بسم الله الرحمن الرحيم
وقفات مع الزهد
أمير بن محمد المدري
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله خالق كل شيء، ورازق كل حي، أحاط بكل شيء علماً، وكل شيء عنده بأجل مسمى، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره وهو بكل لسان محمود، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو الإله المعبود. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الركع السجود، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى اليوم الموعود، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد
فإن حقوق الله تعالى أعظم من أن يقوم العبد بها، وأن نعمه اكثر من أن تحصى وتعد، ولكن عباد الله أصبحوا نادمين، و أمسوا تائبين. فإن الله سبحانه وتعالى له علينا حقوق، وشرط علينا شروطاً كثيرة، فينبغي لنا أن نؤديها.
فلا تكن يا أخي غافلاً عنها فأنت تحاسب بها يوم القيامة، وإذا أردت أمراً من أمور الدنيا فعليك بالتردد فيه، فإن رأيته موافقاً لآخرتك فخذه، وإلا فقف عنه حتى تنظر من أخذه? كيف عمل في? وكيف نجا منه? ونسأل الله السلامة.
وإذا أردت أمراً من أمور الآخرة فشمر إليه وأسرع من قبل أن يحول بينك وبينه الشيطان.
واعلم يا أخي أنك ميت، ومبعث، ومحاسب بعملك، ثم الوقوف بين يدي الله وأنت خاضع وذليل، قد نشر ديوانك وطهر كتابك، والجنة عن يمينك والنار عن يسارك والصراط بين يديك والله عز وجل مطلع عليك، يقول لك: إقرأ كتابك.. وأنت مشفق مما فيه حذراً من فضائحه ودواهيه. فإن كنت سعيداً فإلى جنة عالية، وإن كنت شقيا فإلى نار حامية.(1/1)
فتزود يا أخي لنفسك...وأزهد في دنياك ومثل الآخرة عليك بقلبك. واجعل الموت بين عينيك.. ولا تنس وقوفك بين يدي الله عز وجل... وكن من الله على وجل.. وأد فرائض الله... وكف عن محارم الله وخالف هواك.. واذكر الله عز وجل في كل وقت.. واحمد الله على كل حال.. واجعل شوقك إلى الجنة... واستعذ بالله تعالى من النار.. وإياك ومخالفة الله تعالى فيما أمرك به ودعاك إليه.. واعلم أن بين يديك أهوالا وموقف.
فإن استطعت يا أخي أن تعد لك كل يوم زاد لما بين يديك فافعل، فإن الأمر أعجل من ذلك.
فتزود يا أخي لنفسك وخذ في جهازك، وكن وصي نفسك..
واعلم يا أخي أن الليل والنهار لا يرجعان، والعمل لا يعود والطالب حثيثما، والليل
والنهار يسرعان في هدم نفسك وفناء عمرك وانقضاء أجلك.والله المستعان وعليه التكلان.
هذه الرسالة
وقفات مع الزهد والزاهدين .
حقيقة الزهد في الإسلام.
كيف نكون من الزاهدين.
لعل الله ينفع الكاتب والقاريء بها ويجمعنا في دار الخلد انه ولي ذلك والقادر عليه .
بسم الله الرحمن الرحيم
الزهد
الزهد وهو انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه ولا بد أن المرغوب عنه مرغوباً فيه بوجه من الوجوه فمن رغب عما ليس مطلوباً في نفسه لا يسمى زاهداً فتارك الحجر والتراب وما أشبهه لا يسمى زاهداً وإنما يسمى زاهداً من ترك الدراهم والدنانير.
الزهد أن تترك الدنيا لعلمك بحقارتها بالإضافة إلى نفاسة الآخرة.
الزهد في الدنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ ولا بلبس العباءة.
الزهد ترك المحمدة : ذكر أن الأوزاعي كان يقول : الزهد في الدنيا ترك المحمدة ، يقول : تعمل العمل لا تريد أن يحمدك الناس عليه.
الزهد :ذكر أن الزهري كان يقول : الزهد في الدنيا ما لم يغلب الحرام صبرك ، و ما يغلب الحلال شكرك .(1/2)
الزهد فيه صلاح الأمة :
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال :
و لا أعلمه إلا قد رفعه قال : صلح أمر أول هذه الأمة بالزهد و اليقين و هلك آخرها بالبخل و الأمل .
الزهد في الدنيا هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فهو ليس بتحريم الطيبات وتضييع الأموال ، ولا بلبس المرقع من الثياب ، ولا بالجلوس في البيوت وانتظار الصدقات ، فإن العمل الحلال والكسب الحلال والنفقة الحلال عبادة يتقرب بها العبد إلى الله ، بشرط أن تكون الدنيا في الأيدي ، ولا تكون في القلوب ، وإذا كانت الدنيا في يد العبد لا في قلبه ، استوى في عينه إقبالها وإدبارها ، فلم يفرح بإقبالها ، ولم يحزن على إدبارها 0
الزهد يورث السخاء بالمُلك ، والحب يورث السخاء بالروح ، الحب يدفعك على الشهادة ، والزهد يدفعك لأن تبذل ما تملك .
الزهد : سئل الامام مالك أي شيء الزهد في الدنيا قال : طيب الكسب و قصر الأمل.
الزهد على ثلاثة وجوه : واحد أن يخلص العمل لله عز وجل ، والقول ، ولا يراد بشيء منه الدنيا ، والثاني : ترك ما لا يصلح ، والعمل بما يصلح ، والثالث : الحلال أن تزهد فيه ، وهو تطوع ، وهو أدناها .
الزهد سبباً للمحبة قال صلى الله عليه وسلم : " إن أردت أن يحبك الله فازهد في الدنيا "
ومن أحبه الله تعالى فهو في أعلى الدرجات فينبغي أن يكون الزهد في الدنيا من أفضل المقامات
وقال صلى الله عليه وسلم لرجل : ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس " .
الزهد بين كلمتين :عن علي قال رضي الله عنه (الزهد بين كلمتين من القرآن، قال الله سبحانه: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما آتاكم) ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه.
الزهد أن تشتغل فيما خلقت من أجله وهو عبادة الله في كل حين ،في عملك وبيتك ومسجدك ، إجعل حياتك كلها لله تكن زاهداً.(1/3)
أصل الزهد كان يوسف بن أسباط يقول : من صبر على الأذى وترك الشهوات وأكل الخبز من الحلال فقد أخذ بأصل الزهد .
الزهد أنواع يقول إبراهيم بن أدهم فالفرض : هو الزهد في الحرام والنفل : هو الزهد في الحلال والسلامة : هو الزهد في الشبهات .
وقيل لمالك بن أنس : ما الزهد قال : التقوى
الزهد فيه التأسي برسول الله صلي اله عليه وسلم وصحابته الكرام.
الزهد فيه تمام التوكل على الله، و يغرس في القلب القناعة.
قال الإمام أحمد : الزهد في الدنيا : قصر الأمل 0
وقال عبدالواحد بن زيد : الزهد في الدينار والدرهم 0
وسئل الجنيد عن الزهد فقال : استصغار الدنيا ، ومحو آثارها من القلب 0
وقال أبو سليمان الداراني : الزهد : ترك ما يشغل عن الله 0
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : الزهد ترك ما لا ينفع في الاخرة ، والورع ترك ما تخاف ضرره في الآخرة ، واستحسنه ابن القيم جداً 0
قال ابن القيم : والذي أجمع عليه العارفون : أن الزهد سفر القلب من وطن الدنيا ، وأخذ في منازل الآخرة !! 0
فأين المسافرون بقلوبهم إلى الله ؟
أين المشمرون إلى المنازل الرفيعة والدرجات العالية ؟
أين عشاق الجنان وطلاب الآخرة ؟
الزهد راحة في الدنيا وسعادة في الآخرة
أنت لست زاهد إذا زهدت بمال حلال يمكن أن يكون قوة لك في الآخرة ،
أنت لست زاهدإذا زهدت بمنصب يمكن أن تحق الحق فيه ، وتبطل الباطل ، ويكون نفعك عاماً .
الزهاد: عن على رضي الله عنه أنه قال: طوبى للزاهدين في الدنيا والراغبين في الآخرة أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطاً، و ترابها فراشاً، و ماءها طيباً، و الكتاب شعاراً، و الدعاء دثاراً، و رفضوا الدنيا رفضاً.
الزاهد لا يريد حُسن الذكر وميل القلوب اليه فهذا كله من حظوظ العاجلة ،فالزهد ألذ وأهنأ من المال.
الزاهد لا يترك المال طمعاً ً في الذكر والثناء والاشتهار بالفتوة والسخاء .(1/4)
وقال عمر رضي الله عنه : الزهادة في الدنيا راحة القلب والجسد .
وقال إبراهيم بن أدهم : قد حجبت قلوبنا بثلاثة أغطية فلن يكشف للعبد اليقين حتى ترفع هذه الحجب : الفرح بالموجود والحزن على المفقود والسرور بالمدح فإذا فرحت بالموجود فأنت حريص وإذا حزنت على المفقود فأنت ساخط والساخط معذب وإذا سررت بالمدح فأنت معجب والعجب يحبط العمل .
المقصود من الزهد: ليس المقصود بالزهد في الدنيا رفضها فقد كان سليمان و داود عليهما السلام من أزهد أهل زمانهما، و لهما من المال و الملك و النساء ما لهما، و كان نبينا صلى الله عليه و سلم من أزهد البشر على الإطلاق، و له تسع نسوة، و كان على بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف و الزبير و عثمان رضي الله عنهم من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال، وغيرهم كثير، وقد سئل الإمام أحمد: أيكون الإنسان ذا مال و هو زاهد، قال: نعم، إن كان لا يفرح بزيادته ولا يحزن بنقصانه، و قال الحسن: ليس الزهد بإضاعة المال ولا بتحريم الحلال، و لكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يد نفسك، و أن تكون حالك في المصيبة، و حالك إذا لم تصب بها سواء، و أن يكون مادحك و ذامك في الحق سواء.
وكتب عمر بن عبد العزيز الى الحسن : عظني وأوجز . فكتب إليه: إن رأس ما هو مصلحك ومُصلح به على يديك : الزهد في الدنيا ، وإنما الزهد باليقين ، واليقين بالتفكر ، والتفكر بالاعتبار ، فإذا أنت فكّرت في الدنيا لم تجدها أهلاً أن تبيع بها نفسك ، ووجدت نفسك أهلاً أن تُكرمها بهوان الدنيا ، فإن الدنيا دار بلاء ومنزل رحيل .
أزهد الخلق
الأنبياء و المرسلون هم قدوة البشر في الزهد في الدنيا و الرغبة في الآخرة : (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) .(1/5)
و من طالع حياة سيد الأولين و الآخرين علم كيف كان صلى الله عليه و سلم يرقع ثوبه، و يخصف نعله، و يحلب شاته، و ما شبع من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض، و كان لربما ظل اليوم يتلوى لا يجد من الدقل (ردئ التمر) ما يملأ بطنه، و في غزوة الأحزاب ربط الحجر على بطنه من شدة الجوع، و يمر على أهله الهلال ثم الهلال ثم الهلال لا يوقد في بيتهم النار، طعامهم الأسودان: التمر و الماء، و كان يقول: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار و المهاجرة).
فقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم : " إن ربي عز وجل عرض علي أن يجعل لي بطحاء مكة ذهباً فقلت لا يا رب ولكن أجوع يوماً وأشبع يوماً فأما اليوم الذي أجوع فيه فأتضرع إليك وأدعوك وأما اليوم الذي أشبع فيه فأحمدك وأثني عليك " .
و عن عائشة رضي الله عنها قالت: (إنما كان فراش رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي ينام عليه أدماً حشوه ليف)، و أخرجت رضي الله عنها كساءً ملبداً و إزاراً غليظاً فقالت: (قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذين).
مواقف الزاهدين
عن عروة بن الزبير أن أم المؤمنين عائشة جاءها يوماً من عند معاوية ثمانون ألفاً، فما أمسى عندها درهم، قالت لها جاريتها: فهلا اشتريت لنا منه لحماً بدرهم؟ قالت: لو ذكرتني لفعلت.
و قال ابن مسعود رضي الله عنه: الدنيا دار من لا دار له، و مال من لا مال له، و لها يجمع من لا علم له.
وكان الحسن ربما ذكر عمر فيقول :
والله ما كان بأولهم إسلاما ولا بأفضلهم نفقة في سبيل الله ، ولكنه غلب الناس بالزهد في الدنيا والصرامة في أمر الله ، ولا يخاف في الله لومة لائم .(1/6)
و لما قدم عمر رضي الله عنه الشام تلقاه الجنود و عليه إزار و خفان و عمامة، و هو آخذ برأس راحلته يخوض الماء، فقالوا: يا أمير المؤمنين، يلقاك الجنود و بطارقة الشام و أنت على حالتك هذه، فقال: (إنا قوم أعزنا الله بالإسلام، فلن نلتمس العز بغيره)
ودخل رجل على أبي ذر رضي الله عنه فجعل يقلب بصره في بيته، فقال يا أبا ذر: ما أرى في بيتك متاعاً، ولا أثاثاً، فقال: إن لنا بيتاً نوجه إليه صالح متاعنا و قال: إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه
وكان عمرو بن العاص – رضي الله عنه- يخطب بمصر و يقول: ما أبعد هديكم من هدي نبيكم صلى الله عليه و سلم، أما هو فكان أزهد الناس في الدنيا وأما أنتم فأرغب الناس فيها.
وقال على رضي الله عنه تزوجت فاطمة ومالي ولها فراش إلا جل كبش، كنا ننام عليه بالليل، و نعلف عليه الناضح (البعير) بالنهار ومالي خادم غيرها، ولقد كانت تعجن، و إن قصتها لتضرب حرف الجفنة من الجهد الذي بها
وقال الحسن: رحم الله عبداًجعل العيش عيشاً واحداً، فأكل كِسرة،ولبس خَلقاً ، ولزق بالأرض ،واجتهد في العبادة ، وبكى على الخطيئة ، وهرب من العقوبة ابتغاء الرحمة ،حتى يأتيه أجله وهو على ذلك .
ولما حضرت الوفاة معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لكرى الأنهار، ولا لغرس الأشجار، و لكن لظمأ الهواجر، و مكابدة الساعات، و مزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر.
وقد ذكر الإمام أحمد أن أفضل التابعين علماً سعيد بن المسيب، أما أفضلهم على جهة العموم والجملة فأويس القرني، وكان أويس يقول: توسدوا الموت إذا نمتم و اجعلوه نصب أعينكم إذا قمتم.
وقال مالك بن دينار: يعمد أحدهم فيتزوج ديباجة الحي (فاتنة الحي)، فتقول: أريد مرطاً (أكسية من صوف) فتمرط دينه (أى تذهب به.(1/7)
و كان كثير من السلف يعرض لهم بالمال الحلال، فيقولون: لا نأخذه، نخاف أن يفسد علينا ديننا، وكان حماد بن سلمة إذا فتح حانوته وكسب حبتين قام، وكان سعيد بن المسيب يتجر في الزيت، وخلف أربعمائة دينار، وقال: إنما تركتها لأصون بها عرضي وديني .
وقال الشافعي في ذم الدنيا و التمسك بهاوما هى إلا جيفة مستحيلة عليها كلاب همهن اجتذابها فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها وان تجتذبها نازعتك كلابها.
وكان أبو سليمان الداراني يقول: "كل ما شغلك عن الله، من أهل ومال وولد فهو مشؤوم طويت الدنيا عمن هم أفضل منا"
ففى " صحيح مسلم " من حديث عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مضطجع على حصير، وإذا الحصير قد أثر على جنبه، فنظرت في خزانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا أنا بقبضة من شعير، نحو الصاع . وفى رواية البخاري : فوالله ما رأيت شيئاً يرد البصر . والحديث مشهور في " صحيح مسلم " .
علامات الزاهدين
للزاهد ثلاث علامات
الأولى : أن لا يفرح بموجود، ولا يحزن بمفقود، كما قال تعالى ( لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ) [ الحديد : 23 ] وهذا علامة الزهد في المال .
الثاني : أن يستوي عنده ذامه ومادحه، وهذه علامة الزهد في الجاه .
الثالث : أن يكون أنسه بالله، والغالب على قلبه حلاوة الطاعة . فأما محبة الدنيا ومحبة الله تعالى، فهما في القلب كالماء والهواء في القدح، إذا دخل الماء خرج الهواء، فلا يجتمعان .
قيل لبعضهم : إلام أفضى بهم الزهد ؟ قال : إلى الأنس بالله .
قال يحيى بن معاذ : الدنيا كالعروس، ومن يطلبها يحرص على زينتها و الزاهد يسخم أي يسود وجهها، وينتف شعرها، ويخرق ثوبها، والعارف مشتغل بالله تعالى عنها.(1/8)
الزهد في القرآن
قال الإمام ابن القيم : ( والقرآن مملوء من التزهيد في الدنيا ، والإخبار بخستها قلتها ، وانقطاعها وسرعة فنائها ، والترغيب في الآخرة والإخبار بشرفها ودوامها 0
ومن الآيات التي حثت على التزهيد في الدنيا :
1ـ قوله تعالى : ((اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور )) [الحديد : 20] 0
2ـ وقوله سبحانه : (( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب )) [ آل عمران : 14 ] 0
3ـ وقوله تعالى: ((من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب )) [ الشورى : 20 ] 0
4ـ وقوله تعالى : (( قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا )) [النساء : 77 ] 0
5ـ وقوله تعالى : ((بل تؤثرون الحياة الدنيا(16)والآخرة خير وأبقى )) [ الأعلى :16-17] 0
الزهد في السنة
أما أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي رغبت في الزهد في الدنيا والتقلل منها والعزوف عنها فهي كثيرة منها :
1ـ قول النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر رضي الله عنهما : (( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل )) [ رواه البخاري ] 0
وزاد الترمذي في روايته : (( وعد نفسك من أصحاب القبور )) 0
2ـ وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر )) [ رواه مسلم]0
3ـ وقال صلى الله عليه وسلم مبيناً حقارة الدنيا : (( ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم ، فلينظر بم يرجع )) [ رواه مسلم ] 0(1/9)
4ـ وقال صلى الله عليه وسلم : (( مالي وللدنيا ،إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال ـ أي نام ـ في ظل شجرة ، في يوم صائف ، ثم راح وتركها )) [ رواه الترمذي وأحمد وهو صحيح ] 0
5ـ وقال صلى الله عليه وسلم : (( لوكانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ، ما سقى كافراً منها شربة ماء )) [ رواه الترمذي وصححه الألباني ] 0
6ـ وقال صلى الله عليه وسلم : (( ازهد في الدنيا يحبك الله ، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس )) [ رواه ابن ماجه وصححه الألباني ] 0
7ـ وقال صلى الله عليه وسلم : ( اقتربت الساعة ولا يزداد الناس على الدنيا إلا حرصاً ، ولا يزدادون من الله إلا بعداً )) [ رواه الحاكم وحسنه الألباني ] 0
8-و في مسلم أيضاً ، " عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة ، فيصبغ في النار صبغة ، ثم يقال : يا ابن آدم ، هل رأيت خيراً قط ؟ هل مر بك نعيم قط ؟ فيقول : لا و الله يا رب ، و يؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة ، فيصبغ في الجنة صبغة ، فيقال له : يا ابن آدم ، هل رأيت بؤساً قط ؟ هل مر بك شدة قط ؟ فيقول : لا و الله ، ما مر بي بؤس قط ، و لا رأيت شدة قط " .
9-و في مسلم أيضاً ، " من حديث جابر بن عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مر بالسوق ، و الناس كنفتية ، فمر بجدي أسك ميت ، فتناوله ، فأخذ بأذنه ، فقال : أيكم يحب أن هذا له بدرهم ؟ فقالوا : ما نحب أنه لنا بشيء ، و ما نصنع به ؟ قال : تحبون أنه لكم ؟ قالوا : و الله ، لو كان حياً كان عيباً أنه أسك ، فكيف و هو ميت ؟ فقال : و الله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم " . قوله : كنفتيه أي من جانبيه . و الأسك الصغير الأذن .(1/10)
أهمية الزهد
إن الزهد في الدنيا ليس من نافلة القول ، بل هو أمر لازم لكل من أراد رضوان الله تعالى والفوز بجنته ، ويكفي في فضيلته أنه اختيار نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، قال ابن القيم رحمه الله : ( لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا ، فإيثار الدنيا على الآخرة إما من فساد في الإيمان ، وإما من فساد في العقل ، أو منهما معاً0
ولذا نبذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وراء ظهره هو وأصحابه ، وصرفوا عنها قلوبهم ، وهجروها ولم يميلوا إليها ، عدوها سجناً لا جنة ، فزهدوا فيها حقيقة الزهد ، ولو أرادوها لنالوا منها كل محبوب ، ولوصلوا منها إلى كل مرغوب ، ولكنهم علموا أنها دار عبور لا دار سرور ، وأنها سحابة صيف ينقشع عن قليل ، وخيال طيف ما استتم الزيارة حتى أذن بالرحيل ) 0
ولا بد من العلم أن الفرق بين من يجعل الدنيا في يديه يطيعها لمرضات الله عز وجل وبين من يجعل همه الوصول إلى المراكز الاجتماعية الدنيوية ويسعى بكل جهده لذلك على حساب دينه .. فلو نظرنا إلى العشرة المبشرين بالجنة لوجدنا أن أكثرهم كانوا من أصحاب رؤوس الأموال الطائلة ومن التجار، فهذا أبو بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف لو نظرنا إليهم بمنظار العصر لقيل عنهم أنهم من أصحاب الملايين، فهل تخلف أحدهم عن غزوة مع رسول الله؟ هل ألهاهم التكاثر فمنعوا الإنفاق في سبيل الله؟ كلا والله ثم كلا، هل سعوا للرئاسة والتفاخر وتزكية النفس وطلب المدح؟ لا والله ما فعلوا، بل هم أبعد الأمة عن هذه الأمور، وكانوا يجودون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ولنصرة دينه ولنصرة النبي صلى الله عليه وسلم.
أقسام الزهد
قال ابن القيم رحمه الله الزهد أقسام :
1ـ زهد في الحرام وهو فرض عين 0
2ـ وزهد في الشبهات ، وهو بحسب مراتب الشبهة ، فإن قويت التحق بالواجب ، وإن ضعفت كان مستحباً 0(1/11)
3ـ وزهد في الفضول ، وهو زهد فيما لا يعني من الكلام والنظر والسؤال واللقاء وغيره0
4ـ وزهد في الناس 0
5ـ وزهد في النفس ، بحيث تهون عليه نفسه في الله 0
6ـ وزهد جامع لذلك كله ، وهو الزهد فيما سوى الله وفي كل ما يشغلك عنه 0
وأفضل الزهد إخفاء الزهد .. والقلب المعلق بالشهوات لا يصح له زهد ولا ورع 0
كن من الزاهدين1
الزاهد يحبه الله ويحبه الناس فإن امتلكت فاشكر، وأخرج الدنيا من قلبك، وان افتقرت فاصبر فقد طويت عمن هم أفضل منك، فقد كان نبيك صلي الله عليه وسلم نيام على الحصير حتى يؤثر في جنبه، ومات وفي رف أم المؤمنين عائشة حفنة من الشعير تأكل منها، وكنت إذا دخلت بيوت رسول الله صلي الله عليه وسلم نلت السقف، وخطب عمر بن الخطاب وهو خليفة المؤمنين وعليه إزار به اثنتا عشرة رقعة لقد طويت الدنيا عنهم ولم يكن ذلك لهوانهم على الله، بل لهوان الدنيا عليه سبحانه. فهي لا تزن عنده جناح بعوضه، وركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها
فلا تأس ولا تجزع على ما فاتك منها، ولا تفرح بما أتاك؛ فالمؤمن لا يجزع من ذلها ولا يتنافس في عزها له شأن و للناس شان، وكن عبداً لله في عسرك و يسرك و منشطك ومكرهك، وسواء أقبلت عليك الدنيا أو أدبرت فإقبالها إحجام، وإدبارها إقدام، والأصل أن تلقاك بكل ما تكره فإذا لاقتك بما تحب فهو استثناء.
أزهد الناس:
أزهد الناس في الدنيا و إن كان عليها حريصاً من لم يرض منها إلا بكسب الحلال الطيب و أرغب الناس فيها و إن كان معرضاً عنها من لم يبال ما كان كسب منها حلال أو حرام و إن أجود الناس في الدنيا من جاد بحقوق الله و إن رآه الناس بخيلاً فيما سوى ذلك و إن أبخل الناس من بخل بحقوق الله و إن رآه الناس جواداً فيما سوى ذلك.(1/12)
الفهم السقيم للزهد
من الناس من يفهم الزهد بالابتعاد عن نِعَمِ الله تعالى وطيباته وزينته التي أخرج لعباده، كما هم عليه بعض الجاهلين الذين يحاولون إبعاد المسلمين عن أي اهتمام بالأمور المادية الدنيوية مع ما فيها من المفاسد من قبيل فتح المجال لسيطرة الآخرين من أعداء الإسلام على خيرات المسلمين وبركاتهم ومنابعهم المادية الغنية التي قل مثلها في غير بلاد المسلمين.
الشيطان يضحك على بعض الناس ، يحرضه على الزهد المذموم ، و يأمره بالترك للدنيا وصناعة الحياة ، و يخوفه من طرقات الكسب ، إظهاراً لنصحه و حفظ دينه . و في خفايا ذلك عجائب من مكره .
و ربما تكلم الشطان على لسان بعض المشايخ الذين يقتدي بهم التائب ، فيقول له : اخرج من مالك و ادخل في زمرة الزهاد .
فلا بد من الاعتدال في كل شيء دون الإفراط والتفريط وعدم نسيان الآخرة فعنه سبحانه وتعالى (وابتغ فيما آتاك الله الدارة الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا) إذن ليس الزهد أن لا تملك شيئاً إنما أن لا تملك كل شيء ولا يؤثر في قلبك .
و لو نظرنا في سير الرجال و نبلائهم ، و تأملنا صحاح الأحاديث ، عن رؤسائهم ، لعلمنا أن الخليل عليه الصلاة و السلام كان كثير المال ، حتى ضاقت بلدته بمواشيه .
و كذلك لوط عليه الصلاة و السلام ، [ و كثير من الأنبياء عليهم الصلاة و السلام ] ، و الجم الغفير من الصحابة . و إنما صبروا عند العدم ، و لم يمتنعوا من كسب ما يصلحهم ، و لا من تناول المباح عند الوجود .
و كان أبو بكر رضي الله عنه يخرج للتجارة و الرسول صلى الله عليه و سلم حي .
و كان أكثرهم يخرج فاضل ما يأخذ من بيت المال ، و يسلم من ذل الحاجة إلى الأخوان . و قد كان ابن عمر لا يرد شيئاً ، و لا يسأله .
وكان علي بن أبي طالب ، وعبد الرحمن بن عوف ، والزبير وعثمان ـ رضي الله عنهم ـ من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال 0(1/13)
ومن أحسن ما قيل في الزهد كلام الحسن أو غيره : ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك 0
كن من الزاهدين2.
