وصية لقمان
تأليف فضيلة الشيخ
عبد المجيد يوسف الشاذلي
http://www.alshazly.net/
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا مَن يهده الله فلا مضل له ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ((1)، ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ((2)، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً = 70 يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً = 71 ((3).
أما بعد فإني نظرت يا بُنَيَّ في هذا الزمان، فهالني ما فيه من فتن تترى كقطع الليل المظلم تجعل الحليم حيرانًا، وكثرة دعاة جهنم الواقفين على أبوابها مَن أجابهم إليها قذفوه فيها، ومكر أولياء الشيطان، وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال، وصولجان الباطل وزخرفه وعلو صوته، حتى يخيل أحيانًا للناظر بادي الرأي أنه الحق الذي لا مرية فيه، وتداعي الأمم علينا تداعي الأكلة على القصعة، وغربة أهل الحق وانزوائهم وضعفهم إلا بالله سبحانه وتعالى، فأشفقت عليك يا بُنَيَّ مما أسمع وأرى.
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 102.
(2) سورة النساء، الآية: 1.
(3) سورة الأحزاب، الآيتان: 70-71.(1/1)
يا بُنَيَّ في هذا الزمن الذي تتابع فيه الفتن تجعل الحليم حيرانًا إلا مَن رحم ربك تكون للدرر الثمينة والحِكَم البليغة التي منحها الله تعالى لعبده لقمان في وصاياه الربانية أهمية بالغة لكل عبد مخلص لربه محب لنبيه متمسك بدينه ليُحصن نفسه وأهله من الوقوع في ظلمات الشرك والضلالة ويحمى نفسه وأهله من حالة الذلة والمهانة التي يحياها اليوم أهل الأرض ــ إلا مَن رحم ربك ــ وتصبح هذه الوصايا الربانية والحكم البالغة من لقمان معالم إيمانية في الطريق إلى نور الهدى والتوحيد ولبلوغ مرتبة العزة والكرامة التي يفتقدها اليوم أهل هذه الأرض ــ إلا من رحم ربك ــ.
يا بُنَيَّ يكفيك أن تعلم أن الله تعالى بدأ سورة لقمان بقوله: (الم - تِلْكَ آيَات الْكِتَاب الْحَكِيم - هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ ( (1).
نعم بدأ السورة بالحكمة والهدى والرحمة، بالحكمة لما في وصايا لقمان من الحكم الربانية البالغة, وبالهدى للخروج من الشرك والضلالة إلى الهدى والتوحيد، وبالرحمة في التحصن بموجبات العزة والكرامة والحماية من مسالك الذلة والمهانة.
يا بُنَيَّ ما أشد حاجتنا إلى هذه الدرر النفيسة في الوصايا الربانية البالغة التي أمر الله تعالى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغنا بها على لسان عبده الصالح لقمان ونحن معا في هذه الرسالة الهامة في هذه الفترة الحرجة من واقع المسلمين مع الوصية الأولى من وصايا لقمان لابنه وهو يعظه, والتي أنزلها الله في كتابه إلى نبيه لتكون حجة لنا أو علينا إلى يوم الساعة.
يا بُنَيَّ الوصية الأولى من وصايا لقمان هي ركيزة الإيمان بالله، بها يقبل الله منك الصالحات، ويغفر الله لك بها السيئات, وبدونها يا بُنَيَّ يضاعف الله السيئات ويهدر الحسنات، ويجعلها هباءً منثورًا.
__________
(1) سورة لقمان، الآيات: 1-3.(1/2)
نعم من أجل ذلك كانت هذه الرسالة مع وصية لقمان ( يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( ولعل كلمات من عالم جليل شهدت له الأمة بالعلم والتقوى تقرب لك الفكرة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية(1): «فهذا موضع عظيم جدًا ينبغي معرفته لما قد لبس على طوائف من الناس أصل الإسلام، حتى صاروا يدخلون في أمور عظيمة هي شرك ينافي الإسلام لا يحسبونها شركًا، وأدخلوا في التوحيد والإسلام أمورًا باطلة ظنوها من التوحيد وهي تنافيه، وأخرجوا من الإسلام والتوحيد أمورًا عظيمة لم يظنوها من التوحيد وهي أصله».
فأنظر يا بُنَيَّ ــ رحمك الله ــ كيف تسللت الفكرة الخاطئة في هذه الأمة حتى إلى أصل الإسلام والتوحيد بالشرك الأكبر الذي ينافي الإسلام ولا يحسبونه شركًا بل ظنوه من التوحيد.
اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ولا تجعله ملتبسًا علينا فنضل واجعلنا للمتقين إمامًا.
فاحذر يا بُنَيَّ كل الحذر، فإن الجنَّة غالية تستحق أن يبذل لها كل غالٍ ونفيس.
وتَعلَّم يا بُنَيَّ خطر الشرك الأكبر الذي من أجله أنزل الله الكتب وأرسل الرسل ناهين الناس عنه، وداعين إلى توحيده تبارك وتعالى. ففي خطر الشرك الأكبر قال - عز وجل -: ( وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ((2). وقال جلَّ وعلا: ( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً ((3). وتَنبَّه الرجل الصالح إلى خطره فأوصى ابنه: ( يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ((4).
وأنا يا بُنَيَّ أفَصّل لك هذا الأمر وأذكر لك مسائل عظيمة مفيدة تندرج في هذا الموضوع.
وقد سقته لك يا بُنَيَّ في ثلاثة وثلاثين وجهاً
__________
(1) الفتاوى الكبرى، جـ 5، ص250.
(2) سورة الأنعام، الآية: 88.
(3) سورة الفرقان، الآية: 23.
(4) سورة لقمان، الآية: 13.(1/3)
ثمانية أوجه: بيَّنتُ لك فيها أن التوحيد الذي أنزل الله به كتبه، وأرسل به رسله ــ عليهم السلام ــ إنما هو توحيد العبادة: أن يعبد الله وحده لا يُشرك به شيئًا وليس فقط توحيد الخالقية والرازقية الذي أقر به مشركو العرب، ولم يدخلهم في الإيمان ولا في الإسلام، وأن توحيد العبادة هو الإسلام، وهو أصل الإيمان، وذكر بعض أدلة الكتاب والسنة على ذلك، وأن مَن لم يترك الشرك الأكبر ويعبد الله وحده فليس بمؤمن ولا مسلم بل مشرك ضال.
وفي عشرة أوجه تالية بيَّنتُ لك فيها يا بُنَيَّ بطلان قول الجهمية والمرجئة الذين يؤولون حقيقة الإسلام والإيمان.
ومن الوجه التاسع عشر حتى الوجه الثاني والعشرين جاء الحديث على أنه كما أن التوحيد توحيدان، فإن الشرك شركان، وكذلك بيان نوعي التوحيد من خلال أربع آيات من سورة الأنعام، وكلام كل من شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله.
وفي الوجه الثالث والعشرين: تجد ضوابط معرفة أركان التوحيد ونواقضه، وهي ضوابط تخدم في رفع اللبس والخلط، حتى لا يُدخل في التوحيد ما ليس منه، ويُخرج منه ما يُعد من صلبه.
ثم يأتي بعد ما تقدم الوجه الرابع والعشرون في بيان مفردات الشرك والكفر المخرجة من الملة، مع تفصيل هذه المفردات وذكر أدلتها من الكتاب والسنة وأقوال العلماء.
وفي الوجه الخامس والعشرين كان الحديث على أن الدين مراتب ثلاثة، وكذلك التفريق بين الحديث عن قضايا الإيمان حكمًا وبين الحديث عنها تكليفًا شرعيًا.
وكذلك في الوجه السادس والعشرين بيان تغير الدلالات بتغير الاستعمالات للفْظَي الإيمان والإسلام وفي ذلك حسمًا للتشابه والاختلاط.
ثم استكمالاً للفائدة وتفاعلاً مع الواقع جاء الوجه السابع والعشرون: في الحديث عن ضوابط الأحكام ومقاصد الشريعة، وأهداف العمل الإسلامي.(1/4)
ثم يأتي الحديث في الوجه الثامن والعشرين عن الإيمان بين الإفراط والتفريط ليعطي لنا صورة عن الوسطية في أمر الإيمان، والذي تتميز به هذه العقيدة، وتتميز به هذه الأمة.
وفي الوجه التاسع والعشرين كان الحديث عن أثر غياب المفاهيم الصحيحة في الواقع المعاصر.
كما أن وصية لقمان - عليه السلام - لابنه اشتملت على جملة من القيم الإيمانية والأخلاق، كان الحديث في الوجه الثلاثين عن جملة من القيم الإيمانية والأخلاقية التي لا غنى عنها للفرد والجماعة، والتي إذا تخلق بها الفرد المسلم وأضيف إليها قوة الشعور الديني مع مفاهيم صحيحة للدين، ووعى بالواقع، أمكن ذلك من إخراج الطليعة المؤمنة التي تستطيع أن تعزم العزمة وتمضي على الطريق، وتسعى لانتشال الأمة من حالة الوهن والغثائية لتعود كما أرادها الله تبارك وتعالى: ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ((1).
واستكمالاً للفائدة ألحقنا ثلاثة أوجه عن الجهل، والخطأ والتأويل، والإكراه.
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
ونسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعل عملنا هذا خالصًا وصائبًا.
خالصًا لوجه الكريم، وصائبًا وفق كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العلمين.
أما بعد يا بُنَىّ:
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 110.(1/5)
يقول ربك في كتابه العزيز: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنِ وَفِصَالُهُ فِي عَامَينِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصِيرُ ( وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مُرْجُعُكُمْ فَأُنَبِّئَكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ( يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالمعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ( وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ( وَاقْصِدْ فِي مَشْيكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ ( (1).
فاعلم يا بُنَيَّ أن استقامة حياتك كلها على صراط مستقيم في هذا العصر المليء بالجهالات والضلالات وتلبيس الحق بالباطل, يرجع إلى ترك الشرك والتمسك بالتوحيد؛ ولذلك فأنا أقول لك كما قال لقمان لابنه: ( يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (.
__________
(1) سورة لقمان، الآيات: 12-19.(1/6)
وسيقولون لك: وما الذي يخشاه عليك أبوك من الشرك، ويأمرك به من التوحيد، ألسنا جميعًا نؤمن بأن الله واحد، وأنه وحده يخلق ويرزق... فما الجديد عند أبيك ليوصيك به؟؟!!
فاعلم يا بُنَيَّ أن هذا الذي يزعمونه من التوحيد, كان المشركون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقرين به, ومع ذلك دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى التوحيد وترك الشرك وقاتلهم على ذلك، وإذا أردت دليلاً على ذلك فهذا هو الدليل من كتاب ربِّك العزيز يقول ربُّك - عز وجل -: ( قُلْ مَن يَّرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَم مَّن يَّمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُّخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُّدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ( فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ((1).
ويقول - سبحانه وتعالى -: ( قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ( قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ ( سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ( قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ((2).
ويقول - عز وجل -: ( وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ((3).
فعُلم من ذلك أن التوحيد الذي دعت إليه الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وراء ذلك الذي أقرَّ به المشركون.
__________
(1) سورة يونس، الآيتان: 31-32.
(2) سورة المؤمنون، الآيات: 84-89
(3) سورة الزخرف، الآية: 87.(1/7)
وإذا قلت لهم ذلك يا بُنَيَّ قالوا لك: ما لنا ولهؤلاء الذين حكى عنهم القرآن؛ إنهم لا يؤمنون بالرسالات، ولا بالبعث بعد الموت، ونحن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره, وهذا هو الفيصل بين الإيمان والكفر، والتوحيد والشرك.
وإذا قالوا لك ذلك يا بُنَيَّ فاعلم أن هذا الذي ادَّعوه لا يتحقق به الإسلام, ولا يكفي لدخول الملة, ولا للنجاة من الشرك والكفر والخلود في النار، ولكنهم بَنوا قولهم على مزاعم المرجئة، وهي باطلة كلها قد أبطلتها آيات الفرقان في كتاب ربك العزيز الحكيم.
وإليك الدليل على ذلك من ثمانية أوجه:
الوجه الأول: كرامية المرجئة: يقولون أن الإيمان هو تصديق الخبر باللسان فقط، وربك يقول: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَّقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِاليَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ((1).
فأثبت لهم القول ونفى عنهم الإيمان, فعُلم أن الإيمان ليس قولاً باللسان فقط.
الوجه الثاني: جهمية المرجئة: يقولون إن الإيمان تصديق بالقلب فقط، وإن رفض النطق بالشهادتين كسلاً وتهاونًا، وربك يقول: ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ . الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ((2).
فأثبت لهم المعرفة ـ وهي والتصديق شيء واحد كما سيتضح لك بعد قليل ـ ونفى عنهم الإيمان، فالإيمان ليس معرفة بالقلب فقط.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 8.
(2) سورة الأنعام، الآية: 20.(1/8)
الوجه الثالث: وعامة المرجئة: يقولون أن الإيمان إقرار باللسان مع معرفة القلب، وربك - عز وجل - يقول: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ((1)، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّنَا لا يَظْلِمُ نَفْسَهُ. قَالَ: «لَيْسَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ: ( يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ(»(2)، وفي حديث آخر «بظلم: بشرك»(3).
وروى(4) الأمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ (، شَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ. وَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: فَأَيُّنَا لا يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ قَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ الَّذِي تَعْنُونَ، أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: ( يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ( إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ».
فالإيمان إذا كان بالقلب واللسان فقط فهو إيمان لُغوي، وليس إيمانًا شرعيًا يتحقق به الإسلام ويكون به صاحبه من أهل الملة, حتى ينضاف إليه ترك الشرك, فيكون آنذاك هو الإيمان الشرعي المقبول عند الله.
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 82.
(2) صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء.
(3) المصدر السابق.
(4) عمدة التفاسير, الشيخ أحمد شاكر، جـ1، ص793، دار الوفاء.(1/9)
وترك الشرك المقصود هنا هو: ترك الشرك في العبادة لقوله - عز وجل -: ( الَّذِينَ آمَنُوا ( أي خلوا من شرك الاعتقاد؛ فلا يتحقق لهم الأمن والهداية بإطلاق إلا بترك الشرك في العبادة والانقياد والدليل على ذلك هو:
الوجه الرابع: يقول ربك - عز وجل -: ( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ ((1).
يقول ابن عباس: «إيمانهم إقرارهم، وشركهم أنهم يعبدون مع الله غيره».
فإذا تحقق لك هذا يا بُنَيَّ فاعلم أن ترك الشرك في العبادة هو الإسلام وهو:
الوجه الخامس: والدليل على ذلك قوله - عز وجل -: ( اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا والسَّمَاءَ بِنَاءً وصَوَّرَكُم فَأَحْسَنَ صُوَرَكُم ورَزَقَكُم مِّنَ الطِّيِبَاتِ ذَلِكُم اللَّهُ رَبُّكُم فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ( هُوَ الحَيُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ (2) مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الحَمْدُ للَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ( قُلْ إِنَّي نُهِيتُ أَن أَعْبدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِي البَيِّنَاتِ مِن رَبِّي وَأُمِرتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ العَالَمِينَ ((3).
ومن هذه الأوجه الخمس: يتضح لك يا بُنَيَّ أنه لابد لكي يكون المسلم مسلمًا أن يجتمع له الأصلان: الإيمان بمعناه الخاص: وهو توحيد الربوبية، وهو التوحيد في الخبر والعلم والمعرفة. والإسلام بمعناه الخاص: وهو توحيد العبادة، وهو توحيد الألوهية, وهو التوحيد في الإرادة والقصد والطلب. وأن يترك الشركين الأعظمين وهما: شرك الاعتقاد, وشرك الانقياد, وهو الشرك في العبادة.
الوجه السادس: التلازم بين الإيمان والإسلام.
__________
(1) سورة يوسف، الآية: 106.
(2) يعني: فاعبدوه.
(3) سورة غافر، الآيات: 64-66.(1/10)
ويتضح من هذه الآيات، يقول ربك عزَّ وجَلَّ في سورة البقرة: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ( صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ( قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ((1).
جمع(2) بين لفظ الإيمان والإسلام, ثم أفرد لفظ الإيمان وأطلقه بعد ذلك في قوله تعالى: ( فَإِنْ آمَنُوا بمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ( فدخل في لفظ الإيمان عند الإطلاق معنى لفظَيْ الإيمان والإسلام المذكورين قبلاً.
وهي الحقيقة الشرعية للإيمان: توحيد الربوبية المتضمن والمستلزم لتوحيد الألوهية، ثم ذكر بعد ذلك توحيد العبادة: ( وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (، والإخلاص: ( وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ( وهو الإسلام.
__________
(1) سورة البقرة، الآيات: 136-139.
(2) إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا. أو يكون بينهما تلازم, فيجتمعان بالحقيقة الشرعية لكليهما كوصفين متلازمين لمدلول واحد هو الدين، يدل كل وصف على معناه وعلى الدين بالمطابقة وعلى الوصف الأخر باللزوم.(1/11)
وفي قوله تعالى في سورة آل عمران: ( قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ((1).
جمع بين الإسلام والإيمان ثم أفرد لفظ الإسلام وأطلقه في قوله تعالى بعد ذلك: ( وَمَن يَّبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُّقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ((2).
وهذه هي الحقيقة الشرعية للفظ الإسلام: توحيد الألوهية المتضمن والمستلزم لتوحيد الربوبية، حيث دخل تحت لفظه معنى الإيمان والإسلام المذكورين قبلاً.
ويتضح هذا التلازم في قوله تعالى: ( الَّذِينَ آمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ((3)، ( إنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُّؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ ((4)، وقوله تعالى: ( وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُم مُّسْلِمِينَ ((5)، وقوله تعالى: ( فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المُؤْمِنِينَ ( فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيتٍ مِّنَ المُسْلِمِينَ ((6).
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 84.
(2) سورة آل عمران، الآية: 85.
(3) سورة الزخرف، الآية: 69.
(4) سورة النمل، الآية: 81.
(5) سورة يونس، الآية: 84.
(6) سورة الذاريات، الآيتان: 35-36.(1/12)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية(1): «وقد وصف الله السحرة بالإسلام والإيمان معًا فقالوا: ( آمَنَّا بِرَبِّ العَالَمِينَ ( رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ((2)، وقالوا: ( وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا ((3)، وقالوا: ( إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوْلَ المؤْمِنِينَ ((4)، وقالوا: ( رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ((5). ووصف الله أنبياء بني إسرائيل بالإسلام في قوله تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَّحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا ((6)، والأنبياء كلهم مؤمنون ووصف الحواريين بالإيمان والإسلام فقال تعالى: ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ((7)، وقال الحواريون: ( نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ((8)». أهـ.
ومن أجل هذا التلازم ترجم البخاري باب ”من قال أن الإيمان هو العمل“ عرَّف فيه الإيمان بالإسلام وهذا هو الوجه السابع:
__________
(1) مجموع الفتاوى، جـ1، ص 262.
(2) سورة الأعراف، الآيتان: 121-122.
(3) سورة الأعراف، الآية: 126.
(4) سورة الشعراء، الآية: 51.
(5) سورة الأعراف، الآية: 126.
(6) سورة المائدة، الآية: 44.
(7) سورة المائدة، الآية: 111.
(8) سورة آل عمران، الآية: 52.(1/13)
يقول القسطلاني(1): ثم استدل المؤلف ـ يعني البخاري ـ على مذهبه بقوله تعالى: ( وَمَن يَّبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ ( أي غير التوحيد والانقياد لحكم الله تعالى (دِينًا فَلَن يُّقْبَلَ مِنْهُ (جواب الشرط, ووجه الدلالة على ترادفهما أن الإيمان لو كان غير الإسلام لما كان مقبولا, فتعين أن يكون عينه, لأن الإيمان هو الدين والدين هو الإسلام لقوله تعالى: ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ ((2)، فينتج أن الإيمان هو الإسلام». أهـ.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية(3): «قال تعالى: ( وَمَن يَّبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُّقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ (، وقال تعالى: ( وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ((4)، ولم يقل: ومن يبتغِ غير الإسلام علمًا ومعرفة وتصديقًا وإيمانًا، ولا قال: ورضيت لكم الإيمان تصديقًا وعلمًا، فإن الإسلام من جنس الدين والعمل والطاعة والانقياد والخضوع، فمن ابتغى غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه، والإيمان طمأنينة ويقين أصله علم وتصديق ومعرفة والدين تابع له». أهـ.
__________
(1) إرشاد الساري إلى صحيح البخاري، ص148.
(2) سورة آل عمران، الآية: 19.
(3) كتاب الإيمان، ص291، طبعة دار بن الخطاب.
(4) سورة المائدة، الآية: 3.(1/14)
ويقول شيخ الإسلام(1): «وقد ذكر الخطابي في ”شرح البخاري“ كلامًا يقتضى تلازمهما مع اقتران اسميهما, وذكره البغوي في ”شرح السنة“ فقال: قد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الإسلام اسمًا لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسمًا لما بطن من الاعتقاد، وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، أو التصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد وجماعها الدين، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم» والتصديق والعمل يتناولهما اسم الإسلام والإيمان جميعًا يدل عليه قوله تعالى: ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ (، وقوله تعالى: ( وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا(، وقوله - عز وجل -: ( وَمَن يَّبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُّقْبَلَ مِنْهُ ( فبََيَّن أن الدين الذي رضيه الله سبحانه وتعالى ويقبله من عباده هو الإسلام، ولا يكون الدين في محل الرضى والقبول إلا بانضمام التصديق إلى العمل». أهـ.
ولما كان الإسلام هو توحيد العبادة, وكان الإيمان هو الإسلام عرَّف الله سبحانه وتعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - الإيمان بتوحيد العبادة، وهذا هو الوجه الثامن من الاستدلال:
__________
(1) كتاب الإيمان، ص 277.(1/15)
يقول الله - عز وجل -: ( وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى المدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ ( اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُّهْتَدُونَ ( وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيهِ تُرْجَعُونَ ( أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ ( إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُّبِيْنٍ ( إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ( قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ( بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ ((1).
فعبادة الله وحده هي: ألوهية الله وحده, وهي الإيمان بالله سبحانه وتعالى, والآية ربطت بين العبادة والألوهية، وبين الإيمان بالله ربًا.
وقوله تعالى: ( قَد كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِّنْكُم وَمِمَّا تُعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم العَدَاوَةُ والبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ((2). فالإيمان بالله وحده هو: عبادة الله وحده.
وقد أورد مسلم(3) في صحيحه هذه الروايات لحديث وفد عبد القيس:
__________
(1) سورة يس، الآيات: 20-27.
(2) سورة الممتحنة، الآية: 4.
(3) صحيح مسلم، ص35 طبعة دار ابن رجب.(1/16)
1- حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ ح و حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَاللَّفْظُ لَهُ. أَخْبَرَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا هَذَا الْحَيَّ مِنْ رَبِيعَةَ وَقَدْ حَالَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضَرَ فَلا نَخْلُصُ إِلَيْكَ إِلا فِي شَهْرِ الْحَرَامِ فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نَعْمَلُ بِهِ وَنَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا. قَالَ: «آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: الْإِيمَانِ بِاللَّهِ ـ ثُمَّ فَسَّرَهَا لَهُمْ ـ فَقَالَ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُقَيَّرِ» زَادَ خَلَفٌ فِي رِوَايَتِهِ شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَعَقَدَ وَاحِدَةً.(1/17)
2- وفي رواية أخرى للحديث يقول الإمام مسلم: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ و قَالَ الْآخَرَانِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ كُنْتُ أُتَرْجِمُ بَيْنَ يَدَيْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَيْنَ النَّاسِ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ تَسْأَلُهُ عَنْ نَبِيذِ الْجَرِّ فَقَالَ إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ الْوَفْدُ أَوْ مَنْ الْقَوْمُ قَالُوا رَبِيعَةُ قَالَ مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ أَوْ بِالْوَفْدِ غَيْرَ خَزَايَا وَلا النَّدَامَى قَالَ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَأْتِيكَ مِنْ شُقَّةٍ بَعِيدَةٍ وَإِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيَّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ وَإِنَّا لا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيَكَ إِلا فِي شَهْرِ الْحَرَامِ فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا نَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ. قَالَ: فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ. قَالَ: «أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ (1)بِاللَّهِ وَحْدَهُ. وَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسًا مِنْ الْمَغْنَمِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ».
__________
(1) الإيمان غير الأربع وهو أساسها وقاعدتها التي لا تقبل ولا تصح إلا به.(1/18)
3- وفي رواية أخرى للحديث يقول الإمام مسلم: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ حَدَّثَنَا مَنْ لَقِيَ الْوَفْدَ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ قَالَ سَعِيدٌ: وَذَكَرَ قَتَادَةُ أَبَا نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي حَدِيثِهِ هَذَا؛ أَنَّ أُنَاسًا مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّا حَيٌّ مِنْ رَبِيعَةَ وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضَرَ وَلا نَقْدِرُ عَلَيْكَ إِلا فِي أَشْهُرِ الْحُرُمِ فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نَأْمُرُ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا وَنَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ إِذَا نَحْنُ أَخَذْنَا بِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: اعْبُدُوا(1) اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَصُومُوا رَمَضَانَ وَأَعْطُوا الْخُمُسَ مِنْ الْغَنَائِمِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ وَالنَّقِيرِ...» إلي آخر الحديث.
وقبل هذا الحديث ساق مسلم أحاديث تُعرِّف بالإسلام فقال(2):
__________
(1) اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا غير الأربع وهو أساسها وقاعدتها لا تقبل ولا تصح إلا به.
(2) صحيح مسلم، ص34.(1/19)
1- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ الْهَمْدَانِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ ـ يَعْنِي سُلَيْمَانَ ابْنَ حَيَّانَ الأَحْمَرَ ـ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأشْجَعِيِّ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسَةٍ: عَلَى أَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ وَالْحَجِّ. فَقَالَ رَجُلٌ: الْحَجُّ وَصِيَامُ رَمَضَانَ؟ قَالَ لا صِيَامُ رَمَضَانَ وَالْحَجُّ هَكَذَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
2- ويقول الإمام مسلم: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ طَارِقٍ قَالَ حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ السُّلَمِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ عَلَى أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَيُكْفَرَ بِمَا دُونَهُ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ».
3- وفي رواية ثالثة: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَاصِمٌ وَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ».(1/20)
والإمام مسلم رحمه الله ذكر هذه الأحاديث مجتمعة ليُبَيِّن فساد مذهب المرجئة والجهمية في الإيمان، وليقرر أن الإيمان هو الإسلام ـ كما قرر البخاري ـ وأن الإسلام هو: عبادة الله وحده لا شريك له، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عرف الإيمان في حديث عبد القيس بما عرف به الإسلام في حديث جبريل - عليه السلام -، وفي أحاديث ”بُني الإسلام على خمس“ وقد جاء تعريف الإيمان في حديث عبد القيس مرة بـ «شهادة لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله»، ومرة بـ «اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا» وكذلك جاء في حديث جبريل وأحاديث بُنى الإسلام على خمس تعريف الإسلام بـ «شهادة لا إله إلا الله»، وبـ «شهادة لا إله إلا الله محمدًا رسول الله»، وبـ «ولا تشرك بالله شيئًا»، وبـ «وأن تعبد الله ولا تشرك به شيئًا» وبـ «أن يوحد الله» وبـ «أن يعبد الله ويكفر بما دونه»، ومعنى جميع الصيغ هو توحيد العبادة.
وإذا استقرت عندك يا بُنَيَّ هذه الحقيقة وهي: أن الإيمان إقرار ومعرفة مع ترك الشرك في العبادة, وهو التفسير الحرفي لقوله تعالى: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ((1)، وأن حقيقة الإيمان هي حقيقة الإسلام: توحيد الألوهية المتضمن والمستلزم لتوحيد الربوبية، وأن الإيمان بمعناه الخاص هو قسيم هذه الحقيقة وهو: التوحيد في الخبر والعلم والمعرفة, وأن الإسلام بمعناه الخاص هو قسيم هذه الحقيقة وهو: التوحيد في الإرادة والقصد والطلب، وبمجموع هذين الأصلين يكون المسلم مسلمًا تحقق له الإسلام ودخول الملة, والنجاة من الكفر والشرك والخلود في النار, وأنه لابد في ذلك من ترك الشركين الأعظمين وهما شرك العبادة, وشرك الاعتقاد.
