واقعنا المعاصر
محمد قطب
موقع الصحوة
http://www.sahwah.net
مقدمة الطبعة الأولي
يجتاز العالم الإسلامي اليوم مرحلة من أسوأ مراحله... يمكن أن نطلق عليها مرحلة التيه
ولقد مرت بالعالم الإسلامي أزمات كثيرة من قبل, بل نكبات كثيرة, كان المسلمون يفقدون فيها تمكنهم في الأرض, أو يفقدون أمنهم وطمأنينتهم, أو يفقدون ديارهم وأموالهم... ولكنهم مع ذلك لم يخوضوا تجربة أقسى ولا أمر من تجربتهم المعاصرة في تاريخهم كله.
لقد كانت أزمة الردة -مثلاً- أزمة حادة ولا شك, توشك أن تهدد الدولة الناشئة وتعوّق حركتها وهي في مهدها. ولكن الناظر إلي السنن الربانية لم يكن ليخالجه الشك في أن النصر سيكون للدولة المسلمة, وليس للمرتدين هنا أو هناك في أرجاء الجزيرة العربية. فقد كان إيمان المسلمين بالحق الذي اعتنقوه, وعمق صلتهم بربهم, وإخلاصهم لدينه, أضعاف إيمان المرتدين بباطلهم المزيف الذي يقاتلون من ورائه, مع خلو موقفهم من أية قيم حقيقية إلا الهوي والشهوات! وما كان من جزع الصحابة رضوان الله عليهم, ومشورتهم علي أبي بكر ( بالتريث في قتالهم, فلم يكن ذلك لشك في نفوسهم أن الله سينصر دينه, إنما كانت مشورتهم من أجل إتاحة الفرصة لتجميع الجيش الكافي للمعركة. ولكن إيمان أبي بكر ( الراسخ, وثقته العميقة بوعر الله بالتمكين لهذا الدين في الأرض, وحساسيته المرهفة أن يترك الخارجين علي أمر الله دون أن يسارع في توقيع العقوبة التي أمر الله بإنزالها بهم.. كل ذلك قد فعل فعله في نفوس الصحابة رضوان الله عليهم, فوقفوا صفاً واحداً وراء أبي بكر (... ونصر الله دينه كما وعد.(1/1)
ولقد كانت فتنة مقتل عثمان (, وما تلاها من الحروب بين علي, ومعاوية, أزمة حادة ابتلي بها المسلمون والدولة ما تزال لفي نشأتها, وعداوات الأرض قائمة من حولها. ولكن الناظر إلي مجريات الأمور يومئذ لم يكن ليشك في نهاية الأزمة. فقد كان الخلاف -علي كل عمقه, وكل ما أثاره من فرقة في صفوف المسلمين- خلاف علي من يتولي الأمر ليمكن للإسلام في الأرض, وليس خلافاً علي الإسلام ذاته, هل يكون هو قاعدة الحياة للمسلمين أم يكون شيء آخر خلافه! ولم تكن هناك في الوقت ذاته قوة خارجية تملك شيئاً من الحق, أو هي أكثر إيماناً بمنهجها الذي تعيش به, من إيمان المؤمنين بالحق الذي اعتنقوه وأقاموا حياتهم علي أساسه. وتلك حسب السنن الربانية هي المقومات الأساسية التي يتقرر بها النصر من عند الله أو الهزيمة, قبل العدد والعدة وخطط الحرب, وإن كانت هذه كلها عواملها لها حسابها في الميزان الأخير, لأنها من (الأسباب) التي أمر الله باتخاذها, وجعلها جزءاً من سنته الجارية. ولكن الأسباب المادية وحدها ليست هي التي تحسم الأمر, ولا هي التي تقرر المصير.(1/2)
كذلك كانت أزمة الحروب الصليبية وحروب التتار أزمة حادة في حياة المسلمين. وبدا -لفترة من الوقت- أنها يمكن أن تطيح بالكيان الإسلامي كله وتجتث المسلمين من الأرض. ولكن النتيجة الواقعية كانت غير ذلك, وجاء النصر من عند الله في النهاية. وكانت الهزيمة في البدء, والنصر في النهاية كلاهما مطابقاً للسنة الربانية التي لا يحيد عنها شيء في الوجود كله. فقد كان واقع المسلمين سيئاً, مليئاً بالمعاصي والبدع والانحرافات والشتات والفرقة, والانشغال بذلك كله عن نصرة دين الله والتمكين له في الأرض. ولذلك اجتاحت جيوش الأعداء أرض المسلمين, وأزالت سلطانهم إلي حين. ولكن جذوة العقيدة كانت ما تزال حية في النفوس, وإن غشيتها غاشية من التواكل والسلبية أو الانشغال بشهوات الأرض. فما إن جاء القادة الذين يردون الناس إلي الجادة بدعوتهم للرجوع إلي حقيقة الإسلام, حتى صحت الجذوة واشتعلت.... فجاء علي أثرها النصر. فحين قام صلاح الدين يقول للناس: لقد هُزمتم لبعدكم عن طريق الله, ولن تُنصروا حتى تعودوا إلي الطريق... وحين قام ابن تيمية يدعو لتصحيح العقيدة مما طرأ عليها من غبش المتكلمين وضلالاتهم... وحين صاح قطز صيحته الشهيرة: واإسلاماه!... وتبعتهم جماهير الأمة المسلمة فصدقت الله في عقيدتها وسلوكها, وجاء النصر, وتغلب المسلمون علي أضعافهم من المشركين والكفار.
وجاءت نكبة الأندلس عقابا ربانياً للمسلمين علي تفرقهم وتشتتهم وحرب بعضهم لبعض, وتعاونهم مع أعدائهم من الصليبين ضد بعضهم البعض, واتخاذ أولئك الأعداء بطانة من دون المؤمنين -مخالفة لأمر الله -وهم لا يألونهم خبالا... بالإضافة إلي الفتنة بشهوات الأرض, المباح منها وغير المباح...(1/3)
ولم تعد الأندلس إلي الإسلام... ولكن طاقة الأمة الإسلامية في مجموعها لم تكن قد استنفدت... ففي ذات الوقت الذي انحسر فيه ظل الإسلام عن الأندلس كانت هناك دولة فتية في سبيلها إلي التمكن في الأرض, واستطاعت أن تحفظ كيان المسلمين أربعة قرون كاملة. وامتدت في داخل العالم الصليبي حتى فيينا, وبطر سبرج, ودخل في الإسلام علي يديها ملايين من البشر في أوروبا, وآسيا.
ولكن الأزمة التي يعانيها المسلمون اليوم هي أقسى من سابقاتها وأمرّ.
وما يخالجني شك في أنها هي الأخرى ستمر, ويمكن الله لدينه مرة أخري في الأرض.
ولكن علينا أن نعرف الطبيعة الخاصة لهذه الأزمة, لنعلم لم طالت عن كل سابقتها؟ ولنعلم من جهة أخرى كيف يكون المخرج منها حيين يأذن الله, فنتخذ الأسباب المؤدية بإذن الله إلي النجاة.
حين وقعت الحروب الصليبية الأولي التي استغرقت حوالي مائتي عام (1096-1291م) والتي وقعت في أثنائها وبعدها كذلك غارات التتار, كان المسلمون قد شغلوا عن الإسلام الصحيح ببدع وخرافات ومعاص, وتواكل وتقاعس وقعود عن الأخذ بالأسباب, ولكن الإسلام ذاته لم يكن في نفوسهم موضع نقاش, لا بوصفه عقيدة ولا بوصفه نظام الحكم ونظام الحياة. وحتى حين هُزموا أمام الصليبيين, و أمام التتار فلم يكن صدي الهزيمة في نفوسهم هو الشك في الإسلام ذاته عقيدةً أو نظام حياة, ولم يكن هو التطلع إلي ما عند أعدائهم من عقائد أو أفكار أو مشاعر أو نظم أو أنماط سلوك, أو الظن -للحظة واحدة- أن أعداءهم يملكون شيئاً من (الحق) تقوم لحياتهم عليه, أو أن هناك شيئاً -غير الإسلام- يمكن أن يكون هو الحق في العقيدة وفي نظام الحياة سواء. ولم تكن قضية الحكم بما أنزل الله موضع شك منهم ولا موضع نقاش, لأنها كانت جزءاً لا يتجزأ من إسلامهم, بل كانت في حسهم -كما في الحقيقة- المقتضي المباشر لكونهم مسلمين.(1/4)
لذلك لم يهنوا -حتى وهم مهزومون أمام أعدائهم فترة غير قصيرة- ولم يشعروا أنهم أدني من أعدائهم, بل يتمثل فيهم قوله تعالي: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة آل عمران 3/139].
وكانوا مؤمنين!.
بل كانوا يشعرون -حتى وهم مهزومون- بازدراء شديد لأعدائهم, لأن عقيدتهم وتصوراتهم لا تتفق مع العقيدة الصحيحة والتصور الحق, ولأن أخلاقهم وأنماط سلوكهم لا تتفق مع أخلاق الإسلام وأنماط سلوكه. كان التتار -في حسهم- همجاً لا دين لهم ولا حضارة, وكان الصليبيون هم المشركين عباد الصليب, وكانوا فوق ذلك منحلي الأخلاق, لا غيرة علي عرض ولا حفاظ.
أما في الحروب الصليبية الأخيرة, فقد كان الموقف فقد تغير كثيراً عن ذي قبل.
كان المسلمون قد انحرفوا انحرافاً شديداً عن حقيقة الإسلام, لا في السلوك وحده ولكن في التصور كذلك.
مفهوم لا إله إلا الله -أساس الإسلام كله وأكبر أركانه- كان قد تحول إلي كلمة تقال باللسان, لا علاقة لا بالواقع, ولا مقتضى لها في حياة المسلمين أكثر من أن ينطقوا بها بضع مرات في كل نهارّّ فضلاً عما أحاط بالعقيدة من خرافات, وعبادة للأضرحة والأولياء والمشايخ, بدلا من العبادة الصافية الخالصة لله دون وسيط.
مفهوم العبادة -الشامل الواسع- كان قد انحصر في شعائر التعبد, من أداها فقد أدي كل ما عليه من العبادة, ولم يعد مطالباً بشيء من التكاليف أمام الله! فضلاً عما أصاب الشعائر التعبدية ذاتها من عزلة كاملة عن واقع الحياة, كأنها شيء ليس له مقتضى في الحياة الدنيا ولا تأثير!.(1/5)
مفهوم القضاء والقدر -الذي كان في صورته الصحيحة قوة دافعة رافعة- قصار في صورته السلبية قوة مخذلة مثبطة عن العمل والنشاط والحركة والأخذ بالأسباب! فضلاً عما صاحب ذلك من استخدام القوي الخففية من السحر والجن....إلخ, جرياً وراء سنة الله الخارقة بدلاً من التعامل مع السنة الجارية التي أمر المسلمون بالتعامل معها, واتخاذ الأسباب المؤدية إلي جريانها في لصالحهم إذا توكلوا علي الله حقق التوكل, كقوله تعالي: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)} [سورة محمد 47/7], وقول الرسول (: "تداووا عباد الله فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء" (1).... إلخ... إلخ...
مفهوم الدنيا والآخرة -الذي يربط الدنيا بالآخرة, ويجعل الدنيا مزرعة الآخرة- تحول إلي فصل كامل بين الدنيا والآخرة, يجعلهما موضع التقابل الكامل وموضع التضاد, فمن أراد الدنيا ترك الآخرة, ومن أراد الآخرة ترك الدنيا, واكتفي فيها بالكفاف.
وأما عمارة الأرض فقد أهملت حين أهملت الدنيا من أجل الآخرة, فخيم علي الناس الفقر والجهل والمرض والتخلف الحضاري والمادي والعلمي والعقلي.... وزاد علي ذلك كله أنه -في حسهم- قدر مقدور من عند الله, لا حيلة لهم فيه إلا الرضاء والتسليم(2 ).
وفضلاً عن ذلك كله فقد خلت حياة الناس من الروح, وأصبحت الحياة كلها تقاليد موروثة يحافظ عليها من أجل أنها تقاليد, لا من أجل أنها جزء من منهج حي يحكم الحياة. فالعبادة تقاليد, والسلوك تقاليد, وحجاب المرأة تقاليد, وقضية العرض تقاليد... أكثر مما هي عبادة واعية لله, أو منهج مترابط يحكم الحياة.
وحين جاءت الحروب الصليبية الجديدة والمسلمون علي هذا الوضع, كان الاحتمال الأكبر أن ينهاروا, ويسلموا أنفسهم للضياع.
? ? ?(1/6)
يحفظ التاريخ للمسلمين كثيراً من أدوار البطولة في جهاد الصليبين الذين أغاروا علي بلاد الإسلام ما بين القرن السابع عشر الميلادي إلي القرن التاسع عشر, سواء في الشمال الأفريقي, أو وسط أفريقيا, أو في وادي النيل (مصر والسودان) أو في الهند, والملايو, وأندونيسيا, والفلبين, أو في وسط آسيا الذي اغتاله روسيا القيصرية الصليبية.
ولكنها كانت بطولات المنهزم المتقهقر, بضرب آخر ضرباته قبل الاستسلام.
كانت العقيدة قد تواترت وراء الركام, فكان حقاً علي الناس أن ينتهوا إلي الهزيمة والاستسلام.
? ? ?
ويقال كلام كثير عن الحضارة الأوربية الفارهة التي التقي بها المسلمون في نخلفهم الحضاري الذي كانوا عليه, فأدي بهم ذلك اللقاء إلي الهزيمة الروحية, والانبهار بما عند الغرب من أفكار ونظم وانفلات من الدين والأخلاق والتقاليد....
وما يقال عن الفاروق الحضاري صحيح في ذاته... أما الظن بأنه هو السبب في الهزيمة الروحية, والانهيار الذي أصاب المسلمين تجاه الغرب, ففضلاً عن كونه مجانباً للحقيقة, فهو مضلل لنا أشد التضليل, لأنه يغطي علي الأسباب الحقيقية للهزيمة, كما يغطي كذلك علي الوسائل الحقيقية للعلاج.
لقد كان المسلمون في نشأتهم الأولي في طور من البداوة لا يملكون شيئاً مما يملكه المتحضرون من حولهم من أسباب الحضارة المادية أو من العلوم. وكان لزاماً عليهم إذا أرادوا الحضارة المادية والعلم أن يأخذوا أسبابهما من الدولتين "العريقتين" عن يمين وشمال فارس والروم.
وقد صنعوا ذلك بالفعل... ولكنهم لم يحنوا رءوسهم أبداً, ولم يشعروا بالانبهار. كانوا هم الأعلين, لأنهم كانوا هم المؤمنين.(1/7)
كانوا في حاجة شديدة لتعلم علوم الكفار والوثنيين من حلوهم, ولكن هذه الحاجة الشديدة لم تشعرهم بالصغار تجاههم, ولا بأنهم دونهم, بل كانوا يعرفون -ويشعرون- أن العزة لهم, لأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين, وليس للكفار والوثنيين شيء من العزة ولو ملكوا كل علوم الأرض, وكل خزائن الأرض!.
وحين أخذوا ممن حولهم فقد كان سلوكهم المستعلي بالإيمان واضحاً في طريقة الأخذ, وكان أوضح ما يكون في خصلتين رئيسيتين:
الأولي: أن أرواحهم لم تهزم قط أمام أعدائهم تحت ضغط الحاجة إلي الأخذ منهم.
والثانية: أنهم لم ينقلوا كل شيء وجدوه عند أعدائهم, بل كانوا ينقلون علي بصيرة, فينقلون فقط ما يظنون أنهم في حاجة إليه, مما لا يتعارض مع عقيدتهم وإسلامهم, ويعرضون عن كل ما يرونه غير نافع لهم, أو يرونهم مخالفاً لعقيدتهم وتصوراتهم, وأوضح مثال علي ذلك أنهم نقلوا علوم الإغريق, ولم ينقلوا ما كان مشهوراً عندهم من الأساطير,لأنهم رأوا فيها أمور الجاهلية الوثنية الغارق في الضلال, لا يستحق أن يلتفت إليه, بل يستحق الزراية والإهمال.
أما في حركة النقل الأخير فقد كان الأمر جد مختلف!!.
وليس الاختلاف ناشئاً من حجم الفارق الحضاري بين الآخذين والمعطين, كما يبدو للنظرة السطحية للوهلة الأولي, إنما هو ناشئ بصفة أساسية من اختلاف "الموقف" ما بين حركة الأخذ الأولي وحركة الأخذ الثانية.
في الأولي كان المسلمون هم الأعلين وإن كانوا آخذي, لأن الاستعلاء بالإيمان هو الذي يكيف حياتهم ويحد موقفهم.
وفي الثانية كانت العقيدة قد تخلفت وتوارث تحت الركام, فلا عزة ولا استعلاء, إنما هي الهزيمة والانبهار. والنقل -بلا بصيرة- لكل ما هو موجود في الغرب, بغير تمييز بين ما ينفع وما يضر, ولا بين ما يتفق مع الإسلام وما يتعارض معه, لأن الإسلام لم يعد محور ارتكاز "المسلم المعاصر! " ولم يعد له كيانه المتميز, المستمد من العقيدة الصحيحة, ومن تطبيق منهج الله.
? ? ?(1/8)
واليوم يدور الزمن دورته, ويبدأ الوجه الكالح للقرون الأخيرة في حياة المسلمين ينحسر, ويبزغ فجر جديد للإسلام في ربوع الإسلام. بدأ الناس -والشباب المثقف خاصة- يعودون إلي الإسلام, يريدونه رائقاً صافياً كما نزل أول مرة بلا غبش ولا ركام.
وفي كل مكان في الأرض التي حكمها الإسلام ذات يوم حركات بعث إسلامي, ودعاة يدعون إلي الإسلام, وشباب يتطلعون إلي اليوم الذي يجدون فيه الإسلام مطبقاً بالفعل, واليوم الذي يعود فيه المسلون إلي الاستخلاف والتمكين في الأرض -في صورتهم الإسلامية الحقيقية المتميزة- تحقيقاً لوعد الله {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي} [سورة النور 24/55].
وفي الطريق عقبات كثيرة تعوّق المسيرة ولكنها لا تمنع المسير.
فهناك من ناحية جهل الناس بحقيقة الإسلام, وبعدهم الشديد عن هذه الحقيقة سواء في التصور أو السلوك.
وهناك من ناحية الغزو الفكري يزين للناس -والشباب خاصة- الانسلاخ من الإسلام جملة واتباع الغرب بشرطيه الشرقي أو الغربي, ويزين لهم الانفلات من كل قيد من قيود الأخلاق.
وذلك فضلاً عن العداوات المرصودة للإسلام, تبطش بالدعاة في كل الأرض, وتضع في طريق الدعوة ما وسعها من العراقيل.
ولكن هناك إلي جانب ذلك مبشرات....
والمبشرات في حسيّ أكبر من المعوقات....(1/9)
فالصحوة الإسلامية القائمة اليوم في كل مكان في العالم الإسلامي, حدث تاريخي له دلالته... فهي تجيء -من جهة- بعد الجهد الجاهد الذي بذلته الصليبية الصهيونية علي مدي ما يقرب من قرنين من الزمان لزحزحة الأمة الإسلامية عن إسلامها وسخها منه... وتجيء -من جهة أخري- والبشرية في أحد منعطفاتها التاريخية, وقد بدأت تيأس من حضارتها المادية الجافية, وبدأت تتطلع إلي مخلّّص جديد...
ولن يُخْرجَ المسلمين من أزمتهم, ويرفع عنهم إصرهم والأغلال التي صارت عليهم, ويردهم إلي عزتهم, إلا العودة الصحيحة الصادقة إلي الدين الذي أنهم الله به عليهم وحباهم إياه.
ولن يخلّص البشرية من أزمتها, ويحل لها ما عقدته من مشكلاتها في جاهليتها المعاصرة, إلا المنهج الرباني, الذي أنزله الله ليقوم الناس بالقسط
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [سورة الحديد 57/25].
ولكن الأمر لن يكون نزهة سهلة في طريق معبّد مفروش بالورود.....
إنما هي رحلة شاقة في طريق مملوء بالأشواك والدموع والدماء والعذاب.. يخوضها المؤمنون بهذا الدين مع كل العداوات المحيطة بالإسلام, وكل العقبات المرصودة في الطريق... حتى يتم التمكين للإسلام من جديد, وتزول الغربة الثانية التي أخبر عنها رسول الله (: "بدأ الإسلام غريباً, وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء" (3). وفي رواية الترمذي: "فطوبى للغرباء, يصحلون ما أفسد الناس من سنتي".(1/10)
وفي هذا الكتاب محاولة لتشخيص ما أصاب الأمة الإسلامية منذ كانت في موقع الذروة علي عهد رسول الله ( إلي أن أصبحت ذلك الغثاء الذي أخبر عنه رسول الله (: "يوشك أن تداعي عليكم الأمم كما تداعي الأكلة إلي قصعتها. قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير, ولكنكم غثاء السيل" (4). ومحاولة لدراسة الواقع المعاصر لهذه الأمة بعد أن أصابها ما أصابها في مسيرتها الطويلة خلال القرون.... ثم محاولة لدراسة الصحوة الإسلامية وما تحمله من دلالة تاريخية, وماذا أنجزت, وماذا ينبغي أن ينجز حتى أزمتها الحالية, وتصل بإذن الله إلي التمكين الذي وعد الله به المؤمنين.
وقد أردت بمحاولتي تلك الرد علي تساؤلات الشباب المتطلع إلي تحقيق الإسلام في عالم الواقع: لماذا طالت المسيرة؟ لماذا تأخر التمكين؟ ما منهج الدعوة؟ ما الطريق الصحيح؟....
{إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ} [سورة هود 11/88].
فما كان في هذه المحاولة من التوفيق فهو من الله, وما كان فيها من القصور فبحسبي أنني بذلت فيها ما وسعني من الجهد, وعلي الله قصد السبيل.
أدعو الله أن يوفق العاملين في الحقل الإسلامي إلي الرؤية الصحيحة, والعمل الجاد لتحقيق الأمانة التي ناطها الله بالمؤمنين.
محمد قطب
? ? ?
نظرة إلي الجيل الفريد
ذلك الجيل الذي قال عنه رسول الله (: "خيركم قرني" (5).
والذي استحق استحقاقا كاملاً وصف الله سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل 3/110].
إنه الجيل الذي فيه اللقاء بين المثال والواقع, فترجم مثاليات الإسلام إلي واقع, وارتفع بالواقع البشري إلي درجة المثال.
والمثالية الواقعية, أو الواقعية المثالية من أبرز خصائص هذا الدين.(1/11)
فلا هو يضع مُثُلاً روحانية عسيرة التطبيق, تهمل ضرورات الإنسان وواقعه المادي, وتشد الناس إلي أعلا شدا بلا هوادة فتعلقهم في الفضاء, كما تصنع الهندوكية والبوذية والرهبانية, ولا هو إذ يلتفت إلي مطالب الجسد وعالم المادة يحبس الإنسان في نطاق ضروراته, ويقعد به عن التحليق في الآفاق العليا التي يتحقق فيها المثال, بل يأخذ بهذه وتلك في آن واحد علي توازن واتساق, ومن ثم تلتقي فيه المثالية التي لا تهمل الواقع, بالواقعية التي لا تهمل المثال, ويكون من نتائجها -في أعلا حالاتها- ذلك الجيل المتفرد في التاريخ.
ونحن في حاجة ملحة لأن نتعرف علي هذا الجيل, لنعرف مكان الأسوة لنا في واقعنا المعاصر, ولنقيس علي ضوئه مدي قربنا أو بعدنا عن حقيقة الإسلام.
ونريد -قبل أن نرسم السمات الفريدة لذلك الجيل المتفرد- أن نتعرف علي العوامل التي أثرت فيه, فرفعته إلي القمم السامقة التي وعاها التاريخ.
لقد كان العرب شتيتاً متناثراً لا يتجمع علي شيء, رغم وجود مقومات التجمع الأرضية كلها من وحدة الأرض, ووحدة الأرض, ووحدة اللغة, ووحدة الثقافة, ووحدة التاريخ, ووحدة المصالح... تلك التي يقول علم الاجتماع الجاهلي إنها هي التي تنشئ "الأمة". ولكن الأمة مع ذلك لم تنشأ رغم مرور الزمن المديد علي هذا الشتيت المتناثر وهو يحمل تلك المقومات. بل كانوا قبائل متناحرة تأكلها الحروب والثارات, وتأكلها قبل كل شئ جاهليتها التي تعيش فيها مجافية للهدي الرباني.
ومن هناك رفعها الإسلام, لا أفرادا ولا قبائل, ولكن "أمة" هي أعظم أمة في التاريخ بشهادة الله مخرجها إلي الوجود: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل 3/110].
فمن أي شئ تكونت هذه الأمة الفذة, وما العوامل التي أثرت في تكوينها ونشأتها؟.(1/12)
لا شك أن خامتها هي ذات الخامة التي كانت تعيش في ذات الأرض قبل هذا الحدث العظيم لعدة قرون. ولكن شيئاً ما -فعله كفعل السحر- قد أنشأ من هذه الخامة في سنوات قليلة نسيجاً غير مسبوق لا ملحوق... فما هو يا تري ذلك الشيء العجيب التأثير, الذي أخرج ذلك النسيج الفذ من تلك الخامة التي ظلت لقًي مهملاً عدة قرون؟!.
لا شك -بادئ ذي بدء- أنه القرآن... ذلك الكتاب العظيم الذي نزل ليعيد بناء البشرية علي هدي الوحي الرباني:
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [سورة الإسراء 17/9].
{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)} [سورة الزخرف 43/4].
ماذا يفعل القرآن في النفوس؟ هل يغير خامتها فيخرجها من بشريتها لتكون خلقاً آخر؟ كلا! فقد نزل للبشر, لا ليبدل فطرتهم, بل ليعيدهم إلي فطرتهم التي فطرهم الله عليها يوم خلق الإنسان {فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [سورة التين 95/4].
{فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30)} [سورة الروم 30/30].
أرأيت حين تمرر المغنطيس لي قطعة من الحديد, أتراه يغير طبيعتها؟ كلا! ولكنه يعيد ترتيب ذراتها فتصبح شيئاً آخر غير قطعة الحديد المبعثرة الذرات! تصبح كياناً جديداً له طاقة مغناطيسية كهربائية لم تكن له من قبل! وكذلك يفعل في نفوس البشر هذا الدين المنزل في كتاب الله. إنه يتخلل النفوس البشرية فيعيد ترتيب ذراتها, فتصبح قوي كونية وطاقات, بعد أن كانت مبعثرة من قبل, ضائعة في التيه.(1/13)
فأي شيء في هذا الكتاب العظيم هو مصدر ذلك السر الذي يحول الخامات المبعثرة الضائعة إلي طاقات؟ أهو نسقه اللغوي المعجز؟ أهو قوة بيانه؟ أهو وضوح معاينة؟ أهو حديثه عن اليوم الآخر وما فيه من مشاهد تهتز لها أوتار القلوب؟ أهو تشريعاته وتوجيهاته وتنظيماته؟ أهو قصصه وأمثاله وعبره؟ أهو تذكيره الدائم بعظمة الله جل جلاله وقدرته المعجزة التي لا تحدها حدود؟!.
إنه ولا شك كل ذلك.... فكل حرف في هذا القرآن له دلالته في مكانه, وله جانبه من التأثير.
ولكننا لا نكون مخطئين إن قلنا إن أوسع موضوعات القرآن جميعاً هو موضوع الألوهية.... هو قضية لا إله إلا الله.
ولقد قلت في غير هذا المكان(6), إنه يخطر لنا لأول وهلة أن تركيز القرآن -وخاصة في السور المكية- علي هذه القضية سببه أن القرآن كان يخاطب بادئ ذي بدء قوماً مشركين, يشركون مع الله آلهة أخري, فكان من المناسب التركيز علي قضية "لا إله ألا الله" لتصبح عقائد أولئك المشركين... ولكن استمرار القرآن في الحديث عن هذه القضية في السور المدنية, وفي الكلام الموجه للمؤمنين خاصة, الذين آمنوا واستقر الإيمان في نفوسهم حتى أنشأوا أمة مسلمة ودولة مسلمة, وجيشاً مسلماً يقاتل في سبيل الله, قاطع الدلالة علي أن القضية لها أهميتها الذاتية, حتى لو كان المخاطبون مؤمنين! فالتركيز عليها ليس ناشئاً من إنكار المخاطبين بهذا القرآن أول مرة, إنما هو ناشئ من أنها هي المفتاح الذي القلوب البشرية للخير, وينشئ فيها الخير, ويربيها علي الخير, ويُنْتجُ منها الخير! وأنه لا يوجد مفتاح لهذه القلوب, يهيئها لما تهيئه لها لا إله إلا الله!.
وحين تكون القلوب منكرة تخاطب بهذه القضية لتتفتح للحق والخير... وحين تكون مؤمنة تخاطب بها كذلك ليتعمق الإيمان فيها ويتجدد, لأنه الزاد الذي لا زاد سواه. انظر إلي هذا التوجيه للمؤمنين:(1/14)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} [سورة النساء 4/136].
إنه يقول للذين آمنوا آمنوا! وهم مؤمنون بذات الأمر الذي يراد منهم الإيمان به! وذلك لكي يزدادوا إيماناً ويحرصوا علي ما في قلوبهم من الإيمان!.
ولقد فعل الإيمان بـ "لا إله إلا الله" فعله في نفوس أولئك المشركين, فأنشأهم نشأة جديدة كأنها ميلاد جديد.... ثم فعل فعله في نفوسهم بعد أن آمنوا فأصبحوا ذلك الجيل الفريد الذي نزل في وصفه هذا التقرير الرباني:
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [سورة آل عمران 3/110].
نعم... إنها "لا إله إلا الله" مفتاح القلوب, مفتاح الطريق لهذه القلوب حين تتجه الوجهة الصحيحة وتهتدي بنور الله.
ذلك أن الإنسان-كما قلنا في أكثر من موضع- عابد بفطرته.... وإنما يختلف المعبود الذي يتوجه إليه بالعبادة.
وعلي حسب المعبود يكون منهج الحياة....
فحين يكون المعبود هو الله يكون منهج الحياة هو المنهج الرباني المبين فيه الحلال والحرام, والحسن والقبيح, والمباح والغير مباح.... وحين يكون المعبود شيئاً آخر, يكون منهج الحياة هو الذي يمليه ذلك الشيء المعبود, سواء كان هو الهوي صراحة دون مواربة أم كان هو الهوي من وراء أستار وشعارات وعناوين ومن ثم تتعدد الصور في الجاهليات المختلفة وتلتقي في أنها كلها هوي... إن يكن هوي فرد بعينه أو مجموعة أفراد أو هوي كل الناس مجتمعين.... فكلها في النهاية أهواء.(1/15)
والمنهج الرباني هو الذي يُصلح الحياة البشرية والنفس البشرية لأنه منزل من عند اللطيف الخبير الذي يعلم من خلق ويعلم ما يصلحه وما يصلح له, ومنزل من عند تصرف قد يقع اليوم يحيط علمه بكل شيء فلا تخفي عليه خافية, ولا يغفل عن أثر تصرف قد يقع اليوم ولكن أذره لا يظهر إلا بعد فترة من الزمن لا يستوعبها عمر الفرد؛ ومنزل من عند الحكم العدل الذي لا تميل بعدله الأهواء, الغنّي الذي لا تؤثر في حكمه المصالح الذاتية والحاجات.... وذلك كله فضلا عن أنه هو الله الذي يحق له وحده أن يقرر منهج الحياة للإنسان, لأنه هو خالقه وخالق هذا الكون كله, فبما أنه صاحب الخلق فهو صاحب الأمر:
{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [سورة الأعراف 7/54].
ولن يستقيم الإنسان للمنهج الرباني حتى يعلم صدقا ويقينا أنه لا إله إلا الله. عندئذ يسلم نفسه لله الواحد الأحد؛ حين يستيقن أنه هو الرزاق ذو القوة المتين, وأنه الضار النافع, وأنه هو المحيي المميت, وأنه هو مدبر أمر الكون كله, وهو صاحب المشيئة النافذة فيه, وأن كل ما عداه لا يملكون شيئاً علي الحقيقة, وكل ما يملكونه في الظاهر يملكونه بمشيئة من الله وبقدر من الله.
عندئذ "يسلم" الإنسان! أي يسلم قيادة لله, فيتقبل قدره ومشيئته, ويتقبل أوامره ونواهيه, ويتقبل منهجه في الحياة.
ثم إن إقامة هذا المنهج في الأرض لا تتم بمجرد رغبة الناس في إقامته, أو إسلام أنفسهم له. فقد سبق في مشيئة الله وقدره ألا يكون الناس أمة واحدة.
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [سورة هود 11/118-119].(1/16)
فهناك إذن من لا يؤمن بلا إله إلا الله, ومن يكرهها ويحاربها ويحارب أهلها ويقاوم منهجها.... ومن ثم تحتاج إقامة هذا المنهج في الأرض إلي مجاهدة أولئك الكافرين بلا إله إلا الله, الكارهين لمنهج الله.
والجهاد من أجل إقامة المنهج الرباني في الأرض يعرض الإنسان للأذى, ويعرضه للموت, ويعرضه للحرمات من متاع الأرض.
ويحتاج القلب البشري لكي يدخل معمعة الجهاد بشتى أنواعه وشتى مخاطره أن يؤمن مرة أخري أنه لا إله إلا الله! وأن الله هو الذي يحيي ويميت, وهو الذي يضر وينفع, وهو الذي يقبض الرزق ويبسط... وإلا تزلزلت قدماه علي الطريق عند أول اهتزازة تحدث في هذا الإيمان!.
لحظة واحدة يهتز فيها الإيمان القلبي الداخلي بأن الله -وحده- هو الذي يحرك الأقدار بمشيئته, وهو الذي يقدر النفع أو الضر أو الحياة أو الموت أو بسط الرزق أو قبضه... تختل الخطي علي الطريق, وينكص صاحبها علي عقبيه, إلا أن يتولاه الله برحمته, فيثبت إيمانه, فتثبت خطاه من جديد!.
ومن أجل ذلك كانت لا إله إلا الله هي الإعداد للجهاد كما كانت من قبل هي مفتاح الإسلام. إسلام القلب لله.
وحتى في السلم... في البحبوحة والراحة... فهناك هذه الثقلة التي تقعد بالقلب البشري عن "الاستقامة" علي الطريق.... ثقلة الشهوات المزينة المحببة للناس: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [سورة آل 3/14].
ولن يصمد القلب البشري لهذه الثقلة, بكل ما تحمله من إغراء وجذب, إلا أن يؤمن إيمان اليقين أنه لا إله إلا الله, وأن هذه الحياة الدنيا ليست نهاية المطاف.(1/17)
الإيمان بالله -حين يعمر القلب البشري- يبعث فيه الخشية والتقوى التي تؤهله لطاعة الله فيما يأمره به وينهاه عنه. والإيمان بأن الحياة الدنيا ليست نهاية المطاف, وأن هناك بعثاً ونشوراً, وحساباً وجزاءً, ونعيماً وعذاباً, هو الذي يغير موازين الحياة كلها, وقيمها ومستوياتها, فلا يعود المتاع الحسي هو غاية الحياة, ولا يعود الاستغراق فيه هو الشغل الشاغل ولا اللهم المقعد المقيم, كما يكون الحال في الجاهليات, حين يؤمن الإنسان أن الحياة فرصة واحدة محدودة بجدود العمر القصير, وكل يوم ينقضي لا يعود.... فتكون الحكمة "الواقعية" حينئذ أن ينتهب أكبر قدر من اللذات في هذا العمر المحدود قبل أن تفوت إلي غير رجعة! ولا يكون للحلال والحرام عنده يومئذ معني, إنما يكون اهتبال الفرص المتاحة هو الغاية التي تسوق الناس سوقاً فيتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام!.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)} [سورة محمد 47/12].
أما حين يؤمن بالبعث والجزاء, والنعيم المقيم والعذاب الفظيع المتجدد:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} [سورة النساء 4/56-57].(1/18)
عندئذ يسهل عليه أن ينضبط في الحدود التي رسمها الله دون أن يشعر بالحرمان, لأنه يعلم أن كل متاع زائد يشتهيه في الأرض ثم يمتنع عنه طاعة لله, لن "يضيع" ولن يذهب بغير عودة, إنما هو "طاعة" تحسب له في الميزان, فينال عليها نعيماً خالداً في الجنان.... فتكون الحسبة بذلك رابحة, ولا تذهب نفسه حسرات علي المتاع الفائت الذي تركه طاعة لله. ومن جهة أخري فإن تصور العذاب الفظيع جزاء علي المخالفة التي يهم بها انسياقاً وراء شهواته, يجعله يري أن الامتناع عنها هو الصفقة الرابحة, وليس الانغماس فيها بلا انضباط علي طريقة الحيوان... ومن هنا تتأكد التقوى والخشية التي يبعثها الإيمان بالله.
من أجل ذلك كان الكتاب الذي يرسم منهج الحياة للناس في الأرض مرتكزاً كله علي الإيمان بالله واليوم الآخر, وكانت التوجيهات والتشريعات والتنظيمات الواردة في الكتاب, كلها موصولة بالإيمان بالله واليوم الآخر, أعظم محورين يدور حولهما الكتاب.
وليس هنا مجال تفصيل الموضوعات الواردة في كتاب الله وأثرها في بناء النفس البشرية, فقد تحدثت عن ذلك في غير هذا الكتاب(7). ولكني أذكر هذه النبذة السريعة فقط في مجال بيان العوامل التي أنشأت ذلك الجيل المتفرد علي غير مثال, لأقرر أن القرآن بما يحويه من إشارات وتوجيهات, وتنظيمات وتشريعات, كان العامل الأكبر والأعظم في بناء النفوس المتفردة في التاريخ.
وحين نذكر القرآن نذكر السنة بلا شك, فهي المكملة والشارحة للكتاب المنزل, هي بيان ما أنزل الله وتفصيله:
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [سورة النحل 16/44].(1/19)
وموضوعات السنة هي موضوعات القرآن مع اختلاف النسبة بينهما. فلئن كان القرآن قد توسع في شرح قضية الألوهية من جميع أبعادها وأقطارها, ودخل بها إلي النفس البشرية من جميع مداخلها, من الحب والكره والخوف والرجاء والحسي والمعنوي والإيمان بالمحسوس والإيمان بالغيب.....(8) وخاطب النفس في جميع أحوالها, في الإقبال أحوالها, في الإقبال والإدبار, في رغبة والرهبة, في الارتفاع والهبوط, في السكون والحركة, في الطمأنينة والفزع, في الرخاء والشدة, في الوحدة وفي التجمع.
لئن كان القرآن قد توسع في هذه القضية ذلك التوسع فقد أجملت السنة, وإن كانت قد جاءت بما لا غناء عنه في تحديد المفاهيم الإيمانية, وتمييز الناس علي أساسها في الحياة الدنيا, والأحكام المتعلقة بذلك في المجتمع الإسلامي, ولئن كان القرآن قد أجمل في كثير من مواضع التشريع, فقد توسعت السنة وفصلت حتى أنت بالدقائق التي توضح للناس حلالهم وحرامهم في شتي تعاملاتهم.
ولئن كان القرآن قد توسع في ذكر اليوم الآخر بمشاهده الأخاذة فقد توسعت السنة مقابل ذلك فيما يعرف بالترغيب والترهيب, أي الترغيب في الأعمال التي تقرب الإنسان من الجنة, والترهيب من الأعمال التي تعرض الإنسان للنار.
وهكذا حين نتحدث عن أثر القرآن في إنشاء ذلك الجيل المتفرد نتحدث عن السنة في ذات الوقت. ولكنا نريد أن نضيف عنصراً آخر شديد التأثير في رفع نفوس الناس في ذلك الجيل إلي أقصي طاقاتها, والاستواء بها علي تلك القمم السامقة التي وصلت إليها, ذلك هو وجود الرسول ( بشخصه الكريم بين ظهرانيهم. فلا شك أن كان لهذا الوجود أثره الكبير في الوفرة الملحوظة في النماذج السامقة من بين أولئك المحيطين بالرسول (, مع ارتفاع القمم التي وصلوا إليها, ذلك الارتفاع الشاهق الذي عجزت عنه البشرية في شتي أجيالها.(1/20)
لقد كان التأثير المباشر لشخصية الرسول ( ذا أثر بالغ في بناء تلك النفوس التي أحاطت به, وأحبته, وتربت علي عينه ( في نفوس أتباعه ومحبيه أثر غير مكرر في التاريخ, ولا عجب في ذلك فإنها شخصية غير مكررة في التاريخ!.
إنها أكمل شخصية وأعظم شخصية في الوجود البشري كله من بدائه إلي منتهاه.
وليس هنا مجال التفصيل في شرح هذه العظمة الفائقة. فهي شخصية تحوي داخلها شخصيات, وعظمة تحوي داخلها عظمات, لو أصاب أي إنسان واحدة منها لَعُدّ من عظماء التاريخ, فكيف بها مجتمعة في شخص الرسول ( علي سموق متفرد في كل واحدة منها؟ شخصية المربي, شخصية القائد السياسي, شخصية القائد العسكري, شخصية العابد الروحاني, شخصية الزوج, شخصية الأب, شخصية الصاحب, شخصية الداعية... ثم كيف بها مجتمعة علي توزان بينها لا يجعل واحدة منها تطغي علي الأخرى, وعلي شمول وترابط لا يجعل واحدة منها تنفصل وتستقل عن الأخريات؟.
عظمة فذة في التاريخ, وتأثيرها كذلك في التاريخ.
وصف أبو سفيان -قبل إسلامه- جانباً من جوانب هذه العظمة, وجانباً من عمق تأثيرها فقال: "ما رأيت أحداً يحبه الناس كحب أصحاب محمد محمداً".
وهو وصف صادق دقيق. فهي شخصية أخاذة من أحبها تعمق في حبها إلي أقصي الغاية (وكذلك من انطمست بصيرته فأبغضها لم يستطع أن يقف في بغضها عند حد!).
والذين أحبوه والتصقوا به وعايشوه عن قرب, قد تأثروا به ولا شك أعمق التأثير, فاستطاعوا أن ينهلوا من معين القرآن أكثر, وأن يكون استواؤهم علي القمة السامقة أيسر. ذلك أن القرآن معني لا نضب, ولكنه يعطي كل إنسان علي قدر سعة الإناء الذي يغترف به. يحين تتسع القلوب وشف الأرواح بمصاحبة ذلك الروح العظيم, تكون قدرتها علي تشرب روح القرآن أكبر, وقدرتها علي صحبة القرآن والعمل به أوسع وأعمق.(1/21)
قال أحد الصحابة لرسول الله ( إنهم حين يكونون معه يكونون علي حال غير الذي يكونون به حين يعودون إلي شواغلهم ومعهود حياتهم, فقال (: "والذي نفسي بيده أن لو تدومون علي ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة علي فرشكم وفي طرقكم, ولكن يا حنظلة ساعة وساعة" (9).
وليس معني هذا أن تأثير صحبة الرسول ( كان ينتهي حين يخرجون من عنده, فمثل هذا التأثير لا يمكن أن يزول. إنما يدل تصريح الصحابة رضوان الله عليهم علي عمق أثر الصحبة المباشرة في نفوسهم, حتى ليحسون أنهم يصبحون خلقاً آخر غير ما يعهدون من أنفسهم.... وفي حالق إن الإشعاع الذي يتلقونه من الروح العظيم المشع يجعل أرواحهم شفافة رفافة محلقة, كما يشعر السابح بخفة جسمه وهو محمول علي الماء... فإذا خرجوا إلي واقع الحياة اليومي خف ذلك الإشعاع الذي امتلأت به أرواحهم, فأحسوا بالفرق بين حالتهم في صحبته ( وحالتهم في معتاد حياتهم. ولكن واقع التاريخ يقول إن الشحنة لم تذهب أبداً من أروحهم, وإن إحساسهم بالتغيّر بعد الخروج من عنده ( إن هو إلا شوق إلي مزيد من القدرة علي التحليق, ولكنه ليس فقداناً لتلك القدرة علي الإطلاق, فقد ظلوا يحلّّقون ويحلّّقون ويحلّّقون, علي آفاق لا عهد للبشرية بها من قبل.
ولسنا نقول مع ذلك إن وجود الرسول ( بشخصه شرط لإقامة هذا الدين في الأرض! فلو علم الله أن هذا شرط لا يقوم الإسلام في الأرض إلا به ما كلف سبحانه وتعالي الناس أن يقيموا الدين بعد رسول الله (, وهو لا يكلف نفساً إلا وسعها.(1/22)
إنما نقول إن شخص الرسول ( حاضر بسيرته وحاضر بسنته إلي الدرجة التي يقوم بها الإسلام في الأرض كاملاً غير منقوص. ولكنا نحاول فقط أن نفسر واقعنا حدث بالفعل, هو الوفرة الملحوظة في النماذج الفائقة من بين المحيطين بالرسول (, وفرة لم تتكرر في التاريخ من بعد, وإن كانت لم تنقطع في صورة أفراد متناثرين من كل جيل يزخر بهم تاريخ الإسلام في الماضي وما زال يزخر إلي هذه اللحظة.
عنصر ثالث لا يمكن إغفال أثره في نشأة ذلك الجيل المتفرد, هو أثر النشأة الجديدة.
إن كل نشأة جديدة تكون أنشط وأكثر حيوية واكثر فاعلية من الأجيال السابقة.
وهذا مر له ما يفسره من طبيعة النفس البشرية, بل من طبيعة الكون المادي نفسه! فغاز الأوكسجين المحضر حديثاً في المعمل تكون له فاعلية (في المساعدة علي الإشعال) أكبر من الأوكسجين الموجود في الجو, مع أنه يماثله مماثلة تامة في التركيب!! كذلك النفوس التي تبدأ عهداً جديداً أو تشهد إنشاء جديداً تكون أكثر حيوية وأكثر فاعلية من غيرها من النفوس. ويمكن تفسير ذلك من ناحيتين:
الأولي: إن النشأة الجديدة - وخاصة علي النحو الذي صنعه الإسلام - تعيد تركيب النفوس علي صورة جديدة فتصبح نفوساً جديدة بالفعل, مذخورة الطاقة حادة الفاعلية كذلك الأوكسجين المحضّر لتوه في المعمل.
والثانية: أن التحديات التي يتلقاها جيل النشأة الجديدة هي أعنف التحديات وأشقها وأقساها.
ومن شأن التحديات دائماً أن تشحذ النفوس الحية وتستخلص منها أقصى طاقتها. فإذا اجتمع الأمران معا: جدة النفوس, وعنف التحديات فنستطيع أن نتصور الفاعلية الهائلة التي تكون لتلك النفوس, وهي تعمل في واقع الحياة.(1/23)
يضاف إلي ذلك أن أصحاب النشأة الجديدة هم من ناحية أقدر الناس علي تقدير النعمة الجديدة حق قدرها, فقد عايشوا الجاهلية من قبل ثم انتقلوا إلي الإسلام, فأدركوا -بالممارسة الواقعة- عظم النقلة التي انتقلوها من الجاهلية إلي الإسلام, كما قال عمر (: "لا يعرف الإسلام من لم يعرف الجاهلية"! أي لا يقدره قدره إلا من أدرك الفارق بينه وبين الجاهلية... وهم من ناحية أخري أحرص الناس علي المحافظة علي البناء الجديد سليماً من كل نقص يعتوره, فقد بنوه لبنة لبنة, وتعبوا في بنائه وعانوا المشققات, وظلوا يرقبون ارتفاعه يوماً بعد يوم حتى استوي علي أكمل صورة, فهم لا يطيقون أن يعبث به عابث, أو ينقص من رونقه منتقص, فقد اختلط بأعماق مشاعرهم فأصبح منهم وأصبحوا منه, واصحبوا يحسون وجودهم في وجوده.
وكذلك كان ذلك الجيل الفريد حريصاً علي الإسلام, حريصاً علي أن يظل البناء الذي شيدوه تحت قيادة الرسول ( وإشرافه سليما من كل نقص.
ولسنا نقول مع ذلك إن هذا شرط لازم لإقامة دين الله في الأرض... فلوعلم الله أنه شرط لازم ما كلف الناس فيما بعد جيل النشأة أن يقيموا هذا الدين!
ولكنا نحاول فقط أن نفسر ذلك الواقع التاريخي الذي تفرد في التاريخ.
وهذا يجرنا إلي سؤال نري من الضروري تحديد الإجابة عليه, لأنه يحيك في صدور بعض الناس حين ينظرون إلي ذلك الجيل المتفرد ثم ينظرون غلي ما بعده من الأجيال فيقول قائل منهم: إن الإسلام لم يعش ألا فترة قصيرة هي فترة الرسول ( والخلفاء الراشدين ثم انتهي بعد ذلك! ويجئ خبثاء المستشرقين وحواريوهم فيؤكدون علي هذا المعني لحدثوا في نفوس الناس يأساً من عودة الإسلام إلي حكم الحياة الواقعة كما حكمها من قبل.
إذا كان هذا الجيل المتفرد غير قابل للتكرار -أو هو علي الأقل لم يتكرر حتى اللحظة الحاضرة- فما قيمته؟ ما دوره بالنسبة للإسلام والمسلمين؟ أليكون مجرد ذكري لشئ لا يمكن أن يعود؟.(1/24)
وإذا كانت هناك ظروف خاصة أحاطت بنشأة ذلك الجيل غير قابلة للتكرار, وكان لها أثر عميق في نشأته, كوجود الرسول ( بشخصه الكريم بين ظهرانيهم, وتأثير النشأة الجدية في نفوس الجيل الذي عاصر تلك النشأة, فأنّي يرجى أن تقوم للإسلام صورة في الواقع علي نسق تلك الصورة الأخاذة التي قامت ذات يوم؟!.
وتحتاج الإجابة إلي تحديد واضح.
أي شئ في ذلك الجيل المتفرد هو غير قابل للتكرار, أو علي الأقل لم يتكرر حتى هذه اللحظة؟ أهو الخصائص الرئيسية التي تحقق الوجود الإسلامي في عالم الواقع, أم هي الدرجة العالية الفذة التي وصل إليها ذلك الجيل في تحقيق تلك الخصائص في عالم الواقع؟!!.
وتلك الظروف الخاصة التي أحاطت بنشأة ذلك الجيل ونقول إنها غير قابلة للتكرار.... ما دورها بالضبط؟ هل كان مجال تأثيرها هو إنشاء تلك الخصائص الرئيسية التي تحقق الوجود الإسلامي في عالم الواقع, أم هو في تلك الدرجة العالية الفذة التي وصل إليها ذلك الجيل في تحقيق تلك الخصائص في عالم الواقع.
أحسب أن القضية الآن أصبحت واضحة.
إن الخصائص الرئيسية التي تحقق الوجود الإسلامي في عالم الواقع مستمدة بكاملها من القرآن والسنة, أي: من العنصرين الدائمين في حياة المسلمين, المحفوظين بقدر الله ومشيئته.
فقد تكفل الله بحفظ كتابه المنزل, بينما ضاعت الكتب السابقة وحرّّفت:
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [سورة الحجر 15/9].
كما تكفل بحفظ سنة نبيه (, بينما لم يبق من سنن الأنبياء السابقين إلا ما حفظه القرآن وحفظته سنة رسول الله (.
وفي هذين المصدرين كل "المواد" اللازمة لبناء الفرد المسلم والجماعة المسلمة والأمة المسلمة والدولة المسلمة في أي عصر من عصور التاريخ يرغب المسلمون في البناء, ويعزمون علي بذل الجهد اللازم له.(1/25)
أما الذي صنعته الظروف الخاصة فهو تلك الدرجة الفذة في تحقيق الخصائص الرئيسية للوجود الإسلامي, المستمدة كلها من الكتاب والسنة.... وتلك الدرجة -لا الخصائص الرئيسية- هي التي لم تتكرر في التاريخ.
وتبقي الإجابة علي الشق الآخر من السؤال: إذا كانت تلك الدرجة التي تحققت بالفعل ذات يوم غير قابلة للتحقيق مرة أخري, لأنها نشأت من ظروف خاصة غير قابلة للتكرار, فما قيمتها في حياة الإسلام والمسلمين. أهي وجدت فقط لتظل حلما مهوّماً يعرّّج عليه من أجل حلاوة الذكري ليس غير؟!.
كلا! إنها وجدت -بقدر من الله- لتظل نموذجاً يشد المسلمين إليه ليحاولوا تحقيقه في عالم الواقع.... وحين يحاولون فإنهم يرتفعون بالفعل, حتي وإن لم يصلوا -في مجموعهم- إلي ذات الدرجة التي وصل إليها هؤلاء؛ وإن كان التاريخ المشهود يقول إن أفراداً من كل جيل يصلون بالفعل إلي ذلك المستوي السامق الرفيع, أولئك الذين نتوهج قلوبهم بنور الإسلام فيستطيعون أن يقبسوا من شخصية الرسول وأحداث حيات مثل ما كان يقتبس الصحابة رضوان الله عليهم بالمعايشة المباشرة, وان يحسوا --في أعماق نفوسهم- بالنشأة الجديدة علي نحو ما أحس الذين عاشوها أول مرة... فينهلوا من الكتاب والسنة بمثل العمق الذي كان ينهل به الصحابة الكرام, ويحققوا في ذوات أنفسهم ما كانوا يحققون.
هؤلاء قلة في كل جيل -نعم- بينما كانوا كثرة ملحوظة في المحيطين برسول الله (... ولكن مجموع المسلمين -حين يحاولون- يرتفعون درجات من الارتفاع, حتي ولو لم يصلوا لذلك المستوي الرفيع, لأن المحاولة ذاتها توجه الناس إلي أعلي, بينما القعود يهبط بهم إلي أسفل, بحكم الثقلة التي تجذب الناس أبداً إلي أسفل ما لم يحاولوا الارتفاع:
{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [سورة العصر 103/1-3].(1/26)
من هنا يظل لذلك الجيل المتفرد دوره في حياة الإسلام والمسلمين.
فوجود هذا النموذج الفذ في عالم الواقع, حقيقةً واقعةً, لا حلماً ولا خيالاً ولا شعارات, يظل يحفز الراغبين في تحقيق الإسلام لتحويل الرغبة إلي واقع, وبذل أقصي الجهد في هذا السبيل... وحين يحققون الخصائص الرئيسية للوجود الإسلامي في عالم الواقع, فلا عليهم بعد ذلك إن لم يصلوا إلي الدرجة الفذة التي وصل غليها الجيل الأول, فإن مجرد تحقيق الخصائص الرئيسية للوجود الإسلامي -ولو في حدا الأدنى- هو قفزة هائلة إلي أعلي بالنسبة لكل جاهليات التاريخ, بما فيها الجاهلية المعاصرة, بل في مقدمتها الجاهلية المعاصرة! وتبقي الدرجات العليا مجالاً للتفاضل, ومجالاً للتطوع النبيل, لا تكلف نفس إلا وسعها, يبلغ منها كل إنسان بقدر ما يطيق, فتصل قلة قليلة إلي المستوي, ويقترب الباقون خطوات.
نعم, إن وجود هذا الجيل المتفرد واقعاً في التاريخ, لم يكن -في قدر الله- لمجرد أن يكون ذكري حلوة تشع نسماتها علي القلوب ساعة ثم تتبدد... بل ليكون واقعاً يتجدد.
فقد طلب الله من المسلمين في كتابه الباقي إلي يوم يرث الله الأرض ومن عليها أن يتأسوا برسول الله (, وأن يقتفوا أثر ذلك الجيل الفريد ويصلوا أنفسهم به:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21)} [سورة الأحزاب 33/21].(1/27)
{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} [سورة الحشر 59/9-10].
بل نقول أكثر من ذلك....
نقول إن حركة البعث الإسلامي المعاصرة هي أقرب الحركات أن تتمثل فيها خصائص ذلك الجيل المتفرد, إن لم يكن علي ذات الدرجة من الوفرة وذات الدرجة من التمكن, فعلي درجات قريبة منها علي أي حال.
ذلك أن الإسلام اليوم يعيش غربته الثانية التي تحدث عنها رسول الله (: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ, فطوبى للغرباء" (10).(1/28)
فإن لم تكن الغربة الثانية مطابقة تمام المطابقة للغربة الأولي في جميع حيثياتها فإنها ولا شك تشبهها في أمور كثيرة جوهرية, أهمها أن منهج الله ليس هو الذي يحكم حياة الناس, وأن الأمر يحتاج إلي دعوة الناس من جديد إلي الإسلام, لا لأنهم -في هذه المرة- يرفضون أن ينطقوا بأفواههم لا إله إلا الله محمد رسول الله كما كان الناس يرفضون نطقها في الغرة الأولي, ولكن لأنهم في هذه المرة يرفضون المقتضي الرئيسي لـ "لا إله إلا الله",وهو تحيكم شريعة الله والامتثال لمنهج الله, وإن كان ألف مليون من البشر من المحيط إلي المحيط ينطقون بأفواههم كل يوم: لا إله إلا الله محمد رسول الله! وهذه هي حقيقة "الغربة" التي يعانيها الإسلام اليوم في الأرض, رغم ملايين المصاحف التي تطبع, ومئات المحطات الإذاعية والتلفزيونية التي ترتل القرآن ن وتذيعه علي الناس, وتشرحه -في الأحاديث والدروس الدينية- لمن شاء من الناس الاستماع!.
وفي الغربة تكون الحركة إنشاء جديداً اكثر مما تكون مجرد إصلاح لما هو قائم بالفعل في نفوس الناس.
إن هذا الغثاء الذي يعيش بالملايين اليوم, والذي أشار إليه رسول الله ( في حديثه: "يوشك ان تداعي عليكم الأمم كما تداعي الأكلة إلي قصعتها. قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل إنكم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل.... " (11).
هذا الغثاء لا يحتاج إلي مجرد وعظه وإرشاده, وتقديم حقائق الإسلام إليه في الدروس الدينية سواء في المسجد أو الإذاعة أو الكتاب أو المحاضرة, إنما يحتاج إلي انتشاله في الجاهلية التي تحيطه وتضغط علي حسه بثقل "الأمر الواقع" وتنشئته نشأة جديدة علي حقائق الإسلام, ليعيشه بالفعل, لا "ليتحدث" عنه أو "يفكر" فيه أو "يعجب" به أو "يتمناه" وهو قاعد عن العمل لتحقيقه.(1/29)
والذي تقوم به حركات البعث الإسلامي اليوم هو هذا في حقيقته. هو نشأة جديدة في وسط الغربة. ومن ثم يتحقق لهذه الحركات عنصر من العنصرين الخاصين اللذين أسهما في صنع الجيل الأول, ولم يتكررا خلال ثلاثة عشر قرناً من قبل, ويكون لهذا العنصر فاعليته الكاملة في نفوس الذين يعيشون هذه الحركات, ويجاهدون لإزالة الغربة الثانية كما جاهدت الجماعة الأولي من قبل لإزالة الغربة الأولي للإسلام.
أما العنصر الآخر وهو حضور الرسول ( بشخصه الكريم بين ظهراني الناس فهو بطبيعته لا يتكرر أبداً إلي قيام الساعة. ولكنا نستطيع أن نزعم أن الذين يعيشون "النشأة الجديدة" بالعمق الحقيقي الذي تحدثثه في النفوس, ولا تفتنهم جزئيات من حقائق الإسلام فتشغلهم عن جوهره, ولا عن حقيقة المعركة التي يخوضها "الغرباء" في الأرض, لإعادة هذا الدين إلي التمكن وحكم حياة الناس الواقعة من جديد... هؤلاء يتوهج الحق في قلوبهم إلي الحد الذي يعيشون فيه مع رسول الله ( -في سيرته وسنته- كأنهم يعايشونه ويتلقون عنه من قرب كذلك الجيل الأول المتفرد, وتكون هذه المعايشة -من خلال السيرة والسنة- كفيلة برفعهم غلي تلك الآفاق السامقة التي ارتادها الجيل الأول بجهد أيسر, وهم يتلقون الرفعة من الأثر المباشر لشخصية الرسول (.
وخلاصة القول -كما أسلفنا- أن حركة البعث الإسلامي المعاصرة هي أقرب الحركات أن تتمثل فيها خصائص ذلك الجيل المتفرد, إن لم تكن بنفس الوفرة وبنفس الدرجة من الرفعة, فعلي درجات قريبة منها علي أي حال. وإنها لتقدم بالفعل نماذج ترتفع إلي ذلك المستوي, وتذكّر الناس به من جديد, سواء فقي التجرد لله, أو صدق الجهاد في سبيل الله, أو التقدم للشهادة بنفس راضية مستعلية علي كل متاع الأرض, متطلعة إلي ما عند الله, أو الثبات علي العذاب الذي لا تطيقه الأبدان ولا النفوس.(1/30)
والخلاصة مرة أخري أن ذلك الجيل المتفرد, الذي تمثلت في واقعية الإسلام ومثاليته, لم يوجد ليكون مجرد ذكري, وإنما وجد ليحاول المسلمون في كل الأجيال أن يصعدوا لمستواه, فإن حاولوا فقد ارتفعوا ونجوا من الهبوط, سواء وصلوا -في مجموعهم- إلي ذلك المستوي الرفيع أم لم يستطيعوا الوصول.
والخلاصة مرة ثالثة أن الذي تفرد به ذلك الجيل لم يكن هو الخصائص الأساسية للوجود الإسلامي, فهذه مطلوبة من كل جيل, وممكنة في كل جيل, ولازمة لإقامة الوجود الإسلامي الصحيح في الأرض, والناس محاسبون إن قصروا في أدائها, ويعتبرون آثمين في حق الله وحق أنفسهم إن قصروا فيها, ويتوقف وجودهم وثقلهم في الأرض علي القيام بها في صورتها الصحيحة.
إنما الذي تفرد به ذلك الجيل هو الدرجة العجيبة التي قاموا فيها بتحقيق هذه الخصائص في عالم الواقع, بعد قيامهم بتحقيقها في ذوات أنفسهم. وهذه درجة لم يفرضها الله فرضاً علي الناس, إنما فرض عليهم الحد الأدني الذي لا تستقيم الحياة بدونه, وترك الدرجات العلا للتطوع النبيل, الذي تقدر عليه النفوس حين تتربي التربية الصحيحة علي الإسلام, وتستضئ بنور الحق, وتعبد الله كأنها تراه (12), وتقتدي بالرسول ( كأنها تعايشه.
وحين يتحقق للناس الحد الأدنى من هذا الدين, تستقيم الحياة علي صورة تعجز عنها أي جاهلية من جاهليات التاريخ, وفي مقدمتها الجاهلية المعاصرة.... أما حين يتحقق ما فوق ذلك فهذا هو الفردوس الأرضي الذي تحقق ذات مرة علي يد ذلك الجيل المتفرد, والذي سيظل أملاً جميلاً يحاول المسلمون تحقيقه في أي قرن من القرون!!.
? ? ?(1/31)
وفيما يلي نحاول أن نبرز السمات الرئيسية للأمة الإسلامية في عهد ذروتها الذي تحقق فيه الذي تحقق فيه بالكامل وصف الله لها في كتابه المنزل {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [سورة آل عمران 3/110] ولنجعل في بالنا أن الذي نبرزه في هذا العرض السريع هو الخصائص الرئيسية للوجود الإسلامي -اللازمة في ذاتها لكل جيل- ولكن في صورتها الفذة التي حققها ذلك الجيل المتفرد, وأن الأمرين معاً مهمان في هذا العرض, ولكن الأمر الجوهري هو تلك الخصائص الرئيسية, لأن ها هي التي يتوقف عليها الوجود الإسلامي الصحيح, وحين انحرف المسلمون عنها تدريجياً, أصابهم -علي المدى- ما هم واقعون فيه اليوم, مما نعرض له في مكانه من الكتاب.
ولا يتسع المقام بطبيعة الحال للحديث المستفيض عن كل السمات الرئيسية للأمة الإسلامية, فليس لهذا تاريخاً لها ولا بحثاً متخصصاً في خصائصها, إنما نختار أبرز هذه السمات, ونعرضه في أوجز صورة تتناسب مع موضوع الكتاب.
ونختار من هذه السمات:
أولاً: صدق الإيمان, وجدية الأخذ من الكتاب والسنة, وصدق الجهاد في سبيل الله.
ثانياً: تحقيق معني "الأمة" في صورته الحقيقية.
ثالثاً: تحيق العدل الرباني في واقع الأرض.
رابعاً: أخلاقيات لا إله إلا الله.
بخامساً: الوفاء بالمواثيق.(1/32)
ثم نتحدث عن أمرين آخرين هما من الخصائص الرئيسية للأمة الإسلامية, وإن كان تحقيقهما -بطبيعته- لم يتم في حياة الجيل الأول, إنما تم في الأجيال التالية, لأنه ما -بحكم طبيعتهما- يحتاجان إلي فترة زمنية بعد التمكن في الأرض, ذانك هما الحركة العملية الإسلامية, والحركة الحضارية الإسلامية, وقد تمتا كلتاهما متأخرتين في الزمن. ولكن قواعدهما الأولي كانت قد أرسيت ولا شك في حياة ذلك الجيل الذي كتب في الحقيقة تاريخ الإسلام, فقد كانت الأجيال التالية متأثرة كلها بالدفعة الهائلة التي أحدثها الجيل الأول في حركة الحياة, لا في داخل العالم الإسلامي وحده, ولكن في الأرض كلها علي الاتساع!.
? ? ?
أولاً: صدق الإيمان, وجدية الأخذ من الكتاب والسنة
وصدق الجهاد في سبيل الله
كلها من الخصائص الأصلية لهذه الأمة, وهي هي التي قامت عليها خيريتها التي وصفها الله بها في قوله تعالي:
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل 3/110].
وليس الذي يبهرنا من الجيل الأول هو اتصافه بهذه الصفات, فهي من لوازم الأمة التي يخرجها القرآن إلي الوجود, وتحدد لها سنة رسول الله ( دقائق حياتها. وإنما الذي يبهرنا في ذلك الجيل الأول هو الدرجة العجيبة التي وصلوا إليها في ترسيخ هذه الصفات في نفوسهم وفي واقع حياتهم.
إن دعوة القرآن كلها هي إخلاص الدين لله:
{أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر 39/3].
{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11)} [سورة الزمر 39/11].
{وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة الأعراف 7/29].
{وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [سورة البينة 98/5].(1/33)
والخلاصة الذي يأمر الله به ليس مجرد مشاعر تستكّن في ضمير الإنسان, وليس مجرد إقرار يعلن فيه الإنسان أن الله واحد لا شريك له, عن اعتقاد قلبي بصدق ما يقرّ به من وحدانية الله. فهذا -وحده- لا يفي بما يطلبه الله من عباده بلفظ الأمر, لا علي سبيل الندب أو التحبيب أو التحضيض: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} إنما المتتبع لكل الآيات التي جاء فيها الأمر بالإخلاص يجد أنها متعلقة بتوجيه العبادة لله وحده دون شريك. فهي إذن ليست متعلقة بالاعتقاد وحده, إنما هي متعلقة كذلك بسلوك معين مرتبط بالاعتقاد. فالعبادة -كما هو واضح بالبداهة- سلوك واقعي, وليست مجرد مشاعر أو اعتقادات. سلوك مبني علي المشاعر, ومنبثق عن الاعتقاد.
والإخّلاص المطلوب في العبادة هو براءة هذه العبادة من الشرك, وتلك هي حقيقة التوحيد. وهو أمر لازم لا للارتقاء في مراتب الكمالات, بل لحصول الإيمان بادئ ذي بدء؛ أما الارتقاء في مراتب الكمالات بعد ذلك فله مجالات أخري نتحدث عن بعضها في حياة ذلك الجيل الأول, وهي التي ورد فيها الندب والتحبيب, لا الأمر والإلزام.
فما العبادة المطلوبة من العباد, وما كيفية البراءة من الشرك؟
العبادة كما بينها الله في كتابه المنزل تشمل أموراً ثلاثة:
- الاعتقاد الجازم بأن الله واحد في ذاته وفي أسمائه وصفاته.
- والتوجّه إليه وحده بالشعائر التعبدية التي افترضها علي عبادة.
- والالتزام بما أنزل الله من التحليل والتحريم والتحسين والتقبيح والإباحة والمنع.(1/34)
وأيما أمر اختل من هذه الثلاثة فهو ناقض للتوحيد ومُدْخِل في الشرك الذي يخرج الناس من الإسلام, مع اعتبار معين في هذا الشأن هو أن المعصية -بغير استحلال- لا تنقض أصل الالتزام, ولا تخرج الناس من الإسلام, ما داموا يقرون بالأمر المنزل من عند الله, ولا يجعلون مخالفتهم له تشريعاً مضاهياً لشرع الله, أو قائماً بذاته مناقضاً لشرع الله. بعبارة أخري ليست المعصية لما أنزل الله هي التي تخرج من الملة, إنما هو التشريع بغير ما أنزل الله, وهو المعنيّ في قوله تعالي: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} [سورة المائدة 5/44], {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [سورة المائدة 5/45], {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [سورة المائدة 5/47]. وكون ذلك هو الشرك المخرج من الملة واضح في قوله تعالي:
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى 42/21].
{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [سورة الأعراف 7/3].
و "الدين" في آية الشورى, واتباع ما أنزل الله في آية الأعراف, كلاهما لا يتعلق بالاعتقاد وحده ولا بالشعائر التعبدية وحدها, إنما يشمل قضية التحليل والتحريم, ويعتبر اتخاذ أيِّ من هذه الأمور الثلاثة: الاعتقاد والشعائر والشرائع, من مصدر غير الله شركاً واتباعاً للأولياء, بدليل قوله تعالي في سورة النحل حكاية عن المشركين, وتحديداً لأعمال الشرك التي يقومون بها:
{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [سورة النحل 16/35].(1/35)
وبدليل قوله تعالي عن المنافقين في سورة النساء موضحاً المحك الذذي يصدقّ دعوي الإيمان أو يكذبها.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} إلي قوله تعالي: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء 4/60-65].
من هذه الآيات -وأمثالها في القرآن كثير- يتضح لنا أن العبادة المطلوبة من العباد هي إفراد الله بالألوهية والربوبية, الذي يشمل توحيد الله في ذاته وأسمائه وصفاته, والتوجه إليه وحده بالشعائر التعبدية, والالتزام بما أنزل الله, وعدم اتخاذ شرع من مصدر سواه, سواء علي سبيل المضاهاة لشرع الله كما كان يفعل التتار قبل إسلامهم من اتخاذ $الياسق" الذي يجمع أحكاماً من القرآن وأحكاماً من مصادر أخري, أو علي سبيل التشريع المطلق, أي تنحية شرع الله جملة واتخاذ شرع غيره.
هذه العبادة -علي هذه الصورة-- هي التي تخرج الناس من الشرك وتجعلهم مسلمين. وهذا هو الإخلاص في حده الأدنى, الذي لا يقبل الله من الناس أقل منه, ولا تقوم بغيره حقيقة الإسلام في داخل النفوس ولا في واقع الحياة (أما الدرجات العليا فمرهونة بمقدار الطاعات التي يتقدم بها العباد إلي الله, ومقدار الحرص علي الالتزام بما أقر به القلب واللسان).
أما الاعتقاد بأن هناك شركاء لله في الخلق أو التدبير أو الرزق أو الإحياء أو الأمانة أو النفع أو الضر.... إلخ, أو التوجّّه لغير الله بالشعائر التعبدية, أو التشريع بغير ما أنزل الله, أو الرضي بغير ما أنزل الله, فهو الشرك الذي يخرج الناس من الإسلام.
? ? ?(1/36)
وإذا كان أمر الإخلاص كذلك, في شموله لهذه الأمور الثلاثة, فإن جدية الأخذ من الكتاب والسنة تصبح بديهية من بديهيات الأمة المسلمة لا يقوم بغيرها لهذه الأمة وجود. فما دام الالتزام بما أنزل الله ركنا من أركان العقيدة, لا تقوم في الحقيقة بدونه (بصرف النظر عن المعصية التي لا تتحول إلي تشريع بالنسبة لصحابها ولا بالنسبة لغيره من الناس) (13). فقد أصبحت جدية الأخذ من الكتاب والسنة هي المقتضي المباشر للإسلام. ففي كل لحظة من حياة الناس "تشجر" أشياء تحتاج إلي "حكم" يتخذ فيها. فمن أين يستمد الحكم؟.
إنه ليس هناك إلا مصدر اثنان: إما حكم الله وإما حكم الجاهلية:
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ؟ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ؟!} [سورة المائدة 5/50].
فإن لم يتخذ الناس أحكامهم من عند الله -أي من القرآن والسنة, ومن اجتهاد الفقهاء الملتزم بالكتاب والسنة لا يشذ عنهما ولا يخرج علي أحكامهما- فإنهم عندئذ يتخذون أحكامهم من الجاهلية, ويخرجون بذلك من الإسلام.
فجدية الأخذ من الكتاب والسنة وهي لالزم من لوازم الوجود الإسلامي, وسمة من سمات الأمة الإسلامية لا تنفك عنها؛ وليس وجودها هو الذي يبهرنا من ذلك الجيل الأول. إنما الذي يبهرنا منه هو الدرجة العالية من الالتزام في التنفيذ, التي تجعل المعصية شيئاً نادراً في حياة الناس, مما نتحدث عن نماذج منه بعد قليل.
كذلك أمر الجهاد في سبيل الله..... إنه سمة أصلية من سمات هذه الأمة.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة الصف 61/10-11].(1/37)
فما دامت الأمة قد حملت راية لا إله إلا الله, وحملت معها مسئولياتها, فقد أصبح الجهاد من لوازم وجودها, ذلك أن البشر لا يستقيمون كلهم علي منهج الله, ولا يرضون كلهم أن يكون الدين لله, ولا يدعون المسلمين وشأنهم يقيمون دينهم بمأمن من العدوان:
{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [سورة التوبة 9/36].
{وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا} [سورة البقرة 2/217].
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال 8/39].
{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [سورة البقرة 2/120].
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [سورة التوبة 9/29].
وبصرف النظر عن الجدل الذي يقوم به المستضعفون من المسلمين في جيلنا الحاضر, حين يقولون إن الجهاد في الإسلام دفاعي فقط, أي أن المسلمين لا يقاتلون إلا إذا هوجموا من قبل أعدائهم, مستندين إلي أحكام القتال المرحلية التي جاء فيها قوله تعالي: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [سورة البقرة 2/190].
مغفلين الآيات الصريحة التي أوردناها آنفاً, أو مؤولين لها علي ضوء الأحكام المرحلية.
بصرف النظر عن هذا الجدل فسيظل الواقع الذي تعيشه الأمة الإسلامية اليوم بعد أن تركت الجهاد تحت راية الإسلام خير دليل علي وجوب الجهاد إلي قيام الساعة.(1/38)
دفاعياً أو هجومياً... لا غني للأمة الإسلامية عن الجهاد: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال 8/39].
ومرة ثالثة نقول الذي يبهرنا من حياة الجيل الأول ليس هو صدق الجهاد في سبيل الله -الذي هو عنصر لازم للوجود الإسلامي في كل جيل- إنما هو الدرجة الرائعة من هذا الصدق في حياة ذلك الجيل.
والآن نعود إلي ذلك الجيل المتفرد لنري الصورة المثالية التي تحققت بها هذه الصفات في عالم الواقع.
لقد عاش ذلك الجيل مع القرآن حياة كاملة إن صح التعبير..
كل جملة في القرآن وكل عبارة, كل توجيه وكل أمر أو نهي... يصل إلي نفوسهم بشحنته الكاملة, ويحركها الحركة التامة المطلوبة من الجملة أو العبارة, أو التوجيه أو الأمر أو النهي.
لم تكن هناك قراءة لمجرد التأمل الفكري, ولا قراءة للاستمتاع الفني ببلاغة القرآن, ولا قراءة لاستخراج نظريات فلسفية أو عقلية أو تجريدية.. أو حتى للتأثير الوجداني الذي يأخذ بمجامع النفس ثم ينتهي بتهويمة روحية لا تحرك صاحبها من مكانه!.
إنما كانت هناك معرفة للتنفيذ الفوري.
يروي الصحابة عن أنفسهم يقولون: لم يكن أحدنا يستكثر من القرآن, إنما كنا نتعلم عشر آيات لا نزيد عليهن حتي نعمل بما فيهن, فتعلمنا القرآن والعمل جميعاً (14).
لقد أنزل الله هذا القرآن لينشئ شيئاً ضخماً في واقع الأرض.
{وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً} [سورة الرعد 13/31].(1/39)
لقد كان المشركون يطلبون الرسول ( بمعجزات حسية كتسيير الجبال وتقطيع الأرض وتكليم الموتي, ويعلقون إيمانهم بصدق الرسول ( علي تحقيق هذه المعجزات الحسية. ولكن الله لم يشأ أن ينزل عليهم تلك الآيات الحسية وأنزل بدلاً منها ذلك الكتاب المعجز العظيم: الآية الباقية أبد الدهر. والآية التي أوردناها آنفاً تشير إلي أنه ليس من شأن القرآن أن يسيّر أو يقطع الأرض أو يكلم الموتي, لأن له شأناً آخر... وتوحي بأن ما يقوم به القرآن أعظم من ذلك كله! أعظم من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وتكليم الموتي, الذذي تنتهي إليه أحلام الجاهلين وتصوراتهم... إن مهمته هي إنشاء "الإنسان" فبي أحسن تقويم.... وذلك أعظم عند الله من كل ما يتصورون.
ولقد عمل القرآن علمه بالفعل في نفوس المسلمين الأوائل, فأنشأها إنشاء من جديد, فكان منهم ذلك الواقع العجيب الذي سجله التاريخ, والذي يلتقي فيه الواقع بالمثال.
كان القرآن يحدثهم عن قضية الألوهية فيدخل بها إلي نفوسهم من كل مداخلها, ويوقَع بها علي أوتار قلوبهم, فإذا اهتزت وجههم إلي حقيقة التوحيد.
كان يحدثهم عن آيات الله في الكون, ون قدرة الله المعجزة في الخلق, وعن قدرة الله المعجزة في الخلق, وعن الإحياء والإماتة, وعن الرزق والتدبير, وعن علم الله للغيب... إلخ.... إلخ.(1/40)
{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيِّ ذَلِكُمْ اللَّهُ فَأَنَّا تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنْ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)} [سورة الأنعام 6/95-99].(1/41)
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)} [سورة النحل 16/66-69].
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [سورة المؤمنون 23/12-14].(1/42)
{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِي (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ } [سورة الرعد 13/8-13].
.................
.................
................
وكانت هذه الآيات كلها تصل إلي نفوسهم بكل شحنتها, فتدخل إلي أعماقها, فتهزها هزاً.... فستجيب:
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ .....} [سورة الزمر 39/23].
وكانت استجابتهم فذة من كل جوانبها....
امتلأت قلوبهم بعظمة الله فقدروه حق قدره, فأخبتوا له, وتعلقت قلوبهم به في الخوف والرجاء, في الحب والكره, في السعة والشدة, في الضيق والفرج, في كل لحظة وفي كل حال.(1/43)
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ....} [سورة آل 3/190-195].
ولم يكن هذا الذكر تسبيحاً باللسان, ولا بالأذكار والأوراد, ولا علي حبات المسابح.
إنما كان الله حاضراً في قلوبهم في كل لحظة {قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [سورة آل 3/191]. لأن القرآن كان يخاطبهم بقضية الإلوهية في كل حال من أحوالهم. إن كانوا يريدون شيئاً فالله هو الذي يعطي ويدبر. وإن كانوا يخشون شيئاً فالله هو الذي يقدر الأقدار. إن كانوا يطلبون بسطة في الرزق فالله هو الذي يقبض ويبسط. إن كانوا يريدون الذرية فالله هو الذي يهب الذرية لمن يشاء. إن كانوا يخشون أعداءهم فالله هو الذي يسلط من يشاء علي من يشاء لحكمة يريدها, ولن يخرجوا من قبضة أعدائهم إلا في اللحظة التي يقدرها الله, وبقدر يقدره الله... والله هو مالك الملك الذي يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء, ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الأمر وهو علي كل شئ قدير:(1/44)
{فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25) قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [سورة آل 3/25-27].
وهكذا حيثما وجّّه الإنسان بصره, أو توجهت به مشاعره وجد الله تجاهه...
والمسلمون الأوائل هم الذين امتلأت قلوبهم بهذه الحقيقة حتي أعماقها... فآتت ثمارها... وهل ثمارها إلا طاعة الله؟!.
إذا كانت الألوهية علي هذا النحو الهائل المحيط.... فكيف يكون موقف العبد تجاه مولاه؟.
هذا.. هو الذي جعل ذلك الجيل علي النحو الذي كان عليه.... إحساسهم الحق بالعبودية الكاملة للإله الحق, العظيم القادر, المحيط بكل شئ علماً وتدبيراً وقدرة ومشيئة وحفظاً وهيمنة وملكاً وجبروتاً ورحمة ومغفرة...
هو الله.. وهم العبيد.. والعبيد يسلمون أنفسهم وقلوبهم وأرواحهم للذي يملكها حقاً وصدقاً... فيتصرفون تجاه المالك كما يتصرف العبيد من الإذعان والطاعة والتسليم والخضوع.
وعندئذ يصلون إلي القمة التي لا يحسن الصعود إليها إلا من يحسن العبودية لله!.
إن لهذا الأمر عجيب.. ولكنه هو حقيقة النفوس! إنها لا تكون علي تمامها, وفي أحسن لحالاتها وأعلاها, إلا حين تكون مستقيمة علي وضعها الصحيح تجاه خالقها. كالآلة لا تدور دورانها الطبيعي السهل السلس حتي يكون كل "ترس" من "تروسها" في وضعه الصحيح, ولا يكون شئ منها ناتئاً عن موضعه فتقف عن الحركة لآو تضطرب في دورتها.
فما الوضع الصحيح للإنسان تجاه خالقه؟(1/45)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)} [سورة البقرة 2/208].
استسلموا لله بكافة أنفسكم... بكافة كل نفس منكم... بحيث يكون كل جزء من نفوسكم مستسلماً لله... وهذا هو الإسلام!.
وعندئذ؟ تكونون في أعلي عليين!! تكونون في أصفي حالاتكم, وفي أفضل حالاتكم, وفي أعلي صورة مستطاعة للإنسان علي الأرض... الإنسان الذي توشك أن تصافحه الملائكة!
هل من عجب إذن أن يكون أعظم بشر في تاريخ البشرية هو أعبد الناس لله؟.
هو الذي يمن علي الله عليه بأنه قرّبه إليه أشد القرب بأن ألصق عبوديته به سبحانه وتعالي:
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)} [سورة الإسراء 17/1]
ففي أعظم لحظات التقريب أبرز الصفة التي كانت هي أداة القرب, وأداة الرفعة, وأداة التكريم.
إنه رب كريم, يكرّم عباده بمقدار ما يتعبدونه, فيكون أكرمهم عنده هو أشدهم عبودية له:
{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [سورة الحجرات 49/13]
والكريم عند الله هو الكريم حقاً في السماوات وفي الأرض, وفي كل وضع من أوضاعه وكل حالة من حالاته.
هذا هو الذي وعنه قلوب الصحابة الكرام رضي الله عنهم.. فكانوا خير قرن من القرون, بمقدار ما أخصلوا دينهم لله.... بمقدار ما صدقوا في عبوديتهم لله..
? ? ?
وكان القرآن يحدثهم عن اليوم الآخر حديثاً يهز القلوب بدقة الوصف والبلاغة المعجزة في التعبير, فيعيشون مشاهد القيامة كأنهم يرونها اللحظة تجاه أعينهم... كأنها هي الحاضر المشهود لا المستقبل المنظور.(1/46)
تلك خاصية القرآن... يظل يصف لك مشاهد القيامة حتي يخيل إليك من روعة الوصف أن الحياة التي تحياها الآن قد مضت وانقضت وأصبحت ماضياً يتذكر, وأن الحاضر هو هذه المشاهد الحية الموصوفة بكل دقائقها:
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)} [سورة الطور 52/17-28](1/47)
{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوْ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)} [سورة الواقعة 56/41-56]
نعم... تلك خاصية القرآن... ولكن القلوب المتفتحة تحس بوقع الكلمات علي نحو يختلف عن غيرها من القلوب... إنها تتلقي الشحنة كاملة, فتتأثر بها كاملة, ويسري الأثر إلي الأعماق.
لقد كان من صدق استسلام هذه القلوب لله, أن كان تأثرها بكلام الله أشد, فهي تتلقي كل كلمة من كلام الله علي أنها موجهة إليها شخصياً, لا أنها موجهة لآخر وهي تتفرج من بعيد, كما يحدث للقلوب الغافية التي تتلقي الكلام وهي وسنانة, فيكون في حسها كرجع الصدي, مبهما غير واضح النبرات!.(1/48)
عاشوا والآخرة في حسهم كأنها حاضر. يعايشون مشاهدها تجاه أعينهم, فتشهدهم الجنة بنعيمها الشفيف الخالد فيشتاقون إليها, فيغذون السير إليها متخففين مما يثقلهم في الطريق من متاع الحياة الدنيا, متزودين بالزاد الذي يصلح الطريق {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [سورة البقرة 2/197] ورهبهم النار بعذابها المروع فيحذرون أن يقعوا فيها, فيحاولون الابتعاد إلي أقصي المدي لينجوا من اللهيب: "كنا نترك تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام".
وكذلك كان وقع اليوم الآخر في حسهم... لم يكن مجرد تأثر وجداني مؤقت, تمر به رياح الشهوات فتعصف به وتذروه, إنما هو شئ ثابت تجاه أعينهم, في كل لحظة يرونه, وفي كل لحظة يتأثرون برؤيته, فيعملون ما يقربهم من الجنة, ويتحاشون مايقربهم من النار. لذلك كان دعائهم - وهم يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلي جنوبهم - علي هذا النحو الذي تصفه الآيات:
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)} [سورة آل 3/191-194]
في كل لحظة يهم أحدهم بعمل يسأل نفسه: هل هذا العمل مما يرضي الله عنه فيدخله به الجنة؟ ام مما يسخط الله فيدخله به النار؟.(1/49)
وفي كل لحظة يسأل نفسه: ما الذي يريده الله مني في موقفي هذا في لحظتي هذه؟ فإذا عرف الجواب أسرع إلي القيام بما يطلبه الله منه, شوقاً إلي الجنة وفراراً من النار. وكان هذا هو الذكر الذي يذكرون به الله قياماًً وقعوداً وعلي جنوبهم... الذكر الحافز إلي المسارعة في الخيرات, لا ذكر الأوراد والأذكار والمسابح, الذي يبدأ هناك وينتهي هناك!.
? ? ?
وكان القرآن يحدثهم عن قصة الشيطان مع آدم, ويحذرهم من الوقوع في فتنته:
{يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27)} [سورة الأعراف 7/27]
{قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)} [سورة الأعراف 7/14-17]
{إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً (120)} [سورة النساء 4/117-120](1/50)
وكان الشيطان يتجسم في حسهم مرئياً مشهوداً يأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم, يوسوس لهم بالمعصية ويستثير كوا من الشهوات.. فكانوا يحاولون أن يكونوا دائماً علي يقظة, لأنه لا يدخل إلا علي الغفلان. كانوا يتقربون إلي الله بالطاعات ليضيقوا طريق الشيطان إليهم أو يسدوه, فلا يجد له طريقاً إليهم إلا فيما هو أخفي من دبيب النمل, ومع ذلك يحاولون أيضاًَ أن يسدوا ذلك الطريق!.
{فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} [سورة النحل 16/98-100]
? ? ?
وكان القرآن يحدثهم عن أخلاقيات لا إله إلا الله:
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)} [سورة المؤمنون 23/1-11](1/51)
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً (67) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69) إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً (74) أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً (76)} [سورة الفرقان 25/63-76]
ويحدثهم كذلك عن أخلاقيات الجاهلية:(1/52)
{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)} [سورة المطففين 83/1-3]
{كَلاَّ بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً (20)} [سورة الفجر 89/17-20]
{كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [سورة العلق 96/6-7]
{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)} [سورة الهمزة 104/1-3]
{وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (15)} [سورة القلم 68/10-15]
فيأخذون التوجيه علي أنه أمر ملزم ونهي ملزم. أمر بأخلاقيات لا إله إلا الله, ونهي عن أخلاق الجاهلية.
لذلك لم تكن لا إله إلا الله منفصلة في حسهم عن الأخلاق الفاضلة التي دعاهم إليها باسم الإيمان, لأنها كانت في حسهم -كما هي في الواقع - من مقتضيات لا إله إلا الله.
? ? ?
هل نعجب إذن - حين نعرف الطريقة التي كانوا يتلقون بها توجيهات القرآن وتوجيهات الرسول ( - إذا رأيتا تلك النماذج الفذة التي تحدثنا عنها كتب السيرة, بتلك الوفرة التي وعاها التاريخ؟
هل نعجب من الذين باتوا علي الطوي ليقدموا اللقمة الضئيلة التي يملكونها إلي ضيفهم, وأصفأوا السراج حتي لا يري الضيف أنهم لا يملكون إلا ما قدموه له... فأنزل الله فيهم {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [سورة الحشر 59/9](1/53)
هل نعجب من الذي خرج من بيته وبيده تمرات فلما رأي القتال قال: لئن عشت حتي أنتهي من هذه إنه لأمر يطول! فألقي التمرات واقتحم المعركة شوقاً إلي الجنة فاستشهد؟!
هل نعجب ممن كان في ليلة عرسه فسمع الهيعة فقام يطلب الجنة فلما استشهد غسلته الملائكة؟!
هل نعجب ممن يقدم له رسول الله ( قسمه من الفئ فيرده يقول ما علي هذا بايعتك! لأنه يبحث عن متاع من نوع آخر, ويصدق الله فيصدقه... فيدخله الجنة شهيداً في سبيل الله؟!
هل تعجب من عمر يبكي حين رأي العجوز تلهي أبناءها ليناموا فيذهب بنفسه فيحمل الدقيق علي ظهره ويعود يصنع للأطفال الطعام بيده ولا ينصرف حتي يعلم أنهم قد شبعوا وناموا؟!
هل نعجب من ماعز تؤرقه نفسه, يلح علي رسول الله ( حتي يقيم عليه الحد, لا يطيق أن يلقي الله بلا كفارة؟ ومن الغامدية تلح في إقامة الحد عليها, وتظل علي عزيمتها لا تفارقها حتي تفطم ولدها... تريد أن تلقي الله خالية من الذنوب؟!
هل نعجب من ربعي بن عامر يدخل علي رستم كما دخل, مستعلياً عيل كل ماتملكه الجاهلية من السلطان والجاه, معتزاً بلا إله إلا الله, يصدع بكلمة الحق في وجه الجاهلية العاتية, لا يرهبها ولا يحس لها وزناً في حسه, لأنه يزنها بميزان الله فإذا هي خاوية, تستحق أن يدوسها بأقدام حماره, ويمزقها بطرف رمحه, ويملي علي صاحبها أمر الله!
هل نعجب من عمرو بن العاص يطلب المدد من الخليفة لأن الروم يشدون علي جيشه, فلا يرسل له عمر رضي الله عنه عشرة آلاف يمده بهم ولا خمسة آلاف, ولا ألفاً ولا خمسمائة, إنما يرسل إليه أربعة من أصحاب رسول الله ( الكرام العظام كأنهم مدد يبلغ الألوف؟!
هل نعجب من انتشار الإسلام في تلك الرقعة الفسيحة من الأرض في تلك البرهة القصيرة من الزمن, فيبلغ من المحيط غرباً إلي الهند شرقاً في نصف قرن من الزمان علي أيدي أولئك الأفذاذ من الرجال؟!(1/54)
هل نعجب من مئات ومئات من الخوارق في كل اتجاه, تجتمع كلها وتحتشد في تلك الفترة المحدودة من الزمن, حتي ليمر بها المؤرخ وكاتب السيرة مروراً عابراً كأنما يتحدث عن شئ عادي, ذلك أنه ينظر يمنة ويسرة فيري القمم الشاهقة من حوله فلا يعود يصف قمة بأنها قمة!! لأن هذا لا يميزها عن غيرها من القمم!!
? ? ?
هل خرج هؤلاء البشر عن بشريتهم؟
هل أصبحوا ملائكة؟
هل خرجوا من عموم قوله (: "كل بني آدم خطاء" (15)
كلا: ما كانوا كذلك!
كانوا بشراً تعتمل في نفوسهم دوافع البشر, ويتحركون في الأرض بدوافع البشر... ولكنها دوافع البشر في أصفي حالاتها وأعلاها, دوافع البشر حين يتخففون إلي أقصي حد من ثقلة الأرض, فيصعدون أقصي ما يتاح للبشر من الصعود, ولكنهم مع ذلك كله بشر فيهم من سرق وأقيم عليه الحد, وفيهم من زني وأقيم عليه الحد, وفيهم من شرب الخمر وأقيم عليه الحد, وفيهم من تولي يوم التقي الجمعان فغفر الله له, وفيهم من تباطأ وتثاقل, وفيهم من تخلف...
فيهم من نزل فيه قوله تعالي: {مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ} [سورة آل 3/152]
وقوله تعالي:{مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [سورة التوبة 9/38]
وقوله تعالي: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ} [سورة محمد 47/38](1/55)
وقوله تعالي: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)} [سورة التوبة 9/117-118]
ولكنهم كانوا كما وصفهم الله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)} [سورة آل 3/135-136]
كانوا يعملون... فإذا هبطت بهم ثقلة عن المستوي السامق لم يستكينوا للهبوط, إنما عادوا يعملون للصعود من جديد... فيصعدون... ويصعدون!
ثانياً: تحقيق معني الأمة في صورته الحقيقة:
كان العرب كما قلنا ققبائل متناثرة لا تجتمع علي شئ, علي الرغم من وجود كل مقومات التجمع من وحدة الأرض, ووحدة اللغة, ووحدة الثقافة, ووحدة التاريخ, ووحدة التصورات, ووحدة التطلعات.(1/56)
وقد كان يمكن علي أقل تقدير أن يجتمعوا علي قضية من القضايا التي يتجمع لها الناس في جاهلياتهم, قضية قومية مثلاً لطرد الإحتلال الفارسي والاحتلال الروماني من أطراف الجزيرة العربية, أو قضية اجتماعية للتقريب الفوارق بين الغني الفاحش في أيدي فئة قليلة من الناس والفقر المدقع الذي ييتسربل به أغلبية الناس.. أو غير هذه وتلك مما يمكن أن يجتمع له الناس في أطوار معينة من أطوار الحضارات الجاهلية... ولكن العصبية القبيلة والثارت الدائمة و غارات السلب والنهب واشتغال كل قبيلة بشئونها الخاصة, وحرصها علي حيازة ما تفاخر به غيرها, وسعيها إلي انتقاص غيرها, جعل التجمع حتي علي هذه القضايا الأرضيية البحتة أمراً لا يخطر في بال قبيلة من القبائل, حتي في فرصة التجمع السنوي في موسم الحج.
ومن هناك انتشلهم الإسلام
انتشلهم لا ليكونوا تجمعاً قومياً كما يمكن أن يحدث في أية جاهلية من جاهليات التاريخ, ولا ليكونوا تجمعاً وطنياً تحت قيادة زعيم منهم ينشئ منهم دولة موحدة ذات كيان وحدود...ولكن لينشئ منهم تجمعاً فريداً في التاريخ... لينشئ منهم أمة العقيدة التي استحقت من الله وصفها بهذا الوصف العظيم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل عمران 3/110]
والذي يلحظ النقلة الهائلة التي انتقلها العرب من شتاتهم المتناثر ليكونوا خير أمة أخرجت للناس, لا بد أن يأخذه العجب من هذا التحول الهائل في فترة من عمر الزمن كأنها لحظات!
وقد يتمحل المتمحلون من دعاة القومية العربية, أو دعاة التفسير المادي للتاريخ ليقولوا إن العرب كانوا وشكين من ذوات أنفسهم علي التجمع القومي لطرد الروم والفرس من أطراف الجزيرة, أو ليقام ثورة "اشتراكية" من الفقراء علي الأغنياء تنقل السيادة من الأخيرين إلي الأولين
وهو تمحل فارغ لا يستحق الوقوف عنده لبضع لحظات!(1/57)
فلا التجمع القومي المزعوم كانت له أي بوادر منظورة بين القبائل العربية المتناثرة, ولا تكلم به أي متكلم علي الإطلاق, ولا "الثورة الإشتراكية" كانت لها أي بوادر منظورة أوكامنة في الجزيرة العربية ولا في غيرها من بقاع الأرض لعدة قرون تلت, ولا كان "الفقراء" في أي قبيلة تجمعاً مترابطاً متضامناً ليقوم بالثورة علي الأغنياء فيها, فضلاً عن أن يكونوا تجمعاً عريضاً يشمل فقراء الجزيرة العربية كلهم بوصفهم "طبقة" تثور علي طبقة الأغنياء.
وفضلاً عن ذلك كله فإن التجمع الذي تمثل في تلك "الأمة الفريدة" أمة العقيدة, هو تجمع فريد لا مثيل له في كل التجمعات "القومية" السابقة أو اللاحقة, ولا في التجمعات التي قامت علي أساس المذاهب الاجتماعية في العصر الحديث, فالقول بأن العرب كانوا وشكين من عند أنفسهم علي إقامة هذا التجمع أو ذاك, لا يفسر -حتي إن صح - قيام ذلك التجمع الفريد, الذي لم يتكرر -بهذه الصورة - في كل التاريخ.
? ? ?
كيف تكونّ ذلك التجمع الفريد, الذي أنشأ خير أمة أخرجت للناس؟
لقد بدأ ولا شك بأولئك الأفراد القلائل الذي تجمعوا حول الرسول ( في دار الأرقم بن الأرقم فى خفية عن عيون الناس. كل قد هجر الجاهلية كلها من حوله وأدار لها ظهره وقطع صلته بقرابة الدم وصداقات القوم وتوجه الوجهة الجديدة التى تدعو إليها لا إله إلا الله محمد رسول الله التى شهد بها قلبه ولسانه وكل جوارحه وأصبحت له - منذ شهد بها - هى الموثل والملاذ وهى مفرق الطريق بينه وبين الجاهلية.
وحين التقوا حول رسول الله ( فقد التقوا بكيانهم كله والتحمت قلوبهم بنوع جديد من الرباط لم يألفوه من قبل ولا وجود له فى الحقيقة خارج نطاق العقيدة. إنه اللقاء فى الله واللقاء فى رسول الله.
إن الناس فى الجاهلية تلتقى وتقوم بينها صحبة وصداقات. ولكن على أى شئ تلتقى الناس؟
إنها إما قرابة الدم وإما " المصالح المشتركى " وإما لقاء الشهوات.(1/58)
ومن ثم فإنها - مهما تقاربت وتلاصقت - لا تصل إلى حد الالتحام!
فى كل صلة من هذه الصلات لا تذوب " الأنا " التى تقيم حاجزا بين القلب والقلب وإن تلاقت الأجساد أو تلاقت العقول والأفكار. فكل إنسان يقيم سياجا معينا لنفسه يتسع للحجم الذى يحس فيه " بالأنا " المشتملة عليها ذاته ومن ثم تلتقى الذوات المختلفة وتتقارب ولكن فى حدود ذلك السياج المنصوب من كل منهم حول " الأنا " التى يحسها بين جنبيه. ومن ثم تتنافر تلك الذوات إذ اقتربت أكثر من اللازم ويبدأ بينها الاحتكاك!
نوع واحد من الرباط لا يحدث فيه ذلك التنافر لأنه يذيب ذلك السياج الزائف الذى ينصبه الإنسان حول نفسه ومن ثم تظل القلوب تقترب وتقترب حتى يحدث الالتحام.. ذلك هو رباط العقيدة! ذلك أنه ليس رباطا بين إنسان وإنسان فى محيط الأرض وعلى علاقات الأرض ولكنه رباط فى الله بين عبد لله وعبد لله خلا قلباهما من ذلك الكبر الظاهر أو الخفى الذى يحجز القلوب عن التقارب والالتحام وامتلأ قلبهما بشئ آخر غير مشاغل الحس القريبة ومشاغل الأرض المنقطعة عن السماء.
ذلك الرباط هو الذى وحد تلك القلوب حول رسول الله ( حين حدث اللقاء بينها فى الله فتحابت فالتحمت ثم زادها التحاما لقاؤها فى حب رسول الله ( فتآخت ذلك الإخاء العجيب الذى يتحدث عنه التاريخ!
كان الصحابة رضوان الله عليهم يسير الاثنان منهم فى الطريق فتفصل بينهما أثناء المسير شجرة فيعودان فيسلم أحدهما على الآخر شوقا إليه من تلك اللحظة التى فصلت بينهما فى الطريق!
وبكى أحد الصحابة حزنا لأنه فكر فى فراق رسول الله ( فى الدار الآخرة وهو لا يطيق فراقه فى الدنيا فأنزل الله قوله فيه: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً (69)} [سورة النساء 4/69].(1/59)
ولما هاجر الرسول ' إلى المدينة آخى بين الأوس والخزرج فذاب ما بينهما من نزاع وصراع استمر ذلك المدى من الزمن الذى لا يعلمه إلا الله وصار بينهما ذلك التآلف والإخاء الذى من الله به عليهم: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانا} [سورة آل 3/103].
ثم آخر بين المهاجرين والأنصار تلك المؤاخاة العجيبة الفريدة فى التاريخ حيث كان الأنصار يتنازلون عن شطر ما يملكون للمهاجرين عن طيب خاطر وعن غير إلزام ألزمهم به الله ولا رسوله ' ويؤثرونهم أحيانا على أنفسهم حتى أنزل الله فيهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (9)} [سورة الحشر 59/9].
إنه ذلك الحب الذى ينشئه رباط العقيدة ولا يملك رباط آخر أن ينشئه على هذا النحو الوثيق العميق الشفيف الذى يصل إلى درجة الالتحام لأنه لا يصطدم بالسياج الزائف الذى تقيمه " الأنا " حول ذاتها فى جاهليات البشرية.
ولم تكن تلك المؤاخاة طبقية تقوم بين " شريف " و" شريف " ولا مؤاخاة قومية أو عرقية تقوم بالضرورة بين عربى وعربى.. إنما كانت مؤاخاة بين " مسلم " و " مسلم " بصرف النظر عن الجنس أو اللون أو اللغة أو الوضع الاجتماعى لأنها الأخوة التى قال الله عنها: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} [سورة الحجرات 49/10]. تربط القلوب برباط الإيمان بصرف النظر عن كل رباط آخر.(1/60)
فقد آخى الرسول ' بين عمه حمزة ومولاه. زيد وبين أبى بكر وخارجة بن زيد وبين ابن رواحة الخثعمى وبلال بن رباح.. والتقى فى بوتقة العقيدة التى صهرت كل فوارق الجبنس واللون واللغة بلال الحبشى وصهيب الرومى وسلمان الفارسى مع أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وسائر الصحابة رضوان الله عليهم. بل قال رسول الله ': " سلمان منا آل البيت " (16) وقال عمر رضى الله عنه عن أبى بكر وبلال رضى الله عنهما: " أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا ".
إنها هى " الأمة " التى قال عنها خالقها سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [سورة آل عمران 3/110].
إنها الأمة في معناها الحقيقي الذي لم يتحقق في أي تجمع آخر من تجمعات التاريخ.
إنها أمة العقيدة.. ذات الرباط الحقيقى الذى ينشى الأمة فى صورتها الحقيقية.
ليست الأمة كما يعرفها علم الاجتماعى الجاهلى مجموعة من البشر تجمعهم أرض مشتركة ولغة مشتركة وجنس مشترك ومصالح مشتركة ومصالح مشتركة. فهذه كلها هى العناصر التى لا اختيار للإنسان فيها والتى يجتمع على مثلها الحيوان كذلك!(1/61)
فالميلاد فى أرض معينة أمر لا يتخيره الإنسان لنفسه ومن الحماقة أن يكون بذاته محلا للتفاضل بين بشر وبشر! واتخاذ لغة البقعة من الأرض التى ولد فيها الإنسان هو أمر كذلك لا يختاره الإنسان لنفسه ومن ثم فلا مجال لأن يكون بذاته موضعا للتفاضل بين بر وبشر! والإنتماء - بالمولد - إلى جنس معين هو أمر كسابقيه لا اختيار للإنسان فيه فضلا عن حماقة التفاضل بالجنس (أو باللون) التى لم تخلف منها جاهلية من جاهليات التاريخ حتىى جاهلية القرن العشرين. وأما " المصالح المشتركة " فهى وشيجة تلتقى البهائم على مثلها حين تلتقى على العشب والكلأ والماء فتكون قطعانا متآلفة بعضها مع بعض متعادية مع من يهدد " مصالحها المشتركة " من القطعان الأخرى! إنما يكون التفاضل بين الآدميين على " القيم " التى يلتقون عليها ويتجمعون من أجلها ويحصرون عليها ويجاهدون فى سبيلها. وهذه.. قبل كل ش آخر هى الوشيجة التى يمكن أن تكون " الأمة " لأنها القيم التى تستحق أن تقوم عليها حياة الإنسان بصرف النظر عن الأرض واللغة والجنس وأى شئ آخر مشترك أو غير مشترك.. ومن ثم تكون العقيدة وهى أعلى ما يمكن أن تقوم عليه حياة الإنسان هى الوشيجة الحقيقية التى تقوم عليها الأمة الحقيقية.. الأمة الخيرة.. ثم تنضوى تحتها كل العلاقات الأخرى.. علاقات الأرض واللغة والجنس وقرابة الدم فتكون هذه روافد إضافية إذا وجدت ولكنها لا تكون هى التى تكون الأمة - ولو اجتمعت كلها - فى غياب العقيدة بينما تكون العقيدة وحدها - ولو غابت الروابط الأخرى كلها - هى الرباط الذى تتكون حوله أمة تتآخى بأخوة العقيدة وتترابط العقيدة وتترابط برباط الإيمان فتكون كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا (17) وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر(18).(1/62)
تلك هى الوشيجة التى نبه القرآن فى أكثر من موضع أنها هى المعتبرة وهى المعول عليها والتى تقصم الروابط الأخرى كلها وتبقى هى لا تنقصم.
ففى قصة نوح جاء قوله تعالى:
{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ (47)} [سورة هود 11/45-47].
فقد وعد نوح من قبل أن ينجو أهله من الطوفان إلا من سبق عليه القول:
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40)} [سورة هود 11/40]
ولقد دعا نوح ابنه - وكان فى معزل - ليركب فى السفينة الناجية فأبى فأدركه الطوفان:
{وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنْ الْمُغْرَقِينَ (43)} [سورة هود 11/42-43]
فلما قضى الأمر واستوت السفينة على الأرض وقد نجا من نجا وهلك من هلك ملأت الحسرة قلب نوح على ولده الهالك وراح يسأل ربه كيف غرف وهو من أهله وقد وعده الله أن ينجو أهله ووعد الله حق لا ريب فيه؟(1/63)
هنا ينبهه الله سبحانه وتعالى أن الوشيجة الحقيقة ليست وشيجة الدم.. إنما هى وشيجة العقيدة: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [سورة هود 11/46]. وقد انفصمت وشيجة العقيدة حين أبى الابن أن يؤمن فانفصمت لها كل وشيجة أخرى ولم يعد ابن نوح من أهله مع أنه ابنه كما يؤكد القرآن باللفظ الصريح {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} [سورة هود 11/42].
وفى قصة إبراهيم جاء قوله تعالى:
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة 60/4].
وجاء فى قوله تعالى يحذر الذين آمنوا بمحمد ':
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [سورة التوبة 9/23-24].
فيضع روابط الدم كلها فى كفة بل يضع كل مقومات التجمع الجاهلى فى كفة وحب الله ورسوله والجهاد فى سبيل الله فى الكفة الأخرى ثم يرجح هذه على تلك وينذر الذين يخلون بالموازنين الربانية بالعذاب الأليم.(1/64)
وإذا كان الإسلام من فيض رحمته وإنسانيته قد حرص على بر الوالدين - وإن كانا مشركين (19)- فالبر شئ والولاء الذى تقوم على أساسه الأمة شئ آخر.. والولاء هو الذى ينفصم انفصاما كاملا حين تنفصم رابطة العقيدة وهو العنصر الحى الذى تقوم به الأمة فى ظل العقيدة وقد تأتى الروابط الأخرى فتكون أواصر إضافية: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [سورة الأنفال 8/75]. ولكن بشرط الالتقاء فى العقيد ة الذى لا تقوم الأمة الحقيقية إلا عليه.
وتلك الأمة - التى قامت على رباط العقيدة - هى التى وصفها خالفتها بقوله سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [سورة آل 3/110]. وهى التى لم تتكرر - بصورتها تلك - فى كل التاريخ.
نعم وجدت أمم مؤمنة من قبل ارتبطت بذلك الرباط فكانت أمما خيرة ولكنها كانت محدودة الحجم محدودة الدور فى التاريخ بحكم أن الرسل السابقين أرسلوا إلى قومهم خاصة. أما محمد ' الذى أرسل إلى البشر كافة فقد كانت أمته {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} فى التاريخ كله بشهادة خالقها ومخرجها على هذا النحو الفريد.
ومن كان فى شك من تلك الحقيقة فليوازن بينها وبين التجمعات الكبرى فى التاريخ التى جمعت أكثر من جنس أو لون أو لغة أو ثقافة وعلى رأسها التجمع الرومانى فى القديم ورابطة الشعوب البريطانية (الكومنولوث Common Wealth) والتجمع الأمريكى (الولايات المتحدة الأمريكية) والتجمع الروسى (الاتحاد السوفيتى) فى الحديث.(1/65)
فأما التجمع الرومانى القديم فقد كانت فيه " الدولة الأم " فى مركز السيادة الكاملة والأمم الأخرى فى موضع التبعية الكاملة كما هو مشهور فى التاريخ. ولم تقم فيها تلك " الأخوة " التى تجمع تلك الأمم والشعوب فى رباط واحد على قدم المساواة. وحتى حين دخل قسطنطين المسيحية وفرضها على الإمبراطورية عام 325 م فلم تكن الأخوة المسيحية هى التى تحكم كل مظاهر الحياة فى الإمبراطورية الرومانية غ ما كانت جانبا واحدا من الصورة وبقية الجوانب مبنية على شئ آخر بعيد كل البعد عن الأخوة والمساواة هو التبعية للدولة الأم وهامشية الدور الذى تقوم به فى حياة الإمبراطورية إذ هو عبارة عن إمدادها بالمال والرجال.. المال لتكتنز الدولة الأم ويترف حكامها وكبراءها والرجال ليقاتلوا - وليموتوا - فى سبيل مطامع الإمبراطورية وشهواتها أو بالأحرى مطامع الإمبراطور المقدس وشهواته! ولكن ليس لها رأى ولا موقف تجاه الدولة الأم سوى التبعية والبذل مقابل " شرف " الانتماء إلى الإمبراطورية.
وأما تجمع " الكومنولث " فلعل حادثا واحدا معينا يغنينا عن كل شرح وإفاضة لأنه واضح الدلالة فى بيان حقيقة الرابطة فيه بين " الدولة الأم " و " المستعمرات " التى أطلق عليها من باب التمويه " رابطة الشعوب البريطانية "!(1/66)
ذلك الحادث وقع فى أثناء الحرب الكبرى الثانية حيث كانت مواقع الصحراء الكبرى تتوالى عليها قوات " الحفاء " وقات " المحور " ذهابا وأيبة إلى أن استقر الأمر لقوات الحلفاء بعد اندحار " روميل " قائد قوات المحور. وكانت مدينة " طبرق " بالذات أكثر هذه المواقع تداولا بين القوتين. وفى إحدى المرات انسحبت القوات الألمانية تحت ضغط القوات البريطانية وكان من المعتاد أن الدولة المنسحبة تزرع الأرض بالألغام قبل انسحابها لتحدث أكبر قدر ممكن من الخسائر فى القوات الغازية كما كان من المعتاد أيضا - بالنسبة للحلفاء على الأقل - أن يطلقوا قطيعا من الحمر المستنفرة أو الجمال الهائجة على حقول الألغام فداء للبشر فتموت الحمير والجمال وتقل خسائر الجنوب إلى أقل قدر ممكن. أما فى تلك المعركة - التاريخية - فقد أطلق قائد القوات البريطانية الفيلق الهندى فى جيشه ليفجر حقوق الألغام أمام الجنود البيض بدلا من الحمر والجمال المعتادة - لأمر لا أعلمه حتى هذه اللحظة - وانتصر " الحلفاء " انتصارا باهرا وصدر البلاغ الحربى يسجل الانتصار: انتصرنا على قوات العدو. استولينا على طبرق. خسائرنا قليلة. فنى الفيلق الهندى عن آخره!!
وأما التجمع الأمريكى فيكفينا من سوآته ومخازيه موقف البيض هناك من السود وهم إخوان فى " مواطنية " الولايات المتحدة الأمريكية وإخوان كذلك فى المسيحية!.. ومع ذلك توجد لافتات فى المطاعم ودور السينما مكتوب عليها فى وقاحة " ممنوع دخول السود والكلاب! " ويتكرر حدوث هذا المشهد: مجموعة من البيض قد تجمهروا حول واحد من الزنوج يضربونه ويطرحونه أرضا ويركلونه بأقدامهم تزهق روحه والشرطة الأبيض قد أدار لهم ظهره حتى ينتهوا من " جهادهم المقدس " ثم يفروا فيقيد الحادث ضد " مجهول "!(1/67)
وأما التجمع الروسى - الذى يزعم أنه تجمع عقيدة! - فالدولة الأم ذات السلطات الحقيقى هى روسيا وبقية " السوفييتات " إن هى إلا توابع ذات وجود وهمى لا تشارك فى سياسة عامة ولا فى أمر من الأمور إلا بالطاعة والتنفيذ وكيل المديح للزعيم المقدس القائم بالسلطة حتى إذا هلك وأمرت الدولة الأم بنبش قبره كما فعلت بستالين سارعت السوفييتات كذلك بإضفاء أقبح النعوت عليه تنفيذ لأوامر السلطان الجديد!! ووصل الأمر إلى حد اقتلاع المصانع من السوفييتات التى كانت مصنعة قبل أن تدهمها " العقيدة " الجديدة ووضعها فى روسيا لتكون هى الأقوى وهى الأضخم وهى صاحبة السلطان!!
فى التجمع القائم على القعيدة أو المنبثق فى الحقيقة من العقيدة يكون الرباط الأكبر هو رباط الأخوة فى الله أقوى الروابط فى حياة الشر على الإطلاق.
وبقدر ما يتحقق من هذه الأخوة فى عالم الواقع يكون مدى تحقق المعنى الحقيقى للأمة ويكون ثقلها فى ميزان الله يوم القيامة كا يكون ثقلها التاريخى فى واقع الأرض.
ولا شك أن ذلك الجيل المتفرد هو الذى حقق أكبر قدر من هذه الأخوة ولذلك كان أثقل الأجيال وزنا عند الله: خيركم قرنى(20).. كما كان أكثرها وزنا وفاعلية فى تاريخ البشرية.
لقد حقق ذلك الجيل تلك الأخوة فى كل مجال من مجالات الحياة.
حققها بين المهاجرين فى ذوات أنفسهم, كما حققها بين الأنصار كذلك, ثم حققها بين المهاجرين والأنصار فى تلك الصورة الرائعة التى وعاها التاريخ والتى استحقت أن يمن الله بها عليهم:
{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)} [سورة الأنفال 8/63].
وحققها فى التكافل الذى استمت به تلك الأمة فى تاريخها الحى كله والذى كان فى أبرز صوره فى ذلك الجيل المتفرد الذى كفل فيه الأنصار المهاجرين كفالة غيرة معهودة فى التاريخ.(1/68)
تكافل لا يقتصر على حدود الأسرة وروابط الدم إنما يتسع حتى يسعى المجتمع الإسلامى كله. ولا يقتصر على حدود الزكاة المفروضة التى ينفقها بيت المال على المحتاجين إنما يتسع حتى يصبح إنفاقا عاما فى سبيل الله.
تكافل لا يقتصر على إعانة المحتاجين فى المجتمع الإسلامى وإنما يشمل معانى أخرى وآفاقا أخرى غير المعونة المالية الحسية. إنه تكافل على صيانة الأموال والدماء والأعراض للجميع على حد سواء يستوى فيهم الغنى والفقير والقوى والضعيف.
" يأيها الناس إن دماءكم وأعراضكم وأموالكم حرم كحرمة بلدكم هذا فى شهركم هذا فى يومكم هذا "(21).
" المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم "(22).
تكافل على الخير.. على نشر الخير فى الأرض.. ورفع البشر إلى المكانة اللائقة " بالإنسان ":
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه .....} [سورة التوبة 9/71].
وهذا المستوى الرفيع من التكافل - الذى اهتدت البشرية إلى " التحدث " عن بعض آفاقه النظرية فى قرونها الأخيرة - لا يقدر عليه بالفعل ولا يمارسه بالفعل إلا أمة العقيدة لأن كيانها الأساسى قائم عليه ولأنه جزء من بنائها النفسى وبنائها السلوكى على السواء.(1/69)
ولقد حقق الجيل الأول من هذا التكافل أكبر قدر يمكن للبشر فى أى جيل أن يحققوه سواء فى التكافل المالى الذى خرج فيه الأنصار عن شطر أموالهم للمهاجرين أو فى التكافل على صيانة القيم والمبادئ التى جاء بها الإسلام الذى تستشفه فى قول الأخ المسلم لأخيه فى الله: " تعالى يا أخى نؤمن ساعة! " أى نتذاكر معانى الإيمان لنمارسها فى عالم الواقع.. وتراه بارزا فى كون هذا الجيل أقل أجيال الأرض كلها جرائم وعدوانا وأكثرها صيانة للدماء والأموال والأعراض وأكثرها حرصا من كل أخ على كرامة أخيه ومشاعر أخيه والذى يقع فيه أن يقول أبو ذر لرجل أسود: يا ابن السوداء! فيقول له رسول الله ': عيرته بأمه؟! أنت امرؤ فيك جاهلية! فيذهب أبو ذر للرجل ويضع خده على الأرض ويقول للرجل: طأ خدى بقدمك! والذى يقول فيه عمر العربى القرشى عن بلال العبد الحبشى " سيدنا بلال ".
لا عجب إذن أن يكون ذلك الجيل أثقل الأجيال وزنا عند الله بشهادة رسول الله '.. ولا عجب كذلك أن يكون أبعدها أثرا وأكثرها فاعلية فى التاريخ.. بدليل ذلك الانسياح الواسع فى الأرض الذى لا مثيل له من قبل ولا من بعد والذى لم يكن مصدره التفوق فى العدد أو العدة أو الخبرة العسكرية - فقد كان ذلك كله من نصيب الأعداء! - إنما كان مصدره ضخامة الحق الذى آمنت به تلك الأمة والتقت عليه وضخامة المنطلق الذى تنطق منه فتحطم كل ما تجد فى طريقها من صور الباطل وأشكاله. فقد استطاعت تلك العصبة المؤمنة أن تسحق الجاهلية سحقا وتمحوها من الوجود فى قطاع واسع من الأرض لا فى صورة دول وحكومات وجيوش زالت من الوجود فحسب بل فى صورة عقائد كذلك وأنظمة وتقاليد.(1/70)
ولم يقتصر عملها على إزالة تلك الدول والحكومات والجيوش بما تحمله من عقائد وأنظمة وتقاليد فهذا عمل قد تقدر عليه القوى البشرية العادية -بشرط وجود التفوق العسكرى - كما أتيح لها نيبال وجنكيز خان ونابليون وهتلر لفترات من الزمان.. إنما الذى تفردت به أمه العقيدة أنها نشرت فى ربوع تلك الأرض عقيدة الحق بغير إكراه! ونشرت كذلك لغة هذه العقيدة بغير إكراه!
لقد أزال المسلمون دولة فارس كلها على كل ما كان لها من الهليمان والقوة وأزالوا قطاعا كبيرا من دولة الروم أعظم دول ذلك التاريخ ولكنهم لم يكرهوا أحدا على اعتناق الإسلام تنفيذا لأمر الله الذى يأمر بإزالة الطواغيت من الأرض ولكنه يأمر كذلك بعد إكراه الناس على العقيدة الصحيحة بعد إزالة القوى التى تصد الناس عن الحق ممثلة فى نظم وحكومات وجيوش:
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال 8/39].
{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)} [سورة البقرة 2/256].
ولكن المعجزة الكبرى التى تحققت على يد ذلك الجيل أن الذين لم يكرهوا على اعتناق العقيدة الإسلامية قد دخلوا فى الإسلام من ذوات أنفسهم وأقبلوا عليه إقبالا وفرحوا بمجئ المسلمين إليهم وأحبوهم وصاروا بدورهم جزءا من هذه الأمة وجندا من جنود الإسلام.. كما أصبحوا كذلك يتكلمون بلغة العقيدة الجديدة ونسى كثير منهم ما كان لهم من لغات! (23).
ولا شك أن ذلك الأمر لم يكن ليتحقق لو كانت الأمة الفاتحة أمة غلبة حربية فحسب أو أمة ذات نزعة توسعية فحسب أو كانت تبغى العلو والفساد فى الأرض ككل التجمعات الكبرى فى جاهليات التاريخ!(1/71)
إنما اعتنقت البلاد المفتوحة عقيدة الأمة الفاتحة وتكلمت لغتها لأنها رأت فيها نموذجا غير مكرر في التاريخ من قبل نموذج (أمة العقيدة) التي تفتح الأرض لا لشهوة التوسع والغلبة ولكن لتنشر النور وتنشر العدل وتنشر الأمن. وتنشر القيم الرفعية التي تحيا بها القلوب وتتفتح بها الأبصار.
? ? ?
ثالثا: تحقيق العدل الرباني في واقع الأرض
من أوامر الله لهذه الأمة تحقيق العدل الرباني في واقع الأرض وربط هذا الأمر بحقيقة الإيمان:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136)} [سورة النساء 4/135-136].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)} [سورة المائدة 5/8].(1/72)
وربط هذا الأمر بالعقيدة في الله, وجعله خالصا لله يجعله سمة من سمات هذه الأمة أو لازما من لوازم وجوها ليهيئ لها القيام بدورها في قيادة البشرية وريادتها. ولكن التغلب علي أهواء النفوس والحد من نزواتها وشهواتها التي ينشأ عنها العدوان والظلم في واقع الحياة أم يحتاج إلي تربية وتدريب حتي تتعود النفوس أن تخضع للحق ولا تزيغ عنه ويتعود الناس أن يمسكوا بميزان العدل من منتصفه لا يميلونه ذات الشمال وذات اليمين.
ولقد كان الجيل الأول من هذه الأمة هو القمة العليا في تحقيق العدل الرباني في واقع الأرض بصورة لم تكن معهودة من قبل حتي في الأمم التي يوصف حكامها بالعدل وما زالت هذه الصورة بارزة باهرة حتي يعدما وصلت البشرية في النظم الديمقراطية إلي ألوان من العدل السياسي تتوهم أنه من القمم في عالم القيم والمبادئ (24).
لقد كان الله يعد هذه الأمة لتكون رائدة البشرية كلها إلي الخير الشاهدة عليها يوم القيامة وكفلها رسول الله ( يقوم بتربيتها لهذا الهدف العظيم:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [سورة البقرة 2/143].
وكانت تربية الله لهذه الأمة - من أجل القيام بدورها في الأرض - تربية عجيبة! لقد ربي الله رسوله ( بادئ ذي بدء علي أنه ليس من الأمر شئ...إلا طاعة الله وابتغاء مرضاته.
{لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)} [سورة آل 3/128].
{وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ....} [سورة الأنعام 6/35].
{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)} [سورة القصص 28/56].(1/73)
بل إنه علي الرغم من يقين الرسول ( - المستمد من الوحي - بأن الله سيمكن لهذا الدين حتي يسير المسافر إلي صنعاء لا يخاف إلا الله والذئب علي غنمه.. فإن الله سبحانه وتعالي لم يعد رسوله ( مرة واحدة في فترة التربية بمكة أنه سيشهد النصر والتمكين بشخصه! إنما كان يتنزل عليه الوحي:
{وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)} [سورة الرعد 13/40].
وكان ذلك توجيها ربانيا لرسوله ( حتي يستقر في نفسه أنه ليس له من الأمر شئ إلا تبليغ الدعوة ولا تبقي في نفسه حتي رغبته في أن يهتدي فلان أو فلان ممن كان عليه السلام يكاد يقتل نفسه من الحزن عليهم لإعراضهم عن الهدي:
{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6)} [سورة الكهف 18/6].
ووعي رسول الله ( التوجيه الرباني, فكان قمة التجرد البشري لله, ثم ربي علي هذا التجرد أصحابه رضوان الله عليهم حتي " خلت نفوسهم من حظ أنفسهم" (25) وكان ذلك جزاءاً من الإعداد العظيم للدور العظيم الذي يناط بهذه الأمة حين يمكن لها في الأرض ذلك أن إقامة العدل في الأرض التي هي الغاية من إرسال الرسل وإنزال الكتب (26)- لا يمكن أن تتم حتي تتجرد النفوس لله وتتخلي حتي عن رغباتها المشروعة ويكون هدفها الأسمي هو ابتغاء مرضاة الله ونعميها النفسي هو العمل لإرضاء الله.
ثم كانت دروس قرآنية ودروس من الرسول ( لرفع هذه الأمة إلي المستوي الذي يؤهلها ? عن جدارة لا للتمكين في الأرض فحسب بل لقيادة البشرية ولا لإقامة العدل الرباني داخل ذاتها فحسب بل مع غيرها كذلك لقد وجه الله المؤمنين في أول ما نزل من القرآن في المدينة توجيها معينا له دلالة خاصة:(1/74)
{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [سورة البقرة 2/1-4]
وتكرر هذا التوجيه في أكثر من آية مدنية بعد ذلك:
{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ....} [سورة البقرة 2/285].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ ....} [سورة النساء 4/136].
وهذا أمر يتعلق بالعقيدة كما هو ظاهر.
(قال: وما الإيمان؟ قال: إن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره) (27).
ولكن له إلي جانب الأمر الاعتقادي صلة بأمر إعداد هذه الأمة لقيادة البشرية.
إن كل أمة آمنت برسولها ثم رفضت أن تؤمن بغيره من الرسل ن قد أحست نتيجة لذلك ببغض هائل للأمة التي تبعث إليها الرسول الذي لم تؤمن به وانحصرت من ثم في حدود عصبيتها لذاتها وأمتلأ قلبها حقدا علي غيرها ثم أوقعت أبشع الاضطهاد علي اتباع من لم تؤمن به من رسل الله كما صنع اليهود أصحاب الأخدود مع المؤمنين بعيسي عليه السلام وكما يصنع اليهود والنصاري بالمسلمين الذين يقعون تحت سلطانهم في كل الأرض.
هذا الخلق البغيض لا يؤهل أصحابه لقيادة البشرية ومن ثم لم يؤهل الله اليهود ولا الناصري لتلك القيادة فإن تولوها بقدر من الله له حكمته عنده (28)- كما تولتها النصرانية خلال القرون الثلاثة الأخيرة وكما تتولاها اليهودية اليوم سافره أو من وراء ستار لم يقع العدل في الأرض إنما وقع الأضطهاد والظلم.(1/75)
أما الأمة التي أخرجها الله لقيادة البشرية وريادتها فهي الأمة التي تؤمن بالرسل جميعا والرسالات جميعا فلا يكون في قلبها حقد مبدئي ولا حقد تاريخي علي غيرها من الناس.
وهذا - والله أعلم - جانب من دلالة هذا التوجيه القرآني العظيم.
ثم أنظر كذلك إلي هذا الدرس القرآني.
كان اليهود في المدينة يكيدون للإسلام وللنبي ( واتباع دينه بكل ما في جبلتهم من الرغبة في الشر وكراهية الخير للناس بالإضافة إلي ما آثاره في نفوسهم مبعث الرسول ( من ولد إسماعيل لا من ولد إسحاق من حقد أسود غلظ كريه.
كانوا يشككون في الوحي ويشككون في أمانة الرسول ( ويثيرون النزاعات والخصومات بين المسلمين بعد أن أذهبها عنهم الإسلام ويتآمرون مع المنافقين وعلي رأسهم عبد الله بن أبي ليوقعوا الفتنة في صفوف المسلمين ويؤلبون القبائل المشركة لحرب المؤمنين ويؤذون الرسول ( ويؤذون المؤمنين والمؤمنات. مما سجله الوحي وحفلت به كتب السيرة وكتب التاريخ.
وفي وسط هذا الجو الملبد المتوتر سرق أحد المنافقين ممن دخلوا في الإسلام ظاهرا وتفنن هو وقومه في إخفاء السرقة بحيث يتهم فيها أحد اليهود من أهل المدينة.
وحين يقع مثل هذا الحادث في أي شعب في الأرض في أي حقبة من التاريخ فليس له نتيجة متوقعة إلا الأخذ بتلابيب ذلك الشخص الذي ينتمي إلي (مثيري الشغب) والإسراع بتطبيق العقوبة المقررة عليه إن لم يكن التنكيل به شر تنكيل لأنه فوق انتمائه إلي فئة عدوة للشعب ? قد ارتكب جريمة محددة ضد واحد من أفراد ذلك الشعب.
وحين فحص الرسول ?القاضي ( ظروف القضية فقد هم حسب القرائن الظاهرة أن يحكم علي اليهودي ولكن الوحي تنزل من السماء لتبرئه ذلك اليهودي من الجريمة التي لم يرتكبها وإن كان قبيلة واقعين في كل جريمة ظاهرة وخفية ضد المسلمين وإدانة (المسلمين) الذي أرادوا أن يفلت جانيهم من العقوبة ويقع فيها اليهودي البرئ فنزلت هذه الآيات من سورة النساء:(1/76)
{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدْ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [سورة النساء 4/105-113]
وكان درسا هائلا للامة المسلمة... إن ميزان العدل لا يميله حب ولا بغض.. ولا تميله عصبية ولا قرابة ولا مصلحة أرضية. بل لا يميل حتي إلي جانب المشاركين في العقيدة علي حساب المخالفين لها ولو كانوا في مجموعهم ظالمين!(1/77)
وخذ هذا التوجيه العملي... مرت جنازة فقام رسول الله ( فقالوا: يا رسول الله إنه يهودي! فقال عليه الصلاة والسلام: "أوليست نفساً؟" (29).
وخذ كذلك هذا الدرس التربوي.. استدان رسول الله ( من يهودي فتأخر في السداد لعسر ألم به( فجاء اليهود يطالبه ويغلط في الطلب وأمسك بثوب رسول الله( فشده حول رقبة الرسول( حتي جحظت عيناه فهم عمر رضي عنه أن يهوي عليه بالسيف. فمنعه رسول الله( وقال له: لقد كنت يا عمر جديرا بغير هذا. كنت جديرا أن تأمرني بحن السداد وتأمره بحسن الطلب.
كذلك كانت التربية التي رباها الله ورسوله لهذه الأمة ممثلة في جيلها الأول المتفرد لكي تكتسب هذه السمة التي تجعلها جديرة بالتمكين في الأرض.
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ (41)} [سورة الحج 22/41].
وتجعلها جديرة بقيادة البشرية والشهادة عليها يوم القيامة:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [سورة البقرة 2/143].
هل نعجب إذن حين نري تلك النماذج الرفيعة لتطبيق العدل الرباني علي يدي الصحابة رضوان الله عليهم وهم ممكنون في الأرض أصحاب سلطان لا يدانيه في ذلك الوقت سلطان؟
تسابق ابن عمرو بن العاص والي مصر مع شاب قبطي فسبق القبطي فضربه ابن عمرو بن العاص ضربه بالعصا وقال: خذها وأنا ابن الأكرمين! فما كان من والد الشاب القبطي إلا أن رحل إلي المدينة ليشكو ضربة العصا إلي عمر _.
وإلي هنا فهناك ما يستوقف النظر.(1/78)
لقد كان الأقباط يعيشون تحت الحكم الروماني في ذل مرير رغم اشتراكهم مع الرومان في العقدية المسيحية وذلك بسبب اختلاف المذهب فالاقباط علي المذهب الأرثوذكسي والرومان علي المذهب الكاثوليكي ومن أجل هذا الاختلاف في المذاهب وإن كان داخل العقيدة المسيحية فقد كان الرومان يعذبون الأقباط وينكلون بهم حتي قتل منهم من قتل فكانوا عندهم شهداء كما يبدو من أسم الكنيسة المعروفة اليوم باسم كنيسة ماري جرجس جنوب القاهرة وأسمها الصحيح كنيسة مار جرجس (أي الشهيد جرجس) وفي الكنيسة بالذات كانت العبادة تمارس علي نطاقين نطاق علني علي مذهب الدولة ونطاق سري في سراديب الكنيسة الخفية علي مذهب الأقباط في خفية عن عيون الرومان الذين ينكلون بهم إذا رأوهم يمارسون عبادتهم علي خلاف مذهب الدولة.
وكان الضرب بالسياط أمرا مألوفا من تلك الدولة (العظيمة!) لرعاياها الأقباط في مصر! ولم يكن الأقباط يشتكون! فلمن يشكون إذا أرادوا! إنما ذذلت نفوسهم وتحملوا ضرب السياط صاغرين؟
واليوم يسافر الرجل ألوف الأميال ليشكو ضربة عصا علي ظهر ولده الشاب! فما دلالة ذلك؟
إنها دلالة مزدوجة دلالة الكرامة التي استيقظت في نفس الرجل فراح يشكو ضربة العصا وهو الذي كان يذل لضربة السوط ودلالة وجود الملجأ الذي يشتكي إليه بعد أن لم يكن هنالك ملجأ للشكوي.
كلتاهما شاهد علي العدل الرباني الذي وجده الناس مطبقا علي يد عمر _ فصحت كراماتهم وهل يوقظ الكرامات شئ مثلما يوقظها ممارسة العدل في الأرض؟ ووجدوا الملجأ فراحوا يشتكون إليه.
ولكن الحادث أروع آفاقا وأبعد مدي وأعمق دلالة.
لقد أمر عمر بالقصاص! وأعطي الرجل عصاه وقال له: أضرب ابن الأكرمين! والتفت إلي واليه عمرو بن العاص فقال له كلمته المشهورة الخالدة: يا عمرو! متي استبعدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحرارا!
ولم يكن ذلك القصاص من مسلم لمسلم ولا من عربي لعربي فيقول الناس: عدل.. نعم ... ولكنه غير مستغرب!(1/79)
إنه العدل الرباني في الذروة من التطبيقي!
وسرقت من علي كرم الله وجه درع فوجدها عند يهوي فقاضاه إلي قاضية شريح.. وعلي يؤمئذ هو الخليفة أمير المؤمنين.
وإلي هنا فهناك ما يستوقف النظر.
إن عليا كرم الله وجه وهو علي يقين من درعه ومن حقه لم يلجأ إلي سلطان الخلافة فيأخذ درعه بالقوة من اليهودي فضلا عن أن يأمر باعتقال السارق الآثيم (رهن التحقيق)! إنما يلجأ إلي القضاء يطلب حقه عن طريقه وذلك في ذاته مستوي رفيع من تطبيق العدل الرباني نادر المثال.
ولكن الحادثة كسابقتها أروع آفاقا وأبعد مدي وأعمق دلالة
لقد نادي شريح أمير المؤمنين بكنيته: يا أبا الحسن! ولم يكن الرجل اليهودي فغضب علي كرم الله وجهه! غضبت الخصمة اليهودي! غضب للحق.. للعدل الرباني! وقال للقاضي: إما أ تكني الخصمين معا أو تدع تكنيتهما معا!
ثم سأل شريح أمير المؤمنين عن قضيته فقال علي كرم الله وجه: الدرع درعي ولم أبع ولم أهب.
فسأل شريح اليهودي: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟ فرد هذا متلاعبا: الدرع درعي! وما أمير المؤمنين عندي بكاذب! (يريد أن يمسك العصا من منتصفها نفاقا علي طريقتهم!).
فيلتفت شريح إلي أمير المؤمنين فيقول: يا أمير المؤمنين هل من بينه؟!
إنه هكذا العدل الرباني! البينة علي من ادعي.. وهذه دعوي مرفوعة إلي القضاء فلا بد فيها من البينه وإن تكن مرفوعة من أمير المؤمنين وإن تكن من علي كرم الله وجهه الذي لم يعرف عنه كذب قط والذي لا يعقل أن يكذب علي الله من أجل درع وهو المستعلي علي كل متاع الأرض يراه الناس يرتجف من شدة البرد في الشتاء وتحت يده بيت المال يحق له منه كسوة شرعية تقية البرد فيقول: والله ما أرزؤكم شيئا! إن هي إلا قطيفتي خرجت بها من المدينة!
ولكن جواب علي كرم الله وجهه كان أروع!
قال: صدق شريح! مالي بينه!
هكذا في بساطة المؤمن المتجرد.. مالي بينه!
لم يغضب! لم يقل للقاضي: مني تطلب البينة وأنا أمير المؤمنين؟!(1/80)
وكان موقف شريح رائعا كموقف أمير المؤمنين.. لقد حكم بالدرع لليهودي لعدم وجود البينه عند المدعي أمير المؤمنين!
وأخذ الرجل الدرع ومضي وهو لا يكاد يصدق نفسه! ثم عاد بعد خطوات ليقول: أمير المؤمنين يقاضيني إلي قاضية فيقضي عليه.؟! إن هذه أخلاق أنبياء! أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله! الدرع درعك يا أمير المؤمنين خرجت من بعيرك الأورق فاتبعتها فأخذتها.
فيقول علي كرم اله وجهه: أما إذا اسلمت فهي لك!!
ونعود مرة أخري إلي عمر رضي عنه في مجال آخر.
وقف عمر _ يوما يخطب الناس فقال: أيها الناس اسمعوا وأطيعوا.. فانتدب له سلمان الفارسي فقال: لا سمع لك اليوم علينا ولا طاعة!
ولعل بعض الناس يؤمئذ قد دهشوا أو ذعرو! فمنذ الذي يكلم عمر علي هذا النحو وإن كان سلمان!
لقد وهب الله لعمر _ مهابة ذات أثر ملحوظ في قلوب الناس إن يكن سببها ضخامة جسمه أو ضخامة صوته أو شدته المعروفة عنه أوغير ذلك من الأسباب فالناس ترهب عمر رهبة تلقائية حتي إن عليا كرم الله وجهة ابن عم رسول الله ( وزوج ابنته الأثيرة عنده يقول: كنا نسير ذات يوم خلف عمر فعن له امر فالتفت وراءه فسقطت قلوبنا إلي كعوبنا!.
ولكنه في مهابته تلك يقوم للناس: اسمعوا وأطيعوا فيقول له سلمان: لا سمع لك اليوم علينا ولا طاعة.
ولا يغضب عمر? وأي شخص في مكانه كان قمينا أن يغضب.. فهو لا يطالب الناس إلا بأمر قد فرضه الله ورسوله فإذا رد طلبه هذا الرد بغير موجب فلا تثريب عليه إن غضب ولكن عمر الذي رباه الإسلام لا يغضب إنما يسأل سلمان عن السبب لعل عنده سبب ا وجيها يبرر هذا الرد!
قال عمر: ولمه؟
قال سلمان: حتي تبين لنا من أين لك هذا البرد الذي أئتزرت به وأنت رجل طوال لا يكفيك البرد الذي نالك كبقية المسلمين!
والآن تحددت القضية! فكأن سلمان يلقي اتهاما أو علي الأقل شبهة.. أن عمر _ قد استأثر بمتر من القماش زيادة عما ناله كفرد من عامة المسلمين!(1/81)
ولو غضب عمر في هذا الموقف لحق له أن يغضب.. ولكنه مرة أخري لا يغضب إنما ينادي ولده عبد الله بن عمر فيقول له: نشدتك الله هذا البرد الذي ائتزرت به أهو بردك؟! فيقول عبد الله بن عمر: نعم هو بردي أعطيته لأمير المؤمنين حتي يأتزر به لأن البرد الذي ناله كعامة المسلمين لا يكفيه لأنه رجل طوال.
عندئذ يقول سلمان: الآن مر! نسمع ونطع!
إنها القمة الرائعة في جانبيها جانب عمر بن الخطاب وجانب سلمان علي السواء إن احدا منهما لا يغضب لشخصه ولا ينطلق من منطلق شخصي! وما سلمان بالذي يشك في نزاهة عمر بن الخطاب _ وهو المعروف بالزهادة التي تفوق كل تصور! ولكنه الحرص علي شريعة الله أن تنفذ علي أعلي مستوياتها الحرص علي العدل الرباني أن يطبق أبيض ناصع البياض لا تشوبه شائبة حتي من ظن وعمر من جانبه لا يضع شخصة في الميزان ولا يلتفت إلي الأذي الذي ينال شخصه من كون رجل من رعيته يرد عليه السمع والطاعة علي هذا النحو أمام الرعية إنما يريد أن يأخذ العدل الرباني مجراه في أعلي مستوياته فيستنطق الرجل خشية أن يكون قد وقع خطأ وهو لا يدري خطأ يبرر للرعية أو أحد أفرادها أن يرد السمع والطاعة لانه لا طاعة إلا في المعروف.
كلاهما حريص علي دين الله ألا تشوبه شائبه وكلاهما قمة تتضاءل أمامها أحلام الرجال!
وصورة من تطبيق العدل الرباني في الأرض لا يرتقي البشر إلي مثلها علي مدار القرون!
هل نحن في حاجة إلي مزيد؟! من كان في حاجة إلي مزيد فليراجع كتب التاريخ!
رابعاً: أخلاقيات لا إله إلا الله(1/82)
من أبرز سمات هذا الدين قاعدته الأخلاقية العريضة الشاملة لكل تصرفات الإنسان وارتباط هذه القاعدة الأخلاقية بحقيقة الإيمان ولقد سبق أن أشرنا ونحن نتحدث عن جدية الأخذ من الكتاب والسنة إلي هذا الإرتباط بين الأخلاق وبين لا إله إلا الله ولكن الأمر يحتاج إلي مزيد من البيان خاصة في وقتنا هذا الذي كادت تنفصل فيه الأخلاق انفصالا كاملا عن مفهوم لا إله إلا الله!
انظر إلي هذه الآيات من سورة الرعد:
{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)} [سورة الرعد 13/19-25]
إن الإشارة الأخلاقية واضحة في الآيات سواء الإشارة المجملة في قوله تعالي:(1/83)
{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} أو فيما جاء تفصيلا من الصبر ابتغاء وجه الله وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة ودرء السيئة بالحسنة مع خشية الله والخوف من سوء الحساب.
ومعرض الحدث هو الإيمان بأن ما انزل إلي الرسول ( من ربه هو الحق ومن ثم يبدو واضحا أن الالتزمام بتلك الاخلاقيات المعروضة سواء منها ما أجل وما فصل هو مقتضي ذلك الإيمان بأن ما أنزل إلي رسول ( من ربه هو الحق أي متقضي الإيمان بأنه لا إله إلا اله وأن محمدا رسول الله.
كما أن هناك لفظة في الآيات تعطي دلالة خاصة في هذا المجال
إن أول صفة لاولئك الذين يعلمون أن ما أنزل إلي الرسول من ربه هو الحق هي أنهم يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق وفي هذا إشارة إلي أمرين أثنين علي الأقل: الأمر الأول أو الإيمان هو مقتضي ميثاق الفطرة الذي قال الله عنه:
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [سورة الأعراف 7/172].
والأمر الثاني أن هذه الأخلاقيات المعروضة سواء منها ما أجمل وما فصل هي في حقيقتها ميثاق مع الله يوفي به المؤمنون وينقضه غير المؤمنين.
وتلك هي الحقيقة في أمر الأخلاق.
إن الانسان كائن أخلاقي بطبعه أي أن أعماله تحمل معها (قيمة) خلقية بصرف النظر عن كون هذه القيمة في اعتبار إنسان بعينه صحيحه أم خاطئة إنما تستمد أعمال الانسان قيمة خلقية من كون أن له طريقين أثنين لا طريقا واحدا غريزيا كالحيوان وله القدرة علي معرفة الطريقين واختيار أحدهما:
{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)} [سورة البلد 90/10].
{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)} [سورة الإنسان 76/3].(1/84)
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [سورة الشمس 91/7-10].
في جميع أحواله هو (يختار) إما طريق الخير وإما طريق الشر.
وقد يختار طريق الشر يحسبه طريق الخير فيخسر.
{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104)} [سورة الكهف 18/103-104].
ولكن هذا لا ينفي الاختيار من جهة ولا ينفي لصوق القيمة الخلقية بعمل الانسان من جهة أخري.
ليست القضية في الحقيقة هي وجود قيمة خلقية لأعمال الإنسان أم عدم وجودها فذلك أمر لا يشك فيه أحد حتي الماديون وحتي الملحدون وحتي الشكاكون إنما القضية هي (المعايير) التي نقيس بها الاخلاق من يضعها؟!
فأما الوضعيون وأما التطوريون وأما الماديون وأشباههم فقد ذهبوا بها مذاهب شتي توافق أهواءهم (30).
وأما الله سبحانه وتعالي فيقول إن الذي يخلق هو وحده صاحب الأمر.. هو الله سبحانه وتعالي:
{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [سورة الأعراف 7/54].
ويقول سبحانه إن هناك ميثاق مأخوذا علي الفطرة البشرية أشهدها الله فيه علي نفسها: أن الله هو ربها لا شريك له. ثم أرسل رسلا يأخذون العهد علي البشرية بتنفيذ الميثاق.
وأن مقتضي هذا الميثاق أن تعبد الله وتطيعه وأن تتلقي منها وحده المعايير وتلتزم بها.
وأن المؤمنين هم الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق وأن غير المؤمنين هم الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض.
وخلاصة ذلك كله أن الله هو الذي يحدد المعايير الخلقية فيقول وقوله الفصل: هذا حلال وهذا حرام هذا حسن وهذا قبيح هذا مباح وهذا غير مباح وأن المؤمنين هم الذين يلتزمون بهذا كله بمقتضي أنهم مؤمنون.(1/85)
أمر آخر يتعلق بالأخلاق تبدو أهميته بالنسبة للجاهلية المعاصرة بصفة خاصة إنها ليست مجرد اعراف يصطلح عليها الناس أو العقل الجمعي وانعكاس أوضاع مادية متقلبة أو قيم نفعية لتيسير التعامل كما هي في الغرب اليوم فذلك كله لا يجعل لها دواما ولا ثباتا ولا فاعلية حقيقية في الحياة البشرية إنما هي ميثاق مع الله بادئ ذي بدء يعمل فيه الخير الذي وصفه الله بأنه خير ويعمل ابتغاء وجه الله لا ابتغاء النفع القريب وإن كان النفع يتحقق بالتزام أوامر الله:
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [سورة الأعراف 7/96].
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ...} [سورة المائدة 5/65-66].
أنها في حس المؤمن (أمانة) تؤدي إلي أهلها:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا..} [سورة النساء 4/58].
والأمانة الأولي هي الالتزام بما جاء من عند الله فذلك مقتضي الإقرار بألوهيته وتحت هذه الأمانة الكبري تندرج الأمانات الأخري كلها فيما يتصل بعلاقة الانسان بنفسه وعلاقته بالناس.. وتلك هي الأخلاق!(1/86)
أمر ثالث يتعلق بالأخلاق كذلك وله كذلك أهميته الخاصة بالنسبة للجاهلية المعاصرة هو أن هذه (الأمانات) التي هي الفحوي الحقيقية للأخلاق ليست خاصة ببعض أنواع التعامل دون بعض بل شاملة لكل أنواع التعامل ومن ثم لا يخرج عن نطاقها شئ البتة من أعمال الانسان الإرادية الاختيارية ولا يقال عن شئ من هذه الأعمال كلها إنه خارج عن نطاق الأخلاق لا السياسة ولا الاقتصاد ولا الاجتماع ولا الفن ولا الفكر ولا ساعة الجد ولا ساعة الترويح كلها داخلة في نطاق الأخلاق وكلها داخلة في الميثاق المعقود مع الله وكلها يقوم به المؤمن بمقتضي عقد الإيمان.(1/87)
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً (67) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69) إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً (74) أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً (76)} [سورة الفرقان 25/63-76].(1/88)
صحيح أن الناس في ممارساتهم الواقعية للحياة يعصون أمر ربهم وأن تلك المعاصي تتعلق أشد ما تتعلق بأخلاقيات لا إله إلا الله وأن المعاصي مع ذلك لا تخرجهم من الإيمان ما لم يستحلوها ويجعلوها أصلا معتمدا بدلا من أوامر الله.
ولكن المعصية لا تنفي أرتباطا هذه الاخلاقيات بلا إلا إلا الله ولا تنفي أصل الالتزام المنني علي الإقرار بلا إله إلا الله فمن أقر فقد التزم وإن عصي وإلا فلا إقرار بغير التزام.
قضية المعصية هي أن الله برحمته لا يخرج من عصاه من دائرة الإيمان ويغفر له إن شاء ويعذبه إن شاء ولكنه لا يخلده في النار ما دام غير مستحيل لمعصيته وما دام لم يجعلها تشريعا يضاهي به تشريع الله.
ولكن هذا ليس معناه أن المعصية هينة عند الله أو أن وجودها وعدم وجودها سيان بالنسبة للإيمان.
إنما الإيمان يزيد وينقص ينقص بالمعاصي ويزيد الطاعات.
ويكفي هذا التقرير من رسول الله (: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن" (31).
يكفي لبيان أن ميزان الايمان ليس ثابتا وإنما هو يعلو ويهبط كلما قام الإنسان بعمل من الأعمال حسب التزامه أو عدم التزامه في ذلك العمل بأوامر الله كما يكفي لبيان ذلك الارتباط الذي لا ينفصم بين لا إله إلا الله وأخلاقيات لا إله إلا الله وأن هذه الأمة بحكم أنها أمة ربانية أمة عقيدة فهي أمة أخلاق وأن التزامها بأخلاقيات لا إله إلا الله هو معيار من معايير صدق إيمانها لا يمكن إغفاله وإنها لا تستطيع أن تتفلت من أخلاقها ثم تزعم أنها صادقة الإيمان!.
? ? ?
فأما الجيل الأول فقد وعي هذه الحقيقة بكل عمقها وكل فعاليتها
سئلت عائشة ~ عن خلق رسول الله ( فقالت كان خلقه القرآن.
ما أوجزها عبارة وما أبلغها كذلك!.
كان خلقه القرآن. أي أن كل أمر أمر الله به في كتابه المنزل وكل نهي نهي عنه. كان مترجما ترجمة واقعية فى حياة الرسول (. ومن ثم كان خلقه القرآن.(1/89)
وعلى هذا الخلق ربى أصحابه رضوان الله عليهم وكان هو القدوة أمامهم فى التخلق بأخلاق الله.
لا عجب إذن أن نرى تلك القيم الأخلاقية الرفيعة فى كل مجال من مجالات الحياة.
أبو بكر رضى الله عنه يتولى الخلافة فيقول للناس: إنى وليت هذا الأمر ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينونى وإن أسأت فقومونى. ويقول قريبا من ذلك عمر ابن الخطاب رضى الله عنه حين تولى الأمر.
وما من حاكم فى التاريخ يدعو الناس إلى تقويمه إن أساء!
إنما يأتى التقويم من ضغط الناس على حكامهم وهم كارهون! وأقصى ما يمدح به حاكم فى القديم أو الحديث أن يستجيب لضغط الناس ويقبل أن يلتزم حين يلزم! أما أن يدعوهم إلى تقويمه فتلك من أخلاقيات لا إله إلا الله فى عالم السياسة لا يقدر عليها إلا ذلك الجيل الفريد.
ولقد قال عمر رضى الله عنه لرعيته ذات يوم: إن وجدتم فى اعوجاجا فقومونى! فقال له سلمان: والله لو جدنا فيك اعوجاجا لقومناه بحد السيف! فلم يغضب رضى الله عنه وإنما قال الحمد لله الذى جعل فى رعية عمر من يقومه بحد سيفه! وتلك كذلك من اخلاقيات لا إله إلا الله فى عالم السياسةى لا يقدر عليها إلا ذلك الجيل الفريد!
وقال أبو بكر رضى الله عنه فى بيان سياسته: الضعيف فيكم قوى عندى حجتى آخذ له الحق ن والقوى فيكم ضعيف عندى حتى آخذ الحق منه. ولم تكن تلك شعارات تلقى على الجماهير لتلهيتها أو اللعب بمشاعرها. إنما كانت نبراسا حقيقيا يلتزم به وكانت تلك هى أخلاقيات السياسة الملتزمة بلا إله إلا الله لا تحابى أحدا لأنه قوى ولا تظلم أحدا لأنه ضعيف.
وسافر عمر إلى بيت المقدس ليتسلم مفتاحها من البطريق الذى أصر على أن يسلم المفتاح لعمر بنفسه.(1/90)
ولم تكن هناك وفرة من الدواب تسمح لعمر وخادمه أن يركب كلاهما فقرر عمر أن يتناوبا الركوب والمشى دواليك يركب عمر مرة ويسير خلفه خادمه ويركب الخادم مرة ويسير خلفه عمر. حتى إذا دخلا بيت المقدس كان الدور للخادم فى الركوب فأصر عمر على أن يأخذ الخادم دوره وأن يسير عمر خلفه ودخلا المدينة على هذا النكو والناس يظنون بحكم جميع الأعراض الأرضية أن الخليفة هو الراكب وأن تابعه هو الذى يسير على قدميه! حتى عرفوا الحقيقة فأذهلتهم!
? ? ?
يقول رسول الله ( لجنوده وهم ذاهبون إلى محاربة الكفار الذين لايرقبون فى مؤمن إلا ولا ذمة " اغزوا باسم الله فى سبيل الله. قاتلو من كفر بالله. اغزوا ولا تغدروا ولا تمثلو. ولا تقتلوا وليدا ولا شيخا ولا امرأة " (32).
فيضع بذلك الدستور الأخلاقى للحرب التى يظن الناس - فى الجاهلية المعاصرة خاصة - أنه لا علاقة لها بالأخلاق!
ويلى الأمر أبو بكر رضى الله عنه فيوصى جنده ذات الوصاية وهو يحاربون المرتدين الذين نكلوا عن أمر الله.
ويقع القتال بين على كرم الله وجه وبين مناوئيه ويقع قتلى من هنا ومن هناك فإذا حل الظلام ووقفت الحرب قام على كرم الله وجه يصلى على قتلى الفريقين! ويسلم أعداءه قتلاهم ليدفنوهم!
ويخرج الخوارج عليه فيقول قوم من أصحابه أنهم كفار.. فيأبى على كرم الله وجهه ويقول: إنما هو إخواننا بغوا علينا!
تلك أخلاقيات - فى الحرب - لا يقدر عليها إلا أهل لا إله إلا الله.(1/91)
فى معركة أحد حين وقعت الهزيمة بعد النصر ووقع من المسلمين سبعون شهيدا فيهم سيد الشهداء حمزة مر أحد المسلمين على جريح ينزع فناوله كأس ماء لعله يسترد أنفاسه فقال الجريح بل أعطها لأخى فلان هناك فذهب إلى الثانى يعرض عليه الماء فقال أعطها لأخى فلان هناك فتركه إلى الثالث والرابع والخامس كل يقول ذات القولة ويؤثر أخاه على نفسه فى نزع الموت فلما كان الخامس رده إلى الأول فلما عاد إليه إذا هو قد لفظ أنفاسه فعاد إلى الثانى فإذ هو قد لفظ أنفاسه فعاد إلى الثالث فالرابع فالخامس فإذا كلهم قد ذهبوا شهداء لم يرض واحد منهم حتى لحظة الموت أن يؤثر نفسه على أخيه!
أى أخلاقيات هذه؟ كيف نجد لها وصفا فى مصطلحات اللغات؟
? ? ?
وليس هدفنا أن نسود الصفحات بذكر المستويات الأخلاقية الرفيعة لذلك الجيل الفريد فكتب السير وكتب التاريخ عامرة بنماذج عجيبة فى كل اتجاه.
وإنما هدفنا أن نسدل ذلك الارتباط الوثيق فى حس ذلك الجيل بين حقيقة الإيمان وبين القيم الخلقية التى يشتمل عليها هذا الدين.
ولم يكن ذلك اجتهادا خاصا بهم فتجد الأجيال التالية نفسها معفاه منه ولا كان ذلك - من حيث المبدأ - امتيازا خاصا بهم تنسلخ منه الأجيال التالية بلا تحرج!(1/92)
إنما كان ذلك - فى حسهم وفى حقيقة الواقع - هو الدين لأن الله قال لهم إن المؤمنين هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات وكذلك علمهم الرسول ( فتعلموا منه أن " الدين المعاملة " فلم يكن فى حسهم - ولا فى حقيقة الواقع - إن الإنسان يمكن أن يكون مؤمنا دون أن يعمل بأعمال هذا الدين. إنما كان فى حسهم - كما هو فى الواقع - ان الناس يتفاوتون فى حقيقة إيمانهم بمقدار ما يتفاوتون فى العمل بمقتضى هذا الدين. وكان امتيازهم الذى اختصوا به أنهم أرادوا أن يعملوا من أعمال هذا الدين ما وسعهم العمل وأن يطبقوا من أخلاقيات هذا الدين ما وسعهم التطبيق تنفيذا لأمر الله {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سورة التغابن 64/16] فلم يكتفوا بالحد الأدنى المفروض إنما تطوعوا فعملوا بالنوافل والمندوبات وألزموا بها أنفسهم كأنها واجبات أو مفروضات. أما المبدأ - مبدأ اقتران الإيمان بالعمل ومبدأ التعامل بأخلاقيات لا إله إلا الله فى عالم الواقع فقد كان فى حسهم بديهية مسلمة لأنه بالفعل من بديهيات هذا الدين.
خامسا: الوفاء بالمواثيق(1/93)
قال تعالي: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمْ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (95)} [سورة النحل 16/91-95].
وقد أراد الله أن تكون هذه سمة من سمات هذه الأمة راسخة فى كيانها بعد أن أخبر عن أهل الكتاب أنهم يشترون بعهد الله وإيمانهم ثمنا قليلا وبعد أن أخرج هذه الأمة لتكون هى القائدة والرائدة والشاهدة على كل الأمم يوم القيامة.
ولقد وفت هذه الأمة بعهدها بالفعل وصار الوفاء بالمواثيق خلقا لها تتميز به فى وسط الجاهلية المحيطة بشعوب الأرض.
وكان الجيل الأول كما عهدناه أشد الأجيال تمسكا بكتاب الله وسنة رسوله بعد أن رباه الرسول ( على هدى القرآن الكريم.
حينما عقد الرسول ( صلح الحديبية مع مشركى قريش كان من بنود الصلح أنه من جاء محمدا ( من المسلمين رده إليهم ومن جاء قريشا من المسلمين لم يردوه!(1/94)
ولقد أحس المسلمون يومئذ بالغبن الواقع عليهم من هذه الاتفاقية وبلغ الضيق بعمر رضى الله عنه مبلغه فراح يسائل الرسول (: أو لسنا بالمؤمنين؟ قال: بلى! قال: أو ليسوا بالكافرين؟ قال: بلى! قال: فلم نعطى الدنية من ديننا. ورد عليه الرسول ( بالقول الفصل: " إنى رسول الله ولست أعصيه وهو ناصرى " (33).
كان الله يعلم الخير الذى ينطوى عليه صلح الحديبية بالنسبة للمسلمين ولكنهم ببصرهم البشرى المحدود المحجوب عن الغيب لم يكونوا يرون فيه إلا الغبن الظاهر وفى ذلك أنزل الله سبحانه وتعالى:
{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27)} [سورة الفتح 48/27].
وبينما الاتفاقية غضة ما تزال خرج أبو جندل من صفوف المشركين مغللا بالأغلال يريد اللحاق بالرسول ( والمؤمنين فزادت رؤيته على هذه الحال من حزن المسلمين وشعورهم بالغبن وتقدم عمر يريد أن يلقى السيف إليه ليقاتل به ويفك نفسه من الأسر والرسول ( يأبى ويتمسك بالعهد المبرم بينه وبين المشركين وقلوب المسلمين تتقطع أسى وهم يرون هذا المنظر البئيس.
ولكنه كان درسا عمليا فى التربية على الوفاء بالعهد..(1/95)
إن العهد الذى يبرمه المسلم هو هو عهد معقود باسم الله. إنه جزء من " الميثاق " الذى يلتزم به المؤمن تجاه ربه. إنه ليس أمرا تتدخل فيه " المصلحة " القريبة أو البعيدة الظاهرة أو الخفية فيلتزم إذا بدت المصلحة فى التزامه وينقض إذا بدت المصلحة فى غيره! إن هذا هو ديدن الجاهليات فيما تبرمه من المواثيق. تبرمه وهو لا تعتزم الوفاء به إلا ريثما تجد الوسيلة لنقضه. وفى اللحظة التى تبدو لها المصلحة فى نقضه فإنه حبر على ورق ولا أكثر! (وجاهلية القرن العشرين أبرز مثال على ذلك فى مواثيقها الدولية. ما أسهل ما تبرم الميثاق وما أسهل ما تنقضه فى لحظات!) أما المؤمنون الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق فهم وحدهم الذين لا تحركه المصلحة إنما يحركهم الحرص على مرضاة الله.
يقول الله وهو يوجده رسوله ( والأمة المسلمة من ورائه:
{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [سورة الأنفال 8/58].
وهذه من أخلاقيات لا إله إلا الله فى المواثيق حتى مع الكافرين الذين يرقبون فى مؤمن إلا ولا ذمة والذين تتوقع منهم الخيانة فى أى لحظة من اللحظات. ينبذ إليهم عهدهم أولا ثم يقاتلون بعد ذلك ولكن لا يغدر بهم والميثاق قائم...
ووعت الأمة الإسلامية التوجيه الربانى وطبقته فى عالم الواقع فكانت منه فى حياتهم أعاجيب.
فحين فتح أبو عبيدة بن الجراح الشام وأخذ الجزية من أهلها الذين كانوا يومئذ ما يزالون على دينهم اشترطوا عليه أن يحميهم من الروم الذين كانوا يسومونهم الخسف والاضطهاد وقبل أبو عبيدة الشرط.
ولكن هرقل أعد جيشا عظيما لاسترداد الشام من المسلمين وبلغت الأنباء أبا عبيدة فرد الجزية إلى الناس وقال لهم: لقد سمعتم بتجهيز هرقل لنا وقد اشترطتم علينا أن نحميكم وإنا لا نقدر على ذلك ونحن لكم على الشرط إن نصرنا الله عليهم!
هل سمع أحد بمثل ذلك فى التاريخ؟!(1/96)
قائد جيش فاتح منتصر يأخذ جزية من أهل البلاد المفتوحة ثم يردها إليهم بأى حال من الأحوال؟!
هذا هو التاريخ مفتوحة صفحاته لمن يريد أن ينقب.
إنه حادث فريد فى التاريخ.
ولم يكن أبو عبيده يصنع ذلك رجاء " مصلحة " بعيدة يقدرها ويضحى فى سبيلها بالمصلحة القريبة! كلا! فما كان عنده يقين بأن ينتصر على جيش هرقل الجرار وتعبيره واضح: وإنا لا نقدر على ذلك!
إنما ينطلق من المبدأ الذى رباهم عليه الإسلام على يد رسول الله (: الوفاء بالمواثيق سواء أكانت الصفقة رابحة فى النظرة رابحة فى النظرة القريبة أم خاسرة:
{وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ...} [سورة النحل 16/92].
ولقد كان لهذا الخلق الإسلامى الذى التزم به أبو عبيدة أثره الذى قدره الله له فقد نصره الله على جيش هرقل فراح الناس يعيدون الجزية راضية قلوبهم ثم - من بعد - صاروا يدخلون فى دين الله أفواجا إعجابا بهذا الدين الذى يخرج من هو على هذا الخلق العظيم!
وعمر رضى الله عنه يقول لقائده فى حرب فارس: وإذا لاعب أحدكم أحد العلوج فظن هذا أن المسلم يعطيه عهد أمان فأنفذه له!
يا لله! ويا لروعة المرتقى!
إنه لا عهد فى الحقيقة! ولكنه مجرد توهم من جانب الفارسى أن الجندى المسلم قد أعطاه عهد أمان! فيقول عمر لقائده: فأنفذه له!
إنه ليس فقط إنفاذ العهد الذي لم يصدر في الواقع من الجندي, ولكنه كذلك إلزام القائد بعهد توهم العدو أن واحدا من جنود المسلمين قد أعطاه!.
هل سمع أحد بمثل ذلك فى التاريخ؟!(1/97)
ومعاوية فى هدنة مع الروم ولكن تأتيه عيونه بأنباء تفيد أن القوم يستغلون الهدنة للاستعداد لهجوم مفاجئ على المسلمين. فيهم معاوية أن يفاجئهم قبل أن يكملوا عدتهم. ولكن مستشاريه يأبون عليه يقولون إما أن تنبذ إليهم على سواء كما أمر الله وإما أن تنتظر حتى نهاية العهد ثم تناجزهم.
وينتظر معاوية. وينصر الله جيشه!.
ضع مقابل ذلك ما فعله الصليبيون أيام صلاح الدين.
كان المسلمون معهم فى هدنة ولكنهم غدروا وأخذوا المسلمين على غرة فانحاز المسلمون إلى المسجد فاقتحموه عليهم وأعملوا فيهم السيف حتى غاصت الخيل فى الدم إلى ركبها كما تروى مراجع الصليبين أنفسهم!
وصدق الله وهو يقول عن الكفار والكفر كله ملة واحدة:
{لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ (10)} [سورة التوبة 9/10]
ومع ذلك فلم يشأ صلاح الدين - حين عادت الكرة له عليهم - أن يعاقبهم بمثل ما عاقبوا به.. وإنما عاملهم بسماحة الإسلام!
سادسا: الحركة العلمية الإسلامية
إلى هنا كنا نتحدث عن أبرز سمات الأمة الإسلامية مع تركيز خاص على الجيل الفريد الذى رباه رسول الله ( على عينه وشهد له عليه الصلاة والسلام حين قال: " خير القرون قرنى.. "
ولقد أكدنا فيما سبق من الحديث ان هذه السمات ليست خاصة بالجيل الأول إنما هى سمات " الأمة المسلمة " التى ينبغى أن تزاولها فى جميع أجيالها وأعصارها والتى تعتبر مقصره أو آثمة إذا تخلت عنها فى أى جيل من الأجيال. وأن مزية الجيل المتفرد لم تكن أنه اتسم بتلك السمات وحافظة عليها فذلك مطلوب من كل جيل لتتحقق له صفة الإيمان الحق. إنما كانت المزيد التى تفرد بها ذلك الجيل أنه بلغ الذروة فى ممارستها ولم يكتف فيها بالحد الأدنى المفروض إنما بذل جهد=ه ليصل إلى الحد الأعلى المرغوب فوصل إلى آفاق لا تخطر على بال الناس خاصة حين يهبطون مع " واقعيتهم " الهابطة فينزلون دركات تحت الحد الأدنى المفروض(1/98)
ونتحدث هنا عن سمتين آخريين من سمات هذه الأمة اللازمة لها بوصفها " الأمة المسلمة " وإن كانتا كما أشرنا من قبل قد جاءتا ? بطبيعتهما ? متأخرتين عن الجيل الأول الذى كتب التاريخ.
إن الحركة العلمية والحركة الحضارية ? بطبيعتهما ? لا تبرزان فى مرحلة الإنشاء والتكوين لأنهما تحتاجان إلى استقرار لا يتوفر فى مرحلة الإنشاء وإلى جهد فائض عن الضروروات بينما الجهد كله فى مرحلة الإنشاء يبذل فى التأسيس والتمكين. كما تحتاجان إلى زمن يمضى بعد استكمال التكوين تتم فيه عملية " التمثيل " للقيم والمبادئ والأفكار لتتجه بعد ذلك إلى " الإنتاج " فى مجالات العلم والحضارة المادية. ولكن " البذرة " التى تتولد عنها كل من الحركتين تنشأ فى الحقيقة من نقطة الابتداء وتظل كامنة حتى تستوفى نضجها الطبيعى فتولد كما يولد الجنين المكتمل الأعضاء بعد أن يستكمل أطواره فى خفية عن العيون.
فالجيل الأول - وإن لم يشارك فى هاتين السمتين بنفسه - كان فى الحقيقة هو " الأب الروحى " لهما إن صح التعبير من حيث إنه هو الذى قام بالإنطلاقة الهائلة التى كتبت سطور التاريخ الظافر فيما بعد ومن حيث إنه هو الذى حقق فى ذات نفسه صحة المنطلق ولكل من هذين الأمرين أثره فى إبراز الحركة العلمية الإسلامية والحركة الحضارية الإسلامية.
فأما الانطلاقة فهى قمينة ? فى حياة أى أمة ? أن تحدث فيها حركة علمية وحركة حضارية لأن ذلك مركوز فى فطرة البشر ولأن ذلك من جهة أخرى من العطاء الربانى المبذول للبشر جميعا بقدر ما يبذلون فيه من جهد:
{كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20)} [سورة الإسراء 17/20].
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15)} [سورة هود 11/15](1/99)
أما تصحيح المنطلق فمن شأنه أن ينشئ الحركة العلمية الصحيحة والحركة الحضارية الصحيحة التى تتميز تميزا واضحا عن غيرها من الحركات.
وهذا ما نعنيه هنا ونبدأ فيه بالحديث عن الحركة العلمية الإسلامية.
? ? ?
لم يكن العرب فى جاهليتهم أمة علمية.. وذلك ثابت من التاريخ.
لقد كان لهم رحلات يصلون فيها إلى مراكز حضارية فى الشمال والجنوب كما كانت لهم احتكاكات بدولتى فارس والروم ولكل منهما فى ذلك الحين علوم ومعارف ولكن العرب لم يشغلوا أنفسهم بتحصيل شئ من تلك المعارف العلمية لأنهم كانوا يعيشون على هامش الدنيا وهامش التاريخ مشغولين بثاراتهم ونزاعاتهم وفخرهم وهجائهم وعلى الأكثر بتجاراتهم ولهوهم وشرابهم.
كان أشد ما يشغل العرب فى حياتهم القبلية التى يعيشونها هو قول الشعر وحفظ الأنساب. فالشعر يتفنننون فى قوله ويتباهون بفصاحته وحفظ الأنساب تستخدمه كل قبيلة فى التفاخر مع القبائل الأخرى وفى محاولة النيل من القبائل الأخر وقت الخصام والنزاع بما قد يكون من ملمز فى أنسابها
ورغم بلاغة الشعر العربى الجاهلى ودلالته على النضج الفكرى والنفسى والتعبيرى فإن البداوة التى كان يعيش فيها العرب ومشغلتهم الدائمة بالعصبية القبلية وما يتبعها من خصومات ونزاعات وتفاخر بالأنساب لم تدع مجالا " للتجمع " لتكوين أمة وهو شرط أساسى لأى حركة علمية أو حضارية.
لذلك عاش العرب قرونا لا يتجهون أى اتجاه لطلب العلم وكانوا ? كما ثبت عنهم ? أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب.
ثم جاء الإسلام. جاء ليمنحهم كل العناصر المطلوبة لا لإنشاء حركة علمية فحسب بل لإنشاء الحركة العلمية الصحيحة كما ينبغى أن تكون.(1/100)
الرغبة فى " المعرفة " رغبة فطرية أودعها الله لتكون إحدى أدوات الإنسان للقيام بعمارة الأرض والرغبة فى معرفة خواص المادة بصفة خاصة ركيزة رئيسية فى الفطرة وركيزة رئيسية فى " العلم " بمعناه الإصطلاحى. ولكنها كما قلنا تحاج إلى تجمع وإلا استقرار وأمن وطمأنينة لكى تزاول نشاطها الطبيعى الفطرى. وكل هذه العناصر كان مفقودا فى البيئة العربية القبلية الجاهلية فلم يكن هناك من ثم علم بالمعنى المعروف.
فلما جاء الإسلام وجدت هذه العناصر جميعا فوجدت - بادئ ذى بدئ - البيئة التى يمكن أن يظهر فيه العلم. ولكنها فى أمة كانت مشغولة تماما عن هذا الأمر كانت فى حاجة - إلى جانب التجمع والاستقرار والأمن - إلى دفعة حيوية هائلة تنشط ما كان غافلا من جوانب الفطرة وتدفعه إلى العمل والإنتاج.
ولقد أعطى الإسلام تكل الدفعة الحيوية بصورة فذة غير مسبوقة فى التاريخ فكان أمرا طبيعيا أن تتحرك الفطرة لطلب العلم حين سرت الشحنة الضخمة فى جسم ذلك التجمع الجديد فحركت كل جزئية فيه.
ولكن الإسلام لم يحو تلك الشحنة الدافعة فحسب التى يمكن أن تؤدى من ذات نفسها إلى إيقاظ الجوانب الغافية - أو الضامرة - من الفطرة فتعطيها دفتها السوية وحركتها السوية إنما حوى إلى جانب ذلك توجيها محددة لطلب العلم كشأنه مع كل أمر لازم للحياة البشرية.
وشأن الوحى مع متطلبات الحياة البشرية إما أن تكون مما لا يستطيع الإنسان الوصول فيه إلى المعرفة الصحيحة بنفسه فيتكفل الوحى بأمر " التعليم " كله كشأن العقيدة وأمور الحلال والحرام.. وإما أن تكون مما يستطيع الإنسان الوصول فيه إلى المعرفة الصحيحة بما أودع الله الفطرة من الأدوات فيكتفى الوحى بالتوجيه ووضع المنهج الصحيح للعمل والتفكير.(1/101)
والتعرف على الكون المادى وعلى خواص المادة هو من تلك الأمور التى أودع الله الفطرة الطاقات اللازمة لها والقمينة بأن يصل الإنسان بها إلى المعرفة الصحيحة بجهد عقلى وعضلى يبذله لذلك لم يكن شأن الوحى فيه أن يعطى " نظريات " علمية ولا دروسا توصل إلى معلومات معينة فى شتى العلوم. إنما كان شأنه التوجيه وإعطاء المنهج الصحيح.
فأما التوجيهات فقد حفل بها كتاب الله المنزل كما حفلت بها سنة الرسول (.
فأما كتاب الله فقد بدأ الوحى منه بالإقراء: " اقرأ " ولذلك دلالته الواضحة خاصة بالنسبة للأمة الأمية التى لا تقرأ ولا تكتب.
ثم ثنى بذكر العلم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [سورة العلق 96/1-5]
ثم لفت الأنظار إلى آيات الله فى الكون وأورد فى خلال ذلك آيات كونية داخلة فى صميم " العلم " وخاصة فى مجال السماوات والأرض ومراحل تكوين الجنين.
{قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [سورة يونس 10/101].
{وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21)} [سورة الذاريات 51/20-21].
{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)} [سورة الرعد 13/3].(1/102)
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)} [سورة المؤمنون 23/12-14].
ومع أن هذه الإشارات إلى آيات الله فى الكون - وهى كثيرة فى القرآن - قد قصد بها ابتداء إيقاظ القلب البشرى لعظمة الخالق وقدرته المعجزة وعلمه المحيط وهيمنته. سبحانه وتعالى على أمر الكون كله وتدبيره له لكى تخشع القلوب للخالق العظيم وتعبده وحده بلا شريك - أى لتصحيح العقيدة - إلا أنه التوجيه " العلمى " واضح فيها بلا شك لأن التفكر والتبصر والتدبر الذى تختم به معظم الآيات التى تتعرض لهذه المجالات كقوله تعالى: {إن فى ذلك لآيات لقوم يتفكرون} أو {يعقلون} أو {إن فى ذلك لآيات للعالمين}.. الخف هذا التفكر والتبصر والتدبر يسرى بطبيعته حتى يشمل محاولة التعرف على " سر " هذه الآيات الكونية وسر الصنعة الربانية الكامنة فيها. وتلك هى النقطة التى يبدأ منها " العلم ". وبدأ منها المسلمون بالفعل توجههم لطلب العلم.
ولما لم يكن عند العرب رصيد علمى سابق لانشغالهم - كما أسلفنا - بأمور أخرى فقد أحس المسلمون بالحاجة إلى الاطلاع على ما كان عند غيرهم من الأمم من العلوم وهو إحساس لم يشعروا به من قبل أيام جاهليتهم ولم يتجهوا إليه ولما كانت لغة العلم الغالبة يومئذ هى الإغريقية واللاتينية فقد اتجه المسلمون إلى تعلم هاتين اللغتين حتى يستطيعوا نقل العلم إلى اللسان العربى ومن هذه النقطة بدأوا حركتهم العلمية.(1/103)
ترجموا كل ما كان معروفا من العلم يومئذ وعكفوا على دراسته متتلمذين عليه كما هو الأمر الطبيعى فى مثل هذه الأحوال وإن كانوا سرعان ما اكتسبوا الحاسة العلمية لأنفسهم وأخذوا يصححون بعض الأخطاء التى كان العلم الإغريقى يحتوى عليها.
ولكن والتوجيهات القرآنية لم تحو فقط تلك الإشارات الكونية وذلك التوجيه للنظر فى هذه الآيات والتفكر فيها إنما حوت أهم من ذلك: منهج البحث.
لقد كان العلم لدى الإغريق نظريا فلسفيا تجريديا. يبحث عن النظرية ويفلسفها ويكفى بعرضها على " العقل " فإن أقرها - بصورة من الصور - فهى صحيحة بصرف النظر عن وجودها الواقعى أو صحتها الواقعية.
ولكن توجيهات القرآن كانت فى اتجاه آخر.
إنها توجه إلى الجانب العملى والجانب النافع من العلم لا إلى الجانب النظرى التجريدى:
{يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ } [سورة البقرة 2/189].
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً (12)} [سورة الإسراء 17/12].
{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)} [سورة النحل 16/68-69]
ومن هنا بدأ المسلمون يحولون اتجاه البحث العلمى من المجال النظرى الفلسفى التجريدى إلى المجال العلمى التجريبى وكانت هذه نقلة هائلة فى منهج البحث هى التى أهلت البحث العلمى للآفاق الواسعة التى وصل إليها فى القرون الأخيرة.(1/104)
والمسلمون هم الذين أسسوا المنهج التجريبى فى البحث العلمى.
تلك حقيقة يقر بها الذين أخذوا عن المسلمين هذا المنهج, فقفزوا به قفزات واسعة فى العصر الحديث.
يقول بريفولت فى كتابه " بناء الإنسانية " "Humanity of Making ":
" إن ما يدين به علمنا للعرب ليس فيما قدموه إلينا من كشوف مدهشة لنظريات مبتكرة. بل يدين لهم بوجوده نفسه. فالعالم القديم - كما رأينا - لم يكن للعلم فيه وجود.. وقد نظم اليونان المذاهب وعمموا الأحكام ووضعوا النظريات. ولكن أساليب البحث فى دأب وأناة وجمع المعلومات الإيجابية وتركيزها والمناهج التفصيلية للعلم والملاحظة الدقيقة المستمرة والبحث التجريبى كل ذلك كان غريبا تماما عن المزاج اليونانى.. أما ما ندعوه " العلم " فقد ظهر فى أوربا نتيجة لروح من البحث جديدة ولطرق من الاستقصاء مستحدثة.. وهذه الروح وتلك المناهج أوصلها العرب إلى العالم الأوربى" (34).
ولكن الذى صنعه المسلمون فى حركتهم العلمية لا يقف عند حد تصحيح الأخطاء التى وجدوها عند الإغريق ولا ابتداع علوم جديدة كعلم الجبر ولا اكتشاف كثير من خواص المادة مما أدى إلى تقدم كبير فى علم الفيزياء وعلم الكيمياء ولا اكتشاف الدور الدموية ولا ما ابتدعته عبقرية الحسن بن الهيثم فى علم الضوء.. ولا يقف كذلك عند منح البشرية سبيل التقدم العلمى الصحيح وهو المنهج التجريبى الذى ما كان للعلم أن يتقدم تقدما حقيقيا بدونه.. إنما كان هناك ما هو أهم من ذلك.
لقد حوى القرآن منهجا كاملا للحياة يشمل جزئيات الحياة جميعا بما فيها " العلم " ثم يضع كل جزئية فى مكانها الصحيح. وهذا الأمر بالذات هو أهم ما قدمته الحركة العلمية الإسلامية وتبدو قيمته خاصة إذا نظرنا إلى الحركة العلمية التى تقدمها الجاهلية المعاصرة فى الوقت الحاضر.(1/105)
إن الإنسان فى حقيقته كل متكامل لا يمكن فصل جزء منه عن بقية أجزائه. وحين ينفصل منه جزء عن بقية الأجزاء أو حين يحاول الناس فصل جزء منه عن بقية الأجزاء يحدث الخلل فى الكل المتكامل لأن الارتباط لا يفصم فى الحقيقة وإنما يعتل وإذا اعتل حدث الخلل لا محالة.
والمنهج الربانى يأخذ الإنسان على حقيقته, كلاَّ متكاملا لا أجزاء ولا تفاريق ولا عجب فى ذلك فهو منزل من عند فاطر هذه الفطرة العليم بها وبكل منسرباتها:
{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [سورة الملك 67/14].
وحين يعالج المنهج الربانى أمر " العلم " فهو أولا: لا يفصله عن بقية حياة الإنسان ولا يجعله شيئا قائما بذاته ولا يرفع شعار " العلم للعلم " كا تصنع الجاهلية المعاصرة بصفة خاصة. وهو ثانيا: لا يجعل نشاطه مضادا ولا معاكسا لبقية اتجاهات الفطرة وبقية الحاجات النفسية والحيوية كما تصنع الجاهلية المعاصرة حين تفصل العلم عن الدين ثم تضعهما موضع التقابل والتضاد فمن أراد العلم فليترك الدين ومن أراد الدين فليترك العلم!
الإنسان فى عرف الإسلام هو الخليفة فى الأرض:
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [سورة البقرة 2/30].
خلق ليعبد الله:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)} [سورة الذاريات 51/56].
والعبادة تشمل كل نشاط الإنسان فى الأرض: (35)
{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ} [سورة الأنعام 6/162-163].
ومن بين العباد المطلوبة عمارة الأرض:
{هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [سورة هود 11/61]
ومن بينها السعى فى الأرض وابتغاء فضل الله:(1/106)
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)} [سورة الملك 67/15].
و العلم أداة - ضرورية - من أدوات عمارة الأرض والسعى وراء الرزق والقيام بدور الخلافة فى الأرض. لذلك فهو مسخر لهذه الأهداف وليس هو هدفا فى حد ذاته.
ثم إن الإنسان كله - كما أسلفناه - مخلوق للعبادة التى تشمل الاعتقاد فى وحدانية الله وتشمل الشعائر التعبدية وتشمل عمارة الأرض وإقامة الحق والعدل فيها باتباع ما أنزل الله:
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [سورة الحديد 57/25].
والعلم - من ثم - بوصفه نشاطا إنسانيا هو جزء من هذا المنهج المتكامل - منهج العبادة بمعناها الواسع - يأخذ مكانه فى ذلك المنهج ويأخذ ارتباطه ببقية الأجزاء. لذلك لا نعجب حين نجد الرسول ( يقول: " طلب العلم فريضة على كل مسلم " (36).
وإيحاء اللفظ ظاهر..
فليست الفريضة مجرد شئ واجب الأداء فحسب بل إنها - فى المصطلح الإسلامى - عبادة يتقرب بها الإنسان إلى الله ويبتغى بها رضاه.
وهذا هو وضع العلم فى الإسلام.. عبادة يتقرب بها الإنسان إلى الله ويبتغى بها رضاه!
ولا يحسبن أحد أن هذا القول يتعلق فقط بما يسمى " العلم الشرعى " وإن كان العلم الشرعى فريضة بديهية على كل مسلم ليعرف كيف يعبد الله العبادة الصحيحة ويعرف الحلال والحرام وما ينبغى عمله وما ينبغى الانتهاء عنه.
إنما ينطبق هذا الوصف على كل العلم ما دام لا يخرج عن الحدود التى رسمها الله. وإلا فانظر معى كيف ينفذ المسلمون هذا الأمر الربانى.
{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [سورة الأنفال 8/60].(1/107)
هل يستطيعون ذلك بغير علم ويشمل اليوم الفيزياء والكيمياء والرياضيات والميكانيكا وعشرات غيرها من العلوم؟
وكيف ينفذون أمره تعالى:
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ....} [سورة الملك 67/15].
هل يمشون بغير علم؟ وهل يأكلون من رزقه بغير علم؟
وانظر إلى قوله تعالى:
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [سورة الجاثية 45/13].
هل يتحقق التسخير بغير علم؟ هل يقول الإنسان للشئ كن فيكون؟! أم يحتاج تحقيق التسخير إلى جهد علمى؟!
وعشرات من الأمور تقطع بأن العلم الذى هو " فريضة " ليس هو العلم الشرعى وحده إنما هو كل علم نافع. إنما يختلف الأمر بين علم وعلم فيكون أحدهما فرض عين والآخر فرض كفاية ولكنه فى جميع الأحوال " فريضة " كما قال رسول الله ( بحق.
وحيث يكون العلم فى الإسلام على هذا النحو تنتج عن ذلك نتائج مهمة فى حياة البشرية.
ينتج أولا: أن العلم لا يمكن أن يكون عدوا للعقيدة ولا عدوا للدين.
إن العلم والدين كلاهما نزعة فطرية فى كيان الإنسان. والنزعتان - فى الفطرة السليمة - أصيلتان ومتكاملتان ومتعاونتان فى تحقيق الوجود الصحيح للإنسان.
فتوجه الفطرة لخالقها بالعبادة فطرة (37):
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [سورة الأعراف 7/172].
والرغبة فى " المعرفة " والرغبة فى التفاعل مع الكون المادى واستخدام ثمار المعرفة فى تيسير الحياة وتحسينها وتجميلها فطرة كذلك. فالإنسان مفطور على حب " المتاع " وعلى السعى إلى تحسين وسائل المتاع حتى ترتفع من الضرورات إلى الحاجيات إلى الزينة.
فما الذى يجعل إحدى النزعتين فى موقف الحرب والتضاد مع النزعة الأخرى؟(1/108)
إنما فعلت الجاهلية الحديثة ذلك فى أوروبا لأن الدين الممسوح الذى قدمته الكنيسة كان يحارب العلم ويضطهد العلماء ويحرقهم أحياء فى الأفران لأنهم نادوا بحقائق علمية على غير هوى الكنيسة. فكان رد الفعل الجاهلى هو نبد الدين جملة - بدلا من تصحيحه - وجعل العلم منابذا للدين.
ولكن ذلك لم يكن هو السبب الأوحد فى الحقيقة.
فإن أوربا حين نزعت عنها لباس الدين علماؤها ومفكروها أولا ثم جماهيرها ودهماؤها بعد ذلك رجعت إلى التراث الإغريقى الرومانى تستمد منه مناهج حياتها الجديدة.. فانبعث فيها من الجاهلية الإغريقية ذلك العداء القديم بين " الإنسان " وبين " الله ".
إن الأساطير الإغريقية تصور العلاقة بين البشر والآلهة علاقة خصام وعناد وشر: الآلهة تريد أن تسحق الإنسان لكى لا ينافسها وضعها " الإلهى "! والإنسان متمرد على الآلهة يحاول عصيانها ليثبت وجوده وفاعليته!
وأسطورة بروميثيوس بصفة خاصة تصور هذا العلاقة أدق تصوير.
تقول الأسطورة إن كبير الآلهة " زيوس " خلق الإنسان من قبضة من طين الأرض (38) ثم سواه على النار المقدسة التى ترمز إلى المعرفة ثم أطلقه فى الأرض وحيدا تحيط به الظلمات. فأشفق عليه كائن أسطورى يسمى " بروميثيوس " فسرق له النار المقدسة من الإله زيوس لتنير له ما حوله. وهنا غضب الإله غضبة عظيمة (وإن كان قد عجز عن استرداد النار المقدسة مرة أخرى!) فوكل ببروميثيوس نسرا يأكل كبده طول النهار ثم تنبه له كبد جديدة فى الليل فيأكلها النسر بالنهار وهكذا فى عذاب أبدى. أما الإنسان الذى استضاء بنور المعرفة فأصبح يحمل بعض خصائص الآلهة - فقد أرسل زيوس إليه بامرأة (ترمز إلى حواء) وأرسل معها صندوقا هدية.. فما فتح الصندوق إذا هو مملوء بالشرور فقفزت من الصندوق وتناثرت على وجه الأرض.. وكان هذا هو انتقام " الإله " من " الإنسان "!(1/109)
على هذا النحو تقوم العلاقة بين الإنسان وبين الله. علاقة خصام وعناد لا تعمرها مودة ولا يظللها حب.
وفى ظل هذه العلاقة تكون " المعرفة " التى يحصل عليها الإنسان غصبا مغتصبا من الآلهة لا كسبا مرضيا عنه منهم.
وتظل الجاهلية تؤجج البغض فى هذه العلاقة وتباعد بين الدين والعلم حتى يصبح الأمر فى حسها كما يقول الكاتب الملحد " جوليان هكسلى " فى كتابه " الإنسان فى العالم الحديث ": إن الإنسان كان يخضع لله فى عصر الجهل والعجز أما الآن وقد تعلم وسيطر على البيئة فقد آن له أن يحمل على عاتق نفسه ما كان من قبل فى عصر الجهل والعجز يلقيه على عاتق الله ومن ثم يصبح هو الله!
وأيا كانت أعذار الجاهلية أو مبرراتها فقد ارتكبت جريمة ضخمة فى حق الإنسان - على الرغم من كل تقدمها العلمى - حيث فصلت بين نزعتين فطريتين أصيلتين متعاونتين نزعة العبادة ونزعة المعرفة ووضعتهما فى موقف التقابل والتضاد ومزقت الإنسان - من ثم - بين نزعتيه الفطريتين وبين حاجتيه الفطريتين فحرمت عليه إحداهما إذا أراد الأخرى وأشقته وأضلته بالتقدم العلمى رغم كل التيسيرات التى قدمها العلم للإنسان فى عصره الحديث واستخدمت العلم - متعمدة - فى محاربة العقيدة بترويج أضاليل ليس لها وجود حقيقى ولا مدلول علمى كالطبيعة الخالقة التى قال عنها دارون إنها " تخلق كل شئ ولا حد لقدرتها على الخلق "! وكالمادة الأزلية الأبدية التى زعمها الماديون بغير برهان علمى (39) وكالأنباء التى تنشر بين الحين والحين فى المجلات العلمية الرصينة عن خلق الخلية فى المعمل ثم تنشر الصحف الرصينة ذاتها بعد فترة ن الزمن أن الخبر كان عاريا عن الصحة!(1/110)
ويظل للحركة العلمية الإسلامية تميزها بصحة المنهج واستقامته وأخذها الإنسان على حقيقته الشاملة كلا مترابط الأجزاء متناسق النشاط يعمل بجميع نزعاته ومجالات نشاطه فى اتجاه موحد لا تصطدم فيه نزعة بنزعة ولا يتعارض مجال للنشاط مع مجال آخر لأنها كلها متجهة إلى عبادة الله بالمعنى الشامل الواسع الذى يشمل الخلافة فى الأرض وتعمير الأرض بمقتضى المنهج الربانى ويشمل كذلك رفع الإنسان إلى مكانه اللائق به ودوره المنوط به وهو حمل " الأمانة " التى أشفقت من حملها السماوات والأرض والجبال وحملها الإنسان
? ? ?
وينتج من ذلك ثانيا: أن العلم لا يكون وسيلة لإفساد الأخلاق:
فإذا كان العلم نشاطا بشريا والنشاط البشرى كله فى المنهج الربانى محكوم بالميثاق الأخلاقى المعقود بين الإنسان وبين الله فإنه لا يمكن - بداهة - أن يستخدم لإفساد الأخلاق.
والجاهلية المعاصرة نموذج فذ للتقدم العلمى ولاستخدام العلم كذلك فى إفساد الأخلاق كما استخدمته فى محاربة العقيدة سواء بسواء.
ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك تيسير استخدام موانع الحمل (40) وإنتاجها على نطاق واسع أكبر بكثير جدا من حاجة البشرية الراشدة وتخفيض أسعارها حتى تصبح فى متناول أى فتاة تريد أن تحصل عليها وإخراجها من دائرة المراقبة الصحية التى يمكن للأطباء أن يمارسوها وذلك ببيعها دون حاجة إلى تذكرة الطبيب على الرغم مما يقوله الأطباء أنفسهم من خطورة استخدامها بغير رقابة صحية!
والهدف من ذلك واضح.
فحين تأمن الفتاة نتائج اتصالاتها غير المشروعة فما الذى يمنعها - فى الفوضى الخلقية الضاربة أطنابها فى الجاهلية المعاصرة - أن تغرف فى هذه العلاقات إلى آخر المدى ويتحقق للشياطين ما يريدون من إشاعة الفاحشة على أوسع نطاق (41).(1/111)
وليست موانع الحمل وحدها هى التى استخدم فيها العلم لإفساد الأخلاق فالسينما والإذاعة والتلفزيون والفيديو وما يمكن أن يجد من هذه الأشياء كلها أدوات كان يمكن أن تستخدم فى ترشيد البشرية وتوجيهها الوجهة الصالحة ولكنها تستخدم اليوم للإفساد المتعمد الذى تجاوز فى كثير من الأحيان دائرة الإفساد الخلقى بمعناه الإصطلاحى إلى إفساد الفطرة الإنسانية ذاتها بإشاعة التفاهة والضحالة والسطحية والجزئية وشغل النفس عن معالى الأمور وتوجيهها إلى سفاسفها.
? ? ?
وينتج من ذلك ثالثا: أن العلم لا يكون وسيلة للشر.
فما دام الإنسان كله فى المنهج الإسلامى موجها إلى عمل الخير ومراقبة الله فى كل أعماله والتوجه بكل ذرة من نشاطه إلى الله:
{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ} [سورة الأنعام 6/162-163].
ما دام الأمر كذلك والعلم جزء من نشاط الإنسان فهناك حاجز عقدى وأخلاقى يمنع من استخدام ثمار العلم فى الشر.
والجاهلية المعاصرة التى بلغت أبعد مدى وصل إليه الإنسان فى التقدم العلمى هى التى تستخدم الطاقة النووية فى إحداث ألوان من الشر يعجز الإنسان عن تصورها.
إن قنبلتى هيروشيما ونجازاكى اللتين ألقيتا من أربعين سنة فى اليابان (هذا العام 1406 هـ 1986 م) قد محت كل منهما آثار الحياة كلها من نبات وحيوان وإنسان فى دائرة واسعة حول المكان الذى ألقيت فيه وإلى مدى فى الزمن القادم لا يعلمه إلا الله ثم إن الإشعاع الذرى الناتج عنها ما يزال إلى هذه اللحظة ينتج أجنة مشوهة فى دائرة أوسع بينما تعتبر هذه القنبلة بالقياس إلى قوى التدمير الحديثة كمسدس الأطفال بالنسبة للمدفع الثقيل!(1/112)
وذلك كله بغير ضرورة حقيقية! فمازال فى مكنة الأسلحة التى يسمونها " تقليدية " أن تفتك بعشرات الألوف بل بالملايين وفى مكنتها أن تقرر النصر لمن يملكها ويحسن استخدامها وذلك بصرف النظر عن الأهداف التى تدور حولها الحروب فى الجاهلية المعاصرة!
وقد أدى سباق التسلح فى الميدان النووى إلى إنفاق مقادير من الأموال كانت كفيلة برفع الفاقة والعوز عن البشرية كلها وتوفير وسائل الحياة الكريمة لمجموعات ضخمة من البشر تعيش أدنى من درجة الآدمية بكثير! ومع ذلك لا يتوقف السباق المسعور ولا يشبع! ولا يصل إلى نتيجة حاسمة كذلك!
? ? ?
كلا! إن المزية الكبرى للحركة العلمية الإسلامية - التى تجعلها فى الوقت ذاته سمة من سمات هذه الأمة - أنها جزء من هذا الدين بشموله وتوازنه وترابطه لا يشذ عنه ولا ينفصل منه.
لقد نمت الحركة العلمية الإسلامية فى ظل العقيدة الصحيحة فلم يحدث قط بينها وبينها صراع لا على المستوى النظرى ولا على الصعيد العلمى.
ليس فى حقائق الدين ما يعارض العلم الصحيح وليس فى العلم الصحيح ما يعارض ما جاء فى هذا الدين. ولا يحتاج المسلم أن ينحى عقيدته جانبا أو ينسلخ منها لكى يتعلم كما لا يحتاج أن ينبذ العلم ولا ثمار المعرفة العلمية لكى يحافظ على دينه. إنما يتعلم ويعبد الله حق عبادته فى ذات الوقت بل يجد دينه هو الذى يدفعه دفعا إلى العلم: " طلب العلم فريضة " (42) ويجد دينه يطريه حين يصبح " عالما " بالمعنى الصحيح للعلم الذى يربط علم الدنيا بعلم الآخرة فيقول الله سبحانه وتعالى:
{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [سورة فاطر 35/28].
فيصبح بذلك من " أولى الألباب " لأنهم هو الذين يتصفون بخشية الله:(1/113)
{إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)} [سورة الرعد 13/19-21]
كذلك لم يحدث فى التاريخ الإسلامى ذلك الصراع البغيض الذى حدث فى ظل الكنيسة الأوربية بين الدين والعلم لأنه لا حاجة ولا مبرر لذلك الصراع. بل أن الرجل يكون عالما بالشريعة وعالما بالطلب أو الفلك أو الفيزياء أو الكيمياء لا يجد من ذلك صراعا فى نفسه ولا يجد اضطهادا من الدولة ولا من أحد من الناس.
ومما يستوقف النظر ولا شك أن يجد الإنسان الحسن بن الهيثم يكتب فى موضوع علمى يعتبر جافا أشد الجفاف وهو علم " البصريات " فيبدأ حديثه باسم الله ويحمده ويثنى عليه بما هو أهله ويستمد منه التوفيق (43) بينما نجد دارون يكتب فى موضوع من طبيعته أن يثير الوجدان البشرى ويبعث القلب الشرى خاشعا لله وهو علم الحياة وخروج الحى من الميت وتنوع الكائنات الحية.. فلا يذكر اسم الله مرة واحدة بل يقول إن الطبيعة تخلق كل شئ ولا حد لقدرتها على الخلق ثم يقول بعد ذلك إن الطبيعة تخبط خبط عشوائى!!
إنه الفارق بين حركتين علميتين متميزتين حركة مهتدية وحركة ضالة. وقد كانت الحركة المهتدية نورا يشع للعالم أجمع فأيقظ أوربا من سباتها وأخرجها من ظلمات القرون الوسطى لتعرف العلم والحضارة (وإن تكن أبت أن تأخذ مصدر النور فخرجت بحضارتها العرجاء الشائهة) والحركة الضالة تمد ظلها اليوم على العالم كله فتحقق له كثيرا من النفع ولكنها تشيع فى كيانها الخبال!(1/114)
كذلك لم تتجه الحركة العلمية الإسلامية إلى إفساد الأخلاق ولا إلى بذر الشر فى الأرض كما اتجهت الحركة القائمة فى ظل الجاهلية المعاصرة لا لأنها كانت عاجزة عن ذلك فأى قدر من العلم يمكن أن يستخدم فى إفساد الأخلاق وبذر الشر إذا تولته الشياطين. وقد كان كهنة الفراعنة - وهم علماء تلك الأمة - يستخدمون ما لديهم من العلم فى نشر الأضاليل الاعتقادية وتعبيد الناس للفرعون بدلا من الله وكانوا هم واليهود يستخدمون العلم فى السحر بدلا مما ينفع الناس!
إنما اتجهت الحركة الإسلامية إلى البحث عن الحقية وتسخير العلم وثماره لما ينفع الناس وحافظت على عقائد الناس وأخلاقهم لأنها جزء من هذا الدين محكوم بالمنهج المنزل من عند الله.
? ? ?
سابعا: الحركة الحضارية الإسلامية:
المقصود هنا بالحركة الحضارية هو الجانب المادى والتنظيمى منها وهو هو الذى تأخر بروزه عن الجيل الأول. أما الجانب المعنوى جانب القيم فقد برز منذ اللحظة الأولى لوجود المجتمع المسلم بالمدينة بل قبل ذلك منذ قيام الجماعة المسلمة بمكة.
وقد تكون هذه القضية فى حاجة إلى شئ من البيان:
لقد غلب على استعمال كلمة الحضارة أن تطلق على الجانب المادة والتنظيمى من الحياة وليس ذلك بعيدا عن المعنى اللغوى على أى حال فالحضارة هى فعل أهل الحضرة مقابل البداوة التى هى شأن أهل البادية.
ولكن الإسلام قد أنشأ مفاهيم خاصة ومصطلحات خاصة يخصص بها المصطلح اللغوى ويحدده. فالصلاة فى اللغة الدعاء ولكنها فى المصطلح الإسلامى هى تلك الأعمال الخاصة المعروفة التى تشمل الدعاء فيما تشمل ولكنه دعاء ذو نسق خاص محدد. والزكاة فى اللغة الطهر والنماء. ولكنها فى المصطلح الإسلامى هى ذلك المقدار من المال الذى ينفق بصورته المعينة المعروفة. والدين فى اللغة هو كل ما يدين به الإنسان أو يعتقده أو يتحاكم به أو يتحاكم إليه ولكنه فى المصطلح الإسلامى ذلك الدين المحدد المنزل من عند الله.(1/115)
والحضارة كذلك. هى فى اللغة فعل أهل الحضر. ولكها فى المصطلح الإسلامى هى عمارة الأرض بمقتضى المنهج الربانى فيدخل فى ذلك الجوانب المادية والتنظيمية وتدخل فيه القيم التى يحملها هذا الدين غير منفصلة هذه عن تلك. أى أنها تشمل الأمرين اللذين فرقت بينهما الجاهلية المعاصرة فسمت أحدهما ثقافة Culture وخصته بالقيم والأفكار والمعتقدات وسمت الآخر حضارة Civilization وخصته بالجانب المادى والتنظيمي.
والجاهلية المعاصرة إذ تفعل ذلك تحدث تفرقة لا وجود لها فى عالم الواقع. فليست عمارة مادية أو تنظيمية غير مرتبطة بقيم معينة فى حياة الناس متأثرة بها ومؤثرة فيها. كذلك فإن القيم لا تعيش فى فراغ إنما تعيش وتبرز فى كيان مادى وتنظيمى. فالتفرقة بين الأمرين تفرقة نظرية أكثر منها واقعية وإنما تستسيغها تلك الجاهلية لأنها درجت على التفرقة بين النظرية والتطبيق فوضعت الصورة المثالية فى النظرية وتركت التطبيق يمثل الواقع ولم تر حرجا فى أن يخالف التطبيق النظرية ويبتعد عنه!
ولسنا ملزمين بمجاراة الجاهلية الأوروبية فى مصطلحاتها.(1/116)
إنما نقول إن " الحضارة " هى الجانب المعنوى الذى يحمل القيم والجانب المادى والتنظيمى على حد سواء. ونقول إن هناك " حضارة إسلامية " ذات قيم ثابتة وأشكال مادية وتنظيمية نامية ومتغيرة على الدوام. والمفروض فى الحالة السوية أن يظل الارتباط قائما بين تلك القيم وهذه الأشكال المتغيرة ليصح تسميتها " حضارة إسلامية " فإذا تغيرت القيم وابتعدت عن روح الإسلام لم تعد تصلح أن تسمى بهذا الاسم إنما هى حضارة جاهلية إذا قبلنا الإصطلاح بمعنى عمارة مادية وتنظيمية غير قائمة على المنهج الربانى وفى جميع الأحوال لا تنفصل الأشكال المادية والتنظيمية عن القيم المصاحبة لها ويكون تقويم الحضارة بالأمرين معا لا بالجانب المادى والتنظيمى وحده. بل يكون تقويمها بمقياس القيم هو المقدم وهو المعتبر لسبب واقعى بسيط هو أن الإنسان يستطيع أن يعيش وإن يمارس كيانه " الإنسان " على المستوى الأعلى بأقل قدر من الأشكال المادية والتنظيمية ولكنه لا يستطيع أن يعيش ولا أن يمارس كيانه الإنسانى على أى مستوى كان يغير قيم ومبادئى مهما يكن عنده من أدوات التقدم المادى والتنظيمى.
ومقارنة سريعة بين جيل الصحابة رضوان الله عليهم والأجيال التى تعيش اليوم فى الجاهلية الأوروبية المعاصرة تحسم الكلام فى هذه النقطة. فأيهما هو " الإنسان " فى أعلى صورة؟ أيهما الذى يعيش بمشاعر "الإنسان " وأفكار " الإنسان " وأخلاقيات " الإنسان " وسعة أفق " الإنسان " والعمل والكدح اللائق " بالإنسان "؟
الإجابة واضحة دون شك. وحاسمة كذلك.(1/117)
إن ذلك الجيل الذى لم يكن يملك من أشكال الحضارة المادية والتنظيمية إلا القدر الأدنى هو أعظم أجيال البشرية قاطبة غير منازع. والأجيال التى تعيش اليوم فى الجاهلية المعاصرة هى من أسوأ أجيالها إن لم تكن أسوأها وإن كانت تملك أعلى قدر من الحضارة المادية والتنظيمية فى تاريخ البشرية وذلك لأنها تعرف من القيم وتنكرت لها إلا القيم النفعية البحتة لذلك نسمى حضارتها حضارة هابطة فى مقابل الحضارة الرفيعة المتمثلة فى ذلك الجيل الفريد حضارة القيم العليا والمبادئ السامية.
من هنا نقول باطمئنان إن الإسلام هو الحضارة. وإن المجتمع المسلم هو المجتمع المتحضر أيا كان القدر الذى يشتمل عليه من الأشكال المادية والتنظيمية.
ولكن الأمر الطبيعى فى الفطرة السوية أنها تسعى لإشباع الجوانب الحسية والجوانب المعنوية معا فى ذات الوقت بلا تعارض ولا تنقض بل على توازن واتساق.
وهذا التكامل فى الفطرة وفى الحياة الواقعية علامة صحية بالنسبة للإنسان الذى خلقه الله من قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله:
{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)} [سورة ص 38/71-72].
والإسلام - دين الفطرة - يدعو إلى إشباع الجانبين معا سواء فيما يتعلق بالروح والجسد أو بالدنيا والآخرة.
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [سورة البقرة 2/110]
{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا....} [سورة الأعراف 7/31]
{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا} [سورة القصص 28/77]
ولئن كان الإسلام قد وضع القيم المعنوية فى المقدمة - كما ينبغى لها أن تكون - فإنه لم يهمل الجوانب الأخرى ولا دعا إلى مصادرتها بل أعطى كل ذى حق حقه:(1/118)
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ (17)} [سورة آل 3/14-17]
فأما إذا جنح الإنسان بأحد جانبيه على حساب الآخر فهنا يحدث الخلل فى حياته سواء جنح إلى الجانب الروحى وأهمل المادى كما تصنع الرهبانية والهندوكية والبوذية أو جنح إلى الجانب المادى وأهمل الروح كما تصنع الجاهلية المعاصرة.
إنما يسعى الإسلامى لإشباع الجوانب كلها فينتج من ذلك الإنسان السوى الذى يحقق التوازن على المستوى الرفيع.
لذلك كان قيام الجانب المادى والتنظيمى من الحضارة - بعد استكمال الجانب المعنوى القائم عى القيم العليا والمبادئ السامية - أمرا طبيعيا فى حياة المجتمع المسلم وعلامة صحية كذلك.
ولئن كان هذا الأمر قد استغرق فترة من الوقت فقد كان ذلك طبيعيا بالنسبة لخلو الحياة العربية السابقة من كثير من أشكال الحضارة المادية والتنظيمية وعدم شعورها بالحاجة إلى تغيير واقعها الذى تعيشه بكل تفصيلاته.(1/119)
فلما جاء الإسلام تغيرت النفوس من داخلها وانبعث الفطرة تعمل بكيانها المتكامل فى كل اتجاه. وكان الجانب المادى والتنظيمى من الجوانب التى نشطت بتأثير الميلاد الجديد والدفعة الحيوية الهائلة التى أطلقها الإسلامى فى الكيان الجديد.
وكما قلنا من قبل فى شأن الحركة العلمية نقول الآن بشأن الجانب المادى والتنظيمى من الحضارة فلقد كان هذا فى حاجة إلى ذات العوامل التى كانت مطلوبة لنشأة الحركة العلمية والتى كانت مفقودة أو ناقصة فى الحياة العربية قبل الإسلام.
كان فى حاجة إلى تجمع واستقرار وأمن وطمأنينة. وكان فى حاجة إلى دفعة حيوية هائلة تعوض الإنصراف السابق عن هذا المجال. وقد أعطى الإسلام ذلك كله فقامت الحضارة بجانبها المادى والتنظيمى بعد أن كانت قد قامت بقيمها ومبادئها من قبل.
وكما تتلمذ المسلمون على الإغريق لبدء الحركة العلمية فقد تتلمذوا على فارس وبيزنطة لبدء الجانب المادى والتنظيمى من الحضارة ريثما يكتسبون حاستهم الخاصة كما اكتسبوا حاستهم الخاصة فى المجال العلمى.
لما كثر الجند قيل لعمر رضى الله عنه: لولا دونت دواوين! فاشتهى عمر ذلك!
كان هذا عملا تنظيميا أحست الدولة الناشئة الحاجة إليه فأخذته من جيرانها بلا تردد (وكلمة ديوان فارسية كما هو معروف) كما أخذت غيره مما كانت محتاجة إليه.
ورويدا رويدا اكتسب المجتمع الجديد حاسته الخاصة فاستغنى عن الاقتباس وكان له مشاركته الخاصة - والهائلة - فى هذا المجال وفى غيره من المجالات كعمارة المدن والبيوت ومد الطرق وتنظيم " الخدمات " العامة.
وهناك شئ تجدر الإشارة إليه بصدد أخذ الأجيال الأولى من هذه الأمة عن الإغريق والرومان الفرس ما لزمهم سواء فى المجال العلمى أو المجال المادى والتنظيمى حتى صارت لهم حاستهم الخاصة التى استغنوا بها عن النقل ثم أصبحوا فيما بعد أساتذة فى جميع تلك الميادين وصارت أوربا تتلمذ عليهم فى جميع الميادين.(1/120)
لقد كانوا يأخذون ا يأخذون وهم فى موقف العزة والاستعلاء:
{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} [سورة آل 3/139]
{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [سورة المنافقون 63/8]
كان ملء نفوسهم الاستعلاء بالإيمان والاعتزاز به فلم يشعروا - وهم ينقلون عن الإغريق والرومان والفرس - أنهم أقل منهم ولم يشعروا بالضآلة أمامهم أو بالذلة لهم لأنهم فى حاجة إليهم بل شعروا أنهم هم الأعلون وإن كانوا فى حاجة إلى غيرهم لأنهم مؤمنون وغيرهم ليسوا مؤمنين. ومن أجل ذلك لم يفتنوا ولم ينبهروا بما عند الجاهليات من حولهم, فأخذوا ما أخذوا فى عزة وأخذوا ما رأوه نافعا لهم ولم يأخذوا ما رأوه مخالفا لدينهم وعقيدتهم (44) لأن موقف الاستعلاء يتيح لهم أن يتخيروا وينتقوا بينما موقف الضعيف والاستخذاء والانبهار لا يتيح لصاحبه الفرصة للاختيار ولا القدرة على الاختيار فيأخذ الغث والثمين لا يتيح لصاحبه الفرصة للاختيار ولا القدرة على الاختيار فيأخذ الغث والثمين ويأخذ من الغث أكثر مما يأخذ من الثمين لأنه أيسر أخذا وأقل تكاليف!
لذلك لا نعجب إذا رأينا المسلمين الأوائل رغم تمكنهم من الإغريقية إلى الحد الذى ترجموا به كثيرا من مؤلفاتهم لم يترجموا الأساطير الإغريقية ولم يعنوا بها أى عناية بل رأوها شركا وخرفاة لا تستحق النقل ولا تستحق الاعتبار! (45)
كذلك كان شأنهم فى الجانب المادى والتنظيمى.. أخذوا ما وحدوا أنفسهم فى حاجة إليه دون أن يأخذوا ما كان مشتبكا به عند أصحابه من شرك وخرافة ووثنية وانحراف فى الأفكار أو انحراف فى السلوك. ثم إن الذى أخذوه - وكله فى مجال الأدوات ولا فى مجال الأس والمناهج - طوعوه سريعا لمنهجهم الخاص فى الحياة فأصبحوا أصلاء فيه لا مقلدين (46).(1/121)
إن الإصالة أمر له أهميته البالغة فى وقت النقل عن الغير بصفة خاصة. فالأصالة لا تمنع الاستفادة من ثمار العلم وثمار الحضارة المادية - التى هى فى نهاية جهد بشرى مشترك تتداوله الأمم وتتداوله الأجيال - ولكنها تمنع الذوبان وفقدان الشخصية بتأثير النقل.
وأوثق أسباب الأصالة أن يكون الإنسان صاحب عقيدة وصاحب منهج خاص فى الحياة. وقمة ذلك أن يكون الإنسان مسلما لأنه يكون عندئذ صاحب العقيدة الصحيحة ومنهج الحياة الصحيح. فإذا كان مسلما على النحو الذى كانت عليه الأجيال الأولى فقد تحققت له الأصالة فى أعلى قممها لا التى تمنع الذوبان وفقدان الشخصية بتأثير النقل فحسب بل التى سرعان ما تكتسب الحاسة الخاصة وتنتقل فى فترت وجيزة من الزمن من التتلمذ إلى التمكن إلى الأستاذية.
وذلك ما كان من شأن الأمة الإسلامية - فى أجيالها الأولى - فى جميع الميادين التى احتاجت فيها إلى الاقتباس من غيرها كالمجال العلمى والمجال المادى والتنظيمى فما مر ما بين تتلمذها على أوربا وأستاذيتها على أوربا إلا أجيال قليلة كأنها برهات فى عمر الزمان.
على أن الذى يهمنا أكثر فى هذا البحث ليس هو ما بلغته الحضارة الإسلامية فى جانبها المادى والتنظيمى من روعة - مع الأصالة والتمكن - إنما هو ما تفردت به بين الحضارات مما يدخلها فى سمات الأمة المسلمة.
إن هناك ارتباط وثيقا فى كل حضارة من حضارات التاريخ ما بين إنتاجها المادى والعمرانى والتنظيمى وبين مفهومها للحياة الإنسانية وأهدافها.
وهناك بالطبع أشياء كثيرة مشتركة بين الحضارات جميعها سببها اشتراك بنى الإنسان جميعا فى نزعات معينة أو حاجات معينة كالملبس والمسكن والمطعم وأدوات القتال.. إلى غير ذلك.
ولكن العبرة ليست بتلك الجوانب التى تكاد تدخل فى باب الضرورات إنما العبرة بالجانب الاختيارى من الحياة المتأثر بمفهوم الإنسان ولأهداف حياته والذى يؤثر بدوره حتى فى أداء تلك الضرورات فيعطيها سمتها الخاص.(1/122)
فالبيت مثلا هو البيت من حيث المبدأ.. هو " المأوى " الذى يأوى إليه الإنسان ويسكن فيه وإليه.
ولكن نظرة سريعة إلى البيت فى العمارة الإسلامية والبيت فى الجاهلية المعاصرة مثلا تكشف عن الفارق الهائل فى المفاهيم وما يترتب عليها من أنماط السلوك.
فالبيت فى العمارة الإسلامية " صيانة " للأداب وللأخلاق وللأعراض بقدر ما هو فى الجاهلية المعاصرة " استعراض " و " كشف " لكل ما ينبغى أن يصان!
فى البيت الإسلامى لا يطلع الزائر على ربه البيت لأنها " حرم " مصون ". من أجل ذلك يخصص له مكان فى البيت يستقبل فيه ويرحب به وتقدم له " التحية " الواجبة ويتناول الطعام إذا دعى إليه دون أن يظهر لأهل البيت أو يظهروا له كما يخصص للأسرة مجال حياتها الكامل بغير تضييق دون أن تكون مكشوفة للزائر من الرجال. ومن بديهيات ذلك البيت أن تكون غرف النوم من أعماقه لا فى ظاهره لأنها الأماكن التى يضع فيها الناس ثيابهم وينبغى الاستئذان قبل الدخول إليها حتى من الأطفال وملك اليمين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)} [سورة النور 24/58]
انظر فى مقابل ذلك إلى البيت فى العمارة الجاهلية المعاصرة حيث حجر النوم هى المكشوفة على الطريق بحجة الحصول على أكبر قدر من الشمس والهواء! وهى حجة مفتعلة لا تستر الرغبة الداخلية فى التعرى والانكشاف ومن البديهى ألا يكون فيها " حرم مصون " لأنه لا صيانة فى هذه الجاهلية لشئ من المقدسات!(1/123)
والمثال الذى ضربناه بالبيت هو مجرد توضيح للمعنى الذى نريد أن نشير إليه.
إن الأشكال المادية والتنظيمية من الحضارة ليست غاية فى ذاتها إنما هى وسائل للتعبير عن مفاهيم تلك الحضارة. والمفاهيم هى المعيار الحقيقى لتلك الحضارة ويأتى بعد ذلك الإبداع الفنى فى التنفيذ. وللإبداع الفنى معاييره الخاصة كما أن له وزنه فى قياس " رقى " الإنسان. ولكنه لا يكون أبدا هو المعيار! لأنه مجرد " براعة " فى الأداء لا تختص بقوم دون قوم إنما هى من العطاء الربانى المبذول للناس جميعا مؤمنهم وكافرهم:
{كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20)} [سورة الإسراء 17/20]
فإذا رجعنا إلى " المفاهيم " فهنا نلمس تفرد الحركة الحضارية كما لمسنا من قبل تفرد الحركة العلمية الإسلامية.
إن " عمارة الأرض " أمر يقوم به " الإنسان " عامة تحقيقا لمعنى من معانى الخلافة فى الأرض:
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [سورة البقرة 2/30]
{هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [سورة هود 11/61]
ولكن عمارة الأرض بمقتضى المنهج الربانى هى الشئ الذى تتميز به الأمة المؤمنة عن سائر الأمم الجاهلية وإن اشتركا فى " العمارة: من حيث هى جهد مبذول وفن وبراعة فى الأخراج.
وحين ننظر من هذه الزاوية يطالعنا فى تلك الحضارة لأول وهلة أنها تأخذ الإنسان بمجموعة المتكامل: جسده وروجه دنياه وآخرته قيمه وأخلاقه فى توازن ملحوظ.(1/124)
فالمسجد فى المدينة هو مبناها الرئيسى ومؤسستها الرئيسية كذلك. فهو مكان العبادة وكان الاجتماع وفيه المدرسة التى يتعلم فيها الكبار والصغار باختصار: تلتقى فيه الدنيا بالآخرة. يذكر فيه الناس بالله واليوم الآخر لا ينقطعوا للآخرة وينصرفوا عن عمارة الأرض. بل لينطلقوا إلى الدنيا وقلوبهم مرتبطة بالآخرة فيكون عملهم كله فى الحياة الدنيا " عبادة " على المعنى الواسع ويكون المسجد هو المكان الذى يلتقى فيه الإنسان " الزاد " الذى يتزود به ليقوم ببقية أعماله مطمئن القلب مستريح الأعصاب:
{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [سورة الرعد 13/28]
كما أنه المكان الذى يتعارف فيه أهل الحى وتقوم بينهم صلة الأخوة والمودة التى يحض عليها الإسلام.
ضع المقابل فى الجاهلية المعاصرة " علب الليل " والمراقص والملاهى باعتبارها فى حسهم هى مكان الترويح وهى الزاد الذى يتزود به الإنسان ليعود إلى عمله نشيطا فى الصباح!
وانظر الفارق بين الحضارتين!
إن الحضارة الإسلامية تمارس كل ألوان النشاط البشرى التى تؤدى إلى عمارة الأرض من تجارة وصناعة وعلم.. إلخ وتسعى إلى الإنتاج الوفير فى كل أبواب الإنتاج ولكنها فى سعيها كله تلتزم بالحلال والحرام وبالقيم الأخلاقية وبما يقتضيه الإيمان بالله واليوم الآخر من تشكيل للسلوك:
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)} [سورة الملك 67/15]
{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا} [سورة القصص 28/77]
وكان المسلمون فى أجيالهم الأولى أمة نشطة فى كل اتجاه.
كانت تجارة العالم فى أيديهم من الصين إلى أوربا مع ما يستتبع ذلك من معرفة بطرق الملاحة البحرية وطرق اليابسة فى آسيا وأفريقيا إلى مداخل أوربا.(1/125)
وكانت الصناعة - المتاحة للناس فى ذلك الوقت - مزدهرة فى مراكز العالم الإسلامى المختلفة.
وكانت دور العلم عامرة بالأساتذة والطلاب فى كل فرع من فروع المعرفة من علوم الشريعة إلى الطب إلى الفلك إلى الفيزياء إلى الكيمياء إلى الرياضيات..
وكانت هذه كلها مظاهر " حضارية " نقوم بها الأمة المسلمة.
ولكن هذا كله يمكن أن تقوم به أى أمة ممكنة فى الأرض بوسيلة من وسائل التمكين ويصير التفاضل بين أمة وأمة تفاضلا فى " المقدار " أكثر مما هو فى القيمة الإنسانية.
ولكن الذى تفردت به الحضارة الإسلامية - مع قيامها بالجانب الذى يمكن أن تقوم به كل أمة ممكنة فى الأرض - أنها تقوم بمقتضى المنهج الربانى.
تقوم بنشاطها التجارى الواسع الذى يمتد من المحيط إلى المحيط ولكن ذلك لا يؤدى بها إلى استعمار الأمم الأخرى لنهب خيراتها للحصول على أكبر قدر من الربح كما أدى بالجاهلية المعاصرة تحت أى ذريعة من الذرائع. بل يذهب التجار فى كل مكان يحملون معهم سمت الإسلام ونظافة الإسلام وأخلاق الإسلام فينتشر الإسلام معهم كما حدث فى أندونيسيا وكثير من بلدان أفريقيا.
تقوم بنشاطها الصناعى فتفرغ طاقتها فيما ينفع الناس فى الأرض وما يجعل الحياة ميسرة وجميلة كذلك فى الحدود المباحة والحدود المباحة تسمح بقدر من الزينة وقدر من الجمال:
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [سورة الأعراف 7/32]
{وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)} [سورة النحل 16/5-6](1/126)
ولكنها لا تجنح إلى شغل الناس بالسفاسف واستنفاد أموالهم فيما لا طائل تحته من أجل أن يربح أصحاب الصناعات الربح الحرام كما تجنح الرأسمالية فى الجاهلية المعاصرة ولا تجنح إلى تلهية الناس بالحياة الدنيا حتى ينسوا الآخرة وينسوا القيم العليا التى ينبغى لهم أن يحققوها فى الأرض من نشر العقيدة الصحيحة وإخراج الناس من الظلمات إلى النور وإقامة العدل الربانى فى واقع الأرض والجهاد فى سبيل ذلك كله بما يقتضيه الجهاد (1).
تقوم بنشاطها العلمى دون أن يؤدى العلم - كما سبق أن بينا - إلى فساد العقيدة أو فساد الأخلاق أو نشر الشر فى الأرض.
تقوم بنشاطها الفكرى والفنى ملتزمة فى ذك كله بالمنهج الربانى فلا يؤدى الفكر إلى الإلحاد ولا يؤدى الفن إلى التبذل والفساد الخلقى وإتلاف الفكرة كما هو حادث فى الجاهلية المعاصرة.
وإلى جانب ذلك تقوم مؤسسات ونظم خاصة بالأمة المسلمة لم نجد لها مثيلا عند الأمم الأخرى كبيت المال ونظام الحسبة وجماعات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والأوقاف الخيرية التى يوفقها أصحابها على أعمال البر وفى مقدمتها نشر العلم (47) وتأمين الصحة (48) ورعاية المعوزين والعاجزين.
وفى كلمة مختصرة: هى حضارة لا تهدف إلى مجرد عمارة الأرض إنما مزيتها الكبرى هى عمارة الأرض بمقتضى المنهج الربانى.
? ? ?
فى الصفحات السابقة تكلمنا عن أبرز سمات الأمة المسلمة مع تأكيد الدرجة العليا التى حقق بها الجيل المتفرد من هذه السمات. وقد أكدنا مع كل سمة أنها - من حيث هى - ليست خصيصة تفرد بها ذلك الجيل إنما هى سمة دائمة - أو ينبغى أن تكون دائمة - فى حياة هذه الأمة. وأن الذى تفرد به ذلك الجيل لم يكن وجود هذه السمات فى حياته إنما كان الدرجة الفذة التى حقق بها هذه السمات والتى حققت مثالية الإسلام وواقعيته فى آن.(1/127)
ولأمر ما - أو أمور كثيرة فى الواقع - لم تحافظ الأمة على هذا المستوى الفذ الذى مارسته طيلة حياة الرسول ( والخفاء الراشدين من بعده إنما هبطت عن ذلك المستوى الرفيع فى كثير من الاتجاهات.
ولكن هذا ليس معناه أن الإسلام قد انتهى كما يخيل لبعض الطيبين الذين يهولهم هذا الهبوط بعد أن يعايشوا فترة الذروة بكل أمجادها وكل عظماتها وكما يخيل الخبثاء من أعداء هذا الدين للناس لغاية خبيثة فى نفوسهم هى تيئيس الناس من عودة هذا الدين ليحكم الحياة من جديد. كأنما يقولون: أين هو الإسلام الى تتطلعون إلى عودته من جديد وهو قد انتهى بعد مبدئه بجيل أو جيلين وانتهى إلى غير رجعة!
على أن هذا الهبوط عن ذلك المستوى المثالى لم يكن ليكرثنا لو بقيت الأمة فى حدود المستوى العادى للإسلام. فإن تلك المثالية الفذة لا يمكن أن تفرض فرضا على جميع الأجيال والله سبحانه وتعالى لم يفرضها على أحد إنما كانت تطوعا نبيلا من أولئك الأفذاذ الذين رباهم رسول الله ( على عينه.
ولو بقيت الأمة على الحد الأدنى الذى فرضه الله لبقى الخير فى الأرض ولكان التاريخ قد سار فى غير خطه الذى ار فيه ن لا بالنسبة للأمة المسلمة فحسب بل لكل البشرية. فقد شاء الله منذ أخرج هذه الأمة إلى الوجود أن يرتبط بها مصير البشرية كله فإن كانت قائمة برسالتها على النحو المطلوب تحقق الخير لها وللبشرية من ورائها وإن تقاعست عن رسالتها برزت الجاهلية فى الأرض وسيطرت عليها.
والذى سجله التاريخ على أى حال أن هذه الأمة ل تهبط فقط عن المستوى المثالى الذى حققته فى زمن الرسول ( والخلفاء الراشدين إنما هبطت - فى كثير من المجالات - حتى عن الحد الأدنى المفروض فأصابها - وأصاب البشرية من ورائها - كثير - من الشر..
وفى الفصل التالى نتحدث عن خط الإنحراف فى تاريخ هذه الأمة الطويل.
? ? ?
خطة الانحراف
من القمة الشامخة إلى الحضيض الذى تعانيه الأمة اليوم.. مسافة هائلة تبعث على الذهول.(1/128)
كيف تأتىّ للأمة التى ارتفعت إلى تلك القمم السامقة التى لم تسبقها إليها أمة فى التاريخ ولا أدركتها بعدها أمة فى التاريخ أن تتدنى إلى هذا الدرك من الضياع والذل والهوان والهبوط المسف الذى وصلت إليه اليوم والذى لا تكاد تدانيه أمة فى الواقع المعاصر.
هل هو أمر طبيعة لهذه الأمة؟!
إن هناك أمما " تاريخية " وصلتا الأرض أمجاد ضخمة وتمكنت فى الأرض قرونا عدة وسيطرت على مساحات شاسعة من الأرض وملكت من وسائل القوة الأرضية ما يفوق الحصر.. ثم اندثرت تماما كأن لم تكن قط وكمنا حدث للإمبراطورية الرومانية العتيدة أكبر إمبراطوريات التاريخ والإمبراطورية الفارسية التى كانت تنازعها السيادة فى الأرض وجرى ذلك كله سواء فى التمكين والقوة أو الدمار والاندثار حسب سنن ربانية لاتتبدل وحسب مشيئة ربانية هى التى أجرت هذه السنن فى الحياة البشرية:
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)} [سورة الرعد 13/41]
{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43)} [سورة فاطر 35/43]
ولكن.. أمة العقيدة. هل تجرى عليها ذات السنن التى تجرى على الجاهليات؟!
? ? ?
يرى ابن خلدون - من دراسته للتاريخ - أن هناك " سنة " تدول الدول بمقتضاها.. هى سنة " الشيخوخة" فالدول فى رأيه تولد ضعيفة ثم تقوى ويشتد عودها وتعظم سوتها ثم تهرم كما يهرم الفرد فتذبل ملكاتها وتتلاشى طاقاتها فتصير إلى الزوال.. ويردد المؤرخ الإنجليزى المعاصر " توبنى " ذات الفكرة ناقلا عن ابن خلدون.(1/129)
وقد يكون ما يقوله ابن خلدون ويردده من بعده توينبى صحيحا بالنسبة للجاهليات.. فالجاهليات تقوم على " شعوب " بعينها.. فإذا كان من سنة الله أن تهرم الشعوب كما يهرم الأفراد (49) فمن الممكن أن تدول الدول التى تنشئها تلك الشعوب بداء الشيخوخة بعد فترة معينة من عمرها مهما يكن لها - فى فترة شبابها وفتوتها من عوامل القوة التى تبدو لعين الناظر غير قابلة للفناء.
ولكن أمة العقيدة لا تقوم على " شعب " بعينه إنما تقوم على " العقيدة " وهى عنصر له صفة الدوام. وهذا فارق رئيسى بينها وبين الأمم الأخرى التى تنشأ فى الجاهليات. فارق يجعل هذه الأمة خاضعة لسنة أخرى غير السنن التى تجرى على الأمم الجاهلية ويجعل مصيرها غير هؤلاء.
فالواقع التاريخى لأمة العقيدة - أى الأمة الإسلامية - يختلف تماما عن " السنة " التى افترض ابن خلدون أنها تحرى على الأمم فتزيلها من الوجود. فتاريخها - وإن كان يمثل حتى الآن ميلا مستمرا إلى الهبوط - إلا أنه خط متذبذب يحمل صحوات كثيرة صاعدة كتلك التى شهدتها الأمة أيام صلاح الدين قاهر الصليبيين وأيام قطز قاهر التتار وكحركة المد الضخمة التى قادها محمد الفاتح إلى داخل أوربا.
ومن جهة أخرى فإن هذه الأمة على الرغم من كل ما أصابها من عوامل المرض والانحلال والكوارث الداخلية والخارجية لم تزل من الوجود بعد أربعة عشر قرنا من مولدها وهى فترة لم تعشها أمة أخرى من أمم التاريخ. وليس هذا فقط بل إنها تشهد اليوم ما يشبه أن يكون مولدا جديدا تعانى مخاضة بكل آلامه فى لحظتها الراهنة.(1/130)
ومجرد بقائها إلى هذه اللحظة على الرغم مما أصابها هو ذاته دليل على أنها لا تخضع لتلك السنة التى افترضها ابن خلدون سنة الفناء بسبب الشيخوخة. فإذا أضفنا إلى ذلك تلك الحقيقة الأخرى وهى قيام حركات البعث الإسلامى فى كل مكان من العالم الإسلامى.. إلى جانب حقيقة ثالثة هى بدء انتشار الإسلام فى بقاع منا الأرض لم يكن قد دخلها من قبل كاليابان وكوريا وفنلندا ودخول أوربيين وأمريكيين فى هذا الدين بالمئات والألوف.. لم يعد هناك مجال على الإطلاق لتطبيق سنة الفناء بالشيخوخة بفرض صحتها على الأمة التى قامت على العقيدة لا على شعب بعينة من الشعوب.
? ? ?
ومع ذلك كله تظل تلك الحقيقة المذهلة تدير الرءوس.. حقيقة هبوط هذه الأمة من الذورة العليا إلى الحضيض السحيق الذى تعيشه اليوم.
نعم, إنها لم تفن كما فنيت أمم أخرى ودول ونظم وإمبراطوريات ذات سلطان وهيلمان ولكن يبقى السؤال: كيف هبطت؟ لماذا هبطت؟ لماذا لم تحافظ على أفقها السامى بل لم تحافظ حتى على المستوى الأذنى الذى لا ينبغى لها أن تهبط دونه والذى يحقق لها وجودا راسخا وممكنا لو حافظت عليه؟
ولقد يخطر على البال سؤال: أين الإسلام إذن؟ ما دوره فى حياة هذه الأمة؟ لماذا لم يحفظها من الهبوط؟ ما الفرق بين أمة العقيدة والأمم الجاهلية إذا كانت تلك الأمة يمكن أن تتفلت وتتفلت حتى تصبح كالأمم الداهلية بل أسوأ منها فى بعض المجالات؟
ما قيمة الدين إذن؟ وما دوره فى واقع الحياة؟!
فأما هذا السؤال فله إجابته..
إن الدين ليس " جهازا " يعمل من تلقاء نفسه بصرف النظر عن نفوس الناس الذين يحملونه.(1/131)
ولو شاء الله لقهر الناس على الهدى فلا يستطيعون المخالفة ولا الهبوط ولا الانحراف كما يجرى قدره فى السموات والأرض فيمضى كل شئ فى فلكه المقدور له لا يخرج عنه قيد شعرة.. حتى يغير الله نظام الكون كله فى الموعد المقدور ولكن الله كرم الإنسان فلم يجعله " شيئا " يقهر على غير إرادة منه بل جعله كائنا فعالا مريدا قادرا على اختيار أحد الطريقين: إما طريق الهدى وإما طريق الضلال. وفى مقابل ذلك صار يحمل تبعة عمله وصار ما يحدث له - فى الدنيا والآخرة سواء - يجرى نتيجة لأعماله حسب سنن مقررة كشفها الله لن لكن يهتدى على ضوئها ويضبط مساره بمقتضاها:
{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [سورة الرعد 13/11]
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [سورة الأنفال 8/53]
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [سورة الروم 30/41]
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ } [سورة الأعراف 7/96]
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [سورة الأنعام 6/44] إلخ.(1/132)
وهكذا يعمل الدين - ككل شئ فى حياة البشر - من خلال النفوس التى تحمله بقدر إقبالها عليه أو إدبارها عنه. بقدر التزامها بمقتضياته أو عدم التزامها بها. ولكن يبقى الفرق بينه وبين أى " منهج " آخر للحياة: إنه هو فى ذاته هو المنهج الصحيح وأن الثمرة التى تنشأ عنه تتفوق على أى ثمرة أخرى تنشأ عن أى منهج سواه. فيظل هو المنهج الذى ينبغى أن يتبع وتظل المناهج الأخرى هى المناهج التى لا ينبغى أن تتبع لأنها أردأ ثمرة وأسوا ما لا فى الدنيا والآخرة. كما يظل الفرق من ناحية أخرى أن النفوس التى تتشبع به سواء كانت نفوس أفراد أو نفوس أمة - مظنة أن تكون أبطأ فسادا حين تصيبها عوامل الفساد من النفوس التى لا تقوم أصلا على العقيدة لأنها أمتن منها بنيانا وأكثر منها ترابطا. ويظل الفرق من ناحية ثالثة أنه حين تفسد النفوس يظل الدين هو أنجع العلاج لأنه هو العلاج الصحيح.. وفى جميع الأحوال يظل المعول عليه هو " النفوس " البشرية: هل تقبل أم تدبر؟ هل تعمل بمقتضى التكاليف أم تتخلى عن التكاليف.
وإنه لمما تسأل عنه هذه الأمة يوم القيامة: كيف ضيعت دينها وهى التى أخرجها الله لتكون شاهدة لهذا الدين وشاهدة به على كل البشرية يوم القيامة؟ وكيف تخلت عن التكاليف التى فرضها الله عليها لتحقيق المنهج الربانى فى واقع الحياة:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [سورة البقرة 2/143]
{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)} [سورة الزخرف 43/44]
? ? ?
بدأ الانحراف مبكرا جدا فى حياة هذه الأمة.. منذ العهد الأموى.(1/133)
وليس هنا مجال التأريخ لهذه الأمة ولا مجال التأريخ لخط الانحراف. إنما نكتفى برسم الخطوط العريضة التى تبين لنا معالم الطريق. وكما أوجزنا الحديث من قبل عن الجيل المتفرد فاكتفينا بتسجيل أبرز السمات بالقدر الذى يعطينا فكرة مجملة عن الصورة الصحيحة لتطبيق هذا الدين فكذلك نوجز الحديث عن خط الانحراف بالقدر الذى يعيننا على معرفة الأسباب التى أردت بناء إلى الواقع الذى نعيشه اليوم.. ذلك أن هدفنا الرئيس ليس الدراسة المفصلة للتاريخ الإسلامى إنما هدفنا أن نرسم صورة واضحة المعالم لواقعنا المعاصر بأبعاده الرئيسية وانحرافتها الرئيسية لنحدد على ضوئها طريق الخلاص.
? ? ?
بدأ الانحراف كما قلنا منذ العهد الأموى. ولكنه كان فى معظمه هبوطا عن الذروة العليا أكثر مما كان انحرافا عن الجادة. وإن كان الذى يعيش فى جو الذروة ويستنشق أريجه العذب يحس فى صدره ضيقا وحرجا من ذلك الهبوط.
كانت هناك مفارقة واضحة ولا شك عن خط الخلافة الراشدة واتجاه بالحياة فى مجموعها والجانب السياسى منها خاصة إلى وجهة جديدة غير ما اعتاده الناس فى عهد النبوة وخلافة الراشدين. ولكن الأمر فى النهاية كان فى داخل الدائرة مع شئ من الشذوذ عنها فى هذا الموضوع أو ذاك.
أول تغير فاجأ الناس هو الانتقال من الخلافة إلى الملك.
وحقيقة إنه لا يوجد نص يلزم الناس بصورة معينة من الحكم - خلافة أو ملكا (50)- إنما يلتزم الحاكم خليفة أو ملكا أو سلطانا بتنفيذ شريعة الله ويصبح من ثم حاكما شرعيا له على الناس حق السمع والطاعة كما بينت آيات الله وأحاديث رسوله ( وكما بين الخليفة الأول رضى الله عنه: " أطيعونى ما أطعت الله فيكم فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لى عليكم ".
ولكن النظام الذى اهتدى إليه المسلمون فى عهد الذروة كان بلا شك أعدل وأقوم لأنه لا يحصر المسلمين فى بيت معين إنما يتيح لهم فرصة أوسع لاختيار من يرونه أصلح الناس لإمامتهم.(1/134)
ولكن الناس على أى حال قد ارتضوا هذا التغيير وإن كان قد فاجأهم أول الأمر على أساس أن الاستقرار الذى يتيحه النظام الجديد أقرب إلى تحقيق المصلحة من النظام الذى جر إلى الخلاف والفرقة وإن كان فى ذاته أعدل وأقوم.
وليس هنا مجال وقفة طويلة أمام هذه النقطة لأن تصرف الأمويين كما قلنا لم يخالف نصا صريحا من نصوص الإسلام. ولكننا نقول إن هناك منعطفا تاريخيا هنا كان له سببه فى حياة المجتمع الإسلامى فى ذلك الحين. فقد انتشر الإسلام فى سنوات قليلة فى رقعة واسعة من الأرض ولم تكن تلك الجموع الغفيرة التى دخلت فى دين الله أفواجا قد أتيح لها من التربية الإسلامية ما أتيح للجيل الذى رباه رسول الله ( على عينه ومن ثم لم يكن يتوقع أن تسير الحياة على ذات المستوى الرفيع الذى سارت عليه فى العهد الأول فى أى مجال من مجالاته وفى السياسة بصفة خاصة لأن انتظام السياسة على المستوى الأعلى ليس مسألة الحاكم وحده إنما هو مسألة المجتمع كله ومدى رقابته على أعمال الحاكم ورده إياه إلى الحق الربانى وعدم الرضا منه بمخالفة ما أنزل الله. وذلك يحتاج إلى مثل تلك التربية العالية التى كان عليها الجيل الأول رضوان الله عليه ويحتاج كذلك إلى ترسيخ القواعد السياسية حتى تصبح عرفا ملزما يهتز ضمير الناس إذا خولف. وقد كان امتداد الخلافة الراشدة فترة أطول كفيلا بترسيح تلك القواعد وترسية ذلك العرف ولكن قدر الله أن تعاجل الأمة بفتنة مقل عثمان رضى الله عنه بتدبير الأعداء الكائدين من الداخل من اليهود وغيرهم وما تلاها من فتنة الخلاف الذى أدى إلى القتال بين على ومعاوية وامتناع كثير من الصحابة رضى الله عنهم من الخوض فى الفتنة خوفا من توسيع شقة الخلاف ثم رضاهم بعد مقتل على كرم الله وجهه بالتغيير الذى أحدثه الأمويون رجاء استقرار حال المسلمين ودرء الفتنة عن حياتهم ما دام لا يخالف نصا صريحا من نصوص الإسلام.(1/135)
وأيا كان الأمر فقد انجلت الغاشية عن أمرين اثنين أثرا فى حياة الأمة تأثيرا بالغا على امتداد الزمن وإن كان فى أول العهد ظهرا طبيعيين جدا بإزاء الظروف السياسية القائمة يومئذ:
الأمر الأول: هو استقرار الملك الوراثى بدلا من الخلافة.
والثانى: هو التخلى التدريجى من مجموع الأمة عن مراقبة أعمال الحكام وانصرافها التدريجى إلى أمورها الخاصة!
فأما الأمر الأول فليست فيه كما قلنا مخالفة لنص صريح من نصوص الإسلام. ولم يكن ليحدث ضررا فى الحياة السياسية الإسلامية ولا فى الحياة العامة لو حافظت الأمة على مراقبتها لأعمال الحاكم وقيامها بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر كما أمرها الله ورسوله فإن العبرة كما بينا بتنفيذ شريعة الله لا بشكل الحكم الذى ينفذ شريعة الله:
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.....} [سورة التوبة 9/71]
" والذى نفسى بيده لتأطرنهم على الحق أطرا ولتقصرنهم عليه قصرا " (51).
ولكن الخطر كل الخطر جاء من اقتران الأمرين معا فى حياة المسلمين منذ العهد الأموى. الملك العضوض كما سماه الرسول ( من جهة (52)، وقعود الأمة عن مراقبة حكامها من جهة أخرى.
وأما قعود الأمة عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وفى المجال السياسى ، فربما كان بعضه اقتداء خاطئا بموقف الصحابة رضوان الله عليهم من الفتنة ، وهو موقف طبيعى بالنسبة ، لهم ، ولكنه ليس قدوة يقتدى به فى أمور مخالفة تماما للأمر الذى واجههم ووقفوا منه هذا الموقف. فقد كان سبب موقفهم هو الخوف من توسيع شقة الخلاف ، أى الخوف من إحداث مفسدة. أما فى موقف الأمة من حكامها الذن استتب لهم الأمر ، فالمفسدة كانت هى السكوت عن نصحهم ومراقبتهم ومحاولة ردهم إلى الحق!(1/136)
ولكن السبب الأكبر فى هذا القعود ، والذى تقع المسئولية فيه على الأمويين أنفسهم ، هو عنف معاملة الأمويين لخصومهم السياسيين ، مما أرهب الناس ن معارضة أى أمر يهمون به ، وقضى على القواعد السياسية التى كانت جارية فى عهد الخلافة الراشدة قبل أن تتأصل وتترسخ ، وتصبح عرفا ملزما للحاكم والمحكوم على السواء.
وأيا كانت المعاذير التى احتج بها الأمويون لتبرير ذلك العنف الذى سلكوا طريقه ، فقد كان هذا من البدايات الخطيرة لخط الانحراف الذى زاد اتساعا على الزمن وزاد بعدا عن الطريق السوى الذى سلكه الخلفاء الراشدون رضوا الله عليهم.
أمر ثالث بدأ فيه الأمويون انحرافا آخر فى خط سير الأمة المسلمة ، هو البحبحة فى أموال بيت المال على غير النسق الذى سار عليه الخلفاء الراشدون.
لما تولى عمر رضى الله عنه فرض له المسلمون دارهم من بيت المال يقوت بها عياله ، فلما استطاعت زوجته رضى الله عنها أن توفر له من القوت اليومى الضئيل ما تصنع له به فطيرة فى نهاية الأسبوع ، قال لها: ما دمت استطعت توفيرها فهى زيادة! رديها إلى بيت المال!
وقد كان هذا ناشئا عن حساسية فى ضمير عمر رضى الله عنه رباها فيه الإسلام ، خشية أن يكون قد مس درهما واحدا من أموال المسلمين بغير حقه ، وكانت هذه الحساسية نموذجا من الأعاجيب التى صنعها الإسلام فى ضمير ذل الجيل الفريد. وكانت تطوعا نبيلا لم يفرضه الله على الناس فرضا ، إنما حببهم فى الصعود، فصعدوا إلى أعلى الآفاق. والهبوط عن هذا المستوى الشاهق الذى لا يقدر عليه إلا الصفوة إلى المستوى العادى الذى فرضه الله فرضا على عباده أمر لا يستغرب ، ولا يستنكر ، بل يحمد الناس إذا التزموه ولم يهبطوا عنه ، لأنه هو الحد الذى علم الله أن تستقيم به الحياة البشرية فى عمومها ، ومن شاء بعد ذلك أن يرتفع فله عند الله أجر المسحنين.(1/137)
ولكن الذى حدث على يد الأمويين لم يكن مجرد الهبوط عن المستوى الشاهق إلى المستوى العادى ، بل وقعت منهم مخالفات لما أمر الله به فى توزيع الصدقات:
{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)} [سورة التوبة 9/60]
لقد تبحبح الأمويون فأخرجوا من بيت المال عطايا وهدايا يؤلفون بها القلوب لهم ولحكمهم ولدولتهم...
وأقصى ما يمكن أن يقال فى محاولة تبرير هذا الأمر أنهم تأولوا فأخطأوا ، فاعتبروا تأليف القلوب لهم داخلا فى مصارف بين المال لأنهم هم دولة الإسلام ، وتثبيتهم تثبيت للإسلام فى النهاية.
وهو تأول بعيد حتى لو صح أنهم قصدوه على هذا النحو ، لأن المؤلفة قلوبهم يعطون ليدخلوا فى دين الله لا ليدخلوا فى الولاء لحاكم من الحكام.
ولو جاز للأمويين أن يتألفوا القلوب لدولتهم ولحكمهم ، ويرضوا نفوس المعارضين لهم ، فمن أموالهم الخاصة ، وكان لديهم مال وفير يملكون به شراء من أرادوا شراءه من المعارضين. أما أن يتحببوا إلى الناس على حساب أصحاب الحقوق ، فأمر لا يجوز فى عرف الإسلام. فضلا عن كونه سنة سيئة اتبعها من بعدهم ، وزاد حجمها وأهداف استخدامها سوءا مع مرور الأيام.
وأمر رابع ، ربما لم يكن فى نظر الأمويين انحرافا ، وربما لم يثر اعتراض أحد من المسلمين يومئذ ، هو الحرص على " عروبة " الدولة إزاء الفرس بصفة خاصة ، بمعنى إبعاد الفرس المسلمين عن تقلد مناصب الدولة ، والضغط المستمر عليهم لإشعارهم أنهم دون العرب.(1/138)
وربما رأى الأمويون المبرر لهذا التصرف واضحا أمام أعينهم. فقد كان الفرس من قبل ينظرون إلى العرب نظرة احتقار وازدراء ، مبعثها أنهم دولة ذات عراقة تاريخية وهيلمان ، بينما العرب هم أولئك الحفاة الجفاة المتخلفون بكل مقياس من مقاييس " الحضارة " المادية التى وصل فيها الفرس إلى درجة الإفراط.
فلما جاء الإسلام تغيرت المعايير والمقاييس كلها ، وذهب ربعى بن عامر مستعليا بالإيمان ، يدوس أبسطتهم بأقدام حماره ، وينظر إليهم نظرة المؤمن إلى الجاهلية ، ويدعوهم إلى الدخول فى الإسلام دعوة المستيقن أنه هو الأعلى وهو الأدنون.
ثم دار القتال العنيف الرهيب بين أولئك الحفاة الجفاة الذين تغيروا بين عشية وضحاها فصاروا " خير أمة أخرجت للناس " وبين الفرس أصحاب القدرة الحربية الهائلة والجيوش الضخمة والتقاليد العريقة والسلطات التليد. فلم تثبت هذه كلها أمام قوة الحق وقوة الإيمان التى انطلقت بها العصبة المؤمنة ، تدل حصون الجاهلية دكا وتسويها بتراب الأرض ، وتشيد فى مكانها صرحا من نوع آخر ، أساه لا إله إلى الله ، محمد رسول الله.
ودخل الفرس فى دين الله بعد هزيمتهم الحربية التى ما كانوا يتوقعونها على يد العرب بالذات ، وبعد زوال الملك الممتد الجذور فى التاريخ ، الذى لم تغنه جذوره العميقة فى معركة الحق ، فانهار كأنما فى لحظات.
ولكن الجيل الأول ولا شك كان ينطوى على ضغينة هائلة للعرب الفاتحين ، حتى وإن كان قد دخل فى الإسلام. فلو أن الفرس غلبوا أمام الروم ، فهما ندان يتصارعان ، ولا بأس على أحدهما أن يتلقى من الآخر لطمة قوية ، فإنه يمنى نفسه أنه سيعود فيتغلب عليه فى الجولة القادمة! أما العرب..! وأما هذا الاكتساح الذى أزل كل شئ كأن لم يكن له وجود من قبل! فهذه لم يكن هينا على الفرس أن يبتلعوها فى الجيل الأول ، الذى شهد أمجاد العز وذلك الانكسار.(1/139)
ومن هنا قال الأمويون لأنفسهم حين تولوا الحكم إنه لابد من كبت هؤلاء حتى لا يرفعوا رءوسهم من جديد! ومن هنا كان حرصهم على " عروبة الدولة " بمعنى عدم السماح للفرس أن يتسللوا إليها من أى سبيل.
وما نستطيع أن نحكم الآن وقد انطوت تلك الصفحات العديدة من التاريخ ، هل كان دافع الأمويين خالصا لحفظ دين اله من أن يتسلل الحاقدون إليه فيفسدوه ، أم كان هذا الأمر فى أنفسهم مختلطا " بالعروبة ".. لابمعناها الشائه الذى وجد فى العصر الحديث بطبيعة الحال فى صورة القومية العربية الكافرة المنسلخة من الدين ، لكن بمعنى أن العرب هم حملة هذه الرسالة ، وهم الذين ينبغى أن تكون لهم الهيمنة على شئونها لتحفظ على صورتها الحقة بغير تحريف.
وأيا ما كان الأمر فإن الفرس على يد الأمويين لم يحسوا بالتطبيق الحق لقوله تعالى:
{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [سورة التوبة 9/11]
ولئن كان الجيل الأول كان ينطوى على الحقد والضغينة ، فإنى أحسب أن الأجيال التالية لو وجدت الروح الإسلامية الحقة ، روح الأخوة المبذولة من المؤمنين لإخوانهم ، لزوال ما كان فى قلوب آبائهم من ضعن ، ولأخلصوا دينهم لله ، ولم يرثوا هذا الضغن ويحافظوا عليه ، ويسعوا إلى الإفساد من الداخل ، كما فعل الذين نطلق عليهم اسم " الشعوبيين " الذين قاموا " بالانقلاب " العباسى ضد الدولة الأموية ، وهو انقلاب فارسى فى الحقيقة وإن كان الحكم قدظل للعرب فترة من الوقت فى الظاهر على الأقل ثم نشروا سمومهم الشعوبية من داخل الدولة كما فعل ابن المقفع ، أ نشروا الفسق والفجور فى المجتمع كما فعل بشار وأبو نواس.
لقد كانت " الشعوبية " الفارسية هى رد الفعل للكبت الذى زاوله الأمويون على الفرس ، حتى وإن يكن بحسن نية ، وحرصا خالصا على الإسلام!
? ? ?
ثم جاء العباسيون..
لم يجيئوا بطبيعة الحال ليعيدوا عهد الخلفاء الراشدين!(1/140)
إنما جاءوا ليركبوا الخط المنحرف الذى بدأه الأمويون ثم يزيدوا فى الانحراف ، كما هى السنة الربانية حين تقعد الأمة فى مجموعها عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وأطر الحكام على الحق أطرا وأصرهم عليه أصرا..
لقد كان حجم الانحراف على عهد الأمويين محدودا على أى حال ، وإن بدا مجسما غليظا حين يقاس بعهد الذروة الذى يبدو بجانبه كل شئ قزما حين يقاس إليه!
لقد بقى لمجموع الأمة - ودع عنك الحكام - صدق إيمانها ، وجدية الأخذ من الكتاب والسنة ، وصدق الجهاد فى سبيل الله. وبقى لها تحقق معنى الأمة ، وبقيت. فى مجموعها تتعامل بأخلاقيات لا إله إلا الله ، وبقى لها وفاءها بالمواثيق.. وفى العموم بقيت روح الإسلام هى السارية فى الأمة ، السائدة فيها ، وإن كان قد غشيها من انحراف الحكام غاشية فى بعض معانى الإسلام ، فلم تعد ترى العدل الربانى يتحقق كما كان يتحقق أيام الجيل المتفرد ، بسبب ظلم الحكام ، ولم تعد من جانبها حريصة على مراقبة حكامها كما كان يفعل ذلك الجيل ، على الرغم من أن حكامه كانوا يقومون بمراقبة أنفسهم قبل أن تراقبهم رعيتهم!
واتسعت الفتوح الإسلامية حتى دق المسلمون أبواب القسطنطينة ، وامتد الإسلام إلى الهند شرقا وإلى الشمال الإفريقى غربا ، وقويت دولة الإسلام حتى أصبحت قوة يرهبها أعداءها ويعملون لها ألف حساب.. وغلب الخير على الشر فى ذلك المجتمع، وبقيت مظالم الحكام ومخالفاتهم محصورة فى دائرتهم ، بينما ينعم المجتمع فى مجموعه بنعم الإسلام ، وبالأمن والطمأنينة والاستقرار ، الذى تولدت عنه الحركة العلمية والحركة الحضارية كما أسلفنا من قبل.
فأما على عهد العباسيين فقد بقيت الانحرافات الأموية كلها ، وزادت حدتها ، ثم أضيف إليها انحرافات من نوع جديد.(1/141)
فأما الملك الوراثى العضوض فقد بقى ، مع إضافة مزيد من الخروج على الخط السوى ، فلئن كان الأمويين قد حرصوا من أجل تثبيت دولتهم وتمكينها أن يختاروا من بينهم أصلحهم وأقدرهم ، فإن العباسيين جعلوه وراثيها بحتا، يتولونه بالدور ، ولو جاء الدور على صبى فى العاشرة أو الثانية عشرة! مما أثر على قوة الدولة ذاتها بصرف النظر عن المعانى الإسلامية فى مجال السياسة فضلا عما جرى من المؤامرات الرهيبة من أجل ولاية العهد أو من أجل تولى الملك ، مما تقشعر له الأبدان! وفضلا عن اضطرار الحكام بعد ضعف سلطانهم إلى الاعتماد على غيرهم والترك بصفة خاصة ، مما أدى إلى تسلط هؤلاء ، وإفساد كل القيم السياسية الإسلامية على الإطلاق!
وأما العنف فى معاملة الخصوم السياسيين ، الذين بدأه الأمويون ، فقد تزايدت حدته ، وتحول إلى مذابح بشعة لا يتصور صدورها عن مسلمين!
وأما البحبحة فى بيت المال ، التى بدأها الأمويون كذلك ، فقد وصلت بعد زيادة الأموال فى العهد العباسى من الزكاة والخراج والموارد الأخرى إلى صورة لا تخطر على البال. فلئن كان الأمويون قد أعطوا المعارضين ليسكتوهم ويستميلوهم إليهم ، ويشتروا ود من يجدون فى كسبه إلى صفهم تأييدا لسلطانهم.. فقد كان الخليفة العباسى لا يجد حرجا فى صدره أن يجيئه شاعر من: المداحين الذين قال عنهم رسول الله (: "إذا رأيتهم المداحين فاحثوا فى وجوههم التراب" (53) فيأمر له لقاء أبيات فى مدحه بمائة ألف من بيت مال المسلمين!
أما " الجماهير " التى ثارت ذات يوم على عثمان رضى الله عنه من أجل مخالفات ضئيلة تأول فيها عثمان بغير منهج الشيخين من قبله ، فقد صارت ترى هذا العبث الماجن ببيت مال المسلمين ولا تحرك ساكنا له ، كأن الأمر لا يخصها على الإطلاق!(1/142)
فإذا كانت هذه الانحرافات التى بدأت أيام الأمويين ، وبقيت وزادت حدتها على يد العباسيين ، فق أضيفت إليها بحكم عوامل جديدة انحرافات أخرى خطيرة أودت بالحكم العباسى فى النهاية ، وما زالت آثارها أو أثار منها سارية فى جسم الأمة حتى هذه اللحظة ، تنتظر من يبرئها منها حتى تستطيع أن تبعث من جديد.
? ? ?
ظهرت فتنة " الفرق ".
ولئن كان الخوارج قد ظهروا من قبل فى عهد على رضى الله عنه واستمروا فى العهد الأموى ، وظهر المرجئة رد فعل لظهور الخوارج ، وكان أمر هؤلاء وهؤلاء منبعثا من فتنة مقت لعثمان والقتال الذى دار بين على ومعاوية ، فقد تفشت الفرق تفشيا ذريا فى العصر العباسى ، وكانت لها منابع خارجية فى هذه المرة إلى جانب المنابع الداخلية.
لقد نشطت الحركة العلمية فى العصر العباسى ، ونشطت معها حركة الترجمة ن الإغريقية واللاتينية ، وكان فيها الكثير النافع الذى تحتاج إليه الأمة بالفعل ، ولكن المسلمين انخدعوافى لون من الفكر حسبوه نافعا لهم فنقلوه إلى العربية فكان منه شر كثير ، ألا وهو الفلسفة الإغريقية.
لقد كانت تلك الفلسفة فكرا جاهليا رغم كل إشراقاته وكل تجلياته. وما كان ينبغى لهذا الفكر الجاهلى بحال من الأحوال أن يمتزج بالإسلام ، ذلك النور الربانى الخالص الذى يشرق بذاته ، من مصدريه الأصيلين الصافيين ، كتاب الله وسنة رسوله ( ، والذى عاش على إشراقته ذلك الجيل المتفرد فكان كما كان.
وأسوأ ما فى ذلك الفكر هو عقلانيته التجريدية التى تحول كل شئ إلى فكرة مجردة باردة لا حياة فيها ولا حركة ، فضلا عن تضخيم دور العقل حتى يصبح هو الحكم الأخير فى كل أمر من الأمور (54).
وقد أصاب هذا الفكر المسيحية فأنشأ فيها ما يسمى " اللاهوت " وهو محاولة عقيمة للتوفيق بين خزغبلات الكنيسة العقدية من التثليث ، والبنوة المزعومة لله سبحانه وتعالى ، وفكرة الخطيئة الأبدية ، والصلب والفداء.. إلخ ، وبين الفلسفة الإغريقية.(1/143)
ولئن كان النصارى فى محاولتهم لإضفاء العقلانية على تلك الخزعبلات التى لا يستسيغها العقل قد لجئوا إلى الفلسفة الإغريقية لعلها تعنيهم ، فتخبطوا ، وفشلوا ، وظل لاهوتهم يحمل ذات الخلط الذى تحمله مقررات المجامع " المقدسة " ، فما كان المسلمون فى حاجة إلى مثل هذا السلوك ، وهم الذين يحملون النور الصافى من منابعه الصافية المستغنية بذاتها عن كل مدد من خارجها ليس من طبيعتها.
ولكن الفتنة بالفلسفة من جهة ، وفتح الخلفاء العباسيين المجال من جهة أخرى للمناظرة بين علماء المسلمين وبين اليهود والنصارى فى أمر الإسلام ، جعل " المثقفين " فى ذلك العصر يتجهون إلى الفلسفة الإغريقية لتعينهم فى هذا الجدل ، حتى أصبحت هى " المودة " الفكرية للعصر كله.
ومن لوثة الفلسفة الإغريقية والعقلانية الإغريقية نشأت فرق كثيرة وتخبطات كثيرة فى فكر المسلمين.
ويذكر الناس المعتزلة نموذجا للغزو الفكرى الإغريقي فى فكر المسلمين ، حيث جعلوا العقل هو المحكم فى الوحى ، وجعلوه هو المرجع الأخير فى كل أمر من الأمور حتى العقيدة.(1/144)
ولكن المعتزلة لم يكونوا وحدهم الذين تأثروا بالعقلانية الإغريقية وانحرفوا بها عن عقيدة الإلام الصحيحة ، فكل الذين خاضوا فى قضايا الصفات من " المتكلمة " وفى قضايا القضاء والقدر والجبر والاختيار.. كان اعتمادهم فى " الكلام " الذى قالوه ، على تلك العقلانية التى تعطى العقل أكبر من حجمه الحقيقى ، وتجعله هو المرجع وهو الحكم فى كل قضايا الوجود ، فانزلقوا إلى تصورات لا هى إسلامية صافية ، ولا كانت العقيدة الإسلامية الواضحة البسيطة السمحة فى حاجة إلى شئ منها ، ولا هى قدمت أى خدمة لتلك العقيدة ، بل حولتها من تصور صاف ووجدان هى وسلوك عملى يقصد به مرضاة الله ، إلى قضايا ذهنية تجريدية باردة ، لا تزيد الإيمان إن لم تبعث على إثارة الشكوك والشبهات المناقضة للإيمان ، ولا تحرك الوجدان ، ولا تؤدى إلى سلوك واقعى ، لأن من شأن العقلانيات أن تبدأ فى الذهن وتنتهى فى الذهن ، وتجد تحقيق غايتها فى ذلك الجهد الذى يبذله الذهن ، دون أن تخرج من هذه الدائرة المغلقة إلى الواقع الحى عن طريق الوجدان والسلوك. وورث العالم الإسلامى - مع الأسف - ذلك التراث الإغريقى - وأن لبس ثوبا إسلاميا - على أنه " العقيدة الإسلامية " أو على أنه " الدراسة العلمية للعقيدة الإسلامية " كأن أصحاب رسول الله ( لم يكونوا " هم " أصحاب هذه العقيدة وأكثر الناس فهما لها وقربا من حقيقتها.. دونما حاجة إلى هذه المعاظلات الذهنية الباردة السخيفة. وما زال هذا التراث الإغريقى فى ثوبه الإسلامى المزيف هو الذى انقدم من خلاله العقيدة الإسلامية للدارسين فى كل معاهدنا الإسلامية من المحيط إلى المحيط!(1/145)
وهذا كل فضلا عن " الفرق الباطنية " التى انتشرت فى العصر العباسى بصفة خاصة ، ومدت لها جذورا فى الأرض الإسلامية ، وكونت دولا أو دويلات ، وشغلات المسلمين بمحاربتهم ومطاردتهم بضعة قرون ، وكانت فى جملتها ذات صلة خفية باليهود المندسين فى العالم الإسلامى.. تتظاهر بالإسلام وهى تعمل فى واقع الأمر لتقويض الإسلام ، وتترك شيئا من معتقداتها فى كل مرة فى أذهان العوام!
? ? ?
ولم تكن هذه وحدها جناية الفرق...
فلئن كانت القضايا الذهنية التجريدية هى مشغلة " المثقفين " الذين أغوتهم الفلسفة الإغريقية فصنعوا بها " لاهوتا " إسلاميا كما صنع النصارى من قبل فى لاهوتهم المسيحى.. فإن الفكر الإرجائى بجميع شعبه وألوانه كان على امتداد اللزمن أشد خطرا على العقيدة الإسلامية والحياة الإسلامية من كل معاظلات الفلسفة التى دخلت فى دراسة العقيدة.
القول بأن الإيمان هو التصديق ، أو هو التصديق والإقرار على أحسن الفروض وإخراج العمل من مسمى الإيمان ، كان من أخطر المزالق التى أدخلتها الفرق على تلك العقيدة الصافية ومفهومها الصحيح.
وإذا كان هذا الانحراف الخطير فى فهم عقيدة التوحيد لم يؤثر لتوه فى الحياة الإسلامية ، لأن الدفعة الحيوية الهائلة التى أطلقها الإسلام فى واقع الحياة كانت ما تزال تتدفق فى صورة " عمل " واقعى بمقتضى هذه العقيدة ، فإنه تدريجيا مع الميل البشرى الطبيعى إلى التلفت من التكاليف ، حديث تقاعس مستمر عن العمل بمقتضى هذا الدين ، اكتفاء بأن حقيقة الإيمان مستقرة فى القلب ، مادام الإنسان قد صدق وأقر بأنه لا إله إلا الله! وأنه ما دامت هذه الحقيقة مستقرة فى القلب فقد" تم " الإيمان المطلوب ، ولم يعد يضر مع الإيمان شئ!
إن إخراج العمل من مسمى الإيمان فى هذا الدين الذى نزل لينشئ " واقعا " معينا تحكمه شريعة الله ومنهجحه للحياة ، أمر مذهل فى محرد تصوره ، فضلا عن أن يصدر عن " علماء " معتبرين فى تاريخ هذه الأمة!(1/146)
كيف يتصور أمر هذا الدين حين يكون تصديقا بالقلب وإقرارا باللسان ، دون عمل بمقتضى هذا التصديق والإقرار فى واقع الحياة؟!
ألهذا أنزل الله دينه وأرس رسوله (؟! لمجرد أن يصدق الناس بقلوبهم ويقروا بألسنتهم ، ثم يتركوا واقع الحياة تحكمه الجاهلية التى لا تصدق بقلبها ولا تقر بلسانها؟!
ويكف يغيرون ذلك الواقعى الجاهلى بغير " عمل " واقعى إيجابى ملموس مشهود ، تكون نتيجته إزالة الباطل بقعائده الفاسدة ، ونظمه الهابطة التى تعبد الناس لغير الله ، وأنماط سلوكه المختلة التى تبتدعها شياطين الإنس والجن فى كل جاهلية ، وإنشاء النظام الربانى بدلا منه ، بعقائده الصحيحة ، ونظامه القويم المؤسس على شريعة الله ، وأنماط سلوكه المستمدة من أخلاقيات لا إله إلا الله ، المحكومة بميزان الله؟!
ثم كيف يحافظون على النظام الربانى ، بعد إنشائه من عدوان الجاهلية الدائم ، ومحاولتها الدائبة لنقض النظام الربانى ، وإقامة حكم الطواغيت بدلا منه ، بوسائلها الدائمة التى تستخدمها ، من عدوان بالجيوش ، وعدوان بالأفكار الباطلة والمعتقدات ، وعدوان بالأنظمة التى لا تحكم بما أنزل الله ، وعدوان بالأنماط المبتدعة من السلوك؟!
كل ذل يتم بمجرد التصديق بالقلب والإقرار باللسان؟!
يا لها من مهزلة مذهلة حين تلصق بالإسلام!!
وكيف يستقيم هذا مع قوله تعالى:
{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124)} [سورة النساء 4/123-124]
بل كيف يستقيم مع تعاليم القرآن كلها من مبدئها إلى منتهاها ، التى توجه الناس للاعتقاد الصحيح، والعمل بمقتضى ذلك الاعتقاد الصحيح؟!(1/147)
ومن أين إذن جاء الصحابة رضوان الله عليهم ومن تبعهم بإحسان بهذه " الممارسة " الهائلة لهذا الدين فى عالم الواقع ، وهى على ما يقول الفكر الإرجائى خارجة من مسمى الإيمان ، لأنها كلها " عمل " بالجوارح وبالجنان؟! هلى قاموا بها تطوعا زائدا من عند أنفسهم لم يكلفهم به الله؟! أم قاموا بها لأنها هى حقيقة هذا الدين ، الذى لا تقوم له بغيرها حقيقة فى واقع الأرض ولا عند الله؟!
ثم خذ الواقع البشرى نفسه ، وظواهر النفس الإنسانية كما خلقها الله.
أيمكن أن يكون فى النفس السوية إيمان بشئ ، ثم لا يكون فى واقع حياتها شئ يدل على هذا الإيمان؟ إلا أن يكون إنسان قد أصيب " بانفصام الشخصية " وهى حالة غير سوية ، تسقط عن صاحب التكاليف.
حقيقة إنه يمكن أن يكون هناك إيمان ، ويصاحبه عمل مناقض لمقتضى ذلك الإيمان ، نتيجة ضغط الدوافع النفسية التى قال عنها الله سبحانه وتعال إنها شهوات مزينة للناس:
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)} [سورة آل 3/14].
ولكن هذا الأمر لا يتم بلا سبب وبلا دلالة!
فأما سببه كما بينا فهو هذا الضغط الواقع على نفس الإنسان من دوافعه المركبة فيه.
وأما دلالته فهو أن الإيمان لم يكن من القوة بحيث يقف لهذه الدوافع ويتغلب على دفتها الحادة.
وهنا تحدث المعصية التى لا تنتقى أصل الإيمان ، ولكنها تحدث فى غيبة مؤقتة عن تأثير هذا الإيمان كما وصفها الرسول (: " لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن.. " (55).(1/148)
ومن هنا يكون هناك ارتباط وثيق بين قوة الإيمان وضعفه ، وبين العمل الذى يقوم به الإنسان فى أى لحظة من لحظاته: أهو طاعة أم معصية؟ وأى درجة من درجات الطاعة ، وأى درجة من درجات المعصية؟
ويخلص لنا من هذا كله حقيقتان:
أن العمل مرتبط بالإيمان.
وأن الإيمان يزيد وينقص. يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصى (ينتفى تماما إذا خالطه الشرك الأكبر).
وتلك هى الحقيقة - النفسية والدينية - التى عبث بها الفكر الإرجائى حين اخرج العمل من مسمى الإيمان ، واعتبر الإيمان هو مجرد التصديق ، أو هو التصديق والإقرار فى أحسن الأحوال (56).
وما من شك أن هذا الفكر كان فى مبدئه عدوى من الفلسفة والمنطق البعيدين عن روح هذا الدين. وأنه كان عند " علماء " المرجئة الأوائل مجرد " أفكار " تجريدية تدور فى " الأبراج العاجية " ولا تتصل بالواقع! فقد كانوا هم أنفسهم من الأتقياء الفضلاء العالمين بمقتضى بهذا الدين فى واقع حياتهم ، فلا هم تقاعسوا عن العمل ولا دعوا إلى التقاعس عنه. بل إنهم حين كانوا يكتبون فى الفقه ، كانوا يكتبون بوعى كامل أن هذا الدين اعتقاد وعمل لا ينفصلان. ولكنها لوثة الفلسفة والمنطق والأبراج العاجية التى يحدث فيها ما يحدث من الخلل والانحراف والاضطراب.
ولكن خطورة هذا الفكر تزايدت مع امتداد الزمن ، وبدء التفلت من التكاليف..
إن التفلت من التكاليف كما أشرنا من قبل أمر بشرى طبيعى:
{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115)} [سورة طه 20/115]
وهذا المرض البشرى له علاج ربانى مذكور فى كتاب الله:
{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)} [سورة الذاريات 51/55](1/149)
والتذكير المشار إليه فى الآية ليس هو التذكير بأصل الإيمان فالآية صريحة وصفى المطلوب تذكيرهم بأنهم مؤمن إنما يكون التذكير للعمل بمقتضى الإيمان ، لأنه هو الذى يغفل الناس عنه بفعل ثقلة الشهوات المركبة فى النفوس ، فإذا تم التذكير لأنه هو الذى يغفل الناس عنه بفعل ثقلة الشهوات المركبة فى النفوس ، فإذا تم التذكير استقام الأمر ، وعاد الإيمان إلى وضعه السوى: اعتقاد فى القلب وعمل فى واقع الحياة.
ولكن بدلا من أن يحدث التذكير ، جاء الفكر الإرجائى ليربت على لحظة الغفلة ، ويطمئن الغافلين أنهم مؤمنون ، ما دامت قلوبهم مستقرا فيها الإيمان!
وعلى امتداد الزمن زادت المساحة التى يغطيها الفكر الإرجائى! فحين كان العمل مثلا يغطى تسعين فى المائة من الساحة ، كان الفكر الإرجائى يغطى العشرة فى المائة التى انحسر عنها العمل! فلما انحسر العمل خمسين فى المائة غطى الفكر الإرجائى الخمسين! فلما انحسر العمل كلية غطى الفكر الإرجائى الساحة كلها ، وجاء فى العصر الأخير من يقول: " من قال لا إله إلا الله فهو مؤمن ، ولو لم يعمل عملا واحدا من أعمال الإسلام "!!
وكان هذا فى العصر الأخير خاصة من أشد البلايا التى ابتلى بها الإسلام!
? ? ?
ومن أشد انحرافات العصر العباسى كذلك ، الترف الذى أصاب الحياة بتأثير المال المتدفق من كل اتجاه.
كان الترف قد بدأ يظهر فى أواخر العصر الأموى ، ولكنه كان ما يزال محدود الصورة محدود النطاق. وكان سببه بدء تدفق المال فى أيدى الناس مع الهبوط التدريجى عن مستوى الذروة الذى كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم..
لقد جاء مال على عهد عمر رضى الله عنه كان يعتبر بالقياس إلى ذلك الوقت شيئا خياليا لا يتصور!(1/150)
جاء عامل عمر على البحرين يسلم مال الخراج والناس فى صلاة المغرب ، فقال له عمر: كم معك؟ قال خمسمائة ألف! قال: تدرى كم خمسمائة ألف؟! قال: نعم! مائة ألف ومائة ألف ومائة ألف ومائة ألف! قال: اذهب فأنت ناعس! وائتنى فى الصباح! فلما جاءه فى الصباح وعلم منه أنهما خمسمائة ألف حقيقة صعد المنبر فقال: أيها الناس! لقد كثر المال! فإن شئتم وزنا لكم وزنا ، وإن شئتم كلن لكم كيلا!
ولكن هذا المال ذا المقدار " الخرافى " بالقياس إلى وقته لم يفسد المسلمين وهم على مقربة من عهد رسول الله ( ، وولى أمرهم وقائدهم عمر رضى الله عنه ، الذى يرد إلى بيت المال ثمن الفطيرة التى أفضلتها زوجته رضى الله عنها من القوت الضئيل الذى يعيش عليه هو وعياله. كا أن عمر رضى الله عنه حبس رءوس الصحابة رضوان الله عليهم عن الخروج إلى البلدان للتجارة ، وأبقاهم إلى جواره وليعاونوه فى المهمة التى انتدب لها وهى إقامة حكم الله فى الناس.
أما فى أواخر العهد الأموى ، وأما فى العصر العباسى بصورة خاصة ، فقد كان المال مفسدا إلى حد الإتلاف (57).
فأما الأسرة الحاكمة فقد كان لها " مخصصات " من بيت المال ينفقون منها ما ينفقون على مستوى البذخ المبالغ فيه ، ومع ذلك يفضل منها ما يدعو إلى إنشاء " بيت المال الخاص "! تتراكم فيه الأموال عاما بعد عام!
وكان الوزراء من أموالهم الخاصة ومما يهب لهم الخلفاء والأمراء يعيشون فى ذات الجو الباذخ الذى تعيش فيه الأسرة الحاكمة ، وكانت ثروات التجار خرفية حقا بالقياس إلى ثراء العالم كله فى ذلك الحين ، إذ كانت التجارة العالمية فى وقتها فى أيديهم من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب ، وتكفى رحلات السندباد وإن تكن أسطورة لإعطاء صورة عن عالم التجار فى ذلك الحين (58).
وهكذا امتلأت الجيوب وفاضت بالنقود ، بينما القلوب تغفو ، والأيدى ترخى قبضتها من حبل الله المتين ، لذلك انتشر الترف المفسد الذى تروى عنه كتب الأدب وكتب التاريخ.(1/151)
خذ هذا النموذج من الترف فى المشرق الإسلامى:
" كان العباسيون يعنون عناية فائقة بحفلات الزواج. ويتجلى إسراف خلفاء العصر العباسى الأول وبذخه مما فعله المهدى عند زواج ابنه هارون (الرشيد) بالسيدة زبيدة. فقد أقام يوم زفافها وليمة لم يسبقه إليها أحد فى الإسلام ، ووهب للناس فى هذا اليوم أوانى الذهب مملوءة بالفضة وأوانى الفضة مملوءة بالذهب والمسك والعنبر ، وزينها بكثير من الحلى والجواهر ، حتى إنها لم تقدر على المشى لكثرة ما عليها من هذه الحلى والجواهر ".
" ويقول الشابشتى إن المأمون أمهر بوران 100.000 (مائة ألف) دينار و 50.000.000 (خمسين ألف ألف) درهم أى أكثر من نسف مليون دينار ، وأنه أوقد بين يديه فى تلك الليلة ثلاث شمعات عنبر ، وكثر دخانها فقالت زبيدة: إن فيما ظهر من السرف الكفاية ، ارفعوا هذا الشمع العنبر وهاتوا الشمع. ولما جليت بوران على المأمون نثر عليها حبارا كان فى كمه ، فوقع على حصير منسوج من الذهب فقال: لله در السحن ابن هانى ، حيث يقول:
كأن صغرى وكبرى من فواقعها حصباء در على أرض من الذهب
" وامتنع من كان حاضرا أن يلتقط شيئا ، فقال المأمون ، أكر منها ، فمدت زبيدة يدها فأخذت حبة ، فالتقط الباقى من كان حاضرا. كما ذكر الشابشتى: أن نفقات الزواج بلغت من مال الخليفة المهدى 1.388.000 دينار عدا مبلغ كبير أنفقه الرشيد نفسه.
" وقد أكدت السيدة زبيدة لأبى عبد الله المأمون ، وكان أخا الأمين ابن السيدة زبيدة من أبيه الرشيد كما نعلم ، أن نفقات هذا الزواج كانت تتراوح بين خمسة وثلاثين مليون درهم وسبعة وثلاثين مليون درهم.(1/152)
" وقد فاق المأمون أباه الرشيد فى كرمه وإسرافه ، يدلنا على ذلك ما أنفقه على زواجه من بوران بنت الحسن بن سهل ، ويقول الطبرى إن المأمون أمر للحسن بن سهل وهو فى طريقه إلى بوران بعشرة ملايين من الدراهم ، ومنحه خراج إقليم فم الصلح. ويقول ابن خلكان إنه أعطاه خراج إقليم فارس والأهواز سنة واحدة.
" وقد وصف المسعودى إسراف الحسن بن سهل وبذخه فى هذا الزواج فقال:
ونثر الحسن فى ذلك من الأموال مات لم ينثره ولم يفعله ملك قط فى جاهلية ولا فى إسلام ، وذلك أنه نثر على الهاشميين والقواد والكتاب بنادق مسك فيها رقاع بأسماء ضياع وأسماء جوار وصفات دواب وغير ذلك. فكانت البندقة إذا وقعت فى يد الرجل فتحها فقرأ ما فيه فيجد على قدر إقباله وسعوده فيها ، فيمضى إلى الوكيل الذى نصب لذلك ، فيقول له ضيعة يقال لها فلانة الفلانية ، من طسوح كذا ، من رستاق كذا ، وجارية يقال لها فلانة الفلانية ، ودابة صفاتها كذا. ثم نثر بعد ذلك على سائر الناس الدنانير والدراهم ونوافح المسك وبيض العنبر ، وأنفق على المأمون وقواده ، وعلى جميع أصحابه ومن كان معه من جنوده أيام مقامه عنده ، وعلى المكارين والحمالين والملاحين ، وكل من ضمه العسكر من تابع ومتبوع مرتزق وغيره.. " (59).
وخذا هذا النموذج أيضا من أيام العباسيين ، عند زواج قطر الندى بنت خماروية من الخليفة المعتضد:(1/153)
" وقد استطاع خماروية بما هيأه له بيت مال مصر أن يبذل الأموال الضخمة بذل من لا يخشى فقرا ولا يهاب عوزا ، فقد ذكر ابن دقماق أنه " حمل معها ما لم ير مثله ولا سمع به إلا فى وقته " وذكر المقريزى (خطط جـ1 ص 319): " أنه لم يبق خطيرة ولا طرفة من كل لون وجنس إلا حمله معها " فمن هذا الجهاز دكة من أربع قطع من الذهب عليها قبة من ذهب مشبك ، فى كل عين من التشبيط قرط معلق فيه حبة من الجواهر لا يعرف لها قيمة ، ومائة هون من الذهب لدق الطيب ، وألف تكة ثمن الواحدة منها عشرة دنانير. وقد أمر خمارويه بعد أن فرغ من الجهاز بأن يبنى على رأس كل مرحلة قصر أشبه بالمنزل أو مكان الاستراحة تنزل فيه وهى فى طريقها إلى بغداد. وأعدت هذه القصور بكل ما تحتاج إليه ، فكانت فى سفرها تتمتع هذا العرس فلم نقف عليه فى مصدر من المصادر التى رجعنا إليها. وقد ذكر ابن خلكان (جـ1 ص 174) أن صداقها كان مليون درهم. وليس هذا بالشئ الكثير بجانب ما أنفق على تجهيزها ، إذا علمنا أن ابن الجصاص الجوهرى الذى عهد إليه بإعداد الجهاز نال جائزته وهى أربعمائة ألف دينار بقيت بعد إعداد كل ما تحتاج إليه العروس ".
وهذا النموذج من الأندلس:
" ومن قصور الأمويين فى الأندلس القصر الذى بناه المأمون بن ذى النون بطليطلة ، وقد انفق على بنائه أموالا ضخمة ، وجعل فى وسطه بحيرة فى وسطها قبة من زجاج ملون منقوش ، وجلب الماء إلى القبة بحيث كان ينزل من أعلاها ويحيط بها من كل جوانبها ، فكانت قبة الزجاج فى غلالة مما سكب خلف الزجاج لا يفتر من الجرى ، والمأمون قاعد فيها لا يمسه من الماء شئ ولا يصله ، وتوقد فيها الشموع فيرى لذلك منظر بديع عجيب.." (60).
تلك مجرد نماذج سريعة من الترف والسرف فى حياة العباسيين فى المشرق والأمويين فى الأندلس ، وغيرها كثير كثير.. مما أصاب الناس بالترهل والاستغراق فى متاع الأرض.
? ? ?
وبدأت " الحضارة " تنحرف عن مفاهيمها الإسلامية..(1/154)
حقا لقد أبدعت هذه الحضارة فى المشرق العباسى والمغرب الأموى (فى الأندلس) بدائع العمارة ما تزال آثار منها باقية حتى اليوم ، تشهد بالبراعة الفائقة ، والتقدم فى الهندسة والتكنولوجيا وغيرها من العلوم ، ولكن جنوحها إلى الترف ، وشغلها الناس بالحياة الدنيا عن الآخرة ، وبالتاع الحسى عن مقتضيات الجهاد فى سبيل الله.
لم يكن يسير مع روح الإسلام ، إنما كان انحرافا أدى إلى نتائجه الحتمية بعد فترة من الزمان (61).
ولقد صاحب هذا الترف - وكان جزءا منه - فتنتان أخريان ، إحدهما هى كثرة الجوارى ، والثانية هى الجوارى المغنيات اللواتى ملأن قصور الخلفاء والأمراء والوزراء والأغنياء من التجار..
لقد تدفقت الجوارى على العالم الإسلامى بحكم الحروب القائمة بينه وبين أعدائه ، وأصبحن تجارة رائجة فى الأسواق. ومع صلامة الصل فى وجودهن ، فإن روح الترف التى سادت المجتمع جعلت وجودهن يضيف إلى الترف ترفا وإلى الفساد فسادا. وأصبحت فتنتهن كفتة المال.
وأخطر ما كان من أمرهن على أى حال هو الدور الخبيث الذى لعبته فى قصور الخلفاء والأمراء والوزراء ، ففضلا عن روح " اللهو " التى سادت هذه القصور وجودهن ، وشغلت أصحابها عن جديات الأمور ومعاليها ، فقد كان بينهم يهوديات ونصرانيات ينطوين على حقد خبيث على الإسلام ، وينطلقن من هذا الحقد وهن فى داخل القصور إلى أثار الفتن والمؤامرات والدسائس التى تشغل الحكام بمشكلاتهم الخاصة عن سياسة الرعية ومسئوليات الحكم الكبرى التى ينبغى أن يشغل نفسه بها كل قائم بالحكم ، فضلا عن الحاكم المسلم الذى يطبق شريعة الله!(1/155)
وفى جو الترف العام ، وفى وجود الجوارى بأعداد وفيرة ، وجدت الظاهرة الأكثر إفسادا وأكثر تلهية وهى التى أطلق عليها فى تاريخ الأدب ظاهرة " الجوارى المغنيات " وكانت فتنة منطقية فى وجودها وفى آثارها مع الجو العام السائد فى ذلك الحين.. فما ام " الطرب " مباحا فى القصور ، والغناء جزء من الطرب ، وإذا كان من أنثى فهو أكثر إطرابا ، فقد أصبحت هناك " صناعة " يتعيش منها ناس فى ذلك المجتمع ، هى البحث عن الجوارى ذوات الصوت الصالح للغناء ، وتدريبهن عليه ، وتحفيظهن ما يطربن به الرجال ، ثم بيعهن ، أو الاحتفاظ بهن عند مدربهن لإدارة حفلات الطرب فى بيته أو فى قصر من قصور المترفين واللاهين.
ويمتد الطرب من العشاء إلى ما بعد منتصف الليل مع الشراب أو بدونه ، وغالبا ما يكون معه ، ويتلهى الناس عن ذكر ربهم وعن ذكر الجهاد فى سبيل الله ، ويقومون الصباح إن قاموا يحلمون بالمزيد من الطرب والمزيد من الحفلات.
وكان حتما بعد ذلك أن يحدث الانهيار!
حقيقة أنه لم يحدث دفعة واحدة ، فقد استغرق أكثر من قرنين من الزمان ، وحتى حين انهارت الدولة فإن الإسلام لم يزل من الأرض ، وذلك لعدة عوامل ينبغى أن توضع فى الحساب.
لقد بدأ الفساد فى العاصمة بغداد فى قصور الخلفاء والأمراء أولا ، ثم فى قصور الأغنياء عامة ، حتى أصبح " عملة سارية " فى العاصمة لا ينكره أغلب الناس سواء شاركوا فيه أم لم يكن لهم فيه نصيب. ولكن بقية الأرض الإسلامية لم تكن متأثرة بهذا الفساد المحلى فى بادئ الأمر ، لأنها كانت ما تزال تمارس الإسلام بالجدية التى يقتضيها الإيمان بدين الله.
ثم أخذ الفساد يمتد من عاصمة الخلافة إلى عواصم الأقاليم بالعدوى.. وتلك سنة ربانية تجعل الفساد " يظهر " فى الأرض حين يتقاعس الناس عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وهو ماكان حادثا فى المجتمع العباسى.(1/156)
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [سورة الروم 30/41]
وحين لا يجعون يظل الفساد ينتشر ويتأصل حتى يحدث الإنهيار.
وقد ظل الفساد فى أكثر من ميدان ينتشر ويتأصل ، ويأكل كل حين قطاعا جديا من المجتمع حتى انهارت الدولة العباسية على يد التتار ، كما انهارت الأندلس فى الغرب على يد الصليبيين.
ولكن " الإسلام " كان باقيا ما يزال..
كانت جذوره العقيدة حية فى النفوس.. علاها الرماد نعم بتأثير المعاصى والبدع والمنكرات ، والإنصراف عن الجد الواجب فى أخذ الدين ، ولكنها حية. تنتظر من ينفخ الرماد عنها لتشتعل من جديد.. فما إن جاء صلاح الدين يقول للناس إنكم هزمتهم أمام الصليبيين لأنكم ابتعدتم عن الله ، ولن تنصروا حتى تعودوا إليه.. وما أن جاء قطز يصيح صيحته المشهورة: وإسلاماه! حتى اشتعلت الجذوة من جديد ، وانتصر المسلمون على الصليبيين فى مصر والشام ، وكانت القمة " حطين " ، وانتصروا على التتار فى " عين جالوت " التى كانت بدء تحول ضخم فى التاريخ ، هو دخول التتار أنفسهم فى الإسلام ،وتحولهم فيما بعد إلى جند من أصلب المدافعين عن الإسلام!
انهارت " الولة " العباسية لأنها كانت أفسد من أن يقومها الإصلاح ، ولكن " الأمة الإسلامية " كانت ما تزال تزخر بخير كثير على الرغم من كل عناصر الفساد التى تسربت خلال الحكم العباسى ، فكانت قمينة بأن تعيش عدة قرون أخرى وتمثل جولة جديدة فى التاريخ.
وانهارت " الدولة " الإسلامية فى الأندلس ، وطرد المسلمون بوحشية بالغة ، وانمحى الإسلام من الوجود فى تلك البقعة من الأرض بعد تعذيب وحشى قامت به محاكم التفتيش زهاء قرنين كاملين من الزمان.. ولكن برزت إلى الوجود فى مكان آخر دولة إسلامية جديدة فتية قوية بقيت ممكن فى الأرض زهاء خمسة قرون.
? ? ?(1/157)
ولكن قبل أن نتحدث عن دولة الخلافة الثالثة بما لها وما عليها ، ينبغى أن نذكر انحرافا آخر حدث فى المجتمع العباسى ، وظل باقيا بعد انهيار الدولة العباسية ، بل إنه تغلغل فى الدولة الجديدة منذ مولدها ، وكانت له آثاره الخطيرة فى حياة الأمة الإسلامية حتى انهارت تلك الأمة ذاتها فى العصر الأخير.
ذلك هو الصوفية.
نشأت الصوفية رد فعل للترف الذى غشى المجتمع العباسى.. فإن " المتطهرين " من ذل المجتمع ، الذين هالهم الفساد الذى يسرى فى المجتمع من الترف والمجون ، والانصراف عن ذكر الله وعن الآخرة ، أردوا أن ينجوا بأنفسهم ، فجمعوا أطراف ثيابهم وتسللوا من هذا المجتمع الفاسد ، لعيشوا حياة نقية طاهرة.. مع الله.
وبصرف النظر عما دخل فى الصوفية من أفكار ، ودفعات يهودية ونصرانية وجوسية وهندوكية.. فما بنا أن ننكر أن دافعها الأصلى كان هو اعتزال الفساد السارى فى المجتمع ، والخلوص إلى حيث الطهارة والقاء.
ولكن الصوفية ذاتها نزعة منحرفة عن النهج الإسلامى الصحيح.
فلئن كان فيها نزوع إلى تزكية الروح وهو من الإسلام ونزع إلى الترفع عن متاع الأرض وهو من الإسلام ونزع إلى ذكر الآخرة وهو من الإسلام فإن فيها سلبية وانعزالية ليست من الإسلام ، وإهمالا للحياة الدنيا ليس من الإسلام.
إن الصوفية فى حقيقتها عملية " هروب " من مواجهة الواقع ومجالدته ، هروب إلى " عالم خاص " من صنع الوجدان ، ينعم فيه الإنسان " بمشاعر " القرب من الله وهما أو حقا فيقعد عن " العمل " اكتفاء بتل المشاعر التى تختصر له الطريق!
إن " الأعمال " وسيلة للقرب من الله. ولكن ما حاجة " الواصل " إلى الوسيلة وقد وصل بالفعل؟!(1/158)
كذلك يقعد الصوفية عن العمل والكدح فى واقع الحياة الدنيا ، كما يقعدون عن مجالدة الواقع المنحرف لرده إلى سواء السبيل ، ويكتفون بتلك المشاعر التى تخيل إليهم أنهم قريبون من الله ، واصلون إليه ، عائشون فى حضرته ، سابحون فى نوره.. فلا يبتغون وراء ذلك شيئا لأنه ليس وراء ذلك شئ!!
إنها مشاعر يمكن بالفعل أن تستغرق حسن الإنسان فيغرق فيها ولا يفيق.
ثم إن التدريب الروحى يفتح للإنسان عالما من الأعاجيب. فكما أن التدريب الجسدى يعطى الإنسان قوة وقدرة ، واستمتاعا بتلك القوة والقدرة ، وكما أن التدريب العقلى ينشط الذهن ويسكبه قدرة على الاستيعاب والفهم ، واستمتاعا بتلك القدرة كذلك ، فكذلك التدريب الروحى يعطى الإنسان شفافية وإشراقا ، وإنسياحا وراء السدود والحواجز الحسية إلى عالم فسيح لا تحده حدود ، واستمتاعا بذلك كله يغرى بالمزيد!
ولكن الإسلام لا يقبل تلك " الغيبوبة "!
لقد جاء الإسلام " لمهمة " معينة فى الأرض.
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [سورة الحديد 57/25]
وقيام الناس بالقسط لا يتأتى بمجرد الرغبة فى ذلك ولا بمجرد التمنى ، كما أنه لا يتم شئ فى حياة الإنسان كلها بمجرد الرغبة ولا مجرد التمنى ، إنما لابد من جهد يبذل لتحقيق الرغبة ، وتحويل الأمنية إلى واقع محسوس.
والمسلمون بالذات هم الذين حملهم الله مسئولية " العمل " لإخراج البشرية كلها من الظلمات إلى النور بمقتضى الكتاب المنزل إليهم:
{الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [سورة إبراهيم 14/1]
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [سورة البقرة 2/143](1/159)
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ} [سورة آل 3/104]
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل 3/110]
والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الذى هو خلاصة حركة الدين فى واقع الأرض جهد محسوس يبذل فى واقع الحياة ، وموقف إيجابى من كل شئون الحياة.
وهنا مفرق الطريق بين الصوفية وبين الإسلام!
الصوفية انعزال سلبى ، والإسلام مواجهة إيجابية.
فى الإلام دعوى صريحة إلى الترفع عن متاع الأرض:
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16)} [سورة آل 3/14-16]
وفى الصوفية كذلك دعوى إلى الترفع عن متاع الأرض والاكتفاء منه بأقل القليل.
ولكن فيم تنفق الطاقة الهائلة المتجمعة فى النفس من ممارسة هذا الترفع عن متاع الأرض؟
فى الإسلام تنفق الطاقة فى تحقيق " القيم العليا " فى دنيا الواقع ، وفى الصوفية تنفق فى تحقيق تلك القيم فى سبحات الروح وإشراقات الوجدان!(1/160)
إحداهما تصلح الواقع بالفعل. تصلح الفرد والمجتمع ، وترفعهما من الواقع الأدنى المتمثل فى المجال الحسى الغليظ ، إلى الواقع الأعلى الذى تنطلق فيه كل طاقات الإنسان: جسده وعقله وروحه ، للقيام بمهمة الخلافة ، وعمارة الأرض بمقتضى المنهج الربانى ، التى هى حقيقية " العباد " بمعناها الشامل الواسع ، والتى يتحقق بتحقيقها الكيان الأعلى للإنسان.
والأخرى تترك الواقع بكل ما فيه من سوء ، لا تتعرض لإصلاحه ، وتعزل عنه فى محاولة لإصلاح الذات ، محاولة قد تنجح فى جانب من الجوانب هو الجانب الروحى ولكنها تفقد الإنسان توازنه الذى خلقه الله عليه وخلقه له ، وتفقده واقعيته وإيجابيته ، فضلا عن صرفه عن القيام بالتكاليف التى فرضها الله " ليقوم الناس بالقسط " وليخرج الناس من الظلمات إلى النور.
أرأيت لو أن طاقة كامنة يمكن بها استثمار قطعة واسعة من الأرض ، تنزع منها حشائشها الضارة ، وتحرثها وتسقيها ، وتستنبت فيها البقول والأشجار ، والورود والأزهار ، ليعيش من حصيلتها مجموعة من الناس ويستمتعوا بطبيباتها ، أنفقت فى حرث ركن منعزل من الأرض ، وترك سائرها لتنتشر فيه الحشائش والحشرات ويأوى إليه شذاذ الآفاق.
أى تبديد للطاقة.. وأى صرف للجهد عن الإصلاح؟!
ذلك مثل الصوفية فى تبديد الطاقة البشرية وإن ظنت أنها تجمعها وتركزها!
ذلك مثلها فى صرف الجهد عن إصلاح الحياة البشرية وإن ظنت أنها تقوم بالإصلاح.
إن الإنسان مهما فعل لن يستطيع أن يعبد الله على طريقة الملائكة: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ (20)} [سورة الأنبياء 21/20]
والله من حكمته ورحمته لم يكلف الإنسان أن يعبد الله على طريقة الملائكة ، وإلا لخلقه ملكا منذ البدء ، نورا شفافا بلا جسد طينى ينزع ، ولا فكر ينشغل بأمور الحياة.(1/161)
ولكنه ، من حكمته ورحمته ، وقد خلقه من قبضة من طين الأرض ، ونفخة من روح الله ، وجعل له جسدا يتحرك بالرغبة ، وعقلا ينشغل بالتفكير ، وروحا طليقة ترفرف ، كلفه عبادة من نوع خاص غير الملائكة من ناحية ، والعجماوات والجمادات من ناحية أخرى. عبادة يجتمع فيها كيانه كله: جسده وعقله وروحه. وجعل كل نشاط جسده عبادة ، وكل نشاط عقله عبادة ، وكل نشاط روحه عبادة ، إذ توجه بذلك كله إلى الله ، والتزم فيه بما أنزل الله:
{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ...} [سورة الأنعام 6/162-163]
وحين يفعل ذلك فهو فى أعلى حالاته ، وأقربها إلى الله ، وأجدرها برضا الله.
ودليلنا هو أعبد عبد لله ، أعظم بشر خلقه الله ، محمد (
"ألا أنى أعبدكم لله ، ولكنى أصوم وأفطر ، وأقوم وأنام ، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتى فليس منى " (62).
هل يستطيع بشر بعد هذا النص أن يزعم أنه أعبد له من محمد رسول الله؟!
فيكف كانت عبادته ( ؟!
فأما خولته مع ربه ، فقد كانت يتعبد حتى تتورم قدماه الشريفتان ، فتقول له عائشة رضى الله عنها: هون عليك يا رسول الله فقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر: فيقول ( قولة العابد الواصل فى العبادة إلى الأعماق: أفلا أكون عبدا شكورا؟! (63)
ومع ذلك.. فكيف كان (؟
كان أكبر طاقة إيجابية عرفتها الأرض..(1/162)
فى الجهاد فى مجال الدعوى. فى القتال فى سبيل الله. فى تربية أصحابه رضوان الله عليهم ليكونوا مثلا عليا فى كل اتجاه ، وطاقات إيجابية فى كل اتجاه. فى إنشاء الأمة التى شهد لها خالقها ومخرجها إلى الوجود سبحانه بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [سورة آل 3/110]. فى إقامة العدل الربانى فى الأرض. فى تنظيم شئون " الدولة " السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحربية والخلقية والروحية والفكرية.. إلى جانب قيامة بأمور حياته الخاصة ( ورعاية زوجاته وبناته وكفالتهم وتوجيههن وتعليمهن.. الخ.
والرسول ( هو أسوة المسلمين إلى قيام الساعة ، وهو الترجمة الواقعية لهذا الدين فى أعلى صوره.
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21)} [سورة الأحزاب 33/21]
والصوفية تقول إنها ترجوا الله واليوم الآخر وتذكر الله كثيرا!.. فلماذا لا تتأسى برسول الله ( فى إيجابيته وفاعليته وواقعيته ، ومجابهته للواقع السيئ لهدمه والقضاء عليه ، وإنشاء الواقع الصحيح بدلا منه؟! (64).
هذا هو الفارق بين الإسلام والصوفية.
هنا إيجابية وهناك سلبية ، هنا مواجهة وهناك عزلة. هنا " زهد " فى متاع الأرض مع إباحته وممارسته ، وهناك إنزواء عن المتاع يقتل الرغبة ويصيب النفس كلها بالذبول.
ومع الصوفية ينشأ التواكل بدل من التوكل.
التوكل على الله من صميم الإيمان ، وقد تردد ذكره فى القرآن مربوطا بالإيمان:
{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ (160)} [سورة آل 3/160]
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} [سورة الأنفال 8/2](1/163)
ولكن التوكل ككل شئ فى دين الله طاقة إيجابية دافعة ، يقوم به المؤمن مع اتخاذ الأسباب.
{فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [سورة آل 3/159]
والعزيمة فى شأن القتال خاصة ، وهو الذى وردت بمناسبته الآية الكريمة تقتضى إعداد العدى واتخاذ الأسباب.
أما التواكل الذى تمارسه الصوفية وتقول عنه إنه توكل ، فهو ككل شئ فى الصوفية صورة سلبية معطلة ، تتقاعس عن اتخاذ الأسباب متذرعة بالتوكل على الله.
لقد أفسد التواكل كثير من عقيدة القضاء والقدر ، وحولها من عقيدة إيجابية دافعة إلى عقيدة سلبية مخذلة ، وإلى الرضاء السلبى بالواقع وعدم محاولة التغيير.
كان الله يعلم الجيل الأول رضوان الله عليهم {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ (51)} [سورة التوبة 9/51]
فيعلمون أنه ليس ذهابهم إلى القتال هو الذى يقتلهم ، إنما هو القدر المقدر عند الله هو الذى يصيبهم أينما كانوا ، فيندفعون بكل قوتهم للقتال.
وكان يعلمهم: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [سورة الأنفال 8/59-60]
فيعلمون علما يقينيا مؤكدا أن الله لن يحقق للكفار مسعاهم فى هدم هذا الدين والقضاء عليه ، بل سيمكن لدينه فى الأرض ، ومع ذلك يعدون ما استطاعوا من قوة ، أى يبذلون الجهة ويتخذون الأسباب ، ولا يقولون لأنفسهم: ما دام الله سيمكن لدينه فذلك حسبنا ، ونتوكل عليه فلا نعمل!(1/164)
وكان يعلمهم: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ...} [سورة آل 3/165-166]
فيعلمون أن وقوع الأمر بقدر من الله لا يخليهم من مسئوليتهم عن أعمالهم حين يخطئون أو يسيئون التقدير.
وكان يعلمهم: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)} [سورة آل 3/172-173]
فيتعلمون أن وقوع قدر الله بالهزيمة ليس معناه الاستسلام للهزيمة والقعود فيها بحجة أنها قدر من عند الله ، إنما معناها السعى الإيجابى لتغيير هذا الواقع مع التوكل على الله ، رجاء تغيير القدر الأول بقدر جديد...(65)
وبذلك كله كانت عقيدة القدر فى حياة المسلمين الأوائل قوة دافعة محركة إلى الأمام.
ولكن تواكل الصوفية حولها إلى غير ذلك ، قعودا عن الأخذ بالأسباب بحجة أن " مالك سوف يأتيك "! وتخليا عن مسئولية الإنسان عن عمله بحجة أن ما وقع منه قد وقع بقدر من الله! وقعودا عن تغيير الواقع السيئ من مرض أو عجز أو فقر أو ذلك أو ضيم بحجة أنه ما حدث إلا بقدر من الله ولو شاء الله غير ذلك لكان!!
ومع الصوفية كذلك ينشأ القعود عن تعمير الأرض ، بحجة أن الدنيا ملعونة ، والمعول عليه هو الآخرة! وأن الإنسان حسبه فى هذه الدنيا عيشة الكفاف، لكى ينجو بروحه من التعق بالدنيا ، ولكى يفرغ لتزكية روحه استعداد للآخرة!(1/165)
ولا شك أن الدعوة إلى التقلل من متاع الأرض ، وعدم " التعلق " بالدنيا هى دعوة إسلامية أصيلة ، وهذا هو " الزهد " الذى أشرنا إليه من قبل. ولكن الانصراف عن عمارة الأرض قضية منفصلة ومختلفة عن عدم التعلق بالحياة الدنيا.
لقد ركب الله فى النفس البشرية دوافع إلى العمل والنشاط فى صورة رغبات وشهوات أبرزت الآية الكريمة أهمها أو أشدها سيطرة على الإنسان:
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [سورة آل 3/14]
ولم يخلق الله هذه الدوافع عبثا ، تعالى الله عن العبث..
ولم يخلقها ليقتلها الإنسان من جانبه بحجة تزكية الروح..
إنما خلقها لتعينه أو لتدفعه لعمارة الأرض ، التى هى جزء من الخلافة التى خلق الله الإنسان من أجلها:
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [سورة البقرة 2/30]
{هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [سورة هود 11/61]
صحيح أن هذه الشهوات مهلكة للإنسان إذا مضى معها إلى آخر الشوط ولم يلتزم " بالحدود " التى رسمها الله ، وقال عنها: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [سورة البقرة 2/229] {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [سورة البقرة 2/187].
لذلك خلق الله فى النفس البشرية ضوابط تضبط اندفاع تلك الدوافع ، منها العقل والإرادة الضابطة ، ومعرفة الطريقين والقدرة على اختيار أحدهما:
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) } [سورة الشمس 91/7-10]
{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)} [سورة البلد 90/10]
{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)} [سورة الإنسان 76/3](1/166)
ثم ذكر الإنسان بالآخرة ، والبعث والحساب والجزاء ، ليكون ذلك معينا له فى ضبط شهواته والالتزام فيها بالحدود التى رسمها الله ، والتى يعلم سبحانه أن فى داخلها الأمن والأمان والفلاح ، ويعلم سبحانه كذلك أن الالتزام بها هو الذى يرفع النفس البشرية ويظهرها ، ويعينا على عمارة الأرض بمقتضى المنهج الربانى.
وعلى الرغم من وضوح المنهج الربانى فى هذه النقطة ، فإن الصوفية تسعى إلى " قتل " الدوافع البشرية بدلا من تهذيبها وضبطها ، وتدعو إلى " إهمال " الحياة الدنيا بحجة التقرب إلى الله وابتغاء مرضاته.
ولو كان هذا هو الإسلام لهدانا إليه رسول الله (.
يستلون بقوله ( : " الدنيا ملعونة وملعون ما فيها إلا ذكر الله أو عالم أم متعلم " (66).
وبأن الله ذم الدنيا فى كتابه المنزل وقال عنها {مَتَاعُ الْغُرُورِ} [سورة آل 3/185].
ولا شك أنه ورد فى القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ذم للدنيا أو لعن لها.
ولكن مراجعة السياق الذى ورد فيه مثل هذا الذم تكشف لنا بوضوح أن الدنيا تذم أو تلعن فى مجالين اثنين ، حين تصد الإنسان عن الإيمان بالله وتدفعه إلى الكفر به ، أو تصده عن الجهاد فى سبيل الله:
{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)} [سورة النحل 16/106-107](1/167)
{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)} [سورة التوبة 9/24]
أما فى غير هذين المجالين فليست الدنيا مذمومة ولا ملعونة ، ما دامت لا تصد عن الإيمان بالله أو الجهاد فى سبيل الله.
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [سورة الأعراف 7/32]
{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا} [سورة القصص 28/77]
صحيح أن التعلق بالدنيا يؤدى إلى معصية الله. وهذا هو المعنى الذى ركز عليه الصوفيون أشد التركيز ، وجعلوا الدنيا ملعونة من اجله ، ولكن قتل النفس من جهة أخرى مخافة الوقوع فى المعصية يوقع فى معصية من نوع آخر ، هى القعود عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وعن مجالدة الباطل والعمل على إزهاقه ، وعن عمارة الأرض بمقتضى منهج الله.
وحين يعمل الإنسان فى هذا الحقل ، وهو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، والجهاد لتكون كلمة الله هى العليا ، وعمارة الأرض بمقتضى المنهج الربانى ، ثم تقع منه الأخطاء والمعاصى غير متعمد لها ولا متبجح بها ، ثم يستغفر الله عنها ويجاهد لكى لا يقع فيها ، فذلك هو الذى قال الله فيه:(1/168)
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)} [سورة آل 3/135-136]
وقال فيه رسول الله (:
" والذى نفسى بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر الله لهم!" (67).
وحين تجلس ساكنا وتحمل فوق رأسك سلة مملوءة بالأشياء فلا يقع منها شئ ، فقد حافظت على ما فى السلبة بالفعل ، ولكنك فى سبيل المحافظة عليها تعطلت عن الحركة المطلوبة منك وليست هذه هى البراعة إنما البراعة أن تتحرك وأنت تحمل السلة على رأسك وتحاول جاهدا ألا يسقط منها شئ. فإن تساقط منها شئ أسرعت إلى إعادته فى السلة وعاودت المسير.
ولمثل هذا خلق الله الإنسان. جمله الأمانة ثم أمره بالسير فى مناكب الأرض وهو يحمل الأمانة ، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويجاهد لكى يقوم الناس بالقسط ، ولكى تكون كلمة الله هى العليا ، ويعمر الأرض بمقتضى المنهج الربانى.. ثم كان من رحمته سبحانه وتعالى وهو يعلم ضعف الإنسان أنه يغفر ما يقع فى أثناء ذلك من الذنوب ما دام العبد لا يصر عليها ، وما دام يستغفر ويتوب ، فيتم " الإنتاج " المطلوب والإنسان فى أرفع حالاته ، وأقربها إلى رضوان الله.
أما القعود عن الإنتاج ، أو حصره فى أضيق نطاق ممكن بحجة تجنب المزالق ، فليس هو الذى أمر به الله..
ومن جهة أخرى فإن حصر الإنتاج فى أضيق نطاق ممكن وهو نطاق الكفاف يجعل الدولة كلها تعيش فى حالة الكفاف ، ولا يجعل لديها " الفائض " الذى تنفقه فى متطلبات " التمكين فى الأرض ".
إن التمكين فى الأرض هبة الله للمؤمنين:(1/169)
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [سورة النور 24/55]
ولكن له تكاليف...
فإلى جانب عبادة الله وحده بلا شريك، وتحكيم شريعته وحده، وهما المقتضى العملى للإيمان الصحيح، فهناك تكاليف حسية ومادية :
{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60)} [سورة الأنفال 8/60]
فإذا عاش مجموع الناس عيشة الكفاف، ولم ينتجوا إلا فى حدود الكفاف، فكيف للدولة المسلمة أن تعد ما استطاعت من قوة لإرهاب أعداء الله، تلك القوة التى لا يستمر التمكن فى الأرض إلا بها؟
إنما يحتاج الأمر إلى الإنتاج الوفير والاستهلاك القليل.. وهذه هى المعادلة التى يتم بها التمكين فى الأرض والمحافظة عليه. أما الإنتاج القليل على قدر الاستهلاك القيل فلا يؤدى إلا إلى فقر مجموع الأمة، الفقر الذى يؤدى إلى الضعف، والضعف يحرك شهوة الأعداء الذين ينتظرون الفرصة السانحة للانقضاض.
وإلى جانب ذلك كله، فيحن يعتزل المتطهرون المجتمع وينعزلون عنه ليزكوا أرواحهم بعيدا عن الدنس فمن يبقى فى المجتمع؟ ومن يدير شئونه؟ ومن يتحرك فيه؟ (1/170)
أليست هذه العزلة مشجعا للفاسدين أن ينفردوا بالعمل دون تدخل ولا اعتراض؟ بينما كان الواجب الأول لأولئك المتطهرين أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ويأطروا الحاكم على الحاكم على الحق أطرا ويأصروه عليه أصراكما أمرهم الله ورسوله (؟
فإذا أضيف إلى هذه الأمور كلها تضخم الشيخ فى حس المريد إلى حد أن يصبح فى حقيقة الأمر واسطة بينه وبين الله، فى الوقت الذى جاء فيه الإسلام ليلغى كل واسطة بين العبد والرب، ويحرر القلب البشرى من كل قيد يعوقه عن الاتصال المباشر بالله، وعبادة الله وحده بلا شريك، ويكون من تعليمه للناس : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [سورة البقرة 2/186]
إذا اضيف هذا إلى كل ما سبق فقد بدا لنا كم تنحرف الصوفية عن أصل الإسلام، وكم تضيف إليه ما لبس منه، فى سبيل تحقيق غاية فى ذاتها من الإسلام، ولكن طريقها الربانى غير هذا الطريق..
وهذا كله مع الصوفية " النظيفة " الصادقة المخلصة، فكيف إذا صارت دجلا وتهريجا وخرافات؟
ولا شك أن هناك فى تاريخ الصوفية سواء تاريخ الشيوخ أو المريدين ? من كان عاملا بتعاليم الإسلام، مجاهدا فى سبيل الله بماله ودمه، آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر، ناشرا لدين الله فى الأرض. فهؤلاء كما أشرنا من قبل لا ينطبق عليهم حكم الصوفية المنحرفة، وإنما هم فى الحقيقة زهاد وأن الحقوا بالصوفية.
ولكن الذى لا شك فيه كذلك أن هؤلاء قلة فى تاريخ التصوف، وأن الأغلبية كانت من أولئك السلبيين المنعزلين، الذين يسعون إلى تزكية أنفسهم فى عزلة عن ركب الحياة.
? ? ?
إذا عدنا إلى الفترة العباسية لنقوم مدى ما حدث فيها من انحراف فسنجده، انحرافا ضخما ولا شك.. فى كثير من المجالات هذا الدين.(1/171)
وكان طبيعيا كما قلنا أن تنهار الدولة العباسية من وطأة هذه الانحرافات مجتمعة، ومن بينها ما يكفى وحده لتقويض أركانها، كالترف الذى غرقت فيه القصور، ولعب الدخلاء بالسلطان، والدسائس والمؤامرات، وضعف القوة السياسية والعسكرية.. فإذا اجتمع إلى ذلك ما سردناه من الانحرافات الأخرى فلم يكن انهيار الدولة عجبا، إنما كان العجب أن تستمر أكثر من ذلك بكل ما تحمله من أمراض.
وجاء الانهيار تحقيقا لسنن الله فى الحياة البشرية.. السنن التى لا تحابى أحدا ولو قال بلسانه 0 لا إله إلا الله محمد رسول الله)!.
وبصرف النظر عن كون التتار الذين أطاحوا بالدولة العباسية قد جاءوا بدعوى خفية متآمرة من وزير شيعى فى الدولة العباسية ذاتها، ومن اليهود القاطنين فى بغداد، الذين لم يمسوا بسوء طيلة وجود التتار فيها، بينما جرى النهر أربعين يوما أحمر من دماء المسلمين الذين ذبحهم التتار.
بصرف النظر عن هذه الحقيقة، فما كان لمثل هذا الأمر أن يقضى على الدولة لو أنها واعية لنفسها كا ينبغى للدولة المسلمة، ملتزمة بأوامر الله التى تأمر بإعداد القوة لإرهاب أعداء الله، وتأمر بعدم اتخاذ بطانة ممن يكيدون للإسلام :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)} [سورة آل 3/118]
{رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46)} [سورة فصلت 41/46](1/172)
ولكن انهيار الدولة بما تحمل من أوضار لم يكن هو نهاية " الأمة الأسلامية " رغم اشتراكها ولو بقدر فى هذه الأوضار، أولا : لأن الدفعة الحيوية الهائلة التى أطلقها الإسلام فى هذه الأمة لم تكن قد استنفدت، وثانيا : لأن العقيدة كانت ما تزال حية وإن علاها الرماد، فكانت تنتظر فقط من ينفخ عنها الرماد لتشتغل الجذوة من جديد.
وقد تبدت حيوية الإسلام وحيوية الأمة الإسلامية فى ظهور الدولة العثمانية بكل قوتها وكل حيويتها كأنها بعث جديد للأمة أو مولد جديد.
ولكن. هل كان بعثا صافيا، أو مولدا من نوع المولد الأول فى عهد الذروة؟ أم حمل معه من أوضار " الأمة " ما كان كامنا فيها من الأوضار؟
? ? ?
فأما من حيث صدق الرغبة فى خدمة هذا الدين، وبذل الدماء والأموال فى سبيل ذلك، فإنا نجد فيهم من لا يقل عن مرتبة التابعين رضوان الله عليهم، وكان جهدهم فى الحقيقة امتدادا لجهد الصحابة والتابعين الذين حاولوا فتح القسطنطينية أول مرة على عهد الأمويين.
ويكفيهم فى ميزان الله أنهم توغلوا فى أوروبا الصليبية ما توغلوا، وفتحوا للإسلام ما فتحو من أراض وقلوب، فدخل الناس فى الإسلام بعشرات الملايين.
ويكفيهم فى ميزان الله أنهم حموا العالم الإسلامى من غارات الصليبيين خمسة قرون متوالية، فلم يجرءوا أن يتجهوا مرة أخرى نحو الشرق للاستيلاء على بيت المقدس كما فعلوا أول مرة حتى زالت الدولة العثمانية من الوجود.
ويكفيهم فى ميزان الله أنهم حتى وهم فى النزع قدمنعوا قيام الدولة اليهودية على أرض الإسلام، ولم يتمكن شذاذ الآفاق من التجمع لإقامة دولتهم إلا بعد أن زالت دولة الخلافة من الوجود.
كما أن احترامهم للعلم، وللعلماء من حملة هذا الدين، مما يحسب لهم كذلك فى ميزان الله.
ولكن هذا كله على ضخامته فى ميزان الله لا ينفى وجود انحرافات خطيرة سواء فى الدولة، أو فى حياة الأمة فى ظل الدولة.. آتت ثمارها السيئة على مرور الأيام.(1/173)
لقد كانت هذه أول دولة للخلافة لم تستعرب.
ولم يكن ذلك يؤثر فى مبدأ الأمر، مع الإخلاص وصدق العزيمة، والعمل الجاد لتوحيد العالم الإسلامى، ووضعه تحت قيادة قوية موحدة تحميه من التمزق الذى كان يعانيه فى أواخر الدولة العباسية.
ولكنه على مر الأيام صار يؤثر، إذا أحس الشعب العربى، الذى ظل طيلة تسعة قرون على الأقل هو قلب الإسلام النابض، بلون من العزلة، وحكامه يخاطبونه بغير لغته، وبغير اللغة التى نزل بها الإسلام.. وظلت هذه العزلة تتزايد مع توالى الظروف السياسية التى أحاطت بالدولة العثمانية، حتى تمكن الأعداء الماكرون من تمزيق جسم الأمة، وكانت قضية " الترك " والعرب " من الأدوات التى استخدموها بخبث فى التمزيق.
ولو تصورنا أن دولة الخلافة قد استعربت، وتكلمت باللغة التى نزل بها هذا الدين، فلا شك أن عوامل الوحدة داخل الدولة كانت تصبح أقوى وأقدر على مقاومة عبث العابثين. فضلا عما يتيحه تعلم العربية من المعرفة الصحيحة بحقائق هذا الدين من مصادره المباشرة، كتاب الله وسنة رسوله (، مما كان الحكام والعامة كلاهما فى حاجة إليه، على الرغم من كل ما ترجم إلى التركية، وما ألف أصلا بالتركية حول هذا الدين.
ثم كان كما هو الشأن فى الدولة العسكرية نوع من " الحزم " الزائد الذى يصل أحيانا إلى حد الاستبداد.
ولا شك أن الاستبداد السياسى قد وقع من قبل، بدأ به الأمويون وتلاهم العباسيون، وكان من الانحرافات التى ارتكبها ا" الملك العضوض "، وحاد بها عن خط الخلافة الراشدة التى نعم الناس فى ظلها بتطبيق العدل الربانى فى أروع صوره.
ولكنى أحسب أن الاستبداد السياسى فى الدولة العثمانية لم يكن مجرد امتداد لما كان من الأمويين والعباسيين (وإن كان هذا جائز) ولكن كان له سببه " المحلى " فى الدولة العثمانية ذاتها " الجزم " الزائد الذى يمارسه العسكريون فى المعتاد حين يتولون شئون السياسية.(1/174)
ولقد كانت مواجهة الدولة لأعداء أقوياء، لابد من القضاء عليهم أو إخضاعهم بالقوة ليتم التمكين للدولة، من أسباب هذا " الحزم " الزائد الذى اتسم به الحكم العثمانى. ولكن روح الإسلام على أى حال لا تبيح الاستبداد أيا كانت ذرائعه، وتوجب تطبيق العدل الربانى فيما بين الحاكم ورعيته فى جميع الأحوال.
وزاد الأمر سوءا نظام الولاة فى الدولة العثمانية، حيث كان الوالى على أى قطر من أقطار الدولة، يتولى لفترة محدودة، غالبا ما تكون سنتين أو ثلاثة سنوات على الأكثر، ثم يعزل بعدها من ولايته.
وقد كان للدولة هدفها من هذا النظام دون شك، وهو تركيز السلطة فى يد الخليفة، وعدم إتاحة الفرصة للولاة أن يستقلوا بولاياتهم كما حدث فى أواخر العصر العباسى وانتهى بتفكيك الدولة العباسية وانهيارها فى النهاية. وقد ساعد هذا النظام بالفعل على دوام سيطرة الدولة العثمانية على ولاياتها فترة غير قصيرة من الزمان، واستقرار الدولة وهيبتها فى نفوس الأتباع والأعداء على حد سواء.
ولكن كان للنظام معايبه من جانب آخر، فإن الوالى الذى يعلم سلفا أنه لن يبقى فى منصبة إلا تلك الفترة المحدودة، لا يمكن أن يلتفت إلى الرعية بالحق والعدل،إلا أن تكون له أخلاق العلماء أو طباع الملائكة، إنما يكون همه فى الغالب جمع أكبر قدر من المال يستطيع جمعه ليعيش منعما بقية حياته، فيجمع للسلطان ما أمر السلطان بجمعه ويجمع أضعاف ذلك لنفسه بالعسف والظلم اللذين يقعان لا محالة على عباد الله.
فإذا أضيف إلى ذلك نظام الإقطاع، الذى كان معمولا به عند الأتراك فى جاهليتهم قبل أن يدخلوا فى الإسلام، وحملوه معهم فى إسلامهم، فقد أضيف إلى طابع الاستبداد السياسى نوع من الظلم الاجتماعى الذى يسببه الإقطاع، يعيش فيه ألوف من البشر فى حالة التبعية الكاملة للباشوات أصحاب الإقطاعيات.
فإذا كان هذا من جانب الحكام. فالأمر من جانب المحكومين لم يكن يخلوا كذلك من الانحراف.(1/175)
فأما الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الذى أمرت به الأمة، فقد كانت قد تخلت عنه بالنسبة لحكامها من زمن بعيد، ولم يكن من المتوقع أن تعود إليه فى الجو العسكيرى الذى قامت فيه الدولة العثمانية، بل كان الأحرى أن تزداد تخليا عنه.
وأما " العمل " بمقتضى " الإيمان فى الدائرة الفردية والاجتماعية أى فيما لا يتعلق بالسياسة فقد كان الحال خيرا بكثير ولا شك منه فى أواخر الدولة العباسية حيث كان التحلل قد ساد المجتمع وفسدت أخلاقه. فإن المولد الجديد على يد الدولة الفتية، والعزمة القوية التى يحتاج إليها بناء دولة جديدة تقاتل أعداء أشداء، وتريد أن تمكن لنفسها فى الأرض، فضلا عن الجد الصارم الذى تتصف به الدولة العسكرية، كل ذلك قد أحدث تماسكا خلقيا واجتماعيا قرب الناس من روح الإسلام بقدر ما كان الترف العباسى والهو والمجون قد أبعدهم عنه.
ولكن من شأن القبضة القوية أن تتراخى، ومن شأن التمكين فى الأرض أن يجعل الأعصاب تسترخى، ما لم يحث التذكير الدائم الذى يوقظ القلوب.
وبدلا من أن يحدث التذكير على الصورة الإسلامية الصحيحة فقد حدث على الطريقة الصوفية
لقد كانت الصوفية ق أخذت تنتشر فى المجتمع العباسى، ولكنها كانت ركنا منعزلا عن المجتمع، أما فى ظل الدولة العثمانية، وفى تركيا بالذات، فقد صارت هى المجتمع. وصارت هى الدين.
وانتشرت فى القرنين الأخيرين بصفة خاصة تلك القولة العجيبة : من لا شيه له فشيخه الشيطان.
وأصبحت الصوفية بالنسبة للعامة بصورة خاصة هى مدخلهم إلى الدين، وهى مجال ممارستهم للدين.(1/176)
وحين أصبحت هكذا فقد أصبحت مجموعة من الخرافات والأوهام تتعلق " بالمشايخ " الأحياء نهم والأموات، وصار " التدين " هو الإيمان بالشيخ، وبكراماته، وبأحواله، وقدرته على استشفاف الغيب، وقدرته على شفاء المرضى بغير دواء وقدرته على فك السحر واستخراج الشياطين من أرواح من تسلطت عليهم.. كما أصبح هو التعلق بالأضرحة والأولياء، ونذر النذور لهم والتقرب بالقرابين، دون عمل حقيقى بمقتضى الدين.. فقد أصبح هذا فى حس العامة هو الدين، وليس الدين هو ما أنزله الله فى كتابه المنزل وسنة رسوله (.
وأما الفراغ الهائل الذى خلفته الصوفية فى مجال العمل، فقد " ستره " الفكر الإرجائى.. المهم هو الإيمان. والإيمان هو التصديق. وهذا متوفر داخل القلب، فلا على الإنسان إذن أن تكون حياته خلوا من العمل بمقتضى الإيمان، فإنه لا يضر مع الإيمان شئ.
وتدريجيا فرغت الحياة من المحتوى الحقيقى للدين، ولم يبقى منه سوى وجدانات مهومة.. مختلطة بالأضاليل وتقاليد.
ولتقاليد مع هذه الدولة دور تجرد الإشارة إليه.
إن الشعب التركى من أكثر الشعوب محافظة على التقاليد. ونضرب مثلا واحدا يؤكد لنا هذه الحقيقة.
البيت التركى فى الغالب مفروش بالسجاجيد، فإن لم يكن كله فهناك على أى حال شئ ما يغى أرضه ويصل ما بين حجرة وحجرة، وكان من تقاليد البيت التركى المسلم أن تخلع نعليك خارج عتبة الدار أو داخلها مباشرة، وتستبدل بنعليك اللذين كنت بهما فى الخارج نعلين نظيفين تدوس بهما فوق السجاجيد، حتى إذا وصلت إلى دورة المياه خلعت هذين النعلين ودخلت لتجد شيئا آخر يناسب استخدام الماء. فإذا خرجت من الحمام فلابد أن تجفف قدميك أولا ثم تلبس النعلين النظيفين الجافين اللذين كنت قد تركتهما قبل دخولك إلى هناك.
وواضح بكل تأكيد أن هذا " تقليد إسلامى " مقصود به طهارة البيت للصلاة، ووجوده فى البيت المسلم منطقى تماما مع الطهارة التى فرضها هذا الدين فى كل شئ.(1/177)
ولكنك تجد اليوم فى تركيا " كماليين " قد انسلخوا من دينهم تماما فلم يعودوا يصلون ولا يصومون ولا يؤمنون بدين، ومع ذلك تجد ذات " التقليد " فى بيوتهم.
إذا فهمنا هذه الروح المتأصلة فى هذا الشعب، فهمنا كيف حافظ هذا الشعب على " التقاليد الإسلامية " فترة طويلة جدا، ما كان لشعب آخر ولا الشعب العربى أن يحافظ عليه مثله.. ومن خلاله بوصفه الشعب الحاكم، أو شعب الدولة الحاكمة بقيت التقاليد مرعية فى العالم الإسلامى فترة من الزمن غير قصيرة.
ولكنها فى الفترة الأخيرة كانت مجرد تقاليد.. خاوية من الروح.
إن تحول الأخلاق الإسلامية وأنماط السلوك الإسلامى الى تقاليد هو فى ذاته أمر طيب، لأنه يطبع بها المجتمع والأجيال الناشئة جيلا بعد جيل، فتتقبلها فى يسر وتمارسها ممارسة تلقائية لا يشعر فيها صاحبها بالجهد.
ولكن ذلك طيب مع وجود الوعى بالأصل الإيمانى، الذى انبعثت منه هذه التقاليد وصارت تعبيرا عمليا عنه. فأما إذا ذهب هذا الوعى، وغاب الأصل الإيمانى الذى انبثقت منه التقاليد أول مرة، وصار الأمر هو المحافظة على التقاليد من أجل أنها تقاليد.. فقد آذنت تلك التقاليد بالزوال إذا اصدطمت بمؤثر قوى يدهمها ويحاربها. ذلك أن الذى يصمد فى المعركة ليس هو التقليد، إنما هو الروح الكامنة وراء التقليد. فإذا خبت الروح فلا صمود.
لذلك لا نعجب - كما سنرى فى الفصل القادم - إذا رأينا هذه التقاليد تتهاوى واحد أثر الآخر لما دهمها الغزو الفكرة المنظم الذى وجه لتحطيمها، ولا تحتمل المعركة كلها أكثر من نصف قرن من الزمان فى معظم بلدان العالم الإسلامى.
ونضرب مثلا واحدا لتوضيح : " الحجاب التركى " الشهير.(1/178)
لقد كان هذا حجابا إسلاميا لا شك فى نسبته إلى الإسلام (68). والترك لم يعرفوه إلا من خلال إسلامهم، أى أنهم أخذوه عن الشعوب التى تعلموا منها الإسلام. وكان هذا الحجاب بصورة من الصور أصلا مرعيا فى العالم الإسلامى كله خلال قرون متطاولة من الزمان.
ولكن لما خفتت الروح الإسلامية الحقيقية فى العالم الإسلامى بسبب مجموعة الإنحرافات التى تحدثنا عنها من قبل، بقى الحجاب تقليدا يراعى بشدة ولا تخرج عليه ولا تجرء أن تخرج عليه - امرأة واحدة فى العالم وإلا عدت ساقطة عديمة الأخلاق.
وعلى الرغم من شدة المحافظة عليه بوصفه تقليدا مرعيا فى المجتمع، فإنه أمام الغزو الفكرى الذى نادى بتحرير المرأة وطالب بالسفور، وخروج المرأة حاسرة فى الطريق، لم يصمد أكثر من نصف قرن، وخرجت نساء العالم الإسلامى سافرات كاسيات عاريات مائلات مميلات كما وصفهن رسول ( قبل أن يبرزن إلى الوجود بثثة عشر قرنا أو تزيد.
وكان ذلك لأن الحجاب كان مجرد تقليد، يرعى بهذه الصفة، لا عن إيمان حى واع بالأصل الاعتقادى الذى انبثق عنه الحجاب.
وازن بين ذلك وبين الفتيات المحجبات اليوم عن عقيدة ووعى.. إن الجاهلية بكل ثقلها تندد بهن وتسخر منهن، بل تتعرض لهن أحيانا بالسجن والتعذيب.. فهل خلعن الحجاب؟ أو استمعن للأصوات الناشزة التى تدعوهن لخلعه؟
هذا هو الفارق بين السلوك النابع من العقيدة، والسلوك النابع من التقليد.. وقس على ذلك كل أمور الإسلام.
فإذا علمت أن الأمر انتهى إلى أن يصبح الإسلام كله، حتى عباداته وسلوكه، تقاليد، ترعى لأنها تقاليد ولكنها خاوية من الروح.. استطعت أن تدرك كيف جاء الانهيار.
? ? ?
أمر أخير لابد من الإشارة إليه فى ظل الحكم العثمانى، لأنه كان ذا أثر بعيد فى المجتمع الإسلامى.
لقد ظلت الأمور فى العالم الإسلامى _ وفى العالم أجمع فى الحقيقة - عشرة قرون كاملة تقريبا لا تكاد تتغير إلا فى نطاق محدود.(1/179)
وكان الفقهاء المسلمون الكبار قد اجتهدوا فى كل ما واجههم من الأمور، فأنشئوا ا فقهاء متكاملا عميقا شاملا يغطى احتياجات المسلمين فى العبادات والمعاملات، ثم جاء تلاميذهم وشراحهم فزادوا فى قضايا الفروع حلولا لمشكلات تصوروا حدوثها فى أى ظرف من الظروف القادمة، فكانوا يفترضون الفرض ويقولون : أرأيت لو حدث كذا ويستنبطون لهذا الأمر المتخيل حكما مستمدا من شريعة الله.
فلما مضى الزمن وحدثت تلك الافتراضات بالفعل، لم يحس المسلمون أنهم فى حاجة إلى اجتهادات جديدة، فقط غطى الفقهاء وتلاميذهم وشراحهم من قبل كل ما جد فى حياتهم. لذلك أعلنوا منذ القرن الخامس إغلاق باب الاجتهاد لعدم الحاجة إيه.
ومرت خمسة قرون آخرى أو ستة على وجه التقريب والمسلمون لا يحسون بحاجة لمراجعة هذا القرار، لأن ما بين أيديهم من الفقه يكفيهم ويفيض عن حاجتهم، فاكتفوا بالتتلمذ عليه، وإخراج المختصرات التى تفى بحاجة طالب العلم المبتدئ لتعينه على الدخول فى عالم الفقه العويص.
ولكن الأمور منذ القرن الثانى عشر الهجرى على الأقل بدأت تتغير تغيرا سريعا بعد اختراع الآلة وتقدم الأبحاث العلمية والمكتشفات والمخترعات، مما أحدث أوضاعا جديدة وعلاقات جديدة لم يكن الفقهاء القدامى وتلاميذهم وشراحهم قد تخيلوا حدوثها، فلم يستنبطوا لها الأحكام الملائمة من الشريعة الإسلامية.
وهنا كان المفروض أن يعاد فتح باب الاجتهاد لمواجهة هذه التغيرات وبيان حكم الله فيها ليلتزم به المسلمون. إذا مهمة الفقه الدائمة التى لا تتوقف هى مواجهة كل ما يلم بالمسلم فى حياته وبيان حكم الله فيه من حلال أو حرام أو مندوب أو مكروه أومباح، ليكون المسلم على بينة من امر ربه فى كل أمر يأتيه.
ولكن الدولة العثمانية رفضت إعادة فتح باب الاجتهاد (69).
رفضت بحسن نية كاملة، وبغيرة حقيقية على دين اله. على أساس أنه لا يوجد فى الوقت الحاضر من تتوافر فيه شروط الاجتهاد.
ولكن النتائج كانت خطيرة.(1/180)
فحين يتوقف الاجتهاد مع وجود دواعيه ومتطلباته.. فماذا يحدث؟
يحدث أحد أمرين : إما أن تجمد الحياة وتتوقف عن النمو، لأنها محكومة بقوالب لم تعد تلائمها. وإما أن تخرج على القوالب المصبوبة وتخرج فى الوقت ذاته من ظل الشريعة، لأن هذا الظل لم يمد بالاجتهاد حتى يغطيها.
وقد حدث الأمران معا، الواحد تلو الآخر.. الجمود أولا ثم الخروج بعد ذلك من دائرة الشريعة.
وقد يظن القارئ العابر للتاريخ أن الخروج على الشريعة قد حدث فى أول القرن الرابع عشر الهجرى (نهاية القرن التاسع عشر الميلادى) ولكن الحقيقة الشريعة الإسلامية جملة والحكم بغير ما أنزل الله جهرة.. ولكن بدء تسلل " الأنظمة " الأجنبية إلى الدولة الإسلامية قد بدأ مكرا عن هذا العصر، منذ بدأت عملية إدخال " التنظيمات" الأوربية لتحكم بها المحاكم فى الدولة الإسلامية فيما جد من الأمور التى لم يتناولها الفقهاء القدامى. وكان الدافع وراء هذا هم اليهود والنصارى فى بلاط الخلافة! (70) (لأمر يريدونه بلا شك) وكانت هذه ثغرة بدأت تتسع حتى أدت فى النهاية إلى أفظع ما حدث فى تاريخ الأمة من انحرافات.
لقد كانت تلك " التنظيمات " فى مبدئها مما يمكن أن يتمشى مع روح الإسلام ولا يناقض نصوصه، لذلك لم يد علماء ذلك الوقت حرجا فى استخدامها، خاصة مع عدم الإذن بإعادة فتح باب الاجتهاد :
لكن الانحراف كان خطيرا من وجهين.
الوجه الأول : أنه أحدث " مبدأ " خطيرا فى ذاته، وأثبتت الأيام خطورته، هو مبدأ الاستمداد من فكر غير إسلامى، وحياة غير إسلامية، ومنهج غير إسلامى، وتركيب الرقعة المستعارة فى الثوب الإسلامى بحجة أنها " لا تتنافى " معه.(1/181)
والوجه الثانى : وهو لا يقل خطورة، أنه أحدث وهما فى نفوس الناس بوعى منهم أو بغير وعى - مؤداة أن الشريعة الإسلامية صالحة للتطبيق فيما بقى على حاله من أمور الحياة لم يتغير منذ نزول هذه الشريعة، أما ما جد من الأمور وخاصة فى القرنين الأخيرين فإن الشريعة لا تصلح لمواجهته وتوجيهه، إنما الحل فيه هو استيراد " القوانين " الصالحة له من الأمم " المتقدمة " التى عانت المشكلة أصلا واستنبطت لها الحل.
وكلا الوجهين كان له فى حياة الأمة الإسلامية فى أجيالها الأخيرة أسوأ تأثيرا.
? ? ?
فى الصفحات الماضية من هذا الفصل عبرنا فى سرعة خاطفة أربعة عشر قرنا من تاريخ هذا الأمة على وجه التقريب. والعبور بهذه السرعة الخاطفة على النحو الذى صنعناه لا يمكن فى الحقيقة أن يعطى صورة صحيحة عن خط سير الأحداث.
فالأحداث لا تقع مفرد، ولا تسير فى قنوات مفردة كما نتكلم عنها هنا، إنما تتفاعل الأحداث خلال الحياة البشرية وتعطى آثارها من خلال تجمعها وتفاعلها، بحيث يصعب أن ترد النتائج إلى سبب واحد بعينه مهما تكن قوته فى ذاته، ولا إلى مجموعة الأحداث كل على حدته.. كما أن الواقع التاريخى فى سيره البطئ، المتداخل المتغير الصورة على الدوام، لا تجرى فيه الأحداث فى خطوط مستقيمة مباشرة كالتى نرسمها نحن فى أثناء الحديث، إنما تتعرج الخطوط وتتداخل، يسرع بعضها أحيانا ويبطئ أحيانا أخرى، ويبدو كالمتوقف فترة ثم يعود فيتحرك مرة أخرى.. وفى النهاية تظهر لنا نتيجة كأنها حاسمة ونهائية.. وهى لا تعدو أن تكون مرحلة فىخط السير، يجد بعدها جديدا.
كلا ليست الصورة فى حقيقتها كما رسمناها فى تلك الصفحات الماضية بتلك السرعة الخاطفة.. ولكنها ضرورة البحث من ناحية، وضرورة الإيجاز.(1/182)
ضرورة البحث تفرد خطوط التاريخ، وتتحدث عن كل واحد على حدته كأنه كان كذلك فى الحقيقة. وضرورة الإيجاز تجعلنا نتكتفى برسم الخطوط العريضة، فننسى أنها لم تكن وحدها هى العاملة فى رسم الصورة النهائية، إنما كان إلى جوارها عشرات من الخطوط الأخرى، وعشران من القنوات الخفية التى تصل بينها، وتحكم ارتباطها دون أن تظهر على السطح.
فلنذكر على أى حال أننا لم نكن فى خلال تلك الصفحات نكتب تاريخ الأمة الإسلامية، ولا حتى تاريخ خط الانحراف إنما كنا نلتقط خطوطا بعينها، ومواقف بعينها، نحسبها أظهر ما فى الصورة، فتنتزعها من سياقها المتداخل المتراكب المترابط لنسلط عليها الضوء. ونسميها على سبيل المجاز " خط " الانحراف.
ومهما يكن من أمر، فقد تجمعت الانحرافات وتفاعلت بعضها مع بعض، فأدت فى النهاية إلا الانهيار.
من الذروة السامقة إلى الهوة السحيقة.. مسافة تدير الرءوس..
هل يصدق أحد حين يعايش الجيل المتفرد بكل قممه السامقة أن ذراريه يمكن أن تهبط إلى هذه الهوة السحيقة؟ وهل يصدق أحد حين يعايش الأجيال الحاضرة فى هوتها السحيقة التى تردت إليه، أنها من ذرارى ذلك الجيل المتفرد فى التاريخ.
كأنهما أمتان منفصلتان لا يجمع بينهما شئ.
ومن العسير كما قلنا أن نرجع النتائج النهائية إلى سبب واحد بعينه، ولا إلى مجموعة من الأسباب كل على حدته. ولكن هذا لا ينفى أن تكون هناك أسباب أقوى فى تأثيرها من أسباب.
ولعلنا نستطيع أن نلخص الموقف فى أربع نقاط رئيسية، أو أربعة أسباب رئيسية، ترد إليها بقية النقاط وبقية الأسباب.(1/183)
فهناك أولا التفلت البشرى الطبيعى من التكاليف كلما امتد الزمان. والعلاج الربانى لهذا التفلت كما قلنا هو التذكير. فنستطيع أن نقول إذن إن التذكير لم يكن بالقدر اللازم الذى يمنع مجموع الأمة من التفلت، أو لم يكن من حيث الكيف بالكفاءة المطلوبة لمنع الأمة من الانحراف عن الجادة، وخاصة إذا وضعنا فى الاعتبار تزايد الرفعة المستمر، ودخول أقوام جدد فى الإسلام باستمرار.
وفى الوقت ذاته، حين كان التذكير أقل من المطلوب فى الكم وفى الكيف، وكان فى حاجة إلى المزيد، جاء تياران مضادان لعملية التذكير، يزيدان من درجة العجز فيها، أحدهما هو الفكر الإرجائى الذى يطمع العبد فى رضا مولاه بغير عمل حقيقى بمقتضى الإيمان، اتكالا على ما فى القلب من وجدانات ومشاعر، والآخر هو الصوفية، التى تطمع العبد فى رضا مولاه عن طريق آخر غير أجاء التكاليف الشرعية، بالأوراد والأذكار، والتبرك بالأولياء والمشايخ، ووضع المريد نفسه بالكلية بين يدى شيخه ينفث فيها ما يشاء وهو مستسلم له تماما كأ،ما يتلقى منه وحى السماء. وكان تأثير هذه العوامل الثلاثة منصبا كله على " العمل " بمقتضى الإيمان، أى إبرازه فى الصورة السلوكية الواقعية الصحيحة ن وبصفة خاصة على " الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر " وهو الخلاصة الحية لحركة هذا الدين الواقعية الإيجابية فى الأرض، التى تؤدى إلى تطبيق المنهج الربانى فى واقع الحياة، لكيلا يضمر وينحسر فى داخل الوجدان، فيكون من ثم عرضه لمزيد من الانحسار.
فإذا إضفنا إلى هذه العوامل الثلاثة الاستبداد السياسى الذى أدى إلى ضمور الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فى المجال السياسى خاصة، وتحول الإسلام فى حس الناس إلى ممارسة فردية بعد ضمور الممارسة الجماعية لهذا الدين وهى ركن أساسى فيه والتركيز التدريجى على الشعائر التعبدية على أنها هى الدين.(1/184)
إذا أضفنا هذا إلى العوامل الثلاثة الماضية، فقد تجمعت لدينا فى النهاية تيارات أربعة، تلتقى آخر الأمر فى تيار واحد كبير، مضاد فى اتجاهه لمجرى هذا الدين، سواء فى واقع المجتمع أو فى داخل النفوس.
نستطيع باختصار أن نقول : إن كل المفاهيم الإسلامية قد فسدت وانحرفت فى حس الأجيال المتأخرة، بدءا بمفهوم لا إله إلا الله، التى أصبحت مجرد كلمة تقال باللسان، والقلب عنها غافل، والسلوك عنها بعيد، إلى مفهوم العبادة الذى انحصر فى الشعائر التعبدية، تؤدى أو لا تؤدى إلى مفهوم القضاء والقدر الذى تحول إلى قوة مثبطة مخذلة، إلى مفهوم الدنيا والآخرة اللتين انفصلتا وتحولتها إلى معسكرين متقابلين متعاديين، العمل فى أحدهما يؤدى إلى إهمال العمل فى الآخر، إلى مفهوم عمارة الأرض، الذى تحول من عمارة الأرض بمقتضى منهج الله إلى توقف العمارة، إلى عودة العمارة ولكن بغير منهج الله ! (71).
وأصبح الدين فى النهاية صورة باهتة خاوية من الروح، لا تستطيع أن تصمد للهجوم الوحشى الذى تدافع من كل صوب للقضاء على الإسلام.
ولا يعنى هذا بطبيعة الحال أن كل النفوس قد تخربت، ولا أن التذكير لم يعد له أثر على الإطلاق، ولا ان الفكر الإرجائى قد صرف كل الناس عن العمل، بل عن العزائم العالية ذاتها، ولا أن سلبية الصوفية قد أحاطت بكل النفوس فصرفتها عن الإيجابية اللازمة، ولا أن الساحة قد خلت تماما من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، سواء فى ميدان السياسة أو فى الأمور الاجتماعية.. فإنا إن قلنا ذلك نكون مجافين للحقائق التاريخية، وفتئتين على النماذج البارزة الرائعة التى لم يخل منها قط جيل من أجيال الإسلام، والتى تحمل دائما قبسا من ذلك الجيل الفريد.(1/185)
ولكنا حين نطلق ما نطلق من تعميمات، نقصد بذلك الصورة الغالبة.. والصورة الغالبة هى التى تقرر الموقف العملى فى الحقيقة، وليست القلة المتميزة مهما يكن لها من التميز، إلا أن يكون فى أيديها هى مقاليد الأمور.
وفى الفصل القادم نحاول أن نشرح بشئ من التفصيل آثار الانحراف فى واقعنا المعاصر، بعد أن أدت الأسباب إلى نتائجه الحتمية حسب سنة الله.
{وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23)} [سورة الفتح 48/23]
? ? ?
آثار الانحراف
أشرنا فى نهاية الفصل السابق إشارة عابرة إلى آثار خط الانحراف الطويل فى واقع الأمة فى الفترة الأخيرة. ونريد هنا أن نركز القول على القرنين الأخيرين فى حياة الأمة والقرن الأخير خاصة بشئ من التفصيل، يبين لنا من ناحية، كيف وصلنا إلى واقعنا المعاصر الذى نعيشه فى هذه اللحظة، ويبين لنا من ناحية أخرى ماهية هذا الواقع المعاصر وسماته البارزة، ليتيسر لنا فيما بعد أن نتعرف على طريق الخلاص.
1- التخلف العقدى
إن أول ما يبدهنا حين ننظر إلى القرنين الأخيرين والقرن الأخير خاصة هو الغبش الشديد المحيط بحقيقة الإسلام فى نفوس المسلمين والبعد المتزايد عن هذه الحقيقة فى الحياة الواقعية. أى أنه فساد فى التصور وفساد فى السلوك.(1/186)
لقد كان الفساد فى السلوك قائما فى عصور سابقة، وجر على الأمة الوبال إذا أدى إلى اجتياح جحافل التتار دولة الخلافة وتدفق الصليبيين من الغرب يريدون إطفاء نور الإسلام.. ولكن التصورات كانت ما تزال أقرب إلى الصحة، لأن الانحرافات المتعلقة بالتصور كانت محصورة فى نطاق محدود. فالفرق الزائعة قد زاغت ولكن حجمها بالنسبة لمجموع الأمة ضئيل، والفكر الإرجائى قد وجد ولكنه كان ما يزال أفكار فى الأبراج العاجية أكثر منه واقعا ملموسا فى حياة الأمة، لأن دفعة العمل كانت ما تزال قوية دفاقة فى كل اتجاه، بحيث لا تعطلها تلك الأفكار عن الانطلاق، بل كان أصحاب الفكر الإرجائى هم أنفسهم كما سبق القول، من العابدين العاملين الفقهاء، ولم يكونوا يتأثرون بفكرهم الخاص فيتركوا العمل أو ينادوا بتركه. وكانت الصوفية موجودة، ولكنها ليست السمة الغالبة على المجتمع، بل هى قائمة فى ركن منعزل منه تتعبد لنفسها بعيدا عن الضوضاء.
أما حين بدأ الفساد فى التصور يتسع حتى يصبح هو الأصل، فقد تغير الأمر.. ولم يعد فساد السلوك وحده هو العلة فتنفه خطبة حماسية أو موعظة مؤثرة.. إنما أصبح الأمر يحتاج إلى جهد ضخم يبذل التصحيح المفاهيم أولا ثم تصحيح السلوك بعد ذلك، أو تصحيحهما معا فى الوقت ذاته، وهو على أى حال جهد غير يسير.
فسدت المفاهيم كلها كما أشرنا فى نهاية الفصل السابق، فلم يعد شئ منها يشابه أصلة الذى كان عليه يوم نزل هذا الدين من عند الله.
كانت لا إله إلا الله عند الجيل الذى تلقاه وآمن بها أول مرة شيئا يبلغ من الضخامة أن يزيل واقعا بشريا بأكمله، وينشئ بدلا منه واقعا جديدا مختلفا عنه كل الاختلاف.
كانت منهج حياة متكاملا يشمل الحياة بجميع جوانبها وجميع حذافيرها، فلا يند شئ من هذه الحياة صغر أو كبر عن لا إله إلا الله ومقتضياتها، ومقتضياتها هى التسليم بما جاء من عند الله، والعمل قدر الطاقة بمقتضى ما أنزل الله :(1/187)
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا....} [سورة التغابن 64/16]
وكانت ضخامتها فى حسمهم متمثلة فى التغير الهائل الذى حدث فى داخل نفوسهم، حتى لكأنها نفوس جديدة لا عهد لهم بها من قبل، والتغير المكافئ الذى حدث فى واقع حياتهم، حتى لكأنها حياة جديدة ليس فيها شئ من الماضى، حتى حركة الأنفاس وحركة الجوارح، فقد اكتسبت كل شئ معانى جديدة لم تكن له من قبل، فأصبح شيئا جديا غير المألوف من قبل.
وحتى الأشياء القليلة التى بقيت من حياة الجاهلية وارتضاها الإسلام، لم تكن هى بحال تلك التى كانت فى الجاهلية، إنما هى شئ مختلف تماما فى جوهره وإن تشابهت الصورة، شئ ولد ميلادا جديدا مع الإسلام.
فالشجاعة صفة كانت فى الجاهلية وارتضاها بل حض عليها الاسلام. ولكن هل كانت هى هى؟ كلا. فشجاعة الجاهلية هى تلك " الحمية " التى ندد بها الإسلام تنديدا :
{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ...} [سورة الفتح 48/26]
أما ما دعا إليه الإسلام فهو الجوهر الحقيقى للشجاعة..الشجاعة فى الحق، لا الحمية فى الباطل، والجهاد الخالص لله لا للسمعة والرياء.
والكرم صفة كانت فى الجاهلية، وارتضاها الإسلام بل حض عليها. ولكنها فى الإسلام شئ مختلف فى جوهره وإن تشابهت الصورة. إنها فى الجاهلية رئاء الناس، الذى ندد به الإسلام تنديدا :
{كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)} [سورة البقرة 2/264]
أما فى الإسلام فهو الانفاق النقى الخالص، الذى يراد به وجه الله، وليس للذكر الذى تتحدث به الركبان :(1/188)
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً (9)} [سورة الإنسان 76/8-9]
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا
كذلك.. لقد غيرت لا إله إلا الله كل شئ فى حياة الجيل الأول، وأنشأت فى مكانه واقعا جديدا كل الجدة، وارتبط هذا الواقع الجديد فى حسهم بلا إله إلا الله، لأنها هى التى أحدثته بالفعل فى داخل النفوس وفى واقع الحياة.
حين كانت الآلهة فى حسهم متعددة كان الضياع والتيه، وكان الارتكاس فى الحمأة الجاهلية، وكان فساد الأخلاق، وكان ضيق الأفق، وسطحية الاهتمامات وقربها وأنانيتها، وكان الظلم المتبادل :
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدّم، ومن لا يظلم الناس يظلم (72)!
وحين آمنوا بالله الواحد، وأقروا أنه لا إله إلا الله، تغير هذا كله، فوجدوا بعد ضياع، ورشدوا بعد تيه، وارتفعوا بعد ارتكاس، وسمت أخلاقهم بعد فساد، واتسعت آفاقهم بعد ضيق، وعمقت اهتماماتهم وبعدت آمادها وذهبت عنها انانيتها، وصارت الأخوة مكان التظالم.
لذلك كان الإيمان بـ " لا إله إلا الله " موازيا فى حسهم لهذا التغير العظيم كله، بل مؤديا إليه فى الحقيقة، فلم تكن فى حسهم هى الكلمة، إنما كانت موجودة فى حسهم بمدلولها، بمقتضياتها، بترجمتها الواقعية, وكانت ترجمتها الواقعية هى ما تشتمل عليه حياتهم من كل شئ، من اعتقاد بوحدانية الله، إلى صلاة وصيام وزكاة وحجج تؤدى كلها لله الواحد بلا شريك، إلى إقامة الحياة بك دقائقها على مقتضى ما جاء من عند الله
وهل لـ " لا إله إلا اله " معنى غير ذلك؟ أو ترجمة غير ذلك؟.(1/189)
صحيح أن لتحقيق لا إله إلا الله فى عالم الواقع درجات مختلفة (73)، كلها ترجمات لها، أدناها هو الحد الأدنى المفروض، وأعلاها هو تلك النماذج المتفردة التى أتى بها الجيل المتفرد. ولكنها فى كل درجاتها الصحيحة، لا تهبط عن الحد الأدنى المفروض، لا تهبط عن الاعتقاد بوحدانية الله، وإقامة الشعائر التعبدية له وحده بلا شريك، وإقامة الحياة بمقتضى ما جاء من عند الله.. ثم ترتفع ما شاءت بعد ذلك فى دقة الأداء وعمق الأداء.
ولكنها ظلت خلال القرون المتوالية تضمر تدريجيا فى حس الناس، وظل مفعولها يضمر فى داخل النفوس وواقع الحياة، حتى أصبحت فى النهاية لا تعمل.. وإنما تقال فقط، ثم تجرى الحياة بعد قولها فى مجراها الذى تسوقها إليه الظروف، كمن يضع فى طريق التيار حاجزا يريد به ضبط التيار أو تحويله، ولكن الحاجز مملوء بالثقوب، فهو قائم ولكنه لا يصنع شيئا، والماء يجرى من خلاله كأنه غير موجود. أو كورقة العملة المزيفة، تحمل ذات الألفاظ والرسوم التى تحملها الورقة الحقيقية، ولكنها لا تغنى صاحبها، ولا تشترى له شيئا من السوق إن لم تعرضه للعقاب والخزى.. لأنها ورقة بلا رصيد.
وكانت العبادة عند الذين تلقوا هذا الدين أول مرة أمرا شاملا للحياة كلها كما علمهم الله :
{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ} [سورة الأنعام 6/162-163]
فلم تكن قط محصورة فى الشعائر التعبدية من صلاة وصيام وزكاة وحج، ثم يعيش الإنسان فيما بين الشعيرة والشعيرة بلا عبادة، إنما الحياة كلها عبادة، وذكر الله بما يقتضيه الذكر من عمل بمقتضى ما أنزل الله، عملية دائمة لا تتوقف.
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ... } [سورة آل 3/191]
لذلك كانت قلوبهم مشغولة أبدا بذكر الله، وكانت كل لحظة من لحظات حياتهم عبادة.(1/190)
لم يكن فى حسهم فى لحظة التجارة والبيع والشراء أنهم الآن فى خارج العبادة، فلا عليهم أن يغفلوا عن ذكر الله، ولا عليهم أن يغشوا أو يخدعوا أو يسعوا إلى الربح الفاحش على حساب الناس.
لم يكن فى حسهم فى لحظة الترويح عن أنفسهم أنهم الآن فى خارج العبادة، فلا عليهم أن يفحشوا ويمجنوا ويعصوا الله وينسوا أوامره حتى يعودوا إلى ذكره من جديد حين تحين " لحظة " العبادة.
بعبارة أخرى لم تكن الحياة تنقسم فى حسهم إلى " عبادات " و " معاملات " إنما هى عبادات مختلفة، بعضها شعائر مفروضة ذات أوقات محددة، وبعضها مفتوحة تشمل كل نشاط الإنسان السياسى والاقتصادى والاجتماعى والأخلاقى والعلمى والحضارى، ولكنها كلها داخلة فى دائرة العبادة التى يذكر فيها اسم الله، ويلتزم فيها بما أنزل الله.
كذلك لم تكن الحياة تنقسم فى حسهم إلى" ساعة لقلبك وساعة لربكم " فالساعاتان كلتاهما لله، لأنهما من ساعات الحياة، والحياة كلها لله.
وهل يمكن أن تكون العبادة شيئا غير هذا الذى فهمه الجيل المتفرد؟
هل التزامهم بما أنزل الله فى " المعاملات " كان شيئا من عند أنفسهم تزيدوا به على هذا الدين؟ وهل التزامهم بآداب الإسلام وأخلاقياته حتى فى ساعة " الترويح " كان شيئا من عند أنفسهم تزيدوا به على هذا الدين؟
أم إن هذا هو " الدين " كما علمهم إياه رسول الله (؟
هل الصدق والأمانة فى البيع والشراء والتجارة، والوفاء بالوعد، والإخلاص فى العمل وإتقانه، والانضباط فى السلوك، والالتزام بالآداب والأخلاق.. هل هذه كلها أشياء جاءوا بها من عند أنفسهم، وتطوعوا بها تطوعا غير مأمورين؟(1/191)
نعم لقد كانت لهم مجالات تطوعهم التى تفردوا بها.. حين ألزموا أنفسهم بالمندوبات كأنها فرائض، وهذا هو الذى ارتفع بهم إلى القمم السامقة التى وصلوا إليها.. أما تناول الحياة كلها على أنها عبادة يلتزم فيها الإنسان بما أنزل الله، ويتوجه بها إلى الله، فهل كان من عند أنفسهم؟ أم إنه هو التحقيق العملى لقوله تعالى : {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ} [سورة الأنعام 6/162-163] وقوله تعالى : {يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [سورة آل 3/191]
وإذا كان الصدق تكليفا ربانيا، والأمانة تكليفا ر بانية والوفاء بالوعد تكليفا ربانيا.. فهل هذه التكاليف داخلة فى العبادة أم خارجة عنها، زائدة عليها؟
وكيف تكون خارجة عنها او زائدة عليها والله سبحانه وتعالى يقرر بأقوى صيغ التوكيد (النفى والاستثناء) أنه لم يكلف البشر إلا أن يعبدوه.
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)} [سورة الذاريات 51/56]
فأذ كان أقصى الغاية التى خلق البشر ليقوموا بها هى العبادة، فهل يمكن أن يكون تكليف واجد من التكاليف خارجا عن دائرة العبادة؟ وأين يكون إذن من قول الله المؤكد بأنه خلق البشر لعبادته وحدها لا ليقوموا بأى شئ آخر؟
لقد كان فهم الصحابة رضوان الله عليهم هو الفهم الحق، وكان سلوكهم بمقتضى هذا الفهم هو السلوك الحق.
ولكن خلفت من بعدهم أجيال أخذت تتخفف من التكاليف، فتخرجها رويدا رويدا من دائرة العبارة، وتضيق دائرة العبادة تدريجيا حتى تحصرها نهائيا فى الشعائر التعبدية ولا زيادة.
وحين خرج الصدق من دائرة العبادة لم يعد الصدق فى حس الناس لازما.. إنما أصبح شيئا جميلا إن وجد فإن لم يوجد فلا بأس.
وحين خرجت الأمانة من دائرة العبادة لم تعد لازمة فى التعامل. إنما هى جميلة إن وجدت فى شخص بعينه، فإن لم توجد فلا بأس.(1/192)
وحين خرج الوفاء بالوعد من دائرة العبادة لم يعد لازما. إنما هو موعظة جميلة يلقى بها الخطيب فى خطبة الجمعة, فإن لم يمارسه أحد فلا بأس.
وهكذا صار عند الناس إسلام بلا أخلاق، إسلام لم ينزله الله تعالى ولم يأمر به، إنما أمر بضده تماما.. ومع ذلك يمارسه الناس على أنه " غاية المراد من رب العباد ".
ويجى الفكر الإرجائى فيواكب هذا التخلف العقدى المهلك، ويتسع تدريجيا مع كل تخلف جديد على أساس قاعدته " العظمى " أنه لا يضر مع الإيمان شئ، وأن الإيمان هو التصديق، أو هو الإقرار والتصديق، وأن العمل خارج من مسمى الإيمان.
حقيقة أن الناس وهو يصنعون ذلك لم يكونوا قد خرجوا من دائر ة الإيمان.. وأنهم عصاة بين يدى الرحمن إن يشأ يعذبهم وإن يشأ يرحمهم، ولكن الزعم بأن " أمة محمد بخير " وهى تصنع ذلك كله، وأنه لا يضر مع الإيمان شيئ، هو زعم باطل يكذبه الله ورسوله (، ويكذبه واقع التاريخ.
فأما الله سبحانه وتعالى فيقول :
{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124)} [سورة النساء 4/123-124]
وأما رسوله ( فقد سأل أحد صحابته رضوان الله عليهم : " كيف أصبحت؟ " قال : " أصبحت مؤمنا حقا " قال رسول الله ( " إن لكل حق حقيقة. فما حقيقة ما تقول؟ " قال الصحابى : عزفت عن الدنيا وأظمأت نهارى وأسهرت ليلى وكأنى أنظر إلى عرش ربى، وأنى أنظر إلى أهل الجنة فيها يتجاوبون وإلى أهل النار يتعاوون. فقال له النبى ( : أنت أمرؤ نور الله قلبك. عرفت فألزم" (74).(1/193)
وأما التاريخ فقد قال كلمته، وكلمته هى سنة الله التى لا تتبدل ولا تتحول. أنن هذه الأمة تمكن بقدر التزامها بمقتضيات الإيمان، لا بمجرد التصديق والإقرار، وأنها تزلزل ويزول عنها التمكين بمقدار ما تنتقص فى عملها من مقتضيات الإيمان. مقتضيات لا إله إلا الله.
وانظر إلى الجيل المتفرد رضوان الله عليهم - يبطئ عليهم النصر ذات مرة فيقولون لأنفسهم : لينظر كل ما قصر فيه من أوامر ربه وأوامر رسوله (، فيجد بعضهم أنه قد أهمل السواك، فيقولون : هو ذاك. وانظر إلى الأجيال التى تنقض أوامر ربها، وتعيش إسلاما بلا عمل وإسلاما بلا أخلاق، ثم تقول : لا يضر مع الإيمان شئ!
? ? ?
وما بنا من حاجة أن نعيد الإشارة إلى ما سبق أن أشرنا إليه من قبل، من فساد شامل عند الأجيال المتأخرة فى كل مفاهيم الإسلام، سواء مفهوم القضاء والقدر، أو مفهوم الدنيا والآخرة، أو مفهوم عمارة الأرض، بالإضافة إلى مفهوم العبادة ومفهوم لا إله إلا الله.. إنما نخلص من هذه الإشارات كلها إلىحقيقة واقعة يمكن أن نطلق عليها حقيقة " التخلف العقدى " فى حياة الأمة، وما يصاحبها من " التخلق السلوكى " عن حقيقة الإسلام.
وكلا الأمرين خطير غاية الخطورة، ولكن الخطورة القصوى تكمن بلا شك فى "
التخلف العقدى" لأنه هو الذى يمهد للتخلف السلوكى من ناحية، ويؤخر علاجه من ناحية أخرى. فحين تكن العقيدة صحيحة، ويكون التخلف السلوكى ناشئا فقط من التفلت البشرى الطبيعى من التكاليف، فإن التذكير يكفى لعلاجه، لأنه هو العلاج الربانى لغفلة التى تؤدى إلى نسيان التكاليف. أما حين يكون التخلف العقدى هو الداء، فالتذكير وحده - بالصور المعتادة. لا يكفى، لأنه لا يجد استجابته الطبيعية فى القلب، ويحتاج الأمر إلى إبراء القلب ذاته مما ألم به من أمراض!
? ? ?(1/194)
هذا التخلف العقيدى - الذى هو عقدة العقد فى حياة الأمة فى الفترة الأخيرة قد وصل إلى أقصى درجاته فى القرن الأخير خاصة، حين نحيت الشريعة الربانية عن الحكم على يد الغزو الصليبى الجائح، ولكنا لا نريد أن نتعجل خطوات التاريخ، بل نريد أن نتبعها خطوة خطوة حتى مرحلتها الأخيرة. إنما نريد هنا أن نحدد المعيار الذى نقيسه به مدى ذلك التخلف فى حياة الأمة.
والمعيار ولا شك هو الكتاب والسنة، مرجع المسلمين فى كل أمر من أمور حياتهم.
والمعيار كذلك هو حياة الأجيال الأولى من المسلمين، التى طبقت هذا الدين فى عالم الواقع، التزاما منها بمقتضيات الإيمان سواء فى مجال التصور أو مجال السلوك.
فكلما اقتربنا من الكتاب والسنة، ومن حياة السلف الصالح رضوان الله عليهم، فنحن " متقدمون " عقديا (وسلوكيا كذلك بلا شك) وكلما تآخرنا عن الكتاب والسنة وعن حياة السلف الصالح فنحن متخلفون فى مجال العقيدة (وبالتالى فى مجال السلوك).
وتلك أولى الحقائق المهمة التى ينبغى ألا تغيب عن أذهاننا سواء ونحن ندرس خط الانحراف وآثاره، أو ونحن نبحث عن طرق الخلاص، والتى ينبغى كذلك أن نستصحبها معنا دائما لكى لا نضل الطريق.
? ? ?
2- التخلف العلمى والحضارة والاقتصادى
والحربى والفكرى والثقافى
من التخلف العقدى نشأت كل ألوان التخلف التى أصابت العلم الإسلامى.. التخلف العلمى والحضارى والاقتصادى والحربى والفكرى والثقافى..
وقد تختلف النسبة بين العوامل المختلفة التى أدت إلى التخلف العقدى فى تأثيرها فى كل نوع من أنواع التخلف التى ذكرناه آنفا، فتكون نسبة تأثير الفكر الإرجائى فى بعضها أوضحها، ونسبة تأثير الصوفية فى بعضها أظهر، ونسبة تأثير التفلت من التكاليف فى بعضها أكثر، ونسبة تأثير الاستبداد السياسى فى بعضها أشد.. ولكنها موجودة فى مجموعها، وعاملة فى كل مجال من مجالات التخلف التى ترتبت أصلا على التخلف العقدى واستمدت منه.(1/195)
فتحت تأثير الخدر الذى أنشأه الفكر الإرجائن، والذى مقتضاه أن الإنسان مؤمن كامل الإيمان بالتصديق والإقرار ولم لم يعمل بمقتضيات الإسلام. والخدر الذى انشأته الصوفية سواء فى تهويمات " الذكر " أو فى إطماع العبد فى مغفرة ربه بدون أن يعمل بمقتضيات الإسلام. وتحت تأثير الاستبداد السياسى الذى يجعل كل إنسان ينشغل بخاصة نفسه، ولا يلتفت إلى مصالح الجماعة ولا حاجة الأمة.. مصحوبا ذلك كله بالتفلت من التكاليف.. تحت تأثير ذلك كله غفت الأمة الإسلامية غفوة طويلة امتدت فترة قرنين من الزمن على الأقل إن لم يكن أكثر، تقابل من تاريخ أوروبا قرنيها الثامن عشر والتاسع عشر، قرنى الصعود الأوربى نحو السيطرة والتمكن، والتقدم العلمى والحضارى.
كانت أوربا قد برئت من آثار قرونها الوسطى المظلمة، وأقامت - عن طريق ما استمدت من العالم الإسلامى، علم وحضارة - حركة قوية فى جميع الاتجاهات، وإن كانت فقيرة كل الفقر فى الناحيتين الروحية والأخلاقية.
أما العالم الإسلامى فقد كان فى نفس الفترة قد غفا غفوته الطويلة بتأثير ذلك الخدر المزدوج الذى أشرنا إليه، وبتأثير الاستبداد السياسى والتفلت من التكاليف، فكان على المنزلق الهابط فى نفس الوقت الذى تبذل أوروبا كل جهدها للصعود.
فى المجال العلمى حدث تقلص ضخمن، أبعد - بالتدريج - كل العلوم " الدنيوية " من معاهد العلم! في ذات الوقت الذي اقتصر فيه العلوم الشرعية عفي فكر القرن الخامس علي أكثر تقدير، مع الفارق الكبير بين الأصالة التي كان عليها فكر القرن الخامس، والتقليد الذي تلا ذلك من القرون، وظل (يتحجر) قرنا بعد قرن (1/196)
لقد كان من مفاخر الحركة العلمية الاسلامية كما أشرنا في الفصل الأول أنها تفتحت " العلم " كله، وأبدعت في العلم كله، وكان العالم يكون عالما في العلوم الشرعية وعالما في ذات الوقت في الطب أو الفلك أو الفيزياء أو الكيمياء بغير تعارض ولا تناقض بين هذا وذاك، وكانت المعاهد العلمية في الأندلس وغيرها تلك التي تعلمت فيها أوربا حين بدأت تخرج من قرونها المظلمة تعلم طلابها كل فروع العلم وألوانه بغير تفريق، وكانت العلوم " الدنيوية " من المعالم البارزة في تلك المعاهد إلي جانب العلوم الشرعية ومن هناك تعلمت أوروبا المنهج التجريبي في البحث العلمي، وترجمت ما كتبه المسلمون في الطب والفلك والفيزياء والكيمياء والرياضيات والبصريات لتتتلمذ عليه في بدء نهضتها الحديثة.
ولكن المسلمين " الغافلين " طردوا تلك العلوم تدريجيا من معاهدهم ليقتصروا علي العلوم الشرعية، مع ما في دراستهم للعلوم الشرعية ذاتها من " تخلف " عن الصورة التي ينبغي أن تكون الدراسة عليها.
وهنا قد يكون تأثير الصوفية أوضح.
فالصوفية هي التي فرقت بين الدنيا والآخرة، واتجهت إلي إهمال الدنيا بحجة تزكية الأرواح من أجل الآخرة، وأهملت بالتالي عمارة الأرض، علي أساس أن الأشتغال بها يقل الروح ويذهب عنها شفافيتها وطلاقتها ومن ثم أهملت كل العلوم المتصلة بتلك العمارة، واعتبرتها ناقلة تستطيع الأمة أن تستغني عن أدائها بلا ضير! (75)(1/197)
نعم قد يكون تأثير الصوفية هنا أوضح، ولكنها لا تستقل بالتأثير، فلو أن المسلمين قاموا بالتكاليف التي كلفهم بها ربهم، ومن بينها إعداد القوة لإرهاب أعداء الله، لوجدوا أنه لزام عليهم أن يتعلموا كثير من تكل العلوم الدنيوية ويتقنوها ويتفوقوا فيها علي أعدائهم، لأنهم بغير هذه العلوم يعجزون عن الوفاء بأمر ربهم وتكيفه ولكن التفلت من التكاليف كان يؤثر إلي جانب الصوفية في إهمال تلك العلوم وعدم الاحساس بالحاجة إليها ـ، كما أن الفكر الإرجائي موجود دائما في المساحة يغطي كل نقص أو تقصير!.
ورويدا رويدا فقدت الأمةحاستها العلمية بتاتا، وخرجت من الدائرة التي كانت هي مركزها في يوم من الأيام، يوم كانت هي الأمة العالمة في الأرض، وأوروبا تهرع إليها للتتلمذ علي ما لديها من العلم.
أما العلوم الشرعية فقد تأثرت هي الأخري بروح (التقلص) العامة التي غشت العالم الإسلامي من أكثر من وجه
فمن ناحية قل الإقبال علي العلم عند الناس فتقشت الأمية والجهل في الأمة، بنفس المقدار الذي كانت أوروبا تزيل به أميتها وتفتح المدارس لنشر العلم!(1/198)
ومن ناحية أخري جمدت العلوم الشرعية علي صورتها التي كانت تدرس بها قبل خمسة قرون علي الأقل بما كان قد دخل فيها من غزو فكري إغريقي، ومن علم كلام لا يعني ولا ينفع، فوق تحويله دراسة العقيدة إلي معاظلات ذهنية باردة معقدة تفرغ العقيدة من محتواها الحي، وتحليلها إلي (قضايا) فلسفية مثيرة للجدل بغير نتيجة ولا غاية! وفوق ذلك كله فقد تحول الطلاب إلي حفظة لا مفكرين يتعالم الواحد منهم بمقدار ما يحفظ من المتون والشروح والحواشي، ولكنه لا يفكر لنفسه ولا يفكر بنفسه، ففقد" العلماء " أصالة العلم وأصبحوا مجرد نقله مقلدين، بل أصيف إلي ذلك شر ثالث، هو التعصب المذهبي الذي عم الدارسين، كل يتعصب لمذهبه الذي نشا عليه، ويجعل قصاري " جهاده " من أجل دينه أن يثبت تفوق مذهبه وشيوخه علي المذاهب الأخري وشيوخها، وأن يدخل في معارك من أجل المذهب تتجاوز في كثير من الأحيان حد الجدل باللسان، إلي التدافع بالأيدي والأبدان! وفشت الفرقة والتنابذ بين أصحاب المذاهب المختلفة حتي إن أحدهم قد يرفض أن يصلي خلف إمام من غير مذهبه، بل قد يقاتل أخاه في الصلاة لأنه رآه إلي جواره يرفع يديه أو يضعهما علي صدره بما يخالف مذهبه، ويحس أن مقاتلته لأخيه في الإسلام علي هذا النحو هي " الخدمة " التي يؤديها للإسلام!!
وحين يكون هذا حال الدراسين من الأمة في المعاهد الدينية بعد أن تحولت بقية الأمة إلي أميين " لا يعلمون الكتاب إلا أماني " فأي فراغ من حقيقة الدين يملأ النفوس، وأي تفاهة في اهتمامات الناس، بعد أن كان الدين هو محور الحياة ومحركها، وباعث الاهتمامات الجادة وموجهها
وحقيقة أنه لم يخل عصر من عصور الإسلام حتي أحلكها من " عالم " بالمعني الحق للعلم، ولكنه قلتهم التدريجية لها دلالتها وفشو الجمود والتقليد له دلالته فكل شئ متفق مع التقلس والضمور الذي غشي بطابعه كل شئ(1/199)
والخلاصة ان التخلف العلمي بشقيه الدنيوي والشرعي الناشئ أصلا من التخلف العقدي أصبح هو الطابع السائد للمجتمع الإسلامي قبيل الغزوة الصليبية الهائلة التي احتاجت بلاد الإسلام في العصر الحديث.
? ? ?
أما التخلف الحضاري بشقيه المعنوي والمادي فهو صنو التخلف العلمي وزميله علي الطريق كما أنه نابع من نفس المنبع، ومتأثر بذات المؤثر، وهو التخلف العقدي.
أما الجانب المعنوي جانب الأخلاق والقيم فقد اسقطه الفكر الإرجائي حين قدم للناس إسلاما بلا اخلاق ذلك أن الأخلاق وإن كانت قيما معنوية فإنها من جانب آخر سلوك، وإلا فهي شعارات معلقة في الفضاء لا واقع لها في عالم الحقيقة .
وحين كان الدين علي حقيقته، كان من مزاياه الكبري أنه قيم أخلاقية مطبقه في عالم الواقع في صورة سلوك واقعي، وكانت هذه في حس الأجيال الأولي هي الترجمة الجقيقية لـ" لا إله إلا الله " أي أنها كانت مرتبطة في حسهم بالعقيدة أو بعبارة أخري كان في حسهم أن من يعتقد هذه العقيدة بنيغبي أن يكون سلوكه ملتزما بتلك القيم الأخلاقية، فالدين المعاملة كما علمهم رسولهم (، وكما قالت لهم عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن خلق رسول الله ( فقالت : " كان خلقه القرآن ".
وهذا الإرتباط بين العقيدة ومقتضياتها الأخلاقية هو القيمة الحضارية الجوهرية في هذا الدين التي تجعل المجتمع الإسلامي هو المجتمع المتحضر مهما يكن نصيبه ضئيلا من العمارة المادية للأرض، وتجعل العقيدة في هذا الدين هي جوهر الحضارة، بما يشع منها ويرتبط من قيم وأخلاق.
وبهذا المعيار كان الجيل المتفرد أعلي جيل حضاري في تاريخ البشرية كله، علي الرغم من البساطة المتناهية في الأشكال المادية والتنظيمية التي كانت في متناول يديه لأنه كان يمارس في عالم الواقع أعلي قيم إنسانية وأخلاقية عرفتها البشرية.(1/200)
ثم جاء العمران المادي في موعده كما بينا في الفصل الأول، امتدادا للدفعة الحيوية الهائلة التي أطلقها الإسلام في الأمة الإسلامية في جميع الاتجاهات فاكتمل " الشكل " الحضاري الذي يغلف (المضمون) الذي كان قائما من لحظة الميلاد.
ولكن الفساد الذي طرأ علي مفهوم " العبادة " فحصرها في الشعائر التعبدية فحسب، وأخرج منها ألوانا كثيرة من " المعاملات " كانت في حس الأجيال الأولي داخله في مفهوم العبادة الواسع الشامل، باعتبارها " سلوكا " إسلامية مرتبطا بلا إله إلا الله ثم الفكر الإرجائي الذي أعطي لهذا الفساد شرعية حين أخرج " العمل " من مسمي الإيمان ومن مقتضياته هذا وذات قد دمرا الجوهر الحضاري المتضمن في هذا الدين، الذي كان قوامه السلوك الأخلاقي المرتبط بالعقيدة، المترجم لها في دنيا الواقع.
بعبارة أخري حين صار " المسلم " لا يجد حرجا في قلبه أن يكذب، وأن يغش، وأن يخون الأمانة وأن يتهاون في العمل، وأن يخلف الوعد، وأن يحق د علي اخيه ويتمني زوال نعمته، وأن ينافق، وأن يغمز ويلمز ويغتاب، وأن يبخل ويجبن، وأن يبيت شبعان وجاره جوعان وهو يعلم، فقد فقد جوهره الحضاري الإسلامي، لأنه تجرد من أخلاقيات لا إله إلا الله وتجرد من قيمها الإنسانية العليا، التي هي جوهر الحضارة وعماد المجتمع المتحضر.(1/201)
ومن الجانب الآخر فإن الاتجاه الصوفي الذي أهمل عمارة الأرض وتنميتها وتنظيم شئونها علي أساس أن الدنيا جيفه وطلابها كلاب، وأنها لا تستحق عند الله جناح بعوضه، فينبغي أن تكون في حس المؤمن التقي أضأل وأحقر من أن يلقي إليها التفاته عابرة (76).... هذا الاتجاه الصوفي قد أتي كذلك علي " الشكل " الحضاري، وقعد بالناس عن الإنشاء والتشييد، وقعد بهم عن التنظيم كذلك لأنهم ونقصد الغالبية بطبيعة الحال قد أصبحوا فقراء ثم رضوا بالفقر وفلسفوا رضاهم بأنه من القناعة المحبوبة ومن الرضا بقدر الله فلم تعد التنمية لازمة لهم، ولم يعد التنظيم لازما كذلك، فإنها سنوات عابرة تمضي علي أي وضع وفي أية صورة ثم يذهب الناس إلي ربهم فينعمون بالخلد في جنات النعيم.
فإذا أضيف إلي ذلك ما تحمله الصوفية في طياتها من تواكل، وتقاعس عن الأخذ بالأسباب واعتقاد أو إحساس بأن الواقع الموجود مهما يكن من سوئه فلا ينبغي أن يسعي المرء إلي تغييره، بل لا ينبغي أن تساوره الرغبة فيذلك لأن ذلك يعتبر تمردا علي قدر الله، فقد انعدمت الرغبة تماما في أي إبداع حضاري مادي وتنظيمي ثم يجئ الفقر العلمي المدقع فينشئ عجزا كاملا عن الأداء حتي لو وجدت الرغبة في النفوس!
وهكذا من نقطة التخلف العقدي، المتمثل في فساد مفهوم العبادة، والفكر الإرجائي الذي يعطي ذلك الفساد شرعية ـ والاتجاه الصوفي المنحرف عن التوازن الإسلام، وعن الممارسة الإسلامية الواقعية للحياة وتعميرها بمقتضي المنهج الرباني تكليفا لا تطوعا.
من نقطة التخلف العقدي نشأ تخلف حضاري هائل، أخرج هذه الأمة من زمرة المتحضرين، كما أخرجها التخلف العقدي من قبل من زمرة المتعلمين....
? ? ?
لا يحتاج التخلف الاقتصادي الذي أحاط العالم الإسلامي إلي جهد في بيان أسبابه الحقيقية في حياة الأمة.
نعم لقد كانت هناك أسباب خارجية قوية أسهمت في هذا التخلف ولكنها وحدها لا تبرره ولا تفسره.(1/202)
لقد كانت أوربا الصليبية تسعي، منذ القضاء علي الدولة الإسلامية في الأندلس إلي تطويق العالم الإسلامي وإضعافه بكل الوسائل (77). وكان من بين الوسائل التي اتخذوها السعي الدائب لتحويل التجارة العالمية إلي إيديهم،وانتزاعها من يد المماليك، الذين كانوا يمسكون بزمامها عن طريق سيطرتهم علي البحر الأحمر والبحر الأبيض، فتدر عليهم أموالا طائلة، وعلي العالم الإسلامي كله كذلك.
ومنذ اكتشاف البرتغاليين لطريق رأس الرجاء الصالح، الذي كشفوه علي هدي الخرائط الإسلامية وبمعاونة بحارة مسلمين (!) بدأوا يتجهون إلي الشرق الأقصي ليستولوا علي أرضه وخيراته، منها دولة المماليك ن ويحرموا منها العالم الإسلامي كله.
وحدث ذلك بالفعل، وتأثرت اقتصاديات العالم الإسلامي تأثيرا بالغا بما حدث.
ولكن.... هل هذا هو التفسير؟ أو هذا هو التبرير؟
أين كانت مراكز القوة يوم قامت الدولة الإسلامية أول مرة، سواء القوة الحربية أو السياسية أو الاقتصادية؟ ألم تكن كلها في يد فارس والروم؟
فما الذي حدث في التاريخ؟
لقد انساحت الأمة المؤمنة في الأرض، فأزالت قوي الباطل ودكتها دكا، وأقامت في مكانها دولة الإسلام ن واستولت هي علي مراكز القوة فأصبحت أكبر قوة في الأرض، وشملت قوتها كل جانب، فصارت في يدها القوة الحربية والسياسية والاقتصادية وكان ذلك كله تحقيقا لوعد الله للمؤمنين من هذه الأمة :
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [سورة النور 24/55]
فما الذي غير الحال بعد ذلك، وسلب مراكز القوة من يد المسلمين؟
سنقول : ضعفت قوتهم الحربية بينما ازدادت قوة أعدائهم فتغلبوا عليهم... (78)(1/203)
نعم، تلك هي الأسباب الظاهرة، ولا شك ولكن قراءة التاريخ بالأسباب الظاهرة وحدها لا تؤدي إلي الحقيقة، بل قد تضلل عن الحقيقة
يقول أصدق القائلين : {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [سورة الرعد 13/11]
ويقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [سورة الأنفال 8/53]
والذي يشغل النفوس المؤمنة هو الإيمان.. والذي يتغير في النفوس هوة حقيقة الإيمان.
فحين تكون الأمة " متقدمة" في الإيمان يتحقق لها وعد الله بالاستخلاف والتمكين والتأمين، وحين تكون " متخلفة " يحدث تغيير النعمة " أي سلبها " ويذهب عن الأمة الاستخلاف والتمكين والتأمين.
فسلت التجارة من يد المسلمين، واستيلاء أوربا الصليبية عليها، له أسبابه الكامنة في التخلف العقدي الذي أصاب الأمة في مجموعها، والتقلص والضمور الذي ترتب عليه في كل اتجاه.
فتضاؤل القوة الحربية الذي مكن الأعداء من أجزاء متزايدة من العالم الإسلامي هو ذاته كما سنبين في الفقرة التالية أثر من آثار التخلف العقدي.
ولكن آثار التخلف العقدي في الميدان الاقتصادي الخاص لا تحتاج إلي توكيل
فلنفرض أن التجارة العالمية قد سلبت من أيدي المسلمين لسبب قاهر لا يقدرون علي درئه فهل تتوقف ثروة العالم الإسلامي علي التجارة وحدها في ذلك الحين أو في أي حين.
إن الأرض الإسلامية من المحيط إلي المحيط هي بقدر من الله أغني بقعة في الأرض وأكثرها خيرات، وقد كانت وما تزال حتي هذه اللحظة، لم تستثمر الاستثمار الكامل الذي يستغل كل مواردها وكل طاقاتها.
فإذا ضاع جزء من الثروة لأسباب قاهرة، فلماذا لم تسع الأمة في مجموعها إلي استغلال الثروات الأخري القابلة للاستغلال، من زراعة وصناعة ومعادن مذخورة في باطن الأرض؟(1/204)
السبب هو التقاعس، والتواكل، والضعف العلمي، ووهن العزائم، والانصراف عن عمارة الأرض، والرضي بالفقر علي أنه قدر من الله لا ينبغي السعي إلي تغييره خوفا من الوقوع في خطيئة التمرد علي قدر الله
ومن أين نشات هذه العوامل كلها إلا من التخلف العقدي.
لو تخيلنا هذا العارض وهو ضياع التجارة من يد المسلمين قد حدث للأجيال الأول من هذه الأمة فهل كان رد الفعل عندها سيكون مماثلا لما حدث للأجيال المتأخرة.
وهل يكمن الفارق في الظروف الخارجية التي أحاطت بالمسلمين؟ ام أنه راجع في حقيقة الأمر إلي الفارق النفس الهائل بين أول هذه الأمة وآخرها. بين الإيمان الصحيح والإيمان المخلخل المنحرف.. أي راجع إلي التخلف العقدي الذي أصاب الأمة في أجيالها المتأخرة؟
وكذلك ينبغي أن يكون فهمنا لأحداث التاريخ الإسلامي
إن أمما أخري غير الأمة الإسلامية يمكن أن تنال القوة والتمكين في الأرض بالبعد عن الله بل كلما زادت بعدا عن الله زادت في القوة والتمكين كما هو حال أوربا الكافرة الجاحدة اليوم، لأن هذا من السنن الربانية في معاملة الكفار:
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ....} [سورة الأنعام 6/44]
لفترة من الزمن يقدرها الله.. ثم يأتي التدمير:
{....حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)}[سورة الأنعام 6/44-45]
أما أمة الإسلام فإنها تعامل بسنة خاصة ... لا يمكنون إلا علي الإيمان، فإذا انحرفوا زال عنهم التمكين، ذلك لأن الله لا يريد لهم أن يفتنوا بالتمكين وهم منحرفون عن طريقة، فيزيدوا انحرافا حتي يصلوا إلي الكفر فتأخذهم سنة الكافرين:(1/205)
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)} [سورة هود 11/15-16]
فمن رحمته سبحاته بهذه الأمة أنه لا يمكنها أبداً وهي منحرفة عن السبيل! لكي تعود إليه، فيكمنها وهو راضي عنها، ويدخر لها في الآخرة ما يدخره لعباده الصالحين.
? ? ?
وأما التخلف الحربي فصلته بالتخلف العقدي واضحة بكل تأكيد
فكل عوامل التخلف العقيدي قد أثرت في القوة الحربية لهذه الأمة ن سواء الاتجاه الصوفي الذي يصرف الناس عن جهاد الاعداء بحجة توفير الطاقة لجهاد النفس! أو الفكر الإرجائي الذي يغطي كل تخلفه عن حقيقه الإسلام يربت عليه ويمنحه شريعة الوجود، أو التفلت من التكاليف التي أمرت بإعداد القوة لإرهاب الأعداء، أو انشغال الحكام بفرض سلطانهم علي شعوبهم عن الجهاد لإعلاء كلمة الله.
فإذا اضيف إلي ذلك التخلف العلمي والتكنولوجي، النابع أصلا من التخلف العقدي، فقد اكتملت أسباب التخلف الحربي، وأصبح هو النتيجة المنطقية لكل الظروف التي أحاطت بالناس في القرون الأخيرة.
لقد حملت الدولة العثمانية عبء حماية العالم الإسلامي من الغزو الصليبي عدة قرون، وإن جهادها في هذا السبيل، وإخلاص نيتها وبذلها جهد الطاقة، لمما يحسب لها في ميزانها عند الله يوم القيامة
ولكن عوامل التخلف التي كانت تحيط العالم الإسلامي كله، ولا تنجو منها الدولة الحاكمة، ظلت تؤتي ثمارها التدريجية في الميدان الحربي كغيرة من الميادين(1/206)
فبعد أن وصلت الجيوش الإسلامية إلي فيينا غربا وبطر سبرج (لننجراد حاليا) شرقا، وحاصرات كلا منهما فترة من الوقت، أخذت تتراجع لا عن تلك الأهداف القصوي وحدها بل عن الأهداف الدنيا حتي أكلت روسيا الصليبية بقاعا واسعة من الأرض كل سكانها مسلمون كما أكلت أوربا الصليبية بقاعا من الأرض كانت خاضعة للحكم الإسلامي يعيش فيها نصاري ومسلمون تتراوح نسبتهم من مكان إلي مكان وكان التخلف الحربي سببا من الأسباب الرئيسية في هذا التقلص المستمر.
نعم، لقد كانت أوربا تتقوى باستمرار، حتى صارت قوتها مكافئة لقوة الدولة العثمانية، ثم بدأت تتفوق عليها، فتغير ميزان القوى، وبدأت الصليبية تأكل من جسم العالم الإسلامى.
ولكن هذا - وحده - لا يفسر ولا يبرر!
إنما الذى يفسر - وإن كان لا يبرر! - (79) هو الجمود والقعود، والرضى بالموجود، والتواكل بدلا من التوكل الحق مع الأخذ بالأسباب، والتخلف العلمى والصناعى، وفقدان روج الابتكار.. وكلها كما بينا من قبل راجعة إلى ذلك التخلف الأساسى الخطير عن حقيقة الإيمان كما بينها الله ورسوله للمؤمنين.
وإذا كان هذا حال الدولة الحاكمة، التى أخذت على عاتقها حماية العالم الإسلامى من الغزو الصليبى فإن حال بقية العامل الإسلامى كان أسوأ بكثير.
إن الشعب التركى شعب عسكرى بطبعه، كما أنه بطبعه كذلك شديد المحافظة على التقاليد، يضاف إلى ذلك صرامته فى التربية، لصب أبنائه وبناته منذ نعومة أظفارهم فى القوالب المضبوطة التى يراد تنشئتهم عليها. وكان لهذا كله أثره فى إطالة عمر الدولة رغم كل عوامل الهدم فى داخلها، وفى صلابة شعبها وتماسكه رغم الهزائم المتوالية التى حلت بالدولة فى القرنين الأخيرين.(1/207)
أما بقية العالم الإسلامى - على اختلاف فى الدرجة بين شعب وشعب - فكان نصيبه من هذه الصفات أقل، مع وجود التخلف العقدى بكل آثاره المدمرة فى العامل الإسلامى كله بلا استثناء.. فضلا عن تعرض تلك الأقطار للغزو الصليبى فى وقت باكر منذ القرن السابع عشر الميلادى إلى القرن التاسع عشر.. لذلك كان الانهيار فيها أسرع، لأن عوامل التخلف كانت فيها أشد!
لقد قاتل المماليك ببسالة نادرة أمام الحملة الصليبية الفرنسية بقيادة نابليون.. ولكن ماذا تجدى البنادق إزاء المدفع الذى سلح به نابليون جيشه؟ لقد كانت الهزيمة حاسمة.. هزيمة التخلف الحربى أمام التقدم والابتكار! وحدث مثل ذلك تباعا فى العالم الإسلامى.. وانتهت المعارك بانتصار القوة الجديدة على التخلف والجمود..
? ? ?
من نافلة القول أن نتحدث عن التخلف الفكرى والثقافى فى الجو الذى وصفناه.. بعد كل الذى ذكرناه! فكلها ألوان من التخلف ممسك بعضها برقاب بعض، ومؤد فى النهاية إلى الانهيار.
ولكن الصلة بين التخلف الفكرى والثقافى وبين التخلف العقدى قد تحتاج إلى إشارة خاصة بمناسبة ما تبدئ الجاهلية المعاصرة وتعدي فى هذا الشأن بالذات.
لقد أوحى الغزو الصليبى للمسلمين - كما سيأتى الحديث - بأن كل ما أصاب المسلمين من تخلف كان بسبب أنهم مسلمون! أى بسبب الإسلام! وركز بصفة خاصة على الجانب الفكرى والثقافى مستدلا بتاريخ الكنيسة فى أوروبا، وبأن أوروبا كانت متخلفة فى جميع الميادين - وميدان الفكر والثقافة خاصة - وقت أن كانت حياتها محكومة بالدين، وأنها لم تتقدم وتتحضر وتنطلق فى جميع الميادين إلا بعد أن " تحررت " من ربقة الدين.
وسوف نتناول هذه القضية بتفصيل أكثر فى موضوع آخر حين نعرض للغزو الفكرى وآثاره فى حياة المسلمين. ولكنا نحب هنا أن نرجع إلى حقيقة تاريخية حاسمة الدلالة.(1/208)
إن الدعوة إلى " التفكير " وإلى استخدام " العقل " على أساس منهج صحيح، هى فى صميمها دعوى هذا الدين. والدعوة إلى السياحة فى الأرض ودراسة التاريخ على أساس منهجى كذلك، هى فى صميمها دعوى هذا الدين. والدعوى إلى تدبر آيات الله فى الكون، والتعرف على السنن الربانية فى الكون المادى وفى الحياة البشرية، هى فى صميمها دعوة هذا الدين. (80)
ومن توجيهات القرآن الكريم وتوجيهات الرسول ( انطلق " الفكر " الإسلامى فى جميع ميادين الفكر والثقافة التى كانت متاحة يومئذ، وأبدع فيها إبداعات تدل على الأصالة والتمكن والثقة بالذات.. وكان هذه كله صدى للحركة العقدية الضخمة التى تحركت بها الأمة الإسلامية فى جميع الميادين، وصدى لإيمانها بان " طلب العلم فريضة " كما علمها رسولها الكريم (، وصدى لتلك الكلمة العظيمة الكريمة التى بدأت بها تنزل الوحى على رسول الله (: " اقرأ "
ولما حدث التخلف العقدى التدريجى، الذى حصر العبادة فى الشعائر التعبدية وحدها، وأخرج منها بقية التكاليف، حدث ضمور تدريجى فى جميع التكاليف التى كانت من قبل مرتبطة بالعقيدة، ومرتبطة بالمعنى الشامل للعبادة، وأصبحت أمورا " كمالية " إن شاء الإنسان قام بها وإن شاء تركها بلا ضير! وكان طلب العلم، والقراءة، والتفكير، من بين هذه التكاليف التى خرجت من حيز العبادة فأصابها الضمور. ثم جاء الفكر الإرجائى فربت على هذا التخلف، ومنحه الشرعية القائمة على إنه لا يضر مع الإيمان شئ! وجاءت الصوفية فحصرت بعمل العقل كله فى أضيق نطاق ممكن، لتفسح المجال - فى وهمها - لعمل الروح! وساعد الاستبداد السياسى على إحداث جمود شامل فى جميع المجالات.. ومن هذا التخلف العقدى نشأ التخلف الفكرة والثقافى وأخذ مكانه فى موعده المقدور!
? ? ?
حين حدث هذا القدر الهائل من التخلف، العقدى أولا، ثم العلمى والحضارى والاقتصادى والحربى والثقافى والفكرى.. فماذا بقى؟!(1/209)
إسلام بلا أخلاق. إسلام بلا حضارة. إسلام بلا علم. إسلام بلا ثقافة ولا فكر. إسلام متهالك القوى الاقتصادية والحربية والمادية.. ماذا بقى فيه من حقيقة الإسلام؟!
فأما الفكر الإرجائى فقد رضى عن هذا الإسلام المتخلف المتهالك وقال: لا ضير! لأنه لا يضر مع الإيمان شئ!
وأما الاتجاه الصوفى فقد رضى كذلك عن هذا الإسلام المتخلف المتهالك وقال: لا ير! فهذه كلها من أمور الدنيا الفانية، وليس المهم هو الدنيا إنما هو الآخرة. ليس عالم المادة وإنما عالم الروح!
وأما بالنسبة لحقيقة الإسلام، فقد كان هذا الإسلام المتخلف المتهالك يوشك فى الحقيقة أن يصبح إسلاما بلا إسلام!!
وعندئذ أقبل الصليبيون.. من كل حدب ينسلون.
3- الغزو الصليبى
بدأت محاولات الغزو الصليبى الحديث فى الحقيقة منذ بدايات القرن العاشر الهجرى (السادس عشر الميلادى) بعد طرد الإسلام من الأندلس. فحين سقطت آخر دويلة إسلامية فى الأندلس - وهى دويلة غرناطة - عام 1942 م بعد معارك وحشية طويلة، بارك البابا الانتصار الصليبى وشجع الصليبين وشجع الصليبيين على متابعة المسلمين لطردهم من بقية بلاد الإسلام
وعلى الرغم من أن المسلمين الذى بقوا فى الأندلس قد ظلوا محافظين على إسلامهم سرا ما يقرب من مائتى عام تحت الضغط الوحشى الواقع عليهم من محاكم التفتيش، مما لا مثيل له فى الوحشية فى التاريخ كله من قبل.. فلم يكن من المتوقع أن يظلوا على إسلامهم بغير قوة تحميهم من البطش.. فتلاشوا تدريجيا حتى انتهوا.(1/210)
ولم يكن فى وسع الصليبية الحاقدة أن تكرر مسيرتها الأولى إلى بيت المقدس من طريق الشق، لأن الدولة العثمانية الفتية لم تكن واقفة لهم بالمرصاد فحسب، بل كانت بكل حيويتها العارمة تتوغل فى شرق أوربا بقوة كاسحة لا يقف أمامها شئ. وكانت - كما يقول المستشرق الكندى المعاصر ولفرد كانتول سميث - لا تكتسح الأرض فقط، بل كانت تكتسح العقيدة المسيحية ذاتها، ويدخل أهلها فى الإسلام بعشرات الألوف كل عام:
" إلى أن قام كارس ماركس وقامت الشيوعية، كان النبى " ( " (يقصد الإسلام) هو التحدى الحقيقى الوحيد للحضارة الغربية الذى واجهته فى تاريخها كله، وإنه لمن المهم أن نتذكر كم كان هذا التحدى حقيقيا، وكم كان يبدو فى وقت من الأوقات تهديدا خطيرا حقا.
" لقد كان الجوم مباشرا فى كلا الميدانين الحربى والعقدى، وكان قويا جدا.. فقد فقدت المسيحية دفعة واحدة " أجمل مقاطعات الإمبراطورية الرومانية " لتتسلمها منها القوة الجديدة، وكانت فى خطر من ضياع الإمبراطورية بكاملها. وعلى الرغم من أن القسطنطينية لم تقع - تماما - فى يد الجيوش العربية كما وقعت مصر وسوريا، فقد استمر الضغط عليها فترة طويلة. وفى موجة التوسع الثانية وقعت القسطنطينية بالفعل سنة 1453، وفى قلب أوربا المفزعة ذاتها أحاط الحصار بفيينا سنة 1529، بينما ظل الزخف وقت قريب لم يتطاول عليه العهد فى سنة 1683، وإن وقوع تشيكو سلوفاكيا فى قبضة الشيوعية عام 1948 لم يكن له قط فى العصر الحديث ذلك الفزع فى نفوس الغرب المتهيب، كما كان لذلك الزحف المستمر قرنا بعد قرن، من تلك القوة الضخمة المهددة، التى لا تكف ولا تهدأ، ويتكرر انتصارها مرة بعد مرة.(1/211)
" وكما هو الأمر مع الشيوعية، كذلك كان التهديد والانتصارات (الاسلامية) قائمين فى عالم القيم والأفكار أيضا.. فقد كان الهجوم الإسلامى موجها إلى عالم النظريات كما هو موجه إلى عالم الواقع.. وقد عملت العقيدة الجديدة بإصرار على إنكار المبدأ الرئيسى للعقيدة المسيحية، التى كانت بالنسبة لأوربا العقيدة السامية التى أخذت - فى بطء - تبنى حولها حضارتها. وكان التهديد الإسلامى موجها بقوة وعنف، وكان ناجحا مكتسحا فى نصف العالم المسيحى تقريبا. والإسلام هو القوة الإيجابية الوحيدة التى انتزعت من المسيحيين أناسا دخلوا فى الدين الجديد وآمنوا به.. بعشرات الملايين " (81).
ولكن الصليبية وقد عجزت عن اختراق الحاجز العثمانى فى الشرق، بل لم تفكر مجرد تفكير فى اقتحامه، اتجهت إلى الالتفاف حول العالم الإسلامى من جهة الغرب، وخاصة بعد اكتشافها لطريق رأس الرجال الصالح.
كان الطريق من أقصى الشرق إلى أوربا عبر رأس الرجاء الصالح معروفا ومحفوظا عند المسلمين، دونوه فىخرائطهم، ودرسوا أحواله الملاحية دراسة دقيقة كما يبدو من كتاب " عجائب الهند " للبيرونى وغيره، ولكن أوربا كانت قابعة فى ظلمات قرونها الوسطى المظلمة، لا تعرف عن العالم إلا القليل، ولا تخاطر بركوب بحاره ومحيطاته.
ولكن مجموعة من العوامل المتفاعلة فى داخل أوربا دفعتها أخيرا إلى ارتياد البحار المجهولة، وكان من أقوى هذه العوامل الدافع الصليبى، الذى عملت البابوية على تجيعه، متمثلا فى متابعة المسلمين بعد طردهم من الأندلس، للاستيلاء على بلادهم وإخضاعها لحكمهم - أن لم يكن طردهم منها كما طردوهم من الأندلس - ومتمثلا كذلك فى محاولة انتزاع السيطرة التجارية العالمية منهم وحيازته فى أيدهم، لإضعاف المسلمين من جهة، والتقوى على حربهم من جهة أخرى.(1/212)
ومن أعاجيب ذلك الزمان أن يكون الرائد الذى دل فاسكو داجاما وأعانه على اتمام رحلته هو البحار العربى المسلم " ابن ماجد " الذى أمده بالمعلومات والخرائط، بل قاد بنفسه سفينته نحو جزر الهند الشرقية
غفلة أم قهر..؟ لست أدرى
وحين أتم فاسكو داجاما رحلته بمعونة ابن ماجد، قال قولته الشهيرة المفصحة عن الهدف الحقيقى للحرلة، الذى نتغافل نحن عنه حين ندرس الرحلة لأبنائنا بتأثير الغزو الفكرى كما سيجئ، ونزعم لطلابنا أنها كانت رحلة " علمية " قال: الآن طوقنا رقبة الإسلام، ولم يبق إلا جذب الحبل فيختنق ويموت
رحلة صليبية واضحة الأهداف.
ومثلها كل الرحلات الأخرى القى قام بها الصليبيون فى العالم الإسلامى، يدرسون مداخله ومخارجه، ويرجعون إلى حكوماتهم ليدلوها على طريقة التسلل إلى بلاد المسلمين وأشهرها رحلة ماجلان ن التى كان هدفها الاستيلاء على الأرض الإسلامية فى الفلبين وإخضاعها لحكم الصليبيين، والتى ندرسها لأبنائنا كذلك على أنها من أعظم الرحلات " العلمية " الاستكشافية فى التاريخ! (82).
أما أنها استكشافية بالنسبة لأوربا، لأنها كشفت للأوربيين بلادا لم يكونوا يعلمون عنها شيئا إلا بالسماع. أما بالنسبة لنا نحن المسلمين هل كانت بلادنا مجهولة منا فى انتظار أن يأتى ماجلان فيشكفها لنا، كما نوحى لأبنائنا ونحن ندِّرس لهم التاريخ؟! (83).
توالت الرحلات.. وتوالت الاستكشافات.. وبدأت السرقات.
يجئ الصليبيون إلى سلطان من سلاطين المسلمين - فى أفريقيا خاصة - فليجيئون إلى كرمه - أو قل إلى غفلته. فيطلبون منه مساعدة سفنهم التى ترسو فى مرافئة فيساعدهم بلا شك فيطلبون قطعة أرض على الشاطئ ليقوموا هم بخدمة سفنهم إذا جاءت. فيعطيهم قطعة الأرض بمقتضى " الكرم " ولا شك فإذا استولوا على قطعة الأرض وصارت لهم نقطة ارتكاز على الشاطئ جاءوا بالسفن المحملة بالجنود والسلاح، ونزلوا فى المرفأ، وجاسوا خلال الديار.(1/213)
ولم تكن هذه بطبيعة الحال هى الطريقة الوحيدة للغزو الصليبى، فقد استخدموا كل الوسائل التى تحقق لهم أهدافهم، من غزو عسكرى صريح (84)، إلى حملات تبشيرية تمهد السبيل (85) إلى تسللل " تجاري " ينقلب فيما بعد إلى استعمار كامل (86).
وأخيرا - فى نهاية القرن التاسع عشر الميلادى - كانوا قد احتلوا كل الأرض الإسلامية تقريبا، ماعدا تركيا ذاتها، وأجزاء من الجزيرة العربية، وأخضعوا المسلمين فى مناطق احتلالهم للحكم الصليبى جهرة أو بوساطة حكام من المسلمين. يقومون بالحكم ظاهرا، ومن ورائهم - أو من خلالهم - يحكم الصليبيون
لا تحتاج ظاهرة الغزو الصليبى ذاتها إلى تعليل ولا تفسير.
فالحقد الذى يحمله الصليبيون فى قلوبهم للإسلام قد أخبرنا به اللطيف الخبير فى كتابه المنزل:
{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [سورة البقرة 2/120]
{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ} [سورة البقرة 2/109]
{وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا} [سورة البقرة 2/217]
فهو حقد دائم، كامن فى قلوبهم ضد الإسلام، لا يحتاج إلى باعث آخر. فمجرد وجود إسلام فى الأرض كاف لتحريك ضغائنهم، وباعث لهم على التحرك ضد المسلمين ليردوهم عن دينهم إن استطاعوا.(1/214)
تلك حقيقة نحتاج إلى توكيدها والتذكير بها لأن هناك أكذوبة ضخمة اصطنعها الغرب ليدارى بها أحقاده الصليبية، وأطلقها فى جميع المجالات حتى صدقها المسلمون أنفسهم - بتأثير الغزو الفكر - وصاروا يرددونها على نحو ما لقنها لهم سادتهم.. خلاصتها أن عصر الحمية الدينية قد انتهى، ولم تعد تلك الحمية تحرك أوربا اليوم كما كانت تحركها فى العصور الوسطى، لأن " الدين " فى أوربا لم يعد عاملا مؤثرا فى حياة أهلها. إنما هو " استعمار اقتصادى " هدفه البحث عن الموارد والخامات ولا علاقة له بالدين.
وتلك - فى مجملها - أكذوبة لا نصيب لها من الواقع.
حقيقة إن أوربا هجرت الدين ونسيته، ولم تعد تحكمه فى شئ من واقع حياتها لا السياسية ولا الاقتصادية ولا العلاقات الاجتماعية ولا مشاعر القلب ولا خطرات الذهن. ولكن هذا كله شئ والحقد الصليبى شئ آخر.
إن الحقد الصليبى ليس مبعثه بالضرورة " تدين " النصارى كما قد يبدو لأول وهلة، إنما سببه الأساسى هو وجود المسلمين. وجود تجمع بشرى لا ينتمى إليهم ولا ينضوى إلى زمرتهم ولا يتبع ملتهم، وهذا هو الذى تشير إليه الآية الكريمة:
{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [سورة البقرة 2/120]
وسواء كانوا هو متدينين أو منسلخين من دينهم فلن يرضوا عن " المسلمين " طالما هو مسلمون، يستظلون براية " لا إله إلا الله محمد رسول الله ".
يقول محمد أسد في كتابه "الإسلام علي مفترق الطرق":(1/215)
" إن الاصطدام العنيف الأول بين أوربة المتحدة من جانب وبين الإسلام من الجانب الآخر - أى الحروب الصليبية - يتفق مع بزوغ فجر المدينة الأوربية. فى ذلك الحين أخذت هذه المدينة - وكانت لا تزال على اتصال بالكنيسة - تشق سبيلها الخاص بعد تلك القرون المظلمة التى تبعت انحلال رومية. حينذاك بدأت آداب أوربة ربيعا منورا جديدا. وكانت الفنون الجميلة قد بدأت بالاستيقاظ ببطء من سبات خلفته هجرات الغزو التى قام بها القوط والهون والآفاريون. ولقد استطاعت أوربة أن تتملص من تلك الأحوال الخشنة فى أوائل القرون الوسطى، ثم اكتسبت وعيا ثقافيا جديدا، وعن طريق الوعى كسبت أيضا حسا مرهفا. ولما كانت أوربة فى وسط هذا المأزق الحرج، حملتها الحروب الصليبية على ذلك اللقاء العدائى بالعالم الإسلامى. لقد كان ثمت حروب بين المسلمين والأوربيين قبل عصل الحروب الصليبية: كانت فتوح العرب فى صقلية والأندلس، وكان هجومهم على جنوب فرنسة، ولكن هذه المعارك كانت قبل أن تستيقظ أوربة إلى وعيها الثقافى الجديد، فاتسمت من أجل ذلك، ومن وجهة النظر الأوربية على الأقل، بطابع ذى نتائج محلية. ولم تكن تلك المعارك قد فهمت بعد على وجهها الحقيقى. إن الحروب الصليبية هى التى عينت فى المقام الأول والمقام الأهم موقف أوربة من الإسلام لبضعة قرون تتلو. ولقد كانت الحروب الصليبية فى ذلك حاسمة لأنها حدثت فى أثناء طفولة أوربة، فى العهد الذى كانت فيه الخصائص الثقافية الخاصة قد أخذت تعرض نفسها (يقصد قد أخذت تظهر) وكانت لا تزال فى طور تشكلها. والشعوب كالأفراد، إذا اعتبرنا أن المؤثرات العنيفة التى تحدث فى أوائل الطفولة تظل مستمرة ظاهرا أو باطنا مدى الحياة التالية. وتظل تلك المؤثرات محفورة حفرا عميقا، حتى إنه لا يمكن للتجارب العقلية فى الدور المتأخر من الحياة، والمتسم بالتفكير أكثر من اتسامه بالعاطفة أن تمحوها إلا بصعوبة، ثم يندر أن تزيلها تماما.(1/216)
" وهكذا كان شأن الحروب الصليبية، فإنها أحدثت أثرا من أعمق الآثار وأبقاها فى نفسية الشعب الأوربى. وإن الحمية الجاهلية العامة التى أثارتها تلك الحروب فى زمنها لا يمكن أن تقارن بشئ خبرته أوربة من قبل، ولا اتفق لها من بعد.
" لقد اجتاحت القارة الأوربية كلها موجة من النشوة، كانت - فى مدة ما على الأقل - عنفوانا تخطى الحدود التى بين البلدان والتى بين الشعوب والتى بين الطبقات. ولقد اتفق فى ذلك الحين، وللمرة الأولى فى التاريخ، أن أوربة أدركت فى نفسها وحدة - ولكنها وحدة ضد العالم الإسلامى. لقد كان ثمت قبل ذلك الزمن أنجلو سكسون وجرمان وفرنسيون ونورمان وإيطاليون ودنمركيون وسلاف، ولكن فى أثناء الحروب الصليبية ولدت فكرة " المدنية الغربية " وأصبحت هدفا واحدا تسعى إليه جميع الشعوب الأوربية على السواء. وكانت تلك المدنية الغربية " وأصبحت هدفا واحدا تسعى إليه جميع الشعوب الأوربية على السوء. وكانت تلك المدنية الغربية عدوة للإسلام وقفت عرابا (وكيل الطفل المعمد بالتعبير الكنسى) فى هذه الولادة الجديدة.. لقد نشأ تسميم العقل الأوربى عما شوهه قادة الأوربيين من تعاليم الإسلام ومثله العليا أمام الجموع الجاهلة فى الغرب. وفى ذلك الحين استقرت تلك الفكرة المضحكة فى عقول الأوربيين.
من أن الإسلام دين شهوانية وعنف حيوانى، وأنه تمسك بفروض شكلية، وليس تزكية للقلوب وتطهيرا لها، ثم بقيت هذه الفكرة حيث استقرت..
" لقد بذرت بذور البغضاء.. إن حمية الصليبيين الجاهلية كان لها ذيولها فى أماكن كثيرة من أوربة، فشجع ذلك نصارى الأندلس على الحرب لإنقاذ بلادهم من " نير الوثنيين ".(1/217)
" ولكن قبل أن يتاح لصدى هذه الحوادث أن يخفت فى أسبانية حدث حدث ثالث عظيم الأهمية زاد فى فساد الصلات بين العالم الغربى وبين الإسلام: ذلك هو سقوط القسطنطينية فى يد الأتراك.. وبسقوط القسطنطينية فتح باب أوربا على مصراعيه للسيل الإسلامى. وفى القرون التى تلت والتى امتلأت بالحروب، لم تبق عداوة أوربة للإسلام قضية ذات أهمية ثقافية فحسب، بل ذات أهمية سياسية أيضا. وهذا زاد فى اشتداد تلك العداوة.. ولقد كانت هذه البغضاء تغمر الشعور الشعبى كلما ذكرت كلمة " مسلم ". ولقد دخلت فى الأمثال السائرة عندهم حتى نزلت فى قلب كل أوربى رجلا كان أم امرأة. وأغرب من هذا كله أنها ظلت حية بعد جميع أدوار التبدل الثقافة. ثم جاء عهد الإصلاح الدينى حينما انقسمت أوبة شيعا، ووقفت كل شيعة مدججة بسلاحها فى وجه كل شيعة أخرى، ولكن العداء للإسلام كان عاما فيها كلها. بعدئذ جاء زمن أخذ الشعور الدينى فيه يخبو ولكن العداء للإسلام استمر (87).
وفى هذا ما يوضح تلك الحقيقة التى تشكل أحيانا على الذهن: كيف أن أوربا هجرت دينها ومع ذلك فما تزال تشعر بالحقد الصليبى تجاه المسلمين.
فإذا أصيف إلى وجود الإسلام وهو الباعث الأول لحقد اليهود والنصارى منذ أول لحظة وجد فيها الإسلام، قبل أن يحدث احتكاك من أى نوع بين المسلمين واليهود أو بينهم وبين النصارى.. إذا أضيف إلى مجرد وجود الإسلام حركته التاريخية الهائلة التى اصطدم فيها باليهود والنصارى، وأزاحهم من مراكز قوتهم - كلها أو بعضها - فترة طويلة من الوقت، فقد وجد " سبب إضافى " لحق، لا يزول، بشهادتهم هم أنفسهم، التى نطق بها رجل مثل " ولفرد كانتول سميث " فى كتابه " الإسلام فى التاريخ الحديث " (88) وينطق بها على الدوام غيره من المستشرقين والمبشرين ورجال السياسية ورجال الفكر.. (89)(1/218)
ولا يمنع هذا من وجود أطماع اقتصادية هائلة لأوربا فى الشرق الغنى بالخامات والموارد، التى لا يكاد أصحابها يستمرون منها إلى القليل، بينا تتحرق أوربا شوقا إلى شئ منها!
ولكن هذا لا ينبغى أن يخفى عنا مجموعة من الحقائق فى هذا الشأن:
الأولى: أن الباعث الصليبى كان هو الباعث الأول الذى حرك أوربا إلاى الاستيلاء على اعالم الإسلامى كما هو ثابت من رحلتى فاسكو داجاما وماجلان، والرحلات الاستكشافية الأخرى فى أفريقيا خاصة - التى حملت المبشرين بكميات هائلة إلى أماكن لم يكن الاستغلال الاقتصادى فيها محدد المعالم أول الأمر، وإن كان قد حدث على نطاق واسع فيما بعد، حين اكتشف المحتلون مصادر الثروة وأخذوا فى استغلالها.
الثانية: أن التحرك الاقتصاد الأول من أوربا نحو الشرق كان هدفه الأول حرمان المسلمين من مصادر قوتهم لإضعافهم، وهو هدف صليبى واضح تتخذ له جميع الوسائل، وما الوسيلة الاقتصادية إلا واحدة من هذه الوسائل فحسب. وليست هى الغاية كما يزعمون ويزعم معهم المستعبدون لهم من " المثقفين " خاصة، الذين يهز الواحد منهم كتفيه فى بلاهة ويقول: إن الغرب لا يريد إلا تأمين مصالحه الاقتصادية فحسب، ولا يهمه شئ غير ذلك!
الثالثة: أنه حين برز العامل الاقتصادى فى حياة أوربا فيما بعد، وأصبح - فى ظاهر الأمر - هو المحرك الأول لجميع تصرفاتها، بقى هناك فارق واضح بين " الاستعمار الاقتصادى " فى بلاد الإسلام، والاستعمال الاقتصادى فى البلاد غير الإسلامية التى استولوا عليها فى مرحلة التوسع وتكوين الإمبراطوريات.
فمع أنه فى جميع أحواله ظالم للبلاد المحتلة المستغلة، أنانى النزعة، لا يهمه إلا تحقيق مصالحه الخاصة على حساب أهل البلاد الأصليين، حريص دائما على تركهم فقراء متخلفين ليتسنى له استغلالهم أطول وقت ممكن، معاكس دائما لحركاتهم التحررية الاستقلالية، كابت لوجودهم السياسى و " القومى "..(1/219)
مع ذلك كله فإنه - فى البلاد غير الإسلامية - لا يتعرض لعقائد الناس وأفكارهم وتقاليدهم بشئ من العنف على الإطلاق، مكتفيا بما يتسرب إلى حياتهم تدريجيا من التأثير الناشئ من رغبة المغلوب فى تقليد الغالب. أما فى البلاد الإسلامية فقد كانت هناك دائما تدبيرات وترتيبات يقصد بها قصدا إلى إزالة مظاهر الحياة الإسلامية، ومحالة سحق الإسلام فى نفوس المسلمين بالعنف، أو صرفهم عنه صرفا خبيثا ماكرا بوسائل أخرى غير العنف (90)، ولكنه لا يهادن ولا يرضى عنه فى أى حال من الأحوال.. وكان من أول هذه التدبيرات والترتيبات فى كل بلد إسلامى وقع فى قبضتهم تنحية الشريعة الإسلامية عن الحكم ووضع القوانين الوضعية بدلا منها، وهو أمر لا علاقة له من قريب ولا بعيد " بالمصالح الاقتصادية " التى يزعم الغرب ويزعم معه أتباعه المستعبدون له أنها الهدف الأول والأخير من استيلائهم على العالم الإسلامى!
ومن هذا يتبين أن الدافع الصليبى كان موجودا دائما مع الغزو الأوربى لبلاد الإسلام، سواء كان يعمل منفردا كما كان فى منطلقه الأول، أو ممتزجا بالدافع الاقتصادى كما حدث فيما بعد، ولكنه فى جميع أحواله حاد النزعة محتدم الأورا لا يهدأ ولا يسكن، بل ازدادت حدته فى القرن الأخير خاصة مع بروز حركات البعث الإسلامى كما سيجئ (91).
? ? ?
4- الغزو الفكرى
يقصد بالغزو الفكرى الوسائل غير العسكرية التى اتخذها الغزو الصليبى لإزالة مظاهر الحياة الإسلامية وصرف المسلمين عن التمسك بالإسلام، مما يتعلق بالعقيدة وما يتصل بها من أفكار وتقاليد وأنماط سلوك.(1/220)
والدافع إلى استخدام الغزو الفكرى فى الحرب الصليبية المعاصرة هو الحصيلة المرة التى خرج بها الصليبيون من حروبهم الصليبية الأولى مع المسلمين فى القرنين الخامس والسادس الهجريين (الحادى عشر والثانى عشر الميلاديين)، والتى انتهت بالهزيمة الساحقة وعدم تحقيق شئ مما خرج الصليبيون من بلادهم لتحقيقه، وبذلوا فيه الأموال والدماء والنفوس.
فى تلك الحروب الأولى وقع لويس التاسع ملك فرنسا فى الأسر بعد هزيمة حملته الصليبية، وبقى سجينا فى المنصورة فترة من الوقت حتى افتداه قومه وفك أسره.
وفى أثناء سجنه أخذ يتفكر فيما حل به وبقومه، ثم عاد يقول لقومه: إذا أردتم أن تهزموا المسلمين فلا تقاتلوهم بالسلاح وحده - فقد هزمتهم أمامهم فى معركة السلاح - ولكن حاربوهم فى عقيدتهم، فهى مكمن القوة فيهم.
ووعى قومه نصيحته..
فلما عادوا لغزو العالم الإسلامى مرة أخرى لم يكتفوا بالسلاح وحده، ولكنهم استصحبوا معهم تلك الوسيلة الخبيثة التى نطلق عليها اسم " الغزو الفكرى ".
والهدف الأخير من الغزو الفكرى هو اقتلاع العقيدة الإسلامية من قلوب المسلمين وصرفهم عن التمسك بالإسلام، أما الوسائل فهى كثيرة متعددة، ولكن يمكن حصرها فى مجالين أساسيين مناهج التعليم، ووسائل الإعلام.
حين دخل الإنجليز مصر عام 1822 قام جلادستون رئيس الوزارة البريطانية يومئذ فى مجلس العموم البريطانى يقول مشيرا إلى المصحف: طالما كان هذا الكتاب فى أيدى المصريين فلن يقر لنا قرار فى تلك البلاد!(1/221)
وفى مؤتمر المبشرين الذى عقد بالقاهرة عام 1906 وقف الخطباء يقولون: لقد فشلنا! فقد فتحنا المدارس والمستشفيات والملاجئ، وأعطينا الأموال وقدمنا الخدمات، ثم لا يدخل فى النصرانية بعد ذلك إلا طفل صغير خطفناه من أهله قبل أن يعرف عقيدة أهله، أو رجل كبير جاء إلينا من أجل المال ولا نضمن عقيدته مع ذلك! فقام " الأب زويمر " (92) مقرر المؤتمر يرد عليهم: لقد استمعت إلى إخوانى الخطباء، ولست موافقا على ما يقولون. فليست مهمتنا هى تنصير المسلمين، فهذا شرف ليسوا جديرين به (!) ولكن مهمتنا هى صرف المسلمين عن التمسك بالإسلام، وفى ذلك نجحنا نجاحا باهر بفضل مدارسنا التبشيرية، والسياسية التعليمية التى وضعناها للبلاد الإسلامية (93).
وتلك أقوال صريحة لا تحتاج إلى تعليق..
فالمطلوب هو صرف المسلمين عن دينهم وعن قرآنهم، وليكونوا بعد ذلك ما يكونون. فإذا عجزوا عن تنصيرهم كما كانوا يشتهون ويخططون فى البدء (94)، فينبغى على الأقل أن ينتزعوا من قلوبهم ذلك الشئ المرهوب، الذى يزعجهم ويفزعهم حتى وهو كامن فى قلب " الرجل المريض " كما صرح أحد الكتاب فى كتاب " الغارة على العالم الإسلامى " حيث قال: إن أوربا كانت تفزع من الرجل المريض لأن وراءه ثلاثمائة مليون من المسلمين على استعداد للجهاد بإشارة من أصبعه!
نعم! إنها روح الجهاد فى هذا الدين أشد ما يفزعهم منه، وإن كان كل شئ فيه مقيتا لديهم لا يطيقون أن يبصروه! (95)
ولعل خير نموذج نقدمه فى مجال الغزو الفكرى هو التجربة المصرية.. فقد كانت للصليبيين عناية خاصة بمصر بالذات، وبالقضاء على الإسلام فيها، بسبب مركزها الحيوى المؤثر فى قلب العالم الإسلامى، وبالذات بسبب وجود الأزهر فيها، مما جعلها مركز الإشعاع الروحى والثقافى للعالم الإسلامى كله.(1/222)
قال أحد المبشرين فى كلمة له فى المؤتمر التبشيرى الذى عقد فى القاهرة سنة 1906 وهو يتساءل عما إذا كان الأزهر يتهدد كنيسة المسيح بالخطر: إن السنيين من المسلمين رسخ فى أذهانهم أن تعليم العربية فى الجامع الأزهر متقن ومتين أكثر منه فى غيره، والمتخرجون فى الأزهر معلوفون بسعة الإطلاع على علوم الدين وباب التعليم مفتوح فى الأزهر لكل مشايخ الدنيا، خصوصا وأن أوقاف الأزهر الكثيرة تساعد على التعليم فيه مجانا لأن فى استطاعته أن ينفق على 250 استاذا. ثم عرض اقتراحا يريد به إنشاء مدرسة جامعة نصرانية تقوم الكنيسة بنفقاتها لتتمكن من مزاحمة الأزهر بسهولة، وتتكفل هذه المدرسة الجامعة باتقان تعليم اللغة العربية. وختم كلامه قائلا: ربما كانت العزة الإلهية قد دعتنا إلى اختيار مصر مركز عمل لنا لنسرع بإنشاء هذا المعهد المسيحى لتنصير الممالك الإسلامية (96).
لذلك كانت عنايتهم بإفساد الإسلام فى مصر - أو بعبارة أخرى محاولة إخراج مصر من الإسلام - عناية شديدة، وبذلوا فى سبيل تحقيقها جهودا مركزة قد تكون أوسع نطاقا وأعمق أثرا من أى محاولة أخرى قاموا بها فى بقية العالم الإسلامى (فيما عدا محاولاتهم التى بذلوها فى تركيا لإزالة الخلافة حتى حققوا هدفهم على يد كمال أتاتورك) (97).
وثمت سبب آخر لاختيار التجربة المصرية هو أنها تجربة متكاملة، من أول الإنسلاخ من الإسلام إلى بدء العودة إليه. وسيجد كل قارئ من البلاد العربية أو الإسلامية الأخرى أن بلاده قد مرت بجانب من هذه التجربة عل الأقل. فإذا عرضنا له التجربة المتكاملة سهل عليه أن يستوعب أبعاد المؤامرة ويستوعب كذلك رد الفعل.
? ? ?
دور الحملة الفرنسية
فى عام 1798 م جاءت الحملة الصليبية الفرنسية إلى مصر بقيادة نابليون بونابارت.(1/223)
وندرس نحن لأبنائنا أن الحملة الفرنسية كانت فتحا عظيما - لا بالنسبة لفرنسا ولكن بالنسبة لمصر! وأنها هى بداية الانفتاح المصرى على العالم المتحضر، وبداية الخروج من الظلمات إلى النور. وما يزال هناك سؤال دورى يتردد فى اختبارات الشهادة الإعدادية، مرة يقال فيه: أذكر فوائد الحملة الفرنسية على مصر، ومرة يقال: أذكر " مآثر " الحملة الفرنسية على مصر! ولا يذكر فى المنهج مرة واحدة بطبيعة الحال أنها كانت حملة صليبية على مركز من أهم مراكز العالم الإسلامى!
يقال فى أهداف الحملة إن نابليون كان يريد أن يتخذ من مصر قاعدة له لقطع الطريق الإمبراطورى " بين بريطانيا والهند، بسبب التنافس الاستعمارى بين فرنسا وبريطانيا. ويقال إنه حمل معه مطبعة ذات أحرف عربية لطبع الأوامر والمنشورات " الإصلاحية " التى يصدرها نابليون إلى الشعب المصرى. وإنه جاء معه ببعثة علمية للتنقيب عن آثار الفراعنة.
وببلاهة وغفلة - أو بخبث وسوء نية - نتجاهل الأهداف الحقيقية للحملة، وأهداف المطبعة، والبعثة " العلمية "!
فأما التنافس الاستعماري بين بريطانيا و فرنسا في تلك الفترة فحقيقة تاريخية لا شك فيها، كذلك رغبة نابليون الأكيدة في أن يتخذ من مصر قاعدة يحارب منها بريطانيا، ويقطع " طريقها الإمبراطوري " إلى الهند. أما أن كل هذه أهداف الحملة فأمر يكذب واقع التاريخ!
فما العلاقة بين قطع الطريق الإمبراطوري، وبين محاولة تنحية الشريعة الإسلامية في مصر و إحلال القوانين الوضعية محلها؟!
أما حين نعلم أنها حملة صليبية تحمل معها أهدافا محددة ضد الإسلام.. فهناك يتضح كل شئ!
أرسل نابليون منشورا إلى المصريين بعد احتلال الإسكندرية جاء فيه:
" بسم الله الرحمن الرحيم. لا إله إلا الله لا ولد ولا شريك له في ملكه.
" من طرف الفرنساوية، المبني على أساس الحرية و التسوية: (98)(1/224)
" السر عسكر الكبير، أمير جيوش الفرنساوية بونابرت، يعرف أهالي مصر جميعهم أن من زمان مديد الصناجق الذين يتسلطون في البلاد المصرية يتعاملون بالذل والاحتقار في حق الملة الفرنساوية(99)..
" قد قيل لكم إنني ما زلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح فلا تصدقوه!(100) وقولوا للمغترين إننى ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين. وإننى أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى واحترم نبيه والقرآن العظيم!..
" أيها المشايخ والقضاة والأئمة والجريجية (101). وأعيان البلد: قولوا لأمتكم إن الفرنساوية هم أيضا مسلمون مخلصون (!!) وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا فى رومية الكبرى وخربوا فيها كرسى البابا الذى كان دائما يحث النصارى على محاربة الإسلام (!!).. ومع ذلك الفرنساوية فى كل وقت فى الأوقات صاروا محبين مخلصين لحضرة السلطان العثمانى، وأعداء أعدائه، أدام الله ملكه (!!).. الخ.. إلخ" (102).
وبعد هزيمة المماليك أمامه فى معركة " إمبابة " جاء واستقر فى القاهرة فى منزل. " الألفى بك " وكان يوصفه " مسلما! " محبا للإسلام والقرآن - يرأس مجلس العلماء ويخلع عليهم أحيانا " خلعا سنية ".. ويحاول استخدامهم فى ترويج القوانين الوضعية التى أراد إحلالها محل الشريعة الإسلامية، واتى كان يطبعها فى المطبعة العربية التى جاء بها معه ووضعها فى بولاق!
وياله من إجراء يقطع به الطريق الإمبراطورى بين بريطانيا والهند!
إنها لسذاجة بلهاء أن تتصور أن نابليون جاء فقط ليقطع الطريق الإمبراطورى بين بريطانيا والهند!
نعم إنه ينافس بريطانيا ويلاحقها ويضيق عليها. ولكنه جاء ومعه مخططه الصليبى الكامل لإخراج مصر من دائرة الإسلام، لعلها تكون بعد ذلك نقطة ارتكاز لإفساد بقية العالم الإسلامى الذى يلتقى فيها العلم، ويستمد منها النور..(1/225)
لقد كانت محاولة تنحية الشريعة الإسلامية هى أول نقاط المخطط التى بدأ تنفيذها بالفعل، حتى كشفه واحد من علماء الأزهر، فتح الله على قلبه وكشف بصيرته فعلم حقيقة نواياه (103)، فقال له فى وجهه: لو كنت مسلما حقا كما تدعى لطبقت الشريعة الإسلامية فى بلدك فرنسا، بدلا من تحية الشريعة هنا، ووضع القوانين الوضعية بدلا منها..
وأما المطبعة تلك " المأثرة " العظيمة فى مأثر الحملة.. فقد جاء بها نابليون لأكثر من سبب، فيها يطبع المنشورات التى يطالب فيها الشعب المصرى السلم بالخضوع لأوامر المغتصب الصليبى، كالمنشور الذى قال فيه أن الإيمان بالقضاء والقدر يستلزم الاستسلام الكامل للفرنسيين وعدم مقاومتهم، لأن تغلبهم على مصر والاستيلاء عليها كان بقدر من الله! كما كان يطبع فيها المنشورات الحاوية " لقانون نابليون " التى يصدرها لإبطال الشريعة الإسلامية بالتدريج!
وإذا كانت المطبعة قد استخدمت فيما بعد لهدف مغاير تماما لأهداف نابليون من نشر للتراث العربى الإسلامى، فهذا أمر لا يحسب لنابليون ولا يحسب من " مآثر " الحملة.. لأنه لم يكن مقصودا عند نابليون، بل كان عكسه تماما هو ما استخدمت فيه على أيامه!
وأما البعثة " العلمية " التى جاءت تنقب عن آثار الفراعنة، وهى المأثرة الثانية من مآثر الحملة فأمرها أنكى!
يقول أحد المستشرقين الصرحاء فى كتاب " الشرق الأدنى: مجتمعة وثقافته ": " إننا فى كل بلد إسلامى دخلناه، نبشنا الأرض لنستخرج حضارات ما قبل الإسلام ولسنا نطمع بطبيعة الحال أن يرتد المسلم إلى عقائد ما قبل الإسلام، ولكن يكفينا تذبذب ولائه بين الإسلام وبين تلك الحضارات " (104).
ولقد كان هذا هو الهدف المخطط للبعثة " العلمية " المرافقة للحملة.. لم يكن هدفا " علميا " إنما كان هدفا صليبيا مغلفا بالعلم، شأنه شأن الرحلات " العلمية " الاستكشافية التى قام بها الصليبيون ابتداء من القرن السادس عشر الميلادى!(1/226)
لقد كانت الآثار الفرعونية موجود منذ ألوف السنين. سرق ما سرق ونهب منها ما نهب.. وبقيت المعابد والهياكل الضخمة يزورها من يزور مصر ويعتبرها من " عجائب " الماضى السحيق، يتسلى برؤيتها ويقف عندها ليأخذ العبرة يمضى.. ويعود إلى بلاده ليصفها لمن لم يرها.. ثم يمضى الأمر كله بلا احتفال كبير..
وأما المسلمون من أهل مصر فقد كانوا يرونها دون شك، ويعجبون من دقائق صنعها، ولكنها فى حسهم أصنام وأوثان تركها قوم غابرون، انقطعت الصلة بينهم وبينهم بكون هؤلاء مسلمين وأولئك من عبدة الأوثان.
وكان هذا هو الحال فى كل مكان فى العالم الإسلامى توجد فى آثار من بقايا عبدة الأوثان الذين كانوا يسكنون الأرض قبل مجئ الإسلام، سواء فى الجزيرة العربية أو بلاد الشام والعراق أو غيرها من البلاد.. ظل الأمر كذلك ما يزيد على ألف عام.. الناس فى إسلامهم، وهذه الأوثان فى الأرض، لا تثير فيهم إلا عبرة التاريخ.
ولكن المخطط الخبيث الذى حمله الصليبيون معهم وهم يجوسون خلال الديار كان هو نبش الأرض الإسلامية لاستخراج حضارات ما قبل التاريخ، لذبذبة ولاء المسلمين بين الإسلام وبين تلك الحضارات، تمهيدا لاقتلاعهم نهائيا من الولاء للإسلام!
وكان هذا ذاته هو الهدف من ابعثة " العلمية " التى جاء بها نابليون معه إلى مصر!.
ومن السذاجة البلهاء - التى يحمل " المثقفون " قدرا هائلا منها - أن نقول إن أهدافها كانت علمية بحتة، وقد شهد شاهد من أهلها أنها لم تكن كذلك!
كان المقصود هو إثارة النعرة الفرعونية فى المصريين المسلمين، حتى إذا انتسبوا لم يكن انتسابهم إلى الإسلام، إنما إلى " مصر " بعيدا عن الإسلام كما قال " شاعر النيل " حافظ إبراهيم
…أنا مصرى بنانى من بنى هرم الدهر الذى أعيى الفنا(1/227)
وإذا كان حافظ إبراهيم نفسه له شعر إسلامى، فقد تحقق فيه المخطط الخبيث على أى حال، وهو ذبذبة ولائه بين الإسلام وبين الحضارات السابقة على الإسلام كما قال ذلك المستشرق الصريح!
هذه هى الأهداف الرئيسية لحملة نابليون إلى جانب قطع الطريق الإمبراطورى بلا شك: العمل على تنحية الشريعة الإسلامية، وإحلال القوانين الوضعية بدلا منها، وإثارة النعرة الفرعونية تمهيدا لعزل مصر عن العالم الإسلامى، أو إخراجها منه ومن الإسلام ذاته.
فإذا أضفنا إلى ذلك " بغايا الحملة "! اللواتى تحدث عنهن الجبرتى.. أولئك " الساقطات اللواتى جاء بهن نابليون، يسرن فى شوارع القاهرة حاسرات متخلعات يثرن الفتة وينشرن الفاحشة، ويغرين بعض النساء المسلمات بتقليديهن كما أشار الجبراى فى أكثر من موضع من كتاب " عجائب الآثار " (105).
وإذا أضفنا نداء نابليون الخطير الذى أذاعه غداة احتلاله لمصر ليهود العالم كى يعودوا لوطن آبائهم ليستوطنوه (106).
إذا أضفنا هذا وذاك فقد اتضحت لنا المؤامرة الصليبية الهائلة التى جاء بها نابليون إلى مصر، بالتعاون مع اليهود الذين كان لهم ضلع كبير فى إثارة الثورة الفرنسية (107). التى أنتجت نابليون ذاته ووجهت أعماله..
وتلك هى المآثر الحقيقية للحملة الفرنسية التى لا تذكرها كتب التاريخ المكتوبة بأيدى الأوربيين، والتى ينقلها ويتتلمذ عليها " الأساتذة " الكبار من المؤرخين " المسلمين! "
وأيا كان الأمر فإن حماقات نابليون فى مصر من ضرب الأزهر بالقنابل من القلعة، واتخاذه اصطبلا للخيل، ومحاولة اقتلاع المصريين عنوة من الإسلام، بالإضافة إلى الظروف السياسية والحربية التى أحاطت بفرنسا واضطرت نابليون لمغادرة مصر والعودة إلى فرنسا، وترك الحملة تواجه غضب المسلمين المتزايد من وجود الكفار على أرضهم، مما حدا بسليمان الحلبى إلى قتل كليبر قائد الحملة بعد رحيل نابليون (108).(1/228)
هذه الظروف كلها مجتمعة قد قضت على الحملة الفرنسية واضطرتها إلى مغادرة مصر.. ولكنها - مع الأسف - لم تقض على كل " مآثرها " فقد بقيت البعثة " العلمية " تواصل عملها فى الصعيد رغم ذهاب الحملة التى استقدمتها معها، وهذا من العجب العاجب الذى لا نستطيع اليوم تفسيره! وبقى من الحملة ذاتها رجال أدعوا الإسلام - كما أدعاه نابليون من قبل - كسليمان باشا الفرنساوى الذى كان له دور كبير فيما بعد! وبقى معهد الآثار الفرعونية الذى أنشأه نابليون فى حى المنيرة القاهرة (وما يزال قائما مكانه حتى هذه اللحظة!!)
عجزت الحملة الفرنسية - بسبب هذه الظروف - عن تنفيذ مخططاتها الصليبية اليهودية.. ولكن الأقدار ساقت لها من يقوم عنها بتنفيذ كل مخططاتها فى شخص " محمد على الكبير! "
? ? ?
دور محمد على
كان محمد على شخصا سيئ السمعة.. معروفا بالقسوة وغلظ الكبد.. ترسله الدولة العثمانية لتأديب القرى التى تتأخر فى دفع ما يفرض عليها من المال، فيعسكر هو وأفراد حملته التأديبية حول القرية ينهبون ويسلبون ويفزعون الآمنين، حتى يرى أهل القرية أن الأفضل لهم أن يدفعوا الأموال المطلوبة - وإن أبهظتهم - خيرا من الذل والفزع الذى يعاونونه من محمد على وأفراد حملته!
وكان محبا للعظمة إلى حد الجنون..
صفات كلها صالحة..! (109)
وليس بين يدى الآيدى ما يقطع بأن فرنسا هى التى تدخلت لدى السلطان لإرساله واليا على مصر.. وإن كانت الظروف تشير إلى ذلك (110)..
ولكنه جاء على أى حال.. واليا من قبل الدولة العثمانية على مصر.. عام 1805 من الميلاد، أى بعد مغادرة الحملة الفرنسية بثلاثة أعوام، كانت مصر فى أثنائها قد عادت إلى حكم المماليك مع الولاء للسلطان.
واحتضنته فرنسا احتضانا كاملا لينفذ لها كل مخططاتها!
أنشأت له جيشا على أحدث الأساليب ومجهزا بأحدث الأسلحة المتاحة يومئذ بإشراف سليمان باشا الفرنساوى!
وأنشأت له أسطولا بحريا على أحدث طراز يومذاك.(1/229)
وأنشأت له ترسانة بحرية فى دمياط.
وأنشأت له القناطر الخيرية لتنظيم عملية الرى فى مصر.
هل كان هذا كله حبا فى شخص محمد على؟ أو حبا فى مصر؟!
إنما كان لتنفيذ المخطط الصليبى الذى عجزت الحملة الفرنسية عن تنفيذه بسبب اضطرارها إلى الرحيل.
لقد قام محمد على بدور خطير فى نقل مصر من المرتكز الإسلامى إلى شئ آخر يؤدى بها فى النهاية إلى الخروج من الحيز الإسلامى.. سواء كان واعيا تماما لهذا الدور، أو مستغلا من قبل الصليبية لتنفيذه. والذى يغلب على حسنا - على ضوء التجربتين الأخيرتين، تجربة كمال أتاتورك وجمال عبد الناصر - أنه كان واعيا للدور وضالعا فيه. ولكن يستوى أن يكون ضالعا بوعى أو مستغلا مستغفلا.. فهو فى الحالين يؤدى ذات الدور،ويؤدى الدور إلى ذات النتائج بصرف النظر عن النوايا الداخلية للمنفذين. ولكن يبقى شئ مؤكد فى جميع الأحوال.. أن " المسلم " الحق لا يمكن بحال أن يقوم بمثل هذا الدور لا واعيا ولا مستغفلا، لأن إسلامه يمنعه أن يلتقى " التوجيه " من أعداء الإسلام.
لكى نفهم حقيقة الدور الذى قام به محمد على فى خدمة أعداء الإسلام، ينبغى أن نفهم ماذا كان يريد الأعداء.
لقد كانوا يريدون القضاء على الإسلام بصفة عامة، ولكنهم وضعوا فى مخططهم أهدافا مرحلية معينة تمكنهم - فتصورهم - من القضاء الأخير على الإسلام.. من هذه الأهداف: القضاء على الدولة العثمانية، والقيام " بتغريب " العالم الإسلامى مع العالم الإسلامى مع العناية الخاصة بتغريب مصر - بلد الأزهر - وتصدير الغريب منها إلى بقية العالم الإسلامى.(1/230)
فأما القضاء على الدولة العثمانية فالأمر فيه واضح. وأما عملية التغريب - عن طريق الغزو الفكرى - فهمتها الأولى قتل روح الجهاد الإسلامية ضد الصليبيين للقضاء على المقاومة المستمرة التى يلقاها الغزو الصليبى المسلح، وذلك بإزاحة الحاجز العقدى الذى يذكر المسلم دائما بأنه مسلم وأعداؤه كفار يجب أن يجاهدهم ولا يسمح لهم باحتلال الأرض الإسلامية، فإذا " تغرب " لم يعد هذا الحاجز قائما فى نفسه، ولم يعد يثير عنده ما يثيره الإسلام فى نفس المسلم. كا أن التغريب هو الذى يضمن تبعية العالم الإسلامى للغرب - بعد أن يخضع عسكريا له - لأنه حين يتغرب، يحس أن انتماؤه لم يعد للإسلام وإنما للغرب، فلا يشعر برغبة فى الانفصال عنه، وحتى إن رغب في يوم من الأيام أن " يستقل " ففى حدود التبعية العامة التى لا تخرجه من حوزة سادته، ومن النطاق الذى يضربه السادة حوله.
والآن وقد أدركنا تخطيط الأعداء فلننظر دور محمد على بعد " احتوائه " من قبل فرنسا.
كانت الخطة الصليبية - التى اضطلعت فرنسا بتنفيذها فى مصر - هى تكبير محمد على وإغرائه بالاستقلال عن السلطان، فتنفصل بذلك قطعة من أرض المسلمين عن الدولة الإسلامية (وذللك يضعفها ولا شك) ثم يكون محمد على نموذجا مغريا لغيره من الولاة، فيستقلون تباعا عن الدولة رغبة فى السلطان الذاتى، فتتفكك عرى الدولة وتنهار.. وفى ذات الوقت كانت الخطة هى تغريب مصر - بعد استقلالها - لضمان تبعيتها الدائمة للغرب وانفصالها النهائى عن الإسلام.(1/231)
وقام محمد على بالدور المطلوب خير قيام فإن الجيش الذى صنعته له فرنسا، وقام بتدريبه سليمان باشا الفرنساوى قد استخدمه محمد على لا فى محاولة الاستقلال عن الخلافة فحسب، بل فى محاربة الخليفة نفسه، وقد كاد يتغلب على جيش الخليفة بالفعل لولا تدخل بريطانيا.. تظاهرا بالوقوف فى صف الخليفة، وغيرة فى الحقيقة من أن تستأثر فرنسا " بصداقة " السلطان، وبالنفوذ فى مصر وفى الوقت نفسه لتخدم الهدف العام للصليبية بطريقة أخرى.. فقد أوقفت بريطانيا محمد على عند حده فى ظاهر الأمر، ومنعته من مهاجمة الخليفة، وفى الوقت ذاته ضمنت له الاستقلال الفعلى عن الخليفة، والاستئثار بحكم مصر حكما وراثيا ينتقل فى ذريته، مع التبعية الإسمية للسلطان (هذا بينما تجمعت أوربا الصليبية كلها لتحطيم محمد على فى معركة نافرين لأنه نسى نفسه وتجرأ على مهاجمة دولة صليبية هى اليونان، فقد كبرته الصليبية وسلحته لمحاربة الإسلام فقط، فإذا فعل ذلك فله كل العون. أما إذا هاجت أطماعه لحسابه الخاص، فمس أحد الصليبين بسوء، فهنا يجب تأديبه بل تحطيمه تحطيما كاملا إذا لزم الأمر).
أما الجانب الآخر من المهمة وهو عملية التغريب، فقد نفذها محمد على بسياسة الابتعاث التى اتبعها، بإرسال الطلاب الشبان إلى اوروبا ليتعلموا هناك.. وكان هذا أخطر ما فعله فى الحقيقة.ز لأنه من هناك بدأ الخط " العلمانى " يدخل ساحة التعليم، ومن ورائه ساحة الحياة فى مصر الإسلامية.
وقد يقول قائل إنه لم يكن أمامه من سبيل للنهوض بمصر إلا هذا السبيل، وهو قول مردود..(1/232)
فلو كان فى مكان محمد على قائد مسلم واع (111)، يريد أن ينهض بمصر الإسلامية - أى على أسس إسلامية وقاعدة إسلامية - فقد كان أمامه سبيل آخر، هو النهوض بالأزهر - معقل العلم لا لمصر وحدها بل للعالم الإسلامى كله - برده إلى الصورة الزاهية التى كانت عليها المعاهد الإسلامية فى عصور النهضة، حيث كانت تعلم العلم الشرعى والعلوم الدنيوية، وكان يتخرج فيها الأطباء والمهندسون والرياضيون والفلكيون والفيزيائيون والكيمائيون المسلمون الذين علموا العلم لأوربا يوما من الأيام.
فإذا كانت بلاده - أو بلاد العالم الإسلامى جمعاء تفتقر إلى المتخصصين فى هذه العلوم، الذين يحتاج إليهم الأزهر لينهض بمهمته، ففى وسعه يومئذ أن يرسل أفرادا بأعيانهم، يختارون اختيار دقيقا، على أساس دينهم وتقواهم، وحصافتهم ورزانتهم، بعد أن يكونوا قد تجاوزوا سن الفتنة، وأحصنوا بالزواج فلا ينزلقون فى مزالق الفساد الخلقى.. فيتخصصون فى مختلف العلوم ويعودون ليدرسوا للطلاب فى بيئتهم الإسلامية، فيظل الشباب محافظا على إسلامه، ويتزود من العلوم بما ينفض عنه تخلفه العلمى، ويعيد إليه الحاسة العلمية التى فقدها المسلمون خلال عصر التخلف الطويل.. وعندئذ " تنهض " مصر، بل ينهض العالم الإسلامى كله من طريق الأزهر الذى يؤمه الدارسون من جميع بلاد العالم الإسلامى.. ويكون هذا القائد المسلم قد أدى أجل خدمة للإسلام والمسلمين.
فهل فكر محمد على على هذا النحو، أو هل كان قمينا أن يتجه هذه الوجهة
لرو كان هذا لما اختاروه. ولما جاءوا به ليؤدى دوره " العظيم ".
إنما كانت صياغته النفسية كلها و " التوجيه " الذى يتلقاه، كله إلى الجانب الآخر. جانب التغريب.(1/233)
لذلك أرسل الشبان الصغار بأعداد متزايدة إلى أوربا، وهم فى سن الفتنة، غير محصنين بشئ.. " لينهلوا " من العلم إن شاءوا، ومن الفساد إن شاءوا، أو من العلم والفساد معا فى غالب الأحيان.. ثم يعودوا، ليكونوا رأس الحربة المتجه إلى الغرب، الذى يجر بلاده كلها إلى هناك.
ولا عبرة بأنه كان يرسل مع كل بعثة إماما يؤمهم فى الصلاة ويعلمهم أمور دينهم. فقد كان للصلاة حتى ذلك الوقت قداستها فى حسن المسلمين، ولا يتصور وجود " مسلم " لا يؤديها. أو هى فى أقل الاعتبارات " تقليد" له قداسته، لا يمكن أن يخرج عليه مسلم. لذلك لم يكن يتصور أن تكون هناك مجموعة من المسلمين بغير إمام يؤمهم فى الصلاة، ولا يمكن أن يقد محمد على على كسر ذلك التقليد المقدس فى ذلك الحين.
ولكن ماذا فعل الآئمة.
لقد كان رفاعة رافع الطهطاوى واحدا من أولئك الأئمة " العظام ".. أو هكذا كان يوم ذهب إلى فرنسا.. ولكه عاد وهو واحد من أئمة التغريب.
استقبله أهله بالفرح يوم عاد من فرنسا بعد غيبة سنين.. فأشاح عنهم فى ازدراء، ووسمهم بأنهم " فلاحون" لا يستحقون شرق استقباله.
ثم ألف كتابه الذى تحدث فيه عن أخبار " باريز " ودعا فيه إلى " تحرير " المرأة أى إلى السفور، وإلا الاختلاط، وأزال عن الرقص المختلط وصمة الدنس، فقال إنه حركات رياضية موقعة على أنغام الموسيقى، فلا ينبغى النظر إليه على انه عمل مذموم.
ولم يكن يتوقع بطبيعة الحال أن تستجيب الأمة الإسلامية فى مصر إلى هذه الدعوى الطهطاوية فى حينها، فقد كانت بقية الإسلام فى نفوس المسلمين، كما كانت سيطرة التقاليد الإسلامية على كل جوانب الحياة، تبلغان من القوة إلى الحد الذى يجعل مثل تلك الدعوى فى ذلك الوقت مثارا للسخرية ومثارا للاستنكار الشديد.
ولكن رأس الحربة كان يشير إلى الاتجاه.. الاتجاه إلى التغريب.
لقد كان العمل الذى قام به رفاعة الطهطاوى _ ومن ورائه محمد على _ هو على وجه التحديد على النحو التالى:(1/234)
كانت فى حياة المسلمين _ فى مصر وفى غيرها من بلاد العالم الإسلامى _ نقطة ارتكاز واحدة، هى الإسلام - بصرف النظر مؤقتا عن كل ما أصابهم من تخلف عن حقيقة هذا الدين - فجاء رفاعة الطهطاوى فوضع إلى جانب نقطة الارتكاز الضخمة القائمة، نقطة ضئيلة غاية الضآلة هى " الحضارة الغربية " دعا المسلمين إلى الانتقال إليها والارتكاز عليها. ورويدا رويدا فى حياة المسلمين أخذت تلك النقطة الضئيلة تكبر وتتضخم، وتصبح نقطة ارتكاز ثانية فى حياة المسلمين إلى جانب الإسلام، مع التضاؤل التدريجى فى نقطة الارتكاز الأولى بمقدر ما تتضخم النقطة الثانية.. حتى يأتى وقت تصبح تلط النقطة الضئيلة هى نقط الارتكاز الرئيسية، وتصبح نقطة الارتكاز الضخمة السابقة نقطة جانبية ضئيلة تكاد تنمحى من الوجود.
? ? ?
لقد استغرقت عملية الانتقال التدريجى ما يقرب من قرن من الزمان، ولكنها كانت عملية مستمرة لا تتوقف، بل تتوسع على الدوام، على النحو الذى سنتحدث عنه فى الفقرات التالية، متتبعين مراحل الانتقال فى مجالات الحياة المختلفة، الاجتماعية والأخلاقية والفكرية والسياسية والاقتصادية.. وبالذات فى قضية " تحرير المرأة ". ولكن ينبغى هنا أن نتوقف لنسأل: لماذا حدث هذا الانتقال؟.
هل هى الهزيمة العسكرية أمام الغرب الظافر، وولع المغلوب بتقليد الغالب؟
إن هذا وحده لا يكفى لتفسير ما حدث خلال ذلك القرن من الزمان، الذى تغرب فيه العالم الإسلامى، ونسى أصوله كلها كأنه لم يكن مسلما فى يوم من الأيام، بل كأنه لم يعايش الإسلام من قبل ثلاثة عشر قرنا متوالية بلا انقطاع.
هل الهزيمة العسكرية وحدها تكفى لتفسير هذا التحول الهائل، بل هذا الانهيار الهائل خلال قرن واحد من الزمان؟
فى الأمة صاحبة العقيدة لا تثر الهزيمة العسكرية كل هذا التأثير، بل قد لا يكون لها تأثير على الإطلاق.(1/235)
لقد هزم المسلمون هزيمة شديد فى أحد، يكفى فى تصويرها قوله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} [سورة آل 3/153]
وهزتهم الهزيمة هزا شديدا لأنهم ل يكونوا يتصورون أن يهزموا قط ما داموا مؤمنين وأعداؤهم كفار، حتى قالوا مستنكرين فى دهشة: أنى هذا؟ أى كيف يتأتى لهذا أن يحدث.
{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} [سورة آل 3/165]
ولكن التوجيه الربانى بعد الهزيمة كان البلسم الشافى للجراح:
{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} [سورة آل 3/139]
ومنذ نزل هذا التوجيه وعته الأمة وعملت به، فلم تعد الهزيمة توهنها، لأنها تستعلى بالإيمان، وتتأسى بالذين وصفهم الله لهم:
{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)} [سورة آل 3/146-148]
حتى حين هزموا الهزيمة المنكرة أمام التتار والصليبيين.(1/236)
لقد كانت غارة التتار كاسحة، حتى إنها أزالت الدولة العباسية من الوجود، وخربت بغداد، وأذلت أهلها فجرى النهر أربعين ليلة أحمر من كثرة ما أريق من دماء المسلمين. ووصل الرعب والضعف بالمسلمين إلى أن التترى كان يلقى المسلم فى شوارع بغداد وليس معه سيفه، فيقول للمسلم: ابق هنا حتى أعود إليك بالسيف لأقتلك، فيبقى المسلم من الضعف والذل واقفا فى مكانه حتى يعود إليه التترى بالسيف فيقتله. ومع ذلك كله لم تذل أرواح المسلمين بحيث ينظرون إلى التتار على أنهم خير منهم، أو أنهم جديرون بالاحترام. إنما كانوا فى نظرهم مجموعة من الهمج الوثنين المتبربرين لا يستحقون إلا الاحتقار المطلق حتى وهم منتصرون.
وكانت غارات الصليبيين مفاجئة للمسلمين وهم على غير استعداد.. واستغرقت قرنين من الزمان.. لقى المسلمون فيها هوانا شديدا حتى ختم الله لهم بالنصر عليهم أيام صلاح الدين، بعد أن أقاموا دويلات نصرانية فى مصر والشام، ومع ذلك لم تذل أرواح المسلمين بحيث ينظرون إلى النصارى على أنهم خير منهم، أو أنهم جديرون بالاحترام. بل كانوا فى نظرهم هو المشركين عباد الصليب.. وكانوا يحتقرونهم احتقارا شديدا من أجل شركهم ومن أجل فساد أخلاقهم، وكانوا يقولون عنهم إنهم دياييث. يكون الواحد منهم سائرا مع زوجته فى الطريق فتلتقى بصديق لها، فيتنحى الزوج ليتيح للمرأة أن تتحدث مع صديقها ما شاءت من الحديث (112).
الهزيمة العسكرية وحدها لا تثير إذن فى الأمة ذات العقيدة مهما كانت شديدة وغير متوقعة.
ولكن قد يقال إن التفوق العلمى والحضارى والمادى الذى ووجه به المسلمون - مع الهزيمة - هو الذى أثر فيهم هذا التأثير، وحولهم هذا التحول، لأنهم فوجئوا به دفعة واحدة، فانكشف لهم مقدار تخلفهم الرهيب.
وهو قول ظاهرة مقنع.. وقد كان لاكتشاف المسلمين مدى تخلفهم إزاء تفوق الغرب أثر فى انبهارهم بما عند الغرب ولا شك.. ولكن هذا وحده لا يفسر. فضلا عن أن يبرر..(1/237)
لقد كان المسلمون فى بدء حياتهم " متخلفين " فى ميدان العلم وفى الجانب المادى والتنظيمى من الحضارة بدرجة لا تقاس إلى جانب ما كان لدى القوتين المجاورتين فارس والروم.. وكان المسلمون فى حاجة إلى الاقتباس منهم والأخذ عنهم فى هذين الميدانين، ولكنهم - كما أشرنا فى الفصل الأول - لم يشعروا قط أن أعداءهم أعلى منهم، ولا أن ما عند أعدائهم م أفكار ومعتقدات وأنماط سلوك خير مما عندهم. بل نظروا باستغلاء الإيمان إلى هذا كله على أنه جاهلية عمياء لا تهتدى بالهدى الربانى ولا تطبق فى حياتها منهج الله. فأخذوا العلم الذى كانوا يحتاجون إليه، وأخذوا من الجوانب المادية والتنظيمية ما وجدوا أنفسهم فى حاجة إليه، وطوعوه لمنهج حياتهم، ولم يأخذوا شيئا من معتقدات الجاهلية ولا أفكارها ولا أنماط سلوكها.. وكان هذا هو المسلك الصحيح بالنسبة للأمة المسلمة حين تشعر بحاجتها إلى شئ تفتقده عندها وتجده عند الأمم الجاهلية من حولها.
أما فى هذه المرة فقد كان مسلكها مختلفا كل الاختلاف..
كان مسلكها هو " الانبهار " بما عند الغرب.. الانبهار الذى يؤدى إلى الأنهيار أمام القوة الغالبة، وتسليم القياد لها بلا تحفظ، والرضى بالتبعية الكاملة لها، بل الامتنان والاغتباط إذا قبلت القوة الظافرة أن تعتبرها من بين الأتباع.
كيف حدث ذلك؟
لا الهزيمة العسكرية وحدها تصنع هذا فى الأمة ذات العقيدة، ولا التخلف العلمى والحضارى والمادى وحده يصنع ذلك ن ولا حتى اجتماع الهزيمة والتخلف معا يمكن أن يؤدى إلى كل ذلك الانهيار.
إنما هى الهزيمة الداخلية، الناجمة من التخلف العقدى.
{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} [سورة آل 3/139](1/238)
إن اشتراط الإيمان فى الآية الكريمة لايجئ عبثا. فالإيمان الصحيح وحده هو الذى يحول دون الوهن والحزن فى حالة الهزيمة أمام الأعداء (113)، ويحول دون النتائج التى تترتب على الوهن والحزن، وهى الاستسلام للأعداء، والكف عن مقاومتهم، والكف عن محاولة منازلتهم من جديد.
والاستعلاء قرين الإيمان.
الاستعلاء على الجاهلية، والنظر إليها على أنها جاهلية ولو كانت تملك ما تملك من أدوات النصر العسكرى، ومن أدوات التمكن المادى فى الأرض.
والآية الكريمة ترد المؤمنين إلى الميزان الحقيقى والمعيار الحقيقى. فحين تكون القضية هى قضية الكفر والإيمان، فالمؤمنون هم الأعلون ولو أصابتهم هزيمة مؤقتة أو ضعف مادى مؤقت، لأن الإيمان بذاته أعلى من الكفر، أعلى منه نفسيا وروحيا وعقليا وأخلاقيا وإنسانيا بمقدار ما يعلو الحق على الباطل، والمنهج الصحيح على المنهج الفاسد، والرؤية الصحيحة على الرؤية الخاطئة، والسلوك المستقيم على السلوك المعوج.
{أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)} [سورة الملك 67/22]
هذا من الوجهة النفسية والشعورية والوجدانية، التى تمنع الذوبان فى العدو، أو الهزيمة الروحية أمامه.
ومن الوجهة العملية حين يستيقن المؤمنون بأنهم هم الأعلون بالعقيدة الصحيحة والمنهج الصحيح - ولو أصابتهم هزيمة مؤقتة أو ضعف مادى مؤقت _ فإن هذا اليقين ذاته هو الذى يعينهم على أن يقوموا من كبوتهم، ويسترجعوا قوتهم، ويتأهبوا لمنازلة الأعداء من جديد:
{الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)} [سورة آل 3/172-173](1/239)
الإيمان الصادق إذن، بمفهومه الإسلامى الصحيح، لا بالمفهوم الإرجائى ولا بالمفهوم الصوفى، ولا المتفلت من التكاليف الربانية، هو الذى يعصم الأمة من الهزيمة الروحية أمام الأعداء، وإسلام القياد لهم، والرضى بالتبعية لهم.. فهل كان هذا الإيمان موجودا بصورته تلك حين اقتحم الصليبيون بلاد الإسلام، وطغوا فيها وأكثروا فيها الفساد؟
كلا بلا شك!
ولو كان موجود بصورته تلك، التى نزل بها من عند الله، وعلمها رسول الله ( لأصحابه، لما حل بالمسلمين ما حل بهم مهما يكن الهم من ضعف القوة العسكرية والتخلف فى الناحية العلمية والمادية والتنظيمية.. إنما كان الإيمان كفيلا بأن يبعث الأمة لتنزيل عنها ضعفها، وتستدرك تخلفها، وتقوم لمناجزة الأعداء من جديد..
حقيقة كان هناك إيمان من لون ما..
هو الذى جعل الأمة تقاوم الغزو الصليبى، وتجاهده مجاهدة إسلامية، أى تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتنظر إليه على أنه غزو من قبل الكفار لبلاد الإسلام تنبغى مجاهدته وإزالته، وتقاوم ما وسعتها المقاومة عملية تنحية الشريعة الإسلامية وإحلال القوانين الوضعية محلها، على أساس أن هذا كفر يخرج الأمة من الملة إذا رضيت به.. كما جاهدت الأمة الإسلامية فى مصر حملة نابليون الصليبية، ومنعته من إحلال قانونه محل الشريعة الإسلامية. وكما جاهد المسلمون فى الشمال الإفريقى ضد الغزو الصليبى الفرنس، وفى الهند ضد الغزو الصليبى الإنجليزى، وفى أندونيسيا ضد الغزو الصليبى البرتغالى ثم الهولندى.. وباختصار: فى كل مكان واجهت فيه الأمة الإسلامية غزو أوربا الصليبية لبلادها.(1/240)
ولكن هذا الإيمان كان قد اعتراه ما بيناه من قبل من الفكر الإرجائى، والاتجاه الصوفى، والتفلت من التكاليف، فضلا عن تحوله عند العامة إلى مجموعة من الخرافات ومجموعة من التقاليد.. لذلك لم يصمد طويلا للغزو، رغم بسالة المقاومة التى أبداها فى جهاده. فما انهار كان انهياره عنيفا غفير معهود من قبل.. وانهارت معه الأمة وأسلمت نفسها للتيار!
ولنعد الآن لنستكمل مع التجربة المصرية خطوات التاريخ..
? ? ?
دور الاحتلال البريطاني وأدواته في الإفساد
كان محمد على وأبناؤه حتى الخديوى إسماعيل عند حسن ظن فرنسا بهم.. فأسسوا للنفوذ الفرنسى فى مصر، وقاموا بعملية التغريب على النحو المطلوب، وقال " إسماعيل العظيم " قولته المشهورة: أريد أن أجعل مصر قطعة من أوربا!
حتى جاء توفيق فتغير الربان الذى يمسك بالدفة ولكن لم يتغير الاتجاه!
بدأ النفوذ الإنجليزى فى عهده يتدخل فى شئون مصر من بعيد.. ثم انتهى الأمر باحتلال الإنجليز لمصر عام 1882 م.
وكانت الخطة الجديدة بطبيعة الحال هى التغريب على الطريقة الإنجليزية بدلا من الفرنسية، وإن كان العجيب أن انجلترا لم تتعرض قط للمؤسسات الصليبية الفرنسية كالمدارس والمعاهد التبشيرية وما شاكلها، رغم حرصها علىطرد النفوذ الفرنسى السياسى. ذلك أن دول أوربا الصليبية قتتنافس فيما بينها على النفوذ والمغانم تنافسا عنيفا يؤدى إلى الحرب بين الحين والحين، ولكنها إزاء الإسلام تتساند كلها ويحمى بعضها مصالح بعض!!
أهم ما حدث من التغيير هو الأسلوب الإنجليزى البارد فى تحويل الناس عن الإسلام، ذلك الأسلوب الذى يتفق مع مثلهم المشهور (Slow but Sure) بطئ ولكنه أكيد المفعول.
كان فى نابليون حماقة الفرنسيين.. يغضب فيضرب، فيؤدى الضرب إلى مزيد من اليقظة ومزيد من المقاومة، كما حدث حين ضرب الأزهر بالقنابل وجعله اصطبلا للخيل.(1/241)
أما الإنجليز فهم لا يقلون فى صليبيتهم عن الفرنسيين، ولا يقلون فى مقتهم للأزهر عن غيرهم من الصليبيين (114) ولكن طريقتهم فى التغيير تختلف فى الوسائل وإن لم تختلف فى الأهداف، فتأتى بنتائج مختلفة فى نهاية المطاف.
بطئ ولكنه اكيد المفعول.. يعمل عمله دون أن يتيقظ الناس للتغيير.
يقول اللورد كرومر، أول " معتمد بريطانى " فى مصر (115): " إن مهمة الرجل الأبيض الذى وضعته العناية الإلهية على رأس هذه البلاد (يقصد مصر) هو تثبيت دعائم الحضارة المسيحية إلى أقصى حد ممكن، بحيث تصبح هى أساس العلاقات بين الناس. ولكن كان من الواجب - منعا من إثارة الشكوك - ألا يعمل على تنصير المسلمين، وأن يرعى من منصبه الرسمى المظاهر الزائفة للدين الإسلامى، كالاحتفالات الدينية وما شابه ذلك "؟ (116).
وحين بدأ حكمه فىمصر شكاه المبشرون إلى الحكومة البريطانية بدعوى أنه يضيق عليهم! فلما أرسلت الحكومة البريطانية الشكوى إليه ليرد عليها، جمع المبشرين وقال لهم: هل تتصورون أننى يمكن أن أضيق عليكم؟! ولكنكم تخطفون الأطفال من الشوارع، وتخطفون الرجال لتنصيرهم، فتستفزون المسلمين فيزدادون تمسكا بدينهم، ولكنى اتفقت مع شاب تخرج قريبا فى كلية اللاهوت (Trinity College) بلندن ليضع سياسة تعليمية ستحقق تعليمية ستحقق جميع أهدافكم! (117).
هكذا يكون العمل البطئ الأكيد المفعول!
سياسة تعليمية تحقق جميع أهداف المبشرين - أى جميع الأهداف الصليبية - على مهل، ودون ضجة تثير الانتباه " منعا من إثارة الشكوك "!
? ? ?
أ- مناهج التعليم
تولى " المستر دنلوب " - القسيس الذى عينه كرومر مستشارا لوزارة المعارف - مهام منصبه، وكان فى يد " سعادة المستشار " - كما كانوا يسمونه - السلطة الفعلية الكاملة فى وزارة المعارف المصرية الإسلامية.
وحين يكون القسيس على رأس السلطة فى وزارة التعليم، فما الذى يتوقع أن يكون من أمر التعليم.(1/242)
جاء دنلوب ليضرب الأزهر - موطن الخطر على كنيسة المسيح - ولكن بغير حماقة نابليون، وقد علم أن ضربه بتلك الحماقة كان سببا فى استثارة المسلمين.
ترك دنلوب الأزهر على ما هو عليه لم يتعرض له على الإطلاق، ولكنه - على الأسلوب البطئ الأكيد المفعول - فتح مدارس جديدة تعلم " العلوم الدنيوية " ولا تعلم الدين، إلا تعليما هامشيا هو فى ذاته - كما سيجئ - جزء من خطة إخراج المسلمين من الإسلام
وقال الناس فى بادئ الأمر - على البديهة، واستيحاء من البقية الباقية من الحس الإسلامى فى قلوبهم - إن هذه المدارس مدارس كفر لأنها لا تعلم القرآن.. إذ كانت المدارس الأولية التى تمهدلدخول الأزهر تعلم القرآن كله فى سنوات الدراسة الأربع..
ولكن مدارس الكفر هذه أصبحت - بتدبير دنلوب - هى الوسيلة للرزق من ناحية، وللمكانة الاجتماعية من ناحية أخرى..
لقد كان المتخرج من هذه المدارس - بعد أربع سنوات فقط من الدراسة - يعين فور تخرجه فى دواوين الحكومة براتب يبلغ أربعة جنيها كاملة، كانت فى ذلك الحين تمثل ثروة ضخمة، إذ كانت الأسعار زهيدة إلى حد لا يتصور بالنسبة للأسعار الحالية، وكانت القوة الشرائية للجنيه المصرى عظيمة، بحيث كانت الجنيهات الأربعة تكفى للحياة الكريمة فى العاصمة ذاتها، ويستطيع صاحبها أن يتزوج ويكون أسرة، ويتبقى معه بعد ذلك ما يدخره ليشترى به " الأطيان " فى الريف (118).
أما خريج الأزهر الذى يقضى فى الدراسة عشرين سنة من عمره فى بعض الأحيان فلا يجد عملا.. وإن وجد عملا فى إقامة الشعائر فى المسجد فبمائة وعشرين قرشا، تكفى للحياة نعم، ولكنها حياة ذليلة ضئيلة بالنسبة لخريج المدرسة الابتدائية الذى يعمل فى " الديوان ".(1/243)
وحين يكون الوضع على هذا النحو، ويكون لك ولد تريد تعليمه، فإلى أين تذهب به؟ تذهب به إلى الأزهر ليقضى زهرة شبابه هناك ثم يتخرج ليبقى عاطلا، أو يعمل مقيم شعائر فى المسجد بهذا الراتب الضئيل؟ أ تذهب به إلى مدارس دنلوب، فيتخرج بعد أربع سنوات ليكون من المشار إليهم فى المجتمع، من " موظفى الحكومة " الذين يتودد إليهم البقال والجزار وصاحب المسكن، ويحتلون المكانة المرموقة فى كل مكان؟
لقد كان الانتساب إلى الأزهر فيما مضى شرفا تتسابق إليه الأسر.ز وكانت الأسرة التى تحوى ضمن أفرادها " عالما " أى واحدا من خريجى الأزهر، تصبح محط الأنظار، سواء فى العاصمة أو فى الأقاليم، وينظر إليها الناس بالتبجيل والإكبار، لإن وظائف الدولة يحتل معظمها خريجو الأزهر، فينالون - فىالمجتمع الإسلامى - كل وسائل الرفعة والصعود.
وبصرف النظر عما كان فى الأزهر من تخلف عن المنهج الإسلامى الصحيح، الذى كانت تمثله جامعات الأندلس، بل كان يمثله الأزهر نفسه فى عصور الازدهار، من الجمع بين علوم الدين والدنيا، وإعداد الناس لعمارة الأرض بمقتضى المنهج الربانى.. فقد كان مرتبطا فى حس الناس بالإسلام، وكان رمزا حيا له فى ضمائرهم، ومن ثم كان اعتزازهم به، وتوجههم إليه، وكانت لخريجيه تلك المكانة فى المجتمع الإسلامى. فأما الآن - فى عهد دنلوب - فقد تغير الحال تماما..
لم يعد يذهب إلى الأزهر إلا الفقراء الذين يعجزون عن دفع مصروفات المدارس " الحديثة " وفى الوقت ذاته ينالون " جزاء " فقرهم ضياعا فى المجتمع وهوانا فيه.(1/244)
وقد تبعت بعض الأسر العريقة واحدا من أبنائها للأزهر من أجل " البركة " وابتغاء المكانة فى الريف خاصة - كا صنعت أسرة مصطفى عبد الرازق مثلا - ولكن هؤلاء الأفراد القلائل من خريجى الأزهر من الأر العريقة والثرية لم يكونوا لينفوا الصورة العامة التى صار الأزهر إليها، وهى أنه مأوى الفقراء العاجزين عن دفع تكاليف " التعليم الحديث " العاجزين فى الوقت ذاته عن نيل المكانة فى " المجتمع الحديث ".
أما خريجو المدارس الجديدة فأولئك هم " الطبقة الجديدة " فى المجتمع.. الطبقة الصاعدة.. الذين يلوون ألسنتهم برطانة المستعمر، ويفاخرون بها، ويحضنهم المستعمر من جانبه، ويؤدى عن طريقهم الدور المطلوب، البطئ الخطوات، الأكيد المفعول.
من هم أولئك الخريجون؟ ما ثقافتهم؟ ما وجهتهم؟ كيف نفذ بهم دنلوب أهدافه الصليبية التى انتدبه من أجلها كرومر، ومنحه من أجلها ما منحه من سلطان؟
فلننظر فى المناهج التى وضعها دنلوب فى مدارسه، ولنتخير من بينها أشدها خطرا وأبعدها أثرا: مناهج الدين، ومناهج التاريخ.
فأما اللغة العربية - لغة القرآن الذى يحترق قلب الصليبية حقدا عليه - فقد خطط دنلوب لقتلها والقضاء عليها.
فقد كان الراتب الذى يتقاضاه المدرسون من أصحاب المؤهلات العليا اثنى عشر جنيها إلا مدرس اللغة العربية وحده، يتقاضى أربعة جنيهات.
وكان لهذا الوضع انعكاساته ولا شك سواء فى داخل المدرسة، أو فى المجتمع على اتساعه. فأما فى داخل المدرسة جميعا حتى ذوو المؤهلات المتوسطة، بل يتقدمه - فى الراتب - فراش المدرسة أحيانا إذا كان ذا أقدمية طويلة.. ومن ثم لم تعد له كلمة فى المدرسة، فلا هو يستشار فى شئونها، ولا هو يشارك فى شئ من إدارتها، ولم يعد له كذلك عند التلاميذ احترام، ولولا العصا التى يحملها ويؤدب بها التلاميذ ما وقره أحد ولا عمل له حساب. بينما يحظى مدرس اللغة الإنجليزية بالذات بأكبر قدر من التوقير والاحترام.(1/245)
أما فى المجتمع الواسع فهو أشد ضياعا منه فى المدرسة فالناس جميعا يعملون وضعه المالى، ويعلمون أنه فى ذيل القافلة، وأن المدرسين الآخرين مقدمون عليه فى الراتب وفى الاحترام سواء وإذا كانت العصا اللتى يحملها تخيف منه تلاميذه فيلتزمون بالأدب فى درسه، فإن المجتمع فى الخارج لا يخشى عصاه تلك، بل يتخذها مادة للتندر والهزء والاستخفاف، بينما العصا التى يحملها زميله مدرس اللغة الإنجليزية توفر له الاحترام داخل المدرسة، ولا تعيبه فى المجتمع بشئ، إن لم توفر له المهابة والتقدير والتعظيم.
الناس من يلق خيرا قائلون له ما يشتهى ولأم المخطئ الهبل(119)
وهكذا ينحدر وضع مدرس اللغة العربية فى المجتمع، بقدر ما ينحدر راتبه، ويصبح مادة دائمة للسخرية، يتحدث الناس عن جهله، وتخلفه، وضيق أفقه، وفقره، وانحطاط مستواه الاجتماعى والفكرى.. وأشد ما يعاب عليه، ويزدرى من أجله، أنه لا يعرف لغة أجنبية.
وحين يصبح مدرس اللغة العربية فى هذا الوضع المهين الذى لا يبعث على الاحترام، فإن وضعه يؤثر حتما على المادة التى يدرسها.. وقد كان هذا هو الهدف المقصود من وراء ذلك التدبير الخبيث.
لقد انتقل الوضع المهين المزرى من الدرس إلى المادة،، وصارت اللغة العربية موضع الازدراء والتحقير والنفور.. فالطلاب يشكون من صعوبة اللغة العربية نحوا وصفا وبلاغة ونصوصا وأدبا.. وقد ظلوا يعايشونها ثلاثة عشر قرنا قبل ذل بلا شكوى. وكأنما اكتشفوا فجأة تلك الصعوبة التى تصرفهم عنها صرفا. وق بدءوا يوازن بينها وبين اللغات الأجنبية - وبالذات الإنجليزية - ليجدوا أن اللغات الأجنبية أيسر - وبالذات الإنجليزية - فى كل شئ فهى لغت غير معربة، لا تحير القارئ بين الر فع والنصب والجر، ونحوها سهل، وهجاؤها سهل، وتراكيبها غير معقدة ! (120).(1/246)
والخلاصة التى يصلون إليها أن العناية باللغة العربية غير واجبة، بل ربما كانت غير جائزة. بينما العناية باللغة الأجنبية - وبالذات الإنجليزية - واجبة كل الوجوب وأصبح الطالب الذى وجه هذا التوجيه وطبع ذلك الطبع يخطئ فى النحو العربى فينصب الفاعل ويرفع المفعول بلا تحرج ولا مبالاة، فإذا صحح له خطوة أو نبه إليه هز كتفيه مستنكفا وقال: يا عم دعك من الفقهنة " هل أنا " فقى "! (121) بينما يحترز كل الاحتراز أن يخطئ فى نطق كلمة من لغة أجنبية أو فى تصريف فعل من أفعالها أو فى صياغة تركيب من تراكيبها، وإذا وقع منه الخطأ صار سخرية المجلس كله ورمى بالجهل المعيب.
والكتاب يشكون من جمود اللغة وعدم مرونتها وعدم طواعيتها، وعدم قدرتها على نقل المعانى " وظلال المعانى " كما تستطيع ذلك اللغات الأجنبية - وبالذات الإنجليزية - فى طلاقة ويسر ورشاقة وعمق وكأنما الكتاب لم يصحبوا هذه اللغة ثلاثة عشر قرنا من قبل ذلك، وعبرت عن خلجات نفوسهم كلها بغير عجز وكأنما اكتشفوا قصورها فجأة وكانوا غافلين عنه.. فانصرفوا إلى دراسة آداب اللغات الأخرى وهجروا الأدب العربى. وأصبح المتنبى والبحترى أو علقمة وامرؤ القيس أسماء سخيفة ممجوجة تصم صاحبها لتوه بالتخلف العقلى والحضارى وأصبح دانتى وشكسبير وودزورث وبايرون وأندريه جيد وأناتول فرانس وفيكتور هوجو هى التى تتردد على ألسنة " المثقفين " للدلالة على أنهم مثقفون، ولو لم يكن لهم من حصيلتها إلا حفظ الأسماء.(1/247)
و " العلماء ".. أو بالأحرى مترجمو العلوم يشكون من أن اللغة العربية لغة غير علمية.. إن صلحت للأدب - أى الأدب الردئ فإنها لا تصلح للعلم. جامدة.. معقدة.. محدودة.. متخلفة.. ولابد من اتخاذ اللغات الأجنبية - وبالذات. الإنجليزية - لدراسة العلوم، ولابد أن نعلمها لأبنائنا فى المدارس إذا أردنا أن يكون لدينا فى يوم من الأيام علماء وكأنما لم يكن لهذه اللغة صلة بالعلم من قبل - فى عصور الازدهار - بل كأنها لم تكن فى وقت من الأوقات هى لغة العلم، يوم قال روجر بيكون: من أراد أن يتعلم فليتعلم العربية، فهى لغة العلم..
وهكذا صوبت السهام إلى اللغة العربية من كل جانب، ولم تعد شيئا يعتز به المسلم العربى كما كان يعتز طيلة ثلاثة عشر قرنا من قبل، بل أصبحت معرة يسارع الإنسان إلى الانسلاخ منها، ويمعن فى العيب فيها والانتقاد عليها لكى يصبح من " المثقفين ".
ولم يكن بد من أن ينتقل هذا الوضع المزرى من اللغة ذاتها إلى ما هو مكتوب بتلك اللغة.. وكان هذا هو الهدف الأخير المطلوب من ذلك التخطيط الخبيث.
فالمكتوب باللغة العربية هو تراث الأمة كله.. وعلى رأسه القرآن..
والمطلوب هو صرف الأمة عن تراثها كله.. وعلى رأسه القرآن.(122)
وانصراف الناس بالفعل عن قرآنهم وتراثهم بالتدريج، فلم يعودوا يشعرون أنه هو " الزاد ".. إنما الزاد هو المكتوب بلغة السادة الغالبين.
أما درس الدين فى مناهج دنلوب فلا يقل سواء إن لم يكن أسوأ.
فمدرس الدين هو نفسه مدرس اللغة العربية الذى وضعه دنلوب فى ذلك الوضع المزرى المهين، ولكن يزيد عليه أن أكبر المدرسين سنا هو الذى يوكل إليه تدريس الدين بحجة إراحته من تعب تصحيح الدفاتر وحملها من المدرسة إلى البيت وبالعكس. ويزيد على ذلك أيضا أن حصة الدين توضع فى نهاية الجدول المدرسى. فهى - فى أغلب الأحيان - السابعة يوم السبت أو الخامسة يوم الخميس أو السادسة فى بقية الأيام(1/248)
وفحوى ذلك أن التلاميذ يتلقون درس الدين وهم فى حالة الضجر والإعياء فى نهاية اليوم المدرسى، وهم ينتظرون دق الجرس لينفلتوا إلى الشوارع وإلى البيوت. ويتلقونه فى ن مدرس عجوز فإن يسعل وينتقل ويتحرك فى تراخ ظاهر.. فيقترن درس الدين فى نفوسهم بالعجز والفناء والضجر والضيق والرغبة فى الانفلات فوق أنه درس ميت فى طريقه تدريسه، فهو مجموعة من النصوص تلقى لتحفظ حفظا وتستظهر، بلا حركة ولا حياة ولا روح.
ولكي تعلم أنها خطة مقصودة لتنفير التلاميذ من درس الدين، ثم من الدين ذاته في النهاية - كتنفيرهم من اللغة العربية ومما هو مكتوب بها - فاعلم أن درس الدين المسيحي في الدارس التبشيرية - حتي التي تزعم أنها "علمانية" لا علاقة لها بالدين، و التلاميذ " المسلمون" ويحضرون درس الدين يقام فى الصباح الباكر، والتلاميذ قادمون بنشاطهم كله وبشرهم كله، ويقوم بتدريسه أكثر المدرسين والمدرسات شبابا وأحبهم إلى قلوب التلاميذ! ولا يقام فى فصل الدراسة حتى لا تكون له رتابة الدروس اليومية العادية، إنما يقام فى كنيسة المدرسة! ويقام فى وسط الأناشيد التى تتجاوب بها حناجر التلاميذ وقلوبهم، فيقترن درس الدين فى نفوسهم بالفرحة والبهجة والنشاط والحركة والاستبشار بالحياة!(1/249)
أضف إلى ذلك أن درس الدين فى منهج دنلوب هو فى الحقيقة رقعة فى الثوب الدراسى غير متجانسة معه، إن لم نقل متنافرة معه! فهو ثوب " علمانى " (123) بحت، لا علاقة به بالدين على الإطلاق، على الطريق الغربية اللادينية التى فصلت الدين عن العلم وفصلته عن الحياة. فإذا جاء درس الدين ذكر الله ورسوله وذكر الدين والآخرة.. ولكنه حتى فى أفضل أحواله صوت ضعيف لا يكاد صداه يبلغ الآذان فضلا عن القلوب. فإذا كان على حالته التى يلقى بها بالفعل، نصوصا لا تشرح ولا تبث فيها الحياة، بل تستظهر استظهارا بغير فهم، ويقوم بتدريسها ذلك العجوز الفانى الضعيف فقد خمد الصوت تماما ولم يعد له أثر.. بل صار له الأثر العكسى وهو التنفير من الدين.. وذلك هو المطلوب! (124)
ولكى تعلم أنها خطة مقصودة لتنفير التلاميذ من الدين فلتعلم أن الدين فى المدارس التبشيرية التى يؤمها التلاميذ المسلمون، لا يقتصر على ذلك الدرس - مع حيويته التى أشرنا إليها، وإحاطته بالفرح والنشاط والبهجة - بل هو " روح " تلقى إلى التلاميذ فى كل مناسبة، فى أثناء الدروس وأثناء اللعب، وأثناء الوقوف فى الصف وأثناء الانصراف إلى الفصول أو الانصراف من المدرسة، ومن ثم يكون ذا أثر عميق فى نفوس التلاميذ، ولا يكون درس الدين المتخصص رفعة فى الثوب، متنافرة معه وغير متناسقة، بل قطعة طبيعية من نسيج الثوب، متناسقة معه ومزينة له.
وزيادة فى النكاية لدرس الدين فقد وضعه المنهج الدنلوبى ضمن " المواد الإضافية " التى تحذف فى جدول الصيف المختصر، الذى يقتصر على" المواد الرئيسية " فيحذف منه الدين والرسم والأشغال اليدوية والألعاب الرياضية.. وهكذا يصبح فى حس التلاميذ مادة " هامشية " ليس لها اعتبار!
وبهذا التدبير البطئ الأكيد المفعول تخرجت أجيال وراء أجيال لا تحس بأى توقير نحو الدين!
? ? ?
أما " ثالثة الأثافى " فهى درس التاريخ.. بشقيه: الإسلامى والأوربى!(1/250)
فأما منهج التاريخ الإسلامى فيبدأ - كالمعتاد - بدراسة أحوال الجاهلية تمهيدا لدراسة البعثة النبوية وصدر الإسلام.
وفى دراسة الجاهلية ترد تلك الجملة " الشهيرة " (125): كان العرب فى الجاهلية يعبدون الأصنام ويئدون البنات ويشربون الخمر ويلعبون الميسر ويقومون بغارات السلب والنهب، فجاء الإسلام فنهاهم عن ذلك..
وتبدو هذه الجملة بريئة فى ظاهرها، ولكنها خبيثة كل الخبث فى واقعها.
فأما البراءة الظاهرية فمصدرها أن العرب فى الجاهلية كانوا حقيقة على الصورة التى تصفها هذه العبارة، وأن الإسلام قد أزال تلك الصورة بالفعل، وأما الخبث فمنشؤه أن العبارة لم تتحدث عن " جوهر " الجاهلية الذى جاء الإسلام لمحوه وتغييره، إنما تحدثت عن " مظاهر " الجاهلية العربية خاصة ن التى قد لا توجد فى الجاهليات الأخرى، بينما الإسلام لم يتنزل لمحو مظاهر الجاهلية العربية، وإنما لإلغاء جوهر الجاهلية كله وإبدال الإسلام به.
بعبارة أخرى.. حين نحصر مهمة الإسلام فى محو هذه المظاهر وحدها، فماذا يكون قد بقى من مهام الإسلام فى الوقت الحاضر؟
حين ينظر التلاميذ حولهم فلا يجدون أصناما معبودة (126)، فقد سقط إذن هذا " البند " من مهام الإسلام.
وحين لا يجدون البنات تؤد، بل يجدون على العكس من ذلك بنات مدللات أشد التدليل، فقد سقط هذا "البند" كذلك من مهام الإسلام..
وحين يجدون بعض الناس يشربون الخمر ويلعبون الميسر، فقد دعا الإسلام دعوته " الأخلاقية " فاستجاب لها من استجاب ووقع غيرهم فى " المعاصى ".. ولا حيلة!
وأما غارات السلب والنهب فتوجد اليوم حكومات نظامية ذات قوات مخصصة للأمن تحول دون وقوع مثل هذه الغارات وتعاقب من تصول له نفسه اقترافها..
فماذا بقى إذن من مهام يمكن للإسلام أن يؤديها فى العالم الحديث؟!(1/251)
إن الإسلام - بهذه الصورة - يكون قد استنفد أغراضه.. وهذا هو الإيحاء المطلوب منذ أول درس مدروس التاريخ الإسلامى! أنه جاء لزمن معين كان يتسع له ويحتاج إليه، ولكن لم تعد هناك حاجة إليه فى الوقت الحاضر، فهو جزء من التاريخ الغابر ولا زيادة!
وكان الأمر يختلف اختلافا واسعا بطبيعة الحال لو ذكرت الحقيقة الجوهرية التى جاء من أجلها " الدين ".. الدين كله من لدن آدم عليه السلام إلى محمد (، وهى دعوة الناس إلى عبادة الله وحده بلا شريك، العبادة المتمثلة فى الاعتقاد بوحدانية الله وتقديم الشعائر التعبدية إليه وحده، وتحكيم شريعته فى كل شأن ن شئون الحياة، مع الخصيصة التى اختصت بها الرسالة الأخيرة المنزلة على محمد (، وهى أنها رسالة للبشرية كافة منذ مبعثه عليه السلام إلى قيام الساعة..
كم تتغير الصورة فى حس التلاميذ حين تدرس لهم تلك الحقيقة الجوهرية التى جاء من أجلها" الدين "، وتلك الخصيصة التى اختصت بها الرسالة الأخيرة؟!
أنه تغير يبلغ ما بين السماء والأرض!!
فلا هذا الدين استنفد أغراضه فى الماضى، ولا استنفدها بالنسبة للحاضر، ولا استنفدها بالنسبة للمستقبل ولا يستنفدها أبدا طالما هناك مشرك واحد فى الأرض يعتقد بوجود آلهة غير الله (127)، أو يقدم الشعائر التعبدية لأحد غير الله (أو مع الله) أو يحكم شريعة غير شريعة الله.
بل حتى لو تصورونا جدلا أن أهل الأرض آمنوا كلهم جميعا (وهو فرض لا يتحقق أبدا لأنه يخالف ما قدر الله) (128) فلن يستنفد هذا ادين أغراضه، لأن مهمته عندئذ تكون المحافظة على إيمان الناس بالتذكر بما أنزل الله، تحقيقا للتوجيه الربانى:
{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)} [سورة الذاريات 51/55]
فكيف والأرض مليئة بكل أنواع الشرك، سواء شرك الوثنية، أو شرك الرسالات السماوية المحرفة لدى اليهود والنصارى، أو شرك الاتباع المتمثل فى تحكيم الشرائع الجاهلية بدلا من شريعة الله؟(1/252)
بل كيف والعالم الإسلامى ذاته - ومصر من بنيه قد نحيت فيه الشريعة الربانية ووضعت بدلا منها قوانين الجاهلية؟
أى مهمة للإسلام يؤديها اليوم أعظم من مهمة رد الناس عن هذا الشرك كله ودعوتهم إلى التوحيد؟
ولكن هذا بالذات هو الذى يراد أن يبعد عن أذهان التلاميذ
يراد منهم ألا يتذكروا أبد أن مصر قد نحيت فيها الشريعة الإسلامية منذ دخلها الاحتلال الصليبى، وصارت تحكمها القوانين الجاهلية، لأن تذكر ذلك يترتب عليه أن يجاهد المسلمون فى مصر هذا الاحتلال جهادا دينيا لإخراج الصليبيين من بلاد الإسلام.
من أجل ذلك يشوه الدرس الأول ذلك التشويه، حتى تنسى الأجيال المتخرجة فى " مدارس الكفر " أن الإسلام له مهمة يمكن أن يؤديها فى الوقت الحاضر.
ثم يدرس للتلاميذ عصر البعثة وصدر الإسلام بطريقة قد تكون وافية، وإن كان لا يركز فيها على جوهر الجاهلية الذى جاء الإسلام لإزالته، وجهور الإسلام الذى بعث الرسول ( لبيانه للناس، ودعوتهم إليه، وتمكينه فى الأرض بالجهاد.
ولكن الصورة المشرقة المتمثلة فى عصر البعثة وصدر الإسلام تطمس فجأة وتخبو.. لأن الذى يدرس للتلاميذ بعد ذلك هو " التاريخ السياسى " للإسلام.. أو بالأحرى هو التاريخ الذى يغلب عليه الانحراف!!
حقيقة إن خط الانحراف واقع تاريخى، وخاصة فى الجانب السيباسى من حياة المسلمين.. وأن هذا الانحراف بدأ مبكرا منذ العهد الأموى.. وأنه ارتكبت فيه فظائع من أجل الاستيلاء على الحكم أو استبقائه لا يرضى عنها الله ولا رسوله، ولا تليق بالمسلمين..
ولكن التركيز على خط الانحراف وحده وإسقاط بقية الصورة هو تشويه متعمد للتاريخ الإسلامى لأمر يراد! (129)
فلو أن الصورة أعطيت كاملة كما هى فى الحقيقة لأعطيت إيحاء آخر مختلفا كل الاختلاف (130).(1/253)
وقع الانحراف نعم - فى الجانب السياسى خاصة - ولكن لم ينته الإسلام من الوجود! وبقى فى الواقع التاريخى للإسلام جوانب كثيرة من الإسلام مطبقة فى عالم الواقع، وبقيت فيه أمجاد كثير جديرة بالتسجيل، وجيرة باعتزاز المسلمين..
ولكن الذى يراد من دراسة التاريخ الإسلامى فى المنهج الدنلوبى ليس هو إثارة اعتزاز المسلمين بتاريخهم، بل هو على وجه التأكيد قتل هذا الاعتزاز!
ومن أجل هذا الهدف تخفى الصفحة البيضاء كلها، أو بالأحرى يخفى ما فى صفحة التاريخ الإسلامى من بياض، ويبرز الخط الأسود وحده على أنه هو التاريخ!
يخفى نشر العقيدة الصحيحة فى مساحة واسعة من الأرض تمتد من المحيط إلى المحيط، وإخراج الناس فيها من الظلمات إلى النور، وإجراء العدل الربانى المتمثل فى تطبيق الشريعة الربانية، وتحقيق العدل خاصة بالنسبة لمن بقى على دينه فى تلك الرقعة الواسعة من الأرض، مما لا مثيل له فى التاريخ البشرى كله.. ويقدم هذا كله فى عبارة موجزة مبهمة موهمة، وهى امتداد الفتوح الإسلامية! كأنما هى حركة توسع حربى لا هدف له إلا فسح الرقعة وبسط النفوذ!
ويخفى بقاء المجتمع الإسلامى فى عمومه فترة طويلة من الزمن نظيفا من الفاحشة، آمنا على أنسابه، وحيثما كانت الدولة قوية مبسوطة السلطان فهو آمن أيضا على دمائه وأمواله فى ظل شريعة الله.
وتخفى الحركة العلمية الإسلامية الهائلة التى نشرت نورها فى الأرض، وتعلمت منها أوربا حين بدأت نهضتها الحديثة نتيجة احتكاكها بالمسلمين فى أكثر من أرض وأكثر من مجال.
وتخفى الحركة الحضارية الإسلامية الضخمة بشقيها، المعنوى المتعلق بالقيم الإنسانية العليا، والمادى المتعلق بالعمارة المادية للأرض والأشكال التنظيمية للحياة.(1/254)
كما يخفى بطبيعة الحال تفرد كلتا الحركتين بميزتها الإسلامية الخاصة - المستمدة من المنهج الإسلامى - وهى فسح المجال للنشاط البشرى فى جميع مجالاته الحيوية، مع الالتزام بالمنهج الربانى الذى يجمع الروح والمادة، ويجمع الدنيا والآخرة كلها فى نظام.
وحين يخفى هذا كله فماذا يبقى؟!
يبقى إيحاءات خبيثان، مقصودان:
أولهما: أن الإسلام لم يحكم إلا فترة قصيرة حدا فى عهد الخلفاء الراشدين ثم انتهى إلى غير رجعة.
والثانى: أن التاريخ الإسلامى - بعد صدور الإسلام - خال من كل القيم التى تقيم الحياة الإنسانية الصحيحة، وأنه عبارة عن عمليات دموية من أجل السلطان!
وبعد أن يفرع التاريخ الإسلامى من محتواه الحقيقى على هذا النحو يوجه التلاميذ إلى أوربا!
أوربا هى العلم! أوربا هى الحضارة! أوربا هى القيم! أوربا هى الديمقراطية! أوربا هى خقوق الإنسان! أوربا هى التقدم الصناعى! أوربا هى الصورة الصحيحة للوجود البشرى فى جميع المجالات!
ويخفى - عمدا - فظائع الاستعمار الوحشية فى كل مكان دنسته أقدام المستعمرين، وخاصة فى العالم الإسلامى. وتخفى - عمدا - البواعث الصليبية للتحرك الأوربى نحو العالم الإسلامى. ويخفى - عمدا - الفساد الخلقى الآخذ فى الانتشار - يومئذ - فى أوربا. ويخفى عمدا- غلبة الروح المادية على تلك الحضارة وانطماس الروح.
وهكذا يقدم التاريخ - الإسلامى والأوربى - كاذيا من شقيه كليهما وإن احتوى جانبا من الحق!
ففى التاريخ الإسلامى يقدم الخط الأسود من الصفحة بتركيز فائق، ويخفى ما فى بقية الصفحة من البياض، وفى التاريخ الأوربى يقدم الخط الأبيض من الصفحة بتركيز فائق ويخفى ما فى بقية الصفحة من السواد!
وحين يقدم التاريخ بصورته الكاذبة هذه من شقيها فماذا تكون النتيجة؟(1/255)
تون تخريج أجيال متعاقبة من " المتعلمين " يجنحون تدريجيا إلى الانسلاخ من الإسلام على أنه شئ قد استنفد أغراضه، ولم تعد له مهمة يؤديها فى الوقت الحاضر، بل على أنه شئ قد عاش أكثر مما ينبغى، وكان ينبغى أن يندثر من زمان بعيد، ويتجهون إلى أوربا على أنها مهبط الوحى ومنبع النور، ومنتجع الصحة لمن يريد الاستشفاء من التخلف والرجعية!
إذا كان هذا كله فى المدرسة الدنلوبية الابتدائية فالمدرسة الثانوية تحوى هذه السموم كلها ولكن بجرعة أكبر! فالطلاب فى المدارس الثانوية أنضد بلا شك وأقدر على الاستيعاب، وأجدر - حين يتناولون جرعة السم - أن يكون تأثرهم بها أشد!
من أجل ذلك يزاد فى تحقير درس اللغة العربية إلى جانب الدروس الأخرى عامة ودرس اللغة الإنجليزية خاصة، ويزاد من تحقير درس الدين ووضعه فى أقصى الزاوية الهامشية، ويزاد فى إعطاء التفصيلات فى خط الانحراف التاريخى للمسلمين مع الإخفاء الكامل لكل بياض الصفحة.. ويزاد فى إعطاء التفصيلات فى خط الانحراف التاريخى للمسلمين مع الإخفاء الكامل لكل بياض الصفحة.. ويزاد أخيرا وليس آخرا فى الجرعة الأوربية التى تصور أوربا على أنها القمة السامقة الفريدة فى تاريخ البشرية،وتلوى أعناق الطلاب ليا إليها مع الإعجاب المبهور الذى لا يدع للإنسان الفرص لالتقاط أنفاسه!
فإذا تم هذا كله جاءت " مدرسة المعلمين العليا " لتكمل التخطيط النلوبى الخبيث..
كانت هذه هى المكان الذى يتخرج فيه معلموا المواد كلها ماعدا اللغة العربية، التى يتخرج معلمواها فى الأزهر وحجه أولا، ثم فيه وفى " دار العلوم العليا " فيما بعد - وكانت فى الوقت ذاته هى " معمل التفريخ " للمخطط كله، الذى يضمن دوام التأثير وعمق التأثر، على أسلوب المخطط كله، البطئ الخطى، الأكيد المفعول.(1/256)
كان طلابها يختارون بادئ ذى بدء من بين خريجى المدارس الثانوية الذين حقنوا بالسم الخبيث على جرعتين متواليتين طويلتين،، إحداهما فى أثناء التعليم الابتدائى، والثانية فى أثناء التعليم الثانوى أى خلال تسع سنوات متواليات.
وكانوا يختارون ثانيا على أسس معينة وضعها وينفذها مدير المدرسة ومعلموها وكلهم من الإنجليز!
ولك أن تتوقع نوع " العينة " المطلوبة! ونوع " المؤهلات " المطلوبة!
وبطبيعة الحال لن تكون الاستقامة على الإسلام، ولا التقوى والصلاح من بين تلك المؤهلات!
وأيا كانت نوعية الداخل وقت خوله، فالخارج " مضمون "! مضمون النوعية ومضمون المؤهلات!
هنا فى " معمل التفريخ " يتم كل شئ بعناية فائقة.. لأنه مستقبل أمة كاملة يصاغ!
كانت المدرسة تقع فى حى " المنيرة " (131) على بعد دقائق معدودة من ثكنات جيش الاحتلال فى قصر النيل (132) وكان الأساتذة الإنجليز لا يدخلون على طلابهم فى الحقيقة بوصفهم أساتذة فحسب! بل بوصفهم قوة الاحتلال القاهرة التى جاءت لتقهر نفوس هؤلاء الطلاب وتشعرهم بالضآلة والدونية إزار " الرجل الأبيض " العظيم الذى وضعته العناية الإلهية " على رأس هذه البلاد (133) هذا هو المعنى الظاهر الذى كان يتعمد أولئك " الأساتذة " إظهاره. أما المعنى الخفى - وهو القهر الصليبيى للمسلمين - فهذا لم يكونوا يصرحون به، ولكنه ينبث - واضحا - فى كل مناسبة وفى كل توجيه.
وأيا كان الأمر فقد كان أولئك " الأساتذة " يمثلون فى نفوس الطلاب شيئا مرهوبا لا يقاوم، بل حسب الطالب منهم أن يتحاشى فتكاته المتوقعة فى أية لحظة، ولكنه لا يحس بالأمن الحقيقى لحظة واحدة حتى ينتهى من دراسته ويتخرج. فإذا تخرج فالرهبة من " الخواجة " لا تغادر قلبه، وإن أخذت صورا متعددة متجددة فى حياته العملية!
وفى جو الرهبة العام يتلقى الطلاب جرعات السموم..
هل يملك أحد أن يمتنع عن تناولها؟ بل هل يملك أحد أن يمتنع عن التأثر بها حتى لو أراد؟(1/257)
جرعات السم هنا واضحة.. والتلقين مباشر..
إن ما بكم من تخلف سببه الإسلام! الدين كله يسبب التخلف، ولكن الإسلام بصفة خاصة يعمل على التخلف أكثر من أى دين!! ستظلون متأخرين طالما بقيتم متمسكين بالإسلام! لن تتقدموا إلا إذا تخلصتم من عقلية القرون الوسطى التى كانت تعتبر الدين أساس الحياة! أساس الحياة اليوم هو العلم وليس الدين..!
وهذا إلى جانب التلقين غير المباشر..
لقد كانت أوربا فى العصور الوسطى المظلمة خاضعة لسلطان الدين، فكانت جاهلة متأخرة جامدة، وحين نبذت الدين تقدمت وتحضرت وتعلمت وأوتيت كل وسائل القوة والتمكن. كان الدين حاجزا عن العلم لأنه مجموعة من الخرافات. وحاجزا عن العمل والنشاط والإنتاج لأنه ينظر إلى الآخرة ويهمل الدنيا. كان لابد من تحطيمه للقضاء على الخرافة، والاستمتاع بالحياة على الأرض الفكر الإنسانى الحر هو الذى تصدى بجرأة لتحطيمك الخرافة، ووصل إلى التقدم الرائع الذى تمارسه أوربا اليوم. هو الذى قرر الديمقراطية، وقرر حقوق الإنسان، ورفع من قيمة الكرامة الإنسانية بتقرير مبدأ الحرية الشخصية التى كانت مهدرة فى ظل السيطرة الدينية..
وما كان الطلاب يومئذ يملكون الرد على التحدى. وما كانوا يملكون - فى هزيمتهم الداخلية المبهورة بما عند الغرب، ورهبتهم من الاحتلال العسكرى الجاثم على أرضهم، ورهبتهم من " الخواجة " الذى يجرعهم ذلك السم ما كانون يملوكن المعرفة التى يردون بها على التحدى، حتى لو بقيت لهم نفوس ترغب فى الرد!
هل كان فى إمكانهم يومئذ أن يدركوا أن التخلف الذى أصابهم، والذى يعيرهم به " الخواجة " وينفذ منه لمهاجمة عقيدتهم ودينهم وتقاليدهم، لم يكن سببه الإسلام، وإنما كان سببه التخلف العقدى الذى أبعد الأمة عن حقيقة الإسلام.(1/258)
وهل كان فى إمكانهم يومئذ أن ينفذوا إلى حقيقة الحضارة الغربية فيعرفوا جوانب قوتها وجوانب ضعفها، ويدركوا أن الدين الذى حطمته أوربا لتتقدم وتتحضر كان دينا زائفا من صنع الكنيسة، وكان جديا بالتحطيم بالفعل لأنه عائق عن الحياة وعن التقدم وعن عمارة الأرض، ولكن الحياة بلا دين من جانب آخر مفسدة لا تقل عن مفسدة الدين الزائف إن لم تكن أشد، وأنها تعرض هذه الحضارة فى النهاية إلى الانهيار؟!
كلا! ما كان فى طوقهم يومئذ أن يدركوا شيئا من ذلك كله، حتى لو أوجعهم تبكيت الخواجة لهم، وتعييره إياهم، ونسبته كل ما فى حياتهم من سوء إلى الإسلام!
وإذ لم يكن فى طوقهم أن يدركوا شيئا من ذلك، فقد كان المتوقع لهم وهو ما حدث بالفعل أن يتأثروا بالسموم التى تقدم لهم، وينصبوا فى القالب الذى وضع لهم بلا مقاومة تذكر، أو بلا مقاومة على الإطلاق!
وهل كان " الخواجات " من مدير وأساتذة سيسكتون على واحد من الطلاب لو وجدوا فيه شيئا من المقاومة لأهدافهم! كلا ولا شك! ولكنا لم نسمع على أى حال أن واحدا من الطلاب قد قاوم، وفصل لأنه قاوم!
فإذا انتهت سنوات الدراسة الأربع فى مثل هذا الجو وهذا التوجيه، فقد ضمن الخواجات أن " فراخهم " التى أنتجوها فى " معمل التفريخ "، والتى ستخرج لتتولى تربية جيل جديد من النشئ، ستقوم بالدور المطلوب تلقائيا بغير حاجة إلى توجيه جديد، فقد انطبعت نفوسها بما يراد طبعها به، وصارت " تتقيأ " تلقائيا ما سكب فى كيانها من السم، ولكن لا لتتخلص منه وتفئ إلى صحتها كما يفعل الإنسان السوى حين يتناول السم، بل لتطعمه فراخا جديدة صغيرة السن، لا تدرك شيئا مما حولها، بل تلتقط كل ما يوضع أمامها بلا تمييز ولا قدرة على التمييز!
بهذا التخطيط الخبيث أحكم دنلوب قبضته الصليبية على الأجيال.(1/259)
فلم تكن المسألة إفساد جيل بعينه يذهب ويذهب معه فساده. إنما كان الهدف ضمان سريان السم فى الأجيال المتعاقبة، لكيلا يخرج جيل يفكر فى العودة إلى الإسلام!
ومن طريق معمل التفريخ الضخم الذى أقامه، ضمن الدورة الكاملة للسم. ضمن الأستاذ والتلميذ.. الأستاذ الذى سيصب التلاميذ فى القالب المطلوب والتلاميذ الذين سينشأون فى داخل القالب لا يقاومون نشأتهم فيه.
ولكن التخطيط مع ذلك لم يكتف بتلك الدورة المتكاملة، التى تدور دورة كاملة مع كل جيل جديد، بل كان أشد خبثا وأشد إحكاما فمد الخيوط إلى مدى أبعد!
فإذا كان المدرس العادى قد صب فى القالب فانصب، وسلط على النشئ ليصبه من جديد فى نفس القالب، فإن المدرس " الممتاز ".. وناهيك " بامتيازه " يكافأ على امتيازه هذا مكافأة إضافية، ليستفاد منه على نطاق أخطر،، فيبتعث إلى انجلترا ليصاغ من جديد صياغة أدق!
صحيح أن " الخواجات " هنا قد قاموا " بالواجب " على نحو المطلوب.. ولكن فرق بين أن تظل فى بلدك - وإن صاغك الخواجات - متأثر ببعض تقاليدها، وأفكارها، وعقائدها.. وبين أن " تستنبت " من جديد فى أرض الخواجات أنفسهم! فتصبح كأنك خواجة بالفعل، بدلا من أن تكون مصريا متأثر بالخواجات فحسب! بل إنك قد تعود ملكيا أكثر من الملك، فتقوم بالدور المطلوب بأعنف مما كان الخواجات أنفسهم يفعلون!
فإذا عاد أولئك المتبعثون وقد صاروا خلقا آخر، ممسوخا كل المسخ، لا يعرف دينه ولا لغته ولا قومه، وينظر إلى ذلك كله بازدراء شامل.. فهناك يوضعون فى مراكز التوجيه، ليكون أثرهم فى الإفساد أشمل وأوسع، حتى إذا صار أحدهم فى نهاية المطاف وزير للمعارف أو وكيلا للوزارة، حطم من مقدسات قومه ما لم يكن يجروء دنلوب نفسه أن يفعل.. فدنلوب - كما خطط لنفسه أو خطط له سيده الذى استخدمه ليقوم بدوره - يحافظ على المظاهر الزائفة " منعا من إثارة الشكوك " أما هذا الثور الهائج فلا يتبقى شيئا ولا يحقل بشئ!!(1/260)
وفى وسط هذه الدورة الخبيثة يظل مدرس اللغة العربية (ومدرس الدين) يبعد عن الطريق، ويداس بالأقدام، يسبقه غيره على الدوام، ولا يتولى وظيفة واحدة من وظائف التوجيه، فيظل صوته يخفت ويخفت حتى لا يسمعه أحد من الناس، ويظل الآخرون يبروزن حتى تصبح أيديهم صدارة " المجتمع الجديد ".
وتمضى دورة المن فتفتح الجامعة الأهلية ثم الجامعة الرسمية ثم تتلوها الجامعات ذوات العدد، فتسير نفس السيرة على نفس المخطط، وقد غاب صاحبه من الوجود كله،ولكن مخططه يظل سارى المفعول.. وأكيد المفعول!
ب- وسائل الإعلام
إذا كان هذا نصيب مناهج التعليم فى عملية الغزو الفكرى الصليبى ضد الإسم، فهناك أداة أخرى لا تقل خطرا إن لم تكن أخطر.. تلك هى وسائل الإعلام.. الكتاب والصحيفة والمسرح والسينما ثم الإذاعة (ولم يكن التليفزيون قد اخترع بعد فى الفترة التى تحن بصدد الحديث عنها، ولكنه منذ جاء سار على نفس التخطيط).
فأما الكتاب فقد بدأ مترجما فى أول " عهد النهضة " ثم أصبح مؤلفا فيما بعد، وإن كان خط الترجمة ظل موجودا على الدوام.
ومن الأمور الطبيعية فى مثل الحال التى كان المسلمون قد وصلوا إليها أن يبدأ الأمر بالترجمة، لغياب عنصر التأليف، وفراغ الجو الإسلامى كله من الفكر الحى المتدفق المتألق المواكب لخط الحياة.
ولكن ما الذى ينبغى أن يترجم؟!
كان المفروض - كما حدث فى حركة الترجمة الأولى - أن يبدأ الأمر بترجمة الكتب العلمية. فقد كان الفقر العلمى شديدا، وكان التخلف فى الميدان العلمى من أبرز ما أحس به المسلمون حين صحو على الهزيمة أمام جحافل الصليبيين.
ولا شك أن بعض الكتب العلمية قد ترجم فى تلك الفترة. ولكن الجانب الأعظم من حركة الترجمة سار فى قنوات اخرى بعيدة كل البعد عن المطلوب، أو عن الأمر الواجب فى ذلك الحين.(1/261)
فإلى جانب الكتب العلمية القليلة التى ترجمت، ترجمت مئات من القصص والمسرحيات، والكتب التى تحمل الفكر الغربى " العلمانى " (134) الجاحد للدين، المناوئ له، مع عناية خاصة بنشر أفكار عن نظرية التطور الداروينية..
فأما القصص والمسرحيات فقد كان الهدف من نشرها على نطاق واسع هو تحطيم التقاليد الإسلامية التى تمنع الاختلاط وتنفر من الفاحشة والتحلل الخلقى.. فقد كانت هذه التقاليد - مع كونها تقاليد خاوية من الروح (135) - عقبة ضخمة فى سبيل الإفساد الخلقى الهائل الذى تهدف الصليبية إلى إحداثه فى المجتمع الإسلامى.
وإذا تذكرنا أن نابليون كان قد جاء معه ببعض " الساقطات " كما سماهن الجبرتى وهو يروى أحداث الحملة، وأن هذا كان هدفا مقصودا من أهداف الحملة، أو من مآثرها!! لإشاعة السفور فى المجتمع المصرى المسلم، ومن ثم إشاعة الفاحشة، سهل علينا أن نفهم الهدف من القصص الغرامية والمسرحيات التى تعرض جوا مختلفا تماما عن الجور الإسلامى المحافظ، الذى لا يجهر فيه بالفاحشة ولا يتعالن بالمنكر والذى تسعى الصليبية إلى تحكيمه بوصفه ركنا من الحياة الإسلامية التى يراد هدمها أولا عن آخر.
فالذى تعرضه تلك القصص والمسرحيات لا يزيد على أن يكون علاقات غير مشروعة بين رجل وامرأة أو بين شاب وفتاة، وتعطى فى القصة أو المسرحية شرعية وواقعية ليست لها فى الميزان الإسلامى، ويتم فهذا فى جو "الفن" الذى يسبغ على كل شئ جمالا وجاذبية مهما يكن فيه من الشر.
تلك مزية الفن، وتلك خطورته فى ذات الوقت.(1/262)
فهو يحمل القدرة على التأثير، ويعرض ما يعرض فى جو من المشاعر والوجدانات تجعل القارئ أو السامع يشارك بخياله مع المشهد المعروض، وينفعل بما ينفعل به الأشخاص المعرضون فى المشهد.. ومن هنا يحمل الفنان مسئوليته.. فحين يكون خيرا.. حين يكون ملتزما بالقيم الإنسانية العليا.. فإنه يتجه إلى تزيين الخير والتنفير من الشر. وليس من الضرورى أن يكون ذلك عن طريق التوجيه المباشر. بل كلما لجأ الفنان إلى الطريق غير المباشر.. أى عرض ما يريد عرضه من خلال مواقف ومشاهد ومشاعر ووجدانات دون أن يتدخل بشخصه تدخلا مباشر، كان ذلك أبلغ فى التأثير فى نفس القارئ أو السامع، وأفعل فى جذبه إلى صف المعنى المطلوب (136)، وأما حين لا يكون ملتزما بالقيم العليا، أو حين يكون أسوأ من ذلك معاديا لها، راغبا فى تحطيمها، فإنه يحمل القدرة الفنية التى تمكنه كذلك من جذب القارئ أو السامع إلى صف التوجيه الذى يريده..
وقد كان الفن الذى يترجم هو الفن الذى تخلص تماما من القيم الدينية، وراح يدعو إلى إقام مجتمع " طليق " من تلك القيم.. مجتمع يهبط تدريجيا حتى يصبح مجتمعا حيوانية فى النهاية (137).
وسواء كان الذين ينقلون هذه القصص والمسرحيات لى العربية واعين تماما الدور الذى يلعبونه أو غير واعين، فقد كان هناك تشجيع خفى لنشر هذا " الفن " وترويجه بين الشباب خاصة (138).
والهدف واضح..(1/263)
فحين يقرأ الشباب قصة غرامية - أو عاطفية كما كانوا يسمونها - يلتقى فيها الفتى والفتاة بعيدا عن أعين الناس، ويجرى بينهما من الكلام والمواقف ما يجرى، مصورا بجاذبية الفن وإغرائه، فيتمنى فى دخيلة نفسه أن لو كان هو صاحب الموقف، أو أن يقع لم مثل ما يقرأ فى القصة أو المسرحية.. ويعلم الشاب جيدا أن مجتمع المحافظ لا يسمح بمثل هذه المواقف التى يقرأ عنها.. ولكنه عندئذ يتمنى أن يجئ يوم تتحطم فيه تقاليد مجتمعه، التى تحول بينه وبين " الاستمتاع " على النحو الذى يتم فى المجتمعات الأخرى،التى تحررت من مثل تلك التقاليد.
فإذا جاء اليوم الذى تحطم فيه هذه التقاليد بالفعل - وقد جاء! (139) - فلن يكون مثل هذا الفتى من المعارضين! بل سيكون أول المرحبين!
? ? ?
أما الكتب التى تمل الفكر " العلمانى " فالهدف من ترجمتها واضح كذلك.
يقول " أ. شاتيلييه فى مقدمة كتاب " الغارة على العالم الإسلامى ":
" ولا شك فى أن إرساليات التبشير من بروتستانتية وكاثوليكية، تعجز عن أن تزحزح العقيدة الإسلامية فى قلوب منتحليها، ولا يتم لها ذلك إلا ببث الأفكار التى تتسرب مع اللغات الأوربية، فبنشرها اللغات الإنجليزية والألمانية والهولندية والفرنسية يحتك الإسلام بصحف أوربا، وتمهد السبيل لتقدم (!) إسلامى مادى، وتقضى إرساليات التبشير لبانتها من هدم الفكرة الدينية الإسلامية التى لم تحفظ كيانها وقوتها إلا بعزلتها وإنفرادها " (140).
وهذا يوضح لنا الهدف من ترجمة هذه الأفكار ونشرها باللغة العربية. ذلك أنه مهما انتشر تعلم اللغة الأجنبية فستظل الجمهرة الكبرى من الشعب عاجزة عن قراءة هذه الأفكار فى لغاتها الأصلية. ون ثم يبقى الحاجز الذى يشكو منه ذلك المبشر قائما يحمى العالم الإسلامى من عوامل التدمير الخارجية.. فإذا انساح الحاجز عن طريق الترجمة، قضت الصليبية لبانتها - على حد تعبير المبشر - وأمكن إحداث الدمار المطلوب!(1/264)
وأما العناية الخاصة بالداروينية ونظرية التطور فقد يكفينا فيها قول البروتوكلاولات: " لقد رتبنا نجاح دارون وماركس ونيتشه وإن تأثير أفكارهم على عقائد الأميين واضح لنا بكل تأكيد!(141). وقد استطاعت اليهودية العالمية عن طريق ترويج أفكر داروين وتوسيع ناقها أن تحطم ما كان قد بقى من عقائد " الأميين " الأوربيين، وتنشئ هناك مجتمعا " جديدا " بلا دين ولا أخلاق ولا تقاليد (142). وكان فى تخطيط الصليبية استخدام تلك القذائف المدمرة لذات الهدف فى المجتمع الإسلامى، لإنشاء مجتمع " جديد " بدلا منه، لا دين له ولا أخلاق ولا تقاليد! لذلك كانت العناية بنشر تلك النظرية بإلحاح فى العالم الإسلامى. لعلها تصنع هنا ما صنعته هناك!(143)
? ? ?
أما الصحافة فشأنها أخطر..
فلئن كان الكتاب بصفة عامة هو زاد " المثقفين " فالصحافة زاد شامل، يشمل المثقفين وأنصاف المثقفين، كما يشمل العامل حتى الذين لا يقرأون منهم، إذ هناك من يتلحقون حوله ليقرأ لهم الصحيفة حتعى فى أعماق الريف.
وفى مصر بالذات قامت الصحافة بدور خطير لعله أخطر الأدوار، إذ كانت مصر فى نظر المخططين كما أسلفنا هى مركز التوجيه الروحى والثقافى بسبب موقعها الجغرافى ومكانتها التاريخية، وبسبب وجود الأزهر فيها. فإذا أمكن إفسادها من الناحية الإسلامية كان ذلك عونا كبيرا للين يخططون لإفساد العالم الإسلامى كله، لأن الفساد سيصدر يومئذ وعليه خاتم القاهرة، فيكون أفعل فى الإفساد مما لو جاء وعليه خاتم لندن أو باريس (1/265)
لذلك لا نعجب كثيرا من وجمود ثلاث دور صحفية كبيرة، لبنانية مسيحية مارونية فى القاهرة وإن كان السؤال يظل باقيا: لماذا اختار أولئك المسيجيون المارونيون اللبنانيون القاهرة لتكون موضع نشاطهم. أبتوجيه وتخطيط من الصليبية العالمية أم بدافع من صليبيتهم الذاتية؟ وبطيعة الحال لا يوحد فرق فى النهاية بين هذا الموضع وذاك، فالقنوات الصليبية تلتقى كلها فى النهاية فى مجرى واحد. ولكن هناك دلائل كثيرة تدل على أن هناك اتفاقا صليبيا عالميا (144) على جعل القاهرة مكان الأفكار الناشزة عن الإسلام، والحركات المناوئة للإسلام وللدولة العثمانية، كتشجيع نازلى فاضل على بث أفكارها " التحررية" فى صالونها بالقاهرة، بحضور اللورد كرومر (145) وكصدور بعض النشرات السرية للقومية العربية المطاردة من قبل الدولة العثمانية من القاهرة (146)، وكإقامة جمال الدين الأفغانى فىمصر فترة من الوقت (147).
فإذا لاحظنا هذه الدلائل كلها كان الأقرب إلى الحسبان أن يكون وجود الدور الصحفية الثلاثة: دار الأهرام لآل تقلا ودار الهلال لآل زيدان ودار المقطم لآل صروف، نتيجة توجيه صليبى عالمى، لا مجرد انبعاث صليبى ذاتى، ولا توافق خواطر بين أصحاب هذه الدور الثلاث وأيا كان المنبع فالمصب واحد والتخطيط واحد والأهداف واحدة.
الهدف هو تحويل هذه الأمة عن الإسلام، والمنهج هو منهج الدولة الصليبية الحاكمة، بطئ ولكنه أكيد المفعول منعا من إثارة الشكوك.
وهل كان يتصور فى ذلك الزمان أن تكن الخطى أسرع مما كانت؟
كلا فتجربة نابليون الحمقاء كانت ما تزال مائلة للعيان، والفشل الذى منيت به نتيجة حماقتها وسرعة خطوها وعنف حركتها كان ما يزال مائلا فى الأذهان.. وكانت بقايا الإسلام فى نفوس المسملين المصريين كفيلة بإفساد الخطة كلها لو انكشفت وسرعة الخطو من العوامل التى يمكن أن تكشف الخطة وتفسد المفعول..لذلك كان كرومر ودنلوب حريصين على العمل البطئ الذى لا يثير الشكوك.(1/266)
نعم لم يكن يتصور أن تبدأ الصحافة اللبنانية المسيحية المارونية عملها بمهاجمة الإسلام.. فقد كانت غضبة الجماهير كفيلة بتحطيم تلك الدور على رؤوس أصحابها من أول الطريق
ولكن على مهل.. ممكن.
بل لقد يخدع الغافل إذا اطلع على بعض أعداد هذه الصحف فيحسبها لأول وهلة صحافة إسلامية.
فى تمتدح الإسلام،، وتمتد رسوله العظيم (، وتخصص مكانا يوميا لأخبار الباب العالى ومقابلات السلطان وتنقلاته، ولا تقصر فى توفية أخبار ما يدور بين السلطان والدول الأوربية من مفاوضات أو مناوشات أو منازعات. فأى شئ يريد المسلم من صحيفته أكثر من ذلك؟
نعم، ولكن الذى يدقق فى الأمر يجد من خلال ذلك، وإلى جانب ذلك، أشياء أخرى تنم عن مقاصد مختلفة.
فالإسلام يمتدح بما يرضى " عواطف " المسلمين، نعم، ولكن لا يتحدث عنه كنظام حياة وشريعة حكم، وحينما تناقش المشاكل القائمة فى مصر، أو فى العالم الإسلامى فلا يقدم لها الحل من شريعة الإسلام ولا حتى من روحه.. إنما تقدم الحلول - كما سنرى - من التجربة الأوربية ومن " الحضارة الأوربية ".
بل أكثر من ذلك..
إن هذا الإسلام الذى يتحدث عنه بما يرضى عواطف الجماهير، دون أن يقدم للناس على أنه نظام حياة أو شريعة تحتوى على حلول مشاكلهم.. هذا الإسلام ليس حديثا يوميا يطالع القارئ لهذه الصحف فيظل على ذكر دائم عن دينه، ولو حتى على مستوى العواطف والوجدانات.. إنما هو الحديث " مناسبات " معينة، يطلق عليها "المناسبات الدينية " فلا ينحسر الدين عن مفهومه الحيوى الشامل فحسب، بل ينحسر مرة أخرى إىل مناسابات عارضة فى حياة المسلم، يتمتع فيها وجدانه بمدح الرسول ( ومدح الإلام، ثم يبقى وجدانه خاويا حتى من ذكر الإسلام بقية الشهور وبقية الأيام.(1/267)
وكمما ملئ الفراغ الناجم من تفريغ التاريخ الإسلامى من محتواه فى المنهج الدنلوبى بذكر أوربا وقوتها، ونهضتها، وحضارتها، وأصالتها، وعظمتها.. فكذلك تملأ الصحف الفراغ الناجم من تفريغ الإسلام من محتواه الحقيقى، والفراغ الناجم من عدم ذكر الإسلام إلا فى " المناسبات الدينية " فحسب.. تملأ الصحف هذا الفراغ وذاك بذكر أوربا.
فهناك ذكر يومى دائم لأوربا فى باب الأخبار، وحديث دائم عن أوربا فى كل مناسبة من المناسبات.
فأما الأخبار فقد يبدو ذكر أوربا فيها أمرا طبيعيا وبديهيا.. ليس فقط لأن مهمة الصحف أن تطلع قارئها على أخبرا العالم الذى يعيش فيه، وليس فقط لأن أوربا فى تلك الفترة كانت مركز نشاط دائب لا يفتر فى جميع الاتجاهات، بل لأن الحقيقة الواقعة - رضينا أم أبينا - أن أوربا كانت تمسك بيدها يومئذ أزمة الأمور، وتقرر للعالم ما يقوله وما يفعله، بحكم غلبتها العسكرية والسياسية والعلمية والحضارية.
ومع ذلك فإن الصحيفة الإسلامية فى الوطن المسلم يكون لها طريقة فى تقديم الأخبار تشعر قارئها أنه مسلم - ولو كان مغلوبا على أمره - وتشعره أنه له نظرة إلى الأمور متميزة عن نظرة غيره إلى الأمور ذاتها. فهو قد يغضب لأمور قد يرضى بها غيره. وقد يفرح بأمور يأسف لها غيره. وقد يأسى لأمور يرضى بها غيره.. وقد يشارك غيره ولكن من موقفه الخاص المتميز (148)..
ومع ذلك فإذا أغضينا عن الأخبار وطريقة تقديمها، لا نستطيع أن نغضى عن الذكر الدائم لأوربا فى تلك الصحافة، فإنه - فيها - بيت القصيد
إن أوربا لا تذكر فى هذه الصحافة بحجمها الحقيقى - وهو يومئذ فى ذاته كبير - ولكن يزاد عليها ويضاف إليها حتى يلقى فى روع القارئ أن أوربا هى العالم، وألا وجود لشئ غير أوربا فى هذا الوجود.
وحقيقة أن أوربا كانت يومئذ غالبة ومسيطرة.. ولكنها كانت مسيطرة على عوج عظيم فى منهج حياتها كله.(1/268)
فهل كانت تلك الصحافة تكتب عن بشاعة الاستعمار وبشاعة الجرائم التى يرتكبها ضد البلاد المحتلة ومعظمها بلاد إسلامية؟
وهل كانت تكتب عن الدوافع الصليبية للاستعمار فى البلاد الإسلامية، من وراء " المصالح الاقتصادية والمصالح السياسية، وما شابهها من المصالح؟
وهل كانت تكتب عن الغزو الفكرى وأهدافه الخفية التى يراد منها صرف الأمة عن دينها؟ (149)
وهل كانت تكتب عن الفساد الخلقى فى أوربا، وما يجره على الناس من آثار سيئة فى حياتهم؟
وهل كانت تكتب عن الربا، وكيف يحدث الظلم الاقتصادى والاجتماعى من إجارة المال بطريق الربا؟ (150)
وهل كانت تكتب عن المؤامرة الأوربية - الصليبية اليهودية - للقضاء على الخلافة العثمانية؟
إن الصحيفة الإسلامية فى الوطن المسلم لم تكن لتغفل الحقيقة الواقعة أو تتجاهلها، لم تكن لتغفل أن أوربا هى المتحكمة فى شئون العالم، وأنها هى القوة المتمكنة فى كل اتجاه، سواء فى المجال السياسى أو الاقتصادى أو الحربى أو العلمى أو التكنولوجى. ولكنها - حين تكون إسلامية - لابد أولا أن تقل موقف الناقد من انحرافات أوربا حيث توجد انحرافات.. وهو موجودة بوفرة فى الحياة الأوربية (151). ولابد ثانيا أن تنهض همم المسلمين ليتداركوا تخلفهم، ليستردوا ما فقدوه من التمكن فى الأرض مرشدة لهم إلى الطريق السوى لتدارك التخلف، وهو أن يأخذوا من أوربا ما هم فى حاجة إليه من تقدم علمى ومادى، مع المحافظة على دينهم وأخلاقهم وتقاليدهم، وعدم الذوبان فى أوربا، وعدم تقليدها فيما يخالف عقيدة الإسلام وشريعته وروحه.
وهذا هو مفرق الطريق بين الصحافة الإسلامية والصحافة غير الإسلامية.
وقد يقول قائل: وأين كان المسلمون؟ ولماذا لم يصدروا صحفاتهم التى تعبر عن موقفهم وتخدم وجودهم ومصالحهم؟(1/269)
ونقول إن المسلمين كانوا غائبين عن وعيهم ولا شك، فى غمرة الانبهار التى نشأت عن التخلف العقدى الذى كانوا واقعين فيه، والذى أدى فى حياتهم إلى كل ألوان التخلف الأخرى، العلمى والمادى والحضارى والفكرى والحربى والاقتصادى والسياسى.. ولكننا نريد أن نبرز فقط حقيقة تلك الصحافة التى أقامها المسيحيون اللبنانيون المارونيون فى مصر، وحقيقة الدور الذى قامت به.. ففضلا عن علامة الاستفهام التى تحيط بهم: لماذا جاءوا إلى مصر بالذات ليعملوا فيها وينشئوا بها دورهم الصحفية دون أى بلد آخر؟ فهناك موقفها الخاص من كل هذه القضايا التى أشرنا إليها. فإنه إذا استحال عليها أن تقف الموقف الإسلامى - وهى مسيحية - فهى لم تقف كذلك الموقف " المحايد " الذى يعرض الحسنات والسيئات، إنما وقفت موقف المدافع المستميت عما يسمى " الحضارة الأوربية " بلك سقطاتها وانحرافاتها، كما وقفت موقف المحرض للمسلمين فى مصر أن يقتفوا أثر أوربا فى كل شئ، وأن يحلوا مشاكلهم على النسق الأوربى، وأن ينظروا إلى الأمور كلها لا بعينهم هم، ولكن بعين أوربا..
وإليك مثلا واحد يبرز المعنى الذى نقصد إليه..
لقد أدت الثورة الصناعية فى أوربا إلى تحطيم الأسرة، وإفساد الأخلاق وانتشار البغاء (152)..
وبصرف النظر عن كل شئ (153)، فتلك مشكلة أوربية بحتة، نشأت من ظروف محلية هناك..
ما شأن المسلمين بها؟!
لماذا يشغلون بها؟!
وإن انشغلوا بها فمن أي زاوية ينظرون إليها؟ أمن زاوية أنه فساد أخلاقي أصاب أوربا حين تنكرت للدين والأخلاق والتقاليد، أم من زاوية أنه (ضرورة)؟! ضرورة اجتماعية في الحياة الحضارية الصناعية؟!
هذا مفرق الطريق ...!
لقد ظلت الصحافة " المصرية!" اللبنانية المسيحية المارونية.. تتحدث عن البغاء، وعن كونه " ضرورة اجتماعية " في العالم " المتحضر!" عشرات السنين قبل أن تكون في العالم الإسلامي كله مشكلة تدعو إلي وجوده ولا إلي الحدث عنه!
لماذا؟!(1/270)
ألمجرد " تسلية " القارئ المصري؟!
وهل هذه القذارة النفسية والأخلاقية والاجتماعية تصلح مادة للتسلية؟!
كلا! لم يكن القصد هو التسلية! إنما كان القصد تهيئة الأذهان لليوم الذي يراد فيه نشر البغاء في المجتمع الإسلامي المصري، وجعله جزءا من كيان المجتمع، تحرسه " الدولة!" بقوانينها وتسهر عليه!!
كان المراد هو تذويب " الحس " الإسلامي الذي ينفر من الفاحشة ومن التعالن بها، بعد أن نحيت "الشريعة " التي تمنع البغاء وتعاقب عليه، حتي إذا جاء اليوم المنشود وقد جاء لم تكن النفوس نافرة ولا القلوب منكرة، إنما كان هناك تقبل مسبق " للضرورة الاجتماعية " التي تنشأ من " الحضارة " وكان المعارضون لممارسة هذه " الضرورة " هم " المتزمتين " " الجامدين " " المتحجرين" الذين لا يريدون أن يسايروا " ركب الحضارة ولا روح " التطور السارية في العالم كله!
وذلك مجرد نموذج يمكن أن تقاس عليه كل " القضايا التقدمية " الآخري،كالاختلاط، والعلاقات الحرة، " وقضية المرأة " ودور الدين في الحياة " العصرية " " العلمانية " إلخ.. إلح وكيف كانت الصحابة " المصرية " تتناولها وكيف كانت بكل خطتها جزاءا من الغزو الفكري الصليبي المقصود
لقد أدت هذه الصحافة دور خطيرا في حياة المسلمين في مصر علي خطين رئيسيين: تقليص دور الإسلام، ولي الاعناق ليا إلي أوربا بحيث تصبح تدريجيا هي الوجهة التي يتجه المسلمون إليها بدلا من الإسلام، والتي يتوسمون فيها طرق الخلاص من حاضرهم السيