الجدل العلمي بين العلامة محمد زاهد الكوثري ومعاصره الحافظ أحمد بن الصديق الغُمَاري المغربي
للأستاذ الدكتور توفيق بن أحمد الغلبزوري
كلية أصول الدين- جامعة القرويين- تطوان - المملكة المغربية
موضوع البحث : الجدل العلمي بين العلامة محمد زاهد الكوثري ومعاصره الحافظ أحمد بن الصديق الغُمَاري المغربي
للأستاذ الدكتور توفيق بن أحمد الغلبزوري كلية أصول الدين – جامعة القرويين- تطوان – المملكة المغربية
مقدمة
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع هداه ، وبعد ،
فإن أهل العلم من الأقران والمعاصرين لا يزال يرد بعضهم على بعض ، ويختلف أحدهم مع الآخر ، ويراجعه القول والكلام ؛ في القضايا والمسائل العلمية ؛ لأن ( كل واحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر ) كما قال الإمام مالك ، و ( ما منا إلا رادٌّ أو مردود عليه ) كما قال بعض الأئمة كذلك .
والاختلاف في وجهات النظر ، والردود في الأمور الاجتهادية ، ظاهرة طبيعية وصحية ، تغني الاجتهاد العلمي الفكري بخصوبة في الرأي ، وقوة في الأدلة ، ورؤية واسعة فسيحة ، ثم إن الاختلاف إذا اشتدَّ واحتدَّ - بعد ذلك – عند أحد المخالفَيْن أو كليهما ؛ بسبب اختلاف المناهج والرؤى ، سمي جدلا .
وقد خاض العلامة الكوثري جدلا علميا كبيرا ، ومعارك فكرية ؛ مع بعض معاصريه من العلماء ، وعلى رأسهم حافظ المغرب أحمد بن الصديق الغماري المتوفى بالقاهرة سنة 1380 هـ ؛ رغم علاقة الصداقة والمحبة التي جمعتهما ، والاعتراف بالعلم الراسخ لبعضهما البعض .(1/1)
وكان سبب احتدام الجدل العلمي بينهما تعريض الكوثري بالغماري في موضعين من كتبه ومقالاته ، وانتقاده نقدا علميا ؛ قاسيا أحيانا ، وهذا دفع الغماري إلى الرد بكتاب سماه ( بيان تلبيس المفتري محمد زاهد الكوثري أو رد الكوثري على الكوثري ) ، وجعله مقدمة لم تتم . وكان قد عقد العزم على مقابلة جل كتب الكوثري بردود من جنسها ، فيقابل النكت الطريفة للكوثري بالغارة العنيفة ، والتأنيب بسوط التأديب ، وإحقاق الحق بالتمزيق والخرق(1) ، ولكنه لم يفعل بسبب العلاقة الطيبة بينهما كما ذَكر في بعض رسائله .
وقد حاولنا في هذا البحث جَهْدَنا تتبع هذا الجدل العلمي ، والتركيز على منهج الجدل وآليته ، ومقصده وموضوعه ، وطريقته وأسلوبه ، مع طي ما لا علاقة له بالعلم من الألفاظ النابية والقاسية ، التي أقر بوجودها أخو الغماري العلامة عبد الله ـ وهو من محبي الكوثري وأصدقائه وتلامذته ـ حيث قال : ( فكَتب شقيقُنا ردا عليه ـ أي على الكوثري ـ جمع فيه سقطاته العلمية ، وتناقضاته ، وقسا عليه بعض القسوة(2) ) .
ومعروف أن كلام الأقران بعضهم في بعض يُطوى ولا يُروى ؛ لأنههم بشر يرضون ويغضبون ، والقول في الرضا غير القول في الغضب ، وإن المعاصرة حجاب ؛ كما هو مقرر في قواعد النقد في علوم الحديث .
وقد سلكت في هذا البحث خطة يجدر بي أن أبين خطوطها المجملة ، وهي على النحو الآتي :
ـ مقدمة
ـ المبحث الأول : بواعث احتدام الجدل العلمي بين العالِمَيْن
أولا : معنى الجدل العلمي وبيان أن الرجلين جدليان
ثانيا : مواطن الائتلاف والاختلاف بين الرجلين
ثالثا : ترجمة قصيرة للحافظ أحمد بن الصديق الغماري
رابعا : العلاقة بين الرجلين المتعاصِرَيْن وأقوال بعضهما في بعض
خامسا : ردود العلامة الكوثري على الحافظ الغماري
__________
(1) انظر: رد الكوثري على الكوثري ، لأحمد بن الصديق الغماري ، ص : 43 .
(2) بدع التفاسير ، لعبد الله بن الصديق الغماري ، ص : 181 .(1/2)
ـ المبحث الثاني : ملامح المنهج الجدلي في رد الحافظ الغماري على العلامة الكوثري
…………المطلب الأول : ملامح المنهج الجدلي العام
المطلب الثاني : ملامح المنهج الجدلي التفصيلي
القسم الأول : ملامح المنهج الجدلي الحديثي
القسم الثاني : ملامح المنهج الجدلي الأصولي
أ ـ منهج الجدل في أصول الدين
ب ـ منهج الجدل في أصول الفقه
ونسأل الله تعالى العون والرشاد ، والتوفيق والسداد .
المبحث الأول :
بواعث احْتِدَام الجدل العلمي بين العَالِمَيْن
أولا : معنى الجدل العلمي وبيان أن الرجلين جدليان
…1- معنى الجدل العلمي
أصل كلمة الجدل الشدة والغلبة ، واستعملت في المناظرة والمخاصمة ؛ لأنهما يحتاجان إلى قوة في الكلام والحجج . وتشترك المجادلة مع الحوار في كونها مراجعة الكلام وتداوله بين طرفين ، إلا أنها تأخذ طابع القوة والغلبة والخصومة . وفي اللغة : تسمى شدة الفَتْل جدلا ، وجدلت الحبل أجدله جدلا : إذا شددت فتله وفتلته فتلا محكما ، والجَدل اللَّدَدُ في الخصومة ، ورجل جدِل شديد الجدال ، إذا كان قويا في الخصام ، وفي الحديث : ( ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ) (1) ، والجدل مقابلة الحجة بالحجة ، والمجادلة المناظرة ، والمراد به في الحديث المذكور : الجدل على الباطل وطلب المغالبة به لا إظهار الحق فإن ذلك محمود لقوله عز وجل : ( وجادلهم بالتي هي أحسن ) " النحل : 125 " (2) .
__________
(1) أخرجه الترمذي في السنن ، كتاب التفسير ، باب : ومن تفسير سورة الزخرف ، رقم الحديث : 3253 ، وأخرجه ابن ماجة في المقدمة ، اجتناب البدع والجدل ، رقم الحديث : 48 ، وقال الترمذي : هذا الحديث حسن صحيح ، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي 3/32 ، .
(2) لسان العرب ، لابن منظور ، مادة : جدل ، 2/212 .(1/3)
وقد ورد لفظ الجدال في القرآن الكريم في تسعة وعشرين موضعا ، كلها مذمومة إلا في ثلاثة مواضع ، والجدل في الشرع نوعان : محمود مأمور به شرعا ، ومذموم منهي عنه شرعا وهو قسمان : جدل بغير علم ، وجدل لنصرة الباطل .
والجدل العلمي المحمود هو الذي أنشأ علما إسلاميا خاصا سمي علم الجدل والمناظرة : وهو علم يتعلق بقواعد نظرية وأخلاقية ، تضبط المباحثات والمناظرات ؛ لاستبعاد الخطأ والشك من النتائج التي يتوصل إليها المتناظران (1) .