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 82.(1/21)
فاعلم أن الجهمية والمرجئة لا يُثبتون من ذلك إلا التصديق القلبي الخالي من الانقياد, وحتى لا يخالفوا النصوص كفاحًا فقد اختزلوا معنى الإسلام من توحيد العبادة الذي خلق الله له الخلق وأنزل به الكتب وأرسل به الرسل, إلى مجرد إخبات قلبي ينتفي به الجحد النفسي، وتتحول به المعرفة إلى تصديق قلبي خالي من الانقياد, وهذا يكفي عندهم في تحقيق النجاة من الخلود في النار, حتى لو رفض صاحبه النطق بالشهادتين مع القدرة وعدم الإكراه كسلاً وتهاونًا. وقالوا هذا القدر من الإخبات يتحقق به الانقياد فأرادوا في الإسلام مطلق الانقياد وليس الانقياد المطلق كما أراده الله عزَّ وجَلَّ، وهذا من أبطل الباطل وحجة الله عليهم قائمة بآياته البينات.
وهذه عشرة أوجه في إبطال قول الجهمية والمرجئة:
الوجه الأول:
يقول الله - عز وجل -: ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَّعُلُوًّا ((1).
ويقول - سبحانه وتعالى -: ( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ((2).
فأثبت سبحانه وتعالى الجحد والتكذيب باللسان, ونفى أن يكون في النفس جحد نفسي يخالف العلم وهو ما يدَّعونه.
__________
(1) سورة النمل، الآية: 14.
(2) سورة الأنعام، الآية: 33.(1/22)
ويقول - سبحانه وتعالى -: ( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّيِنَ ( وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المُسْلِمِينَ ((1)، ويقول - سبحانه وتعالى -: ( وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءُ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ((2)، ويقول - عز وجل -: ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ (، ويقول - سبحانه وتعالى -: ( وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ((3)، ويقول - عز وجل -: ( وَمَن يَّبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُّقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ((4).
__________
(1) سورة الزمر، الآيتان: 11-12.
(2) سورة البينة، الآية: 5.
(3) سورة المائدة، الآية: 3.
(4) سورة آل عمران، الآية: 85.(1/23)
والمعنى أن إخلاص الدين هو الإسلام وذلك معني الحنيفية. وجاء لفظ الدين في سورة البينة بمعنيين: الأول: وهو الانقياد. الثاني: وهو الطريق القويم والصراط المستقيم الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - مطابقًا لرسل الله الكرام, فلابد في الإسلام الذي هو الصراط المستقيم والدين القيم من الدين الذي هو الانقياد, ولابد لهذا الانقياد من أن يكون خالصًا وهو الإسلام(1)، فمن يبتغ غير الدين في الإسلام(2)، ومن يبتغ غير الإسلام في الدين فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين، ويقول - عز وجل -: ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ويَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ((3). والفتنة: الشرك، كما قال العلماء. وذلك بأن يكون بعض الدين لله وبعضه لغيره عزَّ وجَلَّ, فلابد أن يكون الدين كله لله عزَّ وجَلَّ, وأن يكون خالصًا لله وحده, وإذا كان الانقياد كله لله خالصًا, فهذا هو الانقياد المطلق لا مطلق الانقياد كما يدَّعون، وهذا الانقياد المطلق يتحقق بتوحيد العبادة.
__________
(1) المعنى الثاني للفظ الإسلام وهو الدين الخالص.
(2) المعنى الأول وهو دين القيمة الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - مطابقًا لرسل الله الكرام.
(3) سورة الأنفال، الآية: 39.(1/24)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية(1) في إبطال دعوى الجحد النفسي, وفي إبطال أن العبادة هي الطاعة في الاعتقاد، يقول شيخ الإسلام بعد كلام في إبطال الطاعة في الاعتقاد: «ولهذا لم يتنازع الناس في أنه يمتنع تكليف الإنسان أن يعتقد خلاف ما يعلمه, ولو كان في الإمكان خبر نفساني ينافى العلم لأمكن أن يُطلب ذلك من الإنسان, فإنه يمكن أن يطلب منه كل ما يقدر عليه سواء قيل إن ذلك جائز في الشريعة أم لا. كما أن طلب الكذب ممكن والتكليف به ممكن, وأما طلب كذب نفساني يخالف العلم فهذا مما لا يمكن طلبه والتكليف به إذ هو أمر لا حقيقة له, فتبيَّن أن قولهم أن الجحد إنما يتصور من العلم بالشيء في العبارة باللسان دون القلب، وصاحب الجحد وإن جحده باللسان هو معترف بالقلب, فلا يصح الجحد منه بالقلب هو أصدق من قولهم العالم بالشيء قد يقوم بقلبه كذب نفساني ينافي علمه، وإذا كان كذلك بطل ما احتجوا به على إثبات الخبر النفساني الذي ادعوه وراء العلم وهو المقصود». أهـ.
ويقول الشيخ(2): «قال تعالى: ( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ( فنفي عنهم التكذيب، وأثبت الجحود. ومعلوم أن التكذيب باللسان لم يكن منتفيًا عنهم, فَعُلِمَ أنه نفى عنهم تكذيب القلب.
__________
(1) الفتاوى الكبرى، جـ5، ص 197، طبعة دار المعرفة بيروت.
(2) الفتاوى الكبرى، جـ5، ص 198.(1/25)
إلى أن يقول: فلما نفى عنهم تكذيب القلوب, عُلِمَ أن الجحود الذي هو ضرب من الكذب, والتكذيب بالحق المعلوم ليس هو كذبًا في النفس، ولا تكذيبًا فيها, وذلك يوجب أن العالم بالشيء لا يكذب به ولا يخبر في نفسه بخلاف علمه, فإن قيل العالم بالشيء العارف به قد يؤمن بذلك وقد يكفر كما قال تعالى: ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَّعُلُوًّا ( وذلك مثل المعاندين من المشركين وأهل الكتاب وليس كفرهم لمجرد لفظهم, فإنهم أيضًا قد يقولون بألسنتهم ما يعلمونه ولا يكونون مؤمنين، مثل ما كان يقوله أبو طالب من الإخبار بأن محمدًا رسول الله, ومثل إخبار كثير من اليهود والنصارى بعضهم لبعض برسالته، ومع هذا فليسوا مؤمنين ولا مصدقين ومنهم اليهود الذين حاوروه وقالوا نشهد إنك رسول الله.
قيل الجواب عن هذا هو: أن ما أخبرت به الرسل من الحق ليس إيمان القلب مجرد العلم بذلك، فإنه لو علم بقلبه أن ذلك حق وكان مبغضاً له وللرسول الذي جاء به ولمن أرسله معاديًا لذلك كان مستكبرًا عليهم ممتنعًا عن الانقياد لذلك الحق لم يكن هذا مؤمنًا مثابًا في الآخرة باتفاق المسلمين. ولهذا لم يختلفوا في كفر إبليس مع أنه كان عالمًا عارفًا، بل لابد في الإيمان من علم في القلب وعمل في القلب أيضًا...
ولفظ التصديق يتناول العلم الذي في القلب ويتناول أيضًا ذلك العمل في القلب الذي هو موجب العلم ومقتضاه, فإنه يقال صدق علمه بعمله وذلك أن وجود العلم مستلزم لوجود هذا العمل الذي في القلب الذي هو إسلام القلب بمحبته وخشوعه...(1/26)
فلفظ الشهادة والإقرار والإيمان والتصديق ينظم هذا كله، لكن لفظ الخبر والنبأ ونحو ذلك هو العلم, وإن استلزم هذه الأعمال فهو كما يستلزم العلم لذلك، فإذا قال أحد هؤلاء العالمين الجاحدين الذين ليسوا مؤمنين بمحمد رسول الله كقول أولئك اليهود وغيرهم, فهذا خبر محض مطابق لعلمهم الذي قال الله فيه: ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ((1) لكن كما لا ينفعهم مجرد العلم لا ينفعهم مجرد الخبر، بل لابد أن يقترن بالعلم في الباطن مقتضاه من العمل الذي هو المحبة والتعظيم والانقياد ونحو ذلك، كما أنه لابد أن يقترن بالخبر الظاهر مقتضاه من الاستسلام والانقياد لأهل الطاعة». أهـ.
وعلى هذا فلا يمكن تفسير العبادة بأنها الطاعة في الاعتقاد, كما لا يمكن تفسير الإسلام بأنه مجرد إخبات قلبي تتحول به المعرفة إلى تصديق قلبي خال من الانقياد ونفى توحيد العبادة.
والعبادة في الآيات المذكورة (2) هي عبادة الدين الخالص، وهو توحيد العبادة كما قال ابن عباس: «كل عبادة في القرآن فهي توحيد»، والدين الذي ينبغي أن يكون كله لله, وأن يكون لله خالصًا هو الإسلام، وهو يتحقق بتوحيد العبادة وهو الانقياد المطلق وليس مطلق الانقياد.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 146.
(2) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّيِنَ ( وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المُسْلِمِينَ (،
( وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءُ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ( .(1/27)
وتقول المرجئة والجهمية الذين نفوا توحيد العبادة نحن نقر بالانقياد في فروع الأعمال، والإسلام هو الكلمة مع فروع الأعمال، والتوحيد هو فقط توحيد الربوبية وهو داخل في معنى الإيمان، وأن العبادة أيضًا راجعة إلى فروع الأعمال كطاعات, وإذا دخلها الشرك فإنما هو الشرك الأصغر, أما الشرك الأكبر فهو في الاعتقاد فقط.
فاعلم يا بُنَيَّ أن الإسلام العام هو أصل الدين، والعبادة هي التوحيد، والشرك فيهما شرك أعظم، وهو دين الرسل من أولهم لآخرهم وهذا هو:
الوجه الثاني من الاستدلال: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية(1):
__________
(1) الفتاوى الكبرى، جـ1، ص415.(1/28)
«وقوله تعالى: ( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ((1) أمر مع القسط بالتوحيد الذي هو: عبادة الله وحده لا شريك له, وهذا أصل الدين وضده هو الذنب الذي لا يُغفر. قال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُّشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَّشَاءُ ((2) وهو الدين الذي أمر الله به جميع الرسل, وأرسلهم به إلى جميع الأمم، قال تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ ((3)، وقال تعالى: ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ((4)، وقال تعالى: ( شَرَعَ لَكُمْ مِن الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا والَّذِي أوْحَيْنَا إِلَيْكَ ومَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ ومُوسَى وعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فيه ((5)، وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالحًا إِنِّي بمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ((6). ولهذا ترجم البخاري في صحيحه باب ”ما جاء في أن دين الأنبياء واحد“ وذكر الحديث الصحيح في ذلك, وهو الإسلام العام الذي اتفق عليه جميع النبيين.
__________
(1) سورة الأعراف، الآية: 29.
(2) سورة النساء، الآية: 48.
(3) سورة الأنبياء، الآية: 25.
(4) سورة النحل، الآية: 36.
(5) سورة الشورى، الآية: 13.
(6) سورة المؤمنون، الآيتان: 51-52.(1/29)
قال نوح - عليه السلام -: ( وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِين ((1)، وإبراهيم - عليه السلام -: ( إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ ( وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ ((2)، وقال موسى - عليه السلام -: ( يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُم مُّسْلِمِينَ ((3)، وعن عيسى - عليه السلام -: ( قَالَ الحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ((4)، وقالت بلقيس: ( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ ((5)، وقال تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَّحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا ((6)، وهذا التوحيد الذي هو أصل الدين هو أعظم العدل وضده وهو الشرك أعظم الظلم, كما أخرج الشيخان في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال لما نزلت هذه الآية ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ((7) شق ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: وأينا لم يظلم نفسه؟ فقال: ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: ( إِنَّ الشِرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ((8)» أ.هـ.
__________
(1) سورة يونس، الآية: 72.
(2) سورة البقرة، الآيتان: 131-132.
(3) سورة يونس، الآية: 84.
(4) سورة آل عمران، الآية: 52.
(5) سورة النمل، الآية: 44.
(6) سورة المائدة، الآية: 44.
(7) سورة الأنعام، الآية: 82.
(8) سورة لقمان، الآية: 13.(1/30)
ويقول(1): «وأما الكتب السماوية المتواترة عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام, فقاطعة بأن الله لا يقبل من أحد دينًا سوى الحنيفية وهي الإسلام العام: عبادة الله وحده لا شريك له والإيمان بكتبه ورسله واليوم الآخر... كما قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَاليَّوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ((2).
__________
(1) الفتاوى الكبرى، جـ1، ص400.
(2) سورة البقرة، الآية: 62.(1/31)
وبذلك أخبرنا عن الأنبياء المتقدمين وأئمتهم قال نوح - عليه السلام -: ( فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ ((1)، وقال في آل إبراهيم - عليه السلام -: ( وَمَن يَّرْغَبُ عَن مِّلَةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ( إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ ( وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ ((2)، وقال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَّحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا ((3)، وقال في الحواريين: ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وََاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ((4)، وقد قال مطلقًا: ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِمًا بِالقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ ((5)، وقال تعالى: ( قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( وَمَن يَّبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن
__________
(1) سورة يونس، الآية: 72.
(2) سورة البقرة، الآيات: 130-132.
(3) سورة المائدة، الآية: 44.
(4) سورة المائدة، الآية: 111.
(5) سورة آل عمران، الآيتان: 18-19.(1/32)
يُّقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ((1).
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نَحنُ مَعاشِر الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاتٍ دينَنا وَاحِدٌ»(2).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ»(3).
يقول ابن كثير(4) في تفسير قوله تعالى: ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ((5) هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام المتفقة في التوحيد, كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «نحن معاشر الأنبياء أخوة لعلات ديننا واحد» يعني بذلك التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله وضمنه كل كتاب أنزله, كما قال تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ (، وقال تعالى: ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ (.
إلى أن يقول: قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة: ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا( يقول سبيلاً وسنة, والسنن مختلفة هي في التوراة شريعة، وفي الإنجيل شريعة، وفي الفرقان شريعة, يحل الله ما يشاء ويحرم ما يشاء, ليعلم من يطيعه ممن يعصيه, والدين الذي لا يقبل الله غيره: التوحيد والإخلاص لله تعالى الذي جاءت به جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام». أهـ.
__________
(1) سورة آل عمران، الآيتان: 84-85.
(2) صحيح البخاري.
(3) صحيح البخارى.
(4) تفسير ابن كثير، جـ2، ص66، مكتبة دار التراث.
(5) سورة المائدة، الآية: 48.(1/33)
ويقول شيخ الإسلام(1): «والله سبحانه له حقوق لا يشركه فيها غيره, وللرسل حقوق لا يشركهم فيها غيرهم, وللمؤمنين على المؤمنين حقوق مشتركة, ففي الصحيحين عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال كنت رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ فقلت: الله ورسوله أعلم. قال: «حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. يا معاذ: أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حقهم عليه أن لا يعذبهم»
فالله تعالى مستحق أن يعبد لا يشرك به شيء, وهذا هو أصل التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزلت به الكتب قال تعالى: ( وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعَبَدُونَ ((2)، وقال تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ ((3)، وقال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ( (4)». أهـ.
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم، ص 445، مكتبة المدني.
(2) سورة الزخرف، الآية: 45.
(3) سورة الأنبياء، الآية: 25.
(4) سورة النحل، الآية: 36.(1/34)
ويقول شيخ الإسلام(1): «والحقيقة (حقيقة الدين) دين رب العالمين هي ما اتفق عليه الأنبياء والمرسلون, وإن كان لكل منهم شرعة ومنهاجًا, فالشرعة هي الشريعة قال تعالى: ( لكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا (، والمنهاج هو الطريق قال تعالى: ( وَأَنْ لَو اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ((2)، فالشرعة بمنزلة الشريعة للنهر, والمنهاج هو الطريق الذي يسلك فيه والغاية المقصودة هي حقيقة الدين وهي: عبادة الله وحده لا شريك له, وهي حقيقة دين الإسلام، وهو أن يستسلم العبد لله رب العالمين لا يستسلم لغيره, فمَن استسلم لغيره كان مشركًا والله لا يغفر أن يشرك به, ومن لم يستسلم لله بل استكبر عن عبادته كان ممن قال الله فيه: ( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ((3)، ودين الإسلام هو دين الأولين والآخرين من النبيين والمرسلين وقوله تعالى: ( وَمَن يَّبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُّقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ((4) عام في كل زمان ومكان». أهـ.
ويقول شيخ الإسلام(5): «ولما كان أصل الدين الذي هو دين الإسلام واحدًا, وإن تنوعت شرائعه قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح «إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد» و«الأنبياء أخوة لعلات» و«إن أولى الناس بابن مريم لأنا. فليس بيني وبينه نبيّ» فدينهم واحد وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وهو يعبد في كل وقت بما أمر به في ذلك الوقت, وذلك هو دين الإسلام في ذلك الوقت».
__________
(1) مجموع الفتاوى،ج11،ص218.
(2) سورة الجن، الآية: 16.
(3) سورة غافر، الآية: 60.
(4) سورة آل عمران، الآية: 85.
(5) اقتضاء الصراط المستقيم، ص 454.(1/35)
وواضح يا بُنَيَّ أن الإسلام العام ـ الذي هو أصل الدين هو توحيد العبادة ـ لا تدخل فيه أعمال الفروع لقول الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -: «نَحنُ مَعاشِر الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاتٍ دينُنا وَاحِدٌ»(1) وهو التوحيد كما فسره العلماء، وفسرته النصوص، وهذا الدين الواحد في نفس الوقت هو الإسلام العام أصل الدين, فينتج أن الإسلام في النصوص المذكورة هو التوحيد، والتوحيد هو توحيد العبادة، وتوحيد الاعتقاد لازم له وتابع له, ولا يدخل في الإسلام العام أعمال الفروع, فبطل بهذه الآيات البينات ما ادَّعته الجهمية.
كما أن المقصود بالعبادة في قوله تعالى: ( وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعَبَدُونَ (، وفي قوله تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ (، وقوله تعالى: ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ( هو توحيد العبادة وليس أعمال الفروع أو الطاعات. وذلك لربط لفظ العبادة في الآية الأولى بإبطال شرك العبادة, وفي الآية الثانية بتوحيد الألوهية والإله هو المعبود, وفي الآية الثالثة باجتناب الطاغوت وهو كل ما يعبد من دون الله عزَّ وجَلَّ، ولا يعتبر العابد عابدًا لله إلا مع ترك الشرك في العبادة لأن الله سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك ولقوله تعالى: ( قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ ( لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ( وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ( وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ ( وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِيْنِ ((2).
__________
(1) صحيح البخاري.
(2) سورة الكافرون.(1/36)
الوجه الثالث في الاستدلال على إبطال أقوال الجهمية والمرجئة هو: قول الله - عز وجل -: ( قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ((1). يقول العلماء: ( كَلِمَةٍ سَوَاءٍ ( تفسيرها ما بعدها وهو ( أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّنْ دُونِ اللَّهِ (. وهنا قَدَّمَ الكلمة وأتى بعدها بالتوحيد.
( فَإِنْ تَوَلَّوْا ( يقول العلماء: أي عن التوحيد.
( فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( أي أنكم كفرتم بما نطقت به الكتب, وتتابعت عليه الرسل, وأننا مسلمون دونكم.
وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ ( إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ( وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}(2). أخَّرَ الكلمة وأتى قبلها بالتوحيد.
والاستدلال حاسم هنا يا بُنَيَّ بأن الكلمة السواء هي توحيد العبادة، وأن الشرك المذكور هو الشرك في العبادة وأنه شرك أعظم، كما في الاستدلال السابق، لأنه راجع إلى أصل الدين ودين الأنبياء, وهذا لا يدخله الشرك الأصغر، وأن توحيد العبادة هو الإسلام.
الوجه الرابع من الاستدلال هو قوله تعالى: ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِمًا بِالقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ ((3).
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 64.
(2) سورة الزخرف، الآيات:26-28.
(3) سورة آل عمران، الآية: 18.(1/37)
يقول شيخ الإسلام(1):«...ويقول تعالى( وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعَبَدُونَ (، وقال تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ (، وقال تعالى: ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ (.
فبَيَّن سبحانه وتعالى أنه بهذا التوحيد بعث جميع الرسل, وأنه بعث إلى كل أمة رسولاً به, وهذا هو الإسلام الذي لا يقبل الله لا من الأولين ولا من الآخرين دينًا غيره، قال تعالى: ( أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ( قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( وَمَن يَّبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُّقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ((2).
__________
(1) الفتاوى الكبرى، جـ5، ص 249.
(2) سورة آل عمران، الآيات: 83-85.(1/38)
فدين الله أن يدينه العباد ويدينون له فيعبدونه وحده ويطيعونه, وذلك هو الإسلام، فمن ابتغى غير هذا دينًا فلن يقبل منه, وكذلك قال في الآية الأخرى: ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِمًا بِالقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ ( فذكر أن الدين عند الله الإسلام بعد إخباره بشهادته وشهادة الملائكة وأولي العلم أنه لا إله إلا هو. والإله هو المستحق للعبادة، فأما من اعتقد في الله أنه رب كل شيء وخالقه وهو مع هذا يعبد غيره فإنه مشرك بربه متخذ من دونه إلهًا آخر, فليست الإلهية هي الخلق أو القدرة على الخلقِ أو القِدَم, كما يفسرها هؤلاء المبتدعون في التوحيد من أهل الكلام, إذ المشركون الذين شهد الله ورسوله بأنهم مشركون من العرب وغيرهم لم يكونوا يشكون في أن الله خالق كل شيء وربه، فلو كان هذا هو الإلهية لكانوا قائلين أنه لا إله إلا هو.(1/39)
فهذا موضع عظيم جدًا ينبغي معرفته لما قد لُبِّس على طوائف من الناس أصل الإسلام حتى صاروا يدخلون في أمور عظيمة هي شرك ينافي الإسلام لا يحسبونها شركًا, وأدخلوا في التوحيد والإسلام أمورًا باطلة ظنوها من التوحيد وهي تنافيه, وأخرجوا من الإسلام والتوحيد أمورًا عظيمة لم يظنوها من التوحيد وهي أصله, فأكثر هؤلاء المتكلمين لا يجعلون التوحيد إلا ما يتعلق بالقول والرأي واعتقاد ذلك دون ما يتعلق بالعمل والإرادة واعتقاد ذلك. بل التوحيد الذي لابد منه لا يكون إلا بتوحيد الإرادة والقصد وهو توحيد العبادة وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله: أن يقصد الله بالعبادة ويريده بذلك دون ما سواه وهذا هو الإسلام، فإن الإسلام يتضمن أصلين: أحدهما: الاستسلام لله. الثاني: أن يكون ذلك سالمًا له، فلا يشركه أحد في الإسلام له، وهذا هو الاستسلام لله دون ما سواه، وسورة ”قل يا أيها الكافرون“ تفسر ذلك، ولا ريب أن العمل مسبوق بالعلم، فلابد أن يعلم ويشهد أن لا إله إلا الله, وأما التوحيد القولي الذي هو الخبر عن الله ففي سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن, وفيها اسمه الأحد الصمد, وكل من هذين الاسمين يدل على نقيض مذهب الجهمية كما بَيَّناه في موضعه.
وعبادة الله وحده يدخل فيها كمال المحبة لله وحده وكمال الخوف منه والرجاء له والتوكل عليه وحده, فكل ذلك من أصول التوحيد الذي أوجبه الله على عباده, وبذلك يكون الدين كله لله كما أمر الله رسوله والمؤمنين بالقتال إلى هذه الغاية حيث يقول تعالى: ( وَ قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ويَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ((1)». أهـ.
__________
(1) سورة الأنفال، الآية: 39.(1/40)
والتفسير الحرفي للآية (1) يقول: إن توحيد الألوهية هو الإسلام. والتفسير الحرفي لقوله تعالى: ( قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ (. وهو الدليل المذكور قبلاً، يقول: إن توحيد العبادة هو الإسلام.
ومن مجموع الآيتين يتضح أن توحيد الألوهية هو توحيد العبادة.
فضلاً عن أن معنى الألوهية هو استحقاق العبادة, وليس الخالقية أو الرازقية أو القِدَم كما مر بيانه. وفضلاً على أن معنى الإسلام هو الدين الخالص، ودين الله أن يدينه العباد ويدينون له فيعبدونه ويطيعونه.
وفي هذا كله يا بُنَيَّ إبطال لقول الجهمية والمرجئة بقصر التوحيد على توحيد الربوبية, وتفسير الألوهية بالربوبية, وإلغاء توحيد العبادة ونفيه أو إثباته على أن الشرك فيه شرك أصغر.
ولا يمكن أن يكون الشرك هنا شركًا أصغر، لأن الألوهية هي عنوان التوحيد من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله بخلاف مَن يقر بربوبيته ولا يعبده سبحانه وتعالى.
أما القراءات في الآية الكريمة فقد جاءت: ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِمًا بِالقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ (.
والقراءة الثانية: ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِمًا بِالقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ( أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ (.
__________
(1) شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ((1/41)
والقراءة الثالثة: ( شَهِدَ اللَّهُ إِنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِمًا بِالقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ( أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ (.
والقراءة الأولى: ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ ( جملة مستأنفة مؤكِدة للأولى، أي لا دين مرضي عند الله سوى الإسلام وهو التوحيد والتدرع بالشرع الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -.
والقراءة الثانية: ( أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ ( بدل الكل لتفسير الإسلام بالتوحيد.
والقراءة الثالثة: ( إِنَّهُ ( مكسورة و( أَنَّ ( بالفتح على وقوع الفعل على الثاني واعتراض ما بينهما، أو إجراء ( شَهِدَ ( مجرى قال أو عَلِمَ لتضمنه معناهما.
الوجه الخامس من الاستدلال: أن التوحيد ـ توحيد العبادة ـ أو الإسلام في ثلاث آيات من القرآن الكريم:
1- قول الله - عز وجل - (1): ( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ ((2).
إفراد لله عزَّ وجَلَّ بولاية النسك والنصرة والإتباع، واتخاذ الولي من دون الله عزَّ وجَلَّ شرك ينتفي به الإسلام، وإفراد الله عزَّ وجَلَّ بهذه الولاية تحقيق للإسلام.
__________
(1) وهذه الآية تنص على:
إفراد الله بأحد الأعمال وهو الولاء بأنه حق خالص له ( أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا(.
هذا الإفراد هو الإسلام (أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ (.
وضد هذا الإفراد الشرك (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ (.
أن هذا الأمر حكم تكليفي (أُمِرْتُ (.
(2) سورة الأنعام، الآية: 14.(1/42)
2- وقول الله - عز وجل -: ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ ( لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ ((1).
إفراد لله سبحانه وتعالى بحقه الخالص في العبادات: بصرفها إليه وحده عزَّ وجَلَّ وبقبول شرعه فيها. وفي العادات والمعاملات: بقبول شرعه فيها, وهذا هو تحقيق الإسلام، وإشراك غيره معه في هذه الحقوق شرك ينتفي به الإسلام.
3- وقول الله - عز وجل -: ( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّيِنَ ( وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المُسْلِمِينَ ((2).
إخلاص الطاعة لله وحده بقبول شرعه ورفض ما سواه, وبهذا يتحقق الإسلام, والخروج عن إخلاص الدين شرك ينتفي به الإسلام.
ومعنى هذا الاستدلال أن الإسلام مُفَسر هنا بتوحيد العبادة بأركان محددة, فلا يمكن تفسيره بغير ذلك بالنسبة لأصل الدين.
واعلم يا بُنَيَّ أنه بعد هذه الاستدلالات الخمسة لإبطال أقوال المرجئة والجهمية الستة التي قصروا فيها معنى الإسلام والعبادة والتوحيد عليها وهي:
1- تفسير الإسلام بإخبات قلبي تتحول به المعرفة إلى تصديق قلبي خال من الانقياد.
2- إرجاع الانقياد في الإسلام إلى الكلمة وفروع الأعمال.
3- تفسير العبادة بالطاعة في الاعتقاد.
تفسير العبادة بالطاعات وفروع الأعمال.
