يتيم..
في حياة أبي
محمد بن عصبي الغامدي
الناشر / دار الطرفين
( 1 )
في حي الشهداء بمدينة الطائف يسكن السيد مروان بن صالح بعائلته المكونة من زوجته وصبية أربعة هم :
فادية التي عمرها عشر سنوات .
وحسين وعمره ثمان سنوات .
وخالد وعمره ست سنوات .
وسامية وعمرها ثلاث سنوات .
وكلهم من زوجته سعاد في شقة بالطابق الثاني من عمارة سكنية بالقرب من الورشة التي يملكها في الشارع المقابل .
وفي أسفل العمارة التي يسكنها يوجد سوق مركزي لصاحب العمارة وكذلك دكان حلاق وآخر به مغسلة ملابس كما أن صاحب العمارة يسكن في الشقة المقابلة للشقة التي يسكنها إما الدور الثالث من العمارة فيسكن به بعض الوافدين من بعض الدول العربية وغالباً ما يتغير الساكن من سنة لأخرى أما السيد مروان فقد مضى عليه أكثر من عشر سنوات وهو ساكن بصفة مستمرة . أي بعد زواجه من السيد سعاد بسنة واحدة فقط فهو قد تزوج منها قبل إحدى عشرة سنة في إحدى قرى المناطق الجنوبية وبالضبط من القرى المجاورة لمدينة الباحة وسافر مع زوجته إلى مدينة الطائف حيث عمل في تلك الورشة مع صاحبها الأول عبد القيوم ثم اشتراها منه فيما بعد 0....بعد أن تعلّم مهنة إصلاح السيارات عن طريق الخبرة والممارسة فهو أمي لا يقرأ ولا يكتب لكنه أصبح ماهراً في إصلاح السيارات حتى غدت ورشته مشهودا لها بإتقان العمل 0كما أن العمال المهرة الذين كانوا يعملون معه بالورشة من أصحاب الكفاءات المتميزة ولذلك فقد كان دخل الورشة يكفي لإنفاق السيد مروان على بيته ثم يدخر بعد ذلك ما شاء الله مما يتبقى بعد المصروف...(1/1)
كان السيد مروان وحيد عائلته التي انقرضت بكاملها ....عاش فترة من الزمن مع أخواله . فقد مات أبوه وهو في سن الثانية عشر وماتت أمه بعد ذلك بسنة واحدة ولم يكن له أخ ولا أخت أما زوجته سعاد فقد كان لها أخ واحد هو إبراهيم وكان يعمل مراسلاً في بعض الإدارات الحكومية براتب يكفيه أن يعيش به مع أطفاله الأربعة وزوجته وأمه بل لقد قام ببناء منزل حديث بجانب البيت القديم الذي ورثه من أبيه . ورغم ضآلة المرتب ألا أنه استطاع أن يتدبر أمره ويكافح حتى شيّد منزله وأنتقل فيه مع عائلته .
تقع قرية حانوت على ربوة قريبة من مجرى الوادي ويقع بيت السيد مروان بن صالح في طرفها الجنوبي بجانب منزل السيد إبراهيم القديم وعمل فيه بعض التحديث قبل أن ينتقل إلى بيته الجديد فقام ببناء غرفتين مع مطبخ وحمام.... في فناء البيت الذي كانت به شجرة كبيرة من أشجار اللوز توحي إليك مدى الأزمنة التي قد مرّت بها و كم كانت شاهدة على كثير من خلق الله الذين قد استظلوا تحتها ثم رحلوا ، وتركوها مع هذه البيوت القديمة شاهدة لهم او عليهم وكما قال الشاعر:
تفنى وتبقى الأرض بعدك مثلما ... يبقى المناخ وترحل الركبان
وكان قريبا منهما بيت عريفة القرية حسين السالم والذي كان إماماً لمسجد هذه القرية أيضاً وهو شخص ذا روّية وحصافة رأي يحضى باحترام جميع أهالي القرية.
كان السيد إبراهيم شديد المحبة لأخته سعاد فقد كانت بالنسبة له الأخت والصديقة الحميمة.. وقد تزوجت من السيد مروان بحكم ما كان بينه وبين أخيها من صداقة وجوار في القرية فقد كانا يعملان سويا في أيام الصبا في رعاية الأغنام والزراعة.(1/2)
انقطع السيد مروان عن بيته في القرية منذ زواجه من سعاد ولم يعد إليه منذ أن انتقل بأهله إلى الطائف، وعلى ذلك فقد اندثر بناءه القديم المبني من الحجر ومسقفاً من الخشب المغطى بالطين وأصبح غير صالح للسكن . ، وقد هجر الناس أغلب المنازل القديمة في القرية وتوزعت المنازل الحديثة هنا وهناك من حولها بعد أن شقّت الطرق وعُبّدت وتوفرت الخدمات اللازمة من مدارس للبنين والبنات ومستوصف ، شأنها شأن بقية القرى المنتشرة في قمم الجبال والأودية على امتداد جبال السروات .
أما السيد مروان فقد كان يجمع ما كان بالإمكان جمعه من نقود من ما يفيض من مصروف البيت طمعاً في بناء مسكن له ولأسرته في القرية أسوة ببقية أهل قرية الحانوت .
كان عمره في هذا الوقت يقترب من سن الأربعين ، أما زوجته سعاد فقد كانت أصغر منه بخمس سنوات ، وقد عاشا خلال هذه الفترة في سعادة غامرة .
كانت زوجته لا تزال محتفظة بصباها رغم إنجابها لأطفالها الأربعة ، وقد كانت ابنتها الأخيرة سامية هي آخر الإنجاب بالنسبة لها ، حيث تعرضت لمتاعب عند ولادتها بها وأُجريت لها عملية لم تعد بعدها قادرة على الإنجاب .
كانت المدارس الابتدائية بالنسبة للأولاد والبنات قريبة جداً من مكان السكن إلا أنهم كانوا يذهبون بسيارة أبوهم إلى المدرسة كل صباح
وكانت علاقة السيد مروان طيبة مع الجيران وأصحاب المحلات التجارية المجاورة له وللورشة . وكان يشتري أغلب مستلزمات البيت من السوق المركزي الذي يقع في الدور الأرضي من ألعماره ومن المحلات التجارية المنتشرة في طول ذلك الشارع .
كان يملك سيارة شفرولية بكس، وبرغم قدم موديلها إلا أنه كان يتعهدها دائماً بالصيانة 0لذلك كانت تكفيه للتنزه بعائلته من وقت لآخر أو زيارة الأصدقاء أو حضور بعض المناسبات .
(2)(1/3)
في يوم من الأيام وبينما كان السيد مروان جالساً في ورشته دخل إلى الورشة رجلاً نزل من سيارة سوبر بان جديدة وطلب من أحد العاملين في الورشة إصلاح علبة فرامل السيارة وذهب بعد ذلك إلى السيد مروان.
- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته . أهلاً . عباس .
- كيف حالك يا أبو حسين .
- الله يسلمك . لا أكاد أصدق عيني .
- بل صدق . كيف حال الأولاد وكيف أنت والعمل في الورشة .
- بخير والحمد لله . ما الذي غيرك يا رجل .
- إلى الأحسن أم إلى الأسوأ .
- إلى الأحسن طبعاً .
- ربك مغّير الأحوال .
- سبحانه . أكيد قد حصلت على كنز أو تعويض أو شيء من هذا .
- لا هذه ولا تلك .
- إذاَ من أين لك هذا ؟.
- هو تحقيق إذاً .
- ليس تحقيقاً ، ولكننا نعرف بعضنا وكلنا في الهوى سوى .
- أما أنا فقد تركت شغل الزيت وأعمال السيارات .
فمن أين تعيش إذاً .؟
- هذه يطول الشرح والكلام عنه. وإذا أردت أن نلتقي فسوف أخبرك بكل شيء.
- إنني أريد أن أعرف الآن . فأنت لا تكفيك جلسة أو جلستين ، أنت الآن تركب سوبر بان وثيابك ناصعة البياض ، وأنا أعرفك كانت لديك سيارة وكل جزء منها من شركة ، فالهيكل من تويوتا والرفارف من ميتسوبيشي والماتور من نيسان وكل باب أو جزء من الهيكل قد طرقه ألف سمكري ، ولكن هذا الوضع يدعو للريبة والشك .
هل تشك في أنني حرامي ؟
- الله أعلم ! لكنني واقع في حيرة ، فأنت مثلي يا صديقي لا نار ولا عقار .
- هل لا تزال في شقتك الأولى ؟.
- هي ذاتها .
- إذاً سوف أحاول أن أزورك بالعائلة قريباً .
- أي عائلة ، أنت وزوجتك وربنا ولك الحمد .
- خُبرك عتيق .
- ماذا تقصد .؟
- لقد تزوجت بأخرى وأنجبت سامي وعمره الآن سنة ونصف .
- الله يبشرك بالخير ، إذاً : سوف نتعشى الليلة سوياً .
- وهو كذلك .(1/4)
خرج السيد عباس من الورشة وركب سيارته بعد إصلاحها . وترك السيد مروان في حيرة من أمره ، فهو يفسر تلك الحالة التي أصبح فيها السيد عباس بتعويض قد حصل عليه من الحكومة أو شيء آخر لا يعرفه ، إلا أنه قد عقد العزم على معرفة ذلك السر في ليلته تلك .
إن مظهره يدل على تغير حالته المادية فمن سيارته القديمة إلى صالون سوبر بان ومن أثواب قد لُطّخت بالزيت وشحوم السيارات إلى ذلك الثوب الناصع البياض وتلك الغترة من أحدث صيحات شماغ البسام ، وسبحان مغيرّ الأحوال .
وبعد صلاة الظهر اتجه السيد مروان إلى باب الريع لشراء ما يلزمه لطعام العشاء وعاد إلى زوجته وأخبرها بأن صديقه القديم السيد عباس وزوجتيه سيكونون ضيوفاً عليهم في هذه الليلة كما أخبرها أن عباس قد تزوج من أخرى وأنجب منها طفلاً عمره سنة ونصف .
وبعد صلاة العشاء حضر السيد عباس وزوجتاه وابنه إلى شقة السيد مروان وجلس مع مضيفه في غرفة الاستقبال كما استقبلت أم حسين زوجتاه وابنه في الغرفة المجاورة .
- كيف أنت يا عباس . قال ذلك : السيد مروان .
إنني منذ أن فارقتني و غادرت الورشة وأنا أبحر في بحر من الأفكار التي لم أجد لها مرسى إلى الآن .
- سوف أضعك في شاطئ الآمان . فلا داعي للإبحار ولا للطيران ، فالأمر أبسط من ما تتوقع . والدنيا هكذا يا صاحبي ساعة فقر0 وساعة غنى 0 وليس هناك غنى كبير إن كنت تتوقع ذلك ، فأنا لا أزال على ما عهدت والحالة مستورة والحمد لله، إلا إنني قد تركت البنشر والزيوت، وإليك ما تريد أن تفهمه يا عزيزي.(1/5)
لقد تزوجت زوجتي السابقة وبقيت أنا وهي لمدة تزيد عن ثمان سنوات وأنا انتقل بها من مستوصف إلى مستشفى إلى طبيب عربي إلى غير ذلك ، وأخيراً .. تأكد لنا أنه لا فائدة من كل هذه المساعي بعد أن أكدّ لنا الأطباء أن زوجتي عقيم ولا هناك أي أمل لها في الإنجاب . وعند ذلك كانت المبادرة من زوجتي نفسها وطلبت مني أن أتزوج كما طلبت مني أن أدع لها اختيار ضرّتها أيضا.
- هي التي اقترحت ذلك .؟
- نعم .
كانت صاحبة الفكرة بل كانت شديدة الإصرار على أن أتزوج . وفعلاً كنت أفكّر في مصارحتها بأنني أنوي الزواج ولكن كانت الأقوى ولم أتصور أنها تستطيع ذلك.
- ثم ماذا ؟
- تركت لها كما طلبت حرية الاختيار على أن تكون الموافقة الأخيرة لي أنا فوافقت على ذلك.
وبدأت تبحث وكان الاختيار موفقاً جداً . وقد كانت زوجتي الأخيرة تعرفها فهي من بنات الجيران وتعمل مدرسة في ضواحي الطائف الجنوبية وكنت أشاهدها في بعض الأيام عندما تكون ذاهبة أو عائدة من المدرسة 0 فكانت موافقتي سريعةً جداً . كما أن عائلة العروس كانت فرحتهم كبيرة عندما كانت زوجتي هي الخاطبة لزوجها عندهم . فسارت الأمور على ما يرام واستقبلتها زوجتي وكأنها ابنتها وقابلتها العروس بكل احترام وتقدير والحمد لله لا يزال كل شيء على ما يرام .
- من ناحية الراتب .
- من ناحية الراتب فأنا لم أطلب منها ريالاً واحداً ولكنها قد تحمّلت بدافع منها مصاريف البيت والإيجار أيضا .
هذا من ناحية الزواج . إما من ناحية السيارة فكما أخبرتك كانت زوجتي الأخيرة تعمل مدرسة في ضواحي الطائف الجنوبية 0 وكأن لا بد لي أن أوصلها إلى المدرسة 0 ولحسن الحظ كثير من زميلاتها يرتبطن بأزواج لديهم مشاغل كثيرة من وظائف حكومية وأعمال في مدينة الطائف أو بنات لم يتزوجن وأهلهم يبحثون عن شخص يثقون فيه ليكفيهم هذا المشوار فأذهب بهن معها إلى المدرسة مقابل أجرة شهرية .
- علشان كذا تركن الورشة .(1/6)
- نعم وعليه فقد بعت محل الكفرات والبنشر واشتريت هذه السيارة والحمد لله أن الإيجار الذي أحصل عليه من توصيل المدرسات يزيد عن خمسة آلاف شهرياً.
- يعني كسبتها من جهتين .
- لا أريد حسداً فأنا اعرف أنك أعوذ بالله لا يسلم منك أحد .
- ما شاء الله لا قوة إلا بالله وأنا لا أعرف إنني لا أحسد كما ذكرت ولكن أريدك أن تطمئن .
- إذا أردت الزواج فعندي لك عروسة غنية جداً قالها بصوت منخفض.
- مدرسة . قالها أيضا بصوت منخفض .
- نعم أنها مدرسة من زميلات زوجتي .
- سوف أفكر في الأمر وأعطيك راداً قريباً .
- لا أريدك أن تخلق أي مشاكل مع زوجتك وأطفالك .
- لا لن يكون هناك مشاكل فأنا سوف أدرس الأمر بروّية وإذا لم يكن هناك داعي للزواج . فلن ارتكب أي خطاء .
- أريدك أن تفكر بالأمر جيداً . فأنت بحمد الله لديك زوجتك وأولادك وأمورك مستقرّة وقد تدخل في دوامة تفقدك لذيذ الحياة 0 أما أنا فلو لم أكون مجبوراً على الزواج فلن أتزوج ولا أزال أكنّ لزوجتي السابقة كل تقدير واحترام إما أنت فلا تفكر في راتبها فقط فقد تكون سعادتك في البقاء على ما أنت عليه . وأنا أعرفك .... لا تفكر إلا في الراتب .. حتى وأن أنكرت .
- قلت لك سأفكر في الأمر جيداً .
عند ذلك دخل حسين بالقهوة فطلب منه والده أن يتركها أمامهما وينصرف..
واستمر الحديث حول الزواج والسيارة وذكريات الماضي حتى حضر العشاء وتناول الجميع طعام العشاء ثم غادر السيد عباس بعائلته بعد أن ترك السيد مروان في دوّامة من ما سمعه من أخبار عباس وزواجه وثروته ...(فهو يحسبه الآن صاحب ثروة )
سأل السيد مروان زوجته السيدة سعاد .
- كيف عروس عباس يا أم حسين .؟
- والله ممتازة وجميلة جداً وتحترم زوجته السابقة . كأنها أمها سبحان الله .
- كم تقدّرين عمرها .؟
- يمكن في الثلاثين تقريباً إذا لم تكن أقل .
- الحقيقة أن زوجها أيضاً يقول ذلك .
كيف الولد .؟(1/7)
- سبحان الله . شبه أمه تماماً . لكن لا يريد أن يفارق زوجته الأولى فاطمة فهو متعلق بها جداً .
- الله يحفظه لهم ويقرُّ به أعينهم فهم طيبين جداً ويستاهلون كل خير .
- على قولك .
ثم أخرجت من جيبها خاتماً من الذهب وقالت :
- هذا كان هديتي من زوجته الجديدة .
وعند ذلك أخذ السيد مروان الخاتم وقال :
- نعم . إنها مدرّسة ولديها راتب وتستطيع أن تشتري وتهدي ولا ينقصها شيء.
ثم غادر الشقة ونزل إلى السوبر ماركت الذي في الدور الأول من العمارة وهناك قابل السيد / عطية صاحب السوق والعمارة وأخذا في الحديث في أمور شتى وقص عليه مروان قصة صاحبه الذي كان يتعشى عنده وزواجه من زوجته الثانية وكيف تغيرت أموره من حال إلى حال وتلك الصحبة بين كل من زوجته الأولى وزوجته الجديدة وأخذ يصف له السيارة التي يملكها .وقال له عطية :
- هذه أرزاق يا أبو حسين وهذا الرجل قد صبر حتى نال عاقبة صبره والله سبحانه وتعالى قال : ( إن مع العسر يسرا ) .سورة الانشراح
- ألم تفكر في الزواج مرة أخرى يا عطية .
- لا . أبداً على الأقل في الوقت الحاضر . فأنا مرتاح مع زوجتي وأطفالي . وقد لا أجد مثل تلك المواصفات التي وجدها صاحبك .
- يعني أن الزوجة الثانية نعمة أو نقمة .
- قد تكون نعمة وقد تكون نقمة . والأولى نادرة جداً . وطالما أنني مرتاح ومبسوط فلا داعي أن أنغّص عيشتي .
- أنت تخاف يا أبا خالد لماذا لا تقول ذلك بصراحة.
- ليس الأمر كذلك ، ولكنني أعرف مصلحتي .
- بل هو الخوف . شكلك يبّين ذلك .
- أرجو أن تكف عن هذه السيرة فأنا مرتاح والحمد لله . لكن لماذا لا تعملها أنت ثم نرى نتيجة تجربتك يا بطل . فأنت لا تخاف كما تزعم ، لكنني أعرفك لئيم ممكن تعملها من اجل الفلوس فأنت تبتاع أخوك من أجل عشرة ريال .(1/8)
أمام السوق المركزي كانت هناك دكة عبارة عن رصيف مرتفع عن الشارع بعرض مترين تقريباً . يفرش عليها السيد عطية بعد صلاة العشاء أو بعد صلاة العصر ويجلس أمام دكانه ، وكانت محل اجتماع بين صاحب المحل والسيد مروان وعدد من رجال الحارة يتسامرون ويقضون فيه أوقاتا سعيدة مع بعضهم
وفي أثناء الحوار بين السيد عطية والسيد مروان حول الزواج حضر ابن السيد عطية بثلاجة من الشاي واجتمع حولهم بعض الجيران كالعادة وتسامروا حتى منتصف الليل .
عاد السيد مروان واستلقى على فراشه بجانب زوجته السيدة سعاد والتفت إلى جدار الغرفة وشاهد بنطلونه معلقاً أمامه وبه من الزيوت والشحوم في كل جزء منه بقعة وبقعة . وأخذت فكرة الزواج تتخمّر في مخيلته سيما بعد أن شاهد ذلك الثوب الناصع البياض على السيد عباس .
يلتفت إلى زوجته في طرف السرير ويقول في نفسه :
لو كان لديك مرتب ، لكان وضعي أحسن من ما أنا فيه . ثم يرد على نفسه ولكن المسكينة لم يكن في وقتها أي تعليم .
لا عيب يلحقني إني بلا نشب ... وأي عار على عين بلا حور
سعيد ألخالدي
ثم يلتفت إلى ابنه خالد وأخته سامية اللذان كانا ينامان على الأرض في فرشة واحدة ويقول لنفسه لو كانت حالتي أحسن من ما أنا عليه لكان لكل منكما سرير بمفرده إلا إنني لا أستطيع الآن ويناديه صوت الضمير الحي الذي لا يصغي إليه الآن .
أنت في نعمة فاحمد الله وكن شكوراً . فهؤلاء الأطفال هم زينة الحياة الدنيا وقد أعطيت أربعة وهم متفوقون في دراستهم و أشكالهم مثل الورد ، كما أن زوجتك هذه الراقدة في سريرك عفيفة نظيفة تقوم بواجبها على أكمل وجه في تربية هؤلاء الأطفال وترعاهم وسيدة بيت على أكمل وجه 0 فكن شكوراً وأحمد الله على ذلك . عند ذلك لم يكن هذا الكلام يعجبه فانقلب على جنبه الآخر طلباً للنوم والخروج من هذه الوساوس .(1/9)
وأصبحت تلك الفكرة من زواجه من مدرسة هاجسه الأول والأخير وأصبح يتقزز من أعمال الورشة و العمل بها ومصافحة العمال .
قبل ذلك كانت أعمال الورشة الصعبة لا يقوم بها آلا هو . الشيء الذي أكسب الورشة سمعة طيبة إما الآن فلم يعد يلقي لتلك الأعمال بالاً ، كما أصبح كثير الخروج من الورشة . ويذهب إلى دكان السيد عطية أوقاتا كثيرة بعد أن كان لا يجلس فيها آلا بعد صلاة العشاء .
وبعد حوالي أسبوعين من زيارة السيد عباس له0 أتى إليه مرة ثانية السيد عباس وطلب منه زيارته في بيته الجديد مع عائلته .
فقال السيد مروان :
- سوف أخذ رأي العائلة في ذلك فاعتقد أن لدى الأطفال اختبارات في هذه الأيام.
- يا رجل فادية وحسين لا يزالان في الصفوف الأول وعلى حد علمي أنهما متفوقان في الدراسة لذلك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
إلا إذا كنت لا تريد المجيء إلي فابحث عن إي عذر غير هذا .
- أبداً أنني شخصياً ارتاح للجلوس معك وسماع أخبارك وعلومك والحديث معك ذو شجون .
- إذا بيتنا بجانب العمارة الصفراء في شارع البلدية مقابل محطة النقل الجماعي .
- سوف أحاول أن أقنع الأهل بذلك .
- إذا حاولت فأنا متأكد بأنك سوف تنجح في ذلك .سوف أتصل بك بعد صلاة العصر، ثم ناوله عباس بطاقة فيها رقم الهاتف والعنوان وركب سيارته وانصرف .
( 3 )
في حي شهار بمدينة الطائف كان السيد / محفوظ عبد الغفار 50 سنه يسكن في منزل مكون من دورين وملحق تحيط به حديقة من جميع جوانبه يعتني بها مصطفى الذي يعمل كحارس للمنزل ومزارع وسائق في آن واحد .
يعيش السيد محفوظ مع زوجته إيناس وابنه طارق وبنتاه خلود وإنعام مع أمه وأخته غادة التي سبق زواجها من بعض الشخصيات في مدينة الطائف ثم توفي زوجها وعادت لتعيش مع أخيها وعائلته ووالدتها.
يعمل السيد / محفوظ في مجال تجارة المفروشات وقد كان يعيش في بحبوحة من العيش فهو من عائلة غنية أبا عن جد ويعتبرون من العائلات المرموقة في مدينة الطائف.(1/10)
يعمل ابنه طارق 27 سنه محاسباً في إحدى الإدارات الحكومية ورغم مناشدة والده له بأن يتفرغ للتجارة ومتابعة إعماله آلا أنه يريد الاعتماد على نفسه ويبقى في وظيفته لكنه يساعد والده في إعمال التجارة من حين إلى آخر بعد انقضاء وقت الدوام .
عندما توفي زوج غادة كانت قد أنهت دراستها في المرحلة الثانوية ثم أكملت دراستها الجامعية بعد ذلك وأصبحت تعمل مدرسة مع زوجة السيد عباس في مدرسة واحدة .
وكانت زوجة السيد عباس . السيدة علياء مقربة جداً من غادة يجلسن سوياً في أوقات الفسح وتشتكي كل منهما همها إلى الأخرى حتى اشتهرتا في المدرسة بـ( التوأم )كما كانتا تذهبا إلى المدرسة وتعودا مع السيد عباس في سيارة واحدة .
أما السيد عباس فكان يقصدها بالكلام عندما عرض فكرة الزواج على زميله مروان وكثيراً ما كان يزور هذه العائلة بعائلته حتى أصبح صديقاً لآخوها محفوظ وكثيراً ما كان يذهب يتسلى معه في معرض المفروشات من حين إلى آخر .
( 4 )
عاد السيد مروان إلى زوجته فأخبرها بأن السيد عباس قد دعاهم إلى تناول طعام العشاء في بيته الجديد الذي سكن فيه قريباً .
- أن ذلك يكلفنا كثيراً فنحن لا بد أن نشتري هدايا من أجل انتقالهم إلى البيت وكذلك هدايا من اجل المولود .
- لقد وعدته بالذهاب إليه .
- إذاً اذهب أنت فقط .
- لقد صمم على أن نكون جميعاً .
- أن فادية وحسين لديهما اختبارات شهرية .
- هذا لا يؤثر على مستواهم . إما من ناحية الهدايا فسوف نذهب إلى السوق في طريقنا ونشتري أي هدية نراها مناسبة ونعطيهم . وحبذا لو كانت من أواني المطبخ .
- والمولود .؟
- ليس وقته الآن فعمره الآن سنة ونصف والمناسبة الآن هي سكنهم في البيت الجديد .
- توكلنا على الله .
وبعد صلاة العشاء رجع السيد مروان إلى زوجته وأطفاله وأخذهم في سيارته واشتروا طقم من الصيني هدية منهم إلى عائلة السيد عباس من السوق واتجهوا بعد ذلك إلى منزل صديقه .(1/11)
هناك كانت دهشة السيد مروان كبيرة جداً فقد كان منزل السيد عباس عبارة عن فلة صغيرة مكونة من دور تحيط به حديقة صغيرة أيضا ًبتنظيم جميل ومرتب جداً وقد أعّدت بها عدد من الكراسي والأرائك المتفرقة في أرجاء الحديقة التي يتوسطها حوض كبير به نافورة صغيرة تضفي على الجلسة جو من المتعة والانشراح خصوصاً في ليالي الصيف.
جلس السيد مروان ومضيفه على تلك الكراسي وبجانبه ابناه حسين وخالد .
أما فادية وسامية فقد دخلتا مع أمهما إلى داخل المنزل وبعد أن تناول الجميع أكواباً من العصير . أخذ السيد عباس ضيفه في جولة داخل المنزل . فوجد فيه من الأثاث الفاخر ما يلفت النظر والفرش والأرائك والتحف المنتشرة في كل أرجاء المنزل بالإضافة إلى الصور التي تزين أغلب جدران البيت ومكيفات الفريون لكل غرفة من الغرف الشيء الذي زاده هماً جديداً معتقداً أن كل ذلك سببه زواج عباس من تلك المعلمة وسأل عن ذلك فقال :
- كنت قد اشتريت مكان البيت منذ مدة طويلة وعندما بدأ بنك التنمية العقاري في إعطاء قروض للمواطنين تقدمت بطلب قرض وحصلت عليه بعد فترة وقمت بعمارة البيت .
- لماذا لا تستغل دور واحد فقط وتستفيد من الدور الثاني بتأجيره مثلاً.؟
- أنا لن أعيش أكثر من ما عشت وأريد أن أرتاح فيه أنا وعائلتي وهناك على الشارع من واجهة الفيلا ثلاثة محلات تجارية مؤجرة ومن أجارها نسدد البنك .
وعند ذلك أدرك السيد مروان أن هذا ليس من كسب زوجته الثانية . وبعد تناول العشاء أخذ السيد مروان زوجته وأطفاله وعاد بهم إلى المنزل .
وتمضي الأيام وفكرة السيد مروان بالزواج تراوده بين وقت أخر . ولا تزال هاجسه الذي يقرع أجراس الثروة في ذهنه . ومضت سنة كاملة بين مد وجزر
وذات يوم أوقف السيد عباس سيارته في الورشة ودخل إلى غرفة تعتبر مكتباً للسيد مروان وعماله وهناك قابله وأخذا في الحديث من نواحي شتى وسأل السيد مروان صديقه فقال .(1/12)
- أنني أفكر في الزواج بعد أن وعدتني بالمساعدة من معلمة أيضا فقد سئمت هذه الزيوت وأعمال السيارات .
- يا رجل أحمد الله سبحانه فأنت محظوظ وأعمال الورشة على الوجه الأكمل واعتقد أن دخلها كذلك
- هذا لا يمنعني من الزواج .
- وزوجتك واهلك .؟
- لن يكون زواجي على حسابهم فهم أهلي ولن تكون أحرص عليهم مني.
- لكنني أعرفك تماماً . إذا كان هناك بزبوز فلوس بعتهم جميعا ًبريال واحد ...
- أستغفر الله أنهم أولادي وبناتي وأمهم التي عاشت معي حيناً من الدهر .
- أنا أعرف لك معلمة تذهب معنا إلى المدرسة قد سبق لها الزواج ثم توفى زوجها .
- ماذا تعرف عنها ؟
- ممتازة وجميلة جداً ، وغنية وإذا وجدت زوجاً ترتاح له فلن تمانع في ذلك .
فالزواج ستر للمرأة وحياة لها ، وأنت لن تجد أجمل منها وهي لن تجد أفضل منك .
- ألا يوجد لديها أطفال من زوجها السابق .
- لا . فهي لم تبق معه أكثر من ثلاثة أشهر .
- ماذا عن راتبها ؟
- هذا الأمر لا يجب أن تبحثه معها الآن فتظن أنك تطمع في الراتب . وأنا متأكداً أن ذلك هو الذي يدعوك إلى الزواج ولكن لا يجب أن تفصح عنه الآن .
- أريد أن أراها .
- إذا عزمت فأنا قد سمعت أن هناك من يخطب فيها أيضاً لذلك عليك أن تتخذ قرارك بسرعة ، وإذا عزمت فأخبرني .
- إنني عازم الآن ولكنني أريد أن أراها .
- في حالة موافقتها فهي تريد شقة تعيش فيها بمفردها .
- إذا أعجبتني فسأتدبر أمري حينئذٍ .
والمهر ..........كم سيكون تقريباً . ألم تقل إنها غنية .؟
- لكن هذا لا يمنع أن تدفع مهراً . فهذا حقها الشرعي ....
- طبعاً لن يكون كثيراً .
- أنا لا أعرف ذلك لكنني سأكون بجانبك وسوف أحاول أن يكون المهر مناسباً .
- والزواج لن يكون في قصر الأفراح .
- وأين تريده إذاً .؟
- في الأرض التي بجانب العمارة التي نسكنها .
- هذا يتم الاتفاق فيه مع أهلها، فأنت كأنك تخطب عندي وأنا لست ولي أمرها.(1/13)
- هذا صحيح . لكنني تأكدت الآن أنك تعرف عنها كل شيء .
- إنها من أقرب المقربات إلى زوجتي .
- إذاً سأحاول أن أراها في بيتك .
- لا. لا. إذا أردت ففي منزل أخيها فأنت تريد الزواج على سنة الله ورسوله، ومقابلتها في بيتي قد يكون سبب للشك وأنت لا ترضى ذلك .
- هذا صحيح . ولكنني كما أسلفت أريد أن أقابلها .
- سوف أخبر زوجتي ونطلب منها أن تحدد موعداً لذلك في بيت أخوها . إلا إذا كنت غير جاد في كلامك ؛ فالأولى أن تكون بعيداً عنها من البداية .
- بل الجد كله .. توكلت على الله ، أريد موعداً لمقابلتها .
- ثم خرج السيد عباس وركب سيارته وغادر الورشة .
وبعد يومين اتصل به السيد عباس وطلب منه أن يقابله بعد صلاة المغرب.
( 5 )
بعد صلاة المغرب دخل السيد مروان إلى دكان الحلاق القريب من الورشة وطلب منه أن يزيّنه 0 ولبس أجمل ملابسه وانطلق إلى بيت السيد عباس الذي وجده ينتظره عند باب منزله وركب معه وانطلقا إلى السيد / محفوظ عبد الغفار.
نزل السيد عباس وقرع جرس الباب وخرج الحارس مصطفى وفتح لهم البوابة وطلب عباس من مروان إدخال السيارة .
ادخل مروان سيارته في فناء الفيلا ونزل منها ليجد السيد / محفوظ مرحباً بهما أمام المنزل .
دخل الثلاثة غرفة الاستقبال وأخذ السيد مروان يجول بنظره هنا وهناك في أرجاء الغرفة وأدرك ذلك السيد عباس ، فقال :
- يهنا لك يا عم . هذا العز .
- أنت بتحسد من الآن .
- حتى تعرف أنني لا أسعى لك إلا إلى الخير .
- عسى .
أحضر السيد محفوظ القهوة مع بعض المكسرات والتمر وجلس مع ضيفاه وبدأ السيد عباس حديثه قائلاً :
- نحن يا أبا طارق جئنا في مقصد خير .
فصديقي هذا أعرفه منذ زمن وكأنه أخي ، وصداقتي به عريقة جداً ولولا أنني واثق منه وأعرف معدنه لما أتيت به إليك وأنت صديق أيضاً وهو متزوج وله أربعة أطفال ولكنه يريد أن يتزوج بأخرى وأنت تعلم أن الشرع قد أحل للرجل الزواج من أربع . ويريد الزواج من أختك غادة .(1/14)
فإذا كانت لديكم الرغبة كما هي لديه ، فالرجل يستحق كل خير وإن كان غير ذلك فكأننا لم نخبرك بهذا الأمر .
- أنت يا عباس تعرف أن أختي قد تزوجت وتوفى زوجها بعد الزواج بفترة قليلة وهي تعمل مدرسّة مع زوجتك وأنت الذي تذهب بها وتأتي مع زوجتك كل يوم وإذا كان أن هناك نصيب للرجل في أختي فلن نقف ضده. ولكنني أفضّل أن يراها وتراه قبل كل شيء .
- نعم هذا من حقهما الشرعي .
حتى هذه اللحظة لم يتكلم السيد مروان فهو لا يريد أن يبدأ بشيء قبل أن يرى خطيبته .
وعند ذلك خرج السيد محفوظ من الغرفة ودخل إلى داخل المنزل وبعد قليل وقف بالباب واستدعى السيد مروان ودخل معه في غرفة بجانب الغرفة السابقة. فإذا العروس جالسة بجانب أمها وكأنها القمر في ليلة تمامه. كمن قال الشاعر فيها:
أرى وجهها بدراً محاطاً من السنا ... بصبحين من ثغر مضيء ومن نحر
معروف الرصافي
معتدلة القامة جملية العيون شعرها أسود على بشرة بيضاء كمن قال الشاعرالاخر في مثلها :
فالوجه مثل الصبح منبلج ... والشعر مثل الليل مسود
ضدان لما اجتمعا حسنا ... والضد يظهر حسنه الضد
وكأنها وسنى إذا نظرت ... أو مدنف لمّا يفق بعد
ثم سلم السيد مروان وجلس أمام العروس وقال :
- لقد جئت إليكم وكلي أمل في قبول خطبتي للسيدة.ثم سكت فقال السيد محفوظ:
- غادة .
- للسيدة غادة وأريد أن أخبركم أن لي زوجة وأطفال أربعة هم كل نصيبي من الدنيا ولدي ورشة سيارات في الشهداء ودخلها بحمد الله يكفي أن نعيش به جميعاً.
ثم ساد قليلاً من الصمت فقال السيد محفوظ :
- ما رأيك يا غادة.
- الأمر عندك أنت فأن كنت تراه مناسبا فتوكل على الله.
- لا0 فهذا الأمر يحتاج إلى موافقة صريحة منك وهذا الرجل قد شرح أمره كاملاً فإذا كان لديك القبول فأريد أن اسمعه أمامه وبعد ذلك سوف نتفق على بقية الأمور .
- توكلنا على الله . قالت ذلك العروس(1/15)
ثم ناولها السيد مروان مبلغ ألف ريال وخرج من الغرفة . وهناك جلس لدى صديقه عباس وهمس في أذنه :
- كيف العروس .؟
- ممتازة .
- يعني نقول يا رب .
- توكلنا على الله .
- نبدأ في الحديث مع أخيها .؟
- نعم .
عند ذلك دخل السيد محفوظ وجلس في مكانه فقال السيد عباس :
- الحمد لله هناك قبول إن شاء الله من الطرفين ولكننا نريد أن ندخل في التفاصيل كي يبدأ الأخ أبو حسين الاستعداد للزواج .
- توكل على الله .
- سوف يدفع السيد مروان مهراً قدره عشرون ألف ريال .
- هذا لا يكفي .
- بل يكفي فأنا اعرف ما عنده .
- أنت ترى ذلك .
- نعم . وأنت إنشاء الله لا تطمع في صهرك .
- موافق .
عند ذلك تدخل السيد مروان وقال :
- سيكون المهر في يدك بعد أسبوع إنشاء الله .
- وأين سيكون الزواج .؟
- سيكون في أرض بجانب العمارة التي نسكنها .
- إنني أريد أن يكون الزواج في قصر . وأنا سوف أدفع أجرة القصر.
- بارك الله فيك .
وقال السيد محفوظ عند ذلك هناك شرط أريد أن يكون مفهوماً لديك .
- ما هو .؟ قال ذلك السيد مروان .
- لابد أن تعيش أختي في شقة منفردة .
- وأنا موافق .
عند ذلك تدخل السيد عباس وقال :
لم يبق شيئاً الآن
ثم قام إلى صديقه مروان وقال :
- مبروك .
- الله يبارك فيك .
ثم نهض محفوظ أيضاً وبارك للعريس وفي تلك اللحظة كانت الزغاريد تنطلق من داخل المنزل وكأن النساء قد كن آذان صاغية من خلف الأبواب .
وعندما همَّ السيد مروان وزميله السيد عباس بالانصراف أقسم عليهما السيد محفوظ عبد الغفار أن لا يذهبا قبل تناول طعام العشاء .
وبعد العشاء انصرفا فقال عباس :
- مبروك . ولكنني لا أريد زواجك هذا يؤثر على حياتك مع زوجتك أم حسين وأطفالك .
- أنني أعرف تماماً ما تريد أن تقوله ولكننا لم نحدد وقت عقد الملاك.
- أي وقت تريد وأفضّل عندما نذهب لتسليم المهر فأنت قد وعدته بأن يكون في يده بعد أسبوع .
- نعم هذا صحيح .(1/16)
وأوصل مروان زميله عباس إلى منزله وعاد إلى شقته ووجد صاحب العمارة السيد عطية ومجموعة من الجيران يتسامرون أمام السوق المركزي فسلم وجلس فقال السيد عطية :
- أين كنت يا أبا حسين .
- كنت في عزيمة لأحد الأصدقاء .
- كأنك عريس .
- ولم لا .
- من حقك . إذا كان ذلك صحيح فالشقة موجودة.
- أين .؟
- لقد سافر أحد سكان الدور الثالث .
- من هو .
- عبد الحافظ مهندس البلدية .
- كم كانت أجرتها ؟.
- ثمانية آلاف ريال .
- ان تعطنيها بخمسة آلاف أنا استأجرها .
- بل بستة آلاف .
- وأنا قبلت .
- معنى ذلك أنك عملتها يا لئيم .
- هذا حسد ظاهر لا تستطيع أن تكتمه .
- أتتكلم جاد ؟.
- نعم وكان في جيبه 500ريال فأعطاها إلى السيد عطية وقال :
- هذا العربون .
- أخذ السيد عطية الفلوس وقال :
- غداً سيكون المفتاح في يدك .
- توكلنا على الله .
وأحس السيد مروان أنه قد سار ثلاثة أرباع المشوار فقد كانت الشقة من أهم المشاكل التي كان يفكر بها .
وفي اليوم الثاني قال السيد مروان لزوجته :
- نريد أن نخرج إلى الشفا من أجل الأولاد .
- أن لنا وقت لم نخرج من الشقة فأنت قد عرفت ما نفكر به .
وبعد صلاة العصر خرج الجميع إلى الشفا للنزهة وأثناء الطريق قال السيد مروان لزوجته :
- هل رأيت ذلك الأثاث الموجود في منزل السيد عباس .
- نعم . لقد قالت لي زوجته أنهم حصلوا على قرض من بنك التنمية العقاري .
- وكذلك زوجته معلمة .
- ليس لزوجته دخل في ذلك فالقرض من البنك والأرض كان يملكها منذ زمن .
- ما رأيك يا سعاد لو أتزوج أنا أيضاً بمعلمة يكون راتبها زيادة خير على دخل الورشة .
عند ذلك استدارت إليه وأخذت تكلمه بلهجة تخنقها الحسرة والألم:
- أعرف أن هذه النزهة ليست لمجرد الاستجمام فأنت تريد أن تقول شيئاً.
- أريد أن أقول أنني وحيد وليس لي أخوة وإذا وجدت عروس في مواصفات زوجة عباس فأنت قد رأيت بعينك ذلك الود الذي بين زوجتيه .(1/17)
- إنك تلهث خلف الراتب وحتى لو كان ذلك على حساب سعادتنا وسعادتك ولكنك قد لا تجد مثل زوجة عباس كما أن ظروفه غير ظروفك فأنت بحمد الله لديك أطفال ونحن مرتاحين ودخل الورشة جيد جداً ونحن مستورين والحمد لله ولم ينقص علينا شئ .
- ولكن الشرع قد أحل ذلك .
- الشرع لا يأمرك أن تخرب بيتك بمعنى إذا كنت مرتاح بزوجة واحدة فلا داعي للثانية وإذا كنت مرتاح مع اثنتين فلا داعي للثالثة وهكذا.
- لو كان الأمر كذلك لذكرت نصائحك هذه في القرآن ولكن لله في ذلك حكمة وحتى يكون الأمر واضحاً لقد خطبت معلمة وسوف يكون الزواج في الصيف بإذن الله .
عند ذلك أخذت زوجته السيدة سعاد تبكي ثم ساد صمت مطبق في السيارة وأدار السيد مروان مقود سيارته وعاد بهم إلى الشقة . ثم صعدت سعاد وأطفالها إلى شقتهم ..
أما هو فقد بقي أمام العمارة مع زملائه الذين يتسامرون كل ليلة في ذلك المكان وجلس في طرف الجلسة بوجه مكفهر عابس فالتفت إليه عطية وقال :
- من الذي قد نكّد عليك . لله درّه .
- الله ينكّد عليك .
- النكد باين في وجهك فما الأمر .
- لا شئ .
- هذا ليس صحيحاً . إن لم يخطئ ظني إنك قد أخبرت زوجتك بموضوع فضيحتك الجديدة .
- هل الزواج فضيحة .
- بل ستر ولكن ليس في كل وقت .
- هذا بدلاً من مساعدتك ومد يد العون لأخيك وجارك لأكثر من عشر سنوات .
- أنت تعرفني أكثر من غيرك فأن أنت احتجتني فستجدني عند حسن ظنك وأنا أمزح معك يا رجل .
ثم أشار مروان إلى السيد عطية بأن يقترب منه وقال :
- أريد مفتاح الشقّة لكي أبدأ في تجهيزها للعروس .
- هل خطبت فعلاً .؟
- نعم .
- الآن أتيك بالمفتاح والتفت إلى ابنه وقال :
- هات مفتاح الشقة العلوية من الدولاب الذي بجانب سريري إنه في ميدالية زرقاء .
ذهب الولد وبعد قليل عاد والمفتاح في يده...
- ثم أعطى السيد مروان المفتاح وقال :
- بالرفاه والبنين ومن هي تعيسة الحظ . اقصد سعيدة الحظ التي ستتزوجها . قالها وضحك .(1/18)
- إنها أخت محفوظ عبد الغفار صاحب المفروشات التي في شارع شهار .
- أعرفه . وهل العروس معلمة .؟
- نعم .
- هذا ما جذبك إليها .
- ليس كما ذكرت فهي جميلة وأنا أريد الزواج منذ زمن .
هذا شيء يعود إليك . ولكن ماذا دار مع زوجتك . هل تقبلت الموضوع ؟
- ليس لديها روح رياضية 0 بل روح نكدية . ٍأكثر من اللازم . وهذه رجعتنا . وأريد منك أن ترسل لها أم عبدا لرحمن لكي تهّون معها الأمر بعض الشيء حتى تقبل به .
- ليس لدي مانع ، ولكن الأمر يحتاج منك إلى تليين الموقف قليلاً فتبسط يدك معهم واتق الله فيهم يا رجل . لقد سئموا من الفول واللبن ، فهل تعتقد أن العروس سترضى بنفس المعيشة أم أنها ستأكل غير ما كنتم تأكلون .
- هذا ليس من شأنك فأنا أحسن زبون عندك في السوق وراجع دفترك والحمد لله نأكل بفلوسنا فأنت لا تتصدق علينا بشيء .
- هذا صحيح وتعيش وتشتري يا أبو حسين .
ثم انصرف مروان من الجلسة على وعدٍ من السيد عطية بأنه سوف يرسل زوجته لتلطّف الجو الذي عكّره فكرة الزواج مع السيدة سعاد .
وعندما وصل إلى الشقة وجد زوجته جالسة على باب غرفتها .
- السلام عليكم .
- وعليكم السلام .
ثم قامت ابنته فادية التي كانت جالسة بجانب أمها وأمها تبكي وقالت :
- لماذا تريد أن تتزوج على أمي يا أبي .
- هذه سنة الحياة . وأمك لا تزال زوجتي وهي الأصل وهي سيدة البيت الأولى والأخيرة .
عند ذلك التفتت إليه زوجته وقالت :
- إن كان هدفك المادة فأنا مستعدة لبيع حصتي من ما ورثته عن أبي وأعطيك قيمتها .
- ليس هدفي المادة كما تذكرين ، ولكن لي رغبة في الزواج منذ زمن.
- لماذا وما ينقصك ؟
- لم ينقصني شيء بحمد الله وأنت سوف تكونين كما ذكرت أم العيال والبيت وكل شيء .
- حسبي الله ونعم الوكيل . حسبي الله ونعم الوكيل .(1/19)
وانفجرت باكية مرة أخرى ودخلت إلى غرفتها وتحوّل الجو إلى نكد من جديد، ولكنه قد قال في نفسه لابد من هذه العاصفة... لكنها سوف تهدأ شيئاً فشيئاً والناس هكذا ، ولا يوجد بيت من دون مشاكل أو منغصات ولكن الأمور ستسير مع الزمن إلى وضع طبيعي .
( 6 )
... وتمضي الأيام وتذهب أم عبدا لرحمن زوجة السيد عطية إلى جارتها السيدة سعاد وتلطف جو الغضب الذي ساد العلاقة بين السيد مروان بن صالح وعائلته وتعود الأمور إلى شبه مجاريها ويذهب مروان بزوجته إلى السوق ويشتري لها وبنتاها بعض القطع الذهبية وكذلك أقمشة وملابس وما طلبته منه في ذلك اليوم .
وبعد ذلك أخذ السيد مروان زوجته وأطفاله وذهب بهم إلى منزل السيد محفوظ عبد الغفار فقد كان الجميع في عزومة للعشاء بمناسبة عقد الملاك، وكان من ضمن الحضور السيد عباس وعائلته .
لم تكن السيدة سعاد تريد أن تخلق لنفسها ولأولادها مشكلة مع أبيهم فعقدت العزم على الحضور لكنها بعد أن شاهدت العروس انقلبت الموازيين ، فقد كانت ضرتها فوق كل التوقعات .
لقد شعرت بأن البساط قد سحب من تحت قدميها فهي لن تقدر ولو استعملت جميع مساحيق الدنيا أن تجاريها ، كما أن العروس لا تزال في ريعان الشباب ولديها ما تغري به زوجها أيضاً وهو الراتب وشعرت بصدمة كبيرة ، إلا إنها كانت تخفي ذلك حرصاً منها على عدم إظهار حرجها من ذلك الموقف . كما كتمت ذلك عن زوجها إلا أن ابنتها فادية عرفت ذلك في وجه أمها ، فعند عودتهم إلى الشقة دخلت سعاد في غرفتها متظاهرة بالتعب فلحقت بها فادية فإذا هي جالسة على سريرها وقد وضعت وجهها بين راحتيها تجهش بالبكاء بصوت منخفض .
وضعت البنت يدها على كتف أمها وأخذت تهون عليها من ذلك الموقف .
- لماذا تبكي يا أمي فأنت امرأة وهي امرأة وأبي قد وعدك ووعدنا جميعاً بأن يكون كل شيء بيدك .
- أبوك . أنت لا تعرفين أبوك مثلي .
- إنني واثقة فيما قاله يا أمي .(1/20)
- عسى أن يكون ما قاله صحيحاً أو نصفه على الأقل ولكنني أعرفه ، فأبوك يحب الفلوس كثيراً .
- كل الناس تحبها يا أمي وربما يكون قدومها علينا قدوم سعد .
- سعد . لا اعتقد ذلك .
- بلى يا أمي . توكلي على الله ، والذي أريده منك أن تصلي ركعتين لكي يذهب الله بها عنك هذه النفس الشريرة ، وإن شاء الله يكون كل شيء كما تحبين .
وتمضي الأيام ويتزوج السيد مروان وتسكن غادة في الدور العلوي ويعيش الجميع عائلة واحدة تقريباً .
تذهب غادة في الصباح الباكر مع السيد عباس وزوجته كعادتها وتعود معه بعد نهاية الدوام .
تعطي زوجها مروان من راتبها ( 2000 ) ريال. وتمضي سنتين والأمور من حسن إلى أحسن . وفي بداية السنة الثالثة انتقلت زوجة عباس من المدرسة التي تعمل فيها غادة وعادت من المدرسة وهي كئيبة حزينة فأخبرت زوجها بذلك وطلبت منه أن يوصلها إلى المدرسة كل يوم فالسيد عباس قد انتقلت زوجته إلى مدينة الطائف . فاستجاب لذلك وأخذ يذهب بها إلى المدرسة بسيارته وإن كانت قديمة موديلها إلا أنها بحالة جيدة . غير أن قدم الموديل هذا يسبب حرجاً لغادة من بعض زميلاتها . كما أن جزء من الطريق لم يعبد والسيارة الكابرس ليست السيارة المثالية لذلك .
وبعد مرور شهر تقريباً أخذت غادة تحث زوجها على تغيير السيارة .
- إن هذه السيارة لم تعد تصلح لنا فأنا اعتقد أن كثير من المعلمات سوف يذهبن معنا في حالة تغيير سيارتك .
- إنهن ثلاث فقط والسيارة التي معنا الآن تكفينا جميعاً وربما انتقل بعضهن فنحن لا نزال في أول السنة .
- بالإمكان أن نأخذ بعض المعلمات اللاتي يعملن في مدارس مجاورة .
- ليس لدي ما يكفي لشراء سيارة جديدة .
- سوف أساعدك في ذلك .
- ليس لدي أكثر من عشرة آلاف ريال .
- وأنا سوف أدفع عشرين آلفاً .
- ثلاثون آلف لا تكفي لشراء سيارة نظيفة .(1/21)
- عليك أن تبيع الورشة فهي ليست بذات دخل كبير وربما نقل المدرسات سوف يكون أفضل منها بكثير علاوة على خروجك من مستنقع الزيوت ورائحة الشحوم .
- إنها مصدر رزق وكيف تريدين مني أن أغلقه ونحن في أشد الحاجة إليه .
- إن نقل المدرسات مصدر رزق أيضاً وانظر إلى عباس لقد كان يعتبر موظفاً ، فإنه يذهب مع المدرسات وينتهي عمله معهن ويمكن أن يكون دخله أحسن من دخل الورشة التي تملكها ثم إنه يستريح بقية النهار بالإضافة إلى الخميس والجمعة .
كانت هذه الكلمات تلقي رواجاً لدى السيد مروان فهو قد تقزز من أعمال الورشة ويريد أن يركب سيارة مثل سيارة السيد عباس وأن يرتاح من متابعة الورشة سيما وأنه قد حلم أيضاً أنه سوف يدخل إلى الثروة من أوسع أبوابها بفضل ما يحصل عليه من نقل المدرسات .
بعد فترة من الزمن ليست طويلة باع السيد مروان الورشة واشترى سيارة سوبربان حديثة الموديل تضاهي سيارة عباس بل تفوقها حسناً وحداثة وابتدأ ينقل زوجته وزميلاتها إلى المدرسة وهناك ينتظرهن حتى نهاية الدوام ثم يعود بهن إلى الطائف وبقيت حياته المعيشية بنفس المستوى واستطاع أن يحافظ على مستوى العائلتين وإن كان الخاسر الوحيد من نقله للمعلمات هم أطفاله حيث أنهم لم يذهبوا بعدها إلى المدرسة إلا مشياً على الأقدام .
وتمر الأيام والسنين وتنهي فادية دراستها للمرحلة المتوسطة وتريد أن تدرس بالمرحلة الثانوية .
وكانت فادية وكذلك جميع أخوتها متفوقون دراسياً . بل كانوا دائماً الأوائل على صفوفهم .
كان السيد مروان كثير الجلوس مع زوجته الجديدة غادة وقد رزق منها بطفلة صغيرة أسمياها هند .(1/22)
وكانت غادة تضع ابنتها عند السيدة سعاد حتى عودتها من المدرسة ولكن سعاد قد لاحظت أكثر من مرة أن غادة كانت تظهر اللوم وعدم الرضى مدّعية أنها لا تعتني بها كما يجب ، الشيء الذي جعل السيدة سعاد تتعب من تلك المعاملة وذات يوم حضرت السيدة غادة من المدرسة . وكانت السيدة سعاد قد جهزت الغداء كعادتها في كل يوم إلا أن غادة في ذلك اليوم حملت ابنتها وأخذت تتفقدها .
- يظهر إنها قد بكت لوقت طويل .
فقالت لها السيدة سعاد :
- أي طفل لابد أن يبكي عندما تتغير ملابسه .
- إنني أشم رائحة البول في ملابسها .
- إنها ليست كذلك . وهذا بدلاً من اسمع منك كلمة شكراً .
وعند ذلك التفت إليها السيد مروان وقال :
- شكر . أي شكر .
- إنني أرعاها وأحافظ عليها أكثر من إخوانها .
- هذا شغلك . يقول ذلك السيد مروان .
- إنه ليس شغلي فأنا لست خادمة لديها .
- بلى . إنه من صميم عملك .
- الله يسامحك . ثم اتجهت إلى المطبخ وإذا بها تخرج بالطعام فلا تجد أحداً سوى أطفالها الذين قد خيم عليهم صمت مطبق . فقد ذهبت غادة إلى شقتها وتبعها السيد مروان .
أرسلت سعاد ابنها حسين وفادية بجزء من الأكل إلى الشقة العلوية فلم يجدا أحداً . لأنهما قد ذهبا لتناول الغداء في أحد المطاعم خارج الشقة.
من ذلك اليوم بدأت النفوس في التنافر وأخذت كل واحدة من الزوجات تعدد غلطات الأخرى ، والسيد مروان يقف كالمتفرج ، بل عوناً لزوجته الجديدة على سعاد وأطفالها ، بل فكر في إبعاد زوجته السابقة والأطفال إلى قريته . قرية الحانوت حتى يستريح من تلك المشاكل التي لا يستطيع حملها فعرض ذلك الأمر على زوجته السابقة فقالت :
- إنك لا تفي بمطالبنا ونحن بجوارك فكيف إذا ابتعدنا عنك .
لكن تلك الفكرة قد لاقت هوىً في نفسها حيث إنها تريد الابتعاد عن الجو الذي تعيش فيه بعد أن رأت من زوجها كل الميل إلى زوجته الجديدة . فوجدت في تلك الفكرة فرجاً ومخرجاً من الطائف بكاملها وقالت في نفسها .(1/23)
بعدك عن اللي ما يودك جلا همّ ... وصبرك على زلّة رفيقك عبادة
نمر بن عدوان
- مع نهاية الدراسة سوف انقل ملفات الأطفال إلى القرية حيث أن الدراسة هناك تختلف عنها في المدن فالمدارس في القرى قريبة من البيوت ويذهب إليها التلاميذ مشياً على الأقدام . أما إذا كانت بعيدة فالنقل متوفر للأولاد والبنات عن طريق الباصات التي تؤمنها الدولة لهم ، كما أن الرعاية الصحية أيسر منها في المدن أيضاً وسوف تكونين أنت والأولاد هناك تحت أنظار أخيك إبراهيم وأقاربنا جميعاً من أهل القرية ، وسوف أرسل لكم مصروفاً شهرياً وأتفقد أحوالكم بصفة مستمرة .
- من غاب عن العين غاب عن القلب .
- لن يكون ذلك أبداً .
- إذاً . توكلنا على الله .
- سوف اتصل بإبراهيم واطلب منه تجهيز الغرف التي بجانب بيته القديم وأنقلكم إلى هناك .
- توكلنا على الله .
سافر مروان إلى القرية عدة مرات وقام بتجهيز تلك الغرف لتكون مسكناً لزوجته وأطفاله حتى أصبحت صالحة للسكن .
ازدادت النفوس تباعداً بين زوجتيه . ومع نهاية العام الدراسي قام السيد مروان بنقل أطفاله إلى القرية . ولم يجلس معهم أكثر من ثلاثة أيام حاول خلالها أن يشتري لهم بعض ما يحتاجون إليه . ثم عاد راجعاً إلى الطائف .
وتمر الأيام والأسابيع والشهور دون أن يسأل عنهم ، كان يرسل لهم مصروفاً شهرياً .ولكنه لا يكاد يكفي لما يحتاجون إليه . إلا أنهم قد أحسوا براحة نفسية .
تعرّف حسين على بعض أقرانه في القرية وكذلك فادية وخالد وسامية .
لقد أحس الجميع براحة نفسية .حتى سعاد رغم غياب زوجها إلا أنها ترى أنه لم يبق لها في الدنيا سوى أن ترى أولئك الأطفال يكبرون أمام عينيها شيئاً فشيئاً حتى يكملوا دراستهم ، وأن تسخّر ما بقي من حياتها لسعادتهم .(1/24)
وجد الجميع في القرية انطلاقة جديدة نحو الحياة ، فالوادي قريب منهم والنزول فيه والتجوال بين الأشجار وبين مزارع الخريف من اللحظات التي تفرح القلب وتملأه سعادة واطمئنان .
لقد استقبلت القرية بكاملها السيدة سعاد وأطفالها بكل محبة ومودة . ووجدت من أخيها وعائلته كل مؤازرة ومساعدة . وكان زوجها لا يزال يرسل لها المصروف في بداية كل شهر ، وتمضي السنة الأولى والثانية والسيد مروان لا يكاد يأتي إليهم إلا نادراً ، إلا أنهم يجدون راحة واطمئنان بخروجهم من حياة الشقق إلى رحابة الأفق في جو القرية الفسيح .
أكملت فادية دراستها الثانوية والتحقت بكلية المعلمات .
أما حسين فأصبح في الصف الثاني الثانوي بالقسم العلمي . كذلك يدرس خالد في الصف الثالث المتوسط ، أما سامية فهي لا تزال في الصف الخامس الابتدائي بسبب تأخرها سنة كاملة عن دخول المدرسة عندما تعرضت لحادث سقوط من النافذة 0رقدت على أثره في المستشفى لمدة ستة أشهر.
( 7 )
... كان من ضمن اللذين تعرّف عليهم حسين من أقرانه ابن خاله طارق وكذلك ابن عريفة القرية إسماعيل بن حسين السالم فقد كانا زميلاه في الدراسة وزادت الألفة والمودة بينهم حتى لا يكادون يفارقون بعضهم بعد عودتهم من المدرسة كما أنهم يعتبرون الأوائل على الصف الذي يدرسون به وقد كانوا يدرسون في غرفة بفناء منزل عريفة القرية السيد / حسين السالم .
أما فادية فقد كانت أيضاً ابنة خالها سعدية هي صديقتها المقرّبة من بين صديقاتها من بنات القرية وقد اندمجت الأسرة مع مجتمع القرية في زمن قياسي .
وأصبح بيت أم حسين ملتقى لنساء القرية خصوصاً بعد صلاة العصر أو في أوقات الظهيرة .
وسارت الأمور على ما يرام قبل أن يدخل الجميع في دوامة متعبة للغاية .
يا راقداً الليل مسروراً بأوله ... إن الحوادث قد يطرقن أسحارا(1/25)
بعد ذلك بفترة قليلة حضر السيد مروان بزوجته وابنتها زاعماً أنه أتى ليتفقد أحوال أهله وينظر في احتياجاتهم وقد كانت سيارته محملة بكثير من الهدايا والأرزاق لكافة الأسرة ، ولكن غالبية تلك الهدايا إلى ابنته فادية الشيء الذي زرع الشك في قلب السيدة سعاد التي لم ترتاح لزيارة زوجته الثانية .
وفي صباح اليوم التالي . همس السيد مروان إلى زوجته سعاد قائلاً :
- لقد تقدم عريس لابنتك فادية يا أم حسين .
- إنها لن تتزوج قبل إكمال دراستها .
- سوف نشترط ذلك في عقد الزواج .
- ومن يكون ذلك الزوج .
- إنه طارق ابن أخ زوجتي غادة .
- إنها لن تتزوج في الطائف .
- إنني قد أعطيت كلمة للرجل .
- إنها ليست متاع يباع في السوق .
- أنا أبوها وأعرف مصلحتها .
- أنت لا تعرف إلا مصلحتك ومصلحة غادة .
- عند ذلك تدخلت غادة وقالت : أنا لا دخل لي ، ولكن ابن أخي أي بنت تتمنى الزواج منه .
- فليتزوج من الذين يتمنونه يا أختي .
وارتفع الصوت وحضر بقية من في البيت .
وقالت غادة :
- فلنذهب يا مروان فأنا لم أحضر لأتلقى الإهانات هنا .
- اذهبي به يا أختي فأنت التي وراء كل مصيبة .
- بل أنت من يبحث عن المشاكل .
والتفت مروان إلى زوجته السابقة . وقال :
- إنها لم تقل كلمة واحدة ، فلماذا نقلتِ الحديث إليها ؟
- إنها تريد ابنتك لأنها تعتقد إنها نستطيع أن تضحك علينا جميعاً كما قد ضحكت عليك أو أنها تعتقد إنها رخيصة الثمن .
التفتت إليه غادة وكررت القول :
- فلنذهب يا مروان فابن أخي لن يتزوج منها حتى لولم يبق في الأرض إلا هذه البنت .
- اذهبي به يا أختي اطلعي . اذهبي .
- تطردينا يا سعاد .
- اذهب أنت وهي في غير حفظ الله .
ثم غادرت غادة الغرفة وخرجت إلى فناء البيت وتبعها السيد مروان وتتابعوا جميعاً حتى خرجوا أمام المنزل 0
وخرج الناس من البيوت المجاورة ليعلموا سبب هذا الصياح الذي انطلق من بيت السيدة سعاد وأطفالها .(1/26)
والتفت السيد مروان يميناً ويساراً فإذا الجيران ينظرون إليه وعائلته . أما غادة فقد خرجت إلى خارج الغرفة التي كانت تنام بها ورفعت صوتها بالبكاء وفادية متعلقة في رقبة أبيها وهي تقول :
- يا أبي إنني أريد أن أكمل دراستي وإذا زوجتني من غير إرادتي فسوف ألقي نفسي في تلك البئر . وهي تكلمه وهو ينظر إلى أمها قائلاً :
- لقد أوغرت قلب أطفالك عليّ .
- بل أنت الذي بعتنا من أجل راتب غادة .
ثم تناولت غادة الكلام وقالت :
- أنا 0 لا تذكري اسمي على لسانك .
عند ذلك أمسكت سعاد بيد زوجته الأخرى غادة وهزتها . قائلة :
- اذهبي من هنا . اتركينا . نريد أن نعيش ، خذيه واذهبي به إلى الشيطان الرجيم .
عند ذلك التفت مروان إلى زوجته سعاد وقال :
- تطردينا إذاً .
- نعم إن هذا البيت بيتي ومن حقي أن أطرد كل من يتطاول عليّ فيه .
- أنت طالق . طالق . طالق . قال ذلك السيد مروان ، وركب سيارته مع زوجته وابنتها وغادر إلى الطائف .
بعد ذلك ساد ذهول شامل وانصرف الأطفال إلى داخل الغرف وانفجر كل واحدٍ منهم بالبكاء في ركن من ألأركان ، أما سعاد فلم تكترث بل ترى أنها قد أنقذت ابنتها من غادة وعائلتها ومن شر مستطير كان يحوم فوق رأس ابنتها ولو كلفها ذلك شقاء العمر ولم تظهر لأطفالها أي اكتراث بهذا الموقف بل بقيت في حالة متوترة طيلة ذلك اليوم .
( 8 )
بعدما قطع السيد مروان مسافة بين الباحة والطائف كان نادماً على ما فعله مع زوجته .
- أعوذ بالله من الشيطان .
- لقد تسرعت في طلاق سعاد .
- لقد تطاولت علينا حتى طردتنا من البيت .
- لم يكن لك أن تتصرف بهذه الطريقة . فأولادك وبناتك سيكونون الضحية .
- صار اللي صار .
- لقد تسرعت . والبنت إذا لم يكن لها رغبة فليس لك أن تجبرها على شيء لا تريده وينتهي الأمر عند ذلك . ..لقد فهم الجميع أنني أنا سبب هذه المشاكل ولو كنت أعلم أن الأمر سوف يصل إلى هذا الحد لم أسافر معك .(1/27)
- أنت طيبة جداً وقد ضاقت بي الدنيا عندما رأيتها تتمادى في شتمك والتطاول عليك .
- سيكون الأطفال هم الضحية .
- ألم تبصري حسين . لم يتكلم بكلمة .واحدة وكان المفروض أن يقف بيني وبين أمه ولكنه ولد أمه . لقد كان يتفرج علينا .
- ولكنك كنت مندفعاً أكثر من اللازم ويخشى من مصادماتك أو الوقوف في وجهك .
- كنت اكسر رقبته .
- إذاً كان ابتعاده أفضل .
- الله لا يردهم .
وصل السيد مروان إلى الطائف بزوجته
وبقي فترة من الزمن لايعلم ماذا عقبه على أطفاله ولا يسأل عنهم وتنجب زوجته غادة بعد ذلك بنت أخرى أسمياها إيناس وتمر الأيام وينقطع السيد مروان لزوجته وطفلتيه في مدينة الطائف يذهب بزوجته كل صباح مع ثلاث من زميلاتها أو أربع إلى المدرسة ويعود بهن بعد نهاية الدوام .
تقبض زوجته المرتب في نهاية كل شهر ثم تقسمه نصفين وتعطي السيد مروان نصفه علاوة على أجرة نقل المدرسات الذي لا يقل شهرياً عن ألفين ريال .
أما أطفال سعاد فقد تركهم نهائياً . وقطع عنهم المصروف . وكانت زوجته غادة تعطيه من مرتبها 0 خلاف نصف المرتب الذي تعطيه السيد مروان (500) ريال مصاريف الأولاد ولكنه كان لا يرسله لهم ويرى أن عليهم أن يتحملوا مسئولية أنفسهم فهم غير جديرين برعايته 0 رغم ذلك كانت زوجته غادة تسأله عنهم وتطلب منه عدم مقاطعتهم . إلا إنها كانت متأكدة من انه لا يرسل لهم حتى أل ( 500 ) ريال التي تعطيه لمصروفهم .
( 9 )
كانت الأبلة شادية تراقب تلميذات المدرسة أثناء الفسحة فإذا بها ترى إحدى التلميذات جالسة عند باب الفصل الخامس بعيدة عن بقية التلميذات اللاتي يسرحن ويمرحن في فناء المدرسة فتقترب منها وتسألها :
- سامية .
- نعم يا أبلة .
- لماذا لا تخرجين للفسحة مع البنات .
- أنا خارج الفصل كما ترين .
- لست خارج الفصل ثم تقترب منها فتنحدر من عين الطفلة دمعة على خدها وتجلس أمامها الأبلة وتسألها :
- ماذا بك يا حبيبتي !
- لا شيء .(1/28)
- لماذا تبكي إذاً ؟
- لا شيء يا أبلة .
أخذت المدرّسة بيدها إلى غرفة المقصف المدرسي واشترت لها بعض الشوكولاته ثم أخذت بيدها جانباً وسألتها :
لم يكن لديك فسحة . أليس كذلك .؟
- لقد أكلت في البيت قبل أن أحضر إلى المدرسة .
- لماذا لا تذهبي إلى المقصف وتشتري مثل بقيّة البنات .
- …………… لا ترد عليها .
- ماذا يعمل والدك يا سامية ؟
- إنه في الطائف .
- وأمك .؟
- في البيت .
- من أي قرية أنت ؟
- من الحانوت .
ما اسم أمك ؟
- سعاد . لكن ماذا تريدين منها .
- أريد أن أسألها لماذا لا تعطيك المصروف اليومي مثل باقي البنات .
- من أين يا أبلة . ثم انهمرت دمعة أخرى على خد تلك الصغيرة . كانت أقسى من سهم أرسل إلى قلب الأبلة شادية .
- لا عليك يا حبيبتي . أنا أعطيك فسحتك كل يوم وبادرتها الأبلة بدمعة أخرى مسحتها بكف تلك الصغيرة . ألا تقبلين أني صديقتك يا سامية ؟ .
- ………… لم ترد أيضاً .
- إذا لم تقبلي صداقتي فسوف أعتب عليك .
- أنت صديقتي ولكنني لا أريد منك مصروفاً ولن آخذ منك قرشاً غير ما قدمته لي اليوم .
- أتقبلين أن أكون أختك الكبيرة .
- شكراً يا أبلة .
- إذاً أفطر أنا وأنت سوياً .
- لن يكون ذلك أبداً . لأنني استحي من البنات. وأرجوك لا تحرجيني معهن .
- ليس في هذا حرج يا ابنتي .
- أرجوك يا أبلة . وانطلقت الفتاة الصغيرة تمشي بعيداً عن الأبلة شادية وهي تنظر إليها حتى عادت إلى باب الفصل عند ذلك قرع جرس الفسحة ودخل جميع التلميذات إلى الفصول .
وفي اليوم التالي طلبت الأبلة شادية من المشرفة الاجتماعية بالمدرسة موافاتها بتقرير عن حالة الطفلة سامية الاجتماعية ، حيث إنها كانت بالإضافة إلى إنها معلمة للاجتماعيات كانت تشرف على الفصل الخامس .
وبعد أن حصلت على التقرير كان لابد بأن تناقش مديرة المدرسة في وضع هذه الطفلة فذهبت إليها وقالت :(1/29)
- إن بين يديّ تقرير عن طفلة في الصف الخامس تدعى سامية مروان كانت أجود طالبة في الصف الخامس إلا أن مستواها الدراسي انحدر في الشهرين الأخيرين وقد حصلت من المشرفة الاجتماعية على درجاتها خلال هذا الفصل وبمقارنته بما كانت تحصل عليه هذه البنت من علامات في السنة الماضية كان لابد لي من معرفة الأسباب وقد وجدت أن لها أسبابا كثيرة منها طلاق أمها وسوء الحالة المادية التي تعيشها مع إخوتها ، قد سبب لها نوعا من الاكتئاب النفسي وعدم القدرة على التركيز .
- كيف اهتديت لذلك .؟
- كنت بالأمس أتابع التلميذات في وقت الفسحة فوجدتها واقفة وحدها عند باب الفصل وسألتها . ثم ذكرت بقية الحديث الذي دار بينها وبين الطفلة .
- وماذا تقترحين ؟
- اقترح عدة أمور إن وافقتني عليها .
- وما هي ؟
هي كالآتي :
أ) لنقل الطفلة من جو الكآبة الذي هي فيه اقترح أن تكون ضمن الطالبات اللاتي يعملن في المقصف في وقت الفسحة .
ب) أن يكون إفطارها مع زميلتها التي تعمل معها في المقصف على حساب المقصف.
ج) يمكن أن نتدخل لمساعدتها مادياً عن طريق المقصف ولو كانت المبالغ التي تعطى لها أو لزميلتها من مرتبي الخاص أو من أرباح القصف .
- فكرة رائعة جداً وأنا موافقة عليها واعتبري المبلغ الذي سوف يدفع لها بيني وبينك فقط ، ولا تشعري بذلك أحدا من المعلمات .
- إذاً من يوم غدٍ سوف أتولى الإشراف على المقصف حيث أنني وجدت أن البنت قد اطمأنت إليّ وأعرف ما تتحرج منه وسوف أتابع حالتها عن قرب .
- وأنا أيضاً أكبر فيك هذا الشعور وسوف أكون عوناً لك ولكن من ناحية المقصف سيكون زيادة في متاعبك حيث أن لديك عشرين حصة .
- إنني لا أريد منك أن ترفعي عني من نصابي من الحصص بل سأقوم بعمل المقصف بالإضافة إلى الحصص المقررة في الجدول .
- أشكرك وأتمنى لك كل التوفيق .(1/30)
وفعلاً من اليوم التالي بدأت الأبله شادية في الإشراف على المقصف وعرضت على سامية العمل في مقصف المدرسة وتم تنفيذ الخطة التي رسمتها لها مع مديرة المدرسة كما قامت أيضاً تلك المعلمة برسم لوحات في الجغرافيا والتاريخ ثم تكتب اسم سامية عليها وتسلمها إلى البنت في أوقات الفسحة وتطلب منها أن تقدمها لها أمام الطالبات في الفصل .
ارتاحت سامية إلى أبلتها شادية فعند دخول الأبلة إلى الصف تناولها سامية لوحة الجغرافيا أو التاريخ فتقوم بعرضها أمام بقية البنات . على أنها فعلاً من عمل تلك الطفلة ثم تعمل لها بروازاً وتعلقها أمام التلميذات في الفصل .
بعد ذلك تحسن مستوى البنت في الدراسة وحافظت على الترتيب الأول حتى تخرجت من الصف السادس وانتقلت إلى المرحلة المتوسطة والتي كانت بنفس المبنى فقد كانت هذه المدرسة تضم الابتدائية والمتوسطة معاً واستمرت شادية في الإشراف على المقصف وسامية تعمل فيه حتى تخرجت من المرحلة المتوسطة .
( 10 )
ترك السيد مروان أطفاله بعد طلاق زوجته في حاله يرثى لها . فبرغم ضآلة المبلغ القليل الذي كان يرسله لهم إلا أنه كان يسد بعض احتياجات الآسرة 0وقد أنقطع الآن نهائيا .
أصبحت السيدة سعاد وأطفالها في حالة فقر مدقع وبات أكثر طعامهم خبزاً مبلولاً في شاي أو فول على مدار اليوم .
كان حسين وأخوه خالد يذهبان إلى سوق الخضار يحملان لهذا ويساعدان هذا ويمسحان سيارة ذاك وهكذا في أيام الخميس والجمعة ويجمعان ما يحصلان عليه في هذين اليومين كمصروف لبقية أيام الأسبوع وأن كان ذلك لا يكفي أحيانا. واستمر هذا الحال عدة أشهر .
أطفال السيد مروان لا يملك الواحد منهم سوى ثوب واحد يلبسه للمدرسة والعيد والمناسبة إلا أنهم استطاعوا أن يقاوموا عثرات الزمن وقسوة مناخ المنطقة خصوصاً في فصل الشتاء .(1/31)
وتمضي الأيام وتراود لحسين فكرة دروس خصوصية لبعض أطفال القرية مقابل مبلغ من المال . حتى أجتمع ما يقارب عشرة أطفال يدرسون لديه ساعة بعد صلاة العصر من كل يوم من أيام الدراسة وتحسّن دخل الأسرة لبعض الشي وبعد التحاق حسين بالكلية تحسّن وضعهم إلى أحسن مع مكافأة أخته فادية من كليّتها . ولم تمض سنتين حتى أجتمع لدى حسين ما يمكن أن يشتري به سيارة فأصبحت وسيلة دخل جديدة 0ينقل بها الركاب بين الباحة وبالجرشي .
كاد حسين أن ينقطع عن الدروس التي كان يعطيها لأطفال القرية بعد شرائه للسيارة إلا أن التفاف هؤلاء الدارسين حوله وما لمسه أولياء أمورهم من فائدة لهؤلاء الأطفال جعله يتابع تلك الدروس مما زاد من قدره ومحبة الناس له في قرية الحانوت .
عاشت السيدة سعاد وأطفالها حينا من الدهر على الصدقات والمساعدات من أهل القرية رغم محاولتها إخفاء ما تعيش فيه هي وأطفالها الشي الذي جعلها تقاسي الفقر والعوز ضعف ما يقاسيه المعدم العادي فهي تخفي تلك المأساة عن الناس وتظهر لهم أنها في خير وعافية كما كانت توصي بذلك أطفالها آلا أن الزمان لا يرحم ولابد أن تظهر مذلة الفقر على الصبية الصغار من جراء ما يرونه مع أقرانهم من آهل القرية .
واستأذنت أخوها في زراعة بعض الركبان من الخضار التي تحتاجها الأسواق . ونزلت إلي العمل هي وأطفالها وزرعت وأنتجت المزرعة وبدأ حسين يقوم بتسويق تلك المنتجات إلى الأسواق وأماكن بيع الخضار في سيارته . وأصبحت المزرعة مجالاً للتنفس وإفراغ هموم الصدر والتسلي بها عن ما تعانيه تلك الأسرة من فقر وعوز .
وبدأت الحياة تسير نحو الأفضل حتى تخرجت فادية وبدأت في أعمال التدريس وشق الجميع ثوب فقرهم إلى غير رجعة .
( 11 )
تخرجت فادية من الكلية وتم ترشيحها مدرّسة في إحدى المدارس الابتدائية المجاورة وقد كانت دائماً محل إعجاب وتقدير من زميل أخيها إسماعيل ابن حسين السالم(1/32)
وقد كان إسماعيل وحيد أبويه فأراد أن يخبر والديه برغبته في الزواج منها فصارح والدته بذلك فأبدت موافقتها
وطلب منها نقل طلبه هذا إلى أبيه .
وافق الشيخ حسين لما عرف عن البنت من أدب وجمال وكانا يتوقعان منه ذلك منذ زمن بان يصارحهما إسماعيل برغبته بالزواج منها ولكنهما أيضاً كانا يفكران في طريقة خطبتها فأبوها يعيش في الطائف ولم يحضر إلى القرية منذ طلاق زوجته ومن واجب الخطبة أن تكون منه ، وأخوها ووالدتها لا يملكان عقد الملاك بها دون موافقة أبيها ، فقررا أن يبدأ بتهيئة هذا الموضوع مع أمها وأخيها ومن ثم إكمال بقية الموضوع عن طريق والدها .
عاد إسماعيل إلى أبويه وأخبراه بما دار بينهما حول هذا الموضوع وطلبا منه أن يبدأ هو هذا الأمر عن طريق حسين وأمه ثم بعد ذلك يتوليا ذلك الموضوع. إلا أن إسماعيل طلب من والدته أن تخاطب السيدة سعاد 0واستعد هو بأن يتفاهم مع أخيها فنالت هذه الفكرة رضى الجميع وانصرف كل واحد منهم إلى مهمته .
ذهبت أم إسماعيل إلى السيدة سعاد وبدأتها بالحديث :
- يا أم حسين تعلمين ما بين حسين وإسماعيل من مودة وصداقة ونحن نريد أن تبقى هذه الصداقة والمودة وتعلمين أن ابنتك فادية قد أكملت دراستها وابننا في الكلية وعن قريب إن شاء الله سوف يتوظف ويكون مدرساً أيضاً ونحن نريد أن نفرح به حيث إنه ابننا الوحيد وقد وقع اختياره على ابنتك فادية وقد أرسلني أبو إسماعيل لأخذ موافقتك إن كان هناك قبول ، أما باقي الأمر فسوف يكون بين أبيها وأبي إسماعيل .