…2- بيان أن الرجلين جدليان
……إن الاختلاف العلمي إذا اشتد واحتد عند أحد المخالفين أو كليهما بسبب اختلاف المناهج والرؤى ، سمي جدلا ، وقد كان الرجلان جدليين ؛ بكل ما تحمل الكلمة من معنى ، وكتُبهما جلُّها ردود وتعقيبات ومناقشات جدلية ، ومناظرات عقدية وحديثية وفقهية،وهي أكثر كتبهما الباقية بأيدي الناس اليوم .
وكلا الرجلين حذق أساليب علم الجدل والمناظرة ؛ فلذلك جاءت ردودهما تحمل أحيانا أسلوبا حادا وعنيفا ، ونفسا ثائرة فائرة ، ولكنها أتت في نفس الوقت ؛ بمنافع علمية عظيمة ، وثمار شهية ، ما كان الرادون سينبعثون لها لولا الاستثارة للسواكن ، والاقتداح للكوامن ، مما يفضي إلى توقُّد الطبع،واحتدام الخاطر ، وتهيُّج النشاط ، وتوسُّع العلم .
وقد خاض كلاهما جدلا علميا كبيرا ، ومعارك فكرية ؛ مع بعض معاصريهما من العلماء ؛ حتى ملآ بذلك الدنيا وشغلا الناس ، وكانا في عصرهما قُطبَا الرحى لهذا الجدل الدائر ، الثائر والفائر .
فالعلامة الكوثري خاض جدلا علميا مع بعض علماء عصره : كعلامة الشام محمد بهجت البيطار، وعلامة اليمن عبد الرحمان بن يحيى المعلمي اليماني ، وحافظ المغرب أحمد بن الصديق الغماري ، وعلامة الحرم المكي محمد عبد الرزاق حمزة وغيرهم .
__________
(1) موسوعة المفاهيم الإسلامية العامة ، ( أدب البحث والمناظرة ) ، أحمد الطيب : ص 34 .(1/4)
والحافظ الغماري سلك المسلك نفسه مع سائر معاصريه في المشرق والمغرب ؛ بحيث يجْهَدُ المرء في تتبُّع أسمائهم ، والكتبِ والرسائلِ التي أفردها في الرد عليهم ومجادلتهم .
ثانيا : مواطن الائتلاف والاختلاف بين الرجُلَيْن
يأتلف الرجلان ويلتقيان في موضوع التصوف ، وما يتبعُه من جواز التوسل ، وإقامة المحاريب ، وبناء المساجد والقباب على القبور ؛ والصلاة إليها ، وغير ذلك ، فالعلامة الكوثري كان صوفيا ، وله رسائل ومقالات في الدفاع عن التصوف ، وكذلك كان الحافظ الغماري ، فهو شيخ الطريقة الدرقاوية الشاذلية بطنجة بعد أبيه ، وله رسائل وأقوال في النفاح عن مذاهب الصوفية .
……ويختلف الرجلان ويفترقان في : باب الأسماء والصفات من أبواب العقيدة ، فالغماري سلفي في هذا الباب ، والكوثري ماتوريدي منتصرٌ للماتوريدية غاية الانتصار ، وفي الفروع : فالكوثري يدعو إلى تقليد أحد المذاهب الأربعة المتبوعة ، واختار هو مذهبَ الحنفية ، وندد باللاَّمَذهبية ، وألف في ذلك رسالته (اللامذهبية قنطرة اللادينية ) ، والغماري يدعو إلى الاجتهاد ، والأخذ بالدليل ، بل يزعم لنفسه الاجتهاد المطلق ، وهو شديد على مقلدة المذاهب إلى حد الغلو في ذلك ؛ حتى إن له مؤلفا خاصا في ذلك سماه (الإقليد في تنزيل كتاب الله على أهل التقليد ) ، عمد فيه إلى تنزيل الآيات الواردة في المشركين والكفار على المقلدة .
وهذا الاختلاف أحيانا في الرؤية والمنهج بين الرجليْن كان من بواعث احتدام الجدل العلمي بينهما .(1/5)
ثالثا : ترجمة قصيرة للحافظ أحمد بن الصديق الغماري(1)
هو الشيخ الإمام الحافظ ، والمحدث الناقد ، نادرة العصر، وفريد الدهر ، شهاب الدين ، أبو الفيض ، أحمد بن محمد بن الصديق الغماري الطنجي المغربي ، ولد عام عشرين وثلاثمائة وألف بقبيلة بني سعيد إحدى قبائل غمارة ، ونشأ وترعرع بمدينة طنجة ، ثم شد الرحلة إلى القاهرة ؛ فتابع دراسته على أكبر علمائها إلى أن برع في سائر العلوم الإسلامية ، وأقبل على علم الحديث الشريف ، وأتقنه جدا ، وصار متخصصا مجتهدا فيه ، أوحد عصره في علومه ، حافظا لمتونه ، بصيرا برجاله ، عارفا بصحيحه من سقيمه .
وكان على اطلاع واسع ، وذكاء مفرط ، وحافظة نادرة ، قوي الحجة ، بليغ العبارة ، فصيحا ، زاهدا، منقطعا لخدمة السنة النبوية ، حريصا على نشرها . وثار على الاستعمار الإسباني بالسلاح مرتين ، وسجن ونفي من وطنه .
وله مؤلفات ممتعة في الفقه ، والحديث وعلومه ، والتاريخ ... طبع منها الكثير ، ولا زال بعضها مخطوطا، وكان في الأصول على مذهب السلف ، وفي الفروع على مذهب أهل الحديث ، والعمل بالدليل يدور معه حيث دار ، شديدا على مقلدة المذاهب ، متصوفا ، معتقدا في ذلك .
توفي رحمه الله عام ثمانين وثلاثمائة وألف 1380 هـ من جراء مرض القلب العضال الذي كان يكابده ، في منفاه الأخير بالقاهرة .
وقد تركت ترجمة العلامة الكوثري ـ رحمه الله ـ لأن هناك ـ إن شاء الله ـ في بحوث المؤتمر من سيكفيني المؤنة ، وانصياعا لنصيحة اللجنة المنظِّمة ، وتجنبا للتطويل .
__________
(1) أنظر ترجمته في : البحر العميق في مرويات ابن الصديق ، لأحمد بن الصديق الغماري ، مخطوط خاص ، وحياة الشيخ أحمد بن الصديق ، لتلميذه عبد الله التليدي ، وإسعاف الإخوان الراغبين بترجمة ثلة من علماء المغرب المعاصرين ، لابن الحاج السلمي ، ومقدمة در الغمام الرقيق برسائل الشيخ أحمد بن الصديق ، لعبد الله التليدي .(1/6)
رابعا : العلاقة بين الرجليْن المتعاصريْن وأقوال بعضهما في بعض
لقد كان بين العلامة الكوثري والحافظ الغماري علاقة صداقة ومحبة ، رغم الجدل العلمي والاختلاف الفكري الذي كان بينهما ، إذ يصف الأول الثاني في كتابه الذي رد به عليه : ب ( صديقنا الأستاذ الكوثري)(1) ، ويقول مبينا منزلة الكوثري العلمية عنده : ( وأما الشيخ زاهد الكوثري .. فإنه عالم فاضل ، مطلع ، واسع الاطلاع والدراية ، مع المشاركة في كثير من الفنون ... وقد كنت شرعت في الرد عليه .. ثم توقفت لكون الرجل يدعي لنا بالمحبة والصداقة ، ولنا معه مجالس طويلة ، والحق أولى منه )(2) .
ويظهر أن العلامة الكوثري كان على صلة طيبة بالأسرة الصديقية الغمارية كلها بالقاهرة ؛ كتلميذيه : عبد الله بن الصديق ، وعبد العزيز ، أخوي الشيخ أحمد ، يقول عنه الشيخ عبد الله : ( كان بيني وبين الأستاذ الكوثري صلة وثيقة ، رغم سعي بعض الحاقدين لإفسادها ، وكان يقدرني كثيرا ، حتى إني لما استجزته قبيل وفاته بسنة استجازني ، وكان يسألني عن الأحاديث التي يسأله عنها بعض الناس ، واستمرت صلتنا كما هي إلى وفاته ، رحمه الله وأثابه رضاه )(3) .
