وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ
الطبعة الأولى
2003-2004
موافقة وزارة الإعلام
رقم : /74147/ بتاريخ 19/3/2003
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف
لا يجوز نسخ أو تصوير أو اقتباس
أي جزء من أجزاء هذا الكتاب
دون إذن خطيّ من المؤلف.
هاتف: 0324-245 فاكس: 9089-229
دمشق - سوريا
e-mail: emadsman@scs-net.org
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ
مناقشة موضوعية لكتاب
المرأة
بين طغيان النظام الغربي و لطائف التشريع الرباني
للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
بقلم
عماد الدين السّمان
{
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين
وعلى آله و صحبه أجمعين.
أهدي كتابي هذا لأم جعل الله الجنة عند قدميها،
و لأخت و ابنة صالحة قانتة حافظة للغيب بما حفظ ربها،
و لزوجة لا يكمل دين المرء إلا بها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
{ وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ
وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}
(النساء:32)
S
المحتوى
مقدمة…12
تمهيد…16
قُلْ هاتوا بُرهانكم إنْ كنتم صادقين…18
و خلقناكم أزواجاً…24
كلٌّ مُيسَّرٌ لما خُلِقَ له…28
مصدر واجبات المرأة و حقوقها…34
مصدر واجبات المرأة و حقوقها في الشريعة الإسلامية…38
فرض صلاة الجمعة على النساء…44
فرض الجهاد على النساء…48
عوامل خارجية أو داخلية…50
الذكر و الأنثى في الإسلام…56
في كتاب الله سبحانه و تعالى…58
مهمتا الشقاء و السكن…60
حالات الاضطرار…64
ستر المرأة…72
القوامة…76
للرجال على النساء درجة…82
في حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم…86
نظر الرجل إلى المرأة…88
نظر المرأة إلى الرجل…92
المرأة و الحشمة…102
و قَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ…104
صلاة المرأة…114
مكانة المرأة في الإسلام…128
أيكون العمل تسلية أم شقاءً و تنافساً؟…132
المهر…136(1/1)
منشأ الخلافات و تفكك الأسرة…138
هل يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة؟…152
و شاورهم في الأمر…158
قيام المرأة بمختلف الأعمال…168
خروج المرأة إلى المسجد…182
قيام المرأة بالأنشطة العلمية و الثقافية…192
اشتراك المرأة في اللقاءات و الحفلات و الولائم المختلطة…200
اشتراك المرأة في المهن و الصناعات و المهارات…218
حديث التفاوت و المساواة…226
المساواة…228
الميراث…230
النشوز…234
الشهادة…242
الحجاب…246
فضلوا وأضلوا…266
خاتمة…285
ملحق العفة و الطهر…293
الاختلاط…295
الطيبون للطيبات…299
التكافؤ…305
الغش…313
خطر الترميم…319
الضحية…323
خاتمة…331
المراجع…333
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم، و الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين، و خاتم النبيين، و رحمة الله للعالمين، سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين و بعد.
الحمد لله الذي يسّر لي قراءة كتاب "المرأة" للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي و الحمد لله الذي يسّر لي كتابة رأيي فيه من وجهة نظر الشرع الإسلامي.
لقد شرعت في كتابة هذا الكتاب عالماً بأنني لست بالكاتب، و لم أتجرّأ قبل هذا أن أكتب إلا بضع صفحات، و لكن الدافع إلى الكتابة كان قوياً ملحاً، فما كتبت إلا حباً في الحق، و تجلية له في أمر يعد من أهم الأمور في هذا العصر، و في كل عصر ألا و هو دور المرأة في المجتمع من المنظور الإسلامي.
و قد قمت بكتابة هذا الكتاب طمعاً في أن أكون من المفلحين الذين أخبر عنهم الله ? في كتابه الكريم:
{ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
(آل عمران:104)
كما دفعني لذلك مخافة أن تصيبني اللعنة التي جعلها الله ? للذين لا يتناهون عن المنكر.(1/2)
{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ }
(المائدة:78-79)
و أشفقت إن قصرت في الموعظة أن ينالني العذاب البئيس، أو ألا أكون من الناجين كأولئك الناجين الذين أخبر الله ? عنهم من أهل القربة الذين كانوا يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر، بينما كانت طائفةٌ من أهلها يعدون في السبت مخالفين أمر الله ?، و لا يلقون بالاً لوعظ الطائفة الأولى، و طائفة ثالثة هجرت أمر ربها في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، بل قد زادوا على ذلك بأنهم كانوا يلومون الصالحين على وعظهم للمعتدين في السبت، فماذا كانت النتيجة؟
لقد أنجى الله ? الذين كانوا ينهون عن السوء، و أخذ الطائفتين الأخريين من أهل القرية جميعاً بعذاب بئيس:
{ وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُون * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ }
(الأعراف: 163-165)(1/3)
و بعد أن أنهيت بحمد الله سبحانه كتابي هذا، حرصت كل الحرص على القيام بعرضه على بعض علماء المسلمين؛ تخوفاً من أن يكون فيما كتبت ما يسيء إلى دين الله، أو ما يسيء إلى عباد الله ?، فقمت بإرسال نسخة من الكتاب إلى فضيلة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي لفضل علمه، و لأنه صاحب كتاب "المرأة" الذي قمت بمناقشته، فأرسلت الكتاب بالبريد الإلكتروني إلى موقع دار الفكر وطلبت منهم عرض كتابي على فضيلة الدكتور، فجاءني الرد منهم بما يلي:
"حضرة السيد المحترم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته نقلنا رسالتك إلى الدكتور البوطي فأجاب: بل اطبعه وانشره إن أحببت، أولاً. ولن يجد الدكتور رمضان غضاضة في وجود من ينبهه إلى غلط وقع فيه، على ملأ من الناس، كما يجب أنت أيضاً ألا تجد غضاضة أن تبين على ملأ من الناس أنك لم تكن محقاً في ملاحظاتك التي تتحدث عنها. والسلام عليكم ورحمة اله وبركاته".
ثم قمت بعد ذلك بالاتصال بفضيلة الدكتور، و سلمته نسخة مطبوعة من الكتاب راجياً أن يصوب ما فيه من خطأ أو نقص، حيث كنت لا أزال أتخوف من نشر الكتاب فيكون حجة علي لا لي يوم القيامة، و العياذ بالله، فأجابني فضيلته مشجعاً:
"لو أن كل من كتب كتاباً لم ينشره إلا خالياً من النقص لما نُشِر كتاب أبداً، فإن كنتَ واثقاً مما كتبت فأَقدِمْ، و إن لم تكن واثقاً مما كتبتَ فلا تفعل".
فاستخرت الله ?، و هاهو الكتاب بين أيديكم بحمد الله.
تمهيد
قُلْ هاتوا بُرهانكم إنْ كنتم صادقين
بسم الله الرحمن الرحيم، و الحمد لله رب العالمين، و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين و خاتم النبيين، و رحمة الله للعالمين، سيدنا محمد، و على آله و أصحابه أجمعين، و بعد.
" إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً، كما بدأ، فطوبى للغرباء"
رواه مسلم و الترمذي و ابن ماحه(1/4)
كلمة قالها الصادق الأمين منذ أكثر من ألف و أربعمئة عام، و كأنه يرقب أيامنا هذه بعينيه الكريمتين، فيصف حال المسلمين بعده بأربعة عشر قرناً بكلمات موجزة بليغة تثبت مرة بعد مرة أنه الرسول الخاتم الذي لا ينطق عن الهوى ?.
حقاً لقد عاد الإسلام غريباً عندما أصبحت أحكامه بعيدة عن التطبيق، حيث زهد فيها أولئك الذين ينسبون أنفسهم إلى الإسلام، حتى كادت بعض أحكامه تغيب في طي النسيان.
و يزداد الإسلام غربة عندما يدعو بعض علماء المسلمين؛ الذين يحملون راية الإسلام إلى خلاف ما جاء به الرسول ? من الحق، فيكتبون، و يدعون الناس إلى ما ليس من الإسلام في شيء؛ حتى عم الجهل بأمور الدين الحنيف، و فشت البدع و أعجب كل ذي رأي برأيه، فلا هو يسمع من غيره، و لا هو إن سمع يعدل عن رأيه إلى ما عند غيره من الحق.
حتى إذا قام مسلم بالبحث في أمر ما من أمور الإسلام، مدعماً بحثه بالحجج و البراهين المبينة، فكتب كتاباً مثل كتاب "الشفاعة"1، وقف له بعض العلماء بالمرصاد، إذ هالهم تدخُّل هذا المسلم فيما ليس من اختصاصه -حسب زعمهم- و تعديه على اختصاصهم في علوم الشرع و الحلال و الحرام و التفسير، رغم أنه -كما يعلمون جميعاً- أمضى في الإسلام ردحاً من الزمن عُرف فيه برجاحة العقل و منطقية التفكير، و لكنك تراهم انهالوا عليه بالإنكار، و نصحوه بالاهتمام بما هو في مجال تخصصه، و الابتعاد عن التفكير في أمور الدين و تركها لأهلها و المختصين بها.
سبحان الله! أينكرون على مسلم أن يتكلم في دينه بالحق و البرهان؟
لقد قال الرجل رأيه، و دعمه بما عنده من برهان، فإن كان ثمة خطأ أو ظلم فلنبحث في صحة ما أتى به من برهان، و بذلك نتبين الحق من الباطل.
ألم يعلم هؤلاء أن الله -الذي لا يُسأل عما يفعل جل جلاله- أمر رسوله ? أن يسأل الكفرة الفجرة فيما إذا كان عندهم برهان لما يدّعون، و هو أعلم ألا برهان على شركهم؟!(1/5)
{ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْألُونَ * أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ }
(الأنبياء:23-24)
{ أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
(النمل:64)
ألا يرون أن الله ? يطالب المشركين به بالبرهان على شركهم، فالله ? يعلمنا كيف نخاطب العقل البشري الذي كُرِّم به ابن آدم، و يعلمنا أن العقل إن عمل عمله لا بد أن يصل إلى الحق، و لكن الهوى هو الذي يعمي العقل، و يعقله عن أداء مهمته.
فإن هم لم يأتوا بالبرهان (و لن يفعلوا) بطلت دعواهم، و ثبت للجميع و لأنفسهم أولاً أنهم كاذبون في ادعائهم، فظهر الحق و زهق باطلهم.
أمَّا ألا نسمع منهم، أو نمنعهم من التدخل في هذا و ذاك بدعوى أنهم ليسوا أهلاً لذلك، فهذا تغطية للعقل، و منع للخير، و ما كان دأب الجاحدين و المكذبين في التنطع على أحكام الإسلام أو آيات القرآن إلا سبيلاً لتجلية حكمة الخالق في تشريعه و إعجاز كتابه، إذ عندما يسمع العلماء ادعاءاتهم، فيعملون عقولهم في بيان باطلهم فيظهر الحق أيما ظهور.
و الله ? في كتابه الكريم عرض حجج الملحدين و المشركين و الكفار و أهل الكتاب، ثم برهن على بطلانها بالدليل المبين. كما أمر ? رسوله بمجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن، و هل أحسن من أن نسمع منهم، ثم نفند حججهم و نرد عليهم؟!
لقد اجتهد صاحبُ كتاب "الشفاعة"، و أعمل فكره، و جاء بالأدلة و البراهين من كتاب ربه و سنة رسوله، فما لنا و لشخصه و اختصاصه؟ أعجزنا أن نفند ما جاء به من براهين ثم نرد عليها؟ أيوجد في الكون أيسر من فضح الباطل و الرد عليه؟ بل أليس الباطل زهوقاً بذاته؟(1/6)
فلو أننا أنصفنا لنبذنا جانباً صفة الرجل و تاريخه و صورته، ثم أعملنا عقولنا في تفنيد حُجَجه و براهينه و عرض أخطائه و هفوات بحثه إن وجدت.
كما لا يليق بالمسلم أن ينهج نهج الكفار الذين كذبوا الرسول الكريم ?، إذ رفضوا الحق الذي جاءهم به من ربهم و كذبوا به و رموه بالسحر و الكذب و الجنون و لكن ادعاءهم هذا لم يصمد أمام الحجة و البرهان الذي وجدوه في أنفسهم، فهم أعلم الناس باللغة و أسرارها و فنونها، فهاهم قد نكسوا رؤوسهم، و أخرست بلاغة القرآن أفواههم، و تراجعوا عن نعت القرآن الكريم بالسحر، و لكنهم يريدون الكفر فَحَسْبُ، فما السبيل إلى الكفر؟
لم يجدوا سبيلاً لذلك بعد إقرارهم صاغرين بإعجاز القرآن الكريم، إلا الطعن في شخص الذي أتى به ?.
{وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }
(الزخرف:30-31)
لسان حالهم يقول: "نعم لقد اعترفنا بأن هذا القرآن هو كلام الله ? المنزّل من السماء، و لكننا لا نرى هذا الرجل أهلاً لأن يتنزّل عليه الهدى من بيننا، فلو نزل القرآن على رجل غيره أعظم منه لاتبعناه".
فلما لم يجدوا علة في الكلام الذي أتى به الرسول عمدوا إلى إيجاد العلة في شخص الرسول الكريم ?؛ بغية الكفر فَحَسْبُ، و ضلت بهم السبل أيضاً، و باؤوا بالخسران المبين.
و كذلك فعل بعض العلماء الذين ردوا على كتاب "الشفاعة"، بينما قام آخرون بمقارعة الحجة بالحجة، و الدليل بالدليل، و كان سعيهم -بإذن الله- مشكوراً.
نحن لا ننكر فضل علماء الدين و قدرهم، و لكن دين الله ? ليس مقصوراً على فئة من الناس دون غيرهم، و حتى العلماء أنفسهم و إن اتفقوا على أمور كثيرة فلا يزال الاختلاف بينهم في أمور كثيرة أيضاً، و لا يدعي بعضهم أنه أعلم من بعضهم الآخر.(1/7)
و إن كان العلماء يتكلمون في دين الله ? باسم العلم، فليتكلم المسلمون كلهم في هذا الدين باسم النصيحة لله و لرسوله و لأئمة المسلمين و عامتهم، ألم يقل الرسول ?:
"الدين النصيحة". قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم".
رواه مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي
فليس في المسلمين قوم بعينهم مهمتهم النصح و التوصية بالحق، بينما يتلقى الآخرون النصيحة منهم و لا يوصون غيرهم بالحق، بل كل المسلمين -دون استثناء- يقومون بالنصح لكل المسلمين، كما بين الله ? في سورة العصر، و من لم يفعل هذا وقع في الخسر.
{ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ }
(العصر)
لكن يجب ألا ينسى المسلم أن لهذا الدين قدسية لا يجوز التغافل عنها، فلا يتكلم المسلم في دينه دون علم، و لا ينصح دون برهان على ما يدعيه، و إلا كان كمن يهرف بما لا يعرف، و كان حسابه عسيراً، و في هذا يقول الحق:
{ وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }
(الإسراء:36)
و ما هذا الكتاب إلا نصيحة أخاطب بها العقل الذي كرم به الله ? ابن آدم، فجعله مناط التكليف و أداة الخلافة، و أقدم بين يديه البراهين و الأدلة على كل ما أقول من منابع الدين الحنيف من كتاب الله ? و سنة رسوله ?.
أتوجه للمسلمين جميعاً بالنصح راجياً أن يعيدوا النظر في أمور ذات خطر كبير خولف فيها هدي سيدنا محمد ? حتى أصبحت تلك المخالفات هي القانون الذي يسيرون عليه دون دراية منهم، فابتعدوا عن الصواب، و إذا ذكروا بالحق استغربوه و عدوه جهلاً.(1/8)
و للأسف الشديد نرى بعضاً من علماء المسلمين اليوم ممن أصبحت هذه المخالفات الصريحة لمنهج الله ? عندهم هي الحق أيضاً، فهم الذين يعلمونها، و يؤلفون فيها و يستنبطون لها الأدلة و البراهين، حتى أصبح الحق غريباً و ثقيلاً، و الرجوع إليه صعباً.
و لكننا تعلمنا من الإسلام أن الحق يعلو و لا يعلى عليه، و أن الباطل كان و لا يزال زهوقاً بنفسه، و ما هذا الكتاب إلا تذكرة عسى الله ? أن ينفعني بها، و المسلمين.
{ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ }
(الذاريات:55)
و حريٌّ بكل مسلم أن يتبع سنة الرسول الكريم ? في الدعوة إلى هذا الدين الخاتم و حريٌّ به أن يتعلم أمر دينه و أن يعلمه غيره و لكن بالبرهان أيضاً، فلا يتبع قول فلان من الناس لمجرد أنه فلان، كما لا يطلب من غيره أن يأخذ بقوله لمجرد أنه صدر عنه. فربُّ الإسلام ? أراد منا جميعاً أن نكون دعاة إلى الحق حيث قال:
{ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
(يوسف:108)
و لا تكون الدعوة على بصيرة إلا إذا كان الداعية لا يُخطِّئ أحداً حتى يأتيه بالبرهان على خطئه، و لا يكتفِ بذلك فحسب بل عليه أن يدله على الحق، و يأتيه بالبرهان على هذا الحق.
و ما نحن إلا متبعون لهذا الرسول الكريم، و لا نتبع سواه، و لن نتبع سواه، و هو الذي علمنا ? كيف يكون الاتباع.
عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ?: "ألا لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده، فإنه لا يقرب من أجل، ولا يباعد من رزق أن يقول بحق، أو يذكر بعظيم".
رواه الإمام أحمد
و من يترك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لا يكون جديراً بالانتساب لهذه الأمة.(1/9)
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }
(آل عمران:110)
{ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
(آل عمران:104)
و خلقناكم أزواجاً
خلق الله ? الكون لحكمة، فقدر لكل خلق مهمته في انسجام تام، بحيث يتكامل الخلق، و يؤدي كلٌّ دوره ليكون الكمال الذي يليق بكمال الله ?.
{ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ
وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً }
(الفرقان:2)
{ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ
رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }
(آل عمران:191)
{ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ }
(القمر:49)
فطر الله السموات، و جعل في السماء الدنيا الكواكب زينة لها، و جعل الشمس فيها ضياء يتجلى بها النهار، و القمر نوراً يسكن معه الليل، فلا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، و لا الليل سابق النهار، و كل في فلك يسبحون.
و خلق الله ? الأرض، و جعل فيها الجبال رواسي، و قدر فيها أقواتها، و خلق النبات و الدواب أزواجاً.
كل ذلك هيأه رب العالمين ليكون بيئة صالحة لخلق الإنسان؛ الذي سيكون سيد هذه المخلوقات، تخدمه دون تقصير منها، و دون تسخير منه، بل بتسخير الله ?.
و بحكمته ? جعل من الإنسان الزوجين الذكر و الأنثى، و لم يكن هذا لعباً و لا(1/10)
لهواً، بل كما كان لكل خلق الله في الكون هدف و وظيفة تراد منه، كذلك كان لكل من الذكر و الأنثى هدف و دور في هذا الكون.
و الذي خلق هو الذي يحدد مهمة ما خلق، كما يحدد صانع و مبتكر الأشياء مهمتها -مع فارق التشبيه- و لا يمكن للمخلوق أن يضع مهمة لنفسه، كما لا يمكن للمصنوعات أن تحدد مهمتها دون صانعها، و قال تعالى عن خَلْق الزوجين محدداً مهمة كل من الذكر و الأنثى:
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}
(الأعراف:189)
خلق الله ? الذكر و الأنثى من المادة عينها، و منحهما الكرامة عينها، و فَضَّلهما على كثير من خَلْقه دون تفريق بين ذكورة و أنوثة، و ما جعل لأحدهما من فضل على الآخر.
{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ
وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً }
(الإسراء:70)
و لكنه ? زود كلاً من الذكر و الأنثى بما يناسب المهمة التي خُلِق من أجلها، فجعل بناء كل منهما جسدياً و عقلياً و نفسياً معيناً له على أداء مهمته التي رسمها الله ? على الوجه الأمثل، و لهذا كان الذكر ذكراً و الأنثى أنثى.(1/11)
فترى القوة الجسدية أظهر في الذكر منها في الأنثى، و نستطيع أن نبرهن على ذلك بأنا لو تتبعنا الأرقام القياسية في كل ألعاب القوة، لوجدنا أن الأرقام التي يحققها الذكور دوماً و أبداً أعلى مما تحققه الإناث، و هذا أمر أصبح من البدهيات، و إنك لتجد أنهم لا يجرون مسابقات في هذه الألعاب بين الجنسين، بل جعلوا للإناث مسابقات و للذكور مسابقات، و مع تنوع الرياضات و تعددها فإنك لا تجد على هذه الأرض منافسة بين ذكر و أنثى في رياضة واحدة، و عندما يريدون إشراك الرجال و النساء في مسابقة واحدة يجعلونها مسابقة مختلطة، أي: رجل و امرأة ضد مثلهما حتى يتم التكافؤ، فلكلٍّ مسابقته و مكانه و أرقامه.
و من الجدير بالذكر أنك ترى أن أشد الناس بعداً عن منهج الحق، ممن يدعون إلى مساواة الذكر بالأنثى، و في أكثر البلدان حضارة (مادية)، علموا يقيناً أن اجتماع الذكر و الأنثى في مضمار واحد هو من الظلم، و لا يكون أبداً، و أنّ ادِّعاء التكافؤ بين الجنسين في القدرات و الإمكانات هو ضرب من الوهم أو الكذب.
و ليس هذا الذي نقوله بعيداً عن منطق الإسلام، فقد وصف الذي لا ينطق عن الهوى الإناث بالقوارير، عندما خشي عليهن من أن يصيبهن الأذى من سرعة جري الجمال.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ? فِي مَسِيرٍ لَهُ، فَحَدَا الْحَادِي، فَقَالَ النَّبِيُّ ?: " ارْفُقْ يَا أَنْجَشَةُ وَيْحَكَ بِالْقَوَارِير"
رواه البخاري و مسلم
و من جهة أخرى ترى العاطفة أقوى في الأنثى منها في الذكر؛ حتى إنها لتطغى عاطفتها على عقلها، و ما ذلك إلا لحكمة الخالق في تيسير كلٍ لمهمته. فهذه العاطفة تناسب مهمة الأنثى في الحمل و الرضاعة، و في رعاية مخلوق من أرق مخلوقات الله ? و أقلهم حيلة، ألا و هو الطفل.(1/12)
فهذه المهمة تحتاج لحنان و حب يفوقان الوصف، و لا تجدهما إلا في الأم التي ترعى الطفل شهوراً في أحشائها و سنين طوالاً بين يديها، تقوم بكل أمره من مأكل و ملبس و نظافة، و تسهر الليالي تُمَرِّضه، و هو يدعوها في أي وقت شاء من ليل أو نهار فتهبُّ لخدمته راضية محبة، لا يدفعها إلا الحب الخالص، و لا ترجو من وراء ما تصنع مالاً و لا جاهاً، و لا تنتظر شكراً أو عرفاناً. و ربما استطعنا أن نأتي الطفل بألف خادم و مرب و معلم، و لكن هيهات أن نأتيه بقلب أمّ.
كلٌّ مُيسَّرٌ لما خُلِقَ له
منذ عقود خَلَتْ كانت المرأة في معظم بقاع الأرض ملتزمة فطرياً بمهمتها، تربي أطفالها، و تحفظ بيتها و أسرتها، إذ كانت أكثر الأعمال تعتمد على القوة العضلية؛ إذ لم يكن عصر الآلات قد أطل. إلى أن ثارت الصناعة، و أصبحت الآلات تقوم مقام العضلات، فرأى اللاهثون وراء الربح السهل في النساء ضالتهم، فحرَّضوهن على العمل في مصانعهم بأجر يبلغ نصف أجر الرجل تقريباً. و بدهاء و غدر زهَّدوهن في أشرف عمل كن يقمن به بفطرتهن ليخرجوهن إلى مصانعهم، و ليستبدلوا بهن الرجال، موفرين بذلك جزءاً كبيراً من الأجر الذي كانوا يدفعونه للرجل؛ ليرضوا طاغوت المال في نفوسهم، و ليحققوا شهواتهم في المكاسب المادية، و ليكن الطوفان من بعدهم! و قد كان.
عندما خرجت المرأة من بيتها، و زُجّ بها في غمار العمل و الشقاء، و ملأ بريق المال كيانها، و ابتعدت عن حياة البيت و الأسرة و العناية بالطفل، فترت عاطفتها و ذبلت أنوثتها فأخذت تفكر في متاعب و مشاق الأمومة بعقلها مجرداً عن أي عاطفة أو شعور، و لما قارنت بين أعباء الأمومة و بين الحرية التي ستفقدها لسنوات طوال في الحمل و الإرضاع و الحضانة و التربية، رأت في إنجاب و تربية الأطفال عبئاً كبيراً و قيداً ثقيلاً يجعل منها حبيسة المنزل معظم وقتها.(1/13)
أتحمل قيداً في أحشائها تسعة أشهر؟ ثم تتحمل عبء رضاعته سنة و نصف السنة ثم عبء تربيته و العناية به سني طفولته الطويلة؟ لقد كانت النتيجة الحتمية لهذه الأسئلة أن بدأت النساء بتناول حبوب منع الحمل و استخدام كل وسيلة ممكنة للحيلولة دون تشكل هذا القيد الثقيل في أحشائهن، و حتى إن هي حملت، و تحملت عبء أشهر الحمل، ألقت بوليدها إلى من يتحمل ما تبقى من عبئه فلم تُرضع و لم تُربِّ و لم تعطف.
و لهذا السبب نجد بلداً متقدماً (مادياً) مثل كندا يستقطب إليه مئات الآلاف من البشر كل عام، فالنساء الكنديات رغبن عن الإنجاب منذ زمن مما هدد القوة البشرية في كندا و غيرها من البلاد التي يقال عنها -خطأً- الدول المتقدمة؛ التي حررت فيها المرأة من واجباتها و دورها، فهلك المجتمع أو كاد.
لكن المستفيدين من هذا التحرر هم اللاهثون وراء المال و المال فحسب، مثل شركات الإنتاج السينمائي، و تجار مجلات الخلاعة، و دور الأزياء، و مصانع زينة النساء و عقاقير و وسائل منع الحمل و غيرها، عندما رأوا هذا الخطر الذي حل ببلادهم التمسوا له حلاً، و لكن بما لا يهدد مصالحهم المادية، فإنهم إن عمدوا إلى إقناع الإناث بالعودة إلى ما كن عليه أضر هذا بأعمالهم و تجارتهم و بالتالي أموالهم، فبدلاً من أن يعيدوا المرأة إلى دورها الطبيعي عمدوا إلى استيراد النساء المنجبات من العالم الثالث تحت اسم الهجرة، فبدلاً من علاج أصل الداء أخذوا يعالجون الأعراض، و هيهات أن يروا الشفاء.
لقد كانت و صية الله ? و رسوله الكريم بالأم أكبر من و صيته بالأب؛ عرفاناً لهذه العاطفة الغامرة، و الجهد المضني اللذين لا يعيهما الطفل صغيراً حتى يؤدي شكراً لأمه.
{ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ
أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ }
(لقمان:14)(1/14)
و من تَبِعات هذه العاطفة الغامرة، و الضعف العضلي و الجسدي؛ كون المرأة أكثر تأثراً بما يجري حولها من أحداث، فتراها أشد خوفاً، و أكثر انفعالاً، و ما أقرب و أغزر دموعها عند الشدائد و الصعاب، و لذلك جعل الله ? مجال عملها في بيتها وسط أولئك الذين يكنُّون لها الحب، بين أبويها و إخوتها، و إن هي تزوجت فعملها و عناؤها في بيتها و مع أطفالها، و لم يطالبها ربها بالعمل بين الغرباء، بل حظر عليها ذلك إلا لضرورة كما سنبرهن لاحقاً. و لهذا كفَّلها أباها أو أخاها أو زوجها أو ابنها ثم عمها ثم ولي أمر المسلمين، و إن فقدت هؤلاء كلهم جعل الإسلام كفالتها على المجتمع الإيماني، و من جهة أخرى لم يُكلِّفها إعالة أحد من ابن أو بنت أو أب أو أخت، صيانة لها من الخوض في غمار الشقاء و مشاق الكسب، و قصراً لها على المهمة العظيمة التي خُلقت لها حتى تؤديها دون أدنى تقصير.
عندما ادعى المشركون أن ملائكة الله ? إناث، كان رد الله ? داحضاً لهم، حيث بيَّن لهم أنه خلق الإناث على صفات لا تقوى بها على القيام بمهام الملائكة الكرام؛ لأنهن يهوين الزينة و الدلال، و لا يقوين على الخصام، و لا يصمدن فيه فضلاً عن الصراع أو القتال. و إن للملائكة مهام لا يقوى عليها أقوى الرجال كقبض الأرواح أو إنزال العذاب بالمكذبين، أو تدمير القرى، و ما إلى ذلك. فكان هذا الرد كافياً من الله ? لرد دعوى المشركين في جعل الملائكة إناثاً.
{ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ
* أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ }
(الزخرف: 17-18)
و للسبب ذاته لم يرسل الله ? رسولاً و لا نبياً إلا رجلاً؛ لأن الأنثى لا يمكن لها بأي حال أن تقوم بمهمة الرسول أو النبي.(1/15)
{ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ }
(يوسف: 108-109)
فالرسول هو الذي يتلقى الوحي عن ربه، ثم يبلغه قومه، فهو مأمور بأن يدعو قومه جميعاً، و يحاورهم، و يصبر على أذاهم، و لا يخفى على عاقل ما في ذلك من اختلاط بالناس برهم و فاجرهم، حتى إذا آمن به من آمن، و كفر به من كفر، أمره ربه بأن يدافع عن دينه و يحارب كل من يصد عنه، و لذلك جاء أمر الله ? للنساء:
{ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً }
(الأحزاب:33)
و لو عَلِمَتْ النساء معنى و هدف الوقر2 في البيوت و عدم التبرج3 لأدركن أن الله ? قد حفظهن من التعرض لما من شأنه أن يثير عواطفهن، و يؤذي مشاعرهن فينعكس ذلك سلباً على أداء مهمتهن التي خلقن لها، كما أقصاهن ? بذلك عن أن يثرن مشاعر و شهوات الرجال؛ الذين خلقهم لمهمة الشقاء و العمل.
إنما كلف الله ? الأنثى بمهمة عظيمة هي بناء الطفل ذكراً و أنثى، و ترك للذكر المهمة الأقل شأناً، وهي الكدح و الشقاء في الجمادات لكسب الرزق، و استخراجه من الكون؛ الذي جعله الله خادماً له للإنفاق على الأسرة.(1/16)
و نقول جدلاً عن مهمة الذكر: إنها مهمة أدنى من مهمة الأنثى؛ لأن غاية ما يقوم به الذكر العمل و الكدح في الجمادات، كأن يبني و يصنع و يخترع و يكتشف، و ما تتخيل بعد هذا من إنجازات، بينما تصنع الأنثى الملتزمة بشرع الله ? ذكراً سوياً يقوم بذلك كله، و فوق هذا تصنع أنثى مثلها تصنع ذكراً و أنثى سويين.
هذه الأدوار قد وزعها الله ? على الذكر و الأنثى، كل بحسب صفاته التي أودعها فيه تقديراً منه و حكمة، حتى يكونا وحدة متكاملة تقوم بإعمار هذا الكون، و لو تطابقت مهمة الرجل مع مهمة الأنثى لكان خلق الأنثى عبثاً، أو العكس، و العياذ بالله، و لكفى أن يخلق الله ? الرجل و حسب أو الأنثى و حسب.
و إذا نظرنا إلى واقع المسلمين في أيامنا هذه لوجدنا فهماً خاطئاً لدور الأنثى في كل مجتمعاتهم، لقد زادوا عليها أعباءها، فحملوها إضافة لمهمتها المهمة التي أناطها الله بالرجل وحده، فكان نتيجة ذلك أن قصرت الأنثى في أداء مهمتها الأصيلة في الحمل و تربية و تنشئة الطفل، و بالتالي انعكس هذا بأفدح الأثر على المجتمع و العالم بأكمله، و خاصة عندما زجّ بالأطفال في دور الحضانة و دور الرعاية، و قُطِعَ عنهم مَعين الحنان و الحب اللذان لا يعوَّضان، فَوُكِلَت أمورهم لمن يرعاهم لقاء المال و الربح المادي فقط، وغَدت تربية الأطفال مهنة كغيرها من المهن تدرُّ ربحاً مادياً أو تلحق بصاحبها خسارة، فأصبح الأطفال سلعة من السلع. و الخاسرون هم الأطفال الذين لا حول لهم و لا قوة، إذ خسروا أثمن شيء في وجودهم، خسروا من يرعاهم و يبذل في سبيلهم كل ما يملك، و بلا أجر أو عوض، بل بالحب وحده. بل لقد خسرت البشرية كلها من جراء إخلالنا بمهمة جنس من الأجناس التي خلقها الله ? و إخراجها عما قدّر الله لها.(1/17)
{ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ }
(المؤمنون:71)
كما أضرّ قيام المرأة بمهمة الرجال بحال الرجال أنفسهم، إذ أخذت الإناث مكان الرجال في أعمالهم، فكثر العاطلون منهم عن العمل، و أصبحت البطالة مرض العصر في كل بقاع الأرض، ناهيك عما رافق عمل المرأة من تدهور أخلاقي و تفشّ للرذيلة في المجتمعات قاطبة.
و إذا نظرت في المجتمعات الغربية، أو في المجتمعات البعيدة عن الإسلام ترى فوق ما ذكرنا أسراً محطمة، و علاقات مشوهة، و مشبوهة، ثم ترى أماً أو أباً يتخلى كل منهما عن الصبي أو البنت، و ترى الولد ذكراً كان أو أنثى لا يقيم لأمر الأب أو الأم وزناً، و لا يكن لهما احتراماً؛ لأن الآباء أنفسهم هم الذين أرضعوه القسوة، و ربّوه على الوحشة في دور الرعاية و دور الحضانة، فما كان من هؤلاء الأطفال إلا أن ردوا الصاع صاعين لآبائهم، فرموا بهم في دور المسنين جزاءً و فاقاً. و اقرأ إن شئت قول الحق سبحانه:
{ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }
……(الروم:41)
مصدر واجبات المرأة
و حقوقها
ما يحزُّ في القلب هو اتخاذ المسلمين سبيل الدول التي يسمونها خطأً بالدول المتقدمة و جَعْلِهم سبيل الله ? وراء ظهورهم، فتراهم يسرعون الخطا وراء الغرب ناهمين من جهلهم دون عقل أو تدبر لما حاق بهم من دمار و خسار، حتى صدق فيهم قول الرسول ?:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ ? : "لَتَتّبِعُنّ سَنَنَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ. شِبْراً بِشِبْرٍ، وَذِرَاعاً بِذِرَاعٍ. حَتّىَ لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبَ لاَتّبَعْتُمُوهُمْ" قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللّهِ آلْيَهُودُ وَالنّصَارَىَ؟ قَالَ "فَمَنْ؟".(1/18)
رواه مسلم
و الطامة الكبرى أنك ترى بعض علماء دين الإسلام يدفعون المسلمين عن غير قصد إلى هذا الدمار بكتبهم و فتاواهم المواكبة للعصر!.
و قد وقع بين يديَّ كتاب لكاتب إسلامي ذي مكانة مرموقة تحت عنوان "المرأة بين طغيان النظام الغربي و لطائف التشريع الرباني" و عند قراءتي لهذا الكتاب هالني ما وجدت فيه من تناقض، و بُعْد عن المنهجية في البحث و الحجَّة و الاستنتاج.
فالكتاب ليس حملة للتشبه بالغرب فحسب، بل فيه مخالفة لأمر الله ? في تحديد دور كل من الذكر و الأنثى، و فيه فهم خاطئ غير مقصود لحديث رسول الله ?، كما تجد فيه تغييراً و تبديلاً لمقاصد الشرع.
و سنمضي معاً -إن شاء الله تعالى- في كتابي هذا في نور كتاب الله و سنة رسوله ناقدين ما أتى به الكاتب من ادعاءات بالحجة و البرهان، مع مراعاة اتباع تسلسل العناوين في كتابه قدر الإمكان.
مصدر واجبات المرأة و حقوقها
في الشريعة الإسلامية
بدأ الكاتب كتابه بحملة على الغرب الذي يكيد للإسلام، بيّن فيها كيف وجد المستشرقون و المضلون في المرأة أمضى سلاح لفرض التربية التي يريدون و إحلالها محل التربية الإسلامية الراشدة، و كذلك حمل الكاتب على بعض المسلمين الذين يؤيدون هذا الكيد جهلاً.
ثم طرح في مقدمة فصل "مصدر حقوق المرأة و واجباتها في الشريعة الإسلامية و المجتمعات الغربية" نظريته الجديدة التي تقول:
"أما الواجبات التي أناطتها الشريعة الإسلامية بالمرأة، فمصدرها شيء واحد، هو عبودية المرأة لله عزَّ و جلَّ." (صفحة 20).
ثم أضاف موضحاً:
"و واضح أنه لا فرق في هذه الحيثية بين الرجل و المرأة، إذ أن العبودية فرع عن المملوكية. ولا شك أن كلاً من الرجل و المرأة مملوك لله عز و جل. فاطر كل شيء. و من ثم فإن عبوديتهما لله واحدة في حقيقتها و قدرها، و لا مجال لفهم أي تفاوت ما بين الرجل و المرأة فيها.(1/19)
و النتيجة التي تتفرع عن ذلك تتمثل في أن الواجبات التي كلف الله بها عباده الرجال هي نفسها التي كلف بها إماءه النساء" (صفحة 20).
إن النتيجة التي يريد الكاتب أن يوصلنا إليها هي أن ما كلف الله ? به الرجال هو عين ما كلف به النساء من واجبات و حقوق، و أنه لا فرق بين ذكورة و أنوثة فيما شرع الله من واجبات و حقوق، و استنتج ذلك بعد أن فرض أن مصدر الواجبات الوحيد في الإسلام هو العبودية لله عز و جل التي يتساوى فيها الذكر و الأنثى.
و نقول: إن افتراض التماثل في العبودية لله صحيح، فكل خلق الله هم عبيده شاؤوا أو أبوا، إلا أن الكاتب ضل في النتيجة التي رآها حتمية لهذه الفرضية.
و إني لأظن الكاتب قد وضع النتيجة التي يريد أن يوصلنا لها نصب عينيه قبل أن يبدأ بكتابة كتابه هذا، ثم أخذ يبحث لها عن أدلة و براهين من هنا و هناك، و لما كانت النتيجة التي أرادها باطلة جاءت أدلته و براهينه باطلة و متناقضة كما سنرى إن شاء الله ?.
نقول للكاتب: أليس الجن يشتركون مع الرجال و النساء من بني البشر في صفة العبودية و المملوكية لله عز و جل؟، ألم تقرأ قول الحق ?؟
{ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً * وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً }
(الجن: 1- 4)
{ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }
(الذاريات:55-56)
من الآيات الكريمات نجد -دون أدنى شك- أن الجن و الإنس من ذكور و إناث كلهم أجمعون عباد مملوكون لله ? خلقهم لعبادته.(1/20)
فنتيجة للنتيجة التي ارتآها الكاتب يكون شرع الله ? و تكاليفه لعباده من الجن هي نفسها التي كلف الله ? بها إماءه من النساء! و هذا محال و لا حاجة لبرهانه.
و لعل الكاتب نسي أن الملائكة الكرام هم أيضاً من خلق الله ? و من عباده الذين لا يستكبرون عن عبادته و اقرأ إن شئت قول الحق:
{ وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ }
(الزخرف:19)
{ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }
(النحل: 48-50)
فهل يرى الكاتب أن النتيجة التي تتفرع عن العبودية لله عز و جل تتمثل في: أن الواجبات التي كلف لله بها عباده الرجال هي نفسها التي كلف بها إماءه النساء و هي نفسها التي كلف الله بها عباده من الجن، و هي نفسها التي كلف الله بها عباده من الملائكة؟
و كذلك نعلم أن كل خلق الله ? من الجماد و النبات و الحيوان هو عابد لله، مسبح له أكثر من البشر أنفسهم.
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ }
(الحج:18)
{ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}(1/21)
(الأنعام:38)
هذا في الأجناس التي أعلمنا الله بوجودها، و كذلك كل ما خلق الله ? مما لا نعلم عنه و عن وجوده شيء في السموات و الأرض هو مسبح و عابد لله عزَّ و جلَّ.
{ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً }
(مريم:93)
{ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً }
(الإسراء:44)
فهل يرى الكاتب أيضاً أن النتيجة التي تتفرع عن العبودية و المملوكية لله عزَّ و جلَّ تتمثل في أن الواجبات التي كلف الله بها عباده الرجال هي نفسها التي كلف بها إماءه النساء، و هي نفسها التي كلف الله بها عباده من الجن، و هي نفسها التي كلف الله بها عباده من الملائكة، و هي نفسها التي كلف الله بها الدواب و الشجر و الجماد و كل ما خلق في السموات و الأرض و ما بينهن؟!.
لقد وهم الكاتب في نظريته و فيما استنتج، و لقد كان ذلك الوهم في أوائل صفحات كتابه، بل كان في الفكرة الأساسية و الجوهرية التي بنى عليها جل النتائج التي روجها في كتابه، فجاءت النتائج أو الأحكام التي أراد أن يوصل الناس إليها مماثلة لما استند إليه من الخطأ و الوهم.
فما أبعد مهام البشر عن مهام الملائكة، و تكاليف البشر عن تكاليف الملائكة و واجبات البشر عن واجبات الملائكة، و كذلك الجن و الدواب و الشجر و ما لا تعلمون، حقاً لقد اشترك هؤلاء جميعاً في العبودية لله عز و جل، و لكنهم لم يشتركوا في التكاليف و المهمات و الواجبات و لا في الحقوق.
فالله ? خلق لكل منهاجاً و مهمة تناسب مادة خلقه التي خلق منها، و تناسب الحكمة التي أراد الله ? من خلق كل نوع و جنس، بحيث تحقق بمجموعها التكامل لا التماثل، و هو العليم الحكيم.(1/22)
{ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى }
(طه:48-50)
{ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً }
(الفرقان:2)
و نقول أخيراً: لو أن الكاتب تدبّر كتاب الله ? التدبّر الأمثل، لفطِن إلى أنّ كلّ ما ذكره في كتابه من محاولة للمساواة بين الذكر و الأنثى، كان بعيداً كلّ البعد عن الصواب و عن مقاصد الدين الإسلامي الحنيف، و لَحَالَ دون وصول كتابه هذا إلى أيدي المسلمين و المسلمات.
فقد أثبتت الآية الكريمة التالية جلياً أن الذكر ليس كالأنثى و أن ما يصلح له الذكر لا تصلح له الأنثى، فها هي امرأة عمران رضي الله عنها تعتذر لربها عن عدم استطاعتها الوفاء بنذرها، إذ كانت قد نذرت ما في بطنها لخدمة بيت الله ? ظناً منها أن ما في بطنها ذكر، فلما وضعتها أنثى رأتْ -و هي المرأة الصالحة التي تريد أن تنشأ ابنتها على الصلاح و التزام أمر الله ?- أن ابنتها لا تصلح للوفاء بنذرها و لنقرأ معاً قول الحق ?:
{ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ }
(آل عمران:35-36)
فرض صلاة الجمعة على النساء !
معتمداً على النتيجة الباطلة للنظرية الخاطئة، يطرح الكاتب السؤال التالي:(1/23)
"قد يقال : فما بال الرجال يخاطبون بتكاليف لا تخاطب بها النساء؟ و ما بال النساء يخاطبن بتكاليف لا يخاطب بها الرجال؟ فمن النوع الأول و اجب الإنفاق على الأسرة، و و اجب السعي إلى أداء صلاة الجمعة. فالرجال وحدهم هم المكلفون بذلك. و من النوع الثاني واجب الحضانة، و واجب ستر المفاتن عن الرجال الأجانب فالنساء وحدهن قد كلفن بذلك." (صفحة 21 ).
ثم يجيب هو عنه:
"الجواب أن هذا الاختلاف ليس آتياً من فرق ما بين الذكورة و الأنوثة أو ما بين الرجال و النساء، و إنما هو آت من عوامل خارجية أخرى تتعلق بالحكمة أو المصالح التي شرعت من أجلها هذه التكاليف." (صفحة 21).
و كأن الكاتب لا يعلم معنى الذكورة و الأنوثة، و لا يرى أي فارق بين تكوين كل من الذكر و الأنثى.
فواجب الكدح و الشقاء الذي يتطلب غالباً قوة عضلية و عاطفة صلبة لا يمت عند الكاتب بأيِّ صلة إلى الذكورة، و واجب المرأة في الحمل و الرضاعة و التربية عنده لا علاقة له من قريب أو بعيد بالأنوثة، فعزا الكاتب اختلاف الواجبات و الحقوق إلى ما أسماه بالعوامل الخارجية.
يقول الكاتب:(1/24)
"فصلاة الجمعة مثلاً شرعت دعماً لوحدة المسلمين و جمع كلمتهم ، و إنما تبرز قيمة هذه الحكمة عندما لا تفوت مصلحة أهم منها. فإن عارضتها مصلحة أهم، سقط وجوب صلاة الجمعة إيثاراً لتلك المصلحة بقطع النظر عن كون المصلي رجلاً أو امرأة ، فالرجل الذي يكلفه حضور صلاة الجمعة ترك مريض يمرضه ، دون أن يكون ثمة من يقوم مقامه، لا تجب في حقه صلاة الجمعة، بل الأولى به أن يبقى إلى جانب ذلك المريض يؤنسه و يرعى شأنه، ولما كان حضور المرأة في المسجد لصلاة الجمعة مظنة إخلال لهذه المصلحة متمثلة في رعاية و خدمة صغارها، سقط عنها واجب الحضور لأداء هذه الصلاة، للسبب ذاته الذي اقتضى سقوط الوجوب في حق الرجل في المثال المشابه الذي ذكرناه. المهم أن وصف الأنوثة لم يلعب أي دور في إسقاط الوجوب، كما أن وصف الذكورة لم يلعب أي دور في إثباته."
(صفحة 21).
فالكاتب يرى أن حضور الرجل صلاة الجمعة واجب، و يسقط عنه إذا شغله عنه واجب أولى منه، و بذلك يترك الرجل فرضاً لمصلحة فرض آخر، لأنه من الأولى أن يرعى الفرض الأولى و يترك فرض الجمعة. و كذلك و بالطريقة نفسها يرى أن واجب رعاية المرأة لأولادها هو الذي أسقط عنها فرض الجمعة بالطريقة ذاتها التي سقطت فيها صلاة الجمعة عن عاتق الرجل الذي شغله واجب آخر، فالله لم يعف المرأة من صلاة الجمعة لكونها أنثى، بل فرضها عليها تماماً كما فرضها على الرجال، و لكن وجود ما هو أهم (رعاية الأطفال) أعفاها من هذا الفرض!، و قد أورد الكاتب هذا الادعاء دون أن يكلف نفسه عناء إيراد برهان واحد على ما يقول من الكتاب أو السنة.
و نسي الكاتب أنه بكلامه هذا جعل من صلاة الجمعة فرضاً لازماً للمرأة غير المتزوجة أو للمتزوجة التي لم تنجب بعد أو للعاقرات، فكما أن واجب رعاية الأولاد أسقط عن الأم فرض الجمعة، فإن عدم وجود الأطفال يلزم من لا ولد لها حسب نظريته بحضور صلاة الجمعة!.(1/25)
فهل هذا حقاً هو الدين الذي بعث الله ? به خاتم النبيين محمد بن عبد الله ?؟! أم أن الكاتب يشرع من عنده؟.
و لو أنصف الكاتب لقال: إن صلاة الجمعة لم تفرض أصلاً على المسلمات سواء كن متزوجات أو غير متزوجات، ذوات أولاد أو دون أولاد، و إنما كان ذلك لأنها أنثى و حسب، و الدليل من السنة الشريفة واضح و لا يجادل فيه مسلم:
عن إسماعيل أبي عبد الرحمن بن عطية عن جدته أم عطية قالت: لما قدم رسول الله ? المدينة جمع نساء الأنصار في بيت ثم أرسل إليهن عمر بن الخطاب فقام على الباب فسلم عليهن فرددن السلام فقال: أنا رسولُ رسول الله ? إليكن فقلن مرحباً برسول الله ? وبرسوله، فقال: تبايعن على ألا تشركن بالله شيئاً، و لا تسرقن، ولا تزنين، ولا تقتلن أولادكن، ولا تأتين بهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن، ولا تعصين في معروف. فقلن: نعم فمدّ عمر يده من خارج الباب، ومددن أيديهن من داخل، ثم قال: اللهم اشهد، وأمرنا أن نُخْرِج في العيدين العتق والحيض، ونهينا عن اتباع الجنائز، ولا جمعة علينا، فسألنه عن البهتان وعن قوله ولا يعصينك في معروف، قال هي النياحة.
رواه الإمام أحمد
لقد أوقع الكاتب نفسه في موقف حرج لا خروج منه إلا بالرجوع إلى الله ? و التوبة و طلب المغفرة منه، غفر الله لنا و له و للمسلمين أجمعين.
ثم يقول الكاتب دون أن يدري أن ما يقوله يناقض نظريته (لا فرق بين ذكورة و أنوثة):
"واجب الإنفاق على الأسرة إنما أنيط بالرجل دون غيره لأنه المباشر الأول لعملية الاكتساب و الرزق" (صفحة 22).
و لا أدري كيف استطاع الكاتب أن يوفق بين هذه الأولية للرجل على الأنثى في واجب الإنفاق، مع زعمه ألا فرق بين الذكورة و الأنوثة في الواجبات و الحقوق!.(1/26)
و هل طلب الرزق إلا واجب من الواجبات؟ فلماذا لم تكن المرأة مساوية له فيه؟ و هل يجد الكاتب جواباً لهذه الأولية إلا من خلال اختلاف طبيعة كل من الذكر و الأنثى الذي يصرُّ على إنكاره؟ أم أن هنالك عوامل خارجية لم يشأ الكاتب أن يخبرنا بها هي التي فرضت هذه الأولية؟
ثم تراه مصراً على ألا فرق بين ذكورة و أنوثة، فذكر كلاماً في هذا المعنى بما لا يقل عن ست مرات في خمس صفحات من مطلع كتابه مكرراً قوله:
"و المهم أن تعلم بأن أنوثة المرأة و ذكورة الرجل ليس لأي منهما دخل في هذا الأمر." (صفحة 21،22،22،23،24،25).
و دون شعور يعود الكاتب بعد فصول من كتابه لينقض ما جاء به من فرض صلاة الجمعة على النساء فيقول:
"فمن مهام الخليفة جمع الناس على صلاة الجمعة و خطبتها، و هي مهمة دينية محضة كما هو واضح، و من المعلوم أن المرأة غير مكلفة بصلاة الجمعة و لا بالحضور لها، للأسباب التي سبق ذكرها. فكيف تقود الناس و تشرف عليهم في عمل هي غير مطالبة به ؟" (صفحة 70).
نقول له: كيف تكون المرأة غير مطالبة بفرض الجمعة و في الوقت نفسه يكون ما كلف الله ? به النساء هو عين ما كلف به الرجال؟
أليس في زعمك أن المرأة التي ليس لها طفل يشغلها هي في حكم الرجل في التكليف بصلاة الجمعة؟!.
فرض الجهاد على النساء
يُعرّج الكاتب على حكم الجهاد بالطريقة نفسها مدعياً أن سقوط الجهاد عن المرأة:
"ليس إلا لأن الجهاد مظنة لتخليها عما هو أهم منه من رعاية أولادها و القيام بشأنهم، و الأنوثة و الذكورة لا تلعب أي دور في ذلك قط" (صفحة 23).
و نقول له: ها أنت ثانية تبدل في شرع الله ? إذ جعلت الجهاد فرضاً على الإناث العاقرات و الأيامى و ذوات الخدور، و على اللاتي كبر أولادهن حتى استغنوا عن رعايتهن، و على المتزوجات اللائي لم ينجبن بعد، فأولاء قد سقط عنهن واجب رعاية الأولاد، فهل وجب عليهن الجهاد حسب ادعائك؟ و العياذ بالله.(1/27)
ثم هل يعقل في أي زمان أو مكان أن تكون رعاية الأبناء أهم من حماية حياتهم و حياة آبائهم و أمهاتهم؟!.
و كلنا يعلم أن المرأة غير مكلفة بالجهاد لكونها غير مجهزة نفسياً و لا جسدياً لأداء هذه المهمة بالقدر الذي جهز الله ? لها الرجال، فإن هي خرجت مجاهدة مع الرجال في حالة النفير العام (و إن كان لها أطفال) فلا تكون في صفوفهم تقاتل كالرجال.
فلم تكن المجاهدات مع رسول الله ? يقاتلن إلى جانب الرجال، يضربن بالسيف و الرمح و يسفكن الدماء، بل تكون الإناث في الصفوف الخلفية يقمن بما يناسب أنوثتهن في جو المعركة العصيب من التطبيب و التمريض و إعداد الطعام، بل حتى في جيوش الكفار لم نرَ النساء بين المحاربين. و الكاتب يؤكد هذا الذي نقول في كتابه ذاته:
"هذا و قد علمت أن المرأة كانت تحضر مع الرجال الغزوات ، تسعف الجرحى و تقوم بخدمات إنسانية شتى أثناء القتال، فإن اقتضى الأمر قاتلن و دافعن عن أنفسهن". (صفحة 87).
ثم يورد الحديث التالي:
"روى مسلم في صحيحه من حديث أم عطية قالت : غزوت مع رسول الله ? سبع غزوات أخلفهم في رحالهم و أصنع لهم الطعام" (صفحة 88).
و في مثاله هذا بيان كبير للفارق بين الذكر و الأنثى، و شتان بين جهاد الذكر و جهاد الأنثى، و لا نقول إلا: ما لكم كيف تحكمون؟
و يجب أن نعلم أن جهاد النساء مع رسول الله ? كان من قبيل الضرورة كما سنبين لاحقاً إن شاء الله تعالى، و لكن دين الإسلام لم يشرع الجهاد للمرأة لا من قريب و لا من بعيد، و اقرأ قول الصادق الأمين عندما سألته أم المؤمنين عن هذا الأمر:
عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: اسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ ? فِي الْجِهَادِ فَقَالَ: "جِهَادُكُنَّ الْحَجُّ"
رواه البخاري و أحمد
عوامل خارجية أو داخلية(1/28)
بعد كل الذي قال، يقوم الكاتب هنا بدحض ما أجهد نفسه و فكره في إثباته و التدليل الباطل عليه، فيقول بالحرف الواحد:
"فلو كلف الرجال بحضانة الأطفال لتطلب ذلك إعراضهم عما هو أهم من ذلك بالنسبة إليهم، و هو واجب النهوض بمسؤوليات اجتماعية و اقتصادية شتى لا تقوى النساء على النهوض بها." (صفحة 23).
إذاً فالكاتب يعلم يقيناً أنه ليس ثمة عوامل خارجية !! فهناك تكاليف يصنعها الرجال و لا تقوى النساء على النهوض بها، و هذا هو عين الفرق بين الذكورة والأنوثة الذي لم يشأ الكاتب أن يعترف به، رغم أنه يذكره في معرض حديثه دون أن يدري.
أليست المسؤوليات هي المسؤوليات سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية؟ و لكن للرجل صفات و طبائع ليست خارجية تهيئه للقيام بها، و للمرأة صفات و طبائع ليست بخارجية لا تؤهلها للقيام بها.
ثم لا يلبث أن يزيد كتابه تناقضاً إلى تناقض فيقول:
"أما واجب ستر المفاتن فلو كانت المرأة تفتن من الرجل بمثل ما يفتن الرجل منها به لاتجه الواجب ذاته إلى الرجل كما اتجه إلى المرأة، و لكن الله الذي فطر عباده رجالاً و نساء على ما يشاء أن يفطرهم عليه من الصفات و الطبائع، علم أن الذي يستهوي المرأة من مزايا الرجل و صفاته غير الذي يستهوي الرجل من المرأة من المزايا و الصفات، فاختلف شرعه في ذلك تبعاً لاختلاف الطبائع و المحببات بينهما." (صفحة 24).
نقول للكاتب: أليس هذا فارقاً كبيراً بين الذكورة و الأنوثة، و هو غير ناجم عن عوامل خارجية؟ أليس الاختلاف بين الذكورة و الأنوثة -الذي لا يريد الكاتب أن يراه- هو عين الاختلاف بين هذه الطبائع و الصفات (الداخلية) التي فطر الله كلاً عليها؟ و بذلك اختلفت أوامر الله ? للنساء عن أوامره للرجال، فهل يمكن لعاقل اعتبار هذه الطبائع النفسية و الصفات الجسدية مجرد عوارض و أحوال خارجية كما يدعي الكاتب؟(1/29)
و مع هذا كله نراه يكرر في كل الكتاب قوله: "و لا علاقة لذلك بذكورة أو أنوثة" و "عوامل خارجية"حتى إنه ليحشو الكتاب حشواً بهذه الجملة.
ثم ترى الكاتب يُصرُّ على الجملة ذاتها التي جعلها ديدنه في كل الكتاب، قائلاً فيما يشبه النتيجة المنطقية التي وصل إليها ببحثه و استنتاجاته اللامنطقية:
"و مجمل القول أن وصف الذكورة و الأنوثة لا مدخل له بحد ذاته في اختلاف ما بين الرجل و المرأة من أحكام الواجبات، و إنما مرد هذا الاختلاف -إن وجد- إلى عوارض و أحوال خارجية كالتي ضربنا أمثلة بها، و قد رأينا أن من شأن هذه العوارض أن تسبب اختلافاً بين الرجال أنفسهم أو بين النساء أنفسهن في توجه الأمر الإلهي إليهم بكثير من هذه الأحكام." (صفحة 24).
يَدَّعي الكاتب أنه أرانا من خلال أمثلته أن من شأن هذه العوارض و الأحوال الخارجية أن تسبب اختلافاً بين النساء أنفسهن في توجه الأمر الإلهي لهن، و أسأل من قرأ ذاك الكتاب، أسأله بالذي لا إله إلا هو أن يدلني إن استطاع أن يرى شيئاً من هذا فيما كتب الكاتب.
و لا أراه قد أرانا إلا خلاف هذا مبيناً لنا أن هنالك فوارق بين الذكر و الأنثى ليست بخارجية مما فطر الله ? عليه كلاً منهما (و الكاتب نفسه سماها فطرة كما مرَّ معنا)، و لذلك اختلفت أحكام الشرع لكل منهما، و لكن الكاتب مع ذلك متشبث بالنتيجة التي أراد أن يبني كتابه عليها رغم تناقضها مع كل ما جاء هو به.
و ترى الكاتب يزداد إصراراً على موقفه المناقض للحق و المنطق، فيعيد صياغة نظريته مرة أخرى، منتقلاً من التساوي في الواجبات إلى التساوي في الحقوق.
"كما أن تساوي الرجل مع المرأة في صفة العبودية لله استوجب تساويهما في الواجبات كما رأينا، فإن تساوي الرجل مع المرأة في الإنسانية يستوجب تساويهما أيضاً في الحقوق." (صفحة 25).(1/30)
كلامٌ لا يرضى به عاقل، و لم يتنزل به شرع، و لا يؤيده عرف. و لننظر إلى كتاب الله عزَّ و جلَّ لنرى كيف فرق بين الذكر و الأنثى في المهمات و الواجبات، و كيف جعل لكل منهما دوراً يختلف عن الآخر و يكمله دون تعارض أو أفضلية لأي من الدورين على الآخر، و لنقرأ قول الحق ?:
{ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
(البقرة:228)
و قوله:
{ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً }
(النساء:34)
نعم لقد تساوى الرجل و المرأة في صفة العبودية لله ?، و لكن هذا لا يستدعي أبداً تساويهما في الحقوق و الواجبات، فمن صريح الآيات نعلم أن للرجال على النساء درجة و أن الله قد فضل الرجال على النساء في صفات و فضل النساء على الرجال في صفات أخرى، و بالتالي فإن شرع الله ? و حكمته تقتضي أن يكلف كلاً من الرجل و المرأة بما يناسب صفاته أو صفاتها، حتى يحققا التكامل في هذه الحياة و لو تطابقت المهام و الواجبات لما كان أحدهما محتاجاً للآخر.(1/31)
ألم يقرأ الكاتب كيف فرق رسول الله ? في حديثة الشريف حقوق المرأة و حقوق الرجل و واجبات المرأة و واجبات الرجل؟.
ألم يقرأ قول الرسول ? للمرأة الخثعمية؟:
عن ابن عباس أن امرأة من خثعم أتت رسول الله ? فقالت: يا رسول الله أخبرني ما حق الزوج على الزوجة، فإني امرأة أيم، فإن استطعت وإلا جلست أيماً؟ قال: "فإن حق الزوج على زوجته إن سألها نفسها وهي على ظهر بعير ألا تمنعه نفسها، ومن حق الزوج على زوجته ألا تصوم تطوعاً إلا بإذنه، فإن فعلت جاعت وعطشت ولا يقبل منها ولا تخرج من بيته إلا بإذنه، فإن فعلت لعنتها ملائكة السماء، وملائكة الرحمة، وملائكة العذاب حتى ترجع".
رواه ابن أبي شيبة والبزار
هذه بعض حقوق الرجل على زوجته، و إليك بعضاً من حقوق المرأة على زوجها:
"واتقوا الله في النساء فإنهن عَوانٌ عندكم لا يملكن لأنفسهن شيئاً. وإن لهن عليكم حقاً ولكم عليهن حقاً ألا يطئن فرشكم أحداً غيركم، ولا يأذنَّ في بيوتكم لأحد تكرهونه، فإن خفتم نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مُبَرّح، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف".
رواه الترمذي و أحمد و النسائي و ابن ماجه
هل رأيت اختلافاً في الحقوق بين الرجل والمرأة أعظم مما بينه الصادق الأمين ?؟ لقد نكَّر ? كلمة "حق" في حديثه عن حقوق كل من النساء والرجال؛ لأن في التنكير بيان أن الحق مختلف، و لو كان الأمر كما يرى الكاتب لقال ?:"و إن لهن عليكم و لكم عليهن الحق ذاته"!.
ثم إن التفريق بين الذكر و الأنثى في الشرع ليس بين الرجال و النساء فحسب، بل بين الوليد و الوليدة أيضاً، فما رأي الكاتب في تفريق الشرع بينهما في العقيقة و هل يرى في ذلك تساوياً؟!.
عن يوسف بن ماهك أنهم دخلوا على حفصة بنت عبد الرحمن فسألوها عن العقيقة ، فأخبرتهم أن عائشة أخبرتها أن رسول الله ? أمرهم عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة.
رواه الترمذي و النسائي و أبو داود(1/32)
و إن شاء الله ? سيمر معنا في هذا الكتاب آيات كريمات، و أحاديث شريفة، نُبَيٍّن فيها بياناً أوضح و أعمق مدى اختلاف الحقوق و الواجبات بين الذكر و الأنثى.
و لنعلم أن عدم التساوي في الواجبات و الحقوق لا يعني مطلقاً عدم المساواة في الإنسانية و الأجر و الثواب، فكل مخلوق ميسر لما خُلق له، و يتفاضلون بشيء واحد فقط هو التقوى.
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }
(الحجرات:13)
فمتى كان الطبيب أفضل من المهندس؟ أو كان النجار أفضل من الحداد؟ و لكل منهم مهمة و واجبات، و لكل منهم منهج و أسلوب في القيام بعمله، و لكل منهم مكان عمل مختلف و أدوات عمل تختلف عن الآخر، و لا ينقص قيام هذا بعمله من دور الآخر و أدائه لعمله، و إنما قيمة كل منهم على قدر إتقانه لعمله و براعته فيه و جميعهم بشر، و عباد لله يساهمون في بناء و خدمة مجتمع واحد، و يتكامل عملهم لتحقيق هدف واحد سام. و متى كان الليل أفضل من النهار، أو كانت إحدى العينين أولى بالرعاية من أختها؟.
الذكر و الأنثى في الإسلام
في كتاب الله سبحانه و تعالى
خلق الله ? أبانا آدم و أمنا حواء عليهما السلام بعد أن أعدّ الكون لاستقبالهما و ذريتهما، و بعد أن أعد لهما المنهج اللازم لخلافتهما في الأرض، و لم يخلق الله ? آدمَين و لا حواءتين، لأن لكل خلق مهمة، و ليس كما يرى كاتب كتاب "المرأة" ألا فرق في الحقوق و الواجبات بين آدم و حواء.
فالكاتب يرى أن الرجل و المرأة تحت ظل الإسلام متساويان في الحقوق و الواجبات، و أن ما شرع الله ? من أحكام للرجل هو شرع للمرأة، و لكن الظروف و العوامل الخارجية التي لا علاقة لها بالشرع هي التي خلقت اختلافاً بين مهمة كل منهما.(1/33)
و الكاتب يرى أن عمل المرأة هو أمر لم يتكلم فيه الشرع، و لم يتطرق إليه، بل تركه دون تقييد يتصرف فيه البشر حسب أهوائهم أو مصالحهم، أو حسب حاجة الأسرة و اتفاق الزوجين، فقال:
"و ليكن معلوماً أن هذا التيسير الذي حققه الشارع أمام المرأة، بين يدي اتباعها لما يقتضيه سلّم الأولويات.. .
و على سبيل المثال فإن الزوجين إذا اقتنعا بأن الوظائف البيتية أقل من أن تملك على الزوجة كامل وقتها، فلا مانع شرعاً من أن تنفق فضول وقتها في أي عمل صالح تؤديه خارج المنزل، على أن تأخذ بعين الاعتبار الآداب و الضوابط التي يجب أن تلتزم بها. حتى إذا رأيا أن عملها هذا يخل بالأهم من ضرورات رعاية الأسرة و حمايتها من الآفات التي تتربص بها، كان عليهما أن يتخذا القرار المتفق عليه مع مبدأ تدرج المصالح الاجتماعية." (صفحة 66-67).
فهو لا يرى بأساً من اختلاط الجنسين في كل مجال من مجالات الحياة من عمل أو لهو، كما يعتقد أن في تغطية المرأة لوجهها تكلفٌ يعيق الحركة، و يثقلها، و يمنع عن قيام المرأة بواجبها، و أن الحجاب ليس إلا قطعة قماش تغطي بها المرأة شعرها.
و لم يرجع الكاتب في إثبات ما و صل إليه لا إلى كتاب الله ? و لا إلى سنة رسوله ? و إنما اعتمد البحث المنطقي الذي خلا أول ما خلا من المنطق.
