يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
نداءُ اللهِ تعالَى للمؤمِنينَ
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام وعلى سيد الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد خاطب عباده المؤمنين بأفضل صفة يحبها تعالى ، ويحبها عباده ، وهي قوله تعالى( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ)
وقد وردت في تسعة وثمانين موضعاً في القرآن الكريم ، وهي تتضمن أحكاماً شرعية شتى ، منها ما يتعلق بالعقيدة ، حيث أمر بها كالولاء والبراء ، وحذر من الشرك ، ومن الرياء ، ومن النفاق .
ومنها ما يتعلق بالعبادات ، ومنها ما يتعلق بالحلال والحرام ، والأحكام العملية ، ففي هذه الآيات بناء متين للمجتمع المسلم ، وحماية له من السقوط والتردي .
وقد قمت بجمعها ، ووضعت لها عناوين مناسبة ، وقمت بشرحها بشكل مختصر ، بما يبين معناها ، ويوضح مرماها .
سائلا المولى سبحانه وتعالى أن يجعل فيها زاداً لنا في الدارين ، قال تعالى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) } [الزمر/23، 24]
جمعه وأعده
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
20 ربيع الأول 1429 هـ الموافق 28/3/2008م
- - - - - - - - - - - - - - -
1.
النهي عن قول راعنا(1/1)
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) } سورة البقرة
كَانَ الأنْصَارُ يَقُولُونَ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم حِينَمَا يَتْلُو عَلَيهِمِ الوَحْيَ : رَاعِنَا ( أيْ تَمَهَّلْ عَلَينا في التّلاوَةِ حَتّى نَعِيَ مَا تَقْرَؤُهُ عَلَينا ) . وَكَانَ اليَهُودُ يَسْتَعْمِلُونَ هذا التَّعْبيرَ في مَخَاطَبتِهِمْ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ يَتَظَاهَرُونَ بِأَنَّهُمْ يَريدُونَ أنْ يَقُولُوا لَهُ : ( ارْعِنَا سَمْعَكَ ) .
وَلكِنَّهُمْ كَانُوا يُمِيلُونَ الكَلِمَاتِ بَعْضَ الشَّيءِ ، وَيُورُونَ بِهَا عَنِ الرُّعُونَةِ . ( وَرَاعِينُو فِي العِبْرِيَّةِ مَعْنَاهَا شِرِّيرٌ ) . فَنَبَّهَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ وَالمُؤمِنينَ إلى ذَلِكَ ، وَنَهَاهُمْ عَنِ اسْتِعْمَالِ هذِِهِ الكَلِمَةِ في مُخَاطَبَةِ الرَّسُولِ . وَأمَرَهُمْ بِأنْ يَسْتَعْمِلُوا بَدَلاً مِنْ كَلِمَةِ ( رَاعِنَا ) ، كَلِمَةَ ( انْظُرْنا ) .
وَيَتَوَعَّدُ اللهُ تَعَالَى اليَهُودَ الكَافِرينَ بِالعَذَابِ الأليمِ الذِي أعَدَّهُ لَهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ ، وِسُوءِ أدَبِهِمْ بِحَقِّ الرَّسُولِ الكَرِيمِ .(1/2)
إِنَّ الذِينَ عَرَفْتُمْ حَالَهُمْ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ ، هَمْ حَسَدَةٌ لَكُمْ لاَ يُرِيدُوُنَ أَنْ يصِيبَكُمْ خَيْرٌ مِنْ رَبِكُمْ ، وَلاَ أَنْ يَتَرَسَّخْ دِينُكُمْ ، وِلاَ أَنْ تَتَثَبَّتَ أَرْكَانُهُ ، وَالمُشْرِكُونَ مِثْلُ أَهْلِ الكِتَابِ فِي كُرْهِهِمْ لَكُمْ ، وَحَسَدِهِمْ إِيَّاكُمْ ، وَتَمَنِّيِهِمْ أَنْ تَدُورَ عَلَى المُسْلِمِينَ الدًّوائِرُ ، وَأَنْ يَنْتَهِي أَمْرُ الإِسْلاَمِ وَالمُسْلِمِينَ . وَحَسَدُ الحَاسِدِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَاخِطٌ عَلَى رَبِّهِ ، مُعْتَرِضٌ عَلَى حُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ ، لأَنَّهُ أَنْعَمَ عَلَى المَحْسُودِ بِمَا أَنْعََمَ ، وَاللهُ لاَ يُضِيرُهُ سَخَطُ السَّاخِطِينَ ، وَلاَ يُحوِّلُ مَجَارَي نِعْمَتِهِ حَسَدُ الحَاسِدِينَ ، فَهُوَ يَخْتَصُّ مَنْ يَشَاءُ بِرَحْمَتِهِ وَهُوَ صَاحِبُ الفَضْلِ العَظِيمِ عَلَى مَنِ اخْتَارَهُ لِلنُّبُوَّةِ ، وَهُوَ صَاحِبُ الإِحْسَانِ وَالمِنَّةِ عَلَى عِبَادِهِ .
قال الفخر : " اعلم أن الله تعالى خاطب المؤمنين بقوله " يا أيها الذين آمنوا " في ثمانية وثمانين موضعاً من القرآن .
قال ابن عباس رضي الله عنه - وكان يخاطب في التوراة بقوله " يا أيها المساكين " فكأنه سبحانه وتعالى لما خاطبهم أولاً بالمساكين أثبت المسكنة لهم آخراً حيث قال " وضربت عليهم الذلة والمسكنة " [البقرة :61] وهذا يدل على أن الله تعالى - لما خاطب هذه الأمة بالإيمان أولاً ، فإنه تعالى يعطيهم الأمان من العذاب في النيران يوم القيامة ، وأيضاً فاسم المؤمن من أشرف الأسماء والصفات ، فإذا كان يخاطبنا في الدنيا بأشرف الأسماء ، فنرجو من فضله أن يعاملنا في الآخرة بأحسن المعاملات. "واسمعوا" فحصول السماع عند سلامة الحواس أمر ضروري خارج عن قدرة البشر ، فلا يجوز وقوع الأمر به ، فإذن المراد به أحد أمور ثلاثة :(1/3)
أحدها : فرغوا أسماعكم لما يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة .
وثانيها : اسمعوا سماع قبول وطاعة ، ولا يكن سماعكم سماع اليهود حيث قالوا سمعنا وعصينا .
وثالثها : اسمعوا ما أمرتم به حتى لا ترجعوا إلى ما نهيتم عنه تأكيداً عليهم . أ هـ
----------
فقد كانوا يخشون أن يشتموا النبي - صلى الله عليه وسلم - مواجهة ، فيحتالون على سبه - صلوات الله وسلامه عليه - عن هذا الطريق الملتوي ، الذي لا يسلكه إلا صغار السفهاء! ومن ثم جاء النهي للمؤمنين عن اللفظ الذي يتخذه اليهود ذريعة ، وأمروا أن يستبدلوا به مرادفه في المعنى ، الذي لا يملك السفهاء تحريفه وإمالته . كي يفوتوا على اليهود غرضهم الصغير السفيه!
واستخدام مثل هذه الوسيلة من اليهود يشي بمدى غيظهم وحقدهم ، كما يشي بسوء الأدب ، وخسة الوسيلة ، وانحطاط السلوك . والنهي الوارد بهذه المناسبة يوحي برعاية الله لنبيه وللجماعة المسلمة ، ودفاعه - سبحانه - عن أوليائه ، بإزاء كل كيد وكل قصد شرير من أعدائهم الماكرين .
ثم يكشف للمسلمين عما تكنه لهم صدور اليهود حولهم من الشر والعداء ، وعما تنغل به قلوبهم من الحقد والحسد ، بسبب ما اختصهم به الله من الفضل . ليحذروا أعداءهم ، ويستمسكوا بما يحسدهم هؤلاء الأعداء عليه من الإيمان ، ويشكروا فضل الله عليهم ويحفظوه : { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم . والله يختص برحمته من يشاء . والله ذو الفضل العظيم } . .(1/4)
ويجمع القرآن بين أهل الكتاب والمشركين في الكفر . . وكلاهما كافر بالرسالة الأخيرة فهما على قدم سواء من هذه الناحية؛ وكلاهما يضمر للمؤمنين الحقد والضغن ، ولا يود لهم الخير . وأعظم ما يكرهونه للمؤمنين هو هذا الدين . هو أن يختارهم الله لهذا الخير وينزل عليهم هذا القرآن ، ويحبوهم بهذه النعمة ، ويعهد إليهم بأمانة العقيدة في الأرض ، وهي الأمانة الكبرى في الوجود .
ولقد سبق الحديث عن حقدهم وغيظهم من أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ، حتى لقد بلغ بهم الغيظ أن يعلنوا عداءهم لجبريل - عليه السلام - إذ كان ينزل بالوحي على الرسول - صلى الله عليه وسلم - : { والله يختص برحمته من يشاء } . .
فالله أعلم حيث يجعل رسالته؛ فإذا اختص بها محمداً - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين به ، فقد علم - سبحانه - أنه وأنهم أهل لهذا الاختصاص .
{ والله ذو الفضل العظيم } . .
وليس أعظم من نعمة النبوة والرسالة؛ وليس أعظم من نعمة الإيمان والدعوة إليه . وفي هذا التلميح ما يستجيش في قلوب الذين آمنوا الشعور بضخامة العطاء وجزالة الفضل ، وفي التقرير الذي سبقه عما يضمره الذين كفروا للذين آمنوا ما يستجيش الشعور بالحذر والحرص الشديد . . وهذا الشعور وذاك ضروريان للوقوف في وجه حملة البلبلة والتشكيك التي قادها - ويقودها - اليهود ، لتوهين العقيدة في نفوس المؤمنين ، وهي الخير الضخم الذي ينفسونه على المسلمين!
- - - - - - - - - - - -
2.
الاستعانة بالصبر والصلاة(1/5)
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) } سورة البقرة
يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ أَنَّ خَيْرَ مَا يَسْتَعِينَُونَ بِهِ عَلَى إِقَامَةِ دِينِهِمْ ، وَالدِّفَاعَ عَنْهُ ، وَعَلَى سَائِرِ مَا يَشُقُّ عَلَيهِمْ مِنْ مَصَائِبِ الحَيَاةِ هُوَ التَّحَلِّي بِالصَّبْرِ ، وَتَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى احتِمَالِ المَكَارِهِ ، وَأَدَاءِ الصَّلاَةِ وَإِقَامَتِهَا حَقَّ إِقَامَتِهَا . فَالصَّبْرِ أَشَدُّ الأَعْمَالِ البَاطِنَةِ عَلَى النَّفْسِ ، وَالصَّلاَةُ أَشَدُّ الأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ عََلَى البَدَنِ ، وَاللهُ نَاصِرُ الصَّابِرِينَ ، وَمُجِيبٌ لِدُعَائِهِمْ .
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنينَ بِفَضْلِ الشَّهَادَةِ وَيَقُولُ لَهُمْ : إِنَّ الشُهَدَاء الذِينَ يُقْتَلُونَ فِي سَبيلِ اللهِ هُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ بِغَيرِ حِسَابٍ ، وَلكِنَّ الأَحيَاءَ لاَ يَشْعُرُونَ بِذلِكَ ، لأَنَّ حَيَاتَهُمْ لَيْسَتْ فِي عَالَمِ الحِسِّ الذِي يُدْرَكُ بِالمَشَاعِرِ .(1/6)
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنينَ بِأَنَّهُ سَيَبْلُوهُمْ وَيَخْتَبِرُهُمْ بِقَليلٍ ( بِشَيءٍ ) مِنْ الخَوْفِ والجُوعِ ، وَبِذَهَابِ بَعْضِ المَالِ ، وَبِمَوتِ بَعْضِ الأَصْحَابِ وَالأَقَارِبِ وَالأَحْبَابِ ، وَبِنَقْصِ غِلاَلِ المَزَارِعِ . . . فَمَنْ صَبَرَ عَلَى قَضَاءِ اللهِ وَحُكْمِهِ أَثَابَهُ ، وَمَنْ قَنَطَ وَلَجَّ أَحَلَّ بِهِ عِقَابَهُ .
وَيُبَشِّرُ اللهُ الصَّابِرِينَ بِحُسْنِ العَاقِبَةِ فِي أُمُورِهِمْ .
أّمَّا الصَّابِرُونَ الذِينَ خَصَّهُمُ اللهُ بِالبُشْرَى فَهُمُ الذِينَ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ الخَيْرَ وَالشَّرَّ مِنَ اللهِ ، وَإِذَا نَزَلَتْ بِهِمْ مُصِيبَةٌ صَبَرُوا ، وَتَمَسَّكُوا بِقَولِهِمْ : إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِليهِ رَاجِعُونَ ، أَيْ إِنَّهُم عَبيدُ اللهِ وَمُلْكُهُ ، وَإِنَّهُمْ رَاجِعُونَ إِليهِ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ . وَفي الحَدِيثِ : " مَنِ استَرجَعَ عِنْدَ المُصِيبَةِ جَبَرَ اللهُ مُصِيبَتَهُ ، وَأَحْسَنَ عَاقِبَتَهُ ، وَجَعَلَ لَهُ خَلَفاً صَالِحاً يَرْضَاهُ " ( أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ) .
يُثنِي اللهُ جَلَّ شَأْنُهُ عَلَى هَؤُلاءِ الصَّابِرِينَ ، وَيُخْبِرُ بَأَنَّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ، وَأَنَّهُمْ يَجِدُونَ أَثَرَهَا فِي بَرْدِ قُلُوبِهِمْ عِنْدَ نُزُولِ المُصِيبَةِ ، وَأَنَّهُمْ هُمُ المُهْتَدُونَ إِلى طَريقِ الخَيْرِ ، وَإِلى الحَقِّ والصَّوابِ ، وَأَنَّهُمُ اسْتَسْلَمُوا لِقَضَاءِ اللهِ فَلَمْ يَسْتَحْوِذِ الجَزَعُ عَلَيهِمْ .(1/7)
يتكرر ذكر الصبر في القرآن كثيراً؛ ذلك أن الله سبحانه يعلم ضخامة الجهد الذي تقتضيه الاستقامة على الطريق بين شتى النوازع والدوافع؛ والذي يقتضيه القيام على دعوة الله في الأرض بين شتى الصراعات والعقبات؛ والذي يتطلب أن تبقى النفس مشدودة الأعصاب ، مجندة القوى ، يقظة للمداخل والمخارج . . ولا بد من الصبر في هذا كله . . لا بد من الصبر على الطاعات ، والصبر عن المعاصي ، والصبر على جهاد المشاقين لله ، والصبر على الكيد بشتى صنوفه ، والصبر على بطء النصر ، والصبر على بعد الشقة ، والصبر على انتفاش الباطل ، والصبر على قلة الناصر ، والصبر على طول الطريق الشائك ، والصبر على التواء النفوس ، وضلال القلوب ، وثقلة العناد ، ومضاضة الإعراض . .
وحين يطول الأمد ، ويشق الجهد ، قد يضعف الصبر ، أو ينفد ، إذا لم يكن هناك زاد ومدد . ومن ثم يقرن الصلاة إلى الصبر؛ فهي المعين الذي لا ينضب ، والزاد الذي لا ينفد . المعين الذي يجدد الطاقة ، والزاد الذي يزود القلب ، فيمتد حبل الصبر ولا ينقطع . ثم يضيف إلى الصبر ، الرضى والبشاشة ، والطمأنينة ، والثقة ، واليقين.
إنه لا بد للإنسان الفاني الضعيف المحدود أن يتصل بالقوة الكبرى ، يستمد منها العون حين يتجاوز الجهد قواه المحدودة . حينما تواجهه قوى الشر الباطنة والظاهرة . حينما يثقل عليه جهد الاستقامة على الطريق بين دفع الشهوات وإغراء المطامع ، وحينما تثقل عليه مجاهدة الطغيان والفساد وهي عنيفة . حينما يطول به الطريق وتبعد به الشقة في عمره المحدود ، ثم ينظر فإذا هو لم يبلغ شيئاً وقد أوشك المغيب ، ولم ينل شيئاً وشمس العمر تميل للغروب . حينما يجد الشر نافشاً والخير ضاوياً ولا شعاع في الأفق ولا معلم في الطريق . .(1/8)
هنا تبدو قيمة الصلاة . . إنها الصلة المباشرة بين الإنسان الفاني والقوة الباقية . إنها الموعد المختار لالتقاء القطرة المنعزلة بالنبع الذي لا يغيض . إنها مفتاح الكنز الذي يغني ويقني ويفيض .
إنها الانطلاقة من حدود الواقع الأرضي الصغير إلى مجال الواقع الكوني الكبير . إنها الروح والندى والظلال في الهاجرة ، إنها اللمسة الحانية للقلب المتعب المكدود . . ومن هنا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان في الشدة قال : « أرحنا بها يا بلال » ويكثر من الصلاة إذا حزبه أمر ليكثر من اللقاء بالله .
إن هذا المنهج الإسلامي منهج عبادة . والعبادة فيه ذات أسرار . ومن أسرارها أنها زاد الطريق . وأنها مدد الروح . وأنها جلاء القلب . وأنه حيثما كان تكليف كانت العبادة هي مفتاح القلب لتذوق هذا التكليف في حلاوة وبشاشة ويسر . . إن الله سبحانه حينما انتدب محمداً - صلى الله عليه وسلم - للدور الكبير الشاق الثقيل ، قال له : { يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً . نصفه أو انقص منه قليلاً . أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً . . إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً } فكان الإعداد للقول الثقيل ، والتكليف الشاق ، والدور العظيم هو قيام الليل وترتيل القرآن . . إنها العبادة التي تفتح القلب ، وتوثق الصلة ، وتيسر الأمر ، وتشرق بالنور ، وتفيض بالعزاء والسلوى والراحة والاطمئنان .
ومن ثم يوجه الله المؤمنين هنا وهم على أبواب المشقات العظام . . إلى الصبر وإلى الصلاة . .
ثم يجيء التعقيب بعد هذا التوجيه : { إن الله مع الصابرين } . .(1/9)
معهم ، يؤيدهم ، ويثبتهم ، ويقويهم ، ويؤنسهم ، ولا يدعهم يقطعون الطريق وحدهم ، ولا يتركهم لطاقتهم المحدودة ، وقوتهم الضعيفة ، إنما يمدهم حين ينفد زادهم ، ويجدد عزيمتهم حين تطول بهم الطريق . . وهو يناديهم في أول الآية ذلك النداء الحبيب : { يا أيها الذين آمنوا } . . ويختم النداء بذلك التشجيع العجيب : { إن الله مع الصابرين } .
والأحاديث في الصبر كثيرة نذكر بعضها لمناسبته للسياق القرآني هنا في إعداد الجماعة المسلمة لحمل عبئها والقيام بدورها :
عن خباب بن الأرثّ - رضي الله عنه - « قال شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة في ظل الكعبة . فقلنا : ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض ، فيجعل فيها ، ثم يؤتى بالمنشار ، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ، ما يصده ذلك عن دينه . . والله ليتمن الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت فلا يخاف إلا الله ، والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون » . وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : « كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكي نبياً من الأنبياء عليهم السلام ، ضربه قومه فأدموه ، وهو يمسح الدم عن وجهه ، وهو يقول : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون » وعن يحيى بن وثاب ، عن شيخ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم » والآن والجماعة المسلمة في المدينة مقبلة على جهاد شاق لإقرار منهج الله في الأرض ، ولأداء دورها المقسوم لها في قدر الله ، ولتسلم الراية والسير بها في الطريق الشاق الطويل . .
- - - - - - - - - - - -
3.
الأكل من الطيبات(1/10)
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) } سورة البقرة
كَانَ المُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الكِتَابِ قَبْلَ الإِسْلامِ فِرَقاً وَأَصْنَافا : فَمِنْهُمْ مَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ أَْشْياءَ كَالبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ عِنْدَ العَرَبِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَرَّمَ بَعْضَ الحَيَوانِ ، وَكَانَ الشَّائِعُ عِنْدَ النَّصَارَى الافْتِتَانُ فِي حِرْمَانِ النَّفسِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ، فَقَدْ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ اللَّحْمَ وَالسَّمْنَ فِي بَعْضِ أنوَاع صَوْمِهِمْ ، وَحَرَّمُوا السَّمَكَ وَالَّلبَنَ وَالبَيْضَ فِي بَعْضِهَا الآخَرِ.
وَهذِهِ الأَحْكَامُ وَضَعَهَا الرُّؤَسَاءُ ، وَلا وُجُودَ لَهَا فِي التَّورَاةِ ، وَلا نُقِلَتْ عَنِ المَسِيحِ ، عَلَيهِ السَّلاَمُ . وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ التَّقَرُّبَ إِلى اللهِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِتَعْذِيبِ النَّفْسِ ، وَتَرْكِ حُظُوظِ الجَسَدِ ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ المُسْلِمِينَ أُمَّةً وَسَطاً تُعطِي الجَسَدَ حَقَّهُ ، وَالرُّوحَ حَقَّهَا . وَقَدْ أَبَاحَ اللهُ لِلْمُؤْمِنينَ الأَكْلَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ، وَحَثَّهُمْ عَلَى شُكْرِهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيهِمْ .(1/11)
إن الله ينادي الذين آمنوا بالصفة التي تربطهم به سبحانه ، وتوحي إليهم أن يتلقوا منه الشرائع؛ وأن يأخذوا عنه الحلال والحرام . ويذكرهم بما رزقهم فهو وحده الرازق ، ويبيح لهم الطيبات مما رزقهم؛ فيشعرهم أنه لم يمنع عنهم طيباً من الطيبات ، وأنه إذا حرم عليهم شيئاً فلأنه غير طيب ، لا لأنه يريد أن يحرمهم ويضيق عليهم - وهو الذي أفاض عليهم الرزق ابتداء - ويوجههم للشكر إن كانوا يريدون أن يعبدوه وحده بلا شريك . فيوحي إليهم بأن الشكر عبادة وطاعة يرضاها الله من العباد . . كل أولئك في آية واحدة قليلة الكلمات :{ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون } ..
ثم يبين لهم المحرمات من المآكل نصاً وتحديداً باستعمال أداة القصر { إنما } . .
{ إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله } . .
والميتة تأباها النفس السليمة وكذلك الدم . فضلاً على ما أثبته الطب - بعد فترة طويلة من تحريم القرآن والتوراة قبله بإذن الله - من تجمع الميكروبات والمواد الضارة في الميتة وفي الدم ، ولا ندري إن كان الطب الحديث قد استقصى ما فيهما من الأذى أم إن هناك أسباباً أخرى للتحريم لم يكشف عنها بعد للناس .(1/12)
فأما الخنزير فيجادل فيه الآن قوم . . والخنزير بذاته منفر للطبع النظيف القويم . . ومع هذا فقد حرمه الله منذ ذلك الأمد الطويل ليكشف علم الناس منذ قليل أن في لحمه ودمه وأمعائه دودة شديدة الخطورة ( الدودة الشريطية وبويضاتها المتكيسة ) . ويقول الآن قوم : إن وسائل الطهو الحديثة قد تقدمت ، فلم تعد هذه الديدان وبويضاتها مصدر خطر لأن إبادتها مضمونة بالحرارة العالية التي توافرها وسائل الطهو الحديثة . . وينسى هؤلاء الناس أن علمهم قد احتاج إلى قرون طويلة ليكشف آفة واحدة . فمن ذا الذي يجزم بأن ليس هناك آفات أخرى في لحم الخنزير لم يكشف بعد عنها؟ أفلا تستحق الشريعة التي سبقت هذا العلم البشري بعشرات القرون أن نثق بها ، وندع كلمة الفصل لها ، ونحرم ما حرمت ، ونحلل ما حللت ، وهي من لدن حكيم خبير!
أما ما أهل به لغير الله . أي ما توجه به صاحبه لغير الله . فهو محرم ، لا لعلة فيه ، ولكن للتوجه به لغير الله . محرم لعلة روحية تنافي صحة التصور ، وسلامة القلب ، وطهارة الروح ، وخلوص الضمير ، ووحدة المتجه . . فهو ملحق بالنجاسة المادية والقذارة الحقيقية على هذا المعنى المشترك للنجاسة . وهو ألصق بالعقيدة من سائر المحرمات قبله . وقد حرص الإسلام على أن يكون التوجه لله وحده بلا شريك
ومن هنا تتجلى علاقة التحليل والتحريم في هذه الآيات ، بالحديث عن وحدانية الله ورحمته كذلك في الآيات السابقة . فالصلة قوية ومباشرة بين الاعتقاد في إله واحد ، وبين التلقي عن أمر الله في التحليل والتحريم . . وفي سائر أمور التشريع . .
ومع هذا فالإسلام يحسب حساب الضرورات ، فيبيح فيها المحظورات ، ويحل فيها المحرمات بقدر ما تنتفي هذه الضرورات ، بغير تجاوز لها ولا تعد لحدودها : { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه . إن الله غفور رحيم } . .(1/13)
وهو مبدأ عام ينصب هنا على هذه المحرمات . ولكنه بإطلاقه يصح أن يتناول سواها في سائر المقامات . فأيما ضرورة ملجئة يخشى منها على الحياة ، فلصاحبها أن يتفادى هذا الحرج بتناول المحظور في الحدود التي تدفع هذه الضرورة ولا زيادة . على أن هناك خلافاً فقهياً حول مواضع الضرورة . . هل فيها قياس؟ أم هي الضرورات التي نص عليها الله بأعيانها .
- - - - - - - - - - - - -
4.
وجوب القصاص في القتلى
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) }سورة البقرة(1/14)
يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ قَدْ فَرَضَ ( كَتَبَ ) عَلَيْهِمُ العّدْلَ وَالمُسَاوَاةِ فِي القِصَاصِ ، فَالحُرُّ يُقْتَلُ بِالحُرِّ ، إِذا كَانَ القّتْلُ عَمْداً ، وَالعَبْدُ يُقْتَلُ بِالعَبْدِ ، وَالأُنْثَى تُقْتَلُ بِالأُنْثَى ( وَقَدْ جَرَى العَمَلُ مِنْ لَدُنِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَتْلِ الرَّجُلِ بِالمَرْأَةِ ، وَالحُرِّ بِالعَبْدِ إِنْ لَمْ يَكُنِ القَاتِلُ سَيِّدَ العَبْدِ ، فَإِذا كَانَ سَيِّدَهُ عُزِّرَ بِشِدَّةٍ ) ، وَأَمَرَهُمُ اللهُ بِأَلاَّ يَعْتَدُوا وَلا يَتَجَاوَزُوا ، كَمَا اعْتَدَى اليَهُودُ مِنْ قَبْلِهِمْ ، وَغَيَّرُوا حُكْمَ اللهِ ، فَكَانَتْ قَبِيلَةُ بَنِي قُرَيْظَة ضَعْيفةً ، وَقَبِيلَةَ بَنِي النَّضِيرِ قَوِيَّةً ، فَكَانًوا إِذَا قَتِلَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ أَحَداً مَنْ بَنِي قُرَيْظَةَ لَمْ يَكُنْ يُقْتَلُ بِهِ بَلْ يُفَادَى ، وَإِذَا قَتَلَ القُرَظِيُّ نَضِيرِيّاً كَانَ يُقْتَلُ بِهِ ، وَإِذَا فَادَوْهُ كَانَ يُفَادَى بِمِثْلَيْ مَا يُفَادَى بِهِ النَّضِيْرِيُّ .(1/15)
وَكَانَ حَيَّانِ مِنَ العَرَبِ قَدْ اقْتَتَلا فِي الجَاهِليَّةِ قُبَيْلَ الإِسْلامِ ، فَكَانَ بَيْنَهُمْ قَتْلَى وَجِرَاحَاتٌ حَتَّى قَتَلُوا العَبيدَ والنِّسَاءَ ، فَكَانَ أَحَدُ الحَيَّينِ لاَ يَرْضَى حَتَّى يَقْتُلَ بِالعَبْدِ مِنهُ الحُرَّ مِنْ خُصُومِهِ ، وَبِالمَرْأَةِ مِنْهُ الرَّجلَ . وَكَانَ هؤُلاءِ لاَ يَقْتُلونَ الرَّجُلَ الذِي يَقْتُلُ المَرْأَةَ عَمْداً ، وَلكِنْ كَانُوا يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ بِالرَّجُلِ ، وَالمَرْأَةَ بِالمَرْأَةِ ، فَأَنْزَلَ اللهُ : النَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالعَيْنُ بِالعَيْنِ مُبْطِلاً ذلِكَ التَّعَامُلَ ، فَإِذا قَبِلَ وَلِيُّ الدَّمِ أَنْ يَأَخُذَ الدِّيَةَ ، وَيُعْفُو عَنِ القَاتِلِ ، فَعَليهِ أَنْ يَتَّبعَ ذلِكَ بِالمَعْرُوفِ ، وَأَنْ يَطْلُبَ الدِّيَةَ بِرِفْقٍ ، وَأَنْ لاَ يُرْهِقَ القَاتِلَ مِنْ أَمْرِهِ عُسْراً . وَعَلَى القَاتِلِ أَنْ يُؤَدِّيَ المَطْلُوبَ مِنْهُ بإِحسَانٍ ، وَأَنْ لا يَمْطُلَ وَلاَ يَنْقُصَ ، وَلا يُسيء فِي كَيْفيَّةِ الأَدَاءِ .
وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى : أَنَّهُ شَرَعَ للناَّسِ أَخْذَ الدِّيَةِ فِي حَالَةِ القَتْلِ العَمْدِ تَخْفِيفاً مِنْهُ ، وَرَحْمَةً بِالمُسْلِمِينَ ، إِذْ كَانَ يَتَوَجَّبُ عَلَى الأُمَمِ السَّالِفَةِ القَتْلُ أَوِ العَفْوُ . وَإِذَا تَعَدَّدَ أَوْلِياءُ الدَّمِ وَعَفَا أَحَدُهُمْ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ ، وَسَقَطَ القِصَاصُ . . وَيَجُوزُ العَفْوُ فِي الدِّيَةِ أَيْضاً . ( وَقِيلَ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ مَفْرُوضاً عَلَيهِمُ القَتْلُ لاَ غَيْرَ ، وَأَهْلَ الإِنْجِيلِ أُمِرُوا بِالعَفْوِ ، وَلَيسَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مُقَابِلَ العَفْوِ دِيَةً ) .(1/16)
وَيُهَدِّدُ اللهُ تَعَالَى مَنْ يَعْتَدِي بِالقَتْلِ عَلَى القَاتِلِ - بَعْدَ العَفْوِ وَالرِّضَا بِالدِّيَةِ - بِالعَذَابِ الشَّدِيدِ مِنْ رَبِّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ .
فِي القِصَاصِ رَاحَةُ البَالِ ، وَصِيَانَةُ النَّاسِ مِنِ اعتِدَاءِ بَعْضِهمْ عَلَى بَعْضِهِم الآخَرِ ، لأَنَّ مَعْرِفَةَ النَّاسِ أَنَّ مَنْ قَتَلَ يُعَاقَبُ بِالقَتْلِ ، تَحْمِلُهُمْ عَلَى الارتِداعِ عَنِ القَتْلِ ، فَتُصَانُ حَيَاةُ النَّاسِ ، وَحَيَاةُ مَنْ يُفَكِّرُ بِالقَتْلِ . وَخَصَّ اللهُ تَعَالَى بِالنِّداءِ أَرْبَابَ العُقُولِ لِلدَّلاَلَةِ عَلَى أَنَّ الذِينَ يَفْهَمُونَ قِيمَةَ الحَيَاةِ ، وَيُحَافِظُونَ عَلَيهَا هُمُ العُقَلاَءُ . وَإِذا تَدَبَّرَ أُولًو الأَلبَابِ الحِكْمَةَ مِنْ شَرْعِ القِصَاصِ حَمَلَهُمْ ذلِكَ عَلَى اتِّقَاءِ الاعتِدَاءِ ، وَالكَفِّ عَنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ .
النداء للذين آمنوا . . بهذه الصفة التي تقتضي التلقي من الله ، الذي آمنوا به ، في تشريع القصاص .
وهو يناديهم لينبئهم أن الله فرض عليهم شريعة القصاص في القتلى ، بالتفصيل الذي جاء في الآية الأولى . وفي الآية الثانية يبين حكمة هذه الشريعة ، ويوقظ فيهم التعقل والتدبر لهذه الحكمة ، كما يستجيش في قلوبهم شعور التقوى؛ وهو صمام الأمن في مجال القتلى والقصاص .
وهذه الشريعة التي تبينها الآية : أنه عند القصاص للقتلى - في حالة العمد - بقتل الحر بالحر ، والعبد بالعبد ، والأنثى بالأنثى .
{ فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } . .
وهذا العفو يكون بقبول الدية من أولياء الدم بدلاً من قتل الجاني . ومتى قبل ولي الدم هذا ورضيه ، فيجب إذن أن يطلبه بالمعروف والرضى والمودة . ويجب على القاتل أو وليه أن يؤديه بإحسان وإجمال وإكمال . تحقيقاً لصفاء القلوب ، وشفاء لجراح النفوس ، وتقوية لأواصر الأخوة بين البقية الأحياء .(1/17)
وقد امتن الله على الذين آمنوا بشريعة الدية هذه بما فيها من تخفيف ورحمة :
{ ذلك تخفيف من ربكم ورحمة } . .
ولم يكن هذا التشريع مباحاً لبني إسرائيل في التوراة . إنما شرع للأمة المسلمة استبقاء للأرواح عند التراضي والصفاء .
{ فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } . .
وفوق العذاب الذي يتوعده به في الآخرة . . يتعين قتله ، ولا تقبل منه الدية . لأن الاعتداء بعد التراضي والقبول ، نكث للعهد ، وإهدار للتراضي ، وإثارة للشحناء بعد صفاء القلوب ، ومتى قبل ولي الدم الدية ، فلا يجوز له أن يعود فينتقم ويعتدي .
ومن ثم ندرك سعة آفاق الإسلام؛ وبصره بحوافز النفس البشرية عند التشريع لها؛ ومعرفته بما فطرت عليه من النوازع . . إن الغضب للدم فطرة وطبيعة . فالإسلام يلبيها بتقرير شريعة القصاص . فالعدل الجازم هو الذي يكسر شرة النفوس ، ويفثأ حنق الصدور ، ويردع الجاني كذلك عن التمادي ، ولكن الإسلام في الوقت ذاته يحبب في العفو ، ويفتح له الطريق ، ويرسم له الحدود ، فتكون الدعوة إليه بعد تقرير القصاص دعوة إلى التسامي في حدود التطوع ، لا فرضاً يكبت فطرة الإنسان ويحملها ما لا تطيق .
وتذكر بعض الروايات أن هذه الآية منسوخة . نسختها آية المائدة التي نزلت بعدها وجعلت النفس بالنفس إطلاقاً : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس . . الآية } . . قال ابن كثير في التفسير : وذكر في سبب نزولها ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم . حدثنا أبو زرعة . حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير . حدثني عبد الله بن لهيعة . حدثني عطاء بن دينار . عن سعيد بن جبير في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } - يعني إذا كان عمداً - الحر بالحر . . . وذلك أن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية - قبل الإسلام بقليل . فكان بينهم قتل وجراحات ، حتى قتلوا العبيد والنساء ، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا .(1/18)
فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال ، فحلفوا ألا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم ، والمرأة منا الرجل منهم . . فنزل فيهم : { الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } . . منسوخة نسختها : { النفس بالنفس } وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله : { النفس بالنفس } .
والذي يظهر لنا أن موضع هذه الآية غير موضع آية النفس بالنفس . . وأن لكل منهما مجالاً غير مجال الأخرى . وأن آية النفس بالنفس مجالها مجال الاعتداء الفردي من فرد معين ، على فرد معين أو من أفراد معينين على فرد أو أفراد معينين كذلك . فيؤخذ الجاني ما دام القتل عمداً . . فأما الآية التي نحن بصددها فمجالها مجال الاعتداء الجماعي - كحالة ذينك الحيين من العرب - حيث تعتدي أسرة على أسرة ، أو قبيلة على قبيلة ، أو جماعة على جماعة . فتصيب منها من الأحرار والعبيد والنساء . . فإذا أقيم ميزان القصاص كان الحر من هذه بالحر من تلك ، والعبد من هذه بالعبد من تلك ، والأنثى من هذه بالأنثى من تلك . وإلا فكيف يكون القصاص في مثل هذه الحالة التي يشترك فيها جماعة في الاعتداء على جماعة؟
وإذا صح هذا النظر لا يكون هناك نسخ لهذه الآية ، ولا تعارض في آيات القصاص.
ثم يكمل السياق الحديث عن فريضة القصاص بما يكشف عن حكمتها العميقة وأهدافها الأخيرة : { ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون } . .
إنه ليس الانتقام ، وليس إرواء الأحقاد . إنما هو أجل من ذلك وأعلى . إنه للحياة ، وفي سبيل الحياة ، بل هو في ذاته حياة . . ثم إنه للتعقل والتدبر في حكمة الفريضة ، ولاستحياء القلوب واستجاشتها لتقوى الله . .(1/19)
والحياة التي في القصاص تنبثق من كف الجناة عن الاعتداء ساعة الابتداء . فالذي يوقن أنه يدفع حياته ثمناً لحياة من يقتل . . جدير به أن يتروى ويفكر ويتردد . كما تنبثق من شفاء صدور أولياء الدم عند وقوع القتل بالفعل . شفائها من الحقد والرغبة في الثأر . الثأر الذي لم يكن يقف عند حد في القبائل العربية حتى لتدوم معاركه المتقطعة أربعين عاما كما في حرب البسوس المعروفة عندهم . وكما نرى نحن في واقع حياتنا اليوم ، حيث تسيل الحياة على مذابح الأحقاد العائلية جيلا بعد جيل ، ولا تكف عن المسيل . .
وفي القصاص حياة على معناها الأشمل الأعم . فالاعتداء على حياة فرد اعتداء على الحياة كلها ، واعتداء على كل إنسان حي ، يشترك مع القتيل في سمة الحياة . فإذا كف القصاص الجاني عن إزهاق حياة واحدة ، فقد كفه عن الاعتداء على الحياة كلها . وكان في هذا الكف حياة . حياة مطلقة . لا حياة فرد ولا حياة أسرة ، ولا حياة جماعة . . بل حياة . .
ثم - وهو الأهم والعامل المؤثر الأول في حفظ الحياة - استجاشة شعور التدبر لحكمة الله ، ولتقواه : { لعلكم تتقون } ..
هذا هو الرباط الذي يعقل النفوس عن الاعتداء . الاعتداء بالقتل ابتداء ، والاعتداء في الثأر أخيراً . . التقوى . . حساسية القلب وشعروه بالخوف من الله؛ وتحرجه من غضبه وتطلبه لرضاه .
إنه بغير هذا الرباط لا تقوم شريعة ، ولا يفلح قانون ، ولا يتحرج متحرج ، ولا تكفي التنظيمات الخاوية من الروح والحساسية والخوف والطمع في قوة أكبر من قوة الإنسان!(1/20)
وهذا ما يفسر لنا ندرة عدد الجرائم التي أقيمت فيها الحدود على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد الخلفاء ، ومعظمها كان مصحوباً باعتراف الجاني نفسه طائعاً مختاراً . . لقد كانت هنالك التقوى . . كانت هي الحارس اليقظ في داخل الضمائر ، وفي حنايا القلوب ، تكفها عن مواضع الحدود . . إلى جانب الشريعة النيرة البصيرة بخفايا الفطر ومكنونات القلوب . . وكان هناك ذلك التكامل بين التنظيمات والشرائع من ناحية والتوجيهات والعبادات من ناحية أخرى ، تتعاون جميعها على إنشاء مجتمع سليم التصور سليم الشعور . نظيف الحركة نظيف السلوك . لأنها تقيم محكمتها الأولى في داخل الضمير!
« حتى إذا جمحت السورة البهيمية في حين من الأحيان ، وسقط الإنسان سقطة ، وكان ذلك حيث لا تراقبه عين ولا تتناوله يد القانون تحول هذا الإيمان نفساً لوامة عنيفة ووخزاً لاذعاً للضمير وخيالاً مروعاً ، لا يرتاح معه صاحبه حتى يعترف بذنبه أمام القانون ، ويعرض نفسه للعقوبة الشديدة ، ويتحملها مطمئناً مرتاحاً ، تفادياً من سخط الله ، وعقوبة الآخرة » .
إنها التقوى . . إنها التقوى . .
- - - - - - - - - - - -
5.
فرض الصيام(1/21)
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) } سورة البقرة(1/22)
أَمَرَ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنينَ بِالصَّومِ تَهْذِيباً لِنُفُوسِهِمْ ، وَقَالَ تَعَالَى : إِنَّهُ أَوْجَبَ الصَّومَ عَلَى الأُمَمِ السَّابِقَةِ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ ، لِذلِكَ فَإِنَّهُ يُوجِبُهُ عَلَى المُسلِمِينَ ، وَقَدْ فَرَضَ اللهُ الصَّوْمَ عَلَى المُؤْمِنينَ لِيُعِدَّهُمْ لِتَقْوَى اللهِ ، بِتَرْكِ الشَّهَوَاتِ المُبَاحَةِ المَيْسُورَةِ امتِثالاً لأَمْرِهِ ، وَاحتِسَاباً لِلأَجْرِ عِنْدَهُ ، فَتُرَبَّى بِذلِكَ العَزِيمَةُ وَالإِرَادَةُ عَلَى ضَبْطِ النَّفْسِ .
وَقَدْ فَرَضَ اللهُ الصِّيَامَ عَلَيْكُمْ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ، وَلَمْ يُكَلِّفْكُمْ فِي الصَّومِ مَا لاَ تُطِيقُونَ ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَريضاً مَرَضاً يَضُرُّ الصَّومُ مَعَهُ ، أَوْ كَانَ عَلَى سَفَرٍ فَلَهُ أَنْ يَفْطرَ وَيَقْضِيَ الأَيَّامَ التِي أَفْطَرَهَا بَعْدَ بُرْئِهِ مِنَ المَرَضِ ، أَوْ رُجُوعِهِ مِنَ السَّفَرِ.
أَمَّا المُقيمُ غَيرُ المَريضِ الذِي لاَ يَسْتَطِيعُ الصَّومَ إِلاَّ بِمَشَقَّةٍ لِعُذْرٍ دَائِمٍ كَشَيخُوخَةٍ أو مَرَضٍ لا يُرْجَى بُرْؤُُهُ فَلَهُ أَنْ يُفْطِرَ ، وَعَليهِ أَنْ يُطْعِمَ مِسْكيناً عَنْ كُلِّ يَومٍ ، وَمَنْ صَامَ مُتَطَوِّعاً زِيَادَةً عَنْ الفَرْضِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ .(1/23)
وَالأَيَّامُ المَعْدُودَاتُ التِي أَمَرَ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنينَ بِصِيامِهَا هِيَ شََهْرُ رَمَضَانَ . وَيَمْدَحُ اللهُ تَعَالَى شَهْرَ رَمَضَانَ وَيُشِيدُ بِفَضْلِهِ ، وَهُوَ الشَّهْرُ الذِي أَنْزَلَ فِيهِ القُرآنُ الذِي يَهْدِي الذِينَ آمَنُوا بِهِ ، وَفِيهِ دَلائِلُ وَحُجَجٌ وَاضِحَةٌ جَلِيَّةٌ لِمَنْ فَهِمَهَا وَتَدَبَّرَهَا ، تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الهُدَى المُنَافِي لِلضَّلاَلَةِ ، فَمَنْ شَهِدَ اسْتِهْلاَلَ الشَّهْرِ وَجَبَ عَلَيهِ الصَّوْمُ إِنْ كَانَ مُقِيماً فِي البَلَدِ ، وَهُوَ صَحِيحٌ فِي بَدَنِهِ ، وَيُكَرِّرُ تَعَالَى ذِكْرَ الرُّخْصَةِ فِي الإِفْطَارِ لِلْمَرْضَى وَالمُسَافِرِينَ بِشَرْطِ قَضَاءِ الأَيَّامِ التِي يُفْطِرُونَهَا إِكْمَالاً لِلعِدَّةِ ، وَمَتَى أنْهَى المُؤْمِنُ عِبَادَتَهُ مِنْ صِيَامٍ وَصَلاَةٍ ، كَبَّرَ اللهُ ، وَذَكَرَهُ وَشَكَرَهُ عَلَى مَا هَدَاهُ ، لَعَلَّهُ إِنْ فَعَلَ ذلِكَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الشَّاكِرِينَ للهِ عَلَى مَا أَعَانَهُ عَلَيهِ مِنَ القِيَامِ بِطَاعَتِهِ ، وَحُسْنِ عِبَادَتِهِ ، وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ .
قَالَ أَعْرَابِيٌّ : يَا رَسُولَ اللهِ : أَقَرِيبٌ رَبُّنا فَنُنَاجِيهِ ، أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيهِ؟ فَسَكَتَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم ، فَأَنْزَلَ اللهُ هذِهِ الآيَةَ ، وَفِي الحَدِيثِ : " القُلُوبُ أَوْعِيَةٌ وَبَعْضُهَا أَوْعَى مِنْ بَعْضٍ ، فَإِذا سَأَلْتُمُ اللهَ أَيُّهَا النَّاسُ فَاسْأَلُوهُ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ فَإِنَّهُ لاَ يَسْتَجِيبُ لِعَبْدٍ دَعَاهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ غَافِلٍ "(1/24)
ثُمَّ يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِالاسْتِجَابَةِ إِليهِ ، وَبِالقِيَامِ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ الِإيمَانِ وَالعِبَادَاتِ ، كَالصَّوْمِ وَالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ . . لَعَلَّهُمْ يَكُونُونَ مِنَ المُهْتَدِينَ الرَّاشِدِينَ .
( فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِ الإِسْلاَمِ كَانَ المُسْلِمُ إِذا أَفْطَرَ يَحِلُّ لَهُ الأَكْلُ والشَّربُ والجِمَاعُ حَتَّى صَلاةِ العِشَاءِ ، أَوْ إِلَى أَنْ يَنَامَ قَبْلَ ذلِكَ ، فَإِذَا صَلَّى العِشَاءَ ، أَوْ نَامَ قَبْلَ صَلاةِ العِشَاءِ حَرُمَ عَلِيهِ الطَّعَامُ وَالشَّرابُ وَالجِمَاعُ إِلَى اللَيْلَةِ القَابِلَةِ . فَوَجَدُوا فِي ذلِكَ مَشَقَّةً كَبيرةً بِسَبَبِ اخْتِلاطِهِمْ فِي المَبِيتِ وَالحيَاةِ فَخَفَّفَ اللهُ عَنْهُمْ ) .
وَفِي هذِهِ الآيَةِ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِلمُؤْمِنينَ :
أُحلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الجِمَاعُ ( الرَّفَثُ ) ، أَنْتُمْ سَكَنٌ ( لِبَاسٌ ) لِنِسَائِكُمْ وَهُنَّ سَكَنٌ لَكُمْ ، فَقَدْ عَلِمَ اللهُ أَنَّ بَعْضَ المُؤْمِنينَ كَانَ يُخَالِفُ الأَمْرَ الدِّينِيَّ فَيَخْتَانُ نَفْسَهُ ، إِذْ يَعْتَقِدُ شَيْئاً ثُمَّ لاَ يَلْتَزِمُ العَمَلَ بِهِ ، فَيَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيُجَامِعُ بَعْدَ صَلاَةِ العِشَاءِ أَوْ بَعْدَ نَوْمِهِ إِنْ نَامَ قَبْلَ الصَّلاةِِ ، فَتَابَ اللهُ عَلَيْكُمْ ، وَعَفَا عَنْكُمْ ، وَتَجَاوَزَ عَنْ أَخْطَائِكُمْ . ثُمَّ أَعْلَمَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ سَمَحَ لَهُمْ بِالطَّعَامِ والشَّرابِ وَمُبَاشَرَةِ نِسَائِهِمْ حَتَّى الفَجْرِ ( أَيْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ ضِيَاءُ الصُّبْحِ مِنْ سَوادِ اللَيْلِ ) . فَمَتَى ظَهَرَ الفَجْرُ امْتَنَعَ عَلَى الصَّائِمِ مَا كَانَ مُبَاحاً لَهُ فِي اللَيْلِ ، وَيَسْتَمِرُّ صَوْمُهُ حَتَّى مَغِيبِ الشَّمْسِ ، وَظُهُورِ أَوَّلِ اللَيْلِ .(1/25)
وَكَانَ المُسْلِمُونَ يَعْتَكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ أَوْ غَيْرِهَا فِي رَمَضَان ، أَوْ فِي غَيْرِهِ لِلنُّسْكِ وَالعِبَادَةِ ، فَحَرَّمَ اللهُ عَلَيهِمْ مُبَاشَرَةَ النِّسَاءِ ، مَا دَامُوا مُعْتَكِفِينَ ، حَتَّى وَلَوْ أّتَوْا إِلى مَنَازِلِهِمْ لِقَضَاءِ بَعْضِ حَوَائِجِهِمْ لِيَعُودُوا بَعْدَها إِلى الاعْتِكَافِ فِي المَكَانِ الذِي يَعْتَكِفُونَ فِيهِ . وَيَقُولُ تَعَالَى إِنَّ مَا بَيَّنَهُ وَفَرَضَهُ وَحَدَّدَهُ مِنَ الصِّيَامِ ، وَمَا أَبَاحَهُ وَمَا حَرَّمَهُ . هِيَ الحُدُودُ التِي شَرَعَهَا اللهُ لِعِبَادِهِ ، وَكَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ ، عَلَى لِسَانِ أَنْبِياَئِهِ وَرُسُلِهِ ، آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لِيَعْرِفُوا كَيْفَ يََهْتَدُونَ ، وَكَيْفَ يُطِيعُونَ ( لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) .
إن الله - سبحانه - يعلم أن التكليف أمر تحتاج النفس البشرية فيه إلى عون ودفع واستجاشة لتنهض به وتستجيب له؛ مهما يكن فيه من حكمة ونفع ، حتى تقتنع به وتراض عليه .
ومن ثم يبدأ التكليف بذلك النداء الحبيب إلى المؤمنين ، المذكر لهم بحقيقتهم الأصيلة؛ ثم يقرر لهم - بعد ندائهم ذلك النداء - أن الصوم فريضة قديمة على المؤمنين بالله في كل دين ، وأن الغاية الأولى هي إعداد قلوبهم للتقوى والشفافية والحساسية والخشية من الله :
{ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } . .(1/26)
وهكذا تبرز الغاية الكبيرة من الصوم . . إنها التقوى . . فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي هذه الفريضة ، طاعة لله ، وإيثاراً لرضاه . والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية ، ولو تلك التي تهجس في البال ، والمخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله ، ووزنها في ميزانه . فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم . وهذا الصوم أداة من أدواتها ، وطريق موصل إليها . ومن ثم يرفعها السياق أمام عيونهم هدفاً وضيئاً يتجهون إليه عن طريق الصيام . . { لعلكم تتقون } . .
ثم يثني بتقرير أن الصوم أيام معدودات ، فليس فريضة العمر وتكليف الدهر . ومع هذا فقد أعفي من أدائه المرضى حتى يصحوا ، والمسافرون حتى يقيموا ، تحقيقاً وتيسيراً :
{ أياماً معدودات . فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر } ..
وظاهر النص في المرض والسفر يطلق ولا يحدد . فأي مرض وأي سفر يسوغ الفطر ، على أن يقضي المريض حين يصح والمسافر حين يقيم . وهذا هو الأولى في فهم هذا النص القرآني المطلق ، والأقرب إلى المفهوم الإسلامي في رفع الحرج ومنع الضرر . فليست شدة المرض ولا مشقة السفر هي التي يتعلق بها الحكم إنما هي المرض والسفر إطلاقاً ، لإرادة اليسر بالناس لا العسر . ونحن لا ندري حكمة الله كلها في تعليقه بمطلق المرض ومطلق السفر؛ فقد تكون هناك اعتبارات أخرى يعلمها الله ويجهلها البشر في المرض والسفر؛ وقد تكون هناك مشقات أخرى لا تظهر للحظتها ، أو لا تظهر للتقدير البشري . . وما دام الله لم يكشف عن علة الحكم فنحن لا نتأولها؛ ولكن نطيع النصوص ولو خفيت علينا حكمتها . فوراءها قطعاً حكمة . وليس من الضروري أن نكون نحن ندركها .(1/27)
يبقى أن القول بهذا يخشى أن يحمل المترخصين على شدة الترخص ، وأن تهمل العبادات المفروضة لأدنى سبب . مما جعل الفقهاء يتشددون ويشترطون . ولكن هذا - في اعتقادي - لا يبرر التقييد فيما أطلقه النص . فالدين لا يقود الناس بالسلاسل إلى الطاعات ، إنما يقودهم بالتقوى . وغاية هذه العبادة خاصة هي التقوى . والذي يفلت من أداء الفريضة تحت ستار الرخصة لا خير فيه منذ البدء ، لأن الغاية الأولى من أداء الفريضة لا تتحقق . وهذا الدين دين الله لا دين الناس . والله أعلم بتكامل هذا الدين ، بين مواضع الترخص ومواضع التشدد؛ وقد يكون وراء الرخصة في موضع من المصلحة ما لا يتحقق بدونها . بل لا بد أن يكون الأمر كذلك . ومن ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ المسلمون برخص الله التي رخصها لهم . وإذا حدث أن فسد الناس في جيل من الأجيال فإن إصلاحهم لا يتأتى من طريق التشدد في الأحكام؛ ولكن يتأتى من طريق إصلاح تربيتهم وقلوبهم واستحياء شعور التقوى في أرواحهم . وإذا صح التشدد في أحكام المعاملات عند فساد الناس كعلاج رادع ، وسد للذرائع ، فإن الأمر في الشعائر التعبدية يختلف ، إذ هي حساب بين العبد والرب ، لا تتعلق به مصالح العباد تعلقاً مباشراً كأحكام المعاملات التي يراعى فيها الظاهر . والظاهر في العبادات لا يجدي ما لم يقم على تقوى القلوب . وإذا وجدت التقوى لم يتفلت متفلت ، ولم يستخدم الرخصة إلا حيث يرتضيها قلبه ، ويراها هي الأولى ، ويحس أن طاعة الله في أن يأخذ بها في الحالة التي يواجهها ، أما تشديد الأحكام جملة في العبادات أو الميل إلى التضييق من إطلاق الرخص التي أطلقتها النصوص ، فقد ينشيء حرجاً لبعض المتحرجين . في الوقت الذي لا يجدي كثيراً في تقويم المتفلتين . . والأولى على كل حال أن نأخذ الأمور بالصورة التي أرادها الله في هذا الدين .(1/28)
وفي أول الأمر كان تكليف الصوم شاقاً على المسلمين - وقد فرض في السنة الثانية من الهجرة قبيل فرض الجهاد - فجعل الله فيه رخصة لمن يستطيع الصوم بجهد - وهو مدلول يطيقونه - فالإطاقة الاحتمال بأقصى جهد - جعل الله هذه الرخصة ، وهي الفطر مع إطعام مسكين . . ثم حببهم في التطوع بإطعام المساكين إطلاقاً ، إما تطوعاً بغير الفدية ، وإما بالإكثار عن حد الفدية ، كأن يطعم اثنين أو ثلاثة أو أكثر بكل يوم من أيام الفطر في رمضان : { فمن تطوع خيراً فهو خير له } . . ثم حببهم في اختيار الصوم مع المشقة - في غير سفر ولا مرض - : { وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون } . . لما في الصوم من خير في هذه الحالة . يبدو منه لنا عنصر تربية الإرادة ، وتقوية الاحتمال ، وإيثار عبادة الله على الراحة . وكلها عناصر مطلوبة في التربية الإسلامية .
كما يبدو لنا منه ما في الصوم من مزايا صحية - لغير المريض - حتى ولو أحس الصائم بالجهد .
وعلى أية حال فقد كان هذا التوجيه تمهيداً لرفع هذه الرخصة عن الصحيح المقيم وإيجاب الصيام إطلاقاً . كما جاء فيما بعد . وقد بقيت للشيخ الكبير الذي يجهده الصوم ، ولا ترجى له حالة يكون فيها قادراً على القضاء . . فأخرج الإمام مالك أنه بلغه أن أنس بن مالك - رضي الله عنه - كبر حتى كان لا يقدر على الصيام فكان يفتدي . . وقال ابن عباس : ليست منسوخة ، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً . . وعن ابن أبي ليلى قال : دخلت على عطاء في رمضان وهو يأكل ، فقال : قال ابن عباس نزلت هذه الآية فنسخت الأولى إلا الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكيناً وأفطر . فالنسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بالآية الآتية : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه . . . } .(1/29)
وتحبيب آخر في أداء هذه الفريضة للصحيح المقيم . . إنها صوم رمضان : الشهر الذي أنزل فيه القرآن - إما بمعنى أن بدء نزوله كان في رمضان ، أو أن معظمه نزل في أشهر رمضان - والقرآن هو كتاب هذه الأمة الخالد ، الذي أخرجها من الظلمات إلى النور ، فأنشأها هذه النشأة ، وبدلها من خوفها أمناً ، ومكن لها في الأرض ، ووهبها مقوماتها التي صارت بها أمة ، ولم تكن من قبل شيئاً . وهي بدون هذه المقومات ليست أمة وليس لها مكان في الأرض ولا ذكر في السماء . فلا أقل من شكر الله على نعمة هذا القرآن بالاستجابة إلى صوم الشهر الذي نزل فيه القرآن :
{ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان . . فمن شهد منكم الشهر فليصمه . ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر } . .
وهذه هي الآية الموجبة الناسخة لرخصة الإفطار والفدية بالنسبة للصحيح المقيم - فيما عدا الشيخ والشيخة كما أسلفنا : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } . .
أي من حضر منكم الشهر غير مسافر . أو من رأى منكم هلال الشهر . والمستيقن من مشاهدة الهلال بأية وسيلة أخرى كالذي يشهده في إيجاب الصوم عليه عدة أيام رمضان .
ولما كان هذا نصاً عاماً فقد عاد ليستثني منه من كان مريضاً أو على سفر : { ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر } . .
وتحبيب ثالث في أداء الفريضة ، وبيان لرحمة الله في التكليف وفي الرخصة سواء : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } . .
وهذه هي القاعدة الكبرى في تكاليف هذه العقيدة كلها . فهي ميسرة لا عسر فيها . وهي توحي للقلب الذي يتذوقها ، بالسهولة واليسر في أخذ الحياة كلها؛ وتطبع نفس المسلم بطابع خاص من السماحة التي لا تكلف فيها ولا تعقيد .(1/30)
سماحة تؤدى معها كل التكاليف وكل الفرائض وكل نشاط الحياة الجادة وكأنما هي مسيل الماء الجاري ، ونمو الشجرة الصاعدة في طمأنينة وثقة ورضاء . مع الشعور الدائم برحمة الله وإرادته اليسر لا العسر بعباده المؤمنين .
وقد جعل الصوم للمسافر والمريض في أيام أخر ، لكي يتمكن المضطر من إكمال عدة أيام الشهر ، فلا يضيع عليه أجرها : { ولتكملوا العدة } .
والصوم على هذا نعمة تستحق التكبير والشكر : { ولتكبروا الله على ما هداكم . ولعلكم تشكرون }.
فهذه غاية من غايات الفريضة . . أن يشعر الذين آمنوا بقيمة الهدى الذي يسره الله لهم . وهم يجدون هذا في أنفسهم في فترة الصيام أكثر من كل فترة . وهم مكفوفو القلوب عن التفكير في المعصية ، ومكفوفو الجوارح عن إتيانها . وهم شاعرون بالهدى ملموساً محسوساً ليكبروا الله على هذه الهداية ، وليشكروه على هذه النعمة . ولتفيء قلوبهم إليه بهذه الطاعة . كما قال لهم في مطلع الحديث عن الصيام : { لعلكم تتقون } . .
وهكذا تبدو منة الله في هذا التكليف الذي يبدو شاقّاً على الأبدان والنفوس . وتتجلى الغاية التربوية منه ، والإعداد من ورائه للدور العظيم الذي أخرجت هذه الأمة لتؤديه ، أداء تحرسه التقوى ورقابة الله وحساسية الضمير .
وقبل أن يمضي السياق في بيان أحكام تفصيلية عن مواعيد الصيام ، وحدود المتاع فيه وحدود الإمساك . . نجد لفتة عجيبة إلى أعماق النفس وخفايا السريرة . نجد العوض الكامل الحبيب المرغوب عن مشقة الصوم ، والجزاء المعجل على الاستجابة لله . . نجد ذلك العوض وهذا الجزاء في القرب من الله ، وفي استجابته للدعاء . . تصوره ألفاظ رفافة شفافة تكاد تنير : { وإذا سألك عبادي عني ، فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان . فليستجيبوا لي ، وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } . .(1/31)
فإني قريب . . أجيب دعوة الداع إذا دعان . . أية رقة؟ وأي انعطاف؟ وأية شفافية؟ وأي إيناس؟ وأين تقع مشقة الصوم ومشقة أي تكليف في ظل هذا الود ، وظل هذا القرب ، وظل هذا الإيناس؟
وفي كل لفظ في التعبير في الآية كلها تلك النداوة الحبيبة : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب . أجيب دعوة الداع إذا دعان } . .
إضافة العباد إليه ، والرد المباشر عليهم منه . . لم يقل : فقل لهم : إني قريب . . إنما تولى بذاته العلية الجواب على عباده بمجرد السؤال . . قريب . . ولم يقل أسمع الدعاء . . إنما عجل بإجابة الدعاء : { أجيب دعوة الداع إذا دعان } . .
إنها آية عجيبة . . آية تسكب في قلب المؤمن النداوة الحلوة ، والود المؤنس ، والرضى المطمئن ، والثقة واليقين . . ويعيش منها المؤمن في جناب رضيّ ، وقربى ندية ، وملاذ أمين وقرار مكين .
وفي ظل هذا الأنس الحبيب ، وهذا القرب الودود ، وهذه الاستجابة الوحية . . يوجه الله عباده إلى الاستجابة له ، والإيمان به ، لعل هذا أن يقودهم إلى الرشد والهداية والصلاح .
{ فليستجيبوا لي ، وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } . .
فالثمرة الأخيرة من الاستجابة والإيمان هي لهم كذلك .
. وهي الرشد والهدى والصلاح . فالله غني عن العالمين .
والرشد الذي ينشئه الإيمان وتنشئه الاستجابة لله هو الرشد . فالمنهج الإلهي الذي اختاره الله للبشر هو المنهج الوحيد الراشد القاصد؛ وما عداه جاهلية وسفه لا يرضاه راشد ، ولا ينتهي إلى رشاد . واستجابة الله للعباد مرجوة حين يستجيبون له هم ويرشدون . وعليهم أن يدعوه ولا يستعجلوه . فهو يقدر الاستجابة في وقتها بتقديره الحكيم .
أخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث ابن ميمون - بإسناده - عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « إن الله تعالى ليستحي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما خيراً فيردهما خائبين » .(1/32)
وأخرج الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي - بإسناده - عن ابن ثوبان : ورواه عبد الله بن الإمام أحمد - بإسناده - عن عبادة بن الصامت : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « ما على ظهر الأرض من رجل مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة إلا آتاه الله إياها ، أو كف عنه من السوء مثلها ، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم » .
وفي الصحيحين : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « يستجاب لأحدكم ما لم يعجل . يقول دعوت فلم يستجب لي! » .
وفي صحيح مسلم : عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل قيل : يا رسول الله وما الاستعجال . قال : يقول : قد دعوت ، وقد دعوت ، فلم أر يستجاب لي ، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء » .
والصائم أقرب الدعاة استجابة ، كما روى الإمام أبو داود الطيالسي في مسنده - بإسناده - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال : « سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة . . » فكان عبد الله ابن عمر إذا أفطر دعا أهله وولده ودعا . وروى ابن ماجه في سننه - بإسناده - عن عبد الله بن عمر كذلك قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد » وفي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ثلاثة لا ترد دعوتهم : الإمام العادل ، والصائم حتى يفطر ، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة ، وتفتح لها أبواب السماء ، ويقول : بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين » .
ومن ثم جاء ذكر الدعاء في ثنايا الحديث عن الصيام .(1/33)
ثم يمضي السياق يبين للذين آمنوا بعض أحكام الصيام . فيقرر لهم حل المباشرة للنساء في ليلة الصوم ما بين المغرب والفجر . وحل الطعام والشراب كذلك ، كما يبين لهم مواعيد الصوم من الفجر إلى الغروب ، وحكم المباشرة في فترة الاعتكاف في المساجد : { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ، هن لباس لكم وأنتم لباس لهن؛ علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم؛ فالأن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم ، وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، ثم أتموا الصيام إلى الليل ، ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد . تلك حدود الله فلا تقربوها . كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون } .
وفي أول فرض الصوم كانت المباشرة والطعام والشراب تمتنع لو نام الصائم بعد إفطاره . فإذا صحا بعد نومه من الليل - ولو كان قبل الفجر - لم تحل له المباشرة ولم يحل له الطعام والشراب . وقد وقع أن بعضهم لم يجد طعاماً عند أهله وقت الإفطار ، فغلبه النوم ، ثم صحا فلم يحل له الطعام والشراب فواصل . ثم جهد في النهار التالي وبلغ أمره إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما وقع أن بعضهم نام بعد الإفطار أو نامت امرأته ، ثم وجد في نفسه دفعة للمباشرة ففعل وبلغ أمره إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وبدت المشقة في أخذ المسلمين بهذا التكليف ، فردهم الله إلى اليسر وتجربتهم حاضرة في نفوسهم ، ليحسوا بقيمة اليسر وبمدى الرحمة والاستجابة . . ونزلت هذه الآية نزلت . تحل لهم المباشرة ما بين المغرب والفجر : { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } . .(1/34)
والرفث مقدمات المباشرة ، أو المباشرة ذاتها ، وكلاهما مقصود هنا ومباح . . ولكن القرآن لا يمر على هذا المعنى دون لمسة حانية رفافة ، تمنح العلاقة الزوجية شفافية ورفقاً ونداوة ، وتنأى بها عن غلظ المعنى الحيواني وعرامته ، وتوقظ معنى الستر في تيسير هذه العلاقة : { هن لباس لكم وأنتم لباس لهن } . .
واللباس ساتر وواق . . وكذلك هذه الصلة بين الزوجين . تستر كلاًّ منهما وتقيه . والإسلام الذي يأخذ هذا الكائن الإنساني بواقعه كله ، ويرتضي تكوينه وفطرته كما هي ، ويأخذ بيده إلى معارج الارتفاع بكليته . . الإسلام وهذه نظرته يلبي دفعة اللحم والدم . وينسم عليها هذه النسمة اللطيفة ، ويدثرها بهذا الدثار اللطيف . . في آن . .
ويكشف لهم عن خبيئة مشاعرهم ، وهو يكشف لهم عن رحمته بالاستجابة لهواتف فطرتهم : { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم . فتاب عليكم وعفا عنكم } . .
وهذه الخيانة لأنفسهم التي يحدثهم عنها ، تتمثل في الهواتف الحبيسة ، والرغبات المكبوتة؛ أو تتمثل في الفعل ذاته ، وقد ورد أن بعضهم أتاه . . وفي كلتا الحالتين لقد تاب عليهم وعفا عنهم ، مذ ظهر ضعفهم وعلمه الله منهم .
. فأباح لهم ما كانوا يختانون فيه أنفسهم : { فالأن باشروهن } . .
ولكن هذه الإباحة لا تمضي دون أن تربط بالله ، ودون توجيه النفوس في هذا النشاط لله أيضاً : { وابتغوا ما كتب الله لكم } . .
ابتغوا هذا الذي كتبه الله لكم من المتعة بالنساء ، ومن المتعة بالذرية ، ثمرة المباشرة . فكلتاهما من أمر الله ، ومن المتاع الذي أعطاكم إياه ، ومن إباحتها وإتاحتها يباح لكم طلبها وابتغاؤها . وهي موصولة بالله فهي من عطاياه . ومن ورائها حكمة ، ولها في حسابه غاية . فليست إذن مجرد اندفاع حيواني موصول بالجسد ، منفصل عن ذلك الأفق الأعلى الذي يتجه إليه كل نشاط .(1/35)
بهذا ترتبط المباشرة بين الزوجين بغاية أكبر منهما ، وأفق أرفع من الأرض ومن لحظة اللذة بينهما . وبهذا تنظف هذه العلاقة وترق وترقى . . ومن مراجعة مثل هذه الإيحاءات في التوجيه القرآني وفي التصور الإسلامي ندرك قيمة الجهد المثمر الحكيم الذي يبذل لترقية هذه البشرية وتطويرها ، في حدود فطرتها وطاقتها وطبيعة تكوينها . وهذا هو المنهج الإسلامي للتربية والاستعلاء والنماء . المنهج الخارج من يد الخالق . وهو أعلم بمن خلق ، وهو اللطيف الخبير .
وكما أباح المباشرة أباح الطعام والشراب في الفترة ذاتها : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } . .
أي حتى ينتشر النور في الأفق وعلى قمم الجبال . وليس هو ظهور الخيط الأبيض في السماء وهو ما يسمى بالفجر الكاذب . وحسب الروايات التي وردت في تحديد وقت الإمساك نستطيع أن نقول : إنه قبل طلوع الشمس بقليل . وإننا نمسك الآن وفق المواعيد المعروفة في قطرنا هذا قبل أوان الإمساك الشرعي ببعض الوقت . . ربما زيادة في الاحتياط . .
قال ابن جرير - بإسناده - عن سمرة بن جندب : قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لا يغرنكم نداء بلال وهذا البياض ، حتى ينفجر الفجر أو يطلع الفجر » . ثم رواه من حديث شعبة وغيره عن سواد بن حنظلة عن سمرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ، ولكنه الفجر المستطير في الأفق » . والفجر المستطير في الأفق يسبق طلوع الشمس بوقت قليل . . وكان بلال - رضي الله عنه - يبكر في الأذان لتنبيه النائم ، وكان ابن أم مكتوم يؤذن متأخراً للإمساك وإلى هذا كانت الإشارة إلى أذان بلال . .(1/36)
ثم يذكر حكم المباشرة في فترة الاعتكاف في المساجد . والاعتكاف - بمعنى الخلوة إلى الله في المساجد . وعدم دخول البيوت إلا لضرورة قضاء الحاجة ، أو ضرورة الطعام والشراب - يستحب في رمضان في الأيام الأخيرة . وكانت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العشر الأواخر منه . . وهي فترة تجرد لله .
ومن ثم امتنعت فيها المباشرة تحقيقاً لهذا التجرد الكامل ، الذي تنسلخ فيه النفس من كل شيء ، ويخلص فيه القلب من كل شاغل : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } . .
سواء في ذلك فترة الإمساك وفترة الإفطار .
وفي النهاية يربط الأمر كله بالله على طريقة القرآن في توجيه كل نشاط وكل امتناع . كل أمر وكل نهي . كل حركة وكل سكون : { تلك حدود الله فلا تقربوها } . .
والنهي هنا عن القرب . . لتكون هناك منطقة أمان . فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه . والإنسان لا يملك نفسه في كل وقت ; فأحرى به ألا يعرض إرادته للامتحان بالقرب من المحظورات المشتهاة ، اعتماداً على أنه يمنع نفسه حين يريد . ولأن المجال هنا مجال حدود للملاذ والشهوات كان الأمر : { فلا تقربوها } . . والمقصود هو المواقعة لا القرب . ولكن هذا التحذير على هذا النحو له إيحاؤه في التحرج والتقوى : { كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون } . .
وكذلك تلوح التقوى غاية يبين الله آياته للناس ليبلغوها ، وهي غاية كبيرة يدرك قيمتها الذين آمنوا ، المخاطبون بهذا القرآن في كل حين .
- - - - - - - - - - - -
6.
الدخول فِي السِّلْمِ كَآفَّةً
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) }سورة البقرة(1/37)
يَدْعُو اللهُ المُؤْمِنينَ إِلَى الأَخْذِ بِجَمِيعِ عُرَى الإِسْلاَمِ وَشَرَائِعِهِ ، وَالعمَلِ بِجَمِيعِ أَوَامِرِهِ ، وَتَرْكِ زَوَاجِرِهِ ، وَيُرشِدُهُمْ تَعَالَى إِلَى أَنَّهُ مِنْ شَأنِ المُؤْمِنينَ الاتِّفَاقُ والاتِّحَادُ ، لاَ التَّفَرُّقُ وَالانْقِسَامُ .
( وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ، أَيْ ادْخُلُوا فِي الإِسْلاَمِ ) . ثُمَّ يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنينَ بِأَنْ يَجْتَنِبُوا مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ الشَّيْطَانُ لأَنَّهُ يَأْمُرُ بِالسُّوءِ وَالفَحْشَاءِ ، وَيَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ، وَلِهذَا كَانَ الشَّيْطَانُ عَدُوّاً بَيِّنَ العَدَاوَةِ لِلإِنْسَانِ .
فََإِنْ عَدَلْتُمْ عَنِ الحَقِّ ، وَحِدْتُمْ عَنِ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ الذِي دَعَاكُمُ اللهُ إِلَيهِ ، وَهُوَ السِّلْمُ ، وَسِرْتُمْ فِي طَرِيقِ الشَّيْطَانِ ، وَهُوَ طَرِيقُ الخِلاَفِ وَالافْتِرَاقِ ، بَعْدَمَا قَامَتِ الحُجَّةُ عَلَى أَنّ صِرَاطَ اللهِ هُوَ طَرِيقُ الحَقِّ ، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ فِي انتِقَامِهِ ، لاَ يَفُوتُهُ هَارِبٌ ، وَلاَ يَغْلِبُهُ غَالِبٌ ، حَكِيمٌ فِي أَحْكَامِهِ ، وَفِي نَقْضِهِ وَإِبْرَامِهِ .
إنها دعوة للمؤمنين باسم الإيمان . بهذا الوصف المحبب إليهم ، والذي يميزهم ويفردهم ، ويصلهم بالله الذي يدعوهم . . دعوة للذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة
وأول مفاهيم هذه الدعوة أن يستسلم المؤمنون بكلياتهم لله ، في ذوات أنفسهم ، وفي الصغير والكبير من أمرهم . أن يستسلموا الاستسلام الذي لا تبقى بعده بقية ناشزة من تصور أو شعور ، ومن نية أو عمل ، ومن رغبة أو رهبة ، لا تخضع لله ولا ترضى بحكمه وقضاه .(1/38)
استسلام الطاعة الواثقة المطمئنة الراضية . الاستسلام لليد التي تقود خطاهم وهم واثقون أنها تريد بهم الخير والنصح والرشاد؛ وهم مطمئنون إلى الطريق والمصير ، في الدنيا والآخرة سواء .
وتوجيه هذه الدعوة إلى الذين آمنوا إذ ذاك تشي بأنه كانت هنالك نفوس ما تزال يثور فيها بعض التردد في الطاعة المطلقة في السر والعلن . وهو أمر طبيعي أن يوجد في الجماعة إلى جانب النفوس المطمئنة الواثقة الراضية . . وهي دعوة توجه في كل حين للذين آمنوا؛ ليخلصوا ويتجردوا؛ وتتوافق خطرات نفوسهم واتجاهات مشاعرهم مع ما يريد الله بهم ، وما يقودهم إليه نبيهم ودينهم ، في غير ما تلجلج ولا تردد ولا تلفت .
والمسلم حين يستجيب هذه الاستجابة يدخل في عالم كله سلم وكله سلام . عالم كله ثقة واطمئنان ، وكله رضى واستقرار . لا حيرة ولا قلق ، ولا شرود ولا ضلال . سلام مع النفس والضمير . سلام مع العقل والمنطق . سلام مع الناس والأحياء . سلام مع الوجود كله ومع كل موجود . سلام يرف في حنايا السريرة . وسلام يظلل الحياة والمجتمع . سلام في الأرض وسلام في السماء .
وأول ما يفيض هذا السلام على القلب يفيض من صحة تصوره لله ربه ، ونصاعة هذا التصور وبساطته .
إنه إله واحد . يتجه إليه المسلم وجهة واحدة يستقر عليها قلبه؛ فلا تتفرق به السبل ، ولا تتعدد به القبل؛ ولا يطارده إله من هنا وإله من هناك - كما كان في الوثنية والجاهلية - إنما هو إله واحد يتجه إليه في ثقة وفي طمأنينة وفي نصاعة وفي وضوح .
وهو إله قوي قادر عزيز قاهر . . فإذا اتجه إليه المسلم فقد اتجه إلى القوة الحقة الوحيدة في هذا الوجود . وقد أمن كل قوة زائفة واطمأن واستراح . ولم يعد يخاف أحدا أو يخاف شيئاً ، وهو يعبد الله القوي القادر العزيز القاهر . ولم يعد يخشى فوت شيء . ولا يطمع في غير من يقدر على الحرمان والعطاء .(1/39)
وهو إله عادل حكيم ، فقوته وقدرته ضمان من الظلم ، وضمان من الهوى ، وضمان من البخس . وليس كآلهة الوثنية والجاهلية ذوات النزوات والشهوات . ومن ثم يأوي المسلم من إلهه إلى ركن شديد ، ينال فيه العدل والرعاية والأمان .
وهو رب رحيم ودود . منعم وهاب . غافر الذنب وقابل التوب . يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء . فالمسلم في كنفه آمن آنس ، سالم غانم ، مرحوم إذا ضعف ، مغفور له متى تاب . .
وهكذا يمضي المسلم مع صفات ربه التي يعرفه بها الإسلام؛ فيجد في كل صفة ما يؤنس قلبه ، وما يطمئن روحه ، وما يضمن معه الحماية والوقاية والعطف والرحمة والعزة والمنعة والاستقرار والسلام . .
كذلك يفيض السلام على قلب المسلم من صحة تصور العلاقة بين العبد والرب .
وبين الخالق والكون . وبين الكون والإنسان . . فالله خلق هذا الكون بالحق؛ وخلق كل شيء فيه بقدر وحكمة . وهذا الإنسان مخلوق قصداً ، وغير متروك سدى ، ومهيأ له كل الظروف الكونية المناسبة لوجوده ، ومسخر له ما في الأرض جميعاً . وهو كريم على الله ، وهو خليفته في أرضه . والله معينه على هذه الخلافة . والكون من حوله صديق مأنوس ، تتجاوب روحه مع روحه ، حين يتجه كلاهما إلى الله ربه . وهو مدعو إلى هذا المهرجان الإلهي المقام في السماوات والأرض ليتملاه ويأنس به . وهو مدعو للتعاطف مع كل شيء ومع كل حي في هذا الوجود الكبير ، الذي يعج بالأصدقاء المدعوين مثله إلى ذلك المهرجان! والذي يؤلفون كلهم هذا المهرجان!
والعقيدة التي تقف صاحبها أمام النبتة الصغيرة ، وهي توحي إليه أن له أجراً حين يرويها من عطش ، وحين يعينها على النماء ، وحين يزيل من طريقها العقبات . . هي عقيدة جميلة فوق أنها عقيدة كريمة . عقيدة تسكب في روحه السلام؛ وتطلقه يعانق الوجود كله ويعانق كل موجود؛ ويشيع من حوله الأمن والرفق ، والحب والسلام .(1/40)
والاعتقاد بالآخرة يؤدي دوره الأساسي في إفاضة السلام على روح المؤمن وعالمه؛ ونفي القلق والسخط والقنوط . . إن الحساب الختامي ليس في هذه الأرض؛ والجزاء الأوفى ليس في هذه العاجلة . . إن الحساب الختامي هناك؛ والعدالة المطلقة مضمونة في هذا الحساب . فلا ندم على الخير والجهاد في سبيله إذا لم يتحقق في الأرض أو لم يلق جزاءه . ولا قلق على الأجر إذا لم يوف في هذه العاجلة بمقاييس الناس ، فسوف يوفاه بميزان الله . ولا قنوط من العدل إذا توزعت الحظوظ في الرحلة القصيرة على غير ما يريد ، فالعدل لا بد واقع . وما الله يريد ظلماً للعباد .
والاعتقاد بالآخرة حاجز كذلك دون الصراع المجنون المحموم الذي تداس فيه القيم وتداس فيه الحرمات . بلا تحرج ولا حياء فهناك الآخرة فيها عطاء ، وفيها غناء ، وفيها عوض عما يفوت . وهذا التصور من شأنه أن يفيض السلام على مجال السباق والمنافسة؛ وأن يخلع التجمل على حركات المتسابقين؛ وأن يخفف السعار الذي ينطلق من الشعور بأن الفرصة الوحيدة المتاحة هي فرصة هذا العمر القصير المحدود!
ومعرفة المؤمن بأن غاية الوجود الإنساني هي العبادة ، وأنه مخلوق ليعبد الله . . من شأنها - ولا شك - أن ترفعه إلى هذا الأفق الوضيء . ترفع شعوره وضميره ، وترفع نشاطه وعمله ، وتنظف وسائله وأدواته . فهو يريد العبادة بنشاطه وعمله؛ وهو يريد العبادة بكسبه وإنفاقه؛ وهو يريد العبادة بالخلافة في الأرض وتحقيق منهج الله فيها . فأولى به ألا يغدر ولا يفجر؛ وأولى به ألا يغش ولا يخدع؛ وأولى به ألا يطغى ولا يتجبر؛ وأولى به ألا يستخدم أداة مدنسة ولا وسيلة خسيسة .(1/41)
وأولى به كذلك ألا يستعجل المراحل ، وألا يعتسف الطريق ، وألا يركب الصعب من الأمور . فهو بالغ هدفه من العبادة بالنية الخالصة والعمل الدائب في حدود الطاقة . . ومن شأن هذا كله ألا تثور في نفسه المخاوف والمطامع ، وألا يستبد به القلق في أية مرحلة من مراحل الطريق . فهو يعبد في كل خطوة؛ وهو يحقق غاية وجوده في كل خطرة ، وهو يرتقي صعداً إلى الله في كل نشاط وفي كل مجال .
وشعور المؤمن بأنه يمضي مع قدر الله ، في طاعة الله ، لتحقيق إرادة الله . . وما يسكبه هذا الشعور في روحه من الطمأنينة والسلام والاستقرار؛ والمضي في الطريق بلا حيرة ولا قلق ولا سخط على العقبات والمشاق؛ وبلا قنوط من عون الله ومدده؛ وبلا خوف من ضلال القصد أو ضياع الجزاء . . ومن ثم يحس بالسلام في روحه حتى وهو يقاتل أعداء الله وأعداءه . فهو إنما يقاتل لله ، وفي سبيل الله ، ولإعلاء كلمة الله؛ ولا يقاتل لجاه أو مغنم أو نزوة أو عرض ما من أعراض هذه الحياة .
كذلك شعوره بأنه يمضي على سنة الله مع هذا الكون كله . قانونه قانونه ، ووجهته وجهته . فلا صدام ولا خصام ، ولا تبديد للجهد ولا بعثرة للطاقة . وقوى الكون كله تتجمع إلى قوته ، وتهتدي بالنور الذي يهتدي به ، وتتجه إلى الله وهو معها يتجه إلى الله .
والتكاليف التي يفرضها الإسلام على المسلم كلها من الفطرة ولتصحيح الفطرة . لا تتجاوز الطاقة؛ ولا تتجاهل طبيعة الإنسان وتركيبه؛ ولا تهمل طاقة واحدة من طاقاته لا تطلقها للعمل والبناء والنماء؛ ولا تنسى حاجة واحدة من حاجات تكوينه الجثماني والروحي لا تلبيها في يسر وفي سماحة وفي رخاء . . ومن ثم لا يحار ولا يقلق في مواجهة تكاليفه . يحمل منها ما يطيق حمله ، ويمضي في الطريق إلى الله في طمأنينة وروح وسلام .(1/42)
والمجتمع الذي ينشئه هذا المنهج الرباني ، في ظل النظام الذي ينبثق من هذه العقيدة الجميلة الكريمة ، والضمانات التي يحيط بها النفس والعرض والمال . . كلها مما يشيع السلم وينشر روح السلام .
هذا المجتمع المتواد المتحاب المترابط المتضامن المتكافل المتناسق . هذا المجتمع الذي حققه الإسلام مرة في أرقى وأصفى صوره . ثم ظل يحققه في صور شتى على توالي الحقب ، تختلف درجة صفائه ، ولكنه يظل في جملته خيراً من كل مجتمع آخر صاغته الجاهلية في الماضي والحاضر ، وكل مجتمع لوثته هذه الجاهلية بتصوراتها ونظمها الأرضية!
هذا المجتمع الذي تربطه آصرة واحدة - آصرة العقيدة - حيث تذوب فيها الأجناس والأوطان ، واللغات والألوان ، وسائر هذه الأواصر العرضية التي لا علاقة لها بجوهر الإنسان . .
هذا المجتمع الذي يسمع الله يقول له : { إنما المؤمنون إخوة } والذي يرى صورته في قول النبي الكريم : « مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى » .(1/43)
هذا المجتمع الذي من آدابه : { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } { ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور } { ادفع بالتي هي أحسن - فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم } { يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب . بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان . ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون } { ولا يغتب بعضكم بعضاً . أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم } هذا المجتمع الذي من ضماناته : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا } { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها } و« كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله »(1/44)
ثم هذا المجتمع النظيف العفيف الذي لا تشيع فيه الفاحشة؛ ولا يتبجح فيه الإغراء ، ولا تروج فيه الفتنة ، ولا ينتشر فيه التبرج ، ولا تتلفت فيه الأعين على العورات ، ولا ترف فيه الشهوات على الحرمات ، ولا ينطلق فيه سعار الجنس وعرامة اللحم والدم كما تنطلق في المجتمعات الجاهلية قديماً وحديثاً . . هذا المجتمع الذي تحكمه التوجيهات الربانية الكثيرة ، والذي يسمع الله - سبحانه - يقول : { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون } { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ، ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر؛ وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ، ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً ، وأولئك هم الفاسقون } { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ، ذلك أزكى لهم ، إن الله خبير بما يصنعون . وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ، وليضربن بخمرهن على جيوبهن ، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن ، أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن ، أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن ، أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء . ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ، وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } والذي يخاطب فيه نساء النبي - أطهر نساء الأرض في أطهر بيت في أطهر بيئة في أطهر زمان :{ يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن . فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً . وقرن في بيوتكن ، ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ، وأقمن الصلاة وآتين الزكاة ، وأطعن الله ورسوله .(1/45)
إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً } وفي مثل هذا المجتمع تأمن الزوجة على زوجها ، ويأمن الزوج على زوجته ، ويأمن الأولياء على حرماتهم وأعراضهم ، ويأمن الجميع على أعصابهم وقلوبهم . حيث لا تقع العيون على المفاتن ، ولا تقود العيون القلوب إلى المحارم . فإما الخيانة المتبادلة حينذاك وإما الرغائب المكبوتة وأمراض النفوس وقلق الأعصاب . . بينما المجتمع المسلم النظيف العفيف آمن ساكن ، ترف عليه أجنحة السلم والطهر والأمان!
وأخيراً إنه ذلك المجتمع الذي يكفل لكل قادر عملاً ورزقاً ولكل عاجز ضمانة للعيش الكريم ، ولكل راغب في العفة والحصانة زوجة صالحة ، والذي يعتبر أهل كل حي مسؤولين مسؤولية جنائية لو مات فيهم جائع؛ حتى ليرى بعض فقهاء الإسلام تغريمهم بالدية .
والمجتمع الذي تكفل فيه حريات الناس وكراماتهم وحرماتهم وأموالهم بحكم التشريع ، بعد كفالتها بالتوجيه الرباني المطاع . فلا يؤخذ واحد فيه بالظنة ، ولا يتسور على أحد بيته ، ولا يتجسس على أحد فيه متجسس ، ولا يذهب فيه دم هدراً والقصاص حاضر؛ ولا يضيع فيه على أحد ماله سرقة أو نهباً والحدود حاضرة .
المجتمع الذي يقوم على الشورى والنصح والتعاون . كما يقوم على المساواة والعدالة الصارمة التي يشعر معها كل أحد أن حقه منوط بحكم شريعة الله لا بإرادة حاكم ، و لا هوى حاشية ولا قرابة كبير .
وفي النهاية المجتمع الوحيد بين سائر المجتمعات البشرية ، الذي لا يخضع البشر فيه للبشر . إنما يخضعون حاكمين ومحكومين لله ولشريعته؛ وينفذون حاكمين ومحكومين حكم الله وشريعته . فيقف الجميع على قدم المساواة الحقيقية أمام الله رب العالمين وأحكم الحاكمين ، في طمأنينة وفي ثقة وفي يقين . .(1/46)
هذه كلها بعض معاني السلم الذي تشير إليه الآية وتدعو الذين آمنوا للدخول فيه كافة . ليسلموا أنفسهم كلها لله؛ فلا يعود لهم منها شيء ، ولا يعود لنفوسهم من ذاتها حظ؛ إنما تعود كلها لله في طواعية وفي انقياد وفي تسليم . .
ولا يدرك معنى هذا السلم حق إدراكه من لا يعلم كيف تنطلق الحيرة وكيف يعربد القلق في النفوس التي لا تطمئن بالإيمان ، في المجتمعات التي لا تعرف الإسلام ، أو التي عرفته ثم تنكرت له ، وارتدت إلى الجاهلية ، تحت عنوان من شتى العنوانات في جميع الأزمان . . هذه المجتمعات الشقية الحائرة على الرغم من كل ما قد يتوافر لها من الرخاء المادي والتقدم الحضاري ، وسائر مقومات الرقي في عرف الجاهلية الضالة التصورات المختلة الموازين .
وحسبنا مثل واحد مما يقع في بلد أوربي من أرقى بلاد العالم كله وهو « السويد » .
حيث يخص الفرد الواحد من الدخل القومي ما يساوي خمسمائة جنيه في العام . وحيث يستحق كل فرد نصيبه من التأمين الصحي وإعانات المرض التي تصرف نقداً والعلاج المجاني في المستشفيات . وحيث التعليم في جميع مراحله بالمجان ، مع تقديم إعانات ملابس وقروض للطلبة المتفوقين وحيث تقدم الدولة حوالي ثلاثمائة جنيه إعانة زواج لتأثيث البيوت . . وحيث وحيث من ذلك الرخاء المادي والحضاري العجيب . .
ولكن ماذا؟ ماذا وراء هذا الرخاء المادي والحضاري وخلو القلوب من الإيمان بالله؟
إنه شعب مهدد بالانقراض ، فالنسل في تناقص مطرد بسبب فوضى الاختلاط! والطلاق بمعدل طلاق واحد لكل ست زيجات بسبب انطلاق النزوات وتبرج الفتن وحرية الاختلاط! والجيل الجديد ينحرف فيدمن على المسكرات والمخدرات؛ ليعوض خواء الروح من الإيمان وطمأنينة القلب بالعقيدة . والأمراض النفسية والعصبية والشذوذ بأنواعه تفترس عشرات الآلاف من النفوس والأرواح والأعصاب . . ثم الانتحار . . والحال كهذا في أمريكا . . والحال أشنع من هذا في روسيا . .(1/47)
إنها الشقوة النكدة المكتوبة على كل قلب يخلو من بشاشة الإيمان وطمأنينة العقيدة . فلا يذوق طعم السلم الذي يدعى المؤمنون ليدخلوا فيه كافة ، ولينعموا فيه بالأمن والظل والراحة والقرار :
{ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة . . ولا تتبعوا خطوات الشيطان . إنه لكم عدو مبين } . .
ولما دعا الله الذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة . . حذرهم أن يتبعوا خطوات الشيطان . فإنه ليس هناك إلا اتجاهان اثنان . إما الدخول في السلم كافة ، وإما اتباع خطوات الشيطان . إما هدى وأما ضلال . إما إسلام وإما جاهلية إما طريق الله وإما طريق الشيطان وإما هدى الله وإما غواية الشيطان . . وبمثل هذا الحسم ينبغي أن يدرك المسلم موقفه ، فلا يتلجلج ولا يتردد ولا يتحير بين شتى السبل وشتى الاتجاهات .
إنه ليست هنالك مناهج متعددة للمؤمن أن يختار واحداً منها ، أو يخلط واحدا منها بواحد . . كلا! إنه من لا يدخل في السلم بكليته ، ومن لا يسلم نفسه خالصة لقيادة الله وشريعته ، ومن لا يتجرد من كل تصور آخر ومن كل منهج آخر ومن كل شرع آخر . . إن هذا في سبيل الشيطان ، سائر على خطوات الشيطان . .
ليس هنالك حل وسط ، ولا منهج بين بين ، ولا خطة نصفها من هنا ونصفها من هناك! إنما هناك حق وباطل . هدى وضلال . إسلام وجاهلية . منهج الله أو غواية الشيطان . والله يدعو المؤمنين في الأولى إلى الدخول في السلم كافة؛ ويحذرهم في الثانية من اتباع خطوات الشيطان . ويستجيش ضمائرهم ومشاعرهم ، ويستثير مخاوفهم بتذكيرهم بعداوة الشيطان لهم ، تلك العداوة الواضحة البينة ، التي لا ينساها إلا غافل . والغفلة لا تكون مع الإيمان .
ثم يخوفهم عاقبة الزلل بعد البيان :{ فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم }.(1/48)
وتذكيرهم بأن الله { عزيز } يحمل التلويح بالقوة والقدرة والغلبة ، وأنهم يتعرضون لقوة الله حين يخالفون عن توجيهه . . وتذكيرهم بأنه { حكيم } . فيه إيحاء بأن ما اختاره لهم هو الخير ، وما نهاهم عنه هو الشر ، وأنهم يتعرضون للخسارة حين لا يتبعون أمره ولا ينتهون عما نهاهم عنه . . فالتعقيب بشطريه يحمل معنى التهديد والتحذير في هذا المقام . .
- - - - - - - - - - - -
7.
الإنفاقُ مما رزقهمُ اللهُ
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (254) سورة البقرة
يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِالإِنْفَاقِ مِمَّا رَزَقَهُمْ فِي دَفْعِ زَكَاةِ أَمْوالِهِمْ ، وَفِي سَبِيلِ الخَيْرِ فِي الحَيَاةِ الدُّنيا ، لِيَكْسِبُوا ثَوَابَ اللهِ وَرِضْوَانَهُ فِي الآخِرَةِ ، فَإِذَا جَاؤُوهُ يَوْمَ القِيَامَةِ - وَهُوَ يَوْمٌ لاَ يَنْفَعُ فِيهِ الإِنْسَانَ إلاّ عَمَلُهُ الصَّالِحُ الطَّيِّبُ فِي الحَيَاةِ الدُّنيا وَلا تَنْفَعُهُ فِيهِ صَدَاقَةٌ وَلا شَفَاعَةُ شفَيعٍ - وَجَدُوا ما أنْفَقُوا عَمَلاً صَالِحاً لَهُمْ يَنْفَعُهُمْ عِنْدَ اللهِ . وَلَيْسَ أَحَدٌ أَكْثَرَ ظُلْماً لِنَفْسِهِ مِمَّنْ يَأتِي اللهَ يَوْمَ القِيَامَةِ كَافراً بِرَبِّهِ ، شَحِيحاً بَخِيلاً مُمْتَنِعاً عَنْ دَفْعِ زَكَاةِ مَالِهِ وَعَنِ الإِنْفَاقِ فِي سَبيلِ اللهِ .
إنها الدعوة بالصفة الحبيبة إلى نفوس المؤمنين ، والتي تربطهم بمن يدعوهم ، والذي هم به مؤمنون : { يا أيها الذين آمنوا } . .(1/49)
وهي الدعوة إلى الإنفاق من رزقه الذي أعطاهم إياه . فهو الذي أعطى ، وهو الذي يدعو إلى الإنفاق مما أعطى : { أنفقوا مما رزقناكم } . .وهي الدعوة إلى الفرصة التي إن أفلتت منهم فلن تعود { من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة } . .فهي الفرصة التي ليس بعدها - لو فوّتوها على أنفسهم - بيع تربح فيه الأموال وتنمو . وليس بعده صداقة أو شفاعة ترد عنهم عاقبة النكول والتقصير .
ويشير إلى الموضوع الذي يدعوهم إلى الإنفاق من أجله . فهو الإنفاق للجهاد . لدفع الكفر . ودفع الظلم المتمثل في هذا الكفر : { والكافرون هم الظالمون } . .
ظلموا الحق فأنكروه . وظلموا أنفسهم فأوردوها موارد الهلاك . وظلموا الناس فصدوهم عن الهدى وفتنوهم عن الإيمان ، وموهوا عليهم الطريق ، وحرموهم الخير الذي لا خير مثله . خير السلم والرحمة والطمأنينة والصلاح واليقين .
إن الذين يحاربون حقيقة الإيمان أن تستقر في القلوب؛ ويحاربون منهج الإيمان أن يستقر في الحياة؛ ويحاربون شريعة الإيمان أن تستقر في المجتمع . . إنما هم أعدى أعداء البشرية وأظلم الظالمين لها . ومن واجب البشرية - لو رشدت - أن تطاردهم حتى يصبحوا عاجزين عن هذا الظلم الذي يزاولونه؛ وأن ترصد لحربهم كل ما تملك من الأنفس والأموال . . وهذا هو واجب الجماعة المسلمة الذي يندبها إليه ربها ويدعوها من أجله بصفتها تلك؛ ويناديها ذلك النداء الموحي العميق . .
وبمناسبة الاختلاف بعد الرسل والاقتتال ، والكفر بعد مجيء البينات والإيمان .
- - - - - - - - - - - -
8.
عدمُ إبطال الصَّدقات بالمنِّ والأذَى(1/50)
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (264) سورة البقرة
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بأنَّ المَنَّ وَالأَذَى يُبْطِلانِ الفَائِدَةَ المَقْصُودَةَ مِنْ إِعْطَاءِ الصَّدَقَاتِ ، كَمَا يُبْطِلُها إِعْطَاءُ الصَّدَقَةِ للتَّبَاهِي وَالمُرَاءَاةِ أمَامَ النَّاسِ بِها ، كَمَنْ يَتَصَدَّقُ مُتَظَاهِراً بِأَنَّهُ يُرِيدُ وَجَهَ اللهِ ، وَتَخْفِيفَ بُؤْسِ المُحْتَاجِينَ . وَهُوَ إِنَّمَا يُرِيدُ مَدْحَ النَّاسِ ، وَالاشْتِهَارَ بَيْنَهُمْ بِأَنَّهُ مِنَ المُحْسِنِينَ . وَهؤُلاءِ المُرَاؤُونَ مَثَلُ أَعْمَالِهم مَثَلُ تُرابٍ عَلَى حَجَرٍ أَمْلَسَ ، فَهَطَلَ مَطَرٌ فَغَسَلَ الحَجَرَ ، وَلَمْ يَتْرُكْ عَلَيهِ شَيئاً مِنْ ذلِكَ التُرابِ ، وَأَصْبَحَ الحَجَرُ صَلْداً لا تُرَابَ عَلَيهِ . وَكَذَلِكَ يَذْهَبُ عَمَلَ المُرائِينَ وَلا يَبْقَى مِنْهُ شَيءٌ ، فَلا يَنْتَفِعُونَ بِشَيءٍ مِنْ عَمَلِهِمْ عِنْدَ اللهِ ، وَإنَ ظَهَرَ أنَّ لَهُم أعْمَالاً حَسَنَةً ، وَاللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ المُنَافِقينَ المُرَائِينَ ، إلى الخَيْرِ والرَّشَادِ .
هذا القلب الصلد المغشى بالرياء يمثله { صفوان عليه تراب } حجر لا خصب فيه ولا ليونة ، يغطيه تراب خفيف يحجب صلادته عن العين ، كما أن الرياء يحجب صلادة القلب الخالي من الإيمان .
{ فأصابه وابل فتركه صلداً } . .(1/51)
وذهب المطر الغزير بالتراب القليل! فانكشف الحجر بجدبه وقساوته ، ولم ينبت زرعه ، ولم يثمر ثمرة . . كذلك القلب الذي أنفق ماله رئاء الناس ، فلم يثمر خيراً ولم يعقب مثوبة!
أما المنظر الثاني المقابل له في المشهد . . فقلب عامر بالإيمان ، ندي ببشاشته . ينفق ماله { ابتغاء مرضاة الله } . . وينفقه عن ثقة ثابتة في الخير ، نابعة من الإيمان ، عميقة الجذور في الضمير . . وإذا كان القلب الصلد وعليه ستار من الرياء يمثله صفوان صلد عليه غشاء من التراب ، فالقلب المؤمن تمثله جنة . جنة خصبة عميقة التربة في مقابل حفنة التراب على الصفوان . جنة تقوم على ربوة في مقابل الحجر الذي تقوم عليه حفنة التراب! ليكون المنظر متناسق الأشكال! فإذا جاء الوابل لم يذهب بالتربة الخصبة هنا كما ذهب بغشاء التراب هناك . بل أحياها وأخصبها ونماها . .
{ فأصابها وابل فآتت أكلها ضعفين } . .
أحياها كما تحيي الصدقة قلب المؤمن فيزكو ويزداد صلة بالله ، ويزكو ماله كذلك ويضاعف له الله ما يشاء . وكما تزكو حياة الجماعة المسلمة بالإنفاق وتصلح وتنمو :
{ فإن لم يصبها وابل } . . غزير . . { فطل } من الرذاذ يكفي في التربة الخصبة ويكفي منه القليل!
إنه المشهد الكامل ، المتقابل المناظر ، المنسق الجزئيات ، المعروض بطريقة معجزة التناسق والأداء ، الممثل بمناظره الشاخصة لكل خالجة في القلب وكل خاطرة ، المصور للمشاعر والوجدانات بما يقابلها من الحالات والمحسوسات ، الموحي للقلب باختيار الطريق في يسر عجيب . .ولما كان المشهد مجالاً للبصر والبصيرة من جانب ، ومرد الأمر فيه كذلك إلى رؤية الله ومعرفته بما وراء الظواهر ، جاء التعقيب لمسة للقلوب : { والله بما تعملون بصير } . .(1/52)
فأما المشهد الثاني فتمثيل لنهاية المن والأذى ، كيف يمحق آثار الصدقة محقاً في وقت لا يملك صاحبها قوة ولا عوناً ولا يستطيع لذلك المحق رداً تمثيل لهذه النهاية البائسة في صورة موحية عنيفة الإيحاء . كل ما فيها عاصف بعد أمن ورخاء : { أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار ، له فيها من كل الثمرات ، وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء ، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت؟ كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون } . .
هذه الصدقة في أصلها وفي آثارها تمثل في عالم المحسوسات : { جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار ، له فيها من كل الثمرات } . .
إنها ظليلة وارفة مخصبة مثمرة . . وكذلك الصدقة في طبيعتها وفي آثارها . . كذلك هي في حياة المعطي وفي حياة الآخذ وفي حياة الجماعة الإنسانية . كذلك هي ذات روح وظل ، وذات خير وبركة ، وذات غذاء وري ، وذات زكاة ونماء!
فمن ذا الذي يود أن تكون له هذه الجنة - أو هذه الحسنة - ثم يرسل عليها المن والأذى يمحقها محقاً ، كما يمحق الجنة الإعصار فيه نار؟
ومتى؟ في أشد ساعاته عجزاً عن إنقاذها ، وحاجة إلى ظلها ونعمائها!
{ وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء .فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت } . .
من ذا الذي يود هذا؟ ومن ذا الذي يفكر في ذلك المصير ثم لا يتقيه؟
{ كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون } . .
وهكذا يقوم المشهد الحي الشاخص ، بما فيه أول الأمر من رضى ورفه ومتعة؛ وما فيه من نضارة وروح وجمال . ثم بما يعصف به عصفاً من إعصار فيه نار . . يقوم هذا المشهد العجيب بالإيحاء الشعوري الرعيب الذي لا يدع مجالاً للتردد في الاختيار ، قبل أن تذهب فرصة الاختيار ، وقبل أن يصيب الجنة الوارفة الظليلة المثمرة إعصار فيه نار!(1/53)
وبعد فإن التناسق الدقيق الجميل الملحوظ في تركيب كل مشهد على حدة ، وفي طريقة عرضه وتنسيقه . . . هذا التناسق لا يقف عند المشاهد فرادى . بل إنه ليمد رواقه فيشمل المشاهد متجمعة من بدئها في هذا الدرس إلى منتهاها . . إنها جميعاً تعرض في محيط متجانس . محيط زراعي! حبة أنبتت سبع سنابل . صفوان عليه تراب فأصابه وابل . جنة بربوة فآتت أكلها ضعفين جنة من نخيل وأعناب . . حتى الوابل والطل والإعصار التي تكمل محيط الزراعة لم يخل منها محيط العرض الفني المثير .
وهي الحقيقة الكبيرة وراء العرض الفني المثير . . حقيقة الصلة بين النفس البشرية والتربة الأرضية . حقيقة الأصل الواحد ، وحقيقة الطبيعة الواحدة ، وحقيقة الحياة النابتة في النفس وفي التربة على السواء . وحقيقة المحق الذي يصيب هذه الحياة في النفس وفي التربة على السواء .
إنه القرآن . . كلمة الحق الجميلة . . من لدن حكيم خبير . .
- - - - - - - - - - - -
9.
الإنفاقُ من طيباتِ ما كسبنا
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) } سورة البقرة(1/54)
يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنينَ بِالإِنْفَاقِ مِنْ أَطْيَبِ المَالِ وَأَجْوَدِهِ ، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ التَّصَدُّقِ بِأرْذَلِ المَالِ وَأخَسِّهِ . لأنَّ اللهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إلاّ طَيِّباً . وَيَقُولُ لَهُمْ لاَ تَقْصُدُوا المَالَ الخَبِيثَ لِتُنْفِقُوا مِنْهُ ، وَهَذا المَالُ الخَبِيثُ لَو أنَّهُ أُعْطِيَ إِلَيْكُمْ لَمَا أخَذْتُمُوهُ ، إِلاَّ عَنْ إِغْمَاضٍ وَحَيَاءٍ . وَلْيَعْلَمِ المُؤْمِنُونَ أنَّ اللهَ وَإِنْ أمَرَهُمْ بِالصَّدَقَاتِ فَإِنَّهُ غَنِيٌّ عَنْهُمْ وَعَنْ صَدَقَاتِهِمْ ، وَهُوَ إنمَّا يَحُثُّهُمْ عَلَى التَّصَدُّقِ وَالإِنْفَاقِ لِيسَاوِيَ بَيْنَ الغَنِيِّ وَالفَقِيرِ ، وَاللهُ حَمِيدٌ فِي جَميعِ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدرِهِ ( وَيُرْوى أنَّ السَّبَبَ فِي نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ هُوَ أنَّ بَعْضَ المُسِلِمينَ كَانُوا يَأْتُونَ بِصَدَقَتِهِمْ مِنْ رَدِيء التَّمْرِ ) .
الشَّيطَانُ يُخَوّفُ المُتَصَدِّقِينَ مِنْكُمْ مِنَ الفَقْرِ ، لِتمْسِكُوا مَا بِأيدِيكُمْ ، وَلا تُنْفِقُوهُ فِي سَبِيلِ مَرْضَاةِ اللهِ ، وَيَأمُرُكُمْ بِارْتِكَابِ المَعَاصِي وَالمَآثِمِ ، وَمُخَالَفَةِ الأَخْلاَقِ ، وَاللهُ يَعِدُكُمْ بِالخَيْرِ وَالمَغْفِرَةِ وَالرِّزْقِ ، عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ ، وَبِمَا أَوْدَعَهُ اللهُ فِي الفِطَرِ السَّلِيمَةِ مِنْ حُبِّ الخَيْرِ .
وَاللهُ وَاسعُ الرِّزْقِ وَالعَطَاءِ وَالمَغْفِرَةِ . عَليمٌ بِأحْوَالِكُمْ وَمَا فِيهِ خَيْرُكُمْ .
إن الأسس التي تكشفت النصوص السابقة عن أن الصدقة تقوم عليها وتنبعث منها لتقتضي أن يكون الجود بأفضل الموجود؛ فلا تكون بالدون والرديء الذي يعافه صاحبه؛ ولو قدم إليه مثله في صفقة ما قبله إلا أن ينقص من قيمته . فالله أغنى عن تقبل الرديء الخبيث!(1/55)
وهو نداء عام للذين آمنوا - في كل وقت وفي كل جيل - يشمل جميع الأموال التي تصل إلى أيديهم . تشمل ما كسبته أيديهم من حلال طيب ، وما أخرجه الله لهم من الأرض من زرع وغير زرع مما يخرج من الأرض ويشمل المعادن والبترول . ومن ثم يستوعب النص جميع أنواع المال ، ما كان معهوداً على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وما يستجد . فالنص شامل جامع لا يفلت منه مال مستحدث في أي زمان .
وكله مما يوجب النص فيه الزكاة . أما المقادير فقد بينتها السنة في أنواع الأموال التي كانت معروفة حينذاك . وعليها يقاس وبها يلحق ما يجد من أنواع الأموال .
وقد وردت الروايات بسبب لنزول هذه الآية ابتداء ، لا بأس من ذكره ، لاستحضار حقيقة الحياة التي كان القرآن يواجهها؛ وحقيقة الجهد الذي بذله لتهذيب النفوس ورفعها إلى مستواه . .
روى ابن جرير - بإسناده - عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال : « نزلت في الأنصار . كانت الأنصار إذا كانت أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها البسر فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيأكل فقراء المهاجرين منه . فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع قناء البسر ، يظن أن ذلك جائز . فأنزل الله فيمن فعل ذلك : { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } . .
وكذلك رواه الحاكم عن البراء وقال : صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه .(1/56)
ورواه ابن أبي حاتم - بإسناده عن طريق آخر - عن البراء رضي الله عنه - قال : نزلت فينا . كنا أصحاب نخل ، فكان الرجل يأتي من نخله بقدر كثرته وقلته ، فيأتي رجل بالقنو ، فيعلقه في المسجد . وكان أهل الصفة ليس لهم طعام . فكان أحدهم إذا جاع جاء فضرب بعصاه ، فسقط منه البسر والتمر فيأكل ، وكان أناس ممن لا يرغبون في الخير يأتي بالقنو الحشف والشيص ، فيأتي بالقنو قد انكسر فيعلقه ، فنزلت : { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه } . قال : لو أن أحدكم أهدي له مثل ما أعطى ما أخذه إلا على إغماض وحياء . فكنا بعد ذلك يجيء الرجلى منا بصالح ما عنده.
والروايتان قريبتان . وكلتاهما تشير إلى حالة واقعة في المدينة؛ وترينا صفحة تقابل الصفحة الأخرى التي خطها الأنصار في تاريخ البذل السمح والعطاء الفياض . وترينا أن الجماعة الواحدة تكون فيها النماذج العجيبة السامقة ، والنماذج الأخرى التي تحتاج إلى تربية وتهذيب وتوجيه لتتجه إلى الكمال! كما احتاج بعض الأنصار إلى النهي عن القصد إلى الرديء من أموالهم ، الذي لا يقبلونه عادة في هدية إلا حياء من رده ولا في صفقة إلا بإغماض فيه أي : نقص في القيمة بينما كانوا يقدمونه هم لله!
ومن ثم جاء هذا التعقيب : { واعلموا أن الله غني حميد } . .
غني عن عطاء الناس إطلاقاً . فإذا بذلوه فإنما يبذلونه لأنفسهم فليبذلوه طيباً ، وليبذلوه طيبة به نفوسهم كذلك .
حميد . . يتقبل الطيبات ويحمدها ويجزي عليها بالحسنى . .
ولكل صفة من الصفتين في هذا الموضع إيحاء يهز القلوب . كما هز قلوب ذلك الفريق من الأنصار فعلاً . { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم . . . } . . وإلا فالله غني عن الخبيث الذي تقصدون إليه فتخرجون منه صدقاتكم! بينما هو - سبحانه - يحمد لكم الطيب حين تجرحونه ويجزيكم عليه جزاء الراضي الشاكر .(1/57)
وهو الله الرازق الوهاب . . يجزيكم عليه جزاء الحمد وهو الذي أعطاكم إياه من قبل! أي إيحاء! وأي إغراء! وأي تربية للقلوب بهذا الأسلوب العجيب!
ولما كان الكف عن الإنفاق ، أو التقدم بالرديء الخبيث ، إنما ينشأ عن دوافع السوء ، وعن تزعزع اليقين فيما عند الله ، وعن الخوف من الإملاق الذي لا يساور نفساً تتصل بالله ، وتعتمد عليه ، وتدرك أن مرد ما عندها إليه . . كشف الله للذين آمنوا عن هذه الدوافع لتبدو لهم عارية ، وليعرفوا من أين تنبت النفوس؛ وما الذي يثيرها في القلوب . . إنه الشيطان . .
{ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ، والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً ، والله واسع عليم . يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ، وما يذكر إلا أولو الألباب } . .
الشيطان يخوفكم الفقر ، فيثير في نفوسكم الحرص والشح والتكالب . والشيطان يأمركم بالفحشاء - والفحشاء كل معصية تفحش أي تتجاوز الحد ، وإن كانت قد غلبت على نوع معين من المعاصي ولكنها شاملة . وخوف الفقر كان يدعو القوم في جاهليتهم لوأد البنات وهو فاحشة؛ والحرص على جمع الثروة كان يؤدي ببعضهم إلى أكل الربا وهو فاحشة . . على أن خوف الفقر بسبب الإنفاق في سبيل الله في ذاته فاحشة . .
وحين يعدكم الشيطان الفقر ويأمركم بالفحشاء يعدكم الله المغفرة والعطاء : { والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً } . .
ويقدم المغفرة ، ويؤخر الفضل . . فالفضل زيادة فوق المغفرة . وهو يشمل كذلك عطاء الرزق في هذه الأرض ، جزاء البذل في سبيل الله والإنفاق .
{ والله واسع عليم } . .
يعطي عن سعة ، ويعلم ما يوسوس في الصدور ، وما يهجس في الضمير
- - - - - - - - - - - -
10.
النهي عن الربا(1/58)
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281) } سورة البقرة
يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنينَ ، المُصَدِّقِينَ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ ، بِالتَّقْوى ، فَيَقُولُ لَهُمْ : اتَّقُوا اللهَ وَاتْرُكُوا مَا لَكُمْ عِنْدَ النَّاسِ مِنَ الرِّبا ( أَيْ مَا يَزيدُ عَلَى رُؤُوسِ أَمْوالِكُمْ ) إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حَقّاً بِمَا شَرَعَ اللهُ لَكُمْ مِنْ تَحْلِيلِ البَيْعِ ، وَتَحْرِيمِ الرِّبا ، وَغَيْرَ ذَلِكَ .
وَأنْذَرَ اللهُ تَعَالَى الذِينَ لاَ يَمْتَثِلُونَ لأَمْرِهِ مِنْ تَرْكِ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا عِنْدَ النَّاسِ ، بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ لخُرُوجِهِمْ عَنِ الشَّرْعِ ، وَعَدَمِ خَضُوعِهِمْ لَهُ ، فَإنْ تَابُوا فَلَهُمْ رُؤُوسُ أمْوَالِهِمْ بِدُونِ زِيَادَةٍ ، لاَ يَظْلِمُونَ بِأخْذِ زِيادَةٍ ، وَلاَ يُظْلَمُونَ بِوَضْعِ شَيءٍ مِنْ رَأسِ المَالِ .(1/59)
فَإنْ كَانَ المَدِينُ مُعْسِراً لاَ يَجِدُ وَفَاءَ دَيْنِهِ ، فَإنَّ اللهَ يَأمُرُ الدَّائِنَ بِنَظِرَتِهِ إلى حِينِ مَيْسَرَتِهِ ، وَتَمَكُّنِهِ مِنْ دَفْعِ مَا عَلَيهِ . وَإِنْ تَصَدَّقَ الدَّائِنُ عَلَى المَدِينِ المُعْسِرِ بِشَيءٍ مِنْ رَأسِ المَالِ ، أوْ بِرَأسِ المَالِ كُلِّهِ ، فَذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ . وَقَدْ وَرَدَتْ أحَادِيثُ كَثِيرةٌ فِي الحَثِّ عَلَى تَنْفِيسِ كُرْبَةِ المُكْرُوبِ وَالتَّجَاوُزِ عَنِ المُعْسِرِ .
وَاحْذَرُوا يَا أَيُّهَا النَّاسُ ذَلِكَ اليَوْمَ العَظِيمَ ، يَوْمَ القِيَامَةِ الذِي تَتَفَرَّغُونَ فِيهِ مِنْ مَشَاغِلِكُمُ الجَسَدِيَّة وَالدُّنْيَويَّةِ التِي كَانَتْ تَصْرِفُكُمْ عَنْ رَبِّكُمْ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنيا ، وَيُجَازِي اللهُ كُلا ًبِعَمَلِهِ ، إنْ خَيْراً فَخَيْراً ، وَإِنْ شَرّاً فَشَرّاً ، وَلا تُنْقَصُ نَفْسٌ مِنْ ثَوَابِها ، وَلاَ يُزَادُ فِي عِقَابِهَا .
إن النص يعلق إيمان الذين آمنوا على ترك ما بقي من الربا . فهم ليسوا بمؤمنين إلا أن يتقوا الله ويذروا ما بقي من الربا . ليسوا بمؤمنين ولو أعلنوا أنهم مؤمنون . فإنه لا إيمان بغير طاعة وانقياد واتباع لما أمر الله به . والنص القرآني لا يدعهم في شبهة من الأمر . ولا يدع إنساناً يتستر وراء كلمة الإيمان ، بينما هو لا يطيع ولا يرتضي ما شرع الله ، ولا ينفذه في حياته ، ولا يحكمه في معاملاته . فالذين يفرقون في الدين بين الاعتقاد والمعاملات ليسوا بمؤمنين . مهما ادعوا الإيمان وأعلنوا بلسانهم أو حتى بشعائر العبادة الأخرى أنهم مؤمنون!
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا . . إن كنتم مؤمنين } . .(1/60)
لقد ترك لهم ما سلف من الربا - لم يقرر استرداده منهم ، ولا مصادرة أموالهم كلها أو جزء منها بسبب أن الربا كان داخلاً فيها . . إذ لا تحريم بغير نص . . ولا حكم بغير تشريع . . والتشريع ينفذ وينشئ آثاره بعد صدوره . . فأما الذي سلف فأمره إلى الله لا إلى أحكام القانون . وبذلك تجنب الإسلام إحداث هزة اقتصادية واجتماعية ضخمة لو جعل لتشريعه أثراً رجعياً . وهو المبدأ الذي أخذ به التشريع الحديث حديثاً! ذلك أن التشريع الإسلامي موضوع ليواجه حياة البشر الواقعية ، ويسيرها ، ويطهرها ويطلقها تنمو وترتفع معاً . . وفي الوقت ذاته علق اعتبارهم مؤمنين على قبولهم لهذا التشريع وإنفاذه في حياتهم منذ نزوله وعلمهم به . واستجاش في قلوبهم - مع هذا - شعور التقوى لله . وهو الشعور الذي ينوط به الإسلام تنفيذ شرائعه ، ويجعله الضمان الكامن في ذات الأنفس ، فوق الضمانات المكفولة بالتشريع ذاته . فيكون له من ضمانات التنفيذ ما ليس للشرائع الوضعية التي لا تستند إلا للرقابة الخارجية! وما أيسر الاحتيال على الرقابة الخارجية ، حين لا يقوم من الضمير حارس له من تقوى الله سلطان .
فهذه صفحة الترغيب . . وإلى جوارها صفحة الترهيب . . الترهيب الذي يزلزل القلوب : .
يا للهول! حرب من الله ورسوله . . حرب تواجهها النفس البشرية . . حرب رهيبة معروفة المصير ، مقررة العاقبة . . فأين الإنسان الضعيف الفاني من تلك القوة الجبارة الساحقة الماحقة؟!(1/61)
ولقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عامله على مكة بعد نزول هذه الآيات التي نزلت متأخرة أن يحارب آل المغيرة هناك إذا لم يكفوا عن التعامل الربوي . وقد أمر - صلى الله عليه وسلم - في خطبته يوم فتح مكة بوضع كل ربا في الجاهلية - وأوله ربا عمه العباس - عن كاهل المدينين الذي ظلوا يحملونه إلى ما بعد الإسلام بفترة طويلة ، حتى نضج المجتمع المسلم ، واستقرت قواعده ، وحان أن ينتقل نظامه الاقتصادي كله من قاعدة الربا الوبيئة . وقال - صلى الله عليه وسلم - في هذه الخطبة :
« وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين . وأول ربا أضع ربا العباس . . » ولم يأمرهم برد الزيادات التي سبق لهم أخذها في حالة الجاهلية .
فالإمام مكلف - حين يقوم المجتمع الإسلامي - أن يحارب الذين يصرون على قاعدة النظام الربوي ، ويعتون عن أمر الله ، ولو أعلنوا أنهم مسلمون . كما حارب أبو بكر - رضي الله عنه - مانعي الزكاة ، مع شهادتهم أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقامتهم للصلاة . فليس مسلماً من يأبى طاعة شريعة الله ، ولا ينفذها في واقع الحياة!(1/62)
على أن الإيذان بالحرب من الله ورسوله أعم من القتال بالسيف والمدفع من الإمام . فهذه الحرب معلنة - كما قال أصدق القائلين - على كل مجتمع يجعل الربا قاعدة نظامه الاقتصادي والاجتماعي . هذه الحرب معلنة في صورتها الشاملة الداهمة الغامرة . وهي حرب على الأعصاب والقلوب . وحرب على البركة والرخاء . وحرب على السعادة والطمأنينة . . حرب يسلط الله فيها بعض العصاة لنظامه ومنهجه على بعض . حرب المطاردة والمشاكسة . حرب الغبن والظلم . حرب القلق والخوف . . وأخيراً حرب السلاح بين الأمم والجيوش والدول . الحرب الساحقة الماحقة التي تقوم وتنشأ من جراء النظام الربوي المقيت . فالمرابون أصحاب رؤوس الأموال العالمية هم الذين يوقدون هذه الحروب مباشرة أو عن طريق غير مباشر . وهم يلقون شباكهم فتقع فيها الشركات والصناعات . ثم تقع فيها الشعوب والحكومات . ثم يتزاحمون على الفرائس فتقوم الحرب! أو يزحفون وراء أموالهم بقوة حكوماتهم وجيوشها فتقوم الحرب! أو يثقل عبء الضرائب والتكاليف لسداد فوائد ديونهم ، فيعم الفقر والسخط بين الكادحين والمنتجين ، فيفتحون قلوبهم للدعوات الهدامة فتقوم الحرب! وأيسر ما يقع - إن لم يقع هذا كله - هو خراب النفوس ، وانهيار الأخلاق ، وانطلاق سعار الشهوات ، وتحطم الكيان البشري من أساسه ، وتدميره بما لا تبلغه أفظع الحروب الذرية الرعيبة!
إنها الحرب المشبوبة دائماً .{ فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } .(1/63)
وقد أعلنها الله على المتعاملين بالربا . . وهي مسعرة الآن؛ تأكل الأخضر واليابس في حياة البشرية الضالة؛ وهي غافلة تحسب أنها تكسب وتتقدم كلما رأت تلال الإنتاج المادي الذي تخرجه المصانع . . وكانت هذه التلال حرية بأن تسعد البشر لو أنها نشأت من منبت زكي طاهر؛ ولكنها - وهي تخرج من منبع الربا الملوث - لا تمثل سوى ركام يخنق أنفاس البشرية ، ويسحقها سحقاً؛ في حين تجلس فوقه شرذمة المرابين العالميين ، لا تحس آلام البشرية المسحوقة تحت هذا الركام الملعون!
لقد دعا الإسلام الجماعة المسلمة الأولى ، ولا يزال يدعو البشرية كلها إلى المَشْرع الطاهر النظيف ، وإلى التوبة من الإثم والخطيئة والمنهج الوبيء : { وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم . لا تظلمون ولا تظلمون }
فهي التوبة عن خطيئة . إنها خطيئة الجاهلية . الجاهلية التي لا تتعلق بزمان دون زمان ، ولا نظام دون نظام . . إنما هي الانحراف عن شريعة الله ومنهجه متى كان وحيث كان . . خطيئة تنشئ آثارها في مشاعر الأفراد وفي أخلاقهم وفي تصورهم للحياة . وتنشئ آثارها في حياة الجماعة وارتباطاتها العامة . وتنشئ آثارها في الحياة البشرية كلها ، وفي نموها الاقتصادي ذاته . ولو حسب المخدوعون بدعاية المرابين ، إنها وحدها الأساس الصالح للنمو الاقتصادي!(1/64)
واسترداد رأس المال مجرداً ، عدالة لا يظلم فيها دائن ولا مدين . . فأما تنمية المال فلها وسائلها الأخرى البريئة النظيفة . لها وسيلة الجهد الفردي . ووسيلة المشاركة على طريقة المضاربة وهي إعطاء المال لمن يعمل فيه ، ومقاسمته الربح والخسارة . ووسيلة الشركات التي تطرح أسهمها مباشرة في السوق - بدون سندات تأسيس تستأثر بمعظم الربح - وتناول الأرباح الحلال من هذا الوجه . ووسيلة إيداعها في المصارف بدون فائدة - على أن تساهم بها المصارف في الشركات والصناعات والأعمال التجارية مباشرة أو غير مباشرة - ولا تعطيها بالفائدة الثابتة - ثم مقاسمة المودعين الربح على نظام معين أو الخسارة إذا فرض ووقعت . . وللمصارف أن تتناول قدراً معيناً من الأجر في نظير إدارتها لهذه الأموال . . ووسائل أخرى كثيرة ليس هنا مجال تفصيلها . . وهي ممكنة وميسرة حين تؤمن القلوب ، وتصح النيات على ورود المورد النظيف الطاهر ، وتجنب المورد العفن النتن الآسن!
ويكمل السياق الأحكام المتعلقة بالدين في حالة الإعسار . . فليس السبيل هو ربا النسيئة : بالتأجيل مقابل الزيادة . . ولكنه هو الإنظار إلى ميسرة . والتحبيب في التصدق به لمن يريد مزيداً من الخير أوفى وأعلى : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة . وأن تصدقوا خير لكم . . إن كنتم تعلمون } . .
إنها السماحة الندية التي يحملها الإسلام للبشرية . إنه الظل الظليل الذي تأوي إليه البشرية المتعبة في هجير الأثرة والشح والطمع والتكالب والسعار . إنها الرحمة للدائن والمدين وللمجتمع الذي يظل الجميع!(1/65)
ونحن نعرف أن هذه الكلمات لا تؤدي مفهوماً « معقولاً » في عقول المناكيد الناشئين في هجير الجاهلية المادية الحاضرة! وأن مذاقها الحلو لا طعم له في حسهم المتحجر البليد! - وبخاصة وحوش المرابين سواء كانوا أفراداً قابعين في زوايا الأرض يتلمظون للفرائس من المحاويج والمنكوبين الذين تحل بهم المصائب فيحتاجون للمال للطعام والكساء والدواء أو لدفن موتاهم في بعض الأحيان ، فلا يجدون في هذا العالم المادي الكز الضنين الشحيح من يمد لهم يد المعونة البيضاء؛ فيلجأون مرغمين إلى أوكار الوحوش .
فرائس سهلة تسعى إلى الفخاخ بأقدامها . تدفعها الحاجة وتزجيها الضرورة! سواء كانوا أفرادا هكذا أو كانوا في صورة بيوت مالية ومصارف ربوية . فكلهم سواء . غير أن هؤلاء يجلسون في المكاتب الفخمة على المقاعد المريحة؛ ووراءهم ركام من النظريات الاقتصادية ، والمؤلفات العلمية ، والأساتذة والمعاهد والجامعات ، والتشريعات والقوانين ، والشرطة والمحاكم والجيوش . . كلها قائمة لتبرير جريمتهم وحمايتها ، وأخذ من يجرؤ على التلكؤ في رد الفائدة الربوية إلى خزائنهم باسم القانون . . !!
نحن نعرف أن هذه الكلمات لا تصل إلى تلك القلوب . . ولكنا نعرف أنها الحق . ونثق أن سعادة البشرية مرهونة بالاستماع إليها والأخذ بها : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة . وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون } .
إن المعسر - في الإسلام - لا يطارد من صاحب الدين ، أو من القانون والمحاكم . إنما ينظر حتى يوسر . . ثم إن المجتمع المسلم لا يترك هذا المعسر وعليه دين . فالله يدعو صاحب الدين أن يتصدق بدينه - إن تطوع بهذا الخير . وهو خير لنفسه كما هو خير للمدين . وهو خير للجماعة كلها ولحياتها المتكافلة . لو كان يعلم ما يعلمه الله من سريرة هذا الأمر!(1/66)
ذلك أن إبطال الربا يفقد شطراً كبيراً من حكمته إذا كان الدائن سيروح يضايق المدين ، ويضيق عليه الخناق . وهو معسر لا يملك السداد . فهنا كان الأمر - في صورة شرط وجواب - بالانتظار حتى يوسر ويقدر على الوفاء . وكان بجانبه التحبيب في التصدق بالدين كله أو بعضه عند الإعسار .
على أن النصوص الأخرى تجعل لهذا المدين المعسر حظاً من مصارف الزكاة ، ليؤدي دينه ، وييسر حياته : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين . . . والغارمين . . . } وهم أصحاب الديون . الذين لم ينفقوا ديونهم على شهواتهم وعلى لذائذهم . إنما أنفقوها في الطيب النظيف ثم قعدت بهم الظروف!
ثم يجيء التعقيب العميق الإيحاء ، الذي ترجف منه النفس المؤمنة ، وتتمنى لو تنزل عن الدين كله ، ثم تمضي ناجية من الله يوم الحساب : { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله . ثم توفى كل نفس ما كسبت ، وهم لا يظلمون } . .
واليوم الذي يرجعون فيه إلى الله ، ثم توفى كل نفس ما كسبت يوم عسير ، له في القلب المؤمن وقع؛ ومشهده حاضر في ضمير المؤمن ، وله في ضمير المؤمن هول . والوقوف بين يدي الله في هذا اليوم خاطر يزلزل الكيان!
وهو تعقيب يتناسق مع جو المعاملات . جو الأخذ والعطاء . جو الكسب والجزاء . . إنه التصفية الكبرى للماضي جميعه بكل ما فيه . والقضاء الأخير في الماضي بين كل من فيه . فما أجدر القلب المؤمن أن يخشاه وأن يتوقاه .
إن التقوى هي الحارس القابع في أعماق الضمير؛ يقيمه الإسلام هناك لا يملك القلب فراراً منه لأنه في الأعماق هناك!
إنه الإسلام . . النظام القوي . . الحلم الندي الممثل في واقع أرضي . . رحمة الله بالبشر . وتكريم الله للإنسان . والخير الذي تشرد عنه البشرية؛ ويصدها عنه أعداء الله وأعداء الإنسان!
- - - - - - - - - - - -
11.
الأمر بكتابة الدين(1/67)
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) } سورة البقرة(1/68)
يُرْشِدُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ إذا تَعَامَلُوا بِمُعَامَلات مُؤَجَّلَةٍ فَإنَّ عَلَيهِمْ أنْ يَكْتُبُوها ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أحْفَظَ لِمِقْدارِهَا وَمِيقَاتِهَا ، وَأضْبَطَ لِلشَّهَادَةِ فِيها ، وَلْيَكْتُبْ بَيْنَهُمْ كَاتِبٌ بِالقْسِطِ وَالحَقِّ ( بِالعدْلِ ) ، وَلاَ يَجُرْ فِي كِتَابَتِهِ عَلَى أحدٍ ، وَلاَ يَعْرِفُ الكِتَابَةَ أنْ لاَ يَمْتَنِعَ عَنِ الكِتَابَةِ إذا مَا سُئِلَ الكِتَابَةَ لِلنَّاسِ ، وَلاَ ضَرَرَ عَلَيهِ فِي ذَلِكَ ، فَكَمَا عَلَّمَهُ اللهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ فَلْيَتَصَدَّقْ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لاَ يُحْسِنُ الكِتَابَةَ .
وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ : " مَنْ كَتَمَ عِلْماً يَعْلَمُهُ أُلْجِمَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ "
وَلْيُمْلِلِ الذِي عَليهِ الدَّيْنُ عَلَى الكَاتِبِ مُقْرّاً بِمَا فِي ذِمَّتِهِ مِنَ الدَّيْنِ ، لِيَكُونَ إمْلالُهُ حُجَّةً عَليهِ تَحْفَظُهَا الكِتَابَةُ ، وَلْيَتَّقِ اللهَ فِي ذَلِكَ ، وَلاَ يَكْتُمْ مِنْهُ شَيْئاً وَلاَ يُنْقِصْ ( لاَ يَبْخَسْ ) . أمَّا إذا كَانَ المَدِينُ سَفِيهاً مَحْجُوراً عَلَيهِ لِتَبْذِيرِهِ ، أوْ كَانَ ضَعِيفاً أيْ صَغِيراً أوْ مَجْنُوناً ، أوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أنْ يُقَرِّرَ وَيُمْلِيَ عَلَى الكَاتِبِ لِعِيٍّ أوْ لِجَهْلٍ . . . فَلْيَتَوَلَّ ذَلِكَ وَلِيُّهُ بِالعَدْلِ .(1/69)
وَاسْتَشْهِدُوا شَاهِدَينِ زِيَادَةً فِي الاسْتِيثَاقِ : رَجُلَينِ أوْ رَجُلاً وامْرَأتينِ مِنَ الشُّهُودِ العُدُولِ الذِينَ تَرْضَوْنَ شَهَادَتَهُمْ . وَإذَت دُعِيَ الشُّهُودُ لأَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَعَلَيْهِمء ألاَّ يَمْتَنِعُوا . وَيَحُثُّ اللهُ المُؤْمِنِينَ عَلَى عَدَمِ إهْمَالِ الكِتَابَةِ فِي الدَّين ، صَغِيراً كَانَ أوْ كَبِيراً ، لأنَّ ذَلِكَ أعْدَلُ عِنْدَ اللهِ ( أَقْسَطُ ) وَأَثْبَتُ لِلشَّهَادَةِ ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ حِينَ يَضَعُ خَطَّهُ عَلَى السَّنَدِ ثُمَّ يَرَاهُ فَيَذْكُرُ الشَّهَادَةَ ، وَهُوَ أقرَبُ إلى عَدَمِ الرِّيِبَةِ إذْ تَرْجِعُونَ عِنْدَ التَّنَازُعِ إلى الكِتَابَةِ وَمَا جَاءَ فِيهَا .
أمَّا إذا كَانَ البَيْعُ بِالحَاضِرِ يَداً بِيَدٍ ( تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا ) فَلاَ بأسَ فِي تَرْكِ الكِتَابَةِ ، لاِنْتِفَاءِ المَحْذُورِ في تَرْكِهَا . وَ لاَ يَجُوزُ أنْ يَلْحَقَ ضَرَرٌ بَالكَاتِبِ أوْ بِالشَّاهِدِ لِمَا يَقُومَانِ بِهِ . وَمَنْ يُخَالِفْ أمْرَ اللهِ فِيمَا أمَرَ بِهِ مِنْ عَدَمِ إيذَاءِ الكَاتِبِ وَالشَّاهِدِ فَإِنَّ ذَلِكَ فِسْقٌ وَخُرُوجٌ عَنْ شَرْعِ اللهِ . وَاتَّقُوا اللهَ وَراقِبُوهُ ، واللهُ يُعَلِّمُكُمْ وَاجِبَاتِكُمْ ، وَيُرْشِدُكُمْ إلى خَيْرِكُمْ ، وَ اللهُ علِيمٌ بِكُلِّ شَيءٍ .(1/70)
فَإِنْ كُنْتُمْ مُسَافِرِينَ وَتَدايَنْتُمْ بِدِينٍ إلى أجَلٍ مُعَيَّنٍ ( مُسَمَّى ) ، وَلَمْ تَجِدُوا مَنْ يَكْتُبُ ، أَوْ لَمْ تَجِدُوا أَدَواتِ الكِتَابَةِ ، فَلْيَكُنْ مَقَامَ الكِتَابَةِ رَهْنٌ يُسَلِّمُهُ المَدِينُ إلى صَاحِبِ الحَقِّ ، فَإذَا وَثِقَ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ فَلاَ بَأسَ فِي ألاَّ تَكْتُبُوا ، أَوْ ألاَّ تَشْهَدُوا شَاهِدِينَ ، وَلْيَتَّقِ المُؤْمِنُ اللهَ رَبَّهُ ، وَعَلَيْكُمْ أنْ لاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ، وَأنْ لاَ تَمْتَنِعُوا عَنْ أَدَائِهَا ، إذا دُعِيتُم إلى أَدَائِها ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَإِنَّهً يَكُونُ آثِمَ القَلْبِ ، وَقَدِ ارْتَكَبَ إِثْماً وَذَنْباً .
وَلاَ يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْ أعْمَالِكُمْ شَيءٌ .
إن الإنسان ليقف في عجب وفي إعجاب أمام التعبير التشريعي في القرآن - حيث تتجلى الدقة العجيبة في الصياغة القانونية حتى ما يبدل لفظ بلفظ ، ولا تقدم فقرة عن موضعها أو تؤخر . وحيث لا تطغى هذه الدقة المطلقة في الصياغة القانونية على جمال التعبير وطلاوته . وحيث يربط التشريع بالوجدان الديني ربطاً لطيف المدخل عميق الإيحاء قوي التأثير ، دون الإخلال بترابط النص من ناحية الدلالة القانونية . وحيث يلحظ كل المؤثرات المحتملة في موقف طرفي التعاقد وموقف الشهود والكتاب ، فينفي هذه المؤثرات كلها ويحتاط لكل احتمال من احتمالاتها . وحيث لا ينتقل من نقطة إلى نقطة إلا وقد استوفى النقطة التشريعية بحيث لا يعود إليها إلا حيث يقع ارتباط بينها وبين نقطة جديدة يقتضي الإشارة إلى الرابطة بينهما . . .
إن الإعجاز في صياغة آيات التشريع هنا لهو الإعجاز في صياغة آيات الإيحاء والتوجيه . بل هو أوضح وأقوى . لأن الغرض هنا دقيق يحرفه لفظ واحد ، ولا ينوب فيه لفظ عن لفظ . ولولا الإعجاز ما حقق الدقة التشريعية المطلقة والجمال الفني المطلق على هذا النحو الفريد .(1/71)
ذلك كله فوق سبق التشريع الإسلامي بهذه المبادىء للتشريع المدني والتجاري بحوالي عشرة قرون ، كما يعترف الفقهاء المحدثون!
{ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } . .
هذا هو المبدأ العام الذي يريد تقريره . فالكتابة أمر مفروض بالنص ، غير متروك للاختيار في حالة الدين إلى أجل . لحكمة سيأتي بيانها في نهاية النص .
{ وليكتب بينكم كاتب بالعدل } . .
وهذا تعيين للشخص الذي يقوم بكتابة الدين فهو كاتب . وليس أحد المتعاقدين . وحكمة استدعاء ثالث - ليس أحد الطرفين في التعاقد - هي الاحتياط والحيدة المطلقة . وهذا الكاتب مأمور أن يكتب بالعدل ، فلا يميل مع أحد الطرفين ، ولا ينقص أو يزيد في النصوص . .
{ ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله } . .
فالتكليف هنا من الله - بالقياس إلى الكاتب - كي لا يتأخر ولا يأبى ولا يثقل العمل على نفسه . فتلك فريضة من الله بنص التشريع ، حسابه فيها على الله . وهي وفاء لفضل الله عليه إذ علمه كيف يكتب . . { فليكتب } كما علمه الله .
وهنا يكون الشارع قد انتهى من تقرير مبدأ الكتابة في الدين إلى أجل . ومن تعيين من يتولى الكتابة . ومن تكليفه بأن يكتب . ومع التكليف ذلك التذكير اللطيف بنعمة الله عليه ، وذلك الإيحاء بأن يلتزم العدل ..
وهنا ينتقل إلى فقرة تالية يبين فيها كيف يكتب . .
{ وليملل الذي عليه الحق . وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً . فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل } . .(1/72)
إن المدين - الذي عليه الحق - هو الذي يملي على الكاتب اعترافه بالدين ، ومقدار الدين ، وشرطه وأجله . . ذلك خيفة أن يقع الغبن على المدين لو أملى الدائن ، فزاد في الدين ، أو قرب الأجل ، أو ذكر شروطاً معينة في مصلحته . والمدين في موقف ضعيف قد لا يملك معه إعلان المعارضة رغبة في إتمام الصفقة لحاجته إليها ، فيقع عليه الغبن . فإذا كان المدين هو الذي يملي لم يمل إلا ما يريد الارتباط به عن طيب خاطر . ثم ليكون إقراره بالدين أقوى وأثبت ، وهو الذي يملي . . وفي الوقت ذاته يناشد ضمير المدين - وهو يملي - أن يتقي الله ربه ولا يبخس شيئاً من الدين الذي يقر به ولا من سائر أركان الإقرار الأخرى . . فإن كان المدين سفيهاً لا يحسن تدبير أموره . أو ضعيفاً - أي صغيراً أو ضعيف العقل - أو لا يستطيع أن يمل هو إما لعي أو جهل أو آفة في لسانه أو لأي سبب من الأسباب المختلفة الحسية أو العقلية . . فليملل ولي أمره القيم عليه . . { بالعدل } . . والعدل يذكر هنا لزيادة الدقة . فربما تهاون الولي - ولو قليلاً - لأن الدين لا يخصه شخصياً . كي تتوافر الضمانات كلها لسلامة التعاقد .
وبهذا ينتهي الكلام عن الكتابة من جميع نواحيها ، فينتقل الشارع إلى نقطة أخرى في العقد ، نقطة الشهادة : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم . فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان - ممن ترضون من الشهداء - أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } . .(1/73)
إنه لا بد من شاهدين على العقد - { ممن ترضون من الشهداء } - والرضى يشمل معنيين : الأول أن يكون الشاهدان عدلين مرضيين في الجماعة . والثاني أن يرضى بشهادتهما طرفا التعاقد . . ولكن ظروفاً معينة قد لا تجعل وجود شاهدين أمراً ميسوراً . فهنا ييسر التشريع فيستدعي النساء للشهادة ، وهو إنما دعا الرجال لأنهم هم الذين يزاولون الأعمال عادة في المجتمع المسلم السوي ، الذي لا تحتاج المرأة فيه أن تعمل لتعيش ، فتجور بذلك على أمومتها وأنوثتها وواجبها في رعاية أثمن الأرصدة الإنسانية وهي الطفولة الناشئة الممثلة لجيل المستقبل ، في مقابل لقيمات أو دريهمات تنالها من العمل ، كما تضطر إلى ذلك المرأة في المجتمع النكد المنحرف الذي نعيش فيه اليوم! فأما حين لا يوجد رجلان فليكن رجل واحد وامرأتان . . ولكن لماذا امرأتان؟ إن النص لا يدعنا نحدس! ففي مجال التشريع يكون كل نص محدداً واضحاً معللاً : { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } . . والضلال هنا ينشأ من أسباب كثيرة .(1/74)
فقد ينشأ من قلة خبرة المرأة بموضوع التعاقد ، مما يجعلها لا تستوعب كل دقائقه وملابساته ومن ثم لا يكون من الوضوح في عقلها بحيث تؤدي عنه شهادة دقيقة عند الاقتضاء ، فتذكرها الأخرى بالتعاون معاً على تذكر ملابسات الموضوع كله . وقد ينشأ من طبيعة المرأة الانفعالية . فإن وظيفة الأمومة العضوية البيولوجية تستدعي مقابلا نفسياً في المرأة حتماً . تستدعي أن تكون المرأة شديدة الاستجابة الوجدانية الانفعالية لتلبية مطالب طفلها بسرعة وحيوية لا ترجع فيهما إلى التفكير البطيء . . وذلك من فضل الله على المرأة وعلى الطفولة . . وهذه الطبيعة لا تتجزأ ، فالمرأة شخصية موحدة هذا طابعها - حين تكون امرأة سوية - بينما الشهادة على التعاقد في مثل هذه المعاملات في حاجة إلى تجرد كبير من الانفعال ، ووقوف عند الوقائع بلا تأثر ولا إيحاء . ووجود امرأتين فيه ضمانة أن تذكر إحداهما الأخرى - إذا انحرفت مع أي انفعال - فتتذكر وتفيء إلى الوقائع المجردة .
