جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
1427ه / 2006م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ( وبعد..
فهذه خطبة اقتطعناها من سلسلة "مدح الله وثنائه على الرسول ( فى القرآن الكريم"، لفضيلة الشيخ/ محمد الدبيسى، عفا الله عنه، لكونها تمكن أن تقوم بذاتها ولأهمية ما فيها من إحياء روح التوكل واليقين والثقة فى الله، والتى كادت أن تنطفئ بالتعلق بالأسباب والركون إليها، والغفلة عن خالق الأسباب ومرتبها جل وعلا.
وهى تعالج ذلك بذكر سيدنا زكريا ( ، بما للقصص القرآنى من واقعه المؤثر وجذبه الأخاذ الذى يثبت المعنى، ويضىء أركان الوجدان، ويشعل جذوة الإيمان فى القلوب، وينير طريق الناس بهؤلاء المكرمين من الأنبياء والمرسلين، وعلى رأسهم مقدمهم وإمامهم سيد ولد آدم رسول الله ( ، حيث عرجت الخطبة قليلاً لإظهار قدره المعظم فوق الخلق كافة، وإن كان ذلك هو المقصود أصلاً.
وهذا طريق أوشكت أوهية المادة أن تغلقه بظلامها أمام المؤمنين السائرين إلى الله تعالى، لذا فهذه طاقة ضوء مشاركة فى إنارة هذا الطريق.. طريق التعلق بالله وحسن الظن به والثقة فيه وأنه على كل شىء قدير، وأنه لا يعجزه شىء فى السموات ولا فى الأرض، بل إن أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، وأنه قادر على خلق نواميس الكون، إذ هو كونه وهو خالقه، ولكن لمن تحققوا بأسباب ذلك، حيث أشارت أيضاً إلى أسباب استجابة الله تعالى للداعين المؤمنين.. نسأله تعالى أن يحبب إلينا الإيمان وأن يزينه فى قلوبنا، وأن يكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وأن يجعلنا من الراشدين.
وفى النهاية، فهذا جهد البشر، فما كان فيه من صواب فمن الله، وما كان فيه من خطأ فمنا ومن الشيطان والله ورسوله بريئان.
ونحن إذ ننبه ونعتذر لوجود أخطأ نرجو تلافيها، فإننا ننتظر النصح، تعاوناً على البر والتقوى مع دعوة صالحة من أخٍ كريم بظهر الغيب يسدد الله بها الخطى ونستكمل بها السير.(1/1)
ندعو الله أن ينفع به كاتبه وناشره والناظر فيه، إنه على كل شىء قدير.
مسجد الهدى المحمدى
3 رجب 1427ه
(((
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله.
اللهم صلِّ على سيدنا محمد النبى وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وآل بيته، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد.
( ((((((((((( ((((((((( (((((((((( ((((((((( (((( (((( (((((((((( (((( ((((((((( (((( (((((((( ((((((((((( ( [آل عمران: 102]
( ((((((((((( (((((((( ((((((((( (((((((( ((((((( ((((((((( (((( (((((( ((((((((( (((((((( ((((((( ((((((((( (((((( ((((((((( ((((((( (((((((( (((((((((( ( ((((((((((( (((( ((((((( ((((((((((((( ((((( ((((((((((((( (
(((( (((( ((((( (((((((((( (((((((( ((( ( [النساء: 1]
( ((((((((((( ((((((((( (((((((((( ((((((((( (((( (((((((((( (((((( (((((((( (((( (((((((( (((((( ((((((((((((( (((((((((( (((((( ((((((((((( ( ((((( (((((( (((( (((((((((((( (((((( ((((( ((((((( (((((((( (((( ( [الأحزاب: 70-71]
أما بعد..
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدىِّ هدىُّ محمدٍ (، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فى النار، اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
((((1/2)
ومازلنا في الكلام على ما مدح الله تبارك وتعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم تبياناً لقَدْرِه، وإظهاراً لمنزلته، منزلته العالية الرفيعة التي لم يصل إليها أحد كما قال: ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر))(1) ?، وكان تقدير الكلام اليوم أن نسوق شيئاً مما يُبيِّنُ قيمة النبي ? عند ربِّه جلَّ وعلا، متمثلاً في سرعة استجابة دعائه صلوات الله وسلامه عليه، عنايةً من الله تعالى بالنبي ? ، ودليلاً على صدق النُّبوة وعلى عظم شرفه عند الله، فهو ? ما دعا ربَّه جلَّ وعلا في شيءٍ إلا استُجِيبَ له، إلا ما أخَّره إلى يوم القيامة أو ما منع الله تبارك وتعالى لحكمة لا يعلمها إلا هو جلَّ وعلا؛ مما يُبيِّن عظيم قدر تعلقه بالله تعالى واللجوء إليه وحسن التَّوكُّل عليه، وأنَّه جلَّ وعلا ما ردَّه في صغير ولا كبير، إِذ هو ملجأه وملاذه، وهو عصمته سبحانه وتعالى، وهو ما ينبغي كذلك أن يكون حالَ المؤمنين؛ من الرجوع إلى الله تعالى والتوجه إليه إذا أصابهم شيء، أو إن لم يُصَبْهم شيءٌ؛ لأنَّهم محتاجون إلى الله تعالى في كل لحظة لا ينفكون عن الضرورة إليه والاحتياج له، ومَن ظنَّ أنَّه غيرُ محتاجٍ لله تعالى في كلِّ لحظةٍ من لحظاته فهو كافرٌ خارجٌ عن دين الإسلام.(1/3)
لذلك كان هذا الحال المشرف للنَّبي ? مما ينبغي أن يشغل المؤمنين اليوم حتى يقبلوا على الله تبارك وتعالى، تأسياً به صلوات الله وسلامه عليه، وليكونوا أهلاً لاستجابة الدعاء وليرفع الله تبارك وتعالى عنهم البلاء ويُنَفِّس عنهم الكُرَبَ، وليكون عوناً لهم على إصلاح الحال بالعودة والتوبة إلى الله تعالى، وفى ذلك العون لهم على أن تتنزل عليهم رحمة الله تعالى وأن يرتفع عنهم غضبه. فإذا دعوا ربَّهم جلَّ وعلا حينئذ بتغيير الأحوالِ وحُسْنِ التوجه إلى الله تعالى وطلب الإعانة على ذكره وطاعته، ورفع ما نزل بأمة محمد ? من البلاء والجهد والشِّدَّةِ التي نحن فيها اليوم، كان ذلك أدْعى إلى قُبول الله تعالى لذلك، وهو بابٌ نَلِجُهُ من أبواب رحمة الله تعالى؛ يَلِجُه المؤمنون قليلاً ثم إذا تأخرت عنهم إجابة الله تعالى إذا بهم يملُّونَ ويتركون الدعاء، ويتحولون إلى الكَسَلِ والتواكل الذي هم فيه ويعودون سيرتهم الأولى من التقصير والتفريط والغفلة.
وقبل أن نخوض في أدعية النبي ?، المتذكرون يذكرون أنَّه يوماً ما ذكرنا موضوع الدعاء وأسباب الاستجابة والأوقات التي يدعو فيها وتكون مَظَنَّة الإجابةِ إلى غير ذلك من الآداب والشرائط التي يستجيب الربُّ بها لعباده المؤمنين، والتي لا يُخَيِّبُ رجاءهم، وإن هم استجابوا له كما قال تعالى: ? ((((((( (((((((( ((((((((((( (((((((((( (((((( ? [غافر:60]، وقال تعالى:? (((((((((((((((((( ((( ((((((((((((((( ((( (((((((((( ((((((((((( ? [البقرة:186].(1/4)
قبل أن ندخل في ذلك نَعْرِضُ قصةً من قصصِ القرآن الكريم، وهذه القصةُ هي قصة زكريا ? ، وقد أشرنا إليها يوماً ما في الزمان الغابر، نُعيدُها اليوم لنتدبر منها معان أخر جديدة تُبيِّنُ لنا أولاً قدر النبي ? في دعائه ربَّه بسرعة الإجابة، وتبين كذلك قضية التوكل على الله والإقبال عليه ونبذ التَّعلُّق بالأسباب والتعلُّقِ بربِّ الأسبابِ سبحانه وتعالى وأن الله تعالى ليس ثمَّ شيءٌ عليه كبير، وأنَّه أكبر وأعظم وأكثر سبحانه وتعالى: (قالوا: إذن نكثر قال: الله أكثر)(2)
? (((((((( (((((((((( (((((( ((((((( ((((((( ((( ((((((( ((((( ((( ((((((((( ? [يس:82].
