بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين أحمده على ما له من صفات العظمة والكبرياء والجلال وأشكره على نعمه الظاهرة والباطنة في جميع الأوقات , وفي الغدو والآصال وأصلي على محمد أكمل الخلق في جميع الخصال اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه خير صحب وأشرف آل وعلى التابعين لهم في العقائد والأخلاق والأقوال والأفعال وسلم تسليما . أما بعد , فهذه رسالة تتضمن التنبيه على واجب المسلمين نحو دينهم , ووجوب التعاون بينهم في جميع المصالح والمنافع الكلية الدينية والدنيوية , وعلى موضوع الجهاد الشرعي , وعلى تفصيل الضوابط الكلية في هذه المواضيع النافعة الضرورية , وعلى البراهين اليقينية في أن الدين عند الله هو دين الإسلام .
عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي(1/1)
قال الله تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } [ سورة المائدة : الآية 2 ] فالبر اسم جامع لكل ما أمر الله به ورسوله , وأحبه الله ورسوله , من التحقق بعقائد الدين وأخلاقه , والعمل بآدابه وأقواله وأفعاله , من الشرائع الظاهرة والباطنة , ومن القيام بحقوق الله وحقوق عباده , ومن التعاون على الجهاد في سبيله إجمالا وتفصيلا , فكل هذا داخل في التعاون على البر . ومن التعاون على التقوى التعاون على اجتناب وتوقي ما نهى الله ورسوله عنه من الفواحش الظاهرة والباطنة , ومن الإثم والبغي بغير الحق , والقول على الله بلا علم , بل على ترك الكفر والفسوق والعصيان . ويدخل في ذلك التعاون على جميع الوسائل والأسباب التي يتقى بها ضرر الأعداء , من الاستعداد بالأسلحة المناسبة للوقت , وتعلم الصنائع المعينة على ذلك , والسعي في تكميل القوة المعنوية والمادية المعينة على ذلك . قال تعالى : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } [ سورة الأنفال : الآية 60 ] وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم } [ سورة النساء : الآية 71 ] فيدخل في هذا الاستعداد بكل المستطاع من قوة عقلية وسياسية وصناعية , وتعلم الآداب العسكرية , والنظام النافع , والرمي والركوب , والتحرز من الأعداء بكل وسيلة يدركها المسلمون , واتخاذ الحصون الواقية . وقد أمر الله ورسوله بجهاد الكفار المعتدين - في آيات كثيرة وأحاديث متنوعة - بالنفس والمال والرأي , وفي حال الاجتماع , وفي كل الأحوال . والأمر بذلك أمر به وبكل أمر يعين عليه ويقويه ويقومه , وأخبر بما للمجاهدين في سبيله من الأجر والثواب العاجل والآجل , وما يدفع الله به من أصناف الشرور , وما يحصل به من العز والتمكين والرفعة , وما في تركه والزهد فيه من الذل والضرر العظيم ; وتوعد الناكلين عنه بالخذلان والسقوط الحسي والمعنوي ; وبين لهم الطرق التي يسلكونها في تقوية معنويتهم ,(1/2)
فإنه حثهم على التآلف والاجتماع , ونهاهم عن التباغض والتعادي والافتراق . وذلك أن حقيقة الجهاد هو الجد والاجتهاد في كل أمر يقوي المسلمين ويصلحهم ويلم شعثهم , ويضم متفرقهم ويدفع عنهم عدوان الأعداء أو يخففه بكل طريق ووسيلة .
الجهاد نوعان : جهاد يقصد به صلاح المسلمين وإصلاحهم في عقائدهم وأخلاقهم وآدابهم , وجميع شئونهم الدينية والدنيوية , وفي تربيتهم العلمية والعملية , وهذا النوع هو أصل الجهاد وقوامه , وعليه يتأسس النوع الثاني , وهو جهاد يقصد به دفع المعتدين على الإسلام والمسلمين من الكفار والمنافقين والملحدين وجميع أعداء الدين ومقاومتهم . وهذا نوعان : جهاد بالحجة والبرهان واللسان , وجهاد بالسلاح المناسب في كل وقت وزمان . هذا مجمل أنواعه على وجه التأصيل . أما التفصيل فنقول :(1/3)
قال تعالى : { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا } [ سورة آل عمران : الآية 103 ] وقال تعالى : { هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم } [ سورة الأنفال : الآيتان : 62 , 63 ] وقال : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } [ سورة الحجرات : الآيتان 9 , 10 ] وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( وكونوا عباد الله إخوانا . المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يكذبه ولا يخذله ) ; وقال : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد ) إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على هذا الأصل العظيم , فإن من أعظم الجهاد السعي في تحقيق هذا الأصل في تأليف قلوب المسلمين , واجتماعهم على دينهم ومصالحهم الدينية والدنيوية , في جمع أفرادهم وشعوبهم , وفي ربط الصداقة والمعاهدات بين حكوماتهم بكل وسيلة . ومن أنفع الأمور أن يتصدى لهذا الأمر جميع طبقات المسلمين من العلماء والأمراء والكبراء وسائر الأفراد منهم , كل أحد يجد بحسب إمكانه . فمتى كانت غاية المسلمين واحدة وهي ( الوحدة الإسلامية ) وسلكوا السبل الموصلة إليها , ودافعوا جميع الموانع المعوقة والحائلة دونها , فلا بد أن يصلوا إلى النجاح والفلاح . ومما يعين على هذا الإخلاص وحسن القصد فيما عند الله من الخير والثواب , وأن يعلموا أن كل سعي في هذا الأمر من الجهاد , وفي سبيل الله ومما يقرب إليه وإلى ثوابه . وأن المصلحة في ذلك مشتركة , فالمصالح الكليات العامة تقدم على المصالح الجزئيات الخاصة . ولهذا يتعين عليهم أن لا(1/4)
يجعلوا الاختلاف في المذاهب أو الأنساب أو الأوطان داعيا إلى التفرق والاختلاف ; فالرب واحد , والدين واحد , والطريق لإصلاح الدين وصلاح جميع طبقات المسلمين واحد , والرسول المرشد للعباد واحد , فلهذا يتعين أن تكون الغاية المقصودة واحدة . فالواجب على جميع المسلمين السعي التام لتحقيق الأخوة الدينية والرابطة الإيمانية , فمتى علموا وتحققوا ذلك , وسعى كل منهم بحسب مقدوره , واستعانوا بالله وتوكلوا عليه , وسلكوا طرق المنافع وأبوابها , ولم يخلدوا إلى الكسل والخور واليأس , نجحوا وأفلحوا . فإن الكسل والخور واليأس من أعظم موانع الخير , فإنها منافية للدين وللجهاد الحقيقي . فمن استولى عليه الكسل والخور لم ينهض لمكرمة . ومن أيس من تحصيل مطالبه انشلت حركاته ومات وهو حي . وهل أخر المسلمين في هذه الأوقات إلا تفرقهم , والتعادي بينهم , وخورهم , وتقاعدهم عن مصالحهم والقيام بشئونهم , حتى صاروا عالة على غيرهم ؟ ودينهم قد حذرهم عن هذا أشد التحذير , وحثهم على أن يكونوا في مقدمة الأمم في القوة والشجاعة , والصبر والمصابرة , والمثابرة على الخير , والطمع في إدراكه , وقوة الثقة بالله في تحقيق مطالبهم , ودفع مضارهم , وكمال التصديق بوعد الله لهم بالنصر إذا نصروه , وبالنجاح إذا سلكوا سبله , وبالإعانة والتسديد إذا كمل اعتمادهم عليه : { إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون } [ سورة النساء : الآية 104 ](1/5)
قال تعالى : { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا } [ سورة الأحزاب : الآية 23 ] هذا نعت رجال الدين : الصدق الكامل فيما عاهدوا الله عليه , من القيام بدينه وإنهاض أهله , ونصره بكل ما يقدرون عليه , من مقال ومال وبدن وظاهر وباطن . ومن وصفهم الثبات التام على الشجاعة والصبر , والمضي في كل وسيلة بها نصر الدين . فمنهم الباذل لنفسه , ومنهم الباذل لماله , ومنهم الحاث لإخوانه على القيام بكل مستطاع من شئون الدين , والساعي بينهم بالنصيحة والتأليف والاجتماع , ومنهم المنشط بقوله وجاهه وحاله , ومنهم الفذ الجامع لذلك كله , فهؤلاء رجال الدين وخيار المسلمين : بهم قام الدين وبه قاموا , وهم الجبال الرواسي في إيمانهم وصبرهم وجهادهم , لا يردهم عن هذا المطلب راد , ولا يصدهم عن سلوك سبيله صاد ; تتوالى عليهم المصائب والكوارث , فيتلقونها بقلوب ثابتة , وصدور منشرحة لعلمهم بما يترتب على ذلك من الخير والثواب والفلاح والنجاح . وأما الآخرون , وهم الجبناء المرجفون , فبعكس حال هؤلاء . لا ترى منهم إعانة قولية ولا فعلية ولا جدية ; قد ملكهم البخل والجبن واليأس , وفيهم الساعي بين المسلمين بإيقاع العداوات والفتن والتفريق . فهذه الطائفة أضر على المسلمين من العدو الظاهر المحارب , بل هم سلاح الأعداء على الحقيقة . قال تعالى فيهم وفي أشباههم : { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم } [ سورة التوبة : الآية 47 ] أي يستجيبون لهم تغريرا أو اغترارا . فعلى المسلمين الحذر من هؤلاء المفسدين , فإن ضررهم كبير وشرهم خطير , وما أكثرهم في هذه الأوقات , التي اضطر فيها المسلمون إلى التعلق بكل صلاح وإصلاح , وإلى من يعينهم وينشطهم . فهؤلاء المفسدون يثبطون عن الجهاد في سبيل الله ومقاومة الأعداء , ويخدرون أعصاب المسلمين ويؤيسونهم من(1/6)
مجاراة الأمم في أسباب الرقي , ويوهمونهم أن كل عمل يعملونه لا يفيد شيئا ولا يجدي نفعا . فهؤلاء لا خير فيهم بوجه من الوجوه . لا دين صحيحا , ولا شهامة دينية , ولا قومية ولا وطنية . لا دين صحيحا , ولا عقل رجيحا . فليعلم هؤلاء ومن يستجيب لهم أن الله لم يكلف الناس إلا وسعهم وطاقتهم , وأن للمؤمنين برسول الله أسوة حسنة , فقد كان له صلى الله عليه وسلم حالان في الدعوة والجهاد : أمر في كل حال بما يليق بها ويناسبها ; أمر في حال ضعف المسلمين وتسلط الأعداء بالمدافعة , والاقتصار على الدعوة إلى الدين , وأن يكف عن قتال اليد , لما في ذلك من الضرر المربي على المصلحة . وأمر في الحالة الأخرى أن يستدفع شرور الأعداء بكل أنواع القوة , وأن يسالم من تقتضي المصلحة مسالمته , ويقاوم المعتدين الذين تقتضي المصلحة , بل الضرورة , محاربتهم . فعلى المسلمين الاقتداء بنبيهم في ذلك , وهو عين الصلاح والفلاح .(1/7)
قال تعالى : { وشاورهم في الأمر } [ سورة آل عمران : الآية 159 ] وقال في وصف المؤمنين : { وأمرهم شورى بينهم } [ سورة الشورى : الآية 38 ] وهذا يشمل جميع الأمور التي يحتاجونها , وتتعلق بها منافعهم الدينية والدنيوية . فعلى المسلمين أن يتشاوروا في تقرير المصالح والمنافع , وفي كيفية الوصول إليها , وفي تقرير الخطط التي يتعين سلوكها في صلاح أحوالهم الداخلية , وإصلاحها بحسب الإمكان , وفي الحذر من أعدائهم , ومقاومتهم , وسلوك الطرق السلمية أو الحربية بحسب ما تقتضيه المصلحة وبحسب الأحوال والظروف الحاضرة , وأن يعدوا لكل أمر عدته , وتجتمع قواهم كلها وعزائمهم على ما اتفقت آراؤهم على نفعه ومصلحته , فإن المشاورة من أعظم الأصول والسياسات الدينية , وفيها من الفوائد : امتثال أمر الله , وسلوك الطريق التي يحبها الله حيث نعت المؤمنين بها , وفيها الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه - مع كمال عقله ورأيه وتأييده بالوحي - كان يشاور أصحابه في الأمور المهمة . ومن فوائد المشاورة أنها من أكبر الأسباب لإصابة الصواب , وسلوك الوسائل النافعة لاجتماع آراء الأمة وأفكارها , وتنقيحها وتصفيتها . مع أن الله يعينهم في هذه الحال التي فعلوا فيها ما أمرهم به ويسددهم ويؤيدهم ومنها أن المشاورة تتنور فيها الأفكار , وتترقى المعارف والعقول , فإنها تمرين للقوة العقلية وتربية لها , وتلقيح للأذهان واقتباس لبعضهم من آراء بعض ومنها أنه قد يكون الصواب من مجموع رأيين أو ثلاثة أو أكثر , وإذا تقابل الصواب والخطأ ووزنتها العقول السليمة بالموازين العقلية التي لا تركن إلا إلى الحقائق الصحيحة ظهر الفرق بين الأمرين , ولا سبيل لذلك إلا بالمشاورة ومنها أن المشاورة من أسباب الألفة والمحبة بين المؤمنين , وشعور جميعهم أن مصالحهم واحدة مشتركة , وتنبيه للأفكار والآراء على النافع والأنفع , وعلى الصالح والأصلح , فإن ترك المشاورة يخمد(1/8)
الأفكار ويضيع الفرص التي يضر تضييعها . ففتح باب المشاورة عون كبير في إصلاح الأمور وإكمالها وتجنب المضار . وقد اتفق العقلاء على أن الطريق الوحيد لتحقيق الصلاح الديني والدنيوي هو طريق الشورى ; والله قد أرشد المسلمين إلى هذا الطريق , وأن يسعوا في ترقية أحوالهم بها . وعلمهم كيفية الوصول إلى كل أمر نافع , فإذا تعينت المصلحة في أمر سلكوه , وإذا ظهرت المضرة في طريق تركوه , وإذا تشابهت عليهم المسالك وتقابلت المنافع والمضار رجحوا ما ترجحت مصلحته من فعل وترك , فلا يدعون مصلحة داخلية ولا خارجية إلا بحثوا فيها وتشاوروا عليها وعملوا على ما اتفقت عليه آراؤهم , وبذلك يحمدون ويشكرون ويفلحون .(1/9)
قال تعالى : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم } [ سورة الأنفال : الآية 60 ] وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا } [ سورة النساء : الآية 71 ] تضمنت هاتان الآيتان جميع ما يلزم المسلمين في مدافعة الأعداء ومقاومتهم , وذلك بالاستعداد بالمستطاع من قوة عقلية وسياسية ومعنوية ومادية , فدخل في ذلك تعلم أنواع الفنون الحربية , والنظام السياسي والعسكري , والاستعداد بالقواد المحنكين المدربين , وصناعة الأسلحة , وتعلم الرمي والركوب بما يناسب الزمان , وبأخذ الحذر من الأعداء بالتحرز والتحصن , وأخذ الوقاية من شرهم , ومعرفة مداخلهم ومخارجهم , ومقاصدهم وسياساتهم , وعمل الأسباب والاحتياطات للوقاية من شرهم وضررهم وأن نكون منهم دائما على حذر في وقت السلم فضلا عن وقت الحرب , فإن جهل المسلمين بشيء من المذكورات نقص كبير فيهم , وقوة لعدوهم , وإغراء له بهم . فعلى المسلمين الأخذ بكل معنى من معاني الحذر , وبكل وسيلة من وسائل القوة والاستعداد , عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا . فإن جهل المسلمين بشيء من ذلك وكسلهم عن العمل ضرره كبير , وبذلك يكونون عالة على غيرهم , وهذا عنوان الذل , فإن لله سننا كونية جعلها وسائل للعز والرقي , من سلكها نجح , ودين الإسلام يحث عليها غاية الحث .(1/10)
قال تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } [ سورة التغابن : الآية 16 ] وقال صلى الله عليه وسلم : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) . فالله تعالى أمر بالجهاد بالنفس والمال , وبالأقوال والأفعال , وبالمباشرة وإعانة المباشرين , وبالدعوة والتحريض والتشجيع . وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق ) فكل من في قلبه إيمان فلا بد أن يكون له نصيب من هذا الجهاد , وكل أحد فرض عليه أن يقوم بما يستطيعه من ذلك , ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها . فأهل الحل والعقد والرياسة من الملوك والأمراء والوزراء ورجال الدول الإسلامية عليهم أن يسعوا أحث السعي لتحصيل القوتين : القوة المعنوية والقوة المادية , وذلك بالسعي لإزالة الموانع والحواجز التي حالت بين المسلمين وبين اتفاقهم واجتماع كلمتهم , وأن يفهموا العوامل التي فرقتهم والأغراض المتباينة التي شتتتهم , وأن الأيدي الأجنبية تتوسل بذلك لتحصيل أغراضها , فمتى فهموها وعملوا على إزالتها بجد واجتهاد فلهم نصيب وافر من الجهاد في سبيل الله . وعلى أهل العلم من بيان فضل الجهاد ووجوبه , وتبيين منافعه الضرورية , وحض الناس عليه , والوعظ العام والخاص , أعظم مما على غيرهم . وعليهم أن يبينوا للناس أن جميع حركاتهم وأقوالهم وأفعالهم ونفقاتهم المقوية للدين المعينة للمسلمين في دفع اعتداء المعتدي , كل ذلك , داخل في الجهاد في سبيل الله ; فمتى عرف المؤمنون موضوع الجهاد , وأنه اسم جامع لسلوك كل سبب ووسيلة في إعلاء كلمة الدين , وفي مقاومة الأعداء والحذر والتحرز منهم , نشطوا للقيام به وأخلصوا لله فيه والعمل الخالص نفعه كبير , وأجره عظيم . وكذلك يجب على كل فرد من أفراد المسلمين أن يبدي مجهوده في نصر المسلمين بما يقدر عليه من قول وفعل ودعاية وحض لإخوانه عليه وكل أحد عليه من القيام بوظيفته الخاصة ما ليس على الآخر : فالملوك(1/11)
والأمراء وقواد الجيوش : عليهم من الواجبات بحسب مراتبهم ومقاماتهم , والجيوش العاملة عليها النهوض بوظيفتها والتزام القوة والشجاعة والصبر ; وعلى أهل الأموال بذل ما يحتاج المسلمون إليه في المنافع الكلية , وعلى أهل الصنائع النصح والجد في تعليم الصناعات النافعة للجهاد , فمتى قام كل أحد بوظيفته لم يزالوا في رقي وصعود في دينهم ودنياهم , وعزهم وشرفهم .