وكما وجه الخطاب في أول النص إلى الكتاب ألا يأبوا الكتابة ، يوجهه هنا إلى الشهداء ألا يأبوا الشهادة : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } . .
فتلبية الدعوة للشهادة إذن فريضة وليست تطوعاً . فهي وسيلة لإقامة العدل وإحقاق الحق . والله هو الذي يفرضها كي يلبيها الشهداء عن طواعية تلبية وجدانية ، بدون تضرر أو تلكؤ . وبدون تفضل كذلك على المتعاقدين أو على أحدهما ، إذا كانت الدعوة من كليهما أو من أحدهما .
وهنا ينتهي الكلام عن الشهادة ، فينتقل الشارع إلى غرض آخر . غرض عام للتشريع . يؤكد ضرورة الكتابة - كبر الدين أم صغر - ويعالج ما قد يخطر للنفس من استثقال الكتابة وتكاليفها بحجة أن الدين صغير لا يستحق ، أو أنه لا ضرورة للكتابة بين صاحبيه لملابسة من الملابسات كالتجمل والحياء أو الكسل وقلة المبالاة! ثم يعلل تشديده في وجوب الكتابة تعليلاً وجدانياً وتعليلاً عملياً :
{(1/75)
ولا تسأموا أن تكتبوه - صغيراً أو كبيراً - إلى أجله . ذلكم أقسط عند الله ، وأقوم للشهادة ، وأدنى ألا ترتابوا } .
لا تسأموا . . فهو إدراك لانفعالات النفس الإنسانية حين تحس أن تكاليف العمل أضخم من قيمته . . { ذلكم أقسط عند الله } . . أعدل وأفضل . وهو إيحاء وجداني بأن الله يحب هذا ويؤثره . { وأقوم للشهادة } . فالشهادة على شيء مكتوب أقوم من الشهادة الشفوية التي تعتمد على الذاكرة وحدها . وشهادة رجلين أو رجل وامرأتين أقوم كذلك للشهادة وأصح من شهادة الواحد ، أو الواحد والواحدة . { وأدنى ألا ترتابوا } : أقرب لعدم الريبة . الريبة في صحة البيانات التي تضمنها العقد ، أو الريبة في أنفسكم وفي سواكم إذا ترك الأمر بلا قيد .
وهكذا تتكشف حكمة هذه الإجراءات كلها؛ ويقتنع المتعاملون بضرورة هذا التشريع ، ودقة أهدافه ، وصحة إجراءاته . إنها الصحة والدقة والثقة والطمأنينة .
ذلك شأن الدين المسمى إلى أجل .
أما التجارة الحاضرة فإن بيوعها مستثناة من قيد الكتابة . وتكفي فيها شهادة الشهود تيسيراً للعمليات التجارية التي يعرقلها التعقيد ، والتي تتم في سرعة ، وتتكرر في أوقات قصيرة ، ذلك أن الإسلام وهو يشرع للحياة كلها قد راعى كل ملابساتها؛ وكان شريعة عملية واقعية لا تعقيد فيها ، ولا تعويق لجريان الحياة في مجراها : { إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم ، فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم } .
وظاهر النص أن الإعفاء من الكتابة رخصة لا جناح فيها . أما الإشهاد فموجَب . وقد وردت بعض الروايات بأن الإشهاد كذلك للندب لا للوجوب . ولكن الأرجح هو ذاك .(1/76)
والآن - وقد انتهى تشريع الدين المسمى ، والتجارة الحاضرة ، والتقى كلاهما عند شرطي الكتابة والشهادة - على الوجوب وعلى الرخصة - فإنه يقرر حقوق الكتاب والشهداء كما قرر واجباتهم من قبل . . لقد أوجب عليهم ألا يأبوا الكتابة أو الشهادة . فالآن يوجب لهم الحماية والرعاية ليتوازن الحق والواجب في أداء التكاليف العامة .
{ ولا يضار كاتب ولا شهيد . وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم . واتقوا الله ويعلمكم الله . والله بكل شيء عليم } .
لا يقع ضرر على كاتب أو شهيد ، بسبب أدائه لواجبه الذي فرضه الله عليه . وإذا وقع فإنه يكون خروجاً منكم عن شريعة الله ومخالفة عن طريقه . وهو احتياط لا بد منه . لأن الكتاب والشهداء معرضون لسخط أحد الفريقين المتعاقدين في أحيان كثيرة . فلا بد من تمتعهم بالضمانات التي تطمئنهم على أنفسهم ، وتشجعهم على أداء واجبهم بالذمة والأمانة والنشاط في أداء الواجبات ، والحيدة في جميع الأحوال . ثم - وعلى عادة القرآن في إيقاظ الضمير ، واستجاشة الشعور كلما هم بالتكليف ، ليستمد التكليف دفعته من داخل النفس ، لا من مجرد ضغط النص - يدعو المؤمنين إلى تقوى الله في النهاية؛ ويذكرهم بأن الله هو المتفضل عليهم ، وهو الذي يعلمهم ويرشدهم ، وأن تقواه تفتح قلوبهم للمعرفة وتهيىء أرواحهم للتعليم ، ليقوموا بحق هذا الإنعام بالطاعة والرضى والإذعان : { واتقوا الله . ويعلمكم الله . والله بكل شىء عليم } .
ثم يعود المشرع إلى تكملة في أحكام الدين ، آخرها في النص لأنها ذات ظروف خاصة ، فلم يذكرها هناك في النص العام . . ذلك حين يكون الدائن والمدين على سفر فلا يجدان كاتباً . فتيسيراً للتعامل ، مع ضمان الوفاء ، رخص الشارع في التعاقد الشفوي بلا كتابة مع تسليم رهن مقبوض للدائن ضامن للدين:
{ وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة } .(1/77)
وهنا يستجيش الشارع ضمائر المؤمنين للأمانة والوفاء بدافع من تقوى الله . فهذا هو الضمان الأخير لتنفيذ التشريع كله ، ولرد الأموال والرهائن إلى أصحابها ، والمحافظة الكاملة عليها :
{ فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه } .
والمدين مؤتمن على الدين ، والدائن مؤتمن على الرهن؛ وكلاهما مدعو لأداء ما اؤتمن عليه باسم تقوى الله ربه .
والرب هو الراعي والمربي والسيد والحاكم والقاضي . وكل هذه المعاني ذات إيحاء في موقف التعامل والائتمان والأداء . . وفي بعض الآراء أن هذه الآية نسخت آية الكتابة في حالة الإئتمان . ونحن لا نرى هذا ، فالكتابة واجبة في الدين إلا في حالة السفر . والإئتمان خاص بهذه الحالة . والدائن والمدين كلاهما - في هذه الحالة - مؤتمن .
وفي ظل هذه الاستجاشة إلى التقوى ، يتم الحديث عن الشهادة - عند التقاضي في هذه المرة لا عند التعاقد - لأنها أمانة في عنق الشاهد وقلبه :
{ ولا تكتموا الشهادة . ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } .
ويتكئ التعبير هنا على القلب . فينسب إليه الإثم . تنسيقاً بين الإضمار للإثم ، والكتمان للشهادة . فكلاهما عمل يتم في أعماق القلب . ويعقب عليه بتهديد ملفوف . فليس هناك خاف على الله .
{ والله بما تعملون عليم } .
وهو يجزي عليه بمقتضى علمه الذي يكشف الإثم الكامن في القلوب!
ثم يستمر السياق في توكيد هذه الإشارة ، واستجاشة القلب للخوف من مالك السماوات والأرض وما فيهما ، العليم بمكنونات الضمائر خفيت أم ظهرت ، المجازي عليها ، المتصرف في مصائر العباد بما يشاء من الرحمة والعذاب ، القدير على كل شيء تتعلق به مشيئته بلا تعقيب!
{ لله ما في السماوات وما في الأرض . وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ، فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ، والله على كل شيء قدير } . .(1/78)
وهكذا يعقب على التشريع المدني البحت بهذا التوجيه الوجداني البحت؛ ويربط بين التشريعات للحياة وخالق الحياة ، بذلك الرباط الوثيق ، المؤلف من الخوف والرجاء في مالك الأرض والسماء . فيضيف إلى ضمانات التشريع القانونية ضمانات القلب الوجدانية . . وهي الضمان الوثيق المميز لشرائع الإسلام في قلوب المسلمين في المجتمع المسلم . . وهي والتشريع في الإسلام متكاملان . فالإسلام يصنع القلوب التي يشرع لها؛ ويصنع المجتمع الذي يقنن له . صنعة إلهية متكاملة متناسقة . تربية وتشريع . وتقوى وسلطان . . ومنهج للإنسان من صنع خالق الإنسان . فأنى تذهب شرائع الأرض . وقوانين الأرض ، ومناهج الأرض ، أنى تذهب نظرة إنسان قاصر ، محدود العمر ، محدود المعرفة ، محدود الرؤية ، يتقلب هواه هنا وهناك ، فلا يستقر على حال ، ولا يكاد يجتمع اثنان منه على رأي ، ولا على رؤية ، ولا على إدراك؟ وأنى تذهب البشرية شاردة عن ربها . ربها الذي خلق ، والذي يعلم من خلق ، والذي يعلم ما يصلح لخلقه ، في كل حالة وفي كل آن؟
ألا إنها الشقوة للبشرية في هذا الشرود عن منهج الله وشرعه . الشقوة التي بدأت في الغرب هرباً من الكنيسة الطاغية الباغية هناك؛ ومن إلهها الذي كانت تزعم أنها تنطق باسمه وتحرم على الناس أن يتفكروا وأن يتدبروا؛ وتفرض عليهم باسمه الإتاوات الباهظة والاستبداد المنفر . . فلما هم الناس أن يتخلصوا من هذا الكابوس ، تخلصوا من الكنيسة وسلطانها . ولكنهم لم يقفوا عند حد الاعتدال ، فتخلصوا كذلك من إله الكنيسة وسلطانه! ثم تخلصوا من كل دين يقودهم في حياتهم الأرضية بمنهج الله . . وكانت الشقوة وكان البلاء!!(1/79)
فأما نحن - نحن الذين نزعم الإسلام - فما بالنا؟ ما بالنا نشرد عن الله ومنهجه وشريعته وقانونه؟ ما بالنا وديننا السمح القويم لم يفرض علينا إلا كل ما يرفع عنا الأغلال ، ويحط عنا الأثقال ويفيض علينا الرحمة والهدى واليسر والاستقامة على الطريق المؤدي إليه وإلى الرقي والفلاح؟!
- - - - - - - - - - - -
12.
طاعةُ الكافرين سببٌ للكفر بعد الإيمان
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) } سورة آل عمران
يُحَذِّرُ اللهَ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ مِنْ إطَاعَةِ اليَهُودِ الذِينَ يَحْسُدُونَ المُؤْمِنينَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ، وَمَا مَنَحَهُمْ مِنْ إِرْسَالِ رَسُولٍ إلَيْهِمْ ، لأنَّ ذَلِكَ قَدْ يُؤَدِّي بِهِمْ إلَى الكُفْرِ .(1/80)
وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي اثْنَيْنِ مِنَ الأَنْصَارِ . فَيُروَى أنَّ الأوْسَ وَالخَزْرَجَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ حُرُوبٌ شَدِيدَةٌ ، وَعَدَاوَاتٌ مُسْتَحْكِمَةٌ ، وَلَمَّا دَخَلُوا فِي الإِسْلاَمِ ألَّفَ اللهُ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ، وَأَصْبَحُوا إخْوَةً فِي الإِسْلاَمِ . وَمَرَّ يَهُودِيٌّ فَرَأى الأوْسَ وَالخَزْرَجَ مُجْتَمِعِينَ وَهُمْ أكْثَرُ مَا يَكُونُونَ تَوادّاً وَصَفَاءً ، فَسَاءَهُ ذَلِكَ ، فَدَسَّ يَهُودِياً يُذَكِّرُهُمْ بِأيَّامِ الحُرُوبِ بَيْنَهُمْ ، وَبِمَا كَانُوا يُفَاخِرُونَ بِهِ مِنْ أشْعَارٍ ، فَفَعَلَ ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأوْسِ وَآخَرُ مِنَ الخَزْرَجِ فَتَلاسَنَا ، وَأَثَارَ كُلٌّ مِنْهُمَا جَمَاعَتَهُ ، وَدَعَاهُمْ بِدَعْوَةِ الجَاهِلِيّةِ ، وَتَسَلَّحَ النَّاسُ وَخَرَجُوا لِلْقِتَالِ ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَخَطَبَهُمْ وَذَكَّرَهُمْ بِإِيمَانِهِمْ فَسَكَنُوا ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ وَالتِي قَبْلَهَا .
وََيَسْتَبْعِدُ اللهُ تَعَالَى عَلَى المُسْلِمِينَ أنْ يَكْفُروا ، وَحَاشَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ ( وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ ) ، فَآيَاتُ اللهِ تُنَزَّلُ عَلَى رَسُولِهِ لَيْلاً وَنَهَاراً ، وَهُوَ يَتْلُوهَا عَلَيْهِمْ ، وَيُبَلِّغُهَا إليْهِمْ ، وَلاَ يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِينَ أنْ يَلْتَفِتُوا إلى قَوْلِ هَؤُلاءِ الأعْدَاءِ ، بَلِ الوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أنْ يََرْجِعُوا ، عِنْدَ كُلِّ شُبْهَةٍ يَسْمَعُونَها مِنْ هَؤُلاءِ اليَهُودِ ، إلى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَكْشِفَ لَهُمْ عَنْهَا ، وَيُزِيلَ مَا عَلِقَ بِقُلُوبِهِمْ مِنْهَا .(1/81)
وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ ، وَيَتَوَكَّلْ عَلَيهِ فَإنَّ ذَلِكَ يُبْعِدُهُ عَنِ الغَيِّ وَالضَّلاَلِ ، وَيُوصِلُهُ إلى الهِدَايَةِ وَالرَّشَادِ ، وَطَرِيقِ السَّدَادِ .
لقد جاءت هذه الأمة المسلمة لتنشىء في الأرض طريقها على منهج الله وحده ، متميزة متفردة ظاهرة . لقد انبثق وجودها ابتداء من منهج الله؛ لتؤدي في حياة البشر دوراً خاصاً لا ينهض به سواها . لقد وجدت لإقرار منهج الله في الأرض ، وتحقيقه في صورة عملية ، ذات معالم منظورة ، تترجم فيها النصوص إلى حركات وأعمال ، ومشاعر وأخلاق ، وأوضاع وارتباطات .
وهي لا تحقق غاية وجودها ، ولا تستقيم على طريقها ، ولا تنشىء في الأرض هذه الصورة الوضيئة الفريدة من الحياة الواقعية الخاصة المتميزة ، إلا إذا تلقت من الله وحده ، وإلا إذا تولت قيادة البشرية بما تتلقاه من الله وحده . قيادة البشرية . . لا التلقي من أحد من البشر ، ولا اتباع أحد من البشر ، ولا طاعة أحد من البشر . . إما هذا وإما الكفر والضلال والانحراف . .
هذا ما يؤكده القرآن ويكرره في شتى المناسبات . وهذا ما يقيم عليه مشاعر الجماعة المسلمة وأفكارها وأخلاقها كلما سنحت الفرصة . . وهنا موضع من هذه المواضع ، مناسبته هي المناظرة مع أهل الكتاب ، ومواجهة كيدهم وتآمرهم على الجماعة المسلمة في المدينة . . ولكنه ليس محدوداً بحدود هذه المناسبة ، فهو التوجيه الدائم لهذه الأمة ، في كل جيل من أجيالها ، لأنه هو قاعدة حياتها ، بل قاعدة وجودها .
لقد وجدت هذه الأمة لقيادة البشرية . فكيف تتلقى إذن من الجاهلية التي جاءت لتبدلها ولتصلها بالله ، ولتقودها بمنهج الله؟ وحين تتخلى عن مهمة القيادة فما وجودها إذن ، وليس لوجودها - في هذه الحال - من غاية؟!(1/82)
لقد وجدت للقيادة : قيادة التصور الصحيح . والاعتقاد الصحيح . والشعور الصحيح . والخلق الصحيح . والنظام الصحيح . والتنظيم الصحيح . . وفي ظل هذه الأوضاع الصحيحة يمكن أن تنمو العقول ، وأن تتفتح ، وأن تتعرف إلى هذا الكون ، وأن تعرف أسراره ، وأن تسخر قواه وطاقاته ومدخراته .
. ولكن القيادة الأساسية التي تسمح بهذا كله ، وتسيطر على هذا كله وتوجهه لخير البشر لا لتهديدهم بالخراب والدمار ، ولا لتسخيره في المآرب والشهوات . . ينبغي أن تكون للإيمان ، وأن تقوم عليها الجماعة المسلمة ، مهتدية فيها بتوجيه الله . لا بتوجيه أحد من عبيد الله .
وهنا في هذا الدرس يحذر الأمة المسلمة من اتباع غيرها ، ويبين لها كذلك طريقها لإنشاء الأوضاع الصحيحة وصيانتها . ويبدأ بتحذيرها من اتباع أهل الكتاب ، وإلا فسيقودونها إلى الكفر لا مناص .
{ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين . وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله؟ ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم } .
إن طاعة أهل الكتاب والتلقي عنهم ، واقتباس مناهجهم وأوضاعهم ، تحمل ابتداء معنى الهزيمة الداخلية ، والتخلي عن دور القيادة الذي من أجله أنشئت الأمة المسلمة . كما تحمل معنى الشك في كفاية منهج الله لقيادة الحياة وتنظيمها والسير بها صعداً في طريق النماء والارتقاء . وهذا بذاته دبيب الكفر في النفس ، وهي لا تشعر به ولا ترى خطره القريب .(1/83)
هذا من جانب المسلمين . فأما من الجانب الآخر ، فأهل الكتاب لا يحرصون على شيء حرصهم على إضلال هذه الأمة عن عقيدتها . فهذه العقيدة هي صخرة النجاة؛ وخط الدفاع ، ومصدر القوة الدافعة للأمة المسلمة . وأعداؤه يعرفون هذا جيداً . يعرفونه قديماً ويعرفونه حديثاً ، ويبذلون في سبيل تحويل هذه الأمة عن عقيدتها كل ما في وسعهم من مكر وحيلة ، ومن قوة كذلك وعُدة . وحين يعجزهم أن يحاربوا هذه العقيدة ظاهرين يدسون لها ماكرين . وحين يعييهم أن يحاربوها بأنفسهم وحده ، يجندون من المنافقين المتظاهرين بالإسلام ، أو ممن ينتسبون - زوراً - للإسلام ، جنوداً مجندة ، لتنخر لهم في جسم هذه العقيدة من داخل الدار ، ولتصد الناس عنها ، ولتزين لهم مناهج غير منهجها ، وأوضاعاً غير أوضاعها ، وقيادة غير قيادتها . .
فحين يجد أهل الكتاب من بعض المسلمين طواعية واستماعاً واتباعاً ، فهم ولا شك سيستخدمون هذا كله في سبيل الغاية التي تؤرقهم ، وسيقودونهم ويقودون الجماعة كلها من ورائهم إلى الكفر والضلال .
ومن ثم هذا التحذير الحاسم المخيف : { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين } . .
وما كان يفزع المسلم - حينذاك - ما يفزعه أن يرى نفسه منتكساً إلى الكفر بعد الإيمان . وراجعاً إلى النار بعد نجاته منها إلى الجنة . وهذا شأن المسلم الحق في كل زمان ومن ثم يكون هذا التحذير بهذه الصورة سوطاً يلهب الضمير ، ويوقظه بشدة لصوت النذير . . ومع هذا فإن السياق يتابع التحذير والتذكير . . فيا له من منكر أن يكفر الذين آمنوا بعد إيمانهم ، وآيات الله تتلى عليهم ، ورسوله فيهم .
ودواعي الإيمان حاضرة ، والدعوة إلى الإيمان قائمة ، ومفرق الطريق بين الكفر والإيمان مسلط عليه هذا النور : { وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله؟ }(1/84)
أجل . إنها لكبيرة أن يكفر المؤمن في ظل هذه الظروف المعينة على الإيمان . . وإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد استوفى أجله ، واختار الرفيق الأعلى ، فإن آيات الله باقية ، وهدى رسوله - صلى الله عليه وسلم - باق . . ونحن اليوم مخاطبون بهذا القرآن كما خوطب به الأولون ، وطريق العصمة بين ، ولواء العصمة مرفوع : { ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم } . .
أجل . إنه الاعتصام بالله يعصم . والله سبحانه باق . وهو - سبحانه - الحي القيوم .
ولقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتشدد مع أصحابه - رضوان الله عليهم - في أمر التلقي في شأن العقيدة والمنهج ، بقدر ما كان يفسح لهم في الرأي والتجربة في شؤون الحياة العملية المتروكة للتجربة والمعرفة ، كشؤون الزرع ، وخطط القتال ، وأمثالها من المسائل العملية البحتة التي لا علاقة لها بالتصور الاعتقادي ، ولا بالنظام الاجتماعي ، ولا بالارتباطات الخاصة بتنظيم حياة الإنسان . . وفرق بين هذا وذلك بين . فمنهج الحياة شيء ، والعلوم البحتة والتجريبية والتطبيقية شيء آخر . والإسلام الذي جاء ليقود الحياة بمنهج الله ، هو الإسلام الذي وجه العقل للمعرفة والانتفاع بكل إبداع مادي في نطاق منهجه للحياة . .(1/85)
قال الإمام أحمد : « حدثنا عبد الرازق ، أنبأنا سفيان ، عن جابر ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن ثابت . قال : » جاء عمر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله . إني أمرت بأخ يهودي من بني قريظة ، فكتب لي جوامع من التوراة . ألا أعرضها عليك؟ قال : فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال عبد الله بن ثابت : قلت له : ألا ترى ما وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال عمر : رضيت بالله رباً ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولاً . قال : فسري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى - عليه السلام - ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم . إنكم حظي من الأمم ، وأنا حظكم من النبيين « .
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا حماد عن الشعبي عن جابر . قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - » لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء . فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا . وإنكم إما أن تصدقوا بباطل ، وإما أن تكذبوا بحق . وإنه والله لو كان موسى حياً بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني . . « وفي بعض الأحاديث : » لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي « .
هؤلاء هم أهل الكتاب . وهذا هو هدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التلقي عنهم في أي أمر يختص بالعقيدة والتصور ، أو بالشريعة والمنهج . . ولا ضير - وفق روح الإسلام وتوجيهه - من الانتفاع بجهود البشر كلهم في غير هذا من العلوم البحتة ، علماً وتطبيقاً . . مع ربطها بالمنهج الإيماني : من ناحية الشعور بها ، وكونها من تسخير الله للإنسان . ومن ناحية توجيهها والانتفاع بها في خير البشرية ، وتوفير الأمن لها والرخاء . وشكر الله على نعمة المعرفة ونعمة تسخير القوى والطاقات الكونية . شكره بالعبادة . وشكره بتوجيه هذه المعرفة وهذا التسخير لخير البشرية . .(1/86)
فأما التلقي عنهم في التصور الإيماني ، وفي تفسير الوجود ، وغاية الوجود الإنساني . وفي منهج الحياة وأنظمتها وشرائعها ، وفي منهج الأخلاق والسلوك أيضاً . . أما التلقي في شيء من هذا كله ، فهو الذي تغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأيسر شيء منه . وهو الذي حذر الله الأمة المسلمة عاقبته . وهي الكفر الصراح . .
هذا هو توجيه الله - سبحانه - وهذا هو هدى رسوله - صلى الله عليه وسلم - فأما نحن الذين نزعم أننا مسلمون ، فأرانا نتلقى في صميم فهمنا لقرآننا وحديث نبينا - صلى الله عليه وسلم - عن المستشرقين وتلامذة المستشرقين! وأرانا نتلقى فلسفتنا وتصوراتنا للوجود والحياة من هؤلاء وهؤلاء ، ومن الفلاسفة والمفكرين : الإغريق والرومان والأوروبيين والأمريكان! وأرانا نتلقى نظام حياتنا وشرائعنا وقوانيننا من تلك المصادر المدخولة! وأرانا نتلقى قواعد سلوكنا وآدابنا وأخلاقنا من ذلك المستنقع الآسن ، الذي انتهت إليه الحضارة المادية المجردة من روح الدين . . أي دين . . ثم نزعم - والله - أننا مسلمون! وهو زعم إثمه أثقل من إثم الكفر الصريح . فنحن بهذا نشهد على الإسلام بالفشل والمسخ . حيث لا يشهد عليه هذه الشهادة الآثمة من لا يزعمون - مثلنا - أنهم مسلمون!
إن الإسلام منهج . وهو منهج ذو خصائص متميزة : من ناحية التصور الاعتقادي ، ومن ناحية الشريعة المنظمة لارتباطات الحياة كلها . ومن ناحية القواعد الأخلاقية ، التي تقوم عليها هذه الارتباطات ، ولا تفارقها ، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية . وهو منهج جاء لقيادة البشرية كلها . فلا بد أن تكون هناك جماعة من الناس تحمل هذا المنهج لتقود به البشرية . ومما يتناقض مع طبيعة القيادة - كما أسلفنا - أن تتلقى هذه الجماعة التوجيهات من غير منهجها الذاتي . .(1/87)
ولخير البشرية جاء هذا المنهج يوم جاء . ولخير البشرية يدعو الدعاة لتحكيم هذا المنهج اليوم وغداً . بل الأمر اليوم ألزم ، والبشرية بمجموعها تعاني من النظم والمناهج التي انتهت إليها ما تعاني . وليس هناك منقذ إلا هذا المنهج الإلهي ، الذي يجب أن يحتفظ بكل خصائصه كي يؤدي دوره للبشرية وينقذها مرة أخرى .(1/88)
لقد أحرزت البشرية انتصارات شتى في جهادها لتسخير القوى الكونية . وحققت في عالم الصناعة والطب ما يشبه الخوارق - بالنسبة للماضي - وما تزال في طريقها إلى انتصارات جديدة . . ولكن ما أثر هذا كله في حياتها؟ ما أثره في حياتها النفسية؟ هل وجدت السعادة؟ هل وجدت الطمأنينة؟ هل وجدت السلام؟ كلا! لقد وجدت الشقاء والقلق والخوف . . والأمراض العصبية والنفسية ، والشذوذ والجريمة على أوسع نطاق! . . إنها لم تتقدم كذلك في تصور غاية الوجود الإنساني وأهداف الحياة الإنسانية . . وحين تقاس غاية الوجود الإنساني وأهداف الحياة الإنسانية في ذهن الرجل المتحضر المعاصر ، إلى التصور الإسلامي في هذا الجانب ، تبدو هذه الحضارة في غاية القزامة! بل تبدو لعنة تحط من تصور الإنسان لنفسه ومقامه في هذا الوجود وتسفل به ، وتصغر من اهتماماته ومن أشواقه! . . والخواء يأكل قلب البشرية المكدود ، والحيرة تهد روحها المتعبة . . إنها لا تجد الله . . لقد أبعدتها عنه ملابسات نكدة . والعلم الذي كان من شأنه ، لو سار تحت منهج الله ، أن يجعل من كل انتصار للبشرية في ميدانه خطوة تقربها من الله ، هو ذاته الذي تبعد به البشرية أشواطا بسبب انطماس روحها ونكستها . . إنها لا تجد النور الذي يكشف لها غاية وجودها الحقيقية فتنطلق إليها مستعينة بهذا العلم الذي منحه الله لها ووهبها الاستعداد له . ولا تجد المنهج الذي ينسق بين حركتها وحركة الكون ، وفطرتها وفطرة الكون ، وقانونها وناموس الكون . ولا تجد النظام الذي ينسق بين طاقاتها وقواها ، وآخرتها ودنياها ، وأفرادها وجماعاتها ، وواجباتها وحقوقها . . تنسيقاً طبيعياً شاملاً مريحاً . .(1/89)
وهذه البشرية هي التي يعمل ناس منها على حرمانها من منهج الله الهادي . وهم الذين يسمون التطلع إلى هذا المنهج « رجعية! » ويحسبونه مجرد حنين إلى فترة ذاهبة من فترات التاريخ . . وهم بجهالتهم هذه أو بسوء نيتهم يحرمون البشرية التطلع إلى المنهج الوحيد الذي يمكن أن يقود خطاها إلى السلام والطمأنينة ، كما يقود خطاها إلى النمو والرقي . . ونحن الذين نؤمن بهذا المنهج نعرف إلى ماذا ندعو . إننا نرى واقع البشرية النكد ، ونشم رائحة المستنقع الآسن الذي تتمرغ فيه . ونرى . نرى هنالك على الأفق الصاعد راية النجاة تلوح للمكدودين في هجير الصحراء المحرق والمرتقى الوضيء النظيف يلوح للغارقين في المستنقع؛ ونرى أن قيادة البشرية إن لم ترد إلى هذا المنهج فهي في طريقها إلى الارتكاس الشائن لكل تاريخ الإنسان ، ولكل معنى من معاني الإنسان!
وأولى الخطوات في الطريق أن يتميز هذا المنهج ويتفرد ، ولا يتلقى أصحابه التوجيه من الجاهلية الطامة من حولهم . . كيما يظل المنهج نظيفاً سليماً . إلى أن يأذن الله بقيادته للبشرية مرة أخرى . والله أرحم بعباده أن يدعهم لأعداء البشر ، الداعين إلى الجاهلية من هنا ومن هناك! .
. وهذا ما أراد الله سبحانه أن يلقنه للجماعة المسلمة الأولى في كتابه الكريم؛ وما حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعلمها إياه في تعليمه القويم . .
- - - - - - - - - - - -
13.
الأمر بتقوى الله حق تقاته(1/90)
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) } سورة آل عمران(1/91)
يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِأنْ يَتَّقُوهُ حَقَّ تُقَاتِهِ ، وَذَلِكَ بِأنْ يُطاعَ فَلاَ يُعْصَى ، وَأنْ يُشْكَرَ فَلا يُكْفَرَ ، وَأنْ يُذْكَرَ فَلا يُنْسَى ، وَيَقُولُ لَهُمْ : حَافِظُوا عَلَى الإِسْلاَمِ في حَيَاتِكُمْ لِتَمُوتُوا عَلَيهِ ، فَمَنْ مَاتَ عَلَى شَيءٍ بُعِثَ عَلَيهِ .
يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِالتَّمَسُّكِ بِحَبْلِ اللهِ ، أيْ بِعَهْدِهِ وَدِينِهِ وَذِمَّتِهِ وَقُرْآنِهِ ، وَمَا أمَرَهُمْ بِهِ مِنَ الإِلْفَةِ وَالمَحَبَّةِ وَالاجْتِمَاعِ ، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ التَّفَرُّقِ ، وَيَطْلُبُ إلَيْهِمْ أنْ يَذْكُرُوا نِعْمَتَهُ عَلَيهِمْ إذْ ألَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ، وَآخَى بَيْنَهُم بَعْدَ العَدَاوَةِ المُسْتَحْكِمَةِ ، وَالفُرْقَةِ التِي كَانَتْ بَيْنَ الأَوْسِ وَالخَزْرَجِ ، فَقَدْ كَانُوا عَلَى مِثْلِ شَفِيرِ النَّارِ ، بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَضَلاَلِهِمْ وَاقْتِتَالِهِمْ ، فَهَدَاهُمُ اللهُ وَأَنْقَذَهُمْ .
وَكَمَا بَيَّنَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ، فِي هَذِهِ الآيَاتِ ، مَا يُضْمِرُهُ لَهُمُ اليَهُودُ مِنْ شَرٍّ وَخِدَاعٍ وَغِشٍّ ، وَمَا كَانُوا عَلَيهِ فِي حَالِ جَاهِلِيَّتِهِمْ مِنْ كُفْرٍ وَفُرْقَةٍ وَاقْتِتَالٍ ، وَمَا صَارُوا إليهِ بِفَضْلِ الإِسْلاَمِ مِنْ وَحْدَةٍ وَإِخَاءٍ ، كَذَلِكَ يُبَيِّن سَائِرَ حُجَجِهِ فِي تَنْزِيلِهِ عَلَى رَسُولِهِ ، لِيُعِدَّهُمْ لِلاهْتِدَاءِ الدَّائِمِ ، حَتَّى لا يَعُودُوا إلى عَمَلِ أهْلِ الجَاهِلِيَّةِ مِنَ التَّفَرُّقِ وَالعَدَاوَةِ وَالاقْتِتَالِ.(1/92)
لِتَكُنْ مِنَ المُؤْمِنِينَ جَمَاعَةٌ مُتَخَصِّصَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ تَعْرِفُ أَسْرَارَ الأَحْكَامِ ، وَحِكْمَةَ التَّشْرِيعِ وَفِقْهَهُ ، تَتَولَّى القِيَامَ بِالدَّعْوَةِ إلى الدِّين ، وَتَأمُرُ بِالمَعْروفِ ، وَتُحَارِبُ المُنْكَرَ ، وَتَنْهَى عَنْهُ ، وَمِنْ وَاجِبِ كُلِّ مُسْلِمِ أنْ يُحَارِبَ المُنْكَرَ مَا اسْتَطَاعَ إلى ذَلِكَ ، وَهَؤُلاءِ هُمُ الفَائِزُونَ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ .
يَنْهَى اللهُ تَعَالَى المُسْلِمِينَ عَنْ أنْ يَكُونُوا كَأهْلِ الكِتَابِ الذِينَ تَفَرَّقُوا فِي الدِّينِ ، وَكَانُوا شِيعاً تَذْهَبُ كُل شِيعَةٍ مِنْهَا مَذْهَباً تَدْعُو إليهِ ، وَتُخَطِّئُ غَيْرَها ، وَلِذَلِكَ تَعَادَوْا وَاقْتَتَلُوا .
وَلَوْ كَانَ فِيهِمْ جَمَاعَةٌ تَأْمُرُ بِالمَعْرُوفِ ، وَتَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ ، وَتَتَّجِهُ إلى غَايَةٍ وَاحِدَةٍ ، لَمَا تَفَرَّقُوا ، وَلَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ . وَهَؤُلاءِ المُخْتَلِفُونَ المُتَفَرِّقُونَ لَهُمْ عَذَابٌ وَخُسْرَانٌ فِي الدُّنيا ، وَعَذَابٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ فِي الآخِرَةِ .
وَفِي يَوْمِ القِيَامَةِ تَبْيَضُ وُجُوهُ المُؤْمِنِينَ ، وَيُسَرُّونَ لِمَا يَعْمَلُونَهُ مِنْ حُسْنِ العَاقِبَةِ . وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أهْلِ الكُفْرِ وَالضَّلاَلَةِ وَالاخْتِلافِ ، لِمَا يَرَوْنَهُ مِنْ سُوءِ العَاقِبَةِ ، وَمَا يَحِلُّ بِهَا مِنَ النَّكَالِ وَالوَبَالِ . وَيَسْألُ الذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ أهْلِ النِّفَاقِ وَالاخْتِلاَفِ ، وَيُقَالُ لَهُمْ : أَكَفَرْتُمْ بِاللهِ ، وَخَالَفْتُمْ مَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنَ الاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللهِ ، وَبِالوِفَاقِ وَاتِّحَادِ الكَلِمَةِ؟ فَذُوقُوا العَذَابَ الذِي تَسْتَحِقُونَهُ بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ .(1/93)
وَأَمَّا المُؤْمِنُونَ الذِينَ ابْيضَّتْ وُجُوهُهُمْ بِالإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ ، وَباتِّحَادِ الكَلِمَةِ ، وَعَدَمِ التَّفَرُّقِ ، فَيَكُونُونَ فِي الدُّنيا فِي نَعِيمٍ ، مَا دَامُوا عَلى تِلْكَ الحَالِ ، وَيَكُونُونَ فِي الآخِرَةِ فِي رَحْمَةِ اللهِ وَرِضْوَانِهِ ، وَيَدْخُلُونَ الجَنَّةَ لِيَكُونُوا فِيهَا خَالِدِينَ أبَداً .
جَميعُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَبيدٌ للهِ ، وَهُمْ مُلْكٌ لَهُ ، يَتَصَّرفُ فِي شُؤُونِهِمْ بِحَسَب سُنَنهِ الحَكِيمَةِ التِي لاَ تَغْيِيرَ فِيها وَلاَ تَبْدِيلَ ، وَهُوَ الحَاكِمُ المُتَصَرِّفُ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ ، وَإليهِ تَصيرُ أمُورُ الخَلْقِ جَميعاً فَيُحَاسِبُهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ .
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ فِي الوُجُودِ ، لأنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ إِيمَاناً صَادِقاً بِاللهِ ، وَيَظْهَرُ أثَرُهُ فِي نُفُوسِهِمْ ، فَيَنْزِعُهُمْ عَنِ الشَّرِّ ، وَيَصْرِفُهُمْ إلَى الخَيْرِ ، فَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، وَيَنْهَونَ عَنِ المُنْكَرَاتِ وَمَا حَرَّمَ اللهُ مِنَ الظُّلْمِ وَالبَغْي.
وَلَوْ آمَنَ أهْلُ الكِتَابِ إِيمَاناً صَحِيحاً يَسْتَوْلي عَلَى النُّفُوسِ ، وَيَمْلِكُ أَزِمَّةِ القُلُوبِ فَيَكُونُ مَصْدَرَ الفَضَائِلِ وَالأَخْلاَقِ الحَسَنَةِ ، كَمَا تُؤْمِنُونَ أَنْتُمْ ، أَيُّها المُسْلِمُونَ ، لَكَانَ ذَلِكَ خَيْراً لَهُمْ مِمَّا يَدَّعُونَهُ مِنْ إِيمَانٍ لاَ يَزَعُ النُّفُوسَ عَنِ الشُّرُورِ ، وَلا يُبْعِدُهَا عَنِ الرَّذَائِلِ . وَبَيْنَ أهْلِ الكِتَابِ جَمَاعَةٌ مُؤْمِنُونَ مُخْلِصُونَ فِي إيمَانِهِمْ ، وَلَكِنّ أكْثَرَهُمْ فَاسِقُونَ عَنْ دِينِهِمْ ، مُتَمَرِّدُونَ فِي الكُفْرِ .
---------------(1/94)
إنهما ركيزتان تقوم عليهما الجماعة المسلمة ، وتؤدي بهما دورها الشاق العظيم . فإذا انهارت واحدة منهما لم تكن هناك جماعة مسلمة ، ولم يكن هنالك دور لها تؤديه :
ركيزة الإيمان والتقوى أولاً . . التقوى التي تبلغ أن توفي بحق الله الجليل . . التقوى الدائمة اليقظة التي لا تغفل ولا تفتر لحظة من لحظات العمر حتى يبلغ الكتاب أجله :
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته } . .
اتقوا الله - كما يحق له أن يتقى - وهي هكذا بدون تحديد تدع القلب مجتهداً في بلوغها كما يتصورها وكما يطيقها . وكلما أوغل القلب في هذا الطريق تكشفت له آفاق ، وجدّت له أشواق . وكلما اقترب بتقواه من الله ، تيقظ شوقه إلى مقام أرفع مما بلغ ، وإلى مرتبة وراء ما ارتقى . وتطلع إلى المقام الذي يستيقظ فيه قلبه فلا ينام!
{ ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } . .
والموت غيب لا يدري إنسان متى يدركه . فمن أراد ألا يموت إلا مسلماً فسبيله أن يكون منذ اللحظة مسلماً ، وأن يكون في كل لحظة مسلماً . وذكر الإسلام بعد التقوى يشي بمعناه الواسع : الاستسلام . الاستسلام لله ، طاعة له ، واتباعاً لمنهجه ، واحتكاماً إلى كتابه . وهو المعنى الذي تقرره السورة كلها في كل موضع منها ، على نحو ما أسلفنا .
هذه هي الركيزة الأولى التي تقوم عليها الجماعة المسلمة لتحقق وجودها وتؤدي دورها . إذ أنه بدون هذه الركيزة يكون كل تجمع تجمعاً جاهلياً . ولا يكون هناك منهج لله تتجمع عليه أمة ، إنما تكون هناك مناهج جاهلية . ولا تكون هناك قيادة راشدة في الأرض للبشرية ، إنما تكون القيادة للجاهلية .
فأما الركيزة الثانية فهي ركيزة الأخوة . . الأخوة في الله ، على منهج الله ، لتحقيق منهج الله :
{(1/95)
واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ، واذكروا نعمة الله عليكم ، إذ كنتم أعداء ، فألف بين قلوبكم ، فأصبحتم بنعمته إخواناً . وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها . كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون } . .
فهي أخوة إذن تنبثق من التقوى والإسلام . . من الركيزة الأولى . . أساسها الاعتصام بحبل الله - أي عهده ونهجه ودينه - وليست مجرد تجمع على أي تصور آخر ، ولا على أي هدف آخر ، ولا بواسطة حبل آخر من حبال الجاهلية الكثيرة!
{ واعتمصوا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } . .
هذه الأخوة المعتصمة بحبل الله نعمة يمتن الله بها على الجماعة المسلمة الأولى . وهي نعمة يهبها الله لمن يحبهم من عباده دائماً . وهو هنا يذكرهم هذه النعمة . يذكرهم كيف كانوا في الجاهلية « أعداء » . . وما كان أعدى من الأوس والخزرج في المدينة أحد . وهما الحيان العربيان في يثرب . يجاورهما اليهود الذين كانوا يوقدون حول هذه العداوة وينفخون في نارها حتى تأكل روابط الحيين جميعاً . ومن ثم تجد يهود مجالها الصالح الذي لا تعمل إلا فيه ، ولا تعيش إلا معه . فألف الله بين قلوب الحيين من العرب بالإسلام . . وما كان إلا الإسلام وحده يجمع هذه القلوب المتنافرة . وما كان إلا حبل الله الذي يعتصم به الجميع فيصبحون بنعمة الله إخواناً . وما يمكن أن يجمع القلوب إلا أخوة في الله ، تصغر إلى جانبها الأحقاد التاريخية ، والثارات القبلية ، والأطماع الشخصية والرايات العنصرية . ويتجمع الصف تحت لواء الله الكبير المتعال . .
{ واذكروا نعمة الله عليكم ، إذ كنتم أعداء ، فألف بين قلوبكم ، فأصبحتم ينعمته إخواناً } . .(1/96)
ويذكرهم كذلك نعمته عليهم في إنقاذهم من النار التي كانوا على وشك أن يقعوا فيها ، إنقاذهم من النار بهدايتهم إلى الاعتصام بحبل الله - الركيزة الأولى - وبالتأليف بين قلوبهم ، فأصبحوا بنعمة الله إخواناً - الركيزة الثانية - : { وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } .
والنص القرآني يعمد إلى مكمن المشاعر والروابط : « القلب » . . فلا يقول : فألف بينكم . إنما ينفذ إلى المكمن العميق : { فألف بين قلوبكم } فيصور القلوب حزمة مؤلفة متآلفة بيد الله وعلى عهده وميثاقه . كذلك يرسم النص صورة لما كانوا فيه . بل مشهداً حياً متحركاً تتحرك معه القلوب : { وكنتم على شفا حفرة من النار } .
. وبينما حركة السقوط في حفرة النار متوقعة ، إذا بالقلوب ترى يد الله ، وهي تدرك وتنقذ! وحبل الله وهو يمتد ويعصم . وصورة النجاة والخلاص بعد الخطر والترقب! وهو مشهد متحرك حي تتبعه القلوب واجفة خافقة! وتكاد العيون تتملاه من وراء الأجيال!
وقد ذكر محمد بن إسحاق في السيرة وغيره أن هذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج . وذلك « أن رجلا من اليهود مر بملأ من الأوس والخزرج ، فساءه ما هم عليه من الاتفاق والألفة ، فبعث رجلاً معه ، وأمره أن يجلس بينهم ، ويذكر لهم ما كان من حروبهم يوم » بُعاث «! وتلك الحروب . ففعل . فلم يزل ذلك دأبه حتى حميت نفوس القوم ، وغضب بعضهم على بعض ، وتثاوروا ، ونادوا بشعارهم . وطلبوا أسلحتهم . وتوعدوا إلى » الحرّة « فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتاهم ، فجعل يسكنهم ، ويقول : » أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم « وتلا عليهم هذه الآية ، فندموا على ما كان منهم ، واصطلحوا وتعانقوا وألقوا السلاح رضي الله عنهم » .
وكذلك بين الله لهم فاهتدوا ، وحق فيهم قول الله سبحانه في التعقيب في الآية :
{ كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون } .(1/97)
فهذه صورة من جهد يهود لتقطيع حبل الله بين المتحابين فيه ، القائمين على منهجه ، لقيادة البشرية في طريقه . . هذه صورة من ذلك الكيد الذي تكيده يهود دائما للجماعة المسلمة ، كلما تجمعت على منهج الله واعتصمت بحبله . وهذه ثمرة من ثمار طاعة أهل الكتاب . كادت ترد المسلمين الأولين كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض . وتقطع بينهم حبل الله المتين ، الذي يتآخون فيه مجتمعين . وهذه صلة هذه الآية بالآيات قبلها في هذا السياق .
على أن مدلول الآية أوسع مدى من هذه الحادثة . فهي تشي - مع ما قبلها في السياق وما بعدها - بأنه كانت هناك حركة دائبة من اليهود لتمزيق شمل الصف المسلم في المدينة ، وإثارة الفتنة والفرقة بكل الوسائل . والتحذيرات القرآنية المتوالية من إطاعة أهل الكتاب ، ومن الاستماع إلى كيدهم ودسهم ، ومن التفرق كما تفرقوا . . هذه التحذيرات تشي بشدة ما كانت تلقاه الجماعة المسلمة من كيد اليهود في المدينة ، ومن بذرهم لبذور الشقاق والشك والبلبلة باستمرار . . وهو دأب يهود في كل زمان . وهو عملها اليوم وغداً في الصف المسلم ، في كل مكان!
فأما وظيفة الجماعة المسلمة التي تقوم على هاتين الركيزتين لكي تنهض بها . . هذه الوظيفة الضرورية لإقامة منهج الله في الأرض ، ولتغليب الحق على الباطل ، والمعروف على المنكر ، والخير على الشر . . هذه الوظيفة التي من أجلها أنشئت الجماعة المسلمة بيد الله وعلى عينه ، ووفق منهجه . . فهي التي تقررها الآية التالية:{ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، وأولئك هم المفلحون } ..(1/98)
فلا بد من جماعة تدعو إلى الخير ، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر . لا بد من سلطة في الأرض تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر . والذي يقرر أنه لا بد من سلطة هو مدلول النص القرآني ذاته . فهناك « دعوة » إلى الخير . ولكن هناك كذلك « أمر » بالمعروف . وهناك « نهي » عن المنكر . وإذا أمكن أن يقوم بالدعوة غير ذي سلطان ، فإن « الأمر والنهي » لا يقوم بهما إلا ذو سلطان . .
هذا هو تصور الإسلام للمسألة . . إنه لا بد من سلطة تأمر وتنهى . . سلطة تقوم على الدعوة إلى الخير والنهي عن الشر . . سلطة تتجمع وحداتها وترتبط بحبل الله وحبل الأخوة في الله . . سلطة تقوم على هاتين الركيزتين مجتمعتين لتحقيق منهج الله في حياة البشر . . وتحقيق هذا المنهج يقتضي « دعوة » إلى الخير يعرف منها الناس حقيقة هذا المنهج . ويقتضي سلطة « تأمر » بالمعروف « وتنهى » عن المنكر . . فتطاع . . والله يقول : { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } فمنهج الله في الأرض ليس مجرد وعظ وإرشاد وبيان . فهذا شطر . أما الشطر الآخر فهو القيام بسلطة الأمر والنهي ، على تحقيق المعروف ونفي المنكر من الحياة البشرية ، وصيانة تقاليد الجماعة الخيرة من أن يعبث بها كل ذي هوى وكل ذي شهوة وكل ذي مصلحة ، وضمانة هذه التقاليد الصالحة من أن يقول فيها كل امرىء برأيه وبتصوره ، زاعماً أن هذا هو الخير والمعروف والصواب!(1/99)
والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - من ثم - تكليف ليس بالهين ولا باليسير ، إذا نظرنا إلى طبيعته ، وإلى اصطدامه بشهوات الناس ونزواتهم ، ومصالح بعضهم ومنافعهم ، وغرور بعضهم وكبريائهم . وفيهم الجبار الغاشم . وفيهم الحاكم المتسلط . وفيهم الهابط الذي يكره الصعود . وفيهم المسترخي الذي يكره الاشتداد . وفيهم المنحل الذي يكره الجد . وفيهم الظالم الذي يكره العدل . وفيهم المنحرف الذي يكره الاستقامة . . وفيهم وفيهم ممن ينكرون المعروف ، ويعرفون المنكر . ولا تفلح الأمة ، ولا تفلح البشرية ، إلا أن يسود الخير ، وإلا أن يكون المعروف معروفاً ، والمنكر منكراً . . وهذا ما يقتضي سلطة للخير وللمعروف تأمر وتنهى . . وتطاع . .
ومن ثم فلا بد من جماعة تتلاقى على هاتين الركيزتين : الإيمان بالله والأخوة في الله ، لتقوم على هذا الأمر العسير الشاق بقوة الإيمان والتقوى ثم بقوة الحب والألفة ، وكلتاهما ضرورة من ضرورات هذا الدور الذي ناطه الله بالجماعة المسلمة ، وكلفها به هذا التكليف . وجعل القيام به شريطة الفلاح . فقال عن الذين ينهضون به : { وأولئك هم المفلحون } . .
إن قيام هذه الجماعة ضرورة من ضرورات المنهج الإلهي ذاته . فهذه الجماعة هي الوسط الذي يتنفس فيه هذا المنهج ويتحقق في صورته الواقعية . هو الوسط الخير المتكافل المتعاون على دعوة الخير .(1/100)
المعروف فيه هو الخير والفضيلة والحق والعدل . والمنكر فيه هو الشر والرذيلة والباطل والظلم . . عمل الخير فيه أيسر من عمل الشر . والفضيلة فيه أقل تكاليف من الرذيلة . والحق فيه أقوى من الباطل . والعدل فيه أنفع من الظلم . . فاعل الخير فيه يجد على الخير اعواناً . وصانع الشر فيه يجد مقاومة وخذلاناً . . ومن هنا قيمة هذا التجمع . . إنه البيئة التي ينمو فيها الخير والحق بلا كبير جهد ، لأن كل ما حوله وكل من حوله يعاونه . والتي لا ينمو فيها الشر والباطل إلا بعسر ومشقة ، لأن كل ما حوله يعارضه ويقاومه .
والتصور الإسلامي عن الوجود والحياة والقيم والأعمال والأحداث والأشياء والأشخاص . . يختلف في هذا كله عن التصورات الجاهلية اختلافاً جوهرياً أصيلاً . فلا بد إذن من وسط خاص يعيش فيه هذا التصور بكل قيمه الخاصة . لا بد له من وسط غير الوسط الجاهلي ، ومن بيئة غير البيئة الجاهلية .
هذا الوسط الخاص يعيش بالتصور الإسلامي ويعيش له؛ فيحيا فيه هذا التصور ، ويتنفس أنفاسه الطبيعية في طلاقة وحرية ، وينمو نموه الذاتي بلا عوائق من داخله تؤخر هذا النمو أو تقاومه . وحين توجد هذه العوائق تقابلها الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وحين توجد القوة الغاشمة التي تصد عن سبيل الله تجد من يدافعها دون منهج الله في الحياة .(1/101)
هذا الوسط يتمثل في الجماعة المسلمة القائمة على ركيزتي الإيمان والأخوة . الإيمان بالله كي يتوحد تصورها للوجود والحياة والقيم والأعمال والأحداث والأشياء والأشخاص ، وترجع إلى ميزان واحد تقوم به كل ما يعرض لها في الحياة ، وتتحاكم إلى شريعة واحدة من عند الله ، وتتجه بولائها كله إلى القيادة القائمة على تحقيق منهج الله في الأرض . . والأخوة في الله . كي يقوم كيانها على الحب والتكافل اللذين تختفي في ظلالهما مشاعر الأثرة ، وتتضاعف بهما مشاعر الإيثار . الإيثار المنطلق في يسر ، المندفع في حرارة ، المطمئن الواثق المرتاح .
وهكذا قامت الجماعة المسلمة الأولى - في المدينة - على هاتين الركيزتين . . على الإيمان بالله : ذلك الإيمان المنبثق من معرفة الله - سبحانه - وتَمَثُّلِ صفاته في الضمائر؛ وتقواه ومراقبته ، واليقظة والحساسية إلى حد غير معهود إلا في الندرة من الأحوال . وعلى الحب . الحب الفياض الرائق والود . الود العذب الجميل ، والتكافل . التكافل الجاد العميق . . وبلغت تلك الجماعة في ذلك كله مبلغاً ، لولا أنه وقع لعد من أحلام الحالمين! وقصة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار قصة من عالم الحقيقة ، ولكنها في طبيعتها أقرب إلى الرؤى الحالمة! وهي قصة وقعت في هذه الأرض . ولكنها في طبيعتها من عالم الخلد والجنان!
وعلى مثل ذلك الإيمان ومثل هذه الأخوة يقوم منهج الله في الأرض في كل زمان . .
ومن ثم يعود السياق فيحذر الجماعة المسلمة من التفرق والاختلاف؛ وينذرها عاقبة الذين حملوا أمانة منهج الله قبلها - من أهل الكتاب - ثم تفرقوا واختلفوا ، فنزع الله الراية منهم ، وسلمها للجماعة المسلمة المتآخية .
.(1/102)
فوق ما ينتظرهم من العذاب ، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم . يوم تبيض وجوه وتسود وجوه . فأما الذين اسودت وجوههم : أكفرتم بعد إيمانكم؟ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون . وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون } . .
وهنا يرسم السياق مشهداً من المشاهد القرآنية الفائضة بالحركة والحيوية . . فنحن في مشهد هول . هول لا يتمثل في الفاظ ولا في أوصاف . ولكن يتمثل في آدميين أحياء في وجوه وسمات . . هذه وجوه قد أشرقت بالنور ، وفاضت بالبشر ، فابيضت من البشر والبشاشة ، وهذه وجوه كمدت من الحزن ، وغبرت من الغم ، واسودت من الكآبة . . وليست مع هذا متروكة إلى ما هي فيه . ولكنه اللذع بالتبكيت والتأنيب: { أكفرتم بعد إيمانكم؟ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون! } . .
{ وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون } .
وهكذا ينبض المشهد بالحياة والحركة والحوار . . على طريقة القرآن .
وهكذا يستقر في ضمير الجماعة المسلمة معنى التحذير من الفرقة والاختلاف . ومعنى النعمة الإلهية الكريمة . . بالإيمان والائتلاف .
وهكذا ترى الجماعة المسلمة مصير هؤلاء القوم من أهل الكتاب ، الذين تحذر أن تطيعهم . كي لا تشاركهم هذا المصير الأليم في العذاب العظيم . يوم تبيض وجوه ، وتسود وجوه . .
ويعقب على هذا البيان لمصائر الفريقين تعقيباً قرآنياً يتمشى مع خطوط السورة العريضة ، يتضمن إثبات صدق الوحي والرسالة . وجدية الجزاء والحساب يوم القيامة . والعدل المطلق في حكم الله في الدنيا والآخرة . وملكية الله المفردة لما في السماوات وما في الأرض . ورجعة الأمر إليه في كل حال :
{ تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق ، وما الله يريد ظلماً للعالمين . ولله ما في السماوات وما في الأرض . وإلى الله ترجع الأمور } . .(1/103)
تلك الصور . تلك الحقائق . تلك المصائر . . تلك آيات الله وبيناته لعباده : نتلوها عليك بالحق . فهي حق فيما تقرره من مبادىء وقيم؛ وهي حق فيما تعرضه من مصائر وجزاءات . وهي تتنزل بالحق ممن يملك تنزيلها؛ وممن له الحق في تقرير القيم ، وتقرير المصائر ، وتوقيع الجزاءات . وما يريد بها الله أن يوقع بالعباد ظلماً . فهو الحكم العدل . وهو المالك لأمر السماوات والأرض . ولكل ما في السماوات وما في الأرض . وإليه مصير الأمور . إنما يريد الله بترتيب الجزاء على العمل أن يحق الحق ، وأن يجري العدل ، وأن تمضي الأمور بالجد اللائق بجلال الله . . لا كما يدعي أهل الكتاب أنهم لن تمسهم النار إلا أياماً معدودات!
بعدئذ يصف الأمة المسلمة لنفسها! ليعرفها مكانها وقيمتها وحقيقتها؛ ثم يصف لها أهل الكتاب - ولا يبخسهم قدرهم ، إنما يبين حقيقتهم ويطمعهم في ثواب الإيمان وخيره - ويطمئن المسلمين من جانب عدوهم .(1/104)
فهم لن يضروهم في كيدهم لهم وقتالهم ولن ينصروا عليهم . وللذين كفروا منهم عذاب النار في الآخرة ، لا ينفعهم فيه ما أنفقوا في الحياة الدنيا بلا إيمان ولا تقوى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس . تأمرون بالمعروف ، وتنهون عن المنكر ، وتؤمنون بالله . ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم . منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون . لن يضروكم إلا أذى ، وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون . ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا - إلا بحبل من الله وحبل من الناس - وباءوا بغضب من الله ، وضربت عليهم المسكنة . ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ، ويقتلون الأنبياء بغير حق . ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . ليسوا سواء . من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون . يؤمنون بالله واليوم الآخر ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات ، وأولئك من الصالحين . وما يفعلوا من خير فلن يكفروه ، والله عليم بالمتقين . إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً ، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر ، أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته . وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون } . .
إن شطر الآية الأولى في هذه المجموعة يضع على كاهل الجماعة المسلمة في الأرض واجباً ثقيلاً ، بقدر ما يكرم هذه الجماعة ويرفع مقامها ، ويفردها بمكان خاص لا تبلغ إليه جماعة أخرى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس ، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ، وتؤمنون بالله . . } .(1/105)
إن التعبير بكلمة { أخرجت } المبني لغير الفاعل ، تعبير يلفت النظر . وهو يكاد يشي باليد المدبرة اللطيفة ، تخرج هذه الأمة إخراجاً؛ وتدفعها إلى الظهور دفعاً من ظلمات الغيب ، ومن وراء الستار السرمدي الذي لا يعلم ما وراءه إلا الله . . إنها كلمة تصور حركة خفية المسرى ، لطيفة الدبيب . حركة تخرج على مسرح الوجود أمة . أمة ذات دور خاص . لها مقام خاص ، ولها حساب خاص : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } . .
وهذا ما ينبغي أن تدركه الأمة المسلمة؛ لتعرف حقيقتها وقيمتها ، وتعرف أنها أخرجت لتكون طليعة ، ولتكون لها القيادة ، بما أنها هي خير أمة . والله يريد أن تكون القيادة للخير لا للشر في هذه الأرض . ومن ثم لا ينبغي لها أن تتلقى من غيرها من أمم الجاهلية . إنما ينبغي دائماً أن تعطي هذه الأمم مما لديها . وأن يكون لديها دائماً ما تعطيه . ما تعطيه من الاعتقاد الصحيح ، والتصور الصحيح ، والنظام الصحيح ، والخلق الصحيح ، والمعرفة الصحيحة ، والعلم الصحيح . . هذا واجبها الذي يحتمه عليها مكانها ، وتحتمه عليها غاية وجودها . واجبها أن تكون في الطليعة دائماً ، وفي مركز القيادة دائماً . ولهذا المركز تبعاته ، فهو لا يؤخذ ادعاء ، ولا يسلم لها به إلا أن تكون هي أهلاً له .
. وهي بتصورها الاعتقادي ، وبنظامها الاجتماعي أهل له . فيبقى عليها أن تكون بتقدمها العلمي ، وبعمارتها للأرض - قياماً بحق الخلافة - أهلاً له كذلك . . ومن هذا يتبين أن المنهج الذي تقوم عليه هذه الأمة يطالبها بالشيء الكثير؛ ويدفعها إلى السبق في كل مجال . . لو أنها تتبعه وتلتزم به ، وتدرك مقتضياته وتكاليفه .(1/106)
وفي أول مقتضيات هذا المكان . أن تقوم على صيانة الحياة من الشر والفساد . . وأن تكون لها القوة التي تمكنها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فهي خير أمة أخرجت للناس . لا عن مجاملة أو محاباة ، ولا عن مصادفة أو جزاف - تعالى الله عن ذلك كله علواً كبيراً - وليس توزيع الاختصاصات والكرامات كما كان أهل الكتاب يقولون : « نحن أبناء الله وأحباؤه » . . كلا! إنما هو العمل الإيجابي لحفظ الحياة البشرية من المنكر ، وإقامتها على المعروف ، مع الإيمان الذي يحدد المعروف والمنكر : { تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } . .
فهو النهوض بتكاليف الأمة الخيرة ، بكل ما وراء هذه التكاليف من متاعب ، وبكل ما في طريقها من أشواك . . إنه التعرض للشر والتحريض على الخير وصيانة المجتمع من عوامل الفساد . . وكل هذا متعب شاق ، ولكنه كذلك ضروري لإقامة المجتمع الصالح وصيانته؛ ولتحقيق الصورة التي يحب الله أن تكون عليها الحياة . .
ولا بد من الإيمان بالله ليوضع الميزان الصحيح للقيم ، والتعريف الصحيح للمعروف والمنكر . فإن اصطلاح الجماعة وحده لا يكفي . فقد يعم الفساد حتى تضطرب الموازين وتختل . ولا بد من الرجوع إلى تصور ثابت للخير وللشر ، وللفضيلة والرذيلة ، وللمعروف والمنكر . يستند إلى قاعدة أخرى غير اصطلاح الناس في جيل من الأجيال .
وهذا ما يحققه الإيمان ، بإقامة تصور صحيح للوجود وعلاقته بخالقه . وللإنسان وغاية وجوده ومركزه الحقيقي في هذا الكون . . ومن هذا التصور العام تنبثق القواعد الأخلاقية . ومن الباعث على إرضاء الله وتوقي غضبه يندفع الناس لتحقيق هذه القواعد . ومن سلطان الله في الضمائر ، وسلطان شريعته في المجتمع تقوم الحراسة على هذه القواعد كذلك .(1/107)
ثم لا بد من الإيمان أيضا ليملك الدعاة إلى الخير ، الآمرون بالمعروف ، الناهون عن المنكر ، أن يمضوا في هذا الطريق الشاق ، ويحتملوا تكاليفه . وهم يواجهون طاغوت الشر في عنفوانه وجبروته ، ويواجهون طاغوت الشهوة في عرامتها وشدتها ، ويواجهون هبوط الأرواح ، وكلل العزائم ، وثقلة المطامع . . وزادهم هو الإيمان ، وعدتهم هي الإيمان . وسندهم هو الله . . وكل زاد سوى زاد الإيمان ينفد . وكل عدة سوى عدة الإيمان تُفلّ ، وكل سند غير سند الله ينهار!
وقد سبق في السياق الأمر التكليفي للجماعة المسلمة أن ينتدب من بينها من يقومون بالدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أما هنا فقد وصفها الله سبحانه بأن هذه صفتها .
ليدلها على أنها لا توجد وجوداً حقيقياً إلا أن تتوافر فيها هذه السمة الأساسية ، التي تعرف بها في المجتمع الإنساني . فإما أن تقوم بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - مع الإيمان بالله - فهي موجودة وهي مسلمة . وإما أن لا تقوم بشيء من هذا فهي غير موجودة . وغير متحققة فيها صفة الإسلام .
وفي القرآن الكريم مواضع كثيرة تقرر هذه الحقيقة . ندعها لمواضعها . وفي السنة كذلك طائفة صالحة من أوامر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتوجيهاته نقتطف بعضها :
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان »
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم ، فلم ينتهوا ، فجالسوهم وواكلوهم وشاربوهم ، فضرب الله تعالى قلوب بعضهم ببعض ، ولعنهم على لسان داود وسليمان وعيسى بن مريم . . ثم جلس - وكان متكئاً - فقال : لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطراً » أي تعطفوهم وتردوهم .(1/108)
وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً ، منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم » .
وعن عرس ابن عميرة الكندي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها ، ومن غاب عنها فرضيها كمن شهدها » .
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر » .
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « سيد الشهداء حمزة . ورجل قام إلى سلطان جائر ، فأمره ونهاه ، فقتله » .
وغيرها كثير . . وكلها تقرر أصالة هذه السمة في المجتمع المسلم ، وضروراتها لهذا المجتمع أيضاً . وهي تحتوي مادة توجيه وتربية منهجية ضخمة . وهي إلى جانب النصوص القرآنية زاد نحن غافلون عن قيمته وعن حقيقته .
- - - - - - - - - - - -
14.
تحريمُ اتخاذ بطانةً من غير المسلمين(1/109)
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) } سورة آل عمران
يَنْهَى اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَنِ اتِّخَاذِ الكُفَّارِ وَاليَهُودِ وَالمُنَافِقِينَ بِطَانَةً وَخَوَاصَّ لَهُمْ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ ، يُطْلِعُونَهُمْ عَلَى سِرِّهِمْ ، وَمَا يُضْمِرُونَ لأعْدَائِهِمْ . لأنَّ هَؤُلاءِ لاَ يَألُونَ جُهْداً ، وَلاَ يَتَأَخَّرُونَ عَنْ عَمَلٍ فِيهِ إِيْذَاءٌ وَإِضْرَارٌ بِالمُؤْمِنِينَ ، فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ ، وَهُمْ يَتَمَنَّوْنَ وُقُوعَ المُؤْمِنينَ فِي الضِّيقِ وَالمَشَقَّةِ . وَلَقَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ وَالعَدَاوَةُ فِي أَفْوَاهِهِمْ بِمَا يَظْهَرُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ مِنْ كَلِمَاتِ الحِقْدِ ، وَصُدُورُهُمْ تُخْفِي حِقْداً أَكْبَرَ ، وَبُغْضاً أَعْظَمَ للإِسْلاَمِ وَأَهْلِهِ ، وَهُوَ أمْرٌ لاَ يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى الدَّلاَلاَتِ الوَاضِحَةَ التِي يُعْرَفُ يِهَا الوَلِيُّ مِنَ العّدُوِّ .(1/110)
يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنينَ : إِنَّكُمْ تُحِبُّونَ هَؤُلاءِ الكُفَّارِ الذِينَ هُمْ أشَدُّ النَّاسِ عَدَاوَةً لَكُمْ ، وَلاَ يُقَصِّرُونَ فِي إفْسَادِ أَمْرِكُمْ ، وَتَمَنَّي عَنَتِكُمْ . وَيُظْهِرُونَ لَكُمُ العَدَاوَةَ وَالغِشَّ ، وَيَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ رَيْبَ المَنُونِ ، فَكَيْفَ تُوادُّونَهُمْ وَتُواصِلُونَهُمْ ، وَهُمْ لاَ يُحِبُّونَكُمْ لا ظَاهِراً وَلاَ بَاطِناً ، وَتُؤْمِنُونَ بِالكِتَابِ الذِي أنْزِلَ عَلَيْكُمْ ، وَبِالكُتُبِ التِي أُنْزِلَتْ قَبْلَهُ ، وَلَيْسَ لَدَيْكُمْ شَيءٌ مِنَ الشَّكِّ فِي شَيءٍ مِنْهَا ، وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بِكِتَابِكُمْ ، وَعِنْدَهُمْ مِنْ كِتَابِ اللهِ شَكٌّ وَحَيرَةٌ ، فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِبُغْضِهِمْ مِنْهُمْ لَكُمْ ، فَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا : آمَنَّا إِرْضَاءً لَكُمْ ، وَحَذَراً مِنْهُمْ عَلَى أنْفُسِهِمْ مِنْكُمْ . وَإِذَا فَارَقُوكُمْ ، وَاخْتَلَوا بِأَنْفُسِهِمْ ، عَضُّوا عَلَيْكُمْ أَطْرَافَ أصَابِعِهِمْ مِنْ غَيْظِهِمْ مِنْكُمْ ، فَقُلْ لَهُمْ : مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ فَلَنْ يَضُرَّنَا ذَلِكَ شَيئاً ، وَاللهُ مُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ ، وَاللهُ هُوَ الذِي يَعْلَمُ مَا فِي الصُّدُورِ مِنَ البَغْضَاءِ وَالحَسَدِ وَالغِلِّ لِلْمُؤْمِنينَ .
وَلِشِدَّةِ عَدَاوَةِ هَؤُلاءِ الكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَسُوؤُهُمْ مَا يُصِيبُ المُؤْمِنينَ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ - نَصْرٌ أَوْ رِبْحٌ أَوْ خَصْبٌ - كَمَا يَسُرُّهُمْ مَا يَنْزِلُ بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ بَلاَءٍ وَسُوْءٍ وَهَزِيْمَةٍ . وَيَنْصَحُ اللهُ المؤْمِنِينَ بِالتَّحَلِّي بالصَّبْر والتَّقْوى ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ لِلنَّجَاةِ مِنْ كَيْدِهِمْ وَأَذَاهُمْ ، لأنَّهُ مُحِيطٌ بِما يَعْمَلُونَ ، وَكُلُّ شَيءٍ بِمَشِيئَتِهِ وَقَدَرِهِ .(1/111)
إنها صورة كاملة السمات ، ناطقة بدخائل النفوس ، وشواهد الملامح ، تسجل المشاعر الباطنة ، والانفعالات الظاهرة ، والحركة الذاهبة الآيبة . وتسجل بذلك كله نموذجاً بشرياً مكروراً في كل زمان وفي كل مكان . ونستعرضها اليوم وغدا فيمن حول الجماعة المسلمة من أعداء . يتظاهرون للمسلمين - في ساعة قوة المسلمين وغلبتهم - بالمودة . فتكذبهم كل خالجة وكل جارحة . وينخدع المسلمون بهم فيمنحونهم الود والثقة وهم لا يريدون للمسلمين إلا الاضطراب والخبال ، ولا يقصرون في إعنات المسلمين ونثر الشوك في طريقهم ، والكيد لهم والدس ، ما واتتهم الفرصة في ليل أو نهار .
وما من شك أن هذه الصورة التي رسمها القرآن الكريم هذا الرسم العجيب ، كانت تنطبق ابتداء على أهل الكتاب المجاورين للمسلمين في المدينة؛ وترسم صورة قوية للغيظ الكظيم الذي كانوا يضمرونه للإسلام والمسلمين ، وللشر المبيت ، وللنوايا السيئة التي تجيش في صدورهم؛ في الوقت الذي كان بعض المسلمين ما يزال مخدوعاً في أعداء الله هؤلاء ، وما يزال يفضي إليهم بالمودة ، وما يزال يأمنهم على أسرار الجماعة المسلمة؛ ويتخذ منهم بطانة وأصحاباً وأصدقاء ، لا يخشى مغبة الإفضاء إليهم بدخائل الأسرار .
. فجاء هذا التنوير ، وهذا التحذير ، يبصر الجماعة المسلمة بحقيقة الأمر ، ويوعيها لكيد أعدائها الطبيعيين ، الذين لا يخلصون لها أبداً ، ولا تغسل أحقادهم مودة من المسلمين وصحبة . ولم يجيء هذا التنوير وهذا التحذير ليكون مقصوراً على فترة تاريخية معينة ، فهو حقيقة دائمة ، تواجه واقعاً دائماً . . كما نرى مصداق هذا فيما بين أيدينا من حاضر مكشوف مشهود . .(1/112)
والمسلمون في غفلة عن أمر ربهم : ألا يتخذوا بطانة من دونهم . بطانة من ناس هم دونهم في الحقيقة والمنهج والوسيلة . وألا يجعلوهم موضع الثقة والسر والاستشارة . . المسلمون في غفلة عن أمر ربهم هذا يتخذون من أمثال هؤلاء مرجعاً في كل أمر ، وكل شأن ، وكل وضع ، وكل نظام ، وكل تصور ، وكل منهج ، وكل طريق!
والمسلمون في غفلة من تحذير الله لهم ، يوادون من حاد الله ورسوله؛ ويفتحون لهم صدورهم وقلوبهم . والله سبحانه يقول للجماعة المسلمة الأولى كما يقول للجماعة المسلمة في أي جيل :
{ ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر } . .
والله سبحانه يقول : { ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم ، وتؤمنون بالكتاب كله ، وإذا لقوكم قالوا : آمنا ، وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } . .
والله سبحانه يقول : { أن تمسسكم حسنة تسؤهم ، وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها } . .
ومرة بعد مرة تصفعنا التجارب المرة ، ولكننا لا نفيق . . ومرة بعد مرة نكشف عن المكيدة والمؤامرة تلبس أزياء مختلفة ولكننا لا نعتبر . ومرة بعد مرة تنفلت ألسنتهم فتنم عن أحقادهم التي لا يذهب بها ود يبذله المسلمون ، ولا تغلسها سماحة يعلمها لهم الدين . . ومع ذلك نعود ، فنفتح لهم قلوبنا ونتخذ منهم رفقاء في الحياة والطريق! . . وتبلغ بنا المجاملة ، أو تبلغ بنا الهزيمة الروحية أن نجاملهم في عقيدتنا فنتحاشى ذكرها ، وفي منهج حياتنا فلا نقيمه على أساس الإسلام ، وفي تزوير تاريخنا وطمس معالمه كي نتقي فيه ذكر أي صدام كان بين أسلافنا وهؤلاء الأعداء المتربصين! ومن ثم يحل علينا جزاء المخالفين عن أمر الله . ومن هنا نذل ونضعف ونستخذي . ومن هنا نلقى العنت الذي يوده أعداؤنا لنا ، ونلقى الخبال الذي يدسونه في صفوفنا . .(1/113)
وها هو ذا كتاب الله يعلمنا - كما علم الجماعة المسلمة الأولى - كيف نتقي كيدهم ، وندفع أذاهم ، وننجو من الشر الذي تكنه صدورهم ، ويفلت على السنتهم منه شواظ :
{ وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً . إن الله بما يعملون محيط } . .
فهو الصبر والعزم والصمود أمام قوتهم إن كانوا أقوياء؛ وأمام مكرهم وكيدهم إن سلكوا طريق الوقيعة والخداع . الصبر والتماسك لا الانهيار والتخاذل؛ ولا التنازل عن العقيدة كلها أو بعضها اتقاء لشرهم المتوقع أو كسبا لودهم المدخول . . ثم هو التقوى : الخوف من الله وحده . ومراقبته وحده .
. هو تقوى الله التي تربط القلوب بالله ، فلا تلتقي مع أحد إلا في منهجه ، ولا تعتصم بحبل إلا حبله . . وحين يتصل القلب بالله فإنه سيحقر كل قوة غير قوته؛ وستشد هذه الرابطة من عزيمته ، فلا يستسلم من قريب ، ولا يواد من حاد الله ورسوله ، طلباً للنجاة أو كسباً للعزة!
هذا هو الطريق : الصبر والتقوى . . التماسك والاعتصام بحبل الله . وما استمسك المسلمون في تاريخهم كله بعروة الله وحدها ، وحققوا منهج الله في حياتهم كلها . . إلا عزوا وانتصروا ، ووقاهم الله كيد أعدائهم ، وكانت كلمتهم هي العليا . وما استمسك المسلمون في تاريخهم كله بعروة أعدائهم الطبيعيين ، الذين يحاربون عقيدتهم ومنهجهم سراً وجهراً ، واستمعوا إلى مشورتهم ، واتخذوا منهم بطانة وأصدقاء وأعواناً وخبراء ومستشارين . . إلا كتب الله عليهم الهزيمة ، ومكن لأعدائهم فيهم ، وأذل رقابهم ، وأذاقهم وبال أمرهم . . والتاريخ كله شاهد على أن كلمة الله خالدة؛ وأن سنة الله نافذة . فمن عمي عن سنة الله المشهودة في الأرض ، فلن ترى عيناه إلا آيات الذلة والإنكسار والهوان . .(1/114)
ويحسن قبل أن ننهي هذا الدرس أن نقرر حقيقة أخرى ، عن سماحة الإسلام في وجه كل هذا العداء . فهو يأمر المسلمين ألا يتخذوا بطانة من هؤلاء . ولكنه لا يحرضهم على مقابلة الغل والحقد والكراهية والدس والمكر بمثلها . إنما هي مجرد الوقاية للجماعة المسلمة وللصف المسلم ، وللكينونة المسلمة . . مجرد الوقاية ومجرد التنبيه إلى الخطر الذي يحيطها به الآخرون . .
أما المسلم فبسماحة الإسلام يتعامل مع الناس جميعا؛ وبنظافة الإسلام يعامل الناس جميعاً؛ وبمحبة الخير الشامل يلقى الناس جميعاً؛ يتقي الكيد ولكنه لا يكيد ، ويحذر الحقد ولكنه لا يحقد . إلا أن يحارب في دينه ، وأن يفتن في عقيدته ، وأن يصد عن سبيل الله ومنهجه . فحينئذ هو مطالب أن يحارب ، وأن يمنع الفتنة ، وأن يزيل العقبات التي تصد الناس عن سبيل الله ، وعن تحقيق منهجه في الحياة . يحارب جهاداً في سبيل الله لا انتقاماً لذاته . وحباً لخير البشر لا حقداً على الذين آذوه . وتحطيماً للحواجز الحائلة دون إيصال هذا الخير للناس . لا حباً للغلب والاستعلاء والاستغلال . . وإقامة للنظام القويم الذي يستمتع الجميع في ظله بالعدل والسلام . لا لتركيز راية قومية ولا لبناء امبراطورية!
هذه حقيقة تقررها النصوص الكثيرة من القرآن والسنة؛ ويترجمها تاريخ الجماعة المسلمة الأولى ، وهي تعمل في الأرض وفق هذه النصوص .
إن هذا المنهج خير . وما يصد البشرية عنه إلا أعدى أعداء البشرية . الذين ينبغي لها أن تطاردهم ، حتى تقصيهم عن قيادتها . . وهذا هو الواجب الذي انتدبت له الجماعة المسلمة ، فأدته مرة خير ما يكون الأداء . وهي مدعوة دائماً إلى أدائه ، والجهاد ماض إلى يوم القيامة . . تحت هذا اللواء . .
- - - - - - - - - - - -
15.
النهي عن أكل الربا(1/115)
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) } سورة آل عمران
يَنْهَى اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ عَنْ أَكْلِ الرِّبَا ، وَالتَّعَامُلِ بِهِ ، بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ ، وَهُدَى اللهِ لَهُمْ ، كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي الجَاهِلِيَّةِ ، إذْ كَانُوا يَقُولُونَ لِلمَدِينِ إذَا حَلَّ أجَلُ الدَّيْنِ : إمّا أنْ تَقْضِيَ دَيْنَكَ وَإمَّا أنْ تُرٍبيَ . فَإِنْ قَضَاهُ فِبِهَا ، وَإلاَّ زَادَهُ فِي المُدَّةِ وَزَادَهُ فِي المِقْدارِ ، وَهَكَذَا كُلَّ عَامٍ ، فَرُبَّما تَضَاعَفَ القَلِيلُ حَتَّى يَصِيرَ كَثِيراً مُضَاعَفاً . وَيَأمُرُ اللهُ عِبَادَهُ بِالتَّقْوَى لَعَلَّهُمْ يُفْلِحُونَ فِي الأولَى وَالآخِرَةِ .
وَيَأمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِالتَّقْوَى ، وَبِالابْتِعَادِ عَنْ مُتَابَعَةِ المُرَابِينَ ، وَتَعَاطِي مَا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ أَكْلِ الرِّبا ، الذِي يُفْضِي بِهِمْ إِلى دُخُولِ النَّارِ التِي أعَدَّهَا اللهُ لِلْكَافِرِينَ .
وَيَأمُرُُ اللهُ المُؤْمِنِينَ بِطَاعَتِهِ ، وَطَاعَةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم ، فِيمَا نَهَيَا عَنْهُ مِنْ أَكْلِ الرِّبَا ، وَمَا أَمَرا بِهِ مِنَ الصَّدَقَةِ كِي يُرْحَمُوا فِي الدُّنيا ، بِصَلاحِ حَالِ المُجْتَمَعِ ، وَفِي الآخِرَةِ ، بِحُسْنِ الجَزَاءِ .
إن قوماً يريدون في هذا الزمان أن يتواروا خلف هذا النص ويتداروا به ليقولوا : إن المحرم هو الأضعاف المضاعفة . أما الأربعة في المائة والخمسة في المائة والسبعة والتسعة . . فليست أضعافاً مضاعفة . وليست داخلة في نطاق التحريم!(1/116)
ونبدأ فنحسم القول بأن الأضعاف المضاعفة وصف لواقع ، وليست شرطاً يتعلق به الحكم . والنص الذي في سورة البقرة قاطع في حرمة أصل الربا - بلا تحديد ولا تقييد : { وذروا ما بقي من الربا } أياً كان!
فإذا انتهينا من تقرير المبدأ فرغنا لهذا الوصف لنقول : إنه في الحقيقة ليس وصفاً تاريخياً فقط للعمليات الربوية التي كانت واقعة في الجزيرة والتي قصد إليها النهي هنا بالذات . إنما هو وصف ملازم للنظام الربوي المقيت أياً كان سعر الفائدة .
إن النظام الربوي معناه إقامة دورة المال كلها على هذه القاعدة . ومعنى هذا أن العمليات الربوية ليست عمليات مفردة ولا بسيطة . فهي عمليات متكررة من ناحية ، ومركبة من ناحية أخرى . فهي تنشئ مع الزمن والتكرار والتركيب أضعافاً مضاعفة بلا جدال .
إن النظام الربوي يحقق بطبيعته دائماً هذا الوصف . فليس هو مقصوراً على العمليات التي كانت متبعة في جزيرة العرب . إنما هو وصف ملازم للنظام في كل زمان .
ومن شأن هذا النظام أن يفسد الحياة النفسية والخلقية - كما فصلنا ذلك في الجزء الثالث - كما أن من شأنه أن يفسد الحياة الاقتصادية والسياسية - كما فصلنا ذلك أيضاً - ومن ثم تتبين علاقته بحياة الأمة كلها وتأثيره في مصائرها جميعاً .
والإسلام - وهو ينشئ الأمة المسلمة - كان يريد لها نظافة الحياة النفسية والخلقية ، كما كان يريد لها سلامة الحياة الاقتصادية والسياسية . وأثر هذا وذاك في نتائج المعارك التي تخوضها الأمة معروف . فالنهي عن أكل الربا في سياق التعقيب على المعركة الحربية أمر يبدو إذن مفهوماً في هذا المنهج الشامل البصير .
أما التعقيب على هذا النهي بالأمر بتقوى الله رجاء الفلاح ; واتقاء النار التي أعدت للكافرين . . أما التعقيب بهاتين اللمستين فمفهوم كذلك ; وهو أنسب تعقيب :(1/117)
إنه لا يأكل الربا إنسان يتقي الله ويخاف النار التي أعدت للكافرين . . ولا يأكل الربا إنسان يؤمن بالله ، ويعزل نفسه من صفوف الكافرين . . والإيمان ليس كلمة تقال باللسان ; إنما هو اتباع للمنهج الذي جعله الله ترجمة عملية واقعية لهذا الإيمان . وجعل الإيمان مقدمة لتحقيقه في الحياة الواقعية وتكييف حياة المجتمع وفق مقتضياته .
ومحال أن يجتمع إيمان ونظام ربوي في مكان . وحيثما قام النظام الربوي فهناك الخروج من هذا الدين جملة; وهناك النار التي أعدت للكافرين! والمماحكة في هذا الأمر لا تخرج عن كونها مماحكة . . والجمع في هذه الآيات بين النهي عن أكل الربا والدعوة إلى تقوى الله وإلى اتقاء النار التي أعدت للكافرين ليس عبثاً ولا مصادفة . إنما هو لتقرير هذه الحقيقة وتعميقها في تصورات المسلمين .
وكذلك رجاء الفلاح بترك الربا وبتقوى الله . . فالفلاح هو الثمرة الطبيعية للتقوى ولتحقيق منهج الله في حياة الناس . . ولقد سبق الحديث في الجزء الثالث عن فعل الربا بالمجتمعات البشرية وويلاته البشعة في حياة الإنسانية . فلنرجع إلى هذا البيان هناك لندرك معنى الفلاح هنا واقترانه بترك النظام الربوي المقيت!
ثم يجيء التوكيد الأخير : { وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون } . .
وهو أمر عام بالطاعة لله والرسول ، وتعليق الرحمة بهذه الطاعة العامة . ولكن للتعقيب به على النهي عن الربا دلالة خاصة . هي أنه لا طاعة لله وللرسول في مجتمع يقوم على النظام الربوي ; ولا طاعة لله وللرسول في قلب يأكل الربا في صورة من صوره .
. وهكذا يكون ذلك التعقيب توكيداً بعد توكيد . .
وذلك فوق العلاقة الخاصة بين أحداث المعركة التي خولف فيها أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين الأمر بالطاعة لله وللرسول ، بوصفها وسيلة الفلاح وموضع الرجاء فيه . .(1/118)
ثم لقد سبق في سورة البقرة أن رأينا السياق هناك يجمع بين الحديث عن الربا والحديث عن الصدقة . بوصفهما الوجهين المتقابلين للعلاقات الاجتماعية في النظام الاقتصادي ; وبوصفهما السمتين البارزتين لنوعين متباينين من النظم : النظام الربوي . والنظام التعاوني . . فهنا كذلك نجد هذا الجمع في الحديث عن الربا والحديث عن الإنفاق في السراء والضراء . .
التحذير من الربا في السنة النبوية :(1/119)
عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا قَالَ فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ قَصَّهَا فَيَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ فَسَأَلَنَا يَوْمًا فَقَالَ هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا قُلْنَا لَا قَالَ لَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَأَخَذَا بِيَدِي فَأَخْرَجَانِي إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ مُوسَى إِنَّهُ يُدْخِلُ ذَلِكَ الْكَلُّوبَ فِي شِدْقِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الْآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ قُلْتُ مَا هَذَا قَالَا انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ عَلَى قَفَاهُ وَرَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ بِفِهْرٍ أَوْ صَخْرَةٍ فَيَشْدَخُ بِهِ رَأْسَهُ فَإِذَا ضَرَبَهُ تَدَهْدَهَ الْحَجَرُ فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ فَلَا يَرْجِعُ إِلَى هَذَا حَتَّى يَلْتَئِمَ رَأْسُهُ وَعَادَ رَأْسُهُ كَمَا هُوَ فَعَادَ إِلَيْهِ فَضَرَبَهُ قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَا انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا إِلَى ثَقْبٍ مِثْلِ التَّنُّورِ أَعْلَاهُ ضَيِّقٌ وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ يَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارًا فَإِذَا اقْتَرَبَ ارْتَفَعُوا حَتَّى كَادَ أَنْ يَخْرُجُوا فَإِذَا خَمَدَتْ رَجَعُوا فِيهَا وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَا انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى وَسَطِ النَّهَرِ(1/120)
قَالَ يَزِيدُ وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ وَعَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ فَقُلْتُ مَا هَذَا قَالَا انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ فِيهَا شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ وَفِي أَصْلِهَا شَيْخٌ وَصِبْيَانٌ وَإِذَا رَجُلٌ قَرِيبٌ مِنْ الشَّجَرَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ نَارٌ يُوقِدُهَا فَصَعِدَا بِي فِي الشَّجَرَةِ وَأَدْخَلَانِي دَارًا لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا فِيهَا رِجَالٌ شُيُوخٌ وَشَبَابٌ وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ ثُمَّ أَخْرَجَانِي مِنْهَا فَصَعِدَا بِي الشَّجَرَةَ فَأَدْخَلَانِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ فِيهَا شُيُوخٌ وَشَبَابٌ قُلْتُ طَوَّفْتُمَانِي اللَّيْلَةَ فَأَخْبِرَانِي عَمَّا رَأَيْتُ قَالَا نَعَمْ أَمَّا الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ يُحَدِّثُ بِالْكَذْبَةِ فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالَّذِي رَأَيْتَهُ يُشْدَخُ رَأْسُهُ فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ بِالنَّهَارِ يُفْعَلُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي الثَّقْبِ فَهُمْ الزُّنَاةُ وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ آكِلُوا الرِّبَا وَالشَّيْخُ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهُ فَأَوْلَادُ النَّاسِ وَالَّذِي يُوقِدُ النَّارَ مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ وَالدَّارُ الْأُولَى الَّتِي دَخَلْتَ دَارُ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَمَّا(1/121)
هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ وَأَنَا جِبْرِيلُ وَهَذَا مِيكَائِيلُ فَارْفَعْ رَأْسَكَ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا فَوْقِي مِثْلُ السَّحَابِ قَالَا ذَاكَ مَنْزِلُكَ قُلْتُ دَعَانِي أَدْخُلْ مَنْزِلِي قَالَا إِنَّهُ بَقِيَ لَكَ عُمُرٌ لَمْ تَسْتَكْمِلْهُ فَلَوْ اسْتَكْمَلْتَ أَتَيْتَ مَنْزِلَكَ " صحيح البخاري برقم(1297 )
وعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَأَخْرَجَانِي إِلَى أَرْضٍ مُقَدَّسَةٍ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ وَعَلَى وَسَطِ النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ فَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ فَقُلْتُ مَا هَذَا فَقَالَ الَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ آكِلُ الرِّبَا" صحيح البخاري برقم(1943 )
وعَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ رَأَيْتُ أَبِي اشْتَرَى عَبْدًا حَجَّامًا فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَثَمَنِ الدَّمِ وَنَهَى عَنْ الْوَاشِمَةِ وَالْمَوْشُومَةِ وَآكِلِ الرِّبَا وَمُوكِلِهِ وَلَعَنَ الْمُصَوِّرَ" صحيح البخاري برقم(1944 )(1/122)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ ». قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ قَالَ « الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَأَكْلُ الرِّبَا وَالتَّوَلِّى يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ ».صحيح مسلم برقم( 272 )
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ. قَالَ قُلْتُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ قَالَ إِنَّمَا نُحَدِّثُ بِمَا سَمِعْنَا.صحيح مسلم برقم(4176 )
وعَنْ جَابِرٍ قَالَ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ هُمْ سَوَاءٌ. صحيح مسلم برقم(4177 )
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لاَ يَبْقَى أَحَدٌ إِلاَّ أَكَلَ الرِّبَا فَإِنْ لَمْ يَأْكُلْهُ أَصَابَهُ مِنْ بُخَارِهِ ». قَالَ ابْنُ عِيسَى « أَصَابَهُ مِنْ غُبَارِهِ » سنن أبى داود برقم (3333 ) وفيه انقطاع.
وعن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَهُ وَكَاتِبَهُ. سنن أبى داود برقم( 3543 ) حديث حسن
وعَنْ أَبِى أُمَامَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَنْ شَفَعَ لأَخِيهِ بِشَفَاعَةٍ فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً عَلَيْهَا فَقَبِلَهَا فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا » سنن أبى داود برقم( 3543 ) حديث حسن(1/123)
وعَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ قَالَ يَهُودِىٌّ لِصَاحِبِهِ اذْهَبْ بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِىِّ. فَقَالَ صَاحِبُهُ لاَ تَقُلْ نَبِىٌّ إِنَّهُ لَوْ سَمِعَكَ كَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَعْيُنٍ. فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلاَهُ عَنْ تِسْعِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ. فَقَالَ لَهُمْ « لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ تَسْرِقُوا وَلاَ تَزْنُوا وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ تَمْشُوا بِبَرِىءٍ إِلَى ذِى سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ وَلاَ تَسْحَرُوا وَلاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا وَلاَ تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً وَلاَ تُوَلُّوا الْفِرَارَ يَوْمَ الزَّحْفِ وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةً الْيَهُودَ أَنْ لاَ تَعْتَدُوا فِى السَّبْتِ ». قَالَ فَقَبَّلُوا يَدَهُ وَرِجْلَهُ فَقَالاَ نَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِىٌّ. قَالَ « فَمَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَتَّبِعُونِى ». قَالُوا إِنَّ دَاوُدَ دَعَا رَبَّهُ أَنْ لاَ يَزَالَ فِى ذُرِّيَّتِهِ نَبِىٌّ وَإِنَّا نَخَافُ إِنْ تَبِعْنَاكَ أَنْ تَقْتُلَنَا الْيَهُودُ. سنن الترمذى برقم( 2952 )صحيح
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ الْمَالَ أَمِنْ حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ"صحيح البخاري برقم(1941)
وعَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: آكِلُ الرِّبَا وَمُوكِلُهُ وشاَهِدَاهُ وَكَاتِبُهُ إِذَا عَلِمُوا بِهِ وَالْوَاشِمَةُ وَالْمُسْتَوْشِمَةُ لِلْحُسْنِ وَلاَوِى الصَّدَقَةِ وَالْمُرْتَدُّ أَعْرَابِيًّا بَعْدَ هِجْرَتِهِ مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ الْقِيَامَةِ. مسند أحمد برقم( 4171)و مسند أبي يعلى الموصلي - (ج 10 / ص 237)برقم(4851 ) صحيح لغيره(1/124)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ : صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ ، فَقَالَ : " لَا أُقْسِمُ ، لَا أُقْسِمُ ، لَا أُقْسِمُ " ، ثُمَّ نَزَلَ ، فَقَالَ : " أَبْشِرُوا أَبْشِرُوا ، إِنَّهُ مَنْ صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ ، وَاَجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ دَخَلَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ " ، قَالَ الْمُطَّلِبُ : سَمِعْتُ رَجُلًا يَسْأَلُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو : أَسَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُهُنَّ ؟ ، قَالَ : نَعَمْ : " عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَالشِّرْكُ بِاللَّهِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ ، وَأَكْلُ الرِّبَا "الْمُعْجَمُ الْكَبِيرُ لِلطَّبَرَانِيِّ برقم( 13485 ) وصحيح الترغيب برقم(1340) والكفاية برقم(266) وهو صحيح لغيره(1/125)
وعَنْ أَبِى بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ بِكِتَابٍ فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالسُّنَنُ وَالدِّيَاتُ وَبَعَثَ بِهِ مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَقُرِئَتْ عَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ وَهَذِهِ نُسْخَتُهَا :« بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِىِّ إِلَى شُرَحْبِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ ، وَنُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ ، وَالْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ - قَيْلِ ذِى رُعَيْنٍ وَمُعَافِرَ وَهَمْدَانَ - أَمَّا بَعْدُ : فَقَدْ رَفَعَ رَسُولُكُمْ وَأَعْطَيْتُمْ مِنَ الْمَغَانِمِ خُمُسَ اللَّهِ وَمَا كَتَبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعُشْرِ فِى الْعَقَارِ مَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَكَانَ سَيْحًا أَوْ كَانَ بَعْلاً فَفِيهِ الْعُشْرُ إِذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ ، وَمَا سُقِىَ بِالرِّشَاءِ وَالدَّالِيَةِ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ إِذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ ، وَفِى كُلِّ خَمْسٍ مِنَ الإِبِلِ سَائِمَةٍ شَاةٌ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً عَلَى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ فَفِيهَا ابْنَةُ مَخَاضٍ ، فَإِنْ لَمْ تُوجَدِ ابْنَةُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ خَمْسًا وَثَلاَثِينَ ، فَإِن زَادَتْ عَلَى خَمْسٍ وَثَلاَثِينَ وَاحِدَةً فَفِيهَا ابْنَةُ لَبُونٍ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ ، فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةً عَلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْجَمَلِ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ سِتِّينَ ، فَإِنْ زَادَتْ عَلَى سِتِّينِ وَاحِدَةً فَفِيهَا جَذَعَةٌ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ خَمْسًا وَسَبْعِينَ ، فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةً عَلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا ابْنَتَا لَبُونٍ إِلَى أَنْ(1/126)
تَبْلُغَ تِسْعِينَ ، فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْجَمَلِ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ عِشْرِينَ وَمِائَةً ، فَما زَادَ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِى كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ ، وَفِى كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ طَرُوقَةَ الْجَمَلِ ، وَفِى كُلِّ ثَلاَثِينَ بَاقُورَةً تَبِيعٌ جَذَعٌ أَوْ جَذَعَةٌ ، وَفِى كُلِّ أَرْبَعِينَ بَاقُورَةً بَقَرَةٌ ، وَفِى كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً سَائِمَةً شَاةٌ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ عِشْرِينَ وَمِائَةً ، فَإِنْ زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةً وَاحِدَةً فَفِيهَا شَاتَانِ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ مِائَتَيْنِ ، فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا ثَلاَثٌ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ ثَلاَثَمِائَةٍ ، فَإِنْ زَادَتْ فَفِى كُلِّ مِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ ، وَلاَ تُؤْخَذُ فِى الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ ، وَلاَ عَجْفَاءُ ، وَلاَ ذَاتُ عَوَارٍ ، وَلاَ تَيْسُ الْغَنَمِ ، وَلاَ يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ ، وَلاَ يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ ، وَمَا أُخِذَ مِنَ الْخَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ ، وَفِى كُلِّ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ ، وَمَا زَادَ فَفِى كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ شَىْءٌ ، وَفِى كُلِّ أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارٌ وَأَنَّ الصَّدَقَة لاَ تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلا لأَهْلِ بَيْتَهِ إِنَّمَا هِىَ الزَّكَاةُ تُزَكَّى بِهَا أَنْفُسُهُمْ ، وَلْفُقُرَاءِ الْمؤمنينَ ، وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ ، وَلَيْسَ فِى رَقِيقٍ وَلاَ مَزْرَعَةٍ وَلاَ عُمَّالِهَا شَىْءٌ إِذَا كَانَتْ تُؤَدِّى صَدَقَتَهَا مِنَ الْعُشْرِ ، وَإِنَّهُ لَيْسَ فِى عَبْدٍ مُسْلِمٍ ، وَلاَ فِى فَرَسِهِ شَىْءٌ ». قَالَ يَحْيَى أَفْضَلُ.(1/127)
ثُمَّ قَالَ : كَانَ فِى الْكِتَابِ :« إِنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِشْرَاكٌ بِاللَّهِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَالْفِرَارُ[ يَوْمَ الزَّحْفِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ] ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَرَمْىُ الْمُحْصَنَةِ ، وَتَعلُّمُ السَّحَرِ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَإِنَّ الْعُمْرَةَ الْحَجُّ الأَصْغَرُ ، وَلاَ يَمَسُّ الْقُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ ، وَلاَ طَلاَقَ قَبْلَ إِمْلاَكٍ ، وَلاَ عِتَاقَ حَتَّى يَبْتَاعَ ، وَلاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدُمنكُمْ فِى ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى مَنْكِبِهِ شَىْءٌ ، وَلاَ يَحْتَبِيَنَّ فِى ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ بَيْنَ فَرْجِهِ وَبَيْنَ السَّمَاءِ شَىْءٌ ، وَلاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمْ فِى ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَشِقُّهُ بَادِى ، وَلاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ عَاقِصٌ شَعَرَهُ ».(1/128)
وَكَانَ فِى الْكِتَابِ :« أَنَّ مَنِ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلاً عَنْ بَيِّنَةٍ فَإِنَّهُ قَوَدٌ إِلاَّ أَنْ يَرْضَى أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ ، وَإِنَّ فِى النَّفْسِ الدِّيَةَ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ ، وَفِى الأَنْفِ إِذَا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةُ ، وَفِى اللِّسَانِ الدِّيَةُ ، وَفِى الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ ، وَفِى الْبَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ ، وَفِى الذَّكَرِ الدِّيَةُ ، وَفِى الصُّلْبِ الدِّيَةُ ، وَفِى الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ ، وَفِى الرِّجْلِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَفِى الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ ، وَفِى الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ ، وَفِى الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشَرَةَ مِنَ الإِبِلِ ، وَفِى كُلِّ أُصْبُعٍ مِنَ الأَصَابِعِ مِنَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ ، وَفِى السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ ، وَفِى الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ ».السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 4 / ص 89)برقم( 7507) وصحيح ابن حبان برقم(6559 ) وصحيح الترغيب - ( 1341) صحيح لغيره
وعَنْ جَابِرٍ قَالَ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ هُمْ سَوَاءٌ "صحيح مسلم برقم( 2995 )(1/129)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ » . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا هُنَّ قَالَ « الشِّرْكُ بِاللَّهِ ، وَالسِّحْرُ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَالتَّوَلِّى يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاَتِ » . صحيح البخارى برقم( 2766 )
وعن عَوْنَ بْنِ أَبِى جُحَيْفَةَ قَالَ رَأَيْتُ أَبِى اشْتَرَى حَجَّامًا ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ . قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ ، وَثَمَنِ الْكَلْبِ ، وَكَسْبِ الأَمَةِ ، وَلَعَنَ الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ ، وَآكِلَ الرِّبَا ، وَمُوكِلَهُ ، وَلَعَنَ الْمُصَوِّرَ .صحيح البخارى برقم( 2238 )
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : الرِّبَا ثَلاثَةٌ وَسَبْعُونَ بَابًا ، أَيْسَرُهَا مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ ، وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا عِرْضُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ "المستدرك للحاكم برقم(2259) وقال :هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ وهو صحيح
و عَنْ عَبْدِ اللهِ ، أَنّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : الرِّبَا بِضْعٌ وَسَبْعُونَ بَابًا وَالشِّرْكُ مِثْلُ ذَلِكَ.مسند البزار برقم(1935)صحيح موقوف
و عَنْ عَلِيٍّ قَالَ : " لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةً : آكِلَ الرِّبَا ، وَمُؤْكِلَهُ ، وَشَاهِدَيْهِ ، وَكَاتِبَهُ ، وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ ، وَمَانِعَ الصَّدَقَةِ ، وَالْحَالَّ ، وَالْمُحَلَّلَ لَهُ "شُعَبُ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ برقم( 5266)حسن لغيره(1/130)
و عَنْ سَمُرَةَ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رَجُلًا يَسْبَحُ فِي نَهَرٍ يُلْقَمُ الْحِجَارَةَ ، فَسَأَلْتُ : مَنْ هَذَا ؟ فَقِيلَ : هَذَا آكِلُ الرِّبَا "الشعب برقم( 5267 ) صحيح
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ فَإِنَّ عَاقِبَتَهُ تَصِيرُ إِلَى قُلٍّ ».مسند أحمد برقم(3827) صحيح موقوف
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَا أَكْثَرَ أَحَدٌ مِنَ الرِّبَا إِلَّا كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ إِلَى قُلٍّ " الشعب برقم ( 5270) صحيح
وعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ قَالَتْ : " قَالَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : يَا رَبِّ ، مَنْ يَسْكُنُ غَدًا فِي حَظِيرَةِ الْقُدُسِ ، وَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّ عَرْشِكَ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّكَ ؟ قَالَ : يَا مُوسَى ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَا تَنْظُرُ أَعْيُنُهُمْ فِي الزِّنَا ، وَلَا يَبْتَغُونَ فِي أَمْوَالِهِمُ الرِّبَا ، وَلَا يَأْخُذُونَ عَلَى أَحْكَامِهِمُ الرِّشَى ، طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ " الشعب برقم(5271 ) حسن موقوف
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ ، أَنَّهُ قَالَ : " الرِّبَا اثْنَانِ وَسَبْعُونَ حُوبًا ، وَأَدْنَى فُجْرٍ مِثْلُ أَنْ يَقَعَ الرَّجُلُ عَلَى أُمِّهِ ، أَوْ مِثْلُ أَنْ يَضْطَجِعَ الرَّجُلُ عَلَى أُمِّهِ ، وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ أَظُنُّ عِرْضُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ "(1/131)
وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ قَالَ : " الرِّبَا سَبْعُونَ حُوبًا ، أَدْنَاهَا فَجْرَةً مِنْهُ مِثْلُ أَنْ يَضْطَجِعَ الرَّجُلُ مَعَ أُمِّهِ ، وَأَرْبَى الرِّبَا اسْتِطَالَةُ الْمَرْءِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ" أخرجهما البيهقي في الشعب برقم( 5272 -5275) وهو صحيح موقوف
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ غَسِيلِ الْمَلاَئِكَةِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « دِرْهَمُ رِباً يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَشَدُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلاَثِينَ زَنْيَةً ». مسند أحمد برقم( 22600) وصحيح الجامع (3375) صحيح
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُشْتَرَى الثَّمَرَةُ حَتَّى تُطْعِمَ ، وَقَالَ : إِذَا ظَهَرَ الزِّنَا وَالرِّبَا فِي قَرْيَةٍ ، فَقَدْ أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ " المستدرك للحاكم برقم( 2261) والشعب (5531 و5416) وصحيح الجامع (679) صحيح لغيره
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ ». قَالَ وَقَالَ « مَا ظَهَرَ فِى قَوْمٍ الرِّبَا وَالزِّنَا إِلاَّ أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عِقَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ».مسند أحمد برقم( 3886) صحيح لغيره
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ يَظْهَرُ الرِّبَا ، وَالزِّنَا ، وَالْخَمْرُ " .(1/132)
و عَنْ حَبِيبِ بن عُبَيْدٍ، أَنَّ حَبِيبَ بن مَسْلَمَةَ أَتَى بِرَجُلٍ قَدْ غَلَّ، فَرَبَطَهُ إِلَى جَانِبِ الْمَسْجِدِ، وَأَمَرَ بِمَتَاعِهِ فَأُحْرِقَ فَلَمَّا صَلَّى قَامَ فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَذَكَرَ الْغُلُولَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ، فَقَامَ عَوْفُ بن مَالِكٍ، فَقَالَ:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ , إِيَّاكُمْ وَمَا لا كَفَّارَةَ مِنَ الذُّنُوبِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يُرْبِي، ثُمَّ يَتُوبُ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: "وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"[آل عمران آية 161] ، وَإِنَّ اللَّهُ يَبْعَثُ آكِلَ الرِّبَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَجْنُونًا مُخَنَّقًا".المعجم الأوسط للطبراني برقم(7910 ) صحيح
وفي رواية عَنْ عَوْفِ بن مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"إِيَّايَ وَالذُّنُوبَ الَّتِي لا تُغْفَرُ: الْغُلُولُ، فَمَنْ غَلَّ شَيْئًا أَتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَآكِلُ الرِّبَا فَمَنْ أَكَلَ الرِّبَا بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَجْنُونًا يَتَخَبَّطُ", ثُمَّ قَرَأَ: "الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ"[البقرة آية 275] .المعجم الكبير للطبراني - (ج 12 / ص 428)برقم( 14536 و14537) حسن لغيره(1/133)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَيَبِيتَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِى عَلَى أَشَرٍ وَبَطَرٍ وَلَعِبٍ وَلَهْوٍ فَيُصْبِحُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ بِاسْتِحْلاَلِهِمُ الْمَحَارِمَ وَاتِّخَاذِهِمُ الْقَيْنَاتِ وَشُرْبِهِمُ الْخَمْرَ وَأَكْلِهِمُ الرِّبَا وَلُبْسِهِمُ الْحَرِيرَ ». مسند أحمد برقم( 23483) حسن لغيره الأشر : الطغيان بالنعمة البطر : التكبر على الحق فلا يقبله .
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ ». سنن أبى داود برقم ( 3464 ) صحيح
- - - - - - - - - - - -
16.
طاعةُ الكفار خسارة في الدارين
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) }سورة آل عمران(1/134)
يُحَذِّرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ مِنْ إِطَاعَةِ الكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ ، الذِينَ حَاوَلُوا إِلْقَاءَ الشُّبُهَاتِ فِي قُلُوبِ ضِعَافِ المُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِمْ : لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيّاً حَقّاً لانْتَصَرَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ يَوْمٌ وَعَلِيهِ يَوْمٌ . ( وَهَؤُلاَءِ هُمْ أبُو سُفْيَانُ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ ) لأَنَّ إِطَاعَتَهُمْ تُورِثُ البَوَارَ فِي الدُّنْيا ، بِخُضُوعِهِمْ لِسُلْطَانِهِمْ ، وَذِلَّتِهِمْ بَيْنَهُمْ ، وَفِي الآخِرَةِ فِيمَا يُصِيبُهُمْ مِنَ العَذَابِ الأَبَدِيِّ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ، وَجَهَنَّمُ بِئْسَ المَصِيرُ وَالمُسْتَقَرُّ
يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِطَاعَتِهِ ، وَمُوَالاَتِهِ ، وَالاسْتِعَانَةِ بِهِ ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيهِ وَحْدَهُ ، لأَنَّهُ خَيْرُ نَاصِرٍ لِعِبَادِهِ المُخْلِصِينَ . أمَّا رُؤُوسُ الكُفْرِ وَالضّلاَلَةِ وَالنِّفَاقِ فَإِنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ ، وَلاَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ .
يُبَشِّرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُ سَيُلْقِي فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِم الرُّعْبَ لأنَّهُمْ كَفَرُوا وَأَشْرَكُوا بِاللهِ ، وَهَذِهِ هِيَ سُنَّةُ اللهِ ، قَدْ جَعَلَ نُفُوسَ المُشْرِكِينَ مُضْطَرِبَةً ، وَقُلُوبَهُمْ مُمْتَلِئَةً رُعْباً وَهَلَعاً مِنَ المُؤْمِنِينَ ، حِينَما يَلْتَقُونَ بِهِمْ فِي سَاحَةِ الحَرْبِ ، وَأنَّهُ سَيَدَّخِرُ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابَ النَّارِ وَنَكَالَها . وَالنَّارُ بِئْسَ المَثْوَى وَالنِّهَايَةُ لِلظَّالِمِينَ الكَافِرِينَ .(1/135)
لقد انتهز الكفار والمنافقون واليهود في المدينة ما أصاب المسلمين من الهزيمة والقتل والقرح ليثبطوا عزائمهم ويخوفوهم عاقبة السير مع محمد ويصوروا لهم مخاوف القتال وعواقب الاشتباك مع مشركي قريش وحلفائهم . . وجو الهزيمة هو أصلح الأجواء لبلبلة القلوب وخلخلة الصفوف وإشاعة عدم الثقة في القيادة; والتشكيك في جدوى الإصرار على المعركة مع الأقوياء; وتزيين الانسحاب منها ومسالمة المنتصرين فيها! مع إثارة المواجع الشخصية والألام الفردية; وتحويلها كلها لهدم كيان الجماعة ثم لهدم كيان العقيدة ثم للاستسلام للأقوياء الغالبين!(1/136)
ومن ثم يحذر الله الذين آمنوا أن يطيعوا الذين كفروا . فطاعة الذين كفروا عاقبتها الخسارة المؤكدة وليس فيها ربح ولا منفعة . فيها الانقلاب على الأعقاب إلى الكفر . فالمؤمن إما أن يمضي في طريقه يجاهد الكفر والكفار ويكافح الباطل والمبطلين وإما أن يرتد على عقبيه كافراً - والعياذ بالله - ومحال أن يقف سلبياً بين بين محافظاً على موقفه ومحتفظاً بدينه . . إنه قد يخيل إليه هذا . . يخيل إليه في أعقاب الهزيمة وتحت وطأة الجرح والقرح أنه مستطيع أن ينسحب من المعركة مع الأقوياء الغالبين وأن يسالمهم ويطيعهم وهو مع هذا محتفظ بدينه وعقيدته وإيمانه وكيانه! وهو وهم كبير . فالذي لا يتحرك إلى الأمام في هذا المجال لا بد أن يرتد إلى الوراء والذي لا يكافح الكفر والشر والضلال والباطل والطغيان لا بد أن يتخاذل ويتقهقر ويرتد على عقبيه إلى الكفر والشر والضلال والباطل والطغيان! والذي لا تعصمه عقيدته ولا يعصمه إيمانه من طاعة الكافرين والاستماع إليهم والثقة بهم يتنازل - في الحقيقة - عن عقيدته وإيمانه منذ اللحظة الأولى . . إنها الهزيمة الروحية أن يركن صاحب العقيدة إلى أعداء عقيدته وأن يستمع إلى وسوستهم وأن يطيع توجيهاتهم . . الهزيمة بادىء ذي بدء . فلا عاصم له من الهزيمة في النهاية والارتداد على عقبيه إلى الكفر ولو لم يحس في خطواته الأولى أنه في طريقه إلى هذا المصير البائس . . إن المؤمن يجد في عقيدته وفي قيادته غناء عن مشورة أعداء دينه وأعداء قيادته .
فإذا استمع إلى هؤلاء مرة فقد سار في طريق الارتداد على الأعقاب . . حقيقة فطرية وحقيقة واقعية ينبه الله المؤمنين لها ويحذرهم إياها وهو يناديهم باسم الإيمان :
{ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين } . .
وأية خسارة بعد خسارة الارتداد على الأعقاب من الإيمان إلى الكفر؟ وأي ربح يتحقق بعد خسارة الإيمان؟(1/137)
وإذا كان مبعث الميل إلى طاعة الذين كفروا هو رجاء الحماية والنصرة عندهم فهو وهم يضرب السياق صفحا عنه ليذكرهم بحقيقة النصرة والحماية :
{ بل الله مولاكم وهو خير الناصرين } .
فهذه هي الجهة التي يطلب المؤمنون عندها الولاية ويطلبون عندها النصرة . ومن كان الله مولاه فما حاجته بولاية أحد من خلقه؟ ومن كان الله ناصره فما حاجته بنصرة أحد من العبيد؟
ثم يمضي السياق يثبت قلوب المسلمين ويبشرهم بإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم بسبب إشراكهم بالله ما لم ينزل به سلطاناً ولم يجعل له قوة وقدرة . وذلك فوق عذاب الآخرة المهيأ للظالمين :
{ سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً . ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين } . .
والوعد من الله الجليل القادر القاهر بإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا كفيل بنهاية المعركة وضمان لهزيمة أعدائه ونصر أوليائه . .
وهو وعد قائم في كل معركة يلتقي فيها الكفر بالإيمان . فما يلقى الذين كفروا الذين آمنوا حتى يخافوهم ويتحرك الرعب الملقى من الله في قلوبهم . ولكن المهم أن توجد حقيقة الإيمان في قلوب المؤمنين . حقيقة الشعور بولاية الله وحده والثقة المطلقة بهذه الولاية والتجرد من كل شائبة من شك في أن جند الله هم الغالبون وأن الله غالب على أمره وأن الذين كفروا غير معجزين في الأرض ولا سابقين لله سبحانه! والتعامل مع وعد الله هذا مهما تكن ظواهر الأمور تخالفه فوعد الله أصدق مما تراه عيون البشر وتقدره عقولهم!
إنه الرعب لأن قلوبهم خاوية من السند الصحيح . لأنهم لا يستندون إلى قوة ولا إلى ذي قوة . إنهم أشركوا بالله آلهة لا سلطان لها لأن الله لم يمنحها سلطاناً .
والتعبير : { ما لم ينزل به سلطاناً } ذو معنى عميق وهو يصادفنا في القرآن كثيراً . مرة توصف به الآلهة المدعاة ، ومرة توصف به العقائد الزائفة . . وهو يشير إلى حقيقة أساسية عميقة :(1/138)
إن أية فكرة أو عقيدة أو شخصية أو منظمة . . إنما تحيا وتعمل وتؤثر بمقدار ما تحمل من قوة كامنة وسلطان قاهر . هذه القوة تتوقف على مقدار ما فيها من « الحق » أي بمقدار ما فيها من توافق مع القاعدة التي أقام الله عليها الكون ومع سنن الله التي تعمل في هذا الكون . وعندئذ يمنحها الله القوة والسلطان الحقيقيين الفاعلين المؤثرين في هذا الوجود . وإلا فهي زائفة باطلة ضعيفة واهية مهما بدا فيها من قوة والتماع وانتفاش!
والمشركون يشركون مع الله آلهة أخرى - في صور شتى - ويقوم الشرك ابتداء على إعطاء غير الله - سبحانه - شيئاً ما من خصائص الألوهية ومظاهرها وفي مقدمة هذه الخصائص حق التشريع للعباد في شؤون حياتهم كلها; وحق وضع القيم التي يتحاكم إليها العباد في سلوكهم وفي مجتمعاتهم; وحق الاستعلاء على العباد وإلزامهم بالطاعة لتلك التشريعات والاعتبار لهذه القيم .
. ثم تأتي مسألة العبادة الشعائرية ضمن إعطاء هذه الخصائص لغير الله سبحانه وواحدة منها!
فماذا تحمل هذه الآلهة من الحق الذي أقام الله عليه الكون؟ إن الله الواحد خلق هذا الكون لينتسب إلى خالقه الواحد; وخلق هذه الخلائق لتقر له بالعبودية وحده بلا شريك; ولتتلقى منه الشريعة والقيم بلا منازع; ولتعبده وحده حق عبادته بلا أنداد . . فكل ما يخرج على قاعدة التوحيد في معناها الشامل فهو زائف باطل مناقض للحق الكامن في بنية الكون . ومن ثم فهو واهٍ هزيل لا يحمل قوة ولا سلطاناً ولا يملك أن يؤثر في مجرى الحياة ; بل لا يملك عناصر الحياة ولا حق الحياة!
وما دام أولئك المشركون يشركون بالله ما لم ينزل به سلطاناً; من الآلهة والعقائد والتصورات فهم يرتكنون إلى ضعف وخواء وهم أبداً خوارون ضعفاء; وهم أبداً في رعب حيثما التقوا بالمؤمنين المرتكنين إلى الحق ذي السلطان . .(1/139)
وإننا لنجد مصداق هذا الوعد كلما التقى الحق والباطل . . وكم من مرة وقف الباطل مدججاً بالسلاح أمام الحق الأعزل . ومع ذلك كان الباطل يحتشد احتشاد المرعوب ويرتجف من كل حركة وكل صوت - وهو في حشده المسلح المحشود! فأما إذا أقدم الحق وهاجم فهو الذعر والفزع والشتات والاضطراب في صفوف الباطل; ولو كانت له الحشود وكان للحق القلة تصديقاً لوعد الله الصادق : { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً } . .
ذلك في الدنيا . فأما في الآخرة . . فهناك المصير المحزن البائس الذي يليق بالظالمين .
{ ومأواهم النار . وبئس مثوى الظالمين! } . .
- - - - - - - - - - - -
17.
وجوب التسليم بقضاء الله وقدره
دال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) } سورة آل عمران(1/140)
يَنْهَى اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ عَنْ مُشَابَهَةِ المُنَافِقِينَ ( الكَافِرِينَ ) فِي اعْتِقَادِهِمُ الفَاسِدِ ، إذْ يَقُولُونَ عَنْ إِخْوَانِهِمِ الذِينَ قُتِلُوا فِي الحُرُوبِ ( كَانُوا غُزًّى ) ، أوْ مَاتُوا وَهُمْ فِي أَسْفَارِهِمْ سَعْياً وَرَاءَ الرِّزْقِ فِي التِّجَارَةِ ( ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ ) : لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا أَقَامُوا ، وَتَرَكُوا ذَلِكَ لَمَا أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى هَذَا الاعْتِقَادِ فِي نُفُوسِهِمْ لِيَزْدَادُوا أَلَماً وَحَسْرَةً عَلَى مَوْتَاهُمْ ، يَزيدَانِهِم ضَعْفاً ، وَيُورِثَانِهُم نَدَماً عَلَى تَمكِينِهِمْ إيَّاهُمْ مِنَ التَّعَرُّضِ لِمَا ظَنُّوهُ سَبَباً ضَرُورِياً لِلْمَوتِ .
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالى عَلَيهِمْ قَائِلاً : إنَّ المَوْتَ وَالحَيَاةَ بِيَدِ اللهِ ، وَإلَيهِ يَرْجِعُ الأمْرُ ، وَعِلْمُهُ وَبَصَرُهُ نَافِذَانِ فِي جَمِيعِ خَلْقِهِ ، فَعَلَى المُؤْمِنِينَ أنْ لاَ يَكُونُوا مِثْلَ هَؤُلاءِ فِي قَوْلِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ ، وَإلاَّ أَصَابَهُمُ الضَّعْفُ وَالوَهَنُ وَالفَشَلُ؛ وَالإيمَانُ الصَّادِقُ يَزِيدُ صَاحِبَهُ إيقَاناً وَتَسْلِيماً بِكُلِّ مَا يَجْرِي بِهِ القَضَاءُ ، وَأنَّ مَا وَقَعَ كَانَ لاَ بُدَّ لَهُ مِنَ أنْ يَقَعَ .
فَالَّذِينَ يُقْتَلُونَ وَهُمْ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ إِعْلاَءِ كَلِمَةِ اللهِ ، وَنَصْرِ دِينِهِ ، أَوْ يَمُوتُونَ فِي أَثْنَاءِ الجِهَادِ ، سَيَجِدُونَ عِنْدَ رَبِهِمْ مَغْفِرَةً تَمْحُو مَا كَانَ مْنْ ذُنُوبِهِمْ ، وَرَحْمَةً وَرِضْوَاناً خَيْراً مِنْ جَمِيعِ مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ الكُفَّارُ مِنَ المَالِ وَالمَتَاعِ فِي هَذِهِ الدُّنيا الفَانِيةِ ، فَهَذَا ظِلٌّ زَائِلٌ ، وَذَاكَ نَعِيمٌ خَالِدٌ .(1/141)
وَبِأيِّ سَبَبٍ كَانَ هَلاَكُكُمْ ، فَإِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ إلى اللهِ لِيَجْزِيَكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمْ مَا تَسْتَحِقُّونَ ، فَآثِرُوا مَا يُقَرِّبُكُمْ إلَى رَبِّكُمْ ، وَيُحَقِّقُ لَكَ رِضَاهُ ، فَعَلَيْكُمْ بِطَاعَةِ اللهِ وَالجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ .
وظاهر من مناسبة هذه الآيات في سياق المعركة أن هذه كانت أقوال المنافقين الذين رجعوا قبل المعركة والمشركين من أهل المدينة الذين لم يدخلوا في الإسلام ; ولكن ما تزال بين المسلمين وبينهم علاقات وقرابات .
. وأنهم اتخذوا من مقاتل الشهداء في أحد مادة لإثارة الحسرة في قلوب أهليهم واستجاشة الأسى على فقدهم في المعركة - نتيجة لخروجهم - ومما لا شك فيه أن مثل هذه الفتنة والمواجع دامية مما يترك في الصف المسلم الخلخلة والبلبلة . ومن ثم جاء هذا البيان القرآني لتصحيح القيم والتصورات ورد هذا الكيد إلى نحور كائديه .(1/142)
إن قول الكافرين : { لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا } . . ليكشف عن الفارق الأساسي في تصور صاحب العقيدة وتصور المحروم منها للسنن التي تسير عليها الحياة كلها وأحداثها : سراؤها وضراؤها . . إن صاحب العقيدة مدرك لسنن الله متعرف إلى مشيئة الله مطمئن إلى قدر الله . إنه يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه . ومن ثم لا يتلقى الضراء بالجزع ولا يتلقى السراء بالزهو ولا تطير نفسه لهذه أو لتلك; ولا يتحسر على أنه لم يصنع كذا ليتقي كذا أو ليستجلب كذا بعد وقوع الأمر وانتهائه! فمجال التقدير والتدبير والرأي والمشورة كله قبل الإقدام والحركة ; فأما إذا تحرك بعد التقدير والتدبير - في حدود علمه وفي حدود أمر الله ونهيه - فكل ما يقع من النتائج فهو يتلقاه بالطمأنينة والرضى والتسليم; موقناً أنه وقع وفقاً لقدر الله وتدبيره وحكمته; وأنه لم يكن بد أن يقع كما وقع; ولو أنه هو قدم أسبابه بفعله! . . توازن بين العمل والتسليم وبين الإيجابية والتوكل يستقيم عليه الخطو ويستريح عليه الضمير . . فأما الذي يفرغ قلبه من العقيدة في الله على هذه الصورة المستقيمة فهو أبداً مستطار أبداً في قلق! أبداً في « لو » و « لولا » و « يا ليت » و « وا أسفاه »!
والله - في تربيته للجماعة المسلمة ، وفي ظلال غزوة أحد وما نال المسلمين فيها - يحذرهم أن يكونوا كالذين كفروا . أولئك الذين تصيبهم الحسرات كلما مات لهم قريب وهو يضرب في الأرض ابتغاء الرزق أو قتل في ثنايا المعركة وهو يجاهد :
{ يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا } . .(1/143)
يقولونها لفساد تصورهم لحقيقة ما يجري في الكون ولحقيقة القوة الفاعلة في كل ما يجري . فهم لا يرون إلا الأسباب الظاهرة والملابسات السطحية بسبب انقطاعهم عن الله وعن قدره الجاري في الحياة .
{ ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم } . .
فإحساسهم بأن خروج إخوانهم ليضربوا في الأرض في طلب الرزق فيموتوا أو ليغزوا ويقاتلوا فيقتلوا .. إحساسهم بأن هذا الخروج هو علة الموت أو القتل يذهب بأنفسهم حسرات أن لم يمنعوهم من الخروج! ولو كانوا يدركون العلة الحقيقية وهي استيفاء الأجل ونداء المضجع وقدر الله وسنته في الموت والحياة ما تحسروا . ولتلقوا الابتلاء صابرين ولفاءوا إلى الله راضين :
{ والله يحيي ويميت } . .
فبيده إعطاء الحياة وبيده استرداد ما أعطى في الموعد المضروب والأجل المرسوم سواء كان الناس في بيوتهم وبين أهلهم أو في ميادين الكفاح للرزق أو للعقيدة . وعنده الجزاء وعنده العوض عن خبرة وعن علم وعن بصر : { والله بما تعملون بصير . . } . .
على أن الأمر لا ينتهي بالموت أو القتل ; فهذه ليست نهاية المطاف . وعلى أن الحياة في الأرض ليست خير ما يمنحه الله للناس من عطاء . فهناك قيم أخرى واعتبارات أرقى في ميزان الله :
{ ولئن قتلتم - في سبيل الله - أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون . ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون } . .
فالموت أو القتل في سبيل الله - بهذا القيد وبهذا الاعتبار - خير من الحياة وخير مما يجمعه الناس في الحياة من أعراضها الصغار : من مال ومن جاه ومن سلطان ومن متاع . خير بما يعقبه من مغفرة الله ورحمته وهي في ميزان الحقيقة خير مما يجمعون . وإلى هذه المغفرة وهذه الرحمة يكل الله المؤمنين . . إنه لا يكلهم - في هذا المقام - إلى أمجاد شخصية ولا إلى اعتبارات بشرية . إنما يكلهم إلى ما عند الله ، ويعلق قلوبهم برحمة الله . وهي خير مما يجمع الناس على الإطلاق . وخير مما تتعلق به القلوب من أعراض . .(1/144)
وكلهم مرجوعون إلى الله محشورون إليه على كل حال . ماتوا على فراشهم أو ماتوا وهم يضربون في الأرض . أو قتلوا وهم يجاهدون في الميدان . فما لهم مرجع سوى هذا المرجع ; وما لهم مصير سوى هذا المصير . . والتفاوت إذن إنما يكون في العمل والنية وفي الاتجاه والاهتمام . . أما النهاية فواحدة : موت أو قتل في الموعد المحتوم والأجل المقسوم . ورجعة إلى الله وحشر في يوم الجمع والحشر . . ومغفرة من الله ورحمة أو غضب من الله وعذاب . . فأحمق الحمقى من يختار لنفسه المصير البائس . وهو ميت على كل حال!
بذلك تستقر في القلوب حقيقة الموت والحياة وحقيقة قدر الله . وبذلك تطمئن القلوب إلى ما كان من ابتلاء جرى به القدر ; وإلى ما وراء القدر من حكمة وما وراء الابتلاء من جزاء . . وبذلك تنتهي هذه الجولة في صميم أحداث المعركة وفيما صاحبها من ملابسات . .
- - - - - - - - - - - -
18.
الأمر بالصبر والمصابرة والمرابطة وتقوى الله
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (200) سورة آل عمران
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُسْلِمِينَ أنْ يَصْبِرُوا عَلَى دِينِهِمُ الذِي ارْتَضَاهُ اللهُ لَهُمْ ، وَهُوَ الإِسْلاَمُ ، فَلاَ يَدَعُونَهُ لِشِدَّةٍ وِلاَ لِرَخَاءٍ ، حَتَّى يَمُوتُوا مُسْلِمِينَ . وَالمُرَابَطَةِ هِيَ المَرَابَطَةِ فِي الثُّغُورِ لِلْغَزْوِ وَالجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ . وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم " رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنيا وَمَا عَلَيهَا " .
((1/145)
وَقِيلَ إنَّ المُرَابَطَةَ المَقْصُودَةَ هُنَا هِيَ الانْتِظَارُ فِي المَسَاجِدِ لأَدَاءِ الصَّلَوَاتِ حِينَمَا تَحِينُ أَوْقَاتُها ، أيْ رَابِطُوا فِي المَسَاجِدِ ، وَاتَّقُوا اللهَ يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ فِيمَا فَرَضَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) .
النداء لهم . للصبر والمصابرة ، والمرابطة والتقوى . .
وسياق السورة حافل بذكر الصبر وبذكر التقوى . . يذكران مفردين ، ويذكران مجتمعين . . وسياق السورة حافل كذلك بالدعوة إلى الاحتمال والمجاهدة ودفع الكيد وعدم الاستماع لدعاة الهزيمة والبلبلة ، ومن ثم تختم السورة بالدعوة إلى الصبر والمصابرة ، وإلى المرابطة والتقوى ، فيكون هذا أنسب ختام .(1/146)
والصبر هو زاد الطريق في هذه الدعوة . إنه طريق طويل شاق ، حافل بالعقبات والأشواك مفروش بالدماء والأشلاء وبالإيذاء والابتلاء . . الصبر على أشياء كثيرة : الصبر على شهوات النفس ورغائبها ، وأطماعها ومطامحها ، وضعفها ونقصها ، وعجلتها وملالها من قريب! والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم ، وانحراف طباعهم ، وأثرتهم ، وغرورهم ، والتوائهم ، واستعجالهم للثمار! والصبر على تنفج الباطل ، ووقاحة الطغيان ، وانتفاش الشر ، وغلبة الشهوة ، وتصعير الغرور والخيلاء! والصبر على قلة الناصر ، وضعف المعين ، وطول الطريق ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضيق! والصبر على مرارة الجهاد لهذا كله ، وما تثيره في النفس من انفعالات متنوعة . من الألم والغيظ ، والحنق ، والضيق ، وضعف الثقة أحياناً في الخير ، وقلة الرجاء أحياناً في الفطرة البشرية؛ والملل والسأم واليأس أحياناً والقنوط! والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة والانتصار والغلبة ، واستقبال الرخاء في تواضع وشكر ، وبدون خيلاء وبدون اندفاع إلى الانتقام ، وتجاوز القصاص الحق إلى الاعتداء! والبقاء في السراء والضراء على صلة بالله ، واستسلام لقدره ، ورد الأمر إليه كله في طمأنينة وثقة وخشوع . .
والصبر على هذا كله - وعلى مثله - مما يصادف السالك في هذا الطريق الطويل . . لا تصوره حقيقة الكلمات . فالكلمات لا تنقل المدلول الحقيقي لهذه المعاناة . إنما يدرك هذا المدلول من عانى مشقات الطريق؛ وتذوقها انفعالات وتجارب ومرارات!
والذين آمنوا كانوا قد ذاقوا جوانب كثيرة من ذلك المدلول الحقيقي . فكانوا أعرف بمذاق هذا النداء . كانوا يعرفون معنى الصبر الذي يطلب الله إليهم أن يزاولوه . .(1/147)
والمصابرة . . وهي مفاعلة من الصبر . . مصابرة هذه المشاعر كلها ، ومصابرة الأعداء الذين يحاولون جاهدين أن يفلوا من صبر المؤمنين . . مصابرتها ومصابرتهم ، فلا ينفد صبر المؤمنين على طول المجاهدة . بل يظلون أصبر من أعدائهم وأقوى : أعدائهم من كوامن الصدور ، وأعدائهم من شرار الناس سواء . فكأنما هو رهان وسباق بينهم وبين أعدائهم ، يدعون فيه إلى مقابلة الصبر بالصبر ، والدفع بالدفع ، والجهد بالجهد ، والإصرار بالإصرار . . ثم تكون لهم عاقبة الشوط بأن يكونوا أثبت وأصبر من الأعداء . . وإذا كان الباطل يصر ويصبر ويمضي في الطريق ، فما أجدر الحق أن يكون أشد إصراراً وأعظم صبراً على المضي في الطريق!
والمرابطة . . الإقامة في مواقع الجهاد ، وفي الثغور المعرضة لهجوم الأعداء . . وقد كانت الجماعة المسلمة لا تغفل عيونها أبداً ولا تستسلم للرقاد! فما هادنها أعداؤها قط ، منذ أن نوديت لحمل أعباء الدعوة ، والتعرض بها للناس .
وما يهادنها أعداؤها قط في أي زمان أو في أي مكان وما تستغني عن المرابطة للجهاد ، حيثما كانت إلى آخر الزمان!(1/148)
إن هذه الدعوة تواجه الناس بمنهج حياة واقعي . منهج يتحكم في ضمائرهم ، كما يتحكم في أموالهم ، كما يتحكم في نظام حياتهم ومعايشهم . منهج خير عادل مستقيم . ولكن الشر لا يستريح للمنهج الخير العادل المستقيم؛ والباطل لا يحب الخير والعدل والاستقامة؛ والطغيان لا يسلم للعدل والمساواة والكرامة . . ومن ثم ينهد لهذه الدعوة أعداء من أصحاب الشر والباطل والطغيان . ينهد لحربها المستنفعون المستغلون الذين لا يريدون أن يتخلوا عن الاستنفاع والاستغلال . وينهد لحربها الطغاة المستكبرون الذين لا يريدون أن يتخلوا عن الطغيان والاستكبار . وينهد لحربها المستهترون المنحلون ، لأنهم لا يريدون أن يتخلوا عن الانحلال والشهوات . . ولا بد من مجاهدتهم جميعاً . ولا بد من الصبر والمصابرة . ولا بد من المرابطة والحراسة . كي لا تؤخذ الأمة المسلمة على غرة من أعدائها الطبيعيين ، الدائمين في كل أرض وفي كل جيل . .
هذه طبيعة هذه الدعوة ، وهذا طريقها . . إنها لا تريد أن تعتدي؛ ولكن تريد أن تقيم في الأرض منهجها القويم ونظامها السليم . . وهي واجدة أبداً من يكره ذلك المنهج وهذا النظام . ومن يقف في طريقها بالقوة والكيد . ومن يتربص بها الدوائر . ومن يحاربها باليد والقلب واللسان . . ولا بد لها أن تقبل المعركة بكل تكاليفها ، ولا بد لها أن ترابط وتحرس ولا تغفل لحظة ولا تنام!!
والتقوى . . التقوى تصاحب هذا كله . فهي الحارس اليقظ في الضمير يحرسه أن يغفل؛ ويحرسه أن يضعف؛ ويحرسه أن يعتدي؛ ويحرسه أن يحيد عن الطريق من هنا ومن هناك .
ولا يدرك الحاجة إلى هذا الحارس اليقظ ، إلا من يعاني مشاق هذا الطريق؛ ويعالج الانفعالات المتناقضة المتكاثرة المتواكبة في شتى الحالات وشتى اللحظات . .(1/149)
إنه الإيقاع الأخير في السورة التي حوت ذلك الحشد من الإيقاعات . وهو جماعها كلها ، وجماع التكاليف التي تفرضها هذه الدعوة في عمومها . . ومن ثم يعلق الله بها عاقبة الشوط الطويل وينوط بها الفلاح في هذا المضمار : { لعلكم تفلحون } . وصدق الله العظيم .
- - - - - - - - - - - -
19.
تحريمُ عضلِ النساء
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) } سورة النساء
كَانَ النَّاسُ قَبْلَ الإِسْلاَمِ يَجْعَلُونَ النِّسَاءَ كَالمَتَاعِ فَإذا مَاتَ الرًَّجُلُ كَانَ أَوْلِياؤُهُ أَحَقُّ بِامْرَأَتِهِ يَتَزَوَّجُونَها بِدُونِ مَهْرٍ وَلاَ رِضَاً مِنْهَا ، وَكَأنَّهَا شَيءٌ مِنْ مِيرَاثِ الرَّجُلِ المُتَوَفَّى ، فَإنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَها ، وَإنْ شَاؤُوا زَوَّجُوهَا ، وَإِنْ شَاؤُوا لَمْ يُزَوِّجُوهَا ، فَكَانُوا أَحَقَّ بِهِا مِنْ أَهْلِها ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ لإِبْطَالِ هَذا التَّعَامُلِ الجَائِرِ .(1/150)
وَفِي هَذِهِ الآيَةِ يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى النَّاسَ بِعَدَمِ الإِضْرَارِ بِالمَرْأَةِ ، وَبِعَدَمِ مُضَايَقَتِهَا ( عَضْلِهَا ) فِي العِشْرَةِ لِتَتْرُكَ لِلْرَجُلِ مَا دَفَعَهُ لَها مِنْ مَهْرٍ ، أوْ بَعْضِ حُقُوقِهَا عَلَيهِ ، أَوْ شَيْئاً مِنْ حُقُوقِهَا فِي المِيْرَاثِ ، عَلى سَبِيلِ القَهْرِ وَالإِضْرَارِ .
أمَّا إذَا زَنَتِ المَرْأَةُ فَكَانَ لِلرَّجُلِ أنْ يَسْتَرْجِعَ مِنْهَا الصَّدَاقَ الذِي دَفَعَهُ إلَيها ، وَأنْ يُضَاجِرَهَا حتَّى تَتْرُكَهُ ( أيْ أنَّ لَهُ عَضْلَهَا فِي هَذِهِ الحَالَةِ ) . أمَّا فِي غَيْرِ حَالَةِ الزِّنَى فَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى الرِّجَالَ بِمُعَاشَرَةِ النِّسَاءِ بِالمَعْرُوفِ ، أيْ مَعَ طِيبِ قَوْلٍ ، وَحُسْنِ فِعْلٍ ، حَتَّى وَلَوْ كَرِهُوهُنَّ ، فَقَدْ يَكْرَهُ الإِنسَانُ شَيْئاً وَيَجْعَلُ اللهُ لَهُ فِيهِ خَيراً كَثِيراً ، كَأنْ تَلِدَ لَهُ المَرْأةُ وَلَداً يَنْبُغُ أو يَسُودُ ، أوْ يَكُونُ ذَا شَأنٍ أوْ أنْ يَنْصَلِحَ حَالُها فَتَكُونَ سَبباً فِي سَعَادَته .(1/151)
وَإذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أنْ يُفَارِقَ امْرَأَتَهُ لِكُرْهِهِ إيَّاهَا ، وَعَدَمْ صَبْرِهِ عَلى مُعَاشَرَتِها ، وَأنْ يَسْتَبْدِلَ غَيْرَهَا بِها ، وَهِي لَمْ تَأْتِ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ، وَكَانَ قَدْ أَعْطَاهَا الكَثِيرَ مِنَ المَالِ مَقْبُوضاً أوْ مُلْتَزِماً ، دَفَعَهُ إلَيْها ، أَوْ صَارَ دَيْناً فِي ذِمَّتِهِ ، فَعَلَى الرَّجُلِ أنْ لاَ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئاً ، بَلْ عَلَيهِ أنْ يَدْفَعَهُ إليها بِالكَامِلِ ، وَلُوْ كَانَ قِنْطَاراً مِنَ المَالِ . ثُمَّ يُنْكِرُ اللهُ تَعَالَى عَلَى الرِّجِالِ البَاهِتينَ الآثِمِينَ الذِينَ كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ أنَّهُمْ إذَا أَرَادُوا تَطْلِيقَ الزَّوْجَةِ رَموهَا بِالفَاحِشَةِ حَتَّى تَخَافَ وَتَشْتَرِيَ نَفْسَها مِنْهُمْ بِتَرْكِ المَهْرِ الذِي دَفَعُوهُ .
وَيُكَرِّرُ اللهُ تَعَالَى إِنْكَارَهُ عَلَى الرِّجَالِ الذِينَ يُفَكِّرُونَ بِأَخْذِ شَيءٍ مِمَّا أَعْطَوا النِّسَاءَ مِنْ مُهُورٍ وَصَدَاقٍ فَيَقُولُ : كَيْفَ تَسْتَسِيغُونَ أَخْذَ شَيءٍ مِمَّا دَفَعْتُمْ إلى نِسَائِكُمْ كُلاًّ أوْ بَعْضاً ، بَعْدَ أنْ تَأَكَّدَتِ الرَّابِطَةُ ، بَيْنَ الزَّوْجِينِ ، بِأَقْدَسِ رِبَاطٍ حَيَوي ، وَلاَبَسَ كُلٌّ مِنْهُمَا الآخَرَ ، وَأَفْضَى إليهِ بِالاتِّصَالِ الجَسَدِيِّ ، حَتَّى صَارَ أحَدُهُمَا بِمَثَابَةِ الجُزْءِ المُتَمِّمِ للآخَرِ ، وَأخَذْنَ عَلَيكُمْ عَهْدَ اللهِ عَلَى إمْسَاكِهِنَّ بِمَعْرُوفٍ ، أوْ تَسْرِيحِهِنَّ بِإِحْسَانٍ؟!(1/152)
كان بعضهم في الجاهلية العربية - قبل أن ينتشل الإسلام العرب من هذه الوهدة ويرفعهم إلى مستواه الكريم - إذا مات الرجل منهم فأولياؤه أحق بامرأته يرثونها كما يرثون البهائم والمتروكات! إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاءوا زوجوها وأخذوا مهرها - كما يبيعون البهائم والمتروكات! - وإن شاءوا عضلوها وأمسكوها في البيت . دون تزويج حتى تفتدي نفسها بشيء . .
وكان بعضهم إذا توفي عن المرأة زوجها جاء وليه فألقى عليها ثوبه فمنعها من الناس وحازها كما يحوز السلب والغنيمة! فإن كانت جميلة تزوجها; وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها أو تفتدي نفسها منه بمال! فأما إذا فاتته فانطلقت إلى بيت أهلها قبل أن يدركها فيلقي عليها ثوبه فقد نجت وتحررت وحمت نفسها منه!
وكان بعضهم يطلق المرأة ويشترط عليها ألا تنكح إلا من أراد; حتى تفتدي نفسها منه بما كان أعطاها .
. كله أو بعضه!
وكان بعضهم إذا مات الرجل حبسوا امرأته على الصبي فيهم حتى يكبر فيأخذها!
وكان الرجل تكون اليتيمة في حجره يلي أمرها ، فيحبسها عن الزواج حتى يكبر إبنه الصغير ليتزوجها ويأخذ مالها!
وهكذا . وهكذا . مما لا يتفق مع النظرة الكريمة التي ينظر بها الإسلام لشقي النفس الواحدة; ومما يهبط بإنسانية المرأة وإنسانية الرجل على السواء . . ويحيل العلاقة بين الجنسين علاقة تجار أو علاقة بهائم!