__________
(1) رد الكوثري على الكوثري ، ص : 10 .
(2) الجواب المفيد للسائل والمستفيد ، لأحمد بن الصديق الغماري ، ص : 40 .
(3) مقالات الكوثري ، ص : 211 .(1/7)
ويقول : ( ونحن وإن عبنا عليه تعصبه للمذهب الحنفي ، لكراهتنا للتعصب المذهبي إطلاقا ؛ فإننا نقدر له علمه وفضله ، ونعتبره وحيد عصره ، وفريد دهره في كثرة الاطلاع...)(1) ، ويقول : ( وكنا نعجب بالكوثري لعلمه وسعة اطلاعه ، كما كنا نكره منه تعصبه الشديد للحنفية تعصبا يفوق تعصب الزمخشري لمذهب الاعتزال ، حتى كان يقول عنه شقيقنا الحافظ أبو الفيض : " مجنون أبي حنيفة " )(2) .
أما العلامة الكوثري فكان مقدرا جدا لعلم وفضل الأسرة الصديقية الغمارية بالقاهرة ، ولنستمع إليه وهو يثني على عبد الله بن الصديق الغماري ويصفه بألقاب علمية فخمة حيث يقول : ( فضيلة الأستاذ العلامة المحدث الناقد السيد عبد الله بن الصديق الغماري ـ حفظه الله ـ له براعة فياضة تفيض تحقيقا ، كلما جد الجد ، ووجب الرد ، فتُوقِف المتهجمين على معتقد الجماعة عند حدهم ، ولم تزل مواقف فضيلته ضد المشبهة ، ونفاة التوسل ، والمغالين في استنكار المحاريب ماثلة أمامنا ، تشهد بنبل الرأي ، ودقة النظر ، وغزارة العلم ، والبراعة في الرواية والدراية ، فيتوالى شكر أهل العلم والدين من أعماق القلوب على إجادته البالغة في الرد عليهم )(3) ، ثم يثني ثناء عطرا كذلك على كتاب عبد الله الغماري البديع المسمى ( إقامة البرهان على نزول عيسى في آخر الزمان ) الذي أحسن فيه كل الإحسان كما يقول العلامة الكوثري رحمه الله(4) .
وإذا كان هذا هو الثناء العلمي الكبير للعلامة الكوثري على عبد الله ، فما عساه يكون ثناؤه على أخيه الكبير الحافظ أحمد الغماري ، وما عبد الله إلا غَرْسُ يدِه ، وناهِجُ نهجِه ، حذو النَّعْل بالنعل ؟
__________
(1) إرغام المبتدع الغبي بجواز التوسل بالنبي في الرد على الألباني الوَبِيّ ، لعبد الله بن الصديق الغماري ، ص : 15 .
(2) بدع التفاسير ، لعبد الله الغاري ن ص : 180 .
(3) مقالات الكوثري ، ص : 211 .
(4) المصدر السابق ، ص : 213 .(1/8)
خامسا : ردود العلامة الكوثري على الحافظ الغماري
إن من البواعث المباشرة على احتدام الجدل العلمي بين الرجلين تعْرِيض العلامة الكوثري بالحافظ الغماري في مواضع من كتبه : فتعَرَّض له في كتابه ( تأنيب الخطيب على ماساقه في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب ) حيث حاول تصحيح حديث : ( لو كان العلم بالثريا لتناوله رجال من فارس ) وعدَّه مبشرا بأبي حنيفة ـ رحمه الله ـ واردا في فضله .
وكان الحافظ أحمد بن الصديق الغماري قد ضعف الحديث بلفظ (العلم) من قَبْلُ في كتابه ( المثنوني والبتار)(1)، ثم أفرده في رسالة سماها ( إظهار ما كان خفيا من بطلان حديث لو كان العلم بالثريا)(2) ،فردّ عليه العلامة الكوثري بكلمة شديدة وقاسية قال فيها : ( ومن وهَّى الحديث من أبناء هذا العصر ، فقد أساء إلى نفسه ، وحاد عن سبيل أهل العلم ، ونطق خَلْفا ، واتبع سبيل غير المؤمنين )(3) .
__________
(1) أنظر : بدع التفاسير ، ص : 180-181 .
(2) أنظر : فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي ، لأحمد بن الصديق الغماري ، ص : 118 .
(3) تأنيب الخطيب على ما ساقه في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب ، لمحمد زاهد الكوثري ، ص : 63 .(1/9)
ولما ألف الحافظ الغماري كتابه : ( تحسين الفعال بالصلاة في النعال )(1) ، رد عليه العلامة الكوثري برسالة، لعلها هي المطبوعة ضمن مقالات الكوثري ، والتي سماها : (كشف الرؤوس ولبس النعال في الصلاة) قال في مستهلها : ( كثر التساؤل هذه الأيام عن حكم صلاة المصلي وهو حاسر الرأس من غير عذر ، وعن حكم الصلاة في النعال ، حيث نجم أناس يلذّ لهم إنكار المعروف وإذاعة المنكر ، ومفاجأة الجمهور بخلاف ما توارثوه خلفا عن سلف ، وهؤلاء المُتَمَجْهِدُون(2) الساعون في الفتنة بإثارة قلاقل بين المسلمين في بيوت الله في عباداتهم له سبحانه...)(3) .
وهذا كله من الأسباب والدوافع التي أجَّجَت الجدل العلمي بين الرجليْن ، ودفعت الحافظ الغماري إلى تحرير مقدمته للرد ؛ حيث قال : (... ولذلك أنكر ـ أي الكوثري ـ كون الصلاة في النعال سنة ، مع أنه تواتر من قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله ، وجعل نشر ذلك والاستدلال له : من شذوذ المتمجْهِدِين ، في مقال نشره في " مجلة الإسلام " ردا على كتابنا " تحسين الفعال على الصلاة في النعال " ، وبلغَنا أنه أفرد جزءا لذلك ، وردنا هذا ففي الحقيقة إنما مقدمة للرد عليه في تلك المسألة ، حيث تأخر وُرُود رسالته في الرد ، فعالجناه بهذا ريثما نقف على رده )(4) .
المبحث الثاني :
ملامح المنهج الجدلي في رَدِّ الحافظ الغُماري على
العلاَّمة الكوثري
المطلب الأول : ملامح المنهج الجدليّ العام
__________
(1) طبع بمصر في حياة المؤلف ، كما في فتح الملك العلي ، ص : 119 .
(2) لفظ قادح يزري فيه بدعاة الاجتهاد النابذين للتقليد مثل الغماري وغيره ، وقد ذكر الغماري هذا اللفظ في كتابه وأكد أن الكوثري يعنيه به
(3) مقالات الكوثري ، ص : 135 .
(4) بيان تلبيس المفتري محمد زاهد الكوثري أو رد الكوثري على الكوثري ، لأحمد بن الصديق الغماري ، ص : 245 .(1/10)
يجدر بنا قبل الخوض في المنهج الجدلي التفصيلي عند الحافظ الغماري ، الكلام عن بعض ملامح منهجه العام في الكتاب الذي أفرده للرد على العلامة الكوثري ، والذي سماه : " بيان تلبيس المفتري محمد زاهد الكوثري أو رد الكوثري على الكوثري " :
1 - هذا الكتاب كتبه الحافظ أحمد بن الصديق الغماري المتوفى سنة 1380 هـ ردا على عَصْرِيِّه العلاّمة محمد زاهد الكوثري المتوفى سنة 1371 هـ .