5- نفي توحيد العبادة بالنسبة لأصل الدين وقصر الشرك فيه على الشرك الأصغر.
6- نفي توحيد الألوهية وتفسيره بتوحيد الربوبية وقصر التوحيد على الاعتقاد بتوحيد الربوبية فقط.
تأتي خمس استدلالات أخرى لتأكيد توحيد العبادة، وإبطال نفيه أو تفسيره بما يشبه النفي والإلغاء. وهذه الأوجه من الاستدلال هي:
__________
(1) سورة الأنعام، الآيتان: 162-163.
(2) سورة الزمر، الآيتان: 11-12.(1/43)
الوجه الأول: أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لهذا التوحيد، فقال - عز وجل -: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ((1).
الوجه الثاني: أرسل الرسل له، كما في قوله تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ ((2)، ( وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعَبَدُونَ ((3)، ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ ((4)، ( وَقَضَى رَبُّكَ ألا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ((5).
الوجه الثالث: قصر الأمر عليه، قال تعالى: ( وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءُ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ ((6) فجعل توحيد الاعتقاد في مقام التابع لتوحيد العبادة والانقياد.
الوجه الرابع: كانت الخصومة فيه، توحيد الربوبية أقر به المشركون، وتوحيد العبادة أو الألوهية خاصموا فيه بقول الله - عز وجل -: ( قُلْ مَن يَّرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَم مَّن يَّمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُّخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُّدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهَ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ((7).
__________
(1) سورة الذاريات، الآية: 56.
(2) سورة الأنبياء، الآية: 25.
(3) سورة الزخرف، الآية: 45.
(4) سورة النحل، الآية: 36.
(5) سورة الإسراء، الآية: 23.
(6) سورة البينة، الآية: 5.
(7) سورة يونس، الآية: 31.(1/44)
فإذا دعاهم إلى توحيد الألوهية قالوا كما قال الله عزَّ وجَلَّ عنهم: ( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لشَيْءٌ عُجَابٌ ((1).
الوجه الخامس: إن الألوهية المنفية هي في العبادة وليست في الخلق والرزق، فكذلك تكون الألوهية المثبتة لله عزَّ وجَلَّ. وكذلك العبادة المنفية هي في توحيد العبادة وليست في الطاعة في الاعتقاد، وكذلك تكون العبادة المثبتة لله عزَّ وجَلَّ.
قال الله عزَّ وجَلَّ عن قوم موسى - عليه السلام -: ( اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةً( (2)، وقال لهم السامري: ( هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ((3). والمعنى واسطتكم عند الله كما هو واسطة موسى، والآلهة لتقربهم إلى الله زلفى.
وفي قصة صاحب يس: ( أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ ( إنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُّبِيْنٍ ( إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ((4). فالآلهة التي تتخذ من دون الله شفعاء لا تخلق ولا ترزق، وإنما تعبد من أجل شفاعتها عند الله - عز وجل -: ( قُلْ لِلَّهِ الشَفَاعَةُ جَمِيعًا((5)، فالله أولى أن يعبد وحده، وهو وحده يملك النفع والضر.
وكذلك العبادة يقول - عز وجل -: ( ومِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ والنَّهَارُ والشَّمْسُ والقَمَرُ لا تَسْجُدُوا للشَّمْسِ ولا للقَمَرِ واسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُم إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ((6).
فهذه يا بُنَيَّ ثمانية عشر وجهًا من أوجه الاستدلال في تقرير توحيد العبادة مع توحيد الاعتقاد.
__________
(1) سورة ص، الآية: 5.
(2) سورة الأعراف، الآية: 138.
(3) سورة طه، الآية: 88.
(4) سورة يس، الآيات: 23-25.
(5) سورة الزمر، الآية: 44.
(6) سورة فصلت، الآية: 37.(1/45)
وإذا كان التوحيد: توحيدان، فإن الشرك: شركان. وإليك بيان ذلك بالنسبة لموقف النصارى في شركهم بعيسى - عليه السلام - في سورة المائدة وهو الوجه التاسع عشر من الاستدلال:
قول الله - عز وجل -: ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَّمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُّهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ((1). في رد شبهة النصارى في ربوبية عيسى - عليه السلام -.
وقوله - عز وجل -: ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ المَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُّشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ((2). في رد شبهة النصارى في عبادة عيسى - عليه السلام - وإشراكه مع الله سبحانه وتعالى في العبادة، ولذلك ذكر: ( اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ (، وذكر: ( إِنَّهُ مَن يُّشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ(.
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 17.
(2) سورة المائدة، الآية: 72.(1/46)
وأما قول الله - عز وجل -: ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ((1).
ذكر النوعين من الشرك: شرك الربوبية، وشرك العبادة.
وفي قول الله - عز وجل -: ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ ( مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ((2). ذكر فيها شرك العبادة وكذبهم فيما ادَّعوه عن عيسى بأمرهم بعبادتهما، وحدد مهمة الرسول بالأمر بعبادة الله وحده لا شريك له.
__________
(1) سورة المائدة، الآيات: 73-76.
(2) سورة المائدة، الآيتان: 116-117.(1/47)
وهذا شبيه بقول الله - عز وجل -: ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُّؤْتِيَهُ اللَّهُ الكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ( وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُم مُّسْلِمُونَ ((1). فشرك العبادة كفر ينتفي به الإسلام.
الوجه العشرون: التوحيد بنوعيه في أربع آيات من سورة الأنعام:
يقول الله - عز وجل -: ( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ ((2).
يقول - سبحانه وتعالى -: ( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ ((3).
ويقول - عز وجل -: ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ ( لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ ((4).
ويقول تبارك وتعالى: ( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِّزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ( (5).
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 79.
(2) سورة الأنعام، الآية: 14.
(3) سورة الأنعام، الآية: 114.
(4) سورة الأنعام، الآيتان: 162-163.
(5) سورة الأنعام، الآية: 164.(1/48)
الوجه الحادي والعشرون: تقرير التوحِيدَين عند شيخ الإسلام ابن تيمية، يقول في الفتاوى الكبرى بعد كلام(1): «... وهذا مما يحقق أن الإيمان والتوحيد لابد فيهما من عمل القلب كحب القلب، فلابد من إخلاص الدين لله والدين لله لا يكون دينًا إلا بعمل، فإن الدين يتضمن الطاعة والعبادة، وقد أنزل الله عزَّ وجَلَّ سورتي الإخلاص ( قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ (، و( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (إحداهما في توحيد القول والعلم، والثانية في توحيد العمل والإرادة.
فقال في الأولى: ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( اللَّهُ الصَّمَدُ ( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ((2)، فأمره أن يقول هذا التوحيد.
وقال في الثانية: ( قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ ( لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ( وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ( وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ ( وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِيْنِ ((3)، فأمره أن يقول ما يوجب البراءة من عبادة غير الله وإخلاص العبادة لله. والعبادة أصلها: القصد والإرادة، والعبادة إذا أفردت دخل فيها التوكل ونحوه». أهـ.
__________
(1) الفتاوى الكبرى، جـ3، ص325.
(2) سورة الإخلاص.
(3) سورة الكافرون.(1/49)
ويقول في كتاب الإيمان(1): «ولما كانت سورة البقرة سنام القرآن ويقال أنها أول سورة نزلت بالمدينة افتتحها الله بأربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين، وبضع عشرة آية في صفة المنافقين، فإنه من حين هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - صار الناس ثلاثة أصناف: إما مؤمن، وإما كافر مظهر للكفر، وإما منافق. بخلاف ما كانوا عليه بمكة، فإنه لم يكن هناك منافق، ولهذا قال أحمد بن حنبل وغيره: لم يكن من المهاجرين منافق، وإنما كان النفاق في قبائل الأنصار، فإن مكة كان الكفار مستولين عليها، فلا يؤمن ويهاجر إلا من هو مؤمن، ليس هناك داع إلى النفاق، والمدينة آمن بها أهل الشوكة فصار للمؤمنين بها عز ومنعة بالأنصار فاحتاج المنافقون إلى إظهار الإيمان، مع أن قلوبهم لم تؤمن، والله تعالى افتتح سورة البقرة ووسط البقرة وختم البقرة بالإيمان بجميع ما جاءت به الأنبياء فقال تعالى في أولها ما تقدم وقال في وسطها: ( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ( (2)، وقال في آخر البقرة: ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصْيرُ ((3)
__________
(1) كتاب الإيمان، ص 152 .
(2) سورة البقرة، الآيتان: 136-137.
(3) سورة البقرة، الآية: 285.(1/50)
، وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الآيتان من آخر البقرة مَنْ قرأ بهما في ليلة كفتاه»، والآية الوسطى قد ثبت في الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ بها في ركعتي الفجر وبـ ( قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ( تارة. وبـ ( قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ ( و ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( تارة. فيقرأ بما فيه ذكر الإيمان و الإسلام أو بما فيه ذكر التوحيد والإخلاص». أهـ.
ويقول شيخ الإسلام(1): «وقد بَيَّن فيه التوحيد الذي بعث الله به رسوله قولاً وعملاً، فالتوحيد القولي: مثل سورة الإخلاص ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (، والتوحيد العملي: ( قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ ( ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بهاتين السورتين في ركعتي الفجر وركعتي الطواف وغير ذلك، وقد كان أيضًا يقرأ في ركعتي الفجر وركعتي الطواف، في الركعة الأولى: ( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا(، وفي الركعة الثانية بقوله تعالى: ( قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ (، فإن هاتين الآيتين فيهما دين الإسلام وفيهما الإيمان القولي والإيمان العملي فقوله تعالى: ( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا ( يتضمن الإيمان القولي والإسلام، وقوله تعالى: ( قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ( يتضمن الإسلام وهو الإيمان العملي، فأعظم نعمة أنعمها الله على عباده الإيمان والإسلام». أهـ.
__________
(1) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، ص 168، المكتبة العصرية، بيروت.(1/51)
ويقول شيخ الإسلام(1): «والله أرسل رسوله بالإسلام والإيمان أو بعبادة الله وحده وتصديق الرسول فيما أخبر، فالأعمال عبادة الله، والعلوم تصديق الرسول. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في ركعتي الفجر تارة بسورتي الإخلاص: ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( و ( قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ ( وتارة بقوله تعالى في سورة البقرة: ( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا ( فإنها تتضمن الإيمان والإسلام وبالآية من سورة آل عمران: ( قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ (». أهـ.
ويقول في موضع آخر من نفس الرسالة(2): «والإرادة النافعة إرادة ما أُمروا به وذلك عبادة الله وحده لا شريك له فهذا هو السعادة وذلك إنما يكون بأمرين: بتصديق الرسل، وبطاعتهم. ولهذا كانت السعادة متضمنة لهذين الأصلين: الإسلام والإيمان، أو عبادة الله وحده وتصديق الرسل، وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، قال تعالى: ( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المُرْسَلِينَ ((3). قال أبو العالية: هما خصلتان يسأل عنهما كل أحد يقال مَن كنت تعبد؟ وبماذا أجبت المرسلين؟». أهـ.
الوجه الثاني والعشرون من الاستدلال:
يقول شيخ الإسلام ابن القيم(4) رحمه الله:
«وهذا الإفراد نوعان: أحدهما: إفرادٌ في الاعتقاد والخبر.
وذلك نوعان أيضًا: أحدهما: إثبات مباينة الرب تعالى للمخلوقات، وعلوه فوق عرشه من فوق سبع سماوات. الثاني: إفراده سبحانه بصفات كماله وإثباتها له... وفي هذا النوع يكون إفراده سبحانه بعموم قضائه وقدره لجميع المخلوقات.
النوع الثاني من الإفراد: إفراد القديم عن المحدث في العبادة».
__________
(1) رسالة النبوات، ص 86، المطبعة السلفية.
(2) المصدر السابق.
(3) سورة الأعراف، الآية: 6.
(4) مدارج السالكين، جـ2، ص 322، طبعة دار التراث العربي.(1/52)
ويقول في موضع آخر(1): «وأما التوحيد الذي دعت إليه رسل الله ونزلت به كتبه فوراء ذلك كله وهو نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في القصد والطلب. والنوع الأول: هو حقيقة ذات الرب تعالى وأسماؤه وصفاته وأفعاله وعلوه فوق سماواته على عرشه وتكلمه بكتبه وتكليمه لمن شاء من عباده وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمه، وقد أفصح القرآن عن هذا النوع جد الإفصاح كما في سورة الحديد، وسورة طه، وآخر سورة الحشر، وأول سورة تنزيل السجدة، وأول آل عمران، وسورة الإخلاص بكمالها وغير ذلك.
النوع الثاني: مثل ما تضمنته سورة ( قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ (، وقوله تعالى: { قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } ، وأول تنزيل الكتاب وآخرها، وأول يونس، ووسطها وآخرها، وأول الأعراف وآخرها، وجملة الأنعام». أهـ.
والآن يا بُنَيَّ وبعد هذه الاستدلالات سيقولون لك توحيد الربوبية أمر يمكن تحديده في معرفة ذات الرب سبحانه وتعالى وصفاته وأفعاله، وما يوصف به الرب وما يتنزه عنه، كذلك مسائل القدر والنبوات والسمعيات ولكن كيف نحدد توحيد العبادة وتوحيد الألوهية إن شئت التعريف، وكيف نحدد شرك العبادة؟ وهذه النقطة من أهم المسائل التي أدخلت عليهم الشبهات.
فاعلم يا بُنَيَّ أن تحديد شرك العبادة وكذلك شرك الاعتقاد وتحديد أوصاف الشرك والكفر التي تنافي أوصاف الإيمان والإسلام أمر ميسر ولكن له ضوابط وإليك هذه الضوابط في الأمرين معًا, وهو الوجه الثالث والعشرون في الاستدلال:
أولاً: ضوابط معرفة نواقض التوحيد، وكذلك تحديد أركان التوحيد من معرفة هذه النواقض:
ما يرجع إلى التوحيد من إثبات ونفي، أو إتيان وترك، أو قول وعمل، أو اعتقاد ونية، أو ظاهر وباطن، يعرف بالضوابط الآتية على سبيل الحصر:
__________
(1) المصدر السابق، جـ2، ص 325.(1/53)
الضابط الأول: التوحيد هو: إفراد الله عزَّ وجَلَّ بما لا يكون إلا لله، فما لم يكن كذلك فليس من التوحيد.
الضابط الثاني: هذا الإفراد إما أن يكون في:
معرفة الله عزَّ وجَلَّ على النحو الذي أخبر به عن نفسه سبحانه وتعالى، وهو التوحيد الخبري العلمي المعرفي.
إفراد الله عزَّ وجَلَّ بحقه الخالص في الإرادة والقصد والطلب ”توحيد العبادة“، وهو التوحيد الإرادي القصدي الطلبي.
الضابط الثالث: لما كان التوحيد يفرض بحده، والشرك يحرَّم بحده قبل بيان تفصيلاته بمفرداته، فكل ما تأخر فرضه أو تحريمه فهو خارج عن التوحيد وعن الشرك الأكبر، لأن البيان لا يتأخر عن وقت الحاجة، والحاجة للتوحيد وترك الشرك الأكبر قائمة منذ لحظة البلاغ الأول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولذا فإن مفردات الشرك الأكبر أو النواقض المكفرة للتوحيد عندما وقعت من مرتكبيها أول ما وقعت، وحكاها القرآن عنهم كفرهم بها قبل بيان كونها من مفردات الشرك الأكبر اكتفاء بتحريم الشرك بحده بقوله تعالى: ( اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ((1) فوقعت الأفعال والتروك مُجَرَّمة قبل بيان مفرداتها معاقبًا عليها، وهذا بخلاف المعاصي فإنه لا تحريم إلا بنص تفصيلي بكل مفردة على حدة، ولا تجريم إلا بتحريم، ولا عقوبة إلا بتجريم، قال تعالى في موالاة الكافرين: ( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا ((2)، بينما قال في الاستغفار للمشركين: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ( (3).
__________
(1) سورة الأعراف, آية: 59.
(2) سورة النساء، الآية: 89.
(3) سورة التوبة، الآية: 115.(1/54)
فكلّ ما لم يقع مُكفرًا به عند أول وقوعه فليس من النواقض المكفرة للتوحيد، وبمعنى آخر فإننا نقول كان المسلم مسلمًا قبل فرض الصلاة والصوم والحج والزكاة، وقبل فرض القتال وقبل تحريم الخمر والميسر والربا، وقبل فرض الحجاب، ولكن لم يُقَر أحد على إسلام مع عبادة الأصنام والتحاكم إلى الكهان وموالاة الكافرين، واعتقاد أن عيسى ابن الله، وأن الملائكة بناته ـ سبحانه وتعالى ـ وأن الله ثالث ثلاثة، وأن له سبحانه وتعالى صاحبة وولدًا أو بنين وبنات، وأن بينه وبين الجِنَّة نسبًا، والإسلام إنما يكون بترك الشرك بنوعيه في الاعتقاد والعبادة، والشرك يُعلم بالعلم الضروري من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك التوحيد يُعرّف بحده في كل من الاعتقاد والعبادة قبل بيان المفردات.
الضابط الرابع: نواقض صلب التوحيد مكفرة، فما لم تكن نواقضه مكفرة فليس من صلب التوحيد، وربما كان من كمالاته.
ويُعرف كون النواقض مكفرة أو غيره مكفرة ليعرف إذا كانت نواقض للصلب أو الكمالات بتنزيل الحكم على مناطه.
والمناط هو: الوصف المناسب المؤثر. ومناسبته وتأثيره هو في الحكم الذي يتنزل عليه، ولا فرق في ذلك بين التوحيد وبين غيره من الأحكام المتعلقة بالفروع قال تعالى: ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ((1). فالسرقة: مناط. والقطع: حكم.
وقال تعالى: ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ((2). الزنا: مناط. والجلد: حكم لغير المحصن، وفي الأثر ”زنا ماعز فرُجِم“، الزنا: مناط، والرجم: حكم للمحصن.
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 38.
(2) سورة النور، الآية: 2.(1/55)
وقال تعالى: ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ((1). ومَنْ لم يشرع للناس ما شرعه الله لهم ليحكم به في مواضع النزاع، فيحل حلاله ويحرم حرامه. مَنْ لم يفعل ذلك: مناط. والكفر المخرج من الملة: حكم.
وقال تعالى: ( لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ((2). ولاية الكافرين: مناط. والخروج من الملة بانقطاع صلته بالله سبحانه من كل وجه: حكم وهكذا.
وفي مجال الحديث عن المناط، يُجرِّد السياق القرآني المناط كوصف مناسب مؤثر عن مزاحمة الأوصاف الأخرى له، وعن تأثير خصوصية المحل فيه حتى يتجرد للحكم، وهذا هو تنقيح المناط، إن وجد غير منقح في سياق فإنه يوجد منقحًا في سياق آخر، فلا يحتاج مع بيان القرآن إلى جهد مجتهد في تنقيح المناط.
ـ أما تحقيق المناط فإن له مسلكان:
المسلك الأول: تقديم الدلالة الاصطلاحية الشرعية على الدلالة العرفية الاستعمالية المستفادة من السياق، وتقديم العرفية الاستعمالية على الإفرادية الوضعية اللغوية المستفادة من وضع اللغة.
المسلك الثاني: أن يكون للدلالة الاصطلاحية الشرعية صور تتمثل فيها يتولى السياق القرآني ذكرها على سبيل الحصر في مناسباتها.
وفي مجال الحديث عن الحكم، فلابد من التفريق بين ما ينقل عن الملة وما لا ينقل من الألفاظ والاستعمالات بضوابط لغوية مستفادة من تصرف الشارع في عباراته وبيان ذلك:
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 44.
(2) سورة آل عمران، الآية: 28.(1/56)
لفظ الكفر: إذا كان مُنَكَّرًا ومقيدًا(1) لا ينقل وإذا كان معرفًا ومطلقًا(2) ينقل عن الملة.
لفظ الإيمان: إذا نفي الإيمان، وأثبت الإسلام بإشارة لفظية(3) أو معنوية(4)، فإن هذا النفي هو للإيمان الواجب مع إثبات الإيمان المجمل، لأنه لا إيمان بلا إسلام، ولا إسلام بلا إيمان، وكذلك إذا نفي الإيمان من وجه وأثبته من وجه آخر، فإن هذا نفي للتمام، وهو الإيمان الواجب، وليس نفيًا للأصل وهو الإيمان المجمل، فلا ينقل من الملة.
وذلك مثل إدخال الولدان في مسمَّى الرجال في قوله تعالى: ( وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثَيَيْنِ ((5).
وإخراج الولدان من مسمَّى الرجال في قوله تعالى: ( وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا ((6)، وقوله تعالى: ( إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ((7).
__________
(1) مثال ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ الطًَّعْنُ فِي النَّسَبِ وَالنِّيَاحَةُ عَلَى المَيَّتِ» صحيح مسلم، كتاب الإيمان.
(2) مثال ذلك قوله تعالى: ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ (.
(3) مثال ذلك قوله تعالى: ( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا (.
(4) مثال ذلك قوله تعالى: ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ (.
(5) سورة النساء، الآية: 176.
(6) سورة النساء، الآية: 75.
(7) سورة النساء، الآية: 98.(1/57)
فأدخل الولدان في مسمَّى الرجال باعتبار ثبوت الأصل وأخرجهم من مسمَّى الرجال باعتبار نقص التمام، وإذا نفى الإيمان من كل وجه وعن كل اعتبار، ولم يثبته بأي وجه أو بأي اعتبار، ولم يثبت مع هذا النفي إسلامًا بإشارة لفظية أو معنوية، وتكرر النفي في مناسبات شتَّى، ووُصِفَ مرتكب نفس الفعل بأوصاف أخرى مثل الشرك أو النفاق أو الكفر أو نفي الصلة دل على أن المقصود من النفي هو عدم ثبوت الأصل فينقل عن الملة.
نفي الصلة: إذا كان من كل وجه فإنه ينقل عن الملة ( فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ((1)، ( لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ((2). وإذا كان من وجه دون وجه لا ينقل عن الملة. وفي الحديث «قَالَ مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاحَ فَلَيْسَ مِنَّا وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا»(3).
لفظ الشرك: الأصل فيه أنه ينقل عن الملة، إلا إذا قامت القرينة على كونه شركًا أصغر بدلالة اللفظ أو النص أو نص آخر على نفس الفعل.
لفظ النفاق: الأصل فيه أنه ينقل عن الملة، إلا إذا قامت القرينة على كونه شعبة من شعب النفاق أو أن الكفر فيه بالمآل وليس في الحال.
لفظ الفسق والظلم: حسب القرينة، ويستعمل اللفظان في القرآن فيما ينقل وفيما لا ينقل.
لفظة الضلال: حسب القرينة، ويستعمل في القرآن بمعني الكفر، البدعة، المعصية، الحيرة، وغالب استعماله في السنة بمعنى البدعة.
اللعن: إذا كان خبريًا وأبديًا(4) فإنه ينقل وإذا كان بمعنى الدعاء(5) والتأقيت فإنه لا ينقل.
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 28.
(2) سورة الأنعام، الآية: 159.
(3) صحيح مسلم، كتاب الإيمان.
(4) مثال ذلك قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (.
(5) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُستوشِِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ...» صحيح البخاري.(1/58)
والعذاب المهين في الكفار، والعذاب الأليم في الكفار والعصاة من الموحدين، بحسب السياق القرآني.
العذاب الأخروي إذا أفاد التأبيد مع الخلود في النار، أو أصحاب النار مع الخلود، أو القطع بعدم الخروج من النار وعدم دخول الجنة حتى يلجَ الجملُ في سَمِّ الخياط، أو تحريم الجنة فإنه فيما ينقل إذ مجرد قول لا يدخلون الجنة فمعناه لا يدخلون جنة معينة أو يتأخر دخولهم، والقول بالإلقاء في النار فمعناه دخولها، ولكن ليس معناه الخلود فيها والتأبيد، بل يخرج منها إلى الجنة إذا كان موحِدًا، والقول بأن هذا جزاؤه، فهذا وعيد متوقف على استيفاء شروط وانتفاء موانع، وقد لا يتحقق.
لفظ الفاحشة والفحشاء والمنكر والبغي والإثم والمعصية والذنب والسيئة والخِطء والخطيئة والغضب والكره والمقت والمكروه، فالأصل أنها فيما لا ينقل، وقد تستعمل فيما ينقل بقرينة تدل على ذلك.
أمثلة:
إفراد الله سبحانه وتعالى بالحكم: ركن من أركان توحيد العبادة بهذه الضوابط:
قوله تعالى: ( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ((1) فيه معنى اعتقاد وجوب الصفة لله سبحانه وتعالى، وتفرده بها على النحو الذي يليق بكماله جلَّ وعَلا، وفيه معنى ابتغاء الحكم عنده عزَّ وجَلَّ وقوله تعالى: ( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا((2)، ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ((3) فيه فقط معنى ابتغاء الحكم عند الله عزَّ وجَلَّ وأن هذه عبادة يقصد بها وإذا قصد بها غيره كان هذا عبادة لغير الله عزَّ وجَلَّ، لأنه راجع إلى إفراد الله عزَّ وجَلَّ بحقه الخالص.
__________
(1) سورة الشورى، الآية: 10.
(2) سورة الأنعام، الآية: 114.
(3) سورة المائدة، الآية:50.(1/59)
واعلم بُنَيَّ أنه لم يكن المسلم مسلمًا وهو يتحاكم إلى الكهان، وأول ما وقعت الرغبة عن شرع الله إلى غيره(1) وقعت مكفرًا بها، ولم تكن مناسبة وقوعها هي بداية التحريم.
النواقض مكفرة بتنزيل الحكم على مناطه، ويراعى في ذلك ضوابط تحقيق المناط، وتنقيح المناط، وتنزيل الحكم على مناطه، وتحديد كون الحكم مما ينقل أو لا ينقل.
ولنبدأ بتحقيق المناط:
مثال ذلك قوله تعالى: ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ((2).
الدلالة الشرعية الاصطلاحية لكلمة يحكم: يشرع.
والدلالة الاستعمالية قد تكون: يشرع أو يقضي(3) أو يجتهد(4)، حسب السياق.
والدلالة اللغوية: مَن خُيِّر فاختار فقد حُكِّم فحَكم.
فيكون معنى ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ((5). من لم يشرع للناس ما شرعه الله لهم ليقضي به في مواضع النزاع، فيحل حلاله ويحرم حرامه فأولئك هم الكافرون.
أولئك: تعريف، هم تعريف، ال: تعريف، فالكفر هنا ينقل عن الملة.
والوصف تجرد عن مزاحمة أوصاف أو خصوصية محل فيكون منقحًا وهو محقق أيضًا ولبيان ذلك نقول:
تنقيح المناط:
__________
(1) قال تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً (.
(2) سورة المائدة، الآية: 44.
(3) قال تعالى: ( فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ (.
(4) قال تعالى:( وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (.
(5) سورة المائدة، الآية: 44.(1/60)
الحكم في قوله تعالى: ( يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ((1) ينصبُّ على محل هو اليهود متصف بعدة أوصاف هي: سمَّاعون للكذب، أكَّالون للسحت، يُحرفون الكلم عن مواضعه، لم يطهر الله قلوبهم وأراد فتنتهم، يتولون عن حكم الله في التوراة إلى غيره مما يدَّعون عدم الإيمان به، إيمانهم زعمٌ باللسان دون موافقة القلب، فهنا يوجد محل مع مزاحمة أوصاف، فلا ندري هل يختص هذا الحكم بوصف من الأوصاف دون غيره أو ببعض هذه الأوصاف دون غيرها أو يختص بها في حالة الاجتماع دون الافتراق أم يختص بكل وصف منها في حالة الانفراد والاجتماع، وهل للمحل تأثير بحيث لو وجدت هذه الأوصاف في غير هذا المحل لم يختص بهذا الحكم، إلى أن يأتي موضع النص من السياق فيتجرد الوصف عن المحل وعن مزاحمة الأوصاف في قوله تعالى: ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ( وهو مناسب يدرك العقل مناسبته ويعتبر الشرع مثله، ويؤثر بحرف الفاء فيكون مناطًا كما سبق بيانه ثم في التحقيق كما مرَّ بتقديم الدلالة الاصطلاحية على إرادة الدلالة الاستعمالية أو القياسية اللغوية الإفرادية ثم الدلالة الاستعمالية في السياق تتفق مع الدلالة الاصطلاحية على إرادة معنى يشرع من لفظ يحكم، وليس معنى يقضي أو يجتهد.
