العربية.. في نظام ديمقراطي رياسي.. ويكون لهذه الجمهورية علم واحد، يَظل شعبا واحدا.. وأن يكون باب الوحدة مفتوحا لكل بلد عربي"..
ثم سرد البيان الجوانب الدستورية للوحدة، معلنا أن مجلس الأمة يتولى السلطة التشريعية، وأن رئيس الجمهورية يتولى السلطة التنفيذية، وأن في كل من الإقليمين الشمالي أو الجنوبي مجلس تنفيذي يمارس الصلاحيات الإقليمية، ويرأسه رئيس يعينه رئيس الجمهورية.. إلى آخر التفاصيل الدستورية التي جاءت لتجعل الدولة الجديدة جمهورية عربية " واحدة"، لا جمهورية عربية "متحدة" كما ورد اسمها.. وهذا خطأ دستوري!! (1)
واستمعت إلى هذا البيان التاريخي ثانية وثالثة، كما استمع إليه الملايين من الأمة العربية، وأصغت إليه إسرائيل وهي تزم شفتيها على أسنانها، فسيصبح الجيشان السوري والمصري جيشاً واحداً، على رأسه قائد واحد
__________
(1) * يرجع إلى مصادر القانون الدستوري في الفرق بين "متحدة" و "واحدة".(1/201)
ووزير دفاع واحد، وما كانت إسرائيل لتقوم في البداية إلا لأن حولها سبعة جيوش، على رأسها سبعة قادة، وفوقهم سبعة وزراء دفاع.
وعمت الفرحة أرجاء الوطن العربية فكان الناس يتبادلون التهاني في الشوارع والمقاهي والبيوت، فقد رأوا أنفسهم وجها لوجه أمام الفجر ينبثق على الحلم الكبير..وانبعثت نفحات صوفية تجلت في تلك الأيام في خطب الزعماء.. زعماء مصر وسوريا على السواء..
فأعلن الرئيس القوتلي أنه يرشح السيد جمال عبد الناصر لرياسة الجمهورية العربية المتحدة، مشيدا بما "يتمتع به من صفات النزاهة والجرأة والإقدام".. وأشاد السيد جمال عبد الناصر من جانبه بالسيد شكري القوتلي مشيرا إلى "أن الجمهورية العربية المتحدة هي النتيجة الكبرى لجهاده في سبيل الوحدة.." وأعلن السيد أكر م الحوراني رئيس مجلس النواب السوري أن القوتلي " حمل آمالنا في الحرية والكرامة والاستقلال والجلاء، وجاء اليوم يحمل أمنيتنا في تحقيق وحدتنا". وسجل مجلس النواب السوري قراره التاريخي منوها " بأن المثل الرائع الذي ضربه السيد شكري القوتلي بصدق جهاده سيظل الهدى الذي تهتدي به أجيال الأمة العربية"..
تلك كانت النفحات الروحية في تلك الأيام الروحانية..
وفي أيام تلك الموجات العارمات في الأفراح والمباهج، وصل إلى مطار القاهرة الأمير البدر ولي عهد والده الإمام أحمد ملك اليمن.. وشاع الخبر في مثل البرق أنه جاء ليعلن انضمام اليمن إلى الجمهورية العربية المتحدة!!(1/202)
وسارعت إلى قصر الطاهرة في القاهرة، حيث كان ينزل الأمير البدر، وقد سبقت لي زيارات لليمن، رأيت فيها العجب وسمعت منها العجاب، كما فصلت في مذكراتي (1) ، وبادرته بالسؤال كما سمعته من عامة الناس في الشوارع: وهل ستنضمون إلى الجمهورية العربية المتحدة.
قال: وهل هذا معقول.؟
قلت: (مازحا) تصبح لك وظيفة أكبر في دولة أكبر!!
قال: وما هي هذه الوظيفة التي ترشحني لها؟؟
قلت: تصبح ولي عهد الجمهورية العربية المتحدة!!
وهنا استوضح أحد اليمنيين المرافقين بكل جدية: صحيح؟ وهل هذا ممكن؟
وانجابت الشائعات أمام الحقيقة، وعرف الناس أن الإمام أحمد يريد أن يدخل في اتحاد مع الجمهورية العربية المتحدة.
ولكن النكتة المصرية أصبحت تتداولها ألسنة المصريين وقد سمعت "أحمد ومحمد" ، من بوابي العمارة التي أقيم فيها، يتحاوران:-
أحمد: سمعت بالخبر؟
محمد: خبر آيه.
أحمد: الإمام "بتاع" اليمن سيكون نائب الرئيس عبد الناصر.
محمد: وحايبقى في صنعاء ولا إيه.
أحمد: لا لا .. حاء يبقى في سيدنا الحسين!!
محمد: : "كويس" حانشبع قهوة وقات.
__________
(1) * مذكرات المؤلف "أربعون عاما في الحياة العربية والدولية".(1/203)
أحمد : فال الله ولا فالك.. مش عاوزين لا قهوة لولا قات!! يكفينا ما فينا!!، لا يا أخويا، الوحدة كويسه لكن بدون قات..
وبينما كان المصريون يتفكهون على الإمام والبدر، ويبتكرون لهما "القافية" كان خبراء القانون الدستوري في القاهرة قد وضعوا مشروع اتحاد الدول العربية المتحدة" لتنضم إليه المملكة المتوكلية.. وحمله الأمير البدر إلى والده في صنعاء وعاد به (8 آذار 1958) موقعا بخاتم المتوكل على الله رب العالمين الإمام أحمد يحيى حميد الدين"
والواقع أن دستور الاتحاد مع اليمن قد "سلق" على عجل، فقد أريد منه أن يكون خطوة إعلامية لترسيخ الدعوة إلى الوحدة.. فقد اشترط الاحتفاظ لكل دولة بشخصيتها، وأن تصدر قرارات مجلس الاتحادبالإجماع.. ومعنى هذا أن الإمام أصبح يملك حق الفيتو-شأنه في ذلك شأن الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، يقبل ما يشاء، ويرفض ما يشاء.
وسألني المشير عبد الحكيم عامر، وأنا أهنئه بهذه الخطوة: رأيك
إيه في الاتفاق مع اليمن..؟
قلت: أنتم لا تعرفون اليمن ولا إمام اليمن.. لقد زرت اليمن مرات .. والتقيت بالإمام مرات.. وإنّ الإمام أحمد قد جعل اليمن بلد الرهائن والقات، والاغتيالات والمؤامرات، بلد سيوف الإسلام، من غير سيوف ولا إسلام!!
قال: أنت "آيه" تفسيرك، لإلحاح الإمام على الدخول في الوحدة.
قلت: الإمام سيأخذ من الاتحاد كل شيئ ولن يعطيه أي شيء.. الإمام يريد أن يراود بريطانيا، وأن يساوم الملك سعود، وأن يشدد قبضته على الشعب اليمني...(1/204)
قال: ونحن نعمل آيه.. ما نقدرش نرفض، لقد وصلتنا منه برقية ونحن نوقع ميثاق الوحدة مع سوريا يقول فيها : "بالله لا تنفضوا قبل أن تضمنونا إليكم"..
وانتهى هذا الحوار مع المشير عامر، دون أن يقنع... ودون أن، أقنع.
وإذا كان قيام الجمهورية العربية المتحدة قد حرك الإمام أحمد في صنعاء، فقد حرك من قبل الأسرة الهاشمية في بغداد وعمان.
لقد كان الشعب في الأردن والعراق يموج بالأفراح، وهو يستمع إلى أنباء الوحدة بين مصر وسوريا، وكانت هتافات الشعب تصل قصر الرحاب في بغداد، وقصر بسمان في عمان، وكان لا بد من إرضاء الجماهير وإلهائها.. وسارع الرسل بين بغداد وعمان يقترحون اتحادا بين الملكين الشابين، أبناء العمومة، الحسين بن طلال بن عبد الله الثاني الحسين، وفيصل بن غازي بن الحسين.
وهكذا كان، فقد عقد اجتماع هاشمي كبير في عمان (14 شباط 1958) حضره الملك الوديع فيصل، وخاله الصامت أبدأ الساكت سرمدا، الأمير عبد الإله، ومعهما وفد عن الحكومة العراقية.
... وفي تلك الجلسة اتفقت الحكومتان العراقية والأردنية على إنشاء اتحاد بين المملكتين "تحتفظ كل من الدولتين بموجبه بشخصيتها الدولية وبسيادتها على أراضيها وبنظام الحكم فيها.. ويحتفظ كل ملك بسلطاته الدستورية في مملكته" .. وما أن نشرت نصوص هذا الميثاق الاتحادي حتى قابله الرأي العام العربي بفتور، فقد رأى فيه عملا من أعمال النكاية، ومحورا هاشميا، يتصدى للجمهورية العربية المتحدة في أول نشأتها ، دون أن يكون فيه اتحاد، لا مظهرا ولا جوهرا...(1/205)
وفي إحدى الحفلات الكبرى التي كانت تعج بها القاهرة، في تلك الأيام البهيجة، سأل الرئيس عبد الناصر عددا من الحاضرين عن رأيهم في الاتحاد الهاشمي، فكانوا يجيبون مستنكرين، ووصل السؤال لي وهو يقول : والشقيري رأيه آيه:
قلت: لقد وقعت للرسول العظيم، جد فيصل والحسين، حكاية عظيمة..
قال: آيه الحكاية العظيمة..
قلت: لقد بنى بعض المنافقين مسجدا للنكاية بالإسلام والمسلمين، وهو المعروف بمسجد "ضرار" فأنزل الله قوله تعالى "والذين اتخذوا مسجدا ضراراً وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرضاء لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد انهم لكاذبون" وما أن نزلت هذه الآية حتى أرسل النبي عليه الصلاة والسلام جماعة من المسلمين فأحرقوا مسجد الضرار وهدموه.. وهذا هو الاتحاد الهاشمي اليوم بين عمان وبغداد!!
فقال الرئيس عبد الناصر: هذه فتوى خطيرة..
قلت: لا أبدا، ليس لأحد: وشيخ الأزهر في الأزهر..
ولكن الرئيس عبد الناصر قد سبق له قبل هذه "الفتوى" أن أرسل إلى الملك فيصل في بغداد برقية يهنئه فيها بقيام الاتحاد العربي، وتغريني ذكريات تلك الأيام أن أنقلها بنصها الكامل ويقول فيها : "إن الاتحاد العربي الذي وجد اليوم ما بين العراق والأردن هو خطوة مباركة تتطلع إليها الأمة العربية كلها بأمل كبير باعتبارها اتجاها يستمد قوته من أعماق الضمير العربي، وإننا لواثقون تماما بأن الاتحاد العربي سوف يكون قوة لكل العرب على كل أعداء العرب، إن الأيام التي تعيشها الأمة العربية الآن أيام خالدة، وما من شك بأن الأحداث التي عاشتها أمتنا في الفترة الحاضرة تبشر بأن(1/206)
فجر الوحدة الذي أشرق على كل الآفاق العربية هو مطلع تاريخ جديد للأمة العربية المناضلة.. وإن القومية العربية لتفتخر وتعتز بالخطوة التي اتخذتموها في عمان اليوم واثقة بأنها تقرب منا يوم الوحدة العظيم، وما من شك في أن شباب جلالتكم وإيمانكم وصادق إخلاصكم سوف يكون من أقوى القوى الدافعة في سبيل تحقيق حلم العرب الكبير.. وإنني إذ أبعث لجلالتكم بتحياتي أتمنى من صميم قلبي أن يوفقكم الله وأن يسدد خطاكم وأن يبارك شعبكم العظيم".
ولقد كان من واجب اللياقة من الرئيس عبد الناصر أن يرسل برقية تهنئة.. ولكن الخلاف ثار بيننا، نحن الذين كنا نتابع الأحداث العربية، هل أخطأ الرئيس عبد الناصر أم أصاب في إرسال تلك البرقية بتلك العبارات التي أسبغها على الاتحاد الهاشمي.. وكنت أنا، وكثرة من الإخوان معي، نرى أن الرئيس عبد الناصر قد أخطأ .. فقد أعطى الاتحاد الهاشمي أكثر مما يستحق.. بكثير... والجماهير العربية يجب أن توضع أمامها الأمور بحدودها أو أكثر منها بقليل، لكن من غير إسراف وإغراق..
وكان الظن أن تلك البرقية التي تفيض لبنا وعسلا ستلقي جوابا كريما، كما أمر الإسلام، في أن ترد التحية بمثلها أو بأحسن منها..
ولكن الرد لم يكن جميلا، ولا كريما مثيلا.. قد كان جواب الملك فيصل، جافا وفاترا، ولم ترد فيها أية إشارة للجمهورية العربية المتحدة ولا تهنئة بقيامها، ولا تمنيات طيبات لها، وكان كل ما حوته برقية الملك فيصل الكلام الهاشمي المعروف: " عن دور الثورة العربية الكبرى التي قادها جلالة المنقذ الأعظم الحسين بن علي.. وقادت الجهاد العربي أربعين عاماً وكان الاتحاد العراقي الاردني ثمرةمن ثمراتها..(1/207)
وقد جاءت هذه البرقية لتثبيت ماقلته لعبد الناصر :هذا الاتحاد العراقي الاردني هو مسجد الضرار وأويت إلى نفسي وأنا أردد قول الله تبارك وتعالى"
ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام..
صدق الله العظيم(1/208)
يا طويل العمر..
والدك دعا إلى الوحدة العربية
كان الشتاء عام 1961 موسم الوحدة والاشتراكية في قصر
الناصرية في الرياض، وفي مجلس الملك سعود.
والمواطن العربي المعاصر وقد أُشرب قلبه بالوحدة، وشغل عقله بالإشتراكية، يستغرب أيما استغراب أن يكون للوحدة والاشتراكية مكان عند الملك سعود.
ولكن ذلك وقع.. وكثيرا ما وقع مثله في مجالس الملوك السابقين، بل وقع ما هو أشد وأنكى..
ألم تشهد مجالس الخلفاء المسلمين، الحوار العنيف، بشأن الله ذاته وصفاته، وخلق القرآن، والفارق بين الزندقة والإيمان.
ومع فوارق الزمان والمكان، شهد مجلس الملك سعود ندوة علمية حول الوحدة والاشتراكية.. والاشتراكية اليوم هي موضوع الساعة، وستظل كذلك إلى قيام الساعة.(1/209)
كنت في ذلك العام عائدا من سفرتي إلى الاتحاد السوفيتي حيث قضيت اسبوعين، التقيت خلالها بزعماء الاتحاد السوفيتي، خروشوف، ميكويان، جروميكو، وعددا من رجال القانون والصناعة والأدب والسياسة. (1)
ووصلت إلى الرياض على عادتي، في كل عام، بعد انتهاء دورة الأمم المتحدة لأقدم إلى الملك سعود تقريرا عن أعمال المنظمة العالمية، بوصفي وزير الدولة السعودي لشؤون الأمم المتحدة، وقضيت الأيام الأولى بعد
وصولي في فندق اليمامة، استجم.. أتمتع بالرعد الراعد، والبرق
البارق الذي لا نرى مثله في غير الجزيرة العربية.. ليأتي بعدهما المطر يتدفق كالقرب المتهاوية من السماء.. وأدركت يومه الإعجاز
المعجز في آيات القرآن التي تصف البرق والسحاب والأمطار..
تأملت من نافذتي السحاب في سماء الرياض فازددت روعة بذلك الوصف المعجز "ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما".
ثم لمع البرق الخاطف فذكرت قوله الذي يبلغ ذروة البلاغة "يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه".
ثم تفجرت السماء بالمطر الغزير ورتلت الآية السهلة السلسة وأرسلنا المساء عليهم مدرارا".
وغيرها وغيرها من الآيات القرآنية التي لا يستطيع العربي، فيما أحسب، أن يسير غور الإعجاز فيها إلا إذا قرأها على "الطبيعة" في الجزيرة العربية، مع الجبال والوديان، ومع الليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، والنجم إذا هوى..
__________
(1) * أنظر كتاب المؤلف"أربعون عاما" في الحياة العربية الدولية".(1/210)
وصحا الجو وبدت الرياض وما حولها، جنة تفوح في جنباتها أزاهير الصحراء، ولله هذا الشذا وذاك العبير..
وغادرت الفندق في طريقي إلى قصر الناصرية.. وهو قصر الحكم في الرياض.. وعزمت أن أذهب ماشيا لأستمتع بشمس الرياض.. وسائق سيارتي يلح علي أن أركب فالطريق طويل.. والسيارات متزاحمة.. وفوق ذلك فإنه لا يليق "بالشيخ أحمد" على حد تعبير السائق، أن يذهب إلى القصر ماشيا.
ولم يفلح السائق في إقناعي، فقد كنت في شوق إلى المشي، وقد حرمت منه في نيويورك وموسكو، حيث البرتوكول آخذاً بتلابيبي.
ولكن متعتي لم تكن كما أريدها.. فقد كنت كلما سرت بعض الوقت، تستوقفني هذه السيارة أو تلك ليقول
صاحبها " يا شيخ أحمد تفضل".. فأعتذر وأشكر
وهكذا أزعجت هؤلاء الإخوان الأكارم، وهم يلحون وأنا أعتذر، حتى وصلت البوابة الخارجية لقصر الرياض.. حيث الحرس السعوديون.. وحسبت إني وصلت..!!
ولكن الأمر لم يكن بهذه البساطة.... فقد استوقفني الضابط السعودي وقال:
إرجع.. الدخول ممنوع.. من تبي؟ (وأصلها العربي: ومن تبغي)
قلت: أنا ذاهب عند جلالة الملك سعود.
قال: أوامر طويل العمر، أن لا يدخل أحد عليه إلا بإذن.
قلت: أنا وزير الدولة السعودية في الأمم المتحدة.
قال: "ويش" اسم الأمم المتحدة؟(1/211)
قلت: أنا "الشقيري"، وزير طويل العمر.
قال: الشقيري على الرأس والعين.. ولكن أين سيارتك .. أنت ماشي...
قلت: طلبت من السائق أن يسبقني إلى القصر لأني أحببت أن أمشي.
قال: "ويش" السائق..
قلت: لا أعرف... شاب طويل.. له ذقن.. كوفيته حمراء منقطة..
قال: سواقين القصور الملكية كلهم لها ذقون.
قلت: أعطني التلفون وأنا أكلم موظفي القصر..
قال: نحن نتكلم بالتلفون .. انتظر.
وانتظرت بجانب البوابة الفخمة، بأبوابها الحديدية الثقيلة، والضابط السعودي يصيح بلهجته السعودية على التلفون، دون أن يجيب أحد، وأنا واقف بجانب الباب، وحدائق القصر ترسل إلي أريجها العطر، انتظر أن يجيب التلفون.
وقد طاب لي الانتظار على الباب.. فالهواء عليل، والشمس رقيقة لطيفة، والحوار مع هذا الضابط السعودي متعة طريفة.
مضى بعض الوقت، وإذا بالأبواب الحديدية تفتح على مصاريعها، وإذا بالحرس يصطفون ليؤدوا التحية، وحسبت أن الملك سعود قد اقترب من الأبواب.
ولكن الذي اقترب، كان الأمير (الملك) فيصل، ولي العهد ورئيس الوزراء ... والتفت إلي الأمير فيصل ورآني واقفا عند الباب، فصاح من سيارته..
-الأخ أحمد.. تفضل.(1/212)
دخلت سيارة " سموه" وهب الضابط السعودي لتحيتي... ومضت بنا السيارة في الطريق الطويل من حوله حدائق النخيل والبرتقال وأنا أروي للأمير فيصل ما جرى.. وهو يعتذر إلي ويقول.. أرجو أن لا تأتي ماشيا..
قلت: إن الرياض في هذا الفصل مغرية بالمشي.
قال: وإذا كان لا بد من ذلك.. فاطلب إلى سائق سيارتك أن ينتظرك عند باب القصر.
وكانت نصيحة غالية حقا، فقد كنت أمشي الطريق كله إلى القصور الملكية، ثم أركب السيارة التي تنتظرني، وأتلقى تحية الحرس شأن الضيوف الكبار!!
وهكذا دخلت قصر الناصرية في سيارة الأمير فيصل، وأخذنا طريقنا إلى قاعة الاستقبال الكبرى، وسلمت على الملك سعود، وجلست حيث وجدت مقعدا على مقربة منه، وجلس الأمير فيصل في رأس الجانب الأيمن من الملك سعود.
وقاعة الاستقبال ردهة كبرى ولكنها بسيطة، وليس فيها فن عمارة، ولا زخرفة، ولا زينة، وكل ما فيها السجاجيد الفاخرة على الأرض والثريات الضخمة معلقة في السقف. والمقاعد الرحبة مسنودة إلى الجداران حتى الباب.
كان الملك سعود جالسا على كرسيه الفخم في صدر القاعة.. وكانت المشاهد من حوله طريفة ولطيفة.
على الجانب الأيمن كان يجلس الأمير فيصل، ومن تحته الأمراء السعوديون يجلسون واحداً بعد الآخر، حسب أعمارهم، وإنهم ليعرفون مولد(1/213)
بعضهم بعضا بالعام والشهر واليوم.. حتى إذا دخل أحد الأمراء عرف مقعده وجلس مكانه، وانزاح إلى تحت كل الصف إذا دخل أحد الأمراء .
وعلى الجانب الأيسر كان يجلس الوزراء وكبار رجال الدولة والضيوف.. وقد يتدخل رجال التشريفات الملكية ليجلسوا الضيف في مكانه.. إذا كان لا يعرف أين يجلس...
وعلى الجانبين الأيمن والأيسر يجلس على الأرض رجال الحرس الملكي، بملابسهم الزاهية المزركشة، والسيوف تجلس إلى جانبهم .. لا يقفون إلا للأمراء.. أو حين يقف الملك ليستقبل سفيرا أو ضيفا كبيرا.
وبادرني الملك بالسؤال عن الصحة وعن دورة الأمم المتحدة، فأجبت بإيجاز، لأن هذا المجلس العام هو للمجاملة والمؤانسة .
والتفت الملك إلى الأمير فيصل وقال له: الشيخ أحمد كان عند الروس هذه السنة، ثم ذهب إلى الأمم المتحدة وقال الامير فيصل :نعم طال عمرك .
ودخل الخدم بالشراب بأكواب ملونة، حتى إذا انتهى وقت الشراب قال الملك: قهوة.. فيصيح كبير الخدم باللهجة البدوية قهوة.. قهوة.. وما هي إلا لحظة حتى يدخل الساقون بالقهوة العربية بفناجينها المعروفة... ويا ويح من لا يعرف التقاليد، فعليه أن يأخذ الفنجان ويعيده باليمنى.. وإذا لم يهزه يظل الساقي يعطيه القهوة حتى يفهم!! أو يتخم..
وكثيرا ما يصادف، وأكواب الشراب وفناجين القهوة يطاف بها على الضيوف، أن يدخل موظفو القصر إلى قاعة التشريفات، فيجلسون القرفصاء قريبا من ركبتي الملك ليقرؤوا عليه برقية عاجلة، فيأمر بالجواب عليها بما يجب.(1/214)
وانتهت جلسة الاستقبال باحتساء القهوة.. ووقف الملك سعود بجثته الضخمة إلى مكتبه الخاص خلف قاعة الاستقبال.. وسرنا وراءه، الأمير فيصل، وبعض الأمراء، والشيخ يوسف ياسين وأنا..
وفي المكتب الخاص دخل الخدم بالشاي، ودخل الموظفون بالبرقيات من أمراء المناطق وهي تنبئ عن الأمطار، والحاضرون يحمدون الله ويثنون على رحمته..
والتفت الملك سعود وقال: فيصل!!
ونهض الأمير فيصل بجسمه الخفيف الدقيق، وقرفص بين قدمي الملك سعود، وهما يتهامسان.. والأمير فيصل يقول: "سم" "سم"
طال عمرك..
"وسم" هذه، على ألسنة الإخوان السعوديين، يرددونها سؤالا وجواب.. وأحسب أنها اختصار لكلمة "سمعا".
ونهض الأمير فيصل إلى مجلسه.. بكل احتشام واحترام.. والأمراء السعوديون في مجالسهم العامة يوقر بعضهم بعضاً في غاية الأدب والتكريم..
والتفت اليّ الملك سعود وقال: أهلا وسهلا بالأخ أحمد، إن شاء الله بعد أن تستريح وتزور أصدقاءك في الرياض نسمع منك عن زيارتك للروس وعن أمور الأمم المتحدة..
وأضاف الشيخ يوسف، وكان جالسا على الأرض حسب عادته.. و"نسمع عن الاشتراكية، والوحدة العربية، فالأخ أحمد قضى أياماً في القاهرة"..(1/215)
وقال الملك سعود: لازم نسمع.. ويسمع معنا فيصل..
فقال الأمير فيصل: طال عمرك.. أنا جئت اليوم أستأذن .. نحو ذاهبون إلى القنص اليوم.. وسأسمع من الأخ أحمد بعد عودتي.
وقال الملك سعود: لا بأس.. ووقف .. ووقفنا جميعا.. وسرنا وراءه حتى ركب سيارته على قيد خطوات من قصره الذي يقوم في الطرف الآخر من الحدائق..
وانصرفنا كل إلى سيارته.. وودعت الأمير فيصل، وانصرفت إلى فندق اليمامة.. وكانت الفنادق داري إلى ذلك العهد من حياتي، على مدى خمسة وعشرين عاما...
ومضت أيام، وأنا أزور أصدقائي من الأمراء وأعيان المدينة، أتغدى هنا وأتعشى هناك.. ولا حاجة إلى الدعوات، إلا للضيوف الغرباء.
أما مثلي فإن تقاليد الكرم تقتضي أن لا أنتظر الدعوة من الأمراء.. بل أن أذهب إلى بيوتهم في موعد العشاء، وأتناول الطعام على موائدهم مع إخوانهم وأصدقائهم.. ذلك هو الود والتقدير عندهم.. وإن لم أفعل ذلك فإنه يكون جفاء من جانبي.. تلك هي عادتهم مع أصدقائهم.. وهم صادقون في هذا التقليد، يحبونه حبا جما..
ومضت أيام على هذا الحال، فأرسل الي الملك سعود كبير خدمه
محددا لي وقتا للاجتماع به في قصره الخاص بجوار قصر الحكم.
وذهبت برفقة الشيخ يوسف ياسين، المستشار السياسي للملك، وأقدم خدام المملكة العربية السعودية من السوريين الوافدين.(1/216)
ودخلنا على الملك في حجرته الفسيحة، وكان جالسا على "طراحة" كبيرة فرشت عليها سجادة فاخرة، وكان بملابس المنزل الهفهافة، حاسرا الرأس من غير عقاله الذهبي وكوفيته المزركشة.
وجلسنا على الطنافس أمامه، وبدا الملك سعود مستريحا، أو راغبا في الاستراحة، من متاعب المملكة، ومن مشاكل الأنجال الأمراء.. ومن مطالب الأعراب.. ومن الحاحات الحريم!!
وبعد أن شرحت له ما دار في الامم المتحدة بشأن القضايا العربية والدولية , وأوجزت له مشاهداتي في زيارتي للاتحاد السوفيتي .. قال : أريد أن أسمع منك ومن الشيخ يوسف رأيكم فيما يجري حولنا في البلاد العربية .. أمور الوحدة – القومية العربية – الاشتراكية ..
فقال الشيح يوسف: يا طويل العمر قد يكون من الموافق أن يتكلم الأخ أحمد أولا.. فقد كان في موسكو ونيويورك والقاهرة... وقد نشرت الصحف المصرية أنه اجتمع بالرئيس عبد الناصر..
قلت : الأمر لطويل العمر .. إذا كان يريدني أن أتكلم أولاً فأنا حاضر . قال: ما هو رأي القاهرة في موضوع الوحدة العربية، إنّ الذين يزورونا ينقلون إلينا أخباراً متناقضة عن هذا الموضوع.
قلت: أن فكرة الوحدة العربية، والشيخ يوسف يعلم ذلك، موجودة قبل أن يولد الرئيس عبد الناصر، فقد رفع لواءها شباب العرب منذ أواخر عهد الدولة العثمانية. ثم إن المغفور له والدكم قد حمل السلاح في سبيل توحيد الجزيرة العربية، وجلالتكم، حاربتم تحت لوائه ولولا ذلك لكانت نجد دولة، والحجاز دولة، وكل مقاطعة أخرى دولة. ولو امتدت حربكم مع اليمن في عام 1933، لاستراحت الجزيرة العربية من جولة أخرى!!(1/217)
قال: القناعة كنز لا يفنى، والخير فيما قسمه الله.. ونحن لا نريد أن نعتدي على أحد، وأن لا يعتدي علينا أحد.
قال: الوحدة في زماننا رضاء واختيار.. فلا إكراه ولا عدوان.
قال:وهل الرئيس عبد الناصر يؤمن بأن الوحدة رضاء واختيار..
قلت: لقد أعلن الرئيس عبد الناصر في الميثاق الوطني مبادئ الوحدة العربية، على أساس الاختيار.. ثم إن الوحدة بين سوريا ومصر كانت نتيجة استفتاء شعبي.
قال الشيخ يوسف: أنت تعرف أساليب الاستفتاء، وخاصة في مصر.
قلت: أنت يا شيخ يوسف سوري، قبل أن تكون سعودي.. وإذا كان لك ما تقوله عن الاستفتاء في مصر، فما رأيك في الاستفتاء في سوريا.. لقد كان حرا.. ثم إنك تعرف أن البرلمان السوري، وهو منتخب من قبل الشعب السوري، قد طالب بالوحدة بالإجماع..
قال الشيخ يوسف: ولكن..
قلت: ليس هناك مجال للشك.. إن الرئيس السوري شكري بك القوتلي من أعز أصدقاء الملك عبد العزيز، وهو من رفاقك القدامى في الكفاح العربي.. لقد جاء بنفسه إلى القاهرة، ووقع ميثاق الوحدة مع الرئيس عبد الناصر.
قال الملك سعود: وما هو مصير شكري بك، لقد أصبح المواطن العربي الأول.. إنه لا شيء الآن..!!
قلت: يا طويل العمر.. هذا موضوع آخر.. المهم أن وحدة سوريا ومصر قد تمت بإجماع الشعبين.. في الماضي كانت الوحدة تتم بالقوة العسكرية كما جرى في أمريكا وألمانيا، وفي إيطاليا.. بل إن المغفور له(1/218)
والدكم عمل على توحيد الجزيرة العربية بالسيف.. وليس من حقي أن أسرد لكم ذلك التاريخ فقد ساهمتم معه في حروبه.. لقد اقتحم الرياض بخمسة عشر من رجاله، ثم راح يوسع سلطانه، فحارب الأتراك، وآل الرشيد، والأشراف، والأدارسة، حتى وطد أقدامه في نجد بأسرها وأصبح سلطان نجد وملحقاتها،ثم احتل الحجاز فأصبح ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها، ثم وضع يده على عسير، وأعلن نفسه فيما بعد ملك المملكة العربية السعودية.. وواصلت حديثي قائلا:
وقبل قرون خلت كانت الجزيرة العربية عشرات من الإمارات، وعشرات من المشيخات.. وسيذكر التاريخ أن ... والدكم الغفور له عبد العزيز هو الذي وحَّد الجزيرة العربية.. وهذه خطوة كبرى على طريق الوحدة العربية، ثم إنّ المغفور له والدكم كان قد دعا إلى وحدة عربية شاملة، أو إلى وحدة فدرالية في زمن الدولة العثمانية..
قال الملك : وكيف ذلك؟
قلت: كانت الدولة العثمانية قد استوضحت رأي المغفور له والدكم بشأن القضية العربية عن طريق الوالي العثماني في البصرة، سليمان شفيق كمالي باشا، فأجاب رحمه الله "إني أرى أن يدعى رؤساء العرب كلهم كبيرهم وصغيرهم إلى مؤتمر يعقد في بلد لا سيادة فيه للدولة العثمانية، لتكون لهم حرية المذاكرة. والغرض من هذا المؤتمر التآلف والتعارف ثم تقرير أحد أمرين، إما أن تكون البلاد العربية كتلة سياسة واحدة يرأسها حاكم واحد، وإما أن تقسم إلى ولايات ويكون على رأس كل ولاية رجل كفء من كل الوجوه وتربط الولايات بعضها ببعض بما هو عام مشترك من المصالح".. وفي هذا الاقتراح خيار بين الوحدة المركزية والوحدة الفدرالية..(1/219)
كان هذا هو رأي المغفور له والدكم العظيم قبل أربعين عاما،دون أن يعرف هذه الأسماء الدستورية.
فالتفت الملك سعود إلى الشيخ يوسف، وقال ما هي معلوماتك يا يوسف..
فقال الشيخ يوسف: طال عمرك.. لقد وقع هذا ، وهذه المخابرة مع الأتراك موجودة عندنا بين أوراق الدائرة السياسية..
قال الملك: نحن موافقون على "الفدرالي" بشرط أن لا يتدخل أحد في شؤوننا، لقد انضم الإمام أحمد (ملك اليمن) إلى الجمهورية العربية المتحدة، وإني أفوضك أن تبحث مع الرئيس عبد الناصر انضمامنا إلى "الفدرالية" مع المحافظة على أوضاعنا الخاصة..
وفي تلك الأيام كان "الاتحاد الفدرالي" حديث الساعة عند الأمة العربية، تردده الإذاعات صباح ومساء، كما يتردد الأذان على المنارات الإسلامية خمس مرات في اليوم، وكانت النقمة قد بلغت أشدها على المملكة العربية السعودية في أعقاب حكاية "الشيكات" السعودية التي قدمت إلى السيد عبد الحميد السراج للقيام بانقلاب على الوحدة المصرية السورية. وكان الملك سعود حريصا أن يطفئ تلك النقمة العارمة بأي ثمن ألا العرش
وكانت كلمة "فدرالية" عنده تعني التعاون والتنسيق على طريقة الجامعة العربية، ولعله تساءل في دخيلة نفسه، إذا كان إمام اليمن قد دخل الاتحاد مع الجمهورية العربية المتحدة، فلماذا لا تدخل السعودية؟.. وهل يكون الإمام أحمد أذكى من الملك سعود؟(1/220)
فقلت للملك سعود وهو يكثر من ترديد كلمة "فدرالية" : سأحاول كل جهدي حين عودتي إلى القاهرة أن أجتمع بالرئيس عبد الناصر وأن أبحث معه الموضوع.
فتنحنح الشيخ يوسف وقال: ولكن.. يا أخ أحمد، يجب أن يكون مفهوما أننا إذا كنا نقبل الاتحاد الفدرالي مع الجمهورية العربية ، فإننا لا نقبل الاشتراكية.. هذه مبادئ مستوردة.. إنها مخالفة لتعاليم الإسلام..
فقال الملك سعود: نعم. إن دستورنا هو القرآن.
وقال الشيخ يوسف: الاشتراكية إباحية وإلحادية.. وأن القرآن هو دستورنا للدنيا والآخرة.. وكان الشيخ يوسف من تلاميذ الإمام السيد محمد رشيد رضا، وكان المفروض أن يكون الشيخ يوسف أكثر تجديدا، ولكن الإمام كان أكثر "تقدمية" من تلميذه.
وقال الملك: إن يوسف شيخ، وأنت ابن شيخ، وأريد أن أسمع رأيكما في الاشتراكية وحكم القرآن في الاشتراكية . ودار الحواربيني وبين الشيخ يوسف، عنيفا حينا، ولطيفا آخر.. والملك مضطجع على وسادته، وطراحته..
قال الشيخ يوسف: إن نص القرآن صريح، لقد قال الله في كتابه "نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات"، هذا هو نص القرآن، والقاعدة الفقهية تقول، لا اجتهاد في موضع النص.
قلت: يا شيخ يوسف.. إن القرآن كتاب كامل، وإن الآية الواحدة يجب أن تفهم في سياق القرآن بكامله.. لقد قال القرآن الكريم بصيغة التوكيد "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأنّ سعيه سوف يرى " فالعيش إذن سعي وراء العيش والحياة لا استغلال ولا احتكار.(1/221)
قال: أنا لا أتحدث عن السعي.. القرآن قال "ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات" فهل الاشتراكية تؤمن بهذا الكلام.
قلت: لست محامي الاشتراكية.. الاشتراكية موضوع كبير يحتاج إلى شرح كثير.. أنت تحتج بآية من القرآن وتترك الآيات الأخرى.. حكاية "الدرجات" وردت في القرآن ولكنها وردت مع العمل.. لقد قال القرآن، "ولكل درجات بما عملوا" وفي آية أخرى "ولكل درجات مما عملوا".. فالدرجات في القرآن مرتبطة بالعمل.. والعمل والعمال هم ركائز المذاهب الاشتراكية على تنوعها وتعددها..
قال: أتريد أن تقول إنّ "الدرجات" قاصرة على العمل والعمال.. وأين مكان الفئات الأخرى من الأمة، أليسوا من عباد الله..
قلت: بل إنّ القرآن قال "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" وهذه الآية تشمل العلماء، والتلاميذ والأطباء والمحامين. وأصحاب الحرب والصناعة والزراعة، فكلهم من الذين "أوتوا العلم".
قال: ولكن الاشتراكية تلغي الدرجات.
قلت: هذا خطأ شائع.. الاشتراكية تؤكد المساواة في الفرص.. ولكنها لا تستطيع أن تلغي الفوارق الطبيعية في التفوق العقلي والجسدي والمواهب الأخرى.. لقد زرت دولا اشتراكية متعددة، من بريطانيا العظمى غربا، إلى الاتحاد السوفيتي شرقا.. ففي الاتحاد السوفيتي مثلا العامل يتقاضى 500 روبل في الشهر، ورئيس الجامعة يتقاضى 1500 روبل العامل العادي يقيم في غرفة صحية.. والوزير يسكن في فيلا أنيقة وله سيارة خاصة... ومن يستطيع أن يوفر من دخله يفتح حسابا في البنك. وفي الاتحاد السوفيتي رئيس الجمهورية يعمل في قصر الكرملين، وكناس الشوارع يقضي يومه(1/222)
مع النفايات والقاذورات، ولكنه عند المساء يجد حمامه الخاص جاهزا بالماء الساخن..
وتدخل الملك سعود فقال: بلاش نتدخل في "الروس"، ولنحصر الكلام في الاشتراكية كما تطبق في البلاد العربية.... كالتأميم. ومصادرة أموال الناس.. والحجز على الأملاك وما إلى ذلك.
