تقديم بسم الله الرحمن الرحيم و [ صلى الله عليه وسلم ] على سيد المرسلين ، وآله الأكرمين ، ورضي الله عن صحابته الأفضلين . وبعد . فإنه لما كان حديث : ( من عاد لي ولياً ) قد اشتمل على فوائد كثيرة النفع ، جليلة القدر لمن فهمها حق فهمها ، وتدبرها كما ينبغي ، أحببت أن أفرد هذا الحديث الجليل بمؤلف مستقل ، أنشر من فوائده ما تبلغ إليه الطاقة ويصل إليه الفهم ، وما أحقه بأن يفرد بالتأليف ، فإنه قد اشتمل على كلمات كلها درر ، الواحدة منها تحتها من الفوائد ، ما ستقف على البعض منه . وكيف لا يكون كذلك وقد حكاه عن الرب سبحانه من أوتي جوامع الكلم ، ومن هو أفصح من نطق بالضاد ، وخير العالم بأسره ، وأجل خلق الله ، وسيد ولد آدم [ صلى الله عليه وسلم ] ؟ ولم يستوف شراح الحديث رحمهم الله ما يستحقه هذا الحديث من الشرح .
____________________
(1/217)
فإن ابن حجر رحمه الله لم يشرحه في فتح الباري إلا بنحو ثلاث ورق مع أن شرحه أكمل شرح البخاري ، وأكثرها تحقيقا ، وأعمها نفعا . ولا حاجة لنا في الكلام على رجال إسناده ، فقد أجمع أهل هذا الشأن أن أحاديث الصحيحين ، أو أحدهما كلها من المعلوم صدقه المتلقى بالقبول المجمع على ثبوته . وعند هذه الإجماعات تندفع كل شبهة ، ويزول كل تشكيك . وقد دفع أكابر الأئمة من تعرض للكلام على شيء مما فيهما ، وردوه أبلغ رد ، وبينوا صحته أكمل بيان . فالكلام على إسناده بعد هذا ، لا يأتي بفائدة يعتد بها . فكل رواته قد جازوا القنطرة ، وارتفع عنهم القيل والقال ، وصاروا أكبر من أن يتكلم فيهم بكلام ، أو يتناولهم طعن طاعن ، أو توهين موهن . وسميته ( قطر الولي على حديث الولي ) . قال في الصحاح : والولي المطر
____________________
(1/218)
بعد الوسمى ، سمي ولياً لأنه يلي الوسمى . وهو من
حديث أبي هريرة . ولفظه في البخاري هكذا . قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ( إن الله تبارك وتعالى قال : من عادى لي وليا ، فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحببته فإذا أحببته ، كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يُبصر به ، ويده الذي يبطش بها ، ورجله الذي يمشي بها ، وإن سألني أعطيته ، وإن استعاذني أعذته ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددى عن نفس المؤمن يكره الموت ، وأكره إساءته ' . انتهى .
____________________
(1/219)
قوله : ' إن الله [ تبارك ] وتعالى ' ، قال : هذا من الأحاديث الإلهية القدسية ، وهو يحتمل أن يكون مما تلقاه [ صلى الله عليه وسلم ] ، عن ربه بلا واسطة ، ويحتمل أن يكون مما تلقاه [ صلى الله عليه وسلم ] عن ربه بواسطة الملك . قال الكرماني : ' يحتمل أن يكون من الأحاديث القدسية ، ويحتمل أن يكون لبيان الواقع والراجح الأول ' . وقد وقع في بعض طرق هذا الحديث أنه [ صلى الله عليه وسلم ] حدث به عن جبريل عن الله عز وجل .
____________________
(1/220)
الفصل الأول من هو الولي ؟
____________________
(1/221)
فارغة .
____________________
(1/222)
قوله : من عادى لي ولياً . قال في الصحاح : والولي ضد العدو انتهى . والولاية ضد العداوة . وأصل الولاية المحبة والتقرب كما ذكره أهل اللغة ، وأصل العداوة البغض والبعد . قال ابن حجر في فتح الباري : المراد بولي الله العالم بالله تعالى [ المواظب ] على طاعته المخلص في عبادته ' انتهى . وهذا التفسير للولي ، هو المناسب لمعنى الولي المضاف إلى الرب سبحانه . ويدل على ذلك ما في الآيات القرآنية . كقوله سبحانه : ! ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم ) ! وكقوله عز وجل : ! ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ) ! . وكقوله سبحانه : ( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ، يجاهدون في سبيل الله ، ولا يخافون لومة لائم ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله واسع عليم . إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون . ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا ، فإن حزب الله هم
____________________
(1/223)
الغالبون ) . وغير ذلك من الآيات . فأولياء الله هم خلص عباده القائمون بطاعاته المخلصون له . أفضل الأولياء : وأفضل أولياء الله هم الأنبياء ، وأفضل الأنبياء هم المرسلون ، وأفضل الرسل هم أولو العزم : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، ومحمد [ صلى الله عليه وسلم ] . وأفضل أولي العزم نبينا محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ، وهو الذي أنزل الله سبحانه عليه : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) فجعل سبحانه صدق محبة الله عز وجل متوقفة على اتباعه ، وجعل اتباعه سبب حصول المحبة من الله سبحانه . وقد ادعت اليهود والنصارى أنهم أبناء الله وأحباؤه وأولياؤه . ( قل فلم يعذبكم بذنوبكم ، بل أنتم بشر ممن خلق ، يغفر لمن يشاء ، ويعذب من يشاء ، ولله ملك السموات والأرض ، وما بينهما وإليه المصير ) . بل ادعوا أنه لا يدخل الجنة إلا من كان منهم . ( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم ، قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين .
____________________
(1/224)
بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن ، فله أجره عند ربه ، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) . بل قد ادعى ذلك مشركو العرب كما حكى الله سبحانه ذلك عنهم بقوله : ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك ، أو يقتلوك ، أو يخرجوك ، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) إلى قوله : ( وما كانوا أولياءه ، إن أولياؤه إلا المتقون ، ولكن أكثرهم لا يعلمون ) . وهم في الحقيقة أولياء الشيطان ، كما قال عز وجل : ( الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله ، والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ، فقاتلوا أولياء الشيطان ، إن كيد الشيطان كان ضعيفا ) وقال سبحانه : ( فإذا قرأت القرآن ، فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ، إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون . إنما سلطانه على الذين يتولونه ، والذين هم به مشركون ) . وقال سبحانه : ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا ، إلا إبليس كان من الجن ، ففسق عن أمر ربه ، أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني ، وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ) . [ وقال سبحانه ] : ( ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبينا ) وقال سبحانه : ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم
____________________
(1/225)
من الظلمات إلى النور ، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ) . وقال سبحانه : ( إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه ، فلا تخافوهم ، وخافون إن كنتم مؤمنين ) ! ( وقال ) ! ( إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون ) وقال : ( اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ، ويحسبون أنهم مهتدون ) وقال سبحانه : ( إن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ) . وقال الخليل [ صلى الله عليه وسلم ] : ( يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون الشيطان ولياً ) . وثبت عنه [ صلى الله عليه وسلم ] في الصحيحين وغيرهما أنه قال : ' إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء ، إنما ووليِّي الله وصالح المؤمنين ' . وهو كقول الله سبحانه : ( وإن تظاهرا عليه ، فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين ، والملائكة بعد ذلك ظهير ) . طبقات الأولياء : قال الإمام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله : ' ( فصل ) وأولياء الله
____________________
(1/226)
على طبقتين : سابقون مقربون ، وأبرار أصحاب يمين مقتصدون . ذكرهم الله سبحانه في عدة مواضع من كتابه ، في أول الواقعة ، وآخرها ، وفي سورة الإنسان ، والمطففين ، وفي سورة فاطر ، فإنه سبحانه ذكر في الواقعة ، القيامة الكبرى في أولها ، وذكر القيامة الصغرى في آخرها ، فقال في أولها : ! ( إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ) ! . فهذا تقسيم الناس إذا قامت القيامة الكبرى التي يجمع الله فيها الأولين والآخرين كما وصف في كتابه في غير موضع . ثم قال في آخر السورة ' فلولا ' ، أي فهلا ، ! ( إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم إن هذا لهو حق اليقين فسبح باسم ربك العظيم ) ! . وقال في سورة الإنسان : ( إنا هديناه السبيلا إما شاكرا وإما كفورا . إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيراً ، إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً . يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً . ويطعمون الطعام على حبة مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا
____________________
(1/227)
شكورا ) الآيات . وكذلك في سورة المطففين : ( كلا إن كتاب الفجار لفي سجين ، وما أدراك ما سجين . كتاب مرقوم . ويل يومئذ للمكذبين . الذين يكذبون بيوم الدين وما يكذب به إلا كل معتد أثيم . إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين . كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون . كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون . ثم إنهم لصالوا الجحيم . ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون ، كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين . وما أدراك ما عليون . كتاب مرقوم يشهده المقربون . إن الأبرار لفي نعيم . على الأرائك ينظرون . تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك . وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم عيناً يشرب بها المقربون ) . فعن ابن عباس وغيره من السلف : قالوا يمزج لأصحاب اليمن مزجا . ويشرب بها المقربون صرفا . وهو كما قالوا ، فإنه قال يشرب بها المقربون ولم يقل منها . لأنه ضمن قوله يشرب معنى يروى ، فإن الشارب قد يروى وقد لا يروى . فإذا قيل يشرب منها لم يدل على الرِّي ، وإذا قال يشرب بها كان المعنى يُرْوَون بها فلا يحتاجون معها إلى ما هو
____________________
(1/228)
دونها . فلهذا شربوها صرفا . بخلاف أصحاب اليمين فإنها مزجت لهم مزجا . وهو كما قال في سورة الإنسان : ! ( كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا ) ! . فعباد الله هم المقربون المذكورون في تلك السورة . وهذا لأن الجزاء من جنس العمل ، في الخير والشر ، كما قال [ صلى الله عليه وسلم ] : ' من نفس [ عن ] مؤمن كربة ، من كرب الدنيا نفس الله الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ، ستره الله في الدنيا والآخرة . والله في عون العبد ما كان [ العبد ] في عون أخيه ، ومن سلك طريقا يلتمس ( فيها ) علماً سهل الله له طريقا إلى الجنة ، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ، [ ويتدارسونه ] بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة ، وحفتهم الملائكة ، وذكرهم الله تعالى فيمن عنده ، ومن بطأ به عمله ، لم
____________________
(1/229)
يسرع به نسبه ' . رواه مسلم في صحيحه . وقال : ' الراحمون يرحمهم الرحمن ، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ' . قال الترمذي : حديث صحيح . وفي الصحيح : ' يقول الله تعالى : خلقت الرحم ، وشققت لها اسما من اسمي ، فمن وصلها ، وصلته ، ومن قطعها ، قطعته ' . وقال ' من وصل صفا وصله الله ، ومن قطعه قطعه الله ' . ومثل هذا كثير ' . ' وقد ذكر الله أولياءه المقتصدين ؛ والسابقين ، في سورة فاطر بقوله : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ، فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ، بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير . جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ، ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير . وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور . الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ، ولا يمسنا فيها لغوب ' . وهذه الأصناف الثلاثة هم أمة محمد ( [ صلى الله عليه وسلم ] ) خاصة
____________________
(1/230)
كما قال تعالى : ! ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) ! الآية . وأمة محمد ( [ صلى الله عليه وسلم ] ) هم الذين أورثوا الكتاب بعد الأمم المتقدمة . وليس ذلك مختصاً بحفاظ القرآن بل كل من آمن بالقرآن فهو من هؤلاء . وقسمهم إلى ظالم لنفسه ، ومقتصد ، وسابق بالخيرات . بخلاف الآيات التي في الواقعة والمطففين ، والانفطار والإنسان . فإنه دخل فيها جميع الأمم المتقدمة كافرهم ، ومؤمنهم . وهذا التقسيم لأمة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] . فالظالم لنفسه أصحاب الذنوب المصرون عليها . والمقتصد المؤدي للفرائض المجتنب للمحارم ، والسابق بالخيرات هو المؤدي للفرائض والنوافل المجتنب للمحرمات والمكروهات كما في تلك الآيات . ثم ذكر الله سبحانه المفاضلة بين أوليائه المؤمنين ، فقال : ! ( انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ) ! . بل بين سبحانه التفاضل بين أنبيائه فقال : ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ، منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ) . وقال تعالى : ! ( ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا ) ! .
____________________
(1/231)
وفي
صحيح مسلم عن أبي هريرة عنه [ صلى الله عليه وسلم ] أنه قال : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير ، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز ، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل ، فإن لو تفتح عمل الشيطان ) . وفي
سنن أبي داود عن عوف بن مالك أنه حدثهم أن النبي ( [ صلى الله عليه وسلم ] ) قضى بين رجلين ، فقال المقضي عليه لما أدبر : حسبي الله ونعم الوكيل ، فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : ( إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكَيس فإذا غلبك أمر فقل حسبي الله ونعم الوكيل ) . وفي
الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة وعمرو بن العاص عن النبي ( [ صلى الله عليه وسلم ] ) قال : ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر ' . وروى من طرق خارج الصحيحين ' أن للمصيب عشرة أجور ' .
____________________
(1/232)
وقال الله سبحانه : ! ( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى ) ! وقال سبحانه : ! ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما ) ! . وقال : ! ( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم ) ! . وقال : ( أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب ) . وقال : ! ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير ) ! . الأولياء غير الأنبياء ليسوا بمعصومين : واعلم أن أولياء الله غير الأنبياء ليسوا بمعصومين ، بل يجوز عليهم ما يجوز
____________________
(1/233)
على سائر عباد الله المؤمنين . لكنهم قد صاروا في رتبة رفيعة ومنزلة عليَّه . فقلَّ أن يقع منهم ما يخالف الصواب وينافي الحق . فإذا وقع ذلك فلا يخرجهم عن كونهم أولياء الله . كما يجوز أن يخطئ المجتهد وهو مأجور على خطئه حسبما تقدم أنه إذا اجتهد فأصاب فله أجران ، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر . وقد تجاوز الله سبحانه لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان ، كما قال سبحانه : ! ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) ! . وقد ثبت في الصحيح ' أن الله سبحانه قال : بعد كل دعوة من هذه الدعوات قد فعلت ' . وحديث ' رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ' قد كثرت طرقه حتى صار من قسم الحسن لغيره كما هو معروف عند أهل هذا الفن . المقياس في قبول الواقعات والمكاشفات : ولا يجوز للولي أن يعتقد في كل ما يقع له من الواقعات والمكاشفات أن ذلك كرامة من الله سبحانه . فقد يكون من تلبيس الشيطان ومكره . بل الواجب عليه أن يعرض أقواله وأفعاله على الكتاب والسنة ، فإن كانت موافقة لها فهي حق وصدق وكرامة من الله سبحانه . وإن كانت مخالفة لشيء من ذلك ، فليعلم أنه مخدوع ممكور به قد طمع منه الشيطان فلبس عليه . إمكان وقوع المكاشفات وليس لمنكر أن ينكر على أولياء الله ما يقع منهم من المكاشفات
____________________
(1/234)
الصادقة الموافقة للواقع . فهذا باب قد فتحه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، كما ثبت في الصحيحين عنه [ صلى الله عليه وسلم ] أنه قال : ' قد كان في الأمم قبلكم محدَّثون فإن يكن في أمتي أحد منهم فعمر منهم ' . وفي لفظ في الصحيح : ' إن في هذه الأمة محدَّثين وإن منهم عمر ' . والمحدَّث الصادق الظن المصيب الفراسة . وحديث : ' اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله ' أخرجه الترمذي وحسنه . الواجب على الولي فيما يصدر من أعمال : وقد كان عمر رضي الله عنه مع كونه مشهودا له بأنه من المحدثين بالنص النبوي يشاور الصحابة ويشاورونه ، ويراجعهم ويراجعونه ، ويحتج عليهم بالكتاب والسنة ، ويرجعون جميعا إليهما ، ويردون ما اختلفوا فيه إلى ما أمر الله بالرد إليه من الرد إلى الله سبحانه وإلى رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] ، فالرد إلى الله هو الرد إلى كتابه والرد إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بعد موته هو الرد إلى ما صح من سنته .
____________________
(1/235)
فحق على الولي وإن بلغ في الولاية إلى أعلى مقام وأرفع مكان ، أن يكون مقتديا بالكتاب والسنة ، وازناً لأفعاله وأقواله بميزان هذه الشريعة المطهرة ، واقفا على الحد الذي رسم فيها غير زائغ عنها في شيء من أموره ، فقد ثبت عنه [ صلى الله عليه وسلم ] في الصحيح أنه قال : ' كل أمر ليس على أمرنا فهو رد ' . وإذا ورد عليه وارد يخالف الشريعة رده ، واعتقد أنه من الشيطان ، ويدافع ذلك بحسب استطاعته ، وبما تبلغ إليه قدرته . قال الله سبحانه ! ( فاتقوا الله ما استطعتم ) ! . وقال تعالى ! ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ) ! . وقال تعالى : ! ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) ! . وقال تعالى : ! ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) ! . وقال سبحانه : ! ( وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها ) ! ومن خالف هذا ممن يطلق عليه اسم الولي فليس من أولياء الله عز وجل . وما أحسن ما قاله ( أبو سليمان الداراني ) : ( إنها لتقع في قلبي النكتة
____________________
(1/236)
من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين الكتاب والسنة ) . وقال ( الجنيد ) رحمه الله : ' علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة ، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يصح له أن يتكلم في علمنا ' . وقال ' أبو عثمان النيسابوري ' : ' من أمر على نفسه الشريعة قولا وفعلا نطق بالحكمة ، ومن أمر على نفسه الهوى قولا وفعلا نطق بالبدعة ، لأن الله تعالى يقول : ! ( وإن تطيعوه تهتدوا ) ! . وقال ( أبو عمرو بن نجيد ) ' كل [ وجد ] لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل ' . خوارق غير الأولياء : وإذا عرفت أنه لا بد للولي من أن يكون مقتدياً في أقواله وأفعاله بالكتاب والسنة ، وأن ذلك هو المعيار الذي يعرف به الحق من الباطل ، فمن ظهر منه
____________________
(1/237)
شيء مما يخالف هذا المعيار فهو رد عليه ، ولا يجوز لأحد أن يعتقد فيه أنه ولي الله ، فإن أمثال هذه الأمور تكون من أفعال الشياطين ، كما نشاهده في الذين لهم تابع من الجن . فإنه قد يظهر على يده ما يظن من لم يستحضر هذا المعيار أنه كرامة . وهو في الحقيقة مخاريق شيطانية وتلبيسات إبليسية . ولهذا تراه يظهر من أهل البدع ، بل من أهل الكفر وممن يترك فرائض الله سبحانه ويتلوث بمعاصيه . لأن الشيطان أميل إليهم للاشتراك بينه وبينهم في مخالفة ما شرعه الله سبحانه لعباده . وقد يظهر شيء مما يظن أنه كرامة من أهل الرياضة وترك الاستكثار من الطعام والشراب على ترتيب معلوم ، وقانون معروف . حتى ينتهي حاله إلى أن لا يأكل إلا في أيام ذوات العدد ، ويتناول بعد مضي أيام شيئاً يسيراً . فيكون له بسبب ذلك بعض صفاء من الكدورات البشرية ، فيدرك ما لا يدركه غيره ، وليس هذا من الكرامات في شيء . ولو كان من الكرامات الربانية ، والتفضلات الرحمانية ، لم يظهر على أيدي أعداء الله ، كما يقع كثيراً من المرتاضين من كفرة الهند الذين يسمونهم الآن ( الجوكية ) . وقد يظهر شيء مما يظن أنه كرامة على لسان بعض المجانين . وسبب ذلك كما ذكره الحكماء أنه قد ذهب عنه ما يصنعه الفكر من التفصيل والتدبير ، اللذين يستمران للعقلاء . فيكون لعقله إدراك لا يكون للعقلاء ، فيأتي في بعض الأحيان بمكاشفات صحيحة ، وهو مع ذلك متلوث بالنجاسة مرتبك في القاذورات
____________________
(1/238)
قاعد في المزابل ، وما يشابهها فيظن من لا حقيقة عنده أنه من أولياء الله ، وذلك ظن باطل ، وتخيل مختل ، وهو في الحقيقة مجنون قد رفع الله عنه قلم التكليف ، ولم يكن ولياً لله ، ولا عدواً . المكاشفات الصحيحة وأولياء المؤمنين : وقد تكون المكاشفة من رجل جعله الله سبحانه من المحدثين حسبما سبق تحقيق ذلك وهذه طريقة أثبتها الشرع وصح بها الدليل . والغالب أن ذلك لا يكون إلا من خلص المؤمنين كما سبق في حديث ' اتقوا فراسة المؤمن ' . وهذا الحديث هو شيء يوقعه الله في روع من كتب له ذلك ، فيلقيه إلى الناس فيكون مطابقاً للواقع ، وليس من الكهانة ، ولا من باب النجامة والرمل ولا من باب تلقين الشيطان كما كان يقع لعمر بن الخطاب رضي الله عنه . وسيأتي في هذا الحديث الذي نحن بصدد شرحه أنه لا يزال العبد يتقرب إلى الله سبحانه بالنوافل حتى يحبه ، فإذا أحبه كان سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وسنتكلم إن شاء الله على معاني هذه الألفاظ النبوية . وفي القرآن الكريم من ذلك الكثير الطيب كقوله سبحانه : ! ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ) ! .
____________________
(1/239)
وللصحابة ، رضي الله عنهم ، النصيب الوافر من طاعة الله سبحانه ومن التقرب إليه بما يحبه ، ولهذا صاروا حير القرون كما ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من وجوه كثيرة ، وثبت عنه [ صلى الله عليه وسلم ] في الصحيح من طرق كثيرة أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ، قال :
( لا تسبوا أصحابي فَوَالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحد ذهبا ما بلغ مُدَّ أحدهم ، ولا نصيفه ) . فانظر إلى هذه المزية العظيمة ، والخصيصة الكبيرة التي لم تبلغ من غيرهم إنفاق مثل الجبل الكبير من الذهب نصف المُدَّ الذي ينفقه الواحد منهم ، فرضي الله عنهم وأرضاهم . فهم أفضل أولياء الله سبحانه وأكرمهم عليه ، وأعلاهم منزلة عنده ، وهم الذين عملوا بكتاب الله تعالى وسنة رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] . فمن جاء بعدهم ممن يقال له إنه من الأولياء ، لا يكون ولياً لله إلا إذا اتبع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم واهتدى بهديه واقتدى به في أقواله وأفعاله . شخصية الولي : واعلم أن من أعظم ما يتبين به من هو من أولياء الله سبحانه أن يكون مجاب الدعوة ، راضياً عن الله عز وجل في كل حال ، قائما بفرائض الله سبحانه ، تاركاً لمناهيه ، زاهداً فيما يتكالب [ عليه ] الناس من طلب
____________________
(1/240)
العلو في الدنيا ، والحرص على رياستها ، لا يكون لنفسه شغل بملاذ الدنيا ولا بالتكاثر منها ، ولا بتحصيل أسباب الغنى ، وكثرة اكتساب الأموال والعروض إذا وصل إليه القليل صبر ، وإن وصل إليه الكثير شكر ، يستوي عنده المدح ، والذم والفقر والغناء ، والظهور والخمول ، غير معجب بما من الله به عليه من خصال الولاية إذا زاده الله رفعة ، زاد في نفسه تواضعاً وخضوعا . حسن الأخلاق كريم الصحبة عظيم الحلم كثير الاحتمال . وبالجملة فمعظم اشتغاله بما رغب الله فيه ، وندب عباده إليه فمن كملت له هذه الخصال ، واتصف بهذه الصفات ، واتسم بهذه السمات ، فهو ولي الله الأكبر الذي ينبغي لكل مؤمن أن يقر له بذلك ، ويتبرك بالنظر إليه ، والقرب منه . ومن كان فيه بعض هذه الخصال ، واشتمل على شطر من هذه الصفات فله من الولاية بقدر ما رزقه الله سبحانه منها ، ووهب له من محاسنها . والباب الأعظم للدخول إلى سُوح الولاية هو الإيمان بالله كما ندب إليه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حيث قال لما سئل عن الإيمان :
( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، والقدر خيره وشره ) . وأصعب هذه الخصال الإيمان بالقدر فإنه إذا حصل له ذلك على الوجه
____________________
(1/241)
المعتبر هانت عليه جميع الأمور ، وفرغ من شغل قلبه بما نزل عليه من المقادير خيرها وشرها . ولا ينافي ذلك تعوذه ( [ صلى الله عليه وسلم ] ) من سوء القضاء . فقد ثبت في الصحيح أن من الدعوات النبوية قوله [ صلى الله عليه وسلم ] :
( اللهم إني أعوذ بك من سوء القضاء ، ودرك الشقاء ، وجهد البلاء ، وشماتة الأعداء ) وثبت عنه [ صلى الله عليه وسلم ] أنه كان يقول في قنوت الوتر :
( وَقِنِي شَرَّ ما قضيت ) . وأولياء الله سبحانه يتفاوتون في الولاية بقوة ما رزقهم الله سبحانه من الإيمان ، فمن كان أقوى إيماناً كان في باب الولاية أعظم شأنا ، وأكبر قدراً وأعظم قرباً إلى الله ، وكرامة لديه . ومن لازم الإيمانِ القوي العملُ السوي ، والتحبُّبُ إلى الله بمحبته عز وجل ومحبة رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] ! ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) ! . وكلما ، ازداد بَعْدَ التقرب إلى الله بفرائضه ، واجتناب مناهيه ، بفعل النوافل ، والاستكثار من ذكره عز وجل ، زاده الله محبة وفتح له أبواب الخير كله دِقِّهِ وَجِله كما سيأتي من الكلام على شرح هذا الحديث الذي نحن بصدد شرحه وبيان معانيه الشريفة ونكاته اللطيفة .
____________________
(1/242)
جواز الكرامات : ومن وُهِب له هذه الموهوبات الجليلة وتُفِضِّلَ عليه بهذه الصفات الجميلة بغير بعيد ، ولا مستنكر أن تظهر على يده من الكرامات التي لا تنافي الشريعة والتصرفات في مخلوقات الله عز وجل الوسيعة ، لأنه إذا دعاه أجابه وإذا سأله أعطاه ، ولم يصب من جعل ما يظهر من كثير من الأولياء من قطع المسافات البعيدة ، والمكاشفات المصيبة ، والأفعال ، التي تعجز عنها غالب القوى البشرية ، من الأفعال الشيطانية والتصرفات الإبليسية . فإن هذا غلط واضح ، لأن من كان مجاب الدعوة لا يمتنع عليه أن يسأل الله سبحانه أن يوصله إلى أبعد الأمكنة التي لا تقطع طريقها إلا في شهور في لحظة يسيرة ، وهو القادر القوي الذي ما شاءه كان ، وما لم يشأه لم يكن ، وأي بُعد في أن يجيب الله دعوة من دعاه من أوليائه في مثل هذا المطلب وأشباهه . وفي مثل هذا يقال ما قاله الشاعر : ( والناس ألف منهم كواحدٍ ** وواحد كالألف إن أمر عَفَا ) وقول الآخر : ( ولم أر أمثال الرجال تفاوتاً ** من الناس حتى عُدَّ ألفٌ بواحد ) بل هذا الذي تفضل الله عليه بهذه التفضلات لا يعْدِلُه الألف ولا الآلاف ممن لم ينل ما نال ، ولا ظفر بشيء من هذه الخصال .
____________________
(1/243)
( فمالك والتلدد حول نجد ** وقد غَصت تهامة بالرجال ) ومن نظر في مثل الحلية لأبي نعيم ، وصفوة الصفوة لابن الجوزي ، عرف صحة ما ذكرناه ، وما كان عطاء ربك محظوراً . وكم للصحابة ، رضي الله عنهم ، من الكرامات التي يصعب حصرها وسنشير إلى بعضها قريباً ، ولو لم يكن منها إلا إجابة دعاء كثير منهم . وقد عرفناك أن إجابة الدعاء هي أكبر كرامة ، ومن أكرمه الله بذلك دعا بما يشاء كيف يشاء من جليل الأمور ، وحقيرها وكبيرها ، وصغيرها . وفي كتب الحديث والسير من ذلك الكثير الطيب ، وكذلك في أمم الأنبياء السابقين من أولياء الله سبحانه الصالحين العدد الجم حسبما نقل إلينا عن نبينا [ صلى الله عليه وسلم ] ، وحسبما تحكيه التوراة والإنجيل ، ونبوات
____________________
(1/244)
أنبياء بني إسرائيل التي من جملتها الزبور . والحاصل أن الله سبحانه يتفضل على عباده بما يشاء ، والفضل بيده ، من شاء أعطاه ، ومن شاء منعه . وليس لنا أن ننكر إلا ما أنكرته الشريعة المطهرة . فمن جاء بما يخالفها دفعناه ومنعناه . وأما مجرد استبعاد أن يهب الله سبحانه لبعض عباده أمراً عظيما ويعطيه ما تتقاصر عنه قوى غيره من المنح الجليلة ، والتفضلات الجزيلة فليس مرادات المتصفين بالإنصاف . وكثيراً ما ترى الجبان إذا حكيت له أفعال الأفراد من أهل الشجاعة من مقارعة الأبطال ، وملابسة الأهوال ومنازلة العدد الكثير من الرجال يستبعد عقله ذلك ويضيق ذهنه عن تصوره ويظنه باطلا ، ولا سبب لذلك إلا أن غريزته المجبولة على الجبن الخالع تقصر عن أقل قليل من ذلك وتعجز عن الملابسة لأحقر منه . وهكذا البخيل إذا سمع ما يحكى عن الأجواد من الجود بالموجود والسماحة بالكثير الذي تشح نفوس من لم يهب الله له غريزة الكرم المحمودة بعشر معشاره ظن أن تلك الحكايات من كذب الوراقين ومن مَخْرَقَةِ المُمَخْرِقِين وهكذا من قل حظه من المعارف العليمة ، وقصر فهمه عن إدراك الفنون المتنوعة استبعد عقله ، ونبا فهمه عن قبول ما منح الله به أكابر علماء هذه الأمة من التوسع في المعارف والاستكثار من العلوم المختلفة وفهمها كما ينبغي ، وحفظها حق الحفظ ، والتصرف الكامل في كل ما يرد عليه منها فيورده موارده ، ويصدره مصادره .
____________________
(1/245)
فاعرف هذا ، واعلم أن مواهب الله عز وجل لعباده ليست بموضع لاستبعاد المستبعدين ، وتشكيكات المشككين ، فقد تفضل على بعض عباده بالنبوة واصطفاه لرسالته ، وجعله واسطة بينه وبين عباده . وتفضل على بعض عباده بالملك ، وجعله فوق جميع رعيته ، واختاره على من سواه منهم . وهم العدد الجم ، والسواد الأعظم ، وقد يكون غير شريف الأصل ، ولا رفيع المحتد ، كما أعطى ملك مصر والشام والحرمين وغيرها الملوك الجراكسة ، وهم عبيد يجلب الواحد منهم إلى سوق الرقيق ، وبعد حين يصير ملكا كبيراً ، وسلطانا جليلا . وهكذا من ملك قبلهم من الأتراك لمماليك كبني قلاوون ، وأعطى بني يوبه ، وهم أولاد سماك غالب ، الممالك الإسلامية ، وجعلهم الحاكمين على الخلفاء العباسية ، وعلى سائر العباد في أقطار الأرض . دع عنك التفضلات على هذا النوع الإنساني المكرم بالعقل ، وانظر إلى
____________________
(1/246)
ما من به على أنواع من مخلوقاته ، فإن الشجاعة التي جعلها في الأسد لا يقوم لها من بني آدم العدد الكثير ، وتلك موهبة من الله سبحانه ، وهكذا كثير من أنواع الحيوان يختص هذا بالقوة الباهرة ، وهذا بالجسم الوافر وهذا بحسن التركيب ، وهذا بالطيران في الهواء ، وهذا بالمشي في قعر البحر ، والتصرف لما يحتاج إليه في أمواج الماء . وكم يعد العاد من تفضلات الملك الجواد جلَّت قدرته ، فسبحانه ما أعظم شأنه وأعز سلطانه وأجلّ إحسانه . وهذا عارض من القول اقتضاه تقريب ما يتفضل الله به على خلص عباده إلى الأذهان الجامدة ، والطبائع الراكدة حتى تتزلزل عن مركز الإنكار ، وربك يخلق ما يشاء ويختار . ومن نظر إلى ما وهبه الله سبحانه للصحابة رضي الله عنهم ، لم يستبعد شيئاً مما وهبه الله عز وجل لأوليائه ويصعب الإحاطة بأكثر ذلك فضلا عن كله . وقد قدمنا الإشارة إلى كراماتهم إجمالا ، ونذكر الآن بعض كراماتهم على التفصيل والتعيين . فمنها أن أسيد بن حضير رضي الله عنه كان يقرأ سورة الكهف فنزلت
____________________
(1/247)
عليه السكينة من السماء مثل الظُّلة فيها أمثال السرج وهي الملائكة ، وأخبر بذلك النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فقال له :
( لو استمر على تلاوته لاستمرت تلك السكينة واقفة عليه باقية عنده ) . وكانت الملائكة تسلم على عمران بن حصين ، وكان سلمان الفارسي وأبو الدرداء يأكلان في صحفة فسبَّحت أو سبَّح ما فيها ، وخرج عباد
____________________
(1/248)
ابن بشر وأسيد بن حضير من عند رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في ظلمة الليل فأضاء لهما أطراف السوط ، فلما افترقا افترق الضوء معهما . وكان الصديق رضي الله عنه يأكل هو وأضيافه من القصعة ، فلا يأكلون لقمة إلا رَباً مِن أسفلها أكثر منها فشبعوا ، وهي أكثر مما كان فيها قبل أن يأكلوا . وخُبَيْب بن عدي رضي الله عنه لما أسره المشركون كان يؤتي بقطف من العنب في غير وقته . وعامر بن فهيرة التمسوا جسده فحمته الدبر ، ولم يقدروا على الوصول إليه . وخرجت أم أيمن ، وهي صائمة ، وليس معها زاد ولا ماء
____________________
(1/249)
فعطشت حتى كادت تتلف ، فلما كان وقت الفطر سمعت حساً على رأسها فرفعته فإذا هو دلو برشاء أبيض معلق فشربت منه حتى رويت وما عطشت بعدها . وأخبر سفينة مولى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم الأسد أنه مولى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم فمشى معه الأسد حتى أوصله إلى مقصده . والبراء بن مالك كان إذا أقسم على الله أبر قسمه . وكان الحرب إذا اشتد على المسلمين في الجهاد يقولون : يا براء أقسم على ربك . فيقول :
____________________
(1/250)
أقسم عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم ، وجعلتني أول شهيد فمنحوا أكتفاهم وقتل شهيداً . وحاصر خالد بن الوليد رضي الله [ عنه ] حصنا فقالوا : لا نسلم حتى تشرب السم فشربه ، ولم يضرّه . وأرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه جيشاً مع رجل يسمى سارية فبينما عمر يخطب جعل يصيح على المنبر : يا سارية الجبل ، يا سارية الجبل ، فقدم رسول الله الجيش فسأله عمر فقال : ( يا أمير المؤمنين لقينا عدونا فهزمونا ،
____________________
(1/251)
فإذا بصائحٍ يقول : يا سارية الجبل ، يا سارية الجبل . فأسندنا ظهورنا بالجبل فهزمناهم ) . ولما عذبت بعض الصحابيات ذهب بصرها ، فقال المشركون ما أصاب بصرها إلا اللات والعزى ، فقالت : كلا والله ، فردَّ الله عليها بصرها وكان سعد بن وقاص رضي الله عنه مجاب الدعوة ما دعا قَطٍّ إلا استجيب له . وكذلك سعيد بن زيد رضي الله عنه دعا على المرأة لما كذبت عليه فقال : اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها ، واقتلها في أرضها فعميت ووقعت في حفيرة في أرضها فماتت .
____________________
(1/252)
ودعا الله العلاء بن الحضرمي بأن يسقوا ، ويتوضئوا ، لما عدموا الماء ولا يبقى بعدهم فأجيب ، ودعا لما اعترضهم البحر ، ولم يقدروا على المرور ، فمروا بخيولهم على الماء ما ابتلت سروج خيولهم . ودعا الله بأن لا يروا جسده إذا مات ، فلم يجدوه في اللحد . وكان للتابعين من الكرامات ما هو معروف في كتب هذا الشأن حسبما قدمنا الإشارة إليه ، وكذلك من بعدهم . وقد كان في التابعين من ألقى في الناس فوجد قائماً يصلي ، وهو أبو مسلم الخولاني ، ولما قدم المدينة جعله عمر بينه وبين أبي بكر . وقال الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني من أمة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] من فُعِلَ به كما فُعِلَ بإبراهيم . ودعا على امرأة أفسدت عليه زوجته فعميت فتابت ، فدعا لها فرد الله عليها بصرها . ومنهم من وضع رجله على رقبة الأسد حتى مرت القافلة ، وهو عامر
____________________
(1/253)
ابن عبد قيس ، ومنهم من مات فرسه في الغزو فقال اللهم لا تجعل لمخلوق على منة ، ودعا الله فأحياه ، فلما وصل إلى بيته قال يا بني خذ سرج الفرس فإنه عارية ، فأخذ سرجه فمات ، وهو ( صلة بن أشيم ) . وكان سعيد بن المسيب لما خلى في المسجد أيام الحرة سمع الأذان من قبر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] . وكان عمر بن عتبة بن فرقد يصلي يوماً في شدة الحر فأظلته غمامة .
____________________
(1/254)
وكان مطرف بن عبد الله الشخير إذا دخل بيته سبحت معه آنيته . ولما مات الأحنف بن قيس ، وقعت قلنسوة رجل في قبره فأهوى ليأخذها فوجد القبر قد فسح فيه مد البصر . وأويس القرني وجدوا لما مات في ثيابه أكفانا لم تكن معه من قبل ووجدوا له قبرا محفوراً في صخرة فدفنوه فيه ، وكفنوه في تلك الأثواب . وكان إبراهيم التيمي يقيم الشهر والشهرين لا يأكل شيئاً ، وخرج
____________________
(1/255)
يمثار لأهله طعاما فلم يقدر عليه ، فأخذ من موضع تراباً أحمر ثم رجع إلى أهله ففتحوها فإذا هي حنطة حمراء . وكان إذا زرع منها تخرج السنابل من أصلها إلى فرعها حباً متراكباً . وأصاب عبد الواحد بن زيد الفالح فسال ربه أن يطلق أعضاءه وقت الوضوء ، فكان وقت الوضوء تطلق له أعضاؤه ، ثم تعود بعده ، وغير ذلك كثير . متى يكون الخارق كرامة : والحاصل أن من كان من المعدودين من الأولياء إن كان من المؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله ، والقدر خيره وشره مقيما لما أوجب الله عليه ، تاركا لما نهاه الله عنه مُستكثراً من طاعاته ، فهو من أولياء الله سبحانه وما ظهر عليه من الكرامات التي لم تخالف الشرع فهي موهبة من الله عز وجل لا يحل لمسلم أن ينكرها . ومن كان بعكس هذه الصفات ، فليس من أولياء الله سبحانه ، وليست ولايته رحمانية بل شيطانية ، وكراماته من تلبيس الشيطان عليه وعلى الناس . وليس هذا بغريب ولا مستنكر ، فكثير من الناس من يكون مخدوما بخادم من الجن ، أو بأكثر فيخدمونه في تحصيل ما يشتهيه ، وربما كان محرما
____________________
(1/256)
من المحرمات ، وقد قدمنا أن المعيار الذي لا يزيغ ، والميزان الذي لا يجور ، هو ميزان الكتاب والسنة . فمن كان متبعاً لها معتمداً عليهما فكراماته ، وجميع أحواله رحمانية ، ومن لم يتمسك بهما ويقف عند حدودهما فأحواله شيطانية ، فلا نطيل الكلام في هذا المقام ، ولنعد إلى شرح الحديث الذي نحن بصدد الكلام عليه ، فنقول : المعاداة من الولي كما يمكن أن تتصور : قال ابن حجر في فتح الباري : ' وقد استشكل وجود أحد يعاديه يعني الولي ، لأن المعاداة ، إنما تقع من الجانبين ، ومن شأن الولي الحلم والصفح عمن يجهل عليه ! ! ؟ . وأجيب بأن المعاداة لم تنحصر في الخصومة ، والمعاملة الدنيوية مثلا بل قد تقع عن بغض ينشأ عن التعصب ، كالرافضيِّ في بغضه لأبي بكر والمبتدع في بغضه للسني فتقع المعاداة من الجانبين . أما من جانب الولي : فلله تعالى وفي الله . وأما من جانب الآخر فلما تقدم . وكذا الفاسق المتجاهر يبغضه الولي ، ويبغضه الآخر لإنكاره عليه وملازمته لنهيه عن شهواته . وقد تطلق المعاداة ، ويراد بها الوقوع من أحد الجانبين بالفعل ، ومن الآخر بالقوة انتهى ' .
____________________
(1/257)
وأقول معلوم أن غالب العداوات الدينية لا تكون إلا بين المتبع والمبتدع والمؤمن والفاسق ، والصالح والطالح ، والعالم والجاهل ، وأولياء الله سبحانه وأعدائه . ومثل هذا من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى سؤال ، ولا ينشأ عنه إشكال . والولي لا يكون ولياً لله حتى يبغض أعداء الله ويعاديهم ، وينكر عليهم ، فمعاداتهم والإنكار عليهم هو من تمام ولايته ، ومما تترتب صحتها عليه . وأولياء الله سبحانه هم أحق عباد الله بالقيام في هذا المقام اقتداء برسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، فإنه كان إذا غضب لله احمرَّ وجهه وعلا صوته حتى كأنه منذر جيش يقول : صبَّحكم مسَّاكم ، وهكذا المعاداة من المؤمن للفاسق ، ومن الفاسق للمؤمن . فإن المؤمن يعاديه لما أوجب الله عليه من عداوته ، ولكراهته لما هو عليه من الوقوع في معاصي الله سبحانه ، والانتهاك لمحارمه ، وتعدي حدوده . والفاسق قد يعاديه لإنكاره عليه ولخوفه من قيامه عليه ، وقد يكون ذلك لما جرت به عادة الفساق من الإزراء بمن يكثر من طاعة الله والسخرية بهم ، كما يعرف ذلك من يعرف أحوالهم ، فإنهم يعدون ما هم فيه اللعب واللهو ، هو العيش الصافي ، والمنهج الذي يختاره العقلاء ، ويعدون المشتغلين بطاعة الله من أهل الرياء والتلصص لاقتناص الأموال . وأما العداوة بين العالم والجاهل فأمرها واضح ، فالعالم يرغب عنه ويعاديه لما هو عليه من الجهل للدين ، وعدم القيام بما يحتاج إليه من كان من المسلمين .
____________________
(1/258)
والجاهل يعاديه لكونه قد فاز بتلك المزية الجليلة ، والخصلة النبيلة التي هي أشرف خصال الدين : ( فمنزلة السفيه من الفقيه ** كمنزلة الفقيه من السفيه ) ( فهذا زاهد في حق هذا ** وهذا فيه أزهد منه فيه ) وأما العداوة بين المتبع والمبتدع فأمرها أوضح من الشمس فإن المتبع يعادي المبتدع لبدعته ، والمبتدع يعادي المتبع لإتباعه وكونه على الصواب ، والتمسك بالبدع يعمى بصائر أهلها فيظن أن ما هو عليه من الضلالة هو الحق الذي لا شبهة فيه ، وأن المتبع للكتاب والسنة على ضلالة . وقد تبلغ عداوات أهل البدع لغيرهم من أهل الاتباع فوق عداواتهم لليهود والنصارى ، ولا شك أن أولياء الله سبحانه لهم من منصب الإيمان والعلم والاتباع للنصيب الأوفر . فأعداؤهم يكثرون لكثرة ما منحهم الله من الخصال الشريفة ، ويحسدونهم زيادة على ما يحسدون أهل الفضائل لاجتماعها لديهم ، مع فوزهم بالقرب من الله بما فتح الله عليهم به من طاعاته ، فرائضها ، ونوافلها . وهم أيضا يكرهون أعداء الله لوجود المقتضيات ليدهم لكراهتهم ؛ من الإيمان والعلم والعمل الصالح ، وتقوى الله سبحانه على الوجه الأتم . وإذا التبس عليك هذا فانظر في تمثيل يقربه إليك وهو أن من كان له حظ
____________________
(1/259)
من سلطان كثر أعداؤه حسدا له على تلك المنزلة الدنيوية . ومن كان رأسا في العلم عاداه غالب المقصرين ، لا سيما إذا خالف ما يعتقدونه حقاً ، وجمهور العامة تبعاً لهم ، لأنهم ينظرون إلى كثرتهم ، والقيام بما يحتاجون إليه من الفتاوى والقضاء ، مع تلبيسهم عليهم بعيوب مفتراة لذلك العالم الذي وصل إلى ما لا يعرفونه ، وبلغ إلى ما يقصرون عنه ، أقل الأحوال أن يلقوا إليهم بأنه يخالف ما هم عليه هم وآباؤهم وما مضى عليه سلفهم . وهذه وإن كان شكاة ظاهر عن ذلك العالم عارها لكنها تقع من قبول العامة لها في أعلى محل ، وتثير من شرهم مالا يقادر قدره . وهذا كائن في غالب الأزمان من غالب نوع الإنسان . قال ابن هبيرة في الإيضاح : ' قوله : ' عادى لي ولياً ' ، أي اتخذه عدواً . ولا أرى المعنى إلا أنه عاداه من أجل ولايته وهو إن تضمن التحذير من إيذاء قلوب أولياء الله تعالى ، فليس على إطلاقه ، بل يستثنى منه ما إذا كانت الحال تقتضي نزاعا بين وليين في مخاصمة أو محاكمة ، وترجع إلى استخراج حق ، أو كشف غامض . فإنه جرى بين أبي بكر وعمر مشاجرة وبين العباس وعَلِيِّ إلى غير ذلك من الوقائع ' . وتعقبه الفاكهاني . ' بان معاداة الولي لا تفهم إلا إذا
____________________
(1/260)
[ كانت ] على طريق الحسد الذي هو تمنى زوال ولايته ' ، وهو بعيد جداً في حق الولي فتأمله . قال ابن حجر : ' والذي قدمته أولى أن يعتمد ' انتهى . قلت : أما المخاصمة في الأموال والدماء ، فهي مستثناة سواء كانت بين وليين ، أو بين الولي وغيره ، فمن ادعى عليه بما يلزمه التخلص عنه شرعا ، ولم يكن ذلك لمجرد التعنت ، فحق على ذلك الولي ، أن يتخلص مما يجب عليه ، ولا يحرج به صدره ، ولا يتأذى به قلبه ، فإن التأذي من التخلص عن الحقوق الواجبة ،
____________________
(1/261)
ليس من دأب الأولياء . ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكمون فيما شجر بينهم ، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ، ويسلموا تسليما ) . وتحكيم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] هو تحكيم ما جاء به من الشريعة المطهرة . وهي موجودة في كتاب الله سبحانه ، وفي سنة رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] وهما باقيان إلى هذه الغاية بين أظهر المسلمين . والعلماء العارفون بما فيهما ، موجودون في كل أقطار الأرض ، فإذا حكم حاكم منهم على الولي بما يجب عليه في كتاب الله سبحانه ، وفي سنة رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] ، فالامتثال عليه أوجب من الامتثال على غيره لارتفاع رتبته ومزيد [ خصوصيته ] بكونه وليا لله سبحانه ، فإذا حرج صدره من ذلك وتأذى به فهو قادح في ولايته ، وليس على المخاصم له ولا على الحاكم الذي حكم عليه شيء من الإثم . عود إلى مقياس الولاية : وقد قدمنا أن المعيار الذي تعرف به صحة ولايته ، هو أن يكون عاملا بكتاب الله سبحانه وبسنة رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم مؤثراً لهما على كل شيء مقدما لهما في إصداره وإيراده ، وفي كل شئونه ، فإذا زاغ عنهما زاغت عنه الولاية .
____________________
(1/262)
وانظر ما اشتملت عليه هذه الآية الشريفة مما هو موعظة للمتعظين وعبرة للمعتبرين ، فإنه أولا بدأ فيها بالقسم الرباني ، وأقسم بنفسه عز وجل وتقدس مُشَرفا له [ صلى الله عليه وسلم ] بإضافة الربوبية إليه ، جازما بنفس الإيمان عمن خالف هذا القسم الرباني ، فقال : لا يؤمنون . ثم جعل لذلك غاية هي تحكيمه [ صلى الله عليه وسلم ] فيما شجر بين العباد . ثم لم يكتف بذلك حتى قال : ! ( ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ) ! فلا ينفع مجرد التحكيم لكتاب الله سبحانه ولسنة رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم ، حتى لا يكون في صدر المحكم لهما حرجا من ذلك القضاء . ثم لم يكتف بذلك ، حتى قال : ! ( ويسلموا ) ! فلا ينفع مجرد التحكيم لهما مع عدم الحرج من الحكم عليه بهما حتى يسلم ما عليه مما أوجبه القضاء بهما ، ثم جاء بالتأكيد لهذا التسليم المفيد أنه أمر لا مخلص عنه ، ولا خروج منه . فكيف يجد من كان ولياً لله سبحانه حرجاً في صدره على خصمه المطالب له بحق يحق عليه التخلص منه ، أو على حاكمه الذي حكم به عليه ؟ ! فإن هذا ليس بصنيع أهل الإيمان بالله ، فكيف بأوليائه الذين ضموا إلى الإيمان ما استحقوا به اسم الولاية ، والعزة الربانيه ؟ ! ! ولكن هذا إذا كان الخصم يعلم أنه محق في طلبه ، وأن ذلك الحق ثابت له لا محالة ، فإن القاضي : إنما يقضي له بالظاهر الشرعي ، كما ثبت عنه
____________________
(1/263)
[ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم في الصحيحين وغيرهما أنه قال :
' إنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، وإنما أقضي بنحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً ، فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار ' . فهذا يقوله الصادق المصدوق سيد ولد آدم ، المبعوث إلى جميع العالم إنسهم وجنهم ، وقد أخبرنا بأنه إذا قضى بشيء مما سمعه ، وكان الباطل بخلافه لم يجز للمحكوم له أن يأخذه بل هو قطعة من النار فكيف بمن هو مظنة للخطأ ، ومحل للإصابة تارة ولغيرها أخرى ، وبمن لا عصمة له ، ولا وحي ينزل عليه ؟ ! ! . وقد صح [ عنه صلى الله عليه وسلم ] في الصحيحين وغيرهما أنه قال :
إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر . فكل حاكم من حكام المسلمين [ يتردد ] حكمه بين الصواب والخطأ ، ولكنه مأجور على كل حال ، لأن ذلك فرضه الواجب عليه ، ولا يحل للمحكوم له أين يستحل مال خصمه بمجرد الحكم ، كما قضى به رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في أحكامه الشريفة فكيف بأحكام غيره من حكام أمته ؟ ! ! . وقد ثبت في السنن وغيرها عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] :
' إن
____________________
(1/264)
القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة ، فالذي في الجنة رجل علم بالحق وقضى به والقاضيان [ اللذان ] هما في النار : رجل قضى للناس بجهل فهو في النار ، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار ' . وبهذا تعرف أن الخصم المحاكم للولي ، إذا كان يعلم أنه لا حق له عليه وأن دعواه باطلة ، فهو داخل تحت قوله : ' من عادى لي ولياً ' لأن دعواه الباطلة على الولي معاداة له ظاهرة ، فاستحق الحرب الذي توعده الله سبحانه به في هذا الحديث . وأما القاضي إذا قضى عليه بما هو في ظنه [ حق ] [ موافق ] للكتاب والسنة ، واجتهد في البحث والفحص ، وكان أهلا للحكم فليس ذلك منه معاداة للولي ، وليس عليه من تأذيه بحكمه شيء ، فهو قد حكم بالشريعة المطهرة واستحق أجرين أو أجراً ، وامتثل ما أرشده إليه الصادق المصدوق [ صلى الله عليه وسلم ] . وها هنا نكتة ينبغي التنبه لها من كل أحد من أهل العلم ، وهي أن لفظ الشريعة إن أريد به الكتاب والسنة ، لم يكن لأحد من أولياء الله تعالى ولا من غيرهم أن يخرج منه ، ولا يخالفه بوجه من الوجوه ، وإن أريد به حكم الحاكم فقد يكون صواباً ، وقد يكون خطأ كما بينه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله
____________________
(1/265)
وسلم في الحديث السابق بالمعنى الأول . [ و ] ليس لأحد أن يخرج عنه ، ومن خرج عنه فهو كافر : ومن ظن أن لأحد من أولياء الله سبحاه طريقاً إلى الله تعالى غير الكتاب والسنة ، واتباع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم فهو كاذب . وقد غلط كثير من الناس فجعلوا الشريعة شاملة للقسمين ، وما أقبح هذا الغلط ، وأشد عاقبته ، وأعظم خطره . السكونيات ، والدينيات في القرآن الكريم : وكما وقع الاشتباه بين هذين القسمين ، وقع الاشتباه أيضاً بين شيئين آخرين ، وإن كانا خارجين عما نحن بصدده وهو الفرق بين الإرادة الكونية ، والإرادة الدينية ، وبين الأمر الكوني ، والأمر الديني ، وبين الإذن الكوني والإذن الديني ، وبين القضاء الكوني والقضاء الديني ، والبعث الكوني ، والبعث الديني ، والإرسال الكوني ، والإرسال الديني ، والجعل الكوني ، والجعل الديني ، والتحريم الكوني ، والتحريم الديني ، وبين الحقيقة الكونية ، والحقيقة الدينية .
____________________
(1/266)
والفرق بين هذه الأمور واضح ، وإن اشتبه على طائفة من أهل العلم فخبطوا ، وخلطوا . وبيان ذلك أن الله سبحانه له الخلق والأمر ، كما قال : ! ( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ) ! . فهو سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه لا خالق غيره ولا رب سواه ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن . وكل ما في الوجود من حركة وسكون بقضائه وقدره ومشيئته وقدرته وإرادته وخلقه ، وهو سبحانه أمر بطاعته وطاعة رسوله ، ونهى عن الشرك بالله سبحانه . فأعظم الطاعات التوحيد له والإخلاص ، وأعظم المعاصي الشرك ! ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) ! وقال سبحانه ! ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ) ! . وفي الصحيحين وغيرهما عن ابن مسعود قال : ' قلت يا رسول الله
____________________
(1/267)
أي الذنب أعظم ؟ قال : أن تجعل لله نداً وهو خلقك . قلت : ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن تطعمه معك . قلت ثم أي ! . قال : أن تزني بحليلة جارك ' . فأنزل الله تصديق ذلك : ( والذين لا يدعون مع الله إله آخر ، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً ، يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مُهانا . إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً ، فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ، وكان الله غفوراً رحيما ) . وأمر الله سبحانه بالعدل والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، وأخبر أنه يحب المتقين ، [ و ] المحسنين ، ويحب التوابين ويحب المتطهرين ، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص ، وهو يكره ما نهى عنه ، كما قال : ! ( كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ) ! . وقد نهى عن الشرك وعقوق الوالدين ، وأمر بإيتاء ذي الحقوق ، ونهى عن التبذير والتقتير ، وأن يجعل يده مغلولة إلى عنقه ، وأن لا يبسطها كل البسط . ونهى عن قتل النفس بغير حق وعن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن إلى أن قال : ! ( كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ) ! .
____________________
(1/268)
وهو سبحانه لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر . والعبد مأمور أن يتوب إلى الله سبحانه ، وقال : ! ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) ! . وقال : ( سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين ، الذين ينفقون أموالهم في السراء والضراء ، والكاظمين الغيظ ، والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ، والذين إذا فعلوا فاحشة ، أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ، ومن يغفر الذنوب إلا الله ، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) . فما خلقه الله سبحانه وقدره وقضاه فهو يريده ، وإن كان لا يأمر به ولا يحبه ولا يرضاه ، ولا يثيب أصحابه ، ولا يجعلهم من أوليائه . وما أمر به وشرعه وأحبه ورضيه وأحب فاعله وأثابهم وأكرمهم عليه ، فهو الذي يحبه ويرضاه ، ويثيب فاعله عليه . فالإرادة الكونية ، والأمر الكوني ، وهي مشيئته لما خلقه من جميع مخلوقاته إنسهم وجنهم ، مسلمهم وكافرهم ، حيوانهم وجمادهم ، ضارهم ونافعهم . والإرادة الدينية والأمر الديني : هي محبته المتناولة لجميع ما أمر به وجعله شرعاً وديناً ، فهذه مختصة بالإيمان والعمل الصالح . أمثلة : فمن الإرادة الأولى أعني الكونية قول الله سبحانه : ( فمن يريد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً ،
____________________
(1/269)
كأنما يصعد في السماء ) . وقول نوح : ( ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ) . وقال تعالى : ( وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من وال ) . ومن الإرادة الدينية : قوله : ( فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر ، يريد الله بكم اليسر ، ولا يريد بكم العسر ) وقوله تعالى : ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ، ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون ) . وقوله سبحانه : ( يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ، ويتوب عليكم ، والله عليم حكيم ، والله يريد أن يتوب عليكم ، ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً ، يريد الله أن يخفف عنكم ، وخلق الإنسان ضعيفا ) . وقوله سبحانه : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ، ويطهركم تطهيرا ) . ومن الأمر الكوني : قوله سبحانه ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه
____________________
(1/270)
أن نقول له كن فيكون ) وقوله : ( وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ) وقوله : ( أتاها أمرنا بياتاً أو نهاراً فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس ) . ومن الأمر الديني : قوله سبحانه : ( إن الله يأمر بالعدل ، والإحسان وإيتاء ذي القربى ، وينهى عن الفحشاء والمنكر ، والبغي ) وقوله سبحانه : ( إن الله يأمركم أن تؤدووا الأمانات إلى أهلها ، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيرا ) . ومن الإذن الكوني : قوله تعالى : ( وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ) أي بمشيئته وقدرته ، وإلا فالسحر لا يبيحه الله . وقال تعالى : في الإذن الديني : ( إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيرا وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ) وقال : ( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ) وقال : ( ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله ) . ومن القضاء الكوني : قوله تعالى : ( فقضاهن سبع سموات ) وقوله :
____________________
(1/271)
! ( فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) ! . ومن القضاء الديني : قوله سبحانه ! ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) ! أي أمر وليس المراد قدر فإنهم قد عبدوا غيره كقوله : ! ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) ! . وقول الخليل عليه السلام ! ( أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ) ! وقوله سبحانه : ! ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده ) ! وقوله سبحانه : ! ( قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) ! إلى آخر السورة . ومن البعث الكوني قوله سبحانه : ! ( فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ) ! . ومن البعث الديني : قوله سبحانه : ! ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ) ! .
____________________
(1/272)
وقوله عز وجل : ! ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) ! . ومن الإرسال الكوني : قوله تعالى : ! ( ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا ) ! وقوله : ! ( وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ) ! . ومن الإرسال الديني : قوله سبحانه : ! ( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ) ! . وقلوه تعالى : ! ( إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا ) ! . ومن الجعل الكوني : قوله سبحانه : ! ( وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ) ! . ومن الجعل الديني : قوله سبحانه : ! ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) ! وقوله تعالى : ! ( ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ) ! .
____________________
(1/273)
ومن التحريم الكوني : قوله تعالى : ! ( وحرمنا عليه المراضع من قبل ) ! وقوله سبحانه : ! ( محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ) ! . ومن التحريم الديني : قوله عز وجل : ! ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ) ! وقوله ! ( حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت ) ! وقوله سبحانه : ( قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرما عل طاعم يطعمه ) وقوله تعالى : ! ( قل إنما حرم ربي الفواحش ) ! . فجميع ما تقدم يقال لما كان كونياً منه حقيقة كونية ، ولما كان دينياً منه حقيقة دينية . القدر ونفي احتجاج العصاة به : وإذا عرفت هذا فاعلم أن من ظن أن القدر حجة لأهل المعاصي فقد غلط غلطا بينا ، واقتدى بأهل الكفر الذين حكى الله عنهم ، أنهم قالوا : ( لو شاء الله ما أشركنا ، ولا آباؤنا ، ولا حرمنا من دونه من شيء ) ثم قال :
____________________
(1/274)
! ( كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ) ! . ولو كان القدر حجة لم يعذب الله سبحانه المكذبين للرسل كقوم نوح وعاد وثمود وقوم فرعون وغيرهم . ولم يأمر بإقامة الحدود على العصاة المرتكبين لها ، ولا يحتج أحد بالقدر إلا إذا كان متبعاً لهواه بغير هدى من الله . ومن ظن ذلك فعليه أن لا يذم كافرا ، ولا عاصياً ، ولا يعاقبه إذا اعتدى عليه ، ولا يفرق بين من يفعل الخير ، ومن يفعل الشر ، وهذا خلاف ما تقتضيه عقول جميع العقلاء ، وما تقتضيه جميع كتب الله المنزلة وما تقتضيه كلمات أنبياء الله عليهم السلام . فلا تمسك بعقل ولا شرع ، وقد قال الله سبحانه : ! ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون ) ! . وقال تعالى : ! ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ) ! . وغير ذلك من الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة ، ومن ظن أن في محاجة آدم وموسى حجة للمحتجين بالقدر حيث قال موسى : أنت أبو البشر خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأسجد لك ملائكته ،
____________________
(1/275)
أخرجتنا ونفسك من الجنة . فقال له آدم : أنت الذي اصطفاك الله بكلامه ، وكتب لك التوراة بيده ، فلم تلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق ؟ . قال : فحج آدم موسى ' . هكذا في الصحيحين وغيرهما . ووجه الحديث : أن موسى عليه السلام ، إنما لام أباه آدم عليه السلام لأكله الشجرة التي كانت سبباً لإخراجه ، وذريته من الجنة ، ولم يلمه على كونه أذنب ذنباً وتاب منه ، فإن موسى يعلم أن التائب من الذنب لا يلام . وقد ثبت في الصحيح في الحديث القدسي أنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال :
( يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيراً فليحمد الله سبحانه ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ' . الصحابة رضي الله عنهم ومركزهم من الولاية : ولنرجع إلى شرح الحديث الذي نحن بصدد شرحه فنقول : اعلم أن الصحابة لا سيما أكابرهم الجامعين بين الجهاد بين يدي رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم ، والعلم بما جاء به ، وأسعدهم الله سبحانه من مشاهدة النبوة وصحبة
____________________
(1/276)
رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم في السراء والضراء ، وبذلهم أنفسهم وأموالهم في الجهاد في سبيل الله سبحانه حتى صاروا خير القرون بالأحاديث الصحيحة . فهم خيرة الخيرة ، لأن هذه الأمة هي كما أكرمهم الله به بقوله : كنتم خير أمة أخرجت ، للناس وكانوا الشهداء على العباد كما في القرآن العظيم . فهم خير العباد جميعا ، وخير الأمم سابقهم ولاحقهم ، وأولهم وآخرهم . وهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم ، هم خير فروعهم ، وأفضل طوائفهم إلى يوم القيامة . فتقرر بهذا أن الصحابة رضي الله عنهم خير العالم بأسره من أوله إلى آخره ، لا يفضلهم أحد إلا الأنبياء والملائكة ، ولهذا لم يعدل مثلُ أحد ذهبا مُدَّ أحدهم ، ولا نصيفَه . فإذا لم يكونوا رأس الأولياء ، وصفوة الأتقياء ، فليس لله أولياء ، ولا أتقياء ، ولا بررة ، ولا أصفياء . وقد نطق القرآن الكريم بأن الله قد رضي عن أهل بيعة الشجرة وهم جمهور الصحابة إذ ذاك . وثبت عنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم ثبوتا متواترا أن الله سبحانه اطلع على أهل بدر فقال : ( اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) . وشهد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم لجماعة منهم بأنهم من أهل الجنة . فقوله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم في هذا الحديث :
( من عادى لي وليا ) ، يصدق عليهم صدقا أوليا ، ويتناولهم بفحوى الخطاب . فانظر أرشدك الله إلى ما صارت الرافضة أقماهم الله ، تصنعه بهؤلاء الذين هم
____________________
(1/277)
رؤس الأولياء ورؤساء الأتقياء ، وقدوة المؤمنين ، وأسوة المسلمين ، وخير عباد الله أجمعين من الطعن واللعن والثلب والسب والشتم والثلم ، وانظر إلى أي مبلغ بلغ الشيطان الرجيم بهؤلاء المغرورين المجترئين على هذه الأعراض المصونة المحترمة المكرمة ؟ ! ! . فيالله العجب من هذه العقول الرقيقة ، والأفهام الشنيعة ، والأذهان المختلة ، والإدراكات المعتلة ، فإن هذا التلاعب الذي تلاعب بهم الشيطان يفهمه أقصر الناس عقلا ، وأبعدهم فطانة ، وأجمدهم فهما ، وأقصرهم في العلم باعا ، وأقلهم اطلاعاً . فإن الشطيان لعنه الله سول لهم بأن هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم الذين لهم المزايا التي لا يحيط بها حصر ، ولا يحصيها حد ولا عد ، أحقاء بما يهتكون من أعراضهم الشريفة ، ويجحدون من مناقبهم المنيفة حتى كأنهم لم يكونوا هم الذين أقاموا أعمدة الإسلام بسيوفهم ، وشادوا قصور الدين برماحهم ، واستباحوا الممالك الكسروية والقيصرية ، وأطفأوا الملة النصرانية والمجوسية ، وقطعوا حبائل الشرك من الطوائف المشركة من العرب وغيرهم ، وأوصلوا دين الإسلام إلى أطراف المعمور من شرق الأرض وغربها ، ويمنيها وشمالها ، فاتسعت رقعة الإسلام وطبقت الأرض شرائع الإيمان ، وانقطعت علائق الكفر وانقصمت حباله ، وانفصمت أوصاله ، ودان بدين الله سبحانه الأسود والأحمر ، والوثني ، والملي . فهل رأيت أو سمعت بأضعف من هؤلاء تمييزا ، وأكثر منهم جهلا ، وأزيف منهم رأيا ؟ ! ياالله العجب يعادون خير عباد الله وأنفعهم للدين ، الذي بعث به رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، وهم لم يعاصروهم ، ولا عاصروا من
____________________
(1/278)
أدركهم ، ولا أذنبوا إليهم بذنب ، ولا ظلموهم في مال ، ولا دم ولا عرض ، بل قد صاروا تحت أطباق الثرى وفي رحمة واسع الرحمة منذ مئتين من السنين . وما أحسن ما قاله بعض أمراء عصرنا ، وقد رام كثير من أهل الرفض أن يفتنوه ويوقعوه في الرفض : ' مالي ولقوم بيني وبينهم زيادة على اثنتي عشرة مائة من السنين ' . وهذا القائل لم يكن من أهل العلم بل هو عبد صيَّره مالكه أميراً ، وهداه عقله إلى هذه الحجة العقلية التي يعرفها بالفطرة ، كل من له نصيب من عقل ، فإن عداوة من لم يظلم المعادي في مال ولا دم ولا عرض ، ولا كان معاصرا له حتى ينافسه فيما هو فيه ، يعلم كل عاقل أنه لا يعود على الفاعل بفائدة . هذا على فرض أنه لا يعود عليه بضرر في الدين . فكيف وهو من أعظم الذنوب التي لا ينجي فاعلها إلا عفو الغريم المجني عليه بظلمه في عرضه ؟ ! ! . انظر عافاك الله ، ما ورد في غيبة المسلم من الوعيد الشديد مع أنها ذكر الغائب بما فيه كما صح عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في بيانها لما سأله السائل عن ذلك ثم سأله عن ذكره بما ليس فيه جعل ذلك من البهتان ، كما هو ثابت في الصحيح ، ولم يرخص فيها بوجه من الوجوه . وقد أوضحنا ذلك في الرسالة التي دفعنا بها ، ما قاله النووي وغيره من جواز الغيبة في ست صور ، وزيفنا ما قالوه تزييفاً لا يبقى بعده شك ولا ريب ، ومن يقي في صدره حرج وقف عليها ، فإنه دواء لهذا الداء الذي هلك به كثير من عباد الله سبحانه . فإذا كان هذا حراماً بينا ، وذنباً عظيماً في غيبة فرد من أفراد المسلمين
____________________
(1/279)
الأحياء الموجودين ، فكيف غيبة الأموات التي صح عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] النهي عنها بقوله :
( لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا ' ؟ ! . فيكف إذا [ كان ] هؤلاء المسبوبين الممزقة اعراضهم المهتوكة حرماتهم هم خير الخليقة ، وخير العالم كما قدمنا تحقيقه ؟ ! ! . فسبحان الصبور الحليم ! ! ! . فيا هذا المتجرئ على هذه الكبيرة المتقحم على هذه العظيمة ، إن كان الحامل لك عليها والموقع لك في وبالها هو تأميلك الظفر بأمر دنيوي ، وعرض عاجل ، فاعلم أنك لا تنال منه طائلا ، ولا تفوز منه بنقير ولا قطمير . فقد جربنا وجرب غيرنا من أهل العصور الماضية ، أن من طلب الدنيا بهذا السبب [ الذي ] فتح بابه الشيطان الرجيم ، وشيوخ الملاحدة من الباطنية والقرامطة والإسماعيلية تنكدت عليه أحواله وضاقت عليه معايشه ، وعاندته طالبه وظهر عليه كآبة المنظر ، وقَمَاءةٌ الهيئة ورثاثة الحال ، حتى يعرفه غالب من رآه أنه رافضي ، وما علمنا بأن رافضيا ، أفلح في ديارنا هذه قط . وإن كان الحامل لك على ذلك الدين فقد كذبت على نفسك ، وكذبك شيطانك وهو كذوب . فإن دين الله هو كتابه وسنة رسوله ، فانظر هل ترى فيهما إلا الإخبار
____________________
(1/280)
لنا بالرضى عن الصحابة ، [ وأنهم ] أشداء على الكفار ، وأن الله يغيظ [ بهم ] الكفار ، وأنه لا يلحق بهم غيرهم ، ولا يماثلهم سواهم ؟ ! ! . وهم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا ، وأنفقوا بعده كما حكاه القرآن الكريم ، وهم الذين جاهدوا في الله حق جهاده ، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيله . وهم الذين قاموا بفرائض الدين ، ونشروها في المسلمين ، وهم الذين وردت لهم في السنة المطهرة المناقب العظيمة ، والفضائل الجسيمة عموما وخصوصا . ومن شك في هذا نظر في دواوين الإسلام ، وفيما يلتحق بها من المسندات والمستدركات والمعاجيم ، ونحوها فإنه سيجد هنالك ما يشفي عِلَلَه ويروى غَلَلًه ويرده عن غوايته ، ويفتح له أبواب هدايته . هذا إذا كان يعرف أن الشريعة الإسلامية هي الكتاب والسنة وأنه لا شريعة بين أظهرنا من الله ورسوله إلا ذلك . فإن كان لا يدرى بهذا ويزعم أن له سلفاً في هذه المعصية العظيمة والخصلة الذميمة ، فقد غره الشيطان بمخذول مثله ، ومفتون مثل فتنته ، وقد نزه الله عز وجل علماء الإسلام سابقهم ولاحقهم ومجتهدهم ، ومقلدهم عن الوقوع في هذه البلية الحالقة للدين المخرجة لمرتكبها من سبيل المؤمنين إلى طريق الملحدين .
____________________
(1/281)
موقف أهل البيت من الصحابة : فإن زعم أنه قد قال بشيء من هذا الضلال المبين قائل من أهل البيت المطهرين ، فقد افترى عليهم الكذب البين ، والباطل الصُّراحَ . فإنهم مجمعون سابقهم ولاحقهم ، على تعظيم جانب الصحابة الأكرمين ، ومن لم يعلم بذلك فلينظر في الرسالة التي ألفتها في الأيام القديمة التي سميتها ( إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي ) . فإني نقلت فيها نحو أربعة عشر إجماعا عنهم من طرق مروية عن أكابرهم وعن المتابعين لهم المتمسكين بمذهبهم . فيا أيها المغرور بمن اقتديت ، وعلى من اهتديت ، وبأي حبل تمسكت وفي أي طريق سلكت . يالك الويل والثبور ، كيف أذهبت دينك في أمر يخالف كتاب الله سبحانه ، وسنة رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] ، ويخالف جميع المسلمين منذ قام الدين إلى هذه الغاية ، وكيف رضيت لنفسك بأن تكون خصما لله سبحانه ولكتابه ولرسوله [ صلى الله عليه وسلم ] ، ولسنته ولصحابته ولجميع المسلمين ؟ ! ! أين يتاه بك ، وإلى أي هوة يرمى بك ، أما يخرج نفسك من هذه الظلمات المتراكمة إلى أنوار هذا الدين الذي جاءنا به الصادق المصدوق عن رب العالمين ، وأجمع عليه المسلمون أجمعون ، ولم يخالف فيه مخالف يعتد به في إجماع المسلمين اللهم إلا أن يكون رافضيا خبيثا ، أو باطنيا ملحدا ، أو قَرْمَطِيًّا جَاحِداً أو زنديقياً معانداً .
____________________
(1/282)
وها هنا دقيقة نرشدك إليها إن بقي لك طريق إلى الرشاد وفهم [ إلى ما إليه العقلاء تنقاد ] . مبدأ الباطنية ، وكيف قاموا : اعلم أن بقايا المجوس ، وطوائف الشرك والإلحاد لما ظهرت الشريعة الإسلامية وقهرتهم الدولة الإيمانية والملة المحمدية ، ولم يجدوا سبيلا إلى دفعها بالسيف ولا بالسنان ، ولا بالحجة والبرهان ، ستروا ما هم فيه من الإلحاد والزندقة بحيلة تقبلها الأذهان وتذعن لها العقول . فانتموا إلى أهل البيت المطهرين ، وأظهروا محبتهم وموالاتهم ، كذبا وافتراء وهم في الباطن أعظم أعدائهم ، وأكبر المخالفين [ لهم ] . ثم كذبوا على أكابرهم الجامعين بين العلم والدين المشهورين بالصلاح والرشد ، فقالوا : قال الإمام فلان كذا ، وقال الإمام فلان كذا ، وجذبوا جماعة من العامة الذين لا يفهمون ولا يعقلون ، فتدرجوا معهم بدعوات معروفة ، وسياسات شيطانية .
____________________
(1/283)
وما زالوا ينقلونهم من رتبة إلى ربتة ، ومن درجة إلى درجة حتى أخرجوهم إلى الكفر البَوَاح ، والزندقة الحضة ، والإلحاد الصُّرَاح . فعند ذلك ظهرت لهم دول : منها دولة اليمن التي قام بها ( علي ابن الفضل ) الملحد الكافر كفرا أقبح من كفر اليهود والنصارى والمشركين . ونعق بالإلحاد على منابر المسلمين في غالب الديار اليمنية ، وصيرها كفرية إلحادية باطنية . وكذلك ( منصور بن حسن ) الخارج معه من عند رأس الملحدة : ( ميمون القداح ) فملك بعض الديار اليمنية ، واستوطن الحصن العظيم في
____________________
(1/284)
مغارب اليمن ، وهو حصن مَسْوَرْ ونشر الدعوة الباطنية بالسيف كما نشرها ( علي ابن الفضل ) ولكنه كان في إظهار الكفر والإلحاد دون علي بن الفضل ثم بقيت بعده بقايا يتناوبون هذه الدعوة الملعونة ، يقال لهم الدعاة . ومنهم الملك الكبير ( علي بن محمد الصُّليحي ) القائم بملك غالب الديار اليمنية . وبقيت الدولة فيهم حيناً من الدهر ، ولكن الله حافظ دينه ، وناصر شريعته . فإنه كان في جهات اليمن الجبالية ، دولة لأولاد ( الإمام الهادي يحيى ابن الحسين ) رحمه الله ، فصاولوهم ، وجاولوهم ، وقاتلوهم في معركة بعد معركة ، وموطن بعد موطن حتى كفوهم عن كثير من البلاد ، وبقي للإسلام رسم ، وللدين اسم . ولولا أن الله حفظ دينه بذلك لصارت اليمن بأسرها قرمطية باطنية . ثم جاءت بعد حين من الدهر دولة الإمام الأعظم ( صلاح الدين محمد بن علي )
____________________
(1/285)
وولده المنصور ( علي بن صلاح ) فقلقلهم وزلزلتهم ، وأجرجتهم من معاقلهم وشردتهم في أقطار الأرض ، وسفكت دماءهم في كثير من المواطن . ولم يبق منهم بعد ذلك إلا بقايا حقيرة قليلة ذليلة تحت أذيال التَّقيَّة وفي حجاب التستر ، والتَّظَهُّر بدين الإسلام إلى هذه الغاية . والرجاء في الله عز وجل ، أن يستأصل بقيتهم ، ويذهبهم بسيوف الإسلام وعزائم الإيمان ، وما ذلك على الله بعزيز . هذا ما وقع من هذه الدعوة الملعونة في الديار اليمنية ، وأما في غيرها ، فأرسل ميمون القداح رجلا أصله من اليمن يقال له أبو عبد الله الداعي إلى بلاد المغرب فبث الدعوة هنالك ، وتلقاها ، رجال من أهل المغرب من قبيلة كُتَامة وغيرهم من البربر فظهرت هنالك دولة قوية . ولم يتم لهم ذلك إلا بإدخال أنفسهم في النسب الشريف العلوي الفاطمي . ثم طالت ذيول هذه الدولة المؤسسة على الإلحاد ، واستولت على مصر ثم الشام ثم الحرمين ، في كثير من الأوقات . وغلبوا خلفاء بني العباس على كثير من بلادهم حتى أبادتهم الدولة الصلاحية [ دولة ] صلاح الدين بن أيوب . فكان من أعجب الاتفاق أن القائم بمصاولتهم ومحو دولتهم في اليمن
____________________
(1/286)
الإمام صلاح الدين وولده ، والقائم بمحو دولتهم في مصر السلطان صلاح الدين ابن أيوب . وظهرت من هذه الدعوة الإلحادية دولة القرامطة ، أبو طاهر القرمطي ، وأبو سعيد القرمطي ، ونحوهم ووقع منهم في الإسلام وأهله من سفك الدماء ، وهتك الحرم ، وقتل حجاج بيت الله مرة بعد مرة ، ما هو معلوم لمن يعرف علم التاريخ ، وأحوال العالم . وأفضى شرهم إلى دخول الحرم المكي ، والمسجد الحرام ، وقتلوا الحجاج في المسجد الحرام حتى ملأوه بالقتلى ، وملأوا بئر زمزم ، وصعد شيطانهم القرمطي على البيت الحرام وقال : ( ولو كان هذا البيت لله ربنا ** لصب علينا النار من فوقنا صباً ) ( لأنا حججنا حجة جاهلية ، ** محللة لم تبق شرقا ولا غربا ) وقال مخاطبا للحجاج : يا حمير أنتم تقولون من دخله كان آمنا ، ثم قلع الحجر الأسود وحمله معه إلى هجر . فانظر ما وصلت إليه هذه الدعوة الملعونة ؟ ! .
____________________
(1/287)
ثم أطفأ الله شرهم ، وأخذتهم في آخر المدة جيوش التتر الخارجين على الإسلام ، فكان في تلك المحنة محنة أذهب الله بها هذه الطائفة الخبيثة . ثم عاد الإسلام كما كان . ودخل في الإسلام ملوك التتر ، وكانت العاقبة للدين ، ودفع الله عن الإسلام جميع المارقين منه والخارجين عليه ! ( ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ) ! . ! ( يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم ) ! . وإنما قصصنا عليك ما قصصناه أيها الرافضي المعادي لصحابة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولسنته ، ولدين الإسلام ، لتعلم أنه لا سلف لك إلا هؤلاء القرامطة والباطنية ، والإسماعيلية الذين بلغوا في الإلحاد وفي كياد الإسلام ، ما لم يبلغ إليه أحد من طوائف الكفر . فإن عرفت أنك على ضلال مبين ، وغرور عظيم ، وأن سلفك الذين اقتديت بهم وتبعت أثرهم هم البالغون في الكفر إلى هذه المبالغ التي لم يطمع فيها الشيطان . فربما تنتبه من هذه الرقدة ، وتستيقظ من هذه الغفلة ، وترجع إلى الإسلام وتمشي على هديه القويم ، وصراطه المستقيم . فإن أبيت إلا العناد ، والخروج من طرق الرشاد إلى طرق الإلحاد ، فعلى نفسها براقش تجنى ، ولا يظلم ربك أحدا ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ، واختر لنفسك ما يحلو .
____________________
(1/288)
كراهة الرافضة للصحابة أريد به هدم السنة : واعلم أن لهذه الشنعة الرافضيّة ، والبدعة الخبيثة ذيلا هو أشر ذيل وويلا هو أقبح ويل . وهو أنهم لما علموا أن الكتاب والسنة يناديان عليهم بالخسار ، والبوار بأعلا صوت ، عادوا السنة المطهرة ، وقدحوا فها ، وفي أهلها بعد قدحهم في الصحابة رضي الله عنهم . وجعلوا المتمسك بها من أعداء أهل البيت ومن المخالفين للشيعة لأهل البيت . فأبطلوا السنة المطهرة بأسرها ، وتمسكوا في مقابلها ، وتعوضوا عنها بأكاذيب مفتراة مشتملة على القدح المكذوب المتفرى في الصحابة وفي جميع الحاملين للسنة المهتدين بهديها ، العاملين بما فيها الناشرين لها في الناس من التابعين وتابعيهم إلى هذه الغاية ، وسَمَوُهم بالنَّصب ، والبغض لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ولأولاده . فأبعد الله الرافضة ، وأقماهم . أيبغض علماء السنة المطهرة هذا الإمام الذي تعجز الألسن عن حصر مناقبه مع علمهم بما في كتب السنة المطهرة ، من قوله [ صلى الله عليه وسلم ] :
( لا يحبك إلا مؤمن ، ولا يبغضك إلا منافق )
____________________
(1/289)
وما ثبت في السنة من أنه يحبه الله سبحانه ورسوله [ صلى الله عليه وسلم ] ؟ يا لهم الويل الطويل ، والخسار البالغ . أيوجد مسلم من المسلمين ، وفرد من أفراد المؤمنين بهذه المثابة ، وعلى هذه العقيدة الخبيثة ؟ ! ! سبحانك هذا بهتان عظيم ، ولكن الأمر كما قلت : ( قبيحٌ لا يماثله قبيحٌ ** لعمر أبيك دينُ الرافضينا ) ( أذاعوا في على كل نكر ** وأخفوا من فضائله اليقينا ) ( وسبُّوا لا رَءَوْا أصحاب طه ** وعادوا من عداهم أجمعينا ) ( وقالوا دينهم دين قويم ** ألا لعن الإله الكاذبينا ) وكما قلت : ( تَشَيُّعُ الأقوام في عصرنا ** منحصر في أربع من بدع ) ( عداوة السنة والثلب للأسلاف ** والجمع وترك الجَمعُ ) وكما قال بعض المعاصرين لنا : ( تعالوا إلينا أخوة الرفض إن تكن ** لكم شِرعةُ الإنصاف ديناً كديننا ) ( مدحنا علياً ، فوق ما تمدحونه ** وعاديتمُ أصحابَ أحمد دوننَا ) ( وقلتم بأن الحق ، ما تصنعونه ** إلا لعن الرحمن منا أضلَّنا ) نصيب العلماء العاملين من الولاية : ومن جملة أولياء الله سبحانه الداخلين تحت قوله : ' من عادى لي وليا ' العلماء العاملون . فهم كما قال بعض السلف إن لم يكونوا هم أولياء الله
____________________
(1/290)
سبحانه فما لله أولياء . فإذا فتح الله عليهم بالمعارف العلمية ، ثم منحهم العمل بها ، ونشرها في الناس ، وإرشاد العباد إلى ما شرعه الله لأمته ، والقيام بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، فهذه رتبة عظيمة ، ومنزلة شريفة ، ولهذا ورد أنهم ورثة الأنبياء . وهم الذين قال الله سبحانه فيهم : ! ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) ! فبيان الرفعة لهم بأنها درجات يدل أَبْينَ دلالة ، وينادي أرفع نداء ، بأن منزلتهم عند الله سبحانه منزلة لا تفضلها إلا منازل الأنبياء . وهم الذين قرن الله سبحانه شهادتهم بشهادته ، وشهادة ملائكته فقال : ( شهد الله أنه لا إله إلا هو ، والملائكة ، وأولوا العلم ) وهم الذين قال الله سبحانه فيهم : ! ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) ! فحصر خشيته التي هي سبب الفوز عنده عليهم حتى كأنه لا يخشاه غيرهم . وهم الذين أخذ الله عليهم الميثاق ، أن يبينوا لعباده ما شرعه لهم فقال : ! ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ) ! فهم أمناء الله سبحانه على شريعته .
____________________
(1/291)
وهم المترجمون لها لعباده المبينون لمراده . فكانوا من هذه الحيثية كالواسطة بين الرب سبحانه ، وبين عباده لما اختصهم الله به من ميراث النبوة . وهذه منزلة جليلة ، ورتبة جميلة لا تعادلها منزلة ولا تساويها مزية ، فحق على كل مسلم أن يعترف لهم بأنهم أولياء الله سبحانه ، وأنهم المبلغون عن الله وعن رسوله . وأنهم القائمون مقام الرسل في تعريف عباد الله بشرائع الله عز وجل ، إذا كانوا على الطريقة السوية ، والمنهج القويم . متقيدين بقيد الكتاب والسنة مقتدين بالهدى المحمدي ، مُؤثِرِينَ لما في كتاب الله سبحانه ، وفي سنة رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] على زائف الرأي ، وعاطل التقليد . فهؤلاء هم العلماء المستحقون للولاية الربانية ، والمزية الرحمانية ، فمن عاداهم فقد استحق ما تضمنه هذا الحديث من حرب الله عز وجل له وإنزال عقوبته به ، لأنه عادى أولياء الله ، وتعرض لغضب الله عز وجل . أسباب رسوخ العلماء العاملين في الولاية : 1 - ومعلوم أن الانتفاع بعلماء هذه الأمة فوق كل انتفاع ، والخير الواصل منهم إلى غيرهم فوق كل خير ، لأنهم يبينون ما شرعه الله سبحانه لعباده ، ويرشدونهم إلى الحق الذي أمر الله سبحانه به . ويدفعونهم عن البدع التي يقع فيها من جهل الأحكام الشرعية ، ويصاولون أعداء الدين الملحدين ، والمبتدعين ويبينون للناس أنهم على ضلالة ، وأن تمسكهم بتلك البدع إما عن جهل أو عن عناد ، وأنهم ليس بأيديهم شيء من الدين إلا مجرد تشكيكات
____________________
(1/292)
يوقعون فيها المقصرين ، ويجذبونهم إلى باطلهم . 2 - ومن أعظم فوائد علماء الدين لدين الله ولعباد الله أنهم يوضحون للناس الأحاديث الموضوعة المكذوبة على رسول الله كما فعله طوائف من الملحدة ، والمبتدعة والزنادقة ، ويرشدونهم إلى التمسك بما صح من السنة . 3 - وكذلك يوضحون للناس ما وقع من أهل الزيغ ، والعناد من تفسير كتاب الله بأهويتهم وعلى ما يطابق ما هم فيه من البدعة . وذلك كثير جدا يجده الباحث عنه في تفاسير المبتدعة المحرفين لما أراد الله سبحانه ، ولما فسره به رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، وما فسره به الصحابة والتابعون ومن بعدهم من علماء الدين ، وما تقتضيه اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم . فقد ضل كثير من العباد بتحريفات أهل الأهواء وتلاعبهم بالكتاب العزيز ، ورده إلى ما قد دعوا إليه من الباطل المبين ، والزيغ الواضح . وكذلك ضل كثير من الناس بالأحاديث المكذوبة التي انتحلها المبطلون ، وافتعلها المبتدعون .
4 - حمايتهم للأمة من التقليد : وكذلك اغتر كثير من المقصرين بعلم الرأي ، وآثروه على كتاب الله سبحانه ، وعلى سنة رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] ، وهما اللذان أمر الله سبحانه بالرد إليهما عند الاختلاف . قال الله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا
____________________
(1/293)
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله وإلى الرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ) ، والرد إلى الله سبحانه ، هو الرد إلى كتابه ، والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته بعد موته [ صلى الله عليه وسلم ] بلا خلاف في ذلك . بل قد ذهب جمع من العلماء إلى أن أولى الأمر هم العلماء ، ومنهم حَبْرُ الأمة عبد الله بن عباس ، وجابر بن عبد الله ، والحسن البصري ، وأبو العالية ، وعطاء بن أبي رباح ، والضحاك .
____________________
(1/294)
ومجاهد في إحدى الروايتين عنه . وهو إحدى الروايتين عند أحمد ابن حنبل . وقال أبو هريرة وزيد بن أسلم ، والسَّدِّي ومُقاتل : هم الأمراء وهو إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل . وروى أيضاً عن ابن عباس أنهم الأمراء . فعلى القول الأول فيه الأمر بطاعة العلماء بعد طاعة الله ورسوله . وعلى القول الثاني ، فمعلوم أن الأمراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم ، فطاعتهم تبع لطاعة العلماء ، فإن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قد صح عنه أنه قال : ' إنما الطاعة في المعروف ' والمعروف إنما يعرفه العلماء ، وصح عنه [ صلى الله عليه وسلم ] أنه قال : ' لا طاعة في معصية الله ' . والفرق بين الطاعة والمعصية إنما يعرفه العلماء . فطاعة الأمر لا تجب إلا إذا أمروا بما بينه لهم
____________________
(1/295)
العلماء من أنه من المعروف غير المنكر ، ومن الطاعة غير المعصية . قال الشافعي رحمه الله الله فيما صح عنه : ' أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس . قال أبو عمر بن عبد البَرِّ : ' أجمع الناس على أن المُقَلَّدَ ليس معدوداً من أهل العلم ' . فإن العلم معرفة الحق بدليله . فقد تضمن هذان الإجماعان ، إخراج المتعصب المقدم للرأي على كتاب الله ، أو سنة رسوله . وإخراج المقلد الأعمى عن زمرة العلماء . وقد قدم الأئمة الأربعة الحديث الضعيف على الرجوع إلى الرأي كما روى عن الإمام أبي حنيفة ، أنه قدم حديث القهقهة في الصلاة على محض القياس مع أنه قد وقع الإجماع من أئمة الحديث على ضعفه ، وقدم حديث الوضوء بنبيذ التمر على القياس ، وجمهور المحدثين يضعفونه وقدم حديث : ' أكثر الحيض عشرة أيام ' وهو ضعيف بلا خلاف بين أهل الحديث ، وقدم حديث ' لا مهر دون عشرة دراهم ' وهو ضعيف باتفاق المحدثين .
____________________
(1/296)
وقدم الإمام مالك بن أنس المرسل ، والمنقطع ، والبلاغات وقول الصحابي على القياس ، وقدم الشافعي حديث تحريم صيد وَجِّ على القياس مع ضعفه . وقدم الإمام أحمد بن حنبل ، الضعيف ، والأثر المرسل ، وقول الصحابي على القياس . وأما الصحابة الذين هم خير القرون ، [ والتابعون ] ، وتابعوهم ، فكانوا
____________________
(1/297)
لا يفتون إلا بما صح من النصوص ، وقد يتورعون عن الفتيا مع وجود النص كما هو منقول عن غالبهم في كتب الحديث ، والتاريخ . ويغني الحريص على دينه قول الله سبحانه : ! ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) ! . فقرن التقول على الله بما لم يقل ، بالفواحش ، والإثم والبغي بغير الحق ، والشرك بالله ، وهذا زَجْرٌ لمن نصب نفسه للإفتاء أو القضاء ، وهو غير عالم بكتاب الله وسنة رسوله ، تقشعر له الجلود وترجف منه الأفئدة . وهو يَعُمُّ التَّقَوُّلَ على الله سبحانه بلا علم سواء كان في أسمائه أو صفاته أو أفعاله ، أو في دينه وشرعه . وقال الله سبحانه : ! ( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم ) ! . فنهاهم الله سبحانه عن الكذب عليه في أحكامه ، وقولهم لما لم يحرمه : هذا حرام ولما لم يحله هذا حلال . وبين لهم أنه لا يجوز للعبد أن يقول هذا حلال وهذا حرام إلا إذا علم بأن الله سبحانه أحله ، وحرمه ، وإلا كان مقتولا على الله بما لم يقل . ومعلوم أن المستدل بمجرد محض الرأي لا يعلم بما أحله الله وحرمه . فإن
____________________
(1/298)
زعم ذلك فهو كاذب على الله تعالى ، وعلى نفسه التي قادته إلى هذا الافتراء وأوقعته في هذا الذنب العظيم . والمقلد يقر على نفسه أنه لا يعقل حجج الله ولا يفهم براهينه ، ولا يدرى بما شرعه الله لعباده في كتابه ، وعلى لسان رسوله . بل هو تابع لرأي من قلده مقر على نفسه بأنه لا يدرى هل الرأي الذي قلده فيه من الحق أو من الباطل . ومن الزواجر عن التمسك بمحض الرأي ، وبحت التقليد ، قول الله سبحانه : ! ( قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون ) ! . وقال الإمام الشافعي فيما رواه عنه الخطيب ، في كتاب الفقيه ، والمتفقه له : ' لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله ، إلا رجل عارف لكتاب الله ناسخة ومنسوخة ومحكمة ومتشابهه ، وتأويله ، وتنزيله ، ومكية ومدنية ، وبعد ذلك يَكون بصيراً بحديث رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، وبالناسخ ، والمنسوخ منه ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن ،
____________________
(1/299)
ويكون بصيراً باللغة ، بصيراً بالشعر ، وما يحتاج إليه للعلم ، والقرآن ، ويستعمل هذا مع الإنصاف . ويكون مشرفاً على اختلاف أهل الأمصار ، ويكون له قريحة بعد هذا ، فإذ كان هكذا فله أن يتكلم في الحلال ، والحرام ، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يُفتى ' . انتهى . الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله في مسائل الدين هو الطريقة العلمية : والحاصل أن كل ما لم يأت به الكتاب والسنة فهو من هو هوى الأنفس كما قال الله سبحانه : ! ( فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) ! . فقسَّم سبحانه الأمر إلى قسمين لا ثالث لهما : إما الاستجابة لله وللرسول باتباع الكتاب والسنة ، أو اتباع الهوى . فكل ما لم يكن في الكتاب والسنة فهو من الهوى ، كما قال تعالى : ( ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ' .
____________________
(1/300)
فقسم سبحانه الحكم بين الناس إلى أمرين : إما الحكم بالحق الذي جاء به الكتاب والسنة ، أو الهوى ، وهو ما خالفهما . وقال سبحانه لنبيه [ صلى الله عليه وسلم ] : ! ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين ) ! وقال سبحانه : ! ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون ) ! . وقد أجمع الناس سابقهم ولاحقهم أن الرد إلى كتاب الله سبحانه وإلى سنة رسوله ، هو الواجب على جميع المسلمين . ومن رد إلى غيرهما فهو عاص لله ورسوله مخالف للكتاب العزيز ، والسنة المطهرة . ولا فرق بين التنازع في الحقير والكثير . فإن قوله : فإن تنازعتم في شيء . نكرة في سياق الشرط ، وهي من صيغ العموم ، فتشمل كل ما يصدق [ عليه ] الشيء من الأشياء الشرعية . فالواجب عند التنازع فيه رده إلى ما أمر الله بالرد إليه بقوله فردوه إلى الله والرسول ، ثم قال : ! ( إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) ! .
____________________
(1/301)
فجعل هذا الرد من موجبات الإيمان ، وعدمه من موجبات عدمه . فإذا انتفى الرد انتفى الإيمان . وقال سبحانه : ! ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) ! ، فأخبر سبحانه ، أنه ما صح ولا استقام لأحد من المؤمنين والمؤمنات أن يختار غير ما قضى به الله ورسوله . وقال سبحانه : ! ( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم ) ! : أي لا تقدموا بأقوالكم بين يدي قول الله ورسوله ، بل قولوا كما يقول الله ورسوله . ومعلوم أن فتيا المفتي بغير الكتاب والسنة وما يرجع إليهما [ هي ] فتيا ، بالجهل الذي حذر منه [ صلى الله عليه وسلم ] ، وأنذر به ، كما في الصحيحين وغيرهما من قوله : ' إن الله لا ينزع العلم بعد إذ أعطا كموه انتزاعا ، ولكن ينزعه مع قبض العلماء بعلمهم ، فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون ' . وفي حديث عوف بن مالك الأشجعي قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] :
( تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة قوم يقيسون لدين برأيهم يحرمون ما أحل الله ، ويحلون ما حرم الله ) . قال أبو عمرو
____________________
(1/302)
ابن عبد البر : ' هذا هو القياس على غير أصل ، والكلام في الدين بالخرص والظنة ' . وقد ثبت عن أكابر الصحابة الخلفاء الأربعة وغيرهم ذم الرأي ومقت العامل به ، وأنه ليس من الدين في شيء . وقد استوفى ذلك الحافظ ابن عبد البر في كتاب ( العلم ) ، وجمع ما لم يجمعه غيره . والرأي إذا كان في معارضة أدلة الكتاب والسنة أو كان بالخرص والظن مع التقصير عن معرفة النصوص ، أو كان متضمناً تعطيل أسماء الله تعالى ، وصفاته ، أو كان مما أحدثت به البدع وغيرت به السنن ، فلا خلاف بين المسلمين في أنه باطل وأنه ليس من الدين في شيء . وإذا كان مبنياً على قياس على دليل في الكتاب والسنة ، فإن كان بتلك المسالك التي لا ترجع إلى شيء ، إنما هي مجرد تظنن وتخمين فهو أيضا باطل . وإن كان مع القطع بنفي الفارق ، أو كان ثبوت الفرع بفحوى الخطاب أو كانت العلة منصوصة ، فهذا وإن أطلق عليه اسم القياس فهو داخل تحت دلالة الأصل مشمول بما دل عليه مأخوذ منه . وتسميته قياساً إنما هو مجرد اصطلاح . وقد أوضحت الكلام على هذا في كتابي الذي سميته ( إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ) .
____________________
(1/303)
حقيقة المقلد والتقليد وحكمهما : وإذا عرفت ما ورد في ذم الرأي وذم التقول على الله بما لم يقل فاعلم أن التقليد كما قدمنا ، إنما هو قبول رأي الغير دون روايته ، فالمقلد إنما يقال له مقلد في اصطلاح أهل الأصول . والفروع إذا وقع منه التقليد للعالم في رأيه ، وأما إذا أخذ عنه الرواية عن الحكم في كتاب الله سبحانه أو في سنة رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] ، فليس هذا من التقليد في شيء . وإذا كان التقليد هو ما ذكرناه فهو مذموم من جهتين : الأولى : أنه عمل بعلم الرأي ، وقد تقدم في ذمه وعدم جواز الأخذ به ما تقدم . الثانية : أنه عمل بالرأي على جهل لأنه مقلد لصاحب ذلك الرأي ، وهو لا يدري أكان ذلك الرأي من صاحبه على صواب أم على خطأ ، باعتبار علم الرأي فإن له قوانين عند أهله من وافقها أصاب الرأي ومن أخطأها أخطأ الرأي ، والكل ظلمات بعضها فوق بعض . وقد جاءت الأدلة القرآنية بذم تقليد الآباء فقال : ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ، أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ، ولا يهتدون ) . وقال سبحانه : ( وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة ، وإنا على آثارهم مقتدون ، قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم ) .
____________________
(1/304)
وقال عز وجل : ! ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا ) ! . وفي القرآن الكريم من هذا الجنس آيات كثيرة ، وهي وإن كان موردها في الكفار ، فالمراد بها ، وبأمثالها ذم من أعرض عما أنزله الله سبحانه ، وأخذ بقول سلفه . واللفظ أوسع مما هو سبب النزول والاعتبار به كما تقرر في الأصول . فمن وقع منه الإعراض عما شرعه الله ، وقدم عليه ما كان عليه سلفه فهو داخل تحت عموم هذه الآيات . ومما يدل على ذم التقليد قوله سبحانه : ! ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) ! والمقلد قد قفا ما ليس له به علم . وقال سبحانه : ! ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ) ! . والمقلد لا يدري بما أنزل الله حتى يتبعه ، بل تبع الرأي وهو غير ما أنزل الله ، واتبع من دونه من قلده فقد اتبع من دونه أولياء ، والمقلد أيضا لا علم له ، فإذا أخذ برأي من قلده كان ذلك من التقول على الله بما لم يقل ومن الرد إلى غير الله ورسوله ، وقد قال سبحانه : ! ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) ! .
____________________
(1/305)
وقال : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) وقد قدمنا تقرير معنى الآيتين . ومن ذلك قوله عز وجل : ! ( وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ) ! . قال أبو عمرو بن عبد البر : ' قد ذم الله تبارك وتعالى التقليد في كتابه في غير موضع فقال : ! ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) ! روى عن حذيفة وغيره أنهم قالوا : لم يعبدوهم من دون الله ، ولكنهم أحلوا لهم وحرموا لهم فاتبعوهم . وقال عدي بن حاتم : يا رسول الله إنا لم نتخذهم أربابا ، قال : بلى أليس يحلون لكم ما حرم الله عليكم فتحلونه ويحرمون عليكم ما أحل الله لكم فتحرمونه ؟ فقلت : بلى . قال : فتلك عبادتهم ، أخرجه أحمد
____________________
(1/306)
والترمذي . قال : وفي هؤلاء ومثلهم قال الله عز وجل : ( إذ تبرأ الذين اتُّبَعُوا من الذين اتَّبَعُوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب . وقال الذين اتَّبَعُوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم ) وقال تعالى : ! ( ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين ) ! . وقال سبحانه : ! ( إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ) ! . ومثل هذا في القرآن كثير من ذم التقليد . وقد احتج العلماء بهذه الآيات على إبطال التقليد ، ولم يمنعهم كفر أولئك من الاحتجاج بها لأن التنبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر . وإنما وقع التنبيه بين المقلدين بغير حجة للمقلد ، كما لو قلد رجلا فكفر ، وقلد آخر فأذنب ، وقلد آخر في مسألة فأخطأ وجهها ، كان كل واحد ملوما على التقليد بغير حجة ، لأن كل تقليد يشبه بعضه بعضا ، وإن اختلفت الآثام فيه . وقال عز وجل : ! ( وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ) ! . قال ' فإذا بطل التقليد بكل ما ذكرنا وجب التسليم
____________________
(1/307)
للأصول التي يجب التسليم لها ، وهي : الكتاب والسنة وما كان في معناهما بدليل جامع ' . قال : قال علي : ' إياكم والاستنان بالرجال فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل النار فيموت وهو من أهل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل الجنة فيموت وهو من أهل الجنة ' قال : وقال ابن مسعود : ' لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن ، وإن كفر كفر فإنه لا أسوة في الشر ' . قال أبو عمرو بن عبد البر : ' وهذا كله نفى للتقليد ، وأبطال له لمن فهمه وهدى لرشده ' . التقليد في نظر العلم والمعرفة : قال : ' قال أهل العلم والنظر : حد العلم التبين ، وإدراك المعلوم على ما هو به فمن بان له الشيء فقد علمه ' ، قالوا : ' والمقلد لا علم [ له ] لم يختلفوا في ذلك ' قال : ' يقال لمن قال بالتقليد لم قلت به ، وخالفت السلف في ذلك ؟ فإنهم لم يقلدوا ؟ . فإن قال [ قلدت ] لأن كتاب الله تعالى لا علم لي بتأويله وسنة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لم أحصها ، والذي قلدته قد علم ذلك فقلدت من هو أعلم مني ' .
____________________
(1/308)
قيل له : ' أما العلماء إذا أجمعوا على شيء من تأويل الكتاب وحكاية السنة أو اجتمع رأيهم على شيء فهو لا شك فيه ، ولكن قد اختلفوا فيما قلدت فيه بعضهم دون بعض ، فما حجتك في تقليد بعضهم دون بعض ؟ وكلهم عالم ولعل الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه ' . فإن قال : قلدته لأني أعلم أنه صواب ، قيل له : ' علمت ذلك بدليل من كتاب أو سنة إجماع ؟ فإن قال نعم أبطل التقيلد وطولب بما ادعاه : من الدليل . وإن قال قلدته لأنه أعلم مني ، قيل له فقلد كل من هو أعلم منك فإنك تجد من ذلك خلقا كثيراً ، ولا تخص من قلدته ' . ثم قال أبو عمرو بن عبد البر بعد كلام ساقه : ' ولكن من كانت هذه حاله هل تجوز له الفتيا في شرائع دين الله فيحمل غيره على إباحة الفروج وإراقة الدماء ، واسترقاق الرقاب ، وإزالة الأملاك ، وتصييرها إلى غير من كانت في يديه بقول لا يعرف صحته ، ولا قام له الدليل عليه وهو مقر ، أن قائله يخطئ ويصيب ، وأن مخالفه في ذلك ربما كان المصيب فيما خالفه فيه ، فإن أجاز الفتوى لمن جهل الأصل والمعنى لحفظه الفروع لزمه أن يجيزه للعامة وكفى بهذا جهلا وردا للقرآن . قال الله عز وجل ! ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) ! . وقال سبحانه : ! ( أتقولون على الله ما لا تعلمون ) ! ! ! وقد أجمع العلماء على أن ما لم يُتَبين ولم يُسْتيقن فليس بعلم ، وإنما هو ظن والظن لا يغني من الحق شيئا .
____________________
(1/309)
ثم قال : ' ولا خلاف بين علماء الأمصار في فساد التقليد ، ثم صرح بأن المقلد ليس من العلماء باتفاق أهل العلم ' . موقف أئمة المسلمين من المقلدين : وقد ذكرنا في الرسالة التي سميناها : القول المفيد في حكم التقليد ، نهى الأئمة الأربعة أئمة المذاهب الأربعة عن تقليدهم ، فلنذكر هاهنا طرفا من ذلك . قال المُزَنِي في أول مختصره : ' اختصرت هذا من علم الشافعي ومن معنى قوله ، لأقرأه على من أراده مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره لينظر فيه لدينه ، ويحتاط لنفسه ' . وحكى ابن القيم عن أحمد بن حنبل أنه قال : ' لا تقلدني ، ولا تقلد
____________________
(1/310)
مالكا ، ولا الثوري ، ولا الأوزاعي ، وخذ من حيث أخذوا ' . قال ' ومن قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال ' . وحكى بشر ابن الوليد عن أبي يوسف القاضي صاحب أبي حنيفة أنه قال لا يحل لأحد أن يقول بمقالتنا حتى يعلم من أين قلنا . وكذلك قال الإمام أبو حنيفة : وقد صح عن الشافعي أنه قال : أجمع الناس على أن من استبانت له سنة عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد . وتواتر عنه أنه قال : ' إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط ' .
____________________
(1/311)
وروى جعفر الفريابي عن مالك أنه قال : من ترك قول عمر بن الخطاب لقول إبراهيم النخعي أنه يستتاب فقيل له : إنما هي رواية عن عمر قال مالك يستتاب . وإذا كان هذا قوله في ترك قول عمر فما تراه يقول في ترك الكتاب والسنة ؟ وتقديم قول عالم من العلماء عليهما ؟ . والحاصل أن النقل عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في المنع من العمل بالرأي ومن تقليد الرجال في دين الله كثير جداً لا يتسع له هذا المؤلف . ويكفي من كان يؤمن بالله واليوم الآخر بعض ما قدمناه من آيات الكتاب العزيز . تناقص المقلد مع نفسه : فإن قال المقلد : قد دل على ذلك دليل قلنا له : ' أنت تشهد على نفسك ويشهد عليك غيرك بأنك لا تعقل الحجة ، وأنك إنما تأخذ برأي غيرك دون روايته فمالك والاستدلال ، وإقامة نفسك مقاما تقر عليها بأنك لست من أهله ، فأنت كالمتشبع بما لم يعط ، وكلابس ثوبَيْ زور ' .
____________________
(1/312)
فإن كنت تفهم حجج الله وتعقل براهينه ، فما بالك إذا أوردنا عليك الحجة من الكتاب أو السنة في إبطال ما أنت عليه رجعت إلى الالتجاء بأذيال التقليد وقلت : إنك لست ممن يفهم الحجة ، ولا ممن يخاطب بها . فما بالك تقدم في دين الله رجلا ، وتؤخر أخرى ؟ ! ! . اعتمد على أيهما شئت حتى تخاطبك خطاب من أقمت نفسك في مقامه . وعند ذلك يسفر الصبح لعينيك ، وتعلم أنك متمسك بحبلٍ غرور . ومصابٌ بخدعٍ زور . ومع هذا فمن صرت تقلده دون غيره يقول لك لا يجوز لك أن تقلده ، فأنت قلدته شاء أم أبى ، ثم أخبرنا ما هو الحامل لك على تقليد هذا الشخص المعين من جملة علماء الدين ، ومنهم علماء الصحابة والتابعين ؟ ! فإن قلت : لكونه أعلم الناس فما يدريك أصلحك الله بالعلم وبالأعلم وأنت تقر على نفسك أنه لا علم لك ؟ . والمسلمون أجمعون يقولون : إنك لا تعد من أهل العلم ، ولا تدخل في عداد أهله . وأيضاً علماء الصحابة أعلم من صاحبك وكذلك علماء التابعين ، فكيف اخترت صاحبك عليهم ؟ . ثم أخبرنا هل وجد في أيام الصحابة . والتابعين مقلد لأحدهم أو لجماعة منهم ، بل لم تحدث بدعة التقليد إلا في القرن الرابع ، ولم يبق إذ ذاك صحابي ولا تابعي .
____________________
(1/313)
ثم هذا الذي قلدته قد خالفه غيره من أهل العلم ، وقال بخلاف ما يقول ، فأخبرنا بم عرفت أن صاحبك المحق دون المخالف له ؟ فإنك تقر على نفسك بأنك لا تعرف ما هو الحق ، ولا من المحق من أهل العلم ، وغيرك من المقلدين يعتقد مثل اعتقادك فيمن قلده فمن المحق منكما ؟ . ومن المصيب للحق من إماميكما ؟ . إن قلتما : لا ندري فما بالكما تقيمان أنفسكما مقام المستدلين بحجج الله وأنتما لا تعرفانها ولا تعقلانها بإقراركما على أنفسكما ؟ . وإن قلتما قد عقلتما الحجة على جواز التقليد فقد فتح الله لكما خوخة من هذه العماية ، ويسر لكما طريقاً إلى الرشاد فأقبلا إلينا نعرفكما ما أنتما عليه من التمسك بالتقليد في الدين دين الله والعمل بالرأي الفايل المخالف للأدلة الشرعية فإنه إن صح لكما ما زعمتماه لا تخالفان في أن الكتاب والسنة مؤثران على ذلك الرأي الذي قلدتما غيركما فيه . وحينئذ قد نجح الدواء وقرب البرء من ذلك المرض الذي أصابكما ، وأيضاً نقول لهذا المقلد المسكين نحن نعلم ، وتعلم أنت إن بقي لك شيء من العقل ونصيب من الفهم أن علماء المسلمين من الصحابة ، والتابعين ومن بعدهم ومن المعاصرين لمن قلدته ومن بعدهم من أئمة العلم أن التجويز فيهم من التردد فيما جاءوا به ، واختاروه لأنفسهم مثل التجويز منك في إمامك . وهذا شيء يعرفه عقلاء المسلمين .
____________________
(1/314)
فما بالك عمدت إلى واحد منهم فقلدته دينك في جميع ما جاء به من الصواب والخطأ ؟ . إن قلت ، لا أدري فنقول : لا دريت . نحن نعرفك بالحقيقة . أنت ولدت في قطر قد قلد فيه أهله عالماً من علماء الإسلام فدنت بما دانوا وقلت بما قالوا ، فأنت من الذين يقولون عند سؤال الملكين سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته فيقال لك : لا دريت ولا تليت وكان الأحسن بك إن كنت ذا عقل وفهم وقد أخذت بأقوال الإمام الذي قلدته أن تضم إلى ذلك قوله : ' إنه لا يحل لأحد أن يقلده ' فما بالك تركت هذا من أقواله ؟ ! . ثم اعلم أنك مسئول يوم القيامة عن دين الله هذا الذي أنزل به كتابه العزيز وبعث به نبيه الكريم فانظر ما أنت قائل ، وبماذا تجيب ؟ إن قلت : أخذت بقول العالم فلان فهذا العالم فلان معك في عرصات القيامة مسئول كما سئلت متعبد بما تعبدك الله به . فإذا قلت : قلدت فلاناً وأخذت بقوله فعبدت الله سبحانه بما أمرني به ، وأفتيت بما قاله وقضيت بما قرره فأبحت الفروج وسفكت الدماء وقطعت الأموال . فإن قيل لك : فعلت هذا بحق أو بباطل ، فما أنت قائل ؟ . وإن قلت : فعلت ذلك بقول فلان فلا بد أن يقال لك : علمت أن قوله صواب موافق لما شرعه الله لعباده في كتابه وسنة رسوله فلا بد أن تقول : لا أدري . فلا دريت ، ولا تليت ، ثم إذا قيل لك في عرصات القيامة أي دليل لك على تخصيص هذا العالم بالعمل بجميع ما قاله ، وتأثيره على قول غيره بل
____________________
(1/315)
على الكتاب والسنة ، هل بعثته نبيا لعبادي بعد محمد بن عبد الله رسولي ؟ أم أمرت عبادي بطاعته كما أمرت عبادي باتباع رسولي فانظر ما أنت قائل . فإن هذا سؤال لا بد أن تسأل عنه ، فإن الله سبحانه إنما بعث إلى عباده رسولا واحداً ، وأنزل إليهم كتاباً واحداً ، وجميع الأمة أولها وآخرها ، سابقها ولاحقها ، متعبدون بما شرعه لهم الله سبحانه في كتابه ، وعلى لسان رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] . ومن جملة من هو متعبد بهذه الشريعة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، فكيف بإمامك الذي هو واحد من العالم ، وفرد من أفراد البشر ؟ ! سبحانك هذا بهتان عظيم . منهج الصحابة والتابعين : ثم انظر يا مسكين في أمر آخر ، وهو أنه قد انقضى ، قبل حدوث هذه المذاهب . خير القرون ثم الذين يلونهم ، ومعلوم لكل من له فهم أنهم كانوا على العمل بالكتاب والسنة ، وكان المقصرون منهم يسألون العلماء عن الحكم الذي يعرض لهم في عبادة أو معاملة ، فيجيبون عليهم بما عندهم من الكتاب والسنة ويروون لهم ما ورد فيهما في تلك المسألة . وأنت تقر بأنهم على هدى وحق ، فانظر في حال من خالف ما كانوا عليه من أهل التقليد الحادث ، واجعل نفسك حيث شئت ، واختر لها ما يحلوا . فإن قلت إمامي قد كان كما كان عليه هؤلاء ، قلنا لك فهل شاركه في ذلك غيره أم لا ، فإن قلت نعم ، قلنا لك فما حملك على الأخذ بقول واحد من أهل العلم دون غيره مع نهيه لك عن تقليده ؟ ! ! . ويقال لهذا المقلد أيضاً إذا أخبرك عالم من علماء الإسلام بأن ما قلدت
____________________
(1/316)
إمامك فيه في المسألة الفلانية ، خلاف ما في كتاب الله و خلاف ما في سنة رسوله ، أو خلاف ما كان عليه الصحابة والتابعون ، فهل أنت تارك لذلك الرأي الذي أخذت به من رأي إمامك أم لا ؟ . إن قلت نعم فقد هديت ورشدت ، ولا نطلب منك غير هذا . فانظر ما عند أكابر علماء عصرك في تلك المسألة التي قلدت إمامك فيها ، واسألهم عن الدليل ، وعما هو الحق المطابق للكتاب والسنة ، واعمل على قولهم ، وعلى ما يرشدونك إليه ، ولا نسأل ، إلا من اشتهر بين الناس بمعرفة الكتاب والسنة . وإن قلت لا ، فاعرف ما أنت عليه ، وما هو الأمر الذي وقعت [ فيه ] واعترف على نفسك بأن رأي إمامك أقدم من كتاب الله ومن سنة رسوله ، وبعد ذلك انظر بعقلك هل أوجب الله عليك اتباع هذا العالم ، والأخذ بجميع ما يقوله ؟ ! ! وأقل حال أن تسأل علماء الدين في هذه المسألة بخصوصها فإنه ينفتح لك عند ذلك باب خير وطريق رشد . فإن أبيت فاعلم أنك قد جعلت إمامك ناسخاً للشريعة المحمدية رافعاً لها ، وليس بعد هذا من الضلال شيء ، وأنت إن أنصفت اعترفت بهذا ، ولم تنكره فإن أنكرته فأخبرني متى آثرت دليلا من كتاب ، أو سنة على قول إمامك وسألت علماء الكتاب والسنة عن مسألة مما أنت عليه ورجعت إلى ما أفتوك به ، وروه لك ؟ ! ! . فإن قلت : أنت لا تعرف الحجة ولا تعلقها ، ولا تدري هل الصواب بيد
____________________
(1/317)
إمامك ، أو بيد من خالفه ، قلنا : فأخبرنا هل أنت على قصورك وجهلك لا يسعك ، ما وسع المقصرين من الصحابة والتابعين ؟ ؟ ! ! فقد كان فيهم من هو كذلك . فإن قلت : وما كانوا يصنعونه إذا احتاجوا إلى العمل في عبادة أو معاملة ؟ قلنا : كانوا يسألون المشتهرين بالعلم عن الشريعة في تلك المسألة ، ويستروونهم النصوص فيروونها لهم . فكن كما كانوا ، واعمل كما عملوا . وإن قلت : لا يسعك ما وسعهم فلا وسع الله عليك . وستعلم سوء مغبة ما أنت فيه وخسار عاقبته ولا يظلم ربك أحدا . معنى الاقتداء بالصحابة ، وموقف المقلد من ذلك : وقد احتج بعض مقصري المقلدة لجواز التقليد بحديث ' أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ' . وهذا الحديث لم يصح عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم ، كما هو معلوم عند أهل هذا الشأن ، فقد اتفقوا على أنه غير ثابت ، ولو سلمنا ثبوته تنزلا فمعناه ظاهر واضح ، وهو الاقتداء بالصحابة في العمل بالشريعة التي تلقوها عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم ، وأخذوها عنه ، فمن اقتدى بواحد منهم فيما يرويه منها عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم فقد اهتدى ورشد ودخل إلى الشريعة من الباب الذي يدخل إليها منه . وليس المراد الاقتداء به في رأيه فإنهم رضي الله عنهم لا أرى لهم يخالف ما بلغهم من الشريعة قط .
____________________
(1/318)
رأى العالم عند فقد الدليل رخصة له فقط : ولو كان مثل هذا حجة في الاقتداء بما ينقل عنهم من الرأي الراجع إلى الكتاب والسنة بقياس صحيح أو نحوه لكان ذلك خاصاً بالصحابة للمزية التي [ لا يساويهم فيها غيرهم ] ولا يلحق بهم سواهم ، مع أنه قد وقع الإجماع من علماء الإسلام جميعا أن رأى العالم عند فقد الدليل إنما هو رخصة له لا يحل لغيره العمل به حسبما قد بيناه ، في مؤلفاتنا بأتم بيان ونقلناه أصح نقل . ثم بعد اللتيا والتي نقول لهذا المستدل بهذا الحديث الذي لم يصح : هب أنه صحيح فهل قلدت صحابياً أم غير صحابي ، وعند ذلك يقف حماره على القنطرة . ومثل هذا لو استدل مستدل منهم بحديث ' عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ' . فإن المراد به الاقتداء بهم في أقوالهم وأفعالهم ، وفي عباداتهم ، ومعاملاتهم ، وهم لا يوقعونها إلا على الوجه الذي أخذوه من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم ، وعرفوه من أفعاله وأقواله ، وقد كان ذلك ديدنهم وهَجِيراهم لا لا يفارقونه قيد شبر ، ولا يخالفونه أدنى مخالفة . فهذا هو المراد بالحديث على ما فيه من المقال ، فإن في إسناده مولى الرِّبعي وهو مجهول ، والمفضل الضبي وليس بحجة . ثم بعد اللتيا والتي نقول للمستدل بذلك فهل قلدت أحد الخلفاء الراشدين أم قلدت غيرهم ؟ .
____________________
(1/319)
وهو لا بد أن يعترف أنه قلد غيرهم ، وأنه أبعد الناس عن اتباع ما كانوا عليه ، وأنه لو جاءه من هديهم الذي كانوا عليه مجلد ضخم يخالف أدنى مسألة مما قلد فيها إمامه لرمى به وراء الحائط ، ولم يلتفت إليه ولا عول عليه . ثم إذا صح هذا الحديث ففيه الإرشاد إلى سنته [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم وسنة خلفائه الراشدين . ومعلوم أن ما كان قد ثبت من سنته لا يخالفه الخلفاء الراشدون ولا غيرهم من الصحابة . بل هم عليه وليس لهم سنة تخالف ما سنه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قط ، ولا سمع عن واحد منهم في جميع عمره أنه خالف سنة ثابتة عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم . منهج الاجتهاد ، هو منهج الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وأصحابه : وإذا عرفت هذا فقد قدمنا من الآيات القرآنية ، والأحاديث الصحيحة ما هو منهج الحق ، ومهيع الشرع ، وهو الأمر الذي كان عليه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم ، وخلفاؤه الراشدون ، وبه تقوم الحجة على كل مسلم ، ومن سنته [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم الصحيحة الثابتة المتلقاة بالقبول قوله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم
( كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد ) . وكل عاقل له أدنى تعلق بعلم الشريعة المطهرة يعلم علماً لا شك فيه ولا شبهة أن التقليد لم يكن عليه أمر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم . وأنه
____________________
(1/320)
حادث بعد مضي عصره [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم ، وعصر أصحابه وعصر التابعين لهم . فهو رد أي مردود مضروب به وجه صاحبه . فإنا نعلم أن الذي كان عليه أمر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم هو العمل بكتاب الله سبحانه ثم بما سنه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم ، وبينه للناس عن أمر الله كما قال : ! ( إن هو إلا وحي يوحى ) ! . وقال : ! ( ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) ! . وقال : ! ( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) ! وقال : ! ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) ! . وقال ! ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) ! . وقال : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية ) . وقال : ! ( إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا ) ! وقال : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيها شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) . وقد تقدم الكلام على بعض هذه الآيات الكريمة .
____________________
(1/321)
ومن سنته [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم التي قال فيها :
( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ) قوله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
( كل بدعة ضلالة ) . والتقليد بدعة لا يخالف في ذلك مخالف ، ولا يشك فيه شاك . فيما أيها المقلد انزع عن غوايتك ، واخرج عن ضلالتك وخلِّص نفسك من بدعتك . ودع عنك التعلق بما لا يسمن ولا يغني من جوع . ( فهذا الحق ليس به خفاء ** ودعني من بُنَيَّاتِ الطريق ) ( فخير الأمور السالفات على الهدى ** وشر الأمور المحدثات البدائع ) فهكذا نقول في حديث ' اقتدوا بالذين بعدي أبو بكر وعمر ' . وحديث ' رضيت لأمتي ما رضى لها ابن أم عبد ' وحديث : ' إن أبا عبيدة ابن الجراح أمين هذه الأمة ' ونحو ذلك من الأحاديث . فالمراد الاقتداء بمن أمرنا بالاقتداء به في أقواله وأفعاله الواردة على الشريعة المطهرة ، وكذلك الرضى بمارضيه ابن مسعود من الأفعال والأقوال الواردة على ما توجبه الشريعة المطهرة .
____________________
(1/322)
وكذلك كون أبي عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة هو لما اختصه الله سبحانه به من عظم الأمانة على الأمور التي من أعظمها هذا الدين القويم والشريعة المباركة . المطلوب من مقلد ومن عوام المسلمين : وقد عرفت ما قدمناه من أنا لا نكلف المقلد أن يعرف نصوص الشريعة حتى يقول : لا أقدر على ذلك ولا أستطيعه ، بل قلنا له دع هذه البدعة الحادثة ، وكن كما كان المقصرون من الصحابة [ والتابعين ] الذين اشتغلوا عن حفظ العلم ، والبلوغ إلى غايته بالأعمال الصالحة ، من جهاد أو عبادة . ولك بهم أسوة وفيهم لك قدوة ، فاسأل أهل العلم كما أمرك الله بسؤالهم بقوله : ! ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) ! واطلب منهم أن يرووا لك ما جاءت به الشريعة في الحادثة التي احتجت إلى السؤال عنها من عبادة أو معاملة . وكل عالم يعلم وإن قلَّ علمه - أنه لم يكن فيهم أحد منتسبا إلى أحد من كبار الصحابة الذين كانوا يروون للناس العلم ويفتونهم به ، كما ينسب بعد حدوث المذاهب كل مقلد إلى من قلده ، بل كان السائل منهم يسأل من يلقاه من المشتهرين بالعلم منهم على كيف ما يتفق له ويأخذ ما يرويه له ، ويفتيه به ، وقد قدمنا الإشارة إلى هذا .
____________________
(1/323)
الاجتهاد ووحدة الأحكام : وينبغي أن يعلم كل من له فهم أن دين الله واحد ، وأن ما أحله فهو حلال لا يتغير عن صفته ، وما حرمه فهو حرام لا يتغير . وإذا قال قائل من أهل العلم فيما قد أحله بكتابه أو بسنة رسوله أنه حرام فهو مخطئ مخالف لما شرعه الله لعباده . وإذا قال قائل من أهل العلم فيما قد حرمه الله سبحانه : أنه حلال ، فهو مخطئ آثم مخالف لما شرعه الله لعباده . ولكن هذا القائل الذي قال بخلاف ما تقرر في الشريعة ، إن كان أهلا للاجتهاد وقد بحث كلية البحث فلم يجد فهو مخطئ مأجور كما في الحديث الصحيح الذي قدمنا ذكره أن للمجتهد مع الإصابة أجرين ، وللمجتهد مع الخطأ أجراً ، وهو حديث متفق عليه مُتلقى بالقبول . وإن كان غير أهل للاجتهاد ، أو لم يبحث كما يجب عليه فهو مجازف في دين الله آثم بمخالفته لما شرعه الله لعباده . فمن قال إن كل مجتهد مصيب [ إن ] أراد أنه مصيب للحق فقد غلط غلطاً بينا ، فإنه جعل حكم الله سبحانه متناقضا متخالفا ، لأنه إذا قال قائل هذا حرام ، وقال آخر هذا حلال ، كان حكم الله تعالى في تلك العين عنده أنها حلال حرام . وهذا باطل من القول ، وزائف من الرأي ، وفاسد من النظر ، فإنه مع كونه باطلا في نفسه يتنزه الله عز وجل عنه ، هو أيضا خلاف ما عند أهل العلم .
____________________
(1/324)
وإن أراد أنه مصيب بمعنى أنه يستحق أجرا على اجتهاده وإن أخطأ ، فهذا معنى صحيح ، ولكنه إطلاق لفظ يخالف ما أطلقه عليه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم حيث قال : وإن اجتهد فأخطأ فله أجر ، فلا ينبغي أن يطلق لفظ المصيب عليه ، وإن كان لمن أطلق هذا اللفظ إرادة صحيحة . بل ينبغي أن يقال كما قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم من وصفه بالخطأ مع استحقاق الأجر . أو يقال : إنه مخطئ مأجور . وكما أن هذا الإطلاق لا يحسن لما فيه من شبه الرد على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم ، وإن كان له إرادة صحيحة ، كذلك لا يجوز أن يقال في شأن هذا المخطئ كما يقوله بعض أهل الأصول : إنه مخطئ آثم ، فإن هذا قول بالجهل ، ومخالفة لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم ، فإنه أثبت له الأجر وهذا القائل أثبت له الإثم . وأما قول من قال من أهل الأصول : إنه مخطئ مخالف للأشبه عند الله فهو قول صواب ، لأنه مع الخطأ قد خالف الحق ، إذا كان يريد بالأشبه ما هو الحق عند الله . وإن كان يريد غير هذا المعنى كأن يريد بالأشبه الأقرب ، فهو كلام غير صحيح ، لأنه لا قرب لخلاف الحق حتى يكون الحق أقرب منه . وعلى كل حال ، فالأحسن أن يقال في مخطئ الحق ما قاله رسول الله مخطئ له أجر .
____________________
(1/325)
والبعيد كل [ البعد ] عن الحق قول من قال : إن كل مجتهد مصيب من الإصابة ، وإن كل واحد من العلماء قد أصاب الحق الذي يريده الله سبحانه ، فإنهم قد جعلوا مراد الله عز وجل أمراً داثراً بين اجتهادات المجتهدين إلى يوم القيامة ، فكل مجتهد إذا اجتهد فذلك الاجتهاد هو مراد الله من العباد ، وإن خالف اجتهاد غيره ، وناقضه كما تقدم . منطق المقلدين هو منطق السوفسطائيين : وما أشبه القائل بهذه المقالة بالفرقة التي يقال لها الفرقة بالسوفسطائية فإنهم جاءوا بما يخالف العقل فلم يعتد بأقوالهم أحد من علماء المعقول لأنها بالجنون أشبه منها بالعقل . وهم ثلاثة فرق : عِنْدِيَّة ، وعِنَادية ، والأَدَرية . فالعندية : إذا قيل لأحدهم أنت موجود ، قال للقائل : عندك لا عندي . والعنادية : إذا قيل لأحدهم أنت موجود قال : لا ، فإذا قيل له ما هذا الشبح الذي أراه والكلام الذي أسمعه منه والحرم الذي ألمسه ، قال : لا شيء ولا وجود لي .
____________________
(1/326)
وأما الأدرية : فإذا قيل لأحدهم أنت موجود ، قال : لا أدري . وقد صرح علماء المعقول أن هؤلاء لا يستحقون جوابا إلا الضرب لهم حتى يعترفوا ، لأنهم لا يقبلون حجة ، ولا يسمعون برهاناً . ومن عجيب صنع المقلدة أنهم يقبلون ممن ينتسب إلى مذهبهم الترجيح بين الروايتين لإمامهم ، وإن كان ذلك المرجع مقلداً غير مجتهد ، ولا قريب من رتبة المجتهد . ولو جاء من هو كإمامهم أو فوقي إمامهم وأخبرهم عن الراجح من ذينك القولين لم يتلتفتوا [ إليه ] ، ولا قبلوا قوله ولو عضد ذلك بالآيات المحكمة والأحاديث المتواترة ، بل يقبلون من موافقيهم مجرد التخريج على مذهب إمامهم ، والقياس على ما ذهب إليه ويجعلونه دينا ويحلون به ويحرمون . فيالله وللمسلمين مع علم كل عاقل أن الرب واحد ، والنبي واحد ، والأمة واحدة والكتاب واحد ! ! . وبالجملة فكل من يعقل لا يخفى عليه أن هذه المذاهب قد صار كل واحد منها كالشريعة عند أهله يذودون عنه كتاب الله وسنة رسوله ، ويجعلونه جسرا يدفعون به كل ما يخالفه كائناً ما كان . سد باب الاجتهاد ونسخ للشريعة والعجب أن هؤلاء مكاسير المقلدة لم يقفوا حيث أوقفهم الله من القصور وعدم العلم النافع ، فقاموا على أهل العلم قومة جاهلية . وقالوا : باب الاجتهاد قد انسد وطريق الكتاب والسنة قد رُدِمَت .
____________________
(1/327)
وهذه المقالة من هؤلاء الجهال تتضمن نسخ الشريعة وذهاب رسمها وبقاء مجرد إسمها وأنه لا كتاب ولا سنة لأن العلماء العارفين بهما إذا لم يبق لهم سبيل على البيان الذي أمر الله سبحانه عباده به بقوله : ( وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ) . وبقوله : ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا إلى قوله : أولئك يلعنهم الله ) . فقد انقطعت أحكام الكتاب والسنة ، وارتفعت من بين العباد ، ولم يبق إلا مجرد تلاوة القرآن ودرس كتب السنة ، ولا سبيل إلى التعبد بشيء مما فيهما . ومن زعم عند هؤلاء الجهلة أنه يقضي أو يفتي بما فيهما أو يعمل لنفسه بشيء مما اشتملا عليه فدعواه باطلة وكلامه مردود . فانظر إلى هذه الفاقرة العظمى والداهية الدهياء والجهالة الجهلاء والبدعة العمياء الصماء ! ! ! سبحانك هذا بهتان عظيم . وإن زعموا أن هذا الصنيع منهم ليس هو بمعنى ما ذكرنا من نسخ الكتاب والسنة ورفع التعبد بهما فقل لهم فما بقي بعد قولكم هذا ؟ ! فإنكم قد قلتم ليس للناس إلا التقليد ، ولا سبيل لهم إلى غيره ، وأن الاجتهاد قد انسد بابه وبطلت دعوى من يدعيه ، وامتنع فضل الله على عباده ، وانقطعت حجته ! ! ! . وهذا مع كونه من الإفك البين قد اختلفت فيه أنظار هؤلاء المقلدة اختلافا كثيرا ، فقالت طائفة منهم ليس لأحد أن يجتهد ( بعد أبي حنيفة وأبي يوسف
____________________
(1/328)
وزفر بن الهذيل ومحمد بن الحسن الشيباني ، والحسن بن زياد اللؤلؤي ، وإلى هذا ذهب غالب المقلدة من الحنفية ، وقال بكر بن العلاء القشيري المالكي : ليس لأحد أن يجتهد ) بعد المائتين من الهجرة . وقال آخرون : ليس لأحد أن يجتهد بعد الأوزاعي وسفيان الثوري ووكيع ابن الجراح وعبد الله بن المبارك . وقال آخرون : ليس لأحد أن يجتهد بعد الشافعي . وقد ذكرنا بعض هذا الباطل البين ، والإفك الصريح في رسالتنا التي سميناها ( القول المفيد في حكم التقليد ) . وهؤلاء وإن كانوا خارجين عن زمرة العلماء بالإجماع حسبما نقلناه فيما تقدم ؛ وليسوا مما يستحق الاشتغال بما قاله ، وتطويل الكلام في الرد عليه لأنهم في عداد أهل الجهل لا يرتفعون عن طبقتهم بمجرد حفظهم لرأي من قلدوه ، لكنهم لما طبقت بدعتهم أقطار الأرض وصاروا هم السواد الأعظم ، وكان غالب القضاة والمفتين منهم وكذلك سائر أهل المناصب ، فإنهم مشاركون لهم في الجهل بما شرعه الله لعباده ، صاروا أهل الشوكة والصولة ، وليس للعامة بصيرة يعرفون بها أهل العلم وأهل الجهل ويميزون بين منازلهم . وغاية ما عندهم أنهم ينظرون إلى أهل المناصب وإلى المتجملين بالثياب الرفيعة . فإن دققوا النظر نظروا إلى المدرسين في العلم . وهم عند هذا النظر يرون شيخ علم الرأي قد اجتمع عليه الجمع الجم من المقلدة ولهم صراخ وعويل وجلبة وقد استغرقوا ، هم
____________________
(1/329)
وشيوخهم المدارس والجوامع ولا يرون لشيخ علم الكتاب والسنة أثراً ولا خبراً ، فإن درس شيخ من شيوخهم في مدرسة أو جامع فهو في [ زاوية ] من زواياه يقعد بين يديه الرجل والرجلان وهم في سكينة ووقار لا يلتفت إليهم ملتفت ، ولا يتطلع لأمرهم متطلع . فماذا [ يرى ] العامي عند هذا النظر ما ذاك يخطر بباله ؟ ويغلب على ظنه ؟ وإلى من يميل ، ولمن يحكم بالعلم ؟ وعلى من يلقى مقاليد ما ينوبه من أمر دينه ودنياه ؟ فلهذه النكتة احتجنا إلى هذا الكلام في هذا المؤلف وغيره من مؤلفاتنا . وإلا فهم أقل وأحقر من أن يشتغل بشأنهم أو يعبأ بما يصدر منعم من الجهل المكشوف ، والذي لا يكاد يلتبس على من لديه أدنى علم وأقل تمييز . جهاد الشوكاني للمقلدين ولقد كان لي مع هؤلاء في أيام الاشتغال بالدرس والتدريس وعنفوان الشباب ، وحدة الحداثة قلاقل وزلازل جمعت فيها رسائل وقلت فيها قصائد . فمن جملة ما خاطبتهم به ما قلته من قصيدة : ( يا ناقداً لمقال ليس يفهمه ** من ليس يفهم قل لي كيف تنتقد ) ( يا صاعدا في وعور ضاق مَسْلَكُها ** أيصعد الوعر من في السهل يرتعد ؟ ) ( يا ماشيا في فلاة لا أنيس بها ** كيف السبيل إذا ما اغتالك الأسد ؟ ) ( يا خائض البحر لا يدري سباحته ** وبلى عليك أتنجوا إن علا الزَّبَدُ ؟ ) ومنها : ( إني بُليت بأهل الجهل في زمن ** قاموا به ورجال العلم قد تعدوا )
____________________
(1/330)
( قوم يدق جليل القول عندهم ** فمالهم طاقة في حل ما يرد ) ( وغاية الأمر عند القوم أنهم ** أعدى العداة لمن في علمه سدد ) ( إذا رأوا رجلا قد نال مرتبة ** في العلم دون الذي يدرونه جحدوا ) ( أو مال عن زائف الأقوال ما تركوا ** بابا من الشر إلا نحوه قصدوا ) ( أما الحديث الذي قد صح مخرجه ** كالأمهات فما فيهم لها ولد ) ( تراهم إن رأوا من قال حدثنا ** قالوا له ناصِبِيِّ ماله رشد ) ( وإن ترضى على الأصحاب بينهم ** قالوا له باغض للآل مجتهد ) ( يا غارقين بشؤم الجهل في بدع ** ونافرين عن الهدى القويم هُدُوا ) ( ما باجتهاد فتى في العلم منقصة ** النقص في الجهل لا حياكم الصمد ) ( لا تنكروا مورداً عذباُ لشاربه ** إن كان لا بد من إنكاره فردوا ) ( وإن أبيتم فيوم الحشر موعدنا ** في موقف المصطفى والحاكم الأحد ) ومما قلته في ذلك : ( على عصر الشبيبة كل حين ** سلام ما تقهقهت الرعود ) ( ويسقيه من السحب السواري ** ملث دائم التسكاب جود ) ( زمان خضت فيه بكل فن ** وسدت مع الحداثة من يسود ) ( وعدت على الذي حصلت منه ** فجدت به وغيري لا يجود )
____________________
(1/331)
( وعاداني على هذا أُناس ** وأظلم من يعاديك الحسود ) ( رأوني لا أدين بدين قوم ** يرون الحق ما قال الجدود ) ( ويطرحون قول الطهر طه ** وكل منهم عنه شرود ) ( فقالوا قد أتى فينا فلان ** بمعضلة وفاقرة تؤود ) ( يقول الحق قرآن وقول ** لخير الرسل لا قول ولود ) ( فقلت كذا أقول وكل قول ** عدا هذين تطرقه الردود ) ( وهذا مَهْيَعُ الأعلام قبلي ** وكلهم لمورده وَرود ) ( إذا جحد امرؤ فضلى ونبلى ** فقدماً كان في الناس الجحود ) ( وكل فتى إذا ما حاز علما ** وكان له بمدرجة صعود ) ( وراض جوامحاً من كل فن ** وصار لكل شاردة يقود ) ( رماه القاصرون بكل عيب ** وقام لحربه منهم جنود ) ( وعادوا خائبين وكل كيد ** لهم فعلى نفوسهم يعود ) ( وراموا وضع رتبته فكانوا ** على الشرف الرفيع هم الشهود ) ( إذا ما الله قدر نشر فضل ** لإنسان يتاح له حسود ) ( ومن كثرت فضائله يعادي ** ويكثر في مناقبه الجحود ) ( إذا ما غاب يلمزه أناس ** وهم عند الحضور له سجود ) ( وليس يضر نبح الكلب بدراً ** وليس تخاف من حمر أسود )
____________________
(1/332)
( وما الشم الشوامخ عند ريح ** تمر على جوانبها تمود ) ( ولا البحر الخضم يعاب يوماً ** إذا بالت بجانبه القرو ) ومما قلته من قصيدة طويلة : ( لا عيب لي غير أني في دياركم ** شمس ولم يعرفوا منها سوى الشهب ) ( وأنتم كخفافيش الظلام وما ** زال الخفاش بنور الشمس في تعب ) ( موتوا إذا شئتم قد طار من كلمي ** في نصرة الحق ما حررت في الكتب ) ( وأرتجي أن يلبي دعوتي نفر ** يسعون للدين لا يسعون للنشب ) ( لا يعدلون بقول الله قول فتى ** ولا بسنة خير الرسل رأي غبي ) ( لا ينثنون عن الهدى القويم ولا ** يصانعون لترغيب ولا رهب ) ( أبث ما بينهم من مذهبي درراً ** حجبتها عن ذوي التقليد والريب ) ( يا فرقة ضيعت أعلامها سفها ** وصيرت رأس أهل العلم كالذنب ) ( ما قام رب علوم في دياركم ** إلا وجرعته أكؤس الكرب ) ( من قال : قال رسول الله بينكم ** غداً بذا عندكم من جملة النَّصَب ) ومنها : ( عاديتم السنة الغرا فكان بذا ** دعوى خصومكم موصولة السبب ) ( كم ظن ذو حمق في الضر منفعة ( وظل ) يرجو نجاحاً من يد العطب ) ( سودتم جيل جهل بالعلوم وذا ** رأي يجر بذيل الويل والحرب ) ( والاجتهاد غدا في كتب فقهكم ** شرط الإمام فإن يعدوه لم يجب ) ( وشرط حمال أعباء القضاء مع ** الإفتاء فلم تعرفوا ما خط في الكتب )
____________________
(1/333)
ومنها : ( وإنني حزت أضعاف الذي شرطوا ** قبل الثلاثين من عمري بلا كذب ) ( ألم أضمخ أرجاء الجوامع بالتدريس ** في كل فن معشر الطلب ) ( ألم أصنف في عصر الشبيبة ما ** يغدو له محكم العرفان في طرب ) ( لو كان مطلع شمس غير أرضكم ** ما حال دون سناها عارض السحب ) ( ولا غدت لعشا الناظرين لها ** كأنها طلعت في مظلم الحجب ) ومما قلته من قصيدة طويلة : ( وما سد باب الحق عن طالب الهدى ** ولكن عين الأرمد الفدم سدت ) ( رجال كأمثال الخفافيش ضوءها ** يلوح لدى الظلماء وتعمى بضحوة ) ( وهل ينقص الحسناء فقدان رغبة ** إلى حسنها ممن أصيب بعنة ) ( وهل حط قدر البدر عند طلوعه ** إذا ما كلاب أنكرته فهرت ) ( وما إن يضر البحر أن قام أحمق ** على شطه يرمي إليه بصخرة ) ( فخفض في غمار الاجتهاد وعد عن ** رجال سلت عن سناء بفرية ) ومنها : ( وإن كنت شهماً ناقداً متبصراً ** فدع ما به عين من العمى قرت ) ( فما جاءنا نقل بقصر ولا أتى ** بذلك حكم للعقول الصحيحة ) ( وما فاض من فضل الإله على الأولى ** مضوا فهو فياض عليك بحكمة ) ( ولا تك مطواعا ذلولا لرايض ** تصير بهذا مشبها للبهيمة ) وما قلته من الأشعار الجارية في هذا المضمار فهو كثير جداً يحتاج إلى مؤلف مستقل .
____________________
(1/334)
وقد حكيت بعض ما وقع لي مع هؤلاء المقلدة في الكتاب الذي سميته ( أدب الطلب ومنتهى الأرب ) . وكيدهم العتيد وحسدهم الشديد مستمر إلى الآن والله ناصر دينه ، ورافع أعلام شريعته ، وكابت من رام أهلها ، أو رام الحاملين لها بكيد ومكر . ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله . ! ( يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ) ! . ! ( ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ) ! . ! ( يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم ) ! . ! ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء ) ! . وما أصدق هذه المواعيد التي وعد الله بها عباده ، وأبين حصولها وأظهر وقوعها وهو صادق الوعد فلله الحمد [ فإنه ] ما قام قائم في معارضة المحقين إلا وكبه الله على منخره ، وحاق به مكره وعاد على نفسه خداعه وأحاط به بغيه . وكم قد رأينا من هذا وسمعنا في عصرنا ومعنا وفينا ، فكانت العاقبة للمتقين ، كما وعد به رب العالمين والحمد لله .
____________________
(1/335)
من أخطار التقليد والمقلدين : وكما أن قول هذه المقلدة الذين ردموا باب الاجتهاد وسدوا طرقه قد استلزم رفع الكتاب والسنة والتعبد بغيرها ، فكذلك استلزم رد ما صح عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
' من أنها لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين ' . وكذلك استلزم رد ما صح أنه لا يزال في هذه الأمة قائم بحجة الله ، وكذلك استلزم رد ما ورد ' من أن الله سبحانه يبعث لهذه الأمة في رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ' . وجود الاجتهاد في المذاهب حجة على المقلدين : ومع هذا فكل طائفة من طوائف المذاهب الذين كدر مشارب مذاهبهم وجود هؤلاء المقلدة الذين لا يعقلون حجة ، ولا يعرفون برهاناً ، ولا يفهمون من العلم إلا مجرد صور وقفوا عليها في مختصرات المفرعين ، قد جعل الله سبحانه فيهم من العلماء المبرزين العارفين بالكتاب والسنة وبما هو كالمقدمة لهما من العلوم الآلية وغيرها ، عددا جماً كما يعرف ذلك من يعرف أخبار الناس ويدري بأحوال العالم ، وفيهم من كمل الله سبحانه لهم علوم الاجتهاد وفوقها ، ولكنهم امتحنوا بهؤلاء الصم البكم من المعاصرين لهم من مقلدة المذاهب الذين اشتركوا فيه بمجرد الانتماء إليه فغلبوهم على أنفسهم وصانعوهم وداروهم لما يخشونه من معرتهم ويتوقعونه من إغراء العامة بهم . فمنهم من كتم اجتهاد نفسه ، ولم يستطع أن ينسب إلى نفسه الاجتهاد
____________________
(1/336)
ولا تَظَهر بما يدين به ويعتقده من تقديم ما يعرفه من الأدلة على ما يخالفه من الرأي . ومنهم من تظهر بعض التُّظَهَّر فلقي من متفقهة المقلدة من إغراء العامة به ما هو معروف لمن نظر في التواريخ العامة ، أو الخاصة بمذهب من المذاهب وطائفة من الطوائف . ومن كان لا يعرف التاريخ ، ولا ينشط إلى الاطلاع على أخبار العالم وتحقيق أحوال الطوائف فلينظر إلى مثل مؤلفات ابن عبد السلام ، وابن دقيق العيد ، وابن سَيِّد الناس ، والذهبي ، وزين الدين
____________________
(1/337)
العراقي ، وابن حجر العسقلاني والسيوطي وأمثالهم من الشافعية . وإلى مثل مؤلفات ابن قدامة ومن في طبقته من المَقَادِسة ومن بعدهم مثل تقي الدين ابن تيمية ، وتلميذه ابن القيم وأمثالهم من الحنابلة . ومثل ابن عبد البَرِّ والقاضي عياض وابن العربي وأمثالهم من المالكية . وبالجملة ففي كل مذهب العدد الكثير غالبهم يذم التقليد وينكر على أهله ولكنهم كما عرفناك لا يصرح منهم بذلك تصريحا إلا الأقل لتلك العلة وغالبهم يلوح بن تلويحاً ويعرض به تعريضاً .
____________________
(1/338)
أهل اليمن والاجتهاد : وأما قطرنا اليمني بارك الله فيه فغالب من توسع في العلوم وأدرك من نفسه ملكة الاجتهاد ، الرجوع إلى الدليل ، ويرمي بالتقليد وراء الحائط ويلقى عن عقنه قلادته . عرفنا هذا من شيوخنا ، وعرفوه من شيوخهم وعرفه الأول عن الأول وعرفناه من أترابنا ، والمرافقين لنا في الطلب ، بل غالب الآخرين عنا وهم العدد الجم هم بهذه الصفة ، وعلى هذه الخصلة المحمودة . بل غالب من كان له إنصاف من الذين لم يكثر اشتغالهم بالعلم في ديارنا هذه يصنع كما كان يصنع السلف الصالح من الصحابة ، وتابعيهم ، ومن بعدهم من عدم التقيد بالتقليد ، والتعويل على سؤال العلماء بالكتاب والسنة عن الدليل الراجح فيعملون به ويقفون عنده ، ولا يبالون بما يخالفه مما عليه المقلدة ، وصاروا منتسبين إلى السنة المطهرة غير منتمين إلى مذهب من المذاهب ، فأصابوا أصاب الله بهم ، وضاعف أجرهم ، وصرف عنهم معرة المقلدة أتباع كل ناعق . تعصب المقلدين أساسه الجهل : وقد عرفناك أن هؤلاء المقلدة ذموا ما لم يعرفوه ، وعابوا ما لم يدروا به ، وهذا أمر يستقبحه كل عاقل ، ويزري بصاحبه كل فاهم ، فإن من تعرض للكلام فيما لا يعرفه فهو جاهل من جهتين : الجهة الأولى : كونه لا يعرف ذلك الشيء .
____________________
(1/339)
الجهة الثانية : كونه تكلم فيما لا يعرفه كما يفعله أهل الجهل المركب . هذا على فرض أنه لم يتعرض للقدح فيه ، ولا أوقعته نفسه الأمارة في الطعن على المتمسكين به ، فإن فعل ذلك أخطأ من ثلاث جهات هذه الثالثة . وما أحسن ما قاله الشاعر : ( أتانا أن سهلا ذم جهلا ** علوما ليس يعرفهن سهل ) ( علوما لو دراها ما قَلاَهَا ** ولكن الرضى بالجهل سهل ) ولقد صدق هذا الشاعر فإن العلة الباعثة للجاهل على هذا الفضول هي الرضى بالجهل ، ويكفيه ما رضي به لنفسه نقصاً وعيباً وغباوة ومهانة . واجب العلماء وأولي الأمر نحو المقلدين : وواجب على كل من له ولاية يأمر فيها بمعروف أو ينهى عن منكر أن يجعل نهي المنكر الذي عليه هؤلاء عنوان كل نهي ينهي به عن منكر ، فإنهم في الحقيقة إنما يطعنون على كتاب الله وسنة رسوله بأن ما فيهما من الشريعة قد صار منسوخا ، ويطعنون على علماء الدين من السلف الصالح ، ومن مشى على هديهم القويم ، ويدفعون بالرأي الذي هو ضد للشريعة ، ما شرعه الله لبعاده ، وهم بهذه المنزلة من الجهل البسيط أو المركب . فهل سمعت أذناك بمنكر مثل هذا المنكر ، وبلية في الدين مثل هذه البلية ورزية في الملة الإسلامية مثل هذه الرزية ؟ ؟ فإن النيل من عرض فرد
____________________
(1/340)
من أفراد المسلمين منكر لا يخالف فيه مسلم إذا كان على طريق الغيبة أو البهتان ، أو على طريق الشتم مواجهة ، ومكافحة . فكيف بمن جاء بما هو من أعظم البهتان ، وأقبح الشَّتيمة للشريعة المحمدية ، والدين الإسلامي ، ولعلماء المسلمين سابقهم ولاحقهم ؟ ! . فيالله وللمسلمين يالله وللمسلمين يالله وللمسلمين ؟ ! ! . فإن هؤلاء لما رأوا كثيراً من العلماء يداهنونهم ويدارونهم اتقاء لشرهم ما زادهم ذلك إلا شرا ، [ ولا ] اثر فيهم إلا تجرئا على ما هم فيه . ولو تكلم أهل العلم بما يجب عليهم من نصر الشريعة والذب عن أهلها بما يجب عليهم لكانوا أقل شراً وأحقر ضراً . وأقل حال أن يعرفوهم بأنهم من أهل الجهل [ الذين ] لا يستحقون خطايا ولا يستوجبون جوابا ، فإن في هذا كفاً لبعض ما صاروا عليه من الظن بأنفسهم الباطل ، والخيال المختل لما يرونه من سكوت أهل العلم عنهم والصبر على ما يسمعونه منهم ، ويبلغهم عنهم . وقد يتسبب عن هذه الإهانة لهم بالتجهيل ، والتضليل فائدة يندفع بها ببعض تجرئهم على كتاب الله وسنة رسوله ، وعلماء أمته ، فإن من الناس من يصلح بالهوان ويفسد بالإكرام ، كما هو معلوم لكل من يعرف أحوال الناس واختلاف طبائعهم .
____________________
(1/341)
ولقد أحسن الشاعر حيث قال : ( أكرم تميماً بالهوان فإنهم ** إن أكرموا فسدوا على الإكرام ) وكما قال الآخر : ( أهن عامراُ تكرم عليه فإنما ** أخو عامر من مسه بهوان ) وينبغي لمن سمع أحدهم يفتي في التحليل ، والتحريم ، وينصب نفسه لما ليس من شأنه ، أن يقول له كما قال الشاعر : ( تقولون هذا عندنا غير جائز ** ومن أنتم حتى يكون لكم عند ؟ ! ) وإن سمع أحداً منهم يتكلم في غير ما يعلم على تقدير أن علمه بطرف من الرأي يعد علماً كما في اصطلاح العامة وإلا فهو ليس بعلم بالإجماع كما قدمنا نقل ذلك ، فليتل عليه قول الله سبحانه ! ( ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) ! وليتل عليه قوله عز وجل : ! ( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم ) ! . وقوله عز وجل : ! ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) ! . وقوله تعالى : ( ومن لم يحكم
____________________
(1/342)
بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) ويتلو عليه الآيات التي فيها الحكم بالحق وبالعدل وبما أرى الله ورسوله . مدى تكريم الله سبحانه للأولياء : ولنرجع الآن إلى شرح الحديث الذي نحن بصدد شرحه . قال الكرماني : ' إن قوله ( لي ) في من عادى لي ولياً هو في الأصل صفة لقوله ولياً لكنه لما تقدم عليه صار حالا ' . انتهى . أقول ولا يختلف المعنى بذلك لأن المعنى على الوصف : من عادى وليا كائناً لي وهو على الحال كذلك لكن التقدم فيه فائدة جليلة ، وهي الإشعار باختصاص الولي به لا بغيره ، كما هو معروف في كتب المعاني والبيان ، ثم في نسبته الولي إلى نفسه تشريف له عظيم ورفع لشأنه بليغ . قال ابن هبيرة : ' ويستفاد من هذا الحديث تقديم الإعذار على الإنذار ' قلت : ووجهه أنه لما قدم معاداة من هو بهذه الصفة من الولاية لله فكأنه أعذر
____________________
(1/343)
إلى كل سامع أن من هذا شأنه لا ينبغي أن يعادي بل على كل من عرف أن هذه صفته ، أن يواليه ويحبه ، فإذا لم يفعل فقد أعذر الله إليه ، ونبهه على أن من عادى يستحق العقوبة البالغة على عداوته فقال منذراً له : فقد آذنته بالحرب على ما صنع مع ولِيِّ . ووقع في حديث عائشة عند أحمد في الزهد ، وابن أبي الدنيا وأبي نعيم في الحلية والبيهقي في الزهد بلفظ : ' من أذل لي وليا ' وفي أخرى منه من آذى ، وفي إسناده عبد الواحد بن ميمون عن عروة ، وهو منكر الحديث لكن أخرجه الطبراني من طريق يعقوب [ عن ] مجاهد عن عروة قوله : ' فقد آذنته ' بالمد وفتح المعجمة بعد نون أي أعلمته . وقال في الصحاح : ' وآذنتك بالشئ ' أعلمتكه ، والآذن الحاجب . قال الشاعر : تبدل بإذنك المرتضى . وقد آذن وتأذَّنَ بمعنى كما يقال أيقن وتيَقَّن ، وتقول تأَذَّن الأمير في الناس أي نادى فيهم يكون في التَّهدُّد ، والنهي أي تقدم وأعلم . وقوله تعالى : ( وإذا
____________________
(1/344)
تَأَذَّنَ ربك ) أي أعلم ، انتهى . فعرفت بهذا أن في قوله : فقد آذنته معنى التهديد لمن عادى الولي والنهي له عن أن يقدم على معاداته لأنه قد تقدم إليه بأن لا يعاديه وأنه وليه وأعلمه بذلك . وأما المقصور فيجيء بمعنى علم ومنه قوله تعالى : ( فأذنوا بحرب من الله ورسوله ) : أي اعلموا ، وبمعنى الاستماع . يقال أذن له إذا استمع منه . قال الشاعر : ( إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحاً ** عني وما سمعوا من صالح دفنوا ) ( صمٌّ إذا سمعوا خيراً ذُكِرْتُ به ** وإن ذكرت بشرٍّ عندهم أَذِنُوا ) ومنه ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن أي استمع . والأذان الإعلام ، ومنه الأذان للصلاة . قوله : ' بالحرب ' : في رواية الكُشْمِيهَني : ' فقد أذَنْته بحرب . وفي
____________________
(1/345)
حديث معاذ عند ابن ماجة ، وأبي نعيم في الحلية بلفظ : ' فقد بارز الله بالمحاربة ' وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني ، والبيهقي في الزهد بسند ضعيف بلفظ : ' فقد بارزني بالمحاربة ' . ومثله لفظ حديث أنس عند أبي يعلى والبزار والطبراني ، وفي سنده ضعف . وفي حديث ميمونة بلفظ ' فقد استحل محاربتي . وفي رواية وهب بن منبه بلفظ : ' من أهان وليَّ المؤمن فقد استقبلني بالمحاربة .
____________________
(1/346)
قال ابن حجر في الفتح ' وقد استشكل وقوع المحاربة ، وهي مفاعلة من الجانبين مع كون المخلوق في أسر الخالق . والجواب : بأنه من المخاطبة بما يفهم . فإن الحرب تنشأ عن العداوة ، والعداوة تنشأ عن المخالفة . وغاية الحرب الهلاك ، والله عز وجل لا يغلبه غالب . فكأن المعنى قد تعرض لإهلاكي إياه فأطلق الحرب وأريد لازمه ، أي أعمل به ما يعمل العدو المحارب ' انتهى . قلت : فقد جعل ذلك من الكناية : وهي لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادته كما حققه أهل علم البيان . ويمكن أن يقال إن المفاعلة قد تطلق ، ولا يراد بها وقوعها من الجهتين كما في كثير من الاستعمالات العربية ، فيكون المراد بالمحاربة هنا الحرب من الله عز وجل كما يدل عليه لفظ فقد آذنته بالحرب . ويمكن أن يجعل العبد لما كان معانداً لله عز وجل بعداوة أوليائه بمنزلة من أقام نفسه مقام المحارب لله سبحانه ، وإن كان في أسره وتحت حكمه باعتبار الحقيقة ، وأنه أحقر وأقل من أن يحارب ربه لكنها خيلت له نفسه الأمارة بالسوء هذا الخيال الباطل فعادى من أمره الله بموالاته ومحبته مع علمه بأن ذلك مما يسخط الرب ويوجب حلول العقوبة عليه وإيقاعه في المهالك التي لا ينجو منها . قال الفاكهاني : ' في هذا الحديث تهديد شديد لأن من حاربه الله تعالى أهلكه وهو من المجاز البليغ لأن من كره من أحبه الله تعالى خالف الله
____________________
(1/347)
سبحانه ومن خالف الله عز وجل عانده ، ومن عانده أهلكه . وإذا ثبت هذا في جانب المعاداة ثبت في جانب الموالاة . فمن والى أولياء الله عز وجل أكرمه الله عز وجل وانتهى . قلت : لا مقتضى لهذا المجاز بهذه الوسائط ، والانتقالات ، فإن مجرد وقوع الحرب من الرب للعبد ، إهلاك له بأبلغ أنواع الإهلاك وانتقام منه بأكمل أنواع الانتقام . فالحديث خارج هذا المخرج . ومثله في وعيد أهل الربا : ! ( فأذنوا بحرب من الله ورسوله ) ! . قال الطوفي : ' لما كان ولي الله سبحانه ممن تولى الله سبحانه بالطاعة والتقوى تولاه الله تعالى بالحفظ والنصرة . وقد أجرى الله تعالى العادة بأن عدو العدو صديق ، وصديق العدو عدو ، فعدو ولي الله تعالى عدو الله سبحانه فمن عاداه كان كمن حاربه ، ومن حاربه فكأنما حارب الله تبارك وتعالى ' . قلت : وهذا هو مثل كلامنا المتقدم في توجيه المفاعلة .
____________________
(1/348)
الفصل الثاني الطريق إلى ولاية الله
____________________
(1/349)
فارغة
____________________
(1/350)
( 1 ) أداء الفرائض : قوله : ' ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلى مما افترضت عليه ' . لفظ التقرب المنسوب إلى الله من عبده يفيد أنه وقع ذلك على جهة الإخلاص . لأن من لم يخلص العبادة لله سبحانه لا يصدق عليه معنى التقرب . وهكذا من فعل العبادة المفترضة لخوف العقوبة فإنه لم يكن متقربا على الوجه الأتم . قال ابن حجر في الفتح : ' ويدخل تحت هذا اللفظ جميع فرائض العين والكفاية وظاهره [ الاختصاص ] بما ابتدأ الله تعالى فريضته ، وفي دخول ما أوجبه المكلف على نفسه نظر ، للتقييد بقول : افترضت عليه إلا إن أخذ من جهة المعنى ' انتهى . قلت : ' إن كان ما أوجبه العبد على نفسه مما أوجب الله عليه الوفاء به ، فهذا الإيجاب هو من فرائض الله سبحانه ، وحكمه حكم ما أوجبه الله ابتداء على عباده . بل هل فرد من أفرادها لا يحتاج إلى أدراجه تحت معنى أعم . قال : ' ويستفاد منه أن أداء الفرائض أحب الأعمال إلى الله تعالى ' . انتهى . قلت : وجه ذلك أن النكرة وقعت في سياق النفي فعم كل ما يصدق عليه معنى الشيء فلا يبقى شيء من القرب إلا وهو داخل في هذا العموم ، لأن كل قربة
____________________
(1/351)
كائنة ما كانت يقال لها شيء سواء كانت من الأفعال أو الأقوال أو مضمرات القلوب ، أو الخواطر الواردة على العبد أو التروك للمعاصي التي هي ضد لفعلها . قال الطوفي : ' الأمر بالفرائض جازم ، ويقع بتركها المعاقبة بخلاف النفل في الأمرين وإن اشترك مع الفرائض في تحصيل الثواب فكانت الفرائض أكمل ، فلذا كانت أحب إلى الله وأشد تقرباً . فالفرض كالأصل والأس ، والنفل كالفرع والبناء ، وفي الإتيان بالفرائض على الوجه المأمور به امتثال الأمر واحترامه وتعظيمه بالانقياد إليه وإظهار عظمة الربوبية وذل العبودية فكان التقرب بذلك أعظم العمل . والذي يؤدي الفرض قد يفعله خوفا من العقوبة ، ومؤدي النفل لا يفعله إلا إيثاراً للخدمة فيجازى بالمحبة التي هي غاية مطلوب من يتقرب بخدمته انتهى . قلت : إذا كان أداء الفرائض أعظم العمل لتلك العلل التي ذكرها من امتثال الأمر واحترامه وتعظيمه ، وإظهار عظمة الربوبية وذل العبودية كان ثوابها أكثر ، والجزاء عليها أعظم ، ولا يخالفه ما ذكره من أن العبد لا يفعل النفل إلا إيثاراً للخدمة وأنه يجازى بالمحبة فذلك سببه وقوع التقرب منه بما لم يوجبه الله عليه ، وإن كان الثواب عليه دون ثواب الفرائض ، وسيأتي لهذا مزيد تحقيق عند الكلام على قوله أحبته .
____________________
(1/352)
1 - من أداء الفرائض ترك المعاصي : واعلم أن من أعظم فرائض الله سبحانه ترك معاصيه التي هي حدوده التي من تعداها كان عليه من العقوبة ما ذكره الله سبحانه في كتابه العزيز . ولا خلاف أن الله افترض على العباد ترك كل معصية كائنة ما كانت ، فكان ترك المعاصي من هذه الحيثية داخلا تحت عموم قوله : ' وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ' . بل دخول فرائض الترك للمعاصي أولى من دخول فرائض الطاعات كما يدل عليه حديث ' إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فلا تقربوه . 2 - من المعاصي إبطال الفرائض بالحيل : واعلم أن من أعظم البدع الحادثة في الإسلام ما فتح بابه أهل الرأي للعباد من الحيل التي زحلقوا بها كثيراً من فرائض الله سبحانه فأخرجوها عن كونها فريضة ، وكأن الله لم يفرضها على عباده ، وحللوا بها كثيراً من معاصي الله التي نهى عباده عنها وتوعدهم على مقارفتها والوقوع في شيء منها . ومن تأمل أكثر ما ورد عن الشارع من اللعن وجد غالبه في المستحلين
____________________
(1/353)
لما حرمه الله ، والمسقطين لفرائضه بالحيل . كقوله [ صلى الله عليه وسلم ] :
' لعن الله المحلل والمحلل له ' ،
' لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها ' .
' لعن الله الراشي والمرتشي ' .
' لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهده ' .
' ولعن عاصر الخمر ومعتصرها ولعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة ' . ومسخ الله الذين استحلوا محارمه بالحيل قردة وخنازير . و ' ذم أهل الخداع والمكر ' وأخبر أن المنافقين يخادعونه وهو يخادعهم . وأخبر عنهم بمخالفة ظواهرهم لبواطنهم وسرائرهم لعلانيتهم . وثبت عن ابن عباس أنه جاءه رجل فقال : إن عمي طلق امرأته ثلاثا أيحلها له رجل ، فقال : من يخادع الله يخدعه : وصح عن ابن عباس وأنس أنهما سئلا عن الغيبة فقالا إن الله لا يخدع . وقد عاقب الله المتحيلين على المساكين وقت [ الجذاذ ] بإهلاك ثمارهم حتى أصبحت كالصريم : وصح أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قال :
( البيعان بالخيار حتى يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار ، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله ) . وصح عنه [ صلى الله عليه وسلم ] النهي لمن عليه الزكاة أن يجمع بين متفرق ، أو يفرق بين مجتمع خشية الصدقة . والأدلة في منع الحيل وإبطالها كثيرة جداً . ومجرد تسميتها حيله يؤذن بدفعها وإبطالها فإن التحيل عل عمومه قبيح شرعاً وعقلا . وهذا المتحيل لإسقاط
____________________
(1/354)
فرض من فرائض الله أو تحليل ما حرمه الله سبحانه هو ناصب لنفسه في مدافعة ما شرعه الله سبحانه لعباده ، مريد لأن يجعل ما حرمه الله حلالا ، وما أحله حراماً . فهو من هذه الحيثية معاند لله مخادع لعباده مندرج تحت عموم قوله سبحانه : ! ( يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ) ! . وقوله : ! ( يخادعون الله وهو خادعهم ) ! . وقوله : ( ومكروا ومكر الله الله خير الماكرين ) . ومعلوم لكل عاقل أن الشريعة قد كملت وانقطع الوحي بموته [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم ، ولم يبق لأحد من عباد الله مجال في تشريع غير ما شرعه الله ولا رفع شيء مما قد شرعه الله سبحانه . وكل العباد متعبدون بهذه الشريعة لم يجعل الله سبحانه لأحد منهم أن يحلل شيئاً مما حرم فيها ، ولا يحرم شيئاً مما حل فيها فمن جاء إلى عباد الله ، وقال قد لقنني الشيطان أن أحل لكم الحرام الفلاني أو أحرم عليكم الحلال الفلاني ، أو أسقط عنكم واجب كذا فهذا مما يفهم كل عاقل أنه أراد تبديل الشريعة المطهرة ومخالفة ما فيها . فحق على كل مسلم أن يأخذ على يده ويحول بينه وبين ما أراد ارتكابه من المخالفة لدين الإسلام ، والمعاندة لما قد ثبت
____________________
(1/355)
في كتاب الله أو في سنة رسوله . فهذا بمجرده يصك وجه كل محتال ، ويرغم أنف كل متجرئ على دين الله بإسقاط ما هو واجب فيه أو تحليل ما هو من محرماته . أ - إبطال حجج القائلين بالحيل / وأما تمسك أهل الرأي المحتالين على الإسلام وأهله بمثل قوله سبحانه لنبيه أيوب عليه السلام : ! ( وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث ) ! وأنه سبحانه أذن له أن يتحلل من يمينه بالضرب الضغث . وبمثل ما أخبر الله سبحانه عن نبيه يوسف عليه السلام أنه جعل صواعه في رحل أخيه ليتوصل بذلك إلى أخذه من إخوته وأخبر سبحانه أنه فعل ذلك برضاه وإذنه ، كما قال : ! ( كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله ) ! . وبمثل ما صح عنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
( أنه استعمل رجلا على خيبر فجاءهم بتمر خبيب فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : أكل تمر خيبر هكذا ؟ قال : إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة ، فقال : لا تفعل ، بع الجميع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم خبيباً ' . ' وقد لقي النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم طائفة من المشركين ، في نفر من أصحابه فقال المشركون : من أنتم ؟ فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
____________________
(1/356)
من ماء فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا : أحياء اليمن كثير فلعلهم منهم وانصرفوا ' . وجاء رجل إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم فقال : ' احملني ، فقال : ما عندي إلا ولداً لناقة فقال : ما أصنع بولد الناقة ؟ فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : وهل تلد الإبل - إلا النوق ؟ ' فيجاب عنه بأن ما ذكروه من قصة أيوب خارج عما نحن بصدده ، فإن أيوب نذر أن يضربها مائة عصى وقد ضربها كذلك بمائة عصى . وأيضاً لو سلم أنه نذر أن يضربها مائة عصا مفرقة ، أو مائة ضربة مفرقة فذلك الذي أذن الله له به تخفيف على المرأة ونسخ لما كان قد أوجبه على نفسه على تقدير أنه كان يجب في شريعته الوفاء بالنذر ، وأنه لما نذر أوجب الله ذلك عليه ثم خفف عليه ونسخ ما كان قد أوجبه الله عليه بإيجابه على نفسه . وما المانع من أن يوجب الله شيئاً ثم ينسخه وليس النزاع في مثل هذا فإن شريعتنا هذه فيها الناسخ والمنسوخ . وإنما النزاع في شريعة كملت وأخبرنا الله بكمالها فقال : ! ( اليوم أكملت لكم دينك ) ! ثم انقطع الوحي بموت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم . ثم جاء جماعة حولوا الشريعة وبدلوها فحللوا حرامها ، وأسقطوا فرائضها بأكاذيب لم يأذن الله بها بل هي ضد لشريعته ودفع لها ورفع لأحكامها .
____________________
(1/357)
فأين قصة أيوب من صنيع هؤلاء المحتالة على الله وعلى رسوله وعلى الشريعة الإسلامية ، وعلى عباد الله المسلمين ؟ . وأي جامع يجمع بين هذا وبين قصة أيوب ؟ ثم هذه القصة الأيوبية هي من التحلل من الإيمان والخروج من المأثم ، فلو فرضنا أن لها دخلا فيما قصدوه لكان ذلك خاصاً بما فيه خروج من المأثم والتحلل من الإيمان . وقد ثبت في شرعنا أن اليمين إذا كان غيرها خيراً منها كان الحنث أولى من البر كما صح عنه [ صلى الله عليه وسلم ] أنه قال : ' من حلف من شيء فرأى غيره خيراً منه ، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ' وصح عنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم أنه قال : ' والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني ' . فقد ثبت في شرعنا أن الحالف على يمين غيرها خير منها يكفر عن يمينه من غير حاجة إلى ضرب في مثل صورة يمين أيوب لا مفرقاً ، ولا مجموعاً وقد ثبت أن امرأة أيوب كانت ضعيفة لا يحتمل ضعفها لوقوع مائة ضربة مفرقة . ومثل هذا قد سوغت شريعتنا التخفيف فيه خروجاً من المأثم ، ولا سيما إذا صح ما روى أن مريضاً أقر بالزنا وكان ضعيفاً لا يحتمل الحد الشرعي فأمر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم بأن يضرب بشمراخ من النخل فيه مائة عثكول . فهذا ليس بحيلة بل شريعة ثابتة . وليس النزاع إلا فيما فعله المحتالون من زحلقة أحكام الشريعة بالأقوال الكاذبة المفتراة لا فيما قد ثبت في الشريعة .
____________________
(1/358)
وبهذا يتقرر لك أن استدلالهم بقصة أيوب خارج عن محل النزاع مع أن هذه القصة هي أعظم ما عولوا عليه وبنوا عليه القناطر التي ليست من الشريعة في قبيل ولا دبير ، بل هي ضد للشريعة وعناد لها . وأما قصة يوسف فالجواب عنها واضح لأنها واقعة وقعت لنبي من أنبياء الله سبحانه صنعها الله سبحانه له لخير أراد به لأهله . فإن كان مثل ذلك ممنوعاً في شريعتنا فقد نسخ ما كان في تلك الشريعة بما كان في شريعتنا ، وشريعتنا هي الشريعة الناسخة للشرائع ، ومعلوم أنه لا يؤخذ مما كان من الشرائع السابقة إلا ما قررته شريعتنا منها لا ما خالفته وأبطلته ، فما لنا وللتعلق بشريعة منسوخة ؟ ! . وإن كان مثل ذلك جائزاً في شريعتنا فليس النزاع فيما هو جائز فيها . بل النزاع في حيل المحتالين ودنس المدنسين المحللين لأحكام الشريعة من عند أنفسهم المسقطين لفرائض الله سبحانه بآرائهم الفايلة وتدليساتهم الباطلة . ( ب ) الحيلة والشريعة : والحاصل أن كل ما ثبت في الشريعة من تخفيف أو خروج من مأثم فنحن نقول هو شريعة بيضاء نقية ، فمن زعم أنه حيلة فقد افترى على الله وعلى رسوله وعلى كتاب الله وعلى سنة رسوله الكذب الصَّرَاح والباطل البَوَاح . فأين هذا من صنع هؤلاء المعاندين لله ولرسوله المخالفين للكتاب والسنة الدافعين لما هو ثابت فيها بعد كمالها وتمامها وموت نبيها وانقطاع الوحي منها ؟ ! يالله العجب
____________________
(1/359)
من هؤلاء الذين تجرؤا أولا على عناد الشريعة ومخالفتها ! ! . وثانياً الاستدلال بما شرعه الله لعباده ، أو كان في شريعة نبي من الأنبياء قد رفعت شريعتنا حكمه ونسخته وأبطلته ! ! وهكذا يجاب عنهم في حديث التمر وبيع الجميع بالدراهم وشراء الخبيب بها . فإن ذلك شريعة واضحة وسنة قائمة متضمنة لبيع الشيء بقيمته التي يقع التراضي عليها ، فكان ذلك مما أذن الله سبحانه به بقوله تعالى : ! ( تجارة عن تراض ) ! وبقول رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] :
' لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه ' . وليس مما نهى الله عنه بقوله سبحانه : ! ( لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) ! ، وبقول رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] :
' إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام ' . ( م ) الحيلة من الإضافات للشريعة المبطلة لفرائضها : وليس النزاع إلا في صنع المحتالين المخالفين للشريعة المزلزلين لأحكامها المستبدلين بها غيرها بعد كمالها وانقطاع الوحي منها وموت نبيها [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم . فأنتم أيها المحتالون إذا عملتم بهذا الحكم الثابت في السنة فليس ذلك من العمل بالحيلة في شيء ، بل من العمل بالشريعة الإسلامية ، ولا نطلب منكم إلا العمل بها والثبوت على ما فيها ، وترك تحليل حرامها وإبطال فرائضها . فاشدد يديك على ما ذكرناه ها هنا من الجواب على المحتالين فإنك إن جاوبتهم به ألقمتهم حجراً وقطعتهم قطعاً لا يجدون عنه محيصاً .
____________________
(1/360)
وقد أجاب عنهم أهل العلم بجوابات لم نرتضها وتركنا ذكر أي شيء منها لاحتمالها للمعارضة والمناقضة وفتح باب المقال للمحتالين . ( د ) المعاريض من الشريعة : وأما ما ذكروه من قوله [ صلى الله عليه وسلم ] لمن سألهم من هم فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : ' من ماء ' ، وقوله [ صلى الله عليه وسلم ] : ' ما أحملك على ولد الناقة ' فليس في هذا من الحيلة المحرمة شيء ، بل هو من باب المعاريض في الكلام ، قد ثبت الإذن بها في هذه الشريعة كما صح عنه [ صلى الله عليه وسلم ] : ' أنه كان إذا أراد غزوة يروي بغيرها ' مع كون قوله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم ' نحن من ماء ' كلام صحيح صادق فإنه قصد [ صلى الله عليه وسلم ] ما ذكره الله سبحانه من قوله سبحانه : ! ( وهو الذي خلق من الماء بشرا ) ! ونحوها من الآيات . وكذلك قوله : ' أحملك على ولد الناقة ' فإن الجمل هو ولد الناقة ، وكذلك ما روى [ صلى الله عليه وسلم ] من قوله : ' لا تدخل الجنة عجوز ' : وكذلك ما روى عن أبي بكر رضي الله عنه في حديث الهجرة أنه كان إذا سئل عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم من هو ؟ قال : ' هذا يهديني السبيل ' . [ فالمعاريض ] باب آخر ليست من التحيل في شيء . لكن هؤلاء قد صاروا مثل الغريق بكل حبل يلتوي . فيا معشر المحتالين على الله وعلى كتابه وعلى رسوله وعلى سنته وعلى المسلمين : ( دعوا كل قول عند قول محمد ** فما آمن في دينه كمخاطر )
____________________
(1/361)
( فدع عنك بهتاً صيح في حجراته ** وهات حديثاً ما حديث الرواحل ) ( يقولون أقوالا ولا يعرفونها ** ولو قيل هاتوا حققوا لم يحققوا ) ( هـ) من الحيل المكفرة والمنافية للدين : إذا عرفت فهذا فاعلم أن من هذه الحيل الشيطانية ما يستلزم كفر فاعله وكفر من أفتاه ، وذلك كمن يفتي المرأة بأن ترتد عن الإسلام لأجل تبين من زوجها . وكمن يفتي الحاج إذا خاف الفوت وخشي وجوب القضاء عليه من قابل أن يكفر بالله ويرتد عن الإسلام ، فإذا عاد إلى الإسلام لم يلزمه القضاء . فاسمع واعجب من حيلة أوجبت كفر فاعلها وكفر من أفتاه بها فكانت ثمرة هذه الحيلة الملعونة هي خروج رجلين مسلمين من الإسلام إلى الفكر . فهل شيء من الشر يعدل هذا الشر ؟ ! وهو نوع من معاصي الله يعدل الكفر بالله والخروج عن دين الإسلام ؟ . وهذا المفتي وإن كان قد ظلم نفسه ابتداء وخرج من الإسلام إلى الكفر فعلى نفسها براقش تجنى . ولكن الشأن في ظلمه لهذه المسكينة وهذا المسكين اللذين استفتياه عن الشريعة الإسلامية فأخرجهما منها بادئ بدء . ومن جملة الحيل الملعونة ما قالوه في إسقاط القصاص الشرعي أنه إذا جرح رجلا فخشي أن يموت من الجرح فإن يدفع إليه دواء مسموماً يموت به فيسقط عنه القصاص . ومما قالوه في إسقاط حد السرقة أن السارق يقول هذه ملكي وهذه داري وهذا عبدي .
____________________
(1/362)
ومن هذه الحيل الملعونة أنه إذا اغتصب شيئاً فادعاه المغصوب عليه فأنكره فطلب تحليفه قالوا : إنه يقر به لولده الصغير فيسقط عنه اليمين ويفوز بالمغضوب . وقالوا : إذا أراد إخراج زوجته من الميراث في مرضه أقر بأنه قد طلقها ثلاثاً . وقالوا : إذا كان في يده نصاب فباعه أو وهبه قبل الحول ثم استرده سقطت عنه الزكاة . بل قالوا : إذا كان عنده نصاب من الذهب والفضة وأراد إسقاط زكاته في جميع عمره ، فالحيلة أن يدفعها إلى محتال مثله في آخر الحول ، ويأخذه منه نظيره فيستأنفا الحول ، ثم إذا كان آخر الحول فعلا كذلك فلا تجب عليهما زكاة ما عاشا . وهكذا إذا كان له عروض للتجارة قالوا : ينوي آخر الحول أنها للقنية ثم ينقض هذه النية بعد ساعة ، فلا تجب عليه زكاة ما عاش . وهكذا قالوا إذا أراد أن يجامع في نهار رمضان يبتدئ بالأكل والشرب ثم يجامع بعد ذلك ، فلا يجب عليه الكفارة . بل قالوا إنه إذا نوى قبل الجماع قطع الصوم لم تجب عليه الكفارة . وهكذا قالوا إذا كان له نصاب من السائمة فأراد إسقاط زكاتها ، فالحيلة في ذلك أن يعلفها يوماً واحداً ثم تعود إلى السوم . وكم نعد من هذه الحيل الطاغوتية لهؤلاء الشياطين فإنها في الغالب في كل باب من أبواب الشريعة . ومن لم يعرف أنها حيل باطلة معاندة للشريعة لا يجوز التعلق بشيء منها ، ولا يتحلل فاعلها مما هو عليه فهو بهيمة ليس من هذا النوع الإنساني ولا يستحق
____________________
(1/363)
أن يخاطب خطاب العقلاء فضلاً عن خطاب المتشرعين . ويجب على كل مسلم أن يعاقب فاعل هذه الحيل الملعونة بما يليق به من العقوبة حتى يرجع عن فعله ، ويلتزم بما يلزمه شرعا ، ويتوب إلى الله سبحانه من الذنب الذي أوقعه فيه المفتي له . وأما المفتي له فينبغي إغلاظ العقوبة له حتى يعترف أولا ببطلان ما خيله له الشطيان ، وأوقعه فيه من أن تلك الحيلة المعاندة لدين الإسلام ليس لها وجه صحة أو شائبة من قبول ، ثم يتوب إلى الله من أن يعود إلى شيء من تلك الفتاوى الملعونة ، فإن فعل ذلك ، وإلا فأقل الأحوال تطويل حبسه حتى تصح توبته ، وإشهاره في الناس بأنه معاند للشريعة فيما قد فعله وتحذير الناس من قبول ما يدليهم به من الغرور ويوقعهم فيه من الباطل . ( ب ) ' التقرب بالنوافل ' : قوله : ' وما زال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل ' . ' في رواية الكشميهني ' وما يزال ' بصيغة المضارع ' . ووقع في حديث أبي أمامة ' يتحبب إليَّ ' بدل يتقرب . وكذا حديث ميمونة .
____________________
(1/364)
والتقرب التفعل وهو طلب القرب . والنوافل هي ما عدا الفرائض التي افترضها الله سبحانه على عباده من جميع أجناس الطاعات من صلاة وصيام وحج وصدقة وأذكار ، وكل ما ندب الله سبحانه إليه ورغب فيه من غير حتم وافتراض . وتختلف النوافل باختلاف ثوابها فما كان ثوابه أكثر كان فعله أفضل . وتختلف أيضا باختلاف ثوابها فما كان ثوابه أكثر كان فعله أفضل . وتختلف أيضاً باختلاف ما ورد في الترغيب فيها : فبعضها قد يقع الترغيب فيه ترغيباً مؤكداً . وقد يلازمه [ صلى الله عليه وسلم ] مع الترغيب للناس في فعله . 1 - من نوافل الصلاة : ومن نوافل الصلاة المرغب فيها المؤكد في استحبابها رواتب الفرائض وهي كما في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر قال : ' حفظت عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ركعتين قبل الظهر وركعتين بعد الظهر وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل الغداة ' . وأخرجه الترمذي وصححه من حديث عائشة . وأخرجه أحمد ومسلم وأبو داود بمعناه لكن زادوا : ' قبل الظهر أربعا ' .
____________________
(1/365)
وأخرج مسلم وأهل السنن من حديث أم حبيبة بنت أبي سفيان عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قال :
' من صلى في يوم وليلة اثنتي عشرة سجدة سوى المكتوبة بنى له بيت في الجنة ' . زاد الترمذي : ' أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب ' وزاد النسائي : ' ركعتين قبل العصر ولم يذكر ركعتين بعد العشاء ' . وأخرج أحمد وأهل السنن من حديثهما قالت : سمعت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم يقول :
' من صلى أربع ركعات قبل الظهر وأربعا بعدها حرمه الله على النار ' وصححه الترمذي ، ولكنه من رواية مكحول عن عنبسة بن أبي سفيان عن أم حبيبة ولم يسمع مكحول من عنبسة ، وفي إسناد الترمذي عبد الرحمن بن القاسم بن عبد الرحمن صاحب أبي أُمامة ، وقد اختلف فيه فمنهم من يضعف روايته ، ومنهم من يوثقه . ووجه تصحيح الترمذي له أنه قد تابع مكحولا [ الشعبي ] وهو ثقة وقد صحح هذا الحديث أيضا ابن حبان . وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي عن ابن عمر أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال :
( رحم الله أمرأ صلى قبل العصر أربعا ) حسنه الترمذي ، وصححه
____________________
(1/366)
ابن حبان وابن خزيمة ، وفي إسناده محمد بن مهران وفيه مقال . وقد وثقه ابن حبان وابن عدي . وأخرج أحمد وأبو داود من حديث عائشة قالت : ' ما صلى ، [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم العشاء قط فدخل علي إلا صلى أربع ركعات أو ست ركعات ' ورجال إسناده ثقات ، ومقاتل بن بشير العجلي ، قد وثقه ابن حبان وقد أخرجه النسائي ، وأخرجه البخاري ، وأبو داود والنسائي من حديث ابن عباس قال : ' بت عند خالتي ميمونة الحديث ' وفيه ' فصلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم العشاء ثم جاء إلى منزله فصلى أربع ركعات ' وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة قالت : ' لم يكن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم على
____________________
(1/367)
شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر ' . وأخرج أحمد ومسلم والترمذي وصححه من حديثها عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قالت : ' ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها ' وأخرج أحمد وأبو داود من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] :
' لا تدعوا ركعتي الفجر ولو طردتكم الخيل ) وفي إسناده عبد الرحمن بن إسحاق المدني ويقال عباد ابن إسحاق . قال أبو حاتم الرازي : لا يحتج به ، وهو حسن الحديث وليس بثبت ولا قوي : قلت : قد أخرج له مسلم واستشهد به البخاري ووثقه يحيى بن معين . ومن النوافل المؤكدة صلاة الليل مع الوتر في آخرها : وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر قال : قام رجل فقال : يا رسول الله : ' كيف صلاة الليل ؟ فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم : صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة ' . وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة قالت : ' كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم يصلي ما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة ' .
____________________
(1/368)
وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديثها قالت : ' كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء منهن إلا في آخرهن ' . وثبت [ في ] الصحيح ' أنه كان يصلي في الليل أربعاً ثم أربعاً ثم أربعاً ثم يوتر بركعة ' وثبت الإتيان بسبع وتسع . ومن النوافل المؤكدة صلاة الضحى : والأحاديث في مشروعيتها متواترة حسبما أوضحنا ذلك في شرحنا للمنتقى ومنها ما هو في الصحيحين كحديث أبي هريرة : ' أوصاني خليلي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم بثلاث صيام ثلاثة أيام من كل شهر ، وركعتي الضحى . وأن أوتر قبل أن أنام ' . وفيهما من حديث أم هانئ ' أنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم صلى على سُبحة الضحى ثمان ركعات يسلم بين كل ركعتين ' ، ومنها ما هو في أحدهما كحديث أبي ذر قال . قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
( يصبح على كل سلامي صدقة إلى أن قال : ويجزى من ذلك ركعتين تركعهما من الضحى ) أخرجه مسلم وغيره . وأخرج مسلم وغيره من حديث عائشة قالت : ' كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم يصلي الضحى أربع وثمان ركعات ويزيد ما شاء ) . ومنها ما هو في غيرهما وهو أحاديث كثيرة . ومن النوافل المؤكدة صلاة تحية المسجد ، والأحاديث فيها كثيرة
____________________
(1/369)
صحيحة ، ومنها حديث أبي قتادة في الصحيحين وغيرهما قال : قال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
' إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ' . ومن النوافل المؤكدة الصلاة عقب الوضوء كما في حديث بلال في الصحيحين وغيرهما أنه قال له [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم : ' حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام فإني سمعت دو نعليك بين يدي في الجنة قال : ما عملت عملا أرجى عندي إني لم أتطهر طهورا في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي ' . ومن النوافل المؤكدة الصلاة بين الأذان والإقامة كما في حديث عبد الله من مغفل ' بين كل أذانين صلاة ، بين كل أذانين صلاة ثم قال في الثالثة : لمن شاء ' . وهو في الصحيحين وغيرهما . والمراد بالأذانين الأذان والإقامة . وفي لفظ من حديثه متفق عليه
____________________
(1/370)
أنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال : ' صلوا قبل المغرب ركعتين ثم قال صلوا قبل المغرب ركعتين ثم قال عند الثالثة : لمن شاء كراهية أن يتخذها الناس سنة أي واجبة ' وفي البخاري وغيره من حديث أنس قال : ' كان إذا أذن المؤذن قام ناس من أصحاب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم يبتدرون السواري حتى يخرج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم وهم كذلك ' . تذييل - محبة الله والاستكثار من تلك النوافل : والحاصل أن جميع التقرب إلى الرب عز وجل بنوافل الصلاة في جميع الأوقات من أحسن العبادات إلا في الأوقات المكروهات ، فمن استكثر منها قرب إلى الله بقدر ما فعل منها فأحبه وليس بعد الظفر بمحبة الله سبحانه لعبده شيء .
2 - من نوافل الصيام : وأما نوافل الصيام المؤكدة فهي كثيرة ، ومنها صوم شهر الله المحرم فإنه [ صلى الله عليه وسلم ] سئل أي الصيام بعد رمضان أفضل ؟ فقال : ' شهر الله المحرم ' كما ثبت في صحيح مسلم وأحمد وأهل السنن من حديث أبي هريرة .
____________________
(1/371)
ولا يعارض هذا ما أخرجه الترمذي من حديث أنس قال : ' سئل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أي الصوم أفضل بعد رمضان ؟ قال شعبان ' . لأن في إسناده صدقة بن موسى وليس بالقوي . ويؤيد أفضلية صوم المحرم ما أخرجه الترمذي وحسنه من حديث علي أنه سمع رجلاً يسأل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم وهو قاعد فقال . يا رسول الله : أي شهر تأمرني أن أصوم بعد شهر رمضان فقال ' إن كنت صائما بعد شهر رمضان فصم المحرم فإنه شهر الله فيه يوم تاب فيه على قوم ويتوب فيه على قوم يعني يوم عاشوراء ' . وقد ثبت من حديث ابن عباس وعائشة وسلمة بن الأكوع وابن مسعود في الصحيحين وغيرهما ' أنه كان [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم يصوم يوم عاشوراء قبل أن يفرض رمضان ، فلما فرض رمضان قال : من شاء صامه ومن شاء ترك ' . وثبت في صحيح مسلم وغيره أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال : ' لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع ' وفي لفظ لأحمد : ' صوموا يوم عاشوراء ، وخالفوا اليهود صوموا قبله يوما وبعده يوماً ' . ومن نوافل الصيام المؤكدة : صيام ست من شوال كما في حديث
____________________
(1/372)
أبي أيوب عند أحمد ومسلم وأهل السنن عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم أنه قال : ' من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال فذلك صيام الدهر ' . وأخرج أحمد وابن ماجه والنسائي والدارمي والبزار من حديث ثوبان عنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم أنه قال : ' من صام رمضان وستة أيام بعد الفطر كان تمام السنة من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ' . وفي الباب أحاديث : ومن نوافل الصيام المؤكدة : صوم عشر ذي الحجة فقد ثبت في الصحيح عنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم أنه قال : ' ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام - يعني أيام العشر ، قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في
____________________
(1/373)
سبيل الله ؟ قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك شيء ' . ومن العشر يوم عرفة وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي قتادة قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
' صوم يوم عرفة يكفِّر سنتين ماضية ومستقبلة ، وصوم يوم عاشوراء يكفر سنة ماضية ' . ومن نوافل الصيام المؤكدة صوم شعبان كما أخرج أحمد وأهل السنن من حديث أم سلمة ' أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم لم يكن يصوم من السنة شهراً تاما إلا شعبان يصل به رمضان ' وحسنه الترمذي . ويكفي في مشروعية : مطلق التنفل بالصيام ، حديث : ' الصوم لي وأنا أجزي به ' . وهو حديث صحيح . 3 - من نوافل الحج : وأما نوافل الحج ، فيكفي في ذلك حديث أبي هريرة : ' قال : سئل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم : أي الأعمال أفضل ؟ قال : إيمان بالله وبرسوله قال ثم ماذا ؟ قال الجهاد في سبيل الله قال : ثم ماذا ؟ قال : حج مبرور ' وهو في الصحيحين وغيرهما ، وقد احتج به من فضل نفل الحج على نفل الصدقة . وفي الصحيحين وغيرهما من حديثه أيضاً : أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال :
' العمرة [ كفارة ] لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ' . وفي الصحيحين وغيرهما من حديثه قال : سمعت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم يقول :
____________________
(1/374)
' من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ' . 4 - من نوافل الصدقة : وأما نوافل الصدقة فقد ورد فيها الترغيب العظيم ، ولو لم يكن من ذلك إلا قول الله عز وجل : ( وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين ) وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم : ' ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان من السماء فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفاً ' . وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي أمامة قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
' يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك ، وإن تمسكه شر لك ، ولا تلام على كفاف ، وابدأ بمن تعول واليد العليا خير من اليد السفلى ' . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة أنه سمع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم يقول :
' مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما فأما المنفق فلا ينفق إلا [ سبغت ] عليه ووفرت على جلده حتى تخفى بنانه وتعفو أثره . وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئاً إذا لزمت كل حلقة مكانها فهو يوسعها فلا تتسع ' . وأخرج البخاري وغيره من حديث ابن مسعود قال : ' قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم : أيكم مال وراثه أحب إليه من ماله ؟ قالوا يا رسول
____________________
(1/375)
الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه . قال : فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر ' . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أسماء بنت أبي بكر قالت : قال لي رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم ' لا توكى فيوكى الله عليك ' وفي رواية ' أنفقي أو انفحي أو انضحي ولا تحصي فيحصي الله عليك ولا توعي فوعى الله عليك ' . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال :
' لا حَسَدَ إلا في اثنتين : رجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل أتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها ' وفي رواية ' لا حسد إلا في اثنتين : رجل أتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار ' . والأحاديث في الترغيب في الصدقة وعظيم أجرها كثيرة جداً وأفضلها صلة الرحم كما في البخاري وغيره من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
' من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه ' وفي الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة قالت : ' قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم : الرحم معلقة بالعرش تقول : من وصلني وصله الله ،
____________________
(1/376)
ومن قطعني قطعه الله ' . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ميمونة ' قالت يا رسول الله : أشعرت أني أعتقت وليدتي قال : وفعلت ؟ قالت : نعم . قال أما أنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك ' وأخرج النسائي من حديث سلمان ابن عامر قال : ' قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم : الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان ، صدقة وصلة ' . ( ج ) التقرب بالأذكار : ترغيب الكتاب ، والسنة فيها : وأما نوافل الأذكار فقد ورد في الترغيب فيها وعظيم أجرها الكتاب والسنة . أما الكتاب فمن ذلك قوله عز وجل : ! ( ولذكر الله أكبر ) ! أي أكبر مما سواه من الأعمال الصالحة . وقال سبحانه : ( فاذكروني أذكركم ) وقال سبحانه : ( واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ) وقال : ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) وقال عز وجل : ( والذاكرين الله كثيرا والذاكرات ) . وفي السنة الكثير الطيب ، فمن ذلك حديث أبي هريرة قال : قال النبي
____________________
(1/377)
[ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
' أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ، وإن اقترب إلي شبراً اقتربت منه ذراعا ، وإن اقترب إلى ذراعاً اقتربت إليه باعا ، وإن أتاني مشياً أتيته هرولة ' . وأخرجه البخاري أيضاً من حديث أنس ومن حديث أبي ذر وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي موسى الذي يذكر ربه والذي لا يذكر مثل الحي والميت . وأخرج أحمد والترمذي ومالك في الموطأ وابن ماجه والحاكم في المستدرك والطبراني في الكبير من حديث أبي الدرداء قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم
' ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليكم وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة ، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ، ويضربوا أعناقكم قالوا : بلى . قال : ذكر الله ' وصَحَّحهُ الحاكم ، وقال الهيثمي :
____________________
(1/378)
إسناده حسن ، وأخرجه أحمد من حديث معاذ ، قال المنذري بإسناد جيد إلا أن فيه انقطاعا ، وقال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح إلا أن زياد بن أبي زياد مولى ابن [ عياش ] لم يدرك معاذا . وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة وأبي سعيد معا عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم أنه قال :
' لا يقعد قوم يذكرون الله تعالى إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ، ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله سبحانه فيمن
____________________
(1/379)
عنده ' . وأخرجه غير مسلم من حديثهما ، منهم أبو داود الطيالسي وأحمد في المسند ، وأبو يعلى الموصلي وابن حبان وأخرجه أيضاً من حديثهما ابن أبي شيبة والترمذي في الدعوات ، وابن شاهين في الذكر . وأخرج مسلم والترمذي والنسائي من حديث معاوية ' أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم خرج على حلقة في المسجد من أصحابه فقال : ما أجلسكم ؟ قالوا جلسنا نذكر الله نحمده على ما هدانا للإسلام ومن به علينا . فقال آلله ما أجلسكم إلا ذلك ؟ قالوا : آلله ما أجلسنا إلا ذلك قال : أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة ' . وأخرج الترمذي وحسنه من حديث أنس من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم أنه قال :
' إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا يا رسول الله وما رياض الجنة ؟ قال حلق الذكر ' وأخرجه أيضاً من حديثه أحمد في المسند والبيهقي في الشعب . قال المناوي : وإسناده وشواهده ترتقي إلى الصحة .
____________________
(1/380)
وأخرجه الطبراني من حديث ابن عباس وفي إسناده رجل مجهول . والأحاديث في فضائل الذكر كثيراً جداً قد ذكرنا منها في شرحنا لعدة الحصن الحصين أحاديث كثيرة وذكرنا المفاضلة بينها وبين سائر الأعمال فليرجع إليه . أعظم الأذكار أجرا : وينبغي أن نذكر ههنا ما عظم أجره من الأذكار لينتفع به المطلع على هذا الشرح . فأفضل الذكر ما كان في دعاء الرب عز وجل فإنه مطلوب منه سبحانه كما قال : ( ادعوني أستجيب لكم ) وعقبه بقوله : ! ( إن الذين يستكبرون عن عبادتي ) ! الآية ، فجعل الدعاء له في حوائج العبد عبادة ، وجعل تارك الدعاء مستكبراً عن عبادته . فسبحان الله العظيم ذي الكرم الفياض ، والجود [ المتتابع ] . جعل سؤال عبده لحوائجه وقضاء مآربه عبادة له وطلبه منه وذمه على تركه بأبلغ أنواع الذم ، فجعله مستكبراً على ربه . فشكراً لك يا رب على هذه النعمة شكراً يليق بك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك . وقال عز وجل : ( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ' وقال : ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان )
____________________
(1/381)
ومما قلته من النظم في شكره عز وجل على نعمه التي هذه النعمة العظمى فرد من أفرادها : ( لو كان لي كل لسان لما ** وفيت بالشكر لبعض النعم ) ( فكيف لا أعجز عن شكرها ** وليس لي غير لسان وفم ؟ ) ( هذا هو الإفضال هذا العطاء ** الفياض ، هذا الجود هذا الكرم ) وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه وأهل السنن الأربع وابن حبان من حديث النعمان بن بشير قال : قال [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم : ' الدعاء هو العبادة ' ثم تلا الآية : ( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ، إن الذين يستكبرون عن عابدتي - الآية ) . وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم . وأخرج الترمذي من حديث أنس قال قال رسول [ الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم ] : ' الدعاء مخ العبادة ' . وأخرج الترمذي وابن حبان من حديث سلمان عنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال : ' لا يرد القضاء إلا الدعاء ولا يزيد العمر إلا البر ' وصححه ابن حبان .
____________________
(1/382)
وأخرجه أيضاً الحاكم وصححه . وقال الترمذي حسن غريب . وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير ، والضياء في المختارة . وأخرج ابن أبي شيبة والطبراني في الكبير ، والحاكم في المستدرك وابن حبان في صحيحه من حديث ثوبان أنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال :
' لا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر ، وأن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ' . وأخرج الحاكم في المستدرك والبزار والطبراني في الأوسط والخطيب من حديث عائشة عنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم : ' لا يغنى حذر من قدر ، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل وأن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة ' . قال الحاكم صحيح وتعقبه الذهبي في التلخيص ، بأن زكريا بن منصور أحد رجاله مجمع على ضعفه . وقال في الميزان ضعفه ابن معين ، ووهاه أبو زرعة ، وقال البخاري منكر الحديث وقال ابن الجوزي : حديث
____________________
(1/383)
لا يصح ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد : ' رواه أحمد وأبو يعلى بنحوه ، والبزار والطبراني في الأوسط ، ورجال أحمد وأبي يعلى وأحد إسنادي البزار ، رجاله رجال الصحيح ، وغير علي بن أحمد الرفاعي وهو ثقة ' . قلت : وبهذا يعرف أن الحديث إذا لم يكن صحيحاً كما قال الحاكم فأقل أحواله أن يكون حسناً . وأخرج الترمذي وابن حبان من حديث عائشة عنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم : ' ليس شيء أكرم على الله من الدعاء ' قال الترمذي : حسن غريب ، وأخرجه أيضاً من حديثها أحمد في المسند والبخاري في التاريخ ، وابن ماجه والحاكم في المستدرك . وقال صحيح وأقره الذهبي ، وقال ابن حبان : حديث صحيح . قلت : وإنما لم يصححه الترمذي لأن في إسناده عنده عمران القطان ضعفه النسائي وأبو داود ومشاه أحمد . قال ابن القطان : رواته كلهم ثقات إلا عمران وفيه خلاف . وأخرج الترمذي من حديث أبي هريرة عنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم أنه قال : ' من لم يسأل الله يغضب عليه ' وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف بلفظ ' من لم يدع الله يغضب عليه ' . وأخرجه باللفظ الأول والحاكم وكذلك أخرجه باللفظ الثاني في المستدرك وصححه ، وما أحسن قول الشاعر :
____________________
(1/384)
( الله يغضب إن تركت سؤاله ** وإذا سألت بني آدم بغضب ) وأخرج ابن حبان والحاكم والضياء في المختارة من حديث أنس مرفوعا : ' لا تعجزوا في الدعاء فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد ' وصححه ابن حبان والحاكم والضياء . فهؤلاء ثلاثة أئمة صححوه . وأخرج الترمذي والحاكم من حديث أبي هريرة عنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
' من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء ' وصححه الحاكم وأقره الذهبي ، وأخرجه الحاكم أيضاً من حديث سلمان وقال صحيح الإسناد . وأخرج الحاكم من حديث أبي هريرة عنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال :
' الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ونور السموات والأرض ' قال الحاكم : صحيح الإسناد . وأخرجه أبو يلعى من حديث علي بهذا اللفظ ، وأخرجه أبو يعلى أيضا من [ حديث ] جابر قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
' ألا أدلكم على ما ينجيكم من عدوكم ويدر [ لكم ] أرزاقكم ؟ تدعون الله سبحانه في ليلكم ونهاركم فإن الدعاء سلاح المؤمن ' . وأخرج أحمد من حديث أبي هريرة عنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم : ' ما من مسلم ينصب وجهه لله في مسألة إلا أعطاه إياها إما أن يعجلها له وإما أن يدخرها له ' قال المنذري في الترغيب والترهيب : إسناده لا بأس به . وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد والحاكم .
____________________
(1/385)
وأخرج أحمد والبزار وأبو يعلى والحاكم من حديث أبي سعيد عنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
' ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث : إما أن يعجل له دعوته ، وإما أن يدخرها له في الآخرة ، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها ' قال الحاكم صحيح الإسناد . وقال المنذري : أسانيده جيدة وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه وابن حبان وصححه والحاكم وصححه أيضاً من حديث سلمان عنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
' إن ربكم حيي كريم يستحيي إذا رفع الرجل إليه [ يديه ] أن يردهما صفرا خائبتين ' . وأخرجه الحاكم وصححه من حديث أنس . أذكار الأوقات وفوائدها : ومن أكثر الأذكار أجوراً وأعظمها جزاء الأدعية الثابتة في الصباح والمساء فإن فيها من النفع والدفع ما هي مشتملة عليه . فعلى من أحب السلامة من الآفات في الدنيا والفوز بالخير الآجل والعاجل أن يلازمها ويفعلها في كل صباح ومساء ، فإن عسر عليه الإتيان بجميعها أتى ببعض منها . وقد ذكرها صاحب عدة الحصن وذكرنا في الشرح لها تخريجها وبيان معانيها وما ورد في معناها . وكذلك ينبغي ملازمة ما يقال عند النوم وعند الاستيقاظ ، فإن ذلك هو الترياق المجرب في دفع الآفات . وهي أيضاً مذكورة في العدة . وكذلك ينبغي للإنسان أن يحافظ عند خروجه من بيته على أن يقول :
____________________
(1/386)
' أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ' : ويقول : بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ' ، وآية الكرسي فإن ذلك حرز حريز من جميع الشرور لما ورد في هذين الذكرين بهذا اللفظ ، وما ورد في آية الكرسي . وكذلك ملازمة الاستغفار فإنه المرهم الذي يغسل كل ذنب ، ومن غفرت ذنوبه فاز ، وعلى الصراط السوي جاز ، وقد ورد في ذلك أحاديث ذكرها أئمة الحديث . وقد ذكر صاحب عدة الحصن منها نصيبا وافراً وذكرنا في شرحنا لها ، للكلام على كل حديث منها وضممنا إليها زيادة على ما فيها . أذكار التوحيد : ومن أعظم ما يلازمه العبد من أذكار الله سبحانه هو كلمة التوحيد . وقد أخرج الترمذي وأحمد بن حنبل من حديث جابر عنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال :
' أفضل الذكر لا إله إلا الله ' ولفظ أحمد ' لا إله إلا الله أفضل الذكر وهي أفضل الحسنات ' . وأخرجه أيضا ابن ماجه من حديثه بلفظ : ' أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله ' وكذا أخرجه النسائي وابن حبان وصححه والحاكم وقال صحيح الإسناد . كلهم أخرجوه من طريق طلحة بن حراش عن جابر . وطلحة أنصاري مدني صدوق . قال : الأزدي له ما ينكر ووثقه ابن حبان ، وأخرج له في صحيحه وأخرج أحمد من حديث أبي ذر قال : ' قلت يا رسول الله أوصني قال : إذا [ عملت ] سيئة فأتبعها حسنة تمحوها قال قلت يا رسول الله : أمن الحسنات لا إله إلا الله ؟ قال : هي أفضل الحسنات ' .
____________________
(1/387)
قال في مجمع الزوائد رجاله ثقات إلا أن سمرة بن عطية حدث به عن أشياخه من أبي ذر ولم يسم أحدا منهم . وأخرج مسلم من حديث أبي ذر قال : قال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
' ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة ' وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة أنه قال : يا رسول الله ' من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم : لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث [ أحد ] أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث ، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قالها خالصا من قلبه ' ، والأحاديث الثابتة في كون من قال هذه الكلمة وكانت آخر قوله دخل الجنة متواترة ، فالحمد لله على ذلك . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي أيوب أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال
' من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات كان كمن أعتق أربعة من ولد إسماعيل ' .
____________________
(1/388)
الصلاة على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وفضلها : ومما ينبغي لطالب الخير ملازمته ، والاستكثار منه وجعله فاتحة لكل دعاء الصلاة والسلام على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم . فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث جماعة ' أن من صلى على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات ' . فانظر إلى هذا الأمر العظيم والجزاء الكريم ، يصلي العبد على الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم واحدة فيصلى عليه خالق العالم ورب الكل عز وجل عشر مرات ؟ فهذا ثواب لا يعادله ثواب وجزاء لا يساويه جزاء وأجر لا يماثله أجر ! ! فليستكثر منه من شاء الاستكثار من الخير فإن هذا العبد الحقير الذي هو أحد مخلوقات الرب سبحانه يقول بلسانه هذه الصلاة مرة فيرد الله عليه عشر مرات ؟ ! ! فهل دليل على الرضا والمغفرة والمحبة من الرب للعبد أدل من هذا الدليل وأوضح من هذه الحجة اللهم [ صلى الله عليه وسلم ] على محمد وعلى آله محمد عدد ما صلى عليه المصلون منذ بعثته إلى الآن ، وعدد ما سيصلى عليه المصلون من الآن إلى انقضاء العالم . ومع هذا فمن أجور هذه الصلاة على سيد ولد آدم [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم ما ورد من أن أولى الناس به [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم أكثرهم صلاة عليه وما ورد من أن من صلى عليه ' [ صلى الله عليه وسلم ] ' حطت عنه عشر خطيئات ورفعت له عشر درجات وغير ذلك مما تكثر الإحاطة به . بل ورد ' أن من صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه وملائكته سبعين
____________________
(1/389)
صلاة ' أخرج ذلك أحمد في المسند من حديث عبد الله بن عمرو . قال المنذري في الترغيب والترهيب بإسناد حسن وكذلك حسنه الهيثمي وتمامه ' فليقل عبد من ذلك أو ليكثر ' . ومن نظر بعين المعرفة في هذا وفهم معناه حق فهمه طار بأجنحة السرور والحبور إلى أوكار الاستكثار من هذا الخير العظيم والأجر الجسيم والعطاء الجليل والجود الجميل فشكراً لك يا واهب الجزل ومعطي الفضل . التسبيح وفوائده : ومما ينبغي لطالب الخير ملازمته التسبيح والتكبير والتوحيد والتحميد فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث سمرة بن جندب قال : ' قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم : أحب الكلام إلى الله أربع : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر لا يضرك بأيهن بدأت ' . وأخرجه من حديثه أيضا النسائي وابن ماجه وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
' كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ' وورد أن الأربع الكلمات المتقدمة أفضل الكلام بعد القرآن ، كما أخرجه أحمد بإسناد رجاله رجال الصحيح .
____________________
(1/390)
الأدعية النبوية : وينبغي لطالب الخير وباغي الرشد أن يلازم من الأدعية النبوية ما تبلغ إليه طاقته . وأقل حال أن يلازم الكلمات الجامعة مثل قوله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
' اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتكم وتحول عاقبتك وفجأة نقمتك وجميع سخطك ' هكذا ثبت في صحيح مسلم عنه [ صلى الله عليه وسلم ] من حديث ابن عمر وأخرجه من حديثه أيضا أبو داود والنسائي . ومثل حديث أبي هريرة عند مسلم قال : ' كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم يقول : اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي ، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي ، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير واجعل الموت راحة لي من كل شر ' . ومثل حديث أبي هريرة أيضا عند الشيخين وغيرهما عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال :
' تعوَّذوا بالله من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء ' . ومثل ما أخرجه أحمد في مسنده وابن حبان والحاكم وصححاه والطبراني في الكبير قال في مجمع الزوائد وإسناد أحمد وأحد إسنادي الطبراني ثقات . ومثل حديث أنس في الصحيحين وغيرهما قال : كان أكثر دعاء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
' اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ' . ومثل سؤال الله العافية وقد ورد في ذلك أحاديث متواترة كما بيناه في شرحنا لعدة الحصن الحصين .
____________________
(1/391)
الأدعية عقب الوضوء والصلاة : ومما ينبغي لطالب الخير ملازمته الأدعية الواردة عقب الوضوء وعقب الصلوات وهي كثيرة . وأقل الأحوال أن يقتصر عقب الوضوء على ما أخرجه مسلم وأهل السنن من حديث عمر بن الخطاب عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم أنه قال :
' ما منكم من أحد يتوضأ ثم يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء ' . وعقب الصلاة على ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث المغيرة ' أنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم كان يقول في دبر كل صلاة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ثلاث مرات ' وعلى ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعا : ' أن يكبر الله ويسبحه ويحمده حتى يحصل من الجميع ( ثلاث وثلاثون ) أو من كل واحدة من هذه الكلمات إحدى عشرة كما في صحيح مسلم ، أو من كل واحدة منها عشر عشر كما في صحيح البخاري . الأدعية عند الأذان والإقامة ودخول المسجد : ويقول عند الآذان كما يقول المؤذن كما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد .
____________________
(1/392)
وبعد أن يقول المؤذن : حي على الصلاة : لا حول ولا قوة إلا بالله وبعد أن يقول حي على الفلاح لا حول ولا قوة إلا بالله ، كما في الصحيحين وغيرهما من حديث عمر بن الخطاب . ويقول عند سماع النداء : ' اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمد الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته ' أخرجه البخاري من حديث جابر . وإذا دخل المسجد يقول : ' اللهم افتح لي أبواب رحمتك ' وإذا خرج منه يقول : ' اللهم إني أسألك من فضلك ' كما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث أبي حميد أو أبي أسيد . الأدعية داخل الصلاة : أما الأدعية داخل الصلاة فهي كثيرة جداً في كل ركن من أركانها فيأتي منها بما هو صحيح عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم . وله أن يدعو بما أحب كما في حديث : ' فليتخير من الدعاء أعجبه إليه ' وهو وإن كان واردا في التشهد فلا فرق بينه وبين سائر أركان الصلاة . الأدعية في الصيام والحج والجهاد والسفر وغيرها : وهكذا ورد في الصيام والحج والجهاد والسفر وغيرها أدعية مروية في كتب الحديث يتخير منها أصحها وأكثرها فائدة فلا نطول بذكرها فهي معروفة في مواطنها . ولنرجع إلى شرح الحديث الذي نحن بصدد شرحه .
____________________
(1/393)
د - الإيمان وطريق الولاية : قال أبو القاسم القشيري قرب العبد من ربه يقع أولا بإيمانه ثم بإحسانه وقرب الرب تعالى من عبده بما يخصه به في الدنيا من عرفانه ، وفي الآخرة من رضوانه وفيما بين ذلك من وجوه لطفه وامتنانه . ولا يتم قرب العبد من الحق إلا يبعده من الخلق قال : وقرب الرب بالعلم والقدرة عام للناس ، وباللطف والنصرة خاص بالخواص وبالتأنيس خاص بالأولياء . انتهى ما نقله عنه صاحب الفتح . وأقول : يشير بقوله ' قرب العبد من ربه يقع أولا بإيمانه ثم بإحسانه ' إلى الحديث الثابت في الصحيح أنه سئل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم
____________________
(1/394)
عن الإيمان فقال :
' أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره ' . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم سئل عن الإحسان فقال : ' أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ' . 1 - الإيمان بالقدر ، وخاصة المؤمنين : فخصال الإيمان يستوي في الأربع الأدلة منها غالب المسلمين . وأما الخامسة وهي الإيمان بالقدر خيره وشره فهي الخصلة العظمى [ التي ] تتفاوت فيها الأقدام بكثير من الدرجات فمن رسخ قدمه في هذه الخصلة ارتفعت طبقته في الإيمان . ولا يستطيع الإيمان بها كما ينبغي إلا خلص المؤمنين وأفراد عباد الله الصالحين . لأن من لازم ذلك أن يضيف إلى قدر الله كل ما يناله من خير وشر غير متعرض للأسباب التي يتعلق بها كثير من الناس . وإذا مكنه الله من الإيمان بهذه الخصلة كما ينبغي وعلم أنها من عند الله سبحانه بقدره السابق لكل عبد من عباده ، هانت عليه المصائب لعلمه بأن ذلك من عند الله سبحانه ، وما كان من عند الله سبحانه فالرضى به والتسليم له شأن كل عاقل ، لأنه خالقه وموجده من العدم فهو حقه وملكه يتصرف به كيف يشاء كما يتصرف العباد في أملاكهم من غير حرج عليهم . فإن مالك العبد أو الأمة إذا أراد أن يتصرف بهما ويخرجهما عن ملكه لم تنكر العقول ذلك ولا تأباه العادات الجارية بين العباد . فكيف تصرف الرب بمخلوقه فإنه المالك للعبد وسيده ولما في الأرضين والسموات
____________________
(1/395)
من العالم الذي خلقه وشق سمعه وبصره ورزقه ومن عليه بالنعم التي لا يقدر على شيء منها إلا هو تعالت قدرته وتقدس اسمه . 2 - فوائد الإيمان بالقدر : ومن فوائد رسوخ الإيمان بهذه الخصلة أنه يعلم أنه ما وصل إليه من الخيرر على أي صفة كان وبيد من اتفق فهو منه عز وجل ، فيحصل له بذلك من الحبور والسرور مالا يقادر قدره لما له سبحانه من العظمة التي تضيق أذهان العباد عن تصورها وتقصر عقولهم عن إدراك أدنى منازلها . وإذا كان للعطية من ملك من ملوك الدنيا ما يتأثر له المعطي ويفرح به ويسر لأجله لكونه من أعظم بني آدم لجعل الله سبحانه بيده الحل والعقد في طائفة من عباده ، فكيف العطاء الواصل من خالق الملوك ورازقهم ومحييهم ومميتهم . وما أحسن ما قاله الحربي رحمه الله : ' من لم يؤمن بالقدر لم يتهنَّ بعيشه ' . وهذا صحيح فما تعاظمت القلوب بالمصائب ، وضاقت بها الأنفس وحرجت [ بها ] الصدور إلا من ضعف الإيمان بالقدر اللهم ارحمنا برحمتك فإنا من الضعف ما أنت أعلم به ، ومن عدم الصبر على حوادث الزمان مالا يخفى عليك ، ومن عدم الثبات عند المحن ما لديك حقيقته . ولكننا نسألك العافية التي
____________________
(1/396)
أرشدتنا إلى سؤالها منك ، وقد أرشدنا رسولك [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم إلى أن [ نستعيذ ] بك من سوء القضاء كما ثبت لنا عنه في الصحيحين وغيرهما أنه كان يقول : ' اللهم إني أعوذ بك من سوء القضاء ودرك الشقاء وجهد البلاء وشماتة الأعداء ' فنقول : اللهم إنا نعوذ بك مما استعاذ منه رسولك [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم فإنه قد سَنِّ ذلك لأمته . 3 - الإيمان بالقضاء والاستعاذة من سوءه : إذا عرفت هذا فاعلم أنه لا منافاة بين الإيمان بالقدر خيره وشره وبين الاستعاذة من سوء القضاء . فعلى العبد أن يجهد نفسه في الإيمان بهذه الخصلة ويمرنها عليها فإنها إذا مُرنت مرنت . اللهم أعنا على هذه النفوس وسهل لنا الخير حيث كان وقو إيماننا فإن الخير كل الخير في قوة الإيمان وبه تتفاوت المراتب . ومما يدل على جواز الاستعاذة من سوء القضاء ما ثبت من حديث الحسن السبط رضي الله عنه أنه علمه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم ذلك الدعاء بقوله في الوتر فيه ' وقني شر ما قضيت ' وهو حديث صحيح ، وإن لم يكن في الصحيحين .
____________________
(1/397)
4 - الإيمان والإحسان ولمن يجتمعان : وتأمل بيان رسول الله [ [ صلى الله عليه وسلم ] ] لمعنى الإحسان فإنه يدل على أنه رتبة عَلِيَّةٌ لأن من عند الله كأنه يراه قد بلغ إلى أعلى منازل الخشوع الذي هو روح الصلاة وبه يتفاوت أجرها كما ثبت في حديث ' أن الرجل يصلي فيكون له نصفها ، ثلثها ، ربعها ، الحديث ' فإن ذلك التفاوت إنما هو من جهة الخشوع وحضور القلب وقطع النظر عما سوى الله عز وجل . فهذا الذي وصل إلى هذه الرتبة لا يبلغها إلا بعد أن تحصل له خصال الإيمان على الكمال بعد خصال الإسلام ثم تحصل له هذه المزية العظمى . ولا يكون ذلك إلا لأولياء الله عز وجل الراسخين في الولاية ، البالغين إلى غاية مراتبها ، ولهذا آذان الله سبحانه من عاداهم بالحرب . وفيه إشارة إلى مراتب الطاعات بتفاوت الأشخاص وأنه قد يقع التفاوت بين الرجلين كما بين السماء والأرض فكم بين رجل يعبد الله وهو يفكر في أمر آخر ويشتغل بأمور الدنيا لا يحصل له شيء من خشوع ولا نصيب من حضور قلب ولا طرف من المراقبة ، وبين هذا الذي رزقه الله سبحانه الإحسان وشرح صدره لعبادة الرحمن . وفيه منزع قوي لما عليه أولياء الله من تلك المزايا التي لا يشاركهم [ فيها ] غيرهم ، ولا يلحق بهم فيها سواهم . ومن أنكر ما تفضل الله به عليهم من فضله الذي عم ، وكرمه الذي جم
____________________
(1/398)
فذلك لقصوره في علم الشريعة المطهرة مع جحده لما لا يدري وإنكاره لما لا يعرف اللهم غفراً . الدعاء أعظم مظاهر الولاية : وأما قول أبي القاسم القشيري في كلامه السابق أن قرب الرب تعالى من عبده بما يخصه في الدنيا من عرفانه وفي الآخرة من رضوانه فأقول : أعظم أنواع قرب العبد من الرب ما صرح به في الكتاب العزيز بقوله سبحانه : ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان ) . لقد جعل سبحانه عنوان هذا القرب الذي أخبرنا به مفسراً له ومبينا لمعناه أنه يجب دعوة من دعاه من عباده وأكرم بها خصلة وأعظم بها فائدة لا يقادر قدرها ولا تستطاع الإحاطة بما فيها من ارتفاع طبقة من يجيب دعاه ويلبي نداه . فشكرا لك يا ربنا وحمداً لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك . الولاية والعزلة : وأما قوله : ' ولا يتم قرب العبد من الحق إلا ببعده من الخلق ' فهذا إنما يكون فيمن لا نفع فيه للعباد . أما من كان ينفعهم بعلمه ، أو بموعظته أو بجهاده ، أو بإنكار المنكرات أو بالقيام فيهم بما أوجب الله على مثله القيام به ، فهذا يكون قربه من الخلق أقرب إلى الحق . وهو مقام الأنبياء ، ومقام العلماء الذين أخذ الله عليهم البيان للناس .
____________________
(1/399)
فليست هذه القضية التي ذكرها أبو القاسم كلية كما لا يخفى على من يعرف شرائع الله سبحانه ، وما ندب عباده إليه في كتبه المنزلة ، وعلى ألسن رسله المرسلة . وقد جاء في السنة أن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أحب إلى الله من المؤمن الذي لا يخالطهم . ويمكن حمل كلامه على البعد عن الخلق بإقبال قلبه على الله سبحانه ، وعدم الاعتداد بما سواه ، وأنه وإن خالطهم بمظاهره فهو مع الله بباطنه . وهذا معنى حسن ورتبة علية . اللطف والنصر وعامة المؤمنين : وأما قوله : ' وباللطف والنصرة خاص بالخواص ' فأقول : قد أخبرنا الله سبحانه في كتابه أنه لطيف بعباده . وهذا المعنى عام لكل من يصدق عليه أنه عبد الله من غير فرقة بين عوامهم وخواصهم . ولولا ما تفضل به على عباده من جرى ألطافه عليهم لم يهتدوا إلى معاش ولا معاد ولا عمل دنيا ، ولا عمل آخرة . وأما النصرة فقد وعد سبحانه في كتابه بنصرة المؤمنين : ! ( وكان حقا علينا نصر المؤمنين ) ! وينصر حزبه والمجاهدين في سبيله . فمن كان من المؤمنين أو من المجاهدين في سبيل الله ، وإن كان في عمله تخليط وفي طاعته قصور فهو ممن وعد الله سبحانه بنصرته . محبة الله بين أداء الفرض والنفل : قوله : ' حتى أحببته ' في رواية الكشميهني ( حتى أحبه ) . قال ابن حجر في الفتح : ' ظاهره أن محبة الله تعالى للعبد تقع بملازمة العبد التقرب
____________________
(1/400)
بالنوافل وقد استشكل بما تقدم أولا أن الفرائض أحب العبادات المتقرب بها إلى الله تعالى فكيف لا تنتج المحبة ؟ والجواب : أن المراد من النوافل ما كانت حاوية للفرائض مشتملة عليها ومكملة لها ويؤيده أن في رواية أبي أمامة : ' ابن آدم إنك لن تدرك ما عندي إلا بأداء ما افترضت عليك ' انتهى . وأقول هذا الإشكال مندفع من أصله فإن العبد لما كان معتقداً لوجوب الفرائض عليه وأنه أمر حتم يعاقب على تركها كان ذلك بمجرده حاملاً له على المحافظة عليها ، والقيام بها فهو يأتي بها بالإيجاب الشرعي والعزيمة الدينية . وأما النوافل فهو يعلم أنه لا عقاب عليه في تركها ، فإذا فعلها فذلك لمجرد التقرب إلى الرب خالياً من حتم عاطلا عن حزم ، فكان في فعلها من هذه الحيثية محض المحبة للتقرب إلى الله بما يحب من العمل ، فجوزى على ذلك بمحبة الله له وإن كان أجر الفرض أكثر ، فلا ينافي أن تكون المجازاة بما كان الحامل عليه هو محبة التقرب إلى الله أن يحب الله فاعله لأنه فعل ما لم يوجبه الله عليه ولا عزم عليه بأن يفعله . ومثال هذا في الأحوال المشاهدة في بني آدم أن السيد إذا أمر عبده بأن يقضي له في كل يوم حاجة أو حوائج ، وكذلك أمر من له من المماليك بمثل ذلك فكان أحدهم يقضي له تلك الحوائج ثم يقضي له حوائج أخرى يعلم أن سيده يحب قضاءها ، وتحسن لديه . والآخرون لا يقضون له إلا تلك الحوائج التي أمرهم السيد بها . فمعلوم أن ذلك العبد الذي صار يأتي له كل يوم بما أمره
____________________
(1/401)
به وبغيره مما يحبه ، يستحق المحبة من السيد محبة زائدة على [ محبته ] لكل واحد منهم . فالمراد من الحديث هذه المحبة الزائدة الحاصلة من فعله لما يحبه سيده من غير أمر منه له مع قيامه بما قام به غيره من امتثال أمر السيد والتبرع بالزيادة التي لم يأمره بها . وقال الفاكهاني : ' معنى الحديث أنه إذا أتى بالفرائض ودام على إتيان النوافل من صلاة وصيام وغيرهما أفضى به ذلك إلى محبة الله تعالى ' . انتهى . أقول : المراد في الحديث المحبة الحاصلة من النوافل خاصة لا من مجموع الفرائض والنوافل . وكون فاعل الفرائض محبوباً لا ينافي هذه المحبة الخاصة . داء الفرائض شرط في اعتبار النوافل : فالحاصل أن الاختلاف بين المحبتين ظاهر واضح لاختلاف الأسباب وإن كان سببية أحد السببين مشروطة بفعل السبب الآخر ، فإن من ترك الفرائض وجاء بالنوافل : ( كتاركة بيضها بالفلا ** وملبسة بيض أخرى جناحا ) وقال ابن هبيرة : ' يؤخذ من قوله ( ما تقرب إلى آخره ) أن النافلة لا تقدم على الفريضة لأن النافلة إنما سميت نافلة تأتي زائدة على الفريضة فما لم
____________________
(1/402)
يؤدي الفريضة لا يحصل النافلة ، ومن أدى الفرض ثم زاد عليه النفل وأدام تلك تحققت منه إرادة التقرب ' انتهى . وأقول : أما قوله أنه يؤخذ من قوله ما تقرب إلى آخره أن النافلة لا تقدم على الفريضة فليس في مثل هذا خلاف لأن الأمر بالفرائض حتم فالإتيان بما هو حتم مقدم لا ينازع في ذلك أحد ولا يحتاج مثله إلى التحرير والذكر . وقد صح عنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم أنه قال :
' إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ' . ليست المداومة شرطا في القرب : وأما قوله . ' وأدام ذلك ' فليس في هذا الحديث ما يدل على الإدامة ، بل المراد مجرد وجود التقرب بالنوافل وقتاً فوقتاً وتارة فتارة ، فإن من فعل هكذا يصدق عليه أنه متقرب بالنوافل وإن لم يحافظ عل ذلك حتى يصدق الدوام على ذلك الذي تقرب به ويصدق عليه أنه مديم للتقرب . قال ابن حجر بعد نقله لكلام ابن هبيرة المتقدم : ' وأيضاً قد جرت العادة أن التقرب يكون غالباً بغير ما وجب على المتقرب كالهدية والتحفة بخلاف من يؤدي [ ما ] عليه من إخراج أو يقضي ما عليه من دين ' انتهى .
____________________
(1/403)
وأقول لا حاجة إلى استخراج هذا المعنى العرفي للتقرب فإنه لا يفيد شيئاً مع العلم بأن معنى التقرب في لسان العرب وفي لسان الشرع يشمل كل ما يتقرب به العبد من فريضة أو نافلة . وصدقه على الفرائض أقدم لكون أمرها ألزم . وأيضاً قد أغنى عن هذا الاستخراج لفظ النوافل فإنها في لسان الشرع ما زاد على الفرائض . قال ابن حجر : ' وأيضاً فإن من جملة ما شرعت له النوافل جبر الفرائض كما صح في الحديث الذي أخرجه مسلم ' انظروا هل لعبدي من تطوع فتكمل به فريضته ' ؟ الحديث بمعناه . فتبين أن المراد من التقرب بالنوافل أن تقع ممن أدى الفرائض لا ممن أخل بها كما قال بعض الأكابر : ' من شغله الفرض عن النفل فهو معذور ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور ' انتهى . أقول : لا يخفى عليك أن أصل الإشكال عند هؤلاء الذين تكلموا بمثل هذا الكلام هو ورود المحبة في جانب التقرب بالنوافل ، وقد بينا وجهه ، وأي مدخل لذكر أن النوافل تجبر بها الفرائض فإن هذا إنما هو إذا احتيج إلى الترجيح بين الفرائض والنوافل ، فإن الفرائض هي التي قال فيها النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم ' وما تقرب إلي [ عبدي ] بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ' فإن هذا قد دل دلالة أوضح من شمس النهار أن التقرب بالفرائض أحب إلى الله من
____________________
(1/404)
كل شيء . والنوافل ليست بهذه المنزلة فإنها من جملة ما دخل تحت النكرة في سياق النفي لكن الرب جعل فعلها سببا لحبه لفاعلها من حيث أنه جاء بزيادة على ما أمره به محبة للتقرب إلى الله بما لم يؤمر به . فاستحق محبة الله له مع كون تأدية الفرائض أحب إلى الله . لكن صاحب هذه النافلة محبوب له لتلك التكتة التي قدمنا ذكرها ، والفرائض أحب ما تقرب به إلى الله . ثم لا خلاف أن نوافل من هو تارك للفرائض ليست بمنزلة نافلة من هو مقيم للفرائض والمتنفل الذي يحبه الله هو الذي جاء بفريضته ، ثم تنفل ما كتبه الله له . ولهذا سميت نافلة أي زائدة على ما افترضه الله على العبد . فما لنا وللتعرض للمفاضلة بين الفريضة والنافلة ، فإن هذا كلام خارج عن مقصود الحديث القدسي . وكيف يعتضد بما نقله عن بعض الأكابر على هذا الأمر الذي هو من الشريعة بمنزلة أوضح من شمس النهار ؟ ! ! محبة الله شاملة للمتقرب بالفرض والمتقرب بالنفل : وإيضاح المقام بأن يقال إن الترجيح فرع التعارض ولا تعارض هنا ألبتة لأن كون الفرائض أحب القرب إلى الله لا ينافي كون المتقرب بالنوافل يحبه الله ، وإنما يكون التعارض في هذا المقام لو قال : من جاء بالفرائض فهو أحب إلى الله من كل أحد ، ومن تقرب بالنوافل فهو أحب إلى الله من كل أحد ؟ ! ! وأما مجرد كونه يحب أحدهما ، فإنه لا ينافي أن يحب الآخر ثم لا تنافى بين
____________________
(1/405)
ما ترتب عليهما ، فإن الذي ترتب على التقرب بتأدية الفرائض هو كون هذا التقرب أحب إلى الله من كل شيء من أعمال الخير ، والذي ترتب على التقرب بالنوافل ، هو أن الله يحب فاعلها ، وكونه . يحب فاعلها ، لا ينافي كونه يحب غيره . وكون تأدية الفرائض أحب من غيرها لا ينافي أن تكون تأدية النوافل محبوبة ، بل هو المعنى الذي يفيده أفعل التفضيل فإنه يدل على الاشتراك في الأصل ، فالفرائض والنوافل محبوبة إلى الله ولكن الفرائض أحب إليه ، وصاحب النافلة يحبه الله ولا ينافيه أن يحب صاحب الفريضة ، لكن صاحب النافلة لما جاء بما جاء به صاحب الفريضة وزاد عليه بما فعله من النافلة ترتب على محبته ما تضمنه الحديث من كونه سبحانه سمعه الذي يسمع به إلى آخر ما في الحديث . ومعلوم أن صاحب العملين أجره أكثر من صاحب العمل ، فاعرف هذا واشدد يدك عليه فإنه قد وقع من شراح الحديث في هذا الموطن خبط كثير .
____________________
(1/406)
الفصل الثالث أثر محبة الله في حياة الولي
____________________
(1/407)
فارغة
____________________
(1/408)
هدايته وتوفيقه قوله : ' فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده الذي يبطش بها ورجله الذي يمشي بها ' في حديث عائشة في رواية عبد الواحد ' عينه التي يبصر بها ' وفي رواية يعقوب ' عينه الذي يبصر بهما ' بالتثنية . وكذا قال في الأذن واليد والرجل . وزاد عبد الواحد في روايته وفؤاده الذي يعقل به ، ولسانه الذي يتكلم به ' ونحوه في حديث أبي أمامة . وفي حديث أنس ' ومن أحببته كنت له سمعا وبصراً ويداً ومؤيدا ' ووقع في رواية ' فبي يسمع وبي يبصر ، وبي يبطش وبي يمشي ' . قوله : ' ويده الذي يبطش بها ورجله الذي يمشي بها ' هكذا وقع في الصحيح في باب التواضع بلفظ الذي في الموضعين ولعله على تأويل اليد والرجل بالعفو لأنهما مؤنثتان ، وكان على مقتضى هذا التأويل أن يقول الذي
____________________
(1/409)
يبطش به الذي يمشي [ به ] ولكنه أنث وذكر بالاعتبارين والله أعلم . قوله يبطش قال في الصحاح : البطشة السطوة والأخذ بالعنف وقد بطش به يَبطِشُ ويَبْطُشُ بطشا ، وباطَشَهُ مباطشة . المراد من أن الله صار سمع العبد وبصره إلخ : قال ابن حجر في الفتح : ' وقد استشكل كيف يكون الباري جل وعلا سمع العبد وبصره إلى آخره . والجواب من أوجه : أحدها أنه ورد على سبيل التمثيل ، والمعنى كنت كسمعه وبصره في إيثاره أمري فهو يحب طاعتي ويؤثر خدمتي كما يحب هذه الجوارح ' انتهى الوجه الأول . وأقول : هذا مع كونه إخراجاً للكلام عن الظاهر البين الواضح فهو مدفوع بالرواية المتقدمة من روايات الصحيح وهي قوله : ' فبي يسمع وبي يبصر الخ ' . ومدفوع أيضاً بالرواية المتقدمة وهي قوله : ' كنت له سمعاً وبصراً ويداً ومؤيداً ' فإن ذلك التأويل لا يتيسر في مثل هذه الرواية لا سيما مع قوله ومؤيدا . قال ابن حجر : وثانيها ' أن المعنى أن كليته مشغولة بي فلا يصغي بسمعه إلا إلى ما يرضيني ولا يرى ببصره إلا إلى ما أمرته به ' انتهى .
____________________
(1/410)
وأقول : هذا أقرب من الوجه الأول وأقل تكلفاً وحاصله : أن هذا الكلام خارج مخرج التوفيق للعبد إلى طاعات الله وتسديده عن الوقوع في شيء من معاصيه . قال ابن حجر : ثالثها ، المعنى ' أجعل له مقاصده كَأنه ينالها بسمعه وبصره الخ ' انتهى . وأقول : هذا الوجه مغسول عن الفائدة غذ لا معنى لنيل مقاصده بسمعه وبصره وإن أمكن تأويله بما كان من المقاصد التي لا يقصد بها إلا السماع لها أو النظر إليها ، وما أقل ذلك . وهو إن استقام في اليد والرجل لأن اليد هي آلة الأخذ للشيء والرجل هي آلة المشي إليه لكن كان يغني عن هذا كله كنت معيناً له على تحصيل مطالبه وتقريباً منه . قال : ورابعها : ' كنت له في النصرة كسمعه وبصره ويده ورجله على عدوه ' انتهى . وأقول : الله أعلى وأجل من أن يكون في معاونة عبده الضعيف كهذه الجوارح الضعيفة ، فمعونته أكبر من كل كبير ، وأجل من كل جليل ، وإنما يصلح ذلك لو كان المراد المساعدة والانقياد ، فإنه يقال مثل هذا على من كان مساعداً منقاداً كانقياد هذه الجوارح لصاحبها . ومثل ذلك لا يصلح في جانب رب العالم وخالق الكل تعالى وتقدس . وأيضاً لا يصلح ذلك في بني آدم إلا إذا كان من قال فلان : هو كسمعي وبصري عزيزاً عليه ، وكان من قال : هو كيدي ورجلي قاضياً في حوائجه ، كما يفعله الخادم الناصح .
____________________
(1/411)
قال : خامسها : قال الفاكهاني وسبقه إلى معناه ابن هبيرة : ' هو فيما ظهر لي أنه على حذف مضاف والتقدير كنت حافظ سمعه الذي يسمع به فلا يسمع إلا ما يحل سمعه وحافظ بصره إلى آخره ' . وأقول : ما أبرد هذا التقدير وأقل جدواه وعلى كل حال فهو يؤول إلى معنى الوجه الثاني . قال : سادسها : ' قال الفاكهاني تحتمل معنى آخر أدق من الذي قبله وهو أن يكون معنى سمعه مسموعه لأن المصدر قد جاء بمعنى المفعول مثل فلان أملي أي مأمولي . والمعنى أنه لا يسمع إلا ذكري ولا يلتذ إلا بتلاوة كتابي ، ولا يأنس إلا بمناجاتي ، ولا ينظر إلا في عجائب ملكوتي ولا يمد يده إلا فيما فيه رضائي ورجله كذلك . وبمعناه قال ابن هبيرة أيضاً ' انتهى . وأقول هذا الذي زعمه أدق معنى هو أبعد مسافة مما قبله وكون الله عز وجل مسموع العبد ومبصره على ما فيه من عوج كيف يصح مثل هذا التأويل في اليد والرجل مع أن تلك الرواية الثابتة في الصحيح وهي ' فبي يسمع وبي يبصر الخ ' تدفع هذا التأويل وترده على عقبه . قال الطوفي : اتفق العلماء ممن يعتد بقوله على أن هذا مجاز وكناية عَنْ
____________________
(1/412)
نصرة العبد وتأييده ، وإعانته حتى كأنه سبحانه نزل نفسه من عبده منزلة الآلات التي يستعين بها ، ولهذا وقع في رواية ' فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ) . والاتحادية زعموا أنه على حقيقته ، وأن الحق تعالى عين العبد . واحتجوا بمجيء جبريل في صورة دحية . قالوا : فهو روحاني خلع صورته وظهر بمظهر البشر . قالوا : والله سبحانه أقدر على أن يظهر في صورة الوجود الكلي أو بعضه . تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا ' انتهى . أقول : هذا الذي ذكره من التنزيل لا يليق بجنابه سبحانه كما قدمنا في المصير إلى هذا المجاز بهذا الوجه كما قال الشاعر : ( فكنت كالساعي إلى مثعب ** موائلا من سبل الراعد ) وأما ما حكاه عن الاتحادية فليس ذلك مما يستحق التعرض لرده . وقال الخطابي : هذا مثال . والمعنى توفيق الله تعالى لبعده في الأعمال
____________________
(1/413)
التي يباشرها بهذه الأعضاء وتيسر المحبة له فيها بأن يحفظ جوارحه عليه ويعصمه عن مواقعة ما يكرهه الله تعالى من الإصغاء إلى اللهو بسمعه ومن النظر إلى ما نهى عنه تعالى ببصره ، ومن البطش فيما لا يحل له بيده ، ومن السعي إلى الباطل برجله . وإلى هذا نحا الداودي ومثله الكلاباذي وعبر بقوله ' أحفظه فلا يتصرف إلا في محابي ، لأنه إذا أحبه كره له أن يتصرف فيما كرهه منه ' انتهى . وأقول : هذا يرجع إلى الوجه الثاني . قال ابن حجر : وسابعها : قال الخطابي أيضاً : وقد يكون عبر بذلك عن سرعة إجابة الدعاء والنجح في الطلب . وذلك أن مساعي الإنسان كلها إنما تكون بهذه الجوارح المذكورة . وقال بعضهم : وهو منتزع مما تقدم : ' لا تتحرك له جارحة إلا في الله
____________________
(1/414)
ولله فهي كلها تعمل بالحق للحق ' انتهى . وأقول : هذا الوجه السابع يرجع إلى الوجه الثاني ، كما رجع إليه قول البعض . هذا ولا يخفاك أن جعل كنت سمعه بمعنى سامع دعائه مجيبه إلى مطلوبه فيه من البعد ما لا يخفى على من يفهم تصاريف الكلام ووجوه إفاداته . إذا عرفت ما اشتملت عليه هذه الوجوه التي ذكرها ابن حجر في الفتح ، وعرفت ما قلناه في كل وجه منها . فاعلم أن الذي يظهر لي في معنى هذا الحديث القدسي ، أنه إمداد الرب سبحانه لهذه الأعضاء بنوره الذي تلوح به طرائق الهداية وتنقشع عنده سحب الغواية . وقد نطق القرآن العظيم بأن الله سبحانه هو نور السموات والأرض . وقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم لما سئل هل رأى ربه قال : ' نُورٌ أنِّي أراه ' وهو في الصحيح . وثبت أنه سبحانه محتجب بالأنوار وثبت في الصحيحين وغيرهما من دعائه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم إذا خرج إلى الصلاة ' اللهم اجعل في قلبي نوراً وفي بصري نوراً وفي سمعي نوراً وعن يميني نوراً وخلفي نوراً وفي عصبي نوراً ، وفي لحمي نوراً وفي دمي نوراُ وفي شعري نوراً وفي بشري نوراً ' وزاد مسلم : ' وفي لساني نورا واجعل في نفسي نوراً وأعظم لي نوراً ' . وأي مانع من أي يمد الله سبحانه عبده من نوره فيصير صافياً من كدورات الحيوانية الإنسانية لاحقا بالعالم العلوي سامعاً بنور الله مبصراً بنور الله باطشا
____________________
(1/415)
بنور الله ماشيا بنور الله . وما في هذا من منع أو من أمر لا يجوز على الرب سبحانه وقد سأله رسوله ، [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم وطلبه من ربه . ووصف الله عباده بقوله : ( نورهم يسعى بين أيديهم - الآية ) . وليس في هذا ما يخالف موارد الشريعة ، ولا ما ينافي إدراك عقول المتشرعين العارفين بالكتاب والسنة . وقد جعل الله سبحانه الخروج من ظلمات المعاصي إلى أنوار الطاعات خروجاً من الظلمات إلى النور . وورد في الكتاب والسنة من هذا الجنس الكثير الطيب . فمعنى الحديث كنت سمعه بنوري الذي أقدف فيه فيسمع سماعا لا كما يسمعه أمثاله من بني آدم ، وكذلك بقية الجوارح . وانظر في هذا الدعاء الذي طلبه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم أن يكون نور الله في سمعه وبصره وقلبه وعصبه ولحمه ودمه وشعره وبشره ولسانه ونفسه ، بل سأل رَبَّه أن يمده بنوره خلفه وأمامه . فلوا أن لنور الله سبحانه قوة لجميع الأعضاء ما طلبه سيد ولد آدم وخير الخليقة . والحال أن الله قد جعله نوراً لعباده فكيف لا يكون ذلك مطلوبا لسائر العباد لما ينشأ عنه من النفع العظيم ؟ . فمن أمده الله سبحانه بنوره في جميع بدنه صار لاحقاً بالعالم العلوي ومن أمد عضواً منه بنوره صار ذلك العضو نورانياً .
____________________
(1/416)
فإن كان من الحواس كان لها من الإدراك ما لم يكن لغيرها من الحواس التي لم تمد بنور الله عز وجل . وإن كان الإمداد لعضو من الأعضاء غير الحواس صار ذلك العضو قويا في عمله الذي يعمل به مستنيرا إذا عمل به الإنسان كان عمله صالحا موافقا لما هو الصواب . فاتضح لك بهذا معنى ما في هذا الحديث القدسي أي كنت بما ألقيت على سمعه وبصره ويده ورجله من نوري ، سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها . ثم أوضح هذا المعنى بقوله : ' فبي يسمع وبي يبصر ، وبي يبطش وبي يمشي ' . قال ابن حجر في الفتح : ' وأسند البيهقي في الزهد عن أبي عثمان [ الحيري ]
____________________
(1/417)
أحد أئمة الطريق قال : معناه : كنت أسرع إلى قضاء حوائجه من سمعه في الإسماع وعينه في النظر ويده في اللمس ورجله في المشي . وحمله بعض متأخري الصوفية على ما يذكرونه من مقام الفناء والمحو وأنه الغاية التي لا شيء وراءها . وهو أن يكون قائما بإقامة الله تعالى محبا بمحبته له ناظراً بنظره له من غير أن تبقى معه بقية تناط باسم أو تقف على رسم ، أو تتعلق بأمر أو توصف بوصف . ومعنى هذا الكلام أنه [ شهد ] إقامة الله تعالى له حتى قام ومحبته حتى أحبه ونظر إلى عبده حتى أقبل ناظراً إليه بقلبه . وحمله بعض أهل الزيغ على ما يدعونه من أن العبد إذا لازم العبادة الظاهرة والباطنة حتى تصفى من الكدورات أنه يصير في معنى الحق ، - تعالى عن ذلك علواً كبيراً - وأنه يفنى عن نفسه جملة حتى يشهد أن الله تعالى هو الذاكر لنفسه الموجد لنفسه ، وأن هذه الأسباب والرسوم تصير عدماً صرفاً في شهوده [ وأنه ] يعدم في الخارج . وعلى الأوجه كلها فلا تمسك فيه للاتحاد ،
____________________
(1/418)
ولا للقائلين بالوحدة المطلقة ، لقوله في بقية الحديث ' لئن سألني ولئن استعاذني فإنه كالتصريح في الرد عليهم ' انتهى . تحقيق آراء الاتحادية والصوفية : وأقول : أما ما رواه البيهقي عن أبي عثمان فهو كالوجه السابع الذي حكاه ابن حجر عن الخطابي . وما ذكره عن بعض أهل الزيغ هو ما ذكره الخطابي في كلامه السابق عن الاتحادية ، إلا أن هذا لا يكون الاتحاد [ فيه ] إلا بعد الفناء . وذاك هو اتحاد مطلق من الأصل فكانا من هذه الحيثية قولان : ويكون ما حكاه عن بعض متأخري الصوفية قولا ثالثا . فتكون الوجوه التي وجه بها قوله ' كنت سمعه الخ ' عشرة ينضم إلى ذلك ما ذكرناه واخترناه فتكون الوجوه أحد عشر وجها . وأما ما ذكره من الرد على ما حكاه عن بعض أهل الزيغ من قوله : لئن سألني ولئن استعاذني . فوجه الرد أنه يقتضي سائلا ومسئولا ومستعيذاً ومستعاذا به . ولعله رحمه الله لم يتأمل هذا الحديث كما ينبغي فإنه لو تأمله لم يقتصر على ما ذكره من السؤال والاستعاذة ، فإن الحديث كله يرد عليهم فإن قوله : من
____________________
(1/419)
عادى لي وليا برد عليهم لأنه يقتضي وجود معاد ومعادي ومعادى لأجله . ويقتضي وجود موالى وموالي ، ويقتضي وجود مؤذن ومؤذن ومحارب ومحارب ، ومتقرب ومتقرب إليه وعبد ومعبود ومحِب ، ومحَب وهكذا إلى آخر الحديث . فهو جميعه يرد على الاتحادية المتمسكين به من حيث لا يشعرون فإن قلت : لعله اقتصر في الاستدلال على الرد عليهم بذلك الوجه المأخوذ من ذلك اللفظ لكونه أوضح مما يستفاد منه الرد عليهم في سائر ألفاظ الحديث . قلت : ليس ذلك الوجه أوضح من غيره حتى يكون لتأثيره على ما عداه مزية بل هي كلها مستوية من هذه الحيثية . بل الوضوح أظهر في قوله : ' وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن ' ، فإنه يقتضي وجود متردد ومُتَرَدَّدٍ فيه وفاعل ومفعول ووجود نفس متردد فيها وهي نفس العبد المؤمن ومتردد وهو القابض لها وكاره للموت وهو المؤمن وكاره لمساءته وهو الرب سبحانه . منشأ الخطأ عند الاتحاديين : والحاصل أن قول الاتحادية يقضي عقل كل عاقل ببطلانه ولا يحتاج إلى نصب الحجة معهم . وأصل الشبهة الداخلة عليهم منقول الثنوية فإنهم جعلوا إلهين اثنين إله الخير وإله الشر : فإله الخير النور وإله الشر الظلمة ، وجعلوهما أصل الموجودات كلها ، فإذا غلب النور صار العبد نورانياً ، وإذا غلبت الظلمة صار العبد ظلمانياً . وغفلوا عن كون هذا المذهب الكفري يرد عليهم بادئ بدء ، فإن الظلمة
____________________
(1/420)
غير النور ، والشيء الذي حلا به غير هذا الحال . نعم قد يقع الغلط كثيراً عند إطلاق لفظ الوحدة مع تعدد معانيها ، فإنه يقال وحدة شهود ووحدة قصود ووحدة وجود . فالأولى معناها أنه لا يشهد إلا الله ويقطع النظر عما سواه ، وهذه وحدة محمودة . والثانية معناها : لا يقصد إلا الله ويقطع النظر عن قصد غيره ، وهذه وحدة محمودة . وأما الثالثة فهي التي جاءت على خلاف الشرع والعقل . نسأل الله سبحانه أن يهدينا إلى ما يرضيه منا من طريق لا يقدح فيها شك ولا تعترض فيها شبهة ، ولا يكون للشيطان علينا سبيل . فضل السمع على البصر في التأثر والاعتبار : واعلم أنه لم يكن لدي عند تأليف هذا الشرح شيء من الشروح إلا شرح الفتح لابن حجر رحمه الله ، ولم يذكر فيه وجه تقديم قوله : ' كنت سمعه على ما بعده ' مع أن الآيات الكونية والعبر الخلقية تتعلق بحاسة البصر أكثر من تعلقها بحاسة السمع . ولعل وجه ذلك والله أعلم أن الآيات التنزيلية والعبر القولية إنما تدرك ابتداء بالسمع ولاحظ للبصر فيها ، وكذلك سائر ما شرعه الله لعباده لأنها إما أفعال أو حكاية أفعال وهي لا تدرك ابتداء إلا بالسمع ، فكأن السمع مختصاً بالآيات التنزيلية والعبر القولية وجميع ما جاءت به الشريعة .
____________________
(1/421)
ولا شك أن ما كان بهذه المنزلة وعلى هذه الصفة من مشاعر الإدراك أولى من غيره منها وأحق بالتقديم ، مع أنه مشارك للبصر في الآيات الكونية والعبر الخارجية بوجه من الوجوه . لأنه يصف الواصف لمن يسمع ولا يبصر ما يشاهده في الخارج فيحصل له من الاعتبار والتفكر نصيب من ذلك . بخلاف المبصر الذي لا يسمع فإنه لا يمكنه إدراك شيء من الآيات التنزيلية ولا من العبر القولية ، ولا من الشريعة المشروعة للعباد من الرب سبحانه ، ومن نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم ، والله أعلم . إجابة الدعاء ، من مظاهر محبة الله للعبد ( أولا ) : قوله : ' وإن سألني لأعطينه ' باللام والنون في آخره . وكذلك في رواية ' ولئن استعاذني لأعيذنه ' وزاد في رواية عبد الواحد لفظ ' عبدي ' بعد ' سألني ' . و في ضبط استعاذني وجهان : الأول بالنون بعد الذال المعجمة والثاني بالباء الموحدة . وفي حديث أبي أمامة ' وإذا استنصرني نصرته ' وفي حديث أنس ' وإذا نصحني نصحت له ' . وفي الحديث دليل على شمول النوافل للأقوال والأفعال ، وقد بينا فيما تقدم بعض ما يدخل تحت لفظ النوافل ، وهي كثيرة جداً يضبطها أن يقال : هي كل ما رغب الشرع فيه أو وعد بالثواب عليه من غير حتم . وظاهر الصيغتين أعني قوله : ' وإن سألني أعطيته ، وإن استعاذني أعذته ' العموم . وهو في الرواية الثانية التي ذكرناها أظهر لما فيها من اللام الموطئة للقسم فيجاب له كل مطلب ويعاذ من كل ما استعاذ منه . قال ابن حجر في الفتح : ' وقد استشكل بأن جماعة من العباد والصلحاء
____________________
(1/422)
دعوا وبالغوا ولم يجابوا ' . والجواب : أن الإجابة تتنوع فتارة يقع المطلوب بعينه على الفور ، وتارة يقع ولكن يتأخر لحكمة فيه ، وتارة قد تقع الإجابة ولكن بغير المطلوب حيث لا تكون في المطلوب مصلحة ناجزة ، وفي الواقع مصلحة ناجزة ، أو أصلح منها ' . انتهى . وأقول : كان ينبغي له أن يربط هذا التقسيم بالدليل ، فإنه لا يقبل إلا بذلك . وقد أخرج أحمد بإسناد لا بأس به والبخاري في الأدب المفرد والحاكم من حديث أبي هريرة عنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال : ' ما من مسلم ينصب وجهه لله في مسألة إلا أعطاه الله إياها : إما أن يجعلها له وإما أن يدخرها له ' . وأخرج أحمد والبزار وأبو يعلى بأسانيد جيدة والحاكم وقال صحيح الإسناد من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال ' ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم ، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث : إما أن يعجل له دعوته ، وإما أن يدخرها له في الآخرة ، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها ' .
____________________
(1/423)
فقد تضمن الحديث الأول صورتين . إما التعجيل وإما التأجيل ، وتضمن الحديث الثاني ثلاث صور : الصورتين المذكورتين في الحديث الأول والثانية : أن يصرف عنه من السوء مثلها . وورد أيضاً ما يدل على وقوع الإجابة ولا محالة كما في حديث عائشة عند الحاكم والبزار والطبراني في الأوسط والخطيب عنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال :
' لا حذر من قدر والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة ' قال الحاكم : صحيح الإسناد . وتعقبه الذهبي في التلخيص بأن زكريا بن موسى أحد رجاله وهو مجمع على ضعفه . وقال الهيثمي في مجمع الزوائد رواه أحمد وأبو يعلى بنحوه ، والبزار ، والطبراني في الأوسط ورجال أحمد وأبي يعلى وأحد إسنادي البزار رجاله رجال الصحيح غير علي بن علي الرفاعي وهو ثقة . وقد قدمنا ذكر هذا الحديث وذكر ما قيل في إسناده . وقد تضمن أن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل . وذلك يشمل دفع كل البلاء النازل وأنه يعتلج هو والبلاء إلى يوم القيامة . فيمكن أن يجمع بين الحديث وبين حديث أبي هريرة وأبي سعيد بأن دفع البلاء يحصل بالدعاء على كل حال . وأما إذا كان الدعاء في مطلوب من المطالب التي ليست بدفع البلاء ، فيحتمل تلك الصور .
____________________
(1/424)
ويؤيد هذا الجمع ما أخرجه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه ، والضياء في المختارة من حديث أنس عنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم أنه قال :
' لا تعجزوا في الدعاء ، فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد ' . وقد صححه هؤلاء الأئمة الثلاثة فلا وجه لتعقب الذهبي بأن في إسناده عمر بن محمد الأسلمي وأنه لا يعرفه لأنه قد عرفه هؤلاء الأئمة ولو لم يعرفوه لم يصححوا الحديث . لكنه حكى الذهبي في الميزان عن أبي حاتم أنه مجهول . وقال ابن حجر في لسان الميزان : أنه تساهل الحاكم في تصحيحه . ويجاب عنه بأنه قد صححه معه ابن حبان والضياء وهما ما هما ! ؟ ومعلوم أنهما لا يصححان إلا حديثاً قد عرفا إسناده . ومن علم حجة على من لم يعلم . ومما يدل على إجابة الدعاء على العموم حديث سلمان عند أبي داود والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم ، وقال صحيح على شرط الشيخين قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
' إن الله حيي [ كريم ] يستحي إذا رفع الرجل يديه إليه أن يردهما صفراً خائبتين ' . وأخرج الحاكم وقال صحيح الإسناد من حديث أنس قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
' إن الله حيي كريم يستحي من عبده أن يرفع إليه يديه ثم لا يضع فيهما خيراً ' . ويدل على إجابته على العموم بالآيات التي قدمنا ذكرها .
____________________
(1/425)
أثر نوافل الصلاة وغيرها في محبة الله لعبده : قال ابن حجر ' في الحديث عظم قدر الصلاة ، فإنه نشأ عنها محبة الله تعالى للعبد الذي تقرب بها . وذلك لأن محل النجاة القربة ، ولا واسطة فيها بين العبد وربه ، ولا شيء أقر لعين العبد منها ، ولهذا جاء في حديث أنس المرفوع : ' وجعلت قرة عيني في الصلاة ' أخرجه النسائي وغيره بسند صحيح ، ومن كانت له قرة عينه في شيء فإنه يود أن لا يفارقه ولا يخرج منه لأن فيه نعيمه وبه تطيب حياته . ولا يحصل ذلك للعابد إلا بالمصابرة على النصب فإن السالك عرضة الآفات والفتور ' . انتهى . أقول : خص في كلامه هذا من بين النوافل نوافل الصلاة مع أن نوافل الصيام والحج والصدقة ونحوها ورد فيها ما ورد في الترغيب في نوافل الصلاة . وبعضها ورد في نوافله ما أجره أعظم من أجر نوافل الصلاة كما في أحاديث الترغيب في ذلك . وقد قدمنا طرفا منها . ولا وجه لذلك فإن الحديث صرح بعموم النوافل وهي تشمل كل نافلة ، ونوافل كل نوع ما خرج عن فرائضه مع الترغيب في فعله . فإن قال : إنه خص نوافل الصلاة لما لها من المزية ، فهذه المزية إنما ترتفع
____________________
(1/426)
بارتفاع ما وعد به عليها من الثواب . وقد ذكرنا أنه ورد في بعض نوافل غيرها ما هو أكثر ثوابا من بعضها . وما ذكره من الاستدلال بحديث : ' وجعلت قرة عيني في الصلاة ' فهو غير مناسب لأن سياق الكلام في بيان عظيم أجر نوافل الصلاة للمصلي . وهذا إنما هو شيء يحصل به التلذذ لفاعل ذلك . وليس من الجزاء الموعود به . لكن كون الصلاة جعلت قرة عين رسول الله [ [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم ] فيها مما يحرك نشاط الراغبين في الخير إلى الاستكثار منها ، وأن تكون قرة أعينهم في الصلاة كما كانت قرة عينه في الصلاة . وهذه الصلاة التي كانت فيها قرة عين رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم تتناول الفرائض والنوافل . وهكذا ، مما يرغب في الصلاة ، قوله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم : ' يا بلال أرحنا بالصلاة ' أي روحنا بنفعها . وذلك وإن كان مورده صلاة الفرائض لكن لنوافلها نصيب من هذا الروح . قال ابن حجر في الفتح : ' وفي حديث حذيفة في الزيادة يعني حديث الباب : ويكون من أوليائي وأصفيائي ويكون جاري مع النبيين والصديقين والشهداء في الجنة ' .
____________________
(1/427)
العصمة والقرب التي في هذا الحديث : وقد تمسك بهذا الحديث بعض الجهلة من أهل النحل والرياضة فقالوا : القلب إذا كان محفوظاً مع الله تعالى كانت خواطره معصومة من الخطأ . وتعقب ذلك أهل التحقيق من أهل الطريق فقالوا : لا يلتفت إلى شيء من ذلك إلا إذا وافق الكتاب والسنة . والعصمة إنما هي للأنبياء . ومن عداهم قد يخطئ ، فقد كان عمر رضي الله عنه رأس الملهمين ومع ذلك فكان ربما رأى الرأي فيخبره بعض الصحابة بخلافه فيرجع إليه ويترك رأيه . فمن ظن أنه يكتفي بما وقع في خاطره عما جاء به الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم فقد ارتكب أعظم الخطأ . وأما من بالغ منهم فقال : حدثني قلبي عن ربي . فهو أشد خطأ فإنه لا يأمن أن يكون قلبه إنما حدثه عن الشيطان والله المستعان ' انتهى . متى نسلم بآراء أهل الولاية وخواطرهم : أقول : قد قدمنا في أول هذا الشرح أن أهل الولاية إذا لم تكن أعمالهم موزونة بميزان الكتاب والسنة فلا اعتداد بها ، وكررنا ذلك . ومعلوم
____________________
(1/428)
أن أولياء الله إذا لم يجعلوا كلامه وكلام رسوله قدوتهم ويمشون على صراطها السوي لم يصح لهم هذا الانتساب إلى الله عز وجل . ' وكيف يكون ولياً [ لله ] سبحانه من يعرض عما شرعه لعباده ودعاهم إليه ويشتغل بزخارف الأحوال ، وخواطر السوء ويؤثرها على كلام من هو ولي له ؟ ! فإن هذا هو بالعدو أشبه منه بالولي . وليس الكلام فيمن كان حاله هذا الحال ، بل الكلام فيمن يستكثر من أنواع الطاعة التي رغب إليها الشرع مقيداً لكل موارده ومصادره بالشرع ، فإن لهذه الطاعات أثراً عظيما في صلاح باطنه ووقوع خواطره في الغالب مطابقة للصواب . وكيف لا يكون هكذا وقد صار محبوباً لله وكان سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يطبش بها ورجله التي يمشي بها فبه يسمع وبه يبصر وبه يبطش وبه يمشي كما وقع في هذا الحديث القدسي . وأي رتبة أعلى من هذه وأي مزية أكبر منها ؟ والمحب في بني آدم يؤثر محبوبه على نفسه ويقدمه عليها بأبلغ جهده وغاية طاقته حتى قال بعض المحبين لمحبوبه شعراً : ( ولو قلت طا في النار أعلم أنه ** رضاً لك أو مدنٍ لنا من وصالك ) ( لقربت رجلي نحوها ووطيتها ** هدى منك لي أو ضلة من ضلالك ) ( لئن ساءني أن نلقى بمساءة ** لقد سرني أني خطرت ببالك )
____________________
(1/429)
وقال آخر : ( ولقد ذكرتك والرماح نواهل ** مني وبيض الهند تقطر من دمي ) ( فوددت تقبيل الرماح لأنها ** لمعت كبارق ثغرك المتبسم ) وقال آخر : ( ذكرتك والخطى تخطر بيننا ** وقد نهلت منا المثقفة السمر ) فإذا كان هذا في الحب البشري الذي هو نوع من أنواع مخلوقات الرب التي لا تدخل تحت حصر ، ولا تتطرق إليها إحاطة . فكيف لا يصنع الله عز وجل لمحبوبه من تيسر الخير والحماية عن الجناية ، وحفظ الخواطر عن الزيغ ما يصير به ملكي الأفعال والأقوال ، وإن كان بشري الخلقة وهو القادر القوي الذي لا يتعاظمه شيء . ومما يشير إلى صدق غالب خواطر أهل الإيمان حديث ' اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله ' وهو حديث حسن كما قدمنا . والحاصل أن الخواطر الكائنة من أهل الولاية إذا لم تخالف الشرع فينبغي أن تكون مسلمة لهم لكونهم أحباء الله وأولياؤه ، وأهل طاعته وصفوة عباده . وليس لمن كان بالنسبة إليهم كالبهيمة بالنسبة إلى الإنسان ، أو كالإنسان بالنسبة إلى الملائكة أن ينكر عليهم شيئاً لا يخالف الشريعة . فإن خالف شيئاً منها فهي الجسر الذي لا يصل أحد إلى مراضي الله إلا بالمرور منه ، والباب الذي من دخل من غيره ضل وزل ، وقل وذل . ( يا سالكا بين الأسنة والقنا ** إني أشم عليك رائحة الدم ) ولا شك ولا ريب أن من جعل ما امتن به الله على عباده الصالحين المستكثرين
____________________
(1/430)
من نوافل العبادات في هذا الحديث من المحبة لهم ، وما ترتب عليها عصمة كعصمة الأنبياء مخطئ مخالف للإجماع . فإن العصمة بهذا المعنى خص الله سبحانه بها رسله وملائكته ولم يجعلها لأحد من خلقه . فإن هذا المقام هو مقام النبوة لا مقام الولاية . ولا يخالف في ذلك إلا جاهل أو زائغ . ولكن الشأن فيما تستلزمه هذه المحبة من الرب سبحانه وما يتأثر عن قوله كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده الذي يبطش بها . ورجله الذي يمشي بها . فإن هذا يدل أبلغ دلالة ويفيد أعلى مفاد أن من وقع له ذلك من جناب رب العزة كان مثبتا أكمل تثبيت ، وموفقا أعظم توفيق ، وربك يخلق ما يشاء ويختار لا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع . وأما ما حكاه عمن بالغ منهم فقال : حدثني قلبي عن ربي . فليس هذا من الخواطر ، بل من الرواية المكذوبة والكلام المفترى إن كان قائله كامل العقل . وإلا فغالب ما تصدر مثل هذه الدعاوى العريضة عن المصابين بعقولهم ، المخالطين في إدراكهم ، وليس على مجنون حرج .
____________________
(1/431)
وليس أحباء الله سبحانه هم هؤلاء ، بل الكلام في أحبائه [ الذين ] ذكرهم الله في هذا الحديث القدسي ولسان حالهم : ( أهلا بما لم أكن أهلا لموقعه ** قول المبشر بعد اليأس بالفرج ) ( لك البشارة فاخلع ما عليك فقد ** ذكرت ثم على ما فيك من عوج )
____________________
(1/432)
الفصل الرابع قيمة هذا الحديث في باب السلوك والأخلاق \
____________________
(1/433)
فارغة .
____________________
(1/434)
الإحسان والمفروضات الباطنية : وحكى ابن حجر في الفتح عن الطوفي أنه قال : ' هذا الحديث أصل في السلوك إلى الله تعالى ، والوصول إلى معرفته ومحبته ، وطريقة أداء المفروضات الباطنة وهي الإيمان ، والظاهرة وهي الإسلام ، والمركب منهما وهو الإحسان ، كما تضمنه حديث جبريل عليه السلام . والإحسان يتضمن مقامات السالكين من الزهد والإخلاص والمراقبة وغيرها ' انتهى . أقول : قد عرفناك فيما سلف أن مما افترضه الله على عباده ترك المحرمات ، فتركها فريضة من فرائض الله سبحانه . فقوله أداء المفروضات الباطنة وهي الإيمان ، والظاهرة وهي الإسلام لا يشمل جميع فرائض الله . وبيانه أن الإيمان هو كما قاله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم في جواب من سأله عن الإيمان ' أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره ' ، فلم يشمل جميع المفروضات الباطنة . فإن منها لا يتعلق بشيء من الاعتقادات الباطلة ، ولا يحسد ، ولا يعجب ، ولا يتكبر ولا يشوب عمله رياء ، ولا نيته عدم خلوص . ولا يستخف بما أوجب الله عليه تعظيمه ، ولا يبطن غير ما يظهره حتى يكون ذا وجهين ، وغير ذلك من الأمور القلبية التي هي عند من يتفكر في الأمور ويتفهم الحقائق كثيرة جداً . والتكليف بها شديد ،
____________________
(1/435)
والوعيد عليها عتيد ، والحريص على دينه إذا لم يجاهدها كلية المجاهدة هلك من حيث لا يشعر . وذهب عليه أجر أعماله الظاهرة وهو لا يدري . فترك هذه هو من أعظم ما افترضه الله على عباده ، وهي غير داخلة في خصال الإيمان التي اشتمل عليها الحديث . فإن الرجل قد يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، والقدر خيره وشره وهو مشتمل على شيء من هذه المعاصي الباطنة . وبيان ذلك أنك لو كشفت ما عنده في الإيمان بالله لوجدته مؤمنا به لا يعتريه في ذلك شك ولا شبهة ، وكذلك لا يشك في الملائكة وفي كتب الله ورسله ، وكون الأمر بيد الله عز وجل وهو القابض الباسط النافع الضار . فهذه [ يجدها ] الإنسان عند كل أحد من المسلمين . وإذا كشفت عن هذه الأمور الباطنة وجدت عباد الله مختلفين فيها لا ينزعها الله سبحانه إلا من قلوب خاصة الخاصة . وما أحسن ما روى عن بعض كفار الهند الوثنية بعد إسلامه أنه قال : ' جاهدت نفسي في كسر الوثن الذي كنت أعبده ليلة فغلبتها وكسرته ، وأنا في جهاد لها نحو عشرين سنة في كسر الأصنام الباطنة فلم أقدر عليها ، ولا نفع جهادي لها أبداً ' . ومن فكر في هذا النوع الإنساني وجد غالب مصائب دينه من المعاصي الباطنة ووجد المعاصي الظاهرة بالنسبة إلى الباطنة أقل خطراً وأيسر شراً ، لأنه قد يمنع عنها الدين وقد يمنع عنها الحياء وحفظ المروءة . وأما البلايا الباطنة فهي إذا لم يزع حاملها وازع الدين لم يقلع عنها لأنها أمور لا يطلع عليها الناس حتى يستحي ويحاشى ويحافظ على مروءته .
____________________
(1/436)
طهارة الباطن وأثرها في مركز الإنسان من الولاية : وبالجملة فمن قدر على تصفية باطنه من هذه الأدناس فقد دخل من باب الولاية الكبرى ، وتمسك بأوثق أسبابها ، لأنه قد خلص من أعظم موانعها ، وأشد القواطع عنها ، وصار باطنه قابلا لأنوار التوفيق مستعداً للظفر بالمنازل العالية والمزايا الجميلة التي هي أس الولاية العظمى وأساس الهداية الكبرى وركن الإيمان القوي ، وعماد الإخلاص السوي . وإذا تقرر لك عدم اشتمال خصال الإيمان على جميع الأمور الباطنة ، فكذلك ما ذكره من اشتمال الإسلام على الفرائض الظاهرة ، فإنه غير مسلم . لأن الإسلام هو الذي ذكره النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم في جواب سؤال من سأله عن الإسلام قال : ' أن تقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتحج البيت ، وتصوم رمضان ، وتشهد أن لا إله إلا الله ' . فقد اقتصر [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم في بيان ماهية الإسلام على هذه الخمس . والفرائض الظاهرة كثيرة جداً يصعب حصرها ، وتتعسر الإحاطة بها ، وناهيك أن رأس الفرائض الظاهرة الجهاد وليس من جملة الخمس التي اشتمل عليها حديث الإسلام ، فلا نطيل بذكرها فإنها معروفة لكل ذي علم وفهم . الطريق إلى طهارة الباطن : ويحسن أن نبين هاهنا الزواجر عن بعض المعاصي الباطنة حتى يكون ذلك بعد ما قدمناه من التحذير منها كالدواء لدائها العضال ، وكالترياق لسمها القتال .
____________________
(1/437)
فاعلم أن عمدة الأعمال التي تترتب عليها صحتها أو فسادها هي النية والإخلاص ، ولا شك أنهما من الأمور الباطنة . فمن لم تكن نيته صحيحة لم يصح عمله الذي عمله ، ولا أجره المترتب عليه . ومن لم يخلص عمله لله سبحانه فهو مردود عليه مضروب به في وجهه ، وذلك كالعامل الذي يشوب نيته بالرياء ، قال الله عز وجل : ( واعبدوا الله مخلصين له الدين ) . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال :
' سمعت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم يقول : إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ' . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة في قصة الجيش الذي يغزو الكعبة فيخسف بهم ، قالت : قلت يا رسول الله كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم ؟ قال : ' يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على قدر نياتهم ' . وأخرج ابن ماجه بإسناد حسن من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
' إنما يبعث الناس على نياتهم ' وأخرجه أيضاً من حديث جابر . وأخرج البخاري وغيره من حديث أنس قال : ' رجعنا
____________________
(1/438)
من غزوة تبوك مع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم ، فقال : إن أقواما خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا حبسهم العذر ' . وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
' إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم ' . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس عنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
' من همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، فإن همَّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن هو هم بها فعملها كتبها الله عنده سيئة واحدة ' زاد في رواية : ' أو محاها ، ولا يهلك على الله إلا هالك ' . وهو في الصحيحين بنحوه من حديث أبي هريرة . ومن ذلك حديث :
' الثلاثة الذين هم أول من تسعَّر بهم النار وهم : العالم الذي علم ليقال له عالم ، والمجاهد الذي جاهد ليقال له جرئ ، والرجل الغني الذي تصدق ليقال له جواد ' . وهو من حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما بألفاظ . وأخرج أبو داود والنسائي بإسناد جيد من حديث أبي أمامة قال : ' جاء رجل إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم فقال : أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ما له ؟ فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم : لا شيء له ، فأعادها ثلاث مرات يقول رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم : لا شيء له ، ثم قال : إن الله لا يقبل من العبد إلا ما كان له خالصاً ، وابتغى به وجهه ' . وأخرج أحمد بإسناد جيد والبيهقي والطبراني من حديث أبي هند الداري
____________________
(1/439)
أنه سمع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم يقول :
' من قام مقام رياء وسمع راءى الله به يوم القيامة وسَمّع ' . وأخرج الطبراني في الكبير بأسانيد أحدها صحيح والبيقهي عن عبد الله ابن عمرو ، قال : سمعت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم يقول : ' من سمع الناس بعلمه سمع الله به سامع خلقه وصغره وحقره ' . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث جندب بن عبد الله قال : قال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم : ' من سمع سمع الله به ومن يرائي يرائي الله به ' . وأخرج ابن ماجه والحاكم والبيهقي في كتاب الزهد من حديث معاذ قال :
' سمعت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم يقول : اليسير من الرياء شرك ' الحديث . قال الحاكم : صحيح ولا علة له . وأخرج أحمد بإسناد جيد ، وابن أبي الدنيا والبيهقي في الزهد عن محمود ابن لبيد أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال :
' إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا : وما الشرك الأصغر ؟ ! قال الرياء ، يقول الله عز وجل ، إذا جزى الناس بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء ؟ ! ' . وأخرج الترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه من حديث أبي سعيد
____________________
(1/440)
نحوه . وأخرج ابن ماجه بإسناد رجاله ثقات ، وابن خزيمة في صحيحه والبيهقي من حديث أبي هريرة نحوه أيضاً . والأحاديث الواردة في كون الرياء مبطلا للعمل موجباً للإثم كثيرة جداً واردة في أنواع من الرياء . الرياء في العلم ، والرياء في الجهاد ، والرياء في الصدقة ، والرياء في أعمال الخير على العموم ، ومجموعها لا يفي به إى مصنف مستقل . والرياء هو أضر المعاصي الباطنة وأشرها مع كونه لا فائدة فيه إلا ذهاب أجر العمل والعقوبة على وقوعه في الطاعة ، فلم يذهب به مجرد العمل بل لزم صاحبه مع ذهاب عمله الإثم البالغ . ومن كان ثمرة ريائه هذه الثمرة ، وعجز عن صرف نفسه عنه فهو من ضعف العقل ، وحمق الطبع بمكان فوق مكان المشهورين بالحماقة . ومن الزجر عن الذنوب الباطنة الخارجة عن حديث الإيمان ما أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال :
' إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث . ولا تجسسوا ولا تحسسوا ، ولا تنافسوا ولا تحاسدوا . ولا تباغضوا ، ولا تدابروا كما أمركم . المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره التقوى هاهنا التقوى هاهنا التقوى هاهنا . ويشير إلى صدره بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم . كل المسلم على المسلم حرام : دمه وعرضه وماله ' . وهذه الأمور غالبها من المعاصي الباطنة . وناهيك أن التقوى التي هي طريق النجاة الكبرى قد صرح [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم هاهنا أنها من الأمور الباطنة ، فإذا كانت النية والإخلاص والتقوى من الأمور الباطنة ، وهي عمدة الاعتداد بالأفعال والأقوال فناهيك بذلك .
____________________
(1/441)
وأخرج ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة عنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال :
' لا يجتمع في جوف عبد مؤمن غبار في سبيل الله وفيح جهنم ، ولا يجتمع في جوف عبد الإيمان والحسد ' . فقد أوضح في هذا الحديث أن الحسد مغاير للإيمان ، فصح ما ذكرناه من الاعتراض على كلام الطوفي السابق . وأخرج أبو داود والبيهقي من حديث أبي هريرة ، وأخرجه ابن ماجه من حديث أنس عنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم أنه قال :
' إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ' وأخرج الطبراني بإسناد رجاله ثقات عن ضمرة بن ثعلبة قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
' لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا ' . وأخرج البزار والبيهقي بإسناد جيد من حديث الزبير أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال :
' دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء ، والبغضاء هي الحالقة أما إني لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين ' . وأخرج ابن ماجه بإسناد صحيح والبيهقي ' أنه سئل رسول الله [ [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم ] عن أفضل الناس فقال : التقى النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد ' . والأحاديث في هذا الباب كثيرة . ومما ورد في ذم الكبر والعجب حديث عياض بن حمار الذي أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
' إن الله تعالى أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد ' . وأخرج مسلم والترمذي من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله
____________________
(1/442)
[ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
' ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزاً . وما تواضع أحد لله إلا رفعه ' . وأخرج الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه من حديث ثوبان قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
' من مات وهو بريء من الكبر والغلول والدَّين دخل الجنة ' . وأخرج ابن ماجه وابن حبان في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري عنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم أنه قال :
' من تواضع لله درجة يرفعه درجة حتى يجعله في أعلا عليين . ومن تكبر على الله درجة يضعه الله درجة حتى يجعله في أسفل سافلين ولو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس عليها باب ولا كسوة لخرج ما غيبه للناس كائنا من كان ' . وأخرج أحمد والبزار بإسناد رجاله رجال الصحيح ، والطبراني عن عمر بن الخطاب أنه قال على المنبر : ' أيها الناس تواضعوا فإني سمعت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم يقول : من تواضع لله رفعه الله وقال : - انتعش نعشك الله - فهو في أعين الناس عظيم وفي نفسه صغير ، ومن تكبر قصمه الله . وقال : اخسأ فهو في أعين الناس صغير ، وفي نفسه كبير ' . وأخرج مسلم من حديث أبي سعيد وأبي هريرة قالا : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم : يقول الله عز وجل :
' العز إزاره
____________________
(1/443)
والكبرياء رداؤه فمن نازعني واحداً منهما عذبته ' . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث حارثة بن وهب قال : ' سمعت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم يقول : ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جَوَّاظٍ مستكبر ' . وأخرج مسلم والنسائي من حديث أبي هريرة عنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم
' ثلاثة لا يكلمهم الله تعالى يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم : شيخ زانٍ ، وملك كذاب ، وعائل مستكبر ' . وأخرج مسلم والترمذي من حديث ابن مسعود عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال :
' لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ' . فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ، ونعله حسنة قال . إن الله جميل يحب الجمال . الكبر بطر الحق وغمط الناس ' وأخرج البخاري وغيره من حديث ابن عمر أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال : ' بينما رجل ممن كان قبلكم يجر إزاره من الخيلاء خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة ' . وأخرج نحوه البخاري ومسلم وغيرها من حديث أبي هريرة . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال : ' من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله له يوم القيامة فقال أبو بكر : يا رسول الله إن إزاري يسترخي ألا أن أتعاهده ؟ فقال له رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم : إنك لست ممن يفعله خيلاء ' ، والخيلاء عند أهل اللغة والشرع الكبر والعجب . والأحاديث في هذا الباب كثيره . وأخرج الشيخان
____________________
(1/444)
وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
' تجدون الناس معادن خيارهم في الجاهلية ، خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ، وتجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه ' . وأخرج البخاري من حديث ابن عمر أن رجلا قال له إنا ندخل على سلطاننا فنقول بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عنده فقال : كنا نعد هذا نفاقاً على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم ' . وأخرج أبو داود وابن حبان في صحيحه من حديث عمار بن ياسر قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
' من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار ' . وأخرجه ابن أبي الدنيا والطبراني والأصبهاني من حديث أنس . وأخرجه الطبراني أيضاً في الأوسط من حديث سعد بن أبي وقاص بلفظ [ ذوو ] الوجهين في الدنيا ويأتي يوم القيامة وله وجهان من نار ' . ومن الأمور الباطنة الخيانة وقد وردت الأحاديث الصحيحة بأنها من خصال النفاق .
____________________
(1/445)
ومن الأمور الباطنة المحبة والبغض والكراهة وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال :
' ثلاث مَنْ كُنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان ، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن أحب عبداً لا يحبه إلا الله تعالى ، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار ' وفي رواية ' وأن يحب في الله ويبغض في الله ' . وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
( إن الله تعالى يقول يوم القيامة : [ أين ] المتحابون لأجلي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلى ظلي ' وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ' ومنهم رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ' . وأخرج مسلم من حديثه في الرجل الذي أتى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم وعرفه أنه زار أخا له أحبه في الله تعالى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله قد أحبك كما أحببت فيه وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي ذر ' أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : المرء مع من أحب ' . والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً ومن ذلك ما ورد في ذم حب الدنيا ومدح حب الآخرة ، وهي أحاديث كثيرة . ومن الأمور الباطنة الطيرة وقد صح عنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم أنها شرك كما في حديث ابن مسعود وصححه الترمذي وابن حبان . ومن الأمور الباطقة التوبة ، والأحاديث الواردة في الترغيب فيها متواترة . ومنها الأحاديث الواردة في مدح الخشية من الله عز وجل .
____________________
(1/446)
ومنها الأحاديث الواردة في ذم طول الأمل ومدح قصره . ومنها الأحاديث الواردة في مدح الخوف من الله عز وجل ، ومراقبته . ومنها الأحاديث الواردة في مدح حسن الظن بالله ، ولو لم يكن منها إلا ما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال :
( قال الله عز وجل أنا عند ظن عبدي بي ) . وحديث جابر عند مسلم وغيره أنه سمع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول :
( لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل ' . ومنها الصبر وقد ورد مدحه وكون الله مع الصابرين وما لهم من الأجر العظيم في الكتاب والسنة . وبالجملة فاستيفاء الفرائض الباطنة ، والمحرمات الباطنة التي تركها من الفرائض يطول جدا ، فلنقتصر على هذا المقدار ، وبه يتبين أن ما ذكره الطوفي من اشتمال خصال الإسلام على الفرائض الظاهرة ، واشتمال خصال الإيمان المذكورة في الحديث على الفرائض الباطنة غير صحيح . مقام الإحسان ولمن يكون : وأما قول الطوفي : والمركب منهما وهو الإحسان كما تضمنه حديث جبريل إلخ فأقول : وجه تركبه منهما أنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال في الإحسان لما سأله السائل عنه :
( أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) فأمره أن يعبد الله سبحانه على هذه الصفة ، وهي كأنه يراه فمجموع الإحسان هو العبادة مع الحضور والمراقبة ومزيد الخشوع فيها .
____________________
(1/447)
ولكن لا يخفاك أن كون الإحسان يتركب من مجموع الإسلام والإيمان مبني على أن العبادة مع هذه المراقبة تحصل لكل مؤمن وهو ممنوع . فإن هذه رتبة وراء الإيمان بمسافات طويلة ودرجات كثيرة ، لأن الإيمان يحصل للعبد بمجرد إيمانه بالله وملائكة وكتبه ورسله والقدر خيره وشره وقد عرفناك أن هذا حاصل لغالب العباد ، ولو كان الإحسان من مجموع الإسلام والإيمان لزم أن يحصل لكل مسلم مؤمن ، وأنه إذا لم يحصل له ذلك ولم يعبد الله كأنه يراه لم يحصل الإيمان . وهذا باطل من القول وتكليف بما لا يستطيعه من أهل الإيمان إلا من هو الكبريت الأحمر والغراب الأبقع ، وكل عالم بهذه الشريعة الغراء لا يخفى عليه مثل هذا . فالإحسان هو موهبة يتفضل الله بها على خلص عباده وجلة صفوته وأكابر أوليائه وأهل محبته . فالذي ينبغي أن يقال إن الإحسان مشروط بالإسلام والإيمان ، وأنه لا يتم إلا لمن حصل له هذان الأمران وهو شيء ثالث ، ليس هو عين أحدهما ولا مركب منهما ، وفرق بين الشطر والشرط ، فإن الشرط خارج عن المشروط وإن استلزم عدمه عدمه بخلاف الشطر فإنه جزؤه الذي تركب منه مع غيره . فالطوفي لما صرح بتركيب الإحسان من الإسلام والإيمان ، استلزم كلامه هذا ، أنهما جزآن له ، وليسا كذلك ، بل هما شرطان له ، من فقدهما أو أحدهما فقد الإحسان كما هو مفهوم الشرط . فلا بد من هذا ، وإلا استلزم كلامه الباطل ، وهو أن كل من اجتمع له الإسلام والإيمان يكون قد بلغ رتبة الإحسان ، وهذا غلط من القول ، وشطط من الرأي ، وعبء من التكليف ثقيل لا ينوء به غالب عباد الله المؤمنين . والمراتب تتفاوت بتفاوت هذه المقامات ، وإن كان بينها في العلو ما بين السماء والأرض ، وأعظم محصلات هذا المقام الإحساني هو الخشوع
____________________
(1/448)
والخوف والخشية من الله عز وجل كما قال عز وجل : ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) . وفي الحديث المتفق عليه في السبعة الذين يظلهم الله في ظله ومنهم رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله . وكذلك في حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة فقال صاحب المرأة التي دعته فتركها : ' اللهم إن كنت تعلم أني إنما فعلت ذلك رجاء رحمتك وخشية عذابك ' وهو في الصحيحين وغيرهما . وكذلك حديث الرجل الذي أمر أولاده بإحراقه إذا مات فقال له الله عز وجل : ' لم فعلت هذا ؟ قال : خشيتك يا رب وأنت أعلم فغفر الله له ' . وهو في الصحيحين وغيرهما . وأخرج ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم عن الله سبحانه أنه قال :
( وعزتي لا يجتمع على عبد خوفان وأمنان : إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة ، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة ) . وأخرج الترمذي وحسنه والبيهقي من حديث أنس قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
( قال الله عز وجل : أخرجوا من النار من ذكرني يوماً أو خافني في مقام ) . وأخرج الترمذي وصححه من حديث أبي هريرة قال : سمعت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم يقول :
( من خاف أدلج ، ومن أدلج بلغ المنزلة ، سلعة الله غالية ، ألا إن سلعة الله الجنة ) . وأخرج البخاري وغيره من حديث أبي ذر ، أنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم
____________________
(1/449)
قال :
( والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ، ولبكيتم كثيرا ، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله ، والله لوددت أني شجرة تعضد ) وهو في الصحيحين من حديث أنس . ومن ذلك حديث أنس عن الترمذي وابن ماجه : أنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم دخل على شاب وهو في الموت ، فقال : ' كيف تجدك : قال : أرجوا الله يا رسول الله وإني أخاف ذنوبي ، فقال [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم : لا يجتمعان في قلب عبد مؤمن في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخافٍ : وإسناده حسن ، وفي إسناده جعفر بن سليمان الضبعي ولكنه صدوق . أخرج له مسلم ووثقه الجمهور ، وتكلم فيه قوم منهم الدارقطني . وأخرج أحمد والنسائي والحاكم وصححه من حديث أبي ريحانه عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال :
( حرمت النار على عين دمعت أو بكت من خشية الله ) . وأخرجه الحاكم وصححه من حديث أنس ، وأخرج الترمذي وصححه والنسائي والحاكم ، وقال صحيح الإسناد من حديث أبي هريرة ' أن
____________________
(1/450)
رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال :
( لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ) . والأحاديث في هذا الباب كثيرة . ومن أعظم الأسباب الموصلة إلى مقام الإحسان الزهد في الدنيا ، وفي ذلك ترغيبات كثيرة : ومنها ما أخرجه ابن ماجة من حديث سهل بن سعد قال : جاء رجل إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم فقال :
( يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله تعالى وأحبني الناس . قال : ازهد في الدنيا يحبك الله ، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس ) ، وفي إسناده خالد بن عمرو القرشي الأموي السعيدي وفيه مقال . وأخرج مسلم وغيره من حديث أبي سعيد أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم [ قال ] :
( إن الدنيا خضرة حلوة وإن الله تعالى مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الله ، واتقوا النساء ) وأخرج مسلم عن عبد الله ابن عمرو . سأله رجل فقال له عبد الله : ' ألك امرأة تأوي إليها ؟ قال نعم . قال ألك مسكن تسكنه ؟ قال نعم . قال فأنت من الأغنياء ؟ قال فإني لي خادما قال فأنت من الملوك ' .
____________________
(1/451)
وأخرج مسلم والترمذي ، وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال :
( قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقدمه الله تعالى بما آتاه ) . وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : سمعت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم يقول :
( اللهم اجعل رزقي آل محمد قوتاً . وفي رواية كفافاً ) . وأخرج مسلم من حديث المسْتَوْرَد قال : قال : رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
( ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم ، وأشار بالسبابة فلينظر بما ترجع ) . وأخرج أحمد بإسناد رواته ثقات ، والبزار ، وابن حبان في صحيحه والحاكم والبيهقي في الزهد من حديث أبي موسى أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال :
( من أحب دنياه أضر بآخرته ومن أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى ) . وأخرج الحاكم وصححه من حديث أبي مالك الأشعري قال عند موته : يا معشر الأشعريين : ليبلغ الشاهد الغائب : إني سمعت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم يقول :
( حلوة الدنيا مرة الآخرة ، ومرة الدنيا حلوة الآخرة ) .
____________________
(1/452)
وأخرج الترمذي وصححه وابن حبان في صحيحه من حديث كعب بن مالك قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
( ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه ) . وأخرج الطبراني مو أبو يعلى بإسناد جيد من حديث أبي هريرة نحوه . وأخرج البزار أيضاً بإسناد حسن من حديث ابن عمر نحوه . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث عمرو بن عوف الأنصاري قال : ' لما قدم عليه بجزية البحر بن [ قال ] : أبشروا وأملوا ما يسركم ، فوالله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم ' . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري قال :
( جلس رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم على المنبر ، وجلسنا حوله فقال : إن مما أخاف عليكم ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها ) . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي ذر قال :
( قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم : يا أبا ذر . قلت : لبيك يا رسول الله ، فقال : ما يسرني أن عندي مثل أُحد
____________________
(1/453)
هذا ذهبا يمضي عليه ثالثة وعندي منه دينار إلا شيء أرصده لدين إلا أن أقول في عباد الله هكذا ، وهكذا ، وهكذا ، عن يمينه وعن شماله ومن خلفه ثم سار فقال : إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه . وقليل ماهم ' . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : ' والذي نفسي بيده ما شبع نبي الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم ثلاثة أيام تباعا من خبز حنطة حتى فارق الدنيا ' . وأخرج الترمذي وقال : حديث صحيح من حديث ابن عباس قال : ' كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم يبيت الليالي المتتابعة وأهله طاوياً لا يجدون عشاء ، وإنما كان أكثر خبزهم الشعير ' . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة قالت : ' ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم ' . وأخرج أحمد والطبراني برجال ثقات من حديث أنس أن فاطمة رضي الله عنها ناولت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم كسرة من خبز شعير ، فقال : ' هذا طعام أكله أبوك منذ ثلاثة أيام ' . وأخرج ابن ماجة بإسناد حسن والبيهقي بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة قال : ' أتى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم بطعام سخن فأكل ، فلما فرغ قال : الحمد لله ما دخل بطني طعام سخن منذ كذا وكذا ' .
____________________
(1/454)
وأخرج الترمذي وقال : حسن من حديث أبي أُمامة قال : ' قال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم : عرض عليَّ ربي عز وجل ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً ، قلت : لا يا رب . ولكن أشبع يوما وأجوع يوما أو قال ثلاثا أو نحو هذا . فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك ، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك ' . وأخرج البخاري والترمذي من حديث أبي هريرة قال : ' خرج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم من أيدينا ولم يشبع من خبز الشعير ' . وأخرج الطبراني بإسناد جيد من حديث كعب بن عجرة قال : ' أتيت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم فرأيته متغيراً قال : فقلت بأبي أنت مالي أراك متغيرا ؟ فقال : ما يدخل جوفي ما يدخل جوف ذات كبد منذ ثلاث ' . وأخرج البخاري من حديث سهل بن سعد قال : ' ما رأى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم النقي من حين ابتعثه الله تعالى حتى قبضه الله ، فقيل هل كان لكم في عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم مناخل ؟ فقال : ما رأى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم منخلا من حين ابتعثه الله تعالى حتى قبضه الله ، فقيل : فكيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول ؟ قال : كنا نطحنه وننفخه فيطير ما طار ، وما بقي ثريناه فأكلناه ' . وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة أنها قالت : ' إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين ، وما أوقد في
____________________
(1/455)
في أبيات النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم نار . قال عروة يا خالة فما كان يعيشكم ؟ قالت : الأسودان : التمر والماء ' . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أنس ' أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم عصب بطنه بعصابة من الجوع ' . وأخرج الترمذي وصححه وابن حبان في صحيحه من حديث أنس قال : قال [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم : لقد أتت عليَّ ثلاثون من بين يوم وليلة ومالي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال ' . وأخرج ابن ماجه والترمذي وصححه والطبراني من حديث عبد الله بن مسعود قال : نام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه قلنا يا رسول الله : ' لو اتخذنا لك وطاء فقال مالي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها ' . وأخرجه أحمد وابن حبان في صحيحه والبيهقي من حديث ابن عباس . وأخرج نحوه ابن ماجة بإسناد صحيح والحاكم وصححه من حديث عمر بن الخطاب ونحوه من حديثه في الصحيح في قصة دخوله على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم لما [ آلى ] من نسائه . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة قالت : ' إنما كان فراش رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم الذي ينام عليه أدما حشوه ليف ' . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي بردة بن أبي موسى قال : ' أخرجت لنا عائشة كساء ملبدا ، وإزاراً غليظا فقالت : قبض رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم في هذين ' والملبد :
____________________
(1/456)
( المرقع ) . وأخرج البخاري من حديث عمرو بن الحارث قال : ' ما ترك رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم عند موته درهما . ولا ديناراً ولا عبداً ، ولا أمة ، ولا شيئا إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه وأرضا جعلها لابن السبيل . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة قالت : ' توفي رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعا من شعير ' . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص قال : ' إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله ، ولقد كنا نغزو مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم ما لنا طعام إلا ورق الحُبْلة وهذا السَّمَر حتى إن كان أحدنا ليضع كما تضع الشاة ماله خلط ' [ والحبلة ] والسمر من شجر البادية . وأخرج مسلم وغيره من حديث خالد بن عمير العدوي قال : ' خطبنا خالد ابن عزوان وفي خطبته ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم ما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا ' . وفي الصحيحين من حديث خباب بن الأرث ' أنهم لم يجدوا ما يغطوا
____________________
(1/457)
به رأس مصعب بن عمير لما قتل يوم أحد إلا بردة إذا غطو بها رأسه خرجت رجلاه ، وإذا غطوا بها رجليه خرج رأسه فأمرهم [ صلى الله عليه وسلم ] أن يغطوا بها رأسه ' . وأخرج البخاري وغيره من حديث أبي هريرة قال : ' لقد رأيت سبعين من أهل الصفة ما منهم رجل عليه رداء ، إما إزار أو كساء قد ربطوا في أعناقهم منها ما يبلغ نصف الساقين ، ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته ' . ومن الخصال التي يبلغ بها العبد مقام الإحسان : الرفق والأناة والحلم وحسن الخلق وطلاقة الوجه ، وإفشاء السلام . ففي الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة قالت : ' قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم : إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله ' . وأخرج مسلم وغيره عنها قالت : ' قال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
( إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ، ولا ينزع من شيء إلا شانه ) . وأخرج مسلم وغيره من حديث جرير بن عبد الله عنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم ' من يحرم الرفق يحرم الخير زاد أبو داود كله ' . وأخرج الترمذي وصححه من حديث
____________________
(1/458)
أبي الدرداء عنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم : ' من أعطى حظه من الرفق فقد أعطى حظه من الخير . ومن حرم حظه من الرفق حرم حظه من الخير ' . وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أنس عنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال :
( يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا ) . وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة : ' عنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
( إنما بعثتم ميسرين ، ولم تبعثوا معسرين ' . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة قالت : ' ما خير رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما ' . وأخرج مسلم من حديث ابن عباس قال : ' قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم للأشج : ' إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله : الحلم والأناة ' . وأخرج مسلم والترمذي من حديث النواس بن سمعان قال : ' سألت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم عن البر والإثم فقال : البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس ' : وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمرو قال : لم يكن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم فاحشا ، وكان يقول : ' إن من خياركم أحسنكم أخلاقا . والأحاديث في الثناء على حسن الخلق كثيرة جداً ' . وأخرج مسلم وغيره من حديث أبي ذر قال : ' قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
( لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق ) . وأخرج أحمد الترمذي وصححه من حديث جابر قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
( كل معروف صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق وأن تفرغ من دلوك في إناء أخيك ) . وصدره في الصحيحين من حديث حذيفة وجابر .