ولكن هناك قاعدة أن الدلالات الإفرادية والاستعمالية يكون لها حظ من الحكم، وإن لم تكن مرادة، إذا كانت الدلالة الشرعية الاصطلاحية هي المرادة، وعليه قيل كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، للجور في القضاء، والجرأة على الاجتهاد، ومطلق المخالفة الشرعية مع بقاء الالتزام بشرع الله.
مثال آخر: إفراد الله عزَّ وجَلَّ بالولاية ركن من أركان التوحيد:
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 41.(1/61)
يقول الله - عز وجل -: ( أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ((1). فالولي صفة من صفات الله عزَّ وجَلَّ، لابد من اعتقاد وجوبها له جلَّ وعَلا، وتفرده بها على النحو الذي يليق بكماله سبحانه وتعالى، وقوله - عز وجل -: ( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ((2). الاتخاذ معنى إرادي قصدي طلبي، فهو يرجع إلى توحيد العبادة، وهنا إفراد الله عزَّ وجَلَّ بما لا يكون إلا لله، وهذا الإفراد في توحيد العبادة لمعنى ”أتخذ“.
__________
(1) سورة الشورى، الآية: 9.
(2) سورة الأنعام، الآية: 14.(1/62)
واعلم بُنَيَّ أنه لم يكن المسلم مسلمًا وهو يظاهر المشركين على المسلمين، أو يتآمر مع الكفار على المسلمين لإبادة خضرائهم أو استئصال شأفتهم، أو يكثر سواد الطاعنين في دين الله ترويجًا لباطلهم ابتغاء للعزة عندهم، أو وهو يرجح ولاية المشركين على ولاية المسلمين، أو يعدل ولاية المسلمين بولاية المشركين ترجيحًا أو عدلاً لولاية القبيلة على أو بولاية العقيدة، أو وهو منعدم الولاء بين المسلمين والكافرين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء أو وهو داخل تحت ولاية الكافرين بطوعه وإرادته، وعندما وقعت هذه الأفعال لأول مرة حكي عنها القرآن وقرر حكمها تفصيليًا، ومع ذلك لم تكن هذه الوقائع هي السبب لبداية التحريم وكان ما قبلها على أصل الإباحة، بل كان التحريم سابقًا عليها اكتفاء بتحريم الشرك بحده لقوله تعالى: ( اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ((1). ولذلك وقعت هذه الوقائع عندما وقعت أول مرة مُحَرَّمة مُجَرَّمة مُكَفرًا بها مُعاقبًا عليها، وعندما أوشك أن يحدث اقتتال بين الأوس والخزرج على ثارات ودعاوى الجاهلية، أخبرهم أنه إذا انتهى وجود الجماعة المسلمة بالتفرق إلى الجماعات العرقية القديمة كان هذا التفرق المطلق كفر، كما أن الأحاديث أخبرت أن التشبه المطلق بالكفار كفر.
__________
(1) سورة الأعراف، الآية: 59.(1/63)
ومن ناحية تنزيل الحكم على مناطه: يقول الله عزَّ وجَلَّ: ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ( كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ( تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ( وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ((1).
فنجد أن حكم اللعن والكفر يترتب على المعصية والاعتداء وعدم التناهي عن المنكر وموالاة الكافرين، وذلك في محل هو بني إسرائيل ثم تجد من السياق أن وصف الكفر يختص بوصف واحد من هذه الأوصاف هو موالاة الكافرين، لكن مازال في محل هو بني إسرائيل ثم في قوله تعالى: ( لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ((2). اختص حكم الكفر بوصف موالاة الكافرين مجردًا عن خصوصية محل ومزاحمة أوصاف.
ثم تجد أن موالاة الكافرين بمعناها الاصطلاحي الشرعي وليس اللغوي أو الاستعمالي تتمثل في صور هي:
مظاهرة المشركين في قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ((3). الآيات وأسباب النزول.
ترجيح ولاية القبيلة على ولاية العقيدة أو العدل بين ولاية القبيلة وولاية العقيدة في قوله تعالى: ( فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ((4). الآيات وأسباب النزول.
__________
(1) سورة المائدة، الآيات: 78-81.
(2) سورة آل عمران، الآية: 28.
(3) سورة النساء، الآيات: 97-99.
(4) سورة النساء، الآيات: 88-91.(1/64)
تكثير سواد الطاعنين في دين الله ترويجًا لباطلهم ابتغاء للعزة عندهم.
انعدام الولاء.
الدخول تحت ولاية الكافرين طوعًا والمناطات الثلاثة (3)، (4)، (5) في قوله تعالى: ( بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا( إلى قوله تعالى: ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ( (1) الآيات.
التآمر مع الكفار على المسلمين بقصد الإضرار بهم في قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ ((2)، وغير ذلك كثير من السياقات في القرآن.
التفرق المطلق والتجمع على دعاوى الجاهلية من تخوم الأرض ونعرات الجنس في قوله تعالى: ( قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ( إلى قوله تعالى: ( ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ((3)، السياق في سورة آل عمران.
التشبه المطلق في السنة من خلال الأحاديث الصحيحة عنه - صلى الله عليه وسلم - وهذا على سبيل الحصر(4)، ولا يدخل فيها أي معاني أخرى مستفادة من احتمالات لفظ الولي أو الولاية أو مشتقاته أو استعمالاته في اللغة.
وهنا تعليق مهم جدًا في هذا الصدد:
النواقض المكفرة للتوحيد بنوعيه هي: الشرك الأكبر بنوعيه، وهي: الكفر الأكبر، سواء كان ذلك في مجال العلم أو القول أو العمل، أو الباطن أو الظاهر.
__________
(1) سورة النساء، الآيات: 138-145.
(2) سورة التوبة، الآيات: 107-110.
(3) سورة آل عمران، الآيات: 98-112.
(4) سيأتي مزيد من التفصيل.(1/65)
ما جاء فيه لفظ الكفر وليس ناقضًا للتوحيد بنوعيه الخبري العلمي المعرفي أو الإرادي القصدي الطلبي، فهو يسمى كفر عملي أو مجازي أو شرك أصغر أو كفر دون كفر مسميات مترادفة لمسمًّى واحد، وسواء كان ذلك في مجال العلم أو القول أو العمل(1).
وما جاء فيه لفظ الكفر مما ليس ناقضًا للتوحيد وهو إما أن يكون: كما أسلفنا القول كفر عملي أو كفر دون كفر أو كفر مجازي، أو ربما كان كفرًا ينقل عن الملة بقيد آخر مثل الاعتقاد أو الاستحلال أو الإجماع على الترك أو الإباء من قبول الفرائض. وليس ذلك إعمالاً لقواعد التأويل التي نرفضها تمامًا، ولكن إعمالاً للجمع بين النصوص، كما جاء فيمن جاء للعرَّاف في إحدى الروايات أنه «كفر بما أُنزِل على محمد - صلى الله عليه وسلم -»(2)، والأخرى «بإبطال صلاته أربعين يومًا»(3)، فيكون الأول لمن يتخذ ذلك مسلكًا ثابتًا نابعًا عن اعتقاد أو توجه ثابت، والأخرى لمن فعله عبثًا أو بطريقة عفوية غير مبنية على توجه ثابت.
كذلك بعض ما جاء في شأن تارك الصلاة، في حالة إذا كان النص يفيد النقل عن الملة قطعًا فهو كفر دلالة، وليس كفرًا في الحال أي لدلالة النص على عدم وجود الإيمان في قلبه، والكفر في الحال هو لنواقض التوحيد المكفرة.
أما كفر اللوازم والمآلات فهو باعتبار لازم القول أو الاعتقاد أو ما يؤول إليه، والقاعدة فيه أن الكفر بالمآل ليس بكفر في الحال، ولازم المذهب ليس بمذهب ما لم يلتزمه صاحبه. والبعض من العلماء يكفر الداعية دون المقلد، والبعض لا يكفر هذا ولا ذاك، والبعض يفرق بين شدة الالتصاق للازم والمآل وبين بُعدِه، والبعض لا يفرق.
__________
(1) وهنا تدخل حالات الولاء المقيد، وسنبيِّن الفرق بين الولاء المطلق والولاء المقيد في الوجه الرابع والعشرين من الاستدلال.
(2) السلسلة الصحيحة,ج9،ص173.
(3) صحيح مسلم، كتاب السلام.(1/66)
والأقوى فيه ترك التكفير إلا بعد التزام اللوازم أو البقاء على المعتقدات الفاسدة بعد وضوح لوازمها ومآلاتها.
ثانيًا: الأوصاف التي تنافي أوصاف الإيمان والإسلام:
واعلم يا بُنَيَّ أن الإيمان علم يدخل القلب، فإذا وجد محلاً قابلاً تحول إلى يقين واعتقاد راسخ، وإذا لم يجد محلاً قابلاً بقى خواطر في النفس أو تحول إلى شك أو انقلع بالكلية، واليقين والاعتقاد الراسخ إما أن يعطي موجبه من الموافقة والموالاة والانقياد، وهذه أحوال في القلب يلزم عنها إرادات، والإرادات مع القدرة يلزم عنها مرادات، والإيمان جميع اللازم والملزوم.
أو يجد هذا الاعتقاد الراسخ موانع من الكبر والإلف وأهواء النفس والمصالح المختلفة من الملك والشرف والمال وغير ذلك، فلا يعطى هذا الاعتقاد موجبه من الموافقة والموالاة والانقياد، وبالتالي فلا توجد إرادات الإيمان ولا مراداته، ويكون هذا العلم حجة على صاحبه وقد يسمَّى إيمانًا لغةً لا شرعًا، وقد لا يسمَّى.
والإسلام: استسلام خالص تام لله سبحانه وتعالى.
وعلى هذا فالأوصاف المنافية للإيمان هي:
الجهل، الشك، التكذيب، الجحود، الرد، الترك، المحادة.
والأوصاف المنافية للإسلام هي:
الكبر أو التعطيل، الشرك.
الوجه الرابع والعشرون: مفردات الشرك والكفر المخرجة من الملة:(1/67)
أولاً: ما يتعلق بتوحيد الربوبية لله سبحانه وتعالى وهو توحيد الذات والصفات والأفعال: جحد الصانع، تكذيب الرسل، وجحد الرسالات، وإنكار البعث، التكذيب بالقدر، مطلق تكذيب الخبر، إنكار الغيب، القول بأن الله هو المسيح ابن مريم، وأن الله ثالث ثلاثة، والقول بالصاحبة والولد ( وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ((1)، و( وجَعَلُوا لَهُ مِن عِبَادِهِ جُزْءًا ((2)، و( وجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبِادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا ((3)، والذين قالوا ( إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء ((4)، والذين قالوا: ( يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا . بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء((5)، وافتراء الكذب على الله ونسبته سبحانه إلى ما لا يليق بجلاله وعظمته وأسمائه الحسنى وصفاته العلى وذلك بجحد صفاته أو تشبيهه بمخلوقاته أو وصفه بما يتنزه عنه جلَّ وعَلا، واعتقاد الشركاء في الخلق أو الرزق أو التدبير والتأثير، والقول بالحلول والاتحاد والوحدة، والذين يفرقون بين أسماء الله سبحانه وتعالى الأحد والواحد، فيعنون بالأحدية الوجود المطلق وهو عندهم الحق الذي لا نعت له ولا وصف، ويثبتون الأسماء الحسنى للواحد لا للأحد، وهو عندهم الله الذي فاض عن الأحد وفاضت عن الواحد جميع المخلوقات، فينكرون التوحيد والخلق، ويقولون بقدم العالم إلى غير ذلك من الكفريات وهي كثيرة لا تنحصر، كذلك اعتقاد حل ما حرَّم الله وتحريم ما أحلَّ أو عدم اعتقاد ذلك استحلالاً يرجع إلى خلل في توحيد الربوبية.
ثانيًا: توحيد الألوهية:
أولاً: فيما يختص بإفراده سبحانه وتعالى بالحكم والتشريع:
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 100.
(2) سورة الزخرف، الآية: 15.
(3) سورة الزخرف، الآية: 19.
(4) سورة آل عمران، الآية: 181.
(5) سورة المائدة، الآية: 64.(1/68)
وهو تحقيق العبودية لله بقبول شرعه ورفض ما سواه، وبيان ذلك أن جماع الدين أصلان: أن يعبد الله وحده لا شريك له، ويعبد بما شرع على ألسنة رسله في كل وقت بما أمر به في ذلك الوقت.
والشرع الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يقتصر على ما يعبد به الله عزَّ وجَلَّ، بل تعداه إلى ما يقيم القسط بين الناس ( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ((1). والقسط هو ما أنزل الله - عز وجل - ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ((2).
فمَن يَخرُج عن شرع الله الذي جاء به الرسول فيما يعبد به الله - عز وجل -. ومَن يَخرُج عن شرع الله الذي جاء به الرسول فيما يقيم القسط بين الناس، فقد ردَّ رسالة الرسول والكتاب الذي جاء به والله الذي أرسله فكفر بكل ذلك.
يقول الله - عز وجل -: ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فِإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الكَافِرِينَ ((3).
ويقول البيضاوي في تفسير قوله - عز وجل -: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ((4): «أن من لم يطعه في شريعته فقد رد رسالته ومن فعل ذلك كان كافرًا مستوجب القتل». أهـ.
والخروج عن شريعة الرسول فيما يعبد به الله أو فيما يقيم القسط بين الناس يكون بالرجوع إلى شرع آخر غير شرع الله المُحكَم من الدين المبدَّل أو الدين المنسوخ.
__________
(1) سورة الأعراف، الآية: 29.
(2) سورة الحديد، الآية: 25.
(3) سورة آل عمران، الآيتان: 31-32.
(4) سورة النساء، الآية: 64.(1/69)
وذلك حكمًا(1)، وتحاكمًا(2)، وتحكيمًا(3)، وتشريعًا(4)، وقبولاً(5) في الحياة اليومية فيما يعبد الله به، وفيما يقيم القسط بين الناس، أو يكون الخروج عن شريعة الرسول في أي منهما برد أمر الله عليه وذلك: بالإباء من قبول الفرائض(6)، أو الاستحلال(7)
__________
(1) الحكم بشرع غير شرع الله: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (.
(2) التحاكم إلى شرع غير شرع الله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً (.
(3) تحكيم شرع غير شرع الله: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً (.
(4) التشريع: ( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (.
(5) قبول غير شرع الله: ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّنْ دُونِ اللَّهِ وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (.
(6) أي الامتناع من التزام حكم الله بالإيجاب وهو: رفض حكم الله بالإيجاب رجوعًا إلى شريعة أخرى أو من غير رجوع «قالوا: نصلي ولا نزكي».
(7) الاستحلال له حالات أربع:
اعتقاد الإباحة أي أن الله لم يحرمها «تكذيب بالتحريم».
عدم اعتقاد أن الله حرمها «شك بالتحريم».
اعتقاد أن الله حرمها مع الامتناع عن الالتزام بالتحريم طعنًا في حكمة التشريع.
الامتناع عن التزام حكم الله بالتحريم ردًا لأمر الله.(1/70)
امتناعًا من التزام حكم الله بالوجوب وامتناعًا من التزام حكم الله بالتحريم، أو يكون بالخروج عن شريعة الرسول بالطعن في حكمة التشريع(1)، أو الاستهزاء(2)، أو الاستخفاف(3)، أو الاستهانة(4).
__________
(1) الطعن في حكمة التشريع كما في قوله تعالى: ( وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (.
(2) قال تعالى: ( وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ - لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ( .
(3) قصة الرجل الذي خطب امرأة في الجاهلية فأبوا أن يزوجوه. «استخفاف بالحرمة لغرض» الصارم المسلول، ص147.
(4) مثل مَن قال: مُصَيحِف أو مُسَيجِد.(1/71)
يقول ابن كثير(1) في تفسير قوله تعالى ( أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُّوقِنُونَ ((2): «ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعَدَل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان، الذي وضع لهم الياسق وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعًا متبعًا يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يُحَكِّم سواه في قليل أو كثير». أهـ.
وقد صرح رحمه الله(3) على الإجماع على هذا المعنى فقال:
«فمن ترك الشرع المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر. فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدَّمه عليه؟ فمن فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين». أهـ.
يقول ربك - عز وجل -: ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فِإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الكَافِرِينَ( (4).
__________
(1) تفسير ابن كثير، جـ2، ص 67، مكتبة دار التراث.
(2) سورة المائدة، الآية: 50.
(3) عمدة التفاسير، الشيخ احمد شاكر، جـ1، ص 696، طبعة دار الوفاء.
(4) سورة آل عمران، الآيتان: 31-32.(1/72)
ويقول - عز وجل -: ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ((1).
ويقول - عز وجل -: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَّتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَّكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُّضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا ((2).
ويقول - عز وجل -: ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ((3).
ويقول - عز وجل -: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ((4).
ويقول - عز وجل -: ( وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ ((5).
ويقول - سبحانه وتعالى -: ( أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُّوقِنُونَ ((6).
ويقول - عز وجل -: ( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ ((7).
ويقول - عز وجل -: ( وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ((8).
__________
(1) سورة النساء، الآية:59.
(2) سورة النساء، الآية: 60.
(3) سورة النساء، الآية: 65.
(4) سورة النساء، الآية: 64.
(5) سورة المائدة، الآية: 44.
(6) سورة المائدة، الآية: 50.
(7) سورة الأنعام، الآية: 114.
(8) سورة الأنعام، الآية: 121.(1/73)
ويقول - عز وجل -: ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّنْ دُونِ اللَّهِ وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ((1).
ويقول - عز وجل -:( قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ((2).
وحديث عدي في تفسير الآيتين معروف. وقوله: ما عبدناهم، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - له: «بلى ولكن أحلوا لكم الحرام وحرموا عليكم الحلال فأطعتموهم فتلك عبادتكم إياهم». فكفروا وأشركوا بوقوع حقيقة العبادة منهم، وإن لم يعلموا ذلك الفعل عبادة أو يعتقدوه عبادة.
ويقول - عز وجل -: ( اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ((3).
ويقول - عز وجل -: ( إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّم ((4).
ويقول - عز وجل -: ( ومَا اخْتَلَفْتُم فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ((5).
ويقول - عز وجل -: ( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدَّينِ مَا لَمْ يَأْذن بِهِ اللَّهُ ((6).
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 31.
(2) سورة آل عمران، الآية: 64.
(3) سورة الأعراف، الآية: 3.
(4) سورة يوسف، الآية: 40.
(5) سورة الشورى، الآية: 10.
(6) سورة الشورى، الآية: 21.(1/74)
ويقول - عز وجل -: ( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ( إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوليَاءُ بَعْضٍ واللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ((1).
ويقول - عز وجل -: ( وَمَا كَانَ لمؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ((2).
ويقول - عز وجل -: ( وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلىَّ فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالمؤْمِنِينَ ( وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ( وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ( أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المفْلِحُونَ ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ ((3).
ثانيًا: فيما يختص بإفراده جلَّ وعَلا بالولاية وتحقيق الولاء والبراء:
__________
(1) سورة الجاثية، الآيتان: 18-19.
(2) سورة الأحزاب، الآية: 36.
(3) سورة النور، الآيات: 47-52.(1/75)
أقول في تحقيق الولاء نفسه بولاية الإسلام ليس غير ذلك، يقول الله - عز وجل -: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَّتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُّحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ((1)، ويقول تعالى: ( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ ((2)، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَيُرَدُّ عَلَى أَقْصَاهُمْ»(3)، ويقول - عليه السلام -: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ وَلا يُسْلِمُهُ»(4).
فالولاء لله سبحانه وتعالى أصل وللرسول والمؤمنين تبع، فلا يتولى المسلم غير المسلمين، ولا يتولى بغير ولاية الإسلام، ولا يتولى المسلمين إلا تبعًا لولاية الله عزَّ وجَلَّ ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - لله وفي الله وبولاية الإسلام وليس بغير ذلك.
وقوله تعالى: ( لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ وَمَن يَّفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ((5) في الولاء المطلق ويتمثل في صور ذكرها القرآن الكريم:
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 165.
(2) سورة الأنعام، الآية: 14.
(3) سنن ابن ماجه، كتاب الديات صححه الامام الالبانى.
(4) صحيح البخاري، كتاب المظالم والغصب.
(5) سورة آل عمران، الآية: 28.(1/76)
1- مظاهرة المشركين في قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ( إِلاَّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ( فأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَّعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ((1).
__________
(1) سورة النساء، الآيات: 97-99.(1/77)
وفي ”لباب النقول“(1) أخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس قال: «كان قوم من أهل مكة قد أسلموا، وكانوا يخفون الإسلام فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: هؤلاء كانوا مسلمين فأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت: ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً (، فكتبوا بها إلى من بقى بمكة منهم، أنه لا عذر لهم، فخرجوا فلحق بهم المشركون ففتنوهم فرجعوا، فنزلت: ( وَمَنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاس كَعَذَابِ اللَّهِ ((2) فكتب إليهم المسلمون بذلك فتحزنوا، فنزلت: ( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ((3)، فكتبوا إليهم بذلك فخرجوا فلقحوهم فنجا من نجا وقتل من قُتِل. وأخرج ابن جرير من طرق كثيرة نحوه». أهـ.
__________
(1) أسباب النزول للسيوطي، ص 94، طبعة مكتبة الصفا.
(2) سورة العنكبوت، الآية: 10.
(3) سورة النحل، الآية: 110.(1/78)
2- ترجيح ولاء القبيلة على ولاء العقيدة أو عدله به: وذلك في قوله تعالى: ( فَمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُّضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ( إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُّقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ( سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَّأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا ((1).
قال المفسرون: الذين يصلون إلى محاربين والذين يصلون إلى مواثقين وحصرة الصدور والمتلاعبين بالدين كلهم كفار إلا أن يتوبوا بالهجرة، واستثنى من القتال الذين يصلون إلى مواثقين وحصرة الصدور، وأمر بقتال من يصل إلى محاربين والمتلاعبين بالدين إن لم يعتزلوا ويلقوا السلم ويكفوا أيديهم عن المؤمنين.
__________
(1) سورة النساء، الآيات: 88-91.(1/79)
وفي قوله تعالى: ( بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَميعًا ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ( الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ المُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَن يَّجْعَلَ اللَّهُ لِلكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ( إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ( مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَن يُّضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا ( إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ( إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ المُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِي اللَّهُ المُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ( مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ(1/80)
إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ((1) الآيات.
أقول في قوله تعالى في هذا السياق القرآني ثلاث مناطات: -
3- تكثير سواد الطاعنين في دين الله ترويجًا لباطلهم ابتغاءً للعزة عندهم.
4- الدخول طوعًا تحت ولاية الكافرين أي من أدخل نفسه بطوعه تحت ولاية الكافرين، قال تعالى: ( وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ((2) وهي تكليف وليست خبرًا.
5- انعدام الولاء للمؤمنين والكفار بتذبذب ولائه مع تذبذب مصالحه وأهوائه (إلهه هواه) تعس عبد الدرهم والقطيفة والخميصة، يبيع المؤمنين للكفار بأدنى ثمن ويبيع الكفار للمؤمنين بأدنى ثمن.
6- التآمر مع الكفار على المؤمنين لإلحاق الضرر بهم والتفريق بينهم والتربص بهم يقول تعالى: ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ ((3)، وهو سلوك المنافقين في المدينة في تآمرهم مع اليهود، ومع أبي عامر الفاسق النصراني، ومع قريش وغيرها من قبائل العرب. والقرآن ملئ به في سورة براءة، والمجادلة، والحشر، والمنافقون، وغير ذلك من السور يقول ابن كثير(4): «مالؤوهم وناصحوهم في الباطن على الباطل».
__________
(1) سورة النساء، الآيات: 138-147.
(2) سورة النساء، الآية: 141.
(3) سورة التوبة، الآية: 107.
(4) عمدة التفاسير, جـ3, ص323.(1/81)
7- التفرق المطلق والقتال على دعاوى الجاهلية والتولي بغير ولاية الإسلام: وذلك في قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكِمْ كَافِرِينَ (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَّعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَّدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ( وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ((1).
__________
(1) سورة آل عمران، الآيات: 100-108.(1/82)
وفي قوله تعالى: ( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ ((1).
وقوله تعالى: ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ((2).
8- التشبه المطلق بالكفار لقول الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ».
يقول ابن تيمية(3): «وأيضًا مما هو صريح في الدلالة: ما روي أبو داود في سننه، حدثنا عثمان ابن أبي شيبة، حدثنا أبو النضر ـ يعني هاشم ابن القاسم ـ حدثنا عبد الرحمن ابن ثابت، حدثنا حسان بن عطية عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم» وهذا إسناد جيد. فإن ابن أبي شيبة و أبا النضر وحسان بن عطية ثقات مشاهير أجّلاء، من رجال الصحيحين. وهم أجّل من أن يحتاجوا إلى أن يقال هم من رجال الصحيحين. وأما عبد الرحمن بن ثوبان: فقال يحيى بن معين، وأبو زرعة، وأحمد بن عبد الله العجلي: ليس به بأس. وقال عبد الرحمن بن إبراهيم دُحَيم: هو ثقة وقال أبو حاتم: هو مستقيم الحديث. وأما ابو منيب الجرشي: فقال فيه أحمد بن عبد الله العجلي: هو ثقة، وما علمت أحدًا ذكره بسوء. وقد سمع منه حسان بن عطية. وقد احتج الإمام أحمد وغيره بهذا الحديث.
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 14.
(2) سورة الأنعام، الآية: 153.
(3) اقتضاء الصراط المستقيم، ص 80-81، مطبعة المدني.(1/83)
وهذا الحديث أقل أحواله: أنه يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم، كما في قوله تعالى: ( وَمَن يَّتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ((1)، وهو نظير ما سنذكره عن عبد الله بن عمرو أنه قال: «من بنى بأرض المشركين، وصنع نَيْرُوزهم ومَهْرجانهم، وتَشَبَّه بهم حتى يموت، حُشر معهم يوم القيامة» فقد يحمل هذا على التشبه المطلق، فإنه يوجب الكفر، ويقتضي تحريم أبعاض ذلك. وقد يحمل على أنه صار منهم في القدر المشترك الذي شابههم فبه. فإن كان كفرًا أو معصية، أو شعارًا للكفر أو للمعصية، كان حكمه كذلك.
وبكل حال: فهو يقتضي تحريم التشبه بهم بعلة كونه تشبهًا». أ هـ.
وقول الله - عز وجل -: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَّتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ ((2).
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 51.
(2) سورة التوبة: 23-24.(1/84)
وفي التفاسير: الذين استحبوا الكفر على الإسلام هم الذين تركوا الإسلام من أجل الهجرة، والذين حُذِّروا من ولايتهم هم الذين أرادوا البقاء معهم في مكة من أقربائهم مع البقاء على الإسلام، وقالوا نقيم مع إخواننا وعشائرنا ومساكننا فنزلت الآيات نهيًا من الله للمؤمنين أن يتخذوا أقرباءهم بطانة من دون المؤمنين، وعن إيثار البقاء معهم على الهجرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخبرهم بحكم المخالفة في ذلك بقوله تعالى: ( وَمَن يَّتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ (.
يقول الإمام الطبري: «ومن يتخذهم منكم بطانة من دون المؤمنين، ويؤثر المقام معهم على الهجرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( »الظالمون: المشركون». وقيل أن ذلك نزل نهيًا من الله للمؤمنين عن موالاة أقربائهم الذين لم يهاجروا من أرض الشرك إلى دار الإسلام».(1/85)
والآيات في سورة آل عمران من قوله تعالى: ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِمًا بِالقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَّكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ ( فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ وَالأُمِيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَاوَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ(1/86)
وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَتُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ وَمَن يَّفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ المَصِيرُ ( قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالعِبَادِ ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فِإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الكَافِرِينَ ((1).