وعاد الشيخ يوسف إلى الكلام فقال: أي نعم. كيف يجوز مصادرة أموال الأغنياء وأصحاب الأراضي، وقد ورثوها شرعا عن آبائهم . والملك حلال والإرث حلال".. .(وسرد أسماء عائلات في سوريا ومصر).
قلت: أنا لا أتعرض للأسماء ، ولا للحوادث الفردية.. أنا أتكلم عن المبادئ لا عن التطبيق قد يكون التطبيق خاطئاً أو جائراً ولكن ذلك لا يفسر المبادئ .. إنّ مبادئ الإسلام واضحة كل الوضوح.. وهي تدعو إلى العدالة الاجتماعية والتكافل الاجتماعي قبل لينين وستالين.. لقد قال الله تعالى " وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم" وهذا " الحق" هو "للمحروم" من الغذاء والدواء والكساء والمسكن والعلم وكفالة الشيخوخة، وهذه كلها هي العدالة الاجتماعية في محاربة الجهل والفاقة والمرض.... ثم إنّ الرسول (صلعم) قال "نعم المال الصالح للرجل الصالح" وبذلك وجب أن يكون المال حلالاً لا استغلالا، وأن يكون بين يدي الرجل الصالح في سلوكه الفردي أمام نفسه، والجماعي أمام الجماعة. وهذا هو مبدأ التكافل الاجتماعي.
ثم إنّ القرآن لم يكتف بإقرار الحق المجرد، ولكن قرنه بالعقاب والعذاب فقد قال " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم" والانفاق في سبيل الله" هو انفاق هذه الكنوز على إنشاء الطرق وبناء المستشفيات والمدارس وإعداد الجيش وما إلى ذلك من المرافق(1/223)
العامة.. ولهذا جاز لولي الأمر أن يأخذ من هذه "الكنوز" لينفقها على مصالح الشعب.
فحملق بي الشيخ يوسف وقال محتداً "لا يجوز أخذ أموال الناس حتى ولو كانوا أغنياء ومهما كان عندهم من كنوز.. لقد أصبح "..." السوري فقيرا معدما، والعائلة (...) المصرية معدومة .. هل هذا يجوز في شرع الإسلام.
قلت: يا شيخ يوسف أنا أتكلم عن المبادئ الإسلامية .. وأتت تتكلم عن التطبيق..
قال: ليس في الإسلام مثل هذه المبادئ.
قلت: إن في الإسلام مبادئ أرفع من مبادئ الاشتراكية، لو طبقت .. إن الإسلام جعل للمدين حقا في أن تسدد ديونه من بيت المال، إذا لم يكن دينه ناشئا عن سفه أو تبذير.. إن الإسلام جعل "لابن السبيل" حقا في أن تدفع له نفقات إقامته وسفره حتى يصل إلى بلده.. وهذا الرسول (صلعم) يقول "ما آمن بي من بات شبعاناً، وجاره إلى جانبه طاو -جوعان-". ، ويقول "أي رجل مات ضياعا بين الأغنياء فقد برئت منهم ذمة الله ورسوله".. بل إن الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري، وهو أو اشتراكي ثوري في الإسلام يقول "عجبت لرجل لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه".
قال: يا أخ أحمد. هذا كلام للترغيب في البر والإحسان، ولكنه لا يعطي لولي الأمر الحق في أخذ أموال الناس، وقد كسبوها حلالا طيبا.
قلت: على العكس من ذلك تماما .. إنّ ولي الأمر له الحق كل الحق أن يأخذ من الأموال الحلال بالقدر الذي تقتضيه مصلحة الرعية- الأمة.. ويقول الرسول (صلعم) "إنّ الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم(1/224)
بالقدر الذي يسع فقراءهم"، وفي المدينة المنورة آخى الرسول بين المهاجرين والأنصار، فجعل لكل أنصاري أخا من المهاجرين، فقاسمه مسكنه وماله وزراعته، وتجارته، ويرث كل منهما صاحبه.
قال: ذلك ما فعله الرسول، وليس لغير الرسول أن يفعله.
قلت: وبعد أن مات الرسول، شن أبو وبكر أول حرب اشتراكية في الإسلام من أجل حق الشعب وحاجة الفقراء .. لقد حارب أهل الردة لأنهم امتنعوا عن أداء الزكاة وقال قولته الشهيرة : والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه.
قال: إنّ أمر الزكاة منصوص عليه في القرآن الكريم، وما ليس في القرآن فليس لأحد التعرض له.
قلت: سأذكر لك ما لم يُر في القرآن .. لقد اقتطع عمر (ر) أيضاً بالربذة وجعلها مرعى للمسلمين، فجاء أهلها يقولون يا أمير المؤمنين " إنها بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية وأسلمنا عليها في الإسلام، علام تأخذها منا، فقال عمر " المال مال الله.." وكذلك فإن عمر قاسم ولاته على نصف أموالهم وكانوا من كبار الصحابة، كأبي هريرة وعمرو بن العاص، وابن عباس، وسعد بن أبي وقاص.. هذا لم يرد فيه نص من القرآن .. بل إنّ عمر ذهب إلى أبعد من ذلك. لقد أذن باللجوء إلى السلاح حين تدعو الحاجة.. فقد ورد جماعة على ماء، فأبى أصحاب الماء أن يسمحوا لهم ولدوابهم بالشرب فلما وفدوا على عمر وأخبروه بذلك قال لهم :" هلاّ وضعتم فيهم السلاح".
قال: هذه حوادث فردية، قام بها سيدنا عمر لمراعاة ظروف استثنائية.
قلت: لا.. لم تكن هذه حوادث فردية.. كان سيدنا عمر ينظم أحوال الجماعة الإسلامية، خذ أمر الأولاد مثلا... كان يعطي لكل مولود ماية(1/225)
درهم، فإذا ترعرع زاده إلى مايتن، وهذا مالم تفعله الدول الاشتراكية حتى الآن.. ومر على شيخ يتسول، وكان يهوديا فقال له " أكلنا شبيبتك فكيف نضيعك في هرمك" وأرسله إلى خازن بيت المال وقال له " افرض له ولأمثاله من بيت المال ما يكفيك وعيالهم".. وهذا هو ما نسميه الوم الضمان الاجتماعي للشيخوخة والعجز.. وهذه كلها أمور جماعية لا فردية، وكذلك صادف أن مر عمر هو في طريقه على قوم مجذومين من النصارى، فأمر بأن ينفق عليهم من بيت المال، وبأن يجعل لكل واحد منهم من يخدمه ويقوم على شئونه. هذا هو الضمان الاجتماعي بل التكافل الإنساني، يفعله عمر من بيت مال المسلمين، لا مع المسلمين فحسب ولكن مع اليهود والنصارى.. وهذا لم تبلغه أية اشتراكية في زماننا هذا، وما أظنها تبلغه في قادم الزمان....
ولم يكد الشيخ يوسف يستأنف الحوار، حتى دخل كبير الخدم، وهمس في أذن الملك سعود كلاما لم أستطع أن أتبين منه قليلا أو كثيرا، والسعوديون بارعون في الحديث الخافت ترى شفاههم تتمتم، ولا تسمع لها حسا ولا ركزا، ولعلهم أتقنوا هذه المهارة القومية في حروبهم المتلاحقة في الجزيرة العربية عبر أجيال..
ونهض الملك سعود متثاقل الجثة، متجهم الوجه، فلا بد أن يكون في داخل القصر شؤون وشؤون.. والملك سعود، على خلاف أخيه الملك فيصل، كثير الحريم والأولاد، والأصهار والأنسباء، وهو ضعيف أمام هؤلاء جميعا، وما أكثر مطالبهم، ولعل مطالب الدولة، أيسر من مطالبهم. !!(1/226)
دخل الملك إلى مخادعه (1) وهو يقول: يا شيخ يوسف، واصلوا البحث وسأعود إليكم قريبا؟
وعاد الشيخ يوسف إلى الحوار وقال: يا أخ أحمد أنت تتحدث عن أعمال الرسول وصحابته في صدر الإسلام وكان ذلك في عهد الوحي وهو حالة استثنائية، والقاعدة الفقهية تقول : ما جرى على خلاف القياس فغيره لا يقاس عليه.. وأنت تعلم أن زماننا قد تغير "ولا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان" كما يقول شيوخنا الفقهاء.
قلت: إن الإسلام لا ينتهي بوفاة الرسول وصحابته، والقرآن يقول "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم" وهذا خالد بن الوليد حين فتح العراق، أعلن في معاهدة الصلح مع أهل الحيرة المسيحيين بأن "يعال من بيت المال هو وعياله. شيخ ضعيف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنيا وافتقر".. وفي العهد الأموي خصص أحد ولاتهم، يوسف بن عمر، في ميزانية إقليمه كل سنة عشرة ملايين درهم لرعاية الأحداث وكفالة البنات اللاتي لم يتزوجن.
قال: لا زلت تستشهد بأحداث وقعت في صدر الإسلام يوم كان الناس غير الناس.
قلت: إن مبادئ الإسلام استمرت بعد صدر الإسلام، وهذا الغزالي حجة الإسلام، أجاز لولي الأمر أن يفرض على الأغنياء، ما يكفي لنفقات الجيش إذا لم يكن مال في بيت المال.. بل إنّ الإمام النووي أفتى للملك الظاهر بيبرس بأن يأخذ من أموال الشعب لتسديد نفقات الجيش، وأن يرد السلطان كل ما عند جواريه وأعوانه من حلى وأموال إلى بيت المال.. وذهب
__________
(1) * جمع مخدع(1/227)
العلماء إلى أبعد من ذلك، فطلبوا من الملك قطز، وهو يحارب التتار، أن يبيع ما عنده من الكنوز والنفائس لسد نفقات الجيش، بالإضافة إلى ما يأخذه من أموال الرعية..
قال: هذه ظروف الحرب.. والقاعدة الشرعية تقول: الضرورات تقدر بقدرها..
قلت: إن مبادئ الإسلام تطبق في زمن السلم والحرب على السواء .. وهذا ابن حزم الفقيه الحر أعلن أن على السلطان أن يفرض على الأغنياء للفقراء بما يأكلون من القوت، ومن اللباس للشتاء والصيف، وبمسكن يقيهم من المطر، والصيف والشمس، وعيون المارة!
بلغنا هذه المرحلة من الحوار فعاد الملك سعود إلى طراحته ووسادته واعتمد ساعده الغليظ، وقال "مين غلب مين".
قلت: يا طويل العمر، الإسلام هو الذي غلب.
قال الشيخ يوسف: الإسلام سيغلب دائما، إن الإسلام ينهى عن مصادرة أموال الناس، وتحديد ملكية الأراضي كما يجري في سوريا وكان الشيخ يوسف يملك أراضي واسعة في شمال سوريا).
قلت: يا طويل العمر، أراضي الشيخ يوسف لا حق له فيها!!
قال الملك: لماذا، لقد اشتراها من أصحابها حلالا زلالا..
قلت: الشيخ، لا يستطيع أن ينكر أنه لما فتح المسلمون العراق والشام أقر عمر وأصحاب النبي أهل القرى في قراهم وأنه لا يصح لأحد من المسلمين شراء هذه الأراضي لا كرها ولا طوعا، لأنهم متفقون شرعا أن هذا(1/228)
الأراضي لا تباع ولا تورث.. ولهذا فإن الشيخ يوسف قد اشترى أراضي نهى عمر وأصحابه أن تورث أو تباع!!
وضج الملك بالضحك، واهتزت جثته ومن تحتها طراحته ووسادته، والشيخ يوسف يداعب لحيته السوداء بأصابعه.
فقال الشيخ يوسف: يا طويل العمر، الأخ الشقيري يستشهد بأيام الصحابة، وهذه مضت وانتهت..
قلت: وما رأيك في فتح الأندلس الذي تم بعد زمن الصحابة.. لقد صادر المسلمون الفاتحون إقطاعات الأراضي الكبرى من أصحابها، ووزعوها على صغار الفلاحين المسيحيين، وجعلوها ملكيات صغيرة، تماما كما تفعل وزارة الإصلاح الزراعي في سوريا في أملاك الشيخ يوسف!!
وكان ضحك.. وكان عبوس.. ضحك الملك، وعبس الشيخ يوسف.
وقال لي الملك سعود: أراك "حافظ" الفقه أكثر من الشيخ يوسف..
قلت: يا طويل العمر.. لقد كانت نشأتي الأولى في المدارس الدينية.. وكنت راغبا في صباي أن ألتحق بالأزهر الشريف (1) . وكنت قد عكفت في السنة الماضية على وضع كتاب عنوانه مأخوذ من شعر شوقي "الاشتراكيون أنت إمامهم" ولكني لم أكمل الكتاب فلم يطبع ولم ينشر.. ولهذا فإن كل الاستدلالات مخزوزنه في ذاكرتي.
وكان الملك يحب مداعبة الشيخ يوسف.. فقال الشيخ يوسف .. أنا لا أدين بالاشتراكية.. إنها إلحاد وإباحية.. والروس لا ينكرون ذلك..
__________
(1) * راجع كتاب المؤلف: أربعون عاما في الحياة العربية والدولية .(1/229)
قلت: يا طويل العمر، الروس شيء واشتراكية الاسلام شيء آخر الروس لا يؤمنون بالله هذا صحيح، والدول المسيحية في الغرب لم يبق عندهم من المسيحية والمبادئ المسيحية إلا الذهاب يوم الأحد إلى الكنيسة، أما رسالة عيسى المسيح عليه السلام فقد نبذوها ظهريا.. وأنا أتحدث عن الإسلام.. وهو ارفع مراتب العدل والمساواة، وهذه هي اشتراكية الإسلام.. ثم إن في الإسلام مؤسسات اشتراكية لم يستطع الروس ولا غيرهم أن ينشئوا مثلها.
قال الشيخ يوسف: وهل في الإسلام مؤسسات اشتراكية وما هي؟
قلت: نظام الأوقاف.
قال: وهل الأوقاف اشتراكية؟
قلت: إن على الدول الاشتراكية أن تتعلم الاشتراكية من نظام الأوقاف..
قال: كيف؟
قلت: لقد كنت محاميا في فلسطين، أمام المحاكم المدنية والشرعية، وقد توغلت في دراسة الأوقاف الإسلامية وأحكامها.. وقد أذهلتني شروط الواقفين كما جاءت في "الحجج" الوقفية..
... قال الملك سعود: مثل ماذا؟
قال: يا طويل العمر .. لم يترك الواقفون شيئا إلا وذكروه..
لقد أنشأوا الفنادق للمحتاجين.. وحفروا الآبار في الصحاري للمسافرين . وأقاموا الرباطات للمجاهدين، وأعدوا السلاح والخيول للجهاد، وتكفلوا اللقطاء والأيتام والمقعدين والعميان والعجزة والمساجين، وضمنوا للفلاحين مجانا البذار وأدوات الزراعة...و.. و...(1/230)
قال الملك: كل هذا ورد في شروط الواقفين.
قلت: بل إنهم تكلفوا بأمور بالغة الرفق، لقد نصبوا موظفين مختصين ليمروا على المرضى في المستشفيات ليوأنسوهم ويظهروا لهم أن صحتهم جيدة... وفي القاهرة أوقاف مخصصة لإنشاء فرق التمثيل الشعبي الهزلي لإدخال السرور على المرضى، وفرقة موسيقى، وقصاص شعبي يرفه عن المرضى ، وفرقة من المنشدين المعروفين بأصواتهم الجميلة لينشدوا من المآذن القريبة على المستشفيات، لتسلية المرضى والترويح عنهم في أمراضهم وآلامهم.
قال الملك: كل هذا أيضا موجود في شروط الواقفين.
قلت: بل إن الأوقاف في بلاد الشام، والشيخ يوسف يعرفها، جيدا، تكفلت بالزواج، بإعانة العروسين على نفقات الزواج إذا كانا محتاجين.. وإطعام الحيوانات الأليفة.. ومعالجة الدواب المريضة.. وتقديم الحليب.
والماء المذاب بالسكر للمرضعات،... و... و... وبهذا فإن اشتراكية الإسلام تكفلت بالإنسان والحيوان.
قال الملك: هذه أشياء عظيمة.. وحينما نعقد مؤتمرا للدول الإسلامية يجب أن نبحث هذه الأمور ونعمل على تجديد الأوقاف.. ولكن كل هذا يفرض علينا أن نتفاهم مع "أخونا" الرئيس عبد الناصر..
وانتقل الحديث من الحوار العلمي الديني عن الوحدة العربية الاشتراكية، إلى الكلام في الشؤون السياسية..
وأسهب الملك في الحديث عن الخلاف بين القاهرة والرياض، وأن والده الملك عبد العزيز كان يوصيهم دائما بالتضامن مع مصر في السراء(1/231)
والضراء ... وأن الملك سعود كان يؤكد هذه المعاني في لقاءاته المتكررة مع الرئيس جمال عبد الناصر.
وانتقل بعد ذلك إلى حديث مسهب عن مؤامرة الانفصال، وأقسم الأيمان المغلظة أنه بريء من هذا الموضوع، وأن الأمر من أوله وآخره دسيسة، حبكت بمهارة لإفساد العلاقات بين البلدين، إلى آخر ذلك الحديث.
ثم انتهى إلى القول بأنه سيحملني رسالة شخصية إلى الرئيس عبد الناصر يبرأ فيها من هذه "الجريمة"، وأنه مستعد لزيارة القاهرة لإجلاء الحقيقة، وللبحث في انضمام المملكة السعودية إلى اتفاقية الدول العربية المتحدة المعقودة بين الجمهورية العربية المتحدة والمملكة اليمنية.
وانتهت تلك الجلسة المثيرة عند هذه المهمة اليسيرة العسيرة!!
وقضيت بضعة أيام أخرى في الرياض.. سافرت بعدها إلى القاهرة وأنا أحمل معي الرسالة إياها إلى الرئيس عبد الناصر، وفيها تحيات من "أخيه" الملك سعود يعلن فيها رغبته الصادقة في إحلال الوئام محل الخصام وتعزيز الروابط الأخوية بين البلدين الشقيقين، والانضمام إلى الدولة العربية المتحدة "بمثل ما تم الاتفاق عليه مع أخ الطرفين جلالة الإمام أحمد ملك المملكة المتوكلية اليمنية"..
وصلت القاهرة، وقضيت بضعة أيام في اتصالات مستمرة.. فقابلت الرئيس عبد الناصر وسلمته الرسالة .. واجتمعت بالمشير عامر و نواب الرئيس أنور السادات وعلي صبري وحسين الشافعي وزكريا محي الدين، وتحدثت إلى الدكتور محمود فوزي، وكبار رجال الخارجية.
ولكن الجو كان مكفهرا، لا تصلح فيه الرسالة ولا الرسول.. بل إن الكلام في هذا الموضوع كان إهداراً للوقت والكرامة معاً.(1/232)
وأبرقت إلى الملك سعود عن طريق السفارة السعودية في القاهرة قلت "الظروف الحاضرة غر مواتية، والزمن كفيل بتحقيق الخير إن شاء الله".
كانت برقيتي متحفظة، بل متفائلة، بالنسبة إلى وقتها.. ومضت ثلاثة أعوام، فتحقق تفاؤلي وكان الظن أن لا يتحقق..
وكان ذلك في أواخر عام 1963 لمناسبة مؤتمر القمة العربي الأول، حينما كنت وقفا في مطار القاهرة الدولي وأنا يومئذ ممثل فلسطين في الجامعة العربية، ولم تكن قد أنشئت منظمة التحرير الفلسطينية..
وحطت الطائرة السعودية رحالها.. وأسند السلم إلى الطائرة، ونزل الملك سعود، عليلا هزيلا معتمدا على عصاه، تماما كوالده في أخريات أيامه..
وأقبل الرئيس عبد الناصر على الملك سعود يعانقه ويقبله.. وأنشد الملك سعود قول الشاعر:
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن أن لا تلاقيا
والتفت إلي الرئيس عبد الناصر سائلا: الأخ أحمد مسرور..
قلت: مع تعديل بسيط في بيت الشعر.. وقد يجمع الله "الشقيقين" بدل "الشتيتين" .
وخرجت عربة الرئيس من أرض المطار وهي تحمل "الشقيقين الشتيتين" إلى مؤتمر القمة العربي الأول.
ولذلك حديث في غير هذا الكتاب.(1/233)
نكبة حزيران(1/235)
لو...أسقطت تل أبيب..
وما سقطت بيت المقدس
كان شهر شباط من عام 1958 أبهج ما رأيت في عمري، وأنا أخطر الآن إلى خريف الحياة، في عامي الثاني والستين.
فلقد شهدت أول عيد للاستقال في سوريا في عام 1945، ورقصت بقلبي مع الشعب وهو يرقص بيديه وقدميه وجناحيه، وشهدت بعدها أعياد الثورة في مصر وأحسست بفرحتين:- فرحة للثورة المصرية العربية بذاتها، وفرحة للشعب المصري وهو يغمره الفرح، وشهدت أعياد الاستقلال في طرابلس وتونس والجزائر وغيرها من الحواضر العربية فكانت فرحتي حمدا لله أن أعان الأقطار العربية في كفاحها الطويل لبلوغ الحرية والاستقلال..
ولكن شهر شباط من عام 1958 كان قمة تلك الأفراح وذروة تلك المباهج.. فقد قضت دمشق الأيام والليالي، وهي في عرس كبير لم تشهد مثيلا له منذ أن عاد إليها صلاح الدين بعد أن فتح بيت المقدس، وقضت القاهرة الأيام والليالي وهي في هرج ومرج لم تشهد مثله منذ أن وقع لويس التاسع أسيرا في دار لقمان في المنصورة.. في أعقاب الحملة الصليبية المنهزمة..
وعبرت الأفراح العربية فوق الحواجز والحدود، من غير جواز سفر ولا تصريح دخول، فغمرت العواصم العربية ، وامتلأت الشوارع(1/237)
بالمظاهرات وانطلقت الحناجر بالهتافات: وحدة، وحدة.. وتسللت خافتة من النوافذ إلى مخادع الحكام ومهاجع الملوك والأمراء!!
ومكثت في القاهرة أياما، وأنا أرقب في غدوي ورواحي هذه الجموع الحاشدة تملأ الشوارع والميادين، وهي تهتف وحدة، وحدة، ثم يصبح هتافها صياحا وصراخا كلما لقيت سيارة تحمل مواطنا عربيا من الأقطار العربية، كأنما تحضه على الدخول في الوحدة، اليوم.. لا غدا..
كانت تلك أفراح الشعب بقيام الجمهورية العربية المتحدة.
وأخلذ الشعب بعد ذلك إلى العمل، وكذلك بدأت الوحدة تنتقل من الأمل إلى العمل.. فقد قامت الحكومة المركزية للجمهورية العربية المتحدة، وقامت تحتها حكومة محلية في الإقليم الجنوبي، مصر، وأخرى في الإقليم الشمالي، سوريا، وبدأت معالم الوحدة تظهر في حياة القاهرة.. وأحسب أن مثلها كان يجري في دمشق..
لقد كانت فرحتي كبيرة حين رأيت صبري العسلي وأكرم الحوراني نائبين للرئيس عبد الناصر، وأصبحت أحس "بسوريتي" أنني أصبحت أحكم وأرسم في القاهرة.. وأني، بمصريتي السابقة المتحدرة إليّ من أيام حملة إبراهيم باشا (1) ، أصبحت أحكم وأرسم في دمشق.. ثم ازددت خيلاء على خيلاء أنني بمصريتي القديمة، وسوريتي الوسيطة، وفلسطينيتي الحديثة، أصبحت أمثل المواطن العربي الوحدوي، في دول الوحدة.
__________
(1) * راجع كتاب المؤلف: أربعون عاما في الحياة العربية والدولية.(1/238)
ولكن مواطنا عربيا كان ينافسني في هذه المشاعر، وهو السيد شكري القوتلي الذي كان آخر رئيس للجمهورية السورية، وأصبح يعرف فيما بعد بالمواطن العربي الأول.
وازدادت معالم الوحدة بروزا حينما هبطت على مصر جموع التجار السوريين، ففتحوا المتاجر في القاهرة والإسكندرية يبيعون الأقمشة والحلويات وهم ينادون عليها يا مال لشام.. وأقبل الأخوة المصريون عليها ,بنهم بالغ يشترون ولا ينتهون ويأكلون ولا يشبعون .
وحفلت الليالي الملاح بالحديث عن التزاوج بين المصريين والشاميات .. وشهدت المصريات يؤكدن جمالهن وسحر عيونهن , ونشب الخلاف حول القول الشائع :" من لم يتزوج مصرية فليس بمحصن".. وأجاب من أجاب : بل إنّ القول الشائع " من لم يتزوج شامية فليس بمحصن ".
غير أن الليالي الملاح قد امتدت إلى الرئيس جمال عيد الناصر نفسه، ورشحته للزواج من سورية.. تعبيراً عن الوحدة الحقيقية، وفشا المزاح بين الوزراء السوريين والمصريين، وخافت السوريات على أزواجهن والمصريات على بعولتهن.
والى جانب هذا الجو المرح، بين ماجن وبريء كانت الوحدة تشق
طريقها في ميدان التطبيق، فقد ولدت الجمهورية العربية المتحدة، من الشهر السابع لا من الشهر التاسع حسب تعبير الحوامل، "والقابلات".
والحق، كما عرفته من فم عبد الناصر نفسه، وهو في أول عهده رئيسا للجمهورية العربية المتحدة، أنه كان يريد تأخير الوحدة خمس سنوات أخرى.. ولكن صراع السياسيين والعسكريين، في دمشق، وصراع هؤلاء(1/239)
وأولئك فيما بينهم، قد دفع بالوحدة إلى قصر القبة في القاهرة، من غير روية ولا تمهيد، فجاءت من غير أساس ولا قبة!!
بل إن الصراع كان في داخل الزعيم السياسي ذاته، وفي دخيلة الضابط العسكري ذاته.. فهذا السياسي يريد الوحدة صباحا ثم يدعو إلى الاتحاد مساء، وذلك العسكري يحض على الاتحاد ظهرا ثم ينادي بالوحدة فجرا.. وكل في فلك يسبحون.
وبدأت الجمهورية الناشئة تواجه المصاعب من الأسابيع الأولى من نشوئها.. وكانت الصعوبة الأولى، من يحكم سوريا، هل يحكمها السوريون بزعمائهم المتصارعين، أم بضباطها الذين يتربص بعضهم لبعض.
ولم تكن هناك مشكلة حول من يحكم مصر، فمصر الثورة قد استقر فيها الحكم، ولم يكن قد استقر حكم مماثل في سوريا.. وكانت هذه المشكلة الأولى..
ولست أؤرخ الآن لهذه الحقبة، ولا لهذه المشكلة بالذات.. فهذه مذكرات مواطن يسير في ركاب الأحداث وليست كتاب تاريخ.. وأنا أتحدث عنها بقدر ما اتصلت بها ذكرياتي.
لقد كنت في تزاور دائم مع الوزراء السوريين الذين كانوا أعضاء في الحكومة المركزية للجمهورية.. كنا نلتقي في مكاتبهم في مصر الجديدة، أو بيوتهم أو في بيتي.. وكان أكرم الحوراني نائب رئيس الجمهورية، وصلاح الدين البيطار، وزير الثقافة والإرشاد القومي، يقيمان في حي الجزيرة، غير بعيدين عن منزلي في الزمالك..
وفي هذه الزيارات مع الإخوان السوريين بدأت استمع إلى الشكاوي.. شكاوي لا من الوحدة ذاتها، بل من أسلوب تطبيقها.. وكان عدد من(1/240)
الشخصيات السورية يترددون على القاهرة ليرددوا هذه الشكاوي في بيوت الوزراء السوريين، أو في بيتي، بعد أن ينتهي سهرهم مع وزرائهم.
ولقد أيقظتني هذه الشكاوي غير مرة.. فقد كان الإخوان السوريون يطرقون الباب في أواخر الليل، بعد لقائهم بالحوراني وبالبيطار، أو بعد فراغهم من ذاك الملهى أو ذلك الكاباريه!!
وكانت شكوى الموظفين السوريين في دمشق، من مركزية الحكومة المركزية في القاهرة.. فقلت لهم أن العسكريين والسياسيين السوريين قد أرادوا هكذا، وحدة فورية، وحكومة مركزية، ونظاما رياسيا..
وكانت شكوى "الطلائع الثورية"، أن القاهرة قد حلت الأحزاب في سوريا، وأصبح الشعب يعاني فراغا قوميا، قلت: لقد اشترط الرئيس عبد الناصر إلغاء جميع الأحزاب.. ورضي العسكريون والسياسيون...
وكانت شكوى المستوزرين، أن السوريين الذين أختارهم عبد الناصر في الوزارة السورية ليست لهم سابقة في النضال الوطني، وأن الشعب لا يعرفهم.. قلت لهم: هذا هو حق رئيس الجمهورية كما أعلنه ميثاق الوحدة، ووقعه السياسيون او العسكريون.
وجاءت بعد ذلك شكوى العسكريين، فكثر الحديث عن "فوضى" الرتب والعلاوات والترقيات، وسيطرة الضباط المصريين، فقلت: لقد كان في مقدمة أبحاث الوحدة عدم التدخل في شؤون الجيش.. وعلى الجيش أن يكون بعيداً عن التيارات والتكتلات.
وأصبحت الشكاوى السورية في مثل خبر التواتر، كما يقول الفقهاء، وكنت أرى الأمر عادياً لا يثير قلقي ومخاوفي، فقد كان الوحدة في مرحلتها الأولى، والناس أعداء لمن ولي الحكم.. هذا إن عدل .. ولكني في ليلة من(1/241)
الليالي بدأت أخاف.. أخاف على الوحدة أن تنفرط، كما ينفرط الحليب قبل أن يصبح لبنا..
جاءني تلك الليلة أحد الضباط السوريين، وقد عرفته في إحدى دورات الأمم المتحدة مع الوفد السوري كخبير في شؤون الهدنة.. وإذا به يحدثني الحديث المثير.. أقرب ما يكون إلى الأساطير!!
وخلاصة الحديث أن جنديا سوريا تشاجر مع تاجر مصري في مصر الجديدة.. وذهب الجندي وشكا إلى ضابط سوري، فثارت الحمية الجاهلية، وإذا بكتيبة المظليين السورين تخرج من ثكناتها في ضواحي القاهرة، لتضرب حصارا على مصر الجديدة، وتسد منافذها.. ولم تنصرف إلى ثكناتها إلا بعد أن تدخل كبار العسكريين من سوريين ومصريين...
وكنت أستمع إلى هذا الحديث، ولا أكاد أصدق هذه "الأسطورة"، وقد بقي أمرها سرا لا يعلمه إلا الراسخون في العلم، والعارفون ببواطن الأمور. وقلت للضابط السوري: أنتم تدقون أول إسفين في صرح الوحدة.. كيف أقدمتم على هذا العمل؟
قال: سيدي.. نحن لا نرضى بالتسلط المصري.. ولا نرضى "بعنطزة" الضباط المصريين...
قلت: العصمة لله وحده.. السوريون يخطئون ... والمصريون يخطئون .. ولكن الخطأ لا يبرر الخطأ.. إن المظليين السوريين مهيئون لضرب تل أبيب.. لا محاصرة الساحات العربية.. هذا تمرد.. هذا عصيان.. وأنا أرى أن تذهب فورا إلى أكرم الحوراني.. وإلى صلاح البيطار وهما يسكنان قريبا مني، حتى يتدبرا الموقف قبل أن تتطور الأمور إلى ما هو أسوأ .(1/242)
وخرج الضابط السوري من بيتي، وأنا أدعو الله أن يصون الوحدة من أخطاء السوريين والمصريين على السواء..
و تلاحقت الأحاديث بعد ذلك عن "التسلط المصري، كلما لقيت أحدا من السوريين القادمين من دمشق .. وهو يقص علي كيف يتصرف الضباط المصريون مع الضباط السوريين .. والموظفون المصريون مع الموظفين السوريين ..ولقيت المشير عبد الحكيم عامر في حفلة لسفارة الاتحاد السوفياتي أقيمت في مناسبة قومية , ونقلت اليه ما يصلني من أخبار ، ونقلت إليه ما يصلني من أخبار.. واقترحت عليه أن تعقد ندوات علمية لجميع الضباط المصريين الذين يسافرون إلى دمشق وأخرى للضباط السوريين الذين يسافرون إلى القاهرة ليتثقفوا في الوحدة وآدابها، وما تتطلبه من سلوك وحدوي، وأن تعمل القيادة العامة على تطعيم الجيش المصري بضباط سوريين يحكمون ويرسمون.. كما يفعل الضباط المصريون في دمشق.. وأن الأمر يقتضي أسلوبا مدروسا بحيث يكون السوري حاكما في مصر، كما يكون المصري حاكما في دمشق.. حتى تزول العصبيات الإقليمية، والجاهليات العربية.. وضاع الاقتراح بين الأنخاب والأقداح، وأظنه ما يزال راقدا راكدا في ردهات السفارة الروسية..
ولكن الحرب الباردة قد خرجت من البيوت إلى الشوارع، وأصبحت حديثا عاما..و زاد من شرها تلك الأقلام المراهقة التي بدأت تكتب في صحف القاهرة ومجلاتها.... عن فضل الوحدة على سوريا في المجالات العسكرية والاقتصادية والعمرانية..... ورأى فيها السوريين غمزا في كفاءتهم، فردوا عليها من جانبهم بأقلام مراهقة بأن سوريا سيدة نهضتها ورائدة تطورها قبل مصر بزمان..(1/243)
والواقع أن هذه الحرب الباردة على الوحدة العربية وعلى الجمهورية العربية الناشئة، كانت قد بدأت في الأسابيع الأولى من قيام الوحدة.. فإن عددا من حكام العرب قد بهتوا أمام هذا الحدث العجيب وتساءل بعضهم.. كيف تنازلت سوريا عن شخصيتها، بل كيف أضاعت استقلالها، كيف رضيت بالحكم المصري.. بالتسلط المصري.. بالاستعمار المصري.. ولكن آخرين عللوا أنفسهم بأن السوريين "شطار" سيأكلون المصريين، وسيحررونهم من "الدكتاتورية المصرية".
هذا كلام سمعته وما صنعته.. سمعته من فم الملكين سعود وحسين في الرياض، في مجلس ضم الأمراء والوزراء، في زورة من الزيارات العديدة، التي كان يقوم بها الملك حسين إلى الرياض حينما يكفهر الجو في عمان.. وكنت يومها وزير الدولة السعودية لشؤون الأمم المتحدة...
ولم يكن هذا الحديث سِرّاً من الأسرار، بل كانت تنغمه الإذاعات العربية نفسها، فقد كنت أستمع إلى راديو المملكة العراقية، وصوت المذيع العراقي يلعلع أن الوحدة بين مصر وسوريا لا تعدو أن تكون تسلطا مصريا.. كما كان المذيع الأردني يصيح "إن هذا الذي تم بين مصر وسوريا إنما هو ابتلاع قامت به مصر لسوريا"..
وانتقلت الحرب الباردة إلى المعسكر الغربي، بل لعلها بدأت فيه، فأعربت عن مخاوفها.. على مصالحها وعلى إسرائيل في رأس هذه المصالح.. وكان أبلغ ما قرأت في هذا الباب، تلك الصورة الكاريكاتورية التي نشرتها جريدة نيويورك تايمس، تصور الجمهورية العربية المتحدة بقطريها، وكأنما ذراعا كماشة تشددان الخناق على إسرائيل..(1/244)
ولقد ازدادت هذه العربدة الغربية، والحملة الغربية، حينما قامت الثورة في العراق (تموز 1958) وقضت على الحكم الهاشمي في بغداد وعلى الهاشميين أنفسهم بين جان وبريء .. وكان البريء هو الشاب الوديع فيصل الثاني رئيس الاتحاد العربي الهاشمي..
كنت يومها أصطاف في الإسكندرية، وكان البحر هائجا والهواء عاصفا، وأنا أدير مفتاح الراديو على إذاعة بغداد، وإذا بالأناشيد العسكرية.. وإذا بالبلاغات الحماسية المتلاحقة.. وإذا بالبيان العراقي يعلن سقوط الملكية وقيام الجمهورية العراقية.. ثم يعلن انسحاب العراق فورا من الاتحاد الهاشمي.. ويعتبر نفسه في حل "من جميع الالتزامات المالية والعسكرية وغيرها مما فرضه على العراق نتيجة لقيام هذا الاتحاد"..
سقط الاتحاد الهاشمي وسقطت الملكية الهاشمية في العراق.. وتعالت أصوات الشعب في العراق تطالب بالوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة..
والاستعمار الغربي كشر وشخر، ثم شمر وتبختر ليقيم السدود بين العراق والجمهورية العربية المتحدة، وليضرب الجمهورية العربية المتحدة من داخلها.. وبهذا اشتدت الحملة الغربية، سعارا وسعيرا...
وارتحلت الوحدة العربية إلى منبر الأمم المتحدة، وكان ذلك في خريف عام 1960 حينما انعقدت دورة "القمة" في الأمم المتحدة وحضرها رؤساء دول العالم، وبينهم ملوك العرب ورؤساؤهم، ووقف الرئيس عبد الناصر على منبر الأمم المتحدة يتحدث باللغة العربية إلى العالم الدولي ليقول " أتينا لنعلن أننا نؤمن بأمة عربية واحدة، لقد كانت للأمة العربية دائما وحدة اللغة، ووحدة اللغة، هي وحدة الفكر.. لقد كانت للأمة العربية دائما وحدة اللغة، وكانت(1/245)
للأمة العربية وحدة التاريخ، ووحدة التاريخ، هي وحدة الضمير، ولسنا نرى أساسا قوميا أمتن من هذا الأساس".
وكانت تلك الدورة هي ما عرف بدورة القمة للأمم العربية، فقد كان فيها عدد كبير من رؤساء الدول في العالم.. فجاءت إشارة عبد الناصر إلى الوحدة العربية توكيداً لمقومات الوحدة العربية من على منبر الأمم المتحدة، وكانت هذه المنظمة العالمية ترى أن الدول العربية مثلها مثل دول أمريكا اللاتينية لن تقوم بينها وحدة!!