بينما رأيتُ أن من مستلزمات البحث المنطقي في دين الله ? أن نرجع أولاً و أخيراً إلى ما أنزله الله ? و ما جاء به رسول الله ?، و هذا بحمد الله هو عين الذي قمت به متتبعاً الآيات و الأحاديث التي جاءت في أحكام حجاب و عمل و واجبات و حقوق المرأة -على قدر ما يسَّر الله ? لي من علم- فرأيت أن الشرع قد تحدث و أسهب في هذه الأحكام في كل من الكتاب و السنة، و رأيت أن ما بثّه الكاتب في كتابه "المرأة" كان مخالفاً لهذه الأحكام.
مهمتا الشقاء و السكن(1/34)
عندما أسكن الله ? آدم و زوجه الجنة حذَّرهما من الخطر الأكبر الذي سيواجههما ألا و هو كيد الشيطان بهما، و عداوته لهما.
{ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى* فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى }
(طه:115-117)
رافق تحذير الله ? لآدم و زوجه من عداوة الشيطان أمراً آخر على قدر عظيم من الأهمية، ألا و هو بيانُ الفرق الجوهري بين دور كل من آدم و حواء في الأرض بعد الخروج من الجنة ذات العيش الرغد، و جعل الله العليم الخبير تجلية هذا الفرق بين المهمتين أولى من غيره فبدأ به، بل لم يذكر لهما أمراً غيره قبله و لا بعده من أمر الحياة الجديدة على الأرض حتى لا تختلط عليهما الأمور.
و ما ذلك إلا لعلمه ? بما سيكون من البشر من تخبط في تحديد مهمة كل من الذكر و الأنثى، و لعلمه ? أن هذا الخلط بين مهمة كل منهما هو من أخطر منافذ شياطين الإنس و الجن في الأرض على بني آدم.
نتعلم من الآيات الكريمات أن مهمة الشقاء و العمل التي سيباشرها آدم بعد خروجه من الجنة هي له وحده، و لا تشاركه فيها زوجه، إذ جاء خطاب الله ? لهما بصيغة المثنى عندما حذرهما من عداوة الشيطان ?إن هذا عدو لك و لزوجك فلا يخرجنكما?، و لكن عندما ذكر ? الشقاء الذي سيكون بعد الخروج من الجنة ذات الرزق الرغد، عدل عن صيغة المثنى إلى صيغة المفرد المذكر و هو آدم عليه السلام فقال له ?فتشقى?.(1/35)
أي أنك يا آدم إذا خرجت من الجنة ذات الرزق الرغد الذي تمتعتَ به أنت و زوجك، و لم تكن تشقى و تتعب في استخراجه، ستضطر في الأرض التي ستخرجان إليها أنت و زوجك أن تشقى في استخراج الرزق منها وحدك، فتكون مهمة الشقاء و الكدح لك في هذه الأرض، بينما ستكون مهمة زوجك توفير سكنك عند عودتك من العمل، فعندما يضنيك النصب و الشقاء ستجد زوجة ساكنة تسكن إليها من حركتك، و ترتاح عندها من الشقاء لتعود في اليوم التالي فتعاود الكرّة.
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ }
(الأعراف:189)
في هذه الآية الكريمة تكلم الله عن خلق النفس البشرية الأولى، و عن خلق النفس البشرية الثانية منها، و حدد الله مهمة كل من النفسين في الآية ذاتها، فجعل النفس الأولى متحركة، و جعل سكنها عند النفس الثانية. من الآية الكريمة نجد أن النفس المتحركة التي تحتاج للسكن هي النفس المذكرة، و النفس التي من مهمتها توفير هذا السكن هي النفس المؤنثة، و نستشف هذا من عدول الحق عن ضمير المؤنث الذي يشير إلى النفس الأولى و الثانية على السواء (لأن كلمة نفس مؤنثة) إلى ضمير المذكر في قوله ? "ليسكن" فجعل الساكن مذكراً و جعل المسكون إليه مؤنثاً، فأبقى التأنيث فيما يتعلق بالنفس الثانية في قوله ? : ?إليها?.(1/36)
و عندما يتكرر في القرآن الكريم ذِكْرُ خَلْقِ النفس البشرية و زوجها، يعلِّم الله ? خلقه أول ما يعلِّمهم الدور الأول و الأساسي لكل من هاتين النفسين و هذين الزوجين و هو سكون الذكر إلى الأنثى، و لا يكون السكون إلا لمتحرك، و لا يسكن المتحرك إلا عند ساكن أصلاً غير مكلف بالتحرك للكدح، و هذه هي حكمة خلق الله ? للذكر و الأنثى، و تزويد كل منهما نفسياً و جسدياً و فكرياً بما يحقق التكامل و الانسجام.
{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }
(الروم:21)
و تأتي الآيات الكريمات التالية لتجلي لنا بوضوح تام (لا يبقى معه في نفس مؤمن بكتاب الله ? أدنى شك) حدود مهمة كل من الذكر و الأنثى، و اختلاف مجال عمل كل منهما، إذ يوازي الله ? علاقة الليل و النهار بعلاقة الذكر و الأنثى، و يَذْكر ? أبرز ما يحدد نوع العلاقة بينهما و هو السعي المختلف، فاختلاف مهمة الليل عن مهمة النهار هو تماماً كاختلاف مهمة الذكر عن مهمة الأنثى. فكلمة "شتى" تدل على أن سعي الذكر لا يمكن أن يماثل سعي الأنثى، و سعي الأنثى لا يماثل سعي الذكر كما لا يجتمع الليل مع النهار أبداً.
{ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى }
(الليل:1-4)
فلكل من الذكر و الأنثى دورٌ و سعيٌ في هذه الأرض، و لكن سعيهما كما وصفه الله ? "شتى" أي: لا يجتمعان بأي حال كما لا يجتمع الليل مع النهار، و لكنهما يتكاملان كتكامل الليل و النهار، وبتعاضد السعيين يتكامل دور الإنسان في الخلافة على هذه الأرض و استعمارها.(1/37)
و إن للمرأة دوراً كبيراً تحدده كلمة السكن التي تعني المسكن و البيت و عدم التحرك للكدح، و التي لا تجتمع في معناها مع الشقاء أبداً، و لا يكون هذا إلا عندما يكون سعي المرأة في داخل مسكنها في إطار محدود لا خارجه، و فيه تؤدي المرأة المهمة الأولى التي خُلِقت لها؛ بحيث تجعل من البيت مكاناً لائقاً لسكن الرجل و الأسرة كلها.
و من مستلزمات هذا السكن النظافة و الهدوء و الخلو من كل المنغصات و المنفرات، فتسكن فيه نفس الرجل، و يسكن جسده و جميع جوارحه بعد أن أمضى سحابة نهاره في الكدح، فلا يرى في مسكنه إلا ما يعجبه، و لا يسمع إلا ما يسرّه و لا يأكل إلا ما يلذ به، فيخلد إلى الراحة اللازمة لكي يقوى على مباشرة يوم كدح و شقاء جديد، و ما أكثر ما تفككت أسر لم تستطع فيها المرأة أن توفر للأسرة هذا القدر من السكن.
{ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً }
(النحل:80)
حالات الاضطرار
اقتضت حكمة الله ? أن تكون العلاقة بين دور الذكر و الأنثى مشابهة للعلاقة بين دور الليل و النهار، فكما جعل الله ? النهار للكدح جعل مقابله الليل للسكن، فليس الليل نقيضاً للنهار و لا النهار نقيضاً لليل، بل وُجِدا في وقت واحد، و لا ينفي أحدهما الآخر، كما لا يغني أحدهما عن الآخر، فقال عز و جل:
{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ }
(يونس:67)
و لولا هذا التكامل بين الليل و النهار لاستحالت الحياة على هذه الأرض، و اقرأ إن شئت قول الحق ?:(1/38)
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
(القصص:71-73)
و اقتضت حكمته أن يجعل النوم في الليل و اليقظة في النهار، و هذا حال البشر كلهم، إلا ما كان في جزء ضئيل من كدح البشر الذي لا يكون إلا في الليل كمهمة الحرس و رجال الإسعاف و غيرهم، فجعل الله ? لهؤلاء رخصة، و شرع لهم أحكاماً و لم يفرط في كتابه من شيء، و تجد مصداق ذلك في قول الحق ?:
{ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ }
(الروم:23)
فالذي اتخذ من الليل مجالاً لسعيه لا يمكن له أن يجعل نهاره سعياً أيضاً، أي أنك إذا أعطيت الليل وظيفة النهار فلا بد أن تعطي النهار وظيفة الليل حتى تستطيع الاستمرار في السعي، فشرع الله العليم الحكيم لهذه الضرورة النوم بالنهار لمن عمل في الليل.
فالله ? هو الذي خلق الليل و النهار، وهو الذي حدَّد مهمة كل منهما، و عند الضرورة شرع ? لهذه الضرورة حكماً يناسبها، و هو الذي خلق الذكر و الأنثى و هو الذي يحدد مهمة كل منهما، و عندما تطرأ ضرورة فهو وحده الذي يبين كنه هذه الضرورة، و يشرع لها أحكامها.(1/39)
فعندما تكون الضرورة ملحة، و ينتفي المجتمع الإيماني، فإن الله العليم بعباده، الحكيم في شرعه، الذي يعلم من خلق، و هو اللطيف الخبير الذي لا يضل و لا ينسى يشرع ? للضرورة حكماً، و يبين شرائط هذه الضرورة بتفاصيلها في كتابه الكريم و لا يتركها لاجتهاد مجتهد، أو قياس قائس، و لا يدع مجالاً لاستدراك متعالمٍ على حكمه سبحانه، و ما ذلك إلا لعظم الخطر الناجم عن اختلاط و تداخل مهمة الذكر بمهمة الأنثى، فقال تعالى:
{ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ * وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ }
(القصص:22-27)(1/40)
لمْ يقصص الله ? على رسوله قصة ابنتي شعيب عليه السلام للتفكه و التسلية، بل ليعلِّم المؤمنين دينهم، و يهديهم إلى ما يصلحهم لعمارة هذه الأرض و خلافتها في أحوال الضرورة، و ليعلِّمهم كيف يتجاوزون هذه الضرورة بسلام.
لقد رأى موسى عليه السلام أنثيين ترعيان الغنم، فهاله هذا المشهد، و أنكر فعلهما بقوله: "ما خطبكما؟" أي: ما الأمر العظيم الذي اضطركما إلى الخروج للعمل الذي يُوكل إلى الذكور دون النساء في شرع الله سبحانه؟.
و كانت الأنثيان بنتي نبي الله شعيب عليه السلام، و كانتا تعلمان أن خروجهما من بيتهما إنما كان لضرورة طرأت، و رغم هذه الضرورة أبت فطرتهما الاختلاط بالرجال، أو الركون إلى العمل كالرجال في هذه الفترة الطارئة، فوصف ? عفتهما و هما تقومان بالعمل بقوله: "و وجد من دونهم امرأتين تذودان" أي: أنهما عندما خرجتا مضطرتين للعمل أخذتا الضرورة بقدرها، فلم تختلطا بالرجال (الرعاء) بل قامتا بذود غنمهما عن الشرب مع غنم الرعاة، و قد فهمت المرأتان مراد موسى عليه السلام بسؤاله: "ما خطبكما؟" فأجابتاه من فورهما بما يدفع عنهما الشبهة و يبين عذرهما قائلتين: "لا نسقي حتى يصدر الرعاء و أبونا شيخ كبير".
فأما السبب الأول في خروجهما للعمل فهو أن ليس ثمة ذكر يقوم بهذا العمل، و بينتا ذلك لموسى عليه السلام عندما أنكر عليهما فقالتا "و أبونا شيخ كبير"، فأبوهما ليس شيخاً و حسب بل هو شيخ كبير لا يقوى على العمل و لا أخ و لا زوج لهما، كما انتفى المجتمع الإيماني في تلك القرية، فلم يكن في مجتمعهما من يقوم بالكدح عنهما فخرجتا إلى العمل بإلحاح الضرورة.
فكان لزاماً على موسى عليه السلام الذي يمثل المجتمع الإيماني أن يسقي لهما، لأن الضرورة اضطرتهما لأخذ الرخصة بعد تكامل شروطها دون بغي أو عدوان و كيف لا يفعل؟ و هو نبي مسؤول عن تنفيذ منهج الحق في الأرض "فسقى لهما".(1/41)
و يبيِّن الله ? لعباده كيف يجب على المضطر ألا يستسلم للضرورة و يركن إليها أو يجعل منها شرعاً جديداً ناسياً الحكم الأصيل، بل عليه أن يُعْمِلَ عقله في اغتنام الفرص؛ التي تخرجه من الظرف الذي ألجأته إليه الضرورة، فلم تتخذ أي من الأنثيين من هذه الحال الطارئة عذراً لكي تخرج من مسكنها و تعمل كالرجال و بين الرجال، و تتخذ من الرعي مهنة لها، فهاهما تتجنبان الاختلاط بالرجال مهما كلفهما ذلك من عناء و وقت و جهد، و كانتا في الوقت ذاته تحنَّان للعودة إلى فطرتهما و إلى المهمة الأصيلة التي خُلقت المرأة من أجلها، و الدور الذي رسمه الخالق لها فما كان من إحداهما بعد أن رأتْ من موسى عليه السلام ما رأت إلا أن أبرقت في بالها بارقة الخلاص من هذا الخطب، فقالت لأبيها: "يا أبت استأجره"، لقد رأت في هذا الرجل القوي الأمين من يعيدها و أختها إلى مكانهما في الالتزام بأمر الله ? إلى المهمة التي حددها الله لهما، ففعلت، و لم تُفَوِّتِ الفرصة.
هكذا يعلمنا الله ? شروط الضرورة في قيام الأنثى بدور الذكر، و يعلمنا كيف يجب على المرأة إن اضطرت أن تأخذ الضرورة بقدرها دون تفريط أو طغيان، و يعلمها أن تبحث عن السبل و الفرص المتاحة للتخلص من إِصْرِ هذه الضرورة و العودة إلى جادة الصواب، و يُعلّم المؤمنين في المجتمع كيف يَهبُّون لنجدتها مما يهدد فطرتها و نقاء المجتمع.
فهل من مؤمن بعد هذا يجادل في مهمة كل من الذكر و الأنثى؟ و هل يجادل مؤمن بعد هذا في مسألة عمل المرأة؟
و لو شرع الله ? للمرأة التشبه بالرجال في الكدح لطلب الرزق في ظرف من الظروف القاهرة؛ لشرع ذلك للأرملة التي مات زوجها فلم يبقَ لها معيل من بعده و لكن هيهات.. و إليك حُكْم الله سبحانه في هذا الظرف الطارئ.(1/42)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ ?: "كَافِلُ الْيَتِيمِ، لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنّةِ" وَأَشَارَ مَالِكٌ بِالسّبّابَةِ وَالْوُسْطَىَ".
رواه مسلم و مالك
فمن هو اليتيم4؟ أليس اليتيم من مات أبوه و هو دون سن الرشد و لم يبلغ مبلغ الرجال؟ و إن كانت أمه لا تزال على قيد الحياة. و من هو كافل اليتيم؟ أليس الكافل هو الذي يُعوِّض اليتيم عن فقد أبيه، و يتحمل عبء رزقه و الإشراف عليه، أي: يقوم مقام أبيه بالنسبة له؟ و لنسأل أنفسنا: لماذا يكون لليتيم كافل يقوم بكفالته و أمه على قيد الحياة؟
أليس هذا لأن الإسلام نَزَّه الأنثى عن الخوض في غمار العمل و طلب الرزق؟.
و لئن كان الإسلام قد سمح للمرأة بالعمل، فلن توجد ضرورة أكبر من وفاة الرجل المعيل للأسرة ليسمح الشرع لها بالخروج للعمل عوضاً عنه، و لكن هيهات...
فقد أقصى الله ? المرأة عن هذه المهمة، و برأها منها حتى في هذا الظرف القاهر و كلَّف المجتمع الإيماني كله بكفالتها و ابنها اليتيم، فقال ? في كتابه العزيز:(1/43)
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً * وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً * وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا * وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً * وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً * وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً }
(النساء:1-6)
فالله ? أمر المجتمع الإيماني بكفالة اليتيم، و الإشراف عليه، و تعويضه عن فقدان أبيه. و إن كان له مال فعلى من يكفله أن يشرف على ماله أيضاً، ويستثمره له و يرزقه فيه، حتى إذا آنس منه رشداً، و بلغ اليتيم مبلغ الرجال، أعاد كافلُه إليه ماله.(1/44)
و نلاحظ من الآيات الكريمات أن الله ? جعل استثمار مال اليتيم على كافله، و لم يكلف أمَّ اليتيم باستثمار مال زوجها و ابنها، هذا في حال وجود مجتمع إيماني فيه من يقوم بهذا العمل.
و لم يكتف الإسلام بتكليف المجتمع الإيماني بالسعي على اليتيم فحسب، بل تعداه إلى تكليف المؤمنين بالسعي على الأرملة. فها هو رسول الله ? يقول:
" الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار ".
رواه البخاري و مسلم
الأرملةُ: هي المرأة التي مات عنها زوجها الذي كان يقوم بأمرها، و بعد وفاته لم يبق لهذه المرأة من يأتيها بالرزق، فإما أن تخرج هي للكدح بين الرجال، و إما أن يكفيها ذلك أحد المؤمنين. و كان الشرعُ الإسلامي واضحاً في هذه المسألة إذ اختار لها أن تقر في بيتها، و كفل لها من يقوم بأمرها.
إن من يقوم بالسعي على رزق الأرملة، و يكفيها شَرَّ الخروج لطلب الرزق، له عند الله ? من الثواب ما للمجاهد في سبيل الله، و ما للقائم الصائم، و لا يطمع مسلم بثواب أكبر من هذا.
و ما عظَّم الله ? أجر كافل اليتيم و الأرملة، إلا لعظم الدور الذي يؤديه في الحفاظ على طهر المجتمع الإيماني، و في الحفاظ على فطرة الأنثى، حتى لا تضطر لنسيان أنوثتها، فتتشبه بالرجال، و تسلك مسالكهم.
الدين النصيحة
{ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }
(البقرة:268)(1/45)
اعلمي أختي المؤمنة أن المضلين من شياطين الإنس و الجن سيخوفونكِ الفقر و الحاجة إن أنتِ حسب زعمهم لم تكسبي رزقكِ بعرق جبينكِ، و سيزيّنون لك وَهْمَ "استقلال المرأة عن الرجل" في مسألة المال، فيدْعونكِ إلى نسيان شريعة الله ربكِ و السعي إلى العمل في كل مجال، و في أي مجال مختلطة بالرجال لتحصلي على استقلالك، و التخلص من تبعيّتكِ المادية لرجل، مُدَّعين أن الزمن قد اختلف، و أن ما صَلَحَ في زمن الرسول الكريم ? لا يصلح في أيامنا، هذه و العياذ بالله.
فإن أنتِ أبيتِ إلا الانصياع لوساوسهم، و انطلتْ عليك حيلهم، وقعتِ أنتِ و مَن حولكِ فيما حذر منه الله ? من المعيشة الضنكى، و ما بعدها، و العياذ بالله. و لسوف تستقلِّين فعلاً في مسألة المال عن وليّكِ، ذلك الرجل الذي هو أقرب الناس إليكِ، و هو أحرصهم على مصلحتكِ و سعادتكِ، و لكنكِ ستقعين في شَرَكِ التبعية المادية لرجالٍ كُثُر، لصاحب العمل هذا أو ذاك، و هم أطمع الناس فيكِ، و أكثر الناس استغلالاً لكِ، و لا تهمهم مصلحتكِ من قريب و لا من بعيد، و يرون مصالحهم فوق كل شيء، فإنْ ذهب بهاؤكِ جاؤوا بأخرى أجملَ و أنضر.
و الله ? يعدك المغفرة و الفضل الواسع، و هو العليم بما يصلح لكِ، و قد وعد من اتقاه بأن يجعل له مخرجاً، و أن يرزقه من حيث لا يحتسب، و ها هي قصة ابنتي شعيب عليه السلام أمامكِ تؤنسك بأن وعد الله حق.
فلقد أخرجتهما الضرورة للعمل، و لكنهما لم تنسيا أنهما امرأتان، فأخذتا الضرورة بقدرها تماماً دون بغي و لا عدوان ابتغاء مرضاة الله ?، و من دلائل تقواهما أنهما قد استغلتا أول فرصة لاحت لهما للعودة إلى ما خُلقتا من أجله، فجعل الله ? لهما مخرجاً و أي مخرج!!.
لقد رزقهما من حيث لا تحتسبان، رزقهما رسولاً من أولي العزم من الرسل جعله زوجاً لإحداهما، و رجلاً قوياً أميناً من أحب الناس إليه، جعله أجيراً لأبيهما قام بأمرهم جميعاً مدة عشر حجج.(1/46)
أجل هذا هو المخرج الذي يعده الله ? للمتقين، فما كانت المرأتان تدريان مَنْ موسى عليه السلام، و ما كان موسى من أهل قريتهم، و ما كان إلا هارباً من القوم الظالمين، فهداه الله ? إلى ماء مدين رحمة بالمرأتين، و إنجازاً لوعده الحق في الفرج و الرزق.
ستر المرأة
نرى في كتاب الله سبحانه أن الستر هو من أولى لوازم الدور الذي خُلِقتْ له المرأة حتى أنه سبحانه جعل الستر في ذكر اسمها، ففي القرآن الكريم الذي يحمل المنهج القويم لبني آدم يعلمنا الله ? أنه خَلَقَ المرأة مجبولة على الستر، فجلَّلها بالستر في كل كتابه.
1 - عندما أسجد ? الملائكة لآدم لم تكن حواء معه، فقد سترها الله ? أولاً عن ملائكته الكرام و جعل سجود الملائكة الكرام لحواء و لذرية آدم أجمعين منطوياً في سجودهم لآدم وحده.
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ }
(البقرة:34)
2 - إن خالق حواء ? لم يخاطبها في كل كتابه الكريم إلا من خلال زوجها تعليماً لآدم و لها و لنا أجمعين ضرورة ستر و صون المرأة، فلم يذكر اسمها في القرآن الكريم صراحة أبداً، في حين ذكر اسم آدم عليه السلام ستاً و عشرين مرة.
{وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}
(البقرة:35)
{ فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى }
(طه:117)
فمن ستر المرأة ألا يُصرَّح باسمها، بل تُنْسَبُ لزوجها أو لابنها أو لأبيها، فالله ? كنَّى عن زوج موسى عليه السلام بكلمة "أهله" في قوله:(1/47)
{ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ
مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ }
(القصص:29)
و كذلك الأمر في زوج إبراهيم عليه السلام.
{ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ }
(الذريات:26)
و هكذا في كل القرآن الكريم يأتي ذِكْرُ المرأة دوماً تبعاً لذكر من عصبتها، حتى و إن كانت الخصوصية في الصفة أو الحكم متعلقة بها وحدها، فقال الله عزَّ و جلَّ عن أم مريم عليها السلام "امرأة عمران":
{ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
(آل عمران:35)
و عندما بشرت الملائكة سارة زوج إبراهيم عليه السلام بإسحاق قال "امرأته" فلم يصرح باسم واحدة من أزواج الأنبياء في كتابه الكريم.
{ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ }
(هود:71)
{ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ }
(الذاريات:28-30)
3 - حتى في ذِكر الكافرات من النساء أزواج الصالحين، و في النساء المؤمنات من أزواج الكفار نجد الشيء ذاته في نسبتهن لأزواجهن، و عدم التصريح بأسمائهن أو ألقابهن، يقول الحق ?:(1/48)
{قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ }
(هود:81)
{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
(التحريم:10-11)
4 - كما لم يأت ذِكر النساء في القرآن الكريم بصيغة الخطاب المباشر إلا في خطابه ? لنساء النبي ?، و في أمر التشريع الخاص بمهمة و دور المرأة الذي كان فيه التخبط و الضلال منذ فجر التاريخ و حتى يومنا هذا.
فكما أن الرسول ? كان الأسوة للمؤمنين، فإن نساءه رضي الله عنهن كن القدوة و الأسوة للمؤمنات، فجاء الأمر في هذه الآيات لهن خاصة و للمؤمنات عامة:
{ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً }
(الأحزاب:32-33)(1/49)
يأمر الله ? نساء نبيه ? أولاً بألا يخضعن بالقول لئلا يطمع الذي في قلبه مرض فإن الرجال تختلف مروءاتهم، و تتفاوت أخلاقهم، فعلى المرأة دوماً أن تكون حريصة فيما يصدر عنها من كلام، بأن يكون كلامها بعيداً عن الريبة، و يكون صوتها بعيداً عن الرقة المعهودة في النساء.
و يأمرهن ثانياً بأن يقررن في بيوتهن و لا يتبرجن أي لا يخرجن منها كما كانت تخرج نساء الجاهلية الأولى مختلطات بالرجال؛ لأن المرأة تكون أقرب ما تكون من طاعة ربها في بيتها، فمجال سعي المرأة المجدي هو بيتها. و جعل الله ? ثواب صلاتهن في بيوتهن أكبر منه في المسجد، و حتى في مسجد رسول الله ?، على عكس الرجال الذين يكون ثواب صلاة أحدهم في المسجد أكبر ثواباً من صلاته في بيته، كما سيمر معنا إن شاء الله ?.
عن عبد اللّه بن مسعود ? عن النبي ? قال: "صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها5 أفضل من صلاتها في بيتها".
رواه أبو داود و ابن خزيمة
و من ثم و بعد ذلك كله أمر الله ? نساء نبيه بإقامة الصلاة، و إيتاء الزكاة، و طاعة الله و رسوله.
و هذه الأوامر إن كان لأمهات المؤمنين رضي الله عنهن مباشرة فهي ملزمة لنساء المؤمنين أيضاً؛ لأن الأمر إن صدر للأعلى فاشتماله على الأدنى من باب أولى، إلا أن يكون هناك تخصيص مراد؛ و ما علمنا أن الله سبحانه قد أنزل قرآناً لأمهات المؤمنين و آخر للمؤمنات!.
هذا دور كل من الرجل و المرأة في هذه الأرض، و بأداء كل منهما لدوره يكون صلاحهما و صلاح الأرض و عمارتها، و إن كانت هناك بعض الحالات الخاصة التي يباح فيها المحظور لضرورة أو اضطرار، و ليس لإعراض عن الحق أو إصرار على الباطل، فإن الشرع لم يكن ليغفل عن بيان الحكم فيها، و ما كان ربك نسياً.(1/50)
و يجدر بالذكر أخيراً أنه في كتاب الله ? لم تُذكر من النساء باسمها إلا مريم عليها السلام، و ما ذلك إلا لاصطفائها على سائر نساء العالمين و جعلها و ابنها عليهما السلام آية للعالمين، لم تسبقها آية مثلها، و لن تتكرر بعدها إذ ولدته بأمر الله دون زواج، و إن الذكر الوحيد الذي نُسب إلى امرأة هو رسول الله عيسى ابن مريم عليه و على أمه أزكى الصلاة و السلام.
القوامة
قال تعالى:
{ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً }
(النساء:34)
تقول الآية الكريمة: إن مُطْلق الرجال قوامون على مطلق النساء، و ليس كما يفهم البعض أن الأزواج قوامون على زوجاتهم فحسب، بل إن الآباء قوامون على بناتهم و الأخوة قوامون على أخواتهم، و كل ذكر قوام على من يليه من النساء. و من لم يكن لها ولي من أهلها آلت ولايتها إلى الحاكم و هو رجل حتماً، فالقوامة دوماً للرجل على المرأة من إشراف و إدارة و خدمة و إنفاق.
و من ألوان القوامة قول الحق ?:(1/51)
{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
(البقرة:233)
و منها ما ذكره رسول الله ?:
"أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما
استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له".
رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم
فليس للمرأة أن تزوِّج نفسها بنفسها دون ولي يتولى ذلك من الرجال، فإن لم يوجد من أهلها من يقوم بهذا كان وليها الحاكم -و هو رجل حتماً- و لا يمكن لامرأة أن تعقد عقد نكاحها وحدها، أو تعقده امرأة أخرى، مهما علت مراتبها في العلم و الصلاح.
و منها أيضاً قوله ?:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ?: "لا تسافر امرأة مسيرة يوم تام إلا مع ذي محرم".
رواه الإمام أحمد
و ليس معنى القوامة هنا التحكم و السيادة و السيطرة المطلقة، بل هي الإشراف و الإدارة و العناية و القيام بالخدمة في حدود شرع الله ?. فإذا قيل: "إن فلاناً قائم بأمر ما" فإن هذا يعني أنه التزم بإتمامه، و إدارته، و القيام بكل ما في وسعه لتنفيذه فما بالك بقولنا "فلان قوام بالأمر" فكأن صيغة المبالغة تعني التأكيد على المسؤولية و التكليف الذي لا انفكاك عنه.(1/52)
هذا هو أمر الله ? في إشراف الرجال على أمر من في ولايتهم من النساء، و لكن ما حيثيات هذه القوامة في ضوء الآية الكريمة؟
أولاً : "بما فضل الله به بعضهم على بعض"
التفضيل هنا يشتمل على النساء والرجال معاً. فالنساء يفضلن الرجال بما أودع الله فيهن من فطرة و صفات و طبائع؛ تناسب دورهن في توفير السكن لأزواجهن و القيام بما لا يقوم به أحد إلا النساء من أمر الأطفال و الأسرة، كما فضل الله ? المرأة بالعاطفة المرهفة و الرقة و النعومة و الجمال، ليتسنى لها القيام بدورها بهذه الأدوات على أتم وجه.
و نظير ذلك فضَّل الله ? الرجال على النساء في القوة البدنية، و ضعف العاطفة و عدم طغيانها على عقولهم، ليكونوا بذلك أقدر على مواجهة الصعوبات و عراك الحياة، و القيام بإدارة أمور أسرهم الاقتصادية كطلب الرزق و غيرها من المسؤوليات و الأعباء التي تستدعي الخروج من مكان السكن.
فقوامة كهذه لهي من دواعي سعادة النساء و سرورهن، إذ كلف الله ? الرجال بالقيام بأمرهن ضمن حدود شرعه ?، و بما لا معصية فيه للخالق.
ثانياً : "و بما أنفقوا من أموالهم"
إن الخصائص التي زود الله ? بها الرجل ليكون قواماً، هي التي أهَّلته ليكون المكلف شرعاً بكسب الرزق و الإنفاق، فقد أوجب الشرعُ على الرجل في عقد الشركة الزوجية دفع الصداق و النفقة حتى على الغنية من النساء، و على الرغم من أن عقد الزواج فيه شركة متساوية بين الزوجين، و المتعة فيه متساوية، و لكن الإنفاق اقتصر على الرجل وحده، لأن القوامة من لوازمها الإنفاق.
قال رسول الله ? في خطبة الوداع:
"واتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم لا يملكن لأنفسهن شيئاً. وإن لهن عليكم حقا ولكم عليهن حقاً ألا يطئن فرشكم أحداً غيركم، ولا يأذن في بيوتكم لأحد تكرهونه، فإن خفتم نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف".
رواه الترمذي و ابن ماجه(1/53)
فللمرأة على زوجها و أبيها و أخيها و ابنها إطعامها مما يأكل، و كسوتها مما يلبس و إسكانها حيث يسكن، سواء كانت فقيرة أو غنية، و لم يكن تكليف الله ? الرجل بالإنفاق على المرأة من قبيل التوزيع العشوائي للأدوار و المهام، و العياذ الله، بل إن تكوين الرجل يستدعي أن يكون هو الذي يعمل و يشقى، و شقاؤه هذا هو مصدر الرزق له و لمن يعيل، و بالمقابل إن تكوين المرأة يستدعي أن تكون بعيدة عن هذا الشقاء، يأتيها رزقها و هي منعَّمة ساكنة في بيتها، بعيداً عن صخب الحياة و عراك كسب القوت، و بعيداً عن الفتنة و الافتتان.
و هذا الإنفاق هو مدعاة القوامة التي عبر عنها الرسول ? بكلمة "عوان عندكم" و معناها أسارى في أيديكم، و بقوله "لا يملكن لأنفسهن شيئاً" أي: إن إدارة أمرهن و القيام به على أوليائهن يخضعن لهم بما لا معصية فيه للخالق الحكيم.
ثالثاً : "الصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله"
إن الله ? جعل كلمة "و بما أنفقوا من أموالهم" أمراً خاصاً بالرجال دون النساء سواء كان الرجل زوجاً أو أباً أو أخاً أو عمَّاً كما بيّنّا، أما ما يقابل هذا من مهمة النساء فهو ما ذكره ? في قوله "فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله" أي أن المرأة الصالحة يجب أن تكون قانتة6 أي مطيعة لوليها لا تعصيه في أمر ما لم تكن فيه معصية لله ?.
و لذلك حرم الله ? زواج المرأة المسلمة من أهل الكتاب، إذ كيف يمكن أن تستقيم طاعتها له، و جُلُّ أمره في معصية الله ?، في حين أحل زواج المسلم بالمحصنات من أهل الكتاب.
و الأهم في ذلك أن نعلم أن القوامة لا يمكن أن تتحقق أبداً إذا لم يكن من تقوم بأمره طائعاً لك، فأول ما يُطلب ممن يُقام بأمره أن يكون طائعاً طاعة تامة لمن وُكِل إليه القيام بالأمر. و لنضرب مثالاً على ذلك، ولله المثل الأعلى...(1/54)
هَبْ أن قائداً أَمَرَ ضابطاً دونه بالقيام بأمر سرية من الجيش في تدريبهم و تعليمهم و .. و .. إلخ، فلو أنه أمره بهذا و لم يأمر الجنود بضرورة تنفيذ أوامر من عيَّنَه قائداً لهم، لتعذر على هذا الضابط أن يتم مهمته بنجاح، بل من الحتمي أن تخفق المهمة كلها. و إن عدم التزام الجنود بطاعة أمر الضابط الموكَّل بهم هو في حقيقة الأمرعصيان لأمر القائد الذي أوكل المهام لهم جميعاً، و لأضرَّ هذا بحال الجند و بمهمة الجيش بأكمله.
لذا كان لزاماً على القائد أن يجمع الجنود، و يُعْلِمهم بأنه قد أمر هذا الضابط عليهم ثم يأمرهم بأن عليهم طاعته في كل أمر و نهي حتى تنفذ المهمة بنجاح.
و نعلم بديهة، أن هذا القائد قد اختار الضابط المناسب، و زوده بالمعلومات و المناهج المناسبة، و كلفه بالمهمة لمصلحة عالية، فما ظننا بربنا الحكيم العليم الرحيم؟!
كما يجب أن تكون المرأة حافظة للغيب، و حفظ المرأة لغيب زوجها أو أبيها أو أخيها أو أياً كان القائم بأمرها، هو ما قال فيه رسول الله بياناً منه ? لمعنى الآية الكريمة:
"خير النساء من تسرك إذا أبصرت، وتطيعك إذا أمرت، وتحفظ غيبتك في نفسها ومالك"
رواه الطبراني7
في الآية الكريمة و في حديث رسول الله ? نلاحظ التركيز على أمر هام جداً، ألا وهو واجبُ حفظ الغيب الذي أنيط بالمرأة، فالله ? جعل حفظ الغيب من صفات المرأة الصالحة، و الرسول الكريم أكَّد هذا المعنى.
فما هو هذا الغيب؟ و كيف تحفظ المرأة الغيب؟
لما كان الإنفاق لازماً للرجل فقد وجب عليه(غالباً) أن يخرج من بيته ساعياً في طلب الرزق، فيغيب الرجل عن بيته نهاره إلى أن يعود إليه في المساء للسكن و بالتالي أصبح الغياب عن البيت من لوازم الرجل، و بذلك يكون غيب الزوج (أو الأب أو الأخ) هو مغادرته بيته ساعياً في طلب الرزق.(1/55)
و الله ? و رسوله ? جعلا لزاماً على المرأة الصالحة أن تحفظ غيب زوجها في نفسها و ماله، و لا يكون هذا إلا إذا قرَّت المرأة في بيتها متجنبة الاختلاط بالرجال و قامت بكل ما من شأنه توفير مال زوجها، و إعداد ما يؤمن سكنه بعد شقاء يومه؛ ليقوى على معاودة الكرة في اليوم التالي.
و يجب في هذا المقام التنويه إلى معنى قول الحق ? "بما حفظ الله"؛ أي: أن المسلمة الصالحة لا تكون صالحة إلا إذا اتبعت منهج الله ? في حفظ الغيب، فلا تتبع ما يمليه عليها شياطين الإنس و الجن من تفلت من شرع الله ? و تدعي أنها صالحة أو أنه يمكن حفظ الغيب بمنهج آخر غير منهج الله سبحانه، أفضل منه أو مساوِ له و العياذ بالله.
فترى إحداهن، ممن يدعين الالتزام بشرع الله ? تقول: "إنني أخرج بكامل زينتي دون أن أدع فرصة لشاب أن يتحرش بي، و إن فعل فلا ألقي له بالاً"!.
و غيرها تقول: "أنا أخرج كل يوم إلى الجامعة أختلط بالشباب و أتجاذب أطراف الحديث معهم دون أن أفتتن بأحدهم، و دون أن أعطي أحدهم الفرصة في التمادي فوق علاقة الصداقة أو الزمالة، و لا أدعهم يفتنون بي"!.
و تقول أخرى: "إنني أخرج من بيتي كل يوم إلى عملي لأعمل بين مجموعة من الشباب و الشابات و كأننا أسرة واحدة، و أعامل الجميع و كأنهم أخوة لي ولا أري ما يدعو للفتنة و ما زلت محافظة على نفسي حتى الآن"!.
إن هذه الإدعات الكاذبة في حفظ الغيب هي المخالفة الصريحة لأمر الله سبحانه و أمر رسوله الكريم، و لا تغني من الحق شيئاً، و لا تكون صاحبتها إلا ممن اتخذ كتاب الله و سنة رسوله ظهرياً، إذ أرادت حفظ الغيب بما تهوى نفسها و ليس بما حفظ الله ?.
للرجال على النساء درجة(1/56)
إن من معاني القوامة: الإدارة و الإشراف، أي أن الرجل هو الذي يُدبِّر أمر الأسرة و له وحده قيادتها و توجيهها مادام ذلك منصبَّاً فيما يرضي الله عز و جل. و في هذا المعنى كلف الله ? الرجل بخطبة المرأة، و أبقى المرأة بعيدةً عن طلب الرجل و جعل كرامتها في أن تكون هي المطلوبة.
و في هذا المعنى أيضاً جعل الحق ? عصمة الزواج في يد الرجل، قهو الذي يقطع الزواج و ينهيه و هو يردُّ زوجته بعد أن طلقها و لا يكون ذلك للنساء. يقول ? في كتابه العزيز:
{ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
(البقرة:228)
أي: أن الزوج إذا طلَّق زوجته، ثم أراد أن يردها فله في ذلك كل الحق، و ليس لوليها ولا لها أن ترفض العودة إلى عصمته إن كان يريد الإصلاح و أداء الذي عليه بالمعروف.
و جعل الله ? الرجال أرفع من النساء درجة، هي درجة الإدارة و الإشراف.
و من معاني هذه الدرجة قول الحق ?:
{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ }
(التحريم:10)
فهذه التحتية ليست من قبيل التفضيل و التعظيم، بل هي من قبيل التنظيم و توزيع المسؤوليات.(1/57)
ففي أمورنا الدنيوية جعلنا لكل مصلحة مديراً يوجِّه أمورها، و تحته نائب عنه و تحت النائب رؤساء للأقسام، و تحتهم موظفون و هكذا.. . و لا ينتظم حال أي مصلحة من المصالح إلا بهذا الترتيب في كل الأرض بطولها و عرضها. و لكن المدير و النائب و رؤوساء الأقسام كلهم خاضعون لقانون المصلحة العامة، و يعاقب مسيئهم مهما علت رتبته، و يكافأ محسنهم مهما انخفضت به الدرجات، و المقياس هو إتقان أحدهم للعمل الموكل إليه المناسب لمؤهلاته و مواهبه، و لا نسمح أن يقوم أحدهم بعمل الآخر بأي شكل.
ففي الأسرة المسلمة على الأبناء جميعاً طاعة الوالدين منذ الطفولة و حتى الوفاة و لا تنفك هذه الطاعة عنهم، و على الزوجة طاعة زوجها، و لا تنفك هذه الطاعة عنها، و ليس هذا مغنماً للرجل و لا مغرماً للزوجة و الأبناء، بل هو من قبيل الحكمة في توزيع الأدوار، و لا بد من قائد واحد لكل سفينة.
فجعل الله ? إدارة أمر الأسرة للرجل، و جعل المرأة تحته، و ألزمها طاعته و جعل الأولاد تحت الأم و ألزمهم طاعتها، و جعلهم جميعاً خاضعين لحكمه و لقانونه ? في قوله:
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }
(الحجرات:13)
فإذا أخطأ الرجل، و خرج عن الالتزام بقانون الله ? الذي يخضع له الجميع تسقط في حقه طاعة أسرته، لأن القانون الإلهي الذي أعطاه هذه الدرجة ينزعها منه، ثم يخلع عنه الطاعة الواجبة له ممن تحته من زوجة و أولاد في حال خروجه عن قانون ربه إذ:
"لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق".
رواه الإمام أحمد(1/58)
و بهذا نجد أن الأمر كله يؤول أولاً و آخراً إلى طاعة الواحد القهار، الذي لا يُسأل عما يفعل و هم يُسألون، الذي اقتضت حكمته أن يرتب الواجبات و الحقوق في المجتمع الإسلامي ليرحم عباده، ويسعدهم، و ليختبرهم أيهم أحسن عملاً.
في حديث رسول الله
صلى الله عليه و سلم
لقد كان رسول الله ? تطبيقاً حياً لوحي الله ?، و بياناً لأحكام القرآن الكريم قولاً و عملاً و خلقاً. و إذا استعرضنا هاتين الآيتين الكريمتين من كتاب الله العزيز؛ نجد أنه إذا التزم المؤمنون و المؤمنات بما أمرهم الله ? فيهما كان من المستحيل في المجتمع الإيماني اجتماع المرأة و الرجل في عمل معاً و لو اضطراراً، ناهيك عن اختلاط اللهو و ما شابهه.
{ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواً مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
(النور:30-31)(1/59)
إن الشارع لم يتدخل في الأمر بافعل و لا تفعل إلا عند مرحلة النزوع إلى الفعل فمثلاً لم يمنعك الشارع أن تدرك بحواسك وردة في بستان، فتشم ريحها أو تعجب بمنظرها، و لم يمنعك أن تجد حب الورود في نفسك، و لكن إذا أردت أن تمد يدك لتقطف وردة من مكانها منعك الشرع من ذلك إلا أن تؤدي ثمنها، أو تستأذن صاحبها. و تجد هذا في الأمور كلها إلا في أمر واحد ألا و هو علاقة الرجل و المرأة.
فقد تدخَّل الشرع من أول الأمر فمنع المسلم من أن يدرك بعينيه و حواسه، و ذلك لطفاً منه ? بخلقه، فقد علم الله ? أن الرجل إذا أدرك بحواسه فنظر إلى المرأة، أو شم عطرها، فلا بد أن تتحرك فيه الغريزة، فيجد في قلبه حباً أو شهوة، و عندها يكون النزوع القسري الناجم عن الشهوة الذي لا يستطيع أن يرده أو يتحكم فيه و الذي لا تكون عواقبه إلا وخيمة في الدنيا و الآخرة.
فرحم الله ? المؤمنين و المؤمنات من مغبة هذا النزوع القسري للغريزة بأن قطع عليهم السبيل من المرحلة الأولى (الإدراك أو النظر) و هو الحكيم العليم بخلقه.
و سنبين -إن شاء الله تعالى- مستعينين بهاتين الآيتين الكريمتين و بأحاديث رسول الله ? حقوق و واجبات النساء و الرجال في دين الله ?.
نظر الرجل إلى المرأة
إن الجمال نسبي، و ما يثير الرجل من المرأة أمر نسبي أيضاً. و إن أول ما يثير الرجل من المرأة، و يلفت انتباهه هو جمال وجهها ثم حسن جسمها. فأراد الله ? أن يجنِّب الرجال مغبة ما ينجم عن الفتنة بالنساء، فأمرهم بالغض من أبصارهم. و إن عرضت للرجل امرأة فنظر إليها النظرة الأولى حرم عليه أن يتبعها بالنظرة الثانية و جعل له في غض بصره الأجر الكبير، و ما ذلك إلا لما في إثارة الشهوات من ضرر كبير على المؤمن و على الأعراض في المجتمع.
لقد بين لنا الرسول الكريم ? آثار إثارة الشهوة بالنظر إلى النساء على المؤمن.(1/60)
عن جابر أن رسول الله ? رأى امرأة، فأتى امرأته زينب وهي تمعس منيئة لها فقضى حاجته، ثم خرج إلى أصحابه فقال: "إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله
فإن ذلك يرد ما في نفسه".
رواه مسلم و الترمذي و أبو داود و أحمد
جعل الله ? -جلَّت حكمته- استمرار بقاء البشر في التقاء الذكر بالأنثى، و لما كان في إنجاب الأولاد و تربيتهم تعب و مشقة، ربط ? التقاء الذكر بالأنثى بمتعة كبيرة تنسيهم تلك المتاعب. و فطر ? كلاً من الذكر والأنثى على الرغبة في الطرف الآخر، و جعل الشهوة أداة لهذا اللقاء لا يقدرون على ردها أو تجاهلها.
فإذا نظر الرجل إلى المرأة وجد في نفسه، فإن كان ذا زوجة فعل كما فعل رسول الله ?، و لكن المغبة فيمن لا زوجة له، فما من سبيل له ليرد ما نفسه إلا أن يكبت، أو أن يخوض في أعراض الناس، أمران أهونهما مُهلك، و لذلك قال ?:
"إن المرأة تقبل في صورة شيطان، و تدبر في صورة شيطان"
انظر تخريج الحديث السابق
أي أن الشيطان لا يجد سبيلاً إلى غواية المؤمن أيسر من شهوته للنساء، فإذا خرجت المرأة من بيتها استبشر الشيطان، و شرع يزينها لغواية كل من يقابلها من رجال و قد أقسم الشيطان بعزة الله ? أن يغوي عباده أجمعين في قوله:
{ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ }
(الحجر:39)
{ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ }
(صّ:82-83)
لن يجد الشيطان سبيلاً إلى غواية الرجال أسرع و أنجع من الفتنة بالنساء، لما أودع الله ? من شهوة فيما بينهم تفوق كل شهوة، و لذة تفوق كل لذة. و اقرأ إن شئت قول الرسول ?:
"ما تركتُ بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء".
رواه البخاري ومسلم(1/61)
و لذلك توجه الحق أولاً إلى الرجال بأمر الغض من أبصارهم، و بيَّن رسول الله ? كيف يكون غض البصر من المؤمن، فإن هو استطاع ألا ينظر إلى امرأة كان ذلك خيراً له، و إن تعذر ذلك، و وقعت عيناه على امرأة فجأة و دون قصد منه، فله النظرة الأولى و عليه أن يكف بصره، فلا يتبعها بالثانية. و اقرأ قوله ? لعلي كرم الله وجهه.
"عن بريدة قال: قال رسول الله ? لعلي: "لاتتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة".
رواه ابن أبي شيبة وأبو داود والترمذي والبيهقي
و جاء في صحيح مسلم و غيره:
عن جرير بن عبد اللّه البجلي ? قال: سألت النبي ? عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري.
رواه مسلم و أبو داود والترمذي والنسائي
و زادهم رسول الله ? ترغيباً في غض البصر، فأطلعهم على جزيل ثواب الله ? عليه:
عن أبي أمامة عن النبي ? قال:"ما من مسلم ينظر إلى امرأة أول رمقة ثم يغض بصره إلا أحدث الله له عبادة يجد حلاوتها في قلبه".
رواه الإمام أحمد والحكيم و الترمذي والطبراني وابن مردويه والبيهقي
هذا شرع الله ? و سنة رسوله ? في الحفاظ على طهارة المجتمع من جانب الرجال.
و نسأل كاتب كتاب "المرأة" كيف يستقيم العمل في مكان واحد يجتمع فيه المؤمنون و المؤمنات، بحيث لا ينظر المؤمن إلى المؤمنة التي تعمل معه سحابة نهاره إلا النظرة الأولى؟!
كيف يستقيم العمل، و تُؤمَن الفتنة في مكان العمل الذي يختلط فيه النساء بالرجال و هم يتراشقون طيلة يومهم سهام الشيطان المسمومة، و هو يستفزهم بصوته و تؤزهم جنوده أزاً؟
هل ينكس المؤمنون رجالاً و نساءً وجوههم إلى الأرض طوال النهار؟ أم هل يغمضون عيونهم و يعملون كالعميان؟
ما الحل الإسلامي في رأي الكاتب لهذه المعضلة التي تنجم عن تشجيع المرأة على الاختلاط بالرجال في كل مجالات الحياة؟
و هل يمكن أن يكون الحل هو ما ارتآه الكاتب حيث قال:(1/62)
"و على سبيل المثال، فإن الله فرض على المرأة التقيد بمظاهر الحشمة، و حرم عليها الخلوة بالرجال الأجانب كما حرم عليهم ذلك، فلا يجوز لها أن تمارس من الأعمال ما قد تضطرها إلى الخلوة المجرمة أو إلى التخلي عن حشمتها المطلوبة. كما أنه لا يجوز للرجل أن يباشر من الوظائف أو الأعمال ما قد يزجه في خلوة محرمة أو يعرضه للفتنة من جراء اختلاطه بنساء غير ملتزمات بضوابط الحشمة المطلوبة."
(صفحة 64).
هل يكون الحل بأن يتخلى الرجال عن أعمالهم، و أن يتخلى الطلاب عن دراستهم و يقروا في بيوتهم حتى لا يتعرضون إلى الفتنة من جراء الاختلاط بنساء غير ملتزمات بضوابط الحشمة المطلوبة في أماكن عملهم و دراستهم؟
فإذا نظرت حولك في كل مدن العالم، لن تجد في الطرقات إلا ما يعرض الرجال إلى الفتنة، و في معظم أماكن العمل و في جميع الجامعات، اللهم إلا ما ندر في بعض المدن كما في المملكة العربية السعودية، و مُدن بعض الدول الإسلامية، حيث تراعي النساء فيها ضوابط الحشمة المطلوبة إسلامياً، فلا يكتفين بتغطية شعورهن بل يغطين وجوههن، و خاصة في المدينة المنورة مدينة رسول الله ?، كما تراعى فيها ضوابط الاختلاط، فلا اختلاط بين الجنسين في الجامعات و المدارس، و ما أجدر المسلمين بالاقتداء بهم و هم أهل الأرض الطاهرة و الأقرب إلى إرث رسول الله ?.
نظر المرأة إلى الرجل
لمْ ينسَ الله عز و جل النساء من المساهمة في طهارة المجتمع الإيماني، بل قد حَمَّلهُن الجزء الأعظم منها، فأمرهن في الآيات الكريمات السابقات بأن يغضضن من أبصارهن تماماً كما أمر الرجال.
و بين الرسول الكريم ? ضرورة غض المرأة بصرها عن الرجال فقال:
عن أم سلمة أنها كانت عند النبي ? وميمونة فقالت: بينا نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم، فدخل عليه فقال رسول الله ?: "احتجبا عنه" فقالت: يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا؟ فقال: "أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه؟!".(1/63)
رواه أبو داود والترمذي والنسائي والبيهقي
فبما أن الرجال و النساء اشتركن في الشهوة التي أودعها الله ? فيهم لضرورة استمرار الحياة، فإنه شرع لهم معاً ما يرحمهم من التعرض لما يخرج بهذه الشهوة عن الإطار الطاهر الذي وضعه لإنشاء المجتمع الإيماني.
و غض البصر هو كما رأينا سد لأول منافذ الشيطان الرجيم على بني آدم، فإذا غض الإنسان بصره حفظ نفسه من وساوس الشيطان في التفكير بارتكاب ما حرم الله ?، فمن لا يرى بعينه لا يمكن أن يجد في قلبه، أو ينشغل فكره بما يرى و لم تثر شهوته، فيحفظ بذلك فكره و جهده، و يصرفهما في التزام أمر الله ? و العمل النافع.
يقول الكاتب في كتابه في بيان الشرط الذي وضعه لعمل المرأة، و سماه سلم الأولويات:
"و ليكن معلوماً أن هذا التيسير الذي حققه الشارع أمام المرأة، بين يدي اتباعها لما يقتضيه سلم الأولويات.. .
و على سبيل المثال فإن الزوجين إذا اقتنعا بأن الوظائف البيتية أقل من أن تملك على الزوجة كامل وقتها، فلا مانع شرعاً من أن تنفق فضول وقتها في أي عمل صالح تؤديه خارج المنزل، على أن تأخذ بعين الاعتبار الآداب و الضوابط التي يجب أن تلتزم بها. حتى إذا رأيا أن عملها هذا يخل بالأهم من ضرورات رعاية الأسرة و حمايتها من الآفات التي تتربص بها، كان عليهما أن يتخذا القرار المتفق عليه مع مبدأ تدرج المصالح الاجتماعية." (صفحة 66-67).
إن الوظائف البيتية التي تُطلب من المرأة تُعد بحد ذاتها عملاً كاملاً قائماً بذاته. و أن نطلب من المرأة أن تمضي فضول وقتها خارج البيت لهو من باب العمل الإضافي الذي يرهق حتى الرجال.
فما تقوم به المرأة من ترتيب و تنظيف و عناية بالأثاث و غسيل و كي و إعداد الطعام و غسيل الأطباق؛ لهو كاف بأن يشغل كل وقتها، و كم من امرأة تستأجر من يعاونها في واجباتها هذه.(1/64)
هذا إن لم تقم المرأة بمساعدة زوجها في توفير بعض المال، فتخيط لها ثوباً، أو تنسج له قميصاً بدلاً من شراء كل احتياجاتها من السوق. فإن لم تكن تجيد مهنة فَلْتُمضِ فضول وقتها في تعلم بعض المهن مثل الخياطة و الحياكة التي هي من أصلح المهن للنساء، أو في ممارسة هواية تفيد بها و تستفيد، هذا إن كانت قد انتهت من تعلم دينها أو تعليمه لأهلها و صاحباتها.
أما إن كان للمرأة طفل واحد فيصبح عمل نهارها شاقاً، إذ عليها أن تقوم بكل ما ذكرنا إضافة للعناية بالطفل، و عليها أن تقوم بعمل المربية و الطباخة و خدمة البيت وحدها، و هيهات أن تجد ثانية واحدة لتخرج فيها من مسكنها مكان عبادتها و جهادها، و تراها تنتظر عودة زوجها بفارغ الصبر ليمد لها يد العون.
نعود لموضوعنا، و هو نظر المرأة إلى الرجال و علاقته بسلَّم الأولويات، آخذين بعين الاعتبار الضوابط و الآداب التي يجب ألا تخلَّ بها المرأة، و لنتخيل معاً كيف يمكن للنساء أن يعملن بين الرجال بشرط أن يحافظن على الضوابط و الآداب الإسلامية!.
أولاً: يغضضن من أبصارهن:
يجب ألا تنظر المرأة إلى أي رجل من لحظة قدومها إلى العمل، بل من لحظة مغادرتها بيتها حتى ساعة عودتها إليه، و عليها أن تمضي سحابة نهارها منكسة الرأس، أو مغمضة العينين، فهل نتخيل مدى صعوبة، بل استحالة التقيد بهذا الأدب الإسلامي لمن تريد الاختلاط بالرجال!!.
ثانياً: لا تخضعن بالقول:
على المرأأة أن تتوخى الحرص في كل حركة و سكنة تقوم بها في دائرة عملها بين الرجال، فيجب أن تتكلف تغيير رقة و عذوبة صوتها سحابة نهارها إلى أن تعود إلى بيتها، و تقوم بذلك يومياً.(1/65)
و من باب أولى لا يجوز لها أن تضحك حتى لو كان هناك ما يستدعي الضحك من إلقاء نكتة، أو حادث طريف جرى في موقع العمل، بل عليها ألا تبتسم مجرد ابتسامة، لأن مجرد تبسمها أكبر أثراً في إطماع من في قلبه مرض من خضوعها بالقول، و هذا يجعل المرأة تتصرف بخلاف فطرتها و مزاجه،ا فتبدو متصنعة كئيبة، جامدة، بليدة الحس، و كأنها قادمة من كوكب آخر!. فما بالك إذا علمت أن العلماء قد حرَّموا على المرأة أن تلقي على الرجال تحية الإسلام، أو أن تردها.
ثالثاً: لا يبدين زينتهن:
إن أحدنا ليحب أن تكون رائحته زكية حتى لا ينفر منه مَن حوله، فيتعطر كلما أراد الخروج من بيته، فكيف بالمرأة التي فُطرت على حب الزينة. لكن الشرع أمر المرأة أن تكون دوماً تفلة إذا خرجت من بيتها، فلا تتعطر، بل تغتسل من عطرها قبل خروجها و كأنها تغتسل من الجنابة، و ليتحمل كل الزملاء في العمل، أو ليسدوا أنوفهم ثماني ساعات من النهار!.
كما يجب عليها أن تدع الزينة بكل أنواعها، و حتى الثياب الجميلة التي قد تلفت الأنظار إليها.
أخبروني بربكم، كيف يستقيم عمل المرأة أو دراستها بين الرجال بهذا الشكل يا أمة محمد ? إن كنا نتحرى التمسك بالآداب و الضوابط الإسلامية التي يجب أن تلتزم النساء بها؟. كيف نطلب ممن تُنشّأ في الحلية أن تدع الحلية و تتصرف كالرجال؟ أليس هذا تشبهاً بهم؟ أليس هذا تغييراً لخلق الله ? ؟
إن المرأة كلمة لا تنفصل عن الجمال والرقة و الزينة، فكيف يمكن لها أن تقوم بعملها بين الرجال آخذة بعين الاعتبار الآداب و الضوابط الإسلامية؟
{ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ * وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ }(1/66)
(الزخرف:17-19)
إن الكاتب لا يرى من هذه الضوابط و الآداب إلا أمرين لا ثالث لهما؛ ضارباً بعرض الحائط سواهما من شرع الله ? فيقول:
"و على سبيل المثال، فإن الله فرض على المرأة التقيد بمظاهر الحشمة، و حرم عليها الخلوة بالرجال الأجانب كما حرم عليهم ذلك، فلا يجوز لها أن تمارس من الأعمال ما قد تضرها إلى الخلوة المحرمة أو إلى التخلي عن حشمتها المطلوبة.. كما أنه لا يجوز للرجل أن يباشر من الوظائف أو الأعمال ما قد يزجه في خلوة محرمة، أو يعرضه للفتنة من جراء اختلاطه بنساء غير ملتزمات بضوابط الحشمة المطلوبة.
فإذا انتفى هذا المحذور، الذي هو محذور في حق كل من الرجل و المرأة كما قد رأيت، فللمرأة أن تمارس أي وظيفة من الوظائف المشروعة بحد ذاتها، كما أن لها أن تباشر أي عمل من الأعمال المباحة في أصلها." (صفحة 64).
إن انتفاء المحذور عند الكاتب يكون بالتقيد بمظاهر الحشمة، و تحاشي الخلوة فقط
و إن تحريم الله ? على المرأة أن تنظر إلى الرجل، و تحريم نظر الرجل إلى المرأة ليس من الشرع في شيء، من وجهة نظر الكاتب!!.
و عملياً لا ينتفي المحذور إلا إذا عمدت المرأة إلى تغطية كامل جسدها من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها، فلا يرى رجل منها شيئاً، إضافة إلى إغماض عينيها و إطباق فمها و عدم الانفعال بما يدور حولها. و لكن الكاتب لا يعجبه هذا، و يرى في تغطية وجه المرأة رأياً آخر إذ يقول:
"أما ما زاد عن ذلك من قيود الاحتجاب عن المجتمع، أو إخفاء الجسم كله من الفرق إلى القدم في أردية تعوق النشاط، و تحجب الرؤية، و تثقل الحركة، فسواء دخل في مجال الحيطة و الورع ، أو تم الأمر به، و التداعي إليه بدافع التزيد و الابتداع فهيهات أن تكون مبادئ الشرعة الإسلامية هي المسؤولة عنه أو المتحملة لنتائجه. و على كل فليس هذا هو الوضع الذي ينهض عليه الواقع العملي عادة للمجتمعات الإسلامية." (صفحة 165).(1/67)
فالكاتب لا يرضى بأن تغطي المرأة وجهها، لأنه يرى أن فتنة الرجال تكون في كل شيء منها إلا وجهها، فهو يرى أن الفتنة تبدأ من كشف الشعر و تنسيقه حيث قال:
"إن ما يدخل في معنى إبراز المفاتن أمر نسبي و له درجات متفاوتة، تبدأ بكشف الشعر و تنسيقه، ثم يمكن أن يمتد ذلك و يتسع إلى النهاية." (صفحة 158).
إن الكاتب يتفق معنا بأن الجمال نسبي، و لكنه تارة يرى وجه المرأة مبعث فتنة للرجال، و تارة ينفي ذلك مناقضاً نفسه:
"إن المسألة تظل نسبية، و ذلك لأن طبائع الرجال مختلفة، و ظروفهم التي تبعث على التأثر و عدمه متنوعة." (صفحة 159).
و بعد عدة صفحات أيضاً عندما يقول:
"هذا مع العلم بأن المرأة إذا علمت أن في الرجال من ينظرون إلى وجهها بسائق تمتع و افتتان، و لا ينقادون لما أمر الله به من غض البصر، فإن واجبها أن تصدهم عن الاسترسال في نظراتهم المحرمة، فإن لم تتمكن من ذلك فإن عليها -فيما ذهب إليه كثير من الفقهاء- أن تحجب وجهها بطريقة ما." (صفحة 165).
هنا يعترف الكاتب أن إبراز المفاتن لا يبدأ بكشف الشعر و تنسيقه فقط، بل يبدأ قبل هذا بالنظر إلى الوجه، رغم أنه كان قد سَلَّمَ مُسبقاً بأن الحكمة من الحجاب الشرعي (الذي لايغطي الوجه) هي حماية نفوس الرجال الناظرين عندما قال:
"و قد تبين أيضاً أن شرعة الحجاب لا تهدف إلى خلق الفضيلة في كيان الفتاة..
.. و لكنه شرع حماية لنفوس الرجال الناظرين إليها لئلا تستثيرها الغرائز، فتحجبهم عن عقلانية المرأة، و عن جهودها معهم في الفكر و العلم و البناء، و لكي لا يتيهوا عن مستوى أدبها و شعرها، منحطين إلى ما قد رأوه بأعين غرائزهم، من جمال شعرها و المثير من زينتها." (صفحة 172).
سبحان الله! كيف أسقط دعواه هذه بلسانه و قلمه، فناقض نفسه بنفسه عندما أقر بأنَّ وجه المرأة سبب من أسباب الفتنة!.(1/68)
و نقول نحن للكاتب: إن جمال شعر المرأة لا يعني شيئاً، و لا قيمة جمالية له دون الوجه و الرأس الذي يحمله، و إن كل مفاتن المرأة تكاد لا تعني شيئاً في الفتنة دون هذا الوجه، الذي اعتبر الكاتب تغطيته ابتداعاً و تزيداً في دين الله ?!.
و من آراء الكاتب التي يستحيل تطبيقها، أن على المرأة أن تنظر في عيون كل من ينظر إليها من الرجال، و من ثم تقوم بقراءة نظراتهم و تحليلها، فإن وجدت فيهم من ينظر إليها بعين الافتتان فعليها أن تقوم بصده.
و مع ذلك لم يبين لنا الكاتب الطريقة التي تقوم بها المرأة بصد المفتونين من الرجال، فهل تصرخ بهم محذرة؟ أم تهددهم بالضرب؟ أم تشير لهم أن كفى؟ أم تومئ إليهم بعينيها؟
ثم إن لم يستحِ أولئك المفتونون، فيرى الكاتب أن عليها أن تحجب وجهها، و لكن كيف؟ و هو يدعي أن تغطية الوجه من الابتداع و التزيّد!!، و يقف الكاتب عند هذا الحد من اقتراح الحلول، و لا يبيّن لنا الطريقة، و لكنه يعلم أنه ثمة طريقة ما لذلك و قد ضنَّ على المؤمنات بها فلم يدلهن عليها!.
ففي اعتقاد الكاتب أن تغطية المرأة لوجهها أمر غير حضاري، إذ أنّ قطعة القماش التي تغطي الوجه، و التي لا تزيد مساحتها عن بضعة سنتمترات مربعة، و لا يزيد وزنها عن بضغ غرامات، تشكل عائقا كبيراً لأي نوع من أنواع النشاط، و تحجب الرؤية، و تثقل الحركة، كما أنها تشكل باباً من أبواب الابتداع، و لا تمتُّ للإسلام بصلة كما ذكر الكاتب، فقال بالحرف الواحد:
"أما ما زاد عن ذلك من قيود الاحتجاب عن المجتمع، أو إخفاء الجسم كله من الفرق إلى القدم في أردية تعوق النشاط و تحجب الرؤية و تثقل الحركة، فسواء دخل في مجال الحيطة و الورع، أو تم الأمر به و التداعي إليه بدافع التزيد و الابتداع فهيهات أن تكون مبادئ الشرعة الإسلامية هي المسؤولة عنه أو المتحملة لنتائجه. و على كل فليس هذا هو الوضع الذي ينهض عليه الواقع العملي عادة للمجتمعات الإسلامية." (صفحة 165).(1/69)
و كما نعلم جميعاً فإن غطاء الوجه الذي وصفه الكاتب بهذا الوصف8، هو نفسه الذي يضعه الطبيب الجراج الماهر عند ممارسة عمله المعقد و بالغ الدقة، و فوق ذلك لا يؤدي الطبيب عمله هذا دون أن يلبس القفازات، و يرتدي الجلباب الخاص بغرفة العمليات، و هو لا يفعل هذا من أجل مرضاة ربه أو خشية عقابه، بل من أجل كسب رزقه فحسب، و كذلك يقوم بارتداء اللباس ذاته الممرضون و الممرضات و جُلّ من يعمل في مجال المستشفيات و المخابر، و لا ينكر أحد عليهم ذلك، و لا تعيقهم ملابسهم عن أداء مهامهم، بل لا يمكنهم القيام بأعمالهم دونها!.
بل إن الرجل في اليابان أو المرأة إن كانت مصابة بالزكام، تقوم طوعاً بتغطية وجهها قبل توجُّهها إلى عملها، أو إلى أي مكان آخر، دون أن تشكل قطعة القماش التي تغطي بها وجهها عائقاً عن أي نشاط تريده، و دون أن تثقل حركتها!، و لكنْ الويل كل الويل للمسلمة إن غطت و جهها تديناً و التزاماً لأمر ربها سبحانه!!.