2 - جعله المؤلف مقدمة في مجلد لردِّه المفصل الذي مات دون إتمامه كما في " فتح الملك العَلِيّ "(1)، وقد تحدث المؤلف الغماري نفسه عن هذا ومنهجه فيه فقال ـ في إحدى رسائله إلى تلميذه شيخنا العلامة المحقق محمد بوخبزة التطواني الحسني " أطال الله في عمره " ـ : ( وقد كنت شرعت في الرد عليه وسميته "بيان تلبيس المفتري محمد زاهد الكوثري " ؛ فكتبت في مقدمته الكتاب ـ وهي في تناقضاته فقط ـ نحو خمسة عشر كراسا فأزيد ، ثم توقفت لكون الرجل يدعي لنا بالمحبة والصداقة ، ولنا معه مجالس طويلة ، والحق أولى منه ، إلا أن سيدي عبدالله(2) ، طلب مني أن أتأخر عن إكمال الكتاب ، فتأخرت عنه ولا بد إن شاء الله من إكماله، ولعلك رأيت الإعلان عنه في أسماء مؤلفاتنا المطبوعة بآخر " إزالة الخطر " )(3) .
3 - لم يسلك المؤلف في كتابه مسلك الرد العلمي المفصَّل ، ولا المناقشة العلمية الضافية التي تبطل الحجة بالحجة ، وترد الدليل بالدليل ؛ إلا نادرا ، وإنما خصص مصَنَّفَه لجمع ما وصفه بمتناقضات الكوثري ، وضم المتضاربات؛ مع بيان يسير ، يقتضيه التفسير .
__________
(1) ص : 119 .
(2) هو العلامة المحدث عبد الله بن الصديق الغماري شقيق المؤلف وتلميذ الكوثري .
(3) الجواب المفيد للسائل والمستفيد ، للغماري ، ص : 40(1/11)
يقول المؤلف في بيان منهجه هذا : ( وليس من دأبنا بيان المسألة من أصلها في هذا الكتاب الذي خصصناه لضرب كلامه بكلامه فقط )(1) ، وقال ـ بعد كلام في مسألة علمية ـ مبينا شرطه في كتابه : ( وهذا ليس من شرطي في هذا الكتاب ـ أعني الرد عليه ومناقشته بالعلم ـ لأنه مخصص لرد كلامه بكلامه فحسب ، ولكن هذه فائدة عرضت ، بل فلتت من رأس القلم ؛ فنرجو عدم المؤاخذة عليها )(2) ، وقال كذلك بيانا لطريقته في الرد على الكوثري : ( .. وليس ذلك بإبطال حجته ، وتوهين دلائله ، وتبيين أوهامه ؛ فإن لذلك كتبا أخرى .. ولكن بذكر تناقضه واضطرابه ، وضرب كلامه بكلامه ، بحيث يحسن تسمية هذه العجالة ب " رد الكوثري على الكوثري " ، إذ مالنا فيه بعد الذي مضى إلا جمع المتناقضات ، وضم المتضاربات ، مع إيضاح يسير ، يفهم منه وجه التناقض والتضارب ، والتخاذل والتكاذب ؛ فيما قد يكون غامضا لا يهتدى إليه إلا ببيان )(3) .
4 - ومن منهج المؤلف في كتابه هذا كذلك الاختصار ، ولذلك يكتفي بضرب الأمثلة ، دون التتبع والاستقصاء ، يقول مؤكدا هذ النهج : ( ولو اندفعنا في سرد أمثلة هذه المسألة بنصوصها لطال بنا الكلام في هذه العجالة ، ولكن راجع .. )(4) ، ويقول في موطن آخر : ( .. ولها شواهد بألفاظ أخرى .. أعرضنا عن ذِكرها فرارا من التطويل )(5) .
__________
(1) رد الكوثري على الكوثري ، ص : 237 .
(2) المصدر السابق ص : 172 .
(3) المصدر السابق ، ص : 43 .
(4) المصدر السابق ، ص : 179 .
(5) المصدر السابق ، ص : 38 .(1/12)
5 – ومما ينبغي التنبيه عليه ؛ أن أسلوب المصنف في الرد على العلامة الكوثري كان شديدا وعنيفا وحادا في جملته ؛ حتى اعترف بذلك شقيقه عبد الله الغماري فقال بعد كلام : ( فتعرض له ـ أي الكوثري ـ في " تأنيب الخطيب"، ورد عليه بعبارة فيها جفاء ، فكتب شقيقنا ردا عليه ، جمع فيه سقطاته العلمية ، وتناقضاته التي منشؤها تعصبه البغيض ، وقسا عليه بعض القسوة ، وهو مع هذا معترف بعلمه واطلاعه )(1) .
ولكن لا غرابة في هذا الأمر ؛ لأن الرجلين جدليان كما سبق بيانه ، ولكن الغريب أنَّ ذلك دفع الغماري أحيانا إلى الطعن في أبي حنيفة ـ رحمه الله ـ خصوصا ، أو مذهبه عموما ، بما لا يليق من الألفاظ كالضلال والبدعة(2)، ومثل هذه الأقوال الشنيعة في الإمام الأعظم ـ رحمه الله ـ مردودة عليه ، ولاتقبل منه أبدا ، ولا تستساغ مطلقا ، وهذا كله إنما صدر من المؤلف من شدته على من يظنهم مقلدة ومتعصبة للمذاهب .
المطلب الثاني : ملامح المنهج الجدلي التفصيلي
بان لي بعد إمعان النظر أن كتاب المصنف قسمان : قسم جَلََّى فيه تناقض الكوثري في الحديث وعلومه، وقسم آخر بين فيه تضاربه في الفقه وأصوله ؛ مع عدم إغفاله مباحث العقيدة في أثناء القسمين معا .
القسم الأول : ملامح المنهج الجدلي الحديثي
علم الحديث ، هو العلم الذي نبغ فيه الحافظ الغماري وبرَّزَ فيه ؛ حتى كان نادرة عصره في هذا الفن ، ولذا فإن معظم رده على الكوثري دار حول هذا العلم من علوم الشريعة . وكان ذلك عل النحو الآتي :
1 - جدل حول حديث ( لو كان العلم بالثريا لتناوله رجال من أبناء فارس )
__________
(1) بِدَعٌ التفاسير ، لعبد الله بن الصديق الغماري ، ص : 180-181 .
(2) أنظر مثلا : بيان تلبيس المفتري ، ص : 91-92(1/13)
الجدل حول هذا الحديث ، هو الباعث على رد الحافظ الغماري كما تقدم ، فقد حاول العلامة الكوثري تصحيح هذا الحديث ، واعتبره أصلا صحيحا يعتمد عليه في البشارة بأبي حنيفة وفضله ، رَادّاً على الحافظ الغماري تضعيفَه للحديث بكلام قاس قائلا : ( ومن وهَّى الحديث من أبناء العصر فقد أساء إلى نفسه، وحاد عن سبيل أهل العلم ، ونطقا خلفا ، واتبع سبيل غير المؤمنين )(1) .
فيقول الحافظ الغماري في رده عليه : ( .. فلم يرق كلامنا هذا ـ أي تضعيفه للحديث ـ في نظر صديقنا الأستاذ الكوثري ـ شيخ متعصبة الحنفية في هذه العصور وما قبلها إلى زمن الطحاوي ـ فعرَّض بنا في كتابه " تأنيب الخطيب على ما ساقه في ترجمة أبي حنيفة من الأعاجيب " )(2) .
ثم شرع الغماري يبني منهج تضعيفه للحديث على قواعد المحدثين في رد الشاذ ، مقررا أن أصولهم تقضي بأن مخالفة الراوي لمن هو أكثر عددا ، أو أقوى حفظا ، وأشد إتقانا وضبطا تكون شاذة مردودة ؛ ولو كان راويها ثقة ؛ فإن كان ثقة : فروايته شاذة ، ورواية الجماعة محفوظة ، وإن كان ضعيفا : فروايته منكرة باطلة ، وروايتهم معرفة صحيحة (3) .
