وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ نَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ - عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ حُنَيْنٍ : مَنْ قَتَلَ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ فَقَتَلَ أَبُو طَلْحَةَ يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ رَجُلًا وَأَخَذَ أَسْلَابَهُمْ } . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تُوجِبُ مَا قُلْنَاهُ وَهِيَ مَنْقُولَةٌ نَقْلَ التَّوَاتُرِ كَمَا تَرَى . رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ الْعَبْدِيِّ : أَنَّ بِشْرَ بْنَ عَلْقَمَةَ قَتَلَ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ عَظِيمًا مِنْ الْفُرْسِ مُبَارَزَةً وَأَخَذَ سَلَبَهُ فَأَتَى بِهِ إلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَقَوَّمَهُ اثْنَيْ عَشْر أَلْفًا , فَنَفَلَهُ إيَّاهُ سَعْدٌ . وَمِنْ طَرِيقِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ أَنَّهُ رَكِبَ وَحْدَهُ حَتَّى أَتَى بَابَ دِمَشْقَ فَخَرَجَتْ إلَيْهِ خَيْلٌ مِنْهَا فَقَتَلَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةً وَأَخَذَ خَيْلَهُمْ فَأَتَى بِهَا خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَعِنْدَهُ عَظِيمُ الرُّومِ فَابْتَاعَ مِنْهُ سَرْجَ أَحَدِهَا بِعَشَرَةِ آلَافٍ وَنَفَلَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ كُلَّ مَا أَخَذَ مِنْ ذَلِكَ , فَهَذَا وَاثِلَةُ , وَخَالِدٌ وَسَعِيدٌ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ .(2/261)
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : كَانَ السَّلَبُ لَا يُخَمَّسُ وَكَانَ أَوَّلُ سَلَبٍ خُمِّسَ فِي الْإِسْلَامِ سَلَبَ الْبَرَاءَ بْنَ مَالِكٍ , وَكَانَ قَتَلَ مَرْزُبَانَ الزَّأْرَةَ وَقَطَعَ مِنْطَقَتَهُ وَسِوَارَيْهِ , فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ صَلَّى عُمَرُ الصُّبْحَ , ثُمَّ أَتَانَا فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَثَمَّ أَبُو طَلْحَةَ ؟ فَقَالُوا : نَعَمْ , فَخَرَجَ إلَيْهِ فَقَالَ عُمَرُ : إنَّا كُنَّا لَا نُخَمِّسُ السَّلَبَ وَإِنَّ سَلَبَ الْبَرَاءِ مَالٌ وَإِنِّي خَامِسُهُ , فَدَعَا الْمُقَوِّمِينَ فَقَوَّمُوا ثَلَاثِينَ أَلْفًا , فَأَخَذَ مِنْهَا سِتَّةَ آلَافٍ . وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ سَمِعْت نَافِعًا يَقُولُ : لَمْ نَزَلْ نَسْمَعُ مُنْذُ قَطُّ إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ فَقَتَلَ مُسْلِمٌ مُشْرِكًا فَلَهُ سَلَبُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَعْمَعَةِ الْقِتَالِ فَإِنَّهُ لَا يُدْرَى أَحَدٌ قَتَلَ أَحَدًا - فَهَذَا يُخْبِرُ عَمَّا سَلَفَ . فَصَحَّ أَنَّهُ فِعْلُ أَبِي بَكْرٍ وَمَنْ بَعْدَهُ وَجَمِيعِ أُمَرَائِهِمْ . وَهَذَا نَافِعٌ يُخْبِرُ : أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَسْمَعُ ذَلِكَ وَهُوَ قَدْ أَدْرَكَ الصَّحَابَةَ , فَصَحَّ أَنَّهُ قَوْلُ جَمِيعِهِمْ بِالْمَدِينَةِ , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِعُمَرَ تَعَمُّدُ خِلَافِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَحَّ أَنَّهُ اسْتَطَابَ نَفْسَ الْبَرَاءِ .(2/262)
وَهَذَا صَحِيحٌ حَسَنٌ لَا نُنْكِرُهُ - وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ , وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ , وَالشَّافِعِيِّ , وَأَحْمَدَ , وَأَبِي ثَوْرٍ , وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي سُلَيْمَانَ , وَجَمِيعِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ , إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ , وَأَحْمَدَ قَالَا : إنْ قَتْلَهُ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ فَلَا يَكُونُ لَهُ سَلَبُهُ - وَهَذَا خَطَأٌ لِحَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ الَّذِي ذَكَرنَا فَإِنَّهُ قَتَلَهُ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ , وَفِي غَيْرِ قِتَالٍ , وَأَخَذَ سَلَبَهُ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . فَإِنْ قِيلَ : فَإِنْ أَخَذْتُمْ بِعُمُومِ حَدِيثِهِ عليه السلام فِي ذَلِكَ فَأَعْطُوا مَنْ قَتَلَ مُسْلِمًا بِحَقٍّ فِي قَوَدٍ , أَوْ رَجْمٍ , أَوْ مُحَارَبَةٍ , أَوْ بَغْيٍ , سَلَبَهُ . قُلْنَا : لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي الْقُرْآنِ مَالَ الْمُسْلِمِ لَفَعَلْنَا مَا قُلْتُمْ ; فَخَرَجَ سَلَبُ الْمُسْلِمِ بِهَذَا عَنْ جُمْلَةِ هَذَا الْخَبَرِ , وَبَقِيَ سَلَبُ الْكَافِرِ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم . وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ هُوَ أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ - عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ : سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ السَّلَبِ ؟ فَقَالَ : لَا سَلَبَ إلَّا مِنْ النَّفْلِ وَفِي النَّفْلِ الْخُمُسُ . فَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ السَّلَبُ إلَّا نَفْلًا , فَقَوْلٌ كَقَوْلِ مَنْ ذَكَرنَا , إلَّا أَنَّهُ رَأَى فِيهِ الْخُمُسَ - وَهُوَ قَوْلُ إسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ .(2/263)
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ , وَسُفْيَانُ , وَمَالِكٌ : إلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ إلَّا أَنْ يَقُولَ الْأَمِيرُ قَبْلَ الْقِتَالِ : مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ , فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ فَهُوَ كَمَا قَالَ , وَلَا يُخَمَّسُ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ ; لِأَنَّهُمْ أَوْهَمُوا أَنَّهُمْ اتَّبَعُوا الْحَدِيثَ وَلَمْ يَفْعَلُوا , بَلْ خَالَفُوهُ ; لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ الْقِتَالِ ; فَهَذَا خِلَافُ قَوْلِهِمْ صُرَاحًا . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا يَوْمَ حُنَيْنٍ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : فَكَانَ هَذَا عَجَبًا نَعَمْ , فَهَبْكَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ عليه السلام قَطُّ إلَّا يَوْمَئِذٍ , أَوْ قَالَهُ قَبْلُ وَبَعْدُ , أَتَرَى يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَى بِهِ مَرَّةً , أَوْ يَرَوْنَهُ بَاطِلًا حَتَّى يُكَرِّرَ الْقَضَاءَ بِهِ ؟ حَاشَا لِلَّهِ مِنْ هَذَا الضَّلَالِ , وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا قَالَ مَرَّةً , أَوْ أَلْفَ أَلْفَ مَرَّةٍ , كُلُّهُ دِينٌ , وَكُلُّهُ حَقٌّ , وَكُلُّهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى , وَكُلُّهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ خِلَافُهُ . وَمَوَّهُوا بِفِعْلِ عُمَرَ , وَهُمْ مُخَالِفُونَ لَهُ , لِأَنَّ عُمَرَ قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ دُونَ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقِتَالِ , إلَّا أَنَّهُ خَمَّسَهُ وَلَمْ يُمَانِعْهُ الْبَرَاءُ , فَصَحَّ أَنَّهُ طَابَتْ بِهِ نَفْسِهِ , وَهَذَا حَسَنٌ لَا نُنْكِرُهُ .(2/264)
وَشَغَبُوا أَيْضًا بِأَشْيَاءَ نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ; فَمَوَّهَ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ فِي نَصْرِ تَقْلِيدِهِمْ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَذَا عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ ; لِأَنَّ الَّذِي أَمَرَنَا بِهَذَا هُوَ الَّذِي أَوْحَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ , ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ : فَأَبْطِلُوا بِهَذَا الدَّلِيلِ قَوْلَكُمْ : إنَّ الْإِمَامَ إذَا قَالَ : السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ كَانَ لَهُ .(2/265)
فَقَدْ جَعَلْتُمْ قَوْلَ إمَامٍ لَعَلَّهُ لَا تَجِبُ طَاعَتُهُ حُجَّةً عَلَى الْآيَةِ , وَلَمْ تَجْعَلُوا قَوْلَ الْإِمَامِ الَّذِي لَا إمَامَةَ لِأَحَدٍ إلَّا بِطَاعَتِهِ بَيَانًا لِلْآيَةِ , وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا ثُمَّ أَعْجَبُ شَيْءٍ أَنَّهُمْ لَا يَحْتَجُّونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ : إنَّ الْأَرْضَ الْمَغْنُومَةَ لَا خُمُسَ فِيهَا , وَهَذَا مَوْضِعُ الِاحْتِجَاجِ بِالْآيَةِ حَقًّا وَذَكَرُوا خَبَرًا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ فِي { أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ فَارِسًا مِنْ الرُّومِ يَوْمَ مُؤْتَةَ وَأَخَذَ سِلَاحَهُ وَفَرَسَهُ ؟ فَبَعَثَ إلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَأَخَذَ مِنْ السَّلَبِ قَالَ عَوْفٌ : فَأَتَيْتُ خَالِدًا فَقُلْتُ لَهُ : أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ ؟ قَالَ : بَلَى , وَلَكِنِّي اسْتَكْثَرْتُهُ , قُلْتُ : لَتَرُدَّنَّهُ أَوْ لَأُعَرِّفَنَّكَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَبَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ , قَالَ عَوْفٌ : فَاجْتَمَعْنَا عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : يَا خَالِدُ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ ؟ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَكْثَرْتُهُ ؟ فَقَالَ عليه السلام : يَا خَالِدُ رُدَّ عَلَيْهِ مَا أَخَذْتَ مِنْهُ , قَالَ عَوْفٌ : فَقُلْتُ لَهُ : دُونَكَ يَا خَالِدُ , أَلَمْ أَفِ لَكَ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَا ذَلِكَ ؟ قَالَ : فَأَخْبَرْتُهُ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ : يَا خَالِدُ لَا تَرُدَّ عَلَيْهِ , هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي أُمَرَائِي ؟ لَكُمْ صَفْوَةُ أَمْرِهِمْ وَعَلَيْهِمْ كَدَرُهُ } .(2/266)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذَا , بَلْ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لِوُجُوهٍ . أَوَّلُهَا : أَنَّ فِيهِ نَصًّا جَلِيًّا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ - وَهَذَا قَوْلُنَا . وَثَانِيهَا : أَنَّهُ عليه السلام أَمَرَ خَالِدًا بِالرَّدِّ عَلَيْهِ . وَثَالِثُهَا : أَنَّ فِي نَصِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا أَمَرَهُ بِأَنْ لَا يَرُدَّ عَلَيْهِ , لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْقَاتِلَ صَاحِبَ السَّلَبِ أَعْطَاهُ بِطَيِّبِ نَفْسٍ وَلَمْ يَطْلُبْ خَالِدًا بِهِ , وَأَنَّ عَوْفًا يَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ وَهَذَا هُوَ نَصُّ الْخَبَرِ . وَرَابِعُهَا : أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا يُوهِمُونَ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ , لِأَنَّ يَوْمَ حُنَيْنٍ الَّذِي قَالَ فِيهِ عليه السلام : { مَنْ قَتَلَ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ } كَانَ بَعْدَ يَوْمِ مُؤْتَةَ , بِلَا خِلَافٍ , وَيَوْمَ حُنَيْنٍ كَانَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ , وَقَدْ كَانَ قَتْلُ جَعْفَرٍ , وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ , وَابْنِ رَوَاحَةَ رضي الله عنهم قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ يَوْمَ مُؤْتَةَ , فَيَوْمُ حُنَيْنٍ حُكْمُهُ نَاسِخٌ لِمَا تَقَدَّمَ لَوْ كَانَ خِلَافَهُ . وَمَوَّهُوا أَيْضًا بِخَبَرِ قَتْلِ أَبِي جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَهُوَ أَحَدُ قَاتِلِيهِ , وَالثَّانِي : مُعَاذُ ابْنُ عَفْرَاءَ , وَأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَتَلَهُ أَيْضًا فَنَفَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَيْفَهُ .(2/267)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذَا كُلِّهِ , وَأَيْنَ يَوْمُ بَدْرٍ مِنْ يَوْمِ حُنَيْنٍ وَبَيْنَهُمَا أَعْوَامٌ ؟ وَمَا نَزَلَ حُكْمُ الْغَنَائِمِ إلَّا بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ فَكَيْفَ يَكُونُ السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ ؟ وَمَوَّهُوا بِخَبَرٍ سَاقِطٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ بُدَيْلِ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ { عَنْ رَجُلٍ مِنْ بُلْقِينَ , قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ أَحَدٌ أَحَقُّ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَغْنَمِ مِنْ أَحَدٍ ؟ قَالَ : لَا , حَتَّى السَّهْمُ يَأْخُذُهُ أَحَدُكُمْ مِنْ جَنْبِهِ فَلَيْسَ أَحَقَّ مِنْ أَخِيهِ بِهِ } . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : هَذَا عَنْ رَجُلٍ مَجْهُولٍ لَا يُدْرَى أَصَدَقَ فِي ادِّعَائِهِ الصُّحْبَةَ أَمْ لَا ؟ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ لِأَنَّ الْخُمُسَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ يَسْتَحِقُّهُ دُونَ أَهْلِ الْغَنِيمَةِ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ الْغَنِيمَةَ بِلَا خِلَافٍ , فَالسَّلَبُ مَضْمُومٌ إلَى ذَلِكَ بِالنَّصِّ . ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ : هَلَّا احْتَجَجْتُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ فِي قَوْلِكُمْ : إنَّ الْقَاتِلَ أَحَقُّ بِالسَّلَبِ مِنْ غَيْرِهِ إذَا قَالَ الْإِمَامُ : مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ ؟ فَكَانَ هَذَا الْخَبَرُ عِنْدَكُمْ مَخْصُوصًا بِقَوْلِ مَنْ لَا وَزْنَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ تَخُصُّوهُ بِقَوْلِ مَنْ لَا إيمَانَ لَكُمْ إنْ لَمْ تُسَلِّمُوا لِأَمْرِهِ وَقَضَائِهِ , تَبًّا لِهَذِهِ الْعُقُولِ الْمَكِيدَةِ .(2/268)
وَمَوَّهُوا بِمَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ وَاقِدٍ عَنْ مُوسَى بْنِ يَسَارٍ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ { أَنَّ حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ قَتَلَ قَتِيلًا فَأَرَادَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنْ يُخَمِّسَ سَلَبَهُ , فَقَالَ لَهُ حَبِيبٌ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ , فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ : مَهْلًا يَا حَبِيبُ , سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : إنَّمَا لِلْمَرْءِ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِهِ } . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَذَا خَبَرُ سُوءٍ مَكْذُوبٌ بِلَا شَكٍّ , لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ وَاقِدٍ , وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ قَالَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ : عَنْ مُوسَى بْنِ يَسَارٍ , وَقَدْ تَرَكَهُ يَحْيَى الْقَطَّانُ . وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ مُوسَى هَذَا أَنَّهُ قَالَ : كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَعْرَابًا حُفَاةً فَجِئْنَا نَحْنُ أَبْنَاءَ فَارِسٍ فَلَخَّصْنَا هَذَا الدِّينَ - فَانْظُرُوا بِمَنْ يَحْتَجُّونَ عَلَى السُّنَنِ الثَّابِتَةِ . ثُمَّ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ جُنَادَةَ - وَمَكْحُولٌ لَمْ يُدْرِكْ جُنَادَةَ . ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ , لِأَنَّهُ مُبْطِلٌ لِقَوْلِهِمْ : إنَّ الَّذِي وَجَدَ الرِّكَازَ لَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِجَمِيعِهِ دُونَ طِيبِ نَفْسِ إمَامِهِ . ثُمَّ نَقُولُ لِلْمُحْتَجِّ بِهَذَا الْخَبَرِ : أَرَأَيْت إنْ لَمْ تَطِبْ نَفْسُ الْإِمَامِ لِبَعْضِ الْجَيْشِ بِسَهْمِهِمْ مِنْ الْغَنِيمَةِ أَيَبْطُلُ بِذَلِكَ حَقَّهُمْ ؟ إنَّ هَذَا لَعَجِيبٌ وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهَذَا ; فَصَارُوا أَوَّلَ مُخَالِفٍ لِمَا حَقَّقُوهُ وَاحْتَجُّوا بِهِ , وَهَذَا فِعْلُ مِنْ لَا وَرَعَ لَهُ .(2/269)
وَقَالُوا : قَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ غَالِبِ بْنِ حَجْرَةَ عَنْ أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ بِنْتِ الْمِلْقَامِ بْنِ التَّلِبِ عَنْ أَبِيهَا [ عَنْ أَبِيهِ ] أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { مَنْ أَتَى بِمَوْلًى فَلَهُ سَلَبُهُ } قَالُوا : فَقُولُوا بِهَذَا أَيْضًا " . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : فَقُلْنَا إنَّمَا يَلْزَمُ الْقَوْلُ بِهَذَا مَنْ يَقُولُ بِحَدِيثِ مُبَشِّرِ بْنِ عُبَيْدٍ الْحِمْصِيِّ لَا صَدَاقَ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ , وَمَنْ يَقُولُ بِحَدِيثِ أَبِي زَيْدٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ فِي إبَاحَةِ الْوُضُوءِ بِالْخَمْرِ , وَتِلْكَ النَّطَائِحُ وَالْمُتَرَدِّيَاتُ . فَهَذَا الْخَبَرُ مُضَافٌ إلَى تِلْكَ . وَأَمَّا مَنْ لَا يَأْخُذُ إلَّا بِمَا رَوَى الثِّقَةُ عَنْ الثِّقَةِ فَلَيْسَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْخُذَ بِمَا رَوَاهُ غَالِبُ بْنُ حَجْرَةَ الْمَجْهُولُ عَنْ أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ بِنْتِ الْمِلْقَامِ الَّتِي لَا يُدْرَى مَنْ هِيَ ؟ عَنْ أَبِيهَا الَّذِي لَا يُعْرَفُ , وَالْقَوْمُ فِي عَمًى نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِمَّا ابْتَلَاهُمْ بِهِ , وَتَاللَّهِ لَوْ صَحَّ لَقُلْنَا بِهِ وَلَمْ نَجِدْ فِي أَنْفُسِنَا حَرَجًا مِنْهُ . فَإِنْ ذَكَرُوا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ وَقَدْ قِيلَ : إنَّ عَمْرَو بْنَ شُعَيْبٍ رَوَاهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْأَنْفَالِ " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُنْفِلُ الرَّجُلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ سَلَبَ الْكَافِرِ إذَا قَتَلَهُ , فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرُدَّ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ , قَالَ { اتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } أَيْ لِيَرُدَّنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ .(2/270)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَذَا لَا شَيْءَ لِأَنَّهَا صَحِيفَةٌ وَمُرْسَلٌ , وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ فِي أَمْرِ بَدْرٍ وَقَدْ قُلْنَا : إنَّ الْقَضَاءَ بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ كَانَ فِي حُنَيْنٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَعْوَامٍ سِتَّةٍ أَوْ نَحْوِهَا . ثُمَّ مَوَّهُوا بِقِيَاسَاتٍ سَخِيفَةٍ كُلُّهَا لَازِمٌ لَهُمْ وَغَيْرُ لَازِمٍ لَنَا . مِنْهَا : أَنْ قَالُوا : لَمَّا كَانَ الْغَانِمُ لَيْسَ أَحَقَّ بِمَا غَنِمَ كَانَ الْقَاتِلُ فِي السَّلَبِ كَذَلِكَ ; وَلَوْ كَانَ السَّلَبُ حَقًّا لِلْقَاتِلِ لَكَانَتْ الْأَسْلَابُ - إذَا لَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُو أَهْلِهَا - مُوقَفَةً كَاللُّقَطَةِ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : الْقِيَاسُ بَاطِلٌ , وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْقِيَاسُ مَنْ صَحَّحَهُ , وَهُمْ يُصَحِّحُونَهُ فَهُوَ لَهُمْ لَازِمٌ فَلْيُبْطِلُوا بِهَاتَيْنِ الْأُحْمُوقَتَيْنِ قَوْلَهُمْ : [ إنَّ السَّلَبَ ] لِلْقَاتِلِ إذَا قَالَ الْإِمَامُ [ قَبْلَ الْقِتَالِ ] : مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ - فَهَذَا يَلْزَمُهُمْ إذْ عَدَلُوا هَذَا الْإِلْزَامَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ . وَأَمَّا نَحْنُ فَنَقُولُ : إنَّ كُلَّ مَالٍ لَا يُعْرَفُ صَاحِبُهُ فَهُوَ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ , وَكُلُّ سَلَبٍ لَا تَقُومُ لَقَاتَلَهُ بَيِّنَةٌ فَهُوَ فِي جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ بِحُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَصِّ قَوْلِهِ لَا نَتَعَدَّاهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .(2/271)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَيَكْفِي مِنْ هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } وَقَدْ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ إذَا قَامَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ , فَإِنْ كَانَتْ طَاعَتُهُ عليه السلام وَاجِبَةً فَالسَّلَبُ حَقٌّ لِلْقَاتِلِ مَتَى قَامَتْ لَهُ بِهِ بَيِّنَةٌ وَلَا خِيرَةَ لِأَحَدٍ - لَا إمَامٍ وَلَا غَيْرِهِ - فِي خِلَافِ ذَلِكَ , لِنَصِّ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى , وَإِنْ كَانَتْ طَاعَتُهُ عليه السلام لَيْسَتْ وَاجِبَةً فَهَذَا كُفْرٌ مِنْ قَائِلِهِ , وَإِذَا لَمْ يَكُنْ السَّلَبُ مِنْ حَقِّ الْقَاتِلِ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام : إنَّهُ لَهُ إذَا قَامَتْ لَهُ بِهِ بَيِّنَةٌ , فَمِنْ أَيْنَ خَرَجَ لَهُمْ ؟ وَأَيْنَ وَجَدُوا مَا يُوجِبُ قَوْلَهُمْ الْفَاسِدَ ؟ : فِي أَنَّ الْإِمَامَ إذَا قَالَ : مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ . كَانَ السَّلَبُ حِينَئِذٍ لِلْقَاتِلِ , وَلَا نُعْمَى عَيْنٍ لِلْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَحْرِيمًا أَوْ إيجَابًا . فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ جُمْلَةً وَتَعَرِّيه مِنْ الدَّلِيلِ , وَهُوَ قَوْلٌ لَمْ يُحْفَظْ قَطُّ قَبْلَهُمْ لَا عَنْ صَاحِبٍ , وَلَا عَنْ تَابِعٍ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ .
( ما أسكر كثيره فقليله حرام )(2/272)
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ قَالَ : رَأَيْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى يَشْرَبُ نَبِيذَ الْجُرِّ بَعْدَ أَنْ يَسْكُنَ غَلَيَانُهُ - يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ ضَعِيفٌ . وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْأَحْمَرِ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ الطِّلَاءَ الشَّدِيدَ - وَهَذَا يَخْرُجُ عَلَى أَنَّهُ لَفِيفٌ جِدًّا - فَلَوْ كَانَتْ حَرَامًا مَا خَفِيَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ سَلَفَ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ ; لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِوَضْعِ الْأَيْدِي عَلَى الرُّكَبِ فِي الصَّلَاةِ , وَقَدْ خَفِيَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ [ أَبَدًا ] . وَيَقُولُونَ : بِأَنْ يَتَيَمَّمَ الْجُنُبُ إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ , وَقَدْ خَفِيَ ذَلِكَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ , وَابْنِ مَسْعُودٍ . وَقَدْ خَفِيَ عَلَى الْأَنْصَارِ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ } حَتَّى ذُكِّرُوا بِهِ - وَالْأَمْرُ هُنَا يَتَّسِعُ , وَلَيْسَ كُلُّ صَاحِبٍ يُحِيطُ بِجَمِيعِ السُّنَنِ . وَقَالُوا أَيْضًا : قَدْ صَحَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ , وَلَا يَكْفُرُ مَنْ لَمْ يُحَرِّمْ مَا سِوَاهَا مِنْ الْأَنْبِذَةِ الْمُسْكِرَةِ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَذَا لَا شَيْءَ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَدْنَا إنْسَانًا غَابَ عَنْهُ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ فَلَمْ يَبْلُغْهُ لَمَا كَفَّرْنَاهُ فِي إحْلَالِهَا حَتَّى يَبْلُغَ إلَيْهِ الْأَمْرُ , فَحِينَئِذٍ إنْ أَصَرَّ عَلَى اسْتِحْلَالِ مُخَالَفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَفَرَ , لَا قَبْلَ ذَلِكَ .(2/273)
وَكَذَلِكَ مُسْتَحِلُّ النَّبِيذِ الْمُسْكِرِ وَكُلَّ مَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَحْرِيمُهُ لَا يَكْفُرُ مِنْ جَهْلِ ذَلِكَ وَلَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِهِ - فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَهُ , وَصَحَّ لَدَيْهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ ذَلِكَ فَأَصَرَّ عَلَى اسْتِحْلَالِ مُخَالَفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ كَافِرٌ وَلَا بُدَّ , وَلَا يَكْفُرُ جَاهِلٌ أَبَدًا حَتَّى يَبْلُغَهُ الْحُكْمُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا بَلَغَهُ وَثَبَتَ عِنْدَهُ فَحِينَئِذٍ يَكْفُرُ إنْ اعْتَقَدَ مُخَالَفَتَهُ عليه السلام , وَيَفْسُقُ إنْ عَمِلَ بِخِلَافِهِ غَيْرَ مُعْتَقِدٍ لِجَوَازِ ذَلِكَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَقَالَ تَعَالَى : { لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : فَسَقَطَ كُلُّ مَا شَغَبَ بِهِ أَهْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ , وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٌ مِمَّا أَوْرَدُوا كُلَّهُ أَوَّلُهُ عَنْ آخِرِهِ وَلَا لَفْظَةٌ وَاحِدَةٌ مُوَافِقَةٌ لِقَوْلِهِمْ : أَنَّ الْخَمْرَ الْمُحَرَّمَةَ لَيْسَتْ إلَّا عَصِيرَ الْعِنَبِ فَقَطْ دُونَ نَقِيعِ الزَّبِيبِ , وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ وَلَا كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ مُوَافِقَةٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّ الْخَمْرَ الْمُحَرَّمَةَ لَيْسَتْ إلَّا نَقِيعَ الزَّبِيبِ الَّذِي لَمْ يُطْبَخْ , وَعَصِيرَ الْعِنَبِ إذَا أَسْكَرَ . فَصَحَّ أَنَّهُمَا قَوْلَانِ فَاسِدَانِ مُبْتَدَعَانِ خَارِجَانِ عَنْ كُلِّ أَثَرٍ ثَبَتَ أَوْ لَمْ يَثْبُتْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ .(2/274)
وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ : هُوَ الَّذِي رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - وَهُوَ الَّذِي يَنْصُرُهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ مُقَلِّدِيهِ - عَلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّفْسِيرَ لَا يُحْفَظُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ آرَائِهِمْ الْخَبِيثَةِ - وَالْمَحْفُوظُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي كَلَامِهِ فِي الْعِتْقِ الَّذِي بَيْنَ كَلَامِهِ فِي الْكَرَاهَةِ وَكَلَامِهِ فِي الرَّهْنِ قَالَ مُحَمَّدٌ : أَنَا يَعْقُوبُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ : الْخَمْرُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا حَرَامٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ , وَالسُّكْرُ عِنْدَنَا حَرَامٌ مَكْرُوهٌ وَنَقِيعُ الزَّبِيبِ عِنْدَنَا إذَا اشْتَدَّ وَغَلَى عِنْدَنَا حَرَامٌ مَكْرُوهٌ - وَالطِّلَاءُ مَا زَادَ عَلَى مَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ فَهُوَ مَكْرُوهٌ , وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ فَلَا بَأْسَ بِهِ - وَكَانَ يَكْرَهُ دُرْدِيَّ الْخَمْرِ أَنْ يُشْرَبَ وَأَنْ تَمْتَشِطَ بِهِ الْمَرْأَةُ وَلَا يُحَدُّ مَنْ شَرِبَهُ إلَّا أَنْ يَسْكَرَ فَإِنْ سَكِرَ حُدَّ . هَذَا نَصُّ كَلَامِهِمْ هُنَالِكَ , وَدُرْدِيُّ الْخَمْرِ هُوَ الْعَكَرُ الَّذِي يُعْقَدُ مِنْهَا فِي قَاعِ الدَّنِّ .(2/275)
وَهُوَ خَمْرٌ بِلَا شَكٍّ , فَاعْجَبُوا لِهَذَا الْهَوَسِ وَأَمَّا رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فَإِنَّمَا هِيَ - : قَالَ مُحَمَّدٌ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْأَنْبِذَةُ كُلُّهَا حَلَالٌ إلَّا أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ : الْخَمْرُ , وَالْمَطْبُوخُ إذَا لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ , وَنَقِيعُ التَّمْرِ فَإِنَّهُ السَّكَرُ , وَنَقِيعُ الزَّبِيبِ . وَلَا خِلَافَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّ نَقِيعَ الدُّوشَاتِ عِنْدَهُ حَلَالٌ وَإِنْ أَسْكَرَ , وَكَذَلِكَ نَقِيعُ الرُّبِّ وَإِنْ أَسْكَرَ - : وَالدُّوشَاتُ مِنْ التَّمْرِ , وَالرُّبُّ مِنْ الْعِنَبِ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : كُلُّ شَرَابٍ مِنْ الْأَنْبِذَةِ يَزْدَادُ جَوْدَةً عَلَى التَّرْكِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ وَإِلَّا أُجِيزَ بَيْعُهُ وَوَقْتُهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ , فَإِذَا بَقِيَ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ فَهُوَ مَكْرُوهٌ , فَإِنْ كَانَ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ فَأَقَلَّ فَلَا بَأْسَ , بِهِ - وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ . هَذَا كَلَامُهُمْ فِي الْأَصْلِ الْكَبِيرِ , ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ; . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ مِمَّا عَدَا الْخَمْرَ أَكْرَهُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ . فَإِنْ صَلَّى إنْسَان وَفِي ثَوْبِهِ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَأَعَادَهَا أَبَدًا فَاعْجَبُوا لِهَذِهِ السَّخَافَاتِ لَئِنْ كَانَ تُعَادُ مِنْهُ الصَّلَاةُ أَبَدًا فَهُوَ نَجِسٌ , فَكَيْفَ يُبِيحُ شُرْبَ النَّجِسِ ؟ وَلَئِنْ كَانَ حَلَالًا فَلِمَ تُعَادُ الصَّلَاةُ مِنْ الْحَلَالِ ؟ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلَانِ .(2/276)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : فَأَوَّلُ فَسَادِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّهَا كُلُّهَا أَقْوَالٌ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ يُوَافِقُهَا وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ السُّنَنِ , وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ الرِّوَايَاتِ الضَّعِيفَةِ , وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَلَا صَحِيحٍ وَلَا غَيْرِ صَحِيحٍ , وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ التَّابِعِينَ , وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ أَبِي حَنِيفَةَ , وَلَا أَحَدٍ قَبْلَ أَبِي يُوسُفَ فِي تَحْدِيدِهِ عَشَرَةَ الْأَيَّامِ فَيَا لِعَظِيمِ مُصِيبَةِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ فِي أَنْفُسِهِمْ إذْ يُشَرِّعُونَ الشَّرَائِعَ فِي الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ مِنْ ذَوَاتِ أَنْفُسِهِمْ ثُمَّ بِأَسْخَفِ قَوْلٍ وَأَبْعَدِهِ عَنْ الْمَعْقُولِ ؟ قَالَ عَلِيٌّ : وَبَقِيَ مِمَّا مَوَّهَ بِهِ مُقَلِّدُو أَبِي حَنِيفَةَ أَشْيَاءَ نُورِدُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَنَذْكُرُ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى فَسَادَهَا , ثُمَّ نُعَقِّبُ بِالسُّنَنِ الثَّابِتَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ رضي الله عنهم . قَالَ عَلِيٌّ : قَالُوا : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { كُلُوا وَاشْرَبُوا } . فَاقْتَضَى هَذَا إبَاحَةَ كُلِّ مَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ فَلَا يَحْرُمُ بَعْدَ هَذَا إلَّا مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ أَوْ جَاءَ مِنْ مَجِيءِ التَّوَاتُرِ , لِأَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ .(2/277)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : مِنْ هُنَا بَدَءُوا بِالتَّنَاقُضِ وَمَا خَالَفْنَاهُمْ قَطُّ لَا نَحْنُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ الْخَمْرَ , وَلَا الْخِنْزِيرَ , وَلَا الْمَيْتَةَ حَتَّى نَزَلَ تَحْرِيمُ كُلِّ ذَلِكَ , فَلَمَّا نَزَلَ التَّحْرِيمُ حَرَّمَ مَا نَزَلَ تَحْرِيمُهُ وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ حَرَّمَ نَبِيذَ ثَمَرِ النَّخِيلِ بِخَبَرٍ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ غَيْرِ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ وَلَا مَنْقُولٍ نَقْلَ التَّوَاتُرِ . ثُمَّ قَالُوا : صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ النَّخْلَةِ وَالْعِنَبَةِ } فَالْخَمْرُ لَا تَكُونُ إلَّا مِنْهُمَا هَذَا كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ , وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ بَلْ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ قَاطِعَةٌ . وَهَذَا خَبَرٌ رُوِّينَاهُ مِنْ طُرُقٍ كُلِّهَا تَرْجِعُ إلَى الْأَوْزَاعِيِّ , وَيَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَا جَمِيعًا : نا أَبُو كَثِيرٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ النَّخْلَةِ وَالْعِنَبَةِ } . أَبُو كَثِيرٍ اسْمُهُ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ . قَالَ عَلِيٌّ : فَافْتَرَقُوا فِي خِلَافِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ - : فَأَمَّا الطَّحَاوِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ : لَيْسَ ذِكْرُهُ عليه السلام النَّخْلَةَ مَعَ الْعِنَبَةِ بِمُوجِبٍ أَنْ يَكُونَ الْخَمْرُ مِنْ النَّخْلَةِ بَلْ الْخَمْرُ مِنْ الْعِنَبَةِ فَقَطْ قَالَ : وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } .(2/278)
قَالَ : فَإِنَّمَا يَخْرُجُ اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ مِنْ أَحَدِهِمَا - : قَالَ : وَمِثْلُ قوله تعالى : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ } قَالَ : وَإِنَّمَا الرُّسُلُ مِنْ الْإِنْسِ لَا مِنْ الْجِنِّ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ الطَّحَاوِيُّ , وَكَذَبَ مَنْ أَخْبَرَهُ بِمَا ذُكِرَ بَلْ اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ خَارِجَانِ مِنْ الْبَحْرَيْنِ اللَّذَيْنِ بَيْنَهُمَا الْبَرْزَخُ فَلَا يَبْغِيَانِ , وَلَقَدْ جَاءَتْ الْجِنَّ رُسُلٌ مِنْهُمْ بِيَقِينٍ , لِأَنَّهُمْ بِنَصِّ الْقُرْآنِ مُتَعَبَّدُونَ مَوْعُودُونَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ . وَقَدْ صَحَّ مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ نا قُتَيْبَةَ نا إسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ - عَنْ الْعَلَاءِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ } فَذَكَرَ مِنْهَا { وَأُرْسِلْت إلَى الْخَلْقِ كَافَّةً } . وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْعَوْفِيُّ نا هُشَيْمٌ أَنَا سَيَّارٌ نا يَزِيدُ هُوَ ابْنُ صُهَيْبٍ الْفَقِيرُ أَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ : { أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي } فَذَكَرَ فِيهَا { وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إلَى النَّاسِ عَامَّةً } .(2/279)
1214 - مَسْأَلَةٌ : وَمَنَافِعُ الرَّهْنِ كُلُّهَا لَا تَحَاشٍ مِنْهَا شَيْئًا لِصَاحِبِهِ الرَّاهِنِ لَهُ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ الرَّهْنِ وَلَا فَرْقَ - حَاشَا رُكُوبِ الدَّابَّةِ الْمَرْهُونَةِ , وَحَاشَا لَبَنِ الْحَيَوَانِ الْمَرْهُونِ , فَإِنَّهُ لِصَاحِبِ الرَّهْنِ كَمَا ذَكَرْنَا إلَّا أَنْ يُضَيِّعَهُمَا فَلَا يُنْفِقُ عَلَيْهِمَا . وَيُنْفِقُ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ فَيَكُونُ لَهُ حِينَئِذٍ : رُكُوبُ الدَّابَّةِ , وَلَبَنُ الْحَيَوَانِ , بِمَا أَنْفَقَ لَا يُحَاسَبُ بِهِ مِنْ دَيْنِهِ كَثُرَ ذَلِكَ أَمْ قَلَّ . بُرْهَانُ ذَلِكَ - : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ } وَحَكَمَ عليه السلام بِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئِ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبِ نَفْسِهِ وَمِلْكُ الشَّيْءِ الْمُرْتَهَن بَاقٍ لِرَاهِنِهِ بِيَقِينِ وَبِإِجْمَاعِ لَا خِلَافَ فِيهِ , فَإِذْ هُوَ كَذَلِكَ , فَحَقُّ الرَّهْنِ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ لِلْمُرْتَهِنِ , وَلَمْ يُنْقَلُ مِلْكُ الرَّاهِنِ عَنْ الشَّيْءِ الْمَرْهُونِ لَا يُوجِبُ حُدُوثَ حُكْمٍ فِي مَنْعِهِ مَا لِلْمَرْءِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ نَصٍّ بِذَلِكَ , فَلَهُ الْوَطْءُ , وَالِاسْتِخْدَامُ , وَالْمُؤَاجَرَةُ , وَالْخِيَاطَةُ , وَأَكْلُ الثَّمَرَةِ الْحَادِثَةِ , وَالْوَلَدُ الْحَادِثُ , وَالزَّرْعُ , وَالْعِمَارَةُ , وَالْأَصْوَافُ الْحَادِثَةُ , وَالسُّكْنَى , وَسَائِرُ مَا لِلْمَرْءِ فِي مِلْكِهِ , إلَّا كَوْنَ الرَّهْنِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَقَطْ , بِحَقِّ الْقَبْضِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ , وَلَا مَزِيدَ .(2/280)
وَأَمَّا الرُّكُوبُ , وَالِاحْتِلَابُ خَاصَّةً , لِمَنْ أَنْفَقَ عَلَى الْمَرْكُوبِ , وَالْمَحْلُوبِ - : فَلِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ أَنَا زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { الظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إذَا كَانَ مَرْهُونًا , وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إذَا كَانَ مَرْهُونًا , وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ : النَّفَقَةُ } وَالنَّصُّ قَدْ وَرَدَ بِتَحْرِيمِ الْأَمْوَالِ عَلَى غَيْرِ مَنْ لَهُ فِيهَا حَقٌّ , فَالرَّهْنُ بِلَا شَكٍّ حَرَامٌ عَلَى كُلِّ مَنْ عَدَا الرَّاهِنِ , وَلِلْمُرْتَهِنِ فِيهِ حَقُّ الِارْتِهَانِ , فَدَخَلَ بِهِ فِي هَذَا الْعُمُومِ وَخَرَجَ مِنْهُ مَنْ عَدَاهُ بِالنَّصِّ الْآخَرِ .(2/281)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَمَنْ خَالَفَنَا فِي هَذَا فَإِنَّهُ يُخَالِفُ الْقُرْآنَ , وَالسُّنَنَ , وَالْمَعْقُولَ - : أَمَّا الْقُرْآنُ , وَالسُّنَنُ فَمَنْعُهُ صَاحِبَ الْحَقِّ مِنْ مَنَافِعِ مَالِهِ - وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : { وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ } فَقَدْ أَطْلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى وَطْءِ أَمَتِهِ , وَلَمْ يَخُصَّ غَيْرَ مَرْهُونَةٍ مِنْ مَرْهُونَةٍ { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } وَقَالَ تَعَالَى : { لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } وَأَمَّا خِلَافُ الْمَعْقُولِ - : فَإِنَّنَا نَسْأَلُ مَنْ خَالَفَنَا هَاهُنَا عَنْ الدَّارِ الْمَرْهُونَةِ أَتُؤَاجَرُ وَيُصْلِحُ مَا هِيَ فِيهَا , أَمْ تُهْمَلُ وَتَضِيعُ وَيَخْرُجُ الْمُسْتَأْجِرُ لَهَا عَنْهَا ؟ وَعَنْ الْأَرْضِ الْمَرْهُونَةِ , أَتُحْرَثُ وَتُزْرَعُ , أَمْ تُهْمَلُ وَتُضَاعُ ؟ وَعَنْ الْحَيَوَانِ الْمَرْهُونِ أَيُنْفِقُ عَلَيْهِ وَيُسْتَغَلُّ , أَمْ يَضِيعُ حَتَّى يَهْلَكَ ؟ وَعَنْ الْأَشْجَارِ الْمَرْهُونَةِ لِمَنْ تَكُونُ غَلَّتُهَا ؟ فَإِنْ قَالُوا : إنَّ كُلَّ ذَلِكَ يَضِيعُ - : خَالَفُوا الْإِجْمَاعَ , وَقِيلَ لَهُمْ : قَدْ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ } .(2/282)
وَإِنْ قَالُوا : لَا يَضِيعُ ؟ قُلْنَا : فَالْمَنَافِعُ الْمَذْكُورَةُ مِنْ الْإِجَارَةِ وَاللَّبَنِ , وَالْوَلَدِ , وَالصُّوفِ , وَالثَّمَرَةِ لِمَنْ تَكُونُ ؟ فَإِنْ قَالُوا : تَكُونُ دَاخِلًا فِي الرَّهْنِ ؟ قُلْنَا لَهُمْ : وَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ إدْخَالُ مَالٍ مِنْ مَالِهِ فِي رَهْنٍ لَمْ يَتَعَاقَدَا قَطُّ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِيهِ ؟ وَمَنْ أَمَرَ بِهَذَا ؟ فَلَا سَمْعَ لَهُ وَلَا طَاعَةَ وَلَا نَعْمَى عَيْنٍ , لِأَنَّهُ خِلَافُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ } وَهَذَا تَحْرِيمُ مَالِهِ عَلَيْهِ وَإِبَاحَتُهُ لِغَيْرِهِ - وَهَذَا بَاطِلٌ مُتَيَقَّنٌ . وَإِنْ قَالُوا : بَلْ هُوَ لِصَاحِبِ الْمِلْكِ ؟ قُلْنَا : نَعَمْ , وَهَذَا قَوْلُنَا - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - وَصَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مِنْ قَوْلِهِ مِثْلُ قَوْلِنَا - : وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ : صَاحِبُ الرَّهْنِ يَرْكَبُهُ , وَصَاحِبُ الدَّرِّ يَحْلُبُهُ , وَعَلَيْهِمَا النَّفَقَةُ وَأَنَّهُ قَالَ : الرَّهْنُ مَرْكُوبٌ , وَمَحْلُوبٌ بِعَلَفِهِ . وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ : فِيمَنْ ارْتَهَنَ شَاةً ذَاتَ لَبَنٍ ؟ قَالَ : يَشْرَبُ الْمُرْتَهِنُ مِنْ لَبَنِهَا بِقَدْرِ ثَمَنِ عَلَفِهَا , فَإِنْ اسْتَفْضَلَ مِنْ اللَّبَنِ بَعْدَ ثَمَنِ الْعَلَفِ فَهُوَ رِبًا . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : هَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنْ إبْرَاهِيمَ لَا نَقُولُ بِهَا , وَعُمُومُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ تَفْسِيرِ أَبِي عِمْرَانَ رحمه الله بِرَأْيِهِ . وَلَا مُخَالِفَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ هَاهُنَا مِنْ الصَّحَابَةِ نَعْلَمُهُ .(2/283)
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : جَمِيعُ مَنَافِعِ الرَّهْنِ لِلرَّاهِنِ كَمَا كَانَتْ . وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ بِذَلِكَ - وَبِقَوْلِنَا فِي الرُّكُوبِ , وَالْحَلْبِ , إلَّا أَنَّهُ زَادَ الِاسْتِخْدَامَ وَلَا نَقُولُ بِهَذَا لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهِ النَّصُّ , وَالْقِيَاسُ لَا يُسْتَحَلُّ بِهِ الْمُحَرَّمُ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } وَقَالَ إسْحَاقُ , وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : لَا يَنْتَفِعُ الرَّاهِنُ مِنْ الرَّهْنِ إلَّا بِالدَّرِّ - وَهَذَا قَوْلٌ بِلَا بُرْهَانٍ . وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ قَالَ : لَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُرْتَهِنُ مَنْفَعَةَ الرَّهْنِ إلَى أَجَلٍ فِي الدُّورِ , وَالْأَرْضِينَ , وَكَرِهَ ذَلِكَ فِي الْحَيَوَانِ , وَالثِّيَابِ وَالْعَرُوضِ - وَهَذَا قَوْلٌ لَا بُرْهَانٍ عَلَى صِحَّتِهِ , وَتَقْسِيمٌ فَاسِدٌ , وَشَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ , وَقَوْلٌ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهُ قَبْلَهُ , وَمُنَاقَضَةٌ . وَأَتَى بَعْضُهُمْ بِغَرِيبَةِ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ : هُوَ فِي الْعَرُوضِ سَلَفٌ جَرَّ مَنْفَعَةً ؟ فَقِيلَ لَهُ : وَهُوَ فِي الْعَقَارِ كَذَلِكَ وَلَا فَرْقَ وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ فَإِنَّهُمْ مَنَعُوا مِنْ مُؤَاجَرَةِ الرَّهْنِ , وَمِنْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ - ثُمَّ تَنَاقَضُوا مِنْ قُرْبٍ فَأَبَاحُوا لِلرَّاهِنِ أَنْ يَسْتَعِيرَهُ مِنْ الْمُرْتَهِنِ , وَأَنْ يُعِيرَهُ إيَّاهُ الْمُرْتَهِنُ , وَلَمْ يَرَوْهُ بِذَلِكَ خَارِجًا مِنْ الرَّهْنِ - وَهَذَا قَوْلٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ لِتَعَرِّيه مِنْ الْبُرْهَانِ , وَلِأَنَّنَا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِهِ قَبْلَهُ .(2/284)
وَاعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ بِأَنْ قَالَ : فَإِذَا كَانَتْ الْمَنَافِعُ لِلرَّاهِنِ كَمَا كَانَتْ فَأَيُّ فَائِدَةٍ لِلرَّهْنِ ؟ قُلْنَا : أَعْظَمُ الْفَائِدَةِ - : أَمَّا فِي الْآخِرَةِ , فَالْعَمَلُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَالْأَجْرُ , وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا , فَلِأَنَّ الرَّاهِنَ إنْ مَطَلَ بِالْإِنْصَافِ بِيعَ الرَّهْنُ وَتَعَجَّلَ الْمُرْتَهِنُ الِانْتِصَافَ مِنْ حَقِّهِ , فَأَيُّ فَائِدَةٍ تُرِيدُونَ أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الْفَائِدَةِ ؟ وَنَقُولُ لَهُمْ : أَنْتُمْ تُوَافِقُونَنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْقَمْحُ بِالْقَمْحِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلِ , فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي هَذَا ؟ وَكَذَلِكَ الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ , وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ - وَهَذِهِ اعْتِرَاضَاتٌ بِسُوءِ الظَّنِّ بِصَاحِبِهَا وَلَيْسَ إلَّا الِائْتِمَارُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم .(2/285)
قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } وَاعْتَرَضَ بَعْضُ مَنْ لَا يَتَّقِي اللَّهَ تَعَالَى عَلَى حَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي أَوْرَدْنَا قَبْلُ مِنْ قَوْلِهِ عليه السلام : { الرَّهْنُ مَحْلُوبٌ وَمَرْكُوبٌ } فَقَالَ : هَذَا خَبَرٌ رَوَاهُ هُشَيْمٌ عَنْ زَكَرِيَّا عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { إذَا كَانَتْ الدَّابَّةُ مَرْهُونَةً فَعَلَى الْمُرْتَهِنِ عَلَفُهَا , وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهَا وَتُرْكَبُ } قَالَ هَذَا الْجَاهِلُ الْمُقَدَّمُ : فَإِذْ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ فَهُوَ مَنْسُوخٌ بِتَحْرِيمِ الرِّبَا وَبِالنَّهْيِ عَنْ سَلَفٍ جَرَّ مَنْفَعَةً .(2/286)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَذَا كَلَامٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَالْجُرْأَةِ , أَوَّلُ ذَلِكَ - : إنَّ هَذَا خَبَرٌ لَيْسَ مُسْنَدًا , لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ بِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَيْضًا : فَإِنَّ فِيهِ لَفْظًا مُخْتَلِفًا لَا يُفْهَمُ أَصْلًا , وَهُوَ قَوْلُهُ : { وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ وَعَلَى الَّذِي يَشْرَبُ نَفَقَتُهَا وَتُرْكَبُ } , وَحَاشَا اللَّهِ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَأْمُورِ بِالْبَيَانِ لَنَا , وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ إنَّمَا هِيَ مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَالِمٍ الصَّائِغِ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ عَنْ هُشَيْمٍ , فَالتَّخْلِيطُ مِنْ قِبَلِهِ , لَا مِنْ قِبَلِ هُشَيْمٍ فَمَنْ فَوْقَهُ , لِأَنَّ حَدِيثَ هُشَيْمٍ هَذَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ الَّذِي هُوَ أَحْفَظُ النَّاسِ لِحَدِيثِ هُشَيْمٍ وَأَضْبَطُهُمْ لَهُ فَقَالَ : نا هُشَيْمٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُ الْحَدِيثَ فِيمَا زَعَمَ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { الرَّهْنُ يُرْكَبُ وَيُعْلَفُ , وَلَبَنُ الدَّرِّ إذَا كَانَ مَرْهُونًا يُشْرَبُ وَعَلَى الَّذِي يَشْرَبُهُ النَّفَقَةُ وَالْعَلَفُ } . وَأَمَّا قَوْلُ هَذَا الْجَاهِلِ : فَإِذْ ذَلِكَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَهُوَ مَنْسُوخٌ بِالنَّهْيِ عَنْ الرِّبَا وَبِالنَّهْيِ عَنْ سَلَفٍ جَرَّ مَنْفَعَةً - : فَقَدْ كَذَبَ , وَأَفِك , وَمَا لِلرِّبَا هَاهُنَا مَدْخَلٌ أَصْلًا وَلَوْ أَنَّهُمْ اتَّقُوا الرِّبَا لَمَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ جِهَارًا إذْ أَبَاحُوا التَّمْرَتَيْنِ بِالْأَرْبَعِ تَمَرَات , وَإِنْ كَانَتْ الْأَرْبَعُ أَكْبَرَ جِسْمًا , وَأَثْقَلِ وَزْنًا .(2/287)
وَإِذْ أَبَاحَ بَعْضُهُمْ دِرْهَمًا فِيهِ دِرْهَمٌ وَنِصْفٌ بِدِرْهَمِ فِيهِ دِرْهَمٌ غَيْرُ ثَمَنٍ . وَإِذْ أَبَاحُوا كُلُّهُمْ أَلْفَ دِرْهَمٍ حَاضِرَةٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ غَائِبَةٍ فِي الذِّمَّةِ . فَهَذَا هُوَ الرِّبَا حَقًّا لَا انْتِفَاعُ الرَّاهِنِ بِمَالِهِ وَلَا انْتِفَاعُ الْمُرْتَهِنِ بِالدَّرِّ , وَالرُّكُوبِ الْمُبَاحَيْنِ لَهُ بِالنَّصِّ مِنْ أَجْلِ نَفَقَتِهِ عَلَى الْمَرْكُوبِ وَالْمَحْلُوبِ . وَقَالُوا أَيْضًا : قَدْ صَحَّ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَنْتَفِعَ الرَّاهِنُ مِنْ رَهْنِهِ بِشَيْءِ ؟ قَالُوا : وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ , فَلَمْ يَتْرُكْهُ إلَّا لِفَضْلِ عِلْمٍ عِنْدَهُ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَذَا مِنْ أَسْخَفِ مَا يَأْتُونَ بِهِ , وَلَقَدْ كُنَّا نَظُنُّ أَنَّ فِي بِلَادِهِمْ بَعْضَ الْعُذْرِ لَهُمْ , إذْ يَحْتَجُّونَ بِتَرْكِ الصَّاحِبِ لِمَا رُوِيَ حَتَّى أَتَوْنَا بِتَرْكِ السُّنَّةِ مِنْ أَجَلِ تَرْكِ الشَّعْبِيُّ لَهَا . وَقَدْ أَوْرَدْنَا أَخْذَ أَبِي هُرَيْرَةَ بِمَا رُوِيَ مِنْ ذَلِكَ , فَلَئِنْ مَشَوْا هَكَذَا , لِيَكُونَنَّ تَرْكُ مَالِكٍ لِلْأَخْذِ بِمَا رُوِيَ حُجَّةً عَلَى الْحَنَفِيِّينَ فِي أَخْذِهِمْ بِهِ , وَلَيَكُونَنَّ تَرْكُ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَا بَلَغَهُ مِنْ الْحَدِيثِ حُجَّةً عَلَى الْمَالِكِيِّينَ فِي أَخْذِهِمْ بِهِ , وَهَكَذَا سُفْلًا حَتَّى يَكُونَ تَرْكُ كُلِّ أَحَدٍ لِلْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إذَا بَلَغَهُ حُجَّةً قَاطِعَةً فِي رَدِّهِ . وَهَذَا مَذْهَبُ إبْلِيسَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ , وَلَا كَرَامَةَ لِأَحَدٍ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَلْ هُوَ عليه السلام الْحُجَّةُ عَلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ .(2/288)
وَأَسْلَمُ الْوُجُوهِ لِمَنْ خَالَفَ مَا رُوِيَ عَنْ صَاحِبٍ فَمَنْ دُونَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ خَاصَّةً أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ النِّسْيَانُ أَوْ التَّأْوِيلُ الَّذِي أَخْطَئُوا فِيهِ قَاصِدِينَ لِلْخَيْرِ , فَيُؤْجَرُونَ مَرَّةً وَاحِدَةً , وَأَمَّا مَنْ أَقْدَمَ عَلَى مَا صَحَّ عِنْدَهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنْ اعْتَقَدَ جَوَازَ مُخَالَفَتِهِ عليه السلام كَافِرٌ حَلَالُ الدَّمِ وَالْمَالِ , وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ فَهُوَ فَاسِقٌ قَالَ تَعَالَى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ , وَابْنِ عُمَرَ , وَشُرَيْحٍ : أَنْ لَا يَنْتَفِعَ الْمُرْتَهِنُ بِشَيْءِ مِنْ الرَّهْنِ - وَلَا يَصِحُّ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ , لِأَنَّهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مُنْقَطِعٌ - وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ , وَعَنْ شُرَيْحٍ مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ الْجُعْفِيُّ . بَلْ قَدْ صَحَّ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ , وَالشَّعْبِيِّ : لَا يَنْتَفِعُ مِنْ الرَّهْنِ بِشَيْءِ - وَهَذَا صَحِيحٌ إنْ كَانُوا عَنَوْا الْمُرْتَهِنَ وَبِهِ نَقُولُ إلَّا الْحَلْبَ , وَالرُّكُوبَ إنْ أَنْفَقَ فَقَطْ , وَإِلَّا فَلَا - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ .(2/289)
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ , وَمَالِكٌ , وَالشَّافِعِيُّ , وَأَحْمَدُ , وَأَبُو سُلَيْمَانَ : نَفَقَةُ الرَّهْنِ عَلَى رَاهِنِهِ - وَهَذَا صَحِيحٌ , لِأَنَّهُ مَالُهُ , إلَّا أَنَّ الْحَنَفِيِّينَ قَالُوا : إنْ مَرِضَ الرَّقِيقُ الْمَرْهُونُ , أَوْ أَصَابَتْ الْعَبْدَ جِرَاحَةٌ , أَوْ دَبَّرَتْ الدَّوَابُّ الْمَرْهُونَةُ , فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ , وَقِيمَةُ الرَّهْنِ سَوَاءً , فَالْعِلَاجُ كُلُّهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ , وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الرَّهْنِ فَالْعِلَاجُ عَلَى الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ بِحِسَابِ ذَلِكَ . وَهَذَا كَلَامٌ يُشْبِهُ الْهَذَيَانَ إلَّا أَنَّهُ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْهَذَيَانِ , لِأَنَّهُ عَلَى حُكْمٍ فِي الدَّيْنِ بِالْآرَاءِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي لَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهَا قَبْلَهُ , وَلَا مُتَعَلِّقَ لَهُمْ فِيهَا بِقُرْآنِ , وَلَا سُنَّةٍ , وَلَا بِرِوَايَةِ ضَعِيفَةٍ , وَلَا بِقِيَاسِ , وَلَا بِرَأْيِ سَدِيدٍ , وَلَا بِقَوْلِ مُتَقَدِّمٍ .(2/290)
وَقَالَ فِي لُقَطَةِ غَيْرِ الْحَرَمِ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ : أَنَّ زَيْدَ بْنَ الْأَخْنَسِ الْخُزَاعِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ : وَجَدْت لُقَطَةً أَفَأَتَصَدَّقُ بِهَا ؟ قَالَ : لَا تُؤْجَرُ أَنْتَ وَلَا صَاحِبُهَا , قُلْت : أَفَأَدْفَعُهَا إلَى الْأُمَرَاءِ ؟ قَالَ : إذًا يَأْكُلُونَهَا أَكْلًا سَرِيعًا قُلْت : وَكَيْفَ تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ : عَرِّفْهَا سَنَةً , فَإِنْ اعْتَرَفَتْ وَإِلَّا فَهِيَ لَك كَمَالِك فَهَذَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ : بِإِيجَابِ أَخْذِ اللُّقَطَةِ وَلَا بُدَّ , وَيَرَاهَا بَعْدَ الْحَوْلِ قَدْ صَارَتْ مِنْ مَالِ الْمُلْتَقِطِ , إلَّا لُقَطَةَ مَكَّةَ . وَقَوْلُنَا فِي لُقَطَةِ مَكَّةَ هُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ , وَأَبِي عُبَيْدٍ , نَا بِذَلِكَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْجَسُورِ قَالَ : نا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنُ رِفَاعَةَ نا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ نا أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ بِذَلِكَ - وَعَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مِنْ قَوْلِهِ .(2/291)
وَأَمَّا مَا عَدَا لُقَطَةَ الْحَرَمِ , وَالْحَاجِّ , فَلِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نا مُسَدَّدٌ نا خَالِدٌ - هُوَ الْحَذَّاءُ - عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ - هُوَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ - عَنْ مُطَرِّفٍ - هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ - عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { مَنْ أَخَذَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَا عَدْلٍ , أَوْ ذَوَيْ عَدْلٍ , وَلَا يَكْتُمُ , وَلَا يَغِيبُ , فَإِنْ وَجَدَ صَاحِبَهَا فَلْيَرُدَّهَا عَلَيْهِ , وَإِلَّا فَهُوَ مَالُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُؤْتِيهِ مَنْ شَاءَ } . وَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ بِإِسْنَادِهِ فَقَالَ : { فَلْيُشْهِدْ ذَوَيْ عَدْلٍ } . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَزَادَ مُسَدَّدٌ كَمَا ذَكَرْنَا وَلَيْسَ شَكًّا , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ شَيْءٌ مِمَّا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّهُ شَكٌّ إلَّا بِيَقِينِ أَنَّهُ شَكٌّ , وَإِلَّا فَظَاهِرُهُ الْإِسْنَادُ . وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادٍ عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { سُئِلَ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ : اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَعِدَّتَهَا وَوِعَاءَهَا , فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَعَرَفَهَا فَادْفَعْهَا إلَيْهِ وَإِلَّا فَهِيَ لَكَ } .(2/292)
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ نا ابْنُ وَهْبٍ نا الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ أَبِي النَّضْرِ - هُوَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ - عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ اللُّقَطَةِ ؟ فَقَالَ : عَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ لَمْ تُعْتَرَفْ فَاعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا , ثُمَّ كَمِّلْهَا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَأَدِّهَا إلَيْهِ } .(2/293)
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ نا سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ قَالَ لَهُ : أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ اللُّقَطَةِ ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { اعْرِفْ عَدَدَهَا , وَوِكَاءَهَا , وَوِعَاءَهَا , ثُمَّ اسْتَمْتِعْ بِهَا , فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَعَرَفَ عَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا وَوِعَاءَهَا فَأَعْطِهَا إيَّاهُ وَإِلَّا فَهِيَ لَكَ } وَأَمَّا الشَّيْءُ الْوَاحِدُ الَّذِي لَا وِكَاءَ لَهُ , وَلَا عِفَاصَ , وَلَا وِعَاءَ فَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا أَمَرَ بِتَعْرِيفِ السَّنَةِ فِيمَا لَهُ عَدَدٌ , وَعِفَاصٌ , وَوِكَاءٌ , أَوْ بَعْضُ هَذِهِ - فَأَمَّا مَا لَا عِفَاصَ لَهُ , وَلَا وِعَاءَ , وَلَا وِكَاءَ , وَلَا عَدَدَ : فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ , وَحُكْمُهُ فِي حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ : فَحُكْمُهُ أَنْ يُنْشَدَ ذَلِكَ أَبَدًا لِقَوْلِهِ عليه السلام { لَا يَكْتُمُ وَلَا يُغَيِّبُ } وَلِقَوْلِهِ عليه السلام { هُوَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } فَقَدْ آتَاهُ اللَّهُ وَاجِدَهُ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ نا حُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنَّى نا عَبْدُ الْعَزِيزِ - هُوَ ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ - الْمَاجِشُونِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ قَالَ : كَانَ سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ , وَزَيْدُ بْنُ صُوحَانَ وَثَالِثٌ مَعَهُمَا فِي سَفَرٍ فَوَجَدَ أَحَدُهُمْ - هُوَ سُوَيْدٌ بِلَا شَكٍّ - سَوْطًا فَأَخَذَهُ , فَقَالَ لَهُ صَاحِبَاهُ : أَلْقِهِ فَقَالَ : أَسْتَمْتِعُ بِهِ فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهُ أَدَّيْته إلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَأْكُلَهُ السِّبَاعُ - فَلَقِيَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ(2/294)
فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ : أَصَبْت وَأَخْطَآ - فَفِي هَذَا أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رَأَى وُجُوبَ أَخْذِ اللُّقَطَةِ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : فِيمَا ذَكَرْنَا اخْتِلَافٌ , فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ قَوْمًا قَالُوا : لَا تُؤْخَذُ اللُّقَطَةُ أَصْلًا , وَقَالَ آخَرُونَ : مُبَاحٌ أَخْذُهَا وَتَرْكُهَا مُبَاحٌ , فَأَمَّا مَنْ نَهَى عَنْ أَخْذِهَا فَلِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا . وَكَمَا رُوِّينَا عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ سَعْدٍ حَدَّثَهُ قَالَ : كُنْت مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَرَأَيْت دِينَارًا فَذَهَبْت لِآخُذَهُ فَضَرَبَ ابْنُ عُمَرَ يَدِي وَقَالَ : مَا لَك وَلَهُ اُتْرُكْهُ . وَمِنْ طَرِيقِ قَابُوسِ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا تَرْفَعْ اللُّقَطَةَ لَسْت مِنْهَا فِي شَيْءٍ , تَرْكُهَا خَيْرٌ مِنْ أَخْذِهَا . وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى سُئِلَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ الْفَاكِهَةِ تُوجَدُ فِي الطَّرِيقِ ؟ قَالَ : لَا تُؤْكَلُ إلَّا بِإِذْنِ رَبِّهَا . وَعَنْ الرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ أَنَّهُ كَرِهَ أَخْذَ اللُّقَطَةِ . وَعَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ مَرَّ بِدِرْهَمٍ فَتَرَكَهُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ , وَمَالِكٌ : كِلَا الْأَمْرَيْنِ مُبَاحٌ , وَالْأَفْضَلُ أَخْذُهَا . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مَرَّةً : أَخْذُهَا أَفْضَلُ - وَمَرَّةً قَالَ : الْوَرَعُ تَرْكُهَا . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : أَمَّا مَنْ أَبَاحَ كِلَا الْأَمْرَيْنِ فَمَا نَعْلَمُ لَهُ حُجَّةً أَصْلًا , فَإِنْ حَمَلُوا أَمْرَهُ عليه السلام بِأَخْذِهَا عَلَى النَّدْبِ ؟ قِيلَ لَهُمْ : فَاحْمِلُوا أَمْرَهُ بِتَعْرِيفِهَا عَلَى النَّدْبِ وَلَا فَرْقَ .(2/295)
فَإِنْ قَالُوا : أَمْوَالُ النَّاسِ مُحَرَّمَةٌ ؟ قُلْنَا : وَإِضَاعَتُهَا مُحَرَّمَةٌ وَلَا فَرْقَ . وَأَمَّا مَنْ مَنَعَ مِنْ أَخْذِهَا ؟ فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ } فَقُلْنَا لَهُمْ : نَعَمْ , وَمَا أَمَرْنَاهُ بِاسْتِحْلَالِهَا أَصْلًا , لَكِنْ أَمَرْنَاهُ بِالْمُفْتَرَضِ عَلَيْهِ مِنْ حِفْظِهَا وَتَرْكِ إضَاعَتِهَا الْمُحَرَّمَةِ عَلَيْهِ , ثُمَّ جَعَلْنَاهَا لَهُ حَيْثُ جَعَلَهَا لَهُ الَّذِي حَرَّمَ أَمْوَالَنَا عَلَيْنَا إلَّا بِمَا أَبَاحَهَا لَنَا , لَا يَجُوزُ تَرْكُ شَيْءٍ مِنْ أَوَامِرِهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ أَوْلَى بِنَا مِنْ أَنْفُسِنَا , وَقَدْ كَفَرَ مَنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ حَرَجًا مِمَّا قَضَى . وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ الْمُنْذِرِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { لَا يَأْوِي الضَّالَّةَ إلَّا ضَالٌّ } وَبِحَدِيثِ أَبِي مُسْلِمٍ الْجَرْمِيِّ - أَوْ الْحَرَمِيِّ - عَنْ الْجَارُودِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { ضَالَّةُ الْمُسْلِمِ حَرْقُ النَّارِ } .(2/296)
وَهَذَانِ خَبَرَانِ لَا يَصِحَّانِ ; لِأَنَّ الْمُنْذِرَ بْنَ جَرِيرٍ , وَأَبَا مُسْلِمٍ الْجَرْمِيَّ أَوْ الْحَرَمِيَّ - غَيْرُ مَعْرُوفَيْنِ , لَكِنْ { ضَالَّةُ الْمُسْلِمِ حَرْقُ النَّارِ } قَدْ صَحَّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى وَهَذَا لَفْظٌ مُجْمَلٌ فَسَّرَهُ سَائِرُ الْآثَارِ - وَهُوَ خَبَرٌ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ضَوَالِّ الْإِبِلِ ؟ فَقَالَ عليه السلام : { ضَالَّةُ الْمُسْلِمِ حَرْقُ النَّارِ } وَهُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ , فَأَمَرُوا بِأَخْذِ ضَوَالِّ الْإِبِلِ , ثُمَّ لَوْ صَحَّا لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِمَا حُجَّةٌ ; لِأَنَّ إيوَاءَ الضَّالَّةِ بِخِلَافِ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَرْقُ النَّارِ , وَضَلَالٌ بِلَا شَكٍّ , وَمَا أَمَرْنَاهُ قَطُّ بِإِيوَائِهَا مُطْلَقًا , لَكِنْ بِتَعْرِيفِهَا وَضَمَانِهَا فِي الْأَبَدِ , وَقَدْ جَاءَ بِهَذَا حَدِيثٌ أَحْسَنُ مِنْ حَدِيثِهِمْ : كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ بَكْرِ بْنِ سَوَادَةَ عَنْ أَبِي سَالِمٍ الْجَيَشَانِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم [ أَنَّهُ قَالَ ] : { مَنْ أَخَذَ لُقَطَةً فَهُوَ ضَالٌّ مَا لَمْ يُعَرِّفْهَا } .(2/297)
1552 - مَسْأَلَةٌ : وَبَيْعُ الْمُدَبَّرِ , وَالْمُدَبَّرَةِ , حَلَالٌ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ , وَلِغَيْرِ دَيْنٍ لَا كَرَاهَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ . وَيَبْطُلُ التَّدْبِيرُ بِالْبَيْعِ , كَمَا تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ بِبَيْعِ الْمُوصَى بِعِتْقِهِ وَلَا فَرْقَ - وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ , وَأَبِي سُلَيْمَانَ . وَقَالَ أَحْمَدُ : يُبَاعُ الْمُدَبَّرُ - كَمَا قُلْنَا - وَلَا تُبَاعُ الْمُدَبَّرَةُ - . وَهَذَا تَفْرِيقٌ لَا بُرْهَانَ عَلَى صِحَّتِهِ , وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُبَاعُ الْمُدَبَّرُ وَلَا الْمُدَبَّرَةُ إلَّا فِي الدَّيْنِ فَقَطْ , فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ قَبْلَ التَّدْبِيرِ بِيعَا فِيهِ فِي حَيَاةِ سَيِّدِهِمَا , وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ لَمْ يُبَاعَا فِيهِ فِي حَيَاةِ الْمُدَبِّر , وَبِيعَا فِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ , فَإِنْ لَمْ يَحْمِلْ الثُّلُثَ الْمُدَبَّرُ , وَلَا دَيْنَ هُنَالِكَ : أُعْتِقَ مِنْهُ مَا يَحْمِلُ الثُّلُثَ وَرَقَّ سَائِرُهُ . قَالَ : فَإِنْ بِيعَ فِي الْحَيَاةِ بِغَيْرِ دَيْنٍ فَأَعْتَقَهُ الَّذِي اشْتَرَاهُ نَفَذَ الْبَيْعُ وَجَازَ . وَهَذِهِ أَقْوَالٌ فِي غَايَةِ التَّنَاقُضِ , وَلَئِنْ كَانَ بَيْعُهُ حَرَامًا فَمَا يَحِلُّ بَيْعُهُ لَا فِي دَيْنٍ وَلَا فِي غَيْرِهِ - أُعْتِقَ أَوْ لَمْ يُعْتَقْ - كَمَا لَا تُبَاعُ أُمُّ الْوَلَدِ وَلَا يَنْفُذُ بَيْعُهَا - وَإِنْ أُعْتِقَتْ - وَلَئِنْ كَانَ بَيْعُهُ حَلَالًا فَمَا يَحْرُمُ مَتَى شَاءَ سَيِّدُهُ بَيْعَهُ . وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ فِي هَذَا التَّقْسِيمِ حُجَّةً لَا مِنْ نَصٍّ , وَلَا مِنْ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ , وَلَا قَوْلِ صَاحِبٍ , وَلَا قِيَاسٍ , وَلَا رَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ .(2/298)
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُبَاعُ الْمُدَبَّرُ - لَا فِي دَيْنٍ وَلَا فِي غَيْرِ دَيْنٍ لَا فِي الْحَيَاةِ وَلَا بَعْدَ الْمَوْتِ - : وَهُوَ مِنْ الثُّلُثِ , فَإِنْ لَمْ يَحْمِلْهُ الثُّلُثُ اسْتَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ وَقَالَ زُفَرُ : هُوَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ كَأُمِّ الْوَلَدِ , وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً أَصْلًا , وَلَا مُتَعَلِّقَ لَهُمْ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } . أَمَّا الْمَالِكِيُّونَ فَأَجَازُوا بَيْعَهُ فِي مَوَاضِعَ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فَلَمْ يَفُوا بِالْعُقُودِ . وَأَمَّا الْحَنَفِيُّونَ فَاسْتَسْعُوهُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ فَلَمْ يَفُوا بِالْعُقُودِ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَاحْتَجُّوا بِأَشْيَاءَ نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - : مِنْهَا : خَبَرٌ رَوَاهُ عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ عَنْ مُوسَى بْنِ زَكَرِيَّا عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ ثِقَةٌ عَنْ عَمِّهِ عُبَيْدَةَ بْنِ حَسَّانَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { الْمُدَبَّرُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُشْتَرَى وَهُوَ حُرٌّ مِنْ الثُّلُثِ } . وَهَذَا خَبَرٌ مَوْضُوعٌ ; لِأَنَّ عَبْدَ الْبَاقِي رَاوِي كُلِّ بَلِيَّةٍ , وَقَدْ تُرِكَ حَدِيثُهُ , إذْ ظَهَرَ فِيهِ الْبَلَاءُ . ثُمَّ سَائِرُ مَنْ رَوَاهُ إلَى أَيُّوبَ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ , كُلُّهُمْ مَجْهُولُونَ , وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ إنْ كَانَ هُوَ السِّنْجَارِيَّ فَهُوَ ضَعِيفٌ وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَهُوَ مَجْهُولٌ - ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ الْمَالِكِيُّونَ قَدْ خَالَفُوهُ .(2/299)
وَقَدْ أَجَازَ الْحَنَفِيُّونَ بَيْعَ الْمُدَبَّرِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ , وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي عَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا ثُمَّ أَعْتَقَ الْآخَرُ نَصِيبَهُ : فَإِنَّ عَلَى الَّذِي دَبَّرَ نَصِيبَهُ أَنْ يَضْمَنَ قِيمَةَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ الَّذِي أَعْتَقَ حِصَّتَهُ - وَهَذَا بَيْعٌ لِلْمُدَبَّرِ - فَقَدْ خَالَفُوا هَذَا الْخَبَرَ الْمَوْضُوعَ مَعَ احْتِجَاجِهِمْ بِهِ . وَإِنَّ الْعَجَبَ لَيَكْثُرُ مِمَّنْ يَرُدُّ حَدِيثَ بَيْعِ الْمُكَاتَبِ , وَحَدِيثَ الْمُصَرَّاةِ , وَحَدِيثَ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْكَلْبِ , مَعَ صِحَّةِ أَسَانِيدِهَا وَانْتِشَارِهَا ثُمَّ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْكَذِبَةِ . وَذَكَرُوا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَاعَ خِدْمَةَ الْمُدَبَّرِ } وَهَذَا مُرْسَلٌ , وَلَا حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ - ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً عَلَى الْحَنَفِيِّينَ وَالْمَالِكِيِّينَ , أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ بَيْعَ خِدْمَةِ الْمُدَبَّرِ : مَا لَهُمْ أَثَرٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا . وَاحْتَجُّوا بِرِوَايَةٍ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ فِي أَوْلَادِ الْمُدَبَّرَةِ : إذَا مَاتَ سَيِّدُهَا مَا نَرَاهُمْ إلَّا أَحْرَارًا , وَوَلَدُهَا كَذَلِكَ مِنْهَا فَكَأَنَّهُ عُضْوٌ مِنْهَا .(2/300)
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ عُمَرَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ , وَرَبِيعَةَ , قَالَا جَمِيعًا : إنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ بَاعَتْ مُدَبَّرَةً لَهَا فِي الْأَعْرَابِ , فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ عُمَرُ فَبَعَثَ فِي طَلَبِ الْجَارِيَةِ فَلَمْ يَجِدْهَا , فَأَرْسَلَ إلَى عَائِشَةَ فَأَخَذَ الثَّمَنَ فَاشْتَرَى بِهِ جَارِيَةً فَجَعَلَهَا مَكَانَهَا عَلَى تَدْبِيرِهَا . وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ أَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ بَيْعَ الْمُدَبَّرِ - هَذَا كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ عَنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم , وَكُلُّهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ . أَمَّا خَبَرُ عُمَرَ : فَسَاقِطٌ ; لِأَنَّ الزُّهْرِيَّ , وَرَبِيعَةَ , لَمْ يُولَدَا إلَّا بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ بِخَمْسٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَزِيَادَةً , فَهُوَ مُنْقَطِعٌ - . وَأَيْضًا : فَفِيهِ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عُمَرَ وَهُوَ ضَعِيفٌ . ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ هَذَا عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ لِوُجُوهٍ - : أَوَّلُهَا - أَنَّ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ خَالَفَتْهُ فِي ذَلِكَ , فَلَيْسَ قَوْلُهُ حُجَّةً عَلَيْهَا , وَلَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِهَا , وَهَذَا تَنَازُعٌ , فَالْوَاجِبُ عِنْدَ التَّنَازُعِ الرَّدُّ إلَى الْقُرْآنِ , وَالسُّنَّةِ , وَهُمَا يُبِيحَانِ بَيْعَ الْمُدَبَّرِ . وَالثَّانِي - أَنَّهُمْ قَدْ خَالَفُوهُ ; لِأَنَّ فِيهِ أَنَّهُ قَدْ أَخَذَ الثَّمَنَ فَابْتَاعَ بِهِ جَارِيَةً فَجَعَلَهَا مُدَبَّرَةً مَكَانَهَا , وَيُعِيذُ اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ الْفَاسِدِ , الظَّاهِرِ الْعَوَارِ , إذْ يَحْرُمُ بَيْعُ مَمْلُوكَةٍ مِنْ أَجْلِ مَمْلُوكَةٍ أُخْرَى بِيعَتْ لَا يَحِلُّ بَيْعُهَا .(2/301)
وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا مَنْ بَاعَ حُرًّا أَنْ يَبْتَاعَ بِالثَّمَنِ عَبْدًا فَيُعْتِقَهُ مَكَانَهُ , وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِ اللَّهِ - تَعَالَى - : { وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } . وَكَيْفَ إنْ ذَهَبَ الثَّمَنُ أَوْ لَمْ تُوجَدْ بِهِ رَقَبَةٌ أَوْ وُجِدَتْ بِهِ رِقَابٌ أَوْ وُجِدَتْ الْمَبِيعَةُ بَعْدَ أَنْ جُعِلَتْ هَذِهِ الْأُخْرَى مُدَبَّرَةً مَكَانَهَا , وَلَعَلَّ هَذِهِ تَمُوتُ مَمْلُوكَةً , فَكَيْفَ الْعَمَلُ ؟ أَوْ لَعَلَّهَا تَعِيشُ وَتَمُوتُ الْمَبِيعَةُ مَمْلُوكَةً فَكَيْفَ الْعَمَلُ فِي هَذَا التَّخْلِيطِ ؟ حَاشَا لِلَّهِ مِنْ هَذَا - فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِقَوْلِ عُمَرَ . وَأَمَّا خَبَرُ جَابِرٍ : فَلَا مُتَعَلِّقَ لَهُمْ فِيهِ أَصْلًا , وَإِنَّمَا هُوَ تَمْوِيهٌ مِنْهُمْ مُجَرَّدٌ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ الْمَنْعُ مِنْ بَيْعِ الْمُدَبَّرَةِ أَصْلًا , وَإِنَّمَا فِيهِ حُكْمُ وَلَدِهَا إنْ عَتَقَتْ هِيَ فَقَطْ . وَلَوْ كَانَ لَهُمْ حَيَاءٌ مَا مَوَّهُوا فِي الدِّينِ بِمِثْلِ هَذَا , فَكَيْفَ وَقَدْ جَاءَ عَنْ جَابِرٍ خِلَافُ قَوْلِهِمْ ؟ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : وَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ بِمَنْزِلَتِهَا يُرَقُّونَ بِرِقِّهَا , وَيُعْتَقُونَ بِعِتْقِهَا .(2/302)
وَذَكَرَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ , وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ , وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ , وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , وَغَيْرِهِمْ , مِثْلَ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ - فَهَذَا جَابِرٌ يَرَى إرْقَاقَ الْمُدَبَّرَةِ , فَإِنْ قِيلَ : هَذَا مُرْسَلٌ ؟ قُلْنَا : بِالْمُرْسَلِ احْتَجَجْتُمْ عَلَيْنَا فَخُذُوهُ أَوْ فَلَا تَحْتَجُّوا بِهِ . وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَإِنَّمَا فِيهِ الْكَرَاهَةُ فَقَطْ - وَقَدْ صَحَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ بَيَانُ جَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرَةِ , كَمَا رُوِّينَا بِأَصَحِّ سَنَدٍ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : لَا يَطَأُ الرَّجُلُ وَلِيدَةً إلَّا وَلِيدَةً : إنْ شَاءَ بَاعَهَا , وَإِنْ شَاءَ وَهَبَهَا , وَإِنْ شَاءَ صَنَعَ بِهَا مَا شَاءَ . وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّهُ دَبَّرَ جَارِيَتَيْنِ لَهُ , فَكَانَ يَطَؤُهُمَا حَتَّى وَلَدَتْ إحْدَاهُمَا فَهَذَا نَصٌّ جَلِيٌّ مِنْ ابْنِ عُمَرَ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرَةِ . فَإِنْ ادَّعَوْا إجْمَاعًا عَلَى جَوَازِ وَطْئِهَا ؟ كَذَبُوا ; لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ : أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَطَأَ الرَّجُلُ مُدَبَّرَتَهُ , قَالَ مَعْمَرٌ : فَقُلْت لَهُ : لِمَ تَكْرَهُهُ ؟ فَقَالَ : لِقَوْلِ عُمَرَ : لَا تَقْرَبْهَا وَفِيهَا شَرْطٌ لِأَحَدٍ .(2/303)
فَظَهَرَ فَسَادُ مَا تَعَلَّقُوا بِهِ عَنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم , وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ حُجَّةٌ فِي شَيْءٍ جَاءَ عَنْهُمْ , وَمَوَّهُوا مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ بِأَنْ قَالُوا : لَمَّا فَرَّقَ بَيْنَ اسْمِ الْمُدَبَّرِ , وَاسْمِ الْمُوصَى بِعِتْقِهِ , وَجَبَ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ حُكْمَيْهِمَا . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَذَا بَاطِلٌ ; لِأَنَّهُ دَعْوَى بِلَا بُرْهَانٍ , وَلَيْسَ كُلُّ اسْمَيْنِ اخْتَلَفَا وَجَبَ أَنْ يَخْتَلِفَ مَعْنَاهُمَا وَحُكْمُهُمَا إذَا وُجِدَا فِي اللُّغَةِ مُتَّفِقِي الْمَعْنَى : فَإِنَّ " الْمُحَرَّرَ , وَالْمُعْتَقَ " اسْمَانِ مُخْتَلِفَانِ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ , " وَالزَّكَاةُ , وَالصَّدَقَةُ " كَذَلِكَ , " وَالزَّوَاجُ , وَالنِّكَاحُ " كَذَلِكَ , وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا . وَحَتَّى لَوْ صَحَّ لَهُمْ هَذَا الْحُكْمُ الْفَاسِدُ لَكَانَ الْوَاجِبُ إذَا جَاءَ فِيهِمَا نَصٌّ أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ - وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِي اخْتِلَافِ الِاسْمَيْنِ مَا يُوجِبُ أَنْ يُبَاعَ أَحَدُهُمَا وَلَا يُبَاعَ الْآخَرُ , وَقَدْ اخْتَلَفَ اسْمُ : الْفَرَسِ , وَالْعَبْدِ , وَكِلَاهُمَا يُبَاعُ . قَالَ عَلِيٌّ : فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مُتَعَلِّقٌ أَصْلًا - وَمِنْ الْبُرْهَانِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ وَالْمُدَبَّرَةِ : قَوْلُ اللَّهِ - تَعَالَى - : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } . وقوله تعالى : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } . فَصَحَّ أَنَّ بَيْعَ كُلِّ مُتَمَلَّكٍ جَائِزٌ إلَّا مَا فَصَّلَ لَنَا تَحْرِيمَ بَيْعِهِ , وَلَمْ يُفَصِّلْ لَنَا تَحْرِيمَ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ , وَالْمُدَبَّرَةِ , فَبَيْعُهُمَا حَلَالٌ .(2/304)
وَمِنْ السُّنَّةِ : مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ أَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ , وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ , كِلَاهُمَا عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَاعَ الْمُدَبَّرَ } . وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : { دَبَّرَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ غُلَامًا لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مَنْ يَبْتَاعُهُ مِنِّي ؟ فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ , قَالَ جَابِرٌ : غُلَامٌ قِبْطِيًّا مَاتَ عَامَ أَوَّلَ فِي إمَارَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ } . وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ , وَأَيُّوبَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ جَابِرٍ - : فَهَذَا أَثَرٌ مَشْهُورٌ مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهِ بِنَقْلِ التَّوَاتُرِ , وَأَمْرٌ كَانَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم كُلُّهُمْ مُسَلِّمٌ رَاضٍ , فَلَوْ ادَّعَى الْمُسْلِمُ هَهُنَا الْإِجْمَاعَ لَمَا أَبْعَدَ , لَا كَدَعَاوِيهِمْ الْكَاذِبَةِ ؟ فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْكَذِبِ : بَيْعٌ فِي دَيْنٍ , وَإِلَّا فَلِأَيِّ وَجْهٍ بِيعَ ؟ فَقُلْنَا : كَذَبْتُمْ وَأَفَكْتُمْ , وَإِنَّمَا بِيعَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِمُدَبِّرِهِ مَالٌ غَيْرُهُ , فَلِهَذَا بَاعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم . وَأَمَّا لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ فَبَيْعُهُ مُبَاحٌ لَا وَاجِبٌ كَسَائِرِ مَنْ تَمَلَّكَ .(2/305)
وَمِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ أَنَّهُ صَحَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ قَبْل أَنْ يُدَبَّرَ , فَمَنْ مَنَعَ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ يُدَبَّرَ فَقَدْ أَبْطَلَ وَادَّعَى مَا لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ . وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ الَّذِي لَوْ صَحَّ الْقِيَاسُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَصَحَّ مِنْ هَذَا , وَهُوَ أَنَّ الْمُعْتَقَ بِصِفَةٍ لَا يَدْرِي أَيُدْرِكُهَا الْمُعْتَقُ بِهَا أَمْ لَا ؟ وَالْمُوصَى بِعِتْقِهِ : لَا يَخْتَلِفُونَ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ قَبْلَ مَجِيءِ تِلْكَ الصِّفَةِ , وَالْمُدَبَّرُ مُوصًى بِعِتْقِهِ , كِلَاهُمَا مِنْ الثُّلُثِ فَوَاجِبٌ إنْ صَحَّ الْقِيَاسُ أَنْ يُبَاعَ الْمُدَبَّرُ كَمَا يُبَاعُ الْآخَرَانِ , وَلَكِنْ لَا النُّصُوصَ يَتَّبِعُونَ , وَلَا الْقِيَاسَ يُحْسِنُونَ . وَمِمَّنْ صَحَّ عَنْهُ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ جَدَّتِهِ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ : أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ , بَاعَتْ مُدَبَّرَةً لَهَا . وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ , وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ , قَالَا جَمِيعًا : الْمُدَبَّرُ وَصِيَّةٌ . وَبِهِ إلَى مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ , قَالَ : سَأَلَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ الْمُدَبَّرِ كَيْفَ كَانَ قَوْلُ أَبِي فِيهِ , أَيَبِيعُهُ صَاحِبُهُ ؟ فَقُلْت : كَانَ أَبِي يَقُولُ : يَبِيعُهُ إنْ احْتَاجَ فَقَالَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ : وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ .(2/306)
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ : كَانَ طَاوُسٌ لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ يَعُودَ الرَّجُلُ فِي عَتَاقَتِهِ - قَالَ عَمْرٌو : يَعْنِي التَّدْبِيرَ . وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : الْمُدَبَّرُ وَصِيَّةٌ يَرْجِعُ فِيهِ إذَا شَاءَ . وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ سَمِعْت عَطَاءً يَقُولُ : يُعَادُ فِي الْمُدَبَّرِ , وَفِي كُلِّ وَصِيَّةٍ - وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ ابْنِ سِيرِينَ , وَعَطَاءٍ : كَرَاهِيَةَ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ , وَعَنْ الشَّعْبِيِّ يَبِيعُهُ الْجَرِيءُ , وَيَرَعُ عَنْهُ الْوَرِعُ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : بَلْ يَبِيعُهُ الْوَرِعُ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَقِفُ عَنْهُ الْجَاهِلُ , وَتَاللَّهِ مَا تُخَافُ تَبِعَةٌ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي أَمْرٍ لَمْ يُفَصِّلْ لَنَا تَحْرِيمَهُ فِي كِتَابِهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بَلْ نَخَافُ التَّبِعَةَ مِنْهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي تَحْرِيمِنَا مَا لَمْ يُفَصِّلْ لَنَا تَحْرِيمَهُ , أَوْ فِي تَوَقُّفِنَا فِيهِ خَوْفَ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا - وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ هَذَا . قَالَ - تَعَالَى - : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } . وَبَيْعُ الْمُدَبَّرِ مِمَّا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا فَلَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ حَرَجًا مِمَّا قَضَى فِيهِ - وَبِاَللَّهِ - تَعَالَى - التَّوْفِيقُ .(2/307)
مَسْأَلَةٌ : وَمَنْ أَوْصَى بِعِتْقِ رَقِيقٍ لَهُ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُمْ , أَوْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ ؟
لَمْ يُنَفَّذْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ إلَّا بِالْقُرْعَةِ فَمَنْ خَرَجَ سَهْمُهُ صَحَّ فِيهِ الْعِتْقُ , سَوَاءٌ مَاتَ الْعَبْدُ بَعْدَ الْمُوصِي وَقَبْلَ الْقُرْعَةِ , أَوْ عَاشَ إلَى حِينِ الْقُرْعَةِ . وَمَنْ خَرَجَ سَهْمُهُ كَانَ بَاقِيًا عَلَى الرِّقِّ سَوَاءٌ مَاتَ قَبْلَ الْقُرْعَةِ أَوْ عَاشَ إلَيْهَا ؟ فَإِنْ شَرَعَ السَّهْمُ فِي بَعْضِ مَمْلُوكٍ عَتَقَ مِنْهُ مَا حَمَلَ الثُّلُثُ بِلَا اسْتِسْعَاءٍ , وَعَتَقَ بَاقِيهِ وَاسْتَسْعَى لِلْوَرَثَةِ فِي قِيمَةِ مَا بَقِيَ مِنْهُ بَعْدَ الثُّلُثِ . فَلَوْ سَمَّاهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ بُدِئَ بِاَلَّذِي سَمَّى أَوَّلًا فَأَوَّلًا , فَإِذَا تَمَّ الثُّلُثُ رَقَّ الْبَاقُونَ - فَلَوْ شَرَعَ الْعِتْقُ فِي بَعْضِ مَمْلُوكٍ أُعْتِقَ كُلُّهُ وَاسْتَسْعَى لِلْوَرَثَةِ فِيمَا زَادَ مِنْهُ عَلَى الثُّلُثِ , فَلَوْ أَعْتَقَ جُزْءًا مُسَمًّى مِنْ كُلِّ مَمْلُوكٍ مِنْهُمْ بِاسْمِهِ أُعْتِقَ ذَلِكَ الْجُزْءُ - إنْ كَانَ الثُّلُثَ فَأَقَلَّ - وَأُعْتِقَ بَاقِيهِمْ , وَاسْتَسْعُوا فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ أَوْ فِيمَا زَادَ عَلَى مَا أَوْصَى بِهِ مِمَّا هُوَ دُونَ الثُّلُثِ .(2/308)
فَإِنْ أَعْتَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِاسْمِهِ أَوْ جُمْلَةً أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ إنْ أَجْمَلَهُمْ فَإِذَا تَمَّ الثُّلُثُ رَقَّ الْبَاقُونَ إلَّا أَنْ يَشْرَعَ الْعِتْقُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَيُعْتَقُ وَيَسْتَسْعِي فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ , وَيُبْدَأُ بِالْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ - إنْ سَمَّاهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ - فَإِذَا تَمَّ الثُّلُثُ رَقَّ الْبَاقُونَ , إلَّا مَنْ شَرَعَ فِيهِ الْعِتْقُ , فَإِنَّهُ يَسْتَسْعِي فِيمَا زَادَ مِنْهُ عَلَى الثُّلُثِ . بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا - : أَنَّهُ إذَا أَعْتَقَ فِي وَصِيَّتِهِ الثُّلُثَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَأَقَلَّ , فَإِنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذْ لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِالثُّلُثِ فَيُنَفَّذُ قَوْلُهُ . وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا أَوْرَدْنَاهُ فِي " كِتَابِ الْعِتْقِ " مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا بِإِسْنَادِهِ فِيمَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ فَإِنَّهُ حُرٌّ كُلُّهُ وَيَسْتَسْعِي فِي حِصَّةِ شَرِيكِهِ وَالْوَرَثَةُ هَاهُنَا شُرَكَاءُ لِلْمُوصِي , فَقَدْ عَتَقَ الْمَمَالِيكُ كُلُّهُمْ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ عليه الصلاة والسلام وَيَسْتَسْعُونَ فِي حِصَّةِ الْوَرَثَةِ - . وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ .(2/309)
وَأَمَّا إذَا أَعْتَقَ فِي وَصِيَّتِهِ جَمِيعَهُمْ وَسَمَّاهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ , أَوْ أَعْتَقَ فِي وَصِيَّتِهِ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَسَمَّاهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ؟ فَالْيَقِينُ يَدْرِي كُلُّ مُسْلِمٍ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ سُمِّيَ مِنْهُمْ , فَإِنَّهُ لَمْ يَجْرِ فِي ذَلِكَ , وَلَا خَالَفَ الْحَقَّ , بَلْ أَوْصَى كَمَا أُبِيحَ لَهُ فَهِيَ وَصِيَّةُ بِرٍّ وَتَقْوَى , وَهَكَذَا حَتَّى يَتِمَّ الثُّلُثُ , فَوَجَبَ تَنْفِيذُ وَصِيَّتِهِ لِصِحَّتِهَا , وَأَنْ يَسْتَسْعِيَ الْمُعْتَقُونَ فِي حِصَصِ الْوَرَثَةِ الَّذِينَ هُمْ شُرَكَاءُ الْمُوصِي حِينَ وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ وَلَمْ يُعْتِقُوا حِصَصَهُمْ . وَكَانَ الْمُوصِي فِي وَصِيَّتِهِ فِيمَا زَادَ عَلَى ثُلُثِهِ مُبْطِلًا عَاصِيًا , مُخَالِفًا لِلْحَقِّ إنْ كَانَ عَالِمًا , أَوْ مُخْطِئًا مُخَالِفًا لِلْحَقِّ فَقَطْ , مَعْفُوًّا عَنْهُ إنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ , وَالْبَاطِلُ عُدْوَانٌ فَقَطْ , أَوْ إثْمٌ وَعُدْوَانٌ سَاقِطٌ لَا يَحِلُّ إنْفَاذُهُ - قَالَ تَعَالَى : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } فَوَجَبَ إبْطَالُ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ كَمَا ذَكَرْنَا - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ .(2/310)
وَأَمَّا إذَا أَجْمَلَ فِي وَصِيَّتِهِ عِتْقَهُمْ , أَوْ أَجْمَلَ عِتْقَ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي وَصِيَّتِهِ , فَبِالضَّرُورَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ يَدْرِي كُلُّ مُسْلِمٍ أَنَّهُ خَلَطَ الْوَصِيَّةَ بِعِتْقِ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِعِتْقِهِ , مَعَ الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِعِتْقِهِ , وَلَا يَدْرِي غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى أَيُّهُمْ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِتْقِ , وَأَيُّهُمْ لَا , فَصَارُوا جُمْلَةً فِيهَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي أَحْرَارٍ , أَوْ فِي حُرٍّ لَا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ , وَفِيهَا حَقٌّ لِلْوَرَثَةِ فِي رَقِيقٍ لَا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ , فَلَا بُدَّ مِنْ الْقِسْمَةِ لِيُمَيَّزَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَقِّ الْوَرَثَةِ , كَمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُعْطِيَ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ , وَلَا سَبِيلَ إلَى تَمْيِيزِ الْحُقُوقِ وَالْأَنْصِبَاءِ فِي الْقِسْمَةِ إلَّا بِالْقُرْعَةِ ; فَوَجَبَ الْإِقْرَاعُ بَيْنَهُمْ , فَأَيُّهُمْ خَرَجَ عَلَيْهِ سَهْمُ الْعِتْقِ عَلِمْنَا أَنَّهُ الَّذِي اسْتَحَقَّ الْعِتْقَ بِمَوْتِ الْمُوصِي , وَأَنَّهُ هُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ - مَاتَ قَبْلَ الْقُرْعَةِ أَوْ لَمْ يَمُتْ - وَأَيُّهُمْ خَرَجَ عَلَيْهِ سَهْمُ الرِّقِّ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُوصِ فِيهِ الْمُوصِي وَصِيَّةً جَائِزَةً , وَأَنَّهُ هُوَ حَقُّ الْوَرَثَةِ مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ قَدْ مَلَكُوهُ بِمَوْتِ الْمُوصِي - مَاتَ قَبْلَ الْقُرْعَةِ أَوْ لَمْ يَمُتْ .(2/311)
فَإِنْ شَرَعَ الْعِتْقُ فِي مَمْلُوكٍ أُعْتِقَ وَاسْتَسْعَى فِيمَا زَادَ مِنْهُ عَلَى مَا عَتَقَ بِالْقُرْعَةِ ; لِأَنَّ الْوَرَثَةَ شُرَكَاءُ الْمُوصِي فِيهِ , وَهَكَذَا كُلُّ مَا أَوْصَى فِيهِ بِالثُّلُثِ فَأَقَلَّ مِنْ حَيَوَانٍ أَوْ عَقَارٍ أَوْ مَتَاعٍ . وَلَا بُدَّ مِنْ تَمْيِيزِ حَقِّ الْوَصِيَّةِ مِنْ حَقِّ الْوَرَثَةِ , وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِتَعْدِيلِ الْقِيمَةِ وَالْقُرْعَةِ , وَقَدْ جَاءَ أَيْضًا فِي هَذَا أَثَرٌ صَحِيحٌ , يُؤَكِّدُ مَا قُلْنَا , وَلَوْ لَمْ يَأْتِ لَكَانَ الْحُكْمُ مَا وَصَفْنَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ تَمْيِيزِ حَقِّ الْوَصِيَّةِ مِنْ حَقِّ الْوَرَثَةِ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نا إسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ - هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ - وَابْنُ أَبِي عُمَرَ , كِلَاهُمَا عَنْ الثَّقَفِيِّ - هُوَ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ - عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ { أَنَّ رَجُلًا أَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ فَأَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ فَدَعَا بِهِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَجَزَّأَهُمْ أَثْلَاثًا ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً , وَقَالَ لَهُ قَوْلًا شَدِيدًا } .(2/312)
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا , وَنَقُولُ - : إنَّنَا لَمْ نَجِدْ لِأَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم , وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ التَّابِعِينَ رحمهم الله فِي الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ , فِيمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ الثُّلُثِ شَيْئًا , إلَّا لِعَطَاءٍ وَحْدَهُ : فِيمَنْ أَوْصَى بِعِتْقِ ثُلُثِ عَبْدٍ لَهُ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ , فَإِنَّهُ يُعْتَقُ كُلُّهُ , وَيَسْتَسْعِي لِلْوَرَثَةِ فِي قِيمَةِ ثُلُثَيْهِ . وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا هُشَيْمٌ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَالِمٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ : مَنْ أَوْصَى بِعِتْقِ مَمْلُوكٍ لَهُ فَهُوَ مِنْ الثُّلُثِ , فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ سَعَى فِيمَا زَادَ - وَهُوَ قَوْلُنَا - وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَإِنَّمَا وَجَدْنَا عَنْهُمْ مَنْ أَعْتَقَ مِنْ ثُلُثِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ , وَنَحْنُ مَنْ لَا يُعْطِي نُصُوصَ الرِّوَايَاتِ نَصًّا مِمَّا يُحَرِّفُهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا - وَقَدْ أَعَاذَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى نِعَمِهِ كَثِيرًا . وَقَدْ يُمْكِنُ لَهُمْ فِي الْوَصِيَّةِ قَوْلٌ غَيْرُ قَوْلِهِمْ فِيمَنْ أَعْتَقَ عِنْدَ مَوْتِهِ , وَمَنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ عَنْهُمْ , فَقَدْ قَفَا مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ , وَأَوْقَع نَهْيَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ عَنْ ذَلِكَ , وَاسْتَسْهَلَ الْكَذِبَ وَالْقَطْعَ بِالظَّنِّ .(2/313)
وَأَمَّا نَحْنُ فَلَا نُورِدُ إلَّا مَا رُوِّينَا , وَلَا نَحْكِي مَا لَمْ نَسْمَعْ , وَلَا نُخْبِرُ بِمَا لَمْ يَبْلُغْنَا وَحَاشَ لِلَّهِ مِنْ هَذَا الرُّتْبَةِ الْمُهْلِكَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ , وَسَنَذْكُرُ الرِّوَايَاتِ الَّتِي بَلَغَتْنَا فِي ذَلِكَ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - إثْرَ تَمَامِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ " فِي مَسْأَلَةِ حُكْمِ الْمَرِيضِ وَمَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ فِي مَالِهِ " وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . فَإِذْ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْنَا فَلِنَذْكُرَ مَا وَجَدْنَا عَنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُصَرِّحِينَ بِمَا قَالُوا فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ بِعِتْقٍ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ - : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : مَنْ أَوْصَى بِعِتْقِ مَمَالِيكَ لَهُ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُمْ وَكَانُوا أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ أُعْتِقُوا كُلُّهُمْ , وَاسْتَسْعُوا جَمِيعُهُمْ فِيمَا زَادَ مِنْ قِيمَتِهِمْ عَلَى مِقْدَارِ ثُلُثِ الْمُوصِي . وَقَالَ مَالِكٌ : مَنْ أَوْصَى بِعِتْقِ جُزْءٍ مِنْ عَبْدِهِ لَمْ يُعْتَقْ مِنْهُ إلَّا مَا أَوْصَى بِعِتْقِهِ مِنْهُ فَقَطْ وَرَقَّ بَاقِيهِ - سَوَاءٌ حَمَلَهُ الثُّلُثُ كُلُّهُ أَوْ قَصُرَ عَنْهُ - . فَإِنْ لَمْ يَحْمِلْ الثُّلُثُ مَا أَوْصَى بِعِتْقِهِ لَمْ يُعْتَقْ مِنْهُ إلَّا مَا حَمَلَ الثُّلُثُ مِمَّا أَوْصَى بِعِتْقِهِ مِنْهُ وَرَقَّ سَائِرُهُ . فَإِنْ أَوْصَى بِعِتْقِ عَبِيدِهِ أَوْ دَبَّرَهُمْ فَإِنَّهُ يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا حَمَلَهُ الثُّلُثُ فَقَطْ وَيُرَقُّ سَائِرُهُ . فَلَوْ دَبَّرَ فِي صِحَّتِهِ أَوْ فِي مَرَضِهِ بُدِئَ بِالْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ عَلَى رُتْبَةِ تَدْبِيرِهِ لَهُمْ , فَإِذَا تَمَّ الثُّلُثُ رَقَّ الْبَاقُونَ وَرَقَّ بَاقِي مَنْ لَمْ يَحْمِلْ الثُّلُثُ جَمِيعَهُ .(2/314)
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : مَنْ أَوْصَى بِعِتْقِ رَقِيقٍ لَهُ لَا يَحْمِلُهُمْ الثُّلُثُ قُوِّمُوا ثُمَّ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ فَأُعْتِقَ مِنْهُمْ مَا حَمَلَهُ الثُّلُثُ وَرَقَّ سَائِرُهُمْ , وَيُرَقُّ بَاقِي مَنْ لَمْ يَحْمِلْ الثُّلُثُ جَمِيعَهُ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : أَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - فَاقْتَصَرَ عَلَى خَبَرِ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَتَرَكَ خَبَرَ الِاسْتِسْعَاءِ , وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ بِإِسْنَادِهِ فِي " كِتَابِ الْعِتْقِ " مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ شَيْءٍ مِنْ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ . وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ - فَمُخَالِفٌ لِجَمِيعِ السُّنَنِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ لَا بِحَدِيثِ الْقُرْعَةِ الَّذِي رَوَاهُ عِمْرَانُ أَخَذَ , وَلَا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ , وَابْنِ عُمَرَ , فِي التَّقْوِيمِ عَلَى مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ أَخَذَ , وَالْمُوصِي شَرِيكٌ لِلْوَرَثَةِ فِي الْعَبْدِ الَّذِي أُعْتِقَ , وَفِي الِاسْتِسْعَاءِ - وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَلْبَتَّةَ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ : فَاقْتَصَرَ عَلَى حَدِيثِ الِاسْتِسْعَاءِ وَخَالَفَ خَبَرَ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ - وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ شَيْءٍ مِنْ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ . وَاعْتَلُّوا فِي رَدِّ خَبَرِ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ بِأَشْيَاءَ فَاسِدَةٍ - : مِنْهَا أَنَّهُمْ قَالُوا : لَوْ كَانَتْ الْقُرْعَةُ تُسْتَعْمَلُ كَمَا قَضَى بِهَا عَلِيٌّ بِالْيَمَنِ فِي الْوَلَدِ الَّذِي ادَّعَاهُ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ فَأَلْحَقَهُ بِاَلَّذِي خَرَجَ سَهْمُهُ عَلَيْهِ - ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ , وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَرْكِهِ .(2/315)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَقَدْ كَذَبُوا , مَا نُسِخَ ذَلِكَ قَطُّ , وَكَيْفَ يُجْمَعُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَرْكِهِ وَقَدْ قَضَى بِهِ عَلِيٌّ رضي الله عنه بِالْيَمَنِ , وَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام وَعَلِمَهُ , وَمَاتَ عليه الصلاة والسلام إلَى نَحْوِ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ؟ فَمَنْ ذَا الَّذِي نَسَخَ ذَلِكَ ؟ وَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ إجْمَاعٍ يَخْرُجُ عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمَنْ بِحَضْرَتِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَمَا وَجَدْنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَلَا مِنْ التَّابِعِينَ إنْكَارًا لِفِعْلِ عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ وَحُكْمِهِ , فَمَنْ أَكْذَبُ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الدَّعَاوَى ؟ وَالْعَجَبُ كُلُّهُ فِي مُخَالَفَتِهِمْ حُكْمَ عَلِيٍّ بِعِلْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ثَابِتٌ صَحِيحٌ وَأَخْذُهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ نَفْسِهَا بِرِوَايَةٍ فَاسِدَةٍ لَا تَصِحُّ , نُسِبَتْ إلَى عُمَرَ رضي الله عنه مِنْ إلْحَاقِهِ الْوَلَدَ بِأَبَوَيْنِ - وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَالْمَعْقُولُ يُبْطِلُ ذَلِكَ . وَقَالُوا : إنَّ مَنْ أَخَذَ بِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ فِي الْقُرْعَةِ قَدْ خَالَفَهُ فِيمَنْ بَدَأَ بِعِتْقِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ فِي وَصِيَّتِهِ , فَكَذَبُوا , مَا خَالَفْنَا خَبَرَ عِمْرَانَ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي خَبَرِ عِمْرَانَ : أَنَّهُ بَدَأَ بِالْوَصِيَّةِ بِأَسْمَائِهِمْ اسْمًا اسْمًا , وَإِنَّمَا لَفْظُهُ أَنَّهُ يَقْتَضِي عِتْقَهُ لَهُمْ بِالْوَصِيَّةِ جُمْلَةً وَاحِدَةً ؟ فَلَمْ نَتَعَدَّ لَفْظَ الْخَبَرِ إلَى مَا لَيْسَ فِيهِ .(2/316)
وَقَالُوا : وَجَدْنَا حَدِيثَ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ مُضْطَرِبًا فِيهِ , فَمَرَّةً رَوَاهُ أَبُو قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ عَنْ عِمْرَانَ , وَمَرَّةً رَوَاهُ عَنْ أَبِي زَيْدٍ : أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : فَكَانَ مَاذَا ؟ وَمَا يَتَعَلَّلُ بِهَذَا إلَّا قَلِيلُ الْحَيَاءِ - : رَوَاهُ أَبُو قِلَابَةَ عَنْ أَبِي زَيْدٍ - وَهُوَ مَجْهُولٌ - فَلَمْ يَحْتَجَّ بِهِ . وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ فَأُسْنِدَ وَثَبَتَ , فَأَخَذْنَا بِهِ . وَأَيُّ نَكِرَةٍ فِي رِوَايَةِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ خَبَرًا وَاحِدًا مِنْ عَشْرِ طُرُقٍ , مِنْهَا صَحِيحٌ وَمِنْهَا مَدْخُولٌ , وَكُلُّ خَبَرٍ فِي الْأَرْضِ فَإِنَّهُ يَنْقُلُهُ الثِّقَةُ وَغَيْرُ الثِّقَةِ , فَيُؤْخَذُ نَقْلُ الثِّقَةِ وَيُتْرَكُ مَا عَدَاهُ . وَقَالُوا : وَجَدْنَا مُعْتِقَ عَبِيدِهِ بِالْوَصِيَّةِ قَدْ كَانَ مَالِكًا لِثُلُثِ جَمِيعِهِمْ , وَإِذْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدْ عَتَقَ ثُلُثُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْحَقِّ , فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَقَّ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْعِتْقُ ؟ فَقُلْنَا : صَدَقْتُمْ إلَّا أَنَّ هَذَا الْمُوصِيَ بِعِتْقِ جَمِيعِهِمْ , لَمْ يُعْتِقْ قَطُّ ثُلُثَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ , إنَّمَا أَعْتَقَهُمْ جُمْلَةً , فَكَانَ فِعْلُهُ ذَلِكَ جَامِعًا لِبَاطِلٍ وَحَقٍّ , فَلَمْ يُمْكِنْ إنْفَاذُ ذَلِكَ وَمَعْرِفَتُهُ إلَّا بِالْقُرْعَةِ , وَمَا وَقَعَ الْعِتْقُ قَطُّ عَلَى جَمِيعِهِمْ , لَكِنْ عَلَى بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ , فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْقُرْعَةِ فِي تَمْيِيزِ ذَلِكَ .(2/317)
وَنَسْأَلُهُمْ هَاهُنَا : عَمَّنْ أَوْصَى بِجَمِيعِ غَنَمِهِ , وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا , أَوْ بِجَمِيعِ خَيْلِهِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا , أَوْ بِجَمِيعِ عَبِيدِهِ فِي أَهْلِ الْجِهَادِ فِي الثُّغُورِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ , أَيُنَفِّذُونَ ذَلِكَ بِرَغْمِ الْوَرَثَةِ فَيَنْسَلِخُوا عَنْ الْإِسْلَامِ ؟ أَمْ يُبْطِلُونَ وَصِيَّتَهُ فَيَفْسُقُوا ؟ أَمْ يَقْسِمُونَ الثُّلُثَ لِلْوَصِيَّةِ وَالثُّلُثَيْنِ لِوَرَثَتِهِ بِالْقُرْعَةِ ؟ وَهَذَا الَّذِي أَنْكَرُوا . وَقَالُوا : لَمَّا تَسَاوَوْا كُلُّهُمْ فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْعِتْقِ دُونَ تَفَاضُلٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحَابِيَ بِإِنْفَاذِهِ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ ؟ فَقُلْنَا : كَذَبْتُمْ مَا اسْتَوَوْا قَطُّ فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْعِتْقِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ السَّبَبَ هُوَ الْوَصِيَّةُ بِعِتْقِهِمْ , وَقَدْ وَقَعَتْ فِي بَعْضِهِمْ بِحَقٍّ وَجَبَ تَنْفِيذُهُ , وَفِي بَعْضِهِمْ بِحَرَامٍ لَا يَحِلُّ تَنْفِيذُهُ - وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ - فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ فِي تَمْيِيزِ ذَلِكَ مِنْ الْقُرْعَةِ . وَقَالُوا : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ عِمْرَانَ { فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ } أَيْ شَائِعَيْنِ فِي الْجَمِيعِ , كَمَا يَقُولُ " { فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ } يَعْنِي شَائِعَةً فِي الْجَمِيعِ - وَذَكَرُوا أَخْبَارًا لَا تَصِحُّ فِيهَا - فَأَعْتَقَ الثُّلُثَ ؟ فَقُلْنَا : جَمَعْتُمْ فِي هَذَا الْكَذِبَ وَالْمُجَاهَرَةَ بِهِ ; لِأَنَّ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ { وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً } فَبَطَلَ مَا رُمْتُمْ إقْحَامَهُ فِي الْخَبَرِ - وَمَا كَانَتْ الشَّاةُ قَطُّ شَائِعَةً فِي الْأَرْبَعِينَ , بَلْ وَاحِدَةٌ بِغَيْرِ عَيْنِهَا , أَيُّهَا أَعْطَى مِمَّا فِيهِ وَفَاءٌ : فَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ .(2/318)
وَقَالُوا : هَذَا قَضَاءٌ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ عُمُومَ اسْمٍ يَتَنَاوَلُ مَا تَحْتَهُ ؟ فَنَقُولُ لَهُمْ : هَلَّا قُلْتُمْ هَذَا لِأَنْفُسِكُمْ إذْ جَعَلْتُمْ الْخُطْبَةَ فَرْضًا فِي الْجُمُعَةِ - وَهُوَ فِعْلٌ لَا عُمُومُ اسْمٍ - وَإِذْ قَضَيْتُمْ بِجَوَازِ الْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ فِي خَبَرٍ مَكْذُوبٍ ثُمَّ هُوَ فِعْلٌ وَلَيْسَ عُمُومَ اسْمٍ - لَا يَحْتَمِلُ قَوْلُهُمْ هَذَا إلَّا تَجْوِيرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وَهَذَا كُفْرٌ مُجَرَّدٌ . وَقَالُوا : هَذَا مِنْ بَابِ الْقِمَارِ , وَالْمَيْسِرِ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَذَا كُفْرٌ مَكْشُوفٌ مُجَرَّدٌ مَنْ نَسَبَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ حَكَمَ بِالْقِمَارِ , وَالْمَيْسِرِ , وَنَحْنُ بَرَاءٌ مِنْهُ وَكَفَى ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } ) فَنَحْنُ حَكَّمْنَاهُ عليه الصلاة والسلام فِيمَا شَجَرَ بَيْنَنَا , ثُمَّ لَمْ نَجِدْ فِي أَنْفُسِنَا حَرَجًا مِمَّا قَضَى وَسَلَّمْنَا تَسْلِيمًا , وَهُمْ لَمْ يُحَكِّمُوهُ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ , ثُمَّ وَجَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ الْحَرَجَ مِمَّا قَضَى , وَلَمْ يُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا - فَتَبًّا لَهُمْ وَسُحْقًا .(2/319)
وَقَالُوا : هَذَا مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَرَضَ بِهِ عَلَى الْأُصُولِ ؟ فَقُلْنَا : هَذَا أَبْرَدُ مِمَّا أَتَيْتُمْ بِهِ , وَمَا عَلِمْنَا فِي الدِّينِ أُصُولًا إلَّا الْقُرْآنَ وَبَيَانَهُ , مِمَّا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَوَاءٌ بِنَقْلِ ثِقَةٍ عَنْ مِثْلِهِ مُسْنَدًا , أَوْ بِنَقْلِ تَوَاتُرٍ - وَأَمَّا فَرْقُكُمْ فَضَلَالٌ وَدَعْوَى كَاذِبَةٌ , وَإِفْكٌ مُطَّرَحٌ { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فَبَطَلَ كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .(2/320)
1780 - مَسْأَلَةٌ : وَلَا يَحِلُّ الْحُكْمُ بِقِيَاسٍ , وَلَا بِالرَّأْيِ وَلَا بِالِاسْتِحْسَانِ وَلَا بِقَوْلِ أَحَدٍ مِمَّنْ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دُونَ أَنْ يُوَافِقَ قُرْآنًا أَوْ سُنَّةً صَحِيحَةً ; لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ حُكْمٌ بِغَالِبِ الظَّنِّ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى } . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ } . فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّكُمْ فِي أَخْذِكُمْ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مُتَّبِعُونَ لِلظَّنِّ . قُلْنَا : كَلًّا , بَلْ لِلْحَقِّ الْمُتَيَقَّنِ , قَالَ تَعَالَى : { إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى } . فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّكُمْ فِي الْحُكْمِ بِالْبَيِّنَةِ وَالْيَمِينِ حَاكِمُونَ بِالظَّنِّ . قُلْنَا : كَلًّا , بَلْ بِيَقِينٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِذَلِكَ نَصًّا وَمَا عَلَيْنَا مِنْ مَغِيبِ الْأَمْرِ شَيْءٌ إذْ لَمْ نُكَلَّفْهُ .(2/321)
وَأَيْضًا - فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مَا أَوْجَبَهُ الْقِيَاسُ , أَوْ مَا قِيلَ بِرَأْيٍ أَوْ اسْتِحْسَانٍ أَوْ تَقْلِيدِ قَائِلٍ مِنْ أَحَدِ , أَوْجُهٍ ثَلَاثَةٍ لَا رَابِعَ لَهَا ضَرُورَةً - : إمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِقُرْآنٍ أَوْ لِسُنَّةٍ صَحِيحَةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهَذَا إنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ بِالْقُرْآنِ أَوْ بِالسُّنَّةِ , وَلَا مَعْنَى لِطَلَبِ قِيَاسٍ , أَوْ رَأْيٍ , أَوْ قَوْلِ قَائِلٍ مُوَافِقٍ لِذَلِكَ , وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِالْقُرْآنِ , أَوْ بِحُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا حَتَّى يُوَافِقَ ذَلِكَ قِيَاسٌ , أَوْ رَأْيٌ , أَوْ قَوْلُ قَائِلٍ فَقَدْ انْسَلَخَ عَنْ الْإِيمَانِ . قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَهَذَا الَّذِي لَمْ يَحْكُمْ بِحُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا شَجَرَ عِنْدَهُ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ إلَّا حَتَّى وَافَقَهُ قِيَاسٌ أَوْ رَأْيٌ , أَوْ قَوْلُ قَائِلٍ فَلَمْ يُحَكِّمْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَا سَلَّمَ لَهُ تَسْلِيمًا , بَلْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ حَرَجًا مِمَّا قَضَى بِهِ عليه الصلاة والسلام فَوَرَبِّنَا مَا آمَنَ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْقُرْآنِ أَوْ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهَذَا الضَّلَالُ الْمُتَيَقَّنُ , وَخِلَافُ دِينِ الْإِسْلَامِ , وَلَا نَحْتَاجُ أَنْ نُطَوِّلَ فِي هَذَا مَعَ مُسْلِمٍ .(2/322)
قَالَ تَعَالَى : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا } . وَإِمَّا أَنْ لَا يُوجَدَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مَا يُوَافِقُهُ نَصًّا وَلَا مَا يُخَالِفُهُ , فَهَذَا مَعْدُومٌ مِنْ الْعَالِمِ وَلَا سَبِيلَ إلَى وُجُودِهِ . قَالَ تَعَالَى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } . وَقَالَ تَعَالَى : { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " { دَعُونِي مَا تَرَكَتْكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاتْرُكُوهُ } . فَصَحَّ ضَرُورَةً أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ حُكْمٌ أَبَدًا عَنْ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ عليه الصلاة والسلام فَيَكُونُ فَرْضًا مَا اسْتَطَعْنَا مِنْهُ أَوْ يَنْهَى عَنْهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ عليه الصلاة والسلام فَيَكُونُ حَرَامًا , أَوْ لَا يَكُونُ فِيهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ فَهُوَ مُبَاحٌ فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ , وَبَطَلَ أَنْ تَنْزِلَ نَازِلَةٌ فِي الدِّينِ لَا حُكْمَ لَهَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ - وَلَوْ وُجِدَتْ - وَقَدْ أَبَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تُوجَدَ - : لَكَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُشَرِّعَ فِيهَا حُكْمًا دَاخِلًا فِي الدِّينِ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى إذْ قوله تعالى : { شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } .(2/323)
فَإِنْ قَالُوا : نَحْكُمُ فَهَا بِحُكْمٍ مَا يُشْبِهُهَا مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ ؟ قُلْنَا : وَأَيْنَ أَمَرَكُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا ؟ وَهَذَا هُوَ الشَّرْعُ فِي الدِّينِ بِمَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ . فَإِنْ قَالُوا : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } ؟ قُلْنَا : نَعَمْ , اعْتَبِرُوا مَعْنَاهُ اعْجَبُوا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةٌ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ } , وَمَا فَهِمَ أَحَدٌ قَطُّ مِنْ " { اعْتَبِرُوا } اُحْكُمُوا لِلشَّيْءِ بِحُكْمِ نَظِيرِهِ , وَهَذَا هُوَ تَحْرِيفٌ لِلْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ , وَالْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْبَاطِلِ وَبِمَا لَمْ يَقُلْهُ . فَإِنْ قَالُوا : قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ } . قُلْنَا : نَعَمْ , فِيمَا أُبِيحَ لَهُ فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ , لَا فِي شَرْعِ الدِّينِ بِمَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ اللَّهُ تَعَالَى , وَلَا فِي إسْقَاطِ فَرْضٍ فَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى , وَلَا فِي إبَاحَةِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى , وَلَا فِي تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى , وَلَا فِي إيجَابِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ تَعَالَى . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ } .(2/324)
فَصَحَّ أَنَّ الْأَخْذَ بِرَأْيِهِمْ لَا يَجُوزُ فِي الدِّينِ إلَّا حَيْثُ صَحَّحَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَطْ , وَمَا كَانَ هَكَذَا فَإِنَّمَا صَحَّ طَاعَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا اتِّبَاعًا لِمَنْ أَشَارَ بِهِ - ثُمَّ كُلُّ مَا أَتَوْا بِهِ مِنْ آيَةٍ أَوْ سُنَّةٍ فِيهَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ فِي أَمْرِ كَذَا بِكَذَا مِنْ أَجْلِ كَذَا وَكَذَا , أَوْ كَمَا حَكَمَ فِي أَمْرِ كَذَا . قُلْنَا : هُوَ حَقٌّ كَمَا هُوَ . وَكُلَّمَا أَرَدْتُمْ أَنْ تُشَرِّعُوا أَنْتُمْ فِيهِ تَشْبِيهًا لَهُ بِحُكْمٍ آخَرَ دُونَ نَصٍّ فَهُوَ بَاطِلٌ بَحْتٌ لَا يَحِلُّ , فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَرِّمَ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ أَشْيَاءَ أُخَرَ , وَلَا أَنْ يُوجِبَ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوْجَبَ أَشْيَاءَ أُخَرَ - : فَهَذَا كُلُّهُ تَعَدٍّ لِحُدُودِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَشَرْعٌ فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى . فَإِنْ ادَّعَوْا فِي جَوَازِ ذَلِكَ إجْمَاعًا . قُلْنَا : هَذَا الْكَذِبُ وَالْبَهْتُ , بَلْ الْإِجْمَاعُ قَدْ صَحَّ عَلَى بُطْلَانِ كُلِّ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْأُمَّةَ كُلَّهَا مُجْمِعَةٌ عَلَى تَصْدِيقِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } . وَعَلَى تَصْدِيقِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } . وَفِي هَذَا بُطْلَانُ الْحُكْمِ بِمَا عَدَا الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةَ .(2/325)
ثُمَّ نَقَضَ مَنْ نَقَضَ فَأَخْطَأَ قَاصِدًا إلَى الْخَيْرِ , وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ أَلْبَتَّةَ إلَى وُجُودِ حُكْمٍ طُولَ مُدَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقِيَاسٍ أَصْلًا , وَلَا بِرَأْيٍ أَلْبَتَّةَ , وَكُلُّ شَرْعٍ حَدَثَ بَعْدَهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَحْكُمْ هُوَ بِهِ , فَهُوَ بَاطِلٌ بِيَقِينٍ , وَلَيْسَ مِنْ الدِّينِ أَلْبَتَّةَ , قَالَ تَعَالَى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } وَمَا كَمُلَ فَلَا يَجُوزُ أَلْبَتَّةَ أَنْ يُزَادَ فِيهِ شَيْءٌ أَصْلًا , وَلَا سَبِيلَ أَلْبَتَّةَ إلَى أَنْ يُوجَدَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رضي الله عنهم - الْأَمْرُ بِالْقِيَاسِ فِي الدِّينِ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ أَبَدًا . وَأَيْضًا - فَمُدَّعِي الْإِجْمَاعِ عَلَى مَا لَا يَتَيَقَّنُ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ فَقَدْ عَرَفَهُ وَقَالَ بِهِ : كَاذِبٌ عَلَى الْأُمَّةِ كُلِّهَا , وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ آمَنُوا , وَسَمِعُوا الْقُرْآنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُمْ صَحَابَةٌ وَفُضَلَاءُ , فَمَنْ لِهَذَا الْمُدَّعِي بِالْبَاطِلِ بِإِجْمَاعِ أُولَئِكَ , فَكَيْفَ وَإِحْصَاءُ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم لَا تُحْصَرُ إلَّا حَيْثُ لَا يُشَكُّ فِي أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ فَقَدْ عَرَفَهُ .(2/326)
وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رضي الله عنه : مَنْ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ فَقَدْ كَذَبَ , وَمَا يُدْرِيهِ لَعَلَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ - : حَدَّثَنَا بِذَلِكَ : حُمَامُ بْنُ أَحْمَدَ , وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَسْعُودٍ , قَالَ حُمَامٌ : نا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ , وَقَالَ يَحْيَى : نا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَزْمٍ , ثُمَّ اتَّفَقَ أَحْمَدُ , وَعَبَّاسٌ , قَالَا : نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ : قَالَ أَبِي فَذَكَرَهُ
2203 - مَسْأَلَةٌ : مَنْ الْمُنَافِقِينَ , وَالْمُرْتَدِّينَ ؟(2/327)
قَالَ قَوْمٌ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ عَرَفَ الْمُنَافِقِينَ , وَعَرَفَ أَنَّهُمْ مُرْتَدُّونَ كَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ - وَوَاجَهَهُ رَجُلٌ بِالتَّجْوِيرِ , وَأَنَّهُ يُقَسِّمُ قِسْمَةً لَا يُرَادُ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ - وَهَذِهِ رِدَّةٌ صَحِيحَةٌ فَلَمْ يَقْتُلْهُ . قَالُوا : فَصَحَّ أَنْ لَا قَتْلَ عَلَى مُرْتَدٍّ , وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ قَتْلٌ لَأَنْفَذَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمُنَافِقِينَ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ { إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ } إلَى قوله تعالى { فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ } . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : هَذَا كُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ , وَنَحْنُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - ذَاكِرُونَ كُلَّ آيَةٍ تَعَلَّقَ بِهَا مُتَعَلَّقٌ فِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرَّفَ الْمُنَافِقِينَ بِأَعْيَانِهِمْ , وَمُبِينُونَ - بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَأْيِيدِهِ - أَنَّهُمْ قِسْمَانِ : قِسْمٌ - لَمْ يُعَرِّفْهُمْ قَطُّ عليه السلام . وَقِسْمٌ آخَرُ - افْتَضَحُوا , فَعَرَّفَهُمْ فَلَاذُوا بِالتَّوْبَةِ , وَلَمْ يُعَرِّفْهُمْ عليه السلام أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ أَوْ صَادِقُونَ فِي تَوْبَتِهِمْ فَقَطْ . فَإِذَا بَيَّنَّا هَذَا - بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى - بَطَلَ قَوْلُ مَنْ احْتَجَّ بِأَمْرِ الْمُنَافِقِينَ فِي أَنَّهُ لَا قَتْلَ عَلَى مُرْتَدٍّ , وَبَقِيَ قَوْلُ : مَنْ رَأَى الْقَتْلَ بِالتَّوْبَةِ . وَأَمَّا إنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ , وَالْبُرْهَانُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ ذَلِكَ , فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ .(2/328)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ } إلَى قوله تعالى { فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } . فَهَذِهِ أَوَّلُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ فِيهَا ذِكْرُ الْمُنَافِقِينَ , وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرَفَهُمْ , وَلَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْهُمْ , فَلَا مُتَعَلَّقَ فِيهَا لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقَوْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ } إلَى قوله تعالى : { إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ مُمْكِنٌ أَنْ يَكُونُوا مَعْرُوفِينَ , لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَنَا أَنَّهُمْ مِنْ غَيْرِنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { مِنْ دُونِكُمْ } فَإِذْ هُمْ مِنْ غَيْرِنَا فَمُمْكِنٌ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْيَهُودِ مَكْشُوفِينَ . وَمُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ قوله تعالى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ { قَالُوا : آمَنَّا } أَيْ بِمَا عِنْدَهُمْ . وَقَدْ يُمْكِنُ أَيْضًا : أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُنَافِقِينَ الْمُظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ . وَمُمْكِنُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا أَنْ لَا نَتَّخِذَهُمْ بِطَانَةً إذَا أَطْلَعَنَا مِنْهُمْ عَلَى هَذَا , وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَقْوَى لِظَاهِرِ الْآيَةِ . وَإِذْ كِلْتَاهُمَا مُمْكِنٌ فَلَا مُتَعَلَّقَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِمَنْ ذَهَبَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْرِفُ الْمُنَافِقِينَ بِأَعْيَانِهِمْ , وَيَدْرِي أَنَّ بَاطِنَهُمْ النِّفَاقُ .(2/329)
وَقَالَ تَعَالَى { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ } إلَى قوله تعالى : { حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } . وَصَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا } فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ { إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ } . وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَيْضًا - نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ , وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ قَالَا جَمِيعًا : نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ نا الْأَعْمَشُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْ نِفَاقٍ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ , إذَا وَعَدَ أَخْلَفَ , إذَا عَاهَدَ غَدَرَ , وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } .(2/330)
فَقَدْ صَحَّ أَنَّ هَاهُنَا نِفَاقًا لَا يَكُونُ صَاحِبُهُ كَافِرًا , وَنِفَاقًا يَكُونُ صَاحِبُهُ كَافِرًا , فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَرَادُوا التَّحَاكُمَ إلَى الطَّاغُوتِ لَا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُظْهِرِينَ لِطَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُصَاةً بِطَلَبِ الرُّجُوعِ فِي الْحُكْمِ إلَى غَيْرِهِ مُعْتَقِدِينَ لِصِحَّةِ ذَلِكَ , لَكِنْ رَغْبَةً فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى , فَلَمْ يَكُونُوا بِذَلِكَ كُفَّارًا بَلْ عُصَاةً , فَنَحْنُ نَجِدُ هَذَا عِيَانًا عِنْدَنَا , فَقَدْ نَدْعُو نَحْنُ عِنْدَ الْحَاكِمِ إلَى الْقُرْآنِ وَإِلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الثَّابِتِ عَنْهُمْ بِإِقْرَارِهِمْ فَيَأْبَوْنَ ذَلِكَ وَيَرْضَوْنَ بِرَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ , وَمَالِكٍ , وَالشَّافِعِيِّ , هَذَا أَمْرٌ لَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ , فَلَا يَكُونُونَ بِذَلِكَ كُفَّارًا , فَقَدْ يَكُونُ أُولَئِكَ هَكَذَا حَتَّى إذَا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ , وَجَبَ أَنَّ مَنْ وَقَفَ عَلَى هَذَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا , وَإِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَأَبَى وَعَنَدَ فَهُوَ كَافِرٌ ؟ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ : أَنَّ أُولَئِكَ عَنَدُوا بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ , فَإِذْ لَا بَيَانَ فِيهَا فَلَا حُجَّةَ فِيهَا لِمَنْ يَقُولُ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرَفَهُمْ أَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ وَأَقَرَّهُمْ .(2/331)
وَقَالَ تَعَالَى { وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ } إلَى قوله تعالى : { وَكِيلًا } فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ , بَلْ لَعَلَّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا مُعْلِنِينَ , وَكَانُوا يَلْتَزِمُونَ الطَّاعَةَ بِالْمُسَالَمَةِ , فَإِذْ لَا نَصَّ فِيهَا فَلَا حُجَّةَ فِيهَا لِمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ - عليه السلام - كَانَ يَعْرِفُهُمْ وَيَدْرِي أَنَّ عَقْدَهُمْ النِّفَاقَ . وَقَالَ تَعَالَى { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا } .
وقوله تعالى { وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ } .(2/332)
فَصَحَّ أَنَّ الْكُفْرَ يَكُونُ كَلَامًا . وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْكُفْرِ عَلَى إبْلِيسَ - وَهُوَ عَالِمٌ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ مِنْ نَارٍ وَخَلَقَ آدَمَ مِنْ طِينٍ - وَأَمَرَهُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ وَكَرَّمَهُ عَلَيْهِ - وَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى النَّظِرَةَ إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ . ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ : إذْ لَيْسَ شَتْمُ اللَّهِ تَعَالَى كُفْرًا عِنْدَكُمْ , فَمِنْ أَيْنَ قُلْتُمْ : إنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى الْكُفْرِ ؟ فَإِنْ قَالُوا : لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ عَلَى قَائِلِهِ بِحُكْمِ الْكُفْرِ ؟ قِيلَ لَهُمْ : نَعَمْ , مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِنَفْسِ قَوْلِهِ , لَا بِمَغِيبِ ضَمِيرِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّمَا حُكِمَ لَهُ بِالْكُفْرِ بِقَوْلِهِ فَقَطْ , فَقَوْلُهُ هُوَ الْكُفْرُ , وَمَنْ قَطَعَ عَلَى أَنَّهُ فِي ضَمِيرِهِ , وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَوْمٍ { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } فَكَانُوا بِذَلِكَ كُفَّارًا , كَالْيَهُودِ الَّذِينَ عَرَفُوا صِحَّةَ نُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ كُفَّارٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى قَطْعًا بِيَقِينٍ , إذْ أَعْلَنُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ .(2/333)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : فَإِذْ قَدْ سَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ فَالْوَاجِبُ أَنْ نَنْظُرَ فِيمَا احْتَجَّتْ بِهِ الطَّائِفَةُ الْقَائِلَةُ إنَّ مَنْ سَبَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَوْ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ , أَوْ مَلَكًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ - عليهم السلام - فَهُوَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ كَافِرٌ - سَوَاءٌ اعْتَقَدَهُ بِقَلْبِهِ أَوْ اعْتَقَدَ الْإِيمَانَ بِقَلْبِهِ : فَوَجَدْنَاهُمْ يَذْكُرُونَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى { قُلْ أَبِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ } . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } الْآيَةَ . وقوله تعالى { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } قَالَ فَقَضَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَقَسَمَ وَحَكَمَ : أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ أَحَدٌ حَتَّى يُحَكِّمَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِيمَا شَجَرَ ثُمَّ لَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ حَرَجًا فِي شَيْءٍ مِمَّا قَضَى بِهِ وَيُسَلِّمُ تَسْلِيمًا . قَالُوا : وَبِضَرُورَةِ الْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ نَدْرِي أَنَّ مَنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم أَوْ مَلَكًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ , أَوْ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَى جَمِيعِهِمْ السَّلَامُ - أَوْ شَيْئًا مِنْ الشَّرِيعَةِ , أَوْ اسْتَخَفَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ , فَلَمْ يُحَكِّمْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِمَا أَتَى بِهِ مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى , وَإِكْرَامِ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ , وَتَعْظِيمِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي هِيَ شَعَائِرُ اللَّهِ تَعَالَى .(2/334)
فَصَحَّ أَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ فَقَدْ كَفَرَ إذْ لَيْسَ إلَّا مُؤْمِنٌ أَوْ كَافِرٌ . قَالُوا : وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِإِحْبَاطِ عَمَلِ مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ عَلَى صَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِحْبَاطُ الْعَمَلِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْكُفْرِ فَقَطْ . وَرَفْعُ الصَّوْتِ عَلَى صَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ فِيهِ : الِاسْتِخْفَافُ بِهِ عليه السلام , وَالسَّبُّ لَهُ , وَالْمُعَارَضَةُ مِنْ حَاضِرٍ وَغَائِبٍ . قَالُوا : وَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُسْتَهْزِئِينَ بِاَللَّهِ وَبِآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ : أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِذَلِكَ بَعْدَ إيمَانِهِمْ , فَارْتَفَعَ الْإِشْكَالُ وَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ كُلَّ مَنْ اسْتَهْزَأَ بِشَيْءٍ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَبِرَسُولٍ مِنْ رُسُلِهِ فَإِنَّهُ كَافِرٌ بِذَلِكَ مُرْتَدٌّ . وَقَدْ عَلِمْنَا - أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كُلَّهُمْ رُسُلُ اللَّهِ تَعَالَى , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا } وَكَذَلِكَ عَلِمْنَا بِضَرُورَةِ الْمُشَاهَدَةِ : أَنَّ كُلَّ سَابٍّ وَشَاتِمٍ فَمُسْتَخِفٌّ بِالْمَشْتُومِ مُسْتَهْزِئٌ بِهِ , فَالِاسْتِخْفَافُ وَالِاسْتِهْزَاءُ شَيْءٌ وَاحِدٌ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : وَوَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ إبْلِيسَ بِاسْتِخْفَافِهِ بِآدَمَ عليه السلام كَافِرًا ; لِأَنَّهُ إذْ قَالَ { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ } فَحِينَئِذٍ أَمَرَهُ تَعَالَى بِالْخُرُوجِ مِنْ الْجَنَّةِ وَدَحْرِهِ , وَسَمَّاهُ كَافِرًا بِقَوْلِهِ { وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ } .(2/335)
وَحَدَّثَنَا حُمَامٌ نا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ نا أَبُو مُحَمَّدٍ حَبِيبٌ الْبُخَارِيُّ - هُوَ صَاحِبُ أَبِي ثَوْرٍ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ - نا مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ سَمِعْت عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ يَقُولُ : " دَخَلْت عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ لِي : أَتَعْرِفُ حَدِيثًا مُسْنَدًا فِيمَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فَيُقْتَلُ ؟ قُلْت : نَعَمْ , فَذَكَرْت لَهُ حَدِيثَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ سِمَاكِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ " رَجُلٍ " مِنْ بُلْقِينَ قَالَ { كَانَ رَجُلٌ يَشْتُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم : مَنْ يَكْفِينِي عَدُوًّا لِي ؟ فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ : أَنَا فَبَعَثَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم إلَيْهِ فَقَتَلَهُ , فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ : لَيْسَ هَذَا مُسْنَدًا , هُوَ عَنْ رَجُلٍ ؟ فَقُلْتُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا يُعْرَفُ هَذَا الرَّجُلُ وَهُوَ اسْمُهُ , قَدْ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَبَايَعَهُ , وَهُوَ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ ؟ قَالَ : فَأَمَرَ لِي بِأَلْفِ دِينَارٍ ؟ } قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : هَذَا حَدِيثٌ مُسْنَدٌ صَحِيحٌ , وَقَدْ رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ عَنْ عَبْدُ الرَّزَّاقِ كَمَا ذَكَرَهُ , وَهَذَا رَجُلٌ مِنْ الصَّحَابَةِ مَعْرُوفٌ اسْمُهُ الَّذِي سَمَّاهُ بِهِ أَهْلُهُ " رَجُلٌ " مِنْ بُلْقِينَ . فَصَحَّ بِهَذَا كُفْرُ مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم وَأَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَعَالَى , وَهُوَ عليه السلام لَا يُعَادِي مُسْلِمًا قَالَ تَعَالَى { الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } .(2/336)
فَصَحَّ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ مَنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى , أَوْ اسْتَهْزَأَ بِهِ , أَوْ سَبَّ مَلَكًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَوْ اسْتَهْزَأَ بِهِ , أَوْ سَبَّ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ , أَوْ اسْتَهْزَأَ بِهِ , أَوْ سَبَّ آيَةً مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى , أَوْ اسْتَهْزَأَ بِهَا , وَالشَّرَائِعُ كُلُّهَا , وَالْقُرْآنُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بِذَلِكَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ , لَهُ حُكْمُ الْمُرْتَدِّ , وَبِهَذَا نَقُولُ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ .(2/337)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : وَيُبَيِّنُ هَذَا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ ني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ نا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ نا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُتَّهَمُ بِأُمِّ وَلَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم لِعَلِيٍّ : اذْهَبْ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ , فَأَتَاهُ عَلِيٌّ فَإِذَا هُوَ فِي رَكِيٍّ يَتَبَرَّدُ فِيهَا , فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ : اُخْرُجْ , فَنَاوَلَهُ يَدَهُ , فَأَخْرَجَهُ , فَإِذَا هُوَ مَجْبُوبٌ - لَيْسَ لَهُ ذَكَرٌ - فَكَفَّ عَلِيٌّ عَنْهُ , ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ لَمَجْبُوبٌ , مَالَهُ ذَكَرٌ ؟ } قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : هَذَا خَبَرٌ صَحِيحٌ , وَفِيهِ مَنْ آذَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم وَجَبَ قَتْلُهُ , وَإِنْ كَانَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِرَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَجِبْ بِذَلِكَ قَتْلُهُ ؟ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : كَيْفَ يَأْمُرُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِهِ دُونَ أَنْ يَتَحَقَّقَ عِنْدَهُ ذَلِكَ الْأَمْرُ , لَا بِوَحْيٍ , وَلَا بِعِلْمٍ صَحِيحٍ , وَلَا بِبَيِّنَةٍ , وَلَا بِإِقْرَارٍ ؟ وَكَيْفَ يَأْمُرُ - عليه السلام - بِقَتْلِهِ فِي قِصَّةٍ بِظَنٍّ قَدْ ظَهَرَ كَذِبُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَبُطْلَانُهُ ؟ وَكَيْفَ يَأْمُرُ - عليه السلام - بِقَتْلِ امْرِئٍ قَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ تَعَالَى بَرَاءَتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَقِينٍ لَا شَكَّ فِيهِ ؟ وَكَيْفَ يَأْمُرُ - عليه السلام - بِقَتْلِهِ وَلَا يَأْمُرُ بِقَتْلِهَا , وَالْأَمْرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مُشْتَرَكٌ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : وَهَذِهِ سُؤَالَاتٌ لَا يَسْأَلُهَا إلَّا كَافِرٌ أَوْ(2/338)
إنْسَانٌ جَاهِلٌ يُرِيدُ مَعْرِفَةَ الْمَخْرَجِ مِنْ كُلِّ هَذِهِ الِاعْتِرَاضَاتِ الْمَذْكُورَةِ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : الْوَجْهُ فِي هَذِهِ السُّؤَالَاتِ بَيِّنٌ وَاضِحٌ لَا خَفَاءَ بِهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَأْمُرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ أَحَدٍ بِظَنٍّ بِغَيْرِ إقْرَارٍ , أَوْ بَيِّنَةٍ , أَوْ عِلْمٍ أَوْ مُشَاهَدَةٍ , أَوْ وَحْيٍ , أَوْ أَنْ يَأْمُرَ بِقَتْلِهِ دُونَهَا , لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّهُ بَرِيءٌ , وَأَنَّ الْقَوْلَ كَذِبٌ فَأَرَادَ - عليه السلام - أَنْ يُوقَفَ عَلَى ذَلِكَ مُشَاهَدَةً فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ الَّذِي قِيلَ عَنْهُ , فَكَانَ هَذَا حُكْمًا صَحِيحًا فِيمَنْ آذَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ عَلِمَ - عليه السلام - أَنَّ الْقَتْلَ لَا يَنْفُذُ عَلَيْهِ لِمَا يُظْهِرُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَرَاءَتِهِ , وَكَانَ - عليه السلام - فِي ذَلِكَ , كَمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ عليه السلام , وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نا أَبُو الْيَمَانِ - هُوَ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ - نا شُعَيْبٌ - هُوَ ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ - نا أَبُو الزِّنَادِ قَالَ : إنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ { أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ : إنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ - فَذَكَرَ كَلَامًا - وَفِيهِ أَنَّهُ - عليه السلام - قَالَ : وَكَانَتْ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إحْدَاهُمَا , فَقَالَتْ صَاحِبَتُهَا , إنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ , وَقَالَتْ الْأُخْرَى : إنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ , فَتَحَاكَمَا إلَى(2/339)
دَاوُد عليه السلام , فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى , فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ عليه السلام فَأَخْبَرَتَاهُ , فَقَالَ : ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا , فَقَالَتْ الصُّغْرَى : لَا تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ , هُوَ ابْنُهَا , فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى - قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : وَاَللَّهِ إنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ إلَّا يَوْمَئِذٍ وَمَا كُنَّا نَقُولُ إلَّا الْمُدْيَةَ ؟ } قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : فَبِيَقِينٍ نَدْرِي أَنَّ سُلَيْمَانَ عليه السلام لَمْ يُرِدْ قَطُّ شَقَّ الصَّبِيِّ بَيْنَهُمَا , وَإِنَّمَا أَرَادَ امْتِحَانَهُمَا بِذَلِكَ , وَبِالْوَحْيِ - فَعَلَ هَذَا بِلَا شَكٍّ - وَكَانَ حُكْمُ دَاوُد عليه السلام لِلْكُبْرَى عَلَى ظَاهِرِ الْأَمْرِ ; لِأَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهَا , وَكَذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم مَا أَرَادَ قَطُّ إنْفَاذَ قَتْلِ ذَلِكَ " الْمَجْبُوبِ " لَكِنْ أَرَادَ امْتِحَانَ عَلِيٍّ فِي إنْفَاذِ أَمْرِهِ , وَأَرَادَ إظْهَارَ بَرَاءَةِ الْمُتَّهَمِ , وَكَذِبِ التُّهْمَةِ عِيَانًا - وَهَكَذَا لَمْ يُرِدْ اللَّهُ تَعَالَى إنْفَاذَ ذَبْحِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ صلى الله عليهما وسلم إذَا أَمَرَ أَبَاهُ بِذَبْحِهِ , لَكِنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى إظْهَارَ تَنْفِيذِهِ لِأَمْرِهِ - فَهَذَا وَجْهُ الْأَخْبَارِ - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .(2/340)
فَصَحَّ بِهَذَا أَنَّ كُلَّ مَنْ آذَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ يُقْتَلُ , وَلَا بُدَّ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : نا أَحْمَدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ دُلَيْمٍ الْحَضْرَمِيُّ نا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْخَلَّاصِ نا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ شَعْبَانَ نا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْهَاشِمِيُّ ثَنْي مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْبَاغَنْدِيُّ نا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ قَالَ : سَمِعْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ : مَنْ سَبَّ أَبَا بَكْرٍ , وَعُمَرَ جُلِدَ , وَمَنْ سَبَّ عَائِشَةَ قُتِلَ , قِيلَ لَهُ : لِمَ يُقْتَلُ فِي عَائِشَةَ ؟ قَالَ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي عَائِشَةَ رضي الله عنها { يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } . قَالَ مَالِكٌ : فَمَنْ رَمَاهَا فَقَدْ خَالَفَ الْقُرْآنَ , وَمَنْ خَالَفَ الْقُرْآنَ قُتِلَ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : قَوْلُ مَالِكٍ هَاهُنَا صَحِيحٌ , وَهِيَ رِدَّةٌ تَامَّةٌ , وَتَكْذِيبٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِي قَطْعِهِ بِبَرَاءَتِهَا . وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ سَائِرُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ , وَلَا فَرْقَ . لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ { الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ } فَكُلُّهُنَّ مُبَرَّآتٌ مِنْ قَوْلٍ إفْكٍ - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : وَأَمَّا الذِّمِّيُّ يَسُبُّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فَإِنَّ أَصْحَابَنَا , وَمَالِكًا , وَأَصْحَابَهُ , قَالُوا : يُقْتَلُ وَلَا بُدَّ . وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ .(2/341)
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجِبُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ : أَنْ لَا يَذْكُرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ رَسُولَهُ صلى الله عليه وآله وسلم بِمَا لَا يَنْبَغِي , أَوْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ أَوْ تَزَوَّجَهَا , فَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ , أَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ عَلَى مُسْلِمٍ , أَوْ أَعَانَ أَهْلَ الْحَرْبِ بِدَلَالَةٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ , أَوْ آوَى عَيْنًا لَهُمْ , فَقَدْ نَقَضَ عَهْدَهُ , وَحَلَّ دَمُهُ , وَبَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى , وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ - فَتَأَوَّلَ عَلَيْهِ قَوْمٌ : أَنَّهُ إنْ لَمْ يَشْتَرِطْ هَذَا عَلَيْهِمْ لَمْ يَسْتَحِلَّ دَمَهُمْ بِذَلِكَ ؟ قَالَ عَلِيٌّ رحمه الله : وَهَذَا خَطَأٌ مِمَّنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ عَنْهُ , وَلَا عَنْ غَيْرِهِ فِي الذِّمِّيِّ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ قَدْ حَلَّ بِذَلِكَ دَمُهُ - تَقَدَّمَ إلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَشَرَطَ لَهُمْ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ لَهُمْ . وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيِّينَ : أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا سَبَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم بِغَيْرِ مَا بِهِ كُفْرٌ يُقْتَلُ , فَاسْتَدَلَّ بَعْضُ النَّاسِ : أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ إذَا سَبَّهُ بِتَكْذِيبٍ . وَقَالَ سُفْيَانُ , وَأَبُو حَنِيفَةَ , وَأَصْحَابُهُ : إنْ سَبَّ الذِّمِّيُّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْ رَسُولَهُ صلى الله عليه وآله وسلم بِأَيِّ شَيْءٍ سَبَّهُ , فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ , لَكِنْ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ - وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يُعَزَّرُ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ يُقْتَلُ وَلَا بُدَّ .(2/342)
وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيُّونَ لِضَلَالِهِمْ وَإِفْكِهِمْ بِمَا ناه عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ نا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ نا الْفَرَبْرِيُّ نا الْبُخَارِيُّ نا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ أَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ : سَمِعْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ : { مَرَّ يَهُودِيٌّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ : السَّامُ عَلَيْكَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَعَلَيْكَ , فَقَالَ عليه السلام : أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ ؟ قَالَ : السَّامُ عَلَيْكَ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَلَا نَقْتُلُهُ ؟ قَالَ : لَا , إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ , فَقُولُوا : وَعَلَيْكُمْ } . وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نا أَبُو بُغَيْمٍ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالُوا : السَّامُ عَلَيْكَ , فَقُلْتُ : بَلَى , وَعَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ , فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ , قُلْتُ : أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا ؟ قَالَ : قُلْتُ : وَعَلَيْكُمْ } .(2/343)
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ نا ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ نا أَبُو دَاوُد نا يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَدِيٍّ نا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ نا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ { أَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا فَجِيءَ بِهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ , فَقَالَتْ : أَرَدْتُ لِأَقْتُلكَ , قَالَ : مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطكِ عَلَى ذَلِكَ - أَوْ قَالَ عَلَيَّ - فَقَالُوا : أَلَا تَقْتُلُهَا ؟ فَقَالَ : لَا } .(2/344)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : فَقَالُوا : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَدْ سَمِعَ قَوْلَ الْيَهُودِ لَهُ السَّامُ عَلَيْك - وَهَذَا قَوْلٌ لَوْ قَالَهُ مُسْلِمٌ لَكَانَ كَافِرًا بِذَلِكَ , - وَقَدْ سَمَّتْ الْيَهُودِيَّةُ طَعَامًا لِتَقْتُلَهُ - وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا يَفْعَلُ ذَلِكَ لَكَانَ بِذَلِكَ كَافِرًا , فَلَمْ يَقْتُلْهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم , وَلَا قَتَلَهَا , وَحَدِيثُ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ إذْ سَحَرَهُ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَقْتُلْهُ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : مَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً غَيْرَ هَذَا أَصْلًا , وَكُلُّ هَذَا لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى مَا نُبَيِّنُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - أَمَّا الْأَحَادِيثُ الَّتِي فِيهَا قَوْلُ الْيَهُودِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { السَّامُ عَلَيْكَ } فَلَيْسَ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّ السَّامَ إنَّمَا هُوَ الْمَوْتُ : كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ نا اللَّيْثُ هُوَ ابْنُ سَعْدٍ - عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَهُ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ , وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ " أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ { فِي الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ : شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إلَّا السَّامَ ؟ } قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : وَالسَّامُ الْمَوْتُ , فَمَعْنَى السَّامُ عَلَيْك : الْمَوْتُ عَلَيْك , وَهَذَا كَلَامٌ حَقٌّ , وَإِنْ كَانَ فِيهِ جَفَاءٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ { إنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } .(2/345)
وَقَالَ تَعَالَى { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِالْجَفَاءِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم الْكُفْرُ مِنْ الْمُسْلِمِ , وَبِكُفْرِهِ يَحِلُّ دَمُهُ , وَالذِّمِّيُّ كَافِرٌ , وَلَمْ يَقُلْ : إنَّهُ لِجَفَائِهِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم يَكُونُ كَافِرًا بِجَفَائِهِ , بَلْ كَانَ كَافِرًا , وَهُوَ كَافِرٌ , وَلَا يَحِلُّ دَمُهُ بِكُفْرِهِ , إذَا صَحَّتْ نِيَّتُهُ , لَكِنْ بِمَعْنًى آخَرَ غَيْرَ الْكُفْرِ .(2/346)
وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ الزُّرَقِيِّ الْيَهُودِيِّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم , وَفِي سَمِّ الْيَهُودِيَّةِ لِطَعَامِهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَلَا فَرْقَ , إنَّمَا يَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ الْكُفْرُ لِمَنْ فَعَلَهُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَالذِّمِّيُّونَ كُفَّارٌ قَبْلَ ذَلِكَ , وَمَعَهُ , وَلَيْسَ بِنَفْسِ كُفْرِهِمْ حَلَّتْ دِمَاؤُهُمْ فِي ذَلِكَ إذَا تَذَمَّمُوا , فَالْمُسْلِمُ يُقْتَلُ بِكُفْرِهِ إذَا أَحْدَثَ كُفْرًا بَعْدَ إسْلَامِهِ , وَالذِّمِّيُّ لَا يُقْتَلُ , وَإِنْ أَحْدَثَ فِي كُلِّ حِينٍ كُفْرًا حَادِثًا غَيْرَ كُفْرِهِ بِالْأَمْسِ , إذَا كَانَ مِنْ نَوْعِ الْكُفْرِ الَّذِي تَذَمَّمَ عَلَيْهِ - فَنَظَرْنَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي وَجَبَ بِهِ الْقَتْلُ عَلَى الذِّمِّيِّ إذَا سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْ رَسُولَهُ صلى الله عليه وآله وسلم أَوْ اسْتَخَفَّ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ - فَوَجَدْنَاهُ إنَّمَا هُوَ نَقْضُهُ الذِّمَّةَ ; لِأَنَّهُ إنَّمَا تَذَمَّمَ , وَحَقَنَ دَمَهُ بِالْجِزْيَةِ عَلَى الصِّغَارِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ } الْآيَةَ إلَى قَوْلِهِ : { وَهُمْ صَاغِرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ } .(2/347)
فَكَانَ هَاتَانِ الْآيَتَانِ نَصًّا جَلِيًّا لَا يَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا فِي بَيَانِ مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يُقَاتَلُونَ وَيُقْتَلُونَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ , وَعَلَى أَنَّهُمْ إذَا عُوهِدُوا وَتَمَّ عَهْدُهُمْ , وَطَعَنُوا فِي دِينِنَا فَقَدْ نَقَضُوا عَهْدَهُمْ , وَنَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ , وَعَادَ حُكْمُ قِتَالِهِمْ كَمَا كَانَ . وَبِضَرُورَةِ الْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ نَدْرِي أَنَّهُمْ إنْ أَعْلَنُوا سَبَّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ سَبَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَوْ شَيْءٍ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ , أَوْ مُسْلِمٍ مِنْ عَرَضِ النَّاسِ , فَقَدْ فَارَقُوا الصَّغَارَ , بَلْ قَدْ أَصْغَرُونَا , وَأَذَلُّونَا , وَطَعَنُوا فِي دِينِنَا , فَنَكَثُوا بِذَلِكَ عَهْدَهُمْ , وَنَقَضُوا ذِمَّتَهُمْ - وَإِذَا نَقَضُوا ذِمَّتَهُمْ فَقَدْ حَلَّتْ دِمَاؤُهُمْ , وَسَبْيُهُمْ , وَأَمْوَالُهُمْ بِلَا شَكٍّ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : وَسَمُّ الْيَهُودِيَّةِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم كَانَ يَوْمَ خَيْبَرَ بِلَا شَكٍّ وَهُوَ قَبْلَ نُزُولِ " بَرَاءَةٌ " بِثَلَاثَةِ أَعْوَامٍ . وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي قَوْلِ أُولَئِكَ الْيَهُودِ : السَّامُ عَلَيْك لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم .(2/348)
وَفِي سِحْرِ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ إيَّاهُ وَأَنَّ هَذَا كُلَّهُ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِأَنْ لَا يُثَبِّتَ عَهْدَ الذِّمِّيِّ إلَّا عَلَى الصِّغَارِ , وَأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ إذْ كَانَتْ الْمُهَادَنَةُ جَائِزَةً لَهُمْ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي حَدِيثِ " السَّامِ , وَالسِّحْرِ " هُوَ مَعْنَى حَدِيثِ سَمِّ الشَّاةِ سَوَاءً سَوَاءً , وَحَدِيثُ سَمِّ الشَّاةِ مَنْسُوخٌ بِلَا شَكٍّ بِمَا فِي " سُورَةِ بَرَاءَةَ " مِنْ أَنْ لَا يُقَرُّوا إلَّا عَلَى الصِّغَارِ فَحَدِيثُ " السَّامِ , وَالسِّحْرِ " بِلَا شَكٍّ مَنْسُوخَانِ , بَلْ الْيَقِينُ قَدْ صَحَّ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا مَنْسُوخٌ وَلَا يَحِلُّ الْعَمَلُ بِالْمَنْسُوخِ , وَلَا يَجُوزُ أَلْبَتَّةَ أَنْ يَكُونَا بَعْدَ نُزُولِ " بَرَاءَةٌ " ; لِأَنَّهُ مِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَنْسَخَ اللَّهُ تَعَالَى شَيْئًا بِيَقِينٍ , ثُمَّ يَنْسَخَ النَّاسِخَ وَيُعِيدَ حُكْمَ الْمَنْسُوخِ وَلَا يَصْحَبَهُ مِنْ الْبَيَانِ مَا يَرْفَعُ الشَّكَّ , وَيَرْفَعُ الظَّنَّ , وَيُبْطِلُ الْإِشْكَالَ - هَذَا أَمْرٌ قَدْ أَمِنَّاهُ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ .(2/349)
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : كَيْفَ تَقُولُونَ هَذَا وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ : إنَّ مَنْ سَمَّ الْيَوْمَ طَعَامًا لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَا قَتْلَ عَلَيْهِ وَإِنَّ مَنْ سَحَرَ مُسْلِمًا فَلَا قَتْلَ عَلَيْهِ , وَإِنَّ الْيَهُودَ يَقُولُونَ لَنَا الْيَوْمَ : السَّامُ عَلَيْكُمْ , وَلَا قَتْلَ عَلَيْهِمْ فَمَا نَرَاكُمْ تَحْكُمُونَ إلَّا بِمَا ذَكَرْتُمْ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ ؟ فَجَوَابُنَا - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ - أَنَّنَا لَمْ نَقُلْ إنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ نُسِخَ مِنْهَا إلَّا مَا يُوجِبُهُ حُكْمُ خِطَابِهِمْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم خَاصَّةً , وَحُكْمُ سَمِّ طَعَامِهِ خَاصَّةً , وَحُكْمُ قَصْدِهِ بِالسِّحْرِ خَاصَّةً , فَهَذَا هُوَ الَّذِي نُسِخَ وَحْدَهُ فَقَطْ وَلَا مَزِيدَ ; لِأَنَّ الْغَرَضَ تَعْظِيمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَوْقِيرُهُ , وَأَنْ لَا يُجْعَلَ دُعَاؤُهُ - عليه السلام - كَدُعَاءِ بَعْضِنَا بَعْضًا بَاقٍ أَبَدًا - عَلَى الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ . فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ الَّذِي قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم " اعْدِلْ يَا مُحَمَّدُ " كَانَ رِدَّةً صَحِيحَةً ; لِأَنَّهُ لَمْ يُوَقِّرْهُ وَلَا عَظَّمَهُ كَمَا أُمِرَ , وَرَفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِ فَحَبَطَ عَمَلُهُ . وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا يَقُولُ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه فَمَنْ دُونَهُ : اعْدِلْ يَا أَبَا بَكْرٍ لِمَا كَانَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ النَّكِرَةِ , وَلَا مِنْ الْكَرَاهَةِ , وَالْيَهُودُ إنْ قَالُوا لَنَا : السَّامُ عَلَيْكُمْ , أَوْ قَالُوا : الْمَوْتُ عَلَيْكُمْ , لَقُلْنَا لَهُمْ : صَدَقْتُمْ وَلَا خَفَاءَ فِي هَذَا .(2/350)
وَكَذَلِكَ لَوْ خَاصَمُونَا فِي حَقٍّ يَدَّعُونَهُ فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ عَلَيْنَا , مَا كَانَ فِي ذَلِكَ نَكِرَةٌ , وَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِمْ كُفْرٌ , وَنَقْضٌ لِلذِّمَّةِ . وَكَذَلِكَ إذَا سَحَرَنَا سَاحِرٌ مُسْلِمٌ أَوْ كَافِرٌ , فَلَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ كَادَنَا كَيْدًا لَا يُفْلِحُ مَعَهُ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } وَلَيْسَ بِالْكَيْدِ تَنْتَقِضُ الذِّمَّةُ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُوا بِهِ الصِّغَارَ , وَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا قُصِدَ بِهِ كُفْرٌ وَنَقْضٌ لِلذِّمَّةِ ; لِأَنَّهُ خِلَافُ التَّعْظِيمِ الْمُفْتَرَضِ لَهُ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ سَمُّ الطَّعَامِ لَنَا لَيْسَ فِيهِ إلَّا إفْسَادُ مَالٍ مِنْ أَمْوَالِنَا إنْ كَانَ لَنَا , أَوْ كَيْدٌ مِنْ فَاعِلِهِ إنْ كَانَ الطَّعَامُ لَهُ , وَلَيْسَ بِإِفْسَادِ الْمَالِ وَالْكَيْدِ تَنْتَقِضُ الذِّمَّةُ وَلَا يَكْفُرُ بِذَلِكَ أَحَدٌ إلَّا مَنْ عَامَلَ بِذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم خَاصَّةً , فَهُوَ كُفْرٌ وَنَقْضٌ لِلذِّمَّةِ ; لِأَنَّهُ خِلَافُ التَّعْظِيمِ الْمُفْتَرَضِ لَهُ عَلَيْنَا وَعَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ جِنِّهَا وَإِنْسِهَا .(2/351)
وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا لَمْ يُسَلِّمْ لِحُكْمٍ حَكَمَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - فَمَنْ دُونَهُ فَاجْتِهَادُهُ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ وَلَا إجْمَاعَ , وَلَا رِضًى بِذَلِكَ الْقَوْلِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ حَرَجٌ وَلَا إثْمٌ , وَلَوْ أَنَّهُمَا لَمْ يُسَلِّمَا لِحُكْمٍ حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم لَكَانَ ذَلِكَ كُفْرًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ , بِنَصِّ الْقُرْآنِ , وَإِخْرَاجًا لَهُمْ عَنْ الْإِيمَانِ , وَلَكَانَ ذَلِكَ نَقْضًا لِلذِّمَّةِ مِنْ الذِّمِّيِّ ; لِأَنَّهُ خُرُوجٌ عَنْ الصَّغَارِ , وَطَعْنٌ فِي الدِّينِ , وَهَذَا بَيِّنٌ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ كَثِيرًا .