فنرى أن الكاتب لمْ يقترح حلاً، و لا هو رضي بالحل الذي تقوم به بعض المؤمنات الملتزمات حقاً في أيامنا هذه من تغطية لوجوههن حفاظاً على طهر قلوبهن و قلوب المؤمنين، بل قد اتهمهن بالابتداع كما مر معنا.
فهل كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مبتدعة أو متزيدة في دين الله ?؟!
أليس الحجاب الذي لم يعجب الكاتب، هو نفسه حجاب أم المؤمنين رضي الله عنها؟! عندما قالت:
وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني، وكان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي، والله ما تكلمنا بكلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته، فوطئ على يدها، فقمت إليها فركبتها،
فانطلق يقود بي الراحلة
رواه البخاري و مسلم(1/70)
و هل من امرأة على وجه الأرض عرفت معنى الحجاب الإسلامي أكثر من أمهات المؤمنين أزواج رسول الله ?؟!! و ما نزلت آية الحجاب إلا عليه ? و في بيوتهن و أول من أُلزم بها كنّ أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن لمكانتهن من رسول الله و لأنهن الأسوة و القدوة للمؤمنات.
أفبعد أن قالت أم المؤمنين في حديثها: "فخمَّرتُ وجهي بجلبابي"، و بعد أن قالت: "فعرفني حين رآني و كان رآني قبل الحجاب"، يدَّعي مؤمن أن غطاء الوجه تزيّد أو ابتداع في دين الله؟!!.
ألا ينبغي للمؤمن أن يسأل: لماذا كل هذا التوضيح و التبيين يا أمّ المؤمنين -رضي الله عنها- في قولكِ "فعرفني حين رآني و كان رآني قبل الحجاب"؟
و مصداقاً لما أخبرَنا به ربنا سبحانه من أن الباطل زاهق بنفسه، نجد أنّ أفكار الكاتب و استنتاجاته تتضارب فيما بينها ويدحض بعضها بعضاً، فتارة يرى الكاتب أن الفتنة تبدأ من كشف الشعر و تصفيفه، و الوجه لا علاقة له بإثارة الفتنة، و تارة أخرى يرى أن الرجال ينظرون إلى وجه المرأة بسائق التمتع و الافتتان، فعلى المرأة أن تحجب وجهها بطريقة ما لا يعلمها أحد، و لكنه يرى أنها حتماً ليست الطريقة التي ابتدعتها بعض المؤمنات اللواتي يغطين أجسادهن من الفرق إلى القدم.
سبحان الله! كيف يصدر مثل هذا التخبّط عن عالم مثله؟!.
و نقول: حتى لو غطت المرأة كامل جسدها فلن ينتفي المحذور الذي يتحدث عنه الكاتب، إذ لا يكفي ألا ينظر الرجل إلى جسد أو وجه المرأة، بل كما مر معنا يجب ألا تنظر المرأة إلى الرجل. و إذا تخيلنا طريقة للرجل يخفي بها وجهه عن نظر النساء، لرأينا أن الحياة في ظل الإسلام مستحيلة فوق هذا الكوكب، و العياذ بالله.
{ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ }(1/71)
(النور:30-31)
المرأة و الحشمة
نلاحظ فيما يلي من الآيتين الكريمتين تساوي الرجال مع النساء في الأمر بغضِّ البصر و حفظ الفرج، و انتهى الأمر بالنسبة للرجال عند هذا الحد، و لكنه زاد على ذلك في النساء. فلو نظرنا إلى الفرق بين حجميّ الآيتين الكريمتين التاليتين؛ لعرفنا أن ما على النساء من واجبات في هذا الموضوع يفوق بكثير ما على الرجال.
{ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
(النور:30-31)
ففوق الأمر بغضِّ البصر و حفظ الفرج، زاد الأمر للنساء المؤمنات بستر المفاتن و بتحديد مواصفات الثياب و طريقة ارتدائها، و بتجنب كل ما من شأنه أن يلفت انتباه الرجل إليهن حتى الصوت الذي يصدر من حليهن و زينتهن. و زاد الأمر للنساء أيضاً بتحديد الرجال الذين يسمح للنساء أن يظهرن لهم زينتهن فرداً فرداً.(1/72)
فإذا كان الله قد أمرهن أن يدعن كل ما يلفت النظر حتى صوت الحلي، فمن باب أولى أن ينهاهن عما هو فوق ذلك في جذب الانتباه كرائحة العطر، و قد بين ذلك رسول الله ? أشد بيان في حديثه الشريف:
عن أبي موسى قال: قال رسول الله ?: "أيما امرأة استعطرت، فخرجت، فمرت على قوم ليجدوا ريحها،
فهي زانية".
رواه الإمام أحمد والنسائي
عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله ? يقول: " أيما امرأة تطيبت للمسجد لم يقبل لها صلاة حتى تغسله عنها اغتسالها من الجنابة".
رواه الإمام أحمد
عن أبي هريرة قال: لقيته امرأة وجد منها ريح الطيب ينفح ولذيلها إعصار فقال: يا أمة الجبار جئت من المسجد؟ قالت: نعم قال: وله تطيبت قالت: نعم قال إني سمعت حبي أبا القاسم ? يقول: " لا تُقْبَلُ صلاة لامرأة تطيبت لهذا المسجد حتى ترجع فتغتسل غسلها من الجنابة ".
رواه أبو داود و ابن ماجه
و هذا هو عين ما فهمه أصحاب رسول الله عنه ?، فورد عن عمر بن الخطاب ? أنه قال:
عن يحيى بن جعدة أن عمر بن الخطاب خرجت امرأة على عهده متطيبة، فوجد ريحها، فعلاها بالدرة، ثم قال: تخرجن متطيبات فيجد الرجال ريحكن! وإنما قلوب الرجال عند أنوفهم، اخرجن تفلات9.
رواه الإمام أحمد
لم يقمْ عمر بن الخطاب ? بضرب المرأة بالدرة إلا لأنه سمع الرسول ? يقول:
عن عبد الرحمن بن أبي الرجال قال: أبي يذكره عن أمه عن عائشة-عن النبي ? قال: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن تفلات". قالت عائشة: ولو رأى حالهن اليوم منعهن.
رواه الإمام أحمد و أبو داود و الدارمي(1/73)
و اعلم أن الرجال لتختلف قوة شهوتهم من واحد إلى الآخر، و من حال لآخر، فما يثير هذا قد لا يثير ذاك، و ما يثير ذاك قد لا يثير هذا. لذلك منع الله ? النساء أن يصدر عنهن كل ما من شأنه أن يلفت النظر إليهن، ابتداءً من صوت حليهن، ثم رائحة عطرهن، و حتى نعومة أصواتهن، ناهيك عن إخفاء محاسنهن و مواطن الجمال منهن. و المرأة لا يمكن لها أن تعلم بأي حال، ما الذي يثير هذا أو ذاك منها.
و قَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ
وردت أحاديثُ كثيرة عن رسول الله ? و تفيد كلها أن فَلَكَ المرأة بيتها، ففيه مهنتها و عبادتها و جهادها، و لا يكون خروجها منه إلا لحاجة أو ضرورة، و بشرط إذن الولي دوماً.
عن ابن مسعود ? عن النبي ? قال: " إن المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون من رحمة ربها وهي في قعر بيتها".
رواه الترمذي
فالمرأة المسلمة إذا أرادت أن تنال رحمة ربها عمَدتْ إلى اتباع أمره في القرار في بيتها، فلا تدع الرجال ينظرون إليها و لا تنظر هي إليهم، فتقطع بذلك السبيل على الشيطان الذي ينتهز فرصة خروجها بين الرجال، ليقوم بما آلى على نفسه أن يقوم به من كيد لآدم و ذريته، و إضلالها عن الصراط المستقيم.
و هذا ما فهمه الصحابة عنه ?، و هو الأسوة لهم و لنا، و هو خير من بيَّن أمر الله ?:
عن ابن مسعود ? قال: احبسوا النساء في البيوت، فإن النساء عورة، وإن المرأة إذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان، وقال لها: إنك لا تمرين بأحد إلا أعجب بك.
رواه ابن أبي شيبة
و قد وعى الصحابة هذا المعنى عن رسولهم الكريم، فلم يتوانوا عن الاقتداء به ?:
عن عمر ? قال: استعينوا على النساء بالعري، إن إحداهن إذا كثرت ثيابها، وحسنت زينتها أعجبها الخروج.
رواه ابن أبي شيبة(1/74)
عن أم نائلة رضي الله عنها قالت: جاء أبو برزة فلم يجد أم ولده في البيت، وقالوا: ذهبت إلى المسجد، فلما جاءت صاح بها فقال: إن الله نهى النساء أن يخرجن، وأمرهن يقرن في بيوتهن، ولا يتبعن جنازة، ولا يأتين مسجداً. ولا يشهدن جمعة.
رواه ابن أبي حاتم
و كانت المؤمنات التزاماً بأمر ربهن، و إمعاناً منهن في قطع السبيل على غواية الشيطان، لا يجعلن خروجهن لحاجتهن إلا تحت جنح الليل.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت سودة بعدما ضُرب الحجاب لحاجتها، وكانت امرأة جسيمة، لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر بن الخطاب فقال: يا سودة أما والله ما تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين، قالت: فانكفأت راجعة ورسول الله ? في بيتي، وإنه ليتعشى، وفي يده عرق، فدخلت فقالت: يا رسول الله إني خرجتُ لبعض حاجتي، فقال لي عمر كذا وكذا، قالت: فأوحى الله إليه، ثم رفع عنه، وإن العرق في يده ما وضعه، فقال: "إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن".
رواه البخاري و مسلم
من هذا الحديث نرى أن النساء كن لا يخرجن من بيوتهن إلا ليلاً على الحصر و نتبين هذا من قول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها "و إنه ليتعشى". و نرى أيضاً أن الرسول ? قد حدد الإذن للنساء بالخروج من بيوتهن لحاجة لهن فقط، كما في صريح الحديث.
ففي قوله ? بعد أن تنزَّل عليه الوحي "إنه قد أُذن لكنَّ أن تخرجن لحاجتكن" دليل على أن الأصل في دور المرأة هو القرار في بيتها، و إنما يكون خروجها لحاجة و لا يكون ذلك إلا ليلاً.
و ذات يوم رأى رسول الله ? ابنته فاطمة رضي الله عنها في الطريق، فما كلمها في أمر من أمور الدنيا، و لا سألها أين كنت؟ أو أين تذهبين؟، بل إن أباها و رسول ربها كلمها في أمر الآخرة، فسألها عن الخطب العظيم في حياة النساء كلهن قائلاً: "ما أخرجك يا فاطمة من بيتك؟" فليس الخطب أين تذهب، و من أين أتت، بل المخالفة الشرعية الواضحة هي مجرد خروجها من بيتها، و رؤيتها في الطريق.(1/75)
عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال: قبرنا مع رسول اللّه ? يعني ميتاً، فلما فرغنا انصرف رسول اللّه ? وانصرفنا معه، فلما حاذى بابه وقف فإِذا نحن باِمرأة مقبلة قال: أظنه عرفها، فلما ذهبت إذا هي فاطمة [عليها السلام]، فقال لها رسول اللّه ?: "ما أخرجك يافاطمة من بيتك؟" قالت: أتيت يارسول اللّه أهل هذا البيت فرحَّمت إليهم ميتهم، أو عزَّيتهم به، فقال لها رسول اللّه ?: "فلعلك بلغت معهم الكدى10" قالت: معاذ اللّه! وقد سمعتُك تذكر فيها ما تذكر، قال: "لو بلغت معهم الكدى". فذكر تشديداً في ذلك.
رواه أبو داود و النسائي و أحمد
و إليك حديثاً آخر عن رسول الله ?، ينكر فيه على النسوة خروجهن من بيوتهن و ينبههن على عِظَم الوزر على ما فعلن. فالمسلم مأجور على اتباعه الجنازة و مشاركته فيها، و لكن المسلمة إذا فعلت هذا كان لها فيه الوزر لتفريطها فيما هو أهم منه، ألا و هو واجب القرار في البيت، و البعد عن مواطن الاختلاط.
عَن علي؛ قَالَ: خرج رَسُول اللَّه ِ ? فإذا نسوة جلوس. فقال: "ما يجلسكن؟" قلن: ننتظر الجنازة. قال: "هل تغسِلن؟" قلن: لا. قال: "هل تحمِلن؟" قلن: لا. قال: "هل تدلين فيمن يدلي؟" قلن: لا. قال: "فارجعن مأزورات11، غير مأجورات".
أخرجه ابن ماجه
و قد سُئل الكاتب على صفحات الإنترنت عن معنى قوله تعالى: ?و قرن في بيوتكن و لا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى? حيث قال السائل:
"أنا شاب متزوج منذ ثمانية أعوام، ولي طفل واحد والحمد لله . وبعد أن كبر طفلنا ودخل إلى المدرسة تريد زوجتي أن تبحث عن عمل لتعمل فأوضحت لها أن مكانها الشرعي هو البيت لقول الحق : ?و قرن في بيوتكن و لا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى? وكان اعتراضها أن هذه الآية لنساء النبي وآل البيت فقط، وأن بإمكانها أن تعمل خارج البيت، فما قولكم؟."
و أجابه الكاتب:(1/76)
"إن قول الله تعالى : " وقرن في بيوتكن " خطاب لأمهات المؤمنين فعلاً كما قالت لك زوجتك . أما حكم عمل المرأة خارج المنزل ، فهو مشروع وجائز . مع ملاحظة الشروط التالية:
1- أن يكون العمل في أصله مباحاً ومشروعاً .
2- ألا يستدعي عملها الخروج عن الالتزام بأوامر الله من الحشمة والحجاب ، وعدم الخلوة المحرمة بالرجال ، ونحو ذلك .
3- أن يكون عملها خاضعاً لسلّم الأولويات عند تزاحم الأعمال المشروعة . فإذا كان عملها خارج المنزل يفوّت عملها في داخله من حيث القيام بشؤون الزوج وتربية الأولاد ، فالأولوية عندئذ لعمل المنزل .
4- أن يكون عملها ـ -على كل الأحوال- ـ بإذن من الزوج . "
فالكاتب يرى أن قول الحق مخاطباً أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن ?و قرن في بيوتكن و لا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى? هو أمرٌ منه ? لنساء النبي فقط، و لا تُلزم به سواهن من المؤمنات.
و لكننا رأينا من الأحاديث التي أوردناها أن الرسول ? قد أمر المؤمنات كلهن بالقرار في بيوتهن، و كره لهن الخروج.
و لبيان خطأ الكاتب في قصره القرار في البيوت و عدم التبرج على أمهات المؤمنين دون غيرهن، نسأله أولاً: ما سبب هذا القصر؟ و نسأله: ما قولك في قول الحق ? في الآية ذاتها ?وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله?؟، هل يُقصر أيضاً هذا الجزء من الآية نفسها على نساء النبي دون سواهن؟ أم أن إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة و طاعة الله و رسوله واجبة على جميع نساء المؤمنين؟.
و الجواب: أنه لا يمكن أن يكون صدر الآية خاصاً بأمهات المؤمنين، ثم يكون عجزها لكل المؤمنات دون موجبٍ لذلك.
ثم ما الذي اقترفته نساء النبي رضي الله عنهن حتى يُمنعن من مغادرة بيوتهن، بينما يُسمح للمؤمنات بعكس ذلك؟ اللهم إلا أن يكون هذا الأمر من قبيل توجيه الأمر إلى القدوة حتى يتبعه من هو دونه.
لقد قال ? في كتابه العزيز:(1/77)
{ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً * إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً }
(الأحزاب: 30-35)(1/78)
لقد جعل الحق ? لنساء النبي ? أجرين على قنوتهن لله و رسوله و على العمل الصالح، و هذا القنوت لله و رسوله و العمل الصالح هو ذاته المطلوب من جميع المؤمنين و المؤمنات، و لا خلاف فيه، أي أن نساء النبي ? لم يطالبن بعمل مختلف عن نساء المؤمنين، أو بطاعة إضافية لم تطالب بها نساء المؤمنين، و لكن الاختلاف كان في الأجر الذي ضاعفه الله ? لنساء النبي رضي الله عنهن.
و كذلك جعل الله ? العذاب لهن ضعف عذاب المؤمنات إن هن ارتكبن فاحشة مبينة.
و الأجر أو العذاب المضاعفان آتيان من كون نساء النبي رضوان الله عليهن القدوة لجميع نساء المؤمنين، فكما كان رسول الله ? الأسوة الحسنة للمؤمنين، كذلك كانت نساؤه القدوة الحسنة لنسائهن.
فجعل الله لهن أجرين أجر القدوة الحسنة و أجر العمل بشرعه، و كذلك جعل لهن عقاب مخالفة شرعه و عقاب القدوة السيئة إن هن أتين بفاحشة مبينة رضي الله عنهن.
لأن مخالفة زوج النبي لأوامر ربها ليس كمخالفة امرأة من المؤمنات، فنساؤه ? يؤخذ عنهن العلم، بل هن مصدر من مصادر العلم الشرعي، إذ جعل الله ? عليهن تبيان سنة النبي ? في بيته التي لا يطلع عليها أحد كما يطلع عليها أهل بيته.
{ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً }
(الأحزاب:34)
و كذلك كان حكم مخالفة الرسول ? -و حاشى أن يخالف أمر ربه- لا كمخالفة أي من المؤمنين لشرع الله ?.
{ وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً }
(الإسراء:74-75)
و هذا ما بيَّنه ? في قوله:(1/79)
عن أبي سعيد الخدري قال: وضع رجلٌ يده على النبي ? فقال: والله ما أطيق أن أضع يدي عليك من شدة حماك فقال النبي ? : "إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا الأجر، إن كان النبي من الأنبياء يبتلى بالقمل حتى يقتله، وإن كان النبي من الأنبياء ليبتلى بالفقر حتى يأخذ العباءة فيخونها، وإن كانوا ليفرحون بالبلاء كما تفرحون بالرخاء".
رواه الإمام أحمد و ابن ماجه
فالأنبياء هم قدوة الخلق، أرسلهم الله ? ليقتدى بهم، فكان أجرهم مضاعفاً لعملهم بالشرع و لقدوتهم للخلق، و لكن الله ? حفظهم، و عصمهم عن مخالفة أمره فضاعف لهم البلاء في الدنيا، إذ لا عذاب لهم و لا عقوبة في الآخرة عليهم.
أويظن مسلم موقن بحكمة ربه أنه ? يريد أن يُذهب الرجس عن آل البيت و أمهات المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين، و يريد سبحانه أن يطهرهم تطهيراً، ثم يذر باقي المؤمنين و المؤمنات يخوضون في الرِّجس و النّجس!!!.
فبعد أن علمتُ أن الكاتب يقصر الحكم في أول الآية ?و قرن في بيوتكن? على نساء النبي -رضوان الله عليهن- دون غيرهن من المؤمنات، و يُعَمِّمُ بقية الآية على كل المؤمنات دون إيراد علة أو دليل، كتبتُ سؤالاً إلى لجنة الإفتاء في موقع "ISLAM ON LINE" و سألتهم عن هذه الآية من كتاب الله الكريم:
"بسم الله الرحمن الرحيم ما تفسير قوله تعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ? وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ?. و هل كلمة ? قرن في بيوتكن ? هي لنساء النبي ? فقط دون نساء المؤمنين؟.
و كذلك ? لا تبرجن ... و أقمن ...و أطعن ? أم أن الأمر لنساء النبي يشمل كل المؤمنات؟ والسلام عليكم و رحمة الله و بركاته.".
و جاء الجواب من لجنة تحرير الفتوى بالموقع كما يلي:
"الإجابة: بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..(1/80)
الأمر الوارد في هذه الآيات لنساء المؤمنين عامة، الصلاة والزكاة وعدم التبرج على خلاف بين الفقهاء بين إظهار الوجه والكفين أم لا -وما نرجحه إظهار الوجه والكفين- والإقرار في البيوت فهو الأصل، ولا تخرج المرأة من بيتها إلا بإذن زوجها، وكذلك الخروج للعمل لا يكون إلا بإذن الزوج، ويكون بالضوابط التي وضعها العلماء. والله أعلم."
و هذا حديث عن رسول الله ? يقطع الشك باليقين، و كفيل بإقناع الكاتب و كل مسلم بأن قول الله ? ?و قرن في بيوتكن و لا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى? هو لنساء النبي عليهن رضوان الله و للمؤمنات كافة دون استثناء:
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاءت أميمة بنت رقيقة إلى رسول الله ? تبايعه على الإسلام فقال: " أبايعك على ألا تشركي بالله شيئاً، ولا تسرقي، ولا تزني، ولا تقتلي، ولدك ولا تأتي ببهتان تفترينه بين يديك ورجليك، ولا تنوحي، ولا تبرجي تبرج الجاهلية الأولى".
رواه الإمام أحمد
و لنتفكر معاً في هذا الحديث الذي اتفق عليه جميع رواة الحديث عن رسول الله ?:
عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنهماُ قال سمعت رَسُول اللَّهِ ? يقول: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته. الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته؛ وكلكم راع ومسؤول عن رعيته".
متفق عليه
إن هذا الحديث بيان عظيم لموضوع تحديد المسؤوليات، و توزيعها بين العباد في المجتمع الإيماني، يبيِّن فيه رسول الله ? أن كل فرد من أفراد المجتمع قد استرعاه الله ? رعية، و أناط به مهمة سيسأل يوم القيامة عنها.(1/81)
و كما نعلم فإنه لا بد لكل حدث من مكان و زمان يقع الحدث فيهما، و الرسول ? عندما حدد المسؤوليات لكل من الإمام و الرجل و الخادم، لم يحدد لها زماناً بل أطلقها في كل زمان، و لم يحدد لها مكاناً بل أطلق ممارسة كل منهم مسؤوليته في كل مكان، و لكنه ? عندما تحدث عن مسؤولية المرأة حدد لها مكاناً تمارس فيه مهمتها التي ستسأل عنها يوم القيامة، و لم يحدد لها زماناً. فلم يقيّد ? المكان للإمام و لا للرجل و لا للخادم كما قيده للمرأة.
بدأ الرسول ? بالمسؤولية الأعظم، و هي مسؤولية الحاكم عن المجتمع بأكمله في كل زمان و مكان، ثم ثنى بتوزيع المسؤوليات في اللبنة الأساسية التي يتكون منها كل مجتمع و هي الأسرة، فالرجل مسؤول عن أهله فرداً فرداً في كل زمان و مكان و لم يخصص ? للرجل مكاناً للقيام بهذه المهمة، و لكنه ? عندما ذكر مسؤولية المرأة، فأول ما بدأ به هو تخصيص المكان الذي ستمارس فيه المرأة مهمتها، فقال "في بيت زوجها"، و ستسأل عن قيامها برعاية هذا البيت و ما فيه و لن تسأل عن شيء آخر، فكل ما استرعاها الله إياه هو في هذا البيت، فصلاتها في بيتها و صومها في بيتها، و حفظ فرجها في قرارها في بيتها، و طاعتها زوجها في بيتها و رعاية أولادها في بيتها، و مصداق هذا قول رسول الله ?:
عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله ? : "ذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت".
رواه الإمام أحمد و الطبراني
ثم حدد ? مسؤولية الخادم، و لم يخصص له مكاناً و لا زماناً لممارسة مهمته و أخيراً أعاد رسول الله ? ما بدأ به حديثه؛ مؤكداً أن الكل مسؤول عما وُكِل إليهم رعايته فرداً فرداً.
كما جاء في مختصر تفسير ابن كثير12 في تفسيره للآيات:
"32 - يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن، فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، وقلن قولاً معروفاً.(1/82)
33 - وقرن في بيوتكن، ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى، وأقمن الصلاة، وآتين الزكاة، وأطعن الله ورسوله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً.
34 - واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة، إن الله كان لطيفاً خبيراً.
التفسير: هذه آداب أمر اللّه تعالى بها نساء النبي ? (ونساء الأمة تبع لهن في ذلك) بأنهن إذا اتقين اللّه عزَّ وجلَّ كما أمرهن، فإنه لا يشبههن أحد من النساء، ولا يلحقهن في الفضيلة والمنزلة، ثم قال تعالى: {فلاتخضعن بالقول} قال السدي: يعني بذلك ترقيق الكلام إذا خاطبن الرجال، ولهذا قال تعالى: {فيطمع الذي في قلبه مرض} أي دغل، {وقلن قولاً معروفاً} قال ابن زيد: قولاً حسناً جميلاً معروفاً في الخير، ومعنى هذا أنها تخاطب الأجانب بكلام ليس فيه ترخيم، أي: لا تخاطب المرأة الأجانب كما تخاطب زوجها و قوله تعالى: (وقرن في بيوتكن) أي: الزمن بيوتكن، فلا تخرجن لغير حاجة".
و جاء في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة13 في ذات الموضوع:(1/83)
"وحث المرأة على حفظ جسدها بالاحتشام والتستر، والبعد عن مواطن الريبة، وبؤر الفساد، وعن الاختلاط بالرجل الأجنبي حتى لا تقع في محرم، ولا يجرها الإختلاط والتبذل إلى الوقوع في الذنب، وتستوجب إقامة الحد عليها. قَالَ تَعَالى: {وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} فقد خاطب اللَّه تعالى أمهات المؤمنين ونساء النَبِي ?، وهن الصالحات القانتات، اللائي تربين في مدرسة النبوة، ونشأن في أعظم جامعة إسلامية، وتأدبن بآداب النبوة، وتخلقن بأخلاق الرسول صَلَوَات اللَّهِ وسَلاَمهُ عَلَيْه، وقد كُنَّ لا يخرجن من بيوتهن إلا لعذر شرعي، كحج أو عمرة، أو زيارة أبوين، أو صلة أرحام، أو عيادة مريض، أو نحو ذلك. وإذا خرجن لا يبدين زينتهن، ولا يظهرن شيئاً من محاسنهن، ولا يلبسن ثياب براقة، فإذا كان اللَّه تَعَالى قد أمرهن هذا الأمر، وهن على هذا الحال، فغيرهن من سائر النساء أولى أن يخشى عليهن، لو خرجن ومشين في الطرقات على أعين الناس، وفيهم من في قلبه مرض من العصاة الفجرة، والمجرمين الفسقة، الذين لا يخشون اللَّه، ولا يخافونه."
صلاة المرأة
بلغ من سوء حال المسلمين اليوم، و قلَّة علمهم و ابتعادهم عن الحق؛ أننا نرى النساء يخرجن من بيوتهن كالرجال من غير بأس و لا حرج، لحاجة و لغير حاجة و الأدهى أنك ترى بعض الأئمة يشجعونهن على ذلك، و يدعونهن إلى حضور الجماعات و الجمعات كالرجال، حتى إنك لترى في معظم مساجد الأرض مكاناً خاصاً للنساء يصلين فيه الجمعة، التي لم تكتب عليهن، و غيرها من صلوات النهار التي مُنِعْنَ منها، بينما لا تجد امرأة واحدة في صلوات العتمة التي رخص لهن بحضورها، فترى المرأة تخرج في ضوء النهار ساعية إلى صلاة الجمعة كالرجال تماماً، تذهب معهم، و تعود معهم، تزاحمهم في الطرقات ذهاباً و إياباً.(1/84)
و الله ? جعل في صلاة الجماعة للرجال أجراً عظيماً، و في تركها إثم و تفريط في خير عظيم، بينما جعل للمرأة في صلاتها منفردة في بيتها أجراً عظيماً، و تكون مفرطة بهذ الأجر إن هي خرجت من بيتها فصلَّت في جماعة.
و إن من غربة الإسلام عن المسلمين أنك ترى من رجالهم من يفرط بأجر صلاة الجماعة، فيكتفي بالصلاة في بيته، في حين ترى من المسلمات من تفرط في ثواب الله ? على قعودها و صلاتها في بيتها، فتدع ذلك، و تسابق الرجال إلى المساجد. و من المضحك أنك ترى المساجد تضيق بهم، فيصلي الرجال (الذين فرضت عليهم الجمعات) على قارعة الطريق خارج المسجد، بينما يحجز قليل من النساء (اللاتي لم يكلفن بالجمعات) فسحة من المسجد كان الرجال أولى بها.
و كثير من أئمة المساجد عالمون بهذا التفريط، و يرونه بأم أعينهم كل جمعة فلا ينكرونه، بل تراهم له مُشجِّعين. فو الله الذي لا إله إلا هو ما هذا إلا الغرابة التي تنبأ بها الرسول الذي لا ينطق عن الهوى منذ أكثر من ألف و أربعمئة عام. و ما المسلمون اليوم إلا الغثاء الذي تنبأ به الرسول?.
أما الأئمة فيحتجون جهلاً بفهمهم الخاطئ لحديث رسول الله ? "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"، و نص الحديث يقول:
عن ابن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: كانت امرأة لعمر تشهد صلاة الصبح والعشاء في الجماعة في المسجد، فقيل لها: لِمَ تخرجين وقد تعلمين أن عمر يكره ذلك ويغار؟ قالت: وما يمنعه أن ينهاني؟ قال يمنعه قول رسول الله ? لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ".
رواه البخاري
و أول ما نستشفه من الحديث، هو أن حرمة خروج المرأة من بيتها إلى المسجد لأداء الصلاة في ضوء النهار أمر مفروغٌ منه و لا جدال فيه، ولم يتكلم فيه الصحابة -رضوان الله عليهم- لأنهم وعوه تماماً عن رسولهم ?، و إنما يكون الكلام و الجدال في خروج النساء إلى المساجد ليلاً في عتمتي العشاء و الفجر، كما نص الحديث الشريف دون أدنى ريب.(1/85)
فلو قرأنا الحديث الشريف بقلب مؤمن لفطنّا كما فطن الصحابة إلى أن الإذن من النبي ? كان مقصوراً على صلاتي العتمة العشاء و الفجر. و هذا في صريح نص الحديث، و لا يتجاهله إلا مضل أو غافل.
وهذا حديث آخر عن رسول الله ? يؤكد هذا المعنى تأكيداً، لا يبقى معه شك في قلب مؤمن أو مؤمنة.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ? : "إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فائذنوا لهن".
رواه البخاري
لست أدري كيف يقرأ الأئمة هذا الحديث الشريف، و بعد ذلك يصلون الجمعات في بيوت الله، و صفوف النساء وراء ظهورهم؟!
و لعمرك كيف يمكن لمسلم يبتغي اتباع الحق أن يقرأ "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"
و يغفل عن "كانت تشهد صلاة الصبح و العشاء في الجماعة في المسجد". وكيف قرؤوا قول الرسول ? "فائذنوا لهن" و لم يقرؤوا قوله في الحديث ذاته قوله "بالليل".
كيف يمكن أن يرى العالم في النص المقدس كلمةً و تغيب عنه أخرى؟ أمْ أنه يأخذ من النص ما يشبع هواه و يتجاهل ما لا يوافق هواه؟ أم أنه لم يحسن تدبر حديث الذي لا ينطق عن الهوى؟
لقد وعى الصحابة هذا عن رسولهم الكريم، و نقلوه لنا بأمانة و دقة، و لكن الأهواء جعلت كلاً يأخذ من حديث رسول الله ? ما يوافق هواه و يدع ما سواه. و إذا تفحَّص المؤمن أو المؤمنة أحاديثَ رسولهم الكريم لوجدوا أن المؤمنات لم يكن يحضرن صلاةً مع رسول الله إلا صلاتي العتمة و صلاتي العيدين14، لحث رسول الله ? عليهما، و رغم هذا فقد حثهن الرسول ? على أداء الصلوات كلها في بيوتهن، و رغَّبهن في ذلك بأن بيَّن لهن ما جعل الله على ذلك من أجر عظيم.
و ها هو مسلم ? يذكر في صحيحه ذات الحديث، و يُثْبِتُ فيه أيضاً كلمة " بالليل"، فلست أدري لماذا لم يبيّنها من قرأ هذا الحديث في الصحيحين!.(1/86)
عن ابن عمر قال: قال رسول الله ? : "ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد" فقال ابن له يقال له واقد: إذاً يتخذنه دغلاً، قال: فضرب في صدره وقال: أحدثك عن رسول الله ? وتقول لا؟!
رواه مسلم
إذا لم يتمكن العلماء و أئمة المساجد من رؤية كلمة "بالليل"، أو إنْ هم سهواً عنها فهل سها عنها المؤمنون أيضاً؟ فسمحوا لنسائهم بارتياد المساجد صباح مساء، و إذا كان القوامون على أمور نسائهم قد سهوا أيضاً أو جهلوا، فهل تهاونت المؤمنات بأمر الله و رسوله لهن، و القرآن بين أيدينا بحفظ الله ? و أحاديث رسولنا في الصحاح منذ أكثر من ألف سنة ماثلة أمام أعين الجميع؟!
ألم يقرؤوا في الصحيحين حديث أم المؤمنين رضي الله عنها في وصفها المؤمنات و سَتْرِهِنَّ أنفسهن حتى عند صلاة الفجر في العتمة، لكي لا يُعْرَفْن؟
عن عائشة رضي اللّه عنها أنها قالت: كان نساء المؤمنين يشهدن الفجر مع رسول اللّه ?، ثم يرجعن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس.
رواه البخاري و مسلم
ألم يفهموا عن الله ? و رسوله ? أنه حرم على المرأة أن تُسمع أحداً صوت حليها و أنه محرم عليها أن تتعطر حتى لا تلفت إليها نظراً؟ فما بالك فيمن تخرج كل جمعة في أشد ضوء النهار وقت خروج الرجال إلى صلاتهم، فتزاحمهم و يزاحمونها مسلمين و غير مسلمين في الطرقات و على أبواب المساجد، و تزاحمهم في وسائط النقل، ينظرون إليها و تنظر إليهم دون حياء أو خجل، و هي إن لم تكن تثير منهم الأذن و لا الأنف، فإنها تستثير أعينهم بجسدها و بما كشفت من وجهها؟!
أليست غاية كل مسلمة هي نيل رضا الله ? و ثوابه على الطاعة؟ أليس المؤمن كيِّساً فطناً؟ أليس في ترك جزيل الثواب و الزهد في فضل الله عز و جل غباء و جهل؟.
أما علمت المسلمات أن فضل صلاتهن في بيوتهن أعظم من فضل صلاتهن في المساجد، و أن المرأة كلما بالغت في الستر كانت أقرب إلى ربها و فضله؟(1/87)
عن عبد اللّه بن مسعود ? عن النبي ? قال: "صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها".
رواه أبو داود و ابن خزيمة
ألم تعلم المسلمة أن مسجدها هو بيتها؟ ألم يعلم إمام المسجد أن النساء اللواتي يصلين خلفه مفرطات في ثواب الله راغبات عنه؟ و أن تنبيههن لهذا الخطأ هو الأمانة التي أنيطت به، و تحمَّلها بوقوفه على منبر رسول الله ?؟ ألم يعلم أنه سيسأل عنهن جميعاً يوم لا ينفع مال و لا بنون؟
عن أم سلمة رضي اللّه عنها عن رسول اللّه ? قال: "خير مساجد النساء قعر بيوتهن".
رواه الإمام أحمد و أبو يعلى و الحاكم و الطبراني في الكبير
لقد جعل الله ? صلاة المسلمة في بيتها أعظم فضلاً من صلاتها في المسجد، بل أعظم من صلاتها في مسجد رسوله ?، و كلنا يعلم عِظَمَ أجر الصلاة في مسجد رسول الله ?.
عن عبد الله بن سويد الأنصاري عن عمته أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي أنها جاءت النبي ? فقالت: يا رسول الله إني أحب الصلاة معك، قال: "قد علمت أنك تحبين الصلاة معي وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك ،وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجدي" قال: فأمرت فبني لها مسجد في أقصى شيء من بيتها وأظلمه، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل.
رواه الإمام أحمد و ابن خزيمة و ابن حبان
لقد نسي أو تناسى أكثر المسلمين نساءً و رجالاً و أئمة، قول الحق ?و قرن في بيوتكن و لا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى?، كما نسوا تشديد الرسول ? في ستر المرأة و حجابها، حيث جعل قعود المرأة في بيتها يعدل جهاد الرجال في سبيل الله عز و جل.(1/88)
عن أنس ? قال: جاءت النساء إلى رسول الله ? فقلن: يا رسول الله ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل الله، فما لنا عمل ندرك فضل المجاهدين في سبيل الله؟ فقال: "من قعدت منكن في بيتها فإنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله".
رواه البزار
ألم يفهم المسلمون عن الله و رسوله ما وعته هذه الصحابية رضي الله عنها و ما وعاه كل المؤمنين رجالاً و نساء عن ربهم و رسولهم؟.
عن أسماء بنت يزيد الأنصارية "أنها أتت النبي ? وهو بين أصحابه فقالت: بأبي أنت وأمي إني وافدة النساء إليك، وأعلم -نفسي لك الفداء - أنه ما من امرأة كائنة في شرق ولا غرب سمعت بمخرجي هذا إلا وهي على مثل رأيي، إن الله بعثك بالحق إلى الرجال والنساء فآمنا بك وبإلهك الذي أرسلك، وإنا معشر النساء محصورات مقصورات، قواعد بيوتكم، ومقضى شهواتكم، وحاملات أولادكم، وإنكم معاشر الرجال فضلتم علينا بالجمعة والجماعات، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله، وإن الرجل منكم إذا خرج حاجاً أو معتمراً أو مرابطاً حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا لكم أثوابكم، وربينا لكم أولادكم، فما نشارككم في الأجر يا رسول الله؟ فالتفت النبي ? إلى أصحابه بوجهه كله ثم قال: "هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مساءلتها في أمر دينها من هذه؟" فقالوا: يا رسول الله ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا؟ فالتفت النبي ? إليها ثم قال لها: "انصرفي أيتها المرأة، وأعلمي من خلفك من النساء أن حُسْنَ تبعُّل إحداكن لزوجها، وطلبها مرضاته، واتباعها موافقته، يعدل ذلك كله". فأدبرت المرأة وهي تهلل وتكبر استبشاراً.
رواه البيهقي(1/89)
إن كلام هذه الصحابية -رضي الله عنها- ليس وصفاً لحياة إسلامية كانت تحياها هي وحدها دون غيرها من المؤمنات، بل إن كل الذي أقره رسول الله ? مما قالته الصحابية في صِفَةِ دور المرأة المسلمة و مسؤولياتها، هو ما كانت تمارسه جميع نساء المؤمنين في زمنه ? دون استثناء، و لهذا جاء في كلامها "بأبي أنت وأمي إني وافدة النساء إليك، واعلم -نفسي لك الفداء- أنه ما من امرأة كائنة في شرق ولا غرب سمعت بمخرجي هذا إلا وهي على مثل رأيي".
و لم يكن كلامها هذا تأففاً من قيامها بدورها الذي خُلقت له، و العياذ بالله، بل كانت هي و نساء المؤمنين من ورائها يطمعن في مزيد من الأجر من الله ?، فقد حَسِبْنَ أن الرجال قد ذهبوا بالأجر العظيم جزاء ما يقومون به جهاد و مرابطة و حضور الجماعات، و لهذا قالت: "فما نشارككم في الأجر يا رسول الله؟". و لهذا مضت و هي تكبّر و تهلّل استبشاراً بالأجر الذي بشرها به ?، تناله دون أن تخوض في أمر من أمور الرجال، فجعل ? جزاء طاعة المرأة لزوجها يعدل جزاء الحج و العمرة و الجهاد و المرابطة و حضور الجماعات.
أفيمكن بعد هذا كله أن تتخيّل مؤمنة أن الله ? راضٍ عنها إن هي خرجت بين الرجال تزاحمهم في طرقهم و أعمالهم و مختلف أمورهم؟! أوَيُعْقَلُ أن تفرط مؤمنة تريد وجه الله ? بهذا الأجر العظيم الذي بشرها به رسوله ?؟!!
و حتى عندما أَذِنَ الرسول ? للنساء بحضور صلوات الليل، نراه قد وضع لقدومهن و خروجهن من المسجد شروطاً تتفق مع حكمة الشارع الحكيم في منع اختلاط الذكور بالإناث بأي حال، و لأي سبب، فقد ورد عنه ?:
عن الزهري قال: حدثتني هند بنت الحارث: أن أم سلمة زوج النبي ? أخبرتها: أن النساء في عهد رسول الله ? كن إذا سلَّمن من المكتوبة قمن، وثبت رسول الله ? ومن صلى من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله ? قام الرجال.
رواه البخاري و النسائي(1/90)
عن أم سلمة قالت: كان رسول اللّه ? إذا سلّم مكث قليلاً، وكانوا يرون أن ذلك كيما ينفذ النساء قبل الرجال.
رواه أبو داود
أجل، هذا هو فعل رسول الله ?، و هذا هو ما فهمه عنه صحابته رضوان الله عليهم أجمعين.
و إذا سارت المؤمنات في طرقات المدينة ليلاً ذاهبات أو آيبات من المسجد، لم يكنَّ يسرن كالرجال في وسط أو عرض الطريق، بل كن يلذن بأحد جوانبه ملتصقات بالجدران، التزاماً بأمر رسول الله ? لهنّ.
عن حمزة بن أبي أُسيد الأنصاري، عن أبيه أنه سمع رسول اللّه وهو خارج من المسجدفاختلط الرجال مع النساء في الطريق، فقال رسول اللّه ? للنساء:"استأخرن؛ فإِنه ليس لكنَّ أن تحققن الطريق (أي ليس لكن أن تَسِرْنَ وسطها) عليكنَّ بحافَّاتِ الطريق" فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إنَّ ثوبها ليتعلَّق بالجدار من لصوقها به.
رواه أبو داود
لم يرضَ خاتم النبيين ? عن اختلاط الرجال و النساء في الطرقات و هم ذاهبون أو آيبون من المسجد، و قد بيَّن هذا بياناً لا يجادل فيه إلا مكابرٌ متكبر عن اتباع الحق.
أما في أيامنا هذه فيصعب على المسلمة أن تستر نفسها في ظلمة الليل كما كانت النساء على عهد رسول الله ?، و ذلك لتوفر الإنارة الصناعية في الطرقات و السيارات و المساجد، فالأفضل لها أن تصلي حتى صلوات العتمة في بيتها، إذ أن أنواع الإنارة الصناعية بددت ظلمة الليل، و هتكت الأستار.
و من الغرابة التي وصل إليها الإسلام في أيامنا هذه أنك ترى المسلمات رغبن عن صلاة العتمة في المساجد، و هرعن إلى غيرها من صلوات النهار، و كأنهن يتعمدن خلاف أمر الله و رسوله فحسب، و العياذ بالله، و لكنه الجهل بدين الله، نسأله ? العفو و العافية و الهدى لنا و للمؤمنين و المؤمنات أجمعين.
دليل من العلم
لقد علمنا أن الله ? جعل لزاماً على نساء النبي أمهات المؤمنين ذكر ما يتلى في بيوتهن من آيات الله ? و سنة نبيه ?.(1/91)
{ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً }
(الأحزاب:34)
و قد جعل الله ? لذلك قانوناً حين قال:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً }
(الأحزاب:53)
إن ذِكْر الحجاب الفاصل بين طبيعتي الذكر و الأنثى في هذه الآية الكريمة، و علاقته بطهر القلوب لكل من الذكر و الأنثى؛ لهو من معجزات القرآن الكريم؛ الذي لا تنقضي عجائبه إلى أن يرث الله ? الأرض و ما عليها.
لقد أثبت العلم أن الإنسان يتكون من ذرات، و أثبت أيضاً أن الذرة عبارة عن طاقة و أن كل مادة حية سواء كانت صلبة أو سائلة أو غازية هي عبارة عن طاقة تتكثف وفق إرادة الله ? لتكون خلقاً من الخلق، فتكون شجرة أو تراباً أو حيواناً أو بشراً. حتى أنّ العلماء قد عَدّوا المشاعر و الأحاسيس و العواطف و الغرائز نوعاً من الطاقة، تؤثر فيما حولها و تتأثر به، وكذلك الصوت والكلمة هما طاقة أيضاً.(1/92)
و قد تمكن العلماء حديثاً بوساطة الأجهزة الفائقة الدقة من قياس هذه الطاقة في الإنسان، و في كل الكائنات الحية، و كل الكائنات حية، و استطاع العلماء بدراسة هذه القياسات من حيث الشدة و الضعف و السلبية و الإيجابية معرفة حال صاحبها و التغيرات التي تطرأ عليه.
و وجد العلماء أيضاً أن لكل كائن هالة تحيط به منبعثة منه بتأثير الطاقة الموجودة فيه، و تعد هذه الهالة جزءاً لا يتجزأ من كيانه، تماماً كما تحيط الهالة المغناطيسية بالمغناطيس، و تسمى المجال المغناطيسي، و كما تحيط هالة كهربية بأسلاك الكهرباء، و تسمى المجال الكهراطيسي، و استطاعوا أيضاً بأجهزتهم الدقيقة أن يصوروا هذه الهالة، و يحللوها وفق الألوان التي تدل على تغيرات هذه الهالة تبعاً لتغير الطاقة في الكائن.
و كما أن المجالات المغناطيسية بين قطعتي مغناطيس متجاورتين و المجالات الكهراطيسية بين سلكين متجاورين تتداخل فيما بينها، فينجم عن هذا التداخل آثار جديدة لم توجد من قبل في السلكين أو في قطعتي المغناطيس. و تختلف هذه الآثار بحسب مواصفات كل سلك و الطاقة التي تمر فيه، كما أن هذه الآثار لا يقتصر تأثيرها على الأسلاك ذاتها أو قطع المغناطيس، بل يتعداها إلى كل ما حولها من أجسام. و كذلك وجد العلماء أن الهالات الموجودة حول الكائنات الحية المنبعثة من الطاقة فيها، تتداخل أيضاً في أي كائنين متجاورين، و يكون لكل من الهالتين تأثير على الأخرى أو على الطاقة في الكائن الآخر.
و نجم عن تداخل المجالات الكهراطيسية في الأسلاك المتجاورة معضلات، سعى العلماء إلى حلها، فاهتدوا إلى حلين أو قانونين هما:
الأول:
أن يجعلوا الأسلاك بعيدة عن بعضها قدر الإمكان، بحيث لا يدخل أحدها في مجال تأثير هالة الآخر، لتقوم الأسلاك بدورها على أكمل وجه.
الثاني:(1/93)
أن يقوموا بالفصل بين الأسلاك بمواد عازلة، تمنع تأثير الهالة في الأسلاك المتقاربة، لتقوم أيضاً بمهمتها على أكمل وجه، و ذلك عند اضطرارهم لتمرير أسلاك قريبة من بعضها بعضٍ.
و كذلك فإن خالق الكهرباء و خالق البشر ?، أراد للإنسان بعد أن أكرمه بالعقل أن يكتشف الكهرباء، و أن يكتشف قوانينها، ثم يضع الحلول لما يواجهه من مشاكل فيما اكتشف داخل مخبره، حيث يعمل العقل بعيداً و مجرداً عن الأهواء و الغرائز و العواطف.
و لكنه ? لم يشأ أن يترك الإنسان يتخبط في أمر التداخل بين الذكر و الأنثى، و لم يأمنه على إيجاد حل لهذا التداخل؛ لأن هذا الأمر لا يمكن أن يدخل إلى المخبر، و لا يمكن فصل الغريزة و العاطفة و الهوى عنه، فعَلِمَ الله ? أزلاً بأننا لن نصل بالبحث إلى هذا القانون، و أننا إن وصلنا إليه فلن نعمل به، و حتى عندما أعطانا قانونه خالصاً رغب عنه كثيرون. فتدخّل بشرعه الحكيم من أول الأمر لجعل الذكر و الأنثى بعيدين عن بعضهما بعض، كما توصل العلماء إلى إبعاد الأسلاك عن مجالات تداخل هالاتها.
فأول خطاب من الله ? لآدم عليه السلام كان تحذيراً له من أكبر الأخطار التي سيواجهها على الأرض، فقال له في معرض تبيان مهمته على الأرض:
{ فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى }
(طه:117)
لقد كان هذا هو قانون الفصل بين الذكر و الأنثى، و هو أن العمل سيكون للذكر و لا يكون للأنثى، و بمقتضاه تكون الأنثى في مكان السكن بعيداً عن مجال الذكر في عمله، فلا يحدث التداخل في المجالات، و بالتالي لا تجد تشويشاً، و لا انقطاعاً في التيارات، و يؤدي كلٌ عمله على أكمل وجه و أتم صورة.
و سبحان الله العظيم! كيف أنك تلاحظ كم تقل الخلافات و المشكلات في مكان عمل الرجال الذي يخلو من النساء، أو في مكان عمل النساء الذي لا رجال فيه.
و تأكيداً لهذا القانون أمر به الله ? في قوله:(1/94)
{ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً }
(الأحزاب:33)
أما القانون الثاني فهو قول الحق ?:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً }
(الأحزاب:53)
لقد أمر الله ? بفصل الذكر عن الأنثى بهذا الحجاب، عندما تلحُّ الضرورة للالتقاء بينهما في أمر لا غنى عنه في مسيرة عمارة الأرض، تماماً كما ارتأى علماء المادة وجوب عزل الأسلاك المتجاورة.
و هذا الحجاب يمنع تداخل الهالة المحيطة بالأنثى في الهالة المحيطة بالذكر، و يمنع تأثر كل منهما بطاقة الآخر، فلا ينفذ من هذا الحجاب إلا الصوت، و بما أن الصوت أيضاً عبارة عن طاقة، و لها تأثير لا يصده الحجاب و لا يمنعه، و بما أن طاقة صوت الأنثى ذات تأثير كبير في الذكر، فقد أمر الحكيم العليم الأنثى بتغيير طاقة الصوت ذاتها المنبعثة منها حيث قال في سورة الأحزاب:(1/95)
{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ
وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً}
(الأحزاب:32)
و من تطبيقات هذين القانونين التي قام بها رسول الله ? مبيناً عن ربه ?:
1 - أمر ? المؤمنات بأن يجعلن صلواتهن في بيوتهن، و بين لهن عظم الأجر على صلاتهن في البيوت، كما بين لهن أن صلاتهن في المساجد تفريطٌ في هذا الأجر، و لكنه سمح لهن بحضور صلاتي العتمة فحسب، حيث تؤمن الفتنة بالنظر، و لكنه تطبيقاً للقانون الأول جعل صفوف النساء بعيدة عن صفوف النساء بحيث لا تتداخل الهالات، كما أنه تطبيقاً للقانون الثاني جعل بين صفوف النساء و بين صفوف الرجال حجاباً عازلاً، ألا و هو صفوف الأطفال و الصبيان.
و لنمعن النظر في قوله ?:
"خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها. وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها".
رواه مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجه
فهل يعقل أن يكون في صف من صفوف المصلين خلف رسول الله ? شر؟ إلا أن يكون هذا الذي ذكرناه حقاً.
و بناء عليه يكون الشر على أشده في الصف الأول من صفوف النساء الذي يلي الصف الأخير من صفوف الرجال؛ لِما يحدث من التداخل بين هالات كل من الصفين، و إن كانوا جميعاً في صلاة، و إن لم يكونوا يعلمون عن هذا التداخل شيئاً بينما يكون صف النساء الأخير في منأى عن هذا التداخل الخطير، و كذلك يكون الصف الأول من الرجال خير الصفوف.
2 - تطبيقاً للقانون الأول أيضاً كان رسول الله ? إذا فرغ من الصلاة تأخر في القيام حتى ينفذ الإناث قبل الذكور، و بذلك منع ازدحامهم، أو تجاورهم عند الخروج من المسجد، فمنع تداخل الهالات مع بعضها بعضٍ.
3 - تطبيقاً للقانون الأول، و عندما رأى رسول الله ? المؤمنات يمشين مع الذكور في الطريق ذاته، أمرهن أن يمشين على حافات الطرقات لاصقات بالجدران ما استطعن.(1/96)
4 - تطبيقاً للقانون الأول أمر رسول الله ? نساءه بأن يحتجبن من ابن أم مكتوم، و قد كان أعمى لا يَراهُنّ.
5 - و من تطبيقات هذه القوانين في قصص الأنبياء ما قامت به بنتا شعيب عليه السلام عندما اضطرتا للخروج للعمل طلباً للرزق، حيث امتنعتا عن الاختلاط بالرعاء، و وقفتا بعيداً تنتظران فراغ الرعاء من سقي مواشيهم.
و من نتائج مخالفة أمر الله ? في هذين القانونين، و شيوع التداخل بين الهالات و المجالات المختلفة للطاقات، ما نراه حولنا في كل مجتمع ساوى بين الرجل و المرأة في الحقوق و الواجبات، و سمح بالاختلاط و التداخل بين الجنسين، و منها:
* شيوع الفاحشة في كل مكان على وجه الأرض.
* تفشي الأمراض النفسية في كلا الجنسين، و تفشي الأمراض الجنسية و الجسدية، و ظهور أمراض جديدة. و تفشي الرذيلة والجريمة في كل فئات المجتمع و خصوصاً في الأطفال.
* ظهور الجنس الثالث بتحول كثير من الرجال إلى أشباه النساء.
* ظهور الجنس الرابع بتحول النساء إلى أشباه الرجال.
* تردي العلاقات داخل الأسرة سواء بين الزوجين، أو بين الآباء و الأبناء و قلة عدد الراغبين بالزواج، و انهيار الأسر نتيجة كثرة الطلاق.
* انهيار الاقتصاد أو ترديه لأن الأعمال لم تعد تؤدى على الوجه الأكمل.
* هُدِّدتْ بعض الدول بالفناء نتيجة عدم الرغبة في الإنجاب، و نتيجة الزواج بين أفراد الجنس الواحد.
* نشأة أجيال جديدة من الأطفال المشوهين خَلْقياً و خُلُقياً و نفسياً، من الذين تربيهم الطرقات أو الدولة أو المؤسسات التجارية.
مكانة المرأة في الإسلام
أظن أننا بهذا القدر نكون قد رددنا على ما جاء في الكتاب من أخطاء و مخالفات لشرع الله سبحانه، و لا حاجة لمزيد من الأدلة و البراهين على صحة ما ذهبنا إليه و دللنا عليه، و ربما رأى البعض ألا حاجة للمضي بالكتاب أبعد من هذا.(1/97)
لكنْ لَمَّا كان هذا الموضوع من أخطر الثغور التي يحاول أعداء الإسلام التسلل منها للتشكيك في هذا الدين الكامل، و لَمَّا كان الكاتب ليس كاتباً عادياً بل هو من علماء المسلمين، و له كتب كثيرة في أمور هذا الدين، و هو مسموع الكلمة و واسع التأثير و لا يزال كتابه بحاجة إلى دراسة و نقد، فقد رأيت أنه من الأفضل أن أتتبع كل ما أخطأ فيه الكاتب من أفكار واحدة تلو الأخرى، حتى يزول كل لبسٍ في ذهن القارئ المسلم، خاصة و أن عمر كتابه الآن أكثر من ست سنين15، و لَمَّا يتوجه له أحد بتصويب و لَمَّا ينبه أحد على خطره.
أيكون العمل تسلية أم شقاءً و تنافساً؟
لنتابع حديثنا عن كتاب "المرأة بين طغيان النظام الغربي و لطائف التشريع الرباني" حيث يقول الكاتب أنه:
"أي الغرب عرَّض أنوثة المرأة للدمار، فضلاً عن أنه أقصاها عن إمكانية التفرغ لرعاية أولادها، و أداء واجب تربيتهم.
أما أنه عرض أنوثتها بذلك للدمار؛ فلأنها ُأخرجت إلى العمل من أجل الرزق اضطراراً لا على وجه التسلي و الاختيار. و من ثم فإنها لا تملك أية فرصة لاختيار العمل المناسب لها و المتفق مع أنوثتها. إذ المسألة بالنسبة لها تتعلق بضرورة عيش و لا بد في هذه الحالة أن تقدم أنوثتها و كرامتها قرباناً- إذا اقتضى الأمر- في سبيل حياتها و ضروريات عيشها." (صفحة 28).
أمّا أن الغرب قد عرَّض أنوثة المرأة للدمار فهذا صحيح، بل و قد دمرها تماماً و أمّا أنه أقصاها عن التفرغ لأولادها فهذا أيضاً صحيح. و لكن أن يدعي أحد أن المرأة لا تخرج إلى العمل إلا على وجه التسلي، فهذا و الله لا يرضى به رجل رشيد.
فمتى كان العمل للتسلي؟ و قد سماه الله ? في كتابه الكريم "شقاء" كما رأينا، و ما أوسع البون بين كلمتي "يعمل" و "يتسلى" و شتان بين مَنْ ذهب ليعمل و بين مَنْ ذهبت لتتسلى.(1/98)
ثم متى كان العمل اختياراً؟ اللهم إلا فيما ندر، و خاصة في زمن ترتفع فيه نسب البطالة إلى معدلات مخيفة، و حتى أكفأ الرجال يكاد لا يستطيع أن يجد عملاً فكيف يمكنه أن يختار؟، بل تراهم يرضون بأي عمل و لو دون قدراتهم و مواهبهم راضين بالأجر الزهيد و شروط العمل القاسية من أجل كسب رزقهم.
و مما زاد الأمر سوءاً خروج المرأة للعمل متعدية على دور الرجل، و مزاحمة له فيه، فلا هي قامت بمهمتها في بيتها، و لا هي تركت الرجال يقومون بمهمتهم من كدح و كسب للعيش، إذ أن أرباب العمل يفضلون النساء على الرجال في بعض الأعمال، لكونهن و حتى يومنا هذا، و حتى في أكثر الدول تقدماً يتقاضين الأجر الأقل، و لأنهن أسهل قياداً، و أكثر جمالاً و رقة، و لأنهن صيد سهل لمن يريد عبثاً من المنحرفين و ما أكثرهم!
و يقول الكاتب، و هو يتكلم عن سلم الأولويات الذي يجب على المرأة أن تراعيه عند تفكيرها بالعمل:
"و يزداد الحق في هذا الذي نقوله و ضوحاً؛ عندما تجد الزوجة نفسها مندفعة إلى الوظيفة أو العمل ، لمجرد مطمع في وجاهة اجتماعية ، أو لمجرد رغبة في التمتع بمزيد من المال.. إنها في هذه الحالة تغامر بدون شك بحياتها الزوجية أو بالسعادة التي ينبغي أن تشيع بينها و بين زوجها، كما تغامر بما قد يكون أهم من ذلك ، ألا و هو رعاية الأولاد و التفرغ لحسن تربيتهم ، في سبيل هوى من الأهواء العابرة و ابتغاء متعة سرعان ما تتحول إلى أعباء ثقيلة من المغارم." (صفحة 65).
سبحان الله !! و هل ينفك إنسان عن حب المال ذكراً كان أو أنثى؟!.
إن دافع الرجال إلى العمل هو حب المال، الذي زين في قلوبهم، حتى ليعدل حبهم للمال حب الأولاد و النساء، و اقرأ إن شئت قول الحق ?:
{ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً }
(الفجر:20)
{ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً }
(الكهف:46)(1/99)
و حب المال هذا ليس وقفاً على الرجال من دون النساء، بل زُين للناس جميعاً حب المال كما قال الحق ?:
{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ
وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ }
(آل عمران:14)
بحب المال يندفع الرجال إلى مجالات العمل المتنوعة، و يتحملون ألوان التعب و الشقاء متنافسين فيما بينهم، كل يبرز الموهبة التي اختصه الله بها؛ لينال العمل الذي يرغب فيه، فإذا ناله غيره بتفوق كان فيه، رضي هو بما دونه و هكذا، فلا مجال للتسلية، و مجالات الاختيار ضيقة جداً.
و لو دخلت المرأة مضمار التنافس هذا على أساس الكفاءة و القدرة، لما صمدت النساء لحظة في هذا المضمار أمام الرجال، إذ لا يمكن للمرأة بتكوينها الفطري أن تنافس الرجل جسدياً و لا فكرياً. و جُلُّ الأعمال تدور في هذا الفلك.
أما إن كان التنافس بين الرجال و النساء فيما تبزّ المرأة به الرجل من جمال و رقة و نعومة و سهولة انقياد و رضا بالزهيد من الأجر، فلا قوة و لا صمود لرجل أمامهن. و هنا مكمن الداء، إذ تنقلب الأدوار فتتهتك الأسر، و تتدنى الأخلاق و تكون النتيجة انهيار المجتمع، و ليس هذا ضرباً من التشاؤم، بل هو واقع نراه بأعيننا في كثير من دول العالم من حولنا، و وصفه الكاتب في كتابه "المرأة" حيث قال:
"و انظر إلى المجتمعات الغربية اليوم ؛ كم تندب حظها التعيس في انهيار الأسرة الغربية، و في تحول المنازل التي كانت يوماً ما خلايا مقدسة لأسر متماسكة. إلى (موتيلات) صغيرة يأوي إليها أشخاص تقطعت مما بينهم صلات التعاون و القربى فلم يعد يجمعهم إلا المبيت في هذه الملتقيات. " (صفحة 67).(1/100)
أما إذا تنافست النساء فيما بينهن في طلب الأعمال، فبعد أن تستنفد النساء قدراتهن و مهاراتهن في المنافسة، يعمدن إلى التنافس بأولى عوامل الإغراء و الإغواء ألا و هي الجمال. فإذا أبرزت كل واحدة منهن مفاتنها الجسدية رأيت ما نراه اليوم في الغرب من انحلال الأخلاق، و تفشي الرذيلة، و رخص النساء، حتى لا تصمد عفة إحداهن أمام ابتسامة من رب العمل أو أحد المقربين إليه.
و بعد هذا كله يريد الكاتب أن تتخذ المرأة من العمل تسلية لها، و أن تُمضي فضول وقتها في أي شيء، فالمهم أن يخرجهن من بيوتهن، و كأن البيت سجن لا يطاق القعود فيه، و ما البيت إلا ذلك المكان الذي لا يكاد الرجل ينتهي من عمله حتى يهرع إليه طلباً للراحة و السكينة، و ربما كان يحلم به طيلة يومه.
المهر
تحت عنوان "مكانة المرأة في الإسلام - المرأة و حق الأهلية"، يكشف الكاتب عن نظريته في بيان الحكمة من المهر الذي حكم الله ? به للمرأة فيقول:
"و شرع الله المهر عطية للمرأة عندما تتزوج ، تحقيقاً لما لديها من الرغبة الفطرية في التملك، و تعويضاً لها عما يكون قد فاتها من فرص العمل التي تكون في العادة ميسرة للرجال أكثر منها ، و التي هي المصدر الرئيسي للتملك" (صفحة 51).
ثم يناقض الكاتب نفسه بنفسه كما عوَّدنا، فها هو يخبرنا في مكان آخر من الكتاب ذاته عن نظرية أخرى للحكمة من المهر، و لكنها مناقضة تماماً للأولى، و فيها يرى أن الحكمة من المهر هي تعويض المرأة عن حرمانها من حقها في تطليق زوجها و كأنه نسي تماماً ما ذكره آنفاً حين وضع نظريته الأولى فيقول:
"لقد جعل الله تعالى من الطلاق مغنماً للرجل، و ربطه بالمهر و النفقة اللذين جعلهما الله مغرماً عليه، و في المقابل فقد جعل الله من المهر والنفقة مغنماً للزوجة و ربطهما بالطلاق الذي جعله الله مغرماً عليها.(1/101)
و معنى ذلك أن المرأة غرمت الطلاق ، و لكنها غنمت بالمقابل مهرها المتقدم و المتأخر كاملاً , و أن الرجل غرم المهر و لكنه غنم بالمقابل حق الطلاق." (صفحة 136).
هكذا و بكل بساطة يقوم الكاتب بالتشريع وفق هواه، فتارة يكون المهر و النفقة مساويين للطلاق، و تارة يكون المهر تعويضاً عن فرص العمل، و ما كلف نفسه إيراد دليل من قرآن أو سنة أو أثر أو منطق أو علم على أي من النظريتين المتناقضتين اللتين قام بطرحهما.
لقد جعل الكاتب الحكمة من إعطاء المهر للمرأة هو تعويضها عن فرص العمل التي تفوتها "في العادة"، و كأن الله ? يشرع بحسب العادات التي يراها من عباده، و ليس بحسب ما بينَّا من الحكمة في توزيع الأدوار على الخلق بحسب الحكمة في تكوينهم.
أليس من الأجدر به أن يقول: إن الله ? شرع المهر للمرأة لأنه حرَّم عليها أن تعمل؟
و إلا فإن المرأة العاملة التي لم تفتها فرص العمل، وفق نظرية الكاتب الأولى، ليس لها أن تأخذ المهر من طالب الزواج منها، بل على العكس: إنْ كان الخاطب عاطلاً عن العمل وجب عليها أن تدفع له مهراً لتعوضه عن فرص العمل التي فاتته "حسب العادات الجديدة"!.
منشأ الخلافات و تفكك الأسرة
يقول الكاتب:
"و انظر إلى المجتمعات الغربية اليوم ، كم تندب حظها التعيس في انهيار الأسرة الغربية. و في تحول المنازل التي كانت يوماً ما خلايا مقدسة لأسر متماسكة. إلى (موتيلات) صغيرة يأوي إليها أشخاص تقطعت مما بينهم صلات التعاون و القربى فلم يعد يجمعهم إلا المبيت في هذه الملتقيات. ثم تساءل معي : ما الذي يجعل صلات القربى -و هي موجودة- تنقطع مما بينهم ؟
إن الذي قطع هذه الصلة إنما هو استقلالية كل من أعضاء الأسرة الواحدة؛ في تحمل مسؤوليات نفسه : فالزوجة الأم ، والبنت الرشيدة البالغة، و الزوج الأب، كل منهم مسؤول عن نفسه، و من ثم فعلى كل منهم أن يبحث عن معيشته التي يحلم بها؛ من خلال جهده الشخصي و كد يمينه" (صفحة 67).(1/102)
لقد ذكر الكاتبُ طرفاً من السبب، و أهمل الطرف الآخر، فذكر استقلالية أعضاء الأسرة خارج البيت، و أهمل الاستقلالية التي تكون داخل البيت الذي يأوي إليه كل أفراد الأسرة بعد إنهاء عملهم.