وهذا الحديث رواه الثقات و الأكثرون من الرواة بلفظ (الإيمان) وما في معناه ك (الإسلام) و (الدين) جريا على عادتهم في الرواية بالمعنى ، وخالفهم بعض الضعفاء والمجاهيل في هذا التصرف ، فرواه بلفظ : ( العلم ) بدل ( الإيمان ) ، وتعلق بتلك الرواية قوم من الحنفية وغيرهم من المتساهلين ، فقبلوا الحديث ، وجعلوه مبشِّرا بأبي حنيفة ، واردا في فضله ، بل زعم علي القاري أنه نص في أبي حنيفة لا يحتمل غيره ، وحمله ذلك على عَزْوِ الحديث بذلك اللفظ إلى ( الصحيحين ) ، مع أنه لا يوجد فيهما إلا بلفظ ( الإيمان ) أو ( الدين )(4).
__________
(1) تأنيب الخطيب، ص : 63 .
(2) بيان تلبيس المفتري ، ص : 10 .
(3) المصدر السابق ، ص : 2 .
(4) المصدر السابق ، ص : 3-4 .(1/14)
هذا وقد جنح شقيق المصنف الشيخ عبد الله الغماري إلى الحكم على الحديث الذي ورد بلفظ ( العلم ) بالوضْع ، وأن بعض الوضاعين هم الذين غيروا لفظ ( الإيمان ) ب ( العلم )(1) ، وحكمه هذا مبالغ فيه ، والصواب ما أثبته أخوه الحافظ أحمد وهو ضعف الحديث فحسب ، ووافقه على ذلك الشيخ المحدِّث محمد ناصر الدين الألباني حيث قال بعد تحرير البحث في الحديث : (وجملة القول : إن الحديث ضعيف بهذا اللفظ : (العلم) . وإنما الصحيح فيه (الإيمان) و (الدين) والله أعلم)(2) .
ثم اعتبر الحافظ الغماري الكلمة الجافية التي صدرت من العلامة الكوثري في حقه في غاية الشدة ، ونهاية القسوة ، وأنه كان يودٌّ لو نزَّه قلَمه عن مثل هذه المبالغات ، التي لا يوافقها عليه عاقل طهَّر الله قلبه من دنس المغالاة ، وعافاه من داء التعصب ، فإن اتباع غير سبيل المؤمنين أمر عظيم ، وذنب كبير ، قال فيه تعالى :
( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ، ونصله جهنم ، وساءت مصيرا)(3) .
ويجعل الغماري هذه الآية نزلت في غلاة المقلدة ـ وهو يقصد الكوثري ـ الذين تبين لهم الهدى في كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأعرضوا عن ذلك ، وعن سبيل المؤمنين من الصحابة والتابعين ، والسلف الصالح قبل ظهور بدعة التقليد ، وتمسكوا بأقوال أئمتهم ، وحرَّفوا لها النصوص ، فكانوا حقا مشاقين لله ولرسوله ، متبعين غير سبيل المؤمنين ، أما هو فلا يتقلد مذهبا ، ويضرب بما عدا الكتاب والسنة عرض الحائط(4) .
2 - جدل حول طعن العلامة الكوثري بالعلماء
__________
(1) بدع التفاسير ، ص : 181 .
(2) سلسلة الأحاديث الضعيفة وأثرها السيئ على الأمة ، لمحمد ناصر الدين الألباني ، 5/75 . رقم الحديث : 2054 .
(3) سورة النساء : 115 .
(4) رد الكوثري على الكوثري ، ص : 12 .(1/15)
بعد أن برَّأَ الحافظ الغماري نفسه من التهم التي رماه بها العلامة الكوثري ، ورأى أنه أولى بها ، شرع ينتصر لنفسه ـ كما قال ـ معتمدا قول الله تعالى : ( ولَمَن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل)(1)، ومذكرا الكوثري بأخطائه العلمية التي قد يكون جاهلا بها أو غافلا عنها ، والتي هي عين ما حكم به عليه من التهم الأربع، وغيرها مما هو أفحش قبحا ، وأشد عن سبيل أهل العلم بُعدا .
وأول ما ذكَّر به الأستاذ الكوثري مِمَّا أساء به إلى نفسه ، وحاد به عن سبيل أهل العلم ، ونطق به خَلفا ، واتبع غير سبيل المؤمنين ، قذفه لكبار الأئمة ، وأساطين العلماء ، وحفاظ الشريعة وحملة السنة ، الذين لم يشكر لغير الحنفية منهم نعمة ، ولم يرع لهم حرمة : كالحافظ ابن حجر ، والحافظ أبي بكر الخطيب ، وأكبر من ذلك أن الغماري يتهم الكوثري بالاجتراء على بعض الصحابة : كأنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـالذي رماه بالهرم والخرف ، لأنه روى حديث أمره صلى الله عليه وسلم للعُرَنِيِّين بشرب ألبان الإبل وأبوالها للتداوي ، وهو مخالف لمذهب أبي حنيفة(2) ، وكابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ الذي نسبه إلى التَّقِيَّة في روايته الإيتار بركعة واحدة ، وهو خلاف ما رآه أبو حنيفة من الإيتار بثلاث(3) .
والحافظ الغماري في كل ذلك ينافح عن المطعون بهم ، ويسلك في ذلك مسلك التَّنَزُّل مع الخصم تارة ، ومنهج تقدير كافة الاحتمالات ، ومنهج الإلزام بما يلزم ، وردِّ الدعوى على الخصم ، ويحتج بخرق الإجماع ، وقواعد الأصول ، ويستدل لحديث أنس بالطب الذي يشهد أن شرب أبوال الإبل من أنفع الأدوية لداء الاستسقاء(4).
__________
(1) الشورى : 41 .
(2) رد الكوثري على الكوثري ، ص : 44 وما بعدها .
(3) المصدر السابق ، ص : 62 .
(4) المصدر السابق ، ص : 66 وما بعدها .(1/16)
ثم عقد الغماري فصلا نسب فيه الكوثري إلى القدح في أئمة المذاهب عدا مذهب الحنفية : كمالك ، والشافعي الذي طعن في نسبه ، وجعله من الموالي لا من قريش ، وأنه جاهل بالعربية والحديث والفقه ، وأحمد بن حنبل ، كل هذا بسبب التعصب لمذهب أبي حنيفة كما يقول الغماري(1) .
وفي موضوع التعصب وطعن العلامة الكوثري في نسب الشافعي ؛ يقول شقيق المؤلف الشيخ عبد الله الغماري : (وكنا نعجب بالكوثري لعلمه وسعة اطلاعه ؛ كما كنا نكره منه تعصبه الشديد للحنفية تعصبا يفوق تعصب الزمخشري لمذهب الاعتزال ، حتى كان يقول عنه شقيقنا الحافظ أبو الفيض : ( مجنون أبي حنيفة ) ، ولما أهداني رسالته " إحقاق الحق "في الرد على رسالة إمام الحرمين في ترجيح مذهب الشافعي ، وجدته غمز نسب الإمام الشافعي ، ونقل عبارة الساجي في ذلك ، فلمته على هذا الغمز ، وقلت له إن الطعن في الأنساب ليس بردّ علمي ، فقال لي ، ( متعصب رد على متعصب ) ، هذه عبارته ، فاعترف بتعصبه )(2) .