وقصة زكريا ? من القصص التي تميلُ إليها النفسُ لما فيها من المعاني المتجددة التي يَرى المرءُ فيها زاداً كلَّما خبا إيمانُه وضعف يقينُه وتوكلُّه ونظرَ إلى الأسبابِ فلم يجد سببا يعتمد عليه يوصله إلى مطلوبِه وانقطعت عليه السبل إذا بسبيل الله تعالى وأسبابه وحبالِه الموصولة لا تنقطع، وإذا بأبوابِه مفتحة وهم الذين أغلقوها بذنوبهم وأدْبَرُوا عنها وأعرضوا، والله جلَّ وعلا يدْعوهم وهم مدْبرون عنه، غير ملتفتين إليه.
يقول المولى سبحانه وتعالى في هذه القصة العزيزة ? (((((( (((((((( ((((((( ((((((((( (((((((((( ? [مريم:2] وقد ذكرها المولى سبحانه وتعالى في آياتٍ ثلاثٍ؛ هذه الآيات في سورة مريم، وفي سورة آل عمران، وفي سورة الأنبياء، ونشير إلى المعاني المترابطة لنرى هذه الحجج الساطعة على قيمة النبي ? وعلى قيمة الدعاء ولزوم التوكل وأنَّ الله تعالى يفرج ما نَزلَ كائناً ما كان، وأنَّه سبْحانه وتعالى لو ظنَّ النَّاس كلَّ الظنون أنَّه لا يمكن أن يحدث ذلك بأسباب المادة، إذا بأسباب الله تعالى الخارجة عن أسباب البشر تنزل عليهم وتُريهم قوتَه وقدرتَه سبحانه وتعالى، وأنَّه لا يُعجِزُه شيءٌ ولا يَكْبٌرٌ عليه شيء.(1/5)
? (((((( (((((((( ((((((( ((((((((( (((((((((( ((( (((( ((((((( ((((((( (((((((( ((((((( ((( ((((( ((((( (((((( (((((( (((((((((( (((((( (((((((((((( ((((((((( ((((((( (((((( (((((( (((((((((((( ((((( ((((((( ((( (((((((( (((((( ((((((((((((( ((( ((((((((( ((((((((( ((((((((((( (((((((( (((((( ((( ((( ((((((( ((((((( ((( ((((((((( (((((((( (((( ((((( ((((((((( ( (((((((((((( ((((( ((((((( ((( ((((((((((((( ((((( ((((((((((( ((((((((( ((((((((( (((((((( (((( ((((((( ((((( ((( (((((( ((((((( ((( ((((( ((((( (((((( ((((((( ((( ((((((( ((((((((( ((((((((((( (((((((( (((((( (((((((( (((( (((((((((( ((((((( ((( ((((( ((((((((( ((((( (((((( (((( (((((( ((((((( (((((( (((((((((( ((( (((((( (((((( (((( ((((((( ((( ((((( ((((( ((((((( ((((( ((((((( ( ((((( ((((((((( (((( ((((((((( (((((((( ((((((( ((((((( ((((((( ? [مريم:2-10].
هذه الآيات من سورة مريم، وانظر إلى ترتيب الكلام المبارك، كلام الله تعالى لِنَتَفَهَّمَ شيئاً من هذه المعاني التي لا يمكن أن تحيط بها هذه الكلمات القليلة في هذا الوقت القليل، ولعلَّنا نعود في نهايتها إذا اختصرنا الكلام إلى ما وعدنا به في بداية الخطبة من أدعية النبي ? ، إذ هو المقصود الذي تُبَيِّنُه تلك القصة .(1/6)
? (((((( (((((((( ((((((( ((((((((( (((((((((( ? يعني هذا ذكر رحمة ربك بعبده زكريا ?، أما ترتيب الآيات في سياقها الطبيعي بغير التقديم والتأخير والإضافات التي تبين قيمة زكريا ? وقيمة النبي ? وتهتم بتلك الرحمة التي نزَّلها الربُّ على عبده زكريا فهو: ذِكْر عبدنا زكريا إذ نادى ربَّه نداء خفياً قال ربِّ إنِّي وَهَنَ العَظْمُ مني وكذا وكذا وكذا ورَحِمَهُ ربك - وهذا للنبي ? لما قال: ? (((((( (((((((( ((((((( ? ربُّك أنتَ يا محمد ? عبده زكريا ? - فكأنَّه يقول: هذا أوان أن نذكر لك قصة زكريا ? عندما دعا ربَّه سبحانه وتعالى وناداه نداءً خفياً قال فيه يا ربّ إني وَهَنَ العَظْمُ منِّي واشتعل الرأس شيباً ولم أكن بدعائك رب شقيا، وإنِّي خِفْتُ الموالي وإنِّي وإنِّى... فَهَبْ لي مِن لدنك ولياً، وقد رحمه ربُّك فوَهَبَ له هذا الولد الذي كان يبتغيه ويطلبُه من الله تعالى كرامةً له. هذا ترتيب الكلام.(1/7)
أمَّا التقديم والتأخير فنبينه في السياق القرآني ليظهر لك جمال هذه العبارات، وجمال المعاني التي تحملها تلك العبارات في ذلك التقديم والتأخير، وغيره. وأول الكلام الكريم هذا ذكر رحمة ربك، يعني لما كان المهم أن نذكر ما حدث مع زكريا ? من رحمة الله له وإعطائه الولد على الكبر والعقم الذي كانت فيه امرأته قدمنا ذكر رحمة الله تعالى، اهتماماً بهذه الرحمة التي نزلت على عبيده الذين يستحقونها كما أشارت الآيات وكما سنشير إليها إن شاء الله تعالى، فبدأت القصة بالمطلوب الذي يطلبُه عبده زكريا ? ،يريد أن يرحمَه ربُّه فَرَحِمَه، وقَدَّمَ الرَّحْمَة مع أنَّها - أي هذه الرحمة - حدثتْ بعد هذه القصة الطويلة؛ دعا ربَّه، وقال: اشتعل الرأسُ شيباً، ووَهَنَ العَظْمُ، وامرأتي عاقر، فَهَبْ لي من لدنك وَلياً، رَحِمَهُ بعد ذلك كلِّه، قدَّم الرَّحمة للاهتمام بأن الله تعالى قد استجاب له، يعني كأنَّه من بداية الكلام نحن استجبنا لزكريا ? ورحمناه لِمَا كان به وما كان عليه من الأحوال الشريفة، ولِمَا دَعَا به ربَّه سبحانه وتعالى، ولِمَا تحققَ به من أسبابِ استجابةِ الدُّعاءِ التي دعا بها ربَّه جلَّ وعلا، رَحِمْنَاه وأَعْطَيْنَاه مَا يُريدُ لأنَّه قَدْ تَحَقَّقَ بِفَضْلِ اللهِ تعالى بتلك الأسبابِ التي نَسْتَجِيبُ بمثلها لِمَنْ دَعَا الله تعالى، وكذلك يجزي المحسنين، وليعظم لنا قدر زكريا ? بتقديم الرحمة به، وقدر النبيِّ ? حيث ذِكره أولاً، مع إضافة الربّ إليه تشريفاً وتكريماً ? (((((((( ((((((( ?.(1/8)
…? (((( ((((((( ((((((( (((((((( ((((((( ? والنداء لا يكون خفياً، وإنما يكون جهراً، عندما يُنادي أحدٌ أحداً يقول: يا فلان، فالنداءُ معناه أن يرفعَ صوتَه ويجهرَ به ليقبل عليه مَن يُنَادِيه، أَمَّا نداء زكريا ? فكان نداءً خفياً يدلُ على التواضعِ لربِّه والإخلاصِ له وتَرْكِ الرياء برفع الصوت، ويدلُ على الانكسار لله تعالى - وهو صفةٌ من صفات الدعاء المقبول عند الرب جلَّ وعلا - أن ينكسرَ وأن يتواضعَ وأن يتخشَّعَ فيه وأن يظهرَ فَقْرَه ومسكنتَه لله جَلَّ وعَلا، وانظر إلى الفقر والمسكنة التي أبداها زكريا ?، لم يقل مباشرة إذ نادى ربه فقال هب لي من لدنك ولياً، ولكن مهَّد بالأسبابَ المهمةِ التي يَقْبَلُ اللهُ تعالى بها الدعاءَ، والتي ينبغي إذا دعا المرءُ بها ربَّه جلَّ وعلا، أن يدعوه بها حتى تكون سبباً لأن يستجيبَ دعاءَه وأن يُنْزِلَ عليه رَحْمَتَهُ وأن يُعْطِيه سُؤلَه، وألا يردَّه خائباً شقياً كما سنعرف بقية الآيات.(1/9)