ومن هذا الدرك الهابط رفع الإسلام تلك العلاقة إلى ذلك المستوى العالي الكريم اللائق بكرامة بني آدم الذين كرمهم الله وفضلهم على كثير من العالمين . فمن فكرة الإسلام عن الإنسان ، ومن نظرة الإسلام إلى الحياة الإنسانية ، كان ذلك الارتفاع الذي لم تعرفه البشرية إلا من هذا المصدر الكريم .(1/153)
حرم الإسلام وراثة المرأة كما تورث السلعة والبهيمة كما حرم العضل الذي تسامه المرأة ويتخذ أداة للإضرار بها - إلا في حالة الإتيان بالفاحشة وذلك قبل أن يتقرر حد الزنا المعروف - وجعل للمرأة حريتها في اختيار من تعاشره ابتداء أو استئنافاً . بكراً أم ثيباً مطلقة أو متوفى عنها زوجها . وجعل العشرة بالمعروف فريضة على الرجال - حتى في حالة كراهية الزوج لزوجته ما لم تصبح العشرة متعذرة - ونسم في هذه الحالة نسمة الرجاء في غيب الله وفي علم الله . كي لا يطاوع المرء انفعاله الأول فيبت وشيجة الزوجية العزيزة . فما يدريه أن هنالك خيراً فيما يكره هو لا يدريه . خيراً مخبوءاً كامناً لعله إن كظم انفعاله واستبقى زوجه سيلاقيه :
{ يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن - إلا أن يأتين بفاحشة مبينة . وعاشروهن بالمعروف . فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً } . .
وهذه اللمسة الأخيرة في الآية تعلق النفس بالله وتهدىء من فورة الغضب وتفثأ من حدة الكره حتى يعاود الإنسان نفسه في هدوء; وحتى لا تكون العلاقة الزوجية ريشة في مهب الرياح . فهي مربوطة العرى بالعروة الوثقى . العروة الدائمة . العروة التي تربط بين قلب المؤمن وربه وهي أوثق العرى وأبقاها .
والإسلام الذي ينظر إلى البيت بوصفه سكناً وأمناً وسلاماً وينظر إلى العلاقة بين الزوجين بوصفها مودة ورحمة وأنساً ويقيم هذه الآصرة على الاختيار المطلق كي تقوم على التجاوب والتعاطف والتحاب . . هو الإسلام ذاته الذي يقول للأزواج : { فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً } . . كي يستأني بعقدة الزوجية فلا تفصم لأول خاطر وكي يستمسك بعقدة الزوجية فلا تنفك لأول نزوة وكي يحفظ لهذه المؤسسة الإنسانية الكبرى جديتها فلا يجعلها عرضة لنزوة العاطفة المتقلبة وحماقة الميل الطائر هنا وهناك ..(1/154)
وما أعظم قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لرجل أراد أن يطلق زوجه « لأنه لا يحبها » . . « ويحك! ألم تبن البيوت إلا على الحب؟ فأين الرعاية وأين التذمم؟ » . .
وما أتفه الكلام الرخيص الذي ينعق به المتحذلقون باسم « الحب » وهم يعنون به نزوة العاطفة المتقلبة ، ويبيحون باسمه - لا انفصال الزوجين وتحطيم المؤسسة الزوجية - بل خيانة الزوجة لزوجها! أليست لا تحبه؟! وخيانة الزوج لزوجته! أليس أنه لا يحبها؟!
وما يهجس في هذه النفوس التافهة الصغيرة معنى أكبر من نزوة العاطفة الصغيرة المتقلبة . ونزوة الميل الحيواني المسعور . ومن المؤكد أنه لا يخطر لهم أن في الحياة من المروءة والنبل والتجمل والاحتمال ما هو أكبر وأعظم من هذا الذي يتشدقون به في تصور هابط هزيل . . ومن المؤكد طبعاً أنه لا يخطر لهم خاطر . . الله . . فهم بعيدون عنه في جاهليتهم المزوّقة! فما تستشعر قلوبهم ما يقوله الله للمؤمنين : { فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً } . .
إن العقيدة الإيمانية هي وحدها التي ترفع النفوس وترفع الاهتمامات وترفع الحياة الإنسانية عن نزوة البهيمة وطمع التاجر وتفاهة الفارغ!
فإذا تبين بعد الصبر والتجمل والمحاولة والرجاء . أن الحياة غير مستطاعة وأنه لا بد من الانفصال واستبدال زوج مكان زوج فعندئذ تنطلق المرأة بما أخذت من صداق وما ورثت من مال لا يجوز استرداد شيء منه ولو كان قنطاراً من ذهب . فأخذ شيء منه إثم واضح ومنكر لا شبهة فيه :
{ وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً . أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً؟ } .
ومن ثم لمسة وجدانية عميقة وظل من ظلال الحياة الزوجية وريف في تعبير موح عجيب :
{ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً؟ } . .(1/155)
ويدع الفعل : { أفضى } بلا مفعول محدد . يدع اللفظ مطلقاً يشع كل معانيه ويلقي كل ظلاله ويسكب كل إيحاءاته . ولا يقف عند حدود الجسد وإفضاءاته . بل يشمل العواطف والمشاعر والوجدانات والتصورات والأسرار والهموم والتجاوب في كل صورة من صور التجاوب . يدع اللفظ يرسم عشرات الصور لتلك الحياة المشتركة آناء الليل وأطراف النهار وعشرات الذكريات لتلك المؤسسة التي ضمتهما فترة من الزمان . . وفي كل اختلاجة حب إفضاء . وفي كل نظرة ود إفضاء . وفي كل لمسة جسم إفضاء وفي كل اشتراك في ألم أو أمل إفضاء . وفي كل تفكر في حاضر أو مستقبل إفضاء . وفي كل شوق إلى خلف إفضاء . وفي كل التقاء في وليد إفضاء . .
كل هذا الحشد من التصورات والظلال والأنداء والمشاعر والعواطف يرسمه ذلك التعبير الموحي العجيب : { وقد أفضى بعضكم إلى بعض } . . فيتضاءل إلى جواره ذلك المعنى المادي الصغير ويخجل الرجل أن يطلب بعض ما دفع وهو يستعرض في خياله وفي وجدانه ذلك الحشد من صور الماضي وذكريات العشرة في لحظة الفراق الأسيف!
ثم يضم إلى ذلك الحشد من الصور والذكريات والمشاعر عاملاً آخر من لون آخر : { وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً } ..
هو ميثاق النكاح باسم الله وعلى سنة الله . . وهو ميثاق غليظ لا يستهين بحرمته قلب مؤمن; وهو يخاطب الذين آمنوا ويدعوهم بهذه الصفة أن يحترموا هذا الميثاق الغليظ
- - - - - - - - - - - -
20.
تحريم أكل أموال الناس بالباطل
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) } سورة النساء(1/156)
يَنْهَى اللهُ تَعَالَى النَّاسَ عَنْ أنْ يَأكُلَ بَعْضَهُمْ مَالَ بَعْضٍ بِالبَاطِلِ ، أيْ أنْ يَأخُذَهُ بِطَرِيقٍ غَيْرِ شَرْعيِّ : كَالقِمَارِ وَالرِّبَا وَالحِيَلِ وَغَيْرِها . . وَإنْ ظَهَرَتْ فِي قَالِبِ الحُكْمِ الشَّرْعِيِّ ، مِمّا يَعْلَمُ اللهُ أنَّ مَتَعَاطِيهَا إنَّمَا يُرِيدُ الحِيلَةَ لأكْلِ الرِّبا . فَاللهُ تَعَالَى يُحَرِّمُ عَلى النَّاسَ تَعَاطِي الأَسْبَابِ المُحَرَّمَةِ فِي اكْتِسَابِ الأَمْوَالِ ، وَاسْتَثْنَى مِنَ التَّحْرِيمِ المُتَاجَرَةَ المَشْرُوعَةِ التِي تَتِمُّ عَنْ تَرَاضٍ بَينَ البَائِعِ وَالمُشْتَرِي ، فَسَمَحَ اللهُ لِلمُؤْمِنِينَ بِتَعَاطِيهَا ، وَالتَّسَبُّبِ فِي كَسْبِ الأَمْوَالِ بِهَا . وَيَنْهَى اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَنْ قَتْلِ أَنْفُسِهِمْ بِارْتِكَابِ المُحَرَّمَاتِ ، وَأكْلِ الأَمْوَالِ بِالبَاطِلِ ، فَإنَّ اللهَ كَانَ رَحِيماً بِهِمْ فِيمَا أمَرَهُمْ بِهِ ، وَنَهَاهُمْ عَنْهُ ، لأنَّ فِيهِ صَلاَحَهُمْ .
وَهذِهِ الآيَةُ تَشْمَلُ أَيْضاً مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ قَتْلاً حَقِيقاً وَأَعْدَمَها الحَيَاةَ بِحَديدٍ أَوْ بِسُمٍّ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، أَوْ قَتَلَ غَيْرَهُ . وَجَعَلَ اللهُ جِنَايَةَ الإِنسَانِ عَلى غَيْرِهِ جِنَايَةً عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى البَشَرِيَّةِ جَمْعَاءَ .
وَمَنْ تَعَاطَى مَا نَهَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُ مُعْتَدِياً فِيهِ عَلَى الحَقِّ ، وَظَالِماً فِي تَعَاطِيهِ ، وَعَارِفاً بَتَحْرِيمِهِ ، وَمُتَجَاسِراً عَلَى انْتِهَاكِهِ ، فَإنَّ اللهَ سَوْفَ يُعَذِّبُهُ فِي نَارِ جَهَّنَم ، وَذَلِكَ سَهْلٌ يَسِيرٌ عَليهِ .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } .(1/157)
مما يوحي بأنها عملية تطهير لبقايا رواسب الحياة الجاهلية في المجتمع الإسلامي؛ واستجاشة ضمائر المسلمين بهذا النداء : { يا أيها الذين آمنوا } . . واستحياء مقتضيات الإيمان . مقتضيات هذه الصفة التي يناديهم الله بها ، لينهاهم عن أكل أموالهم بينهم بالباطل .
وأكل الأموال بالباطل يشمل كل طريقة لتداول الأموال بينهم لم يأذن بها الله ، أو نهى عنها ، ومنها الغش والرشوة والقمار واحتكار الضروريات لإغلائها ، وجميع أنواع البيوع المحرمة - والربا في مقدمتها - ولا نستطيع أن نجزم إن كان هذا النص قد نزل بعد تحريم الربا أو قبله؛ فإن كان قد نزل قبله ، فقد كان تمهيداً للنهي عنه . فالربا أشد الوسائل أكلاً للأموال بالباطل . وإن كان قد نزل بعده ، فهو يشمله فيما يشمل من ألوان أكل أموال الناس بالباطل .
واستثنى العمليات التجارية التي تتم عن تراض بين البائع والشاري : { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } . .
وهو استثناء منقطع . . تأويله : ولكن إذا كانت تجارة عن تراض منكم فليست داخلة في النص السابق . . ولكن مجيئها هكذا في السياق القرآني ، يوحي بنوع من الملابسة بينها وبين صور التعامل الأخرى ، التي توصف بأنها أكل لأموال الناس بالباطل . . وندرك هذه الملابسة إذا استصحبنا ما ورد في آيات النهي عن الربا - في سورة البقرة - من قول المرابين في وجه تحريم الربا : { إنما البيع مثل الربا } ورد الله عليهم في الآية نفسها : { وأحل الله البيع وحرم الربا } . فقد كان المرابون يغالطون؛ وهم يدافعون عن نظامهم الاقتصادي الملعون . فيقولون : إن البيع - وهو التجارة - تنشأ عنها زيادة في الأموال وربح . فهو - من ثم - مثل الربا . فلا معنى لإحلال البيع وتحريم الربا!
والفرق بعيد بين طبيعة العمليات التجارية والعمليات الربوية أولاً ، وبين الخدمات التي تؤديها التجارة للصناعة وللجماهير؛ والبلاء الذي يصبه الربا على التجارة وعلى الجماهير .(1/158)
فالتجارة وسيط نافع بين الصناعة والمستهلك؛ تقوم بترويج البضاعة وتسويقها؛ ومن ثم تحسينها وتيسير الحصول عليها معاً .
وهي خدمة للطرفين ، وانتفاع عن طريق هذه الخدمة . انتفاع يعتمد كذلك على المهارة والجهد؛ ويتعرض في الوقت ذاته للربح والخسارة . .
والربا على الضد من هذا كله . يثقل الصناعة بالفوائد الربوية التي تضاف إلى أصل التكاليف ويثقل التجارة والمستهلك بأداء هذه الفوائد التي يفرضها على الصناعة . وهو في الوقت ذاته - كما تجلى ذلك في النظام الرأسمالي عندما بلغ أوجه - يوجه الصناعة والاستثمار كله وجهة لا مراعاة فيها لصالح الصناعة ولا لصالح الجماهير المستهلكة؛ وإنما الهدف الأول فيها زيادة الربح للوفاء بفوائد القروض الصناعية . ولو استهلكت الجماهير مواد الترف ولم تجد الضروريات! ولو كان الاستثمار في أحط المشروعات المثيرة للغرائز ، المحطمة للكيان الإنساني . . وفوق كل شيء . . هذا الربح الدائم لرأس المال؛ وعدم مشاركته في نوبات الخسارة - كالتجارة - وقلة اعتماده على الجهد البشري ، الذي يبذل حقيقة في التجارة . . إلى آخر قائمة الاتهام السوداء التي تحيط بعنق النظام الربوي؛ وتقتضي الحكم عليه بالإعدام؛ كما حكم عليه الإسلام!
فهذه الملابسة بين الربا والتجارة؛ هي التي لعلها جعلت هذا الاستدراك - { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } يجيء عقب النهي عن أكل الأموال بالباطل . وإن كان استثناء منقطعاً كما يقول النحويون!
{ ولا تقتلوا أنفسكم . إن الله كان بكم رحيماً } . .
تعقيب يجيء بعد النهي عن أكل الأموال بالباطل؛ فيوحي بالآثار المدمرة التي ينشئها أكل الأموال بالباطل في حياة الجماعة؛ إنها عملية قتل . . يريد الله أن يرحم الذين آمنوا منها ، حين ينهاهم عنها!(1/159)
وإنها لكذلك . فما تروج وسائل أكل الأموال بالباطل في جماعة : بالربا . والغش . والقمار . والاحتكار . والتدليس . والاختلاس . والاحتيال . والرشوة . والسرقة . وبيع ما ليس يباع : كالعرض . والذمة . والضمير . والخلق . والدين! - مما تعج به الجاهليات القديمة والحديثة سواء - ما تروج هذه الوسائل في جماعة ، إلا وقد كتب عليها أن تقتل نفسها ، وتتردى في هاوية الدمار!
والله يريد أن يرحم الذين آمنوا من هذه المقتلة المدمرة للحياة ، المردية للنفوس؛ وهذا طرف من إرادة التخفيف عنهم؛ ومن تدارك ضعفهم الإنساني ، الذي يرديهم حين يتخلون عن توجيه الله ، إلى توجيه الذين يريدون لهم أن يتبعوا الشهوات!
ويلي ذلك التهديد بعذاب الآخرة ، تهديد الذين يأكلون الأموال بينهم بالباطل ، معتدين ظالمين . تهديدهم بعذاب الآخرة؛ بعد تحذيرهم من مقتلة الحياة الدنيا ودمارها . الآكل فيهم والمأكول؛ فالجماعة كلها متضامنة في التبعة؛ ومتى تركت الأوضاع المعتدية الظالمة ، التي تؤكل فيها الأموال بالباطل تروج فيها فقد حقت عليها كلمة الله في الدنيا والآخرة : { ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً ، فسوف نصليه ناراً ، وكان ذلك على الله يسيراً } .
وهكذا يأخذ المنهج الإسلامي على النفس أقطارها - في الدنيا والآخرة - وهو يشرع لها ويوجهها؛ ويقيم من النفس حارساً حذراً يقظاً على تلبية التوجيه ، وتنفيذ التشريع؛ ويقيم من الجماعة بعضها على بعض رقيباً لأنها كلها مسؤولة؛ وكلها نصيبها المقتلة والدمار في الدنيا ، وكلها تحاسب في الآخرة على إهمالها وترك الأوضاع الباطلة تعيش فيها .
. { وكان ذلك على الله يسيراً } فما يمنع منه مانع ، ولا يحول دونه حائل ، ولا يتخلف ، متى وجدت أسبابه عن الوقوع!
- - - - - - - - - - - -
21.
تحريم الصلاة وهم سكارى(1/160)
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} (43) سورة النساء
يَنْهَى اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ عَنِ الصَّلاَةِ فِي حَالِ السُّكْرِ ، الذِي لاَ يَدْرِي مَعَهُ المُصَلِّي مَا يَقُولُ وَمَا يَفْعَلُ وَمَا يَقْرَأ ( وَكَانَ هذا قَبْلَ تَحْرِيمِ الخَمْرِ بِصُورَةٍ قَاطِعَةٍ ) .
وَيَنْهَى اللهُ تَعَالَى مَنْ كَانَ جُنُباً مِنْ دُخُولِ المَسَاجِدِ ( إلاَّ أنْ يَكُونَ مُجْتَازاً مِنْ بَابٍ إلى بَابٍ مِنْ غَيْرِ مَكْثٍ . وَكَانَتْ بُيُوتُ الأنْصَارِ أبْوابُها مِنْ دَاخِلِ المَسْجِدِ ، فَكَانَتْ تُصِيبُهُمُ الجَنابَةُ وَلاَ مَاءَ عِنْدَهُمْ ، فَيَرِدُونَ المَاءَ وَلاَ يَجِدُونَ مَمّراً إلاّ فِي المَسْجِدِ ) وَيَسْتَمِرُّ تَحْرِيمُ المَكْثِ فِي المَسْجِدِ عَلَى الجُنُبِ وَالحَائِضِ حَتَّى يَغْتَسِلا أوْ يَتَيَمَّمَا .(1/161)
وَإذَا كُنْتُمْ مَرْضَى مَرَضاً تُخَافُ زِيَادَتُهُ بِاسْتِعْمَالِ المَاءِ ، أوْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَأحْدَثْتُمْ حَدَثاً أصْغَرَ ( جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ ) أَوْ وَاقَعْتُمُ النِّسَاءَ ( لاَمَسْتُمُ النَّسَاءَ ) ، وَلَمْ تَجِدُوا مَاءً لِتَغْتَسِلُوا أَوْ لَتَتَوَضَّؤُوا فَتَيَمَّمُوا التُّرَابَ الطَّاهِرَ الحَلالَ ( الطَّيِّبَ ) ، فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأيْدِيكُمْ مِنْهُ لِيَقُومَ ذَلِكَ مَقَامَ الوُضُوءِ وَالغُسْلِ ، وَمِنْ عَفْوهِ تَعَالَى عَنْكُمْ ، وَمِنْ غُفْرَانِهِ لَكُمْ ، أنْ شَرَعَ لَكُمْ التَّيَمُّمَ ، وَأَبَاحَ لَكُمُ الصَّلاَةَ إذَا فَقَدْتُمُ المَاءَ ، تَوْسِعَةً عَلَيْكُمْ وَرُخْصَةً لَكُمْ ، وَيَكُونُ التَّيَمُّمُ بِضَرْبَتَيْنِ بِاليَدَيْنِ عَلَى الأَرْضِ ، ضَرْبَةً يَمْسَحُ بِهَا وَجْهَهُ ، وَضَرْبَةً يَمْسَحُ بِهَا يَدَيْهِ .
إنها حلقة في سلسلة التربية الربانية للجماعة المسلمة - التي التقطها المنهج الإسلامي من سفح الجاهلية - وكانت الخمر إحدى تقاليد المجتمع الجاهلي الأصلية الشاملة؛ وإحدى الظواهر المميزة لهذا المجتمع . كما أنها تكاد تكون ظاهرة مميزة لكل جاهلية في القديم والحديث أيضاً . . الخمر كانت ظاهرة مميزة للمجتمع الروماني في أوج جاهليته؛ وللمجتمع الفارسي أيضاً . وكذلك هي اليوم ظاهرة مميزة للمجتمع الأوربي والمجتمع الأمريكي في أوج جاهليته! والشأن أيضاً كذلك في جاهلية المجتمع الإفريقي المتخلفة من الجاهلية الأولى!(1/162)
في السويد - وهي أرقى أو من أرقى أمم الجاهلية الحديثة - كانت كل عائلة في النصف الأول من القرن الماضي تعد الخمر الخاصة بها . وكان متوسط ما يستهلكه الفرد ، حوالي عشرين لتراً . وأحست الحكومة خطورة هذه الحال ، وما ينشره من إدمان؛ فاتجهت إلى سياسة احتكار الخمور ، وتحديد الاستهلاك الفردي ، ومنع شرب الخمور في المحال العامة ، ولكنها عادت فخففت هذه القيود منذ أعوام قليلة! فأبيح شرب الخمر في المطاعم بشرط تناول الطعام . ثم أبيحت الخمر في عدد محدود من المحال العامة ، حتى منتصف الليل فقط! وبعد ذلك يباح شرب » النبيذ والبيرة « فحسب! وإدمان الخمر عند المراهقين يتضاعف . . !
أما في أمريكا ، فقد حاولت الحكومة الأمريكية مرة القضاء على هذه الظاهرة فسنت قانوناً في سنة 1919 سمي قانون » الجفاف «! من باب التهكم عليه ، لأنه يمنع » الري « بالخمر! وقد ظل هذا القانون قائماً مدة أربعة عشر عاماً ، حتى اضطرت الحكومة إلى إلغائه في سنة1933 . وكانت قد استخدمت جميع وسائل النشر والإذاعة والسينما والمحاضرات للدعاية ضد الخمر . ويقدرون ما أنفقته الدولة في الدعاية ضد الخمر بما يزيد على ستين مليوناً من الدولارات . وأن ما نشرته من الكتب والنشرات يشتمل على عشرة بلايين صفحة .(1/163)
وما تحملته في سبيل تنفيذ قانون التحريم في مدة أربعة عشر عاما لا يقل عن250 مليون جنيه وقد أعدم فيها نفس 300 وسجن كذلك 532335 نفسا وبلغت الغرامات 16 مليون جنيه وصادرت من الأملاك ما يبلغ 400 مليون وأربعة بلايين جنيه وبعد ذلك كله اضطرت إلى التراجع وإلغاء القانون فأما الإسلام فقضى على هذه الظاهرة العميقة في المجتمع الجاهلي ببضع آيات من القرآن وهذا هو الفرق في علاج النفس البشرية وفي علاج المجتمع الإنساني بين منهج الله ومناهج الجاهلية قديما وحديثا على السواء ولكي ندرك تغلغل هذه الظاهرة في المجتمع الجاهلي يجب أن نعود إلى الشعر الجاهلي ; حيث نجد الخمر عنصرا أساسيا من عناصر المادة الأدبية ; كما أنه عنصر أساسي من عناصر الحياة كلها لقد بلغ من شيوع تجارة الخمر أن أصبحت كلمة التجارة مرادفة لبيع الخمر يقول لبيد
قد بت سامرها وغاية تاجر ... وافيت إذ رفعت وعز مدامها
ويقول عمرو بن قميئة
إذا أسحب الريط والمروط إلى ... أدني تجاري وأنفض اللمما
ووصف مجالس الشراب والمفاخرة بها تزحم الشعر الجاهلي وتطبعه طابعا ظاهرا يقول امرؤ القيس
وأصبحت ودعت الصبا غير ... أنني أراقب خلات من العيش أربعا
فمنهن قولي للندامى تفرفقوا ... يداجون نشاجا من الخمر مترعا
ومنهن ركض الخيل ترجم بالقنا ... يبادرن سربا آمنا أن يفزعا
ويقول طرفة بن العبد
فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وما زال تشرابي الخمور ولذتي ... وبذلي وإنفاقي طريفي وتالدي
إلى أن تحامتني العشيرة كلها ... وأفردت إفراد البعير المعبد
ويقول الأعشى
فقد أشرب الراح قد تعلمين ... يوم المقام ويوم الظعن
وأشرب بالريف حتى يقال ... قد طال بالريف ما قد دجن
ويقول المنخل اليشكري
ولقد شربت من المدامة ... بالصغير وبالكبير
فإذا سكرت فإنني ... رب الخورنق والسدير(1/164)
وإذا صحوت فإنني ... رب الشويهة والبعير
وغير هذا كثير في الشعر الجاهلي ورواية الحوادث التي صاحبت مراحل تحريم الخمر في المجتمع المسلم والرجال الذين كانوا أبطال هذه الحوادث وفيهم عمر وعلي وحمزة وعبدالرحمن بن عوف وأمثال هذا الطراز من الرجال تشي بمدى تغلغل هذه الظاهرة في الجاهلية العربية وتكفي عن الوصف المطول المفصل يقول عمر رضي الله عنه في قصة إسلامه في رواية كنت صاحب خمر في الجاهلية فقلت لو أذهب إلى فلان الخمار فأشرب وظل عمر يشرب الخمر في الإسلام حتى إذا نزلت آية يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما قال اللهم بين لنا بيانا شافيا في الخمر
. واستمر . . حتى إذا نزلت هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } . . قال : اللهم بيّن لنا بياناً شافياً في الخمر! حتى إذا نزلت آية التحريم الصريحة : { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون . إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون } . قال : انتهينا انتهينا! وانتهى . .
وفي سبب نزول هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } ترد روايتان يشترك في أحداثهما علي وعبد الرحمن بن عوف من المهاجرين . وسعد بن معاذ من الأنصار .(1/165)
روى ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود - بإسناده - عن مصعب بن سعد يحدث عن سعد قال : « نزلت في أربع آيات . صنع رجل من الأنصار طعاماً فدعا أناساً من المهاجرين وأناساً من الأنصار . فأكلنا وشربنا ، حتى سكرنا ، ثم افتخرنا ، فرفع رجل لحي بعير ( عظم الفك ) فغرز بها أنف سعد . فكان سعد مغروز الأنف . وذلك قبل تحريم الخمر . فنزلت { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } . . والحديث بطوله عند مسلم من رواية شعبة .
وروى ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار . حدثنا عبد الرحمن بن عبدالله الدشتكي أبو جعفر . عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : » صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً ، فدعانا ، وسقانا من الخمر ، فأخذت الخمر منا ، وحضرت الصلاة ، فقدموا فلاناً قال : فقرأ قل يا أيها الكافرون . ما أعبد ما تعبدون . ونحن نعبد ما تعبدون! فأنزل الله : { يا أيها الذين أمنوا لا تقربوا الصلاة وأنت سكارى حتى تعلموا ما تقولون } .
ولا نحتاج إلى مزيد من الأمثلة والروايات؛ لندلل على تغلغل ظاهرة الخمر في المجتمع الجاهلي . فهي كانت والميسر ، الظاهرتين البارزتين؛ المتداخلتين ، في تقاليد هذا المجتمع . .
فماذا صنع المنهج الرباني لمقاومة هذه الظاهرة المتغلغلة؟ ماذا صنع لمكافحة هذه الآفة ، التي لا يقوم معها مجتمع جاد صالح مستقيم واع أبداً؟ ماذا صنع ليقف في وجه عادة أصيلة قديمة ، تتعلق بها تقاليد اجتماعية؛ كما تتعلق بها مصالح اقتصادية؟
لقد عالج المنهج الرباني هذا كله ببضع آيات من القرآن؛ وعلى مراحل ، وفي رفق وتؤدة . وكسب المعركة . دون حرب . ودون تضحيات . ودون إراقة دماء . . والذي أريق فقط هو دنان الخمر وزقاقها وجرعات منها كانت في أفواه الشاربين - حين سمعوا آية التحريم - فمجوها من أفواهم . ولم يبلعوها . كما سيجيء!(1/166)
في مكة - حيث لم يكن للإسلام دولة ولا سلطان . . إلا سلطان القرآن - وردت في القرآن المكي تلميحة سريعة إلى نظرة الإسلام للخمر . تدرك من ثنايا العبارة . وهي مجرد إشارة :
جاء في سورة النحل : { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً } . فوضع « السكر » وهو الشراب المسكر الذي كانوا يتخذونه من ثمرات النخيل والأعناب ، وفي مقابل الرزق الحسن! ملمحا بهذا التقابل إلى أن السكر شيء . والرزق « الحسن » شيء آخر . . وكانت مجرد لمسة من بعيد؛ للضمير المسلم الوليد!
ولكن عادة الشراب ، أو تقليد الشراب - بمعنى أدق - فقد كان أعمق من عادة فردية . كان تقليداً اجتماعياً ، له جذور اقتصادية . . كان أعمق من أن تؤثر فيه هذه اللمسة السريعة البعيدة . .
وفي المدينة حيث قامت للإسلام دولة وكان له سلطان . . لم يلجأ إلى تحريم الخمر بقوة الدولة وسيف السلطان . إنما كان أولاً سلطان القرآن . .
وبدأ المنهج عمله في رفق وفي يسر ، وفي خبرة بالنفس البشرية ، والأوضاع الاجتماعية . .
بدأ بآية البقرة رداً على أسئلة تدل على فجر اليقظة في الضمير المسلم ضد الخمر والميسر : { يسألونك عن الخمر والميسر . قل : فيهما إثم كبير ، ومنافع للناس . . وإثمهما أكبر من نفعهما . . } وكانت هي الطرقة الأولى ، ذات الصوت المسموع . . في الحس الإسلامي ، وفي الضمير الإسلامي ، وفي المنطق الفقهي الإسلامي . . فمدار الحل والحرمة . . أو الكراهية . . على رجحان الإثم أو رجحان الخير ، في أمر من الأمور . . وإذا كان إثم الخمر والميسر أكبر من نفعهما . . فهذا مفرق الطريق . .
ولكن الأمر كان أعمق من هذا . . وقال عمر - رضي الله عنه - : « اللهم بين لنا بياناً شافياً في الخمر » . . عمر!!! وهذا وحده يكفي لبيان عمق هذا التقليد في نفس العربي!(1/167)
ثم حدثت أحداث - كالتي رويناها - ونزلت هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ، حتى تعلموا ما تقولون } . .
وأخذ المنهج البصير الرفيق يعمل . .
لقد كانت هذه هي المرحلة الوسيطة ، بين التنفير من الخمر ، لأن إثمها أكبر من نفعها ، وبين التحريم البات ، لأنها رجس من عمل الشيطان . وكانت وظيفة هذه المرحلة الوسيطة : هي « قطع عادة الشراب » أو « كسر الإدمان » . . وذلك بحظر الشراب قرب أوقات الصلاة . وأوقات الصلاة موزعة على مدار النهار . وبينها فترات لا تكفي للشراب - الذي يرضي المدمنين - ثم الإفاقة من السكر الغليظ! حتى يعلموا ما يقولون! فضلاً على أن للشراب كذلك أوقاتاً ومواعيد خاصة من الصبوح والغبوق . . صباحاً ومساء . . وهذه تتخللها وتعقبها أوقات الصلاة . . وهنا يقف ضمير المسلم بين أداء الصلاة وبين لذة الشراب . . وكان هذا الضمير قد بلغ أن تكون الصلاة عنده عماد الحياة . .
ومع ذلك . . فقد قال عمر رضي الله عنه - وهو عمر!!! - « اللهم بين لنا بياناً شافياً في الخمر » . .
ثم مضى الزمن . ووقعت الأحداث . وجاء الوعد المناسب - وفق ترتيب المنهج - للضربة الحاسمة .
فنزلت الآيتان في المائدة : { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان ، فاجتنبوه لعلكم تفلحون . إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون؟ } وانتهى المسلمون كافة . وأريقت زقاق الخمر ، وكسرت دنانها في كل مكان . . بمجرد سماع الأمر . . ومج الذين كان في أفواههم جرعات من الخمر ما في أفواههم - حين سمعوا ولم يبلعوها وهي في أفواههم . وهم شاربون . .
لقد انتصر القرآن . وأفلح المنهج . وفرض سلطانه - دون أن يستخدم السلطان!!!(1/168)
ولكن كيف كان هذا؟ كيف تمت هذه المعجزة ، التي لا نظير لها في تاريخ البشر؛ ولا مثيل لها في تاريخ التشريعات والقوانين والإجراءات الحكومية في أي مكان ، ولا في أي زمان؟
لقد تمت المعجزة ، لأن المنهج الرباني ، أخذ النفس الإنسانية ، بطريقته الخاصة . . أخذها بسلطان الله وخشيته ومراقبته ، وبحضور الله - سبحانه - فيها حضوراً لا تملك الغفلة عنه لحظة من زمان . . أخذها جملة لا تفاريق . . وعالج الفطرة بطريقة خالق الفطرة . .
لقد ملأ فراغها باهتمامات كبيرة لا تدع فيها فراغاً تملؤه بنشوة الخمر ، وخيالات السكر ، وما يصاحبها من مفاخرات وخيلاء . . في الهواء . .
ملأ فراغها باهتمامات . منها : نقل هذه البشرية الضالة الشاردة كلها ، من تيه الجاهلية الأجرد ، وهجيرها المتلظي ، وظلامها الدامس ، وعبوديتها المذلة ، وضيقها الخانق ، إلى رياض الإسلام البديعة ، وظلاله الندية ، ونوره الوضيء ، وحريته الكريمة ، وسعته التي تشمل الدنيا والآخرة!
وملأ فراغها - وهذا هو الأهم - بالإيمان . بهذا الإحساس الندي الرضي الجميل البهيج . فلم تعد في حاجة إلى نشوة الخمر ، تحلق بها في خيالات كاذبة وسمادير! وهي ترف بالإيمان المشع إلى الملأ الأعلى الوضيء . . وتعيش بقرب الله ونوره وجلاله . . وتذوق طعم هذا القرب ، فتمج طعم الخمر ونشوتها؛ وترفض خمارها وصداعها؛ وتستقذر لوثتها وخمودها في النهاية!
إنه استنقذ الفطرة من ركام الجاهلية؛ وفتحها بمفتاحها ، الذي لا تفتح بغيره؛ وتمشى في حناياها وأوصالها؛ وفي مسالكها ودروبها . . ينشر النور ، والحياة ، والنظافة ، والطهر ، واليقظة ، والهمة ، والاندفاع للخير الكبير والعمل الكبير ، والخلافة في الأرض ، على أصولها ، التي قررها العليم الخبير ، وعلى عهد الله وشرطه ، وعلى هدى ونور . .(1/169)
إن الخمر - كالميسر . كبقية الملاهي . كالجنون بما يسمونه « الألعاب الرياضية » والإسراف في الاهتمام بمشاهدها . . كالجنون بالسرعة . . كالجنون بالسينما . . كالجنون « بالمودات » « والتقاليع » . . كالجنون بمصارعة الثيران . . كالجنون ببقية التفاهات التي تغشى حياة القطعان البشرية في الجاهلية الحديثة اليوم ، جاهلية الحضارة الصناعية!
إن هذه كلها ليست إلا تعبيراً عن الخواء الروحي . . من الإيمان أولاً . . ومن الاهتمامات الكبيرة التي تستنفد الطاقة ثانياً . . وليست إلا إعلاناً عن إفلاس هذه الحضارة في إشباع الطاقات الفطرية بطريقة سوية . . ذلك الخواء وهذا الإفلاس هما اللذان يقودان إلى الخمر والميسر لملء الفراغ ، كما يقودان إلى كل أنواع الجنون التي ذكرنا .
. وهما بذاتهما اللذان يقودان إلى « الجنون » المعروف ، وإلى المرض النفسي والعصبي . . وإلى الشذوذ .
إنها لم تكن كلمات . . هي التي حققت تلك المعجزة الفريدة . . إنما كان منهج . منهج هذه الكلمات متنه وأصله . منهج من صنع رب الناس . لا من صنع الناس! وهذا هو الفارق الأصيل بينه وبين كل ما يتخذه البشر من مناهج ، لا تؤدي إلى كثير!
إنه ليست المسألة أن يقال كلام! فالكلام كثير . وقد يكتب فلان من الفلاسفة . أو فلان من الشعراء . أو فلان من المفكرين . أو فلان من السلاطين! قد يكتب كلاماً منمقاً جميلاً يبدو أنه يؤلف منهجاً ، أو مذهباً ، أو فلسفة . . الخ . . ولكن ضمائر الناس تتلقاه ، بلا سلطان . لأنه « ما أنزل الله به من سلطان »! فمصدر الكلمة هو الذي يمنحها السلطان . . وذلك فوق ما في طبيعة المنهج البشري ذاته من ضعف ومن هوى ومن جهل ومن قصور!(1/170)
فمتى يدرك هذه الحقيقة البسيطة من يحاولون أن يضعوا لحياة الناس مناهج ، غير منهج العليم الخبير؟ وأن يشرعوا للناس قواعد غير التي شرعها الحكيم البصير؟ وأن يقيموا للناس معالم لم يقمها الخلاق القدير؟ متى؟ متى ينتهون عن هذا الغرور؟؟؟
ونعود من هذا الاستطراد إلى الآية الكريمة : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى - تعلموا ما تقولون - ولا جنباً - إلا عابري سبيل - حتى تغتسلوا . . . }
كما منعت الآية - الذين آمنوا - أن يقربوا الصلاة وهم سكارى - حتى يعلموا ما يقولون - كذلك منعتهم من الصلاة وهم جنب - إلا عابري سبيل - حتى يغتسلوا . . .
وتختلف الأقوال في المقصود من « عابري سبيل » كما تختلف في معنى قرب الصلاة المنهي عنه . .
فقول : إن المقصود هو عدم قرب المساجد ، أو المكث فيها ، لمن كان جنباً ، حتى يغتسل . إلا أن يكون عابراً بالمسجد مجرد عبور . وقد كان جماعة من الصحابة أبواب بيوتهم تفتح في مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو طريقهم من وإلى هذه البيوت . فرخص لهم في المرور - وهم جنب - لا بالمكث في المسجد - ولا الصلاة بطبيعة الحال - إلا بعد الاغتسال .
وقول : إن المقصود هو الصلاة ذاتها . والنهي عن أدائها للجنب - إلا بعد الاغتسال - مالم يكن مسافراً . فيحل له عندئذ أن يقصد المسجد وأن يصلي - بلا اغتسال - ولكن بالتيمم . الذي يسد مسد الغسل - عندئذ - كما يسد مسد الوضوء . .
والقول الأول يبدو أظهر وأوجه . لأن الحالة الثانية - حالة السفر - ذكرت في الآية نفسها بعد ذلك . فتفسير عابري سبيل - بالمسافرين ، ينشىء تكراراً للحكم في الآية الواحدة ، لا ضرورة له :
{ وإن كنتم مرضى ، أو على سفر ، أو جاء أحد منكم من الغائط ، أو لامستم النساء - فلم تجدوا ماء - فتيمموا صعيداً طيباً .
فامسحوا بوجوهكم وأيديكم . إن الله كان عفواً غفوراً } . .(1/171)
فهذا النص يشمل حالة المسافر - عندما يصيبه حدث أكبر فيكون جنباً في حاجة إلى الغسل أو حدث أصغر ، فيكون في حاجة إلى الوضوء ، لأداء الصلاة .
والنص يسويه في هذه الحالة بمن كان مريضاً ، فألم به حدث أكبر أو أصغر . أو بمن جاء من الغائط ( والغائط مكان منخفض كانوا يقضون حاجتهم فيه ، فكنى عن الفعل بالمجيء من مكان الفعل ) فأصابه حدث أصغر يقتضي الوضوء . أو بمن لامس النساء . .
وفي { لامستم النساء } . . أقوال كذلك :
قول : إنه كناية عن الجماع . . فهو يستوجب الغسل .
وقول إنه يعني حقيقة اللمس . . لمس أي جزء من جسم الرجل لجسم المرأة . . وهو يستوجب الوضوء في بعض المذاهب ، ولا يستوجبه في بعضها . بتفصيلات تطلب في كتب الفروع نذكر منها إجمالاً :
« أ » اللمس يوجب الوضوء إطلاقاً .
« ب » اللمس يوجب الوضوء إذا كان اللامس ممن تثور الشهوة في نفسه باللمس . وإذا كانت الملموسة ممن تثير الشهوة باللمس .
« ج » اللمس يوجب الوضوء إذا أحس اللامس نفسه - حسب تقديره في كل حالة - أن اللمسة أثارت في نفسه حركة .
« د » اللمس لا يوجب الوضوء إطلاقاً ، ولا العناق ولا التقبيل للزوجة . .
ولكل قول سنده من أفعال أو من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم . . على طريقة الاختلافات الفقهية في الفروع .
والذي نرجحه في معنى { أو لامستم النساء } أنه كناية عن الفعل الذي يستوجب الغسل . وبذلك نستغني هنا عن كل الخلافات في مسألة الوضوء . .
وفي جميع هذه الحالات المذكورة ، سواء كانت الحالة تستوجب الغسل أو تستوجب الوضوء للصلاة . . حين لا يوجد الماء - وكذلك حين يوجد ولكن استعماله يكون ضاراً أو غير مقدور عليه - يغني عن الغسل والوضوء : التيمم . وقد جاء اسمه من نص الآية .
{ فتيمموا صعيداً طيباً } . .(1/172)
أي فاقصدوا صعيداً طيباً . . طاهراً . . والصعيد كل ما كان من جنس الأرض من تراب . أو حجر . أو حائط . ولو كان التراب مما على ظهر الدابة . أو في الفراش من ذرات التراب المتطاير . متى كان هناك تراب يتطاير عند ضرب اليدين به .
وطريقة التيمم : إما خبطة واحدة بالكفين على الصعيد الطاهر . ثم نفضهما . ثم مسح الوجه . ثم مسح اليدين إلى المرفقين بهما . . وإما خبطتان : خبطة يمسح بها الوجه ، وخبطة يمسح بها الذراعان . . ولا داعي هنا لذكر الخلافات الفقهية الدقيقة فيما وراء هذا . . فهذا الدين يسر ، وفي شرعية التيمم يتجلى معنى التيسير واضحاً : { إن الله كان عفواً غفوراً } . .
وهو التعقيب الموحي بالتيسير .
وبالعطف على الضعف ، وبالمسامحة في القصور . والمغفرة في التقصير . .
وقبل أن ننهي الحديث عن هذه الآية وعن هذا الدرس . . نقف أمام بضع لمسات في هذه الآية القصيرة :
نقف أمام « حكمة التيمم » . نحاول استيضاح ما ييسره لنا الله من حكمتها . .
إن بعض الباحثين في حكمة التشريعات والعبادات الإسلامية ، يندفعون أحياناً في تعليل هذه الأحكام؛ بصورة توحي بأنهم استقصوا هذه الحكمة؛ فلم يعد وراء ما استقصوه شيء! وهذا منهج غير سليم في مواجهة النصوص القرآنية والأحكام التشريعية . . ما لم يكن قد نص على حكمتها نصاً . . وأولى : أن نقول دائماً : إن هذا ما استطعنا أن نستشرفه من حكمة النص أو الحكم . وأنه قد تكون دائماً هنالك أسرار من الحكمة لم يؤذن لنا في استجلائها! وبذلك نضع عقلنا البشري - في مكانه - أمام النصوص والأحكام الإلهية . بدون إفراط ولا تفريط . .
أقول هذا ، لأن بعضنا - ومنهم المخلصون - يحبون أن يقدموا النصوص والأحكام الإسلامية للناس ، ومعها حكمة محددة ، مستقاة مما عرفه البشر من واقعهم أو مما كشف عنه « العلم الحديث »! وهذا حسن - ولكن في حدود - هي الحدود التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة .(1/173)
وكثيراً ما ذكر عن حكمة الوضوء - قبل الصلاة - أنها النظافة . .
وقد يكون هذا المعنى مقصوداً في الوضوء . ولكن الجزم بأنه هو . . وهو دون غيره . . هو المنهج غير السليم . وغير المأمون أيضاً :
فقد جاء وقت قال بعض المماحكين : لا حاجة بنا إلى هذه الطريقة البدائية : فالنظافة الآن موفورة . والناس يجعلونها في برنامج حياتهم اليومي . فإذا كانت هذه هي « حكمة الوضوء » فلا داعي للوضوء إذن للصلاة! بل . . لا داعي للصلاة أيضاً!!
وكثيراً ما ذكر عن « حكمة الصلاة » . . . تارة أنها حركات رياضية تشغل الجسم كله وتارة بأنها تعويد على النظام : أولاً في مواقيتها . وثانياً في حركاتها . وثالثاً في نظام الصفوف والإمامة . . . الخ . وتارة أنها الاتصال بالله في الدعاء والقراءة . . وهذا وذاك وذلك قد يكون مقصوداً . . ولكن الجزم بأن هذا أو ذاك أو ذلك هو « حكمة الصلاة » يتجاوز المنهج السليم والحد المأمون .
وقد جاء حين من الدهر قال بعضهم فيه : إنه لا حاجة بنا إلى حركات الصلاة الرياضية . فالتدريبات الرياضية المنوعة كفيلة بهذا بعد أن أصبحت الرياضة فناً من الفنون!
وقال بعضهم : ولا حاجة بنا إلى الصلاة لتعود النظام . فعندنا الجندية - مجال النظام الأكبر . وفيها غناء!
وقال بعضهم : لا حاجة لتحتيم شكل هذه الصلاة . فالاتصال بالله يمكن أن يتم في خلوة ونجوة بعيداً عن حركات الجوارح ، التي قد تعطل الاستشراف الروحي!
وهكذا . . إذا رحنا « نحدد » حكمة كل عبادة . وحكمة كل حكم . ونعلله تعليلاً وفق « العقل البشري » أو وفق « العلم الحديث » ثم نجزم بأن هذا هو المقصود .
. فإننا نبعد كثيراً عن المنهج السليم في مواجهة نصوص الله وأحكامه . كما نبعد كذلك عن الحد المأمون . ونفتح الباب دائماً للمماحكات . فوق ما تحتمله تعليلاتنا من خطأ جسيم . وبخاصة حين نربطها بالعلم . والعلم قلب لا يثبت على حال . وهو كل يوم في تصحيح وتعديل!(1/174)
وهنا في موضوعنا الحاضر - موضوع التيمم - يبدو أن حكمة الوضوء أو الغسل ، ليست هي « مجرد » النظافة . وإلا فإن البديل من أحدهما أو من كليهما ، لا يحقق هذه « الحكمة »! فلا بد إذن من حكمة « أخرى » للوضوء أو الغسل . تكون متحققة كذلك في « التيمم » . .
ولا نريد نحن أن نقع في الغلطة نفسها فنجزم! ولكننا نقول فقط : إنها - ربما - كانت هي الاستعداد النفسي للقاء الله ، بعمل ما ، يفصل بين شواغل الحياة اليومية العادية ، وبين اللقاء العظيم الكريم . . ومن ثم يقوم التيمم - في هذا الجانب - مكان الغسل أو مكان الوضوء . .
ويبقى وراء هذا علم الله الكامل الشامل اللطيف؛ بدخائل النفوس ، ومنحنياتها ودروبها ، التي لا يعلمها إلا اللطيف الخبير . . ويبقى أن نتعلم نحن شيئاً من الأدب مع الجليل العظيم العلي الكبير . .
ونقف مرة أخرى أمام حرص المنهج الرباني على الصلاة؛ وعلى إقامتها في وجه جميع الأعذار والمعوقات . وتذليل هذه المعوّقات . والتيسير البادي في إحلال التيمم محل الوضوء ، ومحل الغسل ، أو محلهما معاً ، عند تعذر وجود الماء؛ أو عند التضرر بالماء ( أو عند الحاجة إلى الماء القليل للشرب وضروريات الحياة ) وكذلك عند السفر ( حتى مع وجود الماء في أقوال ) . .
- - - - - - - - - - - -
22.
وجوبُ طاعة الله والرسول
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (59) سورة النساء(1/175)
بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ ، فَلَمَّا خَرَجُوا اسْتَاءَ مِنْهُمْ مِنْ شَيءٍ كَانَ مِنْهُمْ ، فَقَالَ لَهُمْ : أَلَيْسَ قَدْ أَمَرَكُمْ رَسُولُ اللهِ أنْ تُطِيعُونِي؟ قَالُوا : بَلَى ، قَالَ : فَاجْمَعُوا حَطَباً ، ثُمَّ دَعَا بِنَارٍ فَأَضْرَمَهَا فِيهِ ، ثُمَّ قَالَ لَهُم : عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ لَتَدْخُلُنَّهَا ( أَيْ لَتَقْتُلُنَّ أنْفُسَكُمْ فِي النَّارِ ) ، فَرَفَضُوا ذَلِكَ إلى أنْ يَسَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ لَهُمُ الرَّسُولُ : " الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ"
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ : " السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى المَرْءِ المُسْلِمِ فِيمَا أحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ ، فَإِذَا أَمَرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ "
وَفِي هَذِهِ الآيَةِ يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِإِطَاعَتِهِ تَعَالَى ، وَبِالعَمَلِ بِكِتَابِهِ ، وَبِإِطَاعَةِ رَسُولِهِ ، لأَنَّهُ يُبَيِّنُ لِلْنَّاسِ مَا نَزَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَيُبَلِّغُ عَنِ اللهِ شَرْعَُ وَأَوَامِرَهُ ، كَمَا يَأْمُرُ اللهُ بِإِطَاعَةِ أُوْلِي الأمْرِ ، مِنْ حُكَّامٍ وَأُمَرَاءٍ وَرُؤَسَاءٍ جُنْدٍ ، مِمَّنْ يَرْجِعُ النَّاسُ إلَيْهِمْ فِي الحَاجَاتِ ، وَالمَصَالِحِ العَامَّةِ ، فَهَؤُلاءِ إذَا اتَّفَقُوا عَلَى أَمْرٍ وَجَبَ أنْ يُطَاعُوا فِيهِ ، بِشَرْطِ أنْ يَكُونُوا أُمَنَاءَ ، وَأنْ لاَ يُخَالِفُوا أَمْرَ اللهِ ، وَلاَ سُنَّةَ نَبِّيهِ التِي عُرِفَتْ بِالتَّوَاتُرِ ، وَأنْ يَكُونُوا مُخْتَارِينَ فِي بَحْثِهِمْ فِي الأَمْرِ ، وَاتِّفَاقِهِمْ عَلَيْهِ غَيْرَ مُكْرَهِينَ عَلَيهِ بِقُوَّةِ أَحَدٍ أَوْ نُفُوذِهِ.(1/176)
وَكُلُّ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ المُسْلِمُونَ فَمِنَ الوَاجِبِ رَدُّهُ إلى كِتَابِ اللهِ ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ، وَيَحْتَكِمْ إلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ ، فَلَيْسَ مُؤْمِناً بِاللهِ وَلاَ بِاليَوْمِ الآخِرِ .
وَمَنْ يَحْتَكِم إلى شَرْعِ اللهِ ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ، فَذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ وَأَحْسَنُ عَاقِبَةً وَمَآلاً ( تَأْوِيلاً ) ، لأنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُشَرِّعْ لِلنَّاسِ إلاَّ مَا فِيهِ مَصْلَحَتُهُمْ وَمَنْفَعَتُهُمْ ، وَالاحْتِكَامِ إلى الشَّرْعِ يَمْنَعُ الاخْتِلافَ المُؤَدِّي إلَى التَّنَازُعِ وَالضَّلاَلِ .
وفي هذا النص القصير يبين الله - سبحانه - شرط الإيمان وحد الإسلام .
في الوقت الذي يبين فيه قاعدة النظام الأساسي في الجماعة المسلمة؛ وقاعدة الحكم ، ومصدر السلطان . . وكلها تبدأ وتنتهي عند التلقي من الله وحده؛ والرجوع إليه فيما لم ينص عليه نصاً ، من جزيئات الحياة التي تعرض في حياة الناس على مدى الأجيال؛ مما تختلف فيه العقول والآراء والأفهام . . ليكون هنالك الميزان الثابت ، الذي ترجع إليه العقول والآراء والأفهام!
إن « الحاكمية » لله وحده في حياة البشر - ما جل منها وما دق ، وما كبر منها وما صغر - والله قد سن شريعة أودعها قرآنه . وأرسل بها رسولاً يبينها للناس . ولا ينطق عن الهوى . فسنته - صلى الله عليه وسلم - من ثم شريعة من شريعة الله .(1/177)
والله واجب الطاعة . ومن خصائص ألوهيته أن يسن الشريعة . فشريعته واجبة التنفيذ . وعلى الذين آمنوا أن يطيعوا الله - ابتداء - وأن يطيعوا الرسول - بما له من هذه الصفة . صفة الرسالة من الله - فطاعته إذن من طاعة الله ، الذي أرسله بهذه الشريعة ، وببيانها للناس في سنته . . وسنته وقضاؤه - على هذا - جزء من الشريعة واجب النفاذ . . والإيمان يتعلق - وجوداً وعدماً - بهذه الطاعة وهذا التنفيذ - بنص القرآن : { إن كنم تؤمنون بالله واليوم الآخر } . .
فأما أولو الأمر؛ فالنص يعين من هم .
{ وأولي الأمر . . منكم . . } أي من المؤمنين . . الذين يتحقق فيهم شرط الإيمان وحد الإسلام المبين في الآية . . من طاعة الله وطاعة الرسول؛ وإفراد الله - سبحانه - بالحاكمية وحق التشريع للناس ابتداء؛ والتلقي منه وحده - فيما نص عليه - والرجوع إليه أيضاً فيما تختلف فيه العقول والأفهام والآراء ، مما لم يرد فيه نص؛ لتطبيق المبادىء العامة في النصوص عليه .
والنص يجعل طاعة الله أصلاً؛ وطاعة رسوله أصلاً كذلك - بما أنه مرسل منه - ويجعل طاعة أولي الأمر . . منكم . . تبعاً لطاعة الله وطاعة رسوله . فلا يكرر لفظ الطاعة عند ذكرهم ، كما كررها عند ذكر الرسول- صلى الله عليه وسلم - ليقرر أن طاعتهم مستمدة من طاعة الله وطاعة رسوله - بعد أن قرر أنهم « منكم » بقيد الإيمان وشرطه . .
وطاعة أولي الأمر . . منكم . . بعد هذه التقريرات كلها ، في حدود المعروف المشروع من الله ، والذي لم يرد نص بحرمته؛ ولا يكون من المحرم عندما يرد إلى مبادىء شريعته ، عند الاختلاف فيه . . والسنة تقرر حدود هذه الطاعة ، على وجه الجزم واليقين :
في الصحيحين من « حديث الأعمش : إنما الطاعة في المعروف » .
وفيهما من « حديث يحيى القطان : السمع والطاعة على المرء المسلم . فيما أحب أو كره . ما لم يؤمر بمعصية . فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة » .(1/178)
وأخرج مسلم من « حديث أم الحصين : ولو استعمل عليكم عبد . يقودكم بكتاب الله . اسمعوا له وأطيعوا » .
بهذا يجعل الإسلام كل فرد أميناً على شريعة الله وسنة رسوله . أميناً على إيمانه وهو ودينه . أميناً على نفسه وعقله . أميناً على مصيره في الدنيا والآخرة . . ولا يجعله بهيمة في القطيع؛ تزجر من هنا أو من هنا فتسمع وتطيع! فالمنهج واضح ، وحدود الطاعة واضحة . والشريعة التي تطاع والسنة التي تتبع واحدة لا تتعدد ، ولا تتفرق ، ولا يتوه فيها الفرد بين الظنون!
ذلك فيما ورد فيه نص صريح . فأما الذي لم يرد فيه نص . وأما الذي يعرض من المشكلات والأقضية ، على مدى الزمان وتطور الحاجات واختلاف البيئات - ولا يكون فيه نص قاطع ، أو لا يكون فيه نص على الإطلاق . . مما تختلف في تقديره العقول والآراء والأفهام - فإنه لم يترك كذلك تيهاً . ولم يترك بلا ميزان . ولم يترك بلا منهج للتشريع فيه والتفريع . . ووضع هذا النص القصير ، منهج الاجتهاد كله ، وحدده بحدوده؛ وأقام « الأصل » الذي يحكم منهج الاجتهاد أيضاً .
{ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } . .
ردوه إلى النصوص التي تنطبق عليه ضمناً . فإن لم توجد النصوص التي تنطبق على هذا النحو ، فردوه إلى المبادىء الكلية العامة في منهج الله وشريعته . . وهذه ليست عائمة ، ولا فوضى ، ولا هي من المجهلات التي تتيه فيها العقول كما يحاول بعض المخادعين أن يقول . وهناك - في هذا الدين - مبادىء أساسية واضحة كل الوضوح ، تغطي كل جوانب الحياة الأساسية ، وتضع لها سياجاً خرقه لا يخفى على الضمير المسلم المضبوط بميزان هذا الدين .
{ إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } . .(1/179)
تلك الطاعة لله والطاعة للرسول ، ولأولي الأمر المؤمنين القائمين على شريعة الله وسنة الرسول . . ورد ما يتنازع فيه إلى الله والرسول . . هذه وتلك شرط الإيمان بالله واليوم الآخر . كما أنها مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر . . فلا يوجد الإيمان ابتداء وهذا الشرط مفقود . . ولا يوجد الإيمان ، ثم يتخلف عنه أثره الأكيد .
وبعد أن يضع النص المسألة في هذا الوضع الشرطي ، يقدمها مرة أخرى في صورة « العظة » والترغيب والتحبيب؛ على نحو ما صنع في الأمر بالأمانة والعدل ثم التحبيب فيها والترغيب : { ذلك خير وأحسن تأويلاً } . .
ذلك خير لكم وأحسن مآلاً . خير في الدنيا وخير في الآخرة . وأحسن مآلاً في الدنيا وأحسن مآلاً في الآخرة كذلك . . فليست المسألة أن اتباع هذا المنهج يؤدي إلى رضاء الله وثواب الآخرة - وهو أمر هائل ، عظيم - ولكنه كذلك يحقق خير الدنيا وحسن مآل الفرد والجماعة في هذه الحياة القريبة .
إن هذا المنهج معناه : أن يستمتع « الإنسان » بمزايا منهج يضعه له الله . . الله الصانع الحكيم العليم البصير الخبير . . منهج بريء من جهل الإنسان وهوى الإنسان ، وضعف الإنسان ، وشهوة الإنسان .
منهج لا محاباة فيه لفرد ، ولا لطبقة ، ولا لشعب ، ولا لجنس ، ولا لجيل من البشر على جيل . . لأن الله رب الجميع ، ولا تخالجه - سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً - شهوة المحاباة لفرد ، أو طبقة ، أو شعب ، أو جنس ، أو جيل .(1/180)
ومنهج من مزاياه ، أن صانعه هو صانع هذا الإنسان . . الذي يعلم حقيقة فطرته ، والحاجات الحقيقية لهذه الفطرة ، كما يعلم منحنيات نفسه ودروبها؛ ووسائل خطابها وإصلاحها ، فلا يخبط - سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً - في تيه التجارب بحثاً عن منهج يوافق . ولا يكلف البشر ثمن هذه التجارب القاسية ، حين يخبطون هم في التيه بلا دليل! وحسبهم أن يجربوا في ميدان الإبداع المادي ما يشاءون ، فهو مجال فسيح جد فسيح للعقل البشري . وحسبهم كذلك أن يحاول هذا العقل تطبيق ذلك المنهج؛ ويدرك مواضع القياس والاجتهاد فيما تتنازع فيه العقول .
ومنهج من مزاياه أن صانعه هو صانع هذا الكون ، الذي يعيش فيه الإنسان . فهو يضمن للإنسان منهجاً تتلاءم قواعده مع نواميس الكون؛ فلا يروح يعارك هذه النواميس . بل يروح يتعرف إليها ، ويصادقها ، وينتفع بها . . والمنهج يهديه في هذا كله ويحميه .
ومنهج من مزاياه أنه - في الوقت الذي يهدي فيه الإنسان ويحميه - يكرمه ويحترمه ويجعل لعقله مكاناً للعمل في المنهج . . مكان الاجتهاد في فهم النصوص الواردة . ثم الاجتهاد في رد ما لم يرد فيه نص إلى النصوص أو إلى المبادىء العامة للدين . . ذلك إلى المجال الأصيل ، الذي يحكمه العقل البشري ، ويعلن فيه سيادته الكاملة : ميدان البحث العلمي في الكون؛ والإبداع المادي فيه . .
{ ذلك خير وأحسن تأويلاً } . . وصدق الله العظيم
- - - - - - - - - - - -
23.
وجوبُ أخذ الحذر من الأعداء(1/181)
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) } سورة النساء
يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِأَخْذِ الحَذَرِ مِنَ الأَعْدَاءِ ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ التَّعَرُّفَ عَلَى أَحْوَالِ هَؤُلاءِ الأَعْدَاءِ ، وَمَعْرِفَةِ أَرْضِهِمْ ، وَعَدَدِهِمْ ، وَسِلاَحِهِمْ ، وَأَحْلاَفِهِمْ ، وَثَرْوَتِهِمْ ، كَمَا يَسْتَلْزِمُ التَّأهُّبَ لَهُمْ ، وَإِعْدَادَ الرِّجَالِ لِلْحَرْبِ وَتَدْرِيبَهُمْ وَتَسْلِيحَهُمُ ، وَجَمْعَ السِّلاَحِ وَالمُؤَنِ وَوَسَائِلِ النَّقْلِ وَالرُّكُوبِ ، وَالاسْتِعْدَادَ لِلنَّفِيرِ لِلْقِتَالِ ، حِينَمَا يَدْعُو دَاعِيَ الجِهَادِ ، وَالخُرُوجَ جَمَاعَاتٍ مُتَلاَحِقَةً ( ثُبَاتٍ ) ، أَوْ خُرُوجَ المُؤْمِنِينَ كُلِّهِمْ جَمِيعاً ، حَسْبَ حَالِ العَدُوِّ ، وَخَطَرِهِ وَقُوَّتِهِ ، وَالخَطَرِ الذِي يَتَهَدَّدُ الأمَّةَ .(1/182)
وَمِنَ النَّاسِ ( وَمِنْهُمُ المُنَافِقُونَ وُالجُبَنَاءِ وضِعَافِ الإِيْمَانِ ) مَنْ يَتَأخَّرُ عَنِ الخُرُوجِ إلَى الجِهَادِ ، وَيَتَبَاطَّأُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْعُدُ عَنِ الجِهَادِ ، وَيُثَبِّطُ النَّاسَ عَنِ الخُرُوجِ ، فَإنْ أَصَابَتِ المُؤْمِنِينَ مُصِيبَةٌ مِنْ قَتْلِ وَشَهَادَةٍ ، أَوْ تَغَلَّبَ عَدُوٌّ عَلَى المُؤْمِنِينَ ، فَرِحَ وَعَدَّ تَخَلُّفَهُ عَنِ الجِهَادِ نِعْمَةً ، إذْ أَنْجَاهُ تَخَلُّفُهُ مِنَ المُصَابِ الذِي حَلَّ بِالمُسْلِمِينَ ، وَلَمْ يَدْرِ مَا فَاتَهُ مِنَ الأَجْرِ فِي الصَّبْرِ عَلَى الشِّدَّةِ ، وَالشَّهَادَةِ إنْ قُتِلَ .
وَإِذَا أَصَابَ المُسْلِمُونَ نَصْراً ، وَحَقَّقُوا ظَفَراً ، وَفَازُوا بِمَغْنَمٍ ، ( فَضْلٌ مِنَ اللهِ ) ، اغْتَمَّ ألاَّ يَكُونَ مَعَ المُؤْمِنينَ ، فَيُصِيبَهُ سَهْمٌ مِنَ الغَنِيمَةِ . وَالغَنِيمَةِ هِيَ أَكْبَرُ هَمِّهِ ، وَيَقُولُ ، وَكَأنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ : يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ كَمَا فَازُوا ، فَهُوَ قَدْ نَسِيَ مَا يَجِبُ عَلَيهِ ، مِنْ مَدِّ يَدِ العَوْنِ لإِخْوَتِهِ المُؤِمِنِينَ ، وَبَذْلِ كُلِّ مَا يَسْتَطِيعُ بَذْلَهُ مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ ، لِيَتِمَّ لَهُمُ الظَّفَرُ .(1/183)
إنها الوصية للذين آمنوا : الوصية من القيادة العليا ، التي ترسم لهم المنهج ، وتبين لهم الطريق . وإن الإنسان ليعجب ، وهو يراجع القرآن الكريم؛ فيجد هذا الكتاب يرسم للمسلمين - بصفة عامة طبعاً - الخطة العامة للمعركة وهي ما يعرف باسم « استراتيجية المعركة » . ففي الآية الأخرى يقول للذين أمنوا: { يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة } فيرسم الخطة العامة للحركة الإسلامية . وفي هذه الآية يقول للذين آمنوا : { خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعاً } وهي تبين ناحية من الخطة التنفيذية أو ما يسمى « التاكتيك » . وفي سورة الأنفال جوانب كذلك في الآيات : { فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون } . . الآيات .(1/184)
وهكذا نجد هذا الكتاب لا يعلم المسلمين العبادات والشعائر فحسب؛ ولا يعلمهم الآداب والأخلاق فحسب - كما يتصور الناس الدين ذلك التصور المسكين! إنما هو يأخذ حياتهم كلها جملة . ويعرض لكل ما تتعرض له حياة الناس من ملابسات واقعية . . ومن ثم يطلب - بحق - الوصاية التامة على الحياة البشرية؛ ولا يقبل من الفرد المسلم ولا من المجتمع المسلم ، أقل من أن تكون حياته بجملتها من صنع هذا المنهج ، وتحت تصرفه وتوجيهه . وعلى وجه التحديد لا يقبل من الفرد المسلم ، ولا من المجتمع المسلم أن يجعل لحياته مناهج متعددة المصادر : منهجاً للحياة الشخصية ، وللشعائر والعبادات ، والأخلاق والآداب ، مستمداً من كتاب الله . ومنهجاً للمعاملات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدولية ، مستمداً من كتاب أحد آخر؛ أو من تفكير بشري على الإطلاق! إن مهمة التفكير البشري أن تستنبط من كتاب الله ومنهجه أحكاماً تفصيلية تطبيقية لأحداث الحياة المتجددة ، وأقضيتها المتطورة - بالطريقة التي رسمها الله في الدرس السابق من هذه السورة - ولا شيء وراء ذلك . وإلا فلا إيمان أصلاً ولا إسلام . لا إيمان ابتداء ولا إسلام ، لأن الذين يفعلون ذلك لم يدخلوا بعد في الإيمان ، ولم يعترفوا بعد بأركان الإسلام . وفي أولها : شهادة أن لا إله إلا الله ، التي ينشأ منها أن لا حاكم إلا الله ، وأن لا مشرع إلا الله.
وها هو ذا كتاب الله يرسم للمسلمين جانباً من الخطة التنفيذية للمعركة؛ المناسبة لموقفهم حينذاك . ولوجودهم بين العداوات الكثيرة في الخارج . والمنافقين وحلفائهم اليهود في الداخل . وهو يحذرهم ابتداء : { يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم } . .
خذو حذركم من عدوكم جميعاً . وبخاصة المندسين في الصفوف من المبطئين ، الذين سيرد ذكرهم في الآية : { فانفروا ثباتٍ أو انفروا جميعاً } . .(1/185)
ثُباتٍ . جميع ثُبة : أي مجموعة . . والمقصود لا تخرجوا للجهاد فرادى . ولكن اخرجوا مجموعات صغيرة ، أو الجيش كله . . حسب طبيعة المعركة . . ذلك أن الآحاد قد يتصيدهم الأعداء ، المبثوثون في كل مكان . وبخاصة إذا كان هؤلاء الأعداء منبثين في قلب المعسكر الإسلامي . . وهم كانوا كذلك؛ ممثلين في المنافقين ، وفي اليهود ، في قلب المدينة .
{ وإن منكم لمن ليبطئن . فإن أصابتكم مصيبة قال : قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً . ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن - كأن لم تكن بينكم وبينه مودة - يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً}
انفروا جماعات نظامية . أو انفروا جميعاً . ولا ينفر بعضكم ويتثاقل بعضكم - كما هو واقع - وخذوا حذركم . لا من العدو الخارجي وحده؛ ولكن كذلك من المعوقين المبطئين المخذلين؛ سواء كانوا يبطئون أنفسهم - أي يقعدون متثاقلين - أو يبطئون غيرهم معهم؛ وهو الذي يقع عادة من المخذّلين المثبطين!
ولفظة « ليبطئن » مختارة هنا بكل ما فيها من ثقل وتعثر؛ وإن اللسان ليتعثر في حروفها وجرسها ، حتى يأتي على آخرها ، وهو يشدها شداً؛ وإنها لتصور الحركة النفسية المصاحبة لها تصويراً كاملاً بهذا التعثر والتثاقل في جرسها .
وذلك من بدائع التصوير الفني في القرآن ، الذي يرسم حالة كاملة بلفظة واحدة .
وكذلك يشي تركيب الجملة كلها : { وإن منكم لمن ليبطئن } ، بأن هؤلاء المبطئين - وهم معدودون من المسلمين - { منكم } يزاولون عملية التبطئة كاملة ، ويصرون عليها إصراراً ، ويجتهدون فيها اجتهاداً . . وذلك بأسلوب التوكيد بشتى المؤكدات في الجملة! مما يوحي بشدة إصرار هذه المجموعة على التبطئة ، وشدة أثرها في الصف المسلم؛ وشدة ما يلقاه منها!
ومن ثم يسلط السياق الأضواء الكاشفة عليهم ، وعلى دخيلة نفوسهم؛ ويرسم حقيقتهم المنفرة ، على طريقة القرآن التصويرية العجيبة :(1/186)
فها هم أولاء ، بكل بواعثهم ، وبكل طبيعتهم وبكل أعمالهم وأقوالهم . . ها هم أولاء مكشوفين للأعين ، كما لو كانوا قد وضعوا تحت مجهر ، يكشف النوايا والسرائر؛ ويكشف البواعث والدوافع .
ها هم أولاء - كما كانوا على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكما يكونون في كل زمان وكل مكان . ها هم أولاء . ضعافاً منافقين ملتوين؛ صغار الاهتمامات أيضاً : لا يعرفون غاية أعلى من صالحهم الشخصي المباشر ، ولا أفقاً أعلى من ذواتهم المحدودة الصغيرة . فهم يديرون الدنيا كلها على محور واحد . وهم هم هذا المحور الذي لا ينسونه لحظة!
إنهم يبطئون ويتلكئون ، ولا يصارحون ، ليمسكوا العصا من وسطها كما يقال! وتصورهم للربح والخسارة هو التصور الذي يليق بالمنافقين الضعاف الصغار :
يتخلفون عن المعركة . . فإن أصابت المجاهدين محنة ، وابتلوا الابتلاء الذي يصيب المجاهدين - في بعض الأحايين - فرح المتخلفون؛ وحسبوا أن فرارهم من الجهاد ، ونجاتهم من الابتلاء نعمة :
{ فإن أصابتكم مصيبة قال : قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً } . .
إنهم لا يخجلون - وهم يعدون هذه النجاة مع التخلف نعمة - أن ينسبوها لله . الله الذي خالفوا عن أمره فقعدوا! والنجاة في هذه الملابسة لا تكون من نعمة الله أبداً . فنعمة الله لا تنال بالمخالفة . ولو كان ظاهرها نجاة!
إنها نعمة! ولكن عند الذين لا يتعاملون مع الله . عند من لا يدركون لماذا خلقهم الله . ولا يعبدون الله بالطاعة والجهاد لتحقيق منهجه في الحياة . نعمة عند من لا يتطلعون إلى آفاق أعلى من مواطىء الأقدام في هذه الأرض . . كالنمال . . نعمة عند من لا يحسون أن البلاء - في سبيل الله وفي الجهاد لتحقيق منهج الله وإعلاء كلمة الله - هو فضل واختيار من الله ، يختص به من يشاء من عباده؛ ليرفعهم في الحياة الدنيا على ضعفهم البشري ، ويطلقهم من إسار الأرض يستشرفون حياة رفيعة ، يملكونها ولا تملكهم .(1/187)
وليؤهلهم بهذا الانطلاق وذلك الارتفاع للقرب منه في الآخرة . . في منازل الشهداء
إن الناس كلهم يموتون! ولكن الشهداء في - سبيل الله - هم وحدهم الذين « يستشهدون » . . وهذا فضل من الله عظيم . فأما إذا كانت الأخرى . . فانتصر المجاهدون؛ الذين خرجوا مستعدين لقبول كل ما يأتيهم به الله . . ونالهم فضل من الله بالنصر والغنيمة . . ندم المتخلفون أن لم يكونوا شركاء في معركة رابحة! رابحة بحسب مفهومهم القريب الصغير للربح والخسارة!
{ ولئن أصابكم فضل من الله ، ليقولن - كأن لم تكن بينكم وبينه مودة - يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً } .
إنها أمنية الفوز الصغير بالغنيمة والإياب ، هي التي يقولون عنها : { فوزاً عظيماً } والمؤمن لا يكره الفوز بالإياب والغنيمة؛ بل مطلوب منه أن يرجوه من الله . والمؤمن لا يتمنى وقوع البلاء بل مطلوب منه أن يسأل الله العافية . . ولكن التصور الكلي للمؤمن غير هذا التصور ، الذي يرسمه التعبير القرآني لهذه الفئة رسماً مستنكراً منفراً . .
إن المؤمن لا يتمنى البلاء بل يسأل الله العافية . ولكنه إذا ندب للجهاد خرج - غير متثاقل - خرج يسأل الله إحدى الحسنيين : النصر أو الشهادة . . وكلاهما فضل من الله؛ وكلاهما فوز عظيم . فيقسم له الله الشهادة ، فإذا هو راض بما قسم الله؛ أو فرح بمقام الشهادة عند الله . ويقسم له الله الغنيمة والإياب ، فيشكر الله على فضله ، ويفرح بنصر الله . لا لمجرد النجاة!
وهذا هو الأفق الذي أراد الله أن يرفع المسلمين إليه؛ وهو يرسم لهم هذه الصورة المنفرة لذلك الفريق « منهم » وهو يكشف لهم عن المندسين في الصف من المعوقين ، ليأخذوا منهم حذرهم؛ ; كما يأخذون حذرهم من أعدائهم!
ومن وراء التحذير والاستنهاض للجماعة المسلمة في ذلك الزمان ، يرتسم نموذج إنساني متكرر في بني الإنسان ، في كل زمان ومكان ، في هذه الكلمات المعدودة من كلمات القرآن!(1/188)
ثم تبقى هذه الحقيقة تتملاها الجماعة المسلمة أبداً . وهي أن الصف قد يوجد فيه أمثال هؤلاء . فلا ييئس من نفسه . ولكن يأخذ حذره ويمضي . ويحاول بالتربية والتوجيه والجهد ، أن يكمل النقص ، ويعالج الضعف ، وينسق الخطى والمشاعر والحركات!
- - - - - - - - - - - -
24. لا يجوز قتل من أسلم أثناء القتال
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (94) سورة النساء
يُنَبِّهُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ إلى ضَرْبٍ آخَرَ مِنْ ضُرُوبِ القَتْلِ خَطَأً ، كَأنْ يَحْصَلَ أَثْنَاءَ سَفَرٍ ، أَوْ غَزْوٍ فِي سَبِيلِ اللهِ إلى أَرْضِ المُشْرِكِينَ ، بَعْدَ أَنْ كَانَ الإِسْلاَمُ قَدِ انْتَشَرَ فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ مِنَ الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ ، وَكَانَ بَعْضَ المُسْلِمِينَ يُحَاوِلُونَ الاتِّصَالَ بِإِخْوانِهِمُ المُسْلِمِينَ ، فَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى المُسْلِمِينَ بِأَنْ لاَ يَحْسَبُوا كُلَّ مَنْ وَجَدُوهُ ، فِي أَرْضِ الكُفْرِ كاَفِراً ، وَأَنْ يَتَرَيَّثُوا فِي الحُكْمِ عَلَيهِ حَتَّى يَفْحَصُوا أَمْرَهُ وَيَتَبَيَّنُوهُ .
( وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ إِثْرَ حَادِثٍ وَقَعَ لُغُزَاةٍ مِنَ المُسْلِمِينَ فَقَدْ مَرَّ بِهِمْ رَجُلٌ مِنْ سُلَيْمٍ يَرْعَى غَنَماً فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ بِتَحِيَّةِ الإِسْلاَمِ ، فَقَالُوا إِنَّهُ لاَ يُسَلِّمُ عَلَينا إلاَّ لِيَتَعَّوذَ مِنَّا ، فَعَمَدوا إلَيهِ فَقَتَلُوهُ وَأتوا بِغَنَمِهِ إلى النَّبِيِّ )(1/189)
وَيَقُولُ تَعَالَى : إذَا كُنْتُمْ تُجَاهِدُونَ فِي أَرْضِ الأَعْدَاءِ فَتَبَيَّنُوا ، وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُسَلِّمُ عَلَيكُمْ ، وَيُظْهِرَ لَكُمْ إِسْلاَمَهُ ، لَسْتَ مُسْلِماً ، وَتَقْتُلُونَهُ رَغْبَةً مِنْكُمْ فِي الاسْتِحْواذِ عَلَى المَغْنَمِ مِنْهُ ، فَعِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِمَا رَغِبْتُمْ فِيهِ مِنْ عَرَضِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ، الذِي حَمَلَكُمْ عَلَى قَتْلِ مِثْلِ هَذَا الرَّجُلِ الذِي أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ ، وَأَظْهَرَ لَكُمُ الإِيمَانَ ، فَتَغَافَلْتُمْ عَنْهُ وَاتَّهَمْتُمُوهُ بِالمُصَانَعَةِ وَالتَّقِيَّةِ لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ، فَمَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الرِّزْقِ الحَلاَلِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ مَالِ هَذَا . وَقَدْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ ، فِي مِثْلِ حَالِ هَذا الرَّجُلِ الذِي يُسِرُّ إِسْلاَمَهُ ، وَيُخْفِيهِ عَنْ قَوْمِهِ ، فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ بِالعِزِّ وَالنَّصْرِ ، وَهَدَاكُمْ إلى الإِسْلاَمِ ، وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ، لاَ يَخْفَى عَلَيهِ شَيءٌ مِنَ البَوَاعِثِ التِي حَفَزَتْكُمْ عَلَى فِعْلِ مَا فَعَلْتُمُوهُ .
إن عرض الحياة الدنيا لا يجوز أن يدخل للمسلمين في حساب؛ إذا خرجوا يجاهدون في سبيل الله . إنه ليس الدافع إلى الجهاد ولا الباعث عليه . . وكذلك التسرع بإهدار دم قبل التبين . وقد يكون دم مسلم عزيز ، لا يجوز أن يراق .(1/190)
والله سبحانه يذكر الذين آمنوا بجاهليتهم القريبة وما كان فيها من تسرع ورعونة؛ وما كان فيها من طمع في الغنيمة . ويمن عليهم أن طهر نفوسهم ورفع أهدافهم ، فلم يعودوا يغزون ابتغاء عرض الحياة الدنيا كما كانوا في جاهليتهم . ويمن عليهم أن شرع لهم حدوداً وجعل لهم نظاماً؛ فلا تكون الهيجة الأولى هي الحكم الآخر . كما كانوا في جاهليتهم كذلك . . وقد يتضمن النص إشارة إلى أنهم هم كذلك كانوا يخفون إسلامهم - على قومهم - من الضعف والخوف ، فلا يظهرونه إلا عند الأمن مع المسلمين ، وأن ذلك الرجل القتيل كان يخفي إسلامه على قومه ، فلما لقي المسلمين أظهر لهم إسلامه وأقرأهم سلام المسلمين .
{ كذلك كنتم من قبل . فمن الله عليكم . فتبينوا . إن الله كان بما تعلمون خبيراً } .
وهكذا يلمس المنهج القرآني القلوب لتحيا وتتحرج وتتذكر نعمة الله . . وعلى هذه الحساسية والتقوى ، يقيم الشرائع والأحكام؛ بعد بيانها وإيضاحها .
وهكذا يتناول هذا الدرس تلك الجوانب من قواعد المعاملات الدولية بمثل هذا الوضوح ، ومثل هذه النظافة . منذ أربعة عشر قرناً . ..
- - - - - - - - - - - -
25.
وجوب العدل في الشهادة
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (135) سورة النساء
العَدْلُ هُوَ نِظَامُ الوُجُودِ ، لِذَلِكَ أَمْرُ اللهِ المُؤْمِنِينَ بِأنْ يَجْعَلُوا العِنَايَةَ بِإقَامَةِ العَدْلِ ، عَلَى وَجْهِهِ الصَّحِيحِ ، صِفَةً ثَابِتَةً لَهُمْ ، رَاسِخَةً فِي نُفُوسِهِمْ ( كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ ).(1/191)
وَالعَدْلُ كَمَا يَكُونُ فِي الحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ ، يَكُونُ أيْضاً فِي العَمَلِ : كَالقِيَامِ بِمَا يَجِبُ مِنَ العَدْلِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ وَالأَوْلاَدِ ، فِي النَّفَقَةِ ، وَالمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمْ . وَيَأمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِأنْ يَكُونُوا شُهَدَاءَ للهِ ، بِأنْ يَتَحَرَّوا الحَقَّ الذِي يَرْضَاهُ اللهُ ، وَيَأْمُرُ بِهِ ، مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةٍ لأَحَدٍ ، وَلاَ مُحَابَاةٍ لَهُ ، وَلَوْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى نَفْسِ الإِنْسَانِ ، بِأَنْ يُثْبتَ بِهَا الحَقَّ عَلَيهِ ( وَمَنْ أقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِحَقٍّ فَقَدْ شَهِدَ عَلَيْهَا ) أَوْ عَلَى وَالِدَي الإِنْسَانِ ، أَوْ عَلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ ، إِذْ لَيْسَ مِنْ بِرِّ الوَالِدَينِ ، وَلاَ مِنْ صِلَةِ الرَّحْمِ ، أنْ يُعَانُوا عَلَى أَكْلِ مَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ حَقٌّ ، بَلِ البِرُّ وَالصِّلَةُ فِي الحَقِّ وَالمَعْرُوفِ .
وَيُوصِي اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِالتِزَامِ العَدْلِ فِي الشَّهَادَةِ ، وَإنْ كَانَ المَشْهُودُ عَلَيهِ مِنَ الأَقَارِبِ ، سَواءً أَكَانَ فَقِيراً أَوْ غَنِياً ، فَإنَّ اللهَ تَعَالَى أَوْلَى بِهِ ، وَشَرْعُهُ أَحَقُّ بِأَنْ يُتَّبَعَ فِيهِ ، فَحَذَارِ أَنْ تُحَابُوا غَنِيّاً طَمَعاً فِي بِرِّهِ ، أَوْ خَوْفاً مِنْ سَطْوَتِهِ ، وَحَذَارِ أَنْ تُحَابُوا فَقَيراً عَطْفاً عَلَيهِ ، أَوْ شَفَقَةً بِهِ فَمَرْضَاةُ المَشْهُودِ عَلَيهِ لَيْسَتْ خَيراً لَكُمْ وَلاَ لَهُ مِنْ مَرْضَاةِ اللهِ ، فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى لِئَلاَّ تَعْدِلُوا عَنِ الحَقِّ إلى البَاطِلِ .(1/192)
وَيَأمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ أَنْ لاَ يُحَرِّفُوا الشَّهَادَةَ وَلاَ يَتَعَمَّدُوا الكَذِبَ فِيهَا ، وَأَنْ لاَ يُعْرِضُوا عَنْ أَدَائِهَا إذَا مَا دُعُوا إلى الشَّهَادَةِ ، وَيُخْبِرُهُمُ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ لا تَخْفَى عَلَيهِ خَافِيَةٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِ العِبَادِ ، فَلاَ يَخْفَى عَليهِ قَصْدُهُمْ ، وَأَنَّهُ مُجَازِيهِمْ بِمَا يَعْمَلُونَ .
إنه نداء للذين آمنوا . نداء لهم بصفتهم الجديدة . وهي صفتهم الفريدة . صفتهم التي بها أنشئوا نشأة أخرى؛ وولدوا ميلاداً آخر . ولدت أرواحهم ، وولدت تصوراتهم ، وولدت مبادئهم وأهدافهم ، وولدت معهم المهمة الجديدة التي تناط بهم ، والأمانة العظيمة التي وكلت إليهم . . أمانة القوامة على البشرية ، والحكم بين الناس بالعدل . . ومن ثم كان للنداء بهذه الصفة قيمته وكان له معناه : { يا أيها الذين آمنوا . . . } فبسبب من اتصافهم بهذه الصفة ، كان التكليف بهذه الأمانة الكبرى . وبسبب من اتصافهم بهذه الصفة كان التهيؤ والاستعداد للنهوض بهذه الأمانة الكبرى . .
وهي لمسة من لمسات المنهج التربوي الحكيم؛ تسبق التكليف الشاق الثقيل :
{ كونوا قوامين بالقسط ، شهداء لله - ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين . إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما } . .
إنها أمانة القيام بالقسط . . بالقسط على إطلاقه . في كل حال وفي كل مجال . القسط الذي يمنع البغي والظلم - في الأرض - والذي يكفل العدل - بين الناس - والذي يعطي كل ذي حق حقه من المسلمين وغير المسلمين . . ففي هذا الحق يتساوى عند الله المؤمنون وغير المؤمنين - كما رأينا في قصة اليهودي - ويتساوى الأقارب والأباعد . ويتساوى الأصدقاء والأعداء . ويتساوى الأغنياء والفقراء . .
{ كونوا قوامين بالقسط ، شهداء لله } . .(1/193)
حسبة لله . وتعاملا مباشراً معه . لا لحساب أحد من المشهود لهم أو عليهم . ولا لمصلحة فرد أو جماعة أو أمة . ولا تعاملاً مع الملابسات المحيطة بأي عنصر من عناصر القضية . ولكن شهادة لله ، وتعاملاً مع الله . وتجرداً من كل ميل ، ومن كل هوى ، ومن كل مصلحة ، ومن كل اعتبار .
{ ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين } . .
وهنا يحاول المنهج تجنيد النفس في وجه ذاتها ، وفي وجه عواطفها ، تجاه ذاتها أولاً ، وتجاه الوالدين والأقربين ثانياً . . وهي محاولة شاقة . . أشق كثيراً من نطقها باللسان ، ومن إدراك معناها ومدلولها بالعقل . . إن مزاولتها عملياً شيء آخر غير إدركها عقلياً . ولا يعرف هذا الذي نقوله إلا من يحاول أن يزاول هذه التجربة واقعياً .. ولكن المنهج يجند النفس المؤمنة لهذه التجربة الشاقة . لأنها لا بد أن توجد . لا بد أن توجد في الأرض هذه القاعدة . ولا بد أن يقيمها ناس من البشر .
ثم هو يجند النفس كذلك في وجه مشاعرها الفطرية أو الاجتماعية؛ حين يكون المشهود له أو عليه فقيراً ، تشفق النفس من شهادة الحق ضده ، وتود أن تشهد له معاونة لضعفه . أو من يكون فقره مدعاة للشهادة ضده بحكم الرواسب النفسية الاجتماعية كما هو الحال في المجتمعات الجاهلية . وحين يكون المشهود له أو عليه غنياً؛ تقتضي الأوضاع الاجتماعية مجاملته . أو قد يثير غناه وتبطره النفس ضده فتحاول أن تشهد ضده! وهي مشاعر فطرية أو مقتضيات اجتماعية لها ثقلها حين يواجهها الناس في عالم الواقع . . والمنهج يجند النفس تجاهها كذلك كما جندها تجاه حب الذات ، وحب الوالدين والأقربين .
{ إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما } . .(1/194)
وهي محاولة شاقة . . ولا نفتأ نكرر أنها محاولة شاقة . . وأن الإسلام حين دفع نفوس المؤمنين - في عالم الواقع - إلى هذه الذروة ، التي تشهد بها تجارب الواقع التي وعاها التاريخ - كان ينشئ معجزة حقيقية في عالم البشرية . معجزة لا تقع إلا في ظل هذا المنهج الإلهي العظيم القويم .
{ فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا } . .
والهوى صنوف شتى ذكر منها بعضها . . حب الذات هوى . وحب الأهل والأقربين هوى . والعطف على الفقير - في موطن الشهادة والحكم - هوى . ومجاملة الغني هوى . ومضارته هوى . والتعصب للعشيرة والقبيلة والأمة والدولة والوطن - في موضع الشهادة والحكم - هوى . وكراهة الأعداء ولو كانوا أعداء الدين - في موطن الشهادة والحكم - هوى . . وأهواء شتى الصنوف والألوان . . كلها مما ينهى الله الذين آمنوا عن التأثر بها والعدول عن الحق والصدق تحت تأثيرها .
وأخيراً يجيء التهديد والإنذار والوعيد من تحريف الشهادة ، والإعراض عن هذا التوجيه فيها . .
{ وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً } . .
ويكفي أن يتذكر المؤمن أن الله خبير بما يعمل ، ليستشعر ماذا وراء هذا من تهديد خطير ، يرتجف له كيانه . . فقد كان الله يخاطب بهذا القرآن المؤمنين!
حدث أن عبدالله بن رواحة - رضي الله عنه - لما بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقدر على أهل خيبر محصولهم من الثمار والزروع لمقاسمتهم إياها مناصفة ، حسب عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد فتح خيبر . . أن حاول اليهود رشوته ليرفق بهم! فقال لهم : « والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليَّ . ولأنتم والله أبغض إليَّ من أعدادكم من القردة والخنازير . وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم ، على أن لا أعدل فيكم » . . فقالوا : بهذا قامت السماوات والأرض!
لقد كان - رضي الله عنه - قد تخرج في مدرسة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على المنهج الرباني المنفرد .(1/195)
وكان إنساناً من البشر خاض هذه التجربة الشاقة ونجح؛ وحقق - كما حقق الكثيرون غيره في ظل ذلك المنهج - تلك المعجزة التي لا تقع إلا في ظل ذلك المنهج!
ولقد مضت القرون تلو القرون بعد تلك الفترة العجيبة؛ وحفلت المكتبات بكتب الفقه والقانون؛ وحفلت الحياة بالتنظيمات والتشكيلات القضائية؛ وضبط الإجراءات والشكليات التنظيمية . وامتلأت الرؤوس بالكلام عن العدالة؛ وامتلأت الأفواه بالحديث عن إجراءاتها الطويلة . . ووجدت نظريات وهيئات وتشكيلات منوعة لضبط هذا كله
ولكن التذوق الحقيقي لمعنى العدالة؛ والتحقق الواقعي لهذا المعنى في ضمائر الناس وفي حياتهم؛ والوصول إلى هذه الذروة السامقة الوضيئة . . لم يقع إلا في ذلك المنهج . . في تلك الفترة العجيبة في ذروة القمة . . وبعدها على مدار التاريخ في الأرض التي قام فيها الإسلام . وفي القلوب التي عمرت بهذه العقيدة . وفي الجماعات والأفراد التي تخرجت على هذا المنهج الفريد .
وهذه حقيقة ينبغي أن يتنبه إليها الذين يؤخذون بالتشكيلات القضائية التي جدت؛ وبالإجراءات القضائية التي استحدثت؛ وبالأنظمة والأوضاع القضائية التي نمت وتعقدت . فيحسبون أن هذا كله أقمن بتحقيق العدالة وأضمن مما كان في تلك الإجراءات البسيطة في تلك الفترة الفريدة! في تلك القرون البعيدة! وأن الأمور اليوم أضبط وأحكم مما كانت على صورتها البسيطة!
هذا وهم تنشئه الأشكال والأحجام في تصورات من لا يدركون حقائق الأشياء والأوضاع . . إن المنهج الرباني وحده هو الذي يبلغ بالناس ما بلغ على بساطة الأشكال وبساطة الأوضاع . . وهو وحده الذي يمكن أن يبلغ بالناس هذا المستوى على ما استحدث من الأشكال والأوضاع!
وليس معنى هذا أن نلغي التنظيمات القضائية الجديدة . ولكن معناه أن نعرف أن القيمة ليست للتنظيمات . ولكن للروح التي وراءها . أياً كان شكلها وحجمها وزمانها ومكانها . . والفضل للأفضل بغض النظر عن الزمان والمكان!!!(1/196)
- - - - - - - - - - - -
26.
وجوبُ الإيمان بالله ورسوله
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} (136) سورة النساء
يَأْْمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ بِالإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَبِرَسُولِهِ الكَرِيمِ مُحَمَّدً صَلَواتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيهِ ، وَبِالكِتَابِ الذِي نَزَلَ عَلَيهِ ( وَهُوَ القُرْآنُ ) ، وَبِالكُتُبِ التِي نَزَّلَها اللهُ مِنْ قَبْلُ ، عَلَى رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ الكِرَامِ ، وَيُحَذِّرُهُمْ مِنْ عَوَاقِبِ الكُفْرِ ، وَيَقُولُ لَهُمْ : مَنْ يَكُفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ، يَكُنْ قَدْ خَرَجَ عَنْ طَرِيقِ الهُدَى ، وَبَعُدَ عَنِ القَصْدِ كُلَّ البُعْدِ .
فهو إيمان بالله ورسوله . يصل قلوب المؤمنين بربهم الذي خلقهم ، وأرسل إليهم من يهديهم إليه ، وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإيمان برسالة الرسول وتصديقه في كل ما ينقله لهم عن ربهم الذي أرسله .
وهو إيمان بالكتاب الذي نزل على رسوله . يربطهم بالمنهج الذي اختاره الله لحياتهم وبينه لهم في هذا الكتاب؛ والأخذ بكل ما فيه ، بما أن مصدره واحد ، وطريقه واحد؛ وليس بعضه بأحق من بعضه بالتلقي والقبول والطاعة والتنفيذ .(1/197)
وهو إيمان بالكتاب الذي أنزل من قبل . بما أن مصدر الكتب كلها واحد هو الله؛ وأساسها كذلك واحد هو إسلام الوجه لله؛ وإفراد الله سبحانه بالألوهية - بكل خصائصها - والإقرار بأن منهج الله وحده هو الذي تجب طاعته وتنفيذه في الحياة . . وهذه الوحدة هي المقتضى الطبيعي البديهي لكون هذه الكتب - قبل تحريفها - صادرة كلها عن الله . ومنهج الله واحد ، وإرادته بالبشر واحدة ، وسبيله واحد ، تتفرق السبل من حولها وهي مستقيمة إليه واصلة .
والإيمان بالكتاب كله - بوصف أن الكتب كلها كتاب واحد في الحقيقة - هو السمة التي تنفرد بها هذه الأمة المسلمة . لأن تصورها لربها الواحد ، ومنهجه الواحد ، وطريقه الواحد ، هو التصور الذي يستقيم مع حقيقة الألوهية . ويستقيم مع وحدة البشرية . ويستقيم مع وحدة الحق الذي لا يتعدد . . والذي ليس وراءه إلاَّ الضلال { فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ } وبعد الأمر بالإيمان ، يجيء التهديد على الكفر بعناصر الإيمان ، مع التفصيل فيها في موضع البيان قبل العقاب : { ومن يكفر بالله ، وملائكته وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، فقد ضل ضلالاً بعيداً } . .
وقد ذكر في الأمر الأول الإيمان بالله وكتبه ورسله . ولم يذكر الملائكة . وكتب الله تتضمن ذكر الملائكة وذكر اليوم الآخر ، ومن مقتضى الإيمان بهذه الكتب الإيمان بالملائكة وباليوم الآخر . ولكنه يبرزها هنا ، لأنه موطن الوعيد والتهديد ، الذي يبين فيه كل عنصر على التحديد .
والتعبير بالضلال البعيد غالباً يحمل معنى الإبعاد في الضلال ، الذي لا يرجى معه هدى؛ ولا يرتقب بعده مآب!
والذي يكفر بالله الذي تؤمن به الفطرة في أعماقها كحركة ذاتية منها واتجاه طبيعي فيها ، ويكفر بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، استمداداً من كفره بالحقيقة الأولى . . الذي يكفر هذا الكفر تكون فطرته قد بلغت من الفساد والتعطل والخراب ، الحد الذي لا يرجى معه هدى؛ ولا يرتقب بعده مآب!(1/198)
- - - - - - - - - - - -
27.
تحريم اتخاذ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا} (144) سورة النساء
يَنْهَى اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يَتَخِذُوا الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ لَهُمْ ، مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ ، يُصَاحِبُونَهُمْ وَيُصَادِقُونَهُمْ ، وَيُنَاصِحُونَهُمْ ، وَيُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ ، وَيُفْشُونَ إلَيْهِمْ أَحْوَالَ المُؤْمِنِينَ البَاطِنَةَ .
وَيَقُولُ لَهُمْ إِنَّهُمْ إنْ فَعَلُوا ذَلِكَ جَعَلُوا للهِ عَلَيْهِمْ حُجَّةً بَيِّنَةً وَعُذْراً فِي عُقُوبَتِهِ إِيّاهُمْ . ( وَالمُرَادُ هُنَا النُّصْرَةُ بِالقَوْلِ وَالفِعْلِ بِمَا يَكُونُ فِيهِ ضَرَرُ المُسْلِمِينَ ) .
إنها العودة إلى نداء الذين آمنوا ، بالصفة التي تفرقهم وتميزهم ممن حولهم . والتي بها يتميز منهجهم وسلوكهم وواقعهم . والتي بها يستجيبون للنداء كذلك ويطيعون التوجيهات .
نداء لهم بهذه الصفة أن يحذروا سلوك طريق المنافقين ، ويحذروا أن يتولوا الكفار من دون المؤمنين . . وهو نداء لا بد كانت هناك حاجة إليه في المجتمع المسلم يومذاك . حيث كانت الصلات ما تزال قائمة في المجتمع بين بعض المسلمين واليهود في المدينة؛ وبين بعض المسلمين وقرابتهم في قريش - ولو من الناحية النفسية - ونقول « بعض المسلمين » لأن هناك البعض الآخر؛ الذي فصم كل علاقاته بالمجتمع الجاهلي - حتى مع الآباء والأبناء - وجعل العقيدة وحدها هي آصرة التجمع ووشيجة الرحم؛ كما علمهم الله .(1/199)
وذلك البعض هو الذي كانت الحاجة قائمة لتنبيهه إلى أن هذا هو طريق النفاق والمنافقين - بعد تصوير النفاق والمنافقين تلك الصور الزرية المنفرة البغيضة - وتحذيره من التعرض لغضب الله وبطشه ونقمته : { أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً؟ }
ولا يفرَق قلب المؤمن ويرتجف أكثر من فرقه وارتجافه من التعرض لبطش الله ونقمته . . ومن ثم جاء التعبير في صورة الاستفهام . . ومجرد التلويح بالاستفهام يكفي في خطاب قلوب المؤمنين!
- - - - - - - - - - - -
28.
وجوب الوفاء بالعقود
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} (1) سورة المائدة
يَا أيُّها الذِينَ آمَنُوا التَزِمُوا الوَفَاءَ بِجَميعِ العُهُودِ التِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ اللهِ ، وَالعُهُودِ المَشْرُوعَةِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ النَّاسِ ، ( وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّ المُرَادَ بِالعُقُودِ فِي هَذِهِ الآيَةِ هِيَ عُهُودُ اللهِ التِي عَهِدَ بِهَا إلى عِبَادِهِ ، أَيْ مَا أَحَلَّ وَمَا حَرَّمَ ، وَمَا فَرَضَ وَمَا حَدَّ فِي القُرْآنِ كُلِّهِ فَلاَ عُذْرَ وَلاَ نَكْثَ ) .
فَاللهُ تَعَالَى يَأْمُرُ فِي هَذِهِ الآيَةِ المُؤْمِنِينَ بِالوَفَاءِ بِمَا عَقَدُوهُ ، وَارْتَبَطُوا بِهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ كَمَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى ، مَا لَمْ يَكُنْ يُحَرِّمُ حَلاَلاَ ، أَوْ يُحَلِّلُ حَرَاماً : كَالعَقْدِ عَلَى الرِّبا ، أَوْ أَكَلِ مَالِ النَّاسِ بِالبَاطِلِ ( كَالرَّشْوَةِ وَالقِمَارِ ) .(1/200)
ثُمَّ فَصَّلَ اللهُ تَعَالَى الأَحْكَامَ التِي أَمَرَ بِهَا فَقَالَ : إنَّهُ أحَلَّ لِلنَّاسِ أكْلَ البَهِيمَةِ مِنَ الأنْعَامِ ( وَهِيَ البَقَرُ وَالإِبْلُ وَالمَاعِزُ وَالغَنَمُ وَألحِقَبِهَا الظِّبَاءُ وَبَقَرُ الوَحْشِ وَنَحْوُهَا ) ، إلاّ مَا سَيُتْلَى عَلَيْهِمْ مِنْ تَحْرِيمِ بَعْضِهَا فِي بَعْضِ الأَحْوَالِ ، كَقَولِهِ تَعَالَى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير } وَعَلَى أنْ لاَ يُحِلُّوا صَيْدَ الحَيَوَانَاتِ البَرِّيَّةِ ، حِينَمَا يَكُونُوا مُحْرِمِينَ لِحَجٍّ أوْ عُمْرَةٍ .وَاللهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي خَلقِهِ بِمَا يَشَاءُ مِنْ تَحْلِيلٍِ وَتَحْرِيمٍ ، بِحَسَبِ الحِكمِ وَالمَصَالِحِ التِي يَعْلَمُهَا .
العُقُودُ - كُلُّ مَا تَعَاقَدَ عَلَيهِ المَرْءُ وَالتَزَمَ فِيهِ بُمُوجِبٍ نَحْوَ اللهِ وَنَحْوَ النَّاسِ .
إنه لا بد من ضوابط للحياة . . حياة المرء مع نفسه التي بين جنبيه؛ وحياته مع غيره من الناس ومن الأحياء والأشياء عامة . . الناس من الأقربين والأبعدين ، من الأهل والعشيرة ، ومن الجماعة والأمة؛ ومن الأصدقاء والأعداء . . والأحياء مما سخر الله للإنسان ومما لم يسخر . . والأشياء مما يحيط بالإنسان في هذا الكون العريض . . ثم . . حياته مع ربه ومولاه وعلاقته به وهي أساس كل حياة .(1/201)
والإسلام يقيم هذه الضوابط في حياة الناس . يقيمها ويحددها بدقة ووضوح؛ ويربطها كلها بالله سبحانه؛ ويكفل لها الاحترام الواجب ، فلا تنتهك ، ولا يستهزأ بها؛ ولا يكون الأمر فيها للأهواء والشهوات المتقلبة؛ ولا للمصالح العارضة التي يراها فرد ، أو تراها مجموعة أو تراها أمة ، أو يراها جيل من الناس فيحطمون في سبيلها تلك الضوابط . . فهذه الضوابط التي أقامها الله وحددها هي « المصلحة » ما دام أن الله هو الذي أقامها للناس . . هي المصلحة ولو رأى فرد ، أو رأت مجموعة أو رأت أمة من الناس أو جيل أن المصلحة غيرها! فالله يعلم والناس لا يعلمون! وما يقرره الله خير لهم مما يقررون! وأدنى مراتب الأدب مع الله - سبحانه - أن يتهم الإنسان تقديره الذاتي للمصلحة أمام تقدير الله . أما حقيقة الأدب فهي ألا يكون له تقدير إلا ما قدر الله . وألا يكون له مع تقدير الله ، إلا الطاعة والقبول والاستسلام ، مع الرضى والثقة والاطمئنان . .
هذه الضوابط يسميها الله « العقود » . . ويأمر الذين آمنوا به أن يوفوا بهذه العقود ..
وافتتاح هذه السورة بالأمر بالوفاء بالعقود ، ثم المضي بعد هذا الافتتاح في بيان الحلال والحرام من الذبائح والمطاعم والمشارب والمناكح . وفي بيان الكثير من الأحكام الشرعية والتعبدية . وفي بيان حقيقة العقيدة الصحيحة . وفي بيان حقيقة العبودية وحقيقة الألوهية . وفي بيان علاقات الأمة المؤمنة بشتى الأمم والملل والنحل . وفي بيان تكاليف الأمة المؤمنة في القيام لله والشهادة بالقسط والوصاية على البشرية بكتابها المهيمن على كل الكتب قبلها ، والحكم فيها بما أنزل الله كله؛ والحذر من الفتنة عن بعض ما أنزل الله؛ والحذر من عدم العدل تأثراً بالمشاعر الشخصية والمودة والشنآن .
.(1/202)
هذا العقد أخذه الله ابتداء على آدم - عليه السلام - وهو يسلمه مقاليد الخلافة في الأرض ، بشرط وعقد هذا نصه القرآني : { قلنا : اهبطوا منها جميعاً . فإما يأتينكم مني هدى ، فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } فهي خلافة مشروطة باتباع هدى الله الذي ينزله في كتبه على رسله؛ وإلا فهي المخالفة لعقد الخلافة والتمليك . المخالفة التي تجعل كل عمل مخالف لما أنزل الله ، باطلاً بطلاناً أصلياً ، غير قابل للتصحيح المستأنف! وتحتم على كل مؤمن بالله ، يريد الوفاء بعقد الله ، أن يرد هذا الباطل ، ولا يعترف به؛ ولا يقبل التعامل على أساسه . وإلا فما أوفى بعقد الله .
ولقد تكرر هذا العقد - أو هذا العهد - مع ذرية آدم . وهم بعد في ظهور آبائهم . كما ورد في السورة الأخرى : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ، وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم؟ قالوا : بلى شهدنا! أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين . أو تقولوا : إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم . أفتهلكنا بما فعل المبطلون؟ } فهذا عقد آخر مع كل فرد؛ عقد يقرر الله - سبحانه - أنه أخذه على بني آدم كلهم وهم في ظهور آبائهم . . وليس لنا أن نسأل : كيف؟ لأن الله أعلم بخلقه؛ وأعلم كيف يخاطبهم في كل طور من أطوار حياتهم . بما يلزمهم الحجة . وهو يقول : إنه أخذ عليهم هذا العهد ، على ربوبيته لهم . . فلا بد أن ذلك كان ، كما قال الله سبحانه . . فإذا لم يفوا بتعاقدهم هذا مع ربهم لم يكونوا أوفياء!
ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل - كما سيجيء في السورة - يوم نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم . . وسنعلم - من السياق - كيف لم يفوا بالميثاق؛ وكيف نالهم من الله ما ينال كل من ينقض الميثاق .(1/203)
والذين آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - قد تعاقدوا مع الله - على يديه - تعاقداً عاماً على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا ، وأثرة علينا ، وألا ننازع الأمر أهله.
وبعضهم وقعت له بعد ذلك عقود خاصة قائمة على ذلك التعاقد العام . . ففي بيعة العقبة الثانية التي ترتبت عليها هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة ، كان هناك عقد مع نقباء الأنصار . . وفي الحديبية كان هناك عقد الشجرة وهو » بيعة الرضوان « .
وعلى عقد الإيمان بالله ، والعبودية لله ، تقوم سائر العقود . . سواء ما يختص منها بكل أمر وكل نهي في شريعة الله ، وما يتعلق بكل المعاملات مع الناس والأحياء والأشياء في هذا الكون في حدود ما شرع الله - فكلها عقود ينادي الله الذين آمنوا ، بصفتهم هذه ، أن يوفوا بها .
- - - - - - - - - - - -
29.
تحريمُ استحلال شعائر الله ونحوها(1/204)
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (3) سورة المائدة
يَا أيُّها الذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْتَبِيحْوا حُرْمَةَ شَعَائِرِ اللهِ بِأنْ تَجْعَلُوا شَعَائِرَ دِينِ اللهِ حَلاَلاً لَكُمْ تَتَصَرَّفُونَ فِيهَا كَيْفَ تَشَاؤُونَ ، بَلِ اعْمَلُوا بِمَا بَيَّنَهُ لَكُمْ رَبُّكُمْ ، وَلاَ تَتَهَاوَنُوا بِحُرْمَتِها ، وَلاَ تَحُولُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ المُتَنَسِّكِينَ بَهَا ، فَتَصُدُّوا النَّاسَ عِنِ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ .(1/205)
ولا تُحِلُّوا القِتَالَ فِي الأشْهُرِ الحُرُمِ . ( وَهِيَ ذُو القَعْدَةِ وَذُو الحِجَّةِ وَالمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ ) ، وَلاَ تَمْنَعُوا الهَدْيَ ( وَهُوَ مضا يُهْدَى إلى الحَرَمِ مِنَ الأنْعَامِ ليُذْبَحَ فِيهِ تَقَرُّباً إلى اللهِ ) وَذَلِكَ بِأخْذِهِ غَصْباً وَسَرِقَةً .
وَلاَ تُحِلُّوا أخْذَ المُقَلِّدِ مِنَ الهَدْي ( وَكَانُوا يُقَلِّدُونَ الأنْعَامَ التي تُوَجَّهُ إلَى البَيْتِ هَدْياً بِوَضْعِ قِلاَدَةٍ فِي أعْنَاقِهَا لِكَيْلا يَتَعَرَّضَ لَهَا أحَدٌ بِسُوءٍ ) .
وَلاَ تُحِلُّوا قِتَالَ قَاصِدي البَيْتِ الحَرَامِ لِزِيارتِهِ فَتَصُدُّوهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِأيِّ وَجْهٍ كَانَ .
وَلاَ تُصُدُّوا مَنْ قَصَدَ البَيْتَ الحَرَامَ لِلتِّجَارَةِ أوْ لِلنُّسْكِ وَالرَّغْبَةِ بِالفَوْزِ بِرِضْوَانِ اللهِ ( يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً ) .
وَإذَا فَرَغْتُمْ مِنْ إحْرَامِكُمْ بِالحَجِّ وَالعُمْرَةِ ، أَوْ خَرَجْتُمْ مِنْ أَرْضِ الحَرَمِ فَاصْطَادُوا إذَا شِئْتُمْ . وَلاَ يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضَ قَوْمٍ وَعَدَاوَتُهُمْ ، ( وَهُمُ الذِينَ صَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ عَامَ الحُدَيْبِيَةِ ) عَلَى أَنْ تَعْتَدُوا ، وَتَتَجَاوَزُوا أَمْرَ اللهِ فِيهِمْ ، فَتَقْتَصُّوا مِنْهُمْ ظُلْماً وَعُدْواناً ، بَلْ احْكُمُوا بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ اللهُ مِنَ العَدْلِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ .(1/206)
وَرُويَ أنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي الحُدَيْبِيةِ مَعَ أصْحَابِهِ ، وَقَدِ اشْتَدَّ عَلَى المُسْلِمِينَ صَدُّ المُشْرِكِينَ لَهُمْ عَنْ بُلوغِ البَيْتِ ، فَمَرَّ بِهِمْ أنَاسٌ مِنَ المُشْرِكِينَ مِنْ أهْلِ المَشْرِقِ ، يُرِيدُونَ العُمْرَةَ ، فَقَالَ المُسْلِمُونَ نَصُدُّ هؤُلاءِ كَمَا صَدَّنَا أصْحَابُهُمْ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ . وَفِيهَا يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤمِنِينَ بِالتَّقْوَى ، وَبِالتَّعَاوُنش عَلَى فِعْلِ الخَيْرَاتِ ( وَهُوَ البِرُّ ) ، وَعَلَى تَرْكِ المَعَاصِي والمُنْكَراتِ ( وَهُوَ التَّقْوَى ) ، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ التَّنَاصُرِ عَلَى البَاطِلِ ، وَالتَّعَاوُنِ عَلَى المَآثِمِ وَالمَحَارِمِ ، وَيُحَذِّرُ اللهُ المُؤْمِنِينَ مِنْ بَطْشِهِ وَعِقَابِهِ ، لأنَّهُ تَعَالَى شَدِيدُ العِقَابِ لِمَنْ عَصَاهُ وَتَعَدَّى حُدُودَهُ .
يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةش مَا حَرَّمَ أكْلَهُ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ لَحْمِ الأنْعَامِ وَهِيَ :
المَيْتَةُ - وَهِيَ التِي مَاتَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ وَلاَ اصْطِيَادٍ وَذَلِكَ لِمَ فِيهَا مِنَ المَضَرَّةِ ، وَيُسْتَثْنَى مِنَ المَيْتَةِ السَّمَكُ ، فَإنَّهُ حَلالٌ سَوَاءٌ مَاتَ بتَذْكِيَةٍ أَوْ بِغَيْرِهَا .
وَالدَّمُ المَسْفُوحُ - وَهُوَ الدَّمُ الذِي يَسِيلُ مِنَ الحَيَوَانَاتِ .
وَكَانَ الأَعْرَابُ فِي البَادِيَةِ إذا جَاعُوا فِي الصَّحْرَاءِ يَأخُذُونَ شَيْئاً مُحَدَّداً مِنْ عَظْمٍ أوْ نَحْوِهِ فَيَفْصِدُونَ بِهِ حَيَواناً فَيَجْمَعُونَ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ مِنْ دَمٍ فَيَشْرَبُونَهُ ، فَحَرَّمَ اللهُ ذَلِكَ .(1/207)
وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ : أحِلَّتْ لَنَا مِيتَتَانِ وَدَمَانِ ، فَأمَّا المِيتَتَانِ فَالسَّمَكُ وَالجَرَادُ ، وَأمَّا الدَّمَانِ فَالكَبِدُ وَالطِّحَالُ . ( رَوَاهُ أحْمَدُ وَالبَيْهَقِيُّ ) .
لَحْمُ الخِنْزِيرِ - إنْسِيَّهِ وَوَحْشِيِّهِ . فَلَحْمُهُ حَرَامٌ .
مَا أهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ - أيْ مَا ذُبِحَ فَذُكِرَ اسْمٌ غَيْرُ اسْمِ اللهِ عِنْدَ ذَبْحِهِ . لأنَّ اللهَ تَعَالَى أوْجَبَ أنْ تُذْبَحَ الأنْعَامُ عَلَى اسْمِهِ العَظِيمِ .
( وَالإِهْلالُ هُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ ، وَالإِهْلالُ هُنَا رَفْعُ الصَّوْتِ بِذِكْرِ اسْمٍ غَيْرِ اسْمِ اللهِ عِنْدَ المُسْلِمِينَ .
وَالمَوْقُوذَةُ - وَهِيَ التِي تَضرَبُ بِشَيءٍ ثَقيلٍ غَيْرِ مُحَدَّدٍ حَتَّى تَمُوتَ .
وَالمُتَرَدِّيَةُ - وَهِيَ التِي تَقَعُ مِنْ مَكَانِ مُرْتَفِعٍ ، أوْ تَقَعُ فِي بِئْرٍ فَتَمُوتُ فَلا يَحِلُّ أكْلُ لَحْمِهَا .
وَالنَّطِيحَةُ - وَهِيَ التِي مَاتَتْ بِسَبَبِ نَطْحِ غَيْرِهَا لَهَا ، فَهِيَ حَرَامٌ وَلَوُ خَرَجَ مِنَهَا الدَّمُ ، وَلَوْ مِنْ مَذْبَحِهَا.
وَمَا أكَلَ السَّبُعُ - وَهِيَ مَا عَدَتْ عَلَيهَا الحَيَوَانَاتُ الجَارِحَةُ فَقَتَلَتْها فَلا تَحِلُّ بِالإِجْمَاعِ .
وَاسْتَثْنَى اللهُ تَعَالَى مِنْ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ الحَيَوَانُ الذِي لَحِقَهُ الإِنْسَانُ بِالذَّبْحِ ، قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ ، وَفِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ ، فَإنَّهُ إذَا ذُبِحَ أَصْبَحَ حَلالاً يَجُوزُ أَكْلُهُ لِلْمُسْلِمِينَ .
وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ - مُحَرَّمٌ أَكْلُهُ .(1/208)
وَالنُّصُبُ هِيَ حِجَارَةٌ حَوْلَ الكَعْبَةِ ، كَانَتِ العَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا تَذْبَحُ عِنْدَهَا الذَّبَائِحَ ، وَيُنْضَحُ مَا أَقْبلَ مِنْها إلَى البَيْتَ بِدِمَاءِ تِلْكَ الذَّبَائِحِ ، وَيُشَرِّحُونَ اللحْمَ وَيَضَعُونَهُ عَلَى النُّصُبِ فَحَرَّمَ اللهُ تَعَالَى عَلَى المُؤْمِنِينَ أَكْلَ الذَّبَائِحِ التِي تَمَّ ذَبْحُها عِنْدَ تِلْكَ النُّصُبِ . فَالذَّبْحُ عِنْدَ النُّصُبِ مِنْ الشِّرْكِ .
ثُمَّ أضَافَ اللهُ تَعَالَى إلَى مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ التِي كَانَ أهْلُ الجَاهِلِيَّةِ يَسْتَحِلُّونَهَا ، عَمَلاً آخَرَ مِنْ أعْمَالِهِمْ وَهُوَ الاسْتِقْسَامُ بِالأَزْلاَمِ .
وَالأَزْلاَمُ وَاحِدُهَا ( زَلَمٌ ) ، هِيَ عِبَارَةَ عَنْ قِدَاحٍ ( سِهَامٍ ) ثَلاَثَةٍ أحَدُهَا مُكْتُوبٌ عَلَيْهِ : ( افْعَلْ ) وَثَانِيهَا مَكْتُوبٌ عَلَيهِ . ( لاَ تَفْعَلْ ) . وثَالِثُهَا لَمْ يُكْتَبُ عَلَيهِ شَيءٌ . فَإِذا أجَالَهَا فَطَلَعَ السَّهْمُ المَكْتُوبُ عَلَيْهِ ( لاَ تَفْعَلْ ) ، لَمْ يَفْعَلْ . وَإِذَا خَرَجَ السَّهْمُ المَكْتُوبُ عَلَيْهِ ( افْعَلْ ) فَعَلَ . وَإذَا خَرَجَ السَّهْمُ الغُفْلُ مِنَ الكِتَابَةِ أعَادَ . فَحَرَّمَ اللهُ الاسْتِقْسَامَ بِالأزْلاَمِ ، وَعَدَّهُ فِسْقاً ، وخُرُوجاً عَنَ طَاعَةِ اللهِ .
وَقَدْ أَمَرَ اللهُ المُؤْمِنِينَ إذَا تَرَدَّدُوا فِي أمْرِهِمْ أنْ يَسْتَخِيرُوهُ بِأَنْ يَعْبُدُوهُ ، ثُمَّ يَسْأَلُوهُ الخِيَرَةَ فِي الأَمْرِ الذِي يُرِيدُونَ .(1/209)
إن هذا التحريم والتحليل في الذبائح ، وفي الأنواع ، وفي الأماكن ، وفي الأوقات . . إن هذا كله من « العقود » . . وهي عقود قائمة على عقد الإيمان ابتداء . فالذين آمنوا يقتضيهم عقد الإيمان أن يتلقوا التحريم والتحليل من الله وحده؛ ولا يتلقوا في هذا شيئاً من غيره . . ومن ثم نودوا هذا النداء ، في مطلع هذا البيان . . وأخذ بعده في بيان الحلال والحرام : { أحلت لكم بهيمة الأنعام - إلا ما يتلى عليكم - }
وبمقتضي هذا الإحلال من الله؛ وبمقتضى إذنه هذا وشرعه - لا من أي مصدر آخر ولا استمداداً من أي أصل آخر - صار حلالاً لكم ومباحاً أن تأكلوا من كل ما يدخل تحت مدلول { بهيمة الأنعام } من الذبائح والصيد - إلا ما يتلى عليكم تحريمه منها - وهو الذي سيرد ذكره محرماً . . إما حرمة وقتية أو مكانية؛ وإما حرمة مطلقة في أي مكان وفي أي زمان . وبهيمة الأنعام تشمل الإبل والبقر والغنم؛ ويضاف إليها الوحشي منها ، كالبقر الوحشي ، والحمر الوحشية والظباء .
ثم يأخذ في الاستثناء من هذا العموم . . وأول المستثنيات الصيد في حال الإحرام : { غير محلِّي الصيد وأنتم حرم } . .
والتحريم هنا ينطبق ابتداء على عملية الصيد ذاتها . فالإحرام للحج أو للعمرة ، تجرد عن أسباب الحياة العادية وأساليبها المألوفة وتوجه إلى الله في بيته الحرام ، الذي جعله الله مثابة الأمان ..
. ومن ثم ينبغي عنده الكف عن بسط الأكف إلى أي حي من الأحياء . . وهي فترة نفسية ضرورية للنفس البشرية؛ تستشعر فيها صلة الحياة بين جميع الأحياء في واهب الحياة؛ وتأمن فيها وتؤمن كذلك من كل اعتداء؛ وتتخفف من ضرورات المعاش التي أحل من أجلها صيد الطير والحيوان واكله؛ لترتفع في هذه الفترة على مألوف الحياة وأساليبها ، وتتطلع إلى هذا الأفق الرفاف الوضيء .(1/210)
وقبل أن يمضي السياق في بيان المستثنيات من حكم الحل العام ، يربط هذا العقد بالعقد الأكبر ، ويذكر الذين آمنوا بمصدر ذلك الميثاق : { إن الله يحكم ما يريد } . .
طليقة مشيئته ، حاكمة إرادته ، متفرداً - سبحانه - بالحكم وفق ما يريد . ليس هنالك من يريد معه؛ وليس هنالك من يحكم بعده؛ ولا راد لما يحكم به . . وهذا هو حكمه في حل ما يشاء وحرمة ما يشاء .
ثم يستأنف نداء الذين آمنوا لينهاهم عن استحلال حرمات الله : { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله . ولا الشهر الحرام . ولا الهدي . ولا القلائد . ولا آمِّين البيت الحرام يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً . وإذا حللتم فاصطادوا . . } .
وأقرب ما يتجه إليه الذهن في معنى { شعائر الله } في هذا المقام أنها شعائر الحج والعمرة وما تتضمنه من محرمات على المحرم للحج او العمرة حتى ينتهي حجه بنحر الهدي الذي ساقه إلى البيت الحرام؛ فلا يستحلها المحرم في فترة إحرامه؛ لأن استحلالها فيه استهانة بحرمة الله الذي شرع هذه الشعائر . وقد نسبها السياق القرآني إلى الله تعظيماً لها ، وتحذيراً من استحلالها .(1/211)
والشهر الحرام يعني الأشهر الحرم؛ وهي رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة والمحرم . وقد حرم الله فيها القتال - وكانت العرب قبل الإسلام تحرمها - ولكنها تتلاعب فيها وفق الأهواء؛ فينسئونها - أي يؤجلونها - بفتوى بعض الكهان ، أو بعض زعماء القبائل القوية! من عام إلى عام . فلما جاء الإسلام شرع الله حرمتها ، وأقام هذه الحرمة على أمر الله ، يوم خلق الله السماوات والأرض كما قال في آية التوبة : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم . ذلك الدين القيم . . } وقرر أن النسيء زيادة في الكفر . واستقام الأمر فيها على أمر الله . . ما لم يقع الاعتداء فيها على المسلمين ، فإن لهم حينئذ ان يردوا الاعتداء؛ وألا يدعوا المعتدين يحتمون بالأشهر الحرم - وهم لا يرعون حرمتها - ويتترسون خلفها للنيل من المسلمين ، ثم يذهبون ناجين! وبين الله حكم القتال في الأشهر الحرم كما مر بنا في سورة البقرة .
والهدي وهو الذبيحة التي يسوقها الحاج أو المعتمر؛ وينحرها في آخر أيام الحج أو العمرة ، فينهي بها شعائر حجه أو عمرته ، وهي نافة أو بقرة أو شاة .. وعدم حلها معناه ألا ينحرها لأي غرض آخر غير ما سيقت له؛ ولا ينحرها إلا يوم النحر في الحج وعند انتهاء العمرة في العمرة . ولا ينتفع من لحومها وجلودها وأشعارها وأوبارها بشيء؛ بل يجعلها كلها للفقراء .(1/212)
والقلائد . وهي الأنعام المقلدة التي يقلدها أصحابها - أي يضعون في رقبتها قلادة - علامة على نذرها لله؛ ويطلقونها ترعى حتى تنحر في موعد النذر ومكانه - ومنها الهدي الذي يُشعر : أي يعلم بعلامة الهدْي ويطلق إلى موعد النحر - فهذه القلائد يحرم احلالها بعد تقليدها؛ فلا تنحر إلا لما جعلت له . . وكذلك قيل : إن القلائد هي ما كان يتقلد به من يريدون الأمان من ثأر أو عدو أو غيره؛ فيتخذون من شجر الحرم ما يتقلدون به ، وينطلقون في الأرض لا يبسط أحد يده إليهم بعدوان - وأصحاب هذا القول قالوا : إن ذلك قد نسخ بقول الله فيما بعد : { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } وقوله : { فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم } والأظهر القول الأول؛ وهو أن القلائد هي الأنعام المقلدة للنذور لله؛ وقد جاء ذكرها بعد ذكر الهدْي المقلد للنحر للحج أو العمرة ، للمناسبة بين هذا وذاك .
كذلك حرم الله آمّين البيت الحرام يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً . . وهم الذين يقصدون البيت الحرام للتجارة الحلال وطلب الرضوان من الله . . حجاجاً أو غير حجاج . . وأعطاهم الأمان في حرمة بيته الحرام .
ثم أحل الصيد متى انتهت فترة الإحرام ، في غير البيت الحرام ، فلا صيد في البيت الحرام : { وإذا حللتم فاصطادوا } . .
إنها منطقة الأمان يقيمها الله في بيته الحرام؛ كما يقيم فترة الأمان في الأشهر الحرم . . منطقة يأمن فيها الناس والحيوان والطير والشجر أن ينالها الأذى . وأن يروعها العدوان . . إنه السلام المطلق يرفرف على هذا البيت؛ استجابة لدعوة إبراهيم - أبي هذه الأمة الكريم - ويرفرف على الأرض كلها أربعة أشهر كاملة في العام في - ظل الإسلام - وهو سلام يتذوق القلب البشري حلاوته وطمأنينته وأمنه؛ ليحرص عليه - بشروطه - وليحفظ عقد الله وميثاقه ، وليحاول أن يطبقه في الحياة كلها على مدار العام ، وفي كل مكان . .(1/213)
وفي جو الحرمات وفي منطقة الأمان ، يدعو الله الذين آمنوا به ، وتعاقدوا معه ، أن يفوا بعقدهم؛ وأن يرتفعوا إلى مستوى الدور الذي ناطه بهم . . . دور القوامة على البشرية؛ بلا تأثر بالمشاعر الشخصية ، والعواطف الذاتية ، والملابسات العارضة في الحياة . . يدعوهم ألا يعتدوا حتى على الذين صدوهم عن المسجد الحرام في عام الحديبية؛ وقبله كذلك؛ وتركوا في نفوس المسلمين جروحاً وندوباً من هذا الصد؛ وخلفوا في قلوبهم الكره والبغض . فهذا كله شيء؛ وواجب الأمة المسلمة شيء آخر . شيء يناسب دورها العظيم : { ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا .وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان . واتقوا الله ، إن الله شديد العقاب } . .
إنها قمة في ضبط النفس؛ وفي سماحة القلب . . ولكنها هي القمة التي لا بد أن ترقى إليها الأمة المكلفة من ربها أن تقوم على البشرية لتهديها وترتفع بها إلى هذا الأفق الكريم الوضيء .
إنها تبعة القيادة والقوامة والشهادة على الناس . . التبعة التي لا بد أن ينسى فيها المؤمنون ما يقع على أشخاصهم من الأذى ليقدموا للناس نموذجاً من السلوك الذي يحققه الإسلام ، ومن التسامي الذي يصنعه الإسلام . وبهذا يؤدون للإسلام شهادة طيبة؛ تجذب الناس إليه وتحببهم فيه .
وهو تكليف ضخم؛ ولكنه - في صورته هذه - لا يعنت النفس البشرية ، ولا يحملها فوق طاقتها . فهو يعترف لها بأن من حقها أن تغضب ، ومن حقها أن تكره . ولكن ليس من حقها أن تعتدي في فورة الغضب ودفعة الشنآن . . ثم يجعل تعاون الأمة المؤمنة في البر والتقوى؛ لا في الإثم والعدوان؛ ويخوفها عقاب الله ، ويأمرها بتقواه ، لتستعين بهذه المشاعر على الكبت والضبط ، وعلى التسامي والتسامح ، تقوى لله ، وطلباً لرضاه .(1/214)
ولقد استطاعت التربية الإسلامية ، بالمنهج الرباني ، أن تروض نفوس العرب على الانقياد لهذه المشاعر القوية ، والاعتياد لهذا السلوك الكريم . . وكانت أبعد ما تكون عن هذا المستوى وعن هذا الاتجاه . . كان المنهج العربي المسلوك والمبدأ العربي المشهور : « أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً » . . كانت حمية الجاهلية ، ونعرة العصبية . كان التعاون على الإثم والعدوان أقرب وأرجح من التعاون على البر والتقوى؛ وكان الحلف على النصرة ، في الباطل قبل الحق . وندر أن قام في الجاهلية حلف للحق . وذلك طبيعي في بيئة لا ترتبط بالله؛ ولا تستمد تقاليدها ولا أخلاقها من منهج الله وميزان الله . . يمثل ذلك كله ذلك المبدأ الجاهلي المشهور : « انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً » . . وهو المبدأ الذي يعبر عنه الشاعر الجاهلي في صورة أخرى ، وهو يقول :
وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت ، وإن ترشد غزية أرشد!
ثم جاء الإسلام . . جاء المنهج الرباني للتربية . . جاء ليقول للذين آمنوا : { ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا . وتعاونوا على البر والتقوى ، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان . واتقوا الله ، إن الله شديد العقاب } . .
جاء ليربط القلوب بالله؛ وليربط موازين القيم والأخلاق بميزان الله . جاء ليخرج العرب - ويخرج البشرية كلها - من حمية الجاهلية ، ونعرة العصبية ، وضغط المشاعر والانفعالات الشخصية والعائلية والعشائرية في مجال التعامل مع الأصدقاء والأعداء . .
وولد « الإنسان » من جديد في الجزيرة العربية . . ولد الإنسان الذي يتخلق بأخلاق الله . . وكان هذا هو المولد الجديد للعرب؛ كما كان هو المولد الجديد للإنسان في سائر الأرض . . ولم يكن قبل الإسلام في الجزيرة إلا الجاهلية المتعصبة العمياء : « انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً » .
كذلك لم يكن في الأرض كلها إلا هذه الجاهلية المتعصبة العمياء!(1/215)
والمسافة الشاسعة بين درك الجاهلية ، وأفق الإسلام؛ هي المسافة بين قول الجاهلية المأثور : « انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً » . وقول الله العظيم : { ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا . وتعاونوا على البر والتقوى ، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } .
وشتان شتان!
ثم يأخذ السياق في تفصيل ما استثناه في الآية الأولى من السورة من حل بهيمة الأنعام : { حرمت عليكم الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به ، والمنخنقة ، والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، وما أكل السبع - إلا ما ذكيتم - وما ذبح على النصب ، وأن تستقسموا بالأزلام . . ذلكم فسق . . اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون . اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام ديناً . . فمن اضطر في مخمصة - غير متجانف لإثم - فإن الله غفور رحيم } .
والميتة والدم ولحم الخنزير ، سبق بيان حكمها ، وتعليل هذا الحكم في حدود ما يصل إليه العلم البشري بحكمة التشريع الإلهي ، عند استعراض آية سورة البقرة الخاصة بهذه المحرمات وسواء وصل العلم البشري إلى حكمة هذا التحريم أم لم يصل ، فقد قرر العلم الإلهي أن هذه المطاعم ليست طيبة؛ وهذا وحده يكفي . فالله لا يحرم إلا الخبائث . وإلا ما يؤذي الحياة البشرية في جانب من جوانبها . سواء علم الناس بهذا الأذى أو جهلوه . . وهل علم الناس كل ما يؤذي وكل ما يفيد؟!(1/216)
وأما ما أهل لغير الله به ، فهو محرم لمناقضته ابتداء للإيمان . فالإيمان يوحد الله ، ويفرده - سبحانه - بالألوهية ويرتب على هذا التوحيد مقتضياته . وأول هذه المقتضيات أن يكون التوجه إلى الله وحده بكل نية وكل عمل؛ وأن يهل باسمه - وحده - في كل عمل وكل حركة؛ وأن تصدر باسمه - وحده - كل حركة وكل عمل . فما يهل لغير الله به؛ وما يسمى عليه بغير اسم الله ( وكذلك ما لا يذكر اسم الله عليه ولا اسم أحد ) حرام؛ لأنه ينقض الإيمان من أساسه؛ ولا يصدر ابتداء عن إيمان . . فهو خبيث من هذه الناحية؛ يلحق بالخبائث الحسية من الميتة والدم ولحم الخنزير
وأما المنخنقة ( وهي التي تموت خنقاً ) والموقوذة ( وهي التي تضرب بعصا أو خشبة أو حجر فتموت ) والمتردية ( وهي التي تتردى من سطح أو جبل أو تتردى في بئر فتموت ) والنطيحة ( وهي التي تنطحها بهيمة فتموت ) وما أكل السبع ( وهي الفريسة لأي من الوحش ) . . فهي كلها أنواع من الميتة إذا لم تدرك بالذبح وفيها الروح : { إلا ما ذكيتم } فحكمها هو حكم الميتة .. إنما فصل هنا لنفي الشبهة في أن يكون لها حكم مستقل . . على أن هناك تفصيلاً في الأقوال الفقهية واختلافاً في حكم « التذكية » ، ومتى تعتبر البهيمة مذكاة؛ فبعض الأقوال يخرج من المذكاة ، البهيمة التي يكون ما حل بها من شأنه أن يقتلها سريعاً - أو يقتلها حتماً - فهذه حتى لو أدركت بالذبح لا تكون مذكاة . بينما بعض الأقوال يعتبرها مذكاة متى أدركت وفيها الروح ، أياً كان نوع الإصابة . . والتفصيل يطلب في كتب الفقة المختصة . .
واما ما ذبح على النصب - وهي أصنام كانت في الكعبة وكان المشركون يذبحون عندها وينضحونها بدماء الذبيحة في الجاهلية ، ومثلها غيرها في أي مكان - فهو محرم بسبب ذبحه على الأصنام - حتى لو ذكر اسم الله عليه ، لما فيه من معنى الشرك بالله .(1/217)
ويبقى الاستقسام بالأزلام . والأزلام : قداح كانوا يستشيرونها في الإقدام على العمل أو تركه . وهي ثلاثة في قول ، وسبعة في قول . وكانت كذلك تستخدم في الميسر المعروف عند العرب؛ فتقسم بواسطتها الجزور - أي الناقة التي يتقامرون عليها - إذ يكون لكل من المتقامرين قدح ، ثم تدار ، فإذا خرج قدح أحدهم كان له من الجزور بقدر ما خصص لهذا القدح . . فحرم الله الاستقسام بالأزلام - لأنه نوع من الميسر المحرم - وحرم اللحوم التي تقسم عن هذا الطريق . .
. . . { فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم } .
فالمضطر من الجوع - وهو المخمصة - الذي يخشى على حياته التلف ، له أن يأكل من هذه المحرمات؛ ما دام أنه لا يتعمد الإثم ، ولا يقصد مقارفة الحرام . وتختلف آراء الفقهاء في حد هذا الأكل : هل هو مجرد ما يحفظ الحياة . أو هو ما يحقق الكفاية والشبع . أو هو ما يدخر كذلك لأكلات أخرى إذا خيف انقطاع الطعام . . فلا ندخل نحن في هذه التفصيلات . . وحسبنا أن ندرك ما في هذا الدين من يسر ، وهو يعطى للضرورات أحكامها بلا عنت ولا حرج . مع تعليق الأمر كله بالنية المستكنة؛ والتقوى الموكولة إلى الله . . فمن أقدم مضطراً ، لا نية له في مقارفة الحرام ولا قصد ، فلا إثم عليه إذن ولا عقاب: { فإن الله غفور رحيم } . .
وننتهي من بيان المحرم من المطاعم لنقف وقفة خاصة أمام ما تخلل آية التحريم من قوله تعالى : { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون . اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام ديناً } . .
وهي آخر ما نزل من القرآن الكريم ، ليعلن كمال الرسالة ، وتمام النعمة ، فيحس عمر - رضي الله عنه - ببصيرته النافذة وبقلبه الواصل - أن أيام الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الأرض معدودة .
فقد أدى الأمانة ، وبلغ الرسالة؛ ولم يعد إلا لقاء الله . فيبكي - رضوان الله عليه - وقد أحس قلبه دنو يوم الفراق .(1/218)
هذه الكلمات الهائلة ترد ضمن آية موضوعها التحريم والتحليل لبعض الذبائح؛ وفي سياق السورة التي تضم تلك الأغراض التي أسلفنا بيانها . . ما دلالة هذا؟ إن بعض دلالته أن شريعة الله كل لا يتجزأ . كل متكامل . سواء فيه ما يختص بالتصور والاعتقاد؛ وما يختص بالشعائر والعبادات؛ وما يختص بالحلال والحرام؛ ومايختص بالتنظيمات الاجتماعية والدولية . وأن هذا في مجموعه هو « الدين » الذي يقول الله عنه في هذه الآية : إنه أكمله . وهو « النعمة » التي يقول الله للذين آمنوا : إنه أتمها عليهم . وأنه لا فرق في هذا الدين بين ما يختص بالتصور والاعتقاد؛ وما يختص بالشعائر والعبادات؛ وما يختص بالحلال والحرام؛ وما يختص بالتنظيمات الاجتماعية والدولية . . فكلها في مجموعها تكوّن المنهج الرباني الذي ارتضاه الله للذين آمنوا؛ والخروج عن هذا المنهج في جزئية منه ، كالخروج عليه كله ، خروج على هذا « الدين » وخروج من هذا الدين بالتبعية . .
والأمر في هذا يرجع إلى ما سبق لنا تقريره؛ من أن رفض شيء من هذا المنهج ، الذي رضيه الله للمؤمنين ، واستبدال غيره به من صنع البشر؛ معناه الصريح هو رفض ألوهية الله - سبحانه - وإعطاء خصائص الألوهية لبعض البشر؛ واعتداء على سلطان الله في الأرض ، وادعاء للألوهية بادعاء خصيصتها الكبرى . . الحاكمية . . وهذا معناه الصريح الخروج على هذا الدين؛ والخروج من هذا الدين بالتبعية . .
{ اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } . .(1/219)
يئسوا أن يبطلوه ، أو ينقصوه ، أو يحرفوه ، وقد كتب الله له الكمال؛ وسجل له البقاء . . ولقد يغلبون على المسلمين في موقعة ، أو في فترة ، ولكنهم لا يغلبون على هذا الدين . فهو وحده الدين الذي بقي محفوظاً لا يناله الدثور ، ولا يناله التحريف أيضاً؛ على كثرة ما أراد أعداؤه أن يحرفوه؛ وعلى شدة ما كادوا له ، وعلى عمق جهالة أهله به في بعض العصور . . غير أن الله لا يخلي الأرض من عصبة مؤمنة؛ تعرف هذا الدين؛ وتناضل عنه ، ويبقى فيها كاملاً مفهوماً محفوظاً؛ حتى تسلمه الى من يليها . وصدق وعد الله في يأس الذين كفروا من هذا الدين!
{ فلا تخشوهم واخشون } . . .
فما كان للذين كفروا أن ينالوا من هذا الدين في ذاته أبداً . وما كان لهم أن ينالوا من أهله إلا أن ينحرف أهله عنه؛ فلا يكونوا هم الترجمة الحية له؛ ولا ينهضوا بتكاليفه ومقتضياته؛ ولا يحققوا في حياتهم نصوصه وأهدافه . .
وهذا التوجيه من الله للجماعة المسلمة في المدينة ، لا يقتصر على ذلك الجيل؛ إنما هو خطاب عام للذين آمنوا في كل زمان وفي كل مكان . . نقول : للذين آمنوا .
الذين يرتضون ما رضيه الله لهم من هذا الدين ، بمعناه الكامل الشامل؛ الذين يتخذون هذا الدين كله منهجاً للحياة كلها . . وهؤلاء - وحدهم - هم المؤمنون . .
{ اليوم أكملت لكم دينكم . وأتممت عليكم نعمتي . ورضيت لكم الإسلام ديناً } . .
اليوم . . الذي نزلت فيه هذه الآية في حجة الوداع . . أكمل الله هذا الدين . فما عادت فيه زيادة لمستزيد . وأتم نعمته الكبرى على المؤمنين بهذا المنهج الكامل الشامل . ورضي لهم { الإسلام } ديناً؛ فمن لا يرتضيه منهجاً لحياته - إذن - فإنما يرفض ما ارتضاه الله للمؤمنين .
ويقف المؤمن أمام هذه الكلمات الهائلة؛ فلا يكاد ينتهي من استعراض ما تحمله في ثناياها من حقائق كبيرة ، وتوجيهات عميقة ، ومقتضيات وتكاليف . .(1/220)
إن المؤمن يقف أولاً : أمام إكمال هذا الدين؛ يستعرض موكب الإيمان ، وموكب الرسالات ، وموكب الرسل ، منذ فجر البشرية ، ومنذ أول رسول - آدم عليه السلام - إلى هذه الرسالة الأخيرة . رسالة النبي الأمي إلى البشر أجمعين . . فماذا يرى؟ . . يرى هذا الموكب المتطاول المتواصل . موكب الهدى والنور . ويرى معالم الطريق ، على طول الطريق . ولكنه يجد كل رسول - قبل خاتم النبيين - إنما أرسل لقومه . ويرى كل رسالة - قبل الرسالة الأخيرة - إنما جاءت لمرحلة من الزمان . . رسالة خاصة ، لمجموعة خاصة ، في بيئة خاصة . . ومن ثم كانت كل تلك الرسالات محكومة بظروفها هذه؛ متكيفة بهذه الظروف . . كلها تدعو إلى إله واحد - فهذا هو التوحيد - وكلها تدعو إلى عبودية واحدة لهذا الإله الواحد - فهذا هو الدين - وكلها تدعو إلى التلقي عن هذا الإله الواحد والطاعة لهذا الإله الواحد - فهذا هو الإسلام - ولكن لكل منها شريعة للحياة الواقعية تناسب حالة الجماعة وحالة البيئة وحالة الزمان والظروف . .(1/221)
حتى إذا أراد الله أن يختم رسالاته إلى البشر؛ أرسل إلى الناس كافة ، رسولاً خاتم النبيين برسالة « للإنسان » لا لمجموعة من الأناسي في بيئة خاصة ، في زمان خاص ، في ظروف خاصة . . رسالة تخاطب « الإنسان » من وراء الظروف والبيئات والأزمنة؛ لأنها تخاطب فطرة الإنسان التي لا تتبدل ولا تتحور ولا ينالها التغيير : { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم } وفصل في هذه الرسالة شريعة تتناول حياة « الإنسان » من جميع أطرافها ، وفي كل جوانب نشاطها؛ وتضع لها المبادىء الكلية والقواعد الأساسية فيما يتطور فيها ويتحور بتغير الزمان والمكان؛ وتضع لها الأحكام التفصيلية والقوانين الجزئية فيما لا يتطور ولا يتحور بتغير الزمان والمكان . . وكذلك كانت هذه الشريعة بمبادئها الكلية وبأحكامها التفصيلية محتوية كل ما تحتاج إليه حياة « الإنسان » منذ تلك الرسالة إلى آخر الزمان؛ من ضوابط وتوجيهات وتشريعات وتنظيمات ، لكي تستمر ، وتنمو ، وتتطور ، وتتجدد؛ حول هذا المحور وداخل هذا الإطار .. وقال الله - سبحانه - للذين آمنوا : { اليوم أكملت لكم دينكم . وأتممت عليكم نعمتي . ورضيت لكم الإسلام ديناً } . .
فأعلن لهم إكمال العقيدة ، وإكمال الشريعة معاً . . فهذا هو الدين . . ولم يعد للمؤمن أن يتصور أن بهذا الدين - بمعناه هذا - نقصاً يستدعي الإكمال . ولا قصوراً يستدعي الإضافة . ولا محلية أو زمانية تستدعي التطوير أو التحوير . . وإلا فما هو بمؤمن؛ وما هو بمقر بصدق الله؛ وما هو بمرتض ما ارتضاه الله للمؤمنين!
