مقدمة الشيخ العلامة / عبدالله بن سليمان بن منيع
عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية
*******
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، ذي الجلال والإكرام ، الجاعل في الأرض خليفة يقوم برعاية عباده وتحقيق العدل والإنصاف بينهم ، وحماية الضعيف من القوي .
وأصلّي وأسلم على رسوله الأمين نبينا محمد الهادي إلى الصراط المستقيم ، والقدوة في الإمامة والرأفة بالأمة ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
فقد استمتعت بقراءة ما أعدّه فضيلة الأخ العزيز الشيخ / بدر بن علي بن طامي العتيبي ، من رسالة كريمة بعنوان : " وصيتي(1)للإخوان بمنهج أهل السنة في نصيحة السلطان " ، تناول فيها - أدام الله توفيقه – وجوب النصيحة وأنها من الدين ، وأن بذلها من كل مسلم لمستحقها متعيّن ، وأن أهم من يجب نصحهم ولاة أمور المسلمين وأئمتهم ، فصلاحهم صلاح للبلاد والعباد ، وانحرافهم فساد للبلاد والعباد ، وذكر أن النصيحة يجب أن يراعى في أدائها صلاح النية والأخذ بآداب النصح من حيث اللين في القول ، والسرّ في أداء النصح ، والتقدم ببعض محامد المنصوح ، وإشعاره بمقامه واحترامه ، وأن نصحه تذكير له بما يستشعر ويدرك مسئوليته نحوه ، مع كر أهليته لما هو قائم به من مسئولية .
__________
(1) كانت تسميتي للكتاب بـ ( وصية الإخوان بمنهج .. ) فرأى شيخنا تغيير اسمه إلى : ( وصيتي للإخوان .. ) فامتثلت لرأيه .(1/1)
وذكر المؤلف – حفظه الله – نهج لسلف الصالح في تعاملهم مع ولاة أمورهم ، من حيث التعاون معهم على البر والتقوى ، وبذل النصح لهم بالحكمة والموعظة الحسنة ، والدعاء لهم بالتوفيق والسداد ، والأخذ بشعوبهم إلى ما فيه سعادتهم في الحياة الدنيا والآخرة ، كما ذكر أن النصح بالغلظة والتجهم والعلانية الموجبة للإثارة وإيغار الصدور يعطي النتائج السلبية ، ما تظهر أضراره وتنعدم مصالحه ، ويعود على البلاد والعباد عامة وعلى الناصح خاصة وإخوانه أمثاله بالشر والخلل والعداء .
ولا شك أن ولاة الأمور من أهم من تجب مناصحتهم ، والتعاون معهم ، والإسهام في التعرف على مناهج الفلاح والصلاح لمسالكهم ، وأن تكون مناصحتهم مبنية على الرفق واللين وأدب الخطاب والاعتراف بمقاماتهم الاجتماعية في بلادهم وذكر ما يقدمونه لبلادهم من خدمات عامّة تُعنى بشؤون حياة العباد في الدنيا والآخرة .
وفي هذه الرسالة القيمة مما أحب الحديث عنه في هذا المجال ، وقد كفاني – حفظه الله وأدام توفيقه - ، والله المستعان ، وصلى الله على سيدنا نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
عبدالله بن سليمان المنيع
عضو هيئة كبار العلماء
23 / 6 / 1420 هـ .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ؛ أمّا بعد :
فقد سألني بعض إخواني من أهل السنة عن عقيدة أهل السنة في معاملة أئمة الجور : وهل يجوز الخروج عليهم ؟! ، وما هي طريقة أهل السنة في تقديم النصح لهم ؟! ، وهل من منهج أهل السنة التشهير بهم على رؤوس الناس في تقديم النصح لهم ، أو لا ؟! ، وان كان الجواب بالنفي : فكيف الجمع بين ذلك وبين ما روي عن بعض السلف من الإنكار على أمرائهم علانية أمام الناس ؟! .(1/2)
فأجبت السائل بملخص منهج أهل السنة في ذلك كلّه مشافهة ، وأحلته على كتب أصول اعتقاد أهل السنة ؛ ككتاب السنة لابن أبي عاصم واللالكائي وابن بطّه وغيرهم ، وما ذكروه في مسائل الإمامة وذم الخروج ، كما أحلته على كتب السياسة الشرعية للماوردي وابن تيمية وابن القيم وابن الأزرق الأندلسي ؛ وهكذا بعض الرسائل المطبوعة مما كتبه أهل السنة المعاصرون ، ولكنّ السائل اعتذر بصعوبة كل ذلك عليه ، وعدم وجود هذه الكتب بين يديه ، وطلب منّي جمع ما تيسر من متفرق الشتات ، وضمّها له في عدّة ورقات ، حتى يسهل عليه الرجوع إليها ، والدراية بما فيها ولتعم الفائدة ، فكتبت له هذه الورقات التي نسأل الله أن تكون عوناً لنا وله على الثبات ، وزيادة في الطاعات ، وتكفيراً للسيئات فأقول مستعيناً بالله ذي القوة والحول :
فصل(1/3)
اعلم وفقني الله وإيّاك أن الله لمّا خلقنا للغاية العظمى والمقصد الأسمى وهو عبادة الله وحده سبحانه وتوحيده أوجب علينا اتباع أمره وما يقضي على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولم يوجب علينا حجة غير ذلك قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول } الآية ، وقال : { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا واطعنا وأولئك هم المفلحون ، ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون } وقال: { اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } الآية ، وقال : { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله والى الرسول رأيت المنافقين يصدّون عنك صدودا } وقال جلّ وعلا : { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله } الآية ، قال العلماء : صراط الله الكتاب والسنّة ، وقال تعالى : { فإن تنازعتم في شيٍ فردوه إلى الله والى الرسول } الآية ، قال أهل العلم : الرد إلى الله إلى كتابه ، والرد إلى رسول الله إليه حياً والى سنته ميتاً - صلى الله عليه وسلم - ، والآيات في المعنى كثيرة و الأحاديث كذلك فقد كان رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - يقول في مبدأ خطبته دائماً : (( من يهده الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له ، أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة )) رواه مسلم في صحيحه .
وروى الشيخان عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد )) وفي رواية لمسلم : (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) ، وروى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( كل أمتي يدخلون الجنة إلاّ من أبى قيل : ومن أبى ؟! ، قال : من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى )) .(1/4)
قال الامام مالك - رحمه الله - : ( ما منّا إلاّ رادٌ ومردودٌ عليه إلاّ صاحب هذا القبر ، وأشار إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ) .
وقال الزهري - رحمه الله - وغيره : ( السنة سفينة نوح من ركب فيها نجا ومن تركها هلك ) .
وقال الأوزاعي - رحمه الله - : ( عليك بالأثر وإيّاك وأراء الرجال وان زخرفوها لك بالقول ) .
ولهذا فقد أجمع أهل العلم على أن الردّ حين النزاع دائماً لا يكون إلاّ إلى الله والى رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما تقدّم ذكره من قوله تعالى : { فإن تنازعتم في شيٍ فردّوه إلى الله والى الرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً } ، فالرد إلى هذين الأصلين الصافيين بما فهمه السلف الصالح من الصحابة وأهل العلم من أهل السنة من التابعين ومن بعدهم ، ولا يجوز لأحدٍ أن يهوّن من حجية كلام الله ولا كلام رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمخالفة مخالف - وإن كان من كان - ، ولهذا لمّا خولف حبر هذه الأمة عبدالله بن عبّاس - رضي الله عنهما - في بعض مسائل الفقه قالوا له : فلان وفلان يقولون كذا وكذا !! ، فغضب وقال : ( أقول لكم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقولون : قال فلان وفلان يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ) .
وروى البخاري ومسلم عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه قال: ( لست تاركاً شيئاً كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعمل به إلاّ عملت به ، وإنّي لأخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ ) .
وقال الإمام الشافعي - رحمه الله - : ( أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يحلّ له أن يدعها لقول أحد ).
لهذا فلا عبرة بالخلاف والاجتهاد في مقابلة النصّ المحكم لا بالقول ولا
بالقائل ـ وإن كان من كان ـ فقوله مردود عليه ، قال الشاعر :
وليس كل خلافٍ جاء معتبراً إلاّ خلافٌ له حظٌ من النظرِ(1/5)
فليس مجرد حكاية الخلاف في مسألة من المسائل يعتبر مجوزاً للرجل أن يدع كلام أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - بل ربّما كلام الله سبحانه وتعالى استناداً على هذا الخلاف ، فإن هذا من جنس دين النصارى الذين : { اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أرباباً من دون الله } وهو من اتباع الهوى ، فتجد منهم من يتتبع أقوال العلماء فيأخذ منها ما يوافق قصده وهواه ، لا ما يوافق شرع الله !! ، وهذا عين الزندقة والعياذ بالله .
وقد يصدر من بعض أهل العلم بعض ما يخالف الكتاب والسنة ، فلا عصمة إلاّ لمن عصمه الله ، وإذا حصل من أحدٍ من أهل العلم ذلك فلا بدّ من مراعاة عدة أمور :
أحدها : عدم قبول هذا القول منه أصلاً وان كان من كان لأن الحق لا يعرف بالرجال و إنّما يعرف الرجال بالحق ، وأقوال الرجال يستدلّ لها ولا يستدلّ بها .
والثاني : رجاء الأجر والثواب له لاجتهاده .
والثالث : التماس العذر له ، لأنه لا يجوز أن ينسب إلى أحدٍ من أئمة
الدين تعمدّ مخالفة الكتاب والسنة ، والذي دعاهم إلى ذلك أعذارٌ عدّة كعدم بلوغ النص ، أو بلوغه وعدم دلالته ، أو بلوغه وعدم صحته عنده ، أو لوجود معارض مقدّم عليه عنده ، وغير ذلك من الأعذار المبيحة له ذلك ، وقد بسط شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك في كتابه " رفع الملام عن الأئمة الأعلام " ، ولكن لا عذر لمن قلدهم ولديه القدرة على الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم يقول : هم أعلم منّا !! وضرب بسنة أبي القاسم - صلى اله عليه وسلم - عرض الحائط ، ألم يقرأ قوله تعالى : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } ، أما يخشى أن يكون ممن قال الله تعالى فيهم : { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وان يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين } .(1/6)
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مفسراً لمعنى الكبر : (( هو بطر الحق وغمط الناس )) ، وبطر الحق أي : ردّه .
فصل
إذا علمت ما تقدّم فإن من تولّى أمر المسلمين من الأئمة وكان موصوفاً بالظلم والفسق والجور مما لا يصل إلى حدّ الكفر والردّة ، فالواجب طاعته والانقياد له فيما يسوغ طاعته فيه من شرائع الإسلام من الجماعة والجمعة والحج والجهاد ، ولا يكاد أحدٌ من الولاة في قديم الزمان وحديثه يسلم من بعض المخالفات الشرعية عدا زمن الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم ، حتّى في عصر الصحابة رضي الله عنهم ، وكان ابن عمر - رضي الله عنه - وهو من أدرى الصحابة بالسنة أدرك ولاية الحجاج ورأى منه ما رأى من ظلم وجور فلم يكن هو ولا غيره من الصحابة ينازعونه في الأمر ولم ينزعوا يداً من طاعة .
وعلى هذا كان الأئمة من بعدهم من أئمة التابعين كسعيد بن المسيب والحسن البصري وغيرهم ، بل يرون الصلاة خلفهم جماعة وجمعة والحج والجهاد وتحت قيادتهم والدعاء لهم بالصلاح و مناصحتهم بالمعروف وان حصل منهم ظلم وفسق ، وهذا هو الموافق لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة من كتب الصحاح والسنن والسنة كما سيأتي ذكر بعضها قريباً .(1/7)
وما حصل بعد ذلك من مخالفة أو ما يوهم بالمخالفة من صنيع بعض الصحابة - رضي الله عنهم - أو أحد العلماء من التابعين وغيرهم من الخروج على الأئمة فإنه لا يجوز أن يعتبر منهجاً للسلف ولا مذهباً لهم وقد وهم بعض أهل العلم كالقاضي عياض وابن حجر العسقلاني(1)وغيرهما ممن جعل هذا القول - أعني به القول بجواز الخروج على ائمة الجور - مذهباً قديماً للسلف ، وقال ابن حجر : ( ثم استقرّ مذهب السلف على ترك الخروج على أئمة الجور!! ) ، حتّى اغترّ بهذا الكلام عن ابن حجر بعض من لا فقه له من المعاصرين ممن ابتلوا باتباع الهوى فجعلوا في المسألة قولين أو أكثر !! ، وجعلوا لكل قولٍ أدلةً وأصحاباً يقولون به !! .
وأي مذهبٍ للسلف غير سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - في ترك الخروج على أئمة الجور وعدم نزع اليد من الطاعة وتحريم ذلك لأنه من النكث ونقض الميثاق المعقود بإشهاد الله على ذلك !! .
فهاك أخي في الله نصوص السلف في ذلك ، ومن زعم أن الخروج على أئمة الجور سنة سلفية(2)!! ، فليأت بقولٍ واحدٍ من أئمة هذا الدين نصّ على ذلك ، وبينه وبين ذلك خرق القتاد كما يقال !! .
__________
(1) راجع كلام ابن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمة الحسن بن صالح بن حي وخطأه في ذلك .
(2) قد تعجب من هذه العبارة كيف تقال ! ، وقد قرأتها في كتاب " المسار " لأحمد الراشد الحركية التي يعكف عليها كثيرٌ من الجهال .(1/8)
قال الامام أحمد - رحمه الله - في رسالته في السنة من رواية عبدوس عند اللالكائي في كتاب السنة له (1/166) : ( أصول السنة عندنا ... السمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين البرّ والفاجر ، ومن ولي الخلافة فاجتمع الناس عليه ورضوا به ، ومن غلبهم بالسيف(1)حتى صار خليفة سمّى أمير المؤمنين ، والغزو ماضٍ مع الأمراء إلى يوم القيامة البرّ والفاجر لا يترك - إلى أن قال : - وصلاة الجمعة خلفه وخلف من ولّى جائزة ركعتين ، ومن أعادهما فهو مبتدع تارك للآثار مخالف للسنة - إلى أن قال : - ومن خرج على إمام المسلمين وقد كان الناس اجتمعوا عليه وأقرّوا له بالخلافة بأي وجه كان : بالرضا أو بالغلبة فقد شقّ هذا الخارج عصا المسلمين وخالف الآثار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن مات الخارج عليه مات ميتة جاهلية ، ولا يحلّ قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحدٍ من الناس فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق ...) .
وروى اللالكائي (1/154) في عقيدة الإمام سفيان الثوري - رحمه الله -قال : ( يا شعيب : لا ينفعك ما كتبت حتّى ترى الصلاة خلف كل برّ وفاجر ، والجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة والصبر تحت لواء السلطان جار أو عدل ..) .
ونقل اللالكائي (1/167) في عقيدة الحافظ المحدّث علي بن عبدالله بن المديني - رحمه الله - قال : ( ... والغزو مع الأمراء ماضٍ إلى يوم القيامة البر والفاجر لا يترك ..) .
__________
(1) بعض من لا علم له يرى أن من تولى بالسيف والغلبة لا تنعقد له البيعة وهذا جهل ، وكلام الإمام أحمد يوضّح لك معتقد أهل السنة في ذلك ، وراجع إن شئت المسائل والرسائل النجدية (3/62) ولولا بغية الاختصار لذكرت كلام أهل السنة في هذه المسألة .(1/9)
ونقل اللالكائي أيضاً (1/173) في اعتقاد الإمام البخاري - رحمه الله -الذي يقول عنه : ( لقيت عليه ألف شيخٍ من شيوخي ) : ( ... وأن لا ننازع الأمر أهله ، ولا نرى السيف على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ...) .
ونقل أيضاً (1/177) في عقيدة الإمامين أبي حاتم الرازي وأبي زرعة - رحمهما الله - قالا : ( .... ولا نرى الخروج على الأئمة ولا القتال في الفتنة ، ونسمع ونطيع لمن ولاّه الله - عزّ وجلّ - أمرنا ، ولا ننزع يداً من طاعة ، ونتبع السنة والجماعة ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة ...) .
وقال البربهاري - رحمه الله - في رسالته في السنة (صحيفة :78 ) : (... ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين فهو خارجي ، وقد شقّ عصا المسلمين وخالف الآثار ، وميتته ميتة جاهلية ، ولا يحل قتال السلطان فإن فيه فساد الدين والدنيا ..) .
وقال الطحاوي - رحمه الله تعالى - في عقيدته المشهورة المتلقاة بالقبول جملةً : ( ... ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا ، ولا ندعوا عليهم ولا ننزع يداً من طاعتهم ، ونرى طاعتهم من طاعة الله - عزّ وجلّ - فريضة ، ما لم يأمروا بمعصية ، و ندعوا لهم بالصلاح والمعافاة ..) .
وقال الإمام بن تيمية - رحمه الله – في " العقيدة الواسطية " : ( ويرون إقامة الحج والجمع والأعياد مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً ... ) .
قال بدر غفر الله له : فهذا أخي هو معتقد أهل السنة من كلامهم الثابت عنهم بأن الخروج على الأئمة أبراراً كانوا أو فجاراً مخالفة صريحة للسنة ولطريق الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ولم يذكر أحدٌ منهم في ذلك خلافاً ، فكيف يقال بعد ذلك أن المسألة محلّ خلاف بين أهل العلم !! ، بغير مستند يرجع إليه ، ولا قائل يعوّل عليه .
فصل(1/10)
وحان الآن أخي في الله ذكر النصوص الصريحة الصحيحة ، وفيها الأمر بالسمع والطاعة للأئمة وإن حصل منهم ظلم وجور ما لم يصل ذلك منهم إلى حدّ الكفر والردّة ، على أنني سوف اقتصر على ما رواه الإمامان الجليلان البخاري ومسلم أو أحدهما مكتفياً بذلك عمّا عند غيرهما لتمام صحة ما في هذين الكتابين فأقول :
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ، ومن يعص الأمير فقد عصاني )) .
وروى مسلم عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال : ( إن خليلي أوصاني
أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً حبشياً مجدّع الأطراف ) .
وعند البخاري من حديث أنس - رضي الله عنه - : (( ولو لحبشيٍ كأن رأسه زبيبه )) .
وعندهما عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( على المسلم السمع والطاعة فيما أحبّ وكره إلاّ أن يؤمر بمعصية ، فإن أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة )) .
وعندهما أيضاً من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر ، فإن من فارق الجماعة شبراً فمات فميتته جاهلية )) ، وفي رواية أخرى من حديث الحارث الأشعري - رضي الله عنه - : (( فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه )) .
وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما )) يعني : إذا لم يخضع للبيعة التي بايعها المسلمون .(1/11)
وعنده أيضاً عن عوف بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ، وتصلون عليهم ويصلون عليكم ، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم ، وتلعنونهم ويلعنونكم ، فقلنا : يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف عند ذلك ؟! ، قال : لا ما أقاموا فيكم الصلاة ، إلاّ من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يداً من طاعة )) .
وروى مسلم أيضاً عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال : (( عليك بالسمع والطاعة في عسرك ويسرك و منشطك و مكرهك وأثرة عليك )) .
وعندهما عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال : ( بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا ، وعسرنا ويسرنا ، وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله ، قال : (( الاّ أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان )) ) .
وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إنما الإمام جُنّة يُقاتل من وراءه ويُتقى به ، فإن أمر بتقوى الله - عزّ وجلّ - وعدل كان له بذلك أجر ، وإن يأمر بغيره كان عليه منه )) .
وعند مسلم أيضاً عن عبدالله - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها ، قالوا : يا رسول الله كيف تأمر من أدرك منّا ذلك ؟! ، قال : تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله حقكم )) ، ولم يقل نابذوهم بالسيف واخرجوا عليهم .
وعنه عند مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع ، فإن جاء آخر ينازعه
فاضربوا عنق الآخر ..)) .(1/12)
وقال سلمة بن يزيد الجعفي - رضي الله عنه - للرسول - صلى الله عليه وسلم - : يا نبي الله ؛ أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألوننا حقهم ويمنعوننا حقنا ، فما تأمرنا ؟ ، فأعرض عنه ، ثم سأله فأعرض عنه ثم سأله في الثالثة فأعرض عنه ، فجذبه الأشعث بن قيس - رضي الله عنه - وقال له : (( اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حمّلوا وعليكم ما حمّلتم )) رواه مسلم .
وعنده أيضاً عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديثٍ وفيه : (( ومن خرج على أمتي يضرب برّها و فاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ، ولا يفي لذي عهدٍ عهده فليس منّي ولست منه )) .
وروى مسلم عن أمّ سلمة - رضي الله عنها - قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون ، فمن عرف برئ ومن أنكر سلم ، ولكن من رضي وتابع ، قالوا : أفلا نقاتلهم ؟ ، قال : لا ، ما صلُّوا )) .(1/13)
وعند مسلم من رواية ممطور عن حذيفة - رضي الله عنه - في حديث الفتن المشهور الذي أوله : (( كان الناس يسألون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني )) ، وهو متفق عليه ، وزاد مسلم في رواية ممطور أبي سلام عن حذيفة - رضي الله عنه - : (( يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي ، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس قال : قلت يا رسول الله كيف أصنع إن أدركت ذلك ؟ ، قال : تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع ))(1).
قال أبو عبدالرحمن تجاوز الله عنه : وهذه الأحاديث وغيرها جمعها الإمام مسلم - رحمه الله - في صحيحه في كتاب الإمارة ، فأحسن وأجاد ، وبها وبغيرها يبلغ هذا الأصل ـ وهو السمع والطاعة للأئمة وإن كانوا جائرين وظلمه - إلى حدّ التواتر في المعنى بمجموع هذه الأحاديث النبوية .
فصل
__________
(1) ممطور أبو سلام لم يدرك حذيفة ، وهذا انقطاع ، وبه أعله الدارقطني واستدركه على الإمام مسلم ، ولكن يجاب عن ذلك بأجوبة ، الأول : أن الإمام مسلم ذكره متابعة لروايات ساقها قبله للحديث ، والثاني : أن مثل هذا يحمل على الموصول إذا صحّ من وجهٍ آخر ، والإسناد إلى ممطور صحيح ، الثالث : أن هذه اللفظة قد جاءت في رواية سبيع بن خالد اليشكري عن حذيفة متصلة عند أحمد و أبي داود الطيالسي وغيرهما ، الرابع : كفاه صحة إخراج الإمام مسلم له في الصحيح ، الخامس : أن الإمام أحمد وغيره احتجوا بهذا اللفظ من الحديث ، فدل على أنهم يرون صحة هذه الزيادة ، وكفاك بهذه الأوجه تصحيحاً .(1/14)
إذا علم ما تقدّم علم أن الخروج على الأئمة الجائر منهم والعادل بدعة رديئة في الإسلام ، وشرارة تعقّب نار الفرقة وسفك الدماء واستباحة الحرام ، روى الآجري ـ رحمه الله ـ في الشريعة عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال لسويد بن غفلة - رضي الله عنه - : ( لعلّك أن تخلّف بعدي فأطع الأمام وإن كان عبداً حبشياً وإن ضربك فاصبر وان حرمك فاصبر وان دعاك إلى أمر منقصة في دنياك فقل : سمعاً وطاعة دمي دون مالي ) .
إذا علمت ذلك بقي الجواب عن بعض ما حصل من بعض السلف من الخروج على بعض الأئمة من الصحابة أو غيرهم ، مما لا حاجة لذكر وقائعهم هاهنا وضرب الأمثلة وكتب التاريخ والسير ذكرت ذلك كلّه فأقول مجيباً عن ذلك بعدة أجوبة :
فالجواب الأول : وقد تقدم وهو أن الحجة فيما قاله الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وما انفرد به بعض أهل العلم والفضل من الصحابة أو غيرهم لا يقبل منهم لأن كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - مقدّم على كل قول ، والصحابة أو غيرهم ليسوا بمعصومين من الخطأ ، وقد نُقل إلينا من أمورٍ ذهب إليها بعضهم وهي بخلاف السنة تأولاً منهم ، وهذا كثير لا ينحصر ، ولا يقال إنهم تعمدّوا ذلك !! ، فمن قال ذلك يستتاب فإن تاب وإلاّ قتل ، ولكن يعذرون بمعاذير سبق الإشارة إليها ، وقد بينها أهل العلم .
والجواب الثاني : أن الصحابة وأئمة التابعين أنكروا على من خرج من إخوانهم ذلك ، ولم يقرّهم أكثر أهل السنة لا في عصرهم ولا في العصور التالية لهم إلى اليوم ، وقد ذكرت في ذلك فصلاً كاملاً في غير هذا الموضع أسوقه هنا بكامله لأهميته فقلت :
(( فصلٌ : في إنكار الصحابة على الحسين - رضي الله عنه - الخروج وأمرهم له بالرجوع ، ونصحهم له بالكفّ عن ذلك :(1/15)
قال عبدالله بن عبّاس - رضي الله عنهما - : ( استشارني الحسين بن علي - رضي الله عنه - في الخروج فقلت : لولا أن يزري بي الناس - يستخف بي - وبك ، لنشبت يدي في رأسك فلم أتركك تذهب ) .
وجاءه ابن عباس - رضي الله عنهما - وقال : ( يا بن عمّ ؛ إنه قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق فبيّن لي ما أنت صانع ، فقال له : إني قد أجمعت المسير في أحد يومي هذين إن شاء الله تعالى !! ، فقال له ابن عباس - رضي الله عنهما - أخبرني : إن كانوا دعوك بعد ما قتلوا أميرهم ، ونفوا عدوّهم ، وضبطوا بلادهم ، فسر إليهم ، وإن كان أميرهم حي وهو مقيم عليهم قاهر لهم ، وعمّاله تجبي بلادهم ، فإنهم إنما دعوك للفتنة والقتال ) .
وجاءه مرّة فقال : ( يابن عمّ ؛ إنّي أتصبّر ولا أصبر ! ، إنّي أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك ، وإن أهل العراق قوم غدر فلا تغترّنّ بهم ) .
وبلغ ابن عمر - رضي الله عنهما - أن الحسين - رضي الله عنه – توجّه
إلى العراق فلحقه على مسيرة ثلاثة ليال ، فقال : أين تريد ؟! ، قال : العراق ، وهذه كتبهم وبيعتهم ، فقال له ابن عمر : لا تذهب ، فأبى فقال ابن عمر: إنّي محدثك حديثاً : إن جبريل - عليه السلام - أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فخيّره بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة ولم يرد الدنيا ، وإنّك بضعة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يليها أحدٌ منكم أبدا ، فأبى أن يرجع ، فاعتنقه ابن عمر وبكى وقال : استودعك الله من قتل .. .
وقال سعيد بن ميناء سمعت عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - يقول : ( عجّل حسين - رضي الله عنه - قدره والله ، ولو أدركته ما تركته يخرج إلاّ أن يغلبني ) .(1/16)
وجاءه أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - فقال : ( يا أبا عبدالله ؛ إني لكم ناصح ، وإنّي عليكم مشفق ، وقد بلغني أنه قد كاتبك قوم من شيعتكم بالكوفة يدعونك إلى الخروج فلا تخرج إليهم ، فإنّي سمعت أباك - رضي الله عنه - يقول بالكوفة : ( والله لقد مللتهم وأبغضتهم وملّوني وأبغضوني ) .
وقال عبدالله بن مطيع العدوي - رضي الله عنه - : ( إنّي فداك وأبي وأمي ؛ فأمتعنا بنفسك ولا تسر إلى العراق ، فوالله لئن قتلك هؤلاء القوم ليتخذونا عبيداً وخولاً ) .
وقال ابن عمر - رضي الله عنهما - له ولابن الزبير - رضي الله عنهم أجمعين - : ( أذكركما الله إلاّ رجعتما ولا تفرقا بين جماعة المسلمين وكان يقول : غلبنا الحسين بن علي - رضي الله عنهما - بالخروج ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة ، فرأى من الفتنة وخذلان الناس لهما ما كان ينبغي له أن يتحرّك ما عاش ، وأن يدخل في صالح ما دخل فيه الناس ، فإن الجماعة خير ) .
وقال له أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - : ( اتق الله والزم بيتك ولا تخرج على إمامك ) .
وقال أبو واقد الليثي - رضي الله عنه - : بلغني خروج الحسين بن علي - رضي الله عنهما - فأدركته بملل ، فناشدته بالله أن لا يخرج ، فإنه يخرج في غير وجه خروج ، إنما خرج يقتل نفسه ، فقال : لا أرجع .
وقال جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - كلمت حسيناً - رضي الله عنه - فقلت : ( اتق الله ولا تضرب الناس بعضهم ببعض ، فوالله ما حمدتم ما صنعتم ) ، فعصاني .
وكتب إليه المسور بن مخرمة - رضي الله عنهما - : ( إيّاك أن تغترّ بكتب أهل العراق ) .
وكتبت إليه عمرة بنت عبدالرحمن - رحمها الله - تعظّم عليه ما يريد أن
يصنع وتأمره بالطاعة ولزوم الجماعة ، وتقول أشهد أنّي سمعت عائشة ـ رضي الله تعالى عنها - تقول أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( يقتل الحسين بأرض بابل )) .(1/17)
ونصحه بكر بن عبدالرحمن بن الحارث - رحمه الله تعالى - ، فلمّا أصرّ على الخروج قال : ( إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، نحتسب أبا عبدالله عند الله ) .
وقال سعيد بن المسيب - رحمه الله تعالى - : ( لو أن حسيناً - رضي الله عنه - لم يخرج لكان خيراً له ) ، وهكذا قال أبو سلمة بن عبدالرحمن - رحمه الله - .
راجع في جميع ذلك " البداية والنهاية " ، (8/152ـ173) لابن كثير - رحمه الله تعالى – و " سير أعلام النبلاء " ، (3/300ـ320) للذهبي - رحمه الله تعالى - )(1).
قال بدر غفر الله له : فهذا إنكار الصحابة على سيد شباب أهل الجنة المشهود له بها على لسان الصادق الأمين ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما أخطأ وخرج ، مع اتفاق أهل السنة على أنه لم يخرج إلاّ بدافع الاجتهاد ، فكيف بمن هو دونه من بقية الناس !! .
وعلى ذلك جرى السلف ، ومن قرأ موقفهم ممن رأى السيف على الأئمة لرأى العجب العجاب ، وراجع إن شئت ترجمة الحسن بن صالح بن حي ، في كتب " الضعفاء " للعقيلي وابن عدي وغيرهما ، مع جلالة الحسن بن صالح في الحديث والفقه .
الجواب الثالث : اتفاق العلماء على أن من خرج من أهل الفضل فإن الاجتهاد الخاطئ هو الذي دفعه إلى ذلك !! ، وبذلك أجمعوا على أنه لا يجوز متابعة المجتهد المخطئ إذا تبيّن خطؤه .
الجواب الرابع : إنكار أهل السنة والجماعة على من خاض فيما جرى بين الصحابة ، وعلى من احتج ببعض صنيعهم في تلك الفتنة في تقرير تقليدهم ، ولمّا سمع الإمام أحمد - رحمه الله - أن الكرابيسي يدافع عن الحسن بن صالح في كتابه الذي صنّفه في المدلسين وقال الكرابيسي : إنهم تركوا حديث الحسن لأجل رأيه في الخروج ، فهاهو ابن الزبير قد خرج !! ، فغضب الإمام أحمد ولعن الكرابيسي ، وأمر بحرق أو بخرق - أي تمزيق - كتابه ذاك .
__________
(1) انتهى ما قصدت نقله من رسالةٍ لي رددت بها على أحد الخوارج ، كتبتها قبل سنوات .(1/18)
فهذه الأجوبة الأربعة تكفي وتشفي في الجواب عن شبهة الخصوم المدحوضة المنقوضة المرفوضة !! .
فصل
أمّا عن نصح ولاة الأمر وعن كيفيته فلا شكّ مما تقدّم أن مما تنعقد عليه البيعة مع ولاة الأمر ( النصح لهم ) ، وقد روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي رقية تميم الداري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( الدين النصيحة ، قيل : لمن يا رسول الله قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين و عامتهم )) .
قال ابن رجب - رحمه الله - في جامع العلوم والحكم : والنصيحة لأئمة المسلمين معاونتهم على الحق وطاعتهم فيه وتذكيرهم به ، وتنبيههم في رفق ولطف ، و مجانبة الوثوب عليهم ، والدعاء لهم بالتوفيق وحثّ الأغيار على ذلك ، انتهى .(1/19)
فولي أمر المسلمين منهم وله ماللمسلمين وعليه ما عليهم ، الاّ أنه ينفرد في بعض الأحيان ببعض الأحكام من خصائص الولاية ، ومع ذلك فيبقى له ما للمسلم من حقوق ؛ من السلام والعيادة واتباع الجنازة والدعاء له وحفظ العهد والميثاق والأمانة وعدم التحقير والخذلان والغيبة والنميمة والسب والشتم ، لأن له حرمة كحرمة غيره ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إن أموالكم وأعراضكم ودماءكم عليكم حرام )) ، وبنصحهم والقيام بالواجب لهم صلاح الرعية ، وقد روي في الحديث : (( صنفان من أمتي متى صلحا صلح الناس : الأمراء والعلماء )) ، وقيل في الأثر : ( لا تصلح الخاصة إذا فسدت العامة ) ، ولهذا يقال : (( كما تكونون يولّى عليكم )) ، وروي مرفوعاً ولا أعلمه يصح روايةً ولكنّ معناه صحيح ، والقرآن يشهد له في المعنى ، قال الله تعالى ذكره : { وكذلك نولّي بعض الظالمين بعضاً } ، ولهذا مما تقرر أن جور السلطان وغلاء الأسعار عقوبة لا تنزل إلاّ بذنب ، فكان الواجب على المسلمين إذا حصل مثل ذلك الرجوع إلى الله والصبر على الأذية وحقن دماء المسلمين ، لأن بقاءهم صلاح لأحوال الناس ، ورعاية لشؤونهم ، قال ابن المبارك - رحمه الله - منشداً :
كم يرفع الله بالسلطان مظلمة في ديننا رحمةً منه ودنيانا
لولا الخلافة لم تأمن لنا سبلٌ وكان أضعفنا نهباً لأقوانا
بل قال أهل العقل والعلم : ( إمام ظلوم خير من فتنة تدوم ) ، وقال آخرون : ( ستون سنة من سلطان ظالم خير من ليلة واحدة بلا سلطان ) .
ومن عادة الأمراء القسوة والشدة ، بل ربّما لا تستقيم لهم القوامة والولاية إلاّ بذلك !! ، قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - : ( لا يصلح هذا الأمر إلاّ شدة في غير عنف ، ولين في غير ضعف ) ، وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : ( لم يقم أمر الناس إلاّ حصيف العقدة بعيد الغور ، لا يطلع الناس على عورة ، ولا يخاف في الله لومة لائم ) .(1/20)
ولو لم يكن ذلك منهم لم يكن لهم في قلوب الناس هيبة ، وربنا سبحانه - وله المثل الأعلى - ملك الملوك يرضى ويغضب ويثيب ويعاقب ويبطش وينتقم ويمهل ولا يهمل ويحلم ويتجاوز وهو على كل شيٍ قدير ، فاستقام بذلك قيوميّته على الكون أجمع ، وهذا جميعه لو حصل بين المخلوقين لما كان منكراً ، وإنما المنكر ما يتجاوز الحدّ إلى الظلم والحيف والفسق والفجور والميل والجور ، ولكن لا يجوز إنكاره إلاّ بالطريقة الحسنى الشرعية الغير مترتبة على مفسدة ، قال ابن مفلح ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه الحافل : " الآداب الشرعية " (1/175) : ولا ينكر أحد على سلطان إلاّ وعظا له وتخويفاً أو تحذيراً من العاقبة في الدنيا والآخرة فإنه يجب ، ويحرم بغير ذلك ذكره القاضي وغيره ، قال ابن الجوزي - رحمه الله - : من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع السلاطين التعريف والوعظ ، فأمّا تخشين القول نحو : يا ظالم !! ، يا من لا يخاف الله !! ، فإن كان ذلك يحرّك فتنة يتعدى شرّها إلى الغير لم يجز ، وإن لم يخف إلاّ على نفسه فهو جائز عند الجمهور ، والذي أراه المنع من ذلك لأن المقصود إزالة المنكر وحمل السلطان بالانبساط عليه وعلى فعل منكر أكثر من فعل المنكر الذي قصد إزالته . انتهى ما نقله ابن مفلح .
قلت : وعلى هذا يظهر لنا الشرط الأول : لنصح السلطان عدلاً كان أو جائراً : بالرفق واللين والانبساط له ، والدعاء له في أول الكلام بالهداية التوفيق ، ودعاؤه بأحسن أسمائه إليه أو وصفه بما يناسب مقامه كأن يقول : هدى الله أمير المؤمنين ، لو رأى أميرنا كذا لكان خيراً له لو صنعت كذا يا أمير المؤمنين لكان أولى ، فهذا أقرب إلى تأليف قلبه إلى الحق ، فالقسوة والشدة في الخطاب تثير سواكن الشخص العادي فكيف بالسلطان الذي غلب على أحوال جنسه البطش والأنَفة والغضب على من أغضبهم وإن كان ناصحاً .(1/21)
قال الإمام أحمد - رحمه الله - : ( لا يتعرض للسلطان فإن سيفه مسلول وعصاه ) ، وعندما أمر الله موسى وهارون ـ عليهما السلام ـ أن يدعوا فرعون إلى التوحيد قال لهما : { اذهبا إلى فرعون إنّه طغى ، فقولا له قولاً ليناً لعلّه يتذكر أو يخشى } ، فوالله إن دعاة زماننا ليسوا بأهدى من موسى وهارون - عليهما السلام - ، وحكّامه ليسوا بأضل من فرعون حتى يقسى عليهم بالقول !! .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري - رضي الله تعالى عنهما - : (( يسرا ولا تعسرا ، وبشرا ولا تنفرا ، وتطاوعا ولا تختلفا )) .
وربما حمل البعض قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر )) ، على القسوة استناداً إلى معنى الجهاد !! ، وهذا وهمٌ وقصور فهم ، فإن الوقوف بين يدي السلطان ونصحه جهاد وإن كان بالرفق واللين ، لأن هذا المقام وإن كان فيه لين ورقّة فهو بالغ المخاطرة ـ خاصة السلطان الجائر ـ لأنه لا يعلم ما سوف يكون به رد السلطان ، إذن فمجرد الصدع بالحق عند ( السلطان الجائر ) يعد جهاداً ، والصدع بالحق يكون بالطريقة الأحسن والأنسب ، قال تعالى : { أدع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } فالإحسان والرفق مطلوب في جميع ذلك ، ومتى حصل المقصود بذلك لا يجوز تجاوزه إلى غير ذلك من التغليظ بالقول ورفع الصوت والسب والتحقير والإهانة ، فهذا فيه محاذير عدّة سيأتي ذكرها .
وقد روى الإمام أحمد - رحمه الله - عن أبي بكرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( من أهان سلطان الله في الدنيا أهانه الله يوم القيامة )) إسناده جيّد .(1/22)
وقال انس بن مالك - رضي الله عنه - : ( نهانا كبراؤنا من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : لا تسبوا أمراءكم ولا تغشوهم ولا تبغضوهم ، واتقوا الله واصبروا فإن الأمر قريب ) ، رواه ابن أبي عاصم في كتاب " السنة " (2/488) .
زيادة على ارتكاب المحظور في هذا ففي القسوة عليهم مفسدتان الأولى : تعريض النفس للهلكة مع إمكان النجاة منها ، وتسببه في إلحاق الضرر بنفسه ، والله تعالى يقول : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } الآية ، وقال : { ولا تقتلوا أنفسكم } الآية .
روى البيهقي عن معاوية بن أبي سفيان - رضي الله تعالى عنهما - أنه قال : ( اتقوا السلطان فإنه يغضب غضب الصبي ، ويبطش بطش الأسد ) ، وقال عبدالله بن وهب - رحمه الله - : ( اتقوا السلطان اتقوا شرطيهم اتقوا مسلّحيهم اتقوا عريفهم فإنه مصرع لهم ، قال علي بن عثّام : يغضب الحارس فيغضب المسلحي فيغضب الخليفة متى يقوى بهم !! )
والمسيء في طريقة النصح أمام السلطان جانٍ على نفسه ومخاطرٌ بها ، وقد يحتج محتجٌ بصنيع بعض الصحابة وأئمة الدين مع بعض الأمراء والسلاطين والقسوة عليهم في مجالسهم ، ولكن هذا لا يستقيم الاستدلال به لأنه مخالف لأصل الدعوة وهو اللطف والرفق واللين قال تعالى : { ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك } ، وشرع الله مقدّم على صنيع كل أحد ، وما جرى من أولئك الأفاضل من الصحابة وغيرهم جرى على عادة عصرهم في إجلال الملوك والأمراء للعلماء وهيبتهم في قلوبهم ، مع صدق النصح من الناصح لا بقصد الإهانة والإذلال !! .
قال ابن مفلح - رحمه الله - في " الآداب " (1/176) : فأمّا ما جرى(1/23)
للسلف من التعرض لأمرائهم فإنهم كانوا يهابون العلماء فإذا انبسطوا عليهم احتملوهم في الأغلب ولأحمد - رحمه الله - من حديث عطية السعدي : (( إذا استشاط السلطان تسلّط الشيطان )) ، وذكر قصصاً عدّة في المعنى في حسن مناصحة السلطان ، ومما لم يذكر ما ذكره الذهبي - رحمه الله - في ترجمة أبي مسلم الخولاني - رحمه الله - أنه دخل على معاوية - رضي الله عنه - فقال : السلام عليك أيها الأجير ، فقالوا : مه ، فقال معاوية : دعوه فهو أعرف بما يقول ، وعليك السلام يا أبا مسلم ، ثم وعظه وحضّه على العدل .
والمفسدة الثانية : أن في القسوة على السلطان والشدة عليه مدعاة إلى أعراضه عن قبول الحق وأخذه بالعزة بالإثم فيرفض نصيحة الناصح ،
وقلّ من بني آدم من يسلم من هذا الخلق ويقبل قول من قسى عليه .
فصل
إذا فقهت الشرط الأول المشترط لنصح السلطان فأسأل الله أن يهديك إلى معرفة الشرط الثاني وهو : أن يكون ذلك النصح بمحضرٍ منه في السرِّ لا في غيابه ولا على رؤوس الأشهاد وإن حضر !!(1)، وبهذا جاءت السنة الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما سيأتي ، ومن خالف ذلك فقد سعى إلى هلاك نفسه والناس .
__________
(1) إلاّ أن تكون الحال تقتضيه ، وبأسلوبٍ يتميز بالإنصاف والأدب واللين في القول ، واللطف في الخطاب ، مع التمهيد لذلك بذكر المحاسن والمآثر والمواقف الكريمة . ( ابن منيع )(1/24)
فبعض من يجهل ذلك ينتقد السلطان على رؤوس الأشهاد فوق المنابر وفي المحافل والمجالس ، بل ربّما يسبّه ويشنّع بالقول عليه ، وهذا منكر عظيم ربما يظهر مفسدة ثالثة غير ما تقدم ذكره في الفصل السابق وهي : توغير قلوب الرعية ضد السلطان وحملها على الخروج عليه ، بعدما كانت تحبّه وتدعوا له !! ، قال شيخنا عبدالعزيز بن باز - رحمه الله وقدّس روحه - : ( ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة وذكر ذلك على المنابر ، لأن ذلك يفضي إلى الانقلابات وعدم السمع والطاعة في المعروف ، ويفضي إلى الخروج الذي يضر ولا ينفع ولكن الطريقة الصحيحة المتبعة عند السلف النصيحة فيما بينهم وبين السلطان ، والكتابة إليه أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به حتى يوجه إلى الخير .. ) .
وأقبح الناس جهلاً من يرى أن ذلك من الشجاعة ويستدل على ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر )) ، وقد احتج به عليّ مرّة أحدهم !! ، فقلت له : قال : (( عند )) ، ولم يقل وأنت في المغرب والسلطان في المشرق !! ، فاذهب إليه إذا كنت مجاهداً .
وأي فائدة تظهر لمن أشهر عيوب رجلٍ غير موجود - وهذه غيبة - عند من لا حاجة له في معرفتها !! ، بل هذا من النفاق ، فكما روى البخاري أن أناساً سألوا ابن عمر - رضي الله عنه - وقالوا : إننا نقول عند الأمراء كلاما ، فإذا خرجنا قلنا غيره ؟! ، فقال ابن عمر : ما كنّا نعدّ ذلك إلاّ نفاقاً .(1/25)
وكما سبق الإشارة إليه من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رسم لنا منهجاً واضحاً في ذلك ، فقد روى أحمد - رحمه الله - وغيره من حديث عياض بن غنم - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية ، ولكن ليأخذه بيده فيخلو به ، فإن قبل منه فذاك ، وإلاّ كان قد أدّى الذي عليه له )) ، أي من النصيحة ، وهذا حديث صحيح سألت شيخنا ابن باز - قدّس الله روحه - عن صحته ؟ فقال : إسناده جيد .
وعند أحمد - رحمه الله - في " المسند " (4/383) : أن سعيد بن
جمهان تلكم في السلطان فغمزه عبدالله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - ثم قال : ( ويحك يابن جمهان !! ، عليك بالسواد الأعظم ، إن كان السلطان يسمع منك فأته في بيته فأخبره بما تعلم ، فإن قبل منك وإلاّ فدعه ، فإنك لست بأعلم منه ) .
ورواه الطبراني أيضاً ، قال الهيثمي في المجمع : ( رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات ) .
وفي الصحيحين أن أناساً انتقدوا على أسامة بن زيد - رضي الله عنه - وقالوا له : ألا تدخل على عثمان فتكلمه ؟! ، فقال : ( أترون أنّي لا أكلمه إلاّ أسمعكم !! ، والله لقد كلمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتح أمراً لا أحبّ أن أكون أول من فتحه ) .
وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال : ( أيّها الرعية لنا عليكم حقاً النصيحة بالغيب ، والمعاونة على الخير ) .
وسئل ابن عباس - رضي الله عنهما - عن كيفية أمر السلطان بالمعروف ونهيه عن المنكر ؟ ، فقال : ( إن كنت فاعلاً ولا بُدّ ففيما بينك وبينه ) ، ذكر ذلك ابن رجب في " جامع العلوم والحكم " ، ثم قال : كان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد وعظوه سرّاً .(1/26)
والنصيحة بالمجاهرة أمام الناس فسادها عظيم وخطرها وخيم ، قال شيخنا ابن باز - رحمه الله وجعل الجنة مثواه - : ( .. ولمّا فتحوا الشر في زمن عثمان - رضي الله عنه - ، وأنكروا على عثمان جهرة تمت الفتنة والقتال والفساد الذي لا يزال الناس في آثاره إلى اليوم ، حتى حصلت الفتنة بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما - وقتل عثمان بأسباب ذلك ، وقتل جمع كثير من الصحابة وغيرهم بأسباب الإنكار العلني وذكر العيوب علناً حتى أبغض الناس ولي أمرهم وقتلوه نسأل الله العافية ) .
ويشهد لمقال شيخنا - يرحمه الله - ما ذكره ابن سعد في " الطبقات الكبرى " (6/170) عن عبدالله بن عكيم - رحمه الله - أنه قال : لا أعين على دم خليفة أبداً بعد عثمان - رضي الله عنه - !! ، فقالوا له : يا أبا معبد أوَاعنت على دمه ؟! ، فقال : إنّي أعدّ مساويه عوناً على دمه .
فتحصّل بذلك أن ما يصنعه بعض من الجهّال من التشهير بولاة الأمر على المنابر يعدون بذلك مفاتيح للشر مغاليق للخير ، والنبي - صلّى الله عليه وسلم - يقول : (( ويلٌ ثم ويلٌ ثم ويلٌ لمن كان مفتاحا للشر مغلاقاً للخير )) .
روى ابن أبي عاصم - رحمه الله - في " السنة " عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال : ( إيّاكم ولعن الولاة فإن لعنهم الحالقة وبغضهم العاقرة ) ، فقيل : يا أبا الدرداء ، فكيف نصنع إذا رأينا منهم ما لا نحب ؟، قال : ( اصبروا فإن الله إذا رأى ذلك منهم حبسهم عنكم بالموت ) .
وتقدّم ما حفظه أنس عن أكابر الصحابة في ذلك ، كما تقدّم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( وشرّ أمرائكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم ، وتلعنونهم ويلعنونكم )) .(1/27)
المقصود من هذا كلّه إذا تأمله العاقل علم بفساد صنيع أولئك القوم الذين يجاهرون بالنصيحة للولاة على رؤوس الأشهاد ، وجهدهم جهد المنبتّ !! ، لا ظهر أبقى ولا أرض قطع !! ، فلا نصيحة أدّوها على وجهها ، ولا سلامة بقوا عليها !! ، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله(1).
وكان الواجب سلوك المنهج القويم في تقديم النصح والدعاء لهم فإن هذا من خير ما يعامل به السلطان ، قال العالم الجليل الفضيل بن عياض - رحمه الله - : ( لو كان لي دعوة مستجابة لجعلتها للسلطان ) ، وجُعل ذلك شعاراً لأهل السنة والجماعة وهو الدعاء للسلطان بالصلاح والهداية .
وروى حنبل عن أبيه في كتاب " السنة " للخلال (1/83) ، أن الإمام أحمد - رحمه الله - قال : ( إنّي لأدعو له بالتسديد والتوفيق في الليل والنهار
والتأييد وأرى له ذلك واجب عليّ ) .
قال البربهاري - رحمه الله - في رسالته في " السنة " : ( إذا رأيت الرجل يدعو للسلطان فاعلم أنه صاحب سنّة وإذا رأيت الرجل لا يدعو للسلطان فاعلم أنه صاحب هوى ) .
ومن خير مقامات الدعاء له بالصلاح الجمع وصلاة الأعياد لاجتماع الناس وكثرة المؤمِّنين على الدعاء ، ومن قال أن الدعاء للسلطان في خطبة الجمعة بدعة ، فهو المخطئ حقاً لأن من سنن خطبة الجمعة الدعاء بما فيه صلاح المسلمين ، ومن أعظم صلاح المسلمين صلاح إمامهم ، ولربما يستجاب دعا داعٍ بتأمين رجلٍ واحد من الذين حضروا هذه الخطبة فيصلح الله شأن الإمام فتصلح حال الرعية .
__________
(1) ومن صور مخالفة منهج السلف المستقيم في هذا الباب : كتابة الشعارات وحمل الرايات والخروج بالمظاهرات وأعمال الشغب ، وتوزيع المنشورات المتضمنة السب والتعيير بالولاة ، فهذا كلّه من المنكر الذي يخالف الكتاب والسنة وعمل أهل السنة .(1/28)
وقد روى الخطيب في " تاريخه " ( 5/ 437 )، بإسناده إلى ابن عباس – رضي الله عنهما - أنه قال على منبر البصرة : ( اللهم أصلح عبدك وخليفتك علياً أهل الحق أمير المؤمنين ) .
انتهى ما أحسب أنه يفي بالمقصود وينال به السائل الطريق الصواب المنشود ، مع الوصية له بالرجوع إلى كتب أئمة السنة المتقدّمين في ذلك مما سبق الإشارة إليه في أول هذه الوصية ، وليكن من كتب المعاصرين على حذر ، ولا يأخذ إلاّ لمن اشتهر بالسنة والعمل بها ،وكان مستنده في جميع ما يقول الكتاب والسنة وآثار السلف
والله يوفقنا وإيّاك إلى ما فيه الخير والصلاح ، ويهدي ولاة أمورنا إلى اتباع كتابه وسنة نبيه والحكم بهما ، وأن يرزقهم البطانة الصالحة الناصحة التي تعينهم على الخير وتدلهم إليه ، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب وصلّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وكتب الفقير إلى عفو ربه العلي : بدر بن علي بن طامي العتيبي غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين ، وذلك مساء الثلاثاء 21 ربيع الآخر من عام عشرين وأربعمائة وألف للهجرة ( 1420هـ ) ، والحمد لله .
*************************
المحتوى(1/29)