وألقيت في الأسبوع التالي ( تشرين أول 1960) خطابا مسهبا عن الوحدة العربية، بوصفي وزير الدولة السعودي لشؤون الأمم المتحدة، فتحدثت عن تاريخها وحوافزها، وتطلع الأمة العربية لتحقيقها، وحدة عربية شاملة من المحيط إلى الخليج.. ولم يبق إلا أن أعلن انضمام المملكة العربية السعودية إلى الجمهورية العربية المتحدة!!
ولأمر ما أسهبت في الكلام عن الوحدة العربية على منبر الأمم المتحدة، فقد جمعت تلك الدورة معظم أقطاب العالم من رؤساء الدول، وكان بينهم الملك حسين.. وكان الوفد الأردني قد وزع على الوفود كتيبا صغيرا يحتوي مقالة، كان الملك حسين كتبها في شهر أيار 1960 عن الوحدة العربية، وقد وصلني ذلك الكتيب وفيه مقدمة من "رئاسة التوجيه والأنباء للمملكة الأردنية الهاشمية".
ورأيت في الكتيب تحليلا "ملكيا هاشميا" عن الوحدة العربية، ألمح فيه الملك حسين بوصفه "وارثا" للثورة العربية الكبرى " أن الجمهورية العربية المتحدة هي نوع جديد من الاستعمار تفرض فيه دول سيطرتها على دول(1/246)
أخرى، ولا فرق أن تكون الدولتان عربيتين، وأن القومية العربية لا تدوم إلا بالمساواة التامة بين الأقطار المعنية"!!
وقفت على منبر الأمم المتحدة، ومن غير أن أشير إلى الملك حسين، شرعت أندد بآرائه، وأن الوحدة العربية لا يمكن أن تكون استعمارا، فالمرء لا يستعمر ذاته، وأرضه، وليس العربي غريبا أو أجنبيا عن أي بلد عربي آخر، حتى . بوصف بالمستعمر، والمتسلط، أو المتحكم.. واستطردت بعد ذلك أشرح معاني الوحدة العربية، والوافدان الأمريكي والبريطاني
يحملقان في هذا الوزير السعودي الذي أصبح جمهوريا أكثر من الجمهوريين..
ولم يفتني في سياق الحديث أن أشير إلى العمل الوحدوي الضخم الذي قام به الملك عبد العزيز في توحيد الجزيرة العربية التي كانت إمارات ومشيخات ومقاطعات.. قلت هذا لأنها كلمة حق وصدق.. ولأني أردت أن أحمي ظهري عند الملك سعود، وأنا "أتبجح" في تمجيد الوحدة العربية..
ولم يفتني كذلك أن أؤكد أن القومية العربية ليست أرثا لأحد، يرثه هذا الملك عن أبيه، فالقومية العربية هي إرث الأمة العربية وتراثها!!
وأني اعترف أن هذه الإشارة كانت موجهة إلى الملك حسين. فقد كرهت أن تكون القومية العربية "تركة" يخلفها الموتى إلى الأحياء، ويتوارثها الأبناء عن الآباء!!
وقال لي الرئيس عبد الناصر وأنا أزوره في مقر الوفد الدائم للجمهورية العربية المتحدة في نيويورك: نشرت جريدة نيويورك تايمس فقرات من خطابك عن الوحدة العربية. وعقبت عليه بأنك لا تمثل المملكة العربية السعودية في هذا الكلام!!(1/247)
قلت: ليس هذا الكلام جديدا عليّ من جريدة النيويورك تايمس، فهذا هو تعليقها الدائم على خُطبي في الأمم المتحدة.. وإنه صحيح أن خطابا عن الوحدة لا يمثل الملك سعود ولا المملكة السعودية.. يكفي أنه يمثل مشاعر الأمة العربية بأسرها...
وانتقلنا بعد ذلك إلى شؤون الوحدة.. وقلت له: كنت أتمنى أن يكون في وفد الجمهورية عدد اكبر من السوريين..
قال: وهل شكا أحد من ذلك؟
قلت: لا.. الشكاوي كنت أسمعها في القاهرة.. لا هنا في نيويورك.
قال: لقد حذرني السيد شكري القوتلي يوم وقعنا ميثاق الوحدة من "الشوام"
قلت: إن الشام صعبة المراس منذ أن تولى أمرها معاوية مؤسس الدولة الأموية.. والخير كل الخير أن تحكم الشام نفسها بنفسها على صعيد الحكم المحلي إلى أن تتعمق جذور الوحدة.
قال: نحن نجرب هذه الطريقة، وسنجرب غيرها!!
وعدت إلى الوطن بعد انتهاء دورة الأمم المتحدة، وعدت إلى تزاوري مع أكرم الحوراني وصلاح البيطار، أستمع إليهما والى الوفود السورية الزائرة، والتذمر يفشو يوما بعد يوم.. والوزيران السوريان يشكوان أنهما لم يعودا يمارسان أية اختصاصات، ولا تسمع لهما توجيهات، وشاعت في تلك الأيام عبارتهما المأثورة .. "نحن أجراء ولسنا شركاء"..
وكان للطرف المصري شكاوى كثيرة كذلك، فقد أخذت التقارير تتوارد على القاهرة أن حزب البعث قد أعلن عن انحلال نفسه في الظاهر، وأنه لا(1/248)
يزال يمارس نشاطاً خفيا في دمشق.. وأنه في سبيل إنشاء قواعد له في القاهرة بين الطلاب والشباب..
وأخذت الثقة تتداعى بين البعث والرئيس جمال عبد الناصر، البعث يحسب أن عبد الناصر يعمل على تصفيته، وعبد الناصر يحسب أن البعث يريد أن "ينفرد" بسوريا على حساب الكتل الوطنية الأخرى، وأنه يتغلغل في صفوف المثقفين في مصر...
وجرت انتخابات الاتحاد القومي في سوريا، ولم يستطع حزب البعث أن يظفر بأكثر من 250 مقعدا من مجموع 9445 مقعداً، وأعلن من جانبه أنه لولا خطة مدبرة لفاز بأكثرية المقاعد.. وأن عبد الحميد السراج وزير الداخلية هو الذي وضع الخطة ونفذها..
وكان أن ضاق صدر البعث، فاستقال وزراؤه الثلاثة وعلى رأسهم الحوراني.. وقبلها الرئيس عبد الناصر ساعة استلامها، فقد رأى فيها بادرة تمرد وعصيان، ولم يسبق له أن تلقى استقالة "جماعية" من أحد من وزرائه في مصر، منذ أن تولى زمام الأمور في مصر.
وبهذا سقط من صرح الوحدة أحد أركانها، وانسحب "البعث" من صفوفها، وهو الحزب المنظم الوحيد في سوريا.. وقلب التاريخ صفحة أخرى من سجل الوحدة..
وكانت فرصة ذهبية وهاجة، للدول العظمى وليس بينهما من يعطف على الوحدة، بل كلها ترى فيها سدا منيعاً في وجه المطامع الاستعمارية القريبة والبعيدة.. وتحركت الصحافة والإذاعة، الدولية والعربية، لتتحدث عن الخلافات في داخل الجمهورية العربية المتحدة، ونحت النحاتون ذلك التعبير القبيح "الاستعمار المصري"، فنسبوا إليه سوء الحال في سوريا، وكساد(1/249)
التجارة وتخلف الصناعة وارتفاع الأٍسعار وهبوط النقد.. وشح الأمطار، وكان من سوء الطالع أن رافق الوحدة ثلاث سنوات عجاف، توالى القحط فيها عاما بعد عام، وأرجف المنجمون أن ذلك من أخطاء الوحدة!!
ثم دارت حملة الرائجات والشائعات على عبد الحميد السراج وزير الداخلية في سوريا، وشاركت في هذه الحملة الصحف العربية والأجنبية على السواء، فهو صاحب الحادثة الشهيرة في موضوع (المليونين) جنيه التي "دفعها" الملك سعود ، للقيام بانقلاب على الجمهورية العربية المتحدة وعلى الرئيس جمال عبد الناصر، وهو الذي دمر أنابيب البترول أيام حرب السويس.. وقد جاء إلى القاهرة غير مرة ليدفع عن نفسه الرائجات والشائعات.. وقلت له .. وأنا خارج من زيارة الوزير المصري السيد كمال الدين رفعت في الوزارة المركزية .. أما لهذه الشائعات من آخر؟.
قال: وآخر هذه الإشاعات أنني أريد أن أقوم بانقلاب في سوريا، وأن أكون رئيس جمهوريتها..
قلت: "مازحا" أليس هذا صحيحا؟
قال: وهو يسرع الخطى في طريقه إلى المطار: الجميع في سوريا أصبحوا أعدائي، وأعداء الوحدة! أنا لا أريد أن يطغى حزب على الآخر وأن تظل سوريا في حظيرة الوحدة، وهذه مشكلتي الكبرى.
وهكذا مرت ثلاثة أعوام ونصف (1958-1961) والوحدة السورية المصرية تئن بين حجري الرحا، تعصر الوزراء، وتصهر الزعماء، وتجتر الأحداث، وتلوك الأخبار، إلى أن جاء يوم الثامن والعشرين من شهر أيلول من عام 1961- اليوم الذي ليس للأمة العربية أن تنساه، أو أن تنسى من ينساه.(1/250)
في ذلك اليوم الأغبر كنت في مكتبي في نيويورك أعد الخطاب الرئيسي الذي سألقيه في الجمعية العامة للأمم المتحدة.. وإذا بالتلفون تتوالى أجراسه المرة بعد المرة، وأنا أرفع السماعة حينا وأضعها حينا آخر..وإذا بالأسئلة تنهمر واحدا بعد واحد.
هل سمعت، هل عرفت، هل الخبر صحيح : الأناشيد العسكرية تنطلق من إذاعة دمشق، عادت الجمهورية السورية، وقع الانفصال بين مصر وسوريا.. قتل المشير عبد الحكيم عامر تحت قصف المدفعية السورية ... و... و...
ولم أكد أصدق يقظتي..وبدأت أتحسس نفسي وملابسي، هل أنا صاح أم نائم، أهذا الذي أسمعه صحيحاً ام أنه أضغاث أحلام.. وأدرت بصري حوالي فرأيتني جالسا في مكتبي.. وأيقنت أن الذي سمعته هو الحقيقة .. لقد وقع الانفصال، وتحطمت الوحدة.. لقد وقع الذي كنت أخشاه..
ومددت يدي المرتجفة بأناملي المرتعشة، إلى الراديو فإذا بالإذاعات العالمية تعلن أنباء الانفصال، ويعلق المعلقون ما شاءت لهم الشماتة أن يعللوا ويحللوا...
ومكثت بضع ساعات وأنا وحدي في مكتبي، ليس عندي أحد إلا الراديو الصغير، ينقلني من عاصمة إلى عاصمة، ومن خبر إلى خبر، وليس في الدنيا إلا خبر الانفصال.. ولم أعد أطيق أن أظل بجانب هذا الجهاز الكافر، ذلك الراديو الصغير، وتذكرت ساعتها القول الشهير "ناقل الكفر ليس بكافر" وجزمت: بل إنّه كافر أيما كافر...
وحملتني خطاي إلى مبنى الأمم ا لمتحدة، لعلي أجد من يعزيني أو يسليني، وكنت في لهفة حارقة إلى كلمة عزاء وسلوان، ودخلت الأمم(1/251)
المتحدة لأجد ردهاتها وسلالمها وقاعاتها، ومراحيضها، وكلها تتردد بين جنباتها أخبار الانفصال..ولا حديث لها إلا انتهاء الجمهورية العربية المتحدة، ولها سؤال واحد: متى يأتي وفد الجمهورية السورية، ليمثلها في الأمم المتحدة، وليقعد في مقاعدها السابقة!!
وجلست في إحدى زوايا الأمم المتحدة، وما أكثر زواياها، وأنا أرقب الوفود ذاهبة آتية، من قاعة إلى قاعة، ومن لجنة إلى لجنة، ولم يبق في ذهنهم موضوع واحد من التسعين موضوعاً التي كانت مدرجة في ذلك العام على جدول أعمال الأمم المتحدة.. ذلك أن الانفصال قد غطى في ذلك اليوم على جدول الأعمال بأسره..
وجلس حولي بعض أعضاء الوفود العربية، كائنا في مأتم يعزي بعضنا بعضا.. ثم يمر من أمامنا الوفود الأمريكية والبريطانية والإفرنسية والبلجيكية..و...و... ينظرون إلينا باحتقار شامت، وإزدراء مليء بالتشفي.. ولكن كنا على موعد مع ما هو أدهى وأمر...
وكان هذا الموعد، حين مر بجانبنا الوفد الإسرائيلي بكامل هيئتة، رئيسه وأعضائه ومستشاريه وملحقيه.. وكان على رأس الوفد جولدا مايير وأبا أبيان.. وتفجرت القهقهات من الوفد الإسرائيلي، وكأنما كانت تبحث عن نافذة لتنطلق منها إلى عنان السماء..
وحملت إلينا قهقهات الوفد الإسرائيلي كل الطعنات، وكل المعاني، هزءاً وسخرية وتشفيا وشماتة.. وكان من حق إسرائيل أن تتنفس الصعداء في ذلك اليوم، فقد انفكت كماشة الوحدة عن عنق إسرائيل.(1/252)
ولم أطق صبرا على نظرات الساخرين وقهقهات الشامتين، فحملت نفسي، وبعضي يحمل بعضي.. إلى الفندق الذي أنزل فيه، واعتكفت فيه أياما وأنا صريع آلامي وأحزاني.. وتجمعت كربتي إلى غربتي، وجعلت مني إنسانا ساهما واجما..
وقضيت بقية الأسابيع في دورة الأمم المتحدة، أذهب إليها حاملا أوراقي وأشجاني، وأنا أغض بصري في الأرض، لا أطيق أن أنظر في الوفود المعادية والصديقة على السواء.. وأتسلل إلى مقعدي لواذا، خجلا واستحياء، كأني أنا الذي صنعت الانفصال.
وعدت إلى الوطن , بعد انتهاء الدورة, وودت لو أن الزمان قد انفصم ذلك العام ليوم واحد من شهر ايلول , حتى لا يأتي يوم الثامن والعشرين , ويأتي معه يوم الانفصال.
ووصلت الوطن لاستمع إلى أخبار وأخبار، ملأت مذكرتي شجنا وحزنا .. فتوجعت آلامي، وتألمت أوجاعي في الوطن، فوق ما كنت
عليه في المهجر..
ولكن الزمان يحمل في أيامه ولياليه ضمادات الجراحات، فأخذت جراحي تلتئم على آلامها، وأخذ منجل النسيان يحصد مأساة الانفصال في نفسي عام بعد عاماً، حتى نسي هذا الإنسان أو كاد .. وكذلك شأن الإنسان منذ كان..
وجاءت الأيام الستة من حرب حزيران، وإذا بالأحزان تنفجر في نفسي من جديد، كأنما أصبح فؤادي حقل ألغام، أصابته شرارة، فراح ينفجر كالبركان..(1/253)
كنت في تلك الأيام الستة أهرول بين القدس وعمان ودمشق، أدب تحت الأرض في مقر القيادة العربية المشتركة، ولم تكن مشتركة إلا في الهزيمة.. ورأيت الجبهات العربية في سيناء والأردن والجولان تتهاوى أمام بصري تهاوي أوراق الخريف.
وتردد في ذاكرتي، أن الله صنع الدنيا في ستة أيام، واستراح في اليوم السابع.. وهكذا تقول التوراة .. وتساءلت هل لعربي، بعد الأيام الستة أن يستريح في اليوم السابع؟؟!!
وفي اليوم السابع وقفت على ركام الكارثة وأنقاض النكبة، استعيد أنفاسي واسترجع ذكرياتي، وقد صاح في نفسي هول التمني.. لو أن .. لو أن...
أجل لو أن الانفصال ما وقع، لقويت الجمهورية العربية المتحدة شعبا وجيشا..
ولو أن الجمهورية العربية قويت، لوقع الأردن في أحضانها شعبا وجيشا..
ولو أن الأردن انضم إليها، لكانت إسرائيل تواجه حولها جيشا واحدا وقائدا واحدا..
ولو أن ذلك كله قد جرى، لسقطت تل أبيب وما سقط بيت المقدس..
وحملت "لو" في قلبي، وهرولت إلى بيتي، إلى غرفتي، إلى مكتبي، أكتب مذكراتي، والتاريخ معي يكتب حكمه الصارم العادل..
أجل إن أوزار النكبة الكبرى في حزيران، تقع على أكتاف كثيرين .. كثيرين من الذين صنعوا الانفصال أو تمنوه..(1/254)
أجل إن أوزار النكبة الكبرى تقع على الذين غفلوا عن الوحدة، وأهملوها، سواء منهم من كان في دمشق أو في القاهرة..
ومرة أخرى لو .. لو.. أن أولئك جميعا لم يفعلوا ما فعلوا، لكانت حرب الأيام الستة لنا لا علينا.. ولسقطت تل أبيب، وما سقطت المدينة الخالدة الحبيبة، بيت المقدس..
يا بيت المقدس لا تجزعي.. نحن معك على موعد.. ونحن على موعد مع النصر...
ابشري يا بيت المقدس إن جيل الانفصال إلى زوال.. وإن جيل الوحدة آت لا محال.. والنصر على موعد مع الوحدة..(1/255)
لولا الانفصال.. لما سقطت سيناء..
وما سقط الجولان..
كان عام 1962، عام المأساة الكبرى، في الوطن العربي الكبير...
تركت الأمم المتحدة ورائي، وقهقهات الشامتين الساخرين تلعلع في ردهات المنظمة العالمية وهي ترى للجمهورية العربية المتحدة وفدين، بعد الانفصال، وفد مصر ووفد سوريا.. وعدت إلى الوطن لأرى ما هو أشد نكيراً وأسوأ مصيرا..
وكان أول وصولي بالطائرة إلى بيروت، فقد أردت أن أزور بعض الأهل والأقرباء، قبل عودتي إلى القاهرة ، حيث بيتي وزوجتي وأولادي.. ومكثت بضعة أيام استمع إلى الأصدقاء والى الإذاعات العربية، والى إذاعة دمشق، وكانت ما تزال تولول على الوحدة، وتبرر الانفصال..!!
وعشت مأساة الانفصال مع الملايين الذين عاشوها مثلي، وضاعف من هذه المأساة مضاعفاتها.. ذلك أن نفرا من الضباط المغامرين من أمثال الكزبري والنحلاوي الذين دبروا الانقلاب في الليل البهيم، قد هدموا آمالا طوالا عراضا، كافحت الأمة العربية من أجلها قرابة خمسين عاما، ولم يكن لأولئك المغامرين سابقة في الحياة العربية ولا في الحياة السورية.. وكل ماضيهم وحاضرهم.. بل كل رصيدهم أنهم يحسنون تسليط الدبابات(1/256)
والمدرعات على دار الإذاعة ورياسة الأركان، وإصدار البلاغ رقم واحد، وأنه بلاء لا بلاغ..
ولكن المأساة الوطنية التي جاءت في أعقاب الانفصال، قد لفت في ردائها الأسود جماعات العرب كان لهم ماضيهم الناصع في ميدان الحرية والاستقلال..
فلم يكد يعلن الضباط المغامرون عن الانقلاب المشؤوم حتى بدأت إذاعة دمشق تتلو برقيات التأييد.. ولم أبال بادئ ذي بدء بهذه البرقيات، وأنا استمع إلى أسماء موقعيها، ففي كل شعب مجموعة من الناس يؤيدون الحاكم، وليكن الحاكم من يكون..
ولكني ذهلت .. ولم أصدق سمعي، والمذيع السوري يردد أسماء ضخمة، كثير منها عزيز على قلبي، وعلى النضال العربي بأسره.. وقفز السؤال من فؤادي: ما هذا، وما الذي أسمع.
كنت مشدوها وأنا أصغي إلى المذيع السوري وهو يقرأ ما عرف فيما بعد بعريضة الانفصال.. لتعلن في مقدمتها الإيمان التام بالوحدة، ثم تتدرج إلى أخطاء القاهرة، ثم تبرر الانقلاب والانفصال.. ثم تأتي التواقيع .. ومن هم أصحاب التواقيع؟؟
ذكر المذيع أصحاب التواقيع بأسمائهم واحداً واحداً، وخيّل إلي أني أستمع إلى صفحات على وجه الزمان كلما قرأ المذيع أسماً من تلك الأسماء الضخمة.
كان من الذين وقعوا سلطان الأطرش، فارس الخوري، خالد العظم، أكرم الحوراني، صلاح البيطار، معروف الدواليبي، ناظم القدسي، صبري العسلي، وغيرهم من رجالات سوريا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.. ومهما(1/257)
اختلفت الآراء في تقييم الذين وقعوا عريضة الانفصال، فإن الإجماع ينعقد على أنهم جميعا، وبلا استثناء، قد لعبوا دورا بارزا في تحرير الوطن السوري العزيز، وكان لهم صفحات مشرقات في تاريخ النضال..
ثم جاءت ثالثة الأثافي، فأصدر السيد شكري القوتلي بيانا "بليغا" يستعرض الأخطار الجسيمة التي أدت إلى الانفصال، وينحو باللائمة على جمال عبد الناصر، من غير أن يذكر اسمه، لما اقترف من أخطاء في تصريف الأمور..
وقد أطبق الحزن عليّ أن ينتهي الوحدويون في سوريا إلى طعن الوحدة في الصميم، وأن يوقع للانفصال في عام 1962 أولئك الذين وقعوا للوحدة في عام 1958...
ولكن حزني كان أشد وأمعن على العجوز القوتلي، أن يختم صفحاته الناصعة البيضاء بتلك الصفحة السوداء. وكان ما يزال يقيم في بيروت.. فذهبت إليه في منزله وأنا لا أعلم ماذا سأحدثه وبأي لسان أحدثه...
وتذكرت وأنا في الطريق حكاية الأمير جبلة بن الأ يهم الغساني، كيف داس أعرابي على قدمه وسقط إزاره وهو يطوف بالكعبة، وكيف غضب ولطمه، وكيف قضى الخليفة عمر أن يلطم الأعرابي الأمير جبلة، وكيف أبى والتحق بالروم ورجع عن الإسلام.. وكيف.. وكيف.. ووصلت منزل شكري القوتلي، والحكاية على لساني، وأنا عازم أن أرويها من البداية إلى النهاية..
ولم أكد أغوص في الكرسي الوثير وأنا أجلس إلى جانبه، حتى بدأ الحديث، هو بصوته المجلجل..(1/258)
-لقد كفر السوريون بالوحدة.. لقد تحملوا تسلط المصريين ثلاث سنين.. وكم وكم نصحت عبد الناصر ولكنه رفض نصائحي... إن زعماء سوريا الذين بنوا الاستقلال على أكتافهم لم تعد لهم قيمة.. كم وكم حذرت عبد الناصر من البعثيين.. من الضباط العسكريين.. أهل مكة أدرى بشعابها.. لقد ظن عبد الناصر أنه يستطيع أن يحكم سوريا كما يحكم مصر.. إن معاوية بمكره ودهائه، بطوله وعرضه، لم يقدر على الشام.. و... و...
ومضى شكري القوتلي في هذا الحديث طويلا، وهو يشهق حينا، ويرغي حينا آخر.. وكدت أن أخرج من المنزل، فقد خشيت أن يصيبه انفجار في شرايينه، أو تداهمه نوبة في قلبه، وهو في هذا الحديث الغضوب.
ولكن الله لطف.. فقد قذف القوتلي كل مكنونات صدره، وأخذ يهدأ شيئا فشيئا وعاد الصوت المجلجل، خافتا رويدا رويدا.. وتملكني الصمت، وأنا لا أدري ما سأقول.. وعزمت أن لا أتحدث معه شيئا فقد خشيت إن كشفت له ألمي أن يعود إلى "نوبته" وتكون القاضية..
وانصرفت إلى الحديث عن صحته، وعن الجو، وعن كل شيء إلا في المواضيع العامة.. ومددت يدي أصافحه مودعا، فوقف مجهداً متعبا وهو يقول :-
-ولكني لم أسمع منك شيئاً كيف كان خبر الانفصال في الأمم المتحدة؟
قلت: خبر قرأه الناس ليومه.. ثم طوته أخبار الأيام التالية..
قال: على كل حال، أرى أن تمثل سوريا في الأمم المتحدة في الدورة المقبلة، لقد أعرناك للسعودية مدة طويلة.. وفي هذا كفاية..
قلت: مللت من الأمم المتحدة، ولا أريد أن أعود إليها مرة أخرى.(1/259)
قال: لا بد أنك مسافر إلى القاهرة.. فإذا اجتمعت بعبد الناصر قل له، هذا ما كنا نخشاه..
وودعت شكري القوتلي، دون أن أعقب على ذلك بلا أو نعم، وكنت كمن حاول الهروب منه عند أول دقيقة ممكنة، حتى لا أراه أمامي يسقط على الأرض جثة هامدة..
وانطلقت بي السيارة، وأنا لا أصدق أني نجوت من التهمة التي سترافقني كل عمري، بأني كنت سببا في القضاء على "المواطن العربي الأول".. لقد فقدت الوحدة.. فهل افقد هذا الذي كنت أحبه، وأقدر له جهاده الطويل في سبيل الأمة العربية.
وقضيت أياما في بيروت... وأنا أرى الشعب واجما أمام كارثة الانفصال، أركب بالتاكسي والسائق يدير مفتاح الراديو على إذاعة صوت العرب وهي تشجب الانفصال والذين قاموا بالانفصال، ثم ينهال بالشتائم، والسباب، ويطل برأسه من نافذة السيارة ليصيح في السماء: إنت فين يا رب، تخلصنا من الخونة!!
وغادرت بيروت إلى القاهرة، وأنا لا أدري كيف أقابل أصدقائي.. ففي أثناء إقامتي الطويلة في مصر، لاجئا، عرفت عددا كبيرا من المسؤولين والصحفيين، كما عرفت آخرين من الشعب الطيب: تجار، وطلبة ومعلمين. وقد عرفني هؤلاء سفيرا متجولا لسوريا، ورئيسا لوفدها في الأمم المتحدة.
وصلت القاهرة أقدم رجلا وأؤخر أخرى، وأنا أخشى أن يزورَّ عني الناس، كما لو كنت أنا المسؤول عن الانفصال، أردد مع القائل: "كاد المريب أن يقول خذوني.."(1/260)
ولقد ضاعف من مخاوفي أن بعض الصحف في مصر، وإن لم تخل من اعترافها بأخطاء مصر في تطبيق الوحدة، قد انساقت مع آلامها فراحت تلبس الحق بالباطل، وتخلط الحابل بالنابل..وأخذ السيد حسنين هيكل يكتب سلسلة مقالات عن الوحدة والانفصال كشف فيها للرأي العام العربي كثيرا من الحقائق.. ولكني كرهت بعض تعليلاته..
قال هيكل في مقالاته:" أن ليس هناك ظروف اقتصادية واجتماعية يمكن أن تقوم عليها تجربة الوحدة.. وأنه كان هنالك اختلاف واضح في التطور الاجتماعي في كل من مصر سوريا في ذلك الوقت من عام 1958، وأنه لم تكن في الواقع بين الشعبين العربيين في مصر وسوريا من روابط فعلية وإيجابية لقيام الوحدة الفورية، إلا شيء واحد، هو جمال عبد الناصر وشخصيته وإيجابيته"..
وجاءني أحد محرري الأهرام يطلب مني تعليقاً على كلام هيكل، فقلت في سياق حديث طويل: ما هذا الذي يقوله هيكل، هل يريد أن يكفر بالوحدة العربية كما كفر بها شكري القوتلي.. وما هذا الحديث عن الفروق الاجتماعية والاقتصادية بين سورية ومصر، ليته يتذكر الفروق الواسعة التي تسود المجتمع في روسيا وأمريكا من النواحي الاقتصادية والاجتماعية.. وما معنى هذا الكلام عن أن شخصية الرئيس عبد الناصر هي الرابطة الوحيدة لقيام الوحدة الفورية.. إنني لا أقل تقديرا للرئيس عبد الناصر عن السيد هيكل، ولكني لا أريد أن تعود الصحافة المصرية إلى العهد البائد، عهد التأليه و التقديس، فهذا أخطر ما يصيب الأمم في نهضتها القومية.. إن حوافز الوحدة بين سوريا ومصر متوفرة، وإني أرفض أن يكون عبد الناصر هو الرابطة الوحيدة، وأحسب أن عبد الناصر نفسه لا يرضى أن يكون هو(1/261)
الوحدة، وأن تكون الوحدة هو.. إلى آخر ذلك التعليق..
ولكن حديثي لم ينشر في الأهرام، وكان على الجماهير العربية أن تسمع رأي هيكل وحده...
وعلى بعد الفوارق وأوجه الشبه، فقد وجدت العذر لهيكل.,. الخليفة عمر أصيب بالذهول حين بلغه نبأ وفاة النبي (صلعم) فراح يرغي ويزبد، ويهدد ويتوعد كل من يقول أن محمداً قد مات.. إلى آخر القصة.. كما روتها كتب السيرة النبوية..
وكذلك كان شأن هيكل حينما رأى الوحدة تموت، أمام ناظريه..
وعزمت أن أترك الصحافة المصرية والسورية تخوض في ذلك الجدال المرير، لألتقي بالمشير عبد الحكيم عامر أتحدث إليه، فهو أول من تلقى صدمة الانفصال في دمشق... ولولا بقية من حياء، وخشية من النقمة الأبدية، لقضى عليه الضباط المتآمرون.
دخلت عليه في مكتبه وأطباق الدخان تكاد أن تشبه "غطيطة" لبنان أو "شبورة" القاهرة، وقلت له بعد السلام والتحية: لقد قرأت كثيرا وسمعت كثيرا عن الانفصال والأحداث والوقائع، وعندي ما فيه الكفاية.. ولكني أريد أن أعرف أمرا واحدا... لماذا لم تضربوا حركة الانفصال في مهدها.. إن الجيش والشعب مع الوحدة، ولا يمكن أن يخضعها نفر من المتآمرين والمغامرين.
قال: الواقع أننا ، الرئيس عبد الناصر وأنا، وضعنا خطة للقضاء على المؤامرة والمتآمرين، بل إننا بدأنا في تنفيذها.. لقد أعددنا فرقة من جنود المظلات من كنائب الصاعقة قوامها ثلاثة آلاف مقاتل للهبوط في اللاذقية، وفد تم إنزال بعض الجنود من الطائرات، وصدرت الأوامر إلى الأٍسطول(1/262)
المصري بالتحرك إلى السواحل السورية... وتحولت بعض السفن التجارية إلى ناقلات جنود.. وتأهبت فرقتان كاملتان مؤلفتان من خمسة وثلاثين ألف جندي للإبحار إلى اللاذقية. ووصل الأسطول بالفعل قريبا من قبرص، ولكنا أوقفنا الخطة في آخر لحظة.. وأصدرنا أوامرنا إلى قواتنا بالعودة إلى الإسكندرية وبور سعيد..
قلت: ولماذا؟ لقد كان الشعب السوري يتوقع أن تتحرك القاهرة عمليا، وأعتقد أن الجيش السوري كان مستعدا لضرب المتآمرين، والحفاظ على الوحدة.
قال: هذا صحيح .. بل إن وحدات الجيش السوري في الشمال قد طلبت إلينا أن نبادر لدعم القوات السورية بقوات مصرية.
قلت: إذن.. لماذا أمرتم القوات المصرية بالعودة؟
قال: (بعد أن سكت طويلا وهو يشعل السيجارة من السيجارة) الواقع أن هناك سببين: الأول أننا كنا نخشى أن تقع حرب أهلية نكون نحن طرفا فيها، وقد أعلن الرئيس عبد الناصر موقفنا بعد الانفصال، بأننا نرفض أن تكون الحرب الأهلية وسيلة لإعادة الوحدة...
قلت: وما هو السبب الثاني؟
قال: السبب الثاني.. لقد وصلتنا أنباء موثوقة بأن الأسطول الأمريكي السادس قد تحرك في اتجاه السواحل السورية، وما كنا نريد أن نعطي الأمريكان فرصة لضرب القومية العربية.
قلت: السبب الأول خطأ، .. والسبب الثاني خطأ.. هذه مسائل تقديرية من غير شك، والمرء فيها معرض للخطأ والصواب.. ولكن الخوف من الحرب الأهلية كان خطأ كبيرا.. لو أنكم أنزلتم القوات المصرية لانضم إليها(1/263)
كل الجيش السوري ومعه كل الشعب.. أما تحرك الأسطول السادس فهو حرب أعصاب..
قال: لا يا أخ أحمد.. هذه مسائل عسكرية نحن نعرفها ونقدرها.. وليست مسائل سياسية من أمور الأمم المتحدة.. أنت تعلم أن الملك حسين ورئيس جمهورية تركيا كانا أول من اعترف بالانفصال السوري، ولم يكتفيا بذلك ولكنهما حشدا قواتهما على الحدود، حماية للجمهورية السورية من الشمال ومن الجنوب.. هذه أمور عسكرية..
قلت: لا.. بل هذه أمور سياسية أولا وعسكرية ثانيا.. هل إذا أعلنت الإسكندرية الانفصال، تتركونها وشأنها.. خوفا من الحرب الأهلية، أو من تحرك الأسطول السادس..
قال: "بشيء من الغضب" هذه مسألة مختلفة تماما.. الإسكندرية طول عمرها أرض مصرية.
قلت: إذن، لن تقوم وحدة عربية، ما بقى الأسطول السادس
يتحرك في البحر الأبيض المتوسط.
وسمعت وقع الأقدام في المكتب المجاور، وللضباط خطوات تنبئ عن ذاتها، فنهضت لأودعه وأنا أقول: أرجو أن تعذرني، أخشى أن أكون قد أسرفت في الحديث.. إن الموضوع كبير وخطير، إن فيه مصير الأمة العربية لأجيال.. وكل ما أرجوه أن لا يخلف الانفصال عقدة في نفوس إخواننا المصريين.. لقد كان لثورة 23 يوليو فضل في رفع لواء القومية العربية.. وأنه يعز علينا أن تصاب الوحدة العربيةبنكسة في عهد الثورة.. وإنه لحرام أن تعاقب القضية العربية، ومعها الأمة العربية، بسبب جريمة اقترفها بعض الضباط المغامرين..(1/264)
قال: لا والله يا أخ أحمد.. الخطأ مشترك بين السوريين والمصريين.. وقد اعترف الرئيس عبد الناصر بأخطائنا في الوحدة.. وستظل ثورة 23 يوليو لواء القومية العربية وراية الوحدة العربية..
غادرت مكتب المشهير عبد الحكيم عامر، وكلماته تداعب تمنياتي، وتبلسم جراحاتي.. ودعوت الله أن لا تكون جريمة الانفصال قد خلقت عقدة عميقة في هذه الدول الكبيرة التي بقي لها من الوحدة العربية اسم الجمهورية العربية.. وعلمها، وفيه نجمتان حزينتان.
وبدأت تتضح مواقف حكام العرب من الوحدة والانفصال، وكان يكفي أن يستمع المواطن العربي إلى الإذاعات العربية حتى تتجلى له الصورة .. الشامت شامت، والحزين حزين..
وبرز بين الشامتين الإمام أحمد حميد الدين، المتوكل على الله رب العالمين، فقد تناقلت الأخبار أن الإمام الذي تهالك على القاهرة حتى دخل في "الدول العربية المتحدة" في عام 1958، قد أصبح بعد الانفصال السوري، يتفكه على الوحدة، ويتندر على الاشتراكية، ويسمر على الحرية.. وتفتحت قريحة الشعر في الإمام أحمد، فأخذ ينظم القصائد على طريقه ألفية بن مالك، وهي ألف بيت من الشعر في الصرف والنحو.. فأنشد يقول:-
هيا بنا لوحدة مبنية
قانونها شريعة الإسلام
ليس بها شائبة من البدع
من أخذ ما للناس من أموال
بحجة التأميم والمعادلة
هيا بنا لوحدة مبنية(1/265)
قانونها شريعة الإسلام
ليس بها شائبة من البدع
من أخذ ما للناس من أموال
بحجة التأميم والمعادلة
لأن هذا ماله دليل
فأخذ مال الناس بالإرغام
ولا يجوز أخذ مال الغير
على أصول بيننا مرضية
قدسية الأوصاف والأحكام
تجيز ما الإسلام عنه منع
وما تكسبوا من الحلال
بين ذوي المال ومن لا مال له
في الدين أو تجيزه العقول
جريمة في شرعه الإسلام
إلا بأن يرضى بدون ضير
وتبارى الناس في حفظ هذه الأبيات، لناظمها إمام القات فقد حفظها، الوحدويون والانفصاليون على السواء.. حفظها الوحدويون وهزأوا بالشعر والشاعر... وحفظها الانفصاليون تضامنا بين الفجور والفاجر..
وفي ختام 1961 اختتمت تلك المسرحية، الوحدة بين الجمهورية العربية المتحدة والمملكة اليمنية، وأعلنت القاهرة انتهاء الاتحاد لأن "الجمهورية العربية المتحدة ليست على استعداد للدخول في تجارب وحدوية(1/266)
لا تخدم غير أغراض الحكام، وتستغل ضد أماني الشعوب..." كما أعلن ذلك متحدث رسمي باسم القاهرة...
وهكذا تراجعت الجمهورية العربية المتحدة عن الخطأ.. وحدة مزورة مع أمام اليمن.. والرجوع إلى الحق فضيلة..
وسواء أخطأت الجمهورية العربية المتحدة في وحدتها مع المملكة اليمنية أم لم تخطئ، وسواء كانت في تصرفها مع السوريين قد فتحت منافذ في حصن الوحدة، تسلل منه المتآمرون المنتهزون.. وهذه كلها أمور تحتاج إلى دراسة شاملة في كتاب مستفيض، فقد كان عزاؤنا، نحن الجيل الوحدوي في الأمة العربية، أن القاهرة صمدت أمام المحنة.. فقد ظلت تؤكد عروبتها ودورها الطليعي في الحياة العربية...
فعلى الصعيد القيادي أعلن الرئيس عبد الناصر، في أعقاب الانفصال مباشرة، أن إيمان مصر بعروبتها قدر لا يتزعزع، وأنها ستظل تسمي نفسها الجمهورية العربية المتحدة، وأنّ مصر لا تبرئ نفسها من الأخطاء.. وهكذا وقف الرئيس عبد الناصر يعترف قبل أن توجه إليه أصابع الاتهام..
