وعلى طريق الدعوة ... نحتاج الى زاد
( كل مسافر فى طريق ما لابد له من التزود بكل ما يحتاجه على طريقه ، بما يهيىء له أسباب مواصلة السير وتحقيق الغاية التى يهدف إليها من سفره ، آخذا فى اعتباره ما سيتعرض له فى طريقه من أمور ربما تتسبب فى انقطاع الطريق به وعدم مواصلة السير ، أو قد تباعد بينه وبين غايته أو على الأقل قد تعوق مسيرته ) .
وطريق الدعوة هو كل شىء فى حياة الداعى الى الله وأولى الطرق بالاهتمام بما يلزم من زاد يحمى من الانحراف عن الطريق أو الانقطاع و التوقف ، أو التعويق و التعثر ، لما يترتب على ذلك من خسران مبين وتفويت لخير كبير وفوز عظيم .
هذا الزاد يتمثل أول ما يتمثل فى الإيمان القوى وتقوى الله وهى خير زاد ثم معينات أخرى ، كالصحبة الصالحة ، والأدلاَّء الذين يرشدون ويقدمون الخبرة و التجربة وغير ذلك مما يجدد الطاقة و العزيمة وتجنب الانحراف و الخطأ .
وللتدليل على لزوم هذا الزاد وأهميته نقول أن سيارة المسافر إذا نفد منها الوقود على الطريق ولم يتجدد صارت وكأنها قطعة من الحديد لا تعينه على التحرك خطوة واحدة ، كذلك من يسلك طريق الدعوة إذا تعرض زاده للنقصان أو النفاد دون تجديد وازدياد صار صاحبه وكأنه جثة هامدة مريضة لاتستطيع حراكاً وصدق الله العظيم :{ أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشى به فى الناس كمن مثله فى الظلمات ليس بخارج منها } وقوله تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } .
إن هذا الزاد من الإيمان وتقوى الله يفجر ينابيع الخير من داخل النفوس ويولد الطاقات ويشحذ الهمم والعزائم فتسهل الحركة وتخف جواذب الأرض وتتخطى العقبات وتتفادى المنعطفات وتتضح معالم الطريق ويكون الصدق والإخلاص و العزم و الثبات ويتحقق ما يشبه المعجزات من الإنجازات على الطريق .(1/1)
إننا على طريق الدعوة نحتاج أول ما نحتاج الى الشعور بمعية الله فى كل خطوة وكل حركة وسكنة ، بل فى كل لحظة فمن كان الله معه لم يفقد شيئاً ومن تخلى الله عنه فلن يجد إلا الضياع و الضلال ، وهذه المعية قد منَّ الله بها على المؤمنين أهل التقوى والإحسان حيث قال تعالى :{ واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك فى ضيق مما يمكرون إن الله مع الذين اتقوا و الذين هم محسنون } وفى آية أخرى :{ وأن الله مع المؤمنين } .
ما أحوجنا على طريق الدعوة لنور الله يضىء لنا الطريق فنسير على بصيرة دون انزلاق فى منعطفات تبعدنا أو عثرات تقعدنا ، وهذا يتحقق بإذن الله بزاد من التقوى والإيمان مصداقاً لقول الله تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم } ، وقال تعالى :{ إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } ، { وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } .وعلى طريق الدعوة ولكى نستطيع أن نؤثر ونغير الواقع الباطل لنقيم الحق يجب أن نستشعر معانى العزة و القوة وعلو المنزلة ونتخلص من كل معانى الضعف و الوهن و الذل ، ولا يتحقق ذلك إلا بزاد من الإيمان :{ ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } ، { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنينن ولكن المنافقين لا يعلمون } ، { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } .(1/2)
ما أحوجنا على طريق الدعوة الى تطويع أنفسنا على الجهاد و التضحية بكل ما نملك من نفس ومال وجهد وفكر ووقت دون تردد ، ولا يقدر على ذلك إلا من تزود بإيمان يجعله يؤثر ما عند الله ويسترخص كل غال فى سبيل الله :{ الذين آمنوا يقاتلون فى سبيل الله والذين كفروا يقاتلون فى سبيل الطاغوت } ، { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون فى يسبيل الله فيَقْتُلُون ويُقْتَلُون } .
نتعرض على طريق الدعوة الى الإيذاء - والابتلاء - فتلك سنة الله فى الدعوات - ولايعين على تحمل ذلك و الصبر عليه إلا زاد من الإيمان و التقوى :{ لتبلون فى أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور } وكان هذا منطق رسل الله أمام إيذاء الكفار :{ ومالنا ألا نتوكل علىالله وقد هدانا سبلنا ولنصبرنّ على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون } وكان منطق سحرة فرعون بعد إيمانهم وتهديد فرعون لهم :{ قالوا لن نؤثرك عل ما جاءنا من البينات و الذى فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضى هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى } .
ما أحوجنا على طريق الدعوة الى تثبيت الله لنا فلا تردد ولا شك ولا بعد ولا تخلٍّ عن العمل ،والواجبات مهما ثقلت أو كثرت ، والله سبحانه يمنُّ بذلك على الذين آمنوا :{ يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت فى الحياة الدنيا وفى الآخرة } ، :{ إذ يوحى ربك الى الملائكة أنى معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقى فى قلوب الذين كفروا الرعب } فاللهم ثبت أقدامنا على طريقك .(1/3)
يتعرض الدعاة الى الله على طريق الدعوة الى التخويف و التهديد و الوعيد من أعداء الله مما يدعو البعض الى الخوف و البعد و القعود ولا ينجو من ذلك إلا المتسلح بسلاح الإيمان المتزود بزاد التقوى :{ يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لايضع أجر المؤمنين الذين استجابوا لله و الرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم ، الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } .
ما أحوجنا ونحن على طريق الدعوة الى تدعيم رابطة الأخوة و الحب فى الله ليتم التعاون و التفاهم فى مهام الدعوة فى يسر والتقاء من قريب بسبب هذا الحب وهذه الأخوة ، ولا يتحقق ذلك بصورة صادقة دائمة إلا بين المؤمنين :{ المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض } ، { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون } ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يشرط تمام الإيمان بتحقيق هذا الحب :( لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ).
يتعرض الداعى الى الله وهو على طريق الدعوة الى فترات من الفتور و الكسل يُخشى لو استمرت أن تؤدى الى الاسترخاء و القعود ، ولكن المؤمنين بالتواصى بالحق و التواصى بالصبر كما أشار القرآن يمكنهم أن يتفادوا ذلك وبالذكرى التى تنفع المؤمنين و التناصح الواجب بين المؤمنين بأن يذكر أخاه إذا نسى ويعينه إذا ذكر وأن يبصره بعيوبه ويعينه على التخلص منها .(1/4)
وما أكثر ما يتعرض الداعون الى الله الى أحداث ومواقف قد تجعلهم فى ضيق أو حرج أو حيرة ويحتاجون الى تحديد الموقف الذى يمليه عليهم إسلامهم إزاء المواقف أو الأحداث و التقييم السليم لها من خلال النظرة الإسلامية و الإقدام على قولة الحق ولو كان من ورائها العنت والإيذاء ولا يفيد ويعين فى كل ذلك إلا زاد من الإيمان وتقوى الله :{ ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه } :{ ومن يؤمن بالله يهد قلبه } ، :{ ومتى يتق الله يجعل له من أمره يسراً } :{ ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا رشداً } :{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً } وفى الحديث :( من أفضل الجهاد عند الله كلمة حق عند سلطان جائر ) .
وعلى طريق الدعوة يتحتم على كل فرد أن يتحرى شرع الله فى كل قول وعمل ولا يخالف أمر الله ولا أمر رسوله فى كل أحواله ، وأن يحرص على وحدة الصف وعدم الخروج عليه ، ولا يعين على ذلك إلا إيمان صادق يحمى صاحبه من التقصير أو المخالفة وعدم الالتزام :{ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } ، :{ واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } ، :{ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه ، إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله } .
وعلى طريق الدعوة نحتاج الى العلم النافع اللازم لمن يدعو ال الله على بصيرة ولا تكفى القراءة وكثرتها فى ذلك ولكن لابد من تقوى الله وإخلاص النية ليفيض الله من لدنه علماً ونوراً وتوفيقاً ، وصدق الله العظيم :{ واتقوا الله ويعلمكم الله }، { وقل رب زدنى علماً } .(1/5)
ونحن على طريق الدعوة نشعر بالحاجة الملحة لتأييد الله ونصره لنا خاصة حين نتعرض الى الصور المختلفة من كيد أعداء الله وحربهم :{ وزلزلوا حتى يقول الرسول و الذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب } ، ونصر الله و التمكين لدينه لا يتحقق إلا للمؤمنين المجاهدين ، فالزاد من الإيمان القوى سبب أساسى وشرط لازم لتحقيق نصر الله و التمكين :{ وكان حقاً علينا نصر المؤمنين } :{ إنا لننصر رسلنا و الذين آمنوا فى الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } :{ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدوننى لايشركون بى شيئاً } .
وأخيراً يلزم أن نظل أوفياء بالعهد غير ناكثين ولا مبدلين ولا مغيرين حتى نلقى الله على طريق الدعوة ونحن على ذلك ، والإيمان وتقوى الله خير زاد يعيننا على ذلك :{ بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين } ، :{ من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً } .
وهكذا رأينا مدى حاجتنا الى الزاد على الطريق ، وكيف أننا لانستطيع أن نخطو خطوة أو نحقق خيراً وننجز عملاً بغير هذا الزاد من الإيمان و التقوى ، فلنتزود به ولنجدده دائماً على الطريق ولا ندعه ينقص أو يتعرض للنفاد ، بل نعمل على أن يزداد ويزداد ، وحول التعرف على مصادر الزاد وكيف نعمل على زيادته وتجديده ستكون هذه الموضوعات بإذن الله ونسأل الله العون و التوفيق .
فلنتزود ...... من القرآن(1/6)
أرانى أشعر بالعجز عند الكتابة حول موضوع الزاد على الطريق وخاصة حول كيفية التزود وكيف ننهل من زاد الإيمان و التقوى و الهداية و النور ، فالأمر ليس أمر خبرة وتجربة ومعرفة لكنَّه بالدرجة الأولى يرجع الى تفضل المعطى الوهاب سبحانه وتعالى { يختص برحمته من يشاء } وهو الذى يمنُّ علينا بالهداية والإيمان ويفيض بأنواره ورحمته بلا حدود فلا حرج على فضل الله .
{ يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علىّ إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين } ،
{ ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم } .
الله مصدر كل خير :
فالله سبحانه مصدر كل خير ولكنه تفضلاً منه ورحمة بنا أرشدنا الى الوسائل والأسباب التى نأخذ بها كى نستجلب هذا الزاد منه سبحانه ، ولو دققنا لوجدنا أن الأمر بالدرجة الأولى يرجع الى حال العبد الذى يقف بباب ربه يسأله ليعطيه ، فيطلع منه ربه على خضوعه وخشوعه وذله وافتقاره إليه وخوفه منه وخشيته له ورجائه منه وطمعه فى رحمته ، هذا هو الأصل ثم تأتى بعد ذلك الوسائل والأسباب ، وبقدر صدق العبد فى هذه الأحوال يكون العطاء و الفضل من الله الوهاب .
من هنا أجدنى أشعر بالإشفاق على نفسى وقد يصل الإشفاق الى الخوف عندما أجدنى أتعرض لإرشاد غيرى فى هذا الأمر وقد لا أكون أهلاً لذلك .ولكن أمام إحساسى بالحاجة الماسة و الضرورة الملحة لهذا الزاد بالنسبة لكل من يسلك طريق الدعوة فإنى أستعين بالله وأكتب لمحات للاسترشاد بها .
ولما كان هذا الزاد شأن كل زاد قابل للزيادة و النقصان ، بل قد يتعرض للنفاد ، لزم أن يحرص كل منا على تجديده وزيادته و المحافظة عليه من النقصان و النفاد ، وكما سنرى نجد أن الله قد يسر لنا الأسباب وفى كل الأوقانت دون عوائق .
القرآن :(1/7)
ومن أهم وأيسر وأغزر الوسائل وأكثر فيضاً كتاب الله العزيز فهو معين لاينضب من الزاد ، بل إننا نجد فيه أيضاً التوجيه الى غيره من الوسائل التى نتزود بها ، إننا نجد فيه النور و الهداية و الرحمة و الذكر .
فالقرآن يرشدنا الى أن تلاوته من أفضل الوسائل للتزود بالإيمان وتقوى الله ، ويرشدنا الى توحيد الله الذى يحقق السلام و الطمأنينة داخل النفس ، ويوجهنا الى عبادة الله التى تكسب صاحبها الزاد المتجدد من تقوى الله ، ويدعونا الى التفكر فى خلق الله فنتعرف من خلاله على صفات الله فيتولد تعظيمنا وإجلالنا وتقديسنا لله سبحانه وتعالى وفى ذلك خير زاد من الإيمان بالله وتقواه ، وفى القرآن نجد العظة و العبرة من قصص السابقين من الرسل وأقوامهم مما يزودنا بالخبرة و الحكمة ونحن ندعو الى الله .
و القرآن يطلب منا طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء به وفى ذلك خير عون وإرشاد فى الطريق ، وفى القرآن التوجيه الى فعل الخير و الحث عليه و التحذير من الشر و البعد عنه ، وفيه التذكير باليوم الآخر و البعث و الحساب و الجزاء ، فيه الترغيب فى الجنة و التبشير بها و الترهيب من النار و التنفير منها ، وبالجملة نجد فى القرآن كل خير يحتاجه الإنسان لتتحقق له السعادة والآخرة ويحفظه وينجيه من العنت و الشقاء فى الدنيا ومن عذاب الآخرة ، كما أن فيه كل مقومات التربية التى تصنع رجال العقيدة وتفجر فيهم طاقات الخير :{ إن هذا القرآن يهدى للتى هى أقوم } ، { هذا بصائر للناس وهدى وموعظة للمتقين } :{ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } ، :{ يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما فى الصدور وهدىً ورحمة للمؤمنين } ، :{ قد جاءكم من الله نورٌ وكتاب مبين يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات الى النور بإذنه ويهديهم الى صراط مستقيم } .
من الجاهلية الى الإسلام :(1/8)
لو تساءلنا ما الذى جدَّ على الجزيرة العربية وغيَّر تلك الأمة من الجاهلية التى كانت عليها بكل ألوان فسادها وضلالها الى خير أمة أخرجت للناس ، وصنع منها رجالاً بل نماذج فذة ضربت أروع الأمثلة فى كل ميادين الخير ؟ لو نظرنا لوجدنا أن الذى جدَّ على الجزيرة هو نزول هذا القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل به الأمين جبريل على الأمين محمد صلى الله عليه وسلم فبلغه بأمانة الى الناس ثم تربى من آمن من المسلمين فى مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم على مائدة القرآن ، فغيرهم القرآن وصنع منهم تلك النماذج التى قامت على أكتافها الدولة الإسلامية وتمت على أيديهم الفتوحات الإسلامية وعم النور وتبدد الظلام ، رأينا من استحوذت عليهم العقيدة الإسلامية وتحملوا صنوف العذاب دون أن يتخلوا عنها ، واسترخصوا أرواحهم وأموالهم فى مقابل ثباتهم على عقيدتهم ، فياسر وسمية وبلال وصهيب وغيرهم رضى الله عنهم جميعاً نماذج رائعة ستظل مضرب الأمثال على مر الأجيال .
راينا رجالاً ضربوا المثل فى مجاهدة أنفسهم و الترفع بها عن كل قبيح و التحلى بكل خلق فاضل ، ضربوا الأمثال فى الصدق و الوفاء والأمانة و الحلم و الزهد وو الحب والإيثار و الجهاد ومجالدة الأعداء و الجود وإقامة العدل و الشعور بالمسئولية ، خرج من الشباب من كان أهلاً لقيادة الجيوش كأسامة بن زيد رضى الله عنهما .
القرآن بين أيدينا :
ها هو ذا القرآن بين أيدينا دون تحريف فقد تعهد الله بحفظه :{ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } وها هى ذى مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم ماثلة أمامنا فى سيرته وسنته ، فهل يمكن أن تغير وتتخرج منا نماذج شبيهة بتلك النماذج ؟
أقول نعم لو أننا تعاملنا مع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما تعامل المسلمون الأول .(1/9)
كان المسلمون الأول يعظمون القرآن حين يسمعونه أو يتلونه لأنه كلام الله العظيم الكبير المتعال ، ويقدرون فضل الله ولطفه بخلقه فى إيصال معانى كلامه الى أفهام خلقه فى طى حروف وأصوات هى من وسائل البشر ، كانوا يستمعون إليه بقلوب حاضرة وبتدبر وتفهم متخلين عن كل موانع الفهم ، يسمعه كل واحد منهم وكأن الله يخصه فيه بكل أمر أو نهى ، متأثرين بكل ما فيه من عظات وعبر وزواجر ومبشرات كلما سمعوا نداء :{ يا أيها الذين آمنوا } أصغوا فى انتباه واهتمام كبير بما سيأتى بعد هذا النداء من توجيه أو أمر أو نهى لينزلوا عليه وينفذوه بكل دقة وتسليم مطلق ورضاً كامل دون تردد أو تراخ ، فإنه ليس نداء أحد من البشر ولكنه نداء من الله خالق البشر صاحب الملك و الجبروت ، هكذا كان حالهم مع كتاب الله ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كل ما يدعوهم إليه ويأمرهم به أو ينهاهم عنه فقد ايقنوا أنه صلى الله عليه وسلم لاينطق عن الهوى ولكن بوحى وتوجيه من الله .
{ إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا الى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون } ، { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } ، { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا فى أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً } ، { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } :{ من يطع الرسول فقد أطاع الله } وبذلك صار قرآناً حياً يمشى على الأرض وكانوا يستعينون بالعمل على الحفظ لا بالحفظ على العمل .(1/10)
أما مسلموا اليوم فقد ورثوا الإسلام دون جهد أو معاناة ، ورثوه مجتزأ محشوا بالبدع و الخرافات ، ورثوه وقد سلب منه جوهره وحيويته ، ورثوه فى فتور وضعف وخمول ، لم يقدروا منزلتهم بهذا الدين الحق ، لم يستشعروا عظمة هذا القرآن باعتباره كلام رب العالمين ، هجروه وأعرضوا عنه وإذا استمعوا إليه لم يتدبروه أو يتأثروا به أو ينزلوا على أوامره ونواهيه ، وإنما شغلهم نغم القارىء وألحانه وكأنهم يسمعون مغنياً وتسمع لهم جلبة وضوضاء تعبيراً عن إعجابهم بصوت القارىء ولو تدبروا وتأثروا لأنصتوا فى خشوع كأمر الله تعالى :{ وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } وبئس هؤلاء القراء الذين يعجبون بهذا التهريج ، ولو احترموا القرآن لطلبوا من المستمعين الإنصات فإن أبوا وقفوا عن القراءة .
إن كثيراً من مسلمى اليوم ألهتهم الحياة الدنيا وزحمت عليهم أفئدتهم وعقولهم وصارت حوائل تمنع نور القرآن من أن يشع فى قلوبهم فيضيئها بنور الإيمان :{ لاك بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } .
نماذج يمكن أن تتكرر :(1/11)
ورغم ذلك فقد شاءت إرادة الله أن يبقى الخير فى أمة محمد صلى الله عليه وسلم الى يوم القيامة ، فحينما أراد الله أن يجدد لهذه الأمة أمر دينها على يد الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله إذ علم سر القرآن وتأثيره فى النفوس فجمع الإخوان على كتاب الله وسنة نبيه وأرشدهم ورباهم على ما كان عليه السلف الصالح من تعامل مع القرآن وتأدب بآدابه وامتثال لكل توجيهاته ، ومع مدارسة السيرة وإظهار النماذج الرائدة التى تخرجت على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بنا نجد صوراً لهذه النماذج تتكرر ، ظهرت فى مجالات مختلفة فى الجهاد و الفداء والاستشهاد فى فلسطين و القنال وظهرت بين الناس كنماذج رائعة فى امتثال تعاليم الإسلام فكانوا موضع الثقة بصدقهم ووفائهم وأمانتهم وحسن خلقهم ، وظهرت فيمن تحملوا الإيذاء و التعذيب والابتلاء من أعداء الله وثبتوا ولم يتخلوا واتخذ الله منهم شهداء ، وظلت الراية مرفوعة حتى يسلموها لمن بعدهم عالية دون تفريط أو ضعف أو تهاون ودون تبديل ولا تغيير :{ من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً } ، :{ فما وهنوا لما أصابهم فى سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين } .
تعالوا نحسن تعاملنا مع القرآن :(1/12)
وبعد أن وضح لنا أثر القرآن وكيف يغير النفوس ويضىء لها الطريق ويهديها الى الصراط المستقيم ، وأن تلاوته تزيد المؤمن إيماناً بالله وتوكلاً عليه كما قرر الله ذلك فى قوله تعالى :{ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون } ، فلو قدر القارىء ربه حق قدره وخشى الله لتأثر بالقرآن واقشعر جلده عند تلاوته أو سماعه فالله تعالى يقول :{ الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثانى تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقولبهم الى ذكر الله ذلك هدى الله يهدى به من يشاء من عباده } ، :{ لو أنزلنا هذا القرآن عل جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون } .
لو أحسنَّا الصلة بآية واحدة من كتاب الله لسرى تأثيرها وهزت المشاعر وأنارت القلوب كتيار الكهرباء حينما يحدث الاتصال تسرى الكهرباء وتنير وتولد الطاقات أما وجد العازل لم يسر التيار ولم يحدث له أى تأثير .
- القرآن يعالج قضية الإيمان بكل جوانبها ويدلل عليها فى مواطن كثيرة بما ييسر الإيمان لغير المؤمن وبما يزيد المؤمن إيماناً كلما قرأ القرآن أو استمع إليه .
- القرآن يحدد لنا رسالتنا فى هذه الحياة الدنيا لنؤديها ولا نحيد عنها وذلك فى قوله تعالى :{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } .(1/13)
- القرآن يتعهدنا ويرشدنا كيف يكون حال المؤمن وموقفه من الأحوال المختلفة لنسلك سبيل المؤمنين فى أقوالنا وأفعالنا ، نلجأ الى الله عند الفقر أو المرض أو الضيق والشدة وعند لقاء العدو وكذا الشكر على نعمه علينا وهكذا وهذه الآيات توضح ذلك :{ فقال رب إنى لما أنزلت الىّ من خير فقير } ،{ وأيوب إذ نادى ربه انى مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين } ،{ وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى فى الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجى المؤمنين } :{ ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين } ،{ حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعنى أن أشكر نعمتك التى أنعمت علىّ وعلى والدىّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأصلح لى فى ذريتى إنى تبت إليك وإنى من المسلمين } .
- ونجد القرآن يحذرنا ويحمينا من الوقوع فى دائرة اليأس و القنوط من رحمة الله ويبعث فينا كل معانى الطمأنينة و الراحة النفسية والأمل و الطمع فى رحمة الله :{ قل ياعبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم } .
- الداعى الى الله يجد فى القرآ، خير عون وخير زاد له على الطريق حيث يتعرف على أسلوب الدعوة الصحيح عل لسان الرسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وكيف كانوا يصبرون على أذى أقوامهم ويرغبون فى الإيمان وينفِّرونهم من الكفر و العصيان .
- فلى قراءة القرآن وحفظه خير زاد للداعى الى الله يعينه على الاستشهاد بالآيات القرآنية عند الحديث فى أى معنى من المعانى مما يجعل حديثه اكثر تأثيراُ فى النفوس .
الاتباع و التطبيق :(1/14)
لنتدبر القرآن حين نقرؤه وإذا لم نتمكن من التدبر إلا بترديد بعض الآيات فلنردد ، فقد ورد بإسناد صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام بآية يرددها وهى قوله تعالى :{ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } .
ليكن همنا الأول من القراءة الاتباع و التطبيق :{ واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } ، ولنتبع توجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قراءتنا للقرآن حيث يقول فى حديث متفق عليه :( اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم ولانت له جلودكم فإذا اختلفتم فلستم تقرأونه ) وفى رواية :( فإاذ اختلفتم فقوموا عنه ) .
ولنحذر أن تشغلنا مخارج الحروف وأحكام التلاوة عن التدبر و التفهم فينصرف كل الاهتمام إليها دون المعنى و التأثر به .
ولنداوم على تلاوة القرآن ولا نهجره كى يتجدد الزاد ولتدم صلتنا بالله عن طريق تلاوة كلامه ، ولنحفظ ما استطعنا فإنه يعين فى الصلاة وقيام الليل والاستشهاد بالقرآن فيما ندعو إليه ، وقد تعرض لك ظروف يحال فيها بينك وبين كتاب الله المسطور فترجع الى الرصيد الذى حفظته :{ ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدَّكر } .
التفكر فى خلق الله ... وآياته
( إن عامل الترام المختص بتحويل الشريط وتغيير اتجاه الترام لايحمل الترام فيوجهه حيث يشاء ، إنما بعصا بسيطة هى عصا التحويل وبغمزة خفيفة يحول الشريط فيتحول الترام أو يتجه وجهته الجديدة دون عناء ، فالقلب الإنسانى ومعرفة الله تعالى هكذا ، المعرفة الحقة لله هىعصا التحويل فإذا مست القلب الإنسانى تحول من حال الى حال ، فإذا تحول فقد تحرك الإنسان كله ، وإذا تحول الفرد تحولت الأمة ، فلو أردت الإصلاح فأصلح القلب البشرى بأن تعرفه بالله حق المعرفة ) من كلام للإمام الشهيد فى أحد دروس الثلاثاء .(1/15)
فما أحوجنا الى هذه المعرفة الحقة لله تبارك وتعالى لتصلح قلوبنا وتغير حالنا كى يتغير حال الأمة كلها ، وما يزودنا بهذه المعرفة التفكر فى خلق الله وآياته فى هذا الكون ، وتدبر أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى .
و القرآن الكريم يحثنا فى كثير من آياته على التفكر :{ إن فى خلق السموات والأرض واختلاف الليل و النهار لآيات لأولى الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون فى خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار } :{ قل انظروا ماذا فى السموات والأرض } ،{ أفلا ينظرون الى الإبل كيف خلقت } ، :{ وإن لكم فى الأنعام لعبرة } ، { وفى أنفسكم أفلا تبصرون } .
كما يعيب القرآن على الذين لا يعملون عقولهم وأبصارهم فيما حولهم من آيات :{ وكأين من آية فى السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون } :{ ولقد ذرأنا لجهنم كثير من الجن والإنس لهم قلوب لايفقهون بها ولهم أعين لايبصرون بها ولهم آذان لايسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون } .
والتفكر فى خلق الله وآياته فى هذا الكون مجالاته كثيرة لاتحصى فهى تشمل كل شىء .
فى كل شىء آية :
إذ أن له فى كل شىء آية تدل على أنه الواحد ... ولما كنا لانستطيع الإحاطة بها فسنكتفى بضرب الأمثلة فى تركيز شديد تاركين لكم الاستزادة فيما يعرضه كتاب الله المقروء ومن عظمة الله وقدرته فى خلقه فى كتاب الله المنظور وهو هذا الكون الفسيح ، وقد ظهرت كتب تناولت بعض التفصيل الذى كشف عنه العلم الحديث من أسرار هذا الكون تدل دلالة كافية على وجود الله ووحدانيته واتصافه بكل صفات الكمال .(1/16)
- فى هذا الكون الفسيح إذا نظرنا الى الكرة الأرضية وجدناها شيئاً ضخماً بالنسبة لكل منا ، ولكن إذا تخطيناها ونظرنا الى هذا الفضاء وما فيه من نجوم وكواكب وعلمنا ما اكتشفه العلم الحديث من معلومات حول أعدادها الهائلة وأحجامها وأوزانها وأبعادها وسرعاتها لعجزت عقولنا عن تصور هذه المعلومات ، فالشمس حجمها مليون ومائتان وخمسون ألف مرة مثل حجم الأرض ،وهناك نجوم حجمها مثل حجم الشمس ملايين المرات .