فإذا عاد الأب مشحوناً متوتراً من عناء عمله إلى البيت الذي أراده الله ? سكناً له و عادت الأم كذلك منهكة، و عادت الابنة و الابن كلهم يريدون السكن في هذا البيت، الذي لم يكن فيه من يقوم بإعداد مقومات السكن الذي ينشده الجميع، فكيف لهم أن يسكنوا فيه، و يفرغوا شحنات توترهم، ثم يستعدوا لبدء يوم عمل جديد في الغد؟
من منهم سيقوم بتحضير الطعام؟ كلهم متعبون، من سيعدُّ لكل منهم أسباب الراحة الجسدية ليقوى على شقاء الغد؟ من ذا الذي سيعود للعمل مجدداً برغبة و نشاط و سرور؟ من سيقوم بإفراغ شحنات التوتر؟ كلهم متوترون، أين ستجد هذه العائلةُ الراحة؟ و متى؟ و كيف؟
لقد أغفل الكاتب هذا الطرف الهام من السبب أو غفل عنه، رغم أنه من أهم أسباب تفرق الأسر و شتاتها في الغرب و الشرق و الشمال و الجنوب. و إنك لو اطلعت على ملفات القضاء في أي بلد تفشت فيه ظاهرة عمل النساء، لوجدت الخلافات الناجمة عنها تملأ الرفوف. و لو تتبعت أسباب الطلاق فيها لوجدت من أكبر أسبابه عمل المرأة خارج بيتها، فترى إحداهن ترفض بعد أن انخرطت في عملها حتى أن تصنع كوباً من الشاي لزوجها بذريعة "إذا كان الكل يعمل خارج البيت فالكل يعمل داخله"، و من هنا تبدأ رحلة الخلافات التي لا تنتهي غالباً إلا بأبغض الحلال إلى الله.
فضلاً عن نشوء مشكلات جديدة في المجتمع، مشكلات اجتماعية عاطفية يكاد لا يخلو منها مكان عمل فيه اختلاط.
انظر إلى واقع الاختلاط من حولك في المكاتب و المعامل و الطرقات، ماذا ترى؟(1/103)
فتيات وقعن في مصيبة الحب، و أوقعن أسرهن و ربما أسراً أخرى في جريرة هذه المصيبة؛ التي ما نجمت إلا من عمل الفتاة خارج بيتها و اختلاطها بالرجال، حتى إن إحداهن لترى زميلها في العمل أكثر من رؤيتها لأخيها أو أبيها و حتى زوجها فتعتاد على رؤيته، و تجاذب أطراف الحديث معه، و تتولد بينهما المودة، فتذهب العواطف بالنساء كل مذهب، و تكون العواقب غالباً غير محمودة.
فالفتاة ترى أن زميلها هذا أكثر وسامة من زوجها، و أرق معاملة منه، فهو يحسن الاستماع إليها أكثر مما يفعل زوجها. و ترى الآخر قوياً مفتول العضلات وله ابتسامة ساحرة، و يجيد ملاطفة النساء، و آخر لطيف المعشر و خفيف الظل، و لا تحلو الجلسات إلا معه، و هذا غني مترف يمكن أن يوفر لها من رغد العيش ما لا يحلم به زوجها، و .. و .. ، و في هذا الجوّ يرمي الشيطان حبائله، فيوسوس في صدرها بما شاء، فليتها تعرفت عليه قبل أن يخطبها زوجها، و ليتها تجد وسيلة للتخلص من هذا الزواج، و ليت وليت ... إلى أن تقع في حبائل الشيطان عاجلاً أو آجلاً، و إن هي كلّت و يئست، فلن يكلّ الشيطان، و لن يهدأ.
و كذلك يرى الرجل من ألوان النساء الكثير، و يتحدث إلى كثيرات و يختلط بكثيرات، فهذه أجمل من زوجته، و هذه أكثر رقة و نعومة، و تلك تفوقها ظرفاً و .. و .. ، فيعود إلى زوجته مساء زاهداً فيها، و يتمنى لو أنه تمهل قبل أن يقدم على الزواج. و ربما كانت زوجته من الجميلات، و لكن البشر عامة -و الرجال خاصة- يحبون التغيير، و يرغبون في كل جديد. كما أن تعوُّد الرجل على رؤية زوجته يفقدها جاذبيتها و جمالها مع السنين، فيبدو الجفاء في تصرفاته، و البغض في نبراته، وقد تتحول حياة الأسرة من نعيم إلى جحيم.(1/104)
قَالَ حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ ? يَقُولُ: "تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُوداً عُوداً، فَأَيّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا16 نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ. وَأَيّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ. حَتّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْل الصّفَا، فَلاَ تَضُرّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السّمَوَاتُ وَالأَرْضُ، و يصيرالاَخَرَ أَسْوَدَ مُرْبَاداً17 كَالْكُوزِ مُجَخّياً 18لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفاً وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَراً، إِلاّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ".
رواه مسلم
لقد بيّن الذي لا ينطق عن الهوى أن الفتنة لا تأتي دفعة واحدة، بل تعرض الفتن على القلوب شيئاً فشيئاً. أي أن المرأة أو الرجل إذا اجتمعا في إطار عمل، أو علم واحد، لا يحدث المحظور من أول لقاء بينهما، بل يكون الأمر كما قال الشاعر أحمد شوقي رحمه الله:
نظرة فابتسامة فسلام ……فكلام فموعد فلقاء
و نورد فيما يلي ثلاثة أمثال تبين بجلاء كيف تُعرض الفتن علىالقلوب عوداً عوداً حيث يصبح كل عود أساساً للعود الذي يليه يرتكز عليه، حتى يكتمل حصير الفتن الأسود.
المثال الأول:
هذه فتاة مسلمة تستفتي الكاتب عبر صفحات الإنترنت عن فتنة تتعرض لها هي و جميع الفتيات اللواتي تجمعهن الدراسة المختلطة في الجامعة مع الشباب فتقول:
"أنا طالبة في الجامعة التي يوجد فيها اختلاط، ففي أي المجالات يجوز التحدث إلى زملائي، وهل يجوز إلقاء التحية عليهم ؟ "
و يجيبها الكاتب:
"كل حديث يُبتَغَى منه مصلحة دراسية أو نحوها ، مع الانضباط بقواعد الحشمة والحجاب الإسلامي ، الأصل فيه الإباحة بشرط أن يكون الزميل الذي تحادثينه يغض النظر، ولايسترسل فيه استجابة لأهوائه وغرائزه ، وبشرط ألا تكون ثمة خلوة بمعناها الشرعي بينكما ."(1/105)
لقد قفزت هذه الفتاة فوق حكم الله ? بتحريم نظر الرجل إلى المرأة، و تحريم نظر المرأة إلى الرجل، و أصبح النظر بالنسبة لها من المباحات التي لا نقاش فيها و لا جدال و لا داعي للسؤال عنها، إذ أضحى الاختلاط بين الجنسين أمراً مشروعاً لا مناص منه!!. و كانت هذه هي النكتة السوداء الأولى التي نكتت في قلبها و قلب كل فتاة خالطت الرجال، تنظر إليهم و ينظرون إليها و لا تجد في ذلك بأساً. و بناء على هذه النكتة سيسترسل الشيطان بنسج حصير الفتنة في قلبها.
لقد فعلت هذه النكتة السوداء فعلها عندما أعمت القلب عن الحق، و دفعت بصاحبتها باتجاه هاوية الهوى، فأخذت أهواء الفتاة المسلمة تسعى سعياً حثيثاً لتضع بجانب العود الأول عوداً آخر. فبعد تمتعها بالنظر إلى زملائها و نظرهم إليها تاقت نفسها إلى التقرب منهم أكثر فأكثر، فالتمست من يفتي لها شرعية محاورة الشباب و تجاذب أطراف الحديث معهم، و إلقاء التحية عليهم.
و كأنها تريد أن تتفلت من أحكام الإسلام المتنافية مع شهوتها، و لكنها في الوقت نفسه لا ترغب في أن يقال عنها متفلتة أو غير مسلمة، فبعثت برسالتها إلى الكاتب تسأله عن سبل الخلاص؛ ناسية أن مجرد وجودها في جو الاختلاط هذا محرم في دين الله، ناهيك عن نظرها إلى الرجال أو نظرهم إليها.
و بما أن الكاتب قد أفتاها بما لا يشفي هواها، فأظنها قد عمدت إلى تكرار المحاولة مع غيره من العلماء حتى تظفر بمن يفتيها بحسب هواها، عندئذ ستنكت في قلبها نكتة سوداء ثانية تساند الأولى في دفع هذه الفتاة و مثيلاتها إلى المهالك، و هكذا نكتة بعد نكتة إلى الهاوية و العاقبة الوخيمة.
و الله ? عندما حذّر عباده من الفاحشة قال:
{ وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً }
(الإسراء:32)(1/106)
أجل لقد ساء سبيلاً؛ لأن الذي يقود كلاً من الذكر و الأنثى في هذا السبيل، و يزين لهما الطريق إنما هو عدوهما الأول و الأعظم كيداً، الذي لا يهدأ، و لا تقرّ له عين حتى يرى أبناء آدم منغمسين في المعصية و أيّة معصية! فيبدأ أولا بتهوين أمر النظر، ثم يهون عليهم أمر الحديث، فيبدأ بتزيين الحديث الجاد ثم الحديث المسلي ثم ... ثم ...، حتى و إن أردى ضحاياه في الفاحشة، فلن يهدأ أبداً حتى يطمئن أنهم مرافقوه إلى النار، و العياذ بالله.
و لا يغفل عاقل عن دور الشهوة التي تكون في أشدّها عند الشباب من طلاب و طالبات، هذه الشهوة التي تساند الشيطان الرجيم في جرّهم إلى النار، فإن هم أطلقوا العنان لها كانوا كمن يشرب من الماء المالح، كلما شرب منه ازداد عطشاً و لن يرتوي و لو شرب البحر.
المثال الثاني:
و كذلك فعل هذا الشاب الجامعي المسلم الباحث عن التفلت من أحكام الإسلام، و لكنه لا يطيق التخلي عن لقب الإسلام! فها هو يسأل عبر الإنترنت:
"هل يعتبر جلوس الشاب مع الفتاة في رواق الجامعة أو في حديقتها أو في الحدائق المجاورة للسكن خلوة وحراماً ( وهناك من يمر جيئة وذهاباً قربهما ومن يجلس على بعد أمتار منهما ) ؟ أحب صديقتي في الكلية، وأود خطبتها، ولكن أهلي لا يرضون بها كونها من محافظة أخرى، وتكبرني بسنة وجمالها، عادي وأحبها لأخلاقها ودينها وبساطتها ( وأهلي لا يودون فتاة تُحَبُّ قبل أن تخطب ) وأنا أشعر بالشوق إليها ورؤيتها كل يوم، وأتعب عند عدم رؤيتها، ومضى علينا سنة وهذه الثانية ولاأدري إلى أين ."
فأجابه الكاتب:
"هذا الجلوس الذي تصفه لا يعدّ خلوة ، ولكن حتى ولو لم يكن خلوة هو غير جائز إن لم يكن لذلك الجلوس غرض مشروع . إن كنت تعني بالأهل أبويك ، إذاً يجب عليك اتباع أمرهما ، ولايجوز لك مخالفتهما في هذا الأمر . "(1/107)
تماماً كما هي الحال مع تلك الفتاة، يتوق الشاب إلى أكثر من النظر إلى وجه زميلته، فالنظر عنده حلال لا ريب فيه!، و لكن حديث الأحداق لا يروي الأشواق، و هو منجرف وراء شهوته لا يستطيع السيطرة عليها، فقد نالت منه النكتة السوداء الأولى و وضعت غشاوة على عينيه و سواداً في قلبه، فالتمس الشاب عالماً مسلماً يُحلّ له ما هو فوق النظر ليروي شهوته؛ لأنه لا يحب أن يقال عن عمله حرام، كما لا يريد أن يُحرم لقب "المسلم".
أجل تلك هي النكات السوداء، و هذا هو فعلها في القلوب، يشد بعضها بعضاً و يُكمل بعضها بعضاً حتى يكتمل الحصير، فتعمى القلوب إن هي امتلأت بالسواد فلا تُنكر منكراً، و لا تعرف معروفاً.
و إنّ تفلُّت الإنسان من أحكام الشرع مثل تردي الصخور من أعالي القمم، حيث تبدأ بالتردي ببطء، ثم لا تلبث أن تتدرج في سرعة هويها حتى لا يقوى على الوقوف في وجهها شيء إلى أن تنحط في قعر الهاوية.
و الأمر الأخطر الذي أريد بيانه هو أن الكاتب نفسه نسي أن يُذَكِّر كلاً من الشاب و الفتاة بأن وجودهما في بؤرة الاختلاط هذه، هو الخطأ الأول الذي خلق لهم هذه المتاعب، و أن الله ? قد حرم عليهما مجرد النظرة الأولى العارضة، و نسي أن يخبر الشاب أن ممشاه مع صديقته إلى أي مكان و في أية حديقة أو بستان هو خطيئة بحد ذاته.(1/108)
إن الله ? قد حرم نظرة الفجأة، فقال رسول الله ? لمن سأله عنها: "اصرف بصرك"، و الله ? قد حرم نظر النساء إلى الرجال، كما حرم نظر الرجال إلى النساء، و لكن الكاتب اكتفى بأن نبه الفتاة إلى خطر استرسال زميلها في النظر إليها استجابة لأهوائه، و لم ينبهها إلى خطر نظرها إليه أو استرسالها فيه، و قصر الحرمة على استرساله هو بالنظر إليها، ثم أباح لها الجلوس إليه، و تجاذب أطراف الحديث في مصلحة دراسية أو نحوها (و ما أعظم هذه المصلحة التي لا تتم إلا بجلوس ذكر إلى أنثى!!)، و لست أدري كيف يجلس شاب و فتاة للحديث في أي موضوع دون أن يسترسلا بالنظرات ما داما في مجلسهما!.
عن جرير بن عبد اللّه البجلي ? قال: سألت النبي ? عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري.
رواه مسلم و أبو داود والترمذي والنسائي
و هل يعقل أن يصل شاب و فتاة إلى مرحلة المجالسة دون أن يكونا قد تخطيا من المقدمات الكثير الكثير؟، فهو قد أشبع ناظريه منها فرأى فيها ما يعجبه، و هي قد أشبعت ناظريها منه، و خاطبته في أمور الدراسة فرأت منه ما يدفعها للجلوس معه دون غيره من زملائها. فوالله الذي لا إله إلا هو لو لم تُثر فيه شهوة، و لو لم يُثر فيها شهوتها، لما تاق إلى الجلوس إليها في مصلحة دراسية وهمية تاركاً كل زملائه الشبان، و لما أحبت و طلبت الجلوس إليه في مصلحة دراسية مكذوبة دون كل صديقاتها الفتيات. و هل حقاً أن المصلحة الدراسية للشاب لا تكون إلا عند الفتيات؟ و بالمقابل فإن المصلحة الدراسية للفتاة لا تكون إلا عند الشباب؟!، أم أنها مصلحة شيطانية؟.
إنّ الأمر ليس زمالة و لا صداقة، إنها الغريزة التي تكون في أوجها عند الشباب من طلاب و طالبات الجامعات، إنه التجاذب الغريزي بين الذكر و الأنثى، الذي يمارس بعيداً عن شرع الله سبحانه.(1/109)
فالشباب و الشابات يدخلون الجامعة في الثامنه عشرة من العمر، و هذه المرحلة هي من أخطر المراحل على كل منهم، يعلمها علم يقين كل من مر بها من أساتذة الجامعات و أولياء أمور الطلاب و الشيوخ و المفتون، و لست أدري و الله كيف يتجاهلونها، و يتجاهلون خطرها، و هم يعيشونها كل يوم، و لا ينبهون عليها و لو تلميحاً!!.
و إذا أمعنا النظر في سؤال هذا الشاب المسلم، نجد آثار السواد الذي حلَّ في قلبه تظهر جلية على لسانه، حيث يقول:
"وأنا أشعر بالشوق إليها ورؤيتها كل يوم، وأتعب عند عدم رؤيتها، ومضى علينا سنة وهذه الثانية ولاأدري إلى أين ."
و نجيبه عن سؤاله "إلى أين؟" بقول الحق ?:
{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى }
(طه:124-126)
رأينا أن مبدأ الشر كله بين الذكر و الأنثى من النظر الذي حرمه الله و رسوله بشطريه، فحرم نظر الرجل إلى المرأة كما حرم نظر المرأة إلى الرجل، و رحم الله ? المؤمن إن كان قد نظر عرضاً النظرة الأولى، فلم يكتبها عليه سيئة، بينما تكتب عليه النظرة الثانية، و اعتبر إطالة النظرة الأولى كالنظرة الثانية إن هو لم يصرف بصره.
و لا تحسبنّ أن مسلماً أو مسلمة أو أي إنسان قام أبواه بتربيته التربية الحسنة، لا يستنكر فعل الفاحشة بل حتى يستنكر ذكرها و الحديث فيها، و لكن ما بال الفاحشة شاعت في الذين آمنوا؟(1/110)
إنه الطريق المتدرج الذي يؤدي في النهاية حتماً إلى الفاحشة، و أول خطوة فيه تكون النظرة، فإذا تساهل المسلم أو المسلمة في النظرة نكت في قلبه أو قلبها نكتة سوداء، و هذه النكتة السوداء ستفعل فعلها في القلب، فإذا تبادلا البسمات نكتت نكتة أخرى، ثم إذا تحادثا نكتت نكتة أخرى، و هكذا حتى تصبح القلوب سوداء أبعد ما تكون عن ربها.
و ما أسهل استدراك الأمر من البداية، لكن إذا استمرأ المسلم معصية ربه أمراً بعد أمر، و مرة بعد مرة، شقَّت عليه العودة إلى الحق؛ لأن الهوى إذا ملأ القلب لم يترك فيه مكاناً للحق.
و لذلك كان أمر الله ? لعباده المؤمنين بالابتعاد عن كل ما قد يؤدي إلى القرب من الزنى، لأن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
{ وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً }
(الإسراء:32)
فما جاء في كتاب الله العزيز نهياً للمؤمنين عن الزنى، بل نهاهم الحق عن القرب منه و عن مقدماته التي تؤدي إليه حتماً فقال لا تقربوا الزنى، فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، و أول هذه المقدمات و أول خطوة في هذا السبيل هي النظرة.
المثال الثالث:
هاهي فتاة أخرى قطعت شوطاً أكبر في هذا السبيل، تشتكي للكاتب، و تسأله سبل
النجاة في رسالة أرسلتها له عبر الإنترنت، و ما أصابها ما أصابها إلا نتيجة لما يبثه الكاتب -غفر الله لنا و له و للمؤمنين- من نظريات الاختلاط في كتابه هذا.
تقول الفتاة:(1/111)
"أنا فتاة في التاسعة والعشرين من العمر . تعرفت منذ أربع سنوات على زميل لي في العمل ، ملتزم وعلى خُلُق ومتزوج وعنده أولاد، وقد عرض علي الزواج بعد أن شرح لي ظروفه ، لكنه طلب مني بعض الوقت كي يمهّد لزوجته وأمه، وينهي بعض الالتزامات المالية المترتبة عليه ، وأنا رضيت بعد أن استشرت أخي ووافق، وبعد أن اشترطت عليه العدل بيني وبين زوجته . وقد تعلقت به كثيراً خلال هذه الفترة خاصة وأنني كنت ألتقي به في العمل، وكنت أرسم أحلاماً جميلة وآمالاً عراضاً . بعد ذلك علمت زوجته بالأمر فثارت بشدة، وهددت بترك البيت، وطلبت الطلاق فأذعن لرغبتها، وتركني مع العلم أنه كان قد مر على علاقتي به ثلاث سنوات، وكنا على وشك أن نتمّ كل شيء . أنا الآن أشعر بغير قليل من الألم والانكسار، وأشعر بالعذاب لما أنا فيه خاصة، وأنني بتُّ عاجزة عن نسيان كل ذلك وأشعر أنني تأذيت كثيراً . ما أريد سؤاله هو : ما حكم منع زوجته له من الزواج مني علماً أنها لم تشترط عليه ذلك بالطبع في العقد؟ وما هو حكم تركه لي بعد وعده علماً بأنني لم أخطىء في حقه بأي شيء؟"
لقد اعتبرت الفتاة نفسها بحكم زوجة زميلها، إذ تسأل "ما هو حكم تركه لي بعد وعده؛ علماً بأنني لم أخطئ في حقه بأي شيء؟" و لم تدر الفتاة أنها لا حق لها على زميل لها في العمل، و لا حق له عليها في شيء، و أن ليس في الشرع حكم فيمن ترك زميلة له كان قد وعدها بالزواج، و لم يتطرق لهذا الموضوع حكم سماوي أو دنيوي!.
لقد اعتبرت نفسها نداً للزوجة، و لها الحق في الرجل مثل الذي لزوجته، فكما أن زوجته دافعت عن أسرتها ظنت أن لها هي أيضاً الحق في الدفاع عن أحلامها، و ما هي إلا زميلة له في العمل خالفت أمر الله ? في القرار في البيت، فوقعت فيما أراد الله ? أن يجنبها مغبته.(1/112)
لقد أحبت الفتاة زميلها بعد سنة من تواجدهما معاً في العمل، و هذه نتيجة طبيعية لوضع خاطئ كهذا، فالرجل كان يراها أكثر مما يرى زوجته، و يتكلم معها أكثر مما يتكلم مع زوجته، و يمضي من يومه معها قسماً أكبر مما يمضيه مع زوجته و أولاده، و هي تمضي معه وقتاً أكبر مما تمضيه مع أهلها، و هو ذكر و هي أنثى و بينهما ما بينهما من التجاذب الغريزي، فماذا تنتظرون بعد هذه المقدمات؟.
لقد نشأت بينهما أمور كثيرة مشتركة تجمعهما و تقربهما إلى بعضهما بعض، و يوماً بعد يوم، و أسبوعاً بعد أسبوع، و شهراً بعد شهر وقع الذي لا مفر منه. فلا يتوقع عاقل أن المرأة يمكن أن تنظر أو تفكر بالرجل و كأنه امرأة مثلها، و لا يتوقع عاقل أنه يمكن للرجل أن ينظر و يفكر بالمرأة و كأنها رجل مثله، اللهم إلا إن كانا شاذين.
إن النتيجة التي لا مهرب منها أن ألفها و ألفته، حتى تطورت بينهما الألفة إلى أن صارت تعلقاً، و بنيت عليها أحلام و آمال جميلة، و لكن الأحلام لا تجدي من الحق شيئاً.
و لننظر إلى بعض العواقب الوخيمة للاختلاط في ضوء ما قالته الفتاة في رسالتها:
1 - "علمت زوجته بالأمر فثارت بشدة، وهددت بترك البيت وطلبت الطلاق".
أي أن أسرة الرجل عاشت أوقاتاً عصيبة، و كادت أن تتحطم لولا رحمة الله ?.
2 - "فأذعن لرغبتها، وتركني مع العلم أنه كان قد مر على علاقتي به ثلاث سنوات". لقد انجرفت الفتاة وراء عاطفتها انجرافاً، حتى أنها اعتبرت ما بينها و بين الرجل علاقة أقوى من علاقته بزوجته، و استغربت أن يذعن لرغبة زوجته و يدعها في أحلامها.
3 - "أنا الآن أشعر بغير قليل من الألم والانكسار وأشعر بالعذاب لما أنا فيه خاصة، وأنني بتُّ عاجزة عن نسيان كل ذلك، وأشعر أنني تأذيت كثيراً".
خرجت الفتاة من هذه التجربة كسيرة متأذية على حد قولها، و ستعيش زمناً في عذاب إذ لا تندمل جراح القلوب سريعاً، و هذه نتيجة حتمية لكل من جعل حكم ربه وراء ظهره.(1/113)
{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى }
(طه:124)
و لننظر ماذا كان جواب الكاتب لها على صفحات الإنترنت:
"أعتقد أنه لو تم الزواج بينكما ، لنالك من ذلك الزواج عذاب مبرح ، بسبب ظروفه والحال التي وصفت بها زوجته . فاحمدي الله أن حماك من الوقوع في ذلك العذاب واسأليه أن يعوضك عما فاتك خيراً . وأغلب الظن أن الله سبحانه سيكرمك بالزوج المناسب عما قريب ، فاصبري ولا تجزعي . "
لقد تجاهل الكاتب سبب المشكلة الأساسي، و لا تُحل أية مشكلة في الوجود إلا بالبحث عن سببها، ثم العمل على علاجه أو تفاديه في المرات القادمة، أما المهدئات و المسكنات فإنها تخفف الآلام، و لكنها لا تقضي على المرض.
و أبرز ما نلاحظه في جواب الكاتب لهذه الفتاة هو قوله "أعتقد" و "أغلب الظن" و هو كلام في الغيب، لا يسمن و لا يغني من جوع، و بعيد عن التماس الحل لها و لأمثالها.
و يجب أن نلاحظ أيضاً أن الفتن لا يسلم منها العلماء، فَهُمْ بَشَرٌ ممن خَلَق، و إن الفتن تعرض على الجميع، و تعمل النكت السوداء عملها في كل القلوب، فهاهو الكاتب الذي أباح للمرأة العمل كالرجال مساوياً إياها بهم في الحقوق و الواجبات (فكانت هذه النكتة السوداء الأولى في حقه)، نراه يسمح لهن بالخروج و الاختلاط و لا يرى فيه بأساً و لو كان على سبيل المتعة أو اللهو المباح (و هذه هي النكتة الثانية)، و بما أنه أباح الاختلاط فنراه قد أباح النظر في النكتة الثالثة، و لكنه وقف عند هذا الحد فمنع الاسترسال فيه.
و ربما انتهى دور هذا العالم عند هذا الحد، و سيأتي من يكمل حصير الفتن بعده حتى الهاوية.
و ليرجع من يريد إلى المثال الآخر الذي أورده الكاتب في كتابه (صفحة 168-169)، فهو يدل بوضوح أكبر على النتائج الوخيمة لحياة الاختلاط بين الذكور و الإناث، التي لا تنال الرجل و الفتاة خاصة، بل تمس المجتمع بأكمله.(1/114)
هكذا تكون عاقبة الاختلاط بين الرجل و المرأة في عمل أو غيره، و لعلم الله ? بعباده فرّق بينهما بأن نزّه المرأة عن العمل، و ألزم كل من وَلِيَ أمرها من الرجال بنفقتها صوناً للمجتمع مما علم من آثار الاختلاط بأزلية علمه ?، و مما نراه في أيامنا هذه في أكثر المجتمعات تحضراً و أكثرها تخلفاً من فساد و مآسٍ. و لن يستطيع بشر أن يقلل، أو يحد من طبيعة انجذاب الذكر للأنثى أو الأنثى للذكر، تلك الغريزة التي أسس الله ? عليها بقاء هذا النوع.
هل يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة؟
قال رسول الله ?:
عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: لَقَدْ نَفَعَنِي اللَّهُ بِكَلِمَةٍ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ? أَيَّامَ الْجَمَلِ بَعْدَ مَا كِدْتُ أَنْ أَلْحَقَ بِأَصْحَابِ الْجَمَلِ فَأُقَاتِلَ مَعَهُمْ، قَالَ: لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ ? أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ قَدْ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بِنْتَ كِسْرَى قَالَ: "لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً".
رواه البخاري و أحمد
انطلاقاً من هذا الحديث استنتج الكاتب أنه يحق للمرأة أن تقوم بأي عمل عدا رئاسة الدولة، رغم أن الصحابي الذي روى الحديث فهم منه خلاف ما فهمه الكاتب تماماً. فإن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لم تكن ملكة، و لا أميرة المؤمنين و لا زعيمة لأية دولة، و رغم ذلك فإن أبا بكرة ? رفض أن يلحق بأصحاب الجمل و أن يكون تحت ولاية أم المؤمنين اتباعاً لما فهمه عن رسول الله ? من الحديث ذاته الذي أورده الكاتب. بينما يرى الكاتب فيه:
"إن الحظر الذي نطق به رسول الله ? هو ذاك الذي تضمنه قوله عليه الصلاة و السلام: "لن يفلح قوم و لوا أمرهم امرأة". و إنما هو خاص، كما قد علمت، بإمامة الأمة أو رئاسة الدولة. إذ هو يعني بوران التي نصبت ملكة في المملكة الفارسية على قومها. و إنما يسري هذا الحكم على نظائره في المجتمعات الإسلامية."
(صفحة 78).(1/115)
و لكي نستوعب حديث رسول الله ? كما استوعبه ذلك الصحابي يجب أن نعلم معنى كل كلمة فيه:
1 - لنبدأ أولاً بفهم معنى ولاية الأمر.
إن عمر بن الخطاب ? عندما تولى أمر المسلمين بدأ بتعيين الولاة على الأمصار فولى فلاناً و عزل فلاناً، مما يدل على أن الولاية ليست رئاسة الدولة فحسب كما ادعى الكاتب. ثم إنه ولى فلاناً القضاء، و ولى فلاناً بيت المال و .. و .. فالولاية حتماً لا تعني رئاسة الدولة حصراً.
2 - و لنثني بفهم معنى كلمة قوم.
القوم19 في اللغة العربية تطلق على الرجال وحدهم، لأنهم هم الملزمون بالقيام بالأمر و هم الذين جعلهم الله قوامين على النساء، و استخدمت كلمة "قوم" في القرآن الكريم بهذا المعنى في قول الحق سبحانه:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }
(الحجرات:11)
فجاء الحق بكلمة "قوم" مقابل كلمة نساء لأنهن غير مشمولات في القوم.
و بما أن الولاية لا تعني فقط رئاسة الدولة، و كلمة قوم تخص الرجال فحسب، فيكون معنى الحديث:
لا يفلح الرجال إن هم جعلوا القيام بأمرهم بيد امرأة.
و قد اختار رسول الله ? الذي لا ينطق عن الهوى كلمة قوم بدلاً من رجال، ليدل على أن قيام من ليس من صفته القيام بالأمر (المرأة) بأمر من خلقه الله لعلة القوامة (الرجل) هو من قبيل توسيد الأمور لغير أهلها، أو هو قلب لفطرة الله ? التي فطر البشر عليها و خلاف لشرعه في قوله ?الرجال قوامون على النساء?. فكما لا يفلح رجل واحد أسند القيام بأمره إلى امرأة، فكذلك و من باب أولى لن يفلح رجال قامت بأمرهم امرأة.(1/116)
و من البديهي أن القوم لن يفلحوا؛ لأننا اتفقنا مع الكاتب في أنّ المرأة أضعف من الرجل جسدياً و فكرياً. فإن لم يوجد ضمن مجموعة من الرجال في مصلحة ما مع تفوقهم الفكري و الجسدي من يفوق هذه المرأة التي وليت أمرهم، فإنهم و الله لن يفلحوا أبداً، بل إن أمر المصلحة التي هذه حالها لن يفلح برمته إذا كان رجالها هذه حالهم.
إن مهمة القوامة هبة من الله ? للرجال فطرهم عليها، و واجبٌ أَمَرهم به و سيُسألون عنه. و ربما وجدت امرأة يتوفر فيها من الصفات ما تتفوق به على بعض الرجال، و لكن أن تفوق بصفاتها جماعة من الرجال، و من ثم يجتمع هؤلاء الرجال تحت إمرتها في مصلحة واحدة، و تكون هي القائمة بأمرهم، فهذا من رابع المستحيلات، و من أغرب الاحتمالات.
و الكاتب في كتابه ذاته يستغرب حدوث مثل هذا الأمر، و يسميه شذوذاً حيث يقول:
"و قد تشذ السنة الربانية، فتجد في الرجال من يتصفون بالعاطفة المشبوبة و المشاعر الرقيقة و الضجر من القضايا الفكرية العويصة. فيعد ذلك عند العلماء شذوذاً في الرجال.
و قد ترى مظهر هذا الشذوذ في النساء، فتبصر فتاة لا يسعدها إلا معالجات القضايا الفلسفية و البث في المسائل الفكرية المعقدة، و تجدها في الوقت ذاته راقدة العواطف هامدة الوجدان. فلا يرى العلماء ذلك فيها إلا شذوذاً مخالفاً للقاعدة و الأصل.
و ليس في الناس من يتصور أن هذا الشذوذ كان ينبغي أن يكون هو الأصل." (صفحة 174-175).
و نبين فيما يلي وَهْمَ الكاتب في ادعائه أن حديث رسول الله ? خاص فقط برئاسة الدولة، و سيتم لنا ذلك بعون الله بيسر عند تتبع التناقض في الأدلة التي أتى بها.
لقد قال الكاتب عند تعريف القوامة:
"إنما يراد بها الإمارة و الإدارة.. ..
و إنما تستلزم الإمارةُ الإدارةَ. فمن يُنَصَّب أميراً على مؤسسة أو جماعة تكون إليه الإدارة لشؤونها، و الإشراف على تسيير أمورها." (صفحة 98).(1/117)
"إذاً فالقوامة على الأسرة في نظام الإسلام و شرعه، قوامة رعاية و إدارة، و ليست قوامة هيمنة و تسلط .. ثم إنها ليست عنواناً على أفضلية ذاتية عند الله عز و جل يتميز بها الأمير أو المدير، و إنما ينبغي أن تكون عنواناً على كفاءة يتمتع بها القائم بأعباء هذه المسؤولية." (صفحة 100).
"نقول بكلمة جامعة وجيزة: إنها أفضلية التناسب المصلحي مع الوظيفة التي يجب النهوض بأعبائها." (صفحة 101).
ثم يتساءل الكاتب:
"ترى أي الزوجين هو الأقدر على النهوض بالوظيفة الأولى (القوامة: الإدارة و الإشراف) في أعم الظروف و الأحوال؟" (صفحة 102).
ثم يجيب عن هذا السؤال بأن الرجل هو الأقدر على القوامة (الإدارة و الإشراف) دوماً، و يأتي بالبرهان من واقع البشر فيقول:
"هذا هو الواقع السائد في مجتمعاتنا، و على كل الأصعدة، و من قبل الناس كلهم مهما اختلفوا في الآراء و المذاهب و الأفكار. و هل القوامة التي أخبر عنها الشارع واقعاً أكثر من أن يأمر بها قراراً و حكماً، إلا هذا الشيء الذي يمارسه عن رضا و طواعية سائر الناس؟" (صفحة 102).
و بعد أن استعرضنا بحث الكاتب في القوامة، و تتبعنا نتائجه نقول:
لقد أقر الكاتب بلسانه أن القوامة هي الإدارة و الإشراف، و أن الأقدر على القيام بالإدارة و الإشراف في نطاق الأسرة هو الرجل و ليست المرأة، و هذا -حسب قول الكاتب- يؤيده واقع البشر كلهم بالإضافة إلى أمر الله ?.
فإذا كان واقع البشر كلهم و أمر الله ? يجعلان الإدارة و الإشراف في أصغر مؤسسة اجتماعية يتكون أفرادها من رجل واحد فقط و امرأة واحدة (و ربما أطفال) بيد الرجل قطعاً دون المرأة، فكيف بربك نريد من امرأة واحدة أن تدير و تشرف على أية مؤسسة أو مصلحة يوجد فيها أكثر من رجل؟ كتوليها الوزارة، و توليها القضاء و .. و .. ؟!!.(1/118)
كيف بربك نسمح للمرأة أن تخالف في هذا أمر الله ? و الواقع السائد في مجتمعاتنا و على كل الأصعدة و من قبل كل الناس؟! كما أقرَّ الكاتب.
و كيف بعد كل هذا يقصر الكاتب حديث رسول الله ? الذي رواه البخاري (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) على رئاسة الدولة دون غيرها؟. ثم يجيء بقلمه بالدليل من كتاب الله ? و من وقائع الحياة و واقع المجتمعات و الناس كلهم مهما اختلفوا في الآراء و المذاهب و الأفكار، على أن الإدارة و الإشراف حتى لأصغر مؤسسات المجتمع (الأسرة) لا يمكن البتة أن تكون بيد الزوجة (المرأة)، بل تكون حتماً بيد الزوج (الرجل)؟!.
لقد برهن الكاتب على أن المرأة غير قادرة على توجيه مصير مؤسسة صغيرة مؤلفة من رجل واحد و أطفال، فكيف يريد منها أن تتحكم بتوجيه مصائر جماعات و مجتمعات؟!!.
و لا بأس أن نورد حديثاً عن رسول الله ? يثبت أن ما ذهب إليه الكاتب في استنتاجه من الحديث السابق كان خطأً فادحاً.
عن أبي بكرة أنه شهد النبي ? أتاه بشير يبشره بظفر جند له على عدوهم، ورأسه في حجر عائشة رضي الله عنها، فقام فخر ساجداً، ثم أنشأ يسائل البشير فأخبره فيما أخبره أنه ولي أمرهم امرأة، فقال النبي ? : " الآن هلكت الرجال إذا أطاعت النساء، هلكت الرجال إذا أطاعت النساء" ثلاثاً.
رواه الإمام أحمد
فهلاك الرجال ليس في طاعتهم لامرأة واحدة تكون أميرة عليهم، بل إن مُطْلق الرجال يهلكون إن أطاعوا مُطْلق النساء، و هذا الحديث الشريف يفسر لنا أن الحديث السابق دون أدنى شك.
و شاورهم في الأمر
يقول الكاتب:
"و نظراً إلى أن الأمة، أو الرعية، أو الشعب على حد العبارة الدارجة. تتألف دائماً من شطري الرجال و النساء، فإن حق الشورى مستقر بحكم الله و شرعته لهذين الشطرين من النساء و الرجال.
و قد جرى تطبيق هذا الحكم في عصر النبوة بأجلى صوره، التي لم تدع مجالاً لأي خلاف فيه .(1/119)
فقد صح عن رسول الله ? أنه دخل يوم صلح الحديبية على أم سلمة يشكو إليها أنه أمر أصحابه بنحر هداياهم، و حلق رؤوسهم، فوجموا و لم يفعلوا. فقالت : يا رسول الله أتحب ذلك ؟ .. اخرج و لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك، و تدعو حالقك فيحلقك . فخرج الرسول ? و فعل ما قالته أم سلمة." (صفحة 74).
لقد وَهم الكاتب في الاستشهاد بهذا الحديث على أن مجالس الشورى الإسلامية تعتمد على النساء و الرجال على حد سواء فحمَّله من المعاني ما لا تطيق كلماته، و خطؤه و اضح لأنّ:
1 - الشورى لا تكون إلا في أمر لم يتنزل فيه حكم من الله، حيث توجد للأمر خيارات عديدة المراد ترجيح أحدها على الأخرى باستفتاء العقول التي مهمتها التحليل و التركيب و الاستنتاج و القياس، بهدف الوصول إلى النتائج التي ترجح أحد الخيارات على غيره، و هذا مجال العقل الصافي عن كل شائبة من هوى أو عاطفة تقصي العقل عن القيام بمهمته، فلا يفضي إلى الحكمة المرادة من الشورى، و هذه حال الأنثى التي تغلب عاطفتها على تفكيرها و مصداق هذا مما قاله الكاتب في كتابه ذاته:
"كلنا يعلم مما درسناه في مبادئ علم ا لنفس، و علم النفس التربوي؛ أن المرأة أقوى عاطفة من الرجل، و أضعف تفكيراً منه، و أن الرجل أقوى تفكيراً من المرأة و أضعف عاطفة منها.. و كلنا يعلم أن هذا التقابل التكاملي بينهما؛ هو سر سعادة كل من الرجل و المرأة بالآخر" (صفحة 174).
2 - فيما يتعلق بهذه الحادثة فإن الصحابة رضوان الله عليهم أصابهم غم كبير، و جاشت عواطفهم عندما رأوا البيت العتيق على مرمى أنظارهم ثم هم يُمنعون عنه، و هم يومئذ أقوى من أعدائهم، و قادرون على أن يدخلوا مكة عنوة رغم أنوف الكافرين.
ففي ظاهر الأمر لم يرَ المسلمون سبباً عقلياً للعودة دون دخول مكة، و لكن الله ? علام الغيوب عذرهم، و بيّن لهم السبب عند رجوعهم و بعد امتثالهم لأمر النبي ? فقال:(1/120)
{ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً * وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً * وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً * وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً * وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }
(الفتح:18-25)
لقد وافقهم الله ? على أنهم كانوا أقوى من المشركين، و أقدر على دخول مكة رغم أنوف أهلها، ثم بين لهم أن سبب أمره رسوله الكريم بالرجوع كان حفاظاً على حياة رجال مؤمنين و نساء مؤمنات لم يكونوا يعلمونهم، وكان هذا من علم الغيب الذي لا دخل للعقل فيه.(1/121)
فالرسول ? عندما أصدر أمره إلى أصحابه، ما كان يستشيرهم في الرجوع أو الاستمرار، بينما هم أخذوا يراجعونه و يعرضون آراءهم حتى كبار الصحابة منهم و منهم عمر ?، لم يمتثلوا لأمر الرسول ? ظناً منهم أن الأمر يمكن أن يُناقش.
فدخل الرسول ? على زوجته رضي الله عنها حزيناً أن لم يمتثل أصحابه لأمره و بث إليها حزنه، كما يبث أي رجل همه إلى زوجته فقال: "لقد هلك المسلمون يا أم سلمة"، و أم المؤمنين رضي الله عنها التي جعلها الله ? سكناً لرسوله عندما رأت ما به ألا تواسيه؟ فقالت له ما قالت مواسية له برأي ملؤه الحكمة.
فمن هذه القصة نعلم أول ما نعلم أن الرسول ? لم يكن يطلب مشورة في الأمر من أحد، و إلا لجمع الصحابة و شاورهم ثم جمع نساء الصحابة مع زوجته رضي الله عنها و شاورهن، ثم رأى رأيه فيما يسمع منهم و منهن، و لكن الأمر لم يكن كذلك.
3 - إن الله ? قال في كتابه العزيز:
{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }
(آل عمران:159)
و ليس بين دفتي المصحف آية تقول للرسول ? "و شاورها في الأمر".
أهكذا تكون الشورى في الدولة الإسلامية؟! أعظم دولة شهدها التاريخ، أن يدخل القائد على زوجته، فيسألها رأيها بينه و بينها من دون المسلمين جميعاً رجالاً و نساء؟
أهذا ما فهمه الكاتب و غيره عن الله ? و عن رسوله ?؟، أم أنه يريد أن يدعم رأياً بأي شيء و لو خطأ ً؟.
لقد قال الكاتب: إن "حق الشورى مستقر بحكم الله و شرعته لهذين الشطرين: النساء و الرجال" فأين هذين الشطرين في مشورة رسول الله ? لزوجته رضي الله عنها؟ أم أن لأمهات المؤمنين رضي الله عنهن حكماً خاصاً في المشورة و الشورى؟(1/122)
و لو استخدمنا الطريقة نفسها التي يستخدمها الكاتب في الاستنتاج، لقلنا: إن مجلس الشورى في الإسلام ينعقد في مسكن زوجة القائد الذي لا يُسمح لأحد بدخوله إلا بإذنها، و يكفي لانعقاد هذا المجلس القائد و زوجته!.
4 - لو أن الكاتب فطن إلى الحديث الشريف التالي لما أقدم على استغلال حديث الحديبية، ليدلل على شرعية مشاركة النساء في مجالس الشورى جنباً إلى جنب مع الرجال، فقد صح في الحديث عن رسول الله ? أنه قال:
عن عائشة أم المؤمنين: أن رسول الله ? قال في مرضه: "مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس". قالت عائشة: قلت: إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يُسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل. فقال: "مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس". فقالت عائشة: فقلت لحفصة: قولي إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يُسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصلِّ بالناس. ففعلت حفصة، فقال رسول الله ?: "إنكنَّ لأنتنَّ صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس ". فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيراً.
رواه البخاري
و لكن الكاتب -كما نلاحظ- كان يتصيد الأدلة تصيداً؛ ليحشرها حشراً في بوتقة البراهين على نظريات خاطئة.
لقد عجز الكاتب كما سيعجز غيره من أنصار رأيه عن إثبات ادعائهم و لو بدليل حق واحد على الأقل، و لننظر إلى مجالس الشورى في الإسلام على مر العصور منذ بعثة رسول الله ? إلى يومنا هذا.
فبعد غزوة بدر شاور رسول الله ? أصحابه الرجال و الرجال فحسب في مصير أسرى المشركين، و لم يستشر فيهم نساءه رضوان الله عليهم و لا نساء المؤمنين.
و عندما اجتمع المهاجرون و الأنصار بُعيدَ وفاته ? ليختاروا منهم خليفة له لم يكن بينهم امرأة واحدة.
و عندما أراد أبو بكر أن يولي عمر رضي الله عنهما أخذ يستدعي كبار الصحابة واحداً واحداً يسألهم عن رأيهم في عمر، و لم يسأل أو يستدعي امرأة واحدة و لا حتى من نساء النبي ? و فيهم ابنته رضي الله عنها.(1/123)
و عندما أراد عمر أن يولي بعده أميراً للمؤمنين لم يستشر في ذلك إلا الرجال، و لم يستشر نساء النبي ? و فيهم ابنته رضي الله عنها، و لا امرأة من نساء المؤمنين.
و حتى أوائل القرن الفائت لم تكن هناك امرأة واحدة في مجلس شورى في العالم كله، بل تكاد لا تسمع بامرأة امتهنت مهنة خارج بيتها في معظم بقاع الأرض شرقها و غربها.
و لكن الكاتب يتابع إيراد الأدلة في غير محلها لنصرة رأيه فيقول:
"و قد كان الصحابة يستشيرون النساء ، و كان في مقدمة من يفعل ذلك عمر ? .
روى ابن الجوزي عن يوسف بن الماجشون ، قال : قال لي ابن شهاب و لأخ لي و لابن عم لي، و نحن صبيان : لا تستحقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم ، فإن عمر بن الخطاب ? كان إذا أعياه الأمر المعضل دعا الأحداث (أي الشباب) فاستشارهم لحدة عقولهم . و كان يشاور النساء." (صفحة 74).
و هذا النص الذي أورده الكاتب لا يغني من الحق شيئاً، فإنما هو قول رجل يدعى ابن شهاب لصبية رآهم في الطريق، و قول ابن شهاب لا يحق باطلاً و لا يبطل حقاً، ولا يجوز لعاقل أن يقارع به كتاب ربه و حديث رسوله ?.
و لست أدري كيف لم يلتفت الكاتب إلى أمر عظيم في هذا الحديث، و هو أن الصبيان حديثي السن هم عنصر أساس من عناصر مجالس الشورى، بل هم أولى من النساء بالمشاركة في هذه المجالس، كما ينص حديث ابن شهاب صراحة؟!. فقد جاء ذكر النساء ثانوياً بالنسبة للأحداث في كلام ابن شهاب!!.
ثم يورد الكاتب دليلاً آخر في غير محله:(1/124)
"روى ابن حجر في الإصابة عن أبي بردة عن أبيه ، قال: "ما أشكل علينا أمر فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها فيه علماً". و قال عطاء بن أبي رباح : كانت عائشة أفقه الناس، و أحسن الناس رأياً في العامة. و قد كان عمر ? يستشيرها في كل ما يتعلق بأمور النساء و أحوال رسول الله البيتية، كما كان يستشير غيرها من النساء. و قد استشار ابنته حفصة في المدة التي ينبغي أن تحدد لابتعاد الرجل عن زوجته في المهام الجهادية و نحوها، فأشارت عليه بأن يكون أقصى مدة غياب الرجل عنها أربعة أشهر ، فأمضى كلامها، و اتخذ من ذلك أجلاً أقصى للبعثات التي يوفد إليها الرجال" (صفحة 75).
نبدأ بالرد على الكاتب بهذه الآية الكريمة:
{ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
لَطِيفاً خَبِيراً }
(الأحزاب:33-34)
لقد بعث الله ? رسوله الكريم ? هادياً و مبشراً و معلِّماً حتى لَحِق بالرفيق الأعلى ثم لحقت به ابنته فاطمة الزهراء رضي الله عنها، و لم تلبث بعده أشهراً، و لم يبقَ من أهل بيت رسول الله ? إلا نساؤه؛ اللائي كن وحدهن المطلعات على دقائق حياته في بيته.
فهل يعقل أن يقوم أبو بكر أو عمر أو عثمان أو علي ? أو أي رجل عاقل على سطح هذا الكوكب بسؤال أحدٍ غير نساء النبي ? عن أمور النساء و أحوال بيت رسول الله ?؟
هل يقدر أحد على سطح الأرض أن يُخبر بهذا غيرهن؟ و هل تجد بربك لذلك خياراً آخر؟
و هل ما قام به عمر و بعض الصحابة ? يدخل تحت عنوان المشورة أم الضرورة لا مناص منها لطلب علم الدين من منابعه؛ التي أمر بها الله سبحانه؟(1/125)
ألم يجعل الله العليم الحكيم البلاغ عن نبيه الكريم فرضاً على نسائه رضوان الله عليهن، عندما أمرهن بأن يذكرن ما يتلى في بيوتهن من آيات الله و سنة رسول الله ? سَمَّاها الحكمة، و أنزل هذا في قرآن يتلى إلى يوم القيامة.
و من جهة أخرى أيُعقل أن يستشار رجال في أمور النساء و الخاصة جداً بالنساء؟ أيستطيع رجل على سطح هذا الكوكب أن يخبرك كم تصبر المرأة عن زوجها؟ و هل من العقل أن يعقد لذلك مجلساً للشورى كل أعضائه من الرجال؟ و إذا عقد هذا المجلس ألا يؤجل القرار فيه لجلسة أخرى تعقد بعد أن يسأل كل منهم زوجته أو ابنته عن هذا الأمر، ثم يعود فيدلي برأيها لا برأيه؟ و هذا ما فعله عمر بن الخطاب ?.
و عمر ? سأل مَنْ؟ لقد سأل ابنته أقرب النساء إليه و إلى رسول الله ?، و سألها عن أمر لا تجيب عنه إلا امرأة، فهل هذا دليل على إقحام النساء في مجالس الشورى؟ أم أنه إقحامُ الأدلة فيما لا دليل له؟!
و لبيان الإمعان في الإقحام اقرؤوا هذه الجملة في الكتاب عينه، جملةٌ أوردها الكاتب بين السطور ليؤثر على العاطفة الإسلامية للقارئ المسلم:
"و كان أبو بكر و عثمان و علي يستشيرون النساء" (صفحة 75).
و نسأل الكاتب: كيف و متى و أين كان أبو بكر و عثمان وعلي يستشيرون النساء؟؟؟ هل تصدر عن عالم يبحث عن الحق و يريد أن يبرهن عليه جملة كهذه دون توثيق؟ ألا ترون معي أن الكاتب أوردها حشراً بين السطور ليدعم رأيه و حسب، فحمَّلها ألمع الأسماء في سماء الإسلام، لما لهذه الأسماء من تقدير عند كل مسلم؟
و لو وضعنا كل ما سبق في كفة و قول الكاتب الذي سيأتي في الكفة الأخرى لرجح لما فيه من خداع للعقول البسيطة حيث يقول:
"و لم نجد في شيء من بطون السيرة و التاريخ أن أحداً من الخلفاء الراشدين أو الصحابة حجب عن المرأة حق استشارتها و النظر في رأيها." (صفحة 75).
ثم انظر إلى هذه الاستنتاجات المغرضة في قوله:(1/126)
"كما أننا لم نعثر فيما صح من حديث رسول الله ? و سنته عل ما يدل صراحة أو إشارة: على أن المرأة لا حق لها في الشورى. و لم نجد أنه ? تعمد أن يتجنب مشاورة النساء في بعض مما قد يشاور فيه الرجال." (صفحة 75).
إن قول الكاتب هذا فيه مغالطة كبيرة، و لو أن أي إنسان كرر قوله مع تغيير كلمتي "المرأة" و "النساء" بأي جنس آخر من المخلوقات لصح المعنى أيضاً، و لكن الكلام يبقى بلا مدلول، و لا يصلح دليلاً على شيء، فبوسعنا مجاراة للكاتب أن نقول:
"إننا لم نعثر فيما صح من حديث رسول الله ? و سنته على ما يدل صراحة أو إشارة، على أن الملائكة لا حق لهم في الشورى. و لم نجد أنه ? تعمد تجنب مشاورة الملائكة في بعض ما يشاور فيه الرجال."
و بوسعك أن تبدل كلمتي "المرأة" و "النساء" بأي جنس آخر من حيوان أو نبات أو جماد دون أن يؤثر هذا في المعنى، و لكن تبقى الكلمات بدون مدلول، و النتائج تكون مغلوطة لا تصلح دليلاً على شيء.
و نردّ على الكاتب بسؤاله:
هل عثرتَ فيما صحّ من حديث رسول الله ? و سنته عل ما يدل صراحة أو إشارة، على أن المرأة لها حق في الشورى كالرجال؟.
و هل تجد أنه ? شاور النساء في بعض الأمور مما يشاور فيه الرجال؟.
إن الجواب عن هذا السؤال هو النفي، و لكن النتيجة لا تزال مبهمة، و لنضرب للبيانِ المثال التالي، و لله المثل الأعلى:
لقد بعث الله ? محمداً ? متمماً لمكارم الأخلاق، فما أقره الإسلام تركه أو أثنى عليه، و ما لم يقره غيَّره بأمر أو نهي، و كذلك فعل بالعادات و التقاليد التي كان العرب عليها قبل بعثته ?.
فالناس قبل بعثته كانوا يأكلون الذبائح بأية طريقة ذبحت، فلم يُقرهم ? على ذلك، بل بيَّن لهم حكم الله ? في الذبائح.
و كان الناس قبل بعثته يأكلون التمر فلم يأمرهم ? بتغيير و لا تبديل في هذا، و إنما كان ? يأكله.(1/127)
و كذلك كانت المرأة قبل الإسلام محرومة من حقها في الميراث و من حق التملك و بعد بعثته ? أثبتَ لها هذا الحق بنصوص واضحة صريحة، فخالف أعراف الجاهلية و قوانينها.
و من هذا القبيل ما كانت عليه النساء في الجاهلية من خروج و تبرج و كشف للعورات، فجاء الإسلام بتحريم فعلهن، و أمرهن بالقرار في بيوتهن، و وضع لهن شرعاً خاصاً بالملبس و المظهر.
و كذلك قبل بعثته ? كان الرجال يتشاورون في أمورهم بمعزل عن النساء، و لم تكن النساء تحضر مجالسهم، و لم يكن لهنّ أي رأي أو دور في نوادي الإدارة أو السياسة.
و بعد بعثته ? لم يغير شيئاً من هذا، و لم يأمر فيه بأمر مخالف، و إنما الذي كان من فعله ? أنه لم يجمع النساء يوماً لمشورة أبداً، إقراراً لما كان قبل بعثته دون أدنى تغيير.
و لذلك لا نجد في كتاب الله ? و سنة نبيه ? ما يغير ما كانت عليه المرأة قبل الإسلام من ابتعادها عن أمور القيادة و الإدارة و الشورى، و ما هذا إلا لأن الإسلام أقره، و لم يجد داعياً لتغييره، و لهذا السبب حصراً لا تجد في الإسلام حجباً لحق المرأة في الشورى؛ لأنه لم يكن لهذا الحق وجود أصلاً. و من جهة أخرى لا ترى أمراً بمشاركتهن في هذا الحق إذ لم يخالف الرسول ? ما كان عليه القوم، لأن الإسلام لم يشرك النساء في هذا الحق.
أظن أنه بهذا المثال المتواضع، يزول اللبس و يتضح لنا الخطأ الفادح الذي ارتكبه الكاتب في استنتاجه المغلوط.
و هذا حديث رواه البخاري رحمه الله يُقَوِّض كل الذي حاول الكاتب بناءه، و يزول معه كل ريب في أن الإسلام لم يُشْرِك المرأة في أيّ من أمور الرجال، و إن كان قد أعطاها حقوقها التي هضمتها الجاهلية، و أمرها بما يناسب فطرتها و دورها في المجتمع.(1/128)
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لبثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على النبي ? فجعلت أهابه، فنزل يوماً منزلاً فدخل الأراك، فلما خرج سألته، فقال: عائشة وحفصة، ثم قال: كنا في الجاهلية لا نعد النساء شيئاً، فلما جاء الإسلام، وذكرهن الله، رأينا لهن بذلك علينا حقاً من غير أن ندخلهن في شيء من أمورنا، وكان بيني وبين امرأتي كلام، فأغلظت لي فقلت لها: وإنك لهناك؟ قالت: تقول هذا لي وابنتك تؤذي النبي ? فأتيت حفصة، فقلت لها: إني أحذرك أن تعصي الله ورسوله، وتقدمت إليها في أذاه، فأتيت أم سلمة فقلت لها، فقالت: أعجب منك يا عمر قد دخلت في أمورنا فلم يبق إلا أن تدخل بين رسول الله ? وأزواجه، فرددت.
رواه البخاري
من حديث عمر ? يتضح ما أثبتناه آنفاً من أن النساء لم يكن لهن شيء يذكر من حقوق في الجاهلية، لا إرث و لا مشورة و لا عمل و لا تملّك و ما إلى ذلك، فجاء الإسلام و أثبت لهن من الحقوق و الواجبات ما ورد في كتاب الله و سنة رسوله من أمر و نهي، و ليس في كتاب الله و سنة رسوله للنساء حق الشورى.
و في قول عمر ? "فلما جاء الإسلام وذكرهن الله رأينا لهن بذلك علينا حقاً من غير أن ندخلهن في شيء من أمورنا" يتضح لنا عظيم الفرق بين أمور النساء و أمور الرجال، فقد بقيت المرأة امرأة لها شؤونها، و الرجل رجلاً له شؤونه، ولم يشرك الإسلام النساء في أي من شؤون الرجال، و لم يجمع بينهم في أي أمر أو شأن أو مكان، كما لم يساوِ بين الرجال و النساء في حق و لا في واجب.
قيام المرأة بمختلف الأعمال
و أخيراً في نهاية فصل "مكانة المرأة في الإسلام" يضع الكاتب خاتمة لهذا الفصل يتحدث فيها عن مشروعية قيام المرأة بمختلف الأعمال السياسية مثل عضوية مجالس الشورى و استلام مهام القضاء و تولي الوزارات فيقول:(1/129)
"و في نهاية الحديث عن هذا الجانب الذي يضمنه الشارع من حق الحرية للمرأة، يجب أن نعيد إلى الذاكرة ما قلناه من أن مدار هذه الأحكام التي ذكرناها على شيئين اثنين :
أولهما: أن تتصف المرأة التي ترشح لشيء من هذه الوظائف بالمزايا و المؤهلات التي تضمن أن يكون قيامها بأعباء تلك الوظيفة محققاً للخير الذي يتوخى للمجتمع من ورائها . و هذا الشرط يلاحظ في حال الرجل كما يلاحظ في حال المرأة.
ثانيهما: ألا يحملها أعباء تلك الوظيفة على الاستهتار بشيء من الضوابط و الآداب الدينية التي ينبغي أن تتقيد بها . و الواقع أن شيئاً من الوظائف المذكورة ليس فيها ما يحمل المرأة على التخلي عن شيء من الضوابط الدينية التي يجب أن تتحلى بها." (صفحة 80).
و نرد على الكاتب بما يلي:
1 - إن من أول مؤهلات الوظائف التي ذكرها الكاتب هو كمال العقل و سلامة التفكير، أي: يجب ألا تغلب العاطفة على من يتولى هذه الوظائف، كما هي الحال في المرأة التي تتأثر نفسياً و عاطفياً بما حولها أسرع من الرجال كما اتفقنا فيؤثر ذلك على سلامة قراراتها.
و لنضرب مثالاً على ذلك وظيفة القضاء، فالقاضي الذي يحكم بين خصمين في أمر ما يجب أن يكون حيادياً قدر المستطاع، و الرجل دوماً أقدر على القيام بهذه الوظيفة؛ إذ أنه متمكن من السيطرة على عواطفه أكثر من المرأة، بينما لا تستطيع المرأة أن تقوم بذلك لغلبة قلبها على عقلها.
فإذا جاء أحد الخصمين باكياً، أو كان شيخاً كبيراً، أو امرأة ضعيفة، أو غير هذا مما يثير العواطف، أثر هذا في دقة القرار الذي تصدره المرأة القاضي. و الكاتب نفسه أكد هذه القضية عندما قال:
"لو كانت المرأة كالرجل في الصبر على القضايا الفكرية المعمقة، و الفقر العاطفي و تثلم المشاعر و الوجدان ، إذاً لشقي بها الرجل و تبرم بالحياة معها، و وجد سعادته في الابتعاد عنها." (صفحة 174).(1/130)
ألا يرى الكاتب أن المحاكم و الخصوم و العدالة سيشقون أيضاً بالمرأة التي (حسب تعبيره) لا تصبر على القضايا الفكرية المعمقة، و لا تتمتع بالفقر العاطفي، و تثلم المشاعر و الوجدان كالرجال؟!
كما أن الأحكام الصادرة عن المرأة القاضي ستكون نابعة من العاطفة، أي أنها ستكون أحكاماً رقيقة مخففة على الأغلب، فيها رحمة للمجرمين و ظلم للضحايا، مما سيكون له أسوأ الأثر في تشجيع المجرمين على الاسترسال في جرائمهم استهانة بأحكام القضاء.
2 - إن من ضرورات القيام ببعض هذه الوظائف التي ذكرها الكاتب أن يكون القائم بها صلباً حازماً، رابط الجأش، و هذه صفات تندر جداً جداً في النساء؛ و إن وجدتْ امرأة بهذه الصفات فإنها تعد مظهراً من مظاهر الشذوذ، و لا يليق أن نشرّع العمل للنساء على أساس أن تشغله الشاذات منهن.
فالقاضي مثلاً يتعامل من خلال عمله مع رجال الشرطة، و مع السجان، و منفذي الأحكام و العقوبات كالجلد و الرجم و الإعدام، و هو يتحاور مع لصوص و مجرمين و قتلة. كما يتطلب القيام ببعض هذه الوظائف القيادية أن يكون القائم بها قادراً على الجدال و المخاصمة و الحِجاج، و هذا لا يكون في المرأة المفطورة على الرقة و النعومة، تلك المخلوقة التي تنشأ في الحلية، و التي لا تكاد تبين في الخصام لقرب دمعتها، و جَيَشان عواطفها.
{ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ * وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ }
(الزخرف:17-19)(1/131)
3 - إن الله ? خلق المرأة على أن تكون مريضة في كل شهر سبعة أيام وسطياً، و في هذه الفترة تكون المرأة مضطربة هرمونياً و عصبياً و نفسياً و مزاجياً. و هي إن حملت وجب عليها أن تبتعد عن كل توتر و مؤثر خارجي يمكن أن يُسبيء لحملها، ثم إن هي وضعت حملها نَفَسَتْ، ثم عليها قضاء قرابة عامين ترضع طفلها و سنين طوالاً تعتني بهذا المخلوق الضعيف الذي يظل معتمداً عليها حتى يبلغ الحلم، و إن طُلقت لزمها قضاء فترة غير قصيرة قد تصل إلى تسعة أشهر معتدة لا تغادر بيتها، فكيف نشرع العمل لمن هذه ظروفها و مواصفاتها الطبيعية التي فطرت عليها و خلقت لها؟ و كيف بربك مع كل هذا يمكن أن يستقيم لها عمل من الأعمال أو تستقيم هي لعمل؟ اللهم إلا العمل الذي سخرها الله ? له و خلقها لأجله، و لا ينوب فيه عنها أحد، يأخذ منها كل و قتها، و يناسب فطرتها و تكوينها.
4 - إن قيام المرأة بأية وظيفة من تلك الوظائف أو بأية وظيفة خارج البيت فيه الكثير من الاستهتار بالضوابط و الآداب الدينية التي ينبغي أن تتقيد بها المرأة و هي:
1) مخالفتها لأمر الله ? في القرار في البيت و عدم التبرج تبرج الجاهلية الأولى.
{ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً }
(الأحزاب:33)
و مخالفة كذلك لرسوله ? في الأمر ذاته.
عن ابن مسعود ? عن النبي ? قال: "إن المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون من رحمة ربها وهي في قعر بيتها".
رواه الترمذي
عن ابن مسعود ? قال: احبسوا النساء في البيوت، فإن النساء عورة، وإن المرأة إذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان، وقال لها: انك لا تمرين بأحد إلا أعجب بك.
أخرجه ابن أبي شيبة(1/132)
عن عمر ? قال: استعينوا على النساء بالعري، إن إحداهن إذا كثرت ثيابها، وحسنت زينتها أعجبها الخروج.
أخرجه ابن أبي شيبة
عن أم نائلة رضي الله عنها قالت: جاء أبو برزة فلم يجد أم ولده في البيت، وقالوا: ذهبت إلى المسجد، فلما جاءت صاح بها فقال: إن الله نهى النساء أن يخرجن، وأمرهن يقرن في بيوتهن، ولا يتبعن جنازة، ولا يأتين مسجداً. ولا يشهدن جمعة.
أخرجه ابن أبي حاتم
عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت سودة بعدما ضرب الحجاب لحاجتها، وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر بن الخطاب فقال: يا سودة أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين، قالت: فانكفأت راجعة ورسول الله ? في بيتي، وإنه ليتعشى وفي يده عرق فدخلت، فقالت: يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر كذا وكذا، قالت: فأوحى الله إليه ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه فقال: " إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن".
رواه البخاري و مسلم
عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال: قبرنا مع رسول اللّه ? يعني ميتاً، فلما فرغنا انصرف رسول اللّه ?
وانصرفنا معه، فلما حاذى بابه وقف فإِذا نحن بإِمرأة مقبلة قال: أظنه عرفها، فلما ذهبت إذا هي فاطمة [عليها السلام]، فقال لها رسول اللّه ?: "ما أخرجك يافاطمة من بيتك؟" قالت: أتيت يارسول اللّه أهل هذا البيت فرحَّمت إليهم ميتهم، أو عزَّيتهم به، فقال لها رسول اللّه ?: "فلعلك بلغت معهم الكدى" قالت: معاذ اللّه! وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر، قال: "لو بلغت معهم الكدى".
رواه أبو داود و النسائي
2) مخالفتها لأمر الله بالإخلال بأداء مهمة سكن الرجل.
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ }(1/133)
(الأعراف:189)
فالله ? ضمن للرجل سكناً إذ جعل الشقاء مقصوراً عليه، بأن جعل له من نفسه زوجة يسكن إليها من حركته في الكدح. فإذا ما تحركت المرأة و كدحت و شقيت مع الرجل امتنعت قدرتها على توفير السكن لزوجها، و أصبح الاثنان بحاجة إلى من يسكنان إليه، و اختلط الحابل بالنابل.
3) مخالفتها لأمر الله ? في غض البصر.
{ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
(النور:30-31)
فعمل المرأة كالرجال و بين الرجال يستحيل معه أن تغضّ من بصرها، و لا هي تُعين المؤمنين على غض أبصارهم. و الرسول الكريم ? عندما رأى امرأة في الطريق:
عن جابر أن رسول الله ? رأى امرأة فأتى امرأته زينب وهي تمعس منيئة لها، فقضى حاجته، ثم خرج إلى أصحابه فقال: "إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله
فإن ذلك يرد ما في نفسه".
رواه مسلم و الترمذي و أبو داود و أحمد(1/134)
فمَنْ مِنَ البشر أغض لطرفه و أمْلَكَ لإربه من رسول الله ?؟
4) إخلالها بأمن المجتمع الإيماني و غير الإيماني و سلامته، فالمرأة خارج بيتها مطية الشيطان، بها يتصيد المؤمنين، و هي من أخطر الفتن على الرجال، أخطر من بريق المال و الشهرة و فتنة الأولاد و كل ما سوى ذلك.
"ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء ".
رواه البخاري ومسلم
5) إن قيام المرأة بأي من تلك الأعمال و الوظائف فيه محاولة لتغيير خلق الله ?، و إخلال بالفطرة التي فطرت عليها المرأة من التنشئة في الحلية، و حب التجمل و الزينة، فعليها أن تتخلى عن كل أنواع الزينة، و عن كل رائحة طيبة، إن هي ذهبت إلى بيت ربها ليلاً، فكيف إن قصدت غير بيت الله ?.
عن أبي موسى قال: قال رسول الله ?: "أيما امرأة استعطرت، فخرجت، فمرت على قوم فيجدوا ريحها، فهي زانية".
رواه الإمام أحمد والنسائي
و اقرأ قوله ?:
عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله ? يقول: "أيما امرأة تطيبت للمسجد لم يقبل لها صلاة حتى تغسله عنها
اغتسالها من الجنابة".
رواه الإمام أحمد
عن أبي هريرة قال: لقيته امرأة وجد منها ريح الطيب ينفح ولذيلها إعصار، فقال: يا أمة الجبار جئت من المسجد؟ قالت: نعم، قال: وله تطيبت، قالت: نعم، قال: إني سمعت حبي أبا القاسم ? يقول: "لا تقبل صلاة لامرأة تطيبت لهذا المسجد حتى ترجع فتغتسل غسلها من الجنابة"
سنن أبي داود
و ورد عن عمر بن الخطاب ?:
عن يحيى بن جعدة أن عمر بن الخطاب خرجت امرأة على عهده متطيبة فوجد ريحها، فعلاها بالدرة ثم قال: تخرجن متطيبات فيجد الرجال ريحكن! وإنما قلوب الرجال عند أنوفهم، اخرجن تفلات.
رواه الإمام أحمد
فإن غادرت المرأة بيتها تاركة الزينة بكل أنواعها و الحلية و التطيب، فخرجت تفلةً كل يوم فأنى، لها أن تمارس أنوثتها؟ و هي إن خالطت الرجال، و عملت كالرجال و سلكت مسالكهم، نالت لعنة الله ? على لسان رسوله ?:(1/135)
عن ابن عباس قال: لعن رسول الله ? المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء، قال: فقلت: ما المترجلات من النساء؟ قال: "المتشبهات من النساء بالرجال".
رواه الإمام أحمد
6) إن في قيام المرأة بأي من هذه الأعمال، بل بأي عمل خارج بيتها نقض لنظرية العمل للتسلي و ملء الفراغ التي طرحها الكاتب في كتابه هذا.
فالقيام بمهام القضاء و الإدارة و غيرها، هو من الأمور الجدية التي تستدعي التفرغ التام، و التي لا يحتمل فيها العبث و التهاون، فما ظنك إن عملت المرأة على سبيل التسلية و ملء فضول الوقت، كما أراد لها الكاتب حين قال:
"النتيجة الثانية ، هي أنه -أي الغرب- عرض أنوثة المرأة للدمار، فضلاً عن أنه أقصاها عن إمكانية التفرغ لرعاية أولادها و أداء واجب تربيتهم.
أما أنه عرض أنوثتها بذلك للدمار؛ فلأنها أخرجت إلى العمل من أجل الرزق اضطراراً لا عل وجه التسلي و الاختيار . و من ثم فإنها لا تملك أي فرصة لاختيار العمل المناسب لها، و المتفق مع أنوثتها . إذ المسألة . -بالنسبة لها- تتعلق بضرورة عيش، و لا بد في هذه الحالة أن تقدم أنوثتها و كرامتها قرباناً - إذا اقتضى الأمر- في سبيل حياتها و ضروريات عيشها." (صفحة 28).
7) إن عمل المرأة -التي لا تُسأل عن كسب رزق لإعالة أحد و لا حتى نفسها- في أي مجال يضيِّق فرص العمل على الرجال القوامين المسؤولين عن كسب الرزق لإعالة أنفسهم أولاً، و إعالة كل من يقومون بأمرهم من نساء أو أطفال ثانياً، و هذا ضرر و ضرار نهى عنه رسول الله ? في قوله:
"لا ضرر و لا ضرار"
رواه الإمام مالك و الإمام أحمد و ابن ماجه
8) و في عمل المرأة في معظم مجالات العمل إخلال بالعمل ذاته، إذ أن الله ? يحب أحدنا إذا عمل عملاً أن يتقنه، و إن من إتقان العمل أن يقوم به من هو أقدر عليه، والمرأة غالباً أقل من الرجل قدرة على القيام بأي عمل، يقول ?:(1/136)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ? : "اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاء".
متفق عليه
فهل يُعقل أن يمنح المجتمع فرص العمل لمن خُلقتْ على الإعوجاج في كل أبعاضها و خاصة في أعلى شيء منها!، و يُحْرَم الذي خُلق لعلَّة العمل و الكدح و الشقاء فرص العمل، أو يُضيَّق عليه فيها!!.
الدين النصيحة
ربما اعترضت بعض النساء على ما أوردنا في الفصل السابق قائلة: إن من النساء الغربيات من يقمن بأعمال الرجال كلها، و ينافسنهم فيها و قد يتفوقن عليهم فيها فكيف تدّعي أن المرأة المسلمة لا تصلح للعمل كالرجال؟.
نقول لأخواتنا المسلمات: إنّ هذا الكلام صحيح إلا من جهة واحدة، و هي أن نساء الغرب اللواتي يعملن كالرجال لا يعدّون نساءً من وجهة نظر الإسلام و الفطرة، فهنّ أقرب إلى الرجال في خُلُقهن، و ما غيّرن من خَلْقهن، و هن بعملهن خرجن من عداد النساء اللواتي خلقن لعمارة الأرض إلى جانب الرجال كما أراد الله ?، فنساء الغرب بعملهن هذا يدمرن الأرض و الحياة عليها، و يفسدن في أنفسهن و في أولادهن و في أزواجهن و في مجتمعهن كله، حتى صِرنَ كالأنعام بل هنّ أضل سبيلاً، وذلك للأسباب التالية:
1 - لقد فطر الله ? المرأة على حب الزينة و التجمل بما يناسب جمالها و دورها في الكون، كما أنه ? فطرها على العاطفة الرقيقة، و الإحساس المرهف و الحياء بما يناسب نعومتها و رقتها و دورها في الكون، قال تعالى في وصف البنات:
{ أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ }
(الزخرف: 18)(1/137)
و لكن البنات في الغرب يُنشَّأن تنشئة البنين، فيعمدون إلى المساواة بينهن و بين البنين في أساليب التربية و التعليم و اللعب و الرياضة. فتنشأ البنات كالصبيان و الصبيان كالبنات، و لا يكاد الفارق بينهم يُذْكر، حتى أن طريقة التفكير تكاد تكون واحدة، فتغدو الفتاة ميالة إلى ترك الزينة و التجمل، و تجمد عاطفتها، و تذبل رقتها شيئاً فشيئاً. فعندما تدخل مضمار العمل لا تبالي أياً كانت الفرصة، و لا تنتقي ما يناسب الأنوثة، فهي رُبيت مثل الذكران، و تفكر مثلهم، و تكاد تشعر بمشاعرهم ذاتها.
2 - قال رسول الله ? في وصف المرأة المسلمة و المرأة الصالحة:
"إِنّ الله لَمْ يَفْرِضْ الزّكَاةَ إِلاّ لِيُطَيّبَ مَا بَقِيَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ، وَإِنّمَا فَرَضَ المَوَارِيثَ لِتَكُونَ لِمَنْ بَعْدَ كُمْ" فَكَبّرَ عُمَرَ، ثُمّ قالَ لَهُ: "أَلاَ أُخْبِرُكَ بِخَيْر مَا يَكْنِزُ المَرْءُ: المَرْأَةُ الصّالِحةُ إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرّتْهُ، وَإِذَا أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ".
رواه أبو داود
و قال:
"خير النساء التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره".
رواه أحمد و النسائي و الحاكم
و المرأة الغربية غايتها أن يُعجب بها الجميع، وأن تدخل السرور على قلب كل تعمل عنده، لتنال رضاه فلا تفقد عملها، و لكنها بالتأكيد لا تطيع زوجها في أمر و لا نهي، و ما أكثر ما تخالفه في نفسها و مالها فيما يكره، و إن كان الرجل الغربي يقبل ذلك على مَضَض.
3 - قال رسول الله ? عن المرأة المسلمة و المرأة الصالحة:(1/138)
عن مَعْقِلِ بنِ يَسَارٍ قال: "جَاءَ رَجُلٌ إلَى النّبيّ ? فقال: إِنّي أَصَبْتُ امْرَأَةً ذَاتَ جَمَالٍ وَحَسَبٍ وَأَنّهَا لا تَلِدُ أَفأَتَزَوّجُهَا؟ قال: "لاَ"، ثُمّ أَتَاهُ الثّانِيَةَ فَنَهَاهُ، ثُمّ أَتَاهُ الثّالِثَةَ فقال: "تَزَوّجُوا الودودَ الْوَلُودَ فإِنّي مُكَاثِرٌ بِكُم الاْمَمَ".
رواه أبو داود والنسائي
أما المرأة الغربية فهي ودود لكل الرجال إلا زوجها، هذا إن تزوجت أو فكرت بالزواج أصلاً. و هي تفضل الموت على أن تكون ولوداً. أجلْ فهي تفعل كل ممكن و كل ما يخطر بالبال من أجلِ ألا تحمل، بل تتناول كل عقار مهما كانت آثاره الجانبية ضارة؛ لتمنع تشكل أول خلية حية من الجنين في أحشائها، و لا تتوانى في حقن نفسها بالهرمونات المذكرة و ليكن ما يكون إلا الحمل البغيض و الولد.
4 - و قال ? عن المسلمة:
عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النّبِيّ ? قَالَ: "اسْتَأْمِرُوا النّسَاءَ فِي أَبْضَاعِهِنّ" قِيلَ: فَإنّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي وَتَسْكُتُ قَالَ: "هُوَ إذْنُهَا".
رواه النسائي
و في حديث آخر:
عن أبي سلمة، أن أبا هريرة حدثهم: أن النبي ? قال: "لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن". قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: "أن تسكت".
البخاري و أبو داود
أما المرأة الغربية فلا وَليّ لها يستأمرها أو يستأذنها، و البكر إن وجدتْ فلا تعرف شيئاً عن الحياء، بل تعد الحياء تخلفاً و نقصاً و عيباً، كما تحتقر كل من اتصفت به من النساء، لذلك فهي تُنكَح ممن يشاء متى تشاء و كيف تشاء، دون أي ضابطٍ من شرع أو عُرْف أو حياء.
5 - قال ?:
"لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها".
رواه الترمذي
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح
و قال:
"إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها؛ دخلت الجنة".
رواه أحمد(1/139)
أما المرأة الغربية فلا تصلي و لا تصوم و لا تعرف شيئاً عن أي دين، و لا تحفظ نفسها إلا عن الحلال، و تبذلها في كل ألوان الحرام، و إن تزوجت -و هذا أصبح من المستحيلات- فلا طاعة إلا لهواها و شيطانها، فلا تعرف لزوجها فضلاً، و لا تقيم له وزناً، و لن ترى إحداهن الجنة مادامت على هذا.
6 - قال ?:
عن أَبي هُرَيْرَةَ عن النّبيّ ? قال: "إذَا دَعَا الرّجُلُ امْرَأَتَهُ إلَى فِرَاشِهِ فلَمْ تَأْتِهِ فَبَاتَ غَضْبَانَ عَلَيْهَا لَعَنَتْهَا المَلاَئِكَةُ حَتّى تُصْبِحَ".
متفق عليه
أما المرأة الغربية فلا تردُّ من يدعوها إلى فراشه، و لا تُغضب إلا القليل منهم و تلعنها الملائكة صباح مساء.
فيا أيتها المؤمنة إن مثل هذه المرأة الشيطانة تقوم بأعمال الرجال، و ربما تَفوقُ بعضهم، و تبزّهم فيها، و لكنها -كما ذكرنا- لا تمت لجنس النساء بصلة، بل هي عنصر تخريب في هذا الكون تخرب أول ما تخرب أنوثتها و جسدها، ثم هي تخرب مجتمعها، و تدفع به إلى الفناء، و أعظم من ذلك كله هو ما خربته من آخرتها.
فمثل هذه المرأة (إن جاز أن نسميها امرأة) لا ترغب في تشكل أول خلية لجنين في أحشائها، فتراها تلهث وراء أحدث العقاقير لمنع تشكلها، و تدفع في سبيل ذلك الغالي و الرخيص، و إن تَشكل الجنين سعت بشتى الوسائل و العقاقير للتخلص منه، و لا تكون هذه العقاقير إلا سموماً تملأ بها جسدها، فتخرب بها أعضاءها و غددها و خلاياها، فتخرجها عن أداء مهمتها، حيث تشن عليها حرباً بالهرمونات المذكرة متلفة كل خلية أنثوية فيها حتى تصبح أقرب إلى الرجال، و لن تصبح رجلاً أبداً و هيهات أن تعود امرأة.(1/140)
و مثل هذه المرأة العاملة إن هي أنجبت خطأً، فهي غير مستعدة لأن تلقم ثديها لوليدها و لو مات جوعاً، و هي لا تتخيل أن تسمع بكاء طفل أو تصبر عليه، و إن بكى طفلها فهي لا تعرف كيف ترعاه، و تحنو عليه، و لا تريد أن تعرف، و لا تدري كيف تلاعب طفلاً أو تطعمه أو تنظفه، بل تتقزز من مجرد ذكر ذلك، و تعد الطفل و العناية به و تربيته مضيعة للوقت، و أي وقت، فكل الكائنات الحية تكون مرحلة الطفولة عندها قصيرة إلا الإنسان، فتمر سنتان حتى يتقن المشي، و مثلهما حتى يتقن الكلام، و لا يستطيع الاعتماد كليا على نفسه و الاستغناء عن أبويه إلا بعد عشرة أعوام على أقل تقدير. فترى المرأة الغربية العاملة -إن أنجبت خطأً- ترمي بطفلها إلى امرأة أخرى تقوم بذلك مقابل المال، و عندئذ يتحول الطفل إلى سلعة لكسب الرزق، و تتحول الأمومة إلى مهنة تدر المال، أو ترمي به في مستودعات الأطفال الخيرية، حيث يُربى الأطفال كما تُربى قطعان الماشية!.
يجب التنويه هنا بأننا نتكلم عن معظم نساء الغرب و ليس كلهن، إذ مازالت قلة قليلة منهن يعشن الحياة الطبيعية للإناث، و لو أن الذي ذكرناه قد ألمَّ بكل النساء لما بقيت لمجتمعاتهم باقية، و مع ذلك فإن الفساد حلَّ بالمجتمع كله من جراء عمل المرأة و هي عاقبة وخيمة واضحة لكل ذي لب، نعوذ بالله العلي العظيم أن تتردى المسلمات إلى هذا الدرك.
فيا أيتها المؤمنة هل ترغبين أن تصلي إلى هذا الدرك بعد أن أكرمك الله ? برؤية عاقبة من هجر أحكامه بعينيك، رحمة بك من أن تخوضي ذلك بنفسك.
فلا يمكن للمرأة أن تجمع بين العمل و بين كونها امرأة مسلمة و أخت و ابنة و أم و زوجة صالحة، كما رأينا من تجارب نساء الغرب، فإما هذا و الخراب ثم الجحيم و إما ذاك و العمار ثم النعيم.(1/141)
فإن أردت أختي المسلمة أن تفعلي ما فعلت نساء الغرب فذلك خيارك، و لكن اعلمي أنه لن تكون العاقبة أقل مما حلّ بهن و بمجتمعاتهن، فهذه سنة الله ? و لن تجدي لسنة الله تبديلاً، و لن تجدي لسنة الله تحويلاً أبداً.
و إن أردتِ طاعة ربك ففي هذا الكتاب بحمد الله ? بما أوردتُ فيه من الآيات و الأحاديث بيان للدور الذي أراده الله للمرأة المسلمة؛ الذي به تكون خليفة في الأرض إلى جانب أبيها و أخيها و زوجها و ابنها لعمارتها لا لهدمها.
خروج المرأة إلى المسجد
يتحدث الكاتب عن الحقوق الاجتماعية للمرأة، فيبدأ بشهودها الصلاة مع الرجال في المساجد قائلاً:
"و هذا من أبرز هذه الأنشطة الاجتماعية التي تعود بالخير الديني و الدنيوي على المجتمع .
ورد في الصحيح أن رسول الله ? قال: "إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فائذنوا لهن".
و صح أيضاً من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إن كان رسول الله ? ليصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات بمروطهن، لا يعرفن من الغلس ."
(صفحة 82).
ثم بنى على هذين الحديثين نظريته العجيبة التي مفادها:
"و بوسعك أن تتأكد -إذا استعرضت هذه الأحاديث و أمثالها- أن المساجد لم تكن في عهد رسول الله ? وقفاً على الرجال كما يفهم ذلك كثير من الناس اليوم، بل كانت شركة متساوية بين النساء و الرجال، و كانت المساجد تفيض بصفوف النساء كما تفيض بصفوف الرجال." (صفحة 83).
قبل أن نناقش كلام الكاتب، أحب أن أتوجه برجاء لمن له الأمر، بأن يقوم بإعادة كتابة أحاديث رسول الله ? في كتب الأحاديث كلها مع إضافة بعض المؤثرات البصرية كالألوان و الخطوط العريضة، حتى يتنبه القارئ الساهي إلى كلمات معينة في حديثه ? ذات أثر كبير و خطير في التشريع.
ألم يقرأ الكاتب بتمعن هذين الحديثين قبل أن يستشهد بهما؟! ألم يقرأ التأكيد في كلا الحديثين على الليل و العتمة في ظرف خروج المرأة للصلاة مع رسول الله ?؟!(1/142)
ألم يفهم عن عائشة رضي الله عنها في قولها "متلفعات" و "لا يعرفن من الغلس" أن الظلمة و الليل و الغلس و الستر هم سبل المرأة المؤمنة لحضور الصلاة مع رسول الله ?؟!
لا أكاد أصدق أن كاتباً مثله يصل إلى هذه الدرجة من التساهل في الفهم عن الله ? و رسوله ?، و لا أظن أنه يستخف بعقول المسلمين إلى هذه الدرجة!.
إنني لا أجد جواباً شافياً، و لكن الكتاب صادر باسمه و هو حي يرزق بين أظهرنا - غفر الله لنا و له و للمؤمنين- و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فهل كانت المساجد إلا للرجال؟ فإن لم يحسن الكاتب قراءة حديث رسول الله ?، ألا يُحسن قراءة كلام ربه ? القائل في سورة النور:
{ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ }
(التوبة:107-108)
{ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ }
(النور:36-37)
أين النساء في هذا؟ أين ما زعمه الكاتب من الشركة المتساوية للمساجد بين الرجال و النساء؟(1/143)
إن بيوت الله ? كانت و ستبقى للرجال دون النساء، و لذلك شرط الرسول ? على المرأة إن أحبت أن تخرج للصلاة معه أن تأخذ إذن زوجها أولاً، و شرَط على الزوج أن يكون إذنه لها في صلوات الليل حصراً، و المؤمنة التي فهمت مراد ربها منها لا تُقدم على استئذان زوجها في غير صلوات الليل.
و المؤمنة في أيامنا هذه لا يجدر بها أن تستأذن لصلوات الليل، لأن الليل لم يعد حجاباً لهنّ كما كان، فالأفضل و الأولى للمرأة أن تصلي في بيتها، بل في قعر بيتها إن هي أرادت اتباع هدي رسول الله ? و الفوز برضا الله ?، و لا أظن أن مؤمنة عاقلة تفرّط بهذا.
فما بال المؤمنين في أيامنا هذه يزهدون في ثواب الله ?، حتى تخلّت المؤمنات عن عظيم الفضل فسارعن إلى المساجد و حسبن هذا مغنماً، بينما كثير من الرجال يعدون حضور الصلاة في المساجد مغرماً، فيتقاعسون عن حضور الجماعات، و هم جميعاً مفرطون في جزيل الثواب.
ثم يقول الكاتب بفهم خاطئ عن رسول الله ?:
"و لعل ذلك من أهم الأسباب الكامنة وراء ما أكده رسول الله ? من أن صلاة المرء جماعة تفضل صلاته وحده خمساً و عشرين درجة" (صفحة 83).
لست أدري كيف يجعل الكاتب من هذا الحديث دليلاً على جواز صلاة المرأة في المساجد مع الرجال؟ هل المرأة هي المرء؟ أمْ هل الأنثى تعني الذكر؟ هل كلمة النساء تعني الرجال؟ ما لكم كيف تحكمون؟!
إن في هذا الحديث بيان فضل الله ? على المرء20 وحده في زيادة أجره و مضاعفته عندما يحضر صلاة الجماعة في المسجد، أما المرأة فيزيد الله ? لها الأجر إن هي صلت في بيتها بخلاف الرجال تماماً، و هذا كان هديه ? لكل من سأله من الصحابيات رضي الله عنهن.
عن ابن عمر قال: قال رسول الله ?: "لا تمنعوا نساءكم المساجد، و بيوتهن خير لهن".
رواه الإمام أحمد و أبو داود(1/144)
لم يحْرم الله ? المرأة من فضله، فها هن المؤمنات اللواتي عشقن التكليف و عرفن مراد الله منهن في قرارهن في بيوتهن و عدم الخروج حتى إلى مسجد رسول الله ?، يسألن رسول الله ? عما جعل الله ? لهن من فضل مقابل ما جعل للرجال في صلاتهم في المسجد و جهادهم معه.
عن أنس ? قال: جاءت النساء إلى رسول الله ? فقلن: يا رسول الله ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل الله، فما لنا عمل ندرك فضل المجاهدين في سبيل الله؟ فقال :"من قعدت منكن في بيتها فإنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله".
رواه البزار
هل تُوجّه المؤمنات مثل هذا السؤال لرسول الله ? إن كن يعلمن أنه من حقهن أن يصلين في مسجده كالرجال؟ و هل تسأل عاقلة هذا السؤال إن كانت المساجد شركة متساوية بين الرجال و النساء كما يدعي الكاتب؟
أليست أحاديث رسول الله ? هذه للمؤمنات؟
عن عبد الله بن سويد الأنصاري عن عمته أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي أنها جاءت النبي ? فقالت: يا رسول الله إني أحب الصلاة معك، قال: "قد علمت أنك تحبين الصلاة معي وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك ،وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجدي" قال: فأمرت فبني لها مسجد في أقصى شيء من بيتها وأظلمه، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل .
رواه الإمام أحمد
عن عبد اللّه بن مسعود ? عن النبي ? قال: "صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها".
رواه أبو داود
وعن أم سلمة رضي اللّه عنها عن رسول اللّه ? قال: "خير مساجد النساء قعر بيوتهن" .
رواه الإمام أحمد
هل تَبيّن لنا الآن الفرق بين المرء و المرأة، و بين فضل صلاة المرء و فضل صلاة المرأة؟.(1/145)
لقد ثبت فيما أوردنا من الحديث الشريف أن الله ? قد جعل ثواب صلاة المرأة في بيتها أكبر من ثواب صلاتها في المسجد، و ما هذا إلا لأنه حرم اختلاط الرجال و النساء في مكان واحد.
و ما رآه الكاتب من تساوي الرجال و النساء في حضور الصلاة في المسجد، و من التساوي بين الرجال و النساء في ثواب الصلاة في المسجد، جاء مناقضاً تماماً لصريح القرآن الكريم، و ما ورد في الحديث الشريف.
الدين النصيحة
يجدر في هذا المقام أن نتوجَّه بالنصيحة إلى الأئمة في المساجد (و إلى المسؤولين عنهم) الذين يفرحون بامتلاء القسم الذي خصص للنساء في مساجدهم، و نقول لهم: إنكم لا تراعون أمر الله في صلاة النساء، و لا تلقون له بالاً، أو لعلكم لم تسمعوا به بعد.
نعم إنكم لغافلون و نساء المؤمنين يسعين في الجمعات إلى المساجد في وضح النهار و يرين من الرجال ما لا يُعد و لا يحصى، و يراهن من الرجال ما لا يُعد و لا يحصى، سواء كان ذلك في طريقهن إلى المساجد أو في المساجد ذاتها، و قد يتخطين صفوف الرجال، أو يطللن عليهم من سدة أو شرفة.
هذا في وضح النهار، و في صلاة الجمعة خصوصاً التي أصبح النساء من روادها و كأنها قد كتبت عليهن.
و كذلك الأمر في صلوات العتمة في أيامنا هذه، فالعتمة لم تعد عتمة كما كانت في عهد رسول الله ? و أصحابه رضوان الله عليهم.
لقد أذن رسول الله ? للنساء بحضور صلوات الليل من فجر و عشاء؛ لأن فتنة النظر كانت مأمونة في سواد الليل، و حتى في المسجد آنذاك، فقد كانت سرجهم لا تبدد ظلام الليل كما تبدده الكهرباء في يومنا هذا، ففي مساجدنا اليوم من الإنارة ما يضاهي ضوء النهار من مختلف أنواع المصابيح و الثريات، و بحمد الله قد أنيرت الشوارع و الطرقات، فلم نعد نأمن معها فتنة النظر سواء من الرجال أو من النساء.
و قد ورد عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في هذا المعنى:(1/146)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: لو أدرك رسول الله ? ما أحدث النساء، لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل. قلت لعمرة: أو منعهن؟ قالت: نعم.
رواه مسلم
لنتفكر معاً في استكشاف الأمور التي أحدثتها النساء بعد رسول الله في حضورهن الصلاة في المساجد حتى أنكرت عليهن أم المؤمنين رضي الله عنها.
أولاً:
لقد كانت النساء في زمن رسول الله ? لا يذهبن إلى المساجد إلا ليلاً، كما نصت الأحاديث الشريفة في صحيحي البخاري و مسلم رضي الله عنهما.
عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي ? قال: "إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فائذنوا لهن".
رواه البخاري
و هذا هو عين ما فهمه الإمام البخاري رحمه الله عن رسول الله ? فأورد هذا الحديث الشريف في صحيحه في باب "خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس".
و هذا هو عين ما فهمه الإمام النووي عندما بوَّب الحديث في صحيح الإمام مسلم رحمه الله، فأورد الحديث التالي في باب "خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، وأنها لا تخرج مطيبة":
عن ابن عمر؛ قال: قال رسول الله ? :"ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد" فقال ابن له، يقال له واقد: إذن يتخذنه دغلاً. قال: فضرب في صدره وقال: أحدثك عن رسول الله ?، وتقول: لا!
رواه مسلم
فربما بعد رسول الله ? أصبحت النسوة يخرجن إلى المساجد نهاراً، و لم يلتزمن بالإذن لصلاة الليل حصراً؛ مما جعل منهن مائلات مميلات، كما في أيامنا هذه.
ثانياً:
مع أن المسلمات كن في عهد رسول الله ? يأتين إلى المساجد ليلاً، فكنّ لا يخرجن من بيوتهن إلا بكامل مظهر الحشمة، و أبعد ما يكنَّ عن إثارة الفتنة، كما قالت في وصفهن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:
عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير: أن عائشة أخبرته قالت: كانت نساء المؤمنات، يشهدن مع رسول الله
? صلاة الفجر، متلفعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة، لا يَعرفهن أحد من الغلس.
رواه البخاري(1/147)
تتحدث أم المؤمنين في هذا الحديث عن شرط صلاة الليل، بالإضافة إلى شرط الحشمة في قولها "متلفعات بمروطهن" و "لا يعرفهن أحد من الغلس".
و نرجح أن الذي أحدثته النساء بعد رسول الله ? هو الأمران معاً: عدم التزامهن بالإذن لهن بالخروج لصلاتي الليل، و عدم التزامهن بالحشمة أيضاً، فما عُدْنَ يتلفعن بمروطهن إذا خرجن إلى المساجد ليلاً أو نهاراً كما نشهد في أيامنا هذه.
خصوصاً أن هذا الحديث من رواية أم المؤمنين عائشة، و أنّ حديث "لو أدرك رسول الله ? ما أحدث النساء، لمنعهن المسجد" هو أيضاً من حديثها رضي الله عنها، فهي التي روى عنها البخاري ما كانت النساء عليه في عهد الرسول، ثم روى عنها استنكارها ما أحدثن بعده ?.
ثالثاً:
علمنا أن رسول الله ? كان إذا قُضيت صلاتا الليل لبث في مصلاه قليلاً؛ حتى لا يتزامن خروج النساء من المسجد مع خروج الرجال، فلا يختلطون في الطريق.
عن أم سلمة قالت: كان رسول اللّه ? إذا سلّم مكث قليلاً، وكانوا يرون أن ذلك كيما ينفذ النساء قبل الرجال.
رواه أبو داود
و من المرجح أن يكون هذا مما أُهْمِل بعد رسول الله ?، كما نرى في أيامنا هذه أيضاً، حيث يختلط الرجال بالنساء صباح مساء في الدخول إلى المساجد و الخروج منها.
رابعاً:
كان رسول الله ? قد أمر النساء إذا خرجن من المسجد أن يلذن بالجدران تحشماً و إخفاءً للمفاتن قدر الإمكان.
عن حمزة بن أبي أُسيد الأنصاري، عن أبيه أنه سمع رسول اللّه ? وهو خارج من المسجد، فاختلط الرجال مع النساء في الطريق، فقال رسول اللّه ? للنساء:"استأخرن؛ فإِنه ليس لكنَّ أن تحققن الطريق (أي ليس لكن أن تَسِرْنَ وسطها)، عليكنَّ بحافَّاتِ الطريق" فكانت المرأة تلتصق بالجدار، حتى إنَّ ثوبها ليتعلَّق بالجدار من لصوقها به.
رواه أبو داود(1/148)
فمن المرجح أيضاً أن هذا مما أحدثته النساء بعده ?، و خاصة أن المسلمات في أيامنا هذه قد أحدثن هذا كله، فتراهن لا يستأخرن، و لا يلتزمن حافات الطريق، بل يسرن في أي مكان وسط الطريق كالرجال تماماً، و يزاحمنهم في الطرقات و الحافلات و على أبواب المساجد.
و في زمن غربة الإسلام هذا، ترى المؤمنات يخرجن إلى المساجد في الصباح و في المساء منفردات في وسط الطريق، غير متلفعات بمروطهن، كاشفات الوجه إلا من رحم ربك، فتكون إحداهن مطمعاً للسفهاء، و لكل منحرف يترصد الطريق، و مطية لكل شيطان مريد يرشق بها المجتمع الإيماني، و يرشقها بسهامه.
فاتقوا الله يا عباد الله في المسلمين و المسلمات، و خاصة الشباب منهم، و أحيوا سنن رسوله ?، فلا تأذنوا لنسائكم إلا بالذي أذن لهم به من صلوات الليل و العيدين أو عند الضرورة و بالشروط التي أقرها الرسول ?. و اتقين الله يا أيتها المسلمات في أنفسكن و في المسلمين، فلا تكنَّ أداة الشيطان في غواية بني آدم.
و أخيراً اعلمي أيتها المسلمة أن الشرع الإسلامي واحد متكامل في أوامره و نواهيه في ستره للمسلمات و حفظه للمسلمين من الفتنة، و حفاظه على المجتمع طاهراً. و اعلمي أن ما يفوت النساء من أجر يناله الرجال بسعيهم إلى المساجد وعمارتها بالعبادة، يدركنه بالقرار في بيوتهن و الصلاة فيها و حسن تبعلهن، فبعد أن تبَّين لكِ أن القرار في البيوت لازم للمسلمات في أمر الصلاة في مسجد رسول الله حيث كان إمامه هو الرسول ?، فما ظنكِ بخروجكِ من بيتكِ لغير الصلاة في زمننا هذا؟
قيام المرأة بالأنشطة العلمية
و الثقافية !
ينتقل الكاتبُ إلى الحديث عن شرعية قيام المرأة بالأنشطة العلمية و الثقافية كتفاً بكتف إلى جانب الرجل، و يتصيد لذلك كما عودنا أدلة كما تحلو له.
يمكننا أن نُسمِّي ما قام به الكاتب هنا "اختراعاً" و لا أجد صفة أنسب و أكثر دقة في وصف ما جاء به في هذا البحث حيث قال:(1/149)
"فقد رُئيت المرأة و هي تسابق الرجال إلى حلقات العلم ، و رئيت و هي تجلس مجالس التحديث و التعليم و الإرشاد، طوال عهد رسول الله ? روى البخاري من حديث أبي سعيد الخدري قال : جاءت امرأة إلى رسول الله ? فقالت: يا رسول الله ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله، فقال: " اجتمعن في يوم كذا و كذا في مكان كذا و كذا" فاجتمعن فأتى إليهن رسول الله ? فعلمهن مما علمه الله ." (صفحة 83).
إن أول ما يستنتجه المتدبر لهذا الحديث أن رسول الله ? كان قد قصر مجلسه و حديثه على الرجال فقط دون النساء، و هذا ما أثار غَيْرة النساء على تعلم دينهن و الدليل على ذلك هو قول الصحابية نفسها: "ذهب الرجال بحديثك"، إذ كيف يذهب الرجال بحديث رسول الله ? و النساء يسابقن الرجال إلى حلقات العلم (كما زعم الكاتب)؟!.
و نستنتج ثانياً أن النساء لم يكنَّ يشاركن الرجال في المجلس مع رسول الله ? و الدليل هو قولها: "فاجعل لنا من نفسك يوماً". فالصحابية كانت تعي و تفهم تماماً عن ربها و رسول ربها مهمتها كامرأة، و ضرورة تحصُّنها بالستر، فلم تطلب من رسول الله ? الإذن بحضور مجلسه بين الرجال، بل أحسنت الطلب في سؤالها مجلساً مقصوراً على النساء.(1/150)
و يستنتج المؤمن المتدبر للحديث أيضاً أن الصحابية -رضي الله عنها- التي تعلم علم يقين مهمتها في هذا الوجود، و تعلم ماذا يحق لها أن تطلب من رسول ربها دون شطط، لم تطلب منه ? أن يجعل للنساء أياماً مثل الرجال، كما لم تطلب منه ? أن يجمع النساء و الرجال في مجلسه، بل نراها قد طلبت يوماً أو مجلساً واحداً و إن الرسول ? لم يجعل لهن إلا هذا اليوم، و هذا واضحٌ في قول الصحابي أبي سعيد الخدري ? "فاجتَمعن، فأتى إليهن رسول الله ? فعلمهنّ مما علمه الله"، أي أن الرسول لم يجعل لهن إلا مجلساً واحداً بعينه، و لو كان لهذا المجلس تكراراً (كما توهّم الكاتب) لكان قوله ?: "فكُنَّ يجتمعنَ فيأتي إليهن رسول الله ? فيعلمهنّ مما علمه الله ?" بصيغة الفعل المضارع الذي يفيد الاستمرار و التكرار، و لكنه كان يوماً واحداً و مجلساً واحداً.
و نستنتج من قول الرسول ? لها "اجتمعن في يوم كذا و كذا في مكان كذا و كذا" أنه ? كان حريصاً كل الحرص على فصل مجلس الرجال عن مجلس النساء، و لم يقل لها تعالي مع زوجك أو أخيك إلى مجلس الرجال، كما توهَّم الكاتب!.
إن النتائج التي توصل إليها الكاتب بفهمه الخاطئ لهذا الحديث، برهان واضح على المنهج الذي اتخذه في كل كتابه في الاستنتاج اللامنطقي، و اختراع الأدلة، و كأنه يضع نصب عينيه الذي يريد، ثم يأتي بأي حديث فيه لفظ امرأة و كفى، فيشرح و يفيض، و يزيد ما يريد، لا اعتماداً على نص الحديث، بل على ما يريد هو أن يحمّل الحديث من معانٍ.
و قد عجز الكاتب عن إيراد دليل واحد يثبت به مسابقة النساء للرجال في حلقات العلم، و لكنه مع ذلك أثبت في كتابه قوله: " رُئيت المرأة و هي تسابق الرجال إلى حلقات العلم"، دون رويّة في الفهم عن الله ?. و سبحان الله! كيف فهم الكاتب من الحديث نقيض ما تدل عليه كل ألفاظ الحديث! و كيف جاء بفعل "رُئيت" مبنياً للمجهول و لم يقل لنا من ذا الذي رأى ذلك!!.(1/151)
ثم يورد الكاتب حديثاً آخر عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، استدل فيه على أن المرأة في عهد رسول الله ? كانت تحضر حلقات العلم، و تشارك الرجال في التعلم و التعليم و ادعى أنها كانت تتلقى الحديث، و ترويه، و كانت تنشط في السعي إلى ذلك كله كنشاط الرجال تماماً، و كان ذلك كله يلقى التشجيع و التأييد الكامل من رسول الله ?، حيث قال:
روى مسلم من حديث عامر بن شرحبيل أنه سأل فاطمة بنت قيس، و كانت من المهاجرين الأُول، فقال: حدثيني حديثاً سمعته من رسول الله ? لا تسنديه إلى أحد غيره ، فقالت: لئن شئت لأفعلن. فقال لها: أجل، حدثيني. فقالت له حديثاً طويلاً، وَرَدَ فيه: سمعتُ نداء المنادي ينادي: الصلاة جامعة، فخرجت إلى المسجد فصليت مع رسول الله ?، فكنت في صف النساء الذي يلي ظهور القوم، فلما قضى رسول الله صلاته، جلس على المنبر و هو يضحك، فقال: "ليلزم كل إنسان مصلاه". ثم قال: "أتدرون لم جمعتكم؟" قالوا: الله و رسوله أعلم. قال: "إني و الله ما جمعتكم لرغبة و لا لرهبة، و لكن جمعتكم لأن تميماً الداري كان رجلاً نصرانياً فجاء فبايع و أسلم و حدثني حديثاً وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال,.. إلخ" (صفحة84).
كالعادة لم يفطن الكاتب إلى نص الحديث، و ما فيه من خصوصية في إرادة رسول الله ? في ذلك اليوم جمع المؤمنين و المؤمنات على الصلاة.
لقد كان الظرف استثنائياً إذ أرسل الرسول ? منادياً ينادي "الصلاة جامعة" لأمر هام أراد رسول الله ? أن يطلع عليه المؤمنين جميعاً؛ و لذلك سألهم: "أتدرون لِمَ جمعتكم؟" مما يدل على استثنائية هذا الحدث، و أنه لم يكن أمراً اعتيادياً، و ليس كما استنتج الكاتب في قوله "تشارك الرجال" و "كنشاط الرجال تماماً".(1/152)
و كما ورد في نص الحديث فإن رسول الله ? جمع المؤمنين و المؤمنات لأمر عظيم، و هو تحذيرهم من المسيح الدجال، هذا الدجال الذي لَمْ يُحذِّر الرسولُ من شيء كما حذر من فتنته، و شدد في ذلك كما لم يشدد في غيره.
عن عمران بن حصين ? قال: سمعت رَسُول اللَّهِ ? يقول: "ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أكبر من الدجال".
رواه مسلم
و كان ? في جُلِّ تعوُّذه يتعوَّذ من فتنة الدجال و يأمر المؤمنين بذلك:
عن أبي هريرة ? قال: قال رسول اللّه ?: "إذَا فَرَغَ أحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهُّدِ الأخِيرِ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ أرْبَعٍ: مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالمَماتِ، وَمِنْ شَرّ المَسِيحِ الدَّجَّالِ".
رواه البخاري ومسلم
و من عِظَمِ فتنة الدجال أن لم يكن نبي من أنبياء الله إلا و قد حذَّر منه قومه.
عن سالم بن عبد الله: أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قام رسول الله ? في الناس، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم ذكر الدجال، فقال: "إني لأنذركموه، وما من نبي إلا وقد أنذره قومه، ولكني سأقول لكم فيه قولاً لم يقله نبي لقومه: إنه أعور، وإن الله ليس بأعور".
رواه البخاري
فلا يجوز تعميم حُكْم الحالات الخاصة، لنجعل منه قانوناً. فما كان هديه ? للنساء إلا بأمرهن في القرار في بيوتهن و الصلاة فيها دون المساجد. و لكن الكاتب رأى أن يستغلَّ هذه الحالة الخاصة ليجعل منها حُجَّة لاختلاط الرجال بالنساء، بينما أغفل ذكر كل الآيات و الأحاديث التي تمثل الحالة العامة في شرع الله ?.
و إليك هذا الحديث الذي لم يشأ أن يورده الكاتب في كتابه؛ لأنه يقوض كل الذي يدعو إليه:(1/153)
عن صفية بنت شيبة قالت: بينا نحن عند عائشة فذكرن نساء قريش وفضلهن، فقالت عائشة: ان لنساء قريش لفضلاً، واني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار، أشد تصديقاً لكتاب الله، ولا إيماناً بالتنزيل، لقد أنزلت سورة النور ?وليضربن بخمرهن على جيوبهن? انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل إليهن فيها، ويتلو الرجل على امرأته وبنته وأخته، وعلى ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها فاعتجرت به تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله في كتابه، فأصبحن وراء رسول الله ? للصبح متعجرات كأن على رؤوسهن الغربان.
رواه أبو داود وابن أبي حاتم وابن مردويه
فالأمر إذاً ليس كما يحاول الكاتب أن يوهمنا، إذ لم يكن للنساء في عهد رسول الله ? الحظ الأوفر من حلقات العلم و مجالس المعرفة، حيث لم تذكر السُّنة و السيرة لهنَّ إلا مجلساً واحداً، و ما كان نشاط المرأة لذلك كنشاط الرجل تماماً، و لم يكن الرسول ? يعطي ذلك التشجيع و التأييد الكامل الذي ادعاه الكاتب ادعاءً، دون أن يورد على ذلك برهاناً واحداً، إذ كيف يشجع رسول الله ? أو يؤيد شيئاً ما كان له وجود.
فكما رأينا قد جعل رسول الله ? للنساء يوماً واحداً فحسب، يعظهن فيه مباشرة و فيما عدا ذلك كان مجلس رسول الله ? للرجال وحدهم، و كان الصحابة يتلقون العلم عن رسول الله ? ثم يعودون إلى نسائهم فيخبرونهن بما أنزل الله ? على رسوله.
نعم لقد كان مصدر العلم الشرعي للمرأة المسلمة زوجها أو أخاها أو أباها أو ذا قرابتها، و رسول الله ? لا يزال بين ظهرانيهم، كما بينت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- في حديثها.(1/154)
و من الحديث ذاته نرى أن النساء حتى قبل نزول الحجاب (إذ كان الحديث في نزول آية الحجاب) لم يكنَّ يسابقن الرجال إلى مجالس العلم، و أي مجلس؟ إنه مجلس رسول الله ? الذي لا يعدله مجلس قبله و لا بعده، فالرسول يتنزل عليه الوحي الأمين و هن قواعد في بيوتهن ينتظرن عودة أزواجهن من عنده ليخبروهن بما تعلموا منه، و بما أنزل الله ? من الذكر الحكيم.
ثم يتحدث الكاتب في هذا المجال عن قيام بعض الصحابيات باتخاذ مجالس علم لرواية الأحاديث عن رسول الله ? ، فيستشهد بالحديث التالي:
عن أبي موسى الأشعري قال: أتت أسماء بنت عميس إلى رسول الله فقالت له: يا نبي الله إن عمر قال : سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله منكم . قال: "فما قلت له؟" قالت : قلت له: كلا و الله . كنتم مع رسول الله ? يطعم جائعكم، و يعظ جاهلكم، و كنا في دار أو أرض البعداء و البغضاء بالحبشة . و ذلك في الله و في رسول الله ?. و نحن كنا نؤذى و نخاف ... قال عليه الصلاة و السلام: " ليس بأحق بي منكم ، و له و لأصحابه هجرة واحدة ، و لكم أنتم أصحاب السفينة هجرتان" قالت: فلقد رأيت أبا موسى و أصحاب السفينة يأتونني أرسالاً يسألونني عن هذا الحديث . ما من الدنيا شيء هم أفرح به و لا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي ?.
رواه البخاري
من الغريب أن الكاتب قد نسي أن أمراً قد صدر من الرسول ? لأصحابه بتبليغ و لو كلمة عنه، لأنّ سُنَّته ? هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي و إن عناية المسلمين بحديث رسولهم جعلتهم حذرين في التثبت من مصادر حديثه ? و حرصوا كل الحرص على أن يأخذوه عمن سمعه منه مباشرة إن أمكنهم ذلك و لا يملك مؤمن و لا مؤمنة إلا البلاغ عن رسول الله انصياعاً لأمره ?، فما بالك إذا علمتَ أن هذا الحديث لم يسمعه من رسول الله ? إلا هذه الصحابية رضي الله عنها؟!(1/155)
عن ابن مسعود ? قال سمعت النبي ? يقول: " نضّر21 الله امرأ سمع منا شيئاً فبلَّغه كما سمعه، فرُبَّ مُبلَّغ أوعى من سامع".
رواه الإمام أحمد والترمذي وابن حبان
عن عبدالله بن عمرو عن النبي ?: "بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار".
رواه البخاري
فكل ما روي من سُنّةِ رسول الله ? في بيته و مع أهله لم يُؤخذ إلا عن أزواجه رضي الله عنهن أو عن أقرب الناس إليه. و من الأحاديث من لم يسمعه إلا رجل واحد أو امرأة واحدة، فلا سبيلَ إلى تلقيه إلا من ذلك الرجل بعينه أو تلك المرأة بعينها؛ لهذا لم تكن تلك الصحابية تعقد مجالسَ للعلم يؤمُّها الرجال و النساء كما يريد الكاتب أن يوهمنا، بل كانوا يذهبون إليها أرسالاً لسؤالها عن حديث بعينه ليس عند غيرها من أهل الأرض، و لم تكن لتكلمهم إلا من وراء حجاب كما أمر ربها ? و كأنما يسألونها متاعاً، ثم ينصرفون أرسالاً كما جاؤوا أرسالاً دون الركون إلى حلقة علم تجمعهم بها أو بغيرها من النساء و ليس في الحديث حرف واحد أو كلمة واحدة تفيد أن الصحابية كانت تعقد مجلساً للعلم في دارها، كما ادعى الكاتب بقوله:
"لم تكن حلقات العلم و مجالس المعرفة لأحكام الدين و مبادئه و قفاً على الرجال، في عهد رسول الله ?، بل كان للنساء الحظ الأوفر من ذلك كله.
فقد رُئيت المرأة و هي تسابق الرجال إلى حلقات العلم..." (صفحة 83).(1/156)
و نستنتج بجلاء من قولها: " فلقد رأيت أبا موسى و أصحاب السفينة يأتونني أرسالاً يسألونني عن هذا الحديث"، أنه لم يكن هنالك اجتماع و لا مجلس و لا وقت محدد لاجتماع أو مجلس، و هذا هو مدلول كلمة "أرسالاً22". و قولها: "يسألونني عن هذا الحديث" يدل على أن أصحاب السفينة على علم بهذا الحديث، و هو بالنسبة لهم بشارة عظيمة من رسول الله ?، بشارة بهجرة ثانية فوق الهجرة إلى المدينة، فأرادوا أن يتثبتوا منه بسماعه ممن سمعته مباشرة من فم رسول الله ? دون واسطة و بالتالي فإن مجالس العلم التي ادعى الكاتب أن هذه الصحابية كانت تعقدها، كانت كلها في موضوع واحد هو التثبت من صحة هذه البشارة!.
و مما يلفت النظر، أنك تجد أن طلبة العلم الذين كانوا يؤمون هذه الصحابية كانوا جميعاً من أصحاب السفينة، و لم يكن يأتي إليها أحد سواهم طلباً للعلم في مجلسها!!.
اشتراك المرأة في اللقاءات و الحفلات و الولائم المختلطة !
يريد الكاتب أن يبرهن على شرعية حضور المرأة اللقاءات و الحفلات العامة مع الرجال، و يصر على كلمة العامة، و لكن السيرة النبوية العطرة كلها ليس فيها حدث واحد، و لا حديث واحد يؤيده، فما العمل؟.
لقد ارتأى أن يورد أحاديث عن اللقاءات الخاصة، و الخاصة جداً، فيستشهد بها على شرعية حضور المؤمنات الحفلات العامة، و ليكن ما يكون، فقال:
"فلقد كانت المرأة في عصر النبوة -إلى جانب تقيدها بآداب الإسلام و ضوابطه المعروفة- تظهر مع الرجال في المجتمعات و المحافل و المناسبات، و تؤدي الدور الذي يؤدونه، ما دام أنه يدخل في نطاق الخدمات المشروعة و الأعمال النافعة. و حتى لو لم تكن تلك اللقاءات و المناسبات منطوية على أكثر من المتعة أو اللهو المشروع، فإن المرأة كانت شريكة الرجل في ذلك دون أي تحرج أو تأثم .(1/157)
روى البخاري و مسلم من حديث سهل بن سعد الساعدي، قال: "لما عَرَّس أبو أسيد الساعدي، دعا النبي و أصحابه، فما صنع لهم طعامه، و لا قرَّبته إليهم إلا امرأته أم أسيد، بلت تمرات في تور (أي إناء) من الليل، فلما فرغ النبي ? من الطعام أماثته له (أي أذابته) فسقته إياه تتحفه بذلك " (صفحة 85).
لست أدري كيف سمح الكاتب لنفسه أن يسمي هذا باللقاءات و المناسبات و المحافل العامة، و الأمر خاص جداً. فقد دعا أحدُ الصحابة رسولَ الله ? و أصحابه -رضوان الله عليهم- إلى بيته في يوم عرسه، و ليس في بيته غيره هو و زوجته التي قامت بخدمة ضيوفها في بيتها كما تفعل كل النساء.
و هكذا فعلتْ زوجُ إبراهيم إذ جاءه الضيف المكرمون عليهم السلام أجمعين.
{ وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ }
(هود:69-71)
ألم يرَ أن امرأة إبراهيم عليه السلام كانت قائمة على خدمة ضيوف زوجها، تماماً كامرأة ذلك الصحابي التي ما خرجت من بيتها لحضور حفلة عامة يؤمها الرجال و النساء؟! أولم يرَ الكاتبُ الفرق الشاسع بين الحفلات العامة و بين دعوة رجل لأصحابه الرجال دون نسائهم إلى طعام في يوم عرسه، هل يُعقل أن يغيب هذا عن عالم مثله؟!
و الأمر الأهم الذي يجب أن يتنبَّه له المسلمون فلا تخدعهم دعوى الكاتب، أن أضياف هذا الصحابي لم يُحضروا معهم زوجاتهم إلى هذه الحفلة، و كذلك لم يحضر رسولُ الله ? واحدة من أزواجه، بل لم تكن في هذه الحفلة العامة! أنثى واحدة إلا ربة البيت!.(1/158)
لست أصدق أن يستنتج عالم مسلم من حديث رسول الله ? هذا، أن النساء يمكن أن يشاركن الرجال في حضور الحفلات العامة و اللقاءات المنطوية على المتعة و اللهو المشروع!!.
لقد كان المدعوون رجالاً دون استثناء، و لم يكن بينهم امرأة واحدة، و المرأة الوحيدة كانت ربة البيت، و كانت تخدم ضيوفها في إعداد الطعام، و تقديمه لهم، و هم قوم أخيار، فيهم خير خَلْقِ الله محمد ?. لست أدري كيف يقدم الكاتب هذا الحديث الشريف دليلاً على مشروعية اجتماع النساء بالرجال على اللهو المباح أو غيره!!
و أين تجد في هذا ما أسماه الكاتب باللهو المباح، و المناسبات المنطوية على المتعة؟! إنما هي وليمة عرس مأمور بها شرعاً، و تُعَدُّ قُرْبَة إلى الله، و طاعة يثاب فاعلها عليها، و أبعد ما تكون عن اللهو، و ما كان رسول الله ? و أصحابه بصدد اللهو أو المتعة في موقف كهذا.
و الله ? قد أباح للمسلم أن يأكل في بيت أصدقائه مع زوجاتهم أشتاتاً أو مجتمعين في آية بيَّنة من سورة النور:
{ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً }
(النور: 61)
و مع هذا كله، لو أمعنا النظر في حديث رسول الله ? لوجدنا أن الأمر كله كان في ظلمة الليل البهيم!.
ثم يثني الكاتب بالحديث التالي:
"و روى البخاري أن عائشة رضي الله عنها قالت: "دخل علي أبو بكر. و عندي حاريتان من جواري الأنصار تغنيان مما تقاولته الأنصار يوم بعاث قالت: و ليستا بمغنيتين، تدففان و تضربان، فقال أبو بكر : أبمزامير الشيطان في بيت رسول الله ? ؟.. و ذلك في يوم عيد فقال رسول الله ? : "يا أبا بكر إن لكل قوم عيداً و هذا عيدنا"." (صفحة 86).(1/159)
مرة أخرى سمح الكاتب لنفسه أن يسمي هذا اللقاء العائلي الخاص باللقاءات العامة و المحافل و المناسبات، أما أن اليوم كان يوم عيد فهذا حق، و لكن أين هذه اللقاءات العامة؟! و أين اجتماع الرجال بالنساء على اللهو المباح؟! و من أين يأتي الكاتب بهذه النتائج؟!.
فكما نعلم جميعاً أن عائشة أم المؤمنين هي بنت أبي بكر رضي الله عنهما و زوج صاحبه ?، و إن وجود الأب في بيت ابنته و صهره ليس من اللقاءات العامة و المحافل، و وجود الجواري في أي بيت هو من الأمور الاعتيادية جداً جداً في ذلك الزمان، و لا يمكن بأي مقياس من مقاييس العقل اعتبار مثل هذا اللقاء لقاءً عاماً.
أجل إنه لقاء عائلي خاص جداً، فما أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلا بين زوجها ? و أبيها ?، و صادف أن كان في بيتها جاريتان تغنيان! ما لكم كيف تحكمون؟
ثم لننظر معاً إلى اللقاء العام الثالث الذي أورده الكاتب!
"روى مسلم من حديث أنس، قال: إن جاراً لرسول الله ? فارسياً، كان طيب المرق فصنع لرسول الله ? (أي طعاماً) ثم جاء يدعوه، فقال: "و هذه ؟" يشير إلى عائشة. فقال: لا فقال رسول الله: "لا". فجاء يدعوه. فقال رسول الله ?: "و هذه ؟" قال: لا. قال رسول الله ?: "لا". ثم عاد يدعوه فقال رسول الله ?: "و هذه ؟" قال: نعم، في الثالثة. فقاما يتدافعان، حتى أتيا منزله". (صفحة 86).
عجباً و الله! و هل دعوةُ الجار لجاره هي من اللقاءات و المحافل العامة؟ أليس الجار هو مَنْ نراه كل يوم صباح مساء أكثر من رؤيتنا لذوينا و أقاربنا! ألم يقرأ الكاتب في سورة النور ما أنزل الله ? من تشريع في الحفلات العامة:(1/160)
{ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }
(النور:61)
إن الله ? لم يضنَّ على عباده المؤمنين أن تكون لهم حفلاتهم و احتفالاتهم، فشرع لها من لدنه أحكاماً، و لن يستدرك على الله ? أحد. و كما نرى فالله ? رفع الحرج عن المسلمين في تناول الطعام في بيوت أصدقائهم سواءً كانوا أشتاتاً أو مجتمعين.
و نعلم أن وصية الله ? لرسوله بالجار هي أكبر من وصيته بالصديق، و يكون الجار في منزلةٍ بين الصديق و ذي القربى، و قد أحسن الرسول ? لجاره بقبول دعوته، و هو عمل يثاب عليه كل مسلم، و يأثم من لا يجيب دعوة أخيه، و هو ? الذي أوصى بالجار حين قال:
"مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه".
رواه البخاري و مسلم
كيف يمكن أن يكون بر جار لجاره دعوة عامة؟ و أين العموم في رجل دعا إلى بيته رسول الله ? و زوجته رضي الله عنها؟ و أين الاجتماع على اللهو المباح؟!(1/161)
و من جهة أخرى هل يستطيع الكاتب أن يخبرنا فيما إذا كانت هذه الدعوة قبل نزول آية الحجاب أم بعدها، و في كل الأحوال ما الذي يدريه إن كانوا قد أكلوا أشتاتاً أم مجتمعين؟. و الغالب -و الله أعلم- أن الرسول ? جلس مع الجار في مكان و جلست عائشة رضي الله عنها و جارتها في مكان آخر، و الله أعلم. و لكن أن نفرض العكس من خيالنا، ثم نبني عليه حكماً خطيراً، فلا يجوز هذا أبداً.
و كل الذي يمكن أن نجزم به من نص الحديث، أن الدعوة قد تَمَّتْ من الجار للرسول ? و زوجه فحسب، و لا نعلم بعد ذلك شيئاً، و كل الذي يقال رجم بالغيب.
و أخيراً، و إمعاناً في سَوْقِ الأدلة في غير مسارها و مجالها، يورد الكاتب برهاناً داحضاً على مشروعية اشتراك المرأة في الحفلات العامة و المناسبات و اللهو المباح و الاختلاط بالرجال، فيستشهد بأحاديث الغزوات التي شهدتها نساء المؤمنين مجاهدات في جيش المسلمين.
و قد سبقه إلى هذا الكثير من علماء الإسلام؛ الذين أرادوا التشجيع على اختلاط المسلمين و المسلمات بغير علم، و منهم الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- حيث قال في مطلع كتابه "فقه السيرة":
"و لنضرب مثلاً عما يصيب الأمم من عقم و ضياع ، نتيجة فهمها الخاطئ لأثر وارد. كثير من المسلمين يحكمون على المرأة ألا ترى أحداً و لا يراها أحد ، و في المدينة تسيح النسوة في الطرق يرتدين خياماً مغلقة طامسة ، و بها خرقان من أعلى لإمكان الرؤية ، و قد تختفي هذه الخروق وراء قطع من الزجاج أو الباغة..
و هذا التقليد السائد يعتمد على حديث، سمعت إمام الحرم النبوي يردده من فوق المنبر في خطبة الجمعة: أن رسول الله ? كره لنسوته أن يرين عبد الله بن أم مكتوم ، فلما احتججن بأنه أعمى لا يراهما! قال لهما : "أفعمياوان أنتما"؟.(1/162)
و قد استنكرت على الخطيب إيراده لهذا الحديث فإن علماء السنة تكلموا في معناه و من الجهل بالسنة تقريره عند بيان وظيفة المرأة، و أسلوب حياتها، و قواعد اتصالها بالمجتمع العام، و لم لا نذكر السنن التي رواها البخاري في ذلك، و هي أدق و أصح !!
أثبت البخاري تحت عنوان "باب غزو النساء و قتالهن مع الرجال" عن أنس ? قال : " لما كان يوم أُحُد انهزم الناس عن النبي قال : و لقد رأيت عائشة بنت أبي بكر و أم سليم، و إنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما، تنقلان القرب على متونهما -ظهورهما- ثم تفرغانه - الماء- في أفواه القوم ، ثم ترجعان فتملآنها ، ثم تجيئان فتفرغانها في أفواه القوم".
و ذكر تحت "باب غزو المرأة في البحر".. سمعت أنساً ? يقول: دخل رسول الله ? على "ابنة ملحان" فاتكأ عندها، ثم ضحك، فقالت: لم تضحك يا رسول الله؟ فقال :"ناس من أمتي يركبون البحر الأخضر في سبيل الله، مثلهم مثل الملوك على الأسرة". فقالت: يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني منهم. قال :"اللهم اجعلها منهم " ثم عاد فضحك. فقالت له : ِممَّ ذلك ؟ فقال لها مثل ذلك. فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم ! قال: " أنت من الأولين ، و لست من الآخرين". قال أنس: فتزوجَت عبادة بن الصامت، فركبت البحر مع بنت قرظة، فلما قفلت ركبت دابتها، فوقعت بها، فسقطت عنها فماتت.
و ذكر تحت عنوان "باب حمل النساء القرب إلى الناس في الغزو" أن عمر بن الخطاب قسم مروطاً بين نساء من نساء المدينة، فبقي مرط جيد، فقال له بعض من عنده: يا أمير المؤمنين أعط هذا ابنة رسول الله عليه الصلاة و السلام التي عندك -يريدون أم كلثوم بنت علي- فقال عمر : أم سليط أحق (و أم سليط من نساء الأنصار ممن بايع رسول الله عليه الصلاة و السلام) قال عمر: فإنها كانت تزفر لنا القرب يوم أحد، أي: تخيطها.(1/163)
و ذكر تحت عنوان "باب مداواة النساء الجرحى في الغزو" عن الربيع بنت معوذ قالت: كنا مع النبي عليه الصلاة و السلام نسقي، و نداوي الجرحى، و نردُّ القتلى إلى المدينة..إلخ.
و لنفرض أن البخاري لم يرو هذه الأحاديث الصحيحة، أفكان حديث العمياوين يسلط على المجتمع، و يحجر به على النساء في دورهن فلا يخرجن من هذا السجن أبداً؟ إن حكماً مثل هذا لا يعرف من القرآن، بل إن القرآن يجعل هذا الحكم عقوبة للنساء اللاتي يرتكبن الفواحش.
{و اللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم، فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً}.
لكن المسلمين لما استوعروا سبل التربية المهذبة للذكور و الإناث -بسبب انحرافهم علن القرآن- لجؤوا إلى السجن و القصر، فكان ما كان." (الصفحات 40-41-42) (انتهى كلام الشيخ الغزالي).
نرد على الشيخ الغزالي بما يلي:
أولاً:
قال الغزالي: " قد استنكرت على الخطيب إيراده لهذا الحديث؛ فإن علماء السنة تكلموا في معناه، و من الجهل بالسنة تقريره عند بيان وظيفة المرأة".
و لكنه ضنَّ علينا بذكر كلام علماء السنة من معنى الحديث؛ الذي استنكره على إمام الحرم النبوي الشريف، رغم أن إيراد الدليل واجب على عالم مثله، بل على كل من يدعو إلى الحق.
ثانياً:
لقد شكّك الغزالي في مصداقية الأحاديث الصحيحة التي رواها الإمام الترمذي -رحمه الله- هكذا، و دون أي دليل مخالفاً إجماع الأمة، فنقول له لِمَ لا يقوم العلماء بالاستغناء عن كل الصحاح ما عدا صحيح البخاري-رحمه الله- إن كان هو الأصح و الأدق و كفى؟! و هل تكلم علماء السنة في هذا أيضاً أم ليس بعد؟!
ثالثاً:(1/164)
كيف يُسمِّي إمامٌ مسلم مثل الغزالي البيت بالسجن؟ بعد أن سماه الله ? بالسكن و السكن هو الطمأنينة و الراحة و الهدوء، أليس هو المكان الذي يبنيه الرجل بجهده و عرقه؟! أليس هو المكان الذي تحلم كل فتاة و هي في بيت أبيها بالتربُّع على عرشه؟! أيشبهه عاقل بالسجن؟!
{ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ }
(النحل:80)
كل صباح يخرج الرجل من بيته إلى عمله، و حسب رأي الغزالي، فالرجل يخرج في الصباح من سجن، و لكن هل فكر الغزالي إلى أين يذهب الرجل بعد خروجه من السجن؟ إنما يذهب إلى سجن آخر يمضي فيه سحابة يومه في كدح و شقاء إلى أن يعود في المساء إلى السجن الأول الذي يحنُّ إلى الراحة فيه.
و البيت الذي سماه الغزالي سجناً لا يقارن بالسجن الآخر (مكان العمل) لما يتوافر في الأول من وسائل الراحة و حرية التصرف. و كلنا يعلم الفرق بين جو العمل و جو البيت، فالبيت تتوافر فيه وسائل الراحة و السكون في كل شيء، فلا يتقيد الرجل فيه بلباس خاص بل يلبس ما يروق له و يريحه، و يجلس و يضطجع أنى يشاء، وكيف يشاء دون تحرج أو تقييد. بينما في مكان العمل عليه أن يلبس ما يليق بعمله، و أن يلتزم بجداول العمل و مواعيده، و أن يتقيد بأوامر صاحب العمل، فلا فرصة للراحة. و لذلك تجد الرجل يهرع بعد انتهاء عمله إلى السجن الذي غادره صباحاً ليلوذ به، و ما أخرجه منه إلا واجب الكدح الذي لا استمرار للحياة دونه.(1/165)
و من فضل الله على المرأة أن جعل مكان عملها هو ذاته مكان راحتها و طمأنينتها و سكنها، فيه تمضي وقتها كيف تشاء، و تضع من ثيابها كيف تشاء، و ترتاح أو تعمل أنى تشاء، دون أن تتقيد بوقت أو مواعيد أو أوامر، فهي العامل الذي يقوم بالعمل و هي سيدة العمل و هي التي تحدد أوقات العمل، و تغيرها كيف و متى تشاء.
ثم من ذا الذي قال: إن المرأة لا تخرج من بيتها أبداً؟!
لقد كانت نساء النبي ? يخرجن معه، و يسافرن معه إذا دعت الحاجة، مع التزامهن بالقرار في بيوتهن، و عدم التبرج في غير وقت الحاجة. و قد خرجت أم المؤمنين صفية رضي الله عنها ليلاً بحاجة إلى رسول الله ? و كان معتكفاً في المسجد، ولم تكن لتخرج من بيتها إلا في حدود ما شرع الله ?، و ليس كخروج النساء في أيامنا هذه كالرجال تماماً في كل وقت صباح مساء لا يراعين حشمة، و لا غضاً للبصر و لا يتجنبن مواطن الفتنة و الاختلاط.
عن علي بن حسين: أن صفية زوج النبي ? أخبرته:أنها جاءت رسول الله ? تزوره، وهو معتكف في المسجد، في العشر الأواخر من رمضان، ثم قامت تنقلب، فقام معها رسول الله ?، حتى إذا بلغ قريباً من باب المسجد، عند باب أم سلمة زوج النبي ?، مر بهما رجلان من الأنصار، فسلما على رسول الله ? ثم نفذا، فقال لهما رسول الله ?: "على رسلكما". قالا: سبحان الله يا رسول الله، وكبر عليهما ذلك، فقال رسول الله ?: "إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً".
رواه البخاري و مسلم و أبو داود و ابن ماجه و أحمد(1/166)
فاتقوا الله يا عباد الله، و لا تكونوا كأولئك الذين إن أرادوا الكيد بالإسلام لم يفعلوا أكثر مما فعلتم و قلتم، فتراهم يهاجمون الإسلام من ناحية المرأة و حقوقها، فيدَّعون أن الإسلام هضم حقوق المرأة، و ألزمها بما لم يلزم به الرجال، إذ أمرها أن تستر جميع جسدها في الحرِّ و القرِّ، و ألا تخرج من بيتها ذلك الذي سموه السجن قبل أن يولد الغزالي رحمه الله، و من ثم جعل الإسلام أمرها في يد وليها، فهي تابعة له في زواجها و طلاقها، و جعل شهادتها نصف شهادة الرجل و ميراثها كذلك، و أخيراً لم يعطها الإسلام ما أعطى الرجال من حق تعدد الأزواج و.. و.. .، فاتقوا الله و هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.