وفي المنتقى للباجي :
((2/352)
ش ) : قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ عَلَى مَعْنَى الْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ بِصِفَةِ الْبَشَرِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا يَعْلَمُ الْمُحِقَّ مِنْ الْخَصْمَيْنِ مِنْ الْمُبْطِلِ وَالْإِخْبَارُ بِأَنَّ فِي ذَلِكَ حَالُ غَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مِنْ الْغَيْبِ إلَّا مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ , وَلَمَّا كَانَتْ الدُّنْيَا دَارَ تَكْلِيفٍ وَكَانَتْ الْأَحْكَامُ تَجْرِي عَلَى ذَلِكَ أَجْرَى فِي غَالِبِ أَحْكَامِهِ فِي هَذَا الْوَجْهِ عَلَى أَحْوَالِ سَائِرِ الْحُكَّامِ , وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ فِي مَسْأَلَةِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنَّهُ أَعْلَمُ بِالْكَاذِبِ مِنْهُمَا , وَقَالَ يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا مِنْ تَائِبٍ . ((2/353)
فَصْلٌ ) : وَقَوْلُهُ إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ يُرِيدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ تَتَنَازَعُونَ فِي الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا تَنَازُعًا يَدَّعِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَصْمَيْنِ أَنَّهُ أَحَقُّ بِهَا مِنْ صَاحِبِهِ فَيُخَاصِمُهُ فِي ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دُونَ غَيْرِهِ وَهُوَ صلى الله عليه وسلم الْحَاكِمُ فِي زَمَنِهِ ; لِأَنَّهُ إمَامُ الْأُمَّةِ وَالْمُنْفَرِدُ بِالرِّئَاسَةِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ إلَّا هُوَ أَوْ مَنْ قَدَّمَهُ لِذَلِكَ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قوله تعالى { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْت وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَقَوْلُهُ { وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } وَقَوْلُهُ { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاك اللَّهُ } وَفِي هَذَا بَابَانِ أَحَدُهُمَا فِي صِفَةِ الْقَاضِي وَالثَّانِي فِي مَجْلِسِهِ وَأَدَبِهِ . ( الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي صِفَةِ الْقَاضِي ) فَأَمَّا صِفَاتُهُ فِي نَفْسِهِ فَإِحْدَاهَا أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا بَالِغًا , وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا مُفْرَدًا , وَالثَّالِثَةُ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا , وَالرَّابِعَةُ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا , وَالْخَامِسَةُ أَنْ يَكُونَ حُرًّا , وَالسَّادِسَةُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا , وَالسَّابِعَةُ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا . فَأَمَّا اعْتِبَارُ الذُّكُورَةِ فَحَكَى الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ .(2/354)
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَجُوزُ أَنْ تَلِيَ الْمَرْأَةُ الْقَضَاءَ فِي الْأَمْوَالِ دُونَ الْقِصَاصِ , وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ قَاضِيَةً عَلَى كُلِّ حَالٍ وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ { لَا يُفْلِحُ قَوْمٌ أَسْنَدُوا أَمْرَهُمْ إلَى امْرَأَةٍ } وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّهُ أَمْرٌ يَتَضَمَّنُ فَصْلَ الْقَضَاءِ فَوَجَبَ أَنْ تُنَافِيهِ الْأُنُوثَةُ كَالْإِمَامَةِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ عِنْدِي عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا نَعْلَمُ أَنَّهُ قُدِّمَ لِذَلِكَ فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ وَلَا بَلَدٍ مِنْ الْبِلَادِ امْرَأَةٌ كَمَا لَمْ يُقَدَّمْ لِلْإِمَامَةِ امْرَأَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ .
الْقَضَاءُ فِي الْمِيَاهِ ) ( ص ) : ( مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي سَيْلِ مَهْزُورٍ وَمُذَيْنَبٍ يُمْسَكُ حَتَّى الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ يُرْسِلُ الْأَعْلَى عَلَى الْأَسْفَلِ } ) .
((2/355)
فَصْلٌ ) : وَقَوْلُهُ { يُمْسَكُ حَتَّى الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ يُرْسِلُ الْأَعْلَى عَلَى الْأَسْفَلِ } اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ فَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ وَمُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ يُرْسِلُ صَاحِبُ الْحَائِطِ الْأَعْلَى جَمِيعَ الْمَاءِ فِي حَائِطِهِ وَيُسْقِي بِهِ حَتَّى إذَا بَلَغَ الْمَاءُ مِنْ قَاعَةِ الْحَائِطِ إلَى كَعْبَيْ مَنْ يَقُومُ فِيهِ أَغْلَقَ مَدْخَلَ الْمَاءِ . وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ بَلَغَنَا أَنَّهُ إذَا سَقَى بِالسَّيْلِ الزَّرْعَ أَمْسَكَ حَتَّى يَبْلُغَ الْمَاءُ شِرَاكَ نَعْلَيْهِ , وَإِذَا سَقَى النَّخِيلَ وَالشَّجَرَ وَمَا لَهُ أَصْلٌ أَمْسَكَ حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ وَأَحَبُّ إلَيْنَا أَنْ يَحْبِسَ فِي الزَّرْعِ وَالنَّخْلِ وَمَا لَهُ أَصْلٌ حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ ; لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الرَّيِّ وَفِي الْمُزَنِيَّة عَنْ عِيسَى عَنْ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّ الْأَوَّلَ يَسْقِي حَتَّى يُرْوَى حَائِطُهُ ثُمَّ يُمْسِكُ بَعْدَ رَيِّ حَائِطِهِ فِيمَا كَانَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ إلَى أَسْفَلَ ثُمَّ يُرْسِلُ .(2/356)
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى عَنْ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ : تَفْسِيرُهُ أَنْ يَجْرِيَ الْأَوَّلُ مِنْ الْمَاءِ فِي سَاقِيَتِهِ إلَى حَائِطِهِ قَدْرَ مَا يَكُونُ الْمَاءُ فِي السَّاقِيَةِ إلَى كَعْبَيْهِ حَتَّى يُرْوَى حَائِطُهُ , أَوْ يَبْقَى الْمَاءُ فَإِذَا رُوِيَ حَائِطُهُ أَرْسَلَهُ كُلَّهُ قَالَ يَحْيَى بْنُ مُزَيْنٍ رِوَايَةُ زِيَادٍ عَنْ مَالِكٍ أَحْسَنُ مَا فِيهِ وَاَلَّذِي رُوِيَ مُسْنَدًا فِي هَذَا الْبَابِ مَا رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ فِي شِرَاجٍ مِنْ الْحِرَّةِ يَسْقِي بِهِ النَّخْلَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْقِ يَا زُبَيْرُ فَأَمَرَهُ بِالْمَعْرُوفِ ثُمَّ أَرْسِلْ إلَى جَارِك قَالَ الْأَنْصَارِيُّ : إنْ كَانَ ابْنُ عَمَّتِك فَتَلَوَّنَ وَجْهُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ : اسْقِ ثُمَّ احْبِسْ حَتَّى يَرْجِعَ الْمَاءُ إلَى الْجِدْرِ , وَاسْتَوْعَى لَهُ حَقَّهُ فَقَالَ الزُّبَيْرُ : وَاَللَّهِ إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ } الْآيَةَ فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَقَدَّرَتْ الْأَنْصَارُ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اسْقِ ثُمَّ احْبِسْ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى الْجِدْرِ فَكَانَ ذَلِكَ إلَى الْكَعْبَيْنِ } . ((2/357)
مَسْأَلَةٌ ) : فَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْحَائِطِ أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ فَقَدْ قَالَ سَحْنُونٌ يُؤْمَرُ أَنْ يَعْدِلَ أَرْضَهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ عَلَى أَرْضِهِ كُلِّهَا إلَى الْكَعْبَيْنِ , وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عُلُوُّ بَعْضِ أَرْضِهِ مَا لَا يَبْلُغُ إلَى الْكَعْبَيْنِ إلَّا بِأَنْ يَعْلُوَ فِي بَعْضِهِ قَامَتَيْنِ وَلَكِنْ إنْ تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ سَقَى كُلَّ مَكَان مُسْتَوٍ عَلَى حِدَتِهِ . ( ص ) : ( مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ { لَا يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ الْكَلَأُ } ) . ( ش ) : قَوْلُهُ { لَا يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ الْكَلَأُ } قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَجْمُوعَةِ وَالْوَاضِحَةِ مَعْنَى ذَلِكَ فِي آبَارِ الْمَاشِيَةِ الَّتِي فِي الْفَلَوَاتِ ; لِأَنَّهُ إذَا مُنِعَ فَضْلُ الْمَاءِ لَمْ يُرْعَ ذَلِكَ الْكَلَأُ الَّذِي بِذَلِكَ الْوَادِي لِعَدَمِ الْمَاءِ فَصَارَ مَنْعًا لِلْكَلَأِ . وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ فِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ إنَّ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ يَنْزِلُهَا لِلرَّعْيِ لَا لِلْعِمَارَةِ فَهُمْ وَالنَّاسُ فِي الرَّعْيِ سَوَاءٌ وَلَكِنْ يَبْدَئُونَ بِمَائِهِمْ . ((2/358)
مَسْأَلَةٌ ) : إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنَّ بِئْرَ الْمَاشِيَةِ هِيَ مَا حَفَرَهُ الرَّجُلُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ عَلَى مَا عَهِدَهُ مِمَّا يَحْفِرُهُ الرَّجُلُ لِمَاشِيَتِهِ فِي الْبَرَارِي وَفَيَافِي الْقِفَارِ فَهَذِهِ الْبِئْرُ إذَا حُفِرَتْ فَإِنَّمَا جَرَتْ الْعَادَةُ أَنْ يُحْفَرَ لِشُرْبِ مَاشِيَتِهِ وَيَتَصَدَّقَ بِمَا فَضَلَ مِنْ مَائِهَا وَيُسَيِّحَهُ لِلنَّاسِ , فَاتَّفَقَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ مَا فَضَلَ عَنْهُ مِنْ مَائِهِ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ لَا يُبَاعُ بِئْرُ الْمَاشِيَةِ مَا حُفِرَ مِنْهَا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ , وَإِنْ حُفِرَتْ فِي قُرْبٍ , قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : يُرِيدُ قُرْبَ الْمَنَازِلِ إذَا كَانَ إنَّمَا اُحْتُفِرَ لِلصَّدَقَةِ , قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ , وَإِنَّمَا كَرِهَ مَالِكٌ بَيْعَ مَاءِ بِئْرِ الْمَاشِيَةِ وَبَيْعَ أَصْلِهَا وَأَهْلُهَا أَحَقُّ بِمَائِهَا , فَإِذَا فَضَلَ عَنْهُمْ فَضْلٌ فَالنَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ قَالُوا , وَأَمَّا مَنْ احْتَفَرَ بِئْرًا فِي أَرْضِهِ لِبَيْعِ مَائِهَا , أَوْ لِسَقْيِ مَاشِيَتِهِ وَلَمْ يَحْتَفِرْهَا لِلصَّدَقَةِ فَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهَا فَتَقَرَّرَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَا احْتَفَرَهُ فِي أَرْضِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا عَلَى الْمِلْكِ وَإِبَاحَةِ الْبَيْعِ حَتَّى يُبَيِّنَ أَنَّهَا لِلصَّدَقَةِ وَمَا اُحْتُفِرَ فِي غَيْرِ أَرْضِهِ لِلْمَاشِيَةِ , أَوْ لِلشُّرْبِ فَقَطْ وَلَمْ يَحْفِرْهَا لِإِحْيَاءِ زَرْعٍ , أَوْ غَرْسٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ احْتَفَرَهَا لِيَكُونَ الْمُقَدَّمُ فِي مَنْفَعَتِهَا وَلِلنَّاسِ فَضْلُهَا ; لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْفِرُهَا بِحَيْثُ لَا يُبَاعُ مَاؤُهَا وَلَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ إلَّا بِبَذْلِهَا فَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ عَمَلُهَا دُونَ شَرْطٍ(2/359)
إلَى الْمُعْتَادِ مِنْ حَالِهَا وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ وَبِهَذَا الْحُكْمُ يُحْكَمُ لَهَا . ( مَسْأَلَةٌ ) : فَإِنْ بَيَّنَ وَأَشْهَدَ أَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ التَّمْلِيكَ فَلَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّهُ عَلَى شَرْطِهِ وَبِهَذَا تَتَعَلَّقُ الْكَرَاهِيَةُ عِنْدِي وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَحْيَا أَرْضًا فَإِنْ كَانَ بِالْبُعْدِ وَحَيْثُ لَا يَضُرُّ بِأَحَدٍ فَلَا اعْتِرَاضَ فِيهِ عَلَيْهِ , وَإِنْ كَانَ بِالْقُرْبِ وَحَيْثُ يَخْشَى الِاسْتِضْرَارَ نَظَرَ فِيهِ الْإِمَامُ . ( مَسْأَلَةٌ ) : وَهَذَا حُكْمُ الْآبَارِ فَأَمَّا فِي الْمَوَاجِلِ فَفِي الْمُدَوَّنَةِ قَالَ مَا عُمِلَ مِنْهَا فِي الصَّحَارِي وَالْفَيَافِي كَمَوَاجِلِ طَرِيقِ الْمَغْرِبِ فَإِنَّهَا كَالْآبَارِ الَّتِي تُحْتَفَرُ لِلْمَاشِيَةِ , وَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمَجْمُوعَةِ فِي جِبَابِ الْبَادِيَةِ الَّتِي تَكُونُ لِلْمَاشِيَةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ فَضْلُ مَائِهَا لِيُمْنَعَ بِهِ الْكَلَأُ , قِيلَ لَهُ : فَالْجِبَابُ الَّتِي تُجْعَلُ لِمَاءِ السَّمَاءِ قَالَ ذَلِكَ أَبْعَدُ . وَقَالَ الْمُغِيرَةُ مَنْ حَفَرَ جُبًّا فَلَهُ مَنْعُ أَنْ يَشْرَبَ مِنْهُ غَيْرُهُ فَلَيْسَ كَالْبِئْرِ , وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ هَذَا عَمَلٌ لِيُتَوَصَّلَ بِهِ إلَى رَعْيِ الْكَلَأِ بِالْمَاءِ فَأَشْبَهَ الْبِئْرَ . ((2/360)
مَسْأَلَةٌ ) : وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ الْمَوَاجِلَ لَيْسَتْ مِمَّا يُتَّخَذُ غَالِبًا لِلْمَوَاشِي لِمَا فِيهَا مِنْ النَّفَقَاتِ وَالْمُؤَنِ وَغَالِبُ عَمَلِهَا لِلتَّمْلِيكِ إلَّا مَنْ أَعْلَنَ بِالصَّدَقَةِ إذَا قُلْنَا أَنَّهُ لَا تُبَاعُ بِئْرُ الْمَاشِيَةِ وَلَا يُبَاعُ مَاؤُهَا فَفِي الْمَجْمُوعَةِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ لَا يُورَثُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُبَاعُ , وَإِنْ احْتَاجَ وَلَا يُرِيدُ بِقَوْلِهِ لَا يُورَثُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ وَرَثَةُ مُحْتَفِرِهَا أَحَقَّ بِمَائِهَا . وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ فِي مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ : " إنَّهَا لَا تُبَاعُ وَلَا تُورَثُ وَصَاحِبُهَا الَّذِي احْتَفَرَهَا أَوْ وَرَثَتُهُ أَحَقُّ بِحَاجَتِهِمْ مِنْ مَائِهَا " قَالَ : وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا , وَرِوَايَتُهُمْ عَنْ مَالِكٍ قَالَ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ : لَا تَقَعُ فِي بِئْرِ الْمَاشِيَةِ الْمَوَارِيثُ بِمَعْنَى الْمِلْكِ وَلَا حَظَّ فِيهِ لِزَوْجِهِ وَلَا زَوْجٍ مِنْ بَطْنٍ عَلَى بَطْنٍ , قَالَ : وَمَنْ اسْتَغْنَى مِنْهُمْ عَنْ حَظِّهِ مِنْ الشُّرْبِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ حَظَّهُ أَحَدًا وَسَائِرُ أَهْلِ الْبِئْرِ أَوْلَى مِنْهُ , وَمَنْ غَابَ وَأَوْصَى بِثُلُثِ بِئْرِ مَاشِيَتِهِ لِإِنْسَانٍ فَقَدْ قَالَ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ : إنَّ الْبِئْرَ لَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ يَعْنِي أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَنْفُذُ فِيهِ ; لِأَنَّهُ وَجْهٌ مِنْ الْعَطِيَّةِ كَالْهِبَةِ , قَالَ أَشْهَبُ فِي الْمَجْمُوعَةِ لَا يُبَاعُ بِئْرُ الْمَاشِيَةِ ; لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فَضْلُهَا لِغَيْرِهِ فَقَدْ اشْتَرَى مِنْ مَائِهَا مَا يَرْوِيه وَذَلِكَ مَجْهُولٌ . ((2/361)
فَرْعٌ ) فَإِذَا قُلْنَا بِالْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ بِئْرِ الْمَاشِيَةِ فَظَاهِرُهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ ; لِأَنَّهُ قَالَ : إنَّهُ كَرِهَ بَيْعَ مَوَاجِلِ الطَّرِيقِ , وَإِنَّمَا كَانَ يَعْتَمِدُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ وَهِيَ كَالْآبَارِ الَّتِي تُحْفَرُ لِلْمَاشِيَةِ , وَقَالَ فِي الْجُعْلِ وَالْإِجَارَةِ وَلَا أَرَى بَيْعَ ذَلِكَ حَرَامًا , وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَظَاهِرُ مَا فِي الْمَجْمُوعَةِ التَّحْرِيمُ ; لِأَنَّهُ قَالَ : . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَجُوزُ بَيْعُ بِئْرِ الْمَاشِيَةِ , وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ , وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ وَابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ , وَأَمَّا بِئْرُ الْمَاشِيَةِ فَمَنْعُ فَضْلِ مَائِهَا لَا يَجُوزُ فَإِنَّهُ مِنْ بَيْعِ الْكَلَإِ الْمُبَاحِ . وَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَلِلنَّاسِ مَا فَضَلَ , وَعَلَّلَ ذَلِكَ لِأَشْهَبَ بِأَنَّ مَا يَشْتَرِيه مَجْهُولٌ , وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا يُبَاعُ ; لِأَنَّ لِلنَّاسِ فِيهِ حَوَائِجَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ نَهْيُهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ مَنْعِ فَضْلِ الْمَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ الْكَلَأُ , وَظَاهِرُ النَّهْيِ التَّحْرِيمُ وَعَلَى ذَلِكَ مُنِعَ مِنْ أَنْ يُورَثَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ , وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا قَالَ أَشْهَبُ لَجَازَ أَنْ تُورَثَ وَتُوهَبَ ; لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَمْنَعُ ذَلِكَ .(2/362)
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ رضي الله عنه وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ إنَّمَا تَنْصَرِفُ الْكَرَاهِيَةُ إلَى أَنْ يَحْفِرَ أَوَّلًا بِمَعْنَى الِانْفِرَادِ بِهِ , وَأَمَّا إذَا حُكِمَ لَهُ بِحُكْمِ الْإِبَاحَةِ لِفَضِيلَةٍ فَإِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّحْرِيمِ مِنْ مَنْعِهِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَمُقْتَضَى مَنْعِ الزَّوْجَةِ وَالزَّوْجِ مِنْ الْمُشَارَكَةِ فِيهِ وَمَنْعِ هِبَتِهِ .
وفي المستصفى :
النَّظَرُ الثَّانِي فِي الصِّيغَةِ , وَقَدْ حَكَى بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ خِلَافًا فِي أَنَّ الْأَمْرَ هَلْ لَهُ صِيغَةٌ ؟(2/363)
وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ خَطَأٌ , فَإِنَّ قَوْلَ الشَّارِعِ : أَمَرْتُكُمْ بِكَذَا أَوْ أَنْتُمْ مَأْمُورُونَ بِكَذَا , أَوْ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ : أُمِرَتْ بِكَذَا . كُلُّ ذَلِكَ صِيَغٌ دَالَّةٌ عَلَى الْأَمْرِ , وَإِذَا قَالَ : أَوْجَبْتُ عَلَيْكُمْ أَوْ فَرَضْتُ عَلَيْكُمْ , وَأَمَرْتُكُمْ بِكَذَا , وَأَنْتُمْ مُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِهِ , فَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ , وَلَوْ قَالَ : أَنْتُمْ مُثَابُونَ عَلَى فِعْل كَذَا , وَلَسْتُمْ مُعَاقَبِينَ عَلَى تَرْكِهِ , فَهُوَ صِيغَةٌ دَالَّةٌ عَلَى النَّدْبِ .(2/364)
فَلَيْسَ فِي هَذَا خِلَافٌ , وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ قَوْلَهُ : " افْعَلْ " هَلْ يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِمُجَرَّدِ صِيغَتِهِ إذَا تَجَرَّدَ عَنْ الْقَرَائِنِ ؟ فَإِنَّهُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى أَوْجُهٍ , مِنْهَا الْوُجُوبُ كَقَوْلِهِ : { أَقِمْ الصَّلَاةَ } , وَالنَّدْبُ , كَقَوْلِهِ : { فَكَاتِبُوهُمْ } , وَالْإِرْشَادُ كَقَوْلِهِ : { , وَاسْتَشْهِدُوا } وَالْإِبَاحَةُ كَقَوْلِهِ { فَاصْطَادُوا } , وَالتَّأْدِيبُ كَقَوْلِهِ لِابْنِ عَبَّاسٍ كُلْ مِمَّا يَلِيكَ , وَالِامْتِنَانُ كَقَوْلِهِ : { كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ } , وَالْإِكْرَامُ , كَقَوْلِهِ : { اُدْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ } , وَالتَّهْدِيدُ , كَقَوْلِهِ : { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } , وَالتَّسْخِيرُ , كَقَوْلِهِ : { كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } , وَالْإِهَانَةُ , كَقَوْلِهِ : { ذُقْ إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } , وَالتَّسْوِيَةُ , كَقَوْلِهِ : { فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا } , وَالْإِنْذَارُ , كَقَوْلِهِ : { كُلُوا وَتَمَتَّعُوا } , وَالدُّعَاءُ كَقَوْلِهِ : { اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي } , وَالتَّمَنِّي كَقَوْلِ الشَّاعِرِ " أَلَا أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلَا انْجَلِي " . وَلِكَمَالِ الْقُدْرَةِ كَقَوْلِهِ : { كُنْ فَيَكُونُ } , وَأَمَّا صِيغَةُ النَّهْيِ , وَهُوَ قَوْلُهُ : " لَا تَفْعَلْ .(2/365)
فَقَدْ تَكُونُ لِلتَّحْرِيمِ وَلِلْكَرَاهِيَةِ , وَالتَّحْقِيرِ كَقَوْلِهِ : { لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } وَلِبَيَانِ الْعَاقِبَةِ , كَقَوْلِهِ : { وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ } وَلِلدُّعَاءِ كَقَوْلِهِ : { وَلَا تَكِلْنَا إلَى أَنْفُسِنَا طَرْفَةَ عَيْنٍ } وَلِلْيَأْسِ كَقَوْلِهِ : { لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ } وَلِلْإِرْشَادِ كَقَوْلِهِ : { لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } فَهَذِهِ خَمْسَةَ عَشَرَ وَجْهًا فِي إطْلَاقِ صِيغَةِ الْأَمْرِ , وَسَبْعَةُ أَوْجُهٍ فِي إطْلَاقِ صِيغَةِ النَّهْيِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَحْثِ عَنْ الْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ فِي جُمْلَةِ ذَلِكَ مَا هُوَ , وَالْمُتَجَوَّزُ بِهِ مَا هُوَ , وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ عَدَّهَا الْأُصُولِيُّونَ شَغَفًا مِنْهُمْ بِالتَّكْثِيرِ , وَبَعْضُهَا كَالْمُتَدَاخِلِ , فَإِنَّ قَوْلَهُ : كُلْ مِمَّا يَلِيكَ " جُعِلَ لِلتَّأْدِيبِ , وَهُوَ دَاخِلٌ فِي النَّدْبِ , وَالْآدَابُ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا .(2/366)
وَقَوْلُهُ : { تَمَتَّعُوا } لِلْإِنْذَارِ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ : { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } الَّذِي هُوَ لِلتَّهْدِيدِ , وَلَا نُطَوِّلُ بِتَفْصِيلِ ذَلِكَ , وَتَحْصِيلِهِ فَالْوُجُوبُ , وَالنَّدْبُ , وَالْإِرْشَادُ , وَالْإِبَاحَةُ أَرْبَعَةُ وُجُوهٍ مُحَصَّلَةٌ , وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِرْشَادِ , وَالنَّدْبِ , إلَّا أَنَّ النَّدْبَ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ , وَالْإِرْشَادَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَلَا يَنْقُصُ ثَوَابٌ بِتَرْكِ الْإِشْهَادِ فِي الْمُدَايَنَاتِ , وَلَا يَزِيدُ بِفِعْلِهِ , وَقَالَ قَوْمٌ : هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ كَلَفْظِ " الْعَيْنِ " وَالْقَرْءِ , وَقَالَ قَوْمٌ : يَدُلُّ عَلَى أَقَلِّ الدَّرَجَاتِ , وَهُوَ الْإِبَاحَةُ , وَقَالَ قَوْمٌ : هُوَ لِلنَّدْبِ , وَيُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ بِزِيَادَةِ قَرِينَةٍ , وَقَالَ قَوْمٌ : هُوَ لِلْوُجُوبِ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى مَا عَدَاهُ إلَّا بِقَرِينَةٍ , وَسَبِيلُ كَشْفِ الْغِطَاءِ أَنْ نُرَتِّبَ النَّظَرَ عَلَى مَقَامَيْنِ , الْأَوَّلُ : فِي بَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ هَلْ تَدُلُّ عَلَى اقْتِضَاءٍ , وَطَلَبٍ أَمْ لَا ؟ وَالثَّانِي : فِي بَيَانِ أَنَّهُ إنْ اشْتَمَلَ عَلَى اقْتِضَاءٍ فَالِاقْتِضَاءُ مَوْجُودٌ فِي النَّدْبِ , وَالْوُجُوبِ عَلَى اخْتِيَارِنَا فِي أَنَّ النَّدْبَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْأَمْرِ , فَهَلْ يَتَعَيَّنُ لِأَحَدِهِمَا أَوْ هُوَ مُشْتَرَكٌ ؟ الْمَقَامُ الْأَوَّلُ : فِي دَلَالَتِهِ عَلَى اقْتِضَاءِ الطَّاعَةِ .(2/367)
فَنَقُولُ : قَدْ أَبْعَدَ مَنْ قَالَ إنَّ قَوْلَهُ " افْعَلْ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْإِبَاحَةِ , وَالتَّهْدِيدِ الَّذِي هُوَ الْمَنْعُ , وَبَيْنَ الِاقْتِضَاءِ , فَإِنَّا نُدْرِكُ التَّفْرِقَةَ فِي وَضْعِ اللُّغَاتِ كُلِّهَا بَيْنَ قَوْلِهِمْ " افْعَلْ " وَ " لَا تَفْعَلْ " وَ " إنْ شِئْتَ فَافْعَلْ " وَ " إنْ شِئْتَ فَلَا تَفْعَلْ " حَتَّى إذَا قَدَّرْنَا انْتِفَاءَ الْقَرَائِنِ كُلِّهَا , وَقَدَّرْنَا هَذَا مَنْقُولًا عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ عَنْ مَيْتٍ أَوْ غَائِبٍ لَا فِي فِعْلٍ مُعَيَّنٍ مِنْ قِيَامٍ , وَقُعُودٍ , وَصِيَامٍ , وَصَلَاةٍ بَلْ فِي الْفِعْلِ مُجْمَلًا سَبَقَ إلَى فَهْمِنَا اخْتِلَافُ مَعَانِي هَذِهِ الصِّيَغِ , وَعَلِمْنَا قَطْعًا أَنَّهَا لَيْسَتْ أَسَامِيَ مُتَرَادِفَةً عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ , كَمَا أَنَّا نُدْرِكُ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ قَوْلِهِمْ فِي الْإِخْبَارِ " قَامَ زَيْدٌ " وَيَقُومُ زَيْدٌ " " وَزَيْدٌ قَائِمٌ " فِي أَنَّ الْأَوَّلَ لِلْمَاضِي , وَالثَّانِيَ لِلْمُسْتَقْبَلِ , وَالثَّالِثَ لِلْحَالِ هَذَا هُوَ الْوَضْعُ , وَإِنْ كَانَ قَدْ يُعَبَّرُ بِالْمَاضِي عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ وَبِالْمُسْتَقْبِلِ عَنْ الْمَاضِي لِقَرَائِنَ تَدُلُّ عَلَيْهِ ; , وَكَمَا مَيَّزُوا الْمَاضِيَ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ مَيَّزُوا الْأَمْرَ عَنْ النَّهْيِ , وَقَالُوا فِي بَابِ الْأَمْرِ " افْعَلْ " , وَفِي بَابِ النَّهْيِ " لَا تَفْعَلْ " , وَإِنَّهُمَا لَا يُنَبِّئَانِ عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ : " إنْ شِئْتَ فَافْعَلْ " " وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَفْعَلْ " فَهَذَا أَمْرٌ لِعِلْمِهِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ , وَالتُّرْكِيَّةِ , وَالْعَجَمِيَّةِ , وَسَائِرِ اللُّغَاتِ لَا يُشَكِّكُنَا فِيهِ إطْلَاقٌ مَعَ قَرِينَةِ التَّهْدِيدِ , وَمَعَ قَرِينَةِ الْإِبَاحَةِ فِي(2/368)
نَوَادِرِ الْأَحْوَالِ . فَإِنْ قِيلَ : بِمَ تُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَحْمِلُهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ لِأَنَّهَا أَقَلُّ الدَّرَجَاتِ فَهُوَ مُسْتَيْقَنٌ ؟ قُلْنَا هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِلتَّهْدِيدِ , وَالْمَنْعِ , فَالطَّرِيقُ الَّذِي يُعْرَفُ أَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ لِلتَّهْدِيدِ يُعْرَفُ أَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ لِلتَّخْيِيرِ . الثَّانِي : أَنَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِصْحَابِ لَا مِنْ قَبِيلِ الْبَحْثِ عَنْ الْوَضْعِ , فَإِنَّا نَقُولُ هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ مُقْتَضَى قَوْلِهِ " افْعَلْ " لِلتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْفِعْلِ , وَالتَّرْكِ ؟ فَإِنْ قَالَ نَعَمْ فَقَدْ بَاهَتَ , وَاخْتَرَعَ , وَإِنْ قَالَ : لَا , فَنَقُولُ : فَأَنْتَ شَاكٌّ فِي مَعْنَاهُ فَيَلْزَمُكَ التَّوَقُّفُ . فَيَحْصُلُ مِنْ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ " افْعَلْ " يَدُلُّ عَلَى تَرْجِيحِ جَانِبِ الْفِعْلِ عَلَى جَانِبِ التَّرْكِ بِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُوجَدَ , وَقَوْلُهُ : " لَا تَفْعَلْ " يَدُلُّ عَلَى تَرْجِيحِ جَانِبِ التَّرْكِ عَلَى جَانِبِ الْفِعْلِ , وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُوجَدَ , وَقَوْلُهُ : أَبَحْتُ لَكَ فَإِنْ شِئْتَ فَافْعَلْ , وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَفْعَلْ " يَرْفَعُ التَّرْجِيحَ .(2/369)
الْمَقَامُ الثَّانِي : فِي تَرْجِيحِ بَعْضِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُوجَدَ , فَإِنَّ الْوَاجِبَ , وَالْمَنْدُوبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْبَغِي أَنْ يُوجَدَ , وَيُرَجَّحَ فِعْلُهُ عَلَى تَرْكِهِ , وَكَذَا مَا أُرْشِدَ إلَيْهِ ; إلَّا أَنَّ الْإِرْشَادَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُوجَدَ , وَيُرَجَّحَ فِعْلُهُ عَلَى تَرْكِهِ لِمَصْلَحَةِ الْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا , وَالنَّدْبَ لِمَصْلَحَتِهِ فِي الْآخِرَةِ , وَالْوُجُوبَ لِنَجَاتِهِ فِي الْآخِرَةِ هَذَا إذَا فُرِضَ مِنْ الشَّارِعِ , وَفِي حَقِّ السَّيِّدِ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ افْعَلْ " أَيْضًا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ مَعَ زِيَادَةِ أَمْرٍ , وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِغَرَضِ السَّيِّدِ فَقَطْ كَقَوْلِهِ : " اسْقِنِي " عِنْدَ الْعَطَشِ , وَهُوَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى , فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ , وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ . وَقَدْ ذَهَبَ ذَاهِبُونَ إلَى أَنَّ وَضْعَهُ لِلْوُجُوبِ , وَقَالَ قَوْمٌ : هُوَ لِلنَّدْبِ , وَقَالَ قَوْمٌ : يُتَوَقَّفُ فِيهِ .(2/370)
ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ مُشْتَرَكٌ كَلَفْظِ الْعَيْنِ , وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا نَدْرِي أَيْضًا أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ أَوْ وُضِعَ لِأَحَدِهِمَا , وَاسْتُعْمِلَ فِي الثَّانِي مَجَازًا , وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ مُتَوَقَّفٌ فِيهِ , وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ فِيهِ أَنَّ كَوْنَهُ مَوْضُوعًا لِوَاحِدٍ مِنْ الْأَقْسَامِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُعْرَفَ عَنْ عَقْلٍ أَوْ نَقْلٍ , وَنَظَرُ الْعَقْلِ إمَّا ضَرُورِيٌّ أَوْ نَظَرِيٌّ , وَلَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِي اللُّغَاتِ , وَالنَّقْلُ إمَّا مُتَوَاتِرٌ أَوْ آحَادٌ , وَلَا حُجَّةَ فِي الْآحَادِ , وَالتَّوَاتُرُ فِي النَّقْلِ لَا يَعْدُو أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ , فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يُنْقَلَ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ عِنْدَ وَضْعِهِمْ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّا وَضَعْنَاهُ لِكَذَا أَوْ أَقَرُّوا بِهِ بَعْدَ الْوَضْعِ , وَإِمَّا أَنْ يُنْقَلَ عَنْ الشَّارِعِ الْإِخْبَارُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ بِذَلِكَ أَوْ تَصْدِيقُ مَنْ ادَّعَى ذَلِكَ , وَإِمَّا أَنْ يُنْقَلَ عَنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ , وَإِمَّا أَنْ يُذْكَرَ بَيْنَ يَدَيْ جَمَاعَةٍ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ السُّكُوتُ عَلَى الْبَاطِلِ . فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الْأَرْبَعَةُ هِيَ وُجُوهُ تَصْحِيحِ النَّقْلِ , وَدَعْوَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ " افْعَلْ " أَوْ فِي قَوْلِهِ " أَمَرْتُكَ بِكَذَا , وَقَوْلِ الصَّحَابِيِّ أُمِرْنَا بِكَذَا " لَا يُمْكِنُ فَوَجَبَ التَّوَقُّفُ فِيهِ . كَذَلِكَ قَصْرُ دَلَالَةِ الْأَمْرِ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ التَّرَاخِي , وَعَلَى التَّكْرَارِ أَوْ الِاتِّحَادِ يُعْرَفُ بِمِثْلِ هَذِهِ الطَّرِيقِ , وَكَذَلِكَ التَّوَقُّفُ فِي صِيغَةِ الْعُمُومِ عَمَّنْ تَوَقَّفَ فِيهَا .(2/371)
هَذَا مُسْتَنَدُهُ , وَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَسْئِلَةٍ بِهَا يَتِمُّ الدَّلِيلُ , وَنَذْكُرُ شُبَهَ الْمُخَالِفِينَ . السُّؤَالُ الْأَوَّلُ : قَوْلُهُمْ إنَّ هَذَا يَنْقَلِبُ عَلَيْكُمْ فِي إخْرَاجِ الْإِبَاحَةِ , وَالتَّهْدِيدِ مِنْ مُقْتَضَى اللَّفْظِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عَقْلٌ , وَلَا نَقْلٌ , فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ الْعَرَبِ صَرِيحًا بِأَنَّا مَا وَضَعْنَا هَذِهِ الصِّيغَةَ لِلْإِبَاحَةِ , وَالتَّهْدِيدِ , لَكِنْ اسْتَعْمَلْنَا فِيهِمَا عَلَى سَبِيلِ التَّجَوُّزِ . قُلْنَا : مَا يُعْرَفُ بِاسْتِقْرَاءِ اللُّغَةِ , وَتَصَفُّحِ وُجُوهِ الِاسْتِعْمَالِ أَقْوَى مِمَّا يُعْرَفُ بِالنَّقْلِ الصَّرِيحِ , وَنَحْنُ كَمَا عَرَفْنَا أَنَّ الْأَسَدَ وُضِعَ لِسَبُعٍ , وَالْحِمَارَ وُضِعَ لِبَهِيمَةٍ , وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الشُّجَاعِ , وَالْبَلِيدِ فَيَتَمَيَّزُ عِنْدَنَا بِتَوَاتُرِ الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةُ مِنْ الْمَجَازِ , فَكَذَلِكَ يَتَمَيَّزُ صِيغَةُ الْأَمْرِ , وَالنَّهْيِ , وَالتَّخْيِيرُ تَمَيُّزَ صِيغَةِ الْمَاضِي , وَالْمُسْتَقْبَلِ , وَالْحَالِ , وَلَسْنَا نَشُكُّ فِيهِ أَصْلًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ تَمَيُّزُ الْوُجُوبِ عَنْ النَّدْبِ .(2/372)
السُّؤَالُ الثَّانِي : قَوْلُهُمْ إنَّ هَذَا يَنْقَلِبُ عَلَيْكُمْ فِي الْوَقْفِ , فَإِنَّ الْوَقْفَ فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ غَيْرُ مَنْقُولٍ عَنْ الْعَرَبِ , فَلِمَ تَوَقَّفْتُمْ بِالتَّحَكُّمِ ؟ قُلْنَا : لَسْنَا نَقُولُ : التَّوَقُّفُ مَذْهَبٌ , لَكِنَّهُمْ أَطْلَقُوا هَذِهِ الصِّيغَةَ لِلنَّدْبِ مَرَّةً وَلِلْوُجُوبِ أُخْرَى , وَلَمْ يُوقِفُونَا عَلَى أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الثَّانِي , فَسَبِيلُنَا أَنْ لَا نَنْسِبَ إلَيْهِمْ مَا لَمْ يُصَرِّحُوا بِهِ , وَأَنْ نَتَوَقَّفَ عَنْ التَّقَوُّلِ وَالِاخْتِرَاعِ عَلَيْهِمْ , وَهَذَا كَقَوْلِنَا بِالِاتِّفَاقِ إنَّا رَأَيْنَاهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ الْفِرْقَةِ , وَالْجَمَاعَةِ , وَالنَّفَرِ تَارَةً فِي الثَّلَاثَةِ , وَتَارَةً فِي الْأَرْبَعَةِ , وَتَارَةً فِي الْخَمْسَةِ , فَهِيَ لَفْظَةٌ مُرَدَّدَةٌ , وَلَا سَبِيلَ إلَى تَخْصِيصِهَا بِعَدَدٍ عَلَى سَبِيلِ الْحُكْمِ وَجَعْلِهَا مَجَازًا فِي الْبَاقِي . السُّؤَالُ الثَّالِثُ : قَوْلُهُمْ إنَّ هَذَا يَنْقَلِبُ عَلَيْكُمْ فِي قَوْلِكُمْ : إنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ مُشْتَرَكَةٌ اشْتِرَاكَ لَفْظِ الْجَارِيَةِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ , وَالسَّفِينَةِ , وَالْقَرْءِ بَيْنَ الطُّهْرِ , وَالْحَيْضِ , فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ .(2/373)
قُلْنَا : لَسْنَا نَقُولُ إنَّهُ مُشْتَرَكٌ , لَكِنَّا نَقُولُ نَتَوَقَّفُ فِي هَذِهِ أَيْضًا فَلَا نَدْرِي أَنَّهُ وُضِعَ لِأَحَدِهِمَا , وَتُجُوِّزَ بِهِ عَنْ الْآخَرِ أَوْ وُضِعَ لَهُمَا مَعًا , وَيُحْتَمَلُ أَنْ نَقُولَ إنَّهُ مُشْتَرَكٌ بِمَعْنَى أَنَّا إذَا رَأَيْنَاهُمْ أَطْلَقُوا اللَّفْظَ لِمَعْنَيَيْنِ , وَلَمْ يُوقِفُونَا عَلَى أَنَّهُمْ وَضَعُوهُ لِأَحَدِهِمَا , وَتَجَوَّزُوا بِهِ فِي الْآخَرِ فَنَحْمِلُ إطْلَاقَهُمْ فِيهِمَا عَلَى لَفْظِ الْوَضْعِ لَهُمَا , وَكَيْفَمَا قُلْنَا فَالْأَمْرُ فِيهِ قَرِيبٌ . شُبَهُ الْمُخَالِفِينَ الصَّائِرِينَ إلَى أَنَّهُ لِلنَّدْبِ : وَقَدْ ذَهَبَ إلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ , وَهُمْ الْمُعْتَزِلَةُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ , وَمِنْهُمْ مَنْ نَقَلَهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ , وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " بِتَرَدُّدِ الْأَمْرِ بَيْنَ النَّدْبِ , وَالْوُجُوبِ , وَقَالَ : النَّهْيُ عَلَى التَّحْرِيمِ , فَقَالَ : إنَّمَا أَوْجَبْنَا تَزْوِيجَ الْأَيِّمِ لقوله تعالى : { فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ } , وَقَالَ : لَمْ يَتَبَيَّنْ لِي وُجُوبُ إنْكَاحِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ النَّهْيُ عَنْ الْعَضَلِ , بَلْ لَمْ يَرِدْ إلَّا قوله تعالى : { , وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى } الْآيَة فَهَذَا أَمْرٌ , وَهُوَ مُحْتَمِلٌ الْوُجُوبَ , وَالنَّدْبَ .(2/374)
الشُّبْهَةُ الْأُولَى : لِمَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ لِلنَّدْبِ : أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَنْزِيلِ قَوْلِهِ " افْعَلْ " , وَقَوْلِهِ " أَمَرْتُكُمْ عَلَى أَقَلِّ مَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْوُجُوبُ , وَالنَّدْبُ , وَهُوَ طَلَبُ الْفِعْلِ , وَاقْتِضَاؤُهُ , وَأَنَّ فِعْلَهُ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ , وَهَذَا مَعْلُومٌ , وَأَمَّا لُزُومُ الْعِقَابِ بِتَرْكِهِ فَغَيْرُ مَعْلُومٍ فَيُتَوَقَّفُ فِيهِ , وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ هَذَا اسْتِدْلَالٌ وَالِاسْتِدْلَالُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي اللُّغَاتِ , وَلَيْسَ هَذَا نَقْلًا عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ قَوْلَهُ " افْعَلْ " لِلنَّدْبِ . الثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ تَنْزِيلُ الْأَلْفَاظِ عَلَى الْأَقَلِّ الْمُسْتَيْقَنِ لَوَجَبَ تَنْزِيلُ هَذَا عَلَى الْإِبَاحَةِ , وَالْإِذْنِ , إذْ قَدْ يُقَالُ : " أَذِنْتُ لَكَ فِي كَذَا فَافْعَلْهُ " فَهُوَ الْأَقَلُّ الْمُشْتَرَكُ , أَمَّا حُصُولُ الثَّوَابِ بِفِعْلِهِ فَلَيْسَ بِمَعْلُومٍ كَلُزُومِ الْعِقَابِ بِتَرْكِهِ لَا سِيَّمَا عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ , فَالْمُبَاحُ عِنْدَهُمْ حَسَنٌ , وَيَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ الْفَاعِلُ لِحُسْنِهِ , وَيَأْمُرَ بِهِ , وَكَذَلِكَ يَلْزَمُ تَنْزِيلُ صِيغَةِ الْجَمْعِ عَلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ , وَلَمْ يَذْهَبُوا إلَيْهِ .(2/375)
الثَّالِثُ : وَهُوَ التَّحْقِيقُ : أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ أَنْ لَوْ كَانَ الْوَاجِبُ نَدْبًا , وَزِيَادَةً فَتَسْقُطُ الزِّيَادَةُ الْمَشْكُوكُ فِيهَا , وَيَبْقَى الْأَصْلُ , وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يَدْخُلُ فِي حَدِّ النَّدْبِ جَوَازُ تَرْكِهِ , فَهَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْمَقُولَ فِيهِ " افْعَلْ " يَجُوزُ تَرْكُهُ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوهُ فَقَدْ شَكَكْتُمْ فِي كَوْنِهِ نَدْبًا , وَإِنْ عَلِمْتُمُوهُ فَمِنْ أَيْنَ ذَلِكَ , وَاللَّفْظُ لَا يَدُلُّ عَلَى لُزُومِ الْمَأْثَمِ بِتَرْكِهِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ الْمَأْثَمِ بِتَرْكِهِ أَيْضًا ؟ فَإِنْ قِيلَ : لَا مَعْنَى لِجَوَازِ تَرْكِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي فِعْلِهِ , وَذَلِكَ كَانَ مَعْلُومًا قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ فَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى تَعْرِيفِ السَّمْعِ بِخِلَافِ لُزُومِ الْمَأْثَمِ . قُلْنَا : لَا يَبْقَى لِحُكْمِ الْعَقْلِ بِالنَّفْيِ بَعْدَ وُرُودِ صِيغَةِ الْأَمْرِ حُكْمٌ , فَإِنَّهُ مُعَيِّنٌ لِلْوُجُوبِ عِنْدَ قَوْمٍ فَلَا أَقَلَّ مِنْ احْتِمَالٍ , وَإِذَا اُحْتُمِلَ حَصَلَ الشَّكُّ فِي كَوْنِهِ نَدْبًا فَلَا وَجْهَ إلَّا التَّوَقُّفُ . نَعَمْ يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مُحَرَّمٌ لِأَنَّهُ ضِدُّ الْوُجُوبِ , وَالنَّدْبِ جَمِيعًا . الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ : التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ عليه السلام : { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ , وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَانْتَهُوا } فَفَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى اسْتِطَاعَتِنَا , وَمَشِيئَتِنَا , وَجُزِمَ فِي النَّهْيِ طَلَبُ الِانْتِهَاءِ .(2/376)
قُلْنَا : هَذَا اعْتِرَافٌ بِأَنَّهُ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ , وَالْوَضْعُ لَيْسَ لِلنَّدْبِ , وَاسْتِدْلَالٌ بِالشَّرْعِ , وَلَا يَثْبُتُ مِثْلُ ذَلِكَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَوْ صَحَّتْ دَلَالَتُهُ , كَيْفَ , وَلَا دَلَالَةَ لَهُ إذَا لَمْ يَقُلْ فَافْعَلُوا مَا شِئْتُمْ بَلْ قَالَ مَا اسْتَطَعْتُمْ , كَمَا قَالَ : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } , , وَكُلُّ إيجَابٍ مَشْرُوطٌ بِالِاسْتِطَاعَةِ , وَأَمَّا قَوْلُهُ : { فَانْتَهُوا } كَيْفَ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الِانْتِهَاءِ ؟ وَقَوْلُهُ : { فَانْتَهُوا } صِيغَةُ أَمْرٍ , وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلنَّدْبِ . شُبَهُ الصَّائِرِينَ إلَى أَنَّهُ لِلْوُجُوبِ : وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي إبْطَالِ مَذْهَبِ النَّدْبِ جَارٍ هَاهُنَا , وَزِيَادَةٌ , وَهُوَ أَنَّ النَّدْبَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْأَمْرِ حَقِيقَةً كَمَا قَدَّمْنَا , وَلَوْ حُمِلَ عَلَى الْوُجُوبِ لَكَانَ مَجَازًا فِي النَّدْبِ , وَكَيْفَ يَكُونُ مَجَازًا فِيهِ مَعَ وُجُودِ حَقِيقَتِهِ ؟ إذْ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ مَا يَكُونُ مُمْتَثِلُهُ مُطِيعًا , وَالْمُمْتَثِلُ مُطِيعٌ بِفِعْلِ النَّدْبِ وَلِذَلِكَ إذَا قِيلَ " أُمِرْنَا بِكَذَا حَسُنَ أَنْ يُسْتَفْهَمَ فَيُقَالَ : أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ , وَنَدْبٍ ؟ وَلَوْ قَالَ : رَأَيْتُ أَسَدًا , لَمْ يَحْسُنْ أَنْ يُقَالَ : أَرَدْتُ سَبُعًا أَوْ شُجَاعًا لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلسَّبُعِ , وَيُصْرَفُ إلَى الشُّجَاعِ بِقَرِينَةٍ .(2/377)
وَشُبَهُهُمْ سَبْعٌ : الْأُولَى : قَوْلُهُمْ إنَّ الْمَأْمُورَ فِي اللُّغَةِ , وَالشَّرْعِ جَمِيعًا يَفْهَمُ وُجُوبَ الْمَأْمُورِ بِهِ حَتَّى لَا يَسْتَبْعِدَ الذَّمَّ , وَالْعِقَابَ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ , وَلَا الْوَصْفَ بِالْعِصْيَانِ , وَهُوَ اسْمُ ذَمٍّ وَلِذَلِكَ فَهِمَتْ الْأُمَّةُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ , وَالْعِبَادَاتِ , وَوُجُوبَ السُّجُودِ لِآدَمَ بِقَوْلِهِ : { اُسْجُدُوا } , وَبِهِ يَفْهَمُ الْعَبْدُ , وَالْوَلَدُ وُجُوبَ أَمْرِ السَّيِّدِ , وَالْوَالِدِ . قُلْنَا هَذَا كُلُّهُ نَفْسُ الدَّعْوَى , وَحِكَايَةُ الْمَذْهَبِ , وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مُسَلَّمًا , وَكُلُّ ذَلِكَ عُلِمَ بِالْقَرَائِنِ فَقَدْ تَكُونُ لِلْأَمْرِ عَادَةٌ مَعَ الْمَأْمُورِ , وَعَهْدٌ , وَتَقْتَرِنُ بِهِ أَحْوَالٌ , وَأَسْبَابٌ بِهَا يَفْهَمُ الشَّاهِدُ الْوُجُوبَ , وَاسْمُ الْعِصْيَانِ لَا يَسْلَمُ إطْلَاقُهُ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ إلَّا بَعْدَ قَرِينَةِ الْوُجُوبِ , لَكِنْ قَدْ يُطْلَقُ لَا عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ كَمَا يُقَالُ : أَشَرْتُ عَلَيْكَ فَعَصَيْتَنِي , وَخَالَفْتَنِي . الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّ الْإِيجَابَ مِنْ الْمُهِمَّاتِ فِي الْمُحَاوَرَاتِ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُمْ " افْعَلْ " عِبَارَةٌ عَنْهُ فَلَا يَبْقَى لَهُ اسْمٌ وَمُحَالٌ إهْمَالُ الْعَرَبِ ذَلِكَ . قُلْنَا : هَذَا يُقَابِلُهُ أَنَّ النَّدْبَ أَمْرٌ مُهِمٌّ فَلْيَكُنْ " افْعَلْ " عِبَارَةً عَنْهُ , فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ دَلَالَتَهُ قَوْلُهُمْ " نَدَبْتُ , وَأَرْشَدْتُ , وَرَغَّبْتُ " فَدَلَالَةُ الْوُجُوبِ قَوْلُهُمْ " أَوْجَبْتُ , وَحَتَّمْتُ , وَفَرَضْتُ , وَأَلْزَمْتُ " .(2/378)
فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُ صِيغَةُ إخْبَارٍ أَوْ صِيغَةُ إرْشَادٍ , فَأَيْنَ صِيغَةُ الْإِنْشَاءِ ؟ عُورِضُوا بِمِثْلِهِ فِي النَّدْبِ , ثُمَّ يَبْطُلُ عَلَيْهِمْ بِالْبَيْعِ , وَالْإِجَارَةِ , وَالنِّكَاحِ إذْ لَيْسَ لَهَا إلَّا صِيغَةُ الْإِخْبَارِ , كَقَوْلِهِمْ : " بِعْتُ , وَزَوَّجْتُ " , وَقَدْ جَعَلَهُ الشَّرْعُ إنْشَاءً إذْ لَيْسَ لِإِنْشَائِهِ لَفْظٌ . الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ : أَنَّ قَوْلَهُ " افْعَلْ " إمَّا أَنْ يُفِيدَ الْمَنْعَ أَوْ التَّخْيِيرَ أَوْ الدُّعَاءَ , فَإِذَا بَطَلَ التَّخْيِيرُ , وَالْمَنْعُ تَعَيَّنَ الدُّعَاءُ , وَالْإِيجَابُ . قُلْنَا : بَلْ يَبْقَى قِسْمٌ رَابِعٌ , وَهُوَ أَنْ لَا يُفِيدَ وَاحِدًا مِنْ الْأَقْسَامِ إلَّا بِقَرِينَةٍ كَالْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ . فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ قَوْلُهُ " لَا تَفْعَلْ " أَفَادَ التَّحْرِيمَ , فَقَوْلُهُ " افْعَلْ " يَنْبَغِي أَنْ يُفِيدَ الْإِيجَابَ ؟ قُلْنَا : هَذَا قَدْ نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ , وَالْمُخْتَارُ أَنَّ قَوْلَهُ " لَا تَفْعَلْ " مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ التَّنْزِيهِ , وَالتَّحْرِيمِ كَقَوْلِهِ افْعَلْ " , وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ فِي النَّهْيِ لَمَا جَازَ قِيَاسُ الْأَمْرِ عَلَيْهِ , فَإِنَّ اللُّغَةَ تَثْبُتُ نَقْلًا لَا قِيَاسًا . فَهَذِهِ شُبَهُهُمْ اللُّغَوِيَّةُ , وَالْعَقْلِيَّةُ .(2/379)
أَمَّا الشُّبَهُ الشَّرْعِيَّةُ فَهِيَ أَقْرَبُ , فَإِنَّهُ لَوْ دَلَّ دَلِيلُ الشَّرْعِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ لَحَمَلْنَاهُ عَلَى الْوُجُوبِ لَكِنْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ , وَإِنَّمَا الشُّبْهَةُ الْأُولَى قَوْلُهُمْ : نُسَلِّمُ أَنَّ اللُّغَةَ , وَالْعَقْلَ لَا يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ الْأَمْرِ بِالْوُجُوبِ , لَكِنْ يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ قوله تعالى : { , وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } ثُمَّ قَالَ : { فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ } .(2/380)
وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ ; لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي قَوْلِهِ { وَأَطِيعُوا } قَائِمٌ أَنَّهُ لِلنَّدْبِ أَوْ الْوُجُوبِ , وَقَوْلُهُ : { فَعَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ } أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ مِنْ التَّبْلِيغِ , وَالْقَبُولِ , وَهَذَا إنْ كَانَ مَعْنَاهُ التَّهْدِيدَ , وَالنِّسْبَةَ إلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ الرَّسُولِ عليه السلام فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الطَّاعَةَ فِي أَصْلِ الْإِيمَانِ , وَهُوَ عَلَى الْوُجُوبِ بِالِاتِّفَاقِ , وَغَايَةُ هَذَا اللَّفْظِ عُمُومٌ فَنَخُصُّهُ بِالْأَوَامِرِ الَّتِي هِيَ عَلَى الْوُجُوبِ , وَكُلُّ مَا يُتَمَسَّكُ بِهِ مِنْ الْآيَاتِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ فَهِيَ صِيَغُ أَمْرٍ يَقَعُ النِّزَاعُ فِي أَنَّهُ لِلنَّدْبِ أَمْ لَا , فَإِنْ اقْتَرَنَ بِذِكْرِ وَعِيدٍ فَيَكُونُ قَرِينَةً دَالَّةً عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ الْأَمْرِ خَاصَّةً , فَإِنْ كَانَ أَمْرًا عَامًّا يُحْمَلُ عَلَى الْأَمْرِ بِأَصْلِ الدِّينِ , وَمَا عُرِفَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ عَلَى الْوُجُوبِ , وَبِهِ يُعْرَفُ الْجَوَابُ عَنْ قوله تعالى { , وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ } , وقوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ } , وقوله تعالى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } فَكُلُّ ذَلِكَ أَمْرٌ بِتَصْدِيقِهِ , وَنَهْيٌ عَنْ الشَّكِّ فِي قَوْلِهِ , وَأَمْرٌ بِالِانْقِيَادِ فِي الْإِتْيَانِ بِمَا أَوْجَبَهُ .(2/381)
الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ : تَمَسُّكُهُمْ بِقَوْلِهِ : { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } قُلْنَا : تَدَّعُونَ أَنَّهُ نَصٌّ فِي كُلِّ أَمْرٍ أَوْ عَامٍّ ؟ , وَلَا سَبِيلَ إلَى دَعْوَى النَّصِّ , وَإِنْ ادَّعَيْتُمْ الْعُمُومَ فَقَدْ لَا نَقُولُ بِالْعُمُومِ , وَنَتَوَقَّفُ فِي صِيغَتِهِ كَمَا نَتَوَقَّفُ فِي صِيغَةِ الْأَمْرِ , أَوْ نُخَصِّصُهُ بِالْأَمْرِ بِالدُّخُولِ فِي دِينِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ نَدْبَهُ أَيْضًا أَمْرُهُ , وَمَنْ خَالَفَ عَنْ أَمْرِهِ فِي قوله تعالى : { فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } , وَقَوْلِهِ : { , وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ } , وَأَمْثَالِهِ لَا يَتَعَرَّضُ لِلْعِقَابِ . ثُمَّ نَقُولُ : هَذَا نَهْيٌ عَنْ الْمُخَالَفَةِ , وَأَمْرٌ بِالْمُوَافَقَةِ أَيْ : يُؤْتَى بِهِ عَلَى وَجْهِهِ , إنْ كَانَ وَاجِبًا فَوَاجِبًا , وَإِنْ كَانَ نَدْبًا فَنَدْبًا , وَالْكَلَامُ فِي صِيغَةِ الْإِيجَابِ لَا فِي الْمُوَافَقَةِ , وَالْمُخَالَفَةِ .(2/382)
ثُمَّ لَا تَدُلُّ الْآيَةُ إلَّا عَلَى وُجُوبِ أَمْرِ الرَّسُولِ عليه السلام , فَأَيْنَ الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى ؟ الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ : تَمَسُّكُهُمْ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ بِأَخْبَارِ آحَادٍ لَوْ كَانَتْ صَرِيحَةً صَحِيحَةً لَمْ يَثْبُتْ بِهَا مِثْلُ هَذَا الْأَصْلِ , وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا صَرِيحًا , فَمِنْهَا { قَوْلُهُ عليه السلام لِبَرِيرَةَ , وَقَدْ عَتَقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ , وَكَرِهَتْهُ لَوْ رَاجَعْتِيهِ فَقَالَتْ : بِأَمْرِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ , فَقَالَ : لَا إنَّمَا أَنَا شَافِعٌ فَقَالَتْ : لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ } فَقَدْ عَلِمَتْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَمْرًا لَوَجَبَ , وَكَذَلِكَ عَقِلَتْ الْأُمَّةُ . قُلْنَا هَذَا وَضْعٌ عَلَى بَرِيرَةَ , وَتَوَهُّمٌ , فَلَيْسَ فِي قَوْلِهَا إلَّا اسْتِفْهَامٌ أَنَّهُ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى تُطِيعَ طَلَبًا لِلثَّوَابِ أَوْ شَفَاعَةٌ لِسَبَبِ الزَّوْجِ حَتَّى تُؤْثِرَ غَرَضَ نَفْسِهَا عَلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ شَفَاعَةُ الرَّسُولِ عليه السلام أَيْضًا مَنْدُوبٌ إلَى إجَابَتِهَا , وَفِيهَا ثَوَابٌ . قُلْنَا : وَكَيْفَ قَالَتْ : لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ , وَالْمُسْلِمُ يَحْتَاجُ إلَى الثَّوَابِ فَلَا يَقُولُ ذَلِكَ , لَكِنَّهَا اعْتَقَدَتْ أَنَّ الثَّوَابَ فِي طَاعَتِهِ فِي الْأَمْرِ الصَّادِرِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى , وَفِيمَا هُوَ لِلَّهِ لَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَغْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ , أَوْ عَلِمَتْ أَنَّ ذَلِكَ فِي الدَّرَجَةِ دُونَ مَا نُدِبَتْ إلَيْهِ فَاسْتَفْهَمَتْ أَوْ أُفْهِمَتْ بِالْقَرِينَةِ أَنَّهَا شَكَّتْ فِي الْوُجُوبِ فَعَبَّرَتْ بِالْأَمْرِ عَنْ الْوُجُوبِ فَأُفْهِمَتْ .(2/383)
, وَمِنْهَا قَوْلُهُ عليه السلام { لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لِلْوُجُوبِ , وَإِلَّا فَهُوَ مَنْدُوبٌ . قُلْنَا لَمَّا كَانَ قَدْ حَثَّهُمْ عَلَى السِّوَاكِ نَدْبًا قَبْلَ ذَلِكَ أَفْهَمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْأَمْرِ مَا هُوَ شَاقٌّ أَوْ كَانَ قَدْ أُوحِيَ إلَيْهِ إنَّكَ لَوْ أَمَرْتَهُمْ بِقَوْلِكَ : اسْتَاكُوا لَأَوْجَبْنَا ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَعَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ يَجِبُ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ إطْلَاقِهِ صِيغَةَ الْأَمْرِ , وَمِنْهَا قَوْلُهُ عليه السلام لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لَمَّا دَعَاهُ , وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يُجِبْهُ : " أَمَا سَمِعْتَ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ { { اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } ؟ } فَكَانَ هَذَا التَّوْبِيخُ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ . قُلْنَا : لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ أَمْرٌ بَلْ مُجَرَّدُ نِدَاءٍ , وَكَانَ قَدْ عَرَّفَهُمْ بِالْقَرَائِنِ تَفْهِيمًا ضَرُورِيًّا وُجُوبَ التَّعْظِيمِ لَهُ , وَأَنَّ تَرْكَ جَوَابِ النِّدَاءِ تَهَاوُنٌ , وَتَحْقِيرٌ بِأَمْرِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ كَانَ فِي الصَّلَاةِ , وَإِتْمَامُ الصَّلَاةِ وَاجِبٌ , وَمُجَرَّدُ النِّدَاءِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ بَلْ يَجِبُ تَرْكُهُ بِمَا هُوَ أَوْجَبُ مِنْهُ كَمَا يَجِبُ تَرْكُ الصَّلَاةِ لِإِنْقَاذِ الْغَرْقَى , وَمُجَرَّدُ النِّدَاءِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ . وَمِنْهَا قَوْلُ الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ أَحَجُّنَا هَذَا لِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ ؟ فَقَالَ عليه السلام : " لِلْأَبَدِ , وَلَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَوَامِرِهِ لِلْإِيجَابِ .(2/384)
قُلْنَا : قَدْ كَانَ عُرِفَ وُجُوبُ الْحَجِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } , وَبِأُمُورٍ أُخَرَ صَرِيحَةٍ , لَكِنْ شُكَّ فِي أَنَّ الْأَمْرَ لِلتَّكْرَارِ أَوْ لِلْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ , فَإِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَهُمَا , وَلَوْ عَيَّنَ الرَّسُولُ عليه السلام أَحَدَهُمَا لَتَعَيَّنَ , وَصَارَ مُتَعَيِّنًا فِي حَقِّنَا بِبَيَانِهِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَ " أَيْ : لَوْ عَيَّنْتُ لَتَعَيَّنَ . الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ : مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَاعِ زَعَمُوا أَنَّ الْأُمَّةَ لَمْ تَزَلْ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ تَرْجِعُ فِي إيجَابِ الْعِبَادَاتِ , وَتَحْرِيمِ الْمَحْظُورَاتِ إلَى الْأَوَامِرِ , وَالنَّوَاهِي , كَقَوْلِهِ : { أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } , وَغَيْرِهَا وَ { قَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً } , وَقَوْلِهِ : { وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا } وَ { لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا } { , وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إلَى أَمْوَالِكُمْ } { , وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } { , وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ } , وَأَمْثَالِهِ , وَالْجَوَابُ : أَنَّ هَذَا وَضْعٌ , وَتَقَوُّلٌ عَلَى الْأُمَّةِ , وَنِسْبَةٌ لَهُمْ إلَى الْخَطَأِ , وَيَجِبُ تَنْزِيهُهُمْ عَنْهُ .(2/385)
نَعَمْ يَجُوزُ أَنْ يَصْدُرَ ذَلِكَ مِنْ طَائِفَةٍ ظَنُّوا أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ , وَإِنَّمَا فَهِمَ الْمُحَصِّلُونَ , وَهُمْ الْأَقَلُّونَ ذَلِكَ مِنْ الْقَرَائِنِ , وَالْأَدِلَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ قَطَعُوا بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ , وَتَحْرِيمِ الزِّنَا , وَالْأَمْرُ مُحْتَمِلٌ لِلنَّدْبِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْضُوعًا لَهُ , وَالنَّهْيُ يَحْتَمِلُ التَّنْزِيهَ , وَكَيْفَ قَطَعُوا مَعَ الِاحْتِمَالِ لَوْلَا أَدِلَّةٌ قَاطِعَةٌ , وَمَا قَوْلُهُمْ إلَّا كَقَوْلِ مَنْ يَقُولُ : الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ بِالْإِجْمَاعِ , لِأَنَّهُمْ حَكَمُوا بِالنَّدْبِ فِي الْكِتَابَةِ وَالِاسْتِشْهَادِ , وَأَمْثَالِهِ لِصِيغَةِ الْأَمْرِ , وَالْأَوَامِرُ الَّتِي حَمَلَتْهَا الْأُمَّةُ عَلَى النَّدْبِ أَكْثَرُ فَإِنَّ النَّوَافِلَ , وَالسُّنَنَ , وَالْآدَابَ أَكْثَرُ مِنْ الْفَرَائِضِ , إذْ مَا مِنْ فَرِيضَةٍ إلَّا , وَيَتَعَلَّقُ بِهَا , وَبِإِتْمَامِهَا , وَبِآدَابِهَا سُنَنٌ كَثِيرَةٌ , أَوْ نَقُولُ هِيَ لِلْإِبَاحَةِ بِدَلِيلِ حُكْمِهِمْ بِالْإِبَاحَةِ فِي قَوْلِهِ : { فَاصْطَادُوا } , وَقَوْلِهِ : { فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ } , وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِلْقَرَائِنِ فَكَذَلِكَ الْوُجُوبُ .(2/386)
فَإِنْ قِيلَ , وَمَا تِلْكَ الْقَرَائِنُ ؟ قُلْنَا : أَمَّا فِي الصَّلَاةِ فَمِثْلُ قوله تعالى : { إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } , وَمَا وَرَدَ مِنْ التَّهْدِيدَاتِ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ , وَمَا وَرَدَ مِنْ تَكْلِيفِ الصَّلَاةِ فِي حَالِ شِدَّةِ الْخَوْفِ , وَالْمَرَضِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ , وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَقَدْ اقْتَرَنَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَآتُوا الزَّكَاةَ } , وَغَيْرِهَا , وقوله تعالى : { وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ : { فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ } . وَأَمَّا الصَّوْمُ فَقَوْلُهُ : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ } , وَقَوْلُهُ { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } , وَإِيجَابُ تَدَارُكِهِ عَلَى الْحَائِضِ , وَكَذَلِكَ الزِّنَا , وَالْقَتْلِ وَرَدَ فِيهِمَا تَهْدِيدَاتٌ , وَدَلَالَاتٌ تَوَارَدَتْ عَلَى طُولِ مُدَّةِ النُّبُوَّةِ لَا تُحْصَى , فَلِذَلِكَ قَطَعُوا بِهِ لَا بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ الَّذِي مُنْتَهَاهُ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا فَيَتَطَرَّقَ إلَيْهِ الِاحْتِمَالُ .
وقال ابن العربي :
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا } .(2/387)
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : يُرْوَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي { رَجُلٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ نَازَعَ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ , فَقَالَ الْيَهُودِيُّ : بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَبُو الْقَاسِمِ , وَقَالَ الْمُنَافِقُ : بَيْنِي وَبَيْنَكَ الْكَاهِنُ . وَقِيلَ : قَالَ الْمُنَافِقُ : بَيْنِي وَبَيْنَكَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ , يَفِرُّ الْيَهُودِيُّ مِمَّنْ يَقْبَلُ الرِّشْوَةَ وَيُرِيدُ الْمُنَافِقُ مَنْ يَقْبَلُهَا . وَيُرْوَى أَنَّ الْيَهُودِيَّ قَالَ لَهُ : بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَبُو الْقَاسِمِ . وَقَالَ الْمُنَافِقُ : بَيْنِي وَبَيْنَكَ الْكَاهِنُ , حَتَّى تَرَافَعَا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَحَكَمَ لِلْيَهُودِيِّ عَلَى الْمُنَافِقِ , فَقَالَ الْمُنَافِقُ : لَا أَرْضَى , بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَبُو بَكْرٍ ; فَأَتَيَا أَبَا بَكْرٍ فَحَكَمَ أَبُو بَكْرٍ لِلْيَهُودِيِّ . فَقَالَ الْمُنَافِقُ : لَا أَرْضَى , بَيْنِي وَبَيْنَكَ عُمَرُ . فَأَتَيَا عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ الْيَهُودِيُّ بِمَا جَرَى ; فَقَالَ : أَمْهِلَا حَتَّى أَدْخُلَ بَيْتِي فِي حَاجَةٍ , فَدَخَلَ فَأَخْرَجَ سَيْفَهُ ثُمَّ خَرَجَ , فَقَتَلَ الْمُنَافِقَ ; فَشَكَا أَهْلُهُ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ; إنَّهُ رَدَّ حُكْمَكَ . فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : أَنْتَ الْفَارُوقُ } , وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ الْآيَةُ كُلُّهَا إلَى قَوْلِهِ : { وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } . وَيُرْوَى فِي الصَّحِيحِ أَنَّ { رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ فِي شِرَاجِ الْحُرَّةِ ; فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : اسْقِ يَا زُبَيْرُ , وَأَرْسِلْ الْمَاءَ إلَى جَارِكِ الْأَنْصَارِيِّ .(2/388)
فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ : آنَ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ , فَتَلَوَّنَ وَجْهُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ لِلزُّبَيْرِ : أَمْسِكْ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ الْجَدْرَ , ثُمَّ أَرْسِلْهُ } . قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ : وَأَحْسَبُ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } إلَى آخِرِهِ . قَالَ مَالِكٌ : الطَّاغُوتُ كُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ صَنَمٍ أَوْ كَاهِنٍ أَوْ سَاحِرٍ أَوْ كَيْفَمَا تَصَرَّفَ الشِّرْكُ فِيهِ . وَقَوْلُهُ : { آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ } : يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ , أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ . وَبِقَوْلِهِ : { وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } : يَعْنِي الْيَهُودَ ; آمَنُوا بِمُوسَى , وَذَلِكَ قَوْلُهُ : { رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } وَيَذْهَبُونَ إلَى الطَّاغُوتِ . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اخْتَارَ الطَّبَرِيُّ أَنْ يَكُونَ نُزُولُ الْآيَةِ فِي الْمُنَافِقِ وَالْيَهُودِيِّ ثُمَّ تَتَنَاوَلُ بِعُمُومِهَا قِصَّةَ الزُّبَيْرِ , وَهُوَ الصَّحِيحُ . وَكُلُّ مَنْ اتَّهَمَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحُكْمِ فَهُوَ كَافِرٌ , لَكِنَّ الْأَنْصَارِيَّ زَلَّ زَلَّةً فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَقَالَ عَثْرَتَهُ لِعِلْمِهِ بِصِحَّةِ يَقِينِهِ وَأَنَّهَا كَانَتْ فَلْتَةً , وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ بَعْدَهُ فَهُوَ عَاصٍ آثِمٌ . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِيهَا أَنْ يَتَحَاكَمَ الْيَهُودِيُّ مَعَ الْمُسْلِمِ عِنْدَ حَاكِمِ الْإِسْلَامِ , وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وفي المغني :
((2/389)
4353 ) فَصْلٌ : فِي أَحْكَامِ الْمِيَاهِ
, قَدْ ذَكَرْنَا فِي الْبَيْعِ حُكْمَ مِلْكِهَا وَبَيْعِهَا , وَنَذْكُرُ هَاهُنَا حُكْمَ السَّقْيِ بِهَا . فَنَقُولُ : لَا يَخْلُو الْمَاءُ مِنْ حَالَيْنِ ; إمَّا أَنْ يَكُونَ جَارِيًا , أَوْ وَاقِفًا , فَإِنْ كَانَ جَارِيًا فَهُوَ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ فِي نَهْرٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ , وَهُوَ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ نَهْرًا عَظِيمًا , كَالنِّيلِ وَالْفُرَاتِ وَدِجْلَةَ , وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ الْأَنْهَارِ الْعَظِيمَةِ , الَّتِي لَا يَسْتَضِرُّ أَحَدٌ بِسَقْيِهِ مِنْهَا , فَهَذَا لَا تَزَاحُمَ فِيهِ , وَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَسْقِيَ مِنْهَا مَا شَاءَ , مَتَى شَاءَ , وَكَيْف شَاءَ . الْقِسْمُ الثَّانِي , أَنْ يَكُونَ نَهْرًا صَغِيرًا يَزْدَحِمُ النَّاسُ فِيهِ , وَيَتَشَاحُّونَ فِي مَائِهِ , أَوْ سَيْلًا يَتَشَاحُّ فِيهِ أَهْلُ الْأَرْضِ الشَّارِبَةِ مِنْهُ , فَإِنَّهُ يَبْدَأُ مَنْ فِي أَوَّلِ النَّهْرِ , فَيَسْقِي وَيَحْبِسُ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ إلَى الْكَعْبِ , ثُمَّ يُرْسِلُ إلَى الَّذِي يَلِيهِ فَيَصْنَعُ كَذَلِكَ , وَعَلَى هَذَا إلَى أَنْ تَنْتَهِيَ الْأَرَاضِي كُلُّهَا فَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ عَنْ الْأَوَّلِ شَيْءٌ , أَوْ عَنْ الثَّانِي , أَوْ عَمَّنْ يَلِيهِمْ فَلَا شَيْءَ لِلْبَاقِينَ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ إلَّا مَا فَضَلَ , فَهُمْ كَالْعُصْبَةِ فِي الْمِيرَاثِ . وَهَذَا قَوْلُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ , وَمَالِكٍ , وَالشَّافِعِيِّ , وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا .(2/390)
وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مَا رَوَى عَبْدُ اللَّه بْن الزُّبَيْرِ , { أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ فِي شِرَاجِ الْحُرَّةِ , الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا , إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : اسْقِ يَا زُبَيْرُ , ثُمَّ أَرْسِلْ الْمَاءَ إلَى جَارِك . فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ , وَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِك ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ : يَا زُبَيْرُ اسْقِ , ثُمَّ احْبِسْ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى الْجَدْرِ . قَالَ الزُّبَيْرُ : فَوَاَللَّهِ إنِّي لَأَحْسِبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } } . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَرَوَاهُ مَالِكٌ , فِي " مُوَطَّئِهِ " عَنْ الزُّهْرِيِّ , عَنْ عُرْوَةَ , عَنْ عَبْدِ اللَّه بْن الزُّبَيْرِ . وَذَكَرَ عَنْهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ , عَنْ مَعْمَرٍ , عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ : نَظَرْنَا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { ثُمَّ احْبِسْ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ إلَى الْجَدْرِ } . فَكَانَ ذَلِكَ إلَى الْكَعْبَيْنِ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الشِّرَاجُ : جَمْعُ شَرْجٍ , وَالشَّرْجُ : نَهْرٌ صَغِيرٌ , وَالْحَرَّةُ : أَرْضٌ مُلْتَبِسَةٌ بِحِجَارَةٍ سُودٍ , وَالْجَدْرُ : الْجِدَارُ , وَإِنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الزُّبَيْرَ أَنْ يَسْقِيَ ثُمَّ يُرْسِلَ الْمَاءَ , تَسْهِيلًا عَلَى غَيْرِهِ , فَلَمَّا قَالَ الْأَنْصَارِيُّ مَا قَالَ , اسْتَوْعَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الزُّبَيْرَ حَقَّهُ .(2/391)
وَرَوَى مَالِكٌ , فِي " الْمُوَطَّأِ " أَيْضًا , عَنْ عَبْدِ اللَّه بْن أَبِي بَكْرِ بْن حَزْمٍ , أَنَّهُ بَلَغَهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي سَيْلِ مَهْزُورٍ وَمُذَيْنِيبٍ : يُمْسِكُ حَتَّى الْكَعْبَيْنِ , ثُمَّ يُرْسِلُ الْأَعْلَى عَلَى الْأَسْفَلِ } قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : هَذَا حَدِيثٌ مَدَنِيٌّ , مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ , مَعْمُولٌ بِهِ عِنْدَهُمْ . قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ : مَهْزُورٌ وَمُذَيْنِيبٌ : وَادِيَانِ مِنْ أَوْدِيَةِ الْمَدِينَةِ , يَسِيلَانِ بِالْمَطَرِ , وَتَتَنَافَسُ أَهْلُ الْحَوَائِطِ فِي سَيْلِهِمَا .(2/392)
وَرَوَى أَبُو دَاوُد , بِإِسْنَادِهِ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ , أَنَّهُ { سَمِعَ كُبَرَاءَهُمْ يَذْكُرُونَ , أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ كَانَ لَهُ سَهْمٌ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ , فَخَاصَمَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَيْلِ مَهْزُورٍ وَالسَّيْلِ الَّذِي يَقْتَسِمُونَ مَاءَهُ , فَقَضَى بَيْنَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْمَاءَ إلَى الْكَعْبَيْنِ , لَا يَحْبِسُ الْأَعْلَى عَلَى الْأَسْفَلِ } وَلِأَنَّ مَنْ أَرْضُهُ قَرِيبَةٌ مِنْ فُوَّهَةِ النَّهْرِ أَسْبَقُ إلَى الْمَاءِ , فَكَانَ أَوْلَى بِهِ , كَمَنْ سَبَقَ إلَى الْمُشَرَّعَةِ , فَإِنْ كَانَتْ أَرْضُ صَاحِبِ الْأَعْلَى مُخْتَلِفَةً , مِنْهَا مُسْتَعْلِيَةٌ وَمِنْهَا مُسْتَفِلَةٌ , سَقَى كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَتِهَا , وَإِنْ اسْتَوَى اثْنَانِ فِي الْقُرْبِ مِنْ أَوَّلِ النَّهْرِ , اقْتَسَمَا الْمَاءَ بَيْنَهُمَا , إنْ أَمْكَنَ , وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا , فَقُدِّمَ مَنْ تَقَعُ لَهُ الْقُرْعَةُ , فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ لَا يَفْضُلُ عَنْ أَحَدِهِمَا , سَقَى مَنْ تَقَعُ لَهُ الْقُرْعَةُ بِقَدْرِ حَقِّهِ مِنْ الْمَاءِ , ثُمَّ تَرَكَهُ لِلْآخَرِ , وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْقِيَ بِجَمِيعِ الْمَاءِ ; لِأَنَّ الْآخَرَ يُسَاوِيه فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَاءِ , وَإِنَّمَا الْقُرْعَةُ لِلتَّقْدِيمِ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ , لَا فِي أَصْلِ الْحَقِّ , بِخِلَافِ الْأَعْلَى مَعَ الْأَسْفَلِ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْأَسْفَلِ حَقٌّ إلَّا فِيمَا فَضَلَ عَنْ الْأَعْلَى فَإِنْ كَانَتْ أَرْضُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْضِ الْآخَرِ , قُسِمَ الْمَاءُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ ; لِأَنَّ الزَّائِدَ مِنْ أَرْضِ أَحَدِهِمَا مُسَاوٍ فِي الْقُرْبِ , فَاسْتَحَقَّ جُزْءًا مِنْ(2/393)
الْمَاءِ , كَمَا لَوْ كَانَ لِشَخْصٍ ثَالِثٍ . وَإِنْ كَانَ لِجَمَاعَةٍ رَسْمُ شُرْبٍ , مِنْ نَهْرٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ , أَوْ سَيْلٍ , وَجَاءَ إنْسَانٌ لِيُحْيِيَ مَوَاتًا أَقْرَبَ إلَى رَأْسِ النَّهْرِ مِنْ أَرْضِهِمْ , لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْقِيَ قَبْلَهُمْ ; لِأَنَّهُمْ أَسْبَقُ إلَى النَّهْرِ مِنْهُ , وَلِأَنَّ مَنْ مَلَكَ أَرْضًا مَلَكَهَا بِحُقُوقِهَا وَمَرَافِقِهَا , وَلَا يَمْلِكُ غَيْرُهُ إبْطَالَ حُقُوقِهَا , وَهَذَا مِنْ حُقُوقِهَا . وَهَلْ لَهُمْ مَنْعُهُ مِنْ إحْيَاءِ ذَلِكَ الْمَوَاتِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَيْسَ لَهُمْ مَنْعُهُ ; لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي النَّهْرِ لَا فِي الْمَوَاتِ . وَالثَّانِي لَهُمْ مَنْعُهُ , لِئَلَّا يَصِيرَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى مَنْعِهِمْ حَقَّهُمْ مِنْ السَّقْيِ , لِتَقْدِيمِهِ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْبِ إذَا طَالَ الزَّمَانُ وَجُهِلَ الْحَالُ فَإِذَا قُلْنَا : لَيْسَ لَهُمْ مَنْعُهُ . فَسَبَقَ إنْسَانٌ إلَى مَسِيلِ مَاءٍ أَوْ نَهْرٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ , فَأَحْيَا فِي أَسْفَلِهِ مَوَاتًا , ثُمَّ أَحْيَا آخَرُ فَوْقَهُ , ثُمَّ أَحْيَا ثَالِثٌ فَوْقَ الثَّانِي , كَانَ لِلْأَسْفَلِ السَّقْيُ أَوَّلًا , ثُمَّ الثَّانِي , ثُمَّ الثَّالِثِ , وَيُقَدَّمُ السَّبْقُ إلَى الْإِحْيَاءِ عَلَى السَّبْقِ إلَى أَوَّلِ النَّهْرِ ; لِمَا ذَكَرْنَا .
كِتَابُ الْقَضَاءِ الْأَصْلُ فِي الْقَضَاءِ وَمَشْرُوعِيَّتِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ .(2/394)
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { يَا دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } . وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } . وَقَوْلُهُ : { وَإِذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } . وقوله تعالى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْت وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } . وَأَمَّا السُّنَّةُ , فَمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ , عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ , وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . فِي آيٍ وَأَخْبَارٍ سِوَى ذَلِكَ كَثِيرَةٍ . وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ نَصْبِ الْقَضَاءِ , وَالْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ . ( 8215 ) فَصْلٌ : وَالْقَضَاءُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ ; لِأَنَّ أَمْرَ النَّاسِ لَا يَسْتَقِيمُ بِدُونِهِ , فَكَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ , كَالْجِهَادِ وَالْإِمَامَةِ .(2/395)
قَالَ أَحْمَدُ : لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ حَاكِمٍ , أَتَذْهَبُ حُقُوقُ النَّاسِ , وَفِيهِ فَضْلٌ عَظِيمٌ لِمَنْ قَوِيَ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ , وَأَدَاءِ الْحَقِّ فِيهِ , وَلِذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ أَجْرًا مَعَ الْخَطَأِ , وَأَسْقَطَ عَنْهُ حُكْمَ الْخَطَأِ , وَلِأَنَّ فِيهِ أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ , وَنُصْرَةَ الْمَظْلُومِ , وَأَدَاءَ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحَقِّهِ , وَرَدًّا لِلظَّالِمِ عَنْ ظُلْمِهِ , وَإِصْلَاحًا بَيْنَ النَّاسِ , وَتَخْلِيصًا لَبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ , وَذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الْقُرَبِ ; وَلِذَلِكَ تَوَلَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ , فَكَانُوا يَحْكُمُونَ لِأُمَمِهِمْ , وَبَعَثَ عَلِيًّا إلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا , وَبَعَثَ أَيْضًا مُعَاذًا قَاضِيًا . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ , أَنَّهُ قَالَ : لَأَنْ أَجْلِسَ قَاضِيًا بَيْنَ اثْنَيْنِ , أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ عِبَادَةِ سَبْعِينَ سَنَةً . وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ , قَالَ : { جَاءَ خَصْمَانِ يَخْتَصِمَانِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي : اقْضِ بَيْنَهُمَا . قُلْت : أَنْتَ أَوْلَى بِذَلِكَ . قَالَ : وَإِنْ كَانَ . قُلْت : عَلَامَ أَقْضِي قَالَ : اقْضِ , فَإِنْ أَصَبْت فَلَكَ عَشَرَةُ أُجُورٍ , وَإِنْ أَخْطَأْت فَلَكَ أَجْرٌ وَاحِدٌ } . رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي " سُنَنِهِ " . ( 8216 ) فَصْلٌ : وَفِيهِ خَطَرٌ عَظِيمٌ وَوِزْرٌ كَبِيرٌ لِمَنْ لَمْ يُؤَدِّ الْحَقَّ فِيهِ , وَلِذَلِكَ كَانَ السَّلَفُ , رَحْمَةُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ , يَمْتَنِعُونَ مِنْهُ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ , وَيَخْشَوْنَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ خَطَرَهُ .(2/396)
قَالَ خَاقَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : أُرِيدَ أَبُو قِلَابَةَ عَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ , فَهَرَبَ إلَى الْيَمَامَةِ , فَأُرِيدَ عَلَى قَضَائِهَا , فَهَرَبَ إلَى الشَّامِ , فَأُرِيدَ عَلَى قَضَائِهَا , وَقِيلَ : لَيْسَ هَاهُنَا غَيْرُك . قَالَ : فَانْزِلُوا الْأَمْرَ عَلَى مَا قُلْتُمْ , فَإِنَّمَا مَثَلِي مَثَلُ سَابِحٍ وَقَعَ فِي الْبَحْرِ , فَسَبَحَ يَوْمَهُ , فَانْطَلَقَ , ثُمَّ سَبَحَ الْيَوْمَ الثَّانِيَ , فَمَضَى أَيْضًا , فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ فَتُرَتْ يَدَاهُ . وَكَانَ يُقَالُ : أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْقَضَاءِ أَشَدُّهُمْ لَهُ كَرَاهَةً . وَلِعَظْمِ خَطَرِهِ , قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ جُعِلَ قَاضِيًا , فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ } . قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَقِيلَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : إنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ الذَّمِّ لِلْقَضَاءِ , وَإِنَّمَا وَصَفَهُ بِالْمَشَقَّةِ ; فَكَأَنَّ مَنْ وَلِيَهُ قَدْ حُمِلَ عَلَى مَشَقَّةٍ , كَمَشَقَّةِ الذَّبْحِ .
( 8337 ) فَصْلٌ : وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ ثُبُوتَ الْمَالِ لِمُدَّعِيهِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ .(2/397)
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ , وَعُمَرَ , وَعُثْمَانَ , وَعَلِيٍّ رضي الله عنهم وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ , وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ , وَالْحَسَنِ , وَشُرَيْحٍ , وَإِيَاسَ , وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ , وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ , وَيَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ , وَرَبِيعَةَ , وَمَالِكٍ , وَابْنِ أَبِي لَيْلَى , وَأَبِي الزِّنَادِ , وَالشَّافِعِيِّ . وَقَالَ الشَّعْبِيُّ , وَالنَّخَعِيُّ , وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ , وَالْأَوْزَاعِيُّ : لَا يُقْضَى بِشَاهِدِ وَيَمِينٍ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : مَنْ قَضَى بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ , نَقَضْت حُكْمَهُ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } . فَمَنْ زَادَ فِي ذَلِكَ , فَقَدْ زَادَ فِي النَّصِّ , وَالزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ نَسْخٌ , وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي , وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } . فَحَصَرَ الْيَمِينَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ , كَمَا حَصَرَ الْبَيِّنَةَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي . وَلَنَا , مَا رَوَى سُهَيْلٌ , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , قَالَ : { قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ . } رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي " سُنَنِهِ " , وَالْأَئِمَّةُ مِنْ أَهْلِ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ , قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ , وَفِي الْبَابِ عَنْ عَلِيٍّ , وَابْنِ عَبَّاسٍ , وَجَابِرٍ , وَمَسْرُوقٍ . وَقَالَ النَّسَائِيّ : إسْنَادُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ إسْنَادٌ جَيِّدٌ .(2/398)
وَلِأَنَّ الْيَمِينَ تُشْرَعُ فِي حَقِّ مَنْ ظَهَرَ صِدْقُهُ , وَقَوِيَ جَانِبُهُ , وَلِذَلِكَ شُرِعَتْ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْيَدِ لِقُوَّةِ جَنْبِهِ بِهَا , وَفِي حَقِّ الْمُنْكِرِ لِقُوَّةِ جَنْبِهِ , فَإِنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ , وَالْمُدَّعِي هَاهُنَا قَدْ ظَهَرَ صِدْقُهُ , فَوَجَبَ أَنْ تُشْرَعَ الْيَمِينُ فِي حَقِّهِ . وَلَا حَجَّةَ لَهُمْ فِي الْآيَةِ ; لِأَنَّهَا دَلَّتْ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الشَّاهِدَيْنِ , وَالشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ , وَلَا نِزَاعَ فِي هَذَا . وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الزِّيَادَةَ فِي النَّصِّ نَسْخٌ . غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ النَّسْخَ الرَّفْعُ وَالْإِزَالَةُ , وَالزِّيَادَةُ فِي الشَّيْء تَقْرِيرٌ لَهُ , لَا رَفْعٌ , وَالْحُكْمُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ لَا يَمْنَعُ الْحُكْمَ بِالشَّاهِدَيْنِ , وَلَا يَرْفَعُهُ ; وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَوْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِالْمَزِيدِ عَلَيْهِ لَمْ تَرْفَعْهُ , وَلَمْ تَكُنْ نَسْخًا , فَكَذَلِكَ إذَا انْفَصَلَتْ عَنْهُ , وَلِأَنَّ الْآيَةَ وَارِدَةٌ فِي التَّحَمُّلِ دُونَ الْأَدَاءِ , وَلِهَذَا قَالَ : { أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى } . وَالنِّزَاعُ فِي الْأَدَاءِ , وَحَدِيثُهُمْ ضَعِيفٌ , وَلَيْسَ هُوَ لِلْحَصْرِ ; بِدَلِيلِ أَنَّ الْيَمِينَ تُشْرَعَ فِي حَقِّ الْمُودَعِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ وَتَلَفَهَا , وَفِي حَقِّ الْأُمَنَاءِ لِظُهُورِ جِنَايَتِهِمْ , وَفِي حَقِّ الْمُلَاعِنِ , وَفِي الْقَسَامَةِ , وَتُشْرَعُ فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ .(2/399)
وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ فِي نَقْضِ قَضَاءِ مَنْ قَضَى بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ , يَتَضَمَّنُ الْقَوْلَ بِنَقْضِ قَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْخُلَفَاءِ الَّذِينَ قَضَوْا بِهِ , وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْت وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } . وَالْقَضَاءُ بِمَا قَضَى بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْلَى مِنْ قَضَاءِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْمُخَالِفِ لَهُ .
وفي أنوار البروق :
((2/400)
الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْفَتْوَى وَقَاعِدَةِ الْحُكْمِ ) : وَيَنْبَنِي عَلَى الْفَرْقِ تَمْكِينُ غَيْرِهِ مِنْ الْحُكْمِ بِغَيْرِ مَا قَالَ فِي الْفُتْيَا فِي مَوَاضِعِ الْخِلَافِ بِخِلَافِ الْحُكْمِ اعْلَمْ أَنَّ الْعِبَادَاتِ كُلَّهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا يَدْخُلُهَا الْحُكْمُ أَلْبَتَّةَ بَلْ الْفُتْيَا فَقَطْ فَكُلُّ مَا وُجِدَ فِيهَا مِنْ الْإِخْبَارَاتِ فَهِيَ فُتْيَا فَقَطْ فَلَيْسَ لِحَاكِمٍ أَنْ يَحْكُمَ بِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ صَحِيحَةٌ أَوْ بَاطِلَةٌ , وَلَا أَنَّ هَذَا الْمَاءَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَيَكُونُ نَجِسًا فَيَحْرُمُ عَلَى الْمَالِكِيِّ بَعْدَ ذَلِكَ اسْتِعْمَالُهُ بَلْ مَا يُقَالُ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ فُتْيَا إنْ كَانَتْ مَذْهَبَ السَّامِعِ عَمِلَ بِهَا , وَإِلَّا فَلَهُ تَرْكُهَا , وَالْعَمَلُ بِمَذْهَبِهِ , وَيَلْحَقُ بِالْعِبَادَاتِ أَسْبَابُهَا فَإِذَا شَهِدَ بِهِلَالِ رَمَضَانَ شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَأَثْبَتَهُ حَاكِمٌ شَافِعِيٌّ , وَنَادَى فِي الْمَدِينَةِ بِالصَّوْمِ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّ لِأَنَّ ذَلِكَ فُتْيَا لَا حُكْمٌ , وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ حَاكِمٌ قَدْ ثَبَتَ عِنْدِي الدَّيْنُ يُسْقِطُ الزَّكَاةَ أَوْ لَا يُسْقِطُهَا أَوْ مِلْكُ نِصَابٍ مِنْ الْحُلِيِّ الْمُتَّخَذِ بِاسْتِعْمَالِ الْمُبَاحِ سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ أَوْ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الزَّكَاةَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْأَضَاحِيِّ , وَالْعَقِيقَةِ , وَالْكَفَّارَاتِ , وَالنُّذُورِ , وَنَحْوِهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا أَوْ فِي أَسْبَابِهَا لَا يَلْزَمُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَنْ لَا يَعْتَقِدُهُ بَلْ يَتَّبِعُ مَذْهَبَهُ فِي نَفْسِهِ .(2/401)
وَلَا يَلْزَمُهُ قَوْلُ ذَلِكَ الْقَائِلِ لَا فِي عِبَادَةٍ , وَلَا فِي سَبَبِهَا وَلَا شَرْطِهَا , وَلَا مَانِعِهَا , وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ قَالَ لَا تُقِيمُوا الْجُمُعَةَ إلَّا بِإِذْنِي لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُكْمًا , وَإِنْ كَانَتْ مَسْأَلَةً مُخْتَلَفًا فِيهَا هَلْ تَفْتَقِرُ الْجُمُعَةُ إلَى إذْنِ السُّلْطَانِ أَمْ لَا , وَلِلنَّاسِ أَنْ يُقِيمُوا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ صُورَةُ الْمَشَاقَّةِ , وَخَرْقُ أُبَّهَةِ الْوِلَايَةِ , وَإِظْهَارُ الْعِنَادِ وَالْمُخَالَفَةِ فَتُمْنَعُ إقَامَتُهَا بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِأَجْلِ ذَلِكَ لَا لِأَنَّهُ مَوْطِنُ خِلَافٍ اتَّصَلَ بِهِ حُكْمُ حَاكِمٍ , وَقَدْ قَالَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ .(2/402)
وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ حُكْمُ الْحَاكِمِ إنَّمَا يُؤَثِّرُ إذَا أَنْشَأَهُ فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ تَتَقَارَبُ فِيهَا الْمَدَارِكُ لِأَجْلِ مَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ فَاشْتِرَاطِي قَيْدَ الْإِنْشَاءِ احْتِرَازٌ مِنْ حُكْمِهِ فِي مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّ ذَلِكَ إخْبَارٌ , وَتَنْفِيذٌ مَحْضٌ وَفِي مَوَاقِعِ الْخِلَافِ يُنْشِئُ حُكْمًا , وَهُوَ إلْزَامُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ قِيلَ بِهِمَا فِي الْمَسْأَلَةِ , وَيَكُونُ إنْشَاؤُهُ إخْبَارًا خَاصًّا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي تِلْكَ الصُّورَةِ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ , وَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى إنْشَاءَهُ فِي مَوَاطِنِ الْخِلَافِ نَصًّا , وَرَدَ مِنْ قِبَلِهِ فِي خُصُوصِ تِلْكَ الصُّورَةِ كَمَا لَوْ قَضَى فِي امْرَأَةٍ عُلِّقَ طَلَاقُهَا قَبْلَ الْمِلْكِ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فَيَتَنَاوَلُ هَذِهِ الصُّورَةَ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى عَدَمِ لُزُومِ الطَّلَاقِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ , وَحُكْمُ الْمَالِكِيِّ بِالنَّقْضِ , وَلُزُومِ الطَّلَاقِ نَصٌّ خَاصٌّ تَخْتَصُّ بِهِ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الْمُعَيَّنَةُ , وَهُوَ نَصٌّ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ ذَلِكَ لِلْحَاكِمِ رَفْعًا لِلْخُصُومَاتِ وَالْمُشَاجَرَاتِ , وَهَذَا النَّصُّ الْوَارِدُ مِنْ هَذَا الْحَاكِمِ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ الدَّلِيلِ الْعَامِّ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ الْأُصُولِيَّةَ أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ قُدِّمَ الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ فَلِذَلِكَ لَا يَرْجِعُ الشَّافِعِيُّ يُفْتِي بِمُقْتَضَى دَلِيلِهِ الْعَامِّ الشَّامِلِ لِجُمْلَةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مِنْهَا لِتَنَاوُلِهَا نَصٌّ خَاصٌّ بِهَا مُخْرِجٌ لَهَا عَنْ مُقْتَضَى ذَلِكَ الدَّلِيلِ الْعَامِّ , وَيُفْتِي(2/403)
الشَّافِعِيُّ بِمُقْتَضَى دَلِيلِهِ الْعَامِّ فِيمَا عَدَا هَذِهِ الصُّورَةِ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ . وَكَذَلِكَ لَوْ حَكَمَ الشَّافِعِيُّ بِاسْتِمْرَارِ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا خَرَجَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ عَنْ دَلِيلِ الْمَالِكِيِّ وَأَفْتَى فِيهِ بِلُزُومِ النِّكَاحِ وَدَوَامِهِ , وَفِي غَيْرِهَا بِلُزُومِ الطَّلَاقِ لِأَجَلِ مَا أَنْشَأَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ الْحُكْمِ تَقْدِيمًا لِلْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ فَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْإِنْشَاءِ وَقَوْلِي فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ احْتِرَازٌ مِنْ مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّ الْحُكْمَ هُنَالِكَ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ فَيَتَعَذَّرُ فِيهِ الْإِنْشَاءُ لِتَعَيُّنِهِ وَثُبُوتِهِ إجْمَاعًا , وَقَوْلِي تَتَقَارَبُ مَدَارِكُهَا احْتِرَازٌ مِنْ الْخِلَافِ الشَّاذِّ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْمُدْرَكِ الضَّعِيفِ فَإِنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْخِلَافَ بَلْ يُنْقَضُ فِي نَفْسِهِ إذَا حَكَمَ بِالْفَتْوَى الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْمُدْرَكِ , وَقَوْلِي لِأَجْلِ مَصَالِحِ الدُّنْيَا احْتِرَازٌ مِنْ الْعِبَادَاتِ كَالْفَتْوَى بِتَحْرِيمِ السِّبَاعِ , وَطَهَارَةِ الْأَوَانِي وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ اخْتِلَافُ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهِ لَا لِلدُّنْيَا بَلْ لِلْآخِرَةِ بِخِلَافِ الِاخْتِلَافِ فِي الْعُقُودِ وَالْأَمْلَاكِ وَالرُّهُونِ وَالْأَوْقَافِ وَنَحْوِهَا إنَّمَا ذَلِكَ لِمَصَالِحِ الدُّنْيَا , وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ قِسْمَانِ مِنْهَا مَا يَقْبَلُ حُكْمَ الْحَاكِمِ مَعَ الْفُتْيَا فَيُجْمَعُ الْحُكْمَانِ , وَمِنْهَا لَا يَقْبَلُ إلَّا الْفَتْوَى , وَيَظْهَرُ لَك بِهَذَا أَيْضًا تَصَرُّفُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا وَقَعَ هَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْفَتْوَى أَوْ مِنْ بَابِ الْقَضَاءِ ,(2/404)
وَالْإِنْشَاءِ , وَأَيْضًا يَظْهَرُ أَنَّ إخْبَارَ الْحَاكِمِ عَنْ نِصَابٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ أَنَّهُ يُوجِبُ الزَّكَاةَ فَتْوَى , وَأَمَّا أَخْذُهُ لِلزَّكَاةِ فِي مَوَاطِنِ الْخِلَافِ فَحُكْمٌ , وَفَتْوَى مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ تَنَازُعٌ بَيْنَ الْفُقَرَاءِ . وَالْأَغْنِيَاءِ فِي الْمَالِ الَّذِي هُوَ مَصْلَحَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ , وَلِذَلِكَ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ السُّعَاةِ , وَالْجُبَاةِ فِي الزَّكَاةِ أَحْكَامٌ لَا نَنْقُضُهَا , وَإِنْ كَانَتْ الْفَتْوَى عِنْدَنَا عَلَى خِلَافِهَا , وَيَصِيرُ حِينَئِذٍ مَذْهَبَنَا , وَيَظْهَرُ بِهَذَا التَّقْرِيرِ أَيْضًا سِرُّ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ إنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ لَا يُنْقَضُ , وَأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْقَاعِدَةِ الْأُصُولِيَّةِ , وَتَصِيرُ هَذِهِ الصُّورَةُ مُسْتَثْنَاةً مِنْ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ الْعَامَّةِ كَاسْتِثْنَاءِ الْمُصَرَّاةِ , وَالْعَرَايَا , وَالْمُسَاقَاةِ , وَغَيْرِهَا مِنْ الْمُسْتَثْنَيَاتِ , وَيَظْهَرُ بِهَذَا أَيْضًا أَنَّ التَّقْرِيرَاتِ مِنْ الْحُكَّامِ لَيْسَتْ أَحْكَامًا فَتَبْقَى الصُّورَةُ قَابِلَةً لِحُكْمِ جَمِيعِ تِلْكَ الْأَقْوَالِ الْمَنْقُولَةِ فِيهَا قَالَ صَاحِبُ الْجَوَاهِرِ مَا قَضَى بِهِ مِنْ نَقْلِ الْأَمْلَاكِ , وَفَسْخِ الْعُقُودِ فَهُوَ حُكْمٌ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَكْثَرَ مِنْ تَقْرِيرِ الْحَادِثَةِ لَمَا رُفِعَتْ إلَيْهِ كَامْرَأَةٍ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَأَقَرَّهُ وَأَجَازَهُ ثُمَّ عُزِلَ , وَجَاءَ قَاضٍ بَعْدَهُ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ لَيْسَ بِحُكْمٍ , وَلِغَيْرِهِ فَسْخُهُ .(2/405)
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ هُوَ حُكْمٌ لِأَنَّهُ أَمْضَاهُ , وَالْإِقْرَارُ عَلَيْهِ كَالْحُكْمِ بِإِجَازَتِهِ فَلَا يُنْقَضُ , وَاخْتَارَهُ ابْنُ مُحْرِزٍ , وَقَالَ إنَّهُ حُكْمٌ فِي حَادِثَةٍ بِاجْتِهَادِهِ , وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ فِيهِ بِإِمْضَائِهِ أَوْ فَسْخِهِ أَمَّا لَوْ رُفِعَ إلَيْهِ هَذَا النِّكَاحُ فَقَالَ أَنَا لَا أُجِيزُ هَذَا النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْكُمَ بِفَسْخِ هَذَا النِّكَاحِ بِعَيْنِهِ فَهَذِهِ فَتْوَى , وَلَيْسَتْ بِحُكْمٍ أَوْ رُفِعَ إلَيْهِ حُكْمٌ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ فَقَالَ أَنَا لَا أُجِيزُ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ فَهُوَ فَتْوَى مَا لَمْ يَقَعْ حُكْمٌ عَلَى عَيْنِ الْحُكْمِ قَالَ وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا الْوَجْهِ خِلَافًا قَالَ وَإِنْ حَكَمَ بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا طَرِيقُهُ التَّحْرِيمُ وَالتَّحْلِيلُ , وَلَيْسَ بِنَقْلِ مِلْكٍ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ إلَى الْآخَرِ , وَلَا فَصْلِ خُصُومَةٍ بَيْنَهُمَا , وَلَا إثْبَاتِ عَقْدٍ , وَلَا فَسْخِهِ مِثْلُ رَضَاعِ كَبِيرٍ فَيَحْكُمُ بِأَنَّهُ رَضَاعٌ مُحَرَّمٌ .(2/406)
وَيُفْسَخُ النِّكَاحُ لِأَجْلِهِ فَالْفَسْخُ حُكْمٌ , وَالتَّحْرِيمُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَثْبُتُ بِحُكْمِهِ بَلْ هُوَ مَعْرِضٌ لِلِاجْتِهَادِ أَوْ رُفِعَتْ إلَيْهِ امْرَأَةٌ تَزَوَّجَتْ فِي عِدَّتِهَا فَفَسَخَ نِكَاحَهَا , وَحَرَّمَهَا عَلَى زَوْجِهَا فَفَسْخُهُ حُكْمٌ دُونَ تَحْرِيمِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ , وَحُكْمُهُ بِنَجَاسَةِ مَاءٍ أَوْ طَعَامٍ أَوْ تَحْرِيمِ بَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ إجَارَةٍ فَهُوَ فَتْوَى لَيْسَ حُكْمًا عَلَى التَّأْبِيدِ , وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ ذَلِكَ مَا شَهِدَهُ , وَمَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ مَوْكُولٌ لِمَنْ يَأْتِي مِنْ الْحُكَّامِ وَالْفُقَهَاءِ فَظَهَرَ أَيْضًا مِنْ هَذِهِ الْفَتَاوِي , وَالْمَبَاحِثِ أَنَّ الْفَتْوَى وَالْحُكْمَ كِلَاهُمَا إخْبَارٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى , وَيَجِبُ عَلَى السَّامِعِ اعْتِقَادُهُمَا , وَكِلَاهُمَا يَلْزَمُ الْمُكَلَّفَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لَكِنْ الْفَتْوَى إخْبَارٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي إلْزَامٍ أَوْ إبَاحَةٍ , وَالْحُكْمُ إخْبَارٌ مَعْنَاهُ الْإِنْشَاءُ وَالْإِلْزَامُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيَانُ ذَلِكَ بِالتَّمْثِيلِ أَنَّ الْمُفْتِيَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى كَالْمُتَرْجِمِ مَعَ الْقَاضِي يَنْقُلُ مَا وَجَدَهُ عَنْ الْقَاضِي , وَاسْتَفَادَهُ مِنْهُ بِإِشَارَةٍ أَوْ عِبَارَةٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ تَقْرِيرٍ أَوْ تَرْكٍ , وَالْحَاكِمُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى كَنَائِبِ الْحَاكِمِ يُنْشِئُ الْأَحْكَامَ , وَالْإِلْزَامَ بَيْنَ الْخُصُومِ , وَلَيْسَ بِنَاقِلٍ ذَلِكَ عَنْ مُسْتَنِيبِهِ بَلْ مُسْتَنِيبُهُ قَالَ لَهُ أَيُّ شَيْءٍ حَكَمْت بِهِ عَلَى الْقَوَاعِدِ فَقَدْ جَعَلْته حُكْمِي فَكِلَاهُمَا مُوَافِقٌ لِلْقَاضِي , وَمُطِيعٌ لَهُ , وَسَاعٍ فِي تَنْفِيذِ مَوَادِّهِ غَيْرَ أَنَّ(2/407)
أَحَدَهُمَا يُنْشِئُ , وَالْآخَرُ يَنْقُلُ نَقْلًا مَحْضًا مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ لَهُ فِي الْإِنْشَاءِ كَذَلِكَ الْمُفْتِي , وَالْحَاكِمُ كِلَاهُمَا مُطِيعٌ لِلَّهِ تَعَالَى قَابِلٌ لِحُكْمِهِ غَيْرَ أَنَّ الْحَاكِمَ مُنْشِئٌ , وَالْمُفْتِيَ مُخْبِرٌ مَحْضٌ , وَقَدْ , وَضَعْت فِي هَذَا الْمَقْصِدِ كِتَابًا سَمَّيْته الْإِحْكَامَ فِي الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَامِ , وَتَصَرُّفِ الْقَاضِي , وَالْإِمَامِ , وَفِيهِ أَرْبَعُونَ مَسْأَلَةً فِي هَذَا الْمَعْنَى , وَذَكَرْت فِيهِ نَحْوَ ثَلَاثِينَ نَوْعًا مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْحَاكِمِ لَيْسَ فِيهَا حُكْمٌ , وَلْنَقْتَصِرْ هُنَا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ فِي هَذَا الْفَرْقِ .
((2/408)
الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْفَتْوَى وَقَاعِدَةِ الْحُكْمِ ) : وَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا , وَإِنْ كَانَ خَبَرًا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى , وَيَجِبُ عَلَى السَّامِعِ اعْتِقَادُ ذَلِكَ , وَيَلْزَمُ ذَلِكَ الْمُكَلَّفَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ إلَّا أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا مِنْ جِهَتَيْنِ : ( الْجِهَةُ الْأُولَى ) أَنَّ الْفَتْوَى مَحْضُ إخْبَارٍ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي إلْزَامٍ أَوْ إبَاحَةٍ , وَالْحُكْمُ إخْبَارُ مَا لَهُ الْإِنْشَاءُ وَالْإِلْزَامُ أَيْ التَّنْفِيذُ وَالْإِمْضَاءُ لِمَا كَانَ قَبْلَ الْحُكْمِ فَتْوَى فَالْمُفْتِي مَعَ اللَّهِ تَعَالَى كَالْمُتَرْجِمِ مَعَ الْقَاضِي يَنْقُلُ عَنْهُ مَا , وَجَدَهُ عِنْدَهُ , وَاسْتَفَادَهُ مِنْهُ بِإِشَارَةٍ أَوْ عِبَارَةٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ تَقْرِيرٍ أَوْ تَرْكٍ , وَالْحَاكِمُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى كَنَائِبِ الْحَاكِمِ يُنَفِّذُ وَيُمْضِي بَيْنَ الْخُصُومِ مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فَتْوَى , وَلَيْسَ بِنَاقِلٍ ذَلِكَ عَنْ مُسْتَنِيبِهِ بَلْ مُسْتَنِيبُهُ قَالَ لَهُ أَيُّ شَيْءٍ حَكَمْت بِهِ عَلَى الْقَوَاعِدِ فَقَدْ جَعَلْته حُكْمِي فَكَمَا أَنَّ كُلًّا مِنْ الْمُتَرْجَمِ عَنْ الْقَاضِي , وَنَائِبِ الْقَاضِي مُوَافِقٌ لِلْقَاضِي وَمُطِيعٌ لَهُ وَسَاعٍ فِي تَنْفِيذِ مُرَادِهِ غَيْرَ أَنَّ أَحَدَهُمَا يَنْقُلُ نَقْلًا مَحْضًا مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ لَهُ فِي التَّنْفِيذِ وَالْإِمْضَاءِ بَيْنَ الْخُصُومِ , وَالْآخَرُ يُنَفِّذُ , وَيُمْضِي مَا يَجْتَهِدُ فِيهِ مِنْ الْأَحْكَامِ عَلَى وَفْقِ الْقَوَاعِدِ بَيْنَ الْخُصُومِ كَذَلِكَ الْمُفْتِي , وَالْحَاكِمُ كِلَاهُمَا مُطِيعٌ لِلَّهِ تَعَالَى قَابِلٌ لِحُكْمِهِ غَيْرَ أَنَّ الْمُفْتِيَ مُخْبِرٌ مَحْضٌ , وَالْحَاكِمُ مُنَفِّذٌ وَمُمْضٍ(2/409)
هَذَا , وَتَقْرِيرُ هَذِهِ الْجِهَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ هُوَ مَا صَحَّحَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الشَّاطِّ رحمه الله تعالى قَالَ التَّسَوُّلِيُّ عَلَى الْعَاصِمِيَّةِ , وَمِنْ قَوْلِهِ , وَيَجِبُ عَلَى السَّامِعِ اعْتِقَادُ ذَلِكَ إلَخْ قَالَ قَاضٍ لِخَصْمِهِ اتَّهَمَهُ فِي حُكْمِهِ أَيْ , وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ لَسْت بِمُؤْمِنٍ فَقَالَ , وَبِمَ كَفَّرْتنِي قَالَ لَهُ قَالَ تَعَالَى { فَلَا وَرَبِّك لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْت وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } ا هـ . ((2/410)
الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ ) أَنَّ كُلَّ مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْحُكْمُ تَتَأَتَّى فِيهِ الْفَتْوَى , وَلَا عَكْسَ , وَذَلِكَ أَنَّ الْعِبَادَاتِ كُلَّهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا يَدْخُلُهَا الْحُكْمُ أَلْبَتَّةَ بَلْ إنَّمَا تَدْخُلُهَا الْفُتْيَا فَقَطْ فَكُلُّ مَا وُجِدَ بِهَا مِنْ الْإِخْبَارَاتِ فَهِيَ فُتْيَا فَقَطْ فَلَيْسَ لِحَاكِمٍ أَنْ يَحْكُمَ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ صَحِيحَةٌ أَوْ بَاطِلَةٌ , وَلَا أَنَّ هَذَا الْمَاءَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَيَكُونُ بِحُلُولِ قَلِيلِ نَجَاسَةٍ فِيهِ لَمْ تُغَيِّرْهُ نَجِسًا فَيَحْرُمُ عَلَى الْمَالِكِيِّ بَعْدَ ذَلِكَ اسْتِعْمَالُهُ بَلْ مَا يُقَالُ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ فُتْيَا إنْ كَانَتْ مَذْهَبَ السَّامِعِ عَمِلَ بِهَا , وَإِلَّا فَلَهُ تَرْكُهَا , وَالْعَمَلُ بِمَذْهَبِهِ قَالَهُ الْأَصْلُ , وَصَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ رحمه الله تعالى قَالَ الْأَصْلُ , وَيَلْحَقُ بِالْعِبَادَاتِ أَسْبَابُهَا فَإِذَا شَهِدَ بِهِلَالِ رَمَضَانَ شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَأَثْبَتَهُ حَاكِمٌ شَافِعِيٌّ , وَنَادَى فِي الْمَدِينَةِ بِالصَّوْمِ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّ لِأَنَّ ذَلِكَ فُتْيَا لَا حُكْمٌ , وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ حَاكِمٌ قَدْ ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّ الدَّيْنَ يُسْقِطُ الزَّكَاةَ أَوْ لَا يُسْقِطُهَا أَوْ مِلْكُ نِصَابٍ مِنْ الْحُلِيِّ الْمُتَّخَذِ لِاسْتِعْمَالِ مُبَاحٍ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ أَوْ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الزَّكَاةَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْأَضَاحِيِّ وَالْعَقِيقَةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا أَوْ فِي أَسْبَابِهَا لَا يَلْزَمُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَنْ لَا يَعْتَقِدُهُ بَلْ يَتْبَعُ مَذْهَبَهُ فِي نَفْسِهِ , وَلَا يَلْزَمُهُ قَوْلُ ذَلِكَ الْقَائِلِ لَا(2/411)
فِي عِبَادَةٍ , وَلَا فِي سَبَبِهَا وَلَا شَرْطِهَا وَلَا مَانِعِهَا , وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ قَالَ لَا تُقِيمُوا الْجُمُعَةَ إلَّا بِإِذْنِي لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُكْمًا , وَإِنْ كَانَتْ مَسْأَلَةً مُخْتَلَفًا فِيهَا هَلْ تَفْتَقِرُ الْجُمُعَةِ إلَى إذْنِ السُّلْطَانِ أَمْ لَا , وَلِلنَّاسِ أَنْ يُقِيمُوهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ صُورَةُ الْمُشَاقَّةِ , وَخَرْقُ أُبَّهَةِ الْوِلَايَةِ , وَإِظْهَارُ الْعِنَادِ وَالْمُخَالَفَةِ فَتَمْتَنِعُ إقَامَتُهَا بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِأَجْلِ ذَلِكَ لَا لِأَنَّهُ مَوْطِنُ خِلَافٍ اتَّصَلَ بِهِ حُكْمُ حَاكِمٍ , وَقَدْ قَالَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ , وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ا هـ بِلَفْظِهِ . قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الشَّاطِّ رحمه الله تعالى , وَفِيمَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ نَظَرٌ إذْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ حُكْمَ الشَّافِعِيِّ بِثُبُوتِ هِلَالِ رَمَضَانَ بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ حُكْمٌ يَلْزَمُ جَمِيعَ أَهْلِ الْبَلَدِ , وَكَذَلِكَ يَلْزَمُ غَيْرَ ذَلِكَ الْحَاكِمَ مِمَّنْ يُخَالِفُ مَذْهَبُهُ مَذْهَبَهُ مَا بُنِيَ عَلَى ذَلِكَ الثُّبُوتِ كَمَا إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنَّ الدَّيْنَ لَا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ , وَأَرَادَ أَخْذَهَا مِمَّنْ يُخَالِفُ مَذْهَبُهُ مَذْهَبَهُ أَنَّهُ لَا يَسُوغُ لَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ دَفْعِهَا لَهُ , وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَ , وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُ الْإِمَامِ لَا تُقِيمُوا الْجُمُعَةَ إلَّا بِإِذْنِي حُكْمُ حَاكِمٍ اتَّصَلَ بِأَمْرٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ فَيَتَعَيَّنُ الْوُقُوفُ عِنْدَ حُكْمِهِ كَمَا قَالَهُ ذَلِكَ الْفَقِيهُ فَهُوَ الصَّحِيحُ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ا هـ .(2/412)
قُلْت وَخَالَفَهُ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي تَبْصِرَتِهِ فِي قَوْلِهِ , وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُ الْإِمَامِ إلَخْ حَيْثُ وَافَقَ مَا نَقَلَهُ عَنْ الشَّيْخِ سِرَاجِ الدِّينِ عُمَرَ الْبُلْقِينِيِّ رحمه الله تعالى مِنْ قَوْلِهِ وَلَقَدْ عَجِبْت مِنْ قَاضٍ حَضَرَ عِنْدَ سُلْطَانٍ , وَوَقَعَ الْكَلَامُ فِي صِحَّةِ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِي جَامِعٍ بَنَاهُ ذَلِكَ السُّلْطَانُ فَلَمَّا تَكَلَّمُوا فِي الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي نَحْكُمُ بِصِحَّةِ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِيهِ , وَهَذَا الْكَلَامُ بَاطِلٌ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَدْخُلَ ذَلِكَ , وَلَا نَحْوُهُ تَحْتَ الْحُكْمِ اسْتِقْلَالًا , وَلَا تَضَمُّنًا عَلَى الْإِطْلَاقِ لَكِنْ يَدْخُلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَاقِعَةٍ خَاصَّةٍ مِنْ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى صِحَّةِ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِي هَذَا الْمَكَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى إلْزَامِ الشَّخْصِ لَا مُطْلَقًا ا هـ .(2/413)
وَأَمَّا مَا يَتَأَتَّى فِيهِ حُكْمُ الْحَاكِمِ فَضَبَطَهُ الْأَصْلُ بِأَرْبَعَةِ قُيُودٍ فَقَالَ إنَّمَا يُؤَثِّرُ حُكْمُ الْحَاكِمِ إذَا أَنْشَأَهُ فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ تَتَقَارَبُ فِي الْمَدَارِكِ لِأَجْلِ مَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ قَالَ فَقَيْدُ الْإِنْشَاءِ احْتِرَازٌ مِنْ حُكْمِهِ فِي مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّ ذَلِكَ إخْبَارٌ وَتَنْفِيذٌ مَحْضٌ , وَأَمَّا فِي مَوَاضِعِ الْخِلَافِ فَهُوَ يُنْشِئُ حُكْمًا , وَهُوَ إلْزَامُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ قِيلَ بِهِمَا فِي الْمَسْأَلَةِ , وَيَكُونُ إنْشَاؤُهُ إخْبَارًا خَاصًّا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي تِلْكَ الصُّورَةِ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوَاطِنِ الْخِلَافِ نَصًّا وَرَدَ مِنْ قِبَلِهِ فِي خُصُوصِ تِلْكَ الصُّورَةِ فَإِذَا قَضَى الْمَالِكِيُّ فِيمَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ بَعْدَ وُضُوءُهُ بِنَقْضِ وُضُوئِهِ أَوْ قَضَى فِي امْرَأَةٍ عُلِّقَ طَلَاقُهَا قَبْلَ الْمِلْكِ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ تَنَاوَلَ هَذِهِ الصُّورَةَ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى عَدَمِ نَقْضِ الْوُضُوءِ وَعَدَمِ لُزُومِ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْحَنَفِيِّ وَالشَّافِعِيِّ , وَكَانَ حُكْمُ الْمَالِكِيِّ بِالنَّقْضِ وَلُزُومِ الطَّلَاقِ نَصًّا خَاصًّا تَخْتَصُّ بِهِ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الْمُعَيَّنَةُ , وَهُوَ نَصٌّ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ ذَلِكَ لِلْحُكَّامِ رَفْعًا لِلْخُصُومَاتِ وَالْمُشَاجَرَاتِ , وَهَذَا النَّصُّ الْوَارِدُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ الدَّلِيلِ الْعَامِّ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ , وَيَصِيرُ حُكْمُ الْمَالِكِيِّ مَثَلًا مَذْهَبًا لِغَيْرِهِ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ الْأُصُولِيَّةَ تَقْدِيمُ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ إذَا تَعَارَضَا فَلِذَلِكَ لَا يَرْجِعُ الشَّافِعِيُّ(2/414)
يُفْتِي بِمُقْتَضَى دَلِيلِهِ الْعَامِّ الشَّامِلِ لِجُمْلَةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مِنْهَا لِأَنَّهَا قَدْ تَنَاوَلَهَا نَصٌّ خَاصٌّ بِهَا مُخْرِجٌ لَهَا عَنْ مُقْتَضَى ذَلِكَ الدَّلِيلِ الْعَامِّ , وَإِنَّمَا يُفْتِي الشَّافِعِيُّ بِمُقْتَضَى دَلِيلِهِ الْعَامِّ فِيمَا عَدَا هَذِهِ الصُّورَةِ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ . وَكَذَلِكَ إذَا حَكَمَ الشَّافِعِيُّ بِاسْتِمْرَارِ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا خَرَجَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ عَنْ دَلِيلِ الْمَالِكِيِّ , وَلَزِمَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِهَا بِلُزُومِ النِّكَاحِ وَدَوَامِهِ , وَفِي غَيْرِهَا بِلُزُومِ الطَّلَاقِ لِأَجْلِ مَا أَنْشَأَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ الْحُكْمِ تَقْدِيمًا لِلْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ فَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْإِنْشَاءِ , وَقُيِّدَ فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ احْتِرَازًا عَنْ مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّ الْحُكْمَ هُنَالِكَ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ فَيَتَعَذَّرُ فِيهِ الْإِنْشَاءُ لِتَعَيُّنِهِ وَثُبُوتِهِ إجْمَاعًا , وَقُيِّدَ تَتَقَارَبُ مَدَارِكُهَا احْتِرَازًا مِنْ الْخِلَافِ الشَّاذِّ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْمُدْرَكِ الضَّعِيفِ فَإِنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْخِلَافَ بَلْ يُنْقَضُ فِي نَفْسِهِ إذَا حُكِمَ بِالْفَتْوَى الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْمُدْرَكِ الضَّعِيفِ , وَقُيِّدَ لِأَجْلِ مَصَالِحِ الدُّنْيَا احْتِرَازًا مِنْ الْعِبَادَاتِ كَالْفَتْوَى بِتَحْرِيمِ السِّبَاعِ وَطَهَارَةِ الْأَوَانِي , وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ اخْتِلَافُ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهِ لَا لِلدُّنْيَا بَلْ لِلْآخِرَةِ بِخِلَافِ الِاخْتِلَافِ فِي الْعُقُودِ وَالْأَمْلَاكِ وَالرُّهُونِ وَالْأَوْقَافِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا يَكُونُ إلَّا لِمَصَالِحِ الدُّنْيَا .(2/415)
وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ قِسْمَانِ : ( الْأَوَّلُ ) مَا يَقْبَلُ حُكْمَ الْحَاكِمِ مَعَ الْفَتْوَى فَيَجْتَمِعُ الْحُكْمَانِ ( وَالثَّانِي ) مَا لَا يَقْبَلُ إلَّا الْفَتْوَى , وَيَظْهَرُ لَك بِهَذَا أَيْضًا تَصَرُّفُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا وَقَعَ هَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْفَتْوَى أَوْ مِنْ بَابِ الْقَضَاءِ وَالْإِنْشَاءِ , وَأَيْضًا يَظْهَرُ أَنَّ إخْبَارَ الْحَاكِمِ عَنْ نِصَابٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ أَنَّهُ يُوجِبُ الزَّكَاةَ فَتْوَى , وَأَمَّا أَخْذُهُ لِلزَّكَاةِ فِي مَوَاطِنِ الْخِلَافِ فَحُكْمٌ وَفَتْوَى مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ تَنَازُعٌ بَيْنَ الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ فِي الْمَالِ الَّذِي هُوَ مَصْلَحَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ , وَلِذَلِكَ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ السُّعَاةِ وَالْجُبَاةِ فِي الزَّكَاةِ أَحْكَامٌ لَا نَنْقُضُهَا , وَإِنْ كَانَتْ الْفَتْوَى عِنْدَنَا عَلَى خِلَافِهَا ا هـ . وَوَافَقَهُ عَلَى هَذَا الضَّابِطُ الْعَلَّامَةُ التَّسَوُّلِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْعَاصِمِيَّةِ إلَّا أَنَّهُ جَعَلَ الْقُيُودَ ثَلَاثَةً مُسْتَغْنِيًا عَنْ قَيْدِ الْإِنْشَاءِ بِقَيْدٍ فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ لِاتِّحَادِ الْمَخْرَجِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا كَمَا تُرْشِدُ لِذَلِكَ عِبَارَةُ الْأَصْلِ .(2/416)
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِبَارَةُ التَّسَوُّلِيِّ فِي الْفَرْقِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا فَلَا تَغْفُلْ , وَخَالَفَهُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي تَبْصِرَتِهِ أَوَّلًا فِي كَوْنِ غَيْرِ الْعِبَادَاتِ يَدْخُلُهَا الْحُكْمُ مُطْلَقًا كَانَتْ مِنْ مَوَاطِنِ الْخِلَافِ أَوْ الْإِجْمَاعِ فَقَالَ إنَّ دُخُولَ الْحُكْمِ فِي النِّكَاحِ وَتَوَابِعِهِ بِالصِّحَّةِ , وَالْمُوجِبُ اسْتِقْلَالٌ وَاضِحٌ , وَكَذَا سَائِرُ الْمُعَاوَضَاتِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْقِرَاضِ وَالرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ وَالْمُسَاقَاتِ وَالْقِسْمَةِ وَالشُّفْعَةِ وَالْعَارِيَّةِ الْوَدِيعَةِ وَالْحَبْسِ وَالْوَكَالَةِ وَالْحَوَالَةِ وَالْحَمَالَةِ وَالضَّمَانِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الْمُعَاوَضَاتِ كُلِّهَا يَدْخُلُهَا الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ , وَبِالْمُوجِبِ فَلَا نُطَوِّلُ بِالتَّمْثِيلِ , وَمِنْهَا الصَّيْدُ فَإِذَا تَنَازَعَ اثْنَانِ فِي صَيْدٍ , وَتَرَافَعَا إلَى الْحَاكِمِ , وَتَصَادَقَا عَلَى فِعْلَيْنِ صَدَرَا مِنْهُمَا عَلَى التَّرْتِيبِ مَثَلًا أَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى ذَلِكَ , وَكَانَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْحَاكِمِ أَنَّهُ لِلْأَوَّلِ أَوْ لِلثَّانِي فَحَكَمَ لَهُ بِأَنَّهُ الْمَالِكُ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا مُسْتَقِلًّا صَحِيحًا , وَثَابِتًا فِي الْعِبَادَاتِ , فَقَسَمَهَا بِاعْتِبَارِ دُخُولِ الْحُكْمِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : ( الْأَوَّلُ ) مَا يَدْخُلُهُ الْحُكْمُ اسْتِقْلَالًا , وَهُوَ الزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ قَالَ أَمَّا الزَّكَاةُ فَيَدْخُلُهَا الْحُكْمُ اسْتِقْلَالًا , وَذَلِكَ مِثْلُ مَا لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ يَرَى جَوَازَ إخْرَاجِ الْقِيمَةِ فِي الزَّكَاةِ بِصِحَّةِ الْإِخْرَاجِ أَوْ بِمُوجِبِهِ عِنْدَهُ , وَهُوَ سُقُوطُ الْفَرْضِ بِذَلِكَ كَانَ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ , وَالْمُوجِبُ فِي(2/417)
ذَلِكَ سَوَاءً , وَلَيْسَ لِلسَّاعِي إذَا كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ مُخَالِفًا لِمَذْهَبِهِ أَنْ يُطَالِبَ الْمَالِكَ بِإِخْرَاجِ الْوَاجِبِ عِنْدَهُ سَوَاءٌ حَكَمَ بِالصِّحَّةِ أَوْ حَكَمَ بِالْمُوجِبِ . وَأَمَّا الصَّوْمُ فَيَدْخُلُهُ أَيْضًا , وَذَلِكَ إذَا صَامَ الْوَلِيُّ الْوَارِثُ عَنْ الْمَيِّتِ , وَطَلَبَ الْوَصِيُّ أَنْ يُخْرَجَ الطَّعَامُ فَامْتَنَعَ الْوَارِثُ مِنْهُ , وَتَرَافَعَا إلَى حَاكِمٍ يَرَى صِحَّةَ الصَّوْمِ عَنْ الْمَيِّتِ فَحَكَمَ بِصِحَّتِهِ أَوْ بِمُوجِبِهِ فَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُخْرِجَ الطَّعَامَ حِينَئِذٍ , وَلَا أَنْ يُطَالِبَ الْوَارِثَ بِذَلِكَ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْحُكْمِ .
وفي إحكام الأحكام :
120 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ { عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم التَّشَهُّدَ - كَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ - كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ : التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ , وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ , السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ . السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ . أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ } وَفِي لَفْظٍ { إذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَقُلْ : التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ - وَذَكَرَهُ - وَفِيهِ : فَإِنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَقَدْ سَلَّمْتُمْ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ - وَفِيهِ - فَلْيَتَخَيَّرْ مِنْ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ } .(2/418)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُخْتَارِ مِنْ أَلْفَاظِ التَّشَهُّدِ . فَإِنَّ الرِّوَايَاتِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ . فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ : بِاخْتِيَارِ تَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا . وَقِيلَ : إنَّهُ أَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي التَّشَهُّدِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ بِاخْتِيَارِ تَشَهُّدِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَهُوَ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ , لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ . وَرَجَّحَ مَنْ اخْتَارَ تَشَهُّدَ ابْنِ مَسْعُودٍ - بَعْدَ كَوْنِهِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِأَنَّ وَاوَ الْعَطْفِ تَقْتَضِي الْمُغَايِرَةَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ . فَتَكُونُ كُلُّ جُمْلَةٍ ثَنَاءً مُسْتَقِلًّا . وَإِذَا أُسْقِطَتْ وَاوُ الْعَطْفِ : كَانَ مَا عَدَا اللَّفْظِ الْأَوَّلِ صِفَةً لَهُ . فَيَكُونُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي الثَّنَاءِ . وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ . فَكَانَ أَوْلَى . وَزَادَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ فِي تَقْرِيرِ هَذَا بِأَنْ قَالَ : لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ , وَالرَّحْمَنِ , وَالرَّحِيمِ " لَكَانَتْ أَيْمَانًا مُتَعَدِّدَةً تَتَعَدَّدُ بِهَا الْكَفَّارَةُ . وَلَوْ قَالَ " وَاَللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " لَكَانَتْ يَمِينًا وَاحِدَةً . فِيهَا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ . هَذَا أَوْ مَعْنَاهُ . وَرَأَيْتُ بَعْضَ مَنْ رَجَّحَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ - فِي اخْتِيَارِ تَشَهُّدِ ابْنِ عَبَّاسٍ - أَجَابَ عَنْ هَذَا بِأَنْ قَالَ : وَاوُ الْعَطْفِ . قَدْ تَسْقُطُ . وَأَنْشَدَ فِي ذَلِكَ : كَيْفَ أَصْبَحْتُ كَيْفَ أَمْسَيْتُ مِمَّا وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ كَيْفَ أَصْبَحْتُ وَكَيْفَ أَمْسَيْتُ . وَهَذَا أَوَّلًا إسْقَاطٌ لِلْوَاوِ الْعَاطِفَةِ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ .(2/419)
وَمَسْأَلَتُنَا فِي إسْقَاطِهَا فِي عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ وَهُوَ أَضْعَفُ مِنْ إسْقَاطِهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ وَلَوْ كَانَ غَيْرَ ضَعِيفٍ لَمْ يَمْتَنِعْ التَّرْجِيحُ بِوُقُوعِ التَّصْرِيحِ بِمَا يَقْتَضِي تَعَدُّدَ الثَّنَاءِ , بِخِلَافِ مَا لَمْ يُصَرَّحْ بِهِ فِيهِ . وَتَرْجِيحٌ آخَرُ لِتَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ : وَهُوَ أَنَّ " السَّلَامَ " مُعَرَّفٌ فِي تَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ , مُنَكَّرٌ فِي تَشَهُّدِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالتَّعْرِيفُ أَعَمُّ . وَاخْتَارَ مَالِكٌ تَشَهُّدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه الَّذِي عَلَّمَهُ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَرَجَّحَهُ أَصْحَابُهُ بِشُهْرَةِ هَذَا التَّعْلِيمِ , وَوُقُوعِهِ عَلَى رُءُوسِ الصَّحَابَةِ , مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَيَكُونُ كَالْإِجْمَاعِ . وَيَتَرَجَّحُ عَلَيْهِ تَشَهُّدُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنْ رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُصَرَّحٌ بِهِ . وَرَفَعَ تَشَهُّدَ عُمَرَ بِطَرِيقٍ اسْتِدْلَالِيٍّ . وَقَدْ رُجِّحَ اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ لِتَشَهُّدِ ابْنِ عَبَّاسٍ : بِأَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْعِنَايَةِ بِتَعَلُّمِهِ وَتَعْلِيمِهِ . وَهُوَ قَوْلُهُ " كَانَ يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ " وَهَذَا تَرْجِيحٌ مُشْتَرَكٌ . لِأَنَّ هَذَا أَيْضًا وَرَدَ فِي تَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ , كَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ . وَرُجِّحَ اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةً " الْمُبَارَكَات " وَبِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى لَفْظِ الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } . " وَالتَّحِيَّاتُ " جَمْعُ التَّحِيَّةِ . وَهِيَ الْمُلْكُ . وَقِيلَ : السَّلَامُ . وَقِيلَ : الْعَظَمَةُ .(2/420)
وَقِيلَ : الْبَقَاءُ . فَإِذَا حُمِلَ عَلَى " السَّلَامِ " فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ : التَّحِيَّاتُ الَّتِي تُعَظَّمُ بِهَا الْمُلُوكُ - مَثَلًا - مُسْتَحَقَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى . وَإِذَا حُمِلَ عَلَى " الْبَقَاءِ " فَلَا شَكَّ فِي اخْتِصَاصِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ . وَإِذَا حُمِلَ عَلَى " الْمُلْكِ وَالْعَظَمَةِ " فَيَكُونُ مَعْنَاهُ : الْمُلْكَ الْحَقِيقِيَّ التَّامَّ لِلَّهِ . وَالْعَظَمَةَ الْكَامِلَةَ لِلَّهِ . لِأَنَّ مَا سِوَى مُلْكِهِ وَعَظَمَتِهِ تَعَالَى فَهُوَ نَاقِصٌ . " وَالصَّلَوَاتُ " يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الصَّلَوَاتُ الْمَعْهُودَةُ . وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ : إنَّهَا وَاجِبَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى . لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْصَدَ بِهَا غَيْرُهُ , أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ إخْبَارًا عَنْ إخْلَاصِنَا الصَّلَوَاتِ لَهُ , أَيْ إنَّ صَلَوَاتِنَا مُخْلَصَةٌ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالصَّلَوَاتِ : الرَّحْمَةُ . وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ " لِلَّهِ " أَيْ الْمُتَفَضِّلُ بِهَا وَالْمُعْطِي : هُوَ اللَّهُ . لِأَنَّ الرَّحْمَةَ التَّامَّةَ لِلَّهِ تَعَالَى , لَا لِغَيْرِهِ . وَقَرَّرَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي هَذَا فَصْلًا . بِأَنْ قَالَ مَا مَعْنَاهُ إنَّ كُلَّ مَنْ رَحِمَ أَحَدًا فَرَحْمَتُهُ لَهُ بِسَبَبِ مَا حَصَلَ لَهُ عَلَيْهِ مِنْ الرِّقَّةِ . فَهُوَ بِرَحْمَتِهِ دَافِعٌ لِأَلَمِ الرِّقَّةِ عَنْ نَفْسِهِ , بِخِلَافِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى . فَإِنَّهَا لِمُجَرَّدِ إيصَالِ النَّفْعِ إلَى الْعَبْدِ . وَأَمَّا " الطَّيِّبَاتُ " فَقَدْ فُسِّرَتْ بِالْأَقْوَالِ الطَّيِّبَاتِ . وَلَعَلَّ تَفْسِيرَهَا بِمَا هُوَ أَعَمُّ أَوْلَى . أَعْنِي : الطَّيِّبَاتِ مِنْ الْأَفْعَالِ , وَالْأَقْوَالِ , وَالْأَوْصَافِ .(2/421)
وَطَيِّبُ الْأَوْصَافِ : بِكَوْنِهَا بِصِفَةِ الْكَمَالِ وَخُلُوصِهَا عَنْ شَوَائِبِ النَّقْصِ . وَقَوْلُهُ " السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ " قِيلَ : مَعْنَاهُ التَّعَوُّذُ بِاسْمِ اللَّهِ , الَّذِي هُوَ " السَّلَامُ " كَمَا تَقُولُ : اللَّهُ مَعَكَ , أَيْ اللَّهُ مُتَوَلِّيكَ , وَكَفِيلٌ بِكَ . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ السَّلَامُ وَالنَّجَاةُ لَكُمْ , كَمَا فِي قوله تعالى { فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ } وَقِيل الِانْقِيَادِ لَكَ , كَمَا فِي قوله تعالى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَلَيْسَ يَخْلُو بَعْضُ هَذَا مِنْ ضَعْفٍ . لِأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى " السَّلَامُ " بِبَعْضِ هَذِهِ الْمَعَانِي بِكَلِمَةِ " عَلَى " . وَقَوْلُهُ " السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ " لَفْظُ عُمُومٍ . وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عليه السلام " فَإِنَّهُ إذَا قَالَ ذَلِكَ : أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ " وَقَدْ كَانُوا يَقُولُونَ " السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ . السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ " حَتَّى عُلِّمُوا هَذِهِ اللَّفْظَةَ مِنْ قِبَلِهِ عليه السلام , وَفِي قَوْلِهِ عليه السلام " فَإِنَّهُ إذَا قَالَ ذَلِكَ : أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْعُمُومِ صِيغَةً . وَأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لِلْعُمُومِ . كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ , خِلَافًا لِمَنْ تَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ . وَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ , وَتَصَرُّفَاتِ أَلْفَاظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عِنْدَنَا . وَمَنْ تَتَبَّعَ ذَلِكَ وَجَدَهُ .(2/422)
وَاسْتِدْلَالُنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ ذِكْرٌ لِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادٍ لَا يُحْصِي الْجَمْعُ لِأَمْثَالِهَا , لَا لِلِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ . وَإِنَّمَا خُصَّ " الْعِبَادُ الصَّالِحُونَ " لِأَنَّهُ كَلَامُ ثَنَاءٍ وَتَعْظِيمٍ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " ثُمَّ لِيَتَخَيَّرْ مِنْ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ " دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ كُلِّ سُؤَالٍ يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ , إلَّا أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : اسْتَثْنَى بَعْضَ صُوَرٍ مِنْ الدُّعَاءِ تَقْبُحُ , مَا لَوْ قَالَ : اللَّهُمَّ أَعْطِنِي امْرَأَةً صِفَتُهَا كَذَا وَكَذَا . وَأَخَذَ يَذْكُرُ أَوْصَافَ أَعْضَائِهَا . وَيُسْتَدَلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى عَدَمِ كَوْنِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رُكْنًا فِي التَّشَهُّدِ , مِنْ حَيْثُ إنَّ النَّبِيَّ قَدْ عَلَّمَ التَّشَهُّدَ , وَأَمَرَ عَقِيبَةَ : أَنْ يَتَخَيَّرَ مِنْ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ . وَلَمْ يُعَلِّمْ ذَلِكَ . وَمَوْضِعُ التَّعْلِيمِ لَا يُؤَخَّرُ وَقْتُ بَيَانِ الْوَاجِبِ عَنْهُ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وقال ابن تيمية :(2/423)
وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِالِاسْتِجْمَارِ بِالْأَحْجَارِ , لَمْ يَخْتَصَّ الْحَجَرُ إلَّا لِأَنَّهُ كَانَ الْمَوْجُودَ غَالِبًا , لَا لِأَنَّ الِاسْتِجْمَارَ بِغَيْرِهِ لَا يَجُوزُ , بَلْ الصَّوَابُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ فِي جَوَازِ الِاسْتِجْمَارِ بِغَيْرِهِ , كَمَا هُوَ أَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ ; لِنَهْيِهِ عَنْ الِاسْتِجْمَارِ بِالرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ , وَقَالَ : { إنَّهُمَا طَعَامُ إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ } . فَلَمَّا نَهَى عَنْ هَذَيْنِ تَعْلِيلًا بِهَذِهِ الْعِلَّةِ , عُلِمَ أَنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالْحَجَرِ , وَإِلَّا لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ , هُوَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ لِكَوْنِهِ كَانَ قُوتًا لِلنَّاسِ , فَأَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ يُخْرِجُونَ مِنْ قُوتِهِمْ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْأَصْنَافِ الْخَمْسَةِ , كَاَلَّذِينَ يَقْتَاتُونَ الرُّزَّ , أَوْ الذُّرَةَ يُخْرِجُونَ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ , وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ . وَلَيْسَ نَهْيُهُ عَنْ الِاسْتِجْمَارِ بِالرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ إذْنًا فِي الِاسْتِجْمَارِ بِكُلِّ شَيْءٍ , بَلْ الِاسْتِجْمَارُ بِطَعَامِ الْآدَمِيِّينَ , وَعَلَفِ دَوَابِّهِمْ , أَوْلَى بِالنَّهْيِ عَنْهُ مِنْ طَعَامِ الْجِنِّ , وَعَلَفِ دَوَابِّهِمْ , وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ مِنْ عَادَةِ النَّاسِ أَنَّهُمْ لَا يَتَوَقَّوْنَ الِاسْتِجْمَارَ بِمَا نَهَى عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ , بِخِلَافِ طَعَامِ الْإِنْسِ وَعَلَفِ دَوَابِّهِمْ , فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ مَنْ يَفْعَلُهُ فِي الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ .(2/424)
وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْأَصْنَافُ الْخَمْسَةُ نَهَى عَنْهَا , وَقَدْ سُئِلَ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ , وَظَاهِرُ لَفْظِهِ أَنَّهُ أَذِنَ فِيمَا سِوَاهَا ; لِأَنَّهُ سُئِلَ عَمَّا يَلْبَسُ لَا عَمَّا لَا يَلْبَسُ , فَلَوْ لَمْ يُفِدْ كَلَامُهُ الْإِذْنَ فِيمَا سِوَاهَا لَمْ يَكُنْ قَدْ أَجَابَ السَّائِلَ , لَكِنْ كَانَ الْمَلْبُوسُ الْمُعْتَادُ عِنْدَهُمْ مِمَّا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ هَذِهِ الْخَمْسَةَ . وَالْقَوْمُ لَهُمْ عَقْلٌ وَفِقْهٌ , فَيَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ إذَا نَهَى عَنْ الْقَمِيصِ وَهُوَ طَاقٌ وَاحِدٌ , فَلَأَنْ يَنْهَى عَنْ الْمُبَطَّنَةِ , وَعَنْ الْجُبَّةِ الْمَحْشُوَّةِ , وَعَنْ الْفَرْوَةِ الَّتِي هِيَ كَالْقَمِيصِ , وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى ; لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ فِيهَا مَا فِي الْقَمِيصِ وَزِيَادَةٌ , فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ فِيهَا مَعَ نَهْيِهِ عَنْ الْقَمِيصِ . وَكَذَلِكَ التُّبَّانُ أَبْلَغُ مِنْ السَّرَاوِيلِ , وَالْعِمَامَةُ تُلْبَسُ فِي الْعَادَةِ فَوْقَ غَيْرِهَا , إمَّا قَلَنْسُوَةً , أَوْ كَلْثَمَةً , أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ , فَإِذَا نَهَى عَنْ الْعِمَامَةِ الَّتِي لَا تُبَاشِرُ الرَّأْسَ فَنَهْيُهُ عَنْ الْقَلَنْسُوَةِ , وَالْكَلْثَمَةِ , وَنَحْوِهَا مِمَّا يُبَاشِرُ الرَّأْسَ أَوْلَى , فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى تَخْمِيرِ الرَّأْسِ , وَالْمُحْرِمُ أَشْعَثُ أَغْبَرُ . وَلِهَذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ - حَدِيثِ الْمُبَاهَاةِ - { إنَّهُ يَدْنُو عَشِيَّةَ عَرَفَةَ , فَيُبَاهِي الْمَلَائِكَةَ بِأَهْلِ الْمَوْقِفِ فَيَقُولُ : اُنْظُرُوا إلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا , مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ } .(2/425)
وَشُعْثُ الرَّأْسِ وَاغْبِرَارُهُ لَا يَكُونُ مَعَ تَخْمِيرِهِ , فَإِنَّ الْمُخَمَّرَ لَا يُصِيبُهُ الْغُبَارُ , وَلَا يَشْعَثُ بِالشَّمْسِ , وَالرِّيحِ وَغَيْرِهِمَا ; وَلِهَذَا كَانَ مَنْ لَبَّدَ رَأْسَهُ يَحْصُلُ لَهُ نَوْعُ مُتْعَةٍ بِذَلِكَ يُؤْمَرُ بِالْحَلْقِ فَلَا يُقَصِّرُ . وَهَذَا بِخِلَافِ الْقُعُودِ فِي ظِلٍّ , أَوْ سَقْفٍ أَوْ خَيْمَةٍ , أَوْ شَجَرٍ أَوْ ثَوْبٍ يُظَلُّ بِهِ , فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , وَالْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الشُّعْثَ وَلَا الِاغْبِرَارَ , وَلَيْسَ فِيهِ تَخْمِيرُ الرَّأْسِ . وَإِنَّمَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِيمَنْ يَسْتَظِلُّ بِالْمُحْمَلِ ; لِأَنَّهُ مُلَازِمٌ لِلرَّاكِبِ كَمَا تُلَازِمُهُ الْعِمَامَةُ , لَكِنَّهُ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ , فَمَنْ نَهَى عَنْهُ اعْتَبَرَ مُلَازَمَتَهُ لَهُ , وَمَنْ رَخَّصَ فِيهِ اعْتَبَرَ انْفِصَالَهُ عَنْهُ , فَأَمَّا الْمُنْفَصِلُ الَّذِي لَا يُلَازِمُ , فَهَذَا يُبَاحُ بِالْإِجْمَاعِ , وَالْمُتَّصِلُ الْمُلَازِمُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَمَنْ لَمْ يَلْحَظْ الْمَعَانِيَ مِنْ خِطَابِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَلَا يَفْهَمُ تَنْبِيهَ الْخِطَابِ وَفَحْوَاهُ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ كَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ قَوْلَهُ : { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } .(2/426)
لَا يُفِيدُ النَّهْيَ عَنْ الضَّرْبِ , وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ دَاوُد , وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَزْمٍ , وَهَذَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ , بَلْ وَكَذَلِكَ قِيَاسُ الْأَوْلَى , وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْخِطَابُ , لَكِنْ عُرِفَ أَنَّهُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنْ الْمَنْطُوقِ بِهَذَا , فَإِنْكَارُهُ مِنْ بِدَعِ الظَّاهِرِيَّةِ الَّتِي لَمْ يَسْبِقْهُمْ بِهَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ , فَمَا زَالَ السَّلَفُ يَحْتَجُّونَ بِمِثْلِ هَذَا . وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ إذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ كَرَّرَهَا ثَلَاثًا , قَالُوا : مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ } فَإِذَا كَانَ هَذَا بِمُجَرَّدِ الْخَوْفِ مِنْ بَوَائِقِهِ , فَكَيْفَ فِعْلُ الْبَوَائِقِ مَعَ عَدَمِ أَمْنِ جَارِهِ مِنْهُ , كَمَا فِي الصَّحِيحِ : عَنْهُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : { أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلْقَك . قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك . قِيلَ : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجَارَ لَا يَعْرِفُ هَذَا فِي الْعَادَةِ , فَهَذَا أَوْلَى بِسَلْبِ الْإِيمَانِ مِمَّنْ لَا تُؤْمَنُ بَوَائِقُهُ , وَلَمْ يَفْعَلْ مِثْلَ هَذَا . وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : { فَلَا وَرَبِّك لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } .(2/427)
فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ لَا يُؤْمِنُونَ , فَاَلَّذِينَ يُحَكِّمُونَهُ وَيَرَوْنَ حُكْمَهُ , وَإِنْ لَمْ يَجِدُوا حَرَجًا مِمَّا قَضَى ; لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ غَيْرَهُ أَصَحُّ مِنْهُ , أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ سَدِيدٍ , [ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ ] . وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } . فَإِذَا كَانَ بِمُوَادَّةِ الْمُحَادِّ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا , فَأَنْ لَا يَكُونَ مُؤْمِنًا إذَا حَادَّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى . وَكَذَلِكَ إذَا نُهِيَ الرَّجُلُ أَنْ يَسْتَنْجِيَ بِالْعَظْمِ وَالرَّوْثَةِ ; لِأَنَّهُمَا طَعَامُ الْجِنِّ وَعَلَفُ دَوَابِّهِمْ , فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ نَهْيَهُ عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِطَعَامِ الْإِنْسِ وَعَلَفِ دَوَابِّهِمْ أَوْلَى , وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ اللَّفْظُ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ إذَا نُهِيَ عَنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ مَعَ الْإِمْلَاقِ , فَنَهْيُهُ عَنْ ذَلِكَ مَعَ الْغِنَى وَالْيَسَارِ أَوْلَى وَأَحْرَى . فَالتَّخَصُّصُ بِالذِّكْرِ قَدْ يَكُونُ لِلْحَاجَةِ إلَى مَعْرِفَتِهِ , وَقَدْ يَكُونُ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ , فَتَخْصِيصُ الْقَمِيصِ دُونَ الْجِبَابِ , وَالْعَمَائِمِ دُونَ الْقَلَانِسِ , وَالسَّرَاوِيلِ دُونَ التَّبَايُنِ , هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ , لَا لِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ فَقَدْ أَذِنَ فِيهِ .(2/428)
وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ بِصَبِّ دَلْوٍ مِنْ مَاءٍ عَلَى بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ , مَعَ مَا فِيهِ مِنْ اخْتِلَاطِ الْمَاءِ بِالْبَوْلِ وَسَرَيَانِ ذَلِكَ , لَكِنْ قَصَدَ بِهِ تَعْجِيلَ التَّطْهِيرِ , لَا لِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تَزُولُ بِغَيْرِ ذَلِكَ بَلْ الشَّمْسُ وَالرِّيحُ , وَالِاسْتِحَالَةُ تُزِيلُ النَّجَاسَةَ , أَعْظَمُ مِنْ هَذَا ; وَلِهَذَا { كَانَتْ الْكِلَابُ تُقْبِلُ , وَتُدْبِرُ , وَتَبُولُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , وَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ } .(2/429)
143 - 59 مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ إذَا صَلَّى يُشَوِّشُ عَلَى الصُّفُوفِ الَّذِي حَوَالَيْهِ بِالْجَهْرِ بِالنِّيَّةِ وَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ مَرَّةً وَلَمْ يَرْجِعْ , وَقَالَ لَهُ إنْسَانٌ : هَذَا الَّذِي تَفْعَلُهُ مَا هُوَ مِنْ دِينِ اللَّهِ , وَأَنْتَ مُخَالِفٌ فِيهِ السُّنَّةَ . فَقَالَ : هَذَا دِينُ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ , وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا , وَكَذَلِكَ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهَا خَلْفَ الْإِمَامِ . فَهَلْ هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ؟ أَوْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ ؟ أَوْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ؟ أَوْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ , فَإِذَا كَانَ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ وَالْعُلَمَاءُ يَعْمَلُونَ هَذَا فِي الصَّلَاةِ , فَمَاذَا يَجِبُ عَلَى مَنْ يَنْسُبُ هَذَا إلَيْهِمْ وَهُوَ يَعْمَلُهُ ؟ فَهَلْ يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُعِينَهُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ إذَا عَمِلَ هَذَا وَنَسَبَهُ إلَى أَنَّهُ مِنْ الدِّينِ , وَيَقُولُ لِلْمُنْكِرِينَ عَلَيْهِ كُلٌّ يَعْمَلُ فِي دِينِهِ مَا يَشْتَهِي ؟ وَإِنْكَارُكُمْ عَلَيَّ جَهْلٌ , وَهَلْ هُمْ مُصِيبُونَ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا ؟(2/430)
الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ , الْجَهْرُ بِلَفْظِ النِّيَّةِ لَيْسَ مَشْرُوعًا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا فَعَلَهُ أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ وَأَصْحَابِهِ , وَسَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا , وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ ذَلِكَ دِينُ اللَّهِ , وَأَنَّهُ وَاجِبٌ , فَإِنَّهُ يَجِبُ تَعْرِيفُهُ الشَّرِيعَةَ , وَاسْتِتَابَتُهُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ , فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ قُتِلَ , بَلْ النِّيَّةُ الْوَاجِبَةُ فِي الْعِبَادَاتِ كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَحَلُّهَا الْقَلْبُ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . وَالنِّيَّةُ هِيَ الْقَصْدُ وَالْإِرَادَةُ , وَالْقَصْدُ وَالْإِرَادَةُ مَحَلُّهُمَا الْقَلْبُ دُونَ اللِّسَانِ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ .(2/431)
فَلَوْ نَوَى بِقَلْبِهِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ , وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ , وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ عِنْدَ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ , وَيُفْتَى بِقَوْلِهِ , وَلَكِنْ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ زَعَمَ أَنَّ اللَّفْظَ بِالنِّيَّةِ وَاجِبٌ ; وَلَمْ يَقُلْ : إنَّ الْجَهْرَ بِهَا وَاجِبٌ , وَمَعَ هَذَا فَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ صَرِيحٌ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ , وَلِمَا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ مَنْ يَعْلَمُ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسُنَّةَ خُلَفَائِهِ , وَكَيْفَ كَانَ يُصَلِّي الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ , فَإِنَّ كُلَّ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَتَلَفَّظُونَ بِالنِّيَّةِ , وَلَا أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ , وَلَا عَلَّمَهُ لِأَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ , بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ { قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ الْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ : إذَا قُمْتَ إلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ , ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ } . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ , وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ , وَالْقِرَاءَةَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } . وَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةَ كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ .(2/432)
وَلَمْ يَنْقُلْ مُسْلِمٌ لَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَدْ تَلَفَّظَ قَبْلَ التَّكْبِيرِ بِلَفْظِ النِّيَّةِ , لَا سِرًّا وَلَا جَهْرًا وَلَا أَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْهِمَمَ وَالدَّوَاعِيَ مُتَوَفِّرَةٌ عَلَى نَقْلِ ذَلِكَ , لَوْ كَانَ ذَلِكَ , وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَلَى أَهْلِ التَّوَاتُرِ عَادَةً وَشَرْعًا كِتْمَانُ نَقْلِ ذَلِكَ , فَإِذَا لَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ عُلِمَ قَطْعًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ . وَلِهَذَا يَتَنَازَعُ الْفُقَهَاءُ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي اللَّفْظِ بِالنِّيَّةِ : هَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ مَعَ النِّيَّةِ الَّتِي فِي الْقَلْبِ ؟ فَاسْتَحَبَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ , وَالشَّافِعِيِّ , وَأَحْمَدَ . قَالُوا : لِأَنَّهُ أَوْكَدُ , وَأَتَمُّ تَحْقِيقًا لِلنِّيَّةِ , وَلَمْ يَسْتَحِبَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا , وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ , بَلْ رَأَوْا أَنَّهُ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ . قَالُوا : لَوْ أَنَّهُ كَانَ مُسْتَحَبًّا لَفَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ لَأَمَرَ بِهِ ; فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدْ بَيَّنَ كُلَّ مَا يُقَرِّبُ إلَى اللَّهِ , لَا سِيَّمَا الصَّلَاةَ الَّتِي لَا تُؤْخَذُ صِفَتُهَا إلَّا عَنْهُ , وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } . قَالَ هَؤُلَاءِ فَزِيَادَةُ هَذَا وَأَمْثَالِهِ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الزِّيَادَاتِ الْمُحْدَثَةِ فِي الْعِبَادَاتِ , كَمَنْ زَادَ فِي الْعِيدَيْنِ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ , وَمَنْ زَادَ فِي السَّعْيِ صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ عَلَى الْمَرْوَةِ , وَأَمْثَالَ ذَلِكَ .(2/433)
قَالُوا : وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّلَفُّظَ بِالنِّيَّةِ فَاسِدٌ فِي الْعَقْلِ ; فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ أَنْوِي أَنْ أَفْعَلَ كَذَا وَكَذَا , بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْوِي آكُلُ هَذَا الطَّعَامَ لِأَشْبَعَ , وَأَنْوِي أَلْبَسَ هَذَا الثَّوْبَ لَاسْتَتَرَ , وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ النِّيَّاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْقَلْبِ الَّتِي يُسْتَقْبَحُ النُّطْقُ بِهَا , وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } . وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ فِي قَوْلِهِ : { إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ } قَالُوا : لَمْ يَقُولُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ , وَإِنَّمَا عَلِمَهُ اللَّهُ مِنْ قُلُوبِهِمْ , فَأَخْبَرَ بِهِ عَنْهُمْ . وَبِالْجُمْلَةِ : فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ فِي الْقَلْبِ بِلَا نِزَاعٍ . وَأَمَّا التَّلَفُّظُ بِهَا سِرًّا فَهَلْ يُكْرَهُ أَوْ يُسْتَحَبُّ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْمُتَأَخِّرِينَ . وَأَمَّا الْجَهْرُ بِهَا فَهُوَ مَكْرُوهٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ , غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , وَكَذَلِكَ تَكْرِيرُهَا أَشَدُّ وَأَشَدُّ . وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ وَالْمُنْفَرِدُ , فَكُلُّ هَؤُلَاءِ لَا يُشْرَعُ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَجْهَرَ بِلَفْظِ النِّيَّةِ , وَلَا يُكَرِّرُهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ; بَلْ يُنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ , بَلْ جَهْرُ الْمُنْفَرِدِ بِالْقِرَاءَةِ إذَا كَانَ فِيهِ أَذًى لِغَيْرِهِ لَمْ يُشْرَعْ , كَمَا خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ يُصَلُّونَ فَقَالَ : { أَيُّهَا النَّاسُ كُلُّكُمْ يُنَاجِي رَبَّهُ , فَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقِرَاءَةِ } .(2/434)
وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَالسُّنَّةُ لَهُ الْمُخَافَتَةُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , لَكِنْ إذَا جَهَرَ أَحْيَانًا بِشَيْءٍ مِنْ الذِّكْرِ فَلَا بَأْسَ , كَالْإِمَامِ إذَا أَسْمَعَهُمْ أَحْيَانًا الْآيَةَ فِي صَلَاةِ السِّرِّ , فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ { أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ يُسْمِعُهُمْ الْآيَةَ أَحْيَانًا } وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ مِنْ الصَّحَابَةِ الْمَأْمُومِينَ مَنْ جَهَرَ بِدُعَاءٍ حِينَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ , وَعِنْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنْ الرُّكُوعِ , وَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ , وَمَنْ أَصَرَّ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ الْبِدَعِ وَتَحْسِينِهَا فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُعَزَّرَ تَعْزِيرًا يَرْدَعُهُ , وَأَمْثَالَهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ . وَمَنْ نَسَبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْبَاطِلَ خَطَأً , فَإِنَّهُ يُعَرَّفُ , فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ عُوقِبَ , وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي الدِّينِ بِلَا عِلْمٍ وَلَا يُعَيِّنُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الدِّينِ بِلَا عِلْمٍ , أَوْ أَدْخَلَ فِي الدِّينِ مَا لَيْسَ مِنْهُ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : كُلٌّ يَعْمَلُ فِي دِينِهِ الَّذِي يَشْتَهِي . فَهِيَ كَلِمَةٌ عَظِيمَةٌ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ مِنْهَا , وَإِلَّا عُوقِبَ ; بَلْ الْإِصْرَارُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ يُوجِبُ الْقَتْلَ ; فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْمَلَ فِي الدِّينِ إلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , دُونَ مَا يَشْتَهِيهِ وَيَهْوَاهُ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ } .(2/435)
وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } . { وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّك عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } . وَقَالَ : { وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا , أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إنْ هُمْ إلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } . وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ } . قَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِك يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } .(2/436)
وَقَالَ تَعَالَى : { المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إلَيْك فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِك حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذَرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ , اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ } وَأَمْثَالُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَتَّبِعَ الْحَقَّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولُهُ , وَلَا يَجْعَلَ دِينَهُ تَبَعًا لِهَوَاهُ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .(2/437)
145 - 61 مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ حَنَفِيٍّ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ , وَأَسَرَّ نِيَّتَهُ , ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ , فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ فَقِيهُ الْجَمَاعَةِ , وَقَالَ لَهُ : هَذَا لَا يَجُوزُ فِي مَذْهَبِك وَأَنْتَ مُبْتَدِعٌ فِيهِ , وَأَنْتَ مُذَبْذَبٌ , لَا بِإِمَامِك اقْتَدَيْت , وَلَا بِمَذْهَبِك اهْتَدَيْت . فَهَلْ مَا فَعَلَهُ نَقْصٌ فِي صَلَاتِهِ وَمُخَالَفَةٌ لِلسُّنَّةِ وَلِإِمَامِهِ أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . أَمَّا الَّذِي أَنْكَرَ عَلَيْهِ إسْرَارَهُ بِالنِّيَّةِ فَهُوَ جَاهِلٌ فَإِنَّ الْجَهْرَ بِالنِّيَّةِ لَا يَجِبُ وَلَا يُسْتَحَبُّ , لَا فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ , وَلَا أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ; بَلْ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ الْجَهْرُ بِالنِّيَّةِ وَمَنْ جَهَرَ بِالنِّيَّةِ فَهُوَ مُخْطِئٌ , مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الدِّينِ ; بَلْ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ إذَا نَوَى بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِهِ بِالنِّيَّةِ لَا سِرًّا وَلَا جَهْرًا كَانَتْ صَحِيحَةً , وَلَا يَجِبُ التَّكَلُّمُ بِالنِّيَّةِ . لَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ , وَلَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّة , حَتَّى أَنَّ بَعْضَ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لَمَّا ذَكَرَ وَجْهًا مُخَرَّجًا : أَنَّ اللَّفْظَ بِالنِّيَّةِ وَاجِبٌ . غَلَّطَهُ بَقِيَّةُ أَصْحَابِهِ , وَقَالُوا : إنَّمَا أَوْجَبَ الشَّافِعِيُّ النُّطْقَ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ بِالتَّكْبِيرِ , لَا بِالنِّيَّةِ .(2/438)
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ فَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّ النُّطْقَ بِالنِّيَّةِ لَا يَجِبُ , وَكَذَلِكَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ , وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُهُ ; بَلْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ سِرًّا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ : يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ , لَا الْجَهْرُ بِهَا , وَلَا يَجِبُ التَّلَفُّظُ , وَلَا الْجَهْرُ . وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ : بَلْ لَا يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ , لَا سِرًّا وَلَا جَهْرًا , كَمَا لَا يَجِبُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ; لِأَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَكُونُوا يَتَلَفَّظُونَ بِالنِّيَّةِ , لَا سِرًّا وَلَا جَهْرًا } وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ . وَأَمَّا رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ حَتَّى فِي السُّجُودِ , فَلَيْسَتْ هِيَ السُّنَّةُ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهَا , وَلَكِنَّ الْأُمَّةَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَرْفَعُ الْيَدَيْنِ مَعَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ . وَأَمَّا رَفْعُهُمَا عِنْدَ الرُّكُوعِ , وَالِاعْتِدَالِ مِنْ الرُّكُوعِ , فَلَمْ يَعْرِفْهُ أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ . كَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ , وَأَبِي حَنِيفَةَ , وَالثَّوْرِيِّ , وَغَيْرِهِمْ .(2/439)
وَأَمَّا أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ , وَعُلَمَاءِ الْآثَارِ , فَإِنَّهُمْ عَرَفُوا ذَلِكَ - لِمَا أَنَّهُ اسْتَفَاضَتْ بِهِ السُّنَّةُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم - كَالْأَوْزَاعِيِّ , وَالشَّافِعِيِّ , وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ , وَإِسْحَاقَ , وَأَبِي عُبَيْدٍ , وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ . فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ , وَإِذَا رَكَعَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ , وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ , وَلَا كَذَلِكَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ } وَثَبَتَ هَذَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّحِيحِ : مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ , وَوَائِلِ بْنِ حُجْرٌ , وَأَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ : فِي عَشْرَةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : أَحَدُهُمْ أَبُو قَتَادَةَ , وَهُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ , وَأَبِي هُرَيْرَةَ , وَعَدَدٍ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما إذَا رَأَى مَنْ يُصَلِّي وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الصَّلَاةِ حَصَبَهُ . وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ : لَهُ بِكُلِّ إشَارَةٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ .(2/440)
وَالْكُوفِيُّونَ حُجَّتُهُمْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - لَمْ يَكُنْ يَرْفَعُ يَدَيْهِ , وَهُمْ مَعْذُورُونَ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَهُمْ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ ; فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ هُوَ الْفَقِيهُ الَّذِي بَعَثَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِيُعَلِّمَ أَهْلَ الْكُوفَةِ السُّنَّةَ ; لَكِنْ قَدْ حَفِظَ الرَّفْعَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ , وَابْنُ مَسْعُودٍ لَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرْفَعْ إلَّا أَوَّلَ مَرَّةٍ ; لَكِنَّهُمْ رَأَوْهُ يُصَلِّي وَلَا يَرْفَعُ , إلَّا أَوَّلَ مَرَّةٍ . وَالْإِنْسَانُ قَدْ يَنْسَى , وَقَدْ يُذْهَلُ , وَقَدْ خَفِيَ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ التَّطْبِيقُ فِي الصَّلَاةِ ; فَكَانَ يُصَلِّي , وَإِذَا رَكَعَ طَبَّقَ بَيْنَ يَدَيْهِ , كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ . ثُمَّ إنَّ التَّطْبِيقَ نُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ , وَأُمِرُوا بِالرُّكَبِ , وَهَذَا لَمْ يَحْفَظْهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ; فَإِنَّ الرَّفْعَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ لَيْسَ مِنْ نَوَاقِضِ الصَّلَاةِ : بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِلَا رَفْعٍ وَإِذَا رَفَعَ كَانَ أَفْضَلَ وَأَحْسَنَ . وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ مُتَّبِعًا لِأَبِي حَنِيفَةَ أَوْ مَالِكٍ أَوْ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَحْمَدَ : وَرَأَى فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ أَنَّ مَذْهَبَ غَيْرِهِ أَقْوَى فَاتَّبَعَهُ كَانَ قَدْ أَحْسَنَ فِي ذَلِكَ , وَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي دِينِهِ .(2/441)
وَلَا عَدَالَتِهِ بِلَا نِزَاعٍ ; بَلْ هَذَا أَوْلَى بِالْحَقِّ , وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّنْ يَتَعَصَّبُ لِوَاحِدٍ مُعَيَّنٍ , غَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَنْ يَتَعَصَّبُ لِمَالِكٍ أَوْ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَحْمَدَ أَوْ أَبِي حَنِيفَةَ , وَيَرَى أَنَّ قَوْلَ هَذَا الْمُعَيَّنِ هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي يَنْبَغِي اتِّبَاعُهُ , دُونَ قَوْلِ الْإِمَامِ الَّذِي خَالَفَهُ . فَمَنْ فَعَلَ هَذَا كَانَ جَاهِلًا ضَالًّا : بَلْ قَدْ يَكُونُ كَافِرًا ; فَإِنَّهُ مَتَى اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعُ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ دُونَ الْإِمَامِ الْآخَرِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ , فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . بَلْ غَايَةُ مَا يُقَال : إنَّهُ يَسُوغُ أَوْ يَنْبَغِي أَوْ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ أَنْ يُقَلِّدَ وَاحِدًا لَا بِعَيْنِهِ , مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ زَيْدٍ وَلَا عَمْرٍو . وَأَمَّا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ : إنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَامَّةِ تَقَلُّدُ فُلَانٍ أَوْ فُلَانٍ , فَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ . وَمَنْ كَانَ مُوَالِيًا لِلْأَئِمَّةِ مُحِبًّا لَهُمْ يُقَلِّدُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا يَظْهَرُ لَهُ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلسُّنَّةِ فَهُوَ مُحْسِنٌ فِي ذَلِكَ . بَلْ هَذَا أَحْسَنُ حَالًا مِنْ غَيْرِهِ , وَلَا يُقَالُ لِمِثْلِ هَذَا مُذَبْذَبٌ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ .(2/442)
وَإِنَّمَا الْمُذَبْذَبُ الْمَذْمُومُ الَّذِي لَا يَكُونُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ , وَلَا مَعَ الْكُفَّارِ , بَلْ يَأْتِي الْمُؤْمِنِينَ بِوَجْهٍ , وَيَأْتِي الْكَافِرِينَ بِوَجْهٍ , كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ } إلَى قَوْلِهِ : { وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا } . وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ : تُعِيرُ إلَى هَؤُلَاءِ مَرَّةً وَإِلَى هَؤُلَاءِ مَرَّةً } . فَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الْمُذَبْذَبُونَ هُمْ الَّذِينَ ذَمَّهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , وَقَالَ فِي حَقِّهِمْ : { إذَا جَاءَك الْمُنَافِقُونَ قَالُوا : نَشْهَدُ إنَّك لَرَسُولُ اللَّهِ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ إنَّك لَرَسُولُهُ , وَاَللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } . فَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الْيَهُودَ الَّذِينَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ , مَا هُمْ مِنْ الْيَهُودِ , وَلَا هُمْ مِنَّا , مِثْلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالتَّتَرِ , وَغَيْرِهِمْ , وَقَلْبُهُ مَعَ طَائِفَتِهِ .(2/443)
فَلَا هُوَ مُؤْمِنٌ مَحْضٌ , وَلَا هُوَ كَافِرٌ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا , فَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُذَبْذَبُونَ الَّذِينَ ذَمَّهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , وَأَوْجَبَ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ , لَا كُفَّارًا , وَلَا مُنَافِقِينَ , بَلْ يُحِبُّونَ لِلَّهِ , وَيُبْغِضُونَ لِلَّهِ , وَيُعْطُونَ لِلَّهِ , وَيَمْنَعُونَ لِلَّهِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ , وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ } . الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } .(2/444)
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا , وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يُسْلِمُهُ وَلَا يَظْلِمُهُ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ } . وَقَالَ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا , وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا , أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَيْءٍ إذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ . أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ } . وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِالِاجْتِمَاعِ وَالِائْتِلَافِ , وَنَهَاهُمْ عَنْ الِافْتِرَاقِ وَالِاخْتِلَافِ فَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ , وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } إلَى قَوْلِهِ : { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَةِ . فَأَئِمَّةُ الدِّينِ هُمْ عَلَى مِنْهَاجِ الصَّحَابَةِ رضوان الله عليهم أجمعين .(2/445)
وَالصَّحَابَةِ كَانُوا مُؤْتَلِفِينَ مُتَّفِقِينَ , وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي بَعْضِ فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ فِي الطَّهَارَةِ أَوْ الصَّلَاةِ أَوْ الْحَجِّ أَوْ الطَّلَاقِ أَوْ الْفَرَائِضِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَإِجْمَاعُهُمْ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ . وَمَنْ تَعَصَّبْ لِوَاحِدٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ دُونَ الْبَاقِينَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَعَصَّبْ لِوَاحِدٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ دُونَ الْبَاقِينَ . كَالرَّافِضِيِّ الَّذِي يَتَعَصَّبُ لِعَلِيٍّ دُونَ الْخُلَفَاءِ الثَّلَاثَةِ وَجُمْهُورِ الصَّحَابَةِ . وَكَالْخَارِجِيِّ الَّذِي يَقْدَحُ فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهما فَهَذِهِ طُرُقُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ الَّذِينَ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّهُمْ مَذْمُومُونَ , خَارِجُونَ عَنْ الشَّرِيعَةِ وَالْمِنْهَاجِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم . فَمَنْ تَعَصَّبَ لِوَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ بِعَيْنِهِ فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ هَؤُلَاءِ , سَوَاءٌ تَعَصَّبَ لِمَالِكٍ أَوْ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ أَحْمَدَ أَوْ غَيْرِهِمْ . ثُمَّ غَايَةُ الْمُتَعَصِّبِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِقَدْرِهِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ , وَبِقَدْرِ الْآخَرِينَ , فَيَكُونُ جَاهِلًا ظَالِمًا , وَاَللَّهُ يَأْمُرُ بِالْعِلْمِ وَالْعَدْلِ , وَيَنْهَى عَنْ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ . قَالَ تَعَالَى : { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ } إلَى آخِرِ السُّورَةِ .(2/446)
وَهَذَا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ أَتْبَعُ النَّاسِ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَعْلَمُهُمْ بِقَوْلِهِ , وَهُمَا قَدْ خَالَفَاهُ فِي مَسَائِلَ لَا تَكَادُ تُحْصَى , لِمَا تَبَيَّنَ لَهُمَا مِنْ السُّنَّةِ وَالْحُجَّةِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمَا اتِّبَاعُهُ , وَهُمَا مَعَ ذَلِكَ مُعَظِّمَانِ لِإِمَامِهِمَا . لَا يُقَالُ فِيهِمَا مُذَبْذَبَانِ ; بَلْ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ يَقُولُ الْقَوْلَ ثُمَّ تَتَبَيَّنُ لَهُ الْحُجَّةُ فِي خِلَافِهِ فَيَقُولُ بِهَا , وَلَا يُقَالُ لَهُ مُذَبْذَبٌ ; فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَزَالُ يَطْلُبُ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ . فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ مِنْ الْعِلْمِ مَا كَانَ خَافِيًا عَلَيْهِ اتَّبَعَهُ , وَلَيْسَ هَذَا مُذَبْذَبًا ; بَلْ هَذَا مُهْتَدٍ زَادَهُ اللَّهُ هُدًى . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } . فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ مُوَالَاةُ الْمُؤْمِنِينَ , وَعُلَمَاءِ الْمُؤْمِنِينَ , وَأَنْ يَقْصِدَ الْحَقَّ وَيَتَّبِعَهُ حَيْثُ وَجَدَهُ , وَيَعْلَمَ أَنَّ مَنْ اجْتَهَدَ مِنْهُمْ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ , وَمَنْ اجْتَهَدَ مِنْهُمْ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ لِاجْتِهَادِهِ , وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ . وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّبِعُوا إمَامَهُمْ إذَا فَعَلَ مَا يَسُوغُ ; فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ { إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ } وَسَوَاءٌ رَفَعَ يَدَيْهِ أَوْ لَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ لَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي صَلَاتِهِمْ , وَلَا يُبْطِلُهَا , لَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا الشَّافِعِيِّ وَلَا مَالِكٍ وَلَا أَحْمَدُ .(2/447)
وَلَوْ رَفَعَ الْإِمَامُ دُونَ الْمَأْمُومِ , أَوْ الْمَأْمُومُ دُونَ الْإِمَامِ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي صَلَاةِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا , وَلَوْ رَفَعَ الرَّجُلُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضٍ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِهِ , وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَّخِذَ قَوْلَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ شِعَارًا يُوجِبُ اتِّبَاعَهُ , وَيُنْهِي عَنْ غَيْرِهِ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ ; بَلْ كُلُّ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فَهُوَ وَاسِعٌ : مِثْلُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ . فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { أَنَّهُ أَمَرَ بِلَالًا أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ , وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ } . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ عَلَّمَ أَبَا مَحْذُورَةَ الْإِقَامَةَ شَفْعًا شَفْعًا , كَالْأَذَانِ } فَمَنْ شَفَعَ الْإِقَامَةَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ أَفْرَدَهَا فَقَدْ أَحْسَنَ , وَمَنْ أَوْجَبَ هَذَا دُونَ هَذَا فَهُوَ مُخْطِئٌ ضَالٌّ , وَمَنْ وَالَى مَنْ يَفْعَلُ هَذَا دُونَ هَذَا بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ فَهُوَ مُخْطِئٌ ضَالٌّ وَبِلَادُ الشَّرْقِ مِنْ أَسْبَابِ تَسْلِيطِ اللَّهِ التَّتَرَ عَلَيْهَا كَثْرَةُ التَّفَرُّقِ وَالْفِتَنِ بَيْنَهُمْ فِي الْمَذَاهِبِ وَغَيْرِهَا , حَتَّى تَجِدَ الْمُنْتَسِبَ إلَى الشَّافِعِيِّ يَتَعَصَّبُ لِمَذْهَبِهِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يَخْرُجَ عَنْ الدِّينِ , وَالْمُنْتَسِبَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ يَتَعَصَّبُ لِمَذْهَبِهِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ حَتَّى يَخْرُجَ عَنْ الدِّينِ , وَالْمُنْتَسِبَ إلَى أَحْمَدَ يَتَعَصَّبُ لِمَذْهَبِهِ عَلَى مَذْهَبِ هَذَا أَوْ هَذَا . وَفِي الْمَغْرِبِ تَجِدُ الْمُنْتَسِبَ إلَى مَالِكٍ يَتَعَصَّبُ لِمَذْهَبِهِ عَلَى هَذَا أَوْ هَذَا .(2/448)
وَكُلُّ هَذَا مِنْ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي نَهَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ . وَكُلُّ هَؤُلَاءِ الْمُتَعَصِّبِينَ بِالْبَاطِلِ , الْمُتَّبِعِينَ الظَّنَّ , وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ الْمُتَّبِعِينَ لِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ , مُسْتَحِقُّونَ لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَا تَحْتَمِلُ هَذِهِ الْفُتْيَا لِبَسْطِهِ ; فَإِنَّ الِاعْتِصَامَ بِالْجَمَاعَةِ وَالِائْتِلَافَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ , وَالْفَرْعُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ مِنْ الْفُرُوعِ الْخَفِيَّةِ , فَكَيْفَ يُقْدَحُ فِي الْأَصْلِ بِحِفْظِ الْفَرْعِ , وَجُمْهُورُ الْمُتَعَصِّبِينَ لَا يَعْرِفُونَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ , بَلْ يَتَمَسَّكُونَ بِأَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ , أَوْ آرَاءٍ فَاسِدَةٍ أَوْ حِكَايَاتٍ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَالشُّيُوخِ قَدْ تَكُونُ صِدْقًا , وَقَدْ تَكُونُ كَذِبًا , وَإِنْ كَانَتْ صِدْقًا فَلَيْسَ صَاحِبُهَا مَعْصُومًا يَتَمَسَّكُونَ بِنَقْلٍ غَيْرِ مُصَدَّقٍ , عَنْ قَائِلٍ غَيْرِ مَعْصُومٍ , وَيَدَعُونَ النَّقْلَ الْمُصَدَّقَ عَنْ الْقَائِلِ الْمَعْصُومِ وَهُوَ مَا نَقَلَهُ الثِّقَاتُ الْأَثْبَاتُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَدَوَّنُوهُ فِي الْكُتُبِ الصِّحَاحِ , عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . فَإِنَّ النَّاقِلِينَ لِذَلِكَ مُصَدَّقُونَ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الدِّينِ , وَالْمَنْقُولُ عَنْهُ مَعْصُومٌ لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى , إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى , قَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ طَاعَتَهُ وَاتِّبَاعَهُ . قَالَ تَعَالَى : { فَلَا وَرَبِّك لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شَجَر بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْت وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } .(2/449)
وَقَالَ تَعَالَى : { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وَاَللَّهُ تَعَالَى يُوَفِّقُنَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا الْمُؤْمِنِينَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ , وَالْهُدَى وَالنِّيَّةِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ .
754 - 108 مَسْأَلَةٌ : عَنْ " الْمُعِزِّ مَعْدِ بْنِ تَمِيمٍ " الَّذِي بَنَى الْقَاهِرَةَ , وَالْقَصْرَيْنِ : هَلْ كَانَ شَرِيفًا فَاطِمِيًّا ؟ وَهَلْ كَانَ هُوَ وَأَوْلَادُهُ مَعْصُومِينَ ؟ وَأَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْعِلْمِ الْبَاطِنِ , وَإِنْ , كَانُوا لَيْسُوا أَشْرَافًا : فَمَا الْحُجَّةُ عَلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ ؟ وَإِنْ كَانُوا عَلَى خِلَافِ الشَّرِيعَةِ : فَهَلْ هُمْ " بُغَاةٌ " أَمْ لَا ؟ وَمَا حُكْمُ مَنْ نَقَلَ ذَلِكَ عَنْهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَمَدِينَ الَّذِينَ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِمْ ؟ وَلْتَبْسُطُوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ .(2/450)
الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . أَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ هُوَ أَوْ أَحَدٌ مِنْ أَوْلَادِهِ أَوْ نَحْوِهِمْ كَانُوا مَعْصُومِينَ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَأِ , كَمَا يَدَّعِيهِ الرَّافِضَةُ فِي " الِاثْنَيْ عَشْرَةَ فَهَذَا الْقَوْلُ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الرَّافِضَةِ بِكَثِيرٍ ; فَإِنَّ الرَّافِضَةَ ادَّعَتْ ذَلِكَ فِيمَنْ لَا شَكَّ فِي إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ , بَلْ فِيمَنْ لَا يُشَكُّ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ : كَعَلِيٍّ , وَالْحَسَنِ , وَالْحُسَيْنِ رضي الله عنهم . وَمَعَ هَذَا فَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ أَفْسَدِ الْأَقْوَالِ ; وَأَنَّهُ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ ; فَإِنَّ الْعِصْمَةَ فِي ذَلِكَ لَيْسَتْ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام .(2/451)
بَلْ كَانَ مَنْ سِوَى الْأَنْبِيَاءِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ , وَلَا تَجِبُ طَاعَةُ مَنْ سِوَى الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ فِي كُلِّ مَا يَقُولُ , وَلَا يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ اتِّبَاعُهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيُخْبِرُ بِهِ , وَلَا تَكُونُ مُخَالَفَتُهُ فِي ذَلِكَ كُفْرًا ; بِخِلَافِ الْأَنْبِيَاءِ ; بَلْ إذَا خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنْ نُظَرَائِهِ وَجَبَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ النَّظَرُ فِي قَوْلَيْهِمَا , وَأَيُّهُمَا كَانَ أَشْبَهَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَابَعَهُ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } فَأَمَرَ عِنْدَ التَّنَازُعِ بِالرَّدِّ إلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ ; إذْ الْمَعْصُومُ لَا يَقُولُ إلَّا حَقًّا . وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ قَالَ الْحَقَّ فِي مَوَارِدِ النِّزَاعِ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ , كَمَا لَوْ ذَكَرَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى , أَوْ حَدِيثًا ثَابِتًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ يَقْصِدُ بِهِ قَطْعَ النِّزَاعِ . أَمَّا وُجُوبُ اتِّبَاعِ الْقَائِلِ فِي كُلِّ مَا يَقُولُهُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا يَقُولُ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ; بَلْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ " مَرْتَبَةُ الرَّسُولِ , الَّتِي لَا تَصْلُحُ إلَّا لَهُ .(2/452)
كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَلَا وَرَبِّك لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْت وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوك فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } وَقَالَ : { وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ , وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ . عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } .(2/453)
وَقَالَ تَعَالَى : { لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمْ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لِأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } وَأَمْثَالُ هَذِهِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ , بَيَّنَ فِيهِ سَعَادَةَ مَنْ آمَنَ بِالرُّسُلِ وَاتَّبَعَهُمْ وَأَطَاعَهُمْ , وَشَقَاوَةَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِمْ وَلَمْ يَتَّبِعْهُمْ ; بَلْ عَصَاهُمْ . فَلَوْ كَانَ غَيْرُ الرَّسُولِ مَعْصُومًا فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيُنْهِي عَنْهُ لَكَانَ حُكْمُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمَ الرَّسُولِ . وَالنَّبِيُّ الْمَبْعُوثُ إلَى الْخَلْقِ رَسُولٌ إلَيْهِمْ ; بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يُبْعَثْ إلَيْهِمْ . فَمَنْ كَانَ آمِرًا نَاهِيًا لِلْخَلْقِ : مِنْ إمَامٍ , وَعَالِمٍ , وَشَيْخٍ , وَأُولِي أَمْرٍ غَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَوْ غَيْرِهِمْ , وَكَانَ مَعْصُومًا : كَانَ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ فِي ذَلِكَ , وَكَانَ مَنْ أَطَاعَهُ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ , وَمَنْ عَصَاهُ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ , كَمَا يَقُولُهُ الْقَائِلُونَ بِعِصْمَةِ عَلِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ ; بَلْ مَنْ أَطَاعَهُ يَكُونُ مُؤْمِنًا ; وَمَنْ عَصَاهُ يَكُونُ كَافِرًا ; وَكَانَ هَؤُلَاءِ كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ ; فَلَا يَصِحُّ حِينَئِذٍ قَوْلُ النَّبِيِّ : { لَا نَبِيَّ بَعْدِي } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ , إنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا إنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ , فَمَنْ أَخَذَهُ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ } . فَغَايَةُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْ يَكُونُوا وَرَثَةَ أَنْبِيَاءٍ .(2/454)
وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ وَالْإِجْمَاعِ { أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ لِلصِّدِّيقِ فِي تَأْوِيلِ رُؤْيَا عَبَرَهَا : أَصَبْت بَعْضًا , وَأَخْطَأْت بَعْضًا } وَقَالَ الصِّدِّيقُ : أَطِيعُونِي مَا أَطَعْت اللَّهَ , فَإِذَا عَصَيْت اللَّهَ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ وَغَضِبَ مَرَّةً عَلَى رَجُلٍ فَقَالَ لَهُ أَبُو بُرْدَةَ : دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَهُ , فَقَالَ لَهُ : أَكُنْت فَاعِلًا ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَقَالَ : مَا كَانَتْ لِأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّ نَبِيًّا قُتِلَ , وَمَنْ سَبَّ غَيْرَ النَّبِيِّ لَا يُقْتَلُ بِكُلِّ سَبٍّ سَبَّهُ ; بَلْ يُفَصَّلُ فِي ذَلِكَ ; فَإِنَّ مَنْ قَذَفَ أُمَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم , قُتِلَ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا : لِأَنَّهُ قَدَحَ فِي نَسَبِهِ , وَلَوْ قَذَفَ غَيْرَ أُمِّ النَّبِيِّ مِمَّنْ لَمْ يَعْلَمْ بَرَاءَتَهَا لَمْ يُقْتَلْ . وَكَذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كَانَ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ فِي مَوَاضِعَ بِمِثْلِ هَذِهِ , فَيَرْجِعُ عَنْ أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ فِي خِلَافِ مَا قَالَ , وَيَسْأَلُ الصَّحَابَةَ عَنْ بَعْضِ السُّنَّةِ حَتَّى يَسْتَفِيدَهَا مِنْهُمْ , وَيَقُولُ فِي مَوَاضِعَ : وَاَللَّهِ مَا يَدْرِي عُمَرُ أَصَابَ الْحَقَّ أَوْ أَخْطَأَهُ . وَيَقُولُ : امْرَأَةً أَصَابَتْ . وَرَجُلٌ أَخْطَأَ .(2/455)
وَمَعَ هَذَا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : { قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ } وَفِي التِّرْمِذِيِّ : { لَوْ لَمْ أُبْعَثْ فِيكُمْ لَبُعِثَ فِيكُمْ عُمَرُ } وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ ضَرَبَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ } فَإِذَا كَانَ الْمُحَدِّثُ الْمُلْهَمُ الَّذِي ضَرَبَ اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ يَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا مَنْزِلَتَهُ ؟ , فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَعْلَمُ مِنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ , وَأَعْظَمُ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ سَائِرِهِمْ , وَأَوْلَى بِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ مِنْهُمْ , وَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : { خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ , ثُمَّ عُمَرُ } رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ نَحْوِ ثَمَانِينَ وَجْهًا , وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه : لَا أُوتَى بِأَحَدٍ يُفَضِّلُنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إلَّا جَلَدْته حَدَّ الْمُفْتَرِي , وَالْأَقْوَالُ الْمَأْثُورَةُ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ [ كَثِيرَةٌ ] . بَلْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لَا يُحْفَظُ لَهُ فُتْيَا أَفْتَى فِيهَا بِخِلَافِ نَصِّ النَّبِيِّ .(2/456)
وَقَدْ وُجِدَ لِعَلِيٍّ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِمَّا وُجِدَ لِعُمَرَ وَكَانَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه يُنَاظِرُ بَعْضَ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ , فَيَحْتَجُّونَ عَلَيْهِ بِقَوْلِ عَلِيٍّ , فَصَنَّفَ كِتَابَ اخْتِلَافِ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ " وَبَيَّنَ فِيهِ مَسَائِلَ كَثِيرَةً تُرِكَتْ مِنْ قَوْلِهِمَا ; لِمَجِيءِ السُّنَّةِ بِخِلَافِهَا , وَصَنَّفَ بَعْدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الثَّوْرِيُّ كِتَابًا أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ , كَمَا تَرَكَ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ , وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا . وَاتَّفَقَتْ أَئِمَّةُ الْفُتْيَا عَلَى قَوْلِ عُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا فِي ذَلِكَ , وَهُوَ أَنَّهَا إذَا وَضَعَتْ حَمَلَهَا حَلَّتْ , لِمَا ثَبَتَ { عَنْ النَّبِيِّ : أَنَّ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةَ كَانَتْ قَدْ وَضَعَتْ بَعْدَ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ , فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ . فَقَالَ : مَا أَنْتِ بِنَاكِحٍ حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْك أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا , فَسَأَلَتْ النَّبِيَّ عَنْ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ . حَلَلْت فَانْكِحِي } فَكَذَّبَ النَّبِيُّ مَنْ قَالَ بِهَذِهِ الْفُتْيَا .(2/457)
" وَكَذَلِكَ الْمُفَوِّضَةُ الَّتِي تَزَوَّجَهَا زَوْجُهَا وَمَاتَ عَنْهَا وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا مَهْرٌ قَالَ فِيهَا عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ إنَّهَا لَا مَهْرَ لَهَا , وَأَفْتَى فِيهَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ , فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ فَقَالَ : نَشْهَدُ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَضَى فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ بِمِثْلِ مَا قَضَيْت بِهِ فِي هَذِهِ " . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ . وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ وَابْنَاهُ وَغَيْرُهُمْ يُخَالِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْعِلْمِ وَالْفُتْيَا , كَمَا يُخَالِفُ سَائِرٌ أَهْلِ الْعِلْمِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا , وَلَوْ كَانُوا مَعْصُومِينَ لَكَانَتْ مُخَالَفَةُ الْمَعْصُومِ لِلْمَعْصُومِ مُمْتَنِعَةٌ . وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ , فِي أَمْرِ الْقِتَالِ يُخَالِفُ أَبَاهُ وَيَكْرَهُ كَثِيرًا مِمَّا يَفْعَلُهُ , وَيَرْجِعُ عَلِيٌّ رضي الله عنه فِي آخِرِ الْأَمْرِ إلَى رَأْيِهِ , وَكَانَ يَقُولُ : لَئِنْ عَجَزْت عَجْزَةً لَا أَعْتَذِرْ سَوْفَ أَكِيسُ بَعْدَهَا وَأَسْتَمِرَّ وَأَجْبُرُ الرَّأْيَ النَّسِيبَ الْمُنْتَشِرَ وَتَبَيَّنَ لَهُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ أَنْ لَوْ فَعَلَ غَيْرَ الَّذِي كَانَ فَعَلَهُ لَكَانَ هُوَ الْأَصْوَبُ وَلَهُ فَتَاوَى رَجَعَ بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ , كَقَوْلِهِ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ , فَإِنَّ لَهُ فِيهَا قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْمَنْعُ مِنْ بَيْعِهِنَّ . وَالثَّانِي : إبَاحَةُ ذَلِكَ وَالْمَعْصُومُ لَا يَكُونُ لَهُ قَوْلَانِ مُتَنَاقِضَانِ ; إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا نَاسِخًا لِلْآخَرِ , كَمَا فِي { قَوْلِ النَّبِيِّ السُّنَّةُ اسْتَقَرَّتْ } فَلَا يَرِدُ عَلَيْهَا بَعْدَهُ نَسْخٌ إذْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ .(2/458)
وَقَدْ وَصَّى الْحَسَنُ أَخَاهُ الْحُسَيْنَ بِأَنْ لَا يُطِيعَ أَهْلَ الْعِرَاقِ , وَلَا يَطْلُبَ هَذَا الْأَمْرَ , وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ يَتَوَلَّاهُ وَيُحِبُّهُ وَرَأَوْا أَنَّ مَصْلَحَتَهُ وَمَصْلَحَةَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يَذْهَبَ إلَيْهِمْ , لَا يُجِيبُهُمْ إلَى مَا قَالُوهُ مِنْ الْمَجِيءِ إلَيْهِمْ وَالْقِتَالِ مَعَهُمْ ; وَإِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمَصْلَحَةُ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ , وَلَكِنَّهُ رضي الله عنه قَالَ مَا رَآهُ مَصْلَحَةً , وَالرَّأْيُ يُصِيبُ وَيُخْطِئُ . وَالْمَعْصُومُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَالِفَهُ ; وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَالِفَ مَعْصُومًا آخَرَ ; إلَّا أَنْ يَكُونَا عَلَى شَرِيعَتَيْنِ , كَالرَّسُولَيْنِ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ شَرِيعَتَهُمَا وَاحِدَةٌ . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ ادَّعَى عِصْمَةَ هَؤُلَاءِ السَّادَةِ , الْمَشْهُورِ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَالْجَنَّةِ ; هُوَ فِي غَايَةِ الضَّلَالِ وَالْجَهَالَةِ , وَلَمْ يَقُلْ هَذَا الْقَوْلَ مَنْ لَهُ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ ; بَلْ وَلَا مَنْ لَهُ عَقْلٌ مَحْمُودٌ . فَكَيْفَ تَكُونُ الْعِصْمَةُ فِي ذُرِّيَّةِ " عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحِ " مَعَ شُهْرَةِ النِّفَاقِ وَالْكَذِبِ وَالضَّلَالِ ؟ , وَهَبْ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ : فَلَا رَيْبَ أَنَّ سِيرَتَهُمْ مِنْ سِيرَةِ الْمُلُوكِ , وَأَكْثَرُهَا ظُلْمًا وَانْتِهَاكًا لِلْمُحَرَّمَاتِ , وَأَبْعَدُهَا عَنْ إقَامَةِ الْأُمُورِ وَالْوَاجِبَاتِ , وَأَعْظَمُ إظْهَارًا لِلْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , وَإِعَانَةً لِأَهْلِ النِّفَاقِ وَالْبِدْعَةِ .(2/459)
وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ دَوْلَةَ بَنِي أُمَيَّةَ وَبَنِي الْعَبَّاسِ أَقْرَبُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ دَوْلَتِهِمْ , وَأَعْظَمُ عِلْمًا وَإِيمَانًا مِنْ دَوْلَتِهِمْ , وَأَقَلُّ بِدَعًا وَفُجُورًا مِنْ بِدْعَتِهِمْ , وَأَنَّ خَلِيفَةَ الدَّوْلَتَيْنِ أَطْوَعُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ خُلَفَاءِ دَوْلَتِهِمْ ; وَلَمْ يَكُنْ فِي خُلَفَاءِ الدَّوْلَتَيْنِ مَنْ يُجَوِّزُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ أَنَّهُ مَعْصُومٌ , فَكَيْفَ يَدَّعِي الْعِصْمَةَ مَنْ ظَهَرَتْ عَنْهُ الْفَوَاحِشُ وَالْمُنْكَرَاتُ , وَالظُّلْمُ وَالْبَغْيُ , وَالْعُدْوَانُ وَالْعَدَاوَةُ لِأَهْلِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى مِنْ الْأُمَّةِ , وَالِاطْمِئْنَانُ لِأَهْلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ ؟ , فَهُمْ مِنْ أَفْسَقِ النَّاسِ . وَمِنْ أَكْفَرِ النَّاسِ . وَمَا يَدَّعِي الْعِصْمَةَ فِي النِّفَاقِ وَالْفُسُوقِ إلَّا جَاهِلٌ مَبْسُوطُ الْجَهْلِ , أَوْ زِنْدِيقٌ يَقُولُ بِلَا عِلْمٍ .(2/460)
وَمِنْ الْمَعْلُومِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ أَنَّ مَنْ شَهِدَ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى , أَوْ بِصِحَّةِ النَّسَبِ فَقَدْ شَهِدَ لَهُمْ بِمَا لَا يَعْلَمُ , وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وَقَالَ عَنْ إخْوَةِ يُوسُفَ : { وَمَا شَهِدْنَا إلَّا بِمَا عَلِمْنَا } وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ يَعْلَمُ صِحَّةَ نَسَبِهِمْ وَلَا ثُبُوتَ إيمَانِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ ; فَإِنَّ غَايَةَ مَا يَزْعُمُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَالْتِزَامَ شَرَائِعِهِ ; وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ يَكُونُ مُؤْمِنًا فِي الْبَاطِنِ ; أَنْ قَدْ عُرِفَ فِي الْمُظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { إذَا جَاءَك الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّك لَرَسُولُ اللَّهِ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ إنَّك لَرَسُولُهُ وَاَللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { قَالَتْ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ , وَأَئِمَّتُهَا وَجَمَاهِيرُهَا أَنَّهُمْ كَانُوا مُنَافِقِينَ زَنَادِقَةً , يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ .(2/461)
فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ صَارَ فِي إيمَانِهِمْ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ , فَالشَّاهِدُ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ شَاهِدٌ لَهُمْ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ ; إذْ لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ يَدُلُّ عَلَى إيمَانِهِمْ مِثْلُ مَا مَعَ مُنَازِعِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى نِفَاقِهِمْ وَزَنْدَقَتِهِمْ . وَكَذَلِكَ " النَّسَبُ " قَدْ عُلِمَ أَنَّ جُمْهُورَ الْأُمَّةِ تَطْعَنُ فِي نَسَبِهِمْ , وَيَذْكُرُونَ أَنَّهُمْ مِنْ أَوْلَادِ الْمَجُوسِ أَوْ الْيَهُودِ هَذَا مَشْهُورٌ مِنْ شَهَادَةِ عُلَمَاءِ الطَّوَائِفِ مِنْ : الْحَنِيفِيَّةِ , وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ , وَالْحَنَابِلَةِ , وَأَهْلِ الْحَدِيثِ , وَأَهْلِ الْكَلَامِ , وَعُلَمَاءِ النَّسَبِ , وَالْعَامَّةِ , وَغَيْرِهِمْ . وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ ذَكَرَهُ عَامَّةُ الْمُصَنِّفِينَ لِأَخْبَارِ النَّاسِ وَأَيَّامِهِمْ , حَتَّى بَعْضُ مَنْ قَدْ يَتَوَقَّفُ فِي أَمْرِهِمْ كَابْنِ الْأَثِيرِ الْمَوْصِلِيِّ فِي تَارِيخِهِ وَنَحْوِهِ , فَإِنَّهُ ذَكَرَ مَا كَتَبَهُ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ بِخُطُوطِهِمْ فِي الْقَدْحِ فِي نَسَبِهِمْ .(2/462)
وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُصَنِّفِينَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ حَتَّى الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ فِي تَارِيخِهِ , فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا بُطْلَانَ نَسَبِهِمْ , وَكَذَلِكَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ , وَأَبُو شَامَةَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ , حَتَّى صَنَّفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَشْفِ أَسْرَارِهِمْ وَهَتْكِ أَسْتَارِهِمْ , كَمَا صَنَّفَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ كِتَابَهُ الْمَشْهُورَ فِي كَشْفِ أَسْرَارِهِمْ وَهَتْكِ أَسْتَارِهِمْ , وَذَكَرَ أَنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْمَجُوسِ , وَذَكَرَ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ مَا بَيَّنَ فِيهِ أَنَّ مَذَاهِبَهُمْ شَرٌّ مِنْ مَذَاهِبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ; بَلْ وَمِنْ مَذَاهِبِ الْغَالِيَةِ الَّذِينَ يَدْعُونَ إلَهِيَّةَ عَلِيٍّ أَوْ نُبُوَّتَهُ , فَهُمْ أَكْفَرُ مِنْ هَؤُلَاءِ ; وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِهِ " الْمُعْتَمَدُ " فَصْلًا طَوِيلًا فِي شَرْحِ زَنْدَقَتِهِمْ وَكُفْرِهِمْ , وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ فَضَائِلَ المستظهرية وَفَضَائِحَ الْبَاطِنِيَّةِ , قَالَ : ظَاهِرُ مَذْهَبِهِمْ الرَّفْضُ , وَبَاطِنُهُ الْكُفْرُ الْمَحْضُ . وَكَذَلِكَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ أَحْمَدَ وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ الْمُتَشَيِّعَةِ الَّذِينَ لَا يُفَضِّلُونَ عَلَى عَلِيٍّ غَيْرَهُ ; بَلْ يُفَسِّقُونَ مَنْ قَاتَلَهُ وَلَمْ يَتُبْ مِنْ قِتَالِهِ : يَجْعَلُونَ هَؤُلَاءِ مِنْ أَكَابِرِ الْمُنَافِقِينَ الزَّنَادِقَةِ .(2/463)
فَهَذِهِ مَقَالَةُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي حَقِّهِمْ , فَكَيْفَ تَكُونُ مَقَالَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ؟ , , وَالرَّافِضَةُ الْإِمَامِيَّةُ - مَعَ أَنَّهُمْ مِنْ أَجْهَلِ الْخَلْقِ , وَأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ عَقْلٌ وَلَا نَقْلٌ , وَلَا دِينٌ صَحِيحٌ , وَلَا دُنْيَا مَنْصُورَةٌ نَعَمْ - يَعْلَمُونَ أَنَّ مَقَالَةَ هَؤُلَاءِ مَقَالَةُ الزَّنَادِقَةِ الْمُنَافِقِينَ ; وَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَقَالَةَ هَؤُلَاءِ الْبَاطِنِيَّةِ شَرٌّ مِنْ مَقَالَةِ الْغَالِيَةِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ إلَهِيَّةَ عَلِيٍّ رضي الله عنه . وَأَمَّا الْقَدْحُ فِي نَسَبِهِمْ فَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ جَمَاهِيرِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ مِنْ عُلَمَاءِ الطَّوَائِفِ . وَقَدْ تَوَلَّى الْخِلَافَةَ غَيْرُهُمْ طَوَائِفُ , وَكَانَ فِي بَعْضِهِمْ مِنْ الْبِدْعَةِ وَالْعِلْمِ مَا فِيهِ ; فَلَمْ يَقْدَحْ النَّاسُ فِي نَسَبِ أَحَدٍ مِنْ أُولَئِكَ , كَمَا قَدَحُوا فِي نَسَبِ هَؤُلَاءِ وَلَا نَسَبُوهُمْ إلَى الزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ كَمَا نَسَبُوا هَؤُلَاءِ . وَقَدْ قَامَ مِنْ وَلَدِ عَلِيٍّ طَوَائِفُ ; مِنْ وَلَدِ الْحَسَنِ , وَوَلَدِ الْحُسَيْنِ , كَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ , وَأَخِيهِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ , وَأَمْثَالِهِمَا . وَلَمْ يَطْعَنْ أَحَدٌ لَا مِنْ أَعْدَائِهِمْ وَلَا مِنْ غَيْرِ أَعْدَائِهِمْ لَا فِي نَسَبِهِمْ وَلَا فِي إسْلَامِهِمْ , وَكَذَلِكَ الدَّاعِي الْقَائِمُ بِطَبَرِسْتَانَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعَلَوِيِّينَ , وَكَذَلِكَ بَنُو حَمُّودٍ الَّذِينَ تَغَلَّبُوا بِالْأَنْدَلُسِ مُدَّةً وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ لَمْ يَقْدَحْ أَحَدٌ فِي نَسَبِهِمْ , وَلَا فِي إسْلَامِهِمْ .(2/464)
وَقَدْ قَتَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ الطَّالِبِينَ مَنْ عَلَى الْخِلَافَةِ , لَا سِيَّمَا فِي الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ , وَحَبَسَ طَائِفَةٌ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ وَغَيْرِهِ , وَلَمْ يَقْدَحْ أَعْدَاؤُهُمْ فِي نَسَبِهِمْ , وَلَا دِينِهِمْ . وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَنْسَابَ الْمَشْهُورَةَ أَمْرُهَا ظَاهِرٌ مُتَدَارَكٌ مِثْلُ الشَّمْسِ لَا يَقْدِرُ الْعَدُوُّ أَنْ يُطْفِئَهُ
فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُ الشَّيْخِ نَجْمِ الدِّينِ بْنِ حَمْدَانَ : مَنْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا أُنْكِرَ عَلَيْهِ مُخَالَفَتُهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ أَوْ تَقْلِيدٍ أَوْ عُذْرٍ آخَرَ فَهَذَا يُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ :(2/465)
أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَنْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا ثُمَّ فَعَلَ خِلَافَهُ مِنْ غَيْرِ تَقْلِيدٍ لِعَالِمٍ آخَرَ أَفْتَاهُ وَلَا اسْتِدْلَالٍ بِدَلِيلٍ يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ , وَمِنْ غَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ يُبِيحُ لَهُ فِعْلَهُ . فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ وَعَامِلًا بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ وَلَا تَقْلِيدٍ فَاعِلًا لِلتَّحْرِيمِ بِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ وَهَذَا مُنْكَرٌ . وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي أَرَادَ الشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ . وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَعْتَقِدَ الشَّيْءَ وَاجِبًا أَوْ حَرَامًا ثُمَّ يَعْتَقِدُهُ غَيْرَ وَاجِبٍ أَوْ مُحَرَّمٍ بِمُجَرَّدِ هَوَاهُ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ طَالِبًا لِشُفْعَةِ الْجِوَارِ فَيَعْتَقِدُهَا أَنَّهَا حَقٌّ لَهُ ثُمَّ إذَا طُلِبَتْ مِنْهُ شُفْعَةُ الْجِوَارِ اعْتَقَدَهَا أَنَّهَا لَيْسَتْ ثَابِتَةً , أَوْ مِثْلُ مِنْ يَعْتَقِدَ إذَا كَانَ أَخًا مَعَ جَدٍّ أَنَّ الْإِخْوَةَ تُقَاسِمُ الْجَدَّ فَإِذَا صَارَ جَدًّا مَعَ أَخٍ اعْتَقَدَ أَنَّ الْجَدَّ لَا يُقَاسِمُ الْإِخْوَةَ , أَوْ إذَا كَانَ لَهُ عَدُوٌّ يَفْعَلُ بَعْضَ الْأُمُورِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا , كَشُرْبِ النَّبِيذِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ , وَلَعِبِ الشِّطْرَنْجِ , وَحُضُورِ السَّمَاعِ اعْتَقَدَ أَنَّ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُهْجَرَ وَيُنْكَرَ عَلَيْهِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ صَدِيقُهُ اعْتَقَدَ ذَلِكَ أَنْ هَذَا مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي لَا تُنْكَرُ فَمِثْلُ هَذَا مِمَّنْ يَكُونُ فِي اعْتِقَادِهِ حِلُّ الشَّيْءِ وَحُرْمَتُهُ وَوُجُوبُهُ وَسُقُوطُهُ بِسَبَبِ هَوَاهُ هُوَ مَذْمُومٌ مَجْرُوحٌ خَارِجٌ عَنْ الْعَدَالَةِ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ .(2/466)
وَأَمَّا إذَا تَبَيَّنَ لَهُ مَا يُوجِبُ رُجْحَانَ قَوْلٍ عَلَى قَوْلِ إمَّا بِالْأَدِلَّةِ الْمُفَصَّلَةِ إنْ كَانَ يَعْرِفُهَا وَيَفْهَمُهَا وَإِمَّا بِأَنْ تَرَى أَحَدَ رَجُلَيْنِ أَعْلَمَ بِتِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْآخَرِ أَوْ هُوَ أَتْقَى لِلَّهِ فِيمَا يَقُولُ فَيَرْجِعُ عَنْ قَوْلٍ إلَى قَوْلٍ لِمِثْلِ هَذَا فَهَذَا يَجُوزُ بَلْ يَجِبُ . وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ , وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَمْدَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ . وَلِهَذَا قَالَ مَنْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا أُنْكِرَ عَلَيْهِ مُخَالَفَتُهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ أَوْ تَقْلِيدٍ يَسُوغُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ فِي خِلَافِهِ أَوْ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ أَبَاحَ الْمَحْظُورَ الَّذِي يُبَاحُ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْعُذْرُ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ . وَهُنَا مَسْأَلَةٌ ثَانِيَةٌ قَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ أَرَادَهَا وَلَمْ يُرِدْهَا لَكِنَّا نَتَكَلَّمُ عَلَى تَقْدِيرِ إرَادَتِهَا وَهُوَ أَنَّ مَنْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْهُ , قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَكَذَلِكَ غَيْرُ هَذَا مَا يَذْكُرُهُ ابْنُ حَمْدَانَ وَغَيْرُهُ يَكُونُ مِمَّا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا عَنْهُ , وَكَذَلِكَ مَا يُوجَدُ فِي كُتُبِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ كَثِيرٌ مِنْهُ يَكُونُ مِمَّا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِمْ وَلَيْسَ مَنْصُوصًا عَنْهُمْ , بَلْ قَدْ يَكُونُ خِلَافَ ذَلِكَ . وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْعَامِّيَّ هَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَزِمَ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا يَأْخُذُ بِعَزَائِمِهِ وَرُخَصِهِ .(2/467)
فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ , وَهُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ , وَالْجُمْهُورُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ لَا يُوجِبُونَ ذَلِكَ , وَاَلَّذِينَ أَوْجَبُوهُ يَقُولُونَ إذَا الْتَزَمَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ مَا دَامَ مُلْتَزِمًا لَهُ أَوْ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى بِالِالْتِزَامِ مِنْهُ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْتِزَامَ الْمَذَاهِبِ وَالْخُرُوجَ عَنْهَا إنْ كَانَ لِغَيْرِ أَمْرٍ دِينِيٍّ مِثْلِ أَنْ يَلْتَزِمَ مَذْهَبًا لِحُصُولِ غَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ مِنْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا مِمَّا لَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ بَلْ يُذَمُّ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَوْ كَانَ مَا انْتَقَلَ إلَيْهِ خَيْرًا مِمَّا انْتَقَلَ عَنْهُ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُسْلِمُ لَا يُسْلِمُ إلَّا لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ أَوْ يُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ لِامْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا أَوْ دُنْيَا يُصِيبُهَا . وَقَدْ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ هَاجَرَ إلَى امْرَأَةٍ يُقَال لَهَا أُمُّ قَيْسٍ فَكَانَ يُقَالُ لَهُ مُهَاجِرُ أُمِّ قَيْسٍ , فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ , وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى , فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ } .(2/468)
وَأَمَّا إنْ كَانَ انْتِقَالُهُ مِنْ مَذْهَبٍ إلَى مَذْهَبٍ لِأَمْرٍ دِينِيٍّ , مِثْلِ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ رُجْحَانُ قَوْلٍ عَلَى قَوْلٍ فَرَجَعَ إلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهُوَ مُثَابٌ عَلَى ذَلِكَ , بَلْ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي أَمْرٍ أَنْ لَا يَعْدِلَ وَلَا يَتْبَعَ أَحَدًا فِي مُخَالَفَةِ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , فَإِنَّ اللَّهَ فَرَضَ طَاعَةَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ حَالٍ , فَقَالَ تَعَالَى : { فَلَا وَرَبِّك لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } . وَقَدْ صَنَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ كِتَابًا فِي طَاعَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ .(2/469)
فَطَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَتَحْلِيلُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , وَتَحْرِيمُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , وَإِيجَابُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَاجِبٌ عَلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ حَالٍ سِرًّا وَعَلَانِيَةً , لَكِنْ لَمَّا كَانَ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا لَا يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ رَجَعَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ إلَى مَنْ يُعَلِّمُهُمْ ذَلِكَ , لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا قَالَ الرَّسُولُ وَأَعْلَمُ بِمُرَادِهِ . فَأَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ وَسَائِلُ وَطُرُقٌ وَأَدِلَّةٌ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ الرَّسُولِ يُبَلِّغُونَهُمْ مَا قَالَهُ وَيُفَهِّمُونَهُمْ مُرَادَهُ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِمْ وَاسْتِطَاعَتِهِمْ وَقَدْ يَخُصُّ اللَّهُ هَذَا الْعَالِمَ مِنْ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْآخَرِ . وَقَدْ يَكُونُ عِنْدَ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى مِنْ الْعِلْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ هَذَا , وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ , فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } .(2/470)
فَهَذَانِ نَبِيَّانِ كَرِيمَانِ حَكَمَا فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ فَخَصَّ اللَّهُ أَحَدَهُمَا بِالْفَهْمِ وَأَثْنَى عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا { وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ } وَاجْتِهَادُ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَحْكَامِ كَاجْتِهَادِ الْمُسْتَدِلِّينَ عَلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ , فَإِذَا كَانَ أَرْبَعَةُ أَنْفُسٍ يُصَلِّي كُلُّ وَاحِدٍ بِطَائِفَةٍ إلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْكَعْبَةَ هُنَاكَ , فَإِنَّ صَلَاةَ الْأَرْبَعَةِ صَحِيحَةٌ , وَاَلَّذِي صَلَّى إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْمُصِيبُ الَّذِي لَهُ أَجْرَانِ , كَمَا فِي الصَّحِيحِ , عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ } .(2/471)
وَأَكْثَرُ النَّاسِ إنَّمَا الْتَزَمُوا الْمَذَاهِبَ بَلْ الْأَدْيَانَ بِحُكْمِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَنْشَأُ عَلَى دِينِ أَبِيهِ أَوْ سَيِّدِهِ أَوْ أَهْلِ بَلَدِهِ كَمَا يَتْبَعُ الطِّفْلَ فِي الدِّينِ أَبَوَيْهِ وَسَادَتَهُ وَأَهْلَ بَلَدِهِ , ثُمَّ إذَا بَلَغَ الرَّجُلُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَلْتَزِمَ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , حَيْثُ كَانَتْ وَلَا يَكُونُ مِمَّنْ إذَا قِيلَ لَهُمْ : اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ , قَالُوا : بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا , فَكُلُّ مَنْ عَدَلَ عَنْ اتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى عَادَتِهِ وَعَادَةِ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ الْمُسْتَحَقِّينَ لِلْوَعِيدِ , وَكَذَلِكَ مَنْ تَبَيَّنَ لَهُ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ الْمَسَائِلِ الْحَقُّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ ثُمَّ عَدَلَ عَنْهُ إلَى عَادَتِهِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ . وَأَمَّا مَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ مَعْرِفَةِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ , وَقَدْ اتَّبَعَ فِيهَا مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّ قَوْلَ غَيْرِهِ أَرْجَحُ مِنْ قَوْلِهِ فَهُوَ مَحْمُودٌ مُثَابٌ , لَا يُذَمُّ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُعَاقَبُ .
وَالرُّبُوبِيَّةُ تَسْتَلْزِمُ الْإِلَهِيَّةَ ; فَإِنَّ أَحَدَهُمَا إذَا تَضَمَّنَ الْآخَرَ عِنْدَ الِانْفِرَادِ لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَخْتَصَّ مَعْنَاهُ عِنْدَ الِاقْتِرَانِ ,(2/472)
كَمَا فِي قَوْلِهِ : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ , مَلِكِ النَّاسِ , إلَهِ النَّاسِ } وَفِي قَوْلِهِ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } فَجَمَعَ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ : اسْمِ الْإِلَهِ وَاسْمِ الرَّبِّ . فَإِنَّ " الْإِلَهَ " هُوَ الْمَعْبُودُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ . " وَالرَّبُّ " هُوَ الَّذِي يَرُبُّ عَبْدَهُ فَيُدَبِّرُهُ . وَلِهَذَا كَانَتْ الْعِبَادَةُ مُتَعَلِّقَةً بِاسْمِهِ : اللَّهُ , وَالسُّؤَالُ مُتَعَلِّقًا بِاسْمِهِ : الرَّبُّ ; فَإِنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ الْغَايَةُ الَّتِي لَهَا خَلْقَ الْخَلْقَ . وَالْإِلَهِيَّةَ هِيَ الْغَايَةُ ; وَالرُّبُوبِيَّةَ تَتَضَمَّنُ خَلْقَ الْخَلْقِ وَإِنْشَاءَهُمْ فَهُوَ مُتَضَمِّنٌ ابْتِدَاءَ حَالِهِمْ ; وَالْمُصَلِّي إذَا قَالَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فَبَدَأَ بِالْمَقْصُودِ الَّذِي هُوَ الْغَايَةُ عَلَى الْوَسِيلَةِ الَّتِي هِيَ الْبِدَايَةُ , فَالْعِبَادَةُ غَايَةٌ مَقْصُودَةٌ ; وَالِاسْتِعَانَةُ وَسِيلَةٌ إلَيْهَا ; تِلْكَ حِكْمَةٌ وَهَذَا سَبَبٌ ; وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ وَالْعِلَّةِ الْفَاعِلِيَّةِ مَعْرُوفٌ ; وَلِهَذَا يُقَالُ : أَوَّلُ الْفِكْرَةِ آخِرُ الْعَمَلِ وَأَوَّلُ الْبُغْيَةِ آخِرُ الدَّرْكِ . فَالْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ مُتَقَدِّمَةٌ فِي التَّصَوُّرِ وَالْإِرَادَةِ وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ فِي الْوُجُودِ . فَالْمُؤْمِنُ يَقْصِدُ عِبَادَةَ اللَّهِ ابْتِدَاءً وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِإِعَانَتِهِ فَيَقُولُ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } .(2/473)
وَلَمَّا كَانَتْ الْعِبَادَةُ مُتَعَلِّقَةً بِاسْمِهِ : اللَّهُ تَعَالَى جَاءَتْ الْأَذْكَارُ الْمَشْرُوعَةُ بِهَذَا الِاسْمِ مِثْلُ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ : اللَّهُ أَكْبَرُ , اللَّهُ أَكْبَرُ . وَمِثْلُ الشَّهَادَتَيْنِ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ . أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَمِثْلُ التَّشَهُّدِ : التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ . وَمِثْلُ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ : سُبْحَانَ اللَّهِ , وَالْحَمْدُ لِلَّهِ . وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , وَاَللَّهُ أَكْبَرُ . وَأَمَّا السُّؤَالُ فَكَثِيرًا مَا يَجِيءُ بِاسْمِ الرَّبُّ كَقَوْلِ آدَمَ وَحَوَّاءَ : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ } وَقَوْلِ نُوحٍ : { رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أَسْأَلَك مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } وَقَوْلِ مُوسَى : { رَبِّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } وَقَوْلِ الْخَلِيلِ : { رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنْت مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِك الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ } الْآيَةَ وَقَوْلِهِ مَعَ إسْمَاعِيلَ : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّك أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } وَكَذَلِكَ قَوْلُ الَّذِينَ قَالُوا : { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ . وَقَدْ نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ : أَكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ : يَا سَيِّدِي , يَا سَيِّدِي , يَا حَنَّانُ , يَا حَنَّانُ , وَلَكِنْ يَدْعُو بِمَا دَعَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ ; رَبَّنَا , رَبَّنَا , نَقَلَهُ عَنْهُ الْعُتْبِيُّ فِي الْعُتْبِيَّةِ .(2/474)
وَقَالَ تَعَالَى : عَنْ أُولِي الْأَلْبَابِ : { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } الْآيَاتِ . فَإِذَا سَبَقَ إلَى قَلْبِ الْعَبْدِ قَصْدُ السُّؤَالِ نَاسَبَ أَنْ يَسْأَلَهُ بِاسْمِهِ الرَّبِّ . وَأَنْ يَسْأَلَهُ بِاسْمِهِ اللَّهِ لِتَضَمُّنِهِ اسْمَ الرَّبِّ كَانَ حَسَنًا , وَأَمَّا إذَا سَبَقَ إلَى قَلْبِهِ قَصْدُ الْعِبَادَةِ فَاسْمُ اللَّهِ أَوْلَى بِذَلِكَ . إذَا بَدَأَ بِالثَّنَاءِ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ , وَإِذَا قَصَدَ الدُّعَاءَ دَعَا الرَّبَّ , وَلِهَذَا قَالَ يُونُسُ : { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك إنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ } وَقَالَ آدَم : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ } فَإِنَّ يُونُسَ عليه السلام ذَهَبَ مُغَاضِبًا , وَقَالَ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّك وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ } قَالَ تَعَالَى : { فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ } فَفَعَلَ مَا يُلَامُ عَلَيْهِ فَكَانَ الْمُنَاسِبُ لِحَالِهِ أَنْ يَبْدَأَ بِالثَّنَاءِ عَلَى رَبِّهِ , وَالِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ دُونَ غَيْرِهِ فَلَا يُطَاعُ الْهَوَى , فَإِنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى يُضْعِفُ عِبَادَةَ اللَّهِ وَحْدَهُ , وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ يُونُسَ عليه السلام نَدِمَ عَلَى ارْتِفَاعِ الْعَذَابِ عَنْ قَوْمِهِ بَعْدَ أَنْ أَظَلَّهُمْ وَخَافَ أَنْ يَنْسُبُوهُ إلَى الْكَذِبِ فَغَاضَبَ .(2/475)
وَفَعَلَ مَا اقْتَضَى الْكَلَامَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَنْ يُقَالَ : { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ } وَهَذَا الْكَلَامُ يَتَضَمَّنُ بَرَاءَةَ مَا سِوَى اللَّهِ مِنْ الْإِلَهِيَّةِ , سَوَاءٌ صَدَرَ ذَلِكَ عَنْ هَوَى النَّفْسِ أَوْ طَاعَةِ الْخَلْقِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . وَلِهَذَا قَالَ : { سُبْحَانَك إنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ } . وَالْعَبْدُ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ فِيمَا يَظُنُّهُ وَهُوَ غَيْرُ مُطَابِقٍ , وَفِيمَا يُرِيدُهُ وَهُوَ غَيْرُ حَسَنٍ . وَأَمَّا آدَم عليه السلام فَإِنَّهُ اعْتَرَفَ أَوَّلًا بِذَنْبِهِ فَقَالَ : { ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا } وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ آدَمَ مَنْ يُنَازِعُهُ الْإِرَادَةَ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ , مِمَّا يُزَاحِمُ الْإِلَهِيَّةَ بَلْ ظَنَّ صِدْقَ الشَّيْطَانِ الَّذِي { وَقَاسَمَهُمَا إنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ , فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ } فَالشَّيْطَانُ غَرَّهُمَا وَأَظْهَرَ نُصْحَهُمَا فَكَانَا فِي قَبُولِ غُرُورِهِ وَمَا أَظْهَرَ مِنْ نُصْحِهِ حَالُهُمَا مُنَاسِبًا لِقَوْلِهِمَا : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا } لِمَا حَصَلَ مِنْ التَّفْرِيطِ , لَا لِأَجْلِ هَوًى وَحَظٍّ يُزَاحِمُ الْإِلَهِيَّةَ وَكَانَا مُحْتَاجَيْنِ إلَى أَنْ يَرُبَّهُمَا رُبُوبِيَّةً تُكْمِلُ عِلْمَهُمَا وَقَصْدَهُمَا . حَتَّى لَا يَغْتَرَّا بِمِثْلِ ذَلِكَ , فَهُمَا يَشْهَدَانِ حَاجَتَهُمَا إلَى اللَّهِ رَبِّهِمَا الَّذِي لَا يَقْضِي حَاجَتَهُمَا غَيْرُهُ .(2/476)
وَذُو النُّونِ شَهِدَ مَا حَصَلَ مِنْ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ الْإِلَهِيَّةِ بِمَا حَصَلَ مِنْ الْمُغَاضَبَةِ وَكَرَاهَةِ إنْجَاءِ أُولَئِكَ , فَفِي ذَلِكَ مِنْ الْمُعَارَضَةِ فِي الْفِعْلِ لِحُبِّ شَيْءٍ آخَرَ مَا يُوجِبُ تَجْرِيدَ مَحَبَّتِهِ لِلَّهِ وَتَأَلُّهِهِ لَهُ وَأَنْ يَقُولَ : { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ } فَإِنَّ قَوْلَ الْعَبْدِ : لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ , يَمْحُو أَنْ يَتَّخِذَ إلَهَهُ هَوَاهُ . وَقَدْ رُوِيَ { مَا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ إلَهٌ يُعْبَدُ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ هَوَى مُتَّبِعٍ } فَكَمَّلَ يُونُسُ صلوات الله عليه تَحْقِيقَ إلَهِيَّتِهِ لِلَّهِ , وَمَحْوَ الْهَوَى الَّذِي يُتَّخَذُ إلَهًا مِنْ دُونِهِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ عِنْدَ تَحْقِيقِ قَوْلِهِ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ إرَادَةُ تَزَاحُمِ إلَهِيَّةَ الْحَقِّ , بَلْ كَانَ مُخْلِصًا لِلَّهِ الدِّينَ إذْ كَانَ مِنْ أَفْضَلِ عِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ . وَأَيْضًا : فَمِثْلُ هَذِهِ الْحَالِ تَعْرِضُ لِمَنْ تَعْرِضُ لَهُ , فَيَبْقَى فِيهِ نَوْعُ مُغَاضَبَةٍ لِلْقَدَرِ وَمُعَارَضَةٍ لَهُ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ , وَوَسَاوِسُ فِي حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ , فَيَحْتَاجُ الْعَبْدُ أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُ شَيْئَيْنِ : الْآرَاءَ الْفَاسِدَةَ وَالْأَهْوَاءَ الْفَاسِدَةَ , فَيَعْلَمُ أَنَّ الْحِكْمَةَ وَالْعَدْلَ فِيمَا اقْتَضَاهُ عِلْمُهُ وَحِكْمَتُهُ لَا فِيمَا اقْتَضَاهُ عِلْمُ الْعَبْدِ وَحِكْمَتُهُ , وَيَكُونُ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ , فَلَا يَكُونُ لَهُ مَعَ أَمْرِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ هَوًى يُخَالِفُ ذَلِكَ .(2/477)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَلَا وَرَبِّك لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْت وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْت بِهِ } رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ . وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ عُمَرَ قَالَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , وَاَللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي . قَالَ : الْآنَ يَا عُمَرُ } . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } . فَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ لَا يَحْصُلُ حَتَّى يُحَكِّمَ الْعَبْدُ رَسُولَهُ وَيُسَلِّمَ لَهُ وَيَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ , وَيَكُونَ الرَّسُولُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ مُقَدَّمًا عَلَى حُبِّ الْإِنْسَانِ نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَأَهْلِهِ , فَكَيْفَ فِي تَحْكِيمِهِ اللَّهَ تَعَالَى وَالتَّسْلِيمِ لَهُ ؟ , فَمَنْ رَأَى قَوْمًا يَسْتَحِقُّونَ الْعَذَابَ فِي ظَنِّهِ . وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُمْ وَرَحِمَهُمْ , وَكَرِهَ هُوَ ذَلِكَ .(2/478)
فَهَذَا إمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ إرَادَةٍ تُخَالِفُ حُكْمَ اللَّهِ وَإِمَّا عَنْ ظَنٍّ يُخَالِفُ عِلْمَ اللَّهِ , وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . وَإِذَا عَلِمْت أَنَّهُ عَلِيمٌ , وَأَنَّهُ حَكِيمٌ لَمْ يَبْقَ لِكَرَاهِيَةِ مَا فَعَلَهُ وَجْهٌ , وَهَذَا يَكُونُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَفِيمَا خَلَقَهُ وَلَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْرَهَهُ وَنَغْضَبَ عَلَيْهِ . فَأَمَّا مَا أَمَرَنَا بِكَرَاهَتِهِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ : كَالْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ فَعَلَيْنَا أَنْ نُطِيعَهُ فِي أَمْرِهِ بِخِلَافِ تَوْبَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ وَإِنْجَائِهِ إيَّاهُمْ مِنْ الْعَذَابِ فَإِنَّ هَذَا مِنْ مَفْعُولَاتِهِ الَّتِي لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْرَهَهَا , بَلْ هِيَ مِمَّا يُحِبُّهَا فَإِنَّهُ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ . فَكَرَاهَةُ هَذَا مِنْ نَوْعِ اتِّبَاعِ الْإِرَادَةِ الْمُزَاحِمَةِ لِلْإِلَهِيَّةِ . فَعَلَى صَاحِبِهَا أَنْ يُحَقِّقَ تَوْحِيدَ الْإِلَهِيَّةِ فَيَقُولُ : لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ . فَعَلَيْنَا أَنْ نُحِبَّ مَا يُحِبُّ وَنَرْضَى مَا يَرْضَى وَنَأْمُرَ بِمَا يَأْمُرُ وَنَنْهَى عَمَّا يَنْهَى . فَإِذَا كَانَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ فَعَلَيْنَا أَنْ نُحِبَّهُمْ ; وَلَا نَأْلَهَ مُرَادَاتِنَا الْمُخَالِفَةَ لِمُحَابِّهِ .(2/479)
وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى " أَصْلٍ " : وَهُوَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صلوات الله عليهم مَعْصُومُونَ فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ , وَفِي تَبْلِيغِ رِسَالَاتِهِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ , وَلِهَذَا وَجَبَ الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا أُوتُوهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُولُوا آمَنَّا بِاَللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ , فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } . وَقَالَ : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } . وَقَالَ : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَك رَبَّنَا وَإِلَيْك الْمَصِيرُ } . بِخِلَافِ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا مَعْصُومِينَ كَمَا عُصِمَ الْأَنْبِيَاءُ , وَلَوْ كَانُوا أَوْلِيَاءَ لِلَّهِ , وَلِهَذَا مَنْ سَبَّ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ قُتِلَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ , وَمَنْ سَبَّ غَيْرَهُمْ لَمْ يُقْتَلْ .(2/480)
وَهَذِهِ الْعِصْمَةُ الثَّابِتَةُ لِلْأَنْبِيَاءِ هِيَ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا مَقْصُودُ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ ; فَإِنَّ " النَّبِيَّ " هُوَ الْمُنَبِّئُ عَنْ اللَّهِ , " وَالرَّسُولَ " هُوَ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى , وَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ وَلَيْسَ كُلِّ نَبِيٍّ رَسُولًا , وَالْعِصْمَةُ فِيمَا يُبَلِّغُونَهُ عَنْ اللَّهِ ثَابِتَةٌ فَلَا يَسْتَقِرُّ فِي ذَلِكَ خَطَأٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَكِنْ هَلْ يَصْدُرُ مَا يَسْتَدْرِكُهُ اللَّهُ فَيَنْسَخُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ وَيُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ . وَالْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ يُوَافِقُ الْقُرْآنَ بِذَلِكَ . وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا ذَلِكَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ طَعَنُوا فِيمَا يُنْقَلُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي سُورَةِ النَّجْمِ بِقَوْلِهِ : تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى , وَإِنَّ شَفَاعَتُهُنَّ لَتُرْتَجَى , وَقَالُوا : إنَّ هَذَا لَمْ يَثْبُتْ , وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ ثَبَتَ : قَالَ هَذَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ فِي مَسَامِعِهِمْ وَلَمْ يَلْفِظْ بِهِ الرَّسُولُ . وَلَكِنَّ السُّؤَالَ وَارِدٌ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَيْضًا . وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ : { إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } هُوَ حَدِيثُ النَّفْسِ .(2/481)
وَأَمَّا الَّذِينَ قَرَّرُوا مَا نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ فَقَالُوا هَذَا مَنْقُولٌ نَقْلًا ثَابِتًا لَا يُمْكِنُ الْقَدْحُ فِيهِ وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِك مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ , لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ , وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } . فَقَالُوا الْآثَارُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَعْرُوفَةٌ ثَابِتَةٌ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ , وَالْحَدِيثِ , وَالْقُرْآنُ يُوَافِقُ ذَلِكَ فَإِنَّ نَسْخَ اللَّهِ لِمَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ وَإِحْكَامُهُ آيَاتِهِ إنَّمَا يَكُونُ لِرَفْعِ مَا وَقَعَ فِي آيَاتِهِ , وَتَمْيِيزِ الْحَقِّ مِنْ الْبَاطِلِ حَتَّى لَا تَخْتَلِطَ آيَاتُهُ بِغَيْرِهَا . وَجَعْلُ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ , وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ ذَلِكَ ظَاهِرًا يَسْمَعُهُ النَّاسُ لَا بَاطِنًا فِي النَّفْسِ وَالْفِتْنَةُ الَّتِي تَحْصُلُ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ النَّسْخِ مِنْ جِنْسِ الْفِتْنَةِ الَّتِي تَحْصُلُ بِالنَّوْعِ الْآخَرِ مِنْ النَّسْخِ .(2/482)
وَهَذَا النَّوْعُ أَدَلُّ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَبُعْدِهِ عَنْ الْهَوَى مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ , فَإِنَّهُ إذَا كَانَ يَأْمُرُ بِأَمْرٍ ثُمَّ يَأْمُرُ بِخِلَافِهِ وَكِلَاهُمَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي ذَلِكَ , فَإِذَا قَالَ عَنْ نَفْسِهِ إنَّ الثَّانِيَ هُوَ الَّذِي مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهُوَ النَّاسِخُ وَإِنَّ ذَلِكَ الْمَرْفُوعَ الَّذِي نَسَخَهُ اللَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ كَانَ أَدَلَّ عَلَى اعْتِمَادِهِ لِلصِّدْقِ وَقَوْلِهِ الْحَقَّ , وَهَذَا كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها : لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ كَاتِمًا شَيْئًا مِنْ الْوَحْيِ لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِك مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ } أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِي يُعَظِّمُ نَفْسَهُ بِالْبَاطِلِ يُرِيدُ أَنْ يَنْصُرَ كُلَّ مَا قَالَهُ وَلَوْ كَانَ خَطَأً , فَبَيَانُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ اللَّهَ أَحْكَمَ آيَاتِهِ وَنَسَخَ مَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ هُوَ أَدَلُّ عَلَى تَحَرِّيهِ لِلصِّدْقِ وَبَرَاءَتِهِ مِنْ الْكَذِبِ , وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالرِّسَالَةِ فَإِنَّهُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ صلى الله عليه وسلم تَسْلِيمًا , وَلِهَذَا كَانَ تَكْذِيبُهُ كُفْرًا مَحْضًا بِلَا رَيْبٍ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا مَلَّكَ الرَّجُلُ غَيْرَهُ شَيْئًا لِيَقِفَهُ عَلَيْهِ , ثُمَّ عَلَى جِهَةٍ مُتَّصِلَةٍ مِنْ بَعْدِهِ فَمَا حُكْمُ هَذَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ , وَكَيْفَ حُكِمَ عَلَى مَنْ عَلِمَ أَنَّ هَذَا هُوَ حَقِيقَةُ هَذَا الْوَقْفِ ؟(2/483)
قِيلَ : هَذَا التَّمْلِيكُ وَالشَّرْطُ يَضْمَنُ شَيْئَيْنِ . أَحَدُهُمَا : لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَهُوَ انْتِقَالُ الْمِلْكِ إلَى الْمَالِكِ . وَالثَّانِي : الْإِذْنُ لَهُ فِي الْوَقْفِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَمُوَافَقَتُهُ عَلَيْهِ . وَهَذَا فِي الْمَعْنَى تَوْكِيلٌ لَهُ فِي الْوَقْفِ : فَحُكْمُ هَذَا الْمِلْكِ قَبْلَ التَّمْلِيكِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ لَمْ يَمْلِكْهُ الْمُمَلَّكُ . وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ وَقْفِهِ لَمْ يَحِلَّ لِوَرَثَتِهِ أَخْذُهُ . وَلَوْ أَخَذَهُ وَلَمْ يَقِفْهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَلَمْ يَرُدَّهُ إلَيْهِ كَانَ ظَالِمًا عَاصِيًا . وَلَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ صَاحِبُهُ بَعْدَ هَذَا التَّمْلِيكِ لَكَانَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ نَافِذًا لِنُفُوذِهِ قَبْلَ التَّمْلِيكِ - وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ , وَكَذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ إنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِمَا تَوَاطَآ عَلَيْهِ , أَوْ اعْتَرَفَ لَهُ الْمُمَلَّكُ بِذَلِكَ , أَوْ كَانَتْ دَلَالَةُ الْحَالِ تَقْتَضِي ذَلِكَ .(2/484)
لَكِنَّ الْمَالِكَ قَدْ أَذِنَ لِهَذَا فِي أَنْ يَقِفَهُ وَهُوَ رَاضٍ بِذَلِكَ , وَهَذَا الْإِذْنُ وَالتَّوْكِيلُ , وَإِنْ كَانَ قَدْ حَصَلَ فِي ضِمْنِ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَإِنَّهُ لَا يَفْسُدُ بِفَسَادِ الْعَقْدِ كَمَا لَوْ فَسَدَتْ الشَّرِكَةُ , أَوْ الْمُضَارَبَةُ , فَإِنَّ تَصَرُّفَ الشَّرِيكِ وَالْعَامِلِ صَحِيحٌ بِمَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ مَعَ الْإِذْنِ مَعَ فَسَادِ الْعَقْدِ , بَلْ الْإِذْنُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْهِبَةِ الْبَاطِلَةِ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمَا قَدْ اتَّفَقَا قَبْلَ الْعَقْدِ عَلَى أَنْ يَقِفَهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَتَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ وَاتَّفَقَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْهِبَةَ لَيْسَتْ هِبَةً بَتَاتًا بَلْ هِيَ مِثْلُ هَذِهِ التَّلْجِئَةِ فَيَكُونُ الِاتِّفَاقُ لِلْأَوَّلِ إذْنًا صَحِيحًا , وَرَدُّهُ بَعْدَهُ عَقْدٌ فَاسِدٌ , وَكَانَ مَثَلُ هَذَا مِثْلَ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى بَيْعِ تَلْجِئَةٍ , أَوْ هِبَةِ تَلْجِئَةٍ , وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فِي الْمَبِيعِ وَالْمَوْهُوبِ كَذَا وَكَذَا , فَإِنَّ جَمِيعَ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتِ الْمَأْذُونِ فِيهَا تَقَعُ صَحِيحَةً ; لِأَنَّهَا وَكَالَةٌ صَحِيحَةٌ فِي الْبَاطِنِ لَمْ يَرِدْ بَعْدَهَا مَا يُنَاقِضُهَا فِي الْحَقِيقَةِ .(2/485)
الثَّانِي : أَنَّا إنَّمَا أَبْطَلْنَا هَذَا الْعَقْدَ لِكَوْنِهِ قَدْ اشْتَرَطَ عَلَى الْمُوهَبِ لَهُ أَنَّهُ لَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ إلَّا بِالْوَقْفِ الَّذِي هُوَ فِي الظَّاهِرِ وَاهِبٌ , وَالتَّصَرُّفُ فِي الْعَيْنِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمِلْكِ , بَلْ يَصِحُّ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ وَبِطَرِيقِ الْوِلَايَةِ , فَلَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِ الْمِلْكِ بُطْلَانُ الْإِذْنِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الشَّرْطُ ; لِأَنَّ الْإِذْنَ مُسْتَنَدُ غَيْرُ الْمِلْكِ وَلَا يُقَالُ : لَمَّا بَطَلَ الْمِلْكُ بَطَلَ التَّصَرُّفُ الَّذِي هُوَ مِنْ تَوَابِعِهِ التَّصَرُّفُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ , وَلَيْسَ هُوَ مِنْ تَوَابِعِ الْمِلْكِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَوَابِعِ مَا هُوَ فِي الظَّاهِرِ مِلْكٌ لِلثَّانِي وَفِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ مِلْكًا لِلثَّانِي , بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْأَوَّلِ , وَإِذَا كَانَ مِنْ تَوَابِعِ مَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْأَوَّلِ , وَفِي الظَّاهِرِ مِلْكٌ لِلثَّانِي فَبُطْلَانُ هَذَا الثَّانِي لَا يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ الْمِلْكِ الْحَقِيقِيِّ , وَلَا بُطْلَانَ تَوَابِعِهِ . يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ الْحِيَلَ الَّتِي اُسْتُحِلَّتْ بِأَسْمَاءٍ بَاطِلَةٍ يَجِبُ أَنْ تُسْلَبَ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ الْمَنْحُولَةَ وَتُعْطَى الْأَسْمَاءَ الْحَقِيقِيَّةَ كَمَا يُسْلَبُ مِنْهَا مَا يُسَمَّى بَيْعًا , أَوْ نِكَاحًا , أَوْ هَدِيَّةً وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ تُسَمَّى رِبًا وَسِفَاحًا وَرِشْوَةً , فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْهِبَةُ تُسْلَبُ اسْمَ الْهِبَةِ وَتُسَمَّى تَوْكِيلًا , وَإِذْنًا , فَإِنَّ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى لَفْظٍ مَخْصُوصٍ بَلْ بِكُلِّ قَوْلٍ دَلَّ عَلَى الْإِذْنِ فِي التَّصَرُّفِ فَهُوَ وَكَالَةٌ .(2/486)
وَهَذِهِ الْمُوَاطَأَةُ عَلَى هَذِهِ الْهِبَةِ لَا رَيْبَ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْإِذْنِ فِي هَذَا الْوَقْفِ فَتَكُونُ وَكَالَةً , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ اعْتَقَدَ صِحَّةَ وَقْفِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا بَيَّنَّا مَأْخَذَهُ , وَاعْتَقَدَ صِحَّةَ هَذَا الْوَقْفِ , كَانَ هَذَا الْوَقْفُ لَازِمًا إذَا وَقَفَهُ ذَلِكَ الْمَالِكُ الْمُوَكَّلُ كَلُزُومِهِ لَوْ وَقَفَهُ الْمَالِكُ نَفْسُهُ , أَوْ وَكِيلٌ مَحْضٌ , وَيَنْبَنِي , عَلَى ذَلِكَ سَائِرُ أَحْكَامِ الْوَقْفِ الصَّحِيحِ مِنْ حِلِّ التَّنَاوُلِ مِنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَمَنْ اعْتَقَدَ وَقْفَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ بَاطِلًا كَانَ هَذَا وَقْفًا مُنْقَطِعَ الِابْتِدَاءِ لِكَوْنِهِ وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ وَالْوَقْفُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهَا , ثُمَّ عَلَى غَيْرِهِ وَالْوَقْفُ جَائِزٌ عَلَيْهِ , وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ فَقِيلَ لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ بِخِلَافِ الْمُنْقَطِعِ الِانْتِهَاءِ ; لِأَنَّ الطَّبَقَةَ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ تَبَعٌ لِلْأُولَى فَإِذَا لَمْ تَصِحَّ الْأُولَى فَمَا بَعْدَهَا أَوْلَى , وَلِأَنَّ الْوَاقِفَ لَمْ يَرْضَ أَنْ يَصِيرَ لِلثَّانِيَةِ إلَّا بَعْدَ الْأُولَى وَمَا رَضِيَ بِهِ لَمْ يَرْضَ بِهِ الشَّارِعُ فَاَلَّذِي رَضِيَهُ الشَّارِعُ لَمْ يَرْضَهُ وَاَلَّذِي رَضِيَهُ لَمْ يَرْضَهُ الشَّارِعُ , وَلَا بُدَّ فِي صِحَّةِ التَّصَرُّفِ مِنْ رِضَى الْمُتَصَرِّفِ وَمُوَافَقَةِ الشَّرْعِ , فَعَلَى هَذَا هُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ , فَإِذَا مَاتَ انْبَنَى عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ هَذَا وَقْفٌ بَعْدَ مَوْتِي صَحَّ , أَوْ هُوَ كَالْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ . فَإِنْ قِيلَ : هُوَ كَالْمُعَلَّقِ بِشَرْطٍ . فَلَا كَلَامَ .(2/487)
وَإِنْ قِيلَ بِصِحَّتِهِ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ بِصِحَّةِ هَذَا الْوَقْفِ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ الثُّلُثِ , وَأَنَّهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ وَقَفَ عَلَى حَرْبِيٍّ , أَوْ مُرْتَدٍّ وَبَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى مَنْ يَصِحُّ لِأَنَّهُ إذَا وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى جِهَةٍ مُتَّصِلَةٍ أَمْكَنَ أَنْ يُلْغَى قَوْلُهُ " عَلَى نَفْسِي " وَيُجْعَلَ كَأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ مَوْتِي عَلَى كَذَا وَهَذَا يُصَحِّحُهُ مَنْ لَا يُصَحِّحُ الْوَقْفَ عَلَى تِلْكَ الْجِهَةِ بَعْدَ مَوْتِ فُلَانٍ إلْحَاقًا لِلْوَقْفِ بِالْوَصِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْعَطَايَا , وَالْعَطِيَّةُ يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا بِشَرْطٍ , وَإِنَّمَا جَازَ هَذَا فِي الْوَصَايَا إلْحَاقًا بِالْمِيرَاثِ , وَقِيلَ إنَّ هَذَا الْوَقْفَ الْمُنْقَطِعَ الِابْتِدَاءٍ صَحِيحٌ , ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُصْرَفُ فِي الْحَالِ مَصْرِفَ الْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ الِابْتِدَاءِ فَإِذَا مَاتَ هَذَا الْوَاقِفُ صُرِفَ إلَى تِلْكَ الْجِهَةِ الْبَاطِلَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُصْرَفُ فِي الْحَالِ فَإِذَا مَاتَ الْوَاقِفُ صُرِفَ إلَى تِلْكَ الْجِهَةِ الصَّحِيحَةِ جَعْلًا لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُعَلَّقِ عَلَى شَرْطٍ - وَكَذَلِكَ جُعِلَ فِي تَعْلِيقِ الْوَاقِفِ بِالشَّرْطِ وَجْهَانِ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ شِبْهِ الْعِتْقِ وَالتَّحْرِيرِ وَبَيْنَ شِبْهِ الْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ .(2/488)
فَإِنْ قِيلَ : فَإِنْ أَقَرَّ مَنْ فِي يَدِهِ عَقَارٌ أَنَّهُ وَقْفٌ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ , ثُمَّ عَلَى جِهَةٍ مُتَّصِلَةٍ وَكَانَ قَدْ جَعَلَ هَذَا حِيلَةً لِوَقْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَقَفَهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَمَا حُكْمُ ذَلِكَ فِي الْبَاطِنِ وَحُكْمُ مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ؟ قِيلَ : هَذَا أَيْضًا إنَّمَا قَصَدَ إنْشَاءَ الْوَقْفِ فَيَكُونُ كَمَنْ أَقَرَّ بِطَلَاقٍ , أَوْ عَتَاقٍ يَنْوِي بِهِ الْإِنْشَاءَ ; لِأَنَّ الْوَقْفَ يَنْعَقِدُ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ وَبِاللَّفْظِ الْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ وَيَصِحُّ أَيْضًا بِالْفِعْلِ مَعَ النِّيَّةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ , فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُهُ هُوَ الْوَقْفَ عَلَى نَفْسِهِ وَتَكَلَّمَ بِقَوْلِهِ هَذَا وَقْفٌ عَلَيَّ , ثُمَّ عَلَى كَذَا وَكَذَا وَمَيَّزَهُ بِالْفِعْلِ عَنْ مِلْكِهِ صَارَ كَمَا لَوْ قَالَ وَقَفْته عَلَى نَفْسِي , ثُمَّ عَلَى كَذَا وَكَذَا ; لِأَنَّ الْإِقْرَارَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كِتَابَةً فِي الْإِنْشَاءِ , يَجُوزُ أَنْ يَقْصِدَ بِهِ الْإِخْبَارَ فَإِذَا قَصَدَ بِهِ دُيِّنَ . بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ إقْرَارًا مَحْضًا وَهُوَ يَعْلَمُ كَذِبَ نَفْسِهِ فِيهِ كَانَ وُجُودُ هَذَا الْإِقْرَارِ كَعَدَمِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ : فَفُرِّقَ بَيْنَ إقْرَارٍ قَصَدَ بِهِ الْإِخْبَارَ عَمَّا مَضَى . وَإِقْرَارٍ قَصَدَ بِهِ الْإِنْشَاءَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ بِصِيغَةِ الْإِخْبَارِ لِغَرَضٍ مِنْ الْأَغْرَاضِ . وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ صِيَغَ الْعُقُودِ قَدْ قِيلَ : هِيَ إنْشَاءَاتٌ .(2/489)
وَقِيلَ : إخْبَارَاتٌ - وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ إخْبَارٌ عَنْ الْمَعَانِي الَّتِي فِي الْقَلْبِ وَتِلْكَ الْمَعَانِي أُنْشِئَتْ فَاللَّفْظُ خَبَرٌ وَالْمَعْنَى إنْشَاءٌ إنَّمَا يَتِمُّ حُكْمُهُ بِاللَّفْظِ , فَإِذَا أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا الْمَكَانَ وَقْفٌ عَلَيْهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ غَيْرَهُ لَمْ يَقِفْهُ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ كَاذِبٌ فِي هَذَا , وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ أَنْ يَصِيرَ هُوَ وَاقِفًا لَهُ فَقَدْ أَجْمَعَ لَفْظَ الْإِخْبَارِ , وَإِرَادَتَهُ الْوَقْفَ . فَلَوْ كَانَ أَخْبَرَ عَنْ هَذِهِ الْإِرَادَةِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ رَيْبٌ أَنَّهُ إنْشَاءُ وَقْفٍ , لَكِنْ لَمَّا كَانَ اللَّفْظُ إخْبَارًا عَنْ غَيْرِ مَا عَنَاهُ وَاَلَّذِي عَنَاهُ لَمْ يَلْفِظْ بِهِ صَارَتْ الْمَسْأَلَةُ مُحْتَمَلَةً , لَكِنَّ هَذِهِ النِّيَّةَ مَعَ هَذَا اللَّفْظِ وَنَحْوِهِ وَمَعَ الْفِعْلِ الَّذِي لَوْ تَجَرَّدَ عَنْ لَفْظٍ لَكَانَ مَعَ النِّيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَكَلِّمِ بِالْوَقْفِ يُوجِبُ جَعْلَ هَذَا وَقْفًا , وَهَذَا الْمَعْنَى يَنْبَنِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذَا - , وَإِذَا كَانَ هَذَا إنْشَاءٌ لِلْوَقْفِ فَحُكْمُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ . وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ مَثَلًا بُطْلَانَ وَقْفِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ , وَبُطْلَانَ اسْتِثْنَاءِ مَنْفَعَةِ الْوَقْفِ .(2/490)
فَالْوَاجِبُ مَعَ هَذَا الِاعْتِقَادِ إمَّا الْوَقْفُ عَلَى غَيْرِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا , أَوْ الْوَصِيَّةُ بِالْوَقْفِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِيمَا يَسُوغُ الْوَصِيَّةُ فِيهِ وَالْإِمْسَاكُ عَمَّا زَادَ , أَوْ تَرْكُ الْوَقْفِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ اعْتَقَدَ اعْتِقَادًا يَرَى أَنَّهُ لَا يَسُوغُ لَهُ الْخُرُوجُ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِمُوجَبِهِ كَالْأُمُورِ الَّتِي لَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِهَا مِنْ الرِّبَا وَالسِّفَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ , فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِمْسَاكُ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِلُّ مَحَارِمَهُ بِأَدْنَى الْحِيَلِ وَلَا يَتَوَهَّمُ الْإِنْسَانُ أَنَّ فِي الْإِمْسَاكِ عَنْ الْمُحَرَّمِ ضِيقًا , أَوْ ضَرَرًا , أَوْ فِي فِعْلِ الْوَاجِبِ فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ تَعَالَى يَجْعَلُ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ وَلَا بُدَّ أَنْ يُبْتَلَى الْمَرْءُ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ تَارَةً يَتْرُكُ مَا يَهْوَى وَتَارَةً يَفْعَلُ مَا يَكْرَهُ , كَمَا يُبْتَلَى فِي الْحَوَادِثِ الْمُقَدَّرَةِ بِمِثْلِ ذَلِكَ , وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ : { الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } . وَقَالَ سُبْحَانَهُ : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } .(2/491)
وَقَالَ سُبْحَانَهُ : { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمْ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ } الْآيَاتِ وَمِنْ هُنَا يَنْشَأُ .
وفي معالم القربة :
الْبَابُ الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ : فِي الْقُضَاةِ وَالشُّهُودِ )(2/492)
الْقَضَاءُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إبْرَامِ الْأَمْرِ وَالْفَرَاغِ مِنْهُ قَالَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - : { قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } فَلَمَّا كَانَتْ الْقَضَاءُ أُمِرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنُهِيَ عَنْ الْمُنْكَرِ , وَطِبَاعُ النَّاسِ جُبِلَتْ عَلَى التَّنَازُعِ وَحُبِّ الْأَمْوَالِ وَالتَّنَافُسِ فَدَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى حَمْلِهِمْ إلَى الْحَقِّ بِالْيَدِ الْقَاطِعَةِ لِلنِّزَاعِ , وَقَدْ وَرَدَ فِي أَمْرِ الْقَضَاءِ وَالْحُكْمِ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ - تَعَالَى - : { يَا دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ } فَأَخْبَرَ - تَعَالَى - أَنَّ الْقَضَاءَ وَالْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ سُنَنِ الْأَنْبِيَاءِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } . وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } . وَقَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : { إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } . وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ تَرْغِيبٌ وَتَرْهِيبٌ فَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ { عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَيْنِ : رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيَعْمَلُ بِهَا } .(2/493)
وَعَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { هَلْ تَدْرُونَ مَنْ السَّابِقُونَ إلَى ظِلِّ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ الَّذِينَ إذَا حَكَمُوا لِلْمُسْلِمِينَ حَكَمُوا كَحُكْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ } , وَعَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { إذَا جَلَسَ الْقَاضِي فِي مَجْلِسِهِ هَبَطَ عَلَيْهِ مَلَكَانِ يُسَدِّدَانِهِ وَيُرْشِدَانِهِ وَيُوَفِّقَانِهِ فَإِذَا جَارَ عَرَجَا وَتَرَكَاهُ } . وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ , فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ } , وَقَالَ : { الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ قَاضٍ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِي النَّارِ فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ وَأَمَّا اللَّذَانِ فِي النَّارِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ قَضَى فِي النَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ } . وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ الْأَسْلَمِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ قَاضٍ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَيَعْلَمُ ذَلِكَ فِي النَّارِ وَقَاضٍ قَضَى وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَذَلِكَ فِي النَّارِ وَقَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ فَذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ } . وَعَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { يُجَاءُ بِالْقَاضِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَلْقَى مِنْ شِدَّةِ الْحِسَابِ مَا يَوَدُّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَضَى بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي تَمْرَةٍ } .(2/494)
وَعَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ , وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ } وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ اقْضِ قَالَ عَلَى مَا اقْضِي قَالَ عَلَى أَنَّك إنْ اجْتَهَدْتَ فَأَصَبْتَ فَلَكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ , وَإِنْ أَخْطَأْت فَلَكَ حَسَنَةٌ } . وَرَوَى أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اللَّهُ { مَعَ الْقَاسِمِ حِينَ يَقْسِمُ وَمَعَ الْقَاضِي حِينَ يَقْضِي } . وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ , أَمَّا فِعْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَضَى بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ فِي قَضَايَا لَا تُحْصَى كَثِيرَةٍ إلَى أَنْ قَبَضَهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - وَوَلَّى الْقَضَاءَ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ : { فَبَعَثَ عَلِيًّا إلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا وَقَالَ لَهُ إذَا حَضَرَ إلَيْكَ خَصْمَانِ فَلَا تَقْضِ شَيْئًا حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ الْآخَرِ فَقَالَ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - فَمَا أَشْكَلَ عَلَيَّ قَضِيَّةٌ بَعْدَهَا } .(2/495)
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { لَمَّا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا قَالَ لَهُ بِمَ تَقْضِي ؟ قَالَ بِكِتَابِ اللَّهِ قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَجِدْ قَالَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَجِدْ قَالَ أَجْتَهِدُ بِرَأْيِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي اللَّهَ : } وَوَلَّى عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ الْقَضَاءَ بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَبَعَثَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ إلَى الْبَحْرَيْنِ قَاضِيًا .(2/496)
وَبَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ قَاضِيًا إلَى الْبَصْرَةِ وَكَتَبَ إلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَمَّا بَعْدُ , فَإِنَّ الْقَضَاءَ فَرِيضَةٌ مُحْتَكِمَةٌ وَسُنَّةٌ مُتَّبِعَةٌ الْفَهْمَ الْفَهْمَ إذَا أُدْلِيَ إلَيْكَ , فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ حَقٌّ لَا يُقَادُ لَهُ , سَاوِ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَجْهِكَ وَمَجْلِسِكَ وَعَدْلِكَ حَتَّى لَا يَطْمَعَ قَوِيٌّ فِي حَيْفِكَ , وَلَا يَيْأَسَ ضَعِيفٌ مِنْ عَدْلِكَ , الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ , وَالصُّلْحُ بَيْنَ النَّاسِ جَائِزٌ إلَّا صُلْحٌ حَرَّمَ حَلَالًا وَأَحَلَّ حَرَامًا , وَلَا يَمْنَعُكَ قَضَاءٌ قَضَيْته بِالْأَمْسِ فَرَاجَعْت فِيهِ نَفْسَكَ وَهُدِيتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ أَنْ تَرْجِعَ إلَى الْحَقِّ , فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ وَالرُّجُوعَ إلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ الْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا يَخْتَلِجُ فِي صَدْرِكَ مِمَّا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ , وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَاعْرَفْ الْأَمْثَالَ وَالْأَشْبَاهَ وَقِسْ الْأُمُورَ بِرَأْيِكَ وَاعْمِدْ إلَى أَقْرَبِهَا إلَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ , وَاجْعَلْ لِمَنْ يَطْلُبُ حَقًّا غَائِبًا أَوْ شَاهِدًا أَمَدًا يَنْتَهِي إلَيْهِ , فَإِنْ أَحْضَرَ بَيِّنَةً أُخِذَ لَهُ بِحَقِّهِ , وَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا وُجِّهَتْ لِلْقَضَاءِ , فَإِنَّهُ أَجْلَى لِلْعَمَى وَأَبْلُغُ فِي الْعُذْرِ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ أَوْ مُجْرَى عَلَيْهِ شَهَادَةُ الزُّورِ , فَإِنَّ اللَّهَ تَوَلَّى السَّرَائِرَ وَدَرَأَ عَنْكُمْ الشُّبُهَاتِ . وَبَعَثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَاضِيًا إلَى الْكُوفَةِ .(2/497)
وَبَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَاضِيًا إلَى الْبَصْرَةِ وَوَلَّى عُثْمَانُ رضي الله عنه شُرَيْحًا قَاضِيًا . وَالْقَضَاءُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ إذَا قَامَ بِهِ بَعْضُ قَوْمٍ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْجِهَادِ , فَإِنْ تَرَكُوا الْقَضَاءَ أَثِمُوا الْجَمِيعُ . وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَاخْتِلَافِ السَّلَفِ فَقِيهَ النَّفْسِ يَعْقِلُ وُجُوهَ الْقِيَاسِ إذَا وَرَدَ , عَالِمًا بِتَخْرِيجِ الْأَخْبَارِ إذَا اخْتَلَفَتْ وَتَرْجِيحِ أَقَاوِيلِ الْأَئِمَّةِ إذَا اشْتَبَهَتْ وَافِرَ الْعَقْلِ أَمِينًا مُتَثَبِّتًا حَلِيمًا ذَا فِطْنَةٍ وَتَيَقُّظٍ لَا يُؤْتَى مِنْ غَفْلَةٍ , وَلَا يُخْدَعُ بِغُرَّةٍ صَحِيحَ حَوَاسِّ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ عَارِفًا بِلُغَاتِ أَهْلِ قَضَائِهِ جَامِعًا لِلْعَفَافِ نَزِهًا بَعِيدَ الطَّمَعِ عَدْلًا رَشِيدًا صَدُوقَ اللَّهْجَةِ ذَا رَأْيٍ وَمَشُورَةٍ إذَا حَكَمَ فَصَلَ لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ ذَا هَيْئَةٍ وَسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ , وَلَوْ كَانَ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَ أَوْلَى . يُحْكَى أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وَلَّى أَبَا الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيَّ الْقَضَاءَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ عَزَلَهُ فَقَالَ لَهُ لِمَ عَزَلَتْنِي فَوَاَللَّهِ مَا خُنْتُ , وَلَا خَوَّنْت قَالَ بَلَغَنِي أَنَّ كَلَامَكَ يَعْلُو كَلَامَ الْخَصْمَيْنِ إذَا تَحَاكَمَا إلَيْك . قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ الْقَاضِي جَائِرًا عَسُوفًا , وَلَا ضَعِيفًا مَهِينًا .(2/498)
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ شَدِيدًا مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ لَيِّنًا مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ ; لِأَنَّ الْجَبَّارَ يَهَابُهُ الْخَصْمَ فَلَا يُلْحِنُ بِحُجَّتِهِ , وَالضَّعِيفَ يَطْمَعُ فِيهِ الْخَصْمُ فَيُبْسِطُ لِسَانَهُ . وَعَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِكِتَابِ اللَّهِ فِيمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ , فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنْ لَمْ تَكُنْ مَنْسُوخَةً . وَإِذَا تَكَمَّلَتْ شُرُوطُ الْقَضَاءِ فِي رَجُلٍ وَاحِدٍ , وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ غَيْرُهُ فَالْقَضَاءُ عَلَيْهِ فَرْضُ عَيْنٍ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ إذَا دُعِيَ , وَإِنْ امْتَنَعَ أَجْبَرَهُ الْإِمَامُ عَلَى ذَلِكَ , فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ الْإِمَامُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُعَرِّفهُ بِنَفْسِهِ حَتَّى يُوَلِّيَهُ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ , وَقِيلَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ إذَا طَلَبَ , وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ التَّعْرِيفُ بِنَفْسِهِ , وَلَا الطَّلَبُ , وَإِذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَكِنْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْخِيَانَةَ وَالْمِيلَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ وُجُوبُهُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ وَيَمْنَعُ نَفْسَهُ مِمَّا يَخَافُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْوَاجِبَاتِ لَا تَسْقُطُ بِالِاسْتِشْعَارِ .(2/499)
وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ جَمَاعَةٌ يُكَامِلُ فِيهِمْ شُرُوطَ الْقَضَاءِ , فَإِنَّ الْأَوْلَى لِلْإِمَامِ تَقْلِيدُ أَفْضَلِهِمْ , فَإِنْ عَدَلَ عَنْهُ إلَى الْمَفْضُولِ وَقَلَّدَهُ صَحَّ تَقْلِيدُهُ ; لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى كَمَالِ الشُّرُوطِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ , وَأَمَّا إذَا اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ يَصْلُحُونَ , وَفِيهِمْ طَالِبٌ , وَفِيهِمْ مُمْسِكٌ عَنْ الطَّلَبِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَلِّدَ الْإِمَامُ الْمُمْسِكَ دُونَ الطَّالِبِ ; لِأَنَّهُ رَاغِبٌ فِي السَّلَامَةِ . وَرُوِيَ : { أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِّنِي عَلَى الْعَمَلِ الْفُلَانِيِّ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم إنَّا لَا نُوَلِّي عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ } , فَلَوْ عَدَلَ الْإِمَامُ عَنْ الْمُمْتَنِعِ وَقَلَّدَ الطَّالِبَ صَحَّ تَقْلِيدُهُ بَعْدَ اعْتِبَارِ حَالِ الطَّالِبِ فِي طَلَبِهِ .
وفي كشف الأسرار :(2/500)
وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الْفَصْلِ فَأَبَى بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ حَظِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا لَهُ الْوَحْيُ الْخَالِصُ لَا غَيْرُ وَإِنَّمَا الرَّأْيُ وَالِاجْتِهَادُ لِأُمَّتِهِ , وَقَالَ بَعْضُهُمْ : كَانَ لَهُ الْعَمَلُ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ بِالْوَحْيِ وَالرَّأْيِ جَمِيعًا وَالْقَوْلُ الْأَصَحُّ عِنْدَنَا وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنَّ الرَّسُولَ مَأْمُورٌ بِانْتِظَارِ الْوَحْيِ فِيمَا لَمْ يُوحَ إلَيْهِ مِنْ حُكْمِ الْوَاقِعَةِ ثُمَّ الْعَمَلُ بِالرَّأْيِ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الِانْتِظَارِ احْتَجَّ الْأَوَّلُ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى } وَلِأَنَّ الِاجْتِهَادَ مُحْتَمِلٌ لِلْخَطَأِ وَلَا يَصْلُحُ لِنَصْبِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً ; لِأَنَّ الشَّرْعَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَإِلَيْهِ نَصْبُهُ بِخِلَافِ أَمْرِ الْحُرُوبِ ; لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْعِبَادِ بِدَفْعٍ أَوْ جَرٍّ فَصَحَّ إثْبَاتُهُ بِالرَّأْيِ , وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَمَرَ بِالِاعْتِبَارِ عَامًّا بِقَوْلِهِ { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } وَهُوَ عليه السلام أَحَقُّ النَّاسِ بِهَذَا الْوَصْفِ , وَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ , وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { لَقَدْ ظَلَمَك بِسُؤَالِ نَعْجَتِك إلَى نِعَاجِهِ } جَوَابٌ بِالرَّأْيِ { وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْخَثْعَمِيَّةِ أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْنٌ فَقَضَيْته أَمَا كَانَ يُقْبَلُ مِنْك قَالَتْ نَعَمْ قَالَ دَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ } وَقَالَ لِعُمَرَ وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ الْقُبْلَةِ(3/1)
لِلصَّائِمِ أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت بِمَاءٍ ثُمَّ مَجَجْته أَكَانَ تَضُرُّك وَهَذَا قِيَاسٌ ظَاهِرٌ وَقِيلَ فِيمَنْ أَتَى أَهْلَهُ أَنَّهُ يُؤْجَرُ فَقِيلَ أَيُؤْجَرُ أَحَدُنَا فِي شَهْوَتِهِ فَقَالَ أَرَأَيْت لَوْ وَضَعَهُ فِي حَرَامٍ أَمَا كَانَ بِإِثْمٍ وَقَالَ فِي حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت بِمَاءٍ ثُمَّ مَجَجْته أَكُنْت شَارِبَهُ وَهَذَا قِيَاسٌ وَاضِحٌ فِي تَحْرِيمِ الْأَوْسَاخِ لِحُكْمِ الِاسْتِعْمَالِ وَلِأَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم أَسْبَقُ النَّاسِ فِي الْعِلْمِ حَتَّى وُضِعَ لَهُ مَا خَفِيَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمُتَشَابِهِ فَمُحَالٌ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ مَعَانِي النَّصِّ وَإِذَا وَضَحَ لَهُ لَزِمَهُ الْعَمَلُ بِهِ ; لِأَنَّ الْحُجَّةَ لِلْعَمَلِ شُرِعَتْ إلَّا أَنَّ اجْتِهَادَ غَيْرِهِ يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ وَاجْتِهَادَهُ لَا يَحْتَمِلُ وَلَا يَحْتَمِلُ الْقَرَارَ عَلَى الْخَطَأِ , فَإِذَا أَقَرَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُصِيبٌ بِيَقِينٍ وَذَلِكَ مِثْلُ مُشَاوَرَتِهِ فِي أُمُورِ الْحَرْبِ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُشَاوِرُ فِي سَائِرِ الْحَوَادِثِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ مِثْلُ مُشَاوَرَتِهِ فِي أُمُورِ الْحَرْبِ أَلَا يُرَى أَنَّهُ شَاوَرَهُمْ فِي أُسَارَى بَدْرٍ فَأَخَذَ بِرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ وَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الرَّأْيَ عِنْدَهُ فَمَنَّ عَلَيْهِمْ حَتَّى نَزَلَ قَوْلُهُ { لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وَكَمَا شَاوَرَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ فِي بَذْلِ شَطْرِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ ثُمَّ أَخَذَ بِرَأْيِهِمَا وَكَذَلِكَ أَخَذَ بِرَأْيِ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ فِي(3/2)
النُّزُولِ عَلَى الْمَاءِ يَوْمَ بَدْرٍ وَكَانَ يَقْطَعُ الْأَمْرَ دُونَهُمْ فِيمَا أُوحِيَ إلَيْهِ فِي الْحَرْبِ كَمَا فِي سَائِرِ الْحَوَادِثِ , وَالْجِهَادُ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَرْقٌ وَكَانَ يَقُولُ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما قُولَا فَإِنِّي فِيمَا لَمْ يُوحَ إلَيَّ مِثْلُكُمَا وَلَا يَحِلُّ الْمَشُورَةُ مَعَ قِيَامِ الْوَحْيِ وَإِنَّمَا الشُّورَى فِي الْعَمَلِ بِالرَّأْيِ خَاصَّةً أَلَا يُرَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَعْصُومٌ عَنْ الْقَرَارِ عَلَى الْخَطَأِ أَمَّا غَيْرُهُ فَلَا يُعْصَمُ عَنْ الْقَرَارِ عَلَى الْخَطَأِ , فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ اجْتِهَادُهُ وَرَأْيُهُ صَوَابًا بِلَا شُبْهَةٍ إلَّا أَنَّا اخْتَرْنَا تَقْدِيمَ انْتِظَارِ الْوَحْيِ ; لِأَنَّهُ مُكَرَّمٌ بِالْوَحْيِ الَّذِي يُغْنِيه عَنْ الرَّأْيِ وَعَلَى ذَلِكَ غَالِبُ أَحْوَالِهِ فِي أَنْ لَا يُخْلَى عَنْ الْوَحْيِ , وَالرَّأْيُ ضَرُورِيٌّ فَوَجَبَ تَقْدِيمُ الطَّلَبِ لِاحْتِمَالِ الْإِصَابَةِ غَالِبًا كَالتَّيَمُّمِ لَا يَجُوزُ فِي مَوْضِعِ وُجُودِ الْمَاءِ غَالِبًا إلَّا بَعْدَ الطَّلَبِ وَصَارَ ذَلِكَ كَطَلَبِ النَّصِّ النَّازِلِ الْخَفِيِّ بَيْنَ النُّصُوصِ فِي حَقِّ سَائِرِ الْمُجْتَهِدِينَ وَمُدَّةِ الِانْتِظَارِ عَلَى مَا يَرْجُو نُزُولَهُ إلَّا أَنْ يَخَافَ الْفَوْتَ فِي الْحَادِثَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَمِمَّا يَتَّصِلُ بِسُنَّةِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم شَرَائِعُ مَنْ قَبْلَهُ وَإِنَّمَا أَخَّرْنَاهُ ; لِأَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِ شَرِيعَةً لَهُ وَهَذَا .(3/3)
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَحَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ , فَإِنَّهُ عليه السلام اعْتَبَرَ فِيهِ دَيْنَ اللَّهِ بِدَيْنِ الْعِبَادِ , وَذَلِكَ بَيَانٌ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ وَحَدِيثُ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ { عُمَرَ رضي الله عنه سَأَلَ النَّبِيَّ عليه السلام فَقَالَ : إنِّي أَتَيْت الْيَوْمَ أَمْرًا عَظِيمًا فَقَالَ : وَمَا ذَاكَ فَقَالَ هَشَشْت إلَى امْرَأَتِي فَقَبَّلْتُهَا فَقَالَ : رَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت بِمَاءٍ ثُمَّ مَجَجْته أَكَانَ يَضُرُّك قَالَ لَا قَالَ فَفِيمَ إذًا } أَيْ فَفِيمَ تَشُكُّ إذْ قَدْ عَرَفْت ذَلِكَ فَاعْتَبَرَ فِيهِ مُقَدَّمَةَ الْجِمَاعِ وَهِيَ الْقُبْلَةُ بِمُقَدَّمَةِ الشُّرْبِ وَهِيَ الْمَضْمَضَةُ فِي عَدَمِ فَسَادِ الصَّوْمِ وَهُوَ قِيَاسٌ ظَاهِرٌ بَلْ عَدَمُ الْفَسَادِ فِي الْقُبْلَةِ أَظْهَرُ ; لِأَنَّهَا تُهَيِّجُ الشَّهْوَةَ وَلَا تُسَكِّنُهَا وَالتَّمَضْمُضُ تُسَكِّنُ شَيْئًا مِنْ الْعَطَشِ وَقَالَ فِيمَنْ أَتَى أَهْلَهُ إنَّهُ يُؤْجَرُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ { وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ قَالَ أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهِ وِزْرٌ فَكَذَلِكَ إذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ } اعْتَبَرَ مُبَاشَرَةَ الْحَلَالِ فِي اسْتِحْقَاقِ مُوجِبِهَا وَهُوَ الْأَجْرُ بِضِدِّهَا وَهُوَ مُبَاشَرَةُ الْحَرَامِ فِي اسْتِحْقَاقِ مُوجِبِهَا وَهُوَ الْوِزْرُ , وَهَذَا بَيَانُ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ , وَالْمَجُّ رَمْيُ الْمَاءِ مِنْ الْفَمِ مِمَّا يُطْلَبُ .(3/4)
, وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعِلْمِ بِمَعَانِي النُّصُوصِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْبَقُ النَّاسِ فِي الْعِلْمِ أَيْ أَكْمَلُهُمْ فِيهِ حَتَّى كَانَ يَعْلَمُ بِالْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنْ الْأُمَّةِ بَعْدَهُ وَكَانَ عَالِمًا بِمَعْنَى النَّصِّ الَّذِي هُوَ مُتَعَلَّقُ الْحُكْمِ لَا مَحَالَةَ وَبَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ وَالْوُقُوفِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعْمَالِ لَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ عَنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ نَوْعُ حَجْرٍ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِعُلُوِّ دَرَجَتِهِ مَعَ اطِّلَاعِ غَيْرِهِ فِيهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْعَمَلُ بِالِاجْتِهَادِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْعِلْمِ لِلْعِبَادِ وَأَكْثَرُ صَوَابًا لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَشَقَّةِ وَجَازَ لِأُمَّتِهِ ذَلِكَ لَكَانَتْ الْأُمَّةُ أَفْضَلَ مِنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَلَا يُقَالُ : إنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْصِبٌ أَعْلَى مِنْهُ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَسْتَدْرِكُ الْأَحْكَامَ وَحْيًا وَهُوَ أَعْلَى مِنْ الِاجْتِهَادِ ; لِأَنَّا نَقُولُ الْوَحْيُ وَإِنْ كَانَ أَعْلَى مِنْ الِاجْتِهَادِ لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ تَحَمُّلُ الْمَشَقَّةِ فِي اسْتِدْرَاكِ الْحُكْمِ فَلَا يَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُ جُودَةِ الْخَاطِرِ وَقُوَّةِ الْقَرِيحَةِ , وَإِذَا كَانَ هَذَا نَوْعًا مُفْرَدًا مِنْ الْفَضِيلَةِ لَمْ يَخْلُ الرَّسُولُ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ ثُمَّ الشَّيْخُ رحمه الله ذَكَرَ هَاهُنَا أَنَّ الْمُتَشَابِهَ وَضَحَ لِلرَّسُولِ عليه السلام دُونَ غَيْرِهِ وَهَكَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله وَهُوَ يُتَرَاءَى مُخَالِفًا لِظَاهِرِ الْكِتَابِ ; لِأَنَّ الْوَقْفَ إنْ وَجَبَ عَلَى قَوْلِهِ(3/5)
عَزَّ وَجَلَّ { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ } كَمَا هُوَ مُخْتَارُ السَّلَفِ وَالشَّيْخَيْنِ فَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَعْلَمَهُ الرَّسُولُ كَمَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى قوله تعالى { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } كَمَا هُوَ مُخْتَارُ الْخَلَفِ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ الرَّسُولُ عليه السلام مَخْصُوصًا بِعِلْمِهِ بَلْ الرَّاسِخُونَ يَعْلَمُونَهُ أَيْضًا , فَأَمَّا أَنْ يَعْلَمَهُ الرَّسُولُ وَلَا يَعْلَمَهُ غَيْرُهُ فَمُخَالِفٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ .(3/6)
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الْوُقُوفِ عَلَى إلَّا اللَّهُ وَمَا يَعْلَمُ أَحَدٌ تَأْوِيلَهُ بِدُونِ تَعَلُّمِ اللَّهِ إلَّا اللَّهُ كَمَا فِي قوله تعالى { قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إلَّا اللَّهُ } أَيْ لَا يَعْلَمُ بِدُونِ تَعْلِيمِ اللَّهِ إلَّا اللَّهُ فَيَكُونُ إلَّا حِينَئِذٍ بِمَعْنَى غَيْرِ , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مَخْصُوصًا بِالتَّعْلِيمِ بِدُونِ إذْنٍ بِالْبَيَانِ لِغَيْرِهِ فَيَبْقَى غَيْرَ مَعْلُومٍ مِنْ حَقِّ غَيْرِهِ وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي حَصْرَ الْعِلْمِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَإِذَا صَارَ الرَّسُولُ عليه السلام عَالِمًا بِالْمُتَشَابِهَاتِ النَّازِلَةِ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالتَّعْلِيمِ لَا يَسْتَقِيمُ الْحَصْرُ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيمُ حَاصِلًا بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَلَا يَكُونُ الرَّسُولُ عليه السلام عَالِمًا بِالْمُتَشَابِهِ قَبْلَ نُزُولِهَا فَيَسْتَقِيمُ الْحَصْرُ بِقَوْلِهِ { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ } وَبِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى حَصْرِ الْعِلْمِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَلَى مَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ بِالتَّأْوِيلِ الَّذِي ذُكِرَ أَلَا تَرَى أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ تُوجِبُ حَصْرَ عِلْمِ الْغَيْبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ إنَّهُ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَعْلَمَ غَيْرُ اللَّهِ بِتَعْلِيمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إلَّا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ } فَكَذَا هَاهُنَا قَوْلُهُ ( إلَّا أَنَّ اجْتِهَادَ غَيْرِهِ ) جَوَابٌ(3/7)
عَمَّا يُقَالُ لِمَا جَازَ لَهُ الِاجْتِهَادُ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَنْزِلَتَهُ دُونَ النَّصِّ فَيَكُونَ ظَنِّيًّا كَاجْتِهَادِ غَيْرِهِ , وَيَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ إذْ ذَاكَ فَقَالَ لَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ اجْتِهَادَ غَيْرِهِ يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ وَالْقَرَارَ عَلَيْهِ وَاجْتِهَادُهُ لَا يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ; لِأَنَّا أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِ فِي الْأَحْكَامِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { فَلَا وَرَبِّك لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْت وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَبِغَيْرِهِ مِنْ الْآيَاتِ فَلَوْ جَازَ الْخَطَأُ عَلَيْهِ لَكُنَّا مَأْمُورِينَ بِاتِّبَاعِ الْخَطَأِ , وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ وَإِنْ احْتَمَلَ الْخَطَأَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ { عَفَا اللَّهُ عَنْك لِمَ أَذِنْت لَهُمْ } . , فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عليه السلام أَخْطَأَ فِي الْإِذْنِ لَهُمْ وَبِدَلِيلِ نُزُولِ الْعِتَابِ فِي أُسَارَى بَدْرٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الدَّلَائِلِ فَلَا يُحْتَمَلُ الْقَرَارُ عَلَى الْخَطَأِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الْخَطَأِ , فَإِذَا أَقَرَّهُ اللَّهُ عَلَى اجْتِهَادِهِ دَلَّ أَنَّهُ كَانَ هُوَ الصَّوَابَ فَيُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ كَالنَّصِّ فَيَكُونُ مُخَالَفَتُهُ حَرَامًا وَكُفْرًا وَهُوَ نَظِيرُ الْإِلْهَامِ , فَإِنَّ إلْهَامَ النَّبِيِّ عليه السلام حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ لَا يَسَعُ مُخَالَفَتُهُ بِوَجْهٍ , وَإِلْهَامُ غَيْرِهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ .
وفي إعلام الموقعين :
فَصْلٌ [ قَوْلُ نُفَاةِ الْقِيَاسِ ](3/8)
قَدْ أَتَيْنَا عَلَى ذِكْرِ فُصُولٍ نَافِعَةٍ وَأُصُولٍ جَامِعَةٍ فِي تَقْرِيرِ الْقِيَاسِ وَالِاحْتِجَاجِ بِهِ لَعَلَّكَ لَا تَظْفَرُ بِهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ , وَلَا بِقَرِيبٍ مِنْهَا , فَلْنَذْكُرْ مَعَ ذَلِكَ مَا قَابَلَهَا مِنْ النُّصُوصِ وَالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَمِّ الْقِيَاسِ , وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ , وَحُصُولِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ وَالِاكْتِفَاءِ بِالْوَحْيَيْنِ , وَهَا نَحْنُ نَسُوقُهَا مُفَصَّلَةً مُبَيَّنَةً بِحَمْدِ اللَّهِ . قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرَدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } , وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الرَّدَّ إلَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - هُوَ الرَّدُّ إلَى كِتَابِهِ , وَالرَّدَّ إلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الرَّدُّ إلَيْهِ فِي حُضُورِهِ وَحَيَاتِهِ وَإِلَى سُنَّتِهِ فِي غَيْبَتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ , وَالْقِيَاسُ لَيْسَ بِهَذَا وَلَا هَذَا .(3/9)
وَلَا يُقَالُ : الرَّدُّ إلَى الْقِيَاسِ هُوَ مِنْ الرَّدِّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ , لِدَلَالَةِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ عليه السلام كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ ; لِأَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - إنَّمَا رَدَّنَا إلَى كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَمْ يَرُدَّنَا إلَى قِيَاسِ عُقُولِنَا وَآرَائِنَا قَطُّ , بَلْ قَالَ - تَعَالَى - لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم : { وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } , وَقَالَ : { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاك اللَّهُ } , وَلَمْ يَقُلْ بِمَا رَأَيْتَ أَنْتَ , وَقَالَ : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ } , { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ } , { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ } , وَقَالَ - تَعَالَى - : { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } , وَقَالَ - تَعَالَى - : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } وَقَالَ : { أَوْ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } , وَقَالَ : { قُلْ إنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنْ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إلَيَّ رَبِّي } , فَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ هُدًى لَمْ يَنْحَصِرْ الْهُدَى فِي الْوَحْيِ , وَقَالَ : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } , فَنَفَى الْإِيمَانَ حَتَّى يُوجَدَ تَحْكِيمُهُ وَحْدَهُ , وَهُوَ تَحْكِيمُهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَتَحْكِيمُ سُنَّتِهِ فَقَطْ بَعْدَ وَفَاتِهِ , وَقَالَ - تَعَالَى(3/10)
- : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } , أَيْ لَا تَقُولُوا حَتَّى يَقُولَ . قَالَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ : وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ حَرَّمَ مَا سَكَتَ عَنْهُ أَوْ أَوْجَبَهُ قِيَاسًا عَلَى مَا تَكَلَّمَ بِتَحْرِيمِهِ أَوْ إيجَابِهِ تَقَدُّمٌ بَيْنَ يَدَيْهِ ; فَإِنَّهُ إذَا قَالَ : " حَرَّمْتُ عَلَيْكُمْ الرِّبَا فِي الْبُرِّ " فَقُلْنَا : وَنَحْنُ نَقِيسُ عَلَى قَوْلِكَ الْبَلُّوطَ , فَهَذَا مَحْضُ التَّقَدُّمِ . قَالُوا : وَقَدْ حَرَّمَ - سُبْحَانَهُ - أَنْ نَقُولَ عَلَيْهِ مَا لَا نَعْلَمُ , فَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ فَقَدْ وَاقَعْنَا هَذَا الْمُحَرَّمَ يَقِينًا , فَإِنَّا غَيْرُ عَالَمِينَ بِأَنَّهُ أَرَادَ مِنْ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ تَحْرِيمَهُ فِي الْقَدِيدِ مِنْ اللُّحُومِ , وَهَذَا قَفْوٌ مِنَّا مَا لَيْسَ لَنَا بِهِ عِلْمٌ , وَتَعَدٍّ لِمَا حُدَّ لَنَا , " وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ " , وَالْوَاجِبُ أَنْ نَقِفَ عِنْدَ حُدُودِهِ , وَلَا نَتَجَاوَزَهَا وَلَا نُقَصِّرَ بِهَا .(3/11)
وَلَا يُقَالُ : فَإِبْطَالُ الْقِيَاسِ وَتَحْرِيمُهُ وَالنَّهْيُ عَنْهُ تَقَدُّمٌ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَتَحْرِيمٌ لِمَا لَمْ يَنُصَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ , وَقَفْوٌ مِنْكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ [ عِلْمٌ ] ; لِأَنَّا نَقُولُ : اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَخْرَجْنَا مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِنَا لَا نَعْلَمُ شَيْئًا , وَأَنْزَلَ عَلَيْنَا كِتَابَهُ , وَأَرْسَلَ إلَيْنَا رَسُولَهُ يُعَلِّمُنَا الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ , فَمَا عَلِمْنَاهُ وَبَيَّنَهُ لَنَا فَهُوَ مِنْ الدِّينِ , وَمَا لَمْ يُعَلِّمْنَاهُ وَلَا بَيَّنَ لَنَا أَنَّهُ مِنْ الدِّينِ فَلَيْسَ مِنْ الدِّينِ ضَرُورَةً , وَكُلُّ مَا لَيْسَ مِنْ الدِّينِ فَهُوَ بَاطِلٌ ; فَلَيْسَ بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ ; وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } , فَاَلَّذِي أَكْمَلَهُ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - وَبَيَّنَهُ وَهُوَ دِينُنَا , لَا دَيْنَ لَنَا سِوَاهُ , فَأَيْنَ فِيمَا أَكْمَلَهُ لَنَا " قِيسُوا مَا سَكَتُّ عَنْهُ عَلَى مَا تَكَلَّمْتُ بِإِيجَابِهِ أَوْ تَحْرِيمِهِ أَوْ إبَاحَتِهِ , سَوَاءٌ كَانَ الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا عِلَّةً أَوْ دَلِيلَ عِلَّةٍ أَوْ وَصْفًا شَبَهِيًّا , فَاسْتَعْمِلُوا ذَلِكَ كُلَّهُ وَانْسِبُوهُ إلَيَّ وَإِلَى رَسُولِي وَإِلَى دِينِي وَاحْكُمُوا بِهِ عَلَيَّ " .(3/12)
قَالُوا : وَقَدْ أَخْبَرَ - سُبْحَانَهُ - : { إنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا } , وَأَخْبَرَ رَسُولُهُ : " إنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ " وَنَهَى عَنْهُ , وَمِنْ أَعْظَمِ الظَّنِّ ظَنُّ الْقِيَاسِيِّينَ , فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى يَقِينٍ أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - حَرَّمَ بَيْعَ السِّمْسِمِ بِالشَّيْرَجِ وَالْحَلْوَى بِالْعِنَبِ وَالنَّشَا بِالْبُرِّ , وَإِنَّمَا هِيَ ظُنُونٌ مُجَرَّدَةٌ لَا تُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا . قَالُوا : وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قِيَاسُ الضُّرَاطِ عَلَى " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ " مِنْ الظَّنِّ الَّذِي نُهِينَا عَنْ اتِّبَاعِهِ وَتَحْكِيمِهِ وَأَخْبَرَنَا أَنَّهُ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا فَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا ظَنٌّ بَاطِلٌ , فَأَيْنَ الضُّرَاطُ مِنْ " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ " ؟ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قِيَاسُ الْمَاءِ الَّذِي لَاقَى الْأَعْضَاءَ الطَّاهِرَةَ الطَّيِّبَةَ عِنْدَ اللَّهِ فِي إزَالَةِ الْحَدَثِ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي لَاقَى أَخْبَثَ الْعَذِرَاتِ وَالْمَيْتَاتِ وَالنَّجَاسَاتِ ظَنًّا فَلَا نَدْرِي مَا الظَّنُّ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - الْقَوْلَ بِهِ وَذَمَّهُ فِي كِتَابِهِ وَسَلَخَهُ مِنْ الْحَقِّ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قِيَاسُ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ عُبَّادِ الصُّلْبَانِ وَالْيَهُودِ الَّذِي هُمْ أَشَدُّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَخِيَارِ خَلْقِهِ وِسَادَاتِ الْأُمَّةِ وَعُلَمَائِهَا وَصُلَحَائِهَا فِي تَكَافُؤِ دِمَائِهِمْ وَجَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمْ فَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا ظَنٌّ يُذَمُّ اتِّبَاعُهُ .(3/13)
قَالُوا : وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّكُمْ قِسْتُمْ أَعْدَاءَ اللَّهِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ فِي جَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمْ فَقَتَلْتُمْ أَلْفَ وَلِيٍّ لِلَّهِ قَتَلُوا نَصْرَانِيًّا وَاحِدًا يُجَاهِرُهُمْ بِسَبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ عَلَانِيَةً , وَلَمْ تَقِيسُوا مَنْ ضَرَبَ رَأْسَ رَجُلٍ بِدَبُّوسِ فَنَثَرَ دِمَاغَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى مَنْ طَعَنَهُ بِمِسَلَّةٍ فَقَتَلَهُ . قَالُوا : وَسَنُبَيِّنُ لَكُمْ مِنْ تَنَاقُضِ أَقْيِسَتِكُمْ وَاخْتِلَافِهَا وَشِدَّةِ اضْطِرَابِهَا مَا يُبَيِّنُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ . قَالُوا : وَاَللَّهُ - تَعَالَى - لَمْ يَكِلْ بَيَانَ شَرِيعَتِهِ إلَى آرَائِنَا وَأَقْيِسَتِنَا وَاسْتِنْبَاطِنَا , وَإِنَّمَا وَكَلَهَا إلَى رَسُولِهِ الْمُبَيِّنِ عَنْهُ , فَمَا بَيَّنَهُ عَنْهُ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ , وَمَا لَمْ يُبَيِّنْهُ فَلَيْسَ مِنْ الدِّينِ , وَنَحْنُ نُنَاشِدُكُمْ اللَّهَ : هَلْ اعْتِمَادُكُمْ فِي هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ الشَّبَهِيَّةِ وَالْأَوْصَافِ الْحَدْسِيَّةِ التَّخْمِينِيَّةِ عَلَى بَيَانِ الرَّسُولِ أَمْ عَلَى آرَاءِ الرِّجَالِ وَظُنُونِهِمْ وَحَدْسِهِمْ ؟ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - : { وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ } , فَأَيْنَ بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنِّي إذَا حَرَّمْتُ شَيْئًا أَوْ أَوْجَبْتُهُ أَوْ أَبَحْتُهُ فَاسْتَخْرَجُوا وَصْفًا مَا شَبَهِيًّا جَامِعًا بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ جَمِيعِ مَا سَكَتُّ عَنْهُ فَأَلْحِقُوهُ بِهِ وَقِيسُوا عَلَيْهِ .(3/14)
قَالُوا : وَاَللَّهُ - تَعَالَى - قَدْ نَهَى عَنْ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ لَهُ , فَكَمَا لَا تُضْرَبُ لَهُ الْأَمْثَالُ لَا تُضْرَبُ لِدِينِهِ , وَتَمْثِيلُ مَا لَمْ يَنُصَّ عَلَى حُكْمِهِ بِمَا نَصَّ عَلَيْهِ لِشَبَهِ مَا ضَرَبَ الْأَمْثَالَ لِدِينِهِ , وَهَذَا بِخِلَافِ مَا ضَرَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْأَمْثَالِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا , كَمَا أَمَرَهُمْ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ الَّتِي نَامُوا عَنْهَا فَقَالُوا : { أَلَا نُصَلِّيهَا لِوَقْتِهَا مِنْ الْغَدِ ؟ فَقَالَ : أَيَنْهَاكُمْ عَنْ الرِّبَا وَيَقْبَلُهُ مِنْكُمْ } , وَكَمَا { قَالَ لِعُمَرَ وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ ثُمَّ مَجَجْتَهُ } , وَكَمَا { قَالَ لِمَنْ سَأَلَتْهُ عَنْ الْحَجِّ عَنْ أَبِيهَا أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ } , وَكَمَا { قَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ : هَلْ يُثَابُ عَلَى وَطْءِ زَوْجَتِهِ أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي الْحَرَامِ } .
[ الْجَوَابُ عَلَى ادِّعَاءِ أَنَّ التَّقْلِيدَ أَسْلَمُ مِنْ طَلَبِ الْحُجَّةِ ](3/15)
الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالسَّبْعُونَ : قَوْلُكُمْ " أَنْتُمْ مَنَعْتُمْ مِنْ التَّقْلِيدِ خَشْيَةَ وُقُوعِ الْمُقَلِّدِ فِي الْخَطَأِ بِأَنْ يَكُونَ مَنْ قَلَّدَهُ مُخْطِئًا فِي فَتْوَاهُ , ثُمَّ أَوْجَبْتُمْ عَلَيْهِ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ فِي طَلَبِ الْحَقِّ , وَلَا رَيْبَ أَنَّ صَوَابَهُ فِي تَقْلِيدِهِ لِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ أَقْرَبُ مِنْ اجْتِهَادِهِ هُوَ لِنَفْسِهِ , كَمَنْ أَرَادَ شِرَاءَ سِلْعَةٍ لَا خِبْرَةَ لَهُ بِهَا فَإِنَّهُ إذَا قَلَّدَ عَالِمًا بِتِلْكَ السِّلْعَةِ خَبِيرًا بِهَا أَمِينًا نَاصِحًا كَانَ صَوَابُهُ وَحُصُولُ غَرَضِهِ أَقْرَبَ مِنْ اجْتِهَادِهِ لِنَفْسِهِ " , جَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّا مَنَعْنَا التَّقْلِيدَ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ , وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ مَنَعَ مِنْهُ , وَذَمَّ أَهْلَهُ فِي كِتَابِهِ , وَأَمَرَ بِتَحْكِيمِهِ وَتَحْكِيمِ رَسُولِهِ وَرَدِّ مَا تَنَازَعَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ إلَيْهِ وَإِلَى رَسُولِهِ , وَأَخْبَرَ أَنَّ الْحُكْمَ لَهُ وَحْدَهُ , وَنَهَى أَنْ يُتَّخَذَ مِنْ دُونِهِ وَدُونِ رَسُولِهِ وَلِيجَةً , وَأَمَرَ أَنْ يُعْتَصَمَ بِكِتَابِهِ , وَنَهَى أَنْ يُتَّخَذَ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ وَأَرْبَابًا يُحِلُّ مَنْ اتَّخَذَهُمْ مَا أَحَلُّوهُ وَيُحَرِّمُ مَا حَرَّمُوهُ , وَجَعَلَ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِمَا أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَنْعَامِ , وَأَمَرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ إذَا كَانَتْ طَاعَتُهُمْ طَاعَةً لِرَسُولِهِ بِأَنْ يَكُونُوا مُتَّبِعِينَ لِأَمْرِهِ مُخْبِرِينَ بِهِ , وَأَقْسَمَ بِنَفْسِهِ سُبْحَانَهُ أَنَّا لَا نُؤْمِنُ حَتَّى نُحَكِّمَ الرَّسُولَ خَاصَّةً فِيمَا شَجَرَ بَيْنَنَا لَا نُحَكِّمَ غَيْرَهُ ثُمَّ لَا نَجِدَ فِي أَنْفُسِنَا حَرَجًا مِمَّا حَكَمَ بِهِ(3/16)
كَمَا يَجِدُهُ الْمُقَلِّدُونَ إذَا جَاءَ حُكْمُهُ خِلَافَ قَوْلِ مَنْ قَلَّدُوهُ , وَأَنْ نُسَلِّمَ لِحُكْمِهِ تَسْلِيمًا , كَمَا يُسَلِّمُ الْمُقَلِّدُونَ لِأَقْوَالِ مَنْ قَلَّدُوهُ , بَلْ تَسْلِيمًا أَعْظَمَ مِنْ تَسْلِيمِهِمْ وَأَكْمَلَ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ . وَذَمَّ مَنْ حَاكَمَ إلَى غَيْرِ الرَّسُولِ , وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي حَيَاتِهِ فَهُوَ ثَابِتٌ بَعْدَ مَمَاتِهِ , فَلَوْ كَانَ حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِنَا وَتَحَاكَمْنَا إلَى غَيْرِهِ لَكُنَّا مِنْ أَهْلِ الذَّمِّ وَالْوَعِيدِ ; فَسُنَّتُهُ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لَمْ يَمُتْ , وَإِنْ فُقِدَ مِنْ بَيْنِ الْأُمَّةِ شَخْصُهُ الْكَرِيمُ فَلَمْ يُفْقَدْ مِنْ بَيْنِنَا سُنَّتُهُ وَدَعْوَتُهُ وَهَدْيُهُ , وَالْعِلْمُ وَالْإِيمَانُ بِحَمْدِ اللَّهِ مَكَانَهُمَا , مَنْ ابْتَغَاهُمَا وَجَدَهُمَا , وَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حِفْظَ الذِّكْرِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ ; فَلَا يَزَالُ مَحْفُوظًا بِحِفْظِ اللَّهِ مُحْمِيًا بِحِمَايَتِهِ لِتَقُومَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ ; إذْ كَانَ نَبِيُّهُمْ آخِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ; فَكَانَ حِفْظُهُ لِدِينِهِ وَمَا أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ مُغْنِيًا عَنْ رَسُولٍ آخَرَ بَعْدَ خَاتَمِ الرُّسُلِ , وَاَلَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَفَرَضَهُ عَلَى الصَّحَابَةِ مِنْ تَلَقِّي الْعِلْمِ وَالْهُدَى مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ دُونَ غَيْرِهِمَا هُوَ بِعَيْنِهِ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ , وَهُوَ مُحْكَمٌ لَمْ يُنْسَخْ وَلَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ النَّسْخُ حَتَّى يَنْسَخَ اللَّهُ الْعَالِمَ أَوْ يَطْوِيَ الدُّنْيَا , وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ إذَا دُعِيَ إلَى مَا أَنْزَلَهُ(3/17)
وَإِلَى رَسُولِهِ صَدَّ وَأَعْرَضَ , وَحَذَّرَهُ أَنْ تُصِيبَهُ مُصِيبَةٌ بِإِعْرَاضِهِ عَنْ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ وَدِينِهِ وَدُنْيَاهُ , وَحَذَّرَ مَنْ خَالَفَ عَنْ أَمْرِهِ وَاتَّبَعَ غَيْرَهُ أَنْ تُصِيبَهُ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ; فَالْفِتْنَةُ فِي قَلْبِهِ , وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ فِي بَدَنِهِ وَرُوحِهِ , وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ ; فَمَنْ فُتِنَ فِي قَلْبِهِ بِإِعْرَاضِهِ عَمَّا جَاءَ بِهِ وَمُخَالَفَتِهِ لَهُ إلَى غَيْرِهِ أُصِيبَ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ وَلَا بُدَّ , وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ إذَا قَضَى أَمْرًا عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَخْتَارَ مِنْ أَمْرِهِ غَيْرَ مَا قَضَاهُ , فَلَا خِيَرَةَ بَعْدَ قَضَائِهِ لِمُؤْمِنٍ أَلْبَتَّةَ , وَنَحْنُ نَسْأَلُ الْمُقَلِّدِينَ : هَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَخْفَى قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ دِينَكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ أَمْ لَا ؟ , [ مَثَلٌ مِمَّا خَفِيَ عَلَى كِبَارِ الصَّحَابَةِ ] : فَإِنْ قَالُوا : " لَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ " أَنْزَلُوهُ فَوْقَ مَنْزِلَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَالصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ ; فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَّا وَقَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ ; فَهَذَا الصِّدِّيقُ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ بِهِ خَفِيَ عَلَيْهِ مِيرَاثُ الْجَدَّةِ حَتَّى أَعْلَمَهُ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ , وَخَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّ الشَّهِيدَ لَا دِيَةَ لَهُ حَتَّى أَعْلَمَهُ بِهِ عُمَرُ فَرَجَعَ إلَى قَوْلِهِ .(3/18)
وَخَفِيَ عَلَى عُمَرَ تَيَمُّمُ الْجُنُبِ فَقَالَ : لَوْ بَقِيَ شَهْرًا لَمْ يُصَلِّ حَتَّى يَغْتَسِلَ , وَخَفِيَ عَلَيْهِ دِيَةُ الْأَصَابِعِ فَقَضَى فِي الْإِبْهَامِ وَاَلَّتِي تَلِيهَا بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ حَتَّى أُخْبِرَ أَنَّ فِي كِتَابِ آلِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِيهَا بِعَشْرٍ عَشْرٍ ; فَتَرَكَ قَوْلَهُ وَرَجَعَ إلَيْهِ , وَخَفِيَ عَلَيْهِ شَأْنُ الِاسْتِئْذَانِ حَتَّى أَخْبَرَهُ بِهِ أَبُو مُوسَى وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ , وَخَفِيَ عَلَيْهِ تَوْرِيثُ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا حَتَّى كَتَبَ إلَيْهِ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ الْكِلَابِيُّ - وَهُوَ أَعْرَابِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا , وَخَفِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ حَتَّى سَأَلَ عَنْهُ فَوَجَدَهُ عِنْدَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ , وَخَفِيَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْمَجُوسِ فِي الْجِزْيَةِ حَتَّى أَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ , وَخَفِيَ عَلَيْهِ سُقُوطُ طَوَافِ الْوَدَاعِ عَنْ الْحَائِضِ فَكَانَ يَرُدُّهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ثُمَّ يَطُفْنَ حَتَّى بَلَغَهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خِلَافُ ذَلِكَ فَرَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ , وَخَفِيَ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ دِيَةِ الْأَصَابِعِ وَكَانَ يُفَاضِلُ بَيْنَهَا حَتَّى بَلَغَتْهُ السُّنَّةُ فِي التَّسْوِيَةِ فَرَجَعَ إلَيْهَا , وَخَفِيَ عَلَيْهِ شَأْنُ مُتْعَةِ الْحَجِّ وَكَانَ يَنْهَى عَنْهَا حَتَّى وَقَفَ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِهَا فَتَرَكَ قَوْلَهُ وَأَمَرَ بِهَا .(3/19)
وَخَفِيَ عَلَيْهِ جَوَازُ التَّسَمِّي بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ فَنَهَى عَنْهُ حَتَّى أَخْبَرَهُ بِهِ طَلْحَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَنَّاهُ أَبَا مُحَمَّدٍ فَأَمْسَكَ وَلَمْ يَتَمَادَ عَلَى النَّهْيِ , هَذَا وَأَبُو مُوسَى وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَأَبُو أَيُّوبَ مِنْ أَشْهَرِ الصَّحَابَةِ , وَلَكِنْ لَمْ يَمُرَّ بِبَالِهِ رضي الله عنه أَمْرٌ هُوَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى نَهَى عَنْهُ , وَكَمَا خَفِيَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى { إنَّك مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } وَقَوْلُهُ { وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } حَتَّى قَالَ : وَاَللَّهِ كَأَنِّي مَا سَمِعْتُهَا قَطُّ قَبْلَ وَقْتِي هَذَا , وَكَمَا خَفِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الزِّيَادَةِ فِي الْمَهْرِ عَلَى مَهْرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَنَاتِهِ حَتَّى ذَكَّرَتْهُ تِلْكَ الْمَرْأَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } فَقَالَ : كُلُّ أَحَدٍ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ حَتَّى النِّسَاءُ , وَكَمَا خَفِيَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْجَدِّ وَالْكَلَالَةِ وَبَعْضِ أَبْوَابِ الرِّبَا فَتَمَنَّى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ عَهِدَ إلَيْهِمْ فِيهَا عَهْدًا . وَكَمَا خَفِيَ عَلَيْهِ يَوْمُ الْحُدَيْبِيَةِ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ وَأَصْحَابِهِ بِدُخُولِ مَكَّةَ مُطْلَقٌ لَا يَتَعَيَّنُ لِذَاكَ الْعَامِ حَتَّى بَيَّنَهُ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم .(3/20)
وَكَمَا خَفِيَ عَلَيْهِ جَوَازُ اسْتِدَامَةِ الطَّيِّبِ لِلْمُحْرِمِ وَتُطَيِّبُهُ بَعْدَ النَّحْرِ وَقَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَقَدْ صَحَّتْ السُّنَّةُ بِذَلِكَ , وَكَمَا خَفِيَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْقُدُومِ عَلَى مَحَلِّ الطَّاعُونِ وَالْفِرَارِ مِنْهُ حَتَّى أُخْبِرَ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ { : إذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوهَا , فَإِذَا وَقَعَ وَأَنْتُمْ بِأَرْضٍ فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا فِرَارًا مِنْهُ } هَذَا وَهُوَ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ بَعْدَ الصِّدِّيقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ . وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ " لَوْ وُضِعَ عِلْمُ عُمَرَ فِي كِفَّةِ مِيزَانٍ وَجُعِلَ عِلْمُ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي كِفَّةٍ لَرَجَحَ عِلْمُ عُمَرَ " قَالَ الْأَعْمَشُ : فَذَكَرْت ذَلِكَ لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فَقَالَ : وَاَللَّهِ إنِّي لَأَحْسَبُ عُمَرَ ذَهَبَ بِتِسْعَةِ أَعْشَارِ الْعِلْمِ . وَخَفِيَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ حَتَّى ذَكَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } مَعَ قَوْلِهِ { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } فَرَجَعَ إلَى ذَلِكَ , وَخَفِيَ عَلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مِيرَاثُ بِنْتِ الِابْنِ مَعَ الْبِنْتِ السُّدُسُ حَتَّى ذُكِرَ لَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَّثَهَا ذَلِكَ .(3/21)
وَخَفِيَ عَلَى ابْنِ الْعَبَّاسِ تَحْرِيمُ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ حَتَّى ذُكِرَ لَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ , وَخَفِيَ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ حُكْمُ الْمُفَوِّضَةِ وَتَرَدَّدُوا إلَيْهِ فِيهَا شَهْرًا فَأَفْتَاهُمْ بِرَأْيِهِ ثُمَّ بَلَغَهُ النَّصُّ بِمِثْلِ مَا أَفْتَى بِهِ . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَوْ تَتَبَّعْنَاهُ لَجَاءَ سِفْرًا كَبِيرًا , فَنَسْأَلُ حِينَئِذٍ فِرْقَةَ التَّقْلِيدِ : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ بَعْضُ شَأْنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا خَفِيَ ذَلِكَ عَلَى سَادَاتِ الْأُمَّةِ أَوْ لَا ؟ فَإِنْ قَالُوا " لَا يَخْفَى عَلَيْهِ " وَقَدْ خَفِيَ عَلَى الصَّحَابَةِ مَعَ قُرْبِ عَهْدِهِمْ بَلَغُوا فِي الْغُلُوِّ مَبْلَغَ مُدَّعِي الْعِصْمَةِ فِي الْأَئِمَّةِ , وَإِنْ قَالُوا : " بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ " وَهُوَ الْوَاقِعُ وَهُمْ مَرَاتِبُ فِي الْخَفَاءِ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ , قُلْنَا : فَنَحْنُ نُنَاشِدُكُمْ اللَّهَ الَّذِي هُوَ عِنْدَ لِسَانِ كُلِّ قَائِلٍ وَقَلْبِهِ , وَإِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا خَفِيَ عَلَى مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ هَلْ تَبْقَى لَكُمْ الْخِيَرَةُ بَيْنَ قَبُولِ قَوْلِهِ وَرَدِّهِ أَمْ تَنْقَطِعُ خِيَرَتُكُمْ وَتُوجِبُونَ الْعَمَلَ بِمَا قَضَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَيْنًا لَا يَجُوزُ سِوَاهُ ؟ فَأَعِدُّوا لِهَذَا السُّؤَالِ جَوَابًا , وَلِلْجَوَابِ صَوَابًا ; فَإِنَّ السُّؤَالَ وَاقِعٌ , وَالْجَوَابَ لَازِمٌ .(3/22)
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي مَنَعَنَا مِنْ التَّقْلِيدِ , فَأَيْنَ مَعَكُمْ حُجَّةٌ وَاحِدَةٌ تَقْطَعُ الْعُذْرَ وَتُسَوِّغُ لَكُمْ مَا ارْتَضَيْتُمُوهُ لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ التَّقْلِيدِ ؟ الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَكُمْ " صَوَابُ الْمُقَلِّدِ فِي تَقْلِيدِهِ لِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ أَقْرَبُ مِنْ صَوَابِهِ فِي اجْتِهَادِهِ " دَعْوَى بَاطِلَةٌ ; فَإِنَّهُ إذَا قَلَّدَ مَنْ قَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِمَّنْ هُوَ نَظِيرُهُ أَوْ أَعْلَمُ مِنْهُ لَمْ يَدْرِ عَلَى صَوَابٍ هُوَ مِنْ تَقْلِيدِهِ أَوْ عَلَى خَطَأٍ , بَلْ هُوَ - كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - حَاطِبُ لَيْلٍ إمَّا أَنْ يَقَعَ بِيَدِهِ عُودٌ أَوْ أَفْعَى تَلْدَغُهُ , وَأَمَّا إذَا بَذَلَ اجْتِهَادَهُ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ فَإِنَّهُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَظْفَرَ بِهِ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِمَّا أَنْ يُخْطِئَهُ فَلَهُ أَجْرٌ , فَهُوَ مُصِيبٌ لِلْأَجْرِ وَلَا بُدَّ , بِخِلَافِ الْمُقَلِّدِ الْمُتَعَصِّبِ فَإِنَّهُ إنْ أَصَابَ لَمْ يُؤْجَرْ , وَإِنْ أَخْطَأَ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ الْإِثْمِ , فَأَيْنَ صَوَابُ الْأَعْمَى مِنْ صَوَابِ الْبَصِيرِ الْبَاذِلِ جَهْدَهُ ؟ الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الصَّوَابِ إذَا عَرَفَ أَنَّ الصَّوَابَ مَعَ مَنْ قَلَّدَهُ دُونَ غَيْرِهِ , وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ مُقَلِّدًا لَهُ , بَلْ مُتَّبِعًا لِلْحُجَّةِ , وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ مِنْ بَاذِلِ جَهْدِهِ وَمُسْتَفْرِغِ وُسْعِهِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ ؟ الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّ الْأَقْرَبَ إلَى الصَّوَابِ عِنْدَ تَنَازُعِ الْعُلَمَاءِ مَنْ امْتَثَلَ أَمْرَ اللَّهِ فَرَدَّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى الْقُرْآنِ(3/23)
وَالسُّنَّةِ , وَأَمَّا مَنْ رَدَّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى قَوْلِ مَتْبُوعِهِ دُونَ غَيْرِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الصَّوَابِ ؟ , الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّ الْمِثَالَ الَّذِي مَثَّلْتُمْ بِهِ مِنْ أَكْبَرِ الْحُجَجِ عَلَيْكُمْ ; فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ شِرَاءَ سِلْعَةٍ أَوْ سُلُوكَ طَرِيقٍ حِينَ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ , وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَأْمُرُهُ بِخِلَافِ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ الْآخَرُ , فَإِنَّهُ لَا يَقْدُمُ عَلَى تَقْلِيدِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ , بَلْ يَبْقَى مُتَرَدِّدًا طَالِبًا لِلصَّوَابِ مِنْ أَقْوَالِهِمْ ; فَلَوْ أَقْدَمَ عَلَى قَبُولِ قَوْلِ أَحَدِهِمْ مَعَ مُسَاوَاةِ الْآخَرِ لَهُ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالنَّصِيحَةِ وَالدَّيَّانَةِ أَوْ كَوْنِهِ فَوْقَهُ فِي ذَلِكَ عُدَّ مُخَاطِرًا مَذْمُومًا وَلَمْ يُمْدَحْ إنْ أَصَابَ , وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ فِي فِطَرِ الْعُقَلَاءِ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَتَوَقَّفَ أَحَدُهُمْ وَيَطْلُبَ تَرْجِيحَ قَوْلِ الْمُخْتَلِفِينَ عَلَيْهِ مِنْ خَارِجٍ حَتَّى يَسْتَبِينَ لَهُ الصَّوَابُ , وَلَمْ يُجْعَلْ فِي فِطَرِهِمْ الْهَجْمُ عَلَى قَبُولِ قَوْلِ وَاحِدٍ وَاطِّرَاحُ قَوْلِ مَنْ عَدَاهُ .(3/24)
الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ : أَنْ نَقُولَ لِطَائِفَةِ الْمُقَلِّدِينَ : هَلْ تُسَوِّغُونَ تَقْلِيدَ كُلِّ عَالِمٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَوْ تَقْلِيدَ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ ؟ فَإِنْ سَوَّغْتُمْ تَقْلِيدَ الْجَمِيعِ كَانَ تَسْوِيغُكُمْ لِتَقْلِيدِ مَنْ انْتَمَيْتُمْ إلَى مَذْهَبِهِ كَتَسْوِيغِكُمْ لِتَقْلِيدِ غَيْرِهِ سَوَاءٌ , فَكَيْفَ صَارَتْ أَقْوَالُ هَذَا الْعَالِمِ مَذْهَبًا لَكُمْ تُفْتُونَ وَتَقْضُونَ بِهَا وَقَدْ سَوَّغْتُمْ مِنْ تَقْلِيدِ هَذَا مَا سَوَّغْتُمْ مِنْ تَقْلِيدِ الْآخَرِ ؟ فَكَيْفَ صَارَ هَذَا صَاحِبَ مَذْهَبِكُمْ دُونَ هَذَا ؟ وَكَيْفَ اسْتَجَزْتُمْ أَنْ تَرُدُّوا أَقْوَالَ هَذَا وَتَقْبَلُوا أَقْوَالَ هَذَا وَكِلَاهُمَا عَالِمٌ يَسُوغُ اتِّبَاعُهُ ؟ فَإِنْ كَانَتْ أَقْوَالُهُ مِنْ الدِّينِ فَكَيْفَ سَاغَ لَكُمْ دَفْعُ الدِّينِ ؟ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَقْوَالُهُ مِنْ الدِّينِ فَكَيْفَ سَوَّغْتُمْ تَقْلِيدَهُ ؟ وَهَذَا لَا جَوَابَ لَكُمْ عَنْهُ .
[ يُصَارُ إلَى الِاجْتِهَادِ وَإِلَى الْقِيَاسِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ] :(3/25)
وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ; إذْ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ إنَّمَا يُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ كَمَا تُبَاحُ لَهُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ , { فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : سَأَلْت الشَّافِعِيَّ عَنْ الْقِيَاسِ , فَقَالَ : عِنْدَ الضَّرُورَةِ , ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَدْخَلِهِ . وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ لَا يَرَى لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ حَتَّى تَطُوفَ طَوَافَ الْوَدَاعِ , وَتَنَاظَرَ فِي ذَلِكَ هُوَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ , فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ : إمَّا لَا فَسَلْ فُلَانَةَ الْأَنْصَارِيَّةَ , هَلْ أَمَرَهَا بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , فَرَجَعَ زَيْدٌ يَضْحَكُ وَيَقُولُ : مَا أَرَاك إلَّا قَدْ صَدَقْت , ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بِنَحْوِهِ . وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : كُنَّا نُخَابِرُ وَلَا نَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا , حَتَّى زَعَمَ رَافِعٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهَا , فَتَرَكْنَاهَا مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ . وَقَالَ ابْنُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ : عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ نَهَى عَنْ الطِّيبِ قَبْلَ زِيَارَةِ الْبَيْتِ وَبَعْدَ الْجَمْرَةِ , فَقَالَتْ عَائِشَةُ : طَيَّبْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِي لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ , وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ , وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَقُّ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَتَرَكَ سَالِمٌ قَوْلَ جَدِّهِ لِرِوَايَتِهَا , قُلْت : لَا كَمَا تَصْنَعُ فِرْقَةُ التَّقْلِيدِ .(3/26)
وَقَالَ الْأَصَمُّ : أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ لِنُعْطِيَنَّك جُمْلَةً تُغْنِيك إنْ شَاءَ اللَّهُ , لَا تَدَعْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا أَبَدًا إلَّا أَنْ يَأْتِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خِلَافَهُ فَتَعْمَلَ بِمَا قُلْت لَك فِي الْأَحَادِيثِ إذَا اخْتَلَفَتْ . قَالَ الْأَصَمُّ : وَسَمِعْت الرَّبِيعَ يَقُولُ : سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : إذَا وَجَدْتُمْ فِي كِتَابِي خِلَافَ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُولُوا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَدَعُوا مَا قُلْت , وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَارُودِيُّ : سَمِعْت الرَّبِيعَ يَقُولُ : سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : إذَا وَجَدْتُمْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خِلَافَ قَوْلِي فَخُذُوا بِالسُّنَّةِ وَدَعُوا قَوْلِي , فَإِنِّي أَقُولُ بِهَا وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ الرَّازِيُّ : سَمِعْت الرَّبِيعَ يَقُولُ : سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : كُلُّ مَسْأَلَةٍ تَكَلَّمْت فِيهَا صَحَّ الْخَبَرُ فِيهَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ بِخِلَافِ مَا قُلْت فَأَنَا رَاجِعٌ عَنْهَا فِي حَيَاتِي وَبَعْدَ مَوْتِي .(3/27)
وَقَالَ حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى : قَالَ الشَّافِعِيُّ : مَا قُلْت وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَ بِخِلَافِ قَوْلِي مِمَّا يَصِحُّ فَحَدِيثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْلَى , لَا تُقَلِّدُونِي ; وَقَالَ الْحَاكِمُ : سَمِعْت الْأَصَمَّ يَقُولُ : سَمِعْت الرَّبِيعَ يَقُولُ : سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : وَرَوَى حَدِيثًا , فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : تَأْخُذُ بِهَذَا يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : مَتَى رَوَيْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا صَحِيحًا فَلَمْ آخُذْ بِهِ فَأُشْهِدُكُمْ أَنَّ عَقْلِي قَدْ ذَهَبَ , وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى رُءُوسِهِمْ . وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ : سَأَلَ رَجُلٌ الشَّافِعِيَّ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَفْتَاهُ وَقَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَذَا , فَقَالَ الرَّجُلُ : أَتَقُولُ بِهَذَا ؟ قَالَ : أَرَأَيْت فِي وَسَطِي زُنَّارًا ؟ أَتَرَانِي خَرَجْت مِنْ الْكَنِيسَةِ ؟ أَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَتَقُولُ لِي : أَتَقُولُ بِهَذَا ؟ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَقُولُ بِهِ ؟ وَقَالَ الْحَاكِمُ : أَنْبَأَنِي أَبُو عَمْرُونٍ السَّمَّاكُ مُشَافَهَةً أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْجَصَّاصَ حَدَّثَهُمْ قَالَ : سَمِعْت الرَّبِيعَ بْنَ سُلَيْمَانَ يَقُولُ : سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ - وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ : رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ كَذَا وَكَذَا .(3/28)
فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ ؟ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَتَقُولُ بِهَذَا ؟ فَارْتَعَدَ الشَّافِعِيُّ وَاصْفَرَّ وَحَالَ لَوْنُهُ - وَقَالَ : وَيْحَكَ , أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي إذَا رَوَيْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا فَلَمْ أَقُلْ بِهِ ؟ نَعَمْ عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنَيْنِ , نَعَمْ عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنَيْنِ . قَالَ : وَسَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَتَذْهَبُ عَلَيْهِ سُنَّةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَعْزُبُ عَنْهُ , فَمَهْمَا قُلْت مِنْ قَوْلٍ أَوْ أَصَّلْت مِنْ أَصْلٍ فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خِلَافَ مَا قُلْت فَالْقَوْلُ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , وَهُوَ قَوْلِي , وَجَعَلَ يُرَدِّدُ هَذَا الْكَلَامَ . وَقَالَ الرَّبِيعُ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا نَسَبَتْهُ عَامَّةٌ أَوْ نَسَبَ نَفْسَهُ إلَى عِلْمٍ يُخَالِفُ فِي أَنْ فَرَضَ اللَّهُ اتِّبَاعَ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالتَّسْلِيمَ لِحُكْمِهِ , فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ إلَّا اتِّبَاعَهُ , وَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ قَوْلُ رَجُلٍ قَالَ إلَّا بِكِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ , وَإِنَّ مَا سِوَاهُمَا تَبَعٌ لَهُمَا , وَإِنْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَعَلَى مَنْ بَعْدَنَا وَقَبْلَنَا فِي قَبُولِ الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْفَرْضُ , وَوَاجِبٌ قَبُولُ الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا فِرْقَةٌ سَأَصِفُ قَوْلَهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ .(3/29)
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : ثُمَّ تَفَرَّقَ أَهْلُ الْكَلَامِ فِي تَثْبِيتِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَفَرُّقًا مُتَبَايِنًا , وَتَفَرَّقَ عَنْهُمْ مِمَّنْ نَسَبَتْهُ الْعَامَّةُ إلَى الْفِقْهِ تَفَرُّقًا أَتَى بَعْضُهُمْ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ التَّقْلِيدِ أَوْ التَّحْقِيقِ مِنْ النَّظَرِ وَالْغَفْلَةِ وَالِاسْتِعْجَالِ بِالرِّيَاسَةِ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ : قَالَ أَبِي : قَالَ لَنَا الشَّافِعِيُّ : إذَا صَحَّ لَكُمْ الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُولُوا لِي حَتَّى أَذْهَبَ إلَيْهِ .(3/30)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : كَانَ أَحْسَنُ أَمْرِ الشَّافِعِيِّ عِنْدِي أَنَّهُ كَانَ إذَا سَمِعَ الْخَبَرَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ قَالَ بِهِ وَتَرَكَ قَوْلَهُ , وَقَالَ الرَّبِيعُ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا نَتْرُكُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ لَا يَدْخُلَهُ الْقِيَاسُ وَلَا مَوْضِعَ لِلْقِيَاسِ لِمَوْقِعِ السُّنَّةِ , وَقَالَ الرَّبِيعُ : وَقَدْ رُوِيَ { عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي أَنَّهُ قَضَى فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ أُنْكِحَتْ بِغَيْرِ مَهْرٍ , فَمَاتَ زَوْجُهَا , فَقَضَى لَهَا بِمَهْرِ نِسَائِهَا ; وَقَضَى لَهَا بِالْمِيرَاثِ } , فَإِنْ كَانَ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ أَوْلَى الْأُمُورِ بِنَا , وَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا فِي قِيَاسٍ وَلَا فِي شَيْءٍ إلَّا طَاعَةُ اللَّهِ بِالتَّسْلِيمِ لَهُ , وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يُثْبِتَ عَنْهُ مَا لَمْ يَثْبُتْ , وَلَمْ أَحْفَظْهُ مِنْ وَجْهٍ يَثْبُتُ مِثْلُهُ , هُوَ مَرَّةً عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ وَمَرَّةً عَنْ مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ وَمَرَّةً عَنْ بَعْضِ أَشْجَعَ لَا يُسَمَّى .(3/31)
وَقَالَ الرَّبِيعُ : سَأَلْت الشَّافِعِيَّ عَنْ رَفْعِ الْأَيْدِي فِي الصَّلَاةِ , فَقَالَ : يَرْفَعُ الْمُصَلِّي يَدَيْهِ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ , وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ , وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ , وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ , قُلْت لَهُ : فَمَا الْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : أَنْبَأَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ قَوْلِنَا . قَالَ الرَّبِيعُ : فَقُلْت لَهُ : فَإِنَّا نَقُولُ يَرْفَعُ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ لَا يَعُودُ , قَالَ الشَّافِعِيُّ : أَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ , وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَهُوَ - يَعْنِي مَالِكًا - يَرْوِي عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ { إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ , وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ } , ثُمَّ خَالَفْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَابْنَ عُمَرَ , فَقُلْتُمْ : لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا فِي ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ .(3/32)
وَقَدْ رَوَيْتُمْ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا رَفَعَاهُمَا فِي الِابْتِدَاءِ وَعِنْدَ الرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ , أَفَيَجُوزُ لِعَالِمٍ أَنْ يَتْرُكَ فِعْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِعْلَ ابْنِ عُمَرَ لِرَأْيِ نَفْسِهِ أَوْ فِعْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِرَأْيِ ابْنِ عُمَرَ , ثُمَّ الْقِيَاسُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ , ثُمَّ يَأْتِي مَوْضِعٌ آخَرُ يُصِيبُ فِيهِ فَيُتْرَكُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ مَا رَوَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ؟ فَكَيْفَ لَمْ يَنْهَهُ بَعْضُ هَذَا عَنْ بَعْضٍ ؟ أَرَأَيْت إذَا جَازَ لَهُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ فِي مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ فِيهِ اثْنَتَيْنِ أَنَأْخُذُ بِوَاحِدَةٍ وَنَتْرُكُ وَاحِدَةً ؟ أَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ تَرْكُ الَّذِي أَخَذَ بِهِ وَأَخَذَ الَّذِي تَرَكَ ؟ أَوْ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ تَرْكُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ؟ فَقُلْت لَهُ : فَإِنَّ صَاحِبَنَا قَالَ : فَمَا مَعْنَى الرَّفْعِ ؟ قَالَ مَعْنَاهُ تَعْظِيمٌ لِلَّهِ وَاتِّبَاعٌ لِسُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم , وَمَعْنَى الرَّفْعِ فِي الْأُولَى مَعْنَى الرَّفْعِ الَّذِي خَالَفْتُمْ فِيهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْ الرُّكُوعِ , ثُمَّ خَالَفْتُمْ فِيهِ رِوَايَتَكُمْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَابْنِ عُمَرَ مَعًا , وَيَرْوِي ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا أَوْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا , وَرُوِيَ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ , وَمَنْ تَرَكَهُ فَقَدْ تَرَكَ السُّنَّةَ .(3/33)
قُلْت : وَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّ تَارِكَ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ تَارِكٌ لِلسُّنَّةِ , وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَقَالَ الرَّبِيعُ : سَأَلْت الشَّافِعِيَّ عَنْ الطِّيبِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِمَا يَبْقَى رِيحُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَبَعْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ وَالْحَلَّاقِ وَقَبْلَ الْإِفَاضَةِ ; فَقَالَ : جَائِزٌ , وَأُحِبُّهُ , وَلَا أَكْرَهُهُ ; لِثُبُوتِ السُّنَّةِ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم , وَالْأَخْبَارُ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ , فَقُلْت : وَمَا حُجَّتُك فِيهِ ؟ فَذَكَرَ الْأَخْبَارَ فِيهِ وَالْآثَارَ , ثُمَّ قَالَ : أَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَالِمٍ قَالَ : قَالَ عُمَرُ : مَنْ رَمَى الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لَهُ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ إلَّا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ , قَالَ سَالِمٌ : وَقَالَتْ عَائِشَةُ : طَيَّبْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِي , سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الصَّالِحُونَ وَأَهْلُ الْعِلْمِ , فَأَمَّا مَا تَذْهَبُونَ إلَيْهِ مِنْ تَرْكِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهَا وَتَرْكِ ذَلِكَ لِغَيْرِ شَيْءٍ بَلْ لِرَأْيِ أَنْفُسِكُمْ فَالْعِلْمُ إذًا إلَيْكُمْ تَأْتُونَ مِنْهُ مَا شِئْتُمْ وَتَدْعُونَ مَا شِئْتُمْ . وَقَالَ فِي الْكِتَابِ الْقَدِيمِ , رِوَايَةُ الزَّعْفَرَانِيِّ فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ فِي جَوَابِ مَنْ قَالَ لَهُ : إنَّ بَعْضَ أَصْحَابِك قَدْ قَالَ خِلَافَ هَذَا .(3/34)
قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَقُلْت لَهُ : مَنْ تَبِعَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَافَقْته , وَمَنْ خَلَطَ فَتَرَكَهَا خَالَفْته , حَتَّى صَاحِبِي : الَّذِي لَا أُفَارِقُ الْمُلَازِمُ الثَّابِتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ بَعُدَ , وَاَلَّذِي أُفَارِقُ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ قَرُبَ .(3/35)
وَقَالَ فِي خُطْبَةِ كِتَابِهِ إبْطَالِ الِاسْتِحْسَانِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى جَمِيعِ نِعَمِهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ وَكَمَا يَنْبَغِي لَهُ , وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ , وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ , بَعَثَهُ بِكِتَابٍ عَزِيزٍ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ , فَهَدَى بِكِتَابِهِ , ثُمَّ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أَنْعَمَ عَلَيْهِ وَأَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَى خَلْقِهِ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ , وَقَالَ : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْك الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً } وَقَالَ : { وَأَنْزَلْنَا إلَيْك الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ } وَفَرَضَ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعَ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ , وَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ , فَقَالَ : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا } فَاعْلَمْ أَنَّ مَعْصِيَتَهُ فِي تَرْكِ أَمْرِهِ وَأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ إلَّا اتِّبَاعَهُ , وَكَذَلِكَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّك لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ } مَعَ مَا عَلَّمَ اللَّهُ نَبِيَّهُ , ثُمَّ فَرَضَ اتِّبَاعَ كِتَابِهِ فَقَالَ : { فَاسْتَمْسِكْ بِاَلَّذِي أُوحِيَ إلَيْك } وَقَالَ : { وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا(3/36)
تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ أَكْمَلَ لَهُمْ دِينَهُمْ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { الْيَوْمَ أَكْمَلْت لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا } إلَى أَنْ قَالَ : ثُمَّ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِمَا آتَاهُمْ مِنْ الْعِلْمِ فَأَمَرَهُمْ بِالِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ , وَأَنْ لَا يَقُولُوا غَيْرَهُ إلَّا مَا عَلَّمَهُمْ , فَقَالَ لِنَبِيِّهِ : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْك رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْت تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } وَقَالَ لِنَبِيِّهِ : { قُلْ مَا كُنْت بِدْعًا مِنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ } وَقَالَ لِنَبِيِّهِ { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ أَنْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ , يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ قَبْلَ الْوَحْيِ وَمَا تَأَخَّرَ قَبْلَ أَنْ يَعْصِمَهُ فَلَا يُذْنِبُ , فَعَلِمَ مَا يُفْعَلُ بِهِ مِنْ رِضَاهُ عَنْهُ , وَأَنَّهُ أَوَّلُ شَافِعٍ وَمُشَفَّعٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ , وَسَيِّدُ الْخَلَائِقِ , وَقَالَ لِنَبِيِّهِ : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ } وَجَاءَهُ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ فِي امْرَأَةِ رَجُلٍ رَمَاهَا بِالزِّنَا , فَقَالَ لَهُ يَرْجِعُ , فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ آيَةَ اللِّعَانِ فَلَاعَنَ بَيْنَهُمَا .(3/37)
وَقَالَ : { قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إلَّا اللَّهُ } وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ } الْآيَةَ , وَقَالَ لِنَبِيِّهِ : { يَسْأَلُونَك عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا } فَحَجَبَ عَنْ نَبِيِّهِ عِلْمَ السَّاعَةِ , وَكَانَ مَنْ عَدَا مَلَائِكَةَ اللَّهِ الْمُقَرَّبِينَ وَأَنْبِيَاءَهُ الْمُصْطَفِينَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ أَقْصَرُ عِلْمًا مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ , وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَرَضَ عَلَى خَلْقِهِ طَاعَةَ نَبِيِّهِ , وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ الْأَمْرِ شَيْئًا وَقَدْ صَنَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه كِتَابًا فِي طَاعَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم رَدَّ فِيهِ عَلَى مَنْ احْتَجَّ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ فِي مُعَارَضَةِ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَرْكِ الِاحْتِجَاجِ بِهَا , فَقَالَ فِي أَثْنَاءِ خُطْبَتِهِ : إنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ , وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ الْهُدَى وَالنُّورَ لِمَنْ اتَّبَعَهُ , وَجَعَلَ رَسُولَهُ الدَّالَ عَلَى مَا أَرَادَ مِنْ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ وَخَاصِّهِ وَعَامِّهِ وَنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ وَمَا قَصَدَ لَهُ الْكِتَابُ .(3/38)
فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْمُعَبِّرُ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ الدَّالِ عَلَى مَعَانِيهِ , شَاهِدُهُ فِي ذَلِكَ أَصْحَابُهُ الَّذِينَ ارْتَضَاهُمْ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ وَاصْطَفَاهُمْ لَهُ , وَنَقَلُوا ذَلِكَ عَنْهُ , فَكَانُوا أَعْلَمَ النَّاسِ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , وَبِمَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ كِتَابِهِ بِمُشَاهَدَتِهِمْ وَمَا قَصَدَ لَهُ الْكِتَابُ , فَكَانُوا هُمْ الْمُعَبِّرِينَ عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . قَالَ جَابِرٌ : وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَظْهُرِنَا عَلَيْهِ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ وَهُوَ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ وَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ عَمِلْنَا بِهِ , ثُمَّ سَاقَ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى طَاعَةِ الرَّسُولِ . فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي أَوَّلِ آلِ عِمْرَانَ : { وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وَقَالَ : { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } وَقَالَ فِي النِّسَاءِ { فَلَا وَرَبِّك لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْت وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَقَالَ : { وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } .(3/39)
وَقَالَ : { وَأَرْسَلْنَاك لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاك عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } , وَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرَدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } وَقَالَ : { وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } وَقَالَ : { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْك الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاك اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا } . وَقَالَ فِي الْمَائِدَةِ : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } وَقَالَ : { يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَنْفَالِ قُلْ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لَمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ } .(3/40)
وَقَالَ : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } وَقَالَ : { إنَّمَا كَانَ قَوْلُ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ } وَقَالَ : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وَقَالَ : { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } وَقَالَ : { لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وَقَالَ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَك أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْت مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } وَقَالَ : {(3/41)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا } وَقَالَ : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } وَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } .(3/42)
وَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } فَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ : لَا تَذْبَحُوا قَبْلَ ذَبْحِهِ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ إنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَك مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَقَالَ : { وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمِنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا } وَقَالَ : { وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحَيٌّ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } وَقَالَ : { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } وَقَالَ : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } } وَقَالَ : { فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ } وَقَالَ : {(3/43)
إنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } . وَقَالَ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُوَ جِبْرِيلُ , وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ { وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنْ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّك } قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : الْأَحْزَابُ الْمِلَلُ , ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ : طُفْت مَعَ عُمَرَ , فَلَمَّا بَلَغْنَا الرُّكْنَ الْغَرْبِيَّ الَّذِي يَلِي الْأَسْوَدَ جَرَرْت بِيَدِهِ لِيَسْتَلِمَ , فَقَالَ : مَا شَأْنُك ؟ فَقُلْت : أَلَّا تَسْتَلِمُ ؟ فَقَالَ : أَلَمْ تَطُفْ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ؟ فَقُلْت : بَلَى , قَالَ : أَفَرَأَيْته يَسْتَلِمُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ الْغَرْبِيَّيْنِ ؟ قَالَ : لَا , قَالَ : أَلَيْسَ لَك فِيهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ؟ قُلْت : بَلَى , قَالَ : فَانْفُذْ عَنْك , قَالَ : وَجَعَلَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ كُلَّهَا , فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ : لِمَ تَسْتَلِمُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُهُمَا ؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ : لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْبَيْتِ مَهْجُورًا , فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } فَقَالَ مُعَاوِيَةُ : صَدَقْت .(3/44)
ثُمَّ ذَكَر أَحْمَدُ الِاحْتِجَاجَ عَلَى إبْطَالِ قَوْلِ مَنْ عَارَضَ السُّنَنَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَرَدَّهَا بِذَلِكَ , وَهَذَا فِعْلُ الَّذِينَ يَسْتَمْسِكُونِ بِالْمُتَشَابِهِ فِي رَدِّ الْمُحْكَمِ , فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا لَفْظًا مُتَشَابِهًا غَيْرَ الْمُحْكَمِ يَرُدُّونَهُ بِهِ اسْتَخْرَجُوا مِنْ الْمُحْكَمِ وَصْفًا مُتَشَابِهًا وَرَدُّوهُ بِهِ , فَلَهُمْ طَرِيقَانِ فِي رَدِّ السُّنَنِ ; أَحَدُهُمَا : رَدُّهَا بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ مِنْ السُّنَنِ , الثَّانِي : جَعْلُهُمْ الْمُحْكَمَ مُتَشَابِهًا لِيُعَطِّلُوا دَلَالَتَهُ , وَأَمَّا طَرِيقَةُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ كَالشَّافِعِيِّ وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَالْبُخَارِيِّ وَإِسْحَاقَ فَعَكْسُ هَذِهِ الطَّرِيقِ , وَهِيَ أَنَّهُمْ يَرُدُّونَ الْمُتَشَابِهَ إلَى الْمُحْكَمِ , وَيَأْخُذُونَ مِنْ الْمُحْكَمِ مَا يُفَسِّرُ لَهُمْ الْمُتَشَابِهَ وَيُبَيِّنُهُ لَهُمْ , فَتَتَّفِقُ دَلَالَتَهُ مَعَ دَلَالَةِ الْمُحْكَمِ , وَتُوَافِقُ النُّصُوصُ بَعْضُهَا بَعْضًا , وَيُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا , فَإِنَّهَا كُلَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ , وَمَا كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلَا اخْتِلَافَ فِيهِ وَلَا تَنَاقُضَ , وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ وَالتَّنَاقُضُ فِيمَا كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِهِ .
[ يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يَحْلِفَ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ ](3/45)
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ : يَجُوزُ لِلْمُفْتِي وَالْمُنَاظِرِ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ عِنْدَهُ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَلِفُهُ مُوجِبًا لِثُبُوتِهِ عِنْدَ السَّائِلِ وَالْمُنَازِعِ ; لِيَشْعُرَ السَّائِلُ وَالْمُنَازِعُ لَهُ أَنَّهُ عَلَى ثِقَةٍ وَيَقِينٍ مِمَّا قَالَ لَهُ , وَأَنَّهُ غَيْرُ شَاكٍّ فِيهِ , فَقَدْ تَنَاظَرَ رَجُلَانِ فِي مَسْأَلَةٍ ; فَحَلَفَ أَحَدُهُمَا عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ , فَقَالَ لَهُ مُنَازِعُهُ : لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِحَلِفِك , فَقَالَ : إنِّي لَمْ أَحْلِفْ لِيَثْبُتَ الْحُكْمُ عِنْدَك , وَلَكِنْ ; لِأُعْلِمَك أَنِّي عَلَى يَقِينٍ وَبَصِيرَةٍ مِنْ قَوْلِي , وَأَنَّ شُبْهَتَك لَا تُغَيِّرُ عِنْدِي فِي وَجْهِ يَقِينِي مَا أَنَا جَازِمٌ بِهِ . وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَحْلِفَ عَلَى ثُبُوتِ الْحَقِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ , أَحَدُهَا : { وَيَسْتَنْبِئُونَك أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إي وَرَبِّي إنَّهُ لَحَقٌ } وَالثَّانِي : قوله تعالى { : وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالَمُ الْغَيْبِ } وَالثَّالِثُ : قوله تعالى { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ } .(3/46)
وَقَدْ أَقْسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ الْحَقِّ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَمَانِينَ مَوْضِعًا , وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الصِّحَاحِ وَالْمَسَانِيدِ , وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم يَحْلِفُونَ عَلَى الْفَتَاوَى وَالرِّوَايَةِ , { فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ : إنَّك امْرُؤٌ تَائِهٌ , فَانْظُرْ مَا تُفْتِي بِهِ فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ , فَوَاَللَّهِ وَأَشْهَدُ بِاَللَّهِ لَقَدْ نَهَى عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم } . وَلَمَّا وُلِّيَ عُمَرُ رضي الله عنه حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَلَّ الْمُتْعَةَ ثَلَاثًا , ثُمَّ حَرَّمَهَا ثَلَاثًا , فَأَنَا أُقْسِمُ بِاَللَّهِ قَسَمًا لَا أَجِدُ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مُتَمَتِّعًا إلَّا رَجَمْتُهُ , إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِأَرْبَعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَلَّهَا بَعْدَ أَنْ حَرَّمَهَا . وَقَدْ حَلَفَ الشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ أَجْوِبَتِهِ , فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ : سَأَلْت الشَّافِعِيَّ رضي الله عنه عَنْ الْمُتْعَةِ كَانَ يَكُونُ فِيهَا طَلَاقٌ أَوْ مِيرَاثٌ أَوْ نَفَقَةٌ أَوْ شَهَادَةٌ ؟ فَقَالَ : لَا وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي .(3/47)
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ : مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ أَوْ شَيْءٌ مِنْهُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ وَاَللَّهِ عِنْدِي زِنْدِيقٌ وَسُئِلَ عَنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ فِي الرُّؤْيَةِ , فَقَالَ : وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ مَنْ كَذَّبَ بِهِ مَا هُمْ إلَّا زَنَادِقَةً , وَأَمَّا الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَرِضْوَانُهُ فَإِنَّهُ حَلَفَ عَلَى عِدَّةِ مَسَائِلَ مِنْ فَتَاوِيهِ . قِيلَ : أَيَزِيدُ الرَّجُلُ فِي الْوُضُوءِ عَلَى ثَلَاثِ مَرَّاتٍ ؟ فَقَالَ : لَا وَاَللَّهِ , إلَّا رَجُلٌ مُبْتَلًى , يَعْنِي بِالْوَسْوَاسِ . وَسُئِلَ عَنْ تَخَلُّلِ الرَّجُلِ لِحْيَتَهُ إذَا تَوَضَّأَ , فَقَالَ : إي وَاَللَّهِ . وَسُئِلَ يَكُونُ الرَّجُلُ فِي الْجِهَادِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ يُبَارِزُ عِلْجًا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ , فَقَالَ : لَا وَاَللَّهِ . وَقِيلَ لَهُ : أَتَكْرَهُ الصَّلَاةَ فِي الْمَقْصُورَةِ ؟ فَقَالَ : إي وَاَللَّهِ , قُلْت : وَهَذَا لَمَّا كَانَتْ الْمَقْصُورَةُ تُحْمَى لِلْأُمَرَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ . وَسُئِلَ : أَيُؤْجَرُ الرَّجُلُ عَلَى بُغْضِ مَنْ خَالَفَ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ؟ فَقَالَ : إي وَاَللَّهِ . وَسُئِلَ : مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ كَافِرٌ ؟ فَقَالَ : إي وَاَللَّهِ , وَسُئِلَ : هَلْ صَحَّ عِنْدَك فِي النَّبِيذِ حَدِيثٌ ؟ فَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا صَحَّ عِنْدِي حَدِيثٌ وَاحِدٌ إلَّا عَلَى التَّحْرِيمِ . وَسُئِلَ : أَيُكْرَهُ الْخِضَابُ بِالسَّوَادِ ؟ فَقَالَ : إي وَاَللَّهِ , وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَؤُمُّ أَبَاهُ وَيُصَلِّي الْأَبُ خَلْفَهُ , فَقَالَ : إي وَاَللَّهِ . وَسُئِلَ : هَلْ يُكْرَهُ النَّفْخُ فِي الصَّلَاةِ ؟ فَقَالَ : إي وَاَللَّهِ .(3/48)
وَسُئِلَ عَنْ تَزَوُّجِ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ الْأَمَةَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ , فَقَالَ : لَا وَاَللَّهِ . وَسُئِلَ عَنْ الْمَرْأَةِ تَسْتَلْقِي عَلَى قَفَاهَا وَتَنَامُ , يُكْرَهُ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : إي وَاَللَّهِ . وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَرْهَنُ جَارِيَتَهُ فَيَطَؤُهَا وَهِيَ مَرْهُونَةٌ , فَقَالَ : لَا وَاَللَّهِ . وَسُئِلَ عَنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَضَى فِي رَجُلٍ اسْتَسْقَى قَوْمًا , وَهُوَ عَطْشَانُ فَلَمْ يَسْقُوهُ فَمَاتَ فَأَغْرَمَهُمْ عُمَرُ الدِّيَةَ , تَقُولُ أَنْتَ كَذَا ؟ قَالَ : إي وَاَللَّهِ . وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ إذَا حُدَّ فِي الْقَذْفِ ثُمَّ قَذَفَ زَوْجَتَهُ يُلَاعِنُهَا ؟ فَقَالَ : إي وَاَللَّهِ . وَسُئِلَ [ أَ ] يَضْرِبُ الرَّجُلُ رَقِيقَهُ ؟ فَقَالَ : إي وَاَللَّهِ , ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ الْقَاضِي أَبُو عَلِيٍّ الشَّرِيفُ . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ صَالِحٍ : وَاَللَّهِ لَقَدْ أُعْطِيت الْمَجْهُودَ مِنْ نَفْسِي , وَلَوَدِدْت أَنِّي أَنْجُو مِنْ هَذَا الْأَمْرِ كَفَافًا لَا عَلَيَّ وَلَا لِي , وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ أَيْضًا : وَاَللَّهِ لَقَدْ تَمَنَّيْتُ الْمَوْتَ فِي الْأَمْرِ الَّذِي كَانَ , وَإِنَّهُ لَأَتَمَنَّى الْمَوْتَ فِي هَذَا , وَهَذَا فِتْنَةُ الدُّنْيَا . وَقَالَ إسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ لِأَحْمَدَ : يُكْرَهُ الْخَاتَمُ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ حَدِيدٍ ؟ فَقَالَ : إي وَاَللَّهِ . وَقَالَ إسْحَاقُ أَيْضًا : قُلْت لِأَحْمَدَ : يُؤْجَرُ الرَّجُلُ يَأْتِي أَهْلَهُ وَلَيْسَ لَهُ شَهْوَةٌ فِي النِّسَاءِ ؟ فَقَالَ : إي وَاَللَّهِ , يَحْتَسِبُ الْوَلَدَ , وَإِنْ لَمْ يُرِدْ الْوَلَدَ , إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ : هَذِهِ امْرَأَةٌ شَابَّةٌ .(3/49)
وَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَوْنٍ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُونَ : إنَّك وَقَفْت عَلَى عُثْمَانَ , فَقَالَ : كَذَبُوا وَاَللَّهِ عَلَيَّ , وَإِنَّمَا حَدَّثَتْهُمْ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ { كُنَّا نُفَاضِلُ بَيْنَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , نَقُولُ : أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ ثُمَّ عَلِيٌّ , فَيَبْلُغُ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم , فَلَمْ يُنْكِرْهُ , وَلَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا تُخَايِرُوا بَعْدَ هَؤُلَاءِ , فَمَنْ وَقَفَ عَلَى عُثْمَانَ وَلَمْ يُرَبِّعْ بِعَلِيٍّ عليه السلام فَهُوَ عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ } . وَسُئِلَ أَحْمَدُ : هَلْ الْمُقَامُ بِالثَّغْرِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُقَامِ بِمَكَّةَ ؟ فَقَالَ : إي وَاَللَّهِ . وَذَكَرَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ : أَنَّ أَيُّوبَ بْنَ إسْحَاقَ بْنِ سَافِرِي قَالَ : سَأَلْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فَقُلْت : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ إسْحَاقَ إذَا انْفَرَدَ بِحَدِيثٍ تَقْبَلُهُ ؟ فَقَالَ : لَا وَاَللَّهِ , إنِّي رَأَيْته يُحَدِّثُ عَنْ جَمَاعَةٍ بِالْحَدِيثِ , وَلَا يَفْصِلُ كَلَامَ ذَا مِنْ كَلَامِ ذَا . وَقَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ : قُلْت لِأَبِي : تُقْتَلُ الْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ فِي الصَّلَاةِ ؟ فَقَالَ : إي وَاَللَّهِ , وَقَالَ أَيْضًا : قُلْت لِأَبِي : تَجْهَرُ بِآمِينَ ؟ فَقَالَ : إي وَاَللَّهِ الْإِمَامُ وَغَيْرُ الْإِمَامِ , وَقَالَ أَيْضًا : قُلْت لِأَبِي : يُفْتَحُ عَلَى الْإِمَامِ ؟ قَالَ : إي وَاَللَّهِ .(3/50)
وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ : قُلْت لِأَحْمَدَ : وَنَحْنُ نَحْتَاجُ فِي رَمَضَانَ أَنْ نُبَيِّتَ الصَّوْمَ مِنْ اللَّيْلِ ؟ فَقَالَ : إي وَاَللَّهِ , وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ أَيْضًا : تُبَاعُ الْفَرَسُ الْحَبِيسُ إذَا عَطِبَتْ وَإِذَا فَسَدَتْ ؟ فَقَالَ : إي وَاَللَّهِ , وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ أَيْضًا : قُلْت لِأَحْمَدَ : هَلْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْعَقِيقَةِ شَيْءٌ ؟ فَأَمْلَى عَلَيَّ أَبِي : إي وَاَللَّهِ , وَفِي غَيْرِ حَدِيثٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " عَنْ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافَأَتَانِ , وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةٌ " . وَقَالَ إسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ : قُلْت لِأَحْمَدَ : التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ ؟ قَالَ : إي وَاَللَّهِ , وَقَالَ الْكَوْسَجُ أَيْضًا : قُلْت لِأَحْمَدَ : قَالَ سُفْيَانُ : تُجْزِئُهُ تَكْبِيرَةٌ إذَا نَوَى بِهَا افْتِتَاحَ الصَّلَاةِ ؟ قَالَ أَحْمَدُ : إي وَاَللَّهِ تُجْزِئُهُ إذَا نَوَى , ابْنُ عُمَرَ وَزَيْدٌ , وَقَالَ أَيْضًا : قُلْت لِأَحْمَدَ : الْمُؤَذِّنُ يَجْعَلُ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ ؟ قَالَ : إي وَاَللَّهِ , وَقَالَ أَيْضًا : قُلْت لِأَحْمَدَ : سُئِلَ سُفْيَانُ عَنْ امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ يَتَحَرَّكُ , مَا أَرَى بَأْسًا أَنْ يُشَقَّ بَطْنُهَا , قَالَ أَحْمَدُ : بِئْسَ وَاَللَّهِ مَا قَالَ , يُرَدِّدُ ذَلِكَ سُبْحَانَ اللَّهِ , بِئْسَ مَا قَالَ . وَقَالَ أَيْضًا : قُلْت لِأَحْمَدَ : تَجُوزُ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي الطَّلَاقِ ؟ قَالَ : لَا وَاَللَّهِ , وَقَالَ أَيْضًا : قُلْت لِأَحْمَدَ : الْمُرْجِئُ إذَا كَانَ دَاعِيًا , قَالَ : إي وَاَللَّهِ يُجْفَى وَيُقْصَى .(3/51)
وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ : قُلْت لِأَحْمَدَ : رَجُلٌ قَالَ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ , وَلَكِنَّ لَفْظِي هَذَا بِهِ مَخْلُوقٌ , قَالَ : مَنْ قَالَ هَذَا فَقَدْ جَاءَ بِالْأَمْرِ كُلِّهِ , إنَّمَا هُوَ كَلَامُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ , وَالْحُجَّةُ فِيهِ حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ { الم غُلِبَتْ الرُّومُ } فَقِيلَ لَهُ : هَذَا مِمَّا جَاءَ بِهِ صَاحِبُك ؟ فَقَالَ : لَا وَاَللَّهِ , وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ , هَذَا وَغَيْرُهُ , وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامُ اللَّهِ , قُلْت : بسم الله الرحمن الرحيم { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } هَذَا الَّذِي قَرَأْتُ السَّاعَةَ كَلَامُ اللَّهِ ؟ قَالَ : إي وَاَللَّهِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ . وَمَنْ قَالَ " لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ " فَقَدْ جَاءَ بِالْأَمْرِ كُلِّهِ , وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ شُبْرُمَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ فِي رَجُلٍ نَذَرَ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ , فَقَالَ لَهُ الشَّعْبِيُّ : أَوْفِ بِنَذْرِك , أَتَرَى ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : لَا وَاَللَّهِ , وَقَالَ الْفَضْلُ أَيْضًا : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَذَكَرَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ , فَقَالَ : لَا وَاَللَّهِ , مَا أَدْرَكْنَا مِثْلَهُ .(3/52)
وَذَكَرَ أَحْمَدُ فِي رِسَالَتِهِ إلَى مُسَدَّدٍ : وَلَا عَيْنٌ نَظَرَتْ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَيْرًا مِنْ أَبِي بَكْرٍ , وَلَا بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ عَيْنٌ نَظَرَتْ خَيْرًا مِنْ عُمَرَ , وَلَا بَعْدَ عُمَرَ عَيْنٌ نَظَرَتْ خَيْرًا مِنْ عُثْمَانَ , وَلَا بَعْدَ عُثْمَانَ عَيْنٌ نَظَرَتْ خَيْرًا مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنهم , ثُمَّ قَالَ أَحْمَدُ : هُمْ وَاَللَّهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ . وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ : قُلْت لِأَحْمَدَ : جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ , قَالَ : كَانَ يَرَى التَّشَيُّعَ , قُلْت : قَدْ يُتَّهَمُ فِي حَدِيثِهِ بِالْكَذِبِ ؟ قَالَ : إي وَاَللَّهِ .(3/53)
قَالَ الْقَاضِي : فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ اسْتَجَازَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَنْ يَحْلِفَ فِي مَسَائِلَ مُخْتَلَفٍ فِيهَا ؟ قِيلَ : أَمَّا مَسَائِلُ الْأُصُولِ فَلَا يَسُوغُ فِيهَا اخْتِلَافٌ فَهِيَ إجْمَاعٌ , وَأَمَّا مَسَائِلُ الْفُرُوعِ فَإِنَّهُ لَمَّا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صِحَّةُ ذَلِكَ حَلَفَ عَلَيْهِ , كَمَا لَوْ وَجَدَ فِي دَفْتَرِ أَبِيهِ أَنَّ لَهُ عَلَى فُلَانٍ دَيْنًا جَازَ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَهُ لِغَلَبَةِ الظَّنِّ بِصِدْقِهِ , قُلْت : وَيَحْلِفُ عَلَيْهِ , قَالَ : فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ قَدْ امْتَنَعَ مِنْ الْيَمِينِ عَلَى إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ بِالْجِوَارِ , قِيلَ : لِأَنَّ الْيَمِينَ هُنَاكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ , وَالنِّيَّةَ فِيهِ لِلْخَصْمِ , قُلْت : وَلَمْ يَمْنَعْ أَحْمَدُ الْيَمِينَ لِهَذَا , بَلْ شُفْعَةُ الْجِوَارِ عِنْدَهُ مِمَّا يُسَوِّغُ الْقَوْلَ بِهَا , وَفِيهَا أَحَادِيثُ صِحَاحٌ لَا تُرَدُّ , وَلِهَذَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهَا , فَمَرَّةً نَفَاهَا , وَمَرَّةً أَثْبَتَهَا , وَمَرَّةً فَصَّلَ بَيْنَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي حُقُوقِ الْمِلْكِ كَالطَّرِيقِ وَالْمَاءِ وَغَيْرِهِ , وَبَيْنَ أَلَّا يَشْتَرِكَا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَثْبُتُ .(3/54)
وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ , وَبِهِ تَجْتَمِعُ الْأَحَادِيثُ , وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ , وَمَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ , وَلَا يُخْتَارُ غَيْرُهُ , وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّهُمْ حَلَفُوا فِي الرِّوَايَةِ وَالْفَتْوَى وَغَيْرِهَا تَحْقِيقًا وَتَأْكِيدًا لِلْخَيْرِ لَا إثْبَاتًا لَهُ بِالْيَمِينِ , وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَا وَرَبِّك لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } الْآيَةَ , وَقَالَ تَعَالَى : { فَوَرَبِّك لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } , وَكَذَلِكَ أَقْسَمَ بِكَلَامِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ } { ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ } { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } , وَأَمَّا إقْسَامُهُ بِمَخْلُوقَاتِهِ الَّتِي هِيَ آيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَيْهِ فَكَثِيرٌ جِدًّا .
[ لَا يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِمَا يُخَالِفُ النَّصَّ ](3/55)
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ وَالْخَمْسُونَ : ( يَحْرُمُ عَلَى الْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِضِدِّ لَفْظِ النَّصِّ , وَإِنْ وَافَقَ مَذْهَبَهُ ) . وَمِثَالُهُ : أَنْ يُسْأَلَ عَنْ رَجُلٍ صَلَّى مِنْ الصُّبْحِ رَكْعَةً ثُمَّ طَلَعَتْ الشَّمْسُ , هَلْ يُتِمُّ صَلَاتَهُ أَمْ لَا ؟ فَيَقُولَ : لَا يُتِمُّهَا , وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ } . وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ عَمَّنْ مَاتَ عَلَيْهِ صِيَامٌ : هَلْ يَصُومُ عَنْهُ وَلِيُّهُ ؟ فَيَقُولَ : لَا يَصُومُ عَنْهُ وَلِيُّهُ , وَصَاحِبُ الشَّرْعِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ } . وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ رَجُلٍ بَاعَ مَتَاعَهُ ثُمَّ أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي فَوَجَدَهُ بِعَيْنِهِ , هَلْ هُوَ أَحَقُّ بِهِ ؟ فَيَقُولَ : لَيْسَ أَحَقَّ بِهِ , وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يَقُولُ : { فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ } . وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ رَجُلٍ أَكَلَ فِي رَمَضَانَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا , هَلْ يُتِمُّ صَوْمَهُ ؟ فَيَقُولَ : لَا يُتِمُّ صَوْمَهُ , وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يَقُولُ : { فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ } . وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ , هَلْ هُوَ حَرَامٌ ؟ فَيَقُولَ : لَيْسَ بِحَرَامٍ , وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ حَرَامٌ } . وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ الرَّجُلِ : هَلْ لَهُ مَنْعُ جَارِهِ مِنْ غَرْزِ خَشَبَةٍ فِي جِدَارِهِ ؟ فَيَقُولَ : لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ , وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يَقُولُ " لَا يَمْنَعُهُ " .(3/56)
وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ : هَلْ تَجْزِي صَلَاةُ مَنْ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ مِنْ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ ؟ فَيَقُولَ : تَجْزِيهِ صَلَاتُهُ , وَصَاحِبُ الشَّرْعِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ فِيهَا صُلْبَهُ بَيْنَ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ } . أَوْ يُسْأَلُ عَنْ مَسْأَلَةِ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي الْعَطِيَّةِ : هَلْ يَصِحُّ أَوْ لَا يَصِحُّ ؟ وَهَلْ هُوَ جَوْرٌ [ أَمْ لَا ؟ ] فَيَقُولَ : يَصِحُّ , وَلَيْسَ بِجَوْرٍ , وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يَقُولُ : " إنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ " وَيَقُولُ : { لَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ } . وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ الْوَاهِبِ : هَلْ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ ؟ فَيَقُولَ : نَعَمْ يَحِلُّ لَهُ [ أَنْ يَرْجِعَ إلَّا أَنْ يَكُونَ وَالِدًا أَوْ قَرَابَةً فَلَا يَرْجِعُ , وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يَقُولُ : { لَا يَحِلُّ لِوَاهِبٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ إلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يَهَبُ لِوَلَدِهِ } . وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ رَجُلٍ لَهُ شِرْكٌ فِي أَرْضٍ أَوْ دَارٍ أَوْ بُسْتَانٍ : هَلْ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حِصَّتَهُ قَبْلَ إعْلَامِ شَرِيكِهِ بِالْبَيْعِ وَعَرْضُهَا عَلَيْهِ ؟ فَيَقُولَ : نَعَمْ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ قَبْلَ إعْلَامِهِ , وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يَقُولُ : { مَنْ كَانَ لَهُ شِرْكٌ فِي أَرْضٍ أَوْ رَبْعَةٍ أَوْ حَائِطٍ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكُهُ } . وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ , فَيَقُولَ : نَعَمْ يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ , وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يَقُولُ : { لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ } .(3/57)
وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ عَمَّنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ , فَهَلْ الزَّرْعُ لَهُ أَمْ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ ؟ فَيَقُولَ : الزَّرْعُ لَهُ , وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يَقُولُ : { مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ مِنْ الزَّرْعِ شَيْءٌ , وَلَهُ نَفَقَتُهُ } . وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ : هَلْ يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْوِلَايَةِ بِالشَّرْطِ ؟ فَيَقُولَ : لَا يَصِحُّ , وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يَقُولُ : { أَمِيرُكُمْ زَيْدٌ , فَإِنْ قُتِلَ فَجَعْفَرٌ , فَإِنْ قُتِلَ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ } . وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ : هَلْ يَحِلُّ الْقَضَاءُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ؟ فَيَقُولُ : لَا يَجُوزُ , وَصَاحِبُ الشَّرْعِ { قَضَى بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ } . وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى : هَلْ هِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ أَمْ لَا ؟ فَيَقُولُ : لَيْسَتْ الْعَصْرَ , وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ : { صَلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ } . وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ : هَلْ هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ أَمْ لَا ؟ فَيَقُولَ : لَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ , وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ } . وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ : هَلْ يَجُوزُ الْوِتْرُ بِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ ؟ فَيَقُولَ : لَا يَجُوزُ الْوِتْرُ بِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ , وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { إذَا خَشِيَتْ الصُّبْحَ فَأُوتِرْ بِوَاحِدَةٍ } . وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ : هَلْ يُسْجَدُ فِي { إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ } , وَ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } فَيَقُولَ : لَا يُسْجَدُ فِيهِمَا , وَقَدْ سَجَدَ فِيهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم .(3/58)
وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ رَجُلٍ عَضَّ يَدَ رَجُلٍ فَانْتَزَعَهَا مِنْ فِيهِ فَسَقَطَتْ أَسْنَانُهُ , فَيَقُولَ : لَهُ دِيَتُهَا , وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { لَا دِيَةَ لَهُ } . وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ رَجُلٍ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ رَجُلٍ فَخَذَفَهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ : هَلْ عَلَيْهِ جُنَاحٌ ؟ فَيَقُولَ : نَعَمْ عَلَيْهِ جُنَاحٌ , وَتَلْزَمُهُ دِيَةُ عَيْنِهِ , وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { إنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ جُنَاحٌ } . وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى شَاةً أَوْ بَقَرَةً أَوْ نَاقَةً فَوَجَدَهَا مُصَرَّاةً , فَهَلْ لَهُ رَدُّهَا وَرَدُّ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ مَعَهَا أَمْ لَا ؟ فَيَقُولَ : لَا يَجُوزُ لَهُ رَدُّهَا وَرَدُّ الصَّاعِ مِنْ التَّمْرِ مَعَهَا , وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { إنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ } . وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ الزَّانِي الْبِكْرِ : هَلْ عَلَيْهِ مَعَ الْجَلْدِ تَغْرِيبٌ ؟ فَيَقُولَ : لَا تَغْرِيبَ عَلَيْهِ , وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يَقُولُ : { عَلَيْهِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ } . وَمِثْلُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ الْخَضْرَاوَاتِ : هَلْ فِيهَا زَكَاةٌ ؟ فَيَقُولَ : يَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ , وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يَقُولُ : { لَا زَكَاةَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ } . أَوْ يُسْأَلَ عَمَّا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ : هَلْ فِيهِ زَكَاةٌ ؟ فَيَقُولَ : نَعَمْ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ , وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يَقُولُ : { لَا زَكَاةَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ } .(3/59)
أَوْ يُسْأَلَ عَنْ امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا بِدُونِ إذْنِ وَلِيِّهَا , فَيَقُولَ : نِكَاحُهَا صَحِيحٌ , وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يَقُولُ : { فَنِكَاحُهَا , بَاطِلٌ , بَاطِلٌ , بَاطِلٌ } . أَوْ يُسْأَلَ عَنْ الْمُحَلِّلِ وَالْمُحَلَّلِ لَهُ : هَلْ يَسْتَحِقَّانِ اللَّعْنَةَ ؟ فَيَقُولَ : لَا يَسْتَحِقَّانِ اللَّعْنَةَ , { وَقَدْ لَعَنَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَيْرِ وَجْهٍ } . أَوْ يُسْأَلَ : هَلْ يَجُوزُ إكْمَالُ شَعْبَانِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا لَيْلَةَ الْإِغْمَاءِ , فَيَقُولَ : لَا يَجُوزُ إكْمَالُهُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا , وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا } . أَوْ يُسْأَلَ عَنْ الْمُطَلَّقَةِ الْمَبْتُوتَةِ : هَلْ لَهَا نَفَقَةٌ وَسُكْنَى ؟ فَيَقُولَ : نَعَمْ لَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى , وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يَقُولُ : { لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى } . أَوْ يُسْأَلَ عَنْ الْإِمَامِ : هَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُسَلِّمَ فِي الصَّلَاةِ تَسْلِيمَتَيْنِ ؟ فَيَقُولَ : يُكْرَهُ ذَلِكَ وَلَا يُسْتَحَبُّ , وَقَدْ رَوَى خَمْسَةَ عَشْرَ نَفْسًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ { كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ , السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ , السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ } .(3/60)
أَوْ يُسْأَلَ عَمَّنْ رَفَعَ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ عَنْهُ : هَلْ صَلَاتُهُ مَكْرُوهَةٌ أَوْ [ هِيَ ] نَاقِصَةٌ ؟ فَيَقُولَ : نَعَمْ تُكْرَهُ صَلَاتُهُ أَوْ هِيَ نَاقِصَةٌ , وَرُبَّمَا غَلَا فَقَالَ : بَاطِلَةٌ , وَقَدْ رَوَى بِضْعَةٌ وَعِشْرُونَ نَفْسًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ { كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ , عِنْدَ الِافْتِتَاحِ , وَعِنْدَ الرُّكُوعِ , وَعِنْدَ الرَّفْعِ مِنْهُ } بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ لَا مَطْعَنَ فِيهَا . أَوْ يُسْأَلَ عَنْ بَوْلِ الْغُلَامِ الَّذِي لَمْ يَأْكُلْ الطَّعَامَ : هَلْ يَجْزِي فِيهِ الرَّشُّ [ أَمْ يَجِبُ الْغُسْلُ ] ؟ فَيَقُولَ : لَا يَجْزِي [ فِيهِ الرَّشُّ ] وَصَاحِبُ الشَّرْعِ { يَقُولُ : يُرَشُّ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ } وَرَشُّهُ [ هُوَ ] بِنَفْسِهِ . أَوْ يُسْأَلَ عَنْ التَّيَمُّمِ : هَلْ يَكْفِي بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ إلَى الْكُوعَيْنِ , فَيَقُولَ : لَا يَكْفِي وَلَا يُجْزِئُ , وَصَاحِبُ الشَّرْعِ قَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ يَكْفِي نَصًّا صَحِيحًا لَا مَدْفَعَ لَهُ . أَوْ يُسْأَلَ عَنْ بَيْعِ الرَّطْبِ بِالتَّمْرِ : هَلْ يَجُوزُ ؟ فَيَقُولَ : نَعَمْ [ يَجُوزُ ] , وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يُسْأَلَ عَنْهُ فَيَقُولُ : { لَا آذَنُ } . أَوْ يُسْأَلَ عَنْ رَجُلٍ أَعْتَقَ سِتَّةَ عَبِيدٍ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُمْ عِنْدَ مَوْتِهِ : هَلْ تَكْمُلُ الْحُرِّيَّةُ فِي اثْنَيْنِ مِنْهُمْ أَوْ يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ سُدُسُهُ ؟ فَيَقُولَ : لَا تَكْمُلُ الْحُرِّيَّةُ فِي اثْنَيْنِ مِنْهُمْ , { وَقَدْ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَمَّلَ الْحُرِّيَّةَ فِي اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً .(3/61)
} أَوْ يُسْأَلَ عَنْ الْقُرْعَةِ : هَلْ هِيَ جَائِزَةٌ أَمْ بَاطِلَةٌ ؟ فَيَقُولَ : لَا , بَلْ هِيَ بَاطِلَةٌ , وَهِيَ مِنْ أَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ , وَقَدْ أَقْرَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , وَأَمَرَ بِالْقُرْعَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . أَوْ يُسْأَلَ عَنْ الرَّجُلِ يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ : هَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَمْ لَا [ صَلَاةَ ] لَهُ ؟ وَهَلْ يُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ ؟ فَيَقُولَ : نَعَمْ لَهُ صَلَاةٌ , وَلَا يُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ , وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الشَّرْعِ : { لَا صَلَاةَ لَهُ } وَأَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ . أَوْ يُسْأَلَ : هَلْ لِلرَّجُلِ رُخْصَةٌ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ؟ فَيَقُولَ : نَعَمْ لَهُ رُخْصَةٌ , وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { لَا أَجِدُ لَكَ رُخْصَةً } . أَوْ يُسْأَلَ عَنْ رَجُلٍ أَسَلَفَ رَجُلًا مَالَهُ وَبَاعَهُ سِلْعَةً : هَلْ يَحِلُّ ذَلِكَ ؟ فَيَقُولَ نَعَمْ يَحِلُّ ذَلِكَ , وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يَقُولُ : { لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ } .(3/62)
وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا , وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الطَّيِّبُ يَشْتَدُّ نَكِيرُهُمْ وَغَضَبُهُمْ عَلَى مَنْ عَارَضَ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِرَأْيٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ اسْتِحْسَانٍ أَوْ قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ كَائِنًا مَنْ كَانَ , وَيَهْجُرُونَ فَاعِلَ ذَلِكَ , وَيُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَضْرِبُ لَهُ الْأَمْثَالَ , وَلَا يُسَوِّغُونَ غَيْرَ الِانْقِيَادِ لَهُ وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّلَقِّي بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ , وَلَا يَخْطُرُ بِقُلُوبِهِمْ التَّوَقُّفُ فِي قَبُولِهِ حَتَّى يَشْهَدَ لَهُ عَمَلٌ أَوْ قِيَاسٌ أَوْ يُوَافِقَ قَوْلَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ , بَلْ كَانُوا عَامِلِينَ بِقَوْلِهِ : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } وَأَمْثَالُهَا , فَدُفِعْنَا إلَى زَمَانٍ إذَا قِيلَ لِأَحَدِهِمْ " ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ كَذَا وَكَذَا " يَقُولُ : مَنْ قَالَ بِهَذَا ؟ وَيَجْعَلُ هَذَا دَفْعًا فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ , أَوْ يَجْعَلُ جَهْلَهُ بِالْقَائِلِ [ بِهِ ] حُجَّةً لَهُ فِي مُخَالَفَتِهِ وَتَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ , وَلَوْ نَصَحَ نَفْسَهُ لَعَلِمَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ أَعْظَمِ الْبَاطِلِ , وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ دَفْعُ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ هَذَا الْجَهْلِ ,(3/63)
وَأَقْبَحُ مِنْ ذَلِكَ عُذْرُهُ فِي جَهْلِهِ ; إذْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى مُخَالَفَةِ تِلْكَ السُّنَّةِ , وَهَذَا سُوءُ ظَنٍّ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ , إذْ يَنْسُبُهُمْ إلَى اتِّفَاقِهِمْ عَلَى مُخَالَفَةِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , وَأَقْبَحُ مِنْ ذَلِكَ عُذْرُهُ فِي دَعْوَى هَذَا الْإِجْمَاعِ , وَهُوَ جَهْلُهُ وَعَدَمُ عِلْمِهِ بِمَنْ قَالَ بِالْحَدِيثِ , فَعَادَ الْأَمْرُ إلَى تَقْدِيمِ جَهْلِهِ عَلَى السُّنَّةِ , وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ . وَلَا يُعْرَفُ إمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ أَلْبَتَّةَ قَالَ : لَا نَعْمَلُ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى نَعْرِفَ مَنْ عَمِلَ بِهِ , فَإِنْ جَهِلَ مَنْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ مَنْ عَمِلَ بِهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ كَمَا يَقُولُ هَذَا الْقَائِلُ .
وفي الآداب الشرعية :
فَصْلٌ ( فِي الصَّبْرِ وَالصَّابِرِينَ وَفَوَائِدِ الْمَصَائِبِ وَالشَّدَائِدِ ) .(3/64)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } . إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ . وَصَحَّ عَنْهُ الْأَمْرُ بِالصَّبْرِ فِي أَحَادِيثَ . وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ : { مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ : { إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ } اللَّهُمَّ اُؤْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا , إلَّا آجَرَهُ اللَّهُ فِي مُصِيبَتِهِ وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ { وَمَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ , وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنْ الصَّبْرِ } وَخَيْرٌ مَرْفُوعٌ خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هُوَ خَيْرٌ . وَرُوِيَ " خَيْرًا " قَالَ : { وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } . فَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّهُ وَمَا يَمْلِكُهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ حَقِيقَةً ; لِأَنَّهُ أَوْجَدَهُ مِنْ عَدَمٍ وَيُعْدِمُهُ أَيْضًا وَيَحْفَظُهُ فِي حَالِ وُجُودِهِ , وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ الْعَبْدُ إلَّا بِمَا يُتَاحُ لَهُ وَأَنَّ مَرْجِعَهُ إلَى اللَّه , وَلَا بُدَّ فَرْدًا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَيَأْتِينَا فَرْدًا } .(3/65)
وَقَوْلُهُ { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } . وَأَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ , وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ . كَمَا قَالَهُ وَكَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } . وَإِنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ جَعَلَ مُصِيبَتَهُ أَعْظَمَ مِمَّا هِيَ , وَإِنَّهُ إنْ صَبَرَ أَخْلَفَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَعْظَمَ مِنْ فَوَاتِ مُصِيبَتِهِ , وَإِنَّ الْمُصِيبَةَ لَا تَخْتَصُّ بِهِ فَيَتَأَسَّى بِأَهْلِ الْمَصَائِبِ , وَمُصِيبَةُ بَعْضِهَا أَعْظَمُ , وَإِنَّ سُرُورَ الدُّنْيَا مَعَ قِلَّتِهِ وَانْقِطَاعِهِ مُنَغِّصٌ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : لِكُلِّ فَرْحَةٍ تَرْحَةٌ , وَمَا مُلِئَ بَيْتٌ فَرَحًا إلَّا مُلِئَ تَرَحًا وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ رحمه الله : مَا كَانَ ضَحِكٌ قَطُّ إلَّا كَانَ بَعْدَهُ بُكَاءٌ . وَقَدْ شَاهَدَ النَّاسُ مِنْ تَغَيُّرِ الدُّنْيَا بِأَهْلِهَا فِي أَسْرَعِ مَا يَكُونُ الْعَجَائِبَ .(3/66)
وَقَالَتْ هِنْدُ بِنْتُ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ : لَقَدْ رَأَيْتنَا وَنَحْنُ مِنْ أَعَزِّ النَّاسِ وَأَشَدِّهِمْ مُلْكًا , ثُمَّ لَمْ تَغِبْ الشَّمْسُ حَتَّى رَأَيْتنَا وَنَحْنُ مِنْ أَقَلِّ النَّاسِ , وَإِنَّهُ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يَمْلَأَ دَارًا حِيَرَةً إلَّا مِلْأَهَا عِبْرَةً , وَبَكَتْ أُخْتُهَا حُرْقَةُ بِنْتُ النُّعْمَانِ يَوْمًا وَهِيَ فِي عِزِّهَا فَقِيلَ : مَا يُبْكِيك لَعَلَّ أَحَدًا آذَاك ؟ قَالَتْ : لَا , وَلَكِنْ رَأَيْت غَضَارَةً فِي أَهْلِي وَقَلَّمَا امْتَلَأَتْ دَارٌ سُرُورًا إلَّا امْتَلَأَتْ حُزْنًا . وَالْغَضَارَةُ طَيِّبُ الْعَيْشِ يَقُولُ : بَنُو فُلَانٍ مَغْضُورُونَ وَقَدْ غَضَرَهُمْ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَفِي غَضَارَةٍ مِنْ الْعَيْشِ , وَفِي غَضْرَاءَ مِنْ الْعَيْشِ أَيْ : فِي خِصْبٍ وَخَيْرٍ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ : لَا يُقَالُ : أَبَادَ اللَّهُ غَضْرَاءَهُمْ , وَلَكِنْ أَبَادَ اللَّهُ غَضِرَاهُمْ , أَيْ هَلَكَ خَيْرُهُمْ وَغَضَارَتُهُمْ . وَقَالَتْ حُرْقَةُ أَيْضًا : مَا نَحْنُ فِيهِ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِمَّا كُنَّا فِيهِ بِالْأَمْسِ . إنَّا نَجِدُ فِي الْكُتُبِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْل بَيْتٍ يَعِيشُونَ فِي حِيرَةٍ , إلَّا سَيُعَقَّبُونَ بَعْدهَا غُبْرَةٌ .(3/67)
وَإِنَّ الدَّهْرَ لَمْ يَظْهَرْ لِقَوْمٍ بِيَوْمٍ يُحِبُّونَهُ إلَّا بَطَنَ لَهُمْ بِيَوْمٍ يَكْرَهُونَهُ , ثُمَّ قَالَتْ : فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالْأَمْرُ أَمْرُنَا إذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ فَأُفٍّ لِدُنْيَا لَا يَدُومُ نَعِيمُهَا تَقَلَّبُ تَارَاتٍ بِنَا وَتَصَرَّفُ تَنَصَّفَ أَيْ خَدَمَ وَعَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّ الْجَزَعَ لَا يَرُدُّ الْمُصِيبَةَ بَلْ هُوَ مَرَضٌ يَزِيدُهَا , وَإِنَّهُ يَسُرُّ عَدُوَّهُ وَيُسِيءُ مُحِبَّهُ , وَإِنَّ فَوَاتَ ثَوَابِهَا بِالْجَزَعِ أَعْظَمُ مِنْهَا , وَمِنْهُ بَيْتُ الْحَمْدِ الَّذِي يُبْنَى لَهُ فِي الْجَنَّةِ عَلَى حَمْدِهِ وَاسْتِرْجَاعِهِ . وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إذَا قَبَضْت صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إلَّا الْجَنَّةَ } وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَقَالَ غَرِيبٌ عَنْ جَابِرَ مَرْفُوعًا : { يَوَدُّ نَاسٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ تُقْرَضُ بِالْمَقَارِيضِ فِي الدُّنْيَا , لِمَا يَرَوْنَ مِنْ ثَوَابِ أَهْلِ الْبَلَاءِ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ , وَلَا هَمٍّ , وَلَا حُزْنٍ , وَلَا أَذًى , وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ } .(3/68)
وَعَنْ ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ { قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً قَالَ : الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ , ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلِ مِنْ النَّاسِ , يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسْبِ دِينِهِ , فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي بَلَائِهِ , وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْهُ , وَمَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَمْشِي عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ } وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةُ { بِالْمُؤْمِنِ أَوْ الْمُؤْمِنَةِ فِي جَسَدِهِ وَفِي مَالِهِ وَفِي وَلَدِهِ , حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ } صَحَّحَهُمَا التِّرْمِذِيُّ وَرَوَى الثَّانِيَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ . وَرَوَيَا أَيْضًا وَالْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا : { مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِيبُ مِنْهُ } . وَعَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إنَّ أَمَرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ , وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ , وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ } وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَلِأَحْمَدَ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا { عَجِبْتُ لِلْمُؤْمِنِ , إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَقْضِ لَهُ قَضَاءً إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ } . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا { أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ , إنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَفْرَحُ بِالْبَلَاءِ , كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِالرَّخَاءِ } مُخْتَصَرٌ مِنْ ابْنِ مَاجَهْ .(3/69)
وَعَنْ شَدَّادٍ مَرْفُوعًا { يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : إذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنًا فَحَمِدَنِي عَلَى مَا ابْتَلَيْتُهُ , فَإِنَّهُ يَقُومُ مِنْ مَضْجَعِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ مِنْ الْخَطَايَا } رَوَاهُ أَحْمَدُ . وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ يُقَالُ لَهُ : مَنْظُورٌ عَنْ عَمِّهِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا { إنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا أَصَابَهُ سَقَمٌ ثُمَّ أَعْفَاهُ اللَّهُ مِنْهُ , كَانَ كَفَّارَةً لِمَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ وَمَوْعِظَةً لَهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ , وَإِنَّ الْمُنَافِقَ إذَا مَرِضَ ثُمَّ أُعْفِيَ كَانَ كَالْبَعِيرِ عَقَلَهُ أَهْلُهُ ثُمَّ أَرْسَلُوهُ , فَلَمْ يَدْرِ لِمَ عَقَلُوهُ وَلِمَ أَرْسَلُوهُ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد , وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ { مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكُ شَوْكَةً فَمَا فَوْقَهَا , إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً , وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً } وَمَا كَفَى إنْ فَاتَ حَتَّى عَصَى بِذَلِكَ لِأَنَّهُ أَسْخَطَ رَبَّهُ , وَفَوَاتُ لَذَّةِ عَاقِبَةِ الصَّبْرِ وَاحْتِسَابُهُ أَعْظَمُ مِمَّا أُصِيبَ بِهِ , لَوْ بَقِيَ وَعَلِمَ أَنَّ فِي اللَّه خَلَفًا وَدَرْكًا فَرَجَا الْخَلَفَ مِنْهُ .(3/70)
وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا تُوُفِّيَ سَمِعُوا قَائِلًا يَقُولُ : إنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ , وَخَلَفًا مِنْ كُلِّ هَالِكٍ , وَدَرْكًا مِنْ كُلِّ مَا فَاتَ , فَبِاَللَّهِ فَثِقُوا , وَإِيَّاهُ فَارْجُوَا , فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ , وَعَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّ حَظَّهُ مِنْ الْمُصِيبَةِ مَا يُحْدِثُهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ , وَعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيَدٍ مَرْفُوعًا { إنَّ اللَّهَ إذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ , فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا , وَمِنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ } إسْنَادُهُ جَيِّدٌ , وَهُوَ إسْنَادُ حَدِيثِ { إذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا حَمَاهُ الدُّنْيَا } وَلِذَاكَ إسْنَادٌ آخَرُ . قَالَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ فِي مَحْمُودٍ لَهُ صُحْبَةٌ وَقَالَ أَبُو حَاتِم وَغَيْرُهُ : لَا صُحْبَةَ لَهُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَحْمَدُ وَزَادَ { وَمَنْ جَزِعَ فَلَهُ الْجَزَعُ } . وَعَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا { إنَّ أَعْظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ , وَإِنَّ اللَّهَ إذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ , فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا , وَمِنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ } وَعَنْهُ أَيْضًا { إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا , وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ حَتَّى يُوَافِيَ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } رَوَاهُمَا التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَسَنٌ غَرِيبٌ .(3/71)
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ الْأَوَّلَ وَرَوَى أَحْمَدُ الثَّانِيَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ , وَعَلِمَ أَنَّ آخِرَ أَمْرِهِ الصَّبْرَ , وَهُوَ مُثَابٌ , وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ { إنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى } وَقَالَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ : إنَّكَ إنْ صَبَرْتَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا وَإِلَّا سَلَوْتَ الْبَهَائِمَ , وَعَلِمَ أَنَّ الَّذِي ابْتَلَاهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ لِيَمْتَحِنَ صَبْرَهُ وَيَسْمَعَ تَضَرُّعَهُ , وَيُخَوِّفَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } وَقَالَ تَعَالَى { وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } .(3/72)
قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْقَادِرِ : يَا بُنَيَّ الْمُصِيبَةُ مَا جَاءَتْ لِتُهْلِكَ , وَإِنَّمَا جَاءَتْ لِتَمْتَحِنَ صَبْرَك وَإِيمَانَك , يَا بُنَيَّ الْقَدَرُ سَبُعٌ , وَالسَّبُعُ لَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ , فَالْمُصِيبَةُ كِيرُ الْعَبْدِ , فَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ ذَهَبًا أَوْ خَبَثًا كَمَا قِيلَ : سَبَكْنَاهُ وَنَحْسَبُهُ لُجَيْنًا فَأَبْدَى الْكِيرُ عَنْ خَبَثِ الْحَدِيدِ اللُّجَيْنُ الْفِضَّةُ جَاءَ مُصَغَّرًا مِثْلَ الثُّرَيَّا وَكُمَيْتٌ , وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْلَا الْمَصَائِبُ لَبَطَرَ الْعَبْدُ وَبَغَى وَطَغَى فَيَحْمِيهِ بِهَا مِنْ ذَلِكَ وَيُطَهِّرُهُ مِمَّا فِيهِ , فَسُبْحَانَ مِنْ يَرْحَمُ بِبَلَائِهِ , وَيَبْتَلِي بِنَعْمَائِهِ كَمَا قِيلَ : قَدْ يُنْعِمُ اللَّهُ بِالْبَلْوَى وَإِنْ عَظُمَتْ وَيَبْتَلِي اللَّهُ بَعْضَ الْقَوْمِ بِالنِّعَمِ وَاعْلَمْ أَنَّ مَرَارَةَ الدُّنْيَا حَلَاوَةُ الْآخِرَةِ وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ , وَلِهَذَا قَالَ : عليه السلام { الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ } وَقَالَ : { حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَاقِلَ مَنْ احْتَمَلَ مَرَارَةَ سَاعَةٍ لِحَلَاوَةِ الْأَبَدِ .(3/73)
وَذُلَّ سَاعَةٍ لِعِزِّ الْأَبَدِ , هَذَا مِنْ لُطْفِ اللَّهِ بِهِ حَتَّى نَظَرَ فِي الْعَوَاقِبِ وَالْغَايَاتِ , وَالنَّاسُ إلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ آثَرُوا الْعَاجِلَ لِمُشَاهَدَتِهِ وَضَعْفِ الْإِيمَانِ , وَعَلِمَ أَنَّهُ يُحِبُّ رَبَّهُ وَأَنَّ الْمُحِبَّ وَأَنَّهُ إنْ أَسْخَطَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ فِي مَحَبَّتِهِ , وَلِهَذَا كَانَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رضي الله عنه يَقُولُ فِي مَرَضِهِ : أَحَبُّهُ إلَيَّ أَحَبُّهُ إلَيْهِ , وَكَذَا أَبُو الْعَالِيَة وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : رضي الله عنه إنَّ اللَّهَ إذَا قَضَى قَضَاءً أَحَبَّ أَنْ يُرْضَى بِهِ , وَعَلِمَ أَنَّ مَرَاتِبَ الْكَمَالِ مَنُوطَةٌ بِالصَّبْرِ وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ , وَأَقَلُّ الْأَحْوَالِ أَنْ لَا يَتَّهِمَ رَبَّهُ فِي قَضَائِهِ لَهُ . كَمَا رَوَى أَحْمَدُ حَدَّثَنَا حَسَنُ ثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ أَنَّهُ سَمِعَ جُنَادَةَ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ يَقُولُ : سَمِعْت عُبَادَة بْنَ الصَّامِتِ يَقُولُ : إنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : { يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَتَصْدِيقٌ بِهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ , قَالَ : أُرِيدُ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : السَّمَاحَةُ وَالصَّبْرُ قَالَ : أُرِيدُ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : لَا تَتَّهِمْ اللَّهَ فِي شَيْءٍ قُضِيَ لَك } ابْنُ لَهِيعَةَ فِيهِ كَلَامٌ مَشْهُورٌ .(3/74)
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ السُّلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا { أَنَّ الْعَبْدَ إذَا سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ لَمْ يَبْلُغْهَا , ابْتَلَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي جَسَدِهِ أَوْ فِي مَالِهِ أَوْ فِي وَلَدِهِ , ثُمَّ صَبَّرَهُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يُبْلِغَهُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ } رَوَاهُ أَحْمَدُ أَبُو دَاوُد , وَعَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي مُرَّةَ عَنْ بِلَالِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا { لَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ نَكْبَةٌ فَمَا فَوْقَهَا أَوْ دُونَهَا إلَّا بِذَنْبٍ , وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : غَرِيبٌ . فَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ هَذِهِ الْأُمُورَ نَظَرَ فِيهَا وَتَأَمَّلَهَا صَبَرَ وَاحْتَسَبَ وَحَصَلَ لَهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ , وَالنَّاسُ فِي هَذَا مُتَفَاوِتُونَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأُمُورِ وَسَيَأْتِي آخِرَ فُصُولِ التَّدَاوِي . ((3/75)
فَصْلٌ فِي دَاءِ الْعِشْقِ ) لَهُ مُنَاسَبَةٌ وَتَعَلُّقٌ بِهَذَا , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ , وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ مَا أَنْشَدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُد الظَّاهِرِيُّ لِنَفْسِهِ : يَقُولُونَ لِي فِي الصَّبْرِ رَوْحٌ وَرَاحَةٌ وَلَا عَهْدَ لِي بِالصَّبْرِ مُذْ خُلِقَ الْحُبُّ وَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّبْرَ كَالصَّبِرِ طَعْمُهُ وَإِنَّ سَبِيلَ الصَّبْرِ مُمْتَنِعٌ صَعْبُ وَقَدْ قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ : السِّرُّ الْمَصُونُ اعْلَمْ أَنَّ مِنْ طَلَبَ أَفْعَالَهُ مِنْ حَيْثُ الْعَقْلِ الْمُجَرَّدِ , فَلَمْ يَجِدْ يَعْتَرِضُ , وَهَذِهِ حَالَةٌ قَدْ شَمِلَتْ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْجُهَّالِ أَوَّلَهُمْ إبْلِيسُ , فَإِنَّهُ نَظَرَ بِمُجَرَّدِ عَقْلِهِ فَقَالَ : كَيْفَ يُفَضَّلُ الطِّينُ عَلَى جَوْهَرِ النَّارِ ؟ وَفِي ضِمْنِ اعْتِرَاضِهِ أَنَّ حِكْمَتَك قَاصِرَةٌ وَأَنَّ رَأْيِي أَجْوَدُ , فَلَوْ لَقِيت أَنَا إبْلِيسَ كُنْت أَقُولُ لَهُ : حَدِّثْنِي عَنْ فَهْمِك هَذَا الَّذِي رَفَعْت بِهِ أَمْرَ النَّارِ عَلَى الطِّينِ , أَهُوَ وَهَبَهُ لَك أَمْ حَصَلَ لَك مِنْ غَيْرِ مَوْهِبَتِهِ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ : وُهِبَ لِي , فَأَقُولُ : أَفِيهِ لَك كَمَالُ الْفَهْمِ الَّذِي لَا تُدْرِكُهُ حِكْمَتُهُ فَتَرَى أَنْتَ الصَّوَابَ , وَيَرَى هُوَ الْخَطَأَ ؟ وَتَبِعَ إبْلِيسَ فِي تَغْفِيلِهِ وَاعْتِرَاضِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِثْلَ ابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ وَالْمَعَرِّيّ وَمِنْ قَوْلِهِ : إذَا كَانَ لَا يَحْظَى بِرِزْقِك عَاقِلٌ وَتَرْزُقُ مَجْنُونًا وَتَرْزُقُ أَحْمَقَا فَلَا ذَنْبَ يَا رَبَّ السَّمَاءِ عَلَى امْرِئٍ رَأَى مِنْكَ مَا لَا يُشْتَهَى فَتَزَنْدَقَا وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ يَقُول : أَيَا رَبُّ تَخْلُقُ أَقْمَارَ لَيْلٍ وَأَغْصَانَ بَانٍ(3/76)
وَكُثْبَانَ رَمْلِ وَتُبْدِعُ فِي كُلِّ طَرْفٍ بِسِحْرٍ وَفِي كُلِّ قَدٍّ وَسَبْقٍ بِشَكْلِ وَتَنْهَى عِبَادَك أَنْ يَعْشَقُوا أَيَا حَاكِمَ الْعَدْلِ ذَا حُكْمُ عَدْلِ وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ يَقُولُ : لَيْسَ عَلَى الْمَخْلُوقِ أَضَرُّ مِنْ الْخَالِقِ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : دَخَلْت عَلَى صَدَقَةَ بْنِ الْحُسَيْنِ الْحَدَّادِ وَكَانَ فَقِيهًا غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الِاعْتِرَاضِ , وَكَانَ عَلَيْهِ جَرَبٌ فَقَالَ : هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى جَمَلٍ لَا عَلَيَّ , وَكَانَ يَتَفَقَّدُهُ بَعْضُ الْأَكَابِرِ بِمَأْكُولٍ فَيَقُولُ : بُعِثَ لِي هَذَا عَلَى الْكِبَرِ وَقْتَ لَا أَقْدِرُ آكُلُهُ , وَكَانَ رَجُلٌ يَصْحَبُنِي قَدْ قَارَبَ ثَمَانِينَ سَنَةً كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَمَرِضَ وَاشْتَدَّ بِهِ الْمَرَضُ فَقَالَ لِي : إنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ أَمُوتَ , فَيُمِيتَنِي , فَأَمَّا هَذَا التَّعْذِيبُ فَمَا لَهُ مَعْنًى . وَاَللَّهُ لَوْ أَعْطَانِي الْفِرْدَوْسَ كَانَ مَكْفُورًا . وَرَأَيْت آخَرَ يَتَزَيَّا بِالْعِلْمِ إذَا ضَاقَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ يَقُولُ أَيْشٍ هَذَا التَّدْبِيرُ ؟ وَعَلَى هَذَا كَثِيرٌ مِنْ الْعَوَّام إذَا ضَاقَتْ أَرْزَاقُهُمْ اعْتَرَضُوا , وَرُبَّمَا قَالُوا : مَا تُرِيدُ نُصَلِّي . وَإِذَا رَأَوْا رَجُلًا صَالِحًا يُؤْذَى قَالُوا : مَا يَسْتَحِقُّ , قَدْ حَافَ الْقَدَرُ , وَكَانَ قَدْ جَرَى فِي زَمَانِنَا تَسَلُّطٌ مِنْ الظَّلَمَةِ فَقَالَ بَعْضُ مَنْ يَتَزَيَّا بِالدِّينِ : هَذَا حُكْمٌ بَارِدٌ , وَمَا فَهِمَ ذَاكَ الْأَحْمَقُ أَنَّ اللَّهَ يُمْلِي لِلظَّالِمِ .(3/77)
وَفِي الْحَمْقَى مَنْ يَقُولُ : أَيُّ فَائِدَةٍ فِي خَلْقِ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ , وَمَا عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ أُنْمُوذَجٌ لِعُقُوبَةِ الْمُخَالِفِ وَبَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ مَنْ يَتَزَيَّا بِالْعِلْمِ أَنَّهُ قَالَ : اشْتَهَيْت أَنْ يَجْعَلَنِي وَزِيرًا فَأَدْبَرَ . وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ شَاعَ فَلِهَذَا مَدَدْت النَّفْسَ فِيهِ . وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَرِضَ قَدْ ارْتَفَعَ أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا وَعَلَا عَلَى الْخَالِقِ بِالتَّحَكُّمِ عَلَيْهِ , وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ كَفَرَةٌ ; لِأَنَّهُمْ رَأَوْا حِكْمَةَ الْخَالِقِ قَاصِرَةٌ . وَإِذَا كَانَ تَوَقُّفُ الْقَلْبِ عَنْ الرِّضَا بِحُكْمِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم يُخْرِجُ عَنْ الْإِيمَانِ . قَالَ تَعَالَى : { فَلَا وَرَبِّك لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } . فَكَيْف يَصِحُّ الْإِيمَانُ مَعَ الِاعْتِرَاضِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ؟ وَكَانَ فِي زَمَنِ ابْن عَقِيلٍ رَجُلٌ رَأَى بَهِيمَةً عَلَى غَايَةٍ مِنْ السَّقَمِ فَقَالَ : وَا رَحْمَتِي لَك , وَا قِلَّةَ حِيلَتِي فِي إقَامَةِ التَّأْوِيلِ لِمُعَذِّبِكِ . فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَقِيلٍ : إنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى حَمْلِ هَذَا الْأَمْرِ لِأَجْلِ رِقَّتِكَ الْحَيَوَانِيَّةِ , وَمُنَاسَبَتِك الْجِنْسِيَّةِ , فَعِنْدَك عَقْلٌ تَعْرِفُ بِهِ تَحَكُّمَ الصَّانِعِ , وَحِكْمَتُهُ تُوجِبُ عَلَيْك التَّأْوِيلَ , فَإِنْ لَمْ تَجِدْ اسْتَطْرَحْت لِفَاطِرِ الْعَقْلِ , حَيْثُ خَانَكَ الْعَقْلُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ . وَاعْلَمْ أَنَّ رِضَا الْعَقْلِ بِأَفْعَالِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْ فِي الْعِبَادَاتِ أَشَدِّهَا وَأَصْعَبِهَا .(3/78)
ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامَ ابْنِ عَقِيلٍ وَفِيهِ : وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى الْعَجْزِ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْعَوَاقِبِ فَقَالَ تَعَالَى : وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ . فَفِي عُقُولِنَا قُوَّةُ التَّسْلِيمِ وَلَيْسَ فِيهَا قُدْرَةُ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ . وَقَدْ يَدْعُو الْإِنْسَانُ فَلَا يُجَابُ فَيَنْدَمُ , وَهُوَ يُدْعَى إلَى الطَّاعَةِ فَيَتَوَقَّف , فَالْعَجَبُ مِنْ عَبِيدٍ يَقْتَضُونَ الْمَوَالِيَ اقْتِضَاءَ الْغَرِيمِ , وَلَا يَقْتَضُونَ الْغَرِيمَ وَلَا يَقْتَضُونَ أَنْفُسَهُمْ بِحُقُوقِ الْمَوَالِي . قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : وَمَنْ تَأَمَّلَ دَقَائِقَ حِكْمَتِهِ وَمَحَاسِنَ صِفَاتِهِ أَخْرَجَهُ حُبُّهُ إلَى الْهَيَمَانِ فِيهِ , فَإِنَّ الْمَعَانِيَ الْمُسْتَحْسَنَةَ تُحَبُّ أَكْثَرَ مِنْ الصُّوَرِ , وَلِهَذَا تُحِبُّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا رضي الله عنهم لِمَعَانِيهِمْ لَا لِصُوَرِهِمْ , فَكَيْفَ لَا تَقَعُ الْمَحَبَّةُ الْمُخْتَصَّةُ بِالْكَمَالِ الْمُنَزَّهِ عَنْ نَقْصٍ ؟ فَوَا أَسَفَا لِلْغَافِلِينَ عَنْهُ , وَوَا حَسْرَتَا لِلْجَاهِلِينَ بِهِ . وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قَبْلَ ذَلِكَ : مَنْ نَظَرَ إلَى أَفْعَالِهِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ أَنْكَرَ , فَأَمَّا مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَالِكٌ وَحَكِيمٌ , وَأَنَّ حِكْمَتَهُ قَدْ تَخْفَى سَلَّمَ لِمَا لَمْ يَعْلَمْ عِلَّتَهُ بِأَفْعَالِهِ مُسْلِمًا إلَى حِكْمَتِهِ . وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ لَمْ يَحْتَرِزْ بِعَقْلِهِ مِنْ عَقْلِهِ هَلَكَ بِعَقْلِهِ .(3/79)
وَهَذَا كَلَامٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ , فَإِنَّا إذَا قُلْنَا لِلْعَقْلِ هُوَ حَكِيمٌ قَالَ : لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ ; لِأَنِّي قَدْ رَأَيْت عَجَائِبَ أَفْعَالِهِ الْمُحْكَمَةِ فَعَلِمْت أَنَّهُ حَكِيمٌ , فَإِذَا رَأَيْت مَا يُصْدَرُ مَا ظَاهِرُهُ يُنَافِي الْحِكْمَةَ , نَسَبْت الْعَجْزَ إلَيَّ , وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْمُرَادَ تَسْلِيمُ الْعُقُولِ لِمَا يُنَافِيهَا , وَذَلِكَ عِبَادَةُ الْعُقُولِ قَالَ : وَصَارَ هَذَا كَمَا خَفِيَ عَنْ مُوسَى حِكْمَةُ فِعْلِ الْخَضِرِ , وَقَدْ يَخْفَى عَلَى الْعَامِّيِّ مَا يَفْعَلُهُ الْمَلِكُ فَقَدْ قَالَ الْمُتَنَبِّي : يَدِقُّ عَنْ الْأَفْكَارِ مَا أَنْتَ فَاعِلُ وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ : الْوَاحِدُ مِنْ الْعَوَّام إذَا رَأَى مَرَاكِبَ مُقَلَّدَةً بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ , وَدُورًا مَشِيدَةً مَمْلُوءَةً بِالْخَدَمِ وَالزِّينَةِ قَالَ : اُنْظُرْ إلَى مَا أَعْطَاهُمْ مَعَ سُوءِ أَفْعَالِهِمْ , وَلَا يَزَالُ يَلْعَنُهُمْ وَيَذُمُّ مُعْطِيَهُمْ وَيَسْقَفُ حَتَّى يَقُولَ : فُلَانٌ يُصَلِّي الْجَمَاعَاتِ وَالْجُمَعِ , وَلَا يَذُوقُ قَطْرَةَ خَمْرٍ , وَلَا يُؤْذِي الذَّرَّ , وَلَا يَأْخُذُ مَا لَيْسَ لَهُ , وَيُؤَدِّي الزَّكَاةَ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ , وَيَحُجُّ وَيُجَاهِدُ , وَلَا يَنَالُ خُلَّةً بِقُلَّةٍ , وَيُظْهِرُ الْإِعْجَابَ كَأَنَّهُ يَنْطِقُ عَنْ تَخَايُلِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الشَّرَائِعُ حَقًّا لَكَانَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ مَا نَرَى , وَكَانَ الصَّالِحُ غَنِيًّا وَالْفَاسِقُ فَقِيرًا . مَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّهُ لَحَظَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَى هَذَا أَمْوَالَ الْأَيْتَامِ وَالْوُقُوفِ , بِأَنْ يَأْكُلَ الرِّبَا وَيُفَاسِدَ الْعُقُودَ , وَهَذَا افْتِئَاتٌ وَتَجَوُّزٌ وَسَخَطٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ .(3/80)
فَإِنَّ لِلَّهِ كِتَابًا قَدْ مَلَأَهُ بِالنَّهْيِ وَحِرْمَانِ أَخْذِ الْمَالِ الْحَرَامِ وَأَكْلِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ , فَلَوْ كَانَ مُنْصِفًا لَقَالَ لَهُ تَدَبَّرْ هَذَا كِتَابُ اللَّهِ مَمْلُوءٌ بِالنَّهْيِ وَالْوَعِيدِ , فَصَارَ الْفَرِيقَانِ مَلْعُونَيْنِ , هَذَا بِكُفْرِهِ وَهَذَا بِارْتِكَابِ النَّهْيِ . وَمِنْ الْفَسَادِ فِي هَذَا الِاعْتِقَادِ أَنَّهُ لَا يُبْقِي فِي الْعَقْلِ ثِقَةً إلَى دَلَالَةٍ قَامَتْ عَلَى شَرِيعَةٍ أَوْ حُكْمٍ . فَإِنَّ يَنْبُوعَ الثِّقَةِ وَمَصْدَرَهَا إنَّمَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُؤَيِّدُ غَيْرَ الصَّادِقِ , وَلَا يُلْبِسُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ .(3/81)
فَإِذَا لَمْ تَسْتَقِرَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فَلَا ثِقَةَ وَقَالَ أَيْضًا : إذَا تَأَمَّلَ الْمُتَدَيِّنُ أَفْعَالَ الْخَلْقِ فِي مُقَابَلَةِ إنْعَامِ الْحَقِّ اسْتَكْثَرَ لَهُمْ شَمَّ الْهَوَاءِ , وَاسْتَقَلَّ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَكْثَرَ الْبَلَاءِ , إذَا رَأَى هَذِهِ الدَّارَ الْمُزَخْرَفَةَ بِأَنْوَاعِ الزَّخَارِيفِ , الْمُعَدَّةَ لِجَمِيعِ التَّصَارِيفِ وَاصْطِبَاغًا وَأَشْرِبَةً وَأَدْوِيَةً , وَأَقْوَاتًا وَإِدَامًا وَفَاكِهَةً , إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعَقَاقِيرِ , ثُمَّ إرْخَاءَ السَّحَابِ بِالْغُيُوثِ فِي زَمَنِ الْحَاجَاتِ ثُمَّ تَطْيِيبَ الْأَمْزِجَةِ وَإِحْيَاءَ النَّبَاتِ , وَخَلْقَ هَذِهِ الْأَبْنِيَةِ عَلَى أَحْسَنِ إتْقَانٍ , وَتَسْخِيرَ الرِّيَاحِ وَالنَّسِيمِ الْمُعَدِّ لِلْأَنْفَاسِ , إلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ النِّعَمِ , ثُمَّ نِعْمَةَ الْعَقْلِ وَالذِّهْنِ ثُمَّ سَائِرَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الصَّانِعِ , ثُمَّ إنْزَالَ الْكُتُبِ الَّتِي تَحُثُّ عَلَى الطَّاعَاتِ وَتَرْدَعُ عَنْ الْمُخَالَفَةِ , ثُمَّ اللُّطْفَ بِالْمُكَلَّفِ , وَإِبَاحَةَ الشِّرْكِ مَعَ الْإِكْرَاهِ , وَأَمَرَ بِالْجُمُعَةِ فَضَايَقُوهُ فِي سَاعَةِ السَّعْي بِنَفْسِ مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ الْبَيْعِ فِي أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ , وَعَظَّمُوا كُلَّ مَا هَوَّنَهُ وَارْتَكَبُوا كُلَّ مَا هَوَّنَهُ حَتَّى اسْتَخَفُّوا بِحُرْمَةِ كِتَابِهِ , فَأَنَا أَسْتَقِلُّ لَهُمْ كُلَّ مِحْنَةً .(3/82)
وَقَالَ أَيْضًا : لَا تَتِمُّ الرُّجْلَةُ فِي الْعَبْدِ حَتَّى يَكُونَ فِي مَقَامِ اخْتِلَالِ أَحْوَالِهِ , وَإِشْبَاطِ أَخْلَاطِهِ وَأَفْرَاحِهِ , وَتَسَلُّطِ أَعْدَائِهِ ثَابِتًا بِثُبُوتِ الْمُتَلَقِّي وَالْمُتَوَقِّي , فَيَتَلَقَّى النِّعَمَ بِالشُّكْرِ لَا بِالْبَطَرِ , مُتَمَاسِكًا عَنْ تَحَرُّكِ الرَّعَنِ , وَعِنْدَ الْمَصَائِبِ مُسْتَسْلِمًا نَاظِرًا إلَى الْمُبْتَلَى بِعَيْنِ الْكَمَالِ , وَعِنْدَ اشْتِطَاطِ الْغَضَبِ مُتَلَقِّيًا بِالْحُكْمِ , وَعِنْدَ الشَّهَوَاتِ مُسْتَحْضِرًا لِلْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ , فَسُبْحَانَ مَنْ كَمَنَ جَوَاهِرَ الرِّجَالِ فِي هَذِهِ الْأَجْسَادِ , ثُمَّ أَظْهَرَهَا بِابْتِلَائِهِ لِيُعْطِيَ عَلَيْهَا جَزِيلَ ثَوَابِهِ , وَيَجْعَلَهَا حُجَّةً عَلَى بَقِيَّةِ عِبَادِهِ . وَقَالَ : زِنُوا أَنْفُسَكُمْ : مِنْ الْمَبَادِئِ مَاءٌ وَطِينٌ , وَفِي الثَّوَانِي مَاءٌ مَهِينٌ , وَفِي الْوَسَطِ عَبِيدٌ مَحَاوِيج لَوْ حُبِسَ عَنْكُمْ نَسِيمُ الْهَوَاءِ لَأَصْبَحْتُمْ جِيَفًا , وَلَوْ مُكِّنَتْ مِنْكُمْ الْبُقُوقُ عَنْ السِّبَاعِ لَأَكَلَتْكُمْ , كُونُوا مُتَعَرِّفِينَ لَا عَارِفِينَ . وَقَالَ لَنَا : عِنْدَك ذَخَائِرُ وَوَدَائِعُ بِاَللَّهِ لَا تَضَعْهَا فِي التُّرَّهَاتِ , وَدُمُوعٌ وَدِمَاءٌ وَنُفُوسٌ , بِاَللَّهِ لَا تَجْرِي الدُّمُوعَ إلَّا عَلَى مَا فَاتَ وَيَفُوتُ , وَلَا تُرِقْ الدِّمَاءَ , إلَّا فِي مُكَافَحَةِ الْأَعْدَاءِ , وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِنَا , وَأَنْفَاسٌ مِنْ نَفَائِسِ الذَّخَائِرِ , فَبِحَقِّنَا لَا تَتَنَفَّسْ الصُّعَدَاءَ إلَّا فِي الشَّوْقِ إلَيْنَا , وَالتَّأَسُّفِ عَلَيْنَا .(3/83)
كَمْ نَخْلَعُ عَلَيْك خِلْعَةً نَفِيسَةً تَبْذُلُهَا فِي الْأَقْذَارِ , وَتَخْلُقُهَا فِي خِدْمَةِ الْأَغْيَارِ , اشْتَغَلْتَ بِالصُّوَرِ , شَغْلَ الْأَطْفَالِ بِاللَّعِبِ , فَاتَتْكَ أَوْقَاتٌ لَا تَتَلَافَى إلَى أَنْ قَالَ : فَإِنْ كَسَرْنَا عَلَيْك لُعْبَةً مِثْلَ أَنْ نَسْلُبَك وَلَدًا مَنَحْنَاهُ , أَخَذْت تُضَيِّعُ الدُّمُوعَ وَتَخْرُقُ الْجُيُوبَ , وَا أَسَفَا عَلَى أَوْقَاتٍ فَاتَتْ , أَمَا رَأَيْت الْمُتَدَارِكِينَ هَذَا يَقُولُ : هَلَكْت وَأَهْلَكْت , وَهَذَا يَقُولُ : زَنَيْت فَطَهِّرْنِي , زَاهِدًا فِي مُصَاحَبَةِ نَفْسٍ خَائِنَةٍ فِيمَا عَاهَدَتْ , وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يُقِيمُ لَهَا التَّأْوِيلَ وَيَقُولُ : " لَعَلَّكَ قَبِلْت " وَذَاكَ مُصِرٌّ عَلَى التَّشَفِّي مِنْ النَّفْسِ الْمُخَالِفَةِ لِلْحَقِّ , أَتُرَاهُ سَلَّطَ هَذِهِ الْبَلَاوِيَ إلَّا لِيُظْهِرَ هَذِهِ الْجَوَاهِرَ فِي الصَّبْرِ عَلَيْهِ وَالْغَيْرَةِ ؟ تُرَى لَوْ دَامَ الْخَلِيلُ وَالذَّبِيحُ فِي كَتْمِ الْعَزْمِ , كَانَ وُجِدَ لِأَخْذِ قَدَمٍ , إلَى أَنْ قَالَ : فَصَارَ الْوَلَدُ كَالشَّاةِ الْمُعَدَّةِ لِلذَّبْحِ . أَخْجَلَ وَاَللَّهِ هَذَا الْجَوْهَرُ الَّذِي أَظْهَرَهُ الِامْتِحَانُ مَلَائِكَةَ الرَّحْمَنِ . { قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ } . أَيْنَ التَّسْبِيحُ مِنْ عَزْمِ الذَّبْحِ وَبَذْلِ الذَّبِيحِ ؟ لَقَدْ تَرَكَتْ هَذِهِ الْمَكَارِمُ رُءُوسَ الْكُلِّ مُنَكَّسَةً خَجَلًا بِبُخْلِهِمْ شَاةً مِنْ أَرْبَعِينَ , وَنِصْفَ دِينَارٍ مِنْ عِشْرِينَ .(3/84)
وَتَعْجَبُ مِنْ قَوْلِ الدَّبُوسِيِّ الْحَنَفِيِّ : إنَّ الدُّنْيَا دَارُ جَزَاءٍ لِحَقِّ الْآدَمِيِّ , فَأَمَّا لِحَقِّهِ فَيَتَأَخَّرُ إلَى الْآخِرَةِ , وَإِنَّ هَذَا خِلَافُ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ انْتَهَى كَلَامُهُ . قَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } . وَقِيلَ لِأَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ مَا بَالُ الْعُقَلَاءِ أَزَالُوا اللَّوْمَ عَمَّنْ أَسَاءَهُمْ , قَالَ : إنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا ابْتَلَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ . وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ . وَلِابْنِ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ { كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ } وَلِأَحْمَدَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا { مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَقَدْ أَخْطَأَ أَوْ هَمَّ بِخَطِيئَةٍ لَيْسَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا } وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَقَالَ : حَسَنٌ صَحِيح عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلَّا اللَّمَمَ } إنْ تَغْفِرْ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا وَأَيُّ عَبْدٍ لَك إلَّا أَلَمَّا .
وفي البحر الزخار :(3/85)
مَسْأَلَةٌ ( هـ ) وَإِذَا اشْتَرَكَ فِي أَصْلِ النَّهْرِ أَوْ مَجَارِي السَّيْلِ قُسِّمَ عَلَى الْحِصَصِ إنْ تَمَيَّزَتْ ( أَبُو جَعْفَرٍ ) فَإِنْ الْتَبَسَتْ مُسِحَتْ الْأَرْضُ وَقُسِّمَ بِقَدْرِهَا ( فَرْعٌ ) وَلِذِي الصَّبَابَةِ مَا فَضُلَ عَنْ كِفَايَةِ الْأَعْلَى فَإِنْ كَانَ قَلِيلًا فَحَدُّهُ أَنْ يَعُمَّ أَرْضَ الْأَعْلَى إلَى الْكَعْبَيْنِ فِي النَّخْلِ , وَإِلَى الشِّرَاكِ فِي الزَّرْعِ , لِقَضَائِهِ صلى الله عليه وآله وسلم بِذَلِكَ فِي خَبَرِ عُبَادَةَ . فَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وآله وسلم لِلزُّبَيْرِ { اسْقِ أَرْضَك حَتَّى تَبْلُغَ الْجِدَارَ } فَقِيلَ عُقُوبَةٌ لِخَصْمِهِ , وَقِيلَ بَلْ هُوَ الْمُسْتَحَقُّ , وَكَانَ أَمَرَهُ بِالتَّفَضُّلِ . فَإِنْ كَانَتْ أَرْضٌ بَعْضُهَا مُطْمَئِنٌّ فَلَا يَبْلُغُ فِي بَعْضِهَا إلَى الْكَعْبَيْنِ إلَّا وَهُوَ فِي الْمُطْمَئِنِّ إلَى الرُّكْبَتَيْنِ , قَدَّمَ الْمُطْمَئِنَّ إلَى الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ حَبَسَهَا وَسَقَى بَاقِيَهَا ( ط ) الْعِبْرَةُ بِالْكِفَايَةِ بِالْأَعْلَى وَتَقْدِيرُ الْهَادِي عَلَى قَدْرِهَا فِي جِهَتِهِ "
((3/86)
قَوْلُهُ ) " فِي خَبَرِ عُبَادَةَ رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ { أَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وآله وسلم قَضَى فِي شَرَجِ نَخِيلٍ مُرْسَلٍ أَنَّ الْأَعْلَى يَسْقِي حَتَّى يَبْلُغَ الْمَاءُ إلَى الْكَعْبَيْنِ , ثُمَّ الْأَسْفَلُ كَذَلِكَ إلَى أَنْ تَنْتَهِيَ الْأَرَاضِي } هَكَذَا رُوِيَ . وَفِي التَّلْخِيصِ مَا لَفْظُهُ : حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قَضَى فِي شُرْبِ النَّخْلِ , لِلْأَعْلَى أَنْ يَسْقِيَ قَبْلَ الْأَسْفَلِ , ثُمَّ يُرْسِلُ الْأَعْلَى إلَى الْأَسْفَلِ , وَلَا يَحْبِسُ الْمَاءَ فِي أَرْضِهِ } وَفِي رِوَايَةٍ { أَنَّهُ يَجْعَلُ الْمَاءَ إلَى الْكَعْبَيْنِ } وَفِي أُخْرَى { يُرْسِلُ الْمَاءَ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى الْأَرَاضِيِ } ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ وَفِيهِ انْقِطَاعٌ ( تَنْبِيهٌ ) الرِّوَايَةُ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ " حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى الْأَرَاضِي " لَمْ يُوجَدْ لَفْظُهَا نَعَمْ عِنْدَ الْمَذْكُورِينَ : فِي رِوَايَةِ إسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى عَنْ جَدِّهِ عُبَادَةَ { حَتَّى تَنْقَضِيَ الْحَوَائِطُ } انْتَهَى . وَاَلَّذِي فِي الْجَامِعِ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ { أَنَّهُ سَمِعَ كُبَرَاءَهُمْ يَذْكُرُونَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ كَانَ لَهُ سَهْمٌ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ .(3/87)
فَخَاصَمَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِي سَيْلٍ مَهْزُورٍ وَمُذَيْنِيبٍ الَّذِي يَقْتَسِمُونَ مَاءَهُ , فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّ الْمَاءَ إلَى الْكَعْبَيْنِ لَا مُحْبِسَ الْأَعْلَى عَنْ الْأَسْفَلِ } أَخْرَجَهُ الْمُوَطَّأُ , وَكَذَلِكَ أَبُو دَاوُد إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ مُذَيْنِيب وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَضَى فِي السَّيْلِ الْمَهْزُورِ أَنْ تُمْسِكَ حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ يُرْسِلُ الْأَعْلَى إلَى الْأَسْفَلِ } أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد ( ح ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ مَهْزُورٌ وَادِي بَنِي قُرَيْظَةَ بِالْحِجَازِ , فَأَمَّا بِتَقْدِيمِ الرَّاءِ عَلَى الزَّايِ فَمَوْضِعُ سُوقِ الْمَدِينَةِ تَصَدَّقَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم عَلَى الْمُسْلِمِينَ . ( قَوْلُهُ ) " فَأَمَّا قَوْلُهُ لِلزُّبَيْرِ " إلَخْ . عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ , فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ سَرِّحَ الْمَاءَ حَتَّى يَمُرَّ فَأَبَى عَلَيْهِ فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلْ إلَى جَارِك فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ ثُمَّ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ كَانَ ابْنُ عَمَّتِك ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم ; ثُمَّ قَالَ لِلزُّبَيْرِ : اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسْ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى الْجَدْرِ .(3/88)
فَقَالَ الزُّبَيْرُ : وَاَللَّهِ إنِّي لَأَحْسِبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } } الْآيَةَ - أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلْبُخَارِيِّ نَحْوُهُ عَنْ عُرْوَةَ , وَزَادَ { فَاسْتَوْفَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ } , وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَبْلَ ذَلِكَ قَدْ أَشَارَ عَلَى الزُّبَيْرِ بِرَأْيٍ أَرَادَ فِيهِ سَعَةً لَهُ وَلِلْأَنْصَارِيِّ , فَلَمَّا أَحْفَظَهُ الْأَنْصَارِيُّ اسْتَوْفَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِي صَرِيحِ الْحُكْمِ " وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ نَحْوَ الرِّوَايَةِ الْأُولَى ( ح ) شِرَاجُ : جَمْعُ شَرْجَةٍ بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَرَاءٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ جِيمٍ , وَهِيَ مَسِيلُ الْمَاءِ مِنْ الْحَرَّةِ إلَى السَّهْلِ . وَالشَّرْجُ مِثْلُهَا . وَالْحَرَّةُ : أَرْضٌ ذَاتُ حِجَارَةٍ . وَقَوْلُهُ : سَرِّحَ الْمَاءَ صَحَّ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ , ثُمَّ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ . وَمَعْنَاهُ : أَرْسِلْهُ يَجْرِي . وَمَعْنَى أَحْفَظَهُ : أَغْضَبَهُ ; مِنْ الْحَفِيظَةِ وَهِيَ الْغَضَبُ .