وعلى الصعيد الصحفي، فقد انغمرت مصر في مثل فيضان النيل، في حملة صحفية تدعو إلى توكيد عروبتها، وكان أروع ما هزني ما كتبته الصحفي المصري أحمد بهاء الدين في جريدة أخبار اليوم (16 أيار 1962) يتساءل :" هل هناك من يقبل الانفصال بين دمشق وحلب، كذلك الانفصال بين القاهرة ودمشق، لقد وجدت في هذه الكلمة المؤمنة راحة في نفسي وخاصة أنها جاءت في اليوم الثاني لذكرى قيام إسرائيل (15 أيار). أما على صعيد الدولة فقد جاءت المناسبة في 21 مايو 1962، فقد كنت في ذلك اليوم(1/267)
في جامعة القاهرة في الجناح المخصص للدبلوماسيين العرب، وكانت المناسبة اجتماع المؤتمر القومي للقوى الشعبية.
وافتتح الرئيس عبد الناصر الاجتماع بتلاوة "الميثاق" بأبوابه العشرة.. وكان الباب التاسع مخصصا للوحدة العربية، وأخذ الرئيس يقرأ الفقرة الأولى التي تعلن " أن الأمة العربية لم تعد في حاجة إلى أن تثبت حقيقة الوحدة العربية بين شعوبها.. لقد جاوزت الوحدة هذه المرحلة وأصبحت حقيقة الوجود العربي ذاته" ووقف أعضاء المؤتمر مصفقين هاتفين، والتفتوا بأبصارهم إلى جناح الدبلوماسيين العرب، وكأنما كان جميع العمال والفلاحين والمثقفين من أعضاء المؤتمر القومي يقولون للسفراء العرب "هل سمعتم.. هذه مصر.."
ولعلي كنت من أكثر الحاضرين غبطة بهذه المظاهرة الوطنية للوحدة العربية، ذلك أني أعرف من أمر مصر ما لم يعرفه السفراء.. فقد عرفتها قبل ثلاثين عاما من الميثاق تهتف للفرعونية تحت أقدام أبي الهول، وفي مدافن الأقصر، وبين أعمدة الكرنك...
وخرجنا من جامعة القاهرة، بعد نهاية الاجتماع، وتلاقى الجمع متصافحين، يتبادلون التهنئة، السفراء العرب مع الوزراء المصريين.. وجاء المشير عبد الحكيم عامر يقول، كمن انتصر في معركة:
هذا هو ميثاقنا.. هل سمع الأخ أحمد.. نحن مستعدون لكل تضحية من أجل الوحدة.. وستثبت لك الأيام أننا لن نتردد أن نضحي بأرواحنا من أجل الوحدة.. يجب أن تفهم هذا جيدا..
وانصرف كل منا إلى طريقه، وذهب الحاضرون إلى شئونهم.. وذهبت إلى شأني.. إلى مكتبي لأكتب مذكراتي عن ذلك اليوم العظيم.(1/268)
ومضت أعوام سبعة على حواري مع المشير عبد الحكيم عامر، ولقيته خلالها مرات ومرات.. وجاءت حرب الأيام الستة وجاءت في أعقابها الأحداث الجسام... وكانت وفاة المشير عبد الحكيم عامر واحدة منها، يضاف إليها استشهاد الآلاف والآلاف من أبناء العروبة في الضفة الغربية، وفي سيناء وفي الجولان..
كنت يومها في بيتي في إحدى قرى لبنان، وتذكرت كلام المشير عامر في يوم الميثاق "لن نتردد أن نضحي بأرواحنا من أجل الوحدة.. يجب أن تفهم هذا جيدا...".
والآن فهمت هذا الكلام جيدا.. أن الأعمار بيد الله، ولكن عمر "عامر" كان معلقا بين الوحدة والانفصال، وكذلك أعمار شهدائنا الأبرار الذين سقطوا في الميدان.. من القنال إلى الضفة الغربية والجولان..
إن انفصال 1961 كان سبب نكسة 1967 بكل عارها وشنارها، على المواطن العربي أن ينبش الأحداث من مرقدها.
وجاءت نكسة 1967 لتذكرني بالمشير عامر، كأنما كان يحدثني بلسان القدر!! غير أن الانفصال لم يقض على المشير عامر فحسب.. ولكنه قضى على كرامة أمة بأسرها، وأرغم وجهها في الرغام..
وعلى الأجيال العربية أن تعتبر بالعبر، وتتعظ بالعظات..
وكائنة ما تكون هذه العبر أو تلك العظات.. فإن التاريخ لا يرحم.. وسيكتب في طليعة ما يكتب أن الذين صنعوا الانفصال في عام 1961، هم الذين صنعوا هزيمة 1967.
وأنه لولا الانفصال، لما سقطت سيناء، ولا سقط الجولان...(1/269)
هزيمة الوحدة...وحدة الهزيمة(1/271)
صنعنا وحدة الهزيمة
وقع الانفصال بين سوريا ومصر في أيلول 1961، ولكن الوحدة، حديثا دعوة وعزيمة، استمرت تعيش في وجدان الأمة العربية وغيرها .. وكان ذلك على أشده في سوريا نفسها، فقد أحس الشعب أن جريمة الانفصال قد ألقيت على أعتابه، وأن رجسها ونجسها قد رمى على بابه....
وثار الشعب السوري لكرامته ولوحدته.. فقامت المظاهرات في المدن السورية وقراها، وتدافع الوطنيون المناضلون يتحدون "حكومة" الانفصال بأسلحتهم.. وتجمع الضباط هنا وهناك يبحثون عن الطريق- طريق العودة إلى الوحدة، وتطلع الجنود وهم في خنادقهم إلى من يقودهم إلى انقلاب على الانقلاب، ليعود الإقليم الشمالي إلى الإقليم الجنوبي وتصبح الجمهورية العربية المتحدة تمثل الوحدة بحقيقتها، لا باسمها وعلمها، فحسب.
وازدادت نقمة الجيش والشعب معا على المتآمرين الذين دبروا الانفصال على غفلة من الزمن، ولم يجدوا مفرا إلا أن يقولوا الله ربنا... والوحدة ديننا ... وراحوا يعلنون أنهم ساعون لإعادة الوحدة من غير أخطائها.. وأنهم لا يريدون الانفصال.. وأنهم سيتصلون بالقاهرة لبناء وحدة تثبت على الأيام، وتدوم إلى دهر الداهرين وأبد الآبدين!!
ولكن هذا الاستغفار والاعتذار لم يُجدِ فتيلا.. ولم تجدِ كذلك هذه "الدعايات" الكاذبة في إعادة الوحدة... فقبض على الضباط المتآمرين وأودعو السجن..(1/273)
في سجن المزّة الذي كتب عليه أن يضم بين جدرانه الوحدويين والانفصاليين، بعد هذا الانقلاب أو ذاك.. منذ الانقلاب الأول في عهد حسني الزعيم، إلى آخر القائمة التي لا نهاية لها.
وبعد الانفصال، تعاقبت على دمشق أربع حكومات خلال بضعة عشر شهراً، تسقط حكومة وتؤلف حكومة، والدعوة إلى الوحدة تعم صفوف الجيش والشعب، وأخيرا جاء شيء من الترياق من العراق!!
كان ذلك من العراق فعلا، وكان من الثامن في شهر شباط من عام 1963 حينما سقط عبد الكريم قاسم رئيس الجمهورية العراقية.. سقط في قلعته، في مكتبه المحصن في وزارة الدفاع.. وجاءت حكومة عبد السلام عارف..
وغرقت بغداد في الفيضان، لا فيضان دجلة، ولكنه الفيضان الشعبي العارم... المظاهرات والاجتماعات.. وكلها صائحة صارخة "الوحدة.. الوحدة"
وعبرت هذه الصيحات والهتافات الفيافي والقفار، ووصلت إلى دمشق، وقام انقلاب جديد في دمشق (8 آذار 1963) تماما بعد شهر واحد من انقلاب العراق...
وأعلن انقلاب دمشق الوحدة مع مصر، شعارا له.. وأبرق الرئيس عبد الناصر معترفا بالنظام الجديد في سوريا، مع أطيب عبارات التهنئة.. وكانت أول مرة بعد الانفصال يتصل فيها مع الحكومة السورية المتربعة في دمشق..
وخرج الشعب من البيوت والمصانع والمتاجر والمزارع، إلى الساحات والميادين والشوارع يهتف بلسان واحد: وحدة، وحدة، وحدة...(1/274)
وبدأ واضحا أن حرب البعث كان هو القوة المخططة والمنفذة لانقلاب شباط في بغداد، وآذار في دمشق.. وكان طبيعيا أن ينزل الشعب إلى الشارع يطالب حكام بغداد ودمشق بالوحدة، والوحدة العربية هي شعار البعث، منذ كان البعث..
ومن هنا ارتفع شعار الوحدة الثلاثية بين القاهرة وبغداد ودمشق... وتطلعت الأمة العربية في كل أقطارها إلى هذه الدعوة الجديدة.. فإنها العزاء والرجاء.. عزاء عن الانفصال الماضي، ورجاء في وحدة المستقبل.
وتعاظم إلحاح الشعب، وإصراره وتصميمه، على الوحدة الفورية بين الأقطار الثلاثة.. وكاد المتظاهرون في دمشق أن يحاصروا الوزراء في وزاراتهم وفي منازلهم.. ولم يكن مفر من الشروع بخطوات عملية لتحقيق الوحدة الثلاثية...
وتحركت أسلاك التلفون بين بغداد ودمشق والقاهرة، وطار الرسل بين العواصم الثلاث يجسون ويمهدون، إلى أن اتفقت الكلمة على عقد محادثات عاجلة لإقامة الوحدة الثلاثية.. وليكن ذلك في 14 آذار.. تماما بعد ستة أيام من الانقلاب في دمشق..
وشهدت القاهرة تجربة أخرى من تجارب الوحدة. وتكامل وصول الوفدين العراقي والسوري... وكان الوفد العراقي مؤلفاً من أحمد حسن البكر رئيس الوزراء، علي صالح السعدي نائبه، والفريق صالح مهدي عماش وزير الدفاع، وطالب حسين شبيب وزير الخارجية، وعبد الرحمن البزاز سفير العراق في القاهرة.. وكان الوفد السوري مؤلفا من سبعة عشر عضواً، برأسهم الفريق لؤي الأتاسي رئيس مجلس الثورة، ومعه صلاح البيطار(1/275)
رئيس الوزراء وثمانية وزراء آخرون، وسبعة ضباط من أعضاء مجلس قيادة الثورة....
وضج جرس التلفون وهو يقرع في منزلي، والصحافيون يسألونني عن "هوية" أعضاء الوفدين العراقي والسوري، فأجبتهم بما أعرف.. عمن أعرف.. وكان كثير من الأسماء جديدة على المسرح السياسي" وسألني أحد الصحفيين: ما هو السر في أن عدد الوفد السوري الكبير.. سبعة عشر..؟
قلت: ليس في الأمر سر.. إنهم يمثلون سبعة عشر اتجاها سياسيا في البلد.. على الأقل!!
قال: لماذا تقول على الأقل؟
قلت: أظن أن في دمشق اتجاهات أخرى ليست ممثلة .. الحزب الشيوعي مثلا، والإخوان المسلمين!!
وبدأت المحادثات الثلاثية في قصر القبة، وكان وفد الجمهورية العربية المتحدة مؤلفا من الرئيس عبد الناصر، ونوابه الثلاثة: عبد اللطيف بغدادي، والمشير عبد الحكيم عامر، وكمال الدين حسين، وعلي صبري رئيس المجلس التنفيذي.. وفد صغير يمثل شعبا كبيرا، على حين كان الوفد السوري ، وفدا كبيرا يمثل شعبا صغيرا..
وبدأت المحادثات في 14 آذار 1963، وامتدت في مرحلتها الأولى ثلاثة أيام بلياليها.. وأقول ثلاثة أيام بلياليها بكل ما في هذه العبارة من ساعات ودقائق.. فقد كانت الجلسات تنعقد في قاعات الاجتماعات وخارجها، وفي صالة الطعام، ولم تخل غرف النوم من اجتماعات جانبيه تجري بين الوفد السوري والعراقي، وبين أعضاء الوفد السوري بذاته..(1/276)
ودارت المناقشات منذ البداية في جو ساخن، امتدت حرارته إلى حدائق القبة فأفسدت على الربيع نسائمه الحلوة.. وكان أصدقائي من الوفدين العراقي والسوري يستأنفون بقية مجادلاتهم عندي، في المنزل.. يأتونني على غير موعد كيفما اتفق، فيبدأون بالمطبخ يفرغون ما في الثلاجة من بقايا الفاكهة، ثم نجتمع في الصالة يحتسون القهوة والشاي.. فيقول الإخوان السوريون بل القهوة عندنا ألذ ! وبعد ذلك " نستهلك " الوقت في كل ما جرى من مداولات في قصر القبة.. وكانت مداولات تاريخية حقا، كشفت عن أسرار وأسرار..
وكان زمام المداولات بيد الرئيس عبد الناصر نيابة عن الجمهورية العربية المتحدة.. يعرض وجهة نظره ومفهومه للوحدة العربية، والأخطاء التي وقعت في الوحدة السورية-المصرية وما إلى ذلك.. على حين كان الوفد السوري يتكلم كله دفعة واحدة، أو يتكلمون جميعا متعاقبين، غير متوافقين ولا متفاهمين، حتى غدا الوفد السوري وفودا متعددة، بل إن العضو الواحد، هذا الضابط مثلا، ينقض اليوم ما تحدث به بالأمس، ويأتي بجديد في الغد، حتى أصبح بنفسه يؤلف عدة وفود!!
كنت أستمع إلى هذه التفاصيل في بيتي على لسان الوفد السوري، فقد كانوا أكثر ترددا عليَّ من الوفد العراقي، فإن الحوار كان في معظمه مع الوفد السوري، وعن التجربة المريرة التي مرت بين سوريا ومصر، وكنت أقرأ صحف القاهرة في اليوم التالي وهي تتحدث عن روح الوئام والانسجام التي تسود مباحثات المؤتمر!!
وكنت أقرأ تلك العناوين الضخمة الملونة في صحف الأهرام والجمهورية والأخبار، وهي تنشر صور الوفود العربية الثلاثة، وهم(1/277)
يضحكون الضحكات العريضة، ويتأبط بعضهم ذراع بعض، وكان القدر الساخر يضحك على هذه الضحكات ثأرا للوحدة العربية، وانتقاما للقومية العربية.
ولكن المداولات داخل قصرالقبة في أسرارها وسرائرها، كانت تنبئ أن الصحف القاهرية قد جعلت من الحبة قبة.. على حين أنه لم تكن هنالك حبة إطلاقا.. وكانت القبة من غير حبة.. وكل ما في الأمر أنهم كانوا يجتمعون في قصر القبة..
وقال لي أصدقائي من الوفدين السوري والعراقي، ولم أعد أذكر من تكلم أولا، فقد كانوا يقاطع بعضهم بعضا، وكانوا كذلك يتكلمون دفعة واحدة... قالوا إن الرئيس عبد الناصر، كان قاسيا، لقد تحدث عن حزب البعث بمرارة، وأن الوحدة لا يمكن أن تقوم على مناورات سياسية، وأن القاهرة دفعت لحزب البعث أموالا لمساعدته في نضاله لا ليكون عميلا.. وأن تجربته الماضية قد جعلته يرفض أن تكون الوحدة مع حزب البعث ولكن مع سوريا بأسرها.. وأنه لم يصدق أن صلاح البيطار قد وقع عريضة الانفصال.. وأن الذين قاموا بالانفصال أعلنوا أنهم يقبلون أن يتعاونوا مع إسرائيل ولا يتعاونون مع مصر.. وأنه لا يقبل أي وحدة إلا إذا كانت على أساس وحدة الجيش ، وأنه لا بد من تحديد المفهوم الحقيقي للوحدة والحرية والاشتراكية قبل الدخول قي أية وحدة.. وأنه قرأ كتب مشيل عفلق حول هذه المواضيع فلم يجد فيها شيئا واضحا .. وأنه يرى في المداولات الحاضرة مناورة واضحة لأن ينفرد الاتحاد الاشتراكي بمصر، وأن ينفرد حزب البعث بسوريا والعراق. وأن القصد من هذه المحاولة أن توضع مصر بين المطرقة والسنديان.. بين سوريا والعراق وانه لا يقبل بوحدة على أساس الائتلاف،(1/278)
فإن الجامعة العربية خير من هذا الائتلاف الهزيل... وتساءل عبد الناصر بعد ذلك: هل تبقى الكتل المتصارعة في الجيش السوري يصفي بعضها بعضا.. أم أنكم تريدون دولة مهلهلة بلا إرادة.. وأنه من غير وحدة الجيش لا تكون هنالك وحدة إطلاقا.. وأن مصر كانت لها أخطاء في عهد الوحدة.. وأنه أخطأ شخصيا في قبول استقالة وزراء البعث الأربعة، بصورة فورية..
وأجاب الوفدان العراقي والسوري بإسهاب أكثر.. لأن الجانب المصري كان يتكلم فيه رجل واحد هو الرئيس عبد الناصر.. أما الوفدان الآخران فقد تكلموا جميعا.. فتكلم السيد ميشيل عفلق عن فلسفة حزب البعث ومفهومه للوحدة والحرية والاشتراكية، وأن أجهزة الدولة في عهد الوحدة كان همها تصفية حزب البعث وإبراز العناصر السورية الأخرى.
ودافع السيد صلاح البيطار عن توقيعه عريضة الانفصال، وسرد أسباب استقالته من الوزارة المركزية .. وأن أسلوب الحكم في الجمهورية العربية المتحدة لم يكن قائما على أساس المشاركة، بل على السيطرة .
قال علي صالح السعدي: إن توقيع صلاح البيطار على عريضة الانفصال يعتبر جريمة لا تغتفر.
وأوضح الفريق لؤي الأتاسي هو ورفاقه الضباط السوريون أن سبب الانفصال كان الحساسيات التي قامت بين الضباط المصريين والسوريين وما يتصل بهذا الموضوع بالنسبة إلى الترقيات والرتب والمعاشات...
وأكد نهاد القاسم نائب رئيس الوزراء، وأعضاء الوفد السوري الآخرون، أن البعث ليس هو سوريا.. وأن هنالك قوى وطنية أخرى في سوريا، لها شأنها ووزنها..(1/279)
وأسهب عبد الكريم زهور في شؤون حزب البعث الداخلية، وتصوره للوحدة .. "وأننا سوف نعتصم بهذه القاعة إلى أن يوقع الرئيس عبد الناصر على الوحدة".
وأوضح أحمد حسن البكر ورفاقه في الوفد العراقي، أنهم لا يريدون أن يضعوا الرئيس عبد الناصر بين المطرقة والسنديان- سوريا- العراق- وأنهم لا يتفقون مع البعث السوري في سلوكه قبل الانفصال وبعده، وأن البعثيين في سوريا قد ندموا على تأييد الانفصال، كما أن صلاح البيطار قد فكر في الانتحار.
لقد سمعت هذا وأكثر من هذا من الإخوان السوريين والعراقيين ولو أني دونته كلمة كلمة، لجاء مجلدا ضخما يستحق أن يوضع في متحف الوحدة، يوم يأذن الله بأن تقوم دولة الوحدة مرة ثانية...
وكانت الإذاعات العربية في القاهرة ودمشق وبغداد، تشحن الجماهير العربية بتفاصيل مباحثات الوحدة، تذيع من أخبارها ما ليس من أخبارها، ثم تتبعها بالتصريحات الصحفية التي تندلع من أفواه الوفود الثلاثة عن الوحدة الثلاثية، وعن مؤسساتها الدستورية وأهدافها، وموعد إعلانها.
وكانت المباحثات تجري في قصر القبة، وقد التقت حول أسواره الأمة العربية بأسرها، وتلاقت في حدائقه اليانعة جراحات الانفصال تتطلع إلى الشفاء .. والوحدة شفاء من كل داء.
وهكذا تعاظمت موجات الآمال، وأصبحت تدق أبواب قصر القبة دقا شديدا، حتى لم يعد أمام الوفود الثلاث إلا أن يضعوا ميثاق الوحدة، وأن يبادروا إلى إقامة دولة الوحدة...(1/280)
وانتهى العتاب بين الرئيس عبد الناصر والبعث السوري، كما انتهى الحوار مع البعث العراقي، وانصرفت لجنة فرعية تمثل الوفود الثلاثة تضع ميثاق الوحدة، كلمة كلمة، ومادة مادة..
وقدمت اللجنة الفرعية الميثاق إلى المؤتمر العام، فناقشته الوفود الثلاثة، وقرأته القراءات الثلاثة.. وأطل اليوم السابع عشر من شهر نيسان 1963...
وعاشت الأمة العربية ذلك اليوم، تنتظر ميلاد الحدث الجسيم العظيم، ساعة ساعة.. وأنشدَّت أسماع الجماهير العربية إلى أجهزة الراديو، الكبيرة والصغيرة، وكان للترانز ستور حظ وافر كبير.. التاجر بثّه فوق بضاعته، والجزّار ركزه قريبا من ذبيحته، والبقال نصبه فوق فاكهته، وراكب الدراجة علقه في عنقه، والطالب شدَّه بين كتبه.. وكذلك الحال في المزارع والبوادي.. الكل ينتظرون مولد الحدث السعيد..
وكذلك كان حالي في ذلك اليوم، رفيقا للراديو، وانتصف الليل والأناشيد الحماسية تنفجر من إذاعات القاهرة ودمشق وبغداد، والمذيع يصيح في آذان الأمة العربية، فترة بعد فترة، أنّ بيانا تاريخيا سيذاع قريبا!! انتظروا البيان التاريخي، استمعوا إلى النبأ التاريخي، يجسد أحلامكم ويحقق آمالكم..
ودقت ساعة جامعة القاهرة الواحدة بعد منتصف الليل، ودقت معها قلوب الملايين من المحيط إلى الخليج..وأعلن المذيع توقيع البيان التاريخي بقيام دولة الوحدة الكبرى بين مصر وسوريا والعراق، دولة الأربعين مليونا.. ذات الجيش الواحد والهدف الواحد...
وتلا المذيع البيان العربي بكامل نصوصه، وسرد أسماء الذين وقعوه ، واحداً واحداً، مبتدئاً بالرئيس جمال عبد الناصر والفريق لؤي الأتاسي(1/281)
والسيد أحمد حسن البكر ثم بقية أسماء الوفود..
وطلع الصباح على ليلة ما نامتها الجماهير العربية، وهزت الفرحة الكبرى قلوب الناس جميعا، فنصبوا أٌقواس النصر، وأقاموا معالم الزينة، ورفعوا العلم العربي على المنازل.. وفي الأسواق والشوارع، وفاضت دموع الفرح حين رأوا النجوم الثلاث تتمايل مع نسمات الربيع، تصطف النجمة إلى جانب الأخرى، وكأنها تتهيأ لاستقبال النجوم الشقيقة، نجوم عربية أخرى، المقبلة من قريب ومن بعيد، من المشرق ومن المغرب..
ذلك كان حالنا وتلك كانت مشاعرنا، يوم أعلن ميثاق الوحدة الثلاثية، وغادر الوفدان السوري والعراقي القاهرة إلى المشرق العربي، لتبدأ الخطوات التنفيذية لقيام الوحدة.
أما حال العدو، بل الأعداء فقد كان غيظا وحنقا، وتهديدا ووعيدا.. وويلاً وثبوراً..
في تلك الفترة امتلأت ملفاتي بقصاصات من الصحافة الغربية، وكلها تصب جام غضبها على الجمهورية العربية المتحدة الجديدة التي تضم أقوى أقطار العرب الثلاثة، مصر وسوريا والعراق.. وكلها تدعو إلى حماية إسرائيل من الخطر الذي يحدق بها... وكلها تدعو إلى المحافظة على مصالح الدول الغربية من هذا العملاق العربي الذي يوشك أن يهوي على المصالح الغربية، ويشعلها نارا ودمارا..
أما إسرائيل، فقد تهيبت المصير قبل أن يحل المصير، فاستنفرت الرأي العام الدولي، ونشط سفراؤها في كل أنحاء العالم، وتحركت القوى الصهيونية في واشنطن ولندن، واقتحمت البيت الأبيض وقصر باكنجهام ، فاستجاب لها أعضاء الكونجرس الأمريكي، ونواب مجلس العموم(1/282)
البريطاني، وجميعهم يطلبون حماية إسرائيل، فإن العرب، الهمج، الوحوش، يوشكون أن ينشبوا مخالبهم، في إسرائيل، ويلقوها في أعماق البحر!!
ولقد كانت هذه المخاوف في محلها، سواء على المصالح الغربية أو على إسرائيل نفسها، وإسرائيل هي في رأس هذه المصالح الغربية.. فإن الجمهورية العربية الجديدة تملك إمكانات ومقدرات ضخمة، بشرية ماية وروحية، فضلا عن أن هذه الدولة التي تقوم من النيل إلى الفرات ستتبعها خطوات وحدوية أخرى، ستقضي في النهاية إلى قيام دولة الوحدة الكبرى من المحيط إلى الخليج.
ولكن الاستعمار، ومعه إسرائيل، لم يكن جاهلا بالأمور التي تجري في الغرف العربية المقفلة.. لقد كان يعرف دخائل النفوس... دون أن تخدعه العناوين الحمراء في صحافتنا، والأصوات الساخنة في إذاعتنا.. ودون أن يرتجف أمام الحماسة المتصاعدة في الآفاق، المتبخره في الهواء!!
لقد رأى الاستعمار ومعه إسرائيل، أن الجمهورية الجديدة ستعتبر قائمة بعد خمسة أشهر من صدور البيان، وأن فترة الانتقال لقيام المؤسسات الاتحادية ستكون عشرين شهراً من ذلك التاريخ ولا بد ان شيئاً ما سيحدث خلال ذلك الزمن.. لا بد أن تستيقظ الأحقاد، لا بد أن تنفتح الجراحات من جديد.. لا بد أن تتحرك البغضاء التي هجعت في قصر القبة، وتصبح الجمهورية الجديدة اسما تاريخيا على هامش التاريخ...
ولقد كان ذلك فعلا.. لقد وقع ما كان الاستعمار يتوقع . فمضت الأيام، ثم جاءت وراءها الأسابيع وفي طياتها أحداث في بغداد ودمشق.. أحداث لم أكن قريبا منها لأدونها في مذكراتي.. نشبت الخلافات الداخلية في سوريا(1/283)
والعراق بين البعثيين والكتل الوطنية الأخرى، وقتل من قتل، وسجن من سجن، وهرب من هرب، وعادت حليمة لعادتها القديمة...
عادت الإذاعات بين القاهرة ودمشق وبغداد يحمل بعضها على بعض وأصبحت فترة الانتقال تكريسا للانفصال...
وجاء شهر تموز، فأعلن الرئيس عبد الناصر أن لا وحدة مع البعث، ولم يكن قد انقضى على مهرجان الوحدة الثلاثية أكثر من ثلاثة أشهر، وعادت الأمة العربية تنطوي على آلامها، حزينة منكسرة، ليعود الاستعمار ومعه إسرائيل، إلى الطمأنينة والسكينة، فقد طاب لها الزمان، وتفرق الخلان، وأن شيئا كان وما كان، "بينهما برزخ لا يبغيان"، وصدق الله العظيم.
وهكذا تحطمت في عام 1963 أكبر محاولة عربية لوحدة ثلاثية، بعد أن تحطمت المحاولة السابقة في عام 1958-1961 للوحدة الثنائية..
ويمضي القدر ليخبئ محاولة أخرى للوحدة، ولو على مقياس أصغر –تلك هي الوحدة المصرية العراقية، على طريق الإعداد والتحضير.
كان ذلك في ربيع عام 1964، حين جاء المشير عبد السلام عارف رئيس الجمهورية العراقية في زيارة إلى القاهرة واجتمع إلى الرئيس عبد الناصر، وجرى الحديث حول وحدة بين العراق ومصر، ولكن الظروف يومئذ لم تكن تأذن بقيام وحدة فورية...
زرت المشير عبد السلام عارف في دار السفارة العراقية، ولم يكن لنا من كلام إلا حديث الوحدة العربية، وبدأ يسرد الأسباب التي تدعو إلى التأني والتروي.. فأشار إلى مشاكل العراق الداخلية، ومنها قضية الأكراد، وتعرض لموضوع الاشتراكية والمصاعب التي تكتنف تطبيقها في العراق، وانتهى(1/284)
إلى القول بأن "في مصر عناصر شيوعية كثيرة على رأسها السيد علي صبري نائب رئيس الجمهورية العربية المتحدة، ونحن لا نستطيع أن نتحمل الشيوعيين في العراق".
قلت للرئيس العراقي، وكانت تغلب عليه النزعة الإسلامية عن صدق وإيمان: لقد عشت في مصر زمنا طويلا، أستطيع أن أدعي أني أعرف رجالها واحدا واحدا، وإني أعتقد أن علي صبري ليس شيوعيا، فقد يكون في يسار اليسار، لا أكثر، وقد يكون أقل..
قال الرئيس العراقي: يا أخ أحمد، لقد ابتلينا بلاء كبيرا من الشيوعيين في العراق، وقد اقترفوا جرائم رهيبة، ونحن في العراق نواجه خطرا من كل جهة.. ثم إن الرئيس عبد الناصر يشترط أن تقوم الوحدة الوطنية أولا، ثم الوحدة العربية ثانيا.. ونحن لم نصل بعد إلى مرحلة الوحدة الوطنية في العراق.
قلت: أنا أخالفك وأخالف الرئيس عبد الناصر.. إن الوحدة العربية هي خير دعامة للوحدة الوطنية.. وحكومة الوحدة العربية أقدر على حل مشكلة الأكراد من الحكومة العراقية. وها أنتم قضيتم السنين الطوال دون أن تقدروا على الوصول إلى حل أو تسوية.. أما وجود الخلافات الداخلية فليست عقبة، إنها حافز إضافي لإقامة دولة الوحدة العربية.. وهذه الدوله الاتحادية في الهند تنهض بمسؤولياتها كاملة على شعب يبلغ تعداده 500 مليون نسمة، متعدد اللغات، والعادات، والحاجات، والديانات وتكفي مشكلة البقر، يذبح أو يعبد!!
ولكن الأمر لم يكن في حاجة إلى إقناع، فقد ولدت الوحدات السابقة عقدة في القاهرة، وكل ما استطاعت أن تبلغه محادثات عبد السلام عارف وجمال عبد الناصر " تشكيل مجلس رياسة بين مصر والعراق لكي يختص(1/285)
بدراسة وتنفيذ الخطوات اللازمة لإقامة الوحدة بين البلدين" والى جانب مجلس الرياسة تألفت لجان مشتركة للشؤون العسكرية والسياسية، والاقتصادية، والفكر الاشتراكي العربي، والثقافة والإعلام، والتنظيم الشعبي مقرها القاهرة، وأسند منصب الأمين العام إلى الدكتور عبد الرزاق محي الدين وزير الوحدة العراقي، وزير بلا وزارة، أو وزير وحدة بلا وحدة!!
... وانعقد مجلس الرياسة في القاهرة عدة مرات، وصدرت عنه بيانات وبيانات، وانعقدت اللجان المشتركة عدة مرات ومرات، وصدرت عنها دراسات ودراسات .. ولكن الوحدة بين مصر والعراق ظلت حبيسة التشهي والتمني .. فقد كان الزمن (1964-1967) زمن مؤتمرات القمة، مؤتمرات الملوك والرؤساء الثلاثة عشر، ولم يكن الجو يأذن باتحاد دولتين أو أكثر .. فذلك مخالف لروح "الضمان العربي" .. أو هكذا يعللون .
... وانقضت حرب الأيام الستة على الأمة العربية، فلم تجد إسرائيل أمامها، ضمانا عربيا، أو وحدة عربية، لا ثنائية ولا ثلاثية .. ووقعت النكسة .. لأننا صنعنا وحدة الهزيمة لا وحدة النصر ..
... وشبت نوازع الوحدة في نفسي، يوم تداعى الملوك والرؤساء إلى مؤتمر الخرطوم ... وذهبت إلى الخرطوم لا أحمل إلا ورقة واحدة ..
... كنت قد زهدت في كل الملفات، وكل الأوراق وطويت كل قرارات مؤتمرات القمة السابقة في القاهرة، والإسكندرية، والدار البيضاء ..
... ودخلت مؤتمر الخرطوم ومعي ورقة واحدة .. كتبت فيها مشروعا للدولة العربية المتحدة .. لأدعو إليها، طريقا للنصر .. مهما طال الطريق.
... وكان مساء .. وكان صباح .. وسأمضي في الكلام .. المباح وغير المباح ..!!(1/286)
الوحدة العربية في الخرطوم
وفلسفة أبو رقيبة
وقعت الداهمة الدهماء، التي سميت بنكسة حزيران، ووقفت الأمة العربية أمامها مشدوهة مذهولة وهي تحسب أن حلما رهيبا مخيفا قد سطا على نومها، فارتعدت فرائصها واضطربت جوانبها، ثم أفاقت من هول الصدمة الماحقة، لترى أنها أمام الحقيقة الراجفة تنبئ عن سقوط سيناء، والجولان والضفة الغربية، بعد أن تبعثرت الجيوش المصرية والسورية والأردنية، مخلفة وراءها الآلاف من الشهداء، وقد تسمرت أبصارهم المنورة على دباباتهم المهشمة، ومصفحاتهم المدمرة، وطائراتهم المحترقة ..
... ولم يدر أحد ماذا جرى، وكيف جرى، وكأنما ريح صرصر عاتية قد لفت الوطن العربي، وانشل إحساس الناس من هول زفيرها وشهيقها، فلم تعد أسماعهم تسمع، وأبصارهم تبصر، وعقولهم تعقل ..
... وليست هذه صورة خيالية مما يدور على ألسنة المجذوبين الذين عاشوا عمرهم، وقد التاثت عقولهم، وضاعت في متاهات الخيال ..
... بل كيف لا تكون الجماهير العربية، في مثل خبال المجذوبين .. ألم تكن مجذوبة إلى تلك المعركة بكل جوارحها وأحاسيسها، بكل تفكيرها(1/287)
وضميرها .. ألم تكن أسماعها منجذبة إلى صيحات الحرب، تلعلع بها الإذاعات العربية، ألم تكن آذانهم منجذبة إلى الملوك والرؤساء وهم يمنون الأمة العربية بالنصر، وأن النصر أيام معدودات، وبعدها ستكون إسرائيل خبرا عابرا من أخبار التاريخ العابر، وكان طبيعيا أن نصبح أمة "مجذوبة" !
... وكان أن هدأت الريح الصرصر العاتية، وبدأ الناس يبصرون ويشعرون ويعقلون، وراحوا يتساءلون .. كيف جرى كل ما جرى..
بدأت العقول تفكر، والألسنة تتساءل.. وبدأت الإذاعة والصحافة تتكلم، كمثل ميت بعث من قبره، والتراب يملأ عينيه وشفتيه، فتختلط إشاراته بكلماته، هو لا يدري ما يقول...
كنت في تلك الأيام بين الأردن وسوريا، ولبنان، وعشت مع الشعب في معاناته وبلوائه، في الشوارع والميادين، في أننا المخيمات والمساجد، في الفنادق والخنادق.. ورأيت الناس سكارى وما هم بسكارى.. وحسبت أنا في يوم الحشر يوم "تذهل كل مرضعة عما أرضعت.." يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه...
كان ذلك اليوم بالتحديد، هو اليوم الذي قبلت فيه الدول العربية قرار وقف إطلاق النار ولقد سمعت الجماهير العربية بخبره من الإذاعات الأجنبية، على حين كانت الإذاعات العربية تتحدث عن المعارك الضارية في جميع الجبهات، ثم تتبع ذلك بالأناشيد العسكرية، تردد شعارات النصر!!
وفرضت الرقابة على الصحافة والإذاعة، "لمصلحة الأمن العليا" وبدأت أقرأ العناوين مشطورة، ، والأخبار مقطعة، دون أن يكون لذلك علاقة "بمصلحة الأمن العليا" فقد كان التوجيه الرسمي العربي مركزا على تضليل(1/288)
الرأي العربي، ولا أقول أكثر من ذلك ولا أقل، فإني لم أجد تعبيرا أكثر رأفة ورحمة..
وكان التجهيل هو هدف التضليل، فقد رأى الحكم العربي الرسمي أن يعطي للأمة العربية أسباب الهزيمة، الأسباب التي يريد هو أن يعطيها، لا الأسباب الأصلية الحقيقية.
كان يريد أن "يجرع" الرأي العام العربي بالأسباب الفرعية، بعيدا عن السبب الجذري للكارثة..
هكذا دخلت في مرحة من الذهول جديدة، وأنا أقرأ الصحافة العربية وأسمع الإذاعة العربية.. حملة من التضليل والتجهيل .. إلا بعض الأقلام والنزيهة والألسنة الحرة.. وتركزت هذه الحملة أول ما تركزت على "أولئك" الذين كانوا ينادون بالحرب ضد إسرائيل.. وأن العالم المتحضر في زماننا لم يعد يستسيغ الحديث عن الحرب.. وأن القضية الفلسطينية لم تعد تصلح لها هذه اللغة... ولا بد أن تخاطب العالم بلغة أخرى!!
ثم تناولت الحملة موضوع تحرير فلسطين.. فغمزت ولمزت "أولئك" الذين يدعون إلى تحرير فلسطين، وما أبعدهم عن الواقعية والموضوعية في هذا العالم الجديد الذي تغمره المفاهيم الواقعية ويدرك مقتضيات الحياة الدولية، وأن تحرير فلسطين مسألة عاطفية، متصلة بالماضي، وأن على الأجيال الصاعدة، أن تفكر تفكيرا علميا على هدى الحاضر والمستقبل!!
وسألت نفسي وأنا أسمع الإذاعات العربية: من هم "أولئك" الذين تعنيهم المصادر الرسمية؟ ألم يكن الملوك والرؤساء الثلاثة عشر، جميعا ومن غير استثناء هم الذين قضوا عمرهم وهم يخطبون عن تحرير فلسطين، وأن الحرب هي الطريقة لتحرير فلسطين...(1/289)
وأسهبت الحملة بعد ذلك، في قيمة العمل السياسي والدبلوماسي، بالنسبة لإزالة آثار العدوان، وأن العالم الدولي لا يمكن أن يرضى باحتلال الأراضي العربية، وأن جلاء القوات الإسرائيلية منوط بأمر واحد، سهل وبسيط، إذا نحن أحسنا السير فيه، وهو أن نجنح للدعوة إلى السلام، والى حل يقوم على السلام.. وأننا حين نعلن إقلاعنا عن تحرير فلسطين وتدمير إسرائيل، ستعود إسرائيل إلى خطوط الهدنة.. وما هي إلا بضعة أسابيع وتزول آثار العدوان، وبضعة أشهر على أكثر تقدير!!