رابعاً:
يرى الغزالي أنَّ:
"المسلمين لما استوعروا سبل التربية المهذبة للذكور و الإناث -بسبب انحرافهم عن القرآن- لجؤوا إلى السجن و القصر فكان ما كان"، و نرد عليه -رحمه الله- بسؤاله:
هل سبل التربية المهذبة للذكور و الإناث تمنع سنة الله ? في خلقه؟ و هل تُمِيْتُ التربية الإسلامية المهذبة الشهوة في الرجل فلا يفتتن بالنساء؟!
و هل المرأة المؤمنة التي ربيت تربية مهذبة لا تفتن الرجال، و يتساوى عندها الرجال بالنساء؟!
هل يمكن للتربية المهذبة أن تقضي على الغريزة التي أودعها الله ? في كل من الرجل و المرأة، و تنشئ جنساً حيادياً لا يأبه و لا يتأثر بالجنس الآخر؟!
ثم هلا أخبرنا الإمام الغزالي ما الذي اقترفته نساء النبي -رضوان الله عليهن- حتى يأمرهن ربهن بأن يقررن في (السجن) بيوتهن و لا يتبرجن؟
و هل أمر الله ? أمهات المؤمنين -اللائي خُيِّرْنَ فاخترن الله و رسوله- بالقرار في بيوتهن للسبب الذي ذكره ذاته (بسبب انحرافهم عن القرآن، و لوعورة تربيتهم التربية المهذبة)؟ و العياذ بالله!!(1/167)
لعل الشيخ الغزالي -رحمه الله- لم ينتبه إلى الفرق الكبير بين قول الحق ?: ?فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ? و قوله: ?وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ?.
{ وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً }
(النساء:15)
{ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً }
(الأحزاب:33)
عجباً و الله، كيف رضي الشيخ الغزالي -رحمه الله- بفطرته الإيمانية أن يكون تأديب الله ? لنساء رسوله أمهات المؤمنين بطريقة السجن في البيوت، بينما أنفت فطرته ذاتها أن يكون هذا السجن لنساء المؤمنين!
و عجباً كيف جعل الشيخُ الإمساك القسري في البيوت مثل القرار فيها طوعاً و انصياعاً لأمر الله ?؟!
و عجباً و الله، كيف جعل تقييد الخروج حتى الموت مثل تقييد الخروج بشروط معينة و بحسب الحاجة، حيث قال الحق ? في الآية ذاتها ?وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى?؟!
و إن كان الله ? قد سجن نساء نبيه ? -معاذ الله- فما أحرى المؤمنات أن يقتدين بهن. و هل تعدل امرأة في تربيتها و خُلُقها إحدى زوجات النبي ? ؟!
بل هل يعدل أحد من خَلْق الله خُلُق و تربية محمد بن عبد الله ?؟! و هو الذي شهد الله له بالخُلُق العظيم، و هو الذي أدَّبه ربه فأحسن تأديبه، و هاهو يرى امرأة في الطريق فماذا فعل؟(1/168)
عن جابر أن رسول الله ? رأى امرأة فأتى امرأته زينب وهي تمعس منيئة لها، فقضى حاجته، ثم خرج إلى أصحابه فقال: "إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه".
رواه مسلم و الترمذي و أبو داود و أحمد
فأعرِضوا عن هذا يا أئمة المسلمين، فإني و الله أرى الكفار قد أُسْقِطَ في أيديهم و ملّوا من هذا الافتئات، و سينتهون إنْ انتهيتم.
خامساً:
سواءً أكان حديث الترمذي أدق أو أقل دقة من أحاديث البخاري، فإن هذا لا يؤثر على الموضوع الذي قام الشيخ الغزالي ببحثه، إذ أن حديث الترمذي في أمر و حديث اليخاري في أمر آخر مختلف تماماً، و لا يمكن أن نقارن أو نفاضل بين حديثين يتعلقان بموضوعين شتَّان بينهما.
فمن الخطأ أن نقول: إن حديث الإمام مسلم في الصلاة هو أدق من حديث الإمام أحمد في الجهاد، و لا يتفوه بهذا عاقل.
لقد عجز الشيخ الغزالي و أمثاله عن أن يوردوا حديثاً واحداً عن الرسول ? أو عن الخلفاء الراشدين -رضوان الله عليهم- يدعمون به ادعاءاتهم في خروج المرأة من بيتها و اختلاطها و تشبهها بالرجال، و زاد -رحمه الله- على ذلك أنْ سمَّى البيت الذي يخلد فيه كل مخلوق للراحة التي لا يجدها في أي مكان آخر على وجه الأرض "سجناً"، كما شكَّك في مصداقية كتابٍ من كتب الحديث الشريف المعتمدة من جميع المسلمين من علماء و عامة.
لقد أضاع الشيخُ وقته و وقتنا في تتبع أحاديث البخاري-رحمه الله- في الغزو و الحرب، تلك الحالة الاستثنائية من حالات المجتمع، التي تستنفر كل طاقاته البشرية و المادية، و خاصة إذا كان العدو قد استنفر كل طاقاته البشرية و المادية، و هذا ليس غريباً على الإسلام، قال تعالى:(1/169)
{ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }
(التوبة:36)
ففي حال الحرب في كل مجتمع ينفر الرجال و الشيوخ و النساء و حتى الأطفال و قد تُسَنُّ في وقت الحرب قوانين جديدة لم تكن موجودة في المجتمع من قبل، أي: في حال السلم، و من ثم بعد انتهاء الحرب لا يُعْمَل بهذه القوانين.
و مصداق هذا في قول الرسول ? في حديثه الشريف:
"من غش فليس منا".
رواه الترمذي و بنحوه مسلم و أبو داود و ابن ماجه
ففي السلم يحرم على المسلم أن يَخدعَ حتى غير المسلمين، و لكنْ في الحرب له أن يخدع عدوه، فقال عليه الصلاة و السلام في غزوة الخندق عندما تكالب الكفار و اليهود على المدينة:
"الحرب خدعة".
متفق عليه
و من البديهي أن الحفاظ على النفس من الهلاك بالنسبة للنساء المؤمنات في زمن الحرب أهم من الحشمة و عدم الاختلاط بالرجال، و بالنسبة للرجال المؤمنين فإن في حماية أرواحهم و أرواح أهليهم، ما يلهيهم تماماً عن النظر إلى النساء نظرة فتنة أو ريبة، فكلهم مجتمعون في هذا الوقت العصيب على نصرة دينهم، و خرجوا واضعين أرواحهم على أسنة سيوفهم لا همّ لهم إلا الشهادة أو النصر، أفيظن منصفٌ أنّ أحدهم ستهبط به نفسه إلى درك الشهوات الدنيوية و هو في موقف كهذا؟.
فما بالك في حروب استئصال يشنها الكفار ضد الرسول ? و أهل المدينة، لقد كانت حرباً أعظم و أخطر من أي حرب أخرى، فكفار مكة و مَنْ ساندهم لم يكن ليُقِرَّ عيونهم إلا بتر شوكة هذا الدين الذي سلبهم مهابتهم، و سيطرتهم على الجزيرة.(1/170)
ففي يوم بدر، و بعد أن نجا أبو سفيان بالقافلة، أصرَّ الكفار على دخول الحرب لاستئصال المسلمين؛ ليعيدوا مهابتهم في كل الجزيرة العربية، فخسؤوا، و باؤوا بالخزي، أما في يوم أُحُد، فالمشركون مكلومون من هزيمتهم في بدر الكبرى، و هم فوق ما ذكرنا من كيدهم لاستئصال الإسلام يريدون الثأر لمن قُتِل من سادتهم و كبرائهم، و أرادوا أيضاً ردَّ اعتبارهم أمام الجزيرة كلها لمحو عار هزيمة بدر حيث أخذوا يعدُّون العدة ليوم أحد منذ يوم رجوعهم بالخزي من بدر، فأقسموا الأيمان، و نذروا النذور ليوم الثأر هذا.
و جيش المسلمين في بدء الدعوة كان في أشد الحاجة إلى العدد و العدة، فكانوا في بدر قرابة ثلاثمئة رجل، بينما قارب الكفار الألف، و في أُحُد لم يتجاوزوا الألف مجاهد، انسحب رأس النفاق عبد الله بن أبي بثلثهم خوفاً من الموت، بينما كان جيش الكفار يربو على ثلاثة آلاف مقاتل، فكانت مشاركة النساء في هذه الحرب أمراً بدهياً بل واجباً، و يؤيد الشيخ الغزالي كلامنا هذا في كتابه عندما يقول:
"و اجتمع المسلمون حول رسول الله ? يتدبرون أمرهم، أيخرجون لمقاتلة العدو في العراء أم يستدرجونه إلى أزقة المدينة، حتى إذا دخلها قاتله الرجال في الطرق و قاتلته النساء من فوق سطح البيوت؟؟" (صفحة 250).
أجل في يوم كهذا لا تقوم النساء بمداواة الجرحى، و حمل قِرَبِ الماء إلى المجاهدين فحسب، بل في مثل هذا اليوم قد تقاتل النساء كالرجال، و تساند الرجال دونما أي حرج، فالمسلمون بحاجة لكل مدد و عون، حتى الملائكة الكرام تنزلت من السماء تقاتل في سبيل الله، إنه يوم نصرة الله و رسوله، إنه يوم نصرة دين الله و عباد الله على من أرادوا أن يطفئوا نور الله ? و إبادة عباده، و اقرأ مصداقَ هذا في كتاب الشيخ الغزالي:(1/171)
"و سار رسول الله ? و المسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد، و اقتربوا من جيش أبي سفيان. و كان رجال قريش - بعد أن ضمَّهم الفضاء الرحب- قد عادوا إلى التفكير فيما حدث، و أخذوا يتلاومون يقول بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئاً، أصبتم شوكة القوم، ثم تركتموهم و لم تبتروهم، و قد بقيت منهم رؤوس يجمعون لكم." (صفحة 272).
لقد كانت حرب بقاء أو فناء، و كذلك كانت كل حروب المشركين ضد هذا الدين أفتضنَُون على النساء أن يشاركن أزواجهن و آباءهن في الدفاع عن بقائهم جميعاً؟ بل عما هو أثمن من حياتهم، حياة نبيهم ? و نصرة هذا الدين؟.
و هل يجدرُ في خِضَمِّ هذه الفتن ذكر الاختلاط أو الفتنة بين رجل و امرأة؟ بين مجاهد و مجاهدة؟!
ففي مثل هذه الظروف حتى الأطفال يتطوعون بالخروج للجهاد، كما كان في يوم أُحُد، فسمح الرسول ? لطفلين منهم بالانضمام إلى جيشه بعد أن اختبرهم، و أرجع منهم من أرجع، و حتى الأعرج الذي رُفع عنه الحرج أراد أن يطأ بعرجته في الجنة، فخرج في هذا اليوم العصيب مجاهداً مع رسول الله ? مع أن الله ? قد عذره و رفع عنه الحرج.
"قال ابن هشام: وأجاز رسول الله ? يومئذ سَمُرة بن جُنْدب الفَزَاريّ، ورافع بن خَديجٍ، أخا بني حارثة، وهما ابنا خمس عشرة سنة، وكان قد ردّهما، فقيل له: يا رسول الله إنّ رافعاً رامٍ، فأجازه؛ فلما أجاز رافعاً قيل له: يا رسول الله، فإنّ سَمُرَة يصرع رافعاً، فأجازه. وردّ رسولُ الله: أسامة بن زيد، وعبدالله بن عمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت، أحد بني مالك بن النجّار، والبَرَاء بن عازب، أحد بني حارثة، وعمرو بن حَزم، أحد بني مالك بن النجّار، وأُسَيْد بن ظُهَير، أحد بني حارثة، ثم أجازهم يوم الخندق، وهم أبناء خمس عشرة سنة ".(1/172)
"قال ابن إسحاق : وحدثني أبي إسحاق بن يسار، عن أشياخ من بني سلمة : أن عمرو بن الجموح كان رجلاً أعرج شديد العرج، وكان له بنون أربعة مثل الأسد، يشهدون مع رسول الله ? المشاهد، فلما كان يوم أُحُد أرادوا حبسه، وقالوا له: إن الله عز وجل قد عذرك، فأتى رسول الله ? ، فقال إنَّ بَنِيَّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه، والخروج معك فيه، فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة؛ فقال رسول الله ? :" أما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك"، وقال لبنيه : "ما عليكم ألا تمنعوه لعل الله أن يرزقه الشهادة" فخرج معه فَقُتِل يوم أُحُد".
و لكن عندما قويت شوكة المسلمين فبلغوا في يوم فتح مكة عشرة آلاف مجاهد، لم يعد للمرأة مكان في جيوشهم، اللهم إلا أن تكون بصحبة أب أو أخ أو زوج أو ابن.
و بعد كل هذا يتخذ هذان العالمان من جهاد المؤمنات مع رسول الله ?، دليلاً على جواز اختلاطهن بالرجال، في العمل و الصلاة و الحفلات و اللهو، وفي كل نواحي الحياة في زمن الرخاء. أم تراهم يجادلون في دين الله بغير دليل و لا سلطان مبين؟.
و أخيراً و لكي لا ندع فرصة لمتقول أو مُدَّعٍ أن يخوض بغير علم في ديننا، نورد هذه الأحاديث الشريفة التي لا أظن أنها تغيب عن عالم مسلم يريد اتباع الحق في الاجتهاد في دين الله ?:
عَنْ عائشة رضي الله عنها قالت: قُلْتُ: يا رسول الله على النِّساءِ جهَادٌ؟ قال: "نَعَمْ عَليهنَّ جهادٌ لا قتالَ فيه: الحجُّ والعُمرةُ".
رواه أحمد و ابن ماجه
عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَغْزُو وَنُجَاهِدُ مَعَكُمْ فَقَالَ: "لَكِنَّ أَحْسَنَ الْجِهَادِ وَأَجْمَلَهُ الْحَجُّ حَجٌّ مَبْرُورٌ" فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَا أَدَعُ الْحَجَّ بَعْدَ إِذْ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ?.
رواه البخاري(1/173)
عن حشرج بن زياد عن جدته أم أبيه قالت: خرجنا مع رسول الله ? في غزوة خيبر وأنا سادسة ست نسوة قالت: فبلغ النبي ? أن معه نساء، قالت: فأرسل إلينا فدعانا، قالت: فرأينا في وجهه الغضب، فقال: "ما أخرجكن وبأمر من خرجتن" قلنا: خرجنا معك نناول السهام، ونسقي السويق، ومعنا دواء للجرح، ونغزل الشعر فنعين فيه في سبيل الله، قال: "قمن" فانصرفن، قال: فلما فتح الله عليه خيبرا أخرج لنا سهاما كسهام الرجال فقلت لها: يا جدتي، وما الذي أخرج لكنَّ؟ قالت: تمر.
رواه الإمام أحمد و أبو داود و النسائي
أجل، لقد غضب الذي لا يغضب إلا لله عندما رأى النسوة خارجات يُرِدْنَ الجهاد و جيش المسلمين يومئذ فيه كفاية و ليس كما كان فيما سبق من غزوات. و بعد هذا يماري مسلم في خروج المرأة من بيتها لأي غاية دون الجهاد و الصلاة مع خاتم الرسل عليهم الصلاة و السلام أجمعين؟!
من كل الذي سبق نرى أن الجهاد لم يُفْرَض يوماً على النساء، و لكن الضرورات هي التي تبيح المحظورات، فرأينا المسلمات يشاركن المسلمين في الدفاع عن هذا الدين و نبيه و عن أنفسهم؛ في زمن كانت فيه أعداد جيوش أعداء هذا الدين أضعافاً مضاعفة إذا ما نسبت إلى أعداد جيوش المسلمين.
و حتى في مثل هذه الظروف الاضطرارية لم تكن المسلمة لتخرج مجاهدة إلا بصحبة ذوي محارمها، و بكامل حشمتها، و لكن المضلِّين يُصوِّرون لنا المؤمنات بغير هذه الصورة، فعندما يتحدثون عن أم حرام بنت ملحان التي خرجت في أول جيش مسلم يخوض البحر لا يذكرون أنها إنما كانت بصحبة زوجها عبادة بن الصامت رضي الله عنهما.(1/174)
عن أنس بن مالك، عن خالته أم حرام بنت مِلْحان قال: نام النبي صلى الله عليه وسلم يوماً قريباً مني، ثم استيقظ يبتسم، فقلت: ما أضحكك؟ قال: "أناس من أمتي عرضوا علي، يركبون هذا البحر الأخضر، كالملوك على الأسرّة". قالت: فادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها، ثم نام الثانية، ففعل مثلها، فقالت مثل قولها، فأجابها مثلها، فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: "أنت من الأولين". فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت غازيا، أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية، فلما انصرفوا من غزوهم قافلين فنزلوا الشأم، فقربت إليها دابة لتركبها فصرعتها فماتت.
رواه البخاري
و كذلك عندما يتحدثون عن خولة بنت الأزور لا يطيقون ذِكْر صُحبتها لأخيها ضرار بن الأزور، كما لا يذكرون أنها كانت متلفعة بكامل حجابها، لا يُرى منها إلا عينيها، حتى حَسِبها كلُّ مَنْ رآها رجلاً.
اشتراك المرأة في المهن و الصناعات و المهارات !
إن كل الذي مر معنا في الكتاب حتى الآن من خطأ في الاستدلال لا يعدل عُشْر ما ورد في هذا الفصل الذي يبدؤه الكاتب بالنتيجة قبل البرهان فيقول:
"لم تكن مجالات المهن المختلفة و المهارات المتنوعة و الصناعات -في أي من العهود المزدهرة للإسلام- وقفاً على الرجال دون النساء، بل كان للمرأة المسلمة في ظل الازدهار الإسلامي نصيب في كل ذلك." (صفحة 88).
ثم أورد حديثاً لبرهان ما ادعاه، و جاء في الحديث أنّ امرأة جاءت النبي ? بِبُرْدَةٍ و قالت: "يا رسول الله! إني نسجت هذه بيدي، أكسوكها"، فأخذها النبي محتاجاً إليها فخرج إلينا، و إنها إزاره.(1/175)
يرى الكاتب أن النتيجة المنطقية لهذا الحديث هي أن هذه المرأة لا بد أنها كانت صاحبة صناعة، و ربما كانت تملك أو تدير مصنعاً للنسيج، بينما ذكرت المرأة بلسانها السبب الذي جعلها تقوم بنسج هذه البُردة عند قولها: "أكسوكها"، أي إنها لم تكن تملك مصنعاً للبُرد، و إنما صنعتها بهدف إهدائها لهذا الرسول العظيم الذي كان محتاجاً إليها فحسب. و إن معظم النساء إن لَمْ نَقُلْ كلهن كنّ يمضين فضول أوقاتهن في نسج ما يلزم أهلهن من ثياب، و ليس هذا غريباً حتى في أيامنا هذه، فما بالك في زمن لم تكن تتوافر فيه الملابس الجاهزة؟!
إذا أحبت امرأة مسلمة أن تهدي رسول الله ? شيئاً من عمل يديها، فنسجت له بردة كما تنسج لزوجها أو لابنها، فهل يعدُّ هذا من أدلة اشتراك المرأة في الصناعات اليدوية و المهن؟ و هل نَسْجُ بردة يعني شيئاً في صناعة النسيج؟.
ثم أورد الكاتب حديثاً آخر يقول:
"أن امرأة من الأنصار قالت لرسول الله ?: يا رسول الله ألا أجعل لك شيئاً تقعد عليه ؟ فإن لي غلاماً نجاراً. قال: "إن شئتِ ". فعملت له المنبر" (صفحة 89).
ما علمتُ في كل ما قرأت أو سمعت أن أحداً أخطأ في الاستدلال مثل هذا الخطأ! لقد جعل الكاتب من هذه المرأة نجّارة تمارس عمل النجارة بيديها، و ما هي إلا امرأة ملكت فتى، أي: عبداً مملوكاً لها، و شاءت الأقدار أن يكون هذا الفتى يتقن النجارة.
فلم تدَّع المرأة أنها ستقوم بصنع الكرسي بيديها أو أنها ستشارك في صُنْعه، بل بيَّنت بكل بساطة أن العبد الذي عندها يتقن النِّجارة، و هو الذي سيقوم بالعمل، و ما هي إلا سيدة له تملكه فتأمره بما تريد، و لا يملك الفتى إلا الطاعة.(1/176)
و كلنا يعلم حرفة النجارة، و ما تحتاجه من قوة عضلية حتى في أيامنا هذه، إذ حلّت الآلات و الأزرار مكان العضلات، و رغم هذا لا تزال هذه الحرفة حصراً في الرجال، فمن ذا يصدق أن امرأة كانت تقوم بأعمال النجارة منذ أربعة عشر قرناً! و أين؟ في صحراء الجزيرة العربية!!
و إليكم الدليل على ما أقول في هذا الحديث الشريف الذي لا أشك في أن الكاتب قد قرأه أو سمعه مراراً و تكراراً:
عن أبي حازم بن دينار: أ ن رجالاً أتوا سهل بن سعد الساعدي، وقد امتروا في المنبر مم عوده، فسألوه عن ذلك، فقال: والله إني لأعرف مما هو، ولقد رأيته أول يوم وُضِع، وأول يوم جلس عليه رسول الله ?، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلانة، امرأة قد سماها سهل: "مُري غلامك النجار، أن يعمل لي أعوادا، أجلس عليهن إذا كلمت الناس". فأمرته فعملها من طرفاء الغابة، ثم جاء بها، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بها فوضعت ها هنا، ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى عليها وكبر وهو عليها، ثم ركع وهو عليها، ثم نزل القهقرى، فسجد في أصل المنبر ثم عاد، فلما فرغ أقبل على الناس فقال: "أيها الناس، إنما صنعت هذا لتأتموا ولتعلموا صلاتي".
رواه البخاري و مسلم و النسائي و أبو داود و الإمام أحمد و غيرهم
فكما ترون لم يكن لهذه الصحابية (النجّارة!!) من جهد في هذا الأمر سوى أن أمرت غلامها بكلمات، و هذا عمل يمكن لأي إنسان أن يقوم به رجلاً كان أو أنثى، صغيرة أو كبيرة، طالما أنها تستطيع الكلام، و إن الأمر بصنع الأعواد، مثل غيره من الأوامر، و لا يختلف عن قول السيدة لغلامها: اذهب و أحضر الماء من البئر. و لكن ما قام به الغلام عند عمل الأعواد أو المنبر يختلف كثيراً عما يقوم به عند إحضار الماء من البئر من ناحية الجهد العضلي، و الخبرة في الصنعة.(1/177)
ثم أورد الكاتب حديثاً مفاده أن امرأة كان لها زوج و أولاد، و ليس لهم شيء من مال، و كانت المرأة هي التي تعمل لكسب الرزق، و من الحديث نتبين أنه لا معيل لهذه الأسرة، فالزوج لا يعمل و الأولاد كذلك، و كانت المرأة ذات صنعة تبيع منها لتنفق على زوجها و أولادها الذين لا صنعة لهم، فأقرها الرسول ? على ذلك.
و عمل هذه المرأة ليس إلا مما قد أفضنا فيه عند ذكر قصة موسى مع ابنتي شعيب عليهما السلام، و بينا فيها أحكام و شروط الضرورة لعمل المرأة المسلمة، و هي تنطبق تماماً مع ظروف هذه الصحابية. كما أن الكاتب لم يبين لنا نوع العمل الذي تقوم به هذه الصحابية، فقد علمنا أنها تعمل لضرورة، و ليس في الحديث جملة أو كلمة أو حرف و احد يدل على أنها اضطرت لأن تعمل بين الرجال أو كالرجال، أو يدل على جواز اختلاط النساء بالرجال و الجمع بينهم في مكان عمل واحد البتة و إنْ أحسنّا الظن نقول أنها كانت تصنع ما تحتاجه النساء، و تقومُ ببيعه للنساء في بيتها، و هذا أمر محمودٌ نشجع عليه كل نساء المؤمنين.
و كذلك ما ذكره الكاتب من حديث الربيع بنت معوذ التي كان ابنها يبعث إليها عطراً من اليمن فتبيعه إلى أجل، فأول ما يستنتج من الحديث أن المرأة كانت بلا معيل فابنها في اليمن يبعث إليها بالعطور، و هذا يدرج أيضاً في حكم الضرورة. و ليس في الحديث ما يدل على أن المرأة كان لها متجر للعطور تبيع الرجال و النساء في السوق، بل يحمل الحديث على أنها تبيع النساء في بيتها، و ليس في هذا حرج و الله أعلم.
و كذلك في المثال الآخر الذي ذكره الكاتب، حيث كانت أم شريك تفتح بيتها للضيفان، و لم تكن تعمل خارج بيتها، و لم يكن ما تقوم به ينطوي على أي جهد عضلي أو اختلاط بين الرجال و النساء أو بينها و بين أضيافها، بل ربما لم تكن تعمل أبداً، إذ ليس في الحديث ما يدل على تقاضيها أجراً من الضيفان و غيرهم و الله أعلم.(1/178)
و لكن الذي يعنينا من كل الأحاديث التي أوردها الكاتب؛ هو أن عمل من ذكرهن من النساء كان لضرورة، و كن يقمن به و هن في بيوتهن بعيداً عن الاختلاط، و أن أيَّ واحدة منهن لم تتعدَّ حدود الضرورة التي أباح فيها الإسلام للمرأة أن تعمل. و أسأله بالذي لا إله إلا هو: هل سمع عن متجر الربيع بنت معوذ لبيع العطور في سوق المدينة؟ أو قرأ شيئاً عن مصنع زينب للنسيج؟ فكيف إذاً يبرر استدلاله في غير محله؟! وهو القائل:
"إذاً فالإسلام في أعلى نماذجه التطبيقية فتح مجال الخدمات الاجتماعية و السبل إلى ممارسة المهارات و الصناعات أمام الرجال و النساء على السواء، و لم يضيق شيئاً من ذلك على النساء في الوقت الذي وسع منه أمام الرجال." (صفحة 90).
و أخيراً يتساءل الكاتب:
"أتراني فيما قد بينت و أوضحت؛ أحاول السعي إلى ما يسمى اليوم بتحديث الإسلام و تطويره، لحاقاً بما تتشهاه بعض النفوس من اتباع التقاليد الغربية الوافدة؟"
(صفحة 91).
نقول: هل كان الكاتب يتحدث عن الإسلام؟ أم كان يشبع رغبات بعض النفوس في اتباع التقاليد الأوربية الوافدة عن غير قصد منه؟ و هل يشتهي من يكيدون للإسلام أكثر مما قدم لهم من مبررات الاختلاط بين النساء و الرجال؟
إن من أراد أن يبين شرع الله ?، يبدأ أولاً بالبحث فيما أنزل الله عزَّ و جلَّ فالباحث في أي موضوع في الإسلام يبدأ أولاً بالآيات التي تعالج هذا الموضوع من وحي الله ?، ثم يدعمها بأدلة من سُنة رسول الله ?. و ما أرى الكاتب إلا قد غفل عن جُلِّ الآيات المتعلقة بموضوع بحثه، تلك الآيات التي حدد فيها الله ? مهمة كل من الرجل و المرأة و بين فيها شروط عمل المرأة اضطراراً.
و من ثم أغفل الكاتب ذكر كثير من أحاديث رسول الله ? و ما فيها من أمر للنساء بترك الصلاة في المساجد، و التزام بيوتهن، و عدم النظر إلى الرجال، و ما ذلك إلا لأن فيها ما ينقض كل غزله.(1/179)
و الكاتب ليس بغافل عن هذا النهج في الكتابة الإسلامية، فهو القائل:
"أما المخلص للإسلام و للدعوة إليه، فهو ذاك الذي يعيده إلى ينابيعه، و يجعل من عهد رسول الله و أصحابه النموذج الذي يجسده و يبرزه على حقيقته، و هذا ما قد فعلته في هذا الفصل الذي أوضحت فيه مكانة المرأة في دين الله عز و جل. إنني لم أضع القارئ بعد الاحتكام إلى نصوص القرآن و وقائع السنة إلا أمام مرآة جلية من حياة رسول الله ? و أصحابهه، و هي الأسوة للمسلمين."
و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم.
دليل من اللغة
إن اللغة العربية من أكمل اللغات على وجه الأرض، و أكثرها حيوية و شمولاً. و مع شمول هذه اللغة تجد أن بعض الألفاظ فيها حصرت على التذكير، و لا يصح فيها التأنيث مطلقاً.
و أول هذه الألفاظ هي أسماء أصحاب المهن، ففي اللغة العربية لا تكون أسماء أصحاب المهن إلا مذكرة، فلا نقول "الطيارة فلانة" بل نقول "الطيار فلانة" و لا نقول "المحامية فلانة" بل نقول "المحامي فلانة".
و كذلك الأمر في أسماء الرتب العسكرية التي لا تكون إلا مذكرة فنقول "الملازم فلان" و "الملازم فلانة".
و في اللغة العربية يكون جمع المذكر، شاملاً للإناث بينما لا يكون جمع المؤنث شاملاً للذكور، و بهذا يمكن أن تخاطب الرجال و تكون النساء مشمولات في هذا الخطاب، فتقول "يا أيها الذين آمنوا" و تعني المؤمنين و المؤمنات. و لعلك تجد هذا في معظم لغات أهل الأرض.
فاللغة الفطرية كما نرى، أَبَتْ إلا أن تكون المهن مقصورة على الرجال دون النساء، و أن الجندية كذلك، و هذا مما يتوافق مع شرع الله ? لعباده.
حديث التفاوت و المساواة
المساواة
لا يزال الكاتب يدور في حلقة مفرغة من التناقض و لا نظن به إلا خيراً -غفر الله له و لنا و للمسلمين- فهاهو التناقض يبرز مجدداً بين ما يقوله في هذه الصفحات و ما قاله في صفحات سابقات، و إليكم الدليل:
يتحدث الكاتب عن قوامة الرجل على المرأة قائلاً:(1/180)
"و هل القوامة التي أخبر عنها الشارع واقعاً أكثر من أن يأمر بها قراراً و حكماً، إلا هذا الذي يمارسه عن رضا و طواعية سائر الناس؟
فإن قلت: ما الذي يمنعنا من تغيير هذا الواقع ؟ قلنا: أما الجزء الأول من هذا الواقع، فأمره ليس بيدي و لا بيدك، و إنما هو بيد من أقام الرجل على صفات الرجولة بكل خصائصها و مزاياها، و أقام المرأة على صفات الأنوثة بكل خصائصها و مزاياها" (صفحة 102).
و يزيد في الصفحة 104 قائلاً:
"إذ إن واقع القوامة تفرضه طبيعة كل من الرجولة و الأنوثة كما أوضحنا" (صفحة 104).
و نسي كل الذي أورده في بدء كتابه من نظريات و استنتاجات بنى عليها الكتاب كله حيث قال:
"و لكن قد يقال: فما بال الرجال يخاطبون بتكاليف لا تخاطب بها النساء؟ و ما بال النساء يخاطبن بتكاليف لا يخاطب بها الرجال ؟,
و الجواب: أن هذا الاختلاف ليس آتياً من فرق ما بين الذكورة و الأنوثة أو ما بين الرجال و النساء، و إنما هو آت من عوامل خارجية أخرى تتعلق بالحكمة أو المصالح التي شرعت من أجلها هذه التكاليف." (صفحة 21).
فقوامة الرجل على المرأة عند الكاتب هو قرار و حكم من الله ?، و لا يغيره إلا الله وحده؛ لأنه أقام الرجل على صفات الرجولة بكل خصائصها و مزاياها، و أقام المرأة على صفات الأنوثة بكل خصائصها و مزاياها.
و في الوقت نفسه يرى الكاتب أن مخاطبة الله ? للرجال و النساء بتكاليف مختلفة فيما بينهم كالقوامة مثلاً (التي تفرضها طبيعة كل من الرجولة و الأنوثة) و كل متعلقاتها كالإنفاق، لا علاقة له بذكورة أو أنوثة!!.
و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الميراث
ينطلق الكاتب في هذا البحث من قول الحق ? ?للذكر مثل حظ الأنثيين? فيقول:(1/181)
"سماسرة هذا الانتقاد يفهمون قوله تعالى: ?للذكر مثل حظ الأنثيين? قانوناً عاماً سارياً في أحكام الميراث. بل إن كلمة "للذكر مثل حظ الأنثيين" غدت في وهم المروجين لهذا الانتقاد و كثير من دهماء الناس؛ بمثابة دستور اجتماعي يفرضه الدين في كل مسألة و في سائر الأحوال المدنية و بالنسبة إلى سائر القضايا و المشكلات ! في حين أن الآية إنما رسمت هذا الحكم في ميراث الأولاد دون غيرهم. و للورثة الآخرين ذكوراً و إناثاً أحكامهم الواضحة الخاصة بهم. و نصيب الذكور و الإناث واحد في أكثر هذه الأحكام". (صفحة 107).
ثم عرض بعض الأمثلة في الميراث، و استنتج منها النتيجة التالية:
"فقد ظهر لك جلياً أن الذكورة و الأنوثة لا مدخل لهما، من حيث ذاتهما، في تفاوت الأنصباء, و لو كان الأمر كذلك، لاطرد الحكم . و لكان نصيب كل ذكر من الوارثين ضعف نصيب كل أنثى من الوارثات .
و قد رأيت أن الحكم يدور عل محور آخر، هو مدى حاجة الوارث، و نوع العلاقة السارية بينه و بين مورثه. كما قد اتضح لك من الأمثلة السابقة. فإذا اقتضت العلاقة بينهما و مدى الحاجة التي تلاحق الوارث، أن تكون حصة الذكر أكثر من الأنثى كان الحكم كذلك. و إذا اقتضى ذلك أن تتساوى الحصتان أو أن تفضل الأنثى على الذكر، كان الحكم كذلك. و الأمثلة التي ذكرناها خير شاهد على ما نقول."
(صفحة 109).
سنبرهن -إن شاء الله تعالى- على سوء الاستنتاج في بعض ما استنتج الكاتب و مخالفة ما استدلَّ به للحق، مستعينين بالمثال التالي الذي بني الكاتب عليه و على أمثاله بحثه في الميراث، و علاقته بالذكورة و الأنوثة:
"إذا ترك الميت زوجة و ابنتين و أخاً له، فإن الزوجة ترث ثمن المال، و ترث الابنتان الثلثين، و ما بقي فهو لعمهما، و هو شقيق الميت، و بذلك يرث كل من البنتين أكثر من عمهما" (صفحة 107).(1/182)
لقد اتخذ الكاتب من هذا المثال دليلاً على أن الذكورة و الأنوثة لا مدخل لهما من حيث ذاتهما في تفاوت الأنصباء، و لكنَّ اختياره لهذا المثال يعد خطأً كما سنرى:
لقد فرق الله ? في الإرث بين الأولاد الذكور و الأولاد الإناث، و ذلك لحكمة أرادها خالقُ الذكر و الأنثى؛ الذي كلف الذكر بالقوامة على الأنثى، كما كلف الأنثى بالقنوت و حفظ الغيب.
فإذا مات الوالد و له بنت و لم يترك مالاً فَمَنْ يُكلف بالإنفاق على ابنته؟
بما أن الله ? جعل الشقاء و القوامة للذكور، و نَزَّه عنهما الإناث، فجعل نفقة الأنثى بعد وفاة أبيها على أخيها، و لذلك أعطاه ضعف حصتها، أي عَوَّضه مغنماً (ضعف الحصة) مقابل مَغْرَم (الإنفاق).
و إذا توفي الأب و لم يكن للبنت أخ يقوم بأمرها، جعل الله ? عمها -أقرب ذَكَر إليها- هو الذي يقوم بأمرها، و لذلك و في هذه الحال فقط، جعل له نصيباً من مال أخيه مقابل ما كلفه به من إنفاق على ابنة أخيه، و لكنْ عندما ينتفي دور العم بوجود أخ للبنت يقوم بأمرها، فلا يصل إلى العمّ من الميراث شيء.
فإذا جعل الله النفقة و القوامة على العمّ عند وفاة شقيقه الفقير الذي لم يترك شيئاً لابنته، أليس من الحكمة و العدل أن يجعل الله له شيئاً من الإرث عندما يكون أخوه المتوفى غنياً؟ أيترك له المغرم و يمنعه المغنم؟ و الأيام دول و لا يدري أحد ماذا يكون مصير مال البنت، فقد يضيع لسبب من الأسباب، فمن ذا الذي سينفق عليها إن لم يكن الشرع قد رقق قلب عمها بما ناله من مال أخيه؟!
إذاً لكي نكون منطقيين في الحكم، و إذا أردنا اتباع الحق لا الوهم في بيان أحكام الشرع الحكيم، وجب ألا نقارن بين ميراث البنت و عمها، ثم نقول ذكرٌ و أنثى و نصيبٌ أكثر أو أقل، بل يجب أن نبحث في تساوي النصيب من الإرث عند الذكور و الإناث عند مَنْ تتساوى درجة قرابتهم من المتوفى.
و إن ادعاء الكاتب حين قال:(1/183)
"في حين أن الآية إنما رسمت هذا الحكم في ميراث الأولاد دون غيرهم".
هو خطأ مناف للصواب و لصريح كتاب الله سبحانه، فعبارة ?للذكر مثل حظ الأنثيين? ليست في ميراث الأولاد فحسب، بل هي حقٌ في كل ذكر و أنثى لهما درجة القرابة ذاتها من المتوفى كأولاده أو إخوته، و هي حق أيضاً في الزوجين إذا ورث أحدهما الآخر.
و إليك بعض الآيات الكريمات برهاناً على هذا الكلام؛ بما لا يدع شكاً في قلب مؤمن يريد اتباع الحق لا الوهم، قال تعالى:
{ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
(النساء:176)
{ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ }
(النساء:12)
فالآية الأولى تفيد أن الذي يورَث كلالة، و ليس له ولد، فلأخته نصف ما ترك و لكنه يأخذ كل إرث أخته إن لم يكن لها ولد، و إن كان له أخوة ذكوراً و إناثاً فللذكر إذاً مثل حظ الأنثيين.(1/184)
و تفيد الآية الكريمة الثانية أن للزوج نصف ما تركت زوجته إن لم يكن لها ولد، و له الربع إن كان لها و لد، بينما لها ربع ما يترك زوجها إن لم يكن له ولد، و لها الثمن فحسب إن كان له ولد، و هذا هو عين قول الحق ?للذكر مثل حظ الأنثيين?.
و يجب التنويه في هذا المقام إلى وجود بعض الأحوال التي لا تنطبق عليها هذه النسبة في توزيع الإرث، و ذلك في حالات عدة مثل ميراث الأخوة من أخيهم لأمهم و هذا عائد إلى تقدير الحكيم العليم الذي يعلم ما خلق، و ليس للمؤمن إلا التسيلم بما أراد سبحانه، فكلٌ من عند ربنا.
و من جهة أخرى يرى الكاتب أن الحكمة من أحكام الميراث تتحدَّد في قوله:
"و قد رأيت أن الحكم يدور على محور آخر هو مدى حاجة الوارث و نوع العلاقة السارية بينه و بين مورثه".
بينما يقول الحق ?:
{ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً }
(النساء:11)
إن مدى حاجة الوارث للمال، و نوع العلاقة السارية بينه و بين مورثه لا علاقة لهما بأحكام الميراث، و لا تزيد و لا تنقص من الأنصبة شيئاً، بل هي فريضة من الله علام الغيوب، و لا يدري أحدنا مَنْ من أهله يكون أقرب له نفعاً.
النشوز(1/185)
يبدأ الكاتب هذا الفصل بذكر نشوز المرأة، و كيفية التعامل معه في الشرع الإسلامي؛ في ضوء الآية الكريمة التالية:
{ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً }
(النساء:34)
و علَّق الكاتب قائلاً:
"و من المعلوم أن النشوز كما يمكن أن يصدر من الزوجة، يمكن أن يصدر من الزوج، أي بأن يخرج الزوج في معاملته لها عن ضوابط الشريعة الإسلامية و آدابها، غير أن الزوجة لا تملك في هذه الحالة إلا الوسيلة الأولى، و هي النصح و الموعظة و ليس لها أن تلجأ إلى الوسيلة الثانية أو الثالثة،" (صفحة 114).
و ذلك في رأيه بسبب:
"أن المرأة لو أقدمت على ضرب زوجها الناشز تأديباً له؛ لتحولت الرجولة التي في كيانه إلى وحشية مستشرية ضارية لا يضبطها لجام، غريزة كالتي في الوحوش .. و لانقضَّ عليها في ضراوة مرعبة. ثم لم يفلتها إلا و هي محطمة أو هالكة، أي: فالنتيجة هي أن تقدم هي حياتها على الأغلب قرباناً." (صفحة 115).
و كان الحل الشرعي لهذه المعضلة عنده هو:
"لقد كان جواب الشريعة الإسلامية: أن الزوج الناشز أو المسيء يجب أن يلقى عقابه، على ألا يعرض السبيل إلى ذلك، الزوجة لأي خطر يحوم حولها، أو لأي أذى ينزل بها، و إنما تتم ضمانة ذلك بأن تقيم الشريعة من القاضي نائباً عن الزوجة في الانتصار لها، و إنزال العقوبة اللازمة بزوجها .. و قد لا تقف العقوبة التي يستحقها الزوج عند حد الضرب، بل قد تتجاوزها إلى السجن و غيره."
(صفحة 116).(1/186)
لقد ذهب الكاتب بخياله بعيداً، فالآية الكريمة أمرت الرجال أن يعالجوا نشوز نسائهم، قبل أن يطرأ النشوز أصلاً، و ليس بعد حدوثه كما فهم الكاتب.
ففي الآية الكريمة يأمر الله ? الرجل أن يكون متيقظاً دوماً، حتى إذا خاف أن تنشز زوجته بدأ بوعظها، فإن لم يَرَ منها تجاوباً هجرها، فإن لم تذعن الإذعان الذي أُمرت به في قول الحق ?فالصالحات قانتات?، قام بضربها الضرب غير المبرح، أي: ضرب تأديب، و ليس ضرب تعذيب، الضرب الذي هو من مستلزمات القوامة التي جعلها الله ? للرجل، و ذكرها في الآية نفسها، و لا يخرج عن إطار المودة و الرحمة التي جعلها الله سبحانه بين الزوجين.
فالأمر لا مساواة فيه مطلقاً بين الرجل و المرأة، و ليس كما يقرر الكاتب من أن الشرع جعل للنساء الحق نفسه في الضرب، بأن يقوم القاضي بضرب الزوج، أو أن يقوم بذلك غيره نيابة عن المرأة الضعيفة!.
و الله ? لم ينسَ النساء، و شرع لهن في حال خوف النشوز من أزواجهن ما يناسب فطرتهن، و يتناسب مع ما أُمرن به من قنوت و طاعة لأزواجهن، و ما يناسب الدرجة التي لأزواجهنّ عليهنّ، فقال الله عز و جل في كتابه العزيز:
{ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }
(النساء:128)
و هذا الحكم أيضاً يكون عند خوف النشوز من الرجل، و ليس بعد وقوعه، أما إذا وقع النشوز فللأمر علاج آخر في الشرع، و لا يكون أبداً بأن يضرب القاضي الرجلَ نيابة عن الزوجة!.(1/187)
و إني و الله الذي لا إله إلا هو، لأعجب أشد العجب من قيام الكاتب باستخدام القياس في إصلاح نشوز الرجل على آية نشوز المرأة، رغم أن الله ? كفى المؤمنين هذا الخوض في أحكام دينه بغير علم؛ عندما أنزل حكمه في أمر خوف المرأة من نشوز زوجها في آيات بينات محكمات في كتابه الكريم!.
ففي آية خوف نشوز الرجل، أمر الله ? المرأة أن تسعى للصلح مع زوجها بينها و بينه، لئلا يخرج هذا الأمر خارج نطاق الزوجين، لا لأبيها أو أبيه أو أمها أو أمه حيث قال: ?فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً?، و نلاحظ تأكيد الحكيم العليم ? على كلمة الصلح و على أن يكون فيما بين الزوجين فقط لا يتعداهما.
أمر الله ? المرأة عند خوف الإعراض أو النشوز من زوجها أن تسعى للصلح معه فحسب، بينها و بينه، دون تدخّل من أي طرف آخر كائناً من كان، و ليس لها بعد ذلك أن تهجر أو تضرب أو تستدعي من يستطيع أن يضرب زوجها، و و الله الذي لا إله إلا هو قَلَّ أن تخفق امرأة في هذه المرحلة في إبرام الصلح مع زوجها إن هي أرادت ذلك حقاً؛ و لذلك لم يذكر الحق ? طريقة أخرى تلجأ إليها المرأة، كما ذكر في حق الرجل من هجر و ضرب غير مبرّح.
و إليك هدي الذي لا ينطق عن الهوى ? في بيان تصرف المرأة مع زوجها إن خافت منه نشوزاً أو إعراضاً:
عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله ?: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله أن تأذن في بيت زوجها وهو كاره، ولا تخرج وهو كاره، ولا تطيع فيه أحداً، ولا تخشن بصدره، ولا تعتزل فراشه، ولا تضرّ به، فإن كان هو أظلم فلتأته حتى ترضيه، فإن قبل منها فبها ونعمت وقبل الله عذرها، وإن هو لم يرض فقد أبلغت عند الله عذرها".
رواه الحاكم و البيهقي(1/188)
عن ابن عباس قال: قال رسول الله ?: "ألا أخبركم برجالكم من أهل الجنة؟ النبي في الجنة، والصديق في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، ورجل زار أخاه في ناحية المصر يزوره لله في الجنة، ونساؤكم من أهل الجنة الودود العدود على زوجها، التي إذا غضب جاءت حتى تضع يدها في يده، ثم تقول: لا أذوق غمضاً حتى ترضى".
رواه البيهقي
هل ترى في قول الرسول الكريم شكوى إلى القاضي أو ضرباً للزوج؟ علماً أن الرسول ? يتكلم عن زوجة قد وقع عليها الظلم، و ليس عمّن تخاف من زوجها نشوزاً أو إعراضاً!!.
فالآيات السابقة تعالج خوف المرأة نشوز زوجها قبل وقوعه، و خوف الزوج نشوز زوجته قبل وقوعه، أما إن وقع النشوز من المرأة أو الرجل، و لم يُجْدِ الصلح من طرف الزوجة، و لا الوعظ و الهجر فالضرب من طرف الزوج، شرع الله ? لذلك حُكماً حيث قال:
{ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً }
(النساء:35)
أي أن الأمر في هذه المرحلة فقط يخرج عن النطاق الضيق بين الرجل و زوجه و يجب أن يعلم به الأهل الحريصون كل الحرص على عدم تفرق الزوجين. وحتى عند هذه المرحلة لا تذهب المرأة إلى القاضي ليضرب زوجها أو يسجنه! بل يظل أمر الزوجين ضمن النطاق العائلي، ليحكم في أمرهما حَكَم من أهله و حَكَم من أهلها، حفاظاً على قدسية هذا الميثاق الغليظ بين الزوجين.
فالزوج الذي زعم الكاتب بأنه سيتحول إلى وحش عندما تضربه زوجته، و ربما قتلها على الأغلب، لا تظنّنّ بأنه سيصبح حملاً وديعاً عندما تذهب زوجته إلى القضاء (عندما تخاف منه نشوزاً) فتشكوه، فيقوم القاضي بضربه أو سجنه؟ بل سيتحول إلى وحش أشرس من الأول و يقوم بما لم يقم به الوحش الأول!!!، و لا يُعقل أن يكون هذا هو حكم الإسلام في بناء الأسرة الإسلامية.(1/189)
فالأول كما زعم الكاتب سيزهق حياتها على الأغلب، أما الثاني فسيزهق حياتها حتماً، و العياذ بالله أن يكون هذا من شرعه، أو أن تكون هذه هي المودة و الرحمة التي جعلها الله ? بين الرجل و زوجه.
و لنتفكر معاً في حكمة الله ? و رحمته في الحفاظ على كرامة المرأة و الرجل و الأسرة قبل كل شيء، إذ أَمَرَ الزوجين أولاً بالتنبه لتدارك النشوز قبل وقوعه و من ثم بالعمل على إنهاء أسبابه فيما بينهما دون تدخل من أي إنسان، كل بحسب ما فطره الله ? عليه من صفات، و كل حسب مهمته و تكوينه.
و حفاظاً على الأسرة لم يجعل الله ? سبيلاً للمرأة أو الرجل أن يلجأا إلى القضاء حتى بعد وقوع النشوز، بل يجب أن يظل الأمر ضمن دائرة الأهل الذين يرعون الأسرة، و يحبون أن يوفقوا بين الزوجين حتى تسلم الأسرة من التفكك. ثم بعد ذلك إن تعذر الإصلاح فيتم التفريق ضمن الأسرة أيضاً، و وفق ما شرع الله ?، و بعد إتمام هذه المراحل، و إذا رفض أحد الزوجين الخضوع لحكم الشرع أو تحكيم الأهل، يمكن عندها اللجوء إلى القضاء، إذ قد أصبح الفراق أمراً لا بُدَّ منه.
أما أن يُعيِّن القاضي لكل امرأة رجلاً أقوى من زوجها ليضربه عند الحاجة، فلا يرضى بذلك عاقل، و ليس الأمر كما زعم الكاتب حين قال:
"على أنه عقاب متكافئ، ينزل بكل من الرجل و المرأة عند وجود هذا الشذوذ و استعصائه على السبل العلاجية الأخرى، بغض النظر عن الجهة التي تكلف بإنزال هذا العقاب ." (صفحة 118).
فمن الخطأ الفادح أن نتصور أن تذهب الزوجة إلى القاضي فتقول له: "لقد خِفتُ أن ينشز زوجي، و تعلم أيها القاضي أنني لا يحل لي أن أهجره، و لا أقوى على ضربه، فهلا ضربته عني، حتى لا يتحول إن قمت أنا بضربه إلى وحش فيهلكني و لكن ليكن ضربكم له ضرباً غير مبرح، بل اضربوه ضرباً رحيماً، و لا مانع أن تجعلوا ضربكم له مداعبة حتى لا ينتقم مني في البيت فيقتلني"!!!.(1/190)
و ها هو أعدل القضاة و أعظم الحكام قد جاءته النساء يشكون إليه ضرب أزواجهن لهن، فماذا كان حكمه ? ؟
عن إياس بن عبد الله بن أبي ذباب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاتضربوا إماء الله " فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذَئِرْنَ ( معناه: سوء الخلق والجرأة على الأزواج ) النساء على أزواجهن ، فرخص في ضربهن ، فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون أزواجهن ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن ، ليس أولئك بخياركم ".
رواه أبو داود
لم يقم الرسول ? بالقصاص من الأزواج للزوجات، بل رخَّص للرجال في ضربهن و لم يقتصَّ في حياته ? من رجل اشتكت منه زوجته، و فوق ذلك كره رسول الله ? المرأة التي تشكو زوجها إليه أو إلى غيره:
عن زيد بن ثابت أن النبي ? قال لابنته: "إني أبغض أن تكون المرأة تشكو زوجها".
رواه البيهقي
و من الغرابة أنَّ الكاتب لم يَذكُر شيئاً عن الآية التي تتعلق بنشوز الرجل، و كأنه لم يسمع بها!، فأخذ يشرع للمؤمنين من عنده قياساً على آية نشوز المرأة، و لو تدبَّر كتاب الله ? لجنَّب نفسه مغبة الوقوع في التناقض و الخطأ.
ولو قمنا باستخدام ذات الأسلوب في الاستنتاج، لوصلنا إلى نتائج مريعة في التشريع الإسلامي، فمثلا إن للرجال حقاً لا ينبغي أبداً أن يكون للنساء لا من قريب و لا من بعيد حيث قال تعالى:
{ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
(البقرة:226)
فلو استخدمنا طريقة الكاتب ذاتها في القياس و الاستنتاج، لقلنا: إن للمرأة المسلمة أن تحلف بألا تقرب زوجها لمدة أقصاها أربعة أشهر حتى يفيء أو تطلقة أو يطلقها!! نعوذ بالله سبحانه أن يكون هذا من شرعه!!(1/191)
ثم يتحدث الكاتب بعد ذلك عن تعدد الزوجات و الطلاق في الإسلام و يرد على المتنطعين ردوداً مفحمة جزاه الله عنها خيراً.
الشهادة
يعود الكاتب في هذا الفصل إلى الاستنتاجات الخاطئة فيقول:
"إن الشروط التي تراعى في الشهادة؛ ليست عائدة إلى وصف الذكورة أو الأنوثة في الشاهد، و لكنها عائدة في مجموعها إلى أمرين اثنين :
أولهما : عدالة الشاهد و ضبطه .
ثانيهما : أن تكون بين الشاهد و الواقعة التي يشهد بها، صلة تجعله مؤهلاً للدراية بها و الشهادة فيها." (صفحة 147).
و يقول:
"و إن تفاوتت العلاقة بين المسألة التي تحتاج إلى شهادة، و بين فئات الناس، كانت الأولوية لشهادة من هو أكثر صلة بهذه المسألة و تعاملاً معها، بقطع النظر عن الذكورة و الأنوثة ." (صفحة 148).
و يقول:
"أما المعاملات المالية و الشؤون التجارية و ما قد ينشأ عنها من خصومات و دعاوى، فلكل من الرجل و المرأة علاقة بها، غير أن صلة الرجل بها و اندماجه فيها أشد من صلة المرأة بها، و آية ذلك أن الذين ينغمسون في الأعمال التجارية و ينشطون في إجراء صفقاتها ... ...
و نظراً إلى هذا الواقع الذي يفرض نفسه في كل مجتمع، فقد جعل الله حكم الشهادة فيه مرآة دقيقة لهذا الوضع القائم و المستمر .. و المرآة الدقيقة في ذلك أن تكون الأولوية لشهادة الرجل، مع قبول شهادة المرأة. و الوجه التطبيقي لذلك أن تقوم شهادة امرأتين -في هذه الأمور- مقام شهادة الرجل الواحد." (صفحة 148-149).
لقد أفتى الكاتب في كتابه كله أنّ للنساء أنْ يقمن بكل ما يقوم به الرجل من أعمال دون استثناء، إلا رئاسة الدول.
أفإن تعمقت النساء في أمور التجارة، فأصبحن مثل الرجال في القيام بهذه الأعمال يمكن عندئذ أن نقبل شهاداتهن في العقود، و تصبح شهادة المرأة كشهادة الرجل؟! و هذا الأمر (أي عمل المرأة في التجارة و غيرها) عند الكاتب ممكن جداً، بل يتساوى فيه الرجال و النساء تماماً!!(1/192)
أيمكن عند ذلك أن نغيّر آية من كتاب الله ? أو ننسخها تبعاً لتطور المجتمع و تطور أدوار البشر فيه؟
أم أنه من الحكمة أن نبعد المسلمات كل البعد عن الخوض في هذا المجال انصياعاً لحكم الله ? في هذه الآية؟
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى }
(البقرة:282)
فالكاتب كما رأينا من قبل يقول:
"لم تكن مجالات المهن المختلفة و المهارات المتنوعة و الصناعات -في أي من العهود المزدهرة للإسلام- وقفاً على الرجال دون النساء، بل كان للمرأة المسلمة في ظل الازدهار الإسلامي نصيب في كل ذلك." (صفحة 88).
"إذاً فالإسلام في أعلى نماذجه التطبيقية فتح مجال الخدمات الاجتماعية و السبل إلى ممارسة المهارات و الصناعات أمام الرجال و النساء على السواء، و لم يضيق شيئاً من ذلك على النساء في الوقت الذي وسع منه أمام الرجال." (صفحة 90).
و ذكر الكاتب في كتابه أن الربيع بنت معوذ كانت تتاجر بالعطور، و أن زينب امرأة عبد الله بن مسعود كانت صناع اليدين، و كانت تبيع أيضاً من صنعتها، بينما لم يكن لزوجها شيء، بل كان بعيداً جداً عن الصناعة و التجارة.(1/193)
فهل يرى الكاتب أن النبي ? يقبل شهادة إحداهن على بيع أو دين، و لا يقبل شهادة عبد الله بن مسعود الذي كان بعيداً عن هذا المجال؟
و هل يُبطل الرسول ? العمل بآية من كتاب الله ? عندما يقبل شهادة زوجة عبد الله التي تصنع و تبيع دون شهادته؟
و هل يكون الجواب عن هذين السؤالين إلا بما له علاقة شديدة بذكورة و أنوثة؟
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
(البقرة:282)
إن هذه الآية الكريمة دليل جديد على بُطلان ما جاء به الكاتب من حق المرأة في مشاركة الرجال في العمل، و الصناعة، و التجارة.(1/194)
فقد حكم الله ? في كتابه حكماً لن يستدرك فيه عليه أحد، و هو أنه في أمور المال و التجارة ليس للنساء المؤمنات موضع أبداً إلا في حال الضرورة، فعليهن أن يمتنعن عن الخوض فيها؛ لأنه لن يأتي يوم يتغير فيه حكم الله ?، فلا تسعوا إلى ذلك بأن تجعلوا النساء يخضن هذا الخوض مع الرجال، و لن تُقبل شهادة إحداهن أبداً إلا إذا كان معها أخرى لتُذكرها إن ضلّت، و لن تعدل شهادة المرأة شهادة الرجل أبداً في أمور التجارة و الأعمال، و ليس ذلك انتقاصاً لقدرها، و لكنْ تنزيهاً لها عن ترك مهمنها إلى مهمة أقل شأناً و سمواً، بل إن شهادة امرأتين لن تعدل أبداً شهادة رجل واحد، و لكنْ لَمّا لم يوجد رجلان قُبلت شهادة رجل و امرأتين حتى يتم العقد فلا تتعطل أمور المسلمين، أمّا أن تشهد أربع نسوة بدلاً من رجلين، فهذا لا يكون أبداً، و لا يتم به العقد.
الحجاب
بدأ الكاتب بحث الحجاب بتحديده للحكمة من حجاب المرأة و دون دليل كما عَوّدنا:
"أن الشارع جل جلاله جعل منه السبيل الذي لا بد منه إلى اشتراك المرأة مع الرجل في بناء المجتمع بشتى فروعه و معانيه، و الأداة التي تيسر تعاونهما العملي في مجال العلم و الثقافة و مختلف الأنشطة الإنسانية و الحضارية." (صفحة 154).
ثم قال في وصف علاقة الرجل و المرأة:
"فالرجل يستقبل من المرأة ما هو شريك معها فيه، من التعاون الفكري و الحركي لبناء الحضارة و المجتمع، و يستقبل منها ما يجذبه إليها غريزياً عن طريق الأنوثة و متمماتها التي أودعت فيها."(صفحة 155).
ثم وضع شرطاً للتعاون فيما بين الذكر و الأنثى:
"الشرط -كما هو واضح لكل متأمل- هو أن يقوم حاجز يفصل بين طبيعتي اللقاءين المشتركين، بحيث لا يسري سلطان أي منهما على الآخر بالمزج و الإفساد، فماذا عسى أن يكون هذا الشرط الذي يقوم بهذا الدور؟
لن تعثر على هذا الشرط إلا في هذا الذي شرعه الله مما يسمى الحجاب "
(صفحة 155).
ثم أضاف:(1/195)
"إن الشريعة الإسلامية هي التي استجابت لمقتضيات هذه الغيرة على المرأة و شرعت السبل الكفيلة بإبعاد مشاعر الامتهان عنها، و تحصين شخصيتها الإنسانية التي هي أساس اشتراكها مع الرجل، ضد كل ما قد يتهددها أو يتربص بها.
و ذلك عندما فرض عليها من مظاهر الحشمة ما يبرز شخصيتها الإنسانية التي
تشكل قاسماً مشتركاً مع الرجل، و يخفي مظاهر الفتنة و الإغراء المعبرة عن أنوثتها." (صفحة 157-158).
إن الحجاب الذي يتكلم عنه الكاتب هو ما تغطي به المرأة شعرها فقط، و لا يغطي شيئاً من وجهها، و وجه المرأة هو من أول مظاهر الفتنة و الإغراء المعبرة عن أنوثتها، بل إن العينين فقط كفيلتان بفتنة أتقى الرجال.
بل إن صوت المرأة بالنسبة لبعض الرجال هو من عوامل فتنتهم بالنساء، كما ورد في كتاب الله العزيز:
{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً}
(الأحزاب:32)
بل إن مجرد سماع صوت حلي المرأة له تأثير بالغ على بعض الرجال، و اقرأ إن شئت قول الحق ?:
{ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
(النور: 31)
فكيف بعد هذا يمكن أن يكون غطاء الشعر هو الأداة التي تيسر تعاون الرجل و المرأة في مجال العلم، و الثقافة، و مختلف الأنشطة الإنسانية و الحضارية؟.
و كيف يمكن أن يكون غطاء الشعر حاجزاً يفصل بين طبيعتي اللقاءين المشتركين للمرأة و الرجل (التعاون العملي و الغريزة)؛ بحيث لا يسري سلطان أي منهما على الآخر بالمزج و الإفساد؟ و هو لا يخفي شيئاً من جمال وجهها. و يكفي الرجل أن يرى من المرأة وجهها حتى يعلم عن جمالها الشيء الكثير، و حتى ينشغل بها فكره و خياله و قلبه.(1/196)
لذا لا بُدَّ أن نبحث عن الحاجز الذي وضعه الإسلام للفصل بين طبيعتي اللقاءينالمشتركين للرجل و المرأة، و نجد هذا في صفة الحجاب الإسلامي، الذي
تتحدث عنه هذه الآيات من سورة الأحزاب:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً }
(الأحزاب:53)
"و إذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب" أي: إن الحجاب هو حاجز تقف وراءه المرأة، فيكون بين الرجل و بينها، بحيث لا يرى منها شيئاً و لا ترى منه شيئاً، حتى يكون اللقاء طاهراً، و تتحقق الغاية السامية المرجوة من هذا اللقاء، إن طرأت الحاجة إليه، كسؤال متاع أو ما شابهه.
{ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً }
(الأحزاب:34)(1/197)
لمَّا كان واجباً على نساء النبي أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن- أن يذكرن ما يتلى في بيوتهن من آيات الله و الحكمة، و لمّا كان أَخْذُ العلم عنهن ضرورة للمؤمنين، وضع الله ? حجاباً فاصلاً بينهن و بين صحابة رسول الله ? الذين سيتلقون العلم عنهن، و هذا الحجاب هو فاصل مادي بين طبيعتي الرجل و المرأة، لا ينفذ منه إلا الصوت، و الصوت فحسب، لوجود الضرورة الملحّة، ألا و هي تعلم أهم ما خُلِقْنا له، و هو الدّين، و إن مثل هذا الحجاب هو الكفيل بأن يخفي مظاهر الفتنة و الإغراء المعبرة عن أنوثة المرأة، و هو الذي يُؤَمِّن طهارة قلوب المؤمنين و المؤمنات، و تفرُّغ كل منهم لما خلق له من أمر الدين و الدنيا، لأن الرجل إن لم يَرَ وجه المرأة لم تعلق في خياله صورتها، فلا ينشغل قلبه بشيء، ويبقى طاهراً و كذلك المرأة، و لذلك قال الحق: "ذلك أطهر لقلوبكم و قلوبهن".
و هاهي أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- تبيِّن لنا معنى الحجاب في الإسلام بعد نزول آية الحجاب، فتقول عندما تذكر حديث الإفك:
وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني، وكان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي، والله ما تكلمنا بكلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته، فوطئ على يدها، فقمت إليها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة.
رواه البخاري
فهل يجادل مؤمن بعد ما سمع قول زوج رسول الله ? في معنى الحجاب؟
لقد عرف الصحابي أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- من وجهها و هي نائمة، و أوضحت -رضي الله عنها- أنه كان قد رأى وجهها مِنْ قَبْلُ قَبْلَ نزول آية الحجاب، و لم يكن ليرى وجهها بعد نزولها، و أوضحت -رضي الله عنها- أن المسلمات أصبحن يخمرن وجوههن بجلابيبهن، فلا يراهنّ أحد بعد نزول آية الحجاب.(1/198)
و أترك المؤمنين و المؤمنات الذين يغارون على دينهم مع هذا الحديث، فليرجعوا إليه في كتب الحديث الصحيح ليستنتجوا من كلام أم المؤمنين -رضي الله عنها- كثيراً من الآداب و الضوابط التي يجب أن تتحلى بها المرأة المسلمة.
مرة أخرى و دون أي مقدمات، يأتي الكاتب بجملة يبني عليها استنتاجاته و نظرياته دون برهان؛ إذ يقول:
"إن ما يدخل في معنى إبراز المفاتن أمر نسبي، و له درجات متفاوتة، تبدأ بكشف الشعر و تنسيقه" (صفحة 159).
لا أدري من أين جاء الكاتب بهذا الادعاء! فلماذا تبدأ الفتنة من كشف الشعر و تنسيقه؟!
إن المرأة مهما حاولت إخفاء ما قد يشغل الرجال من مظاهر الفتنة و الزينة، فإنه من المحال أن تستقصي أهواء كل الرجال، فهذا تفتنه العيون (السود و الزرق و العسلية) و هذا تفتنه الشفاه (الرقيقة و الغليظة)، و هذا يفتتن بالأسنان المرتبة كاللؤلؤ، و هذا يحب الطويلة، و ذاك يفضل القصيرة، و هذا يريدها مليئة، و ذاك يريدها عود بان و رجل تروقه دقة أنفها، و أخوه يحب حمرة وجناتها، و من الرجال من يريدها سمراء، و منهم من يفضل البيضاء، و آخر يحب ابتسامتها، و غيره يحب ضحكتها و منهم من يحب حياءها، و منهم من تثيره جرأتها، و .. .. ناهيك عن حركات شفاهها، و طَرْفِ رموشها، و حسام لحظها.
و الحجاب الذي يدعيه الكاتب (غطاء الشعر) لا يخفي من هذه المفاتن شيئاً، و لا يصلح أن يقف حاجزاً للفصل بين طبيعتي اللقاءين بين الرجل و المرأة.