____________________
(1/459)
وأخرج الترمذي وحسنه وابن حبان وصححه من حديث أبي ذر قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم
( تبسمك في وجه أخيك لك صدقة الحديث ) . وأخرجه البزار من حديث ابن عمر . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث عدي بن حاتم قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم : ' اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة ) . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمرو ' أن رجلا سأل النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم : أي الإسلام خير ؟ قال : تطعم الطعام وتقرئ السلام على من عرفت ومن لم تعرف ' . وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
( لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا ، حتى تحابوا . ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ، أفشوا السلام بينكم ) . وأخرج الترمذي وقال حسن صحيح من حديث عبد الله بن سلام قال : ' سمعت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم يقول : يأيها الناس أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام ' ، وأخرج الترمذي وصححه وابن حبان وصححه من حديث ابن عمر قال : ' قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم : اعبدوا الرحمن وأفشوا السلام وأطعموا الطعام تدخلوا الجنان ' . وأخرج الطبراني وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه من حديث أبي شريح أنه قال : يا رسول الله أخبرني بشيء يوجب لي الجنة ، قال : ' طيب الكلام وبذل السلام وإطعام الطعام ' . وفي الصحيحين وغيرهما
____________________
(1/460)
من حديث أبي هريرة ' قال [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم : حق المسلم على المسلم خمس ، وفي رواية ست ، ومنها إذا لقيته تسلم عليه ' . وأخرج الطبراني في الأوسط بإسناد جيد من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
( أعجز الناس من عجز في الدعاء ، وأبخل الناس من بخل بالسلام ) وأخرج الطبراني في معاجمه الثلاثة بإسناد جيد من حديث عبد الله بن مغفل قال : ' قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم : أسرق الناس الذي يسرق صلاته قيل يا رسول الله : كيف يسرق صلاته ؟ قال : لا يتم ركوعها ، ولا سجودها ، وأبخل الناس من بخل بالسلام ' . وأخرج أحمد والطبراني والبزار ، وبإسناد أحمد لا بأس به من حديث جابر ' وفيه أنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله سلم وسلم قال للذي امتنع من أن يبيعه عذقة بالجنة : ما رأيت أبخل منك إلا الذي يبخل بالسلام ' . ومن أعظم الأسباب الموصلة إلى مقام الإحسان المداومة على العمل الصالح ، فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم [ قال ] :
( إن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل ) . مقام الولي وإجابة الدعاء : ولنرجع إلى شرح الحديث الذي نحن بصدد شرحه فنقول : إن قوله : ' لئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ' . ربما يقال : ما الفائدة في توقف العطية منه عز وجل على السؤال ، والإعاذة له على الاستعاذة مع أنه
____________________
(1/461)
سبحانه المعطي بغير حساب المتفضل على عباده بكل جميل وغالب ما يصل إلى العباد الذين لم تكن لهم مرتبة الولاية العظمى بل الذين هم دونها بمراحل ، بل الذين خلطوا على أنفسهم وقصروا فيما يجب عليهم هو من تفضلاته الجمة وتكرماته الفائضة من غير تقدم سؤال . قلت : هاهنا نكتة عظيمة وفائدة جليلة . وهي أنهم إذا أُعطوا بعد السؤال وأُعيذوا بعد الاستعاذة عرفوا أن الله سبحانه قد أجاب لهم الدعاء وتلك منقبة لا تساويها منقبة ورتبة تتقاصر عنها كل رتبة وعند ذلك يحصل لهم من السرور ما لا يقادر قدره ويكونون عند هذه الإجابة أعظم سروراً بها من العطية وإن بلغت أعظم مبلغ في الكثرة والنفاسة . وعند ذلك يستكثرون من أعمال الخير ويبالغون في تحصيلها لأنهم قد عرفوا ما لهم عند ربهم حيث أجاب دعاءهم ولبى نداءهم . وأيضاً قد قدمنا أن الدعاء هو العبادة بل هو مخ العبادة فالإرشاد إليه إرشاد إلى عبادة جليلة تترتب عليها فائدة جميلة مع ما في ذلك من امتثال الأمر الرباني حيث يقول : ! ( ادعوني أستجب لكم ) ! وقوله سبحانه : ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إلى دعان ) . ومع ما فيه أيضاً من خلوص عباده من الاستكبار على ربهم الذي ورد الوعيد عليه بقوله سبحانه ! ( إن الذين يستكبرون عن عبادتي ) ! أي دعائي كما سبق بيانه .
____________________
(1/462)
فكانت الفوائد ثلاثا : الأولى : الظفر بالمرتبة العلية من كونهم من [ مُجَابِي ] الدعوة . الثانية : ما في ذلك من العبادة لله عز وجل بدعائه . الثالثة : توقِّيهم لما خوطب به غيرهم من المستكبرين عن الدعاء . ومع هذا فلا شك أن بعض المسببات مربوطة بأسبابها فمن العطايا ما لا يحصل للعبد إلا بسبب الدعاء . فالولي وإن كان في أعلى مراتب الولاية لا ينال ما قيده الله بسبب إلا بفعل ذلك السبب فكان في الدعاء من هذه الحثيثة فائدة رابعة لأن العبد لا يتيسر له أن يقطع بوصول مطلوب من مطالبه إليه حتى يترك الدعاء لربه عز وجل بأن يوصله إليه . مقام المحبة وإجابة الدعاء : قال ابن حجر في الفتح : ' وفي الحديث أيضا أن من أتى بما وجب عليه ، وتقرب بالنوافل لم يرد دعاؤه لوجود هذا الوعد الصادق المؤكد بالقسم ، وقد تقدم الجواب عما يتخلف ' . انتهى . أقول : قد قدم ذكر استشكال ما في الحديث من الوعد بالإجابة بأن جماعة من العباد والصلحاء دعوا وبالغوا ، ولم يحابوا . ثم ذكر ذلك الجواب الذي قدمه وقدمنا الاستدلال على ما ذكره في الجواب . وكان الأولى له أن يقدم
____________________
(1/463)
ما ذكره هنا على ما ذكره هناك حتى يكون ذلك الاستشكال ، لما أفاده هذا الاستدلال المذكور هنا . وأقول : هذا الحديث مورده ، هم أولياء الله الذين تقربوا إليه بما يحب حتى أحبهم ، وهو مقتضى لإجابتهم لا محالة . ولا يرد عليه ما أورده من عدم إجابة جماعة من العباد والصلحاء ، فإن هذا مقام هو أعلى من مقامهم ، ومنزلة هي أرفع من منزلتهم ، ولا ملازمة بين مقام العبادة والصلاح ، وبين مقام المحبة ، فإن العبادة وإن كثرت وتنوعت قد تقع منه عز وجل الموقع المقتضى لمحبته ، وقد لا [ تقع ] إما لكونها مشوبة بشائبة تكدر صفوها وتمحق بركتها مما لا يتعمده العباد ، بل يصدر إما على طريق التقصير في علم الشريعة أو التقصير في الخلوص الذي يوصل صاحبه إلى محبة الرب عز وجل . ولا حرج على قائل أن يقول : إن من بلغ إلى رتبة المحبة ، وكان الله سمعه وبصره أن يجاب له كل دعاء ويحصل [ بغيته ] على حسب إرادته . وأي مانع يمنع من هذا ؟ ! . بل كل ما يظن أنه مانع ليس بمانع شرعي ولا عقلي . ووجود بعض أهل العبادة على الصفة التي ذكرها من كونه دعا وبالغ ولم يجب ليس ذلك إلا لمانع يرجع إلى نفسه . ولا يكون المانع الراجع إلى نفسه مانعاً في حق من هو أعلى منه رتبة وأجل منه مقاما وأكبر منه منزلة . وإذا عرفت انتفاء المانع الذي يعتد به في المانعية فقد وجد ، هاهنا المقتضى
____________________
(1/464)
الذي هو أوضح من شمس النهار ، وهو وعد من لا يخلف الميعاد . وإذا وجد المقتضى وانتفى المانع حصل المطلوب الذي وجد ما يقتضيه إعمالا لهذا المقتضى الذي ورد مؤكداً بإقسام الرب سبحانه . فما أبعد ما جاء به المشككون في هذا الأمر الذي لا يقبل التشكيك لا شرعا ولا عقلا بل ولا عادة . فإن من اطلع على أحوال أولياء الله سبحانه وعرف ما ذكره المؤرخون في أخبارهم ، وما اشتملت عليه تراجمهم وجد كل ما توجهوا به إلى ربهم حاصلا لهم في كل مطلب من المطالب كائنا ما كان . والمحروم من حرم ذلك . ( وكيف ترى ليلى بعين ترى بها ** سواها وما طهرتها بالمدامع ) ( وتلتذ منها بالحديث وقد جرى ** حديث سواها في خروت المسامع ) ( أجلك ياليلى عن العين إنما ** أراك بقلب خاشع لك خاضع ) أولئك قوم لما دعوا أُجيبوا ولما أَحبوا أُحِبُّوا ، ولما أَخلصوا استُخلِصوا صدقت منهم الضمائر ، فصفت منهم السرائر ، وصاروا صفوة الله في أرضه ففاضت عليهم أنواره ، وامتلأت قلوبهم من معارفه . ( ألا إن وادي الجزع أضحى ترايه ** من المس كافورا وأعواده رندا ) ( وما ذاك إلا أن هنداً عشية ** تمشت وجرت في جوانبه بردا ) فلا تجهد نفسك في كشف حقائقهم ، وذوق دقائقهم حتى تتصل منهم بسبب وتتمسك من هديهم بطرف فلسان حالهم ينشدك :
____________________
(1/465)
( وكم سائل عن سر ليلى رددته ** بعمياء من ليلى بغير يقين ) ( يقولون : خبرنا فأنت أمينها ** وما أنا إن خبرتهم بأمين ) فهم القوم الذين لا يشقى جليسهم ، ولا يستوحش أنيسهم . قد نالوا مطالبهم برفع أكفهم إلى خالقهم ، لا يحتاجون في حوائجهم إلا إليه ولا يعولون إلا عليه . ( ونبيت ليلى أرسلت بشفاعة ** إلى فهلا نفس ليلى شفيعها ) ( أأكرم من ليلى على فترتجى ** به الوصل أم كنت امرأ لا أطيعها ؟ ) وقول ابن حجر في كلامه الذي نقلناه هنا أنه قد تقدم الجواب عما يتخلف . هو كلام لا حاصل له لأن الاستشكال الذي قدمه ، هو على ما يقضيه الحديث القدسي الذي نحن بصدد شرحه . فأجاب عن الإشكال بما ذكره سابقا من قوله : ' والجواب أن الإجابة تتنوع : فتارة قد يقع المطلوب بعينه إلى آخر كلامه ' . فإن كان هذا الجواب منه الذي جعله متنوعا هو عما أورده من استشكال ما في هذا الحديث من قوله فيه ' إن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه ' فكلامه هنا حيث قال : إن من أتى بما وجب عليه وتقرب بالنوافل لم يرده دعاؤه لوجود هذا الوعد الصادق المؤكد بالقسم هو كلام على ذلك اللفظ الذي أورد الإشكال عليه . ومجموع كلاميه هما في شرح ذلك اللفظ . فما معنى قوله : إنه قد تقدم الجواب عما يتخلف ؟ فإن كان التخلف وغير التخلف بالنسبة إلى الولي الذي وعده الله بذلك الوعد فقد تناقض كلامه .
____________________
(1/466)
وإن كان مراده أنه قد يتخلف تارة ويقع المطلوب بعينه تارة فكلامه السابق قد تضمن هذا بل صرح به تصريحاً لا يبقى بعده ريب . فما معنى تكرير الكلام بما يوهم أن دعاء الولي لا يرد على كل حال ؟ . مقام المحبة ومداومة الدعاء : ثم قال ابن حجر في الفتح : ' وفيه أن العبد ولو بلغ أعلى الدرجات حتى يكون محبوباً لله لا ينقطع عن الطلب من الله تعالى لما فيه من الخضوع له وإظهار العبودية ' انتهى . أقول : إذا كان أنبياء الله [ صلوات الله تعالى وسلامه عليهم ] لا ينقطعون عن الطلب من الله والرجاء له ، والخوف منه حتى قال سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم كما صح عنه : ' والله ما أدري وأنا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم ما يفعل بي ' مع أنه الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . ويقول كما صح عنه من شدة خوفه من ربه . ' لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلا ، ولبكيتم كثيراً الحديث الذي تقدم ' حتى قال في آخره : ' وددت أني شجرة تعضد ' .
____________________
(1/467)
فإذا كان مقام النبوة الذي هو أعلى مقام وأرفع رتبة ، وليس مقام الولاية بالنسبة إليه إلا كمقام التابع من المتبوع والخادم من المخدوم ، فكيف يحتاج أن يقال إنه لا ينقطع عن الطلب من الله عز وجل مع انتفاء العصمة عنه ، وثبوتها لمن لم ينقطع عن الطلب من الله سبحانه . بلى كان نبينا ' [ صلى الله عليه وسلم ] ' وآله وسلم مديما لدعاء ربه في جميع أحواله مستمراً على طلب حوائجه الدنيوية والأخروية من خالقه لا يعتريه ملل ولا يتعلق به كلل ، وله من العبادة على اختلاف أنواعها ما لا يلحقه به غيره ، ولا يطيقه سواه . فكيف ينقطع الولي عن الطلب . فإنه إن فعل ذلك كان ممكوراً به ، ورجع عدوا لله بعد أن كان وليا له . وبغيضاً له بعد أن كان حبيباً له . اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها ، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة . وشأن كل عبد من عباد الله إذا ازداد قرباً إلى الله وصار من المحبوبين له أن يزداد خضوعاً له وتضرعاً إليه ، وتذللا وتمسكا وعبادة . وكلما ارتفع عند ربه درجة زاد فيما يحبه الله منه درجات . هذا شأن العبودية . وإذا كان هذا هو الكائن فيما بين العبد وسيده في بني آدم فكيف لا يكون فيما بين العبد وخالقه ورازقه ومحييه ومميته . ضلال المدعين لرفع التكليف : وما أقبح ما يحكى عن بعض المتلاعبين بالدين المدعين للتصوف أنهم يزعمون أنهم وصلوا إلى ربهم فانقطعت عنهم التكاليف الشرعية ، وخرجوا من جبل
____________________
(1/468)
المسلمين المؤمنين ، وسقط عنهم ما كلف الله به العباد في هذه الدار . فإذا صح هذا . فما يقوله أحد من أولياء الرحمن ، بل يقوله أولياء الشيطان لأنهم خرجوا إلى حزبه وصاروا من جملة أتباعه . فالعجب لهؤلاء المغرورين ، فإنهم رفعوا أنفسهم عن طبقة الأنبياء وطبقة الملائكة . فإن الأنبياء حالهم كما عرفناك من إدامة العبادة لله في كل حال ، والازدياد من التقربات المقربة إلى الله حتى توفاهم الله تعالى . وكذلك الملائكة فإنهم كما وردت بذلك الأدلة لا ينفكون عن العبادة لله وصارت أذكاره سبحانه من التسبيح والتهليل هي زادهم الذي يعيشون به وغذاؤهم الذي يتغذون به . فحاشا لأولياء الله سبحانه أن يقع من أحقرهم في هذه المرتبة العظيمة وأدناهم في هذا المنصب الجليل هذا الزعم الباطل ، والدعوى الشيطانية ، وإنما ذلك الشيطان سوَّل لجماعة من أتباعه ومُطِيعِيه واستزلهم ، وأخرجهم من حزب الله إلى حزبه ومن طاعة الله إلى طاعته ، ومن ولاية الله سبحانه إلى ولايته . وقد رأينا في ترجمة جماعة من أهل الله وأوليائه أنهم سمعوا خطابا من فوقهم ، ورأوا صورة تكلمهم ، وتقول يا عبدي قد وصلت إلي ، وقد أسقطت عنك التكاليف الشرعية بأسرها . فعند أن يسمع منهم السامع ذلك يقول :
____________________
(1/469)
ما أظنك أيها المتكلم إلا شيطانا ، فأعوذ بالله منك ، فعند ذلك تتلاشى تلك الصورة ولا يبقى لها أثر . فقد بلغ كيد الشيطان إلى هذا الكيد العظيم ، ولكنه لم ينفق كيده هذا على أولياء الله سبحانه فردوه في نحره حتى إنه قد يتطاير عند ذلك التلاشي شرراً كما وقع لكثير منهم . فهذا الذي يزعم أنه من أولياء الله قد كاده الشيطان بهذه الحيلة واجتذبه بهذا المكر ، فانخدع وعاد سعيه ضلالا وعبادته كفراً وعمله خسراً . وسبب ذلك ما هو فيه من الجهل بالشريعه المطهرة ، ولولا ذلك لكان له من أنوار الدين وحجج الشرع ما يرد عنه كيد الشيطان الرجيم ، كما رده أولياء الله فعاد خاسئاً وهو حسير . وقد عرفناك أن دعوى الولاية إذا لم تكن مربوطة بالشرع مقيدة بالكتاب والسنة صل صاحبها وهو لا يدري ومكر به وهو لا يشعر ووقع في مغاضب الله سبحانه وهو يظن أنه في مراضيه . وما أحسن قول الشاعر : ( فساد كبير عالم متهتك ** وأفسد منه جاهل متنسك ) ( هما فتنة للعالمين كبيرة ** لمن بهما في دينه يتمسك ) المراد بتررد الله سبحانه عن نفس المؤمن : قوله : ' وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن ' في حديث عائشة عن موته . التردد : التوقف عن الجزم بأحد الطرفين ولأجل كون هذا معناه
____________________
(1/470)
عند أهل اللغة احتاج شراح الحديث إلى تأويله بوجوه . قال الخطابي : ' التردد في حق الله تعالى غير جائز ، والبدا عليه في الأمور غير سائغ ، ولكن له تأويلات ' . ' أحدها : أن العبد قد يشرف على الهلاك في أيام عمره من داء يصيبه . وفاقة تنزل به فيدعو الله تعالى ويستغيثه فيشفيه منها ، ويدفع عنه مكروهها ، فيكون ذلك من فعله كتردد من يريد أمراً ثم يبدو له فيتركه ويعرض عنه ، ولا بد له من لقائه إذا بلغ الكتاب أجله . ولأن الله تعالى قد كتب الفناء على خلقه ، واستأثر بالبقاء لنفسه ' انتهى الوجه الأول . أقول : ما أبرد هذا التأويل وأسمجه ، وأقل [ فائدته ] فإن صدور الشفاء من الله عز وجل لذلك الذي أصابه الداء فشفاه منه ليس من التردد في شيء بل هو أمر واحد وجزم لا تردد فيه قط . وكذلك إنزال المرض به جزم لا تردد فيه فهما قضاء بعد قضاء ، وقدَر بعد قدر ، وإن كانا [ با ] اعتبار شخص واحد ، فهما مختلفان متغايران لم يتحدا ذاتا ، ولا وقتا ، ولا زماناً ، ولا صفة . بل قضى الله على عبده بالمرض ثم شفاه منه .
____________________
(1/471)
فأي مدخل للتردد أو لما يشبه التردد ، أو لما يصح أن يُؤَل به التردد في مثل هذا . وقد ذكر أهل العلم أن التأويل لما احتِج إلى تأويله لا بد أن يكون مقبولا على وجه ، وله مدخل على حاله . وإلا وقع تحريف الكلمات الإلهية والنبوية لمن شاء كيف شاء ، وتلاعب بهما من شاء بما شاء . قال الخطابي : الثاني ، أن يكون معناه : ' ما رددت رسلي في شيء أنا فاعله كترديدي إياهم في نفس المؤمن ، كما روى في قصة موسى عليه السلام ، وما كان من لطمه عين ملك الموت وتردد إليه مرة بعد أخرى . قال : وحقيقة المعنى على الوجهين عطف الله تعالى على العبد ولطفه به وشفقته عليه ' انتهى . أقول : جعل التردد الذي معناه التوقف عن الجزم بأحد الطرفين بمعنى الترديد الذي هو الرد مرة بعد مرة ، وهما مختلفان مفهوماً وصدقاً . فحاصله : إخراج التردد عن معناه اللغوي إلى معنى لا يلاقيه ولا يلابسه بوجه من الوجوه فليس هذا من التأويل في شيء . قال في الفتح بعد أن ذكر كلام الخطابي باللفظ الذي حكيناه : ' وقال الكلاباذي ما حاصله : أنه عبر عن صفة الفعل بصفة الذات أي عن الترديد بالتردد . وجعل متعلق الترديد اختلاف أحوال العبد من ضعف ونَصَب إلى أن تنتقل محبته في الحياة إلى محبته في الموت فيقبض على ذلك . قال وقد يحدث الله تعالى في قلب عبده من الرغبة فيما عنده والشوق إليه والمحبة للقائه ما يشتاق معه إلى الموت فضلا عن إزالة الكراهة عنده فأخبره أنه يكره الموت ويسوءه فيكره الله تعالى مساءته ، فيزيل عنه كراهة
____________________
(1/472)
الموت بما يورده عليه من الأحوال ، فيأتيه الموت وهو له مؤثر ، وإليه مشتاق . قال : ' وقد ورد تفَعَّل بمعنى فَعَل مثل تَفَكَّر ، وفَكَّرَ ، وتَدَبَّر ودَبَّرَ ، وتهدد وهدد والله أعلم ' انتهى . أقول : كلامه هذا قد اشتمل على أمرين : أحدهما هو كالتفسير لما ذكره الخطابي ، ولكنه ربطه بغاية هي قوله إلى أن تنتقل محبته في الحياة إلى محبته في الموت ، فصار كلامه بهذه الغاية أتم من كلام الخطابي ، فإنه إنما جعل حاصل الوجهين اللذين ذكرهما ، هو عطف الله على العبد . ولطفه به وشفقته عليه . ويقال للكلاباذي غاية ما جاء به التأويل الذي ذكرته أن التردد الذي حكاه الله عن نفسه هو انتقال العبد من حالة إلى حالة . فأخرجت التردد عن معناه ، وأخرجت المتردد إلى اختلاف أحوال المتردد في شيء من الأمور المتعلقة به . وهذا إخراج للمعنى إلى معنى مغاير له بكل حال وعلى كل وجه . ويقال للخطابي : جعلت التردد في الموت عطف الله على العباد ولطفه به وشفقته عليه . وهذا معنى لا جامع بينه وبين التردد في موت العبد ، فإن لطف الله [ بعباده ] وعطفه عليهم وشفقته بهم أمر مقطوع به لا تردد فيه منه عز وجل وأما ما ذكره الكلاباذي من قوله : ( وقد يحدث الله في قلب عبده من الرغبة فيما عنده والشوق إليه الخ ) . فهو تكرير لقوله قبله إلى أن تنتقل محبته في الحياة إلى محبته في الموت ، وقد قدمنا الجواب عنه .
____________________
(1/473)
وأما قوله : وقد ورد تفعَّل بمعنى فعل مثل تفكر الخ فأقول : هذا مسلم فيما لم يخرج منه المعنى إلى معنى آخر ، فإن فكر ، وتفكر ، لم يخرجا عن معنى حصول الفكرة للعبد في شيء متفكر فيه . وكذلك دبَّر وتدبَّر فإنهما راجعان إلى معنى التدبير ، وكذلك هدد وتهدد . وأما التردد والترديد فلا يرجعان إلى معنى كما بينا ، بل لكل واحد منهما معنى مستقل يغاير معنى الآخر لمن تدبر وتفكر . قال في الفتح : ' وعن بعضهم يحتمل أن يكون تركيب الولي يحتمل أن يعيش خمسين سنة وعمره الذي كتب له سبعون ، فإذا بلغها فمرض دعا الله تعالى بالعافية فيجيبه عشرين أخرى مثلا . فعبر عن قدر التركيب وعما انتهى إليه بحسب الأجل المكتوب بالتردد ' انتهى . أقول : هذا التأويل لم يأت بفائدة قط فإن العمر الذي هو السبعون لا بد أن يبلغه العبد على اعتقاد هذا القائل سواء كان التركيب محتملا لذلك أم لا ، وسواء مرض عند انتهاء عمره إلى خمسين أو لم يمرض ، وسواء دعا الله بالعافية أو لم يدع . فإنه لا بد أن يبلغ السبعين . وغاية ما هناك أن الله رحمه ولف به فشفاه من مرضه الذي عرض له وهو في خمسين سنة . فأي شيء هذا ، وما الجامع بينه وبين معنى التردد المذكور في الحديث ؟ قال في الفتح : ' وعبر ابن الجوزي عن الثاني بأن التردد للملائكة الذين
____________________
(1/474)
يقبضون الروح فأضاف الحق ذلك لنفسه لأن ترددهم عن أمره قال : وهذا التردد ينشأ عن إظهار الكراهة . فإن قيل إذا أُمر الملك بالقبض كيف يقع منه التردد ؟ فالجواب أنه متردد فيما لم يحد له فيه الوقت كأن يقال . لا تقبض روحه إلا إذا رضى ' انتهى . أقول : انظر ما في هذا الكلام من الخبط والخلط . فإنه أولا جعل التردد للملائكة فأخرج الكلام عن معناه إخراجاً لا يبقى للمعنى الأصلي معه أثر قط . وكأنه جعله من المجاز العقلي كقوله بنى الأمير المدينة وهو عنه أجنبي ، فإنه قد وقع البناء في الخارج . وإنما نسب الفعل إلى [ الأمير ] . وأما هذا فلم يكن للتردد الواقع من الملائكة فائدة قط ولا وجد في الخارج [ له ] أثر . ثم قال : وهذا التردد ينشأ عن إظهار الكراهة ، فيقال : إن كان هذا الإظهار من جهة الرب سبحانه فهو يحتاج إلى تأويل آخر كما احتيج التردد إلى تأويل . فإن الكرهة ألا تجوز عليه بهذا المعنى . ثم لم يظهر لهذا الإظهار فائدة . فإن ذلك العبد الذي وقع التردد في قبض روحه لم يمت إلا بأجله المحتوم من دون أن يتقدم عنه ساعة ، أو يتأخر عنه ساعة . ثم انظر إلى ما أورده على نفسه من قوله : فإن قيل : إذا أُمر الملك
____________________
(1/475)
بالقبض . كيف يقع منه التردد ؟ وهذا إيراد وارد ، فإنهم لا يعصون الله فيما أمرهم ولا يتراخون عن إنجاز أمره سبحانه . ثم انظر إلى سقوط ما أجاب من أن الملك متردد فيما لم يحد له فيه الوقت . وكيف يؤمر الملك بفعل غير محدود ثم يسارع إلى فعله ؟ ! . أما قوله . كأن يقال له : لا تقبض روحه إلا إذا رضى فهو مع كونه يبطل التأويل بالمرة والكرة ، ليس للملك أن يفعل إلا ما يرضى به العبد من قبض روحه أو عدمه ، لأنه قد علق ذلك برضاه . وحينئذ لا ينجز الفعل إلا عند الرضى من العبد . والمفروض أنه يكره الموت كما نطق به هذا الحديث القدسي . فعند أن يعرف الملك أن العبد لا يرضى بقبض روحه ، ما بقي إلا الإمهال له حتى يرضى ، وأن يخالف الوقت المحدود لموته . وحينئذ ينفتح إشكال أكبر من هذا الإشكال الذي هم بصدد تأويله . قال في الفتح : ' ثم ذكر ابن الجوزي جواباً ثانياً وهو احتمال أن يكون معنى التردد اللطف به كأن الملك يؤخر القبض . فإنه إذا نظر إلى قدر المؤمن وعظم المنفعة به لأهل الدنيا احترمه فلا يبسط يده إليه ، فإذا ذكر أمر ربه تعالى لم يجد بداً من امتثاله ' انتهى . أقول هذا اللطف الذي بنى عليه هذا الجواب لم يظهر له أثر ، ولا تبين له معنى ، فإن الملك وإن تردد فهو لا محالة سيقبض الروح في الوقت المحدود
____________________
(1/476)
ووقوع ذلك الشيء في نفسه لم يجد له العبد فائدة ولا علم به فضلا عن أن يصل إليه منه منفعة . فهذا اللطف ليس بلطف أصلا ، وإن فرضنا أنه بتلك الرأفة على العبد ، لكونه ممن ينتفع العباد به ، كان بها تأخير قبض روح العبد لحظة وأن مجرد ذلك يعد لطفا ، فإنه يرد عليه إشكال أعظم من الإشكال الذي هم بصدد تأويله ، وهو أن الأجل المحتوم قد تأخر عن وقته بسبب تراخي الملك عن إنفاذ أمر الله به . وحاشا الملك أن يكون منه هذا ، وحاشا الأمر الإلهي أن لا ينجز حسب المشيئة الربانية ، فما أحق صاحب هذا التأويل ، بقول الشاعر : ( فكنت كالساعي إلى مثعب ** موائلا من سبل الراعد ) قال في الفتح : ' وجواباً ، رابعاً ، وهو أن يكون خطاباً ، لنا بما نعقل ، والرب عز وجل يتنزه عن حقيقته ، بل هو من جنس قوله : ' ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ' . فكما أن أحدنا يريد أن يضرب ولده تأديبا فتمنعه المحبة وتبعثه الشفقة فيتردد بينهما ، ولو كان غير الوالد كالمعلم لم يتردد بل كان لا يبالي ، بل يبادر إلى ضربه لتأديبه . فأريد تفهيمنا بتحقيق المحبة للولي بذكر التردد ' انتهى . أقول : هذا التأويل هو أحسن مما تقدم من تلك الوجوه ، فإنهم قد أولوا
____________________
(1/477)
مالا يجوز على الله سبحانه من مثل التعجب والاستفهام ونحوهما مما يرد هذه الموارد بأن ذلك بالنسبة إلى العباد المخاطبين . ولكن هذا المقام الذي نحن بصدده ، هو مقام أولياء الله وأحبائه وصفوته من خلقه ، وخالصته من عباده . وفيه الترغيب للعباد بأن يحرصوا على هذه الرتبة ، وعلى البلوغ إليها بما تبلغ إليه طاقتهم ، وتصل إليه قدرتهم ، ولا يألون جهداً في تحصيل أسبابها الموصلة إليها من التقرب إلى الله سبحانه بما يحب . فلا بد أن يكون لذلك التردد فائدة تعود على الولي حتى يكون ذلك سبباً لتنشيط العباد إلى بلوغ رتبته . وأما إذا كان يموت بأجله المحتوم فهو كغيره من عباد الله من غير فرق بين سعيدهم وشقيهم وصالحهم وطالحهم . قال في الفتح : ' وجوَّز الكرماني احتمالا آخر وهو أن المراد أنه يقبض روح المؤمن بالتأني والتدريج بخلاف سائر الأموات فإنها تحصل بمجرد قول كن سريعا ' انتهى . أقول : هذا التأني والتدريج إن كان له تأثير في الأجل ولو يسيرا رجع الإشكال بأعظم مما نحن بصدده لأنه قد تأخر عن وقته المحدود وأجله المحتوم . وإن كان لا تأثير له فلا نفع فيه للعبد أصلا بل قد يكون قبض روحه دفعة واحدة من غير تراخ ولا تدريج أسهل عليه من قبضه على خلاف ذلك . فإن قلت إذا لم ترض شيئا من هذه التأويلات فأبن لنا ما لديك حتى ننظر فيه .
____________________
(1/478)
قلت : ستعرف ما لدي في ذلك إن شاء الله لكن لا بد هاهنا من تقديم مقدمة يتضح بها الكلام ، ويتبين بها الصواب ، فافهمها حق فهمها وتدبرها حق تدبرها . اعلم أن كثيراً من أهل العلم لما نظروا في آيات وأحاديث تدل على أن ما قد سبق به القضاء لا يتحول ، وأنه ليس في هذه الدار إلا ما قد فرغ منه من قليل وكثير وجليل ودقيق محافظة على ما ورد مما يدل على ذلك ، ووقوفا عند قواعد مقررة قد تقررت عند أهل الكلام حتى قال قائلهم إنه لو وقع غير ما سبق به القلم وفصل به القضاء للزم لازم باطل ، وهو انقلاب العلم جهلا ، لتخلف ما قد حق به القضاء . لا تلازم بين علم الله ونفاذ قضائه : فقصروا أنظارهم على هذا الإلزام وغفلوا عن لزوم ما هو أشد منه ، وهو أن الرب القادر القوي المتصرف في عالمه بما يشاء ، وكيف يشاء لم يبق له عز وجل إلا ما قد سبق به قضاؤه ، ولا يتمكن من تغييره ولا من نقله إلى قضاء آخر . وهذا تقصير عظيم بالجناب العلي عز وجل وتعالى وتقدس . وهو يستلزم إهمال كثير من الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة . فمنها إهمال ما أرشدنا إليه سبحانه من التضرع إليه والدعاء له لأنه ليس للداعي إلا ما قد جف به القلم دعا أو لم يدع . وهذه مقالة تبطل بها فائدة الدعاء الذي أرشدنا سبحانه إليه في كتابه العزيز . وقال : ' ادعوني أستجب لكم ' ،
____________________
(1/479)
وجعل ترك دعائه من الاستكبار عليه ، وتوعد عليه ، كما قال : ( إن الذين يستكبرون عن عبادتي الآية ) وقال : ! ( أم من يجيب المضطر إذا دعاه ) ! وقال : ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان ) . الدعاء كسبب لرد القضاء : فأخبرنا سبحانه أنه يجيب دعوة من دعاه بعد أن أمرنا بالدعاء في آيات كثيرة ، ومنها هذا الحديث القدسي الذي نحن بصدد شرحه ، فإنه قال فيه . ' لئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ' . وهو صادق ولا يخلف الميعاد كما أخبرنا بذلك في كتابه العزيز . وقد أكد الإجابة منه للعبد في هذا الحديث القدسي بالقسم على نفسه عز وجل . فكيف تخلف ذلك . وقد ورد ، من الترغيب في الدعاء ما لو جمع لكان مؤلفا مستقلا ، فمن ذلك . ما هو في الصحيحين وغيرهما ومنها ما هو صحيح كما ستقف عليه . فمن ما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال الله عز وجل :
( أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا دعاني ) . وفي الحديث القدسي ، الذي أخرجه مسلم وغيره عن أبي ذر . ' يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا دخل
____________________
(1/480)
البحر ' . وأخرج أهل السنن وابن حبان والحاكم ، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم من حديث النعمان بن بشير عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم أنه قال :
( الدعاء هو العبادة ثم قرأ : ! ( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ) ! : وأخرج الترمذي والحاكم وصححه من حديث أبي هريرة أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال :
( من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر من الدعاء في الرخاء ) وأخرجه أيضاً الحاكم من حديث سلمان وصححه . وأخرج الترمذي وحسنه من حديث أنس قال : سمعت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم يقول قال الله :
( يا ابن آدم ، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي ' . وأخرج الترمذي والحاكم وصححاه من حديث عبادة بن الصامت ' أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال : ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها ، أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ، فقال رجل من القوم : إذاً نكثر قال : الله أكثر ' . وأخرج أحمد بإسناد لا بأس به من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
( ما من مسلم ينصب وجهه لله عز وجل في مسألة إلا أعطاها إياه : إما أن يجعلها له ، وإما أن يدخرها ' . وأخرج أحمد والبزار وأبو يعلى بأسانيد جيدة والحاكم وصححه من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال : ' ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث : إما أن يعجل له دعوته ، وإما
____________________
(1/481)
أن يدخرها له في الآخرة ، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها . قالوا : إذن فكثر . قال : الله أكثر ' . وأخرج ابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه والضياء في المختارة من حديث أنس قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
( لا تعجزوا في الدعاء فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد ) . وأخرج الحاكم وصححه من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
( الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ونور السموات والأرض ) وأخرجه أبو يعلى من حديث علي . وأخرج الترمذي والحاكم وصححه من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
( من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة ، وما سئل الله شيئا أحب إليه من أن يسأل العافية والدعاء ينفع مما نزل ، ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدعاء ' . وفي إسناده عبد الرحمن بن أبي بكر المليكي وفيه مقال . وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه ، وابن ماجه ، وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه من حديث سلمان قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
( إن الله حيى كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين ) . وأخرج الحاكم وصححه من حديث أنس قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
( إن الله رحيم كريم يستحي من عبده أن يرفع إليه يديه ثم لا يضع فيهما خيرا ) . وأخرج أبو داود والترمذي وصححه والحاكم وصححه من حديث عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم
____________________
(1/482)
( من نزلت به فاقة ، فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل وآجل ) . وأخرج الترمذي وابن أبي الدنيا من حديث ابن مسعود قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
( سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يُسأل ) . وأخرج الترمذي من حديث أنس أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال :
( الدعاء مخ العبادة ) . وأخرج أبو يعلى من حديث جابر قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
( ألا أدلكم على ما ينجيكم من عدوكم ويدر لكم أرزاقكم تدعون الله في ليلكم ونهاركم ، فإن الدعاء سلاح المؤمن ) . وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه من حديث عبد الله بن بريدة أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
( سمع رجلا يقول : اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفؤا أحد . فقال : لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى ، وإذا دعى به أجاب ) . وأخرج الترمذي وقال : حسن من حديث معاذ ' قال سمع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم رجلا وهو يقول : ياذا الجلال والإكرام فقال : قد استجيب لك فسل ' . وأخرج الحاكم من حديث أبي أمامة قال : ' قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم أن لله ملكا موكلا بقول : يا أرحم الراحمين فمن قالها ثلاث مرات قال الملك : إن أرحم الراحمين قد أقبل عليك فسل ' . وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي ، وابن ماجه ، وابن حبان في صحيحه ، والحاكم وصححه من حديث أنس قال : ' مر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم بأبي عياش زيد بن الصامت الزرقي وهو يصلي وهو يقول : اللهم إني أسألك
____________________
(1/483)
بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض ياذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم : فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم : لقد دعا الله باسمه الأعظم ، الذي إذا دعى به أجاب ' . ومن ذلك ما ورد في إجابة دعوة المظلوم على ظالمه ، والأب على ولده وورد أيضاً أن جماعة لا يرد دعاؤهم ، والأحاديث بذلك صحيحة ثابتة ' . والأحاديث في هذا الباب كثيرة وفيها الترغيب في الدعاء ومحبة الله له ، حتى أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة مرفوعاً : ' من لم يسأل الله يغضب عليه ' وأخرج ابن أبي شيبة من حديثه ' من لم يدْعُ الله غضب عليه ' . فلو لم يكن الدعاء نافعاً لصاحبه ، وأن ليس له إلا ما قد كتب له دعا أو لم يدع لم يقع الوعد بالإجابة وإعطاء المسألة في هذه الأحاديث ونحوها ، بل قد ثبت أن الدعاء يرد القضاء كما أخرجه الترمذي وحسنه من حديث سلمان أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال :
( لا يرد القضاء إلى الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر ) وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه ، والحاكم وصححه ، وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير ، والضياء في المختارة . وأخرج ابن أبي شيبة وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه والطبراني في الكبير من حديث ثوبان ' لا يرد القدر إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ' . وأخرج البزار والطبراني والحاكم وصححه والبزار من حديث عائشة قالت : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
( لا يغني حذر من قدر ، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل ، وأن البلاء لينزل ، فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة ' .
____________________
(1/484)
فهذه الأحاديث وما ورد موردها قد دلت على أن الدعاء يرد القضاء فما بقي بعد هذا ؟ ومن الأدلة التي تدفع ما قدمناه من قول أولئك القائلين ما ورد من الاستعاذة من سوء القضاء ، كما ثبت الصحيحين وغيرهما ، أنه كان [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم يقول :
( اللهم إني أعوذ بك من سوء القضاء ، ودرك الشقاء ، وجهد البلاء ، وشماتة الأعداء ) . وقد قدمنا هذا الحديث . فلو لم يكن للعبد إلا ما قد سبق به القضاء لم يستعذ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم من سوء القضاء . ومن ذلك حديث الدعاء في الوتر وفيه : ' وقني شر ما قضيت ' . وهو حديث صحيح ، وإن لم يكن في الصحيحين حسبما قدمنا الإشارة إليه . ومن الأدلة التي ترد قول أولئك القائلين ما ورد في صلة الرحم ، ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أنس أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال :
( من أحب أن يبسط له في رزقه ، وينسأ له في أثره فليصل رحمه ) . قوله ينسأ : بضم الياء وتشديد السين المهملة مهموز أي يؤخر له في أجله . وأخرجه البخاري وغيره من حديث أبي هريرة . وأخرج البزار والحاكم وصححه من حديث ابن عباس عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم أنه قال :
( مكتوب في التوارة : من أحب أن يزاد في عمره ويزاد في رزقه فليصل رحمه ) . وأخرج أحمد بإسناد رجاله ثقات عن عائشة أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم
____________________
(1/485)
قال :
( صلة الرحم وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار ) وهو من طريق عبد الرحمن بن القاسم ولم يسمع من عائشة . والأحاديث في هذا الباب كثيرة . فلو لم يكن للعبد إلا ما قد سبق له لم تحصل له الزيادة بصلة رحمه ، بل ليس له إلا ما قد سبق به القضاء وصل رحمه أو لم يصل ، فيكون ما ورد في ذلك لغواً لا عمل عليه ولا صحة له . ومن الأدلة التي ترد قول أولئك ما ورد من الأمر بالتداوي ، وهي أحاديث ثابتة في الصحيح . فلولا أن لذلك فائدة كان الأمر به لغوا . إذا عرفت ما قدمناه فاعلم أن الله سبحانه قال في كتابه العزيز : ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) . وظاهر هذه الآية العموم المستفاد من قوله ما يشاء ، فما شاء سبحانه مما قد وقع في القضاء وفي اللوح المحفوظ محاه ، وما شاء أثبته . ومما يستفاد منه مثل معنى هذه الآية قوله عز وجل : ! ( وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب ) ! ، وقوله عز وجل : ! ( ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ) ! .
____________________
(1/486)
وقد أجاب أولئك القوم الذين قدمنا ذكرهم عن الآية الأولى بجوابات : منها أن المراد : يمحو ما يشاء من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله ، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه ولا يبدله . وجملة الناسخ والمنسوخ عنده في أم الكتاب . ويجاب عن ذلك بأنه تخصيص لعموم الآية بغير مخصص . وأيضا يقال لهم : إن القلم قد جرى بما هو كائن إلى يوم القيامة كما في الأحاديث الصحيحة . ومن جملة ذلك الشرائع والفرائض ، فهي مثل العمر إذا جاز فيها المحو والإثبات جاز في العمر المحو والإثبات . وكل ما هو جواب لهم عن هذا فهو جوابنا عليهم . ومنها أن المراد بالآية محو ما في ديوان الحفظة مما ليس بحسنة ولا سيئة لأنهم مأمورون بكتب ما ينطق به الإنسان . ويجاب عنه الجواب الأول ، ويلزم فيه مثل اللازم الأول ، وجميع ما ينطق به بنو آدم من غير فرق بين أن يكون حسنة أو سيئة أو لا حسنة ولا سيئة هو في أم الكتاب ، و ! ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) ! ( وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ) ، ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) ومنها
____________________
(1/487)
أن المراد أن الله يغفر ما يشاء من ذنوب عباده ، ويترك ما يشاء فلا يغفره . ويجاب عنه بمثل الجواب السابق . ومنها أن المراد يمحو ما يشاء من القرون فيمحو قرنا ويثبت قرنا كقوله : ! ( ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون ) ! وقوله : ! ( ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ) ! ويجاب عنه بمثل ما تقدم . ومنها أن المراد الذي يعمل بطاعة الله ثم بمعصيته فيموت [ فيموت ] على ضلاله فهذا الذي يمحوه الله والذي يثبته : الرجل يعمل بمعصية الله ثم يتوب فيمحوه من ديوان السيئات ويثبته في ديوان الحسنات . ويجاب عنه بما تقدم ويلزم فيه ما يلزم في الأول وما بعده بلا شك ولا شبهة . وأي فرق بين محو السيئة وإثبات الحسنة ، وبين محو أحد العمرين وإثبات الآخر . ومنها أن المراد يمحو ما يشاء يعني الدنيا ويثبت الآخرة ، ويجاب عنه بما تقدم . وإذا تقرر لك هذا عرفت أن الآية عامة ، وأن العمر فرد من أفرادها . ويدل على هذا التعميم ما ثبت عن كثير من أكابر الصحابة [ أنهم ] كانوا يقولون في دعائهم : ' اللهم إن كنت قد أثبتني في ديوان الأشقياء ، فانقلني إلى ديوان [ السعداء ] ' ونحو هذه العبارة من عباراتهم وهم جمهور قد جمع بعض
____________________
(1/488)
الحنابلة فيما ورد عنهم من ذلك مجلداً بسيطاً . وبالجملة فالقول بالتخصيص بغير مخصص هو من التقول على الله بما لم يقل لأن الذي قاله هو ذلك اللفظ العام ، وتلك الآية الشاملة فقصرها على بعض مدلولاتها بغير حجة نيرة لا شك أنه من التقول على الله بما لم يقل . وقد قال سبحانه : ! ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) ! . وأجابوا عن قوله تعالى : ! ( وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب ) ! ، بأن المراد بالمعمَّر الطويل العمر ، والمراد بالمنقوص قصير العمر . ويجاب عن ذلك بأن الضمير في قوله : ' ولا ينقص من عمره ' يعود إلى قوله من معمر لا شك في ذلك . والمعنى على هذا ' وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمر ذلك المعمر ' . هذا معنى النظم القرآني الذي لا يحتمل غيره ، وما عداه فهو إرجاع للضمير إلى غير ما هو المرجع ، وذلك لا وجود له في النظم . وأجابوا أيضا بأن معنى ما يعمر من معمر ما يستقبله من عمره . ومعنى ولا ينقص من عمره ما قد مضى . وهذا تعسف وتكلف وتلاعب بكتاب الله وتصرف فيه بما يوافق المذهب ويطابق الهوى . وأجابوا أيضا بأن المراد بالمعمر من بلغ سن الهرم ، وبالمنقوص من عمره
____________________
(1/489)
هو معمر آخر غير هذا الذي بلغ سني الهرم أي ينقص من عمره عن عمر الذي بلغ سن الهرم ، ويجاب عنه بمثل ما تقدم . وقيل المعمر : من بلغ عمره ستين ، والمنقوص من عمره من يموت قبل الستين ، ويجاب عنه بما تقدم . والحاصل أن ما جاءوا به من الأجوبة يردها اللفظ القرآني ، ويدفعها النظم الرباني ، والصيغة عامة بما فيها من النفي الدال على العموم المتوجه إلى النكرة المنفية المؤكد نفيها بمن . وكذلك النفي الآخر بلفظ لا ، المتوجه إلى نفي النقص من عمر ذلك المعمر . وهذا ظاهر لا يخفى ، ومحاولة تخصيصه ، أو ارجاع ضميره إلى غير من هوله تعسف ، وتلاعب بكتاب الله ، ورده بلا حجة نيرة إلى ما يطابق هوى الأنفس . وأجابوا عن قوله تعالى : ! ( ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ) ! بأن المراد بالأجل الأول ، النوم ، والأجل الثاني الموت . وهذا من بدع التفاسير وغرائب التأويل . ومعنى الآية أوضح من أن يخفى . وأجابوا أيضا بأن الأجل الأول ما قد انقضى من عمر كل أحد . والثاني ما بقي من عمر كل أحد . وهذا كالأول . وقيل الأول أجل الموت ، والثاني أجل الحياة في الآخرة ، وهذا أشد تعسفا مما قبله . وقيل الأول ما بين خلق الإنسان إلى موته : والثاني ما بين موته إلى بعثه وهو كالذي قبله . والكل مخالف لما يدل عليه النظم القرآني .