…? ((((( ((((( (((((( (((((( (((((((((( (((((( (((((((((((( ((((((((( ((((((( (((((( (((((( (((((((((((( ((((( ((((((( ? لم يدع ربَّه دعاءً خفياً ليقول هبْ لي، وإنَّما قدَّم الأسبابَ أو كما يقول المفسرون: قد مهَّد لإجابة دعائه قبل أن يدعو به، قال: ? ((((( (((((( (((((( (((((((((( (((((( (((((((((((( ((((((((( ((((((( ? هذه الأولى، كأنَّه يقول: إنَّه يطلبُ ولداً على هذه الحال، يُمَهِّدُ لنَفْسِه السبب، يُظْهِرُ للهِ جلَّ وعلا ضرورتَه واحتياجَه إلى الوَلَدِ، كيف ذلك؟ بَأَنَّه ليس يحتاج الولدَ للتَّوسِع في الدنيا، ولا للتَّمَتَُعِ بها، ولا ليكون له شأن فيها، وأنَّه قد قَرُبَ إبَّان الموت، ودَخَلَ عليه، وأوشك أن يخرج من هذه الدنيا، وَوَصَفَ مِن حَالِه مَا يدلُ على أنَّه فعلاً يحتاج إلى هذا الولدِ الذي يَقُوم بشئون الدِّينِ، ويَرَاعِي أَحْوَال المؤمنين، ويكون له خليفةً بالقيام على مصالح الشرع؛ إذْ الأنبياء لا يَطْلُبُونَ الولدَ لميراثِ الدنيا ولا لطلبها ولا للتحصيل فيها، إذ هِمَمُهُم هي الهِمَمُ العَالية، ومقصودُهم هو مقصودُ الشرعِ العَالي، ليس مَقْصُودَهم المقَاصِد الدَّنِيئة التي نتمتع بها اليوم.(1/10)
إنَّه يُظْهِرُ له أنَّه في أشدِّ الضرورة والاحتياج، ويَصِفُ مِن حَالِهِ الفَقْرَ وَالمسكنَةَ التي تدلُ على استعطافه لربِّه واسترحامه له، وهو لازم هذا الكلام عندما تقول لمن تسأله: إنني ضعيفٌ ومريضٌ وأنت قويٌ وقادرٌ، وإنني محتاجٌ، وإنني قد بلغت من الكِبَرِ، وحَدَثَ لي، وحَدَثَ لي، كلُّ ذلك لازِمُه أنَّك تطلب رحمته بهذه الصفات، وتسترحمه بهذه الأحوال المسكينة التي تستجلَّب الرحمة حتَّى من القلب القاسي، فلو كان امرءاً، وطلبتَ منه، وكان قلبه قاسياً وقلت له: أنا مسكينٌ وضعيفٌ وقد حدث وحدث وحدث لأجابك فلازمُ الكلامِ أنَّه يستعطف ربَّه سبحانه وتعالى ويسترحمه - يعني يطلب رحمته - بوصفِه لحاله الذي يستدعي ذلك.(1/11)
ويصفُ هذا الحال الذي يطلب لأجله فيقول: ? (((((((( (((((( ((((((((((((( ((( ((((((((( ((((((((( ((((((((((( (((((((( (((((( ((( ((( ((((((( ((((((( ? يريدُ ولياً يرثُه ويرث من آل يعقوب، يرث ميراث النُّبوة ويقوم بالشَّرْعِ لأنَّه يخاف إذا هو مات ألا يقومَ من يقوم مقامَه برعاية الدِّين، وهذا استعطافٌ آخرُ لله تعالى، أن يستعطفه بما يُحبه ربُّه جلَّ وعلا - كما ذكرنا في قصة إبراهيم عليه السلام لما قال: ? (((((((( ((((((( ((((((((( ((( (((((((((( ((((((( (((((( ((( (((((( ((((( (((((((( (((((((((((( ((((((( (((((((((((( ((((((((((( (((((((((( (((((((((( ((((( (((((((( (((((((( (((((((((( ((((((((((((( ((((( (((((((((((( (((((((((( ((((((((((( ? [إبراهيم:37]، فاستعطف ربَّه بما يحبُّه ربُّه جلَّ وعلا وهو قيامُ دينِه ورعايته وحفظه، ليس للدنيا وللعلو فيها، وكذلك أن يسهر على انتشار هذا الدين لأنَّه يخاف من ورائه أن يحدث هَدْمٌ لهذا الدين أو أن يحدث بُعدٌ عنه، أو أن يقع الناس في مخالفة الشرع، فيستعطف ربَّه بأنَّه يريد ولداً يقيم الشرع الذي يُحبُّه الرَّبُّ جل وعلا، يريد ولداً يقوم بوراثةِ النُّبُوةَ التي يُحب ربُّه أن يكون الناس عليها. قدَّمنا هذه الآية ونعود إليها في موضعها إن شاء الله تعالى .(1/12)
زكريا ? مازال يسترحم ربَّه فيقول ? (((((( (((((( (((((((((( (((((( ? واشتعل الرأس شيباً تعليقُ القرآنِ دقيقٌ، وهذه الآية مليئةٌ بالبلاغة، ولسنا في معرض الكلام على البلاغة وإنما توضيح جمال هذه الكلمات القرآنية ? (((((( (((((( (((((((((( (((((( ? والعَظْمُ هو أشدُّ شيءٍ في المرءِ، أشدُّ شيءٍ فيه هو صُلبه وعِظَامُه فإذا كانت العِظَامُ قد وهنتْ فدلَّ ذلك على أن جسمَه كلَّه قدْ وَهَنَ، ولو قال: إن بدني كلّه قدْ وَهَنَ لا تعطي هذا المفهوم، وهذا المعنى، لذلك قال: ? (((((( (((((((((( ? فما بالك بالجسم الضعيف .
إذن فقد ضعف جسمي كله من أوله إلى آخره وقد ضعف فيه أقوى ما فيه حتى إنني لا استطيع شيئا فهب لي من لدنك وليا، وعلاني الشيب، وأصابتني الشيخوخة، ولم يبق من العمر بقية، فارحمني.
? (((((( (((((( (((((((((((( ((((( ((((((( ? وانظر إلى هذه اللفظة الجميلة وما تحمل من المعاني التي على المؤمنين أن يُرَاعُوهَا وهم يدْعُون الله تعالى متوكلين عليه، وكذلك وهم يقرءون القرآن فيتعلمون تلك المعاني الحسنة والألفاظ الرقيقة التي جاء بها القرآن ليحرك تلك القلوب والمشاعر على محبة الله تعالى وعلى التوكُّلِ عليه وعلى اليقين فيه والثقة فيما عنده سبحانه وتعالى.(1/13)
? (((((( (((((( (((((((((((( ((((( ((((((( ? : الشقيُّ من الشقوة، والشقوة ضد السعادة، والسعادة هي عدم حصول المأمول وضلال السعي، ومقصود الآية أنَّني لم أكن بدعائك ربي شقيا، يعني أنني بدعائك ربِّ سعيدٌ، لأن الشقاوة ضد السعادة، فلم يكن يوماً ما شقياً بها، بل كان سعيداً بدعاءِ ربِّه ،يعني أنَّ عادة الله تعالى معه السعادة باستجابة دعائه، وأن الله تعالى لم يخيب له دعاء من قبل، هذا معنى الكلام، وليس معنى الكلام : ولم أكن شقياً بدعائك يعني أدعوك فلا أشقى، لا. أدعوك فأسعد، لذلك قال النبي ? فيما يرويه عن ربِّه لمَّا جلَّس هذا الجالس مع القوم الذين يذكرون الله تعالى وصعدت الملائكة إلى الله تعالى فقال أُشْهِدُكم أني قد غفرتُ لهم. قالوا: إن فلاناً ليس منهم، قال هم القوم لا يشقى بهم جلَّيسهم، جلَّيسهم لا يشقى معناه أنَّه لما جاءت السعادة شملته أيضاً مع أنَّه لم يكن منهم، فدلَّ ذلك على أنَّه لا يشقى بل يسعد، فسَعِدَ هذا الذي قد أتى وليس منهم، سَعِدَ بمغفرةِ الله تعالى ورحمته، فمعنى الكلام ? (((((( (((((( (((((((((((( ((((( ((((((( ? يعني أنا سعيد بدعائك.
ومعناه التالي: إنني لم أكن قبل ذلك أدعوك فلا تستجيب لي، بل كنت تسعدني بالإجابة، يعني عهد الله معي أنَّه لم يتركني يوماً أدعو فلم يستجب، عهدُ الله معي الاستجابة لهذا الدعاء .(1/14)
وانظر لهذا المعنى، لماذا يقول له: ? (((((( (((((( (((((((((((( ((((( ((((((( ? ؟ إنَّه تمهيدٌ لأنْ يَحُثَّ ربَّه سبحانه وتعالى على استمرار جميل الإجابة له، يعني؛ يا رب إنني سعيدٌ بدعائي إياك، وأنت تستجيب دعائي في كلِّ مرة، وأن عهدي بك أنك لم تخيب لي دعاءً، وها أنا أدعوك اليوم وأنا أطلب منك اليوم وعهدي أنك لا تخيبني، وعهدي السعادة بهذا الدعاء منك، فكأنَّه يقول: فكما لم تخيبني من قبل ولم أَشْقَ بك من قبل، وقد سعدتُ بك من قبل في الأدعية كافة التي دعَوْتُها، فاليوم أدعوك وأنا أتوسل إليك بسابق صنعك الجميل أن يستمر هذا الصنع الجميل اليوم.
فيتوسلُ بجميل الله عليه إلى الله تعالى، كما قال القائل: أنا الذي أحسنت إليَّه في الزمان الماضي، قال: مرحباً بمن توسل بنا إلينا، فكأنَّه يتوسل بسابق صنع الله الجميل له على أن يستمر هذا الصنع مِن الله جلَّ وعلا له، وألا تتأخر إجابةُ الله تعالى، وهو مِن أحسن أنواع التوسُّلِ؛ أن يتوسلَ إلى الله جلَّ وعلا بما أدَّاه إليه من نِعَمٍ، بما أدَّاه إليه من جميل، وما أسداه إليه من معروفٍ يَطْلُبُ من ربِّه استمرار ذلك المعروف واستمرار ذلك الجميل وحُسْنه، وألا يُخيِّبه لأنَّه لم يكن خائباً يوما بدعاءِ ربه.
وهذا الذي ينبغي أن يفهمه المؤمنون، وتلك قصص النبي ? التي أشرنا في البداية إليها، أنَّه إذا كان زكريا ? لم يكن يوماً بدعاءِ ربِّه شقياً، فما بالك بالنبي ? ، ما بالُكَ بسيدِ الخَلْقِ، وهو أتقَاهم لله تعالى، وأطوعُهم إليه وأشدُّهم له خشيةً، وهو أقربُهم عندَه مَنْزِلَةً كما ذكر المولى سبحانه وتعالى وكما ذكر النبي ?.
ويستمر زكريا في عَرضِ الأسبابِ التي يستجيب بها الربُّ لدعائِه، ? (((((((( (((((( ((((((((((((( ((( ((((((((( ((((((((( ((((((((((( (((((((( ? وانظر هذا التركيب الجميل الذي لا يخطرُ على بالِ القارئين إلا من سمع الموعظة تلك من قبل.(1/15)
يقول: خفت الموالي من ورائي، يعني أنَّه خَافَ العَصَبَةَ - أقاربُ زكريا - خَافَهُم إن هو مَات ألا يقوموا بشرعِ الله تعالى ودينه، وأن ينتهى هذا الدِّين، وأن تنتشرَ المعصيةَ، وأن يرتفعَ الشركُ، وأن يعلوَ الفسقُ وأهلُ البِدَعِ، وإنِّي خِفْتُهُم عليه، فهبْ لي من لدُنكَ ولياً.
واسمع ترتيب الجملة التي لا يمكن أن تدخل في العقل:
? ((((((((( ((((((((((( (((((((( (((((( ((( ((( ((((((( ((((((( ? هذا كلامٌ لا يدخل في العقل إذن، فليس له قياس في المادة ولا شبه، يعني امرأتي لا تَلدُ فهبْ لي ولداً، علاوة على كِبَرِه وضعفه السابق، وهذا يُبَيِّنُ شِدَّةَ التَّوَكُّلِ، وحُسْنَ اليقين على الله تعالى والتعلق به، وأنَّه لا يَصْعُبُ عليه شيءٌ، وأنَّه قادرٌ على كلِّ شيء، لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، لذلك لما اندهش زكريا ? من سرعةِ استجابةِ الله تعالى له قال: ? ((((( ((((( (((((( ((((((( ((( ((((((( ((((((((( ((((((((((( (((((((( (((((( (((((((( (((( (((((((((( ((((((( ((( ((((( ((((((((( ((((( (((((( (((( (((((( ((((((( (((((( (((((((((( ((( (((((( (((((( (((( ((((((( ? أي هذا وغيره هيِّنٌ، وقد خلقتك يا زكريا من قبل ولم تك شيئا.(1/16)
وأنت أيُّها المسكينُ - السامع والمتكلم - تقول: أي ربي ليس لي أسبابٌ، وأنا أريدُ كذا وكذا، ولا يمكن أن يتحقق، ولكنَّه ليس كبيراً عليك، ويتحقق بك، وكلُّ شيءٍ هينٌ على الله؛ فهو مريضٌ مرضاً لا يشفيه إلا هو سبحانه، حار فيه الطب فاشفه بفضلك وقدرتك، أو فقير فَأَغْنِه بجودك وسعة كرمك، أو نزل به من البلاء ما لا يرفعه إلا أنت فارفعه برحمتك وإحسانك لا يرفعه إلا أنت، أو حلَّ بالمسلمين ما لا قبل لهم به فانصرهم بنصرك، واهزم أعداءك، وأظهر بأسك، لا إله إلا أنت، وهكذا، أظهرْ أيَّها المسكين إيمانَك بربِّك ويقينك فيه، وحسنَ توكُّلِك عليه، ادعُ ولا تستكثر شيئاً فالله أكثر، ولكن حقق أسباب الإجابة.
? (((((( (((((((((( ((( (((((( (((((( (((( ((((((( ? قال له: كن. فيكون - سبحانه وتعالى - ولكنَّ أصحابَ المادةِ اليومَ والمتعلقينَ بالأسبابِ اليوم على هذا الحال السيئ، إن قلتَ لهم كذا وكذا يقولون: السماءُ لا تمطر ذهباً ولا فضةً . لا، هي تُمْطِرُ ذهباً (3) وفضةً، تُمْطِرُ، لِمَ لا تُمْطِر ؟ قد أمطرتْ حجارةً من قبل فما المانع أن تمطر ذهباً وفضةً، يقول: من أين يأتي بذلك؟ وواحد وواحد اثنين، وكيف يتحصل على ذلك الأمر؟ وكيف يلد وامرأته عاقر؟ كيف يفعل ذلك وهو لا يملك مالاً ولا سبباً ؟ كيف يحدث له ذلك وهو مسافر ولا يفعل شيئاً؟ وكيف؟ وكيف؟ وكلّها من أسبابِ سوءِ الظنِّ بربِّه والتشكك في قدرتِه سبحانه وتعالى وقوته وأنَّه على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأنَّ أمْره إذا أراد شيئاً - أي شيء كان - قال له: كن. فيكون، لا يتأخر، تُرى الله تعالى لو قال للدنيا والآخرة: كونا شيئاً آخر. يمكن ألا يكونا، لقد قال لهما:
? ((((((((( ((((((( (((( ((((((( ((((((((( ((((((((( ((((((((((( ? [فصلت:11].كما يقولُ المولى في كلِّ آياتِه.(1/17)
لذلك لَمَّا دعا النبي ? ? (((( (((((((((((((( (((((((( ((((((((((((( (((((( (((((( ((((((((( (((((((( ((((( (((((((((((((((( ((((((((((( ? [الأنفال:9] فانظر إلى سرعة الإجابة وقوة المدد، أمَّا هؤلاء المساكين الذين يتشككون اليوم، إذا قلت لهم: لا، حاول أن تفعل كذا وكذا، يقول: لا. ليس هناك وقتٌ، ليس هناك مالٌ، ليس هناك جهدٌ، من أين آتي بالمالِ؟ ومن أين آتي بالوقتِ؟ ومن أين آتي بالجهدِ، كيف نفرغُ وقتاً للعلم والدِّين والذكر والصلاة والقرآن؟ وكأنَّه هو واهب الوقت والمال والجهد والصحة، لو أخذ منك شىءٌ من ذلك استطعت ردَّه يا مسكين. مستيقناً قُلْ: إنَّ الله تباركَ وتعالى قادرٌ على كلِّ ذلك، لماذا لا تقول: الله المستعان أو اللهُ على كلِّ شيء قديرٌ، هو مولانا فنعم المولى، كما ذكرنا في آيات الولي.
? ((((((((( ((((((((((( (((((((( ? وهذا دليلُ التَّوكُّلِ على اللهِ تعالى، ? ((((((((( ((((((((((( (((((((( (((((( ((( ((( ((((((( ((((((( ? امرأتي لا تلدْ ولكنْ هبْ لي ولياً، فهبْ لي من لدنك ولياً، وانظر إلى هذا التعبير.(1/18)
? (((((( ((( ((( ((((((( ((((((( ? (من لدنك) يعني من عندك، والسائلُ يعرفُ أن كلَّ شيءٍ من عند اللهِ تعالى، زكريا لا يعرف أن كل شيء من عند الله!؟ بلى يعرفُ أنَّ كلَّ شيءٍ من عند الله، فلماذا يقول من عندك؟ من عندك هذه عنديةٌ خاصةٌ من عندِ اللهِ تعالى؛ لأنَّ هذه العِنْدِيَّة الخاصةَ منْه سبحانه وتعالى، أن المسببات لا تترتب على أسبابها، فهبْ لي من لدنك موهبةً من عندك، كما يقول القائل: أنا أريد منك أنت، أنا أريد منك أنت تكريماً وتشريفاً موهبةً من الله تعالى؛ لأنَّه يعلم أن كلَّ شيءٍ من عند اللهِ، وأن كل شيءٍ يجري بتقدير اللهِ تقدير المسبباتِ على أسبابها، ولكنَّه يطلبُ شيئاً على غير المعتاد من أحوال البشر، فقال ? ((( ((((((( ? من عندك أنت، لا يمكن أن يفعله إلا أنت، ولا يكون إلا هبةً منك، موهبةً من الله تعالى وكرامةً له.
? (((((( ((( ((( ((((((( ((((((( ? ، وتأمل لم يقل هب لي من لدنك ولداً، هب لي من لدنك ولياً، والولايةُ هنا التي تبينُ درجةَ الصَّلاحِ، الذرية الطيبة -كما دعا إبراهيم ربه سبحانه وتعالى قال: ? ((((( (((( ((( (((( ((((((((((((( ? [الصافات:100] - لم يطلب مِن الله تعالى أيَّ ذريةٍ ولكنْ قال: هذه الذرية من الله تعالى، أن تكونَ ذريةً من أوليائه سبحانه وتعالى، والله تعالى كما قال: ? ((( ((((((((((( ? [الحج:78] في الآيات التي ذكرنا عن النبي ? يقول فيها المولى جلَّ وعلا: ? (((( ((((((((( (((((((((((((( (((( (((((((( (((( (((((((((( ((((( (((( ((((((((( (((( ((((((( (((((( ((((((((((( ( (((((( ((((((((( ((((((((((((( ? [الأعراف:195-196]، فلمَّا طلبَ ولياً لابد أن يكون صالحاً لأن الولايةَ هي أعلى درجاتِ الصَّلاحِ، لا يكون المرءُ في ولايةِ اللهِ تعالى ولياً له جلَّ وعلا، وليٌّ لله تعالى إلا أن يكون صالحاً، ? (((((( ((((((((( ((((((((((((( ?.(1/19)
لذلك جاءت آيات سورة آل عمران على نفس هذا السياق ? ((((((( (((((( ((((((((( ((((((((( ((((((((((((( (((((( (((((((( ((((((( ( ((((( ((((((((((( (((((( (((( (((((( ( ((((((( (((( (((( ((((( (((( ( (((( (((( (((((((( ((( (((((((( (((((((( ((((((( ? [آل عمران:37] نَفْس آيات التَّوكُّل ونفس آياتِ اليقين، ونفس الآياتِ التي تُبَيِّنُ أن المسببات لا ترتبط بأسبابها عند الله، وأن الله تعالى يَخْرِقُ نواميس كونِه لمن شاء متى شاء بما شاء، ? ((((((( (((((( ((((((((( ((((((((( ((((((((((((( (((((( (((((((( ((((((( ( ? زكريا ? نبيٌّ وهي امرأة صالحة - مريم بنت عمران عليها السلام - كلَّما دخلَ عليها زكريا المحرابَ - وهو الذي كَفَلَها ويقوم على رعايتها - وجد أن الكفالةَ قد انتقلتْ إلى الله تعالى، وأن الكافلَ لها على الحقيقة هو الله تعالى وأنَّه لا يحتاج منه شيئاً، وأن الكافلَ لها سبحانه وتعالى قد كفاها بما لا يمكن أن يكفيها هذا الكفيلُ البشرُ المخلوقُ، كفاها كفايةً لا يمكن أن توجد من أحد، ولا يمكن أن يقوم بها أحدٌ، حتى جعلت زكريا نفسه لَمَّا رأى هذا المعنى قال: ? ((((( ((((( (((( ((( ((( ((((((( ((((((((( ((((((((( ( (((((( ((((((( ((((((((((( ? [آل عمران:38]. إذا كنتَ يا ربِّ تخرق الآيات وتعطي، كما يقول المفسرون: (رزقها) يعني وجدَ عندها فاكهةَ الصيفِ في الشتاءِ وفاكهةَ الشتاءِ في الصيفِ، ووجدَ عندها ذلك الرزقَ الواسعَ الذي لا يمكن إلا أن يكون من عند الله، وأنَّ الله تعالى يخرقُ هذا الكون ونواميسه كرامةً لعبادِه المؤمنين، وأنَّه لا يَكْبُر عليه شيءٌ، إذا بزكريا ? يقول: أنا بحاجة إلى مثل ذلك؛ امرأتي عاقرٌ، وأنا قد كبرتُ، وأريدُ من الله تعالى فاكهةَ الصيفِ في الشتاءِ وفاكهةَ الشتاءِ في الصيفِ، وأنَّ ذلك لا يَكْبُر على الله.(1/20)
? ((((((((( ((((( ((((((((( ((((((( ? [آل عمران:38] هنالك، في هذا المكان المبارك الذي رأى فيه معجزاتِ الله تعالى، فإنَّ أهلَ الإيمانِ وأهلَ القلوبِ الزكيةِ وأهلَ النُّفُوسِ الصافيةِ يعتبرون بما يمرُّ عليهم من الأقوال والأفعال فتكون سبباً لدعائهم وقرْبِهم من الله تعالى، سبباً لموعظتهم، لا يمرُّ عليهم قولٌ ولا فعلٌ ولا تصرفٌ إلا ويقرِّبُهم إلى الله تعالى، إلا ويفهمون منه الحكمة والموعظة التي ساقها سبحانه وتعالى إليهم على لسان غيرهم وتصرفاتهم.
لَمَّا رأى زكريا ? ذلك كأنَّ الله تعالى يقول له: لماذا تأخرتَ عن دعاءِ ربِّك؟ أن تدعوه ليرزقك رزقاً -كما يقول: ? (((( (((( (((((((( ((( (((((((( (((((((( ((((((( ? بغير عدّ ? (((((( (((( (((((( ( ((((((( (((( (((( ((((( (((( ? هو من عند الله الذي قد تشككنا في قوته وقدرته، وأنَّه لا يعطي ولا يمنحُ ولا يَهَبُ شيئاً عياذاً بالله تعالى من سوءِ التَّوكُّلِ وسوءِ الظَّنِّ الذي نحن فيه.
هذه التي لا تستطيع شيئاً إذا بالله تعالى قد كَفَلَهَا، ليستيقن هؤلاء الموحِّدُون اليوم كيف يتوكلون على ربهم، يقول: هو خائفٌ عليها، وهو خائفٌ على أولاده والرزق والغد والمستقبل، وليس معهم، ويُحَصِّلُ، ? (((( (((( (((((((( ((( (((((((( (((((((( ((((((( ? ولم تكن مريم عليها السلام لتسعى ولا لتعمل ولا لتشتغل ولا لتحسب ولا لتدبر يوماً فضلاً عن مستقبل وإنَّما قد تفرغت لعبادةِ الله تعالى، ? ((((((((( ((((( ((((((((( ((((((( ? في هذا المكان المشرف الذي رأى فيه ما كان . ليس معنى ذلك ترك الأسباب، ولكن تعلم التوكل والتوحيد لله جلَّ وعلا والثقة فيه.(1/21)
وأهلُ الإيمان - كما ذكرنا - يعتبرون بكلِّ ما يمرُّ عليهم من قولٍ أو فعلٍ فيستغلونه في التقربِ إلى اللهِ والدعاءِ له جلَّ وعلا، ويستفيدون منه الموعظةَ والحكمةَ التي أرسلها الله تعالى إليهم على ألسنة غيرهم، أو في تصرفاتِ وأفعال غيرِهم، لا تمرُّ عليهم - أي أصحاب القلوب الزكية - إلا وقد اتَّعَظُوا منها .