قد أمر الله في عدة آيات بالقيام بجميع الأسباب النافعة , والسعي في كل وسيلة فيها صلاح الأحوال . كما أمر في عدة آيات بالتوكل عليه والاعتماد على حوله وقوته . فبالقيام بهذين الأصلين العظيمين تقوم الأمور كلها وتتم وتكمل . والنقص والقصور إنما يجيء من الإخلال بهما أو بأحدهما , فالتوكل الذي لا يصحبه جد واجتهاد ليس بتوكل , وإنما هو إخلاد إلى الكسل وتقاعد عن الأمور النافعة ; كما أن العمل بالأسباب من دون اعتماد وتوكل على مسببها واستعانة به مآله الخسار والزهو والإعجاب بالنفس والخذلان . فالجمع بين التوكل على الله وبين الاجتهاد في فعل الأسباب هو الذي حث عليه الدين , وهو الذي كان عليه سيد المرسلين , وبهما يتحقق الإيمان , وتقوى دعائم الدين , وبهما تقوى معنوية المسلمين , حيث اعتمدوا على رب العباد , وأدوا ما في مقدورهم من جد واجتهاد .(1/12)
قد علم من قواعد الدين أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب , وأن الوسائل لها أحكام المقاصد . ولا يخفى أنه لا يتم التحرز من أضرار الأمم الأجنبية والتوقي لشرورها إلا بالوقوف على مقاصدهم , ودرس أحوالهم وسياساتهم , وخصوصا السياسة الموجهة منهم للمسلمين ; فإن السياسة الدولية قد أسست على المكر والخداع , وعدم الوفاء , واستعباد الأمم الضعيفة بكل وسائل الاستعباد ; فجهل المسلمين بها نقص كبير وضرر خطير ; ومعرفتها والوقوف على مقاصدها وغاياتها التي ترمي إليها نفعه عظيم , وفيه دفع للشر أو تخفيفه , وبه يعرف المسلمون كيف يقابلون كل خطر . ولهذا كان من أركان السياسة والقيادة المعرفة والوقوف التام على أحوال الأعداء , فالسياسة الداخلية لا تتم إلا بأحكام السياسة الخارجية .(1/13)
قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط } [ سورة النساء : الآية 135 ] { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } [ سورة المائدة : الآية 1 ] { ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا } [ سورة النحل : الآية 92 ] فهذان الأصلان العظيمان - وهما القيام بالقسط الذي هو العدل التام , على الأنفس والأقربين والأبعدين والأصدقاء والمعادين , والوفاء بالعهود والمعاقدات كلها من أكبر أصول الدين ومصالحه , وبها يتم الدين , ويستقيم طريق الجهاد الحقيقي , وتحصل الهداية والإعانة من الله تعالى , والنصر والمدافعة . فما ارتفع أحد إلا بالعدل والوفاء , ولا سقط أحد إلا بالظلم والجور والغدر . وبهذين الأمرين - مع بقية أصول الدين - حصل للدين الإسلامي من العز والشرف والرقي وقهر الأمم الطاغية ما لم يحصل لغيره . وبهذه الروح - روح الرحمة والعدل والوفاء - وصل الدين الإسلامي إلى مشارق الأرض ومغاربها , ودانت منه الأمم المتباينة طوعا وانقيادا ورغبة , وبتركه انتقض الأمر , ولم يزل الهبوط مستمرا , إلا أنه يحصل نفحات في بعض الأوقات بها ينتعش الدين إذا تشبثوا بشيء من هذه المقومات النافعة . ولهذا تجد القوات والحضارات الهائلة , التي يزعم أهلها أنها راقية في كل أحوالها لما كانت مبنية على الظلم والجشع والطمع وعدم المبالاة في ظلم الأمم الضعيفة , وكانت إذا قطعت عهودها ونفذت معاهداتها لم تبال بعد ذلك وفت أو غدرت , وإنما تلاحظ أطماعها الخاصة وأغراضها الردية ولسان حالهم يقول : السياسة مبنية على المكر والخدع والختر والغدر . لما كانت مع قوتها الهائلة مبنية على هذه الأصول المنهارة كانت هذه المدنية المزعومة والحضارة المدعاة مهددة كل وقت بالفناء والهلاك والتدمير ; والواقع أكبر شاهد على ذلك ; فلو أنها بنيت على الدين الحق والعدل واتباع الحق والوفاء بالمعاقدات ونصر المظلومين لكانت مدنية آمنة , ولكنها في الحقيقة مادية(1/14)
محضة , والقوة المادية إذا لم تبن على الحق فإنها منهارة لا محالة , وربما كان سلاحها الفتاك هو مادة هلاكها وعقوبتها . والمقصود , أن المسلمين بالمعنى الحقيقي لا يغترون بقوة هؤلاء الماديين , وإنما يقومون بالعدل التام في جميع أمورهم , وبالوفاء الكامل في حق الصديق والعدو . وهذه الأمور كلها مضطرة إلى التوكل على الله , والاعتماد على حوله وقوته , وكمال الثقة به في تيسير الأمور وتذليل الصعاب , فيكون المتوكل يعمل بجد واجتهاد , مطمئنا بالله , واثقا بوعده وكفايته , لا يرجو غيره ولا يخاف سواه , لا يملكه اليأس ولا يساوره القنوط ; غير هياب ولا وجل ولا متردد , لأنه يعلم أن الأمور بيد الله , وأن نواصي الخليقة في قبضته وتحت تدبيره . بهذا التوكل التام والعمل الكامل نال المسلمون الأولون العز والشرف والسلطان وصلاح الأحوال . وهذا الذي يجب أن يكون عليه المسلمون الآن , وأن يكون العمل والتوكل نصب أعينهم , فلا يميلوا إلى التواكل والتخاذل والإخلاد إلى البطالة والكسل , فإن هذا ينافي التوكل الحقيقي غاية المنافاة ; كحال كثير من الناس في هذه الأوقات : يشاهدون عدوهم يحاربهم , ويسلبهم حقوقهم , وهم ساكتون لا يدفعونه بوسيلة من الوسائل , ولا يبدون ما يقدرون عليه من مقاومته التي لا يعذرون عن القيام بها , فتكون النتيجة من هذا السكوت والتقاعد الضار ضياع استقلالهم , وذهاب ملكهم وأموالهم , والسيطرة على حقوقهم وحلول المصائب المتنوعة بهم من كل جانب , ويقولون : نحن متوكلون . كلا والله , بل هم كسالى متواكلون , قد استولى عليهم الخور , وأعقبه الذل واستعباد الأجانب لهم .(1/15)
ربط الصداقات وعقد المعاهدات بين الحكومات الإسلامية من الجهاد في سبيل الله قال تعالى : { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } [ سورة الحجرات : الآية 10 ] فمن أهم مسائل الجهاد في هذه الأوقات عقد المعاهدات , وتوثيق المودة والصداقة بين الحكومات الإسلامية , مع احتفاظ كل حكومة بشخصيتها وحقوقها الدولية وإدارتها داخلا وخارجا , والتكافل بينها والتضامن , وأن يكونوا يدا واحدة على من تعدى عليهم أو على شيء من حقوقهم , وأن يكون صوتهم واحدا , وتسهيل الأمور الاقتصادية فيما بينهم طلبا لمصلحة الكل وتقريب بعضهم من بعض , وأن يعملوا لهذا الموضوع أعماله اللائقة به , المناسبة للظروف الحاضرة , وأن يسعوا كل السعي لتحقيق هذا وإزالة جميع العقبات الحائلة دونه , والمعوقة له . وهذه الأمور وإن كانت في بادئ الرأي صعبة , وقد وضع الأعداء لها العراقيل المعوقة , فإنها يسيرة بتيسير الله وقوة العمل مع التوكل عليه . واليوم وإن كان المسلمون مصابين بضعف شديد , والأعداء يتربصون بهم الدوائر , وهذه الحالة قد أوجدت في المسلمين أناسا ضعيفي الإيمان , ضعيفي الرأي والقوة والشجاعة , قد ملكهم اليأس والخور , يتشاءمون بأن الأمل في رفعة الإسلام قد ضاع , وأن المسلمين يتنقلون من ضعف إلى ضعف , فهؤلاء قد غلطوا أشد الغلط , فإن هذا الضعف عارض , له أسباب , وبالسعي في زوال أسبابه تعود صحة الإسلام كما كانت , وتعود إليه قوته التي فقدها منذ أجيال . ما ضعف المسلمون إلا لأنهم خالفوا كتاب ربهم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وتنكبوا السنن الكونية التي جعلها الله بحكمته مادة لحياة الأمم ورقيها في هذه الحياة . فإذا رجعوا إلى ما مهده لهم دينهم , وإلى تعاليمه النافعة وإرشاداته العالية , فلا بد أن يصلوا إلى الغاية كلها أو بعضها . وهذا المذهب المهين - مذهب التشاؤم - لا يرتضيه الإسلام , بل يحذر عنه أشد التحذير , ويبين للناس أن النجاح مأمول , وأن(1/16)
مع العسر يسرا , وأن المسلمين إذا عملوا بتقوى الله وبالأسباب التي أرشدهم الله إليها واقتدوا بنبيهم فيها , وصبروا , فلا بد أن يفلحوا وينجحوا . فليتق الله هؤلاء المتشائمون , وليعلموا أن المسلمين أقرب الأمم إلى النجاح الحقيقي والرقي الصحيح , لأن دينهم كله عروج وصعود في عقائده وآدابه , وأخلاقه ومقاصده وأسبابه , وجمعه بين مصالح الدنيا والآخرة , ومنافع الروح والجسد . ويقابل هؤلاء طائفة يؤملون الآمال بلا قوة ولا أعمال , ويقولون ولا يفعلون , فتراهم يتحدثون بمجد الإسلام ورفعته , وأن الرجاء والطمع في ذلك غير بعيد , ولكنها أقوال بلا أفعال , ولا يصحبها سعي لا قوي ولا ضعيف , ولا يقدمون لدينهم منفعة بدنية ولا مالية , ولا يساعدون على مصلحة عامة كلية . وهذا كله غرور واغترار , ويترتب عليه أنواع من الشرور والمضار . وأما رجال الدين الذين هم غرة المسلمين , وهم رجال الدنيا والدين , فهم الذين أبدوا جدهم واجتهادهم , وقرنوا بين الأقوال والأفعال , وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأقوالهم ودعاياتهم , وإنهاض إخوانهم , وتبرءوا من مذهب المتشائمين , ومن أهل الأقوال الخالية من الأعمال . قد نهضوا بأمتهم , وقصدوا في سعيهم الغايات الحميدة , وسلكوا طريق المجد . فهؤلاء الرجال الذين يناط بهم الأمل , وتدرك المطالب العالية بمساعيهم المشكورة وأعمالهم المبرورة .(1/17)
قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا } [ سورة التحريم : الآية 6 ] وذلك بالتعليم والتأديب والتربية . وقال تعالى : { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } [ سورة الزمر : الآية 9 ] وذلك أن من أعظم أصول الإصلاح والجهاد التربية الدينية والاهتمام التام والاعتناء الكامل بشباب الأمة , فإنهم محل رجائها وموضع أملها , ومادة قوتها وعزها . وبإصلاح تربيتهم تصلح الأحوال , ويكون المستقبل خيرا مما قبله . فعليهم أن يربوهم تربية عالية , ويبثوا فيهم روح الدين وأخلاقه الجميلة , والحزم والعزم , وجميع مبادئ الرجولة والفتوة والمروة , وأن يدربوهم على الصبر وتحمل المشاق الذي يفضي إلى النجاح والمثابرة في كل عمل نافع , ويحذروهم من الجبن والكسل , والسير وراء الطمع والمادة , والانطلاق في المجون والهزل والدعة , فإن ذلك مدعاة للتأخر الخطير . وشباب الحاضر هم رجال المستقبل , وبهم تعقد الآمال وتدرك الأمور المهمة , فعليهم أن يجتهدوا ليكونوا في خصال الخير والفضائل المثل الأعلى , وبأوصاف الحزم والمروة والكمال القدوة المثلى . ومن أعظم أركان التربية العامة النافعة إصلاح التعليم , والاعتناء بالمدارس العلمية , وأن يختار لها الأكفاء من المعلمين والأساتذة الصالحين الذين يتعلم التلاميذ من أخلاقهم الفاضلة قبل ما يتلقون من معلوماتهم العالية . ويختار لها من فنون العلم الأهم فالأهم من العلوم النافعة الدينية والدنيوية المؤيدة للدين . وأن تكون العلوم الدينية هي الأصل والأساس الأقوم , ويكون غيرها تبعا لها ووسيلة إليها ; وأن يكون الغرض الوحيد من المتخرجين في المدارس الناجحين في علومها أن يكونوا صالحين في أنفسهم وأخلاقهم وآدابهم , مصلحين لغيرهم , راشدين مرشدين , مهتمين بتربية الأمة . فإن كثيرا من المدارس الآن التعليم فيها قاصر جدا , لا يعتنى فيه بأخلاق التلاميذ , ويكون تعليم الدين فيها ضعيفا , ويكون(1/18)
الغرض منها المادة , وأن يخرج منها تلاميذ يصلحون للوظائف الدنيوية المادية البحتة ; وهذا ضرره كبير , وسبب للضعف والانحلال . ولا ريب أن السعي في إصلاح التعليم من أهم المهمات , وبه ترتفع الأمة وتنتفع بعلمائها وعلومهم , فالتعاليم النافعة , والتربية الصالحة , تقود المسلمين إلى كل خير وفلاح , وتكون العلوم مقصودا بها الصلاح والإصلاح .
قال الله تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } [ سورة النساء : الآية 58 ] وقال : { إن خير من استأجرت القوي الأمين } [ سورة القصص : الآية 26 ] وأعظم وأولى ما يدخل في الأمانات الولايات كلها , كبيرة كانت أو صغيرة ; وتخير الرجال الكمل من أعظم التعاون على البر والتقوى , ومن قواعد الجهاد وأصوله ; فإنه لا يتم الجهاد إلا بذلك , بل لا تتم الأحوال كلها إلا بذلك . وكما أنه يلزم الاعتناء والاستعداد بالحصون المنيعة والسلاح القوي والجيوش المنظمة العاملة والأهب الوافرة فكذلك يلزم الاستعداد بالرجال الأكفاء على جميع الأعمال , وأن يولى في الولايات كلها أهل القوة والكفاءة والعقل , والرأي والسياسة والحزم والعزم , والتدبير الموفق والدين القوي والنصح الكامل , وأن يكونوا من أصل راسخ في الكمال , ومن أهل الشجاعة التامة ; وإذا لم يدرك الرجل الكامل في هذه الأوصاف فيختار الأمثل فالأمثل . فهؤلاء الرجال هم الذين يقومون بشئون المملكة , ويوطئون بساط الأمن وطرق الراحة , ويرفعون بناء الملك على طريق العدل , ويوقفون الرعية على حدود الشريعة , ويراقبون مع ذلك روابط المملكة مع سائر الممالك الأجنبية , ليحفظوا لها المنزلة التي تليق بها , بالمعاهدات السلمية والاقتصادية وغيرها . ومن أكبر الخيانة والخطر تولية غير الناضجين أو غير الأكفاء العارفين , فإن تمام الولاية مجموع بشيئين : أحدهما , الخبرة والكفاية التامة بالقيام بشئون ذلك العمل , أي عمل كان , فيولى في كل عمل أكمل من يحصل(1/19)
به مقصود تلك الولاية , وإن كان ناقصا في غير ذلك العمل . الثاني , الأمانة والنصح , فمتى اجتمع الأمران - القوة على ذلك العمل , والأمانة التامة - تمت الأمور , واستقامت الأحوال . ومتى فقد الأمران أو أحدهما وقع النقص والخلل بحسب ما نقص منهما . وتتعين المشاورة في انتخاب الرجال الكمل الذين أخص صفاتهم الاقتداء بنبيهم , والاهتداء بسيرته وهديه , في الجد الكامل لتقوية الإسلام والمسلمين وتكوين الأمة وتربية أخلاقها , وأن يكونوا على جانب من العلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , ومعرفة تاريخ الدول الإسلامية ورجالها , والعلم بأسباب الضعف والانحلال الداخل على الأمة , والسعي بإزالتها أو تخفيفها , مهما أمكن الأمر . وأن يكونوا ذوي قوة وأمل ورجاء واسع , لا يملكهم اليأس ولا يتطرق إليهم الفتور . وأن يكونوا متصلين بأفراد المسلمين وجميع طبقاتهم اتصالا وثيقا , ويتعرفون بشئونهم ويسألون عن أحوالهم ويأخذون بآرائهم الصائبة ويستمدون من عقولهم القوية . وأن يحبوا لهم من الخير ما يحبون لأنفسهم , ويسعوا في ذلك الخير لهم . وأن يكونوا أصحاب فكر ثاقب , وسياسة وخبرة , وانتهاز للفرص النافعة , وكثرة مشاورة للرجال الناصحين . وأن لهم علاقات مع جميع العاملين من المسلمين في أنحاء العالم : يبدون لهم ودهم , ويستشيرونهم , ويستنيرون بآرائهم , ويأخذون بالناضج المصيب منها . وأن يكونوا مع ذلك عارفين بسياسات الأجانب , عارفين بحقوقهم , أخذين الحذر من مكرهم وكيدهم وخداعهم , يعاملونهم لمصلحة المسلمين , ويأخذون الحذر منهم خوف الضرر على المسلمين , عملهم كله لمصلحة الإسلام والمسلمين وهم مع ذلك كله مخلصون لله متوكلون عليه معتمدون في جميع أمورهم عليه . فهذه أوصاف الرجال الذين ينبغي تخيرهم ; والواحد من أمثال هؤلاء يعدل أمة . وعلى أهل الحل والعقد أن يتقوا الله ما استطاعوا , ويولوا الأكمل فالأكمل . والله أعلم .(1/20)
شرح محاسن الدين الإسلامي وبيان عقائده وأخلاقه , وأحكامه وإصلاحه , من أعظم الجهاد قال الله تعالى : { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين } [ سورة التوبة : الآية 73 ] وقال تعالى : { وجاهدهم به جهادا كبيرا } [ سورة الفرقان : الآية 52 ] أي بهذا القرآن , وبما جئت به من الدين , وذلك بالدعوة إليه وتبيين أنه دين العدل والرحمة والحكمة والخير والصلاح , للظاهر والباطن , والدين والدنيا . وأعظم جهاد النبي صلى الله عليه وسلم للخلق بهذا النوع , فإنه مكث مده طويلة يدعو إلى الله , ويبين للعباد محاسن الدين , ويقابل بينه وبين ضده من أديان أهل الأرض المنحرفة , ومن جاهليتهم الجهلاء , حتى دخل الخلق العظيم فيه متبصرين , مقتنعين أنه الدين الحق , وأن ما سواه باطل , بالبراهين العقلية والفطرية , والآيات الأفقية والنفسية . قال تعالى : { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } [ سورة فصلت : الآية 53 ] وهذا الجهاد هو الأصل , وقتال اليد والسلاح تبع لهذا لكل معتد على الدين . قال تعالى : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } [ سورة الأنفال : الآية 39 ] فهذا الدين الإسلامي , بعقائده وحقائقه وأخلاقه وأعماله , وما جاء به من القرآن , أكبر البراهين القواطع الضرورية الدالة على أن الله هو الحق , ورسوله حق , ودينه حق , وما عارض ذلك هو الباطل . وهو بنفسه جذاب لكل من قصده الحق ومعه إنصاف . فإنه إذا نظر وحقق عقائده فإنه يدعو إلى الإيمان الصحيح بالله , وبأوصافه العظيمة , وأسمائه الحسنى , وبكل كتاب أنزله الله , وبكل رسول أرسله الله , وبكل حق أخبر الله به ورسوله . وبذلك تمتلئ القلوب إيمانا ويقينا ونورا وطمأنينة بالله , وقوة توكل واعتماد عليه . وذلك يوجب كمال الإخلاص لله , والقيام بعبوديته الظاهرة والباطنة والتبري من الشرك كبيره وصغيره . وإذا نظر إلى أخلاق الإسلام وجده رآه يحث على كل خلق(1/21)