قلت : إن العلامة الكوثري يتَرَضَّى عن الشافعي في غير ما موضع من كتبه ؛ فلا يذكره إلا بقوله ( رضي الله عنه )، ولعل هذا يُبعد تهمة القصد إلى الطعن وتعمَُدِه ، وإنما قاده إلى بعض الكلام الذي فُهم منه الطعن ؛ فرْط نفاحه عن أبي حنيفة ومذهبه وأصحابه ، والله أعلم .
3 - جدل حول الحديث الْمُرْسَل
__________
(1) المصدر السابق ، ص : 66 وما بعدها .
(2) بدع التفاسير ، ص : 180 .(1/17)
عقد الحافظ الغماري هذ الفصل لتحرير تناقضات العلاَّمة الكوثري في المرسل ، فنسبه في مستهل كلامه إلى الطعن في الشافعية كلهم ، وفي مذهبهم ، وتسميتهم بعصبة التعصب ، وأنهم بيئة منحطة ساقطة ، وأنهم يحتجون بالأحاديث الموضوعة ، وأن مذهبهم يهدم بعضه بعضا(1) ، ثم ينسب الحافظ الغماري إلى العلامة الكوثري قوله في ( التأنيب ) : إن الاحتجاج بالمرسل سنة متوارثة ، جرت عليه الأمة في القرون الفاضلة ؛ إلى أن جاء الشافعي فابتدع ترك العمل بالمرسل .
يثبت الغماري هذا ، ثم يسعى في سياق رده على الكوثري إلى بيان تناقضه واضطرابه في الأخذ بالمرسل ، فتارة يأخذ به إذا وافق رأي أبي حنيفة ، وتارة أخرى يضرب به عرض الحائط إذا خالفه .
يقول الحافظ الغماري في هذا الصدد : ( وأول ما نذكر من ذلك تناقضه وتناقض إمامِه ومذهبِه في المرسل الذي عاب التناقضَ فيه على الإمام الشافعي ـ رضي الله عنه ـ لأن الكوثري تناقض في المرسل تناقضا غريبا لا يصْدُرً مثْلُه إلا ممن لا يدري ما يقول ؛ فزعم أوَّلاً أن المرسل حجة ، وبالغ في ذلك على عادته في التهويل على أهل السنة... ثم بعد هذه التهاويل المرعبة يأتي عَيْنَ ما هوَّل به ، وأقبح مما نهى عنه ، فيرُدُّ المراسيل المتعددة ، ويصرح بأنها ليست بحجة )(2) .
وراح الغماري يعدد المراسيل التي ردها الكوثري : كمراسيل عطاء ، والشعبي ، وهلال بن يساف ، والحسن البصري ، وسعيد بن المسيب ، ومحمد الباقر ، ومجاهد بن جبر المكي ، وطاوس بن كيسان اليماني ؛ بل رد مرسلات الصحابة التي هي حجة عند الجميع كما يقول الغماري ، وضَرَبَ لذلك أمثلة(3) .
4 ـ حول تناقضات الكوثري الحديثية
__________
(1) رد الكوثري على الكوثري ، ص : 82 وما بعدها .
(2) المصدر السابق ، ص : 86-87
(3) المصدر السابق ، ص : 96 .(1/18)
قصد الغماري من تأليف كتابه إثبات تناقض العلامة الكوثري واضطرابه لاسيما في صناعة الحديث ولذا سماه : ( رد الكوثري على الكوثري ) ، فعقد فصولا كثيرة في ضرب كلام الكوثري بكلامه ، وجمع متناقضاته ، وضَمِّ متضارباته ، حيث حاول ـ بالبحث في تصانيف العلامة الكوثري ـ إثباتَ أنه يحتج بالقاعدة ثم يردها : فالموقوف حجة وكذلك المقطوع ولو في مقابلة المرفوع ، ثم الموقوف ليس بحجة ولو وافق المرفوع ؛ وكذلك المقطوع ليس بحجة عنده ، والغماري يضرب لذلك أمثلة كثيرة من تصرفات الكوثري في تآليفه ، وكذلك يصنع في إثبات تناقضه في المنقطع وعنعنة المدَلِّس مقبولة ثم هي مردودة ، وكذا تصريح المدلِّس بالتحْديث ، وحديث المجهول ، والمتابعات والشواهد(1) ، والتفرد والمنكر ، وما لا سند له ، وتوثيق ابن حبان ، والانفراد بالْجَرح ، وتقديم التوثيق على التجريح ثم عَكْسه ، وقبول الجرح بالرأي والمعتقد ثم ردّه ، وقبول خبر من لم يرو عنه إلا واحد ثم رده ، وتقديم الكتب الستة بلا معارضة ثم تضعيف أحاديث الصحيحين ، وتوثيق رجال الصحيحين والجماعة بإطلاق ثم ليسو جميعا ثقات ، وقبول ما كان خارج الكتب الستة ثم رده ، ووهم الراوي يسقطه ثم لا يسقطه ، والعمل بالسنة المتواترة ثم يردها ، وقبول زيادة الثقة ثم يردها ، والجرح مُقَدَّم على التعديل ثم هو غير مقدم ، والإجازة مقبولة ثم هي غير مقبولة (2) .
5 - حول تناقضه في الرجال
__________
(1) وهنا يهاجم الغماري الكوثري هجوما عنيفا لسعيه إلى تقوية الحديث الباطل الموضوع المكذوب باتفاق حفاظ الإسلام : ( يكون في أمتي رجل اسمه النعمان ، وكنيته أبو حنيفة ، هو سراج أمتي ) ولم يذكر الشطر الثاني من حديثه خوفا على نفسه من الفضيحة وهو ( وسيكون في أمتي رجل يقال له محمد بن إدريس ـأي ـ الشافعي هو أضر على أمتي من إبليس ) المصدر السابق ، ص : 137 و 239 ، وراجع : تأنيب الخطيب ، ص : 60 وما بعدها .
(2) المصدر السابق ، ص : 105 .(1/19)
أفرد الحافظ الغماري ـ بعد التناقضات الحديثية ـ بابا سماه : ( باب تناقضه في الرجال )(1) ولم يُتِمَّه ؛ إذ انتهت كتابته إلى مبحث توثيق عبد الله بن أحمد بن حنبل ، والعلامة الكوثري يتناقض في ذلك كل
التناقض ؛ كما يقول الحافظ الغماري ، فهو تارة يضعِّف الراوي وأحيانا يُوَثِّقُه ، وأحيانا يحتج به ويقبل خبره وأحيانا يرده ، كصَنِيعِهِ مع الرواة الآتية أسماؤهم :محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، وجابر الجعفي ، وعكرمة البربري ، وحجَّاج بن أرطاة ، ورواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جَدِّه ، وهُشَيم ، وسعيد بن أبي عَروبة ، وقتادة بن دعامة السَّدُوسي ، ومحمد بن إسحاق صاحب السِّيَر ، وأبي قلابة ، وليث بن أبي سليم ، وعبد الله بن صالح ، وابن سيرين ، والحارث الأعور ، وإبي إسحاق السَّبِيعي ، ونُعَيم بن حماد ، وعثمان بن سعيد الدَّارِمِي، ، وأبي الشيخ الحافظ ، وأبي عَوَانَة ، وعبد الله بن أحمد بن حنبل .
والغماري في كل ذلك يضرب الأمثلة الكثيرة لتناقضات الكوثري ، معتمدا من مصنفاته أساسا على : كتاب (تأنيب الخطيب ) و (وإحقاق الحق بإبطال الباطل في مُغيث الخلق ) الذي رد به على إمام الحرمَيْن ، و(النكت الطريفة في التحدث عن ردود بن أبي شيبة على أبي حنيفة ) .
القسم الثاني : ملامح المنهج الجدلي الأصولي
إن الحافظ الغماري ليؤكد في غير ما موطن من ( ردِّه ) أن الذي آل بالعلامة الكوثري إلى هذه المتناقضات هو تعصبه المذهبي لأبي حنيفة ـ رحمه الله ـ في الفروع ، ولعقيدة الماتوريدية في الأصول .