ولهم أمرٌ آخر؛ وهو أنَّهم يستغلون هذه الأماكنَ الطاهرةَ التي قدْ وَقَعَتْ فيها تلك المعجزاتِ للرَّبِّ سبحانه وتعالى ويستغلون تلك الأوقات الشريفة التي ظهرتْ فيها معجزاتِ الله تعالى ليكون هذا المكان وهذا الوقت - أي المكان الشريف والوقت الشريف - سبباً في استجابة الدعاء من الله تعالى
? ((((((((( ? في هذا المكان الذي ظهرتْ فيه آثارُ رحمةِ الله تعالى، في هذا المكان الذي ظهرتْ فيه بركاتِ الله تعالى، في هذا المكانِ المشرفِ دعا زكريا ? ربَّه ? ((((((((( ((((( ((((((((( ((((((( ((((( ((((( (((( ((( ((( ((((((( ((((((((( ((((((((( ( (((((( ((((((( ((((((((((( ? وقال أيضاً: ? (((((( ((( ((( ((((((( ((((((( ? [مريم:5] وانظر إلى استجابة الله له ? ((((((((((( (((((((((((((((( (((((( (((((((( (((((((( ((( ((((((((((((( (((( (((( ((((((((((( (((((((((( (((((((((( (((((((((( ((((( (((( (((((((((( (((((((((( ((((((((( ((((( ((((((((((((( ? [آل عمران:39].(1/22)
رَجعْنَا إلى الآيتين معاً ? ((((( ((((( (((((( ((((((( ((( ((((((( ((((((((( ((((((((((( (((((((( (((((( (((((((( (((( (((((((((( ((((((( ? و ? ((((( ((((( (((((( ((((((( ((( ((((((( (((((( (((((((((( (((((((((( ((((((((((((( ((((((( ? والجواب في قوله سبحانه وتعالى في الأولى: ? ((((( ((((((((( (((( (((((((( ((( (((((((( ? [آل عمران: 40] و قوله جل وعلا في الثانية: ? ((((( ((((((((( ((((( (((((( (((( (((((( ((((((( (((((( (((((((((( ((( (((((( (((((( (((( ((((((( ? [مريم:9]. وتأمل هذين الجوابين، واحكم على نفسك، وعظم ربك!
(((
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيد الأولين والآخرين سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين اللهم صل على سيدنا محمد النبي الأمي وأزواجه أمهات المؤمنين ذريته وأهل بيته كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد .
وكان ينبغي أن نعرجَ في ثنايا هذه القصةِ إلى ذكرِ منزلةِ النَّبي ? في التَّوكُّلِ والدعاءِ واليقينِ وما ميَّزَهُ الله تعالى به عن سائرِ الأنبياءِ، لكن نستكمل هذه الآية التي نحن بصددها أولاً:
? ((((((((((( (((((((((((((((( (((((( (((((((( ? والفاء هنا للتعقيب، ما أن دعا ربَّه سبحانه وتعالى الدعاء الخفي، واستعرض فيه أحوالَه التي تستلزم الرحمةَ من المسئول، وبين سببَ هذه الأسئلة والاستغاثة بالله تعالى فيها، وأن كلَّ ذلك يستوجبُ - بفضل الله تعالى وبرحمته - أن يستجيب الدعاءَ سبحانه وتعالى، قال ? ((((((((((( (((((((((((((((( (((((( (((((((( ? ما أن دَعَا حتى نادته الملائكةُ(1/23)
? ((((((((((( (((((((((((((((( (((((( (((((((( (((((((( ((( ((((((((((((( ? وهذه حالةٌ أيضاً من الحالاتِ الحسنة؛ أنَّه دعا ربَّه ولم ينتظرْ، دعا ربَّه وأخذ يدْعُو، أخذ يصلي ويتوسل إلى الله تعالى بالصلاة والعمل الصالح ليرتفع هذا الدعاء إليه جلَّ وعلا، حتى يستجيبَ له سبحانه وتعالى فأجابَه على الفور: ? ((((((((((( (((((((((((((((( (((((( (((((((( (((((((( ((( ((((((((((((( (((( (((( ((((((((((( (((((((((( ?.
وفي الآية الأولى في سورة مريم التي افتتحنا بها القصة قال: ? ((((((((((((( ((((( ((((((((((( ((((((((( ((((((((( (((((((( (((( ((((((( ((((( ((( (((((( ((((((( ? والمحذوف: قال ، أي قال: يا زكريا إنَّا نبشرك بغلامٍ، وكأنَّ الملائكةَ بشرتْهُ، وأن الله تعالى بشَّرَه إعلاءً لدرجته، وطمأنينةً لقلبه، و(قال) هنا محذوفةً دلَّ عليها قول زكريا ? بعد ذلك، قال: ? ((((((((((((( ((((( ((((((((((( ((((((((( ((((((((( (((((((( (((( ((((((( ((((( ((( (((((( ((((((( ((( ((((( ((((( (((((( ((((((( ((( ((((((( ? أي قال الله: يا زكريا، ثم قال زكريا: يا ربِّ أنَّى يكون لي غلامٌ؟ لقد وقعت الاستجابةِ مِن الله تعالى سريعاً لهؤلاءِ المتوكلين، لهؤلاءِ المستيقنين الواثقين في ربِّهم، في هؤلاء المتضرعين الذين يدعونَه تضرعاً وخفية.
وهو الحال المشرف للنبي ? لَمَّا قال الله تعالى له:(1/24)
? ((((((((( (((((((( ((((((((( (((((((((( ( ((((((( (( (((((( ((((((((((((((( (((( (((( ((((((((((( ((( (((((((( (((((( (((((((((((( ((((((((((( ((((((( ((((((((( ( (((( (((((((( (((( ((((((( ((((( ((((((((((((((( (((( ? [الأعراف:55-56] هذه الحالةَ التي تبيِّنُ درجةَ النبيِّ العاليةِ صلوات الله وسلامه عليه، لما قال: ? ((((((((( (((((((( ((((((((( (((((((((( ? فكان أَوَّلَ الداعين لله تعالى هو النبيُّ ?، فلا شك أنَّه قد تحقَّقَ فيه أنَّه أوَّلُ من يدعو ربَّه تضرعاً وخفية ?، وأنه أَوَّلُ من يدعوه خوفاً وطمعاً ? ((((((((((( ((((((( ((((((((( ? لأنَّه ?كان يقول: ((أنا أطْوعُكم لله وأقربُكم إليه وأشدكم له خشيةً)). ولا يمكن أبداً أن يكون في ميزانِ أحدٍ من الخَلْقِ شيءٌ ليس في ميزان النبي ? ويفضلُ به على النبي ? ، لا، لا يمكن أن يكون ذلك، لماذا؟ لأنَّه صاحبُ المقامِ المحمودِ والدرجةِ الرفيعةِ العاليةِ في الجنَّة والتي لا يصل إليها إلا واحدٌ ((أرجو أن أكون أنا هو))، وكان هو ? ، فتُرى لما ذكر ذلك عن المؤمنين كان أوَّلَهم لأنَّه ? أولُ شافعٍ وأولُ مشفعٍ، كلُّ الخَلْقِ آدم فمن سواه تحت لوائه يوم القيامة، لذلك قال: ? ((((((((((( ((((((( ((((((((( ? فدعاه خوفاً وطمعاً .
يقول: ? ((((((((((( ((((((( ((((((((( ( (((( (((((((( (((( ((((((( ((((( ((((((((((((((( ? فإذا كان هؤلاء هُم المحسنين يعني هؤلاء - أي المؤمنين المتقين - هم المحسنون كما ذكر الله تعالى في قوله:(1/25)
? (((( ((((((((((((( ((( ((((((( ((((((((( (((( (((((((((( (((( (((((((((( (((((((( ( (((((((( (((((((( (((((( ((((((( ((((((((((( ? [الذاريات:15-16] المتقين في جنات وعيون كانوا قبل ذلك محسنين فما بالك بالنبي ? وهو في الدرجةِ العليا في التَّقوى، وفي الدرجة العليا في الإحسانِ أيضاً كذلك كأنَّه لمَّا قال: ((أن تعبد الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك))، وهي درجة الإحسان، لم يحصل منها أحدٌ مثل ما حصَّل النبي ? ، أليس كذلك؟ فإذا قال: ? ((((((((((( ((((((( ((((((((( ( (((( (((((((( (((( ((((((( ((((( ((((((((((((((( ? كان ذلك للمساكين المؤمنين المتدينين، أمَّا النبي ? وهو سيِّدُ المحسنين وأعلاهم قدراً في الدنيا والآخرة، فليست رحمة الله قريبَةٌ منه فقط، بل هو الرحمةُ المهداةُ، قال ?: " إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ "، وقال عنه الحقُّ: ? (((((( ((((((((((((( (((( (((((((( ((((((((((((((( ? [الأنبياء:107] فلم يبقَ لأحدٍ فضلٌ مثله ?، رحمة الله قريب من المحسنين أمَّا هو فهو رحمةُ الله المهداة، أمَّا هو فهو رحمةٌ للعالمين كما قال الله تعالى، وزكريا ? يُقال في حقِّه:
? (((((((( ((((((( ((((((((( (((((((((( ? ، فاتضح بذلك مقامَ النبي ? في هذه المسألةِ وفي هذا المعنى في دعائِه وتضرُّعِه، وأنَّه كذلك في الدرجة العليا.