وفي التقرير والتحبير :
((3/89)
مَسْأَلَةٌ : لَا يَرْجِعُ الْمُقَلِّدُ فِيمَا قَلَّدَ ) الْمُجْتَهِدَ ( فِيهِ أَيْ عَمِلَ بِهِ اتِّفَاقًا ) ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ لَكِنْ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَلَيْسَ كَمَا قَالَا فَفِي كَلَامِ غَيْرِهِمَا مَا يَقْتَضِي جَرَيَانَ الْخِلَافِ بَعْدَ الْعَمَلِ أَيْضًا وَكَيْفَ يَمْتَنِعُ إذَا اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ . لَكِنْ وَجْهُ مَا قَالَاهُ أَنَّهُ بِالْتِزَامِهِ مَذْهَبَ إمَامٍ مُكَلَّفٍ بِهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ غَيْرُهُ , وَالْعَامِّيُّ لَا يَظْهَرُ لَهُ بِخِلَافِ الْمُجْتَهِدِ حَيْثُ يَنْتَقِلُ مِنْ أَمَارَةٍ إلَى أَمَارَةٍ , وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ : التَّقْلِيدُ بَعْدَ الْعَمَلِ إنْ كَانَ مِنْ الْوُجُوبِ إلَى الْإِبَاحَةِ لِيَتْرُكَ كَالْحَنَفِيِّ يُقَلِّدُ فِي الْوِتْرِ أَوْ مِنْ الْحَظْرِ إلَى الْإِبَاحَةِ لِيَتْرُكَ كَالشَّافِعِيِّ يُقَلِّدُ فِي أَنَّ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ جَائِزٌ , وَالْفِعْلُ وَالتَّرْكُ لَا يُنَافِي الْإِبَاحَةَ , وَاعْتِقَادُ الْوُجُوبِ أَوْ التَّحْرِيمِ خَارِجٌ عَنْ الْعَمَلِ , وَحَاصِلٌ قَبْلَهُ فَلَا مَعْنَى لِلْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَمَلَ فِيهَا مَانِعٌ مِنْ التَّقْلِيدِ , وَإِنْ كَانَ بِالْعَكْسِ فَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ الْإِبَاحَةَ يُقَلِّدُ فِي الْوُجُوبِ أَوْ التَّحْرِيمِ , فَالْقَوْلُ بِالْمَنْعِ أَبْعَدُ وَلَيْسَ فِي الْعَامِّيِّ إلَّا هَذِهِ الْأَقْسَامُ نَعَمْ الْمُفْتِي عَلَى مَذْهَبِ إمَامٍ إذَا أَفْتَى بِكَوْنِ الشَّيْءِ وَاجِبًا أَوْ مُبَاحًا أَوْ حَرَامًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ وَيُفْتِيَ بِخِلَافِهِ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مَحْضُ تَشَهِّي كَذَا ا هـ .(3/90)
قُلْت : وَالتَّوْجِيهُ الْمَذْكُورُ سَاقِطٌ فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ مَوْضُوعَةٌ فِي الْعَامِّيِّ الَّذِي لَمْ يَلْتَزِمْ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا كَمَا يُفْصِحُ بِهِ لَفْظُ الْآمِدِيِّ ثُمَّ ذَكَرَهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ مَا لَوْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا عَلَى أَنَّ الِالْتِزَامَ غَيْرُ لَازِمٍ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا سَتَعْلَمُ , وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ صَلَاحُ الدِّينِ الْعَلَائِيُّ : ثُمَّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُخَصَّصًا بِحَالَةِ الْوَرَعِ وَالِاحْتِيَاطِ إذْ لَا يُمْنَعُ فَقِيهٌ مِنْ الرُّجُوعِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ .(3/91)
قُلْت : وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي فَصْلِ التَّعَارُضِ أَنَّ مَشَايِخَنَا قَالُوا فِي الْقِيَاسَيْنِ إذَا تَعَارَضَا وَاحْتِيجَ إلَى الْعَمَلِ : يَجِبُ التَّحَرِّي فِيهِمَا فَإِذَا وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّ الصَّوَابَ أَحَدُهُمَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ , وَإِذَا عَمِلَ بِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بَعْدَهُ بِالْآخَرِ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ خَطَأُ الْأَوَّلِ وَصَوَابُ الْآخَرِ فَحِينَئِذٍ يَعْمَلُ بِالثَّانِي أَمَّا إذَا لَمْ يَظْهَرْ خَطَأُ الْأَوَّلِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِالثَّانِي ; لِأَنَّهُ لَمَّا تَحَرَّى وَوَقَعَ تَحَرِّيهِ عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ أَحَدُهُمَا وَعَمِلَ بِهِ وَصَحَّ الْعَمَلُ حُكِمَ بِصِحَّةِ ذَلِكَ الْقِيَاسِ وَأَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ ظَاهِرٌ أَوْ بِبُطْلَانِ الْآخَرِ , وَأَنَّ الْحَقَّ لَيْسَ مَعَهُ ظَاهِرًا مِمَّا لَمْ يَرْتَفِعْ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ سِوَى مَا كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَمَلِ بِهِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَصِيرَ إلَى الْعَمَلِ بِالْآخَرِ فَعَلَى قِيَاسِ هَذَا إذَا تَعَارَضَ قَوْلَا مُجْتَهِدَيْنِ يَجِبُ التَّحَرِّي فِيهِمَا فَإِذَا وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّ الصَّوَابَ أَحَدُهُمَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ , وَإِذَا عَمِلَ بِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِالْآخَرِ إلَّا إذَا ظَهَرَ خَطَأُ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ تَعَارُضَ أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُقَلِّدِ كَتَعَارُضِ الْأَقْيِسَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُجْتَهِدِ وَسَتَسْمَعُ عَنْهُمْ أَيْضًا مَا يَشُدُّهُ , وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ . ( وَهَلْ يُقَلِّدُ غَيْرَهُ ) أَيْ غَيْرَ مَنْ قَلَّدَهُ أَوَّلًا فِي شَيْءٍ ( فِي غَيْرِهِ ) أَيْ غَيْرِ ذَلِكَ الشَّيْءِ ؟ .(3/92)
كَأَنْ يَعْمَلَ أَوَّلًا فِي مَسْأَلَةٍ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَثَانِيًا فِي أُخْرَى بِقَوْلِ مُجْتَهِدٍ آخَرَ ( الْمُخْتَارُ ) كَمَا ذَكَرَ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ ( نَعَمْ لِلْقَطْعِ ) بِالِاسْتِقْرَاءِ التَّامِّ ( بِأَنَّهُمْ ) أَيْ الْمُسْتَفْتِينَ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنْ زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَهَلُمَّ جَرًّا ( كَانُوا يَسْتَفْتُونَ مَرَّةً وَاحِدًا وَمَرَّةً غَيْرَهُ غَيْرَ مُلْتَزِمِينَ مُفْتِيًا وَاحِدًا ) وَشَاعَ وَتَكَرَّرَ وَلَمْ يُنْكَرْ , وَهَذَا إذَا لَمْ يَلْتَزِمْ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا . ( فَلَوْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا كَأَبِي حَنِيفَةَ أَوْ الشَّافِعِيِّ ) فَهَلْ يَلْزَمُهُ الِاسْتِمْرَارُ عَلَيْهِ فَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ الْمَسَائِلِ ( فَقِيلَ يَلْزَمُ ) ; لِأَنَّهُ بِالْتِزَامِهِ يَصِيرُ مُلْزَمًا بِهِ كَمَا لَوْ الْتَزَمَ مَذْهَبَهُ فِي حُكْمِ حَادِثَةٍ مُعَيَّنَةٍ ; وَلِأَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمَذْهَبَ الَّذِي انْتَسَبَ إلَيْهِ هُوَ الْحَقُّ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمُوجَبِ اعْتِقَادِهِ . ( وَقِيلَ لَا ) يَلْزَمُ , وَهُوَ الْأَصَحُّ كَمَا فِي الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ ; لِأَنَّ الْتِزَامَهُ غَيْرُ مُلْزِمٍ إذْ لَا وَاجِبَ إلَّا مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِمَذْهَبِ رَجُلٍ مِنْ الْأُمَّةِ فَيُقَلِّدَهُ فِي دِينِهِ فِي كُلِّ مَا يَأْتِي وَيَذَرَ دُونَ غَيْرِهِ عَلَى أَنَّ ابْنَ حَزْمٍ قَالَ أَجْمَعُوا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِحَاكِمٍ وَلَا مُفْتٍ تَقْلِيدُ رَجُلٍ فَلَا يَحْكُمُ وَلَا يُفْتِي إلَّا بِقَوْلِهِ ا هـ .(3/93)
وَقَدْ انْطَوَتْ الْقُرُونُ الْفَاضِلَةُ عَلَى عَدَمِ الْقَوْلِ بِذَلِكَ بَلْ لَا يَصِحُّ لِلْعَامِّيِّ مَذْهَبٌ وَلَوْ تَمَذْهَبَ بِهِ ; لِأَنَّ الْمَذْهَبَ إنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ لَهُ نَوْعُ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٌ وَبَصَرٌ بِالْمَذَاهِبِ عَلَى حَسَبِهِ أَوْ لِمَنْ قَرَأَ كِتَابًا فِي فُرُوعِ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ وَعَرَفَ فَتَاوَى إمَامِهِ وَأَقْوَالَهُ , وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَتَأَهَّلْ لِذَلِكَ أَلْبَتَّةَ بَلْ قَالَ أَنَا حَنَفِيٌّ أَوْ شَافِعِيٌّ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لَمْ يَصِرْ كَذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ كَمَا لَوْ قَالَ : أَنَا فَقِيهٌ أَوْ نَحْوِيٌّ أَوْ كَاتِبٌ لَمْ يَصِرْ كَذَلِكَ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ قَائِلَهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِذَلِكَ الْإِمَامِ سَالِكٌ طَرِيقَهُ فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ فَأَمَّا مَعَ جَهْلِهِ وَبُعْدِهِ جِدًّا عَنْ سِيرَةِ الْإِمَامِ وَعِلْمِهِ بِطَرِيقِهِ فَكَيْفَ يَصِحُّ لَهُ الِانْتِسَابُ إلَيْهِ إلَّا بِالدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةِ وَالْقَوْلِ الْفَارِغِ مِنْ الْمَعْنَى كَذَا ذَكَرَهُ فَاضِلٌ مُتَأَخِّرٌ قُلْت وَلَوْ شَاحَحَهُ مُشَاحِحٌ فِي أَنَّ قَائِلَ أَنَا حَنَفِيٌّ مَثَلًا لَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي جَمِيعِ هَذَا الْمَذْكُورِ بَلْ مُتَّبِعُهُ فِي الْمُوَافَقَةِ فِيمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ عَمَلًا وَاعْتِقَادًا فَسَيَظْهَرُ جَوَابُهُ مِمَّا يَذْكُرُهُ قَرِيبًا ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ صَلَاحُ الدِّينِ الْعَلَائِيِّ : وَاَلَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْفُقَهَاءُ فِي مَشْهُورِ كُتُبِهِمْ جَوَازُ الِانْتِقَالِ فِي آحَادِ الْمَسَائِلِ وَالْعَمَلِ فِيهَا بِخِلَافِ مَذْهَبِ إمَامِهِ الَّذِي يُقَلِّدُ مَذْهَبَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّتَبُّعِ لِلرُّخَصِ(3/94)
وَشَبَّهُوا ذَلِكَ بِالْأَعْمَى الَّذِي اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ أَوَانِي مَاءٍ وَثِيَابٍ تَنَجَّسَ بَعْضُهَا إذَا قُلْنَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِيهَا بَلْ يُقَلِّدُ بَصِيرًا يَجْتَهِدُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ فِي الْأَوَانِي وَاحِدًا وَفِي الثِّيَابِ آخَرَ وَلَا مَنْعَ مِنْ ذَلِكَ ( وَقِيلَ كَمَنْ لَمْ يَلْتَزِمْ إنْ عَمِلَ بِحُكْمٍ تَقْلِيدًا ) لِمُجْتَهِدٍ ( لَا يَرْجِعُ عَنْهُ ) أَيْ عَنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ ( وَفِي غَيْرِهِ ) أَيْ غَيْرِ مَا عَمِلَ بِهِ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ ( لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ ) مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ .(3/95)
قَالَ السُّبْكِيُّ : وَهُوَ الْأَعْدَلُ , وَقَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ لِعَدَمِ مَا يُوجِبُهُ ) أَيْ اتِّبَاعُهُ فِيمَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ ( شَرْعًا ) بَلْ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ اقْتَضَى الْعَمَلَ بِقَوْلِ الْمُجْتَهِدِ وَتَقْلِيدَهُ فِيهِ فِيمَا احْتَاجَ إلَيْهِ , وَهُوَ قوله تعالى { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } وَالسُّؤَالُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ طَلَبِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ الْمُعَيَّنَةِ وَحِينَئِذٍ إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ قَوْلُ الْمُجْتَهِدِ وَجَبَ عَمَلُهُ بِهِ وَالْتِزَامُهُ لَمْ يَثْبُت مِنْ السَّمْعِ اعْتِبَارُهُ مُلْزِمًا كَمَنْ الْتَزَمَ كَذَا لِفُلَانٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ ذَلِكَ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِهِ إنَّمَا ذَلِكَ فِي النَّذْرِ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَلْتَزِمَ بِلَفْظِهِ كَمَا فِي النَّذْرِ أَوْ بِقَلْبِهِ وَعَزْمِهِ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ مَثَلًا قَلَّدْت فُلَانًا فِيمَا أَفْتَى بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ تَعْلِيقُ التَّقْلِيدِ أَوْ الْوَعْدُ بِهِ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَقَالَ ( وَيَتَخَرَّجُ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ كَوْنِهِ كَمِنْ لَمْ يَلْتَزِمْ ( جَوَازُ اتِّبَاعِهِ رُخَصَ الْمَذَاهِبِ ) أَيْ أَخْذِهِ مِنْ كُلٍّ مِنْهَا مَا هُوَ الْأَهْوَنُ فِيمَا يَقَعُ مِنْ الْمَسَائِلِ ( وَلَا يَمْنَعُ مِنْهُ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ إذْ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْلُكَ الْأَخَفَّ عَلَيْهِ إذَا كَانَ لَهُ إلَيْهِ سَبِيلٌ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ عَمِلَ بِآخِرِ فِيهِ ) .(3/96)
وَقَالَ أَيْضًا : وَالْغَالِبُ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ إلْزَامَاتٌ مِنْهُمْ لِكَفِّ النَّاسِ عَنْ تَتَبُّعِ الرُّخْصِ , وَإِلَّا أَخَذَ الْعَامِّيُّ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ بِقَوْلِ مُجْتَهِدٍ قَوْلُهُ أَخَفُّ عَلَيْهِ وَأَنَا لَا أَدْرِي مَا يَمْنَعُ هَذَا مِنْ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ وَكَوْنُ الْإِنْسَانِ يَتَّبِعُ مَا هُوَ أَخَفُّ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَوْلِ مُجْتَهِدٍ مُسَوَّغٌ لَهُ الِاجْتِهَادُ مَا عَلِمْت مِنْ الشَّرْعِ ذَمُّهُ عَلَيْهِ ( وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ مَا خُفِّفَ عَلَيْهِمْ ) كَمَا قَدَّمْنَا فِي فَصْلِ التَّرْجِيحِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَهُ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظٍ عَنْهُمْ وَفِي لَفْظٍ مَا يُخَفِّفُ عَنْهُمْ أَيْ أُمَّتِهِ , وَذَكَرْنَا ثَمَّةَ عِدَّةَ أَحَادِيثَ صَحِيحَةً دَالَّةً عَلَى ذَلِكَ قُلْت لَكِنْ مَا عَنْ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ تَتَبُّعُ الرُّخَصِ إجْمَاعًا إنْ صَحَّ احْتَاجَ إلَى جَوَابٍ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ إذْ فِي تَفْسِيقِ الْمُتَتَبِّعِ لِلرُّخَصِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ وَحَمَلَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى الرِّوَايَةَ الْمُفَسِّقَةَ عَلَى غَيْرِ مُتَأَوِّلٍ وَلَا مُقَلِّدٍ , وَذَكَر بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إنْ قَوِيَ دَلِيلٌ أَوْ كَانَ عَامِّيًّا لَا يَفْسُقُ , وَفِي رَوْضَةِ النَّوَوِيِّ وَأَصْلُهَا عَنْ حِكَايَةِ الْحَنَّاطِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا يَفْسُقُ بِهِ ثُمَّ لَعَلَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى نَحْوِ مَا يَجْتَمِعُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يَقُلْ بِمَجْمُوعِهِ مُجْتَهِدٌ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَقَيَّدَهُ ) أَيْ جَوَازَ تَقْلِيدِ غَيْرِهِ ( مُتَأَخِّرٌ ) وَهُوَ الْعَلَّامَةُ الْقَرَافِيُّ ( بِأَنْ لَا(3/97)
يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ ) أَيْ تَقْلِيدِ غَيْرِهِ ( مَا يَمْنَعَانِهِ ) أَيْ يَجْتَمِعُ عَلَى بُطْلَانِهِ كِلَاهُمَا ( فَمَنْ قَلَّدَ الشَّافِعِيَّ فِي عَدَمِ ) فَرْضِيَّةِ ( الدَّلْكِ ) لِلْأَعْضَاءِ الْمَغْسُولَةِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ ( وَمَالِكًا فِي عَدَمِ نَقْضِ اللَّمْسِ بِلَا شَهْوَةٍ ) لِلْوُضُوءِ فَتَوَضَّأَ وَلَمَسَ بِلَا شَهْوَةٍ ( وَصَلَّى إنْ كَانَ الْوُضُوءُ بِدَلْكٍ صَحَّتْ ) صَلَاتُهُ عِنْدَ مَالِكٍ ( وَإِلَّا ) إنْ كَانَ بِلَا دَلْكٍ ( بَطَلَتْ عِنْدَهُمَا ) أَيْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ .(3/98)
وَقَالَ الرُّويَانِيُّ : يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْمَذَاهِبِ وَالِانْتِقَالُ إلَيْهَا بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ أَنْ لَا يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا عَلَى صُورَةٍ تُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ كَمَنْ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ صَدَاقٍ وَلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ فَإِنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ لَمْ يَقُلْ بِهَا أَحَدٌ وَأَنْ يَعْتَقِدَ فِيمَنْ يُقَلِّدُهُ الْفَضْلَ بِوُصُولِ أَخْبَارِهِ إلَيْهِ وَلَا يُقَلِّدُ أُمِّيًّا فِي عَمَايَةٍ وَأَلَّا يَتَتَبَّعَ رُخَصَ الْمَذَاهِبِ , وَتَعَقَّبَ الْقَرَافِيُّ هَذَا بِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالرُّخَصِ مَا يُنْقَضُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي وَهُوَ أَرْبَعَةٌ مَا خَالَفَ الْإِجْمَاعَ أَوْ الْقَوَاعِدَ أَوْ النَّصَّ أَوْ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ فَهُوَ حَسَنٌ مُتَعَيِّنٌ فَإِنَّ مَا لَا نُقِرُّهُ مَعَ تَأَكُّدِهِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ فَأَوْلَى أَنْ لَا نُقِرَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ , وَإِنْ أَرَادَ بِالرُّخَصِ مَا فِيهِ سُهُولَةٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ كَيْفَمَا كَانَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ مَنْ قَلَّدَ مَالِكًا فِي الْمِيَاهِ وَالْأَرْوَاثِ وَتَرْكِ الْأَلْفَاظِ فِي الْعُقُودِ مُخَالِفًا لِتَقْوَى اللَّهِ , وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَتَعَقُّبُ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْجَمْعَ الْمَذْكُورَ لَيْسَ بِضَائِرٍ فَإِنَّ مَالِكًا مَثَلًا لَمْ يَقُلْ إنَّ مَنْ قَلَّدَ الشَّافِعِيَّ فِي عَدَمِ الصَّدَاقِ أَنَّ نِكَاحَهُ بَاطِلٌ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ تَكُونَ أَنْكِحَةُ الشَّافِعِيَّةِ عِنْدَهُ بَاطِلَةٌ , وَلَمْ يَقُلْ الشَّافِعِيُّ إنَّ مِنْ قَلَّدَ مَالِكًا فِي عَدَمِ الشُّهُودِ أَنَّ نِكَاحَهُ بَاطِلٌ , وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ تَكُونَ أَنْكِحَةُ الْمَالِكِيَّةِ بِلَا شُهُودٍ عِنْدَهُ بَاطِلَةٌ .(3/99)
قُلْت : لَكِنْ فِي هَذَا التَّوْجِيهِ نَظَرٌ غَيْرُ خَافٍ وَوَافَقَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ الرُّويَانِيَّ عَلَى اشْتِرَاطِ أَنْ لَا يَجْتَمِعَ فِي صُورَةٍ يَقَعُ الْإِجْمَاعُ عَلَى بُطْلَانِهَا , وَأَبْدَلَ الشَّرْطَ الثَّالِثَ بِأَنْ لَا يَكُونَ مَا قَلَّدَ فِيهِ مِمَّا يُنْقَضُ فِيهِ الْحُكْمُ لَوْ وَقَعَ وَاقْتَصَرَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ عَلَى اشْتِرَاطِ هَذَا وَقَالَ : وَإِنْ كَانَ الْمَأْخَذَانِ مُتَقَارِبَيْنِ جَازَ . وَالشَّرْطُ الثَّانِي انْشِرَاحُ صَدْرِهِ لِلتَّقْلِيدِ الْمَذْكُورِ وَعَدَمُ اعْتِقَادِهِ لِكَوْنِهِ مُتَلَاعِبًا بِالدِّينِ مُتَسَاهِلًا فِيهِ وَدَلِيلُ هَذَا الشَّرْطِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم { وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ } فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ فَفِعْلُهُ إثْمٌ ا هـ .(3/100)
قُلْت : أَمَّا عَدَمُ اعْتِقَادِ كَوْنِهِ مُتَلَاعِبًا بِالدِّينِ مُتَسَاهِلًا فِيهِ فَلَا بُدَّ مِنْهُ وَأَمَّا انْشِرَاحُ صَدْرِهِ لِلتَّقْلِيدِ فَلَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ كَمَا أَنَّ الْحَدِيثَ كَذَلِكَ أَيْضًا وَهُوَ بِلَفْظِ { وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِك وَكَرِهْت أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ } فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَبِلَفْظِ { وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الْقَلْبِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ , وَإِنْ أَفْتَاك النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ } فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ فَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ الْمُتْقِنُ ابْنُ رَجَبٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مُشِيرًا إلَيْهِ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْإِثْمَ مَا أَثَّرَ فِي الصَّدْرِ حَرَجًا وَضِيقًا وَقَلَقًا وَاضْطِرَابًا فَلَمْ يَنْشَرِحْ لَهُ الصَّدْرُ وَمَعَ هَذَا فَهُوَ عِنْدَ النَّاسِ مُسْتَنْكَرٌ بِحَيْثُ يُنْكِرُونَهُ عِنْدَ اطِّلَاعِهِمْ عَلَيْهِ وَهَذَا أَعْلَى مَرَاتِبِ مَعْرِفَةِ الْإِثْمِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ , وَهُوَ مَا اسْتَنْكَرَهُ النَّاسُ فَاعِلُهُ وَغَيْرُ فَاعِلِهِ وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ مَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ وَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ قَبِيحًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ قَبِيحٌ وَمُشِيرًا إلَيْهِ بِاللَّفْظِ الثَّانِي يَعْنِي مَا حَاكَ فِي صَدْرِ الْإِنْسَانِ فَهُوَ إثْمٌ , وَإِنْ أَفْتَاهُ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِثْمٍ فَهَذِهِ مَرْتَبَةٌ ثَانِيَةٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مُسْتَنْكَرًا عِنْدَ فَاعِلِهِ دُونَ غَيْرِهِ وَقَدْ جَعَلَهُ أَيْضًا إثْمًا وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ صَاحِبُهُ مِمَّنْ شُرِحَ صَدْرُهُ بِالْإِيمَانِ وَكَانَ الْمُفْتِي لَهُ يُفْتِي بِمُجَرَّدِ ظَنٍّ أَوْ مَيْلٍ إلَى هَوًى مِنْ غَيْرِ(3/101)
دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ . فَأَمَّا مَا كَانَ مَعَ الْمُفْتَى بِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْتَفْتِي الرُّجُوعُ إلَيْهِ , وَإِنْ لَمْ يَنْشَرِحْ لَهُ صَدْرُهُ وَهَذَا كَالرُّخَصِ الشَّرْعِيَّةِ مِثْلُ الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ وَالْمَرَضِ وَقَصْرِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْشَرِحُ بِهِ صَدْرُ كَثِيرٍ مِنْ الْجُهَّالِ فَهَذَا لَا عِبْرَةَ بِهِ , وَقَدْ { كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحْيَانَا يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِمَا لَا يَنْشَرِحُ بِهِ صَدْرُ بَعْضِهِمْ فَيَمْتَنِعُونَ مِنْ فِعْلِهِ فَيَغْضَبُ مِنْ ذَلِكَ } كَمَا أَمَرَهُمْ بِفَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ فَكَرِهَهُ مَنْ كَرِهَهُ مِنْهُمْ وَكَمَا أَمَرَهُمْ بِنَحْرِ هَدْيِهِمْ وَالتَّحَلُّلِ مِنْ عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ فَكَرِهُوهُ وَكَرِهُوا مُقَاضَاتَهُ لِقُرَيْشٍ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ مِنْ عَامِهِ وَعَلَى أَنَّ مَنْ أَتَاهُ مِنْهُمْ يَرُدُّهُ إلَيْهِمْ .(3/102)
وَفِي الْجُمْلَةِ فَمَا وَرَدَ النَّصُّ بِهِ فَلَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ إلَّا طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَلَقَّى ذَلِكَ بِانْشِرَاحِ الصَّدْرِ وَالرِّضَا فَإِنَّ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يَجِبُ الرِّضَا وَالْإِيمَانُ بِهِ وَالتَّسْلِيمُ لَهُ كَمَا قَالَ - تَعَالَى - : { فَلَا وَرَبِّك لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَأَمَّا مَا لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَا عَمَّنْ يُقْتَدَى بِقَوْلِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ فَإِذَا وَقَعَ فِي نَفْسِ الْمُؤْمِنِ الْمُطْمَئِنِّ قَلْبُهُ بِالْإِيمَانِ الْمُنْشَرِحِ صَدْرُهُ بِنُورِ الْمَعْرِفَةِ وَالْيَقِينِ مِنْهُ شَيْءٌ , وَحَاكَ فِي صَدْرِهِ لِشُبْهَةٍ مَوْجُودَةٍ وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُفْتِي فِيهِ بِالرُّخْصَةِ إلَّا مَنْ يُخْبِرُ عَنْ رَأْيِهِ وَهُوَ مِمَّنْ لَا يُوثَقُ بِعِلْمِهِ وَبِدِينِهِ بَلْ هُوَ مَعْرُوفٌ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى فَهُنَا يَرْجِعُ الْمُؤْمِنُ إلَى مَا حَاكَ فِي صَدْرِهِ , وَإِنْ أَفْتَاهُ هَؤُلَاءِ الْمَفْتُون وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى مِثْلِ هَذَا ا هـ . بَقِيَ هَلْ بِمُجَرَّدِ وُقُوعِ صِحَّةِ جَوَابِ الْمُفْتَى وَحَقِّيَّتِهِ فِي نَفْسِ الْمُسْتَفْتِي يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِهِ ؟ .(3/103)
فَذَهَبَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ إلَى أَنَّ أَوْلَى الْأَوْجُهِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ بِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْهُ لِغَيْرِهِ قُلْت وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ مُوَافِقٌ لِمَا فِي شَرْحِ الزَّاهِدِيِّ عَلَى مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ وَعَنْ أَحْمَدَ الْعِيَاضِيِّ الْعِبْرَةُ بِمَا يَعْتَقِدُهُ الْمُسْتَفْتِي فَكُلُّ مَا اعْتَقَدَهُ مِنْ مَذْهَبٍ حَلَّ لَهُ الْأَخْذُ بِهِ دِيَانَةً , وَلَمْ يَحِلَّ لَهُ خِلَافُهُ ا هـ . وَمَا فِي رِعَايَةِ الْحَنَابِلَةِ وَلَا يَكْفِيهِ مَنْ لَمْ تَسْكُنْ نَفْسُهُ إلَيْهِ وَفِي أُصُولِ ابْنِ مُفْلِحٍ الْأَشْهَرُ يَلْزَمُهُ بِالْتِزَامِهِ وَقِيلَ وَبِظَنِّهِ حَقًّا وَقِيلَ وَيَعْمَلُ بِهِ , وَقِيلَ : يَلْزَمُهُ إنْ ظَنَّهُ حَقًّا , وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مُفْتِيًا آخَرَ لَزِمَهُ كَمَا لَوْ حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ ا هـ . يَعْنِي وَلَا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى الْتِزَامِهِ وَلَا سُكُونِ نَفْسِهِ إلَى صِحَّتِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الصَّلَاحِ وَذَكَرَ أَنَّهُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْقَوَاعِدُ وَشَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ رحمه الله عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ لَا فِيمَا إذَا وُجِدَ غَيْرُهُ وَلَا فِيمَا إذَا لَمْ يُوجَدْ كَمَا أَسْلَفْنَا ذَلِكَ عَنْهُ فِي ذَيْلِ مَسْأَلَةِ إفْتَاءِ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ حَتَّى قَالَ لَوْ اسْتَفْتَى فَقِيهَيْنِ أَعْنِي مُجْتَهِدَيْنِ فَاخْتَلَفَا عَلَيْهِ الْأَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ بِمَا يَمِيلُ إلَيْهِ قَلْبُهُ مِنْهُمَا , وَعِنْدِي أَنَّهُ لَوْ أَخَذَ بِقَوْلِ الَّذِي لَا يَمِيلُ إلَيْهِ جَازَ ; لِأَنَّ مَيْلَهُ وَعَدَمَهُ سَوَاءٌ , وَالْوَاجِبُ تَقْلِيدُ مُجْتَهِدٍ وَقَدْ فَعَلَ أَصَابَ ذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ أَوْ أَخْطَأَ ا هـ .(3/104)
لَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْقِيَاسَ عَلَى تَعَارُضِ الْأَقْيِسَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُجْتَهِدِ يَقْتَضِي وُجُوبَ التَّحَرِّي عَلَى الْمُسْتَفْتِي وَالْعَمَلَ بِمَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ الصَّوَابُ فَيَحْتَاجُ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى الْجَوَازِ بِدُونِهِ إلَى جَوَابٍ ثُمَّ فِي غَيْرِ مَا كِتَابٌ مِنْ الْكُتُبِ الْمَذْهَبِيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ أَنَّ الْمُسْتَفْتِيَ إنْ أَمْضَى قَوْلَ الْمُفْتِي لَزِمَهُ , وَإِلَّا فَلَا حَتَّى قَالُوا إذَا لَمْ يَكُنْ الرَّجُلُ فَقِيهًا فَاسْتَفْتَى فَقِيهًا فَأَفْتَاهُ بِحَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى أَفْتَاهُ فَقِيهٌ آخَرُ بِخِلَافِهِ فَأَخَذَ بِقَوْلِهِ وَأَمْضَاهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ مَا أَمْضَاهُ فِيهِ وَيَرْجِعُ إلَى مَا أَفْتَاهُ بِهِ الْأَوَّلُ ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ نَقْضُ مَا أَمْضَاهُ مُجْتَهِدًا كَانَ أَوْ مُقَلِّدًا ; لِأَنَّ الْمُقَلِّدَ مُتَعَبِّدٌ بِالتَّقْلِيدِ كَمَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ مُتَعَبِّدٌ بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ كَمَا لَمْ يَجُزْ لِلْمُجْتَهِدِ نَقْضُ مَا أَمْضَاهُ فَكَذَا لَا يَجُوزُ لِلْمُقَلَّدِ ; لِأَنَّ اتِّصَالَ الْإِمْضَاءِ بِمَنْزِلَةِ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ وَاتِّصَالُ الْقَضَاءِ يَمْنَعُ النَّقْضَ فَكَذَا اتِّصَالُ الْإِمْضَاءِ هَذَا وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْعَلَائِيُّ أَنَّهُ قَدْ يُرَجَّحُ الْقَوْلُ بِالِانْتِقَالِ فِي أَحَدِ صُورَتَيْنِ إحْدَاهُمَا إذَا كَانَ مَذْهَبُ غَيْرِ إمَامِهِ يَقْتَضِي تَشْدِيدًا عَلَيْهِ أَوْ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ كَمَا إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ ثُمَّ فَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا أَنَّهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَكَانَ مَذْهَبُ إمَامِهِ الَّذِي يُقَلِّدُهُ يَقْتَضِي(3/105)
عَدَمَ الْحِنْثِ بِذَلِكَ فَأَقَامَ مَعَ زَوْجَتِهِ عَامِلًا بِهِ ثُمَّ تَخَرَّجَ مِنْهُ لِقَوْلِ مَنْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ وَالْتِزَامِ الْحِنْثِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا : إنَّ الْقَصْرَ فِي سَفَرٍ جَاوَزَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَفْضَلُ مِنْ الْإِتْمَامِ وَالْإِتْمَامَ فِيمَا إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَأَفْضَلُ احْتِيَاطًا لِلْخِلَافِ فِي ذَلِكَ . وَالثَّانِيَةُ إذَا رَأَى لِلْقَوْلِ الْمُخَالِفِ لِمَذْهَبِ إمَامِهِ دَلِيلًا صَحِيحًا مِنْ الْحَدِيثِ وَلَمْ يَجِدْ فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ جَوَابًا قَوِيًّا عَنْهُ وَلَا مُعَارِضًا رَاجِحًا عَلَيْهِ إذْ الْمُكَلَّفُ مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا شَرَعَهُ فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ مِنْ تَقْلِيدِ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ مُحَافَظَةً عَلَى مَذْهَبٍ الْتَزَمَ تَقْلِيدَهُ ا هـ . قُلْت وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا أَسْلَفْنَاهُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالْقُدُورِيِّ وَعَلَيْهِ مَشَى طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ ابْنُ الصَّلَاحِ وَابْنُ حَمْدَانَ , وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وفي دقائق أولي النهى :
( وَالْقَضَاءُ ) لُغَةً إحْكَامُ الشَّيْءِ وَالْفَرَاغُ مِنْهُ وَمِنْهُ قوله تعالى :
{(3/106)
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } وَبِمَعْنَى أَوْجَبَ وَمِنْهُ قوله تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ } وَبِمَعْنَى إمْضَاءِ الْحُكْمِ وَمِنْهُ قوله تعالى : { وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ } أَيْ : أَمْضَيْنَا وَأَنْهَيْنَا وَسُمِّيَ الْحَاكِمُ قَاضِيًا لِأَنَّهُ يُمْضِي الْأَحْكَامَ وَيُحْكِمُهَا أَوْ لَا يُجَابِهُ الْحُكْمَ عَلَى مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ . وَاصْطِلَاحًا ( تَبَيُّنُهُ ) أَيْ : الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ ( وَالْإِلْزَامُ بِهِ وَفَصْلُ الْحُكُومَاتِ ) أَيْ الْخُصُومَاتِ .(3/107)
وَالْأَصْلُ فِيهِ قوله تعالى : { يَا دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى } وَقَوْلُهُ { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى نَصْبِ الْقَضَاءِ لِلْفَصْلِ بَيْنَ النَّاسِ ( وَهُوَ ) أَيْ : الْقَضَاءُ ( فَرْضُ كِفَايَةٍ ) لِأَنَّ أَمْرَ النَّاسِ لَا يَسْتَقِيمُ بِدُونِهِ ( كَالْإِمَامَةِ ) وَالْجِهَادِ وَفِيهِ فَضْلٌ عَظِيمٌ لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ وَأَرَادَ الْحَقَّ فِيهِ وَالْوَاجِبُ اتِّخَاذُهَا دِينًا وَقُرْبَةً فَإِنَّهَا مِنْ أَفْضَلِ الْقُرَبِ وَإِنَّمَا فَسَدَ حَالُ بَعْضِهِمْ لِطَلَبِ الرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ بِهَا وَمِنْ فِعْلِ مَا يُمَكِّنُهُ لَمْ يَلْزَمْهُ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ ( فَ ) يَجِبُ ( عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَنْصِبَ بِكُلِّ إقْلِيمٍ ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَحَدُ الْأَقَالِيمِ السَّبْعَةِ ( قَاضِيًا ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِلْإِمَامِ تَوَلِّي الْخُصُومَاتِ وَالنَّظَرِ فِيهَا فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ وَلِئَلَّا تَضِيعَ الْحُقُوقُ بِتَوَقُّفِ فَصْلِ الْخُصُومَاتِ عَلَى السَّفَرِ لِلْإِمَامِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَكُلْفَةِ النَّفَقَةِ وَقَدْ بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ الْقُضَاةَ لِلْأَمْصَارِ فَبَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا إلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا وَبَعَثَ مُعَاذًا قَاضِيًا أَيْضًا وَوَلَّى عُمَرُ شُرَيْحًا قَضَاءَ الْكُوفَةِ وَوَلَّى كَعْبَ بْنَ سَوَّارٍ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ وَكَتَبَ إلَى أَبِي(3/108)
عُبَيْدَةَ وَمُعَاذٍ يَأْمُرُهُمَا بِتَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ فِي الشَّامِ . ( وَ ) عَلَى الْإِمَامِ أَنْ ( يَخْتَارَ لِذَلِكَ ) أَيْ : نَصْبِ الْقُضَاةِ ( أَفْضَلَ مَنْ يَجِدُ عِلْمًا وَوَرَعًا ) لِأَنَّ الْإِمَامَ يَنْظُرُ لِلْمُسْلِمِينَ فَوَجَبَ عَلَيْهِ تَحَرِّي الْأَصْلَحِ لَهُمْ ( وَيَأْمُرُهُ ) أَيْ : الْإِمَامُ إذَا وَلَّاهُ ( بِالتَّقْوَى ) لِأَنَّهَا رَأْسُ الْأَمْرِ وَمِلَاكُهُ . ( وَ ) يَأْمُرُهُ ( بِتَحَرِّي الْعَدْلِ ) أَيْ : إعْطَاءِ الْحَقِّ لِمُسْتَحِقِّهِ بِلَا مَيْلٍ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنْ الْقَضَاءِ ( وَ ) يَأْمُرُهُ ( أَنْ يَسْتَخْلِفَ فِي كُلِّ صُقْعٍ ) بِضَمِّ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْقَافِ أَيْ : نَاحِيَةٌ مِنْ عَمَلِهِ ( أَفْضَلَ مَنْ يَجِدُهُمْ ) عِلْمًا وَوَرَعًا لِحَدِيثِ { مَنْ وَلِيَ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا فَوَلَّى رَجُلًا وَهُوَ يَجِدُ مَنْ هُوَ أَصْلُحُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ } رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ
وفي كشاف القناع :
كِتَابُ الْقَضَاءِ وَالْفُتْيَا
((3/109)
وَالْقَضَاءُ ) مَصْدَرُ قَضَى يَقْضِي فَهُوَ قَاضٍ , إذَا حَكَمَ وَإِذَا فَصَلَ وَإِذَا حَكَمَ وَإِذَا أَمْضَى وَإِذَا فَرَغَ مِنْ الشَّيْءِ وَإِذَا خَلَقَ , وَقَضَى فُلَانٌ وَاسْتَقْضَى صَارَ قَاضِيًا وَيُسَمَّى قَاضِيًا لِأَنَّهُ يُمْضِي الْأَحْكَامَ وَيَحْكُمُهَا وَيَكُونُ قَضَى بِمَعْنَى أَوْجَبَ وَ ( جَمْعُهُ ) أَيْ الْقَضَاءِ ( أَقْضِيَةٌ ) وَجُمِعَ مَعَ أَنَّهُ مَصْدَرٌ بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِهِ ( وَهُوَ ) أَيْ الْقَضَاءُ ( الْإِلْزَامُ ) بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ ( وَفَصْلُ الْخُصُومَاتِ ) وَالْحُكْمُ إنْشَاءٌ لِذَلِكَ الْإِلْزَامِ إنْ كَانَ فِيهِ إلْزَامٌ أَوْ لِلْإِبَاحَةِ وَالْإِطْلَاقِ إنْ كَانَ الْحُكْمُ فِي الْإِبَاحَةِ كَحُكْمِ الْحَاكِم بِأَنَّ الْمَوَاتَ إذَا بَطَلَ إحْيَاؤُهُ صَارَ مُبَاحًا لِجَمِيعِ النَّاسِ قَالَهُ ابْنُ قُنْدُسٍ . وَفِي الِاخْتِيَارَاتِ الْحَاكِمُ فِيهِ صِفَاتٌ ثَلَاثَةٌ : فَمِنْ جِهَةِ الْإِثْبَاتِ هُوَ شَاهِدٌ , وَمِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ هُوَ مُفْتٍ , وَمِنْ جِهَةِ الْإِلْزَامِ بِذَلِكَ هُوَ ذُو سُلْطَانٍ انْتَهَى .(3/110)
وَأَرْكَانُ الْقَضَاءِ خَمْسَةٌ : الْقَاضِي وَالْمَقْضِيُّ بِهِ وَالْمُقْضَى فِيهِ وَالْمَقْضِيُّ لَهُ وَالْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قوله تعالى : { يَا دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ } وقوله تعالى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ } وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى نَصْبِ الْقُضَاةِ لِلْفَصْلِ بَيْنَ النَّاسِ ( وَهُوَ ) أَيْ الْقَضَاءُ ( فَرْضُ كِفَايَةٍ كَالْإِمَامَةِ ) الْعُظْمَى . قَالَ أَحْمَدُ : لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ حَاكِمٍ لِئَلَّا تَذْهَبَ حُقُوقُ النَّاسِ وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : قَدْ أَوْجَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَأْمِيرَ الْوَاحِدِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْقَلِيلِ الْعَارِضِ فِي السَّفَرِ , وَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنْوَاعِ الِاجْتِمَاعِ ( وَإِذَا أَجْمَعَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهِ أَثِمُوا ) قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ : إنْ لَمْ يَحْكُمُوا فِي غَيْرِهِ لَكِنْ الْمُخَاطَبُ بِنَصْبِ الْقَضَاءِ الْإِمَامُ كَمَا يَأْتِي ( وَوِلَايَتُهُ ) أَيْ الْقَضَاءِ ( رُتْبَةٌ دِينِيَّةٌ وَنَصْبُهُ شَرْعِيَّةٌ وَفِيهِ فَضْلٌ عَظِيمٌ لِمَنْ قَوِيَ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ وَأَدَاءِ الْحَقِّ فِيهِ ) قَالَ ابْنُ مَسْرُوقٍ : لَأَنْ أَحْكُمَ يَوْمًا بِحَقٍّ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَغْزُو سَنَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ . ((3/111)
قَالَ الشَّيْخُ : وَالْوَاجِبُ اتِّخَاذُهَا ) أَيْ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ ( دِينًا وَقُرْبَةً فَإِنَّهَا مِنْ أَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ ) { وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } ( وَإِنَّمَا فَسَدَ حَالُ الْأَكْثَرِ لِطَلَبِ الرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ بِهَا انْتَهَى ) .
وفي الإتقان والإحكام :(3/112)
مُقَدِّمَةُ الْكِتَابِ بسم الله الرحمن الرحيم ( وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا ) ( قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ الدَّرَّاكَةُ الْفَهَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَمُفْتِي الْأَنَامِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ سَيِّدِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ مَيَّارَةُ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ وَأَعْلَى فِي الدَّارَيْنِ قَدْرَهُ ) الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُنْفَرِدِ بِالْحُكْمِ وَالتَّدْبِيرِ , الْمُسْتَبِدِّ بِالْقَضَاءِ وَالتَّقْدِيرِ , الَّذِي شَرَحَ الْأَحْكَامَ لِلْعِبَادِ , وَكَفَّهُمْ بِتَنْفِيذِهَا عَنْ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ , وَأَتْحَفَ الْحُكَّامَ بِالشَّرَائِعِ الْإِسْلَامِيَّةِ , وَأَغْنَاهُمْ بِهَا عَنْ السِّيَاسَةِ الْكِسْرَوِيَّةِ , وَعَصَمَهُمْ بِاتِّبَاعِهِمْ الْمَنْقُولَ , عَنْ تَحْكِيمِهِمْ تَحْقِيقَ الْعُقُولِ , فَلَهُ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ بِكُلِّ لِسَانٍ , وَمِنْ كُلِّ مَلَكٍ وَجِنٍّ وَإِنْسَانٍ , وَصَلَوَاتُ اللَّهُ الَّتِي لَا تُحْصَى عَدَدًا , وَسَلَامُهُ الَّذِي لَا يَنْقَضِي أَمَدًا , وَرِضْوَانُهُ وَتَحِيَّاتُهُ , وَرَحْمَتُهُ وَبَرَكَاتُهُ , الْمُسَرْمَدَاتُ أَبَدًا عَلَى الْعَلَمِ الْأَكْبَرِ , وَالسَّيِّدِ الْأَطْهَرِ , مُتَلَقِّي السِّرِّ مِنْ شَدِيدِ الْقُوَى , فَلَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى سِرِّ الْوُجُودِ , وَعَيْنِ الْجُودِ سَيِّدِ الْكَوْنَيْنِ وَرَسُولِ الْمَلِكِ الْأَعْلَى إلَى الثَّقَلَيْنِ , النَّبِيِّ الْمُمَجَّدِ , سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ , وَعَلَّمَهُ مِنْ لَدُنِّهِ عِلْمًا عَجَزَتْ أَفْكَارُ الْخَلْقِ عَنْ الْإِحَاطَةِ بِأَقَلِّهِ وَحَلَّاهُ مِنْ أَخْلَاقِهِ(3/113)
الرَّحْمَانِيَّةِ بِكُلِّ خُلُقٍ كَرِيمٍ , فَقَالَ تَعَالَى { وَإِنَّك لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } , فَجَعَلَهُ لِلْمُهْتَدِينَ سِرَاجًا مُنِيرًا , وَنَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَيْهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا , يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ , وَيَدُلُّهُمْ عَلَى اللَّهِ بِمَا يُعْرَفُ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَلَا يُنْكَرُ , وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ , وَيُقَرِّرُ ذَلِكَ لَهُمْ بِنُصْحٍ تَتَحَرَّكُ لِقَبُولِهِ الْبَوَاعِثُ , وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَبَيَّنَ لَهُمْ دِينَهُمْ امْتِثَالًا لقوله تعالى { وَأَنْزَلْنَا إلَيْك الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ } .(3/114)
فَقَامَ صلى الله عليه وسلم بِأَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ , مَعَ تَحْرِيرِ الْمَقَالَةِ , وَإِيضَاحِ الدَّلَالَةِ , وَلَمْ يَأْلُ جُهْدًا فِي الْإِرْشَادِ وَالتَّهْذِيبِ , وَالتَّبْصِرَةِ وَالتَّقْرِيبِ , وَالْإِجْمَالِ لِلْأَحْكَامِ وَالتَّفْصِيلِ , وَالْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ , فَبَيَّنَ كُلَّ مَنْهَجٍ مَقْصُودٍ , وَكُلَّ مَقْصِدٍ مَحْمُودٍ , كُلُّ ذَلِكَ بِلَفْظٍ مُخْتَصَرٍ , وَتَوْضِيحٍ يُزِيلُ الْغَبَرَ ; وَكَلَامٍ فَائِقٍ , وَمَعْنًى رَائِقٍ مُبَيِّنٍ لِلْحَقَائِقِ , وَآخِذٍ مِنْ الْبَلَاغَةِ بِالْعُرَى الْوَثَائِقِ غَنِيٍّ عَنْ اسْتِنْتَاجِ الْمُقَدِّمَاتِ , وَكَفِيلٍ بِإِيضَاحِ الْمُهِمَّاتِ , حَتَّى صَارَتْ قَوَاعِدُ دِينِهِ مُعَيَّنَةً , لَا يَحْتَاجُ الْمُدَّعِي فِيهَا إلَى بَيِّنَةٍ , فَفَتَحَ لِأُمَّتِهِ بَابَ الِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ الَّذِي لَهُ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ اسْتِنَادٌ ; لِئَلَّا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ , وَلَا يُرَى فِي دِينِهِمْ عِوَجٌ , وَلِيَكُونَ لِلْمُجْتَهِدِ الْمُخْطِئِ أَجْرٌ وَلِلْمُصِيبِ أَجْرَانِ , وَيُؤْتِي الْكُلَّ مِنْ رَحْمَتِهِ كِفْلَيْنِ , فَوَجَبَ عَلَيْنَا الِاعْتِصَامُ بِسُنَّتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَمَا وَجَبَ عَلَيْنَا الِانْقِيَادُ لَهُ فِي حَيَاتِهِ , قَالَ تَعَالَى { فَلَا وَرَبِّك لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْت وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } , صلى الله عليه وعلى آله وَأَصْحَابِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا , صَلَاةً وَسَلَامًا نَنَالُ مِنْ اللَّهِ بِهِمَا جَمِيلَ الرِّضَا , وَنَجِدُهُمَا عُدَّةً لِيَوْمِ فَصْلِ الْقَضَا , وَرَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى , وَنُجُومِ الِاقْتِدَاءِ ,(3/115)
وَمَعَالِمِ الدِّيَانَةِ , وَمَعَاقِلِ الْأَمَانَةِ , سَادَاتِنَا أَهْلِ بَيْتِهِ الَّذِينَ أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُمْ الرِّجْسَ وَطَهَّرَهُمْ , وَأَعْلَى عَلَى كُلِّ آلٍ قَدْرَهُمْ وَأَشْهَرَهُمْ , وَأَئِمَّتِنَا أَصْحَابِهِ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا , وَاَلَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا , الْقَائِمِينَ بِنُصْرَتِهِ , الْحَامِلِينَ لِشَرِيعَتِهِ , وَعَلَى مَنْ أَحْسَنَ اتِّبَاعَهُمْ , وَجَدَّ مِنْ الْأَئِمَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي اتِّبَاعِهِمْ , مَا دَامَ هَذَا الدِّينُ مُوَطَّأً بِالْقَوَاعِدِ الْبَيِّنَةِ , وَفُرُوعُ الشَّرِيعَةِ وَأُصُولُهَا فِي كُتُبِ الْأَئِمَّةِ مُدَوَّنَةٌ ( أَمَّا بَعْدُ ) فَإِنَّ عِلْمَ أَحْكَامِ الْقَضَاءِ , هُوَ مِنْ الدِّينِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنْ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ , وَآدَابُهُ مِنْ أَجَلِّ الْآدَابِ الْمَرْعِيَّةِ , وَخُطَّتُهُ مِنْ أَعْظَمِ الْخُطَطِ الشَّرْعِيَّةِ , رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الشَّرِيعَةِ بَلْ هُوَ أُسُّهَا , وَرَئِيسُ الْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ بَلْ هُوَ رَأْسُهَا , وَلِذَلِكَ قِيلَ : الْقَائِمُونَ مِنْ الْبَشَرِ بِحَقِّهِ هُمْ رُسُلُ اللَّهِ أَوْ وَرَثَتُهُمْ مِنْ خَلْقِهِ .(3/116)
فَقَامَ بِهَا فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمِنْ بَعْدِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ , وَلَمَّا تَمَيَّزَ الْمُلْكُ مِنْ الْخِلَافَةِ صَارَ يُخْتَارُ لَهَا الْأَئِمَّةُ الْمُهْتَدُونَ , وَقَدْ أَلَّفَ النَّاسُ فِيهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا ; وَسَارَ الْعُلَمَاءُ فِي تَبْيِينِ أُصُولِهِ وَقَوَاعِدِهِ سَيْرًا حَثِيثًا , مَا بَيْنَ نَاثِرٍ مُطْنِبٍ وَمُوجِزٍ وَنَاظِمٍ قَصِيدَةً أَوْ مُرْتَجِزٍ , وَإِنَّ مِنْ أَجَلِّ مَا أُلِّفَ فِيهِ مِنْ الْمُخْتَصَرَات , الَّتِي أَغْنَتْ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْمُطَوَّلَاتِ , رَجَزُ الْإِمَامِ الْعَالِمِ الْقَاضِي الرَّئِيسِ الْوَزِيرِ الْأَعْظَمِ , أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ عُرِفَ بِابْنِ عَاصِمٍ , فَهُوَ جَامِعٌ لِكَثِيرٍ مِنْ مَقَاصِدِهِ " مُحْتَوٍ عَلَى جَمٍّ غَفِيرٍ مِنْ فَوَائِدِهِ , مَعَ سَلَامَةِ نَظْمِهِ , وَجَزَالَةِ لَفْظِهِ , وَقِلَّةِ تَعْقِيدِهِ وَسُهُولَةِ حِفْظِهِ , يَشْهَدُ بِذَلِكَ الْعِيَانُ , وَلَيْسَ مِنْ بَعْدِهِ بَيَانٌ , وَقَدْ اعْتَنَى بِشَرْحِهِ مِنْ بَعْدِهِ , وَنَثَرَ اللَّآلِئَ الْمَنْظُومَةَ فِي عِقْدِهِ , وَلَدُهُ الْإِمَامُ قَاضِي الْجَمَاعَةِ أَبُو يَحْيَى مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَاصِمٍ الْقَيْسِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ الْغَرْنَاطِيُّ ذَكَرَ فِي شَرْحِ تُحْفَةِ وَالِدِهِ أَنَّهُ وُلِّيَ الْقَضَاءَ عَامَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَثَمَانِ مِائَةٍ , احْتَفَلَ فِيهِ بِجَوْدَةِ الْقَرِيحَةِ , وَأَكْثَرَ مِنْ النُّقُولِ الصَّحِيحَةِ , فَأَبْدَأ وَأَعَادَ وَأَجَادَ وَأَفَادَ , فَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا , وَأَجْزَلَ أَجْرًا , إلَّا أَنَّهُ قَدْ أَغْفَلَ عَنْ حَلِّ مُقْفَلَاتِهِ , مَا يَعُدُّهُ الْحُذَّاقُ مِنْ(3/117)
مُعْضِلَاتِهِ , ثُمَّ شَرَحَهُ بَعْدَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَهُوَ ابْنُ الْعَبَّاسِ سَيِّدِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يُعْرَفُ بِالْيَزَنَاسِيِّ نَسَبًا وَاشْتِهَارًا , الْعَبْدُ الْمُرَادِيُّ أَصْلًا وَنِجَارًا التِّلِمْسَانِيُّ نَشْأَةً وَدَارًا , شَرْحًا اعْتَنَى فِيهِ بِتَفْكِيكِ الْعِبَارَةِ , وَأَغْنَى بِالتَّصْرِيحِ عَنْ الْإِشَارَةِ , إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَشْفِ فِي النَّقْلِ غَلِيلًا , وَلَا أَبْرَأَ مِنْ دَاءِ الْجَهْلِ عَلِيلًا , وَقَدْ شَرَحَهُ أَيْضًا بَعْضُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ مِنْ مِصْرَ وَلَمْ يَصِلْ شَرْحُهُ إلَيْنَا ( وَلَمَّا مِنْ اللَّهُ عَلَيْنَا ) بِإِقْرَائِهِ وَقِرَاءَتِهِ وَاسْتِعْمَالِ الْفِكْرِ فِي تَفَهُّمِ عِبَارَتِهِ , وَقَيَّدْنَا عَلَى هَوَامِشِ الْمَتْنِ وَالشَّرْحِ مَا هُوَ كَالتَّتِمَّةِ لِلشَّرْحَيْنِ وَأَبْرَزْنَا مِنْ نُكَتِهِ وَتَحْرِيرَاتِهِ مَا فِيهِ لِطَالِبِهِ قُرَّةُ الْعَيْنِ طَلَبَ مِنَّا بَعْضُ مَنْ عَايَنَ ذَلِكَ مِنْ الْأَصْحَابِ , وَشَاهَدَهُ مِنْ ذَوِي الْأَلْبَابِ , أَنْ أَشْرَحَهُ شَرْحًا كَفِيلًا بِمُحَصِّلِ الشَّرْحَيْنِ , حَائِزًا لِكِلْتَا الْفَضِيلَتَيْنِ , مِنْ إيرَادِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاظِرُ مِنْ النَّقْلِ , وَتَبْيِينِ الْعِبَارَةِ حَتَّى يَتَّضِحَ مَعْنَاهَا لِلْعَقْلِ مُطَرِّزًا ذَلِكَ بِفَوَائِدَ يَحْتَاجُ إلَيْهَا النَّاظِرُ , وَقَوَاعِدَ يَسْتَعِينُ بِهَا الْمُنَاظِرُ , وَتَنْبِيهَاتٍ وَتَحْقِيقَاتٍ , تُزِيلُ الشُّبُهَاتِ , فَجَاءَ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى شَرْحًا بِمَقْصُودِ طَالِبِهِ وَافِيًا , وَبِسَهْمٍ صَائِبٍ فِي مُؤَلَّفَاتِ الْفِقْهِ رَامِيًا , نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا تَنْقَطِعُ بِالْوَفَاةِ , وَلَا تُعَقِّبُ(3/118)
صَاحِبَهَا حَسْرَةَ الْفَوَاتِ , وَأَنْ يَنْفَعَ بِهِ كَمَا نَفَعَ بِأُصُولِهِ , كُلَّ مَنْ رَغِبَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَحْصِيلِهِ وَحُصُولِهِ , وَيَجْعَلَهُ وَصْلَةً بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ , وَيُنِيلَنَا بِهِ فِي الدَّارَيْنِ غُفْرَانَهُ وَأَمْنَهُ , إنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ , رَحِيمٌ قَرِيبٌ وَسَمَّيْتُهُ ( الْإِتْقَانَ وَالْإِحْكَامَ فِي شَرْحِ تُحْفَةِ الْحُكَّامِ ) جَعَلَهُ اللَّهُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ , وَمُقَرِّبًا مِنْ رَحْمَتِهِ , قَالَ رحمه الله تعالى : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ جَلَّ شَأْنًا وَعَلَا ثُمَّ الصَّلَاةُ بِدَوَامِ الْأَبَدِ عَلَى الرَّسُولِ الْمُصْطَفَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَالْفِئَةِ الْمُتَّبِعَهْ فِي كُلِّ مَا قَدْ سَنَّهُ وَشَرَعَهْ قَالَ الشَّارِحُ وَلَدُ النَّاظِمِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى الْجَمِيعِ فِي طَالِعَةِ شَرْحِهِ فِي التَّعْرِيفِ بِوَالِدِهِ النَّاظِمِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَاصِمٍ مَا نَصُّهُ وَقَدْ رَأَيْت أَنْ أُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيْ الْكَلَامِ فَصْلًا يَتَضَمَّنُ التَّعْرِيفَ بِمَشْيَخَةِ الشَّيْخِ وَالِدِي رحمه الله وَبِتَآلِيفِهِ وَمَوْلِدِهِ وَوَفَاتِهِ ( وُلِدَ رحمه الله ) ثَانِيَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ عَامِ سِتِّينَ وَسَبْعِمِائَةٍ ( وَتُوُفِّيَ ) حَادِي عَشَرَ شَوَّالٍ مِنْ عَامِ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ وَمِنْ شُيُوخِهِ الشَّيْخُ الْأُسْتَاذُ الْمُفْتِي الشَّهِيرُ أَبُو سَعِيدٍ فَرَجُ بْنُ قَاسِمِ بْنِ لُبٍّ وَالْأُسْتَاذُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٌ الْقَيْجَاطِيُّ وَنَاصِرُ السُّنَّةِ الْأُسْتَاذُ أَبُو إسْحَاقَ إبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الشَّاطِبِيُّ وَقَاضِي الْجَمَاعَةِ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عِلَاقٍ وَخَالَاهُ قَاضِي الْجَمَاعَةِ(3/119)
أَبُو بَكْرٍ وَرَئِيسُ الْعُلُومِ الْمُسَانِيَةِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ ابْنَا الْخَطِيبِ الشَّهِيرِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ جُزَيٍّ وَالشَّرِيفُ الشَّهِيرُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الشَّرِيفِ الْعَالِمِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ التِّلِمْسَانِيُّ وَالْقَاضِي الرَّحَّالُ أَبُو إسْحَاقَ إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَاجِّ النُّمَيْرِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مَنْصُورٍ الْأَشْهَبُ وَالْأُسْتَاذُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَلَنْسِيُّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ أَجْمَعِينَ ( ثُمَّ ) عَدَّ جُمْلَةً مِنْ تَآلِيفِهِ فِي الْأُصُولِ وَالْقِرَاءَاتِ وَالْفَرَائِضِ وَالنَّحْوِ وَمِنْ جُمْلَتِهَا هَذَا النَّظْمُ ( قَالَ مُقَيِّدُ هَذَا الشَّرْحِ سَمَحَ اللَّهُ لَهُ ) وَقَدْ أَنْشَدَنَا صَاحِبُنَا الْفَقِيهُ الْمُؤَقِّتُ الْفَرْضِيُّ الْعَدَدِيُّ الْحَاجُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ سَيِّدِي مُحَمَّدُ بْنُ الشَّيْخِ الْأُسْتَاذِ سَيِّدِي أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ الْقَاضِي بَيْتًا لِنَفْسِهِ رَمَزَ فِيهِ لِوِلَادَةِ النَّاظِمِ وَوَفَاتِهِ وَبَلَدِهِ عَلَى طُرُقِ نَظْمِ الْوَفَيَاتِ لِلْكَاتِبِ الْقَشْتَالِيِّ فِي كَوْنِهِ مِنْ بَحْرِ الطَّوِيلِ وَالرَّمْزُ لِلْوَفَاةِ بِالْحُرُوفِ بِحَسَبِ الْجُمَلِ فَقَالَ : وَقَدْ رَقَصَتْ غَرْنَاطَةُ بِابْنِ عَاصِمٍ وَسَحَّتْ دُمُوعًا لِلْقَضَاءِ الْمُنَزَّلِ فَرَمَزَ لِسَنَةِ الْوِلَادَةِ بِالرَّاءِ وَالْقَافِ وَالصَّادِ وَالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ وَمَجْمُوعُ ذَلِكَ بِالْحِسَابِ الْمَذْكُورِ سِتُّونَ وَسَبْعُمِائَةٍ رَمْزًا لِلْوَفَاةِ وَبِالسِّينِ وَالْحَاءِ وَالتَّاءِ وَالدَّالِ وَالْمِيمِ وَالْوَاوِ وَالْعَيْنِ وَالْأَلِفِ وَمَجْمُوعُهُمَا بِالْحِسَابِ الْمَذْكُورِ ثَمَانُ مِائَةٍ وَتِسْعَةٌ(3/120)
وَعِشْرُونَ وَفِي تَعْبِيرِهِ بِالرَّقْصِ إشَارَةٌ إلَى الْوِلَادَةِ الْمَفْرُوحِ بِهَا إذْ الرَّقْصُ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْفَرَحِ غَالِبًا كَمَا أَنَّ فِي التَّعْبِيرِ بِسَحِّ الدُّمُوعِ وَالْقَضَاءِ الْمُنَزَّلِ الْإِشَارَةَ لِلْمَوْتِ ( وَافْتَتَحَ ) النَّاظِمُ بِحَمْدِ اللَّهِ عَمَلًا بِمُقْتَضَى الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ الْكَرِيمَةِ فَإِنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَفْتَتِحُ خُطَبَهُ وَمَوَاعِظَهُ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى ( وَخَرَّجَ ) أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ : رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { كُلُّ كَلَامٍ لَا يُبْتَدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَجْذَمُ } وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ { كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْتَدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ فَهُوَ أَقْطَعُ } وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى افْتِتَاحِ تَآلِيفِهِمْ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إمَّا بِلَفْظِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَهُوَ الْغَالِبُ أَوْ بِغَيْرِهِ كَالْبَسْمَلَةِ وَقَدْ أَكْثَرَ الْمُؤَلِّفُونَ الْكَلَامَ فِي الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ وَأَخْصَرُ مَا رَأَيْت الْآنَ فِي ذَلِكَ كَلَامُ الشَّيْخِ خَالِدٍ الْأَزْهَرِيِّ فِي شَرْحِ تَوْضِيحِ ابْنِ هِشَامٍ وَلَفْظُهُ : الْحَمْدُ لُغَةً الْوَصْفُ بِالْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ عَلَى قَصْدِ التَّعْظِيمِ وَالْوَصْفُ لَا يَكُونُ إلَّا بِاللِّسَانِ , فَيَكُونُ مَوْرِدُهُ خَاصًّا وَهَذَا الْوَصْفُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِإِزَاءِ نِعْمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَيَكُونَ مُتَعَلِّقُهُ عَامًّا وَالشُّكْرُ عَلَى الْعَكْسِ لِكَوْنِهِ لُغَةً فِعْلًا يُنَبِّئُ عَنْ تَعْظِيمِ الْمُنْعِمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَى الشَّاكِرِ أَوْ غَيْرِهِ فَيَكُونُ مَوْرِدُهُ اللِّسَانَ وَالْجِنَانَ وَالْأَرْكَانَ(3/121)
وَمُتَعَلِّقُهُ النِّعْمَةَ الْوَاصِلَةَ إلَى الشَّاكِرِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا أَعَمُّ وَأَخَصُّ مِنْ الْآخَرِ بِوَجْهٍ فَفِي الْفَضَائِلِ حَمْدٌ فَقَطْ وَفِي أَفْعَالِ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ شُكْرٌ فَقَطْ وَفِي أَفْعَالِ اللِّسَانِ بِإِزَاءِ الْإِنْعَامِ حَمْدٌ وَشُكْرٌ . وَالْحَمْدُ عُرْفًا فِعْلٌ يُشْعِرُ بِتَعْظِيمِ الْمُنْعِمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَى الْحَامِدِ أَوْ غَيْرِهِ وَالشُّكْرُ عُرْفًا صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ السَّمْعِ وَغَيْرِهِ إلَى مَا خُلِقَ لِأَجْلِهِ فَالشُّكْرُ أَخَصُّ مُطْلَقًا لِاخْتِصَاصِ تَعَلُّقِهِ بِالْبَارِي تَعَالَى وَلِتَقْيِيدِهِ بِكَوْنِ الْمُنْعِمِ مُنْعِمًا عَلَى الشَّاكِرِ وَغَيْرِهِ وَلِوُجُوبِ شُمُولِ الْآلَاتِ فِيهِ بِخِلَافِ الْحَمْدِ اُنْظُرْ تَمَامَ كَلَامِهِ إنْ شِئْت وَإِنَّمَا قَالَ فِي حَدِّ الْحَمْدِ الْوَصْفُ بِالْجَمِيلِ وَالْوَصْفُ لَا يَكُونُ إلَّا بِاللِّسَانِ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ تَعْرِيفُ الْحَمْدِ الْوَاقِعِ فِي الْكِتَابِ الْمَشْرُوعِ وَهُوَ كَذَلِكَ وَصْفٌ بِاللِّسَانِ وَمَنْ أَرَادَ تَعْرِيفَ الْحَمْدِ الْقَدِيمِ وَالْحَادِثِ قَالَ هُوَ الثَّنَاءُ بِالْكَلَامِ لِأَنَّ الْكَلَامَ يَشْمَلُ الْقَدِيمَ وَالْحَادِثَ وَالْحَمْدُ وَالْمَدْحُ بِمَعْنًى وَيَفْتَرِقَانِ بِأَنَّ الْحَمْدَ خَاصٌّ لِأُولِي الْعِلْمِ وَالْمَدْحُ يَكُونُ لِأُولِي الْعِلْمِ وَغَيْرِهِمْ وَقَوْلُهُ فِي حَدِّ الشُّكْرِ صَرْفُ الْعَبْدِ . . .(3/122)
إلَخْ زَادَ بَعْضُهُمْ كَصَرْفِ النَّظَرِ إلَى مُطَالَعَةِ مَصْنُوعَاتِهِ وَالسَّمْعِ إلَى تَلَقِّي مَا يُنَبِّئُ عَنْ مَرْضَاتِهِ وَالِاجْتِنَابِ عَنْ مَنْهِيَّاتِهِ وَأَلْ فِي الْحَمْدِ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ وَهِيَ الَّتِي يَصْلُحُ فِي مَوْضِعِهَا كُلٌّ نَحْوُ : { إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَمْدَ إمَّا قَدِيمٌ وَهُوَ حَمْدُ اللَّهِ تَعَالَى لِنَفْسِهِ أَوْ لِمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ أَوْ حَادِثٌ وَهُوَ حَمْدُ الْعِبَادِ لِرَبِّهِمْ سُبْحَانَهُ أَوْ لِبَعْضِهِمْ , فَالْقَدِيمُ صِفَتُهُ وَوَصْفُهُ , وَالْحَادِثُ خَلْقُهُ وَمُلْكُهُ فَالْحَمْدُ كُلُّهُ لَهُ وَلَامُ لِلَّهِ لِلِاسْتِحْقَاقِ أَيْ جَمِيعُ الْمَحَامِدِ مُسْتَحَقَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ : غَيْرُ ذَلِكَ وَاسْمُ الْجَلَالَةِ عَلَمٌ عَلَى الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ الْوَاجِبَةِ الْوُجُودِ الْمُسْتَحِقَّةِ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ وَهُوَ أَشْهَرُ أَسْمَائِهِ تَعَالَى وَقَدْ قَبَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الْأَلْسُنَ فَلَمْ يَتَسَمَّ بِهِ أَحَدٌ قَالَ تَعَالَى { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } أَيْ هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا تَسَمَّى اللَّهَ اسْتِفْهَامًا بِمَعْنَى النَّفْيِ أَيْ لَمْ يَتَسَمَّ بِهِ غَيْرُهُ وَهُوَ أَعْرَفُ الْمَعَارِفِ قَالَهُ سِيبَوَيْهِ ( وَرُوِيَ ) أَنَّهُ رُئِيَ فِي النَّوْمِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ رَأَى خَيْرًا كَثِيرًا بِسَبَبِ قَوْلِهِ ذَلِكَ , وَقَوْلُهُ الَّذِي يَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ هُوَ وَصْفٌ لِلَّهِ تَعَالَى قَالَ الشَّارِحُ - رحمه الله - وَيَتَضَمَّنُ هَذَا الِاسْتِفْتَاحُ مِنْ مَحَاسِنِ الْكَلَامِ الْمُعَبِّرِ عَنْهَا عِنْدَ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ بِالْأَلْقَابِ الْبَدِيعِيَّةِ النَّوْعَ الْمُسَمَّى عِنْدَهُمْ بِبَرَاعَةِ الِاسْتِهْلَالِ وَهِيَ دَلَالَةُ(3/123)
اسْتِفْتَاحِ الْكَلَامِ عَلَى مَا يَقْصِدُهُ الْمُتَكَلِّمُ مِنْ الْغَرَضِ فِي مَضْمُونِ جُمْلَتِهِ وَهُوَ فِي هَذَا الْكَلَامِ وَصْفُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ يَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ لَمَّا كَانَ قَصْدُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أَحْكَامِ الْقَضَاءِ وَفِي قَوْلِهِ وَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ إشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إلَى كَوْنِ الْقَاضِي مَقْضِيًّا عَلَيْهِ مِنْ مَوْلَاهُ سُبْحَانَهُ وَمِمَّنْ وَلَّاهُ فَمَا أَحَقَّهُ أَنْ يَسْتَشْعِرَ بِذَلِكَ الْخَوْفَ مِنْ الْجَوْرِ وَأَنْ يَتَوَخَّى الْإِصَابَةَ لِلْعَدْلِ بِأَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ مِنْ الْقَضَاءِ إنَّمَا هُوَ مَجَازٌ يُمَاثِلُهُ مَا بِيَدِ مَنْ وَلَّاهُ وَبِيَدِ الْمَلِكِ الْحَقِّ الْقَضَاءُ حَقِيقَةً { إنْ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ } وَقُرِئَ " يَقْضِي الْحَقَّ " ا هـ . ((3/124)
وَجَلَّ ) فِعْلٌ مَاضٍ وَمَعْنَاهُ عَظُمَ وَشَأْنًا تَمْيِيزٌ مَنْقُولٌ مِنْ الْفَاعِلِ أَيْ عَظُمَ شَأْنُهُ وَعَلَا بِفَتْحِ الْعَيْنِ عَطْفٌ عَلَى جَلَّ فِعْلٌ مَاضٍ أَيْضًا قَالَ بَعْضُ مَنْ شَرَحَهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ مَصْدَرٍ مَعْطُوفًا عَلَى شَأْنًا أَيْ جَلَّ شَأْنُهُ وَعَلَاؤُهُ وَقَصْرُهُ ضَرُورَةٌ وَلَمَّا حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى أَتْبَعَهُ بِالصَّلَاةِ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْأَمْرِ بِهَا فِي قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَالصَّلَاةُ الرَّحْمَةُ وَهِيَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى زِيَادَةُ تَكْرِمَةٍ وَإِنْعَامٌ وَمِنْ الْعِبَادِ عِبَادَةٌ وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الرَّحْمَةِ وَلَكِنْ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ الرَّحْمَةِ بِالصَّلَاةِ مِنْ التَّعْظِيمِ مَا لَيْسَ فِي لَفْظِ الرَّحْمَةِ وَبِدَوَامِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ حَالٌ مِنْ الصَّلَاةِ أَيْ مُؤَقَّتَةً وَالْأَبَدُ حَرَكَةُ الْفَلَكِ . ( وَالْمُصْطَفَى ) : الْمُخْتَارُ ( وَآلُهُ صلى الله عليه وسلم ) أَقَارِبُهُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ ( وَالْفِئَةُ ) الْجَمَاعَةُ ( وَالْمُتَّبِعَةُ ) بِكَسْرِ الْبَاءِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا , وَالْمُرَادُ بِهِمْ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ , وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ مُتَّبِعُونَ لِمَا سَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَشَرَّعَهُ وَيَتْبَعُهُمْ مَنْ بَعْدَهُمْ فِي ذَلِكَ أَيْضًا وَمَعْنَى سَنَّهُ وَشَرَّعَهُ , أَيْ جَعَلَهُ سُنَّةً وَشَرِيعَةً وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُتَّبِعَةِ قَالَ رحمه الله
وفي غذاء الألباب :
((3/125)
تَنْبِيهٌ ) : خُلَاصَةُ الْقَوْلِ فِي الرِّضَا بِالْقَضَاءِ فِي نَحْوِ مَا يُخَالِفُ بِهِ الطَّاعَةَ , وَيَكْتَسِبُ بِهِ الْإِثْمَ وَخُسْرَانَ الْبِضَاعَةِ , أَنَّا نَرْضَى بِالْقَضَاءِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الرَّبِّ جَلَّ شَأْنُهُ , دُونَ الْمَقْضِيِّ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ , وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْخَلْقَ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ , وَالْفِعْلَ غَيْرُ الْمَفْعُولِ , وَالْقَضَاءَ غَيْرُ الْمَقْضِيِّ . وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي شَرْحِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ : الرِّضَا بِالْقَضَاءِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ وَاجِبٌ وَهُوَ أَسَاسُ الْإِسْلَامِ وَقَاعِدَةُ الْإِيمَانِ , فَيَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ رَاضِيًا بِهِ بِلَا حَرَجٍ وَلَا مُنَازَعَةٍ وَلَا مُعَارَضَةٍ وَلَا اعْتِرَاضٍ . قَالَ تَعَالَى { فَلَا وَرَبِّك لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْت وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } فَأَقْسَمَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوا رَسُولَهُ , وَيَرْتَفِعَ الْحَرَجُ مِنْ نُفُوسِهِمْ مِنْ حُكْمِهِ , وَيُسَلِّمُوا لِحُكْمِهِ , وَهَذَا حَقِيقَةُ الرِّضَا بِحُكْمِهِ ; فَالتَّحْكِيمُ فِي مَقَامِ الْإِسْلَامِ , وَانْتِفَاءُ الْحَرَجِ فِي مَقَامِ الْإِيمَانِ , وَالتَّسْلِيمُ فِي مَقَامِ الْإِحْسَانِ .(3/126)
وَمَتَى خَالَطَ الْقَلْبُ بَشَاشَةَ الْإِيمَانِ , وَاكْتَحَلَتْ بَصِيرَتُهُ بِحَقِيقَةِ الْيَقِينِ , وَحَيِيَ بِرُوحِ الْوَحْيِ وَتَمَهَّدَتْ طَبِيعَتُهُ , وَانْقَلَبَتْ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ مُطْمَئِنَّةً رَاضِيَةً وَادِعَةً , وَتَلَقَّى أَحْكَامَ الرَّبِّ تَعَالَى بِصَدْرٍ وَاسِعٍ مُنْشَرِحٍ مُسْلِمٍ , فَقَدْ رَضِيَ كُلَّ الرِّضَا بِهَذَا الْقَضَاءِ الدِّينِيِّ الْمَحْبُوبِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ . وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ الْمُوَافِقِ لِمَحَبَّةِ الْعَبْدِ وَإِرَادَتِهِ وَرِضَاهُ مِنْ الصِّحَّةِ وَالْغِنَى وَالْعَافِيَةِ وَاللَّذَّةِ أَمْرٌ لَازِمُ لِمُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ , فَإِنَّهُ مُلَائِمٌ لِلْعَبْدِ مَحْبُوبٌ لَهُ , فَلَيْسَ فِي الرِّضَا بِهِ عُبُودِيَّةٌ فِي مُقَابَلَتِهِ بِالشُّكْرِ وَالِاعْتِرَافِ بِالْمِنَّةِ وَوَضْعِ النِّعْمَةِ مَوَاضِعَهَا الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ أَنْ تُوضَعَ فِيهَا , وَأَنْ لَا يَعْصِيَ الْمُنْعِمَ بِهَا . وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ الْجَارِي عَلَى خِلَافِ مُرَادِ الْعَبْدِ وَمَحَبَّتِهِ مِمَّا يُلَائِمُ وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ اخْتِيَارِهِ مُسْتَحَبٌّ , وَهُوَ مِنْ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ , وَفِي وُجُوبِهِ قَوْلَانِ , وَهَذَا كَالْمَرَضِ وَالْفَقْرِ وَأَذَى الْخَلْقِ لَهُ , وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْآلَامِ .(3/127)
وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ الْجَارِي عَلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ مِمَّا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَيَسْخَطُهُ وَيَنْهَى عَنْهُ كَأَنْوَاعِ الظُّلْمِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ حَرَامٌ يُعَاقِبُ عَلَيْهِ , وَهُوَ مُخَالَفَةٌ لِرَبِّهِ تَعَالَى , فَإِنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَا يَرْضَى بِذَلِكَ وَلَا يُحِبُّهُ , فَكَيْفَ تَتَّفِقُ الْمَحَبَّةُ وَالرِّضَا بِمَا يَسْخَطُهُ الْحَبِيبُ وَيَبْغُضُهُ . قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رحمه الله تعالى : فَعَلَيْك بِهَذَا التَّفْصِيلِ فِي مَسْأَلَةِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ , وَأَطَالَ رحمه الله تعالى .
وفي مطالب أولي النهى :
((3/128)
فَصْلٌ ) : فِي مَسَائِلَ مِنْ أَحْكَامِ الِانْتِفَاعِ بِالْمِيَاهِ غَيْرِ الْمَمْلُوكَةِ وَنَحْوِهَا ( وَلِمَنْ فِي أَعْلَى مَاءٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ كَالْأَمْطَارِ وَالْأَنْهَارِ الصِّغَارِ أَنْ يَسْقِيَ ) [ وَيَحْبِسَهُ ] - أَيْ : الْمَاءَ - ( حَتَّى يَصِلَ إلَى كَعْبِهِ , ثُمَّ يُرْسِلَهُ إلَى مَنْ يَلِيهِ ) - أَيْ : السَّاقِي أَوَّلًا - ( ثُمَّ هُوَ ) - أَيْ : الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْهِ الْمَاءُ - ( كَذَلِكَ ) ; أَيْ : يَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ الْأَوَّلُ ( مُرَتَّبًا ) ; أَيْ : ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ يَفْعَلُ كَمَا فَعَلَا , وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحَالُ إلَى أَنْ تَنْتَهِيَ الْأَرَاضِي كُلُّهَا ( إنْ فَضَلَ شَيْءٌ ) عَمَّنْ قُلْنَا : إنَّ لَهُ السَّقْيَ وَالْحَبْسَ , ( وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لِلْبَاقِي ) - أَيْ : لِمَنْ بَعْدَهُ - لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلَّا مَا فَضَلَ , فَهُمْ كَالْعَصَبَةِ مَعَ أَهْلِ الْفُرُوضِ فِي الْمِيرَاثِ ; لِحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي شُرْبِ النَّخْلِ مِنْ السَّيْلِ أَنَّ الْأَعْلَى يَشْرَبُ قَبْلَ الْأَسْفَلِ , وَيُتْرَكُ الْمَاءُ إلَى الْكَعْبَيْنِ , ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَاءُ إلَى الْأَسْفَلِ الَّذِي يَلِيهِ , وَكَذَلِكَ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْحَوَائِطُ أَوْ يَفْنَى الْمَاءُ } . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ .(3/129)
وَلِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : اسْقِ يَا زُبَيْرُ , ثُمَّ أَرْسِلْ الْمَاءَ إلَى جَارِك , فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ , وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِك , فَتَلَوَّنَ وَجْهُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا زُبَيْرُ اسْقِ ثُمَّ احْبِسْ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى الْجُدُرِ } , فَقَالَ الزُّبَيْرُ : فَوَاَللَّهِ إنِّي لَأَحْسِبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ : { فَلَا وَرَبِّك لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الشِّرَاجُ جَمْعُ شَرَجٍ - نَهْرٌ صَغِيرٌ - , وَالْحَرَّةُ أَرْضٌ مُلْتَبِسَةٌ بِحِجَارَةٍ سُودٍ , وَالْجُدُرُ الْجِدَارُ , وَإِنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الزُّبَيْرَ أَنْ يَسْقِيَ ثُمَّ يُرْسِلَ الْمَاءَ تَسْهِيلًا عَلَى غَيْرِهِ , فَلَمَّا قَالَ الْأَنْصَارِيُّ مَا قَالَ اسْتَوْعَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ . ((3/130)
فَإِنْ كَانَ لِأَرْضِ أَحَدِهِمْ أَعْلَى وَأَسْفَلُ ) ; بِأَنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً مِنْهَا مُسْتَعْلِيَةٌ وَمِنْهَا مُسْتَفِلَةٌ ( سُقِيَ كُلًّا ) مِنْ ذَلِكَ ( عَلَى حِدَتِهِ ) - أَيْ : عَلَى انْفِرَادِهِ - ( وَلَوْ اسْتَوَى اثْنَانِ فَأَكْثَرُ فِي قُرْبٍ ) مِنْ أَوَّلِ النَّهْرِ ; ( قُسِّمَ الْمَاءُ ) بَيْنَهُمْ ( عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ ) - أَيْ : أَرْضِ كُلٍّ مِنْهُمْ - فَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ جَرِيبٌ وَلِآخَرَ جَرِيبَانِ وَلِآخَرَ ثَلَاثَةٌ ; كَانَ لِرَبِّ الْجَرِيبِ السُّدُسُ , وَلِرَبِّ الْجَرِيبَيْنِ الثُّلُثُ , وَلِرَبِّ الثَّلَاثَةِ النِّصْفُ ; لِأَنَّ الزَّائِدَ فِي الْأَرْضِ مَنْ أَرْضُهُ أَكْثَرُ مُسَاوٍ فِي الْقُرْبِ , فَاسْتَحَقَّ جُزْءًا مِنْ الْمَاءِ كَمَا لَوْ كَانُوا سِتَّةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَرِيبٌ . وَمَحِلُّ ذَلِكَ " إنْ أَمْكَنَ " قَسَّمَهُ بَيْنَهُمْ , ( وَإِلَّا ) يُمْكِنْ قَسْمُهُ ; ( أَقْرَعَ ) " بَيْنَهُمْ , فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ قُدِّمَ بِالسَّقْيِ , فَيَسْقِي مِنْهُ بِقَدْرِ حَقِّهِ , ثُمَّ يُقْرَعُ بَيْنَ الْآخَرَيْنِ , فَمَنْ قَرَعَ سَقَى بِقَدْرِ حَقِّهِ , ثُمَّ تَرَكَهُ لِلْآخَرِ , وَلَيْسَ لِمَنْ تَخْرُجُ لَهُ الْقُرْعَةُ أَنْ يَسْقِيَ بِجَمِيعِ الْمَاءِ ; لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَخْرُجْ لَهُ يُسَاوِيهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَاءِ ( فَإِنْ لَمْ يُفَضِّلْ عَنْ وَاحِدٍ سَقَى الْقَارِعُ بِقَدْرِ حَقِّهِ , لَا كُلِّ الْمَاءِ ) ; أَيْ : لَيْسَ لِلْقَارِعِ السَّقْيُ بِكُلِّ الْمَاءِ ; ( لِمُسَاوَاةِ الْآخَرِ لَهُ ) فِي الِاسْتِحْقَاقِ , وَإِنَّمَا الْقُرْعَةُ لِلتَّقَدُّمِ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ , ( بِخِلَافِ الْأَعْلَى مَعَ الْأَسْفَلِ ; فَلَا حَقَّ لِلْأَسْفَلِ إلَّا فِي الْفَاضِلِ ) عَنْ الْأَعْلَى كَمَا تَقَدَّمَ . .(3/131)
وَأَرْكَانُ الْقَضَاءِ خَمْسَةٌ :
الْقَاضِي وَالْمَقْضِيُّ بِهِ وَالْمَقْضِيُّ فِيهِ وَالْمَقْضِيُّ لَهُ وَالْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ , وَالْأَصْلُ فِيهِ قوله تعالى : { يَا دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ } وقوله تعالى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } الْآيَةَ . وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم ( { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ ; فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ } ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ . وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى نَصْبِ الْقُضَاةِ لِلْفَصْلِ بَيْنَ النَّاسِ . ( وَهُوَ ) ; أَيْ الْقَضَاءُ ( فَرْضُ كِفَايَةٍ كَالْإِمَامَةِ ) الْعُظْمَى . قَالَ أَحْمَدُ لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ حَاكِمٍ , أَتَذْهَبُ حُقُوقُ النَّاسِ , وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : قَدْ أَوْجَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَأْمِيرَ الْوَاحِدِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْقَلِيلِ الْعَارِضِ فِي السَّفَرِ , وَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنْوَاعِ الِاجْتِمَاعِ , وَإِذَا أَجْمَعَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهِ أَثِمُوا . قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ : إنْ لَمْ يَحْتَكِمُوا فِي غَيْرِهِ , لَكِنَّ الْمُخَاطَبَ بِنَصَبِ الْقُضَاةِ الْإِمَامُ كَمَا يَأْتِي .
وفي بريقة محمودية :(3/132)
وَفِي النِّسَاءِ ( { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ } ) قِيلَ فِي فَرَائِضِهِ ( { وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } ) قِيلَ أَيْضًا فِي سُنَنِهِ أَقُولُ لَيْسَ الْفَرْضُ مُخْتَصًّا بِكِتَابِ اللَّهِ وَلَا السُّنَّةِ بِرَسُولِ اللَّهِ بَلْ الْفَرْضُ يَحْصُلُ مِنْ السُّنَّةِ أَيْضًا وَالسُّنَّةُ مِنْ الْكِتَابِ أَيْضًا إذْ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ الشَّرْعِيَّةُ لَا اخْتِصَاصَ لَهَا بِدَلِيلٍ وَفِي تَخْصِيصِ الْأَمْرِ بِالْإِطَاعَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ غَيْرُ الْإِيمَانِ وَأَنَّ الْكُفَّارَ لَيْسُوا بِمُكَلَّفِينَ بِالْفُرُوعِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مُحَقِّقِي الْحَنَفِيَّةِ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ وَالشَّافِعِيَّةِ ثُمَّ الْأَصْلُ فِي الْأَمْرِ الْوُجُوبُ فَإِذَا وَجَبَ إطَاعَةُ الرَّسُولِ وَجَبَ الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ لَكِنْ هَذَا ظَاهِرٌ فِي السُّنَّةِ الْقَوْلِيَّةِ . وَأَمَّا الْفِعْلِيَّةُ وَالسُّكُوتِيَّةُ فَلَعَلَّهَا مُلْحَقَةً بِالْقَوْلِيَّةِ أَوْ الْإِطَاعَةُ عَامَّةٌ لِلْجَمِيعِ تَحْقِيقًا أَوْ تَأْوِيلًا ( { وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } ) وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ وَأَطِيعُوا أُولِي الْأَمْرِ لَعَلَّهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ مُسْتَقِلًّا فِي الْإِطَاعَةِ بَلْ مُقَيَّدَةٌ وَمَشْرُوطَةٌ بِمُوَافَقَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ وَلِهَذَا يُقَالُ لَا مَعْصِيَةَ لِلْخَالِقِ بِأَمْرِ الْمَخْلُوقِ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُغَيِّرَ مَا عَيَّنَهُ الشَّرْعُ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا فَضْلًا عَنْ الْأُضْحِيَّةِ .(3/133)
وَقَدْ نَزَلَتْ فِي أَمِيرِ سَرِيَّةٍ كَمَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَكَذَا فِي رِوَايَةِ السُّدِّيَّ فِي حَقِّ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ حِينَ بَعَثَهُ صلى الله عليه وسلم فِي سَرِيَّةٍ وَفِيهَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى عَمَّارٍ قَدْ أَسْلَمَ فَأَمَّنَهُ فَرَجَعَ الرَّجُلُ فَأَخَذَهُ خَالِدٌ فَقَالَ عَمَّارٌ إنِّي أَمَّنْته وَقَدْ أَسْلَمَ فَقَالَ خَالِدٌ تَجَرَّأَ عَلَيَّ وَأَنَا الْأَمِيرُ فَتَنَازَعَا عَلَى يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَجَازَ أَمَانَ عَمَّارٍ وَنَهَاهُ أَنْ يَجْرَأَ الثَّانِيَةَ عَلَى الْأَمِيرِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ قُلْنَا هَذَا إنَّمَا يَرِدُ عَلَى مَنْ يَقُولُ إنَّ الْعِبْرَةَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ الصِّيغَةِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ لِاحْتِجَاجِ الصَّحَابَةِ فِي وَقَائِعَ بِعُمُومِ آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي أَسْبَابٍ خَاصَّةٍ . وَأَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي خَصُّوهَا عَلَى أَسْبَابِهَا فَبِدَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ قَالُوا مِنْ فَوَائِدِ أَسْبَابِ النُّزُولِ تَفْسِيرُ النَّصِّ وَبَيَانُ مَعْنَاهُ وَلِهَذَا قَالَ الْوَاحِدِيُّ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الْآيَةِ بِدُونِ الْوُقُوفِ عَلَى قِصَّتِهَا وَبَيَانِ نُزُولِهَا قُلْت لَعَلَّ ذَلِكَ لِكَوْنِ الْعِلْمِ بِالسَّبَبِ مُفْضِيًا إلَى الْعِلْمِ بِالْمُسَبَّبِ أَوْ الْمُرَادُ بِالتَّفْسِيرِ هُوَ بِوَجْهٍ مَا لَا عَلَى التَّفْصِيلِ .(3/134)
وَقَدْ عَرَفْت هَاهُنَا أَنَّ التَّفْسِيرَ بِالْعُلَمَاءِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما وَغَيْرِهِ فَيُمْكِنُ أَنَّهُ حَدِيثٌ أُرْسِلَ ( { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ } ) أَنْتُمْ وَأُولُو الْأَمْرِ مِنْكُمْ ( { فِي شَيْءٍ } ) وَخُصَّ بِأُمُورِ الدِّينِ لَعَلَّ الْأَظْهَرَ تَعْمِيمُهُ بِهِ وَبِأُمُورِ الدُّنْيَا ( { فَرُدُّوهُ إلَى } ) كِتَابِ ( { اللَّهِ وَالرَّسُولِ } ) مَا دَامَ حَيًّا وَإِلَى سُنَّتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ قِيلَ إنْ وُجِدَ فِي الْكِتَابِ أُخِذَ بِهِ وَإِلَّا فَبِالسُّنَّةِ وَإِلَّا أَيْضًا فَبِاجْتِهَادٍ فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا الْأَخِيرُ زِيَادَةٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ بِالرَّأْيِ قُلْنَا الِاجْتِهَادُ قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ لَيْسَ بِمُثْبِتِ حُكْمٍ بَلْ مُظْهِرٌ أَنَّ النَّصَّ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ شَامِلٌ لِصُورَةِ الْمَقِيسِ يَعْنِي الْفَرْعَ وَأَنَّ مَوَاضِعَ الْقُرْآنِ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَافْهَمْ ( { إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } ) . قِيلَ عَنْ الْخَازِنِ قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ وَالْآخِرِ لِمَنْ لَا يَعْتَقِدُ بِوُجُوبِ طَاعَةِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ قُلْت هَذَا بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الشَّرْطِ وَهُوَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدَنَا ( { ذَلِكَ } ) أَيْ الرَّدُّ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ( { خَيْرٌ } ) مِنْ التَّنَازُعِ ( { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } ) أَجْمَلُ مِنْ تَأْوِيلِكُمْ وَحَمْدُ عَاقِبَةٍ وَالْعَاقِبَةُ تُسَمَّى تَأْوِيلًا لِأَنَّهَا مَآلُ الْأَمْرِ .(3/135)
وَفِيهِ إشَارَةٌ لِتَأْيِيدِ مَذْهَبِ السَّلَفِ مِنْ تَسْلِيمِ الْمُتَشَابِهَاتِ وَتَفْوِيضِهَا إلَى اللَّهِ كَمَا قِيلَ لَكِنْ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ مَعْنَى النِّزَاعِ بِالْمُتَشَابِهَاتِ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ النِّزَاعَ فِي الْمُتَشَابِهِ مِنْ إفْرَادِ مُطْلَقِ التَّنَازُعِ الْمُشَارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي رَدَّ الْأَمْرِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَالْوَاجِبُ رَدُّ جَمِيعِ الْأُمُورِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى قُلْنَا هَذَا مِنْ قَبِيلِ مَفْهُومِ الشَّرْطِ وَهُوَ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ عِنْدَنَا وَأَنَّ شَأْنَ الْغَيْرِ الْمُتَنَازَعِ أَنْ يَجِيءَ مِنْ اللَّهِ لِأَنَّ مَا يَكُونُ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ لَا يَخْلُو عَنْ الِاخْتِلَافِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الرَّدِّ لَا يَخْفَى أَنَّ الِاسْتِشْهَادَ بِمَدْلُولِهَا التَّضَمُّنِيِّ مِنْ قَوْلِهِ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ . وَمِنْ قَوْلِهِ وَالرَّسُولِ فِي قَوْلِهِ فَرَدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَأَصْلُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَقَدْ أُكِّدَ بِقَوْلِهِ { - إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ } - بَلْ بِتَعْلِيقِهِ بِالشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ { - فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ } وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ أَيْضًا ( { فَلَا } ) أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ آمَنُوا وَهُمْ يُخَالِفُونَ حُكْمَك ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْقَسَمَ وَقَالَ ( { وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ } ) وَقِيلَ لَفْظَةُ ( لَا ) مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ الْقَسَمِ أَوْ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ فِي لَا يُؤْمِنُونَ وَهُوَ جَوَابُ الْقَسَمِ ( { حَتَّى يُحَكِّمُوكَ } ) أَيْ يَجْعَلُوكَ حَكَمًا كَذَا قِيلَ لَعَلَّ الْأَوْلَى أَيْ يَرْضَوْا حُكْمَك ( { فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } ) .(3/136)
أَيْ فِيمَا اُخْتُلِفَ بَيْنَهُمْ مِنْ التَّشَاجُرِ بِمَعْنَى التَّنَازُعِ وَمِنْهُ الشَّجَرُ لِتَدَاخُلِ أَغْصَانِهِ ( { ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ } ) أَيْ شَكًّا وَضِيقًا وَحَذَفَ النُّونَ فِي لَا يَجِدُونَ لِعَطْفِهِ عَلَى يُحَكِّمُوك كَأَنَّ حَاصِلَ الْآيَةِ أَنَّ الْإِيمَانَ مُتَعَلِّقٌ بِرِضَا حُكْمِ النَّبِيِّ وَعَدَمِ اسْتِصْعَابِهِ فَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِهِ أَوْ رَضِيَ لَكِنَّهُ اسْتَصْعَبَهُ فَيَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ مُؤْمِنًا فَالتَّمَسُّكُ وَالِاعْتِصَامُ بِحُكْمِهِ لَازِمٌ وَلَوْ الْتِزَامًا فَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ مُطْلَقُ السُّنَّةِ وَاللَّازِمُ مِنْ الدَّلِيلِ السُّنَّةُ الْمُقَيَّدَةُ بِحُكْمِهِ صلى الله تعالى عليه وسلم إلَّا أَنْ يُقَالَ وُجُودُ الْخَاصِّ مُسْتَلْزِمٌ لِوُجُودِ الْعَامِّ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَايَسَةِ أَوْ دَلَالَةِ النَّصِّ ( { وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } ) أَيْ يَنْقَادُوا لِأَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِك انْقِيَادًا بِالْخُلُوصِ وَالرِّضَا . وَفِي النِّسَاءِ ( { وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ } ) نَزَلَتْ فِي ثَوْبَانَ رضي الله تعالى عنه مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم كَانَ شَدِيدَ الْحُبِّ لَهُ صلى الله تعالى عليه وسلم قَلِيلَ الصَّبْرِ حَتَّى تَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَنَحَلَ جِسْمُهُ وَعُرِفَ الْحُزْنُ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ لَهُ عليه الصلاة والسلام مَا غَيَّرَ لَوْنَك فَقَالَ مَا بِي مَرَضٌ وَلَا وَجَعٌ إلَّا إنِّي إذَا لَمْ أَرَك اسْتَوْحَشْت وَحْشَةً شَدِيدَةً حَتَّى أَلْقَاك ثُمَّ إنِّي إذَا ذَكَرْت الْآخِرَةَ أَخَافُ أَنْ لَا أَرَاك لِعُلُوِّ مَنْزِلَتِك أَوْ لِعَدَمِ دُخُولِي الْجَنَّةَ .(3/137)
نُقِلَ عَنْ الْخَازِنِ وَقِيلَ إنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ بَكَى فَقَالَ صلى الله تعالى عليه وسلم وَمَا يُبْكِيك فَقَالَ بِاَللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي وَأَهْلِي وَمَالِي وَوَلَدِي أَذْكُرُك وَأَنَا فِي أَهْلِي فَيَأْخُذُنِي مِثْلُ الْجُنُونِ حَتَّى أَرَاك وَذَكَرْت مَوْتِي وَأَنَّك تُرْفَعُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَأَنِّي وَإِنْ دَخَلْت الْجَنَّةَ كُنْت أَدْنَى مَنْزِلَةً فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم شَيْئًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ ( { فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ } ) جَمْعُ صِدِّيقٍ فِعِّيلٌ مِنْ أَوْزَانِ الْمُبَالَغَةِ كَثِيرُ الصِّدْقِ وَهُمْ أَتْبَاعٌ خَاصَّةٌ لِلرُّسُلِ حَتَّى لَحِقُوا بِهِمْ وَقِيلَ هُنَا أَفَاضِلُ أَصْحَابِ نَبِيِّنَا صلى الله تعالى عليه وسلم كَأَبِي بَكْرٍ رضي الله تعالى عنه نُقِلَ هَذَا عَنْ الْخَازِنِ . وَعَنْ الْوَاحِدِيِّ كُلُّ مَنْ صَدَقَ بِكُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُدَاخِلُهُ شَكٌّ وَصَدَّقَ الْأَنْبِيَاءَ فَهُوَ صِدِّيقٌ وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ هُمْ الَّذِينَ صَعِدَتْ نُفُوسُهُمْ تَارَةً بِمَرَاقِي النَّظَرِ فِي الْحِجَجِ وَالْآيَاتِ وَأُخْرَى بِمَعَارِجِ التَّصْفِيَةِ وَالرِّيَاضَاتِ إلَى أَوْجِ الْعِرْفَانِ حَتَّى اطَّلَعُوا عَلَى الْأَشْيَاءِ وَأَخْبَرُوا عَنْهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ ( { وَالشُّهَدَاءِ } ) مُطْلَقًا وَقِيلَ شُهَدَاءُ أُحُدٍ أَوْ بَدْرٍ ( { وَالصَّالِحِينَ } ) مَنْ اسْتَوَتْ سَرِيرَتُهُ وَعَلَانِيَتُهُ فِي الْخَيْرِ .(3/138)
قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ هُمْ الَّذِينَ صَرَفُوا أَعْمَارَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْوَالَهُمْ فِي مَرْضَاتِهِ وَقِيلَ وَلَك أَنْ تَقُولَ الْمُنْعَمُ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَارِفُونَ وَهَؤُلَاءِ إنْ بَلَغُوا دَرَجَةَ الْعِيَانِ بِكَمَالِ الْقُرْبِ فَالْأَنْبِيَاءُ وَأَنْ يَقْرُبَ فِي الْجُمْلَةِ فَالصِّدِّيقُونَ وَإِنْ وَقَفُوا فِي مَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْبَرَاهِينِ الْقَطْعِيَّةِ فَالْعُلَمَاءُ الرَّاسِخُونَ الَّذِينَ هُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَرْضِهِ وَبِالْأَمَارَاتِ وَالْإِقْنَاعَاتِ الَّتِي تَطْمَئِنُّ بِهَا نُفُوسُهُمْ فَالصَّالِحُونَ فَأَنْتَ خَبِيرٌ أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ لِلصَّالِحِينَ يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ فِي الْمَآلِ مُقَلِّدِينَ وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ كُلُّهَا مِنْ الْمُقَرَّبِينَ ( { وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } ) فِي مَعْنَى التَّعَجُّبِ بِمَنْزِلَةِ مَا أَحْسَنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا بِمَعْنَى الْجَمْعِ نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ أَوْ الْحَالِ مِنْ الِارْتِفَاقِ بِمَعْنَى الصُّحْبَةِ . وَعَنْ الْوَاحِدِيِّ وَحَدُّ الرَّفِيقِ لِأَنَّ الْوَاحِدَ فِي التَّمْيِيزِ يَنُوبُ عَنْ الْجَمَاعَةِ وَفِي النِّسَاءِ أَيْضًا ( { مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } ) لِأَنَّ أَمْرَهُ عليه الصلاة والسلام إنَّمَا هُوَ أَمْرُ اللَّهِ لَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الرِّسَالَةِ وَالسِّفَارَةِ قَالَ الْحَسَنُ جَعَلَ اللَّهُ طَاعَةَ رَسُولِهِ طَاعَتَهُ وَقَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ .(3/139)
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى كُلُّ مَا فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُعْلَمُ بِلَا بَيَانِ كَيْفِيَّةٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنْ قِيلَ فَالِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ عَيْنُ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ فَمَا وَجْهُ عَدِّ أَحَدِهِمَا مُغَايِرًا لِلْآخَرِ بَلْ لَا تَكُونُ السُّنَّةُ مُطْلَقًا دَلِيلًا مُقَابِلًا لِلْكِتَابِ وَقَدْ جَعَلَ الْأُصُولِيُّونَ وَالْفُقَهَاءُ كُلًّا مِنْهُمَا دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا قُلْنَا نَعَمْ فِي التَّحْقِيقِ كَذَلِكَ لَكِنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى تَفَاصِيلِ الْأَحْكَامِ لَمَّا كَانَ خَفِيًّا بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا أُضِيفَ بَعْضُ الْأَحْكَامِ إلَى السُّنَّةِ الْمُبَيِّنَةِ فِي الْحَقِيقَةِ فَإِنْ قِيلَ الظَّاهِرُ أَنَّ إطَاعَةَ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم عَامَّةٌ لِلْقَوْلِيِّ وَالْفِعْلِيِّ وَالتَّقْرِيرِيِّ وَأَيْضًا لِجَمِيعِ أَفْرَادِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ بَعْضَهَا لَا يَجِبُ الِاتِّبَاعُ فِيهِ كَالْمُبَاحِ بَلْ لَا يَجُوزُ كَمَا يَكُونُ مِنْ خَوَاصِّهِ وَقَدْ جَوَّزُوا السَّهْلَ وَالزَّلَّةَ قُلْنَا الْأَصْلُ الِاتِّبَاعُ إلَّا بِقَرِينَةِ عَدَمِهِ لَكِنْ فِيهِ زِيَادَةُ كَلَامٍ لَا يَتَحَمَّلُهُ الْمَقَامُ .(3/140)
وَفِي الْأَعْرَافِ ( { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } ) أَيْ كُلَّ مَوْجُودٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِالرَّحْمَةِ إنْ خُصَّ بِأُمُورِ الدُّنْيَا فَظَاهِرٌ وَإِنْ عَمَّ لَهُ وَلِأَمْرِ الْآخِرَةِ فَسَعَةُ الرَّحْمَةِ بِبَيَانِ طَرِيقِ الْحَقِّ كَإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَمُكْنَةِ اكْتِسَابِ الْخَيْرِ وَتَسْهِيلِ طَرِيقِهِ كَإِعْطَاءِ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّاعَةِ وَقَبُولِ التَّوْبَةِ قِيلَ لَمَّا نَزَلَتْ الْآيَةُ قَالَ اللَّعِينُ أَنَا دَاخِلٌ فِي هَذَا الْعُمُومِ فَأَقْنَطَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ ( { فَسَأَكْتُبُهَا } ) فَسَأُثْبِتُهَا فِي الْآخِرَةِ ( { لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } ) الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ ( { وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } ) قِيلَ خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِأَنَافَتِهَا وَلِأَنَّهَا أَشَقُّ عَلَيْهِمْ ( { وَاَلَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } ) . فَقَالَتْ الْيَهُودُ هَذِهِ الرَّحْمَةُ لَنَا لِإِيمَانِنَا بِآيَاتِ اللَّهِ يَعْنِي التَّوْرَاةَ وَإِيتَائِنَا الزَّكَاةَ فَأَخْرَجَهُمْ بِقَوْلِهِ ( { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ } ) رِسَالَتُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللَّهِ وَنُبُوَّتُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعِبَادِ وَيُمْكِنُ رِسَالَتُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى كِتَابِهِ الَّذِي هُوَ الْوَحْيُ الظَّاهِرُ وَنُبُوَّتُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوَحْيِ الْغَيْرِ الْمَتْلُوِّ قَالَ فِي الْإِتْقَانِ الصِّفَةُ الْعَامَّةُ لَا تَأْتِي بَعْدَ الْخَاصَّةِ .(3/141)
وَالْإِشْكَالُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { - وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا } - مُجَابٌ عَنْهُ بِأَنَّهُ حَالٌ لَا صِفَةٌ فَنَقُولُ هُنَا بِعَدَمِ عُمُومِ النَّبِيِّ لِتَرَادُفِهِمَا أَوْ تَسَاوِيهِمَا أَوْ نَقُولُ لَمَّا كَانَ مَقَامُ التَّبَعِيَّةِ أَدْعَى وَأَنْسَبَ لِجِهَةِ الرِّسَالَةِ قَدَّمَ الرَّسُولَ وَقَدْ قَالُوا وَقَدْ يَعْرِضُ أَمْرٌ يَقْتَضِي الْعُدُولَ عَنْ الْقَوَاعِدِ وَالْأُصُولِ ( { الْأُمِّيَّ } ) الَّذِي لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ وَالْكِتَابَةُ مِنْ خَوَاصِّهِ الْمُحَرَّمَةِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآلِهِ لِعَدَمِ إيهَامِ اتِّهَامِ أَخْذٍ مِنْ سَائِرِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَلِاقْتِضَاءِ الْأُسْتَاذِيَّةِ السَّبْقَ عَلَيْهِ فِي الْفَضْلِ وَقِيلَ لِكَوْنِ نَشْأَتِهِ فِي صِغَرِهِ مَعَ أُمِّهِ نُسِبَ إلَيْهَا وَقِيلَ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى أُمِّ الْقُرَى يَعْنِي مَكَّةَ .(3/142)
وَلَعَلَّ الْأَوْجَهَ مَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ لِكَوْنِهِ صلى الله تعالى عليه وسلم مَبْدَأَ الشَّرِيعَةِ وَمَنْشَأَ الْأَحْكَامِ كَانَ كَالْأُمِّ ( { الَّذِي يَجِدُونَهُ } ) أَيْ وَصْفَهُ وَنُبُوَّتَهُ ( { مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ } ) وَلَكِنَّهُمْ كَتَمُوهُ وَبَدَّلُوهُ حَسَدًا وَخَوْفًا عَلَى زَوَالِ رِيَاسَتِهِمْ وَقَدْ وَقَعُوا عَلَى مَا خَافُوا لِذُلِّهِمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ لَقِيت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقُلْت أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ فِي التَّوْرَاةِ فَقَالَ أَجَلْ إنَّهُ مَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ مَا فِي الْقُرْآنِ - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا - وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُك بِالْمُتَوَكِّلِ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ لَا يُجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَيَفْتَحَ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا وَالصَّخَّابُ الْكَثِيرُ الصِّيَاحِ ( { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ } ) إنْ أُرِيدَ مِنْ الْأَمْرِ الْإِيجَابُ كَمَا هُوَ حَقِيقَتُهُ وَتَبَادُرُهُ فَالْمَعْرُوفُ مَا يَكُونُ تَرْكُهُ عِصْيَانًا كَالْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ وَأَنَّ نَحْوَ النَّدْبِ فَالْمَعْرُوفُ شَامِلٌ لِكُلِّ الْفَضَائِلِ الْأُوَلِ لِنَيْلِ الثَّوَابِ وَخَلَاصِ الْعِقَابِ وَالثَّانِي لِكَمَالِ الثَّوَابِ وَرِفْعَةِ الدَّرَجَاتِ .(3/143)
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما الْمُرَادُ مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ وَصِلَةُ الْأَرْحَامِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَثَرٌ وَإِلَّا فَالتَّخْصِيصُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ بَلْ ظَاهِرُهُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ وَذَا فِي الْقُرْآنِ لَيْسَ بِجَائِزٍ وَلَوْ كَانَ بِحَدِيثٍ مَا لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا إذْ التَّقْيِيدُ زِيَادَةٌ وَالزِّيَادَةُ نَسْخٌ ( { وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ } ) الْكَلَامُ بَيْنَ النَّهْيِ وَالْمُنْكَرِ كَالْكَلَامِ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالْمَعْرُوفِ وَخُصَّ أَيْضًا بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَقَطْعِ الْأَرْحَامِ قِيلَ كَانَ عَادَتُهُ صلى الله تعالى عليه وسلم الرِّفْقَ وَاللِّينَ وَالنُّصْحَ إنْ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ وَالْعُنْفَ وَالْغِلْظَةَ إنْ لِلْعُمُومِ فَالتَّغْلِيظُ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ بِدْعَةٌ وَإِنْ ظَهَرَ مُنْكَرُهُ إذْ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَسْتُرُ أَبْلَغَ الْمُنْكَرِ وَهُوَ الْكُفْرُ ( { وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ } ) الَّتِي حُرِّمَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ اللُّحُومِ وَالشُّحُومِ وَغَيْرِهِمَا قِيلَ الطَّيِّبُ هُوَ الْحَلَالُ وَقِيلَ أَخَصُّ مِنْهُ إذْ الْمَالُ الَّذِي أُخِّرَتْ الصَّلَاةُ أَوْ تُرِكَتْ الْجَمَاعَةُ عِنْدَ كَسْبِهِ حَلَالٌ لَيْسَ بِطَيِّبٍ وَنَحْوِهِ ( { وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ } ) أَيْ كُلَّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَعَنْ الْوَاحِدِيِّ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ الْأَوَّلُ شَامِلٌ لِكُلِّ الْحَرَامِ بَلْ لَمَّا لَمْ يُشْرَعْ كَالشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالرِّيَاءِ وَالرِّشْوَةِ وَقِيلَ كُلُّ مَا يَسْتَخْبِثُهُ الطَّبْعُ وَتَسْتَقْذِرُهُ النَّفْسُ وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ الِاسْتِغْرَاقَ خِلَافُ الْأَصْلِ فِي اللَّامِ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْعَهْدُ(3/144)
الْخَارِجِيُّ ثُمَّ الِاسْتِغْرَاقُ وَادَّعَى مَعْهُودِيَّةَ مَا ذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ ثُمَّ قَالَ مَنْ أَثْبَتَ بِهِ حَرَامًا جَدِيدًا لَمْ يُصِبْ لِعَدَمِ عُمُومِهِ حَيْثُ تَعَيَّنَ لِعَهْدٍ خَارِجِيٍّ كَأَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ التَّعْرِيضَ عَلَى مَنْ يَحْتَجُّ بِهِ عَلَى خُبْثِ الدُّخَّانِ لِاسْتِخْبَاثِ الطَّبْعِ وَاسْتِقْذَارِ النَّفْسِ السَّلِيمَةِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ صَرِيحُ كَلَامِهِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَرِسَالَتِهِ الْمَوْضُوعَةِ لِإِبَاحَةِ الدُّخَّانِ وَأَقُولُ كَوْنُ الْعَهْدِ أَصْلًا مَشْرُوطٌ بِالْقَرِينَةِ وَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْقَرِينَةِ لِنَحْوِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَوْ فُرِضَ فَهْمُ الْقَرِينَةِ مِنْ سَبَبِ النُّزُولِ يَرُدُّهُ أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِعُمُومِ الصِّيغَةِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ وَلَوْ سَلِمَ الْعَهْدُ فِيمَا ادَّعَاهُ لَا شَكَّ فِي قِيَامِ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ لِأَجْلِهِ خَبِيثًا وَهَذَا الْمَعْنَى يُمْكِنُ وُجُودُهُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ فَلَا يَخْلُو عَنْ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ أَوْ الْقِيَاسِ وَدَعْوَى انْقِرَاضِ الِاجْتِهَادِ أَمْرٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ( { وَيَضَعُ } ) أَيْ يُزِيلُ ( { عَنْهُمْ إصْرَهُمْ } ) ثِقَلَهُمْ وَالْمُرَادُ الْعَهْدُ الَّذِي أُخِذَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِمَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ الْأَحْكَامِ وَكَانَتْ تِلْكَ شَدِيدَةً .(3/145)
نُقِلَ عَنْ الْخَازِنِ وَعَنْ ابْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ شِدَّةُ الْعِبَادَةِ ( { وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } ) مِنْ الْأَفَاعِيلِ الشَّاقَّةِ عَلَيْهِمْ مِنْ الشَّرَائِعِ كَتَعْيِينِ الْقِصَاصِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ وَحُرْمَةِ الدِّيَةِ وَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ الْخَاطِئَةِ وَقَرْضِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ وَقَتْلِ النَّفْسِ فِي التَّوْبَةِ وَقَرْضِ الثَّوْبِ الْمُتَنَجِّسِ بِالْمِقْرَاضِ وَتَرْكِ الْعَمَلِ فِي السَّبْتِ وَعَدَمِ جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ الْكَنَائِسِ وَتَتَبُّعِ الْعُرُوقِ مِنْ اللَّحْمِ وَإِحْرَاقِ الْغَنَائِمِ وَفَرْضِ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَصَرْفِ رُبْعِ الْمَالِ لِلزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا تَشْبِيهٌ بِالْغَلِّ فِي مَنْعِ الْفِعْلِ أَوْ بِالْأَغْلَالِ الَّتِي تَجْمَعُ الْيَدَ إلَى الْعُنُقِ وَكَانَتْ هَذِهِ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وَهِيَ مَنْسُوخَةٌ فِي شَرِيعَةِ نَبِيِّنَا صلى الله تعالى عليه وسلم لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام { بُعِثْت بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَاءِ } . ( {(3/146)
فَاَلَّذِينَ آمَنُوا بِهِ } ) أَيْ بِمُحَمَّدٍ صلى الله تعالى عليه وسلم ( { وَعَزَّرُوهُ } ) وَقَّرُوهُ وَعَظَّمُوهُ وَأَصْلُ التَّعْزِيرِ الْمَنْعُ لِمَنْعِهِ عَنْ إعَادَةِ مِثْلِهِ وَهُنَا مَنْعُ الْأَعْدَاءِ بِالنُّصْرَةِ وَالتَّعْظِيمِ ( { وَنَصَرُوهُ } ) بِالرِّمَاحِ وَالسِّهَامِ وَبِالْأَمْوَالِ أَيْضًا ( { وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ } ) أَيْ الْقُرْآنَ لِاسْتِنَارَةِ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ بِهِ بِالْإِيمَانِ وَالْعُلُومِ وَالْعِرْفَانِ أَوْ لِظُهُورِ النُّبُوَّةِ بِهِ أَوْ لِظُهُورِ الْأَحْكَامِ مِنْهُ وَيَجُوزُ تَعَلَّقَ مَعَهُ بِاتَّبَعُوا وَالضَّمِيرُ لِلنَّبِيِّ ( { أُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } ) الْفَائِزُونَ بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ وَفِي الْأَعْرَافِ أَيْضًا مُتَّصِلًا بِاَلَّتِي قَبْلَهَا ( { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا } ) لَا إلَى بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ كَالْأَنْبِيَاءِ السَّالِفَةِ تَصْرِيحٌ فِي كَوْنِهِ مَبْعُوثًا إلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ وَالْخِطَابُ عَلَى هَذَا النَّهْجِ ( { الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } ) .(3/147)
قَوْلُهُ الَّذِي خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَوْ صِفَةٌ لِلْجَلَالَةِ قِيلَ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى دَعْوَى الرِّسَالَةِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الْخَفَاءِ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى الْأُلُوهِيَّةِ الْمُفَادَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى نَعَمْ قَدْ يُمْكِنُ فَهْمُ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ التَّفْرِيعِ فِي قوله تعالى { فَآمِنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ } تَأَمَّلْ ثُمَّ إنَّهُ إذَا اخْتَصَّ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَعْنِي جَمِيعَ الْمُمْكَنَاتِ وَالتَّخْصِيصُ عَلَى حَسَبِ عِلْمِ الْمُخَاطَبِ اُخْتُصَّ لَهُ أُلُوهِيَّتُهُمَا حَسْبَمَا يُشِيرُ قوله تعالى { - لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } فَلِذَا عَقَّبَ بِقَوْلِهِ ( { لَا إلَهَ إلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ } ) . قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فَإِنَّ مَنْ مَلَكَ الْعَالَمَ كَانَ هُوَ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ لَا غَيْرُهُ وَفِي قَوْلِهِ { يُحْيِي وَيُمِيتُ } مَزِيدُ تَقْدِيرٍ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَنُقِلَ عَنْ الْخَازِنِ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إرْسَالِ الرُّسُلِ إلَى خَلْقِهِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ كَوْنُهُ رَسُولًا بِالْفِعْلِ وَاللَّازِمُ مِمَّا ذُكِرَ كَوْنُهُ رَسُولًا بِالْقُوَّةِ لَا أَنْ يُقَالَ الْمَطْلُوبُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ إثْبَاتُ الْإِمْكَانِ فَقَطْ وَأَمَّا الْوُقُوعُ فَثَابِتٌ بِالْمُعْجِزَةِ وَعَلَيْهِ يَدُورُ تَفْرِيعُ .
وفي النيل :
بَابُ النَّهْيِ عَنْ الْحُكْمِ فِي حَالِ الْغَضَبِ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا لَا يُشْغِلُ(3/148)
3902 - ( عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { لَا يَقْضِيَنَّ حَاكِمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانٌ } رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ ) 3903 - ( وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ : أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ , فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ : سَرِّحْ الْمَاءَ يَمُرُّ , فَأَبَى عَلَيْهِ , فَاخْتَصَمَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلزُّبَيْرِ : { اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلْ إلَى جَاركِ , فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ ثُمَّ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ لِلزُّبَيْرِ : اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسْ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى الْجَدْرِ , فَقَالَ الزُّبَيْرُ : وَاَللَّهِ إنِّي لَا أَحْسِبُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ إلَّا فِي ذَلِكَ { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } الْآيَةَ } رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ , لَكِنَّهُ لِلْخَمْسَةِ إلَّا النَّسَائِيّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عَنْ أَبِيهِ وَلِلْبُخَارِيِّ فِي رِوَايَةٍ قَالَ : خَاصَمَ الزُّبَيْرُ رَجُلًا وَذَكَرَ نَحْوَهُ , وَزَادَ فِيهِ : فَاسْتَوْعَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ , وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ قَدْ أَشَارَ عَلَى الزُّبَيْرِ بِرَأْيٍ فِيهِ سَعَةٌ لَهُ وَلَلْأَنْصَارِيِّ , فَلَمَّا أَحْفَظَ الْأَنْصَارِيُّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَوْعَى لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِي(3/149)
صَرِيحِ الْحُكْمِ . قَالَ عُرْوَةُ : قَالَ الزُّبَيْرُ : فَوَاَللَّهِ مَا أَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ إلَّا فِي ذَلِكَ { فَلَا وَرَبِّكَ } الْآيَةَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ كَذَلِكَ لَكِنْ قَالَ : عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ الزُّبَيْرَ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّهُ خَاصَمَ رَجُلًا وَذَكَرَهُ , جَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِهِ وَزَادَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ : قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : فَقَدَّرَتْ الْأَنْصَارُ وَالنَّاسُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسْ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى الْجَدْرِ " , فَكَانَ ذَلِكَ إلَى الْكَعْبَيْنِ . وَفِي الْخَبَرِ مِنْ الْفِقْهِ جَوَازُ الشَّفَاعَةِ لِلْخَصْمِ وَالْعَفْوِ عَنْ التَّعْزِيرِ ) .(3/150)
قَوْلُهُ : ( لَا يَقْضِيَنَّ . . . إلَخْ ) قَالَ الْمُهَلِّبُ : سَبَبُ هَذَا النَّهْيِ أَنَّ الْحُكْمَ حَالَةَ الْغَضَبِ قَدْ يَتَجَاوَزُ بِالْحَاكِمِ إلَى غَيْرِ الْحَقِّ فَمَنَعَ , وَبِذَلِكَ قَالَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ . وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : النَّهْيُ عَنْ الْحُكْمِ حَالَةَ الْغَضَبِ لِمَا يَحْصُلُ بِسَبَبِهِ مِنْ التَّغَيُّرِ الَّذِي يَخْتَلُّ بِهِ النَّظَرُ فَلَا يَحْصُلُ اسْتِيفَاءُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَجْهِ . قَالَ : وَعَدَاهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذَا الْمَعْنَى إلَى كُلِّ مَا يَحْصُلُ بِهِ تَغَيُّرُ الْفِكْرِ كَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ الْمُفْرِطَيْنِ , وَغَلَبَةِ النُّعَاسِ وَسَائِرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقَلْبُ تَعَلُّقًا يَشْغَلُهُ عَنْ اسْتِيفَاءِ النَّظَرِ وَهُوَ قِيَاسُ مَظِنَّةٍ عَلَى مَظِنَّةٍ , وَكَأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى ذِكْرِ الْغَضَبِ لِاسْتِيلَائِهِ عَلَى النَّفْسِ وَصُعُوبَةِ مُقَاوِمَتِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ . وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَفَعَهُ { لَا يَقْضِي الْقَاضِي إلَّا وَهُوَ شَبْعَانُ رَيَّانُ } انْتَهَى . وَسَبَبُ ضَعْفِهِ أَنَّ فِي إسْنَادِهِ الْقَاسِمَ الْعُمَرِيَّ وَهُوَ مُتَّهَمٌ بِالْوَضْعِ .(3/151)
وَظَاهِرُ النَّهْيِ التَّحْرِيمُ وَلَا مُوجِبَ لِصَرْفِهِ عَنْ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ إلَى الْكَرَاهَةِ , فَلَوْ خَالَفَ الْحَاكِمُ فَحَكَمَ فِي حَالِ الْغَضَبِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ يَصِحُّ إنْ صَادَفَ الْحَقَّ ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَضَى لِلزُّبَيْرِ بَعْدَ أَنْ أَغْضَبَهُ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ , فَكَأَنَّهُمْ جَعَلُوا ذَلِكَ قَرِينَةً صَارِفَةً لِلنَّهْيِ إلَى الْكَرَاهَةِ , وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلْحَاقُ غَيْرِهِ صلى الله عليه وسلم بِهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ عَنْ الْحُكْمِ بِالْبَاطِلِ فِي رِضَاهُ وَغَضَبِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَلَا عِصْمَةَ تَمْنَعُهُ عَنْ الْخَطَأِ , وَلِهَذَا ذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ الْحُكْمُ فِي حَالِ الْغَضَبِ لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْهُ , وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ . وَفَصَلَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْغَضَبُ طَرَأَ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ اسْتَبَانَ لَهُ الْحُكْمُ فَلَا يُؤَثِّرُ وَإِلَّا فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ . قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ : وَهُوَ تَفْصِيلٌ مُعْتَبَرٌ . وَقَيَّدَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْبَغَوِيِّ الْكَرَاهَةَ بِمَا إذَا كَانَ الْغَضَبُ لِغَيْرِ اللَّهِ , وَاسْتَغْرَبَ الرُّويَانِيُّ هَذَا وَاسْتَبْعَدَهُ غَيْرُهُ لِمُخَالَفَتِهِ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ , وَلِلْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ نَهَى عَنْ الْحُكْمِ حَالَ الْغَضَبِ .(3/152)
وَذَكَرَ ابْنُ الْمُنِيرِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ حَدِيثَيْ الْبَابِ بِأَنْ يَجْعَلَ الْجَوَازَ خَاصًّا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِوُجُودِ الْعِصْمَةِ فِي حَقِّهِ وَالْأَمْنِ مِنْ التَّعَدِّي , أَوْ أَنَّ غَضَبَهُ إنَّمَا كَانَ لِلْحَقِّ فَمَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِهِ جَازَ وَإِلَّا مُنِعَ وَقَدْ تُعُقِّبَ الْقَوْلُ بِالتَّحْرِيمِ وَعَدَمُ انْعِقَادِ الْحُكْمِ بِأَنَّ النَّهْيَ الَّذِي يُفِيدُ فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ هُوَ مَا كَانَ لِذَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ أَوْ لِجُزْئِهِ أَوْ لِوَصْفِهِ الْمُلَازِمِ لَهُ لَا الْمُفَارِقِ كَمَا هُنَا , وَكَمَا فِي النَّهْيِ عَنْ الْبَيْعِ حَالَ النِّدَاءِ لِلْجُمُعَةِ , وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ مُقَرَّرَةٌ فِي الْأُصُولِ مَعَ اضْطِرَابٍ فِيهَا وَطُولِ نِزَاعٍ وَعَدَمِ اطِّرَادٍ . قَوْلُهُ : ( أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ ) اسْمُهُ ثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ وَقِيلَ حُمَيْدٍ , وَقِيلَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ وَلَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَنْصَارِيِّ , وَقِيلَ إنَّهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ , وَإِنَّمَا تَرَكَ صلى الله عليه وسلم قَتْلَهُ بَعْدَ أَنْ جَاءَ فِي مَقَالِهِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَارٍ فِي الْحُكْمِ لِأَجْلِ الْقَرَابَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ , وَقَدْ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَتَأَلَّفُ النَّاسَ إذْ ذَاكَ , كَمَا تَرَكَ قَتْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بَعْدَ أَنْ جَاءَ بِمَا يَسُوغُ بِهِ قَتْلُهُ .(3/153)
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ : يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا بَلْ صَدَرَ مِنْهُ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ كَمَا اتَّفَقَ لِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ وَمِسْطَحٍ وَحَمْنَةَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ بَدَرَهُ لِسَانًا بِدُرَّةٍ شَيْطَانِيَّةٍ قَوْلُهُ : ( فِي شِرَاجٍ ) بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَرَاءٍ مُهْمَلَةٍ بَعْدَ الْأَلْفِ جِيمٌ : وَهِيَ مَسَايِلُ النَّخْلِ , وَالشَّجَرُ وَاحِدَتُهَا شَرْجَةٌ , وَإِضَافَتُهَا إلَى الْحَرَّةِ لِكَوْنِهَا فِيهَا , وَالْحَرَّةُ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ : هِيَ أَرْضٌ ذَاتُ حِجَارَةٍ سُودٍ قَوْلُهُ : ( سَرِّحْ الْمَاءَ ) بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ ثُمَّ حَاءٌ مُهْمَلَةٌ : أَيْ أَرْسِلْهُ قَوْلُهُ : ( ثُمَّ أَرْسِلْ إلَى جَارِكَ ) كَانَ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الصُّلْحِ ( قَوْلُهُ أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ لِأَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ لِلِاسْتِنْكَارِ : أَيْ حَكَمْت بِهَذَا لِكَوْنِهِ ابْنَ عَمَّتِك قَوْلُهُ : ( حَتَّى يَرْجِعَ الْمَاءُ إلَى الْجَدْرِ ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ الْجِدَارُ , وَالْمُرَادُ بِهِ أَصْلُ الْحَائِطِ , وَقِيلَ أُصُولُ الشَّجَرِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ . وَفِي الْفَتْحِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا : الْمُسَنَّاةُ وَهِيَ مَا وَضَعَ بَيْنَ شَرَيَاتِ النَّخْلِ كَالْجِدَارِ , وَيُرْوَى الْجُدُرُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَالدَّالِ جَمْعُ جِدَارٍ . وَحَكَى الْخَطَّابِيِّ الْجَذْرَ بِسُكُونِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ جَذْرُ الْحِسَابِ , وَالْمَعْنَى حَتَّى يَبْلُغَ تَمَامَ الشُّرْبِ .(3/154)
وَفِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ " حَتَّى يَبْلُغَ الْمَاءُ الْكَعْبَيْنِ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد قَوْلُهُ : ( فَلَمَّا أَحْفَظَ الْأَنْصَارِيُّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ : أَيْ أَثَارَ حَفِيظَتَهُ . قَالَ فِي الْفَتْحِ : أَحْفَظَهُ بِالْمُهْمَلَةِ وَالظَّاءِ الْمُشَالَةِ : أَيْ أَغْضَبَهُ قَوْلُهُ : ( فَاسْتَوْعَى ) أَيْ اسْتَوْفَى , وَهُوَ مِنْ الْوِعَاءِ كَأَنَّهُ جَمَعَهُ لَهُ فِي وِعَائِهِ قَوْلُهُ : ( فَقَدَّرَتْ الْأَنْصَارُ وَالنَّاسُ ) هُوَ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ قَوْلُهُ : ( فَكَانَ ذَلِكَ إلَى الْكَعْبَيْنِ ) يَعْنِي أَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْجَدْرَ يَخْتَلِفُ بِالطُّولِ وَالْقِصَرِ قَاسُوا مَا وَقَعَتْ فِيهِ الْقِصَّةُ فَوَجَدُوهُ يَبْلُغُ الْكَعْبَيْنِ فَجَعَلُوا ذَلِكَ مِعْيَارَ الِاسْتِحْقَاقِ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ , وَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ هُنَا مَنْ يَكُونُ مَبْدَأُ الْمَاءِ مِنْ نَاحِيَتِهِ , وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي بَابِ " النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ " مِنْ كِتَابِ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ
بَابُ إنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا 3909 - ( وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ , وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي بِنَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ , فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ } رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ مَنْ لَمْ يَرَ أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِعِلْمِهِ ) .(3/155)
قَوْلُهُ : ( إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ) الْبَشَرُ يُطْلَقُ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَالْوَاحِدِ بِمَعْنَى أَنَّهُ مِنْهُمْ , وَالْمُرَادُ أَنَّهُ مُشَارِكٌ لِلْبَشَرِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَلَوْ زَادَ عَلَيْهِمْ بِالْمَزَايَا الَّتِي اُخْتُصَّ بِهَا فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ , وَالْحَصْرُ هُنَا مَجَازِيٌّ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْعِلْمِ الْبَاطِنِ وَيُسَمَّى قَصْرَ قَلْبٍ لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ رَدًّا عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَنْ كَانَ رَسُولًا فَإِنَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ غَيْبٍ حَتَّى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ الْمَظْلُومُ مِنْ الظَّالِمِ , وَقَدْ أَطَالَ الْكَلَامَ عَلَى بَيَانِ مَعْنَى هَذَا الْحَصْرِ عُلَمَاءُ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ فَلْيُرْجَعْ إلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ : ( أَلْحَنَ ) بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ : أَيْ أَفْطَنَ بِهَا , وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَفْصَحَ تَعْبِيرًا عَنْهَا وَأَظْهَرَ احْتِجَاجًا حَتَّى يُخَيَّلَ أَنَّهُ مُحِقٌّ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مُبْطِلٌ .(3/156)
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَبْلَغُ كَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ : أَيْ أَحْسَنُ إيرَادًا لِلْكَلَامِ , وَلَا بُدَّ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ مِنْ تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ لِتَصْحِيحِ مَعْنَاهُ : أَيْ وَهُوَ كَاذِبٌ , وَيُسَمَّى هَذَا عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ دَلَالَةَ اقْتِضَاءٍ لِأَنَّ هَذَا الْمَحْذُوفَ اقْتَضَاهُ اللَّفْظُ الظَّاهِرُ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ : اللَّحْنُ : الْمَيْلُ عَنْ جِهَةِ الِاسْتِقَامَةِ , يُقَالُ لَحَنَ فُلَانٌ فِي كَلَامِهِ إذَا مَالَ عَنْ صَحِيحِ الْمَنْطِقِ , وَأَرَادَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَكُونُ أَعْرَفَ بِالْحُجَّةِ وَأَفْطَنَ لَهَا مِنْ غَيْرِهِ , وَيُقَالُ لَحِنْت لِفُلَانٍ : إذَا قُلْت لَهُ قَوْلًا يَفْهَمُهُ وَيَخْفَى عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّكَ تُمِيلُهُ بِالتَّوْرِيَةِ عَنْ الْوَاضِحِ الْمَفْهُومِ انْتَهَى قَوْلُهُ : ( فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ ) أَيْ الَّذِي قَضَيْت لَهُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ إذَا كَانَ فِي الْبَاطِنِ لَا يَسْتَحِقُّهُ فَهُوَ عَلَيْهِ حَرَامٌ يَئُولُ بِهِ إلَى أَهْلِ النَّارِ وَهُوَ تَمْثِيلٌ يُفْهَمُ مِنْهُ شِدَّةُ التَّعْذِيبِ عَلَى مَا يَتَعَاطَاهُ فَهُوَ مِنْ مَجَازٍ لَا يَسْتَحِقُّهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا } وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ فَوَقَعَ تَكْرَارُ الْبَعْضِ هُنَا لِتَكْرَارِ الْفَائِدَةِ وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى إثْمِ مَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ حَتَّى اسْتَحَقَّ بِهِ فِي الظَّاهِرِ شَيْئًا هُوَ فِي الْبَاطِنِ حَرَامٌ عَلَيْهِ , وَأَنَّ مَنْ احْتَالَ لِأَمْرٍ بَاطِلٍ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْحِيَلِ حَتَّى يَصِيرَ حَقًّا فِي الظَّاهِرِ وَيُحْكَمُ لَهُ بِهِ(3/157)
أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ تَنَاوُلُهُ فِي الْبَاطِنِ وَلَا يَرْتَفِعُ عَنْهُ الْإِثْمُ بِالْحُكْمِ . وَفِيهِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا أَخْطَأَ لَا يَلْحَقُهُ إثْمٌ بَلْ يُؤْجَرُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ , وَإِنْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ . وَفِيهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْضِي بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ فِيهِ شَيْءٌ , وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ قَوْمٌ , وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَصْرَحِ مَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَيْهِمْ , وَفِيهِ أَنَّهُ رُبَّمَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى أَمْرٍ فَيَحْكُمُ بِهِ , وَيَكُونُ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِ ذَلِكَ . قَالَ الْحَافِظُ : لَكِنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَوْ وَقَعَ لَمْ يُقَرَّ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم لِثُبُوتِ عِصْمَتِهِ وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ مُطْلَقًا بِأَنَّهُ لَوْ جَازَ وُقُوعُ الْخَطَأِ فِي حُكْمِهِ لَلَزِمَ أَمْرُ الْمُكَلَّفِينَ بِالْخَطَأِ لِثُبُوتِ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ حَتَّى قَالَ تَعَالَى : { فَلَا وَرَبِّكِ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } الْآيَةَ , وَبِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مَعْصُومٌ مِنْ الْخَطَأِ فَالرَّسُولُ أَوْلَى بِذَلِكَ . وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْأَمْرَ إذَا اسْتَلْزَمَ الْخَطَأَ لَا مَحْذُورَ فِيهِ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ الْمُقَلِّدِينَ فَإِنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِاتِّبَاعِ الْمُفْتِي وَالْحَاكِمِ وَلَوْ جَازَ عَلَيْهِ الْخَطَأُ . وَأُجِيبَ عَنْ الثَّانِي بِرَدِّ الْمُلَازَمَةِ , فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ إذَا فُرِضَ وُجُودُهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ مُسْتَنَدَهُمْ مَا جَاءَ عَنْ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَرَجَعَ الِاتِّبَاعُ إلَى الرَّسُولِ لَا إلَى نَفْسِ الْإِجْمَاعِ .(3/158)
قَالَ الْحَافِظُ : وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا أَنَّ مَنْ ادَّعَى مَالًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَحَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِبَرَاءَةِ الْحَالِفِ أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ فِي الْبَاطِنِ وَلَا يَرْتَفِعُ عَنْهُ الْإِثْمُ بِالْحُكْمِ . وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِمَنْ أَثْبَتَ أَنَّهُ قَدْ يُحْكَمُ صلى الله عليه وسلم بِالشَّيْءِ فِي الظَّاهِرِ وَيَكُونُ الْأَمْرُ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِهِ , وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ مُحَالٌ عَقْلًا وَلَا نَقْلًا وَأَجَابَ مَنْ مَنَعَ بِأَنَّ الْحَدِيثَ يَتَعَلَّقُ بِالْحُكُومَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي فَصْلِ الْخُصُومَاتِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْإِقْرَارِ أَوْ الْبَيِّنَةِ , وَلَا مَانِعَ مِنْ وُقُوعِ ذَلِكَ فِيهَا , وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُقَرُّ عَلَى الْخَطَإِ , وَإِنَّمَا الَّذِي يَمْتَنِعُ وُقُوعُ الْخَطَإِ فِيهِ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ أَمْرٍ بِأَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ فِيهِ كَذَا وَيَكُونُ ذَلِكَ نَاشِئًا عَنْ اجْتِهَادِهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا حَقًّا لقوله تعالى : { وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى . } وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ فَيَعُودُ الْإِشْكَالُ كَمَا كَانَ , وَالْمَقَامُ يَحْتَاجُ إلَى بَسْطٍ طَوِيلٍ وَمَحِلُّهُ الْأُصُولُ فَلْيُرْجَعْ إلَيْهَا .(3/159)
قَالَ الطَّحَاوِيُّ : ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ الْحُكْمَ بِتَمْلِيكِ مَالٍ أَوْ إزَالَةِ مِلْكٍ أَوْ إثْبَاتِ نِكَاحٍ أَوْ فُرْقَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ إنْ كَانَ فِي الْبَاطِنِ كَمَا هُوَ فِي الظَّاهِرِ نَفَذَ عَلَى مَا حُكِمَ بِهِ , وَإِنْ كَانَ فِي الْبَاطِنِ عَلَى خِلَافِ مَا اسْتَنَدَ إلَيْهِ الْحَاكِمُ مِنْ الشَّهَادَةِ أَوْ غَيْرِهَا لَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ مُوجِبًا لِلتَّمْلِيكِ وَلَا الْإِزَالَةِ وَلَا النِّكَاحِ وَلَا الطَّلَاقِ وَلَا غَيْرِهَا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ , وَمَعَهُمْ أَبُو يُوسُفَ . وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى أَنَّ الْحُكْمَ إنْ كَانَ فِي مَالٍ وَكَانَ الْأَمْرُ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِ مَا اسْتَنَدَ إلَيْهِ الْحَاكِمُ مِنْ الظَّاهِرِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُوجِبًا لِحِلِّهِ لِلْمَحْكُومِ لَهُ , وَإِنْ كَانَ فِي نِكَاحٍ أَوْ طَلَاقٍ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَحَمَلُوا حَدِيثَ الْبَابِ عَلَى مَا وَرَدَ فِيهِ وَهُوَ الْمَالُ . وَاحْتَجُّوا لِمَا عَدَاهُ بِقِصَّةِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ قَدْ صَدَقَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ قَالُوا : فَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ كُلَّ قَضَاءٍ لَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكُ مَالٍ أَنَّهُ عَلَى الظَّاهِرِ وَلَوْ كَانَ الْبَاطِنُ بِخِلَافِهِ وَأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ يُحْدِثُ فِي ذَلِكَ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ . وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْفُرْقَةَ فِي اللِّعَانِ إنَّمَا وَقَعَتْ عُقُوبَةً لِلْعِلْمِ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا كَاذِبٌ وَهُوَ أَصْلٌ بِرَأْسِهِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ .(3/160)
وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ مُجِيبًا عَلَى مَنْ اسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ لِمَا تَقَدَّمَ بِأَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِسَمَاعِ كَلَامِ الْخَصْمِ حَيْثُ لَا بَيِّنَةَ هُنَاكَ وَلَا يَمِينَ وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِيهِ , وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْحُكْمِ الْمُرَتَّبِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَبِأَنَّ " مَنْ " فِي قَوْلِهِ : " فَمَنْ قَضَيْت لَهُ " شَرْطِيَّةٌ , وَهِيَ لَا تَسْتَلْزِمُ الْوُقُوعَ فَيَكُونُ مِنْ فَرْضِ مَا لَمْ يَقَعْ وَهُوَ جَائِزٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ وَهُوَ هُنَا مُحْتَمِلٌ لَأَنْ يَكُونَ لِلتَّهْدِيدِ وَالزَّجْرِ عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَى أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الْخُصُومَةِ , وَهُوَ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَسْتَلْزِمَ عَدَمَ نُفُوذِ الْحُكْمِ بَاطِنًا فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ لَكِنَّهُ لَمْ يُسْبَقْ لِذَلِكَ فَلَا يَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ مَنَعَ , وَبِأَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِهِ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يُقِرُّ عَلَى الْخَطَإِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَا قَضَى بِهِ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ إلَّا إذَا اسْتَمَرَّ الْخَطَأُ وَإِلَّا فَمَتَى فُرِضَ أَنَّهُ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَبْطُلَ ذَلِكَ الْحُكْمُ وَيُرَدَّ الْحَقُّ لِمُسْتَحِقِّهِ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يُخَالِفُ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يَسْقُطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ وَيُؤَوَّلُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ , وَإِمَّا أَنْ يَسْتَلْزِمَ اسْتِمْرَارَ التَّقْرِيرِ عَلَى الْخَطَإِ وَهُوَ بَاطِلٌ . وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ بَلْ مِنْ التَّحْرِيفِ الَّذِي لَا يَفْعَلُهُ مُنْصِفٌ وَكَذَا الثَّانِي .(3/161)
وَالْجَوَابُ عَنْ الثَّالِثِ أَنَّ الْخَطَأَ الَّذِي لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ هُوَ الْحُكْمُ الَّذِي صَدَرَ عَنْ اجْتِهَادِهِ فِيمَا لَمْ يُوحَ إلَيْهِ فَلَيْسَ النِّزَاعُ فِيهِ , وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْحُكْمِ الصَّادِرِ مِنْهُ عَنْ شَهَادَةِ زُورٍ أَوْ يَمِينٍ فَاجِرَةٍ فَلَا يُسَمَّى خَطَأً لِلِاتِّفَاقِ عَلَى الْعَمَلِ بِالشَّهَادَةِ وَبِالْأَيْمَانِ وَإِلَّا لَكَانَ الْكَثِيرُ مِنْ الْأَحْكَامِ يُسَمَّى خَطَأً وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا فِي حَدِيثِ { أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ } فَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِ مَنْ تَلَفَّظَ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَلَوْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَعْتَقِدُ خِلَافَ ذَلِكَ وَلِمَا فِي حَدِيثِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ حَيْثُ قَالَ : { لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ } فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ خَطَأً لَمْ يَتْرُكْ اسْتِدْرَاكَهُ وَالْعَمَلَ بِمَا عَرَفَهُ . وَكَذَلِكَ حَدِيثُ { إنِّي لَمْ أُومَرْ بِالتَّنْقِيبِ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ } فَالْحُجَّةُ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ شَامِلَةٌ لِلْأَمْوَالِ وَالْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ . وَقَدْ حَكَى الشَّافِعِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُحَلِّلُ الْحَرَامَ .(3/162)
قَالَ النَّوَوِيُّ : وَالْقَوْلُ بِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ يُحَلِّلُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مُخَالِفٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَلِلْإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ وَلِقَاعِدَةٍ أَجْمَعَ عَلَيْهَا الْعُلَمَاءُ وَوَافَقَهُمْ الْقَائِلُ الْمَذْكُورُ وَهِيَ أَنَّ الْأَبْضَاعَ أَوْلَى بِالِاحْتِيَاطِ مِنْ الْأَمْوَالِ , وَفِي الْمَقَامِ مُقَاوَلَاتٌ وَمُطَاوَلَاتٌ , وَمَعَ وُضُوحِ الصَّوَابِ لَا فَائِدَةَ فِي الْإِطْنَابِ , وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ , وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي بَابٍ مُسْتَقِلٍّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَفِيهِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ حَكَمَ بِمَا يَقَعُ فِي خَاطِرِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إلَى أَمْرٍ خَارِجِيٍّ مِنْ بَيِّنَةٍ وَنَحْوِهَا . وَوَجْهُ الرَّدِّ عَلَيْهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَعْلَى فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ مُطْلَقًا , وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ دَلَّ حَدِيثُهُ هَذَا عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ فَلَوْ كَانَ الْمُدَّعَى صَحِيحًا لَكَانَ الرَّسُولُ أَحَقَّ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ تَجْرِي الْأَحْكَامُ عَلَى ظَاهِرِهَا مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنَّ اللَّهَ يُطْلِعَهُ عَلَى غَيْبِ كُلِّ قَضِيَّةٍ .(3/163)
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ تَشْرِيعَ الْأَحْكَامِ وَاقِعٌ عَلَى يَدِهِ فَكَأَنَّهُ أَرَادَ تَعْلِيمَ غَيْرِهِ مِنْ الْحُكَّامِ أَنْ يَعْتَمِدُوا ذَلِكَ , نَعَمْ لَوْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ مَثَلًا بِخِلَافِ مَا يَعْلَمُهُ مُشَاهَدَةً أَوْ سَمَاعًا أَوْ ظَنًّا رَاجِحًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ قَالَ الْحَافِظُ : وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ فِيهِ الِاتِّفَاقَ وَإِنْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ فِي الْقَضَاءِ بِالْعِلْمِ كَمَا سَيَأْتِي
وفي العقود الدرية :
( سُئِلَ ) عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَكَتَبَ مَا صُورَتُهُ بسم الله الرحمن الرحيم { إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ } يَعْتَنُونَ بِإِظْهَارِ شَرَفِهِ وَتَعْظِيمِ شَأْنِهِ
{(3/164)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ } اعْتَنُوا أَنْتُمْ أَيْضًا فَإِنَّكُمْ أَوْلَى بِذَلِكَ فَقُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ { وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } قُولُوا السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ فَإِنْ قُلْت لِمَاذَا أَكَّدَ السَّلَامَ بِالْمَصْدَرِ وَلَمْ يُؤَكِّدْ الصَّلَاةَ بِهِ قُلْت لَمَّا أَكَّدَ الصَّلَاةَ بِمُؤَكِّدَاتٍ سَبْعَةٍ : إنَّ وَالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَصَلَاةِ اللَّهِ وَصَلَاةِ الْمَلَائِكَةِ وَالْإِخْبَارِ وَالنِّدَاءِ وَالْأَمْرِ رُبَّمَا يُظَنُّ أَنَّ السَّلَامَ لَيْسَ كَذَلِكَ فَأَكَّدَهُ بِالْمَصْدَرِ , وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ فِي الْجُمْلَةِ قَالَهُ ابْنُ كَمَالٍ بَاشَا وَقَالَ أَبُو السُّعُودِ الْعِمَادِيُّ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } قَائِلِينَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلِّمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ . قِيلَ الْمُرَادُ بِالتَّسْلِيمِ الِانْقِيَادُ لِأَمْرِهِ بِالتَّسْلِيمِ وَالْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِوُجُوبِ التَّكْرَارِ وَعَدَمِهِ وَقِيلَ يَجِبُ ذَلِكَ كُلَّمَا جَرَى ذِكْرُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام { رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْت عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ } وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ تَجِبُ فِي كُلِّ مَجْلِسٍ وَإِنْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ عليه الصلاة والسلام وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ مَرَّةً فِي الْعُمْرِ وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ الِاحْتِيَاطُ وَتَسْتَدْعِيهِ مَعْرِفَةُ عُلُوِّ شَأْنِهِ عليه الصلاة والسلام أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ كُلَّمَا جَرَى ذِكْرُهُ الرَّفِيعُ ا هـ .(3/165)
مُلَخَّصًا وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ شَرْحِ الْهِدَايَةِ قَالَ { ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه بَعْدَ مَا عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم التَّشَهُّدَ إذَا قُلْت هَذَا أَوْ فَعَلْت هَذَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُك } فَقَدْ عَلَّقَ التَّمَامَ بِأَحَدِهِمَا فَمَنْ عَلَّقَ التَّمَامَ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ خَالَفَ النَّصَّ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ الْآيَةِ بِأَنَّهُ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ لِلْإِيجَابِ وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ الْإِيجَابَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ خَارِجَهَا فَيُحْمَلُ عَلَى خَارِجِهَا وَعِنْدَنَا الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَارِجَ الصَّلَاةِ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً وَاجِبَةٌ هَكَذَا قَالَ الْكَرْخِيُّ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ ا هـ . وَفِي الْمُحِيطِ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ وَاجِبَةٌ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً إنْ شَاءَ فَعَلَهَا فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ لَا بَلْ كُلَّمَا سَمِعَ ذِكْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَارِجَ الصَّلَاةُ وَاجِبَةٌ . ا هـ .(3/166)
فَإِنْ قِيلَ قَدْ ذَكَرْتُمْ الصَّلَاةَ وَلَمْ تَذْكُرُوا السَّلَامَ مَعَ أَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى وُجُوبِهِ وَعَدَمِ نَسْخِهِ فَيُقَالُ نَحْنُ مَا أَنْكَرْنَا فَرْضِيَّتَهُ وَأَنَّهُ يَجِبُ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً امْتِثَالًا لِلْأَمْرِ وَهُوَ لَا يُوجِبُ التَّكْرَارَ وَإِنَّمَا لَمْ نَذْكُرْهُ لِأَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي التَّحِيَّاتِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ فِي الصَّلَاةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِهِ أَوْ يُقَالُ إنَّ الْمُرَادَ بِالسَّلَامِ التَّسْلِيمُ لِقَضَائِهِ قَالَ تَعَالَى { فَلَا وَرَبِّك لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْت وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } كَذَا فِي بَعْضِ حَوَاشِي الْهِدَايَةِ وَصَدْرِ الشَّرِيعَةِ أَوْ يُقَالُ إنَّ الْإِنْسَانَ إذَا صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ سَلَّمَ لِأَنَّهُ جَوَّزَ الْحَلِيمِيُّ كَمَا فِي الْمَوَاهِبِ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ بِمَعْنَى السَّلَامِ عَلَيْهِ .
وفي الموسوعة الفقهية :
مَصَادِرُ الِاجْتِهَادِ :(3/167)
39 - بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ عُلَمَاءَ الْأُمَّةِ جَمِيعًا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ , وَعَلَيْهِ فَإِنَّ مَصْدَرَ الْأَحْكَامِ كُلِّهَا مِنْهُ تَعَالَى بِوَاسِطَةِ الْوَحْيِ . وَالْوَحْيُ إمَّا مَتْلُوٌّ وَهُوَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ , أَوْ غَيْرُ مَتْلُوٍّ وَهُوَ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ الْمُطَهَّرَةُ , فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم بِصِفَتِهِ رَسُولًا لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى . وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَصَادِرَ الْأَحْكَامِ كُلَّهَا تَرْجِعُ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِصِفَةٍ مُبَاشَرَةٍ . أَمَّا الْإِجْمَاعُ - إذَا تَحَقَّقَ - فَهُوَ كَاشِفٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى , لِأَنَّ الْأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ . وَأَمَّا الْقِيَاسُ - عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ - فَهُوَ كَاشِفٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ , وَهَذَا الظَّنُّ كَافٍ فِي الِاحْتِجَاجِ مَتَى تَوَفَّرَتْ شُرُوطُ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ , سَوَاءٌ قُلْنَا بِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَتَعَدَّدُ أَمْ قُلْنَا بِغَيْرِ ذَلِكَ . وَسَيَتَبَيَّنُ لَنَا مِنْ الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ تَوْضِيحُ ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ , إلَّا أَنَّنَا سَنَتَنَاوَلُ مَسْأَلَتَيْنِ عَاجِلَتَيْنِ كَثُرَ الْحَدِيثُ عَنْهُمَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ . أ - الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : ( حَوْلَ السُّنَّةِ ) 40 - أَثَارَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ السُّنَّةَ لَيْسَتْ مَصْدَرًا لِلتَّشْرِيعِ , وَسَمُّوا أَنْفُسَهُمْ بِالْقُرْآنِيِّينَ , وَقَالُوا : إنَّ أَمَامَنَا الْقُرْآنَ , نُحِلُّ حَلَالَهُ , وَنُحَرِّمُ حَرَامَهُ , وَالسُّنَّةُ كَمَا يَزْعُمُونَ قَدْ دُسَّ فِيهَا أَحَادِيثُ مَكْذُوبَةٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم .(3/168)
وَهَؤُلَاءِ امْتِدَادٌ لِقَوْمٍ آخَرِينَ نَبَّأَنَا عَنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . فَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ الْمِقْدَامِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { يُوشِكُ أَنْ يَقْعُدَ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِي فَيَقُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ , فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ , وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ , أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ } وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا بِقُرْآنِيِّينَ , لِأَنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ أَوْجَبَ طَاعَةَ الرَّسُولِ فِيمَا يَقْرُبُ مِنْ مِائَةِ آيَةٍ , وَاعْتَبَرَ طَاعَةَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ { مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاك عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } بَلْ إنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ الَّذِي يَدَّعُونَ التَّمَسُّكَ بِهِ نَفَى الْإِيمَانَ عَمَّنْ رَفَضَ طَاعَةَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَقْبَلْ حُكْمَهُ : { فَلَا وَرَبِّك لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْت وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } . وَقَوْلُهُمْ : إنَّ السُّنَّةَ قَدْ دُسَّتْ فِيهَا أَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ مَرْدُودٌ بِأَنَّ عُلَمَاءَ هَذِهِ الْأُمَّةِ عُنُوا أَشَدَّ الْعِنَايَةِ بِتَنْقِيَةِ السُّنَّةِ مِنْ كُلِّ دَخِيلٍ , وَاعْتَبَرُوا الشَّكَّ فِي صِدْقِ رَاوٍ مِنْ الرُّوَاةِ أَوْ احْتِمَال سَهْوِهِ رَدًّا لِلْحَدِيثِ .(3/169)
وَقَدْ شَهِدَ أَعْدَاءُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَنَّهُ لَيْسَتْ هُنَاكَ أُمَّةٌ عُنِيَتْ بِالسَّنَدِ وَبِتَنْقِيحِ الْأَخْبَارِ وَلَا سِيَّمَا الْمَرْوِيَّةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَهَذِهِ الْأُمَّةِ . وَيَكْفِي لِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ غَلَبَةُ الظَّنِّ بِأَنَّهُ صَادِرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ كَانَ - صلى الله عليه وسلم - يَكْتَفِي بِإِبْلَاغِ دَعْوَتِهِ بِإِرْسَالِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ . ثُمَّ نَسْأَلُ هَؤُلَاءِ أَيْنَ هِيَ الْآيَاتُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ , وَعَلَى أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةَ خَمْسٌ , وَعَلَى أَنْصِبَةِ الزَّكَاةِ , وَعَلَى أَعْمَالِ الْحَجِّ , إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهَا إلَّا مِنْ السُّنَّةِ .(3/170)
وَهُنَاكَ فِرْقَةٌ أُخْرَى لَا تَقِلُّ خَطَرًا عَنْ هَذِهِ الْفِرْقَةِ تَقُولُ : إنَّنَا نَقْبَلُ السُّنَّةَ كَمَصْدَرٍ تَشْرِيعِيٍّ فِيمَا يَتَّصِلُ بِالْعِبَادَاتِ , أَمَّا مَا يَتَّصِلُ بِأُمُورِ الدُّنْيَا مِنْ تَشْرِيعَاتٍ أَوْ سُلُوكٍ فَلَيْسَتْ بِحُجَّةٍ عَلَيْنَا , وَيَتَعَلَّقُونَ بِشُبْهَةٍ وَاهِيَةٍ , وَهِيَ حَادِثَةُ تَأْبِيرِ النَّخْلِ , وَحَاصِلُهَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَمَا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ رَأَى أَهْلَهَا يُؤَبِّرُونَ النَّخْلَ أَيْ يُلَقِّحُونَ إنَاثَ النَّخْلِ بِطَلْعِ ذُكُورِهَا فَقَالَ لَهُمْ : لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلَحَ فَتَرَكُوهُ فَشَاصَ أَيْ فَسَدَ وَصَارَ حَمْلُهُ شِيصًا وَهُوَ رَدِيءُ التَّمْرِ فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ : مَا لِنَخْلِكُمْ ؟ قَالُوا : قُلْت كَذَا وَكَذَا قَالَ : أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ } .(3/171)
هَذَا الْخَبَرُ إنْ دَلَّ عَلَى شَيْءٍ فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأُمُورَ الدُّنْيَوِيَّةَ الَّتِي لَا صِلَةَ لَهَا بِالتَّشْرِيعِ تَحْلِيلًا أَوْ تَحْرِيمًا أَوْ صِحَّةً أَوْ فَسَادًا , بَلْ هِيَ مِنْ الْأُمُورِ التَّجْرِيبِيَّةِ , لَا تَدْخُلُ تَحْتَ مُهِمَّةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم كَمُبَلِّغٍ عَنْ رَبِّهِ , بَلْ هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأُمُورِ خَاضِعَةٌ لِلتَّجْرِبَةِ , وَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا كَانَ قُدْوَةً عَمَلِيَّةً لِحَثِّنَا عَلَى أَنَّ الْأُمُورَ الدُّنْيَوِيَّةَ الْبَحْتَةَ الَّتِي لَا عَلَاقَةَ لَهَا بِالتَّشْرِيعِ يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَبْذُلَ الْجَهْدَ فِي مَعْرِفَةِ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ مِنْ غَيْرِهِ , وَشَتَّانَ بَيْنَ هَذِهِ الْحَادِثَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَرِدَ عَنْ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ هَذَا حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ , أَوْ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ مُوجِبٌ لِلْعُقُوبَةِ أَوْ غَيْرُ مُوجِبٍ , أَوْ أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ صَحِيحٌ أَوْ غَيْرُ صَحِيحٍ , لِأَنَّ هَذِهِ الصُّوَرَ مِنْ صُلْبِ وَظِيفَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا طَاعَتَهُ فِي كُلِّ مَا يُبَلِّغُ عَنْ رَبِّهِ . ب - ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) : 41 - تُثَارُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ بَيْنَ الْفَيْنَةِ وَالْفَيْنَةِ دَعْوَى الِاعْتِمَادِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ فِي تَشْرِيعَاتِنَا بِحُجَّةِ أَنَّ الشَّرِيعَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ إنَّمَا جَاءَتْ لِخَيْرِ الْبَشَرِيَّةِ , فَمَا كَانَ خَيْرًا أَخَذْنَا بِهِ , وَمَا كَانَ شَرًّا أَعْرَضْنَا عَنْهُ .(3/172)
وَهَذِهِ كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ , فَإِنَّ التَّشْرِيعَ الْإِسْلَامِيَّ - جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا عِبَادَاتٍ وَمُعَامَلَاتٍ - إنَّمَا أُرِيدَ بِهِ مَصْلَحَةُ الْبَشَرِ . وَلَكِنْ مَا هِيَ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ ؟ , أَهِيَ مُسَايَرَةُ الْأَهْوَاءِ وَتَرْضِيَةُ النُّفُوسِ الْجَامِحَةِ ؟ أَمْ هِيَ الْمَصْلَحَةُ الْحَقِيقِيَّةُ الَّتِي يَسْتَقِيمُ عَلَيْهَا أَمْرُ النَّاسِ ؟ ثُمَّ مَا السَّبِيلُ إلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَصْلَحَةِ الْمَوْهُومَةِ وَالْمَصْلَحَةِ الْحَقِيقِيَّةِ ؟ وَطَبَائِعُ النَّاسِ , كَمَا نَعْلَمُ وَنُشَاهِدُ , مُخْتَلِفَةٌ , فَمَا يُحِبُّهُ هَذَا يَكْرَهُهُ ذَاكَ , وَمَا يَكْرَهُهُ ذَاكَ يُحِبُّهُ هَذَا , وَالْمُحِبُّ لَا يَرَى فِيمَا أَحَبَّ إلَّا جَانِبَ الْخَيْرِ وَالْمَصْلَحَةِ , وَالْكَارِهُ لَا يَرَى فِيمَا يَكْرَهُ إلَّا جَانِبَ الشَّرِّ وَالضُّرِّ . وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ كَمَا أَنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي الْمُسَاوِيَا وَقَدْ اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَخْتَلِطَ الْخَيْرُ بِالشَّرِّ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا , فَتَرْجِيحُ مَصْلَحَةٍ عَلَى مَصْلَحَةٍ , أَوْ مَفْسَدَةٍ عَلَى مَفْسَدَةٍ , أَوْ مُقَارَنَةُ الْمَفَاسِدِ بِالْمَصَالِحِ وَتَرْجِيحُ إحْدَاهَا عَلَى الْأُخْرَى , كُلُّ ذَلِكَ يَتَطَلَّبُ أَنْ يَكُونَ الْمَصْدَرُ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ يَتَنَزَّهُ عَنْ الْأَهْوَاءِ وَالْأَغْرَاضِ , وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى , لِأَنَّهُ الْغَنِيُّ عَنْ الْعَالَمِينَ , وَهُوَ الَّذِي يُرِيدُ لِعِبَادِهِ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِهِمْ الْعُسْرَ .(3/173)
وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ لَنَا أَنَّ الْمَصَالِحَ ثَلَاثٌ : مَصْلَحَةٌ اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ بِرَغْمِ مَا قَدْ يَخْتَلِطُ بِهَا مِنْ بَعْضِ الْأَضْرَارِ الْبَسِيطَةِ , لِأَنَّ الْخَيْرَ فِيهَا أَرْجَحُ كَالْمَصْلَحَةِ فِي الصَّوْمِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ بَعْضِ الْمَشَاقِّ , وَالْمَصْلَحَةُ فِي الْجِهَادِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ بَذْلِ الْأَمْوَالِ وَالْأَرْوَاحِ . وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهِ . وَهُنَاكَ مَصَالِحُ أَلْغَاهَا الشَّارِعُ إلْغَاءً تَامًّا . لِأَنَّ ضَرَرَهَا أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهَا , كَالْمَصْلَحَةِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ , كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَك عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } وَكَالْمَصْلَحَةِ فِي الرِّبَا , فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَرَّمَهُ بِأَيِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِهِ أَوْ شَكْلٍ مِنْ أَشْكَالِهِ : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } وَكَذَلِكَ قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } .(3/174)
وَهُنَاكَ مَصَالِحُ سَكَتَ عَنْهَا الشَّارِعُ فَلَمْ يَعْتَبِرْهَا وَلَمْ يُلْغِهَا بِخُصُوصِهَا , فَهَذِهِ الْمَصَالِحُ إنَّمَا يُقَدِّرُهَا الْمُخْتَصُّونَ دُونَ غَيْرِهِمْ , مَعَ وُجُوبِ مُرَاعَاةِ حِمَايَتِهِمْ - قَدْرَ الْإِمْكَانِ - مِنْ ذَهَبِ الْمُعِزِّ وَسَيْفِهِ , وَأَنْ يَكُونَ الْبَتُّ فِي هَذَا الْأَمْرِ مِنْ شَأْنِ الْجَمَاعَةِ لَا الْأَفْرَادِ , كَمَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِثْلُ هَذِهِ الْمَصَالِحِ تَحْتَ التَّجْرِبَةِ , فَإِنَّ أَمْثَالَهَا تَخْتَلِفُ مِنْ عَصْرٍ إلَى عَصْرٍ . وَمِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ .
تَحْكِيمٌ التَّعْرِيفُ :(3/175)
1 - التَّحْكِيمُ فِي اللُّغَةِ : مَصْدَرُ حَكَّمَهُ فِي الْأَمْرِ وَالشَّيْءِ , أَيْ : جَعَلَهُ حَكَمًا , وَفَوَّضَ الْحُكْمَ إلَيْهِ . وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ : { فَلَا وَرَبِّك لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } . وَحَكَّمَهُ بَيْنَهُمْ : أَمَرَهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ . فَهُوَ حَكَمٌ , وَمُحَكَّمٌ . وَأَمَّا الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ : { إنَّ الْجَنَّةَ لِلْمُحَكَّمِينَ } فَالْمُرَادُ بِهِ الَّذِينَ يَقَعُونَ فِي يَدِ الْعَدُوِّ , فَيُخَيَّرُونَ بَيْنَ الشِّرْكِ وَالْقَتْلِ , فَيَخْتَارُونَ الْقَتْلَ ثَبَاتًا عَلَى الْإِسْلَامِ . وَفِي الْمَجَازِ : حَكَّمْت السَّفِيهَ تَحْكِيمًا : إذَا أَخَذْت عَلَى يَدِهِ , أَوْ بَصَّرْته مَا هُوَ عَلَيْهِ . وَمِنْهُ قَوْلُ النَّخَعِيِّ رحمه الله تعالى : حَكِّمْ الْيَتِيمَ كَمَا تُحَكِّمُ وَلَدك . أَيْ : امْنَعْهُ مِنْ الْفَسَادِ كَمَا تَمْنَعُ وَلَدَك وَقِيلَ : أَرَادَ حُكْمَهُ فِي مَالِهِ إذَا صَلُحَ كَمَا تُحَكِّمُ وَلَدَك . وَمِنْ مَعَانِي التَّحْكِيمِ فِي اللُّغَةِ : الْحَكَمُ . يُقَالُ : قَضَى بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ , وَقَضَى لَهُ , وَقَضَى عَلَيْهِ . وَفِي الِاصْطِلَاحِ : التَّحْكِيمُ : تَوْلِيَةُ الْخَصْمَيْنِ حَاكِمًا يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا . وَفِي مَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ : التَّحْكِيمُ عِبَارَةٌ عَنْ اتِّخَاذِ الْخَصْمَيْنِ حَاكِمًا بِرِضَاهُمَا لِفَصْلِ خُصُومَتِهِمَا وَدَعْوَاهُمَا . وَيُقَالُ لِذَلِكَ : حَكَمَ بِفَتْحَتَيْنِ , وَمُحَكَّمٌ بِضَمِّ الْمِيمِ , وَفَتْحِ الْحَاءِ , وَتَشْدِيدِ الْكَافِ الْمَفْتُوحَةِ . ((3/176)
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : أ - الْقَضَاءُ : 2 - مِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ : الْحُكْمُ , وَهُوَ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ : تَبْيِينُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَالْإِلْزَامُ بِهِ , وَفَصْلُ الْخُصُومَةِ . وَعَلَى هَذَا فَكُلٌّ مِنْ التَّحْكِيمِ وَالْقَضَاءِ وَسِيلَةٌ لِفَضِّ النِّزَاعِ بَيْنَ النَّاسِ وَتَحْدِيدِ صَاحِبِ الْحَقِّ , وَلِهَذَا اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا صِفَاتٍ مُتَمَاثِلَةً . كَمَا سَنَرَى بَعْدَ قَلِيلٍ . إلَّا أَنَّ بَيْنَهَا فَوَارِقَ جَوْهَرِيَّةً تَتَجَلَّى فِي أَنَّ الْقَضَاءَ هُوَ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْمَقَامِ , وَأَنَّ التَّحْكِيمَ فَرْعٌ , وَأَنَّ الْقَاضِيَ هُوَ صَاحِبُ وِلَايَةٍ عَامَّةٍ , فَلَا يَخْرُجُ عَنْ سُلْطَةِ الْقَضَاءِ أَحَدٌ , وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ اخْتِصَاصِهِ مَوْضُوعٌ . أَمَّا تَوْلِيَةُ الْحُكْمِ فَتَكُونُ مِنْ الْقَاضِي أَوْ مِنْ الْخَصْمَيْنِ وَفْقَ الشُّرُوطِ وَالْقُيُودِ الَّتِي تُوضَعُ لَهُ , مَعَ مُلَاحَظَةِ أَنَّ هُنَاكَ أُمُورًا لَيْسَتْ مَحَلًّا لِلتَّحْكِيمِ , كَمَا سَنَرَى . ب - الْإِصْلَاحُ : 3 - الْإِصْلَاحُ فِي اللُّغَةِ : نَقِيضُ الْإِفْسَادِ . يُقَالُ : أَصْلَحَ : إذَا أَتَى بِالْخَيْرِ وَالصَّوَابِ . وَأَصْلَحَ فِي عَمَلِهِ , أَوْ أَمْرِهِ : أَتَى بِمَا هُوَ صَالِحٌ نَافِعٌ . وَأَصْلَحَ الشَّيْءَ : أَزَالَ فَسَادَهُ . وَأَصْلَحَ بَيْنَهُمَا , أَوْ ذَاتَ بَيْنِهِمَا , أَوْ مَا بَيْنَهُمَا : أَزَالَ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ عَدَاوَةٍ وَنِزَاعٍ بِرِضَا الطَّرَفَيْنِ .(3/177)
وَفِي , الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا , فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ , فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } . فَالْإِصْلَاحُ وَالتَّحْكِيمُ يُفَضُّ بِهِمَا النِّزَاعُ , غَيْرَ أَنَّ الْحُكْمَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَوْلِيَةٍ مِنْ الْقَاضِي أَوْ الْخَصْمَيْنِ , وَالْإِصْلَاحُ يَكُونُ الِاخْتِيَارُ فِيهِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ أَوْ مِنْ مُتَبَرِّعٍ بِهِ . ( الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ ) : التَّحْكِيمُ مَشْرُوعٌ . وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ . 4 - أَمَّا الْكِتَابُ الْكَرِيمُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا , إنْ يُرِيدَا إصْلَاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلِيلُ إثْبَاتِ التَّحْكِيمِ . 5 - وَأَمَّا السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ , { فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَضِيَ بِتَحْكِيمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ رضي الله عنه فِي أَمْرِ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ , حِينَ جَنَحُوا إلَى ذَلِكَ وَرَضَوْا بِالنُّزُولِ عَلَى حُكْمِهِ } . { وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَضِيَ بِتَحْكِيمِ الْأَعْوَرِ بْنِ بَشَامَةَ فِي أَمْرِ بَنِي الْعَنْبَرِ , حِينَ انْتَهَبُوا أَمْوَالَ الزَّكَاةِ } . وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ { أَنَّ أَبَا شُرَيْحٍ هَانِئَ بْنَ يَزِيدَ رضي الله عنه لَمَّا وَفَدَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ قَوْمِهِ , سَمِعَهُمْ يُكَنُّونَهُ بِأَبِي الْحَكَمِ .(3/178)
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ . وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ , فَلِمَ تُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ ؟ فَقَالَ : إنَّ قَوْمِي إذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي , فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ , فَرَضِيَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مَا أَحْسَنَ هَذَا . فَمَا لَك مِنْ الْوَلَدِ ؟ قَالَ : لِي شُرَيْحٌ , وَمُسْلِمٌ , وَعَبْدُ اللَّهِ . قَالَ : فَمَا أَكْبَرُهُمْ ؟ قُلْت : شُرَيْحٌ . قَالَ : أَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ . وَدَعَا لَهُ وَلِوَلَدِهِ } . 6 - أَمَّا الْإِجْمَاعُ , فَقَدْ كَانَ بَيْنَ عُمَرَ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنهما مُنَازَعَةٌ فِي نَخْلٍ , فَحَكَّمَا بَيْنَهُمَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رضي الله عنه . وَاخْتَلَفَ عُمَرُ مَعَ رَجُلٍ فِي أَمْرِ فَرَسٍ اشْتَرَاهَا عُمَرُ بِشَرْطِ السَّوْمِ , فَتَحَاكَمَا إلَى شُرَيْحٍ . كَمَا تَحَاكَمَ عُثْمَانُ وَطَلْحَةُ إلَى جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنهم , وَلَمْ يَكُنْ زَيْدٌ وَلَا شُرَيْحٌ وَلَا جُبَيْرٌ مِنْ الْقُضَاةِ . وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ لِجَمْعٍ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ , وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ فَكَانَ إجْمَاعًا . 7 - وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى جَوَازِ التَّحْكِيمِ . إلَّا أَنَّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ مَنْ امْتَنَعَ عَنْ الْفَتْوَى بِذَلِكَ , وَحُجَّتُهُ : أَنَّ السَّلَفَ إنَّمَا يَخْتَارُونَ لِلْحُكْمِ مَنْ كَانَ عَالِمًا صَالِحًا دَيِّنًا , فَيَحْكُمُ بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ , أَوْ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِينَ .(3/179)
فَلَوْ قِيلَ بِصِحَّةِ التَّحْكِيمِ الْيَوْمَ لَتَجَاسَرَ الْعَوَامُّ , وَمَنْ كَانَ فِي حُكْمِهِمْ إلَى تَحْكِيمِ أَمْثَالِهِمْ , فَيَحْكُمُ الْحَكَمُ بِجَهْلِهِ بِغَيْرِ مَا شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْأَحْكَامِ , وَهَذَا مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ , وَلِذَلِكَ أَفْتَوْا بِمَنْعِهِ . وَقَالَ أَصْبَغُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ : لَا أُحِبُّ ذَلِكَ , فَإِنْ وَقَعَ مَضَى . وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُجْزِهِ ابْتِدَاءً . وَمِنْ الشَّافِعِيَّةِ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ الْجَوَازِ , وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ قَاضٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِجَوَازِهِ فِي الْمَالِ فَقَطْ . وَمَهْمَا يَكُنْ فَإِنَّ جَوَازَ التَّحْكِيمِ هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ , وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ جُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ . وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ . أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ : فَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ نَفَاذُهُ بَعْدَ الْوُقُوعِ . 8 - وَطَرَفَا التَّحْكِيمِ هُمَا الْخَصْمَانِ اللَّذَانِ اتَّفَقَا عَلَى فَضِّ النِّزَاعِ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمَا , وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُسَمَّى الْمُحَكِّمَ بِتَشْدِيدِ الْكَافِ الْمَكْسُورَةِ . وَقَدْ يَكُونُ الْخَصْمَانِ اثْنَيْنِ , وَقَدْ يَكُونَانِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ . 9 - وَالشَّرْطُ فِي طَرَفَيْ التَّحْكِيمِ الْأَهْلِيَّةُ الصَّحِيحَةُ لِلتَّعَاقُدِ الَّتِي قِوَامُهَا الْعَقْلُ , إذْ بِدُونِهَا لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ .(3/180)
وَلَا يَجُوزُ لِوَكِيلِ التَّحْكِيمِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ مُوَكِّلِهِ , وَكَذَلِكَ الصَّغِيرُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهِ , وَلَا يَجُوزُ التَّحْكِيمُ مِنْ عَامِلِ الْمُضَارَبَةِ إلَّا بِإِذْنِ الْمَالِكِ , وَلَا مِنْ الْوَلِيِّ وَالْوَصِيِّ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالْإِفْلَاسِ إذَا كَانَ ذَلِكَ يَضُرُّ بِالْقَاصِرِ أَوْ بِالْغُرَمَاءِ . .
حَرَجٌ التَّعْرِيفُ :(3/181)
1 - الْحَرَجُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الضِّيقِ يُقَالُ حَرَجَ الرَّجُلُ : أَثِمَ , وَصَدْرٌ حَرِجٌ : ضَيِّقٌ , وَرَجُلٌ حَرِجٌ : آثِمٌ , وَيُقَالُ : تَحَرَّجَ الْإِنْسَانُ تَحَرُّجًا أَيْ فَعَلَ فِعْلًا جَانَبَ بِهِ الْحَرَجَ , وَهَذَا مِمَّا وَرَدَ لَفْظُهُ مُخَالِفًا لِمَعْنَاهُ , وَيُطْلَقُ الْحَرَجُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعَانٍ أُخْرَى لَكِنَّهَا لَا تَخْرُجُ فِي دَلَالَتِهَا عَنْ مَعْنَى الضِّيقِ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْمَعَانِي الْمَجَازِيَّةِ كَالْإِثْمِ وَالْحَرَامِ . وَمِنْ إطْلَاقَاتِهِ أَيْضًا : الْمَوْضِعُ الَّذِي فِيهِ أَشْجَارٌ كَثِيرَةٌ لَا تَصِلُ إلَيْهِ الرَّاعِيَةُ , يُقَالُ : هَذَا مَكَانٌ حَرِجٌ أَيْ ضَيِّقٌ كَثِيرُ الشَّجَرِ . وَيُفْهَمُ مِنْ اسْتِعْمَالَاتِ الْفُقَهَاءِ لِكَلِمَةِ الْحَرَجِ أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَا تَسَبَّبَ فِي الضِّيقِ , سَوَاءٌ أَكَانَ وَاقِعًا عَلَى الْبَدَنِ , أَمْ عَلَى النَّفْسِ , أَمْ عَلَيْهِمَا مَعًا . وَأَمَّا عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ : فَهُوَ كُلِّيٌّ مُشَكِّكٌ بَعْضُ أَفْرَادِهِ أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ وَلَا يُعْتَبَرُ كُلُّ مَرْتَبَةٍ مِنْهُ , بَلْ مَا ثَبَتَ مِنْ الشَّارِعِ اعْتِبَارُهُ حَرَجًا .(3/182)
وُرُودُ لَفْظِ الْحَرَجِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ : 2 - وَرَدَ لَفْظُ الْحَرَجِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ , فَتَارَةً فُسِّرَ بِمَعْنَى الْإِثْمِ كَمَا فِي قوله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } , وَتَارَةً فُسِّرَ بِمَعْنَى الشِّدَّةِ وَالضِّيقِ كَمَا فِي قوله تعالى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } . وَكَذَلِكَ فِي السُّنَّةِ : وَرَدَتْ كَلِمَةُ الْحَرَجِ بِكَثْرَةٍ وَأَغْلَبُهَا يَعُودُ إلَى الْمَعَانِي التَّالِيَةِ : - الْإِثْمُ : كَمَا فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ } أَيْ وَلَا إثْمَ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحَدِّثُوا عَنْهُمْ مَا سَمِعْتُمْ . - الْحَرَامُ : كَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { اللَّهُمَّ إنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ : الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ } : أَيْ أُحَرِّمُ . - الضِّيقُ وَالشِّدَّةُ : كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ حِينَمَا سُئِلَ عَنْ أَسْبَابِ أَمْرِهِ الْمُؤَذِّنَ أَنْ يَقُولَ : صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ " بَدَلًا مِنْ " حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ : إنِّي كَرِهْت أَنْ أُخْرِجَكُمْ فَتَمْشُونَ فِي الطِّينِ وَالدَّحْضِ ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : أ - الرُّخْصَةُ : 3 - الرُّخْصَةُ فِي اللُّغَةِ الْيُسْرُ وَالسُّهُولَةُ يُقَالُ : رَخُصَ السِّعْرُ إذَا تَرَاجَعَ , وَسَهُلَ الشِّرَاءُ . وَفِي الشَّرِيعَةِ : عِبَارَةٌ عَمَّا وُسِّعَ لِلْمُكَلَّفِ فِي فِعْلِهِ لِعُذْرٍ , وَعَجَزَ عَنْهُ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ .(3/183)
كَتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ , وَسُقُوطِ أَدَاءِ رَمَضَانَ عَنْ الْمُسَافِرِ . وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ عِبَارَاتِ الْأُصُولِيِّينَ , وَهُوَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ لِلرُّخْصَةِ . وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الرُّخْصَةِ وَالْحَرَجِ الضِّدْيَةُ . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ : ( رُخْصَةٌ ) وَالْمُلْحَقُ الْأُصُولِيُّ . ب - الْعَزِيمَةُ : 4 - الْعَزِيمَةُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْقَصْدِ الْمُؤَكَّدِ , وَمِنْهُ قوله تعالى : { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا } . وَفِي الشَّرِيعَةِ لَهَا تَعْرِيفَاتٌ كَثِيرَةٌ أَقْرَبُهَا مَا عَرَّفَهَا بِهِ الْغَزَالِيُّ وَهُوَ : أَنَّ الْعَزِيمَةَ عِبَارَةٌ عَمَّا لَزِمَ الْعِبَادَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى " . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ : ( عَزِيمَةٌ ) وَالْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ . ج - الْمَشَقَّةُ : 5 - الْمَشَقَّةُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الْجَهْدِ وَالْعَنَاءِ وَالشِّدَّةِ , يُقَالُ : شَقَّ عَلَيْهِ الشَّيْءُ يَشُقُّ شَقًّا , وَمَشَقَّةً إذَا أَتْعَبَهُ , وَمِنْهُ قوله تعالى : { لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ } . د - الضَّرُورَةُ : 6 - الضَّرُورَةُ اسْمٌ مِنْ الِاضْطِرَارِ وَمَأْخُوذَةٌ مِنْ الضَّرَرِ , وَهُوَ ضِدُّ النَّفْعِ . وَفِي الشَّرْعِ بُلُوغُ الْإِنْسَانِ حَدًّا إنْ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْمَمْنُوعَ هَلَكَ أَوْ قَارَبَ , وَهَذَا يُبِيحُ تَنَاوُلَ الْحَرَامِ . وَتُعْتَبَرُ حَالَةُ الضَّرُورَةِ مِنْ أَعْلَى أَنْوَاعِ الْحَرَجِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّخْفِيفِ . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ : ( ضَرُورَةٌ ) وَالْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ .(3/184)
هـ - الْحَاجَةُ : 7 - الْحَاجَةُ فِي الْأَصْلِ : الِافْتِقَارُ إلَى الشَّيْءِ الَّذِي يُوَفِّرُ تَحَقُّقُهُ رَفْعَ الضِّيقِ الْمُؤَدِّي فِي الْغَالِبِ إلَى الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ اللَّاحِقَةِ بِفَوْتِ الْمَطْلُوبِ , وَلَكِنَّهَا لَوْ لَمْ تُرَاعَ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى الْمُكَلَّفِ الْفَسَادُ الْعَظِيمُ الْمُتَحَقِّقُ لِفِقْدَانِ الْمَصَالِحِ الضَّرُورِيَّةِ . كَالْجَائِعِ الَّذِي لَوْ لَمْ يَأْكُلْ لَمْ يَهْلِكْ . وَالْحَاجَةُ قَدْ تُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ لِاعْتِبَارَاتٍ مُعَيَّنَةٍ . الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ : 8 - الْحَرَجُ مَرْفُوعٌ شَرْعًا لقوله تعالى : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } قوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } وَمِنْهُ الْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ : الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ " قَالَ الْفُقَهَاءُ : عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ يَتَخَرَّجُ جَمِيعُ رُخَصِ الشَّرْعِ كَالتَّخْفِيفِ لِأَجْلِ السَّفَرِ وَالْمَرَضِ وَنَحْوِهَا . وَمِثْلُهَا قَاعِدَةُ : الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ " . كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ وَإِسَاغَةِ اللُّقْمَةِ بِالْخَمْرِ وَنَحْوِهَا . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحَرَجِ مِنْ أَحْكَامٍ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ .
قِسْمَةُ الْمِيَاهِ الْعَامَّةِ :(3/185)
4 - إذَا أَرَادَ قَوْمٌ سَقْيَ أَرَاضِيهِمْ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الْمِيَاهِ , فَإِنْ كَانَ النَّهَرُ عَظِيمًا , وَالْمَشْرَعُ وَاسِعًا يَفِي بِالْجَمِيعِ سَقَى مَنْ شَاءَ مَتَى شَاءَ , وَيَأْخُذُ مِنْهُ مَا شَاءَ . وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ قَلِيلًا أَوْ ضَاقَ الْمَشْرَعُ , سَقَى الْأَوَّلُ أَرْضَهُ ثُمَّ يُرْسِلُهُ إلَى الثَّانِي , ثُمَّ الثَّانِي إلَى الثَّالِثِ , وَهَكَذَا . هَذَا إذَا كَانَ الْأَوَّلُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْإِحْيَاءِ عَلَى الْأَسْفَلِ , أَوْ تَسَاوَيَا فِي الْإِحْيَاءِ , أَمَّا إنْ تَقَدَّمَ الْأَسْفَلُ فَيُقَدَّمُ هُوَ . فَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ عَنْ الْأَوَّلِ شَيْءٌ أَوْ عَنْ الثَّانِي أَوْ عَنْ مَنْ يَلِيهِمْ فَلَا شَيْءَ لِلْبَاقِينَ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ إلَّا مَا فَضَلَ فَلَمْ يَفْضُلْ شَيْءٌ كَالْعَصَبَةِ فِي الْمِيرَاثِ . وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ - رضي الله عنهما - قَالَ : { إنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلْ الْمَاءَ إلَى جَارِك فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ وَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِك ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ : يَا زُبَيْرُ اسْقِ ثُمَّ احْبِسْ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى الْجُدُرِ وَقَالَ الزُّبَيْرُ فَوَاَللَّهِ إنِّي لَأَحْسِبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ { فَلَا وَرَبِّك لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } .(3/186)
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ : نَظَرْنَا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : ثُمَّ احْبِسْ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ إلَى الْجُدُرِ فَكَانَ ذَلِكَ إلَى الْكَعْبَيْنِ } . 5 - وَإِنْ اسْتَوَى اثْنَانِ فِي الْقُرْبِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَرِ اقْتَسَمَا الْمَاءَ بَيْنَهُمَا إنْ أَمْكَنَ , وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا فَيُقَدَّمُ مَنْ تَقَعُ لَهُ الْقُرْعَةُ فَإِنْ كَانَ لَا يَفْضُلُ عَنْ أَحَدِهِمَا سَقَى مَنْ تَقَعُ لَهُ الْقُرْعَةُ بِقَدْرِ حَقِّهِ مِنْ الْمَاءِ ثُمَّ تَرَكَهُ لِلْآخَرِ , وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَهْلِكَ جَمِيعَ الْمَاءِ ; لِأَنَّ الْآخَرَ يُسَاوِيهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَاءِ , وَإِنَّمَا الْقُرْعَةُ لِلتَّقْدِيمِ فِي الِاسْتِيفَاءِ أَوَّلًا . لَا فِي أَصْلِ الْحَقِّ بِخِلَافِ الْأَعْلَى مَعَ الْأَسْفَلِ . فَإِنْ كَانَتْ أَرْضُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْضِ الْآخَرِ قُسِمَ الْمَاءُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ , لِأَنَّ الزَّائِدَ مِنْ أَرْضِ أَحَدِهِمَا مُسَاوٍ فِي الْقُرْبِ , فَاسْتَحَقَّ جُزْءًا مِنْ الْمَاءِ كَمَا لَوْ كَانَ لِشَخْصٍ ثَالِثٍ . 6 - وَإِنْ كَانَ لِجَمَاعَةٍ حَقُّ الشُّرْبِ فِي نَهَرٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ أَوْ سَيْلٍ وَأَحْيَا غَيْرُهُمْ أَرْضًا مَوَاتًا أَقْرَبَ إلَى رَأْسِ النَّهَرِ مِنْ أَرْضِهِمْ , لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْقِيَ قَبْلَهُمْ لِأَنَّهُمْ أَسْبَقُ مِنْهُ إلَى النَّهَرِ , وَلِأَنَّ مَنْ مَلَكَ أَرْضًا مَلَكَهَا بِحُقُوقِهَا وَمَرَافِقِهَا , وَالْمَاءُ أَهَمُّ الْمَرَافِقِ , فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حُقُوقِهَا , وَالشُّرْبُ مِنْ حُقُوقِهَا .
ب - طَاعَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :(3/187)
6 - إذَا وَجَبَ الْإِيمَانُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَصْدِيقِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا أَتَى بِهِ , وَقَدْ تَضَافَرَتْ الْأَدِلَّةُ وَتَوَاتَرَتْ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ } وَقَالَ تَعَالَى { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا } . وَقَالَ تَعَالَى { مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى طَاعَةَ رَسُولِهِ طَاعَتَهُ , وَقَرَنَ طَاعَتَهُ بِطَاعَتِهِ . قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَالْأَئِمَّةُ : طَاعَةُ الرَّسُولِ الْتِزَامُ سُنَّتِهِ وَالتَّسْلِيمُ لِمَا جَاءَ بِهِ , وَمَا أَرْسَلَ اللَّهُ مِنْ رَسُولٍ إلَّا فَرَضَ طَاعَتَهُ عَلَى مَنْ أَرْسَلَهُ إلَيْهِمْ , وَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَنْ الْكُفَّارِ فِي دَرَكَاتِ جَهَنَّمَ { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا } فَتَمَنَّوْا طَاعَتَهُ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمْ التَّمَنِّي . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ .(3/188)
وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ } وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { إذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ , وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : { إنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ , كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا فَقَالَ : يَا قَوْمِ , إنِّي رَأَيْت الْجَيْشَ بِعَيْنِي , وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ فَالنَّجَاءُ , فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ فَأَدْلَجُوا , فَانْطَلَقُوا عَلَى مَهْلِهِمْ فَنَجَوْا , وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ , فَصَبَّحَهُمْ الْجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ , فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِي فَاتَّبَعَ مَا جِئْت بِهِ , وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِي وَكَذَّبَ بِمَا جِئْت بِهِ مِنْ الْحَقِّ } . قَالَ الْجَصَّاصُ : فِي قوله تعالى { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } . دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ رَدَّ شَيْئًا مِنْ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ أَوَامِرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الْإِسْلَامِ , سَوَاءٌ رَدَّهُ مِنْ جِهَةِ الشَّكِّ فِيهِ أَوْ مِنْ جِهَةِ تَرْكِ الْقَبُولِ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ التَّسْلِيمِ , وَذَلِكَ يُوجِبُ صِحَّةَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الصَّحَابَةُ فِي حُكْمِهِمْ بِارْتِدَادِ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ , وَقَتْلِهِمْ وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ , لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِأَنَّ مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَضَاءَهُ وَحُكْمَهُ فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ .
*******************
وفي الحاوي للسيوطي :(3/189)
تنزيه الأنبياء عن تسفيه الأغبياء.
مسألة - رجل حكم بحكم فأنكره عليه قضاة بلده فقال له سلطان البلد ارجع عن هذا الحكم فإنه لم يوافقك عليه أحد فأبى وحلف أنه لا يرجع لقول أحد ولو قام الجناب العالي عليه الصلاة والسلام من قبره ما سمعت له حتى يريني النص فهل يكفر بهذا، ثم قال بعد مدة لو سبني نبي مرسل أو ملك مقرب لسببته، وصار يفتي العامة والسوقة بجواز هذا.
الجواب - أما قوله الأول وهو قوله لا يرجع لأحد ولو قام صلى الله عليه وسلم من قبره ما سمع له حتى يريه النص فهذا له ثلاثة أحوال الأول أن يكون هذا صدر منه على وجه سبق اللسان وعدم القصد وهذا هو الظن بالمسلم واللائق بحاله ولعله أراد مثلا أن يقول ولو قام مالك من قبره فسبق لسانه إلى الجناب الرفيع لحدة حصلت عنده فهذا لا يكفر ولا يعزر إذا عرف بالخير قبل ذلك ويقبل منه دعوى سبق اللسان ولا يكتفي منه في خاصة نفسه بذلك بل عليه أن يظهر الندم على ذلك وينادي على نفسه في الملأ
[ص 323](3/190)
بالخطأ ويبالغ في التوبة والاستغفار ويحثو التراب على رأسه ويكثر من الصدقة والعتق والتقرب إلى الله تعالى بوجوه البر والاستقالة من هذه العثرة، الحال الثاني أن لا يكون على وجه سبق اللسان ولا على وجه الاعتقاد الذي يذكره المصمم فيقول مثلا لو أمرني الإنس والجن بهذا ما سمعت لهم ولو روجع في خاصة نفسه لقال ما أردت ظاهر العبارة ولو قام النبي صلى الله عليه وسلم من قبره حقيقة وقال لي لبادرت إلى امتثال قوله وسمعت من غير تلعثم ولا توقف ولكن هذه عبارة قلتها على وجه المبالغة لعلمي بأن قيامه الآن من قبره وقوله لي غير كائن وهو محال عادة فهذا لا يكفي ولكنه أتى بعظيم من القول فيعزل من الحكم بين المسلمين ويعزر تعزيرا لائقا به من غير أن ينتهي إلى حد القتل، الحال الثالث أن بعظيم من القول فيعزل من الحكم بين المسلمين ويعزر تعزيرا لائقا به من غير أن ينتهي إلى حد القتل، الحال الثالث أن يكون على وجه الاعتقاد بحيث يعتقد في نفسه أنه لو كان النبي صلى الله عليه وسلم حيا وقال له الحكم بخلاف ما حكمت لم يسمع له وهذا كفر نعوذ بالله منه قال الله تعالى (قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يجب الكافرين) وقال تعالى (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) وقصة الذي حكم له النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرض بحكمه وجاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليحكم له فقتله عمر بالسيف مشهورة وقد أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، والعجب من قوله ما سمعت له حتى يريني النص وقوله صلى الله عليه وسلم نفسه هو النص فأي نص يريه بعد قوله، والظن بالمسلم إنه لا يقول ذلك عن اعتقاد والله أعلم.(3/191)
وأما قوله الثاني فمن أخطأ الخطأ وأقبحه وأشد من قول هذه المقالة في السوء الإفتاء بإباحتها فأما أصل المقالة وهو أن يقول قائل لو سبني نبي أو ملك لسببته فالجواب فيها كما قال ابن رشد وابن الحاج أن وفيه يعزر على ذلك التعزير البليغ بالضرب والحبس وأما إباحته للناس أن يقولوا ذلك فمرتبة أخرى فوق ذلك في السوء لأنه إغراء للعامة على ارتكاب الحرام أو استحلاله وغض من منصب الأنبياء والملائكة عليهم السلام وكيف يتصور أن يباح هذا لأحد والأنبياء عليهم السلام معصومون فلا يسبون إلا من أمر الشرع بسبه ومن سب
[ص 324]
بالشرع لم يجز له أن يسب سابه فالمسألة مستحيلة من أصلها فالجواب ردع هذا الرجل وزجره وهجره في الله وعليه التوبة والإنابة والإقلاع.
وفي الفصل في الملل والنحل :
كتاب الإيمان والكفر والطاعات والمعاصي والوعد والوعيد:.
حجة أهل السنة والجماعة والرد على المرجئة:.
قال أبو محمد: فإذا سقط كل ما موهت به هذه الطوائف كلها، ولم يبق لهم حجة أصلا، فلنقل - بعون الله عز وجل وتأييده - في بسط حجة القول الصحيح الذي هو قول جمهور أهل الإسلام، ومذهب الجماعة وأهل السنة وأصحاب الآثار، من أن الإيمان عقد وقول وعمل، وفي بسط ما أجملناه مما نقدنا به قول المرجئة، وبالله تعالى التوفيق.(3/192)
قال أبو محمد: أصل الإيمان - كما قلنا - في اللغة: التصديق بالقلب وباللسان معا، بأي شيء صدق المصدق لا شيء دون شيء البتة، إلا أن الله عز وجل على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقع لفظة الإيمان على العقد بالقلب لأشياء محدودة مخصوصة معروفة على العقد لكل شيء، وأوقعها أيضا تعالى على الإقرار باللسان بتلك الأشياء خاصة، لا بما سواها، وأوقعها أيضا على أعمال الجوارح لكل ما هو طاعة له تعالى فقط، فلا يحل لأحد خلاف الله تعالى فيما أنزله وحكم به، و هو تعالى خالق اللغة وأهلها، فهو أملك بتصريفها وإيقاع أسمائها على ما يشاء، ولا عجب أعجب ممن أوجد لامرئ القيس، أو لزهير، أو (الجزء/الصفحة:3/108) لجرير، أو الحطيئة، أو الطرماح، أو لأعرابي أسدي، أو سلمي، أو تميمي، أو من سائر أبناء العرب بوال على عقبيه لفظا في شعر أو نثر جملة في اللغة، وقطع به، ولم يعترض فيه، ثم إذا وجد لله تعالى خالق اللغات وأهلها كلاما لم يلتفت إليه، ولا جعله حجة، وجعل يصرفه عن وجهه، ويحرفه عن مواضعه، ويتحيل في إحالته عما أوقعه الله عليه، وإذا وجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم كلاما فعل به مثل ذلك، وتالله لقد كان محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم قبل أن يكرمه الله تعالى بالنبوة، وأيام كونه فتى بمكة بلا شك عند كل ذي مسكة من عقل، أعلم بلغة قومه وأفصح فيها، وأولى بأن يكون ما نطق به من ذلك حجة من كل خندفي، وقيسي، وربيعي، وإيادي، وتميمي، وقضاعي، وحميري، فكيف بعد أن اختصه الله تعالى للنذارة واجتباه للوساطة بينه وبين خلقه، وأجرى على لسانه كلامه، وضمن حفظه، وحفظ ما يأتي به، فأي ضلال أضل ممن يسمع لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب يقول:
فعلت فروع الأيهقان وأطفلت * لجلهتين ظباؤها ونعامها(3/193)
فجعله حجة، وأبو زياد الكلابي يقول: ما عرفت العرب قط الأيهقان، وإنما هو اللهق بيت معروف، ويسمع قول ابن أحمر كناه نقلق عن مأموسة الحجر، وعلماء اللغة يقولون: إنه لم يعرف قط لأحد من العرب أنه سمى النار مأموسة إلا ابن أحمر، فيجعله حجة.
ويجيز قول من قال من الأعراب: هذا حجر من خرب، وسائر الشواذ من معهود اللغة مما يكثر لو تكلفنا ذكره ونحتج بكل ذلك، ثم يمتنع من إيقاع اسم الإيمان على ما أوقعه عليه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله القرشي، المسترضع في بني سعد بن بكر، ويكابر في ذلك بكل باطل، وبكل حماقة، وبكل دفع للمشاهدة، ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: فمن الآيات التي أوقع الله تعالى فيها اسم الإيمان على أعمال الديانة قوله عز وجل: (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم).
قال أبو محمد: والتصديق بالشيء، أي شيء كان لا يمكن البتة أن يقع فيه زيادة ولا نقص، وكذلك التصديق بالتوحيد والنبوة لا يمكن البتة أن يكون فيه زيادة ولا نقص؛ لأنه لا يخلو كل معتقد بقلبه أو مقر بلسانه بأي شيء أقر، أو أي شيء اعتقد من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها:إما أن يصدق بما اعتقد وأقر.
وإما أن يكذب بما اعتقد.
وإما منزلة بينهما، وهي الشك.(3/194)
فمن المحال أن يكون إنسان مكذبا بما يصدق به، ومن المحال أن يشك أحد فيما يصدق به، فلم يبق إلا أنه مصدق بما اعتقد بلا شك، ولا يجوز أن يكون تصديق واحد أكثر من تصديق آخر؛ لأن أحد التصديقين إذا دخلته داخلة فبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أنه قد خرج عن التصديق ولا بد، وحصل في الشك؛ لأن معنى التصديق إنما هو أن يقع ويوقن بصحة وجود ما صدق به، ولا سبيل إلى التفاضل في هذه الصفة، فإن لم يقطع ولا أيقن بصحته فقد شك فيه، فليس مصدقا به، وإذا لم يكن مصدقا به فليس مؤمنا به، فصح أن الزيادة التي ذكر الله عز وجل في الإيمان ليست في التصديق أصلا، ولا في الاعتقاد البتة، فهي ضرورة في غير التصديق، وليس هاهنا إلا الأعمال فقط، فصح يقينا أن أعمال البر إيمان بنص القرآن، وكذلك قول الله عز وجل: (فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا)، وقوله تعالى: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا).
فإن قال قائل: معنى زيادة الإيمان هاهنا إنما هو لما نزلت تلك الآية صدقوا بها فزادهم بنزولها إيمانا تصديقا بشيء وارد لم يكن عندهم.
قيل لهم - وبالله تعالى التوفيق -: هذا محال؛ لأنه (الجزء/الصفحة:3/109) قد اعتقد المسلمون في أول إسلامهم أنهم مصدقون بكل ما يأتيهم به نبيهم عليه الصلاة والسلام في المستأنف، فلم يزدهم نزول الآية تصديقا لم يكونوا اعتقدوه، فصح أن الإيمان الذي زادتهم الآيات إنما هو العمل بها؛ الذي لم يكونوا عملوه ولا عرفوه، ولا صدقوا به قط، ولا كان جائزا لهم أن يعتقدوه ويعملوا به، بل كان فرضا عليهم تركه والتكذيب بوجوبه، والزيادة لا تكون إلا في كمية عدد، لا فيما سواه، ولا عدد للاعتقاد، ولا كمية، وإنما الكمية والعدد في الأعمال والأقوال فقط.
فإن قالوا: إن تلاوتهم لها زيادة إيمان.(3/195)
قلنا: صدقتم، وهذا هو قولنا، والتلاوة عمل بجارحة اللسان ليس إقرارا بالمعتقد، ولكنه من نوع الذكر بالتسبيح والتهليل، وقال تعالى: (وما كان الله ليضيع إيمانكم) ولم يزل أهل الإسلام قبل الجهمية والأشعرية والكرامية وسائر المرجئة مجمعين على أنه تعالى إنما عنى بذلك صلاتهم إلى بيت المقدس قبل أن ينسخ بالصلاة إلى الكعبة.
وقال عز وجل: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) وقال عز وجل: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة) فنص تعالى على أن عبادة الله تعالى في حال إخلاص الدين له تعالى، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة الواردتين في الشريعة كله دين القيمة.
وقال تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام)، وقال تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) فنص تعالى أن الدين هو الإسلام، ونص قبل على أن العبادات كلها والصلاة والزكاة هي الدين، فأنتج ذلك يقينا أن العبادات هي الدين، والدين هو الإسلام، فالعبادات هن الإسلام.
وقال عز وجل: (يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين)، وقال تعالى: (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) فهذا نص جلي على أن الإسلام هو الإيمان، وقد وجب قبل بما ذكرنا أن أعمال البر كلها هي الإسلام، والإسلام هو الإيمان، فأعمال البر كلها إيمان، وهذا برهان ضروري لا محيد عنه، وبالله تعالى التوفيق.(3/196)
وقال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) فنص تعالى وأقسم بنفسه أن لا يكون مؤمنا إلا بتحكيم النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما عن، ثم يسلم بقلبه، ولا يجد في نفسه حرجا مما قضى، فصح أن التحكيم شيء غير التسليم بالقلب، وأنه هو الإيمان الذي لا إيمان لمن لم يأت به، فصح يقينا أن الإيمان: اسم واقع على الأعمال في كل ما في الشريعة.
وقال تعالى: (ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا) فصح أن لا يكون التصديق مطلقا إيمانا إلا حتى يستضيف إليه ما نص الله تعالى عليه، ومما يتبين أن الكفر يكون بالكلام قول الله تعالى: (ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا) إلى قوله: (يا ليتني لم أشرك بربي أحدا) فأثبت الله الشرك والكفر مع إقراره بربه تعالى؛ إذ شك في البعث.
وقال تعالى: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) فصح أن من آمن ببعض الدين وكفر بشيء منه فهو كافر مع صحة تصديقه لما صدق من ذلك.(3/197)
قال أبو محمد: وأكثر الأسماء الشرعية فإنها موضوعة من عند الله تعالى على مسميات لم يعرفها العرب قط، هذا أمر لا يجهله أحد من أهل الأرض، فمن يدري اللغة العربية ويدري الأسماء (الجزء/الصفحة:3/110) الشرعية كالصلاة، فإن موضوع هذه اللفظة في لغة العرب الدعاء فقط، فأوقعها الله عز وجل على حركات محدودة معدودة من قيام موصوف إلى جهة موصوفة لا تتعدى، وركوع كذلك، وسجود كذلك، وقعود كذلك، وذكر كذلك، وقراءة كذلك، وذكر كذلك في أوقات محدودة، وبطهارة محدودة، وبلباس محدود، متى لم تكن على ذلك بطلت، ولم تكن صلاة وما عرفت العرب قط شيئا من هذا كله، فضلا عن أن تسميه حتى أتانا بهذا كله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد قال بعضهم: إن في الصلاة دعاء، فلم يخرج الاسم بذلك عن موضوعه في اللغة.
قال أبو محمد: وهذا باطل؛ لأنه لا خلاف بين أحد من الأمة في أن من أتى بعدد الركعات، وقرأ أم القرآن وقرآنا معها في كل ركعة، وأتى بعد بالركوع، والسجود، والجلوس، والقيام، والتشهد، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وسلم بتسليمتين، فقد صلى كما أمر، وإن لم يدع بشيء أصلا.
وفي الفقهاء من يقول: إن من صلى خلف الإمام فلم يقرأ أصلا ولا تشهد ولا دعا أصلا فقد صلى كما أمر، وأيضا فإن ذلك الدعاء في الصلاة لا يختلف أحد من الأمة في أنه ليس شيئا، ولا يسمى صلاة أصلا عند أحد من أهل الإسلام، فعلى كل قد أوقع الله عز وجل اسم الصلاة على أعمال غير الدعاء ولا بد، وعلى دعاء محدود لم تعرفه العرب قط، ولا عرفت إيقاع الصلاة على دعاء بعينه دون سائر الدعاء.
ومنها الزكاة: وهي موضوع في اللغة للنماء والزيادة، فأوقعها الله تعالى على إعطاء مال محدود معدود من جملة أموال ما، موصوفة محدودة معدودة معينة، دون سائر الأموال، لقوم محدودين في أوقات محدودة، فإن هو تعدى شيئا من ذلك لم يقع على فعله اسم زكاة، ولم تعرف العرب قط هذه الصفات.(3/198)
والصيام في لغة العرب: الوقوف، تقول صام النهار إذا طال، حتى صار كأنه واقف لطوله، قال امرؤ القيس:
إذا صام النهار وهجرا *
وقال آخر؛ وهو النابغة الذبياني:
خيل صيام وخيل غير صائمة * تحت العجاج وخيل تعلك اللجما
فأوقع الله تعالى اسم الصيام على الامتناع من الأكل والشرب والجماع، وتعمد القيء من وقت محدود، وهو تبين الفجر الثاني إلى غروب الشمس، في أوقات من السنة محدودة، فإن تعدى ذلك لم يسم صياما، وهذا أمر لم تعرفه العرب قط.
فظهر فساد قول من قال: إن الأسماء لا تنتقل في الشريعة عن موضوعها في اللغة، وصح أن قولهم هذا مجاهرة سمجة قبيحة.
قال أبو محمد: فإذا قد وضح وجود الزيادة في الإيمان بخلاف قول من قال: إنه التصديق؛ فبالضرورة ندري أن الزيادة تقتضي النقص ضرورة ولا بد؛ لأن معنى الزيادة إنما هي عدد مضاف إلى عدد، وإذا كان ذلك فذلك العدد المضاف إليه هو بيقين ناقص عند عدم الزيادة فيه، وقد جاء النص بذكر النقص، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم المشهور المنقول نقل الكواف أنه قال للنساء: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أسلب للرجل الحازم منكن)، قلن: يا رسول الله وما نقصان ديننا؟ قال عليه السلام: (أليس تقيم المرأة العدد من الأيام والليالي لا تصوم ولا تصلي؟ فهذا نقصان دينها).
قال أبو محمد: ولو نقص من التصديق شيء لبطل عن أن يكون تصديقا؛ لأن التصديق لا يتبعض أصلا، ولصار شكا، وبالله تعالى التوفيق.
وهم مقرون بأن امرأ لو لم يصدق بآية من القرآن، أو بسورة منه، وصدق بسائره لبطل إيمانه، فصح أن التصديق لا يتبعض أصلا.
قال أبو محمد: وقد نص الله عز وجل على أن اليهود يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، وأنهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، وقال تعالى: (فإنهم لا يكذبونك (الجزء/الصفحة:3/111) ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون.(3/199)
وأخبر تعالى عن الكفار فقال: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) فأخبر تعالى أنهم يعرفون صدقه ولا يكذبونه وهم اليهود والنصارى، وهم كفار بلا خلاف من أحد من الأمة، ومن أنكر كفرهم فلا خلاف من أحد من الأمة في كفره وخروجه عن الإسلام.
ونص تعالى عن إبليس أنه عارف بالله تعالى وبملائكته وبرسله وبالبعث، وأنه قال: (رب فأنظرني إلى يوم يبعثون)، وقال: (لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون)، وقال: (خلقتني من نار وخلقته من طين)، وكيف لا يكون مصدقا بكل ذلك وهو قد شاهد ابتداء خلق الله تعالى لآدم، وخاطبه الله تعالى خطابا كثيرا، وسأله: (ما منعك أن تسجد) وأمره بالخروج من الجنة، وأخبره أنه منظر إلى يوم الدين، وأنه ممنوع من إغواء من سبقت له الهداية، وهو مع ذلك كله كافر بلا خلاف، إما بقوله عن آدم أنا خير منه، وإما بامتناعه للسجود، لا يشك أحد في ذلك.
ولو كان الإيمان هو بالتصديق والإقرار فقط لكان جميع المخلدين في النار مع اليهود والنصارى وسائر الكفار مؤمنين؛ لأنهم كلهم مصدقون بكل ما كذبوا به في الدنيا، مقرون بكل ذلك، ولكان إبليس واليهود والنصارى في الدنيا مؤمنين ضرورة، وهذا كفر مجرد ممن أجازه، وإنما كفر أهل النار بمنعهم من الأعمال، قال تعالى: (يوم يدعون إلى السجود فلا يستطيعون).
قال أبو محمد: فلجأ هؤلاء المخاذيل إلى أن قالوا: إن اليهود والنصارى لم يعرفوا قط أن محمدا رسول الله، ومعنى قول الله تعالى: (يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) أي أنهم يميزون صورته، ويعرفون أن هذا الرجل هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي فقط.(3/200)
وأن معنى قوله تعالى: (يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل) إنما هو أنهم يجدون سوادا في بياض لا يدرون ما هو، ولا يفهمون معناه، وإن إبليس لم يقل شيئا مما ذكر الله عز وجل عنه أنه قال مجدا، بل قاله هازلا، وقال هؤلاء أيضا: إنه ليس على ظهر الأرض، ولا كان قط كافر يدري أن الله حق، وأن فرعون قط لم يتبين له أن موسى نبي بالآيات التي عمل.
قال أبو محمد: وقالوا: إذا كان الكافر يصدق أن الله حق، والتصديق إيمان في اللغة، فهو مؤمن إذاً أو فيه إيمان ليس به مؤمنا، وكلا القولين محال.
قال أبو محمد: هذه نصوص أقوالهم التي رأيناها في كتبهم، وسمعناهم منهم، وكان مما احتجوا به لهذا الكفر المجرد أن قالوا: إن الله عز وجل سمى كل من ذكرنا كفارا ومشركين، فدل ذلك على أنه علم أن في قلوبهم كفرا وشركا وجحدا.
وقال هؤلاء: إن شتم الله عز وجل، وشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كفرا، لكنه دليل على أن في قلبه كفرا.
قال أبو محمد: أما قولهم في إخبار الله تعالى عن اليهود أنهم يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، وعن اليهود والنصارى أنهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل فباطل بحت، ومجاهرة لا حياء معها؛ لأنه لو كان كما ذكروا لما كان في ذلك حجة لله تعالى عليهم، وأي معنى، أو أي فائدة في أن يجيزوا صورته، ويعرفوا أنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب فقط، أو في أن يجدوا كتابا لا يفقهون معناه، فكيف ونص الآية نفسها مكذبة لهم؛ لأنه تعالى يقول:(الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون) فنص تعالى أنهم يعلمون الحق في نبوته.(3/201)
وقال في الآية الأخرى: (يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف (الجزء/الصفحة:3/112) وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) وإنما أورد تعالى معرفتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم محتجا عليهم بذلك، لا أنه أتى من ذلك بكلام لا فائدة فيه.
وأما قولهم في إبليس، فكلام داخل في الاستخفاف بالله عز وجل وبالقرآن، لا وجه له غير هذا؛ إذ من المحال الممتنع في العقل وفي الإمكان غاية الامتناع أن يكون إبليس يوافق في هزله عين الحقيقة في أن الله تعالى كرم آدم عليه السلام عليه، وأنه تعالى أمره بالسجود فامتنع، وفي أن الله تعالى خلق آدم من طين، وخلقه من نار، وفي إخباره آدم أن الله تعالى نهاه عن الشجرة، وفي دخوله الجنة وخروجه عنها إذا خرجه الله تعالى، وفي سؤاله الله تعالى النظرة، وفي ذكره يوم يبعث العباد، وفي إخباره أن الله تعالى أغواه، وفي تهديده ذرية آدم قبل أن يكونوا، وقد شاهد الملائكة والجنة وابتداء خلق آدم، ولا سبيل إلى موافقة هازل معنيين صحيحين لا يعلمها، فكيف بهذه الأمور العظيمة.
وأخرى أن الله تعالى حاشا له من أن يجيب هازلا بما يقتضيه معنى هزله، فإنه تعالى أمره بالسجود، ثم سأله عما منعه من السجود، ثم أجابه إلى النظرة التي سأل، ثم أخرجه عن الجنة وأخبره أنه يعصم منه من شاء من ذرية آدم، وهذه كلها معان من دافعها خرج عن الإسلام لتكذيبه القرآن، وفارق المعقول لتجويزه هذه المحالات، ولحق بالمجانين الوقحاء.(3/202)
وأما قولهم: إن أخبار الله تعالى بأن هؤلاء كلهم كفار دليلا على أن في قلوبهم كفرا، وأن شتم الله تعالى ليس كفر، ولكنه دليل على أن في القلب كفرا، وإن كان كافرا لم يعرف الله تعالى قط، فهذه منهم دعاوى كاذبة مفتراة لا دليل لهم عليها ولا برهان، لا من نص، ولا من سنة صحيحة، ولا سقيمة، ولا من حجة عقل أصلا، ولا من إجماع، ولا من قياس، ولا من قول أحد من السلف قبل اللعين جهم بن صفوان، وما كان هكذا فهو باطل وإفك وزور، فسقط قولهم هذا من قرب، ولله الحمد رب العالمين.
فكيف والبرهان قائم بإبطال هذه الدعوى من القرآن، والسنن، والإجماع، والمعقول، والحس، والمشاهدة الضرورية.
فأما القرآن: فإن الله عز وجل يقول: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله).
وقال تعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون)، فأخبر تعالى بأنهم يصدقون بالله تعالى وهم مع ذلك مشركون.
وقال تعالى: (وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم).
قال أبو محمد: هذه شهادة من الله مكذبة لقول هؤلاء الضلال، لا يردها مسلم أصلا.
قال أبو محمد: وبلغنا عن بعضهم أنه قال في قول الله تعالى: (يعرفونه كما يعرفون أبناءهم): إن هذا إنكار من الله تعالى لصحة معرفتهم بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وذلك لأن الرجال لا يعرفون صحة أبنائهم على الحقيقة، وإنما هو ظن منهم.
قال أبو محمد: وهذا كفر وتحريف للكلم عن مواضعه، ويرد ما شئت منه.
قال أبو محمد: فأول ذلك أن هذا الخطاب من الله تعالى عموم للرجال والنساء من الذين أوتوا الكتاب، لا يجوز أن يخص به الرجال دون النساء، فيكون من فعل ذلك مفتريا على الله تعالى، وبيقين يدري كل مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى النساء كما بعث إلى الرجال، والخطاب بلفظ الجمع المذكر يدخل فيه بلا خلاف من أهل اللغة النساء والرجال، وقد علمنا أن النساء يعرفن أبناءهن على الحقيقة بيقين.(3/203)
والوجه الثاني: هو أن الله تعالى لم يقل: كما يعرفون من خلقنا من نطفتهم، فكان يسوغ لهذا الجاهل حينئذ هذا التمويه البارد باستكراه أيضا، وإنما قال (الجزء/الصفحة:3/113) تعالى: (كما يعرفون أبنائهم) فأضاف تعالى النبوة إليهم، فمن لم يقل أنهم أبناؤهم بعد أن جعلهم الله أبناءهم فقد كذب الله تعالى، وقد علمنا أنه ليس كل من خلق من نطفة الرجل يكون ابنه، فولد الزنا مخلوق من نطفة إنسان ليس هو أباه في حكم الديانة أصلا، وإنما أبناؤنا من جعلهم الله أبناءنا فقط، كما أن الله تعالى جعل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين منهن أمهاتنا وإن لم يلدننا، ونحن أبناؤهن وإن لم نخرج من بطونهن، فمن أنكر هذا فنحن نصدقه؛ لأنه حينئذ ليس مؤمنا، فلسن أمهاته، ولا هو ابن لهن.
والوجه الثالث: هو أن الله تعالى إنما أورد الآية مبكتا للذين أوتوا الكتاب، لا معتذرا عنهم، لكن مخبرا بأنهم يعرفون صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم بآياته، وبما وجدوا في التوراة والإنجيل معرفة قاطعة لا شك فيها كما يعرفون أبناءهم، ثم أتبع ذلك تعالى بأنهم يكتمون الحق وهم عالمون به، فبطل هذر هذا الجاهل المخذول، والحمد لله رب العالمين.
وقال عز وجل: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) فنص تعالى على أن الرشد قد تبين من الغي عموما.
وقال تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى و يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى).
وقال تعالى: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا) وهذا نص جلي من خالفه كفر في أن الكفار قد تبين لهم الحق والهدى في التوحيد والنبوة، وقد تبين له الحق، فبيقين يدري كل ذي حس سليم أنه مصدق بلا شك بقلبه.
وقال تعالى: (فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا).(3/204)
قال أبو محمد: وهذا أيضا نص جلي لا يحتمل تأويلا على أن الكفار جحدوا بألسنتهم الآيات التي أتى بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، واستيقنوا بقلوبهم أنها حق، ولم يجحدوا قط أنها كانت، وإنما جحدوا أنها من عند الله. فصح أن الذي استيقنوا منها هو الذي جحدوا، وهذا يبطل قول من قال من هذه الطائفة: إنهم إنما استيقنوا كونها، وهي عندهم حيل لا حقائق؛ إذ لو كان ذلك لكان هذا القول من ا لله تعالى كذبا - تعالى الله عن ذلك - لأنهم لم يجحدوا كونها، وإنما جحدوا أنها من عند الله، وهذا الذي جحدوا هو الذي استيقنوا بنص الآية، وقال تعالى حاكيا عن موسى عليه السلام أنه قال لفرعون: (لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر) فمن قال أن فرعون لم يعلم أن الله تعالى حق، ولا علم أن معجزات موسى حق من عند الله تعالى، فقد كذب ربه تعالى، وهذا كفر مجرد.
وقد شغب بعضهم بأن هذه الآية قرئت (لقد علمتُ) بضم التاء.
قال أبو محمد: وكلا القراءتين حق من عند الله تعالى لا يجوز أن يرد منهما شيء، فنعم موسى عليه السلام علم ذلك، وفرعون علم ذلك، فهذه نصوص القرآن.
وأما من طريق المعقول والمشاهدة والنظر فإنا نقول لهم: هل قامت حجة الله تعالى على الكفار كما قامت على المؤمنين بتبيين براهينه عز وجل لهم أم لم تقم حجة الله تعالى عليهم قط؛ إذ لم يتبين الحق قط لكافر؟
فإن قالوا: إن حجة الله تعالى لم تقم قط على كافر إذ لم يتبين الحق للكفار؛ كفروا بلا خلاف من أحد، وعذروا الكفار، وخالفوا الإجماع.
وإن أقروا أن حجة الله تعالى قد قامت على الكفار بأن الحق تبين لهم؛ صدقوا ورجعوا إلى الحق، وإلى قول أهل الإسلام.(3/205)
وبرهان آخر: إن كل أحد منا مذ عقلنا لم نزل نشاهد اليهود والنصارى فما سمعهم أحد إلا مقرين (الجزء/الصفحة:3/113) بالله تعالى وبنبوة موسى عليه السلام، وأن الله تعالى حرم على اليهود العمل في السبت والتحوم، فمن الباطل أن يتواطئوا كلهم في شرق الأرض وغربها على إعلان ما يعتقدون خلافه بلا سبب داع إلى ذلك.
وبرهان آخر: وهو أنا قد شاهدنا من النصارى واليهود طوائف لا يحصى عددهم، أسلموا وحسن إسلامهم، وكلهم أولهم عن آخرهم يخبر من استخبره متى بقوا أنهم في إسلامهم يعرفون أن الله تعالى حق، وأن نبوة موسى وهارون حق، كما كانوا يعرفون ذلك في أيام كفرهم ولا فرق، ومن أنكر هذا فقد كابر عقله وحسه ولحق بمن لا يستحق أن يكلم.
وبرهان آخر: وهو أنهم لا يختلفون في أن نقل التواتر يوجب العلم الضروري، فوجب من هذين الحكمين أن اليهود والنصارى الذين نقل إليهم ما أتى به عليه السلام من المعجزات نقل التواتر قد وقع لهم به العلم الضروري بصحة نبوته من أجلها، وهذا لا محيد لهم عنه، وبالله تعالى التوفيق.
وأما قولهم: إن شتم الله تعالى ليس كفرا، وكذلك شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو دعوى؛ لأن الله تعالى قال: (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم) فنص تعالى على أن من الكلام ما هو كفر.
وقال تعالى: (وإذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم) فنص تعالى أن من الكلام في آيات الله تعالى ما هو كفر بعينه مسموع.(3/206)
وقال تعالى: (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة) فنص تعالى على أن الاستهزاء بالله تعالى أو بآياته أو برسول من رسله كفر، فخرج عن الإيمان، ولم يقل تعالى في ذلك إني علمت أن في قلوبكم كفرا، بل جعلهم كفارا بنفس الاستهزاء، ومن ادعى غير هذا فقد قوَّل الله تعالى ما لم يقل، وكذب على الله تعالى.
وقال عز وجل: (إنما النسيء زيادة في الكفر يُضَل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليوطؤا عدة ما حرم الله).
قال أبو محمد: وبحكم اللغة التي بها نزل القرآن أن الزيادة في الشيء لا تكون البتة إلا منه لا من غيره، فصح أن النسيء كفر، وهو عمل من الأعمال، وهو تحليل ما حرم الله تعالى، فمن أحل ما حرم الله تعالى وهو عالم بأن الله تعالى حرمه فهو كافر بذلك الفعل نفسه، وكل من حرم ما أحل الله تعالى فقد أحل ما حرم الله عز وجل؛ لأن الله تعالى حرم على الناس أن يحرموا ما أحل الله.
وأما خلاف الإجماع: فإن جميع أهل الإسلام لا يختلفون فيمن أعلن جحد الله تعالى، أو جحد رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه محكوم له بحكم (الجزء/الصفحة:3/114) الكفر قطعا، إما القتل، وإما أخذ الجزية وسائر أحكام الكفر، وما شك قط أحد في هل هم في باطن أمرهم مؤمنون أم لا، ولا فكروا في هذا لا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من أصحابه، ولا أحد ممن بعدهم.
وأما قولهم: إن الكفار إذا كانوا مصدقين بالله تعالى وبنبيه صلى الله عليه وسلم بقلوبهم، والتصديق في اللغة التي بها نزل القرآن هو الإيمان، ففيهم بلا شك إيمان، فالواجب أن يكونوا بإيمانهم ذلك مؤمنين، أو أن يكون فيهم إيمان ليسوا بكونه فيهم مؤمنين، ولا بد من أحد الأمرين.(3/207)
قال أبو محمد: وهذا تمويه فاسد؛ لأن التسمية - كما قدمنا - لله تعالى لا لأحد دونه، وقد أوضحنا البراهين على أن الله تعالى نقل اسم الإيمان في الشريعة عن موضوعه في اللغة إلى معنى آخر، وحرم في الديانة إيقاع اسم الإيمان على التصديق المطلق، ولولا نقل الله تعالى للفظة الإيمان - كما ذكرنا - (الجزء/الصفحة:3/115) لوجب أن يسمى كل كافر على وجه الأرض مؤمنا، وأن يخبر عنهم بأن فيهم إيمانا؛ لأنهم مؤمنون، ولا بد بأشياء كثيرة مما في العالم يصدقون بها، هذا لا ينكره ذو مسكة من عقل، فلما صح إجماعنا وإجماعهم وإجماع كل من ينتمي إلى الإسلام على أنهم وإن صدقوا بأشياء كثيرة فإنه لا يحل لأحد أن يسميهم مؤمنين على الإطلاق، ولا أن يقول: إن لهم إيمانا مطلقا أصلا؛ لم يجز لأحد أن يقول في الكافر المصدق بقلبه ولسانه بأن الله تعالى حق، والمصدق بقلبه أن محمدا رسول الله أنه مؤمن، ولا أن فيه إيمانا أصلا، إلا حتى يأتي بما نقل الله تعالى إليه اسم الإيمان من التصديق بقلبه ولسانه، بأن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن كل ما جاء به حق، وأنه بريء من كل دين غير دينه، ثم يتمادى بإقراره على ما لا يتم إيمان إلا بالإقرار به حتى يموت.
لكنا نقول: إن في الكافر تصديقا بالله تعالى هو به مصدق بالله تعالى، وليس بذلك مؤمنا، ولا فيه إيمان، كما أمرنا الله تعالى لا كما أمر جهم والأشعري.
قال أبو محمد: فبطل هذا القول المتفق على تكفير قائله، وقد نص على تكفيرهم أبو عبيد القاسم في كتابه المعروف برسالة الإيمان وغيره، ولنا كتاب كبير نقضنا فيه شبه أهل هذه المقالة الفاسدة، كتبناه على رجل منهم يسمى عطاف بن دوناس من أهل قيروان إفريقية، وبالله تعالى التوفيق.
اعتراضات للمرجئية الطبقات الثلاث المذكورة:.
هل التصديق يتفاضل؟:.(3/208)
قال أبو محمد: فإن قال قائل: من أين قلتم: إن التصديق لا يتفاضل، ونحن نجد خضرة أشد من خضرة، وشجاعة أشد من شجاعة، لا سيما والشجاعة والتصديق كيفيات من صفات النفس معا؟
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق -: إن كل ما قبل من الكيفيات الأشد والأضعف فإنما يقبلهما بمزاج يداخله من كيفية أخرى، ولا يكون ذلك إلا فيما بينه وبين ضده، منها وسائط قد تمازج كل واحد من الضدين، أو فيما جاز امتزاج الضدين فيه، كما نجد بين الخضرة والبياض وسائط من حمرة وصفرة تمازجهما، فتولد حينئذ بالممازجة الشدة والضعف.
وكالصحة التي هي اعتدال مزاج العضو، فإذا مازج ذلك الاعتدال فضل ما كان مرضه بحسب ما مازجه في الشدة والضعف.
والشجاعة: إنما هي استسهال النفس للثبات والإقدام عند المعارضة في اللقاء، فإذا ثبت الاثنان فإثباتا واحدا وإقداما إقداما مستويا، فهما في الشجاعة سواء، وإذا ثبت أحدهما أو أقدم فوق ثبات الآخر، وإقدامه كان أشجع منه، وكان الآخر قد مازج ثباته أو إقدامه جبن.
وأما ما كان من الكيفيات لا يقبل المزاج أصلا فلا سبيل إلى وجود التفاضل فيه، وكل ذلك على حسب ما خلقه الله عز وجل من كل ذلك ولا مزيد.
كاللون فإنه لا سبيل إلى أن يكون لون أشد دخولا في أنه لون من لون آخر؛ إذ لو مازج الصدق غيره لصار كذبا في الوقت، ولو مازج التصديق شيئا غيره لصار شكا في الوقت، وبطل التصديق جملة، وبالله تعالى التوفيق.
والإيمان: قد قلنا أنه ليس هو التصديق وحده، بل أشياء مع التصديق كثيرة، فإنما دخل التفاضل في كثرة تلك الأشياء وقلتها، وفي كيفية إيرادها، وبالله تعالى التوفيق.(3/209)
وهكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه يخرج من النار من في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، ثم من في قلبه مثقال برة من إيمان، ثم من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، إلى أدنى أدنى من ذلك) إنما أراد عليه السلام من قصد إلى عمل شيء من الخير، أو هم به ولم يعمله بعد أن يكون مصدقا بقلبه بالإسلام، مقرا بلسانه، كما في الحديث المذكور، (من قال لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال كذا).
قال أبو محمد: ومن النصوص على أن الأعمال إيمان قول الله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) فنص تعالى نصا جليا لا يحتمل تأويلا، وأقسم تعالى بنفسه أنه لا يؤمن أحد إلا من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينه وبين غيره، ثم يسلم لما حكم به عليه السلام، ولا يجد في نفسه حرجا مما قضى، وهذه كلها أعمال باللسان وبالجوارح غير التصديق بلا شك، وفي هذا كفاية لمن عقل.
قال أبو محمد: ومن العجب قولهم: إن الصلاة والصيام والزكاة ليست إيمانا، لكنها شرائع الإيمان.
قال أبو محمد: هذه تسمية لم يأذن الله تعالى بها، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من (الجزء/الصفحة:3/124) الصحابة رضي الله عنهم، بل الإسلام هو الإيمان، وهو الشرائع، والشرائع هي الإيمان والإسلام، وبالله تعالى التوفيق.
حجج من قال بكفر المخالف في الاعتقادات والرد عليه:.
واحتج من كفر بالخلاف في الاعتقادات بأشياء نوردها إن شاء الله عز وجل.
قال أبو محمد: ذكروا حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن القدرية والمرجئية مجوس بهذه الأمة)، (وحديثا آخر تفترق هذه الأمة على بضع وسبعين فرقة كلها في النار حاشا واحدة فهي في الجنة).
قال أبو محمد: هذان حديثان لا يصحان أصلا من طريق الإسناد، وما كان هكذا فليس حجة عند من يقول بخبر الواحد، فكيف من لا يقول به.(3/210)
واحتجوا بالخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه يا كافر فقد باء بالكفر أحدهما).
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه؛ لأن لفظه يقتضي أنه يأثم برميه للكفر، ولم يقل عليه السلام أنه بذلك كافر.
قال أبو محمد: والجمهور من المحتجين بهذا الخبر لا يكفرون من قال لمسلم يا كافر في مشاتمة تجري بينهما، وبهذا خالفوا الخبر الذي احتجوا به.
قال أبو محمد: والحق هو أن كل من ثبت له عقد الإسلام فإنه لا يزول عنه إلا بنص أو إجماع، وأما بالدعوى والافتراء فلا؛ فوجب أن لا يكفر أحد بقول قاله إلا بأن يخالف ما قد صح عنده أن الله تعالى قاله أو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله، فيستجيز خلاف الله تعالى وخلاف رسوله عليه الصلاة والسلام، وسواء كان ذلك في عقد دين، أو في نحلة، أو في فتيا، وسواء كان ما صح من ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منقولا نقل إجماع تواتر أو نقل آحاد، إلا أن من خالف الإجماع المتيقن المقطوع على صحته، فهو أظهر في قطع حجته، ووجوب تكفيره لاتفاق الجميع على معرفة الإجماع، وعلى تكفير مخالفته.
برهان صحة قولنا قول الله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا).
قال أبو محمد: هذه الآية نص بتكفير من فعل ذلك.
فإن قال قائل: إن من اتبع غير سبيل المؤمنين فليس من المؤمنين.
قلنا له - وبالله تعالى التوفيق - ليس كل من اتبع غير سبيل المؤمنين كافرا؛ لأن الزنا وشرب الخمر وأكل أموال الناس بالباطل ليست من سبيل المؤمنين، وقد علمنا أن من اتبعها فقد اتبع غير سبيل المؤمنين، وليس مع ذلك كافرا، ولكن البرهان في هذا قول الله عز وجل: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما).(3/211)
قال أبو محمد: فهذا هو النص الذي لا يحتمل تأويلا، ولا جاء نص يخرجه عن ظاهره أصلا، (الجزء/الصفحة:3/139) ولا جاء برهان بتخصيصه في بعض وجوه الإيمان.
قال أبو محمد: وأما ما لم تقم الحجة على المخالف للحق في أي شيء كان، فلا يكون كافرا إلا أن يأتي نص بتكفيره، فيوقف عنده كمن بلغه، وهو في أقاصي الزنج ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فقط فيمسك عن البحث عن خبره، فإنه كافر.
فإن قال قائل: فما تقولون فيمن قال: أنا أشهد أن محمدا رسول الله، ولا أدري أهو قرشي أم تميمي أم فارسي، ولا هل كان بالحجاز أو بخراسان، ولا أدري أحي هو أو ميت، ولا أدري لعله هذا الرجل الحاضر أم غيره؟
قيل له: إن كان جاهلا لا علم عنده بشيء من الأخبار والسير لم يضره ذلك شيئا، ووجب تعليمه.
فإذا علم وصح عنده الحق:
فإن عاند فهو كافر حلال دمه وماله، محكوم عليه بحكم المرتد، وقد علمنا أن كثيرا ممن يتعاطى الفتيا في دين الله عز وجل نعم، وكثيرا من الصالحين لا يدري كم لموت النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أين كان، ولا في أي بلد كان، ويكفيه من كل ذلك إقراره بقلبه ولسانه أن رجلا اسمه محمد أرسله الله تعالى إلينا بهذا الدين.
قال أبو محمد: وكذلك من قال: إن ربه جسم؛ فإنه إن كان جاهلا أو متأولا فهو معذور لا شيء عليه، ويجب تعليمه.
فإذا قامت عليه الحجة من القرآن والسنن فخالف ما فيهما عنادا فهو كافر يحكم عليه بحكم المرتد.
وأما من قال: إن الله عز وجل هو فلان لإنسان بعينه، أو أن الله تعالى يحل في جسم من أجسام خلقه، أو أن بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبيا غير عيسى بن مريم، فإنه لا يختلف اثنان في تكفيره لصحة قيام الحجة بكل هذا على كل أحد، ولو أمكن أن يوجد أحد يدين بهذا لم يبلغه قط خلافه لما وجب تكفيره حتى تقوم الحجة عليه.
الكلام فيمن يكفر ولا يكفر:.
الرد على من كفر من سب الصحابة:.(3/212)
قال أبو محمد: واحتج بعض من يكفر من سب الصحابة رضي الله عنهم بقول الله عز وجل: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم) إلى قوله: (ليغيظ بهم الكفار) قال فكل من أغاظه أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر.
قال أبو محمد: وقد أخطأ من حمل الآية على هذا؛ لأن الله عز وجل لم يقل قط أن كل من غاظه واحد منهم فهو كافر، وإنما أخبر تعالى أنه يغيظ بهم الكفار فقط، ونعم هذا حق لا ينكره مسلم، وكل مسلم فهو يغيظ الكفار.
وأيضا فإنه لا يشك أحد ذو حس سليم في أن عليا قد غاظ معاوية، وأن معاوية وعمرو بن العاص غاظا عليا، وأن عمار أغاظ أبا العادية، وكلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد غاظ بعضهم بعضا، فيلزم على هذا تكفير من ذكرنا، وحاشا لله من هذا.
قال أبو محمد: ونقول لمن كفر إنسانا بنفس مقالته دون أن تقوم عليه الحجة، فيعاند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجد في نفسه الحرج مما أتى به: أخبرنا هل ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من الإسلام الذي يكفر من لم يقل به إلا وقد بينه ودعا إليه الناس كافة؟فلا بد من نعم، ومن أنكر هذا كافر بلا خلاف، فإذا أقر بذلك سئل هل جاء قط عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يقبل إيمان أهل قرية، أو أهل محلة، أو إنسان أتاه من حر، أو عبدا لو امرأة إلا حتى يقر أن الاستطاعة قبل الفعل، أو مع الفعل، أو أن القرآن مخلوق، أو أن الله تعالى يرى، أو لا يرى، أو أن له سمعا، أو بصرا، أو حياة، أو غير ذلك من فضول المتكلمين التي أوقعها الشيطان بينهم ليوقع بينهم العداوة والبغضاء؟(3/213)
فإن ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدع، أحدا يسلم إلا حتى يوقفه على هذه المعاني كان قد كذب بإجماع المسلمين من أهل الأرض، وقال ما يدري أنه فيه كاذب، وادعى أن جميع الصحابة رضي الله عنهم تواطئوا على كتمان ذلك من فعله عليه السلام، وهذا المحال ممتنع في الطبيعة، ثم فيه نسبة الكفر إليهم؛ إذ كتموا ما لا يتم إسلام أحد إلا به.
وإن قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم لم يدع قط أحد إلى شيء من هذا، ولكنه مودع في القرآن، وفي كلامه صلى الله عليه وسلم.
قيل له: صدقت، وقد صح بهذا أنه لو كان جهل شيء من هذا كله كفرا لما ضيع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان ذلك للحرة والعبد، والحر والأمة.
ومن جوز هذا فقد قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبلغ كما أمر، وهذا كفر مجرد ممن أجازه، فصح ضرورة أن الجهل بكل ذلك لا يضر شيئا، وإنما يلزم الكلام منها إذا خاض فيها الناس، فيلزم حينئذ بيان الحق من القرآن والسنة؛ لقول الله عز وجل: (كونوا قوامين لله شهداء بالقسط)، ولقول الله عز جل: (لتبيننه للناس ولا تكتمونه) فمن عند حينئذ بعد بيان الحق فهو كافر؛ لأنه لم يحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سلم لما قضى به، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلا لم يعمل خيرا قط، فلما حضره الموت قال لأهله: إذا مت فأحرقوني ثم ذروا رمادي في يوم راح، نصفه في البحر، ونصفه في البر، فوالله لئن قدر الله تعالى علي ليعذبني عذابا لم يعذبه أحدا من خلقه، وأن الله عز جل جمع رماده فأحياه وسأله ما حملك على ذلك؟ قال: خوفك يا رب، وأن الله تعالى غفر له لهذا القول.(3/214)
قال أبو محمد: فهذا إنسان جهل إلى أن مات أن الله عز وجل يقدر على جمع رماده وإحيائه، وقد غفر له لإقراره وخوفه وجهله، وقد قال بعض من يحرف الكلم عن مواضعه أن معنى لئن قدر الله علي: إنما هو لئن ضيق الله علي، كما قال تعالى: (وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه). (الجزء/الصفحة:3/141)
قال أبو محمد: وهذا تأويل باطل لا يمكن؛ لأنه كان يكون معناه حينئذ لئن ضيق الله علي ليضيقن علي، وأيضا فلو كان هذا لما كان لأمره بأن يحرق ويذر رماده معنى، ولا شك في أنه إنما أمره بذلك ليفلت من عذاب الله تعالى.
قال أبو محمد: وأبين من شيء في هذا قول الله تعالى: (وإذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء) إلى قوله: (ونعلم أن قد صدقتنا) فهؤلاء الحواريون الذين أثنى الله عز وجل عليهم قد قالوا بالجهل لعيسى عليه السلام هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ ولم يبطل بذلك إيمانهم، وهذا ما لا مخلص منه، وإنما كانوا يكفرون لو قالوا ذلك بعد قيام الحجة وتبيينهم لها.
قال أبو محمد: وبرهان ضروري لا خلاف فيه، وهو أن الأمة مجمعة كلها بلا خلاف من أحد منهم، وهو أن كل من بدل آية من القرآن عامدا، وهو يدري أنها في المصاحف بخلاف ذلك، وأسقط كلمة عمدا كذلك، أو زاد فيها كلمة عامدا، فإنه كافر بإجماع الأمة كلها، ثم إن المرء يخطئ في التلاوة، فيزيد كلمة وينقص أخرى، ويبدل كلامه جاهلا، مقدرا أنه مصيب، ويكابر في ذلك، ويناظر قبل أن يتبين له الحق، ولا يكون بذلك عند أحد من الأمة كافرا ولا فاسقا ولا آثما، فإذا وقف على المصاحف أو أخبره بذلك من القراء من تقوم الحجة بخبره، فإن تمادى على خطئه فهو عند الأمة كلها كافر بذلك لا محالة، وهذا هو الحكم الجاري في جميع الديانة.
قال أبو محمد: واحتج بعضهم بأن قال الله تعالى: (قل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا).(3/215)
قال أبو محمد: وآخر هذه الآية مبطل لتأويلهم؛ لأن الله عز وجل وصل قوله: (يحسنون صنعا) بقوله: (أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا) فهذا يبين أن أول الآية في الكفار المخالفين لديانة الإسلام جملة.
ثم نقول لهم: لو نزلت هذه الآية في المتأولين من جملة أهل الإسلام - كما تزعمون - لدخل في جملتها كل متأول مخطئ في تأويل في فتيا لزمه تكفير جميع الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنهم قد اختلفوا، وبيقين ندري أن كل امرئ منهم فقد يصيب ويخطئ بل يلزمه تكفير جميع الأمة؛ لأنهم كلهم لا بد من أن يصيب كل امرئ منهم ويخطئ، بل يلزمه تكفير نفسه؛ لأنه لا بد لكل من تكلم في شيء من الديانة من أن يرجع عن قول قاله إلى قول آخر يتبين أنه أصح، إلا أن يكون مقلدا فهذه أسوأ؛ لأن التقليد خطأ كله لا يصح، ومن بلغ إلى هاهنا فقد لاح غوامر قوله، وبالله تعالى التوفيق.
وقد أقر عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يفهم آية الكلالة، فما كفره بذلك ولا فسقه، ولا أخبره أنه آثم بذلك، لكن أغلظ له في كثرة تكراره السؤال عنها فقط.
وكذلك أخطأ جماعة من الصحابة رضي الله عنهم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتيا، فبلغه عليه السلام ذلك، فما كفر بذلك أحدا منهم، ولا فسقه، ولا جعله بذلك آثما؛ لأنه لم يعانده عليه السلام أحد منهم.(3/216)
وهذا كفتيا أبي السنابل بن بعكك في آخر الأجلين، والذين أفتوا على الزاني غير المحصن الرجم، وقد تقصينا هذا في كتابنا المرسوم بكتاب الإحكام في أصول الأحكام، هذا وأيضا فإن الآية المذكورة (الجزء/الصفحة:3/142) لا تخرج على قول أحد ممن خالفنا إلا بحذف، وذلك أنهم يقولون: إن الذين في قوله تعالى: (الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا) هو خبرا ابتداء مضمر، ولا يكون ذلك إلا بحذف الابتداء، كأنه قال: هم الذين، ولا يجوز لأحد أن يقول في القرآن حذفا إلا بنص آخر جلي يوجب ذلك، أو إجماع على ذلك، أو ضرورة حس، فبطل قولهم، وصار دعوى بلا دليل.
وأما نحن فإن لفظة الدين عندنا على موضوعها دون حذف، وهو نعت للأخسرين، ويكون خبرا لابتداء قوله تعالى: (أولئك الذين كفروا)، وكذلك قوله تعالى: (ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون) فنعم هذه صفة القوم الذين وصفهم الله تعالى بهذا في أول الآية، ورد الضمير إليهم وهم الكفار بنص أول الآية.
وقال قائلهم: فإذا عذرتم للمجتهدين إذا أخطئوا فاعذروا اليهود والنصارى والمجوس وسائر الملل، فإنهم أيضا مجتهدون قاصدون الخير.
فجوابنا - والله تعالى التوفيق -: إننا لم نعذر من عذرنا بآرائنا، ولا كفرنا من كفرنا بظننا، وهو أنا، وهذه خطة لم يؤتها الله عز وجل أحد دونه، ولا يدخل الجنة والنار أحدا، بل الله تعالى يدخلها من شاء، فنحن لا نسمي بالإيمان إلا من سماه الله تعالى به، كل ذلك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يختلف اثنان من أهل الأرض - لا نقول من المسلمين، بل من كل ملة - في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع بالكفر على أهل كل ملة غير الإسلام الذين تبرأ أهله من كل ملة، حاشا التي أتاهم بها عليه السلام فقط، فوقفنا عند ذلك.
ولا يختلف أيضا اثنان في أنه عليه السلام قطع باسم الإيمان على كل من اتبعه، وصدق بكل ما جاء به، وتبرأ من كل دين سوى ذلك، فوقفنا أيضا عند ذلك، ولا مزيد.(3/217)
فمن جاء نص في إخراجه عن الإسلام بعد حصول اسم الإسلام له أخرجناه منه، سواء أجمع على خروجه منه أو لم يجمع، وكذلك من أجمع أهل الإسلام على خروجه عن الإسلام فواجب اتباع الإجماع في ذلك، وأما من لا نص في خروجه عن الإسلام بعد حصول الإسلام له، ولا إجماع في خروجه أيضا عنه فلا يجوز إخراجه عما قد صح يقينا حصوله فيه.
وقد نص الله تعالى على ما قلنا، فقال: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين).
وقال تعالى: (ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا).
وقال تعالى: (قل أبالله وآياته ورسله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم).
فهؤلاء كلهم كفار بالنص، وصح الإجماع على أن كل من جحد شيئا صح عندنا بالإجماع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى به فقد كفر، وصح بالنص أن كل من استهزأ بالله تعالى، أو بملك من الملائكة، أو بنبي من الأنبياء عليهم السلام، أو بآية من القرآن، أو بفريضة من فرائض الدين، فهي كلها آيات الله تعالى بعد بلوغ الحجة إليه فهو كافر، ومن قال بنبي بعد النبي عليه الصلاة والسلام، أو جحد شيئا صح عنده بأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، فهو كافر؛ لأنه لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينه وبين خصمه.
قال أبو محمد: وقد شقق أصحاب الكلام فقالوا: ما تقولون فيمن قال له النبي صلى الله عليه وسلم: قم صل، فقال: لا أفعل، أو قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ناولني ذلك السيف أدفع به عن نفسي، فقال له: لا أفعل.
قال أبو محمد: وهذا أمر قد كفوا وقوعه، ولا فضول أعظم من فضول من اشتغل بشيء (الجزء/الصفحة:3/143) قد أيقن أنه لا يكون أبدا، ولكن الذي كان ووقع فإننا نتكلم فيه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(3/218)
قال أبو محمد: قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل أهل الأرض؛ وهم أهل الحديبية، بأن يحلقوا وينحروا فتوقفوا حتى أمرهم ثلاثا، وغضب عليه السلام، وشكا ذلك إلى أم سلمة، فما كفروا بذلك، ولكن كانت معصية تداركهم الله بالتوبة منها، وما قال مسلم قط أنهم كفروا بذلك؛ لأنهم لم يعاندوه ولا كذبوه.
وقد قال سعد بن عبادة: والله يا رسول الله لأن وجدت لكاع يتفخذها رجل أدعهما حتى آتي بأربعة شهداء، قال: (نعم)، قال: إذن والله يقضي إربه، والله لأتجللنهما بالسيف.
فلم يكن بذلك كافرا؛ إذ لم يكن عاندا ولا مكذبا، بل أقر أنه يدري أن الله تعالى أمر بخلاف ذلك.
وسألوا أيضا عمن قال: أنا أدري أن الحج إلى مكة فرض، ولكن لا أدري أهي بالحجاز أم بخراسان أم بالأندلس؟
وأنا أدري أن الخنزير حرام، ولكن لا أدري أهو هذا الموصوف الأقرن أم الذي يحرث به؟
قال أبو محمد: وجوابنا: هو أن من قال هذا فإن كان جاهلا علم، ولا شيء عليه، فإن المشببين لا يعرفون هذا إذا أسلموا حتى يعلموا.
وإن كان عالما فهو عابث مستهزئ بآيات الله تعالى؛ فهو كافر مرتد، حلال الدم والمال.
ومن قذف عائشة رضي الله عنها فهو كافر؛ لتكذيبه القرآن، وقد قذفها مسطح وحمنة فلم يكفرا؛ لأنهما لم يكونا حينئذ مكذبين لله تعالى، ولو قذفاها بعد نزول الآية لكفرا.
وأما من سب أحدا من الصحابة رضي الله عنهم:
فإن كان جاهلا فمعذور.
وإن قامت عليه الحجة فتمادى غير معاند فهو فاسق، كمن زنى وسرق.
وإن عاند الله تعالى في ذلك ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو كافر.
وقد قال عمر رضي الله عنه بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم عن حاطب، وحاطب مهاجر بدري: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فما كان عمر بتكفيره حاطبا كافرا، بل كان مخطئا متأولا.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (آية النفاق بغض الأنصار)، وقال لعلي: (لا يبغضك إلا منافق)(3/219)
قال أبو محمد: ومن أبغض الأنصار لأجل نصرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر؛ لأنه وجد الحرج في نفسه مما قد قضى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من إظهار الإيمان بأيديهم، ومن عادى عليا لمثل ذلك فهو أيضا كافر، وكذلك من عادى من ينصر الإسلام لأجل نصرة الإسلام لا لغير ذلك.
وقد فرق بعضهم بين الاختلاف في الفتيا والاختلاف في الاعتقاد، بأن قال: قد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتيا، فلم يكفر بعضهم بعضا، ولا فسق بعضهم بعضا.
قال أبو محمد: وهذا ليس بشيء، فقد حدث إنكار القدر في أيامهم، فما كفرهم أكثر الصحابة رضي الله عنهم، وقد اختلفوا في الفتيا واقتتلوا على ذلك، وسفكت الدماء، كاختلافهم في تقديم بيعة علي على النظر في قتلة عثمان رضي الله عنهم.
وقد قال ابن عباس رضي الله عنه: من شاء باهلته عند الحجر الأسود أن الذي أحصى رمل عالج لم يجعل في فريضة واحدة نصفا ونصفا وثلثا.
قال أبو محمد: وهنا أقوال غريبة جدا فاسدة، منها: أن أقواما من الخوارج قالوا: كل معصية فيها حد فليست كفرا، وكل معصية لاحد فيها فهي كفر.
قال أبو محمد: وهذا تحكم بلا برهان، ودعوى بلا دليل، وما كان هكذا فهو باطل، قال تعالى (الجزء/الصفحة:3/144): (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) فصح أن من لا برهان له على قوله فليس صادقا فيه.
قال أبو محمد: فصح بما قلنا: أن كل من كان على غير الإسلام وقد بلغه أمر الإسلام فهو كافر، ومن تأول من أهل الإسلام فأخطأ:
فإن كان لم تقم عليه الحجة ولا تبين له الحق فهو معذور مأجور أجرا واحدا؛ لطلبه الحق، وقصده إليه، مغفور له خطؤه؛ إذ لم يتعمده، لقول الله تعالى: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم).
وإن كان مصيبا فله أجران، أجر لإصابته، وأجر آخر لطلبه إياه.(3/220)
وإن كان قد قامت الحجة عليه وتبين له الحق فعند عن الحق غير معارض له تعالى، ولا لرسوله صلى الله عليه وسلم، فهو فاسق لجراءته على الله تعالى بإصراره على الأمر الحرام، فإن عند عن الحق معارضا لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم فهو كافر مرتد، حلال الدم والمال، لا فرق في هذه الأحكام بين الخطأ في الاعتقاد في أي شيء كان من الشريعة، وبين الخطأ في الفتيا في أي شيء كان على ما بينا قبل.
قال أبو محمد: ونحن نختصر هاهنا إن شاء الله تعالى ونوضح كل ما أطلنا فيه.
قال تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا).
وقال تعالى: (لأنذركم به ومن بلغ).
وقال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما).
فهذه الآيات فيها بيان جميع هذا الباب، فصح أنه لا يكفر أحد حتى يبلغه أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن بلغه فلم يؤمن به فهو كافر.
فإن آمن به ثم اعتقد ما شاء الله أن يعتقده في نحلة، أو فتيا، أو عمل ما شاء الله تعالى أن يعمله دون أن يبلغه في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بخلاف ما اعتقد، أو ما قال، أو عمل فلا شيء عليه أصلا حتى يبلغه.
فإن بلغه وصح عنده؛ فإن خالفه مجتهدا فيما لم يبين له وجه الحق في ذلك فهو مخطئ معذور مأجور مرة واحدة، كما قال عليه السلام: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر)، وكل معتقد أو قائل أو عامل فهو حاكم في ذلك الشيء.
وإن خالفه بعمله معاندا للحق معتقدا بخلاف ما عمل به فهو مؤمن فاسق.
وإن خالفه معاندا بقوله أو قلبه فهو كافر مشرك، سواء ذلك في المعتقدات والفتيا للنصوص التي أوردنا، وهو قول إسحاق بن راهويه وغيره، وبه نقول، وبالله تعالى التوفيق.
حجج القائلين بوقوع المعصية من النبي صلى الله عليه وسلم والرد عليهم:.
قال أبو محمد: وذكروا قول الله تعالى: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم).(3/221)
وقوله تعالى: (عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى).
وبالحديث الكاذب الذي لم يصح قط في قراءته عليه السلام في: (والنجم إذا هوى) وذكروا تلك الزيادة المفتراة التي تشبه من وضعها من قولهم: وإنها لهي الغرانيق العلى وأن شفاعتها لترتجى.
وذكروا قول الله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته).
وبقوله تعالى: (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله) وأن الوحي امتسك عنه عليه السلام لتركه الاستثناء إذ سأله اليهود عن الروح، وعن ذي القرنين، وأصحاب الكهف.
وبقوله تعالى: (وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه).
وبما روي من قوله عليه السلام: (لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة) إذ قبل الفداء وترك قتل الأسرى ببدر.
وبما روي من قوله عليه السلام: (لو نزل عذاب ما نجا منه إلا عمر) لأن عمر أشار بقتلهم.
وذكروا أنه عليه السلام مال إلى رأي أبي بكر في الفداء والاستبقاء.
وبقوله تعالى: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر).
قالوا: فإن لم يكن له ذنب فماذا غفر له، وبأي شيء امتن الله عليه في ذلك.(3/222)
وبقوله صلى الله عليه وسلم: (لو دعيت إلى ما دعي إليه يوسف لأجبت) فإنما هذا إذ دعي إلى الخروج من السجن فلم يجب إلى الخروج، حتى قال للرسول: (ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم) فأمسك عن الخروج من السجن، وقد دعي إلى الخروج عنه حتى اعترف النسوة بذنبهن وبراءته، وتيقن بذلك ما كان شك فيه، فأخبر محمد صلى الله عليه وسلم أنه لو دعي إلى الخروج من السجن لأجاب، وهذا التفسير منصوص في الحديث نفسه كما ذكرنا من كلامه عليه السلام: (لو لبثت في السجن ما لبث يوسف عليه السلام ثم دعيت لأجبت الداعي) أو كلاما هذا معناه.
وأما قول الله عز وجل: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) فقد بينا أن ذنوب الأنبياء عليهم السلام ليست إلا ما وقع بنسيان أو بقصد إلى ما يظنون خيرا مما لا يوافقون مراد الله تعالى منهم، فهذان الوجهان هما اللذان غفر الله عز وجل له.
وأما قوله: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) فإنما الخطاب في ذلك للمسلمين، لا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما كان ذلك إذ تنازعوا في غنائم بدر، فكانوا هم المذنبين المتشتتين عليه.
يبين ذلك (الجزء/الصفحة:4/18) قوله تعالى: (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم).
وقوله تعالى في هذه السورة نفسها النازلة في هذا المعنى: (يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون).
وقوله تعالى قبل ذكره الوعيد بالعذاب الذي احتج به من خالفنا: (تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة).
فهذا نص القرآن، وقد رد الله عز وجل الأمر في الأنفال المأخوذة يومئذ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.(3/223)
وأما الخبر المذكور الذي فيه لقد: (عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة، ولو نزل عذاب ما نجي منه إلا عمر) فهذا خبر لا يصح؛ لأن المنفرد بروايته عكرمة بن عمار اليمامي، وهو ممن قد صح عليه وضع الحديث، أو سوء الحفظ، أو الخطأ الذي لا يجوز معهما الرواية عنه.
ثم لو صح لكان القول فيه كما قلنا من أنه قصد الخير بذلك.
وأما قوله: (عبس وتولى) الآيات، فإنه كان عليه السلام قد جلس إليه عظيم من عظماء قريش، ورجا إسلامه، وعلم عليه السلام أنه لو أسلم لأسلم بإسلامه ناس كثير، وأظهر الدين، وعلم أن هذا الأعمى الذي يسأله عن أشياء من أمور الدين لا يفوته، وهو حاضر معه، فاشتغل عنه عليه السلام بما خاف فوته من عظيم الخير عما لا يخاف فوته، وهذا غاية النظر للدين، والاجتهاد في نصرة القرآن في ظاهر الأمر، ونهاية التقرب إلى الله الذي لو فعله اليوم منا فاعل لأجر، فعاتبه الله عز وجل على ذلك؛ إذ كان الأولى عند الله تعالى أن يقبل على ذلك الأعمى الفاضل البر التقي، وهذا نفس ما قلناه، وكما سها عليه السلام من اثنتين ومن ثلاث، وقام من اثنتين، ولا سبيل إلى أن يفعل من ذلك شيئا تعمدا أصلا، نعم ولا يفعل ذلك تعمدا إنسان منا فيه خير.
وأما الحديث الذي فيه: وإنهن الغرانيق العلى وأن شفاعتها لترتجى، فكذب بحت موضوع؛ لأنه لم يصح قط من طريق النقل، ولا معنى للاشتغال به، إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد.
وأما قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان) الآية، فلا حجة لهم فيها؛ لأن الأماني الواقعة في النفس لا معنى لها، وقد تمنى النبي صلى الله عليه وسلم إسلام عمه أبي طالب، ولم يرد الله عز وجل كون ذلك، فهذه الأماني التي ذكرها الله عز وجل لا سواها، وحاشا لله أن يتمنى نبي معصية، وبالله تعالى التوفيق.(3/224)
وهذا الذي قلنا هو ظاهر الآية دون مزيد تكلف، ولا يحل خلاف الظاهر إلا بظاهر آخر، وبالله تعالى التوفيق.
وأما قوله: (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت) فقد كفى الله عز وجل الكلام في ذلك ببيانه في آخر الآية أن ذلك كان نسيانا، فعوتب عليه السلام في ذلك.
وأما قوله تعالى: (وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) فقد أنفنا من ذلك؛ إذ لم يكن فيه معصية أصلا، ولا خلاف فيما أمره الله تعالى به، وإنما كان أراد زواج مباح له فعله، ومباح له تركه، ومباح له طيه، ومباح له إظهاره، وإنما (الجزء/الصفحة:4/19) خشي النبي صلى الله عليه وسلم الناس في ذلك خوف أن يقولوا قولا، ويظنوا ظنا، فيهلكوا، كما قال عليه السلام للأنصاريين أنها صفية، فاستعظما ذلك فأخبرهما النبي صلى الله عليه وسلم أنه إنما أخشى أن يلقي الشيطان في قلوبهما شيئا، وهذا الذي خشيه عليه السلام على الناس من هلاك أديانهم بظن يظنونه به عليه السلام، هو الذي يحققه هؤلاء المخذولون المخالفون لنا في هذا الباب من نسبتهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم تعمد المعاصي، فهلكت أديانهم، وضلوا، ونعوذ بالله من الخذلان.
وكان مراد الله عز وجل أن يبدي ما في نفسه لما كان سلف في علمه من السعادة لأُمِّنا زينب رضي الله عنها.
قال أبو محمد: فإن قال قائل: إنكم تحتجون كثيرا بقول الله عز وجل: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)، وبقوله: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)، وبقوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا)، وبقوله عليه السلام: (إني لأتقاكم لله وأعلمكم بما آتي وأذر).(3/225)
وتقولون من أجل هذه النصوص: إن كل قول قاله عليه السلام فبوحي من الله قاله، وكل عمل عمله فبإذن من الله تعالى، ورضي منه عمله، فأخبرونا عن سلامه صلى الله عليه وسلم من ركعتين ومن ثلاث، وقيامه من اثنتين، وصلاته الظهر خمسا، وإخباره بأنه يحكم بالحق في الظاهر لمن لا يحل له أخذه ممن يعلم أنه في باطن الأمر بخلاف ما حكم له به من ذلك، أبوحي من الله تعالى وبرضاه فعل كل ذلك، أم كيف تقولون؟
وهل يلزم المحكوم عليه والمحكوم له الرضا بحكمه ذلك وهما يعلمان أن الأمر بخلاف ذلك أم لا؟
قال أبو محمد: فجوابنا - وبالله تعالى التوفيق -: أن كل ما ذكر هاهنا فبوحي من الله تعالى فعله، وكل من قدر ولم يشك في أنه قد أتم صلاته فالله تعالى أمره بأن يسلم، فإذا علم بعد ذلك أنه سها فقد لزمته شريعة الإتمام وسجود السهو.
برهان ذلك: أنه لو تمادى ولم يسلم قاصدا إلى الزيادة في صلاته على تقدير أنه قد أتمها لبطلت صلاته كلها بلا شك، باطنا وظاهرا، ولاستحق اسم الفسق والمعصية.
وكذلك من قدر أنه لم يصل إلا ركعة واحدة، وأنه لم يتم صلاته فإن الله أمره بالزيادة في صلاته يقينا، حتى لا يشك في الإتمام، وبأن يقوم إلى ثانية عنده، فمتى علم بأن الأمر كان بخلاف ذلك، فصلاته تامة، ولزمته حينئذ شريعة سجود السهو.
وبرهان ذلك: أنه لو قعد من واحدة عنده متعمدا مستهزئا، أو سلم من ثلاث عنده معتمدا لبطلت صلاته جملة، ولاستحق اسم الفسق والمعصية؛ لأنه فعل خلاف ما أمره الله تعالى به.
وكذلك أمره الله، وأمرنا بالحكم بالبينة العدلة عندنا، وباليمين من المنكر، وبإقرار المقر، وإن كانت البينة عامدة للكذب في غير علمنا، وكانت اليمين والإقرار كاذبين في الباطن، وافترض الله علينا بذلك سفك الدماء التي لو علمنا الباطن لحرمت علينا، وهكذا (الجزء/الصفحة:4/20) في الفروج والأموال.(3/226)
برهان ذلك: أن حاكما لو شهد عنده بينة عدل عنده فلم يقض بها، وقضى باليمين على المنكر الذي لا بينة عليه، فحلف ثم قضى عليه لكان القاضي فاسقا بلا خلاف، عاصيا لله عز وجل لخلافه ما أمره الله سبحانه وتعالى به، وإن وافق حقا لم يكن علم به، وفرض على المحكوم عليه، والمحكوم له أن يرضيا بالحكم بالبينة واليمين، وأن يصيرا في أنفسهما إلى حقيقة علمهما في أخذ الحق وإعطائه، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وذكروا قول الله تعالى: (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا) بتخفيف الذال.
وليس هذا على ما ظنه الجهال، وإنما معناه أن الرسل عليهم السلام ظنوا بمن وعدهم النصر من قومهم أنهم كذبوهم فيما وعدوهم من نصرهم، ومن المحال البين أن يدخل في عقل من له أدنى رمق أن الله تعالى يكذب، فكيف بصفوة الله تعالى من خلقه، وأتمهم علما، وأعرفهم بالله عز وجل، ومن نسب هذا إلى نبي فقد نسب إليه الكفر، ومن أجاز إلى نبي الكفر فهو الكافر المرتد بلا شك، والذي قلنا هو ظاهر الآية، وليس فيها أن الله تعالى كذبهم، حاشا لله من هذا.
وذكروا أيضا قول الله تعالى: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك).
قال أبو محمد: إنما عهدنا هذا الاعتراض من أهل الكتاب وغيرهم، وأما من يدعي أنه مسلم فلا، ولا يمكن البتة أن يكون مسلم يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شاكا في صحة الوحي إليه، ولنا في هذه الآية رسالة مشهورة.
وجملة حل هذا الشك أن (إن) في هذه الآية المذكورة بمعنى (ما) التي للجحد، بمعنى: وما كنت في شك مما أنزلنا إليك، ثم أمره أن يسأل أهل الكتاب تقريرا لهم على أنهم يعلمون أنه نبي مرسل، مذكور عندهم في التوراة والإنجيل، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: هذا كل ما موهوا به قد تقصيناه وبيناه، وأرينا أنه موافق لقولنا، ولا يشهد شيء منه لقول مخالفنا، وبالله التوفيق.(3/227)
الرد على الأشعرية في قولهم بالمعارف:.
وذهبت الأشعرية: إلى أن علم الله تعالى واقع مع علمنا تحت حد واحد.
قال أبو محمد: وهذا خطأ فاحش؛إذ من الباطل أن يقع ما لم تزل النهايات، وعلم الله تعالى ليس هو غير الله تعالى على ما بينا قبل، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد:
قالت طوائف منهم الأشعرية وغيرهم: من اتفق له اعتقاد شيء على ما هو به عن غير دليل، لكن بتقليد أن تميل بإرادته، فليس عالما به، ولا عارفا به، ولكنه معتقد له.
وقالوا: كل علم ومعرفة اعتقاد، وليس كل اعتقاد علما ولا معرفة؛لأن العلم والمعرفة بالشيء إنما يعبر بهما عن تيقن صحته.
قالوا: وتيقن الصحة لا يكون إلا ببرهان.
قالوا: وما كان بخلاف ذلك؛فإنما هو ظن ودعوى لا تيقن بها؛إذ لو جاز أن يصدق قول بلا دليل؛ لما كان قول أولى من قول، ولكانت الأقوال كلها صحيحة على تضادها.
ولو كان ذلك؛ لبطلت الأقوال، ولبطلت الحقائق كلها؛لأن كل قول يبطل كل قول سواه، فلو صحت الأقوال كلها لبطلت كلها؛لأنه لو كان يكون كل قول صادقا في إبطال ما عداه.
قال أبو محمد: فنقول - وبالله تعالى التوفيق -: إن التسمية والحكم ليس إلينا، وإنما هما إلى خالق اللغات، وخالق الناطقين بها، وخالق الأشياء ومرتبها كما شاء لا إله إلا هو، قال عز وجل منكرا على من سمى من قبل نفسه:(إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان)، وقال تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) فنهى الله عز وجل كل أحد عن أن يقول ما ليس له به علم.
فوجدناه عز وجل يقول في غير موضع من القرآن: (يا أيها الذين آمنوا)، وقال تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا)، وقال تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) فخاطب الله تعالى بهذه النصوص وبغيرها، وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مؤمن في العالم إلى يوم القيامة.(3/228)
وبيقين ندري أنه قد كان في المؤمنين على عهده عليه السلام، ثم من بعده عصرا عصرا إلى يوم القيامة المستدل، وهم الأقل، وغير المستدل كمن أسلم من الزنج، ومن الروم، والفرس، والإماء، وضعفة النساء، والرعاة، ومن نشأ على الإسلام بتعليم أبيه أو سيده إياه، وهم الأكثر، والجمهور، فسماهم عز وجل مؤمنين، وحكم لهم بحكم الإسلام، وهذا كله معروف بالمشاهدة والضرورة.
وقال تعالى: (آمنوا بالله ورسوله).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله ويؤمنوا بما أرسلت به).
فصح يقينا أنهم كلهم مأمورون بالقول بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن كل من صد عنه فهو كافر، حلال دمه وماله، فلو لم يؤمن بالقول بالإيمان إلا من عرفه من طريق الاستدلال؛لكان كل من لم يستدل ممن ذكرنا منهيا عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن القول بتصديقه؛لأنه عند هؤلاء القوم ليسوا عالمين بذلك، وهذا خلاف القرآن، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجتماع الأمة المتيقن.
أما القرآن والسنة: فقد ذكرناهما.
وأما إجماع الأمة: فمن الباطل المتيقن أن يكون الاستدلال فرضا، لا يصح أن يكون أحد مسلما إلا به، ثم يغفل الله عز وجل أن يقول: لا تقبلوا من أحد أنه مسلم حتى يستدل.
أتراه نسي تعالى، أو تعمد عز وجل ترك ذكر ذلك إضلالا لعباده.
وبترك ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم: إما عمدا، أو قصدا إلى الضلال والإضلال، أو نسيانا لما اهتدى له هؤلاء، ونبهوا إليه، وهم من هم بلادة وجهلا، (الجزء/الصفحة:5/70) وسقوطا، هذا لا يظنه إلا كافر، ولا يحققه إلا مشرك.
فما قال قط رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل قرية، أو حلة، أو حي، ولا لراع، ولا لراعية، ولا للزنج، ولا للنساء: لا أقبل إسلامكم حتى أعلم المستدل من غيره، فإذا لم يقبل عليه السلام ذلك فالقول به واعتقاده إفك وضلال.(3/229)
وكذلك أجمع جميع الصحابة رضي الله عنهم على الدعاء على الإسلام، وقبوله من كل واحد دون ذكر استدلال، ثم هكذا جيلا فجيلا حتى حدث من لا قدر له.
فإن قالوا: قد قال الله عز وجل: (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين).
قلنا: نعم، وهذا حق، وإنما قاله الله عز وجل لمن خالف الحق الذي أمر عز وجل الجن والإنس باتباعه، وهكذا القول أن كل من قال قولا خالف فيه ما أمر الله عز وجل باتباعه، فسواء استدل بزعمه أولم يستدل، هذا مبطل غير معذور، إلا من عذره الله عز وجل فيما عذره فيه، كالمجتهدين من المسلمين يخطأ قاصدا إلى الحق فقط، ما لم يقم عليه الحجة فيعاند، وأما من اتبع الحق فما كلفه الله عز وجل قط برهانا، والبرهان قد ثبت بصحة كل ما أمر الله تعالى به، فسواء علمه فتبع الرسول صلى الله عليه وسلم بعلمه، حسبه أنه عالم بالحق، معتقد له، موقن به، وإن جهل برهانه الذي قد علمه غيره، وهذا خلق الله عز وجل الإيمان والعلم في نفسه، كما خلقه في نفس المستدل ولا فرق.
قال تعالى: (إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا) فسماهم داخلين في دينه، وإن كانوا أفواجا، وما شرط الله عز وجل قط ولا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك باستدلال، بل هذا شرط من شرط ذلك ممن قذفه إبليس في قلبه وعلى لسانه ليخرجه إلى تكفير الأمة.
ولا عجب أعجب من إطباق هذه الطائفة الضالة المخذولة على أنه لا يصح لأحد إيمان حتى يستدل على ذلك، ولا يصح لأحد استدلال حتى يكون شاكا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم غير مصدق بها، فإذا كان ذلك صح له الاستدلال، وإلا فليس مؤمنا.
فهل سمع بأحمق، أو أدخل في الحمق والكفر من قول من قال: لا يؤمن أحد حتى يكفر بالله تعالى وبالرسول صلى الله عليه وسلم، وأن من آمن بهما ولم يكفر بهما قط فهو كافر مشرك، نبرأ إلى الله تعالى من كل من قال بهذا.
قال أبو محمد: فهذان طريقان لا ثالث لهما، كل طريق منها تنقسم قسمين:(3/230)
أحدهما: من اتبع الذي أمره الله تعالى عز وجل باتباعه، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا مؤمن عالم حقا، سواء استدل أو لم يستدل؛لأنه فعل ما أمره الله تعالى به، ثم ينقسم هؤلاء قسمين:
أحدهما: من لم يتبع قط غيره عليه الصلاة والسلام، ووافق الحق بتوفيق الله عز وجل، فهذا له في كل عقد اعتقده أجران.
وإما أن يكون حرم موافقة الحق، وهو مريد في أمره ذلك اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا معذور، مأجور أجرا واحدا ما لم تقم عليه الحجة فيعاندها، وهذا نص قوله عليه السلام في الحاكم المجتهد المصيب والمخطئ.
والطريق الثانية: من اتبع غير الذي أمره الله باتباعه، فهذا سواء استدل أو لم يستدل هو مخطئ، ظالم، عاص لله تعالى، وكافر على حسب ما جاءت به الديانة في أمره.
ثم ينقسم هؤلاء قسمين:
أحدهما: أصاب ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غير قاصد إلى اتباعه عليه الصلاة والسلام فيه.
والآخر: لم يصبه.
فكلاهما لا خير فيه، وكلاهما آثم غير مأجور، وكلاهما عاص لله عز وجل، أو كافر على حسب ما جاءت به الديانة من أمره؛لأنهما جميعا تعديا حدود الله عز وجل فيما أمرهم به من اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى: (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) ولا ينتفع بإصابته الحق؛إذ لم يصبه من الطريق التي لم يجعل الله طلب الحق وأخذه إلا من قبلها.
وقد علمنا أن اليهود والنصارى يوافقون الحق في كثير، كإقرارهم بنبوة موسى عليه السلام، وكتوحيد بعضهم لله تعالى، فما انتفعوا بذلك؛إذ لم يعتقدوه اتباعا لرسول الله صلى الله عليه (الجزء/الصفحة:5/71) وسلم.(3/231)
وكذلك من قلد فقيها فاضلا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عقده أنه لا يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا إن وافق قوله قول ذلك الفقيه، فهذا فاسق بلا شك إن فعله غير معتقد له، وهو كافر بلا شك إن اعتقده بقلبه أو نطق به بلسان؛لمخالفته قول الله تعالى:(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) فنفى الله عز وجل عن أهل هذه الصفة الإيمان، وأقسم على ذلك، ونحن ننفي ما نفى الله عز وجل عمن نفاه عنه، ونقسم على ذلك، ونوقن أننا على الحق في ذلك.
وأما من قلد فقيها فاضلا، وقال: إنما أتبعه لأنه اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا مخطئ؛لأنه فعل من ذلك ما لم يأمره الله تعالى به، ولا يكفر؛لأنه قاصد إلى اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مخطئ للطريق في ذلك، ولعله مأجور بنيته أجرا واحدا، ما لم نقم الحجة عليه بخطأ فعله.
فإن ذكروا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث فتنة القبر: (وأما المنافق أو المرتاب فإنه يقال له: ما قولك في هذا الرجل - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته).
قال أبو محمد: هذا حق على ظاهره، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يقول هذا إلا المنافق أو المرتاب، لا المؤمن الموقن، بل المؤمن الموقن في هذا الحديث أنه يقول: هو عبد الله ورسوله، أتانا بالهدى والنور، أو كلاما هذا معناه، أو أخبر عليه السلام عن موقن ومرتاب، لا عن مستدل وغير مستدل.
وكذلك نقول: إن من قال في نفسه أو بلسانه: لولا أني نشأت بين المسلمين لم أكن مسلما، وإنما اتبعت من نشأت بينهم، فهذا ليس مؤمنا، ولا موقنا، ولا متبعا لمن أمره الله تعالى باتباعه، بل هو كافر.(3/232)
قال أبو محمد: وإذا كان قد يستدل دهره كله من لا يوفقه الله تعالى للحق، وقد يوفق من لا يستدل يقينا لو علم أن أباه، أو أمه، أو ابنه، أو امرأته، أو أهل الأرض يخالفونه فيه لاستحل دماءهم كلهم، ولو خير بين أن يلقى في النار وبين أن يفارق الإسلام لاختار أن يحرق بالنار على أن يقول مثل هذا.
قلنا: فإذ هو موجود؛فقد صح أن الاستدلال لا معنى له، وإنما المدار على اليقين والعقد فقط، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وإنما يضطر إلى الاستدلال من نازعته نفسه إليه، ولم يسكن قلبه إلى اعتقاد ما لم يعرف برهانه، فهذا يلزمه طلب البرهان حينئذ ليقي نفسه نارا وقودها الناس والحجارة، فإن مات شاكا قبل أن يصح عنده البرهان مات كافرا مخلدا في النار أبدا.
وفي الملل والنحل :
الفصل السادس: الشيعة.
5- الإسماعيلية.
قد ذكرنا أن الإسماعيلية امتازت عن الموسوية، وعن الاثنا عشرية بإثبات الإمامة لإسماعيل بن جعفر، وهو ابنه الأكبر المنصوص عليه في بدء الأمر.
قالوا: ولم يتزوج الصادق رضي الله عنه على أمه بواحدة من النساء، ولا تسرى بجارية، كسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق خديجة رضي الله عنها، وكسنة علي رضي الله عنه في حق فاطمة رضي الله عنها.
وقد ذكرنا اختلافاتهم في موته في حال حياة أبيه:
فمنهم من قال: إنه مات، وإنما فائدة النص عليه انتقال الإمامة منه إلى أولاده خاصة، كما نص موسى على هارون عليهما السلام، ثم مات هارون في حال حياة أخيه، وإنما فائدة النص انتقال الإمامة منه إلى أولاده، فإن النص لا يرجع قهقرى، والقول بالبداء محال، ولا ينص الإمام على واحد من أولاده إلا بعد السماع من آبائه، والتعيين لا يجوز على الإبهام والجهالة.
ومنهم من قال: إنه لم يمت، ولكنه أظهر موته تقية عليه حتى لا يقصد بالقتل.
ولهذا القول دلالات:(3/233)
منها أن محمدا كان صغيرا، وهو أخوه لأمه، مضى إلى السرير الذي كان إسماعيل نائما عليه، ورفع الملاءة فأبصره وقد فتح عينيه، فعاد إلى أبيه مفزعا، وقال: عاش أخي، عاش أخي.
قال والده: إن أولاد الرسول عليه الصلاة والسلام كذا تكون حالهم في الآخرة.
قالوا: ومنها السبب في الإشهاد على موته، وكتب المحضر عنه، ولم نعهد ميتا سجل على موته.
وعن هذا لما رفع إلى المنصور أن إسماعيل بن جعفر رئي بالبصرة وقد مر على مقعد فدعا له فبرئ بإذن الله تعالى، بعث المنصور إلى الصادق أن إسماعيل بن جعفر في الأحياء، وأنه رئي بالبصرة، أنفذ السجل إليه وعليه شهادة عامله بالمدينة.
(1/ 191)
قالوا: وبعد إسماعيل محمد بن إسماعيل السابع التام، وإنما تم دور السبعة به، ثم ابتدئ منه بالأئمة المستورين الذين كانوا يسيرون في البلاد سرا، ويظهرون الدعاة جهرا.
قالوا: ولن تخلو الأرض قط من إمام حي قائم ؛إما ظاهر مكشوف، وإما باطن مستور.
فإذا كان الإمام ظاهرا ؛جاز أن يكون حجته مستورا.
وإذا كان الإمام مستورا ؛فلا بد أن يكون حجته ودعاته ظاهرين.
وقالوا: إن الأئمة تدور أحكامهم على سبعة سبعة، كأيام الأسبوع، والسموات السبع، والكواكب السبعة، والنقباء، تدور أحكامهم على اثني عشر.
قالوا: وعن هذا وقعت الشبهة للإمامية القطعية، حيث قرروا عدد النقباء للأئمة.
ثم بعد الأئمة المستورين كان ظهور المهدي بالله، والقائم بأمر الله، وأولادهم، نصا بعد نص، على إمام بعد إمام.
ومن مذهبهم أن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية، وكذلك من مات ولم يكن في عنقه بيعة إمام مات ميتة جاهلية.
ولهم دعوة في كل زمان، ومقالة جديدة بكل لسان، فنذكر مقالاتهم القديمة، ونذكر بعدها دعوة صاحب الدعوة الجديدة.
وأشهر ألقابهم الباطنية، وإنما لزمهم هذا اللقب لحكمهم بأن لكل ظاهر باطنا، ولكل تنزيل تأويلا.
ولهم ألقاب كثيرة سوى هذه على لسان قوم قوم:(3/234)
فبالعراق: يسمون الباطنية، والقرامطة، والمزدكية.
وبخراسان: التعليمية، والملحدة.
وهم يقولون: نحن الإسماعيلية ؛لأننا تميزنا عن فرق الشيعة بهذا الاسم، وهذا الشخص.
ثم إن الباطنية القديمة قد خلطوا كلامهم ببعض كلام الفلاسفة، وصنفوا كتبهم (1/ 192) على هذا المنهاج، فقالوا في الباري تعالى: إنا لا نقول هو موجود، ولا لا موجود، ولا عالم، ولا جاهل، ولا قادر، ولا عاجز.
وكذلك في جميع الصفات: فإن الإثبات الحقيقي يقتضي شركة بينه وبين سائر الموجودات في الجهة التي أطلقنا عليه، وذلك تشبيه، فلم يكن الحكم بالإثبات المطلق والنفي المطلق، بل هو إله المتقابلين، وخالق المتخاصمين، والحاكم بين المتضادين.
ونقلوا في هذا نصا عن محمد بن علي الباقر أنه قال: لما وهب العلم للعالمين قيل: هو عالم، ولما وهب القدرة للقادرين قيل: هو قادر، فهو عالم قادر، بمعنى أنه وهب العلم والقدرة، لا بمعنى أنه قام به العلم والقدرة، أو وصف بالعلم والقدرة.
فقيل فيهم: إنهم نفاة الصفات حقيقة، معطلة الذات عن جميع الصفات.
قالوا: وكذلك نقول في القدم: إنه ليس بقديم ولا محدث، بل القديم أمره وكلمته، والمحدث خلقه وفطرته.
أبدع بالأمر العقل الأول ؛الذي هو تام بالفعل، ثم بتوسطه أبدع النفس التالي ؛الذي هو غير تام.
ونسبة النفس إلى العقل:
إما نسبة النطفة إلى تمام الخلقة، والبيض إلى الطير.
وإما نسبة الولد إلى الوالد، والنتيجة إلى المنتج.
وإما نسبة الأنثى إلى الذكر، والزوج إلى الزوج.(3/235)
قالوا: ولما اشتاقت النفس إلى كمال العقل احتاجت إلى حركة من النقص إلى الكمال، واحتاجت الحركة إلى آلة الحركة، فحدثت الأفلاك السماوية، وتحركت حركة دورية بتدبير النفس، وحدثت الطبائع البسيطة بعدها، وتحركت حركة استقامة بتدبير النفس أيضا، فتركبت المركبات من المعادن، والنبات، والحيوان، والإنسان، واتصلت النفوس الجزئية بالأبدان، وكان نوع الإنسان متميزا عن سائر الموجودات بالاستعداد الخاص لفيض تلك الأنوار، وكان عالمه في مقابلة العالم كله.
وفي العالم العلوي عقل ونفس كلي، فوجب أن يكون في هذا العالم عقل مشخص هو كل، وحكمه حكم الشخص الكامل البالغ، ويسمونه الناطق، وهو النبي، ونفس (1/ 193) مشخصة، وهو كل أيضا، وحكمه حكم الطفل الناقص المتوجه إلى الكمال، أو حكم النطفة المتوجهة إلى التمام، أو حكم الأنثى المزدوجة بالذكر، ويسمونه الأساس، وهو الوصي.
قالوا: وكما تحركت الأفلاك والطبائع بتحريك النفس والعقل ؛ كذلك تحركت النفوس والأشخاص بالشرائع، بتحريك النبي والوصي في كل زمان دائرا على سبعة سبعة حتى ينتهي إلى الدور الأخير، ويدخل زمان القيامة، وترتفع التكاليف، وتضمحل السنن والشرائع.
إنما هذه الحركات الفلكية، والسنن الشرعية لتبلغ النفس إلى حال كمالها، وكمالها بلوغها إلى درجة العقل، واتحادها به، ووصولها إلى مرتبته فعلا، وذلك هو القيامة الكبرى، فتنحل تراكيب الأفلاك والعناصر والمركبات، وتنشق السماء وتتناثر الكواكب، وتبدل الأرض غير الأرض، وتطوى السماء كطي السجل للكتاب المرقوم، وفيه يحاسب الخلق، ويتميز الخير عن الشر، والمطيع عن العاصي، وتتصل جزئيات الحق بالنفس الكلي، وجزئيات الباطل بالشيطان المضل المبطل، فمن وقت الحركة إلى وقت السكون هو المبدأ، ومن وقت السكون إلى ما لا نهاية له هو الكمال.(3/236)
ثم قالوا: ما من فريضة وسنة وحكم من الأحكام الشرعية من بيع، وإجارة، وهبة، ونكاح، وطلاق، وجراح، وقصاص، ودية إلا وله وزان من العالم عددا في مقابلة عدد، وحكما في مطابقة حكم، فإن الشرائع عوالم روحانية أمرية، والعوالم شرائع جسمانية خلقية، وكذلك التركيبات في الحروف والكلمات على وزان التركيبات في الصور والأجسام، والحروف المفردة نسبتها إلى المركبات من الكلمات كالبسائط المجردة إلى المركبات من الأجسام، ولكل حرف وزان في العالم، وطبيعة يخصها، وتأثير من حيث تلك الخاصية في النفوس، فعن هذا صارت العلوم المستفادة من الكلمات التعليمية غذاء للنفوس، كما صارت الأغذية المستفادة من الطبائع الخلقية غذاء للأبدان، وقد قدر الله تعالى أن يكون (1/ 194) غذاء كل موجود مما خلق منه، فعلى هذا الوزان صاروا إلى ذكر أعداد الكلمات والآيات، وأن التسمية مركبة من سبعة واثني عشر، وأن التهليل مركب من أربع كلمات في إحدى الشهادتين، وثلاث كلمات في الشهادة الثانية، وسبع قطع في الأولى، وست في الثانية، واثني عشر حرفا في الأولى، واثني عشر حرفا في الثانية، وكذلك في كل آية أمكنهم استخراج ذلك مما لا يعمل العاقل فكرته فيه إلا ويعجز عن ذلك خوفا من مقابلته بضده، وهذه المقابلات كانت طريقة أسلافهم، قد صنفوا فيها كتبا، ودعوا الناس إلى إمام في كل زمان يعرف موازنات هذه العلوم، ويهتدي إلى مدارج هذه الأوضاع والرسوم.
ثم إن أصحاب الدعوة الجديدة تنكبوا هذه الطريقة حين أظهر الحسن بن محمد بن الصباح دعوته، وقصر على الإلزامات كلمته، واستظهر بالرجال، وتحصن بالقلاع.(3/237)
وكان بدء صعوده على قلعة الموت في شهر شعبان سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة، وذلك بعد أن هاجر إلى بلاد إمامه، وتلقى منه كيفية الدعوة لأبناء زمانه، فعاد ودعا الناس أول دعوة إلى تعيين إمام صادق قائم في كل زمان، وتمييز الفرقة الناجية عن سائر الفرق بهذه النكتة، وهي أن لهم إماما، وليس لغيرهم إمام، وإنما تعود خلاصة كلامه بعد ترديد القول فيه عودا على بدء بالعربية والعجمية إلى هذا الحرف.
ونحن ننقل ما كتبه بالعجمية إلى العربية، ولا معاب على الناقل، والموفق من اتبع الحق واجتنب الباطل، والله الموفق والمعين.
فنبدأ بالفصول الأربعة التي ابتدأ بها دعوته، وكتبها عجمية فعربتها:
الأول: قال: للمفتي في معرفة الله تعالى أحد قولين:
إما أن يقول: اعرف الباري تعالى بمجرد العقل والنظر من احتياج إلى تعليم معلم.
وإما أن يقول: لا طريق إلى المعرفة مع العقل والنظر إلا بتعليم معلم.
قال: ومن أفتى بالأول فليس له الإنكار على عقل غيره ونظره، فإنه متى أنكر فقد علم، والإنكار تعليم ودليل على أن المنكر عليه محتاج إلى غيره.
قال: والقسمان ضروريان ؛لأن الإنسان إذا أفتى بفتوى، أو قال قولا، فإما أن يعتقده من نفسه أو من غيره.
(1/ 195)
هذا هو الفصل الأول، وهو كسر على أصحاب الرأي والعقل.
وذكر في الفصل الثاني أنه إذا ثبت الاحتياج إلى معلم أفيصلح كل معلم على الإطلاق أم لا بد من معلم صادق؟
قال: ومن قال: إنه يصلح كل معلم ما ساغ له الإنكار على معلم خصمه، وإذا أنكر فقد سلم أنه لا بد من معلم صادق معتمد.
قيل: وهذا كسر على أصحاب الحديث.
وذكر في الفصل الثالث أنه إذا ثبت الاحتياج إلى معلم صادق أفلا بد من معرفة المعلم أولا والظفر به ثم التعلم منه، أم جاز التعلم من كل معلم من غير تعيين شخصه، وتبيين صدقه؟
والثاني رجوع إلى الأول، ومن لم يمكنه سلوك الطريق إلا بمقدم ورفيق، فالرفيق ثم الطريق، وهو كسر على الشيعة.(3/238)
وذكر في الفصل الرابع أن الناس فرقتان:
فرقة قالت: نحن نحتاج في معرفة الباري تعالى إلى معلم صادق، ويجب تعيينه وتشخيصه أولا، ثم التعلم منه.
وفرقة أخذت في كل علم من معلم وغير معلم.
وقد تبين بالمقدمات السابقة أن الحق مع الفرقة الأولى، فرئيسهم يجب أن يكون رئيس المحقين.
وإذ تبين أن الباطل مع الفرقة الثانية فرؤساؤهم يجب أن يكونوا رؤساء المبطلين.
قال: وهذه الطريقة هي التي عرفنا بها المحق بالحق معرفة مجملة، ثم نعرف بعد ذلك الحق بالمحق معرفة مفصلة، حتى لا يلزم دوران المسائل، وإنما عني بالحق ههنا الاحتياج، وبالمحق المحتاج إليه.
وقال: بالاحتياج عرفنا الإمام، وبالإمام عرفنا مقادير الاحتياج، كما بالجواز عرفنا الوجوب، أي واجب الوجود، وبه عرفنا مقادير الجواز في الجائزات.
قال: والطريق إلى التوحيد كذلك حذو القذة بالقذة.
ثم ذكر فصولا في تقرير مذهبه: إما تمهيدا، وإما كسرا على المذاهب، وأكثرها كسر وإلزام واستدلال بالاختلاف على البطلان، وبالاتفاق على الحق.
(1/ 196)
منها فصل الحق والباطل: الصغير والكبير يذكر أن في العالم حقا وباطلا، ثم يذكر أن علامة الحق هي الوحدة، وعلامة الباطل هي الكثرة، وأن الوحدة مع التعليم، والكثرة مع الرأي، والتعليم مع الجماعة، والجماعة مع الإمام، والرأي مع الفرق المختلفة، وهي مع رؤسائهم.
وجعل الحق والباطل، والتشابه بينهما من وجه، والتمايز بينهما من وجه، والتضاد في الطرفين والترتب في أحد الطرفين ميزانا يزن به جميع ما يتكلم فيه.
قال: وإنما أنشأت هذا الميزان من كلمة الشهادة، وتركيبها من النفي والإثبات، أو النفي والاستثناء.
قال: فما هو مستحق النفي باطل، وما هو مستحق الإثبات حق، ووزن بذلك الخير والشر، والصدق والكذب، وسائر المتضادات.(3/239)
ونكتته أن يرجع في كل مقالة وكلمة إلى إثبات المعلم، وأن التوحيد هو التوحيد والنبوة معا، حتى يكون توحيدا، وأن النبوة هي النبوة والإمامة معا، حتى تكون نبوة، وهذا هو منتهى كلامه.
وقد منع العوام من الخوض في العلوم، وكذلك الخواص عن مطالعة الكتب المتقدمة، إلا من عرف كيفية الحال في كل كتاب، ودرجة الرجال في كل علم.
ولم يتعد بأصحابه في الإلهيات عن قوله: إن إلهنا إله محمد.
قال: وأنتم تقولون إلهنا إله العقول، أي ما هدي إليه عقل كل عاقل.
فإن قيل لواحد منهم: ما تقول في الباري تعالى، وأنه هل هو واحد أم كثير، عالم أم لا، قادر أم لا؟
لم يجب إلا بهذا القدر: إن إلهي إله محمد، و(هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)، والرسول هو الهادي إليه.
وكم قد ناظرت القوم على المقدمات المذكورة ؛فلم يتخطوا عن قولهم: أفنحتاج إليك، أو نسمع هذا منك، أو نتعلم عنك؟
(1/ 197)
وكم قد ساهلت القوم في الاحتياج، وقلت: أين المحتاج إليه، وأي شيء يقرره لي في الإلهيات، وماذا يرسم لي في المعقولات ؛إذ المعلم لا يعنى لعينه، وإنما يعنى ليعلم، وقد سددتم باب العلم، وفتحتم باب التسليم والتقليد، وليس يرضى عاقل بأن يعتقد مذهبا على غير بصيرة، وأن يسلك طريقا من غير بينة.
وإن كانت مبادئ الكلام تحكيمات، وعواقبها تسليمات، (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما).
وفي فتح المغيث :
قَولُ الصَّحَابِي (مِن السُّنَةَ) أو * نَحو (أمرِنَا) حكمه الرفع ولو
بَعدَ النبي قَالهُ بأعصرِ * على الصَحيحِ وَهُوَ قَولُ الأكثر
وَقَوْلُهُ (كُنَّا نَرى) إن كَانَ مَع * عَصر النَبِي من قَبيلِ مَا رَفع
وَقِيل لاَ أو لاَ فَلاَ كَذَاكَ لَه * وللخطِيبِ قلت لَكن جَعْلَهُ
مَرفُوعاً الحَاكِم والرَّازي * ابنُ الخطيبِ وَهُو القَوي(3/240)
سبعة حسن إيرادها بعد الانتهاء من كل من المرفوع والموقوف.
أحدها وقدم على غيره مما يصدر عن الصحابي لقربه إلى الصراحة (قول الصحابي) رضي الله عنه (ومن السنة) كذا كقول: علي رضي الله عنه من السنة وضع الكف على الكف في الصلاة تحت السرة (أو نحو أمرنا) بالبناء للمفعول كأمر فلان، وكنا نؤمر وأمر بلا إضافة، ونهينا كقول أم عطية رضي الله عنها: أمرنا أن نخرج في العيدين العواتق، وذوات الخدور، وأمر الحيض أن يعتزلن مصلى المسلمين، ونهينا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا، وأبيح أو رخص لنا أو حرم أو أوجب علينا كل ذلك، مع كونه موقوفاً لفظاً (حكمه الرفع ولو بعد) وفاة النبي صلى الله عليه وسلم (قاله بأعصر) فضلاً عن كونه بعده يسيراً، وفي زمنه.
[ص 113]
صلى الله عليه وسلم، لكنه في الزمن النبوي في أمرنا أبعد عن الاحتمال فيما يظهر.
ويساعده تصريح بعض أئمة الأصول بقوة الاحتمال في السنة لكثرة استعمالها في الطريقة، وسواء قاله في محل الاحتجاج، أم لا تأمر عليه غير النبي صلى الله عليه وسلم أم لا، كبيراً كان أو صغيراً.
وإن لم أر تصريحهم به في الصغير، فهو محتمل، ويمكن إخراجه من تقييد الحاكم الصحابي لمعروف الصحبة، وكذا من التفرقة بين المجتهد وغيره، كما سيأتي، وما تقدم في المسألتين هو (على صحيح) عند المحدثين والفقهاء والأصوليين.
ونص الشافعي في الأم في باب عدد كفن الميت، بعد أن ذكر ابن عباس والضحاك بن قيس، وابن عباس والضحاك رجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقولان السنة إلا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم).
على أن البيهقي قد جزم بنفي الخلاف، عن أهل النقل فيهما، وإنه مسند يعني مرفوع.(3/241)
وكذا شيخا الحاكم حيث قال في الجنائز من مستدركه: أجمعوا على أن قول الصحابي من السنة، كذا حديث مسند، وقال في موضع آخر: إذا قال الصحابي أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا، أو كنا نفعل كذا أو نتحدث كذا، فإني لا أعلم بين أهل النقل خلافاً فيه أنه مسند.
وممن حكى الاتفاق أيضاً، لكن في السنة ابن عبد البر. والحق ثبوت الخلاف فيهما. نعم قيد ابن دقيق العيد محل الخلاف بما إذا كان المأمور به يحتمل التردد بين شيئين، أما إذا كان مما لا مجال للاجتهاد فيه، كحديث أمر بلال أن يشفع الأذان فهو محمول على الرفع قطعاً.
وممن ذهب إلى خلاف ما حكيناه فيهما من الشافعية أبو بكر الصيرفي
[ص 114]
صاحب الدلائل، ومن الحنفية أبو الحسن الكرخي، وفي السنة فقط الشافعي في أحد قوليه من الجديد، كما جزم الرافعي بحكايتهما عنه، ورجحه جماعة بل حكاه إمام الحرمين في البرهان عن المحققين.
ومن الحنفية أبو بكر الرازي، وابن حزم من الظاهرية، وبالغ في إنكار الرفع مستدلاً بقول ابن عمر رضي الله عنهما: أليس حسبكم سنة نبيكم أن حبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حل من كل شيء حتى يحج عاماً قابلاً، فيهدي، أو يصوم إن لم يجد هدياً، قال لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقع منه إذ مد ما ذكره ابن عمر، بل حل حيث كان بالحديبية، وكذا من أولتهم لمنع الرفع استلزامه ثبوت سنة للنبي صلى الله عليه وسلم بأمر محتمل إذ يحتمل إرادة سنة غيره من الخلفاء، فقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم سنة في قوله: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين). أو سنة البلد وهي الطريقة، ونحو ذلك.
ونحوه تعليل الكرخي لأمرنا فإنه متردد بين كونه مضافاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو إلى أمر القرآن، أو الأمة، أو بعض الأئمة، أو القياس والإستنباط، وسوغ اضافته إلى صاحب الشرع يعني لكونه صاحب الأمر حقيقة بناء على أن القياس مأمور باتباعه من الشارع.(3/242)
قال: وهذه احتمالات تمنع كونه مرفوعاً، وفي أمرنا فقط، كما قال ابن الصلاح فريق منهم أبو بكر الإسماعيلي. وخص ابن الأثير كما في مقدمة جامع الأصول له نفي الخلاف فيها بأب بكر الصديق رضي الله عنه خاصة، إذ لم يتأمر عليه أحد غير النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف غيره، فقد تأمر عليهم أبو بكر وغيره، من الأمراء في زمنه صلى الله عليه وسلم، ووجب عليهم امتثال أمره فطرقه الاحتمال الناشئ عنه الاختلاف.
ونحوه: قول غيره في أمر بلال أن يشفع الأذان أنه نظر فلم يجد أحد تأمر عليه في الأذان، غير النبي صلى الله عليه وسلم فتمخص أن يكون هو الأمر.
[ص 115]
ويتأيد بالرواية المصرحة بذلك، وكذا قال آخر ينبغي أن يقيد الاختلاف فيهما بما إذا كان في غير محل الاحتجاج، أما في محل الاحتجاج فإن المجتهد لا يقلد مثله، فلا يريد بالسنة وبالأمر والنهي إلا من له ذلك حقيقة، لكن الأول هو الصحيح فيهما كما تقدم (وهو قول الأكثر) من العلماء إذ هو المتبادر إلى الذهن على الإطلاق، لأن سنة النبي صلى الله عليه وسلم أصل، وسنة غيره تبع لسنته، وكذلك الأمر والنهي لا ينصرف بظاهره إلا لمن هو إليه هو الشارع صلى الله عليه وسلم، وأمر غيره تبع، فحمل كلامهم على الأصل أولى، خصوصاً، والظاهر أن مقصود الصحابة بيان الشرع.
وقال ابن الأثير في مقدمة جامع الأصول في أبيح وما بعدها يقوي في جانبه أن لا يكون مضافاً إلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لأن هذه الأمور له دون غيره قال: ولا يقال أوجب الإمام إلا على التأويل.
واستدلال ابن حزم الماضي للمنع بقول ابن عمر: ممنوع بأنه لا انحصار لمسنده في الفعل حتى يمنع إرادة ابن عمر بالسنة الرفع في من صد عن الحج ممن هو بمكة بقصة الحديبية التي صد فيها عن دخولها، بل الدائرة أوسع من القول أو الفعل، أو غيرهما، ويتأيد بإضافته السنة إلى صلى الله عليه وسلم.(3/243)
وكذا ما أبداه الكرخي من الاحتمالات في المنع أيضاً بعيد، كما قاله شيخنا، فإن أمر الكتاب ظاهر للكل، فلا يختص بمعرفته الواحد دون غيره، وعلى تقدير التنزل فهو مرفوع، لأن الصحابي وغيره إنما تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر الأمة لا يمكن الحمل عليه، لأن الصحابي من الأئمة، وهو لا يأمر نفسه.
وأمر بعض الأئمة إن أراد من الصحابة مطلقاً فبعيد، لأن قوله ليس حجة على غيره منهم، وإن أراد من الخلفاء، فكذلك لأن الصحابي في مقام تعريف الشرع بهذا الكلام والفتوى، فيجب حمله على من صدر منه الشرع، وبالجملة فهم من حيث أنهم مجتهدون لا يحتجون بأمر مجتهد آخر إلا أن يكون القائل
[ص 116]
ليس من مجتهدي الصحابة.
فيحتمل ألانه يريد بالآمر أحد المجتهدين منهم.
وحمله على القياس والاستنباط بعيد أيضاً، لأن قوله: أمرنا بكذا يفهم منه حقيقة الأمر والنهي لا خصوص الأمر باتباع القياس، وما قاله ابن الأثير في الصديق، فهو كما قال شيخنا وغيره مقبول، وإن تأمر عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل على جيش فيه الشيخنان، أرسل بهما النبي صلى الله عليه وسلم في صدد، وأمر عليه أبا عبيدة بن الجراح، فلما قدم بهم على عمر وصار الأمير، بل كان أبو عبيدة أمير سرية الخبط على ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار فيهم عمر، وأظن أبا بكر أيضاً.
وكذا تأمر أسامة بن زيد على جيش هما فيه، وأبو عبيدة وخلق من المهاجرين والأنصار، وتوفي صلى الله عليه وسلم قبل خروجه فأنفذه أبو بكر بعد أن استخلف إمتثالاً، لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل: أن أبا بكر سأل أسامة أن يأذن لعمر في الإقامة، فأذن له، وفي شرحها طول.(3/244)
وبالجملة فقد ثبت أن كلا من أبي عبيدة وعمرو وأسامة تأمر عليهما، وصار ذلك أحد الأدلة في ولاية المفضول على الفاضل، أو بحضرته، فطروق الاحتمال فيه بعيد جداً، وما قيل في بلال ليس بمتفق عليه، فلأن أبي شيبة، وابن عبد البر أنه أذن لأبي بكر مدة خلافته، ولم يؤذن لعمر، نعم هو مقتضى قول مالك لم يؤذن لغير النبي صلى الله عليه وسلم سوى مرة لعمر حين دخل الشام، فبكى الناس بكاءً شديداً، ومن أدلة الأكثرين سوى ما تقدم ما رواه البخاري في صحيحه عن الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، أن الحجاج عام نزل بابن الزبير سأل عبد الله يعني ابن عمر رضي الله عنه الله عنهما عنه: كيف تصنع في الموقف يوم عرفة؟ فقال: سالم: إن كنت تريد السنة فهجر بالصلاة يوم عرفة، فقال إبن
[ص 117]
عمر صدق، إنهم كانوا يجمعون بين الظهر والعصر في السنة.
قال الزهري: فقلت لسالم أفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: وهل متبعون في ذلك إلا سنته انتهى.
وكل سلف فيما إذا لم يضف السنة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلو أضافها كقول عمر للصبي بن معبد: هديت لسنة نبيك. للمقتضى كلام الجمهور السابق الدفع، بل أولى وابن حزم يخالف فيه كما تقدم، بل نقل أبو الحسين ابن القطان عن الشافعي أنه قال: قد يجوز أن يراد بذلك ما هو الحق من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وجزم البلقيني في محاسنه بأنها على مراتب في احتمال الوقف قرباً وبعداً فأرفعها، مثل قول ابن عباس: الله أكبر سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، ودونها قول عمرو بن العاص: لا تلبسوا علينا سنة نبينا، عدة أم الولد كذا، ودونها قول عمر لعقبة بن عامر: أصبت السنة: إذ الأول أبعد إحتمالاً، والثاني أقرب إحتمالاً، والثالث لا إضافة فيه انتهى.(3/245)
وقال غيره في قول عمرو بن العاص: قال الدارقطني: الصواب فيه لا تلبسوا علينا وبيننا موقوف، فدل قوله هذا على أن الأول مرفوع، أما إذا صرح بالأمر كقوله: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، أو سمعته يأمر بكذا، فهو مرفوع بلا خلاف لانتفاء الاحتمال السابق.لكن حكى القاضي أبو الطيب الطبري وتلميذه ابن الصباغ في العدة عن داود الظاهري، وبعض المتكلمين إنه لا يكون حجة حتى ينقل لفظه لاختلاف الناس في صيغ الأمر والنهي فيحتمل أن يكون سمع صيغة ظنها أمراً أو نهياً، وليست كذلك في نفس الأمر.
وقال الشارح: إنه ضعيف مردود، ثم وجهه بما له وجه في الجملة ووجهه غيره، يجوز أن نحو هذا من الرواية بالمعنى، وهم ممن لا يجوزها.
وأما شيخنا فرده أصلاً فيما نقله عن غيره حيث قال: وأجيب بأن الظاهر
[ص 118]
من حال الصحابي مع عدالته ومعرفته بأوضاع اللغة أنه لا يطلق ذلك إلا فيما تحقق أنه أمر، أو نهى من غير شك نفياً للتلبيس، عنه بنقل ما يوجب على سامعه إعتقاد الأمر، والنهي فيما ليس هو أمر ولا نهي.
تتمة قول الصحابي: إني لأشبهكم صلاة بالنبي صلى الله عليه وسلم وما أشبهه كلأ قربن لكم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم كله مرفوع، وهل ملتحق التابعي بالصحابي في من السنة أو أمرنا سيأتي في خامس الفروع. وقول النبي صلى الله عليه وسلم أمرت هو كقوله: "أمرني الله لأنه لا آمر له إلا الله، كما سيأتي نظيره في يرفعه ويرويه"، وأمثلته كثيرة.
فمن المتفق عليه أمرت بقرية تأكل القرى يقولون يثرب. ومن غيره أمرنا أن نضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة.
والحاصل: أن من اشتهر بطاعة كبير إذا قال ذلك، فهم منه أن الآمر له هو ذلك الكبير والله أعلم.(3/246)
والفرع الثاني (قوله) أي الصحابي (كنا نرى) كذا أو نفعل كذا أو نقول كذا، أو نحو ذلك، وحكمه أنه إن كان ذلك (مع ذكر عصر النبي) صلى الله عليه وسلم كقول جابر: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كنا نأكل لحوم الخيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول غيره، كنا لا نرى بأساً بكذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا، أو كان يقال كذا وكذا على عهده، أو كانوا يفعلون كذا وكذا في حياته، إلى غيرها من الألفاظ المفيدة للتكرار والاستمرار.
فهو وإن كان موقوفاً لفظاً (من قبيل ما رفع) الصحابي بصريح الإضافة، كما ذهبت إليه الجمهور من المحدثين وغيرهم، وقطع به الخطيب، ومن قبله الحاكم كما سيأتي.
ومن الأصوليين الإمام فخر الدين وأتباعه وعللوه بأن غرض الرازي بيان الشرع، وذلك يتوقف على علم النبي صلى الله عليه وسلم وعدم إنكاره. قال ابن الصلاح،
[ص 119]
وهو الذي عليه الاعتماد، لأن ظاهر ذلك مشعر بأنه صلى الله عليه وسلم، أطلع عليه وقدرهم، وتقريره كقوله وفعله، قال الخطيب: ولو علم الصحابي إنكاراً منه صلى الله عليه وسلم في ذلك لبينه، قال شيخنا ويدل له احتجاج أبي سعيد الخدري على جواز العزل بفعلهم له في زمن نزول الوحي، فقال: كنا نعزل والقرآن ينزل، لو كان شيء ينهي عنه لنهى عنه القرآن، وهو استدلال واضح، لأن الزمان زمانه تشريع.(3/247)
وكذا يدل له مجيء بعض ما أتى ببعض هذه الصيغ بصريح الرفع (وقيل لا) يكون مرفوعاً، حكاه ابن الصلاح عن البرقاني بلاغاً أنه سأل الإسماعيلي عنه فأنكر أن يكون مرفوعاً، كما خالف في نحو أمرنا يعني، بل هو موقوف مطلقاً قيد أم لا. بخلاف القول الأول، فهو مفصل فإن قيد بالعصر النبوي كما تقدم فمرفوع (أولا) أي وإن لم يقيد (فلا) يكون مرفوعاً (كذلك له) أي لابن الصلاح حيث جزم به ولم يحك فيه غيره (و) كذا (للخطيب) أيضاً في الكفاية، كما زاده الناظم مع أنه قد فهم عن مشترطي القيد في الرفع، وهم الجمهور كما تقدم القول به.
ولذلك قال النووي في شرح مسلم: وقال الجمهور من المحدثين وأصحاب الفقه والأصول إن لم يضفه فهو موقوف (قلت لكن) قد (جعله) أي هذا اللفظ لم يقيد بالعصر النبوي (مرفوعاً الحاكم) أبو عبد الله النيسابوري، وعبارته في علومه، ومنه أي ومما لم يصرح فيه بذكر الرسول صلى الله عليه وسلم قول الصحابي المعروف بالصبحة: أمرنا أن نفعل كذا، ونهينا عن كذا وكذا، نؤمر بكذا وكذا، انتهى عن كذا وكذا. نفعل كذا وكذا. نقول ورسول الله سلى الله عليه وسلم فينا كذا، وكنا لا نرى بأسا بكذا، وكان يقال كذا وكذا، وقول الصحابي من السنة كذا. وأشباه ما ذكرناه إذا قاله الصحابي المعروف بالصحبة، فهو حديث مسند أي مرفوع.
وكذا جعله مرفوعاً الإمام فخر الدين (الرازي نسبة بإلحاق الزاي للري مدينة مشورة كبيرة من بلاد الديلم بين قومس. والخيال، صاحب التفسير
[ص 120]
والمحصول ومناقب الشافعي، وشرح الوجيز للغزالي وغيرها، وأحد الأئمة وهو أبو عبد الله وأبو الفضائل (محمد بن الخطيب) بالري تلميذ محي السنة البغوي الإمام ضياء الدين عمر بن الحسين بن الحسن بن علي القرشي البكري التيمي الشافعي توفي بهراة في سنة ست وستمائة عن ثلاث وستين سنة كما نص على ذلك في المحصول.(3/248)
ولم يفرقا بين المضاف وغيره، وحينئذ فعن الفخر في المسألة قولان.وقال ابن الصلاح في العدة إنه الظاهر. قال الناظم تبعاً للنووي في شرح المهذب (وهو القوي) يعني من حديث المعنى زاد النووي إنه ظاهر إستعمال كثير من المحدثين والصحابة في كتب الفقه واعتمده الشيخان في صحيحهما، وأكثر منه البخاري.
قلت: ومما خرجه من أمثلة المسألة حديث سالم بن أبي الجعد عن جابر: كنا إذا صعدنا كبرنا، وإذا هبطنا سبحنا.
ويتأيد القول بالرفع بإيراد النسائي له من وجه آخر، عن جابر قال: كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا صعدنا وذكره فتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: الرفع مطلقاً، الوقوف مطلقاً، التفصيل.
وفيها رابع أيضاً، وهو التفصيل بين أن يكون ذلك الفعل مما لا يخفى غالباً فمرفوع، ويخفى كقول بعض الأنصار: كنا نجامع فنكسل، ولا نغتسل فموقوف، وبه قطع الشيخ أبو إسحق الشيرازي، وكذا قاله ابن السمعاني وحكاه النووي في شرح مسلم عن آخرين.
وخامس: وهو أنه إن أورده في معرض الاحتجاج فمرفوع، وإلا فموقوف حكاه القرطبي.
وسادس: وهو أنه إن كان قائله من أهل الاجتهاد فموقوف، وإلا فمرفوع.
[ص 121]
وسابع: وهو الفرق بين كنا نرى، وكنا نفعل، بأن الأول مشتق من الرأي، فيحتمل أن يكون مستنده تنصيصاً واستنباطاً.
وتعليل السيف الآمري وأتباعه كون كنا نفعل ونحوه حجة بأنه ظاهر في قول كل الأئمة لا يحسن إدراجهم مع القائلين بالأول، كما فعل الشارح لاختلاف المدركين.
وكل ما أوردناه من الخلاف حيث لم يكن في القصة إطلاعه صلى الله عليه وسلم.
أما إذا كان كقول ابن عمر: كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: " أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، وعمر، وعثمان، ويسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينكره" فحكمه الرفع إجماعاً.
ثم إن النفي كالإثبات فيما تقدم، كما علم من التمثيل، ولذلك مثل ابن الصباغ للمسألة بقول: عائشة: كانت اليد لا تقطع في الشيء التافه.
((3/249)
لكن حديث كان باب المصطفى) صلى الله عليه وسلم (يقرع) من الصحابة (بالأظفار) تأدباً وإجلالاً له كما عرف ذلك منهم في حقه، وإن قال السهيلي: إنه لأن بابه الكريم لم يكن له حلق يطرق بها (مما وقفا حكما) أي حكمة الوقف (لدى) أي عند (الحاكم) فإنه قال بعد أن أسنده كما سيأتي هذا حديث يتوهمه من ليس من أهل الصنعة مسند الذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس بمسند فإنه موقوف على صحابي حكى عن أقرانه من الصحابة فعلاً، وليس يسنده واحد منهم (و) كذا عند (الخطيب) أيضاً في جامعه نحوه.
وإن أنكر البلقيني تبعاً لبعض مشايخه وجوده فيه، فعبارته في الموقوف الخفي الذي ذكر من أمثلته هذا الحديث نصها قد يتوهم أنه هو مرفوع لذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو موقوف على صحابي حكى فيه عن غير النبي صلى الله عليه وسلم فعلاً، وذلك متعقبه عليهما (والرفع) في هذا الحديث (عند الشيخ) ابن الصلاح ذو تصويب قال: والحاكم معترف بكون ذلك من قبيل المرفوع يعني، لأنه جنح
[ص 122]
إلى الرفع في غير المضاف، فهو هنا أولى لكونه كما قال ابن الصلاح أحرى بإطلاعه صلى الله عليه وسلم.
قال: وقد كنا عددنا هذا فيما أخذنا عليه، ثم تأولناه له على أنه أراد أنه ليس بمسند لفظاً، بل هو موقوف كسائر ما تقدم، وإنما جعلناه مرفوعاً من حيث المعنى انتهى.