جميل , ويحذر عن كل خلق رذيل , ويدعو إلى القيام بحقوق الله وحقوق عباده وبالمعاملة الحسنة . وإذا نظر إلى تعاليمه وإرشاداته العالية رآه يحث على كل علم نافع مزك للقلوب , مطهر للأخلاق , نافع للدين والدنيا , وأنه مرشد إلى كل صلاح وإصلاح . فشرح هذه الأمور للناس من أعظم الجهاد , فإنه يقوي إيمان المؤمنين , وتزداد به بصائرهم ورغبتهم , ويحمدون الله الذي من عليهم بهذا الدين الكامل الذي حوى كل خير علمي وعملي , وكل هداية ورحمة , وهو السبب الوحيد إلى سعادة الدنيا والآخرة . وكذلك هو أكبر داع لمن وقف على حقيقته من الأجانب , وخصوصا المنصفين منهم : فمريد الحق إذا وقف على حقيقته لم يتوقف في تفضيله على كل دين , والمكابر يزلزل عقيدته ويخفف شره , وبه تندفع شبه المبطلين من الملحدين وغيرهم , فإن الحق يستولي على القلوب ويزهق الباطل , فإنه من عرف الحق معرفة صحيحة امتنع أن يقوم بقلبه باطل يقدمه عليه , إلا إذا عارض ذلك غرض فاسد من كبر أو حسد أو رياسة أو تعصب أو غيرها . ومن تأمل هذا الدين رآه يدعو إلى الصلاح والرشد والفلاح , والكتاب والسنة كفيلان ببيان ذلك كفالة تامة , فيهما الآيات والبراهين على أنه محال أن يحصل الصلاح الحقيقي , ولا سبيل للبشر إلى الإصلاح والخير والسعادة إلا بهذا الدين , فإنه ما من مصلحة دقيقة ولا جليلة إلا أرشد إليها هذا الدين , ولا خير إلا دل عليه , ولا شر إلا حذر عنه : يأمر بتوحيد الله والإيمان به , ويحث على العلم والمعرفة والإذعان , ويأمر بالعدل والصدق في الأقوال والأفعال , وبالبر والصلة والإحسان إلى الأقارب والجيران والأصحاب والمعاملين وجميع الخلق , وينهى عن الكذب , والظلم والقسوة , والعقوق والبخل , وسوء الخلق مع الأولاد والأهل والأصحاب وغيرهم , ويأمر بالوفاء بالعقود والعهود والمحالفات , وينهى عن النكث والغدر , ويأمر بالنصح لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم , وينهى عن(1/22)
الغش يأمر بالاجتماع والتآلف والتحابب والاتفاق , وينهى عن التعادي والتباغض والافتراق . يأمر بالمعاملات الحسنة وأن توفي ما عليك كاملا موفرا لا بخس فيه ولا نقص ولا مماطلة , وينهى عن المعاملات السيئة والمطل والغش والبخس والتطفيف وأكل المال بالباطل وبغير حق . يأمر بأداء الحقوق الخاصة والمشتركة , ينهى عن ضدها , وعن التعدي على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم بغير حق . يأمر بكل معروف وطيب ونافع ومستحسن شرعا وعقلا وفطرة . يبيح كل طيب , ويحرم كل خبيث . يأمر بالتعاون على البر والتقوى , وينهى عن التعاون على الإثم والعدوان . يأمر بعبادة الله وحده , وخوفه ورجائه وحده , والطمع في جوده وفضله , والتنوع في فعل الأسباب المحصلة لخيره وثوابه , وينهى عن التعلق بالمخلوقين والعمل لأجلهم . يأمر بنبذ الوثنيات والخرافات المفسدة للعقول والأديان . وبالجملة يأمر بكل خير وصلاح , وينهى عن كل شر وضرر فشرح الدين على نحو هذه الطريقة شرحا وافيا , وتطبيق تعاليمه وهدايته على أحوال البشر , وبيان أنها صالحة لكل زمان ومكان ولكل أمة , وأن الانحراف والشر والضرر إنما يكون بفقد روح الدين أو نقصها , وكذلك شرح أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم ونعوته وأخلاقه التي من تدبرها وعرفها وفهمها حق الفهم علم أنه صلى الله عليه وسلم أعلى الخلق في كل صفة كمال , وأن كل صفة كمال له منها أعلاها وأكملها , وأن الكمالات الموجودة في الرسل , صلى الله عليهم وسلم , قد جمعت فيه على الوجه الذي لا يماثله فيه أحد , وبذلك صار سيد الخلق ومقدمهم وإمامهم وأرفعهم عند الله قدرا وأعظمهم جاها .(1/23)
نبذة من أخلاقه وأوصافه صلى الله عليه وسلم وشيء من سيرته الدالة على أنه رسول الله حقا وأن ما جاء به من الدين هو الحق على وجه الإيجاز قال الله تعالى : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } [ سورة آل عمران : الآية 164 ] وقال تعالى : { وإنك لعلى خلق عظيم } [ سورة القلم : الآية 4 ] ومن نظر إلى سيرته صلى الله عليه وسلم في مبدأ أمره ومنتهاه وبين ذلك وتطورات أحواله , وما حصل بذلك من الأحوال والانقلاب العجيب في العقائد والأخلاق والآداب والتشريع العادل الرحيم والخير والرحمة مما لم يعهد له نظير في تاريخ البشر , وبعد ما كانت الأرض مملوءة من الشرك والوثنية المستولية على عقول أكثر الخلق , والإلحاد والظلم والشر والفساد وسفك الدماء وقطيعة الأرحام والمعاملات السيئة بكل وجوهها , استبدلت بأضدادها من عبادة الله وحده لا شريك له , وإخلاص الدين لله , والقيام بعبوديته التي خلق لها الخلق , وبالقسط والعدل في جميع الحقوق , وبصلة الأرحام , والإحسان إلى جميع طبقات الخلق - عرف أن هذا من أكبر براهين رسالته صلى الله عليه وسلم , وكمال دينه وشريعته , وأنه أعظم مرشد ومصلح للبشر على الإطلاق . فقد كان صلى الله عليه وسلم معروفا بين قومه بشرف النسب , وأن بيته أعظم بيوت العرب وخيرها . وكان معروفا بين قومه قبل بعثته بالصدق الكامل , والأمانة التامة , والبر والعدل ومكارم الأخلاق , متربيا على الأخلاق الجميلة , متنزها عن الأخلاق الرذيلة , لا يعرف له شيء يعاب به لا قليل ولا كثير , ولا جرب عليه كذبة واحدة ولا خيانة ولا ميل في شيء من أقواله وأفعاله . وكان نقي القلب , ناصحا للقريب والبعيد , وصولا للأرحام , موفيا بالعهد والذمام , حاملا للكل , معينا على نوائب الحق , متواضعا لله ولعباد الله . حليما صبورا عفوا محسنا , كامل العقل(1/24)
والرأي , حازما مسددا موفقا في حركاته وسكناته , مع أنه قد نشأ مع أمة أمية لا تعرف الكتب ولا تدرس الشرائع , وهو في نفسه لا يقرأ ولا يكتب : { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون } [ سورة العنكبوت : الآية 48 ] { وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك } [ سورة القصص : الآية 86 ] فلم يزل محببا له الخير , فعالا له , متنزها عن جميع الشرور , حتى فاجأته الرسالة والوحي من الله تعالى , ورحم الله به الخلق فجاءهم برسالة عظيمة عامة فيها صلاح البشر كلهم وسعادتهم , وجاءهم بكتاب كريم لم يطرق العالم كتاب أعظم منه ولا أجل ولا أجمع لكل خير ولا أغزر علما منه . وأخبرهم بأمور عظيمة وتفاصيل جمة لم يكن في قومه من كان يعرفها , ولا في الأرض أحد عنده علم صحيح ينافيها وينكرها . وأعلن بهذه الرسالة غاية الإعلان لعلمه اليقيني الذي لا ريب فيه أنها الحق , واعتماده على الحق , ووثوقه بوعد الله بالظهور . مع كثرة الأعداء وتوفر المعارضين , من أهل الكتاب والأميين وغيرهم , فبادأهم وصرح لهم بإنكار ما هم عليه من الشرك والشرور والأخلاق الرذيلة , وأن شريعته نسخت جميع الكتب , وهيمنت على كل الشرائع السابقة . فرماه الجميع بقوس العداوة , وجدوا واجتهدوا في رد ما جاء به , ونصر باطلهم . وتحدى قاصيهم ودانيهم وأولهم وآخرهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن , فما استطاعوا ذلك , ولا قدروا على رد شيء من دينه , مع أنهم مكروا مكرا كبارا , وأتوا بكل وسيلة وحيلة , فرجعوا منهزمين أمام الحق خائبين , والمنصف منهم لم يجد بدا من الاعتراف , والجاهد المكابر طفق ينصر باطله , فلم يبد حجة ولا برهانا , بل ولا شبهة يتكئ عليها . ومن أكبر أدلة الحق معرفة ما قاله أعداؤه ومعرفة حججهم التي لا تغني من الحق شيئا . وجاء صلى الله عليه وسلم للخلق وحده , لم يكن له في أول الأمر أعوان ولا أنصار , إلا الحق الذي هو نعم العون على(1/25)
الأمور كلها , فلم يزل يتبعه الواحد بعد الواحد من أولي البصائر والألباب والعقول الرزينة , على شدة عظيمة , ومقاومات من الأعداء عنيفة , فلم تزعجهم الكوارث , ولا عوقهم عن قبول الحق خوف ولا ضغط من الأعداء , وأعداؤه هم أهل الرياسة ولهم السيطرة , فعادوه وعادوا أتباعه , وآذوهم أشد الأذية , وحرصوا على صرفهم عن دينهم , فلم يكن لهم بذلك طاقة ولا اقتدار , لأن إيمانهم صحيح ويقينهم تام لم يؤمنوا لرغبة بذلها الرسول ولا رهبة , وإنما الرغبة والرهبة في ذلك الوقت عند أعدائه , ولكن هو الإيمان الحق متى وقر في القلوب لم يرتد عنه صاحبه سخطة له , بل يراه أحب الأشياء إليه , وألذها لقلبه , وأعظمها فوزا وسعادة . فلم يزل صلى الله عليه وسلم يدعو إلى هذا الدين بعزم صادق , وهمة لا تني ولا تضعف , ويقين وثقة بوعد الله , مع قوة المعارضات وشدة المقاومات من جميع الأعداء , ويتتبع العرب في مواسم الحج وغيره في منازلهم يدعوهم إلى الله وإلى دينه , والمتبع له إذ ذاك أفراد من الموفقين أولي البصائر , وأكثرهم معرضون ومعارضون مقاومون , وهو صامد لأمر الله , مصمم على الدعوة لعباد الله , مستقيم على أكمل طريقة من الصدق والعدل , والوفاء بالعهد , لا يتزعزع عن الاستقامة والأخلاق الفاضلة , والنصح والقوة في أمر الله , والشجاعة التي لا نظير لها في الأولين والآخرين , مع اختلاف الأحوال عليه من خوف وأمن , وفقر وغنى , ويسر وعسر , وضيق وسعة . فدخل الناس في دين الله أفواجا , وانتشر الإسلام في مكة مع الضغط العظيم , وانتشر في المدينة أكثر من ذلك , فأذن لأصحابه في الهجرة إلى المدينة ليتمكنوا من إقامة دينهم , فجعلوا يهاجرون إليها أفرادا وجماعات . وفي ذلك الوقت عقد الرؤساء من قومه المجالس المتعددة للإيقاع به , وإطفاء النور الذي جاء به , ومكروا المكرات العظيمة , والله يكلؤه ويحفظه . وحين بلغ الأمر أشده , وعزموا على الإيقاع والفتك به ,(1/26)
ورتبوا أمرهم وأجمعوا كيدهم أذن الله له بالهجرة فخرج في تلك الحال الحرجة إلى الغار هو وأبو بكر مختفيين وبوعد الله واثقين . واشتد الطلب , وعز التخلص والهرب , ولكن لطف الله ونصر الله فوق مكر الماكرين , قال تعالى : { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } [ سورة الأنفال : الآية 30 ] { إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها } [ سورة التوبة : الآية 40 ] وهذا النصر من أكبر الآيات والبراهين على عناية الله به وحفظه إياه ووعده الصادق بتمام أمره ودينه . ثم هاجر إلى المدينة وعناية الله تصحبه , وحفظه وتوفيقه يرافقه , فتلقاه المسلمون , وكل قبيلة من قبائل الأنصار تدعوه إلى النزول عندها وتقول : هلم يا رسول الله إلى العدد والعديد , فاختار الله له ذلك المنزل الذي بركت فيه ناقته ليكون مسجدا له ومساكن لنسائه , فاختط مسجده هناك , وعمل فيه مع المسلمين , وبنى مساكن زوجاته بجواره , وسر المسلمون بقدومه . ولم يزل الله يشرع له الشرائع الكبار شريعة بعد أخرى بحسب المناسبات , ثم أذن له في القتال لما اشتدت مقاومات الأعداء بكل طريق , فلم يزل معهم يدال عليهم ويدالون عليه حتى صارت له العاقبة والنصر عليهم . ودخل الناس في دين الله أفواجا حين شاهدوا أنوار الإسلام وهداية القرآن وإرشادات الدين , وكان دينه الحق وما جاء به من أكبر الأسباب لدخول الخلق في الدين , فإنه يدعوهم بنفس الحق الذي جاء به , والذي تنقاد له القلوب السليمة والعقول الصحيحة , وتلين له الصعاب , ويختاره أولو البصائر والألباب الرزينة والآراء الصائبة , لما يرون من إصلاحه العقائد والأخلاق والأعمال كلها , ودعوته للصلاح المطلق بكل وجه واعتبار . وهذا وجه إدخاله في الجهاد , إذ هو أصله(1/27)
وأساسه , فإن الغرض من الجهاد انقياد الخلق للحق , ودخولهم في الدين الحق , وأكبر وسيلة لذلك معرفة ما جاء به الرسول , والوقوف التام على حقائق الدين . وما زال صلى الله عليه وسلم يدعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة وبكل طريق يوصل إلى الهداية , ويجادل المبطلين بالتي هي أحسن , حتى أكمل الله به الدين وأتم به النعمة على المؤمنين , وجمع الله به أمما متباينة وقلوبا متفرقة وأهواء متشتتة , وأصلح الله به الظواهر والبواطن وكل أمر فاسد . وبعد ما كانت الأرض مملوءة من جميع أصناف الشرور , محقها الحق الذي جاء به , حتى امتلأت من الحق والعدل والرحمة والخير والنور , فمحا الظلمات المتراكمة , وحق الحق , واضمحل الباطل وزهق , إن الباطل كان زهوقا . فمعرفة الآثار والمنافع العامة العظيمة التي حصلت لأهل الأرض برسالته ودينه من أكبر البراهين الدالة على رسالته , وصحة ما جاء به من الدين الحق الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه , وهو دين جميع الرسل وأتباعهم , فهو الدين الذي أخباره في أعلى درجات الصدق , وهو الذي ما أمر بشيء فقال العقل ليته نهى عنه , ولا نهى عن شيء فقال العقل ليته أمر به , بل لو اجتمعت عقول الحكماء وسائر العقلاء على اقتراح دين أحسن منه وأصلح وأنفع للعباد لعجزت أفكارهم عن أن تصل إلى ما يقاربه . وأكمل الناس عقلا من حصلت له به الهداية والرشاد , فإنه تنزيل من حكيم حميد . ولهذا سمى الله ما أنزل على رسوله هدى ورحمة ونورا وحكمة ورشدا , وحث فيه على كل إصلاح في أصوله وفروعه , وأرشد إلى المنافع الدينية والدنيوية . ثم إنك إذا تأملت أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وتنقلاته في دعوة الخلق ومعاملاتهم من أوليائه وأعدائه رأيت فيها الهدى الكامل والنصح التام , ورأيت آثار دعوته ملأت قلوب المسلمين علما ويقينا ومعارف ربانية , واهتدوا بها إلى كل خلق جميل وتنزهوا عن كل خلق رذيل , فكما كانت آثار رسالته في نفسه(1/28)
أكمل الآثار فتجمعت فيه أصناف الفضائل والكمالات على أكمل وجه , وصار بذلك أكمل البشر في كل الأمور مطلقا , فكذلك كانت آثار رسالته في أصحابه وأمته أكمل الآثار وأفضلها وأجلها , فلم يصل أحد من الأمم إلى ما وصل إليه أصحابه وأئمة الهدى من أمته وطبقات أهل العلم والإيمان من المعارف الصحيحة , والعلوم النافعة , والمعارف الربانية , والإيمان الصحيح , واليقين الكامل , والقيام بحقوق الله وحقوق خلقه , والرحمة بالخلق , والإحسان والعدل , وهذا من براهين صدقه وصحة ما جاء به . وكذلك من براهين رسالته أنه في هذه المدة القصيرة مكنه الله وبارك في عمره الشريف حتى أسس هذا الدين الذي هو أكمل الأديان وأعمها وأهداها للخلق , فقرر أصوله وفروعه , وحصل به صلاح الدين وصلاح الدنيا , وصار المثل الأعلى والقدوة للخلق فيما يأتون وما يذرون , وما يقولون ويفعلون . إن حققت العقائد الصحيحة , والأخلاق الرجيحة النافعة المصلحة للقلوب , جعل الميزان فيها عقيدته وأخلاقه , وإن فصلت علوم الشريعة على سعتها وتنوعها كانت كلها مأخوذة من شريعته وتعليمه , وإن أريد الوصول إلى علم السياسة وفنون الحرب والسلم ومعاملة الأعداء من جميع الوجوه كان المدار فيها على هديه وعمله وإرشاده , وإن طلب علم الولايات كلها صغارها وكبارها : من الإمامة العظمى إلى ولاية الإنسان على عائلته وأهل بيته لم يوجد أكمل من طريقته فيها , وإن حصل البحث في أحوال القلوب ووسائل إصلاحها ودائها ودوائها لم يكن لذلك سبيل إلا بسلوك الطرق التي أرشد إليها . فلا يوجد علم صحيح ولا عمل ظاهر ولا باطن إلا وقد هدى الخلق إليه وأرشدهم إليه . فهذه جمل مختصرة تدل على رسالته صلى الله عليه وسلم , وصحة دينه , وأنه الدين الحق الذي لا يصلح البشر غيره , وأنه لا دين إلا دينه , ولا طريق إلا طريقه , ولا تصلح الأمور كلها إلا باتباعه .(1/29)
ذكر البراهين من الكتاب والسنة الدالة على ربوبية الله ووحدانيته وصدق رسوله وصحة دينه لما كان توحيد الباري أعظم الأمور وأكملها وأفرضها وأفضلها , وضرورة العباد إليه وحاجتهم فوق كل ضرورة تقدر , فإن صلاحهم وفلاحهم وسعادتهم تتوقف عليه , نوع الله الأدلة والبراهين عليه , وكانت أدلة واضحات وبراهين ساطعات . فمن أوضح ذلك وأجلاه لكل أحد الاستدلال باعتراف الخلق بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية , فإنهم يعترفون أن الله هو الخالق الرازق المالك للعالم العلوي والسفلي , المدبر لجميع الأمور , كما ذكر الله ذلك عنهم في آيات من القرآن كثيرة كقوله : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } [ سورة لقمان : الآية 25 ] فإنه برهان واضح ينتقل الذهن منه بأول وهلة بأن من هذا شأنه وعظمته أنه هو المنفرد بالوحدانية الذي لا تصلح العبادة إلا له . وفي مقابلة ذلك يخبر أن من سواه مخلوق فقير عاجز غاية العجز , لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا , ولا موتا ولا حياة ولا نشورا , ولا ينفع من دعاه في الدنيا ولا في الآخرة , بل يضره أعظم الضرر , وآثار الخلق والفقر التام على الخليقة كلها ظاهرة لكل أحد , وبذلك يعلم افتقار جميعهم إلى عبودية الله وإخلاص العمل له , كما كانوا مفتقرين في وجودهم وما به يكمل وجودهم إلى الله غاية الافتقار . ومن براهين التوحيد ما يشاهده العباد من كرمه وجوده وإحسانه المتنوع , وأنه ما بالعباد نعمة دينية ولا دنيوية ظاهرة أو باطنة إلا من الله , وأنه لا يأتي بالحسنات إلا هو , ولا يدفع السيئات إلا هو . فمن كان هذا فضله وكرمه فهو المستحق للحب الكامل , والذل والعبودية , والثناء والحمد , والشكر المتنوع بالقلب واللسان والجوارح . ومن براهين توحيد الله وصدق رسله - وهو دليل على البعث والجزاء بالأعمال - آياته في عباده المتبعين للرسل والمكذبين لهم : يبعث رسولا إلى قبيلة عظيمة , فيدعوهم إلى توحيد الله(1/30)