____________________
(1/490)
وإذا عرفت بطلان ما أجابوا به . تقرر لك أن الثلاث الآيات دالة على ما أردناه . فإن المحو والإثبات عامان يدخل تحت عمومها العمر والرزق والسعادة والشقاوة وغير ذلك . ومعنى الآية الثانية أنه لا يطول عمر إنسان ولا يقصر ، إلا وهو في كتاب أي اللوح المحفوظ . ومعنى الآية الثالثة : أن للإنسان أجلين يقضي الله سبحانه له بما يشاء منهما من زيادة أو نقض . فإن قلت : فعلام تحمل مثل قوله تعالى : ! ( فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) ! وقوله سبحانه : ! ( لن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها ) ! وقوله سبحانه ! ( إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ) ! . قلت : أفسرها بما هي مشتملة عليه فإنه قال : في الآية الأولى : ' فإذا جاء أجلهم ' وقال في الثانية ' إذا جاء أجلها ' ، وقال في الثالثة : ' إن أجل الله إذا جاء ' . فأقول : إذا حضر الأجل ، فإنه لا يتقدم ، ولا يتأخر . وقبل حضوره يجوز أن يؤخره الله بالدعاء أو بصلة الرحم ، أو بفعل الخير ، ويجوز أن يقدمه لمن عمل شراً ، [ أو ] قطع ما أمر الله به أن يوصل ، وانتهك محارم الله سبحانه .
____________________
(1/491)
مبدأ السببية في الشريعة الإسلامية : فإن قلت : فعلام تحمل نحو قوله عز وجل : ! ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ) ! وقوله سبحانه ! ( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ) ! وكذلك سائر ما ورد في هذا المعنى . قلت : أجمع بينها ، وبين ما عارضها في الظاهر من قوله عز وجل : ( وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ) وما ورد في معناها . ومن ذلك الحديث القدسي الثابت في الصحيح عن الرب عز وجل : ( يا عبادي : إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم فمن وجد خيراً فليحمد الله ، ومن وجد شراً فلا يلومن إلا نفسه ) بحمل الآيتين [ الأوليين ] وما ورد في معناهما على عدم التسبب من العبد بأسباب الخير من الدعاء وصلة الرحم ، وسائر الأفعال والأقوال الصالحة . وحمل الآية [ الأخرى ] ، والحديث القدسي ، وما ورد في معناهما ، على وقوع التسبب من العبد بأسباب الخير الموجبة لحسن القضاء ، واندفاع شره . وعلى وقوع التسبب من العبد بأسباب الشر المقتضية لإصابة المكروه ، ووقوعه على العبد . وهكذا أجمع بين الأحاديث الواردة بسبق القضاء ، وأنه قد فرغ من تقدير
____________________
(1/492)
الأجل والرزق ، والسعادة والشقاوة ، وبين الأحاديث في طلب الدعاء من العبد ، وأن الله يجيب دعاءه ، ويعطيه ما سأل مثله ، وأنه يغضب إذا لم يسأل ، وأن الدعاء يرد القضاء ونحو ذلك مما قدمنا ، كصلة الرحم ، وأعمال الخير . فأحمل أحاديث الفراغ من القضاء على عدم تسبب العبد بأسباب الخير أو الشر وأحمل الأحاديث [ الأخرى ] على وقوع التسبب من العبد بأسباب الخير أو التسبب بأسباب الشر . وأنت خبير بأن هذا الجمع لا بد منه لأن الذي جاءنا بالأدلة الدالة على أحد الجانبين هو الذي جاءنا بالأدلة الدالة على الجانب الآخر . وليس في ذلك خلف لما وقع في الأزل ، ولا مخالفة لما تقدم العلم به ، بل هو من تقييد المسبات بأسبابها ، كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب ، وقدر الولد بالوطء ، وقدر حصول الزرع بالبذر . فهل يقول قائل بأن ربط هذه المسببات بأسبابها يقتضي خلاف العلم السابق ، أو ينافيه بوجه من الوجوه ؟ . فلو قال قائل : أنا لا آكل ، ولا أشرب ، بل أنتظر القضاء ، فإن قدر الله لي ذلك كان ، وإن لم يقدره لم يكن ، أو قال : أنا لا أزرع ولا أجامع زوجتي فإن قدر الله لي الزرع والولد حصلا ، وإن لم يقدرهما لم يحصلا . أليس هذا القائل قد خالف ما في كتب الله سبحانه ، وما جاءت به رسله
____________________
(1/493)
وما كان عليه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم وأصحابه ، والتابعون ، وتابعوهم وسائر علماء الأمة ، وصلحائها ، بل يكون هذا القائل قد خالف ما عليه هذا النوع الإنساني من أبينا آدم إلى الآن ، بل قد خالف ما عليه جميع أنواع الحيوانات في البر والبحر ؟ . فكيف ينكر وصول العبد إلى الخير بدعائه ، أو بعمله الصالح ، فإن هذا من الأسباب التي ربط الله مسبباتها بها ، وعلمها قبل أن تكون . فعله على كل تقدير أزلي في المسببات ، والأسباب . ولا يشك من له اطلاع على كتاب الله عز وجل ، ما اشتمل عليه من ترتيب حصول المسببات على حصول أسبابها ، وذلك كثير جداً . ومن ذلك قوله : ( إن تجتنبوا كبائر ، ما تنهون عنه تكفر عنكم سيئاتكم ) ، ! ( فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا ) ! و ! ( لئن شكرتم لأزيدنكم ) ! ! ( اتقوا الله ويعلمكم الله ) ! ! ( فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون ) ! وكم يعد العاد من هذا الجنس في الكتاب العزيز . وما ورد في معناه من السنة المطهرة . فهل ينكر هؤلاء الغلاة مثل هذا ويجعلونه مخالفا لسبق العلم مباينا
____________________
(1/494)
لأزليته ؟ . فغن قالوا نعم ، فقد أنكروا ما في كتاب الله سبحانه من فاتحته إلى خاتمته ، وما في السنة المطهرة من أولها إلى آخرها ، بل أنكروا أحكام الدنيا والآخرة جميعها ، لأنها كلها مسببات مترتبة على أسبابها ، وجزاءات معلقة بشروطها . ومن بلغ إلى هذا الحد في الغباوة ، وعدم تعقل الحجة ، لم يستحق المناظرة ، ولا ينبغي الكلام معه في الأمور الدنية ، بل ينبغي إلزامه بإهمال أسباب ما فيه صلاح معاشه ، وأمر دنياه كله حتى ينتعش من غفلته ، ويستيقظ من نومته ، ويرجع عن ضلالته وجهالته . والهداية بيد ذي الحول ، والقوة . ثم يقال لهم : أيما فائدة لأمره عز وجل لعباده بالدعاء بقوله : ' ادعوني أستجب لكم ' ثم عقب ذلك بقوله : ' إن الذين يستكبرون عن عبادتي ' أي دعائي ' سيدخلون جهنم داخرين ' . وقوله عز وجل : ! ( اسألوا الله من فضله ) ! فأي فائدة لهذين الأمرين منه عز وجل بالدعاء ووعيده لمن تركه وجعله مستكبرا ، وتمدحه سبحانه بقوله ! ( أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ) ! . وبقوله : ' وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان ' فإن قالوا إن هذا الدعاء الذي أمرنا الله عز وجل به وأرشدنا إليه وجعل تركه استكبارا وتوعد عليه بدخول النار مع الذل ، وأنكر عليهم أن غيره يجيب المضطر .
____________________
(1/495)
إن [ كان ] ذلك كله لا فائدة فيه للعبد ، وأنه لا ينال إلا ما قد سبق به القضاء فعل الدعاء ، أو لم يفعل ، فقد نسبوا إلى الرب عز وجل ما لا يجوز عليه ولا تحل نسبته إليه بإجماع المسلمين ، فإنه عز وجل لا يأمر إلا بما فيه فائدة للعبد دنيوية أو أخروية إما جلب نفع أو دفع ضر . هذا معلوم لا يشك فيه إلا من لا يعقل حجج الله ، ولا يفهم كلامه ولا يدري بخير ولا شر ، ولا نفع ولا ضر . ومن بلغ في الجهل إلى هذه الغاية فهو حقيق بأن لا يخاطب ، وقمين بأن لا يناظر ، فإن هذا المسكين المتخبط في جهله المتقلب في ضلالة قد وقع فيما هو أعظم خطرا من هذا أو أكثر ضرراً منه . وذلك بأن يقال له : إذا كان دعاء الكفار إلى الإسلام ، ومقاتلتهم على الكفر وعزوهم إلى عقر الديار ، كما فعله رسل الله ونزلت به كتبه ، لا يأتي بفائدة ، ولا يعود على القائمين به من الرسل وأتباعهم ، وسائر المجاهدين بعائدة ، وأنه ليس هناك إلا ما قد سبق به القضاء ، وجف به القلم ، وأنه لا بد أن يدخل في الإسلام ، ويهتدي إلى الدين من علم الله في سابق علمه أنه يقع منه ذلك سواء قوتل أم لم يقاتل ، وسواء دعى أم لم يدع ، كان هذا القتال والتكليف الشاق ضائعاً ، لأنه من تحصيل الحاصل ، وتكوين ما هو كائن فعلوا أو تركوا . وحينئذ يكون الأمر بذلك عبثاً ، تعالى الله عن ذلك . وهكذا ما شرعه الله لعباده من الشرائع على لسان أنبيائه ، وأنزل به كتبه يقال فيه مثل هذا . فإنه إذا كان ما في سابق علمه كائنا لا محالة ، سواء أنزل كتبه ، وبعث رسله أم لم ينزل ولا بعث ، كان ذلك من تحصيل الحاصل فيكون عبثا ، تعالى الله عن ذلك .
____________________
(1/496)
ثم يقال لهم : هذه الأدعية التي علَّم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم أمته في صلواتهم وليلهم ونهارهم وسفرهم وحضرهم ، لو رام العالم جمعها متوناً لكانت في مجلد . وقد كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم أكثر الناس قياماً وتضرعاً إلى ربه حتى كان في تارة يرفع كفيه حتى يرى بياض إبطيه وفي تارة يرفعهما حتى يسقط الرداء عن منكبيه ، ثم أخبرنا بما للداعي لربه من الجزاء الجزيل ، والثواب الجليل عموماً ، وخصوصاً . هل كان لهذا فائدة يتبين أثرها أم لا فائدة ، بل ما خط في اللوح فهو كائن لا محالة وقع الدعاء أم لم يقع ؟ ! ! . فيقال لهم : يا نوكي . أنتم أعرف بالله سبحانه من رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم حتى يكون ما فعله ، وما علمه أمته لغواً ضائعاً لا فائدة فيه ولا عائدة ؟ ! سبحانك هذا بهتان عظيم . ثم يقال لهم : لو كان القضاء السابق حتما لا يتحول ، فأي فائدة في استعاذته [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم من سوء القضاء ، كما صح ذلك عنه في الصحيحين ، وصح عنه أنه كان يقول : وقني شر ما قضيت . فيا لله العجب من دعاوي عريضة من قلوب مهيضة ، وأفهام مريضة . يا لكم الويل ، أما تدرون في أي بلية وقعتم ، وعلى أي جنب سقطتم ، ومن أي باب من الشريعة خرجتم ؟ ! ! فإنكم لم تعملوا بشرع ولا اهتديتم بعقل . وقد كان لكم قدوة وأسوة برسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم ، وبكتاب الله المنزل عليه ، وبما كان عليه أكابر الصحابة في هذه المسألة [ التي ]
____________________
(1/497)
نحن بصددها كعمر بن الخطاب . وعبد الله بن مسعود ، وأبي وائل ، وأمثالهم من أكابر الصحابة الذين صح عنهم أنهم كانوا يسألون الله سبحانه أن يثبتهم في ديوان السعادة وأن ينقلهم من ديوان الشقاوة إن كانوا فيها ، إلى ديوان السعادة كما قدمنا . ولله در كعب الأحبار ، فإنه قال لما طعن عمر رضي الله عنه : ' والله لو دعا عمر أن يؤخر الله أجله لأخره ' فقيل له : إن الله عز وجل يقول : ! ( فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) ! فقال : هذا إذا حضر الأجل ، فأما قبل ذلك فيجوز أن يزاد وينقص ' وقرأ قوله تعالى : ! ( وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب ) ! . وكلامه هذا يرشد إلى الجمع الذي جمعناه كما عرفت ، ولنقتصر على هذا المقدار في تقرير المقدمة التي قدمنا أنه يظهر بها ما سنذهب إليه في ذلك المقام ، بعد أن تعقبنا جميع تلك التأويلات المذكورة في التردد الذي وقع في الحديث القدسي . فنقول الآن : إن ذلك التردد هو كناية عن محبة الله لعبده المؤمن أن يأتي بسبب من الأسباب الموجبة لخلوصه من المرض الذي وقع فيه حتى يطول به عمره ، من دعاء أو صلة رحم ، أو صدقة ، فإن فعل مد له في عمره
____________________
(1/498)
بما [ يشاء ] ، وتقتضيه حكمته . وإن لم يفعل حتى جاء أجله ، وحضره الموت مات بأجله الذي قد قضى عليه إذا لم يتسبب بسبب يترتب عليه الفسحة له في عمره ، مع أنه وإن فعل ما يوجب التأخير ، والخلوص من الأجل الأول ، فهو لا بد له من الموت بعد انقضاء تلك المدة التي وهبها الله سبحانه له . فكان هذا التردد معناه : انتظار ما يأتي به العبد مما يقتضي تأخير الأجل أو لا يأتي ، فيموت بالأجل الأول ، وهذا معنى صحيح لا يرد عليه إشكال ، ولا يمتنع في حقه سبحانه بحال ، مع أنه سبحانه يعلم أن العبد سيفعل ذلك السبب ، أو لا يفعله ، لكنه لا يقع التنجيز لذلك المسبب إلا بحصول السبب الذي ربطه عز وجل به . كراهة الموت ومقام الولاية : قوله : ' يكره الموت وأكره إساءته ' قال ابن حجر : ' وفي حديث عائشة : أنه يكره الموت وأنا أكره مساءته . زاد ابن مخلد عن ابن كرامة في آخره : ' ولا بد له منه ' ووقعت هذه الزيادة أيضا في حديث وهب ' انتهى .
____________________
(1/499)
فيه فائدة جليلة هي أن المؤمن قد يكره الموت ولا يخرج بذلك عن رتبة الإيمان الجليلة ، ولا ينافي ذلك أن شأن المؤمن أن يحب لقاء الله سبحانه ، كما ورد في الأحاديث الصحيحة لوقوع البيان فيها بأن محبة لقاء الله لا نستلزم أن لا يكره صاحب هذه المحبة الموت ، كما في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة قالت : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
( من أحب لقاء الله ، أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه فقلت يا نبي الله أكراهية الموت فكلنا نكره الموت ؟ قال : ليس ذلك ، ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه ، وأن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله ، وكره الله لقاءه ' . وأخرج أحمد برجال الصحيح والنسائي بإسناد جيد من حديث أنس قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم :
( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ، قلنا يا رسول الله : كلنا نكره الموت . قال : ليس ذاك كراهية الموت ، ولكن المؤمن إذا حضر جاءه البشير من الله فليس شيء أحب إليه من أن يكون قد لقي الله فأحب الله لقاءه ، وإن الفاجر والكافر إذا حضر جاءه ما هو صائر إليه من الشر ، أو ما يلقى من الشر ، فكره لقاء الله فكره الله لقاءه ' .
____________________
(1/500)
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : ' قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم : قال الله : إذا أحب عبدي لقائي أحببت لقاءه ، وإذا كره لقائي كرهت لقاءه ' وأخرج الطبراني بإسناد جيد من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال : ' تحفة المؤمن الموت ' . وأخرج أحمد من رواية عبد الله ابن [ زَجْر ] من حديث معاذ قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم : ' إن شئتم أنبأتكم ما أول ما يقول الله عز وجل للمؤمنين يوم القيامة ، وما أول ما يقولون له قلنا : نعم يا رسول الله قال : إن الله عز وجل يقول للمؤمنين : هل أحببتم لقائي ، فيقولون نعم يا ربنا ، فيقول لهم : لم ؟ فيقولون : رجونا عفوك ومغفرتك فيقول : قد وجبت لكم مغفرتي ' . قال ابن حجر في الفتح : ' وأسند البيهقي في الزهد عن الجنيد سيد الطائفة قال : الكراهة هنا لما يقلى المؤمن من الموت ، وصعوبته وكربه وليس المعنى أنس أكره له الموت لأن الموت يورده إلى رحمة الله ومغفرته ' انتهى . أقول : ظاهر الأحاديث التي قدمناها : أن الكراهة لنفس الموت الذي هو انتقال من الدار الأولى إلى الدار الآخرة من غير حاجة إلى تأويل . ولا شك أن الكراهة للموت قد تكون لاستصعاب مقدماته ، وقد تكون لما في الموت من مفارقة الأهل والولد والأصحاب والأتراب ، وقد تكون للخوف من أن يفارق الدنيا وهو غير راض من نفسه بأعماله الصالحة ، أو لذنوب اقترفها لم
____________________
(1/501)
يخلص التوبة عنها ، أو لحقوق لله سبحانه ، أو لعباده لم يتخلص عنها ، فليست كراهة الموت مختصة بذلك الوجه الذي ذكره الجنيد رحمه الله . قال في الفتح : ' وعبر بعضهم عن هذا بأن الموت حتم مقضي ، وهو مفارقة الروح الجسد ، ولا يحصل غالباً إلا بألم [ شديد ] جداً كما جاء عن عمرو بن العاص أنه سئل وهو يموت فقال : كأني أتنفس من خرم إبرة ، وكأن غصن شوك يجر به من قامتي إلى هامتي ' انتهى . قلت : هذا هو مثل كلام الجنيد . والجواب عنه جواب عن هذا ، وقصة عمرو هذه مشهورة في كتب التاريخ ، قال له رجل وهو يجود بنفسه : إنك كنت تقول لنا : وددت أن يخبرني رجل عاقل [ و ] هو في سياق الموت كيف يجد الموت فقال له رجل : أنت ذلك الرجل العاقل فأخبرنا فقال : ' كأني أتنفس الخ ' ، قال في الفتح : ' وعن كعب أن عمر سأله عن الموت فوصفه بنحو هذا ، فلما كان الموت بهذا الوصف والله سبحانه يكره [ أذى ] المؤمن أطلق على ذلك الكراهة . ويحتمل أن تكون المساءة بالنسبة إلى طول الحياة لأنها تؤدي إلى أرذل العمر وتنكس الخلق والرد إلى أسفل سافلين ' انتهى . أقول : معنى قوله وأكره إساءته كراهة إساءته بنفس الموت كما يفيده قوله يكره الموت ، فإن قوله وأكره إساءته هو معطوف عليه ، فالمراد أكره إساءته بما
____________________
(1/502)
كرهه . وتخصيص التفسير بوجه مع وضوح المعنى لا حاجة إليه ، فإنه لا يلزم من ذلك شيء حتى يصار إلى التأويل ، وعلى فرض وجود مقتض للتأويل ، فهو ذو وجوه كما بينا ، وغير ما تطابق عليه قول الجنيد وكعب والمصنف [ وهو ] أولى منه . قال في الفتح : ' وجوز الكرماني أن يكون المراد أنه يكره الموت فلا أسرع بقبض روحه فأكون كالمتردد ' انتهى . أقول : هذا صواب إذ لا مقتضى للتأويل كما عرفناك . قال في الفتح : ' وقال الشيخ أبو الفضل : في هذا الحديث ، عظم قدر الولي ، لكونه خرج عن تدبير نفسه إلى تدبير ربه تعالى ، ومن انتصاره لنفسه إلى انتصار الله له ، وعن حوله وقوته بصدق توكله . قال : ويؤخذ منه أن لا يحكم لإنسان آذى ولياً ثم لم يعاجل بمصيبة في نفسه أو ماله أو ولده ، بأنه يسلم من انتقام الله تعالى له : فقد يكون مصيبته في غير ذلك مما هو أشبه عليه كالمصيبة في الدين مثلاً .
____________________
(1/503)
قال : ويدخل في قوله : افترضت عليه الفرائض الظاهرة فعلا ، كالصلاة والزكاة وغيرهما من العبادات . وتركا كالزنا والقتل وغيرهما من المحرمات ، والباطنة كالعلم بالله تعالى والحب له والتوكل عليه ، والخوف منه وغير ذلك . وهو ينقسم أيضاً إلى أفعال وتروك . الولي ومعرفة الغيبيات : قال : وفيه دلالة على جواز اطلاع الولي على المغيبات باطلاع الله تعالى وإياه ، ولا يمنع من ذلك ظاهر قوله : ! ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول ) ! فإنه لا يمنع دخول بعض أتباعه معه بالتبعية لصدق قولنا : ما دخل على الملك اليوم إلا الوزير . ومن المعلوم أنه دخل معه بعض خدمه . قلت : الوصف المستثنى للرسول هنا إن كان فيما يتعلق بخصوص كونه رسولا فلا مشاركة لأحد من أتباعه فيه إلا منه ، وإلا فيحتمل ما قال ، والعلم عند الله عز وجل ' انتهى . أقول : أما قوله : في هذا الحديث عظم قدر الولي فلا شك في ذلك لأن الله سبحانه قد أحبه وكان سمعه وبصره ويده ورجله ، ووعده بأنه إذا سأله أعطاه ، وإذا استعاذه أعاذه . وأما قوله : ' لكونه خرج من تدبيره الخ ' فإن أراد بهذا التعليل أن
____________________
(1/504)
الولي في الواقع كذلك فصحيح . وإن أراد أن في الحديث القدسي دلالة على هذه العلة فلا ، فإنه لم يذكر ذلك فيه إلا أن يريد أن في قوله : كنت سمعه الذي يسمع به إلى آخره ، ما يدل على أنه بذلك قد صار في تدبير من صار سمعه وبصره الخ . وهو الرب عز وجل ، ولكن ليس هذا الخروج من فعل الولي حتى يكون ذلك علة لتعظيم قدره ، فإن ذلك من فعل الله سبحانه ، فهو الذي جازى الولي بالمحبة وكان سمعه وبصره الخ ، هو من جملة ما جوزي به الولي فلا يصح أن يكون علة للمجازاة . وأما قوله ' ويؤخذ منه أن لا يحكم لإنسان آذى ولياً الخ ' . فلعله يريد أنه سبحانه لما آذن من يعادي الولي بالحرب كان ذلك واقعاً لا محالة إما معجلا ، أو مؤجلا ، في النفس أو في المال أو في الولد . فإن كل ذلك يصدق عليه أنه من حرب الله لذلك المعادي للولي . وأما قوله : ويدخل في قوله : ' افترضت عليه : الفرائض الظاهرة الخ ' فقد أوضحنا هذا عند كلامنا على قوله : ' وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ' بأوضح بيان فأرجع إليه . وأما قوله : ' وفيه دلالة على جواز اطلاع الولي على المغيبات باطلاع الله تعالى إياه الخ ' فهو مأخوذ من قوله : ' كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به . . الخ ' . فإن من كان الله سبحانه سمعه وبصره لا مانع من اطلاعه على بعض [ أسراره ] الإلهية ولا سيما بعد بيان هذا بقوله : فبي يسمع ، وبي يبصر ،
____________________
(1/505)
وبي يبطش ، وبي يمشي ، وقد أطلنا الكلام على هذا فيما سبق ، وبيناه أكمل بيان وذكرنا ما يُعَضِّدُ ذلك من الأدلة . وأما قوله : ' ولا يمنع من ذلك ظاهر قوله تعالى : ! ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول ) ! فإنه لا يمنع أحدا من دخول بعض أتباعه معه بالتبعية الخ . فأقول : هذا صحيح ، فإن الله سبحانه قد أطلع على ما يشاء من غيبه من يرتضيه من رسله كما تفيده هذه الآية : ولم يمنع الرسول من إظهار ما أطلعه عليه على بعض خواصه من أتباعه : وقد وقع منه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم ذلك في غير قضية كاطلاعه حذيفة
____________________
(1/506)
على أهل النفاق ومعرفته بهم . واطلاعه له أيضاً على بعض الأمور المستقبلة خصوصاً أمور الفتن التي حدثت بعد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم ، فإنه كان بها خبيراً ، وكان يسأل عنها فيجيب كسؤال عمر له الثابت في الصحيح ، وإخباره له بأن بينه وبينها باباً ، فقال عمر له : أيكسر أم يفتح ؟ فقال : بلى يكسر ، ففهم عمر رضي الله عنه أنه الباب وأنه يقتل . فهذا وأمثاله هو من عند الله سبحانه . ومن ذلك : قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما في صحيح مسلم وغيره : ' والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق ' . ومن ذلك قضية المُخْدَج الذي قتل من الخوارج في يوم النهروان وأمرهم علي أن
____________________
(1/507)
يبحثوا عنه فلم يجدوه ، فقام فوجده فقال له أبو عَبِيدَةَ السلماني آلله إنه لعهد النبي إليك قال : نعم . بل ثبت في الصحيح ' أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قام مقاما فما ترك شيئا من الأمور المستقبلة حتى أخبرهم به حفظه من حفظه ، ونسيه من نسيه ' . وذكر كل قائد من قواد الفتن ، وأخبر جماعة من الصحابة كأبي ذر ، وأبي هريرة وغيرهما بشيء من الأمور المستقبلة ، كما ذكره أهل الحديث والسير والتاريخ . وكما قال لعبد الله بن عباس ، لما وصل إليه بابنه علي ليبرك عليه : خذ إليك أبا الأملاك ، فكان أول من ملك من أولاده السفاح عبد الله بن محمد
____________________
(1/508)
ابن علي بن عبد الله بن العباس ، ثم ملك بعده أخوه المنصور ، ثم أولاده من خلفاء بني العباس ، وكانت لهم تلك الدولة الطويلة . بل كان لدى أولاد علي بن أبي طالب من الأخبار المتعلقة بالدول ما هو معروف ، وكان الإمام الباقر والإمام الصادق يخبران خواصهم بالوقت الذي تنتقل فيه الدولة من بني أمية إلى بني هاشم . بل كان عند بني أمية من دولتهم أخبار منقولة في كتب التاريخ ، وكان العارف بها مسلمة بن عبد الملك بن مروان . ومن أعجب ما روى عنه أنهم اجتمعوا في أيام دولتهم في مسجد من المساجد الخاصة بهم ، فصار مسلمة بن عبد الملك يحدثهم بالأمور التي يكون بها زوال دولتهم ، وبينما هو يذكر لهم قيام أبي مسلم بظهور الدولة الهاشمية بخراسان ، صادف في ذلك الوقت دخول رجل غريب عليهم ووقف يسمع الحديث ومسلمة يحدثهم عن الجيش الذي يقدم من خراسان ويصل إلى العراق ، وتظهر دولة بني العباسية فسماه باسمه ، وقال : هو رجل اسمه قحطبة ابن شبيب صفته كذا ، ثم وقعت عينه على ذلك الغريب ، فقال كأنه هذا أو
____________________
(1/509)
يشبه هذا ، واستمر في حديثه حتى قال : ثم يهلك بعد وصوله هو وجيشه إلى العراق في دجلة أو الفرات ، الشك مني . وكان ذلك الرجل الغريب الداخل عليهم هو قحطبة بن شبيب ، فلما سمع الحديث انْخَنَسَ من بينهم وقصد خراسان ، وكان هو الأمير الذي أرسله أبو مسلم إلى العراق ، وطوى الممالك ما بين خراسان إلى العراق . ولما وصلوا إلى النهر الذي لا يجاز معه إلى العراق إلا من القنطرة أمر الجيش أن يتوقفوا إلى الليل ويجوزوا القنطرة ، ثم جمع خواص الجيش وكبارهم وطلب منهم أنهم يعقدون الإمارة بعده لابنه حميد بن قحطبة إذا عرض له الموت ففعلوا وهو قد ظن أنه يكون هلاكه بالقتل فدخل في غمار الجيش كواحد منهم وأخفى نفسه ، وركب فرسا من غرض الأفراس ومشى بها في الجسر ، فازدحمت الخيل حتى رمت به إلى النهر فهلك ، وكان في تدبيره تدميره . ومن عجائب ما ألقى من هذا العلم على لسان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم أنه اجتمع بنو هاشم من آل علي وآل العباس في بعض الأوقات في أيام بني أمية ، فبايعوا محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن
____________________
(1/510)
أبي طالب ، فقال جعفر الصادق لبعض خواصه : إن هذا يعني المنصور العباس هو الذي يكون خليفة ، وسيكون قتل من بايعناه الآن ، يعني محمد بن عبد الله المذكور وهو الملقب بالنفس الزكية على يد جيش المنصور هذا . فانظر إلى هذا العجب العجيب . ومن ذلك ما أخبر به النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم فيما صح عنه في الصحيح من خروج الترك على بلاد الإسلام ، وذكر ما يصدر منهم من أخذ البلاد الإسلامية وفتح مدائن الإسلام ، ثم وصفهم بأوصاف من جملتها أن وجوههم كالمجان المطرقة ، وأن نعالهم الشعر ، ونحو ذلك من الأوصاف . فخرج الترك الذين يقال لهم التتر ، وفعلوا تلك الأفاعيل ببلاد الإسلام ، حتى كادوا يستولون عليها جميعاً ، ولم يبق إلا اليسير منها . وكم يعد العاد من ذلك فإنه كثير جداً ، وكله مستفاد من الجناب النبوي ، ومن الغيب الذي أطلع الله رسوله عليه فأطلع عليه من ارتضاه من أصحابه . وقد قدمنا حديث : ' إن في هذه الأمة محدَّثين ، وإن منهم عمر ' وهو
____________________
(1/511)
في الصحيحين ، وهذا هو نوع من أنواع علم الغيب . وكذلك ذكرنا حديث ' اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله ' وهو حديث حسن كما بينا فيما سلف . ومن أغرب ما نحكيه فيما يتعلق بهذا الحديث أن السرى السَّقْطي شيخ الجنيد أمره بأن يخرج يتكلم على الناس فاعتذر منه بما في لسانه من العجمة ، وبعدم صلاحيته لذلك ، فعزم عليه أن يخرج صبح تلك الليلة يتكلم على الناس في الجامع ، فكأنه نادى [ مناد ] في الناس : بأن الجنيد سيتكلم على الناس عقب صلاة الفجرة في الجامع ، فجاءوا إليه أفواجا . وكان هذا أول كرامة للجنيد ، لأنه لم يطلع على ما دار بينه وبين شيخه أحد ، فخرج ووجد الجامع [ غاصا ] بأهله فلما قعد وأقبلوا إليه بأجمعهم ، فبرز رجل وسأله عن معنى حديث : ' اتقوا فراسة المؤمن ' فأطرق قليلا ثم قال له : أسلم فقد آن لك أن تسلم ، فقام وجثا بين يديه وأسلم ، وانكشف أن ذلك الرجل من النصارى لما سمع أخبار الناس بأن الجنيد سيتكلم في ذلك المحل في ذلك الوقت لبس لبس المسلمين ودخل معهم مختبراً للإسلام وأهله ، فكان في ذلك سعادته الأبدية .
____________________
(1/512)
وبهذا تعرف أنه لا حاجة إلى ما قاله الشيخ أبو الفضل في آخر كلامه من قوله : ' لصدق قولنا ما دخل على الملك إلا الوزير ، ومن المعلوم أنه قد دخل معه بعض خدمه ' . لأن مثل هذا التشغيل لا يؤكل به الكتف ، ولا ينفع في مقام النزاع . ومراده أن بعض أتباع الرسل قد يدخل معه كما دخل أتباع الوزير معه فيطلعهم الله على الغيب كما أطلع عليه من ارتضى من رسول . وهذا إلحاق مع فارق أوضح من الشمس ، وهو كونه رسولا ، وكون الله ارتضاه ، ولا يوجد ذلك في غير رسول . وليس النزاع في دخول أتباع الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم في قوله : ' إلا من ارتضى من رسول ' ، فمعلوم أنه لا دخول لهم في ذلك ، لكن النزاع في أن الرسول هل له أن يطلع غيره من أتباعه على ما أطلعه الله عليه من علم الغيب أم لا ؟ فنحن نقول : لا نسلم قول من قال إنه لا يجوز له ، ونسند هذا المنع بما قدمنا ذكره وبأمثاله ما لم نذكره . وإذا تبرعنا بالاستدلال على جواز إطلاعه لبعض أتباعه على ما أطلعه الله عليه من علم الغيب ، فنقول : عموم قوله : ' يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك ' . ولهذا يقول الله عز وجل : ! ( وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) ! وتقول عائشة : ' من زعم أن محمداً كتم شيئاً مما أوحاه الله إليه فقد أعظم على الله الفرية ' وهو في الصحيح .
____________________
(1/513)
ولو سلمنا تخصيص ذلك بما يحتاجه الناس من علم الشريعة ، وهذا لا يحتاجونه لكان ما قدمنا ذكره من الواقعات منه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم من إطلاع بعض أتباعه على شيء من علم الغيب دليلا على أن ذلك جائز . وأما قول ابن حجر مستدركاً على أبي الفضل بقوله : ' قلت : الوصف المستثنى للرسول هنا إن كان فيما يتعلق بخصوص كونه رسولا فلا مشاركة لأحد من أتباعه فيه إلا منه ، وإلا فيحتمل ما قال والعلم عند الله ' انتهى . فأقول : ليس المراد إلا الشق الأول ، فإنه قال : لا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فلو لم يكن ذلك الوصف المستثنى متعلقاً بخصوص كونه رسولا لكفى قوله : ! ( إلا من ارتضى ) ! بدون قوله : ' من رسول ' فلا يتم ما قاله في الشق الثاني من قوله . وإلا فيحتمل ما قال . نعم اقتصار الشيخ أبو الفضل على مجرد ذلك المثال ، وموافقة ابن حجر له بقوله ، وإلا فيحتمل ما قال إن [ أراد ] أن ذلك المثال . وهذا الاحتمال في الآية القرآنية . فقد عرفت اندفاع ذلك من الأصل ، ولكن كان ينبغي لهما أن يحتجا لدخول بعض أولياء الله وصلحاء عباده في الظفر بشيء من الغيب الذي استأثر الله بعمله بما قدمنا من قوله : ' كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به الخ ' . ولو فرضنا أن دلالة هذا مخصوصة بقوله : ^ لا يظهر على غيبه أحداً إلا
____________________
(1/514)
من ارتضى من رسول ) فإن هذا النفي والاستثناء مشعران أتم إشعار باختصاص ذلك بمن جمع بين وصف كونه ممن ارتضاه الله ، ووصف كونه رسولا . والولي وإن كان ممن ارتضاه الله ، فإن وصف المحبة له يفيد كونه مرتضى لله لكنه ليس برسول . نعم ما قدمنا من حديث المحدثين ، وأن في هذه الأمة منهم ، وأن منهم عمر رضي الله [ عنه ] يفيد أعظم إفادة بأن وصف كونه من المحدثين طريق إلى تلقي شيء من علم الغيب ووصوله إليهم ، والحديث في الصحيحين . وانظر إلى قول عمر رضي الله عنه : ' يا سارية الجبل ' مع كونه في المدينة يخطب في منبرها وسارية ومن معه من المسلمين في أقاصي بلاد العجم فأطلعه الله على الحرب الذي هم فيه حتى كأنه مشاهد لهم ، وأسمعهم الله صوته فنفعهم به وسلموا من معرة الكفار مع أن ذهنه في تلك الحالة كان مشغولا بالخطابة التي هي محتاجة إلى جمع الفهم عليها ، وإفراغ الذهن لها ، وعدم الاشتغال بغيرها ، لكون ذلك في مجمع الصحابة رضي الله عنهم وهم أهل الفصاحة التامة والبلاغة الفائقة . فانظر إلى ما منح الله هذا الرجل من المواهب العظيمة من كل باب : جعله خليفة المسلمين وإمامهم ثم فتح الله له أقطار الأرض ، وكانت دولته مثلا مضروباً لكل دولة جامعة بين كمال الحزم والورع ، والعمل بالشريعة الواضحة
____________________
(1/515)
ثم جعل له من المهابة في الصدور مالا تبلغ إليه المهابة لعادل ، أو جائر حتى قال الناس : إن درته أهيب في الصدور من سيف الحجاج الذي قتل من عباد الله ظلماً وعدواناً نحو مائة وعشرين ألفاً . وكان ابن عباس رضي الله عنه يقول : ' إذا عوتب على قول لم يقله في أيام عمر ، أو على فتيا لم يفت بها في زمانه : كان عمر مهيباً فهبته ' ولقد صدق من قال : ' إن سعادة المسلمين طويت في أكفان عمر ' لأن معظم الفتوح الإسلامية فيها ثم حدث بعده ما حدث من الاختلاف العظيم في آخر أيام الإمام المظلوم الشهيد [ عثمان ] بن عفان رضي الله عنه . وما زالت من بعد قتله سيوف المسلمين مختلفة ، من بعضهم على بعض إلى هذه الغاية ، وأنت إذا كنت عالماً بأخبار الناس عارفاً بما [ اشتملت ] عليه تواريخ أهل الإسلام لم تشك في هذا ، ولأجل هذه المزايا العمرية قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، لما رأى عمر في أكفانه : ' ما أحب أن ألقى الله بعمل رجل من الناس إلا بعمل هذا ' . وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذووا الفضل . وقد أخبرنا الصادق المصدوق بأن خلافة النبوة بعده ثلاثون عاماً ، [ فكملت ] بخلافة الحسن السبط رضي الله عنه .
____________________
(1/516)
وهذا مما ألقاه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم إلى أصحابه من علم الغيب فله مدخل في الاستدلال به على ما نحن بصدده . ومن أخباره [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم لأصحابه رضي الله عنهم بما هو من علم الغيب مما يتعلق بهذا الإمام الحسن السبط رضي الله عنه قوله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم : ' إن ابني هذا سيد ، وسيصلح الله به بين طائفتين من المسلمين ' فكان ذلك كما أخبر به الصادق المصدوق . وبالجملة فالأخبار المتلقاة عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم من غيب الله كثيرة جداً تشتمل عليها المؤلفات المدونة في معجزاته . تواضع الولي وحقيقته : واعلم أنه قد استدل البخاري بهذا الحديث الذي شرحناه على التواضع لذكره له في باب التواضع ، فمن جملة ما يستفاد منه مشروعية التواضع . وقد قال ابن حجر في الفتح عند تمام شرحه لهذا الحديث . ' تنبيه : أشكل وجه دخول هذا الحديث في باب التواضع حتى قال الداودي : ليس هذا الحديث من التواضع في شيء . وقال بعضهم : المناسب إدخاله في الباب الذي قبله وهو مجاهدة المرء نفسه في طاعة الله تعالى . والجواب عن البخاري من أوجه : أحدها : أن التقرب إلى الله تعالى بالنوافل لا يكون إلا بغاية التواضع لله تعالى والتذلل له . ذكره الكرماني . وثانيها : ذكره أيضاً فقال : قيل : الترجمة مستفادة مما قال : كنت سمعه ، ومن التردد . قلت : ويخرج منه جواب ثالث ، ويظهر لي رابع وهو أنه يستفاد من لازم
____________________
(1/517)
قوله من عادى لي ولياً لأنه يقتضي الزجر عن معاداة الأولياء المستلزم لموالاتهم . وموالاة جميع الأولياء لا تتأتى إلا بغاية التواضع لله تعالى والتذلل له ، إذ منهم الأشعث الأغبر الذي لا يؤبه له . وقد ورد في الحث على التواضع عدة أحاديث صحيحة ، لكن ليس في شيء منها على شرطه فاستغنى عنها بحديثي الباب . منها حديث عياض بن حمار رفعه : ' إن الله تعالى أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ' أخرجه مسلم ، وأبو داود وغيرهما . ومنها حديث أبي هريرة رفعه ' وما تواضع أحد لله تعالى إلا رفعه ' أخرجه مسلم أيضا والترمذي . ومنها حديث أبي سعيد رفعه : ' من تواضع لله رفعه الله تعالى حتى يجعله في أعلى عليين - الحديث ' . أخرجه ابن ماجه وصححه ابن حبان ' انتهى . أقول : كثيراً ما يقع في أذهان كثير من الناظرين في البخاري عدم المطابقة بين بعض تراجم الأبواب ، وبين ما ذكره فيها من الأحاديث ، فإذا أعطوا الفهم حقه ، وتدبروا كل التدبر ، وجدوه قد عمد إلى معنى دقيق ومنزع لطيف من منازع ذلك الحديث فجعله دليلا على الترجمة ، وإذا لم يجد على شرطه شيئاً مما يصلح لذلك الباب ، جعل مجرد ترجمته إشارة إلى ذلك الخبر الذي لم يكن على شرطه .
____________________
(1/518)
وقد منح الله هذا الرجل من صدق الفهم ونفوذ الذهن ما لم يكن لغيره من أذكياء العالم . هذا مع ما وهب له من حفظ السنة المطهرة والتمييز بين صحيحها وسقيمها ، واختيار ما اختاره في كتابه من أصح الصحيح حتى سماه كثير من أئمة هذا الشأن ، أمير المؤمنين في الحديث ، وجعل الله سبحانه كتابه هذا ارفع مجاميع كتب السنة المطهرة وأعلاها وأكرمها عند جمع الطوائف الإسلامية ، وأجلها عند كل أهل هذه الملة . وصاروا في جميع الديار إذا دهمهم عدو أو أصيبوا بجدب يفزعون إلى قراءته في المساجد والتوسل إلى الله بالعكوف على قراءته لما جربوه قرناً بعد قرن وعصراً بعد عصر ، من حصول النصر والظفر على الأعداء بالتوسل به ، واستجلاب غيث السماء ، واستدفاع كل الشرور بذلك ، وصار هذا لديهم من أعظم الوسائل إلى الله سبحانه ، وهذه مزية عظيمة ، ومنقبة كريمة ، ولم يكن هذا لغير هذا الكتاب من حسن الانتقاء ، وسلامة ما اشتمل عليه من قيل وقال . ومن تعرض لشيء من ذلك أرغم الله أنفه بما يرد عليه أهل الإتقان من الردود التي تدع اعتراضه هباء منثورا ، وهشيما تذروه الرياح . وقد كان هذا الرجل في العبادة على اختلاف أنواعها ، والزهد في الدنيا بمزلة علية ورتبة رفيعة ، وتم الله له ذلك بما امتحن به في آخر أيامه من أعداء العلماء العاملين ، والمتجرئين على عباد الله الصالحين حتى مات كمداً ، رحمه الله ووفر عنده جزاءه فكوفئ في كتابه هذا بهذا الحظ العظيم في الدنيا ، ليتوفر في الأخرى بما يصل إليه من الثواب الحاصل من انتفاع الناس به ، فإن العلم الذي ينتفع به هو إحدى الثلاث التي يدوم للميت ثوابها بعد انقطاع كل شيء عنه ، كما صح الحديث بذلك الذي أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة قال :
____________________
(1/519)
' قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ' وأخرجه ابن ماجه بإسناد صحيح من حديث أبي قتادة بنحوه . وبما ذكرنا تعرف الجواب على ما قاله الداودي إجمالا . وأما ما حكاه ابن حجر عن الكرماني من الوجهين المذكورين . فيقال على الأول : إن كل العبادات وسائر الصلوات فرائضها ونوافلها هي عبادة للرب . والعابد متواضع للمعبود دائماً خصوصاً عند العبادة . فما الوجه لتقييد النوافل المذكورة في الباب بقيد التواضع مع أن غيرها مثلها ؟ . ولهذا ورد أن الصلوات الفرائض وغيرها تتفاوت بتفاوت الخشوع حتى تكون لبعض العباد صلاة كاملة ، ولبعضهم نصف صلاة ولبعضهم أقل من ذلك ، كما في الحديث الوارد في هذا المعنى . والخشوع لا يتم إلا بغاية الخضوع فهذه خاصة للعبادات ، خصوصاً الصلوات شاملة لا مختصة بنوع منها . وكلها إذا حصل الاستكثار من نوافلها حصلت للعبد المحبة من الرب عز وجل فيلزم على هذا أن العبادات كلها يستدل بها على التواضع في جميع الأحاديث المذكورة في أنواعها في البخاري وغيره ، بل مجرد العبودية إذا لم تكن على تواضع وخضوع فليست عبودية معتبرة . وأما الوجه الثاني فما أبعده . فالرب سبحانه قد وصف نفسه بأنه المتكبر
____________________
(1/520)
وأنه ذو الكبرياء ، وأنه ذو الجلال ، فما أسمج بأن يوصف بالتواضع مع عبده الحقير الذليل . قال في الصحاح : التواضع : التذلل . فانظر هل يصح إطلاق التواضع الذي معناه في هذه اللغة العربية للتذلل على رب العالم وخالق الكل ورازقه ومحييه ومميته ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم . تعالى قدرك وجل إسمك ، سبحانك ما أعظم شأنك ، سبحانك ما أعز سلطانك . وأما قول ابن حجر : قلت ويخرج منه جواب ثالث ، يريد أنه يخرج من التردد كما خرج من قوله : ' كنت سمعه ' وهذا الذي استخرجه مثل الوجه الثاني الذي ذكره الكرماني . وكلاهما في غاية السقوط ونهاية البطلان . أما قول ابن حجر ، ويظهر لي وجه رابع إلى آخر كلامه ، فلما قيده بأن يكون التواضع لله سبحانه لم يبق للولي منه شيء . ولا موجب لذلك فإن تواضع العباد مع بعضهم البعض ، هو الذي ندب الله إليه وجاءت به الترغيبات الكثيرة . وأما تواضع العباد مع الرب سبحانه فهم أحقر وأقل من أن يتواضعوا له ، وإن كان ذلك من لوازم العبودية . وانظر في مثال هذا في الأحوال ، فإنه يسمح أن يقال : تواضع الرجل لسلطانه ولوالديه ، لأن التواضع هو التذلل بعد التلبس بضده ، كما تدل عليه صيغة التفعل مع أن ابن حجر ذكر في أول هذا الباب ما لفظه : ' باب التواضع بضم المعجمة مشتق من الضعة بكسر أوله وهي التذلل والهوان . والمراد بالتواضع :
____________________
(1/521)
إظهار التذلل لمن يراد تعظيمه . وقيل : هو تعظيم من فوقه لفضله ' انتهى . فانظر هل يصح إطلاقه على الرب عز وجل على كلا المعنيين ؟ . فلعله سهى عن أول الباب . وأما تواضع العباد مع بعضهم البعض ، فهو الممدوح المرغب فيه كما ذكره في الحديث الذي استدل به في آخر البحث ' إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ' ، فإن المراد تواضع العباد [ لبعضهم ] البعض حتى لا يفخر أحد على أحد . وأما حديث : ' من تواضع لله رفعه الله ' الخ . فالمراد تواضع لعباد الله لأجل الرب سبحانه امتثالاً لما أرشد إليه رسوله ، أو يكون المراد به ( التواضع لكتابه ولسنة رسوله ولعلماء أمته ولا بد من هذا فإن الله ) أعظم وأجل من أن يتواضع له العباد ، فيكون معنى قوله من تواضع لله من تواضع لأجل الله عز وجل . ومن هذا القبيل من تصدق لله ، من أحب لله ، وأبغض لله . ونحو ذلك كثير . وإذا عرفت هذا كان هذا الوجه الذي ذكره ابن حجر أحسن ما يحمل عليه ترجمة البخاري ، لكن بدون ذلك التقيد إلا أن يريد هذا المعنى الذي ذكرناه ، فيكون
____________________
(1/522)
معنى قوله لا يتأتى إلا بغاية التواضع لله ، أي لأجله . وقد وردت أحاديث في مشروعية التواضع غير ما ذكره المصنف ، منها ما هو صحيح ، ومنها ما هو حسن . وورد في ذم التكبر الذي هو مقابل التواضع أحاديث صحيحة ، منها ما في الصحيحين وغيرهما من حديث حارثة بن وهب قال : ' سمعت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم يقول : ألا أخبركم بأهل النار ؟ كل عتل [ جواظ ] مستكبر ' . ومنها حديث أبي سعيد وأبي هريرة عند مسلم وغيره قالا : ' يقول الله عز وجل : العز إزاره ، والكبرياء رداؤه ، فمن نازعني واحداً منها عذبته ' . ومنها حديث أبي سعيد عند مسلم قال : ' احتجت الجنة والنار فقالت النار فيَّ الجبارون والمتكبرون ، وقالت الجنة فيَّ ضعفاء المسلمين ومساكينهم ' وأخرج مسلم وغيره من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم
' ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ، ولا ينظر إليهم ، ولهم عذاب أليم : شيخ زان ، وملك كذاب وعائل مستكبر ' . وأخرجه البزار بإسناد حسن من حديث سلمان . وأخرج النسائي والترمذي وحسنه من حديث ابن عمرو ، نحوه وأخرج مسلم وغيره من حديث ابن مسعود عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال :
' لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ' ، وأخرج البخاري وغيره من حديث ابن عمر أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال :
' بينما رجل
____________________
(1/523)
ممن كان قبلكم يجر إزاره من الخيلاء خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة ' . وأخرج نحوه أحمد والبزار برجال الصحيح من حديث أبي سعيد . وأخرج نحوه البزار بإسناد رجاله ثقات من حديث جابر . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة ، أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم قال :
' بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مُرَجِّلٌ : رأسه يختال في مشيته إذ خسف الله به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة ' . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر عنه [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم
' لا ينظر الله إلى رجل جر ثوبه خيلاء ' . وأخرج الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه من حديث ثوبان قال :
' قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وآله وسلم : من مات وهو بريء من الكبر والغلول والدين دخل الجنة . خاتمة الشرح وإلى هنا انتهى الشرح للحديث القدسي في نهار الاثنين ليلة سابع شهر القعدة من شهور سنة 1239 . بقلم مؤلفه ' محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما ' .
____________________
(1/524)