وقد رافقت هذه الحملة .. حملة كلامية أخرى، تولى أمرها "رجال" الإشاعات العربية الموجهة، الذين انبثوا في المقاهي والنوادي والمساجد، ليهمسوا في أذن المواطنين أن وقف إطلاق النار، هو لبضعة أيام، انتظارا للطائرات والدبابات.. وحين مضت الأيام قالوا إنها بضعة أسابيع، وحين مضت الأسابيع قالوا انها بضعة أشهر وحين مضت الأشهر توقفوا عن الوعود، فقد ألف الناس وقف إطلاق النار، وهكذا حصل المقصود، وبطل الوعد والموعود!!
وكانت هذه الحملة في مجموعها ناشبة تحت شعار النقد الذاتي، ولكنه نقد ذاتي يتناول جميع طبقات الشعب، إلا الحكم العربي الرسمي، فهو معصوم، والملوم الملوم، هم الآخرون.. أما الملوك والرؤساء فإنهم لم يتحدثوا عن تحرير فلسطين، ولا عن تدمير إسرائيل، ولا شأن لهم في الحرب والقتال!!
ولم تخل هذه الحملة من طرائف، وكثيراً ما تعيش الطرائف على هامش النكبات.. من ذلك أن الملك حسين ألف كتابا اسمه "معركتنا مع"إسرائيل" أعلن فيه أن "الشقيري وخطب الشقيري" هي من أهم الأسباب(1/290)
في نكبة العرب.. وقلت للسفير الأردني في بيروت: أرجو أن يتفضل جلالة الملك الحسين، ويجعل عنوان كتابه " معركتنا مع الشقيري، لا معركتنا مع إسرائيل".
ومن هذه الطرائف أيضا أن رئيس وزرائه السيد سعد جمعه ألف كتبا عنوانه "معركة المصير" نحى فيه منحى جلالة الملك حسين، فاعتبر أن "خطب الشقيري" هي في طليعة أسباب الكارثة.. وقلت لسفير الأردن في بيروت مرة ثانية، هذا هو كلام إسرائيل، وإني أعيذ بعربي أن يكون "صوت إسرائيل"، فمنذ أن توليت إنشاء الكيان الفلسطيني، وإذاعة إسرائيل لا حديث لها إلا عن منظمة الشقيري، وجيش الشقيري، وأخيرا خطب الشقيري التي كانت السبب في هزيمة العرب!!
ولكن طريفة الطرائف، أن بعض الأقلام الساذجة قد أشارت إلى الأكذوبة الكبرى، أن الشقيري أعلن "أنه لا يريد أن يلقي اليهود بالبحر"، وأن العالم الدولي قد هب لنجدة إسرائيل، وأن خطاب الشقيري قد جمع لإسرائيل ملايين وملايين من الدولارات!! (1)
وحين مج الرأي العام العربي هذه الحملة الضحلة، ارتفع المستوى قليلا، وبدأ الحكم العربي يتحدث عن أسباب أخرى لقيت بعض الآذان، بعض الوقت!!
ومن هذه الأسباب أن اليهود غادرون ماكرون مخادعون فاجأوا العرب، فجاء هذا الكلام تسلية للناس في المقاهي.. لأن العامة، فضلا عن
__________
(1) * حرب حزيران وموضوع إلقاء اليهود بالبحر يجده القارئ، مفصلا في كتاب آخر، تحت الاعداد...(1/291)
المثقفين، يعرفون أن الحرب، منذ كانت الحرب، هي خدعة.. والنصر لمن خدع وغدر، وفاجأ ومكر..
ولما استنفدت أضحوكة المفاجأة حديثها، قدمت الحملة الإعلامية العربية أضحوكة أخرى، خلاصتها أن حرب الأيام الستة كانت حرب التكنولوجيا، وأن تخلف العرب في هذا المضمار، وتفوق إسرائيل هو الذي كان سبب الهزيمة.. ولكن الجماهير العربية سرعان ما نبذت بفطرتها السليمة هذه الحجة الساذجة، التي أغرقت الصحف في تحليلها وشرحها، في وقت كانت تنشر فيه أخبار انتصارات الفيتكونغ على الولاياتالمتحدة، وهي التي تملك التفوق الفائق في ميدان التكنولوجيا، وسائر المخترعات الحديثة، في آلة الحرب الحديثة!!
وجاءت بعد ذلك أضحوكة ثالثة، وهي أن الأمة العربية لا تزال متخلفة في حياتها الاجتماعية، وأن الأوضاع الحضارية في دولة إسرائيل كانت العامل الرئيس في انتصارها في معركة الأيام الستة... ومرة ثانية هزئت الجماهير العربية بهذا الكلام،و هي تعلم أن الشعب الجزائري هو في مستوى الأمة العربية، وقد انتصر على فرنسا رغما عن تقدمها الحضاري الرفيع، وأن إسرائيل، ونصف سكانها من الدول الشرقية، عربية وآسيوية وإفريقية، ليست في المستوى الذي يتوهمون، أو يكذبون!!
وكانا الحكم العربي الرسمي، يمد الحملات الإذاعية والصحافية بأمثال هذه الحجج والأسانيد، ليحجب عن الأمة العربية العامل الأساسي الذي كان وراء النصر الإسرائيلي والهزيمة العربية.. ذلك العامل الأساسي هو الوحدة العربية.. انعدام الوحدة العربية....(1/292)
أجل إن انعدام الوحدة العربية كان هو العامل الفاصل الحاسم، في المعركة وكل ما عداه فهي أسباب فرعية ثانوية، لا تنصر ولا تكسر...
"والوحدة" وحدها، هي التي تنصر وهي التي تكسر، فقد انتصرت إسرائيل لأنها كانت تمثل الوحدة، وقد انهزمت الأمة العربي لأنها لم تكن تمثل الوحدة من قريب أو بعيد، بل كانت تمثل الفرقة في أبشع صورها..
ولست أريد أن أتحدث الآن بالتفصيل عن الظروف التي كانت تسود الأمة العربية عشية العدوان الإسرائيلي، فسيكون ذلك في كتاب آخر (1) ولكني أكتفي بالقول الآن، بأن إسرائيل قد انفردت بالجيوش العربية الثلاثة، المصرية والأردنية والسورية.. واحداً بعد الآخر، على حين كان الفريق علي علي عامر، الرجل الصابر، يتابع أنباء المعركة في غرفته في القيادة العربية الموحدة في مصر الجديدة، عن طريق جهاز الراديو، كأي مواطن عربي عادي، لا يدري من أمر هذه الحرب إلا ما يدريه رعاة الإبل في الربع الخالي!!
وفي هذا الجو المسموم المحموم، وفي أعقاب النكسة، وما أرحم
هذا الفظ.. تنادى وزراء الخارجية العرب إلى اجتماع "هام" في الكويت "للبحث في الموقف الراهن وللاتفاق على خطة عربية شاملة لإزالة آثار العدوان".
كان ذلك في أواسط حزيران، وكان الاتحاد السوفيتي قد دعا الأمم المتحدة إلى دورة طارئة، وتوافد وزراء الخارجية العرب على الكويت، بعد أن توغلت طائراتهم، بعيدا عن شرقي البحر الأبيض، تفاديا من التعرض
__________
(1) * للمؤلف كتاب آخر في هذا الموضوع تحت الإعداد.(1/293)
للطائرات الإسرائيلية، التي أصبحت لها السيطرة على أجوائها، وعلى الأجواء العربية من حولها..
واتصلت وزارة الخارجية الكويتية بمكاتب منظمة التحرير في عواصم الدول العربية لتبلغني نبأ الاجتماع وموعده، فقد انقطعت أخباري في حرب الأيام الستة، وأنا ألهث بين القدس وعمان ودمشق، وكل ما عرفه الناس من أمري يومذاك، أن الإذاعة الإسرائيلية قد أعلنت أن "أحمد الشقيري رئيس ما يسمى بمنظمة التحرير الفلسطينية قد هرب من القدس القديمة في ثياب امرأة محجبة، وقوات الأمن الإسرائيلي تبحث عنه في أحياء القدس الجديدة". إلى غير ذلك من الأراجيف الإسرائيلية...
وأخيرا عثرت علي وزارة الخارجية الكويتية حين عثرت على نفسي , وكنت في طريقي من دمشق إلى بيروت إلى أثينا إلى بنغازي إلى القاهرة , وكانت هذه هي الطريقة الوحيدة , المفتوحة أمامي للوصول إلى بيتي في حي الزمالك في القاهرة ..
ووصلت إلى الكويت مع وزراء الخارجية العرب، في ذلك الجو اللاهب وفد زادته الهزيمة ثقلا ورهقا، وجرت مراسيم الاستقبال حسب المعتاد في المطار وسألت نفسي، هل نستحق الاستقبال بعد الهزيمة.؟ أوليس أجدر بنا أن تغوص جباهنا في شوارع الكويت وهي تغلي بالزفت، وتفور بالقطران..
ودخلت قاعة الاجتماع وجلسنا حول الطاولة المستديرة، في أول جلسة عربية بعد الهزيمة، وافتتح الشيخ صباح الأحمد وزير الخارجية الاجتماع بكلمة قصيرة لم تتعد عبارة الترحيب، والدعاء إلى الله العلي القدير بأن يعين الأمة العربية على إزالة آثار العدوان..(1/294)
وتحدث الوزراء ، كل بما يراه سبيلا للخروج من هذه المحنة، وكان الحديث منصبا على ما يمكن أن تأتي به الدورة الطارئة للأمم المتحدة من ضغط دولي لحمل إسرائيل على الانسحاب من الأراضي المحتلة
وانبرى السيد المنجي سليم ممثل تونس في شرح الخطة "الحكيمة" التي يجب على الدبلوماسية العربية انتهاجها في مداولات المنظمة الدولية، بديلا عن الغوغائية العربية التي اتبعها العرب حتى الآن!!
تحدث ممثل تونس هذا الحديث بإسهاب وهو يوجه كلامه مرة إلى محمود رياض وزير الخارجية العربية المتحدة، ومرة إلى الدكتور إبراهيم ماخوس وزير الخارجية السورية، وأخير إلى "الشقيري" رئيس منظمة التحرير....
وجاء دوري، فقلت إن الأمم المتحدة لن تعيد للأمة العربية شبرا واحد من الأراضي المحتلة، وسواء كانت الخطة "الحكيمة" أو "غوغائية" فإن المنظمة العالمية لا تملك أن تخرج إسرائيل من الأراضي المحتلة أو أن تزحزحها قيد أنملة، وأنه أجدر بوزراء الخارجية بدلا من أن يهدروا جهودهم ووقتهم في هذه الندوة العالمية، أن يعملوا هنا في الوطن العربي، على "إقامة وحدة عربية تكون الوحدة العسكرية أول إنجازاتها، وإني اقترح أن تبدأ الوحدة العسكرية بين الدول المحيطة بإسرائيل و....و...."
وهنا، وعند كلماتي هذه، انبرى المنجى سليم يتحدث بصوت غاضب صاخب، لم أعرفه في السنوات العشر التي عرفته فيها، وهو يقول "أما كفانا حديثا عن الحرب... ألم نتعظ بهذه الهزيمة الشنيعة التي حلت بنا.. أما آن الأوان أن نكون عقلاء، موضوعيين، إيجابيين، واقعيين، نحن لا يمكننا أن نوافق على كلام الشقيري، ونحن ما جئنا لنبحث هذه الأمور.. يجب أن نبادر(1/295)
إلى وضع خطتنا أمام الأمم المتحدة التي ستنعقد في الأسبوع المقبل.. وإلا فنحن ننسحب من الاجتماع.."
وقلت في معرض جوابي على مندوب تونس "إن القلوب مملوءة بالحزن والأسى لما حل بالأمة العربية، وبالشعب الفلسطيني.. لقد وقعت فلسطين كلها تحت الاحتلال الإسرائيلي من البحر إلى النهر، وأصبح شعبنا كله بين سجين وشريد وشهيد.. ولقد حسبت أن هذه النكبة ستغسل قلوب العرب، جميع العرب.. ولكني أرى أن مندوب تونس ما يزال قلبه .."
ونهض وزير الخارجية الكويتية ليناشدني التوقف عن الكلام من أجل وحدة الصف العربي.
فقلت: ومن أجل هذا الذي تتحدث عنه، "وحدة الصف العربي" فإني أقترح أن يبادر الاجتماع إلى إقامة قيادة عسكرية واحدة... فإذا أخذتم بهذا الرأي فلن أرد على مندوب تونس...
وتبعني في الكلام رئيس وزراء السودان محمد أحمد محجوب، فقدم اقتراحا رسميا بإنشاء وحدة عسكرية بين الدول العربية، وتلاه الدكتور إبراهيم ماخوس الوزير السوري مؤيدا الاقتراح، وكلا الوزيرين يعلنان أن "اقتراح الشقيري بإقامة وحدة عسكرية ليس فيه تجريح لأحد، وأنه هو الجواب الوحيد على العدوان الإسرائيلي..".
وحسب العادة... في الدبلوماسية العربية، عند كل أزمة، اقترح تأجيل الجلسة للاستراحة.. فحرجنا إلى الصالة المجاورة، والصحافيون العرب، المتلهفون على أخبار الخير، يحاولون أن يقرأوا في وجوهنا مستوضحين: هل من خبر نعلنه إلى الأمة العربية، يواسي كرامتها الجريحة وعزتها الكسيرة..(1/296)
وبعد الهمسات الثنائية والثلاثية بين الوفود العربية، عدنا إلى إقامة الاجتماع مرة ثانية، ليعلن رئيس الجلسة، أنه استنادا إلى المداولات الأخوية بين الوزراء، تقرر إرجاء بحث موضوع الوحدة العسكرية، لأن هذا الأمر من الخطورة بحيث يجب عرضه على مؤتمر قمة عربي، على ضوء النتائج التي ستسفر عنها اجتماعات الأمم المتحدة..
وسكت الحاضرون.. وانصرف الكلام إلى الأمم المتحدة وما يجب أن يقال.. وكيف يقال ومتى يقال.. وجاء دور صياغة القرار مع إطلالة الفجر.... وتساءل الوزراء ماذا يكتبون.. ماذا يعلنون على الأمة العربية وجماهيرها، وقد حشدت كل جوارحها حول تلك القاعة، واقفة وراء الأبواب، متلهفة أن تعلم ما لم تعلم.
وقال الوزراء: نكتب في القرار " أن الوزراء العرب قرروا بعد دراسة الوضع الراهن من كل جوانبه أن يسافروا إلى نيويورك لحضور دورة الأمم المتحدة..."
وقال المحجوب وماخوس: وهل السفر إلى نيويورك يحتاج إلى قرار...
وقلت : وهل جئتم إلى الكويت لتقرروا أنكم قررتم السفر إلى نيويورك، لحضور الدورة الطارئة للأمم المتحدة.. ليس الأمر في حاجة إلى قرار، وملابسكم أصبحت جاهزة في حقائبكم استعدادا للسفر إلى الأمم المتحدة..
وعاد رئيس الجلسة الشيخ صباح الأحمد "يكندش" جو الجلسة (1) وهو، يناشد الحاضرين عدم الاسترسال في الكلام، حفاظا على وحدة الصف،
__________
(1) * يكندش هو اللفظ الكويتي، تحريفا عن الأصل الإنجليزي لتبريد الجو.(1/297)
والاكتفاء بالقرار.. إياه.. وسكت الحاضرون، فإن "وحدة الصف" تقضي دائما بالسكوت"
وختمت الجلسة، وأعلن السيد عبد الخالق حسونة على الصحافيين صيغة القرار، فكتبوا، ثم شطبوا ما كتبوا، فقد كان ظنهم أن بعد القرار كلاما آخر.. وتسللت إلى أفئدة العرب مشاعر الخيبة، لترقد إلى جوار مشاعر النكسة.
وتراكض الوزراء إلى فنادقهم يحملون حقائبهم، لتقلهم طائرة واحدة، عبر الأجواء التركية، بعيداً عن سلاح الجو الإسرائيلي ليصلوا في الموعد المحدد إلى نيويورك، ويخطبوا في قاعة الأمم المتحدة، عن الغزو الإسرائيلي .. والعدوان الإسرائيلي.. وأن إسرائيل ليس لها أن تجني ثمار غدرها وعدوانها، وغيرها من العبارات التي يتوسل بها المنهزمون المنكسرون..
وخرجت من قاعة الاجتماع متثاقلا متباطئا، والوزراء من أمامي يهرولون.. وقال لي وزير الخارجية الكويتية: ألا تسافر معنا إلى نيويورك؟؟
قلت: أنا عازف عن الأمم المتحدة.. لقد جربتها السنين الطوال، ولا أرى فيها خيرا.. ولقد شبعت منها، وليذهب إليها الجائعون..
قال :وهل أنت يائس إلى هذا الحد.
قالت: ستحضرون الدورة الطارئة، وستحضرون بعدها الدورة العادية وستمر عليكم أربعة أشهر بكاملها، لن تستعيدوا خلالها أربعة أشبار من الأرض العربية.. وليس في الأمم المتحدة مكان للمنهزمين.. وسيذهب وقتكم هباء، ويضيع جهدكم في الهواء.
قال: ولكن ما هو البديل؟(1/298)
قلت: البديل أن تعودوا للاجتماع وتضعوا أسس الوحدة العربية، وتكون بدايتها الوحدة العسكرية.. واذهبوا بعد ذلك إلى الأمم المتحدة،
ولكن كلامي ذهب أدراج الرياح. كما ذهبت الخطب المزمجرة الهادرة التي "ارتجت" لها قاعات الأمم المتحدة، في الأمم المتحدة وقد ألقاها كل أصدقاء العرب من كوسيجين رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي إلى مندوب الدول الحادية والعشرين بعد الماية، من أعضاء الأمم المتحدة.. وكان هذا هو عددهم في ذلك العام..
وانتهت الدورة الطارئة إلى فشل ذريع، وعادت الوفود العربية على عجل، وقد اتفقت فيما بينها أن توصي بعقد مؤتمر قمة عربي. توضع فيه خطة " أساسية عليا" لمواجهة الدورة العادية التي ستعقد في خريف ذلك العام (أيلول 1967)، وكان مؤتمر الخرطوم.
ولست أقف طويلا عند مؤتمر القمة العربي في مؤتمر الخرطوم، وما سبقه، وما رافقه، وما لحقه من أسرار، فذلك كله موضوع كتاب آخر مع مؤتمرات القمة السابقة (1) فإن مذكراتي هذه قاصرة على سيرة الوحدة العربية.
ومكثت أياما وأنا أسأل، ماذا سأقترح في مؤتمر الخرطوم...
إن النكبة لها سبب واحد.. السبب أننا ثلاث عشرة دولة عربية.. ثلاثة عشر جيشا عربيا.. وقلت في نفسي، إذا كان السبب كذلك، وإنه لكذلك، أصبح لا بد من تقديم مشروع للوحدة العربية.. للدولة العربية المتحدة... ووضعت المشروع على الوجه التالي لأعرضه على الملوك والرؤساء..
مشروع الدول الاتحادية
__________
(1) *
كتاب المؤلف الذي يتناول هذا الموضع تحت الأعداء.(1/299)
(المبادئ الأساسية)
إن قيام دولة اتحادية يتطلب وضع وثيقة دستورية، تحدد بصورة تفصيلية طبيعية الاتحاد واختصاصات الدولة الاتحادية ومؤسساتها المختلفة، وعلاقة الدولة الاتحادية بالأقطار التي يتألف منها الاتحاد.. ولكن هذه المرحلة يجب أن يسبقها اتفاق من حيث المبدأ على الأسس العامة لمشروع الاتحاد، وتلخص هذه المذكرة المبادئ الأساسية للدولة العربية المقترحة فيما يلي:
1- تنشأ دولة اتحادية تعرف باسم الدولة العربية المتحدة، وتتألف من الأقطار العربية الآتية:- (. . . . . . .).
1. الدولة العربية المتحدة هي وحدها التي تملك السيادة الدولية الكاملة.
2. لكل دولة عربية مستقلة تؤمن بالمصير الواحد للأمة العربية وبضرورة المبادرة الفورية لتحقيق الوحدة العربية، أن تنضم إلى الدولة العربية المتحدة، ويكون قبولها بقرار يصدر بأكثرية الثلثين من مجلس الأمة العربية المتحدة، المنعقد بهيئته الكاملة.
3. ليس لأي قطر من الأقطار، التي تتألف منها الدولة العربية المتحدة، أن تنسحب من الدولة العربية المتحدة، إلا بعد القيام باستفتاء عام حر للمواطنين في ذلك القطر.
4. يتمتع بالجنسية العربية للدولة العربية المتحدة جميع المواطنين الذين يتمتعون بجنسيات الأقطار التي تتألف منها الدولة العربية المتحدة.
5. تباشر الدولة العربية المتحدة الاختصاصات الآتية:-
I)(1/300)
السياسة الخارجية، ويدخل في ذلك التمثيل الخارجي، وشؤون الأمم المتحدة، والمنظمات الدولية، والمعاهدات مع الدول الأجنبية.
ب) الدفاع والأمن القومي، ويشمل ذلك إنشاء قيادة عسكرية واحدة لجميع القوات المسلحة، وشؤون التعبئة العامة، وكذلك الأمور المتعلقة بالصناعات الحربية.
V) البحث العلمي وأمور الطاقة النووية.
VIII) المالية والخزانة، وتتضمن الضرائب الاتحادية، ميزانية الاتحاد، والقوانين الجمركية.
ه) الاقتصاد والتخطيط الاقتصادي والتنمية.
XXVII) التعليم بكل مراحله، والثقافة العامة.
ز) الإعلام والإرشاد القومي.
ح) العدل وتنسيق القوانين.
ط) المواصلات الاتحادية.
7 . ينشأ في الدولة العربية المتحدة مجلس أمة يكون هو صاحب السلطة العليا في الدولة.
8 . يتألف مجلس الأمة من هيئتين:-
أ ) مجلس النواب، وينتخب انتخابا حرا مباشرا، على أساس نسبة عدد السكان في كل قطر.
II) مجلس الاتحاد وينتخب انتخابا حرا مباشرا ويتكون من عدد متساو من الأعضاء في كل قطر، ويكون عددهم نصف عدد أعضاء مجلس النواب.(1/301)
8 . رئيس الدولة: للدولة العربية المتحدة رئيس ينتخبه مجلس الأمة، وهو يمثل سلطة الدولة، ويكون القائد الأعلى للقوات المسلحة.
10 . يكون رؤساء الأقطار التي تتألف منها الدولة العربية المتحدة نواب رئيس الدولة، يعانونه في النهوض بمسؤولياته.
11 . يكون للدولة العربية المتحدة مجلس وزراء مسئول أمام مجلس الأمة، ويتولى رئيس الوزراء والوزراء مناصبهم ما داموا محل ثقة رئيس الدولة.
12 . يباشر مجلس الوزراء للدولة العربية المتحدة جميع الاختصاصات الواردة التي تمارسها الدولة الاتحادية.
13 . مجلس الأمة هو الذي يضع دستور الاتحاد، ويمارس السلطة التشريعية، ويصدر رئيس الدولة القوانين بعد إقرارها من قبل مجلس الأمة.
14 . تنشأ في الدولة العربية المتحدة محكمة اتحادية عليا، يحدد اختصاصها وتشكيلها بموجب أحكام القانون.
15 . يكون لكل قطر من الأقطار التي تتألف منها الدولة العربية المتحدة حكومة قطرية، ويوضع لها دستور خاص بها، لا يتعارض مع الدستور الاتحادي.
16 . ينحصر اختصاص الحكومة القطرية في شؤون القطر، ولا تمارس الاختصاصات التي تملكها الدول العربية المتحدة.
17 . رئيس القطر، هو صاحب السلطة العليا في ذلك القطر حسب الأوضاع القائمة.
18 . يكون في كل قطر من الأقطار التي تتألف منها الدولة العربية المتحدة مجلس للوزراء يعينه رئيس القطر، ومجلس الوزراء مسؤول أمام المجلس التشريعي لذلك القطر.(1/302)
19 . يكون لكل قطر من الأقطار التي تتألف منها الدولة العربية المتحدة مجلس تشريعي منتخب انتخاباً مباشرا.
20 . القضاء في كل قطر، ينظم وفق أحكام الدستور لذلك القطر.
21 . (مادة انتقالية) إلى أن يتم وضع النصوص الدستورية، والى أن يتم قيام المؤسسات الدستورية للدولة العربية المتحدة، تبادر فورا الدول العربية الراغبة في الاتحاد إلى إنشاء مجلس رئاسة مكون من رؤساء هذه الدول لتصريف أمور الدولة العربية المتحدة في المرحلة الانتقالية.
22 . (مادة انتقالية) تبادر الدولة العربية المتحدة، كواجب أولي عاجل، إلى توحيد الجيوش العربية التابعة للاتحاد وتحت قيادة واحدة.
وحملت هذا المشروع بين أوراقي في محفظتي.. إلى السودان.. وحطت بي الطائرة في مطار الخرطوم، واندفعت بي السيارة في ذلك الطريق الفاتن يسير في موازاة النيل، وعلى الميسرة في الطرف الآخر من الطريق رفعت السواري تحمل الأعلام الثلاثة عشر وكأنها تحدق في محفظتي لتقول لمشروع الوحدة العربية.. نحن هنا.. نحن هنا ثلاثة عشر.. من شاء آمن، ومن شاء كفر!!
ووزعت مشروع الدولة العربية المتحدة على الملوك والرؤساء في أول اجتماع لمؤتمر القمة، ولم يكن من مجال لبحثه، فقد مضى اليوم الأول بأكمله والرئيس عبد الناصر يعرض على المؤتمر ظروف النكسة، والخسائر الجسيمة التي حلت بالجيش المصري في ضباطه وجنوده، وسلاحه وعتاده، وكانت الصورة رهيبة حقا، فلم يعقب أحد.. وانتهى الاجتماع..
وفي اليوم الثاني افتتح الرئيس العراقي عبد الرحمن عارف الاجتماع بالكلام عن الوحدة العسكرية وضرورة قيامها لإزالة آثار العدوان..(1/303)
وأخرج من ملفه قائمة طويلة، تبين في تقديره، ما تستطيع أن تقدمه كل دولة عربي، من قوات عسكرية وأسلحة مختلفة، من المشرق العربي والمغرب العربية، دولة دولة، لتحشد في الجبهات العربية، للتصدي لإسرائيل، وإزالة آثار العدوان.
ولكن هذا الحديث قد ابتدأ وانتهى، وكأنه ما ابتدأ ولا انتهى، فقد انتقل المؤتمر إلى بحث شؤون البترول، فقرر استئناف ضخه، وموضوع الأرصدة الإسترلينية في البنوك البريطانية فقرر إبقاءها مودعة حيث كانت، وموضوع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع الدول التي "أيدت" العدوان، فأباح لكل دولة عربية أن تحتفظ بهذه العلاقات كما تشاء..
أما الوحدة العربية، فقد بقيت ولدا يتيما، أو طفلا لقيطا، لا يتعرف عليه أحد..
وحاولت أن أثير الموضوع، فالتفت إلي السيد إسماعيل الأزهري رئيس مجلس السيادة السوداني بوصفه رئيس الجلسة، وقال:-
- يا أخ أحمد.. كلنا موافقون على الوحدة العربية، ولكننا الآن مشغولون بإزالة آثار العدوان، وحين ننتهي من هذه المرحلة قريبا، فلا بد أن نناقش اقتراحك بصورة مفصلة..
قلت: وهل يظن السيد الرئيس أن الدول العربية قادرة على إزالة آثار العدوان من غير وحدة عسكرية..
قال: إن الاتجاه في الظروف الحاضرة منصرف إلى الجهود السياسية الايجابية للموضوع إلى تسوية سلمية، نأمل من ورائها أن نزيل آثار العدوان..(1/304)
قلت: لست أرى تعارضا بين هذا الاتجاه-وبين إقامة وحدة عسكرية-فإذا لم تفلح الجهود السياسية، تكون القيادة العسكرية الموحدة قد درست وخططت، وجاهزة للعمل إذا بلغنا ساعة اليأس من الطريق السياسي، ويصبح بعدها ميسورا علينا تحديد ساعة الصفر.
ومد الوزير التونسي المنجي سليم رأسه من وراء رئيس الوفد التونسي السيد الباهي الأدغم، وقال : نحن لسنا في حاجة للإقناع بشأن الوحدة العربية.. ولكن الظروف تفرض علينا أن نركز تفكيرنا على الجهود السياسية، وما يجب أن نعمله في الأمم المتحدة، وهي توشك أن تنعقد.
قلت: إني سعيد أن أعلم أن الوزير التونسي مؤمن بالوحدة العربية
قال: ليس هذا موقفي الشخصي، إنه موقف الشعب التونسي ، وموقف فخامة الرئيس بو رقيبه بالذات.
قلت: لا أشك في موقف الشعب التونسي.. ولكن فخامة الرئيس بو رقيبه هو رأي آخر.
قال: وما هو ؟
ومددت يدي إلى حقيبتي، فأخرجت منها الرسالة الشهيرة التي كان قد بعث بها الرئيس التونسي إلى مؤتمر القمة العربي الثالث الذي انعقد في الدار البيضاء في أيلول 1965.. وقلت:
لقد بعث الرئيس بو رقيبه رسالة إلى الأمانة العامة لجامعة الدولة الدول العربية، راجيا عرضها على مؤتمر القمة العربي، وحينما عرض الأمر على وزراء خارجية الدول العربية للنظر في جدول أعمال المؤتمر قرروا بالإجماع "عدم إبلاغ رسالة الرئيس بو رقيبه إلى الملوك والرؤساء، وعد إثباتها كوثيقة رسمية ضمن وثائق الجامعة، وعدم توزيعها على الوفود(1/305)
المشاركة في المؤتمر".. كان ذلك هو الموقف في مؤتمر القمة في الدار البيضاء، ولكني أبيح لنفسي، وبعد النكبة ، وفي مؤتمر الخرطوم هذا أن أقرأ عليكم بعض آراء الرئيس بو رقيبه بشأن الوحدة العربية.
-لقد قال فخامة الرئيس بو رقيبه في الصفحة 33 من رسالته إن "الوحدة العربية لم تكن إلا في فترات قليلة، ولا نجد أنها عمرت رغم ما توخاه، المسلحون مع البلاد التي فتحوها من سياسة العدل والمساواة والإخاء، لذلك ينبغي أن نخلص مفهوم الوحدة من سيطرة العاطفة".. وأعلن الرئيس بو رقيبه في الصفحة 34 من رسالته أن "أول شيء ينبغي أن نقوم به هو أن نغير تصورنا للوحدة على أنها واجب، يكاد يصبح من فرائض الدين أو التاريخ.. ينبغي أن نطهر مفهوم الوحدة من هذه المسحة القدسية التي كثيرا ما نضفيها عليها، والتي تجعلنا نخون من يناقش فيها، ونرميه بالمروق أو الخروج عن الإجماع، إلى غير ذلك من العبارات والصيغ المقتبسة من لغة الملل والنحل.. وكثيرا ما خطر على بعض الأذهان أن هنالك اتجاهات تاريخية محتومة، وأن الوحدة العربية هي إحدى هذه التيارات التاريخية التي لا مرد لها.. وهي حتم من أحتام القدر والتاريخ".. وفي الصفحة 35 يقول الرئيس التونسي "ولذلك ينبغي أن نتساءل: لماذا الوحدة؟ وهل الوحدة غاية في حد ذاتها أم هي وسيلة إلى هدف يتعداها؟ إذا اعتبرنا الوحدة غاية في حد ذاتها أصبحت من الحقائق التوفيقية التي يجب التسليم بها، وشابهت بذلك المعتقدات الدينية التي لا تقبل النقاش، ووقعنا فيما كنا ننبه إليه من الطقوس والمعميات ذات الصبغة الدينية، ولا أعتقد أن عربيا يعمل فكره في الموضوع، يقبل هذا التصور"؟(1/306)
ومضيت أقرأ بقية آراء الرئيس بو رقيبه من مذكرته، وأنا أتجنب إشارته إلى الجمهورية العربية المتحدة، و"أنها غير متحدة مع أحد"، وأن عليها أن تبدأ بتغيير اسم دولتها، وأن "استرجاع سوريا إلى الوحدة هو من قبيل المستحيلات، وأن على مصر أن تقلع عن المنوال الوحدوي الذي تنادي به مدعية أنها مهبط الوحي الثوري ومنبع الوعي القومي ومركز الدفع الاشتراكي.. وان إصرار مصر على النجمتين في علمها محاكاة للعلم الأمريكي، يكشف عن نيتها في أن على بقية الدول العربية الأخرى أن تنضم إلى العربية المتحدة".
أجل لقد تجنبت قراءة هذه الإشارة المثيرة وغيرها، فقد كان مؤتمر الخرطوم معقودا تحت لواء التضامن العربي من أجل إزالة آثار العدوان، ولم أشأ أن أفتح الجراح القديمة، وأحشوها بالملح في الخرطوم، والملح بضاعة كريمة في السودان، تتقايض عليها القبائل الجنوبية!!
وتدخل الرئيس الأزهري ليوقف هذا النقاش حول آراء الرئيس بو رقيبه بصدد الوحدة العربية.. وقال مرة ثانية:-
لقد اجتمعنا لبحث إزالة آثار العدوان، لا لبحث موضوع الوحدة العربية..
وقلت: وأنا أسجل للتاريخ، وأرجو أن تذكروا كلامي.. إن الدول العربية لن تستطيع إزالة آثار العدوان إلا بقيام الدولة العربية الموحدة..
وتدخل المنجي سليم مرة ثانية وقال: لقد استطاعت الأمم المتحدة أن تخرج إسرائيل من سيناء وقطاع غزة أيام العدوان الثلاثي..(1/307)
وقلت على الفور: إننا نضيع في الأمم المتحدة أربعين عاما، كما تاه بنو إسرائيل في سيناء، إذا كنا نظن أن الأمم المتحدة ستخرج إسرائيل من الأراضي العربية..
وهكذا انتهى الحوار عن الوحدة العربية في مؤتمر الخرطوم...
وفي آخر يوم لمؤتمر القمة، انسحبت من الاجتماع لأسباب أعلنتها في مؤتمر صحفي عقدته في فندق السودان، وشهده الصحفيون العرب والأجانب(1).. وأعلنت قرارات المؤتمر فلم يكن أية إشارة إلى الوحدة العربية، ولا إلى قيام الوحدة العسكرية..
وطار وزراء خارجية الدول العربية إلى الأمم المتحدة ليزيلوا آثار العدوان بالقرارات السياسية التي أجمع عليها الملوك والرؤساء في مؤتمر الخرطوم، بحثا عن الحلول السلمية في نطاق الجهود السياسية!!
وعدت إلى القاهرة لأتابع عملي في مكتب المنظمة، وأقبل الثاني من شهر تشرين الثاني 1967، وهو يوم الذكرى الخمسين لوعد بلفور.
كانت هي الذكرى الخمسين على صدور وعد بلفور، والذكرى الأولى على احتلال فلسطين كلها، من البحر إلى النهر.
ورجعت إلى صباي، منذ أن صدر وعد بلفور، وأنا ابن جيل واكب هذه الذكرى، من الأولى حتى الخمسين.. وبرزت في مخيلتي الأحداث والوقائع عبر هذه السنين، كيف نما الوطن القومي اليهودي، وكيف ضمر إلى جانبه الوطن القومي العربي، ثم كيف نشأت إسرائيل، كيف وقعت النكسة الأخيرة.(1/308)
وبحثت عميقا عن الأسباب.. ونقبت عن الوحدة العربية، ومكانها في هذه الأسباب..
وكتبت ذلك كله في ليلة الذكرى الخمسين.. وأخذت طريقي إلى إذاعة منظمة التحرير لأخاطب الأمة العربية والشعب الفلسطيني عن الوحدة والنكبة..
ومن أجل أن تعي الأجيال العربية النكبة وأسبابها ومكان الوحدة منها ، فإني أضع بين يديها حديثي عن تلك الذكرى، حين كانت النكبة في دمها الحار، وعصبها الساخن:
نحن، اليوم في الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1967، إنه يوم واحد حقا، ولكنه يضعنا وجها لوجه أمام خمسين عاما طوالا شدادا.
ففي الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1917 أصدرت الحكومة البريطانية وعدها المشؤوم بإقامة وطن قومي يهودي في فلسطين ومنذ ذلك التاريخ، وشعب فلسطين يقف في هذا اليوم من كل عام أمام هذه الذكرى السوداء، يجدد العهد والإيمان، ويؤكد الثبات والعزم، عنيدا في كفاحه، صابرا ومثابرا على نضاله.
ولم يكن شعبنا في مثل هذا اليوم، يقتصر على المؤتمرات الوطنية أو المهرجانات الشعبية، يعلن فيها عروبة فلسطين واستنكار الاستعمار والصهيونية.
ولم يكن يقتصر على الجهود السياسية يحرك العالمين العربي والإسلامي، بل لم يقتصر على إرسال الوفود إلى الحواضر الدولية يستنكر الباطل ويعلي كلمة الحق. ولكنه كان يخوض غمرات كفاح رهيب، يواجه الصهيونية العالمية بكل طاقاتها، والاستعمار بكل قدراته وخبراته.(1/309)
أجل لقد خاض شعبنا كفاحا مريرا من غير تكافؤ، بيننا وبين عدونا خاصة عاما بعد عام بل يوما بعد يوم، وقاتلنا معركة بعد معركة ومرحلة بعد مرحلة، وخسرنا أرضنا قرية بعد قرية بل شبرا بعد شبر، ولكن لم ينكسر إيماننا بالله، ولا وهنت ثقتنا بالوطن، ولا ضعف استمساكنا بالحق.
وفي عهد الانتداب البريطاني منذ 1918 حتى 1948 خاض الشعب الفلسطيني خمس عشرة ثورة مسلحة، حملت أعباءها جماهير الشعب من العمال والفلاحين، والطلاب والشباب، والرجال والنساء، وسقط الشهداء بالآلاف، ونسفت المدن، وهدمت القرى، وغصت السجون والمعتقلات، وأعلنها عصيانا مدنيا وإضرابا متواليا، كان آخرها إضراب الأشهر الستة، بما لم يشهد التاريخ له مثيلا منذ كان تاريخ النضال.
تلك سيرة كفاح طويل، في كلام قليل، لو شئنا أن ننصفه إلى آخر مداه لا تنتهي بنا إلى تاريخ طويل، كل صفحاته آيات بينات من ضروب الشجاعة والبطولة.
ولقد شهد عام 1948 تقسيم وطننا، وقيام إسرائيل على ساحله الجميل، وتشرد شعبنا وانتقل زمام القضية أيدي العربية عبر حقبة امتدت عشرين عاما، تخللتها مؤتمرات وانقلابات وأحداث عربية ودولية، تدور كلها في قضية فلسطين، من قريب أو من بعيد؟
وها نحن نقف الآن أمام الذكرى الخمسين للوعد المشؤوم والسؤال الصارخ، صارخ في آذاننا، ماذا نرى، أين نحن اليوم، أين نسير، والى أين المصير؟
يوم صدر وعد بلفور كان خيالا غريقا في خيال، لم يصدقه واضعوه.. واعتبروه تجربة عابرة، بل مقامرة مغامرة.(1/310)
وعد بلفور، كتب، مسربلا بالقيود مكبلا بالشروط، العطف لغته، والتمني لهجته، ولم يكن في فلسطين يومئذ إلا خمسون ألف يهودي، يملكون اثنين في المئة من أرض فلسطين، ومضت ثلاثون عاما والانتداب البريطاني حاشد كل قوته حتى أصبح اليهود في 1947 ثلاثة أرباع المليون، يملكون ستة في المائة من أرض فلسطين.. ومع هذا بقي شعب فلسطين صامدا مرابطا، لا تلين قناته، ولا تنثني عزيمته...
وجاءت بعد ذلك مرحلة الأمم المتحدة، فقامت إسرائيل واغتصبت ما يزيد على نصف فلسطين، وشردت شعب فلسطين، وأصبح اليهود يزيدون على مليون، فاحتلوا مدننا وقرانا، ومزارعنا ومصانعنا، واستباحوا معابدنا ومقابرنا وكل مقدساتنا.
ثم جاء العدوان الإسرائيلي الأخير، عدوان حزيران، فأصبحت فلسطين كلها تحت الاحتلال، من البحر إلى النهر، وشمل العدوان أرضا عربية غالية، في مصر وسوريا، وأصبح شعب فلسطين كله بين أسير وشريد، وامتدت كارثة النزوح إلى أبناء العروبة فأصبحوا يعدون بالآلاف الآلاف من اللاجئين.
هذه هي الصورة بعد خمسين عاما من الصراع، في مرحلتين حاسمتين: الأولى مع شعب فلسطين، والثانية مع الأمة العربية بأسرها، صورة واضحة يبدو فيها خطان متوازيان يسيران جنبا إلى جنب حتى النكسة الأخيرة، الأول يجسد الهزيمة العربية عاما بعد عام، والثاني يجسد الانتصار الصهيوني عاما بعد عام.
وهذان الخطان ما يزالان بانتظام: نصر إسرائيلي متلاحق، وانكسار عربي متلاحق، والسؤال الصارخ الثائر ، لماذا كان الانتصار لعدونا، ولماذا(1/311)
الانكسار لنا؟ لماذا تتوالى علينا هذه الحوادث منذ خمسين عاما حتى الآن؟ لماذا يتوالى علينا هذه الكوارث منذ خمسين عاما حتى الآن" لماذا أصبحت تجربة وعد بلفور حقيقية؟ ؟؟ لماذا قام الوطن القومي اليهودي في فلسطين...؟ لماذا تحول الوطن القومي إلى دولة يهودية تهدد حاضرنا وتدمّر مستقبلنا، لماذا انكسرنا أمام إسرائيل في الخامس من حزيران، ولماذا أصبحنا نواجه هذا البلاء الأكبر يطالعنا كل صباح ومساء؟.
سؤال كبير على لسان كل عربي، على لسان ماية مليون عربي، بل السؤال على لسان الملايين من الشعوب الصديقة، كلها مثلنا في لهفة وحسرة، في ذهول ودهشة، كيف انهزمنا وكيف انتصر عدونا، وكيف انتصرت إسرائيل المحصورة في الرقعة الصغيرة، وكيف انهزمت الأمة العربية في أرضها الرحبة الكبيرة، عددها مئة مليون، فيها الثروات المادية والبشرية والروحية، أمة تملك المواقع الاستراتيجية الهائلة، تملك شواطئ البحر الأبيض وقناة السويس، والبحر الأحمر، والبحر العربي حتى الخليج، أمة ذات حضارة عريقة ، أمة ذات تاريخ مجيد بالفتح والنصر، أمة طموحة شجاعة، أمة حققت الاستقلال لأوطانها بالكفاح والنضال، أمة هذا شأنها وهذا أمرها، كيف انكسرت وكيف هزمت؟؟!!
ولعل الباحث من الجواب يجد كثيراً من الأسباب، ويسردها ويشرحها ويؤكد أثرها وخطرها، أسباب، امتدت وتراكمت على مدى خمسين عاما، وحين نرجع بالذاكرة عبر هذه السنين تبرز أمامنا هذه الأسباب، واحدا بعد واحد..
يبرز أمامنا ثانيا: أنّ الصهيونية ولدت على فراش الاستعمار، وترعرعت في أحضانه.. غذاها بالمال ودعمها بالسلاح.(1/312)
يبرز أمامنا ثانيا: الخديعة الاستعمارية كما تجلت في المفاوضات العربية البريطانية أثناء الحرب العالمية الأولى، مع الشريف حسين والمستر هنري مكماهون..
يبرز أمامنا ثالثا: أن الأمة العربية لم تكن قد تكامل وعيها.. وقد خاضت معارك ضارية في كل أوطانها لتدفع الاحتلال وتظفر بالاستقلال.
يبرز أمامنا رابعا: دور ألمانيا الهتلرية على غير إرادتها، في تصعيد الهجرة اليهودية إلى فلسطين.
يبرز أمامنا خامسا: انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وهم ملتزمون بتأييد القضية الصهيونية..
يبرز أمامنا سادسا: الاستهتار العربي، والخيانة العظمى في حرب فلسطين عام 1948.
يبرز أمامنا سابعا: أن الكيان الفلسطيني قد تصدع عام 1948، وأن منظمة التحرير الفلسطينية قد نشأت عام 1964 بدلا من عام 1948.
يبرز أمامنا ثامنا: أن التجنيد الإجباري لم يطبق على أبناء فلسطين في الأردن، وأن الضفة الغربية قد بقيت مكشوفة عزلاء، وأن القرى الأمامية كانت من غير تسليح ولا تحصين.
يبرز أمامنا تاسعا: أن معاهدة الدفاع المشترك مع الأردن قد تمت قبل العدوان بخمسة أيام، وأن هذه المعاهدة قد تمت مع العراق ليلة العدوان، وأن الجيش العراقي قد دخل الأراضي الأردنية يوم العدوان؟(1/313)
يبرز أمامنا عاشراً وأخيرا: أن الإعداد العشبي في الأمة العربية لم يكن على مستوى الأحداث، فإن المسارح والملاهي والأندية الاجتماعية في الوطن العربي تفوق أضعافا مضاعفة معسكرات التدريب العسكري، والتوعية القومية..
وتبرز كذلك أسباب فرعية أو جانبية إلى جانب هذه الأسباب التي توصلت بنا إلى هذا اليوم الكريه الذي نعيشه، الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1967.
ولكن سببا واحدا يقع في رأس هذه الأسباب، هو أصل هذه الكوارث والنكبات.. أنه السبب الأول والأخير، عاش معنا في هذه الخمسين عاما، ولا يزال يعيش معنا حتى الآن.. وسيظل سبب الكوارث والنكبات التي تحل بنا، ما بقي هذا السبب يعيش معنا ونعيش معه.
ولنرجع إلى الماضي لنعرف السبب، حين صدر وعد بلفور في عام 1917 كانت بلاد الشام وطنا واحد، وقد تساند الاستعمار والصهيونية على تجزئة ديار الشام، فقامت فلسطين وشرق الأردن وسوريا ولبنان، وكانت هذه التجزئة أول خطوة في بناء الوطن القومي اليهودي.
في عام 1948 قامت إسرائيل في ظل التجزئة، وكانت من حولها حكومات عربية متعددة، وجيوش عربية متعددة.
وحين انطلق العدوان الثلاثي عام 1956 على مصر كان في حساب الدول المعتدية أنهم يواجهون حكومات عربية متعددة، وجيوشا عربية متعددة.
وفي هذا العدوان الإسرائيلي الأخير في شهر حزيران (يونيو)، ضربت إسرائيل في مصر والأردن وسورية، أين تشاء وكيف تشاء، وهي لا تواجه جبهة واحدة، ذات خطة واحدة، على رأسها قيادة واحدة.(1/314)
في هذا كله يتجلى الجواب على السؤال الكبير:
لقد انهزمنا في ظل التجزئة، لقد انهزمنا لأننا لم نحقق الوحدة، والوحدة التي أعينها ليست لفظا لغويا، أو معنى عاطفيا، أو تعبيرا حماسيا، وإنما أعينها وحدة حقيقية قومية دستورية ذات سيادة كاملة وسلطة شاملة.
ومما يدعو إلى هذه الوحدة الكاملة ذات السيادة الشاملة، أن التجارب الماضية، تجارب التنسيق الماضية، تجارب العمل المشترك، قد قصرت عن بلوغ الغاية.
أمامنا أولا:- تجربة الجامعة العربية، لو قيست بعمرها الطويل لرأينا جهدها قليلا وضئيلا دون مستوى الأحداث.
أمامنا ثانيا:- تجربة مجلس الدفاع المشترك، كل ما أنجزه أنه أضاف إلى الملفات العربية ملفات إضافية.
أمانا ثالثا:- القيادة العربية الموحدة، أهملت الدول العربية توصياتها وطلباتها في أكثر من مناسبة.
أمامنا رابعا:- تجربة مؤتمرات القمة، كان جهدها الأقصى أنها وضعت العمل العربي في حده الأدنى، وحتى هذا كان فشلا وخيبة..
ولقد كشف العدوان الإسرائيلي الأخير أكثر من أي وقت مضى، أن هذه التجارب الماضية قد فشلت، وأن هذا الفشل دفعناه ثمنا غاليا، أصاب كرامتنا وشرفنا، وأدى إلى احتلال أرضنا وتشريد أهلنا.
ولهذا أصبح لا بد لنا من الوحدة الحقيقية، تبادر إليها الدول العربية التي تتشابه في ظروفها وأوضاعها.
إن إسرائيل تمثل جماعات من شعوب مختلفة على رأسها حكومة واحدة، ونحن أمة واحدة على رأسنا ثلاثة عشر حكومة..(1/315)
ولقد انتصرت إسرائيل لأن لديها وزيرا واحدا للشؤون الخارجية، وعندنا ثلاثة عشر وزيرا.
إن إسرائيل لها وزير واحد للدفاع، ولنا ثلاثة عشر وزيرا.
إن إسرائيل لها وزير واحد للاقتصاد، ولنا ثلاثة عشر وزيرا.
إن إسرائيل لها وزير واحد للشؤون الإعلامية، ولنا ثلاثة عشر وزيرا.
هذه هي أسباب انتصار إسرائيل، وانكسار العرب ببداهة و ببساطة.
ونحن لو نظرنا في مقومات الوحدة في الأمة العربية، لوجدناها متوافرة متكاثرة، أكثر منها في أية أمة أخرى بلا استثناء.
الاتحاد السوفيتي شعوب متعددة، ذات أصول متعددة، ولغات متعددة، ومن أعظم أسباب قوتها الصناعية والعالمية والعسكرية وإنجازاتها النووية أنها دولة واحدة، ولو كان كل إقليم فيها دولة مستقلة في مثل حالنا، لغدت ضعيفة واهنة، لا تطمع في بلوغ كوكب الزهرة.
وهذه الولايات المتحدة، شعوب مهاجرة من كافة أقطار الأرض، ومن أسباب إنجازاتها الصناعية الضخمة، وتقدمها العلمي وتفوقها في المجالات الذرية وآفاق الفضاء، أنها دولة واحدة، ولو كانت كلما ولاية فيها دولة مستقلة لأصبحت من الدولة النامية تلتمس العون والمدد.
وهكذا الأمثلة عديدة، في مجال سردها، وكلها يقين ما بعده يقين، تثبت أن مشاكل العرب الرئيسية ليس لها حل إلا بالوحدة، فالتجزئة هي سبب كل المشاكل العربية، والوحدة علاجها ولا علاج سواها.
والواقع أن الوحدة بالنسبة إلى الأمة العربية ليست حدثا جديدا، فإن إقامة الوحدة هي عودة إلى الأصل، هي عودة إلى الأمر الطبيعي، وأن قيام(1/316)
ثلاث عشرة حكومة على أمة واحدة، هو الأمر الطارئ، هو الأمر غيرا لطبيعي، وهو الأمر الذي لا داعي لبقائه أو دوامه.
فما الذي يفرق بين السوري والعراقي، بين السعودي والكويتي، بين الأردني والفلسطيني، بين الليبي والتونسي، بين الجزائري والمغربي، بين السوداني والمصري، وما الذي يفرق بين هؤلاء جميعا فيما بينهم، كلهم أمة واحدة مصالحهم واحدة، ثقافتهم واحدة، إرادتهم واحدة ومصائرهم واحدة.
ثم هذه الحدود المصطنعة في الوطن العربي، من الذي صنعها ؟ الاستعمار الدخيل البغيض، فإن أسماء الأقطار هي أسماء لأقاليم جغرافية، تماما كأسماء المحافظات أو المديريات أو المقاطعات في الدولة الواحدة، وما سورية والعراق والحجاز ونجد وتونس والمغرب والجزائر وليبيا والسودان وفلسطين إلا أسماء لأقطارمتعددة في الوطن الواحد.
وما من تصريح أو حديث أو خطاب يصدر عن قادة العرب إلا ويصف هذه الحدود بأنها حدود مصطنعة، فإذا كانت كذلك، وإنها كذلك، لماذا تبقى؟ لماذا تظل قائمة؟ ثم من الذي يحمي هذه الحدود المصطنعة؟ من يبني عليها المخافر؟ ومن يراقب جوازات السفر. من يستوفي فيها الجمارك؟ إنها الحكومات العربية التي تتحدث عن الحدود المصطنعة. وتخطب عن الحدود المصطنعة.
إن الاستعمار الذي صنع هذه الحدود قد ولى إلى غير رجعة، ولكننا نحن الذين نحتفظ بهذه الحدود المصطنعة ، بينيها ونحميها، ثم نستنكرها كلاما، وشعرا ونثرا.
في اليوم الثاني من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من كل عام، تثور هذه المعاني من مكانها، ولكن بعد الخامس من حزيران (يونيو) من هذا(1/317)
العام، يجب أن تصبح هذه المعاني منطلقا للثورة العربية الكبرى، ثورة تغير كل حياتنا إلا أهدافنا الكبرى، وكنوزنا الروحية والفكرية، بل إن الثورة الكبرى مطلوبة اليوم لحماية هذه الأهداف وهذه الكنوز.
لقد قامت في الوطن العربي في القرنين السابقين ثورات إقليمية مجيدة انتزعت الاستقلال وحققت الحرية، ولكن نكسة حزيران (يونيو) يحب أن تفجر في الأمة العربية ثورة فوق كل الثورات، يجب أن تفجر الثورة الأم تحتضن جميع الانتفاضات والثورات.
وأن هذه الثورة الام هي قيام الدولة العربية المتحدة , تبادر إلى إنشائها الدول العربية التي تتشابه في ظروفها , وتظل مفتوحة للدول العربية الاخرى , تدخلها حين تشاء ..
هذه الدول العربية المتحدة يكون لها رئيس واحد، وبرلمان واحد. للسياسة وزير واحد، للدفاع وزير واحد، للمال وزير واحد، للثقافة وزير واحد، للإعلام وزير واحد، للبحث العلمي والطاقة النووية وزير واحد، جميعهم تختارهم كفاءتهم وترشحهم قدرتهم على النضال، فلا حرج أن يكونوا جميعا من الجزائر أو من مصر أو من سوريا أو العراق، فالوزراء في أمريكا لا يختارون حسب الولايات، والوزراء في روسيا لا يختارون حسب الإقليم، وإنما تؤهلهم مؤهلاتهم وكفى.
والوحدة عمل جبار، والطريق إليها ملئ بالمصاعب والمتاعب، ولكن هذه المصاعب والمتاعب أهون من النكبة الكبرى التي حلت بنا.. وأيسر من النكبات التي تنتظرنا..
ورب مجادل يجادل، أن الوقت ليس وقت الوحدة، أنه وقت إزالة آثار العدوان، بعد ذلك ندرس ونبحث ونخطط وننفذ، للوحدة وغير الوحدة.. ذلك(1/318)
وهم عريق في الوهم.. إن إزالة أثار العدوان لا تتم بهذا الجهد المبدد في ساحة العمل العربي، ولا بالخطب الرائعة التي تلقى في الأمم المتحدة، ولا بهذه الأسفار العربية التي ضجت منها الطائرات...
إن العدوان قد تم بالقوة، ولا يزول إلا بالقوة، إن القوة العربية الموحدة هي الكفيلة بإزالة آثار العدوان، اللاحق والسابق، وإن الجيش العربي الواحد على رأسه قائد واحد، في دولة عربية واحدة، هو الذي يستطيع أن يحرر سيناء، والضفة الغربية، والمرتفعات السورية، وأن يكون بعد ذلك قادرا على تحرير الوطن السليب.
ورب سائل يتساءل: وما شأن منظمة التحرير الفلسطينية في أمر الوحدة؟ وما شأن اليوم الثاني من شهر تشرين الثاني (نوفمبر* في قيام الدولة العربية المتحدة؟
والجواب على السؤالين في غاية البساطة واليسر، إن شعب فلسطين كأي شعب من الشعوب العربية، من حقه الكامل وواجبه المقدس أن يدعو للوحدة ويعمل لها. إن شعب فلسطين هو وحدوي العقيدة وقد نادى بها منذ عام 1919، وناضل من أجلها وسقط شهداؤه بين جزرها ومدها. وقد أعلنها شعب فلسطين غير مرة، أنه غداة التحرير لا يطمع أن يقيم الدولة الرابعة عشرة، وإنما يتطلع أن يكون عضو أصيلا في دولة الوحدة.
أما شأن هذا اليوم الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) في قيام الدول الاتحادية، فإنه لا مرية ولا ريب.. أنّ وعد بلفور الذي نص على إقامة وطن قومي يهودي، وما تبع ذلك من قيام إسرائيل، وما تلا ذلك من الكوارث القومية والنكبات العسكرية، حدث ذلك كله لأن إسرائيل لا تجد من حولها الدولة العربية المتحدة، التي تعرف كيف تصفي حسابها معها، ثأرا لشرف(1/319)
الأمة العربية وكرامتها، واستئصالا لشأفتها، وتحريرا للوطن المستباح والقدس الجريح، ونجدة للعربي النازح، العربي الشريد الطريد.
وإن منظمة التحرير الفلسطينية، التي تدعو في هذا اليوم إلى الوحدة، ليست متخلفة عن النهوض بواجباتها القومية في ميدان النضال، في ميدان الكفاح بالسلاح.
إن منظمة التحرير الفلسطينية تقود النضال الشعبي في داخل الوطن، في جميع الساحات. لقد خرجت المنظمة من مؤتمر المنظمة من مؤتمر الخرطوم إلى ميدان النضال المسلح، إن شعب فلسطين داخل وطننا المحتل يتحدى العصابة الإسرائيلية بكل طرق المجابهة وكل صنوف التحدي، بالمقاومة السلبية وبالمقاومة المسلحة..
بالإضراب السلمي وبعدم التعاون في جميع ميادين الحياة، يتصدى شعبنا للعصابة الإسرائيلية..
بالأعمال الفدائية الشجاعة، ينزل شعبنا الخسائر في الأهداف العسكرية للعدو ومنشآه وخطوط مواصلاته..
بالصبر والإيمان، يصمد شعبنا أمام حملة التجويع والإفقار التي تتعرض لها جماهير العمال والفلاحين، والتجار والموظفين.
وفي هذه الغمرة من النضال يتساقط الشهداء من أبطال منظمة التحرير، وتغص السجون والمعتقلات بالمئات من شبابنا وطلابنا المناضلين..
وتقف منظمة التحرير في هذه المعركة، لتضع فيها كل طاقاتها النضالية والمالية والفكرية حتى تتحول إلى حرب شعبية شاملة.(1/320)
هذا هو اليوم الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) في وحيه إلى شعب فلسطين، وفي إلهامه للأمة العربية. ليس يوم نواح ولا بكاء، ولا دموع ولا رثاء وحسرات ولا زفرات، لكنه يوم عزم وإيمان، يوم دعوة صارخة إلى الوحدة، يوم تحية إلى الشعب البطل الذي يناضل في الضفة الغربية وفي قطاع غزة وفي المنطقة المحتلة، في فلسطين من البحر إلى النهر.
تحية إلى الفدائيين، تحية إلى المناضلين، وتقديسا للشهداء الأبرار، مقامهم مع الصديقين والأنبياء، وحسن أولئك رفيقا.. وصدق الله العظيم.."
كان ذلك ما تحدثت به عن الوحدة العربية في عام النكبة، في تشرين ثاني 1967، وها أن الصيحة الداوية تسأل الحكم العربي الرسمي هل أزلتم آثار العدوان بالطرق الدبلوماسية والحلول السياسية، ونحن الآن ندخل عام السبعين..!!
لقد ضاعت هذه السنون الثلاث من عمر الأمة العربية، وستضيع بعدها سنون وسنون، قبل أن نمسك بمتاح النصر..
المفتاح هو الوحدة العربية ولا مفتاح سواه.. فهل نمسك به "أم على قلوب أقفالها..."
صدق الله العظيم(1/321)
إلى الوحدة...أيها الرؤساء(1/323)
دعوة إلى...
الرؤساء لا الملوك
هذه هي الوحدة العربية في إطار الذكريات، وعلى مدى خمسين عاما.. ثم ماذا.؟ وكيف..؟ ومتى؟ وأين؟...
أين وصلت الوحدة العربية؟ كيف نبنيها؟ ومتى، وأين نبدأ...
هذه الأسئلة التي سأجيب عنها، جامعا في نفسي كل جوارح الصدق والأمانة والإخلاص، لأكتب كتابة مودع..
وكثيرا ما كانت تطيب نفسي وأنا أسمع الإمام في صلاة الجمعة، وهو يدعو المصلين أن يصلوا صلاة مودع.. فحين يستشعر المرء أنه يودع هذه الدنيا ويوشك أن يلقى وجه الله.. تخلص نفسه من الشوائب.. ويصبح في حضرة الصدق... وحظيرة العدل.. وإني لأرجو أن أكون على هذا الحال وأنا أكتب هذه الصفحات.. (1)
ولعله يكون من الخير أن أبدأ أولا بتبديد غلالات من الشك، لا تزال تكتنف الوحدة العربية في مفهومها، في معناها وفي مداها...ثم في وسائلها ومراحلها..
__________
(1) * في الحديث النبوي الشريف: "كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل، وعدّ نفسك من أهل القبور، وصل صلاة مودع".(1/325)
وما أظنني في حاجة إلى بحث مستفيض لأن أقرر أن الوحدة العربية ببساطة وبداهة تستهدف:-
أولاً إقامة نظام اتحاد فيدرالي في الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، يكون على مثال جمهورية الولايات المتحدة الأمريكية، أو اتحاد الجمهوريات السوفيتية، أو الاتحاد السويسري، أو أي من الاتحادات القائمة في آسيا.، وإفريقية، وأمريكا اللاتينية.. ... ...
ثانيا) قيام حكومات إقليمية في الأقطار العربية التي يتألف منها النظام الاتحادي، تمارس كامل الاختصاصات القطرية التي تخولها سلطة
تامة في أمورها الإقليمية..
ثالثا) وضع دستور ديمقراطي حر، يحدد الاختصاصات الاتحادية والإقليمية بشكل واضح، ويكفل للمواطن العربي في ظل القانون، الحرية والأمن والكرامة.
رابعا) يبدأ هذا النظام الاتحادي بالاتفاق بين دولتين عربيتين أو أكثر، ويظل مفتوحا لانضمام أي دولة أخرى، تقبل طواعية واختياراً الالتزامات التي ينص عليها دستور الاتحاد...
هذا، بصورة عامة، ومن غير دخول في التفاصيل، ما أحسب أنه هدف كل وحدي عربي، منذ أن تجسدت الوحدة العربية في الضمير العربي وهذا ما سقط من أجله الشهداء العرب، ومنذ أن صاح "العربي"،وهو يقدم إلى المشنقة، في ساحة الشهداء في بيروت في 6 أيار سنة 1916.. "ما أعظم أن نموت من أجل أمة عربية واحدة تظللها دولة عربية واحدة..".
ولقد حمل لواء الوحدة العربية، جيلان عربيان الجيل الذي أعاصره، والجيل الذي سبقني، ولذا فإني أستطيع أن أكتب عن ممارسة ومعاناة في(1/326)
أمر الوحدة العربية، مستندا إلى تجربتي، والى التجربة التي تلقيتها عن الجيل الذي سبقني، فقد كنت قريبا من الميدان، بل وفي الميدان نفسه.
وفيما يتعلق بنا، نحن الجيل الباقي، فقد واكبنا الوحدة العربية أطفالا وطلابا، وكانت الوحدة العربية عندنا زخرفا وزينة، ثم سرنا في ركابها شبابا، فكانت عندنا عزا ومجدا. ورأيناها بعد ذلك، رجالا، كفاية ورفاهية.. وها قد استقر بنا النوى لنراها اليوم سبيلا للبقاء، في مواجهة الفناء..
وبكلمة صغيرة كبيرة أصارح بها الأمة العربية: إني أطالب اليوم بالوحدة العربية، لغير ما كنت أطلبها قبل خمسين .. أو أربعين.. أو ثلاثين عاما..
كنا نطالب بالوحدة العربية في الماضي لنجعل الوطن العربي أجمل وأكمل.. ولنجعل الأمة العربية أسعد حالا، وأهنأ بالا، وأرغد عيشا.. ولكنا نطالب بها اليوم ليظل هذا التراب وطنا عربيا، لتكون الأمة التي نعيش فيها أمة عربية، آمنة مطمئنة..
ومرة أخرى، وبكلمة صغيرة كبيرة: إن جهد الأمة العربية في هذه الحقبة الحاضرة يجب أن يتجه أولا وآخرا، وقبل أي أمر آخر، مهما كان جليلا أو خطيراً لأن تستأصل الوجود الإسرائيلي من جذوره، قبل أن يستأصل الوجود العربي من وجوده ... وأن يوضع في خدمة هذا الجهد الأكبر وتحت تصرفه، كل جهودها الأخرى في ميدان الزراعة والصناعة والعلم والفن، والإعداد العسكري في الطليعة.
وهذه التعبئة القومية الشاملة الكاملة، ليست نابعة من شهوة الحرب، ولكنها ضرورة ملحة تفرضها متطلبات الدفاع عن النفس، الدفاع عن كل(1/327)
مواطن، عن كل أسرة، عن كل قطر، عن الوطن بأجمعه، من المحيط إلى الخليج، لا من النيل إلى الفرات..
وأرجو أن لا أسيء إلى أحد حين أقول بكل صراحة ووضوح، أن التعايش مع إسرائيل، في الحاضر أو المستقبل، هو أسطورة من أساطير الأولين، وإن البحث عن حل سلمي لقضية فلسطين هو خرافة من خرافات الغابرين..
ولقد سبقنا إلى هذا اليقين مفكر مسيحي، نافذ البصيرة، قبل خمسة وستين عاما، هو الأستاذ نجيب عزوري، حين كتب في عام 1905 يقول: "هناك حادثان هامان ولكنهما متعارضان، وهما يقظة الأمة العربية، والجهد الخفي لإنشاء ملك إسرائيل القديم من جديد وعلى مقياس أوسع، إن مصير هاتين الحركتين القتال باستمرار إلى أن تغلب إحداهما الأخرى، ومصير العالم كله منوط بالنتيجة النهائية لهذا الصراع".
لقد رأى الجيل العربي الواعي الذي يمثله نجيب عزوري، الصورة الحاضرة للصراع العربي الصهيوني رآه بعقله وفؤاده، وقد رآها جيلنا بعينيه وأذنيه، وبكل جوارحه.
وإذا كان "عزوري" قد توقع للحركتين الصهيونية والعربية أن "تغلب" إحداهما الأخرى، فإن جيلنا يوشك أن يختم حياته وهو يستشعر في دخيلة نفسه، أن "تفني" إحداهما الأخرى، لا أن تغلب فحسب..
إن الصهيونية، وإسرائيل طليعتها، حركة ديناميكية هائلة، معززة بالأموال والرجال العلماء، والحقد والعناد والإصرار.. حتى في معزل عن مساندة الاستعمار والإمبريالية. وإن البقاء هو لواحد من الاثنين.. أم القومية العربية أو الحركة الصهيونية..(1/328)
أقول قولي هذا، وقد أفنيت عمري في مراقبة الحركة الصهيونية منذ نشأتها، إلى يومنا هذا، فقرأت سيرة زعمائها، وبلوت فظائعها وإرهابها، ثم رأيت كيف نشأ الوطن القومي اليهودي في وطني العربي. وكيف قامت إسرائيل، وكيف اعتدت، وكيف توسعت.
لقد شهدت كل هذا على مدى خمسين عاما.. وها أنا ذا أجلس في مكتبي لأضع على الورق حصيلة تجاربي وصفوة معاناتي. وليس لي ما أطمع فيه، فلا أمل لي أن أكون ملكا أو رئيس جمهورية، ومن أين للاجئ مثلي أن يكون..
ولا أتطلع أن أكون رئيسا على فلسطين، وما أدري إذا كان الأجل سيمتد بي لأرى تحرير فلسطين..
وأريد أن أقولها صريحة وبسيطة، ومخلصة وأمينة، وأنا اعتمد صفوة تجاربي ومعاناتي. إن الجهد العربي على طريق العمل المشترك، كان فاشلا، وكان مهينا ومذلا.
لقد جربت العمل العربي المشترك قرابة ربع قرن، منذ أن وقَّعت الدول العربية السبع ميثاق جامعة الدول العربية في عام 1945، وباتت الآن، في 1970 تضم أربع عشرة دولة.
وكان الظن بادئ ذي بدء أن تكون الجامعة العربية خطوة على طريق الوحدة، فأصبحت ميدانا رحبا فسيحا لتعزيز المصالح الإقليمية، ولتوكيد التجزئة والانفصال..
ففي خلال هذه الحقبة الطويلة التي امتدت خمسة وعشرين عاما، عقدت الجامعة العربية اتفاقيات ومعاهدات، ثقافية واقتصادية وعسكرية، لم ينفذ منها قليل ولا كثير..(1/329)
ولمناسبة "العيد" الخامس والعشرين الذي احتفلت به الجامعة العربية في آذار 1970، كشفت الإحصاءات أن مجلس الجامعة العربية قد أصدر منذ قيام الجامعة 2524 قرارا، ما بين سياسي واقتصادي وعسكري.. ولا يعرف المواطن العربي قرارا واحدا جعله يستشعر أنه ينتسب إلى وطن عربي واحد..
وفي الجانب العسكري بصورة خاصة، وقعت حرب فلسطين في عام 1948، وكانت من غير خطة حربية، ولا قيادة عسكرية، يومئذ قبل الملوك والرؤساء الهدنة الأولى، ثم الهدنة الثانية، وأعلنوا أنهم سيستأنفون القنال بعد عام أو عامين.
ثم جاءت حرب الأيام الستة في حزيران، وقد سبقتها مؤتمرات القمة الثلاثة التي انعقدت في القاهرة والإسكندرية والدار البيضاء، فحلت بنا الهزيمة الكبرى، ووقعت فلسطين بأسرها تحت الاحتلال، ووقع تحت الاحتلال ثلاثة أضعاف من الأراضي العربية من القنال إلى الجولان.
وبين الحربين الأولى والثانية (48،67) شنت إسرائيل غارات رهيبة على الأراضي العربية، فقتلت وسلبت ودمرت وأحرقت، واحتلت المناطق المجردة من السلاح، على مشهد من الأمم المتحدة، ومسمع من الدنيا بأسرها...
وفي جميع هذه الأحداث لم تكن القيادة العربية المشتركة، وبعدها القيادة العربية الموحدة، تمارس من اسمها شيئا، فلم تكن قيادة، ولا مشتركة، ولا موحدة...(1/330)
ومؤتمرات القمة كانت تجربة أخرى للعمل العربي الموحد، ولعلها كانت التجربة الأخيرة.. وقد حضرت مؤتمرات القمة الأربعة، من القاهرة، إلى الإسكندرية إلى الدار البيضاء إلى الخرطوم.. وكانت تجربة فاشلة..
في مؤتمر القمة العربية الأول في القاهرة عام 1963 وضعت الخطة العسكرية والسياسية والإعلامية والمالية لتحويل روافد الأردن.. ونحن الآن نشهد نهر الأردن تحت احتلال إسرائيل، المنبع والمصب، والروافد والسواقي!!
وفي مؤتمر القمة العربي الثاني، في الإسكندرية عام 1964، تعهد الملوك والرؤساء بالتزامات مالية وعسكرية تكون تحت تصرف القيادة العربية الموحدة، وكتبوا أنهم " يربطون شرفهم بهذه الالتزامات" ووقع التخلف في الوفاء، من هذا الملك وذلك الرئيس..!!
وفي مؤتمر القمة العربي الثالث في الدار البيضاء عام 1965، جدَّد الملوك والرؤساء التزاماتهم، وأقروا " خطة لتحرير فلسطين تنفذ في خلال ستة أيام".. وكانت النتيجة أن نفذت الخطة تماما وكمالا في حزيران 1967. وفي ستة أيام.. ولكن الخطة نفذت علينا لا لنا .. وكان التنفيذ على يد إسرائيل.. ، لا على يد العرب.. وكان النصر حليف إسرائيل، وكانت الهزيمة من نصيبنا وحظنا.. وكان العزاء أنها لم تكن هزيمة للشعوب..
وفي مؤتمر القمة الرابع، في الخرطوم في عام 1967، وابتدع الملوك والرؤساء شعار الحل السلمي والسياسي.. وانسحبت من المؤتمر لأسباب.. منها أني أفنيت زهرة عمري في الأمم المتحدة ولم أجد شيئا اسمه الحل السلمي السياسي، إلا في إطار الهزيمة وتحت وطأة الاستسلام..(1/331)
والآن، وبعد أن جرَّب المجربون طريق الحل السلمي، آمنوا بالحواس الخمس، بالسمع والبصر واللمس والذوق والشم، إن الطريق السياسي تؤدي نهايته إلى بدايته، تماما كالحلقة المفرغة. وكان عليهم أن يؤمنوا بذلك بعقولهم، قبل أن يستنفذوا حواسهم، وما أروع ما قاله الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي:
أنت روح غبية تكره النور
أنت لا تدرك الحقائق إن طافت
وتقضي الدهور في ليل ممسي
حواليك دون مس وجس
وانعقد أخيرا، وبعد مخاض دام ثلاثة أعوام، مؤتمر الرباط، وحمدت الله أني لم يكن لي " شرف" حضوره مع الملوك والرؤساء، فقد هوى مؤتمر "القمة" إلى "القاع"، وخرجوا لا يدرون ما يقولونه لشعوبهم المتلهفة.
وبعد حرب حزيران تصاعدت كلمات حولها شعارات ...
الكلمات تتحدث عن " أزمة الشرق الأوسط" .. عن تحرير الأرض العربية، عن معركة المصير.. والشعارات تتحدث عن "حشد طاقات الأمة العربية.." "تعبئة الإمكانات العسكرية والاقتصادية". "وتحديد مسؤوليات الدول العربية".. "و"تحديد علاقات الدول العربية بالدول الأجنبية على ضوء موقفها من القضية المصيرية".
وهذه الكلمات، والشعارات التي تجمعت حولها، ليس جديد في مبناها أو معناها، فقد ساهمتُ في اقتراحها وصياغتها والمطالبة بتنفيذها على مدى ثلاثين عاما، منذ أن كان لي مكان في ميدان العمل العربي الرسمي... مع(1/332)
الملوك والرؤساء، ومع الوزراء والسفراء، ومع القواد الكبار والضباط العظام، سواء في الجامعة العربية أو مؤتمرات القمة.
ومع أني فطرت مستبشرا بالتفاؤل، مستنكرا للتشاؤم، فإن "تعبئة الطاقات" و"حشد القدرات" و"تحديد المسؤوليات" كانت عبارات إنشائية بلغت القمة في البلاغة والفصاحة...
والآن...أريد الآن أن أجهر بالقول الصريح، فأعلن أن إزالة آثار العدوان، وتحرير الأرض العربية واسترداد فلسطين، كل ذلك لا يمكن أن يتحقق إلا بأحد طريقين : دولة عربية واحدة بمفردها.. أو وحدة عربية بين دولتين أو أكثر.. أما طريق الأربعة عشر ملكا ورئيسا فإنه يضعنا في الساحة التي نحن فيها ، بل في الوحل الذي نخوض فيه إلى الأذقان، منذ ثلاثين عاما إلى يومنا هذا...
وحين أتكلم عن دولة عربية بمفردها، ينصرف الذهن بلا جدال إلى الجمهورية العربية المتحدة ولكني أبادر لاستبعاد هذا الطريق لأن الجمهورية العربية المتحدة رغما عن كل إمكاناتها، فإنها لا تستطيع وحدها أن تنهض بهذا العبء الضخم.. فالقضية التي نواجهها أكبر من قدرات الشعب المصري، وهو في نموه البشري المتعاظم "سيأكل" نموه الاقتصادي .. والحرب هذه الأيام، زراعة وصناعة وإنتاج، والاقتصاد كله زاد المسيرة والذخيرة، ووقود السلاح والعتاد.
ولا يبقى أمامنا، والحال هو الحال، إلا أن تقوم الدولة العربية المتحدة، مبتدئه بين دولتين أو أكثر، ثم تكبر مع الوقت مهما طال.. وبذلك يتم حشد الطاقات وتعبئة القدرات، ويتم بها تحرير الأرض العربية، وتحرير فلسطين معها...(1/333)
ولعلي لا أكشف سرا إذا قلت أن الرئيس بو رقيبة، قد وجه رسالة إلى مؤتمر القمة العربي الثالث الذي انعقد في الدار البيضاء، عالج فيه جوانب متعددة عن القضية العربية.. وراح يطرح السؤال- لماذا الوحدة العربية..؟
والحق أن الرئيس بو رقيبة قد طرح السؤال، ثم وضع له الجواب، تماما بمثل ما يجول في خواطر معظم الملوك والرؤساء الأربعة عشر... بفارق واحد، وهو أن الرئيس بو رقيبة كان شجاعا وصريحا في السؤال والجواب، على حين أن عددا من الآخرين "يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم" وصدق الله العظيم..
والواقع أن هذا الفصل الذي أكتبه عن الوحدة العربية، ليس أطروحة علمية، تتناول الموضوع بكل أطرافه.. ولا أريد أن أدخل في نقاش طويل مع الرئيس بو رقيبه فيما ينكره من حتمية الوحدة، وضرورتها، ومتطلباتها، وفوائدها.. ولكني أكتفي بأن أجيب على سؤال الرئيس أبو رقية، بأن أطرح السؤال على بو رقيبة نفسه:
ولماذا الوحدة في أمريكا، وفي الاتحاد السوفيتي وفي بريطانيا، وفي سويسرا وفي الهند، وفي عدد كبير من الدول الاتحادية في أمريكا اللاتينية وفي أوروبا ، سواء منها ما يتبع النظام الاشتراكي أو النظام الرأسمالي.. إن الوحدة، أو الوحدة الاتحادية تشمل ما يزيد على نصف سكان الأرض... ومن كان يشك في ذلك فإني أحيله إلى المراجع العلمية...
هذا مع التوكيد بأن الوحدة العربية أكثر لزوما للأمة العربية، منها للولايات الأمريكية وللجمهوريات السوفيتية، ولو أن في أمريكا خمسين جمهورية مستقلة من غير اتحاد بينها، لما كانت الولايات المتحدة ما نعلم(1/334)
ونسمع.. ولو كانت روسيا ست عشرة جمهورية مستقلة من غير اتحاد بينها، ما كان الاتحاد السوفيتي ما نعلم ونسمع..
وهذا هو الجواب على سؤال الرئيس بو رقيبة، لماذا الوحدة العربية...؟
ولكني أجيب على سؤال الرئيس بو رقيبة بأن أطرح السؤال من زاوية أخرى :ولماذا لا تكون الوحدة العربية ..والجواب على هذا السؤال , السبب هو الاربعة عشر حكومة عربية .
غير أن الجواب الأرفع على سؤال الرئيس بو رقيبة, هو أننا نريد الوحدة العربية، لأننا أمة عربية واحدة، وإذا كان الأمر كذلك، وإنه لكذلك، فلماذا تحكمنا أربعة عشر حكومة، ونحن أمة عربية واحدة.
إن هذه الحكومات الأربع عشرة قد نشأت في الوطن العربي، ضمن حدود وأوضاع صنعها الاستعمار قبل أن يرحل.. لقد صنعها ليتأكد أن الأمة العربية ستظل في ظل التجزئة أمة ضعيفة، وهذا ما أرادو الاستعمار..
ولا بأس أن نقف قليلا مع الرئيس بو رقيبة عند هذه النقطة لأنها تمثل نظرة الحكم العربي المعاصر.. ولنأخذ المشرق العربي مثلا على ذلك.
كان المشرق العربي في زمن الدولة العثمانية، "وطنا" واحدا للمواطن العربي، الشامي واللبناني والفلسطيني والعراقي.. وجاءت المساومات الافرنسية البريطانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى فجعلت المشرق العرب وحدات منفصلة: العراق وسوريا، لبنان، شرق الأردن، فلسطين.. وكانت هذه هي الجذور التي قامت عليها تلك الدول المستقلة.(1/335)
ولا باس علينا أن نرجع قليلا إلى التاريخ الحديث لنرى متى وضعت الحدود في المشرق العربي ومن وضعها.. لقد رآها الجبل الحاضر قائمة وموضوعة.. ولكن جيلنا يعرف الوطن العربي موحدا، قبل أن تقوم فيه هذه الحدود..
في 23 كانون أول 1920 وضعت فرنسا لسوريا ولبنان من جهة، حدودهما مع العراق وفلسطين ، من جهة أخرى..
وفي نيسان 1920 أعلن المستر تشرشل فصل شرق الأردن عن سوريا...
وفي أيلول 1923 أعلنت بريطانيا الحدود بين فلسطين وشرق الأردن.
وفي تشرين أول 1931 أعلنت بريطانيا وفرنسا الحدود بين فلسطين وشرق الأردن وجبل الدروز.
وفي أيلول 1920 أعلنت فرنسا دولة لبنان بحدودها الحاضرة، بعد أن ضمت إليها بيروت وطرابلس وصيدا ومناطق الجنوب والبقاع.
وهكذا نشأ لبنان والعراق وشرفي الأردن وسوريا وفلسطين!!
ولو أن الاستعمار كان بنا رحيما .. لو أن المشرق العربي كله وقع تحت الاحتلال الافرنسي وحده، أو تحت الاحتلال البريطاني وحده.. ولكنا نرى اليوم دولة عربية واحدة في المشرق العربي.. ولم يكن هنالك من حاجة للكتابة عن الوحدة..
بل إن الأمر يبدو أكثر وضوحا في مثل آخر ,, وأعني بذلك سوريا.
ففي سوريا مارست السلطة الافرنسية تجارب متعددة من التجزئة والتوحيد، على أشكال وأشكال!!(1/336)
ففي آب 1920 أنشأت فرنسا " دولة دمشق" مؤلفة من دمشق وحمص وحماه وحوران .
وفي نفس الشهر 1920, منحت فرنسا منطقة العلويين استقلالا داخلياً ووضعت حدوداً لهذه المنطقة.
وفي أيلول 1920 أنشأت فرنسا " دولة حلب" مؤلفة من حلب والإسكندرونة ودير الزور، عل أن تتمتع الإسكندرونة باستقلال ذاتي.
وفي آذار سنة 1921 أنشأت فرنسا "دولة جبل الدروز" واشترطت أن لا تتحد مع باقي الأجزاء السورية إلا في المصالح المشتركة.
وفي آب 1921 أعلنت فرنسا فصل سنجق الإسكندرونة واعتباره وحدة مستقلة...
وفي حزيران 1921 أنشأت فرنسا "اتحادا فدراليا" بين دولتي دمشق وحلب، ومنطقة العلويين، وضمت جبل الدروز إلى دولة دمشق، وسنجق الإسكندرونة إلى دولة حلب...
وفي تموز 1921 أنشأت فرسنا "دولة العلويين".
وفي كانون الثاني أقامت فرسنا اتحادا بين هذه الولايات، تحت اسم حكومة الاتحاد السوري، وجعلت دمشق عاصمة لهذا الاتحاد.
وفي كانون أول 1924 أعلنت فرنسا إلغاء الاتحاد السوري، وأدمجت دولتي دمشق وحلب تحت اسم الدولة السورية.
وفي نفس اليوم جددت فرنسا إعلانها بقيام دولة مستقلة في بلاد العلويين، عاصمتها اللاذقية.(1/337)
ومضت فترة أخرى، فراجعت فرنسا نفسها وعادت إلى اعتبار سوريا دولة واحدة تحت الانتداب الافرنسي. حتى إذا جاء زمن الاستقلال قامت الجمهورية العربية السورية...
لقد كان هذا المصير النهائي رحمة وبركة لسوريا.. والفضل المفجع في وحدتها يعود إلى فرنسا يقينا. فلو أنّ فرنسا أبقت حكومات دمشق، وحلب، والدروز، والعلويين، لكنا الآن أمام أربع جمهوريات عربية في الوطن السوري.. وكان لابد من وقت طويل، وجهد كبير، لجعل الجمهوريات الأربع جمهورية واحدة.. ومن يدري ..؟؟
هناك ثلاثة أمثلة صغيرة في سياق الوحدة والتجزئة..
المثل الأول بالنسبة إلى الموصل "العراقية"، فقد كانت فرنسا حريصة أن تكون الموصل جزء من سوريا، وفي إطار تسوية بترولية مع بريطانيا، تنازلت فرنسا عن الموصل، ووافقت على إلحاقها بالعراق، على هذا فان الموصل اليوم تقع في الجمهورية العراقية لا لسبب الا اتفاق بريطانيا وفرنسا , وكان من الممكن أن تكون في سوريا , لو تم الاتفاق على غير ذلك والواقع أن صلات الموصل بسوريا أكثر من صلاتها بالعراق، إذا شئنا أن نضع التقسيمات الإدارية بين البلاد العربية.
والمثل الثاني هو العقبة، ففي عام 1925 أفلحت الضغوط البريطانية في سلخ ميناء العقبة عن الحجاز، وألحقتها بإمارة شرق الأردن.. ولو لا ذلك لكانت العقبة اليوم جزءاً من المملكة العربية السعودية..
أما المثل الثالث فهو دير الزور "السورية" فإنها "سورية" اليوم، لأن بريطانيا وفرنسا أرادتا ذلك، فلو شئنا أن نضع تقسيمات إدارية في البلاد(1/338)
العربية لكانت دير الزور ملحقة بالعراق، بسبب الصلات والروابط العديدة بينهما!!
وسيان عندي أن تكون العقبة حجازية أو سعودية، أو أن تكون دير الزور سورية أو عراقية، أو أن تكون الموصل سورية أو عراقية، فالوطن العربي واحد.. كل الذي أريد أن أقرره أن الذي صنع هذه الدول العربية الحاضرة بحدودها القائمة، وماذا تشمل من المدن وما لا تشمل، هو الاستعمار، كما أرادت له مصالحه أن يصنع..
ولما جلا الاستعمار عن البلاد ، أصبح الزعماء هم الرؤساء والوزراء، وقام الاستقلال على أساس التجزئة والانفصال.
وهكذا نشأت في المشرق العربي، في الوطن العربي الواحد، وللشعب الواحد ملكيتان: المملكة الأردنية الهاشمية والمملكة العراقية، وجمهوريتان : السورية واللبنانية.. ولولا التآمر البريطاني الأمريكي الصهيوني، لقامت دولة خامسة هي الدولة العربية الفلسطينية!!
ولو أننا توغلنا في تاريخ الجزيرة العربية، وفي تاريخ الأقطار العربية في شمالي إفريقيا، لوجدنا أنفسنا أمام نفس الملابسات التي سادت المشرق العربي، حذوك النعل بالنعل!!
ففي الجزيرة العربية نجد مفارقات عجيبة صنعها الاستعمار بصورة مباشرة أو غير مباشرة , منها وجود جمهوريتين يمنيتين , واحدة في الشمال وأخرى في الجنوب , وهما جزآن من اليمن الواحده , ورؤسائهما يعلنون أنهم يؤيدون الوحدة اليمنية !!
ومن هذه المفارقات , وجود العشرات من الإمارات والمشيخات حول الخليج العربي، أقام الاستعمار البريطاني الحدود بينها، ولولا ذلك لكانت جزء من(1/339)
دولة عربية مجاورة، فالبلاد واحدة، والعشائر واحدة.. ولكن أنى للأمير أن يتخلى عن إمارته بعد أن أصبح أميرا.. وأنى للشيخ أن يتخلى عن مشيخته بعد أن أصبح شيخا... وأنى لهم أن يفعلوا ذلك، والرؤساء العرب لا يتخلون عن جمهورياتهم!!
ومن هذه المفارقات قيام دولتين في وادي النيل، وهو وطن واحد منذ أن جرى النيل في واديه.. وفي عام 1943 طالب مؤتمر الخريجين في الخرطوم , قيام حكومة ديمقراطية في السودان تكون متحدة مع مصر.. وقد تحقق الاستقلال للسودان، ولكنه استقلال على أساس الانفصال.
ومن هذه المفارقات أن حزبا وطنيا قد نشأ في طرابلس "ليبيا" عرف بحزب الاتحاد المصري الطرابلسي، وقرر في 16 كانون أول 1946 الاتحاد مع مصر، فتحقق الاستقلال ولكن على أساس الانفصال!!
وكذلك الحال بالنسبة لوحدة المغرب العربي الكبير، وقد تعاهد قادة حركات التحرير في تونس والجزائر والمغرب، على إقامة وحدة المغرب كخطوة أولى نحو الوحدة العربية الكبرى فقام الاستقلال وقعدت الوحدة...
وعلى سبيل المثال، هذا الدستور التونسي لعام 1957 قد أعلن "تعلق الشعب التونسي بتعاليم الإسلام ووحدة المغرب الكبير" وأن "الجمهورية التونسية جزء من المغرب الكبير تعمل لوحدته في نطاق المصلحة المشتركة...".
وفي 27 نسيان 1958 انعقد مؤتمر "وحدوي" في طنجة، اشترك فيه زعماء حزب الاستقلال (المغرب)، وحزب الدستور الجديد (تونس) وقادة جبهة التحرير الجزائرية، وحضره مراقبون عن ليبيا وموريتانيا، وكان في وفدي تونس والمغرب وزراء من الحكوميتين .. وصدر عن المؤتمر قرار(1/340)
إجماعي بالعمل على تحقيق وحدة المغرب وتألفت سكرتارية دائمة لمتابعة تنفيذ ذلك القرار.. وأعلن السلطان محمد الخامس في أعقاب المؤتمر مباشرة أن وحدة الشمال الافريقي هي من أعزّ أمانينا ونحن الآن ندخل مرحلة تحقيقها" ثم أعلنت حكومة ليبيا تأييدها لقرارات المؤتمر، وكذلك كان الأمر بالنسبة للجمهورية التونسية..
لقد كان مؤتمر طنجة، مؤتمر عظيما حقا، بما أصدره من قرارات وتوصيات كالمؤتمرات الوحدوية التي انعقدت في المشرق العربي عبر الخمسينات . ولكن..
ولكن الاستقلال، والحكم الوطني، وما خلفه من مناصب الرؤساء والوزراء قد امتص كل دعاة الوحدة، سواء في المشرق العربي أو المغرب العربي.
لقد كان كثير من قادة العرب في ماضي جهادهم زعماء الوحدة في ظل الاحتلال، وأصبحوا زعماء الانفصال في عهد الاستقلال.. وأصبحت الوحدة العربية يتيمة إلا من خطب عارضة وتمنيات عابرة، يلقيها الملوك
والرؤساء في المناسبات القومية، وفاء للماضي وإرضاء للجماهير...
وكم وقعت الجماهير فريسة الكلمة والشعارات...(1/341)
ثلاثة أسئلة أمام الرؤساء
ويقودنا هذا العرض الموجز المركز لبعض جوانب الوحدة العربية إلى ثلاثة أسئلة محددة.. أسئلة موجهة إلى الرؤساء العرب.. ومرة ثانية لا إلى الملوك العرب.
1. على من تقع مسئولية العمل للوحدة العربية .
2. ممن تتألف دولة الوحدة العربية.
3. متى نشرع في بناء دولة الوحدة العربية.
وكما بدأت هذا الفصل، فإني أحاول جهدي إن أجيب إجابة مودع...
إن الجواب على السؤال الأول هو في غاية البداهة والبساطة، أن مسؤولية العمل للوحدة العربية تقع على كل مواطن عربي يؤمن بالوحدة، فكل مواطن وحدوي مسؤول عن الوحدة.. ولينهض في مسؤولياته الوحدوية، فإن المواطن الوحدوي، ليس في حاجة أن يختاره أو ينتخبه أحد.. فإن الذين نادوا بالوحدة من الجيل العربي السابق واللاحق قد اختاروا أنفسهم.. وكثير منهم قد اختاروا أن يكونوا شهداء..
وعلى المواطن أن يعمل للوحدة، فكراً ودعوة، وعملا ، متطوعا مختارا، مندفعا لا مدفوعا..(1/342)
وفي غضون الخمسينات انعقدت مؤتمرات عربية كانت الدعوة إلى الوحدة أهم قراراتها: مؤتمرات الصحفيين، المهندسين الصيادلة، الأطباء، المعلمين.. وبصورة خاصة أخذ المحامون والجامعيون العرب، بزمام المبادرة فوضعوا مشروعات مفصلة لدولة الاتحاد العربي، وأهابوا بالدول العربية التي تتشابه ظروفها أن تبادر إلى إقامة دولة واحدة.
والآن، تتساءل الأمة العربية، كما ستتساءل الأجيال العربية المقبلة، أين الطلائع المثقفة التي كانت تحمل لواء الوحدة... بل أين الطلائع الثورية التي كانت الوحدة تفور في قلوبهم، وتندلع على ألسنتهم؟ أين هم؟
أين الطلاب والشباب...
أين المثقفون والمفكرون...
أين الأجيال الصاعدة...
إن كثيراً من الذين سبقوهم قد حملوا لواء الوحدة، أيام لم يكن للعرب صحافة وإذاعة.. ولا سيارات ولا طيارات .. ولا أموال وجيوش...
أين أنتم!!؟؟
إن العمل من أجل الوحدة العربية، هو ، في الدرجة الأولى مسؤولية الطلائع الوطنية، قبل أن يكون مسؤولية الرؤساء، وهل إذا تخلف الرؤساء تخلفتم، وهل إذا تقاعسوا تقاعستم..
وإني وإن كنت لا أعفي هؤلاء وأولئك من مسؤولية العمل للوحدة في ألزم الأيام لزوما للوحدة العربية.. فإن المسؤولية تكون أكثر ما تكون بقدر القدرات، وبحجم الطاقات والإمكانات..
ومن هنا فإن المسؤولية الكبرى، تقع على الجمهورية العربية المتحدة وعلى الرئيس جمال عبد الناصر بالذات.(1/343)
ولقد اخترت مصر لا افتتانا بنيلها العظيم، ولكن لموقعها الوسيط في الوطن العربي، ولمركزها الاستراتيجي، ولكثرتها البشرية، ولمقوماتها الحضارية، وللكثير من الأسباب التي يعرفها طلاب المدارس.. ولو كنت أعرف أن هذه المقومات والقدرات متوافرة في لبنان، لأعلنته المسؤول الأول عن الوحدة العربية، ولطالبته أن يتصدى للدور القيادي..
وقد قدرت للرئيس عبد الناصر أنه قد أعلن في الميثاق القومي (21 أيار 1962) "أن الأمة العربية لم تعد في حاجة إلى أن تثبت حقيقة الوحدة بين شعوبها..وأن الجمهورية العربية المتحدة ترى في رسالتها العمل من أجل الوحدة وأن الجمهورية العربية المتحدة لا بد لها أن تنقل دعوتها والمبادئ التي تتضمنها لتكون تحت تصرف كل مواطن عربي.. وأنه لا ينبغي الوقوف لحظة واحدة أمام الحجة البالية القديمة التي قد تعتبر ذلك تدخلا منها في شؤون غيرها".
ولكني اختلف مع الرئيس عبد الناصر، حين أعلن في الميثاق نفسه " أن استعجال مراحل التطور نحو الوحدة يترك من خلفه – كما أثبتت التجارب- فجوات اقتصادية واجتماعية تستغلها العناصر المعادية للوحدة كي تطعنها من الخلف".
إن الرئيس عبد الناصر قد وضع هذه " القيود" على الوحدة، متأثرا "بعقدة" الوحدة التي خلقها الانفصال السوري في نفسه، وهي "عقدة" يتحتم على الرئيس عبد الناصر أن يستأصلها قياما بمسئوليته إزاء الوحدة، وكقائد لأكبر دولة عربية.
إن الفجوات الاقتصادية والاجتماعية بين مصر وسوريا لم تكن هي السبب في الانفصال.. الانفصال له أسباب أخرى... لقد كانت وراء الانفصال(1/344)
أخطاء، اعترف الرئيس عبد الناصر بنصيبه فيها، بكل شجاعة، في أول خطاب له بعد الانفصال..
إن الوحدة، أي وحدة، لا تتطلب تطابقا "هندسيا" بين الأقطار التي تتألف منها الوحدة.. إن الفجوات والفوارق أمور طبيعية وموجودة في كل دولة من دول العالم، سواء فيها الدول الكبار والصغار، مثل أمريكا وروسيا والصين وإنجلترا والهند، أو سويسرا ويوغسلافيا.
إن الفجوات والفوارق موجودة في الدولة الواحدة ذاتها غير المتحدة بل في المدينة الواحدة.. وهذه القاهرة مثل، نلاحظ أن بين مصر القديمة ومصر الجديدة ألف عام من الحضارة، والتطور الاجتماعي والاقتصادي، ومع هذا فالقاهرة هي العاصمة الواحدة للدولة الواحدة، رغم الفجوات الاقتصادية والاجتماعية البارزة في أحيائها.
وليس هذا حالنا لأننا دولة نامية.. فإن في أمريكا، وفي روسيا، وقد بلغتنا ذروة الحضارة، فجوات اقتصادية واسعة بين مختلف أقاليمهما، بل إن الاتحاد السوفيتي يحرص على إبقاء الطابع القومي لكل جمهورياته، مع ذلك الأمر من فجوات بين القوميات المتعددة التي يضمها الاتحاد السوفيتي.
وحين أتحدث عن مسؤولية الجمهورية العربية المتحدة وعن مسؤولية الرئيس عبد الناصر في العمل للوحدة العربية.. فإني أفعل ذلك بموضوعية كاملة وعلمية شاملة... وليس موضوع القطر الأكبر بدعا في تاريخ الوحدات، فهذه "بروسيا" هي التي قامت بالدور الأكبر في الوحدة الألمانية، وهذه مملكة سردينيا هي التي قامت بالدور الأكبر بالنسبة للوحدة الإيطالية.(1/345)
والقطر الأكبر فإنه مصر من غير نزاع- أما الرجل المؤهل فهو الرئيس عبد الناصر، فإنه مطالب بهذا الدور ولا يستطيع أن يبرئ نفسه من مسؤولياته..
أقول هذا لا افتتانا بالرئيس عبد الناصر، بل تقييما لقدراته الذاتية، ولطاقات الشعب الذي يقوده، وإن له معي شئونا وأيما شؤون، ليس هنا محل ذكرها، هذه هي كلمة العدل في الرئيس عبد الناصر "ولا يحرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى".
وكائنا ما كان الأمر، في الحاضر أو المستقبل، فإن القطر الأكبر والرجل المؤهل لا بد من توافرهما مجتمعين، فلو أن عبد الناصر هو رئيس جمهورية اليمن الجنوبية، لم يكن مؤهلا بالدور الأول في الدعوة والعمل لها.
وليس معنى هذا أني ألغيت دور الرؤساء الآخرين في الدول العربية، فإن لهم جميعا في مجال بناء الوحدة العربية نصيبا وافرا، بل إنهم قادرون أن يدفعوا الجمهورية العربية المتحدة والرئيس عبد الناصر بالذات إلى ميدان العمل، إذا كان يتهيب هذه المسؤولية الكبرى..
بل إني أدعو غيره من الرؤساء أن يتصدى لقيادة الوحدة، إذا تخلف عنها الرئيس عبد الناصر. إن الرؤساء العرب يتفاوتون في قدراتهم الخاصة والعامة، ولكنهم متساوون جميعا أمام قضية الوحدة، ويتحملون مسؤولية العمل لها أمام أجيال العرب المعاصرة.
وكذلك فإني لا ألغي دور الجماعات القيادية الواعية، والطلائع الثورية، في جميع أرجاء الوطن العربي بأسره، فإنهم مطالبون بأن يحملوا الشعلة من(1/346)
جديد في السبعينات، كما حملوها في الخمسينات.. وعليهم تقع المسؤولية في دفع الرؤساء العرب جميعا إلى الميدان...
وهذا الجواب عن السؤال الأول يصل بنا إلى السؤال الثاني: ممن تتألف دول الوحدة العربية؟؟
إن الجواب على هذا السؤال لا يحتاج إلى مقدمة طويلة .. أرى أن تتألف دولة الوحدة العربية من الجمهوريات العربية بأسرها.. وواضح إني استبعد الملكيات العربية لأسباب واضحة.. يعرفها الناس جميعا، الراسخون في العلم، والراسبون في الجهل.. ولكني لا استبعد دولة الكويت إذا وقعت تعديلات فنية في دستورها، يعرفها خبراء القانون الدستوري..
ولست أستثني الجمهورية اللبنانية من الانضمام إلى الوحدة... فإن عروبة لبنان ثابتة كعروبة أي قطر عربي آخر. بل إن عروبة الطائفة المارونية لا يرقى إليها الشك، والموارنة "سوريون" ترجع سوريتهم إلى ما قبل الإسلام بقرون، فقد نشأت الطائفة المارونية في وادي العاصي (حماه).. ومنه نزحوا على تعاقب الأيام إلى لبنان، إن مار مارون حبر الطائفة المارونية الأول مدفون في الدير الماروني القائم على وادي العاصي.. وكان أول دير للطائفة المارونية.
كان ذلك كله في القرن الرابع بعد الميلاد حين نشأت الطائفة المارونية من الشعب السوري وعلى الأرص السورية، وكانت الخلافات المذهبية المسيحية حادة، فقضت أن يهاجر الموارنة الأوائل إلى لبنان، لاجئين يلتمسون في جباله، الحصانة والمنعة.(1/347)
ويحدثنا التاريخ أن المذبحة التي راح ضحيتها ثلاثماية وخمسون راهبا مارونيا في الدير الماروني نفسه، كان بسبب النزاع بين الموارنة واليعاقبة، ولم يكن قد ولد محمد ولا ولد الإسلام.. وكان على الخليفة الأموي معاوية ان يعمل على إنهاء هذا النزاع الدموي بين الموازنة واليعاقبة, بهذا كان الخليفه المسلم حَكَما لا خصما..
ولو أنا وقفنا قليلا عند عروبة لبنان ووحدته، وعند تاريخ الموارنة بالذات، لرأينا أن المراجع التاريخية المسيحية ترد كثيرا من الأسر المارونية المعروفة إلى الأصول العربية القديمة، فالشهابيون، منهم الأمير فؤاد شهاب رئيس الجمهورية السابق، ويتحدرون، من قريش.
وتكاد القرى اللبنانية بأسرها تعرف عروبة الأسر المارونية الأخرى، مثل آل أبي اللمع، وال الخازن، وآل حبيش، وآل الدحداح، وآل ملحم، وغيرهم كثيرون، وكذلك فإن أخبار انقسامهم إلى قيس ويمن، وأحداثهم وقائعهم ومحالفاتهم ومناوشاتهم، تجري في سمر الدواوين والمضافات اللبنانية إلى يومنا هذا.
والواقع، أن "العقبة" الوحيدة التي تقف الآن حائلا دون انضمام لبنان إلى وحدة عربية فوربة، هي المسألة الطائفية ولا سواها.
وأحسب أن المواطن اللبناني الذي يقرأ تاريخ لبنان منذ أن أصبحت الدولة العثمانية الرجل المريض في نظر الدول الأوروبية المتكالبة على اقتسامها، يدرك يقينا أن الطائفية في لبنان، غريبة على لبنان بكل طوائفه، إنها غريبة عن لبنان كأي جسم غريب يتسلل من الخارج.(1/348)
وليس لنا أن ننكر أنه وقعت أحداث "طائفية" أليمة في لبنان، ولكنها كانت على الدوام "وافدة" عليه من الخارج.. وقد أصبحت جزءاً من التاريخ الماضي، وأنه ذلك الماضي الذي يجب أن ينساه كل لبناني مهما كان مذهبه.
وهذا هو رينان الفيلسوف الافرنسي يدعو معي كل لبناني إلى هذا النسيان المحبب حين يقول " إن الأمة-أية أمة- لكي يتم توحيدها، وتستشعر بجلال تاريخها المشترك لا بد أن تنسى جزءاً من هذا التاريخ .. تاريخ المآسي والأحقاد"..
ذلك ما يجب أن ينساه كل لبناني، على أن ما يجب تذكره، وتذكاره على الدوام، أن يقظة العربية الحديثة منذ القرن الثامن عشر فما بعد، قد فتحت براعمها في لبنان، وعلى أيدي علماء لبنان وأدبائها، وفي معاهدها ومطابعها.. وأن القومية العربية قد انطلقت صيحاتها، أول ما انطلقت في بيروت ، ثم تعالت في دمشق.
إن الوحدة العربية لا يمكن أن تنسى اليازجيين والبستانيين الأوائل الذي حملوا مشعل النهضة العربية الحديثة.. وجاء من بعدهم نصارى لبنان ليتغنوا بأمجاد القومية العربية.
ألم يقل الشاعر النصراني الكبي (1) ر:
شغلت قلبي بحب المصطفي وغدت، عروبتي مثلي الأعلى وإسلامي .
لولا أن قائل البيت ينتهي اسمه (بالخوري) لكان لنا أن نعتبره من الشعراء المسلمين المتصوفين وهذا الشاعر الكبير (2) العربي الماروني
__________
(1) * الشاعر القروي رشيد الخوري.
(2) ** مارون عبود.(1/349)
الكبير سمى ابنه البكر محمدا، وكنى نفسه "أبا محمد" وألمع إلى الشهر الإسلامي "رجب" وهو يقول في مولده:
عشت يا بني، عشت يا خير صبي فهتفنا واسمه محمد
ولدته أمه في رجب أيها التاريخ لا تستغرب
وهذا الأديب الماروني يقول :الإسلام إسلامان، واحد بالديانة، وواحد بالقومية واللغة، وأن من لا يمت إلى محمد بعصبة، ولا إلى لغة محمد وقومية فهو ضيف ثقيل علينا، غريب الوجه بيننا.. ويا محمد، يمينا بديني ودين ابن مريم، وبخشبيات صليبه، إننا في هذا الحي من العرب نتطلع إليك من شبابيك البيعة، فعقولنا في الإنجيل، وعيوننا في القرآن (1) .
وهذا القس الماروني الشهير، الخوري يوسف اسطفان، خطيب القومية العربية في أوائل العشرينات، وصاحب القصيدة الشهيرة "جلاء الترك" التى ألقاها في بيروت في استقبال الأمير (الملك) فيصل بن الحسين.. ولنذكر أن فيصلا لم يعد إلى دمشق إلا والخوري اسطفان صاحبه ورفيقه، وأصبح الخوري الماروني بعدها داعيا للوحدة العربية في الوطن والمهجر، ومات والقضية العربية يهيج بها جنانه، ويموج بها لسانه.
وهذا الماروني النابغ أمين الريحاني، الأديب، السياسي، الرحالة، صديق الملك عبد العزيز آل سعود، ومن الدعاة الأوائل للوحدة العربية..
__________
(1) * أمين نخلة.(1/350)
بل إن أنبل معاني (الوحدة) تتجلى أكثر مما تتجلى في الأسر اللبنانية العريقة، وفي الأسرة الواحدة، هذا درزي وذاك ماروني، وذلك سني، وكلهم أبناء العمومة، ولا أعرف لبنانيا إلا ويعرف هذا، وأكثر من هذا..
ولو أنا نظرنا إلى الصعيد العالمي لرأينا الوحدات الاتحادية الشرقية منها والغربية، الأوروبية أو الآسيوية أو الإفريقية تتجمع كل طوائفها في إطار واحد من الوحدة... فهذه الوحدة الألمانية جمعت بين الكاثوليك في بافاريا، والبروتستانت في بروسيا...
والوحدة اليوغسلافية جمعت بين أرثوذكسي الصرب، وكاثوليك الكروات، ومسلمي البشناق.
وفي بلجيكا، الدولة الواحدة، يتكلمون الافرنسية والفلمنكية...
وهذه سويسرا الدولة الفدرالية يبلغ البروتستانت فيها 65 بالماية، على حين يبلغ الكاثوليك النسبة الباقية..
وفي فرنسا الدولة الواحدة.. نلاحظ فروقا كثيرة بين الافرنسي في الشمال، والافرنسي في الجنوب.. يعرف هذا المثقفون اللبنانيون، وفيهم من يجيد الافرنسية أكثر مما يجيدها أهل باريس.
وفوق هذا وقبل هذا، فإن العروبة ليست جنسا ولا عرقا ولا سلالة.. وهذا الرسول (صلعم) سيد العروبة، قد عرفها بقوله "ليست العروبة بأحدكم من أب وأم، وإنما هي باللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي".. وقد قالها الرسول العربي حينما أنكر جماعة من العرب عروبة سلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وبلال الحبشي، وكل هؤلاء من الصحابة السابقين..
فانظر كيف انصهر الفارسي، والرومي، والحبشي في "بحر" الوحدة(1/351)
العربية، تغذيه الروافد من هنا وهناك.. ذلك أن الوحدة العربية لغة وثقافة، وحضارة وتاريخ، وامتداد الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل.
وقد يبدو لأول وهلة، أن هذا الحديث عن لبنان والوحدة العربية هو من هواجس الشعراء الذين يحملون عواطفهم على قوافيهم ولكن "لبنان في الوحدة العربية" هو حقيقة علمية، سياسية، واقتصادية، وعسكرية و... و....
وهذا موضوع يحتاج إلى كتاب بكامله، ولكني أكتفي بأن أشير إلى ما ورد في تقرير لجنة "كينج كرين" التي أوفدها الرئيس الأمريكي ويلسون، في أوائل العشرينات لدراسة أحوال البلاد الشامية: سوريا،لبنان، فلسطين، وشرق الأردن..
فقد أعلنت تلك اللجنة في تقريرها بعد أن طافت في البلاد، واجتمعت إلى أعيانها وممثليها من مختلف الطبقات والطوائف.. "إن المنطقة موضوع البحث صغيرة جدا، وإن عدد سكانها صغير جدا، ثم إن وحدتها الاقتصادية والجغرافية والعنصرية واللغوية ظاهرة كل الظهور، يحيث تجعل من غير المرغوب فيه إقامة حكومات مستقلة منفصلة في ضمن هذه الحدود".
بل إن اللجنة لم تر مانعا في تقريرها بأن تدخل فلسطين في الوحدة السورية، فأعلنت بأنه "لا يوجد هناك سبب يمنع ضم فلسطين إلى سورية المتحدة كأقسام البلاد الأخرى.."
ولم تقتصر لجنة كسنج كرين على هذه النتيجة التي توصلت إليها، بل إنها أكدت حقيقة أخرى بالغة الروعة، فقد أضافت قولها "إن 72 في الماية من مجموع العرائض التي تتاولناها في سوريا مضادة للصهيونية، ولم ينل مطلب نسبة أكبر من هذه النسبة إلا الوحدة السورية".(1/352)
وإن هذا وغير هذا يضع على الجيل الصاعد مسؤولية كبرى إزاء الوحدة العربية، فذلك ما وصل إليه المد الوحدوي عند جيل العشرينات.. فأين جيل السبعينات..؟!
ولو... ولو أن عصبة الأمم، يومذاك، قد عهدت بالانتداب على ديار الشام إلى إنجلترا وحدها، أو إلى فرنسا وحدها.. لانتهى الانتداب في عام 1945، وديار الشام دولة واحدة، ولبنان جزء أصيل فيها..
ولكن بريطانيا وفرنسا والصهيونية، قد أرادت غير ذلك، فقد "منح" الانتداب على سوريا ولبنان إلى فرنسا، والانتداب على فلسطين وشرق الأردن إلى بريطانيا.. وعاش جيلنا ليرى الوطن الواحد أصبح الجمهورية اللبنانية، والجمهورية السورية، والمملكة الأردنية الهاشمية، ومع هؤلاء "إسرائيل" مغتصبة القطر الرابع: فلسطين.
هذا هو أمر لبنان والوحدة العربية... وقفنا عنده هذه الوقفة الطويلة، فهو أكثر الأقطار العربية "حاجة" إلى الوحدة العربية، لاعتبارات شتى...
وأول هذه الاعتبارات هو "بقاء" لبنان، دولة وشعبا.. إن مطامع إسرائيل في لبنان، لا تحتاج إلى إيضاح، وأول ما كشف عنها المفكرون اللبنانيون أنفسهم.. وإن لبنان لا تحميه الأمم المتحدة، ولا الدول الكبرى.. ولا تحميه كذلك الدول "المسيحية" فليس في العالم "دول مسيحية.. حتى الدول المسيحية" التي كانت تتمسح بلبنان في القرن الثامن عشر وما يعده كانت تتطلع إلى مصالحها، لا إلى "مسيحيتها"، وإلى المسيحيين في لبنان.(1/353)
إن الخطر على وجود لبنان يجب أن يعيه كل لبناني، وكل عربي يجب أن يعي هذا الخطر.. ولا سبيل لإنقاذ لبنان وغيره من الأقطار العربية إلا بالوحدة العربية..
ولكن الخطر على لبنان يجب أن تعيه أية "وحدة عربية" تقوم بين الدول العربية.
إن هذه "الوحدة العربية الدستورية" يجب أن يشعر فيها لبنان، وهو ينضم إليها، بالطمأنينة الكاملة والإخاء الشامل، في الحقوق والواجبات.. فلا يجد لبنان معها مناصا إلا أن يصيح مع : شاعر العرب الكبير، شوقي.
ضموني إلى العصبة ضموني.
ولست أقسو على لبنان، وأرحم غيره.. فالدول العربية جميعها تتحمل مسؤولية أكبر من مسؤولية لبنان في مجال الوحدة العربية.. وإني لأتساءل - ويتساءل معي كل مواطن من المئة مليون عربي.. لماذا لا تقوم الوحدات الثنائية بين الدول العربية، وذلك أضعف الإيمان...
لماذا لا تقوم الوحدة بين العراق وسوريا.. وقد كانت سورية في الماضي تتردد في الاتحاد مع النظام الملكي في العراق المرتبط بالمعاهدة البريطانية.. أما الآن فقد أصبح العراق جمهورية، وتحلل من المعاهدة البريطانية.. وأصبح العراق وسوريا معا تحت حكم حزب البعث، وشعاره الأكبر الوحدة العربية.