وكل فى فلك يسبحون دون صدام أو خلل ، ذلك تقدير العزيز العليم ، ووحدة قياس مسافات النجوم هى السنة الضوئية أى المسافة التى يقطعها الضوء خلال سنة كاملة مع العلم أن سرعة الضوء ثلاثمائة ألف كيلو متر فى الثانية . ويقول علماء الفلك أن هناك نجوماً تبعد عنا بمئات الملايين من السنين الضوئية ، وصدق الله العظيم :{ فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } ، واليوم وبعد أربعة عشر قرنا من نزول هذه الآيات بدأنا ندرك شيئاً عن مواقع النجوم وعظمتها والله تعالى يقول :{ والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون والأرض فرشناها فنعم الماهدون } ، وإذا نظرنا الى الدقة المتناهية فى السنن التى قدرها الله للشمس و الأرض و القمر من حيث المسافات و السرعات والأوزان وميل محور الأرض وسرعة دورانها حول نفسها وحول الشمس بما ييسر الحياة على الأرض فى جو مناسب ولنعلم عدد السنين والحساب سبحانه خلق كل شىء فقدره تقديراً .
ومن الكون الفسيح الى عالم الجزىء و الذرة وتكوينها واختلاف العناصر و المواد فى خصائصها بسبب اختلاف مكونات كل ذرة حسب النظريات التى افترضها العلماء كتفسير الظواهر التى يلمسونها ، وقرأت فى هذا المجال كلاماً طيباً وهو أن البشر مهما أجهدوا أنفسهم ليعرفوا كنه المادة فلن يصلوا إليه لأن هذا سر الصنعة وسر الصنعة عند الله وحده .
عالم النبات و الحشرات :(1/17)
وفى عالم النبات تتجلى عظمة الله وقدرته بشكل واضح ، فكل حبة من نبات تحمل خصائص نوعها المتميز عن غيرها فى الساق والأوراق والأزهار و الثمار والألوان والمذاق و الرائحة ، وصدق الله العظيم :{ وفى الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض فى الأكل إن فى ذلك لآيات لقوم يعقلون } ، { أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون } هذا الاختلاف بين النباتات فى أوقات نموها وفترات النمو والأجواء المناسبة وغير ذلك الكثير مما اكتشف ومما لايزال مستوراً لن يستطيع العلماء مهما أوتوا من علم أن يصنعوا حبة نبات بحيث لو وضعت فى الأرض ورويت بالماء تخرج نباتاً ، لأن سر الإنبات فى الحبة الأصلية من اختصاص الله وحده ولا يستطيع بشر أن يودعه حبة صناعية .
وفى عالم الحشرات نجد العجب العجاب فأى حشرة مهما صغرت لها أجهزتها وحواسها ونظامها الخاص فى حياتها كما فطرها الله ،وكشف العلماء ولا يزالون يكتشفون ما يذهل العقل مما يحدث داخل مجتمع كل نوع من هذه الحشرات من عمل دائب ونظام دقيق وعدم التداخل فى الاختصاصات ودقة عجيبة فى بناء مساكنها وتكييفها بما يحمى من اختلاف الأجواء ، فنرى مثلاً خليةالنحل وتوزيع العمل واختصاص كل نوع وهذه الأقراص الشمعية السداسية الدقيقة ، إنها الفطرة التى فطر الله عليها هذا الخلق ،
وصدق الله :{ هذا خلق الله فارونى ماذا خلق الذين من دونه } :
{(1/18)
الذى أعطى كل شىء خلقه ثم هدى } ويقول علماء الحشرات أنه يكتشف سنوياً بمعدل عشرة آلاف نوع جديد من الحشرات ، وأن صنف الخنافس مثلاً يوجد منه ثلاثون ألف نوع غير الخنافس البشرية التى ظهرت حديثاً !! كما أنه لايستطيع بشر أن يخلق حشرة لأن سر الحياةمن اختصاص الله وحده :{ يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لايستنقذوه منه ضعف الطالب و المطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوى عزيز } .
آفاق وآفاق :
وفى عالم الطيور وكثرة أنواعها واختلاف أشكالها وأحجامها وألوانها وأصواتها وأعمارها ونسبة تكاثرها وقيامها بحضانة البيض ورعايتها لأفراخها وإطعامها الطعام المناسب لمراحل نموها ، وكذلك رحلات الهجرة الطويلة فى مواسم محددة والى أماكن معينة وعودتها الى أوطانها دون خريطة أو بوصلة ، ونلمس فى عالم الطير غيرة الذكر على أنثاه بما لانراه عند كثير من البشر اليوم .
ولو تتبعنا تطور الجنين فى البيضة حتى يتم نموه وكيف يخرج مستعداً لمواجهة الحياة لتجلت لنا قدرة الله ورحمته بما لايدع شكاً لمتردد فى الإيمان بالله وتقديسه وإجلاله .
وفى عالم الحيوان آفاق واسعة كذلك فمنها المستأنس و المتوحش ، وكذلك اختلاف أنواعها وأشكالها وأحجامها وألوانها وطباعها وأعمارها وأنواع طعامها ، وتركيبها الداخلى ووظيفة كل جهاز وتكوين الجنين وتطوير نموه وفترات نموه وهذا اللبن من بين فرث ودم يخرج مناسباً لغذاء المولود الرضيع ولا يزال علماء الحيوان يكتشفون كل يوم جديداً يؤكد إبداع الله فى خلقه وحكمته البالغة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .(1/19)
وعالم البحار واتساعه وكثرة ما فيه من عجائب رغم قلة مااكتشف بسبب التأخر فى اختراع الوسائل الحديثة للغوص تحت الماء فى أمان ، ويقال إن ما فى البحار أكثر مما على اليابسة من حيث الأنواع والأعداد ، كذلك لو تأملنا من زاوية ما تؤديه هذه البحار من تلطيف للجو من تبخر الماء الذى يتكون منه السحاب ثم تسقط الأمطار فى أنحاء متفرقة ولولا الجبال ما كانت الأنهار .
وهذا الغلاف الجوى المحيط بالأرض وما أودعه الله فيه من غازات مختلفة بنسب معينة بما يهيىء الجو المناسب للحياة على الأرض ، والوظيفة التى يؤديها كل غاز .... ولو تغيرت النسب لاختلَّت الحياة عل الأرض للكائنات الحية والنباتات ، هذه التغيرات الجوية وكيف تتم وتأثير حرارة الشمس واختلاف الضغط وإثارة الرياح وتراكم السحاب وسقوط الأمطار وعلماء الأرصاد الجوية لايزالون يكتشفون الكثير حول هذه الأمور الغاية فى الدقة والإبداع .
:{ ألم تر أن الله يزجى سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاماً فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار يقلب الله الليل و النهار إن فى ذلك لعبرة لأولى الأبصار } :
{ أفرأيتم الماء الذى تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجاً فلولا تشكرون } ،
{ وفى أنفسكم أفلا تبصرون } لو تأملنا فى أنفسنا وتكويننا وهذه الأجهزة المختلفةمن هضمى ودموى وتنفسى وعصبى وبولى وغير ذلك لما استطعنا أن نحيط بقدرة الله وعظمته فى هذا الإبداع والإتقان :{ صنع الله الذى أتقن كل شىء } ، رحمة الله وقدرته تتجلى فى تطور الجنين ونموه وحفظ الله ورعايته له ، هذا العقل وكيف يعمل وكيف يفكر ، وهذه الذاكرة وكيف تستوعب المعلومات وكيف نستخرجها منها ، والحقيقة أن المجال ليس مجال إحاطة ولكن ذكر أمثلة فقط .(1/20)
وهذا قليل من كثير ... وعموماً ، كل ما فى العلوم التجريبية و النظرية تتجلى فيه صفات الكمال لله سبحانه وتعالى ، وما اكتشفه الناس من أسرار هذا الكون لايذكر بالنسبة لما يجهلونه :{ وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } :
{ وعنده مفاتح الغيب لايعلمها إلا هو ويعلم ما فى البر و البحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة فى ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا فى كتاب مبين } { سنريهم آياتنا فى الافاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } .
ما أحوجنا أن نربط العلم بالخالق :{ اقرأ باسم ربك الذى خلق } ، فالعلم يدعو للإيمان ... وهكذا بالتفكر فى آيات الله وخلق الله تتحقق معرفة الله ويزداد الإيمان بالله وتعظيمه وتقديسه ، وبقدر منزلة الله فى قلوبنا تكون إن شاء الله منزلتنا عند الله ، وليكن معلوماً أننا لن نستطيع أن نقدر الله حق قدره ،
وحقاً سبحان من لايعلم قدره غيره ولا يبلغ الواصفون صفته .
التفكر ...... فى نعم الله
تجد الناس يحمد بعضهم بعضاً حينما يُقدِّم أحدهم عوناً لأخيه ولو كان صغيراً ولا تجد الكثيرين منهم يحمدون الله على نعمه عليهم رغم عظمها وكثرتها ، وكأن هذه النعم حق مكتسب لافضل لله عليهم فيها ، بل كثيراً ما يستعملونها فى معصيته ، إنها الغفلة و الجحود و الكفران بالنعمة .
لايقدرون قيمة هذه النعم إلا إذا حُرِمُوا منها أو أصيبوا فيها فيجأرون لله بالدعاء ومنهم من يضيق بالحياة وقد يلجأ الى الانتحار :{ وما بكم من نعمة فمن الله ، ثم إذا مسكم الضرُّ فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضرَّ عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون } ، { وإن تعدوا نعمة الله لاتحصوها إن الإنسان لظلوم كفار } .(1/21)
ولهذا نجد القرآن الكريم يدعونا الى التفكر والتعرف على نعم الله التى لا تحصى ، وأن نقدرها قدرها ونستشعر فضل الله علينا ، ونقوم بواجب الحمد والشكر له على ما أنعم ، فما أجدرنا أن نقف عند هذه الآيات وقفة تدبر وتقدير لهذه النعم لنزداد شعوراً بفضل الله وكرمه ورحمته وإحسانه ومدى فقرنا وحاجتنا إليه سبحانه فى كل لحظة وفى كل حركة وسكنة ، وكذا مدى تقصيرنا فى واجب الشكر وضرورة استعمال هذه النعم فى طاعته و البعد بها عن معصيته .
ولنبدأ بكبرى النعم وأعظمها وهى نعمة الإسلام :{ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا } ، { إن الدين عند الله الإسلام } ، { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين } بهذا الدين تكون السعادة و الهناءة و السكينة فى الدنيا و الفوز و النعيم والنجاة فى الآخرة ، وبدونه يكون الشقاء و الضياع و التمزق فى الدنيا و الخسران و العقاب و الحرمان من رضوان الله ومن النعيم فى الآخرة .(1/22)
إن الكثير من المسلمين لايقدرون ما هم فيه من نعمة بانتسابهم الى هذا الدين العظيم ربما لأنهم ورثوه دون جهد منهم ، ولم يحاولوا التعرف على ما يحققه لهم من خير فى دنياهم وآخرتهم ، إن نعمة الإسلام هى كل شىء وما عداها لا شىء ، لأن يصاب الواحد منا فى ماله أو ولده أو سمعه أو بصره أو أى شىء من متاع الدنيا أهون عليه من أن تكون مصيبته فى دينه ، وها هو ذا رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم يوجهنا ال ذلك فى هذا الدعاء :( اللهم لاتجعل مصيبتنا فى ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ) ما أحوجنا أن نردد دائماً حمدنا لله على هذه النعمة :{ الحمد لله الذى هدانا لهذا وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله } والله سبحانه وتعالى يدعونا للمحافظة على هذه النعمة حتى نلقى الله عليها :{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولا تموتن إلاَّ وأنتم مسلمون } لأن الأمور بخواتيمها ، وها هو ذا سيدنا يوسف عليه السلام بعدما آتاه الله الملك يدعو الله أن يتوفاه مسلماً :{ رب قد آتيتنى من الملك وعلمتنى من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت ولىِّ فى الدنيا توفنى مسلماً وألحقنى بالصالحين } .
ولكى تكمل علينا هذه النعمة يجب أن نكون مسلمين حقاً .
ونعمة الأخوة فى الله و الحب فى الله هذه الرابطة القوية الخالصة لوجه الله ما أعظم ما تضفيه على أصحابها من سعادة وراحة نفسية لايقدرها إلا من عاشها فمن ذاق عرف من خلال التعاون على البر و التناصح و التذكير بالخير و التكافل و المودة و الرحمة ، والله سبحانه يذكرنا بهذه النعمة فيقول :{ وألَّف بين قلوبهم لو أنفقت ما فى الأرض جميعاً ما ألَّفت بين قلوبهم ولكن الله ألَّف بينهم إنه عزيز حكيم } { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألَّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً } .(1/23)
وأن حياة وسط قوم يملأ قلوبهم الحقد و الغلَّ و الشحناء و البغضاء حياة لا تطاق كلها همٌّ وغمٌّ وكربٌ و العياذ بالله .
وبعد هذه النعم الكبرى ننتقل الى ما دونها فنفكر فيها لنعرف قدرها ، فأطلب منك أن تخلو لنفسك وتتصور أنك أصبت فى بصرك وفقدته وعجز الأطباء أن يردوه إليك ، وفكِّر فى التغيير الذى سيطرأ على حياتك بشىء من التفصيل : فى عملك وعلمك وحركتك وكل ما يتصل بحياتك ومدى ما ستتعرض له من قيود وحرج وضيق . بقدر عمق تفكرك ذلك بقدر تقديرك لهذه النعمة بحيث لو خيِّرت بينها وبين المال الوفير لاخترتها دونه . وتكون حينئذ على استعداد كامل لأن تعطى المواثيق لله لو رد إليك بصرك لسخرته لطاعة الله وما استعملته فى معصية الله ، فهلاَّ ألزمنا أنفسنا بذلك أم نتظر حتى نصاب ثم نعطى المواثيق .
تصور ياأخى بعد ذلك أنك بسبب أو بآخر فقدت السمع مع فقد البصر ، كيف يكون الحال حينئذ ستجد نفسك فى سجن مظلم لاترى ولا تسمع من حولك وسيزداد الحرج و العنت و الضيق أو القيود فى الحركة وكل أمور الحياة .
وستعرف حينئذ قيمة هذه النعم وفضل الله عليك وعظم رحمته وإحسانه وفقرك واحتياجك إليه وأنك لو صمت النهار كله وقمت الليل كله وأنفقت العمر كله فى طاعة الله ما وفيت حق الشكر على هاتين النعمتين .
لاتضق يا أخى واستمر معى وتصور مع فقدان السمع و البصر فقدت النطق أيضاً وتصور حالك حينئذ سيزداد السجن ظلاماً وتزداد القيود ويصعب التعامل مع الحياة ، فإذا أردت شيئاً أو أراد أحد منك شيئاً كان من العسير التعرف على هذه الرغبات إسأل نفسك عن مدى صبرك ورضاك بهذه الحال ما لم تكن متمتعاً بنعمة الإيمان ما تحملت مثل هذه الحياة ، فهلاَّ نلزم أنفسنا أن نستعمل هذه النعم فى طاعة الله فلا ننظر إلا الى حلال ولا نستمع إلا الى حلال ، ولا ننطق إلا خيراً .(1/24)
ونعمة العقل ما أعظمها وما أجملها نعمة من الله ، لو ردت إليك حواسك الثلاثة السابقة ولكن طرأت عليك إصابة أو لوثة بالعقل مجرد تصور فأنت و الحمد لله بعقلك وإلا لما تابعت معى ما أكتب ولأرحت نفسى ، كيف يكون الحال ؟ لا انضباط ، لا وعى ، لا إدراك لأى خطر ، ولا تفاهم ، ولا أمان من حدوث أى تصرف فى أى وقت ، ثم يكون المصير الحبس مع أمثاله حتى توافيه منيته . فهلاَّ نستشعر قيمة نعمة العقل ونستعملها فى التعرف على الله وما ينفعنا وما ينفع ديننا ولا نسخرها فيما يغضب الله .
هكذا لو فكَّرنا فى غير ذلك من النعم التى يحتويها جسدنا كالأيدى وأصابعها والأرجل وأقدامها وكل أجهزة الجسم وكل أعضائه الداخلية وأن الواحد لو أصيب بعطب فى شىء من ذلك لشل حركته وربما جعله سجين الفراش معظم حياته .
ومثل هذه الصور موجودة وماثلة أمامنا وعلى سبيل المثال جلطة بسيطة فى شعيرة من شعيرات المخ يمكن أن تحدث شللاً وفقداً للنطق وغير ذلك فهل نحمد الله على نعمة العافية ونقرأ قول الله تعالى فى تدبر وخشوع :{ يا أيها الإنسان ما غرَّك بربك الكريم الذى خلقك فسواك فعدلك فى أى صورة ما شاء ركبك } .
وهذه النعم الكثيرة التى يحتاجها الجسم من غذاء وماء وهواء ودفء ، هذه الحيوانات و النباتات و الطيور وكل هذه النعم التى لو حرمنا منها لتعرضنا للموت و الهلاك ، هذا الماء الذى جعل الله منه كل شىء حى ، هل فكَّرت كيف يصل إليك ميسراً هذه الدورة التى يسير فيها من بخار من ماء المحيطات فتحمله الرياح ليصير سحاباً تسير به الرياح ويسقط مطراً وبسب الجبال و الهضاب يجرى فى أنهار حتى يصل إليك .
هذا الهواء وما فيه من غازات لازمة للحياة وهكذا لو تصورنا حرمانك من الماء أو الهواء أو الغذاء أو الدفء لما طقت الحياة ولتعرضت للهلاك .وما أجمل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التى تذكرنا بفضل الله وإنعامه علينا كلما استمتعنا بشىء من هذه النعم .(1/25)
وهل ننسى نعمة الزوجة الصالحة و الذرية الصالحة :{ ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً } .
تصور حياتك مع زوجة غير صالحة وما تسببه لك من إزعاج ونصب بل وفتنة ، أو حياتك بدون زوجة ، وكذلك الذرية إذا لم تكن صالحة مثار هم وكرب ، وانظر أيضاً الى من لم يرزقوا ذرية وكم شوقهم إليها .
فلنحمد الله على هذه النعم ولنتق الله فيها ونقوم بواجباتنا نحوها ، وصدق الله العظيم :{ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن فى ذلك لآيات لقوم يتفكرون } .
{ الله الذى خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخَّر لكم الفلك لتجرى فى البحر بأمره وسخَّر لكم الأنهار وسخَّر لكم الشمس و القمر دائبين وسخَّر لكم الليل و النهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار } .
صدقت ربنا لن نحصيها ولن نستطيع أن نقوم بما تستحقه من الثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ، هل فكَّرت يا أخى فى نعمة الليل و النهار ، هل فكَّرت فى نعمة النوم ، وما يكون عليه حالك لو حرمت هذه النعمة ، ما أجمل قول الله تعالى وهو يذكرنا بذلك بقوله :{ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً الى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون ، قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً الى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ، ومن رحمته جعل لكم الليل و النهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون } .
إننا لن نستطيع أن نستمر فى سرد نعم الله علينا ولكن يا أخى استشعر نعمة الله عليك فى كل شىء عندما تتحرك أو تنطق أو تأكل أو تشرب أو تلبس أو تنام أو تستيقظ أو ترى أو تسمع أو تشم أو تتذوق أو تباشر أى أمر من أمور حياتك وأنه لولا فضل الله ورحمته ما استطعت أن تفعل شيئاً من ذلك .(1/26)
فراقب الله سبحانه واجعل كل ما يصدر منك لله وباسم الله وموافقاً لشرع الله .
يخطىء الكثير من الناس ويحصرون نظرتهم الى نعم الله عليهم بدخلهم الشهرى أو السنوى من دراهم أو ما شابه ذلك وينسون باقى النعم التى ذكرنا بعضها و التى لا يعدلها ملايين الملايين من المال ، وصدق الله العظيم :{ فأما الإنسان إذا ماابتلاه ربه فأكرمه ونعَّمه فيقول رب أكرمن ، وأما إذا ماابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربى أهانن } .
فما أحوجنا الى تصحيح مثل هذه النظرة ونعلم أننا فى هذه الحياة فى امتحان ونبتلى بالخير كما نبتلى بالشر :{ كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر و الخير فتنة وإلينا ترجعون } .
بعد مثل هذه الجولة من التفكر فى نعم الله أحسب أننا نخرج بزاد من معرفة فضل الله علينا وجميل إحسانه ومدى فقرنا إليه سبحانه .
هذا الزاد يدفعنا على تعظيم الله وإجلاله وطاعته وشكره وحسن عبادته ويحفظنا من الجرأة عل استعمال نعمه علينا فى معصيته ، ولو أمسك الله رحمته عن إنسان لتحولت هذه النعم الى نقم يشقى بها ويأثم بسببها .
التفكر فى الغيب ...الذى ينتظرهم
كثير من الناس لا يفكرون فى الغيب الذى ينتظرهم و المصير الذى يسيرون إله ويعيشون يومهم ودنياهم فقط وكأن هذا الغيب لا يستحق الاهتمام مع أنه الجدير بكل الاهتمام فهو المستقبل أو الحياة الحقيقية الأبدية .
فهل يشكون فى وقوعه لأنه غيب لا يلمسونه بحواسهم ؟ أم أن الدنيا ألهتهم وشغلتهم عنه ؟ إن كانت الأولى فليراجعوا إيمانهم ، وإن كانت الثانية فلينتبهوا قبل فوات الأوان ، إن الإيمان بالغيب وباليوم الآخر شرط لازم لتحقق الإيمان وكيف لا نؤمن إيماناً يقينياً والله عز وجل يقسم بقوله :{ فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون } .
إنها الغفلة والانشغال بمتاع الدنيا وزخرفها فلم يعد عند الناس وقت ولا حيز للتفكير فى الآخرة .(1/27)
ما أجدرنا أن نتخلص من كل آثار الغفلة ونفكر فى هذا الغيب وكأننا نمر به ونعيشه كأنه واقع كما صوره لنا القرآن و السنة فسينتج هذا التفكر تقديراً حقيقياً لهذا الغيب يدفعنا الى العمل والاستعداد لمواجهة هذا الغيب وهذا المصير بما فيه سعادتنا .
و الغيب يبدأ باللحظة التالية وإذا حاولنا تجزئته الى مراحل فنبدأ بالمرحلة من اللحظة التالية حتى الموت ، ثم الموت ثم القبر وحياة البرزخ ، ثم البعث ثم العرض و الحساب و الصراط ثم الجنة أو النار .
الفترة الباقية من الأجل :
الفترة الباقية من الأجل لاندرى أتطول أم تقصر وهل سنوفق فيها الى الخير و العمل الصالح ، أم سنتعرض الى فتن وانحراف أو زيغ ، خاصة فى هذا العصر الذى كثرت فيه الفتن وتنوعت ، الشعور بالخوف و الحذر مع الشعور بالطمع و الرجاء فى رحمة الله يجب أن يلازما كل واحد منا هكذا بصورة تولد فينا الدافع القوى لاستغلال الوقت فى تقديم الخير الذى ينفعنا :{ وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً } .
وعل طريقتنا فى التفكير اجلس ياأخى واخْلُ الى نفسك وتصور أنك أو أحد غيرك - إن كان ذلك يزعجك - قد قرر الأطباء أنه مريض بمرض سيلقى الله بسببه بعد مدة لا تزيد على ستة أشهر مثلاً ، وقد علم هو بذلك وبدت له مدة الحياة هكذا محدودة وبدأ العد التنازلى ، تصور معى كيف يكون حاله - على فرض أنه مؤمن - لاشك أنه سيسارع الى عمل الخيرات بكل ما يستطيع مستغلاً كل وقته دون أن يضيع لحظة فيما لا ينفعه فى الآخرة ونجده يقدم ماله وجهده وفكره ونفسه وكل ما يملك فى سبيل الله دون تردد ولا بخل ، وأحسب أنه لا يقدم على معصية بل إنها لا تخطر بباله ، كيف وهو يتهيأ للقاء الله و الحساب و الجزاء هذا ما أتصوره .(1/28)
فهل يا أخى يضمن أحد منا أن يستمر أجله ستة أشهر أو أياماً أو ساعات أو دقائق أو حتى ست ثوان ؟ فهلا حاولنا أن نكون قريباً من هذا الحال فنترقب لقاء الله ونتهيأ له فإنه يأتى بغتة :{ وما تدرى نفس ماذا تكسب غداً وما تدرى نفس بأى أرض تموت } كلما واتتك فرصة عمل خير فلا تؤجلها ، واغتنمها فقد يحال بينك وبينها بل لا تنتظر فرص الخير حتى تأتى إليك ولكن اسع إليها وابحث عنها لتكون ممن قال الله فيهم :{ أولئك يسارعون فى الخيرات وهم لها سابقون } ، إننا نرى من يسافرون ويسهرون ويجهدون أنفسهم لاغتنام كسب مادى دنيوى تافه وقد ينسون أنفسهم دون طعام أو نوم مدة طويلة بسبب الرغبة القوية فى الكسب المادى ، فهلا نأخذ العبرة وننشط ونجهد أنفسنا فى تجارتنا مع الله وشتان ما بين التجارتين وبين الربحين .
اجتهد يا أخى واعمل ما وسعك العمل لله فى إخلاص والتزام لشرع الله واستقامة على أمر الله ، احرص على ألاَّ يأتيك الموت وعليك دين لأحد ودين الله أحق بالوفاء ، واحرص أن تلقى الله وأنت سليم الصدر نحو إخوانك المسلمين واعلم أن أدنى مراتب الأخوة فى الله سلامة الصدر وأعلاها الإيثار ، فلا تبيتن ليلة إلا على هذه الحال .
وسارع يا أخى الى التوبة والاستغفار قبل حلول الموت فإن التوبة لا تقبل عند حضور الموت :{ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً } .
{ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إنى تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً } .
مرحلة الموت :(1/29)
ثم ننتقل الى مرحلة الموت كحد فاصل وهام بين مرحلتين فى هذا الغيب الذى ينتظرنا ، لايشك أحد منا أنه سيموت ، فالله سبحانه وتعالى يقول :{ كل نفس ذائقة الموت } ولم نر أحداً فرَّ من الموت ، ولكن رغم ذلك نرى كثيراً من الناس ينسون الموت وكأنه كتب على غيرهم بسبب انشغالهم بالدنيا .
يجب علينا أن نتذكر الموت دائماً ونكون على أهبة الاستعداد للقاء الله ، إذا وسوس الشيطان لإنسان بارتكاب معصية وتذكر الموت وأنه ربما يفاجئه وهو يرتكب المعصية ولا يستطيع له دفعاً وكيف يختم حياته بهذه الخاتمة وأى لقاء يلقى به ربه وهو على إثم ، لاشك أن تذكر الموت كفيل أن يصرف عنه هذا الوسواس ويزجره ويعينه على شيطانه .
والرسول صلى الله عليه وسلم يدلنا على دوام تذكر الموت كما فى دعاء النوم ودعاء الاستيقاظ .
احرص ياأخى أن يأتيك الموت وأنت على خير وفى طاعة ، استقم على أمر الله وكن من المتقين :{ الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون } .
لقد بكيت ياأخى عند ولادتك والأهل حولك يضحكون سروراً فاحرص يوم موتك وهم يبكون حولك أن تكون فرحاً مسروراً . أحب لقاء الله يحب الله لقاءك .
إجعل هذا الموت فى سبيل الله بل اجعله أسمى أمانيك ، احرص أن تحول موتك الى حياة بأن تلقى الله شهيداً :ل{ ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله } .
اعقد ياأخى الصفقة الرابحة مع الله إن لم تكن عقدتها من قبل ، بعه نفسك ومالك لتنال جنة عرضها السموات والأرض ، فإذا جاء الأجل بعد عقدها ولو بلحظة فزت ونلت الثمن ، وإذا تأخر الأجل فكن دائماً على وفائك بعهدك وعقدك ولا تتردد أو تبخل :{ ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغنى وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } ، { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } .(1/30)
القبر وحياة البرزخ :
تعالى ياأخى بعد ذلك لننتقل الى القبر لنزوره ونحن أحياء قبل أن نزوره عند الموت ولا يلهينا التكاثر ، تعال نزوره لنتعرف عليه وعلى طبيعة الحياة فيه ونعده ونهيئه لاستقبالنا لا بالجص و الرخام و الرمل الناعم فلا أثر ولا تأثير لذلك على المقبورين ، ولكن لنأخذ العبرة التى تحثنا على العمل الصالح ، فالعمل هو الذى سيصحبنا فى القبر وهو الذى يجعله إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار .
والحياة فى القبر فترة محدودة أشبه بالزيارة يكون بعدها البعث و النشور و الحساب و الجزاء وصدق الله العظيم :{ ألهكم التكاثر حتى زرتم المقابر } .
ليس فى مقدورنا أن نعرف بدقة طبيعة الحياة فى هذه الفترة فهى لاشك مغايرة لحياتنا الآن ، فالروح تنفصل عن الجسد الفانى ، وما ورد فى الكتاب و السنة يعطينا ملامح حول هذه الحياة ، فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون والله أعلم بطبيعة هذه الحياة التى يحيونها عند ربهم ، وهناك مساءلة القبر وفتنة القبر التى وجهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم للاستعاذة بالله منها .
والقرآن يذكر لنا فى شأن فرعون وآل فرعون فيقول :{ النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } .
و العذاب فى القبر يشير إليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم مرَّ بقبرين فقال : إنهما يعذبان وما يعذبان فى كبير - أى يكبر ويشق عليهما فعله - أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول ، وأما الآخر فكان يمشى بالنميمة ... رواه الجماعة .
لنذكر القبر وحياته دائماً فهو ليس منا ببعيد فقد يصبح الواحد منا فى بيته وبين أهله ويمسى وحيداً فى قبره .(1/31)
ولا يفوتنى فى هذه المناسبة أن أذكر خاطرة لأحد الإخوة أكرمه الله عندما اعتقل فى جوف الليل وأخذه جند الطاغية من بين أهله وألقوا به فى زنزانة مظلمة خالية من كل شىء وأغلقوا الباب خلفهم وإذا به لايرى شيئاً من شدة الظلام ، فكانت تلك الخاطرة : فقد تصور أنه خرج من الدنيا وصار فى القبر وأنه يواجه الحساب و الجزاء وأن عمله لايضمن له النجاة من العذاب ففزع وخاف وتمنى أن يعيده الله تعالى الى الدنيا ليتدارك أمره ويصلح حاله وكأن الله حقق أمنيته وها هو فى الدنيا وقد تجددت له فرصة العمل وإصلاح أمره فكان لهذه الخاطرة الأثر الفعال فى نفسه فقد جعلته يرضى بحاله التى هو فيها ولو كان فى زنزانة مظلمة بعد أن كان بين أهله من لحظات فلا جزع ولا غم ولا كرب فهذا أهون بكثير من التعرض لعذاب الله ، كما قوَّت هذه الخاطرة فى نفسه دوافع الخير و العزم على المسارعة الى كل عمل صالح ينال به رضوان الله وينجيه من عذاب الله .
هذه جولة تفكر فى بعض مراحل الغيب الذى ينتظرنا لنقرأها مرات ولنتذكرها دائماً لنتزود بالزاد الذى يحفظنا ويعيننا على الطريق والله المستعان وبالله التوفيق .
التفكر ........ فى اليوم الآخر
لاأكون مغالياً إذا قلت إن اليوم الآخر لا ينال من تفكير واهتمام كثير من المسلمين مثل ما يناله يوم من أيام الدنيا ، بل ربما مرَّت فترات طويلة على البعض دون أن يخطر على بالهم ذلك اليوم العظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين ، ألا ترى الناس يستعدون ويتشمرون لحر الصيف وبرد الشتاء ويتهاونون ولا يستعدون لاتقاء حر جهنم وزمهريرها .
ورغم تكرار عبارة الإيمان بالله و باليوم الآخر فى القرآن نرى الكثير لايذكرون ذلك اليوم ويرونه بعيد والأولى بالاهتمام الشىء القريب وهو الدنيا .(1/32)
إن مجرد سماع أسماء ذلك اليوم الآخر ووقع رنينها من شأنه أن يهز المشاعر ويوقظ القلوب الغافلة : القارعة ، الحاقة ، الصاعقة ، الواقعة ، الصاخة ، الطامة الكبرى ، ال غاشية ، الرجفة الى آخر هذه السماء و الصفات .
ولو تدبرنا ما ورد فى الكتاب و السنة من وصف لهذا اليوم وما سيحدث فيه وعشنا هذا الوصف حقاً لما طرفت لنا عين بنوم ولما ابتسمت لنا شفاه ولما هنأ لنا بال ولما جف لنا دمع .
من ذا الذى يقرا أو يسمع هذه الآيات ولا يتأثر ولا يصحو من غفلته :{ يا ايها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شىء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وماهم بسكارى ولكن عذاب الله شديد } .
فتعال يا أخى نتفكر سوياً فى اليوم الآخر وما فيه من أحداث ومشاهد يشيب لها الولدان ، نتفكر فى النفخ فى الصور والبعث و النشور و العرض على الجبار للحساب و السؤال عن القليل و الكثير ونصب الميزان لمعرفة المقادير وتحديد المصير واجتياز الصراط الى الإسعاد بالجنة أو الإشقاء بالنار .
إننا لن نستطيع أن نتناول كل هذه المشاهد بتفصيل فى مقال أو أكثر ولكننا سنذكر بعض الملامح ونأخذ العبر كمثال ومنهج للتفكر و التدبر يزيد من إيماننا واهتمامنا باليوم الآخر .
النفخ فى الصور :(1/33)
وتبدأ مشاهد اليوم العظيم بالنفخة الأولى فى الصور فيصعق من فى السموات ومن فى الأرض إلا من شاء الله ويصاحب ذلك أمور يصعب علينا مجرد تصورها كانفطار السماء وتناثر النجوم ونسف الجبال وتسجير البحار وزلزلة الأرض وتبعثر القبور ثم تبدل الأرض غير الأرض و السموات ثم تأتى النفخة الأخرى ويكون البعث و النشور ويكون الناس كالفراش المبثوث حفاة عراة ، ولنقرأ بعض الآيات و الأحاديث التى تصف هذه المشاهد :{ ونفخ فى الصور فصعق من فى السموات ومن فى الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون } :{ يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوب يومئذ واجفة أبصارها خاشعة يقولون إئنا لمردودون فى الحافرة } ، :{ فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس و القمر يقول الإنسان يومئذٍ أين المفر } :{ بيوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرىء منهم يومئذٍ شأنٌ يغنيه وجوهٌ يومئذٍ مسفرة ضاحكةٌ مستبشرة ووجوهٌ يومئذٍ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة } .
هكذا فزعٌ وهلعٌ وحرٌ وعرقٌ وذهول ، وفى حديث ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يوم يقوم الناس لرب العالمين حتى يغيب أحدهم فى رشحه الى أنصاف أذنيه ) متفق عليه فعلينا أن نجتهد اليوم لنكون فى ذلك اليوم من أصحاب الوجوه المسفرة الضاحكة المستبشرة .
العرض و الحساب و الميزان :(1/34)
تصور نفسك يا اخى بين يدى الله عز وجل تسأل عن كل فعل أو قول صدر منك مهما صغر ، إذا كان البعض هنا فى الدنيا ترتعد فرائصهم عندما يسألهم رؤساؤهم عن خطأ ارتكبوه فما بالنا بالعرض على الله سبحانه :{ يومئذٍ تعرضون لا تخفى منكم خافية } ، :{ يومئذٍ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثاً } .. لا إنكار ولا اعتذار ولا تهرب :{ بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره } والشهود بعض أعضاء الجسم :{ يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون } وفى هذا الموقف ترد المظالم ويستوفى كل صاحب مظلمة حقه ممن ظلمه وهنا يجمل أن نذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :( هل تدرون من المفلس ؟ قلنا المفلس فينا يارسول الله من لا درهم له ولا دينار ولا متاع ، قال : المفلس من أمتى من يأتى يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتى وقد شتم هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح فى النار ) .
وفى هذا الموقف تبدو الحسرة و الخزى و الندامة و الخوف و الهلع وتجد من يقول :{ ياليتنى اتخذت مع الرسول سبيلاً ياويلتى ليتنى لم أتخذ فلاناً خليلاً لقد أضلنى عن الذكر بعد إذ جاءنى وكان الشيطان للإنسان خذولاً } كما أن هناك آخرين فى أمن وسرور واستبشار نسأل الله أن نكون منهم .
الصراط :(1/35)
وبعد هذا العرض و الحساب يأتى دور اجتياز الصراط المنصوب فوق جهنم ولو تصورت هذا المشهد كواقع أمامك لارتاع قلبك من مجرد التفكير فى اجتيازه تدبر معى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يمر الناس على جسر جهنم وعليه حسك وكلاليب وخطاطيف تختطف الناس يميناً وشمالاً ، وعلى جنبيه ملائكة يقولون اللهم سلِّم اللهم سلِّم فمن الناس من يمر مثل البرق ومنهم من يمر كالريح ومنهم من يمر كالفارس ومنهم من يسعى سعياً ومنهم من يمشى مشياً ومنهم من يحبو حبواً ومنهم من يزحف زحفاً ، فأما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون ولا يحيون وأما ناس فيؤخذون بذنوب وخطايا فيحترقون فيكونون فحماً ثم يؤذن فى الشفاعة ) متفق عليه عن أبى سعيد الخدرى .
الشفاعة :
وبعض من حق عليهم دخول النار من المؤمنين يتفضل الله عليهم بقبول شفاعة من يرتضى فيهم من أنبياء أو شهداء صالحين ورسولنا صلى الله عليه وسلم أعطى الشفاعة ففى حديثه :( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلى ... الشفاعة إحداهن وفى حديث آخر :( لكل نبى دعو مستجابة فأريد أن أختبىء دعوتى شفاعة لأمتى يوم القيامة ) متفق عليه .
وهذا فضل وإكرام من الله للأمة الإسلامية ونبيها صلى الله عليه وسلم .
الحوض :
و الحوض خصوصية أخرى لرسولنا عليه الصلاة و السلام ولأمته ففى حديث رواه مسلم عن أنس قال :( حينما نزلت سورة الكوثر على رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل الصحابة وقال هل تدرون ما الكوثر ؟ قالوا الله ورسوله أعلم ، قال إنه نهر وعدنيه ربى عز وجل عليه خير كثير عليه حوض ترد عليه أمتى يوم القيامة آنيته عدد نجوم السماء ) .
نار جهنم :(1/36)
التفكر فى اليوم الآخر لكى يكون له أثره الفعال فى النفس يلزم أن نتفكر فى الجنة وفى النار فنتصور الحياة فى كل منهما متمثلين المشاهد و الوصف الذى ورد فى كل منهما فى القرآن والأحاديث فيتولد الخوف و الفزع من النار فنفر منها بفرارنا من المعاصى ونتشوق للجنة فنسارع ، وسنكتفى بذكر بعضها على سبيل المثال ولو أن آية واحدة من تلك الآيات لامست القلب المؤمن دون حائل فهزت صاحبه هزاً واقشعر جلده .
اقرأ معى بعد أن تخلى قلبك وعقلك من كل المشاغل و الصوارف :{ هذا خصمان اختصموا فى ربهم فالذين كفروا قطِّعت لهم ثياب من نار يصب فوق رؤسهم الحميم يُصهر به ما فى بطونهم و الجلود ولهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق } ، { إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزاً حكيماً } :{ واستفتحوا وخاب كل جبارٍ عنيد من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ } :{ إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلى فى البطون كغلى الحميم خذوه فاعتلوه الى وساء الجحيم ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ذق إنك أنت العزيز الكريم } .
هنا فى الدنيا لو أن حريقاً شبَّ فى مسكن مرتفع ولم يستطع أهله أن يفروا من السلم يقذفون أنفسهم من الشرفات خوفاً من النار رغم علمهم أنهم يتعرضون بذلك الى مخاطر وربما الى الموت فهلاَّ خافوا من نار جهنم خوفهم من نار الدنيا ، فنار جهنم أجدر بالخوف .(1/37)
ولا ننسى أن نذكر موقف إبليس مع أتباعه حين يتبرأ ويعود باللائمة عليهم :{ وقال الشيطان لما قضى الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى فلا تلومونى ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخىّ إنى كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم } .
الجنة ونعيمها :
هبى ريح الجنة ما أطيب ريحك وما أشوقنا إليك ، إن ما ذكر فى كتاب الله وأحاديث رسو الله صلى الله عليه وسلم عن الجنة ووصف نعيمها هو على سبيل التشبيه بما فى دنيانا من نعيم ، ولكن حقيقته تفوق ما فى دنيانا بصورة لاتخطر على بالنا ، ارجع أخى الى كتاب الله واقرأ وتمهل وتدبَّر تلك الآيات التى فيها ذكر الجنة ونعيمها واغمض عينيك وتصور نفسك وسط هذا النعيم واستشعر الشوق و الحنين الى هذا المصير ، هناك الأمن و السعادة وكل أنواع النعيم لا فزع ولا خوف لانصب ولا قتر ولا ذلة لاغل لابغضاء بل إخواناً على سرر متقابلين .
وإذا كانت القصور و الجنات و الحور العين وألوان الطعام و الشراب والفاكهة واللباس وكل ذلك مما تهفوا إليه النفوس ولكن الذى يفوق ذلك كله رضوان الله والنظر الى وجهه الكريم :{ ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم } كذلك صحبة النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين وحسن أولئك رفيقاً .
فلنبدأ كل الجهد فى سبيل الله ونصرة دينه ولنتحمل كل ما نلاقى فى طريق الدعوة طمعاً فى رضوان الله ولا أنسى معنى طيباً ذكَّرنا به أحد الأخوة داخل السجن فى المرة الأولى عام 1948 حيث قال : سيدنا موسى عليه السلام قضى ثمانى أو عشر سنين أشغالاً صداقاً لعروسه فى الدنيا فانظرا الى الحور العين كم يكون صداقهن ؟ .(1/38)
وفى ختام هذه الجولة من التفكر فى الغيب الذى ينتظرنا أحكى قصة قرأتها وهى أن أحد المسلمين كان يعصى الله ويتوب ولكنه يعود الى المعصية ويتكرر ذلك منه فشكا حاله الى أحد الصالحين فقال له ذلك الرجل الصالح إذا قدرت على خمسة أشياء فلا تشغل بالك من ناحية المعصية ؟ قال وما هى ؟ قال : إذا أردت أن تعصى الله فلا تسكن فى ملكه فقال لا أستطيع ذلك ، قال ما الثانية ؟ قال : إذا أردت أن تعصى الله فلا تأكل من رزقه ؟ قال : إذن أموت جوعاً ، قال : ما الثالثة ؟ قال : إذا أردت أن تعصى الله فاعصه فى مكان لايراك أحد فيه قال لاتخفى عليه خافية قال تسكن فى ملكه وتأكل من رزقه وتعصيه مواجهة هذا منتهى الجحود ، قال : ما الرابعة ؟ قال : حينما يأتيك ملك الموت أطلب منه أن يتركك حتى تتوب توبة نصوحاً ، قال : لا يستجيب لى قال إذن لماذا لا تسارع بالتوبة النصوح ، قال : ما الخامسة ؟ قال حينما تساق الى جهنم فلا تذهب معهم ، قال هذا مستحيل .
ثم تاب هذه المرة وكانت توبة نصوحاً لم يعد بعدها .
والذى حدث أن معانى الإيمان بالله و اليوم الآخر كانت خامدة فى نفسه وأيقظها الرجل الصالح فى نفسه بهذا الأسلوب فكان لها أثرها فكانت توبة نصوحاً .
ونرجو أن يكون لما مثل هذا التأثر بتفكرنا الذى سقناه وبالله التوفيق .
وفى السيرة العطرة .... زاد
إن الدعاة الى الله اليوم و السالكين طريق الدعوة يجدون فى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير زاد على الطريق وذلك لأسباب كثيرة منها :(1/39)
أن طريق الدعوة الذى نسير عليه هى نفس الطريق التى سار عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته من قبل ، ولأننا نعيش مرحلة كبيرة الشبه بالمرحلة الأولى للدعوة ... فالإسلام عاد غريباً و الجاهلية عادت تهدد مجتمعاتنا ، والداعية الى الله يضيق عليهم ويضطهدون ويعذبون ، وأعداء الله يكيدون ويتربصون ، وهذا يؤكد ضرورة تزودنا مه السيرة بكل ما فيها من من مواقف وأحداث ، خاصة وأن الرائد و القائد هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خير قدوة لنا كما قرر الله عز وجل :{ لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمنك كان يرجو الله و اليوم الآخر وذكر الله كثيراً } .
كما أن السائر معه على طريق الدعوة هم الصحابة رضوان الله عليهم الذين قامت على كواهلهم الدولة الإسلامية الأولى ، وهم كالمصابيح بأيهم اقتدينا واهتدينا .
ولذلك فإن السيرة تمثل فترة زاهرة وزاخرة بكل معانى الخير ، فهى فترة تنزُّل فيوضات الله ورحماته وأنواره للبشرية كلها عن طريق نزول الوحى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد ذلك كله فالسيرة تمثل التطبيق الأول و الصحيح للإسلام فى حياة الناس .
كل ذلك يحتم علينا دراسة السيرة دراسة عمل واقتداء وتعرف دقيقي لكل ما تعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته من مواقف وأحداث وكيف كان سلوكهم وتصرفهم إزاءها لنأخذ القدوة و العبرة و الزاد .
وغنى عن البيان أن القدوة العملية لها تأثيرها الفعال فى النفوس أكثر من الموعظة المجردة وفى هذا خير زاد على الطريق .
ولن نستطيع أن نحيط بكل ما فى السيرة مه عظات وعبر ودروس ولكن سنعرض بعضها على سبيل المثال ونؤكد على ضرورة دراسة السيرة ولا نقول قراءة السيرة .(1/40)
إن من أول وأهم ما يتزود به من السيرة ونحتاجه على طريق الدعوة الإعداد النفسى و الزاد الروحى فذلك خير عون للقيام بمتطلبات الدعوة و التغلب على العقبات و الصعاب و التحرز من المنعطفات والإنحراف ، ونرى ذلك فى إلهام الله لرسوله قبل البعثة بالتحنث فى الغار الأيام والليالي الطوال ، كما يتمثل فى توجيه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بقيام الليل :{ يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً إنا سنلقى عليك قولاً ثقيلاً } فالتقرب الى الله وإحسان الصلة به خير زاد على الطريق .
كلما قرأنا ما تعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم من صنوف الإيذاء وصبره وتحمله مع حرصه على هداية قومه أخذنا بالزاد و القوة للسير بالدعوة واحتمال كل أذى ، كما أن فى استشهاد ياسر وسمية تحت التعذيب وثبا بلال زاداً ووقوداً للأجيال على مرِّ الأزمان و العصور ، وتثبيتاً لهم على الحق .
انظر يا أخى الى الأثر العميق الذى يحدثه فى نفوسنا ذلك الموقف العظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقولته الخالدة عندما عرض عليه المُلْكَ و الجاه و السيادة فقال :( والله ياعم لو وضعوا الشمس فى يمينى و القمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ) فيها تحدٍّ للباطل واستخفاف بكل أعراض الدنيا .
رسول الله صلى الله عليه وسلم اتهم بالكذب و السحر و الجنون فصبر ولم يغضب لذلك ولكن الواقع العملى أثبت زيف هذه الاتهامات وقديماً اتهم موسى عليه السلام بالفساد وادعى فرعون أنه هو الذى يهدى الى سبيل الرشاد .
واتهم الدعاة الى الله هذه الأيام بالإرهاب و التستر وراء الدين وغير ذلك رغم أن هذه الاتهامات ثبت من قبل بصورة قاطعة زيفها وبطلانها فليصبروا ولا يهنوا ولا يستكينوا .(1/41)
انظر يا أخى الى تحمل المسلمين الأول الجوع و الحرمان فترة المقاطعة فى شعب أبى طالب ثلاث سنوات حتى أكلوا ورق الشجر ولم يتخلوا عن عقيدتهم وآثروا دعوة الله على كل متاع الدنيا .
كل داع الى الله يجد زاداً هائلاً فى قصة الذهاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الى الطائف وقطع المسافات الطوال لتبليغ الدعوة وما لاقاه من إعراض وإيذاء وبعد ذلك يقول :( رب اهد قومى فإنهم لايعلمون ) .
وهذا الدعاء الذى يشكو فيه الى الله ضعف قوته وقلة حيلته وهوانه على الناس وما يحويه من معان كبيرة وعميقة من لجوء الى الله وخروج من حوله وقوته الى حول الله وقوته وأه لايخشى إلا غضب الله عليه :( إن لم يكن بك علىَّ غضب فلا أبالى ) الى آخر هذه المعانى الدافعة الى الخير والى الاستمرار فى تبليغ الدعوة رغم كل الإيذاء .
وفى موقف السيدة خديجة أم المؤمنين رضى الله عنها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير زاد وقدوة لكل أخت مسلمة كى تكون عوناً لزوجها على طريق الدعوة تؤازره وتطمئنه لاتثبطه ولا تخذله .
ومن يقرأ أحاديث الإسراء و المعراج فى السيرة يخرج منه بزاد وعبرة ودروس كثيرة تزيد الذين آمنوا إيماناً وما أشد حاجة المسلمين اليوم الى إحساسهم بمنزلة المسجد الأقصى وما حوله وما يجب علينا نحو تحرير هذه الأماكن المقدسة من أيدى الصهاينة المغتصبين .
وحادث الهجرة كله دروس وعبر وزاد لا نستطيع حصرها هنا فلكل فرد اشترك أو شارك فيها مواقف ونماذج رائعة لجانب أو أكثر من جوانب الخير يقتدى به الدعاة الى الله ، فاطمئنان الرسول وثقته فى ربه وحرص أبى بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفدائية علىّ ورباطة جأش عبد الله بن أبى بكر وأسماء وقيامهما بدورهما وسط هذا الجو الصاخب وكتمانهما الأمر .(1/42)
ووعد رسول الله صلى الله عليه وسلم سراقة سوارى كسرى وما فيه من ثقة بنصر الله ثم هذا الحب الدافق و الشوق الكبير عند أهل المدينة الواضح من ترقبهم حضوره واحتفائهم به وغير ذلك من المعانى ذات الأثر النفسى الكبير كل ذلك يحتاجه الداعى وهو على الطريق .
وخذ العبرة يا أخى من اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد فى كل مكان يقيم فيه لنعرف أهمية رسالة المسجد ودوره فى بناء الدولة الإسلامية لكى نعمل على إعادة هذا الدور الهام للمسجد وألا يقتصر على أداء الصلوات فيه .
وثمة درس نحتاجه اليوم وهو موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من اليهود وموقفهم منه ومن دعوته ، فقد حرص أول مقامه بالمدينة أن يقيم بينه وبينهم علائق سلمي وأن يؤمنهم على دينهم وأموالهم وكتب لهم كتاباً ، ولكنهم قوم غدر فما لبثوا غير قليل حتى تآمروا على قتله وكان سبباً فى غزوة بنى النضير ، ثم نقضوا عهده فى أشد المواقف حرجاً يوم الأحزاب مما كان سبباً فى غزوة بنى قريظة ثم تجمعوا من كل جانب يهيئون السلاح ويبيتوا الدسائس لينقضوا فى غدر وخسة على المدينة و المؤمنون مما كان سبباً فى غزوة خيبر فهؤلاء قوم لايصدق لهم وعد ولا يستقيم لهم عهد فلنأخذ الدرس ولا ننخدع بغير ذلك .
تزود يا أخى من غزوة تبوك وانظر ما يفعله الإيمان الصادق فى نفوس المؤمنين من إثارة عزائمهم للقتال و اندفاع أيديهم فى بذل المال ومن استعذابهم المر و العناء و التعب الشديد فى سبيل الله ومرضاته .(1/43)
خذ الزاد من موقف هؤلاء النفر الذين جاءوا للجهاد فردهم الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لم يجد ما يحملهم عليه فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً على حرمانهم شرف الجهاد وفرصة الاستشهاد فى سبيل الله تعالى فى حين أن طبيعة الإنسان أن يفرح لنجاته من الأخطار وابتعاده عن الحروب ولكنه الإيمان الصادق يصحح الموازين فيجعل كل موت فى سبيل الله شهادة وكل أذى فى دعوة الحق شرفاً وكل بلاء بسبب الإصلاح خلوداً .
ما أحوج من يسلك طريق الدعوة الى الزاد الذى يحصل عليه عندما يقرأ فى السيرة عن مؤاخاة الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار وما صاحبها من صور الحب والإيثار و التى عبر عنها القرآن الكريم فى قوله تعالى :( و الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون فى صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } .
وفى الغزوات زاد فنرى صوراً من الإقدام و الجهاد والإنفاق والاستشهاد فى سبيل الله ... ونرى فى غزوة بدر كيف نصر الله الفئة القليلة المؤمنة على الكثرة الباغية الكافرة ، ونرى فى غزوة الفتح تواضع الرسول صلى الله عليه وسلم عند النصر وعدم الغرور أو التعالى ، وفى غزوة أحد وحنين دروس وعبر كثيرة حول أسباب الهزيمة وضرورة التزام الأوامر والتعليمات ، وفى غزوة تبوك دروس وعبر كثيرة فالخروج للجهاد رغم الحر و الجهد وعدم الاستجابة لتثبيط المنافقين الذين قالوا لا تنفروا فى الحر ، ثم فى قصة الثلاثة الذين خلِّفوا دروس وعبر كثيرة لأصحاب الدعوات
وفى السيرة نجد حب المسلمين الشديد لرسول الله صلى الله عليه وسلم و الحرص على الاقتداء به صلى الله عليه وسلم فى كل صغيرة وكبيرة ، ونرى حسن استجابة المؤمنين لكل أمر أو نهى فى القرآن أو من رسول الله صلى الله عليه وسلم دون تردد كما حدث عند تحريم الخمر وعند نزول آية الحجاب للنساء .(1/44)
وللأخت المسلمة زاد كبير من خلال السيرة وعلى سبيل المثال موقف نسيبة أم عمارة الأنصارية رضى الله عنها فى غزوة أحد حينما جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقع وتكاثر عليه المشركون يريدون قتله فثبت وثبت معه نفر من المؤمنين منهم أبو دجانة رضى الله عنه تترس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحميه من نبال المشركين فكان النبل يقع على ظهره ومنهم نسيبة أم عمارة تركت سقاية الجرحى وأخذت تقاتل بالسيف وترمى بالنبال دفاعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال فى حقها :( ماالتفت يميناً أو شمالاً يوم أحد إلا رأيتها تقاتل دونى وقد جرحت يومئذٍ إثنى عشر جرحاً ) .
وللشباب المسلم أن يأخذ الزاد و الثقة حينما يقرأ عن بعث أسامة بن زيد رضى الله عنه وكيف يفسح الإسلام المجال لكفاءات الشباب وعبقرياتهم وتمكينهم من قيادة الأمر حين يكونون صالحين لذلك ، وفى تأمير أسامة على مثل أبى بكر وعمر وعثمان وعلىّ رضى الله عنهم درس وزاد ودليل على مدى التهذيب النفسى و الخلقى الذى وصلوا إليه بفضل هداية الله وتربية رسول الله صلى الله عليه وسلم وإرشاده لهم .
ولكى تستفيد فائدة كبيرة من قراءتك للسيرة يا أخى اقرأها وكأنك تعيش أحداثها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته .
وفى مقابل ذلك وأنت على طريق الدعوة هذه الأيام عليك أن تواجه الأحداث و المواقف متخذاً الموقف الذى يقفه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته لو كانوا بين أظهرنا يقودونا على الطريق .
وفى العبادات زاد ( الصلاة )
((1/45)
فالعبادات تزود صاحبها بتقوى الله وهى خير زاد ... { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم و الذين من قبلكم لعلكم تتقون } ، { يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر و الصلاة إن الله مع الصابرين } ، { واستعينوا بالصبر و الصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين } :{ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر } ، { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } ، { خذ من أموالهم صدقة تطهره وتزكيهم بها وصلِّ عليهم إن صلاتك سكن لهم } { الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولى الألباب } .
هكذا نجد هذا العبادات مصادر أساسية ودائمة ومتجددة للزاد الذى يزكى النفس ويسمو بها عن جواذب الأرض ويعين على تخطى العقبات وتفادى المنعطفات .
ولكل عبادة من هذه العبادات زادها وأثرها الذى يغاير زاد وأثر العبادات الأخرى من بعض الجوانب بحيث يكمل بعضها بعضاً . وكما أنها تغطى جوانب شخصية المسلم فهى كذلك تغطى أيام حياته فنجد منها المتكرر يومياً كالصلاة خمس مرات فى اليوم ومنها المتكرر شهراً كل عام كالصوم ، ومنها ما يتم حسب الأحوال كالزكاة و الحج حسب الاستطاعة والإمكان .
وهناك أيضاً مجال السنن و التطوع فى كل منها بعد الفرائض لكل راغب فى المزيد من الزاد و التقوى و القرب من الله ... وقد سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه السنن من منطلق حبه الخير لنا .
الصلاة :
وسنحاول أن نجلى بعض صور الزاد فى هذه العبادات لعل فى ذلك ما يعين وييسر التزود لكل راغب فى الزاد ولنبدأ بالصلاة و الله الموفق و المعين .(1/46)
الصلاة صلة بالله تعالى ، صلة هذه النفخة فينا من روح الله بأصلها لتستمد منه الحياة و النماء ... الصلاة قرب من الله والأنس بالله ونرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ك( وجعلت قرة عينى فى الصلاة ) ونجده صلى الله عليه وسلم يقوم الليل ويستغرق فى صلاته حتى تتورم قدماه دون أن يشعر بألم ، فمن سما بروحه ومشاعره تضاءلت عنده متاعب الجسد وآلامه .
الصلاة مصدر متجدد للطاقة الروحية و الزاد وقد توزعت أوقاتها على الليل و النهار لمواصلة التزود وتجديد الرصيد من الزاد وقد يسر الله أداءها حتى لا نحرم الزاد فى كل الأحوال والأوقات فى السلم و الحرب فى السفر و الإقامة فى الصحة و المرض وهذا من فضل الله علينا ورحمته بنا .
فى الصلاة استرواح وخلوص من مشاغل الحياة وعناءها لنقف بين يدى الله فى خشوع وخضوع ، وركوع وسجود ، نقرأ ونسمع كلام الله ونسبح الله ونعظمه ... وندعوه ونستغفره ... وكأن الصلاة معراج لأرواحنا تعرج الى الله بعيداً عن جواذب الأرض ، وفتن الحياة خاصة وأن الصلاة فرضت ليلة الإسراء و المعراج .
من يقبل على الصلاة بقلب نقى ونية خالصة يفيض الله عليه من أنواره وهدايته وسكينته ورحمته بما يعين المصلى على مجابهة الحياة بكل اطمئنان واستقرار نفسى لا فزع لا قلق لا خوف لا ضعف ، ويتحصن ضد الفتن و الفحشاء و المنكر ونزغات الشيطان فيكون فى حفظ الله ورعاة الله ، شاعراً بمعية الله أينما سار وحيثما حلّ ، مطمئناً الى جنب الله ، متوكلاً عليه مفوضاً أمره إليه واثقاً به كل الثقة فى طاعة وتسليم والتزام كامل لكل أمر أو نهى دون تردد وهكذا يعيش العبودية الحقة و السعادة التامة و الرضوان الكامل ذلك لمن خشى ربه .(1/47)
يشعر المصلى أنه منذ وقت قليل كان بين يدى الله وبعد قليل سيقف بين يدى الله مرة أخرى ، فلا يليق أن يغفل عنه أو ينساه بين الصلاتين وهكذا يظل المحافظ على صلاته لوقتها داخل المجال التأثيرى الربانى للصلاة لايكاد يبعد عنه ، فلا يتمكن الشيطان من الخلوة به والانحراف به عن الصراط المستقيم :{ إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً } .
كان رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع الى الصلاة فيجد الراحة و الأمن و التوفيق و الطمأنينة ، وكان دائماً ما يقول لبلال رضى الله عنه : ( أرحنا بها يا بلال ) فالصلاة للمؤمن كالواحة الوارفة وسط صحراء الحياة ولفحها .
هذا الخضوع لله و الركوع بين يدى الله فى الصلاة يمد صاحبه بكل معانى العزة ، فالمصلى لايركع ولا ينحنى إلا لله فى إجلال وتعظيم ، ولا ينحنى لبشر ولا يخشى إلا الله :{ الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله } وكلما عظمنا الله وقدرناه حق قدره ازددنا إقبال على طاعته واللجوء إليه والاطمئنان الى جانبه ، وازددنا نفرة من معصية الله ومخالفة أمره وفى هذا زاد .
هذا السجود لله فى الصلاة من أعلى المقامات فيه العبودية الحقة و التذلل الخالص لله ، فيه القرب و الأنس وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش حقيقة السجود لله وتذوق لذته وما فيه من قرب من الله وسعادة روحية فكان يطيل السجود فى تهجده بالليل حتى تظن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها أنه قبض ... وقد نبهنا رسولنا الكريم الى هذا الخير ، ورغبنا فيه فقال ما معناه أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ... يستشعر المصلى هذا المعنى وهو ساجد ويحس بهذا القرب وأن هذا أشرف وأسمى وضع له فى هذه الدنيا لأنه حينئذٍ يكون أقرب ما يكون من ربه حينئذٍ تكون السعادة و الزاد .(1/48)
وجلسة التشهد وما تحويه من معان ومشاعر وجدانية سامية نتقرب الى الله بالتحيات المباركات و الصلوات الطيبات ، ونتوجه بتحية الإسلام لرسولنا الحبيب السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته ، ثم نعود بالسلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، ثم نقرُّ بالشهادتين ونصلى ونسلم على رسولنا الحبيب ، ما أروعها جلسة حينما نعيشها بين يدى الله تعالى مع رسوله صلى الله عليه وسلم وحولنا عباد الله الصالحون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم والله تعالى ينظر إلينا ويتجلى علينا من عليائه بعين الرضا و القبول ، ثم نخرج من الصلاة بعد هذه الجلسة الممتعة لنواجه الحياة بنفوس رضية هانئة .
حركات الصلاة تعود على المصلى بفائدة صحية فى بدنه .
إن التزامنا لحركات الصلاة كما علمنا إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الركعة ركوع واحد وسجدتان وليس ركوعين وسجدة واحدة هذا الإلتزام فيه معنى العبودية المطلقة لله و التسليم المطلق لأوامر الله ولو لم تظهر لنا الحكمة ، فما طرد إبليس من رحمة الله لمجرد معصيته أمر الله بالسجود لأبينا آدم مع الملائكة ولكن لأنه اعترض على مقتضى الأمر وحكمة الله فيه ، وهكذا نتعلم من الصلاة هذا المعنى السامى للعبودية لله .
إن التهيؤ للصلاة بطهارة البدن و الثوب و المكان والوضوء يربى المسلم على النظافة و النقاء و الذوق السليم الذى ينفر من القاذورات و النجاسات الحسية و المعنوية ، وحينما تصاحب الطهارة الحسية طهارة القلب من كل ما يغضب الله فالقلب موضع نظر الله فى الصلاة فلا حقد ولا حسد ولا بغضاء ولا شحناء بينه وبين إخوانه المسلمين وهذا زاد هام وضرورى للمسلم عموماً ولسالك طريق الدعوة خصوصاً .(1/49)
إن شرط صحة الصلاة بدخول الوقت و الحرص على أدائها قبل خروج وقتها يعوِّد المصلى على الدقة فى المواعيد و الوفاء بها ويعوِّده الحرص على الوقت بحيث لا يلهيه أى أمر ويشغل عليه وقته دون انتباه .فإن أوقات الصلاة تنبهه وتوقظه من غفلته ، وهكذا لايسمح لأى عرض من أعراض الدنيا أن يزحم عليه وقته وفكره عن ذكر الله وإقام الصلاة و العمل و الجهاد فى سبيل الله ، هذه الصفات لازمة وهامة لكل من يسلك طريق الدعوة ويرتبط بالأعمال و المواعيد واللقاءات .
تحرى القبلة و التوجه إليها يعوِّد المسلم على معرفة الاتجاهات وجغرافية المكان بالنسبة للكعبة بيت الله الحرام وفى الشعور باتجاه المسلمين فى أنحاء العالم الى قبلة واحدة يكسب المسلم الشعور بالوحدة مع إخوانه المسلمين وارتباطه بهم وهذا معنى تربوى هام يلزم تحقيقه بين المسليمن كى يستطيعوا مواجهة أعداء الإسلام ، كما أن التوجه الى القبلة يلزم أن يصاحبه توجه القلب الى الله بإخلاص النية وتنقيتها من آثار الرياء أو الشرك وإخلاص الوجهة من أهم ما يلزم الداعية الى الله فى طريق الدعوة .
الاستجابة للنداء للصلاة بمجرد سماعه و التخلص من كل شواغل الدنيا فيه مجاهدة وتقوية للإرادة و العزيمة و التغلب على أهواء النفس ومطامعها وفى ذلك زاد وتربية لها أثرها العملى فى حياة الداعى الى الله وترتيب الأولويات فى المهام و الأمور .
انتظام الصفوف فى الصلاة وتسويتها والتزام الإمام وعدم سبقه وكذلك الفتح عليه إذا نسى أو أخطأ كل ذلك له آثاره التربوية فى نفس المسلم فالجندية و النظام و الطاعة للقيادة مع النصح و التنبيه للخطأ أمور لازمة للعاملين فى حقل الدعوة الإسلامية و المجاهدين فى سبيل الله .(1/50)
الشعور بالمساواة فى صف واحد بين يدى الله لافرق فى الوقوف بين غنى وفقير ، لا تعالى ، لا كبر فالكل سواء بين يدى الله ، بل قد يضع الغنى جبهته ساجداً لله قريباً من قدمى الفقير فى الصف الذي أمامه دون حرج أو اشمئزاز ، وفى هذا مجال تربوى هام وزاد ضرورى لتآلف المسلمين وتقاربهم وتقوية الصلة بينهم .
اجتماع المسلمين على الصلاة فى المسجد فى الأوقات الخمسة وفى صلاة الجمعة وفى العيدين من شأنه أن يتيح الفرصة بين المسلمين فى الحى الواحد أو البلدة الواحدة للتعارف والتآلف و الوحدة و التعاون فيعطون المحتاج ويعودون المريض ويشارك بعضهم بعضاً فى أفراحهم وأتراحهم ويتعاطفون ويتراحمون فيما بينهم .
حرص المسلمين على الصلاة فى المسجد يربطهم بالمسجد ويعيد للمسجد رسالته الهامة التى كانت له فى أول الدعوة فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدبر فيه أمر المسلمين وتجيش منه الجيوش وترسم الخطط ويتدارس فيه كل ما يهم المسلمين وما أحوج المسلمين اليوم الى العودة بالمسجد الى رسالته الأولى .
هكذا نجد الصلاة كلها زاد على الطريق وكل ما يتصل بها يغذى المصلى بنوع من الزاد لازم وضرورى له .
ولا أدعى أنِّى أحطت بكل ما فى الصلاة من مصادر وينابيع الخير و الزاد ولكن هذا جهد المقل ونسأل القبول والإخلاص .
وفى العبادات زاد ....... ( الصوم )(1/51)
ذكرنا أن العبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج تعتبر مصادر هامة ومتجددة للزاد على الطريق، وقد حاولنا توضيح ذلك بالنسبة للصلاة ، وها نحن نحاول ذلك بالنسبة للصوم بعون الله يقول الله تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } فالصوم يلبس صاحبه لباس التقوى وهو جنة وحصانة للصائم من الشرور و الفتن ، ويتميز الصوم من بين سائر العبادات بخاصية النسبة الى الله تعالى ، فعن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( قال الله عز وجل كل عمل ابن آدم له إلا لصوم فإنه لى وأنا أجزى به ، والصيام جُنَّة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إنى صائم ، والذى نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ، للصائم فرحتان يفرحهما ، إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقى ربه فرح بصومه ) متفق عليه .(1/52)
وقد ارتبطت فريضة الصوم بشهر رمضان ، وإذا ذكر رمضان فكأنما تذكر جنة فيحاء يمر بها المسلم وهو يسير وسط صحراء الحياة ولفحها وفتنها ، وإذا كان الصيام كله زاداً وخيراً فكونه فى شهر رمضان من شأنه أن يضاعف هذا الزاد ويزيد الصيام بها خيراً ، فقد خصَّ الله شهر رمضان بخير كثير يجعلنا لو علمنا هذا الخير لتمنينا رمضان السنة كلها ، ففيه نزل القرآن :{ شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى و الفرقان } وفيه ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر . وفيه تفتح أبواب الجنة وتغلق أبواب النار وتصفد الشياطين وفيه يضاعف الأجر وفيه الاعتكاف و القيام ، وهكذا يستقبل المسلم الصادق شهر رمضان بالفرح و السرور ، فرح المؤمنين بفضل الله ورحمته يستروح فيه من عناء الحياة ويتزود ويجدد نشاطه كى يواصل السير على الطريق ولا يستمتع بذلك الخير ويحصل على ذلك الزاد إلا من عاش رمضان وأدى الصوم كما أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ففى شهر رمضان يزداد إقبالنا على القرآن تلاوة وممارسة وحفظاً ونقوم به الليل فننهل بذلك من معين لا ينضب نوراً وحكمة وهداية وموعظة وشفاء لما فى الصدور وفى ذلك زاد أى زاد .
وفى شهر القيام يؤدى الصائمون القيام كل ليلة شهراً كاملاً وفى ذلك زاد مكثف وتطويع للنفس على العبادة و الصبر عليها وتذوقها ومداومة الصلة و القرب من الله و الخضوع و الخشوع له .(1/53)
وفى شهر رمضان يسن الاعتكاف ، وللاعتكاف آثاره وانطباعاته على المعتكف فهو يعيش فترة فى ضيافة الله فى بيت الله وقد خلص من مشاغل الحياة وتفرغ لطاعة الله و التقرب الى الله بالذكر و الصلاة و الدعاء و المناجاة وقراءة القرآن والاستغفار و التوبة و البكاء من خشية الله ، وهكذا يكرم الله أضيافه فيفيض عليهم بأنواره وهدايته ويخرجون مزودين بزاد من التقوى والإيمان والرشاد ، وفى وسط آيات الصوم تجد قول الله تعالى :{ وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداعى إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون } .
و الصوم يكسب الصائم صفة الإخلاص لله وحسن مراقبته لأنه سرٌ بين العبد وربه ، والإخلاص لله من أعظم وألزم الزاد لكل مسلم على طريق الدعوة ، فلا خير من عملٍ أو جهد إذا خلا من الإخلاص لله سبحانه فالله غنى عن الشركة ولا يقبل إلا العمل الخالص لوجهه .
و الصوم فيه مجاهدة لرغبات النفس و الجسد ، وفى ذلك تقوية لإرادة المسلم ، وهذا زاد لازم ضرورى للداعى الى الله و المجاهد فى سبيل الله .
فالصائم يكبح جماح نفسه وشهواته على الحلال فترة من اليوم طوال الشهر أداءً لعبادة الصوم ، وفى ذلك عون له على أن يمتنع عن الحرام باقى الأوقات .
الصوم يكسب الصائم فضيلة الصبر وهى من ألزم الصفات للدعاة الى الله فيعينهم الصبر على تخطى العقبات ومواصلة السير على طريق الدعوة دون وهن أو ضعف أو استكانة :{ فما وهنوا لما أصابهم فى سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين } فلا يثنيهم وعيد أو تهديد أو إيذاء أو تشريد .
الصوم يربى الجوارح ويهذبها شهراً كاملاً فتعتاد ذلك فلا يقتصر الصوم على شهوتى البطن و الفرج ، ولكن الصوم الصحيح أن تصوم الجوارح كلها عن كل ما حرَّم الله ، فالعين والأذن واللسان و اليد و الرجل بجانب الفم و الفرج ، وهذا جانب تربوى هام فى شخصية المسلم .(1/54)
الصوم يكسب صاحبه فضيلة الحلم على الجاهلين ، فإذا خاصمه أحد أو سابه أو استثاره يكظم غيظه ويحلم ويقول إنى صائم إنى صائم . وما أحوج الداعين إلى الله الى هذا الخلق من ضبط النفس وسعة الصدر وعدم الغضب للنفس وفى هذا كسب لصالح الدعوة :{ ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك } وفى هذا أيضاً توفير للوقت والجهد لصالح الدعوة والإنتاج بدلاً من تضييع الوقت و الجهد نتيجة الغضب فى جدال وخلافات وتحقيقات ومصالحات ويكون الضحية الدعوة والإنتاج و العمل لها ، وصدق الله العظيم :{ ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتى هى أحسن} .
الصوم يربى فى قلب الصائم العطف على الفقير و المحتاج حينما يشعر بألم الجوع فيسارع الى مد يد العون له وجاءت زكاة الفطر لتؤكد هذا المعنى وتذكِّر به وهذا جانب تربوى هام ويلزم أن يسود بين المسلمين .
أثناء الصيام وخلو المعدة وتخفيفها من الطعام تسمو الروح ويصفو القلب وتزول الحجب وجواذب الأرض ، فيكون الصفاء والإشراق ويشع نور الحق فى القلوب فيضيئها وتتهيأ النفس للتزكية بالذكر و تلاوة القرآن والاستغفار و التوبة و الدعاء وتكون السعادة الحقة و المتعة الروحية و الشعور بالقرب من الله ويؤكد هذا المعنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم :( إن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع ) متفق عليه .
الصوم وخاصة أيام الحر الشديد يهيىء المسلم للصبر و التحمل فى ميادين الجهاد و القتال ومجالدة الأعداء أو ما قد يمر به من ظروف قاسية فى مجالات الدعوة وميادينها ولا تكون جواذب الأرض ومطالب الجسد معوقاً له أو مقعدة عن مواصلة السير .(1/55)
الصوم يعلِّم الصائم ما يفرح له المؤمن من توفيق الله وعونه لأداء العبادة والإخلاص لله حينما يذكرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن للصائم فرحتين إذا أفطر فرح ، وإذا لقى ربه فرح بصومه :{ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون } وفى هذا تصحيح لتصورات خاطئة عند الكثير عندما يفرحون لأعراض الدنيا حينما تقبل عليهم ويحزنون عند افتقادها .
الصوم يدعم معنى الجماعة فى نفس الصائم ، فالمسلمون فى أنحاء العالم يصومون فى شهر واحد ويحسون أن ما فيه من خير بسبب الصوم ، وشهر رمضان يشاركهم فيه إخوانهم فى جميع أنحاء العالم على اختلاف أجناسهم وألوانهم والشعور بوحدة المسلمين أمر هام ولازم خاصة لأصحاب الدعوات .
ولما فى الصوم من خير سنَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صيام أيام غير الفريضة على مدار العام رغبنا فى ذلك من منطق حرصه صلى الله عليه وسلم وحبه الخير لنا .
وإذا كان من رحمة الله بنا وحبه الخير لنا يسر لنا الصلاة فى السفر و المرض و الحرب ولكنه خففها بعض الشىء علينا حتى لانحرم خيرها وزادها فإنه سبحانه من منطلق رحمته بنا وكى لايشق علينا رخص لنا فى الصوم بالقضاء أو الفدية فى السفر أو المرض .
الصوم يربط المسلم بهذا الكون وما فيه من أقمار ونجوم حين يتحرى أول الشهر ويبحث عن الهلال فى أول رمضان وأول شوال ويتحرى مطالعه ويتعرف على هذا الجانب من خلق الله وما فيه من دلالة على عظمة الله وقدرته .
الصوم يعود المسلم على الاهتمام بالأوقات و الدقة فى المواعيد فكل صائم يتحرى وقت الإمساك ووقت الإفطار ويدقق فى ذلك حتى لا يبطل صومه بسبب الإهمال أو عدم الدقة و تكرار ذلك كل يوم لمدة شهر يكسب صاحبه هذه الخاصية وما أحوج الداعين الى الله إليها فى حياتهم بالدعوة ولقاءاتهم وعملهم بما لا يتسبب فى تعطيل أمر هام أو ضياع أوقات غيرهم دون فائدة .(1/56)
الصوم مع ذلك كله له آثاره الصحية المباركة على الجسد وقد كشف الطب الحديث هذه الحقيقة أخيراً ولجأت بعض المصحات الى الصوم كوسيلة فعالة فى علاج كثير من الأمراض .
كل هذا الزاد وهذه الآثار التربوية فى الصوم وشهر رمضان سهلة المنال لمن صدق النية وصام كما يريد الله لنا أن نصوم وكما علمنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم .
أما مانراه اليوم عند كثير من المسلمين حيث تحول الشهر الصوم الى شهر التخمة والإكثار من ألوان الطعام بدلاً من الجوع والإقلال من الطعام ، ومن تحول شهر العبادة و القيام و القرآن الى شهر السمر و اللهو وأنه فرصة الفنانين و الفنانات ليقوموا بإحياء ليالى رمضان بفسادهم وإفسادهم ، وهذا الحشد من المنكرات أقول إن هذا كله تشويه لحقيقة رمضان وحال لا يرضى عنها الله ولا رسوله ويلزم العمل على تصحيحها .
وأخيراً أسأل الله أن ينفعنا بخير رمضان وزاد الصيام وما ذكرته ليس إحاطة بالموضوع ولكن بعض جوانبه نفعنا الله بها .
وفى العبادات زاد ...... ( الزكاة )
( الزكاة كما هو واضح من اسمها تزكية للنفس وسمو بها عن جواذب الأرض وتطهر من الدنس والأوزار والله سبحانه وتعالى قرر ذلك فى قوله تعالى :{ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } وتزكية النفس وتطهيرها زاد عظيم وفلاح كبير :{ قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها } فالزكاة و الصدقات والإنفاق فى سبيل الله عموماً تعبد وتقرب الى الله وفى الوقت ذاته زاد روحى وتربوى هام )(1/57)
الإنسان فى فطرته حب المال وحب التملك ، والقرآن يقرر ذلك :{ وتحبون المال حباً جماً } وفى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معناه أو لو كان لابن آدم واد من ذهب لتمنى أن يكون له واد آخر وما يملأ عين ابن آدم إلا التراب ) وفى فطرة الإنسان الشح :{ إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً } { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } ولذلك نرى هذا التكالب من الناس على أعراض الدنيا واقتتالهم عليها وهذه الأنانية وهذا الصراع بين الناس بعضهم البعض و الحقد و الكراهية و الحسد والأنانية الى مستوى الحيوانية إذا خلا المجتمع من معانى الإيمان .
ولكن إسلامنا العظيم يهذب ذلك كله ويسمو بنفوس المسلمين ويعالج ارتباطهم بالمال وأعراض الدنيا ، فيعلم المسلم أن المال مال الله فى يده وأنه عرض زائل يستعين به لأداء رسالته فى الحياة وهى عبادة الله ، وأن الله يقسم الأرزاق بحكمته وعلمه وأن الإسلام ينظم توزيع المال بين الناس وتكافلهم بطريقة لا نظير لها ولا مثيل بما يحقق الحياة الطيبة الكريمة الخالية من الشحناء و البغضاء و الحسد و الكراهية بل يعمها الحب والإيثار و القناعة و الرضا و الرحمة و الشفقة ، وكما يضع العقوبة الزاجرة لمن تسول له نفسه بعد ذلك أن يعتدى على حقوق الغير .
كما رسم الإسلام الطريق للكسب والإنفاق .
وسنعرض هنا بعض الزاد النافع المتصل بالزكاة والإنفاق فى صورة نقاط وبالله التوفيق :
- فى إخراج الزكاة والإنفاق فى سبيل الله تطويع للنفس وترويض لها على مغالبة حب المال و التعلق به وحث على العطف على الفقراء و المحتاجين وكذلك الشعور بالمشاركة فى أمور الأمة الإسلامية ، والدولة الإسلامية و الجهاد فى سبيل الله ولذلك كله أثره فى بناء شخصية المسلم الحق المتكاملة النافعة وما أحوج أصحاب الدعوات لهذه المعانى .(1/58)
- من يمتثل أمر الله بإخراج الزكاة و الصدقات والإنفاق فى سبيل الله يشعر أن المال مال الله وأنه يتصرف فيه حسب أوامر وتعاليم صاحبه سبحانه وأنه لايحل له أن يخالف هذه التعاليم فى جمعه وصرفه .
- المسلم ينظر الى المال علىأنه وسيلة يستعين بها على طاعة الله وأن جمعه ليس غاية ، وبهذا يظل المال فى أيدينا نستخدمه ونستعين به ولا يدخل الى قلوبنا ويستحوذ عليها ويسخرنا له ويستخدمنا لجمعه وحراسته وتنميته ويصير شغلنا الشاغل :{ ألهكم التكاثر حتى زرتم المقابر } :{ ويل لكل همزة لمزة الذى جمع مالاً وعدده يحسب أن ماله أخلده كلا لينبذن فى الحطمة } .
-الزكاة تعلم المسلم أن هذا التفاوت فى الأرزاق من صنع الله وتقديره لحكمته ... فهو بعباده خبير بصير ولكى تسير الحياة بين الناس فى تعاون ويخدم بعضهم بعضاً :{ الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } ، { أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم فى الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون } .
- المؤمن الصادق يعتقد أن ما حصل عليه من مال إنما هو من فضل الله وليس بمقدرته الشخصية وعلمه كما قال قارون إنما أوتيته على علم عندى .
- المؤمن يرضى بما قسمه الله له من رزق فالله بعباده خبير بصير :{ ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا فى الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير } .
- الزكاة تربى فى نفس المزكى الثقة المطلقة بالله و الثقة بما عند الله أكثر من الثقة بما فى يده ، فظاهر الأمر أن الزكاة أخذ من المال أو انتقاص له ولكن المزكى يثق بعكس ذلك ... وكما أن الربا ظاهره زيادة فى المال ولكن فى حقيقته محق له وتدمير وإهلاك وذلك مصداقاً لقول الله تعالى :{ وما أوتيتم من ربا ليربو فى أموال الناس فلا يربو عند الله ، وما أوتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون } وكذا إنذاره بحرب من الله ورسوله لمن لا يترك الربا .(1/59)
- الزكاة تدفع المسلمين لاستثمار أموالهم بما ينفع المسلمين بدلاً من تعطيلها ، وفى ذلك نماء وقوة للإسلام و المسلمين ودفعاً إليهم لاستعمار الأرض والإفادة من نعم الله وعدم تحكم غيرهم فى اقتصادهم . .
- غير المؤمنين مقياسهم المال ويقدرون الناس بقدر ما عندهم من مال ولو كانوا ضالين مفسدين ، ولكن المؤمنين مقياسهم ربانى :{ إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وينزلون المال قدره المناسب على أنه عرض زائل وليس من مقومات الشخصية .
- غير المؤمنين يفرحون فرحاً شديداً عندما يقبل عليهم المال وأعراض الدنيا وقد يكون فى هذا الإقبال هلاكهم وزيغهم ويجزعون جزعاً شديداً عند إدبار الدنيا و المال عنهم ، وقد يدفع هذا الجزع بعضهم الى الانتحار .
- أما المؤمن فحاله متقارب عند إقبال الدنيا أو إدبارها فلا يفرح بما آتاه ، ولا يجزع أو يأسى على ما فاته فيطمئن الى أن هذا هو قدر الله وقدر الله له خير ... ويكون فرح المؤمن بفضل الله ورحمته وتوفيقه وهدايته :{ قل بفضل الله وبرحمته هو خير مما يجمعون } .
- المال يمكن أن يكون وسيلة لجلب الخير و الثواب العظيم إذا جمع من حلال وأنفق فى سبيل الله وأدى حق الله فيه ويمكن أن يكون وسيلة شر وجلب لغضب الله وعذابه فى الاخرة إذ ا لم يتجه صاحبه الطرق الحلال فى جمعه ولم يؤد حق الله فيه .
هؤلاء الذين يحرصون على المال وعلى جمعه واكتنازه يخطئون الطريق فالمحافظة الحقيقية للمال تكون بإنفاقه فى سبيل الله ، وتنميته تكون بذلك أيضاً ... فالله تعالى يقول :{ مثل الذين ينفقون أموالهم فى سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل فى كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم } ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ليس لك يابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت ) .(1/60)
- المزكى يشعر أن ما يعطيه للفقير المحروم ليس تفضلاً منه ولكنه حق معلوم قسمه الله لهذا الفقير أجراه الله على يديه وكان من الممكن أن يتبادل المراكز مع هذا الفقير ويكون هو المتصدَّق عليه و الفقير هو المزكى .
- القرآن يحثنا على عدم إبطال ثواب الصدقات بالمن والأذى و الرياء وفى هذا جانب تربوى هام ينمى الإخلاص لله سبحانه وتعالى وكف الأذى عن الناس و الحث على المودة و الرحمة :{ يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذى ينفق ماله رئاء الناس } بل يريد وجه الله فقط .
- الله طيب لا يقبل إلا طيباً و القرآن يحثنا على الإنفاق من الطيب الذى نحبه ولا نقدم الخبيث وهذا جانب تربوى هام فيه مقاومة للأنانية وحب النفس :{ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غنى حميد } ، { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } .
- ما أجمل أن تسمو مشاعر المتصدق فيحس أن حاجته للفقير ليتصدق عليه أشد من حاجة الفقير إليه ، ذلك أنه أشد حاجة الى الحسنات وثواب الله يوم القيامة من حاجة الفقير الى المال فى الدنيا ... يحتاج الى ثواب الله لينجيه من العذاب ويدخل جنة الله ، ولهذا فعليه أن يسعى هو الى الفقير لا ينتظر شكراً من الفقير بل عليه هو أن يشكر الفقير الذى أتاح له فرصة زاد ينفعه فى الآخرة .
يخطىء الكثيرون عندما يقيسون نعم الله بما يدخل فى جيوبهم من راتب أو دخل وينسون نعم الله عليهم من سمع و بصر وعقل ونطق وغير ذلك وكأن ذلك حق مكتسب ليس لله فيه فضل عليهم ، فما أجدرنا أن نصحح هذه النظرة ونحس بفضل الله ونعمه علينا وأننا لو خيرنا بين أى نعمة من هذه النعم وبين قناطير من الذهب ما رضينا بديلاً عنها .(1/61)
المزكى أو المتصدق يلزم أن يشعر أنه حينما يعطى الفقير إنما يقدم هذا العطاء لله :{ ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات } وقد تذوقت السيدة عائشة رضى الله عنها هذا المعنى من هذه الآية فكانت تنظف وتجلى درهم الصدقة .
- إن المؤمن الحق ليستحى من الله المنعم المتفضل وهو يدعوالمسلمين الى الإنفاق فى سبيل الله فى صورة طلب قرض :{ من ذا الذى يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة } ، فمن تذوق هذ الآية حق التذوق لا يملك إلا أن يستجيب مقدماً كل ما يملك فى حياء وخشوع .
- ما أجدرنا أن نقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته فى الجود والإنفاق فقد كان صلى الله عليه وسلم أجود من الريح المرسلة ، وكان أجود ما يكون فى رمضان ، وخرج كثير من الصحابة عن أموالهم فى سبيل الله ولجيوش المسلمين ويروى أن أحد الصحابة كان ينفق بسخاء فراجعه فى ذلك بعض القريبين منه فقال لهم عودت خلق الله عادة وعودنى الله عادة وهى الكرم فأخشى أن أغير عادتى مع خلقه فيغير عادته معى .
- أسلوب القرآن يحث على المسارعة بالإنفاق قبل فوات الأوان بالموت وهذا جانب تربوى هام ينمى صفة المسارعة الى الخيرات :{ أولئك يسارعون فى الخيرات وهم لها سابقون } :{ أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتى أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتنى الى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون } .
- إن شمول فريضة الزكاة لكثير من أنواع الثمار والمحاصيل و الحيوانات وغيره فيه معنى مشاركة الفقير لكل هذه الأنواع وعدم حرمانه من شىء منها بسبب فقره .
وهكذا نجد الزكاة والإنفاق كله دروس وزاد لمن أراد أن يتزود .
ولا أدعى أنى أحطت بالموضوع كاملاً وللمستزيد أن يستزيد ....... وبالله التوفيق .
وفى العبادات زاد .... ( الحج )
{(1/62)
الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله } .
زاد الحج زاد مكثف وفير يكرم الله به زوار بيته الحرام ، فالفيوضات الربانية أثناء فترة الحج وفى الأماكن المقدسة وعند أداء هذه الشعائر فيوضات غامرة من النور و الهداية و التقوى و الرحمة و السكينة ، خاصة إذا كان جهاز الاستقبال وهو قلب الحاج سليماً نقياً نظيفاًَ مخلصاً الوجهة لله ، فالمشاعر الوجدانية التى تتملك الحاج قبل سفره من رغبة ملحة وشوق كبير لأداء فريضة الحج وزيارة بيت الله الحرام وقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم و التى تزداد أثناء السفر ، ثم اللحظات التى يقع فيها البصر لأول مرة على الكعبة المشرفة ، ما أعظمها وأروعها من لحظات فكأن شحنة روحية تدفقت على القلب الحاج فملأته خشية وخشوعاً لله وتعظيماً ومهابة لبيت الله الحرام ، وعند استلام الحجر الأسعد يمين الله فى الأرض ، وعند الوقوف بأعتاب الكعبة عند الملتزم حيث تسيل العبرات وتذرف دموع الخشية و الضراعة و التوبة و الندم ، وهناك أيضاً على عرفات الله وعلى جبل الرحمة فيض غامر ، الجميع فى صعيد واحد يجأرون إلى الله بالدعاء وقد أتوا من كل فجٍ عميق ، والحج عرفة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيكون إكرام الله لزوار بيته فلا يردهم خائبين ، فيقبل توبة التائبين واستغفار المستغفرين ودعاء الداعين وتتنزل عليهم السكينة وتغشاهم الرحمة وتغمر قلوبهم بنور الله وتقوى الله وتكون السعادة الحقة التى تذكر بسعادة أهل الجنة .(1/63)
زاد الصلاة و الصوم و الزكاة يتجدد ويتكرر لأن هذه العبادات تتكرر مع الأيام و الأشهر و الأعوام ، ولكن لما كانت فريضة الحج هى فريضة العمر تسقط بأدائها مرة فكأن الله سبحانه وتعالى كرماً منه وفضلاً قد خصها بهذا الفيض الغامر و الزاد الوفير الذى يفيد صاحبه بقية حياته ويجعله يعود نقياً كيوم ولدته أمه وكأنه حط عن كاهله أحمالاً وأوزاراً ثقيلة .
-إن الحاج من وقت خروجه من منزله لأداء فريضة الحج يعيش فترة خالصة لله خالية من مشاغل الدنيا يعيشها بوجدانه ومشاعره وكيانه كله بقلبه وعقله وجسده وجوارحه وحواسه ونفسه وخلجات قلبه ويبذل فيها وقته وجهده وماله وكل ما يملك ، وهكذا يطوع كل هذه النعم لله ولطاعة الله بعيداً عن معصية الله وفى هذا التطويع زاد كبير وتربية وتهذيب يمتد أثرها فى حياته بعد ذلك .
إن توقف وجوب فريضة الحج على شروط توافر الاستطاعة له تأثير غير مباشر على المسلم الصادق أن يجعله يراقب حاله دائماً ويراقب الله فى تحديد وقت توافر هذا الشرط فلا يتراخى ولا يتردد فى السعى لأداء الفريضة بمجرد توافر الاستطاعة لأنه لا يضمن امتداد أجله ، وإلا لتعرض لعذاب الله ويكون مثله كمن ترك الصلاة تراخياً أو حلَّ عليه شهر رمضان ولم يصم أو وجبت عليه الزكاة ولم يؤدها .
- إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً فمن ينوى أداء فريضة الحج لابد وأن يتحرى فى كسبه الحلال الطيب بعيداً عن الحرام أو ما فيه شبهة وفى هذا أيضاً جانب تربوى هام فى حياة المسلم .(1/64)
- ما أشبه الحاج الذى يخرج من بيته وقد اغتسل ولبس ملابس الإحرام وخرج من مشاغل الدنيا ليخلص بقلبه لله وترك الأهل و المال و الولد خلفه ، ما أشبهه بمن يخرج من الدنيا عند لقاء الله ، فالاغتسال يقابله التغسيل وملابس الإحرام تقابل ملابس التكفين والخروج من مشاغل الدنيا يقابله الخروج الجسدى من الدنيا ، وتوديع الأهل وترك المال و الولد أمر مشترك فى الحالين ، فما أجمل أن يتذكر الحاج هذا المعنى ويأخذ العبرة و العظة ، ويستعد للقاء الله على طهر ونقاء ، فيرد المظالم ويقضى الديون ويطلب الصفح ممن أساء إليه ويتوب الى الله فربما لقى الله فى سفره هذا ، وبهذا يبدأ رحلته بدءاً طيباً كريماً .
- صلى عليك الله ياسيدى يارسول الله علمتنا دعاء نقوله عند السفر لو عشنا ما يتضمنه من معان بحق لخرجنا بزاد تربوى كبير :( اللهم إنا نسألك فى سفرنا هذا البر و التقوى ومن العمل ما ترضى ) توجيه النية و القصد الى البر و التقوى و العمل الصالح وأن الهدف هو رضوان الله وسؤال ذلك من الله فيه شعور وإقرار أن هذا لا يتحقق إلا بتوفيق الله وإرادته ، والفقرة التالي من الدعاء :( اللهم أنت الصاحب فى السفر و الخليفة فى الأهل و المال و الولد ) ما أعظم أثر هذا الدعاء فى نفس المؤمن يشعر بصحبة الله ومعيته فى السفر ، فهو فى حفظ الله ورعاية الله وضمان الله ، ثم الاطمئنان أن الله هو الخليفة فى الأهل و المال و الولد فلا قلق ولا انشغال على شىء من ذلك .(1/65)
هكذا يتحقق التفويض لله وجميل التوكل عليه بصورة عملية واقعية ، ثم الفقرة التالية :( اللهم هون علينا سفرنا هذا واطوى عنا بعده ) لجوء الى الله فى تيسير السفر وتخفيف مشاقه ، فالأمر كله لله ولا يظن أحد أن هذا التيسير كامن فيما أخذ من أسباب كطائرة أو سيارة ولكن لاسهل إلا ما جعله الله سهلاً ، فقد تصير السيارة سبب مشقة لا سبب راحة إن أمسك الله رحمته ووكلنا لأنفسنا ، ثم الفقرة التالية :( اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب فى الأهل و المال ) شعور بالعجز ولجوء الى الله واستعاذة به مما يتعرض له المسافرون أحياناً من متاعب وأخطار فى السفر أو فى أهلهم وأموالهم عند عودتهم إليها .
- ليستشعر الحاج عند بدء السفر أنه يبدأ رحلة فى ضيافة الرحمن وأن من معه من ركب كلهم ضيوف الرحمن وزوار بيته الحرام فيطمئن أنه فى حفظ الله ورعايته ويتعامل مع ضيوف الرحمن بكل رفق ولين وتسامح وحب وتعاون ، يعين الضعيف و المريض ويقضى حاجة المحتاج :{ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج } وترويض النفس على ذلك طوال الرحلة زاد تربوى ضرورى للمسلم فى حياته ولازم للدعاة الى الله على وجه الخصوص .
- و الدعاء المتبادل عند توديع الأهل والأصحاب عند السفر الذى أرشدنا إليه رسولنا الكريم فيه خير كبير ومعان تربوية هامة :( استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك ) هكذا يقول المقيم للمسافر ، ويقول أيضاً :( زودك الله بالتقوى ) ويقول أيضاً :( لاتنسانا يا أخى من دعائك ) قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضى الله عنه عند سفره ... ويقول المسافر للمقيمين :( أستودعكم الله الذى لاتضيع ودائعه ) موقف كله ذكر لله وافتراق على الله وفيه التواصى بالحق و الثبات على الأمر و الحرص على حسن الخاتمة ، عاطفة وحب للخير متبادل لانجده إلا بين المسلمين .(1/66)
- اختيار أمير للركب فيه امتثال لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحقيق لمعنى الوحدة و النظام واجتماع الكلمة وحفظ من الشيطان ببركة الجماعة ، وهذا جانب تربوى هام خاصة لأصحاب الدعوات السائرين على طريق الدعوة .
- وهذا الدعاء عند ركوب الدابة أو وسيلة السفر إذ يسمى الله أزلاً وعندما يركب يقول الحمد لله ويكبر ثلاثاً وإذا استوى يقول :( سبحان الذى سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا الى ربنا لمنقلبون ) وفى ذلك تذكر لفضل الله فى تسخير هذه الوسيلة ولا يرجع الفضل لصانعى الطائرة أو السيارة وحدهم فالفضل أولاً وأخيراً لله هو الذى سخر لهم المواد لصنعها ورزقهم العقل الذى يفكرون به .
- التلبية وما تحمل ألفاظها من معانى الاستجابة لداعى الله وما فيها من تنزيه عن الشرك وأن الحمد له وحده و النعمة و الملك له وحده ، ثم إن تكرارها باللسان وانشغال القلب بها فى تأكيد وتثبيت لمعانى الإيمان و التوحيد و الشعور بفضل الله وفقرنا إليه :( لبيك اللهم لبيك ... لبيك لاشريك لك لبيك ... إن الحمد و النعمة لك و الملك ... لا شريك لك ) .
واستبدالها بالسلام عند لقاء الحجيج بعضهم البعض فيه تذكير وتأكيد للاجتماع على عقيدة التوحيد و الشعور بالمشاركة فى هذه العبادة الجماعية .
- كلما سما الحجاج بأرواحهم ... قلَّ شعورهم بالتعب الجسمانى بل تذوقوا لهذا التعب طعماً آخر غير التعب إذ يكون مصدراً لثواب الله ورحمته .
- كلما اقترب الحجاج من بيت الله الحرام ... ازداد شوقهم وتعلقهم به كتأثير المغناطيس يشتد جذبه بالاقتراب منه وهذا أمر أودعه الله قلوب عباده المخلصين ، وفى ذلك دلالة على حب الله لهؤلاء العباد الذين حبب إليهم زيارة بيته الحرام إن شاء الله .(1/67)
- عندما يقع بصر الحاج أول مر على الكعبة المشرفة يتملكه شعور بالمهابة و التعظيم وروعة المشهد وحال من التأثير و الرهبة الممزوجة بالفرح و السرور و الوصف هنا لا يكفى ولكن من ذاق عرف ... ثم هذا الدعاء المأثور وما فيه من خير :( اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابة ، وزد من شرفه وكرمه ممن حجه أو اعتمره تشريفاً وتكريماً وتعظيماً وبراً ) ( اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام ) .
- رحلة الحج ليست كغيرها من الرحلات إنها ليست رحلة بالأجساد الى مكة حيث الكعبة وجبل عرفات ، إنها رحلة ربانية ، رحلة نورانية ، رحلة قلوب وأرواح تسعى الى خالقها ، فتتصل بأصلها وتستمد القوة و الحياة و السعادة وتتزود بالتقوى خير زاد .
إن هذا البيت الحرام ليس كغيره من البيوت وإن كان من حجارة متشابهة إنه بيت اله الحرام ، وهذا الجبل ليس كغيره من الجبال ، وإن كان من نفس مكونات الجبال لقد خصهما الله بأسرار وفيوضات وتأثير وتجليات كما خص سبحانه القرآن كلامه العظيم بأسرار وإعجاز وتأثير ، وإن كان من ألفاظ وحروف مثل التى نتكلم بها ، وهذا فضل منه ورحمة بنا وتيسير ، فإننا لا نقوى على تحمل كلام الله على حقيقته مباشرة :{ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله } كما أننا لا نستطيع تحمل تجلى الله :{ فلما تجلى ربه للحبل جعله دكاً وخرَّ موسى صعقاً } فيسر الله لنا زيارته و القرب منه ومناجاته و النيل من فيوضاته بزيارة بيته الحرام الذى تجلى عليه وخصه بفيوضات وأنوار تنعكس علينا بالقدر الذى نتحمله .(1/68)
وعلى قدر تهيؤ القلوب التى تخشى ربها على قدر استقبالها لهذه الأنوار و الفيوضات الربانية كما هو الحال مع كتاب الله :{ الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثانى تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم الى ذكر الله } . فيا أخي عش رحلة الحج من خلال هذه النظرة الربانية كرحلة حياة للقلوب والأرواح ، لا من خلال النظرة الجسدية الحسية فينشغل القلب بالله والقلب منه التزود من فضله وإحسانه ورحمته فيتحقق لك الحج المبرور و الزاد الموفور و الذنب المغفور وتعود طاهراً نقياً كيوم ولدتك أمك .
- وبهذه النظرة تعرف سر تلك المشاعر والأحاسيس الغامرة التى هى مزيج من أحاسيس الخشية و المهابة و الفرح والسعادة عند وقوع بصرك على الكعبة المشرفة لأول مرة .
- و الطواف بالكعبة وهو تحية هذا المسجد تبدأ باستلام الحجر الأسود وتقبيله إذا تيسر لك ذلك متمثلاً الرسول صلى الله عليه وسلم فى هذا الاستلام وهذا التقبيل مصطحباً نية العهد مع الله على التزام صراطه المستقيم و القيام بواجبات الإسلام من جهاد وتضحية ، ونصرة لدينه فى عزم صادق على الوفاء بالعهد وإتمام البيع واستشعاره خطورة النكث فى العهد وما يترتب عليه من غضب الله وعذابه ، وفى إتمام هذا العهد بهذه الصورة زاد على طريق الدعوة .
- الطواف حول البيت صلاة فى صورة خطوات ودورات ودعوات فأده كأدائك للصلاة فى خشوع وحضور قلب وأدب ورفق بإخوانك أثناء الطواف واستشعر اطلاع الله عليك وأنت تؤدى هذه العباد حول بيته الحرام ، واعلم أن قلبك هو موضع نظر الله إليك فأخله من كل شىء إلا الله وحب الله ، الإخلاص لله حينئذٍ تسمو الروح وكأنها هى التى تطوف حول البيت وليست الأقدام ، ولتكثر من ذكر الله و الدعاء لك ولإخوانك ولدعوتك .(1/69)
- وعند الملتزم بعد الطواف استشعر التصاقك بالبيت الرغبة الشديدة فى القرب من الله وبتعلقك بأستار الكعبة ، استشعر الفقر و الحاجة الى الله والى مغفرته ورضوانه ، وبوقوفك على أعتاب الكعبة استشعر وقوف العبد الفقير على باب الغنى الكريم ، وليطلع الله منك على صدق الإقبال عليه والإخلاص له والخوف منه و الرجاء فيه والندم و التوبة النصوح و الشعور أن لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه مع الشعور بالحب و الخضوع ولذة القرب و الطاعة وفى هذا مزيج من المشاعر الطيبة السامية ، أكثر الدعاء واسكب العبرات وجدد العزم والعهد مع الله وكأنك لا تريد أن تترك أعتاب بابه إلا لتتيح الفرصة لغيرك من ضيوف الرحمن .
- وعند مقام إبراهيم تصلى ركعتين وتتذكر الصلة الروحية الممتدة عبر الأجيال بيننا وبين سيدنا إبراهيم عليه السلام واستجابة الله لدعواته بأن بعث فينا محمداً صلى الله عليه وسلم رحم للعالمين .
- وماء زمزم ليس كغيره من الماء فقد خصه الله كذلك بخير كثير ولنتذكر عند شربنا منه السيدة هاجر أم إسماعيل وكم قاسا من العطش قبل ظهور زمزم ، فلنروض أنفسنا على تحمل المشاق فى سبيل الله فى ميادين الجهاد
- و السعى بين الصفا و المروة أيضاً من شعائر الحج و العمرة ، فهو عبادة وليس مجرد سير هذه الأشواط وإذا صاحبها شعور بالتعب و المشقة فلنتذكر السيدة هاجر وسعيها بين الصفا و المروة بحثاً عن الماء لوليدها الذى أشرف على الهلاك فما أجدرنا أن نتحمل المشاق السفر و الجهاد فى سبيل الله تعبداً وتقرباً الى الله زكاة لصحتنا وشغلاً لأبداننا بطاعة الله .
- فى أيام إقامتك بمكة وفى رحاب البيت الحرام ما أروع وأجمل أن تنتهز الفرصة وتؤدى جميع الصلوات و الكعبة المشرفة أمام ناظريك .(1/70)
وفى هدوء الليل تنتحى جانباً فى رحاب الكعبة وتتهجد لله وتناجيه وتخبت له وتخشع وتطرق باب الكريم بركعات وسجدات ودعوات ودمعات من خشيته ، وفى هذا الجو الربانى لا تنس أن تسأل الله أن يعز جنده وينصر دينه ويهزم أعداء الإسلام فى كل مكان .
وفى مكة حين تسير فى شعابها وبين أرجائها وتزور غار حراء وغار ثور ، عش ذكريات أيام الدعوة الأولى وما تعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم و المسلمون الأول ، من إعنات وتعذيب وإيذاء بسبب عقيدة التوحيد ، وتذكر صبرهم وثباتهم وإصرارهم على تبليغ الدعوة . وتذكر دار الأرقم بن أبى الأرقم التى ربى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الأبطال الذى اندكت على أيديهم كل الضلالات وحصونها من عبدة الأصنام وعبدة النار ، والروم و اليهود ، واستشعر أنك تسير على أرض سار عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
- إن فى اجتماع الحجاج من كل أقطار العالم فرصة سانحة لتقوية الروابط بين المسلمين وتعارفهم وتعرفهم على أحوال بعضهم البعض ، وتبادل المشاعر والآمال والآلام ليكونوا حقاً كالجسد الواحد وكالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً وليتدارسوا أهم القضايا التى يعيشها العالم الإسلامى والأقليات الإسلامية ، وكيد الأعداء وكل ما يهم المسلمين وحبذا لو تبادلوا المراسلات بعد الحج لتدوم الصلة وتعرف الأحوال وليتمثل الحجاج شعار وحدة الأمة الإسلامية :{ وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون } .(1/71)
- وعلى عرفات الله هذا الجبل الذى خصه الله دون الجبال بهذا الخير ، وهذا الفضل وهذه الفيوضات و الرحمات تتنزل على ضيوف الرحمن وقد اجتمعوا جميعاً فوق هذا الجبل ، فى زى الإحرام المبسط يجأرون الى الله بالدعاء بصورة تذكرهم بيوم الحشر ، إنه مشهد عظيم ويوم عظيم ، وقد روى مسلم وغيره عن عائشة رضى الله عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم قال :( ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفه وأنه ليدنو عز وجل ثم يباهى بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء ؟ ) .
ومن الخير الذى أفاضه الله على هذا اليوم أن جعل صيامه لغير الحجاج يكفر سنة قبله وسنة بعده فعن أبى قتادة رضى الله عنه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة :( قال : يكفِّر السنة الماضية و الباقية ) رواه مسلم .
وعند الإفاضة من عرفات تجيش المشاعر عند وداع هذا الجبل الحبيب وهذا اليوم المبارك وهذا الموقف العظيم وتتعلق القلوب برجاء القبول .
وفى رمى الجمار معنى الانقياد للأمر وتحقيق العبودية بالامتثال ، وإن لم يكن للعقل حظ فى هذا الفعل ، ولتذكر تعرض إبليس لسيدنا إبراهيم عليه السلام ليثنيه عن طاعة أمر الله وعدم استجابة الخليل لهذه الوسوسة ، فما أجدرك أيها الحاج أن تتجسم أمامك خطورة نزغات الشيطان ووسوسته وضرورة مقاومته وأنت ترمى الجمرات دحراً لهذا الشيطان الرجيم .
- وفى ذبح الهدى وتوزيعه على المحتاجين من المسلمين قربة لله ومرضاة له ورجاء فى أن يعتقك الله من النار ، وفى ذلك أيضاً تحقيق معنى العطف على الفقراء وإطعامهم من أفضل الهدى :{ والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع و المعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون } .
- وفى طواف الوداع الإحساس بفراق أعز الأماكن وأحبها الى قلبك وكلك رجاء فى قبول الله هذا الحج ورجاء فى العودة فيما يقبل من العمر .(1/72)
- وفى الرحلة الى المدينة تذكر هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم و المسافات التى قطعها وهو يطارد واستقبال أهل المدينة وبدئه ببناء المسجد وعش هذه الذكريات العطرة ، وما فيها من إنجازات كبيرة على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته و الغزوات و الفتوحات وتطهير الجزيرة من الشرك والأصنام ومن اليهود بعد حنثهم العهود كما هى عادتهم التى قررها القرآن .
- وفى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ، تذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى رواه البخارى :( مابين بيتى ومنبرى روضة من رياض الجنة ومنبرى على حوضى ) فعش هذه السعادة الروحية التى هى أقرب الى سعادة أهل الجنة برضوان الله - واستشعر الصلة الروحية بينك وبين الرسول الحبيب وأنه حريص علينا وبالمؤمنين رؤوف رحيم عزيز عليه إعناتنا ، سلِّم عليه وصلِّ عليه وادع الله أن يجازيه عنا خير ماجازى نبياً عن أمته ، وكذلك الخليفة الأول أبى بكر الصديق رضى الله عنه ، وعمر بن الحطاب أمير المؤمنين ، وادع الله أن يحشرنا مع هؤلاء النفر الكرام .
- وزر المشاهد فى المدينة والأحداث التى جرت عليها و التى غيرت وجه التاريخ وزر البقيع الذى يطوى أبطالاً أطهاراً وزر أُحد هذا الجبل الذى دارت عنده غزوة أُحد وتذكر ما فيها من عبر ودروس .
وهكذا عش تلك الفترة من السيرة العطرة بذكرياتها الطيبة التى تمنحك الزاد و العظة و العبرة التى أنت فى أشد الحاجة إليها وأنت تسير على طريق الدعوة .
وفى قيام الليل زاد
{ تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون * فلا تعلم نفسٌ ما أخفى لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون } .(1/73)
الصلاة زاد ولكنها فى جو الليل وفى جوف الليل يزداد بها القرب و الزاد و العطاء ، يحن العاشقون الى الليل ، والمتهجدون أشد حنيناً إليه فالذين آمنوا أشد حباً لله ، فى ثنايا الليل قيام وركوع وسجود وذكر وتسبيح وقرآن وتوبة واستغفار ومناجاة ودعاء وبكاء من خشية الله وفى كل ذلك زاد :{ ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلاً } .
- الذين يسلكون طريق الدعوة أحوج ما يكونون الى قيام الليل لما يعطيه من زاد ، فقد وجه الله رسوله صلى الله عليه وسلم فى الأيام الأولى للدعوة الى قيام الليل ليعده لتحمل أمانات الدعوة الثقيلة فقال تعالى :{ يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً إنا سنلقى عليك قولاً ثقيلاً إن ناشئة الليل هى أشد وطئاً وأقوم قيلاً } .
- فى قيام الليل مجاهد وتقوية للإرادة و العزيمة ومغالبة للشيطان وترويض للنفس على الخضوع لله ، فمن يترك النوم و الراحة و الفراش و الدفء ويقاوم رغبات الجسد ويقوم ويتطهر - وقد يكون الجو بارداً - ويؤثر التعبد لله و التقرب إليه ، لاشك فى أن ذلك زاداً وإعداداً له وعوناً على طريق الدعوة .
- القيام بالليل و الناس نيام فيه خلوص وتجرد وإخلاص لله وتخلية للقلب من أى أثر للرياء ... والإخلاص من ألزم الصفات للداعى إلى الله وبدونه تحبط الأعمال .
- فى كتاب الله آيات كثيرة تحث على قيام الليل وتبين ما خص به القائمين بالليل من خير فقال :{ وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً و الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً } :{ أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاماً } .(1/74)
- وللقائمين بالليل أحوال يتقلبون فيها ذكر القرآن بعضها من قيام وسجود وذكر وتسبيح واستغفار ودعاء ففى قوله تعالى :{ أمَّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه * قل هل يستوى الذين يعلمون و الذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب } ، يذكر من أرَّقَه تفكيره فى الآخرة وما فيها من حساب وجزاء ونعيم وعذاب فصار يعيش الخوف و الرجاء فى سجوده وقيامه وفى هذا زاد يعينه على العمل والاستعداد لهذا المصير .
- ذكر الله وتسبيحه فى الليل غذاء للأرواح و القلوب يحرص من تذوقه ألا يحرم منه وفى القرآن آيات تحث عليه :{ واذكر ربك بكرة وأصيلاً ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلاً } :{ واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن الليل فسبحه وإدبار السجود } .
- كلنا مذنبون مقصِّرون ، فما أجدرنا أن نطرق باب الله وقت السحر ونسأله المغفرة و الرحمة فهو وقت إجابة وقد أثنى الله على المستغفرين بالأسحار فقال تعالى :{ للذين اتقوا عند ربهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار الصابرين و الصادقين و القانتين و المستغفرين بالأسحار } ، وقوله تعالى :{ إن المتقين فى جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون }
- الدعاء فى الليل من أروح العبادات وأفضلها جنح الظلام يتذلل العبد لمولاه الكريم يسأله ليعطيه :{ ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا فى الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين } ، وعن أبى أمامة قال :( قيل يا رسول الله : أى الدعاء أسمع ؟ قال : جوف الليل الأخير ودبر الصلوات المكتوبات ) رواه الترمذى .(1/75)
وعن جابر رضى الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن فى الليلة ساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله تعالى خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة ) رواه مسلم .
- و الدعاء أثناء السجود مطلوب فهذه لحظات قرب من الله يلح فيها المسلم بالدعاء فعن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء ) أخرجه مسلم وأبو داود و النسائى .
- ما أجدر أصحاب الدعوات الذين يتعرضون لأذى الأعداء وكيدهم أن يستعينوا عليهم بسهام القدر ودعاء السحر ، قم يا أخى بالسحر وادع الله وقل : اللهم إنا ندرأ بك فى نحور الأعداء والجبارين ونعوذ بك من شرورهم ، وقل : ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين ، وقل : اللهم اهزم أعدائك أعداء الدين وانصرنا عليهم نصراً عزيزاً يشفى صدورنا ويذهب غيظ قلوبنا . وما يفتح الله به عليك من الدعاء .
- وفى حديث رواه البخارى ومالك ومسلم وغيرهم عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ينزل ربنا كل ليلة الى سماء الدنيا حين يقضى ثلث الليل الأخير فيقول : من يدعونى فأستجب له من يسألنى فأعطيه ومن يستغفرنى فأغفر له ) فهل بعد هذا الإغراء و التشويق نتراخى ونتكاسل ؟ ولو قيل للناس فى هذا الوقت من الليل من يحضر فى مكان ما سيأخذ مالاً أو لحماً أو عرضاً من الدنيا لسارعوا وتكاثروا ، ورسولنا الحبيب صلوات الله وسلامه عليه يرغبنا فى حديث له عن أبى هريرة رضى الله عنه قال :( ليس صلاة أثقل على المنافقين من صلاة الفجر و العشاء ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً ) متفق عليه ، أى ما فيهما من خير .(1/76)
- إن البيت الذى يحيى الليل بالقيام بيت تحفه الملائكة وتتنزل عليه الرحمة وتسوده السعادة الحقة ، ما أجمل أن يتعاون كل من الزوج و الزوجة فى تحقيق هذا الخير ، فعن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فإن أبت نضح فى وجهها الماء ... رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت فى وجهه الماء ) رواه أبو داود بإسناد صحيح .
- تقرب الى الله يا أخى ما استطعت بالنوافل ومن أفضلها قيام الليل مصداقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل ) رواه مسلم . ومما يعينك على قيام الليل إخلاص النية واستحضار العزيمة وتجديد التوبة و البعد بالنهار عن المعصية و التبكير بالنوم و القيلولة إن أمكن والاستعانة بالله .
- على المسلم أن يداوم على قيام الليل وينهل من هذا الزاد فقد روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ياعبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل ) متفق عليه .
- أما عن عدد الركعات فعن عائشة رضى الله عنها قالت :( كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات ويوتر بسجدة ويركع ركعتتى الفجر فتلك ثلاث عشرة ركعة ) أخرجه الستة وهذا لفظ مسلم .(1/77)
ما أكثر الزاد فى هذا الدعاء المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند القيام من الليل للتهجد ، فعن ابن عباس رضى الله عنهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال :( اللهم ربنا لك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد أنت مالك السماوات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد أنت الحق ووعدك حق ولقاءك حق و الجنة حق و النار حق والنبيون حق ومحمد صلى الله عليه وسلم حق و الساعة حق ، اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لى ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به منى أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت ) أخرجه الستة وهذا لفظ الشيخين .
- فى رسالة المناجاة للإمام الشهيد حسن البنا يحث الإخوان على قيام الليل : يا أخى لعل أطيب أوقات المناجاة أن تخلوا بربك و الناس نيام والخليون هجَّع وقد سكن الكون كله ، ورخى الليل سدوله وغابت نجومه ، فتستحضر قلبك وتتذكر ربك وتتمثل ضعفك وعظمة مولاك فتأنس بحضرته ويطمئن قلبك بذكره وتفرح بفضله ورحمته وتبكى من خشيته وتشعر بمراقبته وتلح فى الدعاء وتجتهد فى الاستغفار وتفضى بحوائجك لمن لايعجزه شىء ولا يشغله شىء عن شىء إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ، وتسأله لدنياك وآخرتك وجهادك ودعوتك وآمالك وأمانيك ووطنك وعشيرتك ونفسك وأخوتك :{ وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم } .
- إن ما فى قيام الليل و المناجاة من الأنس و الراحة النفسية ما لا يشعر بعناء الأجسام وتعب الأقدام وهذا هو الحبيب صلى الله عليه وسلم يقوم الليل ويطيل القيام حتى تتورم قدماه وما يشعر بألم لاستغراقه فى القرب من الله والأنس به ، وقد قال بعض الصالحين : ليس فى الدنيا وقت يشبه نعيم الآخرة إلا ما يجد أهل القيام فى قلوبهم من حلاوة المناجاة فلنحاول تذوق هذه الحلاوة .(1/78)
- وأخيراً أقول لك يا أخى قم من الليل قيام العبد الفقير الذليل يتسلل فى جنح الظلام ليطرق باب سيده الكريم ، ويقف على أعتاب بابه فى ذلٍ وانكسار وشعور بالتقصير واعتراف بالذنوب وإحساس بالحاجة الملحة الى عفو سيده ورضاه عنه مع الرجاء الملح فى رحمته ورضوانه وجناته .
اطرق يا أخى باب مولاك فى ظلام الليل بركعات خاشعة وسجدات طويلة ودعوات خالصة وتسبيحات ودمعات من خشيته ، وكن موقناً بإجابة ربك لدعواتك ، ولا تنس فى هذه الغمرة من الخير دعوتك فتسأل الله النصر و التمكين لدينه وتدعو لإخوانك بظهر الغيب .
سبحى نفسى وصلى ... ... ... عند سطو العاديات
فإذا القلب تنزى ... ... ... من تباريح الحياة
رقرقى النفس دموعاً ... ... ... واسكبيها فى الصلاة
فإله الكون يصغى ... ... ... للنفوس الباكيات
وفى الذكر والدعاء ..... زاد
{ يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلاً }
الله غايتنا وهو خالقنا ورازقنا فهل نغفل عن ذكره ؟ وهل هناك من نسعد بذكره أفضل منه سبحانه ؟ إنها سعادة لاتسمو عليها سعادة ، إنها قرب من الله وأنس به واطمئنان الى جنبه وانشراح الصدور بنوره وأمن وأمان وتفويض وإسلام الأمر له سبحانه ، لا خوف ولا قلق لا حية لا شقاء لا اضطراب :{ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب } .
كلما ذكرت الله كنت مع الله وكان الله معك ، كنت مع الغنى القوى القهار الرحمن الرحيم الرزاق من بيده الأمر وهو على كل شىء قدير ، فلا تشعر بحاجة الى أى شىء ، فماذا فقد من وجد الله ؟ لا شىء ............. وماذا وجد من فقد الله ؟ لا شىء .(1/79)
كلما ذكرت الله باسم من أسمائه أو صفة من صفاته ترك ذلك أثراً وانطباعاً خاصاً فى النفس و القلب وزاد للروح يسمو بصاحبه ويسمو كلما ازداد ذكره لله ، وتعلو منزلته عند الله ، أما الغافل عن ذكر الله فيتعرض لوسوسة الشيطان الذى يذكره بالمعاصى و الشهوات والآثام وسيىء الأعمال ، ويظل يهبط به ويهبط الى أسفل سافلين ويصدق فيه قول الله تعالى :{ أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون } .
الله تعالى يقول :{ فاذكرونى أذكركم واشكروا لى ولا تكفرون } هل هناك أسمى منزلة ممن يذكره الله تعالى فيكون فى حفظه ورعايته ورحمته وفضله ، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدى بى وأنا معه إذا ذكرنى فإن ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى وإن ذكرنى فى ملأ ذكرته فى ملأ خير منهم ) متفق عليه .
إننا بذكر الله نخلص أنفسنا من هذه الأجواء العفنة و الفتن المتزاحمة ونطهر قلوبنا ونفر الى الله ونخلص إليه :{ ففروا الى الله إنى لكم منه نذير مبين } وكلما ذكرنا الله خنس الشيطان بوسوسته وانصرف عنا وتطهرنا من رجسه .
عندما نعيش بقلوبنا كل صفة من أو اسم من أسمائه نذكره به يزداد إيماننا به وتعظيمنا له سبحانه وفى هذا خير زاد لنا على الطريق .
وهذه الرحمة التى تتغشانا والسكينة التى تتنزل علينا عندما نجلس لذكر الله كلها خير وزاد كبير ، ففى الحدي الذى يرويه مسلم :( لايقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده ) هذا وإن الله سبحانه يباهى ملائكته بمجالس الذكر هذه .(1/80)
وفى ذكرنا لله تعالى ما يدفعنا الى التحلى بالصفات التى يحل لنا أن نتصف بها لا تلك التى لايحل لنا أن ننازعه إياها فكلما ذكرنا الله الرحمن البر الرحيم الحليم الكريم الصبور الشكور العفو الغفور وجدنا أنفسنا لابد لننال رحمة الله أن نرحم من فى الأرض ، ولكى نحظى بجود الله وكرمه يلزم أن نكون كذلك مع خلق الله المحتاجين ولكى يشملنا عفو الله يجب أن نعفو عمن يسيىء إلينا وهكذا وفى ذلك زاد كبير .
ولما فى الذكر من خير يدعونا الله الى ذكره فى أحوالنا وأوقاتنا حتى لانحرم هذا الخير وهذه المعية فيقول تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلا * هو الذى يصلى عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات الى النور وكان بالمؤمنين رحيماً } ويقول تعالى :{ الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون فى خلق السموات وارض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار } أى كرم من الله وفضل أن يسمح لنا بذكره فى كل أحوالنا حتى ونحن على جنوبنا سبحانك ربى ما أكرمك .
احرص يا أخى أن يكون لسانك رطباً بذكر الله فتذكر الله عند طعامك وشرابك ولباسك ونومك ويقظتك وفى طريقك الى العمل وفى عملك وفى كل أحوالك ولا تسمح أن تمر بك لحظات سهو أو لهو أو لغو .... فما لم تكن مشغولاً بعمل أو عبادة فاشغل نفسك بذكر الله فتستكثر من الحسنات وتحظى بالطمأنينة ومعية الله ويحط الله عنك السيئات ما شاء .
واعلم يا أخى أن الذكر المقصود ذكر القلب قبل اللسان ، فإذا ذكر العبد ربه بقلبه انعكس ذلك على جوارحه فإذا باللسان يذكر الله فلا ينطق إلا خيراً و العين تذكر الله فلا تنظر الى حرام ، والأذن تذكر الله فلا تسمع الى ما يغضب الله ، واليد تذكر الله فلا تتحرك الى شر أو إثم ، والرجل كذلك بل و العقل لا يفكر فى شىء حرام و القلب لايخطر به إلا كل خير .(1/81)
وهكذا بالمفهوم الشامل للذكر نرى أن كل أمر راقبت فيه ربك وتذكرت نظره إليك ورقابته عليك فهو ذكر ، فالتوبة ذكر و التفكر من أعلى أنواع الذكر و طلب العلم ذكر وطلب الرزق إذا أحسنت فيه النية ذكر وهكذا .
ومع ذكرنا لله فى كل أحوالنا وأمورنا فإن ذكر الله فى خلوة له أثره وله متعته وحلاوته فى القلب ونوره وانشراحه خاصة إذا صاحب ذلك فيض العين بالدمع من خشية الله ، فمن السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله :( .... رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه .... ) .
يشقى الناس فى حياتهم ويتعبون ويبحثون عن السعادة و الطمأنينة وينفقون الأموال للحصول على ذلك لعلهم يجدونها فى وسائلهم المادية ولا يجدونها ، فى حين أن هذه السعادة و الراحة و الطمأنينة تتوافر بكل يسر لمن يذكر الله ويدعوه بإخلاص .
الغافلون و الملحدون لا يذكرون الله فإذا أصابتهم شدة أو نزلت بهم نازلة ذكروا الله وإذا هم يجأرون إليه بالدعاء أن ينقذهم وينجيهم من هذه الضائقة أو النازلة وإذا كشفها الله عنهم إذا هم يعودون لغفلتهم وإلحادهم ، أما المؤمنون فهم يذكرون الله فى الرخاء و الشدة وفى كل أحوالهم يذكرونه ولا ينسونه .
إن المؤمن إذا ذكر الله وقت عافيته وبسطة المال عنده يشكر الله ويتذكر فضل الله عليه فى ذلك فلا يطغى ولا تفتنه الدنيا وحين يذكر الله وقت الشدة و الضائقة يذهب الله عنه الضيق ويبدله سكينة وطمأنينة وأنساً وراحة بال .(1/82)
وبهذه المناسبة أذكر أن أحد الأخوة كانا محبوساً فى زنزانة ضيقة حبساً انفرادياً يعنى وحده ومغلق عليه الباب طوال الوقت تقريباً ، ولكنه بذكره الله سبحانه وتعالى كان يشعر بأنس وراحة نفسية ولا يحس بأن للزنزانة جدران وباب مغلق وكأنه فى الكون الفسيح و الحارس الذى خارج الباب مستشعر أن الأخ فى ضيق بسبب غلق الباب عليه وكان يغافل الضابط ويفتح باب الزنزانة فتحة صغيرة بعض الوقت ليخفف عن الأخ ولكن الأخ يحكى ويقول أنه حينما كان يفتح الباب يشعر بوحشة ويقل أنسه الذى كان يعيشه مع ذكره لله تعالى .
ومن جميل فضل الله علينا وحسن جزائه للذاكرين ما جاء فى هذا الحديث الشريف يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يقول الله عز وجل من شغله ذكرى عن مسألتى أعطيته أفضل مما أعطى السائلين ) رواه مسلم .
إن التهليل و التحميد والتكبير و التسبيح والاستغفار و الحمد و الثناء و الصلاة و السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ذلك له فضل كبير وثواب عظيم وقد ورد فى ذلك آيات وأحاديث كثيرة وتناولت بعض الصيغ المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أحوجنا الى كسب الحسنات وطرح السيئات بهذا الذكر .
أما عن الدعاء فهو مصدر هام من مصادر الزاد فالدعاء فى ذاته يعنى شعور العبد بفقره الى الله وشعوره بقدرة الله وأن الأمور كلها بيده ، وهذا عين العبودية و التسليم لله والإيمان به سبحانه ، شعور بالانكسار لله و التضرع و التذلل له سبحانه وشعور بفضله وكرمه وإحسانه وأنه على كل شىء قدير وحياة القلوب بهذه المعانى فى ذاته زاد عظيم .(1/83)
الدعاء عبادة و الإعراض عنه استكبار وجحود ومن تفضل الله علينا أن يدعونا لدعائه ويعدنا بالاستجابة فعن النعمان ابن بشير رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( الدعاء هو العبادة ثم قرأ :{ وقال ربكم ادعونى أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } ) أخرجه أبو داود ، وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من لم يسأل الله يغضب ) رواه الترمذى .
ما أجمل أن يتبادل الأخوة مافى الدعاء من خير بأن يدعو كل لأخيه بظهر الغيب ، فعن أبى الدرداء رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك ولك بمثل ) أخرجه مسلم .
ومن قول أحد الصالحين ادع بلسان لم تعصه به ، سئل كيف ؟ قال : تسأل أخاك أن يدعو الله لك . وفى ذلك تقوية لروابط الحب والأخوة فى الله .
وللدعاء أوقات يرجى فيها الإجابة وردت فى أحاديث نبوية يمكن الرجوع إليها ومن هذه الأوقات ليلة القدر وبين الآذان والإقامة وفى السجود وفى السفر وتحت المطر ووقت السحر وعند النداء و الصف وعند المظلمة .
وهناك أدعية فى القرآن وأدعية مأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا أدعية لبعض الصالحين يمكن الرجوع إليها ففى ذلك خير .
وللذكر و الدعاء آداب يجب أن نلتزم بها رجاء الإجابة والاستفادة ، ومن هذه الآداب :
حضور القلب و الخشية والسكون وحسن الأدب مع الحق تبارك وتعالى واستفتاح الدعاء بحمد الله و الثناء عليه والصلاة و السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويختم بها .
ومن الآداب أيضاً الهدوء وعدم رفع الصوت بالدعاء أو الذكر ، واختيار جوامع الكلم أى الدعوات الجامعات للخير و التكرار ثلاثاً ، وأن يكون موقناً بالإجابة ولا يتعجلها ، وألا يدعو على نفسه ولا على ولده ولا على ماله بسوء ، وأن يبدأ بنفسه إذا دعا لغيره كأن يقول اللهم اهدنا وإياك .(1/84)
من راعى هذه الآداب فى الذكر و الدعاء سيجد بإذن الله أثر ذلك حلاوة فى قلبه ونوراً لروحه وانشراحاً فى صدره وفيضاً من الله تعالى .
وعلى المسلم أن ينصرف من مجلس الذكر و الدعاء فى خشوع وأدب مع اجتناب اللغط و اللهو الذى يذهب بفائدة الذكر و الدعاء وأثره .
وفى اتباع السنة .... زاد
السنة المطهرة لها فى القلوب المسلمين منزلتها العظيمة فهى التطبيق الأول و الصحيح للإسلام على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهى المنهج السليم للحياة كما أراد الله لعباده ، وهى الشارحة المبينة لكتاب الله العزيز ، وهى المصدر الثانى للتشريع ، ولا يقبل إسلام من أنكرها وجحدها ، وكما أن القرآن الكريم مصدر زاخر للزاد فكذلك السنة مصدر وافر بالزاد .
وتلزمنا وقفة حول أهمية السنة ومنزلتها قبل الحديث عن الزاد الذى نحصل عليه باتباعنا لها كى يتولد الدافع القوى لهذا الاتباع دون تفريط أو تراخ ، خاصة أننا نسمع ونقرأ لأصوات ناشزة تحاول أن تقلل من أهمية السنة أو تشكك فى صحتها .
إن موقفنا من السنة هو الذى يحدد موقفنا من الإسلام نفسه ، فإذا قبلنا تعاليم الإسلام كما بسطها القرآن الكريم وكما أوردها الرسول صلى الله عليه وسلم فيجب علينا أنم نقبلها تامة غير منقوصة .
وهل لنا أن نتردد فى اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم والاهتداء بهديه وسنته بعد أمر الله لنا فى قرآنه الكريم :{ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } وقوله تعالى :{ إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا الى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون } ، وقوله تعالى :{ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا فى أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً } وقوله تعالى :{ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم * قل أطيعوا الله و الرسول فإن تولوا فإن الله لايحب الكافرين } .(1/85)
وبعد هذا الوضوح فى الآية الكريمة التى تربط حبنا لله وحب الله لنا باتباعنا لسنة رسوله الحبيب صلى الله عليه وسلم ، هل يجوز أن يتردد مسلم صادق فى المسارعة الى اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بل يجد نفسه مدفوعاً الى تحرى هذه السن فى كل أموره وأحواله لكى يحظى بحب الله وحب رسوله و الفوز بسعادة الدنيا والآخرة .
إذا كنا نعتقد أن القرآن الكريم كلام الله ، وأم محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله .... نصبح ملزَمين بأن نتبع هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم دون تردد أو تراخٍ .
إن مافى القرآن و السنة المطهرة من تعاليم من ألزم الأشياء للإنسان ولا يتحقق صلاح أو فلاح إلا بالتزامهما فالله تعالى يقول :{ فإما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداى فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى } وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فى حديثه الشريف :( تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى أبداً كتاب الله وسنتى ) .
إن الذين عاشوا فى صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم رأوا جميعهم فى أقواله وأفعاله أعظم الأهمية لا لأن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم أثرت فيهم فخلبت ألبابهم فقط بل لأنهم كانوا أيضاً على اعتقاد جازم بأن ذلك كان أمراً من الله تعالى لتنظيم حياتهم حتى فى أدق تفاصيلها ، وكانوا شديدى الحرص على ألا يفوتهم شىء من أقواله وأفعاله .(1/86)
إن رسالتنا فى هذه الحياة هى عبادة الله تعالى وبها ننال رضوان الله والفوز بالجنة و النجاة من النار ، ومفهوم العبادة ليس مقصوراً على العبادات كالصلاة و الصيام و الزكاة و الحج فقط ولكنه يشمل حياتنا كلها ، فأكلنا عبادة وشربنا عبادة ونومنا وعملنا وعلمنا وزواجنا وكل أمور حياتنا عبادة ، وكما نتحرى فى صلاتنا وصومنا أحكام صحتها لتكون مقبولة ونلتزم بهدى الرسول صلى الله عليه وسلم فيها كذلك علينا أن نقتدى برسولنا فى كل أمر من هذه الأمور وغيرها حتى تكون عبادة مقبولة .
ترى أصحاب المصانع يلتزمون بالتعليمات المصاحبة للآلات و التى وضعها مصمموا هذه الآلات كى يضمنوا سلامة سير هذه الآلات وعدم تعطلها ، فما دمنا نوقن أن الله هو خالقتنا ويعلم كل ما يتصل بنا ، ما ينفعنا وما يضرنا ، ما يفسدنا وما يصلحنا ، وقد وضع لنا تعاليم فى كتابه وسنة نبيه فكيف نخالفها ونجرى وراء تشريعات بشرية وعادات وتقاليد فى حياتنا مخالفة لهدى رسول الله وسنته ؟ فالنتيجة الحتمية لهذا أن نتعرض للشقاء و الحيرة و الضلال ونحرم الحياة الطيبة الهانئة و الطمأنينة والأمن و السعادة فى الدنيا والآخرة .
إن السن هى المثال الذى أقامه لنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم من أقواله وأعماله فكانت حياته صلى الله عليه وسلم تمثيلاً حياً وتفسيراً لما جاء فى القرآن الكريم ، ولا يمكننا أن ننصف القرآن الكريم بأكثر من أن نتبع الذى نزل عليه الوحى وبلَّغه .
إن اتباعنا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كل أمور حياتنا يجعلنا نحيا دائماً فى حال من الوعى الداخلى و اليقظة الشديدة وضبط النفس ، فيصبح كل شىء نفعله أو نقوله مقدوراً بإرادتنا خاضعاً لمراقبتنا الروحية ، نحاسب أنفسنا عليه قبل أن نحاسب يوم القيامة ، وفى هذا زاد كبير .(1/87)
كما أن لاتباع السنة نفع اجتماعى ، فاختلاف الأمزجة و الميول فى الأفراد يحمل الناس على عادات مختلفة و بالمراس تتحول هذه العادات الى حوافز بين الأفراد وتثير الخلافات و النزاعات ، ولكن الإسلام الحنيف يحمل أفراد البيئة الاجتماعية بطريقة منظمة على أن تكون عاداتهم طباعهم متماثلة مهما كانت أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية متنافرة ، فيصير كل مسلم وكأنه لبنة شكلت فى قالب معيَّن يتلاحم ويتلاءم مع إخوانه كأنهم بنيان مرصوص لا اعوجاج ولا نشوز .
إن اتباع المسلمين لسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم يغنيهم عن تقليد الغرب فى أمور حياتهم ويشعرهم بتميزهم واستقلال شخصيتهم ، وأنهم يستطيعون التطور نحو مستقبل حى فى ثقة بالنفس وعدم شعور بالتبعية لشرق أو لغرب ولكن اتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
إن قضية تقليد التمدن الأجنبى فى حياة المسلمين قضية لها آثارها العميقة و الخطيرة ، هى نتيجة شعور بالنقص ونتيجة تصور خاطىء بأن المسلمين لا يستطيعون أن يسايروا الرقى الموجود فى بعض بلاد الغربية ما لم يقبلوا القواعد الاجتماعية والاقتصادية التى قبلها الغرب ... فلا يمكن تقليد مدنية ما فى مظاهرها الخارجية من غير التأثر فى الوقت نفسه بروحها . فالمدنية ليست شكلاً أجوف ولكنها نشاط حى وإذا تقبلنا شكلها سرت مجاريها الأساسية ومؤثراتها الفعالة تعمل فينا ثم تخلع على اتجاهنا شكلاًً معيناً ولكن ببطء من غير أن نلحظ ذلك ، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يثبت هذا المعنى :( من تشبَّه بقوم فهو منهم ) مسند ابن حنبل وسنن أبى داود .(1/88)
يتصور البعض أن عادات وتقاليد الغرب فى حياتهم سامية وقريبة من الكمال ، وأن عاداتنا و تقاليدنا نحن المسلمين هابطة متخلفة و الحقيقة أن المسلمين هم الذين بعدوا فى حياتهم عن سنة نبيهم وتعاليم إسلامهم التى هى أفضل أسلوب للحياة وأرقى مستويات الذوق فى حياة البشر ، لأن رسولنا صلى الله عليه وسلم لاينطق عن الهوى ولكنه يستقى من المصدر الإلهى الذى يتصف بالكمال سبحانه ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير .
يعترض بعض النقاد من غير الموالين للإسلام عادة ويقولون أليس الإجبار على تقليد حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كل حياته افتئاتاً على الحرية الفردية فى الشخصية الإنسانية ، وهذا اعتراض باطل ، فالحرية الحقة فى التزام منهج الحياة الذى رسمه لنا الله الذى خلقنا وقد طبقه رسول الله على نفسه ,امرنا الله أن نقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال :{ لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله و اليوم الآخر وذكر الله كثيراً } .
إن أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم تتصل بأمور تعبدية روحية خالصة وأخرى تتصل بقضايا المجتمع وقضايا حياتنا اليومية ، والقول بأننا مجبرون على اتباع الأوامر المتعلقة بالنوع الأول ، ولكن لسنا مجبرين على أن نتبع الأوامر المتعلقة بالنوع الثانى ، إنما هو نظر سطحى وبخس شديد لقدر النور النبوى ، فهل هناك أفضل من هذا النموذج الربانى لكى نتبعه فى كل أمور الحياة .(1/89)
وهؤلاء الذين يشككون فى السنة وفى صحة مصادرها تافهون وواهمون ، فإن وعد الله بحفظ كتابه العزيز يمتد ويشمل سنة نبيه صلى الله عليه وسلم فهى الشارحة و المبينة له :{ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } فقد قيض الله من الأئمة الفضلاء لجمع الأحاديث وتمحيصها وتصنيفها أمثال الإمامين البخارى ومسلم وغيرهما ، وقد قاموا بكل ما فى طاقة البشر عند عرض كل حديث على قواعد التحديث عرضاً أشد كثيراً من ذلك الذى يلجأ إليه المؤرخون الأوروبيون عادة عند النظر فى مصادر التاريخ القديم ... وقد وضعوا للرواة رجالاً كانوا أم نساءً تراجم خضعت لبحث دقيق يقوم على قواعد غاية فى الدقة ، فإذا لم تقم حجة معقولة أى علمية على الشك فى المصدر نفسه أو فى أحد رواته المتأخرين ، وإذا لم يكن ثمة خبر آخر يناقضه كان حتماً علينا حينئذٍ أن نقبل الحديث على أنه صحيح ، وليس ثمة مبرر مطلقاً من الناحية العلمية أن يجرح أحد صحة مصدر تاريخى ما ما لم يكن باستطاعته أن يبرهن على أن هذا المصدر منقوص .
بعد كل ما تقدم على كل مسلم أن يعتز بدينه وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ولا يقف موقف الذى يدفع التهم عن دينه وسنة نبيه ولكن موقف الواثق من أنه على الدين الحق وأن سنة رسولنا هى أفضل منهج للحياة .
وفى الجهاد فى سبيل الله .... زاد
الجهاد فريضة ماضية الى يوم القيامة ، فقد قال الله تعالى :{ كتب عليكم القتال وهو كره لكم } ، كما قال تعالى :{ كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } ، وهو ذروة سنام الأمر . إذ لابد للحق من قوة تحميه وصدق الله العظيم :{ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز } والآيات والأحاديث الخاصة بالجهاد كثيرة .(1/90)
والمجاهد يحتاج الى زاد من الإيمان وتقوى الله تعينه فى كل مراحل الجهاد ، زاد يدفعه الى المسارعة فى الاستجابة الى داعى الجهاد دون تردد فلا يثاقل الى الأرض وزاد يعينه على الثبات والإقدام عند الزحف ومجالدة الأعداء دون تفكير فى أن يوليهم دبره ، وزاد تخلص به نيته من كل شائبة أو أغراض دنيوية كى يفوز بالشهادة الصادقة فتكون نيته أن تكون كلمة الله هى العليا .
ومع ذلك فالجهاد فى سبيل الله أيضاً مصدر للزاد ، فالمسلم حينما يعيش فى جو الجهاد التهيؤ والإعداد له يرتفع ويسمو عن دنايا الأرض ومطالب الجسد و الشهوات ومغريات الدنيا وتسمو روحه ويشرئب بعنقه يتنسم ريح الجنة وما فيها من نعيم ، وفى هذا السمو و الترقى و التخلص من جواذب الأرض زاد أى زاد .
المجاهد يقدم على الجهاد لتحقيق النصر و التمكين لدين الله لتسعد البشرية كلها بما يحققه هذا الدين لها من كل أسباب الخير وليجنبها شرور الشرك و الضلال ... وهذه الاهتمامات الكبيرة تجعل من صاحبها شخصية لها شأنها ودورها بالمقارنة بأولئك الذين يشغلون أنفسهم ومطالب أجسادهم ولا يفكرون إلا فى سفاسف الأمور وفى ذلك ارتقاء وبناء لشخصية المسلم .
الذى يقدم على الجهاد يطمع فى رضوان الله و الفوز بالنصر أو الشهادة ولا يعقل لمن كان هذا هو حاله أن يبقى فى قلبه بغض أو حقد لإخوانه المسلمين ولا يفكر فى أن يرتكب إثماً أو يؤذى أحداً أو يغتصب حقوق غيره أو أى شىء يغضب الله تعالى ، كيف ذلك وهو على موعد فى ساحة القتال و الاستشهاد فى سبيل الله ، وفى هذا التطهر و المجاهدة زاد ينفع ويسمو به ، ولو لم يفز بالشهادة فى عاجل أمره .(1/91)
الذى يقدم على الجهاد فى سبيل الله يقاوم نزغات الشيطان الذى يريد أن يقعده ويثبط همته حيث يزين له الراحة و الدعة و الزوج والأولاد وما قد يتعرضون له من متاعب ومن يخلفه فيهم بعده الى غير ذلك من وساوس الشيطان ، وفى هذه المقاومة و المجالدة لنزغات الشيطان تقوية للإرادة وحصانة ، فإيثار ما عند الله على كل هذه الأغراض الدنيوية و التوكل على الله والاعتماد عليه وأنه الصاحب فى السفر و الخليفة فى الأهل و المال و الولد ، كل ذلك ترويض للنفس وتقوية للإرادة وبناء للشخصية المسلمة على أساس من التقوى وفى ذلك زاد كبير .
لابد للمجاهد أن يأخذ بأسباب القوة :{ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم } و القوة لا تقتصر على قوة السلاح و العتاد ولكنها تشمل أيضاً قوة العقيدة ، والإيمان وقوة الوحدة والرابطة وقوة العلم و المال وكل أسباب القوة ، وفى تحقيق ذلك زاد للمؤمن ، وكما يؤخذ بأسباب القوة عليه أن يتخلص من كل أسباب الضعف أو الشعور به ،كضعف الإرادة بالهم و الحزن ، وضعف الإنتاج بالعجز والكسل ، وضعف القلب و المال بالجبن و البخل ، وضعف العزة و الكرامة بالدين و القهر ، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يرشدنا بهذا الدعاء الجامع للتخلص من هذه الأسباب :( اللهم إنى أعذ بك من الهم و الحزن وأعوذ بك من العجز و الكسل ، وأعوذ بك من الجبن و البخل ، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال ) وفى التخلص من أسباب الضعف زاد .
ما أجدر كل أخ مسلم عقد النية على الجهاد أن يخلو الى كتاب الله تعالى ويقرؤه ويقف عند الآيات التى تتصل بالجهاد من قريب أو بعيد ، فإن التهيؤ النفسى للجهاد سيجعله يتذوق هذه الآيات تذوقاً جديداً عميقاً وسيخرج من هذه التلاوة بزاد كبير وعبر ودروس كلمات يسترشد بها فى كل مراحل الجهاد ، وسنذكر بعض هذه الآيات على سبيل المثال لنرى كيف يعالج الأمور فى دقة ووضوح :
{(1/92)
فليقاتل فى سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل فى سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً * وما لكم لا تقاتلون فى سبيل الله و المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيرا * الذين آمنوا يقاتلون فى سبيل الله و الذين كفروا يقاتلون فى سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً * ألم تر الى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا الى أجل قريب * قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلاً }.
ثم انظر الى هذه الآيات التى تتناول أخطر اللحظات التى يتعرض لها المؤمن حين يتحدد حاله بين موقفين أحدهما ينال فيه الثواب و الأجر العظيم والآخر يتعرض فيه لعذاب الله و غضبه :{ يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا فى سبيل الله اثاقلتم الى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا فى الآخرة إلا قليل * إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شىء قدير } { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذٍ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً الى فئةٍ فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير } .(1/93)
وفى قصة طالوت و الملأ من بنى إسرائيل فى سورة البقرة و المراحل التى مروا بها و التصفيات التى تعرضوا لها حتى وصلت تلك الفئة التى صبرت وثبتت ولجأت الى الله تسأله الثبات و النصر ، وتحقق لها النصر بإذن الله :{ فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس منى ومن لم يطعمه فإنه منى إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلاً منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده * قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين * ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك و الحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين } .
الشعور النفسى الذى يخامر المجاهد حينما يرى انتفاش الباطل واستعلائه وتترسه بأسباب القوة الأرضية وتفوقه فى العدد و العدة وتهديده ووعيده لأهل الحق مما يرهب الناس ، أما المؤمنين الذين يعلمون أن النصر من عند الله وأن القوة لله جميعاً فيزيدهم هذا الوعيد إيماناً مصداقاً لقول الله تعالى :{ الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم * إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } .(1/94)
وهكذا فى جو الجهاد يزادا الإيمان بخلاف فترات العافية ، يعلمنا القرآن أن من أهم أسباب النصر ذكر الله و الصبر وعدم الوهن والاستكانة و البعد عن المعاصى وسؤال المغفرة من الذنب و تثبيت الله للمجاهدين :{ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون } :{ وكأين من نبى قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم فى سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين * وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا فى أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين } فيعلم المجاهدون أن معصيتهم لله أخطر عليهم من عدوهم فيتحرزون من المعاصى أكثر من تحرزهم من عدوهم وفى ذلك زاد كبير .
المجاهد حينما ينوى الجهاد إنما هو فى الحقيقة يعقد مع الله بيعاً ويبرم عقداً بالصفقة التى عرضها الله على عباده المؤمنين تلك الصفقة الرابحة المضمونة :{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم أموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون فى سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداًً عليه حقاً فى التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم } وليعلم الذى بنوى الجهاد أن لهذه الصفقة شروطاً ومواصفات يلزم تحققها لكى تتم ، فالله تعالى قال إن الله اشترى من المؤمنين ولم يقل من المسلمين ، وللمؤمنين صفات ورد ذكرها فى كتاب الله وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعل الآية التالية للآي السابقة تؤكد هذا المعنى وهى :{ التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف و الناهون عن المنكر و الحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين } .(1/95)
فعلى كل من استيقظت معانى الإيمان فى نفسه ودفعته للتطوع للجهاد فى سبيل الله أن يراجع نفسه ليطمئن الى مطابقتها لصفات المؤمنين الواردة فى الكتاب و السنة كى يتم البيع وينال الأجر الغالى جنة عرضها السموات والأرض فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وبهذا يكون الجهاد دافعاً قوياً للمؤمن أن يلزم نفسه بصفات المؤمنين وفى هذا زاد كبير .
من ألزم المعانى للمجاهد أن يعلم أن الله غنى عنه وعن جهاده وأنه هو الفقير الى الله المحتاج إليه فلا يبخل بشىء فى سبيل الله أو يمن على الله بما يقدم فى سبيله :{ ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض والذين قتلوا فى سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم } ، { ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغنى عن العالمين } :{ هاأنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا فى سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغنى وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } وعندما تتملك هذه المعانى من نفس المجاهد يتحقق له خير كبير وزاد عظيم .
{ قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضوها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد فى سبيله فتربصوا حتى يأتى الله بأمره والله لايحب القوم الفاسقين } .(1/96)
إن الجهاد فى سبيل الله يحتم على المجاهدين أن يكونوا متحابين متآخين مترابطين وكيف يتصور أن يكون فى قلوبهم ما يشوب هذا الحب ويضعف هذه الصلة القوية و الرابطة المتينة وكل منهم معرَّض أن يلقى الله شهيداً ، وإن أى تخلٍ منه عن أخيه قد يسلمه وأخاه الى الأعداء ، فلابد من الحب و الثقة والالتحام الشديد :{ إن الله يحب الذين يقاتلون فى سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص } وهكذا نرى أن الجهاد يقوى الرابطة بين المسلمين ويدعم معانى الأخوة فى الله التى أدناها سلامة الصدر وأعلاها مرتبة الإيثار ، والسيرة العطرة تحكى لنا صوراً رائعة من هذا الحب والإيثار بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الجهاد يكشف المنافقين وأساليب تثبيطهم للمؤمنين وكيف يتحصن المؤمن منهم ومن توهينهم للصف ، وما أروع سورة التوبة فى فضحهم وفضح أساليبهم ولذلك سميت الكاشفة أو الفاضحة مما يلزم المجاهد أن يعاود قراءتها قراءة دراسة متأنية ليأخذ العبرة و الحصانة وفى ذلك زاد كثير ، وعلى سبيل المثال هذه الآيات الكريمة :
{ وقالوا لاتنفروا فى الحر قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون } :{ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سمَّاعون لهم والله عليم بالظالمين } .
إن أعداء المسلمين يتداعون علينا كما تداعى الأكلة الى قصعتها كما حدثنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ولن يمتنع الطعام على آكليه ما دام شهياً ليناً سهل الابتلاع ولكنهم سيرفضونه حينما يصير علقماً لايستسيغونه أو شوكة تقف فى حلوقهم فيخشون الاقتراب منه ولن يكون ذلك إلا إذا تخلصنا من كل معانى الغثائية و الوهن و الضعف وآثرنا ما عند الله وجعلنا الشهادة فى سبيل الله أسمى أمنية فى حياتنا حينما يقذف الله فى قلوب أعدائنا الرعب و المهابة منا .(1/97)
والمجاهد يستفيد من الحرب و القتال دروساً كثيرة كالجندية و السمع و الطاعة وكذلك الخروج من حوله وقوته الى حول الله وقوته ، وإن كيد الشيطان ضعيف وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله وغير ذلك من المعانى التى هى بمثابة قوة وزاد لصاحبها على الطريق ، كما أن القتال فى الإسلام له آداب وحدود تتخلله الرحمة رغم قسوة الموقف فلا مثلة ولا سرقة ولا انتهاب للأموال ولا انتهاك للحرمات ففى حديث بريدة رضى الله عنه قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر الأمير على جيش أو سرية أوصاه فى خاصته بتقوى الله تعالى ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال اغزوا باسم الله فى سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً ) رواه مسلم .
وما أجمل هذه العبارة للإمام الشهيد حسن البنا فى هذا المجال نختم بها حلقتنا هذه : إن الزمان سيتمخض عن كل من الحوادث الجسام وإن الفرص ستسنح للأعمال العظيمة وأن العالم ينتظر دعوتكم دعوة الهداية و الفوز و السلام لتخلصه مما هو فيه من آلام ، وإن الدور عليكم فى قيادة الأمم وسيادة الشعوب وتلك الأيام نداولها بين الناس وترجون من الله مالا يرجون فاستعدوا واعملوا فقد تعجزون عن العمل غداً .
وفى اتباع السنة ...... زاد
السنة النبوية زاد كلها فهى تحيى قلوب متبعيها وتسمو بهم الى درجات عالية من الإيمان وتقوى الله ، وتزود المسلم بكل الخير وتجنبه كل الشر وتبنى شخصية المسلم عقيدياً وعبادياً وخلقياً وبدنياً وفكرياً واجتماعياً بصورة قوية وسامية .(1/98)
إن السنة تتعهد المسلم بكل رعاية وعناية فى كل مرحلة من مراحل حياته بل قبل مولده وبعد وفاته ، فى يقظته ونومه وحركته وسكونه وفى حله وترحاله ، فى البيت ، فى المسجد ، فى الطريق ، فى المتجر فى كل مكان يتواجد فيه وفى كل أوقاته وكأنها للمسلم كمحضن مزود بكل ما ينفعه ويقويه وبما يحميه من كل ما يضعفه ويؤذيه ، فيتزود بكل مقومات الحياة على أساس من عقيدة الإسلام الذى ارتضاه الله لعباده .
و الحياة التى أعنيها لايقصد بها فقط تلك الحياة التى يشاركنا فيها الحيوانات ولكن أقصد بالدرجة الأولى حياة القلوب بمعرفة الله والإيمان به مصداقاً لقول الله تعالى :{ أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشى به فى الناس كمن مثله فى الظلمات ليس بخارج منها } وقوله تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } فاتباع السنة استجابة لهذا النداء وتتحقق بها حياة القلوب وفى هذا زاد كبير ، كما لم تغفل السنة ما فيه حياة الأبدان وسلامة الأجساد . إن رسولنا صلى الله عليه وسلم يحبنا ويحب لنا الخير وحريص علينا ويعز عليه ما يعنتنا وبنا رؤوف رحيم هكذا وصفه الله تعالى :{ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم } فكيف لا نسارع الى اتباع سنته وكلنا اطمئنان الى أنها منبع نقى فياض بالزاد و الخير ، ثم إننا نعلم أنه فى أقواله وأفعاله وأمره ونهيه يستمد ذلك من التوجيه الربانى من الله خالق البشر الحكيم الخبير بعباده وبما ينفعهم وما يضرهم :{ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } فهدى رسولنا صلى الله عليه وسلم من هدى الله الرؤوف الرحيم .
النموذج الكامل :(1/99)
كأنى برسول الله صلى الله عليه وسلم يمثل النموذج الكامل للحياة التى يريد الله سبحانه لعباده أن يحيوها والتى دعانا للاقتداء فيها بالرسول صلى الله عليه وسلم فى قوله :{ لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله و اليوم الآخر وذكر الله كثيراً } وفى قوله تعالى :{ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم { فربط الله حبنا له وحبه لنا ومغفرته لذنوبنا باتباعنا لرسوله الكريم .
إن رسولنا الحبيب قمة سامقة فى الإيمان و التقوى فاجتهادنا فى الاقتداء به واتباع سنته سعى منا للرقى فى درجات الإيمان و التزود بالتقوى فحينما نعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل حتى تتورم قدماه دون شعور بالتعب يدفعنا ذلك الى الاقتداء به بقيام بعض الليل فى صلاة ودعاء ومناجاة وذلك خير زاد .
كان صلى الله عليه وسلم موصول القلب بربه لا يغفل لحظة لذا كان يذكره ويذكر نعمه وفضله عليه فى كل أحواله وفى كل أقواله وأفعاله وما يعرض له من خير أو ضر وما يقع عليه بصره من آيات الله وما يحدث من ظواهر كونية ، وهكذا يرى الله فى كل شىء فحينما نقتدى به صلى الله عليه وسلم يعيننا ذلك على دوام اتصال قلوبنا بالله وفى هذا زاد كبير متصل متجدد .
اتباع السنة فى أكلنا وشربنا ولبسنا وخلعنا ونومنا ويقظتنا وقضاء حاجتنا وتعاملنا مع الغير وفى كل أفعالنا يجعلنا نمارسها فى وعى وذكر لله ، ولفضله علينا فنتحرى فى كل ذلك ما يرضى الله ونبتعد عما حرم وهذا خير زاد ، ومن لايتبع السنة فى هذه الأمور يكون فى غفلة ويصير أشبه بالحيوان وهو يمارس حياته دون ذكر الله وفضله عليه ، ولو ذكرنا مثلاً واحداً كالدعاء المأثور بعد قضاء الحاجة وفيه حمد لله أن أذهب الأذى ، فلو تصورنا ماذا يكون الحال لو احتبس البول أو الغائط لاشك آلام شديدة قد تؤدى الى الموت .(1/100)
والإحاطة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فيها من خير وزاد هنا فى هذا المجال أمر غير ممكن ولابد من الرجوع الى كتب السنة التى جمعتها وصنفتها بجهد أئمة فضلاء ، ولكن سنحاول هنا أن نضرب أمثلة فقط فى إيجاز واعتراف بالعجز عن تجلية روائع السنة وما فيها من كنوز .
من روائع السنة :
نلاحظ أن السنة النبوية تتعهد المسلم حتى قبل أن يكون جنيناً فى بطن أمه وذلك بالحث على تأسيس الأسرة المسلمة على التقوى من أول يوم باختيار الزوجة ذات الدين ، فيتهيأ المناخ الإسلامي النظيف الذى سيشب فيه المولود ويتربى ، ثم نجد السنة تذكر بالاستعاذة من الشيطان عند المباشرة الزوجية ، وأن يجنب الله الشيطان ما يرزقهم من ذرية ، وتوصى السنة بما يحمى الجنين وأمه من كل أذى ، وعندما يولد يؤذن للصلاة فى أذنه اليمنى وتقام الصلاة فى الأذن اليسرى ، وتوصى السنة بحسن اختيار أسماء الأبناء ، وهكذا توالى السنة تعهدها للمسلم فى كل مراحل حياته بصورة لاتسمو إليها حصيلة الدراسات و التجارب التى وصلت إليها العقول البشرية فى هذا المجال .
نجد من السنة المربى و المعلم و الطبيب و المدرب العسكرى و الرائد الموجه فى كل جانب مكن جوانب الحياة فتوصى بالعلم و الوقاية الصحية و التمرن على السباحة و الرماية وركوب الخيل وتوصى الشباب بالزواج وتحذر من كل ما يهدم الأسرة و المجتمع .
وكما تعهدت السنة المسلم قبل ولادته فإنها تتعهده عند وفاته وبعد وفاته فتوصى بتلقين الميت لا إله إلا الله محمد رسول الله وبعد موته توصى بتغسيله ثم إكرامه بتعجيل دفنه وتنهى عن نبش القبور كما توصى بالدعاء له وعدم النياحة عليه .
رسولنا الحبيب جاء رحمة للعالمين وتظهر هذه الرحمة فى وصيته صلى الله عليه وسلم بالنساء والأطفال و الخادم والأسير و الفقراء و المساكين والضعفاء و المرضى وذوى الحاجة وحتى الحيوانات ، وما أعظم الزاد حينما نكتسب صفة الرحمة باتباعنا للسنة .(1/101)
السنة النبوية تراعى المشاعر بدرجة عالية فنجده صلى الله عليه وسلم إذا تحدث مع إنسان يبدو عليه الاهتمام والإصغاء والإقبال عليه بوجهه ويوضح الكلام والألفاظ ، ونجده إذا أراد أن ينبه الى فعل خطأ يقول ( ما بال أقوام يقولون كذا أو يفعلون كذا ..) دون ذكر شخص بعينه وتوصى السنة بعدم تناجى اثنين دون ثالث من أجل أن ذلك يحزنه وغير ذلك كثير .
السنة تدعو الى تقوية الروابط بين الآباء والأمهات والأبناء وذوى القربى و الجيران وتحث على التحاب فى الله و التزاور و التهادى و السلام و المصافحة والابتسامة فى وجه أخيك وعيادة المريض وإجابة الدعوة وتشميت العاطس واتباع الجنائز وكل ما يقوى الرابطة بين هذه الأخوة و الرابطة زاد لازم للمسلم وخاصة على طريق الدعوة .
السنة وبناء الشخصية :
ما أعظم الزاد من السنة لبناء الشخصية المسلمة القوية فى إيمانها و القوية فى عزيمتها وفى إرادتها وفى بنيتها وفى أخلاقها وفى كل صور القوة و العزة وتخلى النفس المسلم من كل صور الضعف من جبن أو بخل أو عجز أو كسل أو تردد أو وسوسة أو طيرة أو تشاؤم وألا يكون المسلم إمعة يقاد ولا يقود ويتأثر ولا يؤثر .
السنة تدعو المسلم الى التخفف من جواذب الأرض والى عدم الانشغال بمتاع الدنيا بل يجعل همه الآخرة ورضوان الله ، وما أحوجنا الى هذا المعنى هذه الأيام التى نرى الناس فيها فى دوامة السعى لكسب المال وتحقيق مطالب العيش وهم فى سباق مرير بين ارتفاع الأسعار الحاجات وكسب المال اللازم لها ويصاحب ذلك اختراع وسائل وأشياء حديثة تغرى الناس بشرائها وفيها ترف وإخلاد الى الأرض وكأن الدنيا هى دار النعيم ، فالسنة النبوية تحمينا من ذلك وفى هذا زاد .(1/102)
انظر السنة الرحيمة تتعهد المسلم حتى فى نومه فتوصى بالنوم على وضوء وأن ينام على الشق الأيمن ويقول الدعاء المأثور عند النوم وفيه تذكير بالموت ، ثم تلك الأدعية عند الأرق وعندما يرى رؤيا يكرهها وتقلقه ، ثم الدعاء عند الاستيقاظ وكأن السنة أم رؤوم ترعى ابنها الوحيد وتهدهده إذا فزع وتهدىء من روعه وتحميه من كل ما يؤذيه صلى الله عليك وسلم ياسيدى يارسول الله وجزاك الله عنا خير الجزاء .
وهكذا نجد الزاد الوفير و الخير العميم فى كل سنة سنها لنا رسولنا الكريم وهى بعد ذلك كله تحقق الشخصية المسلمة المتميزة المستقلة لا تلك الشخصية المرقعة التى تقلد وتكسب عادات من هنا وهناك .
وثمة أمر هام نلفت النظر إليه وهو ألا ينقص اهتمامنا بالسنة من اهتمامنا بالفرض وألا نجعل من السنة قضايا كلية نختلف ونتدابر ويفاصل بعضنا بعضاً بسبب التمسك بها أو عدم الالتزام بها ، وليفرق كل منا بين إلزامه نفسه بالسنة وبين التزام غيره بها .
فعلينا أن نتواصى بالأخذ بها ، وندعو بالحكمة و الموعظة الحسنة للتمسك بها دون تجريح أو تفسيق أو تباعد وتفرق .
وأذكر فى هذا المجال أن الإمام حسن البنا رحمه الله فى إحدى جولاته للدعوة الى الله وجد أهل قرية مختلفين ومنقسمين الى فريقين يكادان يقتتلان بسبب الخلاف كلى كيفية أداء أذان الصلاة وما يتبعه البعض من الصلاة و السلام على رسول الله بطريقة معينة فقال لهم رحمه الله : لا تؤذنوا وصلوا بدون أذان ، فتعجب القوم وقالوا لانرضى ألا يرتفع صوت الأذان للصلاة بالقرية ، فقال لهم : إن الأذان سنة ووحدتكم واجتماع كلمتكم فرض وواجب ، فلندع السنة إذا تسببت فى إبطال الواجب فانتبه الجميع الى خطئهم بهذا الخلاف وعدلوا عنه .
فلنأخذ الدروس النافعة و الزاد المفيد من السنة ونكون متبعين ولا نكون مبتدعين والله الموفق و المعين .
وفى الدعوة الى الله ....... زاد(1/103)
الدعوة الى الله واجب على كل مسلم ومسلمة لتحقيق شهادتنا على الناس كما قال الله تعالى :{ وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً } هى مهمة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم فهى شرف عظيم ومنزلة سامية وثوابها عند الله عظيم ، وهى فى نفس الوقت مصدر وافر لزاد التقوى والإيمان .
و الشعور بهذا الشرف وهذه المنزلة العالية المتمثلة فى قول الله تعالى :{ ومن أحسن قولاً ممن دعا الى الله وعمل صالحاً وقال إننى من المسلمين } يدفع الداعى الى أن يكون أهلاً لهذا الشرف وتلك المنزلة ، فلا يبدو من أقواله أو أفعاله مالا يليق بجلال هذه المهمة وفى مصاحبة هذا المعنى له زاد دائم ورقيب يقظ .
القضية الأساسية فى الدعوة الى الله هى قضية الإيمان أى توحيد الله وعبادته وفى قيام الداعى الى الله بتوصيل هذا المعنى الى الناس وإحياء قلوبهم بمعرفة الله وحثهم على طاعته ما يجعل إيمانه هو متجدداً ونامياً وقلبه متصلاً دائماً بالله وفى هذا زاد كبير .
الداعى الى الله يقضى جزءاً كبيراً من وقته يرتع فى رياض الجنة فهذه اللقاءات التى يجتمع فيها بمن يدعوهم الى الله هى مجالس ذكر الله تحفهم فيها الملائكة وتتغشاهم الرحمة وتتنزل عليهم السكينة ويذكرهم الله فيمن عنده وهذا فى حد ذاته خير كبير وزاد عظيم .
الداعى الى الله يدعو الناس ويذكرهم بكل معانى الخير و فضائل الأعمال وبكل ما من شأنه أن يسمو بهم ويصلح حالهم ويجنبهم الزلل و الشرور ، وفى هذا تذكير مباشر له فيستفيد هو كما يفيد غيره بخلاف من لا يقوم بواجب الدعوة الى الله فقد يغفل عن كثير من هذه المعانى ويكون فى حاجة الى من يذكره .(1/104)
من يتعرض الى الدعوة الى الله يحرص على أن يكون قدوة صالحة لمن يدعوهم فى كل ما يدعوهم إليه من خير ويخالفهم فيه ، ولا ينهاهم عن منكر ويأتيه مستشعراً الخوف من غضب الله وعقابه واضعاً نصب عينيه الآيات الكريمة :{ أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنت تتلون الكتاب أفلا تعقلون } ، { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون } }
الداعى الى الله يتخير المعانى الهامة والأساسية المتصلة بدعوة الله ودين الله ويستشهد فى حديثه بآيات قرآنية وأحاديث نبوية شريفة ، ومعلوم ما لكلام الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم من تأثير طيب يجدد الإيمان ويزيده ، خاصة إذا كان الداعى الى الله متفاعلاً بقلبه بما يجرى على لسانه ، وهذا أمر لازم للداعى كى يؤثر فيمن يدعوهم فما خرج من القلب يصل الى القلب ، وما خرج من اللسان لا يتجاوز الآذان ، فيتزود هو كما يعطى غيره زادا .
الداعى الى الله يطوع وقته وجهده وماله وبدنه بأسفاره المتكررة فى سبيل الدعوة الى الله ، وفى هذا ترويض للنفس وتخليص لها من كل معانى الكسل و البخل و الوهن و الجبن ، يرفع صوته بكلمة الحق ولو كان مراً غير هياب ... وفى هذا الترويض و التطويع خير كثير فى بناء شخصية الداعى الى الله وزاد مطلوب على طريق الدعوة .
الداعى الى الله يتولد عنده الحرص على الاستزادة من العلم و التحصيل و البحث و الدراسة و المدارسة لكى يكون عنده رصيد طيب يعينه على العطاء وتقديم الخير للناس ولكى يتمكن من الإجابة عما يوجه إليه من أسئلة وفى السعى لإنماء هذا الرصيد زاد مطلوب على الطريق .(1/105)
ممارسة الدعوة الى الله تكسب صاحبها صفة التبين و الدقة فى صحة ما يحدث به الناس بحيث لايكون فى حديثه خطأ أو انحراف أو أى شىء يخالف كتاب الله وسنة رسوله لما يترتب على ذلك من إثم انتشار هذا الخطأ و العمل به وصعوبة حسره بعد ذلك وإصلاح ما يترتب عليه وفى تعود الدقة فى القول وتحرى الصواب خير كثير فى بناء شخصية رجل الدعوة .
وكما يستشعر الداعى الى الله مسئوليته أما الله عن حسن توجيه من يدعوهم ، كذلك يجب عليه أن يشعر بمسئوليته عن أوقاتهم فيلتزم بالحضور فى الموعد ولا يضيع عليهم وقتاً فى الانتظار أو يحدثهم حديثاً قليل الفائدة ، وفى تعود ذلك والإلتزام به كسب للداعية فى معنى الحرص على الوقت وحسن استغلاله فالوقت هو الحياة و الواجبات أكثر من الأوقات .
الداعى الى الله يعمل لله وابتغاء مرضات الله فلا يطوع هذه الوظيفة السامية لمغنم دنيوى أو لحساب أحد مهما كان سلطانه فإنه لو فعل ذلك لحبط عمله واستجلب غضب الله باستخدامه الدعوة الى الله لتضليل الناس ولصار من أخسر الناس الذين يبيعون آخرتهم لدنيا غيرهم .
الداعى الى الله الواجب عليه أن يتبع تعاليم الله فى دعوته إليه و التى اتصف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فى دعوته للناس من لين الجانب و الرحمة و الحكمة و الموعظة الحسنة و الجدال بالتى هى أحسن و الصبر على أذى من يدعوهم ، وهكذا ، وصدق الله العظيم :{ فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم } { ادع الى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن } { ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا } ، وهذا الشعور من بالإشفاق على الناس بسبب إعراضهم عن دعوة الله :{ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً } وهكذا تتولد هذه الصفات فى نفس الداعى الى الله خلال ممارسته للدعوة وفى هذا كسب كبير وزاد عظيم .(1/106)
الداعى الى الله لايجوز أن يعوقه عن أداء مهمته تعب ولا نصب ولا ألم ولا سفر ولا سهر ولا بذل ولا تضحية ، لأن ذلك كله من الزاد المؤكد نفعه وفائدته فى سفره الطويل البعيد الى الآخرة ، بل إنه سيجد فى تعبه راحة وفى ألمه لذة وفى بذله ربحاً وفى تضحيته عوضاً مضموناً .
الداعى الى الله يروض نفسه ألا يداخلها الغرور إذا وجد الإقبال المتزايد من المستمعين إليه والى أحاديثه ، كما لا يداخلها يأس أو فتور إذا وجد عكس ذلك ، ومهما كان حال من يدعوهم سيئاً فقد يخرج من القلة خير أكثر من الكثرة .... وليعلم أن عليه أن يدعو وليس عليه أن يستجيب الناس فالهدى هدى الله :{ وما على الرسول إلا البلاغ } :{ إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء } وفى إخلاء النفس من الغرور ومن اليأس زاد كبير .
على الداعى الى الله أن يواصل دعوته الى الله مهما تعرض للأذى بسبب ذلك ، هكذا كان رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم يقابل أذى المشركين بالدعاء لهم :( اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون ) ويستمر فى دعوته رغم ذلك ، وكان الإمام الشهيد حسن البنا يقول للإخوان فى هذا المعنى : كونوا مع الناس كالشجر يرمونه بالحجر ويرميهم بالثمر ، وفى ترويض النفس على مقابلة الإساءة بالحسنة زاد كبير وصدق الله العظيم :{ ولا تستوىالحسنة و لا السيئة ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم } .
الداعى الى الله بقدر نجاحه فى مهمته بقدر ما ينال حب من يدعوهم حباً خالصاً لله ، وهذا فى ذاته خير ونعمة من الله محروم منها كثير من الناس ، ويكفى الداعى أن ينال ممن أحبوه دعوة صالحة بظهر الغيب أونظرة حب فى الله يغفر الله له ولهم بها .(1/107)
الداعى الى الله يفوز بثواب كبير من الله إذا وفقه الله وجعل حديثه سبباً فى هداية الكثير وتحولهم من الغواية الى الهداية ، وفى الحديث الصحيح عن رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم :( لأن يهدى الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم ) وفى هذا الأجر الكبير زاد وأى زاد .
وعلى الداعى الى الله الصادق أن يعلم أم ما يوفق إليه فى حديثه مع الغير من معان طيبة مؤثرة هى مما يفتح الله عليه وليس براعة أو مقدرة شخصية فلا يتعالى بل يتواضع لله ويتقيه ويشكره ويحسن اللجوء إليه فيزيده الله فتوحاً :{ واتقوا الله ويعلمكم الله } :{ لئن شكرتم لأزيدنكم } .
الداعى الى الله بتطوافه وأسفاره الى البلاد المختلفة سيزداد دراسة ومعرفة للشعوب الإسلامية وظروفها المحلية وقضايا العالم الإسلامى ، وفى هذا زاد لرجل الدعوة على طريق الدعوة كما أنه سيزداد دربة وخبرة فى مخاطبة المستويات المختلفة من مثقفين وأميين وعمال وفلاحين ، وكذا سيتعرض الى أقوام يعيشون الجزئيات دون الكليات ، والى آخرين ورثوا انحرافات وبدع وخرافات ومن يعيشون النظرة السطحية دون العمق ومن يعيشون النظرة اللحظية دون النظرة البعيدة و التقدير لعواقب الأمور وهكذا فى التعامل مع هؤلاء وتصحيح أفهامهم ونظراتهم وما يحتاجه من حكمة وخبرة وصبر ... زاد وكسب للداعى الى الله لايصل إليه من لا يمارس الدعوة الى الله مثله .
الداعى الى الله المخلص يتقى الله ويزن الأحداث الجارية وموقف الدين منها بالميزان الإسلامى الصحيح دون نفاق أو مجاملة أو خوف من أحد مهما كان سلطانه فلا يلبس الحق مع الباطل فى أذهان الناس ويميز الله به الخبيث من الطيب ويتعلم الناس منه الموازين الربانية وفى هذا خير كثير لدعوة الله .
وفى الصحبة الصالحة ..... زاد(1/108)
الأخوة فى الله نعمة كبرى وزاد وافر متجدد على الطريق وقد منَّ الله على المؤمنين بهذه النعمة وهو يدعوهم الى الوحدة وعدم التفرق فى قوله تعالى :{ واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون } .
وهى نعمة لا تشترى بالمال أو الأعراض الدنيوية ولكنها تتم بفضل الله وقدرته :{ وألف بين قلوبكم لو أنفقت ما فى الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم } .
إن رابطة العقيدة الإسلامية هى أقوى الروابط على الإطلاق .
إن الذين يعيشون فى ظل الحب و الأخوة فى الله يحسون بسعادة وراحة نفسية لايحظى بمثلها من يجتمعون على عرض من أعراض الدنيا فى تجارة أو لهو أو متاع دنيوى ، وقد تذوق الإخوان هذه السعادة ... لذلك نجد الأخ يشعر بوحشة إذا غاب عن إخوانه أو إذا اضطرته الظروف أن يكون بعيداً عنهم ويضرب بعضهم المثل : إن الجو الإخوانى بالنسبة للأخ كالماء بالنسبة للسمك .
ولأهمية الأخوة فى الله على طريق الدعوة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار الذين ضربوا المثل العليا فى الحب والإيثار .
إن المهمة الكبرى التى كان يهيىء رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين للقيام بها وهى التمكين لعقيدة التوحيد وإقامة دولة الإسلام تستلزم قو التلاحم و الترابط بين أفراد هذه الجماعة التى باعت نفسها لله وتعاهدت على نصرة شريعته ليكونوا صفاً متلاحماً كالبنيان المرصوص .
وبعد أن بينا فضل الصحبة الصالحة وأهميتها ... نحاول أن نوضح كيف أنها عون وزاد على الطريق :(1/109)
- الفرد المسلم لا يسير فى طريق آمن ولكنه يسير فى طريق محفوف بالمكاره و المزالق و العقبات و الفتن وشياطين الإنس و الجن له بالمرصاد فهو أحوج فى مثل هذه الطريق الى من يأخذ بيده ويرشده ويبصره ويذكره إذا نسى ويعينه إذا ذكر وصدق الله العظيم :{ و العصر إن الإنسان لفى خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } .
- تأتى على الفرد المسلم فرا فتور أو غفلة أو نسيان أو استجابة لوسوسة الشيطان فلو كان وحده لتمادى واستمرأ تلك الحالة ولتعرض الى الضياع و الهلاك :( إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية ) ، أما إذا كانت له صحبة صالحة فلن يتركوه الى نفسه وشيطانه إذا افتقدوه فى مجالات العمل الصالح سيبحثون عنه ليدعوه ويذكروه ويعاونوه على نفسه وشيطانه وفى ذلك عون وزاد على الطريق .
- إن الصاحب الصالح بمجرد رؤيتك له تذكرك بالله وبطاعة الله ، أما رفيق السوء فرؤيته تذكر بالمعاصى والآثام وفعل المنكرات ، فشتان بين الفريقين ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم :( مثل الجليس الصالح كمثل صاحب المسك إن لم يصبك منه شىء أصابك من ريحه ، ومثل الجليس السوء كمثل صاحب الكير إن لم يصبك شرره أصابك من دخانه ) رواه أبو داود .
- المرء كثير بإخوانه ... يشعر أنه وحده شىء لا يذكر ولكنه ذو شأن بارتباطه بإخوانه .
وإذا كان أهل الشر الذين يعتدون على أموال الناس وحرماتهم يتجمعون ليساند بعضهم بعضاً وكثيراً ما ينصبون عليهم رئيساً ويلتزمون بطاعته ، فأولى بأهل الحق و العاملين لنصرة دين الله أن يرتبطوا ويتحدوا و المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً كما قال رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم ولا يمكن أن تكون هناك جماعة تنجز أعمالاً وتحقق أهدافاً وليس بين أفرادها رباط محبة وأخوة .(1/110)
- المؤمن مرآة أخيه ... ما من فرد إلا وفيه عيوب وقصور وكثيراً ما يغفل عنها ولا ينتبه لها ، فهو أحوج ما يكون الى من يبصره ويعينه على إصلاحها و التخلص منها ولا يقدر على ذلك إلا أخ محب مخلص دائم الصلة رقيق المعاملة حكيم فى نصحه وتبصيره ، وهذا خير عون وزاد على الطريق ز
- وفى مجال النصيحة يجمل أن نشير الى أى شىء من آدابها وكيف تؤدى بالحكمة و الموعظة الحسنة و الجدال بالتى هى أحسن امتثالاً لقوله تعالى :{ ادع الى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسن وجادلهم بالتى هى أحسن } ، وكذا قول بعض السلف الصالح :( أد النصيحة على أكمل وجه واقبلها على أى وجه ، ومن وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه ، ومن وعظ أخاه علانية فقد فضحه وشانه ) .
- الصحبة الصالحة تضاعف من قدرات الفرد وطاقاته ، فحينما يفكر فى أمر فكأنما يفكر بعقول إخوانه جميعاً لأنه يسترشد بآرائهم ، وحينما يقوم بعمل فهم جميعاً عون له بطاقاتهم ويفيدونه بخبراتهم .
- الصحبة الصالحة تضاعف سعادة الفرد بمشاركته فى مسراته وتخفف عنه متاعبه وآلامه إذا أصابه ضرر أو مصيبة ، يعينونه بأموالهم وجهدهم ويذكرونه بالله و الصبر على البلاء وعدم الاستسلام للحزن أو الانطواء ....وفى ذلك عون كثير .
-كأنى بالأخ المسلم على طريق الدعوة لا يتحرك بزاد قلبه وحده ولكن بزاد قلوب إخوانه جميعاً ، فكل أخ لا يبخل على إخوانه بما فتح الله عليه من زاد روحى يعين على معرفة الطريق وعلى الطاعة و الثبات وتخطى العقبات ، وليس فى ذلك زاد فقط بل زاد مضاعف .(1/111)
- الله سبحانه وتعالى يدعونا الى التعاون على البر و التقوى فيقول :{ وتعاونوا على البر و التقوى ولا تعاونوا على الإثم و العدوان } وهو توجيه الى جمع وليس أفراد متفرقين ، فالصحبة الصالحة واجبة ولازمة لتحقيق ذلك ، ما أجمل الأخوة فى الحى الواحد أو القرية الواحدة حينما يتعاونون فى مجالات الخير و الطاعات خاصة تلك التى غفل عنها وقصر فيها كثير من المسلمين كقيام الليل وصلاة الجماعة فى المساجد وخاصة صلاة الفجر و العشاء وحضور موائد القرآن و العلم والذكر وقوافل الدعوة الى الله ومعاونة الفقراء وذوى الحاجة .
- ما أعظم فائدة الصحبة الصالحة وقت الشدائد و المحن حينما يتعرض الفرد المسلم الى ضغوط شديد لتصرفه عن العمل لعدو الله أو لتحرفه عن الطريق الصحيح المستقيم مع أمر الله ، هنا تظهر أهمي الصحب الصالح التى تحافظ عليه وتعمل على حمايته من التفلت أو القعود أو الانحراف أو التأثر بوعد أو وعيد أعداء الله ومحاولاتهم الشيطاني لتخلى العاملين للإسلام عن مواقعهم فى الصف ، وقد لمسنا أثر ذلك واضحاً خلال المحن التى مرت بالإخوان وهذا بعض خير وبركة الجماعة والأخوة الصادقة فى الله .
- ما أعظم الزاد الذى يحظى به الفرد فى الصحبة الصالحة حينما يدعو له إخوانه بظهر الغيب بدعوات صالحات وهى دعوات مستجابة كما أخبرنا الحبيب صلى الله عليه وسلم .(1/112)
- ما أعظم الزاد يناله الفرد فى الصحبة الصالحة المتحابة فى الله حيث يفوز بحب الله ومغفرته وحسن مثوبته له بما يتم بينه وبين إخوانه من نظرة حب فى الله يتبادلونها ومن مصافحة ومن تبسم فى وجوه بعضهم البعض ، ومن تزاور وتجالس بينهم ومن تواصى وتذكير بالحق بينهم ، والأحاديث فى هذا الباب كثيرة ومنها حديث السبعة الذين يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله فمنهم رجلان تحابا فى الله اجتمعا عليه وافترقا عليه . وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أن رجلاً زار أخ له فى قرية فأرصد الله على مدرجته ملكاً فلما أتى عليه قال : أين تريد ؟ قال : أريد أخ لى فى هذه القرية ، قال : هل لك عليه من نعمة تربها ؟ قال : لا ... غير أنى أحببته فى الله ، قال فإنى رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه ) رواه مسلم . تربها : أى ترعاها .
وروى مسلم فى كتاب الذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال : ما أجلسكم ؟ قالوا : جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومن به علينا ، قال : آلله ما أجلسكم إلا ذلك ؟ قالوا : والله ما أجلسنا إلا ذلك ، قال : أما إنى لم أستحلفكم تهمة لكم ولكنه أتانى جبريل فأخبرنى أن الله يباهى بكم الملائكة .
- ولأهمية الصحبة الصالحة وما يترتب عليها من خير للإسلام و المسلمين نجد الإسلام و شريعة الإسلام تحافظ عليها وترعاها من كل ما ينال وحدتها وتآلفها وتحرم ما من شأنه أن ينال منها ويوقع الشحناء و البغضاء بين المسلمين كالغش و الخيانة وبيع الغرر و الربا و الخمر و الميسر وغير ذلك كالتحاسد و التباغض والسخرية وسوء الظن و التجسس و التقاطع و التدابر ، وهذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى رواه أنس رضى الله عنه :( لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا ، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ) رواه الشيخان .(1/113)
والله سبحانه وتعالى يرسم لنا فى سورة الحجرات مع ما سبق كيف يزال الخلاف بين المؤمنين إذا حدث من أقرب الطرق ، وواجب المؤمنين بالتدخل للصلح بين المتخاصمين من المؤمنين :{ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ... } ، { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلمكم ترحمون } .
وبقدر ما تحقق الأخوة والصحبة الصالحة من وحدة وقوة وخير للإسلام و المسلمين بقدر ما تحقق الفرقة و الخلاف من فشل وضعف وضرر و الله تعالى يقول :{ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين } .
- الشيطان وأعداء الله يغيظهم وحدة المسلمين وعاونهم ويبذلون الجهد فى إيجاد الفرقة ، فما أحوجنا الى الانتباه الى ذلك وعدم إعطاء الفرصة لتحقيق ذلك ، فلا نغضب لأنفسنا ولا نقول ما يسىء لإخواننا استجابة لتوحيد الله لنا :{ وقل لعبادى يقولوا التى هى أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً } - ما أسعدنا بنعمة الإسلام وبنعمة الأخوة فى الله وما أجدرنا بالمحافظة على هذه النعم بكل ما نستطيع وما نملك من وسائل .
فعليك يا أخى بالصحبة الصالحة فهى عون وزاد لك على الطريق .
وفى العمل الصالح .... زاد
الإيمان والعمل الصالح متلازمان ، فاعمل الصالح مصدق للإيمان والإيمان لازم لقبول العمل الصالح .
وقد تكرر ذكرهما متجاوران فى كثير من آيات القرآن الكريم وهكذا نجد الإيمان يدفع الى العمل الصالح و العمل الصالح يؤكد الإيمان ويدعمه ويقويه ، وهو أيضاً مصدر للتزود بالتقوى والإيمان على الطريق ، فهو مجال الممارسة و التطبيق وترويض النفس ومجاهدتها وتطويعها لتكون عند مرضاة الله سبحانه وفى هذا عون وزاد على الطريق .(1/114)
- إن تحقيق الإيمان و العمل الصالح وتحقيقهما فى الفرد و الجماعة يترتب عليه خير عظيم وفوز كبير كما قرر كتاب الله النجاة من الخسران مصداقاً لقوله تعالى :{ و العصر إن الإنسان لفى خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } و المغفرة و الأجر العظيم :{ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً } وقبول التوبة وإبدال السيئات حسنات :{ إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً } وتحقق الفلاح :{ فأما من تاب وآمن وعمل صالحاً فعسى أن يكون من المفلحين } ، ودخول الجنة :{ ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً } والتمكين والاستخلاف فى الأرض :( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدوننى لايشركون بى شيئاً } .
- العمل الصالح مجال تطبيق العلم الذى نقرؤه ونسمعه فيكون بذلك حجة لنا لا علينا ، وفى العمل تثبيت للعلم وخروج من مجال النظريات و الخيال الى واقع الحياة وميادين المجاهدة و الجهاد وفى هذا ارتقاء بالنفس وبناء للشخصية وتقوية للإرادة وكسب للخبرة و التجربة ، وكما قال الإمام البنا رحمه الله أن ميدان القول غير ميدان الخيال ، وميدان العمل غير ميدان القول ، وميدان الجهاد غير ميدان العمل وميدان الجهاد الحق غير ميدان الجهاد المخطىء ، إننا نرى كثيراً من الناس يسهل عليهم القراءة و العلم ولكن تحويل هذا العلم الى عمل قد يصعب على الكثير .
نوازع الخير ونوازع الشر فى كل إنسان تتدافعان وفى ممارسة العمل الصالح دليل على تغلب نوازع الخير وتقوية لها وإضعاف لنوازع الشر وهذا فى ذاته زاد وخير ومن أمثلة ذلك :(1/115)
- نقرأ عن فضل الإنفاق فى سبيل الله فتتوق أنفسنا الى الإنفاق وعند الممارسة قد تظهر نوازع البخل و الشح وحب المال لتحول دون الإنفاق فإذا مارسنا الإنفاق نكون قد قهرنا أنفسنا وروضناها على البذل و العطاء وهذا خير .
- نقرأ عن فضل الجهاد فى سبيل الله وقد يظل ذلك نظرياً حتى تتم الممارسة العملية للجهاد فننفر فى سبيل الله متغلبين على جواذب الأرض ومطالب الجسد ومتع الدنيا و الخوف من الموت وغير ذلك مما يجعل صاحبه يثاقل الى الأرض وفى التغلب على هذه الجواذب نصر على النفس وزاد كبير .
-نقرأ عن الصبر و التحمل و الثبات على طريق الدعوة وننتشى بما نقرأه من مواقف لأصحاب الدعوات على طريق الدعوة وعندما نتعرض لذلك عملياً يكون الترويض و الصقل وزيادة الإيمان :{ الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } { وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين } .
- الدعوات تقوم على العزائم وأولى العزم ولا تقوم على الرخص و المترخصين والقرآن الكريم يحثنا على ذلك :{ يا يحيى خذ الكتاب بقوة } ، :{ واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } فعلى الأخ المسلم أن يأخذ نفسه بذلك فى حياته ويجد فى العمل الصالح بكل طاقاته ففى ذلك زاد .
- مجال العمل الصالح متسع وليس محدوداً مما يعطى الفرصة الكبيرة لتزود الأخ المسلم فى كل ميدان ثم إنه موزع على الأوقات فهناك أعمال صالحة مطلوبة فى اليوم والليلة وأخرى أسبوعية وغيرها شهرية وكذلك أعمال سنوية وفى ذلك تجديد واستمرار للزاد على الطريق .
- لايفوتنا أن ننبه الى فرصة العمل الصالح فى شهر رمضان المبارك حيث يتضاعف الأجر ويكثر الزاد فى هذا الشهر الكريم كما أشارت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
- العمل الصالح تزكية للنفس وسمو بها وتطهير لها من الدنايا و الخطايا وتحلية لها بفضائل الأخلاق و الصفات وهذا زاد .(1/116)
- إن الأخ المسلم يقوم بالعمل الصالح لأداء الواجب أولاً ثم للأجر الأخروى ثانياً ثم للإفادة ثالثاً وهو إن عمل فقد أدى الواجب وفاز بثواب الله متى توافرت شروطه وبقيت الإفادة وأمرها الى الله فقد تأتى فرصة لم تكن فى حسابه تجعل عمله يأتى بأبرك الثمرات .
أما الذى يقعد عن العمل الصالح فقد لزمه إثم التقصير وضاع منه أجر الجهاد وحرم الإفادة قطعاً فأى الفريقين خير مقاما وأحسن ندياً .
- إن الله يحب معالى الأمور ويكره سفاسفها وبممارستنا العمل الصالح نعيش دائماً معالى الأمور ونعلو على سفاسفها وفى هذا زاد وسمو .
- العمل الصالح يجعل من صاحبه قدوة صالحة للغير وفى ذلك معاونة على نشر الفضيلة فى المجتمع بالقدوة العملية وهى أكثر تأثيراً من القول أو الكتابة .
- العمل الصالح يوصل التوجيه الى غير المتعلمين بصورة عملية لا قولية كما يوصله الى الذين لايقرأون لعدم وجود وقت عندهم للإطلاع .
- لكى يكون العمل الصالح مقبولاً يلزم أن يتوافر معه الإخلاص والإلتزام بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوافر هذين الشرطين بممارسة العمل الصالح زاد كبير لصاحبه .
- الأعمال الصالحة هى مجال تنفيذ أوامر الله سبحانه وتعالى والابتعاد عن نواهيه ولم يأمرنا الله إلا بكل خير لنا ولغيرنا ولم ينهنا إلا عن كل شر لنا ولغيرنا ، ولكل منا طاقات وإمكانيات من وقت وجهد وصحة وفكر ومال ونفس إذا بذلناها فى مجال العمل الصالح تحققت حكمة الله من وراء هذه الأوامر وأصبحنا مصدر إسعاد لنا وللبشرية وهذه منزلة عالية ، أما إذا بذلت هذه الطاقات فى غير العمل الصالح كان الفساد والإفساد فى الأرض ونعوذ بالله من ذلك ... هذا فى الدنيا ، أما فى الآخرة فالفوز و النعيم للصنف الأول و الخسران و العذاب للصنف الثانى وهكذا نرى فضل العمل الصالح .(1/117)
- الظروف التى تمر بها الدعوة الإسلامية و المسلمون اليوم تحتم النهوض من هذه الكبوة و العمل المتواصل لمجابهة أهل الباطل وأعداء الإسلام الذين يبذلون جهدهم للقضاء على الإسلام و المسلمين ... وهذا يعظم من قدر وأهمية العمل الصالح وخيره وأثره فى مجال الدعوة .
- إن نهوض الأمة الإسلامية يتطلب من أبنائها قوة روحية ونفسية هائلة تتمثل كما قال الإمام البنا فى عدة أمور ك( إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف ، ووفاء ثابت لايعدو عليه تلون ولا غدر ، وتضحية عزيزة لايحول دونها طمع ولا بخل ، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه و المساومة عليه و الخديعة بغيره .
وتحقق هذه الصفات لايتم إلا من خلال العمل و العمل الجاد .
- العمل الصالح يحقق التغيير المطلوب فى النفس وهو مفتاح الخير لهذه الأمة مصداقاً لقول الله تعالى :{ إن الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } فإذا تغلبنا على أنفسنا وألزمناها تعاليم الإسلام استطعنا أن نؤثر فى غيرنا حتى نقيم المجتمع المسلم و الدولة الإسلامية وإلا ففاقد الشىء لا يعطيه .
- الأخ المسلم الذى يحرص على الأعمال الصالحة فى حياته وأوقاته يكتسب صفة هامة وهى الحرص على الوقت فلا يضيع جزءاً من وقته إلا فى عمل نافع مفيد ويدفعه ذلك الى تنظيم وقته وأعماله وترتيبها حسب أهميتها مستشعراً أن الوقت هو الحياة وأن الواجبات أكثر من الأوقات وفى حسن استغلال الوقت زاد وخير كبير .
- العمل الصالح مجال طيب لكسب الثواب الأخروى وبقدر ما يقدم المسلم من عمل صالح بقدر ما يزداد رصيده من الحسنات فمن يعمل مثقال ذرة خير يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره وما أشد حاجة كل منا يوم القيامة الى ما يرجح كفة حسناته .
- العمل الصالح وفعل الخير يقوم به الأخ المسلم فى أى مكان فيظل ذكرى طيبة له ولجماعته فى ذلك المكان حتى بعد مغادرته أو بعد وفاته .(1/118)
- المسلمون يتفاوتون بالنسبة الى إقبالهم على العمل الصالح وفعل الخيرات فمنهم من تتاح له فرصة عمل الخير ويتركها تمر دون أن يعمل ذلك الخير ، ومنهم من يعمل الخير متثاقلاً ، ومنهم من يؤديه بهمة واهتمام وأفضل من هؤلاء من لاينتظرون فرصة عمل الخير حتى تأتيهم ولكنهم يفتشون ويبحثون عنها ويسعون إليها :{ أولئك يسارعون فى الخيرات وهم لها سابقون } .
وهذا ما يجب أن تكون عليه أخى المسلم إذا كنا صادقين فى دعوانا وما نتصدى له من مهام وآمال .(1/119)