إن شريعة ذلك الزمان الذي نزل فيه القرآن ، هي شريعة كل زمان ، لأنها - بشهادة الله - شريعة الدين الذي جاء « للإنسان » في كل زمان وفي كل مكان؛ لا لجماعة من بني الإنسان ، في جيل من الأجيال ، في مكان من الأمكنة ، كما كانت تجيء الرسل والرسالات .(1/222)
الأحكام التفصيلية جاءت لتبقى كما هي . والمبادىء الكلية جاءت لتكون هي الإطار الذي تنمو في داخله الحياة البشرية إلى آخر الزمان؛ دون أن تخرج عليه ، إلا أن تخرج من إطار الإيمان!
والله الذي خلق « الإنسان » ويعلم من خلق؛ هو الذي رضي له هذا الدين؛ المحتوي على هذه الشريعة . فلا يقول : إن شريعة الأمس ليست شريعة اليوم ، إلا رجل يزعم لنفسه أنه أعلم من الله بحاجات الإنسان؛ وبأطوار الإنسان!
ويقف المؤمن ثانياً : أمام إتمام نعمة الله على المؤمنين ، بإكمال هذا الدين؛ وهي النعمة التامة الضخمة الهائلة . النعمة التي تمثل مولد « الإنسان » في الحقيقة ، كما تمثل نشأته واكتماله . « فالإنسان » لا وجود له قبل أن يعرف إلهه كما يعرفه هذا الدين له . وقبل أن يعرف الوجود الذي يعيش فيه كما يعرفه له هذا الدين . وقبل أن يعرف نفسه ودوره في هذا الوجود وكرامته على ربه ، كما يعرف ذلك كله من دينه الذي رضيه له ربه . و « الإنسان » لا وجود له قبل أن يتحرر من عبادة العبيد بعبادة الله وحده؛ وقبل أن ينال المساواة الحقيقية بأن تكون شريعته من صنع الله وبسلطانه لا من صنع أحد ولا بسلطانه .
إن معرفة « الإنسان » بهذه الحقائق الكبرى كما صورها هذا الدين هي بدء مولد « الإنسان » . . إنه بدون هذه المعرفة على هذا المستوى؛ يمكن أن يكون « حيواناً » أو أن يكون « مشروع إنسان » في طريقه إلى التكوين! ولكنه لا يكون « الإنسان » في أكمل صورة للإنسان ، إلا بمعرفة هذه الحقائق الكبيرة كما صورها القرآن . . والمسافة بعيدة بعيدة بين هذه الصورة ، وسائر الصور التي اصطنعها البشر في كل زمان!(1/223)
وإن تحقيق هذه الصورة في الحياة الإنسانية ، لهو الذي يحقق « للإنسان » « إنسانيته » كاملة . . يحققها له وهو يخرجه بالتصور الاعتقادي ، في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، من دائرة الحس الحيواني الذي لا يدرك إلا المحسوسات ، إلى دائرة « التصور » الإنساني ، الذي يدرك المحسوسات وما وراء المحسوسات .عالم الشهادة وعالم الغيب . . عالم المادة وعالم ما وراء المادة . . وينقذه من ضيق الحس الحيواني المحدود! ويحققها له وهو يخرجه بتوحيد الله ، من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده ، والتساوي والتحرر والاستعلاء أمام كل من عداه . فإلى الله وحده يتجه بالعبادة ، ومن الله وحده يتلقى المنهج والشريعة والنظام ، وعلى الله وحده يتوكل ومنه وحده يخاف . . ويحققها له ، بالمنهج الرباني ، حين يرفع اهتماماته ويهذب نوازعه ، ويجمع طاقته للخير والبناء والارتقاء ، والاستعلاء على نوازع الحيوان ، ولذائذ البهيمة وانطلاق الأنعام!
ولا يدرك حقيقة نعمة الله في هذا الدين ، ولا يقدرها قدرها ، من لم يعرف حقيقة الجاهلية ومن لم يذق ويلاتها - والجاهلية في كل زمان وفي كل مكان هي منهج الحياة الذي لم يشرعه الله - فهذا الذي عرف الجاهلية وذاق ويلاتها . . ويلاتها في التصور والاعتقاد ، وويلاتها في واقع الحياة . . هو الذي يحس ويشعر ، ويرى ويعلم ، ويدرك ويتذوق حقيقة نعمة الله في هذا الدين . .
الذي يعرف ويعاني ويلات الضلال والعمى ، وويلات الحيرة والتمزق ، وويلات الضياع والخواء ، في معتقدات الجاهلية وتصوراتها في كل زمان وفي كل مكان . . هو الذي يعرف ويتذوق نعمة الإيمان؛
والذي يعرف ويعاني ويلات الطغيان والهوى ، وويلات التخبط والاضطراب ، وويلات التفريط والإفراط في كل أنظمة الحياة الجاهلية ، هو الذي يعرف ويتذوق نعمة الحياة في ظل الإيمان بمنهج الإسلام .(1/224)
ولقد كان العرب المخاطبون بهذا القرآن أول مرة ، يعرفون ويدركون ويتذوقون هذه الكلمات . لأن مدلولاتها كانت متمثلة في حياتهم ، في ذات الجيل الذي خوطب بهذا القرآن . .
كانوا قد ذاقوا الجاهلية . . ذاقوا تصوراتها الاعتقادية . وذاقوا أوضاعها الاجتماعية . وذاقوا أخلاقها الفردية والجماعية وبلوا من هذا كله ما يدركون معه حقيقة نعمة الله عليهم بهذا الدين؛ وحقيقة فضل الله عليهم ومنته بالإسلام .
كان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية؛ وسار بهم في الطريق الصاعد ، إلى القمة السامقة - كما فصلنا ذلك في مستهل سورة النساء - فإذا هم على القمة ينظرون من عل إلى سائر أمم الأرض من حولهم؛ نظرتهم إلى ماضيهم في جاهليتهم كذلك .
كان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية في التصورات الاعتقادية حول ربوبية الأصنام ، والملائكة ، والجن ، والكواكب ، والأسلاف؛ وسائر هذه الأساطير الساذجة والخرافات السخيفة؛ لينقلهم إلى أفق التوحيد . إلى أفق الإيمان بإله واحد ، قادر قاهر ، رحيم ودود ، سميع بصير ، عليم خبير . عادل كامل . قريب مجيب . لا واسطة بينه وبين أحد؛ والكل له عباد ، والكل له عبيد . . ومن ثم حررهم من سلطان الكهانة ، ومن سلطان الرياسة ، يوم حررهم من سلطان الوهم والخرافة ..
وكان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية في الأوضاع الاجتماعية . من الفوارق الطبقية؛ ومن العادات الزرية؛ ومن الاستبداد الذي كان يزاوله كل من تهيأ له قدر من السلطان ( لا كما هو سائد خطأ من أن الحياة العربية كانت تمثل الديمقراطية! ) .
« فقد كانت القدرة على الظلم قرينة بمعنى العزة والجاه في عرف السيد والمسود من أمراء الجزيرة من أقصاها في الجنوب إلى أقصاها في الشمال . وما كان الشاعر النجاشي إلا قادحاً مبالغاً في القدح حين استضعف مهجوه ، لأن :
قبيلته لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل(1/225)
» وما كان حجر بن الحارث إلا ملكاً عربياً حين سام بني أسد أن يستعبدهم بالعصا ، وتوسل إليه شاعرهم عبيد بن الأبرص حيث يقول :
أنت المملك فيهم ... وهم العبيد إلى القيامه
ذلوا لسوطك مثلما ... ذل الأشيقر ذو الخزامه
« وكان عمر بن هند ملكاً عربياً حين عود الناس أن يخاطبهم من وراء ستار؛ وحين استكثر على سادة القبائل أن تأنف أمهاتهم من خدمته في داره .
» وكان النعمان بن المنذر ملكا عربيا حين بلغ به العسف أن يتخذ لنفسه يوماً للرضى يغدق فيه النعم على كل قادم إليه خبط عشواء؛ ويوماً للغضب يقتل فيه كل طالع عليه من الصباح إلى المساء .
« وقد قيل عن عزة كليب وائل : إنه سمي بذلك لأنه كان يرمي الكليب حيث يعجبه الصيد ، فلا يجسر أحد على الدنو من مكان يسمع فيه نباحه . وقيل : » لا حر بوادي عوف « لأنه من عزته كان لا يأوي بواديه من يملك حرية في جواره . فكلهم أحرار في حكم العبيد . . » .
وكان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية في التقاليد والعادات والأخلاق والصلات الاجتماعية . . كان قد التقطهم من سفح البنت الموءودة ، والمرأة المنكودة ، والخمر والقمار والعلاقات الجنسية الفوضوية ، والتبرج والاختلاط مع احتقار المرأة ومهانتها ، والثارات والغارات والنهب والسلب ، مع تفرق الكلمة وضعف الحيلة أمام أي هجوم خارجي جدي . كالذي حدث في عام الفيل من هجوم الأحباش على الكعبة ، وتخاذل وخذلان القبائل كلها ، هذه القبائل التي كان بأسها بينها شديداً!
وكان الإسلام قد أنشأ منهم أمة؛ تطل من القمة السامقة على البشرية كلها في السفح ، في كل جانب من جوانب الحياة . في جيل واحد . عرف السفح وعرف القمة . عرف الجاهلية وعرف الإسلام . ومن ثم كانوا يتذوقون ويدركون معنى قول الله لهم :{ اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام ديناً } . .(1/226)
ويقف المؤمن ثالثاً : أمام ارتضاء الله الإسلام دينا للذين آمنوا . . يقف أمام رعاية الله - سبحانه - وعنايته بهذه الأمة ، حتى ليختار لها دينها ويرتضيه . . وهو تعبير يشي بحب الله لهذه الأمة ورضاه عنها ، حتى ليختار لها منهج حياتها ..
وإن هذه الكلمات الهائلة لتلقي على عاتق هذه الأمة عبئاً ثقيلاً ، يكافىء هذه الرعاية الجليلة . . أستغفر الله . . فما يكافىء هذه الرعاية الجليلة من الملك الجليل شيء تملك هذه الأمة بكل أجيالها أن تقدمه . . وإنما هو جهد الطاقة في شكر النعمة ، ومعرفة المنعم . . وإنما هو إدراك الواجب ثم القيام بما يستطاع منه ، وطلب المغفرة والتجاوز عن التقصير والقصور فيه .
إن ارتضاء الله الإسلام ديناً لهذه الأمة ، ليقتضي منها ابتداء أن تدرك قيمة هذا الاختيار . ثم تحرص على الاستقامة على هذا الدين جهد ما في الطاقة من وسع واقتدار . . وإلا فما أنكد وما أحمق من يهمل - بله أن يرفض - ما رضيه الله له ، ليختار لنفسه غير ما اختاره الله! . . وإنها - إذن - لجريمة نكدة؛ لا تذهب بغير جزاء ، ولا يترك صاحبها يمضي ناجياً أبداً وقد رفض ما ارتضاه له الله . . ولقد يترك الله الذين لم يتخذوا الإسلام ديناً لهم ، يرتكبون ما يرتكبون ويمهلهم إلى حين . . فأما الذين عرفوا هذا الدين ثم تركوه أو رفضوه . . واتخذوا لأنفسهم مناهج في الحياة غير المنهج الذي ارتضاه لهم الله . . فلن يتركهم الله أبداً ولن يمهلهم أبداً ، حتى يذوقوا وبال أمرهم وهم مستحقون!(1/227)
ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا في هذه الوقفات أمام تلك الكلمات الهائلة . فالأمر يطول . فنقنع بهذه اللمحات ، في هذه الظلال ، ونمضي مع سياق السورة إلى مقطع جديد : { يسألونك : ماذا أحل لهم؟ قل : أحل لكم الطيبات ، وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله . فكلوا مما أمسكن عليكم ، واذكروا اسم الله عليه . واتقوا الله ، إن الله سريع الحساب . اليوم أحل لكم الطيبات ، وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ، وطعامكم حل لهم ، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم - إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان - ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله ، وهو في الآخرة من الخاسرين }
إن هذا السؤال من الذين آمنوا عما أحل لهم؛ يصور حالة نفسية لتلك الجماعة المختارة ، التي سعدت بخطاب الله تعالى لها أول مرة؛ ويشي بما خالج تلك النفوس من التحرج والتوقي من كل ما كان في الجاهلية؛ خشية أن يكون الإسلام قد حرمه؛ وبالحاجة إلى السؤال عن كل شيء للتثبت من أن المنهج الجديد يرتضيه ويقره .
والناظر في تاريخ هذه الفترة يلمس ذلك التغيير العميق الذي أحدثه الإسلام في النفس العربية . . لقد هزها هزاً عنيفاً نفض عنها كل رواسب الجاهلية . . لقد أشعر المسلمين - الذين التقطهم من سفح الجاهلية ليرتفع بهم إلى القمة السامقة - أنهم يولدون من جديد؛ وينشأون من جديد . كما جعلهم يحسون إحساساً عميقاً بضخامة النقلة ، وعظمة الوثبة ، وجلال المرتقى ، وجزالة النعمة .
فأصبح همهم أن يتكيفوا وفق هذا المنهج الرباني الذي لمسوا بركتة عليهم . وأن يحذروا عن مخالفته . . وكان التحرج والتوجس من كل ما ألفوه في الجاهلية هو ثمرة هذا الشعور العميق ، وثمرة تلك الهزة العنيفة .
لذلك راحوا يسألون الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد ما سمعوا آيات التحريم :
{ ماذا أحل لهم؟ } .
ليكونوا على يقين من حلة قبل أن يقربوه .(1/228)
وجاءهم الجواب : { قل : أحل لكم الطيبات . . . } . .
وهو جواب يستحق التأمل . . إنه يلقي في حسهم هذه الحقيقة : إنهم لم يحرموا طيباً ، ولم يمنعوا عن طيب؛ وإن كل الطيبات لهم حلال ، فلم يحرم عليهم إلا الخبائث . . والواقع أن كل ما حرمه الله هو ما تستقذره الفطرة السليمة من الناحية الحسية . كالميتة والدم ولحم الخنزير . أو ينفر منه القلب المؤمن كالذي أهل لغير الله به أو ما ذبح على النصب ، أو كان الاستقسام فيه بالأزلام . وهو نوع من الميسر .
ويضيف إلى الطيبات - وهي عامة - نوعاً منها يدل على طيبته تخصيصه بالذكر بعد التعميم؛ وهو ما تمسكه الجوارح المعلمه المدربة على الصيد كالصقر والبازي ، ومثلها كلاب الصيد ، أو الفهود والأسود . مما علمه أصحابه كيف يكلب الفريسة : أي يكبلها ويصطادها : { وما علمتم من الجوارح مكلبين ، تعلمونهن مما علمكم الله . فكلوا مما أمسكن عليكم ، واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله ، إن الله سريع الحساب }
وشرط الحل فيما تمسكه هذه الجوارح المكلبة المعلمة المدربة ، أن تمسك على صاحبها : أي أن تحتفظ بما تمسكه من الصيد؛ فلا تأكل منه عند صيده؛ إلا إذا غاب عنها صاحبها ، فجاعت . فإنها إن أكلت من الفريسة عند إمساكها لها ، لا تكون معلمة؛ وتكون قد اصطادت لنفسها لا لصاحبها فلا يحل له صيدها . ولو تبقى منها معظم الصيد لم تأكله؛ ولو جاءت به حياً ولكنها كانت أكلت منه؛ فلا يذكى؛ ولو ذبح ما كان حلالاً . .(1/229)
والله يذكر المؤمنين بنعمته عليهم في هذه الجوارح المكلبة فقد علموها مما علمهم الله . فالله هو الذي سخر لهم هذه الجوارح؛ وأقدرهم على تعليمها؛ وعلمهم هم كيف يعلمونها . . وهي لفتة قرآنية تصور أسلوب التربية القرآني ، وتشي بطبيعة المنهج الحكيم الذي لا يدع لحظة تمر ، ولا مناسبة تعرض ، حتى يوقظ في القلب البشري الإحساس بهذه الحقيقة الأولى : حقيقية أن الله هو الذي أعطى كل شيء . هو الذي خلق ، وهو الذي علم ، وهو الذي سخر؛ وإليه يرجع الفضل كله ، في كل حركة وكل كسب وكل إمكان ، يصل إليه المخلوق . . فلا ينسى المؤمن لحظة ، أن من الله ، وإلى الله ، كل شيء في كيانه هو نفسه؛ وفيما حوله من الأشياء والأحداث؛ ولا يغفل المؤمن لحظة عن رؤية يد الله وفضله في كل عزمة نفس منه ، وكل هزة عصب ، وكل حركة جارحة .
. ويكون بهذا كله « ربانياً » على الاعتبار الصحيح .
والله يعلم المؤمنين أن يذكروا اسم الله على الصيد الذي تمسك به الجوارح . ويكون الذكر عند إطلاق الجارح إذ أنه قد يقتل الصيد بنابه أو ظفره ; فيكون هذا كالذبح له؛ واسم الله يذكر عند الذبح ، فهو يذكر كذلك عند إطلاق الجارح سواء .
ثم يردهم في نهاية الآية إلى تقوى الله؛ ويخوفهم حسابه السريع . . فيربط أمر الحل والحرمة كله بهذا الشعور الذي هو المحور لكل نية وكل عمل في حياة المؤمن؛ والذي يحول الحياة كلها صلة بالله ، وشعوراً بجلاله ، ومراقبة له في السر والعلانية : { واتقوا الله إن الله سريع الحساب } . .
ويستطرد في بيان ما أحل لهم من الطعام ويلحق به ما أحل لهم من النكاح : { اليوم أحل لكم الطيبات . وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم . وطعامكم حل لهم . والمحصنات من المؤمنات . والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم . إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان } . .
وهكذا يبدأ ألوان المتاع الحلال مرة أخرى بقوله : { اليوم أحل لكم الطيبات } . .(1/230)
فيؤكد المعنى الذي أشرنا إليه؛ ويربط بينه وبين الألوان الجديدة من المتاع . فهي من الطيبات .
وهنا نطلع على صفحة من صفحات السماحة الإسلامية؛ في التعامل مع غير المسلمين ، ممن يعيشون في المجتمع الإسلامي « في دار الإسلام » ، أو تربطهم به روابط الذمة والعهد ، من أهل الكتاب . .
إن الإسلام لا يكتفي بأن يترك لهم حريتهم الدينية؛ ثم يعتزلهم ، فيصبحوا في المجتمع الإسلامي مجفوين معزولين - أو منبوذين - إنما يشملهم بجو من المشاركة الاجتماعية ، والمودة ، والمجاملة والخلطة . فيجعل طعامهم حلا للمسلمين وطعام المسلمين حلاً لهم كذلك . ليتم التزاور والتضايف والمؤاكلة والمشاربة ، وليظل المجتمع كله في ظل المودة والسماحة . . وكذلك يجعل العفيفات من نسائهم - وهن المحصنات بمعنى العفيفات الحرائر - طيبات للمسلمين ، ويقرن ذكرهن بذكر الحرائر العفيفات من المسلمات . وهي سماحة لم يشعر بها إلا أتباع الإسلام من بين سائر أتباع الديانات والنحل . فإن الكاثوليكي المسيحي ليتحرج من نكاح الأرثوذكسية ، أو البروتستانتية ، أو المارونية المسيحية ، ولا يقدم على ذلك إلا المتحللون عندهم من العقيدة!
وهكذا يبدو أن الإسلام هو المنهج الوحيد الذي يسمح بقيام مجتمع عالمي ، لا عزلة فيه بين المسلمين وأصحاب الديانات الكتابية؛ ولا حواجز بين أصحاب العقائد المختلفة ، التي تظلها راية المجتمع الإسلامي . فيما يختص بالعشرة والسلوك
- - - - - - - - - - - -
30.
وجوب الطهارة قبل الصلاة(1/231)
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) } سورة المائدة(1/232)
فِي هَذِهِ الآيَةِ يَبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ شُرُوطَ الوَضُوءِ وَالتَّيَمُمِ ، وَيَأمُرُ المُؤْمِنِينَ بِالوُضُوءِ إذا قَامُوا إلى الصَّلاَةِ وَهُمْ مُحْدِثُونَ ( وَيُسْتَحَبُّ الوُضُوءَ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ ) . وَالوُضُوءُ هُوَ غَسْلُ الوَجْهِ ، وَغَسْلُ اليَدَينِ إلى المِرْفَقَيْنِ ، وَمَسْحُ الرَّأسِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ ، وَغَسْلُ الرِّجْلَيْنِ إلَى الكَعْبَيْنِ . وَيَقُولُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ : إذَا كُنْتُمْ جُنُباً فَاغْتَسِلُوا ، وَإِذَا كُنْتُمْ مَرْضَى لاَ تَسْتَطِيعُونَ مَسَّ المَاءِ لِلْوُضُوءِ وَالاغْتِسَالِ ، أَوْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ ، وَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَكُمُ المَاءُ ، وَإذا أَحْدَثْتُمْ ( جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ ) ، أَوْ بَاشَرْتُمُ النِّسَاءَ . وَلَمْ تَجِدُوا مَاءَ لِتَغْتَسِلُوا وَتَتَوضَّؤُوا فَتَيَمَّمُوا مَا صَعَدَ عَلى سَطْحِ الأَرْضِ مِنْ تُرَابٍ طَاهِرٍ ( طَيِّبٍ ) فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ، وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يُيَسِّرَ الأَمْرَ عَلَيْكُمْ ، وَلاَ يُحْرِجَكُمْ فِي أمُورِ دِينِكُمْ ، وَلَكِنَّهُ يُرِيدُ أنْ يُطَهِّرَكُمْ ، وَأَنْ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ، فَيَجْمَعَ لَكُمْ بَيْنَ طَهَارَةِ الأًَبْدَانِ وَطَهَارَةِ الرُّوحِ ، لِيُعِدَّكُمْ بِذَلِكَ لِدَوَامِ شُكْرِهِ عَلَى نِعَمِهِ عَلَيْكُمْ ، وَعَلَى مَا يَسَّرَهُ لَكُمْ .(1/233)
وَتَذَكَّرُوا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ إِذْ كُنْتُمْ كُفَّاراً مُتَبَاغِضِينَ فَأَصْبَحْتُمْ بِفَضْلِ اللهِ إِخْوَاناً مُتَحَابِّينَ ، وَتَذَكَّرُوا العَهْدَ الذِي عَاهَدَكُمْ بِهِ ، حِينَ بَايَعْتُمْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي المَنْشَطِ وَالمَكْرَهِ ( أي المَحْبُوبِ وَالمَكْرُوهِ ) ، وَالعُسْرِ وَاليُسْرِ ، حِينَ قُلْتُمْ سَمِعْنَا مَا أَمَرْتَنَا بِهِ ، وَمَا نَهَيْتَنَا عَنْهُ ، وَأَطَعْنَاكَ فِيهِ فَلاَ نَعْصِيكَ فِي مَعْرُوفٍ ، وَكُلُّ مَا جِئْتَنَا بِهِ فَهُوَ مَعْرُوفٌ . وَاتَّقُوا اللهَ فَلاَ تَنْقُضُوا عَهْدَهُ ، وَلاَ تُخَالِفُوا مَا أَمَرَكُمْ بِهِ ، وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ ، إنَّ اللهَ لاَ يَخْفَى عَلَيهْ شَيءٌ مِمَّا أَضْمَرَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مِمَّنْ أَخَذَ عَلَيْهِم المِيثَاقَ مِنَ الوَفَاءِ بِهِ ، أَوْ عَدَمِ الوَفَاءِ بِهِ ، وَمَا تَنْطَوِي عَلَيهِ السَّرَائِرُ مِنَ الإِخْلاَصِ وَالرِّيَاءِ .
إن الحديث عن الصلاة والطهارة إلى جانب الحديث عن الطيبات من الطعام والطيبات من النساء . وإن ذكر حكم الطهارة إلى جانب أحكام الصيد والإحرام والتعامل مع الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام . . إن هذا لا يجيء اتفاقاً ومصادفة لمجرد السرد ، ولا يجيء كذلك بعيداً عن جو السياق وأهدافه . . إنما هو يجيء في موضعه من السياق ، ولحكمته في نظم القرآن . .
إنها - أولاً - لفتة إلى لون آخر من الطيبات . . طيبات الروح الخالصة . . إلى جانب طيبات الطعام والنساء . . لون يجد فيه قلب المؤمن ما لا يجده في سائر المتاع . إنه متاع اللقاء مع الله ، في جو من الطهر والخشوع والنقاء . . فلما فرغ من الحديث عن متاع الطعام والزواج ارتقى إلى متاع الطهارة والصلاة؛ استكمالاً لألوان المتاع الطيبة في حياة الإنسان . . والتي بها يتكامل وجود « الإنسان » .(1/234)
ثم اللفتة الثانية . . إن أحكام الطهارة والصلاة؛ كأحكام الطعام والنكاح؛ كأحكام الصيد في الحل والحرمة؛ كأحكام التعامل مع الناس في السلم والحرب .
. . كبقية الأحكام التالية في السورة . . . كلها عبادة لله . وكلها دين الله . فلا انفصام في هذا الدين بين ما اصطلح أخيراً - في الفقه -على تسميته « بأحكام العبادات » ، وما اصطلح على تسميته « بأحكام المعاملات » . .
هذه التفرقة - التي اصطنعها « الفقه » حسب مقتضيات « التصنيف » و « التبويب » - لا وجود لها في أصل المنهج الرباني ، ولا في أصل الشريعة الإسلامية . . إن هذا المنهج يتألف من هذه وتلك على السواء . وحكم هذه كحكم تلك في أنها تؤلف دين الله وشريعته ومنهجه؛ وليست هذه بأولى من تلك في الطاعة والاتباع . لا ، بل إن أحد الشطرين لا يقوم بغير الآخر . والدين لا يستقيم إلا بتحققهما في حياة الجماعة المسلمة على السواء .
كلها « عقود » من التي أمر الله المؤمنين في شأنها بالوفاء ، وكلها « عبادات » يؤديها المسلم بنية القربى إلى الله . وكلها « إسلام » وإقرار من المسلم بعبوديته لله .
ليس هنالك « عبادات » وحدها و « معاملات » وحدها . . إلا في « التصنيف الفقهي » . . وكلتا العبادات والمعاملات بمعناها هذا الاصطلاحي . . كلها « عبادات » و « فرائض » و « عقود » مع الله . والإخلال بشيء منها إخلال بعقد الإيمان مع الله!
وهذه هي اللفتة التي يشير إليها النسق القرآني؛ وهو يوالي عرض هذه الأحكام المتنوعة في السياق .
{ يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة . . . } .
إن الصلاة لقاء مع الله ، ووقوف بين يديه - سبحانه - ودعاء مرفوع إليه ، ونجوى وإسرار . فلا بد لهذا الموقف من استعداد . لا بد من تطهر جسدي يصاحبه تهيؤ روحي . ومن هنا كان الوضوء - فيما نحسب والعلم لله - وهذه هي فرائضه المنصوص عليها في هذه الآية :(1/235)
غسل الوجه . وغسل الأيدي إلى المرافق . ومسح الرأس وغسل الرجلين إلى الكعبين . . وحول هذه الفرائض خلافات فقهية يسيرة . . أهمها هل هذه الفرائض على الترتيب الذي ذكرت به؟ أم هي تجزىء على غير ترتيب؟ قولان . .
هذا في الحدث الأصغر . . أما الجنابة - سواء بالمباشرة أو الاحتلام - فتوجب الاغتسال . .
ولما فرغ من بيان فرائض الوضوء ، والغسل ، أخذ في بيان حكم التيمم . وذلك في الحالات الآتية :
حالة عدم وجود الماء للمحدث على الإطلاق . .
وحالة المريض المحدث حدثاً أصغر يقتضي الوضوء ، أو حدثاً أكبر يقتضي الغسل والماء يؤذيه . .
وحالة المسافر المحدث حدثاً أصغر أو أكبر . .
وقد عبر عن الحدث الأصغر بقوله : { أو جاء أحد منكم من الغائط } . . والغائط مكان منخفض كانوا يقضون حاجتهم فيه . . والمجيء من الغائط كناية عن قضاء الحاجة تبولاً أو تبرزاً .
وعبر عن الحدث الأكبر بقوله : { أو لامستم النساء } .. لأن هذا التعبير الرقيق يكفي في الكناية عن المباشرة . .
ففي هذه الحالات لا يقرب المحدث - حدثاً أصغر أو أكبر - الصلاة ، حتى يتيمم . . فيقصد صعيداً طيباً . . أي شيئاً من جنس الأرض طاهراً يعبر عن الطهارة بالطيبة - ولو كان تراباً على ظهر الدابة ، أو الحائط . فيضرب بكفيه ، ثم ينفضهما ، ثم يمسح بهما وجهه ، ثم يمسح بهما يديه إلى المرفقين . . ضربة للوجة واليدين . أو ضربتين . . قولان . .
وهناك خلافات فقهية حول المقصود بقوله تعالى : { أو لامستم النساء } . . أهو مجرد الملامسة؟ أم هي المباشرة؟ وهل كل ملامسة بشهوة ولذة أم بغير شهوة ولذة؟ خلاف . .
كذلك هل المرض بإطلاقه يجيز التيمم؟ أم المرض الذي يؤذيه الماء؟ خلاف . .
ثم . . هل برودة الماء من غير مرض؛ وخوف المرض والأذى يجيز التيمم . . الأرجح نعم . .
وفي ختام الآية يجيء هذا التعقيب : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج . ولكن يريد ليطهركم ، وليتم نعمته عليكم ، لعلكم تشكرون } . .(1/236)
والتطهر حالة واجبة للقاء الله - كما أسلفنا - وهو يتم في الوضوء والغسل جسماً وروحاً . فأما في التيمم فيتم الشطر الأخير منه؛ ويجزئ في التطهر عند عدم وجود الماء ، أو عندما يكون هناك ضرر في استعمال الماء . ذلك أن الله - سبحانه - لا يريد أن يعنت الناس ، ويحملهم على الحرج والمشقة بالتكاليف . إنما يريد أن يطهرهم ، وأن ينعم عليهم بهذه الطهارة؛ وأن يقودهم إلى الشكر على النعمة ، ليضاعفها لهم ويزيدهم منها . . فهو الرفق والفضل والواقعية في هذا المنهج اليسير القويم .
وتقودنا حكمة الوضوء والغسل والتيمم التي كشف النص عنها هنا : { ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون } . .
تقودنا إلى تلك الوحدة التي يحققها الإسلام في الشعائر والشرائع على السواء . فليس الوضوء والغسل مجرد تنظيف للجسد ، ليقول متفلسفة هذه الأيام : إننا لسنا في حاجة إلى هذه الإجراءات ، كما كان العرب البدائيون! لأننا نستحم وننظف أعضاءنا بحكم الحضارة! إنما هي محاولة مزدوجة لتوحيد نظافة الجسم وطهارة الروح في عمل واحد؛ وفي عبادة واحدة يتوجه بها المؤمن إلى ربه . وجانب التطهر الروحي أقوى . لأنه عند تعذر استخدام الماء يستعاض بالتيمم ، الذي لا يحقق إلا هذا الشطر الأقوى . . وذلك كله فضلاً على أن هذا الدين منهج عام ليواجه جميع الحالات ، وجميع البيئات ، وجميع الأطور ، بنظام واحد ثابت ، فتتحقق حكمته في جميع الحالات والبيئات والأطوار؛ في صورة من الصور ، بمعنى من المعاني؛ ولا تبطل هذه الحكمة أو تتخلف في أية حال .
فلنحاول أن نتفهم أسرار هذه العقيدة قبل أن نفتي فيها بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير . ولنحاول أن نكون أكثر أدباً مع الله؛ فيما نعلم وفيما لا نعلم على السواء .
كذلك يقودنا الحديث عن التيمم للصلاة عند تعذر الطهارة بالوضوء أو الغسل أو ضررها إلى لفتة أخرى عن الصلاة ذاتها .(1/237)
عن حرص المنهج الإسلامي على إقامة الصلاة؛ وإزالة كل عائق يمنع منها . . فهذا الحكم بالإضافة إلى الأحكام الأخرى كالصلاة عند الخوف والصلاة في حالة المرض من قعود أو من استلقاء حسب الإمكان . . كل هذه الأحكام تكشف عن الحرص البالغ على إقامة الصلاة؛ وتبين إلى أي حد يعتمد المنهج على هذه العبادة لتحقيق أغراضه التربوية في النفس البشرية . إذ يجعل من لقاء الله والوقوف بين يديه وسيلة عميقة الأثر ، لا يفرط فيها في أدق الظروف وأحرجها؛ ولا يجعل عقبة من العقبات تحول بين المسلم وبين هذا الوقوف وهذا اللقاء . . لقاء العبد بربه . . وعدم انقطاعه عنه لسبب من الأسباب . . إنها نداوة القلب ، واسترواح الظل ، وبشاشة اللقاء . .
ويعقب على أحكام الطهارة ، وعلى ما سبقها من الأحكام بتذكير الذين آمنوا بنعمة الله عليهم بالإيمان ، وبميثاق الله معهم على السمع والطاعة ، وهو الميثاق الذي دخلوا به في الإسلام - كما تقدم - كما يذكرهم تقوى الله ، وعلمه بما تنطوي عليه الصدور : { واذكروا نعمة الله عليكم ، وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم : سمعنا وأطعنا ، واتقوا الله ، إن الله عليم بذات الصدور } . .
وكان المخاطبون بهذا القرآن أول مرة يعرفون - كما قدمنا - قيمة نعمة الله عليهم بهذا الدين . إذ كانوا يجدون حقيقتها في كيانهم ، وفي حياتهم ، وفي مجتمعهم ، وفي مكانهم من البشرية كلها من حولهم . ومن ثم كانت الإشارة - مجرد الإشارة - إلى هذه النعمة تكفي ، إذ كانت توجه القلب والنظر إلى حقيقة ضخمة قائمة في حياتهم ملموسة .
كذلك كانت الإشارة إلى ميثاق الله الذي واثقهم به على السمع والطاعة ، تستحضر لتوها حقيقة مباشرة يعرفونها . كما كانت تثير في مشاعرهم الاعتزاز حيث تقفهم من الله ذي الجلال موقف الطرف الآخر في تعاقد مع الله ، وهو أمر هائل جليل في حس المؤمن ، حين يدرك حقيقته هذه ويتملاها . .(1/238)
ومن ثم يكلهم الله في هذا إلى التقوى . إلى إحساس القلب بالله ، ومراقبته في خطراته الخافية : { واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور } . .
والتعبير { بذات الصدور } تعبير مصور معبر موح ، نمر به كثيراً في القرآن الكريم . فيحسن أن ننبه إلى مافيه من دقة وجمال وإيحاء . وذات الصدور : أي صاحبة الصدور ، الملازمة لها ، اللاصقة بها . وهي كناية عن المشاعر الخافية ، والخواطر الكامنة ، والأسرار الدفينة . التي لها صفة الملازمة للصدور والمصاحبة . وهي على خفائها وكتمانها مكشوفة لعلم الله ، المطلع على ذات الصدور . .
ومن الميثاق الذي واثق الله به الأمة المسلمة ، القوامة على البشرية بالعدل . . العدل المطلق الذي لا يميل ميزانه مع المودة والشنآن؛ ولا يتأثر بالقرابة أو المصلحة أو الهوى في حال من الأحوال . العدل المنبثق من القيام لله وحده بمنجاة من سائر المؤثرات .. والشعور برقابة الله وعلمه بخفايا الصدور . .
- - - - - - - - - - - -
31.
وجوبُ العدل بالشهادة وغيرها
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) } سورة المائدة(1/239)
يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لِيَكُنْ هَمَّكُمْ وَدَأبُكُمُ التِزَامَ الحَقِّ فِي أَنْفُسِكُمْ ( بِدُونِ اعْتِدَاءٍ عَلَى أَحَدٍ ) ، وَفِي غَيْرِكُمْ ( بِالأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ ابْتَغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَحْدَهُ ، لاَ لأجْلِ إِرْضَاءِ النَّاسِ ، وَاكْتِسَابِ السُّمْعَةِ الحَسَنَةِ عِنْدَهُمْ ) ، وَكُونُوا شُهَدَاءَ بِالعَدْلِ ( القِسْطِ ) ، دُونَ مُحَابَاةٍ لِمَشْهُودٍ لَهُ ، وَلاَ لِمَشْهُودٍ عَلَيهِ ، فَالعَدْلُ مِيزَانُ الحُقُوقِ ، وَمَتَى وَقعَ الجُورُ فِي أُمًّةٍ ، زَالَتِ الثِّقَةُ مِنْ نُفُوسِ النَّاسِ ، وَانْتَشَرَتِ المُفَاسِدُ ، وَتَقَطَّعَتْ رَوَابِطُ المُجْتَمَعِ . وَلاَ تَحْمِلَنَّكُمْ عَدَاوَتُكُمُ الشَّدِيدَةُ لِقَوْمٍ ، وَبُغْضُكُمْ لَهُمْ عَلَى عَدَمِ العَدْلِ فِي أَمْرِ الشَّهَادَةِ لَهُمْ بِحَقِّهِمْ إذَا كَانُوا أَصْحَابَ حَقٍّ ، أَوْ عَلَى عَدَمِ الحُكْمِ لَهُمْ بِذَلِكَ ، فَالمُؤْمِنُ يُؤْثِرُ العَدْلَ علَى الجُورِ وَالمُحَابَاةِ . ثُمَّ يُؤَكِّدُ اللهُ تَعَالَى أَمْرَهُ السَّابِقَ بِضَرُورَةِ إِقَامَةِ العَدْلِ ، وَأَدَاءِ الشَّهَادَةِ بِالقِسْطِ فَيَقُولُ : اعْدِلُوا لأنَّ العَدْلَ أَقْرَبُ لِتَقْوَى اللهِ ، وَأبْعَدُ عَنْ سَخْطِهِ ، وَاتَّقُوا سَخَطَ اللهِ وَعِقَابَهُ لأنَّهُ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ ظَاهِرَهَا وَبَاطِنَهَا ، وَاحْذَرُوا أنْ يُجَازِيَكُمْ بِالعَدْلِ عَلَى تَرْكِكُمُ القِيَامَ بِالعَدْلِ .(1/240)
وَعَدَ اللهُ الذِينَ آمَنُوا بِهِ وَبِكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ . . وَعَمِلُوا الأعْمَالَ الصَّالِحَةَ التِي يَرْضَاهَا رَبُّهُمْ ( مِثْلَ العَدْلِ ، وَالأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ ، وَالنَّهِي عنِ المُنْكَرِ ، وَمُرَاعَاةِ جَانِبِ اللهِ فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ ، فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي رَوَابِطِهِم الاجْتِمَاعِيَّةِ ) ، بِأنَّهُ سَيَغْفِرُ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ ، وَيَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ ، وَيُثِيبُهُمْ بِالأَجْرِ العَظِيمِ ، وَهُوَ الجَزَاءُ المُضَاعَفُ عَلى الإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ ، فَضْلاً مِنْهُ وَرَحْمَةً مِنْ لَدُنْهُ .
لقد نهى الله الذين آمنوا من قبل أن يحملهم الشنآن لمن صدوهم عن المسجد الحرام , على الاعتداء . وكانت هذه قمة في ضبط النفس والسماحة يرفعهم الله إليها بمنهجه التربوي الرباني القويم . فهاهم أولاء ينهون أن يحملهم الشنآن على أن يميلوا عن العدل . . وهي قمة أعلى مرتقى وأصعب على النفس وأشق . فهي مرحلة وراء عدم الاعتداء والوقوف عنده ; تتجاوزه إلى إقامة العدل مع الشعور بالكره والبغض ! إن التكليف الأول أيسر لأنه إجراء سلبي ينتهي عند الكف عن الاعتداء . فأما التكليف الثاني فأشق لأنه إجراء إيجابي يحمل النفس على مباشرة العدل والقسط مع المبغوضين المشنوئين !
والمنهج التربوي الحكيم يقدر ما في هذا المرتقى من صعوبة . فيقدم له بما يعين عليه: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله . . .)
ويعقب عليه بما يعين عليه أيضًا: واتقوا الله , إن الله خبير بما تعملون . .
إن النفس البشرية لا ترتقي هذا المرتقى قط , إلا حين تتعامل في هذا الأمر مباشرة مع الله . حين تقوم لله , متجردة عن كل ما عداه . وحين تستشعر تقواه , وتحس أن عينه على خفايا الضمير وذات الصدور .(1/241)
وما من اعتبار من اعتبارات الأرض كلها يمكن أن يرفع النفس البشرية إلى هذا الأفق , ويثبتها عليه . وما غير القيام لله , والتعامل معه مباشرة , والتجرد من كل اعتبار آخر , يملك أن يستوي بهذه النفس على هذا المرتقى .
وما من عقيدة أو نظام في هذه الأرض يكفل العدل المطلق للأعداء المشنوئين , كما يكفله لهم هذا الدين ; حين ينادي المؤمنين به أن يقوموا لله في هذا الأمر ; وأن يتعاملوا معه , متجردين عن كل اعتبار .
وبهذه المقومات في هذا الدين كان الدين العالمي الإنساني الأخير ; الذي يتكفل نظامه للناس جميعا - معتنقيه وغير معتنقيه - أن يتمتعوا في ظله بالعدل ; وأن يكون هذا العدل فريضة غلى معتنقيه , يتعاملون فيها مع ربهم , مهما لاقوا من الناس من بغض وشنآن . .
وإنها لفريضة الأمة القوامة على البشرية . مهما يكن فيها من مشقة وجهاد .
ولقد قامت هذه الأمة بهذه القوامة ; وأدت تكاليفها هذه ; يوم استقامت على الإسلام . ولم تكن هذه في حياتها مجرد وصايا , ولا مجرد مثل عليا , ولكنها كانت واقعا من الواقع في حياتها اليومية , واقعا لم تشهد البشرية مثله من قبل ولا من بعد , ولم تعرفه في هذا المستوى إلا في الحقبة الإسلامية المنيرة . . والأمثلة التي وعاهاالتاريخ في هذا المجال كثيرة مستفيضة . تشهد كلها بأن هذه الوصايا والفرائض الربانية , قد استحالت في حياة هذه الأمة منهجا في عالم الواقع يؤدي ببساطة , ويتمثل في يوميات الأمة المألوفة . . إنها لم تكن مثلا عليا خيالية , ولا نماذج كذلك فردية . إنما كانت طابع الحياة الذي لا يرى الناس أن هناك طريقا آخر سواه .
وحين نطل من هذه القمة السامقة على الجاهلية في كل أعصارها وكل ديارها - بما فيها جاهلية العصور الحديثة - ندرك المدى المتطاول بين منهج يصنعه الله للبشر , ومناهج يصنعها الناس للناس . ونرى المسافة التي لا تعبر بين آثار هذه المناهج وآثار ذلك المنهج الفريد في الضمائر والحياة .(1/242)
إن الناس قد يعرفون المبادى ء ; ويهتفون بها . . ولكن هذا شيء , وتحقيقها في عالم الواقع شيء آخر . وهذه المبادى ء التي يهتف بها الناس للناس طبيعي , ألا تتحقق في عالم الواقع . . فليس المهم أن يدعى الناس إلى المبادى ء ; ولكن المهم هو من يدعوهم إليها . . المهم هو الجهة التي تصدر منها الدعوة . . المهم هو سلطان هذه الدعوة على الضمائر والسرائر . . المهم هو المرجع الذي يرجع إليه الناس بحصيلة كدهم وكدحهم لتحقيق هذه المبادى ء . .
وقيمة الدعوة الدينية إلى المبادى ء التي تدعو إليها , هو سلطان الدين المستمد من سلطان الله , فما يقوله فلان وعلان علام يستند ? وأي سلطان له على النفوس والضمائر ? وماذا يملك للناس حين يعودون إليه بكدحهم وكدهم في تحقيق هذه المبادى ء ?
يهتف ألف هاتف بالعدل . وبالتطهر . وبالتحرر . وبالتسامي . وبالسماحة . وبالحب . وبالتضحية . وبالإيثار . . . ولكن هتافهم لا يهز ضمائر الناس ; ولا يفرض نفسه على القلوب . لأنه دعاء ما أنزل الله به من سلطان !
ليس المهم هو الكلام . . ولكن المهم من وراء هذا الكلام !
ويسمع الناس الهتاف من ناس مثلهم بالمبادى ء والمثل والشعارات - مجردة من سلطان الله - ولكن ما أثرها ? إن فطرتهم تدرك أنها توجيهات من بشر مثلهم . تتسم بكل ما يتسم به البشر من جهل وعجز وهوى وقصور . فتتلقاها فطرة الناس على هذا الأساس . فلا يكون لها على فطرتهم من سلطان ! ولا يكون لها في كيانهم من هزة , ولا يكون لها في حياتهم من أثر إلا أضعف الأثر !
ثم إن قيمة هذه "الوصايًا في الدين , أنها تتكامل مع "الإجراءات" لتكييف الحياة . فهو لا يلقيها مجردة في الهواء . . فأما حين يتحول الدين إلى مجرد وصايا ; وإلى مجرد شعائر ; فإن وصاياه لا تنفذ ولا تتحقق ! كما نرى ذلك الآن في كل مكان . .(1/243)
إنه لا بد من نظام للحياة كلها وفق منهج الدين ; وفي ظل هذا النظام ينفذ الدين وصاياه . ينفذها في أوضاع واقعية تتكامل فيها الوصايا والإجراءات ! . . وهذا هو "الدين" في المفهوم الإسلامي دون سواه . . الدين الذي يتمثل في نظام يحكم كل جوانب الحياة .
وحين تحقق "الدين" بمفهومه هذا في حياة الجماعة المسلمة أطلت على البشرية كلها من تلك القمة السامقة ; والتي ما تزال سامقة على سفوح الجاهلية الحديثة ; كما كانت سامقة على سفوح الجاهلية العربية وغيرها على السواء . . وحين تحول "الدين" إلى وصايا على المنابر ; وإلى شعائر في المساجد ; وتخلى عن نظام الحياة . . لم يعد لحقيقة الدين وجود في الحياة !
(وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات , لهم مغفرة وأجر عظيم . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم) . .
إنه الجزاء الذي يعوض الخيرين عما يفوتهم من عرض الحياة الدنيا - وهم ينهضون بالتكاليف العليا - والذي تصغر معه تكاليف القوامة على أهواء البشرية وعنادها ولجاجها في هذه الأرض . . ثم هو العدل الإلهي الذي لا يسوي بين جزاء الخيرين وجزاء الأشرار !(1/244)
ولا بد من تعليق قلوب المؤمنين وأنظارهم بهذا العدل وبذلك الجزاء . لتتعامل مع الله متجردة من كل النوازع المعوقة من ملابسات الحياة . . وبعض القلوب يكفيها أن تشعر برضاء الله ; وتتذوق حلاوة هذا الرضى ; كما تتذوق حلاوة الوفاء بالميثاق . . ولكن المنهج يتعامل مع الناس جميعا . مع الطبيعة البشرية . والله يعلم من هذه الطبيعة حاجتها إلى هذا الوعد بالمغفرة والأجر العظيم . وحاجتها كذلك إلى معرفة جزاء الكافرين المكذبين ! إن هذا وذلك يرضي هذه الطبيعة . يطمئنها على مصيرها وجزائها ; ويشفي غيظها من أفاعيل الشريرين ! وبخاصة إذا كانت مأمورة بالعدل مع من تكره من هؤلاء ! بعد أن تلقى منهم ما تلقى من الكيد والإيذاء . . والمنهج الرباني يأخذ الطبيعة البشرية بما يعلمه الله من أمرها ; ويهتف لها بما تتفتح له مشاعرها , وتستجيب له كينونتها . . ذلك فوق أن المغفرة والأجر العظيم دليل رضى الله الكريم ; وفيهما مذاق الرضى فوق مذاق النعيم .
- - - - - - - - - - - -
32.
وجوب ذكر نعم الله علينا
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (11) سورة المائدة(1/245)
رُوِيَ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عيه وسلم نَزَلَ مَنْزِلاً ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي العَضاةِ يَسْتَظِلُّونَ تَحْتَها ، وَعَلَّقَ النَّبِيُّ سِلاَحَهُ عَلى شَجَرَةٍ ، فَجَاءَ أعْرَابِيٌّ إلى سَيْفِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأخَذَهُ وَسَلَّهُ ، وَأقْبَلَ عَلَى النَّبِيِّ فَقَالَ : مَنْ يَمْنَعَكَ مِنِّي؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : اللهُ . وَكَرَّرَ الأَعْرَابِيّ مَقَالَتَهُ مَرَّتَينِ أَوْ ثَلاَثاً ، وَالنَّبِيُّ يُجِيبُهُ بِقَوْلِهِ : اللهُ . فَرَدَّ الأَعْرَابِيُّ السَّيْفَ إلى مَكَانِهِ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ .
وَقِيلَ أَيْضاً : إنَّ اليَهُودَ حَاوَلُوا قَتْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ ، فَأَنْجَاهُ اللهُ مِنْهُمْ وَخَذَلَهُمْ .
وَفِي هَذِهِ الآيَةِ تَذْكِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِنِعْمَةِ اللهِ تَعَالَى عَلَيهِمْ إذْ دَفَعَ الشَّرَّ وَالمَكْرُوهَ عَنْ نَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وسلم وَعَنْهُمْ ، حِينما هَمَّ قَوْمٌ أنْ يَمُدُّوا أَيْدِيَهُمْ إِلَيْهِمْ بِصُنُوفِ الشَّرِّ وَالإِيذَاءِ ، فَكَفَّ اللهُ تَعَالَى بِلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ أيْدِيَهُمْ عَنِ المُؤْمِنِينَ ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا تَنْفِيذَ مَا هَمُّوا بِهِ .
وَيَأمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِأنْ يَتَّقُوهُ ، وَهُوَ تَعَالَى الذِي أرَاهُمْ قُدْرَتَهُ عَلَى أعْدَائِهِمْ وَقْتَ ضَعْفِ المُؤْمِنِينَ ، وَقُوَّةِ أعْدَائِهِمْ ، وَيَأمُرُهُمْ بِأنْ يَتَوَكَّلُوا عَلَيهِ وَحْدَهُ ، بَعْدَ أنْ أرَاهُمْ عِنَايَتَهُ بِمَنْ يَتَوَكَّلُونَ عَلَيهِ .(1/246)
وأيا ما كان الحادث , فإن عبرته في هذا المقام هي المنشودة في المنهج التربوي الفريد , وهي إماته الغيظ والشنآن لهؤلاء القوم في صدور المسلمين . كي يفيئوا إلى الهدوء والطمأنينة وهم يرون أن الله هو راعيهم وكالئهم . وفي ظل الهدوء والطمأنينة يصبح ضبط النفس , وسماحة القلب , وإقامة العدل ميسورة . ويستحي المسلمون أن لا يفوا بميثاقهم مع الله ; وهو يرعاهم ويكلؤهم , ويكف الأيدي المبسوطة إليهم .
ولا ننس أن نقف وقفة قصيرة أمام التعبير القرآني المصور:
إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم , فكف أيديهم عنكم . .
في مقام:إذ هم قوم أن يبطشوا بكم ويعتدوا عليكم فحماكم الله منهم . .
إن صورة و"حركة " بسط الأيدي وكفها أكثر حيوية من ذلك التعبير المعنوي الآخر . . والتعبير القرآني يتبع طريقة الصورة والحركة . لأن هذه الطريقة تطلق الشحنة الكاملة في التعبير ; كما لو كان هذا التعبير يطلق للمرة الأولى ; مصاحبا للواقعة الحسية التي يعبر عنها مبرزا لها في صورتها الحية المتحركة . . وتلك طريقة القرآن .
- - - - - - - - - - - -
33. وجوب تقوى الله وابتغاء الوسيلة إليه
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (35) سورة المائدة(1/247)
يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ بِتَقْوَاهُ وَطَاعَتِهِ حَقّاً وَصِدْقاً ، وَاتِّقَاءِ سَخَطِهِ وَعِقَابِهِ ، وَذَلِكَ بِعَدَمِ مُخَالَفَةِ شَرْعِهِ ، وَالانْكِفَافِ عَنْ إتْيانِ مَحَارِمِهِ ، وَتَرْكِ مَا نَهَى عَنْهُ ، وَبِأنْ يَتَقَرَّبُوا إليهِ بَطَاعَتِهِ ، وَبِالعَمَلِ بِمَا يُرْضِيهِ ( وَابْتَغُوا إلَيهِ الوَسِيلَةَ ) . ثُمَّ أمَرَهُمْ بِجِهَادِ أعْدائِهِمْ ، وَأعْدَاءِ اللهِ ، الخَارِجِينَ عَنِ الطَّرِيقِ المُسْتَقِيمِ . وَرَغَّبَهُمْ تَعَالَى فِي الجِهَادِ ، بِأنْ أبَانَ لَهُمْ مَا أعَدَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ يَوْمَ القَيَامَةِ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ ، وَكَرِيمِ المَنْزِلَةِ ، فَلَعَلَّهُمْ ، إنْ قَامُوا بِأمْرِ رَبِّهِمْ ، أنْ يُفْلِحُوا بِالفَوْزِ بِرِضَى اللهِ وَجَنَّتِهِ .
( وَيَشْمُلُ الجِهَادُ كُلَّ جَهْدٍ فِي الدِّفَاعِ عَنِ الحَقِّ ، وَحَمْلِ النَّاسِ عَلَى التِزَامِهِ ، كَمَا يَشْمُلُ جِهَادَ النَّفْسِ بِكَفِّهَا عَنْ أهْوائِها ، وَحَمْلِها عَلَى العَدْلِ وَالإِنْصَافِ فِي جَمِيعِ الأحْوالِ )
وقال ابن كثير :(1/248)
يَقُول تَعَالَى آمِرًا عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ بِتَقْوَاهُ وَهِيَ إِذَا قُرِنَتْ بِطَاعَتِهِ كَانَ الْمُرَاد بِهَا الِانْكِفَاف عَنْ الْمَحَارِم وَتَرْك الْمَنْهِيَّات وَقَدْ قَالَ بَعْدهَا " وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَة" قَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ : عَنْ طَلْحَة عَنْ عَطَاء عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْ الْقُرْبَة وَكَذَا قَالَ مُجَاهِد وَأَبُو وَائِل وَالْحَسَن وَقَتَادَة وَعَبْد اللَّه بْن كَثِير وَالسُّدِّيّ وَابْن زَيْد وَغَيْر وَاحِد وَقَالَ قَتَادَة أَيْ تَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ وَالْعَمَل بِمَا يُرْضِيه وَقَرَأَ اِبْن زَيْد " أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبّهمْ الْوَسِيلَة " وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة لَا خِلَاف بَيْن الْمُفَسِّرِينَ فِيهِ وَأَنْشَدَ عَلَيْهِ اِبْن جَرِير قَوْل الشَّاعِر :
إِذَا غَفَلَ الْوَاشُونَ عُدْنَا لِوَصْلِنَا ... وَعَادَ التَّصَافِي بَيْنَنَا وَالْوَسَائِل(1/249)
وَالْوَسِيلَة هِيَ الَّتِي يُتَوَصَّل بِهَا إِلَى تَحْصِيل الْمَقْصُود وَالْوَسِيلَة أَيْضًا عَلَمٌ عَلَى أَعْلَى مَنْزِلَة فِي الْجَنَّة وَهِيَ مَنْزِلَة رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَاره فِي الْجَنَّة وَهِيَ أَقْرَبُ أَمْكِنَة الْجَنَّة إِلَى الْعَرْش وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ مِنْ طَرِيق مُحَمَّد بْن الْمُنْكَدِر عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ قَالَ حِين يَسْمَع النِّدَاء اللَّهُمَّ رَبّ هَذِهِ الدَّعْوَة التَّامَّة وَالصَّلَاة الْقَائِمَة آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَة وَالْفَضِيلَة وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْته إِلَّا حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ يَوْم الْقِيَامَة " " حَدِيث آخَر " فِي صَحِيح مُسْلِم مِنْ حَدِيث كَعْب عَنْ عَلْقَمَة عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن جُبَيْر عَنْ عَبْد اللَّه سَمِعَ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُول : " إِذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّن فَقُولُوا مِثْل مَا يَقُول ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاة صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا لِي الْوَسِيلَة فَإِنَّهَا مَنْزِلَة فِي الْجَنَّة لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُون أَنَا هُوَ فَمَنْ سَأَلَ لِيَ الْوَسِيلَة حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَة " "(1/250)
وَقَوْله " وَجَاهِدُوا فِي سَبِيله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " لَمَّا أَمَرَهُمْ بِتَرْكِ الْمَحَارِم وَفِعْل الطَّاعَات أَمَرَهُمْ بِقِتَالِ الْأَعْدَاء مِنْ الْكُفَّار وَالْمُشْرِكِينَ الْخَارِجِينَ عَنْ الطَّرِيق الْمُسْتَقِيم وَالتَّارِكِينَ لِلدِّينِ الْقَوِيم وَرَغَّبَهُمْ فِي ذَلِكَ بِاَلَّذِي أَعَدَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيله يَوْم الْقِيَامَة : مِنْ الْفَلَاح وَالسَّعَادَة الْعَظِيمَة الْخَالِدَة الْمُسْتَمِرَّة الَّتِي لَا تَبِيد وَلَا تُحَوَّل وَلَا تَزُول فِي الْغُرَف الْعَالِيَة الرَّفِيعَة الْآمِنَة الْحَسَنَة مَنَاظِرُهَا الطَّيِّبَة مَسَاكِنهَا الَّتِي مَنْ سَكَنَهَا يُنَعَّم لَا يَيْأَس وَيَحْيَا لَا يَمُوت لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ.
إن هذا المنهج المتكامل يأخذ النفس البشرية من أقطارها جميعاً؛ ويخاطب الكينونة البشرية من مداخلها جميعاً؛ ويلمس أوتارها الحية كلها وهو يدفعها إلى الطاعة ويصدها عن المعصية . . إن الهدف الأول للمنهج هو تقويم النفس البشرية وكفها عن الانحراف . والعقوبة وسيلة من الوسائل الكثيرة . وليست العقوبة غاية ، كما أنها ليست الوسيلة الوحيدة .
وهنا نرى أنه يبدأ هذا الشوط بنبأ ابني آدم - بكل ما فيه من موحيات - ثم يثني بالعقوبة التي تخلع القلوب . ثم يعقب بالدعوة إلى تقوى الله وخشيته والخوف من عقابه . ومع الدعوة التصوير الرعيب للعقاب . .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } . .(1/251)
فالخوف ينبغي أن يكون من الله . فهذا هو الخوف اللائق بكرامة الإنسان . أما الخوف من السيف والسوط فهو منزلة هابطة . لا تحتاج إليها إلا النفوس الهابطة . . والخوف من الله أولى وأكرم وأزكى . . على أن تقوى الله هي التي تصاحب الضمير في السر والعلن؛ وهي التي تكف عن الشر في الحالات التي لا يراها الناس ، ولا تتناولها يد القانون . وما يمكن أن يقوم القانون وحده - مع ضرورته - بدون التقوى؛ لأن ما يفلت من يد القانون حينئذ أضعاف أضعاف ما تناله . ولا صلاح لنفس ، ولا صلاح لمجتمع يقوم على القانون وحده؛ بلا رقابة غيبية وراءه ، وبلا سلطة إلهية يتقيها الضمير .
{ وابتغوا إليه الوسيلة } . .اتقوا الله؛ واطلبوا إليه الوسيلة؛ وتلمسوا ما يصلكم به من الأسباب . . وفي رواية عن ابن عباس : ابتغوا إليه الوسيلة؛ أى ابتغوا إليه الحاجة . والبشر حين يشعرون بحاجتهم إلى الله وحين يطلبون عنده حاجتهم يكونون في الوضع الصحيح للعبودية أمام الربوبية؛ ويكونون - بهذا - في أصلح أوضاعهم وأقربها إلى الفلاح . وكلا التفسيرين يصلح للعبارة؛ ويؤدي إلى صلاح القلب ، وحياة الضمير ، وينتهي إلى الفلاح المرجو .{ لعلكم تفلحون } . .
- - - - - - - - - - - -
34.
تحريم اتخاذ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء(1/252)
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) } سورة المائدة
يَنْهَى اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالاَةِ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى ، وَاتِّخَاذِهِمْ حُلَفاءَ لَهُمْ عَلَى أَهْلِ الإِيمَانِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، وَيَقُولُ لَهُمْ إنَّ مَنْ يَتَّخِذُهُمْ نُصَرَاءَ وَحُلَفَاءَ وَأَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَرَسُولِهِ ، فَهُوَ مِنْهُمْ فِي التَّحَزُّبِ عَلى اللهِ وَرَسُولِهِ وَالمُؤْمِنِينَ . وَإنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ . وَمَنْ يَتَولَّى أَعْدَاءُ اللهِ فَهُوَ ظَالِمٌ ، وَاللهُ لاَ يَهْدِيهِ إلى الخَيْرِ . وَاليَهُودُ وَالنَّصَارَى بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ وَلِيٌّ وَلا نَصِيرٌ .(1/253)
وَإذْ كَانَتْ وَلاَيَةُ أَهْلِ الكِتَابِ لاَ يَتْبَعُها إلاَّ الظَالِمُونَ فَإنَّكَ تَرَى الذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ شَكٌّ وَنِفَاقٌ ( مَرَضٌ ) يُبَادِرُونَ إلَى مُوَالاَتِهِمْ ، وَإلَى مُوَادَّتِهِمْ فِي البَاطِنِ وَالظَّاهِرِ ، وَيَتَأَوَّلُونَ فِي مَوَدَّتِهِمْ وَفِي مُوَالاَتِهِمْ ، أنَّهُمْ يَخْشَونَ أَنْ يَقَعَ أَمْرٌ مِنْ ظَفَرِ الكَافِرِينَ بِالمُسْلِمِينَ ( تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ) فَتَكُونَ لَهُمْ أَيَادٍ عِنْدَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى ، فَيَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ حِينَئِذٍ . فَعَسَى اللهُ أَنْ يُتِمَّ أَمْرَهُ بِنَصْرِ المُسْلِمِينَ ، وَيُحَقِقَ لَهُمُ الفَتْحَ وَالغَلَبَةَ ، أَوْ يَتِمَّ أَمْرٌ مِنْ عِنْدِهِ كَفَرْضِ الجِزْيَةِ عَلَى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى ، فَيُصْبحَ الذِينَ وَالَوْا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنَ المُنَافِقِينَ نَادِمِينَ عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ مُوَالاَةِ هَؤُلاَءِ تَحَسُّباً لِمَا لَمْ يَقَعْ ، وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ شَيْئاً ، وَلاَ دَفَعَ عَنْهُمْ مَحْذُوراً .
( هَذِهِ الآيَةُ وَالتِي قَبْلَهَا نَزَلَتَا فِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ مِنَ الخَزْرَجِ ، فَقَدْ كَانَ لَهُمَا حُلَفَاءُ مِنَ اليَهُودِ ، فَجَاءَ عُبَادَةَ إلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ لِي مَوَالٍ مِنَ اليَهُودِ كَثيرُ عَدَدُهُمْ ، وَإني أَبْرَأ إلى اللهِ وَرَسُولِهِ مِنْ وَلاَيَةِ يَهُودٍ ، وَأتَوَلَّى اللهَ وَرَسُولَهُ .
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ : إنِّي رَجُلٌ أَخَافُ الدَّوَائِرَ وَلاَ أَبْرَأ مِنْ وَلاَيَةِ مَوَالِيَّ ).(1/254)
لَمَّا التَجَأَ هَؤُلاَءِ المُنَافِقُونَ إلَى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى يُوالُونَهُمْ وَيُوادُّونَهُمْ ، افْتَضَحَ أَمْرُهُمْ لِعِبَادِ اللهِ المُؤْمِنِينَ ، بَعْدَ أنْ كَانُوا يَتَسَتَّرُونَ ، لاَ يَدْرِي أحَدٌ كَيْفَ حَالُهُمْ ، فَتَعَجَّبَ المُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ ، كَيْفَ كَانُوا يَظْهَرُونَ أَنَّهُمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ ، يُعَاضِدُونَهُمْ وَيُسَاعِدُونَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمِ اليَهُودِ ، فَلَمَّا جَدَّ الجِدُّ أَظْهَرُوا مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ مُوَالاَتِهِمْ وَمُمَالأَتِهِمْ عَلَى المُؤْمِنِينَ . وَلَمَّا اسْتَبَانَ حَالُهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ قَالُوا : لَقَدْ هَلَكَتْ أَعْمَالُ هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ مِنْ صَلاَةٍ وَصَوْمٍ وَزَكَاةٍ وَجِهَادٍ ، وَخَسِرُوا بِذَلِكَ مَا كَانُوا يَرْجُونَهُ مِنَ الثَّوَابِ .
وهكذا تقررت تلك القاعدة الأصيلة الحاسمة في علاقات المجتمع الإسلامي ; وفي طبيعة بنائه وتكوينه العضوي الذي يتميز به عن سائر المجتمعات الجاهلية قديما وحديثا إلى آخر الزمان . ولم يعد هناك مجال للجمع بين "الإسلام" وبين إقامة المجتمع على أية قاعدة أخرى غير القاعدة التي اختارها الله للأمة المختارة . والذين يدعون صفة الإسلام , ثم يقيمون مجتمعاتهم على قاعدة أو أكثر من تلك العلاقات الجاهلية التي أحل الإسلام محلها قاعدة العقيدة , إما أنهم لا يعرفون الإسلام ; وإما أنهم يرفضونه . والإسلام في كلتا الحالتين لا يعترف لهم بتلك الصفة التي يدعونها لأنفسهم وهم لا يطبقونها , بل يختارون غيرها من مقومات الجاهلية فعلا !
وندع هذه القاعدة - وقد صارت واضحة تماما - لننظر في جوانب من حكمة الله في إقامة المجتمع الإسلامي على هذه القاعدة . .(1/255)
إن العقيدة تمثل أعلى خصائص "الإنسان" التي تفرقه من عالم البهيمة ; لأنها تتعلق بالعنصر الزائد في تركيبه وكينونته عن تركيب البهيمة وكينونتها - وهو العنصر الروحي الذي به صار هذا المخلوق إنسانا في هذه الصورة - وحتى أشد الملحدين إلحادا وأكثر الماديين مادية , قد انتبهوا أخيرا إلى أن العقيدة خاصة من خواص الإنسان تفرقه فرقا أساسيا عن الحيوان .
ومن ثم ينبغي أن تكون العقيدة - في المجتمع الإنساني الذي يبلغ ذروة الحضارة الإنسانية - هي آصرة التجمع . لأنها العنصر الذي يتعلق بأخص خصائص الإنسان المميزة له عن البهائم . ولا تكون آصرة التجمع عنصرا يتعلق بشيء يشترك فيه الإنسان مع البهائم ! من مثل الأرض والمرعى والمصالح والحدود التي تمثل خواص الحظيرة , وسياج الحظيرة ! ولا تكون كذلك هي الدم والنسب والعشيرة والقوم والجنس والعنصرواللون واللغة . . فكلها مما يشترك فيه الإنسان مع البهيمة . وليس هناك إلا شؤون العقل والقلب التي يختص بها الإنسان دون البهيمة !
كذلك تتعلق العقيدة بعنصر آخر يتميز به الإنسان عن البهائم . . هو عنصر الاختيار والإرادة , فكل فرد على حدة يملك أن يختار عقيدته بمجرد أن يبلغ سن الرشد ; وبذلك يقرر نوع المجتمع الذي يريد أن يعيش فيه مختارا ; ونوع المنهج الاعتقادي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والخلقي الذي يريد - بكامل حريته - أن يتمذهب به ويعيش . .(1/256)
ولكن هذا الفرد لا يملك أن يقرر دمه ونسبه ولونه وقومه وجنسه . كما لا يملك أن يقرر الأرض التي يحب أن يولد فيها , ولغة الأم التي يريد أن ينشأ عليها . . إلى آخر تلك المقومات التي تقام عليها مجتمعات الجاهلية ! . . إن هذه الأمور كلها يقضى فيها قبل مجيئه إلى هذه الأرض , ولا يؤخذ له فيها مشورة ولا رأي ; إنما هي تفرض عليه فرضا سواء أحب أم كره ! فإذا تعلق مصيره في الدنيا والآخرة معا - أو حتى في الدنيا وحدها - بمثل هذه المقومات التي تفرض عليه فرضا لم يكن مختارا ولا مريدا ; وبذلك تسلب إنسانيته مقوما من أخص مقوماتها ; وتهدر قاعدة أساسية من قواعد تكريم الإنسان ; بل من قواعد تركيبه وتكوينه الإنساني المميز له من سائر الخلائق !
ومن أجل المحافظة على خصائص الإنسان الذاتية , والمحافظة على الكرامة التي وهبها الله له متمشية مع تلك الخصائص ; يجعل الإسلام العقيدة - التي يملك كل فرد اختيارها بشخصه منذ أن يبلغ سن الرشد - هي الآصرة التي يقوم عليها التجمع الإنساني في المجتمع الإسلامي ; والتي يتقرر على أساسها مصير كل فرد بإرادته الذاتية . وينفي أن تكون تلك العوامل الاضطرارية , التي لا يد له فيها , ولا يملك كذلك تغييرها باختياره , هي آصرة التجمع التي تقرر مصيره طول حياته .(1/257)
ومن شأن قيام المجتمع على آصرة العقيدة - وعدم قيامه على العوامل الاضطرارية الأخرى - أن ينشئ مجتمعا إنسانيا عالميا مفتوحا ; يجيء إليه الأفراد من شتى الأجناس والألوان واللغات والأقوام والدماء والأنساب والديار والأوطان بكامل حريتهم واختيارهم الذاتي ; لا يصدهم عنه صاد , ولا يقوم في وجوههم حاجز , ولا تقف دونه حدود مصطنعة , خارجة عن خصائص الإنسان العليا . وأن تصب في هذا المجتمع كل الطاقات والخواص البشرية , وتجتمع في صعيد واحد , لتنشى ء "حضارة إنسانية " تنتفع بكل خصائص الأجناس البشرية ; ولا تغلق دون كفاية واحدة , بسبب من اللون أو العنصر أو النسب والأرض . . .
"ولقد كان من النتائج الواقعية الباهرة للمنهج الإسلامي في هذه القضية ; ولإقامة التجمع الإسلامي على آصرة العقيدة وحدها , دون أواصر الجنس والأرض واللون واللغة والمصالح الأرضية القريبة , والحدود الإقليمية السخيفة ! ولإبراز "خصائص الإنسان" في هذا التجمع وتنميتها وإعلائها , دون الصفات المشتركة بينه وبين الحيوان . . كان من النتائج الواقعية الباهرة لهذا المنهج أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعا مفتوحا لجميع الأجناس والألوان واللغات , بلا عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة ! وأن صبت في بوتقة المجتمع الإسلامي خصائص الأجناس البشرية وكفاياتها , وانصهرت في هذه البوتقة وتمازجت , وأنشأت مركبا عضويا فائقا في فترة تعد نسبيا قصيرة . وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة ضخمة , تحوي خلاصة الطاقة البشرية في زمانها مجتمعة , على بعد المسافات وبطء طرق الاتصال في ذلك الزمان .(1/258)
"لقد اجتمع في المجتمع الإسلامي المتفوق:العربي والفارسي والشامي والمصري والمغربي والتركي والصيني والهندي والروماني والإغريقي والإندونيسي والإفريقي . . . إلى آخر الأقوام والأجناس . . . وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة متعاونة متناسقة في بناء المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية . ولم تكن هذه الحضارة الضخمة يوما ما "عربية " إنما كانت دائما "إسلامية " ولم تكن يوما ما "قومية " إنما كانت دائما "عقدية " .
"ولقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة , وبآصرة الحب . وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة . فبذلوا جميعا أقصى كفاياتهم , وأبرزوا أعمق خصائص أجناسهم , وصبوا خلاصة تجاربهم الشخصية والقومية والتاريخية في بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعا على قدم المساواة , وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم الواحد , وتبرز فيها إنسانيتهم وحدها بلا عائق . وهذا ما لم يجتمع قط لأي تجمع آخر على مدار التاريخ !
"لقد كان أشهر تجمع بشري في التاريخ القديم هو تجمع الإمبراطورية الرومانية مثلا . فقد جمعت بالفعل أجناسا متعددة , ولغات متعددة , وألوانا متعددة , وأمزجة متعددة . ولكن هذا كله لم يقم على "آصرة إنسانية " ولم يتمثل في قيمة عليا كالعقيدة . . لقد كان هناك تجمع طبقي على أساس طبقة الأشراف وطبقة العبيد في الإمبراطورية كلها من ناحية ; وتجمع عنصري على أساس سيادة الجنس الروماني - بصفة عامة - وعبودية سائر الأجناس الأخرى . ومن ثم لم يرتفع قط إلى أفق التجمع الإسلامي ; ولم يؤت الثمار التي آتاها التجمع الإسلامي .(1/259)
"كذلك قامت في التاريخ الحديث تجمعات أخرى . . تجمع الإمبراطورية البريطانية مثلا . . ولكنه كان كالتجمع الروماني , الذي هو وريثه ! تجمعا قوميا استغلاليا , يقوم على أساس سيادة القومية الانجليزية , واستغلال المستعمرات التي تضمها الإمبراطورية . . ومثله الإمبراطوريات الأوربية كلها . . الإمبراطورية الأسبانية والبرتغالية في وقت ما , والإمبراطورية الفرنسية . . كلها في ذلك المستوى الهابط البشع المقيت ! وأرادت الشيوعية أن تقيم تجمعا من نوع آخر , يتخطى حواجز الجنس والقوم والأرض واللغة واللون . ولكنها لم تقمه على قاعدة "إنسانية " عامة , إنما أقامته على القاعدة "الطبقية " . فكان هذا التجمع هو الوجه الآخر للتجمع الروماني القديم . . هذا تجمع على قاعدة طبقة "الأشراف" وذلك تجمع على قاعدة طبقة "الصعاليك" [ البروليتريا ] ; والعاطفة التي تسوده هي عاطفة الحقد الأسود على سائر الطبقات الأخرى ! وما كان لمثل هذا التجمع الصغير البغيض أن يثمر إلا أسوأ ما في الكائن الإنساني . . فهو ابتداء قائم على أساس إبراز الصفات الحيوانية وحدها وتنميتها وتمكينها . باعتبار أن "المطالب الأساسية " للإنسان هي "الطعام والمسكن والجنس" - وهي مطالب الحيوان الأولية - وباعتبار أن تاريخ الإنسان هو تاريخ البحث عن الطعام !!(1/260)
"لقد تفرد الإسلام بمنهجه الرباني في إبراز أخص خصائص الإنسان وتنميتها وإعلائها في بناء المجتمع الإنساني . . وما يزال متفردا . . والذين يعدلون عنه إلى أى منهج آخر , يقوم على أية قاعدة أخرى , من القوم أو الجنس أو الأرض أو الطبقة . . إلى آخر هذا النتن السخيف السخيف , هم أعداء "الإنسان" حقا ! هم الذين لا يريدون لهذا الإنسان أن يتفرد في هذا الكون بخصائصه العليا كما فطره الله ; ولا يريدون لمجتمعه أن ينتفع بأقصى كفايات أجناسه وخصائصها وتجاربها في امتزاج وتناسق ويحسن أن نذكر أن أعداء هذا الدين , الذين يعرفون مواضع القوة في طبيعته وحركته ; وهم الذين يقول الله تعالى فيهم: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) . . لم يفتهم أن يدركوا أن التجمع على أساس العقيدة سر من أسرار قوة هذا الدين , وقوة المجتمع الإسلامي الذي يقوم على هذا الأساس . . ولما كانوا بصدد هدم ذلك المجتمع أو إضعافه إلى الحد الذي يسهل عليهم السيطرة عليه ; وشفاء ما في صدورهم من هذا الدين وأهله ; ولاستغلالهم كذلك واستغلال مقدراتهم وديارهم وأموالهم . . لما كانوا بصدد تلك المعركة مع هذا المجتمع لم يفتهم أن يوهنوا من القاعدة التي يقوم عليها ; وأن يقيموا لأهله المجتمعين على إله واحد , أصناما تعبد من دون الله , اسمها تارة "الوطن" واسمها تارة "القوم" واسمها تارة "الجنس" . وظهرت هذه الأصنام على مراحل التاريخ تارة باسم "الشعوبية " وتارة باسم "الجنسية الطورانية " وتارة باسم "القومية العربية " وتارة بأسماء شتى , تحملها جبهات شتى , تتصارع فيما بينها في داخل المجتمع الإسلامي الواحد القائم على أساس العقيدة , المنظم بأحكام الشريعة . . . إلى أن وهنت القاعدة الأساسية تحت المطارق المتوالية , وتحت الإيحاءات الخبيثة المسمومة ; وإلى أن أصبحت تلك "الأصنام" مقدسات يعتبر المنكر لها خارجا على دين قومه ! أو خائنا لمصالح بلده !!!(1/261)
وأخبث المعسكرات التي عملت وما زالت تعمل في تخريب القاعدة الصلبة التي كان يقوم عليها التجمع الإسلامي الفريد في التاريخ . . كان هو المعسكر اليهودي الخبيث , الذي جرب سلاح "القومية " في تحطيم التجمع المسيحي , وتحويله إلى قوميات سياسية ذات كنائس قومية . . وبذلك حطموا الحصار المسيحي حول الجنس اليهودي ; ثم ثنوا بتحطيم الحصار الإسلامي حول ذلك الجنس الكنود !
وكذلك فعل الصليبيون مع المجتمع الإسلامي - بعد جهد قرون كثيرة في إثارة النعرات الجنسية والقومية والوطنية بين الأجناس الملتحمة في المجتمع الإسلامي . . ومن ثم استطاعوا أن يرضوا أحقادهم الصليبية القديمة على هذا الدين وأهله . كما استطاعوا أن يمزقوهم ويروضوهم على الاستعمار الأوربي الصليبي . وما يزالون . . حتى يأذن الله بتحطيم تلك الأصنام الخبيثة الملعونة ; ليقوم التجمع الإسلامي من جديد , على أساسه المتين الفريد . .
وأخيرا فإن الناس ما كانوا ليخرجوا من الجاهلية الوثنية بكلياتهم حتى تكون العقيدة وحدها هي قاعدة تجمعهم . ذلك أن الدينونة لله وحده لا تتم تمامها إلا بقيام هذه القاعدة في تصورهم وفي تجمعهم .
يجب أن تكون هناك قداسة واحدة لمقدس واحد , وألا تتعدد "المقدسات" ! ويجب أن يكون هناك شعار واحد , وألا تتعدد "الشعارات" ويجب أن تكون هناك قبلة واحدة يتجه إليها الناس بكلياتهم وألا تتعدد القبلات والمتجهات . .
إن الوثنية ليست صورة واحدة هي وثنية الأصنام الحجرية والآلهة الأسطورية ! إن الوثنية يمكن أن تتمثل في صور شتى ; كما أن الأصنام يمكن أن تتخذ صورا متعددة ; وآلهة الأساطير يمكن أن تتمثل مرة أخرى في المقدسات والمعبودات من دون الله أيا كانت أسماؤها . وأيا كانت مراسمها .(1/262)
وما كان الإسلام ليخلص الناس من الأصنام الحجرية والأرباب الأسطورية , ثم يرضى لهم بعد ذلك أصنام الجنسيات والقوميات والأوطان . . وما إليها . . يتقاتل الناس تحت راياتها وشعاراتها . وهو يدعوهم إلى الله وحده , وإلى الدينونة له دون شيء من خلقه !
لذلك قسم الإسلام الناس إلى أمتين اثنتين على مدار التاريخ البشري . . أمة المسلمين من أتباع الرسل -كل في زمانه حتى يأتي الرسول الأخير إلى الناس كافة - وأمة غير المسلمين من عبدة الطواغيت والأصنام في شتى الصور والأشكال على مدار القرون . .
وعندما أراد الله أن يعرف المسلمين بأمتهم التي تجمعهم على مدار القرون , عرفها لهم في صورة أتباع الرسل - كل في زمانه - وقال لهم في نهاية استعراض أجيال هذه الأمة:(إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) . . ولم يقل للعرب:إن أمتكم هي الأمة العربية في جاهليتها وإسلامها سواء ! ولا قال لليهود:إن أمتكم هي بنو إسرائيل أو العبرانيون في جاهليتهم وإسلامهم سواء ! ولا قال لسلمان الفارسي:إن أمتك هي فارس ! ولا لصهيب الرومي:إن أمتك هي الرومان ! ولا لبلال الحبشي:إن أمتك هي الحبشة ! إنما قال للمسلمين من العرب والفرس والروم والحبش:إن أمتكم هي المسلمون الذين أسلموا حقا على أيام موسى وهارون , وإبراهيم , ولوط , ونوح , وداود وسليمان , وأيوب , وإسماعيل وإدريس وذي الكفل وذي النون , وزكريا ويحيى , ومريم . . كما جاء في سورة الأنبياء:[ آيات:48 - 91 ] .
هذه هي أمة "المسلمين" في تعريف الله سبحانه . . فمن شاء له طريقا غير طريق الله فليسلكه . ولكن ليقل:إنه ليس من المسلمين ! أما نحن الذين أسلمنا لله , فلا نعرف لنا أمة إلا الأمة التي عرفها لنا الله . والله يقص الحق وهو خير الفاصلين . .
---------------
ويحسن أن نبين أولاً معنى الولاية التي ينهى الله الذين آمنوا أن تكون بينهم وبين اليهود والنصارى . .(1/263)
إنها تعني التناصر والتحالف معهم . ولا تتعلق بمعنى اتباعهم في دينهم . فبعيد جداً أن يكون بين المسلمين من يميل إلى اتباع اليهود والنصارى في الدين . إنما هو ولاء التحالف والتناصر ، الذي كان يلتبس على المسلمين أمره ، فيحسبون أنه جائز لهم ، بحكم ما كان واقعاً من تشابك المصالح والأواصر ، ومن قيام هذا الولاء بينهم وبين جماعات من اليهود قبل الإسلام ، وفي أوائل العهد بقيام الإسلام في المدينة ، حتى نهاهم الله عنه وأمر بإبطاله .
عد ما تبين عدم إمكان قيام الولاء والتحالف والتناصر بين المسلمين واليهود في المدينة . .
وهذا المعنى معروف محدد في التعبيرات القرآنية . وقد جاء في صدد الكلام عن العلاقة بين المسلمين في المدينة والمسلمين الذين لم يهاجروا إلى دار الإسلام . فقال الله سبحانه : { ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا } . وطبيعي أن المقصود هنا ليس الولاية في الدين . فالمسلم ولي المسلم في الدين على كل حال . إنما المقصود هو ولاية التناصر والتعاون . فهي التي لا تقوم بين المسلمين في دار الإسلام والمسلمين الذين لم يهاجروا إليهم . . وهذا اللون من الولاية هو الذي تمنع هذه الآيات أن يقوم بين الذين آمنوا وبين اليهود والنصارى بحال ، بعد ما كان قائماًَ بينهم أول العهد في المدينة .(1/264)
إن سماحة الإسلام مع أهل الكتاب شيء ، واتخاذهم أولياء شيء آخر ، ولكنهما يختلطان على بعض المسلمين ، الذين لم تتضح في نفوسهم الرؤية الكاملة لحقيقة هذا الدين ووظيفته ، بوصفه حركة منهجية واقعية ، تتجه إلى إنشاء واقع في الأرض ، وفق التصور الإسلامي الذي يختلف في طبيعته عن سائر التصورات التي تعرفها البشرية؛ وتصطدم - من ثم - بالتصورات والأوضاع المخالفة ، كما تصطدم بشهوات الناس وانحرافهم وفسوقهم عن منهج الله ، وتدخل في معركة لا حيلة فيها ، ولا بد منها ، لإنشاء ذلك الواقع الجديد الذي تريده ، وتتحرك إليه حركة إيجابية فاعلة منشئة . .
وهؤلاء الذين تختلط عليهم تلك الحقيقة ينقصهم الحس النقي بحقيقة العقيدة ، كما ينقصهم الوعي الذكي لطبيعة المعركة وطبيعة موقف أهل الكتاب فيها؛ ويغفلون عن التوجيهات القرآنية الواضحة الصريحة فيها ، فيخلطون بين دعوة الإسلام إلى السماحة في معاملة أهل الكتاب والبر بهم في المجتمع المسلم الذي يعيشون فيه مكفولي الحقوق ، وبين الولاء الذي لا يكون إلا لله ورسوله وللجماعة المسلمة . ناسين ما يقرره القرآن الكريم من أن أهل الكتاب . . بعضهم أولياء بعض في حرب الجماعة المسلمة . . وأن هذا شأن ثابت لهم ، وأنهم ينقمون من المسلم إسلامه ، وأنهم لن يرضوا عن المسلم إلا أن يترك دينه ويتبع دينهم . وأنهم مصرون على الحرب للإسلام وللجماعة المسلمة . وأنهم قد بدت البغضاء من أفواهم وما تخفي صدورهم أكبر . . إلى آخر هذه التقريرات الحاسمة .
إن المسلم مطالب بالسماحة مع أهل الكتاب ، ولكنه منهي عن الولاء لهم بمعنى التناصر والتحالف معهم . وإن طريقه لتمكين دينه وتحقيق نظامه المتفرد لا يمكن أن يلتقي مع طريق أهل الكتاب ، ومهما أبدى لهم من السماحة والمودة فإن هذا لن يبلغ أن يرضوا له البقاء على دينه وتحقيق نظامه ، ولن يكفهم عن موالاة بعضهم لبعض في حربه والكيد له . .(1/265)
وسذاجة أية سذاجة وغفلة أية غفلة ، أن نظن أن لنا وإياهم طريقاً واحداً نسلكه للتمكين للدين! أمام الكفار والملحدين! فهم مع الكفار والملحدين ، إذا كانت المعركة مع المسلمين!!!
وهذه الحقائق الواعية يغفل عنها السذج منا في هذا الزمان وفي كل زمان؛ حين يفهمون أننا نستطيع أن نضع أيدينا في أيدي أهل الكتاب في الأرض للوقوف في وجه المادية والإلحاد - بوصفنا جميعاً أهل دين! - ناسين تعليم القرآن كله؛ وناسين تعليم التاريخ كله .
فأهل الكتاب هؤلاء هم الذين كانوا يقولون للذين كفروا من المشركين : { هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً } . وأهل الكتاب هؤلاء هم الذين ألبوا المشركين على الجماعة المسلمة في المدينة ، وكانوا لهم درعاً وردءاً . وأهل الكتاب هم الذين شنوا الحروب الصليبية خلال مائتي عام ، وهم الذين ارتكبوا فظائع الأندلس ، وهم الذي شردوا العرب المسلمين في فلسطين ، وأحلوا اليهود محلهم ، متعاونين في هذا مع الإلحاد والمادية! وأهل الكتاب هؤلاء هم الذين يشردون المسلمين في كل مكان . . في الحبشة والصومال واريتريا والجزائر ، ويتعاونون في هذا التشريد مع الإلحاد والمادية والوثنية ، في يوغسلافيا والصين والتركستان والهند ، وفي كل مكان!
ثم يظهر بيننا من يظن - في بعد كامل عن تقريرات القرآن الجازمة - أنه يمكن أن يقوم بيننا وبين أهل الكتاب هؤلاء ولاء وتناصر . ندفع به المادية الإلحادية عن الدين!
إن هؤلاء لا يقرأون القرآن . وإذا قرأوه اختلطت عليهم دعوة السماحة التي هي طابع الإسلام؛ فظنوها دعوة الولاء الذي يحذر منه القرآن .
إن هؤلاء لا يعيش الإسلام في حسهم ، لا بوصفه عقيدة لا يقبل الله من الناس غيرها ، ولا بوصفه حركة إيجابية تستهدف إنشاء واقع جديد في الأرض؛ تقف في وجه عداوات أهل الكتاب اليوم ، كما وقفت له بالأمس . الموقف الذي لا يمكن تبديله . لأنه الموقف الطبيعي الوحيد!(1/266)
وندع هؤلاء في إغفالهم أو غفلتهم عن التوجيه القرآني ، لنعي نحن هذا التوجيه القرآني الصريح :
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء . . بعضهم أولياء بعض . . ومن يتولهم منكم فإنه منهم . إن الله لا يهدي القوم الظالمين } . .
هذا النداء موجه إلى الجماعة المسلمة في المدينة - ولكنه في الوقت ذاته موجه لكل جماعة مسلمة تقوم في أي ركن من أركان الأرض إلى يوم القيامة . . موجه لكل من ينطبق عليه ذات يوم صفة : { الذين آمنوا } . .
ولقد كانت المناسبة الحاضرة إذ ذاك لتوجيه هذا النداء للذين آمنوا ، أن المفاصلة لم تكن كاملة ولا حاسمة بين بعض المسلمين في المدينه وبعض أهل الكتاب - وبخاصه اليهود - فقد كانت هناك علاقات ولاء وحلف ، وعلاقات اقتصاد وتعامل ، وعلاقات جيره وصحبه . . وكان هذا كله طبيعياً مع الوضع التاريخي والاقتصادي والاجتماعي في المدينة قبل الإسلام ، بين أهل المدينة من العرب وبين اليهود بصفة خاصة . . وكان هذا الوضع يتيح لليهود أن يقوموا بدورهم في الكيد لهذا الدين وأهله؛ بكل صنوف الكيد التي عددتها وكشفتها النصوص القرآنية الكثيرة؛ والتي سبق استعراض بعضها في الأجزاء الخمسة الماضية من هذه الظلال؛ والتي يتولى هذا الدرس وصف بعضها كذلك في هذه النصوص .
ونزل القرآن ليبث الوعي اللازم للمسلم في المعركة التي يخوضها بعقيدته ، لتحقيق منهجه الجديد في واقع الحياة . ولينشئ في ضمير المسلم تلك المفاصلة الكاملة بينه وبين كل من لا ينتمي إلى الجماعة المسلمة ولا يقف تحت رايتها الخاصة . المفاصلة التي لا تنهي السماحة الخلقية . فهذه صفة المسلم دائماً . ولكنها تنهي الولاء الذي لا يكون في قلب المسلم إلا لله ورسوله والذين آمنوا . . الوعي والمفاصلة اللذان لا بد منهما للمسلم في كل أرض وفي كل جيل .
{(1/267)
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء . . بعضهم أولياء بعض . ومن يتولهم منكم فإنه منهم . إن الله لا يهدي القوم الظالمين } .
بعضهم أولياء بعض . . إنها حقيقة لا علاقة لها بالزمن . . لأنها حقيقة نابعة من طبيعة الأشياء . . إنهم لن يكونوا أولياء للجماعة المسلمة في أي أرض ولا في أي تاريخ . . وقد مضت القرون تلو القرون ترسم مصداق هذه القولة الصادقة . . لقد ولي بعضهم بعضاً في حرب محمد - صلى الله عليه وسلم - والجماعة المسلمة في المدينة . وولي بعضهم بعضاً في كل فجاج الأرض ، على مدار التاريخ . . ولم تختل هذه القاعدة مرة واحدة؛ ولم يقع في هذه الأرض إلا ما قرره القرآن الكريم ، في صيغة الوصف الدائم ، لا الحادث المفرد . . واختيار الجملة الأسمية على هذا النحو . . بعضهم أولياء بعض . . ليست مجرد تعبير! إنما هي اختيار مقصود للدلالة على الوصف الدائم الأصيل!
ثم رتب على هذه الحقيقة الأساسية نتائجها . . فإنه إذا كان اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض فإنه لا يتولاهم إلا من هو منهم . والفرد الذي يتولاهم من الصف المسلم ، يخلع نفسه من الصف ويخلع عن نفسه صفة هذا الصف « الإسلام » وينضم إلى الصف الآخر . لأن هذه هي النتيجة الطبيعية الواقعية :
{ ومن يتولهم منكم فإنه منهم } . .
وكان ظالماً لنفسه ولدين الله وللجماعة المسلمة . . وبسبب من ظلمه هذا يدخله الله في زمرة اليهود والنصارى الذين أعطاهم ولاءه . ولا يهديه إلى الحق ولا يرده إلى الصف المسلم : { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } . .(1/268)
لقد كان هذا تحذيراً عنيفاً للجماعة المسلمة في المدينة . ولكنه تحذير ليس مبالغاً فيه . فهو عنيف . نعم؛ ولكنه يمثل الحقيقة الواقعة . فما يمكن أن يمنح المسلم ولاءه لليهود والنصارى - وبعضهم أولياء بعض - ثم يبقى له إسلامه وإيمانه ، وتبقى له عضويته في الصف المسلم ، الذين يتولى الله ورسوله والذين آمنوا . . فهذا مفرق الطريق . .
وما يمكن أن يتميع حسم المسلم في المفاصلة الكاملة بينة وبين كل من ينهج غير منهج الإسلام؛ وبينه وبين كل من يرفع راية غير راية الإسلام؛ ثم يكون في وسعه بعد ذلك أن يعمل عملاً ذا قيمة في الحركة الإسلامية الضخمة التي تستهدف - أول ما تستهدف - إقامة نظام واقعي في الأرض فريد؛ يختلف عن كل الأنظمة الأخرى؛ ويعتمد على تصور متفرد كذلك من كل التصورات الأخرى .(1/269)
إن اقتناع المسلم إلى درجة اليقين الجازم الذي لا أرجحة فيه ولا تردد بأن دينه هو الدين الوحيد الذي يقبله الله من الناس بعد رسالة محمد ص وبأن منهجه الذي كلفه الله أن يقيم الحياة عليه منهج متفرد ; لا نظير له بين سائر المناهج ; ولا يمكن الاستغناء عنه بمنهج آخر ; ولا يمكن أن يقوم مقامه منهج آخر ; ولا تصلح الحياة البشرية ولا تستقيم إلا أن تقوم على هذا المنهج وحده دون سواه ; ولا يعفيه الله ولا يغفر له ولا يقبله إلا إذا هو بذل جهد طاقته في إقامة هذا المنهج بكل جوانبه الاعتقادية والاجتماعية ; لم يأل في ذلك جهدا ولم يقبل من منهجه بديلا ولا في جزء منه صغير ولم يخلط بينه وبين أي منهج آخر في تصور اعتقادي ولا في نظام اجتماعي ولا في أحكام تشريعية إلا ما استبقاه الله في هذا المنهج من شرائع من قبلنا من أهل الكتاب إن اقتناع المسلم إلى درجة اليقين الجازم بهذا كله هو وحده الذي يدفعه للاضطلاع بعبء النهوض بتحقيق منهج الله الذي رضيه للناس ; في وجه العقبات الشاقة والتكاليف المضنية والمقاومة العنيدة والكيد الناصب والألم الذي يكاد يجاوز الطاقة في كثير من الأحيان وإلا فما العناء في أمر يغني عنه غيره مما هو قائم في الأرض من جاهلية سواء كانت هذه الجاهلية ممثلة في وثنية الشرك أو في انحراف أهل الكتاب أو في الإلحاد السافر بل ما العناء في إقامة المنهج الإسلامي إذا كانت الفوارق بينه وبين مناهج أهل الكتاب أو غيرهم قليلة ; يمكن الالتقاء عليها بالمصالحة والمهادنة إن الذين يحاولون تمييع هذه المفاصلة الحاسمة باسم التسامح والتقريب بين أهل الأديان السماوية يخطئون فهم معنى الأديان كما يخطئون فهم معنى التسامح فالدين هو الدين الأخير وحده عند الله والتسامح يكون في المعاملات الشخصية لا في التصور الاعتقادي ولا في النظام الاجتماعي إنهم يحاولون تمييع اليقين الجازم في نفس المسلم بأن الله لا يقبل دينا إلا الإسلام وبأن عليه(1/270)
أن يحقق منهج الله الممثل في الإسلام ولا يقبل دونه بديلا ; ولا يقبل فيه تعديلا ولو طفيفا هذا اليقين الذي ينشئه القرآن الكريم وهو يقرر إن الدين عند الله الإسلام ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم وفي القرآن كلمة الفصل ولا على المسلم من تميع المتميعين وتمييعهم لهذا اليقين ويصور السياق القرآني تلك الحالة التي كانت واقعة ; والتي ينزل القرآن من أجلها بهذا التحذير فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة روى ابن جرير قال حدثنا أبو كريب حدثنا إدريس قال سمعت أبي عن عطية بن سعد قال جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله ص فقال يا رسول الله إن لي موالي من يهود كثير عددهم ; وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود وأتولى الله ورسوله فقال عبد الله بن أبي رأس النفاق إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي فقال رسول الله ص لعبد الله بن أبي « يا أبا الحباب ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة ابن الصامت فهو لك دونه » قال قد قبلت فأنزل الله عز وجل يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء وقال ابن جرير حدثنا هناد حدثنا يونس بن بكير حدثنا عثمان بن عبد الرحمن عن الزهري قال لما انهزم أهل بدر قال المسلمون لأوليائهم من اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر فقال مالك بن الصيف أغركم أن أصبتم رهطا من قريش لا علم لهم بالقتال أما لو أصررنا العزيمة أن نستجمع عليكم لم يكن لكم يد أن تقاتلونا فقال عبادة بن الصامت يا رسول الله إن أوليائي من اليهود كانت شديدة أنفسهم كثيرا سلاحهم شديدة شوكتهم وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود ولا مولى لي إلا الله ورسوله فقال عبد الله بن أبي لكني لا أبرأ من(1/271)
ولاية يهود إني رجل لا بد لي منهم فقال رسول الله ص « يا أبا الحباب أرأيت الذي نفست به من ولاية يهود على عبادة ابن الصامت فهو لك دونه » فقال إذن أقبل قال محمد بن إسحق فكانت أول قبيلة من اليهود نقضت ما بينها وبين رسول الله ص بنو قينقاع فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال فحاصرهم رسول الله ص حتى نزلوا على حكمه فقام إليه عبدالله بن أبي بن سلول حين أمكنة الله منهم فقال يا محمد أحسن في موالي وكانوا حلفاء الخزرج قال فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال يا محمد أحسن في موالي قال فأعرض عنه قال فأدخل يده في جيب درع رسول الله ص فقال له رسول الله ص « أرسلني » وغضب رسول الله ص حتى رأوا لوجهه ظللا ثم قال « ويحك أرسلني » قال لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربعمائة حاسر وثلاثمائه دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة إني امرؤ أخشى الدوائر قال فقال رسول الله ص « هم لك » قال محمد بن إسحق فحدثني أبي إسحق بن يسار عن عبادة عن الوليد بن عبادة بن الصامت قال لما حاربت بنو قينقاع رسول الله ص تشبث بأمرهم عبدالله بن أبى وقام دونهم ; ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله ص وكان أحد بني عوف بن الخزرج له من حلفهم مثل الذي لعبد الله بن أبي فجعلهم إلى رسول الله ص وتبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم وقال يا رسول الله أبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم وأتولى الله ورسوله والمؤمنين وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم ففيه وفي عبدالله بن أبي نزلت الآية في المائدة يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض إلى قوله ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون وقال الإمام أحمد حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يحيى بن زكريا بن أبى زيادة عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عودة عن أسامة بن زيد قال دخلت مع رسول الله ص على عبدالله بن أبى نعوده فقال له النبي ص « قد كنت أنهاك(1/272)
عن حب يهود » فقال عبدالله فقد أبغضهم أسعد بن زرارة فمات وأخرجه أبو داود من حديث محمد بن إسحق فهذه الأخبار في مجموعها تشير إلى تلك الحالة التي كانت واقعة في المجتمع المسلم ; والمتخلفة عن الأوضاع التي كانت قائمة في المدينة قبل الإسلام ; وكذلك عن التصورات التي لم تكن قد حسمت في قضية العلاقات التي يمكن أن تقوم بين الجماعة المسلمة واليهود والتي لا يمكن أن تقوم غير أن الذي يلفت النظر أنها كلها تتحدث عن اليهود ولم يجى ء ذكر في الوقائع للنصارى ولكن النص يجمل اليهود والنصارى ذلك أنه بصدد إقامة تصور دائم وعلاقة دائمة وأوضاع دائمة بين الجماعة المسلمة وسائر الجماعات الأخرى سواء من أهل الكتاب أو من المشركين كما سيجيء في سياق هذا الدرس ومع اختلاف مواقف اليهود من المسلمين عن مواقف النصارى في جملتها في العهد النبوي ومع إشارة القرآن الكريم في موضع آخر من السورة إلى هذا الاختلاف في قوله تعالى لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى الخ مع هذا الاختلاف الذي كان يومذاك فإن النص هنا يسوي بين اليهود والنصارى كما يسوي النص القادم بينهم جميعا وبين الكفار فيما يختص بقضية المحالفة والولاء ذلك أن هذه القضية ترتكز على قاعدة أخرى ثابتة هي أن ليس للمسلم ولاء ولا حلف إلا مع المسلم ; وليس للمسلم ولاء إلا لله ولرسوله وللجماعة المسلمة ويستوي بعد ذلك كل الفرق في هذا الأمر مهما اختلفت مواقفهم من المسلمين في بعض الظروف على أن الله سبحانه وهو يضع للجماعة المسلمة هذه القاعدة العامة الحازمة الصارمة كان علمه يتناول الزمان كله لا تلك الفترة الخاصة من حياة رسول الله ص وملابساتها الموقوتة وقد أظهر التاريخ الواقع فيما بعد أن عداء النصارى لهذا الدين وللجماعة المسلمة في معظم بقاع الأرض لم يكن أقل من عداء اليهود وإذا نحن استثنينا موقف نصارى العرب ونصارى(1/273)
مصر في حسن استقبال الإسلام فإننا نجد الرقعة النصرانية في الغرب قد حملت للإسلام في تاريخها كله منذ أن احتكت به من العداوة والضغن وشنت عليه من الحرب والكيد ما لا يفترق عن حرب اليهود وكيدهم في أي زمان حتى الحبشة التي أحسن عاهلها استقبال المهاجرين المسلمين واستقبال الإسلام عادت فإذا هي أشد حربا على الإسلام والمسلمين من كل أحد ; لا يجاريها في هذا إلا اليهود وكان الله سبحانه يعلم الأمر كله فوضع للمسلم هذه القاعدة العامة بغض النظر عن واقع الفترة التي كان هذا القرآن يتنزل فيها وملابساتها الموقوتة وبغض النظر عما يقع مثلها في بعض الأحيان هنا وهناك إلى آخر الزمان وما يزال الإسلام والذين يتصفون به ولو أنهم ليسوا من الإسلام في شيء يلقون من عنت الحرب المشبوبة عليهم وعلى عقيدتهم من اليهود والنصارى في كل مكان على سطح الأرض ما يصدق قول الله تعالى بعضهم أولياء بعض وما يحتم أن يتدرع المسلمون الواعون بنصيحة ربهم لهم بل بأمره الجازم ونهيه القاطع ; وقضائه الحاسم في المفاصلة الكاملة بين أولياء الله ورسوله وكل معسكر آخر لا يرفع راية الله ورسوله إن الإسلام يكلف المسلم أن يقيم علاقاته بالناس جميعا على أساس العقيدة فالولاء والعداء لا يكونان في تصور المسلم وفي حركته على السواء إلا في العقيدة ومن ثم لا يمكن أن يقوم الولاء وهو التناصر بين المسلم وغير المسلم ; إذ أنهما لا يمكن أن يتناصرا في مجال العقيدة ولا حتى أمام الإلحاد مثلا كما يتصور بعض السذج منا وبعض من لا يقرأون القرآن وكيف يتناصران وليس بينهما أساس مشترك يتناصران عليه إن بعض من لا يقرأون القرآن ولا يعرفون حقيقة الإسلام ; وبعض المخدوعين أيضا يتصورون أن الدين كله دين كما أن الإلحاد كله إلحاد وأنه يمكن إذن أن يقف التدين بجملته في وجه الإلحاد لأن الإلحاد ينكر الدين كله ويحارب التدين على الإطلاق ولكن الأمر ليس كذلك في التصور الإسلامي ; ولا في حس(1/274)
المسلم الذي يتذوق الإسلام ولا يتذوق الإسلام إلا من يأخذه عقيدة وحركة بهذه العقيدة لإقامة النظام الإسلامي إن الأمر في التصور الإسلامي وفي حس المسلم واضح محدد الدين هو الإسلام وليس هناك دين غيره يعترف به الإسلام لأن الله سبحانه يقول هذا يقول إن الدين عند الله الإسلام ويقول ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وبعد رسالة محمد ص لم يعد هناك دين يرضاه الله ويقبله من أحد إلا هذا الإسلام في صورته التي جاء بها محمد ص وما كان يقبل قبل بعثة محمد من النصارى لم يعد الآن يقبل كما أن ما كان يقبل من اليهود قبل بعثة عيسى عليه السلام لم يعد يقبل منهم بعد بعثته ووجود يهود ونصارى من أهل الكتاب بعد بعثه محمد ص ليس معناه أن الله يقبل منهم ما هم عليه ; أو يعترف لهم بأنهم على دين إلهي لقد كان ذلك قبل بعثة الرسول الأخير أما بعد بعثته فلا دين في التصور الإسلامي وفي حس المسلم إلا الإسلام وهذا ما ينص عليه القرآن نصا غير قابل للتأويل إن الإسلام لا يكرههم على ترك معتقداتهم واعتناق الإسلام لأنه لا إكراه في الدين ولكن هذا ليس معناه أنه يعترف بما هم عليه ديناً ويراهم على دين ومن ثم فليس هناك جبهه تدين يقف معها الإسلام في وجه الإلحاد هناك دين هو الإسلام وهناك لا دين هو غير الإسلام ثم يكون هذا اللادين عقيدة أصلها سماوي ولكنها محرفه أو عقيده أصلها وثني باقيه على وثنيتها أو إلحاداً ينكر الأديان تختلف فيما بينها كلها ولكنها تختلف كلها مع الإسلام ولا حلف بينها وبين الإسلام ولا ولاء والمسلم يتعامل مع أهل الكتاب هؤلاء ; وهو مطالب بإحسان معاملتهم كما سبق ما لم يؤذوه في الدين ; ويباح له أن يتزوج المحصنات منهن على خلاف فقهي فيمن تعتقد بألوهية المسيح أو بنوته وفيمن تعتقد التثليث أهي كتابيه تحل أم مشركة تحرم وحتى مع الأخذ بمبدأ تحليل النكاح عامه فإن حسن المعامله وجواز النكاح ليس معناها الولاء والتناصر في الدين ;(1/275)
وليس معناها اعتراف المسلم بأن دين أهل الكتاب بعد بعثة محمد ص هو دين يقبله الله ; ويستطيع الإسلام أن يقف معه في جبهه واحدة لمقاومة الإلحاد إن الإسلام قد جاء ليصحح اعتقادات أهل الكتاب ; كما جاء ليصحح اعتقادات المشركين والوثنيين سواء ودعاهم إلى الإسلام جميعاً لأن هذا هو الدين الذي لا يقبل الله غيره من الناس جميعاً ولما فهم اليهود أنهم غير مدعوين إلى الإسلام وكبر عليهم أن يدعوا إليه جابههم القرآن الكريم بأن الله يدعوهم إلى الإسلام فإن تولوا عنه فهم كافرون والمسلم مكلف أن يدعوا أهل الكتاب إلى الإسلام كما يدعو الملحدين والوثنيين سواء وهو غير مأذون في أن يكره أحداً من هؤلاء ولا هؤلاء على الإسلام لأن العقائد لا تنشأ في الضمائر بالإكراه فالإكراه في الدين فوق أنه منهي عنه هو كذلك لا ثمره له ولا يستقيم أن يعترف المسلم بأن ما عليه أهل الكتاب بعد بعثة محمد ص هو دين يقبله الله ثم يدعوهم مع ذلك إلى الإسلام إنه لا يكون مكلفاً بدعوتهم إلى الإسلام إلا على أساس واحد ; هو أنه لا يعترف بأن ما هم عليه دين وأنه يدعوهم إلى الدين وإذا تقررت هذه البديهيه فإنه لا يكون منطقياً مع عقيدته إذا دخل في ولاء أو تناصر للتمكين للدين في الأرض مع من لا يدين بالإسلام إن هذه القضيه في الإسلام قضيه اعتقاديه إيمانيه كما أنها قضيه تنظيميه حركيه من ناحيه أنها قضيه إيمانيه اعتقاديه نحسب أن الأمر قد صار واضحاً بهذا البيان اذي أسلفناه وبالرجوع إلى النصوص القرآنيه القاطعه بعدم قيام ولاء بين المسلمين وأهل الكتاب ومن ناحية أنها قضية تنظيمية حركية الأمر واضح كذلك فإذا كان سعي المؤمن كله ينبغي أن يتجه إلى إقامة منهج الله في الحياة وهو المنهج الذي ينص عليه الإسلام كما جاء به محمد ص بكل تفصيلات وجوانب هذا المنهج وهي تشمل كل نشاط الإنسان في الحياة فكيف يمكن إذن أن يتعاون المسلم في هذا السعي مع من لا يؤمن بالإسلام دينا ومنهجا(1/276)
ونظاما وشريعة ; ومن يتجه في سعيه إلى أهداف أخرى إن لم تكن معادية للإسلام وأهدافه فهي على الأقل ليست أهداف الإسلام إذ الإسلام لا يعترف بهدف ولا عمل لا يقوم على أساس العقيدة مهما بدا في ذاته صالحا والذين كفروا أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف والإسلام يكلف المسلم أن يخلص سعيه كله للإسلام ولا يتصور إمكان انفصال أية جزئية في السعي اليومي في حياة المسلم عن الإسلام لا يتصور إمكان هذا إلا من لا يعرف طبيعة الإسلام وطبيعة المنهج الإسلامي ولا يتصور أن هناك جوانب في الحياة خارجة عن هذا المنهج يمكن التعاون فيها مع من يعادي الإسلام أو لا يرضى من المسلم إلا أن يترك إسلامه كما نص الله في كتابه على ما يطلبه اليهود والنصارى من المسلم ليرضوا عنه إن هناك استحالة اعتقادية كما أن هناك استحالة عملية على السواء ولقد كان اعتذار عبدالله بن أبي بن سلول وهو من الذين في قلوبهم مرض عن مسارعته واجتهاده في الولاء ليهود والاستمساك بحلفه معها هي قوله إنني رجل أخشى الدوائر إني أخشى أن تدور علينا الدوائر وأن تصيبنا الشدة وأن تنزل بنا الضائقة وهذه الحجة هي علامة مرض القلب وضعف الإيمان فالولي هو الله ; والناصر هو الله ; والاستنصار بغيره ضلالة كما أنه عبث لا ثمرة له ولكن حجة ابن سلول هي حجة كل بن سلول على مدار الزمان ; وتصوره هو تصور كل منافق مريض القلب لا يدرك حقيقة الإيمان وكذلك نفر قلب عبادة بن الصامت من ولاء يهود بعد ما بدا منهم ما بدا لأنه قلب مؤمن فخلع ولاء اليهود وقذف به حيث تلقاه وضم عليه صدره وعض عليه بالنواجذ عبدالله بن أبى بن سلول إنهما نهجان مختلفان ناشئان عن تصورين مختلفين وعن شعورين متباينين ومثل هذا الاختلاف قائم على مدار الزمان بين قلب مؤمن وقلب لا يعرف الإيمان ويهدد القرآن المستنصرين بأعداء دينهم المتألبين عليهم المنافقين الذين لا يخلصون لله اعتقادهم ولا ولاءهم ولا اعتمادهم يهددهم(1/277)
برجاء الفتح أو أمر الله الذي يفصل في الموقف ; أو يكشف المستور من النفاق فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين وعندئذ عند الفتح سواء كان هو فتح مكة أو كان الفتح بمعنى الفصل أو عند مجيء أمر الله يندم أولئك الذين في قلوبهم مرض على المسارعة والاجتهاد في ولاء اليهود والنصارى وعلى النفاق الذي انكشف أمره وعندئذ يعجب الذين آمنوا من حال المنافقين ويستنكرون ما كانوا فيه من النفاق وما صاروا إليه من الخسران ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين ولقد جاء الله بالفتح يوما وتكشفت نوايا وحبطت أعمال وخسرت فئات ونحن على وعد من الله قائم بأن يجيء الفتح كلما استمسكنا بعروة الله وحده ; وكلما أخلصنا الولاء لله وحده وكلما وعينا منهج الله وأقمنا عليه تصوراتنا وأوضاعنا وكلما تحركنا في المعركة على هدى الله وتوجيهه فلم نتخذ لنا وليا إلا الله ورسوله والذين آمنوا الدرس الثاني صفات الذين ينصرون دين الله الجديرين بالولاية وإذ ينتهي السياق من النداء الأول للذين آمنوا أن ينتهوا عن موالاة اليهود والنصارى وأن يحذروا أن يصيروا منهم بالولاء لهم وأن يرتدوا بذلك عن الإسلام وهم لا يشعرون أو لا يقصدون يرسل بالنداء الثاني يهدد من يرتد منهم عن دينه بهذا الولاء أو بسواه من الأسباب بأنه ليس عند الله بشيء وليس بمعجز الله ولا ضار بدينه وأن لدين الله أولياء وناصرين مدخرين في علم الله إن ينصرف هؤلاء يجيء بهؤلاء ويصور ملامح هذه العصبة المختارة المدخرة في علم الله لدينه وهي ملامح محببة جميلة وضيئة ويبين جهة الولاء الوحيدة التي يتجه إليها المسلم بولائه ويختم هذا النداء بتقرير النهاية المحتومة للمعركة التي يخوضها حزب الله مع الأحزاب والتي يتمتع بها من يخلصون ولاءهم لله ولرسوله وللمؤمنين يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه(1/278)
فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون إن تهديد من يرتد عن دينه من الذين آمنوا على هذه الصورة وفي هذا المقام ينصرف ابتداء إلى الربط بين موالاة اليهود والنصارى وبين الارتداد عن الإسلام وبخاصة بعد ما سبق من اعتبار من يتولاهم واحدًا منهم منسلخا من الجماعة المسلمة منضما إليهم ومن يتولهم منكم فإنه منهم وعلى هذا الاعتبار يكون هذا النداء الثاني في السياق توكيدا وتقريرا للنداء الأول يدل على هذا كذلك النداء الثالث الذي يلي هذا النداء والسياق وهو منصب على النهي عن موالاة أهل الكتاب والكفار يجمع بينهم على هذا النحو الذي يفيد أن موالاتهم كموالاة الكفار سواء وأن تفرقة الإسلام في المعاملة بين أهل الكتاب والكفار لا تتعلق بقضية الولاء إنما هي في شئون أخرى لا يدخل فيها الولاء يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم إن اختيار الله للعصبة المؤمنة لتكون أداة القدر الإلهي في إقرار دين الله في الأرض وتمكين سلطانه في حياة البشر وتحكيم منهجه في أوضاعهم وأنظمتهم وتنفيذ شريعته في أقضيتهم وأحوالهم وتحقيق الصلاح والخير والطهارة والنماء في الأرض بذلك المنهج وبهذه الشريعة إن هذا الاختيار للنهوض بهذا الأمر هو مجرد فضل الله ومنته فمن شاء أن يرفض هذا الفضل وأن يحرم نفسه هذه المنة فهو وذاك والله غنى عنه وعن العالمين والله يختار من عباده من يعلم أنه أهل لذلك الفضل العظيم والصورة التي يرسمها للعصبة(1/279)
المختارة هنا صورة واضحة السمات قوية الملامح وضيئة جذابة حبيبة للقلوب فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه فالحب والرضى المتبادل هو الصلة بينهم وبين ربهم الحب هذا الروح الساري اللطيف الرفاف المشرق الرائق البشوش هو الذي يربط القوم بربهم الودود وحب الله لعبد من عبيده أمر لا يقدر على إدراك قيمته إلا من يعرف الله سبحانه بصفاته كما وصف نفسه وإلا من وجد إيقاع هذه الصفات في حسه ونفسه وشعوره وكينونته كلها أجل لا يقدر حقيقة هذا العطاء إلا الذي يعرف حقيقة المعطي الذي يعرف من هو الله من هو صانع هذا الكون الهائل وصانع الإنسان الذي يلخص الكون وهو جرم صغير من هو في عظمته ومن هو في قدرته ومن هو في تفرده ومن هو في ملكوته من هو ومن هذا العبد الذي يتفضل الله عليه منه بالحب والعبد من صنع يديه سبحانه وهو الجليل العظيم الحي الدائم الأزلى الأبدي الأول والآخر والظاهر والباطن وحب العبد لربه نعمة لهذا العبد لا يدركها كذلك إلا من ذاقها وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمرا هائلا عظيما وفضلا غامرا جزيلا فإن إنعام الله على العبد بهدايته لحبه وتعريفه هذا المذاق الجميل الفريد الذي الذي لا نظير له في مذاقات الحب كلها ولا شبيه هو إنعام هائل عظيم وفضل غامر جزيل وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمرا فوق التعبير أن يصفه فإن حب العبد لربه أمر قلما استطاعت العبارة أن تصوره إلا في فلتات قليلة من كلام المحبين وهذا هو الباب الذي تفوق فيه الواصلون من رجال التصوف الصادقين وهم قليل من بين ذلك الحشد الذي يلبس مسوح التصوف ويعرف في سجلهم الطويل ولا زالت أبيات رابعة العدوية تنقل إلى حسي مذاقها الصادق لهذا الحب الفريد وهي تقول فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب وهذا الحب من الجليل للعبد من العبيد والحب من العبد(1/280)
للمنعم المتفضل يشيع في هذا الوجود ويسري في هذا الكون العريض وينطبع في كل حي وفي كل شيء فإذا هو جو وظل يغمران هذا الوجود ويغمران الوجود الإنساني كله ممثلا في ذلك العبد المحب المحبوب والتصور الإسلامي يربط بين المؤمن وربه بهذا الرباط العجيب الحبيب وليست مرة واحدة ولا فلتة عابرة إنما هو أصل وحقيقة وعنصر في هذا التصور أصيل إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودًا إن ربي رحيم ودود وهو الغفور الودود وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان والذين آمنوا أشد حبا لله قل إن كنم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله وغيرها كثير وعجبا لقوم يمرون على هذا كله ليقولوا إن التصور الإسلامي تصور جاف عنيف يصور العلاقة بين الله والإنسان علاقة قهر وقسر وعذاب وعقاب وجفوة وانقطاع لا كالتصور الذي يجعل المسيح ابن الله وأقنوم الإله فيربط بين الله والناس في هذا الازدواج إن نصاعة التصور الإسلامي في الفصل بين حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية لا تجفف ذلك الندى الحبيب بين الله والعبيد فهي علاقة الرحمة كما أنها علاقة العدل وهي علاقة الود كما أنها علاقة التجريد وهي علاقة الحب كما أنها علاقة التنزية إنه التصور الكامل الشامل لكل حاجات الكينونة البشرية في علاقتها برب العالمين وهنا في صفة العصبة المؤمنة المختارة لهذا الدين يرد ذلك النص العجيب يحبهم ويحبونه ويطلق شحنته كلها في هذا الجو الذي يحتاج إليه القلب المؤمن وهو يضطلع بهذا العبء الشاق شاعرا أنه الاختيار والتفضل والقربى من المنعم الجليل ثم يمضي السياق يعرض بقية السمات أذلة على المؤمنين وهي صفة مأخوذة من الطواعية واليسر واللين فالمؤمن ذلول للمؤمن غير عصي عليه ولا صعب هين لين ميسر مستجيب سمح ودود وهذه هي الذلة للمؤمنين وما في الذلة للمؤمنين من مذلة ولا مهانة إنما هي الأخوة ترفع الحواجز وتزيل التكلف وتخلط النفس بالنفس فلا يبقى فيها ما يستعصي(1/281)
وما يحتجز دون الآخرين إن حساسية الفرد بذاته متحوصلة متحيزة هي التي تجعله شموسا عصيا شحيحا على أخيه فأما حين يخلط نفسه بنفوس العصبة المؤمنة معه فلن يجد فيها ما يمنعه وما يستعصي به وماذا يبقى له في نفسه دونهم وقد اجتمعوا في الله إخوانا ; يحبهم ويحبونه ويشيع هذا الحب العلوي بينهم ويتقاسمونه أعزة على الكافرين فيهم على الكافرين شماس وإباء واستعلاء ولهذه الخصائص هنا موضع إنها ليست العزة للذات ولا الاستعلاء للنفس إنما هي العزة للعقيدة والاستعلاء للراية التي يقفون تحتها في مواجهة الكافرين إنها الثقة بأن ما معهم هو الخير وأن دورهم هو أن يطوعوا الآخرين للخير الذي معهم لا أن يطوعوا الآخرين لأنفسهم ولا أن يطوعوا أنفسهم للآخرين وما عند الآخرين ثم هي الثقة بغلبة دين الله على دين الهوى ; وبغلبة قوة الله على تلك القوى ; وبغلبة حزب الله على أحزاب الجاهلية فهم الأعلون حتى وهم ينهزمون في بعض المعارك في أثناء الطريق الطويل يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم فالجهاد في سبيل الله لإقرار منهج الله في الأرض وإعلان سلطانه على البشر وتحكيم شريعته في الحياة لتحقيق الخير والصلاح والنماء للناس هي صفة العصبة المؤمنة التي يختارها الله ليصنع بها في الأرض ما يريد وهم يجاهدون في سبيل الله ; لا في سبيل أنفسهم ; ولا في سبيل قومهم ; ولا في سبيل وطنهم ; ولا في سبيل جنسهم في سبيل الله لتحقيق منهج الله وتقرير سلطانه وتنفيذ شريعته وتحقيق الخير للبشر عامة عن هذا الطريق وليس لهم في هذا الأمر شيء وليس لأنفسهم من هذا حظ إنما هو لله وفي سبيل الله بلا شريك وهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم وفيم الخوف من لوم الناس وهم قد ضمنوا حب رب الناس وفيم الوقوف عند مألوف الناس وعرف الجيل ومتعارف الجاهلية وهم يتبعون سنة الله ويعرضون منهج الله للحياة إنما يخشى لوم الناس من يستمد مقاييسه وأحكامه من أهواء الناس ;(1/282)
ومن يستمد عونه ومدده من عندالناس ; أما من يرجع إلى موازين الله ومقاييسه وقيمه ليجعلها تسيطر على أهواء الناس وشهواتهم وقيمهم ; وأما من يستمد قوته وعزته من قوة الله وعزته فما يبالي ما يقول الناس وما يفعلون كائنا هؤلاء الناس ما كانوا ; وكائنا واقع هؤلاء الناس ما كان وكائنة حضارة هؤلاء الناس وعلمهم وثقافتهم ما تكون إننا نحسب حسابا لما يقول الناس ; ولما يفعل الناس ; ولما يملك الناس ; ولما يصطلح عليه الناس ; ولما يتخذه الناس في واقع حياتهم من قيم واعتبارات وموازين لأننا نغفل أو نسهو عن الأصل الذي يجب أن نرجع إليه في الوزن والقياس والتقويم إنه منهج الله وشريعته وحكمه فهو وحده الحق وكل ما خالفة فهو باطل ; ولو كان عرف ملايين الملايين ولو أقرته الأجيال في عشرات القرون إنه ليست قيمة أي وضع أو أي عرف أو أي تقليد أو أية قيمة أنه موجود ; وأنه واقع ; وأن ملايين البشر يعتنقونه ويعيشون به ويتخذونه قاعدة حياتهم فهذا ميزان لا يعترف به التصور الإسلامي إنما قيمة أي وضع وأي عرف وأي تقليد وأية قيمة أن يكون لها أصل في منهج الله الذي منه وحده تستمد القيم والموازين ومن هنا تجاهد العصبة المؤمنة في سبيل الله ولا تخاف لومة لائم فهذه سمة المؤمنين المختارين ثم إن ذلك الاختيار من الله وذلك الحب المتبادل بينه وبين المختارين وتلك السمات التي يجعلها طابعهم وعنوانهم وهذا الاطمئنان إلى الله في نفوسهم والسير على هداه في جهادهم ذلك كله من فضل الله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم يعطي عن سعة ويعطي عن علم وما أوسع هذا العطاء ; الذي يختار الله له من يشاء عن علم وعن تقدير ويحدد الله للذين آمنوا جهة الولاء الوحيدة التي تتفق مع صفة الإيمان ; ويبين لهم من يتولون إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون هكذا على وجه القصر الذي لا يدع مجالا للتمحل أو التأول ; ولا يترك(1/283)
فرصة لتمييع الحركة الإسلامية أو تمييع التصور ولم يكن بد أن يكون الأمر كذلك لأن المسألة في صميمها كما قلنا هي مسألة العقيدة ومسألة الحركة بهذه العقيدة وليكون الولاء لله خالصا والثقة به مطلقة وليكون الإسلام هو الدين وليكون الأمر أمر مفاصلة بين الصف المسلم وسائر الصفوف التي لا تتخذ الإسلام دينا ولا تجعل الإسلام منهجا للحياة ولتكون للحركة الإسلامية جديتها ونظامها ; فلا يكون الولاء فيها لغير قيادة واحدة وراية واحدة ولا يكون التناصر إلا بين العصبة المؤمنة ; لأنه تناصر في المنهج المستمد من العقيدة ولكن حتى لا يكون الإسلام مجرد عنوان أو مجرد راية وشعار أو مجرد كلمة تقال باللسان أو مجرد نسب ينتقل بالوراثة أو مجرد وصف يلحق القاطنين في مكان فإن السياق يذكر بعض السمات الرئيسية للذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون فمن صفتهم إقامة الصلاة لا مجرد أداء الصلاة وإقامة الصلاة تعني أداءها أداء كاملا تنشأ عنه آثارها التي يقررها قوله تعالى إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر والذي لا تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يقم الصلاة ; فلو أقامها لنهته كما يقول الله ومن صفتهم إيتاء الزكاة أي أداء حق المال طاعة لله وقربى عن رضى نفس ورغبة فليست الزكاة مجرد ضريبة مالية إنما هي كذلك عبادة أو هي عبادة مالية وهذه هي ميزة المنهج الإسلامي الذي يحقق أهدافا شتى بالفريضة الواحدة وليس كذلك الأنظمة الأرضية التي تحقق هدفا وتفرط في أهداف إنه لا يغني في إصلاح حال المجتمع أن يأخذ المجتمع المال ضريبة مدنية أو أن يأخذ المال من الأغنياء للفقراء باسم الدولة أو باسم الشعب أو باسم جهة أرضية ما فهي في صورتها هذه قد تحقق هدفا واحدا ; وهو إيصال المال للمحتاجين فأما الزكاة فتعني اسمها ومدلولها إنها قبل كل شيء طهارة ونماء إنها زكاة للضمير بكونها عبادة لله وبالشعور الطيب المصاحب لها تجاه الإخوان الفقراء بما(1/284)
أنها عبادة لله يرجو عليها فاعلها حسن الجزاء في الآخرة كما يرجو منها نماء المال في الحياة الدنيا بالبركة وبالنظام الاقتصادي المبارك ثم بالشعور الطيب في نفوس الفقراء الآخذين أنفسهم ; إذ يشعرون أنها فضل الله عليهم إذ قررها لهم في أموال الأغنياء ; ولا يشعرون معها بالحقد والتشفي من إخوانهم الأغنياء مع تذكر أن الأغنياء في النظام الإسلامي لا يكسبون إلا من حلال ولا يجورون على حق أحد وهم يجمعون نصيبهم من المال وفي النهاية تحقق هدف الضريبة المالية في هذا الجو الراضي الخير الطيب جو الزكاة والطهارة والنماء وأداء الزكاة سمة من سمات الذين آمنوا تقرر أنهم يتبعون شريعة الله في شئون الحياة ; فهي إقرار منهم بسلطان الله في أمرهم كله وهذا هو الإسلام وهم راكعون ذلك شأنهم كأنه الحالة الأصلية لهم ومن ثم لم يقف عند قوله يقيمون الصلاة فهذه السمة الجديدة أعم وأشمل إذ أنها ترسمهم للخاطر كأن هذا هو شأنهم الدائم فأبرز سمة لهم هي هذه السمة وبها يعرفون وما أعمق إيحاءات التعبيرات القرآنية في مثل هذه المناسبات والله يعد الذين آمنوا في مقابل الثقة به والالتجاء إليه والولاء له وحده ولرسوله وللمؤمنين بالتبعية ومقابل المفاصلة الكاملة بينهم وبين جميع الصفوف إلا الصف الذي يتمحض لله يعدهم النصر والغلبة ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون وقد جاء هذا الوعد بالغلب بعد بيان قاعدة الإيمان في ذاتها وأنها هي الولاء لله ورسوله وللمؤمنين ; وبعد التحذير من الولاء لليهود والنصارى واعتباره خروجا من الصف المسلم إلى صف اليهود والنصارى وارتدادا عن الدين وهنا لفتة قرآنية مطردة فالله سبحانه يريد من المسلم أن يسلم لمجرد أن الإسلام خير لا لأنه سيغلب أو سيمكن له في الأرض ; فهذه ثمرات تأتي في حينها ; وتأتي لتحقيق قدر الله في التمكين لهذا الدين ; لا لتكون هي بذاتها الإغراء على الدخول في هذا الدين والغلب(1/285)
للمسلمين لا شيء منه لهم لا شيء لذواتهم وأشخاصهم وإنما هو قدر الله يجريه على أيديهم ويرزقهم إياه لحساب عقيدتهم لا لحسابهم فيكون لهم ثواب الجهد فيه ; وثواب النتائج التي تترتب عليه من التمكين لدين الله في الأرض وصلاح الأرض بهذا التمكين كذلك قد يعد الله المسلمين الغلب لتثبيت قلوبهم ; وإطلاقها من عوائق الواقع الحاضر أمامهم وهي عوائق ساحقة في أحيان كثيرة فإذا استيقنوا العاقبة قويت قلوبهم على اجتياز المحنة ; وتخطي العقبة والطمع في أن يتحقق على أيديهم وعد الله للأمة المسلمة فيكون لهم ثواب الجهاد وثواب التمكين لدين الله وثواب النتائج المترتبة على هذا التمكين كذلك يشي ورود هذا النص في هذا المجال بحالة الجماعة المسلمة يومذاك وحاجتها إلى هذه البشريات بذكر هذه القاعدة من غلبة حزب الله مما يرجح ما ذهبنا إليه من تاريخ نزول هذا القطاع من السورة ثم تخلص لنا هذه القاعدة ; التي لا تتعلق بزمان ولا مكان فنطمئن إليها بوصفها سنة من سنن الله التي لا تتخلف وإن خسرت العصبة المؤمنة بعض المعارك والمواقف فالسنة التي لا تنقض هي أن حزب الله هم الغالبون ووعد الله القاطع أصدق من ظواهر الأمور في بعض مراحل الطريق وأن الولاء لله ورسوله والذين آمنوا هو الطريق المؤدي لتحقق وعد الله في نهاية الطريق الدرس الثالث دعوة المسلمين لعدم موالاة الكافرين وبعد فلقد سلك المنهج القرآني في هذا السياق طرقا منوعة لنهي الذين آمنوا عن تولي المخالفين لهم في عقيدتهم من أهل الكتاب والمشركين ولتقرير هذه القاعدة الإيمانية في ضمائرهم وإحساسهم وعقولهم مما يدل على أهمية هذه القاعدة في التصور الإسلامي ; وفي الحركة الإسلامية على السواء وقد رأينا من قبل أنه سلك في النداء الأول طريق النهي المباشر وطريق التخويف من أن يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده فينكشف ستر المنافقين وسلك في النداء الثاني طريق التحذير من الردة بموالاة أعداء الله ورسوله(1/286)
والمؤمنين ; وطريق التحبيب في أن يكونوا من العصبة المختارة ممن يحبهم الله ويحبونه ; وطريق الوعد بالنصر لحزب الله الغالب فالآن نجده في النداء الثالث في هذا الدرس للذين آمنوا يثير في نفوسهم الحمية لدينهم ولعبادتهم ولصلاتهم التي يتخذها أعداؤهم هزوا ولعبا ونجده يسوي في النهي عن الموالاة بين أهل الكتاب والكفار وينوط هذا النهي بتقوى الله ; ويعلق على الاستماع إليه صفة الإيمان ; ويقبح فعلة الكفار وأهل الكتاب ويصفهم بأنهم لا يعقلون يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون وهي ملابسة مثيرة لكل من له حمية المؤمن ; الذي لا يرى لنفسه كرامة إذا أهين دينه وأهينت عبادته وأهينت صلاته واتخذ موقفه بين يدي ربه مادة للهزء واللعب فكيف يقوم ولاء بين الذين آمنوا وبين أحد من هؤلاء الذين يرتكبون هذه الفعلة ; ويرتكبونها لنقص في عقولهم فما يستهزى ء بدين الله وعبادة المؤمنين به إنسان سوي العقل ; فالعقل حين يصح ويستقيم يرى في كل شيء من حوله موحيات الإيمان بالله وحين يختل وينحرف لا يرى هذه الموحيات لأنه حينئذ تفسد العلاقات بينه وبين هذا الوجود كله فالوجود كله يوحي بأن له إلها يستحق العبادة والتعظيم والعقل حين يصح ويستقيم يستشعر جمال العبادة لإله الكون وجلالها كذلك فلا يتخذها هزوا ولعبا وهو صحيح مستقيم ولقد كان هذا الاستهزاء واللعب يقع من الكفار كما كان يقع من اليهود خاصة من أهل الكتاب في الفترة التي كان هذا القرآن يتنزل فيها على قلب رسول الله ص للجماعة المسلمة في ذلك الحين ولم نعرف من السيرة أن هذا كان يقع من النصارى ولكن الله سبحانه كان يضع للجماعة المسلمة قاعدة تصورها ومنهجها وحياتها الدائمة وكان الله سبحانه يعلم ما سيكون على مدار الزمان مع أجيال(1/287)
المسلمين وها نحن أولاء رأينا ونرى أن أعداء هذا الدين وأعداء الجماعة المسلمة على مدار التاريخ أمس واليوم من الذين قالوا إنهم نصارى كانوا أكثر عددا من اليهود ومن الكفار مجتمعين فهؤلاء كهؤلاء قد ناصبوا الإسلام العداء وترصدوه القرون تلو القرون وحاربوه حربا لا هوادة فيها منذ أن اصطدم الإسلام بالدولة الرومانية على عهد أبى بكر وعمر رضي الله عنهما حتى كانت الحروب الصليبية ; ثم كانت المسألة الشرقية التي تكتلت فيها الدول الصليبية في أرجاء الأرض للإجهاز على الخلافة ; ثم كان الاستعمار الذي يخفي الصليبية بين أضلاعه فتبدو في فلتات لسانه ; ثم كان التبشير الذي مهد للاستعمار وسانده ; ثم كانت وما تزال تلك الحرب المشبوبة على كل طلائع البعث الإسلامي في أي مكان في الأرض وكلها حملات يشترك فيها اليهود والنصارى والكفار والوثنيون وهذا القرآن جاء ليكون كتاب الأمة المسلمة في حياتها إلى يوم القيامة الكتاب الذي يبني تصورها الاعتقادي كما يبني نظامها الاجتماعي كما يبني خطتها الحركية سواء وها هو ذا يعلمها ألا يكون ولاؤها إلا لله ولرسوله وللمؤمنين ; وينهاها أن يكون ولاؤها لليهود والنصارى والكافرين ويجزم ذلك الجزم الحاسم في هذه القضية ويعرضها هذا العرض المنوع الأساليب إن هذا الدين يأمر أهله بالسماحة وبحسن معاملة أهل الكتاب ; والذين قالوا إنهم نصارى منهم خاصة ولكنه ينهاهم عن الولاء لهؤلاء جميعا لأن السماحة وحسن المعاملة مسألة خلق وسلوك أما الولاء فمسألة عقيدة ومسألة تنظيم إن الولاء هو النصرة هو التناصر بين فريق وفريق ; ولا تناصر بين المسلمين وأهل الكتاب كما هو الشأن في الكفار لأن التناصر في حياة المسلم هو كما أسلفنا تناصر في الدين ; وفي الجهاد لإقامة منهجه ونظامه في حياة الناس ; ففيم يكون التناصر في هذا بين المسلم وغير المسلم وكيف يكون إنها قضية جازمة حاسمة لا تقبل التميع ولا يقبل الله فيها إلا الجد الصارم(1/288)
; الجد الذي يليق بالمسلم في شأن الدين
- - - - - - - - - - - -
35.
تحريم الردة عن الدين
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) } سورة المائدة(1/289)
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَيَقُولُ إنَّ الذِينَ يَرْتَدَّونَ عَنْ دِينِهِمْ مِنَ الإيِمَانِ إلى الكُفْرِ ، وَيَتَوَلَّوْنَ عَنْ نُصْرَةِ دِينِهِ ، وَإِقَامَةِ شَرِيعَتِهِ ، فَإنَّ اللهَ سَيَسْتَبْدِلُ بِهِمْ مَنْ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ ، وَأَشَدُّ مَنَعَةً ، وَأَقْوَمُ سَبِيلاً ، يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ، يَتَّصِفُونَ بِصِفَاتِ المُؤْمِنِينَ وَهِيَ : العِزَّةُ عَلَى الكَافِرِينَ ، وَالرَّحْمَةُ وَالتَّوَاضُعُ مَعَ المُؤْمِنِينَ ، يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَلاَ يَرُدُّهُمْ رَادٌّ عَنْ إذاعَةِ أَمْرِ اللهِ ، وَإِقَامَةِ حُدُودِهِ ، وَقِتَالِ أَعْدَائِهِ ، يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ، وَيَنْهَونَ عَنِ المُنْكَرِ . وَمَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاِت كَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْهِ كَبِيراً ، وَاللهُ وَاسِعُ الفَضْلِ ، عَلِيمٌ بِمَنْ يِسْتَحِقُّ ذَلِكَ فَيُعْطِيهِ ، مِمَّنْ لاَ يَسْتَحِقُّهُ فَيَحْرِمُهُ إيَّاهُ .
( وَقِيلَ إنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ، فَقَدْ عَلِمَ اللهُ أنَّ النَّاسَ سَيَرْتَدُّونَ عَنِ الإِسْلاَمِ ، وَأَنَّ عُصْبَةً مِنَ المُؤْمِنِينَ ، مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ ، سَيَقُومُونَ بِمُحَارَبَةِ المُرْتَدِّينَ ، وَأَنَّهُمْ سَيَثْبُتُونَ فِي حَرْبِهِمْ حَتَّى يُتِمُّ اللهُ نَصْرَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) .
يَحُثُّ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَلَى مُوَالاَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ ، الذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ ، وَيُسَاعِدُونَ المُحْتَاجِينَ مِنَ الضُعَفَاءِ وَالمَسَاكِينِ ، وَهُمْ دَائِمُونَ الرُّكُوعِ للهِ .
((1/290)
نَزَلْت هَذِهِ الآيَةُ فِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ حِينَ بَرِئ مِنْ مُوَالاةِ اليَهُودِ ، وَرَضِيَ بِمُوَالاَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ ) .
وَكُلُّ مَنْ رَضِي بِمُوَالاَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالمُؤمِنِينَ هُوَ مُفْلِحٌ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ ، وَهُوَ مَنْصُورٌ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ ، لأنَّهُ يَكُونُ فَِي حِزْبِ اللهِ ، وَحِزْبِ اللهِ هُمُ الغَالِبُونَ ، وَلاَ يُغْلَبُ مَنْ يَتَوَالاَّهُمُ اللهُ .
إن تهديد من يرتد عن دينه من الذين آمنوا - على هذه الصورة . وفي هذا المقام - ينصرف - ابتداء - إلى الربط بين موالاة اليهود والنصارى وبين الارتداد عن الإسلام . وبخاصة بعد ما سبق من اعتبار من يتولاهم واحدًا منهم , منسلخا من الجماعة المسلمة منضما إليهم: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) . . وعلى هذا الاعتبار يكون هذا النداء الثاني في السياق توكيدا وتقريرا للنداء الأول . . يدل على هذا كذلك النداء الثالث الذي يلي هذا النداء والسياق , وهو منصب على النهي عن موالاة أهل الكتاب والكفار , يجمع بينهم على هذا النحو , الذي يفيد أن موالاتهم كموالاة الكفار سواء , وأن تفرقة الإسلام في المعاملة بين أهل الكتاب والكفار , لا تتعلق بقضية الولاء , إنما هي في شئون أخرى لا يدخل فيها الولاء . .
(يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه , فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه , أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين , يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم . ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم) . .(1/291)
إن اختيار الله للعصبة المؤمنة , لتكون أداة القدر الإلهي في إقرار دين الله في الأرض , وتمكين سلطانه في حياة البشر , وتحكيم منهجه في أوضاعهم وأنظمتهم , وتنفيذ شريعته في أقضيتهم وأحوالهم , وتحقيق الصلاح والخير والطهارة والنماء في الأرض بذلك المنهج وبهذه الشريعة . . إن هذا الاختيار للنهوض بهذا الأمر هو مجرد فضل الله ومنته . فمن شاء أن يرفض هذا الفضل وأن يحرم نفسه هذه المنة . . فهو وذاك , والله غنى عنه - وعن العالمين . والله يختار من عباده من يعلم أنه أهل لذلك الفضل العظيم .
والصورة التي يرسمها للعصبة المختارة هنا , صورة واضحة السمات قوية الملامح , وضيئة جذابة حبيبة للقلوب: (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) . .
فالحب والرضى المتبادل هو الصلة بينهم وبين ربهم . . الحب . . هذا الروح الساري اللطيف الرفاف المشرق الرائق البشوش . . هو الذي يربط القوم بربهم الودود .
وحب الله لعبد من عبيده , أمر لا يقدر على إدراك قيمته إلا من يعرف الله - سبحانه - بصفاته كما وصف نفسه , وإلا من وجد إيقاع هذه الصفات في حسه ونفسه وشعوره وكينونته كلها . . أجل لا يقدر حقيقة هذا العطاء إلا الذي يعرف حقيقة المعطي . . الذي يعرف من هو الله . . من هو صانع هذا الكون الهائل , وصانع الإنسان الذي يلخص الكون وهو جرم صغير ! من هو في عظمته . ومن هو في قدرته . ومن هو في تفرده . ومن هو في ملكوته . . من هو ومن هذا العبد الذي يتفضل الله عليه منه بالحب . . والعبد من صنع يديه - سبحانه - وهو الجليل العظيم , الحي الدائم , الأزلى الأبدي , الأول والآخر والظاهر والباطن .(1/292)
وحب العبد لربه نعمة لهذا العبد لا يدركها كذلك إلا من ذاقها . . وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمرا هائلا عظيما , وفضلا غامرا جزيلا , فإن إنعام الله على العبد بهدايته لحبه وتعريفه هذا المذاق الجميل الفريد , الذي الذي لا نظير له في مذاقات الحب كلها ولا شبيه . . هو إنعام هائل عظيم . . وفضل غامر جزيل .
وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمرا فوق التعبير أن يصفه , فإن حب العبد لربه أمر قلما استطاعت العبارة أن تصوره إلا في فلتات قليلة من كلام المحبين . . وهذا هو الباب الذي تفوق فيه الواصلون من رجال التصوف الصادقين - وهم قليل من بين ذلك الحشد الذي يلبس مسوح التصوف ويعرف في سجلهم الطويل - ولا زالت أبيات رابعة العدوية تنقل إلى حسي مذاقها الصادق لهذا الحب الفريد , وهي تقول:
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب وهذا الحب من الجليل للعبد من العبيد , والحب من العبد للمنعم المتفضل , يشيع في هذا الوجود ويسري في هذا الكون العريض , وينطبع في كل حي وفي كل شيء , فإذا هو جو وظل يغمران هذا الوجود , ويغمران الوجود الإنساني كله ممثلا في ذلك العبد المحب المحبوب . .
والتصور الإسلامي يربط بين المؤمن وربه بهذا الرباط العجيب الحبيب . . وليست مرة واحدة ولا فلتة عابرة . . إنما هو أصل وحقيقة وعنصر في هذا التصور أصيل:(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودًا) . . (إن ربي رحيم ودود) . .(وهو الغفور الودود) . . (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) . . (والذين آمنوا أشد حبا لله) . . (قل:إن كنم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) . . وغيرها كثير . .(1/293)
وعجبا لقوم يمرون على هذا كله , ليقولوا:إن التصور الإسلامي تصور جاف عنيف , يصور العلاقة بين الله والإنسان علاقة قهر وقسر , وعذاب وعقاب , وجفوة وانقطاع . . . لا كالتصور الذي يجعل المسيح ابن الله وأقنوم الإله , فيربط بين الله والناس , في هذا الازدواج !