__________
(1) سورة آل عمران، الآيات: 18-32.(1/87)
سياق واحد كأنه جملة واحدة، يُبَيِّن الله فيه حقيقة الإسلام وأن المسلمين على ذلك، والأميون وأهل الكتاب ليسوا على ذلك، ويحذر المؤمنين من ولاية الكافرين تحذيرًا عامًا، ويخص هؤلاء الذين يعرضون عن حكم الله، ويقتلون الأنبياء بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، وغرهم في دينهم ما كانوا يفترونه من الاستهانة بالثواب والعقاب، ويلزم المؤمنين بولاء المؤمنين دون الكافرين، ولزوم طاعة الرسول وشريعته وولائه، ويُبَيِّن أن الملك بيد الله يؤتيه من يشاء، فلا يستكين المؤمنون للكفار لما في أيديهم من الملك ويتلبس بموالاتهم، ولا يعاند أهل الكتاب الحق لاستبقاء الملك وحجبًا له عن المؤمنين، كما قال الله عنهم في سورة النساء: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً ( أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَّلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ( أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ المُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ( فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ((1).
__________
(1) سورة النساء، الآيات: 51-55.(1/88)
وفي قوله - عز وجل - في سورة المائدة: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَّتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ ( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُّسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَّأْتِيَ بِالفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَّرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُّحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَّشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ( وَمَن يَّتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ ( وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ( قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ(1/89)
أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القِرَدَةَ وَالخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ( وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَد دَّخَلُوا بِالكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ ( وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ((1).
وهذه الآيات في الأمر بترك موالاة اليهود والنصارى ولزوم ولاء المسلمين دون غيرهم، وبأن المنافقين هم الذين يسارعون في اليهود والنصارى خوفًا من الدوائر، وأن ولاء اليهود والنصارى ردة عن الإسلام ومُؤْذِنٌ بالاستبدال، وأن نقمة اليهود والنصارى على المسلمين لإيمانهم وفسق اليهود والنصارى، وأن اليهود خاصة قد اختُصوا بغضب الله ولعنته، وأنهم أخوة القردة والخنازير وعبد الطاغوت، وقد استحقوا غضب الله ولعنته بعبادتهم الطاغوت ومسارعتهم إلى الإثم والعدوان وأكلهم السحت.
أما قول الله - عز وجل -: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ((2).
__________
(1) سورة المائدة، الآيات: 51-62.
(2) سورة الأنفال، الآية: 72.(1/90)
فاعلم يا بُنَيَّ أن لفظ الولاية له عموم وخصوص. فلفظ الولاية هنا في الآية مخصوص، نُفِيَ عن أعراب المؤمنين الذين أسلموا واختاروا ديارهم ولم يهاجروا حين كانت الهجرة متعينة على المؤمنين قبل فتح مكة، فهؤلاء مسلمون يجرى عليهم حكم الله الذي يجرى على المؤمنين ويُقَاتِلون مع المؤمنين ولكن اختصوا بحكمين: الأول: بعدم التوارث بينهم وبين المؤمنين قبل نسخ ذلك إلى توارث أولى الأرحام. الحكم الثاني: أن ليس لهم في الفئ والغنيمة نصيب إلا ما حضروا فيه القتال، وذلك بنص الحديث: «فَإِنْ أَبَوْا وَاخْتَارُوا دَارَهُمْ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ نَصِيبٌ إِلا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ ...» (1). وهم مع ذلك داخلون في الولاء العام للمسلمين ولذلك جاء بعد هذه الآيات قول الله - عز وجل -: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ((2).
__________
(1) سنن أبى داود،وصححه الالبانى.
(2) سورة الأنفال، الآية: 73.(1/91)
يقول ابن كثير(1) في التفسير: «لما ذكر الله تعالى أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض قطع الموالاة بينهم وبين الكفار، كما قال الحاكم في مستدركه حدثنا محمد بن صالح بن هانئ حدثنا أبو سعيد يحيى بن منصور الهروي حدثنا محمد بن إيان حدثنا محمد بن يزيد وسفيان بن حسين عن الزهري عن علي بن الحسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يتوارث أهل ملتين ولا يرث مسلم كافرًا ولا كافر مسلمًا، ثم قرأ: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (» ثم قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال أبو جعفر بن جرير حدثنا محمد عن معمر عن الزهري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ على رجل دخل في الإسلام فقال: «تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت وتصوم رمضان وإنك لا ترى نار مشرك إلا وأنت له حرب».
ويقول ابن كثير(2) في تفسير الآية: «أي إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين وإلا وقعت فتنة في الناس وهو التباس الأمر واختلاط المؤمنين بالكافرين فيقع بين الناس فساد منتشر عريض طويل».
أقول: وقد كان، ونحن نعيشه الآن.
كل ما قلناه في الولاء المطلق الذي ينقل عن الملة.
أما الولاء المقيد فله صورتان:
الأولى: اتخاذ بطانة من الكفار دون الوقوع في ولاية الكافرين بالصور التي ذكرناها ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ ((3).
الثانية: الإدلاء ببعض أسرار المسلمين للكافرين، ظنًا ممن يفعل ذلك أن ذلك فيما لا يضر المسلمين أي مع انتفاء قصد الإضرار بالمسلمين ومع بقاء الولاء للمسلمين وأن يقع ذلك على سبيل الخطأ(4) وليس العمد وألا يتكرر.
__________
(1) تفسير ابن كثير، جـ2، ص 329.
(2) المصدر السابق، جـ2، ص 330.
(3) سورة آل عمران، الآية: 118.
(4) قصة حاطب ابن أبي بلتعة.(1/92)
ثالثًا: فيما يختص بإفراد الله سبحانه وتعالى بالنسك الظاهر والأعمال القلبية المصاحبة له أو المستقلة عنه:
يقول شيخ الإسلام ابن عبد الوهاب(1): «اعلم يرحمك الله أنه يجب على كل مسلم تَعلُم ثلاث(2) هذه المسائل والعمل بهن. الأولى: أن الله خلقنا ورزقنا ولم يتركنا هملاً بل أرسل إلينا رسولاً فمن أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار والدليل قوله تعالى: ( إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكَم رَسُولا شَاهِدًا عَلَيْكُم كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً ( فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخْذَنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً ((3). الثانية: أن الله لا يرضى أن يشرك معه أحد في عبادته لا ملك مقرب ولا نبي مرسل والدليل قوله تعالى: ( وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ((4). الثالثة: أن من أطاع الرسول ووحد الله لا يجوز له موالاة من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب والدليل قوله تعالى: ( لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِالْلَّهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَن حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَو كَانُوا آبَاءَهُمْ أَو أبْنَاءَهُمْ أَو إِخْوَانَهُمْ أَو عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِي اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ ((5).
__________
(1) الدر السنية، جـ1، ص 125.
(2) هكذا بالأصل.
(3) سورة المزمل، الآيتان: 15-16.
(4) سورة الجن، الآية: 18.
(5) سورة المجادلة، الآية: 22.(1/93)
ويقول شيخ الإسلام ابن عبد الوهاب(1): «وأنواع العبادة التي أمر الله بها مثل الإسلام والإيمان والإحسان، ومنه الدعاء والخوف والرجاء والتوكل والرغبة والرهبة والخشوع والخشية والإنابة والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والذبح والنذر، وغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها كلها لله تعالى، والدليل قوله تعالى: ( وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (، فمن صرف منها شيئًا لغير الله فهو مشرك كافر، والدليل قوله تعالى: ( وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ((2).
__________
(1) الدر السنية، جـ1، ص 128.
(2) سورة المؤمنون، الآية: 117.(1/94)
وفي الحديث «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ»، والدليل قوله تعالى: ( وقَالَ رَبُّكُم ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُم إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ((1)، ودليل الخوف قوله تعالى: ( فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ ((2)، ودليل الرجاء قوله تعالى: ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ((3)، ودليل التوكل قوله تعالى: ( وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ ((4)، وقال تعالى: ( وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ((5)، ودليل الرغبة والرهبة والخشوع قوله تعالى: ( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ((6)، ودليل الخشية قوله تعالى: ( فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ((7)، ودليل الإنابة قوله تعالى: ( وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُم وَأَسْلِمُوا لَهُ ((8)، ودليل الاستعانة قوله تعالى: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (، وفي الحديث «وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ»، ودليل الاستعاذة قوله تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ (، و( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ(، ودليل الاستغاثة قوله تعالى: ( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ ((9)، ودليل الذبح قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ ( لا شَرِيكَ لَهُ ((10)
__________
(1) سورة غافر، الآية: 60.
(2) سورة آل عمران، الآية: 175.
(3) سورة الكهف، الآية: 110.
(4) سورة المائدة، الآية: 23.
(5) سورة الطلاق، الآية: 3.
(6) سورة الأنبياء، الآية: 90.
(7) سورة المائدة، الآية: 3.
(8) سورة الزمر، الآية: 54.
(9) سورة الأنفال، الآية: 9.
(10) سورة الأنعام، الآيتان: 162-163.(1/95)
، ومن السنة «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ»، ودليل النذر قوله تعالى: ( يُوفُونَ بِالْنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ((1)». أهـ.
وجاء في ”الدرر السنية“: «قد مر أمر الله تعالى بإخلاص العبادة له في مواضع كثيرة من كتابه ونهى نبيه صلى الله وأمته أن يدعوا أحدًا من دونه فقال - عز وجل -: ( وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ ((2)، وقال - عز وجل -: ( فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المعَذَّبِيْنَ ((3)، وقال - عز وجل -: ( وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ . لا إِلَهَ إِلا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ( (4)، وقال - عز وجل -: ( قُلْ إِنَّي نُهِيتُ أَن أَعْبدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ البَيِّنَاتُ مِن رَبِّي وَأُمِرتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ العَالَمِينَ ( (5)، وقال تعالى: ( قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ المُهْتَدِينَ( (6).
وهذه الآيات تحقق أن الدعاء عبادة وأن صرفه لغير الله شرك بالله.
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الأضاحي.
(2) سورة يونس، الآية: 106.
(3) سورة الشعراء، الآية: 213.
(4) سورة القصص، الآية: 88.
(5) سورة غافر، الآية: 66.
(6) سورة الأنعام، الآية: 56.(1/96)
وقد قال تعالى: ( وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (إلى قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا((1)، وقال تعالى: ( وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنمَّا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الكَافِرُونَ ((2)، فبَيَّن في هذه الآية أن دعوة غيره كفر، كما قال تعالى: ( وَمَن أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُون َ( وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ((3)، وقال تعالى: (لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المَاءِ لَيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ومَا دُعَاءُ الكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ( (4).
وهذا النهي عام يتناول كل مدعو من الأنبياء فمَن دونهم، كما قال تعالى: ( قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً ( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ( (5).
__________
(1) سورة الجن، الآيات: 18-20.
(2) سورة المؤمنون، الآية: 117.
(3) سورة الأحقاف، الآيتان: 5-6.
(4) سورة الرعد، الآية: 14.
(5) سورة الإسراء، الآيتان: 56-57.(1/97)
نزلت هذه الآيات فيمن يدعو المسيح بن مريم وأمه والعزير والملائكة على الصحيح من أقوال المفسرين وعليه أكثرهم يقول الله هؤلاء كما أنتم عبيدي يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي ويخافون عذابي كما تخافون عذابي ولا ريب أن المسيح ابن مريم والملائكة أحياء لكنهم غافلون عمن دعاهم ولا يستجيبون لهم بشيء.
وأما العُزَير ومريم فقد ماتا ولا يدعي ميت ولا غائب فبطل بهذه الآية كل ما ادعاه المشركون في معبوديهم كقولهم ندعوهم لأن لهم صلاحًا وترجى شفاعتهم ونظائر هذه الآية في القرآن كثير في الرد على من دعا الأنبياء والصالحين والملائكة وغيرهم». أهـ.(1/98)
وقال الشيخ تقي الدين(1) رحمه الله: «وقد سئل عن رجلين تناظرا فقال أحدهما: لابد لنا من واسطة بيننا وبين الله، فإنا لا نقدر أن نصل إليه إلا بذلك. فأجاب بقوله: إن أراد بذلك أنه لابد من واسطة تبلغنا أمر الله فهذا حق، فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه، وما أمر به وما نهى عنه إلا بالرسل الذين أرسلهم إلى عباده وهم الرسل الذين بلغوا عن الله أوامره ونواهيه قال الله تعالى: ( اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ ( ومن أنكر هذه الوسائط فهو كافر بإجماع أهل الملل، وإن أراد بالواسطة أنه لابد من واسطة يتخذه العباد بينهم وبين الله في جلب المنافع ودفع المضار مثل أن يكون واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم يسألونه ذلك ويرجعون إليه فيه، فهذا من أعظم الشرك الذي كفَّر الله به المشركين حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء يجلبون بهم المنافع ويدفعون بهم المضار لكن هذه الشفاعة لم يأذن الله لهم فيها. قال تعالى: ( مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (، وقال تعالى: { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُّحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ (، وقال تعالى: ( وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ (، وقال تعالى: ( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّنْ ظَهِيرٍ( وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لمَنْ أَذِنَ لَهُ (، وقال تعالى: ( قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ
__________
(1) مجموع الفتاوى، جـ1، ص 121، مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، جـ5، ص 603.(1/99)
عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً ( إلى قوله تعالى: ( إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا(.
قال طائفة من السلف كان أقوام من الكفار يدعون عيسى والعزير والملائكة والأنبياء، فبَيَّن الله لهم أن الملائكة والأنبياء لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويلا، وأنهم يتقربون إليه ويرجون رحمته ويخافون عذابه، وقال تعالى: ( وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُم مُّسْلِمُونَ (، فبَيَّن سبحانه وتعالى أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابًا كفر، فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار مثل أن يسألهم غفران الذنوب وهداية القلوب وتفريج الكربات وسد الفاقات فهو كافر بإجماع المسلمين». أهـ.
يقول الشيخ حمد بن ناصر(1): «ولهذا اتفق العلماء كلهم على أن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم فقد كفر، لأن هذا كفر عابدي الأصنام.
__________
(1) الدرر السنية، جـ1، ص 196.(1/100)
إلى أن يقول: فهذه ثلاثة أصول تقطع شجرة الشرك من قلب من وعاها وعقلها فالأول أنه لا شفاعة إلا بإذنه. والثاني: أنه لا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله. والثالثة: أنه لا يرضى من القول والعمل إلا توحيده واتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وقد قطع سبحانه الأسباب التي يتعلق بها المشركون يعلم من تأمله وعرفه أن من اتخذ من دون الله وليًا أو شفيعًا فهو كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا فقال تعالى: ( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّنْ ظَهِيرٍ( وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لمَنْ أَذِنَ لَهُ ( فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له به من النفع والنفع لا يكون إلا لمن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريد عابده منه، فإن لم يكن مالكًا كان شريكًا للمالك، فإن لم يكن شريكًا كان معينًا وظهيرًا، فإن لم يكن معينًا ولا ظهيرًا كان شفيعًا عنده. فنفى سبحانه وتعالى المراتب الأربعة متنقلاً من الأعلى إلى ما دونه فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك وهي الشفاعة بإذنه، فكفى بهذه الآية برهانًا ونوراً وتجريداً للتوحيد، وقطعًا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها». أهـ.(1/101)
ويقول الشيخ حمد بن ناصر(1): «وأما الشفاعة التي نفاها القرآن كما عليه المشركون والنصارى ومن ضاهاهم من هذه الأمة، فينفيها أهل العلم والإيمان مثل أنهم يطلبون من الأنبياء والصالحين الغائبين والميتين قضاء حوائجهم، ويقولون أنهم إذا أرادوا ذلك قضوها ويقولون أنهم عند الله كخواص الملوك عند الملوك يشفعون بغير إذن الملوك، ولهم على الملوك إدلال يقضون به حوائجهم، فيجعلونهم لله بمنزلة شركاء الملك والله تعالى قد نزَّه نفسه عن ذلك». أهـ.
أقول جاء في ”البلاغ المبين“(2): «معنى الإله أو الآلهة التي تتخذ من دون الله في القرآن الكريم هو بمعنى الواسطة أو الذي يشفع على الله إدلالاً على الله لما له عنده من مكانة وهو معنى صاحب السر في استعمالات مشركي هذه الأمة، والدليل الحاسم على ذلك هو قول صاحب يس: ( أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ ((3) فلم يذكر لهذه الآلهة التي تتخذ استقلالاً بالتأثير أو مشاركة فيه، إنما هي شفاعة لا ترد إلى الله هذا ما أبى أن يفعله مع المشركين.
والدليل الثاني: قول أصحاب موسى له: ( اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةً ((4)، وقول من كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ»(5)، شيئًا يتخذ للتبرك، فيقصد لذلك لتقضى به الحاجات وتفرج به الكربات من الله تعالى.
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، ص 607، طبعة دار العاصمة، الرياض.
(2) كتاب البلاغ المبين للمؤلف، جـ4، ص 528.
(3) سورة يس، الآية: 23.
(4) سورة الأعراف، الآية: 138.
(5) مسند الإمام أحمد، كتاب مسند الأنصار .(1/102)
والدليل الثالث: وهو قول السامري عن عجله: ( هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ((1) أي واسطتكم وواسطة موسى إلى الله عزَّ وجَلَّ لأنه مزج الذهب ببعض تراب من أثر الرسول وهو جبريل - عليه السلام - تبركًا فاتخذوا العجل للتبرك لتقضى به من الله حاجاتهم وتفرج به من الله كرباتهم فكان هذا الفعل هو معنى العبادة ومعنى الإلهية أو الإلوهية». أهـ.
ويقول شيخ الإسلام ابن عبد الوهاب بعد أن يذكر أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا مقرين بان الله وحده هو الخالق الرازق، كما شهد بذلك القرآن الكريم، وأن الرسول الكريم قاتلهم على التوحيد الذي جحدوه وهو توحيد العبادة ليكون الدين كله لله والذبح كله لله والنذر كله لله والاستغاثة كلها لله وجميع أنواع العبادة كلها لله.
__________
(1) سورة طه، الآية: 88.(1/103)
يقول الشيخ(1): «إذا عرفت ذلك عرفت: أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة والأنبياء والأولياء يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله تعالى بهم هو الذي أحل دماءهم وأموالهم، عرفت حينئذ التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى عن الإقرار به المشركون، وهذا التوحيد هو معنى قولك لا إله إلا الله، فإن الإله عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور سواء كان ملكًا أو نبيًا أو وليًا أو شجرة أو قبرًا أو جنيًا، و لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر، فإنهم يقرون أن ذلك لله وحده، وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد، فأتاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله، والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها. والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الكلمة هو إفراد الله بالتعلق، والكفر بما يعبد من دونه والبراءة منه، فإنه لما قال لهم قولوا لا إله إلا الله قالوا: ( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لشَيْءٌ عُجَابٌ (، فإذا عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك، فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار، بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب بشيء من المعاني، والحاذق منهم من يظن أن معناها لا يخلق ولا يرزق ولا يحيي ولا يميت ولا يدبر الأمر إلا الله، فلا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله». أهـ.
__________
(1) الدرر السنية، جـ1، ص 69.(1/104)
ومن كلام الشيخ عبد الرحمن بن حسن(1) في ”الدرر السنية“ يقول: «فإذا كان العلماء في وقتنا هذا وقبله وفي كثير من الأمصار لا يعرفون من معنى لا إله إلا الله إلا توحيد الربوبية، كمن كان قبلهم في عصر شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن رجب اغتروا بقول بعض العلماء من المتكلمين: أن معنى لا إله إلا الله: القادر على الاختراع، وبعضهم يقول معناها: الغني عمن سواه المفتقر إليه ما عداه، وعلماء الإحساء ما عادوا شيخنا رحمه الله في مبدأ دعوته إلا من أنهم ظنوا أن عبادة يوسف والعيدروس وأمثالهما لا يستفاد بطلانها من كلمة الإخلاص». أهـ.
ويذكر شيخ الإسلام ابن عبد الوهاب في مواضع شتى أن شرك معاصريه أعظم من شرك مَن عَبَد اللات والعزى والملائكة والمسيح من وجهين. الأول: أن المعاصرين له يدعون في الرخاء والشدة من يندبونه لحاجاتهم، والأولون كانوا يدعون في الرخاء ويخلصون لله في الشدة. الثاني: الأولون كانوا يدعون أناسًا صالحين كالمسيح والعزير والملائكة،أو يرمزون لهم بتماثيل، أما هؤلاء فيدعون من يشهدون عليه بالفسق وترك الصلاة ومخالفة الشريعة، ويذكر أسماء مثل أبو حديدة وتاج وشمسان ويوسف والعيدروس، ويصفهم بالطواغيت لرضاهم أن يعبدوا مع الله ويُسوُّون به ويدعون إلى ذلك. وأما عبادة القبور والأحجار والحوائط والأشجار وعيون الماء فقد وقع ذلك من باب التبرك الشركي الذي أخرج صاحبه من الإسلام.
__________
(1) الدرر السنية، جـ1، ص 321.(1/105)
نذكر من ذلك ما جاء عن أبي الوفاء بن عقيل(1) عن تعظيم القبور وإكرامها بما نهى عنه الشرع من إيقاد النيران وتقبيلها وتخليقها وخطاب الموتى بالحوائج وكتب الرقاع فيها يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وأخذ تربتها تبركًا وإفاضة الطيب على القبور وشد الرحال إليها وإلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى، والويل عندهم لمن لم يُقَبِّل مشهد الكف ولم يتمسح بآجرة مسجد الملموسة يوم الأربعاء إلى ما ذكر.
وكذلك ما ذكره الطرطوشي وأبو شامة وينقل عن الطرطوشي قوله(2): «فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها ويرجون البرء والشفاء من قبلها ويضربون بها المسامير والخرق فهذه ذات أنواط فافهموها». أهـ.
ويحكي أبو شامة(3) عن تخليق الحيطان والعمد وسرج مواضع في كل بلد يحكي لهم حاكٍ أنه رأى في منامه بها أحدًا ممن شُهِر بالصلاح والولاية ثم يجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لها وهي ما بين عيون وشجر وحائط وحجر. إلى آخر كلامه.
وينقل عن ابن القيم قوله(4): «فما أسرع أهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان من دون الله ولو كانت ما كانت، ويقولون أن هذا الحجر، وهذه الشجرة، وهذه العين، تقبل النذر أي تقبل العبادة من دون الله، فإن النذر عبادة وقربة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له ويتمسحون بذلك النصب ويستلمونه». أهـ.
__________
(1) الدرر السنية، جـ1، ص 394.
(2) المصدر السابق، جـ1، ص 388.
(3) الدرر السنية، جـ1، ص 391.
(4) المصدر السابق، جـ1، ص 298.(1/106)
وكذلك ينقل عن الأذرعي(1): «... فإن معتقدهم أن لهذه الأماكن خصوصيات بأنفسها، ويرون أنها مما يدفع به البلاء ويستجلب به النعماء ويستشفى بالنذر من الأدواء، حتى أنهم ينذرون لبعض الأحجار لما قيل أنه جلس إليها أو استند إليها عبد صالح وينذرون لبعض القبور السرج والشموع والزيت، ويقولون القبر الفلاني، والمكان الفلاني يقبل النذر، يقصدون بذلك أنه يحصل بالنذر له الغرض المأمول من شفاء مريض وقدوم غائب أو سلامة مال وغير ذلك من أنواع نذر المجازاة» انتهى كلام الأذرعي.
ويحكي الشيخ عبد اللطيف(2) عن أهل نجد في عصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكيف أن عندهم نخل فحال تنتابه النساء والرجال، ويفعلون عنده أقبح الفعال، والمرأة إذا تأخر عنها الزواج ولم ترغب فيها الأزواج تذهب إليه فتضمه بيدها وتدعوه برجاء وابتهال، وتقول يا فحل الفحول أريد زوجًا قبل الحول، وشجرة تسمَّى الطرفية أغراهم الشيطان بها وأوحى إليهم التعلق عليها، وأنها ترجى منها البركة ويعلقون عليها الخرق لعل الولد يسلم من السوء. وحكى أيضًا عن عين ماء تسمَّى عين العافية بأحد بلاد أفريقية كانت العامة قد افتتنوا بها يأتونها من الآفاق من تعذر عليها نكاح أو ولد قالت امضوا بي إلى العافية. أهـ.
ويقول عن المتبركين عن الغلاه منهم(3): «وهؤلاء الغلاة المشركون إذا حصل له مطلبه ولو من كافر لم يقبل على الرسول، بل يطلب حاجته من حيث يظن أنها تقضى فيذهب إليه كما يذهب قوم إلى الكنيسة أو إلى مواضع يقال أنها تقبل النذر». أهـ.
__________
(1) المصدر السابق، جـ1، ص 302.
(2) المصدر السابق، جـ1، ص 379.
(3) الدرر السنية، جـ1، ص 403.(1/107)
ولنختم هذه النقطة بقول شيخ الإسلام ابن تيمية(1): «فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعًا من الإلهية مثل أن يقول يا سيدي فلان انصرني أو أغثني أو ارزقني أو أجرني أو أنا في حسبك، وكل هذه الأقوال فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل، فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده لا يجعل معه إلهًا آخر، والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تنزل المطر أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو صورهم يقولون: ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى (، ( وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ ( فبعث الله رسوله ينهى أن يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة». أهـ.
ويقول شيخ الإسلام في ”درء تعارض العقل والنقل“ بعد كلام(2): «ولهذا كان من أتباع هؤلاء ـ يعني المتكلمين ـ من يسجد للشمس والقمر والكواكب ويدعوها كما يدعو الله تعالى ويصوم لها ويتنسك لها ويتقرب إليها ثم يقول إن هذا ليس بشرك وإنما الشرك إذا اعتقدت أنها هي المدبرة لي، فإذا جعلتها سببًا أو واسطة لم أكن مشركًا. ومن المعلوم من دين الإسلام بالاضطرار أن هذا شرك ...» إلى آخر كلامه.
ويقول شيخ الإسلام ابن القيم: «ومن ذبح للشيطان ودعاه واستعاذ به وتقرب إليه بما يحب فقد عبده، وإن لم يسم ذلك عبادة، ويسميه استخدامًا وصدق وهو استخدام من الشيطان له».
بقيت نقطتان:
الأولى: الفرق بين التوسل الشرعي والشركي، والتبرك الشرعي والشركي.
النقطة الثانية: أمر الشرك كله واحد وكل نوع عليه دليل من القرآن.
أولاً: التوسل المشروع فهو:
1- التوسل والتوجه إلى الله سبحانه وتعالى بالأسماء والصفات.
2- التوسل بالأعمال الصالحة.
__________
(1) المصدر السابق، جـ1، ص 425.
(2) على هامش منهاج السنة، جـ1، ص 135، المكتبة العلمية، بيروت .(1/108)
3- التوسل بدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم في حياتهم.
4- التوسل إلى الله بإيماننا بالرسل ومحبتهم وطاعتهم.
أما التوسل بالذات(1) بعد الممات فلا دليل عليه، ولا قاله أحد من السلف، بل المنقول عنهم يناقض ذلك، ويستثنى من ذلك التوسل بذات النبي على قول ابن عبد السلام إن صح حديث الأعمى، ولا يجوز الإقسام على الله بالمخلوق عمومًا.
ثانيًا: التبرك:
يقطع الإمام الشاطبي(2) أن الصحابة لم يتبركوا بأحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويقول أن هذا يرجع لأحد أمرين: أحدهما: اعتقاد الاختصاص برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الثاني: سدًا لذريعة الشرك الأصغر والأكبر.
ويقول: وقد خرج ابن وهب في جامعه من حديث يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال حدثني رجل من الأنصار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا توضأ أو تنخم ابتدر من حوله من المسلمين وضوءه ونخامته فشربوه ومسحوا به جلودهم، فلما رآهم يصنعون ذلك سألهم لم تفعلون هذا؟ قالوا: نلتمس الطهور والبركة بذلك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كان منكم يحب أن يحبه الله ورسوله فليصدق الحديث وليؤد الأمانة ولا يؤذ جاره» فإذا صح هذا النقل فهو مُشعِر بأن الأولى تركه، وأن يتحرى ما هو الآكد والأحرى من وظائف التكليف، ولا يلزم الإنسان في خاصة نفسه ولم يثبت من ذلك كله إلا ما كان من قبيل الرقية وما يتبعها، أو دعاء الرجل لغيره. أهـ.