أجل -و الله- إن عيني من ليست بأروع النساء لكفيلة بفتنة أورع الرجال، و اقرأ إن شئت قول الشاعر:
إنّ العيون التي في طرفها حَوَرٌ…… قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يَصْرَعْنَ ذا اللب حتى لا حراكَ به……و هنَّ أضعفُ خَلْقِ الله أركانا(1/199)
هذا كله في إطار ما تدركه الحواس مباشرة، و ما يراه الرجل بعينه من المرأة ذات غطاء الشعر، فما بالك إذا سَرَحَ كل رجل في عالم خياله الخاص، فبنى من أحلام اليقظة خيالات لِمَا لم تستطع حواسه أن تلتقطه؟!!
و من الرجال من شردت شهواتهم، فكانوا كالبهائم أو أضل سبيلاً... إذ جعلوا من ملاحقة النساء شغلهم الشاغل، و لا يهمهم إلا أن يضيفوا امرأة أخرى إلى قوائم فرائسهم، فهؤلاء يجدون في المرأة التي خرجت من بيتها صيداً سهل التناول، و لا تكون فرائسهم إلا من أولاء الخارجات عن شرع الله ?، اللواتي وضعن أنفسهن في مرمى سهام الشيطان و أعوانه، أما التي أطاعت ربها بارتداء الحجاب الذي وصفته أم المؤمنين -رضي الله عنها- أو قرَّت في بيتها، فتكون في منأى عن أبصارهم و شرهم.
و من الرجال من لا يفتتن بالنظر إلى المرأة كما تفتنه متعلقاتها، كلباسها، و حجابها و حقيبة يدها، و حتى خيالها، و صوت حليها. و هذا أيضاً لا يغطيه الحجاب الذي يريده الكاتب (غطاء الشعر)، و لا يمكن للمرأة أن تتجنب عواقب هذه الفتنة و لو حرصت، إلا إذا التزمت الحجاب الذي وصفته أم المؤمنين -رضي الله عنها- أو إن أطاعت ما أمر به الله ? في كتابه العزيز:
{ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى }
(الأحزاب:33)
و كانت قريبة من رحمة ربها كما أمرها ? حين قال:
"إن المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون من رحمة ربها وهي في قعر بيتها".
رواه الترمذي
ولن تتمكن المرأة من إخفاء فتنتها عن كل أنواع الرجال و أهوائهم بقطعة قماش تغطي شعرها، و الكاتب نفسه يؤكد ذلك حين يقول:
"و إن ما يدخل في معنى الافتتان بهذه المفاتن أمر نسبي أيضاً، فربما كانت المفاتن القليلة البارزة لا تلفت نظرك، و لا تحرك شيئاً من مشاعرك، و لكن الشخص الذي يجلس إلى جانبك مأخوذ بها سابح في أحلامه معها" (صفحة 159).(1/200)
ثم أليسَ من الشرع أن رؤية وجه المرأة يكون كافياً للخاطب؛ لكي يعلم من مواصفات الجمال ما يريد أن يعلم عن شريكة حياته؟ فهل يُعقل أن نجعل كل الناس بحكم الخاطب، فنعرض المسلمات في الطرقات و الساحات و أماكن العمل و الدراسة على كل من هبّ و دبّ، من برٍّ و فاجر، يرون منهنّ ما يحرك أهواءهم، و يثير شهواتهم ليتمتعوا بمفاتنهن؟!!
و يقول الكاتب:
"تنزل للمظنة منزلة للمئنة، أي: ينزل -في مجال التطبيقات الشرعية-كل ما هو مظنون أو محتمل الوقوع، منزلة ما هو مؤكد الوقوع طرداً للباب و احتياطاً في الأمر" (صفحة 159).
بناءً على هذه القاعدة الشرعية نجد أن أي امرأة بأي حال من الأحوال، بدت، أو تكلمت، أو نظرت، ستفتن، رجالاً و ستروق لآخرين قلَّ عددهم أو كثُر، و لن تستطيع أن تمنع منهم أحداً و لو حرصت، لذلك كان حتماً أن تقرَّ النساء في بيوتهن و لا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى، فإذا تبرجن لحاجة التزمن الحجاب الذي يغطي منهن كل الرأس شعراً و وجهاً.
و الرسول الكريم ? و هو أملك الناس لأربه عندما رأى امرأة في الطريق أتى أهله ثم خرج على المسلمين و شرع لهم ما يعصمهم من الوقوع في الفتنة كما رأينا في حديث جابر:
عن جابر أن رسول الله ? رأى امرأة فأتى امرأته زينب وهي تمعس منيئة لها فقضى حاجته ثم خرج إلى أصحابه فقال إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه"
رواه مسلم و الترمذي و أبو داود و أحمد
أبعد هذا كله يكون من سُنَّة الرسول الكريم ? أن يعمل الرجال و النساء معاً في مجال مشترك من علم، و ثقافة، و صناعة، و يكون غطاء الشعر كفيلاً بأن يجعل الرجال ينظرون إلى النساء، و كأنهن رجال مثلهم، دون أن يتحرك من مشاعرهم شيء؟!!
لقد ورد في حديث رسول الله ?:
عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، عن النبي ? قال: "ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء".
رواه البخاري(1/201)
فأن نطلب من الرجل ألا يرى المرأة على أنها امرأة، كأننا نطلب منه أن يكون حجارة أو حديداً، و لن يكون هذا أبداً، إذ دون هذه الغريزة لا معنى للحياة في هذه الأرض.
و من جهة أخرى أنأمن على المرأة من الفتنة و قد أحيطت بعشرات الرجال ؟ و كلٌّ ينظر إليها بطريقته، و هي تنظر إليهم دونما حجاب.
طبعاً ليست فتنة المرأة بالنظر إلى الرجل كفتنته بالنظر إليها، و لكنها موجودة و لا ينكرها إلا جاهل، و هي أخطر على المجتمع من فتنة الرجل بالمرأة؛ لأن الرجل إذا فتن بالمرأة، و أحب وصالها احتال كل الحيل لذلك، فإن لم تأبه به لم يكن له أن يصل إليها أبداً إلا عنوة.
أما المرأة إن فتنت برجل، فما أسهل أن توقعه في حبالها، و لن يكلفها ذلك كبير عناء، و ربما اكتفت بطرفة من رمش عين واحدة. و اقرأ إن شئت قول الرسول الكريم:
قال:" ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذوي الألباب وذوي الرأي منكن" قالت امرأة منهن: وما نقصان عقلها ودينها؟ قال: "شهادة امرأتين منكن بشهادة رجل، ونقصان دينكن الحيضة فتمكث إحداكن الثلاث والأربع لا تصلي".
رواه مسلم
و لذلك جعل الله ? من يمتنع عن دعوة امرأة مع السبعة الذين يُظلهم في ظله يوم لا ظِلَّ إلا ظله؛ لصعوبة ذلك الامتناع.
و لو أعاد الكاتب النظر في رسائل الفتيات اللواتي يرسلن إليه مستفتيات، بعد أن وقعن فيما حرم الله نتيجة الاختلاط، و بعد هذا لو سأل زملاءه من المفتين عما يصلهم من رسائل مشابهة، ثم راجع ما سمعه من أخبار المجتمع من حوله، و ما قرأ في الصحف، لكفاه هذا دافعاً لمحاربة أولئك الذين يشجعون اختلاط النساء بالرجال في أي مجال، هذا إن فرضنا جدلاً أن الشرع لم يأتِ بتحريمه أصلاً، و لكان بهذا متبعاً لما قاله هو نفسه "تنزل للمظنة منزلة للمئنة"، و لكفى الله المؤمنين شر الجدال.
الدين النصيحة(1/202)
إياك أختي المسلمة أن يكون حظك من الحجاب كحظ امرأة من نساء الأصناف الثلاثة اللائي خسرن الدنيا و الآخرة، كما سنبيِّن إن شاء الله تعالى.
1 - الصنف الأول:
إن من النساء من ترى في الحجاب مظهراً من مظاهر التخلف و الرجعية، و تكليفاً متعارضاً تماماً مع أسباب التقدم و الحرية، فقررت أنه لا بد من التخلي عنه للحاق بركب الحضارة، وهي بذلك جعلت عقلها و فكرها فوق تشريع الله ?، و هي بهذا ردت الحكم على الله ?، و هذا هو عين الذَّنْب الذي اقترفه إبليس فاستحق به اللعنة و الطرد من رحمته تعالى.
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً }
(الإسراء:61)
{ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ }
(الأعراف:12)
و قد تكون هذه المرأة ممن يدّعون الإيمان بالله رباً، و بمحمد رسولاً، و بالقرآن كتاباً، و لكنها أبت أن تنقادَ لأمر من أوامر الله سبحانه إذ لم يكن موافقاً لهوى في نفسها، أو ناقضَ قضية زائفة ملأت فكرها، فتراها تطيع ربها، و لكن ليس في كل أمر من أوامره أو نواهيه، و إنما تجعل الدين انتقاءً، فتتبع ما يروق لها، و يناسب هواها، و تذر ما عدا ذلك من شرع الله سبحانه، و لسان حالها يقول: "إنني أرى الحكمة في بعض ما شرع الله ?، أما البعض الآخر فلا، و لا سمع و لا طاعة" !!! و بهذا أصبحت من أولئك الذين يؤمنون ببعض الكتاب و يكفرون ببعض ممن قال ? فيهم:
{ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ }
(يوسف:106)
و قال ?:(1/203)
{ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }
(البقرة:85)
و ما ينتظر مثل أولاء النساء إلا الخزي في الحياة الدنيا، ثم يردون إلى أشد العذاب يوم لا ينفع مال و لا بنون و لا فِكر و لا اقتناع و لا حجاب، و هو المصير ذاته الذي سيلاقيه، إبليس عليه لعنة الله و الناس أجمعين، فكل مسلم يعلم أن إبليس كان ذات يوم من عباد الله الصالحين، و كان مؤمناً أشد الإيمان بوحدانية الله، و مؤمناً بصفات كماله سبحانه، و لكنه استكبر عن طاعة أمرٍ واحدٍ من أوامر ربه لكبرٍ في نفسه، و سمح لنفسه بمعارضة الآمر الحكيم، و جادل فيه فخسر الدنيا و الآخرة مَثَله في هذا كمَثَل أصحاب هذا الصنف، و من شابههم في أيامنا هذه ممن يجادلون في صلاحية أحكام الإسلام الثابتة في محكم التنزيل، بل قد ينكرونها أيضاً، كمَنْ يجادل في حُكْم تعدد الزوجات، و عدة المطلقات و الأرامل، و أكل الربا، حيث جعلوا البيع مثل الربا و غير ذلك مما حرم الله ?.
2 - الصنف الثاني:
من النساء من ترى أن أمرَ الله بالحجاب هو الحق، و تقر بوجوبه، و لكنها عاصية بعدم امتثالها لهذا الأمر لأسباب لا مجال لحصرها، فإما تهاوناً، أو تواكلاً، أو خشية من الناس، أو شعوراً بالحرج و الوضاعة أمام صديقات تفلتن من الدين، من نساء الصنف الأول اللاتي ذكرناهن آنفاً.(1/204)
و مهما كانت الأسباب التي أفْضَتْ إلى عدم امتثالهن لأمر الله سبحانه، فإنها جميعاً تصب في قالبٍ واحد، ألا و هو: "سمعنا و عصينا"، في حين كان قول الصنف الأول: "لا سمع و لا طاعة"، نجد أن الفرق بين الصنفين ليس كبيراً، فكلاهما عاص للأمر نفسه، و نتيجة هذا العصيان واحدة، فنساء الصنفين سافرات مائلات مميلات و نساء هذا الصنف لسن أفضل حالاً من نساء الصنف الأول، فهنَّ أيضاً من أسوأ خلق الله سبحانه الذين وصفهم في كتابه العزيز:
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }
(البقرة:93)
{ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً }
(النساء:46)
إنما قول المؤمنين في كل ما يأمرهم به ربهم "سمعنا و أطعنا" انقياداً لميثاق الإيمان الذي وثَّقوه بأنفسهم (باختيارهم لدين الإسلام) بينهم و بين خالقهم، و ما أكرههم عليه أحد، فهم بعد أن اختاروا هذا الميثاق طوعاً لا كرهاً، لا خيار لهم في أن يَدَعوا حُكماً، أو يناقشوا أمراً، أو ينتقوا من أحكام الميثاق ما يروق لهم، و يتركوا ما لا يعجبهم، و هذا ما دلت عليه آيات الكتاب المبين:(1/205)
{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}
)المائدة:7)
{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }
)البقرة:285)
{ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
(النور:51)
و من أهل هذا الصنف مَنْ تلتزم بلبس الحجاب في ظرف من الظروف، و تخلعه في ظرف آخر، فمثلاً إن كانت في بلاد المسلمين التزمت بالحجاب، و إن هي غادرتها خلعته، و منهن من تلتزم بالحجاب بين أهلها و تخلعه إن ذهبت إلى مكان عملها و حالها هذا كأولئك الذين قال فيهم ?:
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ }
)الحج:11)
{ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً }
)النساء:143)
و هذا الصنف قد خسر أيضاً خسراناً مبيناً، لأنهم لا يؤمنون إلا قليلاً، و لن تجد لهم سبيلاً.
3 - الصنف الثالث:(1/206)
صنف ثالث من النساء أذعنّ لأمر الله سبحانه، فالتزمنَ بالحجاب تاجاً فوق رؤوسهن، و لكنْ بغير علم، إما جهلاً، أو تقليداً أعمى، فأولاء لم يفقهن من معنى الحجاب إلا غطاء الشعر الذي لا يرد نظرة، و لا يمنع شهوة، فترى إحداهن مغطية شعرها، و لكنها لا ترى بأساً في كشف نحرها و وجهها و زينتها، و أخرى ترتدي الملابس الضيقة أو الشفافة التي تنم عن جسدها كله من تحت حجابها!.
و من هذا الصنف أيضاً نساء لا يرين بأساً في مجالس الاختلاط بالرجال، و ما يدور فيها من تبادل مختلف الأحاديث، و لا مانع عندهن من صحبة الرجال في الطرقات و المسارح و النزهات، و لا مانع من الخضوع بالقول و الضحك و المزاح و توزيع البسمات، فيقترفن كل ما تقترفه الضالات، مما نهى عنه الله و رسوله، و لكن هيهات أن يتمكن أحد من النظر إلى شعرة من رؤوسهن!!، و أولاء ينطبق عليهن قول الحق سبحانه:
{ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
)الجمعة:5)
و أبرز مثال على هذا الصنف أولاء المذيعات اللواتي لا يظهرن على شاشات التلفزيونات إلا و هنَّ على أكمل مظهر من الحسن و الفتنة، فالوجه مليء بمساحيق التجميل، و العيون مكتحلة، و الشفتان حمراوان، و غطاء الشعر ملوّن، و الثوب يزيد الحسن بريقاً، و كأني بهن يردن الانتقام من هذا الحجاب الذي فُرض عليهن فغطى شعورهن، فيعوضن بحسن ثيابهن، و إسباغ زينتهن عما فقدن من إخفاء شعورهن، فتكون فتنتهن أضعاف أضعاف الفتنة بكشف الوجه و الشعر.(1/207)
إن الله ? أمر في كتابه العزيز الرجال و النساء بغضِّ البصر، و أمر النساء بترك الزينة بكل أنواعها، ثم أمرهن بالحجاب لمنع خطر أضر فتنة على الرجال، و أولاء المتحجبات من هذا الصنف لا يقصدن إلا الفتنة نفسها، و إن حجاب إحداهن الذي لا يغطي إلا شعرها لا قيمة له في منع الفتنة، و ما أظن بعد كل هذه الزينة أن تستفيد من الحجاب بشيء! و خاصة و أن منهن من تجالس الرجال، و تحاورهم و تمازحهم، و تضاحكهم، و تحرص على الظهور أمام الملايين من الرجال بأحسن صورة؛ و هي تخضع بالقول لهم، و تبدي لهم من اللطف و الرقة (بحكم مهنتها) أقصى ما تستطيع، و كأنها لا تدري أن كل نظرة إليها من مسلم أو غير مسلم من برٍّ أو فاجر تكون وزراً عليها يوم القيامة، و سهماً من سهام الشيطان في صدر المجتمع الإيماني، ناهيك عن كل شهوة أثارتها بحسن طلعتها!!. و لهذا كان أهل هذا الصنف كالحمير تحمل أسفاراً.
عن يزيد بن طلحة الركاني، أن النبي ? قال: "إنّ لكل دين خُلُقاً، وخُلُق الإِسلام الحياء".
رواه الإمام مالك
و أبرز ما تتميز به نساء هذه الطائفة هو تخليهن عن خُلُق الإسلام، ألا و هو الحياء، بل إنك تستطيع أن تحدد أنها من هذا الصنف من انعدام حيائها، فإحداهن لا تستحي من ربها، و قد اقترفت كل ما نهى الله ? عنه من إثارة الفتنة و الشهوات معتذرة بقطعة قماش تغطي شعرها!!، و فوق هذا هي تتعمد اختيار قطعة القماش هذه؛ بحيث تكون ملفتة للنظر، و تتفنن في جعلها تتماشى مع أحدث الأزياء، فلا يكون حجابها إلا زيادة في الزينة و التبرج، و إمعاناً في لفت النظر و الفتنة.
و هي لا تستحي لا من رجل غريب و لا قريب، و لا من قول جارح، أو فعل خادش للحياء، و للأسف الشديد فإن خُلُقَ الإسلام هذا إذا فقدته المرأة لا يمكن لها أن تعوضه، و هيهات أن تستعيده أبداً.(1/208)
و حسب إحداهنّ إن أرادت الدليل على صدق قولنا، أن تتذكر أول لقاء لها مع شاب أو أول وقوف لها أمام جمهور من الناس، أو أمام آلة تصوير، و لتتذكر كيف اختلجت مشاعرها، و تردد صوتها، و احمرت و جنتاها، و لتقارن ذلك بحالها بعد أن تخلَّت عن الحياء (خُلُق الإسلام) شيئاً فشيئاً بالتدريج، حتى فارقتها آخر ذرات الحياء، فلم تعد الوجنات تَحْمرُّ إلا بالمساحيق، و ما عاد الدم يعرف طريقاً إلى وجهها، و تحول تردد الصوت إلى جهر و ضحك و مزاح و خضوع، و تحول الوقار و القرار إلى عبث و غنج و ميل و إمالة، و هل ينتظر فاقد الحياء إلا العاقبة الوخيمة، التي تتمثل بفقده ربقة الإسلام عاجلاً أو آجلاً، و كيف لا و هو قد تخلى طوعاً عن خُلُق الإسلام بلا رجعة!! و مصداق هذا من حديث رسول الله ? :
عن ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ النَّبيَّ ? قَالَ:" إَنَّ اللهَ، عَزَّ وَجَلَّ، إِذَا أَرَادَ أنْ يُهْلِكَ عَبْداً نَزَعً مَنْهَ الْحَيَاءَ فَإِذَا نَزَعً مَنْهَ الْحَيَاءَ، لَمْ تَلْقَهُ إِلاَّ مَقِيتاً مُمَقَّتاً. فَإِذَا لَمْ تَلْقَهُ إِلاَّ مَقِيتاً مُمَقَّتاً، نُزَعتْ مِنْهُ الأَمَانَةُ. فَإِذَا نُزَعَتْ مِنْهُ الأَمَانَةُ، لَمْ تَلْقَهُ إِلاَّ خَائِناً مَخَوَّناً، نُزِعَتْ مِنْهُ الرَّحْمَةُ. فَإِذَا نُزِعَتْ مِنْهُ الرَّحْمَةُ، لَمْ تَلْقَهُ إِلاَّ رَجِيماً مُلَعَّناً، فَإِذَا لَمْ تَلْقَهُ إِلاَّ رَجِيماً مُلَعَّناً، نُزِعَتْ مِنْهُ رِبْقَةُ الإِسْلاَمِ".
رواه ابن ماجه
و من فَقَدَ الحياء فقد حُرِمَ خيراً كثيراً:
عن أَبِي قَتَادَةَ قالَ: كُنّا مَعَ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ وَثَمّ بُشَيْرُ بنُ كَعْبٍ، فَحَدّثَ عِمْرَانُ بنُ حُصَيْنٍ قالَ قالَ رَسُولُ الله ?:
"الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلّهُ" ـ أَوْ قالَ: "الْحَيَاءُ كُلّهُ خَيْر".
رواه أبو داود
و قد كان الحياء صفة من أبرز صفات الذي خلقه القرآن ?:(1/209)
وعن أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال: كان رَسُول اللَّهِ ? أشد حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئاً يكرهه عرفناه في وجهه.
مُتَّفَقٌ عَلَيهِ
فأبرأ إليك يا سيدي يا رسول الله.. من نساء ثيبات و أبكار من أمتك، لا يعرفن للحياء معنى، و لا يعرفهن الحياء. و أبرأ إليك مما فعلت ذوات الخدور من أمتك اللواتي جعلتَ صمت إحداهن و سكونها حياءً إذناً منها إن سُئلت في أمر زواجها لِمَا أكْبَرتَ من حيائهن.
أما اليوم فقد صارت العذراء المسلمة تأتي أهلها بشاب اختارته من بين العديد من أصحابها و زملائها (الشلة) بعد أن اختبرت أخلاقهم جميعاً، و فاضلت بينهم، لتعرِض من اختارته على والديها اللذين لا يجدان بداً من مباركة اختيارها و إلا...! و ما هذا إلا الجزاء الوفاق لما اقترفا من عظيم ذنب، إذ أخرجاها من خدرها و ألقيا بها في حمأة الاختلاط و التبرج، سواء أكان ذلك في جامعة مختلطة، أو معهد للغة، أو نادٍ، أو ما شابه ذلك من بؤر الاختلاط و الفساد. و حسبنا الله و نعم الوكيل.
و إن أولياء الأمور إذ يلقون بأبنائهم و بناتهم أيِّ بؤرة من بؤر الاختلاط هذه، يكونون كمن قال فيهم الشاعر:
ألقاه في اليم مكتوفاً و قال له ………إياك إياك أن تبتل بالماءِ
و سيُسألون يوم القيامة عمَّا اقترفوا، و سيحملون أوزاراً مع أوزارهم جزاء ما فرَّطوا في جنب الله سبحانه.(1/210)
و إن الصنف الأخير من النساء أعظم خطراً من الصنفين السابقين، فهن كالسم يقدم في إناء من ذهب، إذ يقدِّمن الأسوة السيئة للفتيات المسلمات من جهة، فرُبّ فتاة مسلمة تحلم بأن تكون مثل هذه المذيعة الناجحة أو تلك. و من جهة أخرى فهن يصددن عن سبيل الله، و يبغينها عوجاً، إذ يرى فيها غير المسلمين المثال السيئ، فلم يميّزها إسلامها عن غير المسلمة بشيء لا في سلوكها المستهتر و لا في خُلُقِها الدنيء، اللهم إلا قطعة القماش التي تغطي الشعر، فلا ترد ناظراً، و لا تمنع فتنة و لا قيمة لها فيمن فقدت حياءها، و كان هذا حالها.
بينما نساء الصنفين الأولين لا يُسئن للإسلام في شيء، لأنهن يتساوين في مظهرهن و لباسهن مع الكافرات و غيرهنَّ من الملل الآخرى، بل ربما توجد نساء من ملل أخرى أكثر حشمة و وقاراً منهن.
فإياك أختي المسلمة أن يكون حظك من الدنيا التبرج و التجمل لتكوني أداةً لإثارة شهوات الرجال، فيكون حظك من الآخرة كحظ أهل الشهوات و إثارة الشهوات من شياطين الجن و الإنس، و اعلمي أن الجنة حفت بالمكاره، و أن النار حفت بالشهوات، و اعلمي أن من لم يستحي يصنع ما يشاء.
فليس الحجاب زينة تُجمل بها المسلمة رأسها، بل هو تاج تستحقه بعد أن تحجب نفسها عن شهواتها، و تحجب قلبها عن وساوس شياطين الجن و الإنس، و بعد أن تحجب عقلها و فكرها أمام حكمة ربها خالقها و مدبِّر أمرها.
و لعلّي في هذه السطور أتوجه بالنصيحة لأولئك العلماء الذين يظهرون على شاشات الفضائيات في مواجهة أمثال أولاء المذيعات، الذين يرون المنكر و لا يغيرونه، لا بأيديهم و لا بألسنتهم و لا بقلوبهم، فهاهم يخالطون الخاطئات و يحادثونهن!.(1/211)
فعندما أرى أحدهم يجالس مذيعة متبرجة متزينة تحاوره في شرع الله سبحانه!! أقول في نفسي: "لقد نظر العالم إلى تلك المذيعة المتبرجة الفاتنة نظرته الأولى و يجب عليه أن ينهي اللقاء حالاً حتى لا يعرّض نفسه لعقوبة النظرة الثانية و الثالثة و ..."
و لكن هيهات.. فالعالِم غافل عن هذا، مسترسل مستفيض في إجاباته و نظراته!!
و أتمنى لو أنه يفاجئ تلك المذيعة في نهاية برنامجها بأن ينبهها على ما هي عليه من مخالفة لأوامر الله، و ينبه المستمعين و المشاهدين أيضاً إلى هذه المعصية فيبرِّئ ذمته أمام الله سبحانه، و لكن هاهو المجلس ينفضُّ، و هاهو يبادلها الشكر و التحيه و ينصرف.
لعلَّ هذا العالِم قد نسي أو غفل، أو لعلَّه تهاون في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و إنه من واجب كل مسلم أن يقوم بتذكيره بأن ينبه تلك المذيعة أو غيرها في لقائهما القادم على ما اقترفت في جنب الله، فإن لم تسمع و أخذتها العزة بالإثم فعليه أن يقوم من مقامه قبل أن ترتد إليه النظرة الثانية.
و أخصُّ بالتذكرة أولئك العلماء الذين يجالسون في لقاءاتهم من لعنهن الله و رسوله من المذيعات الكاسيات العاريات المائلات المميلات!. ألا يعلم أحدهم أن مجرد وجوده في هذا مثل هذه اللقاءات و الجلسات، و تردده عليها دون إنكارها، هو بمثابة الرضا عنها و إقرارها؟ و حسبه بذلك إثماً، فمن ذا الذي سينتفع بعلمه و حديثه و هو يرى عمله و تقريره بخلاف ذلك؟.
و ها أنا ذا قد قمت بواجب النصح و التذكير، و ما على الرسول إلا البلاغ المبين راجياً من العزيز الحكيم ألا أكون في عداد الذين قال الله ? فيهم:
{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ }
)المائدة: 78-79)
و أبرأت ذمتي أمام رسول الله ?:(1/212)
عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال: سمعتُ رسولَ اللّه ? يقول: "مَنْ رأى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فإنْ لَم يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذلكَ أضْعَفُ الإِيمَانِ".
رواه مسلم و أحمد و غيرهما
و نعوذ بالله العظيم أن نكون من الأخسرين أعمالاُ:
{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً }
(الكهف:103-104)
فضلّوا وأضلّوا
ورد عن رسول الله ? في صحيح البخاري:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله ? يقول: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً،
فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا".
رواه البخاري
إن في المسلمين اليوم من يتصدر مجالس العلم ليتكلم في دين الله سبحانه، و هم ليسوا أهلاً لذلك، منهم النساء و منهم الرجال، و لا ندري إن كان هؤلاء يضلّون الناس عن علم أمْ عن جهل، و لكننا سنترك الحكم للقارئ الكريم فهو يعرفهم يشاهدهم و يسمع منهم صباح مساء على شاشات التلفزيونات، أو يقرأ لهم في شتى وسائل الإعلام، و لكنه ربما لا يدري بما يبثونه من تضليل.
فأحدهم إذا دُعي للحديث في أمر من أمور الدين، أو للرد على فتاوى المسلمين، تراه لا يرد الدعوة، أو يعتذر لقصور علمه و خطر المسؤولية التي ألقيت على عاتقه، بل يرى في نفسه أهلاً لها، و الأدهى من ذلك أن الذي يقوم بدعوته يراه أهلاً لذلك أيضاً، و الأَمَرُّ أن الذين يستفتونه من عامة المسلمين كذلك!.(1/213)
فمنهم مَنْ يدافع عن شرعية خروج المرأة من بيتها في كل آن و حين كالرجال مساوياً مهمتها بمهمة الرجل، ناسياً أمر الحق سبحانه للنساء بالقرار في البيوت و متناسياً ما بيّنه الله من عظيم الفرق بين مهمة كل من الجنسين، فيتخذ من خروج أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- في موقعة الجمل دليلاً على ادعاءاته ضلالاً منه أو تضليلاً.
فتراه لا يَذْكُر في حديثه أنّ رسول الله ? قد أنكر ما قامت به أم المؤمنين، قبل أن تقوم به بسنين طويلة، عندما قال لها:
عن قيس قال: لما أقبلت عائشة بلغت مياه بني عامر ليلاً، نبحت الكلاب، قالت:أي ماء هذا، قالوا: ماء الحوأب،
قالت: ما أظنني إلا أني راجعة، فقال بعض من كان معها: بل تقدمين فيراك المسلمون، فيصلح الله عز وجل ذات
بينهم، قالت: إن رسول الله ? قال لها ذات يوم: "كيف بإحداكنّ تنبح عليها كلاب الحوأب".
رواه أحمد
و لعله نسي هذا، و لكن هل نسي أيضاً أن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- بعد أن رجعت من موقعة الجمل أبدت ندمها على خروجها هذا؟!
عن محمد بن قيس قال: ذكر لعائشة يوم الجمل قالت: والناس يقولون يوم الجمل؟ قالوا: نعم. قالت: وددت أني جلست كما جلس غيري فكان أحب إلي من أن أكون ولدت من رسول الله ? عشرة كلهم مثل عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام.
رواه الطبراني
أفيتخذ عالمٌ بعد هذا من خروجها رضي الله عنها دليلاً على شرعية خروج النساء كالرجال؟!
أيصح عند العقلاء الاستشهاد أو الاقتداء بفعل إنسان رجع هو عن فعله هذا، و ندم عليه، و أعلن توبته عنه!؟
ثم إن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- لما خرجت في موقعة الجمل كانت في ستر كامل عن الرجال، لم تختلط بهم، و حاشا لها أن تفعل، و ما خرجت إلا بصحبة محارمها، فكانت بصحبة أخيها محمد بن أبي بكر، و عبد الله بن الزبير بن اختها رضي الله عنهم أجمعين.(1/214)
و لست أصدق أن عالماً بعد هذا يسمح لنفسه أن يتخذ من خروج عائشة رضي الله عنها بهذه الصفة؛ التي امتثلت بها أمر ربها دليلاً على خروج النساء كالرجال بين الرجال، و يُشيع ذلك بين المسلمين و يحثهم عليه، بل و يتخذ من هذه الحادثة دليلاً على جواز الاختلاط بين الجنسين في كل مكان و زمان؟!.
و لنستمع للقول الفصل في هذا الأمر، من كلام صحابي جليل هو عمار بن ياسر رضي الله عنه:
عن الحكم قال: سمعت أبا وائل قال: لما بعث علي عماراً والحسن إلى الكوفة ليستنفرهم، خطب عمار فقال: إني
لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه أو إياها.
رواه البخاري
فسبحان الله!.. كيف أن أقواماً لا يزالون إلى يومنا هذا يصرون على الوقوع في هذا الابتلاء، فيدعون إلى الاقتداء بعمل ندمت عليه أم المؤمنين رضي الله عنها، و حذر منه رسول الله ?.
و من المتعالمين من يتخذ من عملِ أم المؤمنين خديجة -رضي الله عنها- بالتجارة دليلاً آخر على جواز عمل المرأة المسلمة كتفاً إلى كتف مع الرجال!!
و كأنهم لم يعلموا أن أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها كانت تعمل بالتجارة في زمن الجاهلية قبل بعثة الرسول ?، و كذلك عملت بعد بعثته ? في أول سني الدعوة في مكة، و حتى ذلك الوقت لم يتنزل شيء من عند الله سبحانه عن عمل المرأة من أمر أو نهي، كمالم يتنزل شيء في الحجاب الذي نزل بعد وفاتها عليها رضوان الله بل بعد هجرة المسلمين إلى المدينة بسنوات، فدليلهم داحض.(1/215)
كما لم يدرِ هؤلاء المتعالمون أن أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها لما عملت بالتجارة لم يكن عملها بمعنى العمل في التجارة الذي يفهمه الناس في يومنا هذا23 فإنها رضي الله عنها كانت تستأجر الرجال ليخرجوا بتجارتها و أموالها، فلم تكن تباشر العمل بنفسها، بل كانت مالكة له فقط، و فوق هذا كله لم يَرِدْ في كتب السيرة، و لا في كتب الحديث، و لا في الأثر أنها خرجت مع تجارتها و أموالها في رحلةٍ قطّ، و عندما سمعت بالشاب الأمين ? لم تلبث أن عرضت عليه الخروج بتجارتها لتحفظ مالها، و هذا تصرف لا تقوم به من كانت تخرج هي بتجارتها، فما حاجتها لرجل صادق أمين، و هي تشرف بنفسها على مالها؟!
أفبعد هذا يدَّعي عالم مسلم أن الإسلام أباح للنساء فرص العمل كالرجال تماماً تخرج مثلهم و معهم و بينهم مختلطة بالبر و الفاجر منهم!.
و إنْ كان الإسلام قد أباح للمرأة العمل كالرجل تماماً، حتى لا يُضيّع المجتمع نصف قدراته من النساء القاعدات في بيوتهن! -حسب زعم المضلين- فقولوا لنا: ماذا كانت صنعة كلٍ من أمهات المؤمنين -رضوان الله عليهن- في المدينة المنورة؟! و هنّ -كما نعلم- الأسوة الحسنة لجميع المسلمات، منذ عهد أفضل مجتمع إسلامي على وجه الأرض، إلى أن يرث الله الأرض و ما عليها!.
أمْ تراهنّ كنّ الأسوة السيئة و العياذ بالله، في تعطيل نصف المجتمع بالحبس في البيوت ؟!.
و هذه دكتورة و رئيسة قسم في الأزهر الشريف تُفتي بغير علم في حجاب المرأة المسلمة، عندما سُئلت عن حجاب المرأة المسلمة: هل يغطي الوجه أم أنه يقتصر على تغطية الشعر فحسب؟ فأجابت: "بل إن الفرض الذي أمر به الشرع هو غطاء الشعر فقط، و ما أمر بتغطية الوجه، و إنما هو فضل" و دللت على دعواها باستنتاجات خاطئة من أحاديث رسول الله ?:
1 - لقد ورد في الحديث الصحيح عن رسول الله ?:(1/216)
عن ابن شهاب قال: حدثني عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة: أن أباه كتب إلى عمر بن عبد الله بن الأرقم الزهري: يأمره أن يدخل على سبيعة بنت الحارث الأسلمية، فيسألها عن حديثها، وعما قال لها رسول الله ? حين استفتته. فكتب عمر بن عبد الله بن الأرقم إلى عبد الله بن عتبة بخبره: أن سبيعة بنت الحارث أخبرته: أنها كانت تحت سعد بن خولة، وهو من بني عامر بن لؤي، وكان ممن شهد بدراً. فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلّت من نِفاسها تجملت للخُطاب، فدخل عليها أبو السنابل ابن بعكك، رجل من بني عبد الدار، فقال لها: ما لي أراك تجملت للخطاب، ترجين النكاح، فإنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر. قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعتُ عليّ ثيابي حين أمسيت، وأتيت رسول الله ? فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزوج إن بدا لي.
رواه البخاري
و هذا حديث صحيح رواه البخاري و مسلم و النسائي و غيرهم، و لكن من الغرابة أن تتخذ منه هذه الدكتورة دليلاً على أن تغطية الوجه عن غير المحارم من الرجال لا أصل لها في الحجاب الإسلامي؟.
فسبيعة -رضي الله عنها- كما هو ظاهر في نص الحديث بصراحة شديدة، قد تجمَّلتْ مُبدية وجهها للخُطاب و فقط للخُطاب، و لم تُبدِ وجهها لجميع الرجال من المسلمين و غير المسلمين. و رؤية الخاطب وجهَ خطيبته أمر لا بأس به، بل هو أمر مطلوب شرعاً لمن أراد الزواج، و قد أمر به الرسول الكريم أصحابه حين قال:
عَن أَنَس بْن مَالِك؛ أن المغيرة بن شعبة أراد أن يتزوج امرأة. فقال له النَّبي ?: "اذهب فانظر إليها. فإنه أحرى أن يؤدم بينكما". ففعل. فتزوجها. فذكر من موافقتها.
رواه الترمذي و النسائي و غيرهما(1/217)
فكما نرى إن الرسول ? قد أمر الخاطب أن يرى خطيبته لغاية حكيمة، لعل هذا يكون سبباً في ديمومة و توفيق زواجهما، و كيف لا؟ و هو الذي كان يُبغض الطلاق، و هو الذي قال: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق"، فيجب شرعاً أن يرى الخاطب وجه خطيبته، و لكن هذا له وحده، و ليس لكل من هبّ و دبّ من الرجال مسلمهم و كافرهم.
من الواضح أن هذه الدكتورة قد ركَّزت على كلمتين من الحديث الأول، و هما "تجمّلتُ للخطاب" فبنت عليهما دليلها في كشف وجه المسلمة لجميع البشر!!، متناسية ما هو واضح جليٌّ في نص الحديث، و ضاربة بعرض الحائط ما تدل عليه هاتان الكلمتان من أن التجمُّل للخطاب فقط، و لا يمكن أن يكون لغيرهم أبداً، و هذا عينُ ما أمر به رسول الله ? كل من طلب الزواج، و هذا هو عين ما تقوم به المسلمات في كل مكان و زمان حتى في يومنا هذا.
و إن في الحديث ذاته جملةً، لو أن هذه الدكتورة، و مَنْ هُم على شاكلتها تدبّروها لذابوا خجلاً من ادعاءاتهم و افتراءاتهم، تأمّلوا معي قول سبيعة بنت الحارث -رضي الله عنها- تلك الصحابية الجليلة رَبيْبَةَ عصر النبوة: "فجمعت عليّ ثيابي حين أمسيت".
إنها تسكن المدينة المنورة، مدينة رسول الله ?، فكان بيته ? إما في حيِّها أو في حيٍ قريب منه، و قد أشكل عليها أمر من أمور الشرع (مدة عدة الحامل)، أفلا تذهب من فورها إلى المشرّع فتستفتيه مباشرة ليس بينها و بينه وسيط! و لكنها لَمْ تفعلْ، بل انتظرت حلول الظلام الساتر، و جمعت عليها ثيابها فسترت نفسها، لتكون في ستر تام عن كل عين، و بعيدة عن كل موطن فتنة لمسلم أو غير مسلم. أجَلْ.. هكذا كانت حياة المؤمنات في مدينة رسول الله ?، سترٌ في سترٍ.
ماذا يريد المتشككون بعد هذا؟! هل بقي للجهّال و المضلين من عذر؟!!(1/218)
إن جملة: "فجمعت عليّ ثيابي حين أمسيت" ليس لها علاقة بموضوع الحديث (مدَّة عِدة الحامل)، و لكن الصحابية ذَكَرَتْها كنفحة من نفحات الإيمان، لِتُدَوّن في مصدر التشريع الثاني بعد القرآن الكريم؛ في كتب السنة الشريفة، و في صحيح البخاري بالذات؛ لتكون حُجَّة أُخرى للمتقين، و حُجَّة على المكذِّبين.
نعود إلى الدكتورة التي لم تسمع بحديث رسول الله ? الذي رواه الإمام أحمد -رحمه الله- حيث يقول:
عن المغيرة بن شعبة قال: أتيت النبي ? فذكرت له امرأة أخطبها فقال: " اذهب فانظر إليها فإنه أجدر أن يؤدم بينكما" قال: فأتيت امرأة من الأنصار فخطبتها إلى أبويها وأخبرتهما بقول رسول الله ? فكأنهما كرها ذلك، قال: فسمِعَتْ ذلك المرأة وهي في خدرها، فقالت: إن كان رسول الله ? أمرك أن تنظر فانظر، وإلا فإني أنشدك ،كأنها عظمت ذلك عليه قال: فنظرت إليها، فتزوجتها، فذكر من موافقتها.
أسألكم بالله العلي العظيم الذي سنقف جميعاً بين يديه في الموقف العظيم، يوم يُختم على أفواهنا، و نُسأل فتجيب أبعاضنا: هل تجدون في هذا الحديث إلا نقيض ما كانت تدَّعيه و تفتي به تلك الدكتورة لكل نساء المسلمين؟! ألا تجدون فيه نقيض ما أرادت أن ترمي إليه تلك الدكتورة!؟.
أجل لقد كره والدا الفتاة أن ينظر الخاطبُ إلى ابنتهما بعد أن خطبها، رغم أنه أخبرهما أن رسول الله ? قد أمره بذلك!.
و لكن فِقْهَ الفتاة -رضي الله عنها- أسعف الخاطب إذ عَلِمَتْ أن أمر رسول الله ? شرع يتبع، و لا يحل لها و لا لوالديها أن يكون لهم الخيرة من أمرهم بعد أمره و مع ذلك فقد استوثقت منه لنفسها و لدينها، و ناشدته ألا ينظر إلا إذا كان الرسول ? هو الذي أمر بهذا حقاً ففعل.(1/219)
أفبعد هذا تجعل الدكتورة من إباحة الشارع الحكيم للخاطب أن يرى وجه خطيبته دليلاً على أن الحجاب الإسلامي هو إظهار الوجه أمام الجميع من مسلمين و كفار و بَرَرَة و فُجَّار، و تدعي أن تغطية الوجه لا أصل له في شرع الله سبحانه!!!.
هل تظنُّ تلك الدكتور أن والدي الفتاة كرها أن ينظر الخاطب إلى وجهها، و هي تخرج كلَّ يوم من خدرها سافرة الوجه!!؟
أمْ تظنُّ أن الفتاة تناشده كل هذه المناشدة و تستوثق منه، و هي تعلم أنه من الممكن أن ينتظرها خارج البيت في أي وقت شاء فيراها حين تخرج سافرة الوجه!!؟
إن الإسلام دين الحق و المنطق و الوسطية، فالذي أمر النساء بالحجاب، و تغطية الوجه، و إخفاء الزينة، و عدم التعطر، و عدم الخضوع بالصوت أمام غير محارمها، و أمرهن حتى بإخفاء صوت الحلي، هو هو الذي أمر الخاطب بالنظر إلى التي يريد نكاحها، في أحوج ما يكون المجتمع الطاهر إلى ذلك في بناء الأسر الصالحة، التي تشكل اللبنات الأساسية فيه.
فقال ? محدداً هذا النظر بأمر واحد فقط، و هو قَصْدُ الزواج لبناء مجتمع إسلامي طاهر:
عن أبي حميد أو حميدة -الشك من زهير- قال: قال رسول الله ?: "إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها إذا كان إنما ينظر إليها لخطبته وإن كانت لا تعلم".
رواه أحمد
ألم تسأل الدكتورة نفسها: لماذا أمر رسول الله ? هذا الصحابي بالنظر إلى خطيبته إذا كان الحجاب الإسلامي لا يغطي وجهها أصلاً؟! فوجهها مكشوف أمام الجميع و هي تشاركهم (حسب زعمها) في كل ميادين الحياة بلا استثناء جنباً إلى جنب !.
ألم تسأل الدكتورة نفسها: لماذا لم يكن بوسع الرجل في عهد رسول الله ? أن يرى كل النساء في الطرقات و المساجد و أماكن العمل (كما تدعي)، فيختار منهنّ من يشاء، ممن رآهن يشاركن في بناء المجتمع إلى جنبه في كل زمان و مكان؟!.
ألم تسأل الدكتورة نفسها: لماذا يقْدم صحابي على الزواج من امرأة لم ينظر إليها؟!.(1/220)
لست أدري أَعِلْمٌ ما تفوهت به تلك الدكتورة أم جهل؟ أَضَلَّتْ هي فلم تدرِ ما الحق؟ أم أنها تعلم الحق و تريد سواه؟ كما هو حال الكثير في زمن الغربة هذا.
عن جَابِرِ بن عَبْدِالله قال: قال: رَسُولُ الله ?: "إذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ الْمَرْأَةَ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَا يَدْعُوهُ إلَى نِكَاحِهَا فَلْيَفْعَلْ". قَالَ: فَخَطَبْتُ جَارِيَةً فَكُنْتُ أَتَخَبّأُ لَها حَتّى رَأَيْتُ مِنْهَا مَا دَعَاني إلَى نِكَاحِهَا فَتَزَوّجْتُهَا.
رواه أبو داود
هاهو رسول الله ? يبين للمسلمين جواز النظر إلى التي يريدون الزواج منها إن هم استطاعوا، أي: أن ذلك كان متعذراً في زمنهم، إذ لم تكن المسلمات آنذاك كالمسلمات في أيامنا هذه سافرات الوجه يراهن البر و الفاجر، و هاهو جابر بن عبد الله رضي الله عنه يحتال احتيالاً من أجل أن يرى وجه المرأة التي أراد خطبتها.
2 - ثم إن هذه الدكتورة تأتي بدليل خاطئ آخر على أن حجاب المسلمة هو غطاء الشعر فحسب، فتورد الحديث التالي:
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كان الفضل رديف رسول الله ?، فجاءت امرأة من خثعم، فجعل
الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، وجعل النبي ? يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً، لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه. قال: "نعم". وذلك في حجة الوداع.
رواه البخاري
و قد ورد هذا الحديث في صحيح البخاري أيضاً بصيغة أُخرى:(1/221)
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: أردف رسول الله ? الفضل بن عباس يوم النحر خلفه على عجز راحلته، وكان الفضل رجلاً وضيئاً، فوقف النبي ? للناس يفتيهم، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول الله ?، فطفق الفضل ينظر إليها، وأعجبه حسنها، فالتفت النبي ? والفضل ينظر إليها، فأخلف بيده فأخذ بذقن الفضل، فعدل وجهه عن النظر إليها، فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله في الحج على عباده، أدركت أبي شيخاً كبيراً، لا يستطيع أن يستوي على الراحلة، فهل يقضي عنه أن أحج عنه؟ قال: "نعم".
رواه البخاري
هل تُصدقون أن هذه الدكتورة خرِّيجة الأزهر الشريف، لا تدري أن كشف المرأة لوجهها في فريضة الحج هو واجب عليها؟.
ألم تقرأ الدكتورة في فقه العبادات -على أي مذهب أرادت- أن الأئمة أجمعوا على وجوب كشف المرأة المحرمة وجهها و كفيها، كما أجمعوا على وجوب كشف الرجال المحرمين رؤوسهم.
ألا ترون معي أن مجرد أمر رسول الله ? المسلمات بكشف وجوههن في الإحرام؛ لهو أكبر دليل على أن المسلمات كُنَّ يغطين وجوههن في غير فريضة الحج؟ حيث قال ?:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قام رجل فقال: يا رسول الله، ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب في الإحرام؟ فقال النبي ?: "لا تلبسوا القميص، ولا السراويلات، ولا العمائم، ولا البرانس، إلا أن يكون أحد ليست له نعلان فليلبس الخفين، وليقطع أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا شيئاً مسه الزعفران ولا الورس، ولا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين".
رواه البخاري
و هل تريد المرأة المؤمنة دليلاً أكبر من هذا على أن حجابها يجب أن يغطي منها الشعر و الوجه و الكفين أيضاً؟ و قد جاء النهي خاصاً في فريضة الحج، و هل يكون النهي إلا عما اعتادت النساء القيام به في غير فريضة الحج؟، و هذا الأمر واحد في نساء النبي ? أمهات المؤمنين وسائر المسلمات دون استثناء أو تفريق.(1/222)
3 - و أخيراً تدلي الدكتورة بدليل آخر في غير محلِّه على جواز كشف المسلمة وجهها مستعينة بالحديث التالي:
عن جابر قال: شهدت الصلاة مع رسول الله ? في يوم عيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة، فلما قضى الصلاة قام متوكئاً على بلال، فحمد الله، وأثنى عليه، ووعظ الناس، وذكرهم، وحثهم على طاعته، ثم مال ومضى إلى النساء ومعه بلال، فأمرهن بتقوى الله، ووعظهن، وذكرهن، وحمد الله وأثنى عليه، ثم حثهن على طاعته، ثم قال: "تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم" فقالت امرأة من سفلة النساء سفعاء الخدين: بم يا رسول الله؟ قال: " تكثرن الشكاة وتكفرن العشير" فجعلن ينزعن قلائدهن وأقرطهن وخواتيمهن
يقذفنه في ثوب بلال يتصدقن به.
رواه النسائي
عن جابر بن عبدالله. قال: شهدت مع رسول الله ? الصلاة يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة، ثم قام متوكأ على بلال، فأمر بتقوى الله، وحث على طاعته، ووعظ الناس، وذكرهم، ثم مضى؛ حتى أتى النساء، فوعظهن، وذكرهن، فقال: "تصدقن، فإن أكثركن حطب جهنم" فقامت امرأة من سقطة النساء سفعاء الخدين. فقالت: لم ؟ يا رسول الله ! قال "لأنكن تكثرن الشكاة. وتكفرن العشير" قال: فجعلن يتصدقن من حليهن. يلقين في ثوب بلال من أقرطتهن وخواتمهن.
رواه مسلم
لقد أوردت الدكتورة هذا الحديث كدليل في فتواها بأن حجاب المسلمة لا يغطِّي وجهها، و يكفي للرد عليها أن نسألها فيما إذا كان هذا الحديث الشريف قبل نزول آية الحجاب أم بعدها؟.
فإن كان قبل نزول الحجاب فقد دُحض دليلها كما دُحض ما سبقه.
أما إن كان الحديث بعد نزول آية الحجاب؛ فيجب أن تعلم الدكتورة خرِّيجة الأزهر الشريف، أن من شروط صلاة المرأة أن تكشف وجهها! و قد كان الأمر كله في المسجد في صلاة العيد.(1/223)
كما أنّ قول الراوي: "فقامت امرأة من سقطة النساء" في رواية مسلم، و "فقالت امرأة من سفلة النساء" في رواية النسائي، يدل على أن المرأة التي قامت لم تكن مسلمة حرة، بل كانت أمةً من الإماء، و لحجاب الإماء بحث آخر لا مجال لطرحه الآن.
و أخيرا،ً و لو أحسنا الظن بهذه الدكتورة و أمثالها من دعاة التفلت، و إثارة الشهوات، لقلنا: إنهم يجهلون دينهم و يقْفون ما ليس لهم به علم، و سيحملون مع أوزارهم أوزار من يتبعهم إلى يوم القيامة، ونسأل الله سبحانه ألا يكونوا من المنافقين علماء اللسان الذين تنبأ بهم ? و خشي على أمته منهم:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله ? قال: "إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان".
رواه أحمد
و ختاماً.. فإن هذه الدنيا دار فناء جئنا إليها بأمر الله، و لا نغادرها إلا بأمره سبحانه، فمن الحكمة ألا نحيا فيها إلا بأمره أيضاً. فيا أيتها المسلمة لك الخيار في هذه الدنيا بين ثلاث: فإما أن تتبعي هواكِ فلا تسمعي لأحد أياً كان، أو أن تتبعي هوى غيرك و ما أكثرهم! فتكونين إمَّعة تتبعين كل ناعق، أو أن تتبعي مَنْ لا يضلُّ و لا ينسى.
و إن الحجاب فرض على كل مسلمة، و هو أمر عظيم لا تهاون فيه، به صلاح المجتمع الإسلامي بكل مقوماته أخلاقياً و دينياً و اقتصادياً، و من دونه فساده.
فإن كنت في هذا الأمر متبعة هواك فلك ذلك، فلا إكراه في الدين، و لكن العاقبة وخيمة كما تعلمين و ليس علينا إلا النصح و التبيين.
و إن كنت متبعة في حجابك ما رأيت عليه أمك، فهلَّا سألت نفسك: لماذا لم تتبع أمك ما كانت عليه أمها في أمر الحجاب؟ فكما تعلمين منذ بضع عقود من الزمن لم توجد مسلمة على وجه الأرض تبدي وجهها لغير محارمها، أو ذوي رحمها.
أما إن كنت متبعة بعض الذين يدّعون العلم، فها نحن قد فنّدنا حُجَجَهم، و بيَّنا خطأهم بحمد الله سبحانه.(1/224)
و لم يبقَ أمامك إلا اتباع الحق المبين، و لا أقول: إنّ الحق فيما كتَبْتُ، بل إنّ كتابي هذا معين لك في البحث عن الحق، و دليل على درب النور، الذي لن تجديه إلا في كتاب الله و سنة رسوله.
و ها أنا أضع بين يديكِ قبساً من نور كتاب الله ? من سورة النور، لينير لكِ درب العفة و الطهر و الصلاح:
{ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
(النور:31)
لقد تكلم المفسرون، و أفاضوا في معاني هذه الآية الكريمة، و خاصة في قول الحق "إلا ما ظهر منها" فمنهم من قال: يجوز إظهار الوجه و الكفين، و منهم من قال: العقد و الخاتم، و منهم قال: الحلي أو ثغرة النحر، و استشهد أنصار كشف الوجه و اليدين بهذه الآية على دعواهم. و لكن هؤلاء جميعاً ربما غاب عنهم أن كل حرف في كلام الله سبحانه له دلالة و حكمة كما سنرى.(1/225)
نجد في هذه الآية الكريمة، أن جميع الأفعال التي تدل على ما ينبغي للنساء المسلمات أن يمتثلن به و يفعلنه في أمر الحشمة و في ثيابهن؛ جاءت بصيغة الفعل المضارع حصراً، إلا فعلاً واحداً و هو "ظهر" فهو الفعل الماضي الوحيد في هذه الآية الكريمة.
و كما صحَّ فإن الفعل المضارع يدل على الاستمرار في الحدث، و يعبَّر به عن أمر اعتيادي متكرر، أي أن المسلمات يجب أن يقمن على الدوام بغضِّ أبصارهن و حفظ فروجهن، و إخفاء زينتهن، و الضرب بخُمُرهن على جيوبهن، فهذا مطلوب منهن شرعاً في كل حال، و كلما أرَدْنَ الخروج من بيوتهنّ؛ كما بيَّنت الآية الكريمة.
كما صحَّ أنّ الفعل الماضي يدل على أن الحدث قد حَدَثَ مرة واحدة و لم يتكرر و بقول آخر فإن الاستثناء في قوله تعالى "إلا ما ظهر منها" هو استثناء لأمر يحدث عرضاً دون قصد من المرأة المسلمة، كأنْ يهب الهواء فيرفع طرف خمارها، أو طرف ثوبها، أو أن تمد يدها فتكشف ساعدها، أو تظهر بعض حليها، أو غير ذلك، فالآية تفيد أنّ هذا مما قد عفا الله ? عنه.(1/226)
و يتأكد لكِ هذا المعنى تماماً لو لاحظتِ أنّ كل الأفعال المضارعة في الآية قد نسبها الله ? إلى النساء المسلمات، أي أنهن هن الفاعلات اللائي أُمرن بالقيام بالفعل فالفاعل في كل هذه الأفعال هي المرأة نفسها، فهي ملزمة شرعاً بغض بصرها و حفظ فرجها، و عدم إبداء زينتها، و ألا تضرب برجليها...، و هي مسؤولة عن هذا كله أمام الله ?، في حين لم ينسب الله ? الفعل الماضي "ظهر" للنساء المسلمات، فنجد أن الفاعل في الفعل "ظهر" هو الزينة نفسها وليس المسلمة، فليس للمسلمة يد أو فعل في إظهار زينتها، و لا يجوز لها أن تفعل ذلك، بل الفاعل هو الزينة نفسها، و لا يكون هذا إلا وَفْقَ ما قلناه من أن ظهور الزينة يكون بأمر عارض ليس مقصوداً، و لا يكون أبداً نتيجة فعلٍ مقصود تقوم به المسلمة على الدوام؛ كأن تكشف وجهها دائماً أو يديها أو غير ذلك كلما أرادت الخروج من بيتها أو أمام غير محارمها أو ذوي رحمها.
و لو كان الأمر كما قال بعض المفسرين من أن في هذه الآية دليل على جواز أن تقوم المرأة المسلمة بكشف وجهها و كفيها بفعلٍ تقوم هي به، لقال الحق سبحانه "إلا ما أظهرن منها" أو "إلا ما يُظهرن منها" بدلاً من "إلا ما ظهر منها"، و لكن سياق الآية يدل على أنه لا يجوز للمسلمة أن تُظهر بقصد أو بفعل منها شيئاً من زينتها فما بالكِ بوجهها و كفيها أو أي شيء من جسدها؟.
كما أهدي إليك أيتها المؤمنة، قبساً آخر من نور سُنَّة رسول الله ? لا يجادل فيه عاقل، و لا يختلف فيه اثنان، فإنك عندما تقرئين كلمات أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- في حديث الإفك، ستعلمين علم يقين كيف كانت المسلمات قبل نزول الحجاب، و كيف صرن بعده:(1/227)
قالت: وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي، فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه، وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يهبلن، ولم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل فساروا، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فعرفني حين رآني، وكان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمَّرت وجهي بجلبابي، والله ما تكلمنا بكلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته، فوطئ على يدها، فقمت إليها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول، قالت: فهلك من هلك.
متفق عليه
و هذا قبس ثان من سيرة أكرم خلق الله ?، فقد جاء في سيرة ابن هشام في سبب حرب المسلمين لبني قينقاع:
قال ابن هشام: وذكر عبدالله بن جعفر بن المسور بن مخرمة ، عن أبي عون ، قال : كان من أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها ، فباعته بسوق بني قينقاع ، وجلست إلى صائغ بها ، فجعلوا يُريدونها على كشف وجهها ، فأبت ، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها ، فلما قامت انكشفت سوءتها ، فضحكوا بها ، فصاحتْ . فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله ، وكان يهودياً ، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه ، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود ، فغضب المسلمون ، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع .
سيرة ابن هشام(1/228)
و كما تعلمين فإن من ألدّ أعداء الإسلام الذين كادوا له، و يكيدون له، و سيكيدون له، و لن يبرحوا له كائدين هم اليهود، الذين اجترؤوا على قتل أنبياء الله، و تحريف كتبه، ثم حاولوا قتل رسول الله ? ولهم في الكفر و الإجرام تاريخ طويل. و هم من أدرى الناس في صنع الفساد و الإفساد، و هم يعلمون من أين تبدأ الفتن، و كيف تُوقظ، و قد جربوا ذلك في أنفسهم هم إذ كانت أول فتنتهم في النساء، فقد قال رسول الله ?:
عن أبي مسلمة قال: سمعت أبا نضرة يحدث عن أبي سعيد الخدري، عن النبي ?، قال: "إن الدنيا حلوة خضرة. وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء".
رواه مسلم
أجلْ لقد أخذ اليهود بمراودة مسلمة على كشف وجهها الذي أصبح عورة بعد نزول آية الحجاب، يراودنها للتنازل عن تاج العفة الذي توجها به إسلامها، يريدون الوصول إلى غرض دنيء، و هو كشف عورات المسلمات، فقد عَرفوا -و هم المبدعون في الضلال و الإضلال- أن المسلمة إذا ما رضيت بالتنازل عن أدنى شيء من حجابها فقد نالوا منها؛ إذا هي قَبِلَتْ مبدأ التنازل و لو عن خيط واحد من حجابها، و شيئاً فشيئاً، و خيطاً بعد خيط، سيكون الحجاب و السفور شيئاً واحداً.
و هذا هو الذي قصد إليه أولئك اليهود عند الصائغ، فلمّا لم تُجْدِ محاولاتهم في الإقناع و التبرير و التضليل؛ عَمَدَ أخبثهم إلى عقد طرف ثوبها إلى ظهرها؛ لتنكشف سوءتها، منجزاً بالغدر ما عجز عنه و أقرانه بالاحتيال و المراودة، ليشفي بذلك غليله و غليلهم.(1/229)
و هذا حالهم في كل زمان و مكان إلى يومنا هذا، فتراهم لا يجابهون النساء بالتخلي عن كل مظاهر الستر و الحشمة دفعة واحدة بل يراودنهن عن حجابهن خيطاً خيطاً، فيبدؤون بأمر بسيط مثل كشف الوجه، فإن تساهلت المسلمة، و تنازلت، و تم لهم ما أرادوا؛ انهالوا عليها بشتى ألوان مساحيق الزينة و ماشابها لتغطي بها ما أظهرت من وجهها، فإذا تم لهم ذلك أيضا وصفوا لها أجمل الأزياء الكاشفة و الواصفة، و لن يرضوا إلا بانكشاف العورات تماماً كما فعلوا مع تلك المسلمة في سوق المدينة المنورة، و هكذا عوداً فعوداً تأتي المغريات، و عوداً فعوداً تكون التنازلات، حتى ترى العاريات الكاسيات يدعين أنهن مسلمات.
و اعلموا أن غَيْرَة مسلمةٍ واحدةٍ على دينها و تشبثها بالفضيلة و عدم انخداعها بمكر المضلِّين، كانت سبباً في فضح اليهود، و إجلائهم من المدينة المنورة، و أخذ أموالهم، و إذا قارنّا هذا بحال المسلمين اليوم و هوانهم على الناس من اليهود و غيرهم من الأمم، عرفنا أن المسلمين قد قدموا الكثير من التنازلات في دينهم، بعد أن انطلت عليهم ضلالات المضلين و أعوانهم.
و إن نظرة متأملة لحال المسيحيين في الأرض تكشف عن فعل المضلين فيهم، فإن نساءهم إلى بضع عقود خلت كُنَّ محتشمات يغطين حتى رؤوسهن، و ما انكشفت العورات دفعة واحدة، و لكن إنشاً إنشاً، أو خيطاً خيطاً حتى قاربوا العري التام و ما قوم "بوش" منكم ببعيد.
و الحمد لله رب العالمين.
خاتمة
لقد ختم الكاتب كتابه بقوله:
"أما الآن، و في ختام هذا الذي و فقني الله لبيانه، فأحمد الله أولاً؛ أن يسر لي عرض هذا الموضوع مؤيداً بكل ما قد كنت أسعى إليه من براهين المنطق و وثائق الواقع .. على الرغم من الظروف الصعبة التي صاحبتني طوال مدة العكوف على كتابة هذا البحث." (صفحة 229).
ثم قال:(1/230)
"أما أنا؛ فإن هذا الذي انتهيت إليه مما يتعلق بهذا الموضوع، هو قراري الذي أعيش معه حياتي هذه، و أرحل به عند الموت إلى الله، إنه قرار عقلي الذي لم تشبه شائبة هوى أو غريزة، و لم أتحيز به إلى مجاملة، و أعتقد أنّ أبقى صديق يصاحب الإنسان بإخلاص إلى الموت، هو القرار العقلي الصافي عن الشوائب."
(صفحة 229).
و قد بيَّنت في كتابي هذا أن كتاب "المرأة" كان أبعد ما يكون عن براهين المنطق و وثائق الواقع، و أرجو أن يصل كتابي هذا إلى الكاتب -الذي كنا قد تعلمنا منه الكثير، و كنا ممن يسعون إلى دروسه في مساجد دمشق- حتى ينظر نظرة أخرى فيما كتبَ، و ينظر فيما كتبتُ، فإما أن يصوِّب خطئي، أو أن يصوب ما سلف في كتابه، و لست أبالي أيهما كان فالحق أحق أن يتبع، و لا نظن به إلا خيراً.
و لنلخص ما جاء في كتابه من نقص و قصور فيما يلي:
أولاً:
لقد أغفل الكاتب في بحثه آيات قرآنية كثيرة في صميم موضوع عمل المرأة و مهمتها، و دون هذه الآيات الكريمات تسقط شرعية الكتاب باعتباره كتاباً في الشرع الإسلامي، و قد أوردتها بحمد الله تعالى في كتابي هذا.
ثانياً:
لقد أغفل الكاتب في بحثه أحاديث رسول الله ? في المرأة و النساء، و دون تلك
الأحاديث أيضاً تسقط شرعية البحث كبحث في الشرع الإسلامي. و قد أوردتها بحمد الله تعالى في كتابي هذا.
ثالثاً:
لقد أخطأ الكاتب في الاستدلال و الاستنتاج بما استشهد به من آيات كريمة و أحاديث شريفة، و حَمَّل النصوص خلاف قصدها و فوق طاقتها.
و من ذلك قوله:
"إن الحكمة الباعثة على مشروعية الحجاب تتمثل في ذلك البيان المنطقي الذي أتينا عليه مفصلاً، و الذي لا مجال لإدخال ريبة فيه، و قد ذكرها القرآن الكريم في نص جامع مركز، و هو قوله عز و جل: ?يا أيها النبي قل لأزواجك و بناتك و نساء المؤمنين يدنين عليهم من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين? الأحزاب 33/59.(1/231)
?ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين? تلك هي الحكمة، هل قرأتموها و وقفتم بأي تدبر عندها؟
الحكمة أن تختفي المثيرات الجنسية و المفاتن الغريزية عن أبصار الرائين و الناظرين إليها من الرجال، فلا يستثيرهم منها شيء إلى أي تحرش أو إيذاء، و لا يبصروا من الفتاة أو المرأة إلا شريكة معهم في الخدمات الإنسانية و بذل الجهود الاجتماعية المتنوعة، مادام المجال الذي يتم فيه التلاقي بينهما مجالاً اجتماعياً يتداعى فيه الجميع إلى التعاون في بناء المجتمع و إقامة دعائمه الحضارية." (صفحة 161).
فبعد أن تدبّر الكاتب الآية الكريمة استنتج منها أن الجلابيب التي ترتديها النساء تقف حائلاً دون تحرش و إيذاء الرجال، لأنها (برأيه) تخفي المثيرات الجنسية و المفاتن الغريزية عن أبصارهم.
و لكن الله ? يبين لنبيه الكريم في الآية نفسها؛ أن إدناء النساء عليهن من جلابيبهن هو لكي يعرف الشاردون من الرجال أن أولئك النساء هن من المؤمنات، أو نساء النبي، أو بناته، و لسْنَ ممن يخرجن لتصيد الرجال، فيلزم الرجال حدودهم، و يبحثوا عن ضالتهم بعيداً عمن كانت هذه حالها، و هذا معنى قوله تعالى: ?أدنى أن يعرفن فلا يؤذين?، و لا نجد في الآية الكريمة و لا كلمة واحدة تدل على أن المثيرات الجنسية قد اختفت بهذه الثياب عن أعين الناظرين!.
فاللاتي يدنين عليهن من جلابيبهن لن يتعرض لهن أحد بإيذاء أو تحرش؛ لأنه يعرف أنهن التزمن بأمر الله ?، و ليس لأن الجلابيب قد أخفت مفاتنهن كما فهم الكاتب. و شتان بين قول الحق ?: ?أدنى أن يعرفن? و بين قولنا: "أدنى ألا يثرن الرجال" فالذي منع التحرش و الإيذاء هو المعرفة، و ليس ستر المفاتن.