? ((((((((((((( ((((( ((((((((((( ((((((((( ((((((((( (((((((( (((( ((((((( ((((( ((( (((((( ((((((( ? [مريم:5:7].
? (((( ((((((( ((((( ((( (((((( ((((((( ? فيها تفسيران، يعني لم يَتَسَمَّ أحدٌ من قبل بهذا الاسم - وهو يحيى ? - وزكريا ? كان يخاف إن أعطاه الله تعالى ولداً أن يموتَ زكريا ? قبل أن يراه، قبل أن يرى ولده وهو كبيرٌ يستأمنه على شرعِ الله تعالى، فطمأنه الله تعالى بهذين الأمرين:(1/26)
الأمر الأول: أن اسمه يحيى؛ يعني بشارة له أنه سيحيى حتى يراه كذلك، والإشارة الثانية في قوله: ? (((((((((((((( (((((((((( ((((((( ? [مريم:12]. ولم يحدث لأحدٍ ذلك، وهو التفسير الثاني في الآية ? (((( ((((((( ((((( ((( (((((( ((((((( ? يعني لم يُسَمَّ أحدٌ بهذا الاسم من قبل بشارة لزكريا ويحيى عليهما السلام .
والتفسيرُ الثاني معناه أنه ليس له نظير؛ حصل ما حصل ( من مزايا من قبل، فقدْ ولدَ من امرأةٍ عاقرٍ ? ، وأُوتي الحُكْمَ صبياً ?، وكذلك كان سيداً وحصوراً(4) كما قال تعالى: ? (((( (((( ((((((((((( (((((((((( (((((((((( (((((((((( ((((( (((( (((((((((( (((((((((( ((((((((( ((((( ((((((((((((( ? [آل عمران:39] ، وكذلك ? (((((((((( (((((((((( ((((( (((( ? ومصدقاً بكلمة من الله؛ أي مصدقاً بالتوراة أو مصدقاً بعيسى ? وهو كلمةُ الله تعالى كما ذكر المولى جلَّ وعلا في عيسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام: ? (((((((((( (((((((((( ((((( (((( ? ، فاجتمعت له هذه المزايا التي لم تجتمعْ لنبيٍّ من قبل، ومع ذلك يقولُ العلماءُ: المزِّيةُ لا تعني الأفضلية، يعني حتى لو تحقَّقَتْ فيه هذه المزايا فمجموع هذه المزايا قد تقدَّمَ فيه أولى العزم من الرُّسُلِ عليهم السلام، وكلُّ المزايا فالنبى ? فوقهم جميعاً فيها.
فإذا كان زكريا ? قد تحقق بما لم يتحقق به نبي قبْله من هذه المزايا لا يعني أنَّه الأفضل، ومع ذلك إذا كان قد تحقق بذلك فالنبي ? أفضلُ منه، وأفضلُ من أولى العزم من الرسل عليهم السلام، وأفضلُ من البشر جميعاً ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر))(5).(1/27)
? ((((( ((((( (((((( ((((((( ((( ((((((( ((((((((( ((((((((((( (((((((( (((((( (((((((( (((( (((((((((( ((((((( ? [مريم: 8] تُراه أي زكريا ? وهو الذي قال: ? ((((((((( ((((((((((( (((((((( (((((( ((( ((( ((((((( ((((((( ((( ((((((((( (((((((( (((( ((((( ((((((((( ( (((((((((((( ((((( ((((((( ? لَمَّا جاءته البشارةُ من الله تعالى يقول: أنَّى؟ وكيف يحدث ذلك؟ إنَّ هذا على سبيل الاستبعاد، فكيفَ دعا ربَّه وهو يعلمُ يقيناً أنَّه يُعطيه وأنَّه يرزقُ من يشاءُ بغيرِ حسابٍ، وأنَّه يعطي فاكهةَ الصيفِ في الشتاءِ، وأنَّه يرزقُ مريمَ التي لا حيلةَ ولا قوةَ ولا تدبيرَ ولا يمكنُ إلا أن يكونَ تدبيرها من الله تعالى، وهو يثقُ في كلماتِ الله تعالى إذْ هو نبيٌّ لا يمكن أن يصلَ الحالُ بنا أن نَظنَّ فيه أنَّه قدْ تَشكَّكَ في قدرةِ الله تعالى، لا. وإنَّما هو للتعجُّبِ من سرعة استجابة الله تعالى له.
ثم يسأل هذا السؤال: أي ربِّ سيكون هذا الغلام من هذه المرأة العاقر ومني ! يعني هذه المرأة العاقر التي لا تستطيع أن تنجب وأنا الرجلَّ العجوز وقد بلغت من الكِبَرِ عتياً، يعني أشدّ الكِبَرِ وأَصْعَبَهُ وأَنْهَاهُ، مَا يَقْرُبُ به المرءُ من القبرِ، هل يكون ذلك مِنَّّا ونحن على هذا الحال؟ قال: نعم، قال: ? ((((( ((((((((( ((((( (((((( (((( (((((( ((((((( ? [مريم:9].
وهذه الآية الأولى وهي قوله سبحانه وتعالى: ? ((((( ((((( (((((( ((((((( ((( ((((((( ((((((((( ((((((((((( (((((((( (((((( (((((((( (((( (((((((((( ((((((( ?.(1/28)
وفيها كذلك تضمينُ الشكر لله تعالى؛ وانظر إلى هذا المعنى الجميل، يقول له: سَتُعْطِيني على الكِبَرِ وعلى العُقْرِ الذي فيه امرأتي والذي لا يمكن أن يصلَ المرءُ فيه إلى أن يُنجبَ أو أن تكون له ذريةٌ، إنني أَشْكُرُكَ على ذلك، هذا هو المعنى الجميل الثاني الذي يليق بالأنبياء، كأنَّه يقول: على الكِبَرِ وعلى هذا السنِّ تُعْطِيني ولداً.. شكراً لك يا إلهي، حمداً لك شكراً لك.
وشُكْرُهُم معلومٌ من حسنِ الثناءِ على الله تعالى، وتصريف هذه النِّعَمِ في مَرْضَاةِ الربِّ جلَّ وعلا، وأن يكون القلبُ كذلك على هذا المعنى من شكر الله تعالى .
إذن فهذه الآية للتعجب من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى بسؤاله عن الكيفية، كيف يكون ذلك منها! هذه المرأةُ العاقرُ يمكن أن تنجبَ؟ ثم تتضمن بعد ذلك الشكر له سبحانه.