ونقول: ويجدر بنا ذكر بعض الضوابط إذا صح التبرك لمن بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
1- لا يتبرك بحائط ولا بحجر ـ باستثناء الحجر الأسود ـ ولا بشجر ولا عين ماء ولا بغيره.
2- أن لا يتبع الآثار.
3- لا يطلب من الأشياء المتبرك بها ما لا يقدر عليه إلا الله وفعل هذا شرك أعظم.
__________
(1) أي ذات الصالحين.
(2) الاعتصام، جـ2، ص 9-10، طبعة المكتبة التجارية الكبرى.(1/109)
4- لا يصرف للأشياء أو الأشخاص المتبرك بهم ما هو حق خالص لله كالذبح والنذر والدعاء بتفريج الكربات وقضاء الحاجات وسد الفاقات، وفعل هذا شرك أعظم.
5- لا يتخذ الأشياء المتبرك بها تمائم وتعاليق، وفعل هذا شرك أصغر.
6- ألا يتخذ الأشياء المتبرك بها وسيلة له عند الله ولا واسطة.
7- ألا تشد الرحال إلى تلك الأشياء.
8- ألا تتخذ هذه الأشياء للتبرك على وجه كلي وتوضع للناس ليقصدها العامة لذلك.
9- ألا يكون ذريعة لإخفاء الشرك الأعظم أو الأصغر.
10- ألا تكون ذريعة تفضي إلي الشرك الأصغر أو الأعظم.
11- ألا يعتمد عليها في ترك الأسباب لجهاد العدو وعمارة الأرض.
12- التبرك استعمال للشيء فيما يستعمل فيه ـ كماء زمزم ـ وليس توجهًا ولا طلبًا من الشيء أو توسلاً به أو إقسامًا به على الله .
13- حتى في الرقى فإن الاستغناء بالخالق عزَّ وجَلَّ عن غيره ترفعًا عن السؤال والأسباب أفضل «لا يَرْقُونَ وَلا يَسْتَرْقُونَ وَلا يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ»(1).
14- التبرك عاطفة وحب واحتفاظ أو استعمال لبعض متعلقات المحبوب في الله عزَّ وجلَّ، ولحب ما كان عليه من القيام بأمر الله، ولا يخرج عن هذا، وهو يرجو بركة حبه لهذا القائم بأمر الله.
النقطة الثانية: أدلة نفي العبادة وحكم من فعلها كائنة ما كانت المعبودات: دليل الشمس والقمر قوله تعالى: ( ومِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ والنَّهَارُ والشَّمْسُ والقَمَرُ لا تَسْجُدُوا للشَّمْسِ ولا للقَمَرِ واسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُم إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ((2).
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الإيمان.
(2) سورة فصلت، الآية: 37.(1/110)
ودليل الملائكة والجن قوله تعالى:( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلمَلائِكَةِ أهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُون َ( قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُّؤْمِنُونَ((1).
ودليل الأنبياء قوله تعالى: ( وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُم مُّسْلِمُونَ ((2).
ودليل الصالحين قوله تعالى:( قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً ((3).
ودليل الأشجار والأحجار قوله تعالى: ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى ( وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى ((4)، وحديث أبي واقد الليثي حديث ”ذات أنواط“.
ودليل الكواكب والنجوم قوله تعالى: { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِعْرَى } (5)، وقوله تعالى: ( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا ((6).
ولم يفرق الله سبحانه بين شرك النسك وشرك الولاء والمحبة فقال تعالى: ( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ ((7)، وقال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ ( لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ ((8).
__________
(1) سورة سبأ، الآيتان: 40-41.
(2) سورة آل عمران، الآية:80.
(3) سورة الإسراء، الآية: 56.
(4) سورة النجم، الآية: 20.
(5) سورة النجم، الآية: 49.
(6) سورة الأنعام، الآية: 76.
(7) سورة الأنعام، الآية: 14.
(8) سورة الأنعام، الآية: 162.(1/111)
وقد جمع الله سبحانه وتعالى بين مَن يُحل ما حرم الله ويُحرم ما أحل الله من الأحبار والرهبان ومن يقبل منهم ذلك، وبين شرك الاعتقاد والنسك في عيسى بن مريم - عليه السلام - فقال تعالى: ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّنْ دُونِ اللَّهِ وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ((1). وذلك أن قال تعالى: ( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِاليَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ((2).
والرسول قاتل جميع المشركين على كل صنوف الشرك محبةً أو طاعةً أو نسكًا لشتى أنواع المعبودات أو اعتقادًا، ولم يفرق بينهم والدليل قوله تعالى: ( وَ قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ويَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ((3).
الوجه الخامس والعشرون:
الدين ثلاثة مراتب وما تتحقق به مرتبة الإسلام.
المراتب الثلاث: إسلام، وإيمان، وإحسان.
أو الإيمان المجمل، والإيمان الواجب، والإيمان الكامل المستحب.
يقول ربنا - عز وجل -: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ ((4).
الإسلام أو الإيمان المجمل: يثبت بالتوحيد والخروج من ملل الكفر.
الإيمان الواجب: ما زاد على ذلك من عمل بفعل الواجب وترك المحرم، فعل المأمور كل المأمور وترك المحظور كل المحظور.
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 31.
(2) سورة التوبة، الآية: 29.
(3) سورة الأنفال، الآية: 39.
(4) سورة فاطر، الآية: 32.(1/112)
الإحسان: ما زاد على ذلك من عمل بفعل المندوب وترك المكروه، والتوغل في التطوعات والقربات، والمسارعة إلى فعل الخيرات.
وعند مناقشة قضية الإيمان بين الإفراط والتفريط ينبغي أولاً تحديد هل نحن نتكلم عن الأحكام أم عن تكليف شرعي بالإيمان؟ وإذا كان عن تكليف شرعي، فعن أي مرتبة نتكلم؟ عن أصل الإيمان أي عن الإيمان المجمل الذي يثبت بالتوحيد والخروج من ملل الكفر؟ أم عن الإيمان الواجب؟ أو عن الإيمان الكامل المستحب؟.
أما عن الشكل العملي الذي تتحقق به مرتبة الإسلام، وإن قلنا أنها توحيد الألوهية المتضمن والمستلزم لتوحيد الربوبية كتعريف فهي تتحقق عمليًا بما يلي:
في جانب الإثبات:
المعرفة التي ينبني عليها الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره إقرارًا واعتقادًا.
التزام شريعة الإسلام جملة وعلى الغيب(1).
التزام ولاية الإسلام.
فالمنافق لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ـ وهذا من النواقض المكفرة للتوحيد في الولاء ـ وغير الملتزم بولاية الإسلام هو التارك لدينه المفارق للجماعة، وترك هذا النفاق يوجب الانحياز إلى المؤمنين «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَيُرَدُّ عَلَى أَقْصَاهُمْ»(2)، والمسلم من يحب الله، ويحب في الله، والمشرك يحب الله ويحب مع الله، والكافر من لا يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
في جانب النفي: ترك الشرك بنوعيه: في الاعتقاد وفي العبادة.
__________
(1) وهو: تحقيق العبودية لله بقبول شرعه ورفض ما سواه، ومعناه قبول الأحكام وهو غير الدخول في الأعمال.
(2) سنن ابن ماجه، كتاب الديات وصححه الامام الالبانى.(1/113)
ويدخل في هذا الإثبات وهذا النفي: القول والعمل والظاهر والباطن. والعمل يرجع إلى قاعدة ترك العمل عمل، وإلى قاعدة أن الالتزام عمل، والالتزام قبل أن يتعين على المسلم إقامة الدولة لإقامة الشريعة، فإذا تعين إقامة الشرع فمن نكص فقد نكث، وذلك من قول الله - عز وجل -: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ((1)، وإذا تعين إقامة الكيان لتحقيق الولاء والنصرة للدين، فمن نكص فقد نكث وذلك من قول الله - عز وجل -: ( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ((2).
الوجه السادس والعشرون: تغير الدلالات بتغير الاستعمالات للفْظَي الإسلام والإيمان:
أولاً: الإسلام يُعَرَّف بحقيقته ويُعَرَّف بمتعلقاته:
الإسلام يُعَرَّف بحقيقته:
في قول الله - عز وجل -: ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ ((3).
وفي قوله - عز وجل -: ( وَمَن يَّبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُّقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِين ((4).
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 68.
(2) سورة التوبة، الآية: 24.
(3) سورة آل عمران، الآية: 19.
(4) سورة آل عمران، الآية: 85.(1/114)
وفي قوله - عز وجل -: ( وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ((1).
وفي قوله تبارك وتعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ((2).
وفي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلا نَفْسٌ مُسْلِمَة»(3).
ويُعَرَّف بمتعلقاته:
في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»(4).
ويُعَرَّف بحقيقته ومتعلقاته:
في حديث جبريل، وحديث ابن عمر، وخالد بن معدان: «للإسلام صوًى ومنارًا كمنار الطريق من ذلك أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا»(5)، إلى آخر الحديث.
وتعريف الإسلام بحقيقته له حدان:
فالإسلام يُعَرَّف بما يتسع به الاسم لمسمَّاه وحقيقة الإسلام هي:
توحيد(6) الألوهية المستلزم والمتضمن لتوحيد الربوبية، وهذا التوحيد يتفاضل فيه الناس تفاضلاً عظيمًا.
والإسلام يُعَرَّف بأقل ما ينطبق به الاسم على مسمَّاه، وهو الحد الفاصل بين الإيمان والكفر وهو:
ترك الشرك الأعظم بنوعيه: شرك الاعتقاد وشرك العبادة، ولا ينتفي الشرك إلا بالتوحيد.
* فلابد من أقل قدر من العلم يكفي لنفي الجهالة.
* وأقل قدر من اليقين يكفي لنفي الشك.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 132.
(2) سورة آل عمران، الآية: 102.
(3) صحيح مسلم.
(4) صحيح البخاري، كتاب الإيمان.
(5) سلسلة الاحاديث الصحيحة لللالبانى،ج1،ص651.
(6) نؤكّد على الفرق بين حقيقة الإسلام، وحكم الإسلام، وأوضاع الردة:
? حقيقة الإسلام: هي توحيد الألوهية المستلزم والمتضمن لتوحيد الربوبية كالمذكور أعلاه.
? إثبات حكم الإسلام يكون: بالنص، الدلالة، التبعية.
? إثبات أوضاع الردة سيتم الإشارة إليها في أوضاع المعين ص96.(1/115)
* وأقل قدر من الصدق يكفي لنفي النفاق.
* وأقل قدر من الإخلاص يكفي لنفي الشرك.
* وأقل قدر من القبول يكفي لنفي الرد.
* وأقل قدر من الانقياد يكفي لنفي الترك.
* وأقل قدر من المحبة يكفي لنفي ما يضادها من المحادة والمعاداة فالنفي يستلزم الإثبات.
ثانيًا: تعريف الإيمان:
يُعَرَّف الإيمان بحقيقته: كما في حديث جبريل(1) - عليه السلام -.
ويُعَرَّف بحقيقته ومتعلقاته: كما في قول الله - عز وجل -: ( وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ ( فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ((2).
وهذا هو الإيمان الذي قال عنه الفقهاء أنه قول وعمل يزيد وينقص، فمن الإيمان ما يقابل الكفر، ومن الإيمان ما يقابل الفسوق، ومن الإيمان ما يقابل العصيان، أصل الإيمان وهو حقيقته وشعب الإيمان وهي متعلقاته.
ويُعرَّف الإيمان بمتعلقاته: «الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ»(3).
ثالثًا: علاقة الإيمان بالإسلام في تعريفهما بمتعلقاتهما:
__________
(1) للدلالة على صفة الإيمان والدين بالمطابقة، وعلى صفة الإسلام باللزوم. وحقيقة الإيمان هي حقيقة الإسلام وهي: توحيد الربوبية المستلزم والمتضمن لتوحيد الإلوهية.
(2) سورة الحجرات، الآيتان: 7-8.
(3) صحيح ابن حبان، ج1،ص106.(1/116)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية(1): «وأما إذا قُيِدَ الإيمان فقُرِنَ بالإسلام أو بالعمل الصالح، فإنه قد يراد به ما في القلب من الإيمان باتفاق الناس، وهل يراد به أيضًا المعطوف عليه ويكون من باب عطف الخاص على العام، أو لا يكون حين الاقتران داخلاً في مسمَّاه، بل يكون لازمًا له على مذهب أهل السنة أو لا يكون بعضًا ولا لازمًا هذا فيه أقوال ثلاثة للناس ـ كما سيأتي إن شاء الله تعالى ـ وهذا موجود في حالة الأسماء، فيتنوع مسمَّاها بالإطلاق والتقييد، ومثال ذلك اسم المعروف والمنكر إذا أطلق دخل في المعروف كل خير وفي المنكر كل شر، ثم قد يقترن بما هو أخص منه كقوله تعالى: ( لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ ((2)، فغاير بين المعروف وبين الصدقة والإصلاح بين الناس كما غاير بين اسم الإيمان والعمل واسم الإيمان والإسلام، وفي قوله تعالى: ( اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ((3)، وقوله - عز وجل -: ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ( (4) فعطف قولهم على الإيمان كما عطف القول السديد على التقوى ومعلوم أن التقوى إذا أطلقت دخل فيها القول السديد كذلك الإيمان إذا أطلق دخل فيه السمع والطاعة لله والرسول، وكذلك قوله - عز وجل -: ( آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهَِ ((5)، وقوله - عز وجل -: ( كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ
__________
(1) كتاب الإيمان، ص 123.
(2) سورة النساء، الآية: 114.
(3) سورة الأحزاب، الآية: 70.
(4) سورة البقرة، الآية: 285.
(5) سورة الحديد، الآية: 7.(1/117)
وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ((1). وإذا أطلق الإيمان بالله دخل فيه الإيمان بتلك التوابع.
وكذلك لفظ البر إذا أطلق كان مسمَّاه مسمَّى التقوى، والتقوى إذا أطلقت كان مسمَّاها مسمَّى البر، ثم يجمع بينهما كما في قوله تعالى: ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى( (2) وكذلك اسم الفقير إذا أطلق دخل فيه المسكين، والمسكين إذا أطلق لفظه تناول الفقير، وإذا قرن بينهما فأحدهما غير الآخر، فالأول كقوله - عز وجل -: ( وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ( (3)، وكقوله - عز وجل -: ( فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ((4)، والثاني كقوله تعالى: ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا((5). وهذه الأسماء تختلف دلالتها بالإطلاق والتقييد والتجريد والاقتران، تارة تكون إن أفرد أحدها كان أعم من ذلك الآخر كاسم الإيمان والمعروف مع العمل ومع الصدقة، والمنكر مع الفحشاء والبغي، وتارة يكونان متساويين في العموم والخصوص كلفظ الإيمان والبر ولفظ الفقير والمسكين، وعطف الشيء على الشيء في القرآن وسائر الكلام يقتضي مغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه مع اشتراك المعطوف عليه في الحكم الذي ذكر لهما، والمغايرة على مراتب: أعلاها أن يكونا متباينين ليس أحدهما هو الآخر، ولا جزء منه، ولا يعرف لزوم له كقوله تعالى: ( خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ ((6)، وقوله - عز وجل -: ( وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ((7)، ويليه أن يكون بينهما لزوم كقوله - عز وجل -: ( وَلاَ تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ((8)
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 285.
(2) سورة المائدة، الآية: 2.
(3) سورة البقرة، الآية: 271.
(4) سورة المائدة، الآية: 89.
(5) سورة التوبة، الآية: 60.
(6) سورة العنكبوت، الآية: 44.
(7) سورة البقرة، الآية: 98.
(8) سورة البقرة، الآية: 42.(1/118)
، والثالث عطف بعض الشيء على الشيء نفسه كقوله - عز وجل -: ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى ((1)، والرابع عطف الشيء على الشيء نفسه لاختلاف الصفتين كقوله - عز وجل -: ( سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى ( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ( وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ( وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى ((2)». أهـ.
والإسلام مع الإيمان عند الاقتران يكونان على عدة أوضاع:
الوضع الأول: أن يكون الإسلام جزء مسمَّى الإيمان، فيكون الإيمان أشمل، كقوله - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام: «طِيبُ الْكَلامِ وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ»(3)، وعن الإيمان أنه قال- صلى الله عليه وسلم -: «الصَّبْرُ وَالسَّمَاحَةُ»(4)، والسماحة والصبر أشمل من حيث المعنى.
الوضع الثاني: أن يكون الإيمان جزء مسمَّى الإسلام، فيكون الإسلام أشمل وذلك كما في قوله تعالى: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإسْلاَمَ دِينًا ((5).
والإيمان كما في حديث جبريل عليه السلام «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْقَدَرِ كُلِّهِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»(6).
وفي الحديث، قال: «فأيُّ الإسلام أفضل؟ قال - عليه السلام -: الإيمان. قال: وما الإيمان؟ قال - عليه السلام -: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالبعث بعد الموت» إلى آخر الحديث. رواه أحمد من حديث أيوب عن أبي قلابة عن رجل من أهل الشام عن أبيه.
الوضع الثالث: أن يكون الإيمان والإسلام قسيمين وذلك على ضربين:
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 238.
(2) سورة الأعلى، آيات: 1-4.
(3) صحيح ابن حبان،ج2،ص257.
(4) مسند الامام أحمد.
(5) سورة المائدة، الآية: 3.
(6) سنن النسائي، كتاب الإيمان وشرائعه.(1/119)
الضرب الأول: الإسلام عمل باطن وظاهر، والإيمان قول باطن وظاهر «خمس منها أمرتنا بها رسلك أن نؤمن بها وخمس أمرتنا أن نعمل بها »(1).
الضرب الثاني: الإسلام ظاهر قول وعمل، والإيمان باطن قول وعمل «الإسلام علانية والإيمان في القلب»(2) وفي لفظ «الإيمان سر».
الوضع الرابع: أن يكون الإسلام لازمًا للإيمان والإيمان لازمًا للإسلام(3).
الوضع الخامس: تقسيم المراتب: ( قَالَتْ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا((4)، وقول الإمام أحمد في تفسيره لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ»(5)، خرج من الإيمان إلى الإسلام ورسم دائرتين وقال خرج من هذه إلى تلك، وقول الله - عز وجل -: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ((6). فالمسلمون أعمّ من المؤمنين، والمؤمنون أعمّ من المحسنين. والإحسان أعمّ من الإيمان، والإيمان أعمّ من الإسلام، والإسلام يثبت بالتوحيد والخروج من ملل الكفر، والإيمان ما زاد على ذلك من عمل بفعل الواجب وترك المحرم، والإحسان ما يزيد على ذلك بفعل المندوب وترك المكروه والتوغل في التطوعات والمسارعة إلى الخيرات.
__________
(1) الحديث بطوله في كتاب زاد المعاد لأبن القيم، جـ2، ص 54، المطبعة المصرية .
(2) مسند الامام أحمد.
(3) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (.
(4) سورة الحجرات، الآية: 14.
(5) صحيح البخارى.
(6) سورة فاطر، الآية: 32.(1/120)
الوضع السادس: أن يكون الإسلام والإيمان صفتين متلازمتين لموصوف واحد هو الدين(1).
يقول شيخ الإسلام(2): «ومن جهة أنه إذا وصف الواجب بصفات متلازمة دل على أن كل صفة من تلك الصفات متى ظهرت وجب اتباعها وهذا مثل الصراط المستقيم الذي أمر الله سؤال هدايته، فإنه قد وصف بأنه الإسلام، ووصف بأنه اتباع القرآن، ووصف بأنه طاعة الله ورسوله، ووصف بأنه طريق العبودية، ومعلوم أن كل اسم من هذه الأسماء يجب اتباع مسمَّاه، ومسمَّاها كلها واحد وإن تنوعت صفاته، فأي صفة ظهرت وجب اتباع مدلولها فإنه مدلول الأخرى، وكذلك أسماء الله تعالى وأسماء كتابه وأسماء رسوله وهي مثل أسماء دينه». أهـ.
__________
(1) قال تعالى: ( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ... (.
(2) كتاب الإيمان، ص 34.(1/121)
ويقول (1): «”فصل“، وهذا النوع من نمط أسماء الله وأسماء كتابه وأسماء دينه قال تعالى: ( قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ((2)، وقال تعالى: ( وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ((3)، وقال - عز وجل -: ( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ( (4). فأسماؤه الحسنى كلها متفقة في الدلالة على نفسه المقدسة، ثم كل اسم يدل على معنى من صفاته ليس هو المعني الذي دلَّ عليه الاسم الآخر، فالعزيز يدل على نفسه مع عزته، والخالق يدل على نفسه مع خلقه، والرحيم يدل على نفسه مع رحمته، ونفسه تستلزم جميع صفاته، فصار كل اسم يدل على ذاته والصفة المختصة به بطريق المطابقة وعلي أحدهما بطريق التضمن وعلي الصفة الأخرى بطريق اللزوم. وهكذا أسماء كتابه، القرآن والفرقان والهدى والبيان والشفاء والنور وغير ذلك هي بهذه المنزلة.
__________
(1) كتاب الإيمان، ص 140.
(2) سورة الإسراء، الآية: 110.
(3) سورة الأعراف، الآية: 180.
(4) سورة الحشر، الآيات: 22-24.(1/122)
إلى أن يقول: وهكذا أسماء دينه الذي أمر الله به رسوله يسمى إيمانًا وبرًا وتقوى وخيرًا ودينًا وعملاً صالحًا وصراطًا مستقيمًا ونحو ذلك وهو في نفسه واحد لكن كل اسم يدل على صفة ليست هي الصفة التي يدل عليها الآخر، وتكون تلك الصفة هي الأصل في اللفظ والباقي تابعًا لها ثم صارت دالة عليها بالتضمن(1)». أهـ.
الوجه السابع والعشرون: ضوابط الأحكام ومقاصد الشريعة وأهداف العمل الإسلامي.
ويراعى يا بُنَيَّ في ضوابط الأحكام ثلاثة أمور:
الأمر الأول: وضع ديار المسلمين التي تحكمها أنظمة تفصل الدين عن الدولة، وتقوم بتنحية الشريعة عن الحياة، وإهدار اعتبار الشرع جملة في القوانين والقضاء على مستوى السلطات الثلاث تشريعية وقضائية وتنفيذية بإسقاط حاكمية الشريعة تبعًا للنظام العلماني، وهذه الأنظمة تتحقق فيها الرغبة عن شرع الله إلى غيره، أو العدل به غيره، وتحريم الحلال وتحليل الحرام، والرغبة عن ولاية الإسلام إلى غيرها، وإمكان ولاية الكافرين من اليهود والنصارى وغيرهم.
هذه الديار في ظل هذه الأنظمة يقال عنها: ديارٌ مُرَكَّبة.
ومعنى ديارٌ مُرَكَّبة: أن لها صورة أو وصف الكفر، وحكم الإسلام.
وصورة أو وصف الكفر(2) يأتي من علو أحكام الكفر على الديار.
كما أن وصف الردة عن الشرائع دون الردة عن أصل الدين أو الردة إلى بدعة مكفِّرة يأتي من:
1- كون الإسلام سابق والردة عن الشرائع لاحقة.
2- الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه.
3- بقاء التبعة الإسلامية بالرغم من وجود ظواهر الشرك، وتفشي قيم الجاهلية.
4- ادعاء الإسلام.
وهذه الأوصاف تبقى الدار واجبة الاسترداد.
__________
(1) فالإيمان يدل على الدين وصفة الطمأنينة والإقرار بالمطابقة وعلى أحدهما بالتضمن وعلى صفة الاستسلام باللزوم، والإسلام يدل على الدين وصفة الاستسلام بالمطابقة وعلى أحدهما بالتضمن وعلى صفة الأمن والإقرار باللزوم.
(2) وهو كفر ردة عن الشرائع.(1/123)
أما حكم الإسلام فيرجع إلى بقاء التبعية، ويرجع بقاء التبعية إلى الأسباب التالية:
لا يثبت الكفر بالاسم الظاهر أو الشارة الظاهرة، بحيث يغني الاسم عن المسمَّى، بل لابد للحكم به من الاطلاع على البواطن، والوقوف على المقاصد للمعين.
الذين دخلوا في ظواهر الكفر والشرك والردة غير ممكنين من توريث أبنائهم ما هم عليه.
أمر التابع غير أمر المتبوع.
لا يوجد تميز فسطاطات، ولا تميز انتساب بين أهل الكفر وأهل الإيمان، وأمر الناس ملتبس مختلط، فهم أخلاط شتَّى غير متميزة عن بعضها وغير متباينة.
وبقاء التبعية لهذه الأسباب يترتب عليه: أن الأصل في الناس الإسلام، فيأخذ حكم الإسلام الصغيرُ بتبعية والديه أو أفضلهما دينًا، واللقيط بتبعية الدار، ومعنى هذا أنه لا تكفير بالعموم، ولا توقف في العموم.
فإياك يا بُنَيَّ أن تكفِّر بالعموم أو تتوقف في العموم، وإن سقطت شرعية الأنظمة، ووجب تعريتها، وسقط عنها الولاء، وقامت شرعيات بديلة عنها. «فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ»(1).
الأمر الثاني: أوضاع المعين:
1- مَن أتى بأقوالٍ أو أفعالٍ أو اعتقاداتٍ ليست بعينها مكفرة، ولكن مآلاتها ولوازمها مكفرة، فهنا لابد من استيفاء الشروط وانتفاء الموانع، فهذا يتهم بالردة ولا يدان بها إلا بعد استيفاء الشروط وانتفاء الموانع.
2- مَن أتى بأقوالٍ أو أفعالٍ أو اعتقاداتٍ هي بعينها مكفرة، ولكنها تحتمل وجهًا آخر غير الكفر لسبب أو لآخر من عوارض الأهلية أو غير ذلك، فهذا أيضًا يتهم ولا يدان إلا بعد استيفاء الشروط وانتفاء الموانع، يقال هذه ردة فإن تاب صاحبها وإلا قتل مرتدًا كافرًا.
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الإمارة.(1/124)
3- مَن أتى بأقوالٍ أو أفعالٍ أو اعتقاداتٍ هي بعينها مكفرة ولا تحتمل وجهًا آخر غير الكفر، فهذا يدان بالكفر قبل الاستتابة ويستتاب للقتل، يقال هذا مرتد كافر يستتاب وإلا قتل مرتدًا كافرًا.
4- مَن أتى بأقوالٍ أو أفعالٍ أو اعتقاداتٍ هي بعينها مكفرة ولا تحتمل وجهًا آخر غير الكفر، ولا تقبل التوبة، وذلك كالردة المغلظة بالحرابة، أو الطعن في الدين، أو سبّ الرسول، أو تغلظت بنفاق يتترس به صاحبه ويتخذه جنة يحارب من ورائها الدين وهي حالة الزندقة. فهذا يدان بالكفر، ولا يستتاب، ولا تقبل له توبة، ويقتل مرتدًا كافرًا.
5- مَن ثبت كفره بالانتساب، وهي حالة ظهور الكفر في الدار والطائفة وشدة التصاقه بها التصاقًا تغيرت معه التبعية، فهنا يكون الكفر حكميًا للصغير واللقيط والمجنون بتبعية الدار أو الطائفة.
6- التصاق الكفر بالدار أو الطائفة دون أن يصل إلى تغير التبعية، ويكون أمر التابع غير أمر المتبوع، فهذا يتهم ولا يدان إلا بعد استيفاء الشروط وانتفاء الموانع.
7- وجود ظواهر الشرك والردة بالدار دون أن تصل إلى شدة الالتصاق أو تغيُّر التبعية، وهنا لا يتهم أحد ولا يدان، ولكن يُستبرأ للدين والعرض، ويُستصحب حكم الإسلام للصغير واللقيط والمجنون ومجهول الحال.