إن نصاعة التصور الإسلامي في الفصل بين حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية , لا تجفف ذلك الندى الحبيب ,بين الله والعبيد , فهي علاقة الرحمة كما أنها علاقة العدل , وهي علاقة الود كما أنها علاقة التجريد , وهي علاقة الحب كما أنها علاقة التنزية . . إنه التصور الكامل الشامل لكل حاجات الكينونة البشرية في علاقتها برب العالمين
وهنا - في صفة العصبة المؤمنة المختارة لهذا الدين - يرد ذلك النص العجيب: (يحبهم ويحبونه) ويطلق شحنته كلها في هذا الجو , الذي يحتاج إليه القلب المؤمن , وهو يضطلع بهذا العبء الشاق . شاعرا أنه الاختيار والتفضل والقربى من المنعم الجليل . .
ثم يمضي السياق يعرض بقية السمات: (أذلة على المؤمنين) . .
وهي صفة مأخوذة من الطواعية واليسر واللين . . فالمؤمن ذلول للمؤمن . . غير عصي عليه ولا صعب . هين لين . . ميسر مستجيب . . سمح ودود . . وهذه هي الذلة للمؤمنين .
وما في الذلة للمؤمنين من مذلة ولا مهانة . إنما هي الأخوة , ترفع الحواجز , وتزيل التكلف وتخلط النفس بالنفس , فلا يبقى فيها ما يستعصي وما يحتجز دون الآخرين .
إن حساسية الفرد بذاته متحوصلة متحيزة هي التي تجعله شموسا عصيا شحيحا على أخيه . فأما حين يخلط نفسه بنفوس العصبة المؤمنة معه , فلن يجد فيها ما يمنعه وما يستعصي به . . وماذا يبقى له في نفسه دونهم , وقد اجتمعوا في الله إخوانا ; يحبهم ويحبونه , ويشيع هذا الحب العلوي بينهم ويتقاسمونه ?!
(أعزة على الكافرين) . .(1/294)
فيهم على الكافرين شماس وإباء واستعلاء . . ولهذه الخصائص هنا موضع . . إنها ليست العزة للذات , ولا الاستعلاء للنفس . إنما هي العزة للعقيدة , والاستعلاء للراية التي يقفون تحتها في مواجهة الكافرين . إنها الثقة بأن ما معهم هو الخير , وأن دورهم هو أن يطوعوا الآخرين للخير الذي معهم لا أن يطوعوا الآخرين لأنفسهم ولا أن يطوعوا أنفسهم للآخرين وما عند الآخرين ! ثم هي الثقة بغلبة دين الله على دين الهوى ; وبغلبة قوة الله على تلك القوى ; وبغلبة حزب الله على أحزاب الجاهلية . . فهم الأعلون حتى وهم ينهزمون في بعض المعارك , في أثناء الطريق الطويل . .
(يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) . .
فالجهاد في سبيل الله , لإقرار منهج الله في الأرض , وإعلان سلطانه على البشر , وتحكيم شريعته في الحياة , لتحقيق الخير والصلاح والنماء للناس . . هي صفة العصبة المؤمنة التي يختارها الله ليصنع بها في الأرض ما يريد . .
وهم يجاهدون في سبيل الله ; لا في سبيل أنفسهم ; ولا في سبيل قومهم ; ولا في سبيل وطنهم ; ولا في سبيل جنسهم . . في سبيل الله . لتحقيق منهج الله , وتقرير سلطانه , وتنفيذ شريعته , وتحقيق الخير للبشر عامة عن هذا الطريق . . وليس لهم في هذا الأمر شيء , وليس لأنفسهم من هذا حظ , إنما هو لله وفي سبيل الله بلا شريك . .(1/295)
وهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم . . وفيم الخوف من لوم الناس , وهم قد ضمنوا حب رب الناس ? وفيم الوقوف عند مألوف الناس , وعرف الجيل , ومتعارف الجاهلية , وهم يتبعون سنة الله , ويعرضون منهج الله للحياة ? إنما يخشى لوم الناس من يستمد مقاييسه وأحكامه من أهواء الناس ; ومن يستمد عونه ومدده من عندالناس ; أما من يرجع إلى موازين الله ومقاييسه وقيمه ليجعلها تسيطر على أهواء الناسوشهواتهم وقيمهم ; وأما من يستمد قوته وعزته من قوة الله وعزته , فما يبالي ما يقول الناس وما يفعلون . كائنا هؤلاء الناس ما كانوا ; وكائنا واقع هؤلاء الناس ما كان , وكائنة "حضارة " هؤلاء الناس وعلمهم وثقافتهم ما تكون !
إننا نحسب حسابا لما يقول الناس ; ولما يفعل الناس ; ولما يملك الناس ; ولما يصطلح عليه الناس ; ولما يتخذه الناس في واقع حياتهم من قيم واعتبارات وموازين . . لأننا نغفل أو نسهو عن الأصل الذي يجب أن نرجع إليه في الوزن والقياس والتقويم . . إنه منهج الله وشريعته وحكمه . . فهو وحده الحق وكل ما خالفة فهو باطل ; ولو كان عرف ملايين الملايين , ولو أقرته الأجيال في عشرات القرون !
إنه ليست قيمة أي وضع , أو أي عرف , أو أي تقليد , أو أية قيمة . . أنه موجود ; وأنه واقع ; وأن ملايين البشر يعتنقونه , ويعيشون به , ويتخذونه قاعدة حياتهم . . فهذا ميزان لا يعترف به التصور الإسلامي . إنما قيمة أي وضع , وأي عرف , وأي تقليد , وأية قيمة , أن يكون لها أصل في منهج الله , الذي منه - وحده - تستمد القيم والموازين . .
ومن هنا تجاهد العصبة المؤمنة في سبيل الله ولا تخاف لومة لائم . . فهذه سمة المؤمنين المختارين . .
ثم إن ذلك الاختيار من الله , وذلك الحب المتبادل بينه وبين المختارين , وتلك السمات التي يجعلها طابعهم وعنوانهم , وهذا الاطمئنان إلى الله في نفوسهم , والسير على هداه في جهادهم . . ذلك كله من فضل الله .
((1/296)
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . والله واسع عليم) .
يعطي عن سعة , ويعطي عن علم . . وما أوسع هذا العطاء ; الذي يختار الله له من يشاء عن علم وعن تقدير .
ويحدد الله للذين آمنوا جهة الولاء الوحيدة التي تتفق مع صفة الإيمان ; ويبين لهم من يتولون: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا , الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) . .
هكذا على وجه القصر الذي لا يدع مجالا للتمحل أو التأول ; ولا يترك فرصة لتمييع الحركة الإسلامية أو تمييع التصور . .
ولم يكن بد أن يكون الأمر كذلك ! لأن المسألة في صميمها - كما قلنا - هي مسألة العقيدة . ومسألة الحركة بهذه العقيدة . وليكون الولاء لله خالصا , والثقة به مطلقة , وليكون الإسلام هو "الدين" . وليكون الأمر أمر مفاصلة بين الصف المسلم وسائر الصفوف التي لا تتخذ الإسلام دينا , ولا تجعل الإسلام منهجا للحياة . ولتكون للحركة الإسلامية جديتها ونظامها ; فلا يكون الولاء فيها لغير قيادة واحدة وراية واحدة . ولا يكون التناصر إلا بين العصبة المؤمنة ; لأنه تناصر في المنهج المستمد من العقيدة
ولكن حتى لا يكون الإسلام مجرد عنوان , أو مجرد راية وشعار , أو مجرد كلمة تقال باللسان , أو مجرد نسب ينتقل بالوراثة , أو مجرد وصف يلحق القاطنين في مكان ! فإن السياق يذكر بعض السمات الرئيسية للذين آمنوا: (الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة , وهم راكعون) . .
فمن صفتهم إقامة الصلاة - لا مجرد أداء الصلاة - وإقامة الصلاة تعني أداءها أداء كاملا , تنشأ عنه آثارها التي يقررها قوله تعالى: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر . . والذي لا تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر , لم يقم الصلاة ; فلو أقامها لنهته كما يقول الله !(1/297)
ومن صفتهم إيتاء الزكاة . . أي أداء حق المال طاعة لله وقربى عن رضى نفس ورغبة . فليست الزكاة مجرد ضريبة مالية , إنما هي كذلك عبادة . أو هي عبادة مالية . وهذه هي ميزة المنهج الإسلامي . الذي يحقق أهدافا شتى بالفريضة الواحدة . وليس كذلك الأنظمة الأرضية التي تحقق هدفا وتفرط في أهداف .
إنه لا يغني في إصلاح حال المجتمع أن يأخذ المجتمع المال ضريبة [ مدنية ! ] أو أن يأخذ المال من الأغنياء للفقراء باسم الدولة , أو باسم الشعب , أو باسم جهة أرضية ما . . فهي في صورتها هذه قد تحقق هدفا واحدا ; وهو إيصال المال للمحتاجين . .
فأما الزكاة . . فتعني اسمها ومدلولها . . إنها قبل كل شيء طهارة ونماء . . إنها زكاة للضمير بكونها عبادة لله . وبالشعور الطيب المصاحب لها تجاه الإخوان الفقراء , بما أنها عبادة لله يرجو عليها فاعلها حسن الجزاء في الآخرة , كما يرجو منها نماء المال في الحياة الدنيا بالبركة وبالنظام الاقتصادي المبارك . ثم بالشعور الطيب في نفوس الفقراء الآخذين أنفسهم ; إذ يشعرون أنها فضل الله عليهم إذ قررها لهم في أموال الأغنياء ; ولا يشعرون معها بالحقد والتشفي من إخوانهم الأغنياء [ مع تذكر أن الأغنياء في النظام الإسلامي لا يكسبون إلا من حلال ولا يجورون على حق أحد وهم يجمعون نصيبهم من المال ] . . وفي النهاية تحقق هدف الضريبة المالية في هذا الجو الراضي الخير الطيب . . جو الزكاة والطهارة والنماء . .
وأداء الزكاة سمة من سمات الذين آمنوا تقرر أنهم يتبعون شريعة الله في شئون الحياة ; فهي إقرار منهم بسلطان الله في أمرهم كله . . وهذا هو الإسلام . .
(وهم راكعون) . .
ذلك شأنهم , كأنه الحالة الأصلية لهم . . ومن ثم لم يقف عند قوله: (يقيمون الصلاة) . . فهذه السمة الجديدة أعم وأشمل . إذ أنها ترسمهم للخاطر كأن هذا هو شأنهم الدائم . فأبرز سمة لهم هي هذه السمة , وبها يعرفون . .(1/298)
وما أعمق إيحاءات التعبيرات القرآنية في مثل هذه المناسبات !
والله يعد الذين آمنوا - في مقابل الثقة به , والالتجاء إليه , والولاء له وحده - ولرسوله وللمؤمنين بالتبعية . . ومقابل المفاصلة الكاملة بينهم وبين جميع الصفوف إلا الصف الذي يتمحض لله . . يعدهم النصر والغلبة:
(ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) . .
وقد جاء هذا الوعد بالغلب بعد بيان قاعدة الإيمان في ذاتها . . وأنها هي الولاء لله ورسوله وللمؤمنين ; وبعد التحذير من الولاء لليهود والنصارى واعتباره خروجا من الصف المسلم إلى صف اليهود والنصارى , وارتدادا عن الدين . .
وهنا لفتة قرآنية مطردة . . فالله - سبحانه - يريد من المسلم أن يسلم لمجرد أن الإسلام خير ! لا لأنه سيغلب , أو سيمكن له في الأرض ; فهذه ثمرات تأتي في حينها ; وتأتي لتحقيق قدر الله في التمكين لهذا الدين ; لا لتكون هي بذاتها الإغراء على الدخول في هذا الدين . . والغلب للمسلمين لا شيء منه لهم . لا شيء لذواتهم وأشخاصهم . وإنما هو قدر الله يجريه على أيديهم , ويرزقهم إياه لحساب عقيدتهم لا لحسابهم ! فيكون لهم ثواب الجهد فيه ; وثواب النتائج التي تترتب عليه من التمكين لدين الله في الأرض , وصلاح الأرض بهذا التمكين . .
كذلك قد يعد الله المسلمين الغلب لتثبيت قلوبهم ; وإطلاقها من عوائق الواقع الحاضر أمامهم - وهي عوائق ساحقة في أحيان كثيرة - فإذا استيقنوا العاقبة قويت قلوبهم على اجتياز المحنة ; وتخطي العقبة , والطمع في أن يتحقق على أيديهم وعد الله للأمة المسلمة , فيكون لهم ثواب الجهاد , وثواب التمكين لدين الله , وثواب النتائج المترتبة على هذا التمكين .
كذلك يشي ورود هذا النص في هذا المجال , بحالة الجماعة المسلمة يومذاك , وحاجتها إلى هذه البشريات . بذكر هذه القاعدة من غلبة حزب الله . . مما يرجح ما ذهبنا إليه من تاريخ نزول هذا القطاع من السورة .(1/299)
ثم تخلص لنا هذه القاعدة ; التي لا تتعلق بزمان ولا مكان . . فنطمئن إليها بوصفها سنة من سنن الله التي لا تتخلف . وإن خسرت العصبة المؤمنة بعض المعارك والمواقف . فالسنة التي لا تنقض هي أن حزب الله هم الغالبون . . ووعد الله القاطع أصدق من ظواهر الأمور في بعض مراحل الطريق ! وأن الولاء لله ورسوله والذين آمنوا هو الطريق المؤدي لتحقق وعد الله في نهاية الطريق !
- - - - - - - - - - - -
36.
تحريم اتخاذ الكفار أولياء
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) } سورة المائدة
يُنَفِّرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ مِنْ مُوَالاَةِ أَعْدَاءِ الإِسْلاَمِ ، مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَمِنَ المُشْرِكِينَ ، الذِينَ يَتَّخِذُونَ شَرَائِعَ الإِسْلاَمِ المُطَهَّرَةَ ، هُزْواً يَسْتَهْزِئُونَ بِهَا ، وَيَعدُّونَهَا نَوْعاً مِنَ اللَّعِبِ ، وَيَتَمَنَّوْنَ زَوَالَ الإِسْلاَمِ وَأَهْلِهِ ، وَيَأمُرُ اللهُ المُؤْمِنِينَ بِتَقْوَاهُ ، وَبِألاَّ يَتَّخِذُوا هَؤُلاءِ الأَعْدَاءِ أَوْلِيَاءَ إنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِشَرْعِ اللهِ حَقّاً وَصِدْقاً .
وَهَؤُلاَءِ الأَعْدَاءِ يَسْخَرُونَ مِنَ الأذَانِ ، وَمِنَ الصَّلاَةِ ، وَمِنَ العِبَادَةِ ، وَيَتَّخِذُونَهَا هُزُواً وَلَعِباً وَسُخْرِيَةً ، لأنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ مَعْنَى العِبَادَةِ ، وَلاَ مَعْنَى شَرْعِ اللهِ ، وَالصَّلاَةُ أَكْرَمُ شَيءٍ وَأَفْضَلُهُ لِمَنْ يَعْقِلُ وَيَعْلَمُ .(1/300)
إنها ملابسة مثيرة لكل من له حمية المؤمن ; الذي لا يرى لنفسه كرامة إذا أهين دينه , وأهينت عبادته , وأهينت صلاته , واتخذ موقفه بين يدي ربه مادة للهزء واللعب . . فكيف يقوم ولاء بين الذين آمنوا وبين أحد من هؤلاء الذين يرتكبون هذه الفعلة ; ويرتكبونها لنقص في عقولهم . فما يستهزى ء بدين الله وعبادة المؤمنين به , إنسان سوي العقل ; فالعقل - حين يصح ويستقيم - يرى في كل شيء من حوله موحيات الإيمان بالله .
وحين يختل وينحرف لا يرى هذه الموحيات , لأنه حينئذ تفسد العلاقات بينه وبين هذا الوجود كله . فالوجود كله يوحي بأن له إلها يستحق العبادة والتعظيم . والعقل حين يصح ويستقيم يستشعر جمال العبادة لإله الكون وجلالها كذلك , فلا يتخذها هزوا ولعبا وهو صحيح مستقيم .(1/301)
ولقد كان هذا الاستهزاء واللعب يقع من الكفار , كما كان يقع من اليهود خاصة من أهل الكتاب , في الفترة التي كان هذا القرآن يتنزل فيها على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم للجماعة المسلمة في ذلك الحين . ولم نعرف من السيرة أن هذا كان يقع من النصارى . . ولكن الله - سبحانه - كان يضع للجماعة المسلمة قاعدة تصورها ومنهجها وحياتها الدائمة . وكان الله - سبحانه - يعلم ما سيكون على مدار الزمان مع أجيال المسلمين . وها نحن أولاء رأينا ونرى أن أعداء هذا الدين وأعداء الجماعة المسلمة على مدار التاريخ أمس واليوم من الذين قالوا:إنهم نصارى كانوا أكثر عددا من اليهود ومن الكفار مجتمعين ! فهؤلاء - كهؤلاء - قد ناصبوا الإسلام العداء , وترصدوه القرون تلو القرون , وحاربوه حربا لا هوادة فيها منذ أن اصطدم الإسلام بالدولة الرومانية على عهد أبى بكر وعمر - رضي الله عنهما - حتى كانت الحروب الصليبية ; ثم كانت "المسألة الشرقية " التي تكتلت فيها الدول الصليبية في أرجاء الأرض للإجهاز على الخلافة ; ثم كان الاستعمار الذي يخفي الصليبية بين أضلاعه فتبدو في فلتات لسانه ; ثم كان التبشير الذي مهد للاستعمار وسانده ; ثم كانت وما تزال تلك الحرب المشبوبة على كل طلائع البعث الإسلامي في أي مكان في الأرض . . وكلها حملات يشترك فيها اليهود والنصارى والكفار والوثنيون . .
وهذا القرآن جاء ليكون كتاب الأمة المسلمة في حياتها إلى يوم القيامة . الكتاب الذي يبني تصورها الاعتقادي , كما يبني نظامها الاجتماعي , كما يبني خطتها الحركية . . سواء . . وها هو ذا يعلمها ألا يكون ولاؤها إلا لله ولرسوله وللمؤمنين ; وينهاها أن يكون ولاؤها لليهود والنصارى والكافرين . ويجزم ذلك الجزم الحاسم في هذه القضية , ويعرضها هذا العرض المنوع الأساليب .(1/302)
إن هذا الدين يأمر أهله بالسماحة , وبحسن معاملة أهل الكتاب ; والذين قالوا:إنهم نصارى منهم خاصة . . ولكنه ينهاهم عن الولاء لهؤلاء جميعا . . لأن السماحة وحسن المعاملة مسألة خلق وسلوك . أما الولاء فمسألة عقيدة ومسألة تنظيم . إن الولاء هو النصرة . هو التناصر بين فريق وفريق ; ولا تناصر بين المسلمين وأهل الكتاب - كما هو الشأن في الكفار - لأن التناصر في حياة المسلم هو - كما أسلفنا - تناصر في الدين ; وفي الجهاد لإقامة منهجه ونظامه في حياة الناس ; ففيم يكون التناصر في هذا بين المسلم وغير المسلم . وكيف يكون ?!
إنها قضية جازمة حاسمة لا تقبل التميع , ولا يقبل الله فيها إلا الجد الصارم ; الجد الذي يليق بالمسلم في شأن الدين . .
- - - - - - - - - - - -
37.
لا يجوز تحريم الحلال
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) } سورة المائدة
وفي سنن أبى داود ( 1371 ) عَنْ عَائِشَةَ : أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ فَجَاءَهُ فَقَالَ : « يَا عُثْمَانُ أَرَغِبْتَ عَنْ سُنَّتِى ». قَالَ : لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَكِنْ سُنَّتَكَ أَطْلُبُ. قَالَ : « فَإِنِّى أَنَامُ وَأُصَلِّى وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَنْكِحُ النِّسَاءَ فَاتَّقِ اللَّهَ يَا عُثْمَانُ فَإِنَّ لأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا فَصُمْ وَأَفْطِرْ وَصَلِّ وَنَمْ ».( صحيح)(1/303)
وفي مسند أحمد (27062)عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ دَخَلَتْ عَلَىَّ خُوَيْلَةُ بِنْتُ حَكِيمِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ الأَوْقَصِ السُّلَمِيَّةُ وَكَانَتْ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ قَالَتْ فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ بَذَاذَةَ هَيْئَتِهَا فَقَالَ لِى « يَا عَائِشَةُ مَا أَبَذَّ هَيْئَةَ خُوَيْلَةَ ». قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ امْرَأَةٌ لاَ زَوْجَ لَهَا يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ فَهِىَ كَمَنْ لاَ زَوْجَ لَهَا فَتَرَكَتْ نَفْسَهَا وَأَضَاعَتْهَا - قَالَتْ - فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ فَجَاءَهُ فَقَالَ « يَا عُثْمَانُ أَرَغْبَةً عَنْ سُنَّتِى ». قَالَ فَقَالَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَكِنْ سُنَّتَكَ أَطْلُبُ. قَالَ « فَإِنِّى أَنَامُ وَأُصَلِّى وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَنْكِحُ النِّسَاءَ فَاتَّقِ اللَّهَ يَا عُثْمَانُ فَإِنَّ لأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا فَصُمْ وَأَفْطِرْ وَصَلِّ وَنَمْ ». (صحيح)
وفي صحيح مسلم (3469 ) عَنْ أَنَسٍ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ عَمَلِهِ فِى السِّرِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ آكُلُ اللَّحْمَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ. فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ. فَقَالَ : « مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا لَكِنِّى أُصَلِّى وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِى فَلَيْسَ مِنِّى ».(1/304)
وفي شعب الإيمان للبيهقي( 9714 ) عن يونس بن ميسرة ، قال : « ليست الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ، ولكن الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق منك مما في يديك ، وأن يكون حالك في المصيبة وحالك إذا لم تصب بها سواء ، وأن يكون ذامك ومادحك في الحق سواء » (صحيح )
وَأنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الأيَة يَأمُرُ فِيهَا المُؤْمِنِينَ بِألاّ يُحَرِّمُوا الطَّيِّبَاتِ التِي أَحَلَّهَا اللهُ لِعِبَادِهِ ، لأنَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ أنْ يَسْتَعْمِلَ عِبَادُهُ نِعَمَهُ فِيمَا خُلِقَتْ لأجْلِهِ ، وَأنْ يَشْكُرُوهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَيَكْرَهُ أنْ يَجْنُوا عَلَى الشَّرِيعَةِ التِي شُرِعَتْ لَهُمْ فَيَغْلُوا فِيهَا بِإبَاحَةِ مَا حَرَّمَ ، أَوْ تَرْكِ مَا أحَلَّ وَفَرَضَ .
وَيُبِيحُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ بِالحَلاَلِ الطَّيِّبِ مِنَ الرِّزْقِ الذِي رَزَقَهُمْ ، وَيَأمُرُهُمْ بِتَقْوَاهُ فِي جَمِيعِ أمُورِهِمْ ، وَبِاتِّبَاعِ طَاعَتِهِ وَرِضْوَانِهِ ، وَتَرْكِ مُخَالَفتِهِ وَعِصْيَانِهِ ، بِتَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ ، أَوْ بِتَحْرِيمِ مَا أحَلَّ .
إن قضية التشريع بجملتها مرتبطة بقضية الألوهية . والحق الذي ترتكن إليه الألوهية في الاختصاص بتنظيم حياة البشر , هو أن الله هو خالق هؤلاء البشر ورازقهم . فهو وحده صاحب الحق إذن في أن يحل لهم ما يشاء من رزقه وأن يحرم عليهم ما يشاء . . وهو منطق يعترف به البشر أنفسهم . فصاحب الملك هو صاحب الحق في التصرف فيه . والخارج على هذا المبدأ البديهي معتد لا شك في اعتدائه ! والذين آمنوا لا يعتدون بطبيعة الحال على الله الذي هم به مؤمنون . ولا يجتمع الاعتداء على الله والايمان به في قلب واحد على الإطلاق !
هذه هي القضية التي تعرضها هاتان الآيتان في وضوح منطقي لا يجادل فيه إلا معتد . . والله لا يحب المعتدين . .(1/305)
وهي قضية عامة تقرر مبدأ عاما يتعلق بحق الألوهية في رقاب العباد ; ويتعلق بمقتضى الإيمان بالله في سلوك المؤمنين في هذه القضية . .
- - - - - - - - - - - -
38.
تحريمُ الخمر والميسر والأنصاب والأزلام
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) }سورة المائدة(1/306)
يَنْهَى اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ عَنْ تَعَاطِي الخَمْرِ وَلَعْبِ القِمَارِ ( المَيْسِر ) ، وَعَنْ ذَبْحِ القَرَابِينِ عِنْدَ الأَنْصَابِ ، ( وَهِيَ حِجَارَةٌ كَانَتْ تُحِيطُ بِالْكَعْبَةِ ) ، كَمَا يَنْهَاهُمْ عَنِ الاسْتِقْسَامِ بِالأَزْلاَمِ ( وَالأَزْلاَمِ ثَلاَثَةُ قِدَاحٍ أَوْ سِهَامٍ يُجِيلُونَهَا ثُمَّ يُلْقُونَهَا ، وَقَدْ كُتِبَ عَلَى أَحَدِهَا ( افْعَلْ ) ، وَعَلى الأخَرِ ( لاَ تَفْعَلْ ) ، وَالثَّالِثُ غُفْلٌ مِنَ الكِتَابَةِ . فَإِذَا خَرَجَ السَّهْمُ الذِي كُتِبَ عَلَيْهِ ( افْعَلْ ) فَعَلَ . وَإذَا خَرَجَ السَّهْمُ الذِي كُتِبَ عَلَيْهِ ( لاَ تَفْعَلْ ) لَمْ يَفْعَلْ . وَإذا خَرَجَ السَّهْمُ الغُفْلُ مِنَ الكِتَابَةِ أَعَادَ الاسْتِقْسَامَ .
وَيَقُولُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ إنَّ هَذِهِ المُنْكَرَاتِ : الخَمْرَ وَالمَيْسِرَ . . إنَّمَا هِيَ شَرٌّ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ( رِجْسٌ ) فَاجْتَنِبُوا هَذَا الرِّجْسَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَتَفُوزُونَ بِرِضْوَانِ اللهِ .
إنَّ الشَّيْطَانَ يُرِيدُ لَكُمْ شُرْبَ الخَمْرِ ، وَلَعِبَ المَيْسِرِ ، لِيُعَادِيَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ، وَيَبْغُضَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ، فِيِتَشَتَّتَ أمْرُكُمْ بَعْدَ أنْ ألَّفَ اللهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ بِالإيمَانِ ، وَجَمَعَ بِأخُوَّةِ الإسْلاَمِ ، ويُرِيدُ الشَّيْطَانُ أنْ يَصْرِفَكُمْ بِالسُّكْرِ وَالاشْتِغَالِ بِالمَيْسِرِ عَنْ ذِكْرِ اللهِ الذِي بِهِ صَلاَحُ أمْرِكُمْ ، فِي دُنْيَاكُمْ وَآخِرَاتِكُمْ ، وَعَنِ الصَّلاَةِ التِي فَرَضَهَا اللهُ عَلَيْكُمْ ، تَزْكِيَةً لِنُفُوسِكُمْ ، وَتَطْهِيراً لِقُلُوبِكُمْ .(1/307)
وَالخَمْرُ تٌفْقِدُ الإِنْسَانَ عَقْلَهُ الذِي يَمْنَعُهُ عَنْ إتْيَانِ الأفْعَالِ القَبِيحَةِ ، وَعَنْ تَوْجِيهِ الأقْوَالِ الشَّائِنَةِ إلى النَّاسِ ، فَإِذَا شَرِبَهاَ الإِنْسَانُ أقْدَمَ عَلَى مَا لاَ يُقْدِمُ عَلَيهِ وَهُوَ صَاحٍ مَتَمَالِكٌ قِواهُ فَيُسِيءُ إلى أصْحَابِهِ وَإِخْوَانِهِ ، وَيُؤذِيهِمْ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلى الشَّحْنَاءِ وَالبَغْضَاءِ .
وَالمَيْسِرُ يُثِيرُ البَغْضَاءَ وَالشَحْنَاءَ بَيْنَ اللاعِبِينَ وَالحَاضِرِينَ ، وَكَثِيراً مَا يُفرِّطُ المُقَامِرُ فِي حُقُوقِ الوَالِدَيْنِ وَالزَّوْجِ وَالأوْلاَدِ ، حَتَّى يُوشِكُ أنْ يَمْقُتَهُ كُلُّ وَاحِدٍ .
ثُمَّ يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِأنْ يَنْتَهُوا عَنْ هَذِهِ المُنْكَرَاتِ ليُفَوِّتُوا عَلَى إبْلِيسَ غَرَضَهُ .
يَأمُرُ ناللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِطَاعَتِهِ فِيمَا أمَرَ بِهِ مِنِ اجْتِنَابِ الخَمْرِ وَالمَيسِرِ ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ سَائِرِ المُحَرَّمَاتِ ، وَبِطَاعَةِ رَسُولِهِ فِيمَا بَيَّنَهُ لَهُمْ مِنْ شَرْعِ اللهِ ، وَفِيمَا يَحْكُمُ بِهِ بَيْنَهُمْ ، وَيُحَذِّرُهُمْ مِنَ العِصْيَانِ وَالمُخَالَفَةِ وَالعِنَادِ . ثُمَّ يَقُولُ لَهُمْ إنْ تَوَلَّوْا عَنِ الإِيمَانِ ، وَأصَرُّوا عَلَى المُخَالَفَةِ ، وَالاعْتِدَاءِ عَلَى حُرُماتِ اللهِ ، وَعَلَى تَجَاوُزِ شَرْعِهِ الكَرِيمِ ، فَإنَّ الحُجَّةَ قَدْ قَامَتْ عَلَيهِمْ ، وَالرَّسُولُ قَامَ بِمَا أمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ مِنَ الإِبْلاغِ وَالإِنْذَارِ وَالدَّعْوَةِ ، وَإنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلى اللهِ فَيُحَاسِبُهُمْ عَلَى أعْمَالِهِمْ كَبِيرِهَا وَصَغِيرِها .(1/308)
حِينَمَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى تَحْرِيمَ الخَمْرِ تَسَاءَلَ بَعْضُ المُسْلِمِينَ عَنْ حَالِ مَنْ شَرِبُوا الخَمْرَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ . وَبُيَيِّنُ لَهُمْ تَعَالَى أنَّ الذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمْ ، وَ لاَ إثْمَ ، فِيمَا أَكَلُوا أوْ شَرِبُوا مِنَ الخَمْرِ ، أوْ أكَلُوا وَشَرِبُوا ، مِمَّا لَمْ يَكُنْ مُحَرَّماً ثُمَّ حُرِّمَ ، إذَا مَا اتَّقَوا اللهَ ، وَآمَنُوا بِمَا كَانَ قَدْ نَزَلَ مِنَ الأحْكَامِ ، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ التِي كَانَتْ قَدْ شُرِعَتْ ، كَالصَّلاَةِ وَالصَّومِ ، ثُمَّ اتَّقَوا مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ العِلْمِ بِهِ ، وَآمَنُوا بِمَا أَنْزَلَ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ ، ثُمَّ اسْتَمَرُّوا عَلَى التَّقْوَى ، وَأحْسَنُوا أعْمَالَهُمْ ، فَأَتَوْا بِهَا عَلَى الوَجْهِ الأكْمَلِ ، وَتَمَّمُوا نَقْصَ فَرِائِضِهَا بِنَوَافِلِ الطَّاعَاتِ ، وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ ، فَلا يُبِقِي فِي قُلُوبِهِمْ أثَراً مِنَ الآثَارِ السَّيِّئَةِ ، التِي وَصَفَ بِهَا الخَمْرَ وَالمَيْسِرَ ، مِنَ الإِيقَاعِ فِي العَدَاوَةِ وَالبَغْضَاءِ .
(إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان . .
فهي دنسة لا ينطبق عليها وصف "الطيبات" التي احلها الله . وهي من عمل الشيطان . والشيطان عدو الإنسان القديم ; ويكفي أن يعلم المؤمن أن شيئا ما من عمل الشيطان لينفر منه حسه , وتشمئز منه نفسه , ويجفل منه كيانه , ويبعد عنه من خوف ويتقيه !
وفي هذه اللحظة يصدر النهي مصحوبا كذلك بالإطماع في الفلاح - وهي لمسة أخرى من لمسات الإيحاء النفسي العميق: (فاجتنبوه لعلكم تفلحون) . .(1/309)
ثم يستمر السياق في كشف خطة الشيطان من وراء هذا الرجس: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر , ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة . . .) . .
بهذا ينكشف لضمير المسلم هدف الشيطان , وغاية كيدة وثمرة رجسه . . إنها إيقاع العداوة والبغضاء في الصف المسلم - في الخمر والميسر - كما أنها هي صد (الذين آمنوًا عن ذكر الله وعن الصلاة) . . ويالها إذن من مكيدة !
وهذه الأهداف التي يريدها الشيطان أمور واقعة يستطيع المسلمون ان يروها في عالم الواقع بعد تصديقها من خلال القول الإلهي الصادق بذاته . فما يحتاج الإنسان إلى طول بحث حتى يرى أن الشيطان يوقع العداوة والبغضاء - في الخمر والميسر - بين الناس . فالخمر بما تفقد من الوعي وبما تثير من عرامة اللحم والدم , وبما تهيج من نزوات ودفعات . والميسر الذي يصحابها وتصاحبه بما يتركه في النفوس من خسارات واحقاد ; إذا المقمور لابد ان يحقد على قامره الذي يستولى على ماله أمام عينيه , ويذهب به غانما وصاحبه مقمور مقهور . . إن من طبيعة هذه الأمور أن تثير العداوة والبغضاء , مهما جمعت بين القرناء في مجالات من العربدة والانطلاق اللذين يخيل للنظرة السطحية أنهما أنس وسعادة !
وأما الصد عن ذكر الله وعن الصلاة , فلا يحتاجان إلى نظر . . فالخمر تنسي , والميسر يلهي , وغيبوبة الميسر لا تقل عن غيبوبة الخمر عند المقامرين ; وعالم القامر كعالم السكير لا يتعدى الموائد والأقداح والقداح !
وهكذا عندما تبلغ هذه الإشارة إلى هدف الشيطان من هذا الرجس غايتها من إيقاظ قلوب (الذين آمنوا) وتحفزها , يجيء السؤال الذي لا جواب له عندئذ إلا جواب عمر رضي الله عنه وهو يسمع: فهل أنتم منتهون ?
فيجيب لتوه:"انتهينا . انتهينا" . .
ولكن السياق يمضي بعد ذلك يوقع إيقاعه الكبير: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا . فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين) . .(1/310)
إنها القاعدة التي يرجع إليها الأمر كله:طاعة الله وطاعة الرسول . . الإسلام . . الذي لا تبقى معه إلا الطاعة المطلقة لله وللرسول . . والحذر من المخالفة , والتهديد الملفوف: (فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين) . .
وقد بلغ وبين , فتحددت التبعة على المخالفين , بعد البلاغ المبين . .
إنه التهديد القاصم , في هذا الأسلوب الملفوف , الذي ترتعد له فرائص المؤمنين ! . . إنهم حين يعصون ولا يطيعون لا يضرون أحدا إلا أنفسهم . لقد بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم وأدى ; ولقد نفض يديه من أمرهم إذن فما هو بمسؤول عنهم , وما هو بدافع عنهم عذابا - وقد عصوه ولم يطيعوه - ولقد صار أمرهم كله إلى الله سبحانه . وهو القادر على مجازاة العصاة
المتولين !
إنه المنهج الرباني يطرق القلوب , فتنفتح له مغاليقها , وتتكشف له فيها المسالك والدروب . .
إن غيبوبة السكر - بأي مسكر - تنافي اليقظة الدائمة التي يفرضها الإسلام على قلب المسلم ليكون موصولا بالله في كل لحظة , مراقبا لله في كل خطرة . ثم ليكون بهذه اليقظة عاملا إيجابيا في نماء الحياة وتجددها , وفي صيانتها من الضعف والفساد , وفي حماية نفسه وماله وعرضه , وحماية أمن الجماعة المسلمة وشريعتها ونظامها من كل اعتداء . والفرد المسلم ليس متروكا لذاته وللذاته ; فعلية في كل لحظة تكاليف تستوجب اليقظة الدائمة . تكاليف لربه , وتكاليف لنفسه , وتكاليف لأهله , وتكاليف للجماعة المسلمة التي يعيش فيها , وتكاليف للإنسانية كلها ليدعوها ويهديها . وهو مطالب باليقظة الدائمة لينهض بهذه التكاليف . وحتى حين يستمتع بالطيبات فإن الإسلام يحتم عليه أن يكون يقظا لهذا المتاع , فلا يصبح عبدا لشهوة أو لذة . إنما يسيطر دائما على رغباته فيلبيها تلبية المالك لأمره . . وغيبوبة السكر لا تتفق في شيء مع هذا الاتجاه .(1/311)
ثم إن هذه الغيبوبة في حقيقتها إن هي إلا هروب من واقع الحياة في فترة من الفترات ; وجنوح إلى التصورات التي تثيرها النشوة أو الخمار . والإسلام ينكر على الإنسان هذا الطريق ويريد من الناس أن يروا الحقائق , وأن يواجهوها , ويعيشوا فيها , ويصرفوا حياتهم وفقها , ولا يقيموا هذه الحياة على تصورات وأوهام . . إن مواجهة الحقائق هي محك العزيمة والإرادة ; أما الهروب منها إلى تصورات وأوهام فهو طريق التحلل , ووهن العزيمة , وتذاوب الإرادة . والإسلام يجعل في حسابه دائما تربية الإرادة , وإطلاقها من قيود العادة القاهرة . . الإدمان . . وهذا الاعتبار كاف وحده من وجهة النظر الإسلامية لتحريم الخمر وتحريم سائر المخدرات . . وهي رجس من عمل الشيطان . . مفسد لحياة الإنسان .
وقد حدث أنه لما نزلت هذه الآيات , وذكر فيها تحريم الخمر , ووصفت بأنها رجس من عمل الشيطان أن انطلقت في المجتمع المسلم صيحتان متحدتان في الصيغة , مختلفتان في الباعث والهدف .
قال بعض المتحرجين من الصحابة:كيف بأصحابنا وقد ماتوا يشربون الخمر . . أو قالوا:فما بال قوم قتلوا في أحد وهي في بطونهم [ أي قبل تحريمها ] .
وقال بعض المشككين الذين يهدفون إلى البلبلة والحيرة . . هذا القول أو ما يشبهه ; يريدون أن ينشروا في النفوس قلة الثقة في أسباب التشريع , أو الشعور بضياع إيمان من ماتوا والخمر لم تحرم ; وهي رجس من عمل الشيطان , ماتوا والرجس في بطونهم !
عندئذ نزلت هذه الآية: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات . ثم اتقوا وآمنوا , ثم اتقوا وأحسنوا , والله يحب المحسنين) . .(1/312)
نزلت لتقرر أولا أن ما لم يحرم لا يحرم ; وأن التحريم يبدأ من النص لا قبله ; وأنه لا يحرم بأثر رجعي ; فلا عقوبة إلا بنص ; سواء في الدنيا أو في الآخرة ; لأن النص هو الذي ينشى ء الحكم . . والذين ماتوا والخمر في بطونهم , وهي لم تحرم بعد , ليس عليهم جناح ; فإنهم لم يتناولوا محرما ; ولم يرتكبوا معصية . . لقد كانوا يخافون الله ويعملون الصالحات ويراقبون الله ويعلمون أنه مطلع على نواياهم وأعمالهم . . ومن كانت هذه حاله لا يتناول محرما ولا يرتكب معصية .
والله حين يحرم شيئا يعلم - سبحانه - لم حرمه . سواء ذكر سبب التحريم أو لم يذكر . وسواء كان التحريم لصفة ثابتة في المحرم , أو لعلة تتعلق بمن يتناوله من ناحية ذاته , أو من ناحية مصلحة الجماعة . . فالله سبحانه هو الذي يعلم الأمر كله ; والطاعة لأمره واجبة , والجدل بعد ذلك لا يمثل حاجة واقعية . والواقعية هي طابع هذا المنهج الرباني . . ولا يقولن أحد:إذا كان التحريم لصفة ثابتة في المحرم فكيف أبيح إذن قبل تحريمه !! فلا بد أن لله - سبحانه - حكمة في تركه فترة بلا تحريم . ومرد الأمر كله إلى الله . وهذا مقتضى ألوهيته - سبحانه - واستحسان الإنسان أو استقباحه ليس هو الحكم في الأمر ; وما يراه علة قد لا يكون هو العلة . والأدب مع الله يقتضي تلقي أحكامه بالقبول والتنفيذ , سواء عرفت حكمتها أو علتها أم ظلت خافية . . والله يعلم وأنتم لا تعلمون .(1/313)
إن العمل بشريعة الله يجب أن يقوم ابتداء على العبودية . . على الطاعة لله إظهارا للعبودية له سبحانه . . فهذا هو الإسلام - بمعنى الاستسلام . . وبعد الطاعة يجوز للعقل البشري أن يتلمس حكمة الله - بقدر ما يستطيع - فيما أمر الله به أو نهى عنه - سواء بين الله حكمته أم لم يبينها , وسواء أدركها العقل البشري أم لم يدركها - فالحكم في استحسان شريعة الله في أمر من الأمور ليس هو الإنسان ! إنما الحكم هو الله . فإذا أمر الله أو نهى فقد انتهى الجدل ولزم الأمر أو النهي . . فأما إذا ترك الحكم للعقل البشري فمعنى ذلك أن الناس هم المرجع الأخير في شرع الله . . فأين مكان الألوهية إذن وأين مكان العبودية ?
----------------
وفي صحيح مسلم ( 211 )عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولاَنِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لاَ يَزْنِى الزَّانِى حِينَ يَزْنِى وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلاَ يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ». قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِى بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُحَدِّثُهُمْ هَؤُلاَءِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ ثُمَّ يَقُولُ وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُلْحِقُ مَعَهُنَّ « وَلاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ».(1/314)
وفي صحيح مسلم ( 217 ) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لاَ يَزْنِى الزَّانِى حِينَ يَزْنِى وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ ».
وفي صحيح مسلم ( 442 ) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « حِينَ أُسْرِىَ بِى لَقِيتُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - ». فَنَعَتَهُ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « فَإِذَا رَجُلٌ - حَسِبْتُهُ قَالَ - مُضْطَرِبٌ رَجِلُ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ - قَالَ - وَلَقِيتُ عِيسَى ». فَنَعَتَهُ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « فَإِذَا رَبْعَةٌ أَحْمَرُ كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ ».
- يَعْنِى حَمَّامًا - قَالَ « وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ - وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ - قَالَ - فَأُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ فِى أَحَدِهِمَا لَبَنٌ وَفِى الآخَرِ خَمْرٌ فَقِيلَ لِى خُذْ أَيَّهُمَا شِئْتَ. فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ . فَقَالَ هُدِيتَ الْفِطْرَةَ أَوْ أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ ».
الديماس : الحمام الربعة : الرجل بين الطويل والقصير الرجل : شعره لم يكن شديد الجعودة ولا شديد السبوطة بل بينهما المضطرب : الخفيف اللحم الممشوق المستدق(1/315)
وفي صحيح مسلم (4126 )عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ بِالْمَدِينَةِ قَالَ « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَرِّضُ بِالْخَمْرِ وَلَعَلَّ اللَّهَ سَيُنْزِلُ فِيهَا أَمْرًا فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا شَىْءٌ فَلْيَبِعْهُ وَلْيَنْتَفِعْ بِهِ ». قَالَ فَمَا لَبِثْنَا إِلاَّ يَسِيرًا حَتَّى قَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْرَ فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ هَذِهِ الآيَةُ وَعِنْدَهُ مِنْهَا شَىْءٌ فَلاَ يَشْرَبْ وَلاَ يَبِعْ ». قَالَ فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ بِمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا فِى طَرِيقِ الْمَدِينَةِ فَسَفَكُوهَا.
وفي صحيح مسلم( 4132 ) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ « إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَصْنَامِ ». فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ فَقَالَ « لاَ هُوَ حَرَامٌ ». ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عِنْدَ ذَلِكَ « قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا أَجْمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ ».
أجملوه : أذابوه يستصبح : يستخدم فى إضاءة المصابيح(1/316)
وفي سنن الترمذى ( 1342 )عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى الْخَمْرِ عَشَرَةً عَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَشَارِبَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا وَالْمُشْتَرِىَ لَهَا وَالْمُشْتَرَاةَ لَهُ. ( حسن لغيره) .
وفي صحيح مسلم (4551 ) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ نَبِىَّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- جَلَدَ فِى الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ ثُمَّ جَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ. فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ وَدَنَا النَّاسُ مِنَ الرِّيفِ وَالْقُرَى قَالَ مَا تَرَوْنَ فِى جَلْدِ الْخَمْرِ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا كَأَخَفِّ الْحُدُودِ. قَالَ فَجَلَدَ عُمَرُ ثَمَانِينَ.
- - - - - - - - - - - -
39.
ابتلاءُ المحرم بحج أو عمرة بالصيد
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (94) سورة المائدة(1/317)
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى : بِأنَّهُ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ ( يَبْلُوهُمْ ) فِي حَالَةِ إحْرَامِهِمْ ، بِأنْ يَجْعَلَ صِغَارَ حَيَوَانَاتِ الصَّيْدِ وَضِعَافِهَا فِي مُتَنَاوَلِ أيْدِيهِمْ ، لَوْ شَاؤُوا لَتَنَاوَلُوهَا بِأيْدِيهِمْ ، كَمَا أنَّهُ سَيَخْتَبِرُهُمْ بِجَعْلِ كِبَارِ الحَيَواناتِ فِي مُتَنَاوَلِ رِمَاحِهِمْ ، تَعْرِضُ لَهُمْ ، أوْ تَغْشَاهُمْ فِي رَحِالِهِمْ ، لِيَعْلَمَ مَنْ يُطِيعُ اللهَ مِنْهُمْ فِي سِرِّهِ وَجَهْرِهِ ، وَيَمْتَنِعُ عَنِ الصَّيْدِ مَا دَامَ مُحْرِماًز فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ هذا التَّحذِيرِ مِنَ اللهِ ، وَقَتَل الصَّيْدَ أوْ أكَلَ لَحْمَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ ، فَلَهُ عَذَابٌ أليمٌ فِي الآخِرَةِ لِمُخَالَفَتِهِ شَرْعَ اللهِ .(1/318)
إنه صيد سهل ، يسوقه الله إليهم . صيد تناله أيديهم من قريب ، وتناله رماحهم بلا مشقة . ولقد حكي أن الله ساق لهم هذا الصيد حتى لكان يطوف بخيامهم ومنازلهم من قريب! . . إنه الإغراء الذي يكون فيه الابتلاء . . إنه ذات الإغراء الذي عجزت بنو إسرائيل من قبل عن الصمود له ، حين ألحوا على نبيهم موسى - عليه السلام - أن يجعل الله لهم يوماً للراحة والصلاة لا يشتغلون فيه بشيء من شئون المعاش . فجعل لهم السبت . ثم ساق إليهم صيد البحر يجيئهم قاصداً الشاطئ متعرضاً لأنظارهم في يوم السبت . فإذا لم يكن السبت اختفى ، شأن السمك في الماء . فلم يطيقوا الوفاء بعهودهم مع الله؛ وراحوا - في جبلة اليهود المعروفة - يحتالون على الله فيحوّطون على السمك يوم السبت ولا يصيدونه؛ حتى إذا كان الصباح التالي عادوا فأمسكوه من التحويطة! وذلك الذي وجه الله - سبحانه - رسوله - صلى الله عليه وسلم - لأن يواجههم ويفضحهم به في قوله تعالى : { واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر ، إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم . كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون } هذا الابتلاء بعينه ابتلى به الله الأمة المسلمة ، فنجحت حيث أخفقت يهود . . وكان هذا مصداق قول الله سبحانه في هذه الأمة : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله . ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم . منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون } ولقد نجحت هذه الأمة في مواطن كثيرة حيث أخفق بنو إسرائيل . ومن ثم نزع الله الخلافة في الأرض من بني إسرائيل وائتمن عليها هذه الأمة . ومكن لها في الأرض ما لم يمكن لأمة قبلها . إذ أن منهج الله لم يتمثل تمثلاً كاملاً في نظام واقعي يحكم الحياة كلها كما تمثل في خلافة الأمة المسلمة . . ذلك يوم أن كانت مسلمة . يوم أن كانت تعلم أن الإسلام هو أن يتمثل دين الله وشريعته في حياة البشر .(1/319)
وتعلم أنها هي المؤتمنة على هذه الأمانة الضخمة؛ وأنها هي الوصية على البشرية لتقيم فيها منهج الله ، وتقوم عليه بأمانة الله .
ولقد كان هذا الاختبار بالصيد السهل في أثناء فترة الإحرام أحد الاختبارات التي اجتازتها هذه الأمة بنجاح . وكانت عناية الله - سبحانه - بتربية هذه الأمة بمثل هذه الاختبارات من مظاهر رعايته واصطفائه .
ولقد كشف الله للذين آمنوا في هذا الحادث عن حكمة الابتلاء : { ليعلم الله من يخافه بالغيب } . .
إن مخافة الله بالغيب هي قاعدة هذه العقيدة في ضمير المسلم . القاعدة الصلبة التي يقوم عليها بناء العقيدة ، وبناء السلوك ، وتناط بها أمانة الخلافة في الأرض بمنهج الله القويم . .
إن الناس لا يرون الله؛ ولكنهم يجدونه في نفوسهم حين يؤمنون . . إنه تعالى بالنسبة لهم غيب ، ولكن قلوبهم تعرفه بالغيب وتخافه . إن استقرار هذه الحقيقة الهائلة - حقيقة الإيمان بالله بالغيب ومخافته - والاستغناء عن رؤية الحس والمشاهدة؛ والشعور بهذا الغيب شعوراً يوازي - بل يرجح - الشهادة؛ حتى ليؤدي المؤمن شهادة : بأن لا إله إلا الله . وهو لم ير الله . . إن استقرار هذه الحقيقة على هذا النحو يعبر عن نقلة ضخمة في ارتقاء الكائن البشري ، وانطلاق طاقاته الفطرية ، واستخدام أجهزته المركوزة في تكوينه الفطري على الوجه الأكمل؛ وابتعاده - بمقدار هذا الارتقاء - عن عالم البهيمة التي لا تعرف الغيب - بالمستوى الذي تهيأ له الإنسان - بينما يعبر انغلاق روحه عن رؤية ما وراء الحس ، وانكماش إحساسه في دائرة المحسوس ، عن تعطل أجهزة الالتقاط والاتصال الراقية فيه ، وانتكاسه إلى المستوى الحيواني في الحس « المادي »!
ومن ثم يجعلها الله سبحانه حكمة لهذا الابتلاء؛ ويكشف للذين آمنوا عن هذه الحكمة كي تحتشد نفوسهم لتحقيقها . .(1/320)
والله سبحانه يعلم علماً لَدُنِّياًّ من يخافه بالغيب . ولكنه - سبحانه - لا يحاسب الناس على ما يعلمه عنهم علماً لدنيا . إنما يحاسبهم على ما يقع منهم فيعلمه الله - سبحانه - علم وقوع . .
{ فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } . .
فقد أخبر بالابتلاء ، وعرف حكمة تعرضه له ، وحذر من الوقوع فيه؛ وبذلت له كل أسباب النجاح فيه . . فإذا هو اعتدى - بعد ذلك - كان العذاب الأليم جزاء حقاً وعدلاً؛ وقد اختار بنفسه هذا الجزاء واستحقه فعلاً .
- - - - - - - - - - - -
40. تحريمُ قتل صيد البر للمحرم بحج أو عمرة
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)} سورة المائدة .(1/321)
حَرَّمَ اللهُ صَيْدَ البَرِّ فِي حَالِ الإِحْرَامِ ، وَنَهَى المُؤْمِنُ عَنْ تَنَاولِهِ فِيهِ ، وَمَنْ قَتَلَ الصَّيْدَ مُتَعَمِّداً ، وَهُوَ مُحْرِمٌ ، يَجِبُ عَليهِ جَزَاءٌ مِنْ مِثْلِ الحَيَوانِ الذِي قَتَلَهُ ( إنْ كَانَ لِلْحَيَوانِ مِثْلٌ فِي الحَيَوانَاتِ الألِيفَةِ ) ، يَحْكُمُ بِهِ رَجُلانِ عَادِلاَنِ مِنْ المُسْلِمِينَ ( وَقَدْ حَكَمَ بَعْضُهُمْ بِنَحْرِ تَيْسٍ فِي جَزَاءٍ عَنْ قَتْلِ ظَبْيٍ ) ، وَعَلَى مَنْ وَقَعَ عَليهِ الجَزَاءُ انْ يَأتِيَ بِالمِثْلِ الذِي سَيَذْبَحُهُ إلى الكَعْبَةِ ، لِيَكُونَ هَدْياً لَهَا ، فَيُذْبَحُ هُنَاكَ ، وَيُوَزَّعُ لَحْمُهُ عَلَى فُقَرَاءِ أهْلِ الحَرَمِ . فَإذَا لَمْ يَجِدِ المُحْرِمُ مِثْلَ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ، أوْ لَمْ يَكنِ الصَّيْدُ المَقْتُولُ مِنْ ذَوَاتِ الأمْثَالِ فَيُخَيَّرُ المُحْرِمُ بَيْنَ أمُورٍ :
أ - أنْ يُقَوَّمَ الصَّيْدُ المَقْتُولُ ، وَيُقَوَّمَ مِثْلُهُ مِنَ النَّعَمِ ، لَوْ كَانَ مَوْجُوداً ، فِي المَكَانِ الذِي تَمَّ فِيهِ الصَّيْدُ ، أَوْ فِي أَقْرَبِ مَكَانٍ إلَيْهِ ، ثُمَّ يَشْتَرِي المُحْرِمُ المُخَالِفُ بِثَمَنِهِ طَعَاماً فَيَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى فُقَرَاءِ الحَرَمِ .
ب- أَوْ يُطْعِمَ مَسَاكِينَ . وَيَخْتِلِفُ عَدَدُهُمْ بِحَسَبِ أهْمِّيَّةِ الصَّيْدِ المَقْتُولِ : فَقِيلَ إنَّ مَنْ قَتَلَ ظَبْياً فَعَلَيهِ ذَبْحُ شَاةٍ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ ثَلاَثَةَ أيَّامٍ . وَإذَا قَتَلَ نَعَامَةً أَوْ حِمَارَ وَحْشٍ ، فَعَلَيْهِ ذَبْحُ بَدَنَةٍ ( نَاقَةٍ أَوْ بَعيرٍ ) ، فَإنْ لَمْ يَجِدْ أطْعَمَ ثَلاَثِينَ مِسْكِيناً . ج- وَإذا لَمْ يَجِدْ مَا يَطْعِمُ بِهِ المَسَاكينَ صَامَ أيَّاماً عَنْ ذَلِكَ .(1/322)
وَتَتَرَاوَحُ مُدَّةُ الصَّوْمِ مِنْ ثَلاَثَةِ أيَّامٍ ، فِي قَتْلِ ظَبْيٍ ، إلى ثَلاثِينَ يَوْماً ، فِي قَتْلِ نَعَامَةٍ أوْ حِمَارِ وَحْشٍ . ( يَصُومُ يَوْماً عَنْ إِطْعَامِ كُلِّ مِسْكِينٍ ) .
وَيَذْكُرُ اللهُ تَعَالَى : أنَّهُ أَوْجَبَ الكَفَّارَةَ لِيَذُوقَ المُتَجَاوِزُ العُقُوبَةَ عَنِ الفِعْلِ الذِي ارْتَكَبَ فِيهِ المَخَالَفَةَ ( وَبَالَ أمْرِهِ ) .
وَقَدْ ألْحِقَتِ السُّنَّةُ قَتْلَ الصَّيْدِ خَطَأً بِقَتْلِهِ عَمْداً ، فِي وُجُوبِ الكَفَّارَةِ . وَلَكِنْ دُونَ أنْ يَكُونَ عَلَى المُخْطِىءِ إِثْمٌ .
وَقَدْ عَفَا اللهُ تَعَالَى عَمَّا سَلَفَ مِنْ قَتْلِ الصَّيْدِ فِي حَالَةِ الإحْرَامِ ، الذِي تَمَّ قَبْلَ هذا التَّحْرِيمِ ، وَقَبْلَ بُلُوغِ الحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لِلنَّاسِ . وَمَنْ عَادَ فِي الإِسْلاَمِ إلى فِعْلِ ذَلِكَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ ، واللهُ عَزيزٌ مَنيعُ الجَانِبِ . قَادِرٌ عَلَى أنْ يَنْتَقِمَ مِمَّنْ عَصَاهُ .
إن النهي ينصب على قتل المحرم للصيد عمداً .
فأما إذا قتله خطأ فلا إثم عليه ولا كفارة . . فإذا كان القتل عمداً فكفارته أن يذبح بهيمة من الأنعام من مستوى الصيد الذي قتله . فالغزالة مثلاً تجزئ فيها نعجة أو عنزة . والأيِّل تجزئ فيه بقرة . والنعامة والزرافة وما إليها تجزئ فيها بدنة . . والأرنب والقط وأمثالهما يجزئ فيه أرنب . وما لا مقابل له من البهيمة يجزئ عنه ما يوازي قيمته . .(1/323)
ويتولى الحكم في هذه الكفارة اثنان من المسلمين ذوا عدل . فإذا حكما بذبح بهيمة أطلقت هدياً حتى تبلغ الكعبة ، تذبح هناك وتطعم للمساكين . أما إذا لم توجد بهيمة فللحكمين أن يحكما بكفارة طعام مساكين؛ بما يساوي ثمن البهيمة أو ثمن الصيد ( خلاف فقهي ) . فإذا لم يجد صاحب الكفارة صام ما يعادل هذه الكفارة . مقدراً ثمن الصيد أو البهيمة ، ومجزأ على عدد المساكين الذين يطعمهم هذا الثمن؛ وصيام يوم مقابل إطعام كل مسكين . . أما كم يبلغ ثمن إطعام مسكين فهو موضع خلاف فقهي . ولكنه يتبع الأمكنة والأزمنة والأحوال .
وينص السياق القرآني على حكمة هذه الكفارة : { ليذوق وبال أمره } . .
ففي الكفارة معنى العقوبة ، لأن الذنب هنا مخل بحرمة يشدد فيها الإسلام تشديداً كبيراً : لذلك يعقب عليها بالعفو عما سلف والتهديد بانتقام الله ممن لا يكف :
{ عفا الله عما سلف ، ومن عاد فينتقم الله منه ، والله عزيز ذو انتقام } .
فإذا اعتز قاتل الصيد بقوته وقدرته على نيل هذا الصيد ، الذي أراد الله له الأمان في مثابة الأمان ، فالله هو العزيز القوي القادر على الانتقام!
ذلك شأن صيد البر . فأما صيد البحر فهو حلال في الحل والإحرام : { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة } . .
فحيوان البحر حلال صيده وحلال أكله للمحرم ولغير المحرم سواء . . ولما ذكر حل صيد البحر وطعامه ، عاد فذكر حرمة صيد البر للمحرم : { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً } . .
والذي عليه الإجماع هو حرمة صيد البر للمحرم . ولكن هناك خلاف حول تناول المحرم له إذا صاده غير المحرم . كما أن هناك خلافاً حول المعنّى بالصيد . وهل هو خاص بالحيوان الذي يصاد عادة . أم النهي شامل لكل حيوان ، ولو لم يكن مما يصاد ومما لا يطلق عليه لفظ الصيد .(1/324)
ويختم هذا التحليل وهذا التحريم باستجاشة مشاعر التقوى في الضمير؛ والتذكير بالحشر إلى الله والحساب: { واتقوا الله الذي إليه تحشرون } . . وبعد . ففيم هذه الحرمات؟
إنها منطقة الأمان يقيمها الله للبشر في زحمة الصراع . . إنها الكعبة الحرام ، والأشهر الحرام ، تقدم في وسط المعركة المستعرة بين المتخاصمين والمتحاربين والمتصارعين والمتزاحمين على الحياة بين الأحياء من جميع الأنواع والأجناس . . بين الرغائب والمطامع والشهوات والضرورات . . فتحل الطمأنينة محل الخوف ، ويحل السلام محل الخصام ، وترف أجنحة من الحب والإخاء والأمن والسلام . وتدرب النفس البشرية في واقعها العملي - لا في عالم المثل والنظريات - على هذه المشاعر وهذه المعاني؛ فلا تبقى مجرد كلمات مجنحة ورؤى حالمة ، تعز على التحقيق في واقع الحياة
- - - - - - - - - - - -
41.
تحريمُ السؤال عما لا يعنينا
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) } سورة المائدة
يُؤَدِّبُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ أنْ يَسْألُوا عَنْ أشْيَاءَ لاَ فَائِدَةَ لَهُمْ فِي السُؤَالِ عَنْهَا ، وَعَنِ التَّنْقِيبِ عَنْ خَفَايَاهَا ، لأَنَّها إنْ ظَهَرَتْ لَهُمْ تِلْكَ الأشْيَاءُ رُبَّمَا سَاءَتْهُمْ ، وَشَقَّ عَلَيْهِمْ سَمَاعُهَا .
((1/325)
وَرُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ " أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ غَضْبَانَ ، مَحْمَرَّ الوَجْةِ حَتَّى جَلَسَ عَلَى المِنْبَرِ ، فَقَامَ إلَيهِ رَجُلٌ فَقَالَ : أيْن أَبِي؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي النَّارِ . فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ : مَنْ أبي؟ فَقَالَ النَّبِيُّ : أَبُوكَ حُذَافَةُ " ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ) . ( رَوَاهُ البُخَارِيُّ ) .
وَيَقُولُ تَعَالَى : إذَا سَألْتُمْ عَنْ هَذِهِ الأشْيَاءِ التِي نُهِيتُمْ عَنِ السُّؤَالِ عَنْها ، حِينَ يَنْزِلُ القُرآنُ فِي شَأنِهَا أوْ حُكْمِهَا ، أوْ لأجْلِ فَهْمِ مَا نَزَلَ إلَيكُمْ ، فَإنَّ اللهَ يُبْدِيهِ لَكُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ .
( وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ : " ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ ، فَإنَّمَا أهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَثْرَةَ سُؤَالِهِمْ ، وَاخْتِلافُهُمْ عَلَى أنْبِيَائِهِمْ " ) . ( رَوَاهُ العَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ) .
وَقِيلَ إنَّ المَقْصُودَ بِقَولِهِ تَعَالَى : { لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ } هُوَ لاَ تَسْألُوا عَنْ أَشْيَاءَ تَسْتَأنِفُونَ السُّؤَالَ عَنْها ، فَلَعَلَّهُ يَنْزِلُ بِسَبَبِ سُؤَالِكُمْ تَشْدِيدٌ أَوْ تَضْيِيقٌ .
( وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ : " أعْظَمُ المُسْلِمِينَ جُرْماً مَنْ سَألَ عَنْ شَيءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أجْلِ مَسْألَتِهِ " ) .
لَقَدْ سَألَ هَذِهِ المَسَائِلَ المَنْهِيَّ عَنْها قَوْمٌ مِنْ قَبِلِكُمْ فَأُجِيبُوا عَنْهَا ، ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا فَأصْبَحُوا بِسَبَبِهَا كَافِرِينَ ، لأنَّهَا بُيِّنَتْ لَهُمْ ، فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا ، وَلَمْ يَتَّبِعُوهَا .(1/326)
كان بعضهم يكثر على رسول الله صلى الله عليه وسلم من السؤال عن أشياء لم يتنزل فيها أمر أو نهي . أو يلحف في طلب تفصيل أمور أجملها القرآن , وجعل الله في إجمالها سعة للناس . أو في الاستفسار عن أمور لا ضرورة لكشفها فإن كشفها قد يؤذي السائل عنها أو يؤذي غيره من المسلمين .
وروي أنه لما نزلت آية الحج سأل سائل:أفي كل عام ? فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا السؤال لأن النص على الحج جاء مجملا: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا) والحج مرة يجزي . فأما السؤال عنه أفي كل عام فهو تفسير له بالصعب الذي لم يفرضه الله .وفي حديث مرسل رواه الترمذي والدارقطني عن علي رضي الله عنه قال:لما نزلت هذه الآية: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا) قالوا:يا رسول الله أفي كل عام ? فسكت . فقالوا:أفي كل عام ? قال:" لا . ولو قلت نعم لوجبت " فأنزل الله: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) . . الخ الآية .
وأخرجه الدارقطني أيضا عن أبي عياض عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس كتب عليكم الحج . فقام رجل فقال:أفي كل عام يا رسول الله ? فأعرض عنه , ثم عاد فقال:أفي كل عام يا رسول الله ? فقال:" ومن القائل ? " قالوا:فلان . قال:" والذي نفسي بيده لو قلت:نعم . لوجبت . ولو وجبت ما أطقتموها . ولو لم تطيقوها لكفرتم " . فأنزل الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) . .(1/327)
وفي حديث أخرجه مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه , عن النبي صلى الله عليه وسلم:" . . . فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا " فقام إليه رجل فقال:أين مدخلي يا رسول الله ? قال:" النار " فقام عبدالله بن حذافة فقال:" من أبي يا رسول الله ? " فقال:" أبوك حذافة " . . قال ابن عبد البر:عبدالله بن حذافة أسلم قديما , وهاجر إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية , وشهد بدرا , وكانت فيه دعابة ! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله إلى كسرى بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما قال:من أبي يا رسول الله ? قال:" أبوك حذافة " قالت أمه:ما سمعت بابن أعق منك . أأمنت أن تكون أمك قارفت ما يقارف نساء الجاهلية فتفضحها على أعين الناس ?! فقال:والله لو ألحقني بعبد أسود للحقت به . .
وفي رواية لابن جرير - بسنده - عن أبي هريرة قال:خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمار وجهه حتى جلس على المنبر . فقام إليه رجل فقال:أين أنا ? قال:" في النار " فقام آخر فقال:من ابي ? فقال:" أبوك حذافة " فقام عمر بن الخطاب , فقال:رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا وبالقرآن إماما . إنا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشرك , والله أعلم من آباؤنا . قال:فسكن غضبه , ونزلت هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) . . الآية .
وروى مجاهد عن ابن عباس أنها نزلت في قوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام . وهو قول سعيد بن جبير . وقال:ألا ترى أن بعده: (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام) ?
ومجموعة هذه الروايات وغيرها تعطي صورة عن نوع هذه الأسئلة التي نهى الله الذين آمنوا أن يسألوها .(1/328)
لقد جاء هذا القرآن لا ليقرر عقيدة فحسب , ولا ليشرع شريعة فحسب . ولكن كذلك ليربي أمة , وينشى ء مجتمعا , وليكون الأفراد وينشئهم على منهج عقلي وخلقي من صنعه . . وهو هنا يعلمهم أدب السؤال , وحدود البحث , ومنهج المعرفة . . وما دام الله - سبحانه - هو الذي ينزل هذه الشريعة , ويخبر بالغيب , فمن الأدب أن يترك العبيد لحكمته تفصيل تلك الشريعة أو إجمالها ; وأن يتركوا له كذلك كشف هذا الغيب أو ستره . وأن يقفوا هم في هذه الأمور عند الحدود التي أرادها العليم الخبير . لا ليشددوا على أنفسهم بتنصيص النصوص , والجري وراء الاحتمالات والفروض . كذلك لا يجرون وراء الغيب يحاولون الكشف عما لم يكشف الله منه وما هم ببالغيه . والله أعلم بطاقة البشر واحتمالهم , فهو يشرع لهم في حدود طاقتهم , ويكشف لهم من الغيب ما تدركه طبيعتهم . وهناك أمور تركها الله مجملة أو مجهلة ; ولا ضير على الناس في تركها هكذا كما أرادها الله . ولكن السؤال - في عهد النبوة وفترة تنزل القرآن - قد يجعل الإجابة عنها متعينة فتسوء بعضهم , وتشق عليهم كلهم وعلى من يجيء بعدهم .
لذلك نهى الله الذين آمنوا أن يسألوا عن أشياء يسوؤهم الكشف عنها ; وأنذرهم بأنهم سيجابون عنها إذا سألوا في فترة الوحي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وستترتب عليهم تكاليف عفا الله عنها فتركها ولم يفرضها: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم . وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم . . عفا الله عنها . .) .
أي لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها وترك فرضها أو تفصيلها ليكون في الإجمال سعة . . كأمره بالحج مثلا . . أو تركه ذكرها أصلا . .(1/329)
ثم ضرب لهم المثل بمن كانوا قبلهم - من أهل الكتاب - ممن كانوا يشددون على أنفسهم بالسؤال عن التكاليف والأحكام . فلما كتبها الله عليهم كفروا بها ولم يؤدوها . ولو سكتوا وأخذوا الأمور باليسر الذي شاءه الله لعبادة ما شدد عليهم , وما احتملوا تبعة التقصير والكفران .
ولقد رأينا في سورة البقرة كيف أن بني إسرائيل حينما أمرهم الله أن يذبحوا بقرة , بلا شروط ولا قيود , كانت تجزيهم فيها بقرة أية بقرة . . أخذوا يسألون عن أوصافها ويدققون في تفصيلات هذه الأوصاف . وفي كل مرة كان يشدد عليهم . ولو تركوا السؤال ليسروا على أنفسهم .وكذلك كان شأنهم في السبت الذي طلبوه ثم لم يطيقوه ! . .
ولقد كان هذا شأنهم دائما حتى حرم الله عليهم أشياء كثيرة تربية لهم وعقوبة !
وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" ذروني ما تركتكم . فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم , واختلافهم على أنبيائهم " .
وفي الصحيح أيضا:" إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها , وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها . وسكت عن أشياء رحمة بكم - غير نسيان - فلا تسألوا عنها " . .
وفي صحيح مسلم عن عامر بن سعد عن أبيه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما , من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته " .
ولعل مجموعة هذه الأحاديث - إلى جانب النصوص القرآنية - ترسم منهج الإسلام في المعرفة .(1/330)
إن المعرفة في الإسلام إنما تطلب لمواجهة حاجة واقعة وفي حدود هذه الحاجة الواقعة . . فالغيب وماوراءه تصان الطاقة البشرية أن تنفق في استجلائه واستكناهه , لأن معرفته لا تواجه حاجة واقعية في حياة البشرية . وحسب القلب البشري أن يؤمن بهذا الغيب كما وصفه العليم به . فأما حين يتجاوز الإيمان به إلى البحث عن كنهه ; فإنه لا يصل إلى شيء أبدا , لأنه ليس مزودا بالمقدرة على استكناهه إلا في الحدود التي كشف الله عنها . فهو جهد ضائع . فوق أنه ضرب في التيه بلا دليل , يؤدي إلى الضلال البعيد .
وأما الأحكام الشرعية فتطلب ويسأل عنها عند وقوع الأقضية التي تتطلب هذه الأحكام . . وهذا هو منهج الإسلام . .
ففي طوال العهد المكي لم يتنزل حكم شرعي تنفيذي - وإن تنزلت الأوامر والنواهي عن أشياء وأعمال - ولكن الأحكام التنفيذية كالحدود والتعازير والكفارات لم تتنزل إلا بعد قيام الدولة المسلمة التي تتولى تنفيذ هذه الأحكام .
ووعى الصدر الأول هذا المنهج واتجاهه ; فلم يكونوا يفتون في مسألة إلا إذا كانت قد وقعت بالفعل ; وفي حدود القضية المعروضة دون تفصيص للنصوص , ليكون للسؤال والفتوى جديتهما وتمشيهما كذلك مع ذلك المنهج التربوي الرباني:
كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يلعن من سأل عما لم يكن . . ذكره الدارمي في مسنده . . وذكر عن الزهري قال:بلغنا أن زيد بن ثابت الأنصاري كان يقول إذا سئل عن الأمر:أكان هذا ? فإن قالوا:نعم قد كان , حدث فيه بالذي يعلم . وإن قالوا:لم يكن , قال:فذروه حتى يكون . وأسند عن عمار بن ياسر - وقد سئل عن مسألة - فقال:هل كان هذا بعد ? قالوا:لا . قال دعونا حتى يكون , فإذا كان تجشمناها لكم .(1/331)
وقال الدرامي:حدثنا عبدالله بن محمد بن أبي شيبة , قال:حدثنا ابن فضيل , عن عطاء , عن ابن عباس , قال:ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض , كلهن في القرآن , منهن: (يسألونك عن الشهر الحرام) . . (ويسألونك عن المحيض) . . وشبهه . . ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم .
وقال مالك:أدركت هذا البلد [ يعني المدينة ] وما عندهم علم غير الكتاب والسنة . فإذا نزلت نازلة , جمع الأمير لها من حضر من العلماء , فما اتفقوا عليه أنفذه . وأنتم تكثرون المسائل وقد كرهها رسول الله صلى الله عليه وسلم !
وقال القرطبي في سياق تفسيره للآية:روى مسلم عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات , ووأد البنات , ومنعا وهات . وكره لكم ثلاثا:قيل وقال ; وكثرة السؤال , وإضاعة المال " . . قال كثير من العلماء:المراد بقوله:"وكثرة السؤال":التكثير من السؤال في المسائل الفقهية تنطعا , وتكلفا فيما لم ينزل , والأغلوطات , وتشقيق المولدات . وقد كان السلف يكرهون ذلك ويرونه من التكلف . ويقولون:إذا نزلت النازلة وفق المسؤول لها . .
إنه منهج واقعي جاد . يواجه وقائع الحياة بالأحكام , المشتقة لها من أصول شريعة الله , مواجهة عملية واقعية . . مواجهة تقدر المشكلة بحجمها وشكلها وظروفها كاملة وملابساتها , ثم تقضي فيها بالحكم الذييقابلها ويغطيها ويشملها وينطبق عليها انطباقا كاملا دقيقا . .
فأما الاستفتاء عن مسائل لم تقع , فهو استفتاء عن فرض غير محدد . وما دام غير واقع فإن تحديده غير مستطاع . والفتوى عليه حينئذ لا تطابقه لأنه فرض غيرمحدد . والسؤال والجواب عندئذ يحملان معنى الاستهتار بجدية الشريعة ; كما يحملان مخالفة للمنهج الإسلامي القويم .(1/332)
ومثله الاستفتاء عن أحكام شريعة الله في أرض لا تقام فيها شريعة الله , والفتوى على هذا الأساس ! . . إن شريعة الله لا تستفتى إلا ليطبق حكمها وينفذ . . فإذا كان المستفتي والمفتي كلاهما يعلمان أنهما في أرض لا تقيم شريعة الله ; ولا تعترف بسلطان الله في الأرض وفي نظام المجتمع وفي حياة الناس . . أي لا تعترف بألوهية الله في هذه الأرض ولا تخضع لحكمه ولا تدين لسلطانه . . فما استفتاء المستفتي ? وما فتوى المفتي ? إنهما - كليهما - يرخصان شريعة الله , ويستهتران بها شاعرين أو غير شاعرين سواء !
ومثله تلك الدراسات النظرية المجردة لفقه الفروع وأحكامه في الجوانب غير المطبقة . . إنها دراسة للتلهية ! لمجرد الإيهام بأن لهذا الفقه مكانا في هذه الأرض التي تدرسه في معاهدها ولا تطبقه في محاكمها ! وهو إيهام يبوء بالإثم من يشارك فيه , ليخدر مشاعر الناس بهذا الإيهام !
إن هذا الدين جد . وقد جاء ليحكم الحياة . جاء ليعبد الناس لله وحده , وينتزع من المغتصبين لسلطان الله هذا السلطان , فيرد الأمر كله إلى شريعة الله , لا إلى شرع أحد سواه . . وجاءت هذه الشريعة لتحكم الحياة كلها ; ولتواجه بأحكام الله حاجات الحياة الواقعية وقضاياها , ولتدلي بحكم الله في الواقعة حين تقع بقدر حجمها وشكلها وملابساتها .
ولم يجيء هذا الدين ليكون مجرد شارة أو شعار . ولا لتكون شريعته موضوع دراسة نظرية لا علاقة لها بواقع الحياة . ولا لتعيش مع الفروض التي لم تقع , وتضع لهذه الفروض الطائرة أحكاما فقهية في الهواء !
هذا هو جد الإسلام . وهذا هو منهج الإسلام . فمن شاء من "علماء" هذا الدين أن يتبع منهجه بهذا الجد فليطلب تحكيم شريعة الله في واقع الحياة . أو على الأقل فليسكت عن الفتوى والقذف بالأحكام في الهواء !
- - - - - - - - - - - -
42.
لا يضرُّ المؤمنين ضلال الكافرين إذا بذلوا الوسع في هدايتهم فأبوا(1/333)
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (105) سورة المائدة .
يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى المٌُؤْمِنينَ بِأنْ يُصْلِحُوا أنْفُسَهُمْ ، وَأنْ يَفْعَلُوا الخَيْرَ جَهْدَ طَاقَتِهِمْ ، لِيَتَقَرَّبُوا بِذَلِكَ إلى اللهِ . وَيُخْبِرُهُمْ تَعَالَى أنَّهُ مَنْ أصْلَحَ نَفْسَهُ وَأَمْرَهُ مِنْهُمْ ، فَلاَ يَضُرُّهُ فَسَادُ مَنْ فَسَدَ مِنَ النَّاسِ ، سَوَاءٌ أكَانَ قَرِيباً أوْ بَعِيداً ، " وَسُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ هَذِهِ الآيَةِ فَقَالَ : بَلِ ائْتَمِرُوا بِالمَعْرُوفِ ، وَتَنَاهُوا عَنِ المُنْكَرِ ، حَتَّى إذا رَأَيْتُمْ شُحّاً مُطَاعاً ، وَهَوىً مَتَّبَعاً ، وَدُنْيا مُؤْثَرَةً ، وَإعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأيٍ بِرَأيِهِ ، فًَعَلَيكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ ، وَدَعْ عَنْكَ العَوَامَّ ، فَإنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أيَّاماً الصَّابِرُ فِيهِنَّ مِثْلُ القَابِضِ عَلَى الجَمْرِ ، لِلَعَامِلِ فِيهِنَّ أجْرُ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ كَعَمَلِكُمْ " ( رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ) .
فَالمُؤْمِنُ لاَ يَكُونُ مُهْتَدِياً إذَا أصْلَحَ نَفْسَهُ ، وَلَمْ يَهْتَمَّ بإِصْلاَحِ غَيْرِهِ ، بِأنْ يَأمُرَهُ بِالمَعْرُوفِ ، وَيَنْهَاهُ عَنِ المُنْكَرِ ، فَهَذا فَرْضٌ لاَ هَوَادَةَ فِيهِ ، وَلَكِنَّ هذِهِ الفَرِيضَةُ تَسْقُطُ إذا فَسَدَ النَّاسُ فَسَاداً لاَ يُرْجَى مَعَهُ تَأثِيرُ الوَعْظِ وَالإِرْشَادِ .
إنه التميز والمفاصلة بينهم وبين من عداهم . ثم إنه التضامن والتواصي فيما بينهم بوصفهم أمة واحدة . (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) . .(1/334)
أنتم وحدة منفصلون عمن سواكم , متضامنون متكافلون فيما بينكم . فعليكم أنفسكم . . عليكم أنفسكم فزكوها وطهروها ; وعليكم جماعتكم فالتزموها وراعوها ; ولا عليكم أن يضل غيركم إذا أنتم اهتديتم . فأنتم وحدة منفصلة عمن عداكم ; وأنتم أمة متضامنة فيما بينها بعضكم أولياء بعض , ولا ولاء لكم ولا ارتباط بسواكم .
إن هذه الآية الواحدة تقرر مبادى ء أساسية في طبيعة الأمة المسلمة , وفي طبيعة علاقاتها بالأمم الأخرى .
إن الأمة المسلمة هي حزب الله . ومن عداها من الأمم فهم حزب الشيطان . ومن ثم لا يقوم بينها وبين الأمم الأخرى ولاء ولا تضامن , لأنه لا اشتراك في عقيدة ; ومن ثم لا اشتراك في هدف أو وسيلة ; ولا اشتراك في تبعة أو جزاء .
وعلى الأمة المسلمة أن تتضامن فيما بينها ; وأن تتناصح وتتواصى , وأن تهتدي بهدي الله الذي جعل منها أمة مستقلة منفصلة عن الأمم غيرها . . ثم لا يضيرها بعد ذلك شيئا أن يضل الناس حولها ما دامت هي قائمة على الهدى .
ولكن ليس معنى هذا أن تتخلى الأمة المسلمة عن تكاليفها في دعوة الناس كلهم إلى الهدى . والهدى هو دينها هي وشريعتها ونظامها . فإذا هي أقامت نظامها في الأرض بقي عليها أن تدعو الناس كافة , وأن تحاول هدايتهم , وبقي عليها أن تباشر القوامة على الناس كافة لتقيم العدل بينهم ; ولتحول بينهم وبين الضلال والجاهلية التي منها أخرجتهم . .
إن كون الأمة المسلمة مسؤولة عن نفسها أمام الله لا يضرها من ضل إذا اهتدت , لا يعني أنها غير محاسبة على التقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينها أولا , ثم في الأرض جميعا . وأول المعروف الإسلام لله وتحكيم شريعته ; وأول المنكر الجاهلية والاعتداء على سلطان الله وشريعته . وحكم الجاهلية هو حكم الطاغوت , والطاغوت هو كل سلطان غير سلطان الله وحكمه . . والأمة المسلمة قوامة على نفسها أولا ; وعلى البشرية كلها أخيرا .(1/335)
وليس الغرض من بيان حدود التبعة في الآية كما فهم بعضهم قديما - وكما يمكن أن يفهم بعضهم حديثا - أن المؤمن الفرد غير مكلف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - إذا اهتدى هو بذاته - ولا أن الأمة المسلمة غير مكلفة إقامة شريعة الله في الأرض - إذا هي اهتدت بذاتها - وضل الناس من حولها .
إن هذه الآية لا تسقط عن الفرد ولا عن الأمة التبعة في كفاح الشر , ومقاومة الضلال ومحاربة الطغيان - وأطغى الطغيان الاعتداء على ألوهية الله واغتصاب سلطانه وتعبيد الناس لشريعة غير شريعته , وهو المنكر الذي لا ينفع الفرد ولا ينفع الأمة أن تهتدي وهذا المنكر قائم .
ولقد روى أصحاب السنن أن أبا بكر - رضي الله عنه - قام فحمد الله وأثنى عليه , ثم قال:أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم . . وإنكم تضعونها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إن الناس إذا رأوا المنكر , ولا يغيرونه , يوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقابه " .
وهكذا صحح الخليفة الأول - رضوان الله عليه - ما ترامى إلى وهم بعض الناس في زمانه من هذه الآية الكريمة . ونحن اليوم أحوج إلى هذا التصحيح , لأن القيام بتكاليف التغيير للمنكر قد صارت أشق . فما أيسر ما يلجأ الضعاف إلى تأويل هذه الآية على النحو الذي يعفيهم من تعب الجهاد ومشاقه , ويريحهم من عنت الجهاد وبلائه !(1/336)
وكلا والله ! إن هذا الدين لا يقوم إلا بجهد وجهاد . ولا يصلح إلا بعمل وكفاح . ولا بد لهذا الدين من أهل يبذلون جهدهم لرد الناس إليه , ولإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده , ولتقرير ألوهية الله في الأرض , ولرد المغتصبين لسلطان الله عما اغتصبوه من هذا السلطان , ولإقامة شريعة الله في حياة الناس , وإقامة الناس عليها . . لا بد من جهد . بالحسنى حين يكون الضالون أفرادا ضالين , يحتاجون إلى الإرشاد والإنارة . وبالقوة حين تكون القوة الباغية في طريق الناس هي التي تصدهم عن الهدى ; وتعطل دين الله أن يوجد , وتعوق شريعة الله أن تقوم .
وبعد ذلك - لا قبله - تسقط التبعة عن الذين آمنوا , وينال الضالون جزاءهم من الله حين يرجع هؤلاء وهؤلاء إليه: (إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون) .
- - - - - - - - - - - -
43.
الأمرُ بالوصية قبل الموت(1/337)
قال تعالى : { يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) } سورة المائدة
قِيلَ إنَّ حُكْمَ هَذِهِ الآيَةِ مَنْسُوخٌ . وَلَكِنَّ الأَكْثَرِيَّةَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أنَّهُ مُحْكَمٌ . وَهَذِهِ الآيَةُ تَتَضَمَّنُ حُكْمَ مَنْ تُوُفْيَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌُ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ - وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَوْلِ الإِسْلاَمِ ، وَالنَّاسُ كُفْارٌ ، وَالأَرْضُ أَرْضَ حَرْبٍ - وَكَانَ النَّاسُ يَتَوَارَثُونَ بِالوَصِيَّةِ ، ثُمَّ نُسِخَتِ الوَصِيَّةُ ، وَفُرِضَتِ الفَرَائِضُ ، وَعَمِلَ النَّاسُ بِهَا .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ مَا يَلِي :
((1/338)
خَرَجَ بَدْيِلٌ ، مَوْلَى عَمْرِو بْنِ العَاصِ ، مَعَ تَاجِرَينِ نَصْرَانِيَّينِ هُمَا تَمِيمٌ الدَّارِيُّ وَعُدِيُّ بْنُ بَدَاءَ ، فِي تِجَارَةٍ إلَى الشَّامِ ، وَفِي الطَّرِيقِ اشْتَكَى بَدِيلٌ فَكَتَبَ وَصِيَّتَهُ بِيَدِهِ ثُمَّ دَسَّهَا فِي مَتَاعِهِ ، وَأَوْصَى إلَيْهِما . فَلَمَّا مَاتَ فَتَحَا مَتَاعَهُ فَأَخَذا مِنْهُ شَيْئاً ثُمَّ حَجَرَاهُ كَمَا كَانَ . وَقَدِمَا عَلَى أهْلِهِ فِي المَدِينَةِ فَدَفَعا مَتَاعَهُ ، فَفَتَحَ أهْلُهُ المَتَاعَ فَوَجَدَا كِتَابَهُ وَعَهْدَهُ ، وَمَا خَرَجَ بِهِ ، وَفَقَدُوا جَاماً مِنْ فِضَّةٍ مُطَعَّمَةٍ بِالذَّهَبِ ، فَسَألْوهُمْا عَنْهُ فَقَالا : هَذا الذِي قَبَضْنَا لَهُ ، وَدَفَعَ إلينا . فَقَالُوا هذا كِتَابُهُ بِيَدِهِ . قَالاَ : مَا كَتَمْنَا لَهُ شَيْئاً . فَتَرَافَعُوا إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه كوسلم فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فَأمَرَ النَّبِيُّ أنْ يَسْتَحْلِفُوهُمَا ، دُبُرَ صَلاةِ العَصْرِ ، بِاللهِ الذِي لاَ إلهَ إلاَّ هُوَ مَا قَبَضْنَا غَيْرَ هَذا وَلاَ كَتَمْنَاهُ . فَحَلَفَا . ثُمَّ وَجَدَ أَهْلُهُ الجَامَ فِي مَكَّةَ ، فَقَالَ لَهُمْ مَنْ وَجَدُوهُ عِنْدَهُ : إنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ عَدِيٍ وَتَمِيمٍ الدَّارِيِّ . فَقَالَ هَذانِ : نَعْمْ ، وَلَكِنَّا اشْتَرَينَاهُ مِنْهُ ، وَنَسِينا أنْ نَذْكُرَهُ حِينَ حَلَفْنَا ، فَكَرِهْنَا أنْ نَكْذِبَ فِي نُفُوسِنا . فَتَرَافَعُوا إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتْ الآيَةُ التَّالِيَةُ { فَإِنْ عُثِرَ على أَنَّهُمَا استحقآ } فَأَمَرَ النَّبِيُّ رَجُلَينِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ المَيِّتِ أن يَحْلِفَا عَلَى مَا كَتَمَ تِمِيمٌ وَعَدِيٌّ وَغَيَّبَاهُ وَيَسْتَحِقَّانه .(1/339)
ثُمَّ إنَّ تَمِيماً الدَّارِيَّ أسْلَمَ ، وَبَايَعَ النَّبِيِّ ، وَكَانَ يَقُولُ صَدَقَ رَسُولُ اللهِ ، أنَا أخَذْتُ الإِنَاءَ .
( وَيَرَى ابْنُ عَبَّاسٍ أنْ يَحْلِفَ الشَّاهِدانِ ، إنْ كَانَا غَيْرَ مُسْلِمَينِ ، بَعْدَ صَلاَةِ أهْلِ يِينِهِمَا ، لأَنَّهُ لاَ مَعْنَى لِتَحْلِفِهِمَا بَعْدَ صَلاَةِ العَصْرِ ، لأنَّهُما لا يُبَالِيَانِ بِصَلاَةِ ظُهْرٍ وَلاَ عَصْرٍ ، وَلا يُؤْمِنَانِ بِهَا ) .
وَقَدْ أضَافَ اللهُ تَعَالَى الشَّهَادَةَ لِنَفْسِهِ الكَرِيمَةِ تَكْرِيماً لَهَا وَتَعْظِيماً .
فَإِذَا ظَهَرَ أنَّ الشَّاهِدَينِ قَدْ خَانَا الأَمَانَةَ ، أَوْ غَلاَّ شَيْئاً مِنَ المَالِ المُوصَى بِهِ إلَيْهِمَا ، فَلْيَقُمِ اثْنَانِ مِنَ الوَرَثَةِ المُسْتَحِقِّينَ لِلْتَّرِكَةِ ، وَلْيَكُونَا مِنْ أَوْلَى مَنْ يَرِثُ ذَلِكَ المَالِ ، فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ بِالقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ مِنْ شَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ الآخَرَيْنِ ، وَإنَّ قَوْلَنَا إنَّهُمَا خَانَا أحَقُّ بِالقُبُولِ ، وَأَصَحُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا المُتَقَدِّمَةِ ، وَمَا اعْتَدَيْنَا فِيمَا قُلْنَا فِيهِمَا مِنَ الخِيَانَةِ ، وَإنْ كُنَّا كَذَبْنَا عَلَيْهِما وَافْتَرَيْنَا إذَاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ .
وبيان هذا الحكم الذي تضمنته الآيات الثلاث:أن على من يحس بدنو أجله , ويريد أن يوصي لأهله بما يحضره من المال , أن يستحضر شاهدين عدلين من المسلمين إن كان في الحضر , ويسلمهما ما يريد أن يسلمه لأهله غير الحاضرين . فأما إذا كان ضاربا في الأرض , ولم يجد مسلمين يشهدهما ويسلمهما ما معه , فيجوز أن يكون الشاهدان من غير المسلمين .(1/340)
فإن ارتاب المسلمون - أو ارتاب أهل الميت - في صدق ما يبلغه الشاهدان وفي أمانتهما في أداء ما استحفظا عليه , فإنهم يوقفونهما بعد أدائهما للصلاة - حسب عقيدتهما - ليحلفا بالله , أنهما لا يتوخيان بالحلف مصلحة لهما ولا لأحد آخر , ولو كان ذا قربى , ولا يكتمان شيئا مما استحفظا عليه . . وإلا كانا من الآثمين . . وبذلك تنفذ شهادتهما .
فإذا ظهر بعد ذلك أنهما ارتكبا إثم الشهادة الكاذبة واليمين الكاذبة والخيانة للأمانة . قام أولى اثنين من أهل الميت بوراثته , من الذين وقع عليهم هذا الإثم , بالحلف بالله أن شهادتهما أحق من شهادة الشاهدين الأولين . وأنهما لم يعتديا بتقريرهما هذه الحقيقة . وبذلك تبطل شهادة الأولين , وتنفذ الشهادة الثانية .
ثم يقول النص:إن هذه الإجراءات أضمن في أداء الشهادة بالحق ; أو الخوف من رد أيمان الشاهدين الأولين , مما يحملهما على تحري الحق .
(ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها , أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم) .
وينتهي إلى دعوة الجميع إلى تقوى الله , ومراقبته وخشيته , والطاعة لأوامره , لأن الله لا يهدي من يفسقون عن طريقه , إلى خير ولا إلى هدى:(واتقوا الله واسمعوا . والله لا يهدي القوم الفاسقين) . .(1/341)
قال القرطبي في تفسيره عن سبب نزول هذه الآيات الثلاث: " . . . ولا أعلم خلافا أن هذه الآيات الثلاث نزلت بسبب تميم الداري , وعدي بن بداء روي البخاري والدارقطني وغيرهما عن ابن عباس قال:كان تميم الداري وعدي بن بداء , يختلفان إلى مكة ; فخرج معهما فتى من بني سهم , فتوفي بأرض ليس بها مسلم , فأوصى إليهما , فدفعا تركته إلى أهله , وحبسا جاما من فضة مخوصا بالذهب . فاستحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما كتمتما ولا اطلعتما " . ثم وجد الجام بمكة . فقالوا:اشتريناه من عدي وتميم . فجاء رجلان من ورثة السهمي فحلفا أن هذا الجام للسهمي , ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا . قال:فأخذ الجام . وفيهم نزلت هذه الآية [ لفظ الدارقطني ]
وواضح أن لطبيعة المجتمع الذي نزلت هذه الأحكام لتنظيمه دخلا في شكل الإجراءات . وربما في طبيعة هذه الإجراءات . فالإشهاد والائتمان على هذا النحو , ثم الحلف بالله في مجتمع بعد الصلاة . لاستجاشة الوجدان الديني , والتحرج كذلك من الفضيحة في المجتمع عند ظهور الكذب والخيانة . . كلها تشي بسمات مجتمع خاص . تفي بحاجاته وملابساته هذه الإجراءات .
ولقد تملك المجتمعات اليوم وسائل أخرى للإثبات , وأشكالا أخرى من الإجراءات , كالكتابة والتسجيل والإيداع في المصارف . . وما إليها . .
ولكن . أو فقد هذا النص قدرته على العمل في المجتمعات البشرية ?
إننا كثيرا ما نخدع بيئة معينة , فنظن أن بعض التشريعات وبعض الإجراءات قد فقدت فاعليتها , ولم تعد لها ضرورة , وأنها من مخلفات مجتمعات مضى زمنها ! لأن البشرية استجدت وسائل أخرى !
أجل كثيرا ما نخدع فننسى أن هذا الدين جاء للبشرية جميعا , في كل أقطارها , وفي كل أعصارها .(1/342)
وأن كثيرة ضخمة من هذه البشرية اليوم ما تزال بدائية أو متدرجة من البداوة . وأنها في حاجة إلى أحكام وإجراءات تواكب حاجاتها في جميع أشكالها وأطوارها , وأنها تجد في هذا الدين ما يلبي هذه الحاجات في كل حالة . وأنها حين ترتقي من طور إلى طور تجد في هذا الدين كفايتها كذلك بنفس النسبة ; وتجد في شريعته ما يلبي حاجاتها الحاضرة , ثم يرتقي بها إلى تلبية حاجاتها المتطورة . . وأن هذه معجزة هذا الدين ومعجزة شريعته ; وآية أنه من عند الله , وأنها من اختياره سبحانه .
على أننا نخدع كذلك مرة أخرى حين ننسى الضرورات التي يقع فيها الأفراد من البيئات التي تجاوزت هذه الأطوار ; والتي يسعفهم فيها يسر هذه الشريعة وشمولها , ووسائل هذا الدين المعدة للعمل في كل بيئة وفي كل حالة . في البدو والحضر . في الصحراء والغابة . لأنه دين البشرية كلها في جميع أعصارها وأقطارها . . وتلك أيضا إحدى معجزاته الكبرى . .
إننا نخدع حين نتصور أننا - نحن البشر - أبصر بالخلق من رب الخلق . . فتردنا الوقائع إلى التواضع ! وما أولانا أن نتذكر قبل أن تصدمنا الأحداث . وأن نعرف أدب البشر في حق خالق البشر . . أدب العبيد في حق رب العبيد . . لو كنا نتذكر ونعرف , ونثوب . .
- - - - - - - - - - - -
44.
تحريمُ الفرار من الزحف
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)} سورة الأنفال(1/343)
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِالثَّبَاتِ فِي المَعْرَكَةِ ، وَبِمُوَاجَهَةِ الكَافِرِينَ بِقُلُوبٍ مُؤْمِنَةٍ ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى عَدَمِ الفِرَارِ وَتَوْلِيَةِ الظُّهُورِ لِلأَعْدَاءِ ، وَإِنْ كَانَ الكَافِرُونَ أَكْثَرَ مِنَ المُؤْمِنِينَ عَدَداً ، لأنَّ الفِرَارَ يُحْدِثُ الوَهَنَ فِي الجَيْشِ الإِسْلاَمِي المُقَاتِلِ .
وَلَكِنَّهُ تَعَالَى سَمَحَ لِلْمُقَاتِلِ بِحُرِّيَّةِ الحَرَكَةِ أَثْنَاءِ المَعْرَكَةِ ، كَأنْ يَنْتَقِلَ مِنْ مَكَانٍ فِي المَعْرَكَةِ إلى مَكَانٍ آخَرَ ، لِنُصْرَةِ فَرِيقٍ مِنَ المُسْلِمِينَ ، أَوْ لِسَدِّ ثَغْرَةٍ نَفَذَ مِنْهَا العَدُوُّ ، فَالمُهِمُّ هُوَ أَنْ يَكُونَ هَدَفُ المُقَاتِلِ المُسْلِمِ النَّصْرَ أَوِ الشَّهَادَةِ ، وَإِطَاعَةِ أَمْرِ القِيَادَةِ . أَمَّا الذِينَ يَتْرُكُونَ المَعْرَكَةَ فِرَاراً وَهَرَباً مِنَ المَوْتِ ، فَإنَّ اللهَ تَعَالَى يَتَوَعَّدُهُمْ بِالعَذَابِ الألِيمِ يَوْمَ القِيَامَةِ .
( وَعَدَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم التَّولِيَّ يَوْمَ الزَّحْفِ مِنَ الكَبَائِرِ ) ( أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ ) .(1/344)
ويبدو في التعبير القرآني شدة في التحذير ; وتغليظ في العقوبة ; وتهديد بغضب من الله ومأوى في النار: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار . ومن يولهم يومئذ دبره - إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة - فقد باء بغضب من الله , ومأواه جهنم وبئس المصير . . والمعنى:يا أيها الذين آمنوا إذا واجهتم الذين كفروا(زحفاً) أي متدانين متقاربين متواجهين ; فلا تفروا عنهم , إلا أن يكون ذلك مكيدة حرب , حيث تختارون موقعاً أحسن , أو تدبرون خطة أحكم ; أو أن يكون ذلك انضماماً إلى فئة أخرى من المسلمين , أو إلى قواعد المسلمين , لتعاودوا القتال . . وأن من تولى , وأعطى العدو دبره يوم الزحف فقد استحق ذلك العقاب:غضباً من الله ومأوى في جهنم . .
وقد وردت بعض الأقوال في اعتبار هذا الحكم خاصاً بأهل بدر , أو بالقتال الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم حاضره . ولكن الجمهور على أنها عامة , وأن التولي يوم الزحف كبيرة من السبع الموبقات . كما روى البخاري ومسلم في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم:" اجتنبوا السبع الموبقات " قيل:يا رسول الله وما هن ? قال:" الشرك بالله , والسحر , وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق , وأكل الربا , وأكل مال اليتيم , والتولي يوم الزحف , وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " . .
وقد أورد الجصاص في "أحكام القرآن" تفصيلا لا بأس من الإلمام به قال:(1/345)
"قال الله تعالى: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة) روى أبو نضرة عن أبي سعيد أن ذلك إنما كان يوم بدر . قال أبو نضرة لأنهم لو انحازوا يومئذ لأنحازوا إلى المشركين , ولم يكن يومئذ مسلم غيرهم . . وهذا الذي قاله أبو نضرة ليس بسديد , لأنه قد كان بالمدينة خلق كثير من الأنصار , ولم يأمرهم النبي عليه السلام بالخروج , ولم يكونوا يرون أنه يكون قتال , وإنما ظنوا أنها العير , فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن خف معه . فقول أبي نضرة إنه لم يكن هناك مسلم غيرهم وإنهم لو انحازوا , انحازوا إلى المشركين , غلط لما وصفنا . . وقد قيل:إنه لم يكن جائزاً لهم الانحياز يومئذ لأنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن الانحياز جائزاً لهم عنه , قال الله تعالى: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه) :فلم يكن يجوز لهم أن يخذلوا نبيهم صلى الله عليه وسلم وينصرفوا عنه ويسلموه , وإن كان الله قد تكفل بنصره وعصمه من الناس , كما قال الله تعالى: (والله يعصمك من الناس) وكان ذلك فرضاً عليهم , قلت أعداؤهم أو كثروا , وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان فئة المسلمين يومئذ , ومن كان بمنحاز عن القتال فإنما كان يجوز له الانحياز على شرط أن يكون انحيازه إلى فئة , وكان النبي صلى الله عليه وسلم فئتهم يومئذ , ولم تكن فئة غيره . قال ابن عمر:كنت في جيش , فحاص الناس حيصة واحدة ورجعنا إلى المدينة , فقلنا:نحن الفرارون . فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" أنا فئتكم " . فمن كان بالبعد من النبي صلى الله عليه وسلم إذا انحاز عن الكفار فإنما كان يجوز له الانحياز إلى فئة النبي صلى الله عليه وسلم وإذا كان معهم في القتال لم يكن هناك فئة غيره ينحازون إليه , فلم يكن يجوز لهم الفرار .(1/346)
وقال الحسن في قوله تعالى: (ومن يولهم يومئذ دبره) قال:شددت على أهل بدر . وقال الله تعالى: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا) وذلك لأنهم فروا عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك يوم حنين فروا عن النبي صلى الله عليه وسلم فعاقبهم الله على ذلك في قوله تعالى: (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم . فلم تغن عنكم شيئاً , وضاقت عليكم الأرض بما رحبت , ثم وليتم مدبرين) . . فهذا كان حكمهم إذا كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم قل العدو أو كثر , إذا لم يجد الله فيه شيئاً . . وقال الله تعالى في آية أخرى: (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال , إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين , وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا) وهذا - والله أعلم - في الحال التي لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم حاضرا معهم , فكان على العشرين أن يقاتلوا المائتين لا يهربوا عنهم , فإذا كان عدد العدو أكثر من ذلك أباح لهم التحيز إلى فئة من المسلمين فيهم نصرة لمعاودة القتال , ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً , فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين , وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله) فروي عن ابن عباس أنه قال:كتب عليكم ألا يفر واحد من عشرة:ثم قلت: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) . . . الآية . فكتب عليكم ألا يفر مئة من مئتين .(1/347)
وقال ابن عباس:إن فر رجل من رجلين فقد فر , وإن فر من ثلاثة فلم يفر - قال الشيخ يعني بقوله:فقد فر:الفرار من الزحف المراد بالآية , والذي في الآية إيجاب فرض القتال على الواحد لرجلين من الكفار , فإن زاد عدد الكفار على اثنين فجائز حينئذ للواحد التحيز إلى فئة من المسلمين فيها نصرة ,فأما إن أراد الفرار ليلحق بقوم من المسلمين لا نصرة معهم فهو من أهل الوعيد المذكور في قوله تعالى: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله) ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:" أنا فئة كل مسلم " . وقال عمر بن الخطاب لما بلغه أن أبا عبيد بن مسعود استقتل يوم الجيش حتى قتل ولم ينهزم:" رحم الله أبا عبيد ! لو انحاز إليّ لكنت له فئة " . فلما رجع إليه أصحاب أبي عبيد قال:" أنا فئة لكم " ولم يعنفهم . . وهذا الحكم عندنا [ يعني عند الحنفية ] ثابت , ما لم يبلغ عدد جيش المسلمين اثني عشر ألفاً لا يجوز لهم أن ينهزموا عن مثليهم إلا متحرفين لقتال , وهو أن يصيروا من موضع إلى غيره مكايدين لعدوهم , ونحو ذلك , مما لا يكون فيه انصراف عن الحرب , أو متحيزين إلى فئة من المسلمين يقاتلونهم معهم . فإذا بلغوا اثني عشر ألفاً فإن محمد بن الحسن ذكر أن الجيش إذا بلغوا كذلك فليس لهم أن يفروا من عدوهم , وإن كثر عددهم , ولم يذكر خلافاً بين أصحابنا فيه [ يعني الحنفية ] واحتج بحديث الزهري عن عبيدالله بن عبدالله , أن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" خير الأصحاب أربعة . وخير السرايا أربع مائة . وخير الجيوش أربعة آلاف . ولن يؤتى اثنا عشر ألفاً من قلة ولن يغلبوا " وفي بعضها:" ما غلب قوم يبلغون اثني عشر ألفا إذا اجتمعت كلمتهم " .(1/348)
وذكر الطحاوي أن مالكاً سئل , فقيل له:أيسعنا التخلف عن قتال من خرج عن أحكام الله وحكم بغيرها ? فقال مالك:إن كان معك اثنا عشر ألفا مثلك لم يسعك التخلف , وإلا فأنت في سعة من التخلف . . وكان السائل له عبدالله بن عمر بن عبدالعزيز بن عبدالله بن عمر . وهذا المذهب موافق لما ذكر محمد بن الحسن . والذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألفا فهو أصل في هذا الباب , وإن كثر عدد المشركين فغير جائز لهم أن يفروا منهم وإن كانوا أضعافهم لقوله صلى الله عليه وسلم " إذا اجتمعت كلمتهم " . وقد أوجب عليهم بذلك جمع كلمتهم" . . . انتهى .
كذلك أورد "ابن العربي في أحكام القرآن " تعقيبا على الخلاف في المقصود بهذا الحكم قال:
"اختلف الناس:هل الفرار يوم الزحف مخصوص بيوم بدر , أم عام في الزحوف كلها إلى يوم القيامة ?
"فروى ابن سعيد الخدري أن ذلك يوم بدر , لم يكن لهم فئة إلا رسول الله , وبه قال نافع , والحسن , وقتادة , ويزيد بن حبيب , والضحاك .
"ويروى عن ابن عباس وسائر العلماء أن الآية باقية إلى يوم القيامة ; وإنما شذ من شذ بخصوص ذلك يوم بدر بقوله: (ومن يولهم يومئذ دبره) فظن قوم أن ذلك إشارة إلى يوم بدر . وليس به . وإنما ذلك إشارة إلى يوم الزحف .
"والدليل عليه أن الآية نزلت بعد القتال , وانقضاء الحرب , وذهاب اليوم بما فيه . وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حسبما قدمناه في الحديث الصحيح أن الكبائر كذا . . . وعدّ الفرار يوم الزحف . وهذا نص في المسألة يرفع الخلاف , ويبين الحكم , وقد نبهنا على النكتة التي وقع الإشكال فيها لمن وقع باختصاصه بيوم بدر" . .
ونحن نأخذ بهذا الذي ذكره ابن العربي من رأي "ابن عباس وسائر العلماء" . . ذلك أن التولي يوم الزحف على إطلاقه يستحق هذا التشديد لضخامة آثاره الحركية من ناحية ; ولمساسه بأصل الاعتقاد من ناحية . .(1/349)
إن قلب المؤمن ينبغي أن يكون راسخا ثابتا لا تهزمه في الأرض قوة , وهو موصول بقوة الله الغالب على أمره , القاهر فوق عباده . . وإذا جاز أن تنال هذا القلب هزة - وهو يواجه الخطر - فإن هذه الهزة لا يجوز أنتبلغ أن تكون هزيمة وفرارا . والآجال بيد الله , فما يجوز أن يولي المؤمن خوفا على الحياة . وليس في هذا تكليف للنفس فوق طاقتها . فالمؤمن إنسان يواجه عدوه إنسانا . فهما من هذه الناحية يقفان على أرض واحدة . ثم يمتاز المؤمن بأنه موصول بالقوة الكبرى التي لا غالب لها . ثم إنه إلى الله إن كان حياً , وإلى الله إن كتبت له الشهادة . فهو في كل حالة أقوى من خصمه الذي يواجهه وهو يشاق الله ورسوله . . ومن ثم هذا الحكم القاطع: (ومن يولهم يومئذ دبره - إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة - فقد باء بغضب من الله , ومأواه جهنم وبئس المصير) .
ولا بد أن نقف هنا عند التعبير ذاته ; وما فيه من إيماءات عجيبة: (فلا تولوهم الأدبار) . . (ومن يولهم يومئذ دبره) . . فهو تعبير عن الهزيمة في صورتها الحسية , مع التقبيح والتشنيع , والتعريض بإعطاء الأدبار للأعداء ! . . ثم: (فقد باء بغضب من الله) . . فالمهزوم مولٍّ ومعه (غضب من الله) يذهب به إلى مأواه: (ومأواه جهنم وبئس المصير) . .
وهكذا تشترك ظلال التعبير مع دلالته في رسم الجو العام ; وتثير في الوجدان شعور الاستقباح والاستنكار للتولي يوم الزحف والفرار .
- - - - - - - - - - - -
45. وجوبُ طاعة الله ورسوله(1/350)
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) } سورة الأنفال
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِإِطَاعَةِ اللهِ ، وَإِطَاعَةِ رَسُولِهِ ، وَبِالاسْتِجَابَةِ لِلْرَّسُولِ إِذَا دَعَاهُمْ إلَى الجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ مُخَالَفَتِهِ ، وَتَرْكِ طَاعَتِهِ ، وَرَفْضِ الاسْتِجَابَةِ لَهُ إِذَا دَعَاهُمْ إلَى الجِهَادِ ، لأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ الذِي يَأْمُرُهُمْ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ وَمُوَالاَتِهِ وَنَصْرِهِ ، وَيَعْقِلُونَهُ .
وَلا تَكُونُوا كَالمُنَافِقِينَ وَكَالمُشْرِكِينَ الذِينَ قَالُوا : سَمِعْنَا مَا قُلْتَهُ يَا مُحَمَّدُ ، وَلَكِنَّهُمْ فِي الحَقِيقَةِ لَمْ يَسْمَعُوا شَيْئاً ، وَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ ، فَكَانُوا كَغَيرِ السَّامِعِينَ ( وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ )
وَهَؤُلاَءِ الذِينَ يَقُولُونَ سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَِسْمَعُونَ ، هُمْ شَرُّ المَخْلُوقَاتِ التِي تَدِبُّ عَلَى سَطْحِ الأَرْضِ ، وَأَسْوَؤُهَا لأَنَّهُمْ صُمٌّ لاَ يَسْمَعُونَ بِآذَانِهِمْ ، وَبُكْمٌ عَنْ فَهْمِ الحَقِّ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَهُ ، وَكُلُّ الدَّوَابِّ مُطِيعَةٌ لِخَالِقِهَا ، أَمَّا هَؤُلاَءِ فَقَدْ خَلَقَهُمُ اللهُ لِعِبَادَتِهِ فَكَفَرُوا ، فَهُمْ شَرٌّ مِنَ الدَّوَابِّ .(1/351)
الدَّوَابِّ - كُلَّ مَا دَبَّ عَلَى الأَرْضِ مِنْ مَخْلُوقَاتٍ وَقَلَّمَا تُسْتَعْمَلُ لِلإِنْسَانِ ، وَاسْتِعْمَالُهَا هُنَا لِلْمُشْرِكِينَ نَوْعٌ مِنَ التَّحْقِيرِ لِشَأْنِهِمْ .
إِنَّ هَذِهِ المَخْلُوقَاتِ لاَ تَفْهَمُ فَهْماً صَحِيحاً ، وَلَيْسَ لَهُمْ رَغْبَةٌ فِي عَمَلِ خَيْرٍ صَالِحٍ ، وَلَوْ كَانَ اللهُ يَعْلَمُ فِيهِمْ اسْتِعْدَاداً لِلإِيمَانِ وَالاهْتِدَاءِ بِنُورِ النُّبُوَّةِ لأَسْمَعَهُمْ وَأَفْهَمَهُمْ ، وَلَكِنَّهُم لاَ خَيْرَ فِيهِمْ ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَسْمَعَهُمْ ، لأَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا عَنِ القَبُولِ قَصْداً وَعِنَاداً ، وَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْهُ .(1/352)
إن الهتاف هنا للذين آمنوا ليطيعوا الله ورسوله , ولا يتولوا عنه وهم يسمعون آياته وكلماته . . إن هذا الهتاف هنا إنما يجيء بعد جميع مقدماته الموحية . . يجيء بعد استعراض أحداث المعركة ; وبعد رؤية يد الله فيها , وتدبيره وتقديره , وعونه ومدده ; وبعد توكيد أن الله مع المؤمنين , وأن الله موهن كيد الكافرين . فما يبقى بعد ذلك كله مجال لغير السمع والطاعة لله والرسول . وإن التولي عن الرسول وأوامره بعد هذا كله ليبدو مستنكراً قبيحا لا يقدم عليه إنسان له قلب يتدبر وعقل يتفكر . . ومن هنا يجيء ذكر الدواب في موضعه المناسب ! ولفظ(الدواب) يشمل الناس فيما يشمل , فهم يدبون على الأرض , ولكن استعماله يكثر في الدواب من الأنعام , فيلقي ظله بمجرد إطلاقه ; ويخلع على (الصم البكم الذين لا يعقلون) صورة البهيمة في الحس والخيال ! وإنهم لكذلك ! إنهم لدواب بهذا الظل . بل هم شر الدواب ! فالبهائم لها آذان ولكنها لا تسمع إلا كلمات مبهمة ; ولها لسان ولكنها لا تنطق أصواتاً مفهومة . إلا أن البهائم مهتدية بفطرتها فيما يتعلق بشؤون حياتها الضرورية . أما هؤلاء الدواب فهم موكولون إلى إدراكهم الذي لا ينتفعون به . فهم شر الدواب قطعا !
(إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) . .
(ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم) . .
أي لأسمع قلوبهم وشرحها لما تسمعه آذانهم . . ولكنه - سبحانه - لم يعلم فيهم خيرا ولا رغبة في الهدى فقد أفسدوا استعداداتهم الفطرية للتلقي والاستجابة ; فلم يفتح الله عليهم ما أغلقوا هم من قلوبهم , وما أفسدوا هم من فطرتهم . ولو جعلهم الله يدركون بعقولهم حقيقة ما يدعون إليه , ما فتحوا قلوبهم له ولا استجابوا لما فهموا . . (ولو اسمعهم لتولوا وهم معرضون) . . .(1/353)
لأن العقل قد يدرك , ولكن القلب المطموس لا يستجيب . فحتى لو أسمعهم الله سماع الفهم لتولوا هم عن الاستجابة . والاستجابة هي السماع الصحيح . وكم من ناس تفهم عقولهم ولكن قلوبهم مطموسة لا تستجيب !
- - - - - - - - - - - -
46.
وجوبُ الاستجابة لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) } سورة الأنفال
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِالاسْتِجَابَةِ إلَى دَعْوَتِهِ تَعَالَى ، وَإِلَى دَعْوَةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم التِي أَمَرَهُ اللهُ بِإِبْلاَغِهَا إِلَيْهِمْ ، لأَنَّهَا تُزكِّي نُفُوسَهُمْ وَتُطَهِّرُهَا ، وَتُحْيِيها بِالإِيمَانِ ، وَتَرْفَعُها إلَى مَرَاتِبِ الكَمَالِ فَتَحْظَى بِرِضَا اللهِ ، ثُمَّ يُعْلِمُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُ قَائِمٌ عَلَى قُلُوبِ العِبَادِ يُوَجِّهُهَا كَيْفَ يَشَاءُ ، فَيَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَبَيْنَ قَلْبِهِ ، فَيُمِيتُ الإِحْسَاسَ وَالوِجْدَانَ وَالإِدْرَاكَ فِيهِ ، فَتُشَلُّ الإِرَادَةِ ، وَيَفْقِدُ الإِنْسَانَ سَيْطَرَتَهُ عَلَى أَعْمَالِهِ ، وَيَتْبَعُ هَوَاهُ ، فَلاَ تَعُودُ تَنْفَعُ فِيهِ المَوَاعِظُ وَالعِبَرُ . وَاللهُ تَعَالَى هُوَ وَحْدَهُ القَادِرُ عَلَى أَنْ يُنْقِذَهُمْ مِمَّا تَرَدَّوْا فِيهِ ، إِذَا اتَّجَهُوا إلَى الطَّرِيقِ المُسْتَقِيمِ .
ثُمَّ يَحْشُرُ اللهُ العِبَادَ إِلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ لِيُحَاسِبَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ ، وَيَجْزِيهِمْ عَلَيْهَا بِمَا يَسْتَحِقُّونَ .(1/354)
يُحَذِّرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ مِنْ وُقُوعِ البَلاَءِ وَالفِتَنِ بَيْنَهُمْ إِذَا لَمْ يَقُومُوا بِوَاجِبِهِمْ نَحْوَ دِينِهِم وَجَمَاعَتِهِمْ فِي الجِهَادِ ، وَالأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ ، وَفِي الضَّرْبِ عَلَى أَيْدِي المُفْسِدِينَ ، وَفِي النُّصْحِ للهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ ، وَفِي إِطَاعَةِ أُوْلِي الأَمْرِ . وَيُنَبِّهُهُمْ تَعَالَى إِلَى أَنَّ العِقَابَ الذِي يُنْزِلُهُ اللهُ بِالأُمَمِ المُقَصِّرَةِ بِالقِيَامِ بِوَاجِبَاتِهَا لاَ يُصِيبُ السَّيِّىءَ وَحْدَهُ ، وَإِنَّمَا يَعُمُّ بِهِ المُسِيءَ وَغَيْرَهُ ، وَيُعْلِمُهُمْ أَنَّهُ شَدِيدُ العِقَابِ لِلأُمَمِ التِي تُخَالِفُ سُنَنَهُ وَهُدَى دِينِهِ ، وَتُقَصِّرُ فِي دَرْءِ الفِتَنِ ، وَفِي التَّعَاوُنِ عَلَى دَفْعِهَا ، وَالقَضَاءِ عَلَيْهَا .
( وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ : أَمَرَ اللهُ المُؤْمِنِينَ أَنْ لاَ يُقِرُّوا المُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ فَيَعُمَّهُمُ اللهُ بِالعَذَابِ ) .
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يدعوهم إلى ما يحييهم . .
إنها دعوة إلى الحياة بكل صور الحياة , وبكل معاني الحياة . .
إنه يدعوهم إلى عقيدة تحيي القلوب والعقول , وتطلقها من أوهاق الجهل والخرافة ; ومن ضغط الوهم والأسطورة , ومن الخضوع المذل للأسباب الظاهرة والحتميات القاهرة , ومن العبودية لغير الله والمذلة للعبد أو للشهوات سواء . .
ويدعوهم إلى شريعة من عند الله ; تعلن تحرر "الإنسان" وتكريمه بصدورها عن الله وحده , ووقوف البشر كلهم صفا متساوين في مواجهتها ; لا يتحكم فرد في شعب , ولا طبقة في أمة , ولا جنس في جنس , ولا قوم في قوم . . ولكنهم ينطلقون كلهم أحراراً متساوين في ظل شريعة صاحبها الله رب العباد .(1/355)
ويدعوهم إلى منهج للحياة , ومنهج للفكر , ومنهج للتصور ; يطلقهم من كل قيد إلا ضوابط الفطرة , المتمثلة في الضوابط التي وضعها خالق الإنسان , العليم بما خلق ; هذه الضوابط التي تصون الطاقة البانية من التبدد ; ولا تكبت هذه الطاقة ولا تحطمها ولا تكفها عن النشاط الإيجابي البناء .
ويدعوهم إلى القوة والعزة والاستعلاء بعقيدتهم ومنهجهم , والثقة بدينهم وبربهم , والانطلاق في "الأرض" كلها لتحرير "الإنسان" بجملته ; وإخراجه من عبودية العباد إلى عبودية الله وحده ; وتحقيق إنسانيته العليا التي وهبها له الله , فاستلبها منه الطغاة!
ويدعوهم إلى الجهاد في سبيل الله , لتقرير ألوهية الله سبحانه - في الأرض وفي حياة الناس ; وتحطيم ألوهية العبيد المدعاة ; ومطاردة هؤلاء المعتدين على ألوهية الله - سبحانه - وحاكميته وسلطانه ; حتى يفيئوا إلى حاكمية الله وحده ; وعندئذ يكون الدين كله لله . حتى إذا أصابهم الموت في هذا الجهاد كان لهم في الشهادة حياة.
ذلك مجمل ما يدعوهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو دعوة إلى الحياة بكل معاني الحياة .
إن هذا الدين منهج حياة كاملة , لا مجرد عقيدة مستسرة . منهج واقعي تنمو الحياة في ظله وتترقى . ومن ثم هو دعوة إلى الحياة في كل صورها وأشكالها . وفي كل مجالاتها ودلالاتها . والتعبير القرآني يجمل هذا كله في كلمات قليلة موحية: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) . .
استجيبوا له طائعين مختارين ; وإن كان الله - سبحانه - قادراً على قهركم على الهدى لو أراد: (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) . .
ويا لها من صورة رهيبة مخيفة للقدرة القاهرة اللطيفة . . (يحول بين المرء وقلبه) فيفصل بينه وبين قلبه ; ويستحوذ على هذا القلب ويحتجزه , ويصرفه كيف شاء , ويقلبه كما يريد . وصاحبه لا يملك منه شيئا وهو قلبه الذي بين جنبيه !(1/356)
إنها صورة رهيبة حقاً ; يتمثلها القلب في النص القرآني , ولكن التعبير البشري يعجز عن تصوير إيقاعها في هذا القلب , ووصف هذا الإيقاع في العصب والحس !
إنها صورة تستوجب اليقظة الدائمة , والحذر الدائم , والاحتياط الدائم . اليقظة لخلجات القلب وخفقاته ولفتاته ; والحذر من كل هاجسة فيه وكل ميل مخافة أن يكون انزلاقا ; والاحتياط الدائم للمزالق والهواتف والهواجس . . والتعلق الدائم بالله - سبحانه - مخافة أن يقلب هذا القلب في سهوة من سهواته , أو غفلة من غفلاته , أو دفعة من دفعاته . .
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رسول الله المعصوم يكثر من دعاء ربه:" اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " . . فكيف بالناس , وهم غير مرسلين ولا معصومين ?!
إنها صورة تهز القلب حقا ; ويجد لها المؤمن رجفة في كيانه حين يخلو إليها لحظات , ناظرا إلى قلبه الذي بين جنبيه , وهو في قبضة القاهر الجبار ; وهو لا يملك منه شيئا , وإن كان يحمله بين جنبيه ويسير !
صورة يعرضها على الذين آمنوا وهو يناديهم: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) . .
ليقول لهم:إن الله قادر على أن يقهركم على الهدى - لو كان يريد - وعلى الاستجابة التي يدعوكم إليها هذه الدعوة , ولكنه - سبحانه - يكرمكم ; فيدعوكم لتستجيبوا عن طواعية تنالون عليها الأجر ; وعن إرادة تعلو بها إنسانيتكم وترتفع إلى مستوى الأمانة التي ناطها الله بهذا الخلق المسمى بالإنسان . . أمانة الهداية المختارة ; وأمانة الخلافة الواعية , وأمانة الإرادة المتصرفة عن قصد ومعرفة .
(وأنه إليه تحشرون) . .
فقلوبكم بين يديه . وأنتم بعد ذلك محشورون إليه . فما لكم منه مفر . لا في دنيا ولا في آخرة . وهو مع هذا يدعوكم لتستجيبوا استجابة الحر المأجور , لا استجابة العبد المقهور .(1/357)
ثم يحذرهم القعود عن الجهاد , وعن تلبية دعوة الحياة , والتراخي في تغيير المنكر في أية صورة كان: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة , واعلموا أن الله شديد العقاب) . .
والفتنة:الابتلاء أو البلاء . . والجماعة التي تسمح لفريق منها بالظلم في صورة من صوره - وأظلم الظلم نبذ شريعة الله ومنهجه للحياة - ولا تقف في وجه الظالمين ; ولا تأخذ الطريق على المفسدين . . جماعة تستحق أن تؤخذ بجريرة الظالمين المفسدين . . فالإسلام منهج تكافلي إيجابي لا يسمح أن يقعد القاعدون عن الظلم والفساد والمنكر يشيع [ فضلا على أن يروا دين الله لا يتبع ; بل أن يروا ألوهية الله تنكر وتقوم ألوهية العبيد مقامها ! ] وهم ساكتون . ثم هم بعد ذلك يرجون أن يخرجهم الله من الفتنة لأنهم هم في ذاتهم صالحون طيبون !
- - - - - - - - - - - -
47.
تحريمُ خيانة الله والرسول
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) } سورة الأنفال(1/358)
نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي أَبِي لُبَابَةَ حِينَ بَعَثَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ لِيَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللهِ ، فَاسْتَشَارَ اليَهُودُ أَبَا لُبَابَةَ - وَكَانَ حَلِيفاً لَهُمْ - فَأَشَارَ عَلَيْهِمْ بِالنُّزُولِ عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللهِ ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ بِيَدِهِ إلَى حَلْقِهِ ، أَيْ أَنَّه الذَّبْحَ . ثُمَّ شَعَرَ أَنَّهُ خَانَ اللهَ وَرَسُولَهُ ، فَرَبَطَ نَفْسَهُ فِي سَارِيَةِ المَسْجِدِ تِسْعَةِ أَيَّامٍ لاَ يَذُوقُ طَعَاماً حَتَّى تَابَ اللهُ عَلَيْهِ ، فَأَطْلَقُهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم . ( وَقِيلَ أَيْضاً إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أبِي بَلْتَعَةَ ، الذِي أَرْسَلَ رِسَالَةً إِلَى قُرَيْشٍ مَعَ امْرَأَةٍ يُعْلِمُهَا فِيهَا بِأَنَّ الرَّسُولَ تَجَهَّزَ لِغَزْوِهِمْ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ ) . وَالآيَةُ عَامَّةٌ .
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الآيَةِ بِأَنْ لاَ يَخُونُوا اللهَ بِارْتِكَابِ الذُّنُوبِ ، وَأَنْ يَخُونُوا رَسُولَهُ بِتَرْكِ سُنَنِهِ ، وَارْتِكَابِ مَعْصِيَتِهِ ، وَأنْ لاَ يَخُونُوا أَمَانَاتِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ التِي ائْتَمَنَ اللهُ العِبَادَ عَلَيهَا : يَعْنِي الفَرَائِضَ ، وَهِيَ تَشْمَلُ أَمَانَةَ الإِنْسَانِ نَحْوَ النَّاسِ فِي تَعَامُلِهِ مَعَهُمْ : كَالمِكْيَالِ وَالمِيْزَانِ ، وَأَدَاءِ الشَّهَادَةِ بِالحَقِّ وَالصِّدْقِ ، وَكِتْمَانِ السِّرِّ . . إلخ . فَالأَمَانَةُ وَاحِدَةُ وَلاَ تَبْعِيضَ فِيهَا ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ مَسَاوِىَء الخِيَانَةِ ، وَسُوءَ عَاقِبَتِهَا .(1/359)
إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَعْطَاكُمُ الأَمْوَالَ وَالأَوْلاَدَ لِيَخْتَبِرَ إِيمَانَكُمْ ، وَلِيَرَى هَلْ تَشْكُرُونَ رَبَّكُمْ عَلَيْها ، وَتُطِيعُونَهُ فِيهَا ، أَمْ تَشْتَغِلُونَ بِهَا عَنْهُ ، وَتَعْتَاضُونَ بِهَا مِنْهُ؟ وَثَوابُ اللهِ وَعَطَاؤُهُ وَجَنَّاتُهُ خَيْرٌ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ ، فَالأَوْلاَدُ قَدْ يَكُونُ مِنْهُمْ عَدُوٌّ لَكُمْ ، وَهُمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ لاَ يُغْنُونَ عَنِ الإِنْسَانِ شَيْئاً يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَلَدَى اللهِ الثَّوَابُ الجَزِيلُ الذِي يُغْنِي الإِنْسَانَ عَنِ المَالِ وَالوَلَدِ .
إن التخلي عن تكاليف الأمة المسلمة في الأرض خيانة لله والرسول . فالقضية الأولى في هذا الدين هي قضية: "لا إله إلا الله , محمد رسول الله" . . قضية إفراد الله - سبحانه - بالألوهية ; والأخذ في هذا بما بلغه محمد صلى الله عليه وسلم وحده . . والبشرية في تاريخها كله لم تكن تجحد الله البتة ; ولكنها إنما كانت تشرك معه آلهة أخرى . أحيانا قليلة في الاعتقاد والعبادة . وأحيانا كثيرة في الحاكمية والسلطان - وهذا هو غالب الشرك ومعظمه - ومن ثم كانت القضية الأولى لهذا الدين ليست هي حمل الناس على الاعتقاد بألوهية الله . ولكن حملهم على إفراده - سبحانه - بالألوهية , وشهادة أن لا إله إلا الله , اي إفراده بالحاكمية في حياتهم الأرضية - كما أنهم مقرّون بحاكميته في نظام الكون - تحقيقا لقول الله تعالى: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) . . كذلك كانت هي حملهم على أن الرسول هو وحده المبلغ عن الله ; ومن ثم الالتزام بكل ما يبلغهم إياه . .(1/360)
هذه هي قضية هذا الدين - اعتقادا لتقريره في الضمير , وحركة لتقريره في الحياة - ومن هنا كان التخلي عنها خيانة الله لله والرسول ; يحذر الله منها العصبة المسلمة التي آمنت به وأعلنت هذا الإيمان ; فأصبح متعينا عليها أن تجاهد لتحقيق مدلوله الواقعي ; والنهوض بتكاليف هذا الجهاد في الأنفس والأموال والأولاد .
كذلك يحذرها خيانة الأمانة التي حملتها يوم بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام . فالإسلام ليس كلمة تقال باللسان , وليس مجرد عبارات وأدعيات . إنما هو منهج حياة كاملة شاملة تعترضه العقبات والمشاق . إنه منهج لبناء واقع الحياة على قاعدة أن لا إله إلا الله ; وذلك برد الناس إلى العبودية لربهم الحق ; ورد المجتمع إلى حاكميته وشريعته , ورد الطغاة المعتدين على ألوهية الله وسلطانه من الطغيان والاعتداء ; وتأمين الحق والعدل للناس جميعا ; وإقامة القسط بينهم بالميزان الثابت ; وتعمير الأرض والنهوض بتكاليف الخلافة فيها عن الله بمنهج الله . .
وكلها أمانات من لم ينهض بها فقد خانها ; وخاس بعهده الذي عاهد الله عليه , ونقض بيعته التي بايع بها رسوله .
وكل أولئك في حاجة إلى التضحية والصبر والاحتمال ; وإلى الاستعلاء على فتنة الأموال والأولاد , وإلى التطلع إلى ما عند الله من الأجر العظيم , المدخر لعباده الأمناء على أماناته , الصابرين المؤثرين المضحين: (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة , وأن الله عنده أجر عظيم) . .
إن هذا القرآن يخاطب الكينونة البشرية , بما يعلم خالقها من تركيبها الخفي , وبما يطلع منها على الظاهر والباطن , وعلى المنحنيات والدروب والمسالك !(1/361)
وهو - سبحانه - يعلم مواطن الضعف في هذه الكينونة . ويعلم أن الحرص على الأموال وعلى الأولاد من أعمق مواطن الضعف فيها . . ومن هنا ينبهها إلى حقيقة هبة الأموال والأولاد . . لقد وهبها الله للناس ليبلوهم بها ويفتنهم فيها . فهي من زينة الحياة الدنيا التي تكون موضع امتحان وابتلاء ; ليرى الله فيها صنيع العبد وتصرفه . . أيشكر عليها ويؤدي حق النعمة فيها ? أم يشتغل بها حتى يغفل عن أداء حق الله فيها ?: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) . . فالفتنة لا تكون بالشدة وبالحرمان وحدهما . . إنها كذلك تكون بالرخاء وبالعطاء أيضا ! ومن الرخاء العطاء هذه الأموال والأولاد
هذا هو التنبيه الأول: (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة) . .
فإذا انتبه القلب إلى موضع الامتحان والاختبار , كان ذلك عونا له على الحذر واليقظة والاحتياط ; أن يستغرق وينسى ويخفق في الامتحان والفتنة .
ثم لا يدعه الله بلا عون منه ولا عوض . . فقد يضعف عن الأداء - بعد الانتباه - لثقل التضحية وضخامة التكليف ; وبخاصة في موطن الضعف في الأموال والأولاد ! إنما يلوّح له بما هو خير وأبقى , ليستعين به على الفتنة ويتقوى: (وأن الله عنده أجر عظيم) . .
إنه - سبحانه - هو الذي وهب الأموال والأولاد . . وعنده وراءهما أجر عظيم لمن يستعلي على فتنة الأموال والأولاد , فلا يقعد أحد إذن عن تكاليف الأمانة وتضحيات الجهاد . . وهذا هو العون والمدد للإنسان الضعيف , الذي يعلم خالقه مواطن الضعف فيه: (وخلق الإنسان ضعيفاً) . .
إنه منهج متكامل في الاعتقاد والتصور , والتربية والتوجيه , والفرض والتكليف . منهج الله الذي يعلم ; لأنه هو الذي خلق:(ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ?) .
- - - - - - - - - - - -
48.
من اتقى الله جعل له فرقاناً(1/362)
قال تعالى : { يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (29) سورة الأنفال
يُخْبِرُ تَعَالَى النَّاسَ أَنَّهُمْ إِذَا آمَنُوا بِهِ وَاتَّقُوا ، فَاتَّبَعُوا أَوَامِرَهُ ، وَانْتَهُوا عَنْ زَوَاجِرِهِ ، جَعَلَ لَهُمْ مِنْ أَمْرِهِمْ فَرَجاً ، وَمِنْ ضِيقِهِمْ مَخْرَجاً ، وَجَعَلَ لَهُمْ نُوراً وَهُدًى ( فُرْقَاناً ) يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ ، وَبَيْنَ الخَيْرِ وَالشَّرِّ ، وَكَفَّر عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ، وَغَفَرَ ذُنُوبَهُمْ ، وَاللهُ عَظِيمُ الفَضْلِ وَالإِحْسَانِ ، جَزِيلُ الثَّوَابِ ، يُثيبُ عَلَى القَلِيلِ ، وَيَتَجَاوَزُ عَنِ الكَثِيرِ .
هذا هو الزاد , وهذه هي عدة الطريق . . زاد التقوى التي تحيي القلوب وتوقظها وتستجيش فيها أجهزة الحذر والحيطة والتوقي . وعدة النور الهادي الذي يكشف منحنيات الطريق ودروبه على مد البصر ; فلا تغبشه الشبهات التي تحجب الرؤية الكاملة الصحيحة . . ثم هو زاد المغفرة للخطايا . الزاد المطمئن الذي يسكب الهدوء والقرار . . وزاد الأمل في فضل الله العظيم يوم تنفد الأزواد وتقصر الأعمال .
إنها حقيقة:أن تقوى الله تجعل في القلب فرقانا يكشف له منعرجات الطريق . ولكن هذه الحقيقة - ككل حقائق العقيدة - لا يعرفها إلا من ذاقها فعلا ! إن الوصف لا ينقل مذاق هذه الحقيقة لمن لم يذوقوها ! .(1/363)
إن الأمور تظل متشابكة في الحس والعقل ; والطرق تظل متشابكة في النظر والفكر ; والباطل يظل متلبسا بالحق عند مفارق الطريق ! وتظل الحجة تُفحم ولكن لا تُقنع . وتسكت ولكن لا يستجيب لها القلب والعقل . ويظل الجدل عبثا والمناقشة جهدا ضائعا . . ذلك ما لم تكن هي التقوى . . فإذا كانت استنار العقل , ووضح الحق , وتكشف الطريق , واطمأن القلب , واستراح الضمير , واستقرت القدم وثبتت على الطريق !
إن الحق في ذاته لا يخفى على الفطرة . . إن هناك اصطلاحا من الفطرة على الحق الذي فطرت عليه ; والذي خلقت به السماوات والأرض . . ولكنه الهوى هو الذي يحول بين الحق والفطرة . . الهوى هو الذي ينشر الغبش , ويحجب الرؤية , ويُعمي المسالك , ويخفي الدروب . . والهوى لا تدفعه الحجة إنما تدفعه التقوى . . تدفعه مخافة الله , ومراقبته في السر والعلن . . ومن ثم هذا الفرقان الذي ينير البصيرة , ويرفع اللبس , ويكشف الطريق .وهو أمر لا يقدر بثمن . . ولكن فضل الله العظيم يضيف إليه تكفير الخطايا ومغفرة الذنوب . ثم يضيف إليهما (الفضل العظيم) . .
ألا إنه العطاء العميم الذي لا يعطيه إلا الرب(الكريم) ذو الفضل العظيم !
- - - - - - - - - - - -
49.
عواملُ النَّصرِ والهزيمة(1/364)
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) } سورة الأنفال .
يَحُثُّ اللهُ المُؤْمِنِينَ عَلَى الثَّبَاتِ عِنْدَ لِقَاءِ الأَعْدَاءِ فِي سَاحَةِ الحَرْبِ ، وَيَأمُرُهُمْ بِذِكِرِ اللهِ عِنْدَ الشَّدَائِدِ ، لِتَقْوَى قُلُوبُهُمْ ، وَتَثْبُتَ نُفُوسُهُمْ ، وَهَذَانِ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ الفَوْزِ وَالنَّصْرِ عَلَى الأَعْدَاءِ فِي الدُّنْيا ، وَمِنْ أَسْبَابِ الفَوْزِ بِالفَلاَحِ وَبِرِضْوَانِ اللهِ فِي الآخِرَةِ.(1/365)
وَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِطَاعَتِهِ تَعَالَى فِي الثَّبَاتِ عِنْدَ لِقَاءِ الأَعْدَاءِ المُشْرِكِينَ ، وَبِالإِخْلاَصِ لَهُ ، وَبِبَذْلِ الجُهْدِ فِي القِتَالِ ، وَبِذِكْرِ اللهِ كَثِيراً لِتَطْمَئِنَّ النُّفُوسُ وَتَهْدَأَ ، وَيُزَايلَهَا الخَوْفُ وَالتَّرَدُّدُ وَالقَلَقُ ، كَمَا أمَرَهُمْ بِطَاعَةِ رَسُولِ اللهِ ، وَالتِزَامِ أَوَامِرِهِ ، إِنْجَاحاً لِلْخُطَّةِ العَامَّةِ لِلْجَيْشِ فِي المَعْرَكَةِ . ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِألاَّ يَتَنَازَعُوا ، وَلاَ يَخْتَلِفُوا ، لأنَّ فِي التَّنَازُعِ وَالاخْتِلاَفِ الفَشَلَ وَالخُذْلاَنَ وَضَيَاعَ مَا حَقَّقَهُ المُسْلِمُونَ فِي المَعْرَكَةِ { وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } . ثُمَّ يُكَرِّرُ اللهُ تَعَالَى أَمْرَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالتِزَامِ الصَّبْرِ ، لأنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ .
وَعَلَيْكُمْ ، أَيُّها المُؤْمِنُونَ ، أَنْ تَمْتَثِلُوا لِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ رَبُّكُمْ مِنْ طَاعَتِهِ تَعَالَى ، وَطَاعَةِ رَسُولِهِ الكَرِيمِ صلى الله عليه وسلم ، وَالتِزَامِ أَوَامِرِهِمَا ، وَلاَ تَكُونُوا كَأَعْدَائِكُمْ المُشْرِكِينَ الذِينَ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ بَطَراً بِمَا أوتُوا مِنَ النَّعْمَةِ ، وَمُرَاءَاةً لِلنَّاسِ لِيُعْجَبُوا بِهِمْ ، وَيُثْنُوا عَلَيْهِمْ بِالغِنَى وَالقُوَّةِ وَالشَّجَاعَةِ . . وَهُمْ إِنَّمَا يَقْصِدُونَ بِخُرُوجِهِم الصَّدَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، وَمَنْعَ النَّاسِ مِنَ الدُّخُولِ فِي الإِسْلاَمِ ، وَالحَدَّ مِنْ انْتِشَارِ الإِسْلاَمِ ، وَاللهُ مُحِيطٌ بِأَعْمَالِهِمْ ، وَلاَ يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيءٌ ، وَسَوْفَ يُجَازِيهِمْ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ .(1/366)
وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ إِذْ زَيَّنَ الشَّيْطَانُ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ أَعْمَالَهُمْ بِوَسْوَسَتِهِ ، وَإِذْ حَسَّنَ فِي أَعْيُنِهِمْ مَا جَاؤُوا لَهُ ، وَمَا هَمُّوا بِهِ ، وَأَطْمَعَهُمْ بِأنَّهُمْ مَنْصُورُونَ ، وَأَنَّهُمْ لاَ غَالِبَ لَهُمْ مِنَ النَّاسِ ، وَطَمْأَنَهُمْ إلَى أَنَّهُمْ لَنْ يُؤْتَوْا فِي دِيَارِهِمْ أَثْنَاءَ غَيْبَتِهِمْ فِي قِتَالِ المُسْلِمِينَ فِي بَدْرٍ ، لأَنَّهُ جَارٌ لَهُمْ وَمُجِيرٌ ، فَلَمَّا التَقَى المُسْلِمُونَ بِالمُشْرِكِينَ ، وَرَأَى الشَّيْطَانُ مَلاَئِكَةَ اللهَ يَحْمُونَ المُسْلِمِينَ ، وَلَّى هَارِباً { نَكَصَ على عَقِبَيْهِ } ، وَقَالَ لأَوْلِيَائِهِ مِنَ الكُفَّارِ : إِنَّهُ بَرِيءٌ مِنْهُمْ لأَنَّهُ يَرَى مَا لاَ يَرَوْنَ ، إِنَّهَ يَرَى المَلاَئِكَةَ يِنْصُرُونَ المُسْلِمِينَ ، وَإِنَّهُ يَعْلَمُ مِنْ عَظَمَةِ اللهِ وَقُوَّتِهِ وَسَطْوَّتِهِ ، مَا لاَ يَعْلَمُهُ أَوْلِيَاؤُهُ ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَخَافُ اللهَ ، وَيَعْرِفُ أَنَّهَ تَعَالَى شَدِيدُ العِقَابِ .
هذه هي عوامل النصر الحقيقية:الثبات عند لقاء العدو . والاتصال بالله بالذكر . والطاعة لله والرسول . وتجنب النزاع والشقاق . والصبر على تكاليف المعركة . والحذر من البطر والرئاء والبغي . .
فأما الثبات فهو بدء الطريق إلى النصر . فأثبت الفريقين أغلبهما . وما يدري الذين آمنوا أن عدوهم يعاني أشد مما يعانون ; وأنه يألم كما يألمون , ولكنه لا يرجو من الله ما يرجون ; فلا مدد له من رجاء في الله يثبت أقدامه وقلبه ! وأنهم لو ثبتوا لحظة أخرى فسينخذل عدوهم وينهار ; وما الذي يزلزل أقدام الذين آمنوا وهم واثقون من إحدى الحسنيين:الشهادة أو النصر ? بينما عدوهم لا يريد إلا الحياة الدنيا ; وهو حريص على هذه الحياة التي لا أمل له وراءها ولا حياة له بعدها , ولا حياة له سواها ?!(1/367)
وأما ذكر الله كثيراً عند لقاء الأعداء فهو التوجيه الدائم للمؤمن ; كما أنه التعليم المطرد الذي استقر في قلوب العصبة المؤمنة , وحكاه عنها القرآن الكريم في تاريخ الأمة المسلمة في موكب الإيمان التاريخي . ومما حكاه القرآن الكريم من قول سحرة فرعون عندما استسلمت قلوبهم للإيمان فجأة , فواجههم فرعون بالتهديد المروع البشع الطاغي , قولهم:(وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا . ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين) . .