تأمل في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها ونقصها وخستها وما في المزاحمة عليها من الغصص والنغص والأنكاد 0
تأمل في الآخرة وإقبالها ومجيئها ودوامها وبقائها وشرف ما فيها من الخيرات 0
أكثر من ذكر الموت والدار الآخرة 0
أكثر من تشييع الجنائز والتفكر في مصارع الآباء والإخوان وأنهم لم يأخذوا في قبورهم شيئاً من الدنيا ولم يستفيدوا غير العمل الصالح 0
تفرغ للآخرة وأقبل على طاعة الله وإعمار الأوقات بالذكر وتلاوة القرآن 0
لا تنسى إيثار المصالح الدينية على المصالح الدنيوية 0
أكثرمن البذل والإنفاق وكثرة الصدقات 0
اترك مجالس أهل الدنيا والاشتغال بمجالس الآخرة 0
أقلل من الطعام والشراب والنوم والضحك والمزاح 0
إقرأ أخبار الزاهدين وبخاصة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
الزهد في الدنيا
الزهد في الدنيا هو النظر إلى الدنيا بعين الزوال ، يسكن في بيت فخم ،ويقول لنفسه لا بد من يوم أخرج منه في نعش ، هذا الكلام هل فيه شك ، تركب مركبة فارهة ، لا بد من يوم يأخذها من بعدك ، لك مقتنيات ثمينة ، وعندك أموال طائلة ، حينما ترى أن هذا الشيء لا يدوم فأنت زاهد ، أما حينما تنسى الموت كلياً ، وتشعر أنك مخلد في الدنيا هنا المشكلة ، الزهد عزوف القلب عن الدنيا بلا تكلف ، الزهد خلو القلب عما خلت منه اليد ، أنت لا يوجد عندك مركبة فارهة ، كلما ألقيت نظرة على مركبة هنيئاً لصاحبها ، يا ليتني كنت مكانه ، أنت لست بزاهد ، الزاهد إن رأى متاع الدنيا بيت فخم مركبة فارهة كان عليه الصلاة والسلام يعلمنا .(1/14)
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم : ((عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ فَأَصْلِحِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَةَ * (صحيح البخاري)
حقيقة الزهد
لا يبلغ أحد حقيقة الزهد حتى يكون فيه ثلاث خصال : عمل بلا علاقة ، وقول بلا طمع ، وعز بلا رياسة ، وأحد ما يجسد الزهد أن تؤثر الآخرين على ما في يدك .
َ(ويُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )الحشر9
أنت زاهد
إذا وجدت شيء ليس حراماً ، وليس حلالاً ، شيء من المباحات فأنت تركته ، وملأت وقتك بما ينفعك عند الله ، ملأت وقتك بزيارة أخ ، ونصيحة أخ ، عمل صالح ، متابعة موضوع علمي ، قراءة قرآن ، خدمة تؤديها لإنسان ، أنت حينما تدع المباحات لا ذنب في أخذها ، ولا ثواب في أخذها ، وتلتفت إلى ما تملأ به وقتك من عمل طيب ينفعك في الآخرة.
أخيراً
بادر إلى التوبة الخلصاء مجتهدا والموت ويحك لم يمدد إليك يدا
وارقب من الله وعدا ليس مخلفه لا بد والله من إنجاز ما وعدا
وخير الزاد هو القليل النافع في الرحلة إلى الآخرة، وهو ما عبر عنه ابن الرومي في قوله:
إذا اختط قوم خطة لمدينة تقاضتهم أضعافها للمقابر
وفي ذاك ما ينهاهم أن يشيدوا وأن يقتنوا إلا كزاد المسافر
وقد نظر الشاعر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لتكن بلغة أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب) .
ولكن اتخاذ الأسباب والاعتماد على العمل لا يكفي وحده، بل لا بد من رجاء عفو الله بعد هذا كله، لأن الإنسان مهما عمل فهو مقصر بحق الله إلا أن يتغمده الله برحمته، وفي هذا قيل(1/15)
ويل لمن لم يرحم الله ومن تكون النار مثواه
واغفلتاه من كل يوم مضى يذكرني الموت وأنساه
من طال في الدنيا به عمره وعاش فالموت قصاراه
كأنه قد قيل في مجلس قد كنت آتيه وأغشاه
محمد صار إلى ربه يرحمنا الله وإياه
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا غاية رغبتنا ولا منتهى آمالنا
اللهم زهدنا في الدنيا ورغبنا في الآخرة
اللهم أصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا أخرتنا التي فيها معادنا وأصلح لنا ديننا الذي هو عصمة امرنا ولا تُميتنا إلا وأنت راضٍ عنا يا ارحم الراحمين .
وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين
أمير بن محمد المدري
إمام وخطيب مسجد الإيمان –اليمن –عمران(1/16)