ولماذا لا تقوم الوحدة بين مصر والسودان.. ووحدة وادي النيل شعار قديم..(1/354)
ولماذا لا تقوم وحدة اليمن، الجنوب والشمال، للشعب الواحد والوطن الواحد (1) ...
ولماذا لا تقوم وحدة المغرب العربي الكبير، في الشمال الإفريقي، وقد كانت "الوحدة" ميثال جميع الذين جاهدوا لتحرير تونس والجزائر والمغرب..
لماذا لا تقوم هذا الوحدات الثنائية على الأقل، بين أقطار متجاورة متكاملة، لم تكن بينها حدود عبر التاريخ إلا في عهد الاحتلال والاستقلال.. وإذا كان الاحتلال قد ولى بخيله ورجله، فإن المسؤولية تقع على الاستقلال، وعلى الرؤساء الذين يتبوؤن هذا الاستقلال.
وليست هذه الاتحادات الثنائية أو الثلاثية بدعة جديدة على الصعيد الرسمي العربي، فقد نص ميثاق جامعة الدول العربية في عام 1945 في مادته التاسعة أن "لدول الجامعة العربية الراغبة فيما بينها في تعاون أوثق، وروابط أقوى مما نص عليه الميثاق، أن تعقد بينها من الاتفاقات ما تشاء لتحقيق هذه الأغراض".
بل إن الباب التاسع في الميثاق الوطني للجمهورية العربية المتحدة قد أعلن "أن أي وحدة جزئيه في العالم العربي تمثل إرادة شعبين أو أكثر من شعوب الأمة العربية هي خطوة وحدوية متقدمة تقرب من يوم الوحدة الشاملة، وتمهد لها، وتمد جذورها في أعماق الأرض العربية".
وإني لا أتحدث عن وحدات "الملكيات العربية" فإن النظام الملكي، بطبيعته نظام ليس له مكان في الوحدة في العصر الحاضر.. ولو كنت أعرف ملكا طموحا، تتوافر له القدرات، قدرات توحيد الأقطار العربية تحت لوائه، لوقفت عند عتباته، ووقفت حياتي على خدمته..
__________
(1) * قامت الوحدة بغم الفوارق بين النظام السياسي في كل من الشعارين بتاريخ 22/مايو(أيار)1990.(1/355)
لا أقول ذلك تعصبا للنظام الجمهوري على النظام الملكي.. لا.. ولكن لأن الأنظمة الملكية يمكن أن تقوم بينها اتفاقات للتنسيق والتعاون، لا للوحدة، فقد ذهب ذلك الزمان الذي كانت تقوم فيه الاتحادات بين الملكيات، بالسلاح أو بالنكاح!!
ألم يشهد التاريخ العربي الأخوة، يسفكون دمهم تحت قوائم العروش، وتتناثر أشلاؤهم على سرير الملك.. كان ذلك في الماضي..
وفي الزمن المعاصر.. قام الاتحاد الهاشمي بين فيصل والحسين أبناء العمومة , وجاء دستور الاتحاد على أنّ الملك حسين هو القائد الاعلى للجيش الاردني , فأي أتحاد هذا ؟؟ !! .
ان الاتحاد لا يقوم بين الملوك , ففي الماضي كان الملك الواحد قادرا أن يصنع الوحدة .. وهذا الملك عبد العزيز بن سعود قد وحَّد معظم أجزاء الجزيرة العربية، وليته عاش عشر سنين أخرى، وأسعفته مختلف الظروف، ليوحد الجزيرة كلها من البحر إلى الخليج.. فلا نشهد اليوم هذه الدويلات التي يصدق فيها قول الرصافي، شاعر العراق:
لنا ملك وليس له رعايا ومملكة وليس لها حدود
نحن نريد الوحدة، ونحن نبحث عن رئيس عربي يتصدى لقيادتها، لأنا لا نعرف في الوقت الحاضر ملكا مهيأ لهذا الدور القيادي، بطموحه وقدراته .. وليس لنا أن ننكر أن الوحدة في حاجة إلى الطموح الرفيع. والقدرات الفياضة..(1/356)
ألم يكن جيلنا المعاصر متعلقا بالشريف حسين، حين قاد الثورة العربية أثناء الحرب العالمية الأولى، ليكون ملكا للدولة العربية الكبرى.
ثم تعلقنا بأذيال ابنه الملك فيصل، بعد أن نكث الحلفاء عهودهم، ليكون بسمارك العرب، ويكون العراق، "بروسيا" العرب في سبيل وحدة الأمة العربية.
وبعد أن مات فيصل، توجهنا بخواطرنا وقلوبنا صوب الملك عبد العزيز آل سعود عاهل المملكة العربية السعودية، وقد تابعنا مسيرته الطويلة في توحيد الجزيرة العربية، فقد بدأ حياته النضالية في مطلع هذا القرن إماما للوهابية وأميراً على نجد، ثم نودي بالأمير عبد العزيز سلطانا على نجد وملحقاتها في عام 1921، ثم بويع ملكا على الحجاز في 1926، ثم بويع ملكا على نجد وملحقاتها في 1927، ثم أصبح ملك المملكة العربية السعودية في عام 1932، بعد أن تم توحيد نجد والحجاز وسائر الإمارات والمشيخات.
وبعد ذلك، توجهنا بعقولنا وخواطرنا صوب القاهرة، وجمال عبد الناصر، بعد أن مات الملكان الهاشمي والسعودي.. وبعد أن تصدت القاهرة لقيادة القضية العربية، في أعقاب ثورة 22 يوليو..
أقول كل هذا، حتى يكون واضحا أننا، نحن طلاب الوحدة العربية نبحث عنها حيث نجدها , ونسير وراء كل من يقودها , ملكا كان أو رئيسا .
واذا كنت قد تحدثت عن لبنان , كأصغر دولة في الوطن العربي، فإن الأمانة للوحدة تقضي، أن أقف قليلا عند مصر، كأكبر دولة في هذا الوطن الكبير..
إن مصر الثورة ستذكر في التاريخ، لا باشتراكيتها، ولا بالسد العالي، ولا بالتصنيع ولا باستصلاح الأراضي، وما أعظم هذه الإنجازات.(1/357)
إن مصر ستذكر بما هو أعظم من ذلك، ستذكر بعروبتها، التي اكتشفتها وأكدتها، قدرا لها، ومصيرا لحاضرها، ومستقبلها..
وقد لا يكون الجيل العربي الناشئ، على إدراك تام بمعنى هذا الكلام، ولكنه سيعرف مغزاه ومداه حين يقرأ مذهولا أن فيلسوف مصر الكبير أحمد لطفي السيد كان يقول "لا نرى في اتحاد سورية ومصر مصلحة لمصر، فإن المصري لا يعرف له وطنا غير مصر.. ونحن المصريين نحب بلادنا ولا نقبل مطلقا أن ننتسب إلى وطن غير مصر مهما كانت أصولنا حجازية أو بربرية أو تركية.. أليس إقرار المصري بانتسابه إلى العربية أو التركية لا يدل إلا على أنه يحتقر وطنه وقومه.. وليس لمصر أن تتواكل على أوهام يسميها بعضهم الاتحاد العربي".
كان هذا الكلام يعبر عن رأي مصر في مطلع هذا القرن ، فجاءت مصر الثورة في دستورها الجديد عام 1956 فحزمت وحسمت، وقررت لا عروبة مصر فحسب، ولكن مسؤوليتها الكاملة في النضال العربي.. وفي الوطن العربي بأسره..
وهكذا يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.. ذلك أنه لولا سلطة الثورة لاستمر الصراع بين عروبة مصر وفرعونية مصر، قرنا آخر.. ولا ندري لمن تكون الغلبة..
ولقد أحسنت مصر إلى نفسها كإقليم، والى الأمة العربية، والشعب المصري واحد من شعوبها.. فلقد عبرت مصر عن ذاتها، ووصلت ماضيها بحاضرها، ورهنت حاضرها بمستقبلها، وأحلت نفسها في الأمة العربية محل الرأس من الجسد.(1/358)
لقد كان مصطفى كامل زعيم مصر الكبير يقول :لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا"، وإن المواطن المصري المعاصر يستطيع أن يقول، عن أدراك لماضيه ووعي لحاضره، وتطلع إلى مستقبله:"لو لم أكن عربياً لوجب عليّ أن أكون عربيا
ولكن على مصر ان تدرك أنّ الرأس لا يصلح من غير جسد، وعلى الرأس كذلك، أن يعرف كيف يتصرف مع الجسد، والإنسان الرأس والجسد معاً.
وإذا كان صحيحا أن الأمة العربية من غير مصر، أشلاء منشورة، فإن مصر من غير الأمة العربية، جمجمة منثورة.
بل إن على كل دولة عربية، أينما كانت في الوطن العربي، ومهما كانت إمكاناتها وقدراتها، أن تدرك أنها من غير بقية الأقطار العربية دولة وانتهى.. كأية دولة لا شأن لها ، في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
إن الدول العربية الست في إفريقيا، من غير الأمة العربية، لن تكون أكبر شأنا من دولة تنزانيا أو ساحل العاج، في القارة الإفريقية..
وكذلك، فإن الدول العربية الثمانية في آسيا، من غير الأمة العربية. لن تكون أكبر شأنا من ماليزيا أو سنغافورة، في القارة الآسيوية.
ولكن الوحدة إذا جمعتهم جميعا ستجعل منهم، ومن قدراتهم الاقتصادية والعسكرية والبشرية، دولة في مصاف الدول الكبرى، ترهب عداوتها، وترغب في صداقتها.
ولقد قضيت سنين في الأمم المتحدة، في حوار دائم مع أبا ايبان "الوزير الإسرائيلي" بشأن القضية العربية، والوحدة العربية (1) .
__________
(1) * راجع كتاب المؤلف- أربعون عاما في الحياة العربية والدولية.(1/359)
كنت على منبر الأمم المتحدة أتحدث عن الأمة العربية الواحدة، وكان ايبان ينكر على الأمة العربية وحدتها، وينكر أن يكون الشرق الأوسط عربيا.. ففيه على حد تعبيره، أمم أخرى وحضارات متعددة، وثقافات متنوعة، لغير الأمة العربية.
وفي كتابه عن "مد القومية" أعلن ايبان من غير لبس ولا إبهام "أن القومية العربية السليمة ليست بالضرورة هي التي تعبر عن وجودها في التكتل الإقليمي الواسع الذي يجعل له مركزا واحدا فعالا في السيطرة.. إنه لمن الأفضل أن تنعكس هذه القومية في مجموعة دول قريبة، مع حفاظ كل منها على سلطتها وشخصيتها المتميزة.. إن الحقيقة العميقة التقدمية حول الشرق الأوسط لا يمكن وجودها في كلمة واحدة، وإنما توجد في كلمات أعظم هي التنوع والتسامح.. لقد وجدت منطقتنا مجدها الحقيقي حينما كانت هذه الكلمات شعارها.. لا يوجد نوع واحد للقومية العربية فقط، بل توجد أقوام عديدة من العرب يربطهم بعضهم ببعض، كما يربطهم في العالم ميثاق هيئة الأمم المتحدة، وهم يظهرون تنوعا غنيا من خلافات وثقافات إقليمية. (1)
هذه هي النصيحة "الغالية" التي يقدمها ايبان إلى الأمة العربية.. أن لا تتحد وأن تظل أربع عشرة دولة.
وعلى الأجيال العربية الصاعدة أن تعلم يقينا أن الواقع العربي، منسجم مع هذه النصيحة.. وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظم.
وقد.. وقد نترك الوحدة العربية للتطور العادي الهادئ، فلا نستحثها بمهماز الضرورات الاقتصادية والثقافية والسياسية التي توحد الأمة-أية أمة... في عصرنا هذا الذي نعيشه، عصر التكتلات والتجمعات..
__________
(1) * كتاب أبا ايبان The tide of Nationalizm .(1/360)
ولكن إسرائيل لا تمهلنا.. إنها لا تنتظر علينا، ولا تنتظر معها الإمبريالية والصهيونية العالمية.. وإذا ما بقيت هذه التجزئة في الوطن العربي فستنهار هذه الاستقلالات الإقليمية التي يحرص عليها الرؤساء العرب، وستنهار معها الثروات الإقليمية، وخاصة البترولية منها فلا تنفع "الإقليم" صاحبها، ولا الأمة العربية في مجموعها.
إن إسرائيل طامعة في ثرواتنا، وأنهارنا، ومناجمنا، وبترولنا، وكل خاماتنا. وإذا كانت أية دولة عربية تحسب أنها قادرة أن "تقعد" على ثرواتها وتصونها لنفسها، فإنها تخطئ الحساب.. وهذا كلام موجه إلى الدول البترولية خاصة..
وليس الحديث عن أطماع إسرائيل بالبترول العربي، لغوا في الكلام أو غلواً في التهويل، وهذا الزعيم الصهيوني مناحم بيجن يقول "عندما نسرح ببصرنا إلى الشمال نرى سهول سورية ولبنان الخصبة، وفي الشرق تمتد وهاد الفرات ودجلة الغنية وبترول العراق، وفي المغرب بلاد المصريين.. لن تكون لنا القدرة الكافية على النمو إن لم نسوّ قضايا الأراضي من مواقع القوة، وعلينا أن نجبر العرب على الطاعة التامة"، ولنذكر أن مناحم بيجن قد ازداد عدد أعضاء حزبه في انتخابات الكنيست الأخيرة.
إن الوحدة وحدها هي التي ستحمي البترول، لشعبها وللأمة العربية، ولن تقدر دولة بمفردها أن تحمي بترولها، ولا أرضها وسماءها..
وإنها لظاهرة تنبه الأذهان، أنه باستثناء إيران، فإن الدول
البترولية في العالم، هي دول اتحادية فدرالية.. كلها..(1/361)
فالولايات المتحدة تنتج 24 في المائة من بترول العالم، والاتحاد السوفيتي 15 في المائة، وفنزويلا 11 في المائة وكندا 3 في المائة، وإندونيسيا 2 في المائة، والمكسيك 2 في المائة..
كل هذه الدول البترولية، اتحادية فدرالية. ذات دساتير متنوعة، والبترول فيها نعمة للقطر الذي ينتجه، وللاتحاد الذي يصنعه ويصدره ويكرره... شأنه في ذلك شأن تلك الغمامة التي كان ينظر إليها الخليفة العباسي في بغداد ويقول لها:
اهطلي حيث شئت فإن خراجك سوف يأتينا..
ولن يكون البترول وحده، هو الذي سيكون ثروة الوحدة العربية.
إنّ الفكر العربي، والكفاءة العربية، والإنسان العربي الصالح، كل أولئك سيكون هو الثروة الكبرى للوحدة العربية.
إن دولة الوحدة ستكون، ويجب أن تكون، دولة الحرية، للمواطنين الأحرار...
ولست أعنى بها الحربة التي تمارس في موسكو، أو تطبق في واشنطن.. ولكنها حرية عريقة نابعة من تراثنا الخالد، لا ينعدم فيه الفرد ولا يطغى، ولا يستبعد الشعب باسم الشعب.
وبهذا يكون المواطن العربي، من أي قطر كان، مؤهلا لما هو مؤهل له في الدولة كلها...
إن رئيسي أمريكا، روزفلت الأول والثاني، من ولاية نيويورك.
إن رئيس ترومان، من ميسوري.
إن الرئيس جونسون، من تكساس.
إن الرئيس نيكسون، من كاليفورنيا.(1/362)
هذا بالنسبة لأمريكا، أما بالنسبة للاتحاد السوفييتي، فإن ستالين من جورجيا، وخروشوف من أوكرانيا، وميكوبان من أرمينيا.
ولو بحثنا في تراجم الرؤساء في الدول الاتحادية الأخرى، لوجدنا الأمر على مثل هذا الحال.
وعلى مثل هذا الحال يجب أن يكون الأمر في الجمهوريات العربية، يكون فيها رئيس الجمهورية من عدن، أو من الكويت، أو من القاهرة ، أو من دمشق، أو من الجزائر...
ونخلص من هذا العرض الموجز إلى أننا ندعو تقوم الوحدة العربية بين الجمهوريات العربية: العراق، سوريا، لبنان، الجمهوريات العربية المتحدة، اليمن الجنوبية، اليمن الشمالية، السودان، ليبيا، تونس، الجزائر..
وتصبح هذه الجمهوريات العربية "اتحاد الجمهوريات العربية" أو "الدول العربية المتحدة" مؤلفة من عشر جمهوريات عربية.. عدد سكانها يقارب الثمانين مليونا..
وقد يتساءل المتساءلون، وماذا نفعل "بالفجوات الاقتصادية والاجتماعية" التي أشار إليها الرئيس عبد الناصر في الميثاق الوطني (1962)، وماذا نفعل "بالمصالح المتباينة بين الدول العربية" التي أشار إليها الرئيس بورقيبة في رسالته التي وجهها إلى مؤتمر القمة العربي الثالث الذي انعقد في الرباط في عام 1965.
وهذان الرأيان من عبد الناصر وبورقيبه، ليس لهما سند من العلم والواقع، وإني أعتقد أن عبد الناصر قد قال ما قال متأثرا بعقدة الانفصال السوري، وقد آن له أن ينزعها من نفسه. وكذلك فإن رأي بو رقيبة مرده إلى عقدته مع عبد الناصر، وإنا لندعوه أن يبرأ منها.(1/363)
وهذه الجمهوريات العربية العشر، الإسلام فيها، دين للمسلمين، وثقافة وحضارة للمسيحيين، على حين أن الاتحاد الهندي فيه بضعة عشر دينا، ومذهبا وعقيدة..
وهذه الجمهوريات العربية العشر تتكلم اللغة العربية الواحدة، وليست كالاتحاد الهندي حيث يتكلم الناس 730 لغة ولهجة، أو كالاتحاد السوفيتي حيث يتكلمون 150 لغة، أو كالاتحاد الإندونيسي حيث يتكلمون 45 لغة رئيسية و 250 لهجة، أو كالاتحاد السويسري حيث يتكلمون أربع لغات.
وهذه الجمهوريات العربية العشر، تنتمي إلى الأمة العربية الواحدة، وليست كالاتحاد السوفيتي الذي يضم 180 قومية، أو كالولايات المتحدة التي تضم العناصر القومية التي تمثل كل قوميات العالم، أو كالاتحاد البريطاني الذي يضم أربع قوميات مختلفة، ولا تزال مختلفة.
وهذه الجمهوريات العربية العشر، لا تفصلها حواجز طبيعية متباعدة، فإنها ليست كالاتحاد الإندونيسي الذي يضم ثلاثة آلاف جزيرة تباعد بينها مسافات شاسعة من البحار..
وهذه الجمهوريات العربية العشر ليست متفردة في مجموع سكانها ومساحاتها، فهذا الاتحاد السوفيتي سكانه 234 مليون نسمة ومساحته ثمانية ملايين ونصف المليون ميل مربع، والولايات المتحدة مساحتها ثلاثة ملايين ونصف المليون ميلا مربعا وسكانها 220 مليون نسمة، والهند تبلغ مساحتها مساحة أوروبا بأسرها- باستثناء الاتحاد السوفيتي-وتبلغ مليون وثلث المليون ميل مربع وسكانها 550 مليون نسمة!!
وهذه الجمهوريات العربية العشر، ليس لأجزائها الكبيرة أن تشكو كثرة السكان، وأن تتذمر الصغيرة منها لقلة السكان، ففي الاتحاد الهندي نرى(1/364)
أن سكان دولة يراوش يبلغون 73مليون نسمة، وسكان دولة بهار 46 مليون نسمة، وسكان دولة مهارشترا 39 مليون نسمة، على حين أن سكان دولتي فاجالاند ويوندشري لا تتجاوز الواحدة منها نصف مليون نسمة.. ومثل هذا التباين السكاني نجده في الاتحاد الأمريكي والاتحاد السوفيتي (1)
وهذه الجمهوريات العربية العشر، لا تضم دولا كثيرة أو كبيرة، فالولايات المتحدة فيها خمسون دولة، والاتحاد الهندي يضم خمسا وعشرين دولة، والاتحاد السوفيتي يضم ست عشرة جمهورية، على حين أن جمهورية روسيا الأم تتألف بنفسها من عشر جمهوريات.
والجمهوريات العربية العشر، ليست لها شعارات متباينة، فهي ليست كالولايات المتحدة لكل ولاية شعار.. وها نحن نرى أن :
ولاية أركنساس، شعارها: الشعب يحكم....
ولاية كاليفورنيا شعارها: وجدتها (يوريكا)، التعبير اليوناني الشهير.
ولاية ماريلاند، شعارها : الذهب والفضة..
ولاية واشنطن، شعارها :رويدا رويدا..
ولاية كولا رادو: شعارها بمشيئة الله.
وهكذا وهكذا..
وإننا لنرى في الدول الاتحادية في العالم مظاهر طريفة، كلها تحفزنا إلى الوحدة العربية...
من هذه الطرائف أن الأرجنتين دولة اتحادية دستورها على نسق دستور الولايات المتحدة، وسكانها 25 مليون نسمة تسعون في الماية منهم
__________
(1) * واخترت الأرقام التقريبية الصغيرة لسهولة المقارنة.(1/365)
كاثوليك مؤلفة من 24 ولاية وتعتبر الأرجنتين ، أعظم مصدر للحوم في العالم. وهذه اللحوم هي إنتاج ولايتين لا أكثر..
وكذلك البرازيل وهي أكبر جمهورية في أمريكا الجنوبية، مؤلفة من عشرين ولاية، مساحتها ثلاثة ملايين وثلث المليون ميل مربع، وسكانها 65 مليون نسمة، 11بالمئة من سكانها بشرتهم سوداء، 27 بالماية ملونة ملونون 62 في الماية من البشرة البيضاء وتعتبر أعظم مصدر للقهوة ، وتنتج ربع خام الحديد في العالم. والقهوة والحديد من إنتاج ولايتين لا أكثر ..
وكذلك المكسيك مؤلفة من 29 ولاية، سكانها 20 مليون نسمة، وتعتبر من المصدرين الرئيسين للكبريت والبترول، وتنتج 40 بالماية من الفضة في العالم.. وهذه الثروات الثلاث تنتجها ثلاث ولايات لا أكثر...
وهذه استراليا الاتحادية، القارة السادسة، مساحتها ثلاثة ملايين ميل مربع، وسكانها 9 ملاين نسمة، مؤلفة من ست ولايات وثلاثة أقاليم مستقلة، وفيها السكان الأصليون من أصول مختلفة، مضافا إليهم الإنجليز والأوروبيون، والمجرمون العالميون الذين وجدوا فيها ملجأ عبر عشرات السنين!!
وهذه كندا الاتحادية مساحتها 4 مليون مربع، سكانها 15 مليون نسمة ، مؤلفة من عشر ولايات، وإقليم "يوكون" المستقل وسكانه 9 آلاف مليون نسمة!!
وهكذا يرى المواطن العربي أن الدول الاتحادية تضم أقاليم غنية، وأخرى فقيرة، كما "تختزن" في جوفها، فوارق عرقية ولونية، وتباينات اقتصادية واجتماعية.. وهذه كلها لم تكن "عقبات" بل حوافز إلى الوحدة..(1/366)
ولو أن المجال يتسع للمزيد لرأينا في الاتحادات العالمية طرائف طريفة من "الفجوات" التي يشكو منها الرئيس عبد الناصر، طرائف أخرى "من المصالح المتباينة" التي يشكو منها الرئيس بو رقيبة.
والواقع أن هذه "الفجوات" و "المصالح المتباينة" ليست قائمة إلا بين الرؤساء العرب أنفسهم، فهي ليست متأصلة في حياة الشعب ومصالحه الحقيقية.. إنها مشكلة في الرؤساء وليست في مشكلة في الشعوب..
وإن مشكلة الرؤساء في الواقع والحقيقة، هي كيف يكون الرئيس في الجمهورية المستقلة، غير رئيس في اتحاد الجمهوريات العربية.. هذه هي المشكلة ولا شيء سواها..
أما الأمة العربية، فإنها تجد مصالحها في اتحاد الجمهوريات العربية، أكثر تكاملا وتكافؤ مما هي عليه في ظل الجمهورية العربية الواحدة... وأن قليلا من العبارات يمكن أن تشرحها أرقام وإحصاءات:-
إن للأمة العربية في أقطارها المختلفة شكاوي كبرى.. ومن هذه الشكاوى:-
فلاح بلا أرض.. وأرض بلا فلاح..
بضاعة بلا أسواق.. وأسواق بلا بضاعة..
زراعة بلا صناعة... وصناعة بلا زراعة .
بترول، بلا قطن ولا قمح.. وقمح وقطن بلا بترول..
شعب يغرق بالفيضان المدرار.. وشعب يشرب من تحلية البحار.
ماشية ترعى في الحظائر.. وماشية تملأ الفيافي والقفار..
عمل بلا عمال.. وعمال بلا عمل...(1/367)
ومنها ما هو أهم المهام: المواد الذرية هنا.. والعقول الذرية هناك، والأموال هنالك!!
كل هذه وغيرها من المشاكل لا حل لها إلا باتحاد الجمهوريات العربية.. حتى النشاطات الإقليمية ستكون أكثر ازدهارا ونموا في عهد الوحدة، مما هي عليه الآن في عهد الحدود والقيود، في عهد المخافر والحواجز.. في عهد الرؤساء والرياسات.
على أنه إذا تعذر الجمهوريات العربية العشر لسبب أو لآخر.. وكثيرا ما تعثرت الوحدة في مسيرتها الطويلة.. فلا مندوحة من أن تقوم الوحدة العربية بين الجمهوريات الثلاث مصر والسودان وليبيا..
وإنا لندعو هذه الجمهوريات الثلاث أن تبادر إلى الوحدة الفورية، وتكون الطليعة في إقامة اتحاد الجمهوريات العربية.. ولا نرى لهم عذرا في التخلف..
أقول لا عذر لهم في التخلف عن الوحدة أو التباطؤ فيها، فإن عوامل التكامل بين هذه الجمهوريات، في الجوانب الاقتصادية والعمرانية والثقافية، تلح على الوحدة أيما إلحاح، وامتداد الأرض يجمع بينها..
ولا ينبغي أن يكون "الحكم" في هذه الجمهوريات الكبرى مشكلة. إن حكام هذه الجمهوريات الثلاث هم من الثوار .. والوحدة هي الامتحان الأكبر لثورية الثوار، ذلك أنها أرفع مراتب النضال الثوري الأصيل.
ولست أعرف "القذافي" ولا "النميري" ولكني أختار لكل منهما أن يكون نائبا للرئيس في الجمهورية العربية الكبرى.. ذلك أفضل من أن يكون أولهما رئيسا للجمهورية الليبية، والثاني رئيسا للجمهورية السودانية، هذا أملي فيهما، بل أمل الجماهير العربية...(1/368)
"إني أفضل أن أكون الأول في القرية على أن أكون الثاني في روما"، هو كلام بال قديم، ولا يصلح لهذا الزمن، ولا لأمة تريد أن تصون وجودها، ودينها وثرواتها.. إن الخطر الذي يواجهنا جميعا يفرض على أي واحد منا أن يكون الأخير في المدينة، على أن يكون الأول في القرية...
وبهذا الجواب الثاني، ننتقل إلى السؤال الثالث، متى نشرع في بناء دولة الوحدة؟
إن الوحدة الثلاثية بين القاهرة وطرابلس والخرطوم ستكون دولة الطليعة في حركة الوحدة العربية، وستجتذب إليها الدول العربية الأخرى، واحدة واحدة، فإن "جاذبية" الوحدة لا يمكن أن تصمد أمامها قوى الانعزال والانفصال.. لقد بدأ الاتحاد بين الولايات المتحدة، بثلاث عشرة ولاية، وهي الآن تضم خمسين ولاية، أو على الأصح خمسين دولة، حسب الترجمة الصحيحة الدقيقة (1) .
وجوابا على هذا السؤال، أريد أن أبادر إلى القول سريعا، إننا نريدها وحدة فورية، وإذا صح التعبير، نريدها بالأمس قبل اليوم، واليوم قبل الغد، والغد قبل ما بعده.
وإني لأذكر، حين عرضت في مؤتمر الخرطوم مشروع الدول العربية المتحدة، قال الرئيس إسماعيل الأزهري- نحن مشغولون الآن بإزالة آثار العدوان.. وأحسب أنه في قوله هذا كان يعبر عن رأي الملوك والرؤساء جميعا !!
__________
(1) * بالإنجليزية United States of America وترجمتها الصحيحة دول أميركا المتحدة.(1/369)
وقلت يومئذ أن الوحدة، وحدها هي التي تزيل آثار العدوان.. وها نحن في العام السبعين، والعدوان يدخل عامة الثالث.. وأخشى أن يدخل عامة الثلاثين إذا بقينا أربع عشرة دولة، وسنكون يومئذ في العام الألفين بعد الميلاد (1) !!
لقد مضت هذه الأعوام الثلاثة من عمر التحرير... ولقد تمت خلال هذه الفترة لقاءات عربية على كل مستوى، وتبادل الملوك والرؤساء الرسل والرسائل، ووزراؤنا ذرعوا الأجواء الدولية، والعربية وهم يتنقلون من عاصمة إلى عاصمة، ومن مؤتمر إلى مؤتمر، ورضينا بقرار مجلس الأمن على غير جدوى، حتى صدق فينا الكلام الشعبي، "رضينا بالذل والذل ما رضي فينا".
وتعلقنا بجهود (المستر يارنج) مبعوث الأمم المتحدة، ثم بالاجتماعات الرباعية بين الدول العظمى، وبالمشاورات الثنائية بين روسيا وأمريكا، وما جنينا إلا الهوان.. وضربت علينا الذلة والمسكنة، بعد أن خلعها العدو عن أكتافه، ورمى بها على أكتافنا...
وأنا أقول بالوحدة الفورية، لأني لا أريد أن نعلل الجماهير العربية بالكلام المترهل العليل بأن الزمن في صالحنا.. إن الزمن في صالحنا في ظل الوحدة، ولكنه في صالح عدونا إذا بقينا عشر جمهوريات، وثلاث ملكيات وإمارة واحدة...
إن جهدنا لإزالة آثار العدوان، لا ينبغي أن يشغلنا عن إقامة الجمهورية العربية الكبرى... بل إن علينا أن نشغل أولا وقبل كل شيء
__________
(1) * بل هو واقع الحال للأسسف في العام 2005.(1/370)
بإقامة الجمهورية العربية المتحدة، فهي وحدها تستطع أن تزيل العدوان، اللاحق والسابق...
إن الحركات الاتحادية التي نشأت في العالم، لو استقرأنا ظروف نشوئها.. لوجدنا أن الخطر الداهم الذي أحاط بها، كان أكبر الحوافز لانبثاقها... وذلك الخطر الداهم لم يكن شيئا مذكورا إزاء الخطر الداهم الذي يواجه الأمة العربية...
إن الخطر الذي واجه شعوب ألمانيا وإيطاليا وأمريكا في الماضي، ودفعها إلى الوحدة، لم يكن أكثر من خطر الاحتلال.. أما الأمة العربية فإنها تواجه معركة الفناء والبقاء، أن تكون أو ألا تكون.. إنه خطر الانحلال، والاضمحلال، لا خطر الاحتلال.
وليس في هذا الكتاب مجال للحديث عن مؤتمرات القمة، ما عجزت فيه وما أنجزت، ولكن قيام اتحاد الجمهوريات العربية لا ينفي مؤتمرات القمة إذا كان فيها خير.. ولكن تكون مؤتمرات قمة مؤلفة من خمسة أعضاء- اتحاد الجمهوريات العشر، والدول العربية الأربع الأخرى.
إن خمسة، في حساب القدرات المتجمعة، أقوى من الأربعة عشر والواحد أقوى منهم جميعاً.
وكذلك الأمر بالنسبة للجامعة العربية، بخيرها وشرها، فإن جامعة مؤلفة من خمس دول، أقوى تعاونا وتنسيقا من أربع عشرة.
ليس لنا أن ننكر أن الدول العربية قد ازدادت قدراتها العسكرية بعد العدوان.. وليس لنا أن ننكر البطولات العربية، والبسالات الفدائية التي تجلت في شعب فلسطين، ولكن ذلك سيسجل أمجادا تاريخية رائعة، ولا يحقق إنجازات حاسمة، لا بإزالة آثار العدوان، ولا لتحرير فلسطين..(1/371)
هذه البطولات العربية، والبسالات الفلسطينية، نستطيع بها أن نقطف أزهارا، لا أن نجني منها ثمارا وإن العمل الفدائي، وما أروعه وأرفعه، سيظل مخفوفا بالمخاطر، إذا لم تقم وراءه وحوله وحدة عربية، تنبثق عنها وحدة عسكرية..
إن الجمهوريات العربية المتحدة، ومعها شعب فلسطين في الطليعة، هي وحدها التي تستطيع أن تخوض معركة المصير، وأن تنهي المعركة بالنصر.
إن معركة المصير لا تستطيع أن تخوضها الأمة العربية وعلى رأسها أربع عشرة دولة .. عشر منها، لا يتجاوز سكان الواحدة منها خمسة ملايين نسمة..
بل إن أربعة منها لا يتجاوز سكانها مجتمعين عدد سكان القاهرة، وليس الأمر سرا أنها : ليبيا ولبنان، والكويت، واليمن الجنوبية ...
إن النصر لن يكون حليف الأمة العربية وفيها مثل هذه "الدويلات" ... إن الدولة العربية الواحدة هي طريق النصر.. إنه الطريق الوحيد لا طريق سواه..
وتبقى هنالك "عقبة " أمام الوحدة العربية، وأعنى بها موقف الدول العظمى من قضية الوحدة...
والأمر لا يحتاج إلى تدليل أو تعليل لنثبت أن الدول العظمى، لأسباب متباينة هي عدوة الوحدة بلا جدال.. فإن المصالح الدولية لكل من الأعداء والأصدقاء حريصة على بقاء التجزئة والانفصال في الوطن العربي، فالاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، ترى الخير كل(1/372)
الخير أن تتعامل مع أربع عشرة دولة متنافرة بدلاً من ان تتعامل مع دولة كبرى واحدة، لها سياسة واحدة وأهداف واحدة..
وإذا كانت بريطانيا وفرنسا قد وضعتا "الحدود" وأقامتا الدول العربية على هذه "الحدود" فإن الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، راضيتان بهذه الحدود، وتعارضان إزالتها، وتكرهان أن يصبح شعار من "المحيط إلى الخليج" حقيقة علمية، نابضة بالحياة...
وإذا كان موقف الدول العظمى مفهوما على هذا الشكل، وهو موقف تمليه مصالح تلك الدول، فإنه ليس مفهوما ولا طبيعيا أن ننصاع لهذا الموقف، وأن نعتبره جبال هملايا التي نستطيع زحزحتها..
وفي حواري عبر السنين مع الرؤساء العرب كنت استمع إلى مخاوفهم من الوحدة تتردد على صيغ مختلفة : إذا أقمنا الوحدة فإن بريطانيا وأمريكا تصنعان انقلابا علينا .. إذا أقمنا الوحدة فإن الاتحاد السوفيتي يمنع عنا السلاح.. إذا أقمنا الوحدة فإن فرنسا تتوقف عن تقديم طائرات الميراج إلى بعض الدول العربية.. والواقع أن المسؤولين الافرنسيين قد أعلنوا غير مرة أنهم سيوقفون صفقة الميراج مع ليبيا إذا دخلت في وحدة مع الجمهورية العربية المتحدة..
ولست أريد أن أخوض طويلا في هذا الموضوع.. يكفي أن أؤكد عن تبصر وروية أنه ليس لنا أن نخاف من هذا "التخويف".. هذه حرب أعصاب لا يصح أن ننهزم أمامها...
حين نقيم الجمهورية العربية الكبرى، نستطيع أن نأخذ سلاحا أكثر، وبشروط أفضل.. إن جمهورية عربية كبرى هي التي تملي شروطها، ولا يستطيع أحد أن يملي عليها شروطه..(1/373)
وإذا كنا سنظل نخاف من هذا " التخويف" فلن تقوم الوحدة العربية أبدا...
لقد انتزعنا الاستقلال من مخالب الدول العظمى، وعلينا أن ننتزع الوحدة.. وبالكفاح كما فعلنا من أجل الاستقلال..
هذه هي آرائي بصدد الوحدة العربية جعلتها الفصل الأخير في ذكرياتي عن الوحدة، بعد أن مشيت في ركابها قرابة ثلاثين عاما، فوقفت في ظلالها يوم تعثرت، وفي أفيائها يوم تعسرت..
وكان بوسعي أن أرضى بتطورها التدريجي لولا أني رأيت الخطر الماحق الساحق ينذر بالفناء، وأصبحت أخاف أن يأتي يوم، ولا تكون فيه الأمة العربية لتبني الوحدة.
لست خوافا، ولا جبانا، ولا رعديدا، ولا أريد أن أفشي الخوف في نفوس الأمة.. ولكني خائف من أعماق عقلي، لإني أدرس الحركة الصهيونية وعرفتها، وخائف من أعماق فؤادي، لأني بلوت الحركة الصهيونية وعجمت عودها...
غير أن خوفي يتبدل أمنا وسكينة، إذا أصبح عام 1970 هو عام الوحدة العربية، العام الذي يقوم به اتحاد الجمهوريات العربية.
وما أدري إذا كان الأجل سيمتد بي لأرى تحرير فلسطين، ويكتب الله لي أن أدفن إلى جوار الأحبة، حيث يرقد الأعزاء من الآباء والأجداد .. ولكني أموت مستريح البال قرير العين، إذا رأيت الوحدة العربية في حياتي، ولا أبالي بعد ذلك أموت حيثما أموت.. لأن رفاتي ستجد طريقها إلى فلسطين .. حرة عربية، في وحدة عربية.(1/374)
وبهذه الروح الصافية، خاطبت في هذا الفصل رؤساء العرب، وقد كتمت الكثير من حزني، وكظمت الكثير من غضبي.. وجعلت كلامي في الحد الأدنى من الصراحة.. ومن شاء أن يمنعني عن "جمهوريته" فليتفضل .. فلن أعدم موطنا في الربع الخالي.. وما أروع قول الإمام الشافعي رضي الله عنه:
أنا إن عشت لست أعدم قوتا ... وإذا مت لست أعدم قبرا
ويكفيني في ختام كلامي، أن أذكر رؤساء العرب العشرة، بقول الله تعالى "وأنّ هذه أمتكم أمة واحدة". صدق الله العظيم .(1/375)