وهو جيد، وحاصله كما قال شيخنا: إن له جهتين جهة الفعل، وهو صادر من الصحابة، فيكون موقوفاً، وجهة التقرير وهو مضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حيث أن فائدة قرع بابه أنه يعلم أنه قرع، ومن لازم علمه بكونه قرع مع عدم إنكار ذلك على فاعله التقريع على ذلك الفعل، فيكون مرفوعاً، لكن يخدش فيه أنه يلزم منه أن يكون جميع قسم التقرير يجوز أن يسمى موقوفاً، لأن فاعله غير النبي صلى الله عليه وسلم قطعاً، وإلا فما اختصاص حديث القرع بهذا الاطلاق.(3/250)
قلت: والظاهر أنه يلتزمه في غير التقرير الصريح كهذا الحديث وغيره لا يلزمه، ويستأنس له بمنع الإمام أحمد، وابن مبارك من رفع حديث حذف السلام ينة كما سيأتي في آخر هذه الفروع، على أنه يحتمل أن الحاكم ترجح عنده احتمال كون القرع بعده صلى الله عليه وسلم بأن الاستئذان في حياته كان ببلال، أو برباح أو بغيرهما، وربما كان بإعلام المرء بنفسه، بل في حديث يسر بن سعيد عن زيد بن ثابت: احتجز النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد حجرة، وفيه أنه لم يخرج إليهم ليلة، قال فتنحنحوا ورفعوا أصواتهم وحصبوا بابه، ولم يجيء في خبر صريح الاستئذان عليه بالقرع، وإن فائدة ذكر القرع مع كونه بعده ما تضمنه من استمرارهم على مزيد الأدب بعده، إذ حرمته ميتا كحرمته حياً، وإذا كان كذلك فهو موقوف مطلقاً، فالله أعلم.
والحديث المشار إليه أخرجه الحاكم في علومه، وكذا في الأماني، كما عزاه إليها البيهقي في مدخله حيث أخرجه عن راوِ، ورواه أبو نعيم في
[ص 123]
المستخرج على علوم الحديث له عن راوِ آخر، كلاهما عن أحمد بن عمرو الزيبقي، بالزاي المكسورة المشددة ثم تحتانية، عن زكريا بن يحيى المنقري، عن الأصمعي، عن كيسان مولى هشام بن حسان، في رواية أبي نعيم عن هشام بن حسان، وفي رواية الآخرين عن محمد بن حسان، زاد البيهقي هو آخر هشام بن حسان، وهو حسن الحديث.
ثم اتفقوا عن محمد بن سيرين، زاد أبو نعيم في روايته عن عمرو بن وهب، ثم اتفقوا عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرعون بابه بالأضافير.(3/251)
وفي الباب عن أنس: أخرجه الخطيب في جامعه من طريق أبي غسان مالك ابن إسماعيل النهدي، وضرار بن صرد شيخ حميد بن الربيع فيه كلاما، عن المطلب ابن زياد الثقفي، ثم افترقا، ففي رواية أبي غسان أخبرني أبو بكر بن عبد الله الأصبهاني عن محمد بن مالك بن المنتصر، وفي رواية حميد بن عمر بن سويد، يعني العجلي، كلاهما عن أنس بن مالك قال: كان باب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرع بالأظافير لفظ حميد، ولفظ الآخر كانت أبواب النبي صلى الله عليه وسلم والباقي سواء، وكذا أخرجه البخاري في الأدب المفرد، والتاريخ عن أبي غسان والبزار في مسنده عن حميد بن الربيع عن ضراريه (وأما عد ما فسره الصحابي) الذي شاهد الوحي والتنزيل، من أي القرآن (رفعا) أي مرفوعاً كما فعل الحاكم، وعزاه للشيخين وهو الفرع الثالث (فمحمول على الأسباب) للنزول ونحوها مما لا مجال للرأي فيه لتصريح الخطيب فيها بقوله في حديث جابر الآتي قد يتوهم أنه موقوف، وإنما هو مسند، لأن الصحابي الذي شاهد الوحي إذا أخبر عن آية نزلت في كذا كان مسنداً وتبعه ابن الصلاح، وقيد به إطلاق الحاكم، وإنما كان كذلك لأن من التفسير مما ينشأ عن معرفة البلاغة واللغة كتفسير مفرد بمفرد، أو يكون متعلقاً بحكم شرعي، ونحو ذلك مما للرأي فيه
[ص 124]
مجال، فلا يحكم لما يكون من هذا القبيل بالرفع، لعدم تحتم إضافته إلى الشارع.
أما اللغة والبلاغة فلكونهم في الفصاحة والبلاغة بالمحل الرفيع.
وأما الأحكام فلاحتمال أن يكون مستفاداً من القواعد، بل هو معدود في الموقوفات.
ومنه، وهو المرفوع ما لا تعلق للسان أقرب به، ولا مجال للرأي فيه كتفسير أمر مغيب من أمر الدنيا، أو الآخرة، أو الجنة أو النار، وتعيين ثواب أو عقاب، ونحو ذلك من سبب نزول كقول جابر: كانت اليهود تقول من أتى امرأته من دبرها في قبلها جاء الولد أحول فأنزل الله {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} الآية.(3/252)
على أنه قد يقال: إنه يكفي في تسويغ الأخبار بالسبب، البناء على ظاهر الحال، كما لو سمع من الكفار كلاما، ثم أنزل الله تعالى ما يناقضه، إذ الظاهر أنه نزل رداً عليهم من غير احتياج إلى أن يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: هذا أنزل بسبب كذا، فقد وقع الأخبار منهم بالكثير بناء على ظاهر الحال، ومن ذلك قول الزبير رضي الله عنه في قصة الذي خاصمه في شراج الحرة: إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} وهو وإن كان في بعض الروايات جزم الزبير ذلك، فالراجح الأول، وإنه كان لا يجزم به، وإذا كان كذلك فطرقه الاحتمال.
وأما التقييد في قائل ما لا مجال للرأي فيه بكونه ممن لم يعرف بالنظر في
[ص 125]
الكتب القديمة، فسيأتي في سادس الفروع (و) الفرع الرابع، وآخر لصدور ألفاظه عمن دون الصحابي (قولهم) أي التابعي فمن دونه بعد ذكر الصحابة (يرفعه) أو رفعه أو مرفوعاً، كحديث سعيد بن جبير عن ابن عباس: "الشفاء في ثلاث شربه عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنهى أمتي عن الكي" رفع الحديث.(3/253)
وكذا قولهم (يبلغ به)، أو (رواية) أو يرويه كحديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، يبلغ به الناس تبع لقريش، وبه عن أبي هريرة رواية: تقاتلون قوما صغار الأعين، وكحديث سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رواية الفطرة خمس أو (ينميه) بفتح أوله وسكون النون، وكسر الميم كحديث مالك عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة. قال أبو حازم لا أعلم إلا أنه ينمي ذلك، وكذا قولهم يسنده أو يأثره مما الحاصل عليه، وعلى العدول عن التصريح بالإضافة، أما الشك في الصيغة التي سمع بها أهي" قال رسول الله" "أو نبي الله" أو نحو ذلك كسمعت أو حدثني، وهو ممن لا يرى الإبدال، كما أفاد حاصله المنذري، أو طلبا للتخفيف وإيثاراً للاختصار، أو للشك في ثبوته كما قالهما شيخنا، أو ورعا حيث علم أن المؤدي بالمعنى (رفع) أي مرفوع بلا خلاف، كما صرح به النووي واقتضاه قول ابن الصلاح.
وكل هذا وأمثاله كناية عن رفع الصحابي الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكم ذلك عند أهل العلم حكم المرفوع صريحاً انتهى.
ويدل لذلك مجيء بعض المكني به بالتصريح، ففي بعض الروايات لحديث: الفطرة خمس يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعضها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي بعضها لحديث سهل ينمى ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعضها قال مالك
[ص 126]
ينمي أي يرفع الحديث، والاصطلاح في هذه اللفظة موافق للغة، قال أهلها نميت الحديث إلى غيري نمياً، إذا أسندته ورفعته، وكذا في قوله، وأنهى أمتي عن الكي دليل لذلك، (فانبت) لهذه الألفاظ وما أشبهها مما الاصطلاح عن الكناية بها عن الرفع.(3/254)
تتمة:وقع في بعض الأحاديث قول الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم يرفعه، وهو في حكم قوله عن الله عز وجل، وأمثلته كثيرة، منها حديث حسن أن المؤمن عندي بمنزلة كل خير يحمدني، وأنا أنزع نفسه من بين جنبيه، وهذا من الأحاديث الإلهية، وقد جمع منها ابن المفضل الحافظ طائفة وأفردها غيره (وإن يقل) واحد من الألفاظ المتقدمة في الفرع قبله من راو (وعن تابع) من التابعين.
وهو الفرع الخامس، وقدم على ما بعده لاشتراكه مع الذي قبله في أكثر صيغه، وتوالى كلام ابن الصلاح (فمرسل) مرفوع بلا خلاف، ولذا قال ابن القيم: جزما (قلت):ومن السنة كذا (عنه) أي عن التابعي كقول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة التابعي: السنة تكبير الإمام يوم الفطر، ويوم الأضحى حين يجلس على المنبر قبل الخطبة، تسع تكبيرات (نقلوا تصحيح وقفه) على الصحابي عن الوجهين اللذين حكاهما النووي في شرحه لمسلم، والمهذب والوسيط لأصحاب الشافعي أهو موقوف متصل، أو مرفوع مرسل، وهو ممن صحح أيضاً أولهما.
وحينئذ فيفرق بينهما وبين ما قبلها من صيغ هذا الفرع، حيث اختلف الحكم فيهما بأن يرفع الحديث تصريح بالرفع وقريب منه ما ذكر معها بخلاف من السنة، فيطرقها احتمال إرادة سنة الخلفاء الراشدين فكثيراً ما يعبرون بها فيما يضاف إليهم، وقد يريدون سنة البلد، وهذا الاحتمال وإن قيل به في الصحابي فهو في التابعي أقوى، ولذلك اختلف الحكم في الموضعين كما
[ص 127]
افترق فيما تقرر من التابعي نفسه، نعم ألحق الشافعي رحمه الله بالصحابة سعيد بن المسيب عن الرجل لا يجد ما ينفق على إمراته؟ قال: يفرق بينهما، قال أبو الزناد فقلت سنة فقال: سعيد سنة، قال الشافعي: والذي يشبه قول سعيد سنة أن يكون أراد سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذا قال ابن المديني: إذا قال سعيد: مضت السنة فحسبك به، وحينئذ فهو مستثنى من التابعين كالمرسل على ما سيأتي.(3/255)
أما إذا جاء عن التابعي: كنا نفعل فليس بمرفوع قطعاً، ولا بموقوف إن لم يضفه لزمن الصحابة، بل مقطوع، فإن أضافه احتمل الوقف، لأن الظاهر اصطلاحهم على ذلك وتقريرهم له، ويحتمل عدمه، لأن تقرير الصحابي لا ينسب إليه بخلاف تقريره صلى الله عليه وسلم (وذو احتمال) للإرسال والوقف (نحو أمرنا) بالبناء للمفعول بكذا إذا أتى (منه) أي من التابعي (للغزالي) في المستصفى، فإنه قال: إذا قال التابعي أمرنا بكذا يحتمل أنه يريد أمر الشارع أو أمر كل الأمة فيكون حجة أو بعض الصحابة فلا، ومن ذلك ينشأ احتمالاً الرفع والوقف.
ولكن قوله: فيكون حجة كأنه يريد في الجملة إن شمل الأول فإنه مرسل، ثم إنه يصرح بترجيح واحد منهما، نعم يؤخذ من كلامه ترجيح إرادة الرفع أو الإجماع، وذلك أنه قال بعد قوله فلا، لكن لا يليق بالعالم أن يطلق ذلك، إلا وهو يريد من تجب طاعته.
وجزم أبو نصر بن الصباغ في العدة في أصول الفقه بأنه مرسل. وحكي في سعيد بن المسيب، هل يكن ما يأتي به من ذلك حجة وجهين: وإما إذا قال التابعي كانوا يفعلون بكذا، فلا يدل كما قال النووي في شرح مسلم تبعاً للغزالي، على فعل جميع الأمة، بل على البعض، فلا حجة فيه إلا أن يصرح بنقله عن أهل الإجماع، فيكون نقلاً لإجماع.
[ص 128]
وفي ثبوته بخبر الواحد خلاف، والذي قاله أكثر الناس واختاره الغزالي أنه لا يثبت.(3/256)
وذهبت طائفة وهو اختيار الرازي إلى ثبوته، وبه جزم الماوردي، وقال وليس آكد من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي تثبت به. قال وسواء كان من أهل الاجتهاد أم لا، أما إذا قال: لا أعرف بينهم فيه خلافاً، فإن كان من أهل الاجتهاد فاختلف أصحابنا فأثبت الإجماع به قوم، ونفاه آخرون، وإن لم يكن من أهل الاجتهاد، ولا ممن أحاط علماً بالإجماع والاختلاف لم يثبت الإجماع بقوله (و) الفرع السادس وآخر هو الذي بعده لأنهما من الزيادات (ما أتى عن صاحب) من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم موقوفاً عليه، لكنه مما لا مجال للاجتهاد فيه (بحيث لا يقال رأيا) أي من قبل الرأي (حكمه الرفع) تحسيناً للظن بالصحابي (على ما قال الإمام فخر الدين الرازي) في المحصول نحو: (من أتى ساحراً أو عرافاً فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. المروي عن ابن مسعود رضي الله عنه، ولم ينفرد بذلك (فالحاكم الرافع لهذا) أيضاً (اثبتا) حيث ترجم عليه في علومه معرفة المسانيد التي لا يذكر سندها، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأدخل معه في الترجمة كنا نفعل، وكان يقال ونحو ذلك مما مضى، بل حكى ابن عبد البر إجماعهم على أن قول أبي هريرة وقد رأى رجلاً خارجاً من المسجد بعد الأذان: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم. أنه مسند.
وأدخل في كتابه التقصي الموضوع لما في الموطأ من المرفوع عدة أحاديث ذكرها مالك في الموطأ موقوفة، منها حديث سهل بن أبي خيثمة في صلوات الخوف.
وصرح في التمهيد بأنه لا يقال من جهة الرأي، وقال أبو عمرو الداني قد يحكي الصحابي قولاً يوقفه على نفسه، فيخرجه أهل الحديث في المسند لامتناع أن يكون الصحابي قاله لا يتوقف، كحديث أبي صالح السمان عن أبي
[ص 129]
هريرة أنه قال: نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات. فمثل هذا لا يقال من قبل الرأي فيكون من جملة المسند.(3/257)
وقال ابن العربي في القبس: إذا قال الصحابي قولاً يقتضيه القياس، فإنه محمول على المسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومذهب مالك وأبي حنيفة أنه كالمسند انتهى.
وهو الظاهر من احتجاج الشافعي رحمه الله في الجديد، بقول عائشة فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، حيث أعطاه حكم المرفوع لكونه، مما لا مجال للرأي فيه، وإلا فقد نص على أن قول الصحابي ليس بحجة.
ومن أمثلة ذلك أيضاً قول أبي هريرة: ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله، وقول عمار بن ياسر من صام اليوم الذي يشك فيه، فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم..
لكن قد جوز شيخنا في ذلك، وما يشبهه احتمال إحالة الإثم على ما ظهر من القواعد، بل يمكن أن يقال ذلك أيضاً في الحديث الأول، أما الساحر فلقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}.
وأما العراف، وهو المنجم فلقوله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}.
قال شيخنا: لكن الأول يعني الحكم لها بالرفع أظهر انتهى.
على أن حديث ابن مسعود، وإن جاء من أوجه عنه بصورة الموقوف،
[ص 130]
فقد جاء من بعضها بالتصريح بالرفع،ومن الأدلة للأظهر أن أبا هريرة رضي الله عنه حدث كعب الأحبار بحديث: فقدت أمة من بني إسرائيل لا يدري ما فعلت، فقال له كعب: أأنت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقوله؟ فقال له أبو هريرة: نعم، وتكرر ذلك مراراً فقال له أبو هريرة: أفأقرأ التوراة. أخرجه البخاري في (الجن من بدو الخلق) من صحيحه.
قال شيخنا فيه إن أبا هريرة لم يكن يأخذ عن أهل الكتاب، وإن الصحابي الذي يكون كذلك إذا أخبر بما لا مجال للرأي والاجتهاد فيه، يكون للحديث حكم الرفع انتهى.(3/258)
وهذا يقتضي تقيد الحكم بالرفع لصدوره عن من لم يأخذ عن أهل الكتاب، وقد صرح بذلك فقال في مسألة تفسير الصحابي الماضية ما نصه: إلا أنه يستثنى من ذلك ما إذا كان الصحابي المفسر ممن عرف بالنظر في الإسرائيليات كعبد الله بن سلام وغيره، من مسلمة أهل الكتاب، وكعبد الله بن عمرو بن العاص، فإنه كان حصل له في وقعة اليرموك، كتب كثير من كُتُب أهل الكتاب، فكان يخبر بما فيها من الأمور المغيبة، حتى كان بعض أصحابه ربما قال له: حدثنا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تحدثنا عن الصحيفة، فمثل هذا لا يكون حكم ما يخبر به من الأمور النقلية الرفع لقوة الاحتمال، ولم يتعرض لتجويزه السابق، لكون الأظهر كما قال خلافه.
وسبقه شيخه الشارح لهذا التقييد، فإنه بعد أن نقل أن كثيراً ما يشنع ابن حزم في المحلي على القائلين بالرفع، يعني في أهل المسألة قال وما ملخصه: ولإنكاره وجه، فإنه وإن كان مما لا مجال للرأي فيه، يحتمل أن يكون ذاك الصحابي سمعه من أهل الكتاب، ككعب الأحبار حين سمع منه العبادلة وغيرهم من الصحابة مع قوله صلى الله عليه وسلم: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)، قلت وفي ذلك نظر، فإنه يبعد أن الصحابي المتصف بالأخذ عن أهل الكتاب يسوغ
[ص 131]
حكاية شيء من الأحكام الشرعية التي لا مجال للرأي فيها مستنداً لذلك من غير عزو مع علمه بما وقع فيه من التبديل والتحريف، بحيث سمي ابن عمرو بن العاص صحيفة النبوية الصادقة احترازاً عن الصحيفة اليرموكية.
وقال كعب الأحبار: حين سأل أبا مسلم الخولاني كيف تجد قومك لك؟ قال مكرمين ما نصه: ما صدقتني التوراة لأن فيها: إذا ما من رجل حكيم في قوم إلا بغوا عليه وحسدوه. وكونه في مقام تبيين الشريعة المحمدية كما قيل به في أمرنا ونهينا وكنا نفعل، ونحو ذلك فحاشاهم من ذلك خصوصاً، وقد منع عمر رضي الله عنه كعباً من التحديث بذلك، قائلاً له لتتركنه أو لألحقنك بأرض القردة.(3/259)
وأصرح منه، منع ابن عباس له، ولو وافق كتابنا، وقال إنه لا حاجة بنا إلى ذلك، وكذا نهى عن مثله ابن مسعود وغيره من الصحابة، بل امتنعت عائشة من قبول هداية رجل معللة المنع بكونه ينعت الكتب الأول ولا ينافيه، حدثوا عن بني إسرائيل فهو خاص، بما وقع فيهم من الحوادث والأخبار المحكية عنهم، لما في ذلك من العبارة والعظة بدليل قوله: تلوه في رواية، فإنه كانت فيهم الأعاجيب.
وما أحسن قول بعض أئمتنا: هذا دال على سماعه للفرجة لا للحجة، كما بسطت ذلك كله واضحاً في كتابي الأصل الأصيل في الإجماع على تحريم النقل من التوراة والإنجيل.
إذا علم هذا، فقد ألحق ابن العربي بالصحابة في ذلك ما يجيء عن التابعين أيضاً مما لا مجال للاجتهاد فيه، فنص على أنه يكون في حكم المرفوع، وادعى أنه مذهب مالك، قال: وهذا أدخل عن سعيد بن المسيب: صلاة الملائكة خلف المصلي انتهى.
وقد يكون ابن المسيب اختص بذلك عن التابعين، كما اختص دونهم
[ص 132]
بالحكم في قوله من السنة، وأمرنا والاحتجاج بمراسيله كما تقرر في أماكنه، ولكن الظاهر أن مذهب مالك هنا التعميم، وبهذا الحكم أجيب من اعترض في إدخال المقطوع والموقوف في علوم الحديث، كما أشرت إليه في المقطوع (و) الفرع السابع (ما رواه عن أبي هريرة). بكسر تاء التأنيث رضي الله عنه (محمد) بن سيرين (و) رواه (عنه) أي عن ابن سيرين (أهل البصرة). بفتح الموحدة على المشهور. (وكر) رأي ابن سيرين، أو الراوي من البصريين عنه (قال بعد) أي بعد أبي هريرة، بأن قال بعده قال قال بحذف فاعل.
قال الثاني: مثاله ما رواه الخطيب في الكفاية من طريق دعلج، حدثنا موسى ابن هارون هو إكمال بحديث حماد بن زيد عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال قال: الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه وقد رواه كذلك النسائي في الكبرى، عن عمرو بن زرارة عن إسماعيل بن عليه عن أيوب.(3/260)
ومن حديث النصر بن شميل، عن عبد الله بن عون، كلاهما عن ابن سيرين، (فالخطيب روى) عن موسى المذكور (به) أي في الآتي، كذلك (الرفع) فإنه قال: إذا قال حماد بن زيد، والبصريون قال: قال فهو مرفوع، وقال الخطيب: عقبه قلت: للبرقاني أحسب أن موسى عنى بهذا القول أحاديث ابن سيرين خاصة فقال كذا يجب.
قال الخطيب: ويحققه وساق من طريق بشر بن الفضل، عن خالد، قال قال محمد بن سيرين: كل شيء حديث عن أبي هريرة فهو مرفوع، ولذلك أمثلة كثيرة منها ما رواه البخاري في المناقب من صحيحه، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد به إلى أبي هريرة قال: قال أسلم وغفار وشيء من مزينة الحديث، وروى غيره من حديث عبد الوارث عن أيوب عن محمد عن أبي
[ص 133]
هريرة قال قال: إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة (وذا) أي الحكم بالرفع فيما يأتي عن ابن سيرين بتكرير قال خاصة (عجيب). لتصريحه بالتعميم في كل ما رواه عن أبي هريرة، بل لولا ثبوت هذا القول عنه لم يسغ الجزم بالرفع في ذلك إذ مجرد التكرير من ابن سيرين وغيره على الاحتمال، وإن كان جانب الرفع أقوى فقد وجدنا الكثير مما جاء عن غير ابن سيرين، كذلك جاء بصريح الرفع في رواية أخرى.
بحديث شعبة عن إدريس الأودي، عن أبيه، عن أبي هريرة قال قال: لا يصلي أحدكم وهو يجد الخبث.
وحديث زيد بن الحباب، عن أبي المنيب، عن ابن بريدة، عن أبيه قال قال: الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا.
وحديث أبي نعامة السعدي، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر قال قال: كيف أنتم، أو قال: كيف أنت إذا بقيت في قوم يؤخرون الصلاة. الحديث فآخرها جاء من حديث أبي العالية البراء عن ابن الصامت بصريح الرفع. والأولان ذكر الخطيب مع قوله: شبه فيهما أنهما جاء من طريقين آخرين مرفوعين.(3/261)
خاتمة: لو أريد عزو لفظ مما جاء بشيء من كنايات الرفع، وما أشبهها على ما تفرد في هذه الفروع بصريح الإضافة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ممنوعاً، فقد نهى أحمد بن حنبل الفرياني، وابن المبارك عيسى بن يونس الرملي عن رفع حديث حذف السلام سنة، وقال المصنف بعد حكايته في تخريجه الكبير للإحياء ما حصله المنهي عنه عزو، هذا القول إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا الحكم بالرفع.
[ص 134]
وفي البداية والنهاية :
ثم دخلت سنة أربع وعشرين وستمائة.
جنكيز خان
السلطان الأعظم عند التتار والد ملوكهم اليوم، ينتسبون إليه ومن عظم القان إنما يريد هذا الملك وهو الذي وضع لهم السياسة التي يتحاكمون إليها، ويحكمون بها، وأكثرها مخالف لشرائع الله تعالى وكتبه، وهو شيء اقترحه من عند نفسه، وتبعوه في ذلك، وكانت تزعم أمه أنها حملته من شعاع الشمس، فلهذا لا يعرف له أب والظاهر أنه مجهول النسب.
وقد رأيت مجلداً جمعه الوزير ببغداد علاء الدين الجويني في ترجمته فذكر فيه سيرته، وما كان يشتمل عليه من العقل السياسي والكرم والشجاعة والتدبير الجيد للملك والرعايا، والحروب.
فذكر أنه كان في ابتداء أمره خصيصاً عند الملك أزبك خان، وكان إذ ذاك شاباً حسناً وكان اسمه أولاً تمرجي، ثم لما عظم سمى نفسه جنكيزخان.
وكان هذا الملك قد قربه وأدناه فحسده عظماء الملك ووشوا به إليه حتى أخرجوه عليه، ولم يقتله ولم يجد له طريقاً في ذنب يتسلط عليه به، فهو في ذلك إذ تغضب الملك على مملوكين صغيرين فهربا منه ولجآ إلى جنكيزخان فأكرمهما وأحسن إليهما فأخبراه بما يضمره الملك أزبك خان من قتله، فأخذ حذره وتحيز بدولة واتبعه طوائف من التتار وصار كثير من أصحاب أزبك خان ينفرون إليه ويفدون عليه فيكرمهم ويعطيهم حتى قويت شوكته وكثرت جنوده.
ثم حارب بعد ذلك أزبك خان فظفر به وقتله واستحوز على مملكته وملكه، وانضاف إليه عَدده وعُدده وعظم أمره.(3/262)
وبعد صيته وخضعت له قبائل الترك ببلاد طمعاج كلها حتى صار يركب في نحو ثمان مائة ألف مقاتل، وأكثر القبائل قبيلته التي هو منها يقال لهم: قيان.
ثم أقرب القبائل إليه بعدهم قبيلتان كبيرتا العدد وهما أزان وقنقوران وكان يصطاد من السنة ثلاثة أشهر والباقي للحرب والحكم.
قال الجويني: وكان يضرب الحلقة يكون ما بين طرفيها ثلاثة أشهر ثم تتضايق فيجتمع فيها من أنواع الحيوانات شيء كثير لا يحد كثرة، ثم نشبت الحرب بينه وبين الملك علاء الدين خوارزم شاه صاحب بلاد خراسان والعراق وأذربيجان وغير ذلك والأقاليم والملك، فقهره جنكيزخان وكسره وغلبه وسلبه، واستحوذ على سائر بلاده بنفسه وبأولاده في أيسر مدة كما ذكرنا ذلك في الحوادث.
وكان ابتداء ملك جنكزخان سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وكان قتاله لخوارزم شاه في حدود سنة ست عشرة وستمائة، ومات خوارزم شاه في سنة سبع عشرة كما ذكرنا، فاستحوذ حينئذ على الممالك بلا منازع ولا ممانع. (ج/ص: 13/139)
وكانت وفاته في سنة أربع وعشرين وستمائة، فجعلوه في تابوت من حديد وربطوه بسلاسل وعلقوه بين جبلين هنالك.
وأما كتابه (الياسا) فإنه يكتب في مجلدين بخط غليظ، ويحمل على بعير عندهم، وقد ذكر بعضهم أنه كان يصعد جبلاً ثم ينزل ثم يصعد ثم ينزل مراراً حتى يعي ويقع مغشياً عليه، ويأمر من عنده أن يكتب ما يلقي على لسانه حينئذ، فإن كان هذا هكذا فالظاهر أن الشيطان كان ينطق على لسانه بما فيها.
وذكر الجويني: أن بعض عبادهم كان يصعد الجبال في البرد الشديد للعبادة فسمع قائلاً يقول له: إنا قد ملكنا جنكيزخان وذريته وجه الأرض، قال الجويني: فمشايخ المغول يصدقون بهذا ويأخذونه مسلماً.(3/263)
ثم ذكر الجويني نتفاً من (الياسا) من ذلك: أنه من زنا قتل محصناً كان أو غير محصن، وكذلك من لاط قتل، ومن تعمد الكذب قتل، ومن سحر قتل، ومن تجسس قتل، ومن دخل بين اثنين يختصمان فأعان أحدهما قتل، ومن بال في الماء الواقف قتل، ومن انغمس فيه قتل، ومن أطعم أسيراً أو سقاه أو كساه بغير إذن أهله قتل، ومن وجد هارباً ولم يرده قتل، ومن أطعم أسيراً أو رمى إلى أحد شيئاً من المأكول قتل، بل يناوله من يده إلى يده ومن أطعم أحداً شيئاً فليأكل منه أولاً ولو كان المطعوم أميراً لا أسيراً، ومن أكل ولم يطعم من عنده قتل.
ومن ذبح حيواناً ذبح مثله بل يشق جوفه ويتناول قلبه بيده يستخرجه من جوفه أولاً.
وفي ذلك كله مخالفة لشرائع الله المنزلة على عباده الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى (الياسا) وقدمها عليه ؟
من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين. قال الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}. [المائدة: 50]
وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} صدق الله العظيم، [النساء: 65].
ومن آدابهم: الطاعة للسلطان غاية الاستطاعة، وأن يعرضوا عليه أبكارهم الحسان ليختار لنفسه، ومن شاء من حاشيته، ما شاء منهن، ومن شأنهم أن يخاطبوا الملك باسمه، ومن مر بقوم يأكلون فله أن يأكل معهم من غير استئذان، ولا يتخطى موقد النار، ولا طبق الطعام، ولا يقف على أسكفه الخركاه ولا يغسلون ثيابهم حتى يبدو وسخها، ولا يكلفون العلماء من كل ما ذكر شيئاً من الجنايات، ولا يتعرضون لمال ميت.(3/264)
وقد ذكر علاء الدين الجويني: طرفاً كبيراً من أخبار جنكيزخان ومكارم كان يفعلها لسجيته وما أداه إليه عقله، وإن كان مشركاً بالله كان يعبد معه غيره، وقد قتل من الخلائق ما لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم، ولكن كان البداءة من خوارزم شاه، فإنه لما أرسل جنكيزخان تجاراً من جهته معهم بضائع كثيرة من بلاده فانتهوا إلى إيران فقتلهم نائبها من جهة خوارزم شاه، وهو والد زوجة كشلي خان، وأخذ جميع ما كان معهم، فأرسل جنكيزخان إلى خوارزم شاه يستعمله هل وقع هذا الأمر عن رضى منه، أو أنه لا يعلم به، فأنكره، وقال له فيما أرسل إليه:
(ج/ص: 13/140) من المعهود من الملوك أن التجار لا يقتلون لأنهم عمارة الأقاليم، وهم الذين يحملون إلى الملوك ما فيه التحف والأشياء النفيسة، ثم إن هؤلاء التجار كانوا على دينك فقتلهم نائبك، فإن كان أمراً أمرت به طلبنا بدمائهم، وإلا فأنت تنكره وتقتص من نائبك.
فلما سمع خوارزم شاه ذلك من رسول جنكيز خان لم يكن له جواب سوى أنه أمر بضرب عنقه فأساء التدبير، وقد كان خرف وكبرت سنه، وقد ورد الحديث: ((اتركوا الترك ما تركوكم))، فلما بلغ ذلك جنكيز خان تجهز لقتاله وأخذ بلاده، فكان بقدر الله تعالى ما كان من الأمور التي لم يسمع بأغرب منها ولا أبشع.
فمما ذكره الجويني: أنه قدم له بعض الفلاحين بالصيد ثلاث بطيخات فلم يتفق أن عند جنكيز خان أحد من الخزندارية، فقال: لزوجته خاتون: أعطيه هذين القرطين اللذين في أذنيك.
وكان فيهما جوهرتان نفيستان جداً، فشحت المرأة بهما
وقالت: انظره إلى غد.
فقال: إنه يبيت هذه الليلة مقلقل الخاطر، وربما لا يجعل له شيء بعد هذا، وإن هذين لا يمكن أحد إذا اشتراهما إلا جاء بهما إليك فانتزعتهما فدفعتهما إلى الفلاح فطار عقله بهما، وذهب بهما فباعهما لأحد التجار بألف دينار، ولم يعرف قيمتهما، فحملهما التاجر إلى الملك فردهما على زوجته، ثم أنشد الجويني عند ذلك:(3/265)
ومن قال إن البحر والقطر أشبها * نداه فقد أثنى على البحر والقطر
قالوا: واجتاز يوماً في سوق، فرأى عند بقال عناباً فأعجبه لونه، ومالت نفسه إليه، فأمر الحاجب أن يشتري منه ببالس، فاشترى الحاجب بربع بالس، فلما وضعه بين يديه أعجبه وقال: هذا كله ببالس؟ قال: وبقي منه هذا - وأشار إلى ما بقي معه من المال - فغضب وقال:
من يجد من يشتري منه مثلي تمموا له عشرة بوالس.
قالوا: وأهدى له رجل جام زجاج من معمول حلب فاستحسنه جنكيز خان فوهن أمره عنده بعض خواصه وقال: خوند هذا زجاج لا قيمة له.
فقال: أليس قد حمله من بلاد بعيدة حتى وصل إلينا سالماً؟ أعطوه مائتي بالس.
قال: وقيل له: إن في هذا المكان كنزاً عظيماً إن فتحته أخذت منه مالاً جزيلاً.
فقال: الذي في أيدينا يكفينا، ودع هذا يفتحه الناس ويأكلونه فهم أحق به منا، ولم يتعرض له.
قال: واشتهر عن رجل في بلاده يقول: أنا أعرف موضع كنز ولا أقول إلا للقان، وألح عليه الأمراء أن يعلمهم فلم يفعل، فذكروا ذلك للقان فأحضره على خيل الآولاق - يعني البريد - سريعاً فلما حضر إلى بين يديه سأله عن الكنز.
فقال: إنما كنت أقول ذلك حيلة لأرى وجهك.
فلما رأى تغير كلامه غضب وقال له: قد حصل لك ما قلت، ورده إلى موضعه سالماً ولم يعطه شيئاً.
قال: وأهدى له إنسان رمانة فكسرها وفرق حبها على الحاضرين وأمر له بعدد حبها بوالس ثم أنشد: (ج/ص: 13/141)
فلذاك تزدحم الوفود ببابه * مثل ازدحام الحب في الرمان
قال: وقدم عليه لرجل كافر يقول: رأيت في النوم جنكيز خان يقول: قل لأبي يقتل المسلمين، فقال له هذا كذب، وأمر بقتله.
قال: وأمر بقتل ثلاثة قد قضت (الياسا) بقتلهم، فإذا امرأة تبكي وتلطم.
فقال: ما هذه؟ أحضروها.
فقالت: هذا ابني، وهذا أخي، وهذا زوجي.
فقال: اختاري واحداً منهم حتى أطلقه لك.
فقالت: الزوج يجيء مثله، والابن كذلك، والأخ لا عوض له، فاستحسن ذلك منها، وأطلق الثلاثة لها.(3/266)
قال: وكان يحب المصارعين وأهل الشطارة، وقد اجتمع عنده منهم جماعة، فذكر له إنسان بخراسان فأحضره فصرع جميع من عنده، فأكرمه وأعطاه وأطلق له بنتاً من بنات الملوك حسناء.
فمكثت عنده مدة لا يتعرض لها، فاتفق مجيئها إلا الاردوا فجعل السلطان يمازحها.
ويقول: كيف رأيت المستعرب؟ فذكرت له أنه لم يقربها، فتعجب من ذلك وأحضره فسأله عن ذلك.
فقال: يا خوند أنا إنما حظيت عندك بالشطارة ومتى قربتها نقصت منزلتي عندك.
فقال: لا بأس عليك وأحضر ابن عم له وكان مثله، فأراد أن يصارع الأول.
فقال السلطان: أنتما قرابة ولا يليق هذا بينكما وأمر له بمال جزيل.
قال: ولما احتضر أوصى أولاده بالاتفاق وعدم الافتراق، وضرب لهم في لك الأمثال، وأحضر بين يديه نشاباً وأخذ سهماً أعطاه لواحد منهم فكسره، ثم أحضر حزمة ودفعها إليهم مجموعة فلم يطيقوا كسرها.
فقال: هذا مثلكم إذا اجتمعتم واتفقتم، وذلك مثلكم إذا انفردتم واختلفتم.
قال: وكان له عدة أولاد ذكور وإناث منهم أربعة هم عظماء أولاده أكبرهم يوسي وهريول وباتو وبركة وتركجار، وكان كل منهم له وظيفة عنده.
ثم تكلم الجويني على ملك ذريته إلى زمان هولاكو خان، وهو يقول في اسمه ياذشاه زاره هولاكو، وذكر ما وقع في زمانه من الأوابد والأمور المعروفة المزعجة كما بسطناه في الحوادث والله أعلم. (ج/ص: 13/142)
السلطان الملك المعظم
عيسى بن العادل أبي بكر بن أيوب، ملك دمشق والشام، كانت وفاته يوم الجمعة سلخ ذي القعدة من هذه السنة، وكان استقلاله بملك دمشق لما توفي أبوه سنة خمس عشرة، وكان شجاعاً باسلاً عالماً فاضلاً.(3/267)
اشتغل في الفقه على مذهب أبي حنيفة على الحصيري مدرس النورية، وفي اللغة والنحو على التاج الكندي، وكان محفوظه مفصل الزمخشري، وكان يجيز من حفظه بثلاثين ديناراً، وكان قد أمر أن يجمع له كتاب في اللغة يشمل (صحاح) الجوهري و(الجمهرة) لابن دريد و(التهذيب) للأزهري وغير ذلك، وأمر أن يرتب له (مسند) الإمام أحمد.
وكان يحب العلماء ويكرمهم ويجتهد في متابعة الخير ويقول: أنا على عقيدة الطحاوي.
وأوصى عند وفاته أن لا يكفن إلا في البياض، وأن يلحد له ويدفن في الصحراء ولا يبني عليه، وكان يقول:
واقعة دمياط أدخرها عند الله تعالى وأرجو أن يرحمني بها - يعني أنه أبلى بها بلاء حسناً - رحمه الله تعالى، وقد جمع له بين الشجاعة والبراعة والعلم ومحبة أهله.
وكان يجيء في كل جمعة إلى تربة والده فيجلس قليلاً، ثم إذا ذكر المؤذنون ينطلق إلى تربة عمه صلاح الدين فيصلي فيها الجمعة، وكان قليل التعاظم، يركب في بعض الأحيان وحده ثم يلحقه بعض غلمانه سوقاً.
وقال فيه بعض أصحابه وهو محب الدين بن أبي السعود البغدادي: لئن غودرت تلك المحاسن في الثرى بوالٍ * فما وجدي عليك ببالِ
ومذ غبت عني ما ظفرت بصاحبٍ * أخي ثقة إلا خطرت ببالي
وملك بعده دمشق ولده الناصر داود بن المعظم، وبايعه الأمراء.
أبو المعالي أسعد بن يحيى
ابن موسى بن منصور بن عبد العزيز بن وهب الفقيه الشافعي البخاري، شيخ أديب فاضل خير، له نظم ونثر ظريف، وله نوادر حسنة وجاوز التسعين.
قد استوزره صاحب حماة في وقت، وله شعر رائق أورد منه ابن الساعي قطعة جيدة. فمن ذلك قوله:
وهواك ما خطر السلو بباله * ولأنت أعلم في الغرام بحالهِ
فمتى وشى واش إليك بشأنه * سائل هواك فذاك من أعدالهِ
أو ليس للدنف المعنى شاهد * من حاله يغنيك عن تسآلهِ
جددت ثوب سقامه وهتكت ستـ * ر غرامه، وصرمت حبل وصالهِ
ياللعجائب من أسيرٍ دأبه * يفدي الطليق بنفسه وبمالهِ
وله أيضاً: (ج/ص: 13/143)(3/268)
لام العواذل في هواك فأكثروا * هيهات ميعاد السلو المحشر
جهلوا مكانكِ في القلوب وحاولوا * لو أنهم وجدوا كوجدي أقصروا
صبراً على عذب الهوى وعذابهِ * وأخو الهوى أبداً يلام ويعذرُ
أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد
ابن أحمد بن حمدان الطبي المعروف بالصائن، أحد المعيدين بالنظامية، ودرس بالثقفية، وكان عارفاً بالمذهب والفرائض والحساب، صنف شرحاً للتنبيه. ذكره ابن الساعي.
أبو النجم محمد بن القاسم بن هبة الله التكريتي
الفقيه الشافعي، تفقه على أبي القاسم بن فضلان، ثم أعاد بالنظامية ودرس بغيرها، وكان يشتغل كل يوم عشرين درساً، ليس له دأب إلا الاشتغال وتلاوة القرآن ليلاً ونهاراً.
وكان بارعاً كثير العلوم، قد أتقن المذهب والخلاف، وكان يفتي في مسألة الطلاق الثلاث بواحدة فتغيظ عليه قاضي القضاة أبو القاسم عبد الله بن الحسين الدامغاني، فلم يسمع منه ثم أخرج إلى تكريت فأقام بها، ثم استدعى إلى بغداد، فعاد إلى الاشتغال وأعاده قاضي القضاة نصر بن عبد الرزاق إلى إعادته بالنظامية، وعاد إلى ما كان عليه من الاشتغال والفتوى والوجاهة إلى أن توفي في هذه السنة رحمه الله تعالى. وهذا ذكره ابن الساعي.
وفي اللسان :
شجر:
الشَّجَرَة الواحدة تجمع على الشَّجَر والشَّجَرَات والأَشْجارِ، والمُجْتَمِعُ الكثيرُ منه في مَنْبِتِه: شَجْرَاءُ.
الشَّجَر والشِّجَر من النَّبات: ما قام على ساق.
وقيل: الشَّجَر كل ما سما بنفسه، دَقَّ أَو جلَّ، قاوَمَ الشِّتاءَ أَو عَجَزَ عنه، والواحدة من كل ذلك شَجَرَة وشِجَرَة، وقالوا: شِيَرَةٌ فأَبدلوا، فإِمَّا أَن يكون على لغة من قال: شِجَرَة، وإِمَّا أَن تكون الكسرة لمجاورتها الياء؛ قال:
تَحْسَبُه بين الأَكامِ شِيَرَهْ *
وقالوا في تصغيرها: شِيَيْرَة وشُيَيْرَة.
(ج/ص: 4/395)(3/269)
قال: وقال مرة: قلبت الجيم ياء في شِيَيْرَة كما قلبوا الياء جيماً في قولهم: أَنا تَمِيمِجٌّ أَي: تميميّ، وكما روي عن ابن مسعود: على كل غَنِجٍّ، يريد غَنِيٍّ؛ هكذا حكاه أَبو حنيفة، بتحريك الجيم، والذي حكاه سيبويه: أَنَّ ناساً من بني سعد يبدلون الجيم مكان الياء في الوقف خاصَّة، وذلك لأَنَّ الياء خفيفة فأَبدلوا من موضعها أَبْين الحروف، وذلك قولهم: تَمِيمِجْ في تَمِيميْ، فإِذا وصلوا لم يبدلوا؛ فأَمَّا ما أَنشده سيبويه من قولهم:
خالي عُوَيْفٌ وأَبو عَلِجِّ *
المُطْعِمانِ اللحمَ بالعَشِجِّ *
وفي الغَداةِ فِلَقَ البَرْنِجِّ *
فإِنَّه اضطر إِلى القافية فأَبدل الجيم من الياء في الوصل كما يبدلها منها في الوقف.
قال ابن جني: أَمَّا قولهم في شَجَرَة: شِيَرَة فينبغي أَن تكون الياء فيها أَصلاً ولا تكون مبدلة من الجيم لأَمرين:
أَحدهما: ثبات الياء في تصغيرها في قولهم: شُيَيْرَةُ ولو كانت بدلاً من الجيم لكانوا خُلَقَاء إِذا حَقَّروا الاسم أَن يردّوها إِلى الجيم ليدلوا على الأَصل.
والآخر: أَن شين شَجَرة مفتوحة وشين شِيرَةَ مكسورة، والبدل لا تغير فيه الحركات إِنما يوقع حرف موضع حرف.
ولا يقال للنَّخلة: شجرة.
قال ابن سيده: هذا قول أَبي حنيفة في كتابه الموسوم (بالنَّبات).
وأَرض شَجِرَة وشَجِيرة وشَجْرَاء: كثيرة الشَّجَرِ.
والشَّجْراءُ: الشَّجَرُ، وقيل: اسم لجماعة الشَّجَر، وواحد الشَّجْراء شَجَرَة، ولم يأْت من الجمع على هذا المثال إِلاَّ أَحرف يسيرة: شَجَرَة وشَجراء، وقَصَبَة وقَصْباء، وطَرَفة وطَرْفاء، وحَلَفَة وحَلْفاء.
وكان الأَصمعي يقول في واحد الحلفاء: حَلِفة، بكسر اللام، مُخالفة لأَخَواتها.
وقال سيبويه: الشَّجْراء واحد وجمع، وكذلك القَصْباء والطَّرْفاء والحَلْفاء.
وفي حديث ابن الأَكوع: ((حتى كنت في الشَّجْراء)).
أَي: بين الأَشجار المُتَكاثِفَة.(3/270)
قال ابن الأَثير: هو الشَّجَرة كالقَصْباء للقَصَبة، فهو اسم مفرد يراد به الجمع، وقيل: هو جمع، والأَوَّل أَوجه.
والمَشْجَرُ: مَنْبِت الشَجر.
والمَشْجَرَة: أَرض تُنبِت الشَّجر الكثير.
والمَشْجَر: موضع الأَشجار وأَرض مَشْجَرَة: كثيرة الشَّجر؛ عن أَبي حنيفة.
وهذا المكان الأَشْجَرُ من هذا أَي: أَكثر شَجَرَاً؛ قال: ولا أَعرف له فِعْلاً.
وهذه الأَرض أَشجر من هذه أَي: أَكثر شَجَراً.
ووادٍ أَشْجَرُ وشَجِيرٌ ومُشْجرٌ: كثير الشَّجر.
الجوهري: وادٍ شَجِيرٌ ولا يقال: وادٍ أَشْجَرُ.
وفي الحديث: ((ونأَى بي الشَّجَرُ)).
أَي: بَعُدَ بيَ المرعَى في الشَّجَر.
وأَرض عَشِبَة: كثيرة العُشْب، وبَقِيلة وعاشِبَة وبَقِلة وثَمِيرة إِذا كان ثَمَرَتها.
وأَرض مُبْقِلَة ومُعْشِبَة.
(التهذيب): الشَّجر أَصناف، فأَمَّا جِلُّ الشَّجر فَعِظامُه التي تبقى على الشِّتاء، وأَما دُقُّ الشَّجر فصنفان:
أَحدهما: يبقى على الشِّتاء، وتَنْبْتُ في الرَّبيع.
ومنه ما يَنْبُت من الحَبَّة كما تَنْبُتُ البقُول، وفرق ما بين دِقِّ الشَّجر والبقل أَنَّ الشَّجر له أَرُومة تبقى على الشِّتاء ولا يبقى للبقْل شيء.
وأَهل الحجاز يقولون: هذه الشَّجر، بغير هاء، وهم يقولون: هي البُرُّ وهي الشَّعير وهي التَّمر.
ويقولون: هي الذَّهب لأَنَّ القطعة منه ذهَبَة؛ وبِلُغَتهم نزل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا} [التوبة: 34] فأَنَّثَ.
ابن السكيت: شاجَرَ المالُ إِذا رَعَى العُشْبَ والبَقْلَ فلم يُبْق منها شيئاً فصار إِلى الشَّجر يرعاه؛ قال الراجز يصف إِبلاً: (ج/ص: 4/396)
تَعْرِفُ في أَوْجُهِها البشائِرِ * آسانَ كلِّ آفقٍ مُشاجِرِ
وكل ما سُمِك ورُفِعَ، فقد شُجِرِ.
وشَجَرَ الشَّجَرة والنَّبات شَجْراً: رَفَع ما تَدَلَّى من أَغصانها.
((3/271)
التهذيب) قال: وإِذا نزلتْ أَغصانُ شَجَرٍ أَو ثوب فرفعته وأَجفيتَه قلت: شَجَرْته، فهو مَشْجُور؛ قال العجاج:
رقَّعَ من جِلالِه المَشْجُور *
والمُشَجَّرُ من التَّصَاوير: ما كان على صفة الشَّجر.
وديباج مُشَجَّرٌ: نَقْشُه على هيئة الشَّجر.
والشَّجرة التي بويع تحتها سيدُنا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- قيل: كانت سَمُرَة.
وفي الحديث: ((الصَّخْرةُ والشَّجَرة من الجنَّة)).
قيل: أَراد بالشَّجرة الكَرْمَة، وقيل: يحتمل أَن يكون أَراد بالشَّجرة شَجَرَة بَيْعَة الرِّضوان لأَنَّ أَصحابها اسْتَوجَبوا الجنَّة.
واشْتَجَرَ القومُ: تخالفوا: ورماح شواجِرُ ومُشْتَجِرة ومُتَشاجِرَة: مُخْتلفةٌ مُتَداخلة.
وشَجَر بينهم الأَمْرُ يَشْجُرُ شَجْراً: تنازعوا فيه.
وشَجَر بين القوم إِذا اختلف الأَمر بينهم.
واشْتَجَرَ القوم وتَشاجَرُوا أَي: تنازعوا.
والمُشاجَرة: المنازعة.
وفي التنزيل العزيز: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65].
قال الزجاج: أَي: فيما وقع من الاختلاف في الخصومات حتى اشْتَجَرُوا وتشاجَرُوا أَي: تشابَكُوا مختلفين.
وفي الحديث: ((إِيَّاكم وما شَجَرَ بين أَصحابي)).
أَي: ما وقع بينهم من الاختلاف.
وفي حديث أَبي عمرو النخعي: ((وذكَرَ فتنة يَشْتَجِرون فيها اشْتِجارَ أَطْباق الرَّأْس)).
أَراد أَنهم يشتبكون في الفتنة والحرب اشْتباك أَطْباق الرَّأْس، وهي عظامه التي يدخل بعضُها في بعض.
وقيل: أَراد يختلفون كما تَشْتَجِرُ الأَصابع إِذا دخل بعضها في بعض.
وكلُّ ما تداخل، فقد تشاجَرِ واشْتَجَرَ.
ويقال: التَقَى فئتان فتشاجَرُوا برماحهم أَي: تشابكوا.
واشْتَجَرُوا بِرِماحِهِم وتشاجَرُوا بالرِّماح: تطاعنوا.
وشجَرَ: طَعن بالرُّمح.
وشَجَره بالرمح: طعنه.
وفي حديث الشُّرَاة: ((فَشَجَرْناهم بالرماح)).(3/272)
أَي: طعنَّاهم بها حتى اشتبكتْ فيهم، وكذلك كل شيء يأْلَفُ بعضُه بعضاً، فقد اشْتَبك واشْتَجَر.
وسمي الشَّجَرُ شَجَرَاً لدخول بعض أَغصانه في بعض؛ ومن هذا قيل لِمَراكبِ النِّساء: مَشاجِرُ، لِتشابُك عِيدان الهَوْدَج بعضِها في بعض.
وشَجَرَهُ شَجْراً: رَبَطَه.
وشَجَرَه عن الأَمر يَشْجُرهُ شَجْراً: صرفه.
والشَّجْرُ: الصَّرْف.
يقال: ما شَجَرَك عنه؟
أَي: ما صَرَفك؛ وقد شَجَرَتْني عنه الشَّواجر.
أَبو عبيد: كلُّ شيء اجتمع ثمَّ فَرَّق بينه شيء فانفرق يقال له: شُجِرَ؛ وقول أَبي وَجْزَة:
طَافَ الخَيالُ بنا وَهْناً فأَرَّقَنَا * من آلِ سُعْدَى فباتَ النَّومُ مُشْتَجِرَا
معنى اشْتِجار النَّوم: تَجافيه عنه، وكأَنَّه من الشَّجِير وهو الغَرِيبُ؛ ومنه شَجَرَ الشَّيءَ عن الشَّيء إِذا نَحَّاه؛ وقال العجاج:
شَجَرَ الهُدَّابَ عنه فَجفَا *
أَي: جافاه عنه فَتَجَافى، وإِذا تَجافى قيل: اشْتَجَر وانْشَجَر.
والشَّجْرُ: مَفْرَجُ الفَم، وقيل: مُؤَخَّرُه، وقيل: هو الصَّامِغ، وقيل: هو ما انفتح من مُنْطَبِقِ الفَم، وقيل: هو مُلْتَقَى اللِّهْزِمَتَيْن، وقيل: هو ما بين اللَّحْيَيْن.
(ج/ص: 4/397)
وشَجْرُ الفرس: ما بين أَعالي لَحْيَيْه من مُعْظَمها، والجمع أَشْجَار وشُجُور.
واشْتَجَر الرَّجل: وضع يده تحت شَجْرِهِ على حَنَكه؛ قال أَبو ذؤيب:
نامَ الخَلِيُّ وبِتُّ الليلَ مُشْتَجِراً * كأَنَّ عَيْنَيَّ فيها الصَّابُ مَذْبُوحُ
مذبوح: مَشْقُوق.
أَبو عمرو: الشَّجْرُ ما بين اللَّحْيَيْنِ.
غيره: بات فلان مُشْتَجِراً إِذا اعتمد بشَجْرِهِ على كفه.
وفي حديث العبَّاس: ((قال: كنت آخذاً بِحَكَمَةِ بغلة رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يوم حُنَين وقد شَجَرْتُها بها)).
أَي: ضَربْتُها بلجامها أَكُفُّها حتى فتحتْ فاها.
وفي رواية: ((والعبَّاس يَشْجُرها أَو يَشْتَجِرُها بلجامها)).(3/273)
قال ابن الأَثير: الشَّجْر مَفْتَح الفم، وقيل: هو الذَّقَن.
وفي حديث سعد: ((أَنَّ أُمَّه قالت له: لا أَطْعَمُ طَعاماً ولا أَشرب شراباً أَو تكفُرَ بمحمَّد! قال: فكانوا إذا أَرادوا أَن يطعموها أَو يَسْقُوهَا شَجَرُوا فاها)).
أَي: أَدْخَلوا في شَجْرِه عُوداً ففتحوه.
وكل شيء عَمَدته بِعماد، فقد شَجَرْتَه.
وفي حديث عائشة -رضي الله عنها- في إِحدى الروايات: ((قُبض رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بين شَجْرِي ونَحْرِي)).
قيل: هو التشبيك، أَي: أَنها ضَمَّته إِلى نحرها مُشبِّكَة أَصابعها.
وفي حديث بعض التَّابعين: ((تَفَقَّدْ في طهارَتِكَ كذا وكذا والشِّاكِلَ والشَّجْرَ)).
أَي: مُجْتَمَعَ اللَّحْيَيْن تحت العَنْفَقَة.
والشِّجارُ: عود يُجعل في فم الجَدْي لئلا يَرْضَع أُمَّه.
والشَّجْرُ من الرَّحْل: ما بين الكَرَّيْنِ، وهو الذي يَلْتَهِم ظهر البعير.
والمِشْجَرُ، بكسر الميم: المِشْجَب، وفي (المحكم): المَشْجَر أَعواد تربط كالمِشْجَب بوضع عليها المتاع.
وشَجَرْت الشَّيء: طرحتُه على المِشْجَر، وهو المِشْجَب.
والمِشْجَر والمَشْجَر والشِّجار والشَّجار: عود الهودج، واحدتها مَِشْجَرة وشِجَارة، وقيل: هو مَرْكَب أَصغر من الهودج مكشوفُ الرَّأْس.
(التهذيب): والمِشْجَر مركب من مراكب النِّساء.
ومنه قول لبيد:
وأَرثَدَ فارسُ الهَيْجا، إِذا ما * تَقَعَّرَتِ المَشاجِرُ بالقيام
الليث: الشِّجار خشب الهودج، فإِذا غُشِّيَ غِشَاءه صار هَوْدَجاً.
الجوهري: والمَشَاجر عيدان الهودج.
وقال أَبو عمرو: مراكب دون الهوادج مكشوفةُ الرَّأْس، قال: ويقال لها: الشُّجُرُ أَيضاً، الواحد شِجار.
وفي حديث حُنَين: ((ودُرَيْدُ بن الصِّمَّة يومئذٍ في شِجار له)).
هو مركب مكشوف دون الهودج، ويقال له: مَِشْجَر أَيضاً.
والشِّجارُ: خشب البئر؛ قال الراجز:
لَتَرْوَيَنْ أَو لَتَبِيدَنَّ الشُّجُرْ *
والشِّجارُ: سِمَةٌ من سمات الإِبل.(3/274)
والشِّجارُ: الخشبة التي يُضَبَّب بها السَّرير من تحت، يقال لها بالفارسية: المَتَرْس.
(التهذيب): والشِّجار الخشبة التي توضع خَلْف الباب، يقال لها بالفارسية: المَتَرْس، وبخط الأَزهري مَتَّرس، بفتح الميم وتشديد التَّاء.
وأَنشد الأَصمعي:
لولا طُفَيْلٌ ضاعتِ الغَرائرُ * وفاءَ والمُعْتَقُ شيء بائرُ
غُلَيِّمٌ رَطْلٌ وشَيْخٌ دامِرُ * كأَنما عِظامُنا المَشَاجِرُ
والشِّجارُ: الهَوْدَجُ الصغير الذي يكفي واحداً حَسْب. (ج/ص: 4/398)
والشَّجيرُ: الغريبُ من النَّاس والإِبل.
ابن سيده: والشَّجِيرُ الغريبُ والصاحبُ، والجمع شُجَراء.
والشَّجِيرُ: قِدْح يكون مع القِدَاح غريباً من غير شَجَرَتِها؛ قال المتنخل:
وإِذا الرِّياحُ تَكَمَّشَتْ * بِجَوانِبِ البَيْتِ القَصِيرِ
أَلْفَيْتَني هَشَّ اليَدَيـ * ـنِ بِمَرْي قِدْحي، أَو شَجِيرِي
والقِدْحُ الشَّجِيرُ: هو المستعار الذي يُتَيَمَّنُ بِفَوْزِهِ، والشَّرِيجُ: قِدْحُهُ الذي هو له.
يقال: هو شَرِيجُ هذا وشِرْجُهُ أَي: مثله.
والشَّجِيرُ: الردِيءُ؛ عن كراع.
والانْشِجارُ والاشْتِجارُ: التقدّم والنَّجاء؛ قال عُوَيْفٌ الهُذَليُّ:
عَمْداً تَعَدَّيْنَاكَ وانْشَجَرَتْ بِنَا * طِوالُ الهَوادِيُ مُطْبَعَاتٌ مِنَ الوِقْرِ
ويروى: واشْتَجَرَتْ.
والاشتجارُ أَن تَتَّكِئَ على مَرْفِقِكَ ولا تَضَعَ جَنْبَكَ على الفراش.
والتَّشْجيرُ في النَّخلِ: أَن تُوضَعَ العُذُوقُ على الجريد، وذلك إِذا كثر حمل النَّخلة وعَظُمَتِ الكَبائِسُ فَخِيفَ على الجُمَّارَةِ أَو على العُرْجُونِ.
والشَّجِيرُ: السَّيفُ.
وشَجَرَ بيته أَي: عَمَدَه بِعَمُودٍ.
ويقال: فلان من شَجَرَةٍ مباركة أَي: من أَصل مبارك.
ابن الأَعرابي: الشَّجْرَةُ النُّقْطَةُ الصَّغيرة في ذَقَنِ الغُلامِ.
وفي الرسالة للشافعي :
باب: ما أمر الله من طاعة رسوله.(3/275)
قال الله - جل ثناؤه -: " إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ. يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا(10) "[الفتح].
وقال: " مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ(80) "[النساء].
فأعْلَمَهم أنَّ بَيْعَتهم رسولَه بيعتُه، وكذلك أعْلمهم أنَّ طاعتَهم طاعتُه.
وقال: " فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ، وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا(65) "[النساء].
<ص 83> نزلت هذه الآية فيما بلغنا - والله أعلم - في رجل خاصَمَ "الزُّبَيْر" في أرضٍ، فقضى النبي بها "للزبير".
وهذا القضاء سنة من رسول الله، لا حُكْمٌ منصوص في القُرَآن.
والقُرَآن يدل - والله أعلم - على ما وصفْتُ، لأنه لو كان قضاءً بالقُرَآن كان حُكماً منصوصاً بكتاب الله، وأشبَهَ أن يكونوا إذا لم يُسَلِّموا لحكم كتاب الله نصًّا غيرَ مُشْكِل الأمر، أنَّهم ليسوا بِمُؤمنين، إذا رَدُّوا حكمَ التنزيل، إذا لم يسلموا له.
وقال تبارك وتعالى: " لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا. قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا <ص 84>، فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(63) "[النور].
وفي شرح المعتمد في أصول الفقه :
حجية السنة من القرآن.
/متن المنظومة/
وثَبَتَتْ حجيةُ السنَّةِ في * ألفِ دليلٍ ودليلٍ فاعرفِ
أَوَّلُها إشارةُ القرآنِ * في النَّحْل للنَّبِيِّ بالبَيَانِ
وبعدَها الأمرُ بطاعةِ الرَّسُولْ * وإن تحبَّ الله فاتبعِ الرَّسُولْ(3/276)
173- يراد بحجية السنة وجوبُ الرجوع إليها في تقرير الأحكام، وقد دأب بعض الناس على التشكيك بها، والتقليل من شأنها فراح الناظم يرد عليهم فأورد الأدلة أولاً من القرآن الكريم فقال:
174- يريد قوله تعالى في سورة النحل آية -64-:
{وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}
175- أراد بالشطر الأول قول الله عز وجل في النساء -59-
{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا}.
وأراد بالشطر الثاني قوله عز وجل في سورة آل عمران -31- {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم}
/متن المنظومة/
وردُّهم إليهِ في التنازُعِ * وحذِّر المِنكِرَ بالرَّوادِعِ
وأَنَّهُ أوتي حكمةَ الهُدى * محلِّلٌ محرِّمٌ.. لا عَنْ هَوَى
176- أشار في الشطر الأول إلى قوله سبحانه وتعالى في سورة النساء -59- {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر}.
وأشار في الشطر الثاني إلى قوله سبحانه في سورة النور -63-:
{فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}
177- إشارة إلى قوله سبحانه وتعالى في وصف النبي ( في سورة الأعراف 156 : {يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم}
وأشار بالحكمة إلى قوله سبحانه في سورة الجمعة -2-:
{هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}
وأشار بقوله: لاعن هوى إلى قوله سبحانه وتعالى في سورة النجم -4- {وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، علمه شديد القوى}
/متن المنظومة/(3/277)
وقُرِنَتْ باللهِ فعلاً طاعَتُه * وأَنَّه لذي اليقينِ أُسْوتُه
وليسَ مُؤْمِناً مِنْ لَمْ يحكِّمَهْ * وما حباكَ خُذْ وما نهاكَ مَهْ
وَأُرْسِلُ الرَّسُولُ كَيْ يُطاعا * لا خيرةً لمسلمٍ أطاعَا
178- أشار بذلك إلى قوله تعالى في سورة النساء -80-: {من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً}
وأشار بالشطر الثاني إلى قوله سبحانه في سورة الأحزاب 21:
{لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً}
179- أشار إلى قوله سبحانه وتعالى في سورة النساء 65-: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً}
وأشار بالشطر الثاني إلى قوله سبحانه في سورة الحشر 7-: {وما آتاكم الرسول فخذوه، و ما نهاكم عنه فانتهوا، واتقوا الله إن الله شديد العقاب}
و(مه) اسم فعل، معناه: اكفف، أي انته.
180- أشار في الأول إلى قوله تعالى في سورة النساء -64-: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله، ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً}
وأشار في الثانية إلى أنه لا خيرة لمسلم أطاع الله ورسوله في الاتباع وعدمه، بل يلزمه اتباع الرسول ( في كل شيء بمجرد دخوله في الإيمان وهو مقتضى الطاعة، وذلك هو مضمون قول الله عز وجل في سورة الأحزاب-36-: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً بعيداً}
/متن المنظومة/
وكلُّها في واضحِ القرآنِ * مسطورةٌ تقصدُ للبيانِ
181- وعقب بأن هذه النصوص وغيرها مسطورة في صريح القرآن الكريم، وهي بمجملها قطعية الدلالة على وجوب اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم
****************
الإحكام للآمدي ج: 2 ص: 164(3/278)
فإما شبه القائلين بالوجوب فشرعية ولغوية وعقلية أما الشرعية فمنها ما يرجع إلى الكتاب ومنها ما يرجع إلى السنة ومنها ما يرجع إلى الإجماع أما الكتاب فقوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول 24 النور 54 ثم هدد عليه بقوله فإن توليتم فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم 24 النور 54 والتهديد على المخالفة دليل الوجوب وأيضا قوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم 24 النور 63 ووجه الاستدلال به ما سبق في الآية التي قبلها وأيضا قوله تعالى لإبليس ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك 7 الأعراف 12 أو رد ذلك في معرض الذم بالمخالفة لا في معرض الاستفهام اتفاقا وهو دليل الوجوب وأيضا قوله تعالى وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون 77 المرسلات 48 ذمهم على المخالفة وهو دليل الوجوب وأيضا قوله تعالى وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم 33 الأحزاب 36 والمراد من قوله قضى أي ألزم ومن قوله أمرا أي مأمورا وما لا خيرة فيه من المأمورات لا يكون إلا واجبا وأيضا قوله تعالى أفعصيت أمري 220 طه 93 وقوله لا يعصون الله ما أمرهم 66 التحريم 6 وقوله لا أعصي لك أمرا 18 الكهف 69 وصف مخالف الأمر بالعصيان وهو اسم ذم وذلك لا يكون الوجوب وأيضا قوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت 4 النساء 65 أي أمرت ولولا أن الأمر للوجوب لما كان كذلك وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم لبريرة وقد عتقت تحت عبد وكرمته لو راجعتيه فقالت بأمرك يا رسول الله فقال لا إنما أنا شافع فقالت لا حاجة لي فيه فقد عقلت أنه لو كان أمرا لكان واجبا والنبي صلى الله عليه وسلم قررها عليه وأيضا قوله صلى الله عليه وسلم لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة وهو دليل الوجوب وإلا فلو كان الأمر للندب فالسواك مندوب وأيضا قوله لأبي سعيد الخدري حيث لم(3/279)
يجب دعاءه وهو في الصلاة أما سمعت الله تعالى يقول استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم 8 الأنفال 24 وبخه على مخالفة أمره وهو دليل الوجوب وأيضا فإنه لما سأله الأقرع بن حابس أحجنا هذا لعامنا أم للأبد قال صلى الله عليه وسلم بل للأبد ولو قلت نعم لوجب وذلك دليل على أن أوامره للوجوب
وأما الإجماع فهو أن الأمة في كل عصر لم تزل راجعة في إيجاب العبادات إلى الأوامر من قوله تعالى أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة 2 البقرة 43 ذلك توقف وما كانوا يعدلون الوجوب إلا لمعارض وأيضا فإن أبا بكر رضي الله عنه استدل على وجوب الزكاة على أهل الردة بقوله وآتوا الزكاة 2 البقرة 43 ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فكان ذلك إجماعا
وأما من جهة اللغة فمن وجوه الأول وصف أهل اللغة من خالف الأمر بكونه عاصيا ومنه قولهم أمرتك فعصيتني وقوله تعالى أفعصيت أمري 20 طه 93 وقول الشاعر أمرتك أمرا حازما فعصيتني والعصيان اسم ذم وذلك الوجوب ممتنع وأيضا فإن السيد إذا أمر عبده بأمر فخالفه حسن الحكم من أهل اللغة بذمه واستحقاقه للعقاب ولولا أن الأمر للوجوب لما كان كذلك(3/280)
وأما من جهة العقل فمن وجوه الأول أن الإيجاب من المهمات في مخاطبة أهل اللغة فلو لم يكن الأمر للوجوب لخلا الوجوب عن لفظ يدل عليه وهو ممتنع مع دعو الحاجة إليه وأيضا فإنه قد ثبت أن الطلب لا يخرج عن الوجوب والندب ويمتنع أن يكون حقيقة في الندب لا بجهة الاشتراك ولا التعيين ولا بطريق التخيير لأن حمل الطلب على الندب معناه افعل إن شئت وهذا مذكور في الطلب فيمتنع حمل الطلب عليه بوجه من هذه الوجوه ويلزم من ذلك أن يكون حقيقة في الوجوب وأيضا فإن الأمر مقابل للنهي والنهي يقتضي ترك الفعل والامتناع من الفعل جزما فالأمر يجب أن يكون مقتضيا للفعل ومانعا من الترك جزما وأيضا فإن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده والنهي عن أضداده مما يمنع من فعلها متصور دون فعل المأمور به فكان واجبا وأيضا فإن حمل الأمر على الوجوب أحوط للمكلف لأنه إن كان للوجوب فقد حصل المقصود الراجح وأمنا من ضرر تركه وإن كان للندب فحمله على الوجوب يكون أيضا مضر ولو حملناه على الندب لم نأمن من الضرر بتقدير كونه واجبا لفوات المقصود الراجح وأيضا فإن المندوب داخل في الواجب عكس فحمل الأمر على الوجوب لا يفوت معه المقصود من الندب بخلاف الحمل على الندب فكان حمله على الوجوب أولى وأيضا فإن الأمر موضوع لإفادة معنى وهو إيجاد الفعل فكان مانعا من نقيضه كالخبر وأيضا فإن الأمر بالفعل يفيد رجحان وجود الفعل على عدمه وإلا كان مرجوحا أو مساويا ولو كان مرجوحا لما أمر به لما فيه من الإخلال بالمصلحة الزائدة في الترك والتزام المفسدة الراجحة في الفعل وهو قبيح ولو كان مساويا لم يكن الأمر به أولى من النهي عنه وذلك أيضا قبيح وإذا كان راجحا فلو جاز تركه لزم منه الإخلال بأرجح المقصودين وهو قبيح فلا يرد به الشرع فتعين الامتناع من الترك وهو معنى الوجوب والجواب من جهة الإجمال والتفصيل أما الإجمال فهو أن جميع ما ذكروه لا خروج له عن الظن وإنما يكون مفيدا فيما يطلب(3/281)
فيه الظن فقط مسلم فيما نحن فيه وقوله صلى الله عليه وسلم نحن نحكم بالظاهر فظني والكلام في صحة الاحتجاج به فيما نحن فيه فعلى ما تقدم وأما من جهة التفصيل فإنا نخص كل شبهة بجواب أما قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول 24 النور 54 فهو أمر والخلاف في اقتضائه للوجوب بحاله وقوله فإن توليتم فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم 24 النور 54 فإما أن لا يكون للتهديد بل للإخبار بأن الرسول عليه ما حمل من التبليغ وعليكم ماحملتم من القبول وليس في ذلك ما يدل على كون الأمر للوجوب وإن كان للتهديد فهو دليل على الوجوب فيما هدد على تركه ومخالفته من الأوامر وليس فيه ما يدل على أن كل أمر مهدد بمخالفته بدليل أمر الندب فإن المندوب مأمور به على ما سيأتي وليس مهددا على مخالفته وإذا انقسم الأمر إلى مهدد عليه وغير مهدد وجب اعتقاد الوجوب فيما هدد عليه دون غيره وبه يخرج الجواب عن كل صيغة أمر هدد على مخالفتها وحذر منها ووصف مخالفها بكونه عاصيا وبه دفع أكثر ما ذكروه من الآيات ويخص قوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره 24 النور 63 عام في كل أمر بصيغته وإن قيل إلى معقوله من جهة أنه مناسب رتب التحذير على مخالفته فإنما يصح أن لو لم يتخلف الحكم عنه في أمر الندب وقد تخلف فلا يكون حجة وأيضا فإن غايته أنه حذر من مخالفة أمره ومخالفة أمره أن لا يعتقد موجبه وأن لا يفعل على ما هو عليه من إيجاب أو ندب ونحن نقول به وليس فيه ما يدل على أن كل أمر للوجوب ويخص قوله لإبليس ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك 7 الأعراف 12 عام في كل أمر ويخص قوله تعالى وما كان لمؤمن ولا مؤمنة 33 الأحزاب 36 الآية بأن المراد من قوله أن تكون لهم الخيرة من أمرهم أي في اعتقاد وجوب المأمور به أو ندبه وفعله على ما هو عليه إن كان واجبا فواجب وإن كان ابنة فندب ويخص قوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك 4 النساء 65 الآية بأنه لا حجة فيها وقوله ثم لا يجدوا في(3/282)
أنفسهم حرجا مما قضيت 4 النساء 65 أي حكمت به من الوجوب والندب والإباحة والتحريم ونحوه وليس فيه ما يدل على أن كل ما يقضي به يكون واجبا وأما حديث بريرة فلا حجة فيه فإنها إنما سألت عن الأمر طلبا للثواب بطاعته والثواب والطاعة قد يكون بفعل المندوب وليس في ذلك ما يدل على أنها فهمت من الأمر الوجوب فحيث لم يكن أمرا لمصلحة أخروية لا بجهة الوجوب ولا بجهة الندب قالت لا حاجة لي فيه فإن قيل فإجابة شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم مندوب إليها فإذا لم يكن مأمورا بها تعين أن يكون الأمر للوجوب قلنا إذا سلم أن الشفاعة في صورة مأمور بإجابتها فلا نسلم أنها كانت في تلك الصورة مندوبة ضرورة أن المندوب عندنا لا بد وأن يكون مأمورا به وأما خبر السواك ففيه ما يدل على أنه أراد بالأمر أمر الوجوب بدليل أنه قرن به المشقة والمشقة لا تكون إلا في فعل الواجب لكونه متحتما بخلاف المندوب لكونه في محل الخيرة بين الفعل والترك ولا يمتنع صرف الأمر إلى الوجوب بقرينة ودخول حرف لولا على مطلق الأمر لا يمنع من هذا التأويل وأما خبر أبي سعيد الخدري فلا حجة فيه أيضا فإن قوله تعالى استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم 8 الأنفال 24 إنما كان محمولا على وجوب إجابة النداء تعظيما لله تعالى ولرسوله في إجابة دعائه ونفيا للإهانة عنه والتحقير له بالإعراض عن إجابة دعائه لما فيه من هضمه في النفوس وإفضاء ذلك إلى الإخلال بمقصود البعثة ولا يمتنع صرف الأمر إلى الوجوب بقرينة وأما خبر الحج فلا دلالة فيه وقول النبي صلى الله عليه وسلم ولو قلت نعم لوجب ليس أمرا ليكون للوجوب بل لأنه يكون بيانا لقوله تعالى ولله على الناس حج البيت 3 آل عمران 97 فإنه مقتض أنه متردد بين التكرار والمرة الواحدة فقوله لو قلت نعم لوجب أي تكرره لأنه يكون بيانا لما أوجبه الله تعالى لا أنه يكون موجبا وأما ما ذكروه من الإجماع فإن أريد به أن الأمة كانت ترجع في الوجوب إلى(3/283)
مطلق الأوامر مسلم وليس هو أولى من قول القائل إنهم كانوا يرجعون في الندب إلى مطلق الأوامر مع أن أكثر الأوامر للمندوبات وإن أريد به أنهم كانوا يرجعون في الوجوب إلى الأوامر المقترنة بالقرائن فلا حجة فيه وأما قصة أبي بكر فلا حجة في احتجاجه بقوله تعالى أقيموا الصلاة وأتوا الزكاة 2 البقرة 43 على أن الأمر بمطلقه للوجوب وذلك لأنهم لم يكونوا منكرين لأصل الوجوب حتى يستدل على الوجوب بالآية بل إنما أنكروا التكرار والاستدلال على تكرار ما وجب لا يكون استدلالا على نفس اقتضاء الأمر بمطلقه للوجوب وأما قولهم إن أهل اللغة يصفون من خالف الأمر المطلق بالعصيان ويحكمون عليه باستحقاق الذم والتوبيخ ليس كذلك فإنه ليس القول بملازمة هذه الأمور للأمر المطلق وملازمة انتفائها للأمر المقيد بالقرينة في المندوبات أولى من العكس فإن قيل بل تقييد المندوب بالقرينة أولى من تقييد الواجب بها فإنها بتقدير خفائها تحمل على الوجوب وهو مضر وبتقدير تقييد الواجب بها يلزم الإضرار بترك الواجب بتقدير خفائها لفوات المقصود الأعظم منه فهو معارض بأن الأوامر الواردة في المندوبات أكثر منها في الواجبات فإنه ما من واجب إلا ويتبعه مندوبات لازم للمندوب ولا يخفى أن المحذور في تقييد الأعم بالقرينة لاحتمال خفائها أعظم من محذور ذلك في الأخص وأما الشبه العقلية قولهم إن الوجوب من المهمات قلنا والندب من المهمات وليس إخلاء أحد الأمرين من لفظ يدل عليه أولى من الآخر وإن قيل بأن المندوب له لفظ يدل عليه وهو قول القائل ندبت ورغبت فللوجوب أيضا لفظ يدل عليه وهو قوله أوجبت وألزمت وحتمت قولهم أنه يمتنع أن يكون الأمر حقيقة في الندب لما ذكروه فهو مقابل بمثله فإن حمل الطلب على الوجوب معناه افعل وأنت ممنوع من الترك مذكور في الطلب فلا يكون حمله على أحدهما أولى من الآخر قولهم إن النهي يقتضي المنع من الفعل فيجب أن يكون الأمر مقتضيا للمنع من الترك قلنا لا(3/284)
نسلم أن مطلق النهي يقتضي المنع من الفعل إلا أن يدل عليه دليل كما ذكرناه في الأمر وإن صح ذلك في النهي فحاصل ما ذكروه راجع إلى القياس في اللغة وهو باطل بما سبق قولهم إن الأمر بالشيء نهي عن جميع مسلم كما يأتي وإن سلم ولكن إنما يمكن القول بأن النهي عن أضداد المأمور به مما يمنع من فعلها إن لو كان الأمر للوجوب وإلا فبتقدير أن يكون للندب فالنهي عن أضداده يكون نهي تنزيه فلا يمنع من فعلها وعند ذلك فيلزم منه توقف الوجوب على كون النهي عن أضداده مانعا من فعلها وذلك متوقف على كون الأمر للوجوب وهو دور ممتنع قولهم إن حمل الطلب على الوجوب أحوط للمكلف على ما ذكروه فهو معارض بما يلزم من حمله على الوجوب من الإضرار اللازم من الفعل الشاق بتقدير فعله والعقاب بتقدير تركه ولما فيه من مخالفة النفي الأصلي بما اختص به الوجوب من زيادة الذم والوصف بالعصيان بخلاف المندوب كيف وإن المكلف إذا نظر وظهر له أن الأمر للندب فقد أمن من الضرر وحصل مقصود الأمر قولهم إن المندوب داخل في الواجب ليس كذلك على ما سبق تقريره قولهم إن الأمر موضوع لمعنى فكان مانعا من نقيضه دعوى محل النزاع والقياس على الخبر من باب القياس في اللغات وهو باطل بما سبق ثم إنه منقوض بالأمر بالمندوب فإنه مأمور به على ما سبق فإن قيل لا يلزم من مخالفة الدليل في المندوب المخالفة مطلقا قلنا يجب أن نعتقد أن ما ذكروه ليس بدليل حتى لا يلزم منه المخالفة في المندوب وما ذكروه من الشبهة الأخيرة فهي منتقضة بالمندوب
وقال ابن حزم في الإحكام :(3/285)
93 ... الباب الحادي عشر في الكلام في الأخبار وهي السنن المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي بعض فصول هذا الباب ذكر السبب في الاختلاف الواقع بين الأئمة في صدر هذه الأمة قال علي لما بينا أن القرآن هو الأصل المرجوع إليه في الشرائع نظرنا فيه فوجدنا فيه إيجاب طاعة ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجدناه عز وجل يقول فيه واصفا لرسوله وما ينطق عن لهوى إن هو إلا وحي يوحى فصح لنا بذلك أن الوحي ينقسم من الله عز وجل إلى رسوله على قسمين أحدهما وحي متلو مؤلف تأليفا معجز النظام وهو القرآن والثاني وحي مروي منقول غير مؤلف ولا معجز النظام ولا متلو لكنه مقروء وهو الخبر الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المبين عن الله عز وجل مراده منا قال الله تعالى بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ووجدناه تعالى قد أوجب طاعة هذا الثاني كما أوجب طاعة القسم الأول الذي هو القرآن ولا فرق فقال تعالى يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا فكانت الأخبار التي ذكرنا أحد الأصول الثلاثة التي ألزمنا طاعتها في الآية الجامعة لجميع الشرائع أولها عن أخرها وهي قوله تعالى يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا فهذا أصل وهو القرآن ثم قال تعالى يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا فهذا ثان وهو الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال تعالى(3/286)
94 ... يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا فهذا ثالث وهو الإجماع المنقول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حكمه وصح لنا بنص القرآن أن الأخبار هي أحد الأصلين المرجوع إليهما عند التنازع قال تعالى يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا قال علي والبرهان على أن المراد بهذا الرد إنما هو إلى القرآن والخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الأمة مجمعة على أن هذا الخطاب متوجه إلينا وإلى كل من يخلق ويركب روحه في جسده إلى يوم القيامة من الجنة والناس كتوجهه إلى من كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل من أتى بعده عليه السلام وقبلنا ولا فرق وقد علمنا علم ضرورة أنه لا سبيل لنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحتى لو شغب مشغب بأن هذا الخطاب إنما هو متوجه إلى من يمكن لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمكنه هذا الشغب في الله عز وجل إذ لا سبيل لأحد إلى مكالمته تعالى فبطل هذا الظن وصح أن المراد بالرد المذكور في الآية التي نصصنا إنما هو إلى كلام الله تعالى وهو القرآن وإلى كلام نبيه المنقول على مرور الدهر إلينا جيل بعد جيل قال علي وأيضا فليس في الآية المذكورة ذكر للقاء ولا مشافهة أصلا ولا دليل عليه وإنما فيه الأمر بالرد فقط ومعلوم بالضرورة أن هذا الرد إنما هو تحكيم وأوامر الله تعالى وأوامر رسوله موجودة عندنا منقول كل ذلك إلينا فهي التي جاء نص الآية بالرد إليها دون تكلف تأويل ولا مخالفة ظاهر قال علي والقرآن والخبر الصحيح بعضها مضاف إلى بعض وهما شيء واحد في أنهما من عند الله تعالى وحكمها حكم واحد في باب وجوب الطاعة لهما لما قدمناه آنفا في صدر هذا الباب قال تعالى(3/287)
يأيها لذين آمنوا أطيعوا لله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون فبين تعالى بهذه الآية أنه لم يرد منا الإقرار بالطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بلا عمل بأوامره واجتناب نواهيه وهذه صفة المقلدين فإنهم يقولون طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة فإذا أتاهم أمر من أوامره يقروه بصحته لم يصعب عليهم(3/288)
95 ... التولي عنه وهم يسمعون نعوذ بالله من ذلك وقال تعالى إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون وقال تعالى قل إنمآ أنذركم بلوحي ولا يسمع لصم لدعآء إذا ما ينذرون فأخبر تعالى كما قدمنا أن كلام نبيه كله وحي والوحي بلا خوف ذكر والذكر محفوظ بنص القرآن فصح بذلك أن كلامه كله محفوظ بحفظ الله عز وجل مضمون لنا أنه لا يضيع منه شيء إذ ما حفظ الله تعالى فهو باليقين لا سبيل إلى أن يضيع منه شيء فهو منقول إلينا كله فلله الحجة علينا أبدا وقال تعالى وما ختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى لله ذلكم لله ربي عليه توكلت وإليه أنيب فوجدنا الله تعالى يردنا إلى كلام نبيه على ما قدمنا آنفا فلم يسمع مسلما يقر بالتوحيد أن يرجع عند التنازع إلى غير القرآن والخبر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أن يأتي عما وجد فيهما فإن فعل ذلك بعد قيام الحجة عليه فهو فاسق وأما من فعله مستحلا للخروج عن أمرهما وموجبا لطاعة أحد دونهما فهو كافر شك عندنا في ذلك وقد ذكرنا محمد بن نصر المروزي أن إسحاق بن راهويه كان يقول من بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يقر بصحته ثم رده بغير تقية فهو كافر ولم نحتج في هذا بإسحاق وإنما أوردناه لئلا يظن جاهل أننا منفردون بهذا القول وإنما احتججنا في تكفيرنا من استحل خلاف ما صح عنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول الله تعالى مخاطبا لنبيه فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما قال علي هذه كافية لمن عقل وحذر وآمن بالله واليوم الآخر وأيقن أن هذا العهد عهد ربه تعالى إليه ووصيته عز وجل الواردة عليه فليفتش الإنسان نفسه فإن وجد في نفسه مما قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل خبر يصححه مما قد بلغه أو وجد نفسه غير مسلمة لما جاءه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجد نفسه مائلة إلى قول فلان وفلان أو قياسه واستحسانه وأوجد نفسه تحكم فيما نازعت(3/289)
فيه أحدا دون
96 ... رسول الله صلى الله عليه وسلم متى صاحت فمن دونه فليعلم أن الله تعالى قد أقسم وقوله الحق إنه ليس مؤمنا وصدق الله تعالى وإذا لم يكن مؤمنا فهو كافر ولا سبيل إلى قسم ثالث وليعلم أن كل من قلد من صاحب أو تابع أو مالكا أو أبو حنيفة والشافعي وسفيان والأوزاعي وأحمد وداود رضي الله عنهم متبرئون منه في الدنيا والآخرة ويوم يقوم الأشهاد اللهم إنك تعلم أنا لا نحكم أحدا إلا كلامك وكلام نبيك الذي صليت عليه وسلمت في كل شيء مما شجر بيننا وفي كل ما تنازعنا فيه واختلفنا في حكمه وأننا لا نجد في أنفسنا حرجا مما قضى به نبيك ولو أسخطنا بذلك جميع من في الأرض وخالفناهم وصرنا دونهم حزبا وعليهم حربا وإننا مسلمون لذلك طيبة أنفسنا عليه مبادرون نحوه لا نتردد ولا نتلكأ عاصون لكل من خالف ذلك موقنون أنه على خطأ عندك وأنا على صواب لديك اللهم فثبتنا على ذلك ولا تخالف بنا عنه وأسألك اللهم بأبنائنا وإخواننا المسلمين هذه الطريقة حتى ننقل جميعا ونحن مستمسكون بها إلى دار الجزاء آمين بمنك يا أرحم الراحمين قال علي وإذ قد بين الله لنا أن كلام نبيه إنما هو كله وحي من عنده وأن القرآن وحي من عنده وأيضا فقد قال فيه عز وجل أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا فصح بهذه الآية صحة ضرورية أن القرآن والحديث الصحيح متفقان هما شيء واحد لا تعارض بينهما ولا اختلاف يوفق الله تعالى لفهم ذلك من شاء من عباده ويحرمه من شاء لا إله إلا هو كما يؤتي الفهم والذكاء والصبر على الطلب للخير من شاء ويؤتي البلدة وبعد الفهم والكسل من شاء نسأل الله من هبته ما يقرب منه ويزلف لديه آمين وصح بما ذكرنا بطلان قول من ضرب القرآن بعضه ببعض أو ضرب الحديث الصحيح بعضه ببعض أو ضرب القرآن بالحديث بعضهما ببعض وإن أمدنا الله بانفساخ مدة وأيدنا بعون من قبله فسنجمع في كل ذلك دواوين نبين فيها أشخاص السؤال والجواب والتأليف(3/290)
في كل ما ظنه أهل الجهل من ذلك متعارضا مختلف الحكم ونبين بحول الله وقوته أن كل ذلك شيء واحد لا اختلاف فيه وأن يختر منا قبل ذلك فحسبنا ما اطلع عليه من نيتنا في ذلك لا إله إلا هو وقال تعالى
97 ... ألم تر إلى لذين أوتوا نصيبا من لكتاب يدعون إلى كتاب لله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون وقال تعالى وإذا قيل لهم تعالوا إلى مآ أنزل لله وإلى لرسول رأيت لمنافقين يصدون عنك صدودا قال علي بن أحمد فليتق الله الذي إليه المعاد امرؤ على نفسه ولتوجل نفسه عند قراءة هذه الآية وليشتد إشفاقه من أن يكون مختارا للدخول تحت هذه الصفة المذكورة المذمومة الموبقة الموجبة للنار فإن من ناظر خصمه في مسألة من مسألة الديانة وأحكامها التي أمرنا بالتفقه فيها فدعاه خصمه إلى ما أنزل الله تعالى وإلى كلام الرسول فصده عنهما ودعاه إلى قياس أو إلى قول فلان وفلان فليعلم أن الله عز وجل قد سماه منافقا نعوذ بالله من هذه المنزلة المهلكة فالتوبة التوبة عباد الله قبل حلول الأجل وانقطاع المهل قال تعالى وإذا حضر لقسمة أولوا لقربى وليتامى ولمساكين فرزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا وقال تعالى ومآ أنزلنا عليك لكتاب إلا لتبين لهم لذي ختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون فصح أن البيان كله موقوف على كلام الله تعالى وكلام نبيه وقال عز وجل وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى لله ورسوله أمرا أن يكون لهم لخيرة من أمرهم ومن يعص لله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا قال علي هذه الآية كافية من عند رب العالمين في أنه ليس لنا اختيار عند ورود أمر الله تعالى وأمر رسوله وأنه من خير نفسه في التزام أو ترك أو في الرجوع إلى قول قائل دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد عصى الله بنص هذه الآية فقد ضل ضلالا مبينا وأن المقيم على أمر سماه الله ضلالا لمخذول وقال تعالى ومآ أرسلنا من رسول ألا ليطاع بإذن لله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جآءوك فستغفروا لله وستغفر لهم(3/291)
لرسول لوجدوا لله توابا رحيما وقال تعالى مآ أفآء لله على رسوله من أهل لقرى فلله وللرسول صلى الله عليه وسلم ولذي لقربى وليتامى ولمساكين وبن لسبيل كي لا يكون دولة بين لأغنيآء منكم ومآ آتاكم لرسول فخذوه وما نهاكم عنه فنتهوا وتقوا لله إن لله شديد لعقاب وقال تعالى في بيوت أذن لله أن ترفع ويذكر فيها سمه يسبح له فيها بلغدو ولآصال(3/292)
98 ... قال علي ومن جاءه خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقر أنه صحيح وأن الحجة تقوم بمثله أو قد صحح مثل ذلك الخبر في مكان آخر ثم ترك مثله في هذا المكان لقياس أو لقول فلان وفلان فقد خالف أمر الله وأمر رسوله واستحق الفتنة والعذاب الأليم قال علي أما الفتنة فقد عجلت له ولا فتنة أعظم من تماديه على ما هو فيه وارتطامه في هذه العظيمة أعظم فتنة ووالله ليصحن القسم الآخر إن لم يتدارك نفسه بالتوبة والإقلاع والطاعة لما أتاه من نبيه ورفض قبول قول من دونه كائنا من كان وبالله تعالى التوفيق وقال تعالى ويقولون آمنا بلله وبلرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك ومآ أولئك بلمؤمنين وإذا دعوا إلى لله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم لحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم رتابوا أم يخافون أن يحيف لله عليهم ورسوله بل أولئك هم لظالمون إنما كان قول لمؤمنين إذا دعوا إلى لله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم لمفلحون ومن يطع لله ورسوله ويخش لله ويتقه فأولئك هم لفآئزون وأقسموا بلله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن لله خبير بما تعملون قل أطيعوا لله وأطيعوا لرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على لرسول إلا لبلاغ لمبين قال علي هذه الآيات محكمات لم تدع لأحد علقة يشغب بها قد بين الله فيها صفة فعل أهل زماننا فإنهم يقولون نحن المؤمنون بالله وبالرسول ونحن طائعون لهما ثم يتولى طائفة منهم بعد هذا الإقرار فيخالفون ما وردهم عن الله عز وجل ورسوله أولئك بنص حكم الله تعالى عليهم ليسوا مؤمنين وإذا دعوا إلى آيات من قرآن أو حديث عن الرسول يخالف كل ذلك تقليدهم الملعون أعرضوا عن ذلك فمن قائل ليس عليه العمل ومن قائل هذا خصوص ومن قائل هذا متروك(3/293)
99 ... ومن قائل أبى هذا فلان ومن قائل القياس غير هذا حتى إذا وجدوا في الحديث أو القرآن شيئا يوافق ما قلدوا فيه طاروا به كل مطار وأتوا إليه مذعنين كما وصف الله حرفا حرفا فيا ويلهم ما بالهم أفي قلوبهم مرض وريب أم يخافون جور الله تعالى وجور رسوله ألا إنهم هم الظالمون كما سماهم الله رب العالمين فبعدا للقوم الظالمين ثم بين تعالى أن قول المؤمنين إذا دعوا إلى كتاب الله تعالى وكلام نبيه ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وهذا جواب أصحاب الحديث الذين شهد لهم الله تعالى وقوله الحق أنهم مؤمنون وأنهم مفلحون وأنهم هم الفائزون اللهم فثبتنا فيهم ولا تخالف بنا عنهم واكتبنا في عدادهم واحشرنا في سوادهم آمين رب العالمين ثم أخبرنا تعالى بما شهدناه من اكثر أهل زماننا وبما يميزونه من أنفسهم بظاهر أحوالهم وباطنها من أنهم يقولون نسمع لله ولرسوله ويقسمون على ذلك فقال لهم تعالى لا تقسموا ولكن أطيعوا أن حققوا ما تقولون بإقراركم وفعلكم واتركوا حكم كل حاكم وقول كل قائل دون قول الله تعالى وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أخبرنا تعالى أنه ليس على رسول الله صلى الله عليه وسلم غير ما حمله ربه وهو التبليغ والتبيين وقد فعل ذلك وأخبرنا تعالى أن علينا ما حملنا وهو الطاعة والانقياد لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل بذلك لا لما أمرنا به من دونه وبالله تعالى التوفيق قال علي لقد كان في آية واحدة مما تلونا كفاية لمن عقل وفهم فكيف وقد أبدأ ربنا تعالى في ذلك وأعاد وكرر وأكد ولم يدع لأحد متعلقا وقد أنذرنا كما أمرنا وألزمنا في القرآن وما توفيقنا إلا بالله عز وجل ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وحسبنا الله ونعم الوكيل فصل فيه أقسام الإخبار عن الله تعالى قال أبو محمد جاء النص ثم لم يختلف فيه مسلمان في أن ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ففرض اتباعه وأنه تفسير لمراد الله تعالى في القرآن وبيان(3/294)
لمجمله
100 ... ثم اختلف المسلمون في الطريق المؤدية إلى صحة الخبر عنه عليه السلام بعد الإجماع المتيقن المقطوع به على ما ذكرنا وعلى الطاعة من كل مسلم لقوله تعالى يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا فنظرنا في ذلك فوجدنا الأخبار تنقسم قسمين خبر تواتر وهو ما نقلته كافة بعد كافة حتى تبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم وهذا خبر لم يختلف مسلمان في وجوب الأخذ به وفي أنه حق مقطوع على غيبه لأن بمثله عرفنا أن القرآن هو الذي أتى به محمد وبه علمنا صحة مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وبه علمنا عدد ركوع كل صلاة وعدد الصلوات وأشياء كثيرة من أحكام الزكاة وغير ذلك مما لم يبين في القرآن تفسيره وقد تكلمنا في كتاب الفصل على ذلك وبينا أن البرهان قائم على صحته وبينا كيفيته وأن الضرورة والطبيعة توجبان قبوله وأن به عرفنا ما لم نشاهد من البلاد ومن كان قبلنا من الأنبياء والعلماء والفلاسفة والملوك والوقائع والتوالف ومن أنكر ذلك كان بمنزلة من أنكر ما يدرك بالحواس الأول ولا فرق ولزمه أن يصدق بأنه كان قبله زمان ولا أن أباه وأمه كانا قبله ولا أنه مولود من امرأة قال علي وقد اختلف الناس في مقدار عدد النقلة للخبر الذي ذكرنا فطائفة قالت لا يقبل الخبر إلا من جميع أهل المشرق والمغرب وقالت طائفة لا يقبل إلا من عدد لا نحصيه نحن وقالت طائفة لا يقبل أقل من ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا عدد أهل بدر وقالت طائفة لا يقبل إلا من سبعين وقالت طائفة لا يقبل إلا من خمسين عدد القسامة وقالت طائفة لا يقبل إلا من أربعين لأنه العدد الذي لما بلغه المسلمون أظهروا الدين وقالت طائفة لا يقبل إلا من عشرين وقالت طائفة لا يقبل إلا من اثني عشر وقالت طائفة لا يقبل إلا من خمسة وقالت طائفة لا يقبل إلا من أربعة وقالت طائفة لا يقبل إلا من(3/295)
ثلاثة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه إنه قد نزل به جائحة وقالت طائفة لا يقبل إلا من اثنين قال علي وهذه كلها أقوال بلا برهان وما كان هكذا فقد سقط ويكفي في إبطال ذلك أن ننبه كل من يقول بشيء من هذه الحدود على أن يقيس كل ما يعتقد صحته من أخبار دينه ودنياه فإنه لا سبيل له البتة إلى أن يكون شيء منها صح عنده(3/296)
101 ... بالعدد الذي شرط كل واحد من ذلك العدد عن مثل ذلك العدد كله وهكذا متزايدا حتى يبلغ إلى تحقيق ذلك الخبر م ن دينه أو دنياه فحصل من كل قول منها بطلان كل خبر جملة ولا نحاشي شيئا لأنه وإن سمع هو بعض الأخبار من العدد الذي شرط فلا بد أن يبطل تلك المرتبة فيما فوق ذلك وكل قول أدى إلى الباطل فهو باطل بلا شك وبالله تعالى التوفيق فلم يبق إلا قول من قال بالتواتر ولم يحد عددا قال علي ونقول ههنا إن شاء الله تعالى قولا باختصار فنقول وبالله تعالى التوفيق لكل من حد في عدد نقلة خبر التواتر حدا لا يكون أقل منه يوجب تيقن صدقه ضرورة من سبعين أو عشرين أو عدد لا نحصيهم وإن كان في ذاته محصي ذا عدد محدود أو أهل المشرق والمغرب ولا سبيل إلى لقائه ولا لقاء أحد لهم كلهم ولا بد له من الاقتصار على بعضهم دون بعض بالضرورة ولا بد من أن يكون لذلك التواتر الذي يدعونه في ذاته عدد إن نقص منه واحد لم يكن متواترا وإلا فقد ادعوا ما لا يعرف أبدا ولا يعقل فإذن لا بد من تحديد عدد ضرورة فنقول لهم ما تقولون إن سقط من هذا الحد الذي حددتم واحد أيبطل سقوط ذلك الواحد قبول ذلك الخبر أم لا يبطله فإن قال يبطله تحكم بلا برهان وكل قول بمجرد الدعوى بلا برهان فهو مطروح ساقط فإن قال بقبوله أسقطنا له آخر ثم آخر حتى يبلغ إلى واحد فقط وإن حد عددا سئل عن الدليل على ذلك فلا سبيل له إليه البتة وأيضا فإنه ما في القول فرق بين ما نقله عشرون وبين ما نقله تسعة عشر ولا بين ما نقله سبعون ولا ما نقله تسعة وستون وليس ذكر هذه الأعداد في القرآن وفي القسامة وفي بعض الأحوال وفي بعض الأخبار بموجب ألا يقبل أقل منها في الأخبار وقد ذكر تعالى في القرآن أعدادا غير هذه فذكر تعالى الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة والمائة ألف وغير ذلك ولا فرق بين ما تعلق بعدد منها وبين ما تعلق بعدد آخر منها ولم يأت من هذه الأعداد في القرآن شيء في باب قبول الأخبار ولا في(3/297)
قيام حجة بهم فصارف ذكرها إلى ما لم يقصد بها مجرم وقاح محرف للكلم عن مواضعه وإن قال لا يبطل قبول الخبر بسقوط واحد من العدد الذي حد كان قد ترك مذهبه الفاسد ثم سألناه عن
102 ... إسقاط آخر أيضا مما بقي من ذلك العدد وهكذا حتى يبعد عما حد بعدا شديدا فإن نظروا هذا بما يمكن حده من الأشياء كانوا مدعين بلا دليل ومشبهين بلا برهان وحكم كل شيء يجعله المرء دينا له أن ينظر في حدوده ويطلبها إلا ما أصبح إجماع أو نص أو أوجبت طبيعة ترك طلب حده وقد قال بعضهم لا يقبل من الأخبار إلا ما نقلته جماعة لا يحصرها العدد قال أبو محمد وهذا قول من غمره الجهل لأنه ليس هذا موجدا في العالم أصلا وكل ما فيه فقد حصره العدد وإن لم نعلمه نحن وإحصاؤه ممكن لمن تكلف ذلك فعلى هذا القول الفاسد قد سقط قبول جميع الأخبار جملة وسقط كون النبي صلى الله عليه وسلم في العالم وهذا كفر وأيضا فيلزم هؤلاء وكل من حد في عدد من لا تصح الأخبار بأقل من نقل ذلك العدد أمر فظيع يدفعه العقل ببديهته وهو ألا يصح عندهم كل أمر يشهده أقل من العدد الذي حدوا وألا يصح عندهم كل أمر حصره عدد من الناس وكل أمر لم يحصره أهل المشرق والمغرب فتبطل الأخبار كلها ضرورة على حكم هذه الأقوال الفاسدة وهم يعرفون بضرورة حسهم صدق أخبار كثيرة من موت وولادة ونكاح وعزل وولاية واغتفال منزل وخروج عدو شر واقع وسائر عوارض العالم مما لا يشهده الا النفر اليسير ومن خالف هذا فقد كابر عقله ولم يصح عنده شيء مما ذكرنا أبدا لا سيما إن كان ساكنا في قرية ليس فيها إلا عدد يسير مع أنه لا سبيل له إلى لقاء أهل المشرق والمغرب قال علي فإن سألنا سائل فقال ما حد الخبر الذي يوجب الضرورة فالجواب وبالله تعالى التوفيق أننا نقول إن الواحد من غير الأنبياء المعصومين بالبراهين عليهم السلام قد يجوز عليه تعمد الكذب يعلم ذلك بضرورة الحس وقد يجوز على جماعة كثيرة أن يتواطؤوا على كذبة إذا اجتمعوا ورغبوا أو(3/298)
رهبوا ولكن ذلك لا يخفى من قبلهم بل يعلم اتفاقهم على ذلك الكذب بخبرهم إذا تفرقوا لا بد من ذلك ولكنا نقول إذا جاء اثنان فأكثر من ذلك وقد تيقنا أنهما لم يلتقيا ولا دسسا ولا كانت لهما رغبة فيما أخبر به ولا رهبة منه ولم يعلم أحدهما بالآخر فحدث كل واحد منهما مفترقا عن صاحبه بحديث طويل لا يمكن أن يتفق خاطر اثنين على توليد مثله وذكر كل واحد منهما مشاهدة أو لقاء لجماعة شاهدت أو أخبرت عن مثلها بأنها(3/299)
103 ... شاهدت فهو خبر صدق يضطر بلا شك من سمعه إلى تصديقه ويقطع على غيبه وهذا الذي قلنا يعلمه حسا من تدبره ورعاه فيما يرده كل يوم من أخبار زمانه من موت أو ولادة أو نكاح أو عزل أو ولاية أو وقعة وغير ذلك وإنما خفي ما ذكرنا على من خفي عليه لقلة مراعاته يمر به ولو أنك تكلف إنسانا واحدا اختراع حديث طويل كاذب لقدر عليه يعلم ذلك بضرورة المشاهدة فلو أدخلت اثنين في بيتين لا يلتقيان وكلفت كل واحد منهما توليد حديث كاذب لما جاز بوجه من الوجوه أن يتفقا فيه من أوله إلى آخره هذا ما لا سبيل إليه بوجه من الوجوه أصلا وقد يقع في الندرة التي لم نكد نشاهدها اتفاق الخواطر على الكلمات اليسيرة والكلمتين نحو ذلك والذي شاهدنا اتفاق شاعرين في نصف بيت شاهدنا ذلك مرتين من عمرنا فقط وأخبرني من لا أثق به أن خاطره وافق خاطر شاعر آخر في بيت كامل واحد ولست أعلم ذلك صحيحا وأما الذي لا أشك فيه وهو ممتنع في العقل فاتفاقهما في قصيدة بل في بيتين فصاعدا والشعر نوع من أنواع الكلام ولكل كلام تأليف ما والذي ذكره المتكلمون في الأشعار من الفصل الذي سموه المواردة وذكروا أن خواطر شعراء اتفقت في عدة أبيات فأحاديث مفتعلة لا تصح أصلا ولا تتصل وما هي إلا سراقات وغارات من بعض الشعراء على بعض قال علي وقد يضطر خبر الواحد إلى العلم بصحته إلا أن اضطراره ليس بمطرد ولا في وقت ولكن على قدر ما يتهيأ وقد بينا ذلك في كتاب الفضل قال علي فهذا قسم قال علي القسم الثاني من الأخبار ما نقله الواحد عن الواحد فهذا إذا اتصل برواية العدول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب العمل به ووجب العلم بصحته أيضا وبين هذا وبين شهادة العدول فرق نذكره إن شاء الله تعالى وهو قول الحارث بن أسد المحاسبي والحسين بن علي الكرابيسي وقد قال به أبو سليمان وذكره ابن خويز منداد عن مالك بن أنس والبرهان على صحة وجوب قبوله قول الله عز وجل وما كان لمؤمنون لينفروا كآفة فلولا(3/300)
نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في لدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون فأوجب الله تعالى على كل فرقة قبول نذارةالنافر منها
104 ... بأمره النافر بالنفقة وبالنذارة ومن أمره الله تعالى بالتفقه في الدين وإنذار قومه فقد انطوى في هذا الأمر إيجاب قبول نذارته على من أمره بإنذارهم والطائفة في لغة العرب التي بها خوطبنا يقع على الواحد فصاعدا وطائفة من الشيء بمعنى بعضه هذا ما لا خلاف بين أهل اللغة فيه وإنما حد من حد في قوله تعالى لزانية ولزاني فجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين لله إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر وليشهد عذابهما طآئفة من لمؤمنين النور أنهم أربعة لدليل ادعاه وكان بذلك ناقضا لمعهود اللغة ولم يدع قط قائل ذلك القول أن الطائفة في اللغة لا تقع إلا على أربعة وأما نحن فاللازم عندنا أن يشهد عذاب الزنى واحد على ما نعرف من معنى الطائفة فإن شهد اكثر فذلك مباح والواحد يجزي وبرهان آخر وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رسولا إلى كل ملك من ملوك الأرض المجاورين لبلاد العرب وقد اعترض بعض من يخالفنا في ذلك بأن قال إن الرفاق والتجار وردوا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقتصر بذلك على الرسول وحده قال أبو محمد وهذا شغب وتمويه لا يجوز إلا على ضعيف ونحن لا نشك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتصر بالرسل المذكورين على الإخبار بظهوره ومعجزاته المنقولة بخير الرفاق والسفار بل أمرهم بتعليم من أسلم شرائع الإسلام ومسائل العبادات والأحكام ليس من شيء من ذلك منقولا على ألسنة الرفاق والسفار وبعثه هؤلاء الرسل مشهورة بلا خوف منقولة نقل الكواف فقد ألزم النبي صلى الله عليه وسلم كل ملك ورعيته قبول ما أخبرهم به الرسول الموجه نحوهم من شرائع دينهم قال علي وكذلك بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا إلى الجند وجهات من اليمن وأبا موسى إلى جهة أخرى وهي زبيد وغيرها وأبا(3/301)
بكر على الموسم مقيما للناس حجهم وأبا عبيدة إلى نجران وعليا قاضيا إلى اليمن وكل من هؤلاء مضى إلى جهة ما معلما لهم شرائع الإسلام وكذلك بعث أميرا إلى كل جهة أسلمت بعدت منه أو قربت كأقصى اليمن والبحرين وسائر الجهات والأحياء والقبائل التي أسلمت بعث إلى كل طائفة رجلا معلما لهم دينهم ومعلما لهم القرآن ومفتيا لهم في أحكام دينهم وقاضيا فيما وقع بينهم وناقلا إليهم ما يلزمهم عن الله تعالى ورسوله وهم مأمورون بقبول ما يخبرونهم به على نبيهم(3/302)
105 ... وبعثه هؤلاء المذكورين مشهورة بنقل التواتر من كافر ومؤمن لا يشك فيها أحد من العلماء ولا من المسلمين ولا في أن بعثهم إنما كانت لما ذكرنا من المحال الباطل الممتنع أن يبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من لا تقوم عليهم الحجة بتبليغه ومن لا يلزمهم قبول ما علموهم من القرآن وأحكام الدين وما أفتوهم به في الشريعة ومن لا يجب عليهم الانقياد لما أخبروهم به من كل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لو كان ذلك لكانت بعثته لهم فضولا ولكان عليه السلام قائلا للمسلمين بعثت إليكم من لا يجب عليكم أن تقبلوا منه ما بلغكم عني ومن حكمكم ألا تلتفتوا إلى ما نقل إليكم عني وألا تسمعوا منه ما أخبركم به عني ومن قال بهذا فقد فارق الإسلام وكذلك من نشأ في قرية أو مدينة ليس بها إلا مقرىء واحد أو محدث واحد أو مفت واحد فنقول لمن خالفنا ماذا تقولون أيلزمه إذا قرأ القرآن على ذلك المقرىء أن يؤمن بما أقرأه وأن يصدق بأنه كلام الله تعالى ويثبت على ذلك أم عليه أن يشك ولا يصدق بأنه كلام الله عز وجل فإن قالوا يلزمه الإقرار بأنه كلام الله تعالى قلنا صدقتم فأي فرق بين نقلهم للقرآن وبين نقلهم لسائر السنن وكلاهما من عند الله تعالى وكلاهما فرض قبوله وإن قالوا عليه أن يشك فيه حتى يلقى الكواف أتوا بعظيمة في الدين ونسألهم حينئذ فيمن لقي من ذلك اثنين أو ثلاثة أو أربعة فلا بد لهم من حد يقفون عنده من العدد فيكون قولهم سخريا وباطلا ودعوى بلا برهان أو يحيلوا على معدوم فيما لا يصح على قولهم قبول القرآن والدين إلا به وفي هذا إبطال للدين والقرآن جملة والمنع من اعتمادهما ونعوذ بالله من هذا وهكذا القول في وجوب طاعة من أخذ عن أولئك الرسل قرآنا أو سنة وبلغ ذلك إلى غيره ولأنها بلاد واسعة لا سبيل لكل واحد من أولئك الرسل إلى لقاء جميعهم من رجل وامرأة لكن يبلغ ويبلغ من بلغه هو وهكذا أبدا لئلا يقول جاهل هذا خصوص لأولئك الرسل وقال(3/303)
تعالى يأيها لذين آمنوا إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين
106 ... قال أبو محمد لا يخلو النافر للتفقه في الدين من أن يكون عدلا أو فاسقا ولا سبيل إلى قسم ثالث فإن كان فاسقا فقد أمرنا بالتبين في أمره وخبره من غير جهته فأوجب ذلك سقوط قبوله فلم يبق إلا العدل فكان هو المأمور بقبول نذارته قال أبو محمد وهذا برهان ضروري لا محيد عنه رافع للإشكال والشك جملة وقد بينا هذا النوع من البرهان في كتابنا في حدود الكلام المعروف بالتقريب قال علي وقد توهم من لا يعلم أنا إنما أوجبنا قبول خبر العدل من قوله تعالى يأيها لذين آمنوا إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين فقط قال أبو محمد وقد أغفل من تأول علينا ذلك ولو لم تكن إلا هذه الآية وحدها لما كان فيها ما يدل على قبول خبر العدل ولا على المنع من قبوله بل إنما منع فيها من قبول خبر الفاسق فقط وكان يبقى خبر العدل موقوفا على دليله ولكن لما استفاضت هذه الآية التي فيها المنع من قبول خبر الفاسق إلى الآية التي فيها قبول نذارة النافر للتفقه صارتا مقدمتين أنتجتا قبول خبر الواحد العدل دون الفاسق بضرورة البرهان وبالله تعالى التوفيق قال علي وقد أوجب الله تعالى على كل طائفة إنذار قومها وأوجب على قومها قبول نذارتهم بقوله تعالى وما كان لمؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في لدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون فقد حذر تعالى من مخالفة نذارة الطائفة والطائفة في اللغة تقع على بعض الشيء كما قدمنا ولا يختلف اثنان من المسلمين في أن مسلما ثقة لو دخل أرض الكفر فدعا قوما إلى الإسلام وتلا عليهم القرآن وعلمهم الشرائع لكان لازما لهم قبوله ولكانت الحجة عليهم بذلك قائمة وكذلك لو بعث الخليفة أو الأمير رسولا إلى ملك من ملوك الكفر أو إلى أمة من أمم الكفر ويدعوهم(3/304)
إلى الإسلام ويعلمهم القرآن وشرائع الدين ولا فرق وما قال قط مسلم إنه كان حكم أهل اليمن أن يقولوا لمعاذ ولمن بعثه عليه السلام إلى كل ناحية معلما ومفتيا ومقرئا نعم أنت رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقد الإيمان حق
107 ... عندنا ولكن ما أفتيتنا به وعلمتنا من أحكام الصلاة ونوازل الزكاة وسائر الديانة عن النبي صلى الله عليه وسلم وما أقرأتنا من القرآن عنه عليه السلام فلا نقبله منك ولا نأخذه عنك لأن الكذب جائز عليك ومتوهم منك حتى يأتينا لكل ذلك كواف وتواتر بل لو قالوا ذلك لكانوا غير مسلمين وكذلك لا يختلف اثنان في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بعث من بعث من رسله إلى الآفاق لينقلوا إليهم عنه القرآن والسنن وشرائع الدين وأنه عليه السلام لم يبعثهم إليه ليشرعوا لهم دينا لم يأت هو به عن الله تعالى فصح بهذا كله أن كل ما نقله الثقة عن الثقة مبلغا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرآن أو سنة ففرض قبوله والإقرار به والتصديق به واعتقاده والتدين به وأن كل ما صح عن صاحب أو تابع أو من دونهم من قراءة لم تستند إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو من فتيا لم تسند إليه فلا يحل قبول شيء من ذلك لأنه لم يوجبه الله تعالى ولا رسوله وكل ذلك قد صح عن الواحد بعد الواحد من الصحابة والتابعين وليس فضلهم بموجب قبول آرائهم ولا بمانع أن يهموا فيما قالوه بظنهم لكن فضلهم معف على كل خطأ كان منهم وراجح به وموجب تعظيمهم وحبهم وبالله تعالى التوفيق وبرهان آخر وهو أنه قد صح يقينا وعلم ضرورة أن جميع الصحابة أولهم عن آخرهم قد اتفقوا دون اختلاف من أحد منهم ولا من أحد من التابعين الذين كانوا في عصرهم على أن كل أحد منهم كان إذا نزلت به النازلة سأل الصاحب عنها وأخذ بقوله فيها وإنما كانوا يسألونه عما أوجبه النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى في الدين في هذه القصة ولم يسأل قط أحد منهم إحداث شرع في الدين لم يأذن به الله(3/305)
تعالى وهكذا كل من بعدهم جيلا فجيلا لا نحاشي أحدا ولا خلاف بين مؤمن ولا كافر قطعا في أن كل صاحب وكل تابع سأله مستفت عن نازلة في الدين فإنه لم يقل له قط لا يجوز لك أن تعمل بما أخبرتك به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يخبرك بذلك الكواف كما قالوا لهم فيما أخبروا به أنه رأى منهم فلم يلزموهم قبوله فإن قيل فاجعل هذه الحجة نفسها حجة في قبول المرسل قلنا ليس كذلك لأنه لم يصح الإجماع قط لا قديما ولا حديثا على قبول المرسل بل في التابعين من لم يقبله كالزهري وغيره يسألون من أخبرهم عمن أخبرهم حتى يبلغوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم(3/306)
108 ... وإنما سقط ذلك عمن ليس في قوته فهم الإسناد ومعرفته فقط وقد قال الزهري لأهل الشام ما لي أرى أحاديثكم لا خطم لها ولا أزمة فصاروا حينئذ إلى قوله وغير الزهري أيضا كثير فصح بهذا إجماع الأمة كلها على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأيضا فإن جميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي صلى الله عليه وسلم يجزي على ذلك كل فرقة في علمها كأهل السنة والخوارج والشيعة والقدرية حتى حدث متكلمو المعتزلة بعد المائة من التاريخ فخالفوا الإجماع في ذلك ولقد كان عمرو بن عبيد يتدين بما يروي عن الحسن ويفتي به هذا أمر لا يجهله من له أقل علم وبرهان آخر وهو أنه عدد محصور فالتواطؤ جائز عليهم وممكن منهم ولا خلاف بين كل ذي علم بشيء من أخبار الدنيا مؤمنهم وكافرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بالمدينة وأصحابه رضي الله عنهم مشاغيل في المعاش وتعذر القوت عليهم لجهد العيش بالحجاز وأنه عليه السلام كان يفتي بالفتيا ويحكم بحضرة من حضره من أصحابه فقط وإن الحجة إنما قامت على سائر من لم يحضره عليه السلام بنقل من حضره وهم واحد واثنان وفي الجملة عدد لا يمتنع من مثلهم بالتواطؤ عند خصومنا فإذ جميع الشرائع إلا الأقل منها راجعة إلى هذه الصفة من النقل وقد صح الإجماع من الصدر الأول كلهم نعم وممن بعدهم على قبول خبر الواحد لأنها كلها راجعة إليه وإلى ما كان في معناه وهذا برهان ضروري وبالله تعالى التوفيق وبالضرورة نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن إذا أفتى بالفتيا أو إذا حكم بالحكم يجمع لذلك جميع من بالمدينة هذا ما لا شك فيه لكنه عليه السلام كان يقتصر على من بحضرته ويرى أن الحجة بمن يحضره قائما على من غاب هذا ما لا يقدر على دفعه ذو حس سليم وبالله تعالى التوفيق قال علي وأقوى ما شغب به من أنكر قبول خبر الواحد أن نزع بقول الله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك(3/307)
كان عنه مسؤولا قال أبو محمد وهذه الآية حجة لنا عليهم في هذه المسألة لأنا لم نقف ما ليس لنا به علم بل ما قد صح لنا به العلم وقام البرهان على وجوب قبوله وصح العلم بلزوم اتباعه والعمل به فسقط اعتراضهم بهذه الآية والحمد لله رب العالمين
525 ... الباب الثاني والعشرون في الإجماع وعن أي شيء يكون الإجماع وكيف ينقل الإجماع قال أبو محمد اتفقنا نحن وجميع أهل الإسلام جنهم وإنسهم في كل زمان إجماعا صحيحا متيقنا على أن القرآن الذي أنزله الله على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل ما قاله محمد فإنه حق لازم لكل أحد وإنه دين الإسلام ثم اختلفوا في الطريق المؤدية إلى رسوله فاعلموا رحمكم الله أن من اتبع نص القرآن وما أسند من طريق الثقات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد اتبع الإجماع يقينا وأن من عاج عن شيء من ذلك فلم يتبع الإجماع وكذلك إجماع أهل الإسلام كلهم جنهم وإنسهم في كل زمان وكل مكان على أن السنة واجب اتباعها وأنها ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك اتفقوا على وجوب لزوم الجماعة فاعلموا رحمكم الله أن ما اتبع ما صح برواية الثقات مسندا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد اتبع السنة يقينا ولزوم الجماعة وهم الصحابة رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان ومن أتى بعدهم من الأئمة وأن من اتبع أحدا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يتبع السنة ولا الجماعة وأنه كاذب في ادعائه السنة والجماعة فنحن معشر المتبعين للحديث المعتمدين عليه أهل السنة والجماعة حقا بالبرهان الضروري وأننا أهل الإجماع كذلك والحمد لله رب العالمين ثم اتفقنا نحن وأكثر المخالفين لنا على أن الإجماع من علماء أهل الإسلام حجة وحق مقطوع به في دين الله عز وجل ثم اختلفنا فقالت طائفة هو شيء غير القرآن وغير ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم لكنه أن يجتمع علماء المسلمين على حكم لا نص فيه لكن برأي منهم أو بقياس منهم عن منصوص وقلنا نحن(3/308)
هذا باطل ولا يمكن البتة أن يكون إجماع من علماء الأمة على غير نص من قرآن أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين في أي قول
526 ... المختلفين هو الحق لا بد من هذا فيكون من وافق ذلك النص هو صاحب الحق المأجور مرتين مرة على اجتهاده وطلبه الحق ومرة ثانية على قوله بالحق واتباعه له ويكون من خالف ذلك النص غير مستجيز لخلافه لكن قاصدا إلى الحق مخطئا مأجورا أجرا واحدا على طلبه للحق مرفوعا عنه الإثم إذا لم يعمد له وقد تيقن ألا يختلف المسلمون في بعض النصوص ولكن يوقع الله عز وجل لهم الإجماع عليه كما أوقع تعالى بينهم الاختلاف فيما شاء أن يختلفوا فيه من النصوص واحتجت الطائفة المخالفة لنا بأن قالت قال الله عز وجل يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا قالوا فافترض الله طاعة أولي الأمر كما افترض طاعة رسوله وكما افترض طاعة نفسه عز وجل أيضا ولا فرق فلو كان عز وجل إنما افترض طاعتهم فيما نقلوه إلينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان لتكرار الأمر بطاعتهم بمعنى لأنه يكتفي عز وجل بذكر طاعة رسوله فقط لأنها على قولكم معنى واحد فصح أنه إنما افترض عز وجل طاعتهم فيما قالوه برأي أو قياس مما ليس فيه نص عن الله تعالى ولا عن رسوله قال أبو محمد وجمعوا في استدلالهم بهذه الآية إلى تصحيح الإجماع تصحيح القول بالرأي والقياس فيما ظنوا وقالوا أيضا قال عز وجل وإذا جآءهم أمر من لأمن أو لخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى لرسول وإلى أولي لأمر منهم لعلمه لذين يستنبطونه منهم ولولا فضل لله عليكم ورحمته لاتبعتم لشيطان إلا قليلا قالوا وهذه كالتي قبلها وقالوا أيضا قال الله عز وجل ومن يشاقق لرسول من بعد ما تبين له لهدى ويتبع غير سبيل لمؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وسآءت مصيرا قالوا فتوعدوا على مخالفة سبيل المؤمنين(3/309)
أشد الوعيد فصح فرض اتباعهم فيما أجمعوا عليه من أي وجه أجمعوا عليه لأنه سبيلهم الذي لا يجوز ترك اتباعه
527 ... وذكروا ما حدثناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا سعيد بن منصور وأبو الربيع العتكي وقتيبة قالوا حدثنا حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبى عن ثوبان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله زاد العتكي وسعيد في روايتهما وهم كذلك وبه إلى مسلم حدثنا منصور بن أبي مزاحم ثنا يحيى بن حمزة عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثني عمير بن هاني قال سمعت معاوية على المنبر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الهمداني ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفريري ثنا البخاري ثنا الحميدي ثنا الوليد هو ابن مسلم ثنا ابن جابر هو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثني عمير بن هاني قال سمعت معاوية يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك قالوا فصح أنه لا تجتمع أمة محمد على غير الحق أبدا لأنه قد أنذر بأنه لا يزال منهم قائم بالحق أبدا قال أبو محمد وقد روي أنه عليه السلام قال لا تجتمع أمتي على ضلالة وهذا وإن لم يصح لفظه ولا سنده فمعناه صحيح بالخبرين المذكورين آنفا قال أبو محمد هذا كل ما احتجوا به ما لهم حجة غير هذا أصلا قال أبو محمد وكل هذا حق لا ينكره مسلم ونحن لم نخالفهم في صحة الإجماع وإنما خالفناهم في موضعين من قولهم أحدهما تجويزهم أن يكون الإجماع على غير نص والثاني دعواهم الإجماع في مواضع(3/310)
ادعوا فيها الباطل بحيث لا يقطع أنه إجماع بلا برهان أما في مكان قد صح فيه الاختلاف موجودا وإما في مكان لا نعلم نحن فيه
528 ... اختلافا إلا أن وجود الاختلاف فيه ممكن نعم وقد خالفوا الإجماع المتيقن على ما تبين بعد هذا إن شاء الله تعالى فإذا الأمر هكذا فلا حجة لهم في شيء من هذه النصوص أصلا فيما أنكرناه عليهم إنما الأخبار التي ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما فيها أن أمته عليه السلام لا تجتمع ولا ساعة واحدة من الدهر على باطل بل لا بد أن يكون فيهم قائل بالحق وقائم بالحق وقائم به وهكذا نقول وهذا الخبر إنما فيه بنص لفظه وجود الاختلاف فقط وأن مع الاختلاف فلا بد فيهم من قائل بالحق وأما قوله تعالى ومن يشاقق لرسول من بعد ما تبين له لهدى ويتبع غير سبيل لمؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وسآءت مصيرا فإنها حجة قائمة عليهم والحمد لله رب العالمين وذلك أن الله تعالى لم يتوعد في هذه الآية متبع على غير سبيل المؤمنين فقط لا مع مشاقته لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن تبين الهدى وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين واعلم أنه لا سبيل للمؤمنين البتة إلا طاعة القرآن والسنن الثابتة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما إحداث شرع لم يأت به نص فليس سبيل المؤمنين بل هو سبيل الكفر قال الله تعالى إنما كان قول لمؤمنين إذا دعوا إلى لله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم لمفلحون قال أبو محمد هذه سبيل المؤمنين بنص كلام الله تعالى لا سبيل لهم غيرها أصلا فعادت هذه الآية حجة لنا عليهم وأما قوله تعالى يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا وقوله تعالى وإذا جآءهم أمر من لأمن أو لخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى لرسول وإلى أولي لأمر منهم لعلمه لذين يستنبطونه منهم ولولا فضل لله عليكم(3/311)
ورحمته لاتبعتم لشيطان إلا قليلا فإن هذا مكان قد اختلف الصدر الأول فيه في من هم أولي الأمر كما حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي ثنا محمد بن مفرج ثنا إبراهيم بن أحمد بن فراس ثنا محمد بن علي بن زيد الصائغ ثنا سعيد بن منصور ثنا أبو معاوية هو محمد بن خازم الضرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة في قوله تعالى يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا قال هم الأمراء(3/312)
529 ... وروينا عن مجاهد والحسن وعكرمة وعطاء قال هم الفقهاء وروينا ذلك بالسند المذكور إلى سعيد بن منصور عن هشيم وسفيان بن عيينة قال هشيم أخبرنا أبو معاوية ومنصور وعبد الملك بن معاوية عن الأعمش عن مجاهد ومنصور عن الحسن وعبد الملك عن عطاء وقال سفيان عن الحكم بن أبان عن عكرمة قال أبو محمد فإذا لم يأت قرآن ببيان أنهم العلماء المجمعون ولا صح بذلك إجماع فالواجب حمل الآيتين على ظاهرهما ولا يحل تخصيصهما بدعوى بلا برهان لأنه مع ذلك تقويل لله عز وجل ما لم يقل ونحن نقطع بأنه تعالى لو أراد بعض أولي الأمر دون بعض لبينه لنا ولم يدعنا في لبس فوجب ما قلناه من حمل الآيتين على عمومهما فنقول إن أولي الأمر منا وإذ هذا هو الحق فمن الباطل المتيقن أن يقول قائل إن الله تعالى أمرنا بقبول طاعة الأمراء العلماء فيما لم يأمر به الله تعالى ولا رسوله فصح أن طاعة العلماء الأمراء إنما تجب علينا فيما أمرنا به مما أمر الله به تعالى ورسوله فقط وأما قولهم إن الله تبارك وتعالى لو أراد هذا لاكتفى بالأمر بطاعة الرسول عليه السلام على أن يذكر تعالى أولى الأمر فكلام فاسد لأنه يقال لهم إن قلتم إن ذكره تعالى طاعة أولي الأمر منا فيما قالوا برأي أو قياس لا فيما نقلوه إلينا عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ قد أغنى أمره تعالى بطاعة الرسول عن تكراره فيلزمكم سواء بسواء أن تقولوا أيضا إن أمره تعالى بطاعة رسوله بعد أمره بطاعة نفسه عز وجل دليل على أنه عز وجل إنما أمرنا بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قاله من عند نفسه لا فيما أتانا به من عند ربه عز وجل إذ قد أغنى أمر بطاعة نفسه عن تكراره لا فرق بين القولين فإن أبيتم من هذا ظهر تناقضكم وتحكمكم بالباطل بلا برهان وإن جسرتم وقلتموه أيضا كنتم أتيتم بعظائم مخالفة للقرآن وللرسول صلى الله عليه وسلم عليه السلام وللإجماع المتيقن إذ جوزتم أن يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع لم(3/313)
يوح الله تعالى بشيء منها إليه قط والله تعالى قد أكذب هذا القول إذ أمره أن يقول قل لا أقول لكم عندي خزآئن لله ولا أعلم لغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي لأعمى ولبصير أفلا تتفكرون
530 ... وإذ يقول عز وجل مخبرا عنه وما ينطق عن لهوى إن هو إلا وحي يوحى فأخبر تعالى عن أن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق البتة إلا بوحي يوحى إليه وأنه لا يتبع البتة إلا ما يوحي الله تعالى إليه فقط فمن كذب ربه فلينظر أين مستقره وإذا جوزتم أن يجمع الناس على شرائع يحدثونها لم يوح بها الله تعالى إلى رسوله ولا بينها رسوله والله تعالى يكذب من قال هذا إذ يقول حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم فالدين قد كمل وما كمل فلا مزيد فيه أصلا وأما تكرار الله تعالى الأمر بطاعة رسوله بعد أمره بطاعة نفسه تعالى وتكراره الأمر بطاعة أولي الأمر بعد أمره بطاعة الرسول وإن كان كل ذلك ليس فيه إلا طاعة ما أمر الله به فقط لا ما لم يأت به الوحي منه عز وجل فوجه ذلك واضح وهو بيان زائد لولا مجيئه لالتبس على بعض الناس فهم ذلك الأمر وذلك أنه لو لم يأمرنا الله تعالى إلا على الأمر بطاعته فقط لتوهم بعض الجهال أنه لا يلزمنا إلا ما قاله تعالى في القرآن فقط وأنه لا يلزمنا طاعة رسوله فيما جاءنا به مما ليس في نص القرآن فلما أمر تعالى مع طاعته بطاعة رسوله ليظهر البيان ولم يمكن أن يمنع من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمرنا إلا معاند له ولو لم يأمرنا تعالى إلا على الأمر بطاعة أولي الأمر منا لأمكن أن يهم جاهل فيقول لا يلزمنا طاعة(3/314)
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فيما سمعنا منه مشافهة فلما أمرنا تعالى بطاعة أولي الأمر منا ظهر البيان في وجوب طاعة ما نقله إلينا العلماء عن النبي صلى الله عليه وسلم فقط فبطل أن يكون لهاتين الآيتين متعلق والحمد لله رب العالمين فإن قالوا لو كان هذا لما كان قوله تعالى يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا معنى لأن ما جاءنا عن الله تعالى وعن النبي صلى الله عليه وسلم فواجب قبوله اتفق عليه أو اختلف فيه فأي معنى للفرق وبين أمره تعالى بطاعة أولي الأمر ثم أمره بالرد عند الشارع إلى الله ورسوله(3/315)
531 ... قلنا ليس في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا خلاف لأمره تعالى بطاعة أولي الأمر بل كل ذلك ليس فيه إلا طاعة القرآن والسنن المبلغة إلينا فقط ولكن في قوله تعالى يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا معنى زائد ليس فيما تقدم من الآية وهو نهيه تعالى عن تقليد أحد واتباعه والأمر بالاقتصار على القرآن والسنة فقط ولا مزيد وأيضا والكل من المسلمين متفقون على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نصلي إلى بيت المقدس مدة ثم أمرنا بترك تلك القبلة وبالصلاة إلى مكة فوجب ذلك وأنه عليه السلام لو نهانا عن أن نصلي الخمس وعن صوم رمضان لحرم علينا أن نصليها أو نصومه وهكذا في سائر الشرائع أفهكذا القول عندكم و أمرنا بذلك بعد جميع أهل الأرض فإن قالوا نعم كفروا وإن قالوا لا فرقوا بين طاعته عليه السلام وطاعة أولي الأمر فإن قالوا هذا محال لا يجوز أن يجمع الناس على ذلك لأنه كفر وضلال قلنا صدقتم وكذلك أيضا محال لا يجوز أن يجمعوا على إحداث شرع لم يأمر الله تعالى به ولا رسوله برأي أو بقياس ولا فرق فبطل أن يكون لهم في شيء من النصوص المذكورة متعلق بوجه من الوجوه والحمد لله رب كثيرا وقالوا لو كان الإجماع لا يكون إلا عن نص وتوقيف لكان ذلك النص محفوظا لأن الله تعالى قال إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون فلما لم يوجد ذلك النص علمنا أن الإجماع ليس على نص قال أبو محمد وهذا كلام أوله حق وآخره كذب ونحن نقول لا إجماع إلا عن نص وذلك النص إما كلام منه فهو منقول ولا بد محفوظ حاضر وإما عن فعل منه عليه السلام فهو منقول أيضا كذلك وإما إقراره إذ علمه فأقره ولم ينكره فهي أيضا(3/316)
حال منقولة محفوظة وكل من ادعى إجماعا علمه على غير هذه الوجوه كلفناه تصحيح دعواه في أنه إجماع لا سبيل إلى برهان على ذلك أبدا بأكثر من دعواه وما كان دعوى بلا برهان فهو باطل فإن لجأ إلى ما لا يعرف فيه خلاف
532 ... فهو إجماع قلنا له وهذا تدبير من الكذب والدعوى الأفيكة بلا برهان وتمام هذه المسألة إن شاء الله تعالى في باب بعد هذا مفرد لبعض قول من قال إن ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فكيف وفيما ذكرنا ههنا من أنها دعوى بلا برهان كفاية قال أبو محمد وإذا قد بطل كل ما اعترضوا به فلنقل بعون الله تعالى على إيراد البراهين على صحة قولنا قال عز وجل تبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أوليآء قليلا ما تذكرون فأمرنا تعالى أن نتبع ما أنزل ونهانا عن أن نتبع أحدا دونه قطعا فبطل بهذا أن يصح قول أحد لا يوافق النص وبطل بهذا أن يكون إجماع على غير نص لأن النص باطل والإجماع حق والحق لا يوافق الباطل وقد ذكرنا قوله تعالى حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم فصح أنه لا يحدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم شيء من الدين وهذا باطل أن يجمع على شيء من الدين لم يأت به قرآن ولا سنة ويصح بضرورة العقل أنه لا يمكن أن يعرف أحد ما كلفه الله تعالى عباده إلا بخبر من عنده عز وجل وإلا فالخبر عنه تعالى بأنه أمر بكذا ونهي عن كذا كاذب على الله عز وجل إلا أن يخبر بذلك عنه تعالى من يأتيه الوحي من عند ربه فقط وصح أيضا بضرورة العقل أن من أدخل في الدين حكما يقر بأنه لم يأت به وحي من عند الله تعالى عن رسوله فقد شرع(3/317)
من الدين ما لم يأذن به الله تعالى وقد ذم الله تعالى ذلك وأنكره في نص القرآن فقال أم لهم شركاء شرعوا لهم من لدين ما لم يأذن به لله ولولا كلمة لفصل لقضي بينهم وإن لظالمين لهم عذاب أليم قال أبو محمد ومن طريق النظر الضروري الراجع إلى العقل والمشاهدة والحس أننا نسأل من أجاز أن يجمع علماء المسلمين على ما لا نص فيه فيكون حقا لا يسع خلافه فنقول له وبالله تعالى التوفيق أفي الممكن عندك أن يجتمع علماء جميع الإسلام في موضع واحد حتى لا يشذ عنهم منهم أحد بعد افتراق الصحابة رضي الله عنهم في(3/318)
533 ... الأمصار أم هذا ممتنع غير ممكن البتة فإن قال هذا ممكن كابر العيان لأن علماء أهل الإسلام قد افترق الصحابة رضي الله عنهم في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم وهلم جرا لم يجتمعوا مذ أن افترقوا فصار بعضهم في اليمن في مدنها وبعضهم في عمان وبعضهم في البحرين وبعض في الطائف وبعض بمكة وبعض بنجد وبعض بجبل طيىء وكذلك في سائر جزائر العرب ثم اتسع الأمر بعده عليه السلام فصاروا من السند وكابل إلى مغارب الأندلس وسواحل بلاد البربر ومن سواحل اليمن إلى ثغور أرمينية فما بين ذلك من البلاد البعيدة واجتماع هؤلاء ممتنع غير ممكن أصلا لكثرتهم وتنائي أقطارهم فإن قال ليس اجتماعهم ممكنا قلنا صدقت وأخبرنا الآن كيف الأمر إذا قال بعضهم قولا لا نص فيه أتقطع على أنه حق وأنت لا تدري أيجمع عليه سائرهم أم لا أم تقف فيه فإن قال أقطع بأنه حق قلنا حكمت بالغيب وبما لا تدري وحكمت بالباطل بلا شك فإن قال بل أقف فيه حتى يجمع عليه سائرهم قلنا فإنما يصح إذ قال به آخر قائل منهم فلا بد من نعم فيقال لهم فلو خالفهم فعلى قولك لا يكون حقا فمن قوله نعم فيقال له فكيف يكون حقا ما يمكن أمس أن يكون باطلا وهذا حكم على الله تعالى وليس هذا حكم الله وكفى بهذا بيانا وأيضا فإن اليقين قد صح بأن الناس مختلفون في هممهم واختيارهم وآرائهم وطبائعهم الداعية إلى اختيار ما يختارونه وينفرون عما سواه متباينون في ذلك تباينا شديدا متفاوتا جدا فمنهم رقيق القلب يميل إلى الرفق بالناس ومنهم قاسي القلب شديد يميل إلى التشديد على الناس ومنهم قوي على العمل مجد إلى العزم والصبر والتفرد ومنهم ضعيف الطاقة يميل إلى التخفيف ومنهم جانح إلى لين العيش يميل إلى الترفيه ومنهم مائل إلى الخشونة مجنح إلى الشدة ومنهم معتدل في كل ذلك إلى التوسط ومنهم شديد الغضب يميل إلى شدة الإنكار ومنهم حليم يميل إلى الإغضاء ومن المحال اتفاق هؤلاء كلهم على إيجاب حكم برأيهم(3/319)
أصلا لاختلاف دعاويهم ومذاهبهم فيما ذكرنا وإنما يجمع ذو الطبائع المختلفة على ما استووا فيه من الإدراك بحواسهم وعلموه
534 ... ببدائة عقولهم فقط وليست أحكام الشريعة من هذين القسمين فبطل أن يصح فيها إجماع على غير توقيف وهذا برهان قاطع ضروري وأما الإجماع على القياس فيبطل من قرب لأنهم لم يجمعوا على صحة القياس فكيف يجمعون على ما لم يجمعوا عليه قال أبو محمد فاعترض فيها بعض المخالفين فقال قد اختلف الناس في القول بخبر الواحد وقد أجمع على بعض ما جاء به خبر الواحد قال أبو محمد وهذا باطل ومخرقة ضعيفة لأن المسلمين لم يختلفوا قط في وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما اختلفوا في الطريق المؤدية إليه والذين لا يقولون بخبر الواحد ثم أجمعوا على حكم ما جاء من أخبار الآحاد فإنهم يقولون إنما قلنا به لأنه نقل كافة لا لأنه خبر واحد فإن قلتم إن من القياس ما يوافق النص قلنا لكم المتبع حينئذ إنما هو النص ولا نبالي وافقه القياس أو خالفه فلم نتبع القياس قط وافق النص أو خالفه وكذلك لا يجوز الإجماع على قول إنسان دون النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا أحد بعده إلا وقد خالفه طوائف من المسلمين في كثير من قوله وأيضا فإن كان من بعده عليه السلام فممكن أن يصيب وأن يخطىء فاتباع خطأ من أخطأ باطل وأما صواب المصيب في الدين فإنما هو باتباع النص فالنص هو المتبع حينئذ لا قول الذي اتبع النص وإنما يجب اتباع النص سواء وافقه الموافق أو خالفه المخالف وأيضا فإنه يقال لمن أجاز الإجماع على غير نص من قرآن أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرونا عما جوزتم من الإجماع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير نص هل يخلو من أربعة أوجه لا خامس لها إما أن يجمعوا على تحريم شيء مات ولم يحرمه أو على تحليل شيء مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حرمه أو على إيجاب فرض مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوجبه أو على إسقاط فرض(3/320)
مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوجبه وكل هذه الوجوه كفر مجرد وإحداث دين بدل به دين الإسلام ولا فرق بين هذه الوجوه وبين من جوز الإجماع على إسقاط الصلوات الخمس أو بعضها أو ركعة منها أو على إيجاب صلوات غيرها أو ركوع زائدة فيها أو على إبطال صوم رمضان أو على إيجاب
535 ... صوم شهر رجب أو على إبطال الحج إلى مكة أو على إيجابه إلى الطائف أو على إباحة الخنزير أو على تحريم الكبش كل هذا كفر صراح لا خفاء به فإن قالوا كل هذه نصوص وإنما جوزنا الإجماع على ما لا نص فيه قلنا وكل ما ذكرنا لا نص فيه وإنما هي شرائع زائدة في دين الله تعالى أو ناقصة منه هذه صفة ما لا نص فيه لا سبيل إلى أن يكون حكم لا نص فيه يخرج من أحد هذين الوجهين فإن قالوا هذا لا يجوز رجعوا إلى قولنا من قرب ومن أجاز شيئا من هذا كفر وبالله تعالى التوفيق وهذا أيضا برهان قاطع في إبطال القول بالقياس بالرأي والاستحسان لا مخلص منه واعلموا أن قولهم هذه المسألة لا نص فيها قول باطل وتدليس في الدين وتطريق إلى هذه العظائم لأن كل ما يحرمه الله تعالى على لسان نبيه إلى أن مات فقد حلله بقوله تعالى هو لذي خلق لكم ما في لأرض جميعا ثم ستوى إلى لسمآء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم وقوله وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر سم لله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما ضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بلمعتدين وكل ما لم يأمر به عليه السلام فلم يوجبه وهذه ضرورة لا يمكن أن يقوم في عقل أحد غيرها وأما كل ما نص يأمر به بالأمر به أو النهي عنه فقد حرمه أو أوجبه فلا يحل لأحد مخالفته فصح أنه لا شيء إلا وفيه نص جلي فصح أنه لا إجماع إلا على نص ولا اختلاف إلا في نص كما ذكرنا ولا قياس يوجب في نص إلا وهو زائد في الدين أو ناقص منه ولا بد ثم نقول لهم أيضا أخبرونا عن الإجماع جملة هل يخلو من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها بضرورة العقل أما أن يجمع(3/321)
الناس على ما لا نص فيه كما ادعيتم فقد أريناكم بطلان ذلك وأنه محال ذلك وأنه محال وجوده لصحة وجود النصوص في كل شيء من الدين أو يكون إجماع الناس على خلاف النص الوارد من غير نسخ أو تخصيص له وردا قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا كفر مجرد كما قدمنا أو يكون إجماع الناس على شيء منصوص فهذا قولنا هذه قسمة ضرورية لا محيد(3/322)
536 ... عنها أصلا وإذ هو كما ذكرنا فاتباع النص فرض سواء أجمع الناس عليه أو اختلفوا فيه لا يزيد النص مرتبة في وجوب الاتباع أن يجمع الناس عليه ولا يوهن وجوب اتباع اختلاف الناس فيه بل الحق حق وإن اختلف فيه وإن الباطل باطل وإن كثر القائلون به ولولا صحة النص عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن أمته لا يزال منهم من يقوم بالحق ويقول به فبطل بذلك أن يجمعوا على باطل لقلنا والباطل باطل وإن أجمع عليه لكن لا سبيل إلى الإجماع على باطل قال أبو محمد فإذا الأمر كذلك فإنما علينا صلب أحكام القرآن والسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ليس في الدين سواهما أصلا ولا معنى لطلبنا هل أجمع على ذلك الحكم أو هل اختلف فيه لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق فإن قيل فقد صححتم الإجماع آنفا ثم توجبون الآن أنه لا معنى له قلنا الإجماع موجود كما الاختلاف موجود إلا أننا لم يكلفنا الله تعالى معرفة شيء من ذلك إنما كلفنا اتباع القرآن وبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نقله إلينا الأمر منا على ما بينا فقط ولأن أحكام الدين كلها من القرآن والسنن لا تخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما إما وحي مثبت في المصحف وهو القرآن وإما وحي غير مثبت في المصحف وهو بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون وقال تعالى وما ينطق عن لهوى إن هو إلا وحي يوحى ثم ينقسم كل ذلك ثلاثة أقسام لا رابع لها إما شيء نقلته الأمة كلها عصرا بعد عصر كالإيمان والصلوات والصيام ونحو ذلك وهذا هو الإجماع ليس من هذا القسم شيء لم يجمع عليه وإما شيء نقل نقل تواتر كافة عن كافة من عندنا كذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ككثير من السنن وقد يجمع على بعض ذلك وقد يختلف فيه كصلاة النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا بجميع الحاضرين من أصحابه وكدفعه خيبر إلى يهود بنصف ما يخرج منها من زرع أو تمر(3/323)
يخرجهم إذا شاء وغير ذلك كثير وإما شيء نقله الثقة عن الثقة كذلك مبلغا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنه ما أجمع على القول به ومنه ما اختلف فيه فهذا معنى الإجماع الذي لا إجماع في الديانة غيره البتة ومن ادعى
537 ... غير هذا فإنما يخبط فيما لا يدري ويقول ما لا علم له ويقول بما لا يفهم ويدين بما لا يعرف حقيقته وبالله تعالى التوفيق وبه نعوذ من التخليط في الدين بما لا يعقل فصل في اختلاف الناس في وجوه من الإجماع قال أبو محمد ثم اختلف الناس في وجوه من الإجماع لا علينا أن نذكرها إن شاء الله تعالى وإن كنا قد بينا آنفا أنه لا حاجة بأحد إلى طلب إجماع أو اختلاف وإنما الفرض على الجميع والذي يحتاج إليه الكل فهو معرفة أحكام القرآن وما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط كما بينا أن أهل العلم مالوا إلى معرفة الإجماع ليعظموا خلاف من خالفه ويزجروه عن خلافه فقط وكذلك مالوا إلى معرفة اختلاف الناس لتكذيب من لا يبالي بادعاء الإجماع جرأة على الكذب حيث الاختلاف موجود فيردعونه بإيراده عن اللجاج في كذبه فقط وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد فقالت طائفة الإجماع إجماع الصحابة رضي الله عنهم فقط وأما إجماع من بعدهم فليس إجماعا وقالت طائفة إجماع أهل كل عصر إجماع صحيح ثم اختلف هؤلاء فقالت طائفة منهم إذا صح إجماع كل عصر ما فهو إجماع صحيح وليس لهم ولا لأحد بعد أن يقول بخلافه وقالت طائفة منهم أخرى بل يجب مراعاة ذلك العصر فإن انقرضوا كلهم ولم يحدثوا ولا أحد منهم خلافا لما أجمعوا عليه فهو إجماع قد انعقد لا يجوز لأحد خلافه وإن رجع أحد منهم عما أجمع مع أصحابه فله ذلك ولا يكون ذلك إجماعا وقالت طائفة إذا اختلف أهل عصر في مسألة ما فقد ثبت الاختلاف ولا ينعقد في تلك المسألة إجماع أبدا وقالت طائفة بل إذا اختلف أهل عصر ما في مسألة ما ثم أجمع أهل العصر الذي بعدهم على بعض قول أهل العصر الماضي فهو إجماع صحيح لا يسع(3/324)
أحدا خلافه أبدا وقالت طائفة إذا اختلف أهل العصر على عشرة أقوال مثلا أو أقل أو أكثر فهو اختلاف فيما اختلفوا فيه وهو إجماع صحيح على ترك ما لم يقولوا به من الأقوال فلا يسع أحدا الخروج على تلك الأقوال كلها له أن يتخير منها ما أداه إليه اجتهاده
538 ... وقالت طائفة ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع صحيح لا يجوز خلافه لأحد وقالت طائفة ليس إجماعا وقالت طائفة إذا اتفق الجمهور على قول خالفهم واحد من العلماء فلا يلتفت إلى ذلك الواحد وقول الجمهور هو إجماع صحيح وهذا قول محمد بن جرير الطبري وقالت طائفة ليس هذا إجماعا وقالت طائفة قول الجمهور والأكثر إجماع وإن خالفهم من هو أقل عددا منهم وقالت طائفة ليس هذا إجماعا وقالت طائفة إجماع كل أهل المدينة هو الإجماع وهذا قول المالكيين ثم اختلفوا فقال ابن بكير منهم وطائفة معه سواء كان عن رأي أو قياس أو نقلا وقال محمد بن صالح الأبهري منهم وطائفة معه إنما ذلك فيما كان نقلا فقط وقالت طائفة إجماع أهل الكوفة وهذا قول بعض الحنفيين وقالت طائفة إذا جاء القول عن الصاحب الواحد أو أكثر من واحد من الصحابة ولم يعرف له مخالف منهم فهو إجماع وإن خالفه من بعد الصحابة رضي الله عنهم وهو قول بعض الشافعيين وجمهور الحنفيين والمالكيين وقال بعض الشافعيين إنما يكون إجماعا إذا اشتهر ذلك القول فيهم وانتشر ولم يعرف له منهم مخالف وأما إذا لم يشتهر ولا انتشر فليس إجماعا بل خلافه جائز ثم ههنا أقوال هي داخلة في باب الهوس إن سلم أصحابها من القصد إلى التلاعب بالدين كقول بعض الحنفيين ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد وأن اختيارات الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وداود بن علي وسائر العلماء شذوذ خرق الإجماع وكقول بكر بن العلاء القشيري المالكي إن بعد سنة مائتين قد استقر الأمر وليس لأحد أن يختار وكقول إنسان ذكره أبو ثور في رسالة ورد عليه(3/325)
وكان قوله إنه ليس لأحد أن يخرج عن اختيارات الأوزاعي وسفيان الثوري وعبد الله بن المبارك ووكيع بن الجراح قال أبو محمد أصناف الحمق أكثر من أصناف التمر ويكفي في بطلان كل قول من الدين لم يأت به قرآن ولا سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى لطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ آتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود لله فإن خفتم ألا يقيما حدود لله فلا جناح عليهما فيما فتدت به تلك حدود لله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود لله فأولئك هم لظالمون وقوله تعالى وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين(3/326)
539 ... فصح أنه لا برهان في الدين إلا ما حده الله تعالى وأن حدود الله ليست إلا في كلامه وبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط وأن من لم يأت في قوله في الدين ببرهان من القرآن وأن حكم مستند ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس من الصادقين بل هو كاذب آفك ضال مضل وبالله تعالى التوفيق إلا أنه لا بد بحول الله تعالى من بيان شبه هذه الأقوال الفاسدة التي قد عظم خطأ أهلها وكثر اتباعها لعل الله تعالى يهدي بهداه لنا أحدا فيكون خيرا لنا من حمر النعم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما توفيقنا إلا بالله وهو حسبي ونعم الوكيل واعلموا أن جميع هذه الفرق متفقة على أن إجماع الصحابة رضي الله عنهم إجماع صحيح وقائلون بأن كل ما اشتهر فيهم رضي الله عنهم ولم يقع منهم نكير له فهو إجماع صحيح فاعلموا أن إجماع هذه الفرق على ما ذكرنا حاكم لنا عليهم وموجب لنا أننا المتبعون للإجماع وأن مخالفينا كلهم مخالفون للإجماع بإقرارهم والحمد لله رب العالمين كما نذكر في الباب المتصل بهذا إن شاء الله تعالى فصل ذكر الكلام في الإجماع إجماع من هو إجماع الصحابة رضي الله عنهم أم الأعصار بعدهم وأي شيء هو الإجماع وبأي شيء يعرف أنه إجماع قال أبو محمد قال سليمان وكثير من أصحابنا لا إجماع إلا إجماع الصحابة رضي الله عنهم واحتج في ذلك بأنهم شهدوا التوقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صح أنه لا إجماع إلا عن توقيف وأيضا فإنهم رضي الله عنهم كانوا جميع المؤمنين لا مؤمن من الناس سواهم ومن هذه صفته فإجماعهم هو إجماع المؤمنين وهو الإجماع المقطوع به وأما كل عصر بعدهم فإنما بعض المؤمنين لا كلهم وليس إجماع بعض المؤمنين(3/327)
540 ... إجماعا إنما الإجماع إجماع جميعهم وأيضا فإنهم كانوا عددا محصورا يمكن أن يحاط بهم وتعرف أقوالهم وليس من بعدهم كذلك قال أبو محمد أما قوله إنهم شهدوا التوقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال وهذا إنما هو حجة في أنه لا إجماع إلا عن توقيف ولا شك في أن إجماع الصحابة رضي الله عنهم إجماع صحيح وإنما الكلام في الأعصار بعدهم وقد عارضه مخالفوه بأن قالوا قد يجوز أن يحمل أهل عصر بعدهم على دليل نص قرآن أو سنة فهذا يدخل في التوقيف وأما قوله إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا جميع المؤمنين وإن من بعدهم إنما هو بعض المؤمنين فقول صحيح يعرف صدقه بالعيان والمشاهدة إلا أنه قد عارض مخالفوه في نكتة من هذه الجملة وهو أنه قال إن كان هكذا فإنه مذ ماتت خديجة رضي الله عنها أو بعض قدماء الصحابة رضي الله عنهم فإن الباقين منهم إنما هم بعض المؤمنين لا كلهم أيضا فقل إن الإجماع إنما هو إجماع من أسلم منهم بمكة قبل أن يموت منهم أحد فعارضه بعض أصحابنا بأن قال نعم هذا حق ما جاء قط نص قرآن ولا سنة بتسمية ما اتفق عليه من بقي من بعد من مات إجماعا قال بعض أصحابنا لا ولكن نقول إن كل من مات منهم رضي الله عنهم فنحن موقنون قاطعون بأنه لو كان حيا لسلم الوحي المنزل من القرآن أو البيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لم يمت إلا مؤمنا بكل ما ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده بلا شك وليس كذلك من بعدهم لأنه حدث فيمن بعدهم من لا يقول بخبر الواحد الثقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نقطع عليهم بطاعة ما حكم به بخلاف الصحابة الذين من مات منهم فهو داخل في الإجماع بهذه الجملة فعارضه المخالف فقال إن الأمر وإن كان كذلك فمع ذلك فقد كان يمكن أن يخالف الوحي متأولا باجتهاده كما فعل عمر وخالد وأبو السنابل وغيرهم فإن لم يعتد هذا خلافا لأنه وهم من صاحبه فلا يعتد بخلاف أحد من أهل الإسلام للنص إذا خالفه متأولا(3/328)
باجتهاده لأن كل مسلم كان أو يكون فإنه مسلم لما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكم به وإن خالف بعد ذلك متأولا باجتهاده مخطئا قاصدا إلى الخير في تقديره فقد صار على هذا القول كل حكم إجماعا وبطل الاختلاف قال أبو محمد وهذا اعتراض غير صحيح ولا يمنع مما أوجبه أبو سليمان من أن
541 ... من بعد الصحابة إنما هم بعض المؤمنين لا كلهم لأن كل حكم نزل من الله تعالى بعد موت من مات من الصحابة رضي الله عنهم فلم يكلفوا قط ألا يخالفوا ذلك الحكم لأنه لم يبلغهم وإنما يلزمهم الحكم بعد بلوغه قال عز وجل قل أي شيء أكبر شهادة قل لله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا لقرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع لله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون وإنما كان يراعي إجماعهم عليه أو خلافهم له لو بلغهم وليس من بعدهم إذا بلغ الحكم كذلك بل إن اتبعوه لقد أجمعهم عليه ومن خالفه منهم مجتهدا فقد وجب الاختلاف في ذلك الحكم وأما قوله إن عدد الصحابة رضي الله عنهم كان محصورا ممكنا جمعه وممكنا ضبط أقوالهم وليس كذلك من بعدهم فإنما كان هذا إذا كانوا كلهم بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل تفرقهم في البلاد وأما بعد تفرقهم فالحال في تعذر حصر أقوالهم كالحال فيمن بعدهم سواء ولا فرق هذا أمر يعرف بالمشاهدة والضرورة قال أبو محمد وأما من قال إن إجماع أهل كل عصر فهو إجماع كل صحيح فقول الباطل لما ذكرنا من أنهم بعض المسلمين لا كلهم لكنه حق لما ذكرنا قبل من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه لا تزال طائفة من أمتي على الحق إلى أن يأتي أمر الله قال أبو محمد ونحن إن شاء الله مبينون كيفية الإجماع بيانا ظاهرا يشهد له الحس والضرورة وبالله تعالى التوفيق فنقول إن الإجماع الذي هو الإجماع المتيقن ولا إجماع غيره لا يصح تفسيره ولا ادعاؤه بالدعوى لكن ينقسم قسمين أحدهما كل ما لا يشك فيه أحد من أهل الإسلام في أن من(3/329)
لم يقل به فليس مسلما كشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكوجوب الصلوات الخمس وكصوم شهر رمضان وكتحريم الميتة والدم والخنزير والإقرار بالقرآن وجملة الزكاة فهذه أمور من بلغته فلم يقر بها فليس مسلما فإذا ذلك كذلك فكل من قال بها فهو مسلم فقد صح أنها إجماع من جميع أهل الإسلام والقسم الثاني شيء شهده جميع الصحابة رضي الله عنهم من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تيقن أنه عرفه كل من غاب عنه منهم كفعله في خيبر إذ أعطاها يهود بنصف ما يخرج منها من زرع أو تمر يخرجهم المسلمون إذا شاؤوا فهذا لا شك عند كل أحد في أنه لم يبق مسلم في المدينة إلا شهد الأمر أو(3/330)
542 ... وصل إليه يقع ذلك الجماعة من النساء والصبيان الضعفاء ولم يبق بمكة والبلاد النائية مسلم إلا عرفه وسر به على أن هذا القسم من الإجماع قد خالفه قوم بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم وهما منهم وقصدا إلى الخير وخطأ باجتهادهم فهذان قسمان للإجماع ولا سبيل إلى أن يكون الإجماع خارجا عنهما ولا أن يعرف إجماع بغير نقل صحيح إليهما ولا يمكن أحدا إنكارهما وما عداهما فدعوى كاذبة وبالله تعالى ومن ادعى أنه يعرف إجماعا خارجا من هذين النوعين فقد كذب على جميع أهل الإسلام ونعوذ بالله العظيم من مثل هذا قال أبو محمد نا محمد بن سعيد بن عمر بن نبات نا محمد بن أحمد بن مفرج نا ابن الورد نا أحمد بن حماد زغبة نا يحيى بن بكير نا الليث بن سعد حدثني عقيل بن خالد عن ابن شهاب قال أخبرني أنس بن مالك أنه سمع عمر بن الخطاب الغد حين بايع المسلمون أبا بكر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد استوى أبو بكر على المنبر ثم استوى يعني عمر فتشهد قبل أبي بكر فقال أما بعد فإني قلت لكم أمس مقالة وإنها لم تكن كما قلت وإني والله ما وجدت المقالة التي قلت لكم في كتاب أنزله الله تعالى ولا في عهد عهده إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكني كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا فاختار الله لرسوله الذي عنده على الذي عندكم وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسوله فخذوا به تهتدوا بما هدي له رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد فهذا عمر رضي الله عنه على المنبر بحضرة جميع الصحابة رضي الله عنهم يعلن ويعترف بأنه يقول القول لم يجده في قرآن ولا في سنة وأنه ليس كما قال ولا ينكر ذلك أحد من الصحابة ويأمر باتباع القرآن ولا يخالفه في ذلك أحد منهم فصح أن قولنا بألا يتبع ما روي عن أحد من الصحابة إلا أن يوجد في قرآن أو سنة هو إجماع الصحابة الصحيح وأن وجوب اتباع النصوص هو الإجماع الصحيح وهو قولنا والحمد لله رب العالمين وأن من(3/331)
خالف هذين القولين فقد خالف الإجماع الصحيح وكذلك من قلد إنسانا بعينه في جميع أقواله أو جهل وكده الاحتجاج بجميع
543 ... أقوال إنسان بعينه كما فعل الحنفيون والمالكيون والشافعيون خلاف متيقن لجميع عصر الصحابة ولجميع عصر التابعين ولجميع عصر تابعي التابعين أولهم عن آخرهم فنحن ولله الحمد المتبعون للإجماع وهم المخالفون للإجماع المتيقن نسأل الله تعالى أن يفيء بهم إلى الهدى وأن يثبتنا عليه فصل في من قال إن الإجماع لا يجوز لأحد خلافه وأما من قال إن الإجماع لا يجوز لأحد خلافه فقول صحيح وضعوه موضع تلبيس وأخرجوه مخرج تدليس وصارت كلمة حق أريد بها باطل وذلك أنهم أوهموا أن ما لا إجماع فيه فإن الاختلاف فيه سائغ جائز قال أبو محمد وهذا باطل بل كل ما أجمع عليه أو اختلف فيه فهما سواء في هذا الباب فهلا يحل لأحد خلاف الحق أصلا سواء أجمع عليه أو اختلف فيه فإن قيل فهلا عذرتم من خالف الإجماع كما عذرتم من خالف فيم فيه خلاف قلنا كلا لعمري ما فعلنا شيئا مما تقولون ولا فرق عندنا فيما نسبتم إلينا الفرق بينه بل قولنا الذي ندين الله تعالى به هو أنه لا حق في الدين فيما جاء به كلام الله تعالى في القرآن أو بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم للوحي المنزل إليه وأنه لا يحل لأحد خلاف شيء من ذلك فمن جهل وأخطأ قاصدا إلى الخير لم يتبين له الحق ولا فهمه فخالف شيئا من ذلك فسواء أجمع عليه أو اختلف فيه هو مخطىء معذور مأجور مرة كمن أسلم ولم يبلغه فرض الصلاة أو كمن أخطأ في القرآن الذي لا إجماع كالإجماع عليه فأسقط آية أو بدل كلمة أو زادها غير عامد لكنه مقدر أنه كذلك فهذا لا إثم عليه ولا حرج وهكذا في كل شيء ومن عمد فخالف ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم غير مسلم بقلبه أو بلسانه أنه كحكمه عليه السلام فهو كافر سواء كان فيما أجمع عليه أو فيما اختلف فيه قال تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم(3/332)
حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما
544 ... وإن خالف ما صح عنده من ذلك بعلمه وسلم له بقلبه ولسانه فهو مؤمن فاسق كالزاني وشارب الخمر وسائر العصاة سواء كان مما أجمع عليه أو مما اختلف فيه فهذه الحقائق التي لا يقدر أحد على معارضتها لا الأقوال المموهة وبالله تعالى التوفيق فصل في من قال بمراعاة انقراض العصر في الإجماع وأما من قال بمراعاة انقراض العصر في الإجماع فمن أحسن قول قيل لأن عصر الصحابة رضي الله عنهم اتصل مائة عام وثلاثة أعوام لأن سمية أم عمار رضي الله عنها ماتت في أول الإسلام ثم لم يزالوا يموت منهم من بلغ أجله كأبي أمامة وخديجة وعثمان بن مظعون وقتلى بدر وأحد وأهل البعوث عاما عاما ومن مات في خلال ذلك إلى أن مات أنس سنة إحدى وتسعين من الهجرة وكان عصر التابعين مداخلا لعصر الصحابة رضي الله عنهم لأنه لما أسلم الاثنا عشر رجلا من الأنصار رضي الله عنهم قبل الهجرة بسنة وثلاثة أشهر كاملة لأنهم أسلموا في ذي الحجة في أيام الحج وحملوا مع أنفسهم مصعب بن عمير رضي الله عنه معلما لهم القرآن والدين وبقوا كذلك تمام عام ثم حج منهم سبعون مسلما وثلاث نسوة مسلمات كلهم يعرف اسمه وحسبه وهم أهل بيعة العقبة وتركوا بالمدينة إسلاما كثيرا فاشيا يتجاوز المائتين من الرجال والنساء ثم هاجر في ربيع الأول فلا شك في أنه قد مات في تلك الخمسة عشر شهرا منهم موتى من نساء ورجال لأنهم أعداد عظيمة وكلهم من جملة التابعين وهم الجمهور إلا من شاهد منهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم الأقل وهكذا كل مسلم ممن أسلم ولم يلق النبي صلى الله عليه وسلم من جميع جزيرة العرب كبلاد اليمن والبحرين وعمان والطائف وبلاد مصر وقضاعة وسائر ربيعة وجبلي طيىء والنجاشي فكل من لم يلق منهم النبي صلى الله عليه وسلم فهو من التابعين فلم يزل التابعون يموت منهم(3/333)
545 ... الواحد والاثنان والعشرات والمئون والآلاف من قبل الهجرة بسنة وشهرين إلى أن مات آخرهم في حدود ثمانين ومائة من الهجرة كخلف بن خليفة الذي رأى عمرو بن حريث وكمن ذكر عنه أنه رأى أنس بن مالك رضي الله عنه فمن هذا الواهي دماغه الذي يتعاطى مراعاة انقراض أهل عصر مقدار مائة عام وثلاثة أعوام ثم عصر آخر مقدار مائة سنة وثمانين سنة ويضبط أنفاسهم وإجماعهم هل اختلفوا بعد ذلك أم لا فكيف أن يوجب ذلك على الناس لا سيما وأهل ذينك العصرين متداخلان مضى كثير من أهل العصر الثاني قبل انقراض العصر الأول بدهر طويل أكثر من مائة عام وقد أفتى جمهورهم من الصحابة كعلقمة ومسروق وشريح وسليمان وربيعة وغيرهم ماتوا في عصر الصحابة وهكذا تتداخل الأعصار إلى يوم القيامة وقد اعترض بعضهم في هذا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم خيركم القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم فقلت بين الأمرين فرق كما بين النور والظلمة لأن الذي تباينت به الأعصار المذكورة هو شفوف في الفضل لا يلحقه الآخرون معروف لمن تأخر من قرن الصحابة على من تقدم من قرن التابعين وليس كذلك جواز الفتيا لأنه إن لم تجز الفتيا لتابع حتى ينقرض عصر الصحابة لم تجز فتيا من ذكرنا ممن مات من التابعين في عصر الصحابة وهذا باطل أو يقولون إنه يراعي انقراض عصر التابعين مع عصر الصحابة معا ففي هذا مراعاة كل عصر إلى يوم القيامة مع عصر الصحابة لتداخل الأعصار وهذا محال والذي يدخل هذا القول من الجنون أكثر من هذا لأنه يجب على قولهم أنه إذا لم يبق من الصحابة إلا أنس وحده فإنه كان له ولغيره من التابعين أن يرجعوا عما أجمعوا عليه قالها أنس انسد عليهم هذا الباب وألقيت المعلقة فحرم عليهم من الرجوع ما كان مباحا لهم قبيل ذلك وكفى بهذا جنونا وليت شعري متى يمكنه التطوف عليهم في آفاقهم بل ألا يزايلهم إلى أن يموتوا ومتى جمعوا له في صعيد واحد ما في الرعونة أكثر من هذا ولا في(3/334)
الهزل والتدين بالباطل ما يفوق هذا ونعوذ بالله العظيم من الضلال
546 ... فصل في ما إذا اختلف أهل عصر ما في مسألة ما وأما من قال إذا اختلف أهل عصر ما في مسألة ما فقد ثبت الاختلاف ولا ينعقد في تلك المسألة إجماع أبدا فإنه كلام فاسد لأن الاختلاف لا حكم له إلا الإنكار له والمنع منه وإيجاب القول على كل أحد بما أمر الله تعالى به في كتابه أو على لسان رسوله فقط ولا مزيد فالاختلاف لا يحل أن يثبت ولا يسع أحدا خلاف الحق أصلا لكن من خالفه جاهلا متأولا فهو مخطىء معذور مأجور أجرا واحدا كما ذكرنا آنفا وفرض على كل من بلغه الحق أن يرجع إليه فإن عانده بقلبه أو بلسانه عالما بالحق فهو كافر وإن عانده بفعله عالما ففاسق كما قدمنا وبالله تعالى التوفيق فصل في اختلاف أهل عصر ما ثم إجماع أهل عصر ثان وأما من قال إذا اختلف أهل عصر ما ثم أجمع أهل عصر ثان على أحد الأقوال التي اختلف عليه أهل الماضي فليس لأحد خلاف ما أجمع عليه أهل العصر الثاني فقد قلنا في تعذر علم هذا بما قلنا آنفا وسنزيد في ذلك بيانا لا يحيل إن شاء الله تعالى عن ذي لب وقد قلنا إنه لا معنى لمراعاة ما أجمع عليه مما اختلف فيه إنما هو حق أو خطأ والحق في الدين ليس إلا في كلام الله تعالى أو بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت عنه بنقل الثقات مسندا فقط وهذا لا يسع أحدا خلافه ولا يقويه ولا يزيده رتبة في أنه حق أن يجمع عليه ولا يوهنه أن يختلف فيه والخطأ هو خلاف النص ولا يحل لأحد أن يخطىء لأنه يعذر بتأوله وجهله كما قدمنا أو يكفر بعناده أو بقلبه أو بلسانه أو يفسق بمخالفته بعمله فقط وبالله تعالى التوفيق ولا سبيل إلى إجماع أهل عصر ما على خلاف نص ثابت لأن خلاف النص باطل ولا يجوز إجماع الأمة على باطل لقول النبي صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي على الحق فصح أن هذا القول الذي صدرنا في الباب فاسد(3/335)
547 ... فصل في من قال إن افترق أهل عصر على أقوال كثيرة وأما قول من قال إن افترق أهل العصر على أقوال كثيرة جدا أو أكثر من واحد فإن ما لم يقولوه قد صح الإجماع منهم على تركه فقد قلنا في تعذر معرفة ذلك وحصره ونقول أيضا إن شاء الله تعالى وقد قلنا إنه لا يمكن مع ذلك أن يجمع أهل عصر طرفة عين فما فوقها خطأ على خطأ لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا تزال طائفة من أمتي على الحق فهذه الأقوال كلها متخاذلة غير موضوعة وضعا صحيحا خارجة عن الإمكان إلى الامتناع وما كان هكذا فلا وجه للاشتغال به قال أبو محمد فموهوا ههنا بأن قالوا قد صح الإجماع من الصحابة رضي الله عنهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنع من بيع أمهات الأولاد وكان بيعهم على عهده حلالا وقد صح إجماعهم على جلد شارب الخمر ثمانين جلدة ولم يكن ذلك على عهده وقد صح إجماعهم على إسقاط ستة أحرف من جملة الأحرف السبعة التي كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا كذبتم وأفكتم أما جلد شارب الخمر ثمانين فيعيذ الله تعالى عمر من أن يشرع حدا لم يأت به وحي من الله تعالى ورسوله ونحن نسألكم ما الفرق بين ما تدعونه بالباطل من إحداث حد لم يشرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر وبين إثبات حد في اللياطة بقطع الذكر أو في الزنى بجلد مائتين أو بقطع يد الغاصب أو بقلع أضراس آكل الخنزير وما الفرق بين هذا كله وبين إسقاط صلاة وزيادة أخرى وإبطال صوم رمضان وإحداث شهر آخر ومن أجاز هنا فقد خرج عن الإسلام وكفر كفرا صراحا ولحق بالباطنية وغلاة الروافض واليهود والنصارى الذين بدلوا دينهم وإنما جلد عمر الأربعين الزائدة تعزيرا كما صح عنه أنه كان إذا أتي بمن تتابع في الخمر جلده ثمانين وإذا أتي بمن لم يكن له منه إلا الوهلة ونحوها جلده أربعين ويا معشر من لا يستحي من الكذب أين الإجماع الذي تدعونه وقد صح أن(3/336)
548 ... عثمان وعليا وعبد الله بن جعفر بحضرة الصحابة جلدوا في الخمر أربعين بعد موت عمر كما حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا إسحاق بن راهويه حدثنا يحيى بن حماد ثنا عبد العزيز بن المختار ثنا عبد الله بن الفيروز الداناج مولى ابن عامر ثنا حصين بن المنذر أبو ساسان قال شهدت عثمان أتى الوليد يشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر والثاني أنه قاءها قال عثمان يا علي قم فاجلده فقال علي يا حسن قم فاجلده فقال الحسن ول حارها من تولى قارها فكأنه وجد عليه فقال علي يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده فجلده وعلي يعد حتى بلغ أربعين فقال أمسك جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة فإن كان ضرب الثمانين إجماعا فعثمان وعلي وأبي جعفر والحسن ومن حضرهم خالفوا الإجماع ومخالف الإجماع عندهم كافر فانظروا فيما تقحمهم آراؤهم وحاشا للأئمة الصحابة رضي الله عنهم من الكفر ومن مخالفة الحق ومن إحداث شرع لم يأذن به الله تعالى فإن قيل فما معنى قول علي وكل سنة قلبا صدق لأن التعزير سنة فإن قيل إن التعزير عندكم لا يتجاوز عشر جلدات قلنا يمكن أن يجلده عمر لكل كأس عشر جلدات تعزيرا فهذا جائز وقد تعلل في هذا الخبر بعض من لا يبالي بما أطلق به لسانه في نصر ضلاله فإن ذكر ما حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني حدثنا أبو إسحاق البلخي ثنا الفربري ثنا عبد الله بن عبد الوهاب ثنا خالد بن الحارث حدثنا سفيان الثوري عن أبي حصين أنه حدث قال سمعت ابن سعد النخعي قال سمعت علي بن أبي طالب قال ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت فأحد نفسي إلا صاحب الخمر فإنه لو مات وديته وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه(3/337)
549 ... قال أبو محمد فاعجبوا لعمى هذا الإنسان يعلل حديثا صحيحا لا مغمز فيه بحديث مملوء عللا أولها أن راويه مختلف فيه مرة عمير بن سعيد ومرة عمير بن سعد ومرة نخعي ومرة حنفي ثم الطامة الكبرى كيف يجعل هذا المفتون حجة شيئا يخبر علي عن نفسه أنه يجد في نفسه ما لا يجد من سائر الحدود فإن كان حقا وسنة فلم يجد في نفسه أذى حتى يؤدي ديته إن مات من ذلك الجلد وهلا وجد في نفسه ممن مات في سائر الحدود وفي هذا كفاية ثم معاذ الله أن يثبت علي في الدين ما لم يسنه عليه السلام ثم لو صح لكان وجهه بينا وهو أنه إنما يجد في الأربعين الزائدة التي جلدوها تعزيرا ثم نقول لهم لو ادعى عليكم ههنا خلاف الإجماع لصدق مدعي ذلك عليكم لأنكم تقرون أن عمر أول من جلد في الخمر ثمانين وقد كان استقر الإجماع قبله على أربعين فقد أقررتم على أنفسكم بخلاف الإجماع ونسبتم عمر إلى خلاف الإجماع وقد أعاذه الله تعالى من ذلك وأما أنتم فأنتم أعلم بأنفسكم وإقراركم على أنفسكم لازم لكم فإن لجأتم إلى مراعة انقراض العصر لزمكم مثله في جلد عثمان وعلي في الخمر أربعين بعدهم ولا فرق وأما أمهات الأولاد فكذبه في ذلك أفحش من كل كذب لأن عبد الله بن الربيع قال ثنا محمد بن إسحاق بن السليم ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود السجستاني ثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد بن سلمة عن قيس بن سعد عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فلما كان عمر نهانا فانتهينا فهذا عمل الناس أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيام أبي بكر أنبأنا محمد بن سعيد بن ثابت أنبأنا أحمد بن عون الله أنبأنا قاسم بن أصبغ أنبأنا محمد بن عبد السلام الخشني أنبأنا محمد بن بشار أنبأنا محمد بن جعفر غندر أنبأنا محمد بن سعيد بن الحكم بن عتيبة عن زيد بن وهب قال انطلقت أنا ورجل إلى عبد الله بن مسعود نسأله عن أم الولد فإذا هو(3/338)
يصلي ورجلان قد اكتنفاه فلما صلى سألاه فقال لأحدهما من أقرأك قال اقرأنيها أبو عبدة أو أبو الحكم المزني
550 ... وقال الآخر أقرأنيها عمر بن الخطاب فبكى ابن مسعود حتى بل الحصى بدموعه وقال اقرأ كما أقرأك عمر فإنه كان للإسلام حصنا حصينا يدخل الناس فيه ولا يخرجون منه فلما أصيب عمر انثلم الحصن فخرج الناس من الإسلام وقال وسألته عن أم الولد فقال تعتق من نصيب ولدها نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق نا سفيان بن عيينة عن الأعمش عن زيد بن وهب قال مات رجل منا وترك أم ولد فأراد الوليد بن عقبة بيعها في دينه فأتينا ابن مسعود فوجدناه يصلي فانتظرناه حتى فرغ من صلاته فذكرنا ذلك له فقال إن كنتم لا بد فاجعلوها في نصيب ولدها وبه إلى عبد الرزاق عن ابن جريج أنه حدثه قال أخبرنا عطاء بن أبي رباح أن ابن الزبير أقام أم حبي أم ولد محمد بن صهيب في مال ابنها وجعلها من نصيبه ويسمى ابنها خالدا قال عطاء وقال عباس لا تعتق أم الولد حتى يلفظ سيدها بعتقها نا أحمد بن محمد الطلمنكي نا محمد بن أحمد بن مفرج نا إبراهيم بن أحمد بن فراس نا محمد بن علي بن زيد نا سعيد بن منصور نا هشيم أخبرنا مغيرة بن مقسم عن الشعبي عن عبيدة السلماني أن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب أعتقا أمهات الأولاد قال علي بن أبي طالب فقضى بذلك عمر حتى أصيب ثم قضى بذلك عثمان حتى أصيب فلما وليت رأيت أن أرقهن قال أبو محمد وهذا قول زيد بن ثابت وغيره فيقال لهؤلاء الذين قد أعمى الله تعالى أبصارهم أتقرون أن عمر هو أول من منع من بيعهن فمن قولهم نعم ويدعونه إجماعا من كل من معه من الصحابة رضي الله عنهم فيقال لهم قد أقررتم أن عمر قد خالف الإجماع بهذا الفعل إذا قلتم إن المسلمين كانوا على بيعهن حتى نهاهم عمر فهل في خلاف الإجماع أكثر من هذا أو كذبتم إذ قلتم إن عمر أول من حرم بيعهم لا بد من إحداهما وقد أعاذ الله عمر من خلاف الإجماع وأما أنتم(3/339)
فأعلم بأنفسكم وإقراركم بذلك على أنفسكم لازم لكم ثم لو صح لكم أن عمر رضي الله عنه وكل من أجمعوا على ذلك
551 ... فصار إجماعا للزمكم أن ابن مسعود وعلي بن أبي طالب وابن عباس وابن الزبير وزيد بن ثابت خالفوا الإجماع وخلاف الإجماع عندكم كفر فانظروا أي مضايق تقتحمون ومن أي أحواف تتساقطون ولا بد من هذا أو من كذبكم في دعوى الإجماع على حكم عمر بذلك لا مخرج من أحدهما وأما نحن فدعوى الإجماع عندنا في مثل هذا إفك وكذب وجرأة على التجليح بالكذب على جميع أهل الإسلام ولا ينكر الوهم بالاجتهاد والخطأ مع قصد إلى طلب الحق والخير على أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نقول في شيء من الدين إلا بنص قرآن أو سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نبالي من خالف في ذلك ولا نتكثر بمن ولولا وما نا أحمد بن قاسم قال نا أبو قاسم بن محمد بن قاسم نا جدي قاسم بن أصبغ نا مصعب بن محمد نا عبيد الله بن عمر الرقي عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة عن ابن عباس قال لما ولدت مارية إبراهيم قال النبي صلى الله عليه وسلم أعتقها ولدها مع دلائل من نصوص أخرى ثابتة قد ذكرناها في كتاب الإيصال ما قلنا إلا ببيع أمهات الأولاد لكن السنة الثابتة لا يحل خلافها وما نبالي خلاف ابن عباس لروايته فقد يخالفها متأولا أنه خصوص أو قد ينسى ما روي وما كلفنا الله تعالى قط أن نراعي أقوال القائلين إنما أمرنا بقبول رواية النافرين ليتفقهوا في الدين المنذرين لمن خلفهم المؤمنين مما بلغهم وصح عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالله تعالى التوفيق وأما دعواهم أن عثمان رضي الله عنه أسقط ستة أحرف من جملة الأحرف السبعة المنزل بها القرآن من عند الله عز وجل فعظيمة من عظائم الإفك والكذب ويعيذ الله تعالى عثمان رضي الله عنه من الردة بعد الإسلام ولقد أنكر أهل التعسف على عثمان رضي الله عنه أقل من هذا مما لا نكره فيه أصلا فكيف لو ظفروا له بمثل هذه العظيمة(3/340)
ومعاذ الله من ذلك وسواء عند كل ذي عقل إسقاط قراءة أنزلها الله تعالى أو إسقاط آية أنزلها الله تعالى ولا فرق وتالله إن من أجاز هذا غافلا ثم وقف عليه وعلى برهان المنع من ذلك وأصر فإنه خروج عن الإسلام لا شك فيه لأنه تكذيب لله تعالى في قوله الصادق لنا إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون(3/341)
552 ... وفي قوله الصادق إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه فالكل مأمورون باتباع قرآنه الذي أنزله الله تعالى عليه وجمعه فمن أجاز خلاف ذلك فقد أجاز خلاف الله تعالى وهذه ردة صحيحة لا مرية فيها وما رامت غلاة الروافض وأهل الإلحاد الكائدون للإسلام إلا بعض هذا وهذه الآية تبين ضرورة أن جميع القرآن كما هو من ترتيب حروفه وكلماته وآياته وسوره حتى جمع كما هو فإنه من فعل الله عز وجل وتوليه جمعه أوحى به إلى نبيه عليه السلام وبينه عليه السلام للناس فلا يسع أحدا تقديم مؤخر من ذلك ولا تأخير مقدم أصلا ونحن نبين فعل عثمان رضي الله عنه ذلك بيانا لا يخفى على مؤمن ولا على كافر وهو أنه رضي الله عنه علم أن الوهم لا يعزى منه بشر وأن في الناس منافقين يظهرون الإسلام ويكنون الكفر هذا أمر يعلم وجوده في العالم ضرورة فجمع من حضره من الصحابة رضي الله عنهم على نسخ مصاحف مصححة كسائر مصاحف المسلمين ولا فرق إلا أنها نسخت بحضرة الجماعة فقط ثم بعث إلى كل مصر مصحفا يكون عندهم فإن وهم واهم في نسخ مصحف وتعمد ملحد تبديل كلمة في المصحف أو في القراءة رجع إلى المصحف المشهور المتفق على نقله ونسخه فعلم أن الذي فيه هو الحق وكيف كان يقدر عثمان على ما ظنه أهل الجهل والإسلام قد انتشر من خراسان إلى برقة ومن اليمن إلى أذربيجان وعند المسلمين أزيد من مائة ألف مصحف وليست قرية ولا حلة ولا مدينة إلا والمعلمون للقرآن موجودون فيها يعلمونه من تعلمه من صبي أو امرأة ويؤمهم به في الصلوات في المساجد وقد حدثني يونس بن عبد الله بن مغيث قال أدركت بقرطبة مقرئا يعرف بالقرشي أحد مقرئين ثلاثة للعامة كانوا فيها وكان هذا القرشي لا يحسن النحو فقرأ عليه قارىء يوما في سورة ق وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد فرده عليه القرشي تحيد التنوين فراجعه القارىء وكان يحسن النحو(3/342)
553 ... فلج المقرىء وثبت على التنوين وانتشر ذلك الخبر إلى أن بلغ إلى يحيى بن مجاهد الفزاري الألبيري وكان منقطع القرين في الزهد والخير والعقل وكان صديقا لهذا المقرىء فمضى إليه فدخل عليه وسلم عليه وسأله عن حاله ثم قال له إنه بعد عهدي بقراءة القرآن على مقرىء فأردت تجديد ذلك عليك فسارع المقرىء إلى ذلك فقال له الفزاري أريد أن أبتدىء بالمفصل فهو الذي يتردد في الصلوات فقال له المقرىء ما شئت فبدأ عليه من أول المفصل فلما بلغ سورة ق وبلغ الآية المذكورة ردها عليه المقرىء بالتنوين فقال له يحيى بن مجاهد لا تفعل ما هي إلا غير منوتة بلا شك فلج المقرىء فلما رأى يحيى بن مجاهد لجاجه قال له يا أخي إنه لم يحملني على القراءة عليك إلا لترجع إلى الحق في لطف وهذه عظيمة أوقعك فيها قلة علمك بالنحو فإن الأفعال لا يدخلها تنوين البتة فتحير المقرىء إلا أنه لم يقنع بهذا فقال يحيى بن مجاهد بيني وبينك المصاحف فبعثوا فأحضرت جملة من مصاحف الجيران فوجدوها مشكولة بلا تنوين فرجع المقرىء إلى الحق وحدثني حمام بن أحمد بن حمام قال حدثني عبد الله بن محمد بن علي عن اللخمي الباجي قال نا محمد بن لبانة قال أدركت محمد بن يوسف بن مطروح الأعرج يتولى صلاة الجمعة في جامع قرطبة وكان عديم الورع بعيدا عن الصلاح قال فخطبنا يوم الجمعة فتلا في خطبته لقد جآءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بلمؤمنين رءوف رحيم فقرأها بنونين عننتم قال فلما انصرف أتيناه وكنا نأخذ عنه رأي مالك فذكرنا له قراءته للآية وأنكرناها فقال نعم هكذا أقرأناها وهكذا هي فلج فحاكمناه إلى المصحف فقام ليخرج المصحف ففتحه في بيته وتأمله فلما وجد الآية بخلاف ما قرأها عليه أنف الفاسق من رجوعه إلى الحق فأخذ القلم وألحق ضرسا زائدا قال محمد بن عمر فوالله لقد خرج إلينا والنون لم يتم بعد جفوف مدادها(3/343)
554 ... قال أبو محمد فالأول واهم مغفل والثاني فاسق خبيث فلولا كثرة المصاحف بأيدي الناس لتشكك كثير من الناس في مثل هذا إذا شاهدوه ممن يظنون به خيرا أو علما ولخفي الخطأ والتعمد فمثل هذا تخويف عثمان رضي الله عنه ولقد عظمت منفعة فعله ذلك أحسن الله جزاءه وأما الأحرف السبعة فباقية كما كانت إلى يوم القيامة مثبوتة في القراءات المشهورة من المشرق إلى المغرب ومن الجنوب إلى الشمال فما بين ذلك لأنها من الذكر المنزل الذي تكفل الله تعالى بحفظه وضمان الله تعالى لا يخيس أصلا وكفالته تعالى لا يمكن أن تضيع ومن البرهان على كذب أهل الجهل وأهل الإفك على عثمان رضي الله عنه في هذا أنبأناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الهمداني نا إبراهيم بن أحمد البلخي نا الفربري نا البخاري نا أمية هو ابن بسطام نا يزيد بن ربيع عن حبيب بن الشهيد عن ابن مليكة عن ابن الزبير قال قلت لعثمان ولذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بلمعروف ولله بما تعملون خبير قال قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها أو تدعها قال يا ابن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه وبه إلى البخاري نا موسى بن إسماعيل نا إبراهيم حدثنا أن أنس بن مالك حدثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان بن عفان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة أم المؤمنين أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بهما إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف وقال عثمان للرهط القريشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من(3/344)
555 ... القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق فهذان الخبران عن عثمان إذا جمعا صححا قولنا وهو أنه لم يحل شيئا من القرآن عن مكانه الذي أنزله الله تعالى عليه وأنه أحرق ما سوى ذلك مما وهم فيه واهم أو تعمد تبديله متعمد نا عبد الله بن الربيع التميمي نا عمر بن عبد الملك الخولاني نا أبو سعيد الأعرابي العزي نا سليمان بن الأشعث نا محمد بن المثنى نا محمد بن جعفر نا شعبة عن الحكم عن مجاهد عن أبي ليلى عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار فأتاه جبريل عليه السلام فقال له إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك على حرف فقال أسأل الله معافاته ومغفرته إن أمتي لا تطيق على ذلك ثم أتاه الثانية فذكر نحو هذا حتى بلغ سبعة أحرف فقال إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك على سبعة أحرف قرؤوا عليه فقد أصابوا وبه إلى سليمان بن الأشعث نا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال سمعت عمر بن الخطاب يقول سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها فكدت أن أعجل عليه ثم أمهلته حتى انصرف ثم لففته بردائه فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرأ القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا أنزلت ثم قال لي اقرأ فقرأت فقال هكذا نزلت ثم قال إن القرآن نزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه قال أبو محمد فحرام على كل أحد أن يظن أن شيئا أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمته لا تطيق ذلك أتى عثمان فحمل الناس عليه فأطاقوه ومن أجاز هذا فقد كذب رسول(3/345)
الله صلى الله عليه وسلم في قوله لله تعالى إن أمته لا تطيق ذلك ولم ينكر الله تعالى عليه ذلك ولا جبريل عليه السلام وقال هؤلاء المجرمون إنهم يطيقون ذلك وقد أطاقوه فيا لله ويا للمسلمين أليس هذا اعتراضا مجردا على الله عز وجل مع التكذيب لرسوله فهل الكفر إلا هذا نعوذ بالله العظيم أن يمر بأوهامنا فكيف أن نعتقده(3/346)
556 ... وأيضا فإن الله تعالى آتانا تلك الأحرف فضيلة لنا فيقول من لا يحصل ما يقول إن تلك الفضيلة بطلت فالبلية إذا قد نزلت حاشا لله من هذا قال أبو محمد ولقد وقفت على هذا مكي بن أبي طالب المقرىء رحمه الله فمرة سلك هذه السبيل الفاسدة فلما وقفته على ما فيها رجع ومرة قال بالحق في ذلك كما تقول ومرة قال لي ما كان من الأحرف السبعة موافقا لخط المصحف فهو باق وما كان منها مخالفا لخط المصحف فقد رفع فقلت له إن البلية التي فررت منها في رفع السبعة الأحرف باقية بحسبها في إجازتك رفع حركة واحدة من حركات جميع الأحرف السبعة أكثر من ذلك فمن أين وجب أن يراعى خط المصحف وليس هو من تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان أميا لا يقرأ ولا يكتب واتباع عمل من دونه من غير توقيف منه عليه السلام لا حجة فيه ولا يجب قبوله وقد صححت القراءة من طريق أبي عمرو بن العلاء التميمي مسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذان لساحران وهو خلاف خط المصحف وما أنكرها مسلم قط فاضطرب وتلجلج قال أبو محمد وقد قال بعض من خالفنا في هذا إن الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا عربا يصعب على كل طائفة منهم القراءة بلغة غيرهم فلذلك فسح لهم في القراءة على أحرف شتى من بعدهم كذلك فقلنا كذب هؤلاء مرتين إحداهما على الله تعالى والثانية على جميع الناس كذبا مفضوحا جهارا لا يخفى على أحد أما كذبهم على الله عز وجل فإخبارهم بأنه تعالى إنما جعله يقرأ على أحرف شتى لأجل صعوبة انتقال القبيلة إلى لغة غيرها فمن أخبرهم بها عن الله تعالى أنه من أجل ذلك حكم بما صح أنه تعالى حكم به وهل يستجيز مثل هذا ذو دين أو مسكة عقل وهل يعلم مراد الله تعالى في ذلك إلا بخبر وارد من عنده عز وجل اللهم عياذك من مثل هذا الترامي من حالق إلى المهالك ومن أخبر عن مراد غيره بغير أن يطلعه ذلك المخبر عنه على ما في نفسه فهو كاذب بلا شك والكذب على الله تعالى(3/347)
أشد من الكذب على خلقه وأما كذبهم على الناس فبالمشاهدة يدري كل أحد صعوبة القراءة على الأعجمي المسلم من الترك والفرس والروم والنبط والقبط والبربر والديلم والأكراد وسائر قبائل
557 ... العجم بلغة العرب التي بها نزل القرآن أشد مراما من صعوبة قراءة اليماني على لغة المضري والربعي على لغة القرشي بلا شك وأن تعلم العربي للغة قبيلة من العرب غير قبيلته أمكن وأسهل من تعلم الأعجمي للعربية بلا شك والأمر الآن أشد مما كان حينئذ أضعافا مضاعفة فالحاجة إلى بقاء الأحرف الآن أشد منها حينئذ على قول المستسهلين للكذب في عللهم التي يستخرجونها نصرا لضلالهم ولتقليدهم من غلط قاصد إلى خلاف الحق ولاتباعهم وله عالم قد حدروا عنها ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق وبرهان كذبهم في دعواهم المذكورة أنه لو كان ما قالوه حقا لم يكن لاقتضاء نزوله على سبعة أحرف معنى بل كان الحكم أن تطلق كل قبيلة على لغتها وبرهان آخر على كذبهم في ذلك أيضا أن المختلفين في الخبر المذكور الذي أوردناه آنفا أنهما قرآ سورة الفرقان بحرفين مختلفين كانا جميعا بني عم قرشيين من قريش البطاح من قبيلة واحدة جاران ساكنان في مدينة واحدة وهي مكة لغتهما واحدة وهما عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قريظ بن رزاح بن عدي بن كعب وهشام بن حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن كلاب بن مرة بن كعب ويجتمعان جميعا في كعب بن لؤي بين كل واحد منهما وبين كعب بن لؤي ثمانية آباء فقط فظهر كذب من ادعى أن اختلاف الأحرف إنما كان لاختلاف لغات قبائل العرب وأبى ربك إلا أن يحق الحق ويبطل الباطل ويظهر كذب الكاذب ونعوذ بالله العظيم من الضلال والعصبية للخطأ قال أبو محمد وقال آخرون منهم الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها إنما هي وعد ووعيد وحكم وزادوا من هذا التقسيم حتى بلغوا سبعة معان قال أبو محمد المقلدون كالغرقى فأي شيء وجدوه تعلقوا به قال أبو محمد(3/348)
وكذب هذا القول أظهر من الشمس لأن خبر أبي الذي ذكرنا وخبر عمر الذي أوردناه شاهدان بكذبه مخبران بأن الأحرف إنما هي اختلاف ألفاظ القراءات لا تغير القرآن ولا يجوز أن يقال في هذه الأقسام التي ذكرنا أيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا وأيضا فإنهم ليسوا في تقسيمهم هذا بأولى من آخر
558 ... اقتصر على مبادىء الكلام الأول فجعل القرآن ثلاثة أقسام فقط خبرا وتقديرا وأمرا بشرع وجعل الوعد والوعيد تحت قسم الخبر ولا هم أيضا بأولى من آخر قسم الأنواع التي في اشخاص المعاني فجعل القرآن أقساما كثيرة أكثر من عشرة فقال فرض وندب ومباح ومكروه وحرام ووعد ووعيد والخبر عن الأمم السالفة وخبر عما يأتي من القيامة والحساب وذكر الله تعالى وأسمائه وذكر النبوة ونحو هذا فظهر فساد هذا وأيضا فإن هذه الأقسام التي ذكروا هي في قراءة عمر كما هي في قراءة هشام بن حكيم ولا فرق فهذا بيان زائد في كذب هذا التقسيم قال أبو محمد فإن ذكر ذاكر الرواية الثابتة بقراءات منكرة صححت عن طائفة من الصحابة رضي الله عنهم مثل ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ومثل ما صح عن عمر رضي الله عنه من قراءة صراط لذين أنعمت عليهم غير لمغضوب عليهم ولا لضآلين ومن أن ابن مسعود رضي الله عنه لم يعد المعوذتين من القرآن وأن أبيا رضي الله عنه كان يعد القنوت من القرآن ونحو هذا قلنا كل ذلك موقوف على من روى عنه شيء ليس منه عن النبي صلى الله عليه وسلم البتة ونحن لا ننكر على من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم الخطأ فقد هتفنا به هتفا ولا حجة فيما روي عن أحد دونه عليه السلام ولم يكلفنا الله تعالى الطاعة له ولا أمرنا بالعمل به ولا تكفل بحفظه فالخطأ فيه واقع فيما يكون من الصاحب فمن دونه ممن روى عن الصاحب والتابع ولا معارضة لنا بشيء من ذلك وبالله تعالى التوفيق وإنما تلزم هذه المعارضة من يقول بتقليد الصاحب على ما صح عن رسول(3/349)
الله صلى الله عليه وسلم وعلى القرآن فهم الذين يلزمهم التخلص من هذه المذلة وأما نحن فلا والحمد لله رب العالمين إلا خبرا واحدا وهو الذي رويناه من طريق النخعي والشعبي كلاهما عن علقمة بن مسعود وأبي الدرداء كلاهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أقرأهما ولليل إذا يغشى ولنهار إذا تجلى وما خلق لذكر ولأنثى(3/350)
559 ... قال أبو محمد وهذا خبر صحيح مسند عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد إلا أنهما قراءة منسوخة لأن قراءة عاصم المشهورة المأثورة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وقراءة ابن عامر مسندة إلى أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما جميعا وما خلق لذكر ولأنثى فهي زيادة لا يجوز تركها وأنبأنا يونس بن عبد الله بن مغيث القاضي قال حدثنا يحيى بن مالك بن عابد الطرطوشي أخبرنا الحسن بن أحمد بن أبي خليفة أخبرنا أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي نا إبراهيم بن أبي داود نا حفص بن عمر الحوضي نا أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أنس بن مالك قال اختلفوا في القراءات على عهد عثمان بن عفان حتى اقتتل الغلمان والمعلمون فبلغ ذلك عثمان فقال عندي تكذبون به وتختلفون فيه فما تأبى عني كان أشد تكذيبا وأكثر لحنا يا صحابة محمد اجتمعوا فاكتبوا للناس قال فكتبوا قال فحدثني أنهم كانوا إذا تراودوا في آية قالوا هذه أقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلانا فيرسل إليه وهو على ثلاثة من المدينة فيقول كيف أقرأك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول كذا وكذا فيكتبونها وقد تركوا لها مكانا قال أبو محمد فهذه صفة عمل عثمان رضي الله عنه بحضرة الصحابة رضي الله عنهم في نسخ المصاحف وحرق ما حرق منها مما غير عمدا وخطأ ومن العجب أن جمهرة من المعارضين لنا وهم المالكيون قد صح عن صاحبهم ما ناه المهلب بن أبي صفرة الأسدي التميمي قال ابن مناس نا ابن مسرور نا يحيى نا يونس بن عبد الأعلى نا ابن وهب حدثني ابن أنس قال أقرأ عبد الله بن مسعود رجلا إن شجرة لزقوم طعام لأثيم فجعل الرجل يقول طعام اليتيم فقال له ابن مسعود طعام الفاجر قال ابن وهب قلت لمالك أترى أن يقرأ كذلك قال نعم أرى ذلك واسعا فقيل لمالك أفترى أن يقرأ بمثل ما قرأ عمر بن الخطاب فامضوا إلى ذكر الله قال(3/351)
560 ... مالك ذلك جائز قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرؤوا منه ما تيسر مثل تعلمون يعلمون قال مالك لا أرى في اختلافهم في مثل هذا بأسا ولقد كان الناس ولهم مصاحف والستة الذين أوصى لهم عمر بن الخطاب كانت لهم مصاحف قال أبو محمد فكيف يقولون مثل هذا أيجيزون القراءة هكذا فلعمري لقد هلكوا وأهلكوا وأطلقوا كل بائقة في القرآن أو يمنعون من هذا فيخالفون صاحبهم في أعظم الأشياء وهذا إسناد عنه في غاية الصحة وهو مما أخطأ فيه مالك مما لم يتدبره لكن قاصدا إلى الخير ولو أن أمرا ثبت على هذا وجازه بعد التنبيه له على ما فيه وقيام حجة الله تعالى عليه في ورود القرآن بخلاف هذا لكان كافرا ونعوذ بالله من الضلال قال أبو محمد فبطل ما قالوه في الإجماع بأوضع بيان والحمد لله رب العالمين فصل فيمن قال ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع وبسط الكلام فيما هو إجماع وفيما ليس إجماعا قال أبو محمد قد ذكرنا قبل قسمي الإجماع الذي لا إجماع في العالم غيرهما أصلا وهما إما شيء لا يكون مسلما من لا يعتقده كشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم والبراءة من كل دين يخالف دين الإسلام كجملة القرآن وكالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان فإنه لا يشك مؤمن ولا كافر في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى هذه الشهادة وحكم باسم الإسلام وحكمه لمن أجابه إليها وحكم باسم الكفر وحكمه لمن لم يجبه إليه وأن أهل الإسلام بعده عليه السلام جروا على هذا إلى يومنا هذا ولا يشك مؤمن ولا كافر في أنه صلى الصلوات الخمس بكل من حضره خمس مرات كل يوم وليلة وصلاها النساء وأهل العذر في البيوت كذلك وصلاها أهل كل محلة وأهل كل قرية وأهل كل محلة في كل مدينة فيها إسلام في كل يوم من عهده عليه السلام إلى يومنا هذا لا يختلفون في ذلك وكذلك الأذان والإقامة والغسل من الجنابة والوضوء(3/352)
561 ... ولا يشك مؤمن ولا كافر في أنه صام شهر رمضان الذي بين شوال وشعبان في كل عام وصامه كل مسلم بالغ حاضر من رجل أو امرأة معه وفي زمانه وبعده في كل مكان وفي كل عام إلى يومنا هذا ولا يشك مؤمن ولا كافر في أنه حج إلى مكة في ذي الحجة وحج معه من لا يحصي عددهم إلا خالقهم عز وجل ثم حج الناس إلى يومنا هذا كل عام إلى مكة في ذي الحجة وهكذا جملة القرآن لا يشك مؤمن ولا كافر في أنه أتى به وذكر أن الله تعالى أوحاه إليه وكذلك تحريم الأم والابنة والجدة والخالة والعمة والأخت وبنت الأخت وبنت الأخ والخنزير والميتة وكثير سوى هذا فقطع كل مؤمن وكافر أنه وقف عليه وعلمه المسلمين وعلمه المسلمون جيلا في كل زمان وكل مكان قطعا إلا من أفرط جهله ولم يبلغه ذلك من بدوي أو مجلوب من أهل الكفر ولا يختلف في أنه إذا علمه فأجاب إليه فهو مسلم وإن لم يجب إليه فليس مسلما وأن في بعض ما جرى هذا المجرى أمورا حدث فيها خلاف بعد صحة الإجماع وتيقنه عليها كالخمر والجهاد وغير ذلك فإن بعض الناس رأى ألا يجاهد مع أئمة الجور وهذا يعذر لجهله وخطأه ما لم تقم عليه الحجة فإن قامت عليه الحجة وتمادى على التدين بخلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر مشرك حلال الدم والمال لقوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما فإن قيل فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن فهلا أخرجتم بهذه الأشياء من الإيمان كما أخرجتم من الإيمان بوجود الحرج مما قضى وترك تحكيمه قلنا لأنه أتى بالزاني والسارق والشارب فحكم فيهم بالحكم في المسلمين لا بحكم الكافر فخرجوا بذلك من الكفر وبقي من لم يأت بإخراجه عن الكفر على الكفر والخروج عن الإيمان كما ورد فيه النص فهذا أحد قسمي الإجماع(3/353)
562 ... والثاني شيء يوقن بالنقل المتصل الثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه وفعله جميع من بحضرته ومن كان مستضعفا أو غائبا بغير حضرته كفتح خيبر وإعطائه إياها بعد قسمتها على المسلمين لليهود على أن يعملوها بأموالهم وأنفسهم ولهم نصف ما يخرج منها من زرع أو تمر على أن المسلمين يخرجونهم متى شاؤوا وهكذا كل ما جاء هذا المجيء فهو إجماع مقطوع على صحته من كل مسلم علمه أو بلغه على أنه قد خالف في هذا بعد ذلك من وهم أو خطأ فعذر لجهله ما لم تقم عليه الحجة وكما ذكرنا قبل ولا فرق فلا إجماع في الإسلام إلا ما جاء هذا المجيء ومن ادعى إجماعا فيما عدا ما ذكرنا فهو كاذب آفك مفتر على جميع المسلمين قائل عليهم ما لا علم له به وقد قال تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا وقال تعالى ذاما لقوم قالوا وإذا قيل إن وعد لله حق ولساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما لساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين وقال تعالى إن هي إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم مآ أنزل لله بها من سلطان إن يتبعون إلا لظن وما تهوى لأنفس ولقد جآءهم من ربهم لهدى وقال تعالى وما لهم به من علم إن يتبعون إلا لظن وإن لظن لا يغني من لحق شيئا فصح بنص كلام الله تعالى الذي لا يعرض عنه مسلم أن الظن هو غير الحق وإذ هو غير الحق فهو باطل وكذب بلا شك إذ لا سبيل إلى قسم ثالث وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث قال أبو محمد فهذا هو الحق الذي لا يحيل عليه من سمعه ثم حدث بعد القرن الرابع طائفة قلت مبالاتها بما تطلق به ألسنتها في دين الله تعالى ولم تفكر فيما تخبر به عن الله عز وجل ولا عن رسوله ولا عن جميع المسلمين قصرا لتقليد من لا يغني عنهم من الله شيئا من أبي حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله الذين قد برئوا إليهم عما هم عليه من التقليد فصاروا إذا أعوزهم شغب ينصرون به فاحش خطأهم في خلافهم(3/354)
نص القرآن ونص حكم رسول الله
563 ... وبلحوا وبلدوا ونطحت أظفارهم في الصفا الصلد أرسلوها إرسالا فقالوا هذا إجماع فإذا قيل لهم كيف تقدمون على إضافة الإجماع إلى من لم يروا عنه في ذلك كله أما تتقون الله قال أكابرهم كل ما انتشر في العلماء واشتهر ممن قالته طائفة منهم ولم يأت على سائر خلاف له فهو إجماع منهم لأنهم أهل الفضل والذين أمر الله تعالى بطاعتهم فمن المحال أن يسمعوا ما ينكرونه ولا ينكرونه فصح أنهم راضون به هذا كل ما موهوا به ما لهم متعلق أصلا بغير هذا وهذا تمويه منهم ببراهين ظاهرة لا خفاء بها نوردها إن شاء الله عز وجل وبه نستعين قال أبو محمد أول ما نسألكم عنه أن نقول لكم هذا لا تعلمون فيه خلافا أيمكن أن يكون فيه خلاف من صاحب أو تابع أو عالم بعدهم لم يبلغكم أم لا يمكن ذلك البتة فإن قالوا عند ذلك إن قال هذا القول عالم كان ذلك إجماعا وإن قاله غير عالم لم يكن ذلك إجماعا قلنا لهم قد نزلتم درجة وسؤالنا باق لذلك العالم بحسبه كما أوردناه سواء بسواء فإن قالوا بل يمكن أن يكون في ذلك خلاف لم يبلغ ذلك العالم قلنا فقد أقررتم بالكذب إذ قطعتم بأنه إجماع وجوزتم مع ذلك أن يكون الخلاف فيه موجودا فإن قالوا بل يمكن أن يكون في ذلك خلاف لم يبلغ ذلك العالم قلنا فقد أقررتم بالكذب إذ قطعتم بأنه إجماع وجوزتم مع ذلك أن يكون الخلاف فيه موجودا فإن قالوا بل يمكن أن يكون في ذلك خلاف لم يبلغ ذلك العالم قلنا فقد أقررتم بالكذب إذ قطعتم بأنه إجماع وجوزتم مع ذلك أن يكون الخلاف فيه موجودا فإن قالوا بل لا يمكن أن يكون في ذلك خلاف قلنا ومن أين لكم بأن ذلك العالم أحاط بجميع أقوال أهل الإسلام ونحن نبدأ لكم بالصحابة رضي الله عنهم فنقول بالضرورة ندري يقينا لا مرية فيه بأنهم كانوا عشرات ألوف فقد غزا حنينا في اثني عشر ألف إنسان وغزا تبوك في أكثر من ذلك وحج حجة الوداع في أضعاف ذلك ووفد عليه من كل بطن من بطون قبائل العرب(3/355)
وفودا أسلموا وسألوه عن الدين وأقرأهم القرآن وصلوا معه كلهم يقع عليه اسم الصحابة ولقد تقصينا من روى عنه فتيا في مسألة واحدة فأكثر فلم نجدهم إلا مائة وثلاثة وخمسين بين رجل وامرأة فقط مع شدة طلبنا في ذلك وتهممنا وليس منهم مكثرون إلا سبعة فقط وهم عمر وابنه عبد الله وعلي وابن عباس وابن مسعود وأم المؤمنين عائشة وزيد بن ثابت والمتوسطون فهم ثلاثة عشر فقط يمكن أن يوجد في فتيا كل واحد منهم جزء صغير(3/356)
564 ... فهؤلاء عشرون فقط والباقون مقلون جدا فيهم من لم يرو عنه إلا فتيا في مسألة واحدة فقط ومنهم في مسألتين وأكثر من ذلك يجتمع من فتيا جميعهم جزء واحد هو إلى أصغر أقرب منه الكبر أفترى سائرهم لم يفت ولا مسألة إلا هذا والله هو الكذب البحت والإفك والبهت ثم ما قد نص الله تعالى في قرآنه من أن طوائف من الجن أسلموا قال قل أوحي إلي أنه ستمع نفر من لجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى لرشد فآمنا به ولن نشرك بربنآ أحدا وقال تعالى حاكيا عنهم أنهم قالوا وأنا منا لصالحون ومنا دون ذلك كنا طرآئق قددا وأنهم قالوا وأنا منا لمسلمون ومنا لقاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أخبر بأن وفدا من الجن أتوه وأسلموا وبايعوه وعلمهم القرآن فصح أن منهم مسلمين صالحين راشدين من خيار الصحابة هذا لا ينكره مسلم ومن أنكره كفر وحل دمه فيا هؤلاء هبكم جسرتم على دعوى العلم بقول عشرات ألوف من الناس من الصحابة وإن لم يبلغكم عنهم فيما ادعيتم إجماعهم عليه كلمة أتراكم يمكنكم الجسر على دعوى إجماع أولئك الصحابة من الجن على ما تدعون بظنكم الكاذب الإجماع عليه لئن أقدمكم على ذلك القاسطون من شياطين الجن فانقدتم لهم لتضاعفن فضيحة كذبكم وليلوحن إفككم لكل صغير وكبير ولئن ردعكم عن ذلك رادع ليبطلن دعواكم الإجماع وهذا لا مخلص منه فإنهم كسائر الصحابة مأمورون منهيون مؤمنون موعودون متوعدون ولا فرق فإن قالوا إن شرائعهم غير شرائعنا قلنا كذبتم بل شرائعنا وشرائعهم سواء لتصديق الله تعالى لهم في قولهم وأنا منا لمسلمون ومنا لقاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا والإسلام واحدا إلا ما جاء به نص صحيح بأنهم خصوا به كما خصوا أيضا طوائف من الناس كقريش بالإمامة وبني عبد المطلب بالخمس من الخمس ونحو ذلك(3/357)
565 ... ثم انقضى عصر الصحابة رضي الله عنهم وأتى عصر التابعين فملؤوا الأرض بلاد خراسان وهي مدن عظيمة كثيرة وقرى لا يحصيها إلا خالقها عز وجل وكابل وفارس وأصبهان والأهواز والجبال وكرمان وسجستان ومكران والسودان والعراق والموصل والجزيرة وديار ربيعة وأرمينية وأذربيجان والحجاز واليمن والشام ومصر والجزائر وإفريقية وبلاد البربر وأرض الأندلس ليس فيها قرية كبيرة إلا وفيها من يفتي ولا فيها مدينة إلا وفيها مفتون فمن الجاهل القليل الحياء المدعي إحصاء أقوال كل مفتي في جميع هذه البلاد مذ أفتوا إلى أن ماتوا إن كل واحد يعلم ضرورة أنه كذاب آفك ضعيف الدين قليل الحياء فبطل دعوى الإجماع كما بطل كل محال مدعي إلا حيث ذكرنا قبل فقط فإن قالوا إنما يقول المرء هذا إجماع عندي فقط قلنا قوله هذا كلا قول لأن الإجماع عنده إذا لم يكن إجماعا عند غيره فمن الباطل أن يكون الشيء مجمعا عليه عند غير مجمع عليه معا وأيضا فإن قوله هذا إجماع عندي باطل لأنه منهي عن القطع بظنه فمعنى قوله هذا إنما هو أنه يظن إجماع وقد مضى الكلام في المنع من القطع بالظن وقال تعالى إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند لله عظيم الآية وقال تعالى هأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحآجون فيما ليس لكم به علم ولله يعلم وأنتم لا تعلمون وهذا مالك يقول في موطئه إذ ذكر وجوب رد اليمين على المدعي إذا نكل المدعى عليه ثم قال هذا ما لا خوف فيه عن أحد من الناس ولا في بلد من البلدان قال أبو محمد وهذه عظيمة جدا وإن القائلين بالمنع من رد اليمين أكثر من القائلين بردها ونا أحمد بن محمد بن الجسور نا وهب بن مسرة نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن القاسم قال نا مالك ليس كل أحد يعرف أن اليمين ترد ذكر هذا في كتاب السرقة من المدونة(3/358)
566 ... هذا الشافعي يقول في زكاة البقر في الثلاثين تبيع وفي الأربعين مسنة لا أعلم فيه خلافا وإن الخلاف في ذلك عن جابر بن عبد الله وسعيد بن المسيب وقتادة وعمال ابن الزبير بالمدينة ثم عن إبراهيم النخعي وعن أبي حنيفة لأشهر من أن يجهله من يتعاطى العلم إلى كثير لهم جدا من مثل هذا إلا من قال لا أعلم خلافا فقد صدق عن نفسه ولا ملامة عليه وإنما البلبلة والعار والنار على من أقدم على الكذب جهارا فادعى الإجماع إذ لم يعلم خلافا وقد ادعوا أن الإجماع على أن القصر في أقل من ستة وأربعين ميلا غير صحيح وبالله إن القائلين من الصحابة والتابعين بالقصر في أقل من ذلك لأكثر أضعافا من القائلين منهم بالقصر في ستة وأربعين ميلا ولو لم يكن لهؤلاء الجهال الذين لا علم لهم بأقوال الصحابة والتابعين إلا الروايات عن مالك بالقصر في ستة وثلاثين ميلا وفي أربعين ميلا وفي اثنين وأربعين ميلا وفي خمسة وأربعين ميلا ثم قوله من تأول فأفطر في ثلاثة أميال في رمضان لا يجاوزها فلا شيء عليه إلا القضاء فقط وادعوا الإجماع على أن دية اليهودي والنصراني تجب فيها ثلث دية المسلم لا أقل وهذا باطل روينا عن الحسن البصري بأصح طريق أن ديتهما كدية المجوسي ثمانمائة درهم وادعوا الإجماع أنه يقبل في القتل شاهدان وقد روينا عن الحسن البصري بأصح طريق أنه لا يقبل في القتل إلا أربعة كالزنى ومثل هذا لهم كثير جدا كدعواهم الإجماع على وجوب خمس من الإبل في الموضحة وغير ذلك كثير جدا ولقد أخرجنا على أبي حنيفة والشافعي ومالك مئين كثيرة من المسائل قال فيها كل واحد منهم بقول لا نعلم أحدا من المسلمين قاله قبله فاعجبوا لهذا فقالوا إنما نقول ذلك إذا انتشر القول في الناس فلم يحفظ عن أحد من العلماء إنكار ذلك فحينئذ نقول إنه إجماع لما ذكرنا من أنهم يقرون على ما ينكرون كما نقول في أصحاب مذهب الشافعي وأصحاب مذهب مالك وأصحاب مذهب أبي حنيفة وإن لم يرو لنا ذلك عن واحد(3/359)
منهم وكما نقول ذلك في أهل البلاد التي غلبت عليها الشبه والروافض والاعتزال ومذهب الخوارج أو مذهب مالك أو الشافعي أو أبي حنيفة وإن لم يرو لنا ذلك عن كل واحد من أهلها قلنا لهم لم تخلصوا من هذا القول الذي هو حسبكم واحد منهم في كتابكم
567 ... وآخرها إلا على كذبتين زائدتين على كذبكم في دعوى الإجماع كنتم في غنى عن اختفائهما إحداهما قولكم إنكم تقولون ذلك إذا انتشر قول طائفة من الصحابة أو من بعدهم فقالوا ههنا فمن هذا نسألكم من أين علمتم بانتشار ذلك القول ومن أين قطعتم بأنه لم يبق صاحب من الجن والإنس إلا علمه ولا يفتي في شرق الأرض ولا غربها عالم إلا وقد بلغه ذلك القول فهذه أعجوبة ثانية وسوأة من السوءات لا يجيزها إلا ممخرق يريد أن يطبق عين الشمس نصرا لتقليده وتمشية لمقولته المنحلة عما قريب ثم يندب حين لا تنفعها الندامة والكذبة الأخرى قولكم فلم ينكروها فحتى لو صح لكم أنهم كلهم علموها فمن أين قطعتم بأنهم لم ينكروها وأنهم رضوها وهذه طامة أخرى ونحن نوجدكم أنهم قد علموا ما أنكروا وسكنوا عن إنكاره لبعض الأمر نا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود نا أحمد بن دحيم بن خليل نا إبراهيم بن حمادة نا إسماعيل بن إسحاق القاضي نا علي بن عبد الله هو ابن المديني نا يعقوب بن إبراهيم بن سعد نا أبي عن محمد بن إسحاق الزهري محمد بن مسلم بن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن مسعود أنه وزفر بن أوس بن الحدثان أتيا عبد الله بن عباس فأخبرهما بقوله في إبطال العول وخلافه لعمر بن الخطاب في ذلك قال فقال له زفر فما منعك يا ابن عباس أن تشير عليه بهذا الرأي قال هبته نا حمام بن أحمد نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي ثنا الدبري نا عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه أن أبا أيوب الأنصاري كان يصلي قبل خلافة عمر ركعتين بعد العصر فلما استخلف عمر تركهما فلما توفي عمر ركعهما قيل له ما هذه قال إن عمر كان يضرب الناس عليهما نا جهم نا ابن مفرج نا(3/360)
ابن الأعرابي الديري نا عبد الرزاق عن معمر أخبرني هشام بن عروة عن أبيه أن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب جاء عمر بن الخطاب بأمة سوداء كانت لحاطب فقال إن العتاقة أدركت وقد أصابت فاحشة وقد أحصنت فدعاها عمر فسألها عن ذلك
568 ... فقالت نعم من مرعوش بدرهمين وهي حينئذ تذكر ذلك لا ترى به بأسا فقال عمر لعلي وعبد الرحمن وعثمان أشيروا علي فقال علي وعبد الرحمن نرى أن ترجمها فقال عمر لعثمان أشر فقال قد أشار عليك أخواك قال عزمت عليك إلا أشرت علي برأيك قال فإني لا أرى الحد إلا على من علمه وأراها تستهل به كأنها لا ترى به بأسا فقال عمر صدقت والذي نفسي بيده ما الحد إلا عمن علمه فضربها عمر مائة وغربها عاما وبه عبد الرزاق نا ابن جريج أخبرني هشام بن عروة عن أبيه أن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب حدثه قال توفي عبد الرحمن بن حاطب وأعتق من صلى من رقيقه وصام وكانت له نوبية قد صلت وصامت وهي أعجمية لم تفقه فلم يرعها إلا حبلها وكانت ثيبا فذهب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فحدثه فأرسل إليها عمر فسألها فقال أحبلت فقال نعم من مرعوش بدرهمين وإذا هي تستهل به لا تكتمه فصادف عنده علي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف وعثمان فقال أشيروا علي وكان عثمان جالسا فاضطجع فقال علي وعبد الرحمن قد وقع عليها الحد فقال عمر أشر علي يا عثمان قال قد أشار عليك أخواك قال أشر علي أنت قال عثمان أراها تستهل به كأنها لا تعلمه وليس الحد إلا على من علمه فأمر بها عمر فجلدت مائة وغربها ثم قال لعثمان صدقت والذي نفسي بيده ما الحد إلا على من علمه فهذا ابن عباس يخبر أنه منعته الهيبة من الإنكار على عمر فيما يقطع ابن عباس أنه الحق ويدعو فيه إلى المباهلة عند الحجر الأسود وهذا أبو أيوب رجل صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعي الإنكار على عمر ضربه على الصلاة بعد العصر وبعيد ضربه وهذا عثمان سكت وقد رأي أمرا أنكره في أشنع الأشياء وأعظمها وهو دم حرام يسفك(3/361)
بغير واجب سأله عمر فتمادى على سكوته إلى أن عزم عليه وقد يسكت المرء لأنه لم يلح له الحق أو يسكت موافقا ثم يبدو له وجه الحق أو رأى آخر بعد مدة فينكر ما كان يقول ويرجع عنه كما فعل علي في بيع أمهات الأولاد وفي التخيير بعد موافقته لعمر على كلا الأمرين أو ينكر فلا يبلغنا إنكاره ويبلغ غيرنا في أقصى المشرق وأقصى المغرب أو أقصى اليمين أو أقصى إرمينية(3/362)
569 ... وأما تنظيركم بأهل مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة والبلاد التي ظهر فيها وغلب عليها قول ما فهذا أعظم حجة عليكم لأنه لا يختلف اثنان أن جمهور القائلين بمذهب رجل ممن ذكرتم لم يخلو قط من خلاف لصاحبهم في المسألة والمسألتين والمسائل وكذلك لم تخل قط البلاد المذكورة من مخالف لمذهب أهلها ولا أكثر من غلبة مذهب مالك على الأندلس وإفريقية وقد كان طوائف علماء مخالفون له جملة قائلون بالحديث أو بمذهب الظاهر أو مذهب الشافعي وهذا أمر مشاهد في كل وقت ولا أكثر من غلبة الإسلام على البلاد التي غلب عليها ولله الحمد وإن فيها مع ذلك يهود ونصارى وملحدين كثيرا جدا فظهر فساد تنظيرهم عيانا وعاد ما موهوا به مبطلا لدعواهم وثبت بهذا حتى لو انتشر القول وعرفه جميع العلماء وإن في الممكن أن يخالفه جمهورهم أو بعضهم ثم هذا عمر قد جلد التي لم يرد عليها الرجم لجهلها وهي محصنة مائة وغربها عاما بحضرة علي وعبد الرحمن وعثمان ولم ينكروا عليه ذلك فإن كان عندهم إجماعا فيقولوا به وليس من خصومنا الحاضرين أحد يقول بهذا وإن كان سكوتهم ليس موافقة ولا رضى فليتركوا هذا الأصل الفاسد المهلك في الدين لمن تعلق به ولا بد من أحدهما بالتلاعب بدين الله عز وجل وقد أريناهم سكوتهم رضي الله عما يقولون به فمن الجاهل المنكر لهذا حتى لو صح لهم أنهم عرفوه فكيف وهذا لا يصح أبد الأبد على ما بينا فإن قال قائل فإذ هو كما قلتم فمن أين قطعتم بالخلاف فيه وإن لم يبلغكم وهلا أنكرتم ذلك على أنفسكم كما أنكرتموه علينا إذ قلنا إنه إجماع قلنا نعم فقلنا ذلك لبرهانين ضروريين قاطعين أحدهما أن الأصل من الناس وجود الاختلاف في آرائهم لما قدمنا قبل اختلاف أغراضهم وطبائعهم والثاني لأن الله تعالى بذلك قضى إذ يقول ولو شآء ربك لجعل لناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من لجنة ولناس أجمعين فصح إن الأصل هو الاختلاف(3/363)
الذي أخبر تعالى أننا لا نزال عليه والذي له خلقنا إلا من استثنى من الأقل وبرهان ثالث وهو الذي لا يسع أحدا خلافه وهو أن ما ادعيتم فيه الإجماع بالظن الكاذب كما قدمنا لا يخلو ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما أصلا
570 ... إما أن تدعوه في أمر موافق لنص القرآن أو السنة الثابتة المسندة فهذا أمر لا نبالي اتفق عليه أم اختلف فيه إنما الغرض أن يؤخذ بالنص في ذلك سواء أجمع الناس أم اختلفوا ولا معنى حينئذ للاحتجاج بدعوى الإجماع عليه والحجة قائمة بالنص الوارد فيه فلا حاجة إلى القطع بالظن الكاذب في دعوى الإجماع البتة وإما أن تدعوه في أمر لا يوافقه نص قرآن ولا سنة صحيحة مسندة بل هو مخالف لها في عمومها أو ظاهرهما لتصححوه بدعواكم الكاذبة في أنه إجماع فهذه كبيرة من الكبائر وقصد منكم إلى رد اليقين بالظنون وإلى مخالفة الله تعالى ورسوله بدعوى كاذبة مفتراة وهذا لا يحل وإذا كان هذا القسم فنحن نقطع حينئذ ونثبت أنه لا بد من خلاف ثابت فيما ادعيتموه إجماعا لأن الله تعالى قد أعاذ أمة نبيه من الإجماع على الباطل والضلال لمخالفة القرآن وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنتم لم تقتنعوا بأن كذبتم على جميع الأمة حتى نسبتم إليهم الإجماع على الخطأ في مخالفة القرآن والسنة الثابتة وهذه من العظائم التي نعوذ بالله العظيم من مثلها وليس ههنا قسم ثالث أصلا لما قد أوردنا من البراهين على أنه لا يمكن وقوع نازلة لا يكون حكمها منصوصا في القرآن وبيان النبي صلى الله عليه وسلم إما باسمها الأعم وإما باسمها الأخص قال أبو محمد واعلموا أن إقدام هؤلاء القوم وجسرهم على معنى الإجماع حيث وجد الاختلاف أو حيث لم يبلغنا ولكنه ممكن أن يوجد أو مضمون أن يوجد فإنه قول خالفوا فيه الإجماع حقا وما روي قط عن صاحب ولا عن تابع القطع بدعوى الإجماع حتى أتى هؤلاء الذين جعلوا الكلام في دين الله تعالى مغالبة ومجاذبة وتحققا بالرياسة على مقلدهم وكفى بهذا(3/364)
فضيحة وأيضا قد تيقن إجماع المسلمين على أنه لا يحل لأحد أن يقطع بظنه اليقين فيه فهذا إجماع آخر فقد خالفوه في هذه المسألة نا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي نا ابن مفرج نا إبراهيم بن أحمد بن فراس نا محمد بن علي بن زيد نا سعيد بن منصور نا سفيان بن عيينة عن مسعر بن كدام عن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال قال رجل لابن مسعود أوصني بكلمات جوامع فقال له ابن مسعود اعبد الله ولا تشرك به شيئا وزل مع القرآن حيث زال ومن أتاك بحق فاقبل منه وإن كان بعيدا بغيضا ومن أتاك بالباطل فاردده وإن كان قريبا حبيبا(3/365)
571 ... قال أبو محمد هذه جوامع الحق اتباع القرآن وفيه اتباع بيان الرسول وأخذ الحق ممن أتى به ولئن كان لا خير فيه وممن يجب بغضه وإبعاده وألا يقلد خطأ فاضل وإن كان محبوبا واجبا تعظيمه نا حمام بن أحمد نا عبد الله بن محمد بن علي الباجي نا عبد الله بن يونس المرادي نا بقي بن مخلد نا أبو بكر بن أبي شيبة نا معاوية بن هشام نا سفيان هو الثوري عن جبلة بن عامر بن مطر قال قال لي حذيفة في كلام فأمسك بما أنت عليه اليوم فإنه الطريق الواضح كيف أنت يا عامر بن مطر إذا أخذ الناس طريقا مع أيهما تكون قال عامر فقلت له مع القرآن أحيا مع القرآن وأموت قال له حذيفة فأنت إذا أنت قال أبو محمد اللهم إني أقول كما قال عامر أكون والله مع القرآن أحيا متمسكا به وأموت إن شاء الله متمسكا به ولا أبالي بمن سلك غير طريق القرآن ولو أنهم جميع أهل الأرض غيري قال أبو محمد وهذا حذيفة يأمر بترك طريق الناس واتباع طريق القرآن إذا خالفه الناس نا أحمد بن محمد الطلمنكي نا ابن مفرج نا أحمد بن فريس نا محمد بن علي بن زيد نا سعيد بن المنصور نا هشيم أخبرنا مغيرة عن الشعبي عن عبيدة السلماني أن عمر بن الخطاب وعليا أعتقا أمهات الأولاد قال عبيدة قال علي فقضى بذلك عمر حتى أصيب ثم ولي عثمان فقضى بذلك حتى أصيب فلما وليت رأيت أن أرقهن قال أبو محمد هذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم ير حكم عمر ثم حكم عثمان المشتهر المنتشر الفاشي والذي وافقهما عليه إجماعا بل سارع إلى خلافه إذ أراه اجتهاده الصواب في خلافه ولعمر الله إن أقل من هذا بدرجات ليقطع هؤلاء المجرمون بأنه إجماع والسند المذكور قيل إلى سعيد بن منصور نا عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي نا عبد الملك بن سليمان عن أبي إسحاق السبيعي عن الشعبي قال أحرم عقيل بن أبي طالب في موردتين فقال له عمر خالفت الناس فقال له علي دعنا منك فإنه ليس لأحد أن يعلمنا السنة(3/366)
572 ... فقال له عمر صدقت فهذا علي وعقيل لم ينكرا خلاف الناس ورجع عمر عن قوله إلى ذلك إذ لم يكن ما أضافه إلى الناس سنة يجب اتباعها بل السنة خلافه فلا ينكر خلاف جمهور الناس للسنة وبه إلى سعيد بن منصور نا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن عطاء بن أبي رياح قال قلت لابن عباس إن الناس لا يأخذون بقولي ولا بقولك ولو مت أنا وأنت ما اقتسموا ميراثنا على ما نقول قال ابن عباس فليجتمعوا فلنضع أيدينا على الركن ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ما حكم الله بما قالوا قال أبو محمد فهذا ابن عباس بأصح إسناد عنه لا يلتفت إلى الناس ولا إلى ما اشتهر عندهم وانتشر من الحكم بينهم إذا كان خلافا لحكم الله تعالى في مثل هذا يدعي من لا يبالي بالكذب الإجماع وبه إلى سعيد بن منصور نا سفيان بن عيينة عن عبد الله بن أبي زيد أنه سمع ابن عباس يقول في قول الله عز وجل يأيها لذين آمنوا ليستأذنكم لذين ملكت أيمانكم ولذين لم يبلغوا لحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة لفجر وحين تضعون ثيابكم من لظهيرة ومن بعد صلاة لعشآء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين لله لكم لآيات ولله عليم حكيم قال ابن عباس لم يؤمن بهذه الآية أكثر الناس وإني لآمر هذه أن تستأذن علي يعني جارية له قال أبو محمد وهذا كالذي قبله نا يحيى بن عبد الرحيم نا أحمد بن دحيم نا إبراهيم بن حماد نا إسماعيل بن إسحاق نا علي بن المديني نا سفيان بن عيينة نا مصعب بن عبد الله بن الزبير عن أبي مليكة عن ابن عباس قال أمر ليس في كتاب الله عز وجل ولا في قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وستجدونه في الناس كلهم ميراث الأخت مع البنت فهذا ابن عباس لم ير الناس كلهم حجة على نفسه في أن يحكم بما لم يجد في القرآن ولا في السنة نا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب نا أحمد بن محمد نا محمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا يحيى بن يحيى(3/367)
قال قرأت على مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عبيد بن جريج أنه قال لعبد الله بن عمر يا أبا عبد الرحمن رأيتك تصنع أربعا لم أر أحدا من الصحابة يصنعها فقال وما هن يا ابن جريج قال رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين ورأيتك تلبس النعال
573 ... السبتية ورأيتك تصبغ بالصفرة ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا أروا الهلال ولم تهل أنت حتى يكون يوم التروية فقال له ابن عمر أما الأركان فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمس إلا اليمانيين وأما النعال السبتية فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها فأنا أحب أن ألبسها وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها فأنا أحب أن أصبغ وأما الإهلال فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته قال أبو محمد فهذا ابن عمر رضي الله عنه بأصح إسناد إليه لم ينكر مخالفته لجميع أصحابه فيما اقتدى فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أنكر على ابن جريج إخباره بأن أصحابه يخالفونه فصح أنه لم ير أصحابه كلهم قدوة فيما وافق وحدانية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا هو الحق الذي لا يسع أحدا القصد إلى خلافه قال أبو محمد ثم هذا أبو حنيفة يقول ما جاء عن الله تعالى فعلى الرأس والعينين وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعا وطاعة وما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم تخيرنا من أقوالهم ولم نخرج عنهم وما جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال فلم ينكر عن نفسه مخالفة التابعين وإنما لم ير الخروج عن أقوال الصحابة توقيرا لهم وهذا مالك يفتي بالشفعة في الثمار ويقول إثر فتياه به وإنه لشيء ما سمعته ولا بلغني أن أحدا قاله فهذا مالك لم ير القول بما لم يسمع عن أحد قال به خلافا للإجماع كما يدعي هؤلاء الذين لا معنى لهم وهذا الشافعي يقول في رسالته المصرية ما لا يعلم فيه خلاف فليس إجماعا قال حمام بن أحمد(3/368)
ويحيى بن عبد الرحمن بن مسعود قال حمام نا عباس بن أصبغ وقال يحيى نا أحمد بن سعيد بن حزم ثم اتفق عباس وأحمد قالا جميعا نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا عبد الرحمن بن حنبل قال سمعت أبي يقول ما يدعي فيه الرجل الإجماع هو الكذب من ادعى الإجماع فهو كذاب لعل الناس قد اختلفوا ما بد به ولم ينتبه إليه فليقل لا نعلم الناس اختلفوا دعوى بشر المريسي والأصم ولكن يقول لا نعلم الناس اختلفوا أو لم يبلغني ذلك قال أبو محمد صدق أحمد ولله دره وبئس القدوة بشر بن عتاب المريسي(3/369)
574 ... وعبد الرحمن بن كيسان الأصم ولعمري إنهما لمن أول من هجم على هذه الدعوى وهما المرءان يرغب قولهما نا يوسف بن عبد الله النمري نا عبيد الله بن محمد نا الحسن بن سلمون نا عبد الله بن علي بن الجارود نا إسحاق بن منصور قال سمعت إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه وقد ذكر له قول أحمد بن حنبل في مسألة فقال إسحاق أجاد لقد ظننت أن أحدا لا يتابعني عليها فهذا إسحاق لا ينكر القول بما يقع في تقديره أنه لا يتابعه أحد عليه إذا رأى الحق فيما قاله به من ذلك قال أبو إسحاق فهؤلاء الصحابة والتابعون ثم أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وداود كلهم يوجب القول بما أداه إليه اجتهاده أنه الحق وألا يعلم قائلا به قبله فبمن تعلق هؤلاء القوم ليت شعري بل بالمريسي والأصم كما قال أحمد رحمه الله قال أبو محمد ولئن كان ما اشتهر من قول طائفة من الصحابة أو التابعين ولم يعرف له خلاف إجماعا فيما في الأرض أشد خلافا للإجماع ممن قلدوه دينهم مالك والشافعي وأبي حنيفة ولقد أخرجنا لهم مئين من المسائل ليس منها مسألة إلا ولا يعرف أحد قال بذلك القول قبل الذي قاله من هؤلاء الثلاثة فبئس ما وسموا به من قلدوه دينهم وقد ذكر محمد بن جرير الطبري أنه وجد للشافعي أربعمائة مسألة خالف فيها الإجماع وهكذا القول حرفا حرفا في أقوال ابن أبي ليلى وسفيان والأوزاعي وزفر وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زيادة وأشهب وابن الماجشون والمزني وأبي ثور وأحمد وإسحاق وداود ومحمد بن جرير ما منهم أحد إلا وقد صحت عنه أقوال في الفتيا لا يعلم أحد من العلماء قالها قبل ذلك القائل ممن سمينا وأكثر ذلك فيما لا شك في انتشاره واشتهاره ثم ليعلموا أن كل فتيا جاءت عن تابع لم يرو عن صاحب في تلك المسألة قول فإن ذلك التابع قال فيها بقول ولا يعرف أن أحدا قاله فالتابعون على هذا القول الخبيث مخالفون للإجماع كلهم أو أكثرهم ومخالف الإجماع عند هؤلاء الجهال كافر فالتابعون(3/370)
على قولهم كفار ونعوذ بالله العظيم من كل قول أدى إلى هذا
575 ... واعلموا أن الذي يدعي ويقطع بدعوى الإجماع في مثل هذا فإنه من أجهل الناس بأقوال الناس واختلافهم وحسبنا الله ونعم الوكيل فظهر كذب من ادعى أن ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع وبالله تعالى التوفيق وأعجب شيء في الدنيا أنهم يدعون في مثله هذا أنه إجماع ثم يأتون إلى الإجماع الصحيح المقطوع به المتيقن فيخالفونه جهارا وهو أنه لا شك عند أحد من أهل العلم أنه لم يكن قط في عصر الصحابة رضي الله عنهم أحد أتى إلى قول صاحب أكبر منه فأخذ به كله ورد لقوله نصوص القرآن وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يحتال لنصره بكل ما أمكنه من حق أو باطل أو مناقضة ثم لا شك عند أحد من أهل العلم في أنه لم يكن قط في عصر التابعين أحد أتى إلى قول تابع أكبر منه أو إلى قول صاحب فأخذ به كله كما ذكرنا ثم لا خلاف بين أحد من أهل العلم في أنه لم يكن في القرن الثالث أحد أتى إلى قول تابع أو قول صاحب فأخذ به كله فهذا الإجماع المقطوع به المتيقن في ثلاثة أعصار متصلة ثم هي الأعصار المحمودة قد خالفها المقلدون الآخذون بأقوال أبي حنيفة فقط أو بأقوال مالك فقط أو بأقوال الشافعي فقط وهو عمل محدث مخالف للإجماع الصحيح فلهذا أعجبوا فهو مكان العجب حقا أن يخالفوا الإجماع المتيقن جهارا ثم يدعون الإجماع حيث لا إجماع ونعوذ بالله العظيم من الضلال فصل في من قال بأن خلاف الواحد من الصحابة أو ممن بعدهم لا يعد خلافا وأن قول من سواه فيمن خالفهم فيه إجماع قال أبو محمد ذهب محمد بن جرير الطبري إلى أن خلاف الواحد لا يعد خلافا وحكى أبو بكر أحمد بن علي الرازي الحنفي أن أبا حازم عبد العزيز بن عبد الحميد القاضي الحنفي فسخ الحكم بتوريث بيت المال ما فضل عن ذوي السهام وقال إن زيد بن ثابت لا يعد خلافا على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم قال أبو محمد فيقال لهم ما معنى قولكم لا يعد خلافا(3/371)
أتنفون وجود خلاف فهذا كذب تدفعه المشاهدة والعيان أم تقولون إن الله تعالى أمركم ألا تسموه
576 ... خلافا أو رسوله أمركم بذلك فهذه شر من الأولى لأنه كذب على الله تعالى وعلى رسوله أم تقولون إن قليل ذلك الخلاف من الضعة والسقوط في المسلمين إما لفسقه وإما لجهله بحيث لا يكون وجود قوله إلا كعدمه ففي هذا ما فيه إذ ينزلون زيد بن ثابت أو ابن عباس أو غيرهما من التابعين الأئمة في هذه المنزلة ولعمري إن من أنزل عالما من الصحابة رضي الله عنهم أو من التابعين أو من أئمة المسلمين هذه المنزلة لأحق بهذه الصفة وأولى بها ولا يخرج قولكم من إحدى هذه الثلاث قبائح إذ لا رابع لها فإن قالوا إنما قلنا إنه خطأ وشذوذ قلنا قد قدمنا أن كل من خالف أحدا فقد شذ عنه وكل قول خالف الحق فهو شاذ عن الحق فوجب أن كل خطأ فهو شذوذ عن الحق وكل شذوذ عن الحق فهو خطأ وليس كل خطأ خلافا للإجماع فليس كل شذوذ خلافا للإجماع ولا كل حق إجماعا وإنما نكلمكم ههنا في قولكم ليس خلافا ولكون ما عداه إجماعا فقد ظهر كذب دعواهم وفسادها والحمد لله رب العالمين قال أبو محمد ووجدناهم احتجوا برواية لا تصح عليكم بالسواد الأعظم ووجدنا من طريق محمد بن عبد السلام الخشني عن المسيب بن واضح عن المعتمر بن سليمان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تجتمع أمة محمد على ضلالة أبدا وعليكم بالسواد الأعظم فإنه من شذ شذ إلى النار قال أبو محمد المسيب بن واضح منكر الحديث لا يحتج به روى المنكرات منها أنه أسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم من ضرب أباه فاقتلوه وهذا لا يعرف ولو صح الخبر المذكور لكان معناه من شذ عن الحق لا يجوز غير ذلك وبما أنبأناه أحمد بن عمر بن أنس العذري نا عبد الله بن الحسين نا عقال نا إبراهيم بن محمد الدينوري نا محمد بن أحمد بن الجهم نا أبو قلابة نا وهب بن جرير بن حازم قال سمعت عبد الملك بن عمير يحدث عن جابر بن سمرة قال(3/372)
خطبنا عمر بن الخطاب فقال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كقيامي فيكم فقال من أحب منكم بحبوحة الجنة فليلتزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد نا عبد الله بن
577 ... ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أخبرني إبراهيم بن الحسن نا حجاج بن محمد نا يوسف بن أبي إسحاق عن عبد الملك بن عمير عن عبد الله بن الزبير قال قام عمر بن الخطاب أمير المؤمنين على باب الجابية فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا كقيامي فيكم فقال يا أيها الناس أكرموا أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى إن الرجل ليحلف قبل أن يستحلف ويشهد قبل أن يستشهد فمن سره أن ينال بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة فإن يد الله فوق الجماعة ولا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما ألا إن الشيطان مع واحد وهو من الاثنين أبعد من سائته سيئته وسرته حسنته فهو المؤمن وبه إلى أحمد بن شعيب نا الربع بن سليمان نا إسحاق بن بكر عن يزيد بن عبد الله عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال إن عمر بن الخطاب لما قدم الشام قام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا كقيامي فيكم فقال أكرموا أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يظهر الكذب فيحلف الرجل ولا يستحلف ويشهد ولا يستشهد فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد وبه إلى أحمد بن شعيب نا إسحاق بن إبراهيم وهو ابن راهويه نا جرير هو ابن عبد الحميد عن عبد الملك بن مالك بن عمر عن جابر بن سمرة قال خطب عمر بن الخطاب الناس بالجابية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في مثل مقامي هذا فقال أحسنوا إلى أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يظهر الكذب فيحلف الرجل ولا يستحلف ويشهد ولا يستشهد فمن أراد منكم بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد وبه إلى أحمد بن شعيب نا إسحاق بن إبراهيم هو(3/373)
ابن راهويه نا جرير هو ابن عبد الحميد عن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال خطب عمر بن الخطاب الناس بالجابية فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في مثل مقامي هذا فقال أحسنوا إلى أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى إن الرجل ليحلف على اليمين قبل أن يستحلف ويشهد على الشهادة قبل أن يستشهد عليها فمن أراد منكم بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن(3/374)
578 ... الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد لا يخلو رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان ألا من كان منكم تسوءه سيئته وتسره حسنته فهو مؤمن قال أبو محمد هذا الخبر لم يخرجه أحد ممن اشترط الصحيح ولكنا نتكلم فيه على علاته فنقول وبالله تعالى نتأيد إنه إن صح فإن ما ذكر فيه من الجماعة إنما هي بلا شك جماعة الحق ولو لم يكونوا إلا ثلاثة من الناس وقد أسلمت خديجة رضي الله عنها أم المؤمنين وسائر الناس كفار فكانت على الحق وسائر أهل الأرض على ضلال ثم أسلم زيد بن حارثة وأبو بكر رضي الله عنهم فكانوا بلا شك هم الجماعة وجميع أهل الأرض على الباطل وقد نبىء رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده فكان على الحق واحدا وجميع أهل الأرض على الباطل والضلال وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن زيد بن عمر بن نفيل يبعث يوم القيامة أمة وحده قال أبو محمد وذلك لأن زيدا آمن بالله تعالى وحده وجميع أهل الأرض على ضلالة وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إن هذا الدين بدأ غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء قيل ومن هم يا رسول الله قال النزاع من القبائل وقال الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة وقال إن الساعة لا تقوم إلا على من لا خير فيهم نا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا محمد بن عباد وابن أبي عمر كلاهما عن مروان بن معاوية الفزاري عن يزيد بن كيسان عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء وبه إلى مسلم نا الفضل بن سهل نا شبابة به سوار نا عاصم هو ابن محمد العمري عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ نا أحمد بن محمد بن الجسور نا محمد بن أبي دليم أخبرنا ابن وضاح أخبرنا أبو بكر بن أبي شيبة نا حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي الأحوص عن(3/375)
عبد الله بن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء قيل ومن الغرباء قال النزاع من القبائل
579 ... وبالسند المتقدم إلى مسلم نا عبد بن حميد أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تقوم الساعة على أحد يقول لا إله إلا الله وقال الله عز وجل وذكر أهل الحق فقال ركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب وقال تعالى وقال لذي شتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنآ أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في لأرض ولنعلمه من تأويل لأحاديث ولله غالب على أمره ولكن أكثر لناس لا يعلمون في سورة يوسف وقال تعالى وإن تطع أكثر من في لأرض يضلوك عن سبيل لله إن يتبعون إلا لظن وإن هم إلا يخرصون وقال تعالى ومآ أكثر لناس ولو حرصت بمؤمنين وكلام الله تعالى حق وكلام رسوله حق والحق لا يتعارض وهذه النصوص التي أوردناها هي قرآن منزل أو أثر في غاية الصحة منقول نقل التواتر وكلاهما في غاية البيان فالأقل في الدين هم أهل الحق وأن أكثر الناس على ضلال وعلى جهل وأن الواحد قد يكون هو المصيب وجميع الناس هم على باطل لا تحتمل هذه النصوص شيئا غير هذا البتة فلو صحت تلك الآثار التي قدمنا لوجب ضرورة أنها ليست في الدين لكن في شيء آخر وبالضرورة تدري أنها ليست على عمومها لأن انفراد الرجل وحده في بيته غير منكر وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يرحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده وبرهان كاف قاطع لكل من له أقل فهم في أنه لم يرد قط بالجماعة المذكورة كثرة العدد لا يشك في ذلك لأن النصارى جماعة واليهود جماعة والمجوس وعباد النار جماعة أفترونه أراد هذه الجماعات حاشا لله من هذا فإن قالوا إنما أراد جميع المسلمين قلنا فإن المنتمين إلى الإسلام فرق فالخوارج جماعة والروافض جماعة والمرجئة جماعة والمعتزلة جماعة أفترونه عليه السلام أراد شيئا من هذه(3/376)
الجماعات حاشا له من ذلك فإن قالوا إنما أراد أهل السنة قلنا أهل السنة فرق فالحنفية جماعة
580 ... والمالكية جماعة والشافعية جماعة والحنبلية جماعة وأصحاب الحديث الذين لا يتعدونه جماعة فأي هذه الجماعات أراد وليس بعضها أولى بصحة الدعوى من بعض فصح يقينا قطعا كما أن الشمس طالعة من مشرقها أنه عليه السلام لم يرد قط إلا جماعة أهل الحق وهم المتبعون للقرآن ولما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من بيانه للقرآن بقوله وفعله وهذه هي طريق جميع الصحابة رضي الله عنهم وخيار التابعين من بعدهم حتى حدث التقليد المهلك فإذا لا شك في كل هذا وقد بينا أن أمره عليه السلام بلزوم الجماعة إنما أراد يقينا أهل الحق وإن كانوا أقل من أهل الباطل بلا شك لم يرد كثرة العدد قط فلنتكلم بعون الله تعالى وقوته على ما في تلك الآثار من أن الشيطان مع الفذ أو الواحد وهو من الاثنين أبعد وقد أوضحنا بما لا إشكال فيه أنه عليه السلام لم يرد بذلك الدين بما لو أوردنا آنفا من النصوص وببرهان آخر وهو قوله وهو من الاثنين أبعد فلو أراد الدين لكان المنفرد بقوله مصاحبا للشيطان فإن استضاف إليه آخر بعد عنه الشيطان فعاد الباطل حقا بدخول إنسان فيه وهذا باطل متيقن ليست هذه صفة الدين بل الباطل باطل وإن دخل فيه آلاف فصح بلا شك أنه لم يرد الدين ولا عموم التوحيد بكل حال فقد صح أنه إنما عنى خاصا من الأحوال بلا شك فإذا ذلك كذلك فلا يجوز أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه أراد حال كذلك إلا بنص صحيح عنه بذلك وإن الناسب إليه ما لم يقل كاذب عليه وقد أخبر عليه السلام أنه من كذب عليه فليتبوأ مقعده من النار فإذا كان الأمر كما قلنا يقينا فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي أن يسافر المرء وحده وفي تلك الأخبار أنفسها لا ينفرد رجل مع امرأة فإن الشيطان ثالثهما فنحن على يقين من أنه ههنا نهي عن الوحدة وأن الشيطان ههنا مع الواحد فإن كان اثنين فقد خرج عن(3/377)
النهي وبعد الشيطان عنهما فبطل التعلق بتلك الآثار فيما ذهب إليه من ذهب وأن خلاف الواحد لا يعد خلافا واعلموا أنه لا يمكن البتة للحنفيين ولا المالكيين ولا الشافعيين أن يحتجوا بشيء
581 ... من ذلك الأثر لأن خلاف الواحد عندهم خلاف إلا من شذ منهم من مذاهب أصحابه وقد قلنا إننا أخرجنا لكل واحد من أبي بكر ومالك والشافعي مئين من المسائل انفرد كل واحد منهم بقوله فيها عن أن يعرف أحد قبله قاله بذلك القول وبرهان ضروري أيضا هو أنه قد بينا أن له لو صح ذلك القول عن النبي صلى الله عليه وسلم لعلمنا أنه لم يرد بذلك الدين أصلا لأن اليهود والنصارى والمجوس والملحدين ثم الرافضة والمعتزلة والمرجئة والخوارج جماعات عظيمة فالشيطان بعيد عنهم ومجانب لهم لأنهم أكثر من واحد يأبى الله تعالى هذا وتالله ما عش الشيطان ولا بحبوحته إلا فيهم وبلا شك أن أهل الباطل كلما كثروا فإن الشيطان أقوى فيهم منه مع المنفرد نا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عبد البصير نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن المثنى نا مؤمل بن إسماعيل البصري نا سفيان الثوري عن عبد الملك بن أبجر عن طلحة بن مصرف عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال ربع السودان من لا يلبس الثياب أكثر من جميع الناس فصح بكل هذا يقينا لا مجال للشك فيه أنه لا يرد قط بذلك الدين وبالله تعالى التوفيق وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أثنى في تلك الأخبار على أصحابه وعلى قرن التابعين ثم على القرن الثالث فإذا أثنى عليهم فهم الجماعة التي لا ينبغي أن تخالف وكل من خالفهم فهو أهل الباطل ولو كانوا أهل الأرض تلك القرون الثلاثة هي التي لم تقلد أحدا وإنما كانوا يطلبون القرآن والسنن فنحن معهم والحمد لله رب العالمين وكل من قلد إنسانا بعينه فقد خالف الجماعة والحمد لله رب العالمين قال أبو محمد وقد شغب بعضهم بأن قال لما أجمع نظراء هذا الواحد وعلمنا أنهم مؤمنون يقينا بالجملة(3/378)
وأنهم من الأمة بلا شك ولم نقطع هذا الواحد المخالف لهم بأنه من الأمة وكان واجبا علينا اتباع من نوقن أنهم من الأمة دون من لا نوقن أنه منها قال أبو محمد وهذا خطأ لأن الله تعالى أمرنا عند التنازع بالرد إلى القرآن والسنة بقوله تعالى يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ومخالفة الواحد تنازع في المشاهدة والعيان ولم(3/379)
582 ... يقل تعالى فردوه إلى الأكثر ولا إلى من لم يخالفهم إلا واحد فصار من رد إلى غير القرآن والسنة عاصيا لله عز وجل مخالفا لأمره وقد حصل لذلك الواحد من ظاهر الإسلام في الحكم كالذي لكل واحد من مخالفيه ولا فرق قال أبو محمد واحتجوا أيضا بما رويناه من طريق ابن وهب أخبرني أبو فهد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتبع الأقلون العلماء الأكثرين قال أبو محمد وهذا مرسل لا خير فيه وباطل بلا شك أول ذلك أنه محال وهو عليه السلام لا يأمر بالمحال لأنه لا يمكن أن يتبع الأقل والأكثر إلا بعد إمكان عد جميعهم وقد بينا أن عد جميعهم لا يمكن البتة بوجه من الوجوه ولا يقدر عليه إلا الخالق وحده لا شريك له ووجه آخر وهو أن الصحابة رضوان الله عنهم قد أصفقوا أثر موت النبي صلى الله عليه وسلم على ألا يقاتل أهل الردة ولا ينفذ بعث أسامة بن زيد وخالفهم أبو بكر وحده فكان هو المحق وكانوا على الخطأ فإن قالوا قد رجعوا إلى قوله قلنا نعم وهذه حجتنا وإنما سألناكم عن الحال قبل أن يرجعوا إلى قول أبي بكر في ذلك وقد شغب بعضهم بما روي من أن الواحد شيطان والاثنان شيطانان والثلاثة ركب قلنا إنما هذا في نص الخبر نفسه في السفر فقط وإلا فالمصلي النافلة وحده على قولهم شيطان ومصلي الفريضة مع آخر شيطانان وفي هذا ما فيه نعوذ بالله العظيم من البلاء ثم نسألكم هل ذلك الواحد عندكم مخالف للإجماع أم لا فإن قالوا نعم قلنا لهم ومخالف الإجماع عندكم كافر فمن قولهم نعم قلنا لهم فعلى هذا فابن عباس كافر وزيد بن ثابت عندكم كافر إذ أقررتم أنهما خالفا الإجماع وبالله إن نسب ذلك إليهما فهو والله أحق منهما بل هما المؤمنان الفاضلان رضي الله عنهما وإن أبوا من تكفير من خالف هذا النوع من الإجماع تناقضوا وظهر فساد قولهم وبالله تعالى التوفيق(3/380)
قال أبو محمد لو أمكن ضبط جميع أقوال علماء جميع أهل الإسلام حتى لا يشذ منها شيء لكان هذا حكما صحيحا ولكن لا سبيل لضبط ذلك البتة وغير ما قدمنا مما لا يكون مسلما من لم يقل به وحتى لو أمكن معرفة قول العالم فقد كان يمكن رجوعه عن ذلك القول إذا ولى عنه السائل ليعرف قول غيره فوضح أنه
610 ... لا سبيل البتة ولا إمكان أصلا في حصر أقوال جميع علماء أهل الإسلام في فتيا خارجة عن الجملة التي ذكرنا قال أبو محمد ونحن في غنى فائض ولله الحمد عن هذا التكلف وفي مناديح رحبة في هذا التعسف بنصوص القرآن والسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا سبيل إلى وجود شرع لم ينص على حكمه والحمد لله رب العالمين والمتكلمون في هذه المسألة حكمهم فيها بالمساقاة والمزارعة على الثلث والربع فإنهم قالوا قد اختلف الناس في ذلك فمن مانع من المساقاة أو المزارعة جملة ومن مبيح لها جملة ثم صح النص بإباحتها عن النصف وقد صح الإجماع على أن حكمها أقل من النصف وأكثر من النصف كالحكم في النصف قال أبو محمد ما نحتاج إلى هذه الشغاب الحرجة والدعاوى المعوجة بل نقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباح لأصحاب الضياع في تلك المعاملة النصف والمعاملين النصف فدخلها دون النصف ضرورة بالمشاهدة فيما جعل لكل طائفة من النصف فإذا تراضى الفريقان على أن يترك أحدهما مما يجعل له أخذه جزءا مسمى ويقتصر على بعضه فذلك له إذ كل أحد محكم في مثل ذلك مما جعل له كما لو وهب الوارث بعض ميراث لمن يشركه في الميراث أو لغيره فإن قيل فهلا أجزتم هذا بعينه في التراضي فيما يقع فيه الربا على خلاف التماثل قلنا لم يجز ذلك لأن النص الوارد في الربا مما عنى التماثل وحظره وتوعدنا عليه ولم يأت حكم نص المساقاة المزارعة والمواريث واشتراط مال المملوك المبيع والثمرة المأبورة بالمنع مما عدا ذلك بل أباح الاشتراط للنصف أو الكل ولم يمنع ما دخل في الإباحة المذكورة بالنص ما هو أقل(3/381)
من النصف أو الكل وبالله التوفيق قال أبو محمد علي وكثيرا ما نحتج مع المخالفين بما أجمعوا عليه معنا ثم ننكر عليهم الانتقال عنه إلى حكم آخر كقولنا لمن حرم الماء وحكم بنجاسته في إبل حرام حله فلم يغير لونه ولا طعمه ولا ريحه ومثل هذا كثير جدا فعاب ذلك علينا من لم يحصل وقال قد جمعتم في هذه الطريق وجهين من عظيمين أحدهما الاحتجاج بإجماعهم معكم وأنتم تنكرون دعوى معنى الإجماع وتجعلونها كذبا على الأمر أن يقال لكم(3/382)
611 ... فما الذي أنكرتم على اليهود إذ قالوا قد أجمعتم معنا على نبوة موسى عليه السلام وصحة التوراة وحكم السبت وخالفناكم في نبوة محمد وصحة القرآن وشرائع دينكم قال أبو محمد فقلنا ما تناقضنا في شيء من ذلك وأما احتجاجنا على مخالفينا موافقتهم لنا على حكم ما وإنكارنا عليه الخروج مما أجمع معنا عليه فإنما فعلنا ذلك لخروجه عما قد حكم بصحته إلى قول آخر بلا برهان من قرآن أو سنة فقط فبينا عليهم القول في الدين بلا برهان وهذا حرام ومعيب بالقرآن والسنة ولم ندع إجماعا ولم نصححه إنما ادعينا على الخصم ما ينكره من إجماعه معنا بمعنى موافقته لنا فقط فلاح الفرق بين الدعوى المكذوبة وأما الذي أنكرناه على اليهود فإنه ضد المسألة التي تكلمنا فيها آنفا وهو امتناع اليهود من الإقرار بما ظهر البرهان بصحته وأقوى من برهانهم على ما ادعوا أننا أجمعنا معهم عليه وأنكرنا على المذكورين آنفا أن قالوا قولا بلا برهان وخروجهم عما قد صح البرهان بصحته وأنكرنا على اليهود تركهم القول بما قد صح برهانه وتماديهم على ما قد صح البرهان ببطلانه وسلكنا بين الطائفتين طريق الحق وشارع النجاة والحمد لله رب العالمين وهو الثبات مع البرهان إذا ثبت والانتقال معه إذا نقل فقط وبالله تعالى التوفيق فصل في معنى نسبوه إلى الإجماع وتكلموا أيضا في معنى نسبوه إلى الإجماع وهو أن ذكروا أن يختلف الناس على قولين فأكثر في مسألة فيشهد النص من القرآن والسنة بصحة قول من تلك الأقوال فيبطل سائرها ثم تقع فروع من تلك المسألة فقالوا يجب أن يكون المقول به هو ما قاله من شهد النص لصحه قوله في أصل تلك المسألة ونظروا ذلك بالحكم العاقلة قال بها قوم ولم يعرفها قوم منهم عثمان البتي فصح النص بقول من صححها فلما صرنا إلى من هم العاقلة وجب أن ينظروا إلى من أجمع القائلون بالعاقلة على أنه من(3/383)
612 ... العاقلة فيكون من العاقلة ومن اختلفوا فيه أهو من العاقلة أم لا ألا يكون من العاقلة قال أبو محمد وقولنا ههنا هو قولنا فيما سلف من أنه إذا أمكن أن يعرف الإجماع في ذلك لكان حجة لكن لا سبيل إلى إحصائهم ولا إلى حصر أقوالهم لما قدمنا قبل ونحن في سعة والحمد لله عن التعلق بهذه الثنايا الأشبة والتورط في هذه المضايق القشبة بما قد بينه لنا ربنا عز وجل ورسوله من النص الذي لا دين لنا فيه وما عداه فليس من دين الله تعالى ولا من عنده عز وجل وقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كل بطن عقولة وألزم اليهودية من قتل بينهم لو اعترفوا أنه قتله بعضهم خطأ أو قام بذلك بينة فوجب بذلك أن العاقلة هم بطن القاتل خطأ الذي ينتمي إليه حتى بلغ إلى القبيلة التي تقف عندها وهكذا في كل شيء والحمد لله رب العالمين فصل واختلفوا هل يدخل أهل الأهواء أم لا قال أبو محمد قد أوضحنا قبل والحمد لله رب العالمين أن الإجماع لا يكون البتة إلا عن نص منقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا على باطل لم يأت من عند الله تعالى من رأي ذي رأي أو قياس من قائس يحكمان بالظن فإن ذلك كذلك والسؤال باق وهل نقبل نقل أهل الأهواء وروايتهم فقولنا في هذا وبالله تعالى التوفيق إن من يشهد بقلبه ولسانه أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن كل ما جاء به حق وأنه بريء من كل دين غير دين محمد فهو المؤمن المسلم ونقله واجب قبوله إذا حفظ ما ينقل ما لم يمل إيمانه إلى كفر أو فسق وأهل الأهواء وأهل كل مقالة خالفت الحق وأهل كل عمل خالف الحق مسلمون أخطؤوا ما لم تقم عليهم الحجة فلا يكدح شيء من هذا في إيمانهم ولا في عدالتهم بل هم مأجورون على ما دانوا به من ذلك وعملوا أجرا واحدا إذا قصدوا به الخير ولا إثم عليهم في الخطأ(3/384)
613 ... لأن الله تعالى يقول دعوهم لآبآئهم هو أقسط عند لله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في لدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان لله غفورا رحيما ونقلهم واجب قبوله كما كانوا وكذلك شهادتهم حتى إذا قامت على أحد منهم الحجة في ذلك من نص قرآن أو سنة ما لم تخص ولا نسخت فأيما تمادى على التدين بخلاف الله عز وجل أو خلاف رسوله أو نطق بذلك فهو كافر مرتد لقول الله تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما وإن لم يدن لذلك بقلبه ولا نطق به لسانه لكن تمادى على العمل بخلاف القرآن والسنة فهو فاسق بعمله مؤمن بحقده وقوله ولا يجوز قبول نقل كافر ولا فاسق ولا شهادتهما قال الله تعالى يأيها لذين آمنوا إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين وقد فرق بعض السلف بين الداعية وغير الداعية قال أبو محمد وهذا خطأ فاحش وقول بلا برهان ولا يخلو المخالف للحق من أن يكون معذورا بأنه لم تقم عليه الحجة أو غير معذور لأنه قامت عليه الحجة فإن كان معذورا فالداعية وغير الداعية سواء كلاهما معذور مأجور وإن كان غير معذور لأنه قد قامت عليه الحجة فالداعية وغير الداعية سواء وكلاهما إما كافر كما قدمنا وإما فاسق كما وصفنا وبالله تعالى التوفيق ولا فرق فيما ذكرنا بين من يخالف الحق بنحلة أو بفتيا إذا لم يفرق الله تعالى ولا رسوله بين ذلك إنما قال تبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أوليآء قليلا ما تذكرون عم عز وجل ولم يخص قال بعضهم إن الصحابة اختلفوا في الفتيا فلم ينكر بعضهم على بعض بل أنكروا على من خالف في ذلك قلنا ليس كما قلتم إنما لم ينكروا على من لم تقم الحجة عليه في المسألة فقط(3/385)
614 ... وأنكروا أشد الإنكار على من خالف بعد قيام الحجة عليه وكيف لم ينكروا وقد ضربوا على ذلك بالسيوف من خالفهم فأي إنكار أشد من هذا أو ليس عمر قد قال والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يموت حتى يكون آخرنا موتا وليرجعن فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم فما قدح هذا في عدالته إذ قال مخطئا ثم رجع إلى الحق إذ سمع القرآن إنك ميت وإنهم ميتون وإن المتمادي على هذا القول بعد قيام الحجة عليه كافر من جملة غالية السبائية أو ليس ابن عباس يقول أما تخافون أن يخسف الله بكم الأرض أقول لكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر وكان إسحاق بن راهويه يقول فيما روى عنه محمد بن نصر المروزي في الإمام أنه سمعه يقول من صح عنده حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم خالفه يعني باعتقاده فهو كافر قال أبو محمد صدق والله إسحاق رحمه الله تعالى وبهذا نقول وقد روي عن عمر أنه قتل رجلا أبى عن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي بحكم عمر وكيف لو أدرك عمر وابن عباس رضي الله عنهما وإسحاق رحمه الله من نقول له قال الله عز وجل كذا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا قال أبى سحنون ذلك ومن قلنا له هذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أنا في غنى عنه ما أحتاج إليه مع قول العلماء ومن قال لنا لو رأيت شيوخي يستدبرون القبلة في صلاتهم ما صليت إلى القبلة والله ما في بدع أهل البدع شيء يفوق هذه وليت شعري إن كان هؤلاء القوم مؤمنون بالله تعالى وبالبعث وبأنهم موقوفون وأن الله سيقول لهم ألم آمركم باتباع كتابي المنزل وبنبي المرسل ألم أنهكم عن اتباع آبائكم ورؤسائكم ألم آمركم برد ما تنازعتم فيه إلي وإلى رسولي وقدمت إليكم الوعيد فماذا أعدوا من الجواب لذلك الموقف الفظيع والمقام الشنيع والله لتطولن ندامتهم حين لا ينفعهم الندم وكأن به قد أزف وحل
2
صفحة الكتاب ... نص الإحكام في أصول الإحكام(3/386)
5 ... وصلى الله على سيدنا محمد النبي صلى الله عليه وسلم الكريم
202 ... قال أبو محمد هذا كل ما موهوا به من الحديث وقالوا قد جاء النص بوجوب طاعة أولي الأمر منا عموما فهو فيما قالوه برأيهم أيضا وقالوا قد اتفقنا على وجوب تقديم الإمام إذا مات الإمام ولا نص على إمام بعينه فثبت أنه إنما يقدم بالرأي والإمامة من قواعد الدين وذكروا عن الصحابة ما حدثناه أحمد بن محمد الطلمنكي حدثنا ابن مفرج ثنا إبراهيم بن أحمد بن فراس نا محمد بن علي ثنا سعيد بن منصور نا سفيان بن عيينة وأبو معاوية هو محمد بن خازم الضرير كلاهما عن الأعمش عن عمارة بن عميرة عن عبد الرحمن بن يزيد قال أكثر الناس على عبد الله بن مسعود يوما فقال إنه قد أتى علينا زمان لسنا نقضي ولسنا هنالك إن الله تعالى قدر أن بلغنا من الأمور ما ترون فمن عرض قضاء منكم بعد اليوم فليقض بما في كتاب الله تعالى فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله تعالى وليس فيما يقضي به النبي صلى الله عليه وسلم فليقض بما قضى به الصالحون فاجتهد رأيه وليقل إني أرى وأخاف فإن الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور متشابهات فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك حدثنا حمام ثنا عبد الله بن محمد بن علي الباجي ثنا عبد الله بن يونس المرادي ثنا بقي بن مخلد ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا بن أبي زائدة عن الأعمش عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه عن عبد الله بن مسعود مثله بتمامه وزاد فيه فإن أتاه أمر لا يعرفه فليقر ولا يستحي وبه إلى ابن أبي شيبة ثنا سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس أنه كان إذا سئل عن أمر فكان في القرآن أخبر به فإن لم يكن في القرآن فكان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر به فإن لم يكن فعن أبي بكر وعمر فإن لم يكن قال برأيه حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي ثنا ابن المفرج ثنا إبراهيم بن أحمد بن فراس ثنا محمد(3/387)
بن علي بن زيد ثنا سعيد بن منصور ثنا سفيان بن عيينة حدثني عبيد الله بن أبي يزيد قال شهدت ابن عباس إذا سئل عن شيء فإن كان في كتاب الله تعالى قال به فإن لم يكن في كتاب الله عز وجل وحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال به وإن لم يكن في كتاب الله ولا حدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أخبر به عن أبي بكر وعمر واجتهد وقال برأيه وبه إلى سعيد بن منصور ثنا هشيم أخبرنا سيار عن الشعبي قال لما بعث عمر
203 ... شريحا على قضاء الكوفة قال انظر ما تبين لك من كتاب الله فاتبع فيه السنة وما لم يتبين في السنة فاجتهد فيه برأيك وبه إلى سعيد بن منصور حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي إسحاق الشيباني عن الشعبي قال كتب عمر إلى شريح إذا أتاك أمر في كتاب الله فاقض به ولا يلفتنك عنه الرجال فإن لم يكن في كتاب الله فبما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يكن في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بما قضى به أئمة الهدى فإن لم يكن في كتاب الله عز وجل ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فيما قضى به أئمة الهدى فأنت بالخيار إن شئت أن تجتهد رأيك وإن شئت أن تؤامرني ولا أرى مؤامرتك إياي إلا خيرا لك حدثنا حمام ثنا الباجي ثنا عبد الله بن يونس ثنا بقي بن مخلد ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا علي بن مسهر عن أبي إسحاق الشيباني عن الشعبي عن شريح أن عمر بن الخطاب كتب إليه إذا جاءك شيء في كتاب الله فاقض به ولا يلفتنك عنه الرجال فإن جاء أمر ليس في كتاب الله فانظر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بها فإن جاءك أمر ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بما قضى به أئمة الهدى فإن لم يكن في كتاب الله ولم يكن فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم فيه أحد قبلك فاختر أي الأمرين شئت إن شئت أن تجتهد رأيك وتقدم فتقدم وإن شئت أن تؤخر فتأخر ولا أرى التأخير إلا خيرا لك(3/388)
قال أبو محمد هذا كل ما موهوا به ما نعلم لهم شيئا غيره وكله لا حجة لهم في شيء منه أما قوله تعالى فبما رحمة من لله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ لقلب لانفضوا من حولك فعف عنهم وستغفر لهم وشاورهم في لأمر فإذا عزمت فتوكل على لله إن لله يحب لمتوكلين وقوله عز وجل ولذين ستجابوا لربهم وأقاموا لصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون فإن كل مخالف ومؤلف لا يمتري أن ذلك ليس في شرع شيء من الدين ولو أن أحدا يقول إن الصلاة فرضت برأي ومشورة أو قال ذلك في الصيام أو الحج أو في شيء من الدين لكان كاذبا آفكا كافرا مع ذلك وكيف يكون هذا مع قول الله تعالى ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم لكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على لله لكذب إن لذين يفترون على لله لكذب لا يفلحون وقوله تعالى(3/389)
204 ... قل أرأيتم مآ أنزل لله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءآلله أذن لكم أم على لله تفترون وقوله تعالى تبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أوليآء قليلا ما تذكرون وقوله لطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ آتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود لله فإن خفتم ألا يقيما حدود لله فلا جناح عليهما فيما فتدت به تلك حدود لله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود لله فأولئك هم لظالمون فصح يقينا أنه لم يجعل الله قط إلى الصحابة تحريما ولا تحليلا فقد صح أنه لم يأمره الله تعالى قط بمشورتهم في شيء من الدين لا سيما مع قوله تعالى فبما رحمة من لله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ لقلب لانفضوا من حولك فعف عنهم وستغفر لهم وشاورهم في لأمر فإذا عزمت فتوكل على لله إن لله يحب لمتوكلين فصح أنه ليس في الآية التي شغبوا بها قبول رأيهم أصلا بل رد تعالى الأمر إلى نبيه فيما يعزم عليه مع التوكل على الله وكيف يسع مسلما أن يخطر هذا الجنون بباله مع قول الله عز وجل وآعلموا أن فيكم رسول لله لو يطيعكم في كثير من لأمر لعنتم ولكن لله حبب إليكم لأيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم لكفر ولفسوق ولعصيان أولئك هم لراشدون فكيف يجوز قبول رأي قوم لو أطاعهم لوقع العنت عليهم في أكثر الأمر أم كيف يدخل في عقل ذي عقل أن النبي صلى الله عليه وسلم تجب عليه طاعة أصحابه هذا هو الكفر المحض والسخف البين بل طاعته هي الفرض عليهم التي لا يصح لهم إيمان إلا بها قال الله تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ثم إن وجوه الحمق في هذه المقالة جملة بادية ليت شعري كيف كان يكون الأمر لو اختلفوا عليه في الشرع فإن قيل لا يلزم إلا باتفاقهم خرجنا إلى الكلام في الإجماع وبطل الكلام في الرأي وقد كتبنا في دعوى الإجماع ما فيه كفاية ولله تعالى الحمد وأيضا فلا فرق(3/390)
بين جواز شرع شريعة من إيجاب أو تحريم أو إباحة بالرأي لم ينص تعالى عليه ولا رسوله وبين إبطال شريعة شرعها الله على لسان رسوله بالرأي
205 ... والمفرق بين هذين العملين متحكم بالباطل مفتر وكلاهما كفر لا خفاء به فصح يقينا أن الذي أمره الله تعالى بمشاورتهم فيه وغبطهم بأن يكون أمرهم فيه شورى بينهم إنما هو ما أبيح لهم التصرف فيه كيف شاؤوا فقط فتشاورهم من يولي على بني فلان وأي الطرق إلى من يغزو من القبائل أفضل وأسهل وآمن وأين يكون النزول فقط وهذا كمشاورة المرء منا جاره إلى أي خياط أدفع ثوبي وأي لون ترى لي أن أصبغه ومثل هذا ولا مزيد وقد يكون عند الصحابة من المعرفة بالطرق المسلوكة والمياه ما ليس عنده وأما ما لا يؤخذ من الدين إلا من الوحي فلا ولا كرامة لأحد بعده أن يكون لسواه حظ في ذلك معه ولا بعده وبالله تعالى التوفيق فظهر فساد تمويههم بالآيتين وأما المشاورة التي كانت قبل نزول الأذان فأعظم حجة عليهم أول ذلك أن الأمر حينئذ كان مباحا كل ما قالوه ولم ينزل في شيء منه إيجاب ولا تحريم وهذا لا ننكر فيه المشاورة إلى اليوم ثم إنه لم يأخذ في ذلك بشيء من آرائهم بل بما صوبه الوحي مما أريه في منامه عبد الله بن زيد ولولا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالأذان ما جاز الالتفات إلى رؤيا عبد الله بن زيد ولا إلى رؤيا غيره فصح أن آراءهم رضي الله عنهم لا يلزم قبولها فكيف أراء من بعدهم وأما الخبر عن أبي هريرة ما رأيت أحدا كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعقب ذكرى الزهري لمشاورته أصحابه في القتال يوم الحديبية فهو نفس كلامنا هذا على أن كلا الخبرين مرسل لأن الزهري لم يلق أبا هريرة قط ولا سمع منه كلمة ولم ينكر أن يشاورهم في مكايد الحروب وتعجيلها وتأخيرها وأما الخبر الذي فيه ما الحزم فقال أن تستشير الرجل ذا الرأي ثم تمضي لما أمرك به فمرسل ثم هو بعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قد يختلف(3/391)
عليك الرجلان ذوا الرأي فلأيهما تمضي حاش الله أن ينطق رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الباطل وأما الخبر ما شقي عبد بمشورة فمرسل ولا حجة في مرسل ونحن لا ننكر المشورة في غير الدين كما أننا ننكر بل نكفر من يشاور أيصلي الخمس أم لا أيصوم رمضان أم لا ونقطع أن مسلما لا يخالفنا في هذا
206 ... وأما حديث عمرو بن العاص فأعظم حجة عليهم لأن فيه أن الحاكم المجتهد يخطىء ويصيب فإذ ذلك كذلك فحرام الحكم في الدين بالخطأ وما أحل الله تعالى قط إمضاء الخطأ فبطل تعلقهم به وأما خبر علي فموضوع مكذوب ما كان قط من حديث علي ولا من حديث سعيد بن المسيب ولا من حديث يحيى بن سعيد ولا من حديث مالك ولم يروه قط أحد عن مالك إلا سليمان بن يزيع الإسكندراني وهو مجهول ولا يخلو ضرورة من أنه وضعه أو دلسه عمن وضعه وهذا خبر لا يحل لأحد أن يرويه والكذب لا يعجز عنه من لا يتقي الله تعالى وبرهان كذب هذا الحديث ووضعه أنه لا يجوز البتة أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم كلاما يصح نزول حكم في الدين بالناس لا قرآن فيه ولا بيان فيه من النبي صلى الله عليه وسلم مع قوله دعوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاتركوه ومع قول الله تعالى حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم فقد أخرج ما لم ينص فيه بأمر أو بنهي عن الفرض والندب والتحريم والكراهة وبأمره بترك ما لم يأمرنا أو ينهانا وأبقاه في جملة المباح المطلق فصار من المحال الممتنع وجود نازلة لا حكم لها في النصوص وأما(3/392)
حديث ابن غنم ففيه ثلاث بلايا إحداها أنه مرسل والثانية عبد الحميد بن بهرام وهو ضعيف والثالثة شهر بن حوشب وهو متروك ثم لو صح لما كان لهم فيه متعلق لأنه ليس فيه إلا قبول رأي أبي بكر وعمر فقط لا قبول رأي غيرهما وهذا خلاف عمل أهل الرأي كلهم اليوم ثم فيه قبولهما إلا في لبس حلة وهذا مباح لا يمنع من قبول رأي خادم أو عبد أو جار إن شاء الذي أشير عليه بذاك ثم فيه اختلافهما فبطل التعلق برأي خالفه رأي آخر وأما احتجاجهم بوجوب طاعة أولي الأمر منا فقد قلنا في ذلك قبل بما أغنى وإنه لا يخلو رأيهم من أن يوجد فيه اختلاف بينهم أو لا يوجد فإن وجد اختلاف منهم فليس بعضهم يقول رأيه أولى من بعض وإن لم يوجد فيه اختلاف فقد قلنا إن القطع بأنه إجماع أولي الأمر باطل ممتنع لا سبيل إليه مع أن قول الله تعالى حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم(3/393)
207 ... مبطل لدعوى من ادعى أنه تعالى أمرنا بطاعتهم فيما ليس فيه نص أو في خلاف النص لأنه شرع شريعة لم يشرعها الله تعالى أو إبطال شريعة شرعها الله تعالى وكلا الأمرين كفر لا يجوز البتة إجماع العلماء عليه وقد يجوز الوهم في هذا على الطائفة فصح أننا إنما أمرنا بطاعتهم فيما بلغوه إلينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط وأما ما قالوه في الإمامة فقد نص على أن الأئمة من قريش وأمرنا بأن نفي ببيعة الأول فالأول وأن نتعاون على البر والتقوى وأن نسمع ونطيع لمن قادنا بكتاب الله عز وجل فهذه صفة إذا وجدت في أي عين وجدت فطاعته واجبة بالنص لأنه بعث إلى كل من يأتي إلى يوم القيامة فلا معنى للأسماء المعلقة على أعيان الرجال في ذلك أصلا وهذا كالعتق في الكفارات والصدقة على المساكين وكالضحايا وغير ذلك من سائر الشريعة وكأمره تعالى في بني إسرائيل بذبح بقرة ولم يميز بقرة بعينها وإنما نرد الأحكام في الأنواع الجامعة للأشخاص ثم في أي شخص نفذ الحق فقد أجزأ وهذا لا خلاف فيه من أحد وكالنص على الماء فبأي ماء تطهر أجزأ وإنما يبطل الرأي في شرع الشريعة بما لا نص فيه فظهر تمويههم بهذا في الرأي(3/394)
295 ... فصل في سؤال الرواة عن أقوال العلماء قال أبو محمد فإن قال قائل فكيف يفعل العالم إذا سئل عن مسألة فأعيته أو نزلت به نازلة فأعيته قيل له وبالله تعالى التوفيق يلزمه أن يسأل الرواة عن أقوال العلماء في تلك المسألة النازلة ثم يعرض تلك الأقوال على كتاب الله تعالى وكلام النبي صلى الله عليه وسلم كما أمره الله تعالى إذ يقول ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسألوا أهل لذكر إن كنتم لا تعلمون وإذ يقول وما ختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى لله ذلكم لله ربي عليه توكلت وإليه أنيب وقوله تعالى يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ولم يقل تعالى فردوه إلى مالك وأبي حنيفة والشافعي فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليرد ما اختلف فيه من الدين إلى القرآن والسنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم وليتق الله ولا يرد ذلك إلى رجل من المسلمين لم يؤمر بالرد عليه ومن أبى فسيرد ويعلم وقد قال الله تعالى بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون فلم يجعل البيان إلا لنبيه فمن رد إلى سواه فقد عدم البيان وحصل على الضلالة ونعوذ بالله منها فالتقليد كله حرم في جميع الشرائع أولها عن آخرها من التوحيد والنبوة والقدر والإيمان والوعيد والإمامة والمفاضلة وجميع العبادات والأحكام فإن قال قائل فما وجه قوله تعالى ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسألوا أهل لذكر إن كنتم لا تعلمون قيل له وبالله تعالى التوفيق إنه تعالى أمرنا أن نسأل أهل العلم عما حكم به الله تعالى في هذه المسألة وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ولم يأمرنا أن نسألهم عن شريعة جديدة يحدثونها لنا من آرائهم وقد بين ذلك بقوله فليبلغ(3/395)
296 ... الشاهد الغائب وبينه تعالى بقوله حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم فالدين قد كمل فلا مدخل لأحد فيه بزيادة ولا نقص ولا تبديل وكل هذا كفر ممن أجازه وقد أمر تعالى المتفقهين أن ينفروا لطلب أحكام الدين ولم يأمرهم أن يقولوا من عند شيئا بل حرم تعالى ذلك بذمه قوما شرعوا لهم في الدين ما لم يأذن به الله وبقوله عز وجل أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا فإنما نحن دعاة إلى تفهم القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم ومبلغون من ذلك إلى من تقدمناه في الطلب ما بلغه إلينا من تقدمنا ومعلمون إياه ومعاذ الله من التزيد في هذا أو من تبديله أو من النقص منه فإن قال قائل فكيف يصنع العامي إذا نزلت به النازلة قال أبو محمد فالجواب وبالله تعالى التوفيق إنا قد بينا تحريم الله تعالى للتقليد جملة ولم يخص الله تعالى بذلك عاميا من عالم ولا عالما من عامي وخطاب الله تعالى متوجه إلى كل أحد فالتقليد حرام على العبد المجلوب من بلده والعامي والعذراء المخدرة والراعي في شعف الجبال كما هو حرام على العالم المتبحر ولا فرق والاجتهاد في طلب حكم الله تعالى ورسوله في كل ما خص المرء من دينه لازم لكل من ذكرنا كلزومه للعالم المتبحر ولا فرق فمن قلد من كل من ذكرنا فقد عصى الله عز وجل وأثم ولكن يختلفون في كيفية الاجتهاد فلا يلزم المرء منه إلا مقدار ما يستطيع عليه لقوله تعالى لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من(3/396)
قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين ولقوله تعالى فتقوا لله ما ستطعتم وسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم لمفلحون والتقوى كله هو العمل في الدين بما أوجبه الله تعالى فيه ولم يكلفنا تعالى منه إلا ما نستطيع فقط ويسقط عنا ما لا نستطيع وهذا نص جلي على أنه لا يلزم أحدا من البحث على ما نزل به في الديانة إلا بقدر ما يستطيع فقط فعلى كل أحد حظه من الاجتهاد ومقدار طاقته منه فاجتهاد العامي إذا سأل العالم على أمور دينه فأفتاه أن يقول له هكذا أمر الله ورسوله فإن قال له نعم أخذ بقوله ولم يلزمه أكثر من هذا(3/397)
297 ... البحث وإن قال له لا أو قال له هذا قولي أو قال له هذا قول مالك أو ابن القاسم أو أبي حنيفة أو أبي يوسف أو الشافعي أو أحمد أو داود أو سمى له أحد من صاحب أو تابع فمن دونهما غير النبي صلى الله عليه وسلم أو انتهزه أو سكت عنه فحرام على السائل أن يأخذ بفتياه وفرض عليه أن يسأل غيره من العلماء وأن يطلبه حيث كان إذ إنما يسأل المسلم من سأل من العلماء عن نازلة تنزل به ليخبره بحكم الله تعالى وحكم محمد في ذلك وما يجب في دين الإسلام في تلك المسألة ولو علم أنه يفتيه بغير ذلك لتبرأ منه وهرب عنه وفرض على الفقيه إذا علم أن الذي أفتاه به هو في نص القرآن والسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الإجماع أن يقول له نعم هكذا أمر الله تعالى رسوله وحرام عليه أن ينسب إلى الله تعالى وإلى رسوله شيئا قاله بقياس أو استحسان أو تقليد لأحد دون النبي صلى الله عليه وسلم فإنه إن فعل ذلك كان بذلك كاذبا على رسوله عليه السلام ومقولا له ما لم يقل وقد وجبت له النار يقينا بنص قوله من كذب علي فليلج النار وهذا الذي قلنا لا يعجز عنه واحد وإن بلغ الغاية في جهله لأنه لا يكون أحد من الناس مسلما حتى يعلم أن الله تعالى ربه وأن النبي صلى الله عليه وسلم عليه السلام وهو محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدين القيم فإن قال قائل فإن أفتاه الفقيه بفتيا منسوخة أو مخصوصة أو أخطأ فيها فنسبها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وليست من قوله سهوا أو تعمد ذلك فما الذي يلزم العامي من ذلك وقد روينا من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل قال قلت لأبي رحمه الله الرجل تنزل به النازلة وليس يجد إلا قوما من أصحاب الحديث والرواية لا علم لهم بالفقه وقوما من أصحاب الرأي من يسأل فقال يسأل أصحاب الحديث ولا يسأل أصحاب الرأي ضعيف الحديث خير من الرأي قال أبو محمد فالجواب وبالله تعالى التوفيق إن هذا ينقسم ستة عشر قسما وهي من بلغه خبر منسوخ أو(3/398)
آية منسوخة ولم يعلم بنسخ ذلك فالعامي والعالم في ذلك سواء والواجب عليهما بلا شك العمل بذلك المنسوخ ولم يؤمرا قط بتركه إلا إذا بلغهما النسخ قال تعالى قل أي شيء أكبر شهادة قل لله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا لقرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع لله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون فأخبر تعالى(3/399)
298 ... أنه لا تلزم النذارة إلا من بلغه الأمر فما دام النسخ لم يبلغه فلم يلزمه وإذا لم يلزمه فلم يؤمر به لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين وليس في وسع أحد أن يعلم ما لم يعلم في حين جهله به ولا أن يعرف الشريعة قبل أن تبلغه وقد لزمه الأمر الأولى بيقين فلا يسقط عنه إلا ببلوغ الناسخ إليه بنص القرآن وهكذا كان الصحابة الذين بأرض الحبشة والصلاة قد فرضت بمكة إلى بيت المقدس وعرفوا ذلك فصلوا كذلك بلا شك ثم حولت القبلة إلى الكعبة بالمدينة بعد ستة عشر شهرا من الهجرة ولا خلاف بين أحد أنهم لم يلزمهم التحول إلى الكعبة ولا سقط عنهم فرض الصلاة ولا كان لهم أن يصلوا إلى غير القبلة التي صح عندهم الأمر بها ما لم يبلغهم النسخ وقد سمى الله تعالى صلاة من مات قبل أن يبلغهم بالنسخ إيمانا فقال تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهدآء على لناس ويكون لرسول عليكم شهيدا وما جعلنا لقبلة لتي كنت عليهآ إلا لنعلم من يتبع لرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على لذين هدى لله وما كان لله ليضيع إيمانكم إن لله بلناس لرءوف رحيم وهكذا فعل أهل قباء صلوا نصف صلاتهم إلى بيت المقدس ولا شك أنهم لم يبتدئوها إلى بيت المقدس إلا والقبلة قد نسخت لكن لما لم يعلموا ذلك لم يلزمهم ما لم يعلموا ولا سقط عنهم ما كان لزمهم إلا بعد بلوغ النسخ إليهم وهكذا القول في كل ما صح نسخه ولم يصح عند بعض الناس وأما إن قامت عليه الحجة فعاند تقليدا ففاسق وهذا في غاية البيان فيما قلنا والحمد لله رب العالمين وأما من بلغه الخبر المنسوخ أو الآية المنسوخة ولم يعرف أنهما منسوخان فأقدم على تركهما بغير علم الناسخ فهو عاص لله تعالى لأنه ترك الفرض(3/400)
الواجب عليه لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق فهذا وجهان في النص المنسوخ الذي لم يبلغ المرء نسخه ثم وجهان آخران في عكس هذه المسألة وهما نص غير منسوخ من آية أو كلام النبي صلى الله عليه وسلم ظنه عالم من العلماء منسوخا فترك العمل به وأفتى بذلك عاميا وأخبره أن الحديث أو الآية منسوخان فتركه العامي أو عملا به وهما يظنان ويقدران أنه منسوخ وهذا خلاف ما تقدم لأنهما ههنا تركا العمل بما أوجبه الله تعالى عليهما إلا أن من ترك ذلك مجتهدا يرى أن الذي فعل هو الحق ولم يتبين له غيره(3/401)
299 ... بعد فهو مخطىء له أجر واحد ومن ترك ذلك مقلدا فهو عاص لله عز وجل آثم لا حظ له في الآخرة أصلا لأنه ترك الحق للباطل دون اجتهاد فهذه أربعة أوجه ثم وجهان آخران وهما من بلغه حديث صحيح فلم يصح عنده فعمل به أو تركه فأما الذي عمل بحديث صحيح وهو يعتقد فيه أنه غير صحيح فإنه مقدم على ما يرى أنه باطل فهو عاص لله تعالى بنيته في ذلك فإن تركه وهو عنده غير صحيح ولم تقم الحجة عليه بصحته فهو محسن مأجور ولا شيء عليه لأنه لم يبلغه بعد ما يلزمه اتباعه وأما من صح عنده الخبر فتركه فإنه لا يخلو من أحد وجهين إما أن يكون مقدما مستجيزا لخلاف ما صح عنده من الله عز وجل ولا إثم عليه في نفس عمله بما وافق الحق فهذا قسم وقسم ثان وهو أن يستحل خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر مشرك لقول الله تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ثم وجهان آخران وهما عكس اللذين قبلهما وهما من بلغه حديث غير صحيح فظنه صحيحا فعمل به فهذا مأجور على نيته واجتهاده أجرا واحدا ولا إثم عليه فيما خالف فيه الحق لأنه لم يقصد والأعمال بالنيات فلو تركه عمدا لكان متسهلا لخلاف ما صح عنده عن الله تعالى أو عن رسوله فهو عاص لله تعالى بهذه النية فقط آثما فيها فإن لم يكن مستسهلا لذلك لكن اتفق له ترك العمل بذلك فلا إثم عليه لأنه لم يترك حقا وهذا حكم من أفتاه فقيه بفتيا غير صحيحة فإنها لا تلزمه ولا هو مأمور بها ولو كان عاصيا بترك العمل بها لكان مأمورا بها وهي باطل فكان يكون مأمورا بالباطل وهذا خطأ متيقن لكنه إن تركها مستسهلا لترك العمل(3/402)
300 ... بالواجب عليه فهو عاص بهذه النية فقط لا بتركه للعمل بغير الواجب وبالله تعالى التوفيق ومن أفتى آخر بفتيا صحيحة إلا أنه لم يأته عليها بدليل فإنه إن عمل بها مقلدا فهو آثم في تقليده مأجور إن شاء الله تعالى بعمله بها إن أراد الله تعالى ثم وجهان وهما من بلغه نص مخصوص فعمل به على عمومه ولم يبلغه الخصوص وترك العمل بعمومه فوافق الحق وهو لا يعلمه أو بلغه نص عام فتأول فيه الخصوص فأما الذي عمل بالعموم في الخصوص ولم يبلغه الخصوص وهو يظنه عموما فمأجور أجرين لأن فرضه أن يعمل بما بلغه حتى يبلغه خلافه إذ وجوب الطاعة لله تعالى فرض عليه فلو تأول أنه مخصوص دون دليل يقوم له على ذلك لكن مطارفة فعمل بالخصوص فوافق الحق فإن كان مستسهلا لمخالفة ظاهر ما يأتيه عن الله تعالى أو عن رسوله بلا دليل فهو فاسق عاص بهذه النية فقط غير عاص فيما فعل لأنه لم يخطىء في ذلك فإن فعل ذلك باتفاق دون قصد إلى خلاف ما بلغه من الظواهر عن الله تعالى ورسوله فلا إثم عليه البتة والقياس وقول من دون النبي صلى الله عليه وسلم بغير نص ولا إجماع والرأي كل ذلك خطأ ولم يكن قط حقا البتة ثم وجهان وهما حاكم شهد عنده رجلان هما عنده عدلان فوافق أن شهدا بباطل إما عمدا وإما غلطا فإنه حق مأمور بالحكم بشهادتهما لأنه قد ورد النص بقبول شهادة العدول عندنا ولم نكلف علم غيبهما وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار فقد أخبر أنه يحكم بظاهر الشهادة أو اليمين ولعل الباطن خلاف ذلك وهو لا يحكم إلا بالحق الذي لا يحل خلافه ففرض على الحاكم أن يحكم بشهادة العدول عنده وإن كانوا كاذبين أو مغفلين وهو في ذلك مأجور أجرين ولا إثم عليه فيما خفي عنه فإن لم يحكم بتلك الشهادة فهو عاص لله عز وجل فاسق بتلك النية وبعمله معا والإثم عليه في تركه الحكم بها ثم وجهان وهما حاكم شهد عنده عدلان بحق فلم يعرفهما(3/403)
فهو غير مأمور
301 ... بالحكم بشهادتهما ولا يحل له أن يحكم بها أصلا وهما عنده مجهولان ولا إثم عليه فيما خفي عنه من ذلك فلو حكم بها فهو آثم عاص بهذه النية وبعمله فاسق بها والإثم عليه في نفس حكمه وإن كان بما وافق الحق وعمدة القول في هذا الباب كله أن الإثم ساقط عن المرء فيما لم يبلغه والإثم لازم له فيما بلغه فخالفه عمدا أو تقليدا وأنه لا يجب على المرء إلا ما جاء به النص أو الإجماع حقا لا ما أفتاه به المفتون مما لم يأت به نص ولا إجماع وأخبر بأنه نص أو إجماع وأنه مأجور على نيته ومثاب عليها فإن كانت خيرا فخير وإن كانت شرا فشر وإن المرء لا يأثم بعمل ما أمر به وإن لم يعلم أنه مأمور به ولا يأثم بترك ما لم يؤمر به وإن لم يعلم أنه ليس مأمورا به وإن ظن أنه مأمور به لأن النية غير العمل إلا أن يبلغه نص فيخالفه وإن كان مخصوصا أو منسوخا بعد أن يبلغه الناسخ أو المخصص ومن هذا الباب من لقي امرأة فراودها عن نفسها فأجابته فوطئها وهو يظنها أجنبية فإذا بها امرأته ولم يكن عرفها بعد ولا كان دخل بها أو لقي إنسانا فقتله وهو يظنه مسلما حرام الدم فإذا به قاتل أبيه عمدا أو كافر حربي أو انتزاع مالا من مسلم كرها فإذا به ماله نفسه فكل هذا إن كان مستسهلا للزنى أو لغصب المال وقتل النفس فهو آثم بتلك النية فاسق بها عاص لله عز وجل ولا إثم عليه في وطئه ولا أخذه ماله ولا قتله الحربي ولا قاتل أبيه لأنه لم يواقع في ذلك إلا مباحا له وقد يظن ظان أن المستسهل للإثم وإن لم يواقعه لا يكتب عليه إثم ذلك لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة قال أبو محمد وهذا الحديث بين أن الذي لا يكتب عليه إثم فهي السيئة التي لم يعملها وهذا ما لا شك فيه ولم يقل إن إثم الهم بالسيئة لا يكتب عليه والهم بالشيء غير العمل به قال ضابىء بن الحارث البرجمي هممت ولم أفعل وكدت(3/404)
وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله ثم استدركنا هذا وتأملنا النصوص فوجدناها مسقطة حكم الهم جملة وأنه هو اللمم المغفور جملته
302 ... فإن قال قائل فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة قيل له قد صح ذلك وأخبر أن الأعمال بالنيات ولكل امرىء ما نوى فمن هم بسيئة ثم تركها قاصدا بتركها إلى الله تعالى كتبت له حسنة بهذه النية الجميلة فإن تركها لا لذلك لكن ناسيا أو مغلوبا أو بدا له فقط فإنها غير مكتوبة عليه لأنه لم يعملها ولا أجر له في تركها لأنه لم يقصد بذلك الله تعالى ولا يكون من هم بالسيئة مصرا إلا من تقدم منه مثل ذلك الفعل قال الله تعالى ولذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا لله فستغفروا لذنوبهم ومن يغفر لذنوب إلا لله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون فصح أن لا إضرار إلا على من قد عمل بالشيء الذي هو مصر عليه وهو عالم بأنه حرام عليه وأما من هم بقبيح ولم يفعله قط فهو هام به لا مصر عليه بالنصوص التي ذكرنا فإن قال قائل ما تقولون في حربي كافر لقي مسلما فدعاه المسلم إلى الإسلام فأسلم ثم علمه الشرائع وقال له هذه شرائع الإسلام أيلزمه العمل بما أخبره من ذلك أم لا قيل له وبالله تعالى التوفيق الكلام في هذا كالكلام فيما تقدم وهو أن ما كان مما أمره به موافقا للنص أو الإجماع فهو واجب عليه قبوله ومأجور فيه إن عمله أجران وعاص فيه إن لم يفعله وما كان من ذلك بخلاف النص فهو غير واجب عليه ولا يأثم في ترك العمل به إلا إن استسهل خلاف ما ورد عليه من النص فهو آثم في هذه النية فقط فلو عمل بذلك أجر أجرا واحدا بقصده إلى الخير فقط ولم يؤجر على ذلك العمل ولا إثم فيه لأنه ليس حقا فيؤجر عليه ولم يقصد عمل الخطأ وهو يعلمه فيأثم عليه وهذا حكم العامي في كل ما أفتاه فيه فقيه من الفقهاء وهذا حكم العالم فيما اعتقده وأفتى به باجتهاد لا يوقن فيه أنه مصيب للحق عند الله عز وجل(3/405)
فهي أربع مراتب هو إنسان عمل بالحق وهو يدري أنه حق فله أجران أجر النية وأجر العمل وآخر عمل الباطل وهو يدري أنه حق فله أجران أجر النية وأجر العمل وآخر عمل الباطل وهو يدري أنه باطل فله إثمان إثم النية وإثم العمل
303 ... وقال تعالى ومن جآء بلسيئة فكبت وجوههم في لنار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون فالنية عمل النفس المجرد والعمل على الجوارح بتحريك النفس لها فهما عملان متغايران وثالث عمل بالحق وهو يظنه باطلا أو ترك الباطل وهو يظن أن ذلك الباطل الذي ترك حق فلا إثم عليه فيما عمل ولا فيما ترك لأنه لم يعمل محرما عليه ولا ترك واجبا عليه ولا يؤجر أيضا في شيء من ذلك لأنه لم يقصد بنيته في ذلك وجه الله تعالى فإن نوى في ذلك استسهال مخالفة الحق فهو آثم بهذه النية فقط لا بما فعل ولا بما ترك ورابع عمل بالباطل وهو يظنه حقا أو ترك الحق وهو يظنه باطلا فهذا مأجور في نيته للخير أجرا واحدا ولا إثم عليه فيما فعل ولا فيما ترك ولا أجر أيضا لأنه لم يعمل صوابا فيؤجر ولا قصد الباطل وهو يعلمه باطلا فيأثم فهذه حقيقة البيان في هذه المسألة واليقين فيها والحق عند الله بلا شك وما عدا هذا فحيرة ودعوى بلا دليل فإن سأل العامي فقيهين فصاعدا فاختلفوا عليه فقد قال قوم يأخذ بالأخف وقال قوم يأخذ بالأثقل وقال قوم لا يلزمه منها وقال قوم هو مخير يأخذ ما يشاء من ذلك قال أبو محمد أما من قال هو مخير فقد أمره باتباع الهوى وذلك حرام وأخطأ بلا شك وجعل الدين مردودا إلى اختيار الناس يعمل بما شاء وأجاز فيه الاختلاف والله تعالى يقول أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا وقال تعالى وأطيعوا لله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وصبروا إن لله مع لصابرين وقال تعالى فإن لم يستجيبوا لك فعلم أنما يتبعون أهوآءهم ومن أضل ممن تبع هواه بغير هدى من لله إن لله لا يهدي لقوم لظالمين فالاختلاف ليس من أمر الله تعالى الذي(3/406)
أباحه وأمر به وقد علمنا أن حكم الله تعالى في الدين حكم واحد وأن سائر ذلك خطأ وباطل فقد خيره هذا القائل في أخذ الحق أو تركه وأباح له خلاف حكم الله تعالى وهذا الباطل المتيقن بلا شك فسقط هذا القول بالبرهان الضروري
******************(3/407)