والجدل الأصولي ـ إذا أُطْلِقَ ـ قد يكون في الأصْلَيْن : في أصول الدين ، وفي أصول الفقه ، كما هوحاصل في كتاب الغماري .
أ ـ منهج الجدل في أصول الدين
__________
(1) المصدر السابق ، ص : 309 وما بعدها .(1/20)
لقد اختلف منهج الرجليْن في باب الصفات من أبواب العقيدة : فالعلامة الكوثري جدِل في أصول الدين ، وقد انتصر للماتريدية غاية الانتصار ، وردَّ على خصومهم من السلفيين وسمَّاهم مجسِّمة ومشبِّهة وحشْوِية ، و ألَّف في ذلك الكتب والرسائل .
والحافظ الغماري على مذهب السلف في باب الصفات ، ولذلك لم يرْتَضِ صنيع الكوثري هذا ؛ فذَبَّ عن عدد من أئمة السلف الذين كتبوا في العقيدة(1) : كعبد الله بن أحمد بن حنبل ، والإمام ابن خُزَيْمَة ، وعثمان بن سعيد الدارمي ، وابن عبد الهادي ، وأبي الشيخ الحافظ الأصبهاني ، وغيرهم الذين طعن العلامة الكوثري في معتقدهم .
فقد قال عن عثمان بن سعيد الدارمي في (التأنيب ) : ( وعثمان بن سعيد في السند هو صاحب " النَّقْض "(2) مُجَسِّم، مكشوف الأمر يعادي أئمة التنزيه ، ويصرِّح بإثبات القيام ، والقعود ، والحركة ،
والثقل ، والاستقرار المكاني ، والحدّ ، ونحو ذلك له تعالى ، ومثله يكون جاهلا بالله سبحانه ، بعيدا عن أن تقبل روايته)(3) .
والحافظ الغماري ينقل هذا الكلام وأمثاله عن العلامة الكوثري ، فينتقده نقدا لاذعا ، ويَرْمِيه بالتشنيع على المتمسكين بالحديث ، ومذاهب السلف وأهل الحق ، الذين يخرجهم الكوثري من الدين ، ويسميهم الحشوية ، ويلمزهم بكل رذيلة ؛ مع أنهم ـ في اعتقاد الغماري ـ ما قالوا حرفا واحدا من عندهم ، ولا ذكروا رأيا من آرائهم ، وإنما ذكروا آيات القرآن العظيم ، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم مُجَرَّدَة ، مع النص منهم على التفويض لمعناها ، بلا ردٍّ ، ولا تأويل ، ولا تشبيه ؛ فلم يرض منهم الكوثري إلا برد كلام الله تعالى ، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ، وتأويله والتلاعب به على حسب فهمه القاصر .
__________
(1) كما في الصفحات : 206 و 305 و 311 و 349 وغيرها من كتبه ( بيان تلبيس المفتري ) .
(2) وهو ( نقض الدارمي على بشر المريسي )
(3) تأنيب الخطيب ، للكوثري ، ص : 35 .(1/21)
ب ـ منهج الجدل في أصول الفقه
خصص الحافظ الغماري فصولا في إثبات تناقض العلامة الكوثري واضطرابه في القواعد الأصولية والأحكام الفقهية، مُرْجِعاً سببَ هذا التناقض إلى تعصب العلامة الكوثري لمذهب أبي حنيفة وأصحابه . وقد اختلف هنا منهج الرَّجُلَيْن أيضا كما اختلف في الأمور السابقة ، فالغماري يدعو إلى الاجتهاد ، ويَنْبُذُ المذاهب بالعَرَاء ، والكوثري يرى تقليد أحد المذاهب الأربعة المتبوعة ، وقد اصْطَفَى منها هو الحنفية .
وبسبب هذا الاختلاف المنهجي شن الحافظ الغماري غارة عنيفة على العلاَّمة الكوثري لا تخلو من غُلُوٍّ وإقْذَاعٍ ، وتجاوز ذلك إلى الإمام الأعظم أبي حنيفة نفسه ـ رحمه الله ـ ونحن لا نوافقه على هذا أبدا ، ونَبْرَأُ إلى الله منه، وإن كنا مُضْطَرِّين لحكايته لمقتضى البحث العلمي ، ونعتذر عن سَوْقِ كلامه بِطُولِه ، إذ لابدّ ممّا ليس منه بُدّ .(1/22)
يقول الغماري ـ بعد كلام ـ : ( وعلى هذا فمن المستحيل أن يَثْبُتَ خطؤُه ـ أي أبو حنيفة ـ في شيء من الأصول أو الفروع ؛ لأن ما خالفه من القرآن فهو مؤول أو منسوخ ، كما هي قاعدة أصول الحنفية ، التي نصَّ عليها الكَرْخِي وغيره من أئمتهم ، وما خالفه من الحديث فهو باطل مردود... فهذا القرآن والسنة والإجماع ، التي هي أدلة الإسلام ، قد سُدَّ بابُ الاحتجاج بها على أبي حنيفة ، واستراح غلاة المبتدعة من أمرها ، وبقي التعارض قائما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي حنيفة ، فأتَوا إلى أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفَّروا منها ، وحذَّروا من العمل بها ، وسمَّى هذا الأعجمي ـ يقصد الكوثري ـ الداعي إلى العمل بها مُتَمَجْهِدًا ، وقال عن اللاَّمذهبية : إنها قنطرة اللاَّدينية ، حتى يبقى أبو حنيفة ربّاً معبودا ، عزيز الجانب ، موفور الحرمة ، لا يهتدي أحد إلى وجه خطئه في الدين ؛ كأنه هو الرسول الذي أرسله الله لهذه الأمة ، وفَرَضَ عليهم طاعته ، واتّباع أمره ، لا سيد النبيِّين ، وإمام المرسلين سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، فإن شرعه نُسِخَ برأي أبي حنيفة ، ودينَه رُفع بمذهبه .
فمن اعترف بهذا فهو فقيه ، ومن سكت والتزم الحياد فهو سُنِّيٌّ ، ومن نظر في الدليل ، واهتدى به إلى ما في رأي أبي حنيفة من التَّضْلِيل(1) ، فهو حشْوِيّ مُتَمَجْهِد مبتدع ، في طريقه إلى الإلحاد ، عند هذا المجرم الأعجمي(2) ، وإخوانه من غلاة المبتدعة الظالمين )(3) .
__________
(1) هذا غلو وقول شنيع في حق الإمام الأعظم رحمه الله ، ياليت المصنِّف نزَّه عنه قلمه .
(2) وهذا من جنس ما سبقه في الشناعة والفظاعة ، نبرأ إلى الله منه .
(3) بيان تلبيس المفتري ، للغماري ، ص : 141 .(1/23)
ويقول في موضع آخر : ( وكذلك يَعِيبُ ـ الكوثري ـ العاملين بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويسميهم المُتَمَجْهِدِين ، ويدعي أن " اللاَّمذهبية قنطرة اللاَّدينية " فما قنطرة اللادينية وباب الإلحاد إلاَّ ردّ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتَّلاعُب بها ، وإهانة أهلها والعاملين بها )(1) .