- أهلاً وسهلاً وإسماعيل مثل ولدي تماماً .وأنا سوف أخذ رأي البنت وأنا رغبتي من رغبتك وإسماعيل صديق حسين وإن شاء الله ما يكون إلا الأمر الذي يرضيكم جميعاً أنت وإسماعيل وأبو إسماعيل .
- إذاً استأذنك الآن وسوف أعود إليك غداً لا سمع ما عندك .
- ما عندي إلا كل خير إن شاء الله .
- في آمان الله .
- يحفظك الله .(1/33)
عادت سعاد إلى ابنتها لتزف إليها بشرى خطبتها إلا أن تلك البشرى كانت تصطدم بجدار الخوف من أن يرفض السيد مروان ذلك الأمر .
أما حسين فقد كان فرحته شديدة جداً عندما فاتحه إسماعيل في الأمر وقال سأتولى أنا إقناع أختي ووالدتي وهذا الأمر سوف أخدمك فيه .
وكان لابد أن يسافر أبو إسماعيل إلى والدي لأخذ موافقته ،فأقر معه بذلك الرأي ...
عقد العزم أبو إسماعيل على السفر إلى الطائف وأخذ معه بعض أقاربه وذهب إلى بيت السيد مروان دون سابق إنذار ولم يعلم بشيء حتى طرق السيد حسين باب الشقة ودخلوا جميعاً .
أدرك السيد مروان أن هؤلاء الضيوف لم يأتوا لمجرد التسليم عليه بل لأمر هام وأخذ يضرب أخماساً بأسداس فما الذي قد يكون جاء بهم إليه ؟
وبعد تناول القهوة وتبادل عبارات الترحيب والمجاملة أخبره السيد حسين السالم بالذي جاء هو ورفقته من أجله وأن الأمر الذي أتى به إلى الطائف رغبته في أخذ الموافقة من ولي الأمر ورب الأسرة بزواج ابنه إسماعيل من فاديه ابنة السيد مروان .
لم يتوانى السيد مروان بالترحيب بضيوفه مانحاً لهم طلبهم الذي جاءوا من أجله قائلاً :
- ما جئتم من أجله فهو لكم وأنت يا أبو إسماعيل أخي وصديقي وهذه ابنتك كما أن إسماعيل ابنك .
- لا شك في هذا ثم قدم إليه خمسة آلاف ريال قائلاً :
- هذا مقدم الصداق والباقي عند عقد الملاك .
- لا عليك فالليلة بإذن الله بعد العشاء إذا أردت عقد الملاك فليس لدي مانع ولو أرسلت لي لحضرت إليك فأنت محل تقدير الجميع .
- إذاً توكلنا على الله سنأتي بالمأذون معنا بعد صلاة العشاء .
- أهلاً وسهلاً .
لم يصّدق بعض الحضور من مروان هذا السخاء والطيبة التي وجدوها عنده وأخذ بعضهم يهمس إلى بعض .
* لقد تغيرّ الرجل .
* بل يريد التخلّص من عياله بسرعة .
* هل تعتقد أنه كذلك .
* سوف ترى عند المهر .
* إنه طمّاع فعلاً .
* بل إني أتوقع انه لايريد أن يبقوا مع أمهم .
* ماذا تقصد ؟
* سوف ترى .(1/34)
عند ذلك قال أبو إسماعيل :
- نريد أن نحدد المهر إذاً قبل عقد الملاك .
- لا أريد منك شيئا سوى أن تشتري لها مثلما تحصل عليه العروس في القرية أما أنا فلا أريد شيء حتى هذه الخمسة آلاف سوف أرسلها إلى أخيها لكي يشتري لها بعض ما تحتاجه لأنني أنا مشغول في الطائف ولا أستطيع أن أذهب إلى القرية وأتابع هذا الموضوع وأنت أبو الجميع .
- ولكننا لابد أن نقرر المبلغ .
- لقد تزوجت ابنة أخيك قبل سنة من احد شباب القرية فكم كان مهرها ؟
- ثلاثون ألفاً .
- وابنتي مثلها .
- توكلنا على الله .
بعد مأدبة العشاء تم عقد قران إسماعيل على ابنة السيد مروان ، أما بقية الصداق فقدتم الاتفاق على أن يشتري أبو إسماعيل به للعروس كل ما يلزمها من ملابس وحلي وخلافه كما ناوله السيد مروان مبلغ ال 5000 ريال التي أخذها في أول النهار وطلب منه تسليمها إلى ابنه حسين لشراء ما يلزم أخته منها واتفق الطرفان على أن يكون الزواج في عطلة المدارس الصيفية .
وتم زواج فادية في العطلة الصيفية وفقدت الأسرة مصدراً من مصادر الدخل إلا أن البنت استمرت تساعد أمها وأخوتها حتى أصبح حسين مدرساً والتحق خالد بكلية المعلمين التي كانت هدفاً لكل من يتخرج من المرحلة الثانوية وأصبح يحصل على مكافأة وجعل الله لهم بعد العسر يسرا .
( 12 )
تخرج حسين من الكلية وعمل مدرساً . في محافظة المخواة . وبدأ يفكر في الزواج وتحدث مع أمه في رغبته من الزواج من ابنة خاله . سعدية والتي كان كثيراً ما يذهب إلى أبن خاله . طارق ويراها في المنزل
(( أمر على الأبواب من غير حاجة ... ... ... ... ...
لعلّي أراهم أو أرى من يراهم ))
وأن كان لا يذهب ألا لحاجة ولكنه كان شديد التعلق بها وكثيراَ ما يحدث نفسه بالزواج منها فأفضى بسره هذا إلى أمه وطلب منها أن تخطبها له ......
وكانت أمه تريدها أيضا فأعجبت بكلامه وقالت .
- أنني سوف أتحدث مع خالك وزوجته في هذا الأمر .(1/35)
- آلا ترين أن أطلب من أبي أن يخطب لي .
- لم نعد بحاجة أليه .
- ولكن هذا الأمر قد يحتاج إلى حضوره .
- لم يعرفنا في وقت الشدة ولم نعد بحاجته الآن .
- نحن لن نطلب منه سوى الحضور معنا للخطبة .
- قد لا يكون مثلماً تتوقع منه .
- ولكن هذا هو المفروض .
- أنا سوف أبدأ بالكلام مع خالك وزوجته وأنت كما تشاء فأنت رجل لا تحتاج إلى من يمشي أمامك
- ولكنه أبي يا أمي ولابد أن أعرض عليه الفكرة .
- إذا صدق ظني فلن يأتي .
- أنا سوف أذهب أنا وخالد إلى الطائف يوم الخميس ونقابله . ونعرض عليه .
- كما ترى .
ذهبت سعاد إلى أخيها وزوجته وأطلعتهم على رغبه حسين في زواجه من ابنه خاله سعدية فأبديا موافقتهما على الزواج إذا وافقت البنت وأخبرتهما أنه ابنها يريد السفر إلى والده لإطلاعه بذلك فقال إبراهيم .
- لا داعي للسفر يا أختي فحسين ولدي كما هو ولدك وإذا وافقت العروس فسأكون أنا المعني بذلك كله .
- لقد قلت له ذلك . ولكنه قد صمم على السفر إلى والده وإطلاعه على هذا الأمر بعد موافقتكم
- أنا وأمها موافقين فأذهبي يا أم طارق الآن واسألي أبنتك ما دامت أم حسين جالسه فأنا أعتقد أنها ستوافق . ولا أريد أن تذهب أختي دون أن أقضي حاجتها .
خرجت أم طارق وعادت بعد فترة وجيزة وهي باسمة قائلة .
- توكل على الله يا أبا طارق . البنت موافقة والتفت إلى أخته وقال .
-مبروك يا أم حسين . ستكون سعدية لحسين بأذن الله سواءً أتى والده أم لم يأت.
وفي اليوم التالي سافر حسين مع أخيه خالد إلى الطائف بسيارته الهايلكس ووصلا إلى شقة والدهم ولكن لسؤ الحظ لم تكن سيارته موجودة في الشارع وهذا يدل على عدم وجوده بالشقة وأخذا يتجولان في شوارع الطائف ثم يعودا إلى العمارة التي كان يسكن والدهما بها . ولكن لسوء الحظ لم يجداه ألا بعد صلاة العشاء .(1/36)
وقرع حسين باب الشقة فخرج مروان وإذا بأبنية حسين وخالد واقفين أمام الباب . فرحب يهما وسلما عليه ودخلا إلى الشقة وتبادر إلى ذهنه أنهما قد حضرا ليطلبانه ما يحتاج إلى مثله الابن من أبيه .
وخرجت لهما زوجة أبيهما غادة ورحبت بهما ومن حولها أخوتهما هند اللذان لم يكن يعرفان سواها وإيناس وأخوهما الأصغر فيصل .
وبعد السؤال عن الحال والأحوال سألت غادة عن أمهم وأخوتهم وبادلاها عبارات المجاملة .
وبعد القهوة والشاي بدأ حسين الكلام مع أبيه .
- أنني يا أبي قد نويت على الزواج وأرى أن ابنة خالي إبراهيم هي الفتاة المناسبة لي وجئت إليك طالباً منك الحضور معي لخطبتها من أبيها .
- يا ولدي أنت الآن رجل ولا تحتاج إلى من يخطب لك وخالك إبراهيم شخص يعرفك حق المعرفة وأعتقد أنه لن يرفض طلبك فأنت الآن مدرس وتستطيع أن تفتح بيتاً بمفردك .
(( ينظر خالد إلى أبيه وهو يتكلم بهذا الكلام ويقول في نفسه . نعم لقد أتستطاع أن يفتح البيت الذي أغلقته أنت دون أن يكون له مرتب . أنه لا يحتاج إليك فعلا))
- قال حسين .
أنا لا أناقشك الآن في موضوع الرفض أو القبول ولكنك أبي ومن الواجب أن تمشي معي .
- يا عيني على الواجب . كيف عرفت الواجب الآن وأنت لم تسال عني قبل اليوم .
- من الواجب أن تسأل عني وعن أخوتي أنت يا آبى .
- لقد كنت أتوقع أن تأتي اليّ بعد كل شهر0
قاطعه خالد قائلاً .
- من آجل المصروف الذي قطعته عنا .
- بل من آجل أنني أبوك وأبوه .
- الواجب أن يكون هذا الكلام لك فأنت لم تتذكر أن لك أولادا أو بنات بعد طلاق أمي . قال هذا الكلام خالد فالتفت إليه حسين وطلب منه أن يسكت ثم التفت إلى أبيه وقال :
- يا أبي أنني يشرفني أن تمضي معي إلى خالي لتطلب لي ابنته وعفى الله عن ما سلف 0 لم آت لأناقشك عن الماضي .(1/37)
- أنا لا أستطيع الذهاب معك فلدي مشاغل في الطائف ولا أجد من يذهب بزوجتي إلى المدرسة وأيضاً أنني أعود إلى الشقة لاْ بقى عند أخوتك الصغار طالما أمهم في المدرسة .
- حتى لو جئتنا يوم الخميس والجمعة .
عند ذلك دخلت زوجته غادة وأبدت رغبتها في أن يحقق مروان رغبة أبنه ألا أنه زاد تعصباً وعناداً وقال :
والله لن أذهب . يا رجل تصرف أنك رجل وأحسب نفسك إن أبوك قد مات . أحسب نفسك يتيماً . أحسب نفسك يتما وقام من مجلسه ودخل إلى داخل الشقة ثم انتظراه قليلاً فلم يخرج فما كان منهما إلا أن أستاذنا عمتهما وغادرا الشقة .
كانت الساعة حوالي الحادية عشرة ليلاَ فدخلا إلى أحد المساجد القريبة من شقة أبيهما وهناك ناما حتى الصباح ثم عادا بسيارتهما إلى الباحة .
كانت كلمة مروان تقرع في آذان الولدين منذ أن فارقا شقة أبيهما وبعد . أن ابتعدا عن مدينة الطائف قال خالد .
- احسب نفسك يتيما يا حسين .
- لقد حسبتها منذ زمن .
- وآنا أيضاً . أنني يتيم في حياة أبي .
عاد الولدان إلى قرية الحانوت وأخبر حسين أمه وخاله بما قابله به أبيه في الطائف فاتفقا على الخطبة دون حضوره وتمت الخطبة والزواج أيضاً .
ومرت الأيام وانتهت سامية من دراسة الثانوية العامة في القسم العلمي بتقدير امتياز وبتشجيع من أخويها قدمت أوراقها إلى كليه الطب في أبها وتم قبولها وانتقل أخوها خالد . لإكمال دراسته في كلية المعلمين في أبها حتى حصل على البكالوريوس وتم تعيينه في مدينة أبها في مدرسة بجوار أخته التي كانت تدرس الطب هناك .
خطب خالد من إحدى بنات القرية وتزوج دون أن يحضر والده . إما الخطبة فلم يدعوه لها خالد وإما الزواج فقد أرسل له دعوة من ضمن دعواته التي أرسلها إلى كل بيت من بيوت القرية أو صديق من أصدقائه وأقاربه خارجها .
( 13 )(1/38)
تعرض السيد مروان إلى حادث مروع بين الطائف ومكة المكرمة عندما كان عائداً من طريق السيل بسب احتراق بعض الإطارات انقلبت على أثرها سيارته ونقل إلى المستشفى وبعد الفحوصات الآولية تبين أنه لا يستطيع المشي على قدميه فقد أصيب بتفتت في إحدى فقرات العمود الفقري آدت إلى شلل للنصف الأسفل من جسمه .
كانا حسين وخالد يزورانه في نهاية كل أسبوع أو أسبوعين ويجلسان عنده حتى نهاية الزيارة . وبعد ذلك يعودان إلى الفندق
واستمر جلوسه في المستشفى لمدة زادت عن شهرين ثم نقل على أثرها إلى مستشفى النقاهة بالطائف .
كانت أم فيصل زوجته ( غادة ) تذهب إليه في وقت الزيارة أما بعد ذلك فأنها تذهب إلى بيت أخيها حيث يوصلها أبن أخيها إلى المدرسة في اليوم التالي ويعود بها منها برفقة ابنتيها هند وإيناس أما فيصل فانه يبقى عند زوجة أخيها وأمها .
وبعد انتقال زوجها إلى مستشفى النقاهة زادت همومها حيث أنها أدركت أنه سيبقى معوقاً حتى آخر حياته .
وفي ذات يوم وبينما كانت جالسة في وقت فسحة الإفطار مع إحدى زميلاتها التي سألتها عن زوجها .
- أنه بخير والحمد لله .
- الحمد لله على كل حال . هل لا يزال في مستشفى النقاهة .
- نعم . رغم أن بإستطاعته أن يعود الآن إلى البيت .
- لقد أراح واستراح .
- ماذا تقصدين .
- أقصد أن لن يفيدك بعد الآن وأنت لازلت شابة والطريق إلى الحياة أمامك لا يزال مفتوحاً ، ومن حقك أن تختاري طريقك . قبل فوات الآوان.
- وأطفالي .
- يبقون معك .
- تقصدين . ثم سكتت .
- نعم أقصد ذلك . أنك لا بد أن تطلبي الطلاق فأنت بحاجة إلى رجل يذهب بك إلى المدرسة ويعود بك فأبن أخيك هذا لن يدوم لك .
- لم أفكر في ذلك قط .
- كما تريدين ؛ ولكنني أري أنك لا زلت في زهرة شبابك ولديك ثلاثة أطفال فقط وأنت لا زلت جميلة وهناك الكثير من يتمنى أن يتزوج مثلك .
- أطفالي هؤلاء . هم كل ما أريده من الدنيا .(1/39)
- والله لن يكفيك آلا رجل تعيشين بظله فالمرأة ساكن ضعيف ولابد لها من رجل يحميها ويرعى مصالحا وسترها هو الرجل فقط .
- هذا الكلام لا يزال سابق لأوانه .
- بل أنها فرصتك لطلب الطلاق .