ويشكره في ضمن هذا الكلام أنَّه على هذه الحالةِ التي لا يمكن أن ينجب فيها جاءته الملائكةُ فبشرته بالإنجاب، وخاطبَهُ ربُّه بالإنجابِ في ذلك، وبتلك الموهبةِ التي لا يمكنُ أن تُوهَبَ بهذه الأسباب من معتاد البشرِ من تَرَتُّبِ المسبب على السبب.(1/29)
? ((((( ((((((((( ((((( (((((( (((( (((((( ((((((( (((((( (((((((((( ((( (((((( (((((( (((( ((((((( ? [مريم:8-9] والمؤمنون يعلمون أنَّ كل شيءٍ هينٌ على الله، ومع ذلك كُلُّهم - إلا من رحم الله تعالى -يقول: كيف؟ ومتى؟ وقد طال الأمر، ولا استطيع، ولا يمكن، ولم يحدث، وكيف يحدث؟ كلُّ ذلك مُنْتَفٍ في حقِّ الله تعالى لِقوتِه وقُدرتِه وإحاطة علمه كائناً ما كانت المصاعبُ في الدنيا، كائناً ما تكاثر الكَفَرَةُ على المسلمين، كائنا ما تكاثرَ أهلُ الشركِ والطغيانِ على أهلِ الإيمان، وظنَّ النَّاس أنَّ الدنيا قد اسْوَدَّتْ، وليس ثَمَّ فرجٌ، وليس ثَمَّ مَخْرَجُ، وليس ثَمَّ ضوء ٌ ينظرون منه إلى فرجٍ قريبٍ، مازالوا يثقون في قوةِ اللهِ تعالى وقدرتِه وأنَّه جلَّ وعلا ليس شيءٌ عليه كبيراً، وأنَّ كلَّ شيءٍ عليه هينٌ ? (((((((( (((((((((( (((((( ((((((( ((((((( ((( ((((((( ((((( ((( ((((((((( ? [يس:82] فيرتفعُ عنهم حينئذٍ الإحباطُ وما هم فيه من يأسٍ وضجرٍ ومللٍ مِن أنفسِهم ومما نزلَ بهم، إذا ضاقتْ عليه نفسه كذلك بأنَّه لا يستطيعُ عبادةً ولا صوماً ولا صلاةً ولا قياماً وفقد الأملَ في أن يكون امرأً صالحاً يسيرُ إلى الله تعالى مستقيماً إليه غير مُعْوَجٍ ولا مُتَقَهْقِر إذا بأملِه في الله تعالى وقُدرَةِ اللهِ وقوةِ اللهِ تُنْقِذُهُ وتَنْتَشِلُه مما هو فيه من الأوهامِ والبُعدِ وعدمِ الثِّقَةِ في ربِّه، تَنْتَشِلُهُ ممَّا هُو فِيه ممَّا لا يمكن إِلا أن يكونَ إلا بيدِ اللهِ تعالى، وقد أحاطتْ كذلك بالمؤمنين قوى الغدرِ وقوى الظلمِ وقوى الكفرِ وقوى الشركِ، كلُّ ذلك جعلَ الدنيا تضيقُ عليهم، وتَسْوَدُّ في وجوهِهِم، وأنَّهم لا يجدون لها مخرجاً، إذا بِمَخْرَجِ اللهِ مِن حيثُ لا يحتسبون، وإذا بقوةِ الله -كما ذكر المولى سبحانه وتعالى- من حيث لا يُقدِّرون ومن حيث لا يتخيلون ولا يتوهَّمون فإن هُم أصلحوا واستجابوا(1/30)
لربِّهم وأحسنوا التَّوَكُّلَ عليه، وأحسنوا الإقبالَ عليه، ووقفوا له متضرعين خاشعين يصفون حالَهم الذي يستحقُّ الرحمةَ بفضلِه وعنايتِه وكرمِه جلَّ وعلا أكرمهم ورحمهم.
? ((((( ((((((((( ((((( (((((( (((( (((((( ((((((( (((((( (((((((((( ((( (((((( (((((( (((( ((((((( ((( ((((( ((((( ((((((( ((((( ((((((( ? [مريم:9-10]. وتفسير الكلام الذي نحن فيه جاءَ في سورةِ الأنبياءِ حيثُ قال: ? (((((((((((( (((( ((((((( ((((((( ((((( (( ((((((((( ((((((( ((((((( (((((( (((((((((((((( (((( ((((((((((((((( ((((( ((((((((((( ((((( (((((((( ((((((((((((( ((((( (((((((((( ? [الأنبياء:89-90]. وانظر إلى السَّبَبِ الذي استُجِيبَ له حتى يتحقَّقَ المؤمنون به اليومَ، والذي كان فيه النبي ? في الدرجة العليا ? (((((((( (((((((( (((((((((((( ((( ((((((((((((( (((((((((((((( ((((((( ((((((((( ( (((((((((( ((((( (((((((((( ? [الأنبياء:90] وهذه الأسبابُ التي أدَّتْ إلى استجابةِ الله لهم لها قصَّةٌ أخرى طويلة ينبغي أن يَفْهَمَهَا المؤمنون لعلنا نشرعَ في شرحِهَا إذا شاء الله تعالى.(1/31)
? (((((((( (((((((( (((((((((((( ((( ((((((((((((( ? لما قال: ? (((((((((((( ? يعني واذكرْ زكريا إذ نادى ربَّه قائلاً: ? ((((( (( ((((((((( ((((((( ((((((( (((((( (((((((((((((( (((( ((((((((((((((( ((((( ((((((((((( ((((( (((((((( ((((((((((((( ((((( (((((((((( ((((((( ? أي هؤلاء الأنبياء على أحد التفسيرين ? ((((((((( (((((((((((( ((( ((((((((((((( (((((((((((((( ((((((( ((((((((( ( (((((((((( ((((( (((((((((( ? فلمَّا كانوا مسارِعِين في الخيراتِ ويدْعُونَ ربَّهم رَغَباً ورَهَباً وتحقَّقَ فيهِمُ الخشوعُ للهِ كانتْ استجابةُ اللهِ تعالى لهم أسرعَ شيءٍ يمكنْ أن يُصيِبَهُم وَيَنْزِلَ عليهِم، حتى يتعلم المؤمنون كيف يقبلونَ على ربِّهم؟ وكيف يأخذون في السير إلى الله تعالى، ويفتتحون صفحةً جديدةً مع ربِّهم جلَّ وعلا يَكْتُبُونَ فيها تَوَكُّلَهم وتَضَرُّعَهُم وخُشُوعَهم ومُسَارَعَتِهِم إلى الخيرِ علَّ الله جلَّ وعلا أن يفتحَ عليهم في دِينِهم وَدُنْيَاهُم وأن يرفعَ عنهُم وعن المسلمين ما حلَّ بهم، وألا يَتَخَاذَلُوا عن سلوكِ هذا الطَريقِ، تلك مسئوليتَهم الملقاةُ على عَاتِقِهِم، والتي لا ينبغي أن يتخلفوا عنها أبداً، إذ هم مسئولون عنها في الدنيا والآخرة بسبَبِ ما نحن فيه، وبسببِ مَوْقِفِهِم أمامَ اللهِ تعالى يومَ يقومٌ الأشهادُ.
ونختم بقوله تعالى فى سورة آل عمران: ( ((((( ((((( ((((((( ((((( ((((((( ( ((((( ((((((((( (((( ((((((((( (((((((( ((((((((( ((((((( (((( ((((((( ( ((((((((( (((((( (((((((( ((((((((( ((((((((((((( ((((((((((((( (((( ( ..(1/32)
ونقف عند قوله: ( ((((((((( (((((( (((((((( ((((((((( ((((((((((((( ((((((((((((( (، ومعناها أن الله قد استجاب لك ووهبك على ما كان منك، وأكرمك، ورفع قدرك، لا تنس أن تشكره، لكى يثبت عليك النعم، ويزيدك منها، ولا تترك شكره، لكى يثبت عليك النعم، ويزيدك منها، ولا تترك شكره فتسلب تلك النعم، وتحرم تلك المنن. وزكريا ( لاشك يعلم شكره ربه على نعمه، ولكن الله تعالى لم يترك ذلك لزكريا ( ، بل أمره به، موعظةً لغيره، وعهداً لأهل الإيمان حتى يكونوا على ذكر من ذلك فلا ينسوه، وهو باب فقدناه من أبواب الطاعة، إذ لا يشعر المرء بنعم ربه، فضلاً عن أن يحصيها ليشكرها.
وهو سبب خطير لحرمان النعم.. ( ((((( (((((((((( (((((((((((( ( ((((((( (((((((((( (((( (((((((( ((((((((( (، وقال: ( ((((((((((((( ((( (((( ((((((((((( ( .
وفى نفس الوقت بين الله جل جلاله طريقاً للشكر عظيماً، وهو كثرة الذكر وكثرة الصلاة، وهاتان بالذات فى مقدور كل أحد، لئلا يتعلل أحد بترك الشكر أو استثقاله، وكذلك ليسلك طريقاً سهلاً يستجلب به رحمة الله ونعمه، وليحل به مشاكله كافة فى دينه ودنياه. وقد أعلمنا أن نعمه تجل عن التعداد، وتصعب على الحصر.. ( ((((( ((((((((( (((((((( (((( (( ((((((((((( (، فما بالك بما نحن مطالبون به إذن من ذكر وصلاة فقط لشكر شىء من هذه النعم، فاللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
(((
(1) رواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الفضائل برقم 5749 .
(2) رواه الترمذي في الدعوات باب 132 رقم 3922 وقال حديث حسن صحيح ، وفي مسند الإمام أحمد في مسند أبي سعيد الخدري 11432، ومعاذ بن أنس 16015.
(3) إشارة إلى حديث الإمام البخاري في قصة اغتسال سيدنا أيوب ? .
(4) حصوراً: يعني لم يعط كذلك أحدٌ من الأنبياء ذلك قبله ،أن يكون حصوراً على النساء توفيراً لوقته وجهده لعبادة الله سبحانه وتعالى .
(5) سبق تخريجه .
??
??
??
??(1/33)
يا زكريا إنا نبشرك بغلام
يا زكريا إنا نبشرك بغلام(1/34)