وبعد أن بيَّن الغماري اختلافَ منهجه عن منهج الكوثري في موضوع الفروع بِقَلَمِه ، راح يُثبت تناقضَه في الفقه وأصوله كصنيعه في الحديث وعلومه ، ووطَّأَ لذلك بكلمة قال فيها : ( والمقصود إثبات تناقض الكوثري المفتري الزاعم أنه لا يتناقض والقائل في " ص 239 " من "نكته " : " إن أبا حنيفة لم تنْخَرِم عنده الأصول والضوابط العامة ، بخلاف غيره ، مهما أطالوا الكلام " ، وهانحن لم نُطِل الكلام ، وأريناه كيف تنخرم على الحقيقة ، وسيمر بنا قريبا من نفس تلاعبه ، ما يُعْرَف به أن الإنخرام والتناقض ، والتلاعب ما خلقت إلاَّ لأن تكونَ صفة للغلاة من المبتدعة المُتَمَقْلِدِين ، والمتعصبة الْمُتَمَذْهِبِين بمحاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن الله تعالى أَجَارَ من ذلك أهل السُّنَّة ، والطائفة الظاهرة على الحق ، العاملين بكتاب الله تعالى ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا "(2) ، كهذه المذاهب التي ابْتَلَى الله بها المسلمين )(3) .
ثم شرع الحافظ الغُمَاري يثبت تناقض العلامة الكوثري في القواعد الأصولية والأحكام الفقهية ، فيضرب كلامه بكلامه ، ويخطمه بخِطَامِه كما قال ، ويضرب أمثلة ونماذج لهذا التناقض :
__________
(1) المصدر السابق ، ص : 305- 306
(2) النساء : 82 .
(3) رد الكوثري على الكوثري ، ص : 142 .(1/24)
فالسُّنَّة عنده مَثَلاً تتصل بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ونهى عنه وندَبَ إليه ، ثم هي في موضع آخر العُرْف والعادة ، والعمل بالسُّنة المتواترة من أصول أبي حنيفة ، ثم هي ليست من أصوله ، والمطلق يحمل على المقَيَّد ثم هو يبقى على إطلاقه في موضع آخر ، والعام لا يُخَصَّص ثم هو يخصص ، والحاظِر مُقَدَّم على المُبِيح ، ثم المبيح مقدم على الحاظر ، والجمع بين الأحاديث أولى من الطَّرْح والدَّفْع ، ثم الطرح والتَّوْهِين والدفع أولى ، وحكاية الواقع لا تَعُمُّ ثم هي تعُمّ ، وعمل الأمة ومواظبتها على الفعل دليل الوجوب ، ثم هو لا يدل على الوجوب ، والقول مُقَدَّم على الفعل ثم الفعل مقدم على القول ، والتَّأويل الباطل قُرْمُطي ، ثم هو سُنِّي مقبول إذا كان في نصرة أبي حنيفة ، وكراهِيَةُ تخصيص ما لم يُخَصِّصْه الشرع ، ثم تخصيص ما لم يخصصه الشرع ليس بمكروه ، ولا يُزَادُ بالظني على القطعي ، ثم يزاد بالظني على القطعي(1) .
والغماري يضرب لكل هذه الفصول أمثلة ونماذج من تصرفات الكوثري في كتبه ؛ التي تدل على تناقضه ، ثم يعقِّبُ على ذلك كلِّه بقوله على سبيل السخرية والاستهزاء ـ وهي من أسلوبه في ردِّه ـ : ( وهكذا لا تنخرم ضوابط أبي حنيفة ، ولا تتناقض أقوالهم ، ولا تتضارب أصولهم ، كما يدَّعِي هذا المفتري ) .
وقد ودِدْتُ أن أطيل النَّفَسَ في هذا الموضوع بسرد الأمثلة ومناقشتها ، ولكن أمسكت ُ خشيةَ الإطالة التي لا يحتملها حيِّز هذا البحث ، ومن أراد التفصيل ؛ فليراجع الصفحات الْمُشَار إليها فإنها تشفي الغَليل .
__________
(1) أنظر : المصدر السابق ، من ص 244 إلى 295 .(1/25)
ثم إن الحافظ الغماري يرى أن هذا التناقض والتضارب في قواعد الأصول ـ عند الإمام الكوثري ـ نَابِعٌ من منهج التقليد والتعصب للمذهب ، فكل فرقة من فرق المُقَلِّدَة تَعرض كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم على قول إمامها ، فما وافقه آمنت به ، وما خالفه لعِبَتْ به لَعِبَ الحُواة ، فأبرزته كلَّ ساعة في لونٍ غير لونه السابق ؛ فما شئت من ادِّعاء نسخ آية ، وهي مُحْكَمَة عندهم في مسألة أخرى ، وتخصيصِ عامٍّ ، وتقييد مُطلق ، هو على عمومه وإطلاقه في موضع آخر ، وتأويل سخيف مُضحك ، هو على سخافته حقيقة لا يحوم حولها مَجَاز(1) .
……وهكذا فأنت ترى أن اختلاف منهجِ الرَّجُلَيْن في الأصلين : أصولِ الدين ، وأصولِ الفقه ، وكذا في الفروع ؛ كان سببا لاحتدام الجدل العلمي بينهما ، وتباين مَواقِفِهِما ، وكان في ذلك نفع عظيم ، وفوائد علمية كبيرة لنا ، رغم ما كَدَّرَه من عنف في الخِطاب أحيانا .
ثبت المصادر والمراجع
1- إرغام المبتدع الغبي بجواز التوسل بالنبي في الرد على الألباني الوَبيّ ، لعبد الله بن الصديق الغماري ، طبعة المغرب .
2- إسعاف الإخوان الراغبين بتراجم ثلة من علماء المغرب المعاصرين ، لابن الحاج السُّلَمِي ، مطبعة النجاح الجديدة ، الدار البيضاء ، ط1 ، 1412 هـ - 1992 .
3- بدع التفاسير ، لعبد الله بن الصديق الغماري ، دار الرشاد الحديثة ، الدار البيضاء ، ط2 ، 1406 هـ ـ 1998 .
4- بيان تلبيس المفتري محمد زاهد الكوثري ( أو رد الكوثري على الكوثري ) ، لأحمد بن الصديق الغماري ، دار الصمَيعي ، الرياض ، ط2 ، 1417 هـ ـ 1996 ، تحقيق وتخريج : علي بن حسن الحلبي .
5- البحر العميق في مرويات ابن الصديق ، لأحمد بن الصديق الغماري ، مخطوط خاص .
6- تأنيب الخطيب على ما ساقه في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب ، لمحمد زاهد الكوثري ، ط5 ، 1410 هـ ـ 1990 ، بتعليق تلميذ المؤلف : أحمد خيري .
__________
(1) المصدر السابق ، ص : 13 .(1/26)
7- الجواب المفيد للسائل والمستفيد ، لأحمد بن الصديق الغماري ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ط1 ، 1423 هـ ـ 2002 ، جمع وتخريج وتعليق : بدر العمراني .
8- حياة الشيخ أحمد بن الصديق ، لعبد الله التليدي ، المطبعة المهدية ، تطوان .
9- دَرُّ الغمام الرقيق برسائل الشيخ أحمد بن الصديق ، لعبد الله التليدي ، ط1 ، 1421 هـ ـ 2002 .
10- سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيء على الأمة ، لمحمد ناصر الدين الألباني ، مكتبة المعارف ، الرياض ، ط1 ، 1417 هـ ـ 1996 .
11- صحيح سنن الترمذي ، للألباني ، مكتبة المعارف ، الرياض ، ط1 ، 1420 هـ ـ 2000 .
12- فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي ، لأحمد بن الصديق الغماري ، ط2 ، 1389 هـ ـ1969 ، طبعة المغرب .
13- لسان العرب ، لابن منظور ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، ط3 ، 1419 هـ ـ 1999 .
14- مقالات الكوثري ، لمحمد زاهد الكوثري ، دار السلام ، القاهرة ، ط1 ، 1418 هـ ـ 1998 .
15- موسوعة المفاهيم الإسلامية العامة ، ( أدب البحث والمناظرة ) ، لأحمد الطيب ، الإصدار الأول ، إشراف : محمود حمدي زقزوق ، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية ، القاهرة ، 1420 هـ ـ 2000 .(1/27)