- لن أطلبه الآن .
- إذا إلى متى ستبقي في بيت أخيك .
- إلى أن يفرجها رب العالمين . وسأبقى وفيّة له مدى الحياة
ثم قامت على صوت جرس المدرسة ودخلت إلى الفصل إلا أن كلام زميلتها لا يزال يقرع في مسامعها .
وفي اليوم التالي . جلست لها تلك المدرّسة وقالت لها :
- عسى أن لا أكون قد أتعبتك أمس بكلامي حول زوجك .
- أبداً فأنا أعلم أن ما قلته كله حقيقة ولكن هذا قدري وأين يذهب الإنسان من القدر .
- الله يتولانا جميعاً برحمته . أنت لا تستطيعين رعايته في البيت أليس كذلك.؟
- بلى أنني أريد أن يعود إلى البيت .
- بل من الأولى أن يبقى في المستشفى لأن هناك من يرعاه وأنت لا تستطيعين ذلك فلن تذهبي إلى المدرسة وتقفلي عليه الباب فربما يحتاج شيئاً ما . أو تسئ حالته الصحية فكيف تعلمين بذلك .
- سوف يكون لدينا خادمة بالمنزل فقد طلبت من أخي أن يتقدم بطلب استقدام خادمة .
- لكن الخادمة ليست كالممرضة .
- أنا سأكون معها وسأكون له الزوجة والممرضة .
وبعد فتره عاد السيد مروان إلى بيته وهو مشلول . ليعيش بين زوجته وأطفاله وأصبحت العائلة تحتاج إلى سائق . ولكن سؤ الحالة المادية التي أصبحت فيها العائلة لم تكن تسمح باستقدام سائق ليضيف مصاريف أخرى على راتب السيدة غادة .
وبعد عودتها إلى المنزل بدأت تتذكر ما قالته لها زميلتها في المدر سه.
أنه لن ينفعك بعد الآن .
أنك لازلت شابة ومن حقك أن تعيشي .
لقد أراح واستراح .
أنها فرصتك لتطلبي الطلاق منه .
بدأت تتذكر ذلك الكلام كثيراً ثم تتذكر أطفالها وما سوف يحدث لهم . فتقابله بدافع يرفض الفكرة من أصلها .
الزوج القادم هل سيرضى أن أعيش بين أطفالي 0كثير من الناس يقبلون بذلك .
وأين يذهب هذا المسكين .(1/40)
سيعود إلى دار النقاهة .
ماذا سيقول الناس عني .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . قد لا يكون الزوج القادم ابن حلال ولن أقسّم بطني فيكفيني هؤلاء الأطفال الثلاثة وقد أبتلى بمن لا يرحمهم فأكون أكثر تعاسة فلن يتزوجني رجل بعد هذا السن إلا أن يكون طامعاً في مرتبي وأنا سأكون ضحية هذه المطامع . لن أطلب الطلاق ولن أتخلى عن زوجي وعلي أن أصبر وبعد فترة سيكبر فيصل ويكون باستطاعته أن يقود سيارة ولن يكبر ابني ليجدني قد تخليت عن أبيه أبداً . ولن يغفر لي ابني هذه الخطيئة مدى الحياة .
وبقيت مترددة بين أفكار تأتي وأفكار تذهب وشيطان يأمر وضمير ينهى وقد أدخلتها زميلاتها هذه في بحر من الهموم والوساوس .
أما السيد مروان نفسه فقد أصبح في حالة لا يحسد عليها .
لم يزره في المستشفى إلا عدد قليل من أبناء قريته وأقاربه فقد كان ممقوتاً نظراً لما تناقل الناس عنه في إهماله أولئك الأطفال عند طلاق أمهم بل أن كثيرا منهم يعزو ذلك إلى تفريطه في شئونهم .
أنها دعوة المظلوم .
ربك يمهل ولا يهمل .
لا بد للظالم من يوم .
ربك المنتقم الجبار .
هذه خاتمة من لا يراقب الله في أعماله وتصرفاته .
وكثير من هذا الكلام أما بعد انتقاله إلى الشقة فقد تحملت السيدة غادة متاعب البيت كله ورغم ما توسوس به أوهامها . ألا أنها استطاعت الصمود في وجه التيار ولم يزره أحد من أقاربه أو جماعته مطلقاً .
وفي ليلة من ليالي الشتاء وبينما كانت غادة نائمة بجانب أبنها فيصل وبعد منتصف الليل استيقظت على بكاء طفلها ووضعت يدها على رأسه فإذا حرارته مرتفعة جداً . ولم يكن في البيت ما يمكن أن يساعد على تخفيض درجة حرارته سوى بعض الكمادات التي لم تستطع أن تخفف من درجة الحرارة منذ ساعتين رغم متابعة تلك الكمادات وأدركت أنه لا بد من نقله إلى المستشفى وسألت نفسها .
إلى أين تذهب ؟
إن ابن أخيها الذي عادة ما تستنجد به..... نائم الآن وليس من المعقول ايقاضه .(1/41)
فكّرت في الذهاب إلى المستشفى بطفلها مشياً على الأقدام أو الوقوف على الشارع والذهاب إلى المستشفى بإحدى سيارات التاكسي ألا أنها وجدت نفسها في وقت متأخر من الليل ففضلت متابعة الكمادات حتى الصباح .
وفي الصباح وعندما جاء أبن أخيها لكي يذهب بها المدرسة طلبت منه أن يوصلها أولاً إلى المستشفى لمعالجة أبنها ثم عادت بعد ذلك إلى المدرسة .
كانت ليلة عصيبة على السيدة غادة فهي لم تنم طيلة تلك الليلة وقررت أن تنتقل من تلك الشقة التي تعيش فيها إلى شقة قريبة من المدرسة لكي تخفف من طلباتها على أبن أخيها وتذهب إلى المدرسة دون حاجة إلى سيارة وفعلاً أنتقل الجميع إلى شقة قريبة من المدرسة كما كان من حسن الطالع أن يكون قريباً منهم إحدى المراكز الصحية المنتشرة في طول مدينة الطائف وعرضها وبذلك استطاعت أن تحل بعض مشاكلها وتقف في وجه التيار مرة أخرى بكل ثبات وصلابة . ولم تتوقف عند ذلك بل ساعدها بعض أقاربها في التقدم لبعض المسئولين باسم زوجها تشرح فيه الأوضاع التي يعيشها وتطلب له سيارة من تلك السيارات التي يمكن أن تكون قيادتها عن طريق اليد فقط .
وفعلاً تمت موافقة ذلك المسئول بل لقد تبرع أيضاً بقيمتها من جيبه الخاص دون تحويل معاملتها إلى وزارة الصحة كما عمدت إلى شراء عربية صغيرة لزوجها والتي يمكن شحنها بالكهرباء والتنقل بها داخل البيت من مكان إلى آخر ، وحلت بذلك مشكلة السائق والسيارة .
وفي تلك الفترة تخرجت ابنته سامية من كلية الطب بابها وعملت في مستشفى الملك فهد بالباحة ولكن القدر كان لاْمها السيدة سعاد على موعد فقد توفيت بعد ذلك بفترة قصيرة .
أدركت السيدة غادة أنها قد قامت بواجبها كاملاً نحو زوجها وأن حالتهم المادية تحسنت شيئاً فشيئاً وكانت قد اشترت من مرتباتها قطعة أرض في حي شهار بالطائف وأخذت تعد العدة لادخار ما يمكن أن تبدأ العمارة به(1/42)
وذات يوم وبينما هي في مكتبه المدرسة وقعت عينها على مقطوعة شعرية . بعنوان الراهبة لإلباس فرحات تقول بعض أبياتها :
رأت زهرة في أعالي الجدار ... تداعبها نسمات الصبا
فأعجبها شكلها المستطيل ... ولون كقوس السحاب زها
وقد زاد في قدرها أنها ... تعز على من يريد الجنى
إلى أن يقول :
لانت تعيشين في وحدة ... فلا في السماء ولا في الثرى
لمن خلق الله هذا الجمال ... ومن يتنشّق هذا الشذى
وفي الليل سارت إلى خدرها ... وفي قلبها مثل نار الغضى
ولما نضت ثوبها لتنام ... وقد بان من حسنها ما اختفى
ومدت إلى صدرها أيدها ... وقد فتح الورد قطر الندى
وقال لها قائل صامت ... وكان الذي قيل رجع الصدى
وأنت تعيشين في وحدة ... فلا في السماء ولا في الثرى
لمن خلق الله هذا الجمال ... ومن يتنشق هذا الشذى
فأغلقت الكتاب ثم عادت فتحته وقرأت القصيدة مرة أخرى ثم أغلقته وخرجت من المكتبة .
عادت غادة من المدرسة لتجد زوجها يلعب مع أبنه فيصل ثم تنظر اليه بنظرة وتفتكر تلك القصيدة وتنظر بنظرة أخرى إلى ابنها فيصل فينسيها كل تلك الهموم والوساوس وتقوم مسرعة إلى الحمام لتتوضأ وتصلي ركعتين وتطلب من الله أن يكون لها عونا على ما بقي من عمرها فالمستقبل في علم الله سبحانه وتعالى وهو القائل ( أن الله مع الصابرين ) ولا بد لكل ضيقة من فرج وقد تحسنت حالة زوجها ورب العالمين قادر على أن يعدّلها أكثر وأكثر .
وذات ليلة وبينما كانت هناك مناسبة زواج في مدينة الطائف كان مروان وولداه حسين وخالد ضمن المدعوين حيث كانت المناسبة زواج أحد أبناء قرية الحانوت الذين يقيمون بصفة دائمة في مدينة الطائف .
يدخل حسين وأخوه خالد من خلفه فإذا والدهما جالساً في طرف المجلس فيذهبان إليه مباشرة ويسلمان عليه ثم يسلما على بقية الحاضرين .(1/43)
كان غضب السيد مروان على ابنيه لا يخفى على أحد من الحاضرين وبعد العشاء طلب السيد مروان من حسين وأخيه خالد أن يذهبا معه إلى البيت وبعد تردد كان هناك إلحاح من بعض الحاضرين بالموافقة على طلب أبيهم والذهاب معه .
وصل الجميع إلى شقة السيد مروان وزوجته والتي سكنا فيها حديثاً وقد حضر معهما ابن أخ السيد غادة وشاب من قرية الحانوت كان يرافق حسين وأخيه عند سفرهم لحضور حفلة الزواج وبعد تناول القهوة والشاي قال السيد مروان لابنه خالد .
ـ تزوجت يا خالد دون أن تتنازل لدعوتي لحضور الزواج .
ـ لقد حسبت نفسي يتيماً .
ـ ماذا تقصد ؟
ـ قلت لنا ذلك عندما جئت إليك أنا وحسين وطلبنا منك أن تأتي معنا لخطبة زوجته سعدية .
ـ كنت مشغولاً حقاً .
ـ كان الله في عونك .
ـ ولكن كان من واجبك أن تدعوني ولو أنني لا أستطيع الحضور .
ـ إذاً قد اختصرت عليك الطريق .
ـ بل لأنك نذل ولا تريدني أن أحضر لأنني مشلولاً .
ـ إنك أبي على أية حال .
ـ غصباً عنك فأنت تقول ذلك من وراء قلبك .
ـ نعم إنها من وراء قلبي . إن المسافة التي بيني وبينك يصعب علي أن اجتازها بسرعة .
ـ ماذا تقصد .
ـ أقصد أنك أبي لأنني من نسلك فقط .
ـ ماذا تعني ، أوضح .
ـ آلمني أنك لم تعرف أنني ابنك إلا بعد أن أصبحت مدرساً .
* أين أنت مني عندما تركتني وإخوتي بعد طلاق أمي دون مصروف أو مساعدة أيتاماً وأنت على قيد الحياة .
* أين أنت مني أنا وإخوتي ونحن ندرس في المدارس ولا نملك إلا ثوباً واحداً طيلة أيام السنة
* أين أنت وأنا أحتاج إلى القلم والمرسم والدفتر فلا أجدها فأذهب إلى سوق الخضار أحمل على كتفي من أجل أن أحصل على ما أشتري به ما أحتاج للمدرسة من أدوات أو ثوباً أو معطفاً يحميني أو أحد إخوتي من لسعة البرد.
* أين أنت وأنا أمشي إلى المدرسة وحدي من بين التلاميذ حافي القدمين .......إلا ما أرقّعه من الأحذية المستعملة .(1/44)
* أين أنت وأمي توقد لنا الحطب في البيت من أجل أن ندفأ من البرد وأنت في ...غرف تكثر بها المرايات والأرائك والدفايات والمكيفات .
* أين أنت وأنا أرقد في المستشفى ولمدة شهرين وأخرج منه بكلية واحدة...ولم تعدني ولو بزيارة واحدة مثل بقية الناس .
* أين أنت مني في يوم العيد حيث لا نملك ثياباً مثل بقية الناس فنلجأ إلى إقفال......الغرف على أنفسنا حتى يظن الناس أننا غير موجودين بها .
أين … أين … أين …
وأخذ يعدد ما مر به في حياته من مآسي والجميع سكوت وحاول أخوه أن يسكته فلم يفلح . واستمر قائلاً.
* هذا أخي قد تحمل عبْ الحياة وهو في سن صغير. أمّا أمي التي ماتت قبل فترة فلم تتنازل أن تعزّينا فيها ولو تلفونيا فكانت أم الأيتام أن جعنا جاعت وان مرضنا سهرت وان ضحكنا استراحت.
* لا أستطيع أن أنسى تلك الحياة القاسية التي مررنا بها وأنت تركب سيارتك ...السوبر بان وكأنك من علية القوم ولكنك لم تتعرف علينا ولم تعرف إن لك أطفال يجب عليك الأنفاق عليهم أو سد بعض حاجاتهم او انك مسئول عنهم أمام الله وأمام الناس القريب منهم والبعيد .
* احتجنا فلم نجدك وجعنا وعرينا ورخصنا ولا كأننا من أقاربك ناهيك على إننا أطفالك اللذين تركتهم وهم في أمس الحاجة إلى الرعاية .
* عشنا على الصدقات حيناً من الدهر ولم تكن يا أبي من ضمن من تصدق علينا .
* زرتنا مرة يا أبي ولم تسافر حتى ضربت أمي يرحمها الله أمام أعيننا وتركتنا بعدك نبكي مع أمي لمدة أسبوع كامل أين أنت منى ..أين أنت .. ثم أجهش بالبكاء بصوت مرتفع حتى بكى جميع من في الغرفة .ثم استطرد قائلاً :
* لقد كنت يتيماً في حياة أبي .
* ما تنتظر مني الآن ؟.
* هل تنتظر مني أن أحبك . ليس ذلك في يدي .
* إنني أعتبرك شخصاً قريباً ولكنني كما أسلفت أرى بيني وبينك مسافة كبيرة ....ليس ذلك في يدي . لا أستطيع . لا أستطيع .
* لم أعرف منك الحنان . لم أعرف منك الحب الذي يعرفه الولد من أبيه .(1/45)
* لم يكن لي أب منذ زمن .فمن أين أتيت الآن ؟
* إن هذا هو الواقع يا أبي وهذا الذي لم يقله إخوتي وأنت تعرفه حقاً ولكنك لا تريد أن تسمعه .
- وأنت من قالها يا خالد .
- أنت أبي حقيقة ولكن متى ما أعطيت الحقوق فانتظر مني الواجبات .
* إنك لو شممت كفك لوجدت رائحتها غير مرضية عند ذلك خرجت غادة من داخل البيت وكانت متحجبة واندفعت نحو خالد وجلست مقابلة له وقالت:
- كل ما ذكرته يا ولدي حقيقة ولكن أباك قد تعرض لمشاكل مديونية قاسية حتى استدان من جميع معارفه وعشنا حتى نحن حيناً من الدهر في فقر مدقع . ولم يمنعنا عنكم إلا أنه لم يكن بأيدينا ما نمده لكم .
لا أريدك أن تزيد أباك متاعب على ما عنده .
- إنه بحاجة إلى من يأخذ بيده . وليس إلى من يؤنبه على الماضي .
* إن أباك قد أصبح في حكم العاجز وهو بحاجة إليك أنت وأخوك .