ومما حكاه كذلك عن الفئة القليلة المؤمنة من بني إسرائيل , وهي تواجه جالوت وجنوده:(ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا:ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين) . .
ومما حكاه عن الفئات المؤمنة على مدار التاريخ في مواجهة المعركة: وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير , فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله , وما ضعفوا وما استكانوا , والله يحب الصابرين . وما كان قولهم إلا أن قالوا:ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا , وثبت أقدامنا , وانصرنا على القوم الكافرين . .
ولقد استقر هذا التعليم في نفوس العصبة المسلمة ; فكان هذا شأنها حيثما واجهت عدواً . وقد حكى الله - فيما بعد - عن العصبة التي أصابها القرح في "أحد" ; فلما دعيت إلى الخروج ثاني يوم , كان هذا التعليم حاضراً في نفوسها:(الذين قال لهم الناس:إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم , فزادهم إيماناً وقالوا:حسبنا الله ونعم الوكيل)(1/368)
إن ذكر الله عند لقاء العدو يؤدي وظائف شتى:إنه الاتصال بالقوة التي لا تغلب ; والثقة بالله الذي ينصر أولياءه . . وهو في الوقت ذاته استحضار حقيقة المعركة وبواعثها وأهدافها , فهي معركة لله , لتقرير ألوهيته في الأرض , وطرد الطواغيت المغتصبة لهذه الألوهية ; وإذن فهي معركة لتكون كلمة الله هي العليا ; لا للسيطرة , ولا للمغنم , ولا للاستعلاء الشخصي أو القومي . . كما أنه توكيد لهذا الواجب - واجب ذكر الله - في أحرج الساعات وأشد المواقف . . وكلها إيحاءات ذات قيمة في المعركة ; يحققها هذا التعليم الرباني .
وأما طاعة الله ورسوله , فلكي يدخل المؤمنون المعركة مستسلمين لله ابتداء ; فتبطل أسباب النزاع التي أعقبت الأمر بالطاعة: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) . .
فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه ; وإلا حين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجه الآراء والأفكار . فإذا استسلم الناس للهورسوله انتفى السبب الأول الرئيسي للنزاع بينهم - مهما اختلفت وجهات النظر في المسألة المعروضة - فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر , إنما هو الهوى الذي يجعل كل صاحب وجهة يصر عليها مهما تبين له وجه الحق فيها ! وإنما هو وضع "الذات" في كفة , والحق في كفة ; وترجيح الذات على الحق ابتداء ! . . ومن ثم هذا التعليم بطاعة الله ورسوله عند المعركة . . إنه من عمليات "الضبط" التي لا بد منها في المعركة . . إنها طاعة القيادة العليا فيها , التي تنبثق منها طاعة الأمير الذي يقودها . وهي طاعة قلبية عميقة لا مجرد الطاعة التنظيمية في الجيوش التي لا تجاهد لله , ولا يقوم ولاؤها للقيادة على ولائها لله أصلاً . . والمسافة كبيرة كبيرة . .
وأما الصبر . فهو الصفة التي لا بد منها لخوض المعركة . . أية معركة . . في ميدان النفس أم في ميدان القتال .
(واصبروا , إن الله مع الصابرين) . .(1/369)
وهذه المعية من الله هي الضمان للصابرين بالفوز والغلب والفلاح . . ويبقى التعليم الأخير: (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله , والله بما يعملون محيط) . .
يبقى هذا التعليم ليحمي العصبة المؤمنة من أن تخرج للقتال متبطرة طاغية تتعاجب بقوتها ! وتستخدم نعمة القوة التي أعطاها الله لها في غير ما أرادها . . والعصبة المؤمنة إنما تخرج للقتال في سبيل الله ; تخرج لتقرير ألوهيته سبحانه في حياة البشر , وتقرير عبودية العباد لله وحده . وتخرج لتحطيم الطواغيت التي تغتصب حق الله في تعبيد العباد له وحده , والتي تزاول الألوهية في الأرض بمزاولتها للحاكمية - بغير إذن الله وشرعه - وتخرج لإعلان تحرير "الإنسان" في "الأرض" من كل عبودية لغير الله , تستذل إنسانية الإنسان وكرامته . وتخرج لحماية حرمات الناس وكراماتهم وحرياتهم , لا للاستعلاء على الناس واستعبادهم والتبطر بنعمة القوة باستخدامها هذا الإستخدام المنكر . وتخرج متجردة من حظ نفسها في المعركة جملة , فلا يكون لها من النصر والغلب إلا تحقيق طاعة الله في تلبية أمره بالجهاد ; وفي إقامة منهجه في الحياة ; وفي إعلاء كلمته في الأرض ; وفي التماس فضله بعد ذلك ورضاه . . حتى الغنائم التي تخلفها المعركة فهي من فضل الله . .
ولقد كانت صورة الخروج بطراً ورئاء الناس وصدا عن سبيل الله حاضرة أمام العصبة المسلمة ; يرونها في خروج قريش بالصورة التي خرجت بها ; كما كانت صورة العاقبة لهذا الخروج حاضرة فيما أصاب قريشاً التي خرجت في ذلك اليوم بفخرها وعزها وكبريائها تحاد الله ورسوله:وعادت في آخر اليوم بالذل والخيبة والانكسار والهزيمة . . وكان الله سبحانه يذكر العصبة المسلمة بشيء حاضر له وقعه وله إيحاؤه: (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله . والله بما يعملون محيط) . .(1/370)
والبطر والمراءاة والصد عن سبيل الله تتجلى كلها في قولة أبي جهل , وقد جاءه رسول أبي سفيان - بعد أن ساحل بالعير فنجت من رصد المسلمين - يطلب إليه الرجوع بالنفير , إذ لم تعد بهم حاجة لقتال محمد وأصحابه . وكانت قريش قد خرجت بالقيان والدفوف يغنون وينحرون الجزر على مراحل الطريق . فقال أبو جهل:" لا والله لا نرجع حتى نرد بدراً , فنقيم ثلاثاً , ننحر الجزر , ونطعم الطعام , ونشرب الخمر , وتعزف القيان علينا , فلن تزال العرب تهابنا أبداً " . . فلما عاد الرسول إلى أبي سفيان برد أبي جهل قال:" واقوماه ! هذا عمل عمرو بن هشام [ يعني أبا جهل ] كره أن يرجع , لأنه ترأس على الناس فبغى , والبغي منقصة وشؤم , إن أصاب محمد النفير ذللنا " . . وصحت فراسة أبي سفيان , وأصاب محمد صلى الله عليه وسلم النفير ; وذل المشركون بالبطر والبغي والرياء والصد عن سبيل الله ; وكانت بدر قاصمة الظهر لهم: (والله بما يعملون محيط) . .
لا يفوته منهم شيء , ولا يعجزه من قوتهم شيء , وهو محيط بهم وبما يعملون .
ويمضي السياق يصور وسوسة الشيطان للمشركين وإغراءهم بهذا الخروج الذي نالهم منه ما نالهم من الذل والخيبة والخسار والانكسار: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم , وقال:لا غالب لكم اليوم من الناس , وإني جار لكم . فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه , وقال:إني بريء منكم , إني أرى ما لا ترون , إني أخاف الله , والله شديد العقاب) . .(1/371)
ولقد وردت في هذه الآية والحادث الذي تشير إليه عدة آثار ; ليس من بينها حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما رواه مالك في الموطأ:حدثنا أحمد بن الفرج , قال:حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون , قال:حدثنا مالك , عن إبراهيم بن أبي عبلة , عن طلحة بن عبيد الله بن كريز:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ما رئي إبليس يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة , وذلك مما يرى من تنزيل الرحمة والعفو عن الذنوب , إلا ما رأى يوم بدر " ! قالوا:يا رسول الله وما رأى يوم بدر ? قال:" أما إنه رأى جبريل يزع الملائكة " . .
وفي هذا الأثر عبد الملك بن عبدالعزيز بن الماجشون , وهو ضعيف الحديث , والخبر مرسل . فأما سائر الآثار فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - من طريق علي بن أبي طلحة وطريق ابن جريج . وعن عروة بن الزبير من طريق ابن إسحاق . وعن قتادة من طريق سعيد بن جبير . وعن الحسن وعن محمد بن كعب . وهذه أمثلة منها من رواية ابن جرير الطبري:
حدثني المثنى , قال:حدثنا عبد الله بن صالح , قال:حدثني معاوية عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس قال:جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه راية , في صورة رجل من بني مدلج , والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم . فقال الشيطان للمشركين:" لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم " . . فلما اصطف الناس أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين , فولوا مدبرين . وأقبل جبير إلى إبليس , فلما رآه , وكانت يده في يد رجل من المشركين , انتزع إبليس يده فولى مدبراً هو وشيعته , فقال الرجل:يا سراقة , تزعم أنك لنا جار ? قال: (إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب) وذلك حين رأى الملائكة .(1/372)
حدثنا ابن حميد قال:حدثنا سلمة قال:قال ابن إسحاق:حدثني يزيد بن رومان . عن عروة بن الزبير قال:لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر - يعني من الحرب - فكاد ذلك أن يثنيهم . فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي , وكان من أشراف كنانة , فقال:
أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه . فخرجوا سراعاً .
حدثنا بشر بن معاذ قال:حدثنا يزيد , حدثنا سعيد , عن قتادة قوله: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم) إلى قوله: (شديد العقاب) قال:ذكر لنا أنه رأى جبريل تنزل معه الملائكة فزعم عدو الله أنه لا يد له بالملائكة , وقال: (إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله) . . وكذب والله عدو الله , ما به مخافة الله , ولكن علم أن لا قوة له ولا منعة له , وتلك عادة عدو الله لمن أطاعه واستقاد له , حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم شر مسلم , وتبرأ منهم عند ذلك .
ونحن - على منهجنا في هذه الظلال - لا نتعرض لهذه الأمور الغيبية بتفصيل لم يرد به نص قرآني أو حديث نبوي صحيح متواتر . فهي من أمور لاعتقاد التي لا يلتزم فيها إلا بنص هذه درجته . ولكننا في الوقت ذاته لا نقف موقف الإنكار والرفض . .
وفي هذا الحديث نص قرآني يثبت منه أن الشيطان زين للمشركين أعمالهم , وشجعهم على الخروج بإعلان إجارته لهم ونصرته إياهم ; وأنه بعد ذلك - لما تراءى الجمعان أي بريء منكم إني رأى أحدهما الآخر - (نكص على عقبيه وقال:إني أرى ما لا ترون , إني أخاف الله , والله شديد العقاب) . . فخذلهم وتركهم يلاقون مصيرهم وحدهم , ولم يوف بعهده معهم . .
ولكننا لا نعلم الكيفية التي زين لهم بها أعمالهم , والتي قال لهم بها:لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم . والتي نكص بها كذلك وقال ما قاله بعد ذلك . .(1/373)
الكيفية فقط هي التي لا نجزم بها . ذلك أن أمر الشيطان كله غيب ; ولا سبيل لنا إلى الجزم بشيء في أمره إلا في حدود النص المسلم . والنص هنا لا يذكر الكيفية إنما يثبت الحادث . .
- - - - - - - - - - - -
50.
تحريم اتخاذ الآباء وغيرهم أولياء إذا اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) } سورة التوبة(1/374)
بَعْدَ أَنْ أَعْلَنَ اللهُ تَعَالَى بَرَاءَتَهُ ، وَبَرَاءَةَ رَسُولِهِ مِنَ المُشْرِكِينَ ، وَآذَنهم بِنَبْذِ عُهُودِهِمْ ، بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ تَعَالَى أنَّهُمْ لاَ عُهُودَ لَهُمْ ، عَزَّ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ المُسْلِمِينَ ، وَتَبَرَّمَ مِنْهُ ضُعَفَاءُ الإِيمَانِ ، وَكَانَ مَوْضِعَ الضَعْفِ نُصْرَةُ القَرَابَةِ وَالعَصَبِيّةِ ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى : إنَّ فَضْلَ الإِيمَانِ وَالهِجْرَةِ وَالجِهَادِ لاَ يَتَحَقَّقُ ، وَلاَ يَكْتَمِلُ إلاَّ بِتَرْكِ وَلاَيَةِ الكَافِرِينَ ، وَإِيثَارِ حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ ، عَلَى حُبِّ الوَلَدِ وَالوَالِدِ وَالأخِ وَالعَشِيرَةِ ، فَنَهَى اللهُ المُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالاَةِ الذِينَ يَخْتَارُونَ الكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ . وَتَوَعَّدَ مَنْ يَتَولاَّهُمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِالعِقَابِ الشَّدِيدِ ، فِي هذِهِ الآيَةِ ، وَفِي آيَاتٍ أُخْرَى ، وَعَدَّ مَنْ يَتَولَّى الكُفَّارَ ، وَلُوْ كَانُوا آباَءً أَوْ إِخْوَاناً ، مِنَ الظَّالِمِينَ .
( وَكَثِيراً مَا عَبَّرَ اللهُ تَعَالَى عَنِ الكُفْرِ بِالظُلْمِ وَمَاثَلَ بَيْنَهُمَا ) .
ثُمَّ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِتَوَعُّدِ مَنْ آثَرَ حُبَّ القَرَابَةِ وَالعَشِيرَةِ وَالأَهْلِ وَالتِّجَارَةِ وَالأَمْوَالِ وَالمَسَاكِنِ . . . . عَلَى حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ ، بِأَنْ يَتَرَبَّصُوا أَمْرَ اللهِ فِيهِمْ ، وَيَنْتَظِرُوا عِقَابَهُ وَنَكَالَهُ بِهِمْ ، وَاللهُ تَعَالَى لا يَهْدِي الفَاسِقِينَ الخَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِهِ سَوَاءَ السَّبِيلِ .(1/375)
إن هذه العقيدة لا تحتمل لها في القلب شريكا ; فإما تجرد لها , وإما انسلاخ منها . وليس المطلوب أن ينقطع المسلم عن الأهل والعشيرة والزوج والولد والمال والعمل والمتاع واللذة ; ولا أن يترهبن ويزهد في طيبات الحياة . . كلا إنما تريد هذه العقيدة أن يخلص لها القلب , ويخلص لها الحب , وأن تكون هي المسيطرة والحاكمة , وهي المحركة والدافعة . فإذا تم لها هذا فلا حرج عندئذ أن يستمتع المسلم بكل طيبات الحياة ; على أن يكون مستعدا لنبذها كلها في اللحظة التي تتعارض مع مطالب العقيدة.
ومفرق الطريق هو أن تسيطر العقيدة أو يسيطر المتاع ; وأن تكون الكلمة الأولى للعقيدة أو لعرض من أعراض هذه الأرض . فإذا اطمأن المسلم إلى أن قلبه خالص لعقيدته فلا عليه بعد هذا أن يستمتع بالأبناء والإخوة وبالزوج والعشيرة ; ولا عليه أن يتخذ الأموال والمتاجر والمساكن ; ولا عليه أن يستمتع بزينة الله والطيبات من الرزق - في غير سرف ولا مخيلة - بل إن المتاع بها حينئذ لمستحب , باعتباره لونا من ألوان الشكر لله الذي أنعم بها ليتمتع بها عباده , وهم يذكرون أنه الرازق المنعم الوهاب : (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء - إن استحبوا الكفر على الإيمان -) . .
وهكذا تتقطع أواصر الدم والنسب , إذا انقطعت آصرة القلب والعقيدة . وتبطل ولاية القرابة في الأسرة إذا بطلت ولاية القرابة في الله . فلله الولاية الأولى , وفيها ترتبط البشرية جميعا , فإذا لم تكن فلا ولاية بعد ذلك , والحبل مقطوع والعروة منقوضة .
(ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون) . .
و(الظالمون) هنا تعني المشركين . فولاية الأهل والقوم - إن استحبوا الكفر على الإيمان - شرك لا يتفق مع الإيمان .(1/376)
ولا يكتفي السياق بتقرير المبدأ , بل يأخذ في استعراض ألوان الوشائج والمطامع واللذائذ ; ليضعها كلها في كفة ويضع العقيدة ومقتضياتها في الكفة الأخرى:الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة [ وشيجة الدم والنسب والقرابة والزواج ] والأموال والتجارة [ مطمع الفطرة ورغبتها ] والمساكن المريحة [ متاع الحياة ولذتها ] . . وفي الكفة الأخرى:حب الله ورسوله وحب الجهاد في سبيله . الجهاد بكل مقتضياته وبكل مشقاته . الجهاد وما يتبعه من تعب ونصب , وما يتبعه من تضييق وحرمان , وما يتبعه من ألم وتضحية , وما يتبعه من جراح واستشهاد . . وهو - بعد هذا كله - "الجهاد في سبيل الله" مجردا من الصيت والذكر والظهور . مجردا من المباهاة , والفخر والخيلاء . مجردا من إحساس أهل الأرض به وإشارتهم إليه وإشادتهم بصاحبه . وإلا فلا أجر عليه ولا ثواب . .
(قل:إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها , وتجارة تخشون كسادها , ومساكن ترضونها , أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله . . فتربصوا حتى يأتي الله بأمره . . .)
ألا إنها لشاقة . ألا وإنها لكبيرة . ولكنها هي ذاك . . وإلا:
(فتربصوا حتى يأتي الله بأمره) .
وإلا فتعرضوا لمصير الفاسقين:
(والله لا يهدي القوم الفاسقين) . .
وهذا التجرد لا يطالب به الفرد وحده , إنما تطالب به الجماعة المسلمة , والدولة المسلمة . فما يجوز أن يكون هناك اعتبار لعلاقة أو مصلحة يرتفع على مقتضيات العقيدة في الله ومقتضيات الجهاد في سبيل الله
وما يكلف الله الفئة المؤمنة هذا التكليف , إلا وهو يعلم أن فطرتها تطيقه - فالله لا يكلف نفسا إلا وسعها - وإنه لمن رحمة الله بعباده أن أودع فطرتهم هذه الطاقة العالية من التجرد والاحتمال ; وأودع فيها الشعور بلذة علوية لذلك التجرد لا تعدلها لذائذ الأرض كلها . .(1/377)
لذة الشعور بالاتصال بالله , ولذة الرجاء في رضوان الله , ولذة الاستعلاء على الضعف والهبوط , والخلاص من ثقلة اللحم والدم , والارتفاع إلى الأفق المشرق الوضيء . فإذا غلبتها ثقلة الأرض ففي التطلع إلى الأفق ما يجدد الرغبة الطامعة في الخلاص والفكاك .
- - - - - - - - - - - -
51.
تحريم دخول المشركين المسجد الحرام
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (28) سورة التوبة
أَمَرَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ بِمَنْعِ المُشْرِكِينَ مِنْ دُخُولِ المَسْجِدِ الحَرَامِ ، وَالطوَافِ بِالكَعْبَةِ ، بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ ، ( وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي العَامِ التَّاسِعِ لِلْهِجْرَةِ ) لأَنَّهُمْ قَذِرُونَ ، قَلِيلُو النَّظَافَةِ ( نَجَسٌ ) ، لِذَلِكَ أَمَرَ رَسُولَ اللهِ أَنْ لاَ يَحُجَّ بَعْدَ هَذا العَامِ مُشْرِكٌ ، وَلاَ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ .
يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ : إِذَا خِفْتُمْ بَوَارَ تِجَارَتِكُمْ ، وَقِلَّةَ أَرْزَاقِكُمْ ، بِسَبَبِ انْقِطَاعِ مَجِيءِ المُشْرِكِينَ إِلَى مَكَّةَ ، فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَنْ ذَلِكَ ، وَسَيُعَوِّضُ عَلَيْكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ إِنْ شَاءَ ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا فِيهِ الخَيْرَ وَالمَصْلَحَةَ ، حَكِيمٌ فِيمَا يَشْرَعُهُ وَيُقَرِّرُهُ .(1/378)
إنما المشركون نجس . يجسم التعبير نجاسة أرواحهم فيجعلها ماهيتهم وكيانهم . فهم بكليتهم وبحقيقتهم نجس , يستقذره الحس , ويتطهر منه المتطهرون ! وهو النجس المعنوي لا الحسي في الحقيقة , فأجسامهم ليست نجسة بذاتها . إنما هي طريقة التعبير القرآنية بالتجسيم .
(نجس . فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) . .
وتلك غاية في تحريم وجودهم بالمسجد الحرام , حتى لينصب النهي على مجرد القرب منه , ويعلل بأنهم نجس وهو الطهور !
ولكن الموسم الاقتصادي الذي ينتظره أهل مكة ; والتجارة التي يعيش عليها معظم الظاهرين في الجزيرة ; ورحلة الشتاء والصيف التي تكاد تقوم عليها الحياة . . . أنها كلها ستتعرض للضياع بمنع المشركين من الحج ; وبإعلان الجهاد العام على المشركين كافة . . .
نعم ! ولكنها العقيدة . والله يريد أن تخلص القلوب كلها للعقيدة !
وبعد ذلك , فالله هو المتكفل بأمر الرزق من وراء الأسباب المعهودة المألوفة: (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء) . .
وحين يشاء الله يستبدل أسبابا بأسباب ; وحين يشاء يغلق بابا ويفتح الأبواب . .
(إن الله عليم حكيم) . .
يدبر الأمر كله عن علم وعن حكمة , وعن تقدير وحساب . .
لقد كان المنهج القرآني يعمل , في المجتمع المسلم الذي نشأ من الفتح ; والذي لم تكن مستوياته الإيمانية قد تناسقت بعد . .
وكما أننا نلمح من خلال السياق في هذا المقطع ما كان يعتور هذا المجتمع من ثغرات . فكذلك نلمح عمل المنهج القرآني في سد هذه الثغرات . ونلمح الجهد الطويل المبذول لتربية هذه الأمة بهذا المنهج القرآني الفريد .(1/379)
إن القمة التي كان المنهج القرآني ينقل خطى هذه الأمة لتبلغ إليها , هي قمة التجرد لله , والخلوص لدينه . وقمة المفاصلة على أساس العقيدة مع كل أواصر القربى وكل لذائذ الحياة . وكان هذا يتم من خلال ما يبثه المنهج القرآني من وعي لحقيقة الفوارق والفواصل بين منهج الله الذي يجعل الناس كلهم عبيدا لله وحده , ومنهج الجاهلية الذي يجعل الناس أربابا بعضهم لبعض . . وهما منهجان لا يلتقيان . . ولا يتعايشان . .
وبدون هذا الفقه الضروري لطبيعة هذا الدين وحقيقته , وطبيعة الجاهلية وحقيقتها ; لا يملك إنسان أن يقوم الأحكام الإسلامية , التي تقرر قواعد المعاملات والعلاقات بين المعسكر المسلم وسائر المعسكرات .
- - - - - - - - - - - -
52.
التحذير من التشبه بالأحبار والرهبان
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) }سورة التوبة(1/380)
يُحَذِّرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ مِنْ عُلَمَاءِ السُّوءِ ، وَعُبَّادِ الضَّلاَلَةِ ، وَيَقُولُ : إِنَّ كَثِيراً مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ ، اليَهُودِ وَالنَّصَارَى ، يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ ، بِصُوَرٍ وَطَرَائِقَ مُخْتَلِفَةٍ ، وَيَسْتَغِلُّونَ رِئَاسَتَهُمُ الدِّينِيَّةَ فِي سَبِيلِ تَحْقِيقِ ذَلِكَ ، وَلَمَّا جَاءَ الإِسْلاَمُ اسْتَمَرُّوا عَلَى ضَلاَلِهِمْ وَعِنَادِهِمْ ، طَمَعاً فِي أَنْ تَبْقَى لَهُمْ تِلْكَ الرِئَاسَاتُ ، وَأَخَذُوا يَصُدُّونَ النَّاسَ وَيَصْرِفُونَهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ الإِسْلاَمِ ، وَهُوَ دِينُ الحَقِّ ، وَيُلْبِسُونَ الحَقَّ بِالبَاطِلِ ، وَيُمَوِّهُونَ عَلَى أَتْبَاعِهِمْ مِنَ الجَهَلَةِ أَنَّهُمْ إِنَّما يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ ، وَذَلِكَ لأَنَّهُمْ لَوُ أَقَرُّوا بِصِدْقِ مُحَمَّدٍ ، وَصِحَّةِ دِينِهِ ، لَتَوَجَّبَ عَلَيْهِمْ مُتَابعَتُهُ ، فَيبْطُلُ حُكْمُهُمْ ، وَتَزُولُ مَكَانَتُهُم ، وَتَنْقَطِعُ مَوَارِدُهُمْ ، وَمَصَادِرُ رِزْقِهِم العَرِيضَةُ .
وَفِي الحَقِيقَةِ إِنَّهُمْ دُعَاةٌ إِلَى النَّارِ ، وَيَوْمَ القِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ ، وَيُهَدِّدُ اللهُ تَعَالَى مَنْ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةِ ( أَيْ يُكَدِّسُونَ الأَمْوَالَ ) ، وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَفِي الجِهَادِ لِنُصْرَةِ دِينِ اللهِ ، وَفِي الإِحْسَانِ إِلَى عِبَادِهِ وَمَصَالِحِهِمْ ، وَيُبَشِّرهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ .(1/381)
قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : المَقْصُودُ بِالكَنْزِ هُوَ المَالُ الَّذِي لاَ تُؤدَّى زَكَاتُهُ . وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : أَيُّ مَالٍ أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ ، فَلَيْسَ بِكَنْزٍ ، وَإِنْ كَانَ مَدْفُوناً فِي الأَرْضِ ، وَأَيُّ مَالٍ لَمْ تُؤدَّ زَكَاتَهُ هُوَ كَنْزٌ يُكْوَى بِهِ صَاحِبُهُ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ .
يَقُولُ تَعَالَى : إِنَّ المَالَ الذِي لَمْ تُؤدَّ زَكَاتُهُ سَيُحْمَى عَلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ، وَتُكْوَى بِهِ جِبَاهُ أَصْحَابِهِ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ، وَسَيُقَالُ لَهُمْ تَبْكِيتاً وَتَقْرِيعاً : هَذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَلَمْ تُؤَدُّوا مِنْهُ حَقَّ اللهِ ، وَهَذَا مَا حَبَّأْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا طَعْمَهُ الآنَ عَذَاباً أَلِيماً .
في الآية الأولى استطراد في بيان دور الأحبار والرهبان الذين اتخذهم أهل الكتاب أرباباً من دون الله ، فاتبعوهم فيما يشرعون لهم من المعاملات ومن العبادات سواء . فهؤلاء الأحبار والرهبان يجعلون من أنفسهم ويجعلهم قومهم أرباباً تتبع وتطاع؛ وهم فيما يشرعون يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله .
وأكل أموال الناس كان يتمثل في صور شتى وما يزال :
منها ما يأخذونه على فتاوى تحليل الحرام وتحريم الحلال لصالح من يملكون المال أو السلطان . ومنها ما يأخذه القسيس أو الكاهن مقابل الاعتراف له بالخطايا وغفرانه - بالسلطان المخول للكنيسة في زعمهم - لتلك الخطايا! ومنها الربا - وهو أوسع أبوابها وأبشعها - وغيرها كثير .
كذلك ما يجمعونه من أموال الناس لمحاربة دين الحق؛ وقد كان الرهبان والأساقفة والكرادلة والبابوات يجمعون مئات الملايين في الحروب الصليبية ، وما يزالون يجمعونها للتبشير والاستشراق للصد عن سبيل الله.(1/382)
ولا بد أن نلحظ الدقة القرآنية والعدل الإلهي في قول الله تعالى في ذلك .
{ إن كثيرا ًمن الأحبار والرهبان . . } . .
للاحتراز من الحكم على القليل منها الذي لا يزاول هذه الخطيئة . ولا بد من أفراد في أية جماعة من الناس فيهم بقية خير . . ولا يظلم ربك أحداً . .
والكثير من الأحبار والرهبان يكنزون هذه الأموال التي يأكلونها بالباطل . وقد شهد تاريخ هؤلاء الناس أموالاً ضخمة تنتهي إلى أيدي رجال الدين وتؤول إلى الكنائس والأديرة . وقد جاء عليهم زمان كانوا أكثر ثراء من الملوك المتسلطين والأباطرة الطغاة!
والسياق القرآني يصور عذابهم في الآخرة بما كنزوا ، وعذاب كل من يكنز الذهب والفضة ولا ينفقها في سبيل الله ، في مشهد من المشاهد التصويرية الرائعة المروعة: { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم . يوم يحمى عليها في نار جهنم ، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ، هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون } . .
إن رسم المشهد هكذا في تفصيل؛ وعرض مشهد العملية منذ خطواتها الأولى إلى خطواتها الأخيرة ، ليطيل المشهد في الخيال والحس . . وهي إطالة مقصودة .
{ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } . .
ويسكت السياق : وتنتهي الآية على هذا الإجمال والإبهام في العذاب . .
ثم يأخذ في التفصيل بعد الإجمال : { يوم يحمى عليها في نار جهنم } .(1/383)
وينتظر السامع عملية الإحماء ثم ها هي ذي حميت واحمرت وها هي ذي معدة مهيأة فليبدأ العذاب الأليم ها هي ذي الجباه تكوى لقد انتهت عملية الكي في الجباه فليداروا على الجنوب ها هي ذي الجنوب تكوى لقد انتهت هذه فليداروا على الظهور ها هي ذي الظهور تكوى لقد انتهى هذا اللون من العذاب ; فليتبعه الترذيل والتأنيب هذا ما كنزتم لأنفسكم هذا هو بذاته الذي كنزتموه للذة فانقلب أداة لهذا اللون الأليم من العذاب فذوقوا ما كنتم تكنزون ذوقوه بذاته فهو هو الذي تذوقون منه مسه للجنوب والظهور والجباه ألا إنه لمشهد مفزع مروع يعرض في تفصيل وتطويل وأناة وهو يعرض أولاً لتصوير مصائر الكثير من الأحبار والرهبان ثم لتصوير مصائر الكانزين للذهب والفضة لا ينفقونها في سبيل اللّه والسياق يمهد لغزوة العسرة كذلك حينذاك وبعد فلا بد أن نقف هنا وقفة قصيرة للتعقيب نبرز فيها دلالة هذا البيان الرباني لحقيقة ما عليه أهل الكتاب من عقيدة ومن دين ومن خلق ومن سلوك وذلك بالإضافة إلى الإشارات التي أوردناها خلال الفقرات السابقة إن تعرية أهل الكتاب من شبهة أنهم على شيء من دين اللّه ألزم وأشد ضرورة من بيان حال المشركين الصريحين في شركهم الشاهدين على أنفسهم بالكفر بظاهر عقائدهم وشعائرهم ذلك أن نفوس المسلمين لا تنطلق الانطلاق الكامل لمواجهة الجاهلية إلا حين يتجلى لها تماماً وجه الجاهلية ووجه الجاهلية مكشوف صريح فيما يختص بالمشركين ; وليس الحال كذلك فيما يختص بأهل الكتاب ومن يزعمون أنهم على شيء من دين اللّه من أمثالهم كالشأن في الغالبية العظمى ممن يدعون أنفسهم اليوم مسلمين ولقد احتاج الانطلاق الكامل لمواجهة المشركين كثيراً من البيان في هذه السورة نظراً للملابسات التي شرحناها في التقديم لهذه السورة وفي التقديم للمقطع الأول منها كذلك حيث قال اللّه سبحانه للمؤمنين كيف يكون للمشركين عهد عند اللّه وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد(1/384)
الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن اللّه يحب المتقين كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاًّ ولا ذمة ; يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون اشتروا بآيات اللّه ثمناً قليلاً فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة وأولئك هم المعتدون ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة أتخشونهم فاللّه أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين قاتلوهم يعذبهم اللّه بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب اللّه على من يشاء واللّه عليم حكيم ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد اللّه شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون الخ الخ وإذا كان الانطلاق لمجاهدة المشركين قد اقتضى كل هذه الحملة وأمرهم ظاهر نظراً لتلك الملابسات التي كانت قائمة في التكوين العضوي للمجتمع المسلم في تلك الفترة فقد كان الانطلاق لمجاهدة أهل الكتاب في حاجة إلى حملة أشد وأعمق تستهدف أول ما تستهدف تعرية أهل الكتاب هؤلاء من تلك اللافتة الشكلية التي لم تعد وراءها حقيقة ; وتظهرهم على حقيقتهم الواقعية مشركين كالمشركين كفاراً كالكفار محاربين للّه ولدينه الحق كأمثالهم من المشركين الكافرين ضلالاً يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل اللّه في مثل هذه النصوص القاطعة الصريحة قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم اللّه ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وقالت اليهود عزير ابن اللّه وقالت النصارى المسيح ابن اللّه ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم اللّه أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه(1/385)
والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون يريدون أن يطفئوا نور اللّه بأفواههم ويأبى اللّه إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل اللّه الخ وذلك بالإضافة إلى التقريرات القرآنية الحاسمة في السور المكية والمدنية على السواء عن حقيقة ما انتهى إليه أمر أهل الكتاب من الشرك والكفر والخروج من دين اللّه الذي جاءهم به أنبياؤهم من قبل ; فضلاً على وقفتهم من رسالة اللّه الأخيرة التي على أساس موقفهم منها يتحدد وصفهم بالكفر أو بالإيمان فلقد سبق أن ووجه أهل الكتاب بأنهم ليسوا على شيء من دين اللّه أصلاً في قوله تعالى قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً فلا تأس على القوم الكافرين المائدة كذلك سبق وصفهم بالكفر وضمهم إلى المشركين في هذه الصفة يهوداً ونصارى أو مجتمعين في صفة أهل الكتاب في مثل قوله تعالى وقالت اليهود يد اللّه مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً المائدة لقد كفر الذين قالوا إن اللّه هو المسيح ابن مريم المائدة لقد كفر الذين قالوا إن اللّه ثالث ثلاثة المائدة لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة البينة وغيرها كثير أثبتنا بعضه فيما تقدم والقرآن الكريم مكيُّه ومدنيّه حافل بمثل هذه التقريرات وإذا كانت الأحكام القرآنية قد جعلت لأهل الكتاب بعض الامتيازات في التعامل عن المشركين وذلك كإحلال طعامهم للمسلمين وإجازة التزوج بالمحصنات أي العفيفات من نسائهم فإن ذلك لم يكن مبيناً على(1/386)
أساس أنهم على شيء من دين اللّه الحق ; ولكن كان مراعى فيه واللّه أعلم أن لهم أصلاً من دين وكتاب وإن كانوا لا يقيمونه فمن الممكن محاكمتهم إلى هذا الأصل الذي يدعون أنهم عليه فهم في هذا يفترقون عن المشركين الوثنيين الذين لا كتاب لهم ; لأنه ليس لهم من أصل يردون إليه ويمكن محاكمتهم له أما تقريرات القرآن عن حقيقة ما عليه أهل الكتاب من عقيدة ودين فهي صريحة وحاسمة في أنهم ليسوا على شيء من دين اللّه ; بعد ما تركوا كتبهم ودينهم إلى ذلك الذي صنعه لهم أحبارهم ورهبانهم ومجامعهم وكنائسهم وفي قول اللّه سبحانه فصل الخطاب في هذا الموضوع والمهم الآن أن نبرز دلالة هذا البيان الرباني لحقيقة ما عليه أهل الكتاب من العقيدة والدين إن هذه اللافتة المضللة التي ليس وراءها شيء من الحقيقة تحول دون الانطلاق الإسلامي الكامل لمواجهة الجاهلية فتتحتم إذن إزالة هذه اللافتة ; وتعريتهم من ظلها الخادع ; وكشفهم على حقيقتهم الواقعة ولا نغفل الملابسات التي كانت قائمة في المجتمع المسلم يومذاك والتي أشرنا إليها من قبل سواء منها ما يختص بالتكوين العضوي لهذا المجتمع يومها وما يختص بظروف الغزوة ذاتها في الحر والعسرة وما يختص كذلك بالتهيب من لقاء الروم بسبب ما كان لهم في نفوس العرب قبل الإسلام من هيبة وسمعة ومخافة ولكن الأعمق من هذا كله هو ما يحيك في النفس المسلمة عند الأمر بقتال أهل الكتاب على هذا النحو الشامل وهم أهل كتاب وأعداء هذا الدين الراصدون لحركات البعث الإسلامي الجديدة في هذا الجيل يرصدونها عن خبرة واسعة بطبيعة النفس البشرية وبتاريخ الحركة الإسلامية على السواء وهم من أجل ذلك حريصون كل الحرص على رفع لافتة إسلامية على الأوضاع والحركات والاتجاهات والقيم والتقاليد والأفكار التي يعدونها ويقيمونها ويطلقونها لسحق حركات البعث الإسلامي الجديدة في أرجاء الأرض جميعاً ذلك لتكون هذه اللافتة الخادعة مانعة من الانطلاق(1/387)
الحقيقي لمواجهة الجاهلية الحقيقية القابعة وراء تلك اللافتة الكاذبة لقد أخطأوا مضطرين مرة أو مرات في إعلان حقيقة بعض الأوضاع والحركات ; وفي الكشف عن الوجه الكالح للجاهلية المنقضة على الإسلام فيها وأقرب مثال لذلك حركة أتاتورك اللاإسلامية الكافرة في تركيا وكان وجه الاضطرار فيها هو حاجتهم الملحة إلى إلغاء آخر مظهر للتجمع الإسلامي تحت راية العقيدة ذلك المظهر الذي كان يتمثل في قيام الخلافة وهو وإن كان مجرد مظهر كان آخر عروة تنقض قبل نقض عروة الصلاة كما قال رسول اللّه ص « ينقض هذا الدين عروة عروة فأولها الحكم وآخرها الصلاة » ولكن أولئك الأعداء الواعين من أهل الكتاب والملحدين الذين لا يجتمعون إلا حين تكون المعركة مع هذا الدين لم يكادوا يتجاوزون منطقة الاضطرار في الكشف عن الوجهة اللاإسلامية الكافرة في حركة أتاتورك حتى عادوا يحرصون بشدة على ستر الأوضاع التالية المماثلة لحركة أتاتورك في وجهتها الدينية بستار الإسلام ; ويحرصون على رفع تلك اللافتة الخادعة على تلك الأوضاع وهي أشد خطراً على الإسلام من حركة أتاتورك السافرة ويفتنون افتناناً في ستر حقيقة هذه الأوضاع التي يقيمونها ويكفلونها اقتصادياً وسياسياً وفكرياً ; ويهيئون لها أسباب الحماية بأقلام مخابراتهم وبأدوات إعلامهم العالمية ; وبكل ما يملكونه من قوة وحيلة وخبرة ; ويتعاون أهل الكتاب والملحدون على تقديم المعونات المتنوعة لها ; لتؤدي لهم هذه المهمة التي لم تنته منها الحروب الصليبية قديماً ولا حديثاً ; يوم كانت هذه الحروب الصليبية معركة سافرة بين الإسلام وأعدائه المكشوفين الظاهرين والسذج ممن يدعون أنفسهم مسلمين يخدعون في هذه اللافتة ومن هؤلاء السذج كثير من الدعاة إلى الإسلام في الأرض فيتحرجون من إنزالها عن الجاهلية القائمة تحتها ويتحرجون من وصف هذه الأوضاع بصفتها الحقيقية التي تحجبها هذه اللافتة الخادعة صفة الشرك والكفر الصريحة(1/388)
ويتحرجون من وصف الناس الراضين بهذه الأوضاع بصفتهم الحقيقية كذلك وكل هذا يحول دون الانطلاق الحقيقي الكامل لمواجهة هذه الجاهلية مواجهة صريحة ; لا تحرج فيها ولا تأثم من وصفها بصفتها الحقيقية الواقعة بذلك تقوم تلك اللافتة بعملية تخدير خطرة لحركات البعث الإسلامي ; كما تقوم حاجزاً دون الوعي الحقيقي ودون الانطلاق الحقيقي لمواجهة جاهلية القرن العشرين التي تتصدى لسحق الجذور الباقية لهذا الدين هؤلاء السذج من الدعاة إلى الإسلام أخطر في نظري على حركات البعث الإسلامي من أعداء هذا الدين الواعين الذين يرفعون لافتة الإسلام على الأوضاع والحركات والاتجاهات والأفكار والقيم والتقاليد التي يقيمونها ويكفلونها لتسحق لهم هذا الدين إن هذا الدين يَغلب دائماً عندما يصل الوعي بحقيقته وحقيقة الجاهلية إلى درجة معينة في نفوس العصبة المؤمنة في أي زمان وفي أي مكان والخطر الحقيقي على هذا الدين ليس كامناً في أن يكون له أعداء أقوياء واعون مدربون ; بقدر ما يكمن في أن يكون له أصدقاء سذج مخدوعون يتحرجون في غير تحرج ; ويقبلون أن يتترس أعداؤهم بلافتة خادعة من الإسلام ; بينما يرمون الإسلام من وراء هذه اللافتة الخادعة إن الواجب الأول للدعاة إلى هذا الدين في الأرض أن ينزلوا تلك اللافتات الخادعة المرفوعة على الأوضاع الجاهلية والتي تحمي هذة الأوضاع المقامة لسحق جذور هذا الدين في الأرض جميعاً وإن نقطة البدء في أية حركة إسلامية هي تعرية الجاهلية من ردائها الزائف ; وإظهارها على حقيقتها شركاً وكفراً ووصف الناس بالوصف الذي يمثل واقعهم ; كيما تواجههم الحركة الإسلامية بالطلاقة الكاملة بل كيما ينتبه هؤلاء الناس أنفسهم إلى حقيقة ما انتهى إليه حالهم وهي الحقيقة التي انتهى إليها حال أهل الكتاب كما يقررها الحكيم الخبير عسى أن يوقظهم هذا التنبيه إلى تغيير ما بأنفسهم ليغير اللّه ما بهم من الشقوة والنكد والعذاب الأليم الذي هم فيه(1/389)
مبلسون وكل تحرج في غير موضعه ; وكل انخداع بالأشكال والظواهر واللافتات ; هو تعويق لنقطة الانطلاق الأولى لأية حركة إسلامية في الأرض جميعاً ; وهو تمكين لأعداء هذا الدين من مكرهم الذي أرادوه بالحرص على إقامة تلك اللافتات بعد ما انكشفت حركة أتاتورك في التاريخ الحديث ; وباتت عاجزة عن المضي خطوة واحدة بعد إلغاء آخر مظهر من مظاهر التجمع الإسلامي على أساس العقيدة نظراً لانكشاف وجهتها هذا الانكشاف الصريح مما دعا كاتباً صليبياً شديد المكر عميق الخبث مثل ولفرد كانتول سميث في كتابه الإسلام في التاريخ الحديث إلى محاولة تغطية حركة أتاتورك مرة أخرى ونفي الإلحاد عنها واعتبارها أعظم وأصح حركة بعث إسلامي كذا في التاريخ الحديث الدرس السادس تحريم النسيء وإعادة شهور السنة لوضعها الأصلي
------------------
إن هذه "اللافتة " المضللة التي ليس وراءها شيء من الحقيقة , تحول دون الانطلاق الإسلامي الكامل لمواجهة "الجاهلية " . فتتحتم - إذن - إزالة هذه اللافتة ; وتعريتهم من ظلها الخادع ; وكشفهم على حقيقتهم الواقعة . . ولا نغفل الملابسات التي كانت قائمة في المجتمع المسلم يومذاك - والتي أشرنا إليها من قبل - سواء منها ما يختص بالتكوين العضوي لهذا المجتمع يومها , وما يختص بظروف الغزوة ذاتها في الحر والعسرة ! وما يختص كذلك بالتهيب من لقاء الروم بسبب ما كان لهم في نفوس العرب - قبل الإسلام - من هيبة وسمعة ومخافة ! . . ولكن الأعمق من هذا كله هو ما يحيك في النفس المسلمة , عند الأمر بقتال أهل الكتاب على هذا النحو الشامل . . وهم أهل كتاب !!!(1/390)
وأعداء هذا الدين , الراصدون لحركات البعث الإسلامي الجديدة في هذا الجيل يرصدونها عن خبرة واسعة بطبيعة النفس البشرية , وبتاريخ الحركة الإسلامية , على السواء . . وهم من أجل ذلك حريصون - كل الحرص - على رفع "لافتة إسلامية " على الأوضاع والحركات والاتجاهات والقيم والتقاليد والأفكار التي يعدونها ويقيمونها ويطلقونها لسحق حركات البعث الإسلامي الجديدة في أرجاء الأرض جميعاً . ذلك لتكون هذه اللافتة الخادعة مانعة من الانطلاق الحقيقي لمواجهة "الجاهلية " الحقيقية القابعة وراء تلك اللافتة الكاذبة !
لقد أخطأوا - مضطرين - مرة أو مرات في إعلان حقيقة بعض الأوضاع والحركات ; وفي الكشف عن الوجه الكالح للجاهلية المنقضة على الإسلام فيها . . وأقرب مثال لذلك حركة "أتاتورك" اللاإسلامية الكافرة في تركيا . . وكان وجه الاضطرار فيها هو حاجتهم الملحة إلى إلغاء آخر مظهر للتجمع الإسلامي تحت راية العقيدة . ذلك المظهر الذي كان يتمثل في قيام "الخلافة " . . وهو - وإن كان مجرد مظهر - كان آخر عروةتنقض قبل نقض عروة الصلاة ! كما قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - " ينقض هذا الدين عروة عروة , فأولها الحكم , وآخرها الصلاة " . .(1/391)
ولكن أولئك الأعداء الواعين - من أهل الكتاب والملحدين الذين لا يجتمعون إلا حين تكون المعركة مع هذا الدين ! - لم يكادوا يتجاوزون منطقة الاضطرار في الكشف عن الوجهة اللاإسلامية الكافرة في حركة "أتاتورك" حتى عادوا يحرصون بشدة على ستر الأوضاع التالية المماثلة لحركة "أتاتورك" في وجهتها الدينية , بستار الإسلام ; ويحرصون على رفع تلك اللافتة الخادعة على تلك الأوضاع - وهي أشد خطراً على الإسلام من حركة أتاتورك السافرة - ويفتنون افتناناً في ستر حقيقة هذه الأوضاع التي يقيمونها ويكفلونها اقتصادياً وسياسياً وفكرياً ; ويهيئون لها أسباب الحماية بأقلام مخابراتهم وبأدوات إعلامهم العالمية ; وبكل ما يملكونه من قوة وحيلة وخبرة ; ويتعاون أهل الكتاب والملحدون على تقديم المعونات المتنوعة لها ; لتؤدي لهم هذه المهمة التي لم تنته منها الحروب الصليبية قديماً ولا حديثاً ; يوم كانت هذه الحروب الصليبية معركة سافرة بين الإسلام وأعدائه المكشوفين الظاهرين !
والسذج ممن يدعون أنفسهم "مسلمين" يخدعون في هذه اللافتة . . ومن هؤلاء السذج كثير من الدعاة إلى الإسلام في الأرض ! فيتحرجون من إنزالها عن "الجاهلية " القائمة تحتها , ويتحرجون من وصف هذه الأوضاع بصفتها الحقيقية التي تحجبها هذه اللافتة الخادعة . . صفة الشرك والكفر الصريحة . . ويتحرجون من وصف الناس الراضين بهذه الأوضاع بصفتهم الحقيقية كذلك ! وكل هذا يحول دون الانطلاق الحقيقي الكامل لمواجهة هذه الجاهلية مواجهة صريحة ; لا تحرج فيها ولا تأثم من وصفها بصفتها الحقيقية الواقعة !
بذلك تقوم تلك اللافتة بعملية تخدير خطرة لحركات البعث الإسلامي ; كما تقوم حاجزاً دون الوعي الحقيقي , ودون الانطلاق الحقيقي لمواجهة جاهلية القرن العشرين التي تتصدى لسحق الجذور الباقية لهذا الدين .(1/392)
هؤلاء السذج - من الدعاة إلى الإسلام - أخطر في نظري على حركات البعث الإسلامي من أعداء هذا الدين الواعين , الذين يرفعون لافتة الإسلام على الأوضاع والحركات والاتجاهات والأفكار والقيم والتقاليد التي يقيمونها ويكفلونها لتسحق لهم هذا الدين !
إن هذا الدين يَغلب دائماً عندما يصل الوعي بحقيقته وحقيقة الجاهلية إلى درجة معينة في نفوس العصبة المؤمنة - في أي زمان وفي أي مكان - والخطر الحقيقي على هذا الدين ليس كامناً في أن يكون له أعداء أقوياء واعون مدربون ; بقدر ما يكمن في أن يكون له أصدقاء سذج مخدوعون , يتحرجون في غير تحرج ; ويقبلون أن يتترس أعداؤهم بلافتة خادعة من الإسلام ; بينما يرمون الإسلام من وراء هذه اللافتة الخادعة !
إن الواجب الأول للدعاة إلى هذا الدين في الأرض , أن ينزلوا تلك اللافتات الخادعة المرفوعة على الأوضاع الجاهلية , والتي تحمي هذة الأوضاع المقامة لسحق جذور هذا الدين في الأرض جميعاً ! وإن نقطة البدء في أية حركة إسلامية هي تعرية الجاهلية من ردائها الزائف ; وإظهارها على حقيقتها . . شركاً وكفراً . . ووصف الناس بالوصف الذي يمثل واقعهم ; كيما تواجههم الحركة الإسلامية بالطلاقة الكاملة . بل كيما ينتبه هؤلاء الناس أنفسهم إلى حقيقة ما انتهى إليه حالهم - وهي الحقيقة التي انتهى إليها حال أهل الكتاب كما يقررها الحكيم الخبير - عسى أن يوقظهم هذا التنبيه إلى تغيير ما بأنفسهم , ليغير اللّه ما بهم من الشقوة والنكد والعذاب الأليم الذي هم فيه مبلسون !(1/393)
وكل تحرج في غير موضعه ; وكل انخداع بالأشكال والظواهر واللافتات ; هو تعويق لنقطة الانطلاق الأولى لأية حركة إسلامية في الأرض جميعاً ; وهو تمكين لأعداء هذا الدين من مكرهم الذي أرادوه بالحرص على إقامة تلك اللافتات بعد ما انكشفت حركة "أتاتورك" في التاريخ الحديث ; وباتت عاجزة عن المضي خطوة واحدة بعد إلغاء آخر مظهر من مظاهر التجمع الإسلامي على أساس العقيدة . نظراً لانكشاف وجهتها هذا الانكشاف الصريح . . مما دعا كاتباً صليبياً شديد المكر عميق الخبث مثل "ولفرد كانتول سميث" في كتابه:"الإسلام في التاريخ الحديث" إلى محاولة تغطية حركة أتاتورك مرة أخرى , ونفي الإلحاد عنها , واعتبارها أعظم وأصح حركة بعث "إسلامي" [ كذا ] في التاريخ الحديث !!!
- - - - - - - - - - - -
53.
الحث على الجهاد في سبيل الله(1/394)
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) } سورة التوبة(1/395)
يُعَاتِبُ اللهُ تَعَالَى مَنْ تَخَلَّفَ ، مِنَ المُؤْمِنِينَ ، عَنْ رَسُولِ اللهِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ، حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلاَلُ ، وَكَانَ الْوَقْتُ حَارّاً قَائِظاً ، فَيَقُولُ تَعَالَى لَهُمْ : مَا لَكُمْ أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ إِذَا دُعِيْتُمْ إِلَى الجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَكَاسَلْتُمْ وَتَبَاطَأْتُمْ ، وَمِلْتُمْ إِلَى الدَّعَةِ وَالإِقَامَةِ فِي الظِّلِ وَطِيبِ الثِّمَارِ؟ أَفَعَلْتُمْ ذَلِكَ رِضاً مِنْكُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا بَدَلاً مِنَ الآخِرَةِ؟ وَمَا قِيمَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا مَتَاعُهَا إِلاَّ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الآخِرَةِ ، إِذْ يَنْتَظِرُونَ المُؤْمِنِينَ رِضْوانٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ، وَجَنَّاتٌ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ .
وَإِذَا لَمْ تَنْفِرُوا مَعَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم ، وَلَمْ تَخْرُجُوا مَعَهُ إِلَى الجِهَادِ فَإِنَّ اللهَ سَيُعَذِّبُكُمْ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا ، بِزَوَالِ النِّعْمَةِ وَغَيْرِهَا عَنْكُمْ ، وَفِي الآخِرَةِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ، وَلاَ يَصْعُبُ عَلَى اللهِ أَنٍ يَسْتَبْدِلَ قَوْماً غَيْرَكُمْ بِكُمْ ، يَخِفُّونَ لِنُصْرَةِ نَبِيِّهِ ، وَيُجَاهِدُونَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيءٍ ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَضُرُّ اللهَ ، لأَنَّهُ الغَنِيُّ عَنِ العِبَادِ ، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ .(1/396)
يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ إِذَا لَمْ تَنْصُرُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ اللهَ نَاصِرُهُ وَمُؤَيِّدُهُ وَكَافِيهِ ، كَمَا تَوَلَّى نَصْرَهُ حِينَ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَكَّةَ حِينَ هَاجِرَ ، فَخَرَجَ مِنْهَا هَارِباً بِصُحْبَةِ صَدِيقِهِ وَصَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ ، فَلَجَأَ إلَى غَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ، وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ فِي آثَارِهِمَا حَتَّى وَقَفُوا بِبَابِ الغَارِ ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكرٍ جَزِعاً : لَوْ نَظَرَ أَحَدُهُمْ مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ لَرَآنَا . فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم : مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا؟ فَأَنْزَلَ اللهُ طُمَأْنِينَتَهُ وَتَأْيِيدَهُ وَنَصْرَهُ عَلَى رَسُولِهِ ، وَأَيَّدَهُ بِالمَلاَئِكَةِ تَحْفَظَهُ وَتَحْمِيهِ ( بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ) ، وَجَعَلَ كَلِمَةَ الشِّرْكِ وَأَهْلَهُ السُّفْلَى ، وَجَعَلَ كَلِمَةَ الإِيمَانِ ( لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ ) هِيَ الْعُلْيَا ، وَاللهُ عَزِيزٌ فِي انْتِقَامِهِ وَانْتِصَارِهِ ، وَهُوَ مَنِيعُ الْجَانِبِ لاَ يُضَامُ ، وَهُوَ حَكِيمٌ فِي شَرْعِهِ وَتَدْبِيرِهِ .(1/397)
أَمَرَ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِالنَّفِيرِ الْعَامِّ ، وَالْخُرُوجِ جَمِيعاً مَعَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَعَاهُمْ إِلَى الجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَأَلْزَمَهُمْ بِالخُرُوجِ عَلَى كُلِّ حَالٍ فِي المَنْشَطِ وَالمَكْرَهِ ، وَالْعُسْرِ وَالْيُسْرِ ، فَقَالَ انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً ، وَأَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ ، وَرُكْبَاناً وَمُشَاةً وَأَقْوِيَاءَ وَضُعَفَاءَ ، لأَنَّ فِي ذَلِكَ خَيْرُ المُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا ، لأَنَّهُ لاَ عِزَّ لِلأُمَمِ ، وَلاَ سِيَادَةَ إِلاَّ بِالْقُوَّةِ الحَرْبِيَّةِ ، وَفِيهِ أَيْضاً خَيْرُهُمْ فِي الدِّينِ لأَنَّهُ لاَ سَعَادَةَ لِمَنْ لَمْ يَنْصُرِ الحَقَّ ، وَيُقِمِ العَدْلَ بِاتِّبَاعِ الْهُدَى وَالعَمَلِ بِشَرْعِ اللهِ .
وَقَدْ نُسِخَتْ هَذِهِ الآيَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ . }
-----------------
إنها ثقلة الأرض , ومطامع الأرض , وتصورات الأرض . . ثقلة الخوف على الحياة , والخوف على المال , والخوف على اللذائذ والمصالح والمتاع . . ثقلة الدعة والراحة والاستقرار . . ثقلة الذات الفانية والأجل المحدود والهدف القريب . . . ثقلة اللحم والدم والتراب . . والتعبير يلقي كل هذه الظلال بجرس ألفاظه:(اثاقلتم) . وهي بجرسها تمثل الجسم المسترخي الثقيل , يرفعه الرافعون في جهد فيسقط منهم في ثقل ! ويلقيها بمعنى ألفاظه: (اثاقلتم إلى الأرض) . . وما لها من جاذبية تشد إلى أسفل وتقاوم رفرفة الأرواح وانطلاق الأشواق .(1/398)
إن النفرة للجهاد في سبيل اللّه انطلاق من قيد الأرض , وارتفاع على ثقلة اللحم والدم ; وتحقيق للمعنى العلوى في الإنسان , وتغليب لعنصر الشوق المجنح في كيانه على عنصر القيد والضرورة ; وتطلع إلى الخلود الممتد , وخلاص من الفناء المحدود: (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ? فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل) .
وما يحجم ذو عقيدة في اللّه عن النفرة للجهاد في سبيله , إلا وفي هذه العقيدة دخل , وفي إيمان صاحبها بها وهن . لذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - " من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من شعب النفاق " . فالنفاق - وهو دخل في العقيدة يعوقها عن الصحة والكمال - هو الذي يقعد بمن يزعم أنه على عقيدة عن الجهاد في سبيل اللّه خشية الموت أو الفقر , والآجال بيد اللّه , والرزق من عند اللّه . وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل .
ومن ثم يتوجه الخطاب إليهم بالتهديد: (إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم , ولا تضروه شيئاً , واللّه على كل شيء قدير) . .
والخطاب لقوم معينين في موقف معين . ولكنه عام في مدلوله لكل ذوي عقيدة في اللّه . والعذاب الذي يتهددهم ليس عذاب الآخرة وحده , فهو كذلك عذاب الدنيا . عذاب الذلة التي تصيب القاعدين عن الجهاد والكفاح , والغلبة عليهم للأعداء , والحرمان من الخيرات واستغلالها للمعادين ; وهم مع ذلك كله يخسرون من النفوس والأموال أضعاف ما يخسرون في الكفاح والجهاد ; ويقدمون على مذبح الذل أضعاف ما تتطلبه منهم الكرامة لو قدموا لها الفداء . وما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب اللّه عليها الذل , فدفعت مرغمة صاغرة لأعدائها أضعاف ما كان يتطلبه منها كفاح الأعداء . . (ويستبدل قوماً غيركم)
يقومون على العقيدة , ويؤدون ثمن العزة , ويستعلون على أعداء اللّه : (ولا تضروه شيئاً) . .
ولا يقام لكم وزن , ولا تقدمون أو تؤخرون في الحساب !
((1/399)
واللّه على كل شيء قدير) . .لا يعجزه أن يذهب بكم , ويستبدل قوماً غيركم , ويغفلكم من التقدير والحساب !
إن الاستعلاء على ثقلة الأرض وعلى ضعف النفس , إثبات للوجود الإنساني الكريم . فهو حياة بالمعنى العلوي للحياة:وإن التثاقل إلى الأرض والاستسلام للخوف إعدام للوجود الإنساني الكريم . فهو فناء في ميزان اللّه وفي حساب الروح المميزة للإنسان.ويضرب اللّه لهم المثل من الواقع التاريخي الذي يعلمونه , على نصرة اللّه لرسوله بلا عون منهم ولا ولاء , والنصر من عند اللّه يؤتيه من يشاء: (إلا تنصروه فقد نصره اللّه إذ أخرجه الذين كفروا , ثاني اثنين إذ هما في الغار . إذ يقول لصاحبه:لا تحزن إن اللّه معنا . فأنزل اللّه سكينته عليه , وأيده بجنود لم تروها , وجعل كلمة الذين كفروا السفلى , وكلمة اللّه هي العليا , واللّه عزيز حكيم) . .ذلك حين ضاقت قريش بمحمد ذرعاً , كما تضيق القوة الغاشمة دائماً بكلمة الحق , لا تملك لها دفعاً , ولا تطيق عليها صبراً , فائتمرت به , وقررت أن تتخلص منه ; فأطلعه اللّه على ما ائتمرت , وأوحى إليه بالخروج , فخرج وحيداً إلا من صاحبه الصدّيق , لا جيش ولا عدة , وأعداؤه كثر , وقوتهم إلى قوته ظاهرة . والسياق يرسم مشهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه: (إذ هما في الغار) .
والقوم على إثرهما يتعقبون , والصديق - رضي اللّه عنه - يجزع - لا على نفسه ولكن على صاحبه - أن يطلعوا عليهما فيخلصوا إلى صاحبه الحبيب , يقول له:لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه . والرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد أنزل اللّه سكينته على قلبه , يهدئ من روعه ويطمئن من قلبه فيقول له:" يا أبا بكر ما ظنك باثنين اللّه ثالثهما ? " .(1/400)
ثم ماذا كانت العاقبة , والقوة المادية كلها في جانب , والرسول - صلى الله عليه وسلم - مع صاحبه منها مجرد ? كان النصر المؤزر من عند اللّه بجنود لم يرها الناس . وكانت الهزيمة للذين كفروا والذل والصغار: (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى) .وظلت كلمة اللّه في مكانها العالي منتصرة قوية نافذة: (وكلمة اللّه هي العليا) . .وقد قرئ (وكلمة اللّه) بالنصب . ولكن القراءة بالرفع أقوى في المعنى . لأنها تعطي معنى التقرير . فكلمة اللّه هي العليا طبيعة وأصلاً , بدون تصيير متعلق بحادثة معينة . واللّه(عزيز) لا يذل أولياؤه(حكيم) يقدر النصر في حينه لمن يستحقه .
ذلك مثل على نصرة اللّه لرسوله ولكلمته ; واللّه قادر على أن يعيده على أيدي قوم آخرين غير الذين يتثاقلون ويتباطأون . وهو مثل من الواقع إن كانوا في حاجة بعد قول اللّه إلى دليل !
وفي ظلال هذا المثل الواقع المؤثر يدعوهم إلى النفرة العامة , لا يعوقهم معوق . ولا يقعد بهم طارئ , إن كانوا يريدون لأنفسهم الخير في هذه الأرض وفي الدار الاخرة: (انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله . ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) . .
انفروا في كل حال , وجاهدوا بالنفوس والأموال , ولا تتلمسوا الحجج والمعاذير , ولا تخضعوا للعوائق والتعلات .
(ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) .وأدرك المؤمنون المخلصون هذا الخير , فنفروا والعوائق في طريقهم , والأعذار حاضرة لو أرادوا التمسك بالأعذار . ففتح اللّه عليهم القلوب والأرضين , وأعز بهم كلمة اللّه , وأعزهم بكلمة اللّه , وحقق على أيديهم ما يعد خارقة في تاريخ الفتوح .(1/401)
قرأ أبو طلحة - رضي اللّه عنه - سورة براءة فأتى على هذه الآية فقال:أرى ربنا استنفرنا شيوخاً وشباناً , جهزوني يا بني . فقال بنوه:يرحمك اللّه قد غزوت مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم حتى مات , ومع أبي بكر حتى مات , ومع عمر حتى مات , فنحن نغزو عنك . فأبى فركب البحر فمات , فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد تسعة أيام , فلم يتغير , فدفنوه بها .
وروى ابن جرير بإسناده - عن أبي راشد الحراني قال:" وافيت المقداد بن الأسود فارس رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - جالساً على تابوت من توابيت الصيارفة , وقد فضل عنها من عظمه يريد الغزو ; فقلت له قد قد أعذر اللّه إليك . فقال:أتت علينا سورة البعوث . "
(انفروا خفافاً وثقالاً) .
وروى كذلك بإسناده - عن حيان بن زيد الشرعبي قال:نفرنا مع صفوان بن عمرو , وكان والياً على حمص قبل الأفسوس إلى الجراجمة فرأيت شيخا كبيراً هما , قد سقط حاجباه على عينيه من أهل دمشق على راحلته فيمن أغار , فأقبلت إليه فقلت:يا عم لقد أعذر اللّه إليك . قال:فرفع حاجبيه فقال يا ابن أخي استنفرنا اللّه , خفافاً وثقالاً . ألا إنه من يحبه اللّه يبتليه , ثم يعيده فيبقيه , وإنما يبتلي اللّه من عباده من شكر وصبر وذكر , ولم يعبد إلا اللّه عز وجل .
وبمثل هذا الجد في أخذ كلمات اللّه انطلق الإسلام في الأرض , يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة اللّه وحده , وتمت تلك الخارقة في تلك الفتوح التحريرية الفريدة .
- - - - - - - - - - - -
54.
الأمرُ بتقوى الله ومتابعة الصادقين(1/402)
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)} سورة التوبة
يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ، وَرَاقِبُوهُ بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ وَوَاجِبَاتِهِ ، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ ، وَاصْدقوا وَالزَمُوا الصِّدْقَ تَكُونُوا أَهْلَهُ ، وَتَنْجُوا مِنَ المَهَالِكِ ، وَيَجْعَلُ اللهُ لَكُمْ فَرَجاً مِنْ أُمُورِكِمْ وَمَخْرَجاً .(1/403)
يُعَاتِبُ اللهُ تَعَالَى المُتَخَلِّفِينَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ، عَلَى تَخَلُّفِهِمْ عَنْ نَبِيِّهِمْ ، وَإِيثَارِهِمْ أَنْفُسَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ الكَرِيمَةِ وَيَخُصُّ بِالعِتَابِ أَهْلَ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ ، فَإِنَّهُمْ نَقَصُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الأَجْرِ ، لأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ عَطَشٌ وَلاَ تَعَبٌ وَلاَ مَجَاعَةٌ ( مَخْمَصَةٌ ) ، وَلاَ يَنْزِلُونَ مَنْزِلاً يُرْهِبُ الكُفَّارَ ، وَيَغِيظُهُمْ ، وَلاَ يُحَقِّقُونَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ ظَفَراً وَغَلَبَةً . . إِلاَّ كَتَبَ اللهُ لَهُمْ بِهذِهِ الأَعْمَالِ ، ثَوَابَ عَمَلٍ صَالِحٍ جَزِيلٍ ، وَاللهُ تَعَالَى لاَ يُضَيِّعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً .
وَلاَ يُنْفِقُ هؤُلاَءِ الغُزَاةُ قَليلاً وَلاَ كَثِيراً فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً فِي سَيْرِهِمْ إِلَى أَعْدَائِهِمْ ، إِلاَّ كَتَبَ لَهُمْ ، وَسُجِّلَ فِي صَحِيفَةِ أَعْمَالِهِمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ عَلَيهِ جَزَاءً أَحْسَنَ مِنْ جَزَائِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الجَلِيلَةِ فِي غَيْرِ الجِهَادِ ، فَالنَّفَقَةُ الصَّغِيرَةُ فِي الجِهَادِ كَالنَّفَقَةِ الكَبِيرَةِ فِي غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ المَبَرَّاتِ .(1/404)
الجِهَادُ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا قَامَ بِهِ البَعْضُ سَقَطَ عَنِ البَاقِينَ . وَلكِنْ إِذَا غَزَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَنَدَبَ النَّاسَ إِلَى الخُرُوجِ مَعَهُ لَمْ يَحِلَّ لأَحَدٍ مِنَ المُسْلِمِينَ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ إِلاَّ أَهْلَ الأَعْذَارِ . وَحِينَمَا نَزَلَتِ الآيَاتُ السَّابِقَاتُ فِي التَّشَديدِ عَلَى المُتَخَلِّفِينَ ، قَالُوا : لاَ يَتَخَلَّفُ مِنَّا أَحَدٌ عَنْ جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَبَداً ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ ، وَبَقِيَ الرَّسُولُ وَحْدَهُ . فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ . وَفِيهَا يُبَيِّنُ اللهُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّ عَليهِمْ أَلاَّ يَنْفِرُوا جَمِيعاً ، لِيَبقَى قُربَ رَسُولِ اللهِ أُنَاسٌ يَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ ، حَتَّى إِذَا عَادَ الغُزَاةُ إِلَى أَهْلِهِمْ أَعْلَمُوهُمْ بِمَا نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ فِي غَيْبَتِهِمْ ، وَبِمَا اسْتَجَدَّ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ ، وَتَعْلِيمَاتِ الرَّسُولِ ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ المُسْلِمُونَ جَمِيعاً عَلَى عِلْمٍ بِأُمُورِ دِينِهِمْ .(1/405)
إن أهل المدينة هم الذين تبنوا هذه الدعوة وهذه الحركة , فهم أهلها الأقربون . وهم بها ولها . وهم الذين آووا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وبايعوه ; وهم الذين باتوا يمثلون القاعدة الصلبة لهذا الدين في مجتمع الجزيرة كله . وكذلك القبائل الضاربة من حول المدينة وقد أسلمت ; وباتت تؤلف الحزام الخارجي للقاعدة . . فهؤلاء وهؤلاء ليس لهم أن يتخلفوا عن رسول اللّه , وليس لهم أن يؤثروا أنفسهم على نفسه . . وحين يخرج رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في الحر أوالبرد . في الشدة أو الرخاء . في اليسر أو العسر . ليواجه تكاليف هذه الدعوة وأعباءها , فإنه لا يحق لأهل المدينة , أصحاب الدعوة , ومن حولهم من الأعراب , وهم قريبون من شخص رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ولا عذر لهم في ألا يكونوا قد علموا , أن يشفقوا على أنفسهم مما يحتمله رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
من أجل هذه الاعتبارات يهتف بهم أن يتقوا اللّه وأن يكونوا مع الصادقين , الذين لم يتخلفوا , ولم تحدثهم نفوسهم بتخلف , ولم يتزلزل إيمانهم في العسرة ولم يتزعزع . . وهم الصفوة المختارة من السابقين والذين اتبعوهم بإحسان: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وكونوا مع الصادقين) .
ثم يمضي السياق بعد هذا الهتاف مستنكراً مبدأ التخلف عن رسول اللّه: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله , ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه) .
وفي التعبير تأنيب خفي . فما يؤنب أحد يصاحب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم بأوجع من أن يقال عنه:إنه يرغب بنفسه عن نفس رسول اللّه , وهو معه , وهو صاحبه !
وإنها لإشارة تلحق أصحاب هذه الدعوة في كل جيل . فما كان لمؤمن أن يرغب بنفسه عن مثل ما تعرضت له نفس رسول الله في سبيل هذه الدعوة ; وهو يزعم أنه صاحب دعوة ; وأنه يتأسى فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم !(1/406)
إنه الواجب الذي يوجبه الحياء من رسول اللّه - فضلاً على الأمر الصادر من اللّه ومع هذا فالجزاء عليه ما أسخاه !
ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل اللّه , ولا يطأون موطئاً يغيظ الكفار , ولا ينالون من عدو نيلاً , إلا كتب لهم به عمل صالح , إن اللّه لا يضيع أجر المحسنين . ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة , ولا يقطعون وادياً , إلا كتب لهم , ليجزيهم اللّه أحسن ما كانوا يعملون . .
إنه على الظمأ جزاء , وعلى النصب جزاء , وعلى الجوع جزاء . وعلى كل موطئ قدم يغيظ الكفار جزاء . وعلى كل نيل من العدو جزاء . يكتب به للمجاهد عمل صالح , ويحسب به من المحسنين الذين لا يضيع لهم اللّه أجراً .
وإنه على النفقة الصغيرة والكبيرة أجر . وعلى الخطوات لقطع الوادي أجر . . أجر كأحسن ما يعمل المجاهد في الحياة .
ألا واللّه , إن اللّه ليجزل لنا العطاء . وإنها واللّه للسماحة في الأجر والسخاء . وإنه لما يخجل أن يكون ذلك كله على أقل مما احتمله رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - من الشدة واللأواء . في سبيل هذه الدعوة التي نحن فيها خلفاء , وعليها بعده أمناء!(1/407)
ويبدو أن تنزل القرآن في هذه السورة بالنكير على المتخلفين ; والتنديد بالتخلف وبخاصة من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ; قد جعل الناس يتزاحمون في المدينة ليكونوا رهن إشارة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وبخاصة من القبائل المحيطة بالمدينة . مما اقتضى بيان حدود النفير العام - في الوقت المناسب للبيان من الناحية الواقعية - فقد اتسعت رقعة الأرض الإسلامية حتى كادت الجزيرة كلها تدين للإسلام , وكثر عدد الرجال المستعدين للجهاد , وقد بلغ من عددهم - بعد تخلف المتخلفين في تبوك - نحواً من ثلاثين ألفاً , الأمر الذي لم يتهيأ من قبل في غزوة من غزوات المسلمين . وقد آن أن تتوزع الجهود في الجهاد وفي عمارة الأرض وفي التجارة وفي غيرها من شؤون الحياة التي تقوم بها أمة ناشئة ; وهي تختلف عن مطالب القبيلة الساذجة , وعن حاجات المجتمع القبلي الأولية . . ونزلت الآية التالية تبين هذه الحدود في جلاء: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة , فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة , ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) . .(1/408)
ولقد وردت روايات متعددة في تفسير هذه الآية , وتحديد الفرقة التي تتفقه في الدين وتنذر قومها إذا رجعت إليهم . .والذي يستقيم عندنا في تفسير الآية:أن المؤمنين لا ينفرون كافة . ولكن تنفر من كل فرقة منهم طائفة - على التناوب بين من ينفرون ومن يبقون - لتتفقه هذه الطائفة في الدين بالنفير والخروج والجهاد والحركة بهذه العقيدة ; وتنذر الباقين من قومها إذا رجعت إليهم , بما رأته وما فقهته من هذا الدين في أثناء الجهاد والحركة . .والوجه في هذا الذي ذهبنا إليه - وله أصل من تأويل ابن عباس - رضي اللّه عنهما - ومن تفسير الحسن البصري , واختيار ابن جرير , وقول لابن كثير - أن هذا الدين منهج حركي , لا يفقهه إلا من يتحرك به ; فالذين يخرجون للجهاد به هم أولى الناس بفقهه ; بما يتكشف لهم من أسراره ومعانيه ; وبما يتجلى لهم من آياته وتطبيقاته العملية في أثناء الحركة به . أما الذين يقعدون فهم الذين يحتاجون أن يتلقوا ممن تحركوا ,لأنهم لم يشاهدوا ما شاهد الذين خرجوا ; ولا فقهوا فقههم ; ولا وصلوا من أسرار هذا الدين إلى ما وصل إليه المتحركون وبخاصة إذا كان الخروج مع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - والخروج بصفة عامة أدنى إلى الفهم والتفقه .ولعل هذا عكس ما يتبادر إلى الذهن , من أن المتخلفين عن الغزو والجهاد والحركة , هم الذين يتفرغون للتفقه في الدين ! ولكن هذا وهم , لا يتفق مع طبيعة هذا الدين . . إن الحركة هي قوام هذا الدين ; ومن ثم لا يفقهه إلا الذين يتحركون به , ويجاهدون لتقريره في واقع الناس , وتغليبه على الجاهلية , بالحركة العملية .والتجارب تجزم بأن الذين لا يندمجون في الحركة بهذا الدين لا يفقهونه ; مهما تفرغوا لدراسته في الكتب - دراسة باردة ! - وأن اللمحات الكاشفة في هذا الدين إنما تتجلى للمتحركين به حركة جهادية لتقريره في حياة الناس ; ولا تتجلى للمستغرقين في الكتب العاكفين على الأوراق !(1/409)
إن فقه هذا الدين لا ينبثق إلا في أرض الحركة . ولا يؤخذ عن فقيه قاعد حيث تجب الحركة . والذين يعكفون على الكتب والأوراق في هذا الزمان لكي يستنبطوا منها أحكاماً فقهية "يجددون" بها الفقه الإسلامي أو "يطورونه" - كما يقول المستشرقون من الصليبيين ! - وهم بعيدون عن الحركة التي تستهدف تحرير الناس من العبودية للعباد , وردهم إلى العبودية للّه وحده , بتحكيم شريعة اللّه وحدها وطرد شرائع الطواغيت . . هؤلاء لا يفقهون طبيعة هذا الدين ; ومن ثم لا يحسنون صياغة فقه هذا الدين!
إن الفقه الإسلامي وليد الحركة الإسلامية . . فقد وجد الدين أولاً ثم وجد الفقه . وليس العكس هو الصحيح . . وجدت الدينونة للّه وحده , ووجد المجتمع الذي قرر أن تكون الدينونة فيه للّه وحده . . والذي نبذ شرائع الجاهلية وعاداتها وتقاليدها ; والذي رفض أن تكون شرائع البشر هي التي تحكم أي جانب من جوانب الحياة فيه . . ثم أخذ هذا المجتمع يزاول الحياة فعلاً وفق المبادئ الكلية في الشريعة - إلى جانب الأحكام الفرعية التي وردت في أصل الشريعة - وفي أثناء مزاولته للحياة الفعلية في ظل الدينونة للّه وحده , واستيحاء شريعته وحدها , تحقيقاً لهذه الدينونة , جدت له أقضية فرعية بتجدد الحالات الواقعية في حياته . . وهنا فقط بدأ استنباط الأحكام الفقهية , وبدأ نمو الفقه الإسلامي . . الحركة بهذا الدين هي التي أنشأت ذلك الفقه , والحركة بهذا الدين هي التي حققت نموه . ولم يكن قط فقها مستنبطاً من الأوراق الباردة , بعيداً عن حرارة الحياة الواقعة ! . . من أجل ذلك كان الفقهاء متفقهين في الدين , يجيء فقههم للدين من تحركهم به , ومن تحركه مع الحياة الواقعة لمجتمع مسلم حي , يعيش بهذا الدين , ويجاهد في سبيله , ويتعامل بهذا الفقه الناشئ بسبب حركة الحياة الواقعة .(1/410)
فأما اليوم . . "فماذا" . . ? أين هو المجتمع المسلم الذي قرر أن تكون دينونته للّه وحده ; والذي رفض بالفعل الدينونة لأحد من العبيد ; والذي قرر أن تكون شريعة اللّه شريعته ; والذي رفض بالفعل شرعية أي تشريع لا يجيء من هذا المصدر الشرعي الوحيد ?
لا أحد يملك أن يزعم أن هذا المجتمع المسلم قائم موجود ! ومن ثم لا يتجه مسلم يعرف الإسلام ويفقه منهجه وتاريخه , إلى محاولة تنمية الفقه الإسلامي أو "تجديده" أو "تطويره ! " في ظل مجتمعات لا تعترف ابتداء بأن هذا الفقه هو شريعتها الوحيدة التي بها تعيش . ولكن المسلم الجاد يتجه ابتداء لتحقيق الدينونة للّه وحده ; وتقرير مبدأ أن لا حاكمية إلا للّه , وأن لا تشريع ولا تقنين إلا مستمداً من شريعته وحدها تحقيقاً لتلك الدينونة . .إنه هزل فارغ لا يليق بجدية هذا الدين أن يشغل ناس أنفسهم بتنمية الفقه الإسلامي أو "تجديده" أو تطويره في مجتمع لا يتعامل بهذا الفقه ولا يقيم عليه حياته . كما أنه جهل فاضح بطبيعة هذا الدين أن يفهم أحد أنه يستطيع التفقه في هذا الدين وهو قاعد , يتعامل مع الكتب والأوراق الباردة , ويستنبط الفقه من قوالب الفقه الجامدة ! . . إن الفقه لا يستنبط من الشريعة إلا في مجرى الحياة الدافق ; وإلا مع الحركة بهذا الدين في عالم الواقع .(1/411)
إن الدينونة للّه وحده أنشأت المجتمع المسلم ; والمجتمع المسلم أنشأ "الفقه الإسلامي" . . ولا بد من هذا الترتيب . . لا بد أن يوجد مجتمع مسلم ناشى ء من الدينونة لله وحده , مصمم على تنفيذ شريعته وحدها . ثم بعد ذلك - لا قبله - ينشأ فقه إسلامي مفصل على قد المجتمع الذي ينشأ , وليس "جاهزا" معدا من قبل ! ذلك أن كل حكم فقهي هو - بطبيعته - تطبيق للشريعة الكلية على حالة واقعة , ذات حجم معين , وشكل معين , وملابسات معينة . وهذه الحالات تنشئها حركة الحياة , داخل الإطار الإسلامي لا بعيدا عنه , وتحدد حجمها وشكلها وملابساتها ; ومن ثم "يفصل" لها حكم مباشر على "قدها" . . فأما تلك الأحكام "الجاهزة " في بطون الكتب ; فقد "فصلت" من قبل لحالات معينة في أثناء جريان الحياة الإسلامية على أساس تحكيم شريعة الله فعلا . ولم تكن وقتها "جاهزة " باردة ! كانت وقتها حية مليئة بالحيوية ; وعلينا اليوم أن "نفصل" مثلها للحالات الجديدة . . ولكن قبل ذلك يجب أن يوجد المجتمع الذي يقرر ألا يدين لغير اللّه في شرائعه ; وألا يفصل حكما شرعيا إلا من شريعة الله دون سواها .
وفي هذا يكون الجهد الجاد المثمر , اللائق بجدية هذا الدين . وفي هذا يكون الجهاد الذي يفتح البصائر ; ويمكن من التفقه في الدين حقا . . وغير هذا لا يكون إلا هزلا ترفضه طبيعة هذا الدين ; وإلا هروبا من واجب الجهاد الحقيقي تحت التستر بستار "تجديد الفقه الإسلامي" أو "تطويره" ! . . هروب خير منه الاعتراف بالضعف والتقصير ; وطلب المغفرة من الله على التخلف والقعود مع المتخلفين القاعدين !
- - - - - - - - - - - -
55.
وجوبُ البدء قتال الأقرب لنا من الكفار
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (123) سورة التوبة(1/412)
يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ الطَّرِيقَ الأَمْثَلَ فِي قِتَالِ الكُفَّارِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَبْدَؤُوا بِقِتَالِ الأَقْربِ فَالأَقْرَبِ مِنْهُمْ إِلى أَرْضِ الإِسْلاَمِ ، وَبِذلِكَ لاَ يَبْقَى مَجَالٌ لأنْ يُؤْخَذَ المُسْلِمُونَ مِنْ خَلْفِهِمْ مِنْ قِبَلِ أَعْدَائِهِمْ ، إِذَا تَرَكُوا مَنْ هُمْ قُرْبَهُمْ وَذَهَبُوا لِيُقَاتِلُوا مَنْ خَلْفَ أَعْدَائِهِمْ ، وَلِهَذَا بَدَأَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بِقِتَالِ المُشْرِكِينَ فِي جَزِيرَةِ العَرَبِ ، وَلَمَّا انْتَهَى مِنَ العَرَبِ شَرَعَ فِي قِتَالِ أَهْلِ الكِتَابِ فَتَجَهَّزَ لِغَزْوِ الرُّومِ ، لأَنَّهُمْ أَهْلُ الكِتَابِ . وَهَكَذَا كَانَ المُسْلِمُونَ كُلَّمَا عَلَوْا أُمَّةً انْتَقَلُوا إِلَى مَنْ هُمْ بَعْدَهُمْ ، ثُمَّ الذِينَ يَلُونَهُمْ مِنَ العُتَاةِ الفُجَّارِ وَهَكَذَا .
وَيَأْمُرُ اللهُ المُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَكُونُوا أَشِدّاءَ فِي قِتَالِ الكُفَّارِ ، وَأَنْ يُظْهِرُوا لَهُمْ غِلْظَةً وَشِدَّةً وَخُشُونَةً فِي القِتَالِ ، لِيُدْخِلُوا الوَهَنَ إِلَى نُفُوسِهِمْ ، وَنُفُوسِ مَنْ خَلْفَهُمْ . وَمِنْ صِفَاتِ المُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا أَشِدَّاءَ عَلَى الكُفَّارِ ، رُحَمَاءَ بَيْنَهُمْ . وَيُخْبِرُ اللهُ المُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُ مَعَهُمْ يُثَبِّتُهُمْ وَيَنْصُرُهُمْ إِذَا اتَّقَوْهُ وَأَطَاعُوهُ .(1/413)
لقد سارت عليها الفتوح الإسلامية , تواجه من يلون "دار الإسلام" ويجاورونها , مرحلة فمرحلة . فلما أسلمت الجزيرة العربية - أو كادت ولم تبق إلا فلول منعزلة لا تؤلف قوة يخشى منها على دار الإسلام بعد فتح مكة - كانت غزوة تبوك على أطراف بلاد الروم . ثم كان انسياح الجيوش الإسلامية في بلاد الروم وفي بلاد فارس , فلم يتركوا وراءهم جيوبا ; ووحدت الرقعة الإسلامية , ووصلت حدودها , فإذا هي كتلة ضخمة شاسعة الأرجاء , متماسكة الأطراف ; . . ثم لم يأتها الوهن فيما بعد إلا من تمزقها , وإقامة الحدود المصطنعة فيما بينها على أساس ملك البيوت , أو على أساس القوميات ! وهي خطة عمل أعداء هذا الدين على التمكين لها جهد طاقتهم وما يزالون يعملون . وستظل هذه الشعوب التي جعل منها الإسلام "أمة واحدة " في "دار الإسلام" المتصلة الحدود - وراء فواصل الأجناس واللغات والأنساب والألوان - ستظل ضعيفة مهيضة إلا أن تثوب إلى دينها , وإلى رايته الواحدة ; وإلا أن تتبع خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتدرك أسرار القيادة الربانية التي كفلت لها النصر والعز والتمكين .
ونقف مرة أخرى أمام قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة , واعلموا أن الله مع المتقين) . .
فنجد أمرا بقتال الذين يلون المسلمين من الكفار . لا يذكر فيه أن يكونوا معتدين على المسلمين ولا على ديارهم . . وندرك أن هذا هو الأمر الأخير , الذي يجعل "الانطلاق" بهذا الدين هو الأصل الذي ينبثق منه مبدأ الجهاد , وليس هو مجرد "الدفاع" كما كانت الأحكام المرحلية أول العهد بإقامة الدولة المسلمة في المدينة .(1/414)
ويريد بعض الذين يتحدثون اليوم عن العلاقات الدولية في الإسلام , وعن أحكام الجهاد في الإسلام , وبعض الذين يتعرضون لتفسير آيات الجهاد في القرآن . . أن يتلمسوا لهذا النص النهائي الأخير قيدا من النصوص المرحلية السابقة ; فيقيدوه بوقوع الاعتداء أو خوف الاعتداء ! والنص القرآني بذاته مطلق , وهو النص الأخير ! وقد عودنا البيان القرآني عند إيراد الأحكام , أن يكون دقيقا في كل موضع ; وألا يحيل في موضع على موضع ; بل يتخير اللفظ المحدد ; ويسجل التحفظات والاستثناءات والقيود والتخصيصات في ذات النص . إن كان هناك تحفظ أو استثناء أو تقييد أو تخصيص .
إلا أن الذين يكتبون اليوم عن العلاقات الدولية في الإسلام , وعن أحكام الجهاد في الإسلام , والذين يتصدون لتفسير الآيات المتضمنة لهذه الأحكام , يتعاظمهم ويهولهم أن تكون هذه هي أحكام الإسلام ! وأن يكون الله - سبحانه - قد أمر الذين آمنوا أن يقاتلوا الذين يلونهم من الكفار , وأن يظلوا يقاتلون من يلونهم من الكفار , كلما وجد هناك من يلونهم من الكفار ! . . يتعاظمهم ويهولهم أن يكون الأمر الإلهي هكذا , فيروحون يتلمسون القيود للنصوص المطلقة ; ويجدون هذه القيود في النصوص المرحلية السابقة !
إننا نعرف لماذا يهولهم هذا الأمر ويتعاظمهم على هذا النحو . .(1/415)
إنهم ينسون أن الجهاد في الإسلام جهاد في "سبيل الله" . . جهاد لتقرير ألوهية الله في الأرض وطرد الطواغيت المغتصبة لسلطان الله . . جهاد لتحرير "الإنسان" من العبودية لغير الله , ومن فتنته بالقوة عن الدينونة لله وحده والانطلاق من العبودية للعباد . . (حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) . . وأنه ليس جهادا لتغليب مذهب بشري على مذهب بشري مثله . إنما هو جهاد لتغليب منهج الله على مناهج العبيد ! وليس جهادا لتغليب سلطان قوم على سلطان قوم , إنما هو جهاد لتغليب سلطان الله على سلطان العبيد ! وليس جهادا لإقامة مملكة لعبد , إنما هو جهاد لإقامة مملكة الله في الأرض . . ومن ثم ينبغي له أن ينطلق في "الأرض" كلها , لتحرير "الإنسان" كله . بلا تفرقة بين ما هو داخل في حدود الإسلام وبين ما هو خارج عنها . . فكلها "أرض" يسكنها "الإنسان" وكلها فيها طواغيت تعبد العباد للعباد !
وحين ينسون هذه الحقيقة يهولهم طبعا أن ينطلق منهج ليكتسح كل المناهج , وأن تنطلق أمة لتخضع سائر الأمم . . إنها في هذا الوضع لا تستساغ ! وهي فعلا لا تستساغ ! . . لولا أن الأمر ليس كذلك . وليس له شبيه فيما بين أنظمة البشر اليوم من إمكان التعايش ! إنها كلها اليوم أنظمة بشرية . فليس لواحد منها أن يقول:إنه هو وحده صاحب الحق في البقاء ! وليس الحال كذلك في نظام إلهي يواجه أنظمة بشرية ; ليبطل هذه الأنظمة كلها ويدمرها كي يطلق البشر جميعا من ذلة العبودية للعباد ; ويرفع البشر جميعا إلى كرامة العبودية لله وحده بلا شريك !ثم إنه يهولهم الأمر ويتعاظمهم لأنهم يواجهون هجوما صليبيا منظما لئيما ماكرا خبيثا يقول لهم:إن العقيدة الإسلامية قد انتشرت بالسيف , وأن الجهاد كان لإكراه الآخرين على العقيدة الإسلامية ; وانتهاك حرمة حرية الاعتقاد !(1/416)
والمسألة على هذا الوضع لا تكون مستساغة . . لولا أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق . . إن الإسلام يقوم على قاعدة: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) . . ولكن لماذا ينطلق إذن بالسيف مجاهدا ; ولماذا اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة (يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون) ? . . إنه لأمر آخر غير الإكراه على العقيدة كان هذا الجهاد . . بل لأمر مناقض تماما للإكراه على العقيدة . . إنه لضمان حرية الاعتقاد كان هذا الجهاد ! . . لأن الإسلام كإعلان عام لتحرير "الإنسان" في "الأرض" من العبودية للعباد ; يواجه دائما طواغيت في الأرض يخضعون العباد للعباد . ويواجه دائما أنظمة تقوم على أساس دينونة العبيد للعبيد ; تحرس هذه الأنظمة قوة الدولة أو قوة تنظيمية في صورة من الصور ; وتحول دون الناس في داخلها ودون سماع الدعوة الإسلامية ; كما تحول دونهم ودون اعتناق العقيدة إذا ارتضتها نفوسهم , أو تفتنهم عنها بشتى الوسائل . . وفي هذا يتمثل انتهاك حرية الاعتقاد بأقبح أشكاله . . ومن هنا ينطلق الإسلام بالسيف ليحطم هذه الأنظمة , ويدمر هذه القوى التي تحميها . . ثم ماذا ? . . ثم يترك الناس - بعد ذلك - أحرارا حقا في اختيار العقيدة التي يريدونها . إن شاءوا دخلوا في الإسلام , فكان لهم ما للمسلمين من حقوق , وعليهم ما عليهم من واجبات , وكانوا إخوانا في الدين للسابقين في الإسلام ! وإن شاءوا بقوا على عقائدهم وأدوا الجزية , إعلانا عن استسلامهم لانطلاق الدعوة الإسلامية بينهم بلا مقاومة ; ومشاركة منهم في نفقات الدولة المسلمة التي تحميهم من اعتداء الذين لم يستسلموا بعد , وتكفل العاجز منهم والضعيف والمريض كالمسلمين سواء بسواء .(1/417)
إن الإسلام لم يكره فردا على تغيير عقيدته ; كما انطلقت الصليبية على مدار التاريخ تذبح وتقتل وتبيد شعوبا بأسرها - كشعب الأندلس قديما وشعب زنجبار حديثا - لتكرههم على التنصر . وأحيانا لا تقبل منهم حتى التنصر , فتبيدهم لمجرد أنهم مسلمون . . وأحيانا لمجرد أنهم يدينون بمذهب نصراني مخالف لمذهب الكنيسة الرسمية . . وقد ذهب مثلا اثنا عشر ألفا من نصارى مصر ضحايا بصور بشعة إذ أحرقوا أحياء على نار المشاعل لمجرد مخالفتهم لجزئية اعتقادية عن كنيسة روما تتعلق بانبثاق الروح القدس من الآب فقط , أو من الآب والابن معا ! أو يتعلق بما إذا كان للمسيح طبيعة واحدة لاهوتية , أو طبيعة لاهوتية ناسوتية . . . إلى آخر هذه الجزيئات الاعتقادية الجانبية !
وأخيرا فإن صورة الانطلاق في الأرض لمواجهة من يلون المسلمين من الكفار تهول المهزومين روحيا في هذا الزمان وتتعاظمهم ; لأنهم يبصرون بالواقع من حولهم وبتكاليف هذا الانطلاق فيهولهم الأمر . . وهو يهول فعلا ! . . فهل هؤلاء الذين يحملون أسماء المسلمين , وهم شعوب مغلوبة على أمرها ; أو قليلة الحيلة عموما ! هل هؤلاء هم الذين سينطلقون في الأرض يواجهون أمم الأرض جميعا بالقتال , حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ?! إنه لأمر لا يتصور عقلا . . ولا يمكن أن يكون هذا هو أمر الله فعلا !(1/418)
ولكن فات هؤلاء جميعا أن يروا متى كان هذا الأمر ? وفي أي ظرف ? لقد كان بعد أن قامت للإسلام دولة تحكم بحكم الله ; دانت لها الجزيرة العربية ودخلت في هذا الدين , ونظمت على أساسه . وقبل ذلك كله كانت هناك العصبة المسلمة التي باعت أنفسها لله بيعة صدق , فنصرها الله يوما بعد يوم , وغزوة بعد غزوة , ومرحلة بعد مرحلة . . وأن الزمان قد استدار اليوم كهيئته يوم بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ليدعو الناس - في جاهليتهم - إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . فجاهد والقلة التي معه حتى قامت الدولة المسلمة في المدينة . وأن الأمر بالقتال مر بمراحل وأحكام مترقية حتى انتهى إلى تلك الصورة الأخيرة . . وأن بين الناس اليوم وهذه الصورة أن يبدؤوا من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول . . ثم يصلوا - يوم أن يصلوا - إلى هذه الصورة الأخيرة بإذن الله . . ويومئذ لن يكونوا هم هذا الغثاء الذي تتقاسمه المذاهب والمناهج والأهواء ; والذي تتقاسمه الرايات القومية والجنسية والعنصرية . ولكنهم سيكونون العصبة المسلمة الواحدة التي ترفع راية:لا إله إلا الله . ولا ترفع معها راية أخرى ولا شعارا , ولا تتخذ لها مذهبا ولا منهجا من صنع العبيد في الأرض ; إنما تنطلق باسم الله وعلى بركة الله . .
إن الناس لا يستطيعون أن يفقهوا أحكام هذا الدين , وهم في مثل ما هم فيه من الهزال ! إنه لن يفقه أحكام هذا الدين إلا الذين يجاهدون في حركة تستهدف تقرير ألوهية الله وحده في الأرض ومكافحة ألوهية الطواغيت !
إن فقه هذا الدين لا يجوز أن يؤخذ عن القاعدين , الذين يتعاملون مع الكتب والأوراق الباردة ! إن فقه هذا الدين فقه حياة وحركة وانطلاق . وحفظ ما في متون الكتب . والتعامل مع النصوص في غير حركة , لا يؤهل لفقه هذا الدين , ولم يكن مؤهلا له في يوم من الأيام !(1/419)
وأخيرا فإن الظروف التي نزل فيها قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة , واعلموا أن الله مع المتقين) . .
تشير إلى أن أول المقصودين به كانوا هم الروم . . وهم أهل كتاب . . ولكن لقد سبق في السورة تقرير كفرهم الاعتقادي والعملي , بما في عقيدتهم من انحراف , وبما في واقعهم من تحكيم شرائع العبيد . .
وهذه لفتة لا بد من الوقوف عندها لفقه منهج هذا الدين في الحركة تجاه أهل الكتاب , المنحرفين عن كتابهم , المحتكمين إلى شرائع من صنع رجال فيهم ! . . وهي قاعدة تشمل كل أهل كتاب يتحاكمون - راضين - إلى شرائع من صنع الرجال وفيهم شريعة الله وكتابه , في أي زمان وفي أي مكان !
ثم لقد أمر الله المسلمين أن يقاتلوا الذين يلونهم من الكفار وليجدوا فيهم غلظة , وعقب على هذا الأمر بقوله: (إن الله يحب المتقين) . .
ولهذا التعقيب دلالته . . فالتقوى هنا . . التقوى التي يحب الله أهلها . . هي التقوى التي تنطلق في الأرض تقاتل من يلون المسلمين من الكفار ; وتقاتلهم في "غلظة " أي بلا هوادة ولا تميع ولا تراجع . . حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله .
ولكنه ينبغي أن نعرف وأن يعرف الناس جميعا أنها الغلظة على الذين من شأنهم أن يحاربوا وحدهم - وفي حدود الآداب العامة لهذا الدين - وليست هي الغلظة المطلقة من كل قيد وأدب !
إنه قتال يسبقه إعلان , وتخيير بين:قبول الإسلام , أو أداء الجزية , أو القتال . . ويسبقه نبذ العهد إن كان هناك عهد - في حالة الخوف من الخيانة - [ والأحكام النهائية تجعل العهد لأهل الذمة الذين يقبلون مسالمة الإسلام وأداء الجزية ; ولا عهد في غير هذه الحالة إلا أن يكون بالمسلمين ضعف يجعل الحكم المتعين في حالتهم هذه هو الحكم المرحلي الذي كان في حالة تشبه الحالة التي هم فيها ] .
وهذه آداب المعركة كلها , من وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم:(1/420)
عن بريدة - رضي الله عنه - قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر الأمير على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى ومن معه من المسلمين خيرا , ثم قال:" اغزوا باسم الله , في سبيل الله . قاتلوا من كفر بالله . اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا . فإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال , فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم . ادعهم إلى الإسلام . فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم , ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين , وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما عليهم , فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله تعالى الذي يجري على المؤمنين , ولا يكون لهم من الغنيمة والفيء شيء , إلا أن يجاهدوا مع المسلمين . وإن هم أبوا فسلهم الجزية . فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم . فإن أبوا فاستعن بالله تعالى عليهم وقاتلهم . . . " . . . [ أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي ] .
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال:وجدت امراة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان . . [ أخرجه الشيخان ] .
وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل - رضي الله عنه - إلى أهل اليمن معلما فكانت وصيته له: "إنك تأتي قوما أهل كتاب , فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله , وأني رسول الله . فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم بأن الله تعالى افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة . فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم بأن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم , فترد على فقرائهم . فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم . واتق دعوة المظلوم , فإنه ليس بينهما وبين الله حجاب " .(1/421)
وأخرج أبو داود - بإسناده - عن رجل من جهينة . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لعلكم تقاتلون قوما فتظهرون عليهم فيتقونكم بأموالهم دون أنفسهم وذراريهم , فيصالحونكم على صلح , فلا تصيبوا منهم فوق ذلك , فإنه لا يصلح لكم"
وعن العرباض بن سارية قال:" نزلنا مع رسول الله قلعة خيبر , ومعه من معه من المسلمين . وكان صاحب خيبر رجلا ماردا متكبرا . فأقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:يا محمد ! لكم أن تذبحوا حمرنا , وتأكلوا ثمرنا , وتضربوا نساءنا ? فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:يا ابن عوف اركب فرسك , ثم ناد:إن الجنة لا تحل إلا لمؤمن وأن اجتمعوا للصلاة . فاجتمعوا , ثم صلى بهم , ثم قام فقال:أيحسب أحدكم متكئا على أريكته قد يظن أن الله تعالى لم يحرم شيئا إلا ما في القرآن ! ألا وإني قد وعظت وأمرت ونهيت عن أشياء , إنها لمثل القرآن أو أكثر . وإن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن , ولا ضرب نسائهم , ولا أكل ثمارهم , إذا أعطوا الذي عليهم " .
ورفع إليه صلى الله عليه وسلم بعد إحدى المواقع أن صبية قتلوا بين الصفوف , فحزن حزنا شديدا , فقال بعضهم:ما يحزنك يا رسول الله وهم صبية للمشركين ; فغضب النبي صلى الله عليه وسلم ; وقال - ما معناه - إن هؤلاء خير منكم , إنهم على الفطرة , أو لستم أبناء المشركين . فإياكم وقتل الأولاد . إياكم وقتل الأولاد .
وهذه التعليمات النبوية هي التي سار عليها الخلفاء بعده:
روى مالك عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه قال: ستجدون قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له , ولا تقتلن امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما.
وقال زيد بن وهب:أتانا كتاب عمر - رضي الله عنه - وفيه:"لا تغلوا , ولا تغدروا , ولا تقتلوا وليدا , واتقوا الله في الفلاحين " .(1/422)
ومن وصاياه ! " ولا تقتلوا هرما ولا امرأة ولا وليدا , وتوقوا قتلهم إذا التقى الزحفان , وعند شن الغارات " .
وهكذا تتواتر الأخبار بالخط العام الواضح لمستوى المنهج الإسلامي في قتاله لأعدائه , وفي آدابه الرفيعة , وفي الرعاية لكرامة الإنسان . وفي قصر القتال على القوى المادية التي تحول بين الناس وبين أن يخرجوا من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . وفي اليسر الذي يعامل به حتى أعداءه . أما الغلظة فهي الخشونة في القتال والشدة ; وليست هي الوحشية مع الأطفال والنساء والشيوخ والعجزة , غير المحاربين أصلا ; وليست تمثيلا بالجثث والأشلاء على طريقة المتبربرين الذين يسمون أنفسهم متحضرين في هذا الزمان . وقد تضمن الإسلام ما فيه الكفاية من الأوامر لحماية غير المحاربين , ولاحترام بشرية المحاربين . إنما المقصود هو الخشونة التي لا تميع المعركة ; وهذا الأمر ضروري لقوم أمروا بالرحمة والرأفة في توكيد وتكرار فوجب استثناء حالة الحرب , بقدر ما تقتضي حالة الحرب , دون رغبة في التعذيب والتمثيل والتنكيل .
- - - - - - - - - - - -
56.
الأمر بالركوع والسجود والعبادة
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) }سورة الحج(1/423)
يأمُر اللهُ المؤمِنِينَ بِعِبََادَتِهِ ، وَبِإِقَامَةِ الصَّلاةِ ، وَبِالرُّكُوع والسجُودٍِِِ له ، وَبِفِعْلِِ الخَيْرِ ، لَعَلَّ ذَلِكَ يُوصِلُُهُمْ إلَى الخَيْرِ ، لَعَلََّ ذَلِكَ يُوصِلُهُمْْ إِلَى الخَيْرِ واللفَلاََحِ فيِ الدُّنْيَا والآخِرَةِِ
يَأَمُرُ اللهُ المُؤْمِنِينَ بٍِالجِهَادِ وأَخْلَصَهُُ : بِالأَمْوَالِ والأَنْفْسِ والألْسِنَةِ ، فَقَدْ اصْطفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ ، واخْتَارَهُمْ عَلَى مَنْ سَِِوامهُم ، وَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ مَا لاَ يُطِيقُونَ ، وَلَمْْ يُضَيِّقِ اللهُ عَلَيْهِمِ فِي شَيْءٍٍ مِنْ أُمورِ دِينِِهمِ ، بَلْ وَسَّع عَلَيهم ، فِي شَيْءِ مِنْ أُمورِ دِيِنهِم ، بَلْْ وَسَّعَ عََلَيْهِمِ ، كَمَا وَسَّعَ فِي مِلّةِ إبْرِاهيِمَ عَلَيْهِم فِي شَيْءٍ مِنْ أُمورِ دِيِنِهم ، بَلْ وَسَّعَ عَلَيْهم ، كَمَا وَسَّعَ فِي مِلَّةِ إِبْرِاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامَمُ ( وَنَصَبَ مِلَّةِ ) عَلَى تَقْدِيرِ الزَمُوا مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ) ، وَقَدْ سَمَّاهُم اللهُ تَعَالَى بِالمُسْلِمين فِي شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ وَفِي الكُتُبِ المُتَقَدِّمَةِ ، وَفي هَذَا القُرْآنِ ( مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا ) .(1/424)
وَقَدْ جَعَلَ اللهُ المُسْلِمِينَ أُمَّةً وَسَطاً عُدُولاً لِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ يَوْمِ القِيَامَةِ ، لأَنَّ النَّاسَ جَمِيعاً يَعْتَرِفُونَ بِفَضْلِ المُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ ، فَلِهَذَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَيْهِمِ ، فِي أَنَّ الرُّسُلَ أَبْلَغَتَهُم رِسَالَةَ أَبْلَغَتْهُم رِسَالَةَ رَبِّهِمْ ، والرَّسُولُ يَشْهَدُ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ أَنَّهُ أَبْلَغَهَا مَا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيهِ ، فَلْيُقَابِلِ المُسْلِمُونَ هَذِهِ النِعْمَةَ العَظِيمَةَ بالقِيَامِ بِشُكْرِ اللهِ عَلَيهَا ، وَأداءِ حَقِّ اللهِ فِيمَا فَرَضَهُ عَلَيْهِم ، ومِنْ أَهَمِّ ذَلِكَ إقَامَةُ الصَّلاَةِ وأداؤها حَقَّ أَدَائِها ، وَدفْعُ الزَّكَاةِ ، والاعْتِصَامُ بِاللهِ ، وَالاسْتِعَانَهُ بِهِ ، والاتِّكَالُ عَلَيْهِ ، فَهُوَ مَوْلاَهُمْ وَحَافِظُهُمْ وَنَاصِرُهُمْ ، وَهُوَ نِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّاصِر عَلَى الاَعْداءِ .
( وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ - " بُعِثْتُ بالحَنِيفيَّةِ السَّمْحَةِ " ) . " وَأَوْصَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُعَاذَ بنَ جبَلٍ وَأَبَا مُوسَى حِينَما بَعَثَهُمَا أمِيرَيْنَ عَلَى اليَمَنِ فَقَالَ لَهُمَا : بَشِّرِا وَلاَ تُنَفَّرَا ، وَيَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرا " .
وفي هاتين الآيتين يجمع المنهاج الذي رسمه الله لهذه الأمة ، ويلخص تكاليفها التي ناطها بها ، ويقرر مكانها الذي قدره لها ، ويثبت جذورها في الماضي والحاضر والمستقبل ، متى استقامت على النهج الذي أراده لها الله .
إنه يبدأ بأمر الذين آمنوا بالركوع والسجود . وهما ركنا الصلاة البارزان . ويكني عن الصلاة بالركوع والسجود ليمنحها صورة بارزة ، وحركة ظاهرة في التعبير ، ترسمها مشهداً شاخصاً ، وهيئة منظورة . لأن التعبير على هذا النحو أوقع أثراً وأقوى استجاشة للشعور .(1/425)
ويثني بالأمر العام بالعبادة . هي أشمل من الصلاة . فعبادة الله تشمل الفرائض كلها وتزيد عليها كذلك كل عمل وكل حركة وكل خالجة يتوجه بها الفرد إلى الله . فكل نشاط الإنسان في الحياة يمكن أن يتحول إلى عبادة متى توجه القلب به إلى الله . حتى لذائذه التي ينالها من طيبات الحياة بلفتة صغيرة تصبح عبادات تكتب له بها حسنات . وما عليه إلا أن يذكر الله الذي أنعم بها ، وينوي بها أن يتقوى على طاعته وعبادته فإذا هي عبادات وحسنات ، ولم يتحول في طبيعتها شيء ، ولكن تحول القصد منها والاتجاه!
ويختم بفعل الخير عامة ، في التعامل مع الناس بعد التعامل مع الله بالصلاة والعبادة
يأمر الأمة المسلمة بهذا رجاء أن تفلح . فهذه هي أسباب الفلاح . . العبادة تصلها بالله فتقوم حياتها على قاعدة ثابتة وطريق واصل . وفعل الخير يؤدي إلى استقامة الحياة ، الجماعية على قاعدة من الإيمان وأصالة الاتجاه .
فإذا استعدت الأمة المسلمة بهذه العدة من الصلة بالله واستقامة الحياة ، فاستقام ضميرها واستقامت حياتها . . نهضت بالتبعة الشاقة : { وجاهدوا في الله حق جهاده } . . وهو تعبير شامل جامع دقيق ، يصور تكليفاً ضخماً ، يحتاج إلى تلك التعبئة وهذه الذخيرة وذلك الإعداد . .
{ وجاهدوا في الله حق جهاده } . . والجهاد في سبيل الله يشمل جهاد الأعداء ، وجهاد النفس ، وجهاد الشر والفساد . . كلها سواء . .
{ وجاهدوا في الله حق جهاده } . . فقد انتدبكم لهذه الأمانة الضخمة ، واختاركم لها من بين عباده : { هو اجتباكم } . . وإن هذا الاختيار ليضخم التبعة ، ولا يجعل هنالك مجالاً للتخلي عنها أو الفرار! وإنه لإكرام من الله لهذه الأمة ينبغي أن يقابل منها بالشكر وحسن الأداء!(1/426)
وهو تكليف محفوف برحمة الله : { وما جعلنا عليكم في الدين من حرج } . . وهذا الدين كله بتكاليفه وعباداته وشرائعه ملحوظ فيه فطرة الإنسان وطاقته . ملحوظ في تلبيته تلك الفطرة . وإطلاق هذه الطاقة ، والاتجاه بها إلى البناء والاستعلاء . فلا تبقى حبيسة كالبخار المكتوم . ولا تنطلق انطلاق الحيوان الغشيم!
وهو منهج عريق أصيل في ماضي البشرية ، موصول الماضي بالحاضر : { ملة أبيكم إبراهيم } وهو منبع التوحيد الذي اتصلت حلقاته منذ عهد إبراهيم عليه السلام فلم تنتقطع من الأرض ، ولم تفصل بينها فجوات مضيعة لمعالم العقيدة كالفجوات التي كانت بين الرسالات قبل إبراهيم عليه السلام .
وقد سمى الله هذه الأمة بالمسلمين . سماها كذلك من قبل وسماها كذلك القرآن : { هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا } . .
والإسلام إسلام الوجه والقلب لله وحده بلا شريك . فكانت الأمة المسلمة ذات منهج واحد على تتابع الأجيال والرسل والرسالات . حتى انتهى بها المطاف إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم وحتى سلمت إليها الأمانة ، وعهد إليها بالوصاية على البشرية . فاتصل ماضيها بحاضرها بمستقبلها كما أرادها الله : { ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهدآء على الناس } . . فالرسول صلى الله عليه وسلم يشهد على هذه الأمة ، ويحدد نهجها واتجاهها ، ويقرر صوابها وخطأها . وهي تشهد على الناس بمثل هذا ، فهي القوّامة على البشرية بعد نبيها؛ وهي الوصية على الناس بموازين شريعتها ، وتربيتها وفكرتها عن الكون والحياة . ولن تكون كذلك إلا وهي أمينة على منهجها العريق المتصل الوشائج ، المختار من الله .
- - - - - - - - - - - -
57.
النهي عن اتباع خطوات الشيطان(1/427)
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (21) سورة النور
يَأْمُرُ اللهُ المُؤْمِنِينَ بِأَلاَّ يَتَّبعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَسَالِكَهِ ، وَمَا يَأْمُرُ بِهِ أَوْلِيَاءَهُ ، والشَّيْطَانُ إِنَّمَا يَأْمُرُ أَوْلِيَاءَهُ بِفِعْلِ الفَاحِشَةِ وإِشَاعَتِهَا وارْتِكَابِ المُنْكَرَاتِ ، فَمَنْ اتَّبَعَ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ جَرَّهُ إِلى ارْتِكَابِ هَذِهِ المُوبقَاتِ . وَلَوْلاَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَرْزقُ مَنْ يَشَاءُ التَّوْبَةَ ، والرُّجُوعَ إِلَيْهِ ، وَيُزَكِّي بِهَا النُّفُوسَ وَيُطَهِّرُهَا مِنْ شِرْكِهَا وَفُجُورِهَا وَدَنسِها ، لَمَ تَطَهَّر مِنْكُم أَحَدٌ مِنْ ذَنْبِهِ ، وَلَكَانَتْ عَاقِبَتُهُ النَّكَالَ والوَبَالَ ، وَلَعَاجَلَكُم بالعُقُوبَةِ ، وَلَكِنَّ الله تَعَالَى يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ، واللهُ سَمِيعٌ لأَقْوَالِ العِبَادِ ، عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ مِنْهُم الهِدَايَةَ فَيَهْدِيِهِ .
إنها لصورة مستنكرة أن يخطو الشيطان فيتبع المؤمنون خطاه ، وهم أجدر الناس أن ينفروا من الشيطان وأن يسلكوا طريقاً غير طريقه المشؤوم! صورة مستنكرة ينفر منها طبع المؤمن ، ويرتجف لها وجدانه ، ويقشعر لها خياله! ورسم هذه الصورة ومواجهة المؤمنين بها يثير في نفوسهم اليقظة والحذر والحساسية : { ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر } . . وحديث الإفك نموذج من هذا المنكر الذي قاد إليه المؤمنين الذين خاضوا فيه . وهو نموذج منفر شنيع .(1/428)
وإن الإنسان لضعيف ، معرض للنزعات ، عرضة للتلوث . إلا أن يدركه فضل الله ورحمته . حين يتجه إلى الله ، ويسير على نهجه .
{ َلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
فنور الله الذي يشرق في القلب يطهره ويزكيه . ولولا فضل الله ورحمته لم يزك من أحد ولم يتطهر . والله يسمع ويعلم ، فيزكي من يستحق التزكيه . ويطهر من يعلم فيه الخير والاستعداد { والله سميع عليم } .
- - - - - - - - - - - -
58.
النهي عن دخول بيوت الآخرين إلا بإذن
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) } سورة النور(1/429)
يُؤَدِّبُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ فَيَأْمُرُهُم بِأَلاَّ يَدْخُلُوا بُيوتاً غَيْرَ بُيُوتِهِمْ حَتَّى يَسْتَأْذِنُوا قَبْلَ الدُّخُولِ ( يَسْتَأنِسُوا ) ، وَيُسَلِّمُوا بَعْدَ الاسْتِئْذَانِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَأَذِنُوا ثَلاثَ مَرَّاتٍ ، فَإِذَا أُذِنَ لَهُمْ دَخُلُوا وَإِلاَّ انْصَرَفُوا ، فَالاسْتِئْذَانُ خَيْرٌ لِلمُسْتَأذِنِ وَلأَهْلِ البَيْتِ ، فالبيْتُ سَكَنٌ يَفِيُْ إِلَيْهِ النَّاسُ فَتَسْكُنُ أَرْوَاحُهُمْ ، وَيَطْمَئِنُّونَ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ وَحُرَمَاتِهِم ، وَيُلْقُونَ عَنْهُمْ أَعْبَاءَ الحِرْصِ والحَذَرِ المُرْهِقَةِ للنُّفُوسِ والأَعْصَابِ ، والبُيُوتُ لاَ تَكُونُ كَذَلِكَ إِلاَّ تَكُونُ حَرَمَاً آمِناً لاَ يَسْتَبِيحُهُ أَحَدٌ إِلاَّ بِعِلمِ أَهْلِهِ وإِذْنِهِمْ فِي الوَقتِ الذي يُرِيدُونَ هُمْ .
( وَكَانُوا فِي الجَاهِليَّةِ يَدْخُلُونَ بِدُونِ اسْتِئْذَان ) ثُمَّ يَقُولُونَ لَقَدْ دَخَلْنَا ) .
فَإِذَا لَمْ يَجِدُوا فِي هَذَهِ البُيُوتِ أَحَداً يَأْذَنُ لَهُمْ بِالدُّخُولِ إِلَيْهَا ، كَانَ عَلَيْهِمْ أَلاَّ يَدْخُلُوهَا ، وَإِذَا كَانَ أَهْلُ البَيْتِ فِيهِ ، وَلَمْ يَأْذَنُوا بالدُّخُولِ ، كَانَ عَلَى الزَّائِرِ الانْصِرَافُ ، وَلَيْسَ لَهُ الدُّخُولُ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَغَضبَ ، أو يَسْتَشْعِرَ مِنْ أَهْلِ البَيْتِ الإِسَاءَةَ إِلَيْهِ ، أو النُّفْرَةَ مِنْهُ ، فَلِلنَّاسِ ، أسْرَارُهم وَأَعْذَارُهُم وَيَجِبُ أَنْ يُتْرَكَ لَهُمْ وَحْدَهُمْ حَقُّ تَقْدِيرِ ظُرُوفِهِمْ . وَاللهُ هُوَ المُطَّلِعُ عَلَى خَفَايَا القُلُوبِ ، وهُوَ العَلِيمُ بالدَّوافِعِ .(1/430)
وَلاَ بَأسَ عَلَيْكُم أَيَّها المُؤْمِنُونَ فِي أَنْ تَدْخُلوا بُيوتاً غَيْرَ مُعَدَّةٍ لِسُكْنَى قَوْمٍ مُعَيِّنِينَ ، وَلَكُمْ فِيها مَتَاعٌ ، كالحَمَّامَاتِ ، والفَنَادِقِ ، والخَانَاتِ المُعَدَّةِ لاْسْتِِقْبَالِ العَامَّةِ ، فَإِذَا أُذِنَ لِلزَّائِرِ أَوَّلَ مَرَّةٍ كَفَى ، وَرَقَابَتهُ عَلَى سَرَائِرِكُم وَعَلاَنِيتِكم ، وَفِي هَذِهِ الرَّقَابَةِ ضَمَانَةٌ لِطَاعَةِ القُلُوبِ وامْتِثَالِهَا للأَدَبِ الذي يُؤْدِّبُها بِهِ الله .
---------------
لقد جعل الله البيوت سكناً ، يفيء إليها الناس؛ فتسكن أرواحهم؛ وتطمئن نفوسهم؛ ويأمنون على عوراتهم وحرماتهم ، ويلقون أعباء الحذر والحرص المرهقة للأعصاب!
والبيوت لا تكون كذلك إلا حين تكون حرماً آمناً لا يستبيحه أحد إلا بعلم أهله وإذنهم . وفي الوقت الذي يريدون ، وعلى الحالة التي يحبون أن يلقوا عليها الناس .
ذلك إلى أن استباحة حرمة البيت من الداخلين دون استئذان ، يجعل أعينهم تقع على عورات؛ وتلتقي بمفاتن تثير الشهوات؛ وتهيِّئ الفرصة للغواية ، الناشئة من اللقاءات العابرة والنظرات الطائرة ، التي قد تتكرر فتتحول إلى نظرات قاصدة ، تحركها الميول التي أيقظتها اللقاءات الأولى على غير قصد ولا انتظار؛ وتحولها إلى علاقات آثمة بعد بضع خطوات أو إلى شهوات محرومة تنشأ عنها العقد النفسية والانحرافات.
ولقد كانوا في الجاهلية يهجمون هجوماً ، فيدخل الزائر البيت . ثم يقول : لقد دخلت! وكان يقع أن يكون صاحب الدار مع أهله في الحالة التي لا يجوز أن يراهما عليها أحد . وكان يقع أن تكون المرأة عارية أو مكشوفة العورة هي أو الرجل . وكان ذلك يؤذي ويجرح ، ويحرم البيوت أمنها وسكينتها؛ كما يعرض النفوس من هنا ومن هناك للفتنة ، حين تقع العين على ما يثير .(1/431)
من أجل هذا وذلك أدب الله المسلمين بهذا الأدب العالي . أدب الاستئذان على البيوت ، والسلام على أهلها لإيناسهم ، وإزالة الوحشة من نفوسهم ، قبل الدخول : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها }
ويعبر عن الاستئذان بالاستئناس وهو تعبير يوحي بلطف الاستئذان ، ولطف الطريقة التي يجيء بها الطارق ، فتحدث في نفوس أهل البيت أنساً به ، واستعداداً لاستقباله . وهي لفتة دقيقة لطيفة ، لرعاية أحوال النفوس ، ولتقدير ظروف الناس في بيوتهم ، وما يلابسها من ضرورات لا يجوز أن يشقى بها أهلها ويحرجوا أمام الطارقين في ليل أو نهار .
وبعد الاستئذان إما أن يكون في البيوت أحد من أهلها أو لا يكون . فإن لم يكن أحد فلا يجوز اقتحامها بعد الاستئذان ، لأنه لا دخول بغير إذن : { فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم } . .
وإن كان فيها أحد من أهلها فإن مجرد الاستئذان لا يبيح الدخول؛ فإنما هو طلب للإذن . فإن لم يأذن أهل البيت فلا دخول كذلك . ويجب الانصراف دون تلكؤ ولا انتظار : { وإن قيل لكم : ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم } . .
ارجعوا دون أن تجدوا في أنفسكم غضاضة ، ودون أن تستشعروا من أهل البيت الإساءة إليكم ، أو النفرة منكم . فللناس أسرارهم وأعذارهم . ويجب أن يترك لهم وحدهم تقدير ظروفهم وملابساتهم في كل حين .
{ والله بما تعملون عليم } . . فهو المطلع على خفايا القلوب؛ وعلى ما فيها من دوافع ومثيرات .
فأما البيوت العامة كالفنادق والمثاوى والبيوت المعدة للضيافة منفصلة عن السكن ، فلا حرج في الدخول إليها بغير استئذان ، دفعاً للمشقة ما دامت علة الاستئذان منتفية : { ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم } . .
{(1/432)
والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } . . فالأمر معلق باطلاع الله على ظاهركم وخافيكم؛ ورقابته لكم في سركم وعلانيتكم . وفي هذه الرقابة ضمان لطاعة القلوب ، وامتثالها لذلك الأدب العالي ، الذي يأخذها الله به في كتابه ، الذي يرسم للبشرية نهجها الكامل في كل اتجاه .
إن القرآن منهاج حياة . فهو يحتفل بهذه الجزئية من الحياة الاجتماعية ، ويمنحها هذه العناية ، لأنه يعالج الحياة كلياً وجزئياً ، لينسق بين أجزائها وبين فكرتها الكلية العليا بهذا العلاج . فالاستئذان على البيوت يحقق للبيوت حرمتها التي تجعل منها مثابة وسكناً . ويوفر على أهلها الحرج من المفاجأة ، والضيق بالمباغتة ، والتأذي بانكشاف العورات . . وهي عورات كثيرة ، تعني غير ما يتبادر إلى الذهن عند ذكر هذه اللفظة . . إنها ليست عورات البدن وحدها . إنما تضاف إليها عورات الطعام ، وعورات اللباس ، وعورات الأثاث ، التي قد لا يحب أهلها أن يفاجئهم عليها الناس دون تهيؤ وتجمل وإعداد .
وهي عورات المشاعر والحالات النفسية ، فكم منا يحب أن يراه الناس وهو في حالة ضعف يبكي لانفعال مؤثر ، أو يغضب لشأن مثير ، أو يتوجع لألم يخفيه عن الغرباء؟! .
وكل هذه الدقائق يرعاها المنهج القرآني بهذا الأدب الرفيع ، أدب الاستئذان؛ ويرعى معها تقليل فرص النظرات السانحة والالتقاءات العابرة ، التي طالما أيقظت في النفوس كامن الشهوات والرغبات؛ وطالما نشأت عنها علاقات ولقاءات ، يدبرها الشيطان ، ويوجهها في غفلة عن العيون الراعية ، والقلوب الناصحة ، هنا أو هناك!
ولقد رعاها الذين آمنوا يوم خوطبوا بها أول مرة عند نزول هذه الآيات . وبدأ بها رسول الله عليه الصلاة والسلام .(1/433)
أخرج أبو داود والنسائي من حديث أبي عمر الأوزاعي بإسناده عن قيس بن سعد هو ابن عبادة قال : زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزلنا فقال : « السلام عليكم ورحمة الله » فرد سعد رداً خفياً . قال قيس : فقلت : ألا تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : دعه يكثر علينا من السلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - : « السلام عليكم ورحمة الله » فرد سعد رداً خفياً . ثم قال رسول الله صلى الله عليع وسلم - : « السلام عليكم ورحمة الله » ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتبعه سعد فقال : يا رسول الله إني كنت أسمع تسليمك وأرد عليك رداً خفياً لتكثر علينا من السلام فقال : فانصرف معه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر له سعد بغسل فاغتسل؛ ثم ناوله خميصة مصبوغة بزعفران أو ورس ، فاشتمل بها ، ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ، وهو يقول : « اللهم اجعل صلاتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة » . . الخ الحديث .
وأخرج أبو داود بإسناده عن عبد الله بن بشر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه؛ وكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ، ويقول : « السلام عليكم . السلام عليكم . » ذلك أن الدور لم يكن يومئذ عليها ستور .
وروى أبو داود كذلك بإسناده عن هذيل قال : جاء رجل قال عثمان : سعد فوقف على باب النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن . فقام على الباب قال عثمان : مستقبل الباب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم - : « هكذا عنك أو هكذا فإنما الاستئذان من النظر » .
وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن ، فحذفته بحصاه ففقأت عينه ما كان عليك من جناح » .(1/434)
وروى أبو داود بإسناده عن ربعي قال : أتى رجل من بني عامر استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فقال : أألج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه : « اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان ، فقل له : قل : السلام عليكم . أأدخل؟ » فسمعها الرجل فقال : السلام عليكم . أأدخل؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل.
وقال هشيم : قال مغيرة : قال مجاهد : جاء ابن عمر من حاجة ، وقد آذاه الرمضاء؛ فأتى فسطاط امرأة من قريش ، فقال : السلام عليكم . أأدخل؟ قالت : ادخل بسلام . فأعاد . فأعادت . وهو يراوح بين قدميه . قال : قولي : ادخل . قالت : ادخل . فدخل!
وروى عطاء بن رباح عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قلت أأستأذن على أخواتي أيتام في حجري معي في بيت واحد؟ قال : نعم . فرددت عليه ليرخص لي فأبى ، فقال : تحب أن تراها عريانة؟ قلت : لا . قال : فاستأذن . قال : فراجعته أيضاً . فقال : أتحب أن تطيع الله؟ قال : قلت : نعم . قال : فاستأذن.
وجاء في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يطرق الرجل أهله طروقاً . . وفي رواية : ليلا يتخونهم .
وفي حديث آخر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة نهاراً ، فأناخ بظاهرها وقال : « انتظروا حتى ندخل عشاء يعني آخر النهار حتى تمتشط الشعثة ، وتستحد المغيبة » .
إلى هذا الحد من اللطف والدقة بلغ حس رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته ، بما علمهم الله من ذلك الأدب الرفيع الوضيء ، المشرق بنور الله .(1/435)
ونحن اليوم مسلمون ، ولكن حساسيتنا بمثل هذه الدقائق تبلدت وغلظت . وإن الرجل ليهجم على أخيه في بيته ، في أية لحظة من لحظات الليل والنهار ، يطرقه ويطرقه ويطرقه فلا ينصرف أبداً حتى يزعج أهل البيت فيفتحوا له . وقد يكون في البيت هاتف « تليفون » يملك أن يستأذن عن طريقه ، قبل أن يجيء ، ليؤذن له أو يعلم أن الموعد لا يناسب؛ ولكنه يهمل هذا الطريق ليهجم في غير أوان ، وعلى غير موعد . ثم لا يقبل العرف أن يرد عن البيت وقد جاء مهما كره أهل البيت تلك المفاجأة بلا إخطار ولا انتظار!
ونحن اليوم مسلمون ، ولكننا نطرق إخواننا في أية لحظة في موعد الطعام . فإن لم يقدم لنا الطعام وجدنا في أنفسنا من ذلك شيئاً! ونطرقهم في الليل المتأخر ، فإن لم يدعونا إلى المبيت عندهم وجدنا في أنفسنا من ذلك شيئاً! دون أن نقدر أعذارهم في هذا وذاك!
ذلك أننا لا نتأدب بأدب الإسلام؛ ولا نجعل هوانا تبعاً لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما نحن عبيد لعرف خاطئ ، ما أنزل الله به من سلطان!
ونرى غيرنا ممن لم يعتنقوا الإسلام ، يحافظون على تقاليد في سلوكهم تشبه ما جاء به ديننا ليكون أدباً لنا في النفس ، وتقليداً من تقاليدنا في السلوك .
فيعجبنا ما نراهم عليه أحياناً؛ ونتندر به أحياناً؛ ولا نحاول أن نعرف ديننا الأصيل ، فنفيء إليه مطمئنين .
- - - - - - - - - - - -
59.
وجوبُ الاستئذان داخل البيوت(1/436)
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) } سورة النور
هَذِهِ الآيَةُ تَشْمَلُ آدَابَ الاسْتِئْذَانِ بَيْنَ الأَقَارِبِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ، فَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم والمُؤْمِنِينَ ، بِأَنْ يَسْتَأْذِنَهُمْ خَدَمُهُمْ ( الذين مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) وَأَطْفَالُهُم الذينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُم فِي ثَلاَثَةِ أَحْوَالٍ .
- قَبْلَ صَلاَةِ الفَجْرِ إِذْ يَكُونُ النَّاسُ نِيَاماً فِي فُرشِهِمْ .
- وَوَقْتَ القَيْلُولَةِ بَعْدَ الظَّهِيرَةِ ، لأَنَّ الإِنْسَانَ قَدْ يَضَعُ ثِيَابَهُ وَيَكُونَ فِي تِلْكَ الحَالِ مَعْ أَهْلِهِ .
- وَوَقْتَ النَّوْمِ ( بَعْدَ صَلاَةِ العِشَاءِ ) .(1/437)
فَيُؤْمَرُ الخَدَمُ والأطْفَالُ بِأَلاَّ يَهْجُمُوا عَلَى أَهْلِ البَيْتِ فِي هَذِهِ الأَحْوَالِ . وَقَالَ تَعَالَى إِنَّ هَذِهِ الأَوْقَاتِ هِيَ عَوْرَاتٌ للنَّاسِ . أَمَّا فِي غَيْرِ هَذِهٍ الأَوْقَاتِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمْ إِذَا دَخَلثوا لأَنَّهُمْ فِي خِدْمَةِ البَيْتِ يَطُوفُونَ عَلَيْهِمْ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى إِنَّهُ يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ آياتِهِ وَأَحْكَامَهُ ، وَهُوَ عَلِيمٌ بِمَا فِيهِ المَصْلَحَةُ ، حَكِيمٌ فِيمَا يَشْرَعُ .
فَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ الذينَ كَانُوا يَسْتَأْذِنُونَ فِي العَوْرَاتِ الثَلاَثِ مَبْلَغَ الرِّجَالِ ( الحُلُمَ ) ، وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا عَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الأَحْوَالِ الثَّلاثَةِ كَمَا يَسْتَأْذِنُ مَنْ سَبَقُوهُم فِي البُلُوغِ ، مِنْ وَلَدِ الرَّجُلِ وأَقَارِبِهِ ، وَكَمَا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَكُمْ مَا ذَكَرَ غَايَةَ البيانِ ، كَذَلِكَ يُبَيِّنُ لَكُمْ مَا فِيهِ سَعَادَتُكُم فِي دُنْيَاكُم وَآخِرَتِكُم ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِ خَلْقِهِ ، حَكِيِمٌ فِي شَرْعِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَقَدَرِهِ .
--------------
فالخدم من الرقيق ، والأطفال المميزون لم يبلغوا الحلم يدخلون بلا استئذان . إلا في ثلاثة أوقات تنكشف فيها العورات عادة ، فهم يستأذنون فيها . هذه الأوقات هي : الوقت قبل صلاة الفجر حيث يكون الناس في ثياب النوم عادة أو أنهم يغيرونها ويلبسون ثياب الخروج . ووقت الظهيرة عند القيلولة ، حيث يخلعون ملابسهم في العادة ويرتدون ثياب النوم للراحة . وبعد صلاة العشاء حين يخلعون ملابسهم كذلك ويرتدون ثياب الليل . .(1/438)
وسماها { عورات } لانكشاف العورات فيها . وفي هذه الأوقات الثلاثة لا بد أن يستأذن الخدم ، وأن يستأذن الصغار المميزون الذين لم يبلغوا الحلم ، كي لا تقع أنظارهم على عورات أهليهم . وهو أدب يغفله الكثيرون في حياتهم المنزلية ، مستهينين بآثاره النفسية والعصبية والخلقية ، ظانين أن الخدم لا تمتد أعينهم إلى عورات السادة! وأن الصغار قبل البلوغ لا ينتبهون لهذه المناظر . بينما يقرر النفسيون اليوم بعد تقدم العلوم النفسية أن بعض المشاهد التي تقع عليها أنظار الأطفال في صغرهم هي التي تؤثر في حياتهم كلها؛ وقد تصيبهم بأمراض نفسية وعصبية يصعب شفاؤهم منها .
والعليم الخبير يؤدب المؤمنين بهذه الآداب؛ وهو يريد أن يبني أمة سليمة الأعصاب ، سليمة الصدور ، مهذبة المشاعر ، طاهرة القلوب ، نظيفة التصورات .
ويخصص هذه الأوقات الثلاثة دون غيرها لأنها مظنة انكشاف العورات . ولا يجعل استئذان الخدم والصغار في كل حين منعاً للحرج . فهم كثيرو الدخول والخروج على أهليهم بحكم صغر سنهم أو قيامهم بالخدمة : { طوافون عليكم بعضكم على بعض } . . وبذلك يجمع بين الحرص على عدم انكشاف العورات ، وإزالة الحرج والمشقة لو حتم أن يستأذنوا كما يستأذن الكبار .
فأما حين يدرك الصغار سن البلوغ ، فإنهم يدخلون في حكم الأجانب ، الذين يجب أن يستأذنوا في كل وقت ، حسب النص العام ، الذي مضت به آية الاستئذان .
ويعقب على الآية بقوله : { والله عليم حكيم } لأن المقام مقام علم الله بنفوس البشر ، وما يصلحها من الآداب؛ ومقام حكمته كذلك في علاج النفوس والقلوب .
- - - - - - - - - - - -
60.
وجوبُ شكر الله تعالى على نصر المسلمين يوم الأحزاب(1/439)
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)} سورة الأحزاب
وَبَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللهُ تَعَالى عِبَادَهُ بِتَقْوَاهُ ، وَبِعَدَمِ الخَوْفِ مِنْ سِوَاهُ ، ذَكَّرَ عِبَادَهُ المُؤْمِنينَ بِمَا تَفَضَّلَ بِهِ عَلَيِْهِمْ مِنْ نِعَمٍ ، وَمِنْ تَحْقِيقِ مَا وَعَدَهُمْ بهِ مِنْ نَصْرٍ ، وَذَلِكَ حِينَمَا جَاءَتْهُمْ جُنُودُ الأَحْزَابِ ، فَأْرْسَلَ اللهُ عَلَيهِمْ رِيحاً كَفَأَتْ قُدُورَهُمْ ، واقْتَلَعَتْ خِيَامَهُمْ ، وأَرْسَلَ إِليهِمْ مَلائِكَةً مِنْ عِنْدِهِ - وَهُمْ جُنُودُهُ ، وَلَمْ يَرَهُمْ المُسْلِمُونَ - يُوقِعُونَ الخَوْفَ والرُّعْبَ والخِذْلاَنَ في نُفُوسِ المُشْرِكينَ ، فَارْتَحلُوا فِي ليلةٍ شَاتِيةٍ شَديدَةِ البَرْدِ ، وَكَانَ اللهُ بَصِيراً بِأَعْمَالِ المُؤْمِنينَ ، وَصِدْقِ نِيَّاتِهِمْ ، فَتَوَلَّى الدِفاعَ عَنْهُمْ .(1/440)
وَقِصَّةُ الأَحْزابِ كَمَا رَوَتْها كُتُبُ السِّيرَةِ كَانَتْ كَمَا يَلِي : إِنَّ نَفَراً مِنْ يَهُودِ المَدِينةِ جَاؤُوا إِلى قُرَيشٍ في مَكَّةَ ، فِي شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ لِلْهِجْرَةِ يُحَرِّضُونَ المُشْرِكِينَ عَلى حَرْبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، ثُمَّ جَاؤُوا إِلى قَبَائِل غَطْفَانَ وَقَيْسِ عَيْلاَنَ وَأَسَدٍ وَحَالَفُوهُمْ عَلَى أَنْ يَكُونُوا مَعَهُمْ عَلى الرِّسُولِ والمُسلِمينَ يَداً واحِدةً ، فَخَرَجَتْ هذِهِ القَبَائِلُ إِلى المَدِينَةِ .
وَلَمَّا عَلِمَ الرَّسُولَ بِمَسِيرِهِمْ إِليهِ ، اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ ، فَأَشَارَ عَليهِ سَلْمَانُ الفَارِسِيُّ بِحَفْرِ خَنْدَقٍ حَوْلَ المَدِينَةِ يُسَاعِدُ المُسْلِمينَ فِي مَنْعِ تَقَدَّمِ المُشركِينَ إلى دَاخِلها ، فَقَامَ المُسْلِمُونَ بِذَلِكَ . وَلَمّا وَصَلَتِ القَبَائِلُ المُتَحَالِفَةُ إلى المَدِينةِ وَجَدُوا الخَنْدَقَ ، فَحَاصَرُوا المَدِينَة ، وَنَشِبَتْ مُنَاوشَاتٌ بينَ المُسْلِمينَ والمُشْرِكينَ . وَفي أثناءِ الحِصَارِ نَقَضَ بَنُو قُرَيْظَةَ عَهْدَهُمْ مَعَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم ، بِمَسْعَى مِنْ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ سَيِّدِ يَهُودِ بَنِي النَّضِيرِ الذِينَ أجْلاَهُمُ الرَّسُولُ إِلى خَيَبَر ، فَشَّقَّ ذلكَ على المُسْلِمِينَ .(1/441)
ثُمَّ جَاءَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ ، وَهُوَ مِنْ غَطْفَانَ ، إِلَىرَسُولِ اللهِ يُعْلِمُهُ أَنَّهُ أَسْلَمَ وَأَنَّ قَوْمَهُ لاَ يَعْلَمُونَ بإِسْلاَمِهِ ، وَيَسْأَلُهُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِمَا يَرَى فِيهِ ، المَصْلَحَةَ لِلمُسْلِمِينَ . فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ إِنَّما أَنْتَ فِينَا رَجُلٌ وَاحِدٌ ، والحَرْبُ خُدْعَةٌ فَخَذِّلْ عَنَّا مَنِ اسْتَطَعْتَ ، فَذَهَبَ إِلى بَنِي قُرَيْظَةٍ - وَكَانَ يُخالِطُهُمْ في الجَاهِلِيَّةِ - فَقَالَ لَهُمْ : لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ قُريشاً وَمَنْ مَعَها مِنَ القَبَائِلِ لَيْسَ لَهُمْ مُقَامٌ فِي المَدِينَةِ ، وأَنَّهُمْ إِذا مَا عَضَّتْهُمُ الحَرْبُ انْسَحَبُوا إِلى بِلادِهِمْ ، وَتَبْقَوْنَ أَنْتُم وَحْدَكُمْ مَعَ مُحَمَّدٍ ، وَأَنْتُمْ لاَ قِبَلَ لَكُمْ بِهِ وَحْدَكُمْ ، وَالرَّأيُ أَنْ تَطْلُبُوا رَهَائِنَ مِنْ هذِهِ القَبَائِلِ التِي تُحَاصِرُ المَدِينَةَ لِكَيْلا يَنْسَحِبُوا وَيَتَرَاجَعُوا عَنْ قِتالِ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ قَبْلَ القَضَاءِ عَلَيْهِمْ ، فَفَعَلُوا .
وَذَهَبَ إلى قُرَيشٍ وَغَطْفَانَ وَالقَبَائِلِ الأُخْرَى يَقُولُ لَهُمْ إِنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ نَدِمُوا عَلَى نَقْضِ عَهْدِهِمْ مَعَ مُحَمَّدٍ ، وَإِنَّهُمْ وَعَدُوهُ بِأَنْ يُسَلِّمُوهُ وُجُوهَ القَبَائِلِ لِيَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ ، عَلَى أَنْ يَعُودَ الَعهْدُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ إِلى مَا كَانَ عَلَيهِ مِنْ قَبْلُ . فَدَبَّ الخِلافُ والخِذْلانُ ، وَسَادَ التَّشَكُّكُ بَيْنَ القَبَائِلِ وَبَيْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ ، وَاسْتَشْعَر كُلُّ فَريقٍ الحَذَرَ مِنَ الآخَرِ .
وفِي لَيلَةٍ شَاتِيةٍ هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدةٌ بَارِدَةٌ أَخَذَتْ تَكْفَأُ القُدُورَ ، وَتَقْتَلِعُ الخِيَامَ ، فَنَادَى أَبُو سُفَيَانَ بِالرَّحِيلِ في النَّاسِ فَارْتَحَلُوا .(1/442)
حِينَ جَاءَتْكُمْ الأَحْزَابُ مِنْ أَعْلَى الوَادِي ( مِنْ جِهَةِ المَشْرِقِ ) ، وَمِنْ أَسْفَلِهِ ( مِنْ جِهَةِ المَغْرِبِ ) ، وَحينَ زَاغَتِ الأَبْصَارُ واضْطَرَبَتِ الرُّؤيةُ مِنَ الخَوْفِ والفَزَعِ الذي اعْتَرى المُسْلِمينَ ، وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ ( وَهُوَ تَعْبيرٌ عَنِ الضِّيقِ وشِدَّةِ الخَوْفِ وَالفَزَعِ واليَأْسِ الذي اعْتَرَى المُسْلِمِينَ ) وَنَشَطَ المُنَافِقُونَ يُرْجِفُونَ في المَدِينةِ ، وَيُثِيرُونَ الشُّّكُوكَ بالإِشَاعَاتِ الكَاذِبَةِ المُثَبِّطَةِ التِي كَانُوا يَنْشُرُونَها لإِضْعَافِ ثِقةِ المُؤْمِنينَ بِأَنْفُسِهِمْ ، وَبِقُدْرَتِهِمْ عَلى القِتَالِ ، حَتَّى ظَنَّ بَعْضُ ضِعَافِ النُّفُوسِ والإِيمَانِ أَنَّ الأًَحزَابَ سَيَسْتَأْصِلُونَ شَأْفَةَ المُسْلِمينَ . وَقَالَ مَعْتِبُ بَنْ قُشَيْرٍ : كَانَ مُحَمَّدٌ يَعِدُنا أَنْ نَأْكُلَ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ ، وأَحَدُنا لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَذْهَبَ إِلى الغَائِطِ .
أَمَّا المُؤمِنُونَ المُخْلِصُونَ فَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ مَا وَعَدَهُمُ اللهُ وَرَسُولَهُ حَقٌّ ، وَأَنَّ الله سَيَنْصُرُ المُسْلِمِين ، وَسَيَنْصُرُ دِينَهُ وَيُظْهِرُهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ .
وَفِي ذَلِكَ الحِينِ امْتَحَنَ اللهُ المُؤْمِنينَ وَمَحَّصَهُمْ أَشَدَّ التَّمْحِيصِ ، فَظَهَرَ المُخْلِصُ الرَّاسِخُ الإِيمَانِ ، مِنَ المُنَافِقِ المُتَزَلْزِلِ ، واضْطَرَبُوا اضْطِراباً شَديداً مِنَ الخَوْفِ الذِي أَصَابِهُمْ .
ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ - اخْتُبِرُوا بالشَّدَائِدِ وَمُحِّصُوا .
---------------(1/443)
إنها صورة الهول الذي روع المدينة ، والكرب الذي شملها ، والذي لم ينج منه أحد من أهلها . وقد أطبق عليها المشركون من قريش وغطفان واليهود من بني قريظة من كل جانب . من أعلاها ومن أسفلها . فلم يختلف الشعور بالكرب والهول في قلب عن قلب؛ وإنما الذي اختلف هو استجابة تلك القلوب ، وظنها بالله ، وسلوكها في الشدة ، وتصوراتها للقيم والأسباب والنتائج . ومن ثم كان الابتلاء كاملاً والامتحان دقيقاً . والتمييز بين المؤمنين والمنافقين حاسماً لا تردد فيه .
وننظر اليوم فنرى الموقف بكل سماته ، وكل انفعالاته ، وكل خلجاته ، وكل حركاته ، ماثلاً أمامنا كأننا نراه من خلال هذا النص القصير .
ننظر فنرى الموقف من خارجه : { إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم } . .
ثم ننظر فنرى أثر الموقف في النفوس : { وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر } . . وهو تعبير مصور لحالة الخوف والكربة والضيق ، يرسمها بملامح الوجوه وحركات القلوب .
{ وتظنون بالله الظنونا } . . ولا يفصل هذه الظنون . ويدعها مجملة ترسم حالة الاضطراب في المشاعر والخوالج ، وذهابها كل مذهب ، واختلاف التصورات في شتى القلوب .
ثم تزيد سمات الموقف بروزاً ، وتزيد خصائص الهول فيه وضوحاً : { هنالك ابتُلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً } . . والهول الذي يزلزل المؤمنين لا بد أن يكون هولاً مروعاً رعيباً .
- - - - - - - - - - - -
61.
الإكثار من ذكر الله
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) }سورة الأحزاب(1/444)
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالى المُؤْمِنينَ مِنْ عِبَادِهِ بِكَثْرَةِ ذِكْرِهِ ، فَهُوَ المُنْعِمُ المُتَفَضِّلُ عَلَيهِمْ ، لِمَا لَهُمْ فِي ذِكْرِ اللهِ مِنْ عَظيمِ الثَّوابِ .
وَيَأْمُرُهُمْ تَعَالى أَيضاً بِتَنْزِيهِهِ عَمَّا لاَ يَلِيقُ بَيْنَ طَرَفَيِ النَّهَارِ : فِي البُكُورِ عِنْدَ القِيامِ مِنَ النَّومِ ، وَوَقْتِ الأَصِيلِ ، وَقْتِ الانْتِهَاءِ مِنَ العَمَلِ اليَومِيِّ ، فَيَكُونُ الذِّكْرُ فِي الصَّبَاحِ شُكْراً للهِ عَلى بَعْثِ الإِنسْانِ مِنْ رُقَادِهِ ، وَفِي المَسَاء شُكْراً لَهُ عَلى تِوفِيقِه لأَداءِ العَمَلِ ، والقِيَامِ بالسَّعِي لِلْحُصُولِ عَلَى الرِّزْقِ .
يَحُثُّ اللهُ المُؤْمِنينَ عَلَى ذِكْرِ رَبِّهِمْ ، وَيَقُولُ لَهُمْ إِنَّهُ تَعَالى يَذْكُرُهُمْ وَيَرْحَمُهُمْ وَيُثْنِي عَلَيْهِمْ فِي المَلأِ الأَعْلَى مِنْ عِبَادِهِ ، وَتَسْتَغْفِرُ لَهُم المَلاَئِكَةُ الكِرَامُ ، وَإِنَّهُ بِرَحْمَتِهِ تَعَالى ، وَهِدَايَتِهِ ، وَدُعَاءِ المَلاَئِكَةِ لَهُمْ ، أَخْرَجَهُمْ مِنْ ظُلمَةِ الكُفْرِ إِلى نُورِ الإِيمَانِ ، وَهُو تَعَالى رَحِيمٌ بِالعِبَادِ المُؤْمِنينَ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ . أَمَّ رَحْمَتُهُ لَهُمْ فِي الدُّنيا فَإِنَّهُ هَدَاهُم إِلى الحَقِّ ، وَبَصَّرَهُمْ بِالطَّرِيقِ المُسْتَقِيمِ . وَأَمَّا رَحْمَتُهُ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ فإِنَّهُ آمنَهُمْ مِنَ الفََزَع الأَكْبَرِ ، وَأَمَرَ المَلائِكَةَ بِأَنْ يَتَلَقَّوْهُمْ بِالبِشَارَةِ بِالْفَوْزِ بِالجَنَّةِ ، وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ .
وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُحَيَّوْنَ باِلسَّلاَمِ ، وَهُنَاكَ ثَلاثَةُ أَقْوالٍ حَوْلَ مَنِ الذِي يُحَيِّيهِمْ بالسَّلام :(1/445)
- يَقُولُ أَحَدُ هذِهِ الأََقْوَالِ : إِنَّ اللهَ تَعَالى هُوَ الذِي يُحَيِّيهِمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ بالسَّلامِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالى فِي آيةٍ أُخْرَى : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } - وَيَقُولُ الآخَرُ : إِنَّ المَلاَئِكَةَ الكِرَامَ هُمُ الذِينَ يُحَيُّونَهُمْ بالسَّلامِ ، إِذا دَخُلُوا الجَنَّةَ كَمَا قَالَ تَعَالى : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ } - وَالقَولُ الآخَرُ يَقُولُ : إِنَّهُمْ هُمُ الذِينَ يُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضاً بالسَّلامِ ، يَوْمَ يَلْقَوْنَ رَبِّهُمْ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ ، كَمَا قَالَ تَعَالى : { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهم وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } وَقَدْ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ فِي الجَنَّة ثَواباً عَظِيماً عَلَى إِيمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمُ الصَّالِحِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا .
-------------
وذكر الله اتصال القلب به ، والاشتغال بمراقبته؛ وليس هو مجرد تحريك اللسان . وإقامة الصلاة ذكر لله . بل إنه وردت آثار تكاد تخصص الذكر بالصلاة :
روى أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث الأعمش عن الأغر أبي مسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة « عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا أيقظ الرجل امرأته من الليل فصليا ركعتين ، كانا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات » .
وإن كان ذكر الله أشمل من الصلاة . فهو يشمل كل صورة يتذكر فيها العبد ربه ، ويتصل به قلبه . سواء جهر بلسانه بهذا الذكر أم لم يجهر . والمقصود هو الاتصال المحرك الموحي على أية حال .
وإن القلب ليظل فارغاً أو لاهياً أو حائراً حتى يتصل بالله ويذكره ويأنس به . فإذا هو مليء جاد ، قار ، يعرف طريقه ، ويعرف منهجه ، ويعرف من أين وإلى أين ينقل خطاه!(1/446)
ومن هنا يحض القرآن كثيراً ، وتحض السنة كثيراً ، على ذكرا لله . ويربط القرآن بين هذا الذكر وبين الأوقات والأحوال التي يمر بها الإنسان ، لتكون الأوقات والأحوال مذكرة بذكر الله ومنبهة إلى الاتصال به حتى لا يغفل القلب ولا ينسى : { وسبحوه بكرة وأصيلاً } . .
وفي البكرة والأصيل خاصة ما يستجيش القلوب إلى الاتصال بالله ، مغير الأحوال ، ومبدل الظلال؛ وهو باق لا يتغير ولا يتبدل ، ولا يحول ولا يزول . وكل شيء سواه يتغير ويتبدل ، ويدركه التحول والزوال.
وإلى جانب الأمر بذكر الله وتسبيحه ، إشعار القلوب برحمة الله ورعايته ، وعنايته بأمر الخلق وإرادة الخير لهم؛ وهو الغني عنهم ، وهم الفقراء المحاويج ، لرعايته وفضله :
{ هو الذي يصلي عليكم وملائكته ، ليخرجكم من الظلمات إلى النور . وكان بالمؤمنين رحيماً } . .
وتعالى الله ، وجلت نعمته ، وعظم فضله ، وتضاعفت منته؛ وهو يذكر هؤلاء العباد الضعاف المحاويج الفانين ، الذين لا حول لهم ولا قوة ، ولا بقاء لهم ولا قرار . يذكرهم ، ويعنى بهم ، ويصلي عليهم هو وملائكته ، ويذكرهم بالخير في الملأ الأعلى فيتجاوب الوجود كله بذكرهم ، « كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله تعالى من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه » .
ألا إنها لعظيمة لا يكاد الإدراك يتصورها . وهو يعلم أن هذه الأرض ومن عليها وما عليها إن هي إلا ذرة صغيرة زهيدة بالقياس إلى تلك الأفلاك الهائلة . وما الأفلاك وما فيها ومن فيها إلا بعض ملك الله الذي قال له : كن .فكان!
{ وهو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور } . .(1/447)
ونور الله واحد متصل شامل؛ وما عداه ظلمات تتعدد وتختلف . وما يخرج الناس من نور الله إلا ليعيشوا في ظلمة من الظلمات ، أو في الظلمات مجتمعة؛ وما ينقذهم من الظلام إلا نور الله الذي يشرق في قلوبهم ، ويغمر أرواحهم ، ويهديهم إلى فطرتهم . وهي فطرة هذا الوجود . ورحمة الله بهم وصلاة الملائكة ودعاؤها لهم ، هي التي تخرجهم من الظلمات إلى النور حين تتفتح قلوبهم للإيمان : { وكان بالمؤمنين رحيماً } . .
ذلك أمرهم في الدنيا دار العمل . فأما أمرهم في الآخرة دار الجزاء ، فإن فضل الله لا يتخلى عنهم ، ورحمته لا تتركهم؛ ولهم فيها الكرامة والحفاوة والأجر الكريم :
{ تحيتهم يوم يلقونه سلام ، وأعد لهم أجراً كريماً } . .
سلام من كل خوف ، ومن كل تعب ، ومن كل كد . . سلام يتلقونه من الله تحمله إليهم الملائكة . وهم يدخلون عليهم من كل باب ، يبلغونهم التحية العلوية . إلى جانب ما أعد لهم من أجر كريم . . فيا له من تكريم!
فهذا هو ربهم الذي يشرع لهم ويختار . فمن ذا الذي يكره هذا الاختيار؟!
- - - - - - - - - - - -
62.
لا عدة على المطلقة قبل الدخول
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (49) سورة الأحزاب(1/448)
النِّكَاحُ هُنا هُوَ العَقْدُ . وَيَقُولُ تَعَالى يَا أَيُّها المُؤْمِنُونَ إِذا عَقَدْتُمْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ عَلَى النِّسَاءِ المُؤْمِنَاتِ ، ثُمَّ طَلَّقْتُموهُنَّ قَبلَ الدُّخُولِ بِهِنَّ ، فلا عِدَّةَ لَكُمْ عَلَيِهِنَّ ( وَهذا مُجْمَعٌ عَلَيهِ بَيْنَ الأَئِمَّةِ ) ، وَلِكنْ عَلَى الزَّوجِ أَنْ يُمَتِّعَ المَرْأََةَ مَتَاعاً حَسَناً بِحَسَبِ حَالِهِ ( عَلَى المُعْسِرِ قَدَرُهُ وَعَلى المُوسِرِ قَدَرُهُ ) وَأَنْ يُخْرِجَها مِنْ بَيتِهِ إِخْراجاً كَرِيماً لاَئِقاً ( سَراحاً جَميلاً ) فَيُهَيِّئ لَها المَركَبَ ، والزَّادَ ، وَيُحْسِن مُعَامَلَتَها لِتَقَرَّ عَيْنُها ، وَيُسَرَّ بِذَلِكَ أَهْلُها ، وَلِيكُونَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ السَّلوَى عَمَّا لَحِقَ بِها مِنْ أَذَى بِالطَّلاِقِ .
فالمطلقة قبل الدخول إن كان قد فرض لها مهر ، فلها نصف ذلك المهر المسمى . وإن لم يذكر لها مهر فلها متاع يتبع قدرة المطلق سعة وضيقاً . . وقد زاد هنا في آية الأحزاب بيان حكم العدة لهذه المطلقة وهو ما لم يذكر في آيتي البقرة . فقرر أن لا عدة عليها . إذ أنه لم يكن دخول بها . والعدة إنما هي استبراء للرحم من الحمل ، وتأكد من أنها خالية من آثار الزواج السابق ، كي لا تختلط الأنساب ، ولا ينسب إلى رجل ما ليس منه ، ويسلب رجل ما هو منه في رحم المطلقة . فأما في حالة عدم الدخول فالرحم بريئة ، ولا عدة إذن ولا انتظار : { فما لكم عليهن من عدة تعتدونها } . . { فمتعوهن } إن كان هناك مهر مسمى فبنصف هذا المهر ، وإن لم يكن فمتاع مطلق يتبع حالة الزوج المالية .
{ وسرحوهن سراحاً جميلاً } . . لا عضل فيه ولا أذى . ولا تعنت ولا رغبة في تعويقهن عن استئناف حياة أخرى جديدة .
- - - - - - - - - - - -
63.
تحريم دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلم دون إذنٍ(1/449)
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا} (53) سورة الأحزاب(1/450)
يَا أَيُّها المُؤِمنُونَ لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ أَنْ تُدْعَوْا إِلى طعام تَطْعَمُونَهُ غَيْرَ مُنْتَظِرِينَ إِدْرَاكَ نُضْجِهِ ، ( أَي إِذا دُعِيتُم إِلى طَعَامٍ في بَيْتِ رَسُولِ اللهِ فَلا تَدْخُلُوا إِلا إِذَا عَلِمْتُمْ أَنَّ الطَّعَامَ قَدْ تَمَّ نُضْجُهُ وإِعْدَادُهُ ) وَلكِنْ إِذا دَعَاكُمُ النَّبِيُّ إِلى الدُّخُولِ فَادخُلُوا ، فَإِذَا أَكَلْتُمُ الطَّعَامَ فَانصَرِفُوا ، وَلا تَمْكُثُوا فِيهِ لِتَبَادُلِ الحَدِيثِ ، فَذَلِكَ اللُبْثُ ، بَعْدَ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ ، كَانَ يُؤِْي النَّبِيَّ ، وَيُثْقِلُ عَليهِ وَعَلى أَهْلِهِ ، وَلكِنَّهُ كَانَ يَسْتَحْيِي مِنْ أَنْ يَقُولَ لَكُمْ ذَلِكَ ، وَأَنْ يَدْعُوَكُمْ إِلى الانْصِرَافِ ، وَاللهُ الذِي يُريدُ أَنْ يُحْسِنَ تَرِبيتَكم وَتَأدِيبكُمْ ، يُريدُ أَنْ يَقُولَ لَكُمُ الحَقَّ لتَعمَلُوا بِهِ ، فَإِذا طَعِمْتُم فِي بَيتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاخْرُجُوا ، وَلاَ تَقْعُدُوا لِلْحَدِيثِ . وَإِذا طَلَبْتُم مِنْ أَزواجِ النَّبِيِّ وَنِسَاءِ المُؤمِنِينَ شَيئاً تَتَمَتَّعُونَ بِهِ ، مِنْ مَاعُونٍ ، وَغيرِهِ ، فَاطْلُبُوهُ مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُنَّ . وَذلِكَ الدُّخُولُ بَعْدَ الاسْتِئِذَانِ ، وَعَدَمُ البَقَاءِ بَعْدَ الطَّعَامِ للاسْتِئْنَاسِ بِالحَدِيثِ ، وَسُؤالُ نِسَاءِ النَّبِيِّ المَتَاعَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ . . كُلُّ ذَلِكَ أَطْهَرُ لِقُلُوبِ الرِّجَالِ وَقُلُوبِ النِّسَاءِ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ ، وَأَبْعَدُ عَنْ الرِّيبِ والشُّكُوكِ ، وَلاَ يَنْبَغِي لِلْمُؤِمِنينَ أَنْ يَفْعَلُوا فَعْلاً فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ يُؤْذِيهِ وَيُزْعِجُهُ ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُؤْذُوهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِالتَّزَوٌّجِ بِنِسَائِهِ .(1/451)
فَإِيذَاءُ النَّبِيِّ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ هُوَ أَمْرٌ عَظِيمٌ لاَ يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إِلاَّ اللهُ تَعَالى .
( وَقَدْ سُمِّيت هذِهِ الآيةُ بآيَةِ الثُّقَلاءِ ) .
روى البخاري بإسناده عن أنس بن مالك قال : « بنى النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بخبز ولحم . فأرسلت على الطعام داعياً . فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون . ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون . فدعوت حتى ما أجد أحداً أدعوه . فقلت : يا رسول الله ما أجد أحداً أدعوه . قال : » ارفعوا طعامكم « . وبقي ثلاث رهط يتحدثون في البيت . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فقال : » السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته « . قالت : وعليك السلام ورحمة الله . كيف وجدت أهلك يا رسول الله؟ بارك الله لك . فتقرى حجر نسائه ، كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة ، ويقلن كما قالت عائشة . ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون . وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء . فخرج منطلقاً نحو حجرة عائشة . فما أدري أخبرته أم أخبر أن القوم خرجوا . فرجع حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخله والأخرى خارجه . أرخى الستر بيني وبينه ، وأنزلت آية الحجاب » .
والآية تتضمن آداباً لم تكن تعرفها الجاهلية في دخول البيوت ، حتى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان الناس يدخلون البيوت بلا إذن من أصحابها كما جاء في شرح آيات سورة النور الخاصة بالاستئذان وربما كان هذا الحال أظهر في بيوت النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أصبحت هذه البيوت مهبط العلم والحكمة .(1/452)
وكان بعضهم يدخل وحين يرى طعاماً يوقد عليه يجلس في انتظار نضج هذا الطعام ليأكل بدون دعوة إلى الطعام! وكان بعضهم يجلس بعد الطعام سواء كان قد دعي إليه أو هجم هو عليه دون دعوة ويأخذ في الحديث والسمر غير شاعر بما يسببه هذا من إزعاج للنبي صلى الله عليه وسلم وأهله . وفي رواية أن أولئك الثلاثة الرهط الذين كانوا يسمرون كانوا يفعلون هذا وعروس النبي زينب بنت جحش جالسة وجهها إلى الحائط! والنبي صلى الله عليه وسلم يستحيي أن ينبههم إلى ثقلة مقامهم عنده حياء منه ، ورغبة في ألا يواجه زواره بما يخجلهم! حتى تولى الله سبحانه عنه الجهر بالحق { والله لا يستحيي من الحق } .
ومما يذكر أن عمر رضي الله عنه بحساسيته المرهفة كان يقترح على النبي صلى الله عليه وسلم الحجاب؛ وكان يتمناه على ربه . حتى نزل القرآن الكريم مصدقاً لاقتراحه مجيباً لحساسيته!
من رواية للبخاري بإسناده عن أنس بن مالك . قال : قال عمر بن الخطاب : يا رسول الله . يدخل عليك البر والفاجر . فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب . فأنزل الله آية الحجاب . .
وجاءت هذه الآية تعلم الناس ألا يدخلوا بيوت النبي بغير إذن . فإذا دعوا إلى الطعام دخلوا . فأما إذا لم يدعوا فلا يدخلون يرتقبون نضجه! ثم إذا طعموا خرجوا ، ولم يبقوا بعد الطعام للسمر والأخذ بأطراف الحديث . . وما أحوج المسلمين اليوم إلى هذا الأدب الذي يجافيه الكثيرون . فإن المدعوين إلى الطعام يتخلفون بعده ، بل إنهم ليتخلفون على المائدة ، ويطول بهم الحديث؛ وأهل البيت الذين يحتفظون ببقية من أمر الإسلام بالاحتجاب متأذون محتبسون ، والأضياف ماضون في حديثهم وفي سمرهم لا يشعرون! وفي الأدب الإسلامي غناء وكفاء لكل حالة ، لو كنا نأخذ بهذا الأدب الإلهي القويم .
ثم تقرر الآية الحجاب بين نساء النبي صلى الله عليه وسلم والرجال :
{ وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب } . .(1/453)
وتقرر أن هذا الحجاب أطهر لقلوب الجميع :{ ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن } . .
فلا يقل أحد غير ما قال الله . لا يقل أحد إن الاختلاط ، وإزالة الحجب ، والترخص في الحديث واللقاء والجلوس والمشاركة بين الجنسين أطهر للقلوب ، وأعف للضمائر ، وأعون على تصريف الغريزة المكبوتة ، وعلى إشعار الجنسين بالأدب وترقيق المشاعر والسلوك . . إلى آخر ما يقوله نفر من خلق الله الضعاف المهازيل الجهال المحجوبين . لا يقل أحد شيئاً من هذا والله يقول : { وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن } . . يقول هذا عن نساء النبي الطاهرات . أمهات المؤمنين . وعن رجال الصدر الأول من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن لا تتطاول إليهن وإليهم الأعناق! وحين يقول الله قولاً .
ويقول خلق من خلقه قولاً . فالقول لله سبحانه وكل قول آخر هراء ، لا يردده إلا من يجرؤ على القول بأن العبيد الفانين أعلم بالنفس البشرية من الخالق الباقي الذي خلق هؤلاء العبيد!
والواقع العملي الملموس يهتف بصدق الله ، وكذب المدعين غير ما يقوله الله . والتجارب المعروضة اليوم في العالم مصدقة لما نقول . وهي في البلاد التي بلغ الاختلاط الحر فيها أقصاه أظهر في هذا وأقطع من كل دليل . ( وأمريكا أول هذه البلاد التي آتى الاختلاط فيها أبشع الثمار ) .
وقد ذكرت الآية أن مجيئهم للطعام منتظرين نضجه من غير دعوة؛ وبقاءهم بعد الطعام مستأنسين للحديث . . كان يؤذي النبي فيستحيي منهم . وفي ختامها تقرر أنه ما يكون للمسلمين أن يؤذوا رسول الله . وكذلك ما يكون لهم أن يتزوجوا أزواجه من بعده؛ وهن بمنزلة أمهاتهم . ومكانهن الخاص من رسول الله يحرم أن ينكحهن أحد من بعده ، احتفاظاً بحرمة هذا البيت وجلاله وتفرده :
{ وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ، ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً } . .
وقد ورد أن بعض المنافقين قال : إنه ينتظر أن يتزوج من عائشة!
{(1/454)
إن ذلكم كان عند الله عظيماً } . .
وما أهول ما يكون عند الله عظيماً!
- - - - - - - - - - - -
64.
الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (56) سورة الأحزاب
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالى عِبَادَهُ المُؤْمِنينَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي المَلإِ الأَعْلَى ، وَأَنَّ المَلائِكَةَ تَسْتَغفِرُ لَهُ ، ثَمَّ أَمَرَ اللهُ عِبَادَهُ بالصَّلاة والسَّلامِ عَلى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم لِيَجْتَمِعَ لَهُ الثَّنَاءُ عَلَيهِ مِنْ أَهْلِ العَالَمَيْنِ : العُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ .
( وَقَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ جِبِرْيلَ ، عَليهِ السَّلامُ ، أَتَانِي فَبَشَّرَني أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لَكَ : مَنْ صَلَّى عَليكَ صَلَّيْتُ عَليهِ ، وَمَنْ سَلَّمَ عَلَيكْ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ " ) ( رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ ) .
وصلاة الله على النبي ذكره بالثناء في الملأ الأعلى؛ وصلاة ملائكته دعاؤهم له عند الله سبحانه وتعالى . . ويا لها من مرتبة سنية حيث تردد جنبات الوجود ثناء الله على نبيه؛ ويشرق به الكون كله وتتجاوب به أرجاؤه . ويثبت في كيان الوجود ذلك الثناء الأزلي القديم الأبدي الباقي . وما من نعمة ولا تكريم بعد هذه النعمة وهذا التكريم . وأين تذهب صلاة البشر وتسليمهم بعد صلاة الله العلي وتسليمه ، وصلاة الملائكة في الملأ الأعلى وتسليمهم؛ إنما يشاء الله تشريف المؤمنين بأن يقرن صلاتهم إلى صلاته وتسليمهم إلى تسليمه؛ وأن يصلهم عن هذا الطريق بالأفق العلوي الكريم الأزلي القديم.
قال القرطبى ما ملخصه : هذه الآية شرف الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم فى حياته وموته ، وذكر منزلته منه .(1/455)
والصلاة من الله رحمته ورضوانه ، ومن الملائكة الدعاء والاستغفار ، ومن الأمة الدعاء والتعظيم لأمره .
والضمير فى { يُصَلُّونَ } لله - تعالى - ولملائكته . وهذا قول من الله شرف به ملائكته . .
أو فى الكلام حذف . والتقدير : إن الله يصلى وملائكته يصلون .
وقال ابن كثير : والمقصود من هذه الآية الكريمة ، أن الله - تعالى - أخبر عباده بمنزلة بعده ونبيه عنده فى الملأ الأعلى : بأنه يثنى عليه عند الملائكة المقربين وأن الملائكة تصلى عليه ، ثم أمر الله أهل العالم السفلى بالصلاة والتسليم عليه . ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوى والسفلى جميعا .
والمعنى : إن الله - تعالى - يثنى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ويرضى عنه ، وإن الملائكة تثنى عليه صلى الله عليه وسلم وتدعو له بالظفر بأعلى الدرجات وأسماها .
{ ياأيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ } أى : عظموه ووقروه وادعوا له بأرفع الدرجات { وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } أى : وقولوا : السلام عليك أيها النبى . والسلام : مصدر بمعنى السلام .
أى : السلام من النقائص والآفات ملازمة لك .
والتعبير بالجملة الاسمية فى صدر الآية ، للإِشعار بوجوب المداومة والاستمرار على ذلك . وخص المؤمنين بالتسليم ، لأن الآية وردت بعد النهى عن إيذاء النبى صلى الله عليه وسلم ، والإِيذاء له صلى الله عليه وسلم إنما يكون من البشر .
وقد ساق المفسرون - وعلى رأسهم ابن كثير والقرطبى والآلوسى - أحاديث متعددة فى فضل الإِكثار من الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم ، وفى كيفية الصلاة عليه . .
ومنها ما رواه الإِمام أحمد وابن ماجة عن عامر بن ربيعة قال : سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول : " من صلى على صلاة لم تزل الملائكة تصلى عليه ما صلى على ، فليُقِلَّ عبد من ذلك أو ليكثر " .(1/456)
ومنها ما رواه الشيخان وغيرهما عن كعب بن عُجْزَة قال : لما نزلت هذه الاية قلنا : يا رسول الله ، قد علمنا السلام ، فكيف الصلاة عليك ، قال : قالوا : اللهم صل على محمد ، وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد . اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد .
والآية الكريمة تدل على وجوب الصلاة والسلام على النبى صلى الله عليه وسلم والمؤمنون الصادقون هم الذين يكثرون من ذلك . قال صاحب الكشاف ما ملخصه : فإن قلت : الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة أم مندوب إليها؟ قلت : بل واجبة ، وقد اختلفوا فى حال وجوبها ، فمنهم من أوجبها كلما جرى ذكره صلى الله عليه وسلم ومنهم من قال تجب فى كل مجلس مرة ، وإن تكرر ذكره
ومنهم من أوجبها فى العمرة مرة . . والذى يقتضيه الاحتياط : الصلاة عليه عند كل ذكر . . . لما ورد من الأخبار فى ذلك .
ومنها : " رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل على " .
- - - - - - - - - - - -
65.
النهي عن أذى الرسل
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا} (69) سورة الأحزاب
يَا أَيُّها الذِين آمَنُوا لا تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَولٍ يَكْرَهُهُ ، وَلاَ بِفِعْلٍ لاَ يُحِبُّه ، وَلاَ تَكُونُوا أَمْثَالَ الذينَ آذوْا مُوسَى عَليهِ السَّلامُ ، نَبيَّ اللهِ ، فَزَعَمُوا كَذِباً وَبَاطِلاً أَنَّ فِيهِ عَيْباً في جِسْمِهِ ، فَبَرَّأهُ اللهُ مِمّا قَالوا فيهِ ، بِمَا أَظْهَرَهُ مِنَ الأدِلَّةِ عَلى كَذِبِهِمْ ، وافْتَرائِهِمْ ، وَكَانَ مُوسَى ذَا وَجَاهَةٍ وَكَرَامَةٍ عِنْدَ اللهِ .
------(1/457)
والمراد بالذين آذوا موسى - عليه السلام - فى قوله - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين آذَوْاْ موسى } قومه الذين أرسله الله إليهم .
فقد حكى القرآن الكريم ألوانا من إيذائهم له ، ومن ذلك قولهم له : { ياموسى اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ . . . } وقولهم : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً } ومن إيذائهم له - عليه السلام - ما رواه الإِمام البخارى والترمذى عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ فِى هَذِه الآيَةِ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالَُوا) قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلاً حَيِيًّا سِتِّيراً لاَ يَكَادُ يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْئاً اسْتِحْيَاءً مِنْهُ - قَالَ - فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ قَالَُوا مَا يَتَسَتَّرُ هَذَا التَّسَتُّرَ إِلاَّ مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ إِمَّا بَرَصاً وَإِمَّا أُدْرَةً - وَقَالَ رَوْحٌ مَرَّةً أُدْرَةً وَإِمَّا آفَةً - وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالَُوا وَإِنَّ مُوسَى خَلاَ يَوْماً وَحْدَهُ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ ثُمَّ اغْتَسَلَ فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ إِلَى ثَوْبَهِ لِيَأْخُذَهُ وَإِنَّ الْحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ وَطَلَبَ الْحَجَرَ وَجَعَلَ يَقُولُ ثَوْبِى حَجَرُ ثَوْبِى حَجَرُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلأٍ مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ فَرَأَوْهُ عُرْيَاناً كَأَحْسَنِ الرِّجَالِ خَلْقاً وَأَبْرَأَهُ مِمَّا كَانَُوا يَقُولُونَ لَهُ وَقَامَ الْحَجَرُ فَأَخَذَ ثَوْبَهُ وَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْباً بِعَصَاهُ - قَالَ - فَوَاللَّهِ إِنَّ فِى الْحَجَرِ لَنَدَباً مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ(1/458)
ثَلاَثاً أَوْ أَرْبَعاً أَوْ خَمْساً ». .
والمعنى : يا من آمنتم بالله - تعالى - حق الإِيمان ، التزموا الأدب والطاعة والاحترام لنبيكم صلى الله عليه وسلم واحذروا أن تسلكوا معه المسلك الذى سلكه بنو إسرائيل مع نبيهم موسى - عليه السلام - حيث آذوه بشتى أنواع الأذى .
وقولهم : { لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ . . . } واتخاذهم العجل إلها من دون الله فى غيبة نبيهم موسى - عليه السلام - . .
{ فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ } أى : فأظهر الله - تعالى - براءته من كل ما نسبوه إليه من سوء .
{ وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً } أى : وكان عند الله - تعالى - ذا جاه عظيم ، ومكانه سامية ، ومنزلة عالية ، حيث نصره - سبحانه - عليهم ، واصطفاه لحمل رسالته . .
يقال : وجه الرجل يوجه وجاهة فهو وجيه ، إذا كان ذا جاه وقدر . .
- - - - - - - - - - - -
66.
وجوب تقوى الله والقول السديد
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) } ِ سورة الأحزاب
يَا أَيُّها الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلاَ تَعْصُوهُ ، وَقُولُوا فِي المُؤْمِنينَ قَوْلاً حَقّاً لاَ بَاطِلَ فيهِ ، وَلا جَوْرَ عَنِ الصَوَابِ .
وَمَنْ يُؤْمِنْ باللهِ وَيَتَّقِهِ ، وَيَقُلِ القَوْلَ المُنْصِفَ السَّديدَ ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالى يُوفِّقُهُ إِلى صَالِحِ الأَعْمَالِ ، وَيُسَدِّدُ خُطَاهُ فِي مَسِيرَتِهِ ، وَيَغْفِرُ لَهُ ذُنُوبَهُ . وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَيَعْمَلْ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ ، وَيَنْتَهِ عَمَّا نَهَاهُ عَنْهُ ، فَقَدْ ظَفِرَ بِالمَثُوبَةِ والكَرَامَةِ يومَ الحِسَابِ { فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } .(1/459)
يوجه القرآن المؤمنين إلى تسديد القول وإحكامه والتدقيق فيه؛ ومعرفة هدفه واتجاهه ، قبل أن يتابعوا المنافقين والمرجفين فيه؛ وقبل أن يستمعوا في نبيهم ومرشدهم ووليهم إلى قول طائش ضال أو مغرض خبيث . ويوجههم إلى القول الصالح الذي يقود إلى العمل الصالح . فالله يرعى المسددين ويقود خطاهم ويصلح لهم أعمالهم جزاء التصويب والتسديد . والله يغفر لذوي الكلمة الطيبة والعمل الصالح؛ ويكفر عن السيئة التي لا ينجو منها الآدميون الخطاءون . ولا ينقذهم منها إلا المغفرة والتكفير .
{ ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً } . .
والطاعة بذاتها فوز عظيم . فهي استقامة على نهج الله . والاستقامة على نهج الله مريحة مطمئنة . والاهتداء إلى الطريق المستقيم الواضح سعادة بذاته ، ولو لم يكن وراءه جزاء سواه . وليس الذي يسير في الطريق الممهود المنير وكل ما حوله من خلق الله يتجاوب معه ويتعاون كالذي يسير في الطريق المقلقل المظلم وكل ما حوله من خلق الله يعاديه ويصادمه ويؤذيه! فطاعة الله ورسوله تحمل جزاءها في ذاتها؛ وهي الفوز العظيم ، قبل يوم الحساب وقبل الفوز بالنعيم . أما نعيم الآخرة فهو فضل زائد على جزاء الطاعة . فضل من كرم الله وفيضه بلا مقابل . والله يرزق من يشاء بغير حساب .
- - - - - - - - - - - -
67.
من نصر دين الله نصره الله(1/460)
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) } سورة محمد
يَحُثَّ اللهُ تَعَالى المُؤْمِنينَ عَلَى الجِهَادِ ، وَيُعْلِمُهُمْ بَأنَّه يَنْصُرُهُمْ إذا أخْلَصُوا النيَّةَ في قِتَالِ أعدائِهِ ، فَيَقُولُ لَهُمْ : إنَّهُمْ إذا نَصَرُوا دِينَ اللهِ نَصَرَهُمُ اللهُ عَلَى أعْدائِهِمْ ، وثَّبتَ أقْدَامَهُمْ في الحَرْبِ وَفي الدِّينِ .
وَالذِينَ كَفَرُوا باللهِ فَخِزْياً لَهُمْ وَشَقَاءً ، وَأَبْطَلَ اللهُ أعْمَالَهُمْ ، وَجَعَلَهَا عَلَى غَيرِ هُدىً واستِقَامةٍ لأنَّها عُمِلَتْ لِلشَّيْطَانِ فَتَعْساً لَهُمْ - فَعِثَاراً أوْ شَقَاءً لَهُمْ .
وَقَدْ أتْعَسَ اللهُ الكَافِرِينَ وَأخْزَاهُمْ وَأضَلَّ أعْمَالَهُمْ ، لأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أنزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ قُرآنٍ وَأحْكَامٍ وَشَرْعٍ وَتَكَالِيفَ .
أفَلَم يَسِرْ هَؤُلاءِ المُكَذِّبونَ في الأَرْضِ لِيَرَوا كَيْفَ عَاقَبَ اللهُ المُكَذِّبينَ مِنَ الأمَمِ السَّالِفَةِ ، لَقَدْ دَمَّرَ قُراهُمْ وَبُيُوتَهُمْ ، وأهْلَكَ أولادَهُمْ وَأمْوَالَهُمْ ، أفَلا يَعْتَبِرُ هَؤُلاءِ بِما نَزَلَ بِمَنْ سَبَقَهُمْ مِنَ المُكَذِّبينَ ، وَيَنْتَهُونَ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الكُفْرِ وَالغَيِّ والضِّلاَلَةِ؟(1/461)
وَكَما أهْلَكَ اللهُ المُكَذِّبينَ السَّابِقِينَ ، وَنجَّى المُؤْمِنينَ مِنْ بَيْنِ أظْهُرِهِمْ ، كَذلِكَ يَفْعَلُ اللهُ بالكَافِرينَ ، السَّائِرينَ سِيرَتَهُمْ .
وَقَدْ دَمَّرَ اللهُ عَلَى الكَافِرينَ ، وَنَجَّى المُؤْمِنينَ وَأَظْهَرَهُمْ عَلَى الكَافِرينَ ، لأنَّ اللهَ مَوْلى الذِينَ آمَنُوا وَصَدَّقُوا رَسُولَهُ وأطَاعُوهُ ، وَهُوَ نَاصِرُهُمْ وَحَافِظُهُمْ ، وَلأنَّ الكَافِرينَ لاَ ناصِرَ لَهُمْ فَيَدْفَعُ عَنْهُمُ العُقًُوبَةَ وَالعَذَابَ .
--------------
إن لله في نفوسهم أن تتجرد له ، وألا تشرك به شيئاً ، شركاً ظاهراً أو خفياً ، وألا تستبقي فيها معه أحداً ولا شيئاً ، وأن يكون الله أحب إليها من ذاتها ومن كل ما تحب وتهوى ، وأن تحكمه في رغباتها ونزواتها وحركاتها وسكناتها ، وسرها وعلانيتها ، ونشاطها كله وخلجاتها . . فهذا نصر الله في ذوات النفوس .
وإن لله شريعة ومنهاجاً للحياة ، تقوم على قواعد وموازين وقيم وتصور خاص للوجود كله وللحياة . ونصر الله يتحقق بنصرة شريعته ومنهاجه ، ومحاولة تحكيمها في الحياة كلها بدون استثناء ، فهذا نصر الله في واقع الحياة .
ونقف لحظة أمام قوله تعالى : { والذين قتلوا في سبيل الله } . . وقوله : { إن تنصروا الله } . .
وفي كلتا الحالتين . حالة القتل . وحالة النصرة . يشترط أن يكون هذا لله وفي سبيل الله . وهي لفتة بديهية ، ولكن كثيراً من الغبش يغطي عليها عندما تنحرف العقيدة في بعض الأجيال . وعندما تمتهن كلمات الشهادة والشهداء والجهاد وترخص ، وتنحرف عن معناها الوحيد القويم .
إنه لا جهاد ، ولا شهادة ، ولا جنة ، إلا حين يكون الجهاد في سبيل الله وحده ، والموت في سبيله وحده ، والنصرة له وحده ، في ذات النفس وفي منهج الحياة .(1/462)
لا جهاد ولا شهادة ولا جنة إلا حين يكون الهدف هو أن تكون كلمة الله هي العليا . وأن تهيمن شريعته ومنهاجه في ضمائر الناس وأخلاقهم وسلوكهم ، وفي أوضاعهم وتشريعهم ونظامهم على السواء .عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال : « سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يقاتل شجاعة ، ويقاتل حمية ، ويقاتل رياء . أي ذلك في سبيل الله؟ فقال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله » .وليس هنالك من راية أخرى ، أو هدف آخر ، يجاهد في سبيله من يجاهد ، ويستشهد دونه من يستشهد ، فيحق له وعد الله بالجنة . إلا تلك الراية وإلا هذا الهدف . من كل ما يروج في الأجيال المنحرفة التصور من رايات وأسماء وغايات!
ويحسن أن يدرك أصحاب الدعوة هذه اللفتة البديهية ، وأن يخلصوها في نفوسهم من الشوائب التي تعلق بها من منطق البيئة وتصور الأجيال المنحرفة ، وألا يلبسوا برايتهم راية ، ولا يخلطوا بتصورهم تصوراً غريباً على طبيعة العقيدة .لا جهاد إلا لتكون كلمة الله هي العليا . العليا في النفس والضمير . والعليا في الخلق والسلوك . والعليا في الأوضاع والنظم . والعليا في العلاقات والارتباطات في كل أنحاء الحياة . وما عدا هذا فليس لله . ولكن للشيطان . وفيما عدا هذا ليست هناك شهادة ولا استشهاد .{ والذين كفروا فتعساً لهم وأضل أعمالهم } . .وذلك عكس النصر وتثبيت الأقدام . فالدعاء بالتعس قضاء من الله سبحانه بالتعاسة والخيبة والخذلان وإضلال الأعمال ضياع بعد ذلك وفناء . .
{(1/463)
ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم } . .وهو تصوير لما يعتمل في قلوبهم ويختلج في نفوسهم من الكراهية لما أنزل الله من قرآن وشريعة ومنهج واتجاه . وهذا هو الذي يدفع بهم إلى الكفر والعناد والخصومة والملاحاة . وهي حالة كثير من النفوس الفاسدة التي تكره بطبعها ذلك النهج السليم القويم ، وتصادمه من داخلها ، بحكم مغايرة طبيعتها لطبيعته . وهي نفوس يلتقي بها الإنسان كثيراً في كل زمان وفي كل مكان ، ويحسن منها النفرة والكراهية لهذا الدين وما يتصل به؛ حتى إنها لتفزع من مجرد ذكره كما لو كانت قد لذعتها العقارب! وتتجنب أن يجيء ذكره أو الإشارة إليه فيما تسمع حولها من حديث! ولعلنا نشاهد في هذه الأيام حالة من هذا الطراز لا تخفى على الملاحظة!
وكان جزاء هذه الكراهية لما أنزل الله ، أن أحبط الله أعمالهم . وإحباط الأعمال تعبير تصوري على طريقة القرآن الكريم في التعبير بالتصوير . فالحبوط انتفاخ بطون الماشية عند أكلها نوعاً من المرعى سام . ينتهي بها إلى الموت والهلاك . وكذلك انتفخت أعمالهم وورمت وانبعجت . . ثم انتهت إلى الهلاك والضياع! إنها صورة وحركة ، ونهاية مطابقة لحال من كرهوا ما أنزل الله ثم تعاجبوا بالأعمال الضخام .المنتفخة كبطون الأنعام ، حين ترعى من ذلك النبت السام!
ثم يلوي أعناقهم إلى مصارع الغابرين قبلهم في شدة وعنف : { أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم؟ دمر الله عليهم . وللكافرين أمثالها } . .
وهي لفتة عنيفة مروعة ، فيها ضجة وفرقعة . وفيها مشهد للذين من قبلهم يدمر عليهم كل ما حولهم ، وكل مالهم ، فإذا هو أنقاض متراكمة ، وإذا هم تحت هذه الأنقاض المتراكمة . وذلك المشهد الذي يرسمه التعبير مقصود بصورته هذه وحركته ، والتعبير يحمل في إيقاعه وجرسه صورة هذا المشهد وفرقعته في انقضاضه وتحطمه!(1/464)
وعلى المشهد التدمير والتحطيم والردم ، يلوح للحاضرين من الكافرين ، ولكل من يتصف بهذه الصفة بعد ، بأنها في انتظارهم . هذه الوقعة المدمرة التي تدمر عليهم كل شيء وتدفنهم بين الأنقاض : { وللكافرين أمثالها } !
وتفسير هذا الأمر الهائل المروع الذي يدمر على الكافرين وينصر المؤمنين هو القاعدة الأصيلة الدائمة:
{ ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم } . .ومن كان الله مولاه وناصره فحسبه ، وفيه الكفاية والغناء؛ وكل ما قد يصيبه إنما هو ابتلاء وراءه الخير ، لا تخلياً من الله عن ولايته له ، ولا تخلفاً لوعد الله بنصر من يتولاهم من عباده . ومن لم يكن الله مولاه فلا مولى له ، ولو اتخذ الإنس والجن كلهم أولياء . فهو في النهاية مضيع عاجز؛ ولو تجمعت له كل أسباب الحماية وكل أسباب القوة التي يعرفها الناس!
- - - - - - - - - - - -
68.
وجوب طاعة الله والرسول
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (33) سورة محمد
يَأمُرُ اللهُ تَعَالى المُؤْمِنينَ بإطِاعَةِ اللهِ ، وَإطَاعَةِ رَسُولِهِ فِيما يأمُرانِهِمْ بِهِ ، وَفيما يَنْهَيانِهِمْ عَنْهُ ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ إبْطَالِ أَعْمَالِهِم الحَسَنةِ ، بارِتكَابِ المَعَاصِي ، وَفِعْلِ الكَبَائِرِ والنِّفَاقِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأعْمَالِ التي تُبْطِلُ الحَسَناتِ وَتُذْهِبُها .
وهذا التوجيه يوحي بأنه كان في الجماعة المسلمة يومئذ من لا يتحرى الطاعة الكاملة؛ أو من تثقل عليه بعض التكاليف ، وتشق عليه بعض التضحيات ، التي يقتضيها جهاد هذه الطوائف القوية المختلفة التي تقف للإسلام ، وتناوشه من كل جانب؛ والتي تربطها بالمسلمين مصالح ووشائج قربى يصعب فصمها والتخلي عنها نهائياً كما تقتضي العقيدة ذلك .(1/465)
ولقد كان وقع هذا التوجيه عنيفاً عميقاً في نفوس المسلمين الصادقين ، فارتعشت له قلوبهم ، وخافوا أن يقع منهم ما يبطل أعمالهم ، ويذهب بحسناتهم . .
وَقَدْ قَالَ الْإِمَام مُحَمَّد بْن نَصْر الْمَرْوَزِيّ فِي كِتَاب الصَّلَاة حَدَّثَنَا أَبُو قُدَامَة حَدَّثَنَا وَكِيع حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَر الرَّازِيّ عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس عَنْ أَبِي الْعَالِيَة قَالَ كَانَ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يَضُرّ مَعَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه ذَنْب كَمَا لَا يَنْفَع مَعَ الشِّرْك عَمَل فَخَافُوا أَنْ يُبْطِل الذَّنْبُ الْعَمَلَ ثُمَّ رُوِيَ مِنْ طَرِيق عَبْد اللَّه اِبْن الْمُبَارَك أَخْبَرَنِي بَكْر بْن مَعْرُوف عَنْ مُقَاتِل بْن حَيَّان عَنْ نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ : كُنَّا مَعْشَر أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَرَى أَنَّهُ لَيْسَ شَيْء مِنْ الْحَسَنَات إِلَّا مَقْبُول حَتَّى نَزَلَتْ " أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ " فَقُلْنَا مَا هَذَا الَّذِي يُبْطِلُ أَعْمَالَنَا ؟ فَقُلْنَا : الْكَبَائِرُ الْمُوجِبَاتُ وَالْفَوَاحِشُ حَتَّى نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى " إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَك بِهِ وَيَغْفِر مَا دُون ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء " فَلَمَّا نَزَلَتْ كَفَفْنَا عَنْ الْقَوْل فِي ذَلِكَ فَكُنَّا نَخَاف عَلَى مَنْ أَصَابَ الْكَبَائِر وَالْفَوَاحِش وَنَرْجُو لِمَنْ لَمْ يُصِبْهَا ثُمَّ أَمَرَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ الَّتِي هِيَ سَعَادَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَنَهَاهُمْ عَنْ الِارْتِدَاد الَّذِي هُوَ مُبْطِلٌ لِلْأَعْمَالِ ; وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى " وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ(1/466)
" أَيْ بِالرِّدَّةِ .
ومن هذه النصوص يتجلى كيف كانت نفوس المسلمين الصادقين تتلقى آيات القرآن : كيف تهتز لها وتضطرب ، وكيف ترتجف منها وتخاف ، وكيف تحذر أن تقع تحت طائلتها ، وكيف تتحرى أن تكون وفقها ، وأن تطابق أنفسها عليها . . وبهذه الحساسية في تلقي كلمات الله كان المسلمون مسلمين من ذلك الطراز!
- - - - - - - - - - - -
69.
تحريم التقدم على الله ورسوله بقول أو فعل
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1) سورة الحجرات
يُؤدِّبُ اللهُ تَعَالى في هذِهِ الآيَةِ عِبَادَهُ المُؤْمِنينَ ، وَيُعَلِّمُهُمْ أصُولَ مُخَاطَبَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم والتَّعَامُلِ مَعَهُ ، وَتَوْفِيَتِه حَقَّهُ مِنَ التَّوقِيرِ والاحْتِرَامِ . فَيَقُولُ تَعَالى للْمُؤمِنين : لا تُسْرعُوا في القَضَاءِ في أمْرٍ قَبْل أن يَقْضِيَ لَكُم فِيهِ اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَكُونُوا تَبَعاً لِقَضَائِهِما وَأمْرِهما ، وَلاَ تَتَكَلَّمُوا في أمْرٍ قَبْلَ أنْ يَأتِيَ الرَّسولُ عَلَى الكَلامِ فِيهِ ، وَلا تَفْعَلُوا فِعْلاً قَبْْلَ أنْ يَفْعَلَهُ الرَّسُولُ ، واتَّقُوا اللهَ يَا أَيُّها المُؤْمِنُونَ ، فَإِنَّهُ سَمِيعٌ لما تَقُولُونَ ، عَلِيمٌ بِمَا تَفْعَلُونَ .(1/467)
هَذِهِ آيَات أَدَّبَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا يُعَامِلُونَ بِهِ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ التَّوْقِير وَالِاحْتِرَام وَالتَّبْجِيل وَالْإِعْظَام فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى" يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْن يَدَيْ اللَّه وَرَسُوله " أَيْ لَا تُسْرِعُوا فِي الْأَشْيَاء بَيْن يَدَيْهِ أَيْ قَبْلَهُ بَلْ كُونُوا تَبَعًا فِي جَمِيع الْأُمُور حَتَّى يَدْخُل فِي عُمُوم هَذَا الْأَدَب الشَّرْعِيّ حَدِيثُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حَيْثُ قَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَن " بِمَ تَحْكُمُ ؟ " قَالَ بِكِتَابِ اللَّه تَعَالَى قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَإِنْ لَمْ تَجِد ؟ " قَالَ بِسُنَّةِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَإِنْ لَمْ تَجِد ؟ " قَالَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَجْتَهِد رَأْيِي فَضَرَبَ فِي صَدْره وَقَالَ" الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَهْ فَالْغَرَض مِنْهُ أَنَّهُ أَخَّرَ رَأْيه وَنَظَرَهُ وَاجْتِهَاده إِلَى مَا بَعْد الْكِتَاب وَالسُّنَّة وَلَوْ قَدَّمَهُ قَبْل الْبَحْث عَنْهُمَا لَكَانَ مِنْ بَاب التَّقْدِيم بَيْن يَدَيْ اللَّه وَرَسُوله فَقَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا " لَا تُقَدِّمُوا بَيْن يَدَيْ اللَّه وَرَسُوله " لَا تَقُولُوا خِلَاف الْكِتَاب وَالسُّنَّة وَقَالَ الْعَوْفِيّ عَنْهُ : نُهُوا أَنْ يَتَكَلَّمُوا بَيْن يَدَيْ كَلَامه وَقَالَ مُجَاهِد لَا تَفْتَاتُوا عَلَى رَسُول(1/468)
اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ حَتَّى يَقْضِي اللَّه تَعَالَى عَلَى لِسَانه وَقَالَ الضَّحَّاك لَا تَقْضُوا أَمْرًا دُون اللَّه وَرَسُوله مِنْ شَرَائِع دِينكُمْ وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ" لَا تُقَدِّمُوا بَيْن يَدَيْ اللَّه وَرَسُوله " بِقَوْلٍ وَلَا فِعْل وَقَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ " لَا تُقَدِّمُوا بَيْن يَدَيْ اللَّه وَرَسُوله " قَالَ لَا تَدْعُوا قَبْل الْإِمَام وَقَالَ قَتَادَة ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَاسًا كَانُوا يَقُولُونَ لَوْ أُنْزِلَ فِي كَذَا وَكَذَا لَوْ صَحَّ كَذَا فَكَرِهَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ وَتَقَدَّمَ فِيهِ" وَاتَّقُوا اللَّه " أَيْ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ " إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ " أَيْ لِأَقْوَالِكُمْ " عَلِيم " بِنِيَّاتِكُمْ .
فهو أدب نفسي مع الله ورسوله . وهو منهج في التلقي والتنفيذ . وهو أصل من أصول التشريع والعمل في الوقت ذاته . . وهو منبثق من تقوى الله ، وراجع إليها . هذه التقوى النابعة من الشعور بأن الله سميع عليم . . وكل ذلك في آية واحدة قصيرة ، تلمس وتصور كل هذه الحقائق الأصيلة الكبيرة .
وكذلك تأدب المؤمنون مع ربهم ومع رسولهم؛ فما عاد مقترح منهم يقترح على الله ورسوله؛ وما عاد واحد منهم يدلي برأي لم يطلب منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدلي به؛ وما عاد أحد منهم يقضي برأيه في أمر أو حكم ، إلا أن يرجع قبل ذلك إلى قول الله وقول الرسول . .
وحتى لكأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألهم عن اليوم الذي هم فيه ، والمكان الذي هم فيه ، وهم يعلمونه حق العلم ، فيتحرجون أن يجيبوا إلا بقولهم : الله ورسوله أعلم . خشية أن يكون في قولهم تقدم بين يدي الله ورسوله!(1/469)
روى أحمد في مسنده عَنْ أَبِى بَكْرَةَ قَالَ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ النَّحْرِ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ - قَالَ - فَجَعَلَ يَتَكَلَّمُ هَا هُنَا مَرَّةً وَهَا هُنَا مَرَّةً عِنْدَ كُلِّ قَوْمٍ ثُمَّ قَالَ « أَىُّ يَوْمٍ هَذَا ». قَالَ فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ غَيْرَ اسْمِهِ قَالَ « أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ ». قَالَ قُلْنَا بَلَى. ثُمَّ قَالَ « أَىُّ شَهْرٍ هَذَا ». قَالَ فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ غَيْرَ اسْمِهِ قَالَ ثُمَّ قَالَ « أَلَيْسَ ذَا الْحِجَّةِ ». قَالَ قُلْنَا بَلَى. ثُمَّ قَالَ « أَىُّ بَلَدٍ هَذَا ». قَالَ فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ غَيْرَ اسْمِهِ قَالَ ثُمَّ قَالَ « أَلَيْسَ الْبَلْدَةَ الْحَرَامَ ». قَالَ قُلْنَا بَلَى. قَالَ « فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ إِلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبَّكُمْ تَعَالَى كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِى شَهْرِكُمْ هَذَا فِى بَلَدِكُمْ هَذَا ». ثُمَّ قَالَ « لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ فَلَعَلَّ الْغَائِبَ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنَ الشَّاهِدِ ».
فهذه صورة من الأدب ، ومن التحرج ، ومن التقوى ، التي انتهى إليها المسلمون بعد سماعهم ذلك النداء ، وذلك التوجيه ، وتلك الإشارة إلى التقوى ، تقوى الله السميع العليم .
- - - - - - - - - - - -
70.
النهي عن رفع الصوت عند رسول الله والتأدب في خطابه(1/470)
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) } سورة الحجرات
إِذا نَطَقْتُمْ وَأنْتُمْ في حَضْرَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَلاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوتِهِ ، وَلاَ تْبلُغُوا بها الحَدَّ الذي يَبْلُغُهُ صَوْتُهُ ، لأنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ الاحْتِرَامِ . وَإِذا كَلَّمْتُمُوهُ وَهُوَ صَامِتٌ فَلاَ تَبْلُغُوا بهِ الجَهْرَ الذي يَدُورُ بَيَنكُم ، وإذا كَلَّمْتُمُوهُ فَلا تَقُولُوا لَهُ : يا محمَّدُ ، بَلْ خَاطُبوهُ بالنُّبُوَّةِ ( كَيَا نَبِيَّ اللهِ ، وَيَا رَسُولَ اللهِ ) مَخَافَةَ أَنْ يُؤْدِّيَ ، ذلِكَ التَّهَاوُنُ فِي تَوْفِيَةِ الرَّسُولِ حَقَّهُ مِنَ الاحتِرامِ ، إِلى الكُفْرِ وَبُطْلانِ الأعْمَالِ ، وَأنتُمْ لاَ تَشْعُرونَ بِذلِك .
((1/471)
رُوِي أَنَّ هذهِ الآية نَزَلَتْ في أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، فَقَدْ جَاء وَفْدٌ مِنْ تَميمٍ فأَشَارَ أَبُو بَكْر عَلَى النَّبِيِّ بأنْ يُؤمِّرَ عَليهِم القَعْقَاعَ بْنَ مَعْبَدٍ ، وَأشَارَ عُمَرُ بأنْ يُؤَمِّرَ عَلَيهِم الأقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ ، فَتَمارِيا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ، وارْتَفَعَتْ أصْوَاتُهُما فَلَمَّا نَزَلَتْ هذِهِ الآيَةُ كَانَ أَبُو بَكرٍ لاَ يُكَلِّمُ الرَّسُولَ إِلا هَمْساً ، وَكَانَ عُمَرُ يَتَكَلَّمُ فَلاَ يَسْمَعُهُ الرَّسُولُ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ ).
والذِينَ يَخْفِضُونَ أصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَهُمْ يَتَكَلَّمُونَ في حَضْرَتِهِ إِجْلالاً واحتِراماً ، هُمُ الذِينَ ابتْلَى اللهُ قُلُوبَهم بالمِحَنِ والتَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ ، حَتَّى تَطَهَّرَتْ وَصَفَتْ بِما كَابَدَتْهُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى المَشَاقِّ ، وَهَؤُلاءِ لَهُم مَغْفِرةٌ مِنْ رَبِّهمْ لذُنُوبِهمْ ، وَلَهُم ثَوَابٌ عَظِيمٌ عَلَى غَضِّهم أصْواتَهم عِنْدَ النَّبِيِّ احتِراماً مِنْهُمْ لَهُ ، وَتَعْظِيماً لِقَدْرِهِ .
اجْتَمعَ أناسٌ مِنَ العَرَبِ فَقَالُوا : انْطَلِقُوا بِنا إِلى هَذَا الرَّجلِ ، فَإِنْ كَانَ نَبِيّاً فَنَحْنَ أسْعَدُ النَّاسِ بِهِ ، وَإِنْ يَكُنْ مَلِكاً نَعِشْ بِجَنَاحِهِ ، فَجَاؤُوا إلى حُجْرِةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلُوا يُنَادُونَهُ وَهُو في حُجْرتِهِ : يَا مُحَمَّدُ . فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالى هَذِهِ الآيةَ الكَريمةَ تأدِيباً لهؤُلاءِ وأمْثَالِهِمْ ، الذِينَ يَأتُونَ إِلى النَّبيِّ ، وَهُوَ في بَيْتِهِ مَعَ نِسَائِهِ ، فَيُنَادُونَهُ بأصْواتٍ مُرْتَفِعةٍ لِيَخْرُجَ إليهِمْ .
وَيَقُولُ تَعَالى : إِنَّ الذِينَ يَفْعَلُون ذَلِكَ أكْثَرُهُم جُهَّالٌ بِمَا يَجِبُ لِلرَّسُولِ مِنَ التَّعظِيمِ وَالاحتِرامِ .(1/472)
وَلَوْ أنَّ هؤلاءِ الذِينَ جَاؤُوكَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُراتِ بِأصْواتٍ مُرْتَفِعَةٍ ، صَبَرُوا وَلَمْ يُنَادُوكَ حَتَّى تَخْرُجَ أنْتَ إليهِمْ ، لَكَانَ ذَلِكَ خَيْراً لَهُمْ عِنْدَ اللهِ ، لأَنَّهُمْ يَكُونُونَ بِذَلِكَ قَدْ بَرْهَنُوا عَلى مَا يُكِنُّونَهُ لَكَ مِنَ الاحتِرَامِ وَالتَّوقِيرِ .
-------------
هَذَا أَدَب ثَانٍ أَدَّبَ اللَّه تَعَالَى بِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يَرْفَعُوا أَصْوَاتهمْ بَيْن يَدَيْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوْق صَوْته , وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الشَّيْخَيْنِ أَبِي بَكْر وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا(1/473)
قَالَ الْبُخَارِيّ : حَدَّثَنَا يَسَرَة بْن صَفْوَان اللَّخْمِيّ حَدَّثَنَا نَافِع بْن عُمَر عَنْ اِبْن أَبِي مُلَيْكَة قَالَ : كَادَ الْخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلِكَا أَبُو بَكْر وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا رَفَعَا أَصْوَاتَهُمَا عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين قَدِمَ عَلَيْهِ رَكْب بَنِي تَمِيم فَأَشَارَ أَحَدهمَا بِالْأَقْرَعِ بْن حَابِس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَخِي بَنِي مُجَاشِع وَأَشَارَ الْآخَر بِرَجُلٍ آخَر قَالَ نَافِع لَا أَحْفَظ اِسْمه فَقَالَ أَبُو بَكْر لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا مَا أَرَدْت إِلَّا خِلَافِي قَالَ مَا أَرَدْت خِلَافَك فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتهمَا فِي ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتكُمْ فَوْق صَوْت النَّبِيّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَط أَعْمَالكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ " قَالَ اِبْن الزُّبَيْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فَمَا كَانَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يُسْمِعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد هَذِهِ الْآيَة حَتَّى يَسْتَفْهِمهُ وَلَمْ يَذْكُر ذَلِكَ عَنْ أَبِيهِ يَعْنِي أَبَا بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ اِنْفَرَدَ بِهِ دُون مُسْلِم ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيّ حَدَّثَنَا حَسَن بْن مُحَمَّد حَدَّثَنَا حَجَّاج عَنْ اِبْن جُرَيْج حَدَّثَنِي اِبْن أَبِي مُلَيْكَة أَنَّ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَدِمَ رَكْب مِنْ بَنِي تَمِيم عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَمِّرْ الْقَعْقَاعَ بْن مَعْبَد وَقَالَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بَلْ أَمِّرْ الْأَقْرَع بْن حَابِس فَقَالَ أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه(1/474)
عَنْهُ مَا أَرَدْت إِلَّا خِلَافِي فَقَالَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مَا أَرَدْت خِلَافَك فَتَمَارَيَا حَتَّى اِرْتَفَعَتْ أَصْوَاتهمَا فَنَزَلَتْ فِي ذَلِكَ " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْن يَدَيْ اللَّه وَرَسُوله " حَتَّى اِنْقَضَتْ الْآيَة " وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُج إِلَيْهِمْ " الْآيَة وَهَكَذَا رَوَاهُ هَهُنَا مُنْفَرِدًا بِهِ أَيْضًا(1/475)
وَقَالَ الْبُخَارِيّ حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن عَبْد اللَّه حَدَّثَنَا أَزْهَر بْن سَعْد أَخْبَرَنَا اِبْن عَوْن أَنْبَأَنِي مُوسَى بْن أَنَس عَنْ أَنَس بْن مَالِك رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِفْتَقَدَ ثَابِت بْن قَيْس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَالَ رَجُل يَا رَسُول اللَّه أَنَا أَعْلَم لَك عِلْمه فَأَتَاهُ فَوَجَدَهُ فِي بَيْته مُنَكِّسًا رَأْسه فَقَالَ لَهُ مَا شَأْنك ؟ فَقَالَ شَرٌّ كَانَ يَرْفَعُ صَوْته فَوْق صَوْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ فَهُوَ مِنْ أَهْل النَّار فَأَتَى الرَّجُلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ كَذَا وَكَذَا قَالَ مُوسَى فَرَجَعَ إِلَيْهِ الْمَرَّة الْآخِرَة بِبِشَارَةٍ عَظِيمَة فَقَالَ " اِذْهَبْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ إِنَّك لَسْت مِنْ أَهْل النَّار وَلَكِنَّك مِنْ أَهْل الْجَنَّة " تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيّ مِنْ هَذَا الْوَجْه وَقَالَ الْإِمَام أَحْمَد حَدَّثَنَا هَاشِم حَدَّثَنَا سُلَيْمَان بْن الْمُغِيرَة عَنْ ثَابِت عَنْ أَنَس بْن مَالِك رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتكُمْ فَوْق صَوْت النَّبِيّ إِلَى قَوْله وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ " وَكَانَ ثَابِت بْن قَيْس بْن الشَّمَّاس رَفِيع الصَّوْت فَقَالَ أَنَا الَّذِي كُنْت أَرْفَعُ صَوْتِي عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا مِنْ أَهْل النَّار حَبِطَ عَمَلِي وَجَلَسَ فِي أَهْله حَزِينًا فَفَقَدَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلَقَ بَعْض الْقَوْم إِلَيْهِ فَقَالُوا لَهُ تَفَقَّدَك رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالَك ؟ قَالَ أَنَا الَّذِي(1/476)
أَرْفَعُ صَوْتِي فَوْق صَوْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجْهَر لَهُ بِالْقَوْلِ حَبِطَ عَمَلِي أَنَا مِنْ أَهْل النَّار فَأَتَوْا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ بِمَا قَالَ فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا بَلْ هُوَ مِنْ أَهْل الْجَنَّة " قَالَ أَنَس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَكُنَّا نَرَاهُ يَمْشِي بَيْن أَظْهُرِنَا وَنَحْنُ نَعْلَم أَنَّهُ مِنْ أَهْل الْجَنَّة فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْيَمَامَة كَانَ فِينَا بَعْض الِانْكِشَاف فَجَاءَ ثَابِت بْن قَيْس بْن شَمَّاس وَقَدْ تَحَنَّطَ وَلَبِسَ كَفَنه فَقَالَ بِئْسَمَا تَعُودُونَ أَقْرَانكُمْ فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَقَالَ مُسْلِم حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن مُوسَى حَدَّثَتَا حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ ثَابِت الْبُنَانِيّ عَنْ أَنَس بْن مَالِك رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتكُمْ فَوْق صَوْت النَّبِيّ " إِلَى آخِر الْآيَة جَلَسَ ثَابِت رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي بَيْته قَالَ أَنَا مِنْ أَهْل النَّار وَاحْتَبَسَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدِ بْن مُعَاذ " يَا أَبَا عَمْرو مَا شَأْن ثَابِت أَشْتَكَى ؟ " فَقَالَ سَعْد رَضِيَ اللَّه عَنْهُ إِنَّهُ لَجَارِي وَمَا عَلِمْت لَهُ بِشَكْوَى قَالَ فَأَتَاهُ سَعْد رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَذَكَرَ لَهُ قَوْل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ثَابِت رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْفَعِكُمْ صَوْتًا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ(1/477)
وَسَلَّمَ فَأَنَا مِنْ أَهْل النَّار فَذَكَرَ ذَلِكَ سَعْد رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" بَلْ هُوَ مِنْ أَهْل الْجَنَّة " ثُمَّ رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ أَحْمَد بْن سَعِيد الدَّارِمِيّ عَنْ حَيَّان بْن هِلَال عَنْ سُلَيْمَان بْن الْمُغِيرَة بِهِ قَالَ وَلَمْ يَذْكُر سَعْد بْن مُعَاذ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَعَنْ قَطَن بْن نُسَيْر عَنْ جَعْفَر بْن سُلَيْمَان عَنْ ثَابِت عَنْ أَنَس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بِنَحْوِهِ وَقَالَ لَيْسَ فِيهِ ذِكْر سَعْد بْن مُعَاذ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حَدَّثَنِي هُدْبَة بْن عَبْد الْأَعْلَى الْأَسَدِيّ حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِر بْن سُلَيْمَان سَمِعْت أَبِي يَذْكُر عَنْ أَنَس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فَاقْتَصَّ الْحَدِيث وَلَمْ يَذْكُر سَعْد بْن مُعَاذ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَزَادَ : فَكُنَّا نَرَاهُ يَمْشِي بَيْن أَظْهُرِنَا رَجُل مِنْ أَهْل الْجَنَّة فَهَذِهِ الطُّرُق الثَّلَاث مُعَلِّلَة لِرِوَايَةِ حَمَّاد بْن سَلَمَة فِيمَا تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ ذِكْر سَعْد بْن مُعَاذ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَالصَّحِيح أَنَّ حَال نُزُول هَذِهِ الْآيَة لَمْ يَكُنْ سَعْد بْن مُعَاذ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مَوْجُودًا لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ مَاتَ بَعْد بَنِي قُرَيْظَة بِأَيَّامٍ قَلَائِل سَنَة خَمْس وَهَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي وَفْد بَنِي تَمِيم وَالْوُفُود إِنَّمَا تَوَاتَرُوا فِي سَنَة تِسْع مِنْ الْهِجْرَة وَاَللَّه أَعْلَم(1/478)
وَقَالَ اِبْن جَرِير حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب حَدَّثَنَا زَيْد بْن الْحُبَاب حَدَّثَنَا أَبُو ثَابِت بْن ثَابِت بْن قَيْس بْن شَمَّاس حَدَّثَنِي عَمِّي إِسْمَاعِيل بْن مُحَمَّد بْن ثَابِت بْن قَيْس بْن شَمَّاس عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة " لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتكُمْ فَوْق صَوْت النَّبِيّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ " قَالَ قَعَدَ ثَابِت بْن قَيْس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي الطَّرِيق يَبْكِي قَالَ فَمَرَّ بِهِ عَاصِم بْن عَدِيّ مِنْ بَنِي الْعَجْلَان فَقَالَ مَا يُبْكِيك يَا ثَابِت ؟ قَالَ هَذِهِ الْآيَة أَتَخَوَّف أَنْ تَكُون نَزَلَتْ فِيَّ وَأَنَا صَيِّت رَفِيع الصَّوْت قَالَ فَمَضَى عَاصِم بْن عَدِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَغَلَبَهُ الْبُكَاء فَأَتَى اِمْرَأَته جَمِيلَة اِبْنَة عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ بْن سَلُول فَقَالَ لَهَا إِذَا دَخَلْت بَيْت فَرْشِي فَشُدِّي عَلَيَّ الضَّبَّةَ بِمِسْمَارٍ فَضَرَبَتْهُ بِمِسْمَارٍ حَتَّى إِذَا خَرَجَ عَطَفَهُ وَقَالَ لَا أَخْرُج حَتَّى يَتَوَفَّانِي اللَّهُ تَعَالَى أَوْ يَرْضَى عَنِّي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَأَتَى عَاصِم رَضِيَ اللَّه عَنْهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ خَبَره فَقَالَ " اِذْهَبْ فَادْعُهُ لِي " فَجَاءَ عَاصِم رَضِيَ اللَّه عَنْهُ إِلَى الْمَكَان فَلَمْ يَجِدهُ فَجَاءَ إِلَى أَهْله فَوَجَدَهُ فِي بَيْت الْفَرْش فَقَالَ لَهُ إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوك فَقَالَ اِكْسِرْ الضَّبَّة قَالَ فَخَرَجَا فَأَتَيَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" مَا يُبْكِيك(1/479)
يَا ثَابِت ؟ " فَقَالَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَا صَيِّت وَأَتَخَوَّف أَنْ تَكُون هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِيَّ " لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتكُمْ فَوْق صَوْت النَّبِيّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ" فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَمَا تَرْضَى أَنْ تَعِيش حَمِيدًا وَتُقْتَلَ شَهِيدًا وَتَدْخُل الْجَنَّة ؟ " فَقَالَ رَضِيت بِبُشْرَى اللَّه تَعَالَى وَرَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَرْفَع صَوْتِي أَبَدًا عَلَى صَوْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى" إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتهمْ عِنْد رَسُول اللَّه أُولَئِكَ الَّذِينَ اِمْتَحَنَ اللَّه قُلُوبهمْ لِلتَّقْوَى " الْآيَة وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ التَّابِعِينَ كَذَلِكَ فَقَدْ نَهَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَنْ رَفْع الْأَصْوَات بِحَضْرَةِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ و
َقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ صَوْت رَجُلَيْنِ فِي مَسْجِد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ اِرْتَفَعَتْ أَصْوَاتهمَا فَجَاءَ فَقَالَ أَتَدْرِيَانِ أَيْنَ أَنْتُمَا ؟ ثُمَّ قَالَ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا ؟ قَالَا مِنْ أَهْل الطَّائِف فَقَالَ لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْل الْمَدِينَة لَأَوْجَعْتُكُمَا ضَرْبًا(1/480)
وَقَالَ الْعُلَمَاء : يُكْرَه رَفْع الصَّوْت عِنْد قَبْره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا كَانَ يُكْرَه فِي حَيَاته عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لِأَنَّهُ مُحْتَرَم حَيًّا وَفِي قَبْره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَائِمًا ثُمَّ نَهَى عَنْ الْجَهْر لَهُ بِالْقَوْلِ كَمَا يَجْهَر الرَّجُلُ لِمُخَاطِبِهِ مِمَّنْ عَدَاهُ بَلْ يُخَاطَب بِسَكِينَةٍ وَوَقَار وَتَعْظِيم وَلِهَذَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى " وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضكُمْ لِبَعْضٍ " كَمَا قَالَ تَعَالَى " لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُول بَيْنكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضكُمْ بَعْضًا " وَقَوْله عَزَّ وَجَلَّ " أَنْ تَحْبَط أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ " أَيْ إِنَّمَا نَهَيْنَاكُمْ عَنْ رَفْع الصَّوْت عِنْده خَشْيَة أَنْ يَغْضَب مِنْ ذَلِكَ فَيَغْضَب اللَّه تَعَالَى لِغَضَبِهِ فَيَحْبَط عَمَل مَنْ أَغْضَبَهُ وَهُوَ لَا يَدْرِي كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيح " إِنَّ الرَّجُل لَيَتَكَلَّم بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَان اللَّه تَعَالَى لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يُكْتَب لَهُ بِهَا الْجَنَّة وَإِنَّ الرَّجُل لَيَتَكَلَّم بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَط اللَّه تَعَالَى لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي النَّار أَبْعَدَ مَا بَيْن السَّمَاء وَالْأَرْض " ثُمَّ نَدَبَ اللَّه تَعَالَى إِلَى خَفْضِ الصَّوْتِ عِنْده وَحَثَّ عَلَى ذَلِكَ وَأَرْشَدَ إِلَيْهِ وَرَغَّبَ فِيهِ فَقَالَ .
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ(1/481)
أَيْ أَخْلَصَهَا لَهَا وَجَعَلَهَا أَهْلًا وَمَحَلًّا" لَهُمْ مَغْفِرَة وَأَجْر عَظِيم " وَقَدْ قَالَ الْإِمَام أَحْمَد فِي كِتَاب الزُّهْد حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن حَدَّثَنَا سُفْيَان عَنْ مَنْصُور عَنْ مُجَاهِد قَالَ كُتِبَ إِلَى عُمَرَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رَجُلٌ لَا يَشْتَهِي الْمَعْصِيَةَ وَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَفْضَلُ أَمْ رَجُلٌ يَشْتَهِي الْمَعْصِيَةَ وَلَا يَعْمَلُ بِهَا ؟ فَكَتَبَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَهُونَ الْمَعْصِيَة وَلَا يَعْمَلُونَ بِهَا " أُولَئِكَ الَّذِينَ اِمْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبهمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَة وَأَجْر عَظِيم " .(1/482)
ثُمَّ إِنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَمَّ الَّذِينَ يُنَادُونَهُ مِنْ وَرَاء الْحُجُرَات وَهِيَ بُيُوت نِسَائِهِ كَمَا يَصْنَع أَجْلَاف الْأَعْرَاب فَقَالَ " أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ" وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَقْرَع بْن حَابِس التَّمِيمِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِيمَا أَوْرَدَهُ غَيْر وَاحِد قَالَ الْإِمَام أَحْمَد حَدَّثَنَا عَفَّان حَدَّثَنَا وُهَيْب حَدَّثَنَا مُوسَى بْن عُقْبَة عَنْ أَبِي سَلَمَة بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ الْأَقْرَع بْن حَابِس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ نَادَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا مُحَمَّد يَا مُحَمَّد وَفِي رِوَايَة يَا رَسُول اللَّه فَلَمْ يُجِبْهُ فَقَالَ يَا رَسُول اللَّه إِنَّ حَمْدِي لَزَيْنٌ وَإِنَّ ذَمِّي لَشَيْنٌ فَقَالَ " ذَاكَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " ثُمَّ أَرْشَدَ تَعَالَى إِلَى الْأَدَب فِي ذَلِكَ وَقَالَ اِبْن جَرِير حَدَّثَنَا أَبُو عَمَّار الْحُسَيْن بْن حُرَيْث الْمَرْوَزِيّ حَدَّثَنَا الْفَضْل بْن مُوسَى عَنْ الْحُسَيْن بْن وَاقِد عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ الْبَرَاء فِي قَوْله تَبَارَكَ وَتَعَالَى " إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَك مِنْ وَرَاء الْحُجُرَات " قَالَ جَاءَ رَجُل إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا مُحَمَّد إِنَّ حَمْدِي زَيْنٌ وَذَمِّي شَيْن فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" ذَاكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ " وَهَكَذَا ذَكَرَهُ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَقَتَادَة مُرْسَلًا وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ عَنْ حَبِيب بْن أَبِي عَمْرَة قَالَ كَانَ بِشْر بْن غَالِب وَلَبِيد بْن عُطَارِد أَوْ بِشْر بْن عُطَارِد وَلَبِيد بْن غَالِب وَهُمَا عِنْد الْحَجَّاج جَالِسَانِ فَقَالَ بِشْر بْن غَالِب لِلَبِيد بْن عُطَارِد نَزَلَتْ فِي قَوْمك بَنِي تَمِيم " إِنَّ(1/483)
الَّذِينَ يُنَادُونَك مِنْ وَرَاء الْحُجُرَات" قَالَ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِسَعِيدِ بْن جُبَيْر فَقَالَ أَمَا إِنَّهُ لَوْ عَلِمَ بِآخِرِ الْآيَة أَجَابَهُ " يَمُنُّونَ عَلَيْك أَنْ أَسْلَمُوا" قَالُوا أَسْلَمْنَا وَلَمْ يُقَاتِلك بَنُو أَسَد وَقَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَمْرو بْن عَلِيّ الْبَاهِلِيّ حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِر بْن سُلَيْمَان قَالَ سَمِعْت دَاوُدَ الطَّائِيّ يُحَدِّث عَنْ أَبِي مُسْلِم الْبَجَلِيّ عَنْ زَيْد بْن أَرْقَمَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : اِجْتَمَعَ أُنَاس مِنْ الْعَرَب فَقَالُوا اِنْطَلِقُوا بِنَا إِلَى هَذَا الرَّجُل فَإِنْ يَكُ نَبِيًّا فَنَحْنُ أَسْعَدُ النَّاسِ بِهِ وَإِنْ يَكُ مَلِكًا نَعِشْ بِجَنَاحِهِ قَالَ فَأَتَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْته بِمَا قَالُوا فَجَاءُوا إِلَى حُجْرَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلُوا يُنَادُونَهُ وَهُوَ فِي حُجْرَته يَا مُحَمَّد يَا مُحَمَّد فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى " إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَك مِنْ وَرَاء الْحُجُرَات أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ " قَالَ فَأَخَذَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُذُنِي فَمَدَّهَا فَجَعَلَ يَقُولُ" لَقَدْ صَدَّقَ اللَّه تَعَالَى قَوْلَك يَا زَيْدُ لَقَدْ صَدَّقَ اللَّهُ قَوْلَك يَا زَيْد " وَرَوَاهُ اِبْن جَرِير عَنْ الْحَسَن بْن عَرَفَة عَنْ الْمُعْتَمِر بْن سُلَيْمَان بِهِ .
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
أَيْ لَكَانَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْخِيرَة وَالْمَصْلَحَة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ثُمَّ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى التَّوْبَة وَالْإِنَابَة " وَاَللَّه غَفُور رَحِيم " .(1/484)
فهكذا ارتعشت قلوبهم وارتجفت تحت وقع ذلك النداء الحبيب ، وذلك التحذير الرعيب؛ وهكذا تأدبوا في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون . ولو كانوا يشعرون لتداركوا أمرهم! ولكن هذا المنزلق الخافي عليهم كان أخوف عليهم ، فخافوه واتقوه!
ونوه الله بتقواهم ، وغضهم أصواتهم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تعبير عجيب :
{ إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى . لهم مغفرة وأجر عظيم } . .
فالتقوى هبة عظيمة ، يختار الله لها القلوب ، بعد امتحان واختبار ، وبعد تخليص وتمحيص ، فلا يضعها في قلب إلا وقد تهيأ لها ، وقد ثبت أنه يستحقها . والذين يغضون أصواتهم عند رسول الله قد اختبر الله قلوبهم وهيأها لتلقي تلك الهبة . هبة التقوى . وقد كتب لهم معها وبها المغفرة والأجر العظيم .
إنه الترغيب العميق ، بعد التحذير المخيف .
وقد وعى المسلمون هذا الأدب الرفيع ، وتجاوزوا به شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى كل أستاذ وعالم . لا يزعجونه حتى يخرج إليهم؛ ولا يقتحمون عليه حتى يدعوهم . . يحكى عن أبي عبيد - العالم الزاهد الراوية الثقة - أنه قال : « ما دققت باباً على عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه » . .
- - - - - - - - - - - -
71.
وجوب التثبت عند نقل الأخبار
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (6) سورة الحجرات(1/485)
وهذا أيضًا، من الآداب التي على أولي الألباب، التأدب بها واستعمالها، وهو أنه إذا أخبرهم فاسق بخبر أن يتثبتوا في خبره، ولا يأخذوه مجردًا، فإن في ذلك خطرًا كبيرًا، ووقوعًا في الإثم، فإن خبره إذا جعل بمنزلة خبر الصادق العدل، حكم بموجب ذلك ومقتضاه، فحصل من تلف النفوس والأموال، بغير حق، بسبب ذلك الخبر ما يكون سببًا للندامة، بل الواجب عند خبر الفاسق، التثبت والتبين، فإن دلت الدلائل والقرائن على صدقه، عمل به وصدق، وإن دلت على كذبه، كذب، ولم يعمل به، ففيه دليل، على أن خبر الصادق مقبول، وخبر الكاذب، مردود، وخبر الفاسق متوقف فيه كما ذكرنا، ولهذا كان السلف يقبلون روايات كثير [من] الخوارج، المعروفين بالصدق، ولو كانوا فساقًا.
وفي هَذِهِ الآيةِ يَأمُرُ اللهُ تَعَالى المُؤْمِنينَ بأنْ لاَ يَتَعجَّلُوا في حَسْمِ الأمُورِ وَتَصْدِيقِ الأخْبَارِ التي يَأتِيهِمْ بها أناسٌ فَسَقَةٌ ، غَيْرُ مأمُونينَ في خُلُقِهِمْ وَدِينِهِمْ وَرِوَايَتِهِمْ ، لأنَّ مَنْ لا يُبَالي بالفِسْقِ فَهُوَ أجْدَرُ بأنْ لا يُبَالي بالكَذِبِ ، ولا يَتَحَامَاهُ ، وَقَدْ يُؤدِّي التَّعْجِيلُ في تَصْدِيقِ الأنباءِ التِي يَنْقُلُها الفُسَّاقُ إلى إصَابةِ أناسٍ أبْرياءَ بأذًى ، والمُؤْمِنُونَ يَجْهَلُونَ حَالَهم ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الإِيذاءُ سَبَباً لِنَدامَتِهِمْ عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُمْ .(1/486)
ويخصص الفاسق لأنه مظنة الكذب . وحتى لا يشيع الشك بين الجماعة المسلمة في كل ما ينقله أفرادها من أنباء ، فيقع ما يشبه الشلل في معلوماتها . فالأصل في الجماعة المؤمنة أن يكون أفرادها موضع ثقتها ، وأن تكون أنباؤهم مصدقة مأخوذاً بها . فأما الفاسق فهو موضع الشك حتى يثبت خبره . وبذلك يستقيم أمر الجماعة وسطاً بين الأخذ والرفض لما يصل إليها من أنباء . ولا تعجل الجماعة في تصرف بناء على خبر فاسق . فتصيب قوماً بظلم عن جهالة وتسرع . فتندم على ارتكابها ما يغضب الله ، ويجانب الحق والعدل في اندفاع .
والأخذ بخبر الصالح جزء من منهج التثبت لأنه أحد مصادره . أما الشك المطلق في جميع المصادر وفي جميع الأخبار ، فهو مخالف لأصل الثقة المفروض بين الجماعة المؤمنة ، ومعطل لسير الحياة وتنظيمها في الجماعة . والإسلام يدع الحياة تسير في مجراها الطبيعي ، ويضع الضمانات والحواجز فقط لصيانتها لا لتعطيلها ابتداء .
- - - - - - - - - - - -
72.
تحريم السخرية بالمؤمنين ونحوها
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (11) سورة الحجرات
يَنْهَى اللهُ تَعَالى المُؤْمنينَ عنِ السُّخرِيةِ مِنْ إِخْوانِهِم المُؤْمِنينَ ، وَالاستْهزاءِ بِهِمْ ، وَاسْتصْغَارِ شأَنِهِم ، فَقَدْ يَكُونُ المُسْتَهزَأ بهِ أكْرَمَ عِنْدَ اللهِ مِنَ السَّاخِرِ مِنهُ ، وَالمُحتقِر لهُ ، فَيَظْلمُ نَفْسَه بِتَحْقيرِ مَنْ وَقَّرَهُ اللهُ .(1/487)
كَمَا نَهى تَعَالى النِّساءَ المُؤْمِنَاتِ عَنْ أنْ يَسْخَرْنَ مِنْ أخَواتِهِنَّ المُؤْمِنَاتِ ، فَقَدْ تَكُونُ المُسْتَهزأ بِها أكرَمَ عِنْدَ اللهِ مِنَ السَّاخِرةِ مِنْها . كَما أمَرَ اللهُ المُؤْمِنينَ بألاَّ يَغْتَابَ بَعْضُهُم بَعْضاً ، وَبأنْ لاَ يَعِيبَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً ، وَبأنْ لا يَطْعَنَ بَعْضهُمْ في بَعْضٍ . وَاعْتَبَرَ تَعَالى لَمْزَ الإِنسَانِ أخَاهُ كَلمْزِهِ نَفْسَهُ ، وَطَعنَهُ أخَاه كَطَعْنِهِ في نَفْسِهِ ، لأنَّ المُسْلِمينَ جِسَدٌ وَاحِدٌ إِنِ اشتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بالسَّهرِ وَالحمى . كَما قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم .
وأمرُ الله تَعَالى المُؤْمِنينَ بأنْ لاَ يَدْعُو بَعْضُهُمْ بَعْضاً بِلَقَبِ يَسُوؤُهُ أو يَكْرَهُهُ ، كَأنْ يَقُولَ مُسْلِمٌ لأخِيهِ المُسْلِمِ : يا فَاجِرُ ، أوْ يَا غَادِرُ أو يَا عَدُوَّ اللهِ أو يَا مُنَافِقُ . . .
( وَقَالَ ابنُ عَبّاس : " إنَّ التَّنَابُزَ بالألْقَابِ أنْ يَكُونَ الرَّجُلُ عَمِلَ السِّيئَاتِ ثُمَّ تَابَ ، وَرَجَعَ إِلى الحَقِّ ، فَنَهى اللهُ تَعَالى أنْ يُعَيَّر بِما سَلَفَ مِنْ عَمَلِهِ " ) .
وَبِئْسَتِ الصِّفَةُ ، وَبِئْسَ الاسْمُ للْمُؤْمِنينَ أنْ يُذكَرُوا بالفُسُوقِ بَعْدَ دُخُولِهمْ في الإيمَانِ . وَمَن لم يَتُبْ مِنْ نَبْزهِ أخَاهُ المُؤمِنَ بِلَقَبِ يَكْرَهُهُ ، وَمَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْ لَمْزهِ إخْوَتَهُ ، وَمِنْ سُخْرِيَتِهِ مِنْهُم . . فأولئِكَ هُمُ الظَّالِمونَ الذِينَ ظَلَمُوا أنفُسَهم فَأكْسَبُوها عِقَابَ اللهِ بِعِصْيَانِهِم إيَّاهُ .
إن المجتمع الفاضل الذي يقيمه الإسلام بهدى القرآن مجتمع له أدب رفيع ، ولكل فرد فيه كرامته التي لا تمس . وهي من كرامة المجموع . ولمز أي فرد هو لمز لذات النفس ، لأن الجماعة كلها وحدة ، كرامتها واحدة .(1/488)
والقرآن في هذه الآية يهتف للمؤمنين بذلك النداء الحبيب : { يا أيها الذين آمنوا } . وينهاهم أن يسخر قوم بقوم ، أي رجال برجال ، فلعلهم خير منهم عند الله ، أو أن يسخر نساء من نساء فلعلهن خير منهن في ميزان الله .
وفي التعبير إيحاء خفي بأن القيم الظاهرة التي يراها الرجال في أنفسهم ويراها النساء في أنفسهن ليست هي القيم الحقيقية ، التي يوزن بها الناس . فهناك قيم أخرى ، قد تكون خافية عليهم ، يعلمها الله ، ويزن بها العباد . وقد يسخر الرجل الغني من الرجل الفقير . والرجل القوي من الرجل الضعيف ، والرجل السوي من الرجل المؤوف . وقد يسخر الذكي الماهر من الساذج الخام . وقد يسخر ذو الأولاد من العقيم . وذو العصبية من اليتيم . . . وقد تسخر الجميلة من القبيحة ، والشابة من العجوز ، والمعتدلة من المشوهة ، والغنية من الفقيرة . . ولكن هذه وأمثالها من قيم الأرض ليست هي المقياس ، فميزان الله يرفع ويخفض بغير هذه الموازين!
ولكن القرآن لا يكتفي بهذا الإحياء ، بل يستجيش عاطفة الأخوة الإيمانية ، ويذكر الذين آمنوا بأنهم نفس واحدة من يلمزها فقد لمزها { ولا تلمزوا أنفسكم } . . واللمز : العيب . ولكن للفظة جرساً وظلاً؛ فكأنما هي وخزة حسية لا عيبة معنوية!
ومن السخرية واللمز التنابز بالألقاب التي يكرهها أصحابها ، ويحسون فيها سخرية وعيباً . ومن حق المؤمن على المؤمن ألا يناديه بلقب يكرهه ويزري به . ومن أدب المؤمن ألا يؤذي أخاه بمثل هذا . وقد غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسماء وألقاباً كانت في الجاهلية لأصحابها ، أحس فيها بحسه المرهف ، وقلبه الكريم ، بما يزري بأصحابها ، أو يصفهم بوصف ذميم .(1/489)
والآية بعد الإحياء بالقيم الحقيقية في ميزان الله ، وبعد استجاشة شعور الأخوة ، بل شعور الاندماج في نفس واحدة ، تستثير معنى الإيمان ، وتحذر المؤمنين من فقدان هذا الوصف الكريم ، والفسوق عنه والانحراف بالسخرية واللمز والتنابز : { بئس الاسم : الفسوق بعد الإيمان } . فهو شيء يشبه الارتداد عن الإيمان! وتهدد باعتبار هذا ظلماً ، والظلم أحد التعبيرات عن الشرك : { ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون } . . وبذلك تضع قواعد الأدب النفسي لذلك المجتمع الفاضل الكريم .
- - - - - - - - - - - -
73.
النهي عن اجتناب سوء الظن
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات
يَنْهى اللهُ تَعَالى عِبَادَهُ المُؤْمِنينَ عَن الظَّنِّ السَّيِّء بإخوانِهِمْ المُؤْمِنينَ ، لأنَّ ظَنَّ المُؤْمِنِ السَّوْءَ إِثمٌ ، لأنَّ اللهَ نَهَى عَنْ فِعْلِهِ ، فَإذا فَعَلَهُ فَهُوَ آثمٌ .
( وَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : " إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فإِنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحَدِيثِ . لاَ تَجَسُّوَا ، وَلاَ تَحَسَّسُوا ، وَلاَ تَحَاسَدُوا ، وَلاَ تَبَاغَضُوا ، وَلاَ تَدَابَرُوا ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْواناً " ) ( البَخَارِيُّ وَمُسْلمٌ )
ثُمَّ نَهَى اللهُ تَعَالى المُؤْمِنينَ عَنْ أن يَتَجَسَّسَ بَعُضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، كَمَا نَهَاهُمْ عَنْ أنْ يَتَتَبَّعَ بَعْضُهُم عَوْرَاتِ بَعْضٍ ، وَعَنْ أنْ يَبْحَث الوَاحِدُ مِنْهُمْ عَنْ سَرَائِرِ أخِيهِ ، وَهُوَ يَبْتَغِي بِذِلَكَ فَضْحَهُ ، وَكَشْفَ عُيُوبِهِ .(1/490)
ثُمَّ نَهَاهم عَنْ أنْ يَغْتَابَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً ، وَعَنْ أنْ يَذْكُرَ أحَدُهُمْ أخَاهُ بما يَكْرَهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَخَلْقِهِ وَخُلُقِهِ وَأهلِهِ وَمَالِهِ وَزَوْجِهِ وَوَلدِهِ . . ( كَما عَرَّفَ رَسُولُ اللهِ الاغِتْيَابَ )
( وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بلِسَانِهِ وَلَم يَدْخُلِ الإِيمانُ قَلْبَهُ : لاَ تَغْتَابُوا المُسْلِمينَ ، وَلاَ تَتبَّعُوا عَوْرَاتِهِم فإِنَّ مَنِ تَتَبَّعَ عَوْرَاتِهِمْ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ ، وَمَنْ يَتَتَبَّعِ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ في عُقْرِ بَيْتِهِ " ) .
وَشَبَّه تَعَالى اغْتِيَابَ المُؤْمِنِ لأخيِهِ المؤمِنِ بأكْلِهِ لَحمَهُ بَعْدَ موتِهِ ، وَقَالَ لِلمُؤمِنِينَ إنَّهم إذا كَانَ أَحَدُهُمْ يَكْرَهُ أكْلَ لَحْمِ أخِيهِ بَعْدَ مَوتِهِ ، وَإذا كَانَتْ نَفْسُهُ تَعَافُ ذَلِكَ فَعَلَيهِمْ أنْ يَكْرَهُوا أنْ يَغْتَابُوهُ في حَيَاتِهِ .
وَلِلْغِيبَةِ ثَلاثَةُ وُجُوهٍ :
الغِيبَةُ - وَهِيَ أنْ يَقُولَ الإِنسَانُ في أخيهِ مَا هُوَ فيه مِمَّا يَكْرَهُهُ .
الإٍفْكُ - أنْ يَقُولَ فِيهِ مَا بَلَغَهُ عَنْهُ مِمَّا يَكْرَهُهُ .
البُهْتَانُ - أنْ يَقُولُ فيهِ مَا لَيسَ فيهِ ممّا يَكْرَهُهُ .
ثُمَ حَثَّ اللهُ تَعَالى المُؤْمِنينَ عَلى تَقْوى اللهِ ، وَعَلَى تَرْكِ الغِيبَةِ ، وَمُرَاقَبِتِهِ تَعَالى في السِّرِّ والعَلنِ ، فإذا تَابُوا وانتَهَوا واستَغْفَروا رَبَّهم عَمّا فَرَطَ مِنْهُم ، اسْتَجَابَ لَهُم رَبُّهُمْ ، فَتَابَ عَلَيِهمْ ، لأنَّه تَعَالى كَثيرُ التَّوْبِ عَلَى عِبَادِهِ ، كَثِيرُ الرَّحمةِ بِهِمْ .
فأما هذه الآية فتقيم سياجاً آخر في هذا المجتمع الفاضل الكريم ، حول حرمات الأشخاص به وكراماتهم وحرياتهم ، بينما هي تعلم الناس كيف ينظفون مشاعرهم وضمائرهم ، في أسلوب مؤثر عجيب . .(1/491)
وتبدأ - على نسق السورة - بذلك النداء الحبيب : { يا أيها الذين آمنوا } . . ثم تأمرهم باجتناب كثير من الظن ، فلا يتركوا نفوسهم نهباً لكل ما يهجس فيها حول الآخرين من ظنون وشبهات وشكوك . وتعلل هذا الأمر : { إن بعض الظن إثم } . وما دام النهي منصباً على أكثر الظن ، والقاعدة أن بعض الظن إثم ، فإن إيحاء هذا التعبير للضمير هو اجتناب الظن السيِّئ أصلاً ، لأنه لا يدري أي ظنونه تكون إثماً!
بهذا يطهر القرآن الضمير من داخله أن يتلوث بالظن السيِّئ ، فيقع في الإثم؛ ويدعه نقياً بريئاً من الهواجس والشكوك ، أبيض يكن لإخوانه المودة التي يخدشها ظن السوء؛ والبراءة التي لا تلوثها الريب والشكوك ، والطمأنينة التي لا يعكرها القلق والتوقع . وما أروح الحياة في مجتمع بريء من الظنون!
ولكن الأمر لا يقف في الإسلام عند هذا الأفق الكريم الوضيء في تربية الضمائر والقلوب . بل إن هذا النص يقيم مبدأ في التعامل ، وسياجاً حول حقوق الناس الذين يعيشون في مجتمعه النظيف ، فلا يؤخذون بظنه ، ولا يحاكمون بريبة؛ ولا يصبح الظن أساساً لمحاكمتهم . بل لا يصلح أن يكون أساساً للتحقيق معهم ، ولا للتحقيق حولهم . والرسول صلى الله عليه وسلم - يقول : « إذا ظننت فلا تحقق » . ومعنى هذا أن يظل الناس أبرياء ، مصونة حقوقهم ، وحرياتهم ، واعتبارهم . حتى يتبين بوضوح أنهم ارتكبوا ما يؤاخذون عليه . ولا يكفي الظن بهم لتعقبهم بغية التحقق من هذا الظن الذي دار حولهم!
فأي مدى من صيانة كرامة الناس وحرياتهم وحقوقهم واعتبارهم ينتهي إليه هذا النص! وأين أقصى ما تتعاجب به أحسن البلاد ديمقراطية وحرية وصيانة لحقوق الإنسان فيها من هذا المدى الذي هتف به القرآن الكريم للذين آمنوا ، وقام عليه المجتمع الإسلامي فعلاً ، وحققه في واقع الحياة ، بعد أن حققه في واقع الضمير؟
ثم يستطرد في ضمانات المجتمع إلى مبدأ آخر يتصل باجتناب الظنون :
{ ولا تجسسوا } ..(1/492)
والتجسس قد يكون هو الحركة التالية للظن؛ وقد يكون حركة ابتدائية لكشف العورات ، والاطلاع على السوءات .
والقرآن يقاوم هذا العمل الدنيء من الناحية الأخلاقية ، لتطهير القلب من مثل هذا الاتجاه اللئيم لتتبع عورات الآخرين وكشف سوآتهم . وتمشياً مع أهدافه في نظافة الأخلاق والقلوب .
ولكن الأمر أبعد من هذا أثراً . فهو مبدأ من مبادئ الإسلام الرئيسية في نظامه الاجتماعي ، وفي إجراءاته التشريعية والتنفيذية .
إن للناس حرياتهم وحرماتهم وكراماتهم التي لا يجوز أن تنتهك في صورة من الصور ، ولا أن تمس بحال من الأحوال .
ففي المجتمع الإسلامي الرفيع الكريم يعيش الناس آمنين على أنفسهم ، آمنين على بيوتهم ، آمنين على أسرارهم ، آمنين على عوراتهم . ولا يوجد مبرر - مهما يكن - لانتهاك حرمات الأنفس والبيوت والأسرار والعورات . حتى ذريعة تتبع الجريمة وتحقيقها لا تصلح في النظام الإسلامي ذريعة للتجسس على الناس . فالناس على ظواهرهم ، وليس لأحد أن يتعقب بواطنهم . وليس لأحد أن يأخذهم إلا بما يظهر منهم من مخالفات وجرائم . وليس لأحد أن يظن أو يتوقع ، أو حتى يعرف أنهم يزاولون في الخفاء مخالفة ما ، فيتجسس عليهم ليضبطهم! وكل ما له عليهم أن يأخذهم بالجريمة عند وقوعها وانكشافها ، مع الضمانات الأخرى التي ينص عليها بالنسبة لكل جريمة .
قال أبو داود : حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن زيد بن وهب . قال : أتى ابن مسعود ، فقيل له : هذا فلان تقطر لحيته خمراً . فقال عبد الله : إنا قد نهينا عن التجسس ، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به .
وعن مجاهد : لا تجسسوا ، خذوا بما ظهر لكم ، ودعوا ما ستر الله .(1/493)
وروى الإمام أحمد - بإسناده - عن دجين كاتب عقبة . قال : قلت لعقبة : إن لنا جيراناً يشربون الخمر ، وأنا داع لهم الشرط ، فيأخذونهم . قال : لا تفعل ولكن عظهم وتهددهم . قال : ففعل فلم ينتهوا . قال : فجاءه دجين فقال : إني قد نهيتهم فلم ينتهوا . وإني داع لهم الشرط فتأخذهم . فقال له عقبة : ويحك! لا تفعل ، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موءودة من قبرها »
وقال سفيان الثوري ، عن راشد بن سعد ، عن معاوية بن أبي سفيان ، قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم يقول : « إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم » فقال أبو الدرداء - رضي الله عنه - كلمة سمعها معاوية - رضي الله عنه - من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفعه الله تعالى بها .
فهكذا أخذ النص طريقه في النظام العملي للمجتمع الإسلامي! ولم يعد مجرد تهذيب للضمير وتنظيف للقلب ، بل صار سياجاً حول حرمات الناس وحقوقهم وحرياتهم ، فلا تمس من قريب أو بعيد ، تحت أي ذريعة أو ستار .
فأين هذا المدى البعيد؟ وأين هذا الأفق السامق؟ وأين ما يتعاجب به أشد الأمم ديمقراطية وحرية وحفظاً لحقوق الإنسان بعد ألف وأربع مائة عام؟
بعد ذلك يجيء النهي عن الغيبة في تعبير عجيب ، يبدعه القرآن إبداعاً :
{ ولا يغتب بعضكم بعضاً . أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً؟ فكرهتموه } . .
لا يغتب بعضكم بعضاً . ثم يعرض مشهداً تتأذى له أشد النفوس كثافة وأقل الأرواح حساسية . مشهد الأخ يأكل لحم أخيه . . ميتاً . . ! ثم يبادر فيعلن عنهم أنهم كرهوا هذا الفعل المثير للاشمئزاز ، وأنهم إذن كرهوا الاغتياب!
ثم يعقب على كل ما نهاهم عنه في الآية من ظن وتجسس وغيبة باستجاشة شعور التقوى ، والتلويح لمن اقترف من هذا شيئاً أن يبادر بالتوبة تطلعاً للرحمة :
{ واتقوا الله إن الله تواب رحيم } . .(1/494)
ويسري هذا النص في حياة الجماعة المسلمة فيتحول إلى سياج حول كرامة الناس ، وإلى أدب عميق في النفوس والقلوب . ويتشدد فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متمشياً مع الأسلوب القرآني العجيب في إثارة الاشمئزاز والفزع من شبح الغيبة البغيض .
وفي حديث رواه أبو داود : حدثنا القعنبي ، حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قيل : « يا رسول الله ، ما الغيبة؟ قال - صلى الله عليه وسلم - : » ذكرك أخاك بما يكره « . قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال - صلى الله عيه وسلم - : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته » . ورواه الترمذي وصححه .
وقال أبو داود : حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى ، عن سفيان ، حدثني علي بن الأقمر عن أبي حذيفة ، « عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - : حسبك من صفية كذا وكذا ( قال عن مسدد تعني قصيرة ) فقال - صلى الله عليه وسلم - : » لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته « . قالت : وحكيت له إنساناً . فقال - صلى الله عليه وسلم - : ما أحب أني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا » .
وروى أبو داود بإسناده عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم . قلت : من هؤلاء يا جبرائيل؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم » .(1/495)
ولما اعترف ماعز بالزنا هو والغامدية ، ورجمهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد إقرارهما متطوعين وإلحاحهما عليه في تطهيرهما ، سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلين يقول أحدهما لصاحبه : ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب! ثم سار النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى مر بجيفة حمار ، فقال :« أين فلان وفلان؟ انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار » قالا : غفر الله لك يا رسول الله! وهل يؤكل هذا؟ قال - صلى الله عليه وسلم - : « فما نلتما من أخيكما آنفاً أشد أكلاً منه . والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها » .
وبمثل هذا العلاج الثابت المطرد تطهر المجتمع الإسلامي وارتفع ، وانتهى إلى ما صار إليه : حلماً يمشي على الأرض ، ومثلاً يتحقق في واقع التاريخ .
وبعد هذه النداءات المتكررة للذين آمنوا؛ وأخذهم إلى ذلك الأفق السامي الوضيء من الآداب النفسية والاجتماعية؛ وإقامة تلك السياجات القوية من الضمانات حول كرامتهم وحريتهم وحرماتهم ، وضمان هذا كله بتلك الحساسية التي يثيرها في أرواحهم ، بالتطلع إلى الله وتقواه . .
- - - - - - - - - - - -
74.
جزاء من آمن بالله واتقى
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (28) سورة الحديد(1/496)
يَحُثُّ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ ، مِنَ اليَهُودِ والنَّصَارَى ، عَلَى تَقْوى اللهِ ، وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالإِيْمَانِ بِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، وَيَعِدُهُمْ إِنْ هُمْ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ ، وَاتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا العَمَلَ بِأنَّهُ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أَجْرَهُمْ ضِعْفَيْنِ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى إِيْمَانِهِمْ بِنَبِّيهِمْ وَبِالأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ قَبْلَهُ ، وَأَجْراً آخَرَ لإِيْمَانِهِمْ بِمُحَمَّدٍ ، وَأَنَّهُ سَيَجْعَلُ لَهُمْ هُدى وَنُوراً يَمْشُونَ بِهِ فَيُجِنِّبُهُمْ العَمَى وَالضَّلاَلَةَ ، وَأَنَّهُ سَوْفَ يَغْفِرُ لَهُمْ مَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ ، وَيُعْلِمُهُمْ بِأَنَّ اللهَ وَاسِعُ المَغْفِرَةِ لِمَنْ شَاءَ ، رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ ، يَقْبَلُ إِنْ أَحْسَنُوا التَّوْبَةَ إِلَيهِ .
( وَرُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ حِينَمَا فَخَرَ مُؤْمِنُوا أَهْلِ الكِتَابِ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا نَزَلَتِ الآيَةُ { أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ } فَجَعَلَ اللهُ لِلْمُسْلِمِينَ أَجْرَينِ وَزَادَهُمْ نُوراً ) .
وَفِي الحَدِيثِ الشَّرِيفِ : " ثَلاَثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ :
- رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيَّهِ وَآمَنَ بِي فَلَهُ أَجْرَانِ .
- وَعَبَدٌ مَمْلُوكٌ أَدَّى حَقَّ اللهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ فَلَهُ أَجْرَانِ .
- وَرَجُلٌ أَدَّبَ أَمَتَهُ فَأَحْسَنَ تَأَدِيبَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ " ) .(1/497)
لقد كان أولئك المسلمون الذين يعدهم القدر لهذا الدور الضخم ، ناساً من الناس . منهم السابقون من المهاجرين والأنصار الذين نضج إيمانهم ، واكتمل تصورهم للعقيدة الجديدة ، وخلصت نفوسهم لها ، ووصلوا . . وصلوا إلى حقيقة وجودهم وحقيقة هذا الوجود الكبير؛ واندمجت حقيقتهم مع حقيقة الوجود ، فأصبحوا بهذا طرفاً من قدر الله في الكون؛ لا يجدون في أنفسهم عوجاً عنه ، ولا يجدون في خطاهم تخلفاً عن خطاه ، ولا يجدون في قلوبهم شيئاً إلا الله . . كانوا كما جاء عنهم في هذه السورة : { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ، ولو كانوا آباءهم او أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم . أولئك كتب في قلوبهم الإيمان ، وأيدهم بروح منه ، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . رضي الله عنهم ورضوا عنه . أولئك حزب الله . ألا إن حزب الله هم المفلحون } . .
ولكن هؤلاء السابقين كانوا قلة بالقياس إلى الجماعة المسلمة المتزايدة العدد وبخاصة بعد أن أصبح الإسلام قوة ترهب حتى قبل الفتح ودخل فيه من لم يتلق من التربية الإسلامية القسط الكافي ، ولم يتنفس في الجو الإسلامي فترة طويلة . كما دخل فيه من المنافقين من آثر المصلحة أو العافية على دَخل في القلوب ، وتربص بالفرص ، وذبذبة بين المعسكر الإسلامي والمعسكرات القوية المناوئة له في ذلك الحين . سواء معسكرات المشركين أو اليهود!
ولقد اقتضت تربية النفوس وإعدادها للدور الكوني الكبير المقدر لها في الأرض جهوداً ضخمة ، وصبراً طويلاً ، وعلاجاً بطيئاً ، في صغار الأمور وفي كبارها . . كانت حركة بناء هائلة هذه التي قام بها الإسلام ، وقام بها رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم بناء النفوس التي تنهض ببناء المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية ، وتقوم على منهج الله ، تفهمه وتحققه ، وتنقله إلى أطراف الأرض في صورة حية متحركة ، لا في صحائف وكلمات .(1/498)
ونحن نشهد في هذه السورة وفي هذا الجزء كله طرفاً من تلك الجهود الضخمة ، وطرفاً من الأسلوب القرآني كذلك في بناء تلك النفوس ، وفي علاج الأحداث والعادات والنزوات؛ كما نشهد جانباً من الصراع الطويل بين الإسلام وخصومه المختلفين من مشركين ويهود ومنافقين .
وفي هذه السورة بصفة خاصة نشهد صورة موحية من رعاية الله للجماعة الناشئة؛ وهو يصنعها على عينه ، ويربيها بمنهجه ، ويشعرها برعايته ، ويبني في ضميرها الشعور الحي بوجوده سبحانه معها في أخص خصائصها ، وأصغر شؤونها ، وأخفى طواياها؛ وحراسته لها من كيد أعدائها خفيه وظاهره؛ وأخذها في حماه وكنفه ، وضمها إلى لوائه وظله؛ وتربية أخلاقها وعاداتها وتقاليدها تربية تليق بالجماعة التي تنضوي إلى كنف الله ، وتنتسب إليه ، وتؤلف حزبه في الأرض ، وترفع لواءه لتعرف به في الأرض جميعاً .
ومن ثم تبدأ السورة بصورة عجيبة من صور هذه الفترة الفريدة في تاريخ البشرية . فترة اتصال السماء بالأرض في صورة مباشرة محسوسة ، ومشاركتها في الحياة اليومية لجماعة من الناس مشاركة ظاهرة : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ، والله يسمع تحاوركمآ إن الله سميع بصير } . . فنشهد السماء تتدخل في شأن يومي لأسرة صغيرة فقيرة مغمورة ، لتقرر حكم الله في قضيتها ، وقد سمع سبحانه للمرأة وهي تحاور رسول الله فيها ، ولم تكد تسمعها عائشة وهي قريبة منها! وهي صورة تملأ القلب بوجود الله وقربه وعطفه ورعايته .
يليها في سياق السورة توكيد أن الذين يحادون الله ورسوله وهم أعداء الجماعة المسلمة التي تعيش في كنف الله مكتوب عليهم الكبت والقهر في الأرض ، والعذاب المهين في الآخرة ، مأخوذون بما عملوا مما أحصاه الله عليهم ، ونسوه هم وهم فاعلوه! { والله على كل شيء شهيد } . .(1/499)
ثم توكيد وتذكير بحضور الله سبحانه وشهوده لكل نجوى في خلوة ، يحسب أصحابها أنهم منفردون بها . والله معهم أينما كانوا : { ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ، إن الله بكل شيء عليم } . . وهي صورة تملأ القلب كذلك بوجود الله وحضوره ، كما تملؤه برقابته واطلاعه .
وهذا التوكيد مقدمة لتهديد الذين يتناجون في خلواتهم لتدبير المكايد للمسلمين ، وملء قلوبهم بالحزن والهم والتوجس . تهديد بأن أمرهم مكشوف ، وأن عين الله مطلعة عليهم ، ونجواهم بالإثم والعدوان ومعصية الرسول مسجلة ، وأن الله آخذهم بها ومعذبهم عليها . ونهي للمسلمين عن التناجي بغير البر والتقوى ، وتربية نفوسهم وتقويمها بهذا الخصوص .
ثم يستطرد في تربية هذه النفوس المؤمنة؛ فيأخذها بأدب السماحة وبالطاعة في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومجالس العلم والذكر . كما يأخذها بأدب السؤال والحديث مع الرسول صلى الله عليه وسلم والجد في هذا الأمر والتوقير .
---------------
ونداؤهم على هذا النحو: يا أيها الذين آمنوا فيه لمسة خاصة لقلوبهم , واستحياء لمعنى الإيمان , وتذكير برعايته حق رعايته ; واستجاشة للصلة التي تربطهم بربهم الذي يناديهم هذا النداء الكريم الحبيب . وباسم هذه الصلة يدعوهم إلى تقوى الله والإيمان برسوله . فيبدو للإيمان المطلوب معنى خاص . . معنى حقيقة الإيمان وما ينبثق عنها من آثار .
اتقوا الله وآمنوا برسوله . . (يؤتكم كفلين من رحمته) . . أي يعطكم نصيبين من رحمته وهو تعبير عجيب . فرحمة الله لا تتجزأ , ومجرد مسها لإنسان يمنحه حقيقتها . ولكن في هذا التعبير زيادة امتداد للرحمة وزيادة فيض . .
((1/500)
ويجعل لكم نورا تمشون به) . وهي هبة لدنية يودعها الله القلوب التي تستشعر تقواه , وتؤمن حق الإيمان برسوله . هبة تنير تلك القلوب فتشرق , وترى الحقيقة من وراء الحجب والحواجز , ومن وراء الأشكال والمظاهر ; فلا تتخبط , ولا تلتوي بها الطريق . . (نورا تمشون به) . .
(ويغفر لكم . والله غفور رحيم) . . . فالإنسان إنسان مهما وهب من النور . إنسان يقصر حتى لو عرف الطريق . إنسان يحتاج إلى المغفرة فتدركه رحمة الله . . (والله غفور رحيم) . .
- - - - - - - - - - - -
75.
تحريم التناجي بالإثم والعداون
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) }سورة المجادلة(2/1)
يُؤدِّبُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ لِئلاَّ يَكُونُوا كَالكَفَرَةِ وَالمُنَافِقِينَ ، فَيَقُولُ لَهُمْ : إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فِي أَنْدِيتكُمْ وَخَلواتِكُمْ ، فَلاَ تَفْعَلُوا كَمَا يَفْعَلُ أُولَئِكَ الكُفَّارُ ، مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ ، وَمَنْ وَالاَهُمْ عَلَى ضَلاَلِهِمْ مِنَ المُنَافِقِينَ ، وَتَنَاجَوا بِمَا هُوَ خَيْرٌ ، وَاتَّقُوا اللهَ فِيمَا تَفْعَلُونَ وَفِيمَا تَذُرُونَ ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيهِ تُحْشَرُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَأَنَّهُ سَيُحَاسِبُكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمْ . إِنَّما التَّنَاجِي بِالإِثْمِ وَالعُدْوَانِ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ وَتَزْيِينِهِ ، والشَّيْطَانُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِيَحْزُنَ الذِينَ آمَنُوا بإِيهَامِهِمْ أَنَّ هَذِهِ النَّجْوَى تَضُرُّهُمْ ، وَلَكِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَضُرُّ المُؤْمِنِينَ شَيْئاً ، إِلاَّ بِإِرَادَةِ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ ، فَعَلَى المُؤْمِنِينَ أَلاَّ يَهْتَمُّوا بِنَجْوَى الكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ ، وَلْيَتَوَكَّلُوا عَلَى اللهِ . ( وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ الشَّرِيفِ : " إِذَا كُنْتُمْ ثَلاَثَةً فَلاَ يَتَنَاجَ اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَحْزُنُهُ " ) . ( البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ) .ويبدو أن بعض المسلمين ممن لم تنطبع نفوسهم بعد بحاسة التنظيم الإسلامي ، كانوا يتجمعون عندما تحزب الأمور ، ليتناجوا فيما بينهم ويتشاوروا بعيداً عن قيادتهم . الأمر الذي لا تقره طبيعة الجماعة الإسلامية ، وروح التنظيم الإسلامي ، التي تقتضي عرض كل رأي وكل فكرة وكل اقتراح على القيادة ابتداء ، وعدم التجمعات الجانبية في الجماعة .(2/2)
كما يبدو أن بعض هذه التجمعات كان يدور فيها ما قد يؤدي إلى البلبلة ، وما يؤذي الجماعة المسلمة ولو لم يكن قصد الإيذاء قائماً في نفوس المتناجين ولكن مجرد إثارتهم للمسائل الجارية وإبداء الآراء فيها على غير علم ، قد يؤدي إلى الإيذاء ، وإلى عدم الطاعة .
وهنا يناديهم الله بصفتهم التي تربطهم به ، وتجعل للنداء وقعه وتأثيره : { يا أيها الذين آمنوا } لينهاهم عن التناجي إذا تناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول . ويبين لهم ما يليق بهم من الموضوعات التي يتناجى بها المؤمنون : { وتناجوا بالبر والتقوى } . . لتدبير وسائلهما وتحقيق مدلولهما . والبر : الخير عامة . والتقوى : اليقظة والرقابة لله سبحانه ، وهي لا توحي إلا بالخير . ويذكرهم بمخافة الله الذي يحشرون إليه ، فيحاسبهم بما كسبوا . وهو شاهده ومحصيه . مهما ستروه وأخفوه .قال الإمام أحمد : حدثنا بهز وعفان ، قالا : أخبرنا همام ، عن قتادة ، عن صفوان بن محرز ، قال : « كنت آخذاً بيد ابن عمر ، إذ عرض له رجل ، فقال : كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول إن الله يدني المؤمن ، فيضع عليه كنفه ، ويستره من الناس ، ويقرره بذنوبه ، ويقول له : أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه ، ورأى في نفسه أنه قد هلك قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم . ثم يعطى كتاب حسناته . وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ، ألا لعنة الله على الظالمين »(2/3)
ثم ينفرهم من التناجي والمسارة والتدسس بالقول في خفية عن الجماعة المسلمة ، التي هم منها ، ومصلحتهم مصلحتها ، وينبغي ألا يشعروا بالانفصال عنها في شأن من الشئون . فيقول لهم : إن رؤية المسلمين للوسوسة والهمس والانعزال بالحديث تبث في قلوبهم الحزن والتوجس ، وتخلق جواً من عدم الثقة؛ وأن الشيطان يغري المتناجين ليحزنوا نفوس إخوانهم ويدخلوا إليها الوساوس والهموم . ويطمئن المؤمنين بأن الشيطان لن يبلغ فيهم ما يريد :
{ إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا ، وليس بضآرهم شيئاً إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون } . .فالمؤمنون لا يتوكلون إلا على الله . فليس وراء ذلك توكل ، وليس من دون الله من يتوكل عليه المؤمنون!(2/4)
وقد وردت الأحاديث النبوية الكريمة بالنهي عن التناجي في الحالات التي توقع الريبة وتزعزع الثقة وتبعث التوجس : جاء في الصحيحين من حديث الأعمش بإسناده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - : إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه » .وهو أدب رفيع ، كما أنه تحفظ حكيم لإبعاد كل الريب والشكوك . فأما حيث تكون هناك مصلحة في كتمان سر ، أو ستر عورة ، في شأن عام او خاص ، فلا مانع من التشاور في سر وتكتم . وهذا يكون عادة بين القادة المسئولين عن الجماعة . ولا يجوز أن يكون تجمعاً جانبياً بعيداً عن علم الجماعة . فهذا هو الذي نهى عنه القرآن ونهي عنه الرسول . وهذا هو الذي يفتت الجماعة أو يوقع في صفوفها الشك وفقدان الثقة . وهذا هو الذي يدبره الشيطان ليحزن الذين آمنوا . ووعد الله قاطع في أن الشيطان لن يبلغ بهذه الوسيلة ما يريد في الجماعة المؤمنة ، لأن الله حارسها وكالئها؛ وهو شاهد حاضر في كل مناجاه ، وعالم بما يدور فيها من كيد ودس وتآمر . ولن يضر الشيطان المؤمنين . . { إلا بإذن الله } . . وهو استثناء تحفظي لتقرير طلاقة المشيئة في كل موطن من مواطن الوعد والجزم ، لتبقى المشيئة حرة وراء الوعد والجزم . .{ وعلى الله فليتوكل المؤمنون } . . فهو الحارس الحامي ، وهو القوي العزيز ، وهو العليم الخبير . وهو الشاهد الحاضر الذي لا يغيب . ولا يكون في الكون إلا ما يريد . وقد وعد بحراسة المؤمنين . فأي طمأنينة بعد هذا وأي يقين؟
- - - - - - - - - - - -
76.
الأمر بالتفسح في المجالس(2/5)
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (11)(2/6)
رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي مَجَالِسِ الذِّكْرِ ، وذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا رَأَوا أَحَدَهُمْ مُقْبِلاً ضَنُّوا بِمَجَالِسِهِمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَأَمَرَهُمُ اللهُ بِأَنْ يُفْسِحَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ . وَقِيلَ إِنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الصُّفَّةِ ، وَفِي المَكَانِ ضِيقٌ . وَكَانَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم يُكْرِمُ أَهْلَ بَدْرٍ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ ، فَجَاءَ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ ، وَقَدْ سَبَقَهُمْ غَيْرُهُمْ إِلَى المَجْلِسِ ، فَقَامُوا حِيَالَ رَسُولِ اللهِ ، فَقَالُوا : السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ ، فَرَدَّ عَلَيْهِم النَّبِيُّ . ثُمَّ سَلَّمُوا عَلَى القَوْمِ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَقَامُوا حِيَالَ الرَّسُولِ ، فَلَمْ يُفْسَحْ لَهُمْ ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأًنْصَارِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ بَدْرٍ : قُمْ يَا فُلاَنُ وَأَنْتَ يَا فُلاَنُ . . . فَلَمْ يَزَلْ يُقِيمُهُمْ بِعِدَّةِ النَّفَرِ الذِينَ هُمْ قِيَامٌ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى مَنْ أُقِيمَ مِنْ مَجْلِسِهِ . وَعَرَفَ النَّبِيُّ الكَرَاهَةَ فِي وُجُوهِهِمْ . وَأَرْجَفَ المُنَافِقُونَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : رَحِمَ اللهُ رَجُلاً يُفْسِحُ لأَخِيهِ ، فَجَعَلُوا يَقُومُونَ بَعْدَ ذَلِكَ سِرَاعاً فَيُفْسِحُ القَوْمُ لإِخْوَانِهِمْ .(2/7)
وَيُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَوَسَّعُوا فِي المَجَالِسِ : مَجَالِسِ رَسُولِ اللهِ ، أَوْ فِي مَجَالِسِ القِتَالِ ، فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ فِي مَنَازِلِكُمْ فِي الجَنَّةِ ، وَإِذَا دُعِيتُمْ إِلَى القِيَامِ مِنْ مَجْلِسِ رَسُولِ اللهِ فَقُومُوا ( انْشُزُوا ) ، لأَنَّ الرَّسُولَ كَانَ يُؤْثِرُ الانْفِرَادَ لِتَدْبِيرِ شُُؤونِ المُؤْمِنِينَ .
( وَلاَ يَنْبَغِي لِقَادِمٍ أَنْ يُقِيمَ أَحَداً مِنْ مَجْلِسِهِ لِيَجْلِسَ مَكَانَهُ ) .وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ الشَّرِيفِ : " لاَ يُقِمِ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ ، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا " ( البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ) .
فَإِذَا انْفَسَحَ المُؤْمِنُونَ وَنَشَزُوا ، امْتِثَالاً لأَمْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ ، فَإِنَّ اللهَ يَرْفَعُهُمْ ، وَيَرْفَعُ الَعالِمِينَ مِنْهُمْ خَاصَّةً ، دَرَجَاتٍ كَثِيرَةً فِي الثَّوَابِ وَالمَنْزِلَةِ ، وَاللهُ خَبِيرٌ بِأَعْمَالِ العِبَادِ ، لاَ تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ .
ويظهر من بعض الروايات التي حكت سبب نزول الآية أن لها علاقة واقعية بالمنافقين ، مما يجعل بينها وبين الآيات قبلها أكثر من ارتباط واحد في السياق .
قال قتادة : نزلت هذه الآية في مجالس الذكر ، وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلاً ضنوا بمجالسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم الله تعالى أن يفسح بعضهم لبعض .(2/8)
وقال مقاتل بن حيان : أنزلت هذه الآية يوم الجمعة . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ في الصفة ، وفي المكان ضيق . وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار . فجاء ناس من أهل بدر وقد سُبقوا إلى المجالس فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : السلام عليكم أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليهم . ثم سلموا على القوم بعد ذلك فردوا عليهم فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم . فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام ، فلم يُفسح لهم . . فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر : « قم يا فلان . وأنت يا فلان » فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام بين يديه من المهاجرين والأنصار أهل بدر . فشق ذلك على من أقيم من مجلسه ، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهة في وجوههم . فقال المنافقون : ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ والله ما رأيناه قد عدل على هؤلاء! إن قوماً أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب من نبيهم ، فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه . . فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « رحم الله رجلاً يفسح لأخيه » فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعاً ، فيفسح القوم لإخوانهم . ونزلت هذه الآية يوم الجمعة
وإذا صحت هذه الرواية فإنها لاتتنافى مع الأحاديث الأخرى التي تنهى عن أن يقيم الرجل الرجل من مكانه ليجلس فيه . كما جاء في الصحيحين : « لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه فيجلس فيه ، ولكن تفسحوا وتوسعوا » .
وما ورد كذلك من ضرورة استقرار القادم حيث انتهى به المجلس . فلا يتخطى رقاب الناس ليأخذ مكاناً في الصدر!
فالآية تحض على الإفساح للقادم ليجلس ، كما تحض على إطاعة الأمر إذا قيل لجالس أن يرفع فيرفع . وهذا الأمر يجيء من القائد المسئول عن تنظيم الجماعة.
لا من القادم .(2/9)
والغرض هو إيجاد الفسحة في النفس قبل إيجاد الفسحة في المكان . ومتى رحب القلب اتسع وتسامح ، واستقبل الجالس إخوانه بالحب والسماحة ، فأفسح لهم في المكان عن رضى وارتياح ، فأما إذا رأى القائد أن هناك اعتباراً من الاعتبارات يقتضي إخلاء المكان فالطاعة يجب أن ترعى عن طواعية نفس ورضى خاطر وطمأنينة بال . مع بقاء القواعد الكلية مرعية كذلك ، من عدم تخطي الرقاب أو إقامة الرجل للرجل ليأخذ مكانه . وإنما هي السماحة والنظام يقررهما الإسلام . والأدب الواجب في كل حال .
وعلى طريقة القرآن في استجاشة الشعور عند كل تكليف ، فإنه يعد المفسحين في المجالس بفسحة من الله لهم وسعة : { فافسحوا يفسح الله لكم } . . ويعد الناشزين الذين يرفعون من المكان ويخلونه عن طاعة لأمر الرسول برفعة في المقام : { وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } . . وذلك جزاء تواضعهم وقيامهم عند تلقي الأمر بالقيام .
وقد كانت المناسبة مناسبة قرب من الرسول صلى الله عليه وسلم لتلقي العلم في مجلسه . فالآية تعلمهم : أن الإيمان الذي يدفع إلى فسحة الصدر وطاعة الأمر ، والعلم الذي يهذب القلب فيتسع ويطيع؛ يؤديان إلى الرفعة عند الله درجات . وفي هذا مقابل لرفعة المكان الذي تطوعوا بتركه ورفعوا عنه لاعتبار رآه الرسول صلى الله عليه وسلم { والله بما تعملون خبير } . . فهو يجزي به عن علم ومعرفة بحقيقة ما تعملون ، وبما وراءه من شعور مكنون .
وهكذا يتولى القرآن تربية النفوس وتهذيبها ، وتعليمها الفسحة والسماحة والطاعة بأسلوب التشويق والاستجاشة . فالدين ليس بالتكاليف الحرفية ، ولكنه تحول في الشعور ، وحساسية في الضمير . .
- - - - - - - - - - - -
77.
تقديم صدقةٍ قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم(2/10)
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) } سورة المجادلة
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ الذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يُحَدِّثُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ ، ( أَيْ مُسَارَّةً ) ، أَنْ يُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ ذَلِكَ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ ، وَتُؤهِّلُهُمْ لِبُلَوغِ هَذَا المُقَامِ ، وَفِي تَقدِيمِ هَذِهِ الصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدَيْ مُنَاجَاةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم ثَوَابٌ عَظِيمٌ عِنْدَ اللهِ ، وَتَزْكِيَةٌ لِلنُّفُوسِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ، مَنْ يُرِيدُ مُنَاجَاةَ الرَّسُولِ ، مِمَّنْ يَمْلِكُونَ شَيْئاً يَسْتَطِيعُونَ التَّصَدُّقَ بِهِ فَلاَ حَرَجَ عَلَيهِ إِذَا لَمْ يَتَصَدّقْ ، وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ لِلتَّخْفِيفِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ السُّؤَالِ فَقَدْ سَأَلَهُ قَوْمٌ حَتَّى شَقُّوا عَلَيهِ ، فَأَرَادَ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْهُ .(2/11)
أَبَخِلْتُمْ بِالمَالِ أَنْ تُنْفِقُوهُ فِي سَبْيلِ اللهِ ، وَخِفْتُم الفَقْرَ إِنْ قَدَّمْتُمُ الصَّدَقَاتِ ، وَوَسْوَسَ إِلَيْكُمُ الشَّيْطَانُ أَنَّ هَذَا الإِنْفَاقَ فِيهِ ضَيَاعٌ لِلْمَالِ؟ فَمَا دُمْتُمْ لَمْ تُنْفِقُوا المَالَ ، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ فَقَدْ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ ، وَرَخَّصَ لَكُمْ بِالمُنَاجَاةِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِمِةِ صَدَقَاتٍ ، فَتَدَارَكُوا ذَلِكَ بِالمُثَابَرَةِ عَلَى إِقَامَةِ الصَّلاَةِ عَلَى وَجْهِهَا الأَكْمَلِ ، وَعَلَى دَفْعِ الزَّكَاةِ عَنْ أَمْوَالِكُمْ ، وَأَطِيعُوا اللهَ فِيمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ هُوَ وَرَسُولُهُ ، وَانْتَهُوا عَمَّا يَنْهَاكُمْ عَنْهُ ، وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا يَعْمَلُهُ العِبَادُ ، وَسَيُحَاسِبُهُمْ عَلَيْهِ .
------------
كذلك يعلمهم القرآن أدباً آخر في علاقتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم فيبدو أنه كان هناك تزاحم على الخلوة برسول الله صلى الله عليه وسلم ليحدثه كل فرد في شأن يخصه؛ ويأخذ فيه توجيهه ورأية؛ أو ليستمتع بالانفراد به مع عدم التقدير لمهام رسول الله صلى الله عليه وسلم الجماعية؛ وعدم الشعور بقيمة وقته ، وبجدية الخلوة به ، وأنها لا تكون إلا لأمر ذي بال . فشاء الله أن يشعرهم بهذه المعاني بتقرير ضريبة للجماعة من مال الذي يريد أن يخلو برسول الله صلى الله عليه وسلم ويقتطع من وقته الذي هو من حق الجماعة . في صورة صدقة يقدمها قبل أن يطلب المناجاة والخلوة :
{ يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة . ذلك خير لكم وأطهر . فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم } . .
ولكن الأمر شق على المسلمين . وعلم الله ذلك منهم . وكان الأمر قد أدى غايته ، وأشعرهم بقيمة الخلوة التي يطلبونها . فخفف الله عنهم ونزلت الآية التالية برفع هذا التكليف؛ وتوجيههم إلى العبادات والطاعات المصلحة للقلوب :
{(2/12)
أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات؟ فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله . والله خبير بما تعملون } . .
وفي هاتين الآيتين والروايات التي ذكرت أسباب نزولهما نجد لوناً من ألوان الجهود التربوية لإعداد هذه الجماعة المسلمة في الصغير والكبير من شؤون الشعور والسلوك
- - - - - - - - - - - -
78.
وجوب النظر لما يقدم الإنسان لآخرته
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) }سورة الحشر
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِتَقْوَاهُ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَفْعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ ، وَأَنْ يَتْرُكُوا مَا نَهَاهُم عَنْهُ ، وَلْيَنْظُرْ كُلُّ وَاحدٍ مِنْهُمْ مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَل صَالِحٍ يَنْفَعُهُ فِي آخِرَتِهِ يَوْمَ الحِسَابِ ، ثُمَّ يُؤْكِّدُ تَعَالى الأَمْرَ بِتَقْوَاهُ ، مُبَيِّناً أَنَّهُ عَلِيمٌ بِأْحْوالِ العِبَادِ ، جَمِيعِهَا ، وَسَيُحَاسِبُهُمْ عَلَيْهَا .
وَلاَ يَكُنْ حَالُكُمْ كَحَالِ قَوْمٍ نَسُوا ذِكْرَ اللهِ فَأَنْسَاهُمُ اللهُ العَمَلَ الصَّالِحَ الذِي يَنْفَعُهُمْ فِي آخِرَتِهِمْ ، وَيُنْقِذُ أَنْفُسَهُمْ يَوْمَ الحِسَابِ مِنَ العَذَابِ . وَهَؤُلاَءِ الذِينَ نَسُوا اللهَ ذَكْرَهُ ، وَفِعْلَ الخَيْرِ ، هُمُ الفَاسِقُونَ الخَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى .(2/13)
وَلاَ يَسْتوِي فِي حُكْمِ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ ، أَهْلُ النَّارِ وَأَهْلُ الجَنَّةِ ، وَأَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ بِرِضْوَانِ اللهِ وَجَنَّتِهِ .
والتقوى حالة في القلب يشير إليها اللفظ بظلاله ، ولكن العبارة لا تبلغ تصوير حقيقتها حالة تجعل القلب يقظاً حساساً شاعراً بالله في كل حالة . خائفاً متحرجاً مستحيياً أن يطلع عليه الله في حالة يكرهها . وعين الله على كل قلب في كل لحظة . فمتى يأمن أن لا يراه؟!
{ ولتنظر نفس ما قدمت لغد } . .
وهو تعبير كذلك ذو ظلال وإيحاءات أوسع من ألفاظه . . ومجرد خطوره على القلب يفتح أمامه صفحة أعماله بل صفحة حياته ، ويمد ببصره في سطورها كلها يتأملها وينظر رصيد حسابه بمفرداته وتفصيلاته . لينظر ماذا قدم لغده في هذه الصفحة . . وهذا التأمل كفيل بأن يوقظه إلى مواضع ضعف ومواضع نقص ومواضع تقصير ، مهما يكن قد أسلف من خير وبذل من جهد . فكيف إذا كان رصيده من الخير قليلاً ، ونصيبه من البر ضئيلاً؟ إنها لمسة لا ينام بعدها القلب أبداً ، ولا يكف عن النظر والتقليب!
ولا تنتهي الآية التي تثير كل هذه المشاعر حتى تلح على القلوب المؤمنة بمزيد من الإيقاع :
{ واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون } . .
فتزيد هذه القلوب حساسية ورهبة واستحياء . . والله خبير بما يعملون . .
وبمناسبة ما تدعوهم إليه هذه الآية من يقظة وتذكر يحذرهم في الآية التالية من أن يكونوا { كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم } . . وهي حالة عجيبة . ولكنها حقيقة . . فالذي ينسى الله يهيم في هذه الحياة بلا رابطة تشده إلى أفق أعلى ، وبلا هدف لهذه الحياة يرفعه عن السائمة التي ترعى . وفي هذا نسيان لإنسانيته . وهذه الحقيقة تضاف إليها أو تنشأ عنها حقيقة أخرى ، وهي نسيان هذا المخلوق لنفسه فلا يدخر له زاداً للحياة الطويلة الباقية ، ولا ينظر فيما قدم لها في الغداة من رصيد .
{(2/14)
أولئك هم الفاسقون } . . المنحرفون الخارجون .
وفي الآية التالية يقرر أن هؤلاء هم أصحاب النار ، ويشير للمؤمنين ليسلكوا طريقاً غير طريقهم وهم أصحاب الجنة . وطريق أصحاب الجنة غير طريق أصحاب النار : { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة . أصحاب الجنة هم الفائزون } . .
لا يستويان طبيعة وحالاً ، ولا طريقاً ولا سلوكاً ، ولا وجهة ولا مصيراً ، فهما على مفرق طريقين لا يلتقيان أبداً في طريق . ولا يلتقيان أبداً في سمة . ولا يلتقيان أبداً في خطة . ولا يلتقيان أبداً في سياسة . ولا يلتقيان أبداً في صف واحد في دنيا ولا آخرة . .
{ أصحاب الجنة هم الفائزون } . . يثبت مصيرهم ويدع مصير أصحاب النار مسكوتاً عنه . معروفاً . وكأنه ضائع لا يعني به التعبير!
- - - - - - - - - - - -
79.
تحريم اتخاذ أعداء الإسلام أولياء(2/15)
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) }سورة الممتحنة(2/16)
هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ ، وَكَانَ حَاطِبٌ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ ، هَاجَرَ مِنْ مَِكَّةَ ، وَتَرَكَ فِيهَا مَالَهُ وَوَلَدَهُ ، وَلَمْ يَكُنْ هُوَ مِنْ قُرَيِشٍ . فَلَمَا أَرَادَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فَتَحَ مَكَّةَ دَعَا رَبَّهُ اللهَ أَنْ يُعْمِيَ الأَخْبَارَ عَنْ قُرَيشٍ ، حَتَّى يَأْخْذَهُمْ عَلَى حِينِ غِرَّةٍ ، فَكَتَبَ حَاطِبٌ كِتَاباً إِلَى قُرَيشٍ يُعَرِّفُهُمْ بِعَزْمِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم عَلَى غَزْوِهِمْ ، وَأَرْسَلَهُ مَعَ امْرَأَةٍ لِيَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَداً . وَأَعْلَمَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِالكِتَابِ ، فَأَرْسَلَ الرَّسُولُ عَلِيّاً وَالزُّبَيْرَ ، وَأَمَرَهُمَا بِالذَّهَابِ إِلَى رَوْضَةِ خَاخٍ لِيَأَتِيَاهُ بِالكِتَابِ مِنَ المَرْأَةِ ، فَلَمَّا جَاءَاهَا طَلَبا مِنْهَا الكِتَابَ فأَنْكَرَتْهُ ، فَهَدَّدَاهَا بِتَجْرِيدِهَا مِنْ ثِيَابِهَا لِتَفْتِيشِهَا ، فَأَخْرَجَتِ الكِتَابَ مِنْ ضَفَائِرِ شَعْرِهَا .
وَسَأَلَ الرَّسُولُ حَاطِباً عَنِ الكِتَابِ فَاعْتَرَفَ وَقَالَ لِلرَّسُولُ إِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كُفْراً ، وَلاَ ارْتِدَاداً عَنِ الإِسْلاَمِ ، وإِنَّمَا لِيَتَّخِذَ بِهِ يَداً عِنْدَ قُرَيشٍ يَحْمِي بِهَا أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ وَمَالَهُ . فَقَالَ الرَّسُولُ للصَّحَابَةِ إِنَّهُ صَدَقَكُمْ . وَقَالَ عُمْرُ بِنُ الخَطَّابِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنْقَ هَذَا المُنَافِقِ . فَقَالَ الرَّسُولُ : إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْراً ، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ : اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ .(2/17)
وَيَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنينَ فِي هَذِهِ الآيَةِ بِأَنْ لاَ يَتَّخِذَوا الكُفَّارَ أَعْواناً وَأَنْصَاراً لَهُمْ يُبَلِّغُونَهُمْ أَخْبَارَ الرَّسُولِ التِي لاَ ينْبَغِي لأَعْدَائِهِ أَنْ يَطَّلِعُوا عَلَيهَا ، وَقَدْ كَفَرَ هَؤُلاَءِ الكُفَّارُ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِكِتَابِهِ ، فَكَيْفَ بِكُمْ بَعْدَ هَذَا تَتَّخِذُونَهُمْ أَنْصَاراً تُسِرُّونَ إِليهِمْ بِمَا يَنْفَعُهُمْ ، وَيُضُرُّ الرَّسُولَ والمُسْلِمِينَ ، وَقَدْ أَخْرَجُوا الرَّسُولَ وَأَصْحَابَهُ مِنْ بَينِ أَظْهَرِهِمْ كُرْهاً بِالتَّوْحِيدِ ، وَإِخْلاَصِ العِبَادَةِ للهِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَنْبٌ يُؤَاخَذُونَ عَلَيهِ غَيْرُ ذَلِكَ .
فَإِنْ كُنْتُمْ ، يَا أَيَّهُا المُؤْمِنُونَ ، قَدْ خَرَجْتُمْ مُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِي ، وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ، فَلاَ تُوَلُوا أَعْدَائِي ، وَمَنْ يَفْعَلْ هَذِهِ المُوَالاَةَ ، وَيُفْشِ سِرَّ الرَّسُول لأَعْدَائِهِ ، فَقَدْ حَادَ عَنْ قَصْدِ الطَّرِيقِ المُوصِلَةِ إِلَى الجَنَّةِ .
إِنْ ظَفِرَ بِكُمْ هَؤُلاَءِ الكَافِرُونَ ، الذِينَ تُلْقَونَ إِليهِم بِالمَوَدَّةِ ، يُظْهِرُوا لَكُمْ عَدَاوَتَهُمْ ، وَيَمُدُّوا إِليكُمْ أَيدِيَهُمْ وأَلْسِنَتَهُمْ بِمَا يَسُوؤُكُمْ : يُقَاتِلُونَكُمْ وَيَشْتَمُونَكُمْ وَيَتَمَنَّونَ لَو تَكْفرُونَ بِرَبِّكُمْ فَتَكُونُوا عَلَى مِثْلِ دِينِهِمْ ، فَكَيْفَ تُسِرُّونَ إِلَى هَؤُلاَءِ بِالمَوَدَّةِ وَهَذِهِ هِيَ حَالُهُمْ؟ .(2/18)
وََيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ الذِي اعْتَذَرَ بِرَغْبَتِهِ فِي المُحَافَظَةِ عَلَى أَوْلاَدِهِ وَأَمْوَالِهِ فِي مَكَّةَ ، بِأَنَّ الأَقَارِبَ وَالأَوْلاَدَ ، الذِينَ تُوَالُونَ الكُفَّارَ مِنْ أَجْلِهِمْ ، لَنْ يَنْفَعُوكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَلَنْ يَدْفَعُوا عَنْكُمْ شَيئاً مِنْ عَذَابِ اللهِ ، إِنْ عَصَيْتُمُوهُ فِي الدُّنْيَا ، لأَنَّهُ سَيَفْصِلُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَقَارِبِهِمْ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ العَصِيبِ . وَيَذْهَلُ كُلُّ وَاحِدٍ عَمَّنْ سِوَاهُ ، وَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ شَأْنٌ يُغَنِيهِ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ ، وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُهُ العِبَادُ .
أَفَلاَ تَأَسَّى هَؤُلاَءِ الذِينَ يُوَادُّونَ الكَافِرِينَ بِأَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ ، وَأَصْحَابِهِ المُؤْمِنينَ ، حِينَ قَالُوا لِقَوْمِهِم الذِينَ كَفَرُوا بِاللهِ : إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنَ الآلِهَةِ وَالأَنْدَادِ ، وَجََحَدْنَا ما أَنْتُمْ عَلَيهِ مِنَ الكُفْرِ ، وَأَنْكَرْنَا عِبَادَتَكُمْ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ حِجَارَةٍ وَأَوْثَانٍ وَأَصْنَامٍ ، وَقَدْ أَعْلَنَّا الحَرْبَ عَلَيْكُمْ ، فَلاَ هَوَادَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ، وَسَنَبْقَى عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تُؤمِنُوا بِاللهِ وَتُوَحِّدُوهُ ، وَتَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَلاَ صَاحِبَةَ وَلاَ وَلَدَ ، وَتَتَخَلَّصُوا مِنْ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ وَالأَوْثَانِ .(2/19)
وَلَكُمْ فِي أَبْيكُمْ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمِهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ تَتَأَسَّوْنَ بِهَا ، وَتَعْتَبِرُونَ بِهَا فِي مَسْلَكِكُمْ وَعِبَادَتِكُمْ ، وَلاَ تَسْتَثْنُوا مِنْ تَصَرُّفَاتِ إِبْرَاهِيمَ التِي تَقْتَدُونَ بِهَا إِلاَّ اسْتْغْفَارَهُ لأَبِيهِ الذِي بَقِيَ مُقِيماً عَلَى الكُفْرِ ، فَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ : إِنَّهُ سَيَسْتَغْفِرُ لَهُ اللهَ ، وَإِنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْفَعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، فَالأَمْرُ مَرْدُودٌ إِلَى مَشِيئَةِ اللهِ ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَ . وَلَكِنَّ هَذَا القَوْلَ صَدَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمِ حِينَمَا وَعَدَهُ أَبُوهُ بِأَنَّهُ سَيُؤْمِنُ بِاللهِ ، وَيَتْبَعُهُ فِيمَا يَعْبُدُ . فَلَمَّا تَبَيَّنَ إِبْرَاهِيمُ أَنَّ عَدُوٌ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ .
وَحِينَمَا فَارَقَ إِبْرَاهِيمُ وَالمُؤْمِنُونُ مَعَهُ قَوْمَهُمْ لَجَؤُوا إِلَى اللهِ مُتَضَرِّعِينَ قَائِلِينَ : رَبَّنَا إِنَّنَا اعْتَمَدْنَا عَلَيْكَ فِي جَمِيعِ أُمُورِنَا ( تَوَكَّلْنَا ) ، وَرَجَعْنَا إِلَيكَ بِالتَّوْبَةِ مِنْ ذُنُوبِنَا ، وَإِلَيكَ مَصِيرُنَا حِينَ تَبْعَثُنَا مِنْ قُبُورِنَا لِلْعََرْضِ وَالحِسَابِ . فَاقْتَدُوا بِهِمْ يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ ، وَقُولُوا مِثْلَ قَوْلِهِمْ .(2/20)
رَبَّنَا وَلاَ تُسَلِّطْ قَوْمَنَا الكَافِرِينَ عَلَينَا ، وَلاَ تَجْعَلْهُمْ يَظْهَرُونَ عَلَينَا ، فَيَعْمَلُوا عَلَى فِتْنَتِنَا عَنْ دِينِنَا بِالعَذَابِ وَالنَّكَالِ . وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا ظَهَرُوا عَلَيْنَا لأَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ فِيمَا يَقُولُونَ ، وَفِيمَا يَعْبُدُونَ ، رَبَّنَا واسْتُرْ ذُنُوبَنَا عَنْ غَيرِكَ ، وَاعْفُ عَنَّا فِيمَا بَيْنَنَا وَبَينَكَ ، إِنَّكَ يَا رَبِّ أَنْتَ القَوِيُّ العَزِيزُ الذِي لاَ يُضَامُ ، الحَكِيمُ فِيمَا تَشْرَعُ ، وَفِيمَا تَقْضِي .
يدعوهم ليبصرهم بحقائق موقفهم ، ويحذرهم حبائل أعدائهم ، ويذكرهم بالمهمة الملقاة على عاتقهم .
وفي مودة يجعل عدوهم عدوه ، وعدوه عدوهم :
{ لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة } . .
فيشعر المؤمنين بأنهم منه وإليه . يعاديهم من يعاديه . فهم رجاله المنتسبون إليه الذين يحملون شارته في هذه الأرض ، وهم أوداؤه وأحباؤه . فلا يجوز أن يلقوا بالمودة إلى أعدائهم وأعدائه .
ويذكرهم بجريرة هؤلاء الأعداء عليهم وعلى دينهم وعلى رسولهم ، وعدوانهم على هذا كله في تجن وظلم : { وقد كفروا بما جاءكم من الحق . يخرجون الرسول وإياكم . أن تؤمنوا بالله ربكم } . .
فماذا أبقوا بعد هذه الجرائر الظالمة للموالاة والمودة؟ كفروا بالحق . وأخرجوا الرسول والمؤمنين ، لا لشيء إلا لأنهم آمنوا بالله ربهم؟ إنه يهيج في قلوب المؤمنين هذه الذكريات المرتبطة بعقيدتهم . وهي التي حاربهم المشركون من أجلها ، لا من أجل أي سبب آخر . ويبرز القضية التي عليها الخلاف والخصومة والحرب . فهي قضية العقيدة دون سواها . قضية الحق الذي كفروا به والرسول الذي أخرجوه ، والإيمان الذي من أجله أخرجوهم .
وإذا تمحضت القضية هكذا وبرزت ، ذكّرهم بأنه لا محل إذن للمودة بينهم وبين المشركين إن كانوا قد خرجوا من ديارهم ابتغاء رضوان الله وجهاداً في سبيله :
{(2/21)
إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وإبتغاء مرضاتي } . .
فما يجتمع في قلب واحد أن يهاجر جهاداً في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله ، مع مودة لمن أخرجه من أجل إيمانه بالله ، وهو عدو الله وعدو رسول الله!
ثم يحذرهم تحذيراً خفياً مما تكن قلوبهم ، وما يسرون به إلى أعدائهم وأعداء الله من المودة ، وهو مطلع على خفية القلوب وعلانيتها :
{ تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم } .
ثم يهددهم تهديداً مخيفاً ، يثير في القلب المؤمن الوجل والمخافة :
{ ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل } . .
وهل يخيف المؤمن شيء ما يخيفه أن يضل سواء السبيل بعد الهداية والوصول؟!
وهذا التهديد وذلك التحذير يتوسطان تبصير المؤمنين بحقيقة أعدائهم وما يضمرون لهم من الشر والكيد . ثم تجيء البقية :
{ إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطون إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء } . .
فلا تعرض لهم فرصة يتمكنون فيها من المسلمين حتى يتصرفوا معهم تصرف العدو الأصيل . ويوقعوا بهم ما يملكون من أذى ومن تنكيل بالأيدي وبالألسنة وبكل وسيلة وكل سبيل .
والأدهى من هذا كله والأشد والأنكى : { وودوا لو تكفرون } . .
وهذه عند المؤمن أشد من كل أذى ومن كل سوء يصيبه باليد أو اللسان . فالذي يود له أن يخسر هذا الكنز العزيز . كنز الإيمان . ويرتد إلى الكفر ، هو أعدى من كل عدو يؤذيه باليد وباللسان!
والذي يذوق حلاوة الإيمان بعد الكفر ، ويهتدي بنوره بعد الضلال ، ويعيش عيشة المؤمن بتصوراته ومداركه ومشاعره واستقامة طريقه وطمأنينة قلبه يكره العودة إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار .
أو أشد . فعدو الله هو الذي يود أن يرجعه إلى جحيم الكفر وقد خرج منه إلى جنة الإيمان ، وإلى فراغ الكفر الخاوي بعد عالم الإيمان المعمور .
لهذا يتدرج القرآن في تهييج قلوب المؤمنين ضد أعدائه وأعدائهم حتى يصل إلى قمته بقوله لهم عنهم : { وودوا لو تكفرون } . .(2/22)
هذه هي الجولة الأولى بلمساتها المتعددة . ثم تليها جولة ثانية بلمسة واحدة تعالج مشاعر القرابة ووشائجها المتأصلة؛ والتي تشتجر في القلوب فتجرها جراً إلى المودة؛ وتنسيها تكاليف التميز بالعقيدة :
{ لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم . يوم القيامة يفصل بينكم . والله بما تعملون بصير } .
إن المؤمن يعمل ويرجو الآخرة . ويزرع هنا وينتظر الحصاد هناك . فلمسة قلبه بما يكون في الآخرة من تقطيع وشائج القربى كلها إذا تقطعت وشيجة العقيدة ، من شأنها أن تهون عنده شأن هذه الوشائج في فترة الحياة الدنيا القصيرة؛ وتوجهه إلى طلب الوشيجة الدائمة التي لا تنقطع في دنيا ولا في آخرة :
ومن ثم يقول لهم : { لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم } . . التي تهفون إليها وتتعلق قلوبكم بها؛ وتضطركم إلى موادة أعداء الله وأعدائكم وقاية لها كما حدث لحاطب في حرصه على أولاده وأمواله وكما تجيش خواطر آخرين غيره حول أرحامهم وأولادهم الذين خلفوهم في دار الهجرة . لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم . ذلك أنه { يوم القيامة يفصل بينكم } . . لأن العروة التي تربطكم مقطوعة . وهي العروة التي لا رباط بغيرها عند الله .
{ والله بما تعملون بصير } . . مطلع على العمل الظاهر والنية وراءه في الضمير .
ثم تأتي الجولة الثالثة فتصل المسلمين بأول هذه الأمة الواحدة : أمة التوحيد . وهذه القافلة الواحدة : قافلة الإيمان . فإذا هي ممتدة في الزمان ، متميزة بالإيمان ، متبرئة من كل وشيجة تنافي وشيجة العقيدة . . إنها الأمة الممتدة منذ إبراهيم . أبيهم الأول وصاحب الحنيفية الأولى . وفيه أسوة لا في العقيدة وحدها ، بل كذلك في السيرة ، وفي التجارب التي عاناها مع عاطفة القرابة ووشائجها؛ ثم خلص منها هو ومن آمن معه ، وتجرد لعقيدته وحدها :
{(2/23)
قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه؛ إذ قالوا لقومهم : إنا برآء منكم ، ومما تعبدون من دون الله ، كفرنا بكم ، وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده . إلا قول إبراهيم لأبيه ، لأستغفرن لك ، وما أملك لك من الله من شيء . ربنا عليك توكلنا ، وإليك أنبنا ، وإليك المصير . ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا ، واغفر لنا ربنا ، إنك أنت العزيز الحكيم . . لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر .
ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد } . .
وينظر المسلم فإذا له نسب عريق ، وماض طويل ، وأسوة ممتدة على آماد الزمان ، وإذا هو راجع إلى إبراهيم ، لا في عقيدته فحسب ، بل في تجاربه التي عاناها كذلك . فيشعر أن له رصيداً من التجارب أكبر من رصيده الشخصي وأكبر من رصيد جيله الذي يعيش فيه . إن هذه القافلة الممتدة في شعاب الزمان من المؤمنين بدين الله ، الواقفين تحت راية الله ، قد مرت بمثل ما يمر به ، وقد انتهت في تجربتها إلى قرار اتخذته . فليس الأمر جديداً ولا مبتدعاً ولا تكليفاً يشق على المؤمنين . . ثم إن له لأمة طويلة عريضة يلتقي معها في العقيدة ويرجع إليها ، إذا انبتت الروابط بينه وبين أعداء عقيدته . فهو فرع من شجرة ضخمة باسقة عميقة الجذور كثيرة الفروع وارفة الظلال . . الشجرة التي غرسها أول المسلمين . . إبراهيم . .
مر إبراهيم والذين معه بالتجربة التي يعانيها المسلمون المهاجرون . وفيهم أسوة حسنة : { إذ قالوا لقومهم : إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله ، كفرنا بكم ، وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده } . .(2/24)
فهي البراءة من القوم ومعبوداتهم وعباداتهم . وهو الكفر بهم والإيمان بالله . وهي العداوة والبغضاء لا تنقطع حتى يؤمن القوم بالله وحده . وهي المفاصلة الحاسمة الجازمة التي لا تستبقي شيئاً من الوشائج والأواصر بعد انقطاع وشيجة العقيدة وآصرة الإيمان . وفي هذا الفصل الخطاب في مثل هذه التجربة التي يمر بها المؤمن في أي جيل . وفي قرار إبراهيم والذين معه أسوة لخلفائهم من المسلمين إلى يوم الدين .
ولقد كان بعض المسلمين يجد في استغفار إبراهيم لأبيه وهو مشرك ثغرة تنفذ منها عواطفهم الحبيسة ومشاعرهم الموصولة بذوي قرباهم من المشركين . فجاء القرآن ليشرح لهم حقيقة موقف إبراهيم في قوله لأبيه : { لأستغفرن لك } . .
فلقد قال هذا قبل أن يستيقن من إصرار أبيه على الشرك . قاله وهو يرجو إيمانه ويتوقعه : { فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه } . . كما جاء في سورة أخرى .
ويثبت هنا أن إبراهيم فوض الأمر كله لله ، وتوجه إليه بالتوكل والإنابة والرجوع إليه على كل حال : { وما أملك لك من الله من شيء . ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير } . .
وهذا التسليم المطلق لله ، هو السمة الإيمانية الواضحة في إبراهيم يبرزها هنا ليوجه إليها قلوب أبنائه المسلمين . كحلقة من حلقات التربية والتوجيه بالقصص والتعقيب عليه ، وإبراز ما في ثناياه من ملامح وسمات وتوجيهات على طريقة القرآن الكريم .
ويستطرد لهذا في إثبات بقية دعاء إبراهيم ونجواه لمولاه : { ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا } . .
فلا تسلطهم علينا . فيكون في ذلك فتنة لهم ، إذ يقولون : لو كان الإيمان يحمي أهله ما سلطنا عليهم وقهرناهم! وهي الشبهة التي كثيراً ما تحيك في الصدور ، حين يتمكن الباطل من الحق ، ويتسلط الطغاة على أهل الإيمان لحكمة يعلمها الله في فترة من الفترات .(2/25)
والمؤمن يصبر للابتلاء ، ولكن هذا لا يمنعه أن يدعو الله ألا يصيبه البلاء الذي يجعله فتنة وشبهة تحيك في الصدور .
وبقية الدعاء : { واغفر لنا } . .
يقولها إبراهيم خليل الرحمن . إدراكاً منه لمستوى العبادة التي يستحقها منه ربه ، وعجزه ببشريته عن بلوغ المستوى الذي يكافئ به نعم الله وآلاءه ، ويمجد جلاله وكبرياءه فيطلب المغفرة من ربه ، ليكون في شعوره وفي طلبه أسوة لمن معه ولمن يأتي بعده .
ويختم دعاءه وإنابته واستغفاره يصف ربه بصفته المناسبة لهذا الدعاء : { ربنا إنك أنت العزيز الحكيم } .
العزيز : القادر على الفعل ، الحكيم : فيما يمضي من تدبير .
وفي نهاية هذا العرض لموقف إبراهيم والذين معه ، وفي استسلام إبراهيم وإنابته يعود فيقرر الأسوة ويكررها؛ مع لمسة جديدة لقلوب المؤمنين : { لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر . ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد } . .
فالأسوة في إبراهيم والذين معه متحققة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر . هؤلاء هم الذين يدركون قيمة التجربة التي عاناها هذا الرهط الكريم ، ويجدون فيها أسوة تتبع ، وسابقة تهدي . فمن كان يرجو الله واليوم الآخر فليتخذ منها أسوة . . وهو تلميح موح للحاضرين من المؤمنين .
فأما من يريد أن يتولى عن هذا المنهج . من يريد أن يحيد عن طريق القافلة . من يريد أن ينسلخ من هذا النسب العريق . فما بالله من حاجة إليه سبحانه { فإن الله هو الغني الحميد } . .
وتنتهي الجولة وقد عاد المؤمنون أدراجهم إلى أوائل تاريخهم المديد ، ورجعوا بذكرياتهم إلى نشأتهم في الأرض؛ وعرفوا تجاربهم المذخورة لهم في الأجيال المتطاولة ، ورأوا القرار الذي انتهى إليه من مروا بهذه التجربة؛ ووجدوها طريقاً معبدة من قبل ليسوا هم أول السالكين فيها .(2/26)
والقرآن الكريم يؤكد هذا التصور ويكرره ليتصل ركب المؤمنين ، فلا يشعر بالغربة أو الوحشة سالك ولو كان وحده في جيل! ولا يجد مشقة في تكليف نهض به السالكون معه في الطريق!
بعدئذ يعود فينسم على هذه القلوب التي يعلم الله ما بها من حنين ورغبة في زوال حالة العداء والجفوة التي تكلفهم هذه المشقة . ينسم عليها بنسمة الأمل الندية في أن ينضم هؤلاء الأعداء إلى راية الإسلام ، وإلى صفوف المسلمين؛ فيكون هذا هو الطريق لزوال الجفوة وقيام الود على أساسه الركين . . ثم يخفف عنهم مرة أخرى وهو يضع القاعدة الإسلامية الكبرى في العلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم ، فيجعل المقاطعة والخصومة خاصة بحالة العداء والعدوان .
فأما حين ينتفي العداء والعدوان فهو البر لمن يستحق البر ، وهو القسط في المعاملة والعدل : { عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة ، والله قدير والله غفور رحيم . لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم . إن الله يحب المقسطين . إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم ، وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم . ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون } . .
إن الإسلام دين سلام ، وعقيدة حب ، ونظام يستهدف أن يظلل العالم كله بظله ، وأن يقيم فيه منهجه ، وأن يجمع الناس تحت لواء الله إخوة متعارفين متحابين . وليس هنالك من عائق يحول دون اتجاهه هذا إلا عدوان أعدائه عليه وعلى أهله . فأما إذا سالموهم فليس الإسلام براغب في الخصومة ولا متطوع بها كذلك! وهو حتى في حالة الخصومة يستبقي أسباب الود في النفوس بنظافة السلوك وعدالة المعاملة ، انتظاراً لليوم الذي يقتنع فيه خصومه بأن الخير في أن ينضووا تحت لوائه الرفيع . ولا ييأس الإسلام من هذا اليوم الذي تستقيم فيه النفوس ، فتتجه هذا الاتجاه المستقيم .(2/27)
وفي الآية الأولى من هذا المقطع إشارة إلى هذا الرجاء الذي لا يغلب عليه اليأس؛ في معرض التخفيف على نفوس بعض المهاجرين ، وتغذية قلوبهم المتعبة بمشقة المقاطعة والحرب للأهل والعشيرة :
{ عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة } . .
وهذا الرجاء من الله ، معناه القطع بتحققه . والمؤمنون الذين سمعوه لا بد قد أيقنوا به ، ولقد وقع بعد هذا بوقت قصير أن فتحت مكة ، وأن أسلمت قريش ، وأن وقف الجميع تحت لواء واحد ، وأن طويت الثارات والمواجد ، وأن عاد الجميع إخوة مؤتلفي القلوب .
{ والله قدير } . . يفعل ما يريد بلا معقب .
{ والله غفور رحيم } . . يغفر ما سلف من الشرك والذنوب . .
وإلى أن يتحقق وعد الله الذي دل عليه لفظ الرجاء رخص الله لهم في موادة من لم يقاتلوهم في الدين ولم يخرجوهم من ديارهم . ورفع عنهم الحرج في أن يبروهم ، وأن يتحروا العدل في معاملاتهم معهم فلا يبخسونهم من حقوقهم شيئاً . ولكنه نهى أشد النهي عن الولاء لمن قاتلوهم في الدين وأخرجوهم من ديارهم وساعدوا على إخراجهم . وحكم على الذين يتولونهم بأنهم هم الظالمون . . ومن معاني الظلم الشرك بالرجوع إلى قوله تعالى : { إن الشرك لظلم عظيم } . . وهو تهديد رهيب يجزع منه المؤمن ، ويتقي أن يدخل في مدلوله المخيف!
وتلك القاعدة في معاملة غير المسلمين هي أعدل القواعد التي تتفق مع طبيعة هذا الدين ووجهته ونظرته إلى الحياة الإنسانية ، بل نظرته الكلية لهذا الوجود ، الصادر عن إله واحد ، المتجه إلى إله واحد ، المتعاون في تصميمه اللدني وتقديره الأزلي ، من وراء كل اختلاف وتنويع .(2/28)
وهي أساس شريعته الدولية ، التي تجعل حالة السلم بينه وبين الناس جميعاً هي الحالة الثابتة ، لا يغيرها إلا وقوع الاعتداء الحربي وضرورة رده ، أو خوف الخيانة بعد المعاهدة ، وهي تهديد بالاعتداء؛ أو الوقوف بالقوة في وجه حرية الدعوة وحرية الاعتقاد . وهو كذلك اعتداء . وفيما عدا هذا فهي السلم والمودة والبر والعدل للناس أجمعين .
ثم هي القاعدة التي تتفق مع التصور الإسلامي الذي يجعل القضية بين المؤمنين ومخالفيهم هي قضية هذه العقيدة دون غيرها؛ ويجعل القيمة التي يضن بها المؤمن ويقاتل دونها هي قضية العقيدة وحدها . فليس بينهم وبين الناس ما يتخاصمون عليه ويتقاتلون إلا حرية الدعوة وحرية الاعتقاد ، وتحقيق منهج الله في الأرض ، وإعلاء كلمة الله .
وهذا التوجيه يتفق مع اتجاه السورة كلها إلى إبراز قيمة العقيدة ، وجعلها هي الراية الوحيدة التي يقف تحتها المسلمون . فمن وقف معهم تحتها فهو منهم . ومن قاتلهم فيها فهو عدوهم . ومن سالمهم فتركهم لعقيدتهم ودعوتهم ، ولم يصد الناس عنها ، ولم يحل بينهم وبين سماعها ، ولم يفتن المؤمنين بها ، فهو مسالم لا يمنع الإسلام من البر به والقسط معه .
إن المسلم يعيش في هذه الأرض لعقيدته ، ويجعلها قضيته مع نفسه ومع الناس من حوله . فلا خصومة على مصلحة ، ولا جهاد في عصبية أي عصبية من جنس أو أرض أو عشيرة أو نسب . إنما الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا ، ولتكون عقيدته هي المنهج المطبق في الحياة .(2/29)
ولقد نزلت بعد ذلك سورة التوبة وفيها { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين . . الخ } فانتهت بهذا حالة المعاهدة والموادعة بين المسلمين والمشركين كافة . بعد مهلة أربعة أشهر لأصحاب المعاهدات غير المسماة الأجل ، ومهلة إلى انتهاء الأجل لأصحاب المعاهدات المسماة . ولكن هذا إنما كان بعدما أثبتت التجارب أن القوم لا يرعون عهودهم مع المسلمين إلا ريثما تسنح لهم الفرصة لنقضها وهم الرابحون! فانطبقت القاعدة الأخرى : { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سوآء إن الله لا يحب الخائنين } وكان هذا ضرورة لتأمين القاعدة الإسلامية وهي حينئذ شبه الجزيرة كلها من المتربصين بالمسلمين من أعدائهم المعايشين لهم من المشركين وأهل الكتاب الذين تكررت غدراتهم ونقضهم للعهود . وهي حالة اعتداء في صميمها ، تنطبق عليها حالة الاعتداء . وبخاصة أن الامبراطوريتين المحيطتين بأرض الإسلام قد بدأتا تجمعان له وتشعران بخطره ، وتؤلبان عليه الإمارات العربية المتاخمة الخاضعة للدولتين الرومانية والفارسية . فلم يبق بد من تطهير المعسكر الإسلامي من بقية أعدائه قبل الالتحام في المعارك الخارجية المتوقعة يومذاك .
- - - - - - - - - - - -
80.
امتحان المهاجرات(2/30)
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) } سورة الممتحنة
كَانَ مِنْ شُرُوطِ صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ بَيْنَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَقُرَيشٍ أَنَّ الرَّسُولَ لاَ يَأْتِيهِ أَحَدٌ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ إِلاَّ رَدَّهُ ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِماً عَلَى دِينِ الإِسْلاَمِ . وَخِلاَلَ فَتْرَةِ الصُّلْحِ جَاءَتِ الرَّسُولَ فِي المَدْينَةِ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعيطٍ مُسْلِمَةً فَجَاءَ أَخَوَاهَا إِلَى الرَّسُولِ يَسْأَلاَنِهِ رَدَّهَا ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ ، يَنْقُضُ بِهَا عَهْدَ الحُدَيْبِيَةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالنِّسَاءِ خَاصَّةً ، فَمَنَعَ اللهُ المُؤْمِنينَ مِنْ أَنْ يَرُدُّوا المُؤْمِنَاتِ المُهَاجِرَاتِ إِلَى المُشْرِكِينَ ، وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى آيَةَ الامْتِحَانِ .(2/31)
وَيُبَيِّنُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنينَ أَنَّهُ إِذَا جَاءَكُمْ ، يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ ، النِّسَاءُ مُؤْمِنَاتٍ مُهَاجِرَاتٍ مِنْ بَيْنِ الكُفَّارِ ، فاخْتَبِرُوا حَالَهُنَّ ، لِتَعْلَمُوا صِدْقَ إِيمَانِهِنَّ ، لأنَّ الكُفَّارَ لاَ يَحِلُّونَ لِلْمُؤْمِنَاتِ ، وَالمُؤْمِنَاتُ لاَ يَحْلِلْنَ لِلكُفَّارِ
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِلْمُهَاجِرَاتِ :
" بِاللهِ الذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ مَا خَرَجْتُ مِنْ بُغْضِ زَوْجٍ ، بِاللهِ مَا خَرَجْتُ رَغْبَةً بِأَرْضٍ عَنْ أَرْضٍ ، بِاللهِ مَا خَرَجْتُ التِمَاساً لِدُنْيَا ، بِاللهِ مَا خَرَجْتُ إِلاَّ حُبّاً بِاللهِ وَرَسُولِهِ " ) .
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِ المُهَاجِرَاتِ مِنْكُمْ يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ . ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى الحُكْمَ فِي هَذِهِ الحَالَةِ :
فَقَالَ : أَعطُوا أَزْوَاجَ المُؤْمِنَاتِ المُهَاجِرَاتِ مِنَ الكُفَّارِ مِثْلَ مَا دَفَعُوا مِنَ المُهُورِ ، وَلاَ إِثْمَ عَلَى الرِّجَالِ المُؤْمِنينَ فِي أَنْ يَنْكِحُوا هَؤُلاَءِ المُهَاجِرَاتِ ، بِشَرْطِ أَنْ يَتَعَهَّدُوا بِأَنْ يُؤَدُّوا إِليهِنَّ مُهُورَهُنَّ ، وَلاَ يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنينَ أَنْ يَتَزَوَّجُوا المُشْرِكَاتِ ، وَلاَ أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِعَقْدِ زَوْجِيَّةِ الكَافِرَاتِ البَاقِيَاتِ فِي دَارِ الشِّرْكِ ، وَإِذَا لَحِقَتْ امْرَأَةٌ كَافِرَةٌ هِيَ زَوْجَةٌ لِمُسْلِمٍ بِالكُفَّارِ - بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ - فَلِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْأَلُوا الكُفَّارَ مَهْرَهَا الذِي دَفَعَةُ زَوْجُهَا المُسْلِمُ ، وَلْيَسْأَلْكُمُ الكُفَّارُ دَفْعَ مُهُورِ نِسَائِهِمْ المُؤْمِنَاتِ المُهَاجِرَاتِ .(2/32)
وَذَلِكَ الذِي ذُكِرَ هُوَ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فَاتَّبِعُوهُ ، وَاللهُ عَلِيمٌ فَلاَ يَشْرَعُ إِلاَّ مَا فِيهِ الحِكْمَةُ .
وَإِذَا ذَهَبَتْ زَوْجَاتُكُمْ الكَافِرَاتُ إِلَى المُشْرِكِينَ ، وَلَمْ يَدْفَعُوا إِليكُمْ المهُورَ التِي سَبَقَ أَنْ دَفَعْتُمُوهَا لَهُنَّ ، ثُمَّ ظَفِرْتُمْ بِالمُشْرِكِينَ ، وَانْتَصَرْتُمْ عَلَيهِمْ ، فَأَعْطُوا الذِينَ ذَهَبَتْ زَوْجَاتُهُمْ المُشْرِكَاتُ مِنَ الغَنِيمَةِ مِثْلَ مَا دَفَعُوا إِليهِنَّ مِنْ صِدَاقٍ ، وَخَافُوا اللهَ الذِي تُؤْمِنُونَ بِهِ ، فَأَدُّوا فَرَائِضَهُ ، وَالتَزِمُوا بِأَوَامِرِهِ .
( وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ : إِذَا فَرَّتْ مُشْرِكَةٌ هِيَ زَوْجَةٌ لِمُسْلِمٍ إِلَى الكُفَّارِ الذِينَ لَيْسَ لَهُمْ عَهْدٌ ، وَلَمْ يَدْفَعُوا إِلَى زَوْجِهَا شَيئاً ، فَإِذَا جَاءَتْ مِنْهُمُ امْرَأَةٌ مُسْلِمَةً فَلاَ يُدْفَعُ إِلَى زَوْجِهَا شَيءٌ حَتَّى يَدْفَعُوا إِلَى المُسْلِمِ زَوْجِ الذَّاهِبَةِ إِليْهِمْ مِثْلَمَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يُؤَدّى إِليْهِمْ مِنَ الغَنِيمَةِ قَبْلَ أَنْ تُخَمَّسَ ) .
لقد انبتت الوشيجة الأولى : وشيجة العقيدة . . فلم تعد هناك وشيجة أخرى يمكن أن تصل هذه القطيعة . والزوجية حالة امتزاج واندماج واستقرار ، لا يمكن أن تقوم إذا انقطعت هذه الوشيجة الأولى . والإيمان هو قوام حياة القلب الذي لا تقوم مقامه عاطفة أخرى ، فإذا خوى منه قلب لم يستطع قلب مؤمن أن يتجاوب معه ، ولا أن يأنس به ، ولا أن يواده ولا أن يسكن إليه ويطمئن في جواره . والزواج مودة ورحمة وأنس وسكن .
وكان الأمر في أول الهجرة متروكاً بغير نص ، فلم يكن يفرق بين الزوجة المؤمنة والزوج الكافر؛ ولا بين الزوج المؤمن والزوجة الكافرة ، لأن المجتمع الإسلامي لم يكن قد استقرت قواعده بعد .(2/33)
فأما بعد صلح الحديبية أو فتح الحديبية كما يعتبره كثير من الرواة فقد آن أن تقع المفاصلة الكاملة؛ وأن يستقر في ضمير المؤمنين والمؤمنات ، كما يستقر في واقعهم ، أن لا رابطة إلا رابطة الإيمان ، وأن لا وشيجة إلا وشيجة العقيدة ، وأن لا ارتباط إلا بين الذين يرتبطون بالله .
ومع إجراء التفريق إجراء التعويض على مقتضى العدل والمساواة فيرد على الزوج الكافر قيمة ما أنفق من المهر على زوجته المؤمنة التي فارقته تعويضاَ للضرر . كما يرد على الزوج المؤمن قيمة ما أنفق من المهر على زوجته الكافرة التي يطلقها من عصمته .
وبعد ذلك يحل للمؤمنين نكاح المؤمنات المهاجرات متى آتوهن مهورهن . . مع خلاف فقهي : هل لهن عدة ، أم لا عدة إلا للحوامل حتى يضعهن حملهن؟ وإذا كانت لهن عدة فهل هي عدة المطلقات . . ثلاثة قروء . . أم هي عدة استبراء للرحم بحيضة واحدة؟
{ وآتوهم مآ أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذآ آتيتموهن أجورهن . ولا تمسكوا بعصم الكوافر ، واسألوا مآ أنفقتم وليسألوا مآ أنفقوا } .
ثم يربط هذه الأحكام كلها بالضمانة الكبرى في ضمير المؤمن . ضمانة الرقابة الإلهية وخشية الله وتقواه : { ذلكم حكم الله يحكم بينكم ، والله عليم حكيم } . .
وهي الضمانة الوحيدة التي يؤمن عليها من النقض والالتواء والاحتيال . فحكم الله ، هو حكم العليم الحكيم . وهو حكم المطلع على ذوات الصدور . وهو حكم القوي القدير . ويكفي أن يستشعر ضمير المسلم هذه الصلة ، ويدرك مصدر الحكم ليستقيم عليه ويرعاه . وهو يوقن أن مرده إلى الله .
فإذا فات المؤمنين شيء مما أنفقوا ، بامتناع الكوافر أو أهليهن من رد حق الزوج المؤمن كما حدث في بعض الحالات عوضهم الإمام مما يكون للكافرين الذين هاجرت زوجاتهم من حقوق على زوجاتهم في دار الإسلام ، أو مما يقع من مال الكفار غنيمة في أيدي المسلمين :
{(2/34)
وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا } ويربط هذا الحكم وتطبيقاته كذلك بالضمان الذي يتعلق به كل حكم وكل تطبيق : { واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون } . .
وهي لمسة للمؤمنين بالله عميقة الأثر في القلوب .
وهكذا تكون تلك الأحكام بالمفاصلة بين الأزواج تطبيقاً واقعياً للتصور الإسلامي عن قيم الحياة وارتباطاتها؛ وعن وحدة الصف الإسلامي وتميزه من سائر الصفوف؛ وعن إقامة الحياة كلها على أساس العقيدة ، وربطها كلها بمحور الإيمان؛ وإنشاء عالم إنساني تذوب فيه فوارق الجنس واللون واللغة والنسب والأرض . وتبقى شارة واحدة تميز الناس .
- - - - - - - - - - - -
81.
تحريم تولي من غضب الله عليه
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} (13) سورة الممتحنة
وَبَعْدَ أَنْ نَهَى اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَادَّةِ المُشْرِكِينَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ ، عَادَ تَعَالَى فَكَرَّرَ هَذَا النَّهْيَ فِي آخِرِهَا فَقَالَ : يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لاَ تُوَالُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالمُشْرِكِينَ مِمَّنْ غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ، وَاسْتَحَقُّوا الطَّرْدَ مِنْ رَحْمَتِهِ ، وَلاَ تَتَّخِذُوهُمْ أَصْدِقَاءَ لَكُمْ تُسِرُّونَ إِليْهِمْ بِمَا يَضُرُّ الإِسْلاَمَ وَالمُسْلِمِينَ ، وَهَؤُلاَءِ الكُفَّارُ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الخَيْرِ والنَّجَاةِ فِي الآخِرَةِ لِعِنَادِهِمْ ، وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى الكُفْرِ ، وَتَكْذِيبِهِمْ رَسُولَ اللهِ . . كَمَا يَئِسَ الكُفَّارُ مِنْ بَعْثِ مَوْتَاهُمْ ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْتَقِدُونَ بِبَعْثِ وَلاَ حَشْرٍ وَلاَ حِسَابٍ .(2/35)
المراد بالقوم الذين غضب الله عليهم : المشركون ، بصفة عامة ، ويدخل فيهم دخولا أوليا اليهود ، لأن هذا الوصف كثيرا ما يطلق عليهم .
فقد ذكروا فى سبب نزول هذه الآية ، أن قوما من فقراء المؤمنين ، كانوا يواصلون اليهود . ليصيبوا من ثمارهم ، وربما أخبروهم عن شىء من أخبار المسلمين ، فنزلت الآية لتنهاهم عن ذلك .
أى : يا من آمنتم بالله - تعالى - حق الإيمان ، ينهاكم الله - تعالى - عن أن تتخذوا الأقوام الذين غضب الله عليهم أولياء ، وأصفيا ، بأن تفشوا إليهم أسرار المسلمين ، أو بأن تطلعوهم على مالا يصح الاطلاع عليه .
وقوله - تعالى - : { قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخرة كَمَا يَئِسَ الكفار مِنْ أَصْحَابِ القبور } تعليل للنهى عن موالاتهم ، وتنفير من الركون إليهم .
واليأس : فقدان الأمل فى الحصول على الشىء ، أو فى توقع حدوثه .
والكلام على حذف مضاف ، أى قد يئس هؤلاء اليهود من العمل لللآخرة وما فيها من ثواب ، وآثروا عليها الحياة الفانية . . . كما يئس الكفار من عودة موتاهم إلى الحياة مرة أخرى للحساب والجزاء ، لاعتقادهم بأنه لا بعث بعد الموت ، ولا ثواب ولا عقاب - كما حكى القرآن عنهم ذلك فى آيات كثيرة منها قوله - تعالى - { قالوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } فالمقصود من الآية الكريمة ، تشبيه حال هؤلاء اليهود فى شدة إعراضهم عن العمل للأخرة . . . بحال أولئك الكفار الذين أنكروا إنكارا تاما ، أن هناك بعثا للأموات الذين فارقوا الحياة ، ودفنوا فى قبورهم .
وعلى هذا الوجه يكون قوله - تعالى - : { مِنْ أَصْحَابِ القبور } متعلق بقوله { يَئِسُواْ } و { مِنْ } لابتداء الغاية .(2/36)
ويصح أن يكون قوله - تعالى - : { مِنْ أَصْحَابِ القبور } بيانا للكفار ، فيكون المعنى : قد يئسوا من الآخرة ، وما فيها من جزاء . . كما يئس الكفار الذين ماتوا وسكنوا القبور ، من أن ينالوا شيئا - ولو قليلا - من الرحمة ، أو تخفيف العذاب عنهم ، أو العودة إلى الدنيا ليعملوا عملا صالحا غير الذى أرداهم وأهلكهم .
وعلى كلا القولين ، فالآية الكريمة تنهى المؤمنين عن موالاة قوم غضب الله عليهم ، بأبلغ أسلوب ، وأحكم بيان .
حيث وصفت هؤلاء القوم ، بأنهم قد أحاط بهم غضب الله - تعالى - بسبب فسوقهم عن أمره ، وإعراضهم عن طاعته ، وإنكارهم للدار الآخرة وما فيها من جزاء .
- - - - - - - - - - - -
82.
النهي عن القول بلا عمل
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) } سورة الصف
يُنْكِرُ اللهُ تَعَالَى عَلَى مَن يَعِدُ وَعْداً ، أَوْ يَقُولُ قَوْلاً لاَ يَفِي بِهِ ، فَيَقُولُ تَعَالَى : لأَيِّ شَيءٍ تَقُولُونَ لَوَدِدْنَا أَنْ نَفْعَلَ كََذَا وَكَذَا مِنْ أَفْعَالِ الخَيْرِ ، حَتَّى إِذَا طُلِبَ مِنْكُمْ فِعْلُ ذَلِكَ كَرِهْتُمْ ذَلِكَ وَلَمْ تَفْعَلُوهُ؟ . .
وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ الشَّرِيفِ :" أيَةُ المُنَافِقِ ثَلاَثٌ : إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا ائْتمنَ خَانَ " )
( وَرُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزََلَتْ حِينَمَا تَمَنَّى المُؤُمِنُونَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيهِم الجِهَادُ ، فَلَمَّا فَرَضَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ نَكَلَ بَعْضُهُمْ عَنْهُ ) .(2/37)
وَأَكَّدَ اللهُ تَعَالَى إِنْكَارَهُ هَذَا عَلَى هَؤُلاَءِ القَائِلِينَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ ، فَقَالَ لَهُمْ : إِنَّهُ يَكْرَهُ كُرْهاً شَدِيداً أَنْ تَقُولُوا شَيئاً لاَ تَفْعَلُونَهُ لأَنَّ الوََفَاءَ بِالعَهْدِ وَالوَعْدِ يُنَمِّي الثِّقَةَ بَينَ أَفْرَادِ الجِمَاعَةِ ، كَمَا أَنَّ فُشُوَّ الخُلْفِ بِالوَعْدِ يُضْعِفُهَا .
وَقَوْله تَعَالَى يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ إِنْكَار عَلَى مَنْ يَعِدُ وَعْدًا أَوْ يَقُول قَوْلًا لَا يَفِي بِهِ وَلِهَذَا اِسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة مَنْ ذَهَبَ مِنْ عُلَمَاء السَّلَف إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْوَفَاء بِالْوَعْدِ مُطْلَقًا سَوَاء تَرَتَّبَ عَلَيْهِ عَزْم الْمَوْعُود أَمْ لَا وَاحْتَجُّوا أَيْضًا مِنْ السُّنَّة بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " آيَة الْمُنَافِق ثَلَاث إِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ " وَفِي الْحَدِيث الْآخَر فِي الصَّحِيح " أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ وَاحِدَة مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ نِفَاق حَتَّى يَدَعَهَا " فَذَكَرَ مِنْهُنَّ إِخْلَاف الْوَعْد وَقَدْ اِسْتَقْصَيْنَا الْكَلَام عَلَى هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ فِي أَوَّل شَرْحِ الْبُخَارِيّ وَلِلَّهِ الْحَمْد وَالْمِنَّة ; وَلِهَذَا أَكَّدَ اللَّه تَعَالَى هَذَا الْإِنْكَار عَلَيْهِمْ .
كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ(2/38)
بِقَوْلِهِ تَعَالَى " كَبُرَ مَقْتًا عِنْد اللَّه أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ " وَقَدْ رَوَى الْإِمَام أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَامِر بْن رَبِيعَة قَالَ : أَتَانَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا صَبِيّ فَذَهَبْت لِأَخْرُج لِأَلْعَب فَقَالَتْ أُمِّي يَا عَبْد اللَّه تَعَالَ أُعْطِك فَقَالَ لَهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَمَا أَرَدْت أَنْ تُعْطِيه ؟ " قَالَتْ تَمْرًا فَقَالَ " أَمَا إِنَّك لَوْ لَمْ تَفْعَلِي كُتِبَتْ عَلَيْك كَذْبَة " وَذَهَبَ الْإِمَام مَالِك رَحِمَهُ اللَّه إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَعَلَّقَ بِالْوَعْدِ عَزْمٌ عَلَى الْمَوْعُود وَجَبَ الْوَفَاء بِهِ كَمَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ تَزَوَّجْ وَلَك عَلَيَّ كُلّ يَوْم كَذَا فَتَزَوَّجَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيه مَا دَامَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقّ آدَمِيّ , وَهُوَ مَبْنِيّ عَلَى الْمُضَايَقَة , وَذَهَبَ الْجُمْهُور إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ مُطْلَقًا وَحَمَلُوا الْآيَة عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ حِين تَمَنَّوْا فَرِيضَة الْجِهَاد عَلَيْهِمْ فَلَمَّا فُرِضَ نَكَلَ عَنْهُ بَعْضهمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاة وَآتُوا الزَّكَاة فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَال إِذَا فَرِيق مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاس كَخَشْيَةِ اللَّه أَوْ أَشَدّ خَشْيَة وَقَالُوا رَبّنَا لِمَ كَتَبْت عَلَيْنَا الْقِتَال لَوْلَا أَخَّرْتنَا إِلَى أَجَل قَرِيب قُلْ مَتَاع الدُّنْيَا قَلِيل وَالْآخِرَة خَيْر لِمَنْ اِتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُمْ الْمَوْت وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوج مُشَيَّدَة " وَقَالَ تَعَالَى " وَيَقُول الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا(2/39)
نُزِّلَتْ سُورَة فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَة مُحْكَمَة وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَال رَأَيْت الَّذِينَ فِي قُلُوبهمْ مَرَض يَنْظُرُونَ إِلَيْك نَظَر الْمَغْشِيّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْت " الْآيَة وَهَكَذَا هَذِهِ الْآيَة مَعْنَاهَا كَمَا قَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ " قَالَ كَانَ نَاس مِنْ الْمُؤْمِنِينَ قَبْل أَنْ يُفْرَض الْجِهَاد يَقُولُونَ لَوَدِدْنَا أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ دَلَّنَا عَلَى أَحَبّ الْأَعْمَال إِلَيْهِ فَنَعْمَل بِهِ فَأَخْبَرَ اللَّه نَبِيّه أَنَّ أَحَبّ الْأَعْمَالِ إِيمَان بِهِ لَا شَكَّ فِيهِ وَجِهَاد أَهْل مَعْصِيَته الَّذِينَ خَالَفُوا الْإِيمَان وَلَمْ يُقِرُّوا بِهِ فَلَمَّا نَزَلَ الْجِهَاد كَرِهَ ذَلِكَ نَاس مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَشَقَّ عَلَيْهِمْ أَمْره فَقَالَ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ , وَهَذَا اِخْتِيَار اِبْن جَرِير وَقَالَ مُقَاتِل بْن حَيَّان قَالَ الْمُؤْمِنُونَ لَوْ نَعْلَم أَحَبّ الْأَعْمَال إِلَى اللَّه لَعَمِلْنَا بِهِ فَدَلَّهُمْ اللَّه عَلَى أَحَبّ الْأَعْمَال إِلَيْهِ فَقَالَ " إِنَّ اللَّه يُحِبّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيله صَفًّا " فَبَيَّنَ لَهُمْ فَابْتُلُوا يَوْم أُحُدٍ بِذَلِكَ فَوَلَّوْا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدْبِرِينَ فَأَنْزَلَ اللَّه فِي ذَلِكَ " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ " وَقَالَ : أَحَبُّكُمْ إِلَيَّ مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِي وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُول أُنْزِلَتْ فِي شَأْن الْقِتَال يَقُول الرَّجُل قَاتَلْت وَلَمْ يُقَاتِلْ وَطَعَنْت وَلَمْ يَطْعَن وَضَرَبْت وَلَمْ يَضْرِب(2/40)
وَصَبَرْت وَلَمْ يَصْبِر وَقَالَ قَتَادَة وَالضَّحَّاك نَزَلَتْ تَوْبِيخًا لِقَوْمٍ كَانُوا يَقُولُونَ قَتَلْنَا ضَرَبْنَا طَعَنَّا وَفَعَلْنَا وَلَمْ يَكُونُوا فَعَلُوا ذَلِكَ وَقَالَ اِبْن زَيْد نَزَلَتْ فِي قَوْم مِنْ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَعِدُونَ الْمُسْلِمِينَ النَّصْر وَلَا يَفُونَ لَهُمْ بِذَلِكَ وَقَالَ مَالِك عَنْ زَيْد بْن أَسْلَمَ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ قَالَ الْجِهَاد .
- - - - - - - - - - - -
83.
التجارة التي لن تبور
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) } سورة الصف
يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ بِاللهِ ، وَالمُصَدِّقُونَ بِرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ وَآيَاتِهِ ، أَلاَ تُرِيدُونَ أَنْ أَدُلِّكُمْ عَلَى صَفَقَةٍ رَابِحَةٍ ، وَتِجَارَةٍ نَافِعَةٍ ، تَفُوزُونَ فِيهَا بِالرِّبْحِ العَظِيمِ ، وَتْنْقِذُكُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ الأَلِيمِ يَوْمَ القِيَامَةِ؟(2/41)
وَهِذِهِ الصَّفَقَةُ هِيَ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَتَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَتَصَدِّقُوا بِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ، وَمَا أَنْزَلَهَ عَلَيْهِ مِنَ القُرْآنِ وَتُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ رَفْعِ كَلِمَةِ اللهِ ، وَعِزَّةِ دِينِهِ ، بِأَنْفُسِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ ، كَانَ ذَلِكَ خَيْراً لَكُمْ مِنْ كُلِّ شَيءٍ فِي الدُّنْيَا : مِنَ النَّفْسِ وَالمَالِ وَالزَّوْجِ وَالوَلَدِ ، هَذَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا أَعَدَّهُ اللهَ لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ المُخْلِصِينَ المُجَاهِدِينَ فِي الآخِرَةِ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ .
وَإِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ سَتَرَ اللهُ ذُنُوبِكُمْ وَمَحَاهَا ، وَأَدْخَلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا ، وَأَسْكَنَكُمْ مَسَاكِنَ طَيِبةً تَقَرُّ بِهَا العُيُونَ ، وَهَذا هُوَ مُنْتَهَى ما تَصْبُوا إِليهِ النُّفُوسُ ، وَهُوَ الفَوْزُ الذِي لاَ فَوْزَ أَعْظَمَ مِنْهُ
وَلَكُمْ يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ المُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى ، مَعَ الفَوْزِ فِي الآخِرَةِ ، الذِي وَعَدَكُمْ اللهُ بِهِ ، نِعْمَةٌ أُخْرَى تُحِبُّونَها ، وَهِيَ نَصْرٌ مِنَ اللهِ ، وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ، تَجْنُونَ مَغَانِمَهُ ، وَبَشِّرْ يَا مُحَمَّدُ المُؤْمِنينَ بِهَذَا الجَزَاءِ .(2/42)
ومن ذا الذي لا يشتاق لأن يدله الله على هذه التجارة؟ وهنا تنتهي هذه الآية ، وتنفصل الجملتان للتشويق بانتظار الجواب المرموق . ثم يجيء الجواب وقد ترقبته القلوب والأسماع : { تؤمنون بالله ورسوله } . . وهم مؤمنون بالله ورسوله . فتشرق قلوبهم عند سماع شطر الجواب هذا المتحقق فيهم! { وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم } . . وهو الموضوع الرئيسي الذي تعالجه السورة ، يجيء في هذا الأسلوب ، ويكرر هذا التكرار ، ويساق في هذا السياق . فقد علم الله أن النفس البشرية في حاجة إلى هذا التكرار ، وهذا التنويع ، وهذه الموحيات ، لتنهض بهذا التكليف الشاق ، الضروري الذي لا مفر منه لإقامة هذا المنهج وحراسته في الأرض . . ثم يعقب على عرض هذه التجارة التي دلهم عليها بالتحسين والتزيين : { ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } . . فعلم الحقيقة يقود من يعلم إلى ذلك الخير الأكيد . . ثم يفصل بهذا الخير في آية تالية مستقلة ، لأن التفصيل بعد الإجمال يشوق القلب إليه ، ويقره في الحس ويمكن له : { يغفر لكم ذنوبكم } . . وهذه وحدها تكفي . فمن ذا الذي يضمن أن يغفر له ذنبه ثم يتطلع بعدها إلى شيء؟ أو يدخر في سبيلها شيئاً؟ ولكن فضل الله ليست له حدود : { ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن } . . وإنها لأربح تجارة أن يجاهد المؤمن في حياته القصيرة حتى حين يفقد هذه الحياة كلها ثم يعوض عنها تلك الجنات وهذه المساكن في نعيم مقيم . . وحقاً . . { ذلك الفوز العظيم } . .
وكأنما ينتهي هنا حساب التجارة الرابحة . وإنه لربح ضخم هائل أن يعطي المؤمن الدنيا ويأخذ الآخرة .
فالذي يتجر بالدرهم فيكسب عشرة يغبطه كل من في السوق . فكيف بمن يتجر في أيام قليلة معدودة في هذه الأرض ، ومتاع محدود في هذه الدنيا ، فيكسب به خلوداً لا يعلم له نهاية إلا ما شاء الله ، ومتاعاً غير مقطوع ولا ممنوع؟(2/43)
لقد تمت المبايعة على هذه الصفقة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة رضي الله عنه ليلة العقبة . قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : « اشترط لربك ولنفسك ما شئت » . فقال صلى الله عليه وسلم : « أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم » . . قال : فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال : « الجنة » قالوا : ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل «
ولكن فضل الله عظيم . وهو يعلم من تلك النفوس أنها تتعلق بشيء قريب في هذه الأرض ، يناسب تركيبها البشري المحدود . وهو يستجيب لها فيبشرها بما قدره في علمه المكنون من إظهار هذا الدين في الأرض ، وتحقيق منهجه وهيمنته على الحياة في ذلك الجيل : { وأخرى تحبونها : نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين } . .
وهنا تبلغ الصفقة ذروة الربح الذي لا يعطيه إلا الله . الله الذي لا تنفد خزائنه ، والذي لا ممسك لرحمته . فهي المغفرة والجنات والمساكن الطيبة والنعيم المقيم في الآخرة . وفوقها . . فوق البيعة الرابحة والصفقة الكاسبة النصر والفتح القريب . . فمن الذي يدله الله على هذه التجارة ثم يتقاعس عنها أو يحيد؟!(2/44)
وهنا يعن للنفس خاطر أمام هذا الترغيب والتحبيب . . إن المؤمن الذي يدرك حقيقة التصور الإيماني للكون والحياة؛ ويعيش بقلبه في هذا التصور؛ ويطلع على آفاقه وآماده؛ ثم ينظر للحياة بغير إيمان ، في حدودها الضيقة الصغيرة ، وفي مستوياتها الهابطة الواطية ، وفي اهتماماتها الهزيلة الزهيدة . . هذا القلب لا يطيق أن يعيش لحظة واحدة بغير ذلك الإيمان ، ولا يتردد لحظة واحدة في الجهاد لتحقيق ذلك التصور الضخم الوسيع الرفيع في عالم الواقع ، ليعيش فيه ، وليرى الناس من حوله يعيشون فيه كذلك . . ولعله لا يطلب على جهاده هذا أجراً خارجاً عن ذاته . فهو ذاته أجر . . هذا الجهاد . . وما يسكبه في القلب من رضى وارتياح . ثم إنه لا يطيق أن يعيش في عالم بلا إيمان . ولا يطيق أن يقعد بلا جهاد لتحقيق عالم يسوده الإيمان . فهو مدفوع دفعاً إلى الجهاد . كائناً مصيره فيه ما يكون . .
ولكن الله سبحانه يعلم أن النفس تضعف ، وأن الاندفاع يهبط ، وأن الجهد يكل وأن حب السلامة قد يهبط بتلك المشاعر كلها ويقودها إلى الرضى بالواقع الهابط . .
ومن ثم يجاهد القرآن هذه النفس ذلك الجهاد؛ ويعالجها ذلك العلاج ، ويهتف لها بالموحيات والمؤثرات ذلك الهتاف المتكرر المتنوع ، في شتى المناسبات .
- - - - - - - - - - - -
84.
دعوة المؤمنين ليكونوا أنصار الله
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} (14) سورة الصف(2/45)
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنينَ بِأَنْ يَكُونُوا أَنْصَاراً للهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ : بِأَقْوالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، وَأَنْ يَسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ ، كَمَا اسْتَجَابَ الحَوَارِيُّونَ لِعِيسَى حِينَمَا سَأَلَهُمْ : مَنْ يُعِينُني فِي الدُّعْوَةِ إِلَى اللهِ؟ فَقَالَ لَهُ الحُوَارِيُّونَ : إِنَّهُمْ أَنْصَارُ اللهِ ، وَإِنَّهُمْ سَيُعِينُونَهُ وَسَيُؤَازِرُونَهُ فِيمَا يَقُومُ بِهِ مِنْ إِبْلاَغِ رِسَالَةِ رَبِّهِ ، فآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِرِسَالَةِ عِيسَى ، وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَجَحَدَتْ نُبُوَّتَهُ ، وَرَمَتْهُ وَأَمَّهُ بالبُهْتَانِ ، وَغَلَتْ فِرَقٌ مِنْهُمْ فِي عِيسَى ، فَقَالُوا : إِنَّهُ اللهُ ، أَوْ إِنَّهُ ابْنُ اللهِ ، أَوْ إِنَّهُ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ ، وَرَفَعُوهُ مَرْتَبةِ النُّبُوَّةِ . فَأَيَّدَ اللهُ المُؤْمِنينَ المُخْلِصِينَ بِرِسَالَةِ عِيسَى بِنَصْرِهِ ، وَأَظْهََرَهُمْ عَلَى مَنْ عَادَاهُمْ ، وَتِلْكَ سُنَّةُ اللهِ فِي خَلْقِهِ .
والعبرة المستفادة من هذه الإشارة ومن هذا النداء هي العبرة التي أشرنا إليها , وهي استنهاض همة المؤمنين بالدين الأخير , الأمناء على منهج الله في الأرض , ورثة العقيدة والرسالة الإلهية . المختارين لهذه المهمة الكبرى . استنهاض همتهم لنصرة الله ونصرة دينه (كما قال عيسى بن مريم للحواريين:من أنصاري إلى الله ? قال الحواريون:نحن أنصار الله) . . والنصر في النهاية لأنصار الله المؤمنين .
قال بعض العلماء : وتأويل هذا النص يمكن أن ينصرف إلى أحد معنيين : إما أن الذين آمنوا برسالة عيسى - عليه السلام - ، هم المسيحيون إطلاقا ، من استقام ، ومن دخلت فى عقيدته الانحرافات ، وقد أيدهم الله - تعالى - على اليهود الذين لم يؤمنوا به أصلا ، كما حدث فى التاريخ .(2/46)
وإما أن الذين آمنوا : هم الذين أصروا على التوحيد فى وجه المؤهلين لعيسى ، والمثلثين وسائر النحل التى انحرفت عن التوحيد .
ومعنى : أنهم أصبحوا ظاهرين ، أى : بالحجة والبرهان ، أو أن التوحيد الذى هم عليه ، هو الذى أظهره الله بهذا الدين الأخير - أى : دين الإسلام - وجعل له الجولة الأخيرة فى الأرض . كما وقع فى التاريخ .
هذا المعنى الأخير هو الأرجح والأقرب فى هذا السياق .
- - - - - - - - - - - -
85.
السعي إلى ذكر الله يوم الجمعة
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) } سورة الجمعة
يَحُثَّ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنينَ عَلَى تَرْكِ البَيْعِ وَالشِّرَاءِ ، وَعَلَى السَّعْيِ بِسَكِينَةٍ وَوِقَارٍ إِلَى المَسَاجِدِ ، حِينَما يُؤَذِّنُ المُؤَذِّنُ لِصَلاَةِ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ الجُمْعَةِ ، لِلاسْتِمَاعِ إِلَى مَوَاعِظِ الخُطَبَاءِ ، وَلأَداءِ الصِّلاَةِ مَعَ الجَمَاعَةِ . وَذِلكَ السَّعْيُ إِلَى الصَّلاَةِ خَيْرٌ لِلمُؤْمِنِينَ وَأَبْقَى مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا الفَانِيَةِ ، هَذَا إِنْ كَانَ المُخَاطَبُونَ مِنْ ذَوِي العِلْمِ الصَّحِيحِ بِمَا يَذِرُّ وَيْنْفُعُ.
((2/47)
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَلاَ تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ ( أَيْ تُسْرِعُونَ ) وَأَتُوهَا وَأَنْتُمْ تَمْشُونَ وَعَلَيكُمُ السَّكِينَةُ وَالوَقَارُ ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا ، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا " ) . ( رَوَاهُ الشّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة ) .
فَإِذَا أَدَّيْتُمُ الصَّلاَةَ فَتَفَرَّقُوا لِمُبَاشَرَةِ مَصَالِحِكُمْ الذُّنْيَوِيَّةِ ، وَاسْأَلُوا اللهَ الرِّزْقَ الحَلاَلَ ، واذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً أَثْنَاءَ بَيْعِكُمْ وَشِرَائِكُمْ ، وَلاَ تَتْركُوا الدُّنْيَا تَشْغَلُكُمْ عَمَّا يَنْفَعُكُمْ فِي الآخِرَةِ ، لَعَلَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ تُفْلِحُونَ ، وَتَفُوزُونَ بِرِضَا اللهِ ، وَحُسْنِ ثَوَابِهِ .
قَدِمَتْ عِيرٌ بِتَجَارَةٍ إِلَى المَدِينَةِ فِي إِحْدَى المَرَّاتِ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَاقِفٌ عَلَى المِنْبَرِ يَخْطُبُ يَوْمَ الجُمْعَةِ ، فَخَرَجَ النَّاسُ ، وَبِقِيَ
اثْنا عَشَرَ رَجُلاً ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ يُعَاتِبُ فِيهَا عِبَادَهُ المُؤْمِنينَ عَلَى انْصِرَافِهِمْ عَنِ الخُطْبَةِ يَوْمَ الجُمْعَةِ إِلى التِّجَارَةِ .
وَمَعْنَى الآيَةِ أَنَّ بَعْضَ المُؤْمِنينَ إِذَا رَأَوْا عِيرَ تِجَارَةٍ ، أَوْ لَهْواً أَسْرَعُوا إِليهِ ، وَتَرَكُو الرَّسُولَ قَائماً يَخْطُبُ فِي النَّاسِ . فَقُلْ لَهُمْ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ : مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الخَيْرِ وَالثَّوَابِ ، خَيْرٌ لَكُمْ فِي الآخِرَةِ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا ، وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ، فَاسْعَوا إِليهِ ، وَاطْلُبُوا الرِّزْقَ مِنْهُ ، فَلَنْ يَفُوتَكُمْ رِزْقٌ إِذَا تَأْخَّرْتُمْ لِسَمَاعِ الخُطْبَةِ .(2/48)
وصلاة الجمعة هي الصلاة الجامعة ، التي لا تصح إلا جماعة . . وهي صلاة أسبوعية يتحتم أن يتجمع فيها المسلمون ويلتقوا ويستمعوا إلى خطبة تذكرهم بالله . وهي عبادة تنظيمية على طريقة الإسلام في الإعداد للدنيا والآخرة في التنظيم الواحد وفي العبادة الواحدة؛ وكلاهما عبادة . وهي ذات دلالة خاصة على طبيعة العقيدة الإسلامية الجماعية التي تحدثنا عنها في ظلال سورة الصف . وقد وردت الأحاديث الكثيرة في فضل هذه الصلاة والحث عليها والاستعداد لها بالغسل والثياب والطيب .
جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - : إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل » .
وروى أصحاب السنة الأربعة من حديث أوس بن أوس الثقفي قال : « سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول : من غسل واغتسل يوم الجمعة ، وبكر وابتكر ، ومشى ولم يركب ، ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ ، كان له بكل خطوة أجر سنة صيامها وقيامها » .
وروى الإمام أحمد من حديث كعب بن مالك عن أبي أيوب الأنصاري قال : « سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب أهله إن كان عنده ، ولبس من أحسن ثيابه ، ثم خرج يأتي المسجد ، فيركع إن بدا له ، ولم يؤذ أحداً ، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي ، كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى » .
والآية الأولى في هذا المقطع تأمر المسلمين أن يتركوا البيع وسائر نشاط المعاش بمجرد سماعهم للأذان : { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع } . .
وترغبهم في هذا الانخلاع من شؤون المعاش والدخول في الذكر في هذا الوقت : { ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } . .(2/49)
مما يوحي بأن الانخلاع من شؤون التجارة والمعاش كان يقتضي هذا الترغيب والتحبيب . وهو في الوقت ذاته تعليم دائم للنفوس؛ فلا بد من فترات ينخلع فيها القلب من شواغل المعاش وجواذب الأرض ، ليخلو إلى ربه ، ويتجرد لذكره ، ويتذوق هذا الطعم الخاص للتجرد والاتصال بالملأ الأعلى ، ويملأ قلبه وصدره ، من ذلك الهواء النقي الخالص العطر ويستروح شذاه!
ثم يعود إلى مشاغل العيش مع ذكر الله : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون } . . وهذا هو التوازن الذي يتسم به المنهج الإسلامي . والتوازن بين مقتضيات الحياة في الأرض ، من عمل وكد ونشاط وكسب . وبين عزلة الروح فترة عن هذا الجو وانقطاع القلب وتجرده للذكر . وهي ضرورة لحياة القلب لا يصلح بدونها للاتصال والتلقي والنهوض بتكاليف الأمانة الكبرى . وذكر الله لا بد منه في أثناء ابتغاء المعاش ، والشعور بالله فيه هو الذي يحول نشاط المعاش إلى عبادة . ولكنه مع هذا لا بد من فترة للذكر الخالص ، والانقطاع الكامل ، والتجرد الممحض . كما توحي هاتان الآيتان .
هذا ، ومن الأحكام والآداب التى أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى :
1 - فضل يوم الجمعة ، وفضل صلاة يوم الجمعة ، والتحذير من ترك أدائها .
ومن الأحاديث التى وردت فى هذا المعنى ، ما رواه مسلم وأبو داود والنسائى عن أبى هرير ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمع ، فيه خلق آدم . وفيه أدخل الجنة ، وفيه أخرج منها ، ولا تقوم الساعة إلا فى يوم الجمعة " .(2/50)
وروى الشيخان عن أبى هريرة أنه سمع النبى - صلى الله عليه وسلم - يقول : " نحن الآخرون - أى : زمنا - السابقون يوم القيامة قبل غيرهم - ، بيد أنهم - أى : اليهود والنصارى - أوتوا الكتاب من قبلنا ، وأوتيناه من بعدهم ، ثم هذا يومهم الذى فرض عليهم - أى : تعظيمه - فاختلفوا فيه فهدانا الله ، فالناس لنا فيه تبع : اليهود غدا - أى : السبت - والنصارى بعد غد - أى : الأحد - " .
وروى مسلم والنسائى عن ابن عمر أنه سمع النبى - صلى الله عليه وسلم - يقول على أعواد مبره : " لينتهين أقوام عن وَدْعِهم الجمعات - أى : تركهم صلاة الجمعة - أو ليختمن الله على قلوبهم ، ثم ليكونن من الغافلين .. " .
قال القربطى ما ملخصه : وإنما سميت الجمعة جمعة ، لأنها مشتقة من الجمع حيث يجتمع الناس فيها للصلاة . . . وكان يقال ليوم الجمعة : العَرُوبة . .
قال البيهقى : وروينا عن موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب الزهرى ، أن مصعب بن عمير ، كان أول من جمَّع الجمعة بالمدينة بالمسلمين ، قبل أن يهاجر إليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
ثم قال القرطبى : وأما أول جمعة جمعها - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه ، قال أهل السير والتاريخ : قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهاجرا حتى نزل بقباء ، على بنى عمروا بن عوف ، يوم الاثنين لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول حين اشتد الضحى - ومن تلك السنة يعد التاريخ - فأقام بقباء إلى يوم الخميس ، وأسس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة إلى المدينة ، فأدركته الجمعة فى بنى سالم بن عوف ، فى بطن وادٍ لهم ، فجمع بهم وخطب ، وهى أول خطبة خطبها بالمدينة ، وقال فيها : الحمد لله ، أحمده وأستعينه ، وأستغفره ، وأستهديه . . .(2/51)
2 - الآية الكريمة وإن كانت قد أمرت المؤمنين بالسعى إلى صلاة الجمعة عند النداء لها ، إلا أن هناك أحاديث متعددة تحض على التبكير بالحضور إليها ، وبالغسل لها ، وبمس الطب ، وبالحضور إليها على أحسن حالة . . .
ومن تلك الأحاديث ما رواه الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة - أى : كغسل الجنابة - ثم راح إلى المسجد ، فكأنما قرب بدنة - أى : ناقة ضخمة . . . . ومن راح فى الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح فى الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن - أى له قرون - ومن راح فى الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ، ومن راح فى الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر " .
وروى ابن ماجه عن ابن مسعود قال : سمعت النبى - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الناس يجلسون يوم القيامة على قدر تراوحهم إلى الجمعات ، الأول ثم الثانى ثم الثالث ثم الرابع ، وما رابع أربعة من الله ببعيد " .
وروى الشيخان عن أبى سعيد الخدرى ، عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " على كل مسلم الغسل يوم الجمعة ، ويلبس من صالح ثيابه ، وإن كل طيب مس منه . . . " .
3 - أخذ العلماء من قوله - تعالى - : { . . . إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع . . . } أن صلاة الجمعة فريضة محكمة ، وأن السعى لأدائها واجب ، وأن ترك ذلك محرم شرعا .. .
ومن المعروف بين العلمءا أن الأمر يقتضى الوجوب ، ما لم يوجد له صارف ، ولا صارف له هنا . . .
قال الإمام القرطبى : فرض الله - تعالى - الجمعة على كل مسلم ، ردا على من يقول : إنها فرض على الكفاية ، ونقل عن بعض الشافعية أنها سنة .(2/52)
وجمهور الأمة الأئمة أنها فرض على الأعيان ، لقوله - تعالى - : { . . . إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع . . . } .
وثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لينتهِيَنَّ أقوامٌ عن وَدْعِهم الجُمُعَاتِ أو ليخَتِمَنَّ الله على قلوبهم ثم ليكونُنَّ من الغافلين " .
وهذا حجة واضحة فى وجوب الجمعة وفرضيتها . .
قال بعض العلماء : جاء فى الآية الكريمة الأمر بالسعى ، والأمر للوجوب فيكون السعى واجبا ، وقد أخذ العلماء من ذلك أن الجمعة فريضة ، لأنه - سبحانه - قد رتب الأمر للذكر على النداء للصلاة ، فأذا كان المراد بالذكر هو الصلاة ، فالدلالة ظاهرة ، لأنه لا يكون السعى لشىء واجبا ، حتى يكون ذلك الشىء واجبا .
وأما إذا كان المراد بالذكر الخطبة فقط ، فهو كذلك لأن الخطبة شرط الصلاة ، وقد أمر بالسعى إليه ، والأمر للوجوب ، فإذا وجب السعى للمقصود تبعا ، فما ذلك إلا لأن المقصود بالذات واجب . .
كما أن الاشتغال بالبيع أو الشراء وقت النداء محرم ، لأن الأمر للوجوب ، وقال بعضهم : هو مكروه كراهة تحريم .
ومما يدل على أن صلاة الجمعة فريضة محكمة ، وأن السعى إليها واجب ، وأن الاشتغال عنها بالبيع أبو الشراء محرم ، ما جاء فى الأحاديث من الأمر بالمحافظة عليها ، ومن التحذير من تركها ، ومن ذلك ما رواه أبو داود من حديث أبى الجعد ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من ترك ثلاث جمع تهاونا بها ، طبع الله على قلبه " .
4 - قوله - تعالى - : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض . . } يدل دلالة واضحة ، على سمو شريعة الإسلام ، وعلى سماحتها ويسرها ، وجمعها بين مطالب الدنيا ومطالب الآخرة .(2/53)
ومع أن هذا الأمر بالانتشار بعد الصلاة للإباحة - كما سبق أن قلنا - إلا أن بعض السف كان إذا انتهت الصلاة ، خرج من المسجد ، ودار فى السوق ساعة ، ثم رجع إلى المسجد فصلى ما شاء أن يصلى
قال الإمام ابن كثير : كان عراك بن مالك - أحد كبار التابعين - أحد كبار التابعين - إذا صلى الجمعة ، انصرف فوقف على باب المسجد وقال : اللهم إنى أجبت دعوتك وصليت فريضتك ، وانتشرت كما أمرتنى ، فارزقنى من فضلك وأنت خير الرازقين.
هذا ، وهناك أحكام أخرى توسع المفسرون والفقهاء فى الحديث عنها ، فليرجع إليها من شاء المزيد من معرفة هذه الأحكام والآداب
- - - - - - - - - - - -
86.
النهي الغفلة عن ذكر الله
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) }سورة المنافقون
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ بِكَثْرَةِ ذِكْرِهِ وَبِأَلاَّ يَشْغَلَهُمْ مَا لَهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِهَّمْ ، وَيُخْبِرُهُمْ بِأَنَّ مَنِ التَهَى عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ وَطَاعَتِهِ بِمَتَاعِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينتِهَا ، فَإِنَّهُ مِنَ الخَاسِرِينَ الذِينَ يَخْسَرُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ .(2/54)
يَحُثُّ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَلَى الإِنْفَاقِ فِي طَاعَتِهِ مِنَ المَالِ الذِي جَعَلَهُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَحِينَ أَجَلُهُمْ فَيَقُولُ هَؤُلاَءِ الذِينَ قَصَّرُوا فِي الطَّاعَةِ ، وَفِي الإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَرْضَاتِهِ : يَا رَبِّ لَوْ أَنَّكَ أَخَّرْتَنِي مُدَّةً يَسِيرَةً ، فَأْنْفِقَ فِي طَاعَتِكَ ، وأَسْتَجِيبَ لأَمْرِكَ ، وأَكُونَ مِنْ عِبَادِكَ المُخْلِصِينَ الصَّالِحِينَ ، الذِينَ تَرْضَى عَنْهُمْ .
وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِهَؤُلاَءِ : إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَفْعَلُوا الطَّاعَاتِ ، وَيُنْفِقُوا فِي أَوْجُهِ الخَيْرِ وَالبِرِّ قَبْلَ أَنْ يَحِينَ أَجَلُهُمْ ، لأَنَّهُمْ إِذَا حَانَ أَجَلُهُمْ فَلاَ مَجَالَ لِلتَّأْخِيرِ وَالإِمْهَالِ ، وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا يَفْعَلُهُ العِبَادُ .
والأموال والأولاد ملهاة ومشغلة إذا لم يستيقظ القلب , ويدرك غاية وجوده , ويشعر أن له هدفا أعلى يليق بالمخلوق الذي نفخ الله فيه من روحه , فأودع روحه الشوق إلى تحقيق بعض صفاته الإلهية في حدود طاقته البشرية . وقد منحه الأموال والأولاد ليقوم بالخلافة في الأرض لا لتلهيه عن ذكر الله والاتصال بالمصدر الذي تلقى منه ما هو به إنسان . ومن يغفل عن الاتصال بذلك المصدر , ويلهه عن ذكر الله ليتم له هذا الاتصال (فأولئك هم الخاسرون) . . وأول ما يخسرونه هو هذه السمة . سمة الإنسان . فهي موقوفة على الاتصال بالمصدر الذي صار به الإنسان إنسانا . ومن يخسر نفسه فقد خسر كل شيء . مهما يملك من مال ومن أولاد .
ويلمسهم في موضوع الإنفاق لمسات متنوعة في آية واحدة . .
وأنفقوا مما رزقناكم . . فيذكرهم بمصدر هذا الرزق الذي في أيديهم . فهو من عند الله الذي آمنوا به والذي يأمرهم بالإنفاق .
(من قبل أن يأتي أحدكم الموت . . .) . .(2/55)
فيترك كل شيء وراءه لغيره ; وينظر فلا يجد أنه قدم شيئا لنفسه , وهذا أحمق الحمق وأخسر الخسران .
ثم يرجو حينئذ ويتمنى أن لو كان قد أمهل ليتصدق وليكون من الصالحين ! وأنى له هذا ?: (ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها) ?
وأنى له ما يتقدم به ? (والله خبير بما تعملون) ?
إنها اللمسات المنوعة في الآية الواحدة . في مكانها المناسب بعد عرض سمات المنافقين وكيدهم للمؤمنين . ولواذ المؤمنين بصف الله الذي يقيهم كيد المنافقين . . فما أجدرهم إذن أن ينهضوا بتكاليف الإيمان , وألا يغفلوا عن ذكر الله . وهو مصدر الأمان . .
وهكذا يربي الله المسلمين بهذا القرآن الكريم . .
- - - - - - - - - - - -
87.
التحذير من فتنة الزوجة والأولاد
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) }سورة التغابن
يُحَذِّرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ وَأَوْلاَدِهِمْ فَقَدْ يَكُونُ مِنَ بَينِ هَؤُلاَءِ وَهَؤُلاَءِ أَعْدَاءٌ لِلإِنْسَانِ يَحُولُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فِعْلِ الطَّاعَاتِ التِي تُقَرِّبُ إِلَى اللهِ ، وَرُبَمَا حَمَلُوهُمْ عَلَى السَّعْيِ فِي اكْتِسَابِ الحَرَامِ ، واجْتِرَاحِ الآثَامِ ، لِمَنْفَعَةِ أَنْفُسِهِمْ ، وَقَدْ يُؤَدِّي البُغْضُ إِلَى ارْتِكَابِ الجَرَائِمِ بِحَقِّ الأَزْوَاجِ وَالآبَاءِ ، فَتَكُونُ عَدَاوَةٌ حَقِيقِيَّةٌ .(2/56)
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْتِي زَمَانٌ عَلَى أُمَّتِي يَكُونُ فِيهِ هَلاَكُ الرَّجُلِ عَلَى يَدِ زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ ، يُعَيِّرَانِهِ بِالفَقْرِ فَيْرْتَكِبُ مَرَاكِبَ السُّوءِ فَيَهْلِكُ ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَحْمِلُهُ حُبُّهُ لَهُمْ ، وَشَفَقَتُهُ عَلَيْهِمْ ، وَحِرْصُهُ عَلَى أَنْ يَكُونُوا فِي عَيْشٍ رَغِيدٍ فِي حَيَاتِهِ ، وَبَعْدَ مَمَاتِهِ فَيَرْتَكِبُ المَحْظُورَاتِ لِتَحْصِيلِ مَا يَكُونُ سَبَباً لِذَلِكَ فَيَهْلِكُ .
ثُمَّ يَحُثُّ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَلَى العَفْوِ والصِّفْحِ فَقَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ الخَيْرُ لِلإِنْسَانِ ، فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ بِهِمْ وَبِهِ ، وَيُعَامِلُهُ بِمِثْلِ مَا عَامَلَهُمْ ، وَيَتَفَضَّلُ عَلَيْهِ تَكَرُّماً مِنْهُ .
الأَمْوَالُ وَالأَوْلاَدُ اخْتِبَارٌ مِنَ اللهِ وَابْتِلاَءٌ ، لِيَعْلَمَ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ ، إِذْ كَثِيراً مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ ارْتِكَابُ المَحْظُورَاتِ ، وَاجْتِرَاحُ الآثَامِ ، وَقَدْ قَدَّمَ اللهُ الأَمْوَالَ عَلَى الأَوْلاَدِ لأَنَّهَا أَعْظَمُ فِتْنَةً .
" وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةٌ وَإِنَّ فِتْنَةَ أُمَّتِي المَالُ "
ثُمَّ يُنَبِّهُ تَعَالَى النَّاسَ إِلَى مَا أَعَدَّهُ مِنْ عَظِيمِ الأَجْرِ فِي الآخِرَةِ لِمَنْ آثَرَ مَحَبَّةَ اللهِ وَطَاعَتَهُ ، عَلَى مَحَبَّةِ الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ .
فَابْذُلُوا فِي تَقْوَى اللهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنَ الجَهْدِ وَالطَّاقَةِ .(2/57)
" وَقَدْ قَالَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، وَمَا نَهِيتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ " ( مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ) واسْمعُوا وَأَطِيعُوا مَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَاعْمَلُوا بِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ عَلَى الأَقَارِبِ وَالفُقَرَاءِ وَالمُحْتَاجِينَ ، وَأَحْسِنُوا إِلَى عِبَادِ اللهِ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيكُمْ يَكْنْ ذَلِكَ خَيْراً لأَنْفُسِكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ . وَمَنْ يَبْتَعِدْ عَنِ البُخْلِ وَالحِرْصِ عَلَى المَالِ ، يَكُنْ مِنَ الفَائِزِينَ .
إن هذا يشير إلى حقيقة عميقة في الحياة البشرية . ويمس وشائج متشابكة دقيقة في التركيب العاطفي وفي ملابسات الحياة سواء . فالأزواج والأولاد قد يكونون مشغلة وملهاة عن ذكر الله . كما أنهم قد يكونون دافعاً للتقصير في تبعات الإيمان اتقاء للمتاعب التي تحيط بهم لو قام المؤمن بواجبه فلقي ما يلقاه المجاهد في سبيل الله! والمجاهد في سبيل الله يتعرض لخسارة الكثير ، وتضحية الكثير . كما يتعرض هو وأهله للعنت .
- - - - - - - - - - - -
88.
وجوب وقاية النفس والأهل من النار
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (6) سورة التحريم(2/58)
يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ، اعْمَلُوا بِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى ، وَاتَّقُوا مَعْصَيَتَهُ ، وَأمُرُوا أَهْلَكُمْ بِالذّكْرِ والتَّقْوَى ، وَعَلِّمُوهُمْ مَا فَرَضَ اللهُ عَلَيهِمْ ، وَمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ ، وَأمُرُوهُمْ بِطَاعَةِ اللهِ لِتُنقِذُوهُمْ وَأَنْفُسَكُمْ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ ، التِي يَكُونُ وَقُودُهَا النَّاسُ مِنَ الكَفَرَةِ ، وَالحِجَارَةُ ، وَتَقُومُ عَلَيهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ عَلَى أَهْلِ النَّارِ ، أَشِدَّاءُ َعَلَيهِمْ ، لاَ يُخَالِفُونَ رَبَّهُمْ فِي أَمْرٍ بِهِ ، وَيُبَادِرُونَ إِلَى فِعْلِ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ .
إن تبعة المؤمن في نفسه وفي أهله تبعة ثقيلة رهيبة . فالنار هناك وهو متعرض لها هو وأهله ، وعليه أن يحول دون نفسه وأهله ودون هذه النار التي تنتظر هناك . إنها نار . فظيعة متسعرة : { وقودها الناس والحجارة } . . الناس فيها كالحجارة سواء . في مهانة الحجارة . وفي رخص الحجارة ، وفي قذف الحجارة . دون اعتبار ولا عناية . وما أفظعها ناراً هذه التي توقد بالحجارة! وما أشده عذاباً هذا الذي يجمع إلى شدة اللذع المهانة والحقارة! وكل ما بها وما يلابسها فظيع رهيب : { عليها ملائكة غلاظ شداد } . تتناسب طبيعتهم مع طبيعة العذاب الذي هم به موكلون . . { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } . . فمن خصائصهم طاعة الله فيما يأمرهم ، ومن خصائصهم كذلك القدرة على النهوض بما يأمرهم . . وهم بغلظتهم هذه وشدتهم موكلون بهذه النار الشديدة الغليظة . وعلى المؤمن أن يقي نفسه وأن يقي أهله من هذه النار . وعليه أن يحول بينها وبينهم قبل أن تضيع الفرصة ولا ينفع الاعتذار .
إن المؤمن مكلف هداية أهله ، وإصلاح بيته ، كما هو مكلف هداية نفسه وإصلاح قلبه .(2/59)
إن الإسلام دين أسرة كما أسلفنا في سورة الطلاق ومن ثم يقرر تبعة المؤمن في أسرته ، وواجبه في بيته .
والبيت المسلم هو نواة الجماعة المسلمة ، وهو الخلية التي يتألف منها ومن الخلايا الأخرى ذلك الجسم الحي . . المجتمع الإسلامي . .
إن البيت الواحد قلعة من قلاع هذه العقيدة . ولا بد أن تكون القلعة متماسكة من داخلها حصينة في ذاتها ، كل فرد فيها يقف على ثغرة لا ينفذ إليها . وإلا تكن كذلك سهل اقتحام المعسكر من داخل قلاعه ، فلا يصعب على طارق ، ولا يستعصي على مهاجم!
وواجب المؤمن أن يتجه بالدعوة أول ما يتجه إلى بيته وأهله . واجبه أن يؤمن هذه القلعة من داخلها . واجبه أن يسد الثغرات فيها قبل أن يذهب عنها بدعوته بعيداً .
ولا بد من الأم المسلمة . فالأب المسلم وحده لا يكفي لتأمين القلعة . لا بد من أب وأم ليقوما كذلك على الأبناء والبنات . فعبثاً يحاول الرجل أن ينشئ المجتمع الإسلامي بمجموعة من الرجال . لا بد من النساء في هذا المجتمع فهن الحارسات على النشء ، وهو بذور المستقبل وثماره .
ومن ثم كان القرآن يتنزل للرجال وللنساء؛ وكان ينظم البيوت ، ويقيمها على المنهج الإسلامي ، وكان يحمل المؤمنين تبعة أهليهم كما يحملهم تبعة أنفسهم : { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً }
هذا أمر ينبغي أن يدركه الدعاة إلى الإسلام وأن يدركوه جيداً . إن أول الجهد ينبغي أن يوجه إلى البيت . إلى الزوجة . إلى الأم . ثم إلى الأولاد؛ وإلى الأهل بعامة . ويجب الاهتمام البالغ بتكوين المسلمة لتنشئ البيت المسلم . وينبغي لمن يريد بناء بيت مسلم أن يبحث له أولاً عن الزوجة المسلمة . وإلا فسيتأخر طويلاً بناء الجماعة الإسلامية . وسيظل البنيان متخاذلاً كثير الثغرات!(2/60)
وفي الجماعة المسلمة الأولى كان الأمر أيسر مما هو في أيامنا هذه . . كان قد أنشئ مجتمع مسلم في المدينة يهيمن عليه الإسلام . يهيمن عليه بتصوره النظيف للحياة البشرية ، ويهيمن عليه بتشريعه المنبثق من هذا التصور . وكان المرجع فيه ، مرجع الرجال والنساء جميعاً ، إلى الله ورسوله . وإلى حكم الله وحكم رسوله . فإذا نزل الحكم فهو القضاء الأخير . . وبحكم وجود هذا المجتمع وسيطرة تصوره وتقاليده على الحياة كان الأمر سهلاً بالنسبة للمرأة لكي تصوغ نفسها كما يريد الإسلام . وكان الأمر سهلاً بالنسبة للأزواج كي ينصحوا نساءهم ويربوا أبناءهم على منهج الإسلام . .
- - - - - - - - - - - -
89.
وجوب التوبة النصوح
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (8) سورة التحريم
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَتُوبُوا تَوْبَةً صَادِقَةً جَازِمَةً تَمْحُو مَا سَبَقَهَا مِنَ السَّيِّئَاتِ .
" وَسُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ فَقَالَ : هُوَ النَّدَمُ عَلَى الذَّنْبِ حِينَ يَفْرُطُ مِنْكَ ، فَتَسْتَغْفِرُ الله بِنَدَامَتِكَ مِنْهُ عِنْدَ الحَاضِرِ ، ثُمَّ لاَ تَعُودُ إِليهِ أَبداً " ( أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ) .(2/61)
ثُمَّ يُبَيِّنُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ إِنْ تَابُوا تَوْبَةً نَصُوحاً تَابَ اللهُ عَليهِمْ ، وَغَفَرَ لَهُمْ ، وَأَدخَلَهُمْ بِرَحْمَتِهِ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا فِي يَوْمِ القِيَامَةِ . وَهُوَ اليومُ الذِي يَرْفَعُ الله فِيهِ قَدْرَ رَسُولِهِ الكَرِيمِ ، وَقَدْرَ المُؤْمِنينَ مَعَهُ . وَيَجْعَلُ نُورَهُمْ فِي ذَلِكَ اليَومِ يَسْعَى بَينَ أَيْدِيهِمْ ، حِينَ يَمْشُونَ وَكُتُبُهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ ، وَيَسْأَلُونَ رَبَّهُمْ أَنْ يُبْقِي لَهُمْ نُورَهُمْ ، فَلا يَطْفِئُهُ حَتَّى يجُوزُوا الصِّرَاطَ بِهِ ، وَيَسْتَغْفِرُونَ رَبَّهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِم السَّالِفَةِ ، وََيَقُولُونَ : رَبَّنَا العَظِيمَ إِنَّكَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ، وَلاَ يُعْجِزُكَ شَيءٌ .
والتوبة : العزم الصادق على عدم العودة إلى المعصية والندم على ما فعله منها فى الماضى ، والنصوح صيغة مبالغة من النصح ، وصفت بها التوبة على سبيل الإسناد المجازى ، والمقصود وصف التائبين بها ، من نصح فلان التوب إذا خاطه ، فكأن التائب يرقع ما مزقه بالمعصية . أو من قولهم : عسل ناصح .
وقد ذكروا فى معنى هذه الجملة أكثر من عشرين وجهاً .
قال القرطبى ما ملخصه : اختلفت عبارة العلماء ، وأرباب القلوب ، فى التوبة النصوح على ثلاثة وعشرين قولا ، فقيل : هى التى لا عودة بعدها ، كما لا يعود اللبن إلى الضرع .
وقال قتادة : النصوح الصادقة الناصحة . . . الخالصة .
وقال القرطبى : التوبة النصوح يجمعها أربعة أشياء : الاستغفار باللسان ، والإقلاع بالأبدان ، وإضمار ترك العود بالجنان ، ومهاجرة سىء الإخوان .
وقال الفقهاء : التوبة التى لا تعلق لها بحق آدمى لها ثلاثة شروط : احدها أن يقلع عن المعصية ، وثانيها : أن يندم على ما فعله ، وثالثها : أن يعزم على أن لا يعود إليها .
فإذا اجتمعت هذه الشروط فى التوبة كانت نصوحا .(2/62)
وإن كانت تتعلق بحق آدمى ، فشروطها أربعة ، هذه الثلاثة المتقدمة ، والرابع أن يبرأ من حق صاحبها ، فإن كانت المعصية مالا أو نحوه رده إليه ، وإن كانت حد قذف ونحوه مكنه من نفسه ، أو طلب العفو منه ، وإن كانت غيبة استحله منها .
وهى واجبة من كل معصية على الفور ، ولا يجوز تأخريها .
وقوله - سبحانه - { عسى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار }
والرجاء المستفاد من فعل { عسى } مستعمل هنا فى الوعد الصادق منه - تعالى - على سبيل الكرم والفضل ، فقد قالوا إن كل ترج فى القرآن واقع منه - تعالى - فضلا منه وكرما .
أى : يا من آمنتم بالله حق الإيمان ، توبوا إلى الله - تعالى - " توبة صادقة " بحيث تندمون على ما فرط منكم من ذنوب ، وتعزمون على عدم العودة إليها ، وتستمرون على توبتكم طوال حياتكم . . . فإنكم متى فعلتم ذلك غفر الله - تعالى - لكم ذنوبكم : وكفر عنكم سيئاتكم ، وأدخلكم جنات تجرى من تحت أشجارها وثمارها الأنهار .
قال صاحب الكشاف : قوله : { عسى رَبُّكُمْ } : إطماع من الله لعباده . وفيه وجهان : أحدهما أن يكون على ما جرت به عادة الجبابرة من الإجابة بعسى ولعل . و وقوع ذلك منهم موقع القطع والبت . والثانى : أن يجىء به تعليما للعباد وجوب الترجح بين الخوف والرجاء .
والظرف فى قوله - سبحانه - : { يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ } منصوب بقوله - تعالى - قبل ذلك : { وَيُدْخِلَكُمْ } ، أو بفعل مضمر تقديره : اذكر .
وقوله : { لاَ يُخْزِى } من الخزى بمعنى الافتضاح : يقال أخزى الله فلانا إذا فضحه ، والمراد به هنا : عذاب النار .
وقوله : { والذين آمَنُواْ مَعَهُ } معطوف على النبى ، وجملة { نُورُهُمْ يسعى } مستأنفة(2/63)
أى : يدخلكم الله - بفضله وكرمه - { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } يوم القيامة ، يوم ينجى - سبحانه - النبى - صلى الله عليه وسلم - وينجى الذين آمنوا معه من عذاب النار ، ومن خزى هذا اليوم العصيب .
وهم جميعا وعلى رأسهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - نورهم وهم على الصراط ، يسعى ويمتد وينتشر { بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } .
أى أمامهم { وَبِأَيْمَانِهِمْ } أى : وعن أيمانهم .
ويقولون - على سبيل الحمد والشكر لله - تعالى - يا ربنا { أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } بأن تزيده ولا تنقصه حتى ندخل جنتك .
{ واغفر لَنَآ } يا ربنا ذنوبنا { إِنَّكَ } يا ربنا ، { على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
وفى عطف الذين آمنوا على النبى - صلى الله عليه وسلم - إشعار بأن سبب انتفاء خزيهم ، هو إيمانهم الصادق ، وعملهم الصالح ، وصحبتهم الكريمة للنبى - صلى الله عليه وسلم - .
والضمير فى قوله { نُورُهُمْ } يعود إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - والذين آمنوا معه .
وخص - سبحانه - الأَمامَ واليمين بالذكر ، لفضل هذين المكانين ، إذ النور عندما يكون من الأمام يستمتع الإنسان بمشاهدته ، وعندما يكون من جهة اليمين يزداد تفاؤلا وانشراحا به .
والتخصيص بذلك لا ينفى أن يكون النور محيطا بهم من كل جوانبهم ، وهو نور حقيقى يكرم الله - تعالى - به عباده الصالحين .
وختموا دعاءهم بقولهم - كما حكى القرآن عنهم - : { إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } للإشارة إلى أنهم كانوا على جانب كبير من رجاء تحقيق دعائهم ، لأنهم يسألون ويدعون الله - تعالى - الذى لا يقف أمام قدرته شىء .
----------------(2/64)
وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاء : التَّوْبَة النَّصُوح هُوَ أَنْ يُقْلِع عَنْ الذَّنْب فِي الْحَاضِر وَيَنْدَم عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُ فِي الْمَاضِي وَيَعْزِم عَلَى أَنْ لَا يَفْعَل فِي الْمُسْتَقْبَل ثُمَّ إِنْ كَانَ الْحَقّ لِآدَمِيٍّ رَدَّهُ إِلَيْهِ بِطَرِيقِهِ .
قَالَ الْإِمَام أَحْمَد ثَنَا سُفْيَان عَنْ عَبْد الْكَرِيم أَخْبَرَنِي زِيَاد بْن أَبِي مَرْيَم عَنْ عَبْد اللَّه بْن مُغَفَّل قَالَ دَخَلْت مَعَ أَبِي عَلَى عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود فَقَالَ أَنْتَ سَمِعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول " النَّدَم تَوْبَة ؟ " قَالَ نَعَمْ وَقَالَ مَرَّة نَعَمْ سَمِعْته يَقُول " النَّدَم تَوْبَة " وَرَوَاهُ اِبْن مَاجَهْ عَنْ هِشَام بْن عَمَّار عَنْ سُفْيَان بْن عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْد الْكَرِيم وَهُوَ اِبْن مَالِك الْجَزَرِيّ بِهِ وَقَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم ثَنَا الْحَسَن بْن عَرَفَة حَدَّثَنِي الْوَلِيد بْن بُكَيْر أَبُو جُنَّاب عَنْ عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد الْعَبْدِيّ عَنْ أَبِي سِنَان الْبَصْرِيّ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ زِرّ بْن حُبَيْش عَنْ أُبَيّ بْن كَعْب قَالَ : قِيلَ لَنَا أَشْيَاء تَكُون فِي آخِر هَذِهِ الْأُمَّة عِنْد اِقْتِرَاب السَّاعَة .(2/65)
مِنْهَا نِكَاح الرَّجُل اِمْرَأَته أَوْ أَمَته فِي دُبْرهَا وَذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَ اللَّه وَرَسُوله وَيَمْقُت اللَّه عَلَيْهِ وَرَسُوله وَمِنْهَا نِكَاح الرَّجُل الرَّجُل وَذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَ اللَّه وَرَسُوله وَيَمْقُت اللَّه عَلَيْهِ وَرَسُوله وَمِنْهَا نِكَاح الْمَرْأَة الْمَرْأَة وَذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَ اللَّه وَرَسُوله وَيَمْقُت اللَّه عَلَيْهِ وَرَسُوله وَلَيْسَ لِهَؤُلَاءِ صَلَاة مَا أَقَامُوا عَلَى هَذَا حَتَّى يَتُوبُوا إِلَى اللَّه تَوْبَة نَصُوحًا قَالَ زِرّ : فَقُلْت لِأُبَيِّ بْن كَعْب فَمَا التَّوْبَة النَّصُوح ؟ فَقَالَ سَأَلْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ " هُوَ النَّدَم عَلَى الذَّنْب حِين يَفْرِط مِنْك فَتَسْتَغْفِر اللَّه بِنَدَامَتِك مِنْهُ عِنْد الْحَاضِر ثُمَّ لَا تَعُود إِلَيْهِ أَبَدًا " .
وَقَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم ثَنَا أَبِي ثَنَا عَمْرو بْن عَلِيّ ثَنَا عَبَّاد بْن عَمْرو ثَنَا أَبُو عَمْرو بْن الْعَلَاء سَمِعْت الْحَسَن يَقُول : التَّوْبَة النَّصُوح أَنْ تُبْغِض الذَّنْب كَمَا أَحْبَبْته وَتَسْتَغْفِرَ مِنْهُ إِذَا ذَكَرْته فَأَمَّا إِذَا جَزَمَ بِالتَّوْبَةِ وَصَمَّمَ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا تَجُبُّ مَا قَبْلهَا مِنْ الْخَطِيئَات كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيح : " الْإِسْلَام يَجُبّ مَا قَبْله وَالتَّوْبَة تَجُبّ مَا قَبْلهَا" .
وَهَلْ مِنْ شَرْط التَّوْبَة النَّصُوح الِاسْتِمْرَار عَلَى ذَلِكَ إِلَى الْمَمَات - كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيث وَفِي الْأَثَر - ثُمَّ لَا يَعُود فِيهِ أَبَدًا .(2/66)
أَوْ يَكْفِي الْعَزْم عَلَى أَنْ لَا يَعُود فِي تَكْفِير الْمَاضِي بِحَيْثُ لَوْ وَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ الذَّنْب بَعْد ذَلِكَ لَا يَكُون ذَلِكَ ضَارًّا فِي تَكْفِير مَا تَقَدَّمَ لِعُمُومِ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : " التَّوْبَة تَجُبّ مَا قَبْلهَا" ؟ وَلِلْأَوَّلِ أَنْ يَحْتَجّ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيح أَيْضًا" مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَام لَمْ يُؤَاخَذ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّة وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَام أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِر " فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْإِسْلَام الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْ التَّوْبَة فَالتَّوْبَة بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَاَللَّه أَعْلَم .
-----------------
هذا هو الطريق . . توبة نصوح . . توبة تنصح القلب وتخلصه ، ثم لا تغشه ولا تخدعه .
توبه عن الذنب والمعصية ، تبدأ بالندم على ما كان ، وتنتهي بالعمل الصالح والطاعة ، فهي عندئد تنصح القلب فتخلصه من رواسب المعاصي وعكارها؛ وتحضه على العمل الصالح بعدها . فهذه هي التوبة النصوح . التوبة التي تظل تذكر القلب بعدها وتنصحه فلا يعود إلى الذنوب .
فإذا كانت هذه التوبة فهي مرجوة إذن في أن يكفر الله بها السيئات . وأن يدخلهم الجنات . في اليوم الذي يخزي فيه الكفار كما هم في المشهد الذي سبق في السياق . ولا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه .
وإنه لإغراء مطمع ، وتكريم عظيم ، أن يضم الله المؤمنين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيجعلهم معه صفاً يتلقى الكرامة في يوم الخزي . ثم يجعل لهم نوراً { يسعى بين أيديهم وبأيمانهم } . نوراً يعرفون به في ذلك اليوم الهائل المائج العصيب الرهيب . ونوراً يهتدون به في الزحام المريج . ونوراً يسعى بين أيديهم وبأيمانهم إلى الجنة في نهاية المطاف!(2/67)
وهم في رهبة الموقف وشدته يلهمون الدعاء الصالح بين يدي الله : { يقولون : ربنا أتمم لنا نورنا ، واغفر لنا ، إنك على كل شيء قدير } . . وإلهامهم هذا الدعاء في هذا الموقف الذي يلجم الألسنة ويسقط القلوب ، هو علامة الاستجابة . فما يلهم الله المؤمنين هذا الدعاء إلا وقد جرى قدره بأنه سيستجيب . فالدعاء هنا نعمة يمنّ بها الله عليهم تضاف إلى منة الله بالتكريم وبالنور .
فأين هذا من النار التي وقودها الناس والحجارة؟
إن هذا الثواب ، كذلك العقاب ، كلاهما يصور تبعة المؤمن في وقاية نفسه وأهله من النار ، وإنالتهم هذا النعيم في جنات تجري من تحتها الأنهار .
الحث على التوبة قبل فوات الأوان :
قَالَ العلماءُ : التَّوْبَةُ وَاجبَةٌ مِنْ كُلِّ ذَنْب ، فإنْ كَانتِ المَعْصِيَةُ بَيْنَ العَبْدِ وبَيْنَ اللهِ تَعَالَى لاَ تَتَعلَّقُ بحقّ آدَمِيٍّ فَلَهَا ثَلاثَةُ شُرُوط :
أحَدُها : أنْ يُقلِعَ عَنِ المَعصِيَةِ .
والثَّانِي : أَنْ يَنْدَمَ عَلَى فِعْلِهَا .
والثَّالثُ : أنْ يَعْزِمَ أَنْ لا يعُودَ إِلَيْهَا أَبَداً . فَإِنْ فُقِدَ أَحَدُ الثَّلاثَةِ لَمْ تَصِحَّ تَوبَتُهُ.
وإنْ كَانَتِ المَعْصِيةُ تَتَعَلقُ بآدَمِيٍّ فَشُرُوطُهَا أرْبَعَةٌ : هذِهِ الثَّلاثَةُ ، وأنْ يَبْرَأ مِنْ حَقّ صَاحِبِها ، فَإِنْ كَانَتْ مالاً أَوْ نَحْوَهُ رَدَّهُ إِلَيْه ، وإنْ كَانَت حَدَّ قَذْفٍ ونَحْوَهُ مَكَّنَهُ مِنْهُ أَوْ طَلَبَ عَفْوَهُ ، وإنْ كَانْت غِيبَةً استَحَلَّهُ مِنْهَا . ويجِبُ أنْ يَتُوبَ مِنْ جميعِ الذُّنُوبِ ، فَإِنْ تَابَ مِنْ بَعْضِها صَحَّتْ تَوْبَتُهُ عِنْدَ أهْلِ الحَقِّ مِنْ ذلِكَ الذَّنْبِ وبَقِيَ عَلَيهِ البَاقي . وَقَدْ تَظَاهَرَتْ دَلائِلُ الكتَابِ والسُّنَّةِ ، وإجْمَاعِ الأُمَّةِ عَلَى وُجوبِ التَّوبةِ .(2/68)
قَالَ الله تَعَالَى : { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ النور : 31 ] ، وَقالَ تَعَالَى : { اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ } [ هود : 3 ] ، وَقالَ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحا } [ التحريم : 8 ].
(1)- وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - ، قَالَ : سمعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ، يقول : (( والله إنِّي لأَسْتَغْفِرُ الله وأَتُوبُ إِلَيْه في اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً )) أخرجه : البخاري 8/83 ( 6307).
(2)- وعن الأَغَرِّ بنِ يسار المزنِيِّ - رضي الله عنه - ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، تُوبُوا إِلى اللهِ واسْتَغْفِرُوهُ ، فإنِّي أتُوبُ في اليَومِ مئةَ مَرَّةٍ )) أخرجه : مسلم 8/72 ( 2702 ) ( 41 ) .
(3)- وعن أبي حمزةَ أنسِ بنِ مالكٍ الأنصاريِّ- خادِمِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : (( للهُ أفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ سَقَطَ عَلَى بَعِيرهِ وقد أضلَّهُ في أرضٍ فَلاةٍ )) أخرجه : البخاري 8/84 ( 6309 ) ، ومسلم 8/93 ( 2747 ) ( 7 ) و( 8 ) .
وفي رواية لمُسْلمٍ : (( للهُ أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يتوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتهِ بأرضٍ فَلاةٍ ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابهُ فأَيِسَ مِنْهَا ، فَأَتى شَجَرَةً فاضطَجَعَ في ظِلِّهَا وقد أيِسَ مِنْ رَاحلَتهِ ، فَبَينَما هُوَ كَذَلِكَ إِذْ هُوَ بِها قائِمَةً عِندَهُ ، فَأَخَذَ بِخِطامِهَا((3)) ، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ : اللَّهُمَّ أنْتَ عَبدِي وأنا رَبُّكَ ! أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ )) .
((2/69)
4)- وعن أبي موسَى عبدِ اللهِ بنِ قَيسٍ الأشْعريِّ - رضي الله عنه - ، عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ : (( إنَّ الله تَعَالَى يَبْسُطُ يَدَهُ بالليلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ ، ويَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيلِ ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِها )) أخرجه : مسلم 8/99 - 100 ( 2759 ) ..
(5)- وعن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : (( مَنْ تَابَ قَبْلَ أنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِها تَابَ اللهُ عَلَيهِ )) أخرجه : مسلم 8/73 ( 2703 ) . .
(6)- وعن أبي عبد الرحمان عبد الله بنِ عمَرَ بنِ الخطابِ رضيَ اللهُ عنهما ، عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ : (( إِنَّ الله - عز وجل - يَقْبَلُ تَوبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ )) أخرجه : ابن ماجه ( 226 ) ، والترمذي ( 3535 ) ، والنسائي 1/83 و98 وهو صحيح
يغرغر : أي ما لم تبلغ روحه حلقومه . النهاية 3/360 .
((2/70)
7) - وعن زِرِّ بن حُبَيْشٍ ، قَالَ : أَتَيْتُ صَفْوَانَ بْنَ عَسَّالٍ - رضي الله عنه - أسْألُهُ عَن الْمَسْحِ عَلَى الخُفَّيْنِ ، فَقالَ : ما جاءَ بكَ يَا زِرُّ ؟ فقُلْتُ : ابتِغَاء العِلْمِ ، فقالَ : إنَّ المَلائكَةَ تَضَعُ أجْنِحَتَهَا لطَالبِ العِلْمِ رِضىً بِمَا يطْلُبُ . فقلتُ : إنَّهُ قَدْ حَكَّ في صَدْري المَسْحُ عَلَى الخُفَّينِ بَعْدَ الغَائِطِ والبَولِ ، وكُنْتَ امْرَءاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَجئتُ أَسْأَلُكَ هَلْ سَمِعْتَهُ يَذكُرُ في ذلِكَ شَيئاً ؟ قَالَ : نَعَمْ ، كَانَ يَأْمُرُنا إِذَا كُنَّا سَفراً - أَوْ مُسَافِرينَ - أنْ لا نَنْزعَ خِفَافَنَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيالِيهنَّ إلاَّ مِنْ جَنَابَةٍ ، لكنْ مِنْ غَائطٍ وَبَولٍ ونَوْمٍ . فقُلْتُ : هَلْ سَمِعْتَهُ يَذْكرُ في الهَوَى شَيئاً ؟ قَالَ : نَعَمْ ، كُنّا مَعَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ ، فبَيْنَا نَحْنُ عِندَهُ إِذْ نَادَاه أَعرابيٌّ بصَوْتٍ لَهُ جَهْوَرِيٍّ : يَا مُحَمَّدُ ، فأجابهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - نَحْواً مِنْ صَوْتِه : (( هَاؤُمْ )) فقُلْتُ لَهُ : وَيْحَكَ ! اغْضُضْ مِنْ صَوتِكَ فَإِنَّكَ عِنْدَ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - ، وَقَدْ نُهِيتَ عَنْ هذَا ! فقالَ : والله لاَ أغْضُضُ . قَالَ الأعرَابيُّ : المَرْءُ يُحبُّ القَوْمَ وَلَمَّا يلْحَقْ بِهِمْ ؟ قَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : (( المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ يَومَ القِيَامَةِ )) .(2/71)
فَمَا زَالَ يُحَدِّثُنَا حَتَّى ذَكَرَ بَاباً مِنَ المَغْرِبِ مَسيرَةُ عَرْضِهِ أَوْ يَسِيرُ الرَّاكبُ في عَرْضِهِ أرْبَعينَ أَوْ سَبعينَ عاماً - قَالَ سُفْيانُ أَحدُ الرُّواةِ : قِبَلَ الشَّامِ - خَلَقَهُ الله تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاواتِ والأَرْضَ مَفْتوحاً للتَّوْبَةِ لا يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْهُ. رواه الترمذي وغيره، وَقالَ: ((حديث حسن صحيح)).
(8)- وعن أبي سَعيد سَعْدِ بنِ مالكِ بنِ سِنَانٍ الخدريِّ - رضي الله عنه - : أنّ نَبِيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : (( كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وتِسْعينَ نَفْساً ، فَسَأَلَ عَنْ أعْلَمِ أَهْلِ الأرضِ ، فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ ، فَأَتَاهُ . فقال : إنَّهُ قَتَلَ تِسعَةً وتِسْعِينَ نَفْساً فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوبَةٍ ؟ فقالَ : لا ، فَقَتَلهُ فَكَمَّلَ بهِ مئَةً ، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرضِ ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ . فقَالَ : إِنَّهُ قَتَلَ مِئَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ ؟ فقالَ : نَعَمْ ، ومَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وبَيْنَ التَّوْبَةِ ؟ انْطَلِقْ إِلى أرضِ كَذَا وكَذَا فإِنَّ بِهَا أُناساً يَعْبُدُونَ الله تَعَالَى فاعْبُدِ الله مَعَهُمْ ، ولاَ تَرْجِعْ إِلى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أرضُ سُوءٍ ، فانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ ، فاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ ومَلائِكَةُ العَذَابِ . فَقَالتْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ : جَاءَ تَائِباً ، مُقْبِلاً بِقَلبِهِ إِلى اللهِ تَعَالَى ، وقالتْ مَلائِكَةُ العَذَابِ : إنَّهُ لمْ يَعْمَلْ خَيراً قَطُّ ، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ في صورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ(2/72)
- أيْ حَكَماً - فقالَ : قِيسُوا ما بينَ الأرضَينِ فَإلَى أيّتهما كَانَ أدنَى فَهُوَ لَهُ . فَقَاسُوا فَوَجَدُوهُ أدْنى إِلى الأرْضِ التي أرَادَ ، فَقَبَضَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحمةِ )) مُتَّفَقٌ عليه .
وفي رواية في الصحيح : (( فَكَانَ إلى القَريَةِ الصَّالِحَةِ أقْرَبَ بِشِبْرٍ فَجُعِلَ مِنْ أهلِهَا )) وفي رواية في الصحيح : (( فَأَوحَى الله تَعَالَى إِلى هذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي ، وإِلَى هذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي ، وقَالَ : قِيسُوا مَا بيْنَهُما ، فَوَجَدُوهُ إِلى هذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ )) . وفي رواية : (( فَنَأى بصَدْرِهِ نَحْوَهَا )) . أخرجه : البخاري 4/211 ( 3470 ) ، ومسلم 8/103 ( 2766 ) ( 46 ) و( 47 ) و( 48 ) ..
((2/73)
9)- وعن عبدِ الله بن كعبِ بنِ مالكٍ ، وكان قائِدَ كعبٍ - رضي الله عنه - مِنْ بَنِيهِ حِينَ عمِيَ ، قَالَ : سَمِعتُ كَعْبَ بنَ مالكٍ - رضي الله عنه - يُحَدِّثُ بحَديثهِ حينَ تَخلَّفَ عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في غَزْوَةِ تَبُوكَ . قَالَ كعبٌ : لَمْ أتَخَلَّفْ عَنْ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في غَزْوَةٍ غزاها قط إلا في غزوة تَبُوكَ ، غَيْرَ أنّي قَدْ تَخَلَّفْتُ في غَزْوَةِ بَدْرٍ ، ولَمْ يُعَاتَبْ أَحَدٌ تَخَلَّفَ عَنْهُ ؛ إِنَّمَا خَرَجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والمُسْلِمُونَ يُريدُونَ عِير قُرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ الله تَعَالَى بَيْنَهُمْ وبَيْنَ عَدُوِّهمْ عَلَى غَيْر ميعادٍ . ولَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لَيلَةَ العَقَبَةِ حينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الإِسْلامِ ، وما أُحِبُّ أنَّ لي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ ، وإنْ كَانَتْ بدرٌ أذْكَرَ في النَّاسِ مِنْهَا .(2/74)
وكانَ مِنْ خَبَري حينَ تَخَلَّفْتُ عَنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في غَزْوَةِ تَبُوكَ أنِّي لم أكُنْ قَطُّ أَقْوى ولا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عنْهُ في تِلكَ الغَزْوَةِ ، وَالله ما جَمَعْتُ قَبْلَهَا رَاحِلَتَيْنِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا في تِلْكَ الغَزْوَةِ وَلَمْ يَكُنْ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُريدُ غَزْوَةً إلاَّ وَرَّى ) بِغَيرِها حَتَّى كَانَتْ تلْكَ الغَزْوَةُ ، فَغَزَاها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في حَرٍّ شَديدٍ ، واسْتَقْبَلَ سَفَراً بَعِيداً وَمَفَازاً ، وَاستَقْبَلَ عَدَداً كَثِيراً ، فَجَلَّى للْمُسْلِمينَ أمْرَهُمْ ليتَأهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهمْ فأَخْبرَهُمْ بوَجْهِهِمُ الَّذِي يُريدُ ، والمُسلِمونَ مَعَ رسولِ الله كثيرٌ وَلاَ يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ ( يُريدُ بذلِكَ الدّيوَانَ) قَالَ كَعْبٌ : فَقَلَّ رَجُلٌ يُريدُ أنْ يَتَغَيَّبَ إلاَّ ظَنَّ أنَّ ذلِكَ سيخْفَى بِهِ ما لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ مِنَ الله ، وَغَزا رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - تِلْكَ الغَزوَةَ حِينَ طَابَت الثِّمَارُ وَالظِّلالُ ، فَأنَا إلَيْهَا أصْعَرُ ، فَتَجَهَّزَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَالمُسْلِمُونَ مَعَهُ وطَفِقْتُ أغْدُو لكَيْ أتَجَهَّزَ مَعَهُ ، فأرْجِعُ وَلَمْ أقْضِ شَيْئاً ، وأقُولُ في نفسي : أنَا قَادرٌ عَلَى ذلِكَ إِذَا أَرَدْتُ ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَمادى بي حَتَّى اسْتَمَرَّ بالنَّاسِ الْجِدُّ ، فأصْبَحَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - غَادياً والمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَلَمْ أقْضِ مِنْ جِهَازي شَيْئاً ، ثُمَّ غَدَوْتُ فَرَجَعْتُ وَلَمْ أقْضِ شَيئاً ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَمَادَى بي حَتَّى أسْرَعُوا وتَفَارَطَ الغَزْوُ ، فَهَمَمْتُ أنْ أرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ ، فَيَا لَيْتَني فَعَلْتُ ، ثُمَّ لم يُقَدَّرْ ذلِكَ لي ، فَطَفِقْتُ(2/75)
إذَا خَرَجْتُ في النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَحْزُنُنِي أنِّي لا أرَى لي أُسْوَةً ، إلاّ رَجُلاً مَغْمُوصَاً ) عَلَيْهِ في النِّفَاقِ ، أوْ رَجُلاً مِمَّنْ عَذَرَ اللهُ تَعَالَى مِنَ الضُّعَفَاءِ ، وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ ، فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ في القَوْمِ بِتَبُوكَ : (( ما فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ؟ )) فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ : يا رَسُولَ اللهِ ، حَبَسَهُ بُرْدَاهُ والنَّظَرُ في عِطْفَيْهِ . فَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ - رضي الله عنه - : بِئْسَ مَا قُلْتَ ! واللهِ يا رَسُولَ اللهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إلاَّ خَيْرَاً ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَبَيْنَا هُوَ عَلى ذَلِكَ رَأى رَجُلاً مُبْيِضاً يَزُولُ بِهِ السَّرَابُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : (( كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ )) ، فَإذَا هُوَ أبُو خَيْثَمَةَ الأنْصَارِيُّ وَهُوَ الَّذِي تَصَدَّقَ بِصَاعِ التَّمْرِ حِيْنَ لَمَزَهُ المُنَافِقُونَ .(2/76)
قَالَ كَعْبٌ : فَلَمَّا بَلَغَنِي أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ تَوَجَّهَ قَافِلاً مِنْ تَبُوكَ حَضَرَنِي بَثِّي ، فَطَفِقْتُ أتَذَكَّرُ الكَذِبَ وأقُولُ : بِمَ أخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدَاً ؟ وأسْتَعِيْنُ عَلى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رأْيٍ مِنْ أهْلِي ، فَلَمَّا قِيْلَ : إنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قّدْ أظَلَّ قَادِمَاً ، زَاحَ عَنّي البَاطِلُ حَتَّى عَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَنْجُوَ مِنْهُ بِشَيءٍ أَبَداً ، فَأجْمَعْتُ صدْقَهُ وأَصْبَحَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قَادِماً ، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالمَسْجِدِ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ ، فَلَمَّا فَعَلَ ذلِكَ جَاءهُ المُخَلَّفُونَ يَعْتَذِرونَ إِلَيْه ويَحْلِفُونَ لَهُ ، وَكَانُوا بِضْعاً وَثَمانينَ رَجُلاً ، فَقَبِلَ مِنْهُمْ عَلانِيَتَهُمْ وَبَايَعَهُمْ واسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلى الله تَعَالَى ، حَتَّى جِئْتُ، فَلَمَّا سَلَّمْتُ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المُغْضَبِ. ثُمَّ قَالَ : (( تَعَالَ )) ، فَجِئْتُ أمْشي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فقالَ لي : (( مَا خَلَّفَكَ ؟ ألَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ ؟ )) قَالَ : قُلْتُ : يَا رسولَ الله ، إنّي والله لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أهْلِ الدُّنْيَا لَرَأيتُ أنِّي سَأخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ ؛ لقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلاً ، ولَكِنِّي والله لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ اليوم حَدِيثَ كَذبٍ تَرْضَى به عنِّي لَيُوشِكَنَّ الله أن يُسْخِطَكَ عَلَيَّ ، وإنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ إنّي لأَرْجُو فِيهِ عُقْبَى الله - عز وجل - ، والله ما كَانَ لي مِنْ عُذْرٍ ، واللهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ .(2/77)
قَالَ : فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : (( أمَّا هَذَا فقَدْ صَدَقَ ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ فيكَ )) . وَسَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَة فاتَّبَعُوني فَقالُوا لِي : واللهِ مَا عَلِمْنَاكَ أذْنَبْتَ ذَنْباً قَبْلَ هذَا لَقَدْ عَجَزْتَ في أنْ لا تَكونَ اعتَذَرْتَ إِلَى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - بما اعْتَذَرَ إليهِ المُخَلَّفُونَ ، فَقَدْ كَانَ كَافِيكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - لَكَ . قَالَ : فَوالله ما زَالُوا يُؤَنِّبُونَنِي حَتَّى أَرَدْتُّ أَنْ أرْجعَ إِلَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فأُكَذِّبَ نَفْسِي ، ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ : هَلْ لَقِيَ هذَا مَعِيَ مِنْ أَحَدٍ ؟ قَالُوا : نَعَمْ ، لَقِيَهُ مَعَكَ رَجُلانِ قَالاَ مِثْلَ مَا قُلْتَ ، وَقيلَ لَهُمَا مِثْلَ مَا قيلَ لَكَ ، قَالَ : قُلْتُ : مَنْ هُما ؟ قَالُوا : مُرَارَةُ بْنُ الرَّبيع الْعَمْرِيُّ ، وهِلاَلُ ابنُ أُمَيَّةَ الوَاقِفِيُّ ؟ قَالَ : فَذَكَرُوا لِي رَجُلَينِ صَالِحَينِ قَدْ شَهِدَا بَدْراً فيهِما أُسْوَةٌ ، قَالَ : فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُما لِي . ونَهَى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ كَلامِنا أيُّهَا الثَّلاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ ، فاجْتَنَبَنَا النَّاسُ - أوْ قَالَ : تَغَيَّرُوا لَنَا - حَتَّى تَنَكَّرَتْ لي في نَفْسي الأَرْض ، فَمَا هِيَ بالأرْضِ الَّتي أعْرِفُ ، فَلَبِثْنَا عَلَى ذلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً . فَأمّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانا وقَعَدَا في بُيُوتِهِمَا يَبْكيَان .(2/78)
وأمَّا أنَا فَكُنْتُ أشَبَّ الْقَومِ وأجْلَدَهُمْ فَكُنْتُ أخْرُجُ فَأشْهَدُ الصَّلاَةَ مَعَ المُسْلِمِينَ ، وأطُوفُ في الأَسْوَاقِ وَلا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ ، وَآتِي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ في مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلاةِ ، فَأَقُولُ في نَفسِي : هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْه برَدِّ السَّلام أَمْ لاَ ؟ ثُمَّ أُصَلِّي قَريباً مِنْهُ وَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ ، فَإِذَا أقْبَلْتُ عَلَى صَلاتِي نَظَرَ إلَيَّ وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أعْرَضَ عَنِّي ، حَتَّى إِذَا طَال ذلِكَ عَلَيَّ مِنْ جَفْوَةِ المُسْلِمينَ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدارَ حائِط أبي قَتَادَةَ وَهُوَ ابْنُ عَمِّي وأَحَبُّ النَّاس إِلَيَّ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيهِ فَوَاللهِ مَا رَدَّ عَليَّ السَّلامَ ، فَقُلْتُ لَهُ : يَا أَبَا قَتَادَةَ ، أنْشُدُكَ بالله هَلْ تَعْلَمُنِي أُحِبُّ الله وَرَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - ؟ فَسَكَتَ ، فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ فَسَكَتَ ، فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ، فَقَالَ : اللهُ ورَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَفَاضَتْ عَيْنَايَ ، وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الجِدَارَ ، فَبَيْنَا أَنَا أمْشِي في سُوقِ الْمَدِينة إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ نَبَطِ أهْلِ الشَّام مِمّنْ قَدِمَ بالطَّعَامِ يَبيعُهُ بِالمَدِينَةِ يَقُولُ : مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ؟ فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إلَيَّ حَتَّى جَاءنِي فَدَفَعَ إِلَيَّ كِتَاباً مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ ، وَكُنْتُ كَاتباً .(2/79)
فَقَرَأْتُهُ فإِذَا فِيهِ : أَمَّا بَعْدُ، فإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنا أنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللهُ بدَارِ هَوانٍ وَلاَ مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بنَا نُوَاسِكَ ، فَقُلْتُ حِينَ قَرَأْتُهَا : وَهَذِهِ أَيضاً مِنَ البَلاءِ ، فَتَيَمَّمْتُ بهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهَا ، حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ مِنَ الْخَمْسينَ وَاسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ إِذَا رسولُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يَأتِيني ، فَقالَ : إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَأمُرُكَ أنْ تَعْتَزِلَ امْرَأتَكَ ، فَقُلْتُ : أُطَلِّقُهَا أمْ مَاذَا أفْعَلُ ؟ فَقالَ : لاَ ، بَلِ اعْتَزِلْهَا فَلاَ تَقْرَبَنَّهَا ، وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ بِمِثْلِ ذلِكَ . فَقُلْتُ لامْرَأتِي : الْحَقِي بِأهْلِكِ فَكُوني عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ في هَذَا الأمْرِ . فَجَاءتِ امْرَأةُ هِلاَلِ بْنِ أُمَيَّةَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ لَهُ : يَا رَسُولَ الله ، إنَّ هِلاَلَ بْنَ أمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ ، فَهَلْ تَكْرَهُ أنْ أخْدُمَهُ ؟ قَالَ : (( لاَ ، وَلَكِنْ لاَ يَقْرَبَنَّكِ )) فَقَالَتْ : إِنَّهُ واللهِ ما بِهِ مِنْ حَرَكَةٍ إِلَى شَيْءٍ ، وَوَالله مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَومِهِ هَذَا .(2/80)
فَقَالَ لي بَعْضُ أهْلِي : لَو اسْتَأْذَنْتَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في امْرَأَتِكَ فَقَدْ أَذِن لاِمْرَأةِ هلاَل بْنِ أمَيَّةَ أنْ تَخْدُمَهُ ؟ فَقُلْتُ : لاَ أسْتَأذِنُ فيها رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ، وَمَا يُدْرِيني مَاذَا يقُول رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ ، وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌ ! فَلَبِثْتُ بِذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ فَكَمُلَ لَنا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينَ نُهِيَ عَنْ كَلاَمِنا ، ثُمَّ صَلَّيْتُ صَلاَةَ الْفَجْرِ صَبَاحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا ، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحالِ الَّتي ذَكَرَ الله تَعَالَى مِنَّا ، قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسي وَضَاقَتْ عَلَيَّ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ، سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أوفَى عَلَى سَلْعٍ يَقُولُ بِأعْلَى صَوتِهِ : يَا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أبْشِرْ ، فَخَرَرْتُ سَاجِدا ، وَعَرَفْتُ أنَّهُ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ . فآذَنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - النَّاسَ بِتَوْبَةِ الله - عز وجل - عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلاةَ الفَجْر فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا ، فَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرونَ وَرَكَضَ رَجُلٌ إِلَيَّ فَرَساً وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أسْلَمَ قِبَلِي ، وَأَوْفَى عَلَى الْجَبَلِ ، فَكانَ الصَّوْتُ أسْرَعَ مِنَ الفَرَسِ ، فَلَمَّا جَاءني الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُني نَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُمَا إيَّاهُ بِبشارته، وَاللهِ مَا أمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ ، وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبسْتُهُما ، وَانْطَلَقْتُ أتَأمَّمُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَتَلَقَّاني النَّاسُ فَوْجاً فَوْجاً يُهنِّئونَني بالتَّوْبَةِ وَيَقُولُونَ لِي : لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ الله عَلَيْكَ .(2/81)
حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ حَوْلَه النَّاسُ ، فَقَامَ )طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ - رضي الله عنه - يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَني وَهَنَّأَنِي ، والله مَا قَامَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرينَ غَيرُهُ - فَكَانَ كَعْبٌ لاَ يَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ - .(2/82)
قَالَ كَعْبٌ : فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُور : (( أبْشِرْ بِخَيْرِ يَومٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُذْ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ )) فَقُلْتُ : أمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُول الله أَمْ مِنْ عِندِ الله ؟ قَالَ : (( لاَ ، بَلْ مِنْ عِنْدِ الله - عز وجل - )) ، وَكَانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّ وَجْهَهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ وَكُنَّا نَعْرِفُ ذلِكَ مِنْهُ ، فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ : يَا رسولَ الله ، إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أنْ أنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولهِ . فَقَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : (( أمْسِكَ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ )) . فقلتُ : إِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيبَر .(2/83)
وَقُلْتُ : يَا رسولَ الله ، إنَّ الله تَعَالَى إِنَّمَا أنْجَانِي بالصِّدْقِ ، وإنَّ مِنْ تَوْبَتِي أنْ لا أُحَدِّثَ إلاَّ صِدْقاً مَا بَقِيتُ ، فوَالله مَا عَلِمْتُ أَحَداً مِنَ المُسْلِمينَ أبْلاهُ الله تَعَالَى في صِدْقِ الحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذلِكَ لِرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أحْسَنَ مِمَّا أبْلانِي الله تَعَالَى ، واللهِ مَا تَعَمَّدْتُ كِذْبَةً مُنْذُ قُلْتُ ذلِكَ لِرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إِلَى يَومِيَ هَذَا ، وإنِّي لأرْجُو أنْ يَحْفَظَنِي الله تَعَالَى فيما بَقِيَ ، قَالَ : فأَنْزَلَ الله تَعَالَى : { لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ } حَتَّى بَلَغَ : { إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيم وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } حَتَّى بَلَغَ : { اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } [ التوبة : 117-119 ] قَالَ كَعْبٌ : واللهِ ما أنْعَمَ الله عَليَّ مِنْ نعمةٍ قَطُّ بَعْدَ إذْ هَدَاني اللهُ للإِسْلامِ أَعْظَمَ في نَفْسِي مِنْ صِدقِي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ لا أكونَ كَذَبْتُهُ ، فَأَهْلِكَ كما هَلَكَ الَّذينَ كَذَبُوا ؛ إنَّ الله تَعَالَى قَالَ للَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ أنْزَلَ الوَحْيَ شَرَّ مَا قَالَ لأَحَدٍ ، فقال الله تَعَالَى : { سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } [ التوبة : 95-96 ] قَالَ كَعْبٌ : كُنّا خُلّفْنَا أيُّهَا(2/84)
الثَّلاَثَةُ عَنْ أمْرِ أُولئكَ الذينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حِينَ حَلَفُوا لَهُ فَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وأرجَأَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أمْرَنَا حَتَّى قَضَى الله تَعَالَى فِيهِ بذِلكَ . قَالَ الله تَعَالَى : { وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا } وَليْسَ الَّذِي ذَكَرَ مِمَّا خُلِّفْنَا تَخلُّفُنَا عن الغَزْو ، وإنَّمَا هُوَ تَخْلِيفُهُ إيّانا وإرْجَاؤُهُ أمْرَنَا عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ واعْتَذَرَ إِلَيْهِ فقبِلَ مِنْهُ " ). مُتَّفَقٌ عليه .
وفي رواية : أنَّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ في غَزْوَةِ تَبْوكَ يَومَ الخَميسِ وكانَ يُحِبُّ أنْ يخْرُجَ يومَ الخمِيس .
وفي رواية : وكانَ لاَ يقْدمُ مِنْ سَفَرٍ إلاَّ نَهَاراً في الضُّحَى ، فإِذَا قَدِمَ بَدَأَ بالمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ فِيهِ .أخرجه : مسلم 5/120 ( 1696 ) .
(10)- وَعَنْ أبي نُجَيد - بضَمِّ النُّونِ وفتحِ الجيم - عِمْرَانَ بنِ الحُصَيْنِ الخُزَاعِيِّ رضي الله عنهما : أنَّ امْرَأةً مِنْ جُهَيْنَةَ أتَتْ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهِيَ حُبْلَى مِنَ الزِّنَى ، فقالتْ : يَا رسولَ الله ، أصَبْتُ حَدّاً فَأَقِمْهُ عَلَيَّ ، فَدَعَا نَبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - وَليَّها ، فقالَ :
(((2/85)
أَحْسِنْ إِلَيْهَا ، فإذا وَضَعَتْ فَأْتِني )) فَفَعَلَ فَأَمَرَ بهَا نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فَشُدَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا. فقالَ لَهُ عُمَرُ: تُصَلِّي عَلَيْهَا يَا رَسُول الله وَقَدْ زَنَتْ ؟ قَالَ: (( لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أهْلِ المَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وَجَدْتَ أَفضَلَ مِنْ أنْ جَادَتْ بنفْسِها لله - عز وجل - ؟! )) أخرجه : البخاري 8/115 ( 6436 ) ، ومسلم 3/100 ( 1049 ).
(11)- وعن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : (( لَوْ أنَّ لابنِ آدَمَ وَادِياً مِنْ ذَهَبٍ أحَبَّ أنْ يكُونَ لَهُ وَادِيانِ ، وَلَنْ يَمْلأَ فَاهُ إلاَّ التُّرَابُ ، وَيَتْوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ )) مُتَّفَقٌ عليه .
(12)- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : (( يَضْحَكُ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَى رَجُلَيْنِ يقْتلُ أَحَدهُمَا الآخَرَ يَدْخُلانِ الجَنَّةَ ، يُقَاتِلُ هَذَا في سَبيلِ اللهِ فَيُقْتَلُ ، ثُمَّ يتُوبُ اللهُ عَلَى القَاتلِ فَيُسْلِم فَيُسْتَشْهَدُ )) مُتَّفَقٌ عليه .
- - - - - - - - - - - - -
أهم المصادر
1. القرآن الكريم خط عادي
2. تفسير الطبري ت أحمد محمد شاكر
3. تفسير ابن كثير ط دار القلم - دار طيبة للنشر والتوزيع- الشاملة 2 –موقع التفاسير
4. تفسير القرطبي دار عالم الكتب، الرياض، المملكة العربية + الشاملة 2+موقع التفاسير
5. تفسير الشوكاني (فتح القدير ) الشاملة 2+موقع التفاسير
6. التفسير الوسيط -سيد طنطاوي -موقع التفاسير http://www.altafsir.com
7. أيسر التفاسير - أسعد حومد - موقع التفاسير http://www.altafsir.com
8. صفوة التفاسير للصابوني- دار الصابوني .(2/86)
9. تفسير الظلال - موقع التفاسير http://www.altafsir.com
10. مسند أحمد بن حنبل ط- موسوعة الأزهر - المكنز
11. صحيح البخاري ط- موسوعة الأزهر - المكنز
12. صحيح مسلم ط- موسوعة الأزهر - المكنز
13. سنن أبي داود - موسوعة الأزهر - المكنز
14. سنن الترمذي - موسوعة الأزهر - المكنز
15. سنن النسائي - موسوعة الأزهر - المكنز
16. سنن ابن ماجة - موسوعة الأزهر - المكنز
17. سنن الدارمي- موسوعة الأزهر - المكنز
18. موطأ الإمام مالك - موسوعة الأزهر - المكنز
19. السنن الكبرى للبيهقي موسوعة الأزهر - المكنز
20. شعب الإيمان للبيهقي الشاملة 2 جامع الحديث النبوي
21. معجم الطبراني الكبير أبو المعاطي
22. معجم الطبراني الأوسط جامع الحديث النبوي
23. المعجم الصغير للطبراني جامع الحديث النبوي
24. مسند أبي عوانة الشاملة 2
25. مسند الشاميين للطبراني الشاملة 2+ جامع الحديث النبوي
26. صحيح الترغيب والترهيب الشيخ ناصر الدين الألباني- أية طبعة مرقمة
27. الترغيب والترهيب للمنذري- أية طبعة مرقمة
28. دلائل النبوة للبيهقي جامع الحديث النبوي – الشاملة 2
29. سلسلة الأحاديث الصحيحة الشيخ ناصر الدين الألباني- أية طبعة مرقمة
30. مسند أبي يعلى الموصلي جامع الحديث النبوي - وطبعة دار المأمون
31. الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم الشاملة 2+ جامع الحديث النبوي
32. صحيح ابن حبان جامع الحديث النبوي – وطبعة مؤسسة الرسالة
33. صحيح ابن خزيمة- الشاملة 2 – جامع الحديث النبوي
34. معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصفهاني جامع الحديث النبوي
35. مسند الحميدي - موسوعة الأزهر - المكنز
36. المستدرك للحاكم – جامع الحديث النبوي والطبعة الأساسية دار المعرفة
37. مصنف عبد الرزاق – المكتب الإسلامي
38. مسند البزار- الشاملة 2
39. مصنف ابن أبي شيبة تحقيق محمد عوامة
40. السنة لابن أبي عاصم – جامع الحديث النبوي –الشاملة 2(2/87)
41. الآداب للبيهقي - جامع الحديث النبوي –الشاملة 2
42. معرفة الصحابة لأبي نعيم –جامع الحديث النبوي - الشاملة 2
43. مسند عبد بن حميد–جامع الحديث النبوي - الشاملة 2
44. تهذيب الآثار للطبري–جامع الحديث النبوي - الشاملة 2
45. السنن الكبرى للنسائي مؤسسة الرسالة
46. صحيح الجامع الصغير الألباني -المكتب الإسلامي
47. المختارة للضياء المقدسي الشاملة 2 + المطبوع
48. الشَّرِيعَةُ لِلْآجُرِّيِّ الشاملة 2+ جامع الحديث النبوي
49. الإبانة الكبرى لابن بطة الشاملة 2+ جامع الحديث النبوي
50. الرد على الجهمية للدارمي الشاملة 2+ جامع الحديث النبوي
51. الاعتقاد للبيهقي الشاملة 2+ جامع الحديث النبوي
52. المطالب العالية للحافظ ابن حجر العسقلاني الشاملة 2+ جامع الحديث النبوي
53. صحيح أبي داود الألباني – أية طبعة مرقمة
54. صحيح الترمذي الألباني– أية طبعة مرقمة
55. صحيح النسائي الألباني– أية طبعة مرقمة
56. صحيح ابن ماجة الألباني– أية طبعة مرقمة
57. صحيح الجامع الصغير للألباني – أية طبعة مرقمة- المكتب الإسلامي
58. شرح معاني الآثار للطحاوي – جامع الحديث النبوي
59. فوائد تمام- الشاملة 2 - جامع الحديث النبوي
60. مشكل الآثار للطحاوي– الشاملة 2 – جامع الحديث النبوي
61. حلية الأولياء لأبي نعيم الشاملة 3+ جامع الحديث النبوي
62. فضائل القرآن للفريابي – الشاملة 2- جامع الحديث النبوي
63. صفة الجنة لأبي نعيم الشاملة 2+ جامع الحديث النبوي
64. صِفَةُ الْجَنَّةِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا الشاملة 2+ جامع الحديث النبوي
65. الزهد والرقائق لابن المبارك الشاملة 2+ جامع الحديث النبوي
66. الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر – الشاملة 2
67. شروح العقيدة الطحاوية
68. التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة الشاملة 2
69. التيسير بشرح الجامع الصغير ـ للمناوى - مكتبة الإمام الشافعي – الرياض(2/88)
70. شرح الأربعين النووية عطية بن محمد سالم – الشاملة 2
71. عُمْدَةِ الْقَارِي للعيني الشاملة 2
72. شرح رياض الصالحين لابن عثيمين- جامع الحديث النبوي - الشاملة 2
73. فتح الباري لابن حجر العسقلاني – الشاملة 2
74. شرح صحيح مسلم للنووي – الشاملة 2
75. فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي – أي طبعة مرقمة
76. تحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي المباركفوري – الشاملة 2
77. عون المعبود شرح سنن أبي داود– الشاملة 2
78. شرح ابن بطال على البخاري– الشاملة 2
79. شرح سنن أبي داود ـ عبد المحسن العباد – الشاملة 2
80. مجمع الزوائد للهيثمي– الشاملة 2- الطبعة المرقمة
81. الأسماء والصفات للبيهقي– الشاملة 2- جامع الحديث النبوي
82. شرح سنن النسائي للسندي – الشاملة 2
83. حاشية السندي على ابن ماجه - الشاملة 2
84. المنتقى - شرح الموطأ للباجي – الشاملة 2
85. المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي – الشاملة 2
86. جامع العلوم والحكم لابن رجب تحقيق الفحل– الشاملة 2
87. فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين عبد المحسن بن حمد العباد البدر- دار ابن القيم، الدمام - السعودية
88. الموسوعة الفقهية الكويتية – وزارة الأوقاف – الكويت
89. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح القاري– الشاملة 2
90. إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين للزبيدي –الفكر
91. الجرح والتعديل لابن أبي حاتم الشاملة 2+ المطبوع
92. تقريب التهيب للحافظ ابن حجر الشاملة 2 + المطبوع
93. الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة للذهبي الشاملة 2 + المطبوع
94. تهذيب الكمال للمزي الشاملة 2 + مؤسسة الرسالة
95. تعجيل المنفعة للحافظ ابن حجر الشاملة 2+ المطبوع
96. لسان الميزان للحافظ ابن حجر الشاملة 2+ المطبوع
97. سير أعملا النبلاء للذهبي الشاملة 2 + ط مؤسسة الرسالة
98. الضعفاء الكبير للعقيلي الشاملة 2 + جماع الحديث النبوي
99. الشاملة 2(2/89)
100. برنامج قالون
الفهرس العام
1. ... النهي عن قول راعنا ... 3
2. ... الاستعانة بالصبر والصلاة ... 6
3. ... الأكل من الطيبات ... 9
4. ... وجوب القصاص في القتلى ... 11
5. ... فرض الصيام ... 15
6. ... الدخول فِي السِّلْمِ كَآفَّةً ... 25
7. ... الإنفاقُ مما رزقهمُ اللهُ ... 32
8. ... عدمُ إبطال الصَّدقات بالمنِّ والأذَى ... 33
9. ... الإنفاقُ من طيباتِ ما كسبنا ... 36
10. ... النهي عن الربا ... 39
11. ... الأمر بكتابة الدين ... 44
12. ... طاعةُ الكافرين سببٌ للكفر بعد الإيمان ... 51
13. ... الأمر بتقوى الله حق تقاته ... 57
14. ... تحريمُ اتخاذ بطانةً من غير المسلمين ... 68
15. ... النهي عن أكل الربا ... 72
16. ... طاعةُ الكفار خسارة في الدارين ... 81
17. ... وجوب التسليم بقضاء الله وقدره ... 85
18. ... الأمر بالصبر والمصابرة والمرابطة وتقوى الله ... 88
19. ... تحريمُ عضلِ النساء ... 91
20. ... تحريم أكل أموال الناس بالباطل ... 95
21. ... تحريم الصلاة وهم سكارى ... 98
22. ... وجوبُ طاعة الله والرسول ... 108
23. ... وجوبُ أخذ الحذر من الأعداء ... 112
24. ... لا يجوز قتل من أسلم أثناء القتال ... 116
25. ... وجوب العدل في الشهادة ... 118
26. ... وجوبُ الإيمان بالله ورسوله ... 122
27. ... تحريم اتخاذ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ... 124
28. ... وجوب الوفاء بالعقود ... 125
29. ... تحريمُ استحلال شعائر الله ونحوها ... 128
30. ... وجوب الطهارة قبل الصلاة ... 145
31. ... وجوبُ العدل بالشهادة وغيرها ... 150
32. ... وجوب ذكر نعم الله علينا ... 154
33. ... وجوب تقوى الله وابتغاء الوسيلة إليه ... 155
34. ... تحريم اتخاذ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء ... 157
35. ... تحريم الردة عن الدين ... 179
36. ... تحريم اتخاذ الكفار أولياء ... 186
37. ... لا يجوز تحريم الحلال ... 188
38. ... تحريمُ الخمر والميسر والأنصاب والأزلام ... 190
39. ... ابتلاءُ المحرم بحج أو عمرة بالصيد ... 196
40. ... تحريمُ قتل صيد البر للمحرم بحج أو عمرة ... 198
41. ... تحريمُ السؤال عما لا يعنينا ... 201
42. ... لا يضرُّ المؤمنين ضلال الكافرين إذا بذلوا الوسع في هدايتهم فأبوا ... 207
43. ... الأمرُ بالوصية قبل الموت ... 210(2/90)
44. ... تحريمُ الفرار من الزحف ... 213
45. ... وجوبُ طاعة الله ورسوله ... 217
46. ... وجوبُ الاستجابة لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ ... 219
47. ... تحريمُ خيانة الله والرسول ... 222
48. ... من اتقى الله جعل له فرقاناً ... 225
49. ... عواملُ النَّصرِ والهزيمة ... 226
50. ... تحريم اتخاذ الآباء وغيرهم أولياء إذا اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ ... 232
51. ... تحريم دخول المشركين المسجد الحرام ... 235
52. ... التحذير من التشبه بالأحبار والرهبان ... 237
53. ... الحث على الجهاد في سبيل الله ... 246
54. ... الأمرُ بتقوى الله ومتابعة الصادقين ... 250
55. ... وجوبُ البدء قتال الأقرب لنا من الكفار ... 255
56. ... الأمر بالركوع والسجود والعبادة ... 262
57. ... النهي عن اتباع خطوات الشيطان ... 265
58. ... النهي عن دخول بيوت الآخرين إلا بإذن ... 266
59. ... وجوبُ الاستئذان داخل البيوت ... 271
60. ... وجوبُ شكر الله تعالى على نصر المسلمين يوم الأحزاب ... 273
61. ... الإكثار من ذكر الله ... 276
62. ... لا عدة على المطلقة قبل الدخول ... 279
63. ... تحريم دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلم دون إذنٍ ... 280
64. ... الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ... 283
65. ... النهي عن أذى الرسل ... 285
66. ... وجوب تقوى الله والقول السديد ... 287
67. ... من نصر دين الله نصره الله ... 288
68. ... وجوب طاعة الله والرسول ... 291
69. ... تحريم التقدم على الله ورسوله بقول أو فعل ... 292
70. ... النهي عن رفع الصوت عند رسول الله والتأدب في خطابه ... 294
71. ... وجوب التثبت عند نقل الأخبار ... 300
72. ... تحريم السخرية بالمؤمنين ونحوها ... 301
73. ... النهي عن اجتناب سوء الظن ... 303
74. ... جزاء من آمن بالله واتقى ... 308
75. ... تحريم التناجي بالإثم والعداون ... 311
76. ... الأمر بالتفسح في المجالس ... 313
77. ... تقديم صدقةٍ قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم ... 316
78. ... وجوب النظر لما يقدم الإنسان لآخرته ... 318
79. ... تحريم اتخاذ أعداء الإسلام أولياء ... 320
80. ... امتحان المهاجرات ... 329
81. ... تحريم تولي من غضب الله عليه ... 332
82. ... النهي عن القول بلا عمل ... 334(2/91)
83. ... التجارة التي لن تبور ... 336
84. ... دعوة المؤمنين ليكونوا أنصار الله ... 339
85. ... السعي إلى ذكر الله يوم الجمعة ... 340
86. ... النهي الغفلة عن ذكر الله ... 345
87. ... التحذير من فتنة الزوجة والأولاد ... 347
88. ... وجوب وقاية النفس والأهل من النار ... 349
89. ... وجوب التوبة النصوح ... 351
أهم المصادر ... 362
الفهرس العام ... 366(2/92)