و ليس هذا و حسب، بل إنه أخطأ في الفهم عن رسول الله ? عندما قال:
"لم ينزل قرآن و لا صحَّ حديث بأن المرأة سر معيب يجب أن يخبأ، و أن صلتها المعلنة بالرجل يزري به و ينقص من مكانته، بل الذي نزل به القرآن و مارسه رسول الله، يدل على نقيض ذلك.(1/232)
كان رسول الله ? يخرج مع نسائه، و يجمعه بهن طريق واحد، و قد صح أنه ? كان يسير ليلاً مع زوجته صفية، فمرَّ رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي ? أسرعا فناداهما قائلا: "على رِسْلكما، إنها صفية بنت حيي " فقالا: سبحان الله يا رسول الله .. قال: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، و إني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً، أو قال شيئا".
فلم يتحرَّج رسول الله من السير مع زوجته، و لم يجد أي غضاضة في التعريف بها و ذكر اسمها." (صفحة 195).
لقد دأب الكاتبُ على اتخاذ الاستنتاجات الخاطئة و اللامنطقية مطيَّة له، و لكن أن يرى في قول الرسول ? في هذا الحديث "على رسلكما، إنها صفية بنت حيي" أنَّ الرسول لم يجد أي غضاضة في التعريف بزوجته، و ذكر اسمها، فهذا و الله لا يليقُ بعالم مثله.
فإن أي مسلم بلغ أي درجة من العلم و المعرفة -و لو تدنت- لَيَعلم أن الرسول ? في حديثه هذا لم يكن يُعرِّف أحداً بزوجته، و إنما كان يَجُبُّ الغيبة عن نفسه؛ عندما رأى ارتياب الأنصاريين بإسراعهما؛ إذ رأيا رسول الله ? يمشي مع امرأة في الليل. فالرسول ? بيَّن لهما أن التي رأياها إنما هي زوجته، حتى لا تذهب بهما الظنون بعيداً، فخشي الرسولُ ? أن يستغلَّ الشيطانُ هذه الفرصة فيقذف في قلوبهما شيئاً بحقه، و هو القدوة الذي يتلقون عنه منهج السماء، فلم يجدْ الرسول الكريم بُداً (و ليس غضاضة!) من التعريف بزوجته، و ذكر اسمها.
و بيَّن ? هذا بوضوح لا مجال فيه للتأويل حين قال: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، و إني خشيتُ أن يقذف في قلوبكما شراً".
ألم يسأل الكاتب نفسه: لماذا لم يقم الرسول ? بتعريف زوجته بصاحبيه بعد أن عرَّفهما بها؟!(1/233)
نقول للكاتب، و لكل من لا يعجبه ستر الإسلام للمرأة: إن المرأة لا تُستر باعتبارها سراً معيباً، و العياذ بالله، بل تُصان المرأة المسلمة كما تُصان الجوهرة النفيسة، لكثرة الطامعين فيها، ولأنها حَيِيَّة، مرهفة الإحساس، ناعمة، رقيقة في مشاعرها و خَلْقِها، و لأن أنوثتها فتنة تردي أورع الرجال و تشغلهم فتقصيهم عما خُلِقُوا له من الشقاء، و لأن عدم الستر يضرُّ بها إذ يجرَّئُ الفاسقين على التعرض لها؛ لذلك لم يترك الإسلامُ منفذاً لأحد أن ينال منها، و لو بكلمة واحدة. و لنفاسة هذه الجوهرة عند ربها لم يرض جزاءً لمن يبذل حياته دونها إلا الشهادة:
عن سعد بن زيد رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه ?: "من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد".
رواه الترمذي
أما إذا سألتم المؤمنات عن سبب التزامهن بالحجاب، و بكل أوامر الله، فسيكون جوابهن: "طاعة لله العليم الحكيم، و ابتغاء مرضاته و فضله".
رابعاً:
لم يتّبع الكاتب طريقة الاستنتاج المنطقي من النص، بل كانت طريقته هي وضع الفكرة مسبقاً، ثم البحث عن براهين لها من النصوص كيفما اتفق، أصاب البرهان الفكرة أم لم يصب، و مثال هذا معظم ما في كتابه.
و لست أدري كيف نهج هذا النهج اللامنطقي، و أكاد لا أصدق أنه فعل!.
حتى إن بعض ما جاء به كلام لا ينبغي أن يصدر عن كاتب مثله، حيث قال:
"أن الزوج يبحث من خلال زوجته عن شريك جنسي معه، غير أن الزوجة لا تبحث في الزوج عن هذا فقط، إنما تبحث فيه -ربما قبل ذلك- عن الكيان الكبير الذي يحميها و يرعاها.
فإن قلتَ : يحميها ضد من؟ و يرعاها ضد أي حاجة؟
الجواب : يحميها ضد المجهول، و يرعاها بإشباع ضعفها من قوة الرجل"
(صفحة 216).
عجباً!.. من منا يستطيع أن يحمي أحداً من المجهول؟ و كيف يتأتى لبشر أن يحمي بشراً من شيء لا يعرف كنهه؟ ثم ما هو المجهول؟!(1/234)
و كيف يشبع الرجل ضعف المرأة من قوته؟ هل يضربها ليريها القوة التي يتمتع بها؟ أم يمارس أمامها رياضات القوة البدنية؟
ففي عصر العلم و المدنية لم تعد القوة العضلية و الجسدية مقياساً للقوة، و إن أضخم الرجال ترديه طفلة في يدها سلاح. فكيف يصدر هذا الكلام الضبابي الذي لا جدوى له، ولا طائل تحته، من عالمٍ أمضى ردحاً من حياته في العلم و التعليم؟.
و ختاماً أرجو أن أكون في هذا الكتاب قد أحسنتُ الرباط على ثَغْرٍ من ثغور الإسلام و أرجو أن يكون عملي هذا خالصاً لوجه الله الكريم.
و أسأل الله العلي القدير أن يهديَ مِن المسلمين مَنْ يبين بالأرقام و الحساب، الخطر الاقتصادي الناجم عن خروج المرأة من بيتها، و عملها و اختلاطها بالرجال، و الله على كل شيء قدير، و بالإجابة جدير.
ملحق العفة و الطهر
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
{ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ }
(النور:19)
الاختلاط
جاء في كتاب "مع الناس مشورات و فتاوى" للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي السؤال التالي:
"بعد أن غرر بها و خدعها، تابت و تحجبت، و أهلها الآن يرغمونها على الزواج و هي تخشى الفضيحة، فهو ما زال يلاحقها، فماذا تفعل؟".
و أجاب عنه الدكتور بالآتي:(1/235)
"أولاً إن مأساتك التي تتحدثين عنها، نتيجة الاختلاط الشائن؛ الذي يجري اليوم بين الشباب و الفتيات، و الذي يروج له تجار هذه المآسي تحت عناوين زائفة كاذبة و ممجوجة تبعث على الغثيان، كتحرير المرأة .. و تحقيق المساواة .. و قد غدا معروفاً لكل ذي عقل أن الذين يهتفون بهذه الشعارات إنما يبتغون من ورائها أن ينالوا حظوة رخيصة من الفتاة أو المرأة، و من أيسر طريق .. تمتعهم بمغنم، و لا تكلفهم أي مغرم، و أن تعود المغارم كلها بعد ذلك عبئاً قتالاً و شقياً على كاهل المرأة ، لا بأس..
ألا ..فلتعلمي، ليعلم أترابك جميعاً، أن هذه هي أحلام (الشباب المنحرفين) و أمثالهم في المرأة عندما يدعونها - و قد سال منهم اللعاب - إلى التحرر .. و الاختلاط .. غيرة , و إطراء . و إعجاب تخدع و تسكر بها قبل السقوط ، ثم إعراض و ازدراء و هجران .. بعد أن تقع في وهدة السقوط.
و الصديق الصادق للمرأة في كل أحوالها و تقلباتها، هو الإسلام بكل ما قد خاطبها به من شرعة، و آداب، و أحكام.
بعد هذه المقدمة التي أحسب أنها أهمُّ من الإجابة عن سؤالك الذي تطرحينه بلهفة أقول لك:
إن الإسلام هو دين الستر : يدعو صاحب الخطيئة إلى أن يستر نفسه عما سوى الله من البشر جميعاً، و أن يلجأ إلى كفَّارة واحدة هي كفارة التوبة النصوح.. فإذا تابت الفتاة بصدق فلا مانع من أن تُرمُّم بكارتها، ولا مانع من أن يمارس الطبيب ذلك إن أيقن أنها تابت توبة صادقة؛ ذلك لأن لجوءها إلى هذا العلاج سبيل من سبل الستر الذي أمر الله تعالى به.
فانظري إلى صداقة الإسلام لك، في كل الظروف و الأحوال، و انظري إلى دجل المستمتعين بك في حالة السراء و الضراء بل المترفعين فوقك عند السقوط و في حالة الضراء."(1/236)
يرى الكاتب أن الذي حلَّ بهذه الفتاة كان نتيجة الاختلاط و التحرر، و ما كان كتابه "المرأة" إلا دعماً و ترويجاً لهذا الاختلاط بين الذكر و الأنثى، و في كل المجالات حيث لم يستثنِ مجالاً واحداً.
و نرى الكاتب يدعو هذا الاختلاط "بالاختلاط الشائن"، و الذي أُحبُّ أن يعلمه جميع المسلمين أن ليس ثمة اختلاط شائن و اختلاط غير شائن، بل إن الاختلاط هو الاختلاط، و بشاعته تأتي من النتائج الحتمية له، و النتيجة الحتمية لاختلاط الذكور و الإناث هي ما حدث لهذه الفتاة و لأمثالها من الفتيات اللواتي هتكن حجب الطهر التي فرضها الله عليهن، و حفظهن بها.
و نرى نتائج الاختلاط جلية في كثير مما أورد الكاتب من أسئلة في كتابه هذا وردت إليه من مسلمين و مسلمات يشكون إليه مآسيهم الناجمة عن سقوطهم في الفاحشة، و يسألونه سبل الخلاص.
لقد عمت البلوى و كثرت الشكوى، و الكاتب يؤكد هذا في كتابه "المرأة" فيقول:
"لعل في القراء من يظن أنني أنسج هذا الكلام من ضباب الوهم والخيال.
و لكن الواقع أنني أضع من هذا الكلام صورة مصغرة جداً لواقع مرير كبير، تضيق الصفحات الطوال عن رسمه و استيعابه.
و في جعبتي نماذج كثيرة لهذا الواقع. و مع أنني هنا لست بصدد استعراضها، غير أن من المفيد، بل من الضروري فيما أعتقد أن أضع أمام القارئ نموذجاً واحداً منها."
ثم قصَّ علينا الكاتب قصة لفتاة سقطت من جراء فقدانها للتربية الدينية الصحيحة، و لأنها استسلمت لمن دعاها إلى التحرر في المظهر و السلوك، و لكن الكاتب يعلم أن هناك الكثيرات ممن لم يستسلمن لدعوة التحرر في المظهر و السلوك، و لكنهن مع ذلك سقطن السقطة نفسها، و لسبب بسيط ألا و هو أنهن إناث، جعلنَ أمر الله الحكيم العليم في القرار في البيوت، و عدم الاختلاط بالذكور وراء ظهورهنّ.(1/237)
فإذا قرأت كتاب "مع الناس" تجد مدى التدهور الأخلاقي الذي وصل إليه المسلمون من جريرة الاختلاط بين الذكر و الأنثى في الشوارع، و الأسواق، و المدارس و أماكن العمل.
الطيبون للطيبات
كل مسلم يرى مع الكاتب أن الإسلام هو دين الستر، و من أسمائه ? الستّار.
فمن رحمة الله الستّار أن أمر عباده بستر ما ابتلوا به من المعاصي، كما أمرهم بستر ما علموا من سوءات إخوانهم المؤمنين، و جعل أجرهم على هذا ستراً يوم القيامة.
قال ?:
عن ابن عمر ? أن رَسُول اللَّهِ ? قال: "المسلم أخو المسلم: لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان اللَّه في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج اللَّه عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره اللَّه يوم القيامة".
متفق عليه
حقاً إن الإسلام هو دين الستر لكل الذنوب، و دين الرفق في كل أمر، إلا في أمر واحد، ألا و هو الفاحشة؛ لأن الستر و الرفق في هذا الأمر بالذات يكون أشد خطراً و أسوأ أثراً في تدنيس طهر المجتمع الإسلامي من الفضيحة و الشدة. و إن فضيحة و عذاب مسلمَين خير من دمار مجتمع بأكمله.
أقام الله ? المجتمع الإيماني على قواعد و قوانين، تضمن لأبنائه أن يعيشوا في النور في مجتمع متكافل متماسك، تتوزع فيه المسؤوليات و الحقوق بينهم وَفْق هذه القواعد والأسس.
و شريعة الله ? تولَّت حِفْظَ و رعاية الخلية الأساسية التي يتشكل منها هذا المجتمع فحدَّدت مسؤولية الزوج و الزوجة، و الوالد و الولد، و مسؤولية الأم و البنت، و حقوق كل منهم على الآخر.(1/238)
و لكي يقوم كل بما أنيط به من مسؤوليات، و يرعى ما كُلِّف به من حقوق، لا بد أن يكون الوالد متيقناً من أن الذي يتعب لأجل راحته، و يجوع لكي يطعمه هو ولده، و أن يعلم الأخ أن هذه أخته و هذا أخوه و أن و أنّ... . و إلا فإن المسؤوليات تفقد قيمتها و تتفكك الروابط، و يخرج المجتمع من نور الله إلى تيه الظلمات، و المثال الحي واضح أمام الجميع في تجربة المجتمعات الغربية.
و لهذا جعل الله ? عقوبة الفاحشة عقوبة بعيدة كل البعد عن الستر و عن الرفق و الرأفة، فالإسلام في أمر الفاحشة بالذات دين التشهير و القسوة على الزناة؛ لأنه في الوقت ذاته دين الرفق و الستر للمجتمع بأكمله، و الرحمة له من الانهيار، قال تعالى:
{ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }
(النور:2)
لم يكتفِ الله ? بالأمر بجلد الزناة، بل نهى المؤمنين عن الرأفة بمن سَوَّلّت له نفسه الإقدام على الفاحشة، و زاد على ذلك بأن أمر المؤمنين أن يشهدوا عذابهما؛ لكيلا يكون الجلد سراً بعيداً عن أعين المجتمع، و ليعلم المؤمنون أن هذا الشاب و هذه الفتاة قد قاما بارتكاب ذنب كبير، لا يجوز التغاضي عنه، فيرتدع كلُّ مَنْ تخطر له الفاحشة على بال.
فكان هذا التشهير، و هذه القسوة رحمة بالمجتمع و سبيلاً للحفاظ على بقائه في النور، حيث عُرف مقترفُ هذا الفعل الشنيع من قِبَلِ المجتمع بأكمله، و شُهِدَتْ عاقبته. فيمتنع المؤمنون عن أن يُنكحوا الزاني إلا زانية مثله، و الزانية لا يُنكحوها إلا زان مثلها، اتباعاً لأمر الله الحكيم العليم في الآية التي تلت آية عقوبة الفاحشة مباشرة:(1/239)
{ الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }
(النور:3)
فبعد أن تميز مرتكبو الفاحشة في المجتمع الإيماني عن غيرهم من المسلمين، لم يكن المجتمع ليعاملهم معاملة الأطهار، و في الوقت نفسه لم يكن المجتمع الإيماني ليتخلى عنهم، أو ينبذهم.
فكان لزاماً على المجتمع الإيماني أن يحافظ على نورانيته، فيعطي الطيبة للطيب، و ينهاه عن الزواج من زانية، و لا يسمح بزواج الطاهرة من زان. في الوقت نفسه لم يتخلَّ المجتمع الإيماني عن التائبين من أبنائه و بناته، مع محافظته على الطهر في علاقة الزواج، و التكافؤ بين الزوجين، الذي أكده الخالق ? مرة أخرى، في قوله في سورة النور ذاتها، فأمرنا بأن نجعل الخبيثين للخبيثات و الطيبين للطيبات:
{ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }
(النور:26)
ففي الآية الكريمة إخبارٌ يُراد منه أمر الرجل باختيار الطيبة من النساء، و نهيه عن الزواج من الخبيثة، و أمر المرأة باختيار الزوج الطيب، و نهيها عن الزواج من خبيث.
و لست أدري كيف يقول الكاتب: إن "الإسلام هو دين الستر" في أمر الفاحشة! هل أتى بهذا الستر من عنده، أم مما فهمه من كلام الله ? في سورة النور؟! و كيف يكون الكاتب أحرص على ستر العباد من خالقهم؟ بل كيف يكون المخلوق أرحم بهم من الرحمن الرحيم؟!.(1/240)
لَئن يفتضح أمر شاب و فتاة مسلمين، و يذوقا العذاب، و يشهد عذابهما طائفة من المؤمنين، فيرتدع بعذابهما كل المجتمع، خيرٌ من أن يفتضح مجتمع بأكمله ينتسب إلى الله، و أن يغرق المجتمع الإيماني في الظلمات؛ بأن تختلط الأنساب، و تضيع الحقوق، و يتجرأ الناس على الفاحشة، و العياذ بالله. و لئن يُقام الحدُّ عليهما على مشهد من المسلمين، و دون رأفة، خيرٌ من أن يهون أمر العفة في المجتمع الإيماني فَيَعُمّ هذا البلاء فيه.
و واللهِ الذي لا إله إلا هو، لقد صرنا نسمعُ بالفاحشة بين المسلمين، و مغامرات الزناة، كما لو أننا نعيش في مجتمع الكفر في الجاهلية.
و قد شدد الله ? في التحذير من تعدي حدوده، فقال تعالى:
{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ }
(النساء:13-14)
و حذر رسولُه الكريم من التساهل في تطبيق حدود الله أو تعطيلها، فقال:
"ضرب الله تعالى مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تتعوجوا، وداع يدعو من فوق الصراط ، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه، فإنك إن فتحته تلجه. فالصراط: الإسلام. والسوران: حدود الله تعالى. والأبواب المفتحة: محارم الله تعالى. وذلك الداعي على رأس الصراط: كتاب الله. والداعي من فوق: واعظ الله في قلب كل مسلم".
أخرجه أحمد و الحاكم
و قال ?:(1/241)
" مثل القائم في حدود اللَّه والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم؛ فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا. فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً".
رواه البخاري
و ليعلم المسلمون أن في التهاون بأوامر الله ? خطراً عظيماً. و الخطر الأعظم في التهاون في إقامة حدود الله، و الضرب على أيدي الخاطئين، و الأخطر من هذا و ذاك هو السعي إلى إيجاد مبررات للذنوب و الآثام، و تهوينها في أعين مرتكبيها و مَنْ حولهم.
و ما وصل المسلمون إلى ما وصلوا إليه من الضَّعة و الهوان، إلا لأننا سترنا الذين أمر الله ? بفضحهم، و لأننا رحمنا الذين أمر الله ? بألا تأخذنا بهم رأفة في دين الله.
فو الله الذي لا إله إلا هو، ليس أحد أَغْيَر من الله ? على دينه، و ليس أحد أرحم منه بخلقه، فإياكم و مخالفة أمره ?، و لنعلم أن مخالفة أمر الله ? و تبديل حُكمه لن يكون فيه مصلحة لمسلم و لا لمسلمة في الدنيا، و لا تكون عاقبته إلا سوءاً و خِزْياً في الآخرة.
فالله العليم الحكيم وَضَعَ بكمال علمه و حكمته عقاباً لعباده المسلمين في الدنيا، يكون كفارة لذنوبهم إن هم تابوا توبة صادقة، و مِنْ حكمته أن جعل في هذا العقاب استمراراً لطهر المجتمع الإيماني و بقائه في النور، و منها قطع يد السارق و القصاص من القاتل، و جلد أو رجم الزناة. و من ظنَّ أنه يمكن أن يستدرك على حكمة الله ? و حُكمه، فما هو إلا عابث ضال يريد القضاء على المجتمع الإيماني و إغراقه في الظلمات بعد النور. و ما أنزل الله ? أحكامه إلا ليُعْمَل بها و يكون الدين كله لله.(1/242)
و قد تهاون المجتمع الإيماني بإيقاع حد الزنى على الزناة، فالفتاة لم تُجلد، و ستر الله ? عليها و على غيرها فعلتهم، فنجوا من الفضيحة. و لكن أن تقوم مرتكبةُ الفاحشة بالغش و الخديعة اتباعاً لفتوى رتق البكارة، فهذا ليس من الإسلام في شيء، وأن تقترن توبةُ الزانية لربها بارتكابها ذنباً أعظم و أفدح، لهو الغرابة التي أنبأنا بها رسول الله ?! و أن يفتي عالم مسلم بالغش تحت عنوان رتق البكارة، فهذا و الله من الغرابة التي أصابت الإسلام!!.
التكافؤ
و ورد سؤال آخر في كتاب "مع الناس" يتعلق بموضوعنا يسأل فيه أحد المسلمين:
"ماذا يفعل المسلم إذا تزوج فتاة علم فيما بعد أنها رَمَّمَتْ غشاء بكارتها؟".
فيجيبه الكاتب:
"إذا تزوج الشاب فتاة، و تبين له أن بكارتها مرممة، -كما تقول- فالحكم لديه لا يختلف عن الحالات العامة و حكمها. و الحكم هو أن له أن يستبقيها و أن يطلقها فإن طلقها وجب لها كامل مهرها.. أما التصرف الأمثل الذي يجدرُ بالزوج أن يسلكه، فهو أن ينظر ، فإن كانت زوجته مستقيمة على الأخلاق الإسلامية، متمسكة بأهداب الفضيلة، فالأمثل به أن يستبقيها، و أن يكرمها، حتى و إن سبق لها التورط في أخطاء تابت منها، و إن كانت منحرفة الخلق أو السلوك، فالأمثل به أن يطلقها ما لم يتسبب عن ذلك أضرار تربوية بأطفال له منها. و المهم أن تعلم أن خطيئة المرأة في ميزان الشريعة الإسلامية كخطيئة الرجل تماماً، و من ثم فإن على المجتمع أن يتقبل توبة المرأة كما يتقبل توبة الرجل، دون أي تحيز أو تفريق."
هنا لا يرى الكاتب التكافؤ شرطاً من شروط الزواج، و لا يرى في مخالفة أمر الله ? في الآيتين السابقتين بأساً، فبينما يأمر الله ? عباده بأن يجعلوا الخبيثين للخبيثات، و الخبيثات للخبيثين، و الطيبين للطيبات، و الطيبات للطيبين، مشدداً ? في أمر العفة حين قال:
{ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }
(النور: 3)(1/243)
فمن أراد ألا يخرج من الإيمان فليفعل ما أمر به الله ، و ليحرص على ألا يزوج طاهرة من زان، و لا يزوج طاهراً بزانية.
و نفهم من قول الحق ?:
{ الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً }
(النور: 3)
أنَّ الزانية إذا نكحت زانياً مثلها فقد أطاع كلاهما أمرالله، أما إن رضيت طاهرة أن تُنكَح من زانٍ، فقد عصت أمراً من أوامر ربها، فخرجت بذلك من عداد المؤمنين و كانت مشركة كما نصت الآية؛ إذ هي بذلك ردت الحكم على الله ?، و لم تقبل به مشرعاً حكيماً عليماً آمراً ناهياً.
و كذلك الأمر في قول الحق:
{ وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ }
(النور: 3)
فالمؤمن الطاهر إذا رضي أن ينكح زانية فهو بذلك مخالف لصريح أمر الله ?، و يخرج بهذا من عداد المؤمنين، و يعد مشركاً بالله إذ ردَّ عليه حكمه، و قد أكد الله ? هذا المعنى بقوله ?و حرم ذلك على المؤمنين?.
أي أنه في المجتمع الإيماني يكون المتزوجُ بزانية بين أمرين، إما أن يكون قد زنى مثلها فيتزوجان و يُقْبَلان معاً في المجتمع الإيماني في زواج متكافئٍ، بشرط التوبة و الإصلاح، أو ألا يكون قد زنى من قبلُ، فبزواجه بزانيةٍ يُعَدُّ مشركاً بالله ? بمخالفة حُكمه في تحريم ذلك على المؤمنين.
و كذلك مَنْ رضيت الزواج بزانٍ، فإما أن تكون زانية مثله، فيُقبلان في المجتمع الإيماني إن تابا و أصلحا، أو أن تكون طاهرة، و ترضى مع ذلك الزواج من زانٍ فتشرك بالله ? بِردِّ حُكمه.
و الله ? يقول في كتابه الكريم:
{ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا(1/244)
مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }
(المائدة:44)
{ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }
(المائدة:45)
{ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْأِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }
(المائدة:47)
و ما أحلّ الله ? للمؤمنين أن يَنكحوا إلا المحصنات من المؤمنات، و حرم عليهم ما دون ذلك، فيما تدلّ عليه هذه الآية الكريمة من سورة النساء:
{ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ }
(النساء:25)
فإن لم يستطع مؤمنٌ أن ينكح المحصنات من المؤمنات، جعل الله ? له رخصةً في نكاح المحصنات مما ملكت الأَيْمان.(1/245)
و في الآية الكريمة التالية، من أواخر ما تنزَّل من القرآن على رسول الله ? رخَّص الله ? -جلّت حكمته- للمؤمنين بالزواج من الكتابيات، متسامحاً معهم في شرط التكاقؤ في الدين، و لكنه ? لم يجعلْ لهم رخصة في شرط التكافؤ في العفة أبداً، فرخص لهم بالزواج من الكتابيات المحصنات العفيفات فقط، و ذَكَّرهم ? بشرط الإحصان فيمن يتزوجون من المسلمات مرة أخرى.
{ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
(المائدة:5)
لقد أحلَّ الله ? لنا الطيبات، و حرَّم علينا الخبائث، و بيّن لنا سبحانه الطيبات بما لا يدع مجالاً للاختلاف أو الخلاف بين المؤمنين، أفبعد أن أمَرَ الله ? المؤمنين بالزواج من المحصنات، سواءً أكنَّ من المؤمنات أم من أهل الكتاب، أبعد هذا يجرؤ عالم أو جاهل أن يأمُرَ بالزواج من غير المحصنات؟!
أيُعقل ألا يلتفت من يأمرُ بخلاف ما أمر به الله ? إلى تذييل الآية الكريمة؛ ليرى عاقبة عمله؟ ألم يقرأ تذييل الآية الكريمة بقوله ? ?و من يكفر بالإيمان فقد حبط عمله و هو في الآخرة من الخاسرين?؟!، و هل من مصير أذل و أحقر و أخسر من هذا؟.
و اعلمْ أنَّ المرأة لا يمكن لها أن تكون محصنة و زانية في آن معاً، حتى و إن هي تابتْ، فإما أن تكون قد أحصنت فرجها ليقال: أنها محصنة، إلى أنْ ترتكب الفاحشة فعندئذٍ لا يمكن أن تُسمى محصنة أبداً، وإنْ تابتْ و أصلحتْ و مهما فعلتْ.(1/246)
و كذلك الرجل أيضاً إذا لا يُعقل أن يكون رجلاً محصناً و زانياً في آنٍ معاً، كما لا يجتمع الضدان أبداً.
و إن ما تحدثنا عنه من شرط التكافؤ في العفة و الإحصان ليس اجتهاداً، بل هو من صريح كتاب الله الكريم كما رأينا، و من صحيح سُنَّة نبيه ?، فهاهو رسول الله ? يأمُرُ صحابياً بفراق زوجته، بعد أن علم أنها قد زنت قبل زواجه بها، ثم أمَرَ بإقامة الحد عليها:
عن سعيد بن المسيب أن بصرة الغفاري تزوج امرأة بكراً في سترها، فدخل بها فوجدها حبلى، ففرق رسول الله ? بينهما وقال: "إذا وضعت فأقيموا عليها الحد" وأعطاها الصداق بما استحل من فرجها.
رواه أبو داود
إنَّ أعظمَ مَنْ أقامَ منهج الله في أرضه، قد قام بالتفريق بين الزانية و المحصن (الطاهر)، بينما يرى الكاتب: "أن الحكم في مثل هذه الحال لا يختلف عن الحالات العامة، و الحكم هو أن له أن يستبقيها أو أن يطلقها". بل قام الكاتب بما هو أكبر من هذا، فجمع بين شاب محصنٍ (طاهر) و فتاة زانية اعترفت، بزناها فعقد بينهما، كما ذَكَرَ في كتاب "المرأة" (صفحة 168).
و من سنة رسول الله أن فرَّق ? بين المتلاعنَين، فمَنْ قذف زوجته بالزنى و لاعنها، يُفَرَّقُ بينه و بينها، ثم لا يجتمعان أبداً، و إنْ لم تكن قد زنت فعلاً. جاء في صحيح مسلم:(1/247)
عن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عمر فقلت: يا أبا عبد الرحمن المتلاعنان يفرق بينهما؟ قال: سبحان الله نعم، إن أول من سأل عن ذلك فلان قال: يا رسول الله أرأيت لو أن أحدنا رأى امرأته على فاحشة كيف يصنع، إن سكت سكت على أمر عظيم، وإن تكلم فمثل ذلك، فسكت رسول الله ? ولم يجبه، فقام لحاجته، فلما كان بعد ذلك أتى رسول الله ? فقال: إن الذي سألتك عنه ابتليت به، قال: فأنزل الله تعالى هذه الآيات في سورة النور{ والذين يرمون أزواجهم} حتى ختم الآيات، فدعا الرجل فتلاهن عليه، وذكره بالله تعالى، وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقال: والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها، ثم دعا المرأة فوعظها، وذكرها، وأخبرها بأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقالت: والذي بعثك بالحق إنه لكاذب، فدعا الرجل فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم دعا بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ثم فرق بينهما.
رواه مسلم
فالمرأة بعد الملاعنة لا تحلُّ لزوجها، و لا يحلُّ هو لها، لأن أحدهما خبيث و الآخر طيب، فإما أن يكون الزوج قد افترى عليها (خبيث) و هي بريئة مما رماها به (طيبة)، أو أن يكون هو صادقاً (طيباً) فيما رماها به و تكون هي (خبيثة)، فيفرق بينهما الشرع و لا يجتمعان أبداً. و هذا هو تطبيقُ ما أمر الله ? به من زواج الخبيث بالطيبة، و الطيب بالخبيثة.
عن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عمر عن حديث المتلاعنين فقال: قال النبي ? للمتلاعنين: " حسابكما على الله أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليه" قال: مالي؟ قال: "لا مال لك، إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فذاك أبعد لك".
رواه البخاري(1/248)
عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجلاً رمى امرأته، فانتفى من ولدها، في زمان رسول الله ?، فأمر بهما رسول الله ? فتلاعنا كما قال الله، ثم قضى بالولد للمرأة، وفرّق بين المتلاعنين.
رواه البخاري
لقد أكد الإسلامُ على شرط التكافؤ في الزواج، فحرّم على الزانية التائبة أن تنكح إلا زانياً تائباً مثلها، كما حرّم على الزاني التائب أن ينكح إلا زانية تائبة مثله، كما جاء في الآية الثالثة من سورة النور.
و جعل الحق ? تحقيق شرط التكافؤ في صفة العفة أمراً تكليفياً منه لعباده المؤمنين فقال في سورة النور:
{ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }
(النور:26)
هل يرى المسلم في هذه الآيات غموضاً؟ أليس هذا هو حكم الله ?؟
هذه هي أوامر الله ? للمسلمين للحفاظ على مجتمعهم الطاهر، و هي عرضةٌ للطاعة أو العصيان، و بطاعتها نقيم مجتمعاً إيمانياً وَفْق مراد الرحمن، و بالعصيان نقيم مجتمعاً شيطانياً كما يحب الشيطان، و أعوان الشيطان.
و سنة رسول الله ? كانت اتباعاً و بياناً لهذه الأوامر الواضحة الجلية، فحث المسلمين على أن يتخيروا لنطفهم، بأن يحسنوا اختيار أمهات أبنائهم:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ?: "لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله" .
رواه أبو داود و أحمد و الحاكم
عن عائشة قالت: قال رسول الله ? : "تخيروا لنطفكم وانكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم".
رواه ابن ماجه
كما حثَّ ? على الزواج من الأبكار، فماذا يقول الكاتب لمنْ يتزوج بالثيب من الزنى و العياذ بالله؟!
عن عبد الرحمن بن سالم بن عتبة بن عويم بن ساعدة الأنصاري عن أبيه عن جده قال: قال: رسول الله ? "عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواهاً وأنتق أرحاماً وأرضى باليسير".
رواه ابن ماجه(1/249)
و منعاً لهلاك المجتمع باختلاط الأنساب، و ضياع الحقوق و المسؤوليات، ألحقَ رسول الله ? ولد الزنى بأمه يرثها و ترثه و جعلها عصبة له. و أخبر ? أن من أعظم الذنب أن تُدخِل امرأة على زوجها ولداً ليس له، يرث مع أبنائه، و يطلع على محارمه، و بشرها بعذاب عظيم، فقال ?:
"أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم، فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جنته؛ وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه، احتجب الله تعالى منه، وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين يوم القيامة.
أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم
الغش
تابت الفتاة، و تحجَّبت، و رجعت إلى ربها، عسى الله الغفور الرحيم أن يتقبل توبتها. و لكن هل تكون توبتها صادقة، إن هي قامت بما أفتاها به الكاتب؟ هل التوبة الصادقة من خطيئة تكون بارتكاب خطيئة أعظم عقاباً من الأولى؟!
يرى الكاتب أن الإسلام دين سترٍ، يدعو صاحب الخطيئة إلى أن يستر نفسه عن جميع البشر، لذا أمَرَ الفتاة أن تستر أمرها أول ما تستره عمَّن يريد الزواج بها، بينما لا يرى حرجاً في أن تفضح الفتاة نفسها للطبيب الراتق و مساعديه، فما بال هؤلاء أليسوا من البشر؟!.
و هل يكون سِتراً أن تفضح الفتاة نفسها عند الطبيب، ثم تكشف عورتها أمامه و أمام مساعديه و أدواته؟ أم يكون الستر بأن تعترفَ لمن يتقدم لخطبتها؟ فإن كان هو كفئاً لها فَبِها و نِعْمَتْ، و إلا فلا داعي لكشف العورات و العبث بها، و لا خيرَ للمرأة في غشِّ مَنْ لو كان رسول الله ? آمراً أحداً أن يسجد لأحد، لأمرها بالسجود له.
لقد أطلق الكاتب على هذا الفعل ستراً، مع أن رسول الله ? سماه منذ أربعة عشر قرناً "غشاً"، فلَعَنَ التي تقوم بغش زوجها، و لَعَنَ كل من يساعدها على هذا الغش:(1/250)
عن أسماء رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أن امرأة سألت النبي ? فقالت: يا رَسُول اللَّهِ إن ابنتي أصابتها الحصبة فتمزق شعرها، وإني زوجتها أفأصلُ فيه؟ فقال: "لعن الواصلة والموصولة".
متفق عليه
و ورد عنه ?:
عن خوات بن صالح، عن عمته أم عمرو بنت خوات أن امرأة قالت لعائشة: إن ابنتي أصابها مرض فسقط شعرها
فهو موفر لا أستطيع أن أمشطه، وهي عروس، أفأصل في شعرها؟ قالت عائشة: لعن رسول الله ? الواصلة والمستوصلة.
رواه أحمد
و جاء في الصحيح:
عن سعيد بن المسيب قال: قدم معاوية المدينة آخر قدمة قدمها، فخطبنا، فأخرج كبة من شعر قال: ما كنت أرى أحداً يفعل هذا غير اليهود، إن النبي ? سماه الزور، يعني: الواصلة في الشعر.
رواه البخاري
لقد لعن الرسول ? الواصلة لشعر ابنتها، تريد أن تخفي بذلك عيباً عن زوجها، كما لعن البنت التي ترضى بهذا الخداع.
و ليتَ العيب الذي أرادت المرأة أن تغيره في ابنتها، و الذي لُعن مغيره، كان من جرَّاء سوء سلوك الفتاة، أو مخالفتها لأمر ربها، بل هو قدر من الله ? أصابها من غير تفريط منها، فليس بوسع أحد دفع قضاء الله ? في ابتلاء المرض.
و رغم كل هذا يرى كاتبٌ مسلمٌ أنه لا مانع من أن تقوم الفتاة بغش زوجها برتق بكارتها إذا كانت صادقةَ التوبة!!.
هل يعتقد مسلمٌ أن من شرائط التوبة الصادقة أن تغش المرأة زوجها؟
هل التوبة الصادقة من ذنب ما تكون بارتكاب ذنب أكبر يوقع في لعنة الله و رسوله؟
أليس الرسول ? هو القائل؟
"ليس منا من غش".
رواه الإمام أحمد و أبو داود و ابن ماجه و الحاكم
لقد تبرأ الصادق الأمين من الغاش، و أخرجه من بين أتباعه؛ لأن الغش محرم بكل أنواعه حتى لغير المسلمين، فكيف بمن تغش زوجها الذي كانت وصية رسول الله لها به عظيمة!
لو كنت آمراً بشراً أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها
رواه الإمام أحمد و الترمذي(1/251)
بأي ضمير تُمضي هذه الفتاة المسلمة حياتها مع زوجها؟ و هي تعلم كل ساعة و كل دقيقة أنها خادعة له في أسمى ما يكبره المسلم في زوجته، ألا و هو عِفَّتها.
بأي ضمير تُمضي هذه الفتاة عمرها؟ وهي تعلم في كل نظرة إلى زوجها أو إلى طفلها أن أسرتها بُنيت على الغش، الغش الذي قامت هي به باتباع فتوى الكاتب.
بأي ضمير تعيش هذه الفتاة إسلامها؟ و هي ملعونة من رب الإسلام، و رسول الإسلام، إنْ كانت قد أدخلت على قومٍ طفلاً ليس منهم.
ثم كيف يسمح عالمٌ مسلمٌ بارتكاب الغش عمداً، و يفتي به بعد أن ثبت عن رسول الإسلام ? لعن من يقوم به، أو يرضى به، أو يساعد عليه؟
هل تخيَّلتم معي حال المجتمع الإيماني بعد هذه الفتوى؟
و جاء أيضاً في نصِّ فتوى الكاتب:
"ولا مانع من أن يمارس الطبيب ذلك إن أيقن أنها تابت توبة صادقة".
بهذه الفتوى ستعمُّ البلوى، إذ ستنال اللعنة حتى الأطباء المسلمين الذين رخصت لهم الفتوى ارتكاب الغش.
هل يرضى طبيب مسلم أن يرتكب الغش، أو يُعين عليه؟
هل يرضى أن يُلعن على لسان رسوله ?؟
هل يقبل طبيب مسلم أن يتبرأ منه رسول الله ?؟
هل يقبل طبيب مسلم أن يضحي بدينه من أجل هدف حقير؟ و هو مساعدة فتاة مسلمة على غش زوجها المسلم!
و هل يقبل طبيب أن ينزل بمهنته إلى هذا الدرك؟
ثم إن الفتاة قد تعزم على التوبة الصادقة، و عدم الرجوع إلى الخطأ، و لكن ليقلْ لنا الكاتب كيف يمكن للطبيب أن يتأكد من صدق توبة الفتاة أو كذبها؟ حتى يقوم بعمله وَفْق الفتوى!
و هلا دلنا الكاتب -أو دلَّ الأطباء- على طريقة شرعية للتمييز بين التوبة الصادقة و التوبة الكاذبة؟ أم هل سمع الكاتب بطريقة طبية لمعرفة ذلك؟!
و هل من دليل على عدم صدق التوبة من الذنب أكبر من ارتكاب صاحبه ذنباً أعظم و أسوأ عاقبة من الذنب الأول؟
قال تعالى:(1/252)
{ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
(الأنعام:54)
إن الله ? يتوبُ على الذين يصلحون بعد توبتهم، و ليس على الذين يفسدون بعد توبتهم.
و أُورِدُ للقراء هذا السؤال الذي طُرح على الكاتب على صفحات الإنترنت، و هو سؤال يتعلق بالموضوع الذي نحن بصدده:
"أعمل في محل لبيع العطورات وأدوات التجميل في مدينة مونتريال، وأقوم فقط ببيع زجاجات العطر وما شابهها للزبائن، ولكن صاحب المتجر يقوم بفتح زجاجات العطر المختومة، وأخذ كمية ضئيلة من كل زجاجة، وتجميع هذه الكميات لصنع زجاجة إضافية وبيعها، وقد حصل صاحب المتجر على جهاز متخصص في فتح الزجاجات المختومة، ومن ثم إعادة ختمها بعد أن يأخذ منها. هل عملي عند هذا المالك حرام أم لا بأس فيه ؟ علماً أنني أقوم فقط بالبيع، ولا أشارك في عملية الغش ، وعلماً أنني لا آلو جهداً في نصح صاحب المتجر، وأنني أذكره أن ما يقوم به مخالف للصواب والقانون . "
و يجيب الكاتب:
"أما الحيطة والورع فيقتضيان الابتعاد عن صاحب هذا المحل وعمله ، وأما الفتوى
فكثير من الفقهاء يقرر أن العمل الذي يمارسه غيرك في المحل الذي تشتغل فيه لاتتحمل أنت مسؤوليته . "
ففي أمر العطور يرى الكاتب أن من الورع الابتعاد عمن يقوم بالغش، أما في أمر الأعراض و الطهر فيرى أن الغش أمر محمودٌ و لا بأس فيه، سواء من قام به، أو أعان عليه، أو أفتى به!!
خطر الترميم
و يجيبُ الكاتب عن سؤال أخر في الكتاب ذاته "مع الناس" هو:
"أليس الإفتاء برتق غشاء البكارة واحداً من الأسباب التي تهون الوقوع في الخطأ؟
بقوله:(1/253)
"أرأيت لو أن فتاة مستقيمة خطبت إلى شاب مثلها، و كانت قد انزلقت يوماً ما إلى ارتكاب الفاحشة، ثم تابت إلى الله توبة نصوحاً، أفيجب عليها أن تكشف سترها لهذا الشاب، و تنبئه عن المعصية التي انزلقت إليها ؟ .. الجواب أنه كما لا يجب على الشاب أن يتحدث عن انحرافاته الماضية التي تاب عنها، فكذلك الفتاة لا يجب عليها ذلك؛ لأن معصية الرجل و المرأة في ميزان الله تعالى سواء.
فإذا كان هذا واضحاً فإن ترميم الفتاة التائبة بصدق بكارتها ستراً لنفسها، داخل في هذا الحكم ذاته، هذا بقطع النظر عن أن هذا الترميم فيه عون كبير على استقامتها على سنن الفضيلة و الرشد، في حين أن منعها من ذلك و إلجاءها إلى طريق الفضيحة؛ من أخطر أسباب الانجراف إلى الرذيلة، وارتكاب الموبقات."
لست أدري كيف يكون ترميم البكارة عوناً للمرأة على استقامتها؟
هل تؤثِّر بضع سنتمترات من الخيط الطبي في كيان الإنسان؟
هل يمكن للخيوط الطبية أن تنجِّي من الانجراف إلى الرذيلة وارتكاب الموبقات؟
بل كيف يمكن للخيوط أن تعين الفتيات على الاستقامة على سنن الفضيلة و الرشد في حين لم يُجْدِ معهنَّ لا القرآن، و لا السلطان، و لا خوف الفضيحة و العار على النفس و الأهل؟
لذلك نقول للكاتب: إن في فتواك هذه عوناً كبيراً على عدم استقامة الفتاة، و على استمرارها في طريق الفاحشة، فالعفاف بعد الدَّنَس أصبح سهل المنال، و تستطيع الفتاة أن تجري عملية الترميم و لو قبل حفل زفافها ببضع ساعات.
مِمَّ الخوف إذاً؟ و ما هو الرادع؟ فالإسلام دين الستر، و سيستر الزناة، و لن يقام عليهم الحد، و سيقوم الأطباء المسلمون بالرتق بعد أن أحلَّ بعض العلماء الغش.(1/254)
أجلْ إن في فتوى الكاتب أكبر تشجيع على الفاحشة، فهي ليست تشجيعاً على استمرار الزانية في زناها فحسب، بل هي تشجيع لغيرها على أنْ تُقْدِمَ على هذه التجربة المقيتة دون خوف من فضيحة أو جريرة، بعد أن ترددت في اقترافها مراراً و فيها تهوينٌ لأمرٍ عظيم، حيث فتح الكاتب أمامهن طريقاً معبَّدة للعودة إلى مظهر العفة بعد كل دنس، و بهذا يُحطم الكاتب آخر الحواجز التي تقف بين الفتيات و انزلاقهن في هاوية الفاحشة.
بينما نزل شرعُ الله ? للمسلمين بأمره و نهيه، لكي يضمن لنا مجتمعاً إيمانياً طاهراً نقياً، يعيش أبناؤه حياة طاهرة نقية، و واضعاً الحواجز الغليظة بين عباده و المقدمات الموصلة إلى الفواحش:
أولاً:
أمر الله ? النساء أن يقررن في بيوتهن، و لا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى، و لا يبدين زينتهن إلا لمحارمهن.
ثانياً:
أمر النساءَ إنْ خرجنَ من بيوتهن أن يغضضن من أبصارهن، فلا ينظرن إلى الرجال، و أن يحفظن فروجهن، و حرم عليهن الاختلاط، و الخوض في أمور الرجال.
كما أمر الرجال أن يغضوا من أبصارهم، و يحفظوا فروجهم.
ثالثاً:
فطر الله ? النساء على الحياء، و جعل حياءهن معيناً لهن على البعد عن مواطن الفساد و لم يجعل الله ? فتنة المرأة بالنظر إلى الرجل بشِدَّة فتنة الرجل بالنظر إلى المرأة.
رابعاً:
إن الله الحكيم العليم وضع كل هذه الحواجز ضماناً لطهر المجتمع، ثم بعد هذا جعل علامة في جسد الأنثى، حتى إذا هي حطمت كل الحواجز السابقة، و هتكتها الواحد بعد الآخر، بقي في بالها أن هذه العلامة هي علامة طهرها في المجتمع الإيماني، و لا بد أن يأتي يوم يُكتشف فيه أمرها إن هي حطمت هذا الحاجز و أقدمت على الفاحشة.
فالأنثى تفكر ألف مرة قبل أن تسْلم نفسها لرجل، فقد تكون قد خرجت معه، أو التقت به سراً أو .. أو.. أما الفاحشة و الفضيحة فلا.(1/255)
فهذه العلامة تضمن لها حياة طاهرة، و زواجاً طاهراً، و أسرة طاهرة إن هي انزلقت إلى ما قبل الحاجز الأخير؛ الذي لا رجعة بعده أبداً. فقبل الحاجز الأخير تستطيع أن تستدرك المرأة بالتوبة و الاستغفار دون أن تدنِّس المجتمع باختلاط الأنساب و أولاد الحرام.
أمَّا و قد أصبحت هذه العلامة شيئاً يمكن استدراكه في كل حين، و لا يكلف طائلاً (بل ربما وُجِدَ كثيرون ممن يتطوعون لدفع تكاليف رتق ما هتكوا)، فقد انهار آخر الحواجز بين العفة والدنس، و تساوت عندئذ المؤمنة الطاهرة و الزانية الدنسة. و هذا هو بدء هلاك المجتمع.
عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه عن النبي ? قال: "لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه" قال: وقال: "ما ظهر في قوم الربا والزنى إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله عز وجل".
رواه أحمد
لقد قضى كتاب "المرأة" قضاءً مبرماً على الحواجز الثلاثة الأولى؛ إذ دعا إلى الاختلاط بين الرجال و النساء في مختلف مجالات الحياة، و جاءت فتوى رتق البكارة في كتاب "مع الناس" لتُحطِّم آخر حاجز يمكن أن يمنع المرأة من السقوط فيسقط معها المجتمع بأكمله.
فبعد هذه الفتوى إذا ما اخترقت المرأةُ الحواجز الثلاثة الأولى، ثم وقفت عند الحاجز الأخير، رأتْ أنه لا بأس بارتكاب الفاحشة، فقد أصبح الرجوعُ إلى مظهر الطهر يسيراً، و لا يكلف إلا ساعة عند طبيب مسلم، و مبلغاً من المال، و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أُناشِدُ المؤمنين جميعاً علماء و بسطاء، رجالاً و نساءً، أن يقرؤوا سورة النور، و أن يتفكروا في آياتها و يتدبروا معانيها. سورة النور التي جعلها الله ? عنواناً لطهر المجتمع، و شرعة حكيمة لحياة طاهرة في النور في مجتمع إيماني طاهر، بعيداً عن مهاوي الظلمات:(1/256)
{ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
(النور:19-21)
الضحيّة
جاء في جواب الكاتب قوله:
"الجواب أنه كما لا يجب على الشاب أن يتحدث عن انحرافاته الماضية التي تاب عنها، فكذلك الفتاة لا يجب عليها؛ ذلك لأن معصية الرجل و المرأة في ميزان الله تعالى سواء."
لو تدبرنا كتاب الله ?، لوجدنا أن خطابه ? لعباده في كل كتابه يكون إما بصيغة المذكر، و تكون الإناث مشمولات في الذكور، أو بصيغة المؤنث في الأمور الخاصة بالنساء. أو يأتي الخطابُ للذكور و الإناث معاً، و عندها يجعل الحق ? ذِكْرَ الذكور سابقاً لذِكْرِ الإناث، فيذكر المؤمنين قبل المؤمنات، و المسلمين قبل المسلمات، و المشركين قبل المشركات، و المنافقين قبل المنافقات، و تجد هذا في المفرد و الجمع، و الأمر و النهي، و النفي و الإثبات، و في العقوبة و الثواب، و مصداق هذا من القرآن الكريم كثيرٌ، و منه:
{ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً }
(النساء:124)(1/257)
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}
(الحجرات:13)
{ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى }
(النجم:45)
{ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً }
(الأحزاب:35)
{ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً * وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً }
(الفتح:5-6)
{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
(المائدة:38)
و لم يُقدِّم الله ? ذِكْرَ الإناث على الذكور في كتابه الكريم إلا في ثلاثة مواضع لا رابع لها:
الأول:
في هبة الله ? الأولاد لعباده.(1/258)
فقد كان الناس و لا يزالون يفضلون البنين على البنات، و يسود وجه الأب و الأم أيضاً إذا ما رُزقا بالأنثى، و لكن الله ? يريد أن يبين لعباده أن هبته البنات للزوجين هي أعظم من هبة البنين، لِمَا أودع سبحانه في الأنثى من صفات تجعلها أكثر براً بوالديها، و أكثر طاعة لهما في صغرها، و عطفاً و حناناً في كبرها، فقال تعالى في كتابه العزيز:
{ للَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ }
(الشورى:49)
الثاني:
في عقوبة الزنى، حيث قال ? مقدماً الزانية علىالزاني:
{ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }
(النور:2)
الثالث:
في سورة النور، في أمرٍ يتعلق أيضاً بالفاحشة، أو مقدماتها:
{ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }
(النور:26)
إن القرآن هو الكتاب الخاتم لرسالات السماء إلى الأرض، و المتعبَّد بتلاوته، و لكل حرف من هذا الكتاب ملائكة موكلون به، و لكل موضع حرف فيه مدلول و معنى فالله ? لم يُقدم السارق على السارقة في حد السرقة، و في كل موضع في القرآن الكريم، ثم قدَّم الزانية على الزاني في حد الزنى، إلا لحكمة بالغة، و يجب على المؤمن أن يتدبر آيات ربه، و ألا يمرَّ عليها بإعراض، لكي يتبيَّن طرفاً من حكمة ربه.(1/259)
فإن تقديم الأنثى على الذكر في عقوبة الزنى، يدل على أن معصية الرجل و المرأة في ميزان الله ? ليست سواء (كما ادعى الكاتب). فتقديمه الأنثى في ارتكاب الفاحشة دليل دامغ على دور الأنثى الكبير في وقوعها، إذا ما قُورن بدور الرجل؛ لأن الزنى هو ارتكاب الفاحشة برضا الطرفين، و لذلك لا يمكن أن تقع الفاحشة إلا في إحدى حالات ثلاث:
1 - عندما تكون المرأة غير راضية و الرجل راضٍ، فلا تقع الفاحشة إلا اعتداء و غصباً من الرجل للمرأة، و عندها يكون الرجل زانياً، بل أكثر من زان و يقام عليه ما هو أكبر من حد الزنى، و تكون المرأة هي الضحية، ولا يقع عليها حد، و لا يُعقل أن ينالها أحد بعقوبة بعدها.
2 - المرأة راضية و الرجل غير راض، و في هذه الحالة على الغالب لا تستطيع المرأة أن تكره أو تغصب الرجل بالقوة، و لكنها تستطيع أن تغلبه بإثارة الشهوة الكامنة فيه بطريقتها، و لا تحتاج في ذلك إلى كبير جهد. و هذا ما عبر عنه رسول الله ? بقوله:
"ما رأيت من ناقصات عقل أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن".
رواه البخاري
و تكون الجريمة زنى، و يكون الرجل هو الضحية لصعوبة امتناعه عن الوقوع في الفاحشة في هذه الحال.
و لعلم الله ? بخلقه، جعل للرجل الممتنع عن مثل هذا أجراً عظيماً، بأن جعله أحد السبعة الذين يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله، قال ?:
"سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله فاجتمعا على ذلك وافترقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال "إني أخاف الله رب العالمين"، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه".
رواه البخاري و مسلم
3 - المرأة راضية و الرجل راضٍ، و هذا أيضاً يكون زنى، و الرجل هو الضحية أيضاً كما سنرى.(1/260)
فالزنى لا يمكن أن يقع إلا برضا المرأة حتماً، فهي التي تملك أن تثير شهوة الرجل بجمالها و أنوثتها، و لا يملك هو ذلك. و لهذا لم يجعل الله ? للمرأة مكاناً في السبعة الذين في ظل العرش إن هي امتنعت عن دعوة رجل ذي جاه و جمال، لسهولة امتناعها منه.
و إذا استثنينا حالة الغصب، فالرجل هو الضحية دوماً؛ إذ أن الزنى لا يتمّ إلا إذا حطمت المرأة حُجُبَ الطهر التي فرضها الله ? عليها، واحداً تلو الآخر.
فإن هي خرجت من بيتها هتكت حجاباً، و إن تزينت هتكت حجاباً، وإن تخلت عن حيائها هتكت حجاباً غليظاً، و إن هي اختلطت بالرجال هتكت حجاباً آخر، و ليس للرجل في هذا كله ذنب أو يد.
و من ثم إن هي صاحبت رجلاً، أو صادقته، أو زاملته في عمل أو مدرسة أو حي هتكت حجاباً عظيماً، و إن هي رضيت أن يخلو بها هتكت حجاباً أغلظ من الأول. و ليس إثم الرجل في هذا بأكبر من إثم المرأة؛ إذ هتكت ما هتكت من حجب العفة و الطهر، واحداً بعد الأخر، و قدمت نفسها لقمة سائغة. و لهذا السبب قلنا: إن الرجل هو الضحية دوماً، و المرأة هي الصياد، و لهذا قدم الله ? الزانية على الزاني في الآية الكريمة.
و من حكمة الخالق أن جعل الوِزْرَ الدنيوي يقع على المرأة، و يكاد لا ينال الضحية (الرجل) منه شيء، و من حكمته ? أيضاً أن جعل العقوبة التي تنال الزاني ليست كالعقوبة التي تقع على الزانية، و ذلك إذا نظرنا إلى قضية الفاعل و القابل و لنضرب للبيان مثالاً، و لله المثل الأعلى:
إنّ ضَرْبَ رجلٍ رجلاً مثله ليس كضربه امرأة، لأن الرجل يحتاج لجميع قوته حتى يحدث ضرراً برجل مثله، و لكنه لا يحتاج لكبير جهد لكي يُحدث نفس الضرر بالمرأة؛ لكونها أضعف منه جسدياً، و أكثر تأثراً منه.(1/261)
و الله ? جعل عقاب المرأة و الرجل في حد الزنى واحداً، و هو الرجم أو الجَلد و إنّ الجَلد يُحدث أثراً في المرأة أكبر بكثير مما يحدثه في الرجل، و كذلك الرجم بالحجارة. و من هذا الوجه فقط نقول: إن العقوبة لم تكن واحدة، و إن نصيب المرأة كان أكبر.
فعندما رُجم زانيان في عهد رسول الله ?، أخذ الرجل يقي المرأة من الحجارة بجسده، حيث رأى أنها لا تستطيع تحمُّل ما يمكن أن يتحمله هو:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله ?، فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله ?: "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم". فقالوا: نفضحهم ويجلدون، فقال عبد الله بن سلام: كذبتم، إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدق محمد، فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله ? فرجما، قال عبد الله: فرأيت الرجل يجنأ على المرأة يقيها الحجارة.
رواه البخاري
و من حكمة الخالق ? أيضاً أن جعل المغرم الدنيوي كله يقع على المرأة (اللهم إلا مغرم الأمراض الفتاكة فيتساوى فيه الذكر والأنثى)، فالمرأة وحدها التي تسقط، و لا يكاد ينال الرجل منه شيء. و لا ننسى ما تُدخله على أهلها من كرب و فضيحة بينما قد لا يدري أهل الزاني بالأمر، و يؤيد الكاتب هذا إذ يقول:
"و قد غدا معروفاً لكل ذي عقل أن الذين يهتفون بهذه الشعارات إنما يبتغون من ورائها أن ينالوا حظوة رخيصة من الفتاة أو المرأة، و من أيسر طريق .. تمتعهم بمغنم، و لا تكلفهم أي مغرم. و أن تعود المغارم كلها بعد ذلك عبئاً قتالاً و شقياً على كاهل المرأة ، لا بأس..(1/262)
ألا ..فلتعلمي، ليعلم أترابك جميعاً . أن هذه هي أحلام (الشباب المنحرفين) و أمثالهم في المرأة عندما يدعونها -و قد سال منهم اللعاب- إلى التحرر .. و الاختلاط .. غيرة، و إطراء، و إعجاب تخدع و تسكر بها قبل السقوط . ثم إعراض و ازدراء و هجران .. بعد أن تقع في وهدة السقوط."
إن كل ذي عقل يعلم أن المتضرر الأكبر من ارتكاب الفاحشة هي المرأة (و أهلها) دوماً، فهي التي تحمل نتيجة الجريمة، و هي التي تتجرَّع المرَّ في سبيل التخلص من عواقبها، و كم من فتاة فقدت حياتها في ذلك!!
كما أن المرأة هي التي تفقد علامة العفة التي لم يخلقها إنس و لا جان، بل كانت بتقدير الله العزيز الحكيم الذي خَلَق الخلْق، و أراد منهم أن يقيموا مجتمعهم على الطهر، و كرَّم المرأة إذ جعل القدر الأكبر من مهمة الحفاظ على طهر المجتمع بيدها.
و مع هذا ترى من المسلمات من تتخطَّى كل حواجز الطهر، و تُعرِض عن أوامر ربها، و تخوض فيما نهى عنه، ثم تهرع طالبةً من علماء المسلمين أن يجدوا لها حلاً بالطريقة التي تروق لها أو لهم، و لو بما يخالف شرع الله ?.
خاتمة
نقول للفتاة التائبة، و للطبيب المسلم، لا تفرطوا بدينكم في سبيل دنياكم، و استفتوا قلوبكم و إن أفتوكم و إن أفتوكم و إن أفتوكم، و لا تكونوا من الغاشين الملعونين الذين بَرِئت منهم ذمة الله و رسوله:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين }
(التوبة:119)
و لا تكونوا ممن قال فيهم الله ?:(1/263)
{ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً * وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً * هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً * وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً * وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً }
(النساء:105-112)
و أقول لهذه الفتاة، و لكل فتاة: إن فضيحتك التي تخافين، و فضائح البشر كل البشر في هذه الدنيا، لا تعدل فضيحةً من فضائح الآخرة. و ستَجِدين فتواكِ في كتاب الله العزيز، فإن تتقي الله يجعل لك مخرجاً، و لكن عليك أن تتقيه أولاً باتباع أوامره و الانتهاء عما نهى عنه، و ليس بالخروج من ذنب عظيم إلى ذنب أعظم، و هو الذي وعَدَ المتقين بأن يجعل لهم مخرجاً، و يرزقهم من حيث لا يحتسبون، و مَنْ أوفى بعهده من الله و من أصدق من الله قيلاً؟!(1/264)
{ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً }
(الطلاق:2-3)
و نبشِّر الخاطئين بأنَّ الذي يتقبل التوبة عن عباده هو الله ?، و ليس العباد، و لا العلماء، و لا المفتون، و ليس المؤمن بحاجة لوساطة بينه و بين ربه ?:
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }
(البقرة:186)
و أخيراً فإن فتوى الكاتب لا قيمة لها من الناحية العملية، إذ أن الشاب المسلم الذي تربى على الطهر الذي أمره به دينه، و يريد الزواج بالطاهرات المحصنات كما أمر الله ?، سيختارُ من أسرة صالحة التزمت نساؤها بشرع الله ? في كل ما أمر به نهى عنه.
أما مَنْ خشي الوقوع ضحية لغش الزانيات، و من يعينهم عليه، فيمكنه أن يصطحب خطيبته إلى أي عيادة طبية؛ ليتأكد مما إذا كان قد قام طبيب مسلم برتقٍ أو غيره فيضمن بذلك طهارة نسله و أسرته و عفة أم أولاده، في مجتمع يشجع بعض علمائه على الغشّ.
و الحمد لله رب العالمين.
المراجع
1- "خواطر في تفسير القرآن الكريم" للشيخ محمد متولي الشعراوي.
2- كتاب "المرأة" للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي.
3- كتاب "مع الناس" للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي.
4- كتاب "فقه السيرة" للشيخ محمد الغزالي.
5- موقع "WWW.BOUTI.COM" على الإنترنت.
6- موقع "ISLAMONLINE.COM" على الإنترنت.
7- برنامج "المحدث".(1/265)
8- برنامج "نفحات من السيرة النبوية الشريفة".
الرجاء الكتابة إلى عنوان البريد الالكتروني التالي لإسداء النصيحة:
emadsman@scs-net.org
1 - كتاب "الشفاعة" للكاتب الدكتور مصطفى محمود يقول فيه الكاتب للمسلمين جميعاً: لا تستخفكم الروايات و الأحاديث التي تدخلكم الجنة بغير حساب لمجرد أنكم تلفظتم بكلمة التوحيد.. فالتوحيد ليس مجرد كلمة، و إنما حقيقة تملأ القلب، و يترجمها العمل، ويؤكدها السعي في الأرض و في مصالح الناس، و تعبر عنها حركة الحياة بأسرها.
1 - قَرّ يَقِرّ قِرّ أواِقْرِرْ قَرَاراً وقُرُوراً :- بالمكان: أقام فيه؛ قررنا أخيراً في بلدنا وتوقَّفنا عن السفر.-: سكن واطمأن.- قَرّاً: برد؛ قرّ الماءُ/ قرّ قرارُهم على كذا، أي ثبت عليه. -القاموس المحيط-.
- 2بُرْج: الحصن، و التبرج هو: الخروج من الحصن.
4- اليَتِيمُ : الصغيرُ الفاقد الأبِ من الإنسان والأمّ من الحيوان -القاموس المحيط-.
1 - المخدع: البيت الصغير الذي يكون داخل البيت الكبير.
1 - قَنَتَ له: ذَلَّ. وقَنَتَتِ المرأَةُ لبَعْلها: أَقَرَّتْ ( أَي سكنت وانقادت.). والاقْتِناتُ: الانْقِيادُ. -لسان العرب-.
2 - تصحيح السيوطي: صحيح.
8 - و من عجائب القدر، أن ظهر مرضٌ جعل كل الناس رجالاً و نساءً و شيوخاً و أطفالاً يغطون وجوههم كرهاً لا طوعاً، دون أن يؤثر هذا على أدائهم لأعمالهم، أو سفرهم و تنقلهم، و هو مرض التهاب الرئة اللانمطي.
9 - تفلات: أي تاركات للطيب.
10 - الكدى: القبور.
11 - مأزورات: حاملات للإثم و الذنب.
1 - مختصر تفسير ابن كثير. الإصدار 1.22 اختصار الصابوني، المجلد الثالث.
2 - الفقه على المذاهب الأربعة. الإصدار 1.25 ،لعبد الرحمن الجزيري، الجزءُ الخَامِس.(1/266)
14 - ورد في صحيح البخاري: عن أم عطية قالت: أمرنا أن نخرج الحيض يوم العيدين، وذوات الخدور، فيشهدن جماعة المسلمين ودعوتهم، ويعتزل الحيض عن مصلاهن، قالت امرأة: يا رسول الله، إحدانا ليس لها جلباب؟ قال: "لتلبسها صاحبتها من جلبابها".
1 - صدرت الطبعة الأولى لكتاب "المرأة" للدكتور البوطي سنة (1996) م.
1 - أشربها: اعتادها بعد أن اختلطت، و امتزجت به.
2 - مرباداً: مائلا لونه إلى الغُبْرة.
3 - مجخياً: منكوساً.
19 - جاء في المعجم: (القَوْمُ): الجماعةُ من النَّاس تجمعهم جامعة يقومون لها. وخصِّصت بجماعة الرجال، كما ورد ذلك في قول زهير ابن أبي سُلْمى: …
وما أَدري و لست إخالُ أدري …… أقوم آل حصنٍ أم نِساءُ
20 - مَرْءٌ - : الْمَرْءُ عِنْدَ التَّعْرِيفِ، وامْرُؤٌ عِنْدَ التَّنْكِيرِ، بِكَسْرِ هَمْزَةِ الوَصْلِ: ج: رِجَالٌ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ. مُؤَنَّثُهُ امْرَأَةٌ عِنْدَ التَّنْكِيرِ، وَالْمَرْأَةُ عِنْدَ التَّعْرِيفِ ج: نِساءٌ وَنِسْوَةٌ (مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ) -القاموس المحيط-.
1 - نضّر: النضرة: هي النعمة و البهاء يكون على الوجه.
1 - أرسالاً: أَفواجاً وفِرَقاً متقطعة بعضهم يتلو بعضاً. جاء في الجديث: أَن الناس دخلوا عليه بعد موته أَرسالاً يُصَلُّون عليه أَي أَفواجاً وفِرَقاً متقطعة بعضهم يتلو بعضاً.
1 - من العجيب أن من يستشهد بعمل أم المؤمنين بالتجارة أنك تسمعه يقول: "و إن خديجة رضي الله عنها كانت تعمل بالتجارة.." ثم يسكت و لا يزيد على هذا كلمة واحدة، فلا يتكلم في زمن عملها و لا في كيفية مزاولتها لهذه التجارة، لأنه إن خاض في هذا سيصل إلى خلاف ما تهوى نفسه، و يدحض حجته بلسانه.
??
??
??
??
137
-13-(1/267)