وبالنسبة للطائفة شديدة الالتصاق بالكفر داخل دار الردة عن الشرائع، فهذه الحكم فيها يحكم بكفرها جملة، ولا يحكم على معين فيها بكفر إذا كان في أمره خفاء يتطلب استيفاء الشروط وانتفاء الموانع في حقه، ولكن يعامل على ما عليه فئته، ويُستَحَل منه ما يستحل منها، ونَكِل أمره إلى الله، وأما من كان كفره بواحًا داخل طائفة أو خارجها فهذا لا حرج من تكفيره، ولا يصح تكفير المعين ما لم يكن كفره بواحًا، أو يصدر الحكم بكفره من جهة شرعية، أو بعد إقامة البينة عليه التي يعلمه بها الخاص والعام من أهل الحق.(1/125)
الأمر الثالث: ما يترتب على هذه الأحكام من فقه الدعوة والحركة بالضوابط الشرعية الدقيقة مناطات ومآلات:
ثبوت وصف الانحياش: لأن الكثير من الناس في هذه المجتمعات لا يستطيع أو لا يعرف كيف يعبر عن كرهه وإنكاره لمخاطبه من الأنظمة العلمانية بشرع غير شرع الله، ولأن الناس أخلاطٌ شتى بين من رضي وتابع، ورغب عن شرع الله إلى غيره، أو عدل بشرع الله غيره، وبين من كره وأنكر، ولأن المواقف غير متميزة بتميز ومباينة واضحة بين الفسطاطات أو الانتسابات، فإن ذلك كله أدخل سترًا على الداخلين في ظواهر الرضا والمتابعة، أو الداخلين في ظواهر الشرك والردة، جعل حالهم أشبه شيء بحال الفرق المنحرفة عن الصراط المستقيم، والمبتدعة في أصول كلية من الدين، وهذا الستر في الحالتين هو الذي يعطي هذه التجمعات أو الطوائف وصف الانحياش إلى الأمة حتى مع ثبوت وصف الردة في الآخرة، وهذا مأخوذ من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما خرج إلى المقبرة فقال: «السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقُونَ، وَدِدْتُ أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ إِخْوَانَنَا. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْنَا بِإِخْوَانِكَ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ. فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ يَأْتِي بَعْدَكَ مِنْ أُمَّتِكَ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ فِي خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ، أَلا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ الْوُضُوءِ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ، فَليذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، أُنَادِيهِمْ أَلا هَلُمَّ أَلا هَلُمَّ أَلا(1/126)
هَلُمَّ. فَيُقَالُ إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ فَسُحْقًا فَسُحْقًا فَسُحْقًا»(1).
يقول الإمام الشاطبي بعد ذكر هذا الحديث(2): «ولا علينا أقُلنا إنهم خرجوا ببدعتهم عن الأمة أو لا، إذ أثبتنا لهم وصف الانحياش إليها».
أقول: إنَّ وصف الانحياش قد يثبت مع وصف الردة، ولكل وصف مقتضياته، فثبوت وصف الانحياش راجع إلى بقاء التبعية، وإلى حالة الالتباس والستر الناتج عنها، ويترتب على وصف الانحياش الثابت لهذه المجتمعات دخولهم في المقاصد الشرعية لحفظ الأمة في حالة الانحراف والالتباس. وعظم البلوى بالفرق، والشيع، والأهواء، والضلالات، وخفاء العلم، وغربة الحق، وهذه المقاصد هي:
* إرخاء الستر.
* انتظار الفيء.
* طلب المؤالفة.
وهذه المقاصد دلَّ عليها عدم تعيين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للفِرَقْ الضالة، واكتفائه بتعيينه فرقة النجاة وهي ما هو عليه وأصحابه أو الجماعة كما قال صلى الله عليه وسلم، وقد تكلم فيها بالتفصيل والبيان الإمام الشاطبي في ”الموافقات“، و”الاعتصام“.
وهذه المقاصد بالنسبة لواقعنا المعاصر تقتضي التأني في الحكم بالتكفير أو المفاصلة على هذه المجتمعات لاستفاضة البلاغ حتى لا يخفى الحق على أحد، ولإحياء الأمة بدلاً من مباينتها واعتزالها، لإخراج أمة مرة ثانية من الشتات والضياع إلى كونها خير أمة أخرجت للناس.
__________
(1) موطأ الإمام مالك، كتاب الطهارة.
(2) الاعتصام، جـ 2، ص205.(1/127)
ومع ثبوت وصف الانحياش للمجتمعات العلمانية، فقد ثبت وصف الغربة لأهل الحق، وهي غربة يُخشى منها انقطاع الإسلام بالإسراع إلى المفاصلة والاعتزال قبل طلب المؤالفة والإحياء، وإخراج الأمة إخراجًا ثانيًا من حالة الاغتراب وظواهر الشرك، لذا فأهل الحق في حالة ضعف وانكسار الآن، وليسوا في حالة عز واستكبار، وإذا كان الأمر كذلك فالأمر كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ”الصارم المسلول“ في شأن المنافقين: «أن المصلحة الشرعية تقتضي عندما يكون الإسلام في حال ضعف وانكسار أن يعاملهم بقول الله عزَّ وجَلَّ: ( وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ((1)، وهذه المصلحة الشرعية هي التي اقتضت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يترك إقامة البينات عليهم حتى لا تثبت عليهم الردة، فيقيم عليهم أحكامها فينفر الناس عن الإسلام لظنهم أنه يقتل قومًا استنصر بهم حتى إذا ظهر بهم جعل يقتل فيهم.
وقال شيخ الإسلام(2): أنه إذا كان للإسلام عز وتمكين واستعلاء وظهور، فإنه ينبغي العمل حينئذ بقول الله عزَّ وجَلَّ: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ((3)، وأن الحكمين باقيان، ولكل حكم مناسبته، وقد يعمل بهما في زمان واحد في مكانين مختلفين حسب الاستضعاف أو الظهور في كل مكان منهما».
ولهذا الاعتبار يا بُنَيَّ أيضًا ينبغي التأني والصبر حتى تتم عملية إحياء الأمة، وإخراج الأمة خير أمة أخرجت للناس كما أخرجت أول مرة على يدي محمد - صلى الله عليه وسلم -. فهما اعتباران يتطلبان الإحياء: الانحياش الثابت(4) لهم والاستضعاف والغربة الثابتة لنا.
وهناك اعتباران آخران هما:
__________
(1) سورة الأحزاب، الآية: 48.
(2) الصارم المسلول، ص312 بتصرف يسير.
(3) سورة التوبة، الآية: 73.
(4) المقصود بالثبوت هو قيام الوصف، وليس المقصود استقراره.(1/128)
أولاً: عدم التحيز والمباينة والتميز لأهل الحق، ولا تميز بين الفسطاطين أمكن بحكم الظروف المعاصرة.
ثانيًا: الوعد بالظهور الثاني للإسلام الذي تدل عليه الآيات والأحاديث الكثيرة، مما يقتضي تركيز الجهد في الإحياء والبعث والبحث عن سبيل إخراج الأمة وتمكينها لمواجهة أعدائها التقليديين من الصليبية والصهيونية والإلحاد والوثنية، فسبيلنا أن نظهر بهم لا أن نظهر عليهم أو نباينهم فرارًا بديننا من الفتن ويأسًا من التمكين.
وهذه المقاصد الشرعية لا تتعارض مع قوله - عز وجل -: ( وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ((1).
* فلابد من استبانة سبيل المجرمين من سبيل المؤمنين.
* ولابد من تصحيح المفاهيم، والصدع بالحق، وبيانه للناس، وعدم تلبيسه بالباطل أو كتمانه.
* ولابد من رفع الالتباس بين سبيل وسبيل، بين العلمانية والإسلامية رفعًا كاملاً.
* ولا بد من رفع الالتباس بين المفاهيم والتوجهات الإسلامية الصحيحة والباطلة (لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ((2) .
* ولا بد من مواجهة أهل الكفر البواح، وأصحاب الخندق الآخر الذين يصدون عن سبيل الله، ويبغونها عوجًا، وتعرية الباطل، وإسقاط اللافتات الكاذبة التي يتترس بها في حربه الإسلام.
هذا كله شيء وتحقيق هذه المقاصد من: إرخاء الستر، وانتظار الفيء، وطلب المؤالفة، والصبر على الإحياء والبعث والإخراج والتمكين حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله شيء آخر، والجمع بين النوعين من المقاصد من أوجب الواجبات.
أما عن أهداف العمل الإسلامي فهي:
أولاً: تصحيح المفاهيم.
ثانيًا: إحياء الأمة.
ثالثًا: فتح الملفات:
لإزالة الألغام من أمام العمل الإسلامي، وحل المغاليق الاستراتيجية، حتى لا تكون حركته في طريق مسدود أو حركة في المحل لا تستهدف أهدافًا وغايات استراتيجية ممكنة التحقيق.
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 55.
(2) سورة الأنفال، الآية: 42.(1/129)
اكتساب الخبرة، ومعايشة الأحداث.
رابعًا: اجتياز الهوة الحضارية علميًا وتقنيًا وإداريًا واقتصاديًا واستراتيجيًا... إلى آخره، على جميع الأصعدة.
خامسًا: الخروج بالأمة من هيمنة الأنظمة العلمانية.
سادسًا: إيجاد المشروع الحضاري الإسلامي والخروج بالإسلام دوليًا من هيمنة الصليبية الدولية والصهيونية الدولية.
سابعًا: العودة إلى الإسلام الصحيح كشرعيات مستقرة ـ وليس كشرعيات ضرورة(1) ـ خلافة راشدة على منهاج النبوة.
وتذكر دائمًا يا بُنَيَّ الفرق بين الإيمان والإسلام كتكليف شرعي وهو توحيد الألوهية المتضمن والمستلزم لتوحيد الربوبية، وبين حكم الإسلام أو حكم الإيمان الظاهر وهو يعرف بالنص أو التبعية أو الدلالة كما سبق أن وضحت لك مرارًا.
الوجه الثامن والعشرون: الإيمان بين الإفراط والتفريط:
الإفراط هو الغلو وذلك يكون:
1- التكفير بالمعصية.
2- التكفير بالإصرار، وارتكاب الكبيرة.
3- عدم التفريق بين الشرك الأعظم والشرك الأصغر والشرك الخفي، وعدم التفريق بين الكفر الناقل عن الملة وكفر دون كفر، وعدم التفريق بين النفاق الخالص وشعبة من النفاق، وبين نفي أصل الإيمان ونفي الوجوب والكمال، وعمومًا عدم التفريق بين ما ينقل عن الملة وما لا ينقل في استعمالات الألفاظ الدالة على هذا أو ذاك.
4- توسيع المناطات لعدم مراعاة الضوابط السابق ذكرها.
5- عدم الاعتبار الكافي لعوارض الأهلية.
6- التكفير بالعموم.
7- التوقف في العموم.
8- عدم فهم أوضاع الديار، والفرق بين إثبات ظواهر الشرك والردة عن الشرائع وقيم الجاهلية وأوضاع الالتباس وأوضاع الاندراس، وبين أحكام المعينين.
9- عدم مراعاة مقاصد الشريعة في الأحكام.
أما التكفير بترك بعض المباني، كالصلاة أو الصوم أو الحج فهو من أقوال بعض أهل السنة. والذي أجمعوا عليه هو كفر تارك التوحيد.
أما التفريط فهو الإرجاء:
__________
(1) شرعيات التَغَلُب.(1/130)
والإرجاء إما أن يكون في الإيمان الواجب والإيمان الكامل المستحب.
وإما أن يكون في مرتبة الإسلام أو أصل الدين أو أصل الإيمان أو الإيمان المجمل تعبيرات متنوعة عن شيء واحد هو أصل الدين.
والإرجاء في الوجوب والكمال من الإيمان يكون من وجهين:
الوجه الأول: عدم تسمية الأعمال إيمانًا مع إثبات الثواب والعقاب وهو في الحقيقة خلاف لفظي وإن ترك أثره في السلوكيات.
الوجه الثاني: التوقف في نفوذ الوعيد في أهل القبلة.
والحجة قائمة عليهم بتسمية الصلاة إيمانًا في قوله تعالى: ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ((1) وما لا ينحصر من الأدلة خلاف ذلك اتضح من خلال ما ذكرناه.
كما أن الحجة قائمة عليهم وعلى الخوارج بالأحاديث المتواترة في دخول بعض أهل الملة النار وخروجهم منها، فمن قال لا يدخلون أو تشكك في ذلك أو جعله تحت المشيئة(2) فالحجة قائمة عليه بإثبات الدخول، ومن قال لا يخرجون، فالحجة قائمة عليه بإثبات الخروج.
أما عن الإرجاء في أصل الدين أو أصل الإيمان فذلك على محاور:
المحور الأول: الإرجاء التقليدي القديم وهو القول بأن أصل الإيمان هو:
1- تصديق الخبر باللسان فقط.
2- تصديق الخبر بالقلب فقط.
3- بهما معًا.
وقد أوضحنا بطلان هذه الأقوال.
المحور الثاني: إطلاق أقوال تشبه في ظاهرها أقوال أهل السنة ويتم تفسيرها لما هو في الحقيقة إرجاء على بعض أنماط المحور الأول.
وذلك مثل قول:
إن الإيمان قول وعمل، ويقصد الإيمان المطلق وليس أصل الإيمان، ثم يفسر ذلك بأن العمل(3) شرط كمال وليس شرط صحة.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 143.
(2) لهم جميعًا.
(3) وهذا الكلام صحيح للإيمان الواجب والكامل، ولكن الخطأ بأنه لا يُثْبِت العمل في الأصل الذي هو شرط صحة فيه كما سبق.(1/131)
إن الإيمان يزيد وينقص وهو قول صحيح، ولكن يتم تفسيره بأنه ينقص حتى لا يبقى منه شيء ويقصد أصل الإيمان، فيكون معنى ذلك أن الإسلام يثبت لمجرد الانتساب وإن ارتكب الشرك الأعظم.
إن الإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالأركان، ثم يفسره بأنه إذا نقض العمل فهو فاسق، وإذا نقض التصديق فهو منافق، وإن نقض القول فهو كافر، فيصير إلى قول الكرامية الذين يثبتون الإيمان على أنه: تصديق الخبر باللسان فقط، بينما القول الصحيح ما قاله أهل السنة: قول بلا عمل كفر، وقول وعمل بلا نية نفاق، وقول وعمل ونية بلا سنة بدعة.
المحور الثالث: أن يثبت توحيد الربوبية ويجعله ظاهرًا وباطنًا، ويثبت توحيد الألوهية ويجعله باطنًا فقط، ويقول قول أهل السنة: أن يكون الله أحب الأشياء إليه، وأحقها بالتعظيم، وأولاها بالطاعة، ولكن أهل السنة يجعلون ذلك ظاهرًا وباطنًا، وهو يجعله باطنًا فقط، ويؤول الظاهر في شرك العبادة إلى شرك أصغر أو كفر دون كفر بلا ضوابط إلا لمجرد كونه عملاً. وشرك العبادة لابد أن يكون عملاً، وعندما يسقط الظاهر يكفر بما لا ينحصر بالدلالة على انخرام الباطن.
المحور الرابع: التوسع في اعتبار عوارض الأهلية بما يجعل أصل الدين مجرد انتساب.
المحور الخامس: القول بأن المسلم لا يكفر بالشرك الأكبر إلا بنقض الميثاق أو ما يسمى عقد الإسلام عنادًا، ويعذر بالجهل في ترك التوحيد ولا يعذر بالجهل في ما يسميه عقد الإسلام.
المحور السادس: التقييد بالقيود التي تخرج المناطات المكفرة عن أن تكون مناطًا للأحكام التي تنزلت عليها وقد جعلها الله مناطًا لها.
ويترتب على كل ما سبق يا بُنَيَّ:(1/132)
عدم اعتبار شرك النسك من الشرك الأعظم إلا إذا تقيد بالاعتقاد، وعدم اعتبار الرغبة عن شرع الله إلى غيره أو عدله به خروجًا عن حاكمية الشريعة كفرا ينقل عن الملة واعتبار كل ذلك كفرًا دون كفر، وعدم اعتبار ولاية الكافرين كفرًا ينقل عن الملة فيمكنون للكفار من ديار المسلمين ويعاونونهم على ذبحهم وإذلالهم بأبشع المنكرات كما حدث في سجن أبي غريب، وغير ذلك من الأمثلة.
أما الصراط المستقيم في أصل الإيمان فهو يتمثل في محورين:
المحور الأول: الإسلام أو الإيمان هو توحيد الألوهية المتضمن والمستلزم لتوحيد الربوبية نفيًا وإثباتًا، ظاهرًا وباطنًا، قولاً وعملاً.
المحور الثاني: هو كلام أبي حنيفة رحمه الله وهو:
الإيمان: إقرار وتصديق، ولكن الإقرار خبري التزامي، فلو قال أطيعه ولا أصدقه لا يكون مؤمنًا، ولو قال أصدقه ولا أطيعه لا يكون مؤمنًا حتى يصدقه ويطيعه جميعًا، والتصديق يدخل فيه أعمال القلوب.
والإيمان كإقرار وتصديق لا يكون مجزئًا إلا بشرائط الإيمان. وشرائط الإيمان هي: الخلو من النواقض المكفرة.
وأنت كما ترى بين هذين التعريفين أن الخلاف لفظي والحقيقة واحدة.
الوجه التاسع والعشرون: أثر غياب المفاهيم الصحيحة في الواقع المعاصر: مر ما نقلناه من ”الدرر السنية“(1) ـ ونعيده هنا ـ عن شرك النسك يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: «فإذا كان العلماء في وقتنا هذا وقبله في كثير من الأمصار ما يعرفون من معنى لا إله إلا الله إلا توحيد الربوبية كمن كان قبلهم في عصر شيخ الإسلام ابن تيمية وابن رجب اغتروا بقول بعض العلماء من المتكلمين أن معنى لا إله إلا الله القادر على الاختراع وبعضهم يقول معناها الغني عمن سواه المفتقر إليه ما عداه وعلماء الإحساء ما عادوا شيخنا ـ رحمه الله ـ في مبدأ دعوته إلا من أجل أنهم ظنوا أن عبادة يوسف والعيدروس وأمثالهما لا يستفاد بطلانها من كلمة الإخلاص».
__________
(1) الدرر السنية جـ1, ص321.(1/133)
إنكار توحيد الألوهية وتفسيره بتوحيد الربوبية، وإنكار الشرك الأعظم في العبادة وتفسيره بالشرك في الاعتقاد هو الذي أدى إلى إقرار شرك النسك، واعتباره شركًا أصغر أو بدعًا، وأحيانًا أمورًا مشروعة مستحبة وهو شرك أعظم في عبادة الله سبحانه وتعالى.
ونفس السبب وهو إنكار توحيد الألوهية وتفسيره بتوحيد الربوبية، وقصر الشرك على شرك الاعتقاد دون شرك العبادة هو الذي أدى إلى الإقرار بشرعية الأنظمة العلمانية، وجعل القائمين عليها أولياء أمور شرعيين يُدعى لهم على المنابر، وهم قد فصلوا الدين عن الدولة في التشريع والولاء، وأهدروا اعتبار الشرع جملة في القضاء، ورغبوا عن شرع الله إلى غيره أو عدلوه به، ورغبوا عن ولاية الإسلام إلى غيرها.
ونفس السبب هو الذي أباح ولاية الكافرين بالمظاهرة العلنية، والتآمر في الباطن، والدخول تحت ولايتهم، وتمكينهم من ديار المسلمين يذبحونهم ذبحًا، ويفعلون بهم أبشع المنكرات كما حدث في سجن أبي غريب وغيره، والذين احتلوا العراق انطلقوا من قواعد لهم في بلاد عربية وإسلامية مجاورة وأعضاء في الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي مكنوا الكفار من احتلال ديارهم برًا وبحرًا وجوًا، واتخاذها قواعد لضرب غيرها من بلاد المسلمين، وتخريبها تخريبًا تامًا، والاستيلاء على ثرواتها، والتحكم في مقدراتها، وإذلال شعوبها، وقتل أبنائها، كل ذلك بأيدي المسلمين!!.
والذين قاتلوا في السودان مع جارانج مسلمون يقتلون المسلمين تحت راية الكافرين مظاهرة لهم على المسلمين، وتآمرًا معهم عليهم ولم يبق في السودان مَن لم يقتل المسلمين ـ مِن الفرق المتحاربة ـ مع الكافرين كل منهم أعان الكفار على الآخر وبلا استثناء على محاور صراع شخصية، عرقية، قبلية، يفضلونها على ولاية الإسلام. وفي حرب لبنان الطائفية ساندوا المارونيين لقتل المسلمين.(1/134)
وفي أفغانستان طلبوا أمريكا لضرب طالبان واحتلال أفغانستان، ومزقوا جثث المسلمين من طالبان، وكل من يدافع عن أفغانستان وألقوها للكلاب، وحملوهم مقهورين على الدخول في شاحنة تغلق عليهم ليموتوا مختنقين، وعلى حبسهم في سجن يفجرونه عليهم ويحرقونهم فيه حرقًا، ولا يسمح لأحد بالإنقاذ لحساب الأمريكان، كل ذلك ممَن يدَّعي الإسلام من تحالف الشمال كما يقولون، وسبب الخصومة عرقي شخصي، ولأن طالبان حاربت زراعة الأفيون، وقطع الطريق، والإفساد في الأرض، وما سقناه مجرد أمثلة والواقع لو تقصيناه أبشع بكثير.
والشعوب مغيبة الوعي والفهم والإرادة، محيدة في الصراع، لا تدري أين الإسلام وأين الكفر، وأين الحق وأين الباطل، ومع من تقف، وضد من تحارب، تساق سوق النعاج.
ولو كان هناك قواعد شعبية تستند إلى قوة الشعور الديني، ومفاهيم صحيحة للدين، ووعي للواقع مع علو همة وصدق عزيمة ما حدث شيء من هذه الأهوال.
الوجه الثلاثون:(1/135)
أول القيم الإيمانية الصدق، والصدق والأمانة لا يفترقان، والصدق يهدي إلى البر، والكذب يهدي إلى الفجور، ومع الصدق تأتي الموضوعية والجدية والإيجابية، والمؤمن كما وصف اللهُ رسولَه يأتي بالصدق ويصدق به، فهو في برد اليقين بعيدًا عن الحيرة والتهوك وجحيم الشك والتردد، نفسه مطمئنة دائمًا بذكر الله، واثقة في عدله وحكمته ورحمته، يرجو ويخاف، وهو دائمًا بعيدٌ عن الوهم والتوهم والخرص والظن، والمؤمن شخصية تستعصي على الإيحاء والتضليل والاستغفال، لا يَضِّل ولا يُضَّل دائمًا يقول: «اللهم أرنا الحقَّ حقًا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطلَ باطلاً وارزقنا اجتنابه» ليس من الذين استكبروا ولا من الذين استضعفوا(1)، ولا من الذين أضَلّوا ولا من الذين ضَلّوا، ولا ممن استخف بهم الطواغيت فأطاعوهم كما استخف فرعون قومه فأطاعوه، ولا من الإمَّعات، ولا ممَن هو تبعٌ في الباطل وفي الحياة عمومًا لا رأي له ولا قرار ولا قوة له في مواجهة أحد «الذين هم فيكم تبع» كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ - وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (.(1/136)
والمسلم المؤمن قد تحرَّر من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فلا يُستَذَل لغير الله، قائمًا لله شاهدًا بالقسط لا يخشى في الله لومة لائم، وهو إذا كان هكذا فلابد أن يكون عزيزًا منيعًا غير مُستَذَل ولا مستباح ولا مطموعًا فيه ليستطيع مع غيره من المؤمنين أن يقوموا بأمر الله ويعزروا وينصروا ويوقروا رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومن لا قيام له بحق نفسه لا قيام له بحق دينه وعرضه، وهو إذا قوتل دون دمه وعرضه وماله ودينه ومظلمته يقاتل عنها فإذا قُتِل فهو شهيد، وإذا قتل الآخر فهو باغ ظالم، وكان الصحابة يكرهون أن يُستذلوا وإذا قدروا عفوا.
وإذا قيل أعزة على الكافرين أذلة على المؤمنين فهذا كقوله تعالى: ( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ((1) من الأخوة والتماسك والتراحم والتواصل بين المؤمنين وليس ليتحول المؤمنون إلى بغاة ظالمين وأذلة مستضعفين قد ضربت عليهم الذلة والمسكنة، أما إذا قيل (ولو ضرب ظهرك وأخذ مالك) فلكي لا يتعاون مع مخابرات خمسة عشر دولة لغزو العراق إذا وقعت عليه مظلمة بالعراق، ولكي لا يتحول إلى أن يكون معاونًا مخلصًا تحت قيادة جارانج إذا وقعت عليه مظلمة بالسودان، ولكي لا يطلب الأمريكان ليحتلوا بلاده إذا جحد تلامذته حقه في الرئاسة بعد أن أخضعوا زُرَّاع الأفيون وقطَّاع الطريق في أفغانستان، ولكن من حقه أن يقاتل على مظلمته من غيره من المسلمين في الإطار الشخصي الذي لا يهدد الدولة ولا الكيان ولا يستجلب الأعداء من الكفار ليحتلوا بلاد المسلمين.
__________
(1) سورة الإسراء، الآية: 24.(1/137)
والمسلم قد تحرَّر من الخوف إلا من الله، واستغنى عن المخلوقين بالخالق، فاستغنى واستعفف وتوكل على الله في كل أموره، فلم يستبد به الخوف والقلق، ولم يأخذ بمجامع نفسه، ولم يخلد إلى الاستكانة للأعداء والهزيمة النفسية أمامهم يأسًا من نصر الله، وإذا أحب فحبه لله وفي الله والله ورسوله أحب إليه مما سواهما، يفتقر دائمًا إلى الله ويأنس بالله سبحانه، ولا يستوحش وإن عاش وحيدًا فريدًا معزولاً فهو على صلة دائمة بربه، ولا تستبد به أو تستعبده شهوات البطن والفرج والرئاسة والملك والشرف والمال ومضلات الفتن، فهو كما استعصى على الإضلال يستعصي على الإغواء والاستعباد بالشهوات.
وهو يراقب الله سبحانه وتعالى في السر والعلن، لأنه كما قيل «أعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» لأنه يعلم أن الله يعلم السر وأخفى، ولا يحب أن يراه الله على معصية، ولا أن يفتقده في واجب، وعمله كله خالصًا لله متجردًا غير مرائي، يؤثر الآخرة على الدنيا، فما عند الله خير وأبقى، لا يعرف الرياء ولا الكبر ولا العجب ولا الحسد ولا البغي.
والمؤمنون أمة واحد يسعى بذمتهم أدناهم تتكافأ دماؤهم وهم يدٌ على من سواهم، يقاتلون في سبيل الله صفًا كأنهم بنيان مرصوص، ولذا فهم متآخون متراحمون غير متحاسدين ولا متفرقين، يحب أحدهم لغيره ما يحبه لنفسه، يعيشون كنفس واحدة لا يعرفون الأنانية ولا الأثرة ولا الاغتراب والتمحور حول الذات وترك الاهتمام بأمور الغير، فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.(1/138)
والمؤمنون لأنهم قائمون بأمر الله لهم صدق عزيمة وعلو همة، ومن ثَمَّ ضراوة وخشونة في مكابدة الحياة. ”تمعددوا واخشوشنوا وانتعلوا وامشوا حفاة“، وقال عمر - رضي الله عنه -: «علموا أولادكم الرماية ومروهم فليثبوا على ظهر الخيل وثبًا»، بعيدًا عن الطراوة والليونة والتخنث والحياة المخملية المفعمة بالدَّعة والراحة والخلود إلى اللهو والعبث والترف بعيدون، عن الجبن والبخل والعجز والكسل والاسترخاء.
والمؤمن ذو نفس طويل، وصبر ومصابرة ومثابرة، لأنه يرجو دائمًا إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة، ويعيش حياة الرباط بصدق وليس بإدعاء.
والمؤمن يتقن كل شيء، لأنه تربَّى على الإحسان، وعلى الخيرية وعلى عدم الغش أو الخداع أو المخاتلة أو الدجل، وعلى ألا يبخس الناس أشياءهم، وهو عفيف متعفف عن أموال الناس وعن أعراضهم، لا يأكل أموال اليتامى ولا غير اليتامى بالباطل.