* وهؤلاء الذين تراهم بجانبه هم إخوتك وكن بهم الأخ والأب والمسامح ولاتأخذهم وتأخذنا بأمر قد كتبه الله علينا وعليكم . واندفعت تبكي أيضاً . فقال حسين :
- يا عمتي هؤلاء إخوتي ولن ينالهم مكروه أو عوز بإذن الله ونحن على قيد الحياة .
* والله لأقسم لهم اللقمة ولن أحاسبهم بما فعله فينا أبي وأنت في مقام أمي ، ولو أننا عتبنا عليك في عدم التعزية فيها فقد كانت أعز إنسان لدينا على وجه الأرض .
- يرحمها الله.....
- جزأك الله خيراً ونحن أولادك أيضاً . ولن يكون لك منا إلا كل احترام وتقدير .
التفت الجميع إلى السيد مروان فإذا هو يجهش بالبكاء ولم ينبت بنبت شفه .
ثم قام حسين إلى أبيه وقبل رأسه وتبعه خالد . واستأذنا في المغادرة إلاّ أن أباهما وزوجته رفضا السماح لهما بالذهاب إلا في اليوم التالي .
( 15 )(1/46)
حضر إلى مستشفى الملك فهد بالباحة دكتور زائر من إحدى الدول الأوروبية بدرجة استشاري في العظام وعرضت عليه الدكتورة سامية الحالة التي يعيشها أبوها السيد مروان من جرّاء الحادث الذي تعرض له ولمست منه الأمل في علاج حالته .
وفعلاً حضر السيد مروان إلى الباحة وادخل إلى المستشفى وبعد عمل التحاليل اللازمة والإشاعات . أبدى ذلك الدكتور استعداده لعمل عملية له في العمود الفقري وقال أن نسبة نجاحها لا تقل عن 60 % .
وفعلاً عملت العملية ونجحت بنسبة كبيرة اكبر من النسبة التي توقعها الدكتور . وأصبح السيد مروان يمشي على قدميه شيئاً فشيئاً مع بعض العكازات وبعد مرور شهر تقريباً من تلك العملية عادت إلى السيد مروان عافيته وكانت ابنته سامية هي الدكتورة والمرافقة والممرضة خلال فترة وجوده بالمستشفى وكذلك جميع إخوتها اللذين كانوا ملازمين أبوهم طيلة فترة العملية .
وعند خروجه من المستشفى كانت الدكتورة سامية هي التي أكملت علاجه في بيت ابنه حسين الذي أعد له غرفة خاصة مع زوجته هو وأطفاله . وعندما وجد السيد مروان تلك الحفاوة من أولاده وهو ينظر الى ابنته سامية:
- يا ابنتي لا أجد كلاماً أستطيع من خلاله أن أبثك مشاعري . لقد ولدت ولادة جديدة 0لقد أعدت إلى الحياة من جديد أما أنت يا حسين وأخوك خالد فقد كنتما أكرم من أبيكما إن رعايتكما لإخوانكم هؤلاء الصغار قد أثلج صدري بقدر ما أنا نادم على ما فرطت به نحوكم في السنوات التي مضت .
- يا أبي عفى الله عما سلف . قال ذلك حسين .
- ذلك مقدّر ومكتوب علينا يا أبي وقد رضينا بما كتبه الله . قالت ذلك سامية .
- حمداً لله على سلامتك يا أبي . قال ذلك خالد .
- ألم تعد عاتباً علي يا خالد ؟
- سامحك الله يا أبي ... إننا نطلب لك الشفاء من الله وإنني الآن سعيد جداً بهذه الحالة التي أراك بها لقد أسعدتني كثيراً فأنت ابي وتاج راسي .(1/47)
- مكتوب علينا وعليك يا أبي ولا نلوم في شيء كتبه الله . قالت ذلك فادية وهي تبكي . فاحتظنتها زوجة أبيها غادة ومسحت دموعها ودخلتا إلى المنزل وبقي السيد مروان مع أولاده ذلك الأسبوع ثم غادر إلى الطائف بزوجته وأولاده .
وتمضي الأيام وبينما كانت الدكتورة سامية مناوبة ليلتها في المستشفى إذ أتت إليها الممرضة لتخبرها عن حالة أدخلت في الغرفة رقم ( 106 ) وتعرض على الدكتورة أن تراها .
انطلقت الدكتورة إلى الغرفة وأخذت ملف تلك المريضة: شادية
عبدا لرحمن ثم نظرت إلى وجه المريضة فإذا هي فعلاً مدرستها شادية
عبدا لرحمن ............ فترمي الملف بسرعة :
- أبلة شادية .
- من أنت يا ابنتي .
- ماذا بك . ماذا يؤلمك .
تسلم على رأسها . في وجهها . في كفها . تبكي .
- لدي ألم هاهنا . ثم تضع يدها على خاصرتها .
- تقوم الدكتورة بفحصها وتشتبه في أن تكون الزائدة الدودية هي ما تشكي منه الأبلة شادية .
وبعد إجراء الفحوصات تأكدت من ذلك وتم نقلها بسرعة إلى غرفة العمليات . وأجريت لها العملية ولم تفارقها سامية إلا بعد أن تأكدت من نجاح عمليتها ثم أوصت بها الممرضات وغادرت المستشفى .
قبل موعد الزيارة كانت سامية جالسة أمام كرسي السيدة شادية
عبدا لرحمن فإذا هي قد استيقظت من آثار التخدير فسلمت عليها وجلست بجانب سريرها .
- كيف أنت يا أمي .حقاً إنك والله مثل أمي .
- كيف أمك يا سامية .
- يرحمها الله .
- الله المستعان . ما شاء الله لقد أثلجت صدري . كنت أسأل عنك ويقال لي أنك تدرسين الطب .
- لقد تخرجت والحمد لله وأنا الآن أعمل هنا منذ أكثر من ستة أشهر .
- الحمد لله . والله وكبرت وصرت دكتورة يا أبنتي .
- بفضلك ...يا أمي كيف أنت الآن .
- على ما ترين .
- أنت بخير والحمد لله .
- ما شاء الله . لم تنسي صورتي يا سامية .
- لن أنساك أبداً . لن أنساك أبداً ....ثم أخذت يدها تقبلها وتبكي . أنا لن أنساك يا أبلتي .(1/48)
كيف أنساك .... لا تقولين هذا .
أنت التي كنت تأتين بإفطاري في حقيبتك عندما .كنت في حينها في اشد الحاجة إلى من يمد يده إليّ فكنت أنت يا أبلتي
أنت التي كنت ترسمين اللوحة في بيتك وتكتبينها باسمي .
أنت التي جعلتني أعمل في مقصف المدرسة لكي أحصل على وجبة إفطار دون خجل .
أنت كنت لي الأم والأخت والصديقة والأبلة .
كنت اختي الكبيرة التي لا زلت أحبها واحترمها .
أنا ابنتك يا أبلة شادية .
أنسيتني فقري وجوعي ورأيت في وجهك إشراقة الحياة .
كنت الأب عندما نسيني أبي . فكيف أنساك .
تعهدتني بمعروفك وهداياك حتى بعد أن تخرجت من المدرسة .
كيف أنساك . لن أنساك . وأخذت تبكي بصوت مرتفع .
أعدت لي الثقة بنفسي بعد أن فقدتها من حياتي . أنا ابنتك أنا ابنتك سامية وانهالت تقبلها وتبكي .
في تلك اللحظة دخل حسام ابن السيدة شادية وأخته فوجدا الدكتورة سامية تقبل أمه وتبكي... فيظن أنه قد أخطأ في رقم الغرفة . وقال لأخته :
- اعتقد أننا أخطأنا في الغرفة .
- فلنعد إلى الممرضة .
وعادا إلى الممرضة ليسألا عن اسم المريضة فدلتهم على الغرفة ذاتها وتقول لهما:
- أنتما تسألان عن أم الدكتورة سامية .
- لا بل عن أمي أنا ........ قال ذلك حسام .
ما اسمها ......؟
- شادية عبدا لرحمن .
- هي أم الدكتورة سامية .
ثم ذهبت معهما الممرضة إلى الغرفة فوجدوا الدكتورة تذكرها وتقبلها وتبكي .
- أمي . هل أنت بخير . قال ذلك حسام .
- بخير والحمد لله .ثم قالت للدكتورة : ابني حسام وأخته علياء .
مسحت الدكتورة دموعها والتفتت وسلمت عليهما وقالت .
- هي بخير والحمد لله . ولكنني لم أرها منذ زمن .
واستأذنت وخرجت من الغرفة .
- من هذه الدكتورة يا أمي .
- بنت كانت تدرس عندي منذ زمن وكنت أحبها كثيراً .
- إنها تبكي عليك بحرقة .
- وأنا بكيت معها كثيراً . إنها معي منذ غادرتما البارحة .
- كيف تعرفت عليك .
- لقد عرفتني يا ابني .(1/49)
- إنها جميلة جداً يا أمي ووفيّة جداً .
وفقها الله . لقد أثلجت صدري فعلاً عندما رأيتها دكتورة .
بقيت سامية تتعهد مريضتها شادية عبدا لرحمن وتؤنسها بعد أن ينتهي وقت الزيارة وبعد ثلاثة أو أربعة أيام وبينما كانت جالسة معها قالت لها السيدة شادية .
- كيف إخوتك يا سامية .
- أخوتي الكبار . قد تزوجوا جميعاً .
- وأنت....... ؟
- لم أستطيع أن أرتبط بأحد قبل تخرجي .
- والآن ......؟
- إلى الآن .
- ولدي هذا الذي رأيته أصغر إخوته أيضاً . ويعمل مدرساً وقد أعجب بك فإذا كان لديك قبول فأنا سأطلبك من أبيك وإخوتك . وإن كنت لا ترغبين فلا بأس عليك ولكنني اطلب أن أحضر زواجك وأكون مثل أمك .كما تقولين.....
نكست رأسها . ثم قالت :
- أنت أمي منذ زمن إنني أراك أمي الآن بعدما ماتت أمي والذي ترينه مناسباً يكون مناسباً .
- إذاً نحن نتقدم إلى أهلك لنطلبك بصفة رسمية .
- ………… لم ترد .
- لا أريد هذه السكتة أريد موافقة واضحة أموافقة أنت ....أنا أمك ومن حق الأم أن تسمع من ابنتها بصراحة ... أليس كذلك ... ؟
- كما ترين . وقد احتاج لبعض الوقت .
- ذلك من حقك .
وبعد خروج شادية عبدا لرحمن من المستشفى بشهر تقريباً كانت الدكتورة سامية مخطوبة لحسام ابنها بصفة رسميه .(1/50)
وبعد ذلك بفترة قصيرة تم زواج الدكتورة سامية مروان في أكبر قصور الأفراح في المنطقة وكان زواجها عبارة عن كرنفال فرح فبما أنها تعمل في المجال الصحي فقد تنوعت في الحفل الرقصات بين النساء الحاضرات السعودية مع المصرية مع الفيليبينية مع جنسيات مختلفة . كما أن زواجها هو الوحيد بين زيجات أخوتها الذي حضره أبوها و حضرته زوجة أبيها السيدة غادة . فلم تحضر من قبل في زواج أخواتها وكانت بكل المعاني نجمة الحفل بعد العروس رقصت وخدمت . واعتنت بالعروس وكانت كأمها تماماً . وكانت سعيدة جداً بعودة العلاقة بين السيد مروان وأبنائه من زوجته السابقة . نالت بذلك احترام الجميع نافست فيه أم العريس السيدة شاديه عبدا لرحمن .
كانت إقامة السيد مروان خلال فترة زواج ابنته في شقة مفروشة حيث إنه لم يبن بيتاً في القرية مثل غيره والبيت القديم لا يصلح للسكنى كما أن الغرف التي يقيم فيها أبنائه لا تتسع لهم جميعاً وأحس بذلك في المرة السابقة عندما خرج من المستشفى . فهي الآن لا تتسع إلا لحسين وزوجته . أما خالد فإنه يسكن في شقة مستأجرة قريبة منهم وأدرك السيد مروان أنه لابد من بناء مسكن أو إعطاء كل من أبنائه قطعة أرض يقيم عليها مسكناً في المستقبل . وبالفعل كانت لديه قطعة أرض كبيرة قام بتقسيمها بينهم فأعطى خالد وحسين وترك جزءا منها لابنه فيصل كما ترك قطعة صغيرة بجانب بيته القديم للبنات وترك لهن حرية تعميرها أو تركها ثم غادر القرية بعد أسبوعين من زواج ابنته إلى الطائف لكن القدر لم يمهله بعد ذلك أكثر من ثلاثة أشهر وكأنه ذهب إلى القرية ليودع أبنائه وبناته ويصلح ما أفسده الدهر بينهم ويطلب منهم السماح .
فقد تعرض بينما كان عائداً من طريق الحجاز لحادث أودى بحياته وزوجته وابنته إيناس ولم ينج من الحادث أحداً سوى فيصل وهند اللذان لم يذهبا مع أبويهما بل بقيا في الشقة في مدينة الطائف .(1/51)
كانت تلك الفاجعة كبيرة بالنسبة لطفليه هند وفيصل فقد أصبحا يتيمين لا حول لهما ولا قوة . إلا أن أخويهما خالد وحسين كفلاهما خير كفالة ونقلاهما إلى منطقة الباحة وكانا لهما الأم والأب والأخ الصديق بالإضافة إلى أختيهما فادية وسامية فعاشا في رغد من العيش . لم يحسّا بذلّ اليتم ولا حرارة الجوع والعطش .
بدأ حسين وخالد في بناء منزلين في تلك الأراضي التي خصصها لهما أبوهما وتكاتف الجميع من بنين وبنات واتفقوا جميعاً أن يدفع كل واحد من الأربعة مبلغاً من المال لبناء منزل صغير بجانب بيتي حسين وخالد لأخيهم الأصغر فيصل . وتم فعلاً بناء بيت صغير يتكون من دور واحد لأخيهم الأصغر
أما هند فقد كانت تعيش مع أخيها حسين وزوجته سعديه وأخيها فيصل وكانت جميلة جداً فهي أجمل من أختيها فادية وسامية وكانت ترتاح كثيراً للجلوس مع سامية . وفي ذات يوم سألتها سامية :
- هل أنت سعيدة يا هند ؟.......آلك حاجة أقضيها ؟
- شكراً فلم تتركي شيئاً أحتاج إليه إلا وأحضرته لي ، ثم أطرقت قليلاً فلاحظت ذلك سامية فقالت :
- فيم تفكرين ؟
- في أمي وأبي .
- رحمهما الله . كلنا سنموت ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام . وأرادت أن ترفه عنها فقالت :
- أنت الآن عمرك خمس عشرة وغداً سيأتيك من يخبطك ثم يتزوجك وتعيشين معه ثم تنجبين أطفالاً ويكبرون ثم تموتين وهكذا ثم أخذت بيدها وانتقلت بها إلى المطبخ . فقالت هند :
- ألم تلاحظي أمي كيف كانت سعيدة يوم زفافك .
- بلى .
- كأنها كانت تودعك . وتودعنا .
- لا أريدك أن تفكري في ذلك كثيراً إنني أريدك أن تنظري إلى الأمام.
- لن أنساهما أبداً .
- لن ننساهما جميعاً ولكن :
- إن كل شيء يذكرني بهما حتى البنات فهن لايدعونني فيما بينهن إلا باليتيمة.
- كلنا أيتام ولا أريدك أن تأخذي الأمور بحساسية هكذا ولا أريدك أن تتعبي بهذه الأفكار وإن كان فقد الوالدين صعباً جداً إلا أن إخوانك يحيطونك بكل عناية وود .(1/52)
- حسناً كما تريدين .
ومرت الأيام وتزوجت هند بأحد شباب القرية يعمل ضابطاً في الشرطة أما هي فقد أصبحت مدرسّة كأختها فادية ولم يبق إلا فيصل الذي ضل محل حفاوة الجميع في عيش رغيد وحياة هنّيه .
وصدق الله القائل : ( وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرّية ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً ) . وانتهت القصة ...
محمد عصبي الغامدي(1/53)