وإخلاص العمل له , وينهاهم عن الشرك وأصناف الشرور , ويبعث على يديه من البراهين ما على مثله يؤمن البشر , فيؤمن به القليل منهم , ويكفر أكثرهم ويعاندون , ويتوعدهم بالعقوبات الدنيوية , قبل الأخروية , فإذا تم طغيانهم وتمردهم على الله وعلى رسله , أرسل عليهم عقوبات متنوعة : إما طوفان يغرقهم , أو ريح تحصبهم , أو صيحة تهلكهم , أو ظلة تحرقهم , أو يفلق البحر فيغرقهم , أو يقلب عليهم ديارهم ويمطر عليهم الحجارة التي تهلكهم , فلا يبقى من المكذبين باقية , وينجو الرسول ومن تبعه : { إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم } [ سورة الشعراء : الآيتان 8 , 9 ] وخاتمة ذلك ما نصر به خاتمهم وإمامهم محمدا صلى الله عليه وسلم حيث بعثه بما بعث به الرسل من التوحيد الخالص , والنهي عن الشرك والشرور . فقاومه أهل الأرض كلهم قريبهم وبعيدهم , ومكروا في نصر باطلهم ورد ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم مكرا عظيما , فخذلهم ونصر نبيه , وأظهر دينه على الدين كله نصرا لا مثيل له , حتى وصل هذا الدين إلى مشارق الأرض ومغاربها , ولا يزال هذا النصر الرباني من الله لأمته بحسب تمسكهم بما جاء به , إن في ذلك لآية على أن دين الله الذي هو الإيمان والتوحيد هو الحق , وأن ما عارضه باطل , وأن كل ما جاء به حق .(1/31)
وقد قص الله في كتابه كثيرا من أنباء الغيب الماضية والحاضرة والمستقبلة المتعلقة بالخالق والمتعلقة بالخلق , وهي كلها حق وصدق مطابقة للواقع . فمن ذلك ما أخبر به عن تفصيل الوقائع العظيمة الماضية , في قصص الرسل في أنفسهم , ومع أقوامهم من أتباعهم وأعدائهم , تفصيلا تاما ليس لأحد طريق إلى الوصول إليه إلا من جهة الوحي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ; ونهاية ما عند خواص أهل الكتاب من هذه الأمور نتف وقطع يسيرة لا يحصل منها قريب مما يحصل بالقرآن . ولهذا يخبر في أثناء هذه القصص المفصلة المبسوطة أن إتيان الرسول بها دليل على رسالته , كقوله عند ما ذكر قصة موسى مبسوطة . { وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين } [ سورة القصص : الآيتان 44 , 45 ] أي إنه لا سبيل إلى معرفة هذه الأمور مفصلة بتلق عن أحد , ولا وصول لك إليها إلا بالوحي رحمة من الله بعباده . وكذلك ذكر الله هذا المعنى في قصة يوسف المطولة في قوله : { وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم } [ سورة يوسف : الآية 102 ] وفي قصة زكريا مع مريم : { وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون } [ سورة آل عمران : الآية 44 ] وحين جاء صلى الله عليه وسلم بهذه القصص مفصلة مبسوطة موافقة للواقع بطريق لا يدرك إلا بالوحي علم أنه رسول الله حقا وأن ما جاء به حق . ومثل ذلك خبره عن الملائكة والملأ الأعلى وقصة آدم وسجود الملائكة له بعد تلك المراجعات بينهم وبين ربهم قال : { ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون } [ سورة ص : الآية 69 ] وأعظم من ذلك كله وأجل إخباره عن الرب العظيم وأسمائه وصفاته مفصلة , بحيث جاء هذا القرآن بما لم يأت به كتاب قبله , وأخبر عن الله أخبارا عظيمة تعجز قدر الأولين والآخرين وعلومهم(1/32)
ومعارفهم أن يأتوا بما يقاربها أو ينقضها أو بعضها , فجميع الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء والمأثور عنهم كل ما في ذلك فإنه في القرآن , وفي القرآن زيادات عظيمة وتوضيحات تدل أكبر دلالة وأقواها على أن من جاء بها إمام الرسل وسيد الخلق , وأن هذا القرآن مهيمن على ما قبله من الكتب . وأن كل حق قاله أو تكلم به أحد من الخلق فهو في ضمن القرآن ودلالته . فإن قيل : كيف تجعلون هذا البرهان الذي هو خبر عن الله وأسمائه وصفاته من براهين هذا الدين , وحقية رسالة محمد صلى الله عليه وسلم , وأدلة التوحيد والبراهين لا بد أن يعترف بها الموافق والمخالف , وتكون مبنية على الأصول التي يعترف بها العقلاء ؟ قيل : الجواب عن هذا الإيراد يتضح بأمور : منها أن الذي جاء به رجل أمي لا يقرأ ولا يكتب , وقد نشأ بين أمة أميين , لم يجالس أحدا من أهل العلم , ولم يدرس كتابا , ولم يزل على هذا الوصف حتى جاء بهذا القرآن العظيم , الذي معظمه هذه الإخبارات العظيمة المحكمة المتناسبة . فمجرد النظر إلى هذه الحال التي هو عليها , ومجيئه بهذا الكتاب المحتوي على هذه العلوم , برهان قوي يضطر الناظر إليه ويعترف أنه حق , وأنه لا سبيل إليه إلا بالوحي والرسالة . ثانيا أنه صدق المرسلين والكتب السابقة , فالذي جاء به موافق ومطابق لخبر الله وخبر رسله , شاهد له مهيمن عليه مع وصفه صلى الله عليه وسلم بالأمية . ثالثا أن ما فيه من الأسماء الحسنى والصفات العليا كلها متناسبة متصادقة , لأن كل اسم منها ووصف يدل على الكمال المطلق بكل وجه واعتبار كمال لا يقاربه كمال , ولا يمكن لعقول العقلاء أن تحيط بمعنى واحد من تلك المعاني والأوصاف العظيمة , فهو أكبر دليل على التوحيد والرسالة . رابعها أن آثارها ومتعلقاتها في الوجود والخلق والأمر مشهودة محسوسة : آثار ما أخبر به من العظمة والملك والسلطان , وآثار ما أخبر به من الحكمة الشاملة والعلم المحيط , وآثار ما(1/33)
أخبر به من الرحمة والجود والكرم , وآثار ما أخبر به من إجابة الدعوات وتفريج الكربات وإزالة الشدات , وآثار ما أخبر به من شمول القدرة ونفوذ الإرادة وكمال التصرف والتدبير , إلى غير ذلك مما أخبر به عن الله , فإن آثار ذلك في الخلق مشهودة لكل أحد , لا ينكرها أو يتوقف فيها إلا مكابر مباهت . وكذلك آثارها في الأمر والشرائع فهو صلى الله عليه وسلم يخبر عن أمر محكم , وغيب مشاهدة آثاره , محسوسة مقتضياته . وذلك يدل دلالة قاطعة أنه حق , وأن من جاء به هو النبي الصادق المصدوق . خامسا هذه النعوت التي أخبر بها عن الله لا يمكن التعبير عن آثار كنه معرفتها في قلوب العارفين بها من التعظيم والإجلال الذي ليس له نظير , ومن الود والسرور والابتهاج الذي لذات الدنيا بأسرها بالنسبة إليه أقل من قطرة بالنسبة إلى البحر , وهم خلق لا يحصي عددهم إلا الله , وهم خلاصة الخلق , والطبقة العالية من الناس , وأكملهم أخلاقا وآدابا , وأرجحهم عقولا وأصوبهم آراء وأتمهم علوما ومعارف , وقد اتفقوا على هذا الأمر العظيم ليس اتفاقا اعتقاديا علميا فحسب , بل اتفاق علمي يقيني وجداني ضروري , فهذا الاتفاق الذي ليس له نظير , وهو من أعظم البراهين على رسالته , وصحة ما جاء به من التوحيد والحق , وهو من آثار ما أخبر به ونتائجه وثمراته الجليلة . فإن قلت إنه قد يتفق طوائف من الخلق على بعض الأمور التي ليست بحق , ويكثرون جدا , وقد لا يكون حقا إن لم يكن لهم بذلك برهان علمي , فالجواب : أن الأمر كذلك , فكم يتفق على الباطل أمم لا يحصيهم إلا الله , ولكن ما ذكرنا من اتفاق أهل المعرفة بالله الموصوفين بأعلى الصفات لا يشبهه شيء من تواطؤ الطوائف واتفاقها , لأن هذا مبني على علم يقيني واتفاق وجداني صادر من هؤلاء الكمل الذين هم أرفع البشر في كل فضيلة وخصلة كمال , وذلك عن بصيرة تامة وذوق كامل , ولهذا استشهد الله بهؤلاء على توحيده وصدق رسله فقال : { شهد(1/34)
الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام } [ سورة آل عمران : الآيتان 18 , 19 ] فذكر شهادة أولي البصائر من الأنبياء والعلماء الربانيين وأئمة الهدى ومصابيح الدجى على توحيده وعلى العدل , فدل أن هذا من البراهين الواضحة . وكذلك أخبر عن الملائكة وأحوال الملأ الأعلى وعن الجنة والنار وصفاتهما وصفات أهلهما والأعمال الموصلة إلى كل منهما بأمور يستحيل أن يأتي بها إلا نبي صادق بوحي من الله إليه , فإن معارف الخلق وعلومهم تقصر غاية القصور عن معرفة تفاصيل ذلك وبيانه , ولكنها رحمة الله وهدايته لعباده بعثها على يد خاتم الرسل وأكملهم رسالة .(1/35)
وأما الغيوب الحاضرة والمستقبلة الدال كل واحد منها على صدق الرسول وحقية ما جاء به من الدين , فكيف بجميعها , فكيف إذا انضمت إلى براهين رسالته التي لا تحصى أجناسها فضلا عن أفرادها . فمن ذلك ما في القرآن من وعده لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يتم أمره , وينصره ويعلي دينه ويظهره على الدين كله , ويخذل أعداءه ويجعلهم مقهورين أذلين . وهو كثير جدا مثل قوله تعالى : { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون } [ سورة التوبة : الآية 33 ] { والله متم نوره ولو كره الكافرون } [ سورة الصف : الآية 8 ] { وينصرك الله نصرا عزيزا } [ سورة الفتح : الآية 3 ] { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } [ سورة البقرة : الآية 193 ] { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد } [ سورة آل عمران : الآية 12 ] { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون } [ سورة الأنفال : الآية 36 ] { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } [ سورة الأنفال : الآية 64 ] { سيهزم الجمع ويولون الدبر } [ سورة القمر : الآية 45 ] إلى غير ذلك من الوعود الصادقة التي وقعت طبق ما أخبر الله به , وأكثرها نزل قبل الهجرة والمؤمنون في غاية الضعف والقلة , كما قال تعالى : { واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون } [ سورة الأنفال : الآية 26 ] وكذلك قوله تعالى : { يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم } [ سورة الأنفال : الآية 70 ] الآية . وقد فعل ذلك , وقوله : { وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم } [ سورة الفتح : الآية 20 ] وقد فعل ذلك وله الحمد وأخبر أن صلح الحديبية فتح مبين مع ما(1/36)
حصل فيه من تلك الشروط التي كرهها كثير من المؤمنين ثم تبين لكل أحد بعد ذلك ما فيه من المصالح للإسلام والمسلمين مما لا يمكن حصره , ومن ذلك قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم } [ سورة التوبة : الآية 28 ] وقد وقع كل ذلك . وأخبر أنه سيتوب على كثير من أئمة الكفر وينصر عباده عليهم كقوله : { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم } [ سورة التوبة : الآيتان 14 , 15 ] { عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم } [ سورة الممتحنة : الآية 7 ] وقد فعل ذلك وقوله : { سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } [ سورة البقرة : الآية 142 ] وقد قالوا ذلك وقوله : { فسيكفيكهم الله } [ سورة البقرة : الآية 137 ] { والله يعصمك من الناس } [ سورة المائدة : الآية 67 ] { أليس الله بكاف عبده } [ سورة الزمر : الآية 36 ] { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } [ سورة الأنفال : الآية 30 ] { إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا فمهل الكافرين أمهلهم رويدا } [ سورة الطارق : الآيات 15 - 17 ] وقد أوقع بهم من الأخذات مصداق ذلك , وقوله : { وللآخرة خير لك من الأولى } [ سورة الضحى : الآية 4 ] أي كل حالة متأخرة من أحوالك خير لك من سابقتها , ومن تتبع سيرته وأحواله صلى الله عليه وسلم وجد ذلك عيانا في كل وقت من أوقاته , يزداد قوة وتمكينا وتكميلا , حتى قال له في آخر حياته : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } [ سورة المائدة : الآية 3 ] وقال تعالى : { الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من(1/37)
بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين } [ سورة الروم : الآيات 1 - 4 ] وقد وقع ذلك كما أخبر , وقال تعالى : { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } [ سورة الشعراء الآية 227 ] { وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار } [ سورة الرعد : الآية 42 ] وقد وقع ما توعدهم به من العواقب الوخيمة , وقال : { فستبصر ويبصرون بأييكم المفتون } [ سورة القلم : الآيتان 5 , 6 ] وقد أبصر الجميع أنهم المفتونون , وقوله : { فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا } [ سورة الشرح : الآيتان 5 , 6 ] { سيجعل الله بعد عسر يسرا } [ سورة الطلاق : الآية 7 ] وقد يسر الله الأمور بعد عسرها ووسعها بعد ضيقها وشدتها , وقال تعالى : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنه م في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا } [ سورة النور : الآية 55 ] وقد أنجز وعده ولله الحمد . وقال : { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } [ سورة الأنبياء : الآية 105 ] وقال : { ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز } [ سورة الحج : الآية 40 ] { يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } [ سورة محمد : الآية 7 ] وقد أنجز لمن قام بالشرط هذا الوعد , وقال : { قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون } [ سورة الفتح : الآية 16 ] وقد دعوا لذلك في وقت الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من ملوك الإسلام الصالحين . وقال تعالى : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } [ سورة غافر : الآية 51 ] { وكان حقا علينا نصر المؤمنين } [ سورة الروم : الآية 47 ] { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير } [ سورة الحج : الآية 39 ] { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن(1/38)
شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا } [ سورة الفتح : الآية 27 ] فحصلت هذه الأمور كلها . وقال تعالى : { تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد } [ سورة المسد : الآيات 1 - 5 ] وقوله : { ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا } [ سورة المدثر : الآيتان 11 , 12 ] الآيات , إلى قوله : { سأصليه سقر } [ سورة المدثر : الآية 26 ] فأخبر عن أبي لهب وامرأته وهذا الوحيد يصلى النار ومن لازم ذلك بقاؤهم على التكذيب والكفر إلى الهلاك فبقوا على ذلك حتى هلكوا . وقوله : { إنا كفيناك المستهزئين } [ سورة الحجر : الآية 95 ] فكفاه إياهم وأوقع بهم العقوبات المتنوعة , وهي معروفة بين أهل السير . ولما ذكر مكر رؤساء الأحزاب والكفر قال : { جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب } [ سورة ص : الآية 11 ] { فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون } [ سورة الزخرف : الآية 83 ] فوقع ما أخبر الله به .(1/39)
ومن ذلك تحديه للخلق كلهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن أو بعشر سور منه أو سورة واحدة , وأنه لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ; فلم يقدر ولن يقدر أحد من الأولين والآخرين على شيء من ذلك , مع كثرة الأعداء وجدهم البليغ في إطفاء نور الله , ورد ما جاء به الرسول , ومن نزول القرآن وإلى أن تقوم الساعة والتحدي قائم , والبشر عاجز وفي غاية العجز عن ذلك ; ومن طفق من بعض المكابرين أن يجاريه أو يعارضه أو يأتي بمثله ظهر عيه وصار ضحكة لأولي البصائر والألباب , وقال : { قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم } [ سورة البقرة : الآيتان 94 , 95 ] فلم يقع منهم هذا التمني في وقت التحدي الدال عليه السياق ; وقوله في دعوة النصارى إلى المباهلة حين كابروا وجحدوا وعاندوا : { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين } [ سورة آل عمران : الآية 61 ] الآيات , وقال : { إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا } [ سورة النصر : الآيات 1 - 3 ] فأخبر عن هذه الأشياء فوقعت كما أخبر . وقال تعالى : { إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر } [ سورة الكوثر : الآيات 1 - 3 ] أي مقطوع الذكر الجميل , مقطوع من الخير , عواقبه وخيمة . فوقع ذلك بشانئيه . وقوله : { وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا } [ سورة الإسراء : الآية 81 ] { وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا } [ سورة الإسراء : الآية 80 ] وقد فعل الله ذلك . وقوله : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } [ سورة الحجر : الآية 9 ](1/40)
وهذا شامل لحفظ ألفاظه ومعانيه , وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه , وهذا مشاهد محسوس . وقوله : { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } [ سورة المائدة : الآية 54 ] وقد فعل ذلك .