وإذا كان المؤمن يعرف أنه لابد له من ولاء وبراء، ومن التزام بشرع الله وتحقيق للعبودية لله بقبول شرعه ورفض ما سواه، وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فلابد له من خصوم، ولابد من مكابدة هؤلاء الخصوم، فلابد أن يكون قويًا ذا حيلة واسعة، وبصيرة نافذة وشكيمة قوية وقدرة على كسب رزقه بعيدًا عن الكفر وولاء الكافرين، وبعيدًا عن مشاركة الفاسقين، فلا يبحث دائمًا عن الرخص لعجزه عن القيام بأمر نفسه بالحق وسط هذه الدياجير، وإن هاجر إلى بلاد الكفر لأمن أو لرزق أو لطلب علم فلا ينسى الولاء والبراء له ولزوجته وأبنائه وأحفاده وأبناء أحفاده وليعتبر بغيره، وينظر دائمًا إلى المستقبل ولا يتعامى عن أمور قد تجره أو تجر ذريته إلى الكفر.(1/139)
وقد يلبس عليك البعض بالتوسع فى عوارض الأهلية, ليُفرِغوا التوحيد من حقيقته ومحتواه، بل ولا يثبتون حقيقة التوحيد كما أثبتها الله ورسوله تعللاً بها، وقبل توضيح الضوابط الشرعية لما يعتبر ولما لا يعتبر من العوارض، لابد من التأكيد على حقيقة الإسلام والإيمان، التى هى حقيقة التوحيد, وهى أن التوحيد توحيدان:
توحيد الربوبية، أو التوحيد العلمي المعرفي، أو التصديق، أو الإيمان بمعناه الخاص، وهو ما تعبر عنه سورة: ”قل هو الله أحد“.
توحيد الألوهية، أو التوحيد العملي الإرادى القصدي الطلبي، أو الالتزام بالشرائع او الانقياد، أو الإسلام بمعناه الخاص، وهو ما تعبر عنه سورة: ”قل يا أيها الكافرون“، وهو توحيد العبادة.
وأن توحيد الألوهية، أو توحيد العبادة له أركان ثلاثة:
الحكم لله بلا شريك: ? أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ?(1).
الولاء لله بلا شريك: ? قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ ?(2).
النسك لله بلا شريك: ? قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ?(3).
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 114.
(2) سورة الأنعام، الآية: 14.
(3) سورة الأنعام، الآيتان: 162-163.(1/140)
وهى معانى الطاعة والحب والتعظيم الواجبة لله تعالى، وليكون المسلم مسلماً فى حقيقة الأمر, لابد له من تحقيقه لحقيقة التوحيد وترك الشرك الأكبر فيما بينه وبين الله تعالى, وليحقق الموجبة: عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُوجِبَتَانِ، فَقَالَ: «مَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ»(1)، وقال عليه السلام: «لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ»(2)، «لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ»(3).
أما الحكم له بالإسلام فهذا له طرقه الشرعية التى لا يُعدل عنها وهى:
النص: بتلفظه بالشهادتين، أو ما يقوم مقامهما.
الدلالة: بدلالة أى شعيرة من شعائر الإسلام.
التبعية: وذلك بالتبعية للدار، أو للوالدين، أو أفضلهما ديناً وذلك للصغير والمجنون واللقيط ومجهول الحال.
أما الحكم بالكفر فله أيضاً طرقه الشرعية من حيث: أقوال وأفعال واعتقادات الفرد، ومن حيث انتمائه للأطر المختلفة.
وقد مر هذا تفصيلاً ص97.
ثم نأتى لمناقشة عوارض الاهلية، ونبدأ بالجهل وهو الوجه الواحد والثلاثون: وتوجد عدة حالات للجهل:
الحالة الأولى: حالة خفاء الدليل مع الانقطاع عن الرسالات:
والناس فيها صنفان:
الصنف الأول: وقد عبر عنه الإمامان الشاطبى وابن القيم:
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الإيمان.
(2) صحيح مسلم، كتاب الإيمان.
(3) صحيح ابن حبان.(1/141)
يقول عنه الإمام الشاطبى(1): «قسم غابت عليه الشريعة، ولم يدر ما يتقرب به إلى الله تعالى، فوقف عن العمل بكل ما يتوهمه العقل أنه يقرب إلى الله، ورأى ما أهل عصره عاملون به مما ليس لهم فيه مستند إلا استحسانهم، فلم يستفزه ذلك على الوقوف عنه، وهؤلاء هم الداخلون حقيقةً تحت عموم الآية الكريمة: ? وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ?(2)». أهـ.
وأما الإمام ابن القيم فهو يقسم العاجز عن السؤال والعلم فيقول(3):
«وأما العاجز عن السؤال والعلم الذى لا يتمكن من العلم يوجد فيه قسمان أيضاً: أحدهما: مريد للهدى مؤثر له محب له غير قادر عليه ولا على طلبه لعدم من يرشده، فهذا حكمه حكم أرباب الفترات ومن لم تبلغه الدعوة. الثانى: معرض لا إرادة له ولا يُحدث نفسه بغير ما هو عليه. فالأول يقول: يا رب لو أعلم لك ديناً خيراً مما أنا عليه لدنت به، وتركت ما أنا عليه، ولكن لا أعرف سوى ما أنا عليه، ولا أقدر على غيره، فهو غاية جهدى ونهاية معرفتى. ويقول عنه أيضًا: فالأول: كمن طلب الدين فى الفترة ولم يظفر به، فعدل عنه بعد استفراغ الوسع فى طلبه عجزاً وجهلاً.
وحكم هذا الصنف: فيه قولان: القول الأول: أنه ناج، وذلك بإسلام الفطرة كالولدان دون سن التمييز. القول الثانى: أنه يمتحن فى العرصات». أهـ.
الصنف الثانى:
عبر عنه الأمام الشاطبى بقوله(4): «وقسم لابس ما عليه أهل عصره من عبادة غير الله، والتحريم والتحليل بالرأى، ووافقوهم فى اعتقاد ما اعتقدوه من الباطل، فهولاء نص العلماء على أنهم غير معذورين، مشاركون لأهل عصرهم فى المؤاخذة، لأنهم وافقوهم فى العمل والموالاة والمُعاداة على تلك الشرعة فصاروا من أهلها، فكذلك ما نحن فيه إذ لا فرق بينهما». أهـ.
__________
(1) الاعتصام ج1، ص161 .
(2) سورة الإسراء، الآية: 15.
(3) طريق الهجرتين, ص542 .
(4) الاعتصام, جـ1, ص161 .(1/142)
وعبر عنه الإمام أبن القيم بقوله(1): «الثانى: معرض لا إرادة له، ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه، ويقول عنه أيضًا: راض بما هو عليه لا يؤثر غيره عليه، ولاتطلب نفسه سواه، ولا فرق عنده بين حالة عجزه وقدرته». أهـ.
حكم هذا الصنف: فيه ثلاث أقوال لأهل السنة:
القول الأول(2): انه معذب لمخالفته لميثاق الفطرة استنادًا إلى حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يُقَالُ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ. قَالَ: فَيَقُولُ: نَعَمْ. قَالَ: فَيَقُولُ: قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْكَ فِي ظَهْرِ آدَمَ أَنْ لا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا فَأَبَيْتَ إِلا أَنْ تُشْرِكَ بِي»،أخرجاه فى الصحيحين من حديث شعبة وهذا قول الإمام الشاطبى.
القول الثانى: الامتحان فى العرصات لكل من لم تبلغه الدعوة بأى حال ولم تقم عليه الحجة بأى وجه ولم يسمع لرسول بخبر. وهذا قول شيخ الإسلام أبن تيمية.
القول الثالث: الوقف، أو أنهم فى المشيئة، وذلك استناداً لما جاء فى قول الله عزَّ وجَلّ فى سورة طه: ? قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى - قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى ?(3)، ويقال فيهم: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ»(4).
وهذا قول المدرسة الوهابية.
ويلحق بهذا القسم: الولدان: وأصح الأقوال فيهم:
من الولادة إلى سن التمييز:
__________
(1) طريق الهجرتين, ص542 .
(2) الاعتصام, جـ1, ص139.
(3) سورة طه، الآيتان: 51-52.
(4) صحيح البخاري، كتاب الجنائز.(1/143)
من مات فى هذه الفترة مات على إسلام الفطرة، وهم فى الجنة، وذلك لكل الولدان من بنى أدم، أبناء المسلمين وأبناء المشركين، استنادًا لحديث سمرة(1): انه صلى الله عليه وسلم رأى مع إبراهيم عليه السلام أولاد المسلمين وأولاد المشركين، وكما فى رواية أحمد(2) عن حسناء عن عمها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «...والمولود فى الجنة» وذلك على الإطلاق وليس على التعيين، فلا نشهد لمعين بالجنة، وإن شهدنا لهم مطلقاً بذلك.
من سن التمييز إلى سن التكليف:
من مات فى هذه الفترة، فأولاد المسلمين فى الجنة إلا من سبقت مشيئة الله وعلمه بكفره كغلام الخضر، وأولاد المشركين فى المشيئة إلا من تحقق كفره: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ»، وهذا قول مالك، والشافعى، وأحمد، والأوزاعى، والأئمة المتقدمين.
وأما القول بالامتحان فى العرصات للولدان فلم يكن معروفاً عن أئمة المسلمين قبل أبى الحسن الأشعرى فهو أول من قاله، وقول السلف أولى.
وهناك قول للسلف بان أولاد المشركين بإطلاق فى المشيئة قبل سن التمييز وبعده بدون تفصيل(3).
الحالة الثانية: حالة خفاء الدليل مع اتصال بالرسالات:
الناس فيها صنفان:
الصنف الأول:
من علم التوحيد وعمل به، وغابت عنه الشرائع أو بعضها, فهذا مسلم مؤمن، وجهله بالشرائع، أو عدم بلوغها إما: ان يسقط تكليفه بها، أو يجعلها فى مرتبه العفو فى حقه.
الصنف الثانى:
من استنام لما عليه قومه من عباده غير الله والتحريم والتحليل بالرأى ووافقهم فى اعتقاد ما اعتقدوه من الباطل، فهؤلاء نص العلماء على أنهم غير معذورين مشاركون لأهل عصرهم فى المؤاخذة, لأنهم وافقوهم فى العمل والموالاة والمعاداة على تلك الشرعة فصاروا من اهلها.
__________
(1) مسند أحمد,كتاب أول مسند البصريين.
(2) مسند أحمد,كتاب أول مسند البصريين.
(3) لمزيد من الدراسة لهذا الموضوع يراجع كتاب: «البلاغ المبين» للمؤلف.(1/144)
أى: هو من استغرق فى الشرك استغراقًا تامًا مع قيام الحجة عليه بالمتحنفين وببقايا دين الرسل. فهؤلاء معذبون: «إنّ أَبى َوأبَاكَ فى النّاِر»(1)، « رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرِ بْنِ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ»(2)، ? مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ?(3). يقول ابن جرير(4): ? بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ? يقول: من بعد ما ماتوا على شركهم بالله وعباده الاوثان, وتبين لهم انهم من اهل النار، وقد نزلت الاية نهيًا للمؤمنين أن يستغفروا لمن مات على الشرك قبل البعثة، وبعدها.
الحالة الثالثة: بَعْد الرسالة وهى حالة شيوع العلم، واشتهاره، وقيام الحجة:
وأوضاع الناس بالنسبة لهذه الحالة أربعة أصناف:
الصنف الأول: مؤمن: من علم التوحيد والشرائع وعمل بها ومات عليها، وهذا من قبل الحجة.
الصنف الثاني: معاند: علم التوحيد والشرائع فاستحب العمى على الهدى, وهذا قد عاند الحجة وهذه حالة كفر العناد.
الصنف الثالث: معرض عنها: لم يحفل بأمر الرسالات والتوحيد، فلم يقبل ولم يرفض، ولم يصدق ولم يكذب، تمكن من العلم فلم يطلبه، ومات مشركاً بسبب الجهل، وهذا قد أعرض عن الحجة.
__________
(1) صحيح مسلم, كتاب الايمان.
(2) صحيح البخاري، كتاب المناقب.
(3) سورة التوبة، الآية: 113.
(4) تفسير الطبرى, جـ6, ص490.(1/145)
الصنف الرابع: ضال فيها: شكًا، أو تكذيبًا لها. وهؤلاء قد قامت عليهم الحجة للقاعدة التى يقولها العلماء: «من بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة»، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»(1).
فمن سمع برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجب عليه طلب علمه حتى يؤمن به إيمانا مجزئًا فيموت لا يشرك بالله شيئًا وهى الموجبة.
والعذر بالجهل أنما يصلح عذرًا إذا تغير به التكييف الشرعي للفعل وذلك بالقاعدة: إذا منع الجهل تكوين المناط المكفر فالشخص معذور، وإذا لم يمنع الجهل تكوين المناط المكفر فالشخص غير معذور.
الحالات التي يعذر فيها:
تخلف القصد: كحديث الرجل الذى قال: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ. فَقَالُوا لِي: عَلَى ابْنِكَ الرَّجْمُ فَفَدَيْتُ ابْنِي مِنْهُ بِمِائَةٍ مِنْ الْغَنَمِ وَوَلِيدَةٍ، ثُمَّ سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَقَالُوا: إِنَّمَا عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ أَمَّا الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ فَرَدٌّ عَلَيْكَ وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَأَمَّا أَنْتَ يَا أُنَيْسُ لِرَجُلٍ فَاغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَارْجُمْهَا فَغَدَا عَلَيْهَا أُنَيْسٌ فَرَجَمَهَا»(2).
فلو علم الرجل أن الفداء ليس حكم الله ما عرضه على صاحبه فلا توجد هنا رغبةٌ عن شرع الله إلى غيره, ولا عدل بشرع الله غيره. اما إذا علم ورغب عنه, ولكن جهل أن الرغبه عن شرعه كفر، فلا عذر هنا.
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الإيمان.
(2) صحيح البخاري، كتاب الصلح.(1/146)
المقولات الخفية: وامثلة هذه كثيرة فى مقولات المتكلمين التى يُكفر بعضهم بعضاً بها بالمآلات واللوازم، فهنا لا يتحقق الكفر إلا أذا اقيمت الحجة باللازم، ثم بقى صاحب هذا القول عليه, ولذلك قال العلماء: «الكفر بالمآل ليس بكفر فى الحال، ولازم المذهب ليس بمذهب حتى يلتزمه صاحبه».
الشبهة الطارئة: كقول أم المؤمنين سوده لسهيل بن عمرو(1): « أى أبا يزيد أعطيتم بأيديكم ألا متم كراماً ثم قالت: والله ما أنبهنى إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيت: يا سوده أعلى الله ورسوله تحرضين ؟ قالت : قلت يا رسول الله والذى بعثك بالحق ما ملكت نفسى حين رايت ابا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه ان قلت ما قلت». ومن هذا الباب ”حادثة ذات أنواط“.
يقول أبو بطين معقبًا عليها(2): «هذا يدل على أن من تكلم بكلمة كفر جاهلاً بمعناها ثم نُبِّه فتنبه أنه لا يكفُر».
جهل الصفة: الجهل بالصفة لايكون جهلاً بالموصوف، أما إذا أدى الجهل بالصفة إلى الجهل بالموصوف سبحانه وتعالى فهذا كفر لا عذر فيه حتى فى حق من لم تبلغه الدعوة, لان الجهل بالله كفر قبل الرسالة وبعدها, كما قال شيخ الاسلام(3).
الأفعال والأقوال والاعتقادات التى لا يتكون المناط المُكِّفِر فيها إلا بالعلم: كالاستحلال، والرد، والتكذيب.
فمن استحل أمرًا لم يبلغه تحريمه فهذا لا يكفر، لأن مناط: ”الاستحلال“ نفسه لم يتكون, لان العلم بالمحرم جزء منه. اما إذا استحل عالمًا بالتحريم، ولكنه يجهل أن الاستحلال كفر يَكفُر، وكذلك من رد أمرًا لا يعلم انه أمر الله، فهذا لا يكفر لأن مناط: ”رد أمر الله“ لم يتكون.
أما إذا رد أمرًا يعلم أنه أمر الله، ولكنه يجهل أن رد أمر الله كفر يَكفُر، لأن رد أمر الله لا يصدر عن قلب فيه أيمان.
__________
(1) سيرة ابن هشام, جـ2, ص476 .
(2) الانتصار لحزب الله الموحدين, ص13 .
(3) يراجع كتاب: «البلاغ المبين» للمؤلف, جـ3, ص139 ومابعدها .(1/147)
وكذلك التكذيب: من كذب خبرًا لا يعلم أنه خبر الله، فهذا لا يكفر لأن مناط: ”تكذيب خبر الله“ لم يتكون، أما إذا كذب خبرًا يعلم أنه خبر الله ولا يعلم أن تكذيب خبر الله كفر يَكفُر.
وبناء على هذه القواعد والضوابط توجد حالات كثيرة تقع تحت المناطات السابقة فيصلح الجهل عذرًا لها، وليس كما تقول الجهمية المعاصرة: أن المشرك مسلم. ولا أن الجهل يرفع حكم الشرك بعد وقوعه ومع التسمي بإسمه. وخلافًا لمن يعذر الناس بعد الرسالة ولا يعذرهم قبلها.
وبناءً على القواعد السابقة نقول فى حالات المعين فى أوضاع الردة: انه إذا أتى بأقوالٍ أو أفعالٍ أو اعتقاداتٍ هى بعينها مكفرة ولكن تحتمل وجهًا آخر غير الكفر فهذا لا يكفر إلا بعد استيفاء الشروط وانتفاء الموانع. ويقال فى هذه الحالة: هذه ردة يستتاب صاحبها فإن تاب وإلا قتل مرتدًا كافرًا ,فلا يقال هذا مرتد كافر إلا بعد الإستتابة ورفض التوبة.
أما الحالات التى لا يعذر فيها:
افتراء الكذب على الله, فمفترى الكذب هو الذى يطالب بالدليل: ? اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ?(1).
العكوف على والإنغماس فى الشرك الصراح البواح البراح.
الأفعال التى لا تصدر عن قلب فيه إيمان: كقوله تعالى: ? وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ?(2)، وقوله تعالى: ? وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ?(3).
__________
(1) سورة الأحقاف، الآية: 4.
(2) سورة المائدة، الآية: 81.
(3) سورة النور، الآية: 47.(1/148)
مثال توضيحى: قوله تعالى: ? فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ?(1).
ففى التفسير أن الصحابة قد اختلفوا إلى فئتين فى حكم هؤلاء المنافقين: فئة تراهم كفارًا ويتبرءون منهم، ويقولون: اركبوا إلى الجبناء فانهم يظاهرون عليكم عدوكم. وفئة تراهم مسلمين ويتولونهم، ويقولون: سبحان الله أو كما قالوا, أتقاتلون قومًا قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم. فالصحابة الذين تولوا هؤلاء المنافقين لم يتضح لهم مناط مظاهرة هؤلاء المنافقين للكفار, ولما تَبيَّن لهم هذا الوصف تبرءوا منهم, وبالتالى فلم يقع من الصحابة مناط: ”ولاء الكافرين“، لأن العلم بكفرهم جزء من المناط المكفر.
أما من تولى الكافرين وهو يعلم أنهم: كفار كفرًا صريحًا ـ ككفر أهل الكتاب ـ لكن لا يعلم أن مولاتهم كفر, فهذا يكفر لأن ولاء الكافرين من الأفعال التى لا تصدر عن قلب فيه إيمان: ? وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ?.
أما من لم تبلغه الدعوة بوجه ولم يسمع لرسول بأى خبر بعد البعثة ـ إن وجد ـ فهو كحال خفاء الدليل مع الانقطاع عن الرسالات، إذا لم يقع فى الشرك ففيه القولان: إما أنه ناج بإسلام الفطرة، أو يمتحن فى العرصات، وإذا وقع فى الشرك ففيه الأقوال الثلاثة: إما أنه معذب لمخالفته ميثاق الفطرة، أو يمتحن فى العرصات، أو هو فى المشيئة.
الوجه الثانى والثلاثون:
الخطأ والتأويل:
صنف الإمام الشاطبى أهل البدع بين أربعة أحوال(2):
__________
(1) سورة النساء، الآية: 88.
(2) الاعتصام, جـ2, ص36، ومابعدها بتصرف.(1/149)
بدع أتفق العلماء على عدم تكفير أهلها، وهذا كالبدع العملية والعبادية التى ليس فيها اعتقادات مكفرة, كبدعة التبتل, والصيام قائماً فى الشمس.
بدع أختلف العلماء فى تكفير أهلها، وهذا كالقول بخلق القرآن وأقوال الفِرَق من المتكلمين، والراجح: أن الكفر بالمآل ليس كفرًا فى الحال وأن لازم المذهب ليس بمذهب ما لم يلتزمه صاحبه، وهذا قول المتأخرين، أما المتقدمين من الأئمة فهم يكفرون الداعية ويفسقون المقلد.
بدع وصل الاختلاف فى تكفير أهلها إلى درجة التمارى: «....ويتمارى فى الفوق»(1). وهؤلاء كالخوارج، والراجح: تكفيرهم.
بدع أجمع العلماء على كفر أهلها: كالباطنية، والبهائية، والدروز، والبهرة، وهؤلاء: كفار بالإجماع.
أنواع التأويل المذموم غير المعذور أصحابه:
تأويل التكذيب: كتأويلات الباطنية والنصيرية لأن التأويل ذنب يضاف إلى ذنبهم، ويعتبر تكذيبًا بصريح القرآن.
تأويل التحريف: كتأويلات المتكلمين المخالفة للموروث من عقائد السلف ـ إعراضًا عن المصادر المعصومة ومعارضة لها.
تأويلات المبتدعة: لأن كل مبتدع يتأول لبدعته لأن هذا خاصية المبتدع: أنه يرجع إلى الدليل فى الجملة مع ممازجة الهوى فيتأول لبدعته ويحمل النص على هواه.
تأويلات من تكلم بغير علم وبغير عمل.
ولا يعنى الذم وعدم عذر اصحابها كفرهم، بل ينقسمون إلى الأصناف الأربعة السابق ذكرهم وحكم العلماء فيهم.
من أداه خطؤه إلى الكفر بأى وجه كان.
وأما الخطأ أو التأويل المعذور أصحابه:
فهو الخطأ ممن: أجتهد وهو أهل للاجتهاد فيما يسوغ فيه الاجتهاد وتدعو إليه الضرورة، وأعطى الاجتهاد حقه، ولم يقصر فيه، وبلغ غاية الوسع، ولم يعرض عن المصادر المعصومة، وتكلم بعلم وعدل، ولم يؤد خطؤه إلى الكفر.
__________
(1) صحيح البخارى, كتاب فضائل القرآن.(1/150)
فهذا معذور، وخطؤه: إما أن يكون زلة عالم مغفورة له، وإما قول مرجوح يؤجر عليه أجرًا واحدًا، وبالنسبة لزلة العالم فينقض فيها حكم القاضى، وأما القول المرجوح فلا ينقض حكمه.
وما يقع فيه الخطأ من هؤلاء ففى مجالات محددة وهى:
الإجتهاديات: ? وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً ?(1)، وقول - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»(2)، «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»(3).
ما يسوغ فيه الخلاف من المسائل الفروعية فى الأمور الخبرية العلمية، وليس فى الأصول الكبار، ولا فى الأصول الإعتقادية عامة، أو المسائل القطعية، وذلك مثل: هل يعذب الميت ببكاء أهله عليه؟، أو هل رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه يوم المعراج رأى العين؟ وهل عرج به بالروح والبدن أم بالروح فقط.
زلة العالم فى الأصول الإعتقادية إذا لم يثبت عليها فكانت فلتة لم يستقر عليها وسارع إلى مراجعة الأصول المجمع عليها والوقوف عندها.
الخلاف فى الأمر قبل أن يستقر ويتقرر تقررًا نهائيًا لا مراجعة فيه ويصير علمه عند الخاصة ثم منه إلى العامة ضروريًا.
العذر بعدم البلوغ لفظًا أو بيان معنى اللفظ مثل عمار رضي الله عنه: عندما تمعك فى التراب للجنابة.
__________
(1) سورة الأنبياء، الآية: 78.
(2) صحيح مسلم، كتاب الأقضية.
(3) صحيح ابن ماجة، كتاب الطلاق.(1/151)
القتل الخطأ، خطأ(1) الفعل وخطأ التأويل.
الخطأ فى الحكم على الأشخاص بالتكفير، أو التفسيق، كقول عمر عن حاطب: «دعنى أضرب عنق هذا المنافق».
من أخطأ فى معان دقيقة لا تعلم إلا بنظر العقل، وليس فيها بيان من النصوص، وأحتاج إلى ذلك، ولم يعرض عن أو يعارض ما أثبتته النصوص الظاهرة المتواترة.
قتال البغاة وتأويلات البغاة إذا كانت سائغة والخطأ فيها ظنى وليس قطعيًا.
الوجه الثالث والثلاثون: الإكراه:
الإستخفاء بالإيمان: لايمكنه إظهار الحق، لكن لا يقول الباطل، فيظهر من الحق ما يقدر على إظهاره.
المداهنة: يظاهر على الباطل، وهذا محرم ويحمل الإنسان مسئولية ما عمله، ويأخذ حكم ما عمله أو ما قاله من الباطل.
__________
(1) ومع ذلك فيه: - الدية وصيام شهرين متتابعين للآية:? وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً? النساء,الآية:92
- إلا إذا لم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فقالوا صبئنا، فقد ودي فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنصف الدية وفيه أن الإمام يدي عن سراياه, وذلك فى حالة خطأ التأويل.(1/152)
حالة التقية: أخرج(1) عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عنه(ابن عباس) قال : التقاة :التكلم باللسان والقلب مطمئن بالإيمان, ولا يبسط يده فيقتل ولا إلى إثم فإنه لا عذر له ....وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : التقية باللسان وليس بالعمل ، وأخرج عبد بن حميد والبخاري عن الحسن قال : التقية جائزة إلى يوم القيامة ، وذكر الإمام ابن القيم قاعدة فى التقية تفسيرًا لكلام ابن عباس فيقول ما مُفاده: «الذى يترتب عليه أثره بالضرورة فهو عمل وإن كان كلامًا، وما لايترتب عليه أثره بالضرورة فهو كلام وإن كان عملاً».
حالة الإستضعاف: تعريفه: هو تعذر الإنتقال مع عدم إستطاعة تغيير الحال. حكمه: «من أنكر فقد سلم ومن كره فقد برئ ولكن من رضى وتابع»(2).
إكراه التهديد: وهو نوعان:
أولاً: إكراه غير ملجئ: وهو يفسد الرضا، ولا يفسد الإرادة، فيؤثر على العقود ولا يؤثر على الأفعال.
ثانيًا: إكراه ملجئ وهو يفسد الرضا ويفسد الإرادة، والأفعال معه لها ثلاثة أحوال:
أفعال يستحب الاستجابة لها لحفظ النفس: كأكل الميتة أو شرب الخمر.
أفعال يستحب عدم الاستجابة للإكراه: كالنطق بكلمة الكفر.
أفعال يحرم على الإنسان فيها الاستجابة للإكراه: كالقتل والزنا واللواط وإهانة الوالدين، وبالنسبة لأعمال الكفر فى هذه الحالة فهى تنقسم إلى: ما يصح فيه التقية، فهو خداع للمكِره رفع الله الإثم عن صاحبه، وإلى ما لا يصح فيه التقية، فلا يجوز فيها الاستجابة للإكراه قياساً على القتل والزنا، ولحديث الذبابة.
إكراه الإجبار: وهو يفسد الرضا والإرادة، وتنتفى فيه المسئولية عن الفعل، ويكون المُكره فيه كالآلة، فالإجبار يمنع وقوع الفعل فكأنه لم يكن، وهو على ما كان عليه قبله.
__________
(1) تفسيرفتح القدير,ج1,ص501.
(2) سنن ابى داود، قال الامام الالبانى حديث صحيح .(1/153)
تغيير النِحْلة: بحيث يرث أبناؤه دينًا غير الدين الذى كان عليه كما حدث فى الأندلس، ففى هذه الحالة لا يجوز الاستجابة فيها للإكراه بأى حال من الأحوال ودليلها قوله تعالى:? قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ - قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ?(1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا وَإِنْ قُطِّعْتَ وَحُرِّقْتَ»(2).
وصل اللهم وسلم وبارك على أكرم الخلق محمد وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.
__________
(1) سورة الأعراف، الآيتان: 88-89.
(2) صحيح سنن ابن ماجة، كتاب الفتن.(1/154)