ومن ذلك قوله تعالى : { وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون } [ سورة يس : الآيتان 41 , 42 ] وقال : { والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون } [ سورة النحل : الآية 8 ] وهذا شامل لكل ما يخلقه الله ويحدثه مما خلقه وعلمه الإنسان من أصناف المخترعات التي لا تزال تحدث : من المراكب البحرية والبرية والهوائية , ومن المخترعات الكهربائية والمغناطيسية , الحاملة للأصوات من الأماكن الشاسعة , وللأنوار والأثقال المرقية للصناعات ونحوها ; فكل ما يحدث من دقيق وجليل فإنه داخل في هذه الآية ونحوها . قال تعالى : { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس } [ سورة الحديد : الآية 25 ] { علم الإنسان ما لم يعلم } [ سورة العلق : الآية 5 ] { والله خلقكم وما تعملون } [ سورة الصافات : الآية 96 ] وإنما لم يصرح القرآن بمثل أسماء هذه الأشياء وأوصافها الخاصة لأنه لا فائدة في ذلك في ذلك الوقت , بل فيه مضرة , لأن الناس لم يشاهدوا لها نظيرا , والنفوس مولعة بالتكذيب والإنكار لما لم يشاهدوه أو يشاهدوا نظيره , قال تعالى : { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن } [ سورة الإسراء : الآية 60 ] فإنه لما أخبرهم بالإسراء إلى بيت المقدس من المسجد الحرام وبالمعراج إلى الله وبأن في النار شجرة تخرج في أصل الجحيم حصل بذلك فتنة , مع أنها من المعجزات , وبعضها من أمور الغيب المتقرر مخالفتها لما يعرف الناس , فكيف لو صرح لهم وأخبرهم أن الناس(1/41)
سيطيرون في الهواء ويغوصون في البحار ويتخاطبون في مشارق الأرض ومغاربها , ونحو ذلك من الأمور الواقعة المدهشة , لو أخبرهم ببعضه لسمعت من الإنكار والتكذيب شيئا كثيرا , ولكن أتى بكلمات جوامع يدخل فيها كل ما سيحدث إلى قيام الساعة , حتى إذا وقعت تبين دخولها في دلالة القرآن فازداد المؤمنون بذلك إيمانا , وقامت الحجة على المعاندين . ولهذا كلما توسعت معارف الناس في علوم الكون والطبيعة عرفوا من دقيق حكمة الله وعظيم قدرته وحسن خلقه ونظامه العجيب في تدبير المخلوقات ومطابقة ذلك لما أخبر به شيئا عظيما . ولكن أبى المتمردون إلا عتوا ونفورا . وهذا من آيات الله , حيث تجد أناسا في غاية المهارة والذكاء في المخترعات وعلوم الكيمياء والطبيعة ونظام الكون , ومع ذلك لم ينتفعوا بعقولهم في أظهر الأشياء , ولم يهتدوا بها إلى أجل المعارف , وهو معرفة الله بأسمائه وصفاته , ومعرفة دينه ورسوله وعبوديته الظاهرة والباطنة التي علومهم كلها من أولها إلى آخرها لا نسبة لها بوجه من الوجوه , ونهاية الأمر أن تكون من الوسائل : { يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون } [ سورة الروم : الآية 7 ] مع أنك تشاهد فيهم من الكبر والزهو واحتقار الرسل وعلومهم ما يدلك أكبر دلالة أن الأمر كله لله , وأن من تكبر على الله وعلى رسله وتاه بعقله وكل إلى نفسه وعقله , فلم ينتفع إلا بأمور ضئيلة دنيوية حاضرة , وهذا مصداق قوله تعالى : { فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } [ سورة غافر : الآية 83 ] وقال تعالى : { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض } [ سورة الأنعام : الآية 65 ] وقد وقع العذاب من فوقهم بالقنابل المهلكة والدخان الخانق , ومن تحت أرجلهم بالديناميت الناسف المهلك والألغام المتلفة وما أشبه ذلك .(1/42)
ولنذكر هنا آية كبرى تشتمل على آيات فيها مصداق ما أخبر الله به وأخبر رسوله من التوحيد والرسالة والمعاد وأمور الغيب , وفيها أخذ الخناق بالمكذبين الماديين الملحدين فنقول : الكهرباء وأعمالها ونتائجها قال الله تعالى : { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } [ سورة فصلت : الآية 53 ] وقال تعالى : { علم الإنسان ما لم يعلم } [ سورة العلق : الآية 5 ] لم تزل حقيقة الكهرباء ونتائجها الباهرة وأعمالها العجيبة في طي الخفاء والكتمان , ولم يصل إليها في غابر الزمان علم الإنسان , حتى ترقت معارف الناس في العلوم الطبيعية والكيماوية وعلوم الكون , فوصلوا إلى هذا العلم العظيم والكنز الثمين . وهو استخراج الكهرباء من المواد الأرضية والمائية والنارية وغيرها من المواد المتنوعة . فحققوا علمها , وفرعوا أعمالها ونتائجها , بعد ما أتقنوا أصولها , فأوجدوا بها الصنائع المتنوعة والمخترعات الباهرة وأوصلوا بها الأنوار والأصوات من المحال المتباعدة الشاسعة في أسرع من لمحح البصر . وما زالوا ولا يزالون في ترقية مخترعاتها وتفريعها . أفليس الذي علم الإنسان ما كان ناقصا في علمه , ناقصا في إرادته وقدرته وعمله وجميع أحواله , أليس الذي علمه هذه الأمور التي لم تكن تخطر ببال أحد من البشر بقادر على أن يحيي الموتى , وأن يجمع الأولين والآخرين بنفخة واحدة ؟ { ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة } [ سورة لقمان : الآية 28 ] لم تزل كتب الله المنزلة على رسله , ولم تزل الرسل الكرام , تقرر التوحيد والمعاد وأمور الغيب بأنواع البراهين والأدلة المتنوعة التي تجعلها من الأمور التي هي أعلى درجات اليقين , فلا تقبل ريبا وشكا بوجه من الوجوه . وأعداؤهم المكذبون برسالاتهم ليس عندهم ما يعارض هذه الأمور العظيمة إلا مجرد استبعادات استبعدوها بعقولهم القاصرة وآرائهم الكاسدة . يقولون : كما أن هذه الأمور متعذرة على قدر المخلوقين(1/43)
فكذلك هي متعذرة على الخالق . هذا حاصل ما ردوا به ما جاءت به الرسل من أمور الغيب والمعاد . ولم تزل هذه الطائفة المادية في نمو وازدياد حتى طم بحرهم في هذه الأوقات الأخيرة وانسلخوا عن أديان الرسل بالكلية , وكذبوا ما جاءت به الرسل من أمور الغيب بهذه الشبهة وفشا الإلحاد وطغى الماديون الذين ينكرون بجهلهم وسفاهة عقولهم ما لم تصل إليه حواسهم , فأظهر الله هذه الآية الكبرى والحجة العظمى الدالة دلالة يقينية عينية على صدق ما أخبرت به الرسل ونزل به الوحي من أمور الغيب والمعاد فرأى كل من عنده أدنى عقل وإنصاف أن ما جاء به الرسول ونزل به القرآن هو الحق الصريح , الذي صدقت له الآيات الأفقية الكونية , فكل شبهة يدلي بها المنكرون لما جاءت به الرسل يستندون فيها إلى المشاهدات الحسية فقط , وأن الذي جاءت به الرسل يخالف ما زعموه من المحسوسات فيتعين في زعمهم إنكاره , بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه . وهذه الآية من أكبر ما يزلزل شبهتهم ويدحض باطلهم ويردهم على أعقابهم مقهورين مغلوبين بالحق المؤيد بالمنقول والمعقول والمحسوس , فهذه المخترعات الناشئة عن الكهرباء ونحوها قد كان الرسل , صلى الله عليهم وسلم , يخبرون من أمور الغيب بما هو دونها أو فوقها أو مثلها , فيظل هؤلاء الضلال يسخرون بها وبمن أخبر بها , فأراهم الله من عمل الآدميين ما لم يكن لهم في بال ولا حساب : { وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا } [ سورة الإسراء : الآية 81 ] فالمؤمنون يزدادون بها إيمانا ويعلمون أن الذي أقدر الآدميين - على ضعفهم ونقصهم من كل وجه - على مثل هذه الأمور قادر على كل شيء , لا يعجزه شيء ولا يفوته شيء , وأن جميع ما أخبر به وأخبرت به رسله فهو الحق , والله له المثل الأعلى . فكل علم وقدرة في المخلوقين فالله هو الذي علمهم ما لم يكونوا يعلمون , وأقدرهم على ما لم يكونوا عليه قادرين , وبذلك تقوم الحجة التي لا يستطيع أحد إنكارها(1/44)
على الجاحدين , وأن تكذيبهم الرسل محض مكابرة واستكبار صرف , وأنه لا شبهة لهم فضلا عن أن تكون لهم حجة . أليس الذي أقدر البشر على هذه المقدورات - مع أن قدرة جميع الخليقة ليس لها نسبة إلى قدرة الخلاق العليم - قادرا على أن يحيي الموتى ويجمع الأولين والآخرين ويعلم ما تفرق من أوصالهم وما تلاشى من أجزائهم في أسرع من لمح البصر ؟ أليس التنادي والتخاطب الذي ذكره الله في القرآن بين أهل الجنة وأهل النار مع البعد العظيم الذي كان المنكرون في ذلك الوقت يرونه محالا ممتنعا فجاءهم ما لا قبل لهم بدفعه ؟ إلى غير ذلك من أمور الغيب التي قربتها للجاحدين بها هذه المخترعات غاية التقريب , ولكنهم كما قال تعالى : { إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم } [ سورة يونس : الآيتان 96 , 97 ] فالمؤمن ينظر إلى هذه الآيات بنور إيمانه ويستفيد بها هدى ورحمة وإيقانا : { فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم } [ سورة التوبة : الآيتان 124 , 125 ](1/45)
ومن ذلك إخباره أن سنته في خليقته في نظام العالم وفي الأسباب والمسببات والجزاء بالحسنى للمحسنين وبالسوأى للمسيئين لا تتغير ولا تتبدل , وهي كلها جارية على مقتضى الحكمة التي يحمد عليها ; وهذا مشاهد في الشرع وفي الخلق والقدر . وقد يغير الله بعض الأسباب عن نظامها المعتاد ليعرف العباد أنه المتفرد بالقدرة والتصرف , وأن جميع الحوادث خاضعة لمشيئته وقدرته , وأن ما أخبرت به الرسل من أمور الغيب حق , ومفردات هذا النوع من معجزاته صلى الله عليه وسلم وكرامة أوليائه لا تعد ولا تحصى , ولكن أبى الجاحدون إلا أن ينكروا ما أخبر الله به على ألسنة رسله مما صاروا الآن يفعلون نظيره , فآمنوا بقدرة الإنسان وكفروا بقدرة من هو على كل شيء قدير , فانقلب الأمر عليهم , وقلب الله قلوبهم كما لم يؤمنوا به أول مرة , واستكبروا بعقولهم عن الحق فسلبت خاصيتها وفضيلتها الحقيقية .(1/46)
ومن أعظم علوم الغيب التي أخبر بها الله ورسوله بما أبداه الله وأعاده في كتابه وسنة رسوله أنه لا سبيل إلى هداية البشر وصلاحهم وسعادتهم الحقيقية إلا باتباع هذا الدين والأخذ بإرشاداته وتعاليمه . وهذا أمر لا يستريب فيه منصف , وهو مشاهد محسوس , فإن هذه الأمة في عصر الخلفاء الراشدين والملوك الصالحين لما كانوا مهتدين بعلمه وإرشاده وتربيته الخاصة والعامة صلحت دنياهم كما صلح دينهم , وصاروا المثل الكامل في العزة والقوة , والعدل والرحمة , وجميع الكمالات المستعد لها البشر , ثم لما ضيعوا هدايته العلمية والعملية لم يزالوا في نقص وضعف وذل مطرد لا يزول ذلك حتى يراجعوا دينهم ويرجعوا إلى العمل بهدايته كلها , فهو الذي فيه الشفاء التام من هذا الداء العضال . ثم في مقابلة ذلك , من العجب العجيب الذي ليس بغريب , أن الأمم الأخرى ارتقت في هذه الأوقات في الصناعات الضخمة والمخترعات المدهشة والسلاح الفتاك والقوة والسياسة والفنون العلمية المادية التي لم يشاهد الخلق لها نظيرا , وأنهم لم يزدادوا بها إلا شقاء وهلاكا وتدميرا , حتى صارت حضارتهم التي يعجبون بها ويخضع لها غيرهم مهددة كل وقت بالتدمير العام , وجميع علمائهم وساستهم في حيرة من تلافي هذا الخطر , فهو خطر واقع ما له من دافع , ولن يتلافى ويدفع إلا باتباع ما جاء به دين محمد صلى الله عليه وسلم , المهيمن على جميع الأديان , الكفيل بكل خير وسعادة وفلاح , الجامع بين العلم والعمل , وبين سعادة الدنيا والآخرة . فالعلوم والفنون المادية والقوة المادية المحصنة التي لم تؤسس وتبن على الدين الحق خطرها عظيم , وشرها مستطير . فانظر أحوال الأمم تر العجائب . فهذا الارتقاء المادي الذي لم يشاهد الخلق له نظيرا لما خلا من روح الدين كان هو الحبوط والهبوط , والسقوط الحقيقي في الدنيا والآخرة , بل هو الشقاء والعذاب . والدنيا الآن كلها في خطر مزعج لا يعلم مدى ضرره وفظائعه إلا(1/47)
الله , فلا حول ولا قوة إلا بالله .
ومن البراهين على أن دين الإسلام هو الحق , وأن ما سواه باطل , أن تعاليمه العالية وتربيته السامية في أقصر مدة قد جمعت بين أمم متباينة وطوائف متعادية , وألفت بين قلوبهم , وجمعت قاصيهم لدانيهم , حتى صاروا إخوانا متحابين , وقرناء وأصفياء متعاونين , فحملوا بهذا الدين وبهذه الروح العظيمة المعنوية التي نفخ فيها الروح هذا القرآن على الأمم الضخمة والدول الكبرى والملوك الجبابرة فمزقوا الجميع كل ممزق , واحتلوا ممالكهم المملوءة بالظلم والعدوان والشرور , وملأوها بالعدل والرحمة والخير , فهذا من أعظم براهين القرآن المشاهدة , ودين الإسلام مع ذلك يدعو إلى كل علم نافع في الدين والدنيا , ويدعو إلى كل خلق كامل وأدب جميل , كالإخلاص لله والنصح لعباد الله والتوكل على الله والالتجاء إليه في جميع النوائب , والطمأنينة بذكره , والشكر له على آلائه ونعمه , والصدق التام , والقيام بالقسط في حقوق الله وحقوق عباده , والندب إلى الفضل والإحسان الزائد عن الفرض , والشجاعة والكرم , والوفاء بالعهود والعقود , وحسن المعاملة وسلوك طريق التوسط في الأمور كلها , والعفو وحسن الخلق , وتربية الأهل والأولاد وكل من للمسلم عليهم ولاية , وينهى عن أضداد ذلك . فمعرفة ما يدعو إليه هذا الدين ويحث الخلق عليه من البراهين على أنه الحق .(1/48)
ومن براهينه التي وقعت مطابقة للواقع والمشاهدة , أنه أخبر أنه آيات لأولي الألباب , لقوم يعقلون , للموقنين . وهي آيات كثيرة تبين أن أهل العقول الوافية والبصائر النافذة بقدر ما أعطوا من هذه النعمة الكبرى واللب الكامل يكون حظهم من هدايته وإرشاداته ومقدار الانتفاع به , فتأمل هداة هذه الأمة ومرشديها , هل تجد أكمل منهم عقولا وألبابا , وأصوب آراء ؟ وتأمل هل تجد مسألة أصولية أو فروعية في هذا الدين قد شهد أحد من المعتبرين على فسادها أو ضعفها أو مخالفتها للواقع ؟ وكل من قدح في شيء منها بين بالبراهين المعترف بها بين العقلاء أن الخلل في دينه وعقله وفهمه أو في سوء إرادته . وإذا أردت تفصيل هذه الجملة الكبيرة فاقرأ كتاب " العقل والنقل " لشيخ الإسلام ابن تيمية , وكيف بين بالبراهين الواضحة العقلية على ضعف عقول القادحين في شيء من مسائل هذا الدين , وأن الذي زعموه عقليات هو جهل وضلالات . وقد تحدى الباري الخلق أن يأتوا بمثل كتابه أو ببعض مثله . وهذا هو عين هذه المشكلة . فليرنا المنكرون مسألة واحدة منه خارجة عن الحق والعدل والصلاح والرحمة والحكمة إن كانوا صادقين . . فهذا الدين هو الذي يصلح الأمم إصلاحا حقيقيا , ولا يصلحهم سواه أبدا , وقد أكمل الله هذا الدين : فليس فيه نقص بوجه من وجوهه , لا في عقائده وأصوله , ولا في أخلاقه وآدابه , ولا في أعماله ومنافعه المتنوعة , ولا في شرائعه وأحكامه وحكمه بين الخلق , ولا في ظاهره ولا في باطنه . فكل ضرر أو قصور أو تقصير أو إسراف ومجاوزة فلفقده أو نقصه . وهذه الأصول والجمل العظيمة نتحدى بها جميع البشر , وأنه محال أن يجدوا فيما جاء به الرسول نقصا أو خللا بوجه من الوجوه , فإنه جمع المحاسن والكمالات والمنافع كلها , ونهى عن القبائح والمضار والمفاسد كلها , فليأتوا بمثال واحد يسلمه العقلاء مخالفا لهذه الأصول التي أسسها هذا الدين , وجعلها قواعد خالدة نافعة يرجع إليها(1/49)
البشر في هدايتهم ورشدهم .
ومن براهين القرآن وهذا الدين إخباره المتنوع بما تفعله هداية الكتاب والسنة في القلوب والأرواح والأخلاق , وأن الأمور المذكورة لا تكمل ولا تتم ولا تصلح ولا تترقى إلا بهدايته , فوجد مخبره كما وصف . فهذا معروف لا ينكر , يشهد به أولو الألباب والبصائر , وهم أذكى الناس وأزكاهم وأصدقهم وأورعهم وأصحهم علوما ومعارف وأذواقا صحيحة , وأعدلهم شهادة عن علم ويقين ووجدان , وذوق صحيح موافق للعلم واليقين . قال تعالى : { يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام } [ سورة المائدة : الآية 16 ] { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } [ سورة العنكبوت : الآية 69 ] فكل من قصد رضوان الله واجتهد في معرفته واتباعه هداه سبل السلام التي أضافها إلى نفسه , لأنه الذي نصبها لوصول سالكها إلى الله عز وجل . والهداية المذكورة في الآيتين وغيرهما تشمل الهداية العلمية لكل علم نافع صحيح , والهداية العمل لسلوك طريق الصلاح باطنا وظاهرا . قال تعالى : { من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [ سورة النحل : الآية 97 ] وأصل الحياة الطيبة طيب القلب وراحته وسروره , والقناعة والرضى عن الله , وهذا مشاهد أن من حقق الإيمان والعمل الصالح حصل له ذلك بحسب كمال ما قام به من الوصفين أو نقصه , فإن المؤمن الصادق لو كان في أضيق عيش وأشق حالة فإن هذه الحياة الطيبة حاصلة له بوعد الله الذي لا يخلف الميعاد . وقال تعالى : { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } [ سورة الرعد : الآية 28 ] وهذه الطمأنينة بذكر الله هي ما يجده أهل الإيمان والإحسان الصادقين من ذوق حلاوة الإيمان وحقائق اليقين والأنس بالله وانشراح القلب لطاعته وخدمته , والأحوال الزكية التي هي أحلى في قلوبهم من كل لذة يجدها الناس , وهذه براهين ذوقية وجدانية تكون في حق هؤلاء , حق اليقين , وهي أعلى من عين اليقين .(1/50)
وقال تعالى : { ومن يؤمن بالله يهد قلبه } [ سورة التغابن : الآية 11 ] فقد تكفل الله بهداية القلوب لكل من حقق الإيمان بصدق , فإن إيمانه بالمأمور يقتضي فعله . وإيمانه بالمحظور وخوفه التام يقتضي تركه , وإيمانه بالمقدور الذي لا يلائم النفوس بأن يعلم أنه من عند الله فيرضى ويسلم لأمره . فهذه الهداية التامة في هذه الأمور مشاهدة لمن حقق الإيمان , وهذا أمر معلوم مشاهد بالبصائر والأبصار .
ومن ذلك ما تواترت به نصوص السنة من إخباره صلى الله عليه وسلم عن الأمور المستقبلة , فوقعت طبق ما أخبر , ولا تزال بقيتها تحدث شيئا فشيئا , ولا بد أن يقع كل ما أخبر به , فإنه أخبر بالخلافة بعده , وأنها تكون ثلاثين سنة , ثم يعقبها الملك الذي فيه خير وشر وصلاح وفساد . وإخباره بأن الله زوى له الأرض , مشارقها ومغاربها , وأن ملك أمته سيبلغ ما زوى له منها , فوصلت الفتوحات الإسلامية إلى المحيط الغربي وإلى الشرق الأقصى من حدود الصين . وإخباره بما يقع بعده من الفتن التي في صدر الإسلام وبعده . وإخباره بأن خير القرون قرنه , ثم الذين يلونهم , فوجد مصداق ذلك في علومهم وأعمالهم وثمرات أعمالهم وإخباره بأنه لا تزال طائفة من أمته على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله , وظهر مصداق ذلك . وإخباره بفشو الزنا والخمر والحرير والذهب والجهل وقلة العلم وكثرة الهرج والمرج وتداعي الأمم على المسلمين كتداعي الأكلة على الصحفة مع كثرة المسلمين , ولكنهم غثاء كغثاء السيل لتفرقهم وتعاديهم وذلهم وخضوعهم واستعبادهم للأجانب وفقد معنويتهم لإعراضهم عن هداية دينهم . وإخباره بتقارب الزمان , الذي من لازمه تقارب المكان , فكان هذا عين ما وقع من قرب المواصلات الزمانية والمكانية بالمخترعات الحادثة . كما أن إخباره بمواقيت المناسك للأقطار قبل فتحها فيه الإخبار بفتحها , وأن أهلها سيسلمون ويحجون ; وتصريحه بأن أمته سيهزمون الأكاسرة(1/51)
والقياصرة , وتنفق خزائنها في سبيل الله . وإخباره بالكذابين المتنبئين بعده وأنهم سيبلغون ثلاثين كذابا فوقع كل ذلك . وإخباره بقتال أمته للترك , وأن أمته ستركب البحر غزاة في سبيل الله . وإخباره بأن أمته ستفترق ثلاثا وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة , والمراد هنا أمة الإجابة الذين آمنوا بالرسول وأجابوا دعوته , فمنهم اثنتان وسبعون فرقة أهل بدع وواحدة أهل سنة متمسكون بما عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ; وإخباره بخروج الخوارج المارقين , ووصفه لهم بالصفات المتعددة المطابقة لأحوالهم , وإخباره بظهور الخيانة , وفقد الأمانة , وأن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ , وإخباره بقتال أمته لليهود , وأن العاقبة لهم وقد ظهرت مبادئ ذلك , وأنه لا تقوم الساعة حتى تعود جزيرة العرب مروجا وأنهارا , وقد بدت مبادئ ذلك ولا بد أن يتم ذلك كله , وأنه لا تقوم الساعة حتى يقل الرجال وتكثر النساء حتى يكون قيم خمسين امرأة رجل واحد , وقد وقعت أوائل ذلك بالحروب العالمية المهلكة , وأخبر بوجود خليفة في آخر الزمان يحثو المال حثيا ولا يعده عدا , وأخبر عن النار التي تخرج في الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى فوقعت منذ مئين من السنين , وإخباره أنه لا بد أن يكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله , ويخبره فخذه بما فعله أهله بعده , ومصداقه ما ظهر من الأعمال الكهربائية والمخاطبات التليفونية والهوائية والراديات المتنوعة التي لا تزال في نمو وازدياد , إلى غير ذلك من الإخبارات عن الوقائع في أحاديث صحيحة متعددة , وهي أحاديث معروفة لا يمكن إحصاؤها في هذا الموضع , وهذا من براهين الرسالة وآيات نبوته صلى الله عليه وسلم . وأما معجزاته التي شاهدها أصحابه في حياته من انشقاق القمر , وتسليم الجمادات والحيوانات عليه ومخاطبتها إياه , وإجابة دعواته الخاصة والعامة , وحصول بركة الطعام والشراب بملابسته , ونبع الماء من بين أصابعه في(1/52)
قضايا متعددة وشفاء المرضى وغير ذلك فقد صنفت فيها التصانيف الكثيرة وذكرت أجناسها وأنواعها وأفرادها , وكل واحد منها برهان على رسالته فكيف بجميعها , والعلم الضروري اليقيني حاصل ببعض تلك الآيات , وليس قصدنا في هذه الرسالة , وإنما مقصودنا بيان البراهين المشتركة التي بقيت مشاهدة إلى يوم القيامة لتكون آية وبصيرة للمؤمنين وحجة على المعاندين , ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة .
قال الله تعالى : { ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين } [ سورة الحاقة : الآيات : 44 - 46 ] وهذا من أعظم براهين رسالته صلى الله عليه وسلم أن الله أخبر أنه لو تقول عليه بعض الأقاويل - أي افترى على الله الكذب - أنه لا بد أن يهلكه , فإذا كان قد ادعى هذا الدعوى العظيمة أنه أرسل إلى الإنس والجن , وأن شريعته كاملة نسخت وهيمنت على شرائع الأنبياء قبله , وأن من خالفه فهو ضال غاو , وعاداه على ذلك أهل الأرض عربهم وعجمهم , ورموه عن قوس العداوة , وأبدوا من مقاوماته القولية والفعلية ما انتهت إليه قدرهم واستحل بذلك دماءهم وأموالهم , والله مع ذلك يؤيده بقوله وبفعله , وبنصره وخذلان أعدائه , حتى أظهر الله دينه الحق على سائر الأديان , فكانت هذه الحالة العظيمة أعظم وأكبر شهادة من الله شهد بها الحس والعيان , واضطرت العقول إلى العلم اليقين أنه رسول الله حقا , فإن الله بحكمته وقدرته ورحمته لا يؤيد الكذاب المفتري عليه , فكيف والله قد أيده بتأييد ونصر لم يحصل لأحد من الأولين والآخرين , ويظهر صدقه بالآيات الأفقية والنفسية التي شهدها أول هذه الأمة وآخرها , وشهد بها وسمعها الموافق والمخالف , قال تعالى : { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم } [ سورة الأنعام : الآية 19 ] هذا بقطع النظر عن حالته الخاصة مع قومه وأهل بلده ونحوهم ممن كانوا لا يشكون في صدقه وأمانته وكمال أوصافه , التي لا(1/53)
يماثله ولا يقاربه فيها أحد , فإنهم لا يستريبون في ذلك قبل أن يقول لهم إني رسول الله , فلما قال ذلك كذبوه بل كذبوا بها جحدا منهم لآيات ربهم واستكبارا عن الانقياد لها , كما قال تعالى : { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } [ سورة الأنعام : الآية 33 ] فأراهم الله خاصة وأرى الخلق عامة من آيات رسوله وبراهين دينه آيات بينات وبراهين قاطعات , اضمحلت معها كل مقاومة قولية أو فعلية من كل معارض ومعاند وجاحد وملحد , وهي باقية قائمة على الدوام , تزول السماوات والأرض والجبال وهي لا تزول , وتتحول كل حال من الأحوال وهي مستمرة لا تتحول ولا تحول .
قال تعالى : { ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا } [ سورة الفرقان : الآية 33 ] وهذا من آيات الله وبراهينه على صدق رسوله وصحة ما جاء به من هذا الدين المحفوظ في معانيه وألفاظه ; فكما أن معاني الكتاب والسنة يستحيل أن يقوم دليل صحيح على كذب شيء من أخبارها , أو فساد ومنافاة للحكمة والعدل والرحمة في أوامرها ونواهيها - كما هو مقرر مبسوط في جميع أصول الدين وفروعه - فكذلك ألفاظ الكتاب والسنة معصومة جامعة بين دلالتها على الحق والوضوح التام , وأنه يتعذر أن يوجد في كلام أصناف الخلق مثلها في الإحكام والإتقان , وصلاحيتها لكل زمان ومكان وحال من الأحوال , ومتى ذكرت وبينت معانيها بيانا شافيا فإنها تجمع كل ما يقوله الناس من المعاني الصحيحة , وفيها زيادات عظيمة لا توجد في كلام الخلق , وهي محفوظة مما دخل في كلامهم من الباطل , وفيها من دلائل الوحدانية والنبوة والمعاد ما لا يوجد في كلام أحد من الناس , ففيها أصول الدين المفيدة لليقين , وهذا أمر يعرفه من تتبع الكتاب والسنة وعرف ما قاله الناس من أصناف الكلام , فإنه يرى من النقص والزيادة والاختلاف والتناقض العجب العجاب .(1/54)
ومن أعظم براهين الدين الإسلامي التي لا يمكن إنكارها ولا المكابرة في ثبوتها أنه حكيم , محكم في أصوله وفروعه , لا فيه نقص ولا فساد ولا تناقض ولا اختلاف , قال تعالى : { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } [ سورة النساء : الآية 82 ] فانظر إلى إخباراته المتنوعة عما لله تعالى من الأسماء الحسنى والصفات العليا والأفعال الحميدة على تنوعها وتصريفها في كل أسلوب ومعنى من المعاني تجدها كلها متوافقة متصادقة دلت كلها على غاية الكمال الذي تقصر الأفكار عن تصور كنهه , والألسن عن التعبير عنه ووصفه , وأنه كما أثنى على نفسه وفوق ما يثني عليه عباده , وكذلك أخباره عن الآخرة وما فيها من الحساب والثواب والعقاب وأصناف النعيم والعذاب , وأخباره عن أنبيائه وقصصهم المختصرة والمبسوطة , كلها متشابهة في الحسن والصدق والاتفاق وعدم التناقض والاختلاف , قال تعالى : { ومن أصدق من الله قيلا } [ سورة النساء : الآية 122 ] وكذلك إذا نظرت إلى الشريعة في أصولها وفروعها , ظاهرها وباطنها , رأيت ما تأمر به كله خير وإصلاح للقلوب والأرواح والأبدان , وكلها خيرات ومنافع ومصالح . وما تنهى عنه فهو بضد ذلك شر وضرر . وإذا تعارضت المصالح والمفاسد قدم الشارع أهمها وأرجحها , وهذا من أعظم الآيات وأكبر البراهين . فتتبع الدين كله مسألة مسألة تجده على هذا الوصف المحكم المتقن الذي قصد به سعادة البشر في معاشهم ومعادهم , وأن يزول عنهم الشقاء والضرر , قال تعالى : { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } [ سورة المائدة : الآية 50 ] وإذا أردت تحقيق هذا الأمر الكلي فانظر كل إصلاح موجود واقع من أحد من البشر , سواء من الموافقين أو من المخالفين : إصلاح في الأخلاق أو الآداب أو العلوم أو العمل أو الدنيا أو غير ذلك مما هو إصلاح . . انظر من أين مصدره , ومن أي طريق وصل إليهم , تجده بلا ريب من هذا(1/55)
الدين الكامل , وإن صبغه الأعداء بغير صبغته , وغيروا وجهته , فليقولوا عن شيء من الإصلاح إنه ليس من دين الإسلام إن كانوا صادقين , كما أنه لا يوجد فساد وضرر وظلم وقبيح وسقوط إلا ودين الإسلام أبعد شيء عنه , وهو يحذر عنه غاية التحذير . وإذا أردت زيادة إيضاح لهذا فاعلم أن دين الإسلام أمر بكل ما فيه ترقية للعقائد والأخلاق والآداب التي تكمل بها القلوب والأرواح وتحصل السعادة الكاملة , ويأمر أيضا بكل ما يرقي الأمم من أصناف العلوم والأعمال النافعة , فما من منفعة وخير ديني ولا دنيوي إلا جاء به وأرشد إليه وحث عليه بكل وسيلة , فمن قام بالأمرين سعد في معاشه ومعاده , وتم له الفلاح والصلاح والكمال المتنوع , وسلم من كل شر وضرر , ونقص عاجل وآجل , ومن فقد الأمرين - الرقي الروحي والدنيوي - حصل له الشقاء التام وخسر الدنيا والآخرة , ومن اعتنى بالرقي الدنيوي المادي وحده ولم يبن رقيه على الحق والدين الصحيح فإن مادته كثيرا ما تكون هي مادة ضرره العاجل , كما يشاهده البشر من أمم الحضارة المادية المحضة كيف وقع بها من الهلاك والفناء والتدمير ما لم يوجد له مثيل ولا نظير , وذلك بأيديها وأعمالها , وهي مجدة كل وقت في الاستعداد لإهلاك بعضهم بعضا واستعباد الأمم الضعيفة , وهم مهددون بالحروب التي تقضي القضاء التام على هذه الحضارة المزعومة المزخرفة المزوقة بالأقوال الكاذبة والأفعال المزورة التي يظهرون أنها صلاح وإصلاح وهي عين الشر والضرر , فلو أنها بنيت على الدين الحق الذي هو دين الإسلام , وصار العدل والحكمة والرحمة روحها , وطلب التقرب إلى الله والقيام بعبوديته التي خلقوا لأجلها , والاستعانة بالنعم الجسيمة على طاعة من أنعم بها , واحترام حقوق البشر , لو أنها كانت كذلك لسعد بها البشر سعادة لا شقاء فيها , ولحصلت لهم الحياة الطيبة واطمأنوا من الأخطار الفادحة , والشرور المدلهمة المتنوعة , والقوارع التي تنتابهم في كل(1/56)
ساعة , وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ! . .
قال تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين } [ سورة الشورى : الآية 13 ] وقال : { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } [ سورة البقرة : الآية 136 ] فمن أعظم الأدلة على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم , وأن دينه هو الحق أنه أمر بالإيمان بجميع الرسل , وبكل ما أوتوه من الله من الكتب والشرائع والحق , مع تضمنه الاستسلام الكامل والإخلاص التام لله , وهو مصدق لجميع الأنبياء , وشريعته وكتابه مهيمن على الكتب والشرائع كلها شاهدا عليها وحاكما مؤتمنا , شهد بمثل ما فيها من الأخبار الصادقة , وقرر ما فيها من أصول الدين وشرائعه الجامعة التي اتفقت عليها الرسل , وهي صالحة لكل زمان ومكان , وجاء بالأصول الكلية التي يهتدي بها جميع طبقات البشر إلى مصالحهم . فهذا القرآن وهذه السنة كفيلان بذلك كفالة تامة . وقد تتبع المحققون المنصفون ذلك فوجدوا جميع أصول الإصلاح التام مذكورة وموضحة في الكتاب والسنة , منها ما هو منصوص عليه بعينه , ومنها ما جعلت له القواعد والأصول التي لا يمكن تحصيل الإصلاح ولا حصوله إلا بها . مثال ذلك على وجه التقريب أنها أصلحت العقائد الإصلاح الأكبر بمعرفة الله معرفة تفصيلية تملأ القلوب تعظيما وإجلالا ومحبة وتألها لله وإيمانا به ويقينا وإخلاصا ; وأصلحت الأخلاق والآداب بأمرها بكل خلق جميل , كالصبر والعفة والحياء والكرم والشجاعة وحسن الخلق , والعفو عن المسيئين والإحسان المتنوع إلى جميع الخلق , وصلة الأرحام والقيام بحقوق الأصحاب والجيران والمعاملين وجميع من بينك وبينه معاملة أو صحبة أو اتصال ; وأصلحت الأحكام الكلية والجزئية بالأمر بالقسط(1/57)
والعدل في حق الكبير والصغير والقوي والضعيف , والنهي عن الظلم من كل وجه , وقمعت المجرمين والمفسدين بالحدود المناسبة للجرائم بحسبها , وكفلت الحياة الزوجية والمنزلية بإيجابها للحقوق المتنوعة التي لا تتم الراحة والحياة الطيبة إلا بها . وأصلحت السياسة وتدبير الأمة بالأمر بالشورى والحث عليها , والأمر برد الأمر الذي تخشى عواقبه إلى أهل الحل والعقد لينظروا فيه ويقرروا ما ثبتت مصلحته , ويدفعوا ما ظهرت مفسدته , وبالأمر بالاستعداد الممكن والتحرز التام من كيد الأعداء والتحصن من أضرارهم , وبقوة الإيمان بالله والتوكل على الله في دفع الأعداء ومقاومة جميع الشرور , مع الصبر والطاعة لأولي الأمر , ونهت عن كل ما ينافي ذلك من التفرق والتعادي والكسل والخور والجبن واختلال النظام الطيب , كما أمرت أن ينتدب لكل أمر مهم من جمع بين الكفاءة والأمانة , وكما أمرت بالمعاهدات السلمية النافعة الدافعة , وأمرت بالوفاء وأداء الأمانة والصدق في كل معاملة عامة أو خاصة , وبمكافأة المحسنين من كل أحد على قدر إحسانهم قولا وفعلا , وأمرت بالتوسط في الأمور كلها , ونهت عما يضاد ذلك من غلو وتقصير ومن إسراف أو تقتير , وأباحت كل طيب من مآكل ومشارب وملابس ومناكح وغيرها , وحرمت كل خبيث منها . ومما يبين هذا أن دين الإسلام كلما نظر فيه الناظر وناظر عنه المناظر ظهرت براهينه وقوي يقينه وازداد نوره وقوي به إيمان المؤمنين ; وإذا قابله ما يضاده من كل باطل ظهر فساده وقبحه وبناؤه على ظنون وشبهات لا تسمن ولا تغني من جوع , وظهر الكذب في أخباره والباطل في أحكامه , فإن الحق والباطل ضدان ونقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان . قال تعالى : { فماذا بعد الحق إلا الضلال } [ سورة يونس : الآية 32 ] { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه } [ سورة الأنبياء : الآية 18 ] وهذا النوع الذي هو الاستدلال بنفس ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وأنه آيات وبراهين على(1/58)
رسالته وصحة ما جاء به أبلغ بكثير من دلالة المعجزات الظاهرة المتنوعة , فإن هذا برهان عظيم يخضع له جميع العقلاء , ولهذا كان في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى هذا الدين بيان ما يدعو إليه وما يأمر به وينهى عنه , كما استدل الصحابة رضي الله عنهم بذلك عند ملك الحبشة لما دعاهم وسألهم عما يدعو إليه محمد صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنه كان ينهى عن عبادة الأوثان , وعن الفواحش والظلم وقطيعة الأرحام , وأنه يأمر بعبادة الله وحده وبصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء , وبالزكاة والصلاة والصيام فصدقهم بذلك واعترف برسالته وآمن به . وكذلك هرقل ملك الروم الذي هو من أعلم النصارى في وقته لما جاءه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام سأل أبا سفيان بن حرب ومعه قومه عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بها فأقر واعترف أنها صفات الأنبياء , وأن من هذا وصفه فلا بد أن يظهر دينه , فقال هرقل لأبي سفيان في جوابه عن أسئلته : سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب , وكذلك الرسل تبعث في أنساب قومها ; وسألتك : هل قال أحد قبله هذا القول ؟ فذكرت : أن لا . فقلت : لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت هذا رجل يتأسى بقول قيل قبله . . إلى أن قال : وسألتك : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فذكرت : أن لا ; فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله , وسألتك : أشراف الناس اتبعوه أو ضعفاؤهم ؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل , أي في أول دعوتهم لمخالفتهم لأغراضهم , ولا ينافي بعد ما يقوم دين الرسل اتباع الأشراف له كما هو الواقع ; وسألتك : هل يزيدون أم ينقصون ؟ فذكرت : أنهم يزيدون , وكذلك أمر الإيمان حتى يتم ; وسألتك : أرتد أحد سخطة عن دينه بعد أن يدخل فيه ؟ فذكرت : أن لا ؟ وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب . فذكر من علامات النبوة(1/59)
زيادة الإيمان وزيادة الداخلين فيه ومحبة أهله له وإيثارهم إياه على كل ما سواه إذا ذاقوا حلاوته وخالط نوره قلوبهم . وسألتك : هل يغدر ؟ فذكرت : أن لا ; وكذلك الرسل لا تغدر , وسألتك : بم يأمركم ؟ فذكرت : أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا , وينهاكم عن عبادة الأوثان , ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف , فعرف بهذه الخصال أنه رسول الله , فإنها من أبلغ الأدلة وأجلى البراهين على ذلك , وكذلك ملك مصر وغيره من الملوك الذين عرفوا صحة نبوته وكمال دينه بكمال ما يدعو إليه من كل خلق حميد وفعل سديد وعمل رشيد , ونهيه عما يضاد ذلك أو يكون فيه ضرر على العبيد .(1/60)
قال تعالى : { بل جاء بالحق وصدق المرسلين } [ سورة الصافات : الآية 37 ] وأخبر في عدة آيات عن هذا المعنى , وهذا من أكبر براهين رسالته صلى الله عليه وسلم , فإن جميع النبوات لا يمكن إثباتها بطريق من الطرق العلمية إلا بعد إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم , فمن زعم أنه مصدق ومتبع لأحد من الأنبياء , كموسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء الكرام , مع تكذيبه لمحمد صلى الله عليه وسلم فإنه يقال له : بأي طريق وأي برهان أثبت به نبوة هذا الذي آمنت به ؟ فإنه لا يذكر طريقا ودليلا على ما يقول إلا ومثله وأعظم منه يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ; فإن طرد دليله لزمه حتما أن يعترف بمحمد صلى الله عليه وسلم , وإن قال : اثبت بهذا الدليل نبوة الرسول الذي آمنت به دون إثباتي به نبوة محمد , ظهر عناده ومكابرته واتباعه هواه , وأن تكذيبه لمحمد صلى الله عليه وسلم في الحقيقة تكذيب للرسول الذي يزعم أنه مؤمن به , فإذا قال : علمت نبوة موسى والمسيح بالمعجزات وعرفت المعجزات بالنقل المتواتر إلينا , قيل لهم : معجزات محمد صلى الله عليه وسلم أعظم وتواترها أكثر والكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أكمل وأمته أفضل وشرائع دينه أحسن , وموسى شريعته مبنية على العدل وعيسى جاء بتكميلها بالفضل , ومحمد , صلى الله عليه وعليهم , قد جمع في شريعته بين العدل والفضل , فكل برهان أيد به رسالة النبيين الكريمين فبراهين رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أكمل وأقوى وأجلى , وكل شبهة وجهها أهل الكتاب على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم يلزمهم ما هو أبلغ منها في توجيهها إلى رسالة النبيين الكريمين , فمن لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم لم يصح له إيمان بأحد من الرسل لا نقلا ولا عقلا , فرسالته صلى الله عليه وسلم أيدت رسالة المرسلين وصدقتها وثبتتها , فإثبات الفرع بدون أصل محال وممتنع .(1/61)
ومن براهين الأديان ومحاسنها عموما وبراهين الإسلام ومحاسنه خصوصا أنها أخبرت عن أمور الغيب أخبارا مفصلة عظيمة ينتفع بها الخلق في عقائدهم وإيمانهم ويقينهم وفي إصلاح أخلاقهم , أخبارا تفيد القطع واليقين كالأخبار عن الله ونعوته وأفعاله , وعن الملائكة والجن وعن اليوم الآخر والجنة والنار , وفرضت على الخلق اليقين التام بكل ما أخبر الله به وما أخبرت به رسله , وأن يقفوا عند ذلك ولا يتجاوزوه , وبين لهم أنه لا طريق لهم إلى معرفة كنه ذلك وحقيقته , ونهى عن التكلف بطلب معرفة كنه ذلك , وأنه لا سبيل للبشر إليه في هذه الدار التي هي دار الابتلاء والامتحان ودار العمل , فإن مقصود الإيمان بالله وبكتبه ورسله لا يتم إلا بالإيمان بالغيب , وتسليم أمور الغيب وتفاصيلها إلى ما ذكره الله في كتابه وأخبر به رسوله , فإن الكتاب والسنة يحويان من أمور الغيب ما لا يوجد ما يقاربه في جميع العلوم المأثورة عن الأنبياء , وبالوقوف على ذلك وعدم تعديه يحصل المقصود من التكليف والامتحان بالشرائع , ولو صار الغيب مشاهدا ومعروفا للناس في هذه الدار زال هذا المقصود الأعظم ولم يحصل الإيمان الاختياري المثمر للسعادة الأبدية , ومهما ارتقت معارف البشر في علوم الكون فلن يصلوا إلى معرفة حقيقة هذا الغيب , قال تعالى : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول } [ سورة الجن : الآيتان 26 , 27 ] وبهذا يعرف أن أمور الغيب خارجة عن طور المحسوسات , وأنه لا سبيل للعقول إلى التوصل لإدراكها , وأنه يجب التسليم التام فيها إلى الشارع بلا قيد ولا شرط . وبهذا نعرف أن من شرط في الإيمان بهذا النوع أنه لا بد أن يدخل في علوم البشر وفنون المعارف الكونية والمادية فهو في الحقيقة لم يؤمن بالأنبياء وبما أوتوه من الله , ونعرف بذلك غلط المجارين للماديين من العلماء العصريين واعتذارهم بأن قصدهم التقريب للأمور الغيبية من الأمور المادية المدركة(1/62)
بالحواس اعتذار فيه خطل وغلط كبير , فإن الماديين الذين لا يؤمنون بغير المادة والطبيعة هم منكرون للرب ولرسله ولليوم الآخر , فالواجب التكلم مع أمثال هؤلاء في براهين التوحيد والرسالة والمعاد , وبراهين وجوب تصديق الأنبياء في كل ما أخبروا به , وفيه من الأضرار أنه يضر المسلمين ولا ينفع في مجادلة المعطلين , أما ضرره في حق المؤمنين فإنه يضعف الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله إضعافا ظاهرا , فإن من لا يقنع بخبر الله وخبر رسله في أمور الغيب حتى يقوم عنده وبزعمه دليل عقلي على ذلك فهذا فتح لباب الاستغناء عن الرسل ومشابهة لمن قال الله فيهم : { لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله } [ سورة الأنعام : الآية 124 ] { فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم } [ سورة غافر : الآية 83 ] فكل من لم يؤمن بالرسول إيمانا تاما - سواء قام عنده دليل عقلي أو حسي على ما قاله الرسول أو لم يقم - فليس بمؤمن إيمانا صحيحا . وأما المنكرون المعطلون فالدخول معهم في هذه المباحث والانهماك في تمثيل أمور الغيب بأمور المادة معهم إغراء لهم على لزوم ما هم عليه من الإنكار , لأن هذا الذي يزعم أنه ينصر الدين نهاية ما يصل إليه أن يجعله تابعا لعلومهم , وقد خالف إجماع المسلمين والسلف الماضين فإنهم أجمعوا على أن أمور الغيب يجب على الخلق فيها أن ينتهوا فيها إلى ما عرفهم الله منها وما عرفهم رسوله , وأن يكونوا بذلك موقنين , وأن لا يتكلفوا معرفة الوقوف على الكنه والكيفية والتفاصيل الخارجة عن خبر الله وخبر رسوله , وإنما الواجب أن يجعل الكتاب والسنة أصلا والعلوم العقلية والطبيعية والكونية تابعة , وبذلك يحصل الإيمان الصحيح ويعلم أن جميع العلوم تابعة له وأنه لا يرد شيء من العلوم الصحيحة مناقضا للكتاب والسنة , بل جميع الحقائق الصحيحة والعلوم الناضجة والمعارف التي اتفقت عقول العقلاء عليها كلها تابعة وخاضعة لعلوم الدين , وقد(1/63)
تتبع المحققون ذلك مسألة مسألة فوجدوها كلها كذلك , والله أعلم .
ومن غرائب الجهل الفاضح حصر كثير من الماديين السنن الإلهية التي يسمونها سنن الطبيعة في نوع مادي محض , يدخل تحت علومهم وإدراكاتهم التي هي في غاية القصور , وأنها كلها مندرجة تحت التفاعل بين المواد والجواهر الكيماوية والتجارب المكررة , وبهذا الطريق الجهلي لا العلمي نفوا أمور الغيب , ونفوا معجزات الأنبياء , ونفوا تغيير الباري للأسباب عن نظامها الذي يعرفون , وهذا من أعظم مضار الجهل وقبائحه ; وقد دلت البراهين اليقينية والكتب السماوية كلها , بل والمحسوسات والمشاهدات التي لا يمكن إنكارها , على أن لله سننا متنوعة , وأن عناصر العلم العلوي والسفلي منقادة لإرادة الله وحكمته وعلمه المحيط , وأنه يجري المقادير والحوادث على سنن حكيمة متنوعة , فقد تعقل أسبابها , وقد لا يعقل من العباد أسبابها إلا من ارتضاهم الله لرسالته واختصهم بوحيه , فيطلعهم على ما شاء منها , كما أشهد عباده ما فعله بأنبيائه وأتباعهم من أصناف الإكرام والنجاة الدنيوية , وكما فعل بأعدائه من العقوبات المتنوعة . وجميع معجزات الأنبياء وبراهين رسالاتهم من سنن إلهية ونوع غير النوع الذي تجري عليه الأمور العادية وآثار الأعمال , وكما جعل الأدعية من أكبر الأسباب لحصول المطالب ودفع المكاره وجعل النار بردا وسلاما على إبراهيم , وفلق البحر لموسى وقومه , فأخذوا منه طريقا للنجاة وسلكه فرعون وجنوده فأدى بهم إلى الهلاك , وكما جعل على يد عيسى إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى , وشق القمر آية لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم , وكلمته الجمادات , وحصل على يديه من المعجزات المتنوعة أمور كثيرة لا يمكن إحصاؤها ليعرف العباد أنه على كل شيء قدير , وأنه حكيم عليم , وأنه إذا أراد شيئا قال له : كن فيكون .(1/64)
قال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } [ سورة الأنبياء : الآية 25 ] وقال تعالى : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر } [ سورة النحل : الآيتان 43 , 44 ] وغيرها من الآيات الدالة على أن ما أتى به محمد صلى الله عليه وسلم من أصول الدين والشرائع العامة هو ما جاءت به الرسل , وأنه متقرر ذلك عند كل عارف منصف من أهل الكتاب , وهذا من البراهين على أنه رسول الله حقا , فالكتب السابقة والرسل متفقة على الأمر بعبادة الله وحده والنهي عن الشرك به , وعلى أن الدين عند الله الإسلام المحتوي على الأمر بإخلاص الدين لله , والصدق والعدل , وبر الوالدين وصلة الأرحام , والنهي عن الظلم والفواحش والمحرمات القولية والفعلية , ومتفقة أيضا على أن جميع الرسل بشر لا ملائكة , وأن ما جرى لهم مع أممهم من التكذيب وإنكار دعوتهم وتنويع الأقوال فيهم وكانت لهم العاقبة في الدنيا والآخرة جرى أعظم منها لسيدهم وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم , ومتفقة على أن محمدا موصوف بما وصف به الأنبياء من جميع الكمالات اللائقة بالرسل , وله منها أكملها وأتمها , وقد تواترت البشارات والشهادات بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم , وقد ذكرها أهل العلم بألفاظها ومعانيها من الكتب السابقة وشهادة المنصفين من علمائهم الراسخين حتى من لم يسلم منهم ذكر أهل العلم من شهاداتهم واعترافهم بالنقول الثابتة شيئا كثيرا لا يمكن حصره , والله أعلم .(1/65)
قال تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } [ سورة آل عمران : الآية 110 ] من براهين رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأن دينه هو الحق النعوت والأوصاف التي من الله بها على أمته واختصهم بخصائص , وفضلهم بفضائل لم تكن لغيرهم , فإن من وقف على أحوال الأمم تماما عرف يقينا أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم الأمم عقولا وأفهاما , وأتمهم معرفة وبيانا , وأحسن قصدا وديانة وإخلاصا لله وتحريا للصدق والعدل , وأنه لم يحصل في النوع الإنساني أمة أكمل منهم , ولا ناموس من الناموس الذي جاء به نبيهم , وقد جمع الله لهم طرق المعارف الإنسانية كلها , فإن العلوم والمعارف تنال بالوحي والوحي الذي جاء به نبيهم أكمل شريعة طرقت العالم , والعلوم النبوية لم تدع أصلا ولا فرعا إلا فيها بيانه , ولا أبقت شيئا يحتاجه العباد إلا وضحته ; وتنال المعارف والعلوم أيضا بالحس والعقل والفطرة ولهذه الأمة منها أكملها وأصحها , وعلومهم كلها تحتوي على توضيح جميع الحقائق النافعة , وتشتمل على هداية الخلائق لما يحتاجونه . هذا مع ما لهم من الأخلاق والآداب العالية والمناقب الكاملة والتفوق في كل خصلة حميدة ; وهم إنما نالوا ذلك كله , وحصل لهم من جهة رسولهم ودينهم , فالرسول والدين الذي هذه آثاره في أمة محمد صلى الله عليه وسلم في علومهم وأعمالهم وأخلاقهم وجميع أوصافهم هو رسول الله حقا , ودينه الحق صدقا , فالآثار تدل على المؤثر . ولما كانوا في القرون الفاضلة وصدر الإسلام على هذا الوصف ترتب على الكمال الروحي والرقي في الدين والأخلاق الرقي الدنيوي , إذ خضعت لهم الأمم وأخضعوهم بالعدل لا بالظلم , وبالرحمة والحكمة لا بالقسوة والطمع والجشع واختلال النظام , فلما تناقصت الأمور وضعف تمسكهم الحقيقي بالدين تبع ذلك التدهور وتسلط الأمم الأجنبية , وهذا أيضا من الآيات , وهو أن الرقي المطلق في كل شيء روحي ومعنوي , وما يتبعه من القوة , تبع لاتباع ما جاء به(1/66)
دين الإسلام من العلوم والهدى والرشاد والإصلاح في كل شيء , والعكس بالعكس .
قال الله تعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } [ سورة الحجر : الآية 9 ] وهذا شامل لتكفله تعالى بحفظ ألفاظ القرآن ومعانيه ; وهذا من أعظم براهين الدين الإسلامي , فإن هذا الحفظ الذي تكفل الله به قد تقرر عند الخلق لهذا الكتاب العظيم ولمعانيه ولأحكامه الكلية , فالقرآن نقله المسلمون , نقلوا ألفاظه ومعانيه نقلا متواترا , قرنا بعد قرن , يحفظه المسلمون حفظا يستغنون به عن المصاحف , كما ثبت في صحيح مسلم مرفوعا ( إن ربي قال لي إني منزل عليك كتابا لا يغسله الماء , تقرأه نائما ويقطانا ) يقول ولو غسل بالماء من المصاحف لم يغسل من القلوب كالكتب المتقدمة , فإنها لو عدمت نسخها لم يوجد من ينقلها نقلا متواترا , ولم تكن محفوظة في الصدور والقرآن كان محفوظا في الصدور نقلا متواترا حتى لو أراد مريد أن يغير شيئا من المصاحف وعرض ذلك على صبيان المسلمين لعرفوا أنه قد غير المصحف , لحفظهم للقرآن من غير أن يقابلوه بمصحف وأنكروا ذلك . ومن خصائص المسلمين أن لهم الأسانيد المتصلة بنقل العدول الثقات لدقيق الدين وجليله , وكليات دينهم وضرورياته من الواجبات والفرائض والمحرمات , قد نقلت بالتواتر واشترك في علمها العالم والجاهل والصغير والكبير . وأمة محمد صلى الله عليه وسلم إجماعهم حجة قاطعة , فلا تجتمع ولله الحمد إلا على الحق في باب الأخبار وفي باب الأحكام , وفيهم أئمة الهدى ومصابيح الدجى العلماء الربانيون الذين تضمحل علوم غيرهم إذا نسبت لعلمهم , قد جمع الله لهم أصناف المعارف وفنون الكرامات وزكاهم بالأخلاق الفاضلة وأنواع الكمالات .(1/67)
قال الله تعالى : { الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل } [ سورة الزمر : الآية 62 ] { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } [ سورة الطور : الآية 35 ] { وكل شيء عنده بمقدار } [ سورة الرعد : الآية 8 ] { وكل شيء أحصيناه في إمام مبين } [ سورة يس : الآية 12 ] قالت الملائكة والرسل أفضل الخلق وأعلمهم : { سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا } [ سورة البقرة : الآية 32 ] من كمال هذا الدين وعظمته وإحاطته , وأن القرآن ما فرط الله فيه من شيء , وأنه تبيان لكل شيء - قد تقدم في الفصول السابقة ما يشتمل عليه من علوم التوحيد والعقائد الصحيحة والأخلاق والآداب الكاملة والكمال المطلق الذي لا يقال فيه " لولا " و " لوما " وأنه المسيطر على الحق والصدق , بحيث لا يعارضه معارض إلا اضمحلت معارضته , ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه , تنزيل من حكيم حميد , وأن العلوم العقلية والنقلية والحسية الصحيحة محال وممتنع أن ترد بما يخالف هذا الدين بوجه من الوجوه . وفي هذه الأوقات توسعت المخترعات وتوسعت علوم الطبيعة والرياضيات , وشاعت بين أهل الفلسفة كثير من النظريات التي تشبه الفوضى , وكثر تعظيم الملحدين وتقليدهم في منتهى نظرياتهم التي بنوها على ظنون وتخرصات وقياسات وتجارب يكثر خطأها , وهم في تلك النظريات مضطربون حائرون بل هم فيها متناقضون ; ومن وقف على نظرياتهم الخاطئة أخذه العجب من كثرة اضطرابها وتناقضها ; ويرى فريق منهم رأيا ثم يأتي فريق وينقضه ويثبت له نظرية غيرها , ثم يأتي غيره ويبطل نظريته وحدسه . ومن العجب أنه لم يتفق منهم أحد على نظرية واحدة , تخالف ما دل عليه الكتاب والسنة . وغاية ما يصل إليه الملحدون المنكرون المعطلون وصولهم إلى علل بعض الموجودات , أو ما يسمونه أسبابا أو مواد أو أصولا , فمتى وصلوا إليها بعد الكد والتعب وإتعاب الأفكار ظنوا أنهم وصلوا إلى جميع علل الموجودات , وأنه ما بعد ذلك شيء ,(1/68)
فأنكروا الخالق واستولت عليهم الطبيعة . وعند التحقيق تجد هؤلاء القوم وإن مهروا في علوم الطبيعة وحذقوا في الرياضيات فمنتهى ما وصلوا إليه من العلم الصحيح في هذه الأشياء هو من جملة مخلوقات الله الذي خلق جميع العالم العلوي والسفلي بنظام وحكم تقصر عقول الخلائق عن الإحاطة بحكمة الله فيها . وكلما أمعن الفكر الصحيح في حكمه وحسن نظامه رأى من كمال النظام واقتران الأسباب بمسبباتها والعلل بمعلولاتها ما يدله على الخضوع لله والانكسار لعظمته ; ولكن هؤلاء ما زادهم هذا النظر إلا عتوا ونفورا , والسبب الذي أداهم إلى هذا معروف , وهو استكبارهم عن الحق واحتقارهم للخلق , وأنهم لما جاءتهم رسلهم بالبينات في المسائل والدلائل والبراهين اليقينية فرحوا بما عندهم من العلوم الطبيعية التي لا ترقي القلوب والأرواح , ولا تزكي الأخلاق , فقصور هؤلاء واقتصار علومهم وانتهاؤها إلى ما ذكرنا من بعض علوم الطبيعة وعجبهم بأنفسهم هو الذي صيرهم إلى هذا الإلحاد . هذا في علومهم الصحيحة , وأما النظريات المخالفة للكتاب والسنة فلم يتفقوا ولله الحمد على نظرية واحدة منها بل تجدهم فيها متناقضين يرد بعضهم على بعض , وهذا شأن الباطل : { بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج } [ سورة ق : الآية 5 ] وأما جميع الحقائق التي دل عليها دين الإسلام فهي كلها حق وصدق , ثابتة لا تغيرها الأوقات ولا تقدح فيها الشبه , بل كلما عورضت ظهر من حقها ونورها وبرهانها أمر عظيم يبين أنها من عند من هو بكل شيء محيط , ويبين أن جميع الحقائق الثابتة الصحيحة مندرجة في ضمن الدين الإسلامي .(1/69)
ومن براهين شريعة دين الإسلام أنها الشريعة التي جاءت بالعدل والقسط بين الناس في جميع الحقوق والمعاملات المتنوعة , وندبت وحثت على الإحسان والفضل , كما قال تعالى : { وأقسطوا إن الله يحب المقسطين } [ سورة الحجرات : الآية 9 ] وقال : { والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور } [ سورة الشورى : الآيات 39 - 43 ] فهذا أحسن شرع وأجمله , يرغب في الصبر والعفو والإصلاح بغاية الترغيب , ويذكر ما فيه من الفضائل والمحاسن وحميد العاقبة , ويرفع عن المنتصف ممن ظلمه الملام , ويبين أنه لا حرج عليه ولا سبيل إذا انتصر بعد ما ظلم , ويذكر الحق الواجب اللازم ثم يقول : { ولا تنسوا الفضل بينكم } [ سورة البقرة : الآية 237 ] فيذكر العباد أن يجعلوا للفضل والإحسان في معاملاتهم موضعا ومحلا لينالوا بذلك حسن الجزاء , ويتصفوا بأكمل الأخلاق , ويتوددوا إلى من بينهم وبينهم علقة حق من أي وجه كان , ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون .(1/70)
قال شيخ الإسلام والمسلمين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية : وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم من آياته , وأخلاقه وأقواله وأفعاله وشريعته من آياته , وأمته من آياته , وعلم أمته ودينهم من آياته , وكرامات صالحي أمته من آياته . وذلك يظهر بتدبر سيرته من حين ولد إلى أن بعث , ومن حين بعث إلى أن مات , وتدبر نسبه وبلده وأصله وفصله , فإنه كان من أشرف أهل الأرض نسبا , من صميم سلالة إبراهيم الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب , فلم يأت نبي من بعد إبراهيم إلا من ذريته , وجعل له ابنين إسماعيل وإسحاق , وذكر في التوراة هذا , وهذا وبشر في التوراة بما يكون من ولد إسماعيل , ولم يكن في ولد إسماعيل من ظهر فيما بشرت به النبوات غيره , ودعا إبراهيم لذرية إسماعيل أن يبعث فيهم رسولا منهم ثم من قريش صفوة بني إبراهيم , ثم من بني هاشم صفوة قريش , ومن مكة أم القرى , وبلده البيت الذي بناه إبراهيم , ودعا الناس إلى حجه , ولم يزل محجوجا من عهد إبراهيم , مذكورا في كتب الأنبياء بأحسن وصف . وكان من أكمل الناس تربية ونشأة , لم يزل معروفا بالصدق والبر والعدل ومكارم الأخلاق وترك الفواحش والظلم وكل وصف مذموم , مشهودا له بذلك عند جميع من يعرفه قبل النبوة ممن آمن وكفر , لا يعرف له شيء يعاب به لا في أقواله ولا في أفعاله ولا في أخلاقه , ولا جربت له كذبة قط , ولا ظلم لأحد ولا فاحشة , وكان خلقه وصورته من أحسن الصور وأتمها وأجمعها للمحاسن الدالة على كماله . وكان أميا من قوم أميين , لا يعرف لا هو ولا هم ما يعرفه أهل الكتاب التوراة والإنجيل , ولم يعرف شيئا من علوم الناس , ولا جالس أهلها ولم يدع نبوة إلى أن أكمل الله له أربعين سنة فأتى بأمر هو أعجب الأمور وأعظمها , وبكلام لم يسمع الأولون والآخرون بنظيره , وأخبر بأمور لم يكن في بلده وقومه من يعرف مثلها ولم يعرف قبله ولا بعده في مصر من الأمصار ولا في عصر من الأعصار من أتى بمثل ما(1/71)
أتى به , ولا من دعا إلى شريعة أكمل من شريعته , ولا من ظهر دينه على الأديان بالعلم والحجة وباليد والقوة كظهوره . ثم إنه اتبعه أتباع الأنبياء وهم ضعفاء الناس , وكذبه أهل الرياسة وعادوه وسعوا في هلاكه وهلاك من اتبعه بكل طريق , كما كان الكفار يفعلون بالأنبياء وأتباعهم , والذين اتبعوه لم يتبعوه لرغبة ولا لرهبة فإنه لم يكن عنده مال يعطيهم ولا جهات يوليهم إياها , ولا كان له سيف بل كان السيف والجاه والمال مع أعدائه , وقد آذوا أتباعه بأنواع الأذى وهم صابرون محتسبون , لا يرتدون عن دينهم لما خالط قلوبهم من حلاوة الإيمان والمعرفة . وكانت مكة يحجها العرب من عهد إبراهيم فتجتمع في الموسم قبائل العرب , فيخرج إليهم يبلغهم الرسالة , ويدعوهم إلى الله صابرا على ما يلقاه من تكذيب المكذب وجفاء الجافي وإعراض المعرض , إلى أن اجتمع بأهل يثرب , وكانوا جيران اليهود قد سمعوا أخباره منهم وعرفوه , فلما دعاهم علموا أنه النبي المنتظر الذي تخبرهم به اليهود , وكانوا قد سمعوا من أخباره ما عرفوا به مكانته , فإن أمره كان قد انتشر وظهر في بضع عشرة سنة فآمنوا به وتابعوه على هجرته وهجرة أصحابه إلى بلدهم وعلى الجهاد معه , فهاجر هو ومن اتبعه إلى المدينة وبها المهاجرون والأنصار ليس فيهم من آمن برغبة دنيوية ولا برهبة إلا قليلا من الأنصار أسلموا في الظاهر ثم حسن إسلام بعضهم . ثم أذن له في الجهاد , ثم أمر به , ولم يزل قائما بأمر الله على أحسن طريقة وأكملها وأتمها من الصدق والعدل والوفاء , لا يحفظ له كذبة واحدة ولا ظلم لأحد ولا غدر بأحد , بل كان أصدق الناس وأعدلهم وأوفاهم بالعهد مع اختلاف الأحوال عليه من حرب وسلم وأمن وخوف وغنى وفقر وقلة وكثرة وظهوره على العدو تارة وظهور العدو عليه تارة , وهو على ذلك كله ملازم لأكمل الطرق وأتمها , حتى ظهر الدعوة في جميع أرض العرب التي كانت مملوءة من عبادة الأوثان ومن أخبار الكهان وطاعة(1/72)
المخلوق في الكفر بالخالق وسفك الدماء المحرمة وقطيعة الأرحام , لا يعرفون آخرة ولا معادا , فصاروا أعلم أهل الأرض وأدينهم وأعدلهم وأفضلهم , حتى أن النصارى لما رأوهم حين قدموا الشام قالوا ما كان الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء , وهذه آثار علمهم وعملهم في الأرض وآثار غيرهم , يعرف العقلاء فرق ما بين الأمرين , وهو صلى الله عليه وسلم مع ظهور أمره وطاعة الخلق له وتقديمهم له على الأنفس والأموال مات ولم يخلف درهما ولا دينارا , ولا شاة ولا بعيرا ولا متاعا , إلا بغلته وسلاحه ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وسقا من شعير ابتاعها لأهله , وكان بيده عقار ينفق منه على أهله والباقي يصرفه في مصالح المسلمين فحكم بأنه لا يورث ولا يأخذ ورثته شيئا من ذلك . وهو في كل وقت يظهر على يديه من عجائب الآيات وفنون الكرامات ما يطول وصفه , ويخبرهم بخبر ما كان وما يكون , ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر , ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث , ويشرع الشريعة شيئا بعد شيء حتى أكمل الله دينه الذي بعث به وجاءت شريعته أكمل شريعة لم يبق معروف تعرف العقول أنه معروف إلا أمر به , ولا منكر تعرف العقول أنه منكر إلا نهى عنه , لم يأمر بشيء فقيل ليته لم يأمر به , ولا نهى عن شيء فقيل ليته لم ينه عنه , وأحل الطيبات لم يحرم شيئا منها كما حرم في شرع غيره , وحرم الخبائث لم يحل منها شيئا كما استحله غيره . وجمع محاسن ما عليه الأمم , فلا يذكر في التوراة والإنجيل والزبور نوع من الخبر عن الله وملائكته وعن اليوم الآخر إلا وقد جاء به على أكمل وجه , وأخبر بأشياء ليست في هذه الكتب , فليس في تلك الكتب إيجاب لعدل , وقضاء بفصل , وندب إلى الفضائل , وترغيب في الحسنات , إلا وقد جاء به وبما هو أحسن منه . وإذا نظر اللبيب في العبادات التي شرعها وعبادات غيره من الأمم ظهر فضلها ورجحانها , وكذلك في الحدود والأحكام وسائر الشرائع . وأمته أكمل(1/73)
الأمم في كل فضيلة , فإذا قيس علمهم بعلم سائر الأمم ظهر فضل علمهم , وإن قيس دينهم وعبادتهم وطاعتهم لله بغيرهم ظهر أنهم أدين من غيرهم , وإن قيس شجاعتهم وقتالهم في سبيل الله وصبرهم على المكاره في ذات الله ظهر أنهم أعظم جهادا وأشجع قلوبا , وإذا قيس سخاؤهم وبذلهم وسماحة أنفسهم بغيرهم تبين أنهم أسخى وأكرم من غيرهم , وهذه الفضائل به نالوها ومنه تعلموها , وهو الذي أمرهم بها , لم يكونوا قبله متبعين لكتاب جاء هو بتكميله , كما جاء المسيح بتكميل شريعة التوراة , فكانت فضائل أتباع المسيح وعلومهم بعضها من التوراة وبعضها من الزبور وبعضها من النبوات وبعضها من المسيح وبعضها ممن بعده كالحواريين ومن بعد الحواريين , وقد استعانوا بكلام الفلاسفة وغيرهم حتى أدخلوا لما غيروا دين المسيح في دين المسيح أمورا من أمور الكفار المناقضة لدين المسيح . وأما أمة محمد صلى الله عليه وسلم , فلم يكونوا قبله يقرءون كتابا , بل عامتهم ما آمنوا بموسى وعيسى وداود والتوراة والإنجيل والزبور إلا من جهته , فهو الذي أمرهم أن يومنوا بجميع الأنبياء ويقروا بجميع الكتب المنزلة من عند الله فقال : { قولوا آمنا بالله } [ سورة البقرة : الآية 136 ] و { آمن الرسول } [ سورة البقرة : الآية 285 ] إلى آخرها . وأمته لا يستحلون أن يأخذوا شيئا من الدين من غير ما جاء به , ولا يبتدعون بدعة ما أنزل الله بها من سلطان , ولا يشرعون من الدين ما لم يأذن به الله , لكن ما قصه الله عليهم من أخبار الأنبياء وأممهم اعتبروا به , وما حدثهم به أهل الكتاب موافقا لما عندهم صدقوه , وما لم يعلموا صدقه ولا كذبه أمسكوا عنه , وما عرفوا أنه باطل كذبوه , ومن أدخل في الدين ما ليس منه من أقوال متفلسفة الهند والفرس أو اليونان أو غيرهم كان عندهم من أهل الإلحاد والابتداع . وهذا هو الدين الذي كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون , وهو الذي عليه أئمة(1/74)
المسلمين الذين لهم في الأمة لسان صدق , وعليه جماعة المسلمين وعامتهم , ومن خرج عن ذلك كان مذموما مدحورا عند الجماعة , وهو مذهب أهل السنة والجماعة . إلى أن قال : ولما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق تلقى ذلك عنه المسلمون أمته , فكل علم نافع وعمل صالح عليه أمته أخذوه عن نبيهم مع ما يظهر لكل عاقل أن أمته أكمل الأمم في جميع الفضائل العلمية والعملية , ومعلوم أن كل كمال في الفرع فهو من الأصل المعلم , وهذا يقتضي أنه كان أكمل الناس علما ودينا , وهذه الأمور توجب العلم الضروري بأنه كان صادقا في قوله إني رسول الله إليكم جميعا . انتهى ما أردنا نقله من كلام شيخ الإسلام , فإنه نفيس جدا .(1/75)
لما ذكر الأحاديث الكثيرة في آيات النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته وبراهين رسالته , وما أخبر به من الغيوب الماضية والمستقبلة , وما حصل بسببه من أصناف القدرة وأنواع الأفعال وإجابة الدعوات وغيرها قال : وعامة ما ذكرناه من آيات النبي صلى الله عليه وسلم التي في الصحاح هي من موارد إجماعهم المستفيضة عندهم التي يجزمون بصدقها , ليست من موارد نزاعهم , فهذا طريق يسلكه من عرفه من العلماء , ويعلم خيرة أهله من كان خبيرا بهم . فهذه طريقان في تصديق هذه الآثار : التواتر العام والتواتر الخاص . الطريق الثالث : التواتر المعنوي , وهذا مما اتفق على معرفته عامة الطوائف , فإن الناس قد يسمعون أخبارا متفرقة يشترك مجموعها في أمر واحد . ثم مثل بالأخبار عن مشاهير الرجال المتقدمين والمتأخرين ثم قال : فهذه الأحاديث وأضعاف أضعافها هي أضعاف أضعاف ما ينقل عن الواحد من هؤلاء المشاهير , ونقلتها أجل وأكثر وأفضل من نقلة هؤلاء , وهي كلها تتضمن أن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم كان يجري على يديه من الآيات الخارقة للعادة والعجائب العظيمة ما لا يعرف نظيره عن أحد من الناس , وعلم المسلمين بهذا أعظم من علم أهل الكتاب بما ينقلونه عن آيات موسى وعيسى وغيرهما , فإن نقلة آيات محمد صلى الله عليه وسلم غير القرآن أضعاف أضعاف نقلة التوراة والإنجيل فضلا عن غيرهما من أخبار الأنبياء . ثم ذكر الطريق الرابع , وأن كثيرا من هذه الآيات تكون بمحضر الخلق الكثير , كتكثير الطعام يوم الخندق , ونبع الماء من بين أصابعه يوم الحديبية , وتكثير الماء والطعام في غزوة خيبر وفي تبوك , وكانوا ألوفا مؤلفة , وكانوا يتناقلونها متفقين عليها مصدقين لها من غير إنكار أحد منهم لذلك , فعلم قطعا أن القوم كانوا متفقين على نقل ذلك كما هم متفقون على نقل القرآن والشريعة المتواترة . ثم ذكر الطريق الخامس , وهو أن مصنفات أهل العلم من أهل التفسير والحديث والفقه(1/76)
والسير والتواريخ مشحون كل منها بذكر الآيات متواتر فيها , ونقل كل طائفة من هذه الطوائف يفيد العلم اليقيني , فكيف بما ينقله كل طائفة من هذه الطوائف . . وهذه الطريق وغيرها يستدل بها تارة على تواتر الجنس العام للآيات الخارقة للعادة وهذا أقل ما يكون , ويستدل بها على تواتر جنس جنس كتواتر تكثير الطعام وتواتر تكثير الطهور والشراب , وعلى تواتر نوع نوع منها كتواتر نبع الماء من بين أصابعه وتواتر إشباع الخلق العظيم من الطعام القليل , وتواتر شخص شخص منها كتواتر حنين الجذع إليه وأمثال ذلك , وكلما أمعن الإنسان في ذلك النظر واعتبر ذلك بأمثاله وأعطاه حقه من النظر والاستدلال ازداد بذلك علما ويقينا , وتبين له أن العلم بذلك أظهر من جميع ما يطلب من العلم بالأخبار المتواترة , فليس في الدنيا علم مطلوب بالأخبار المتواترة إلا والعلم بآيات الرسول وشرائع دينه أظهر من ذلك , وما من حال أحد من الأنبياء والملوك والعلماء والمشايخ المتقدمين وأقواله وأفعاله وسيرته إلا والعلم بأحوال محمد صلى الله عليه وسلم أظهر من العلم به وأبين , ونقله أكمل وأتم , وهذا مما يبين أنه ليس في الوجود أمر يعلم بالنقول المتواترة إلا وآيات الرسول وشرائعه تعلم بالنقول المتواترة أعظم مما يعلم ذلك الأمر تحقيقا لقوله : { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا } [ سورة الفتح : الآية 28 ] وظهوره على الدين كله بالعلم والحجة والبيان إنما هو بما يظهره من آياته وبراهينه , وذلك إنما يتم بما ينقل عن محمد صلى الله عليه وسلم من آياته التي هي الأدلة , وشرائعه التي هي المدلول المقصود بالأدلة , فهذا قد أظهره علما وحجة وبيانا على كل دين , كما أظهره قوة ونصرا وتأييدا على كل دين , كما أنه ما من دليل عقلي يستدل به على مدلول إلا والأدلة على آيات الرب أكثر وأكثر . ثم ذكر الطريق السادسة أن العلماء قد صنفوا مصنفات كثيرة(1/77)
في آياته وبراهينه المنقولة في الأخبار وجردوا لذلك كتبا وذكر طائفة منها , إلى أن قال : والمقصود هنا أن تواتر أنواع آياته المستفيضة في الأحاديث أعظم من تواتر أمور كثيرة هي متواترة عند الأمة أو عند علمائها وعلماء أهل الحديث , وهذا غير الآيات والبراهين المستفادة من القرآن , فإن تلك قد تجرد لها طوائف من المسلمين ذكروا من أنواعها وصفاتها ما هو مبسوط في غير هذا الموضع , حتى بينوا أن ما في القرآن من الآيات يزيد على عشرات ألوف من الآيات , وهذان غير ما في كتب أهل الكتاب من الإخبار به , وهذه الأجناس الثلاثة غير ما في شريعته التي بعث بها وغير صفات أمته وغير ما يدل من المعرفة بسيرته وأخلاقه وصفاته وأحواله وهذا كله غير نصر الله وإكرامه لمن آمن به , وعقوبته وانتقامه ممن كفر به , كما فعل بالأنبياء المتقدمين , فإن تعداد أعيان دلائل النبوة مما لا يمكن لبشر الإحاطة به , إذ كان الإيمان به واجبا على كل أحد , فبين الله لكل قوم بل لكل شخص من الآيات والبراهين ما لا يبين لقوم آخرين , كما أن دلائل الربوبية وآياتها أعظم وأكثر من كل دليل على كل مدلول . وأطال الكلام , فمن أراد بسط هذه المواضع فليرجع إليه في ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) فإنه بسط فيه الكلام وشرحه شرحا تاما رحمه الله .(1/78)
قال الله تعالى : { ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا } [ سورة الفرقان : الآية 33 ] وقال تعالى : { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } [ سورة الأنعام : الآية 115 ] { والله يقول الحق وهو يهدي السبيل } [ سورة الأحزاب : الآية 4 ] والآيات في هذا كثيرة , وهذا من أعظم براهين الدين وأنه كله حق وأن مسائله الأصولية والفروعية حق ومحتوية على الحق , وأن دلائله وبراهينه تهدي السبيل وتوضح الحقائق , وأن النقل فيه هو أعلى درجات الصدق , خبر الله وخبر رسوله الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى . وقد تواتر نقل كتاب الله تواترا لا نظير له بحيث نقلته الأمة كلها كل قرن أداه إلى القرن الذي بعده محفوظا لا تغيير فيه بوجه من الوجوه , وتواترت عن النبي صلى الله عليه وسلم أصول الدين كلها والشرائع الكبار , والنقلة أصدق الخلق وأعظمهم تحريا للصدق وأبلغهم معرفة بطرق الصدق من الكذب , ولهم من العناية التامة في معرفة الصحيح من الضعيف والحق من الباطل والخبرة والمعرفة ما لا يقاربهم فيه أحد , فهذا نقل هذا الدين . وأما نظريات هذا الدين فكلها حقائق ثابتة حقة اتفق عليها النقل والعقل الصحيح , فجميع الحقائق الثابتة في دين الإسلام لا يستريب أهل العقول الصحيحة في صحتها , ومن ظن سوى ذلك بين بالأدلة الصحيحة فساد نظره وعقله . ومن تتبع هذا الأصل في جميع موارده ومصادره في أصول الدين وفروعه وتأمله حق تأمله عرف بذلك عظمة هذا الدين وأنه الحق في مسائله وبراهينه , وأنه محكم متقن لا اختلاف فيه ولا تناقض , بل يصدق بعضه بعضا ويشهد بعضه لبعض فلو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا , ومن امترى في هذا أو كابر فليأت بمثال واحد من حقائق هذا الدين يخالف هذا الأصل , ولن يستطيع إلى ذلك سبيلا . وأما الأمور المناقضة لهذا الدين فإنها إما نقول كاذبة , وإما نظريات خاطئة . واعتبر هذا بجميع النظريات التي راجت في هذه الأوقات في(1/79)
التكلم عن سلسلة الموجودات بمجرد الخرص والقياسات المختلة والتجارب التي تطرد ثم تنتقض , هل تجد فيها نظرية واحدة استقر عليها رأي جميع العقلاء , بل يقولها المبتدئ لها ظنا واستنباطا , ويتلقاها المقلدون له المعظمون له لا عن بصيرة , ثم يأتي من بعدهم فيفئدها ويحدث له نظرية من هذا القبيل , وهكذا تنتهي بهم هذه الأفكار إلى المكابرة والسفسطة , وهذا شأن كل ما خالف الحق . قال تعالى : { بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج } [ سورة ق : الآية 5 ] وهذه النظريات التي ابتكروها والتحليلات التي ابتدعوها وعارضوا بها ما جاءت به الرسل من البراهين القطعية من أكبر ما يدل على جهلهم البليغ ومكابرتهم للمعلومات , وهي من أكبر الأساسات التي تعود على علومهم بالإبطال , فإن من بعدهم يأتي على نظرياتهم التي إذا وجه إليها أدنى نظر فيبطلها فلا يبقى للعلوم قيمة ولا للحقائق الصحيحة قدر , وتصير المعلومات فوضى تقذف بها زبد الأفكار ولا يستقر لها قرار , وهذا معروف بالتتبع والاستقراء . أما حقائق ما جاءت به الرسل صلوات الله عليهم من أصول الدين وفروعه فإنها ثابتة الأصول محكمة , دلت عليها البراهين القطعية المتنوعة , ووجه الله عقول العقلاء وذوي الألباب والبصائر إلى النظر فيها , فازدادت بها معارفهم ورجحت عقولهم , واطمأنت قلوبهم بما عرفوا من الحق , وعلموا علم اليقين إجمالا وتفصيلا أنه مستحيل أن يرد الشرع بما يخالف العقل وينافيه أو توجد المحسوسات والمعقولات مناقضة لما أخبر الله به في كتابه , وأخبر به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الذي هيمنت شريعته على جميع الشرائع واحتوت على جميع الحق الذي فيها وأبطلت ما حرف منها وزيد ونقص , وصدقت جميع المرسلين , وصار أكبر طريق حصل به تصديق الرسل وصحة رسالتهم هو ما جاء به إمامهم وسيدهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين , وتبين لكل عارف منصف أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو(1/80)
الحق في أخباره وأحكامه , فكما أن جميع أخباره صدق وحق ويقين , فأحكامه كلها حق وعدل وقسط وصلاح للدنيا والدين , قال تعالى : { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } [ سورة الأنعام : الآية 115 ] { ومن أصدق من الله حديثا } [ سورة النساء : الآية 87 ] { ومن أصدق من الله قيلا } [ سورة النساء : الآية 122 ] { ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } [ سورة المائدة : الآية 50 ] والحمد لله الذي جعل كتابه وشريعته هدى من الجهالات , وشفاء من أمراض الشكوك والشبهات والشهوات , ورحمة تحصل بها جميع الخيرات , وتبيانا لكل شيء يحتاجه البشر في الأمور الجليات والخفيات .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات , وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا . قال ذلك وكتبه الفقير إلى الله في كل أحواله عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين آمين . ببلدة عنيزة من الديار النجدية في 20 رمضان سنة 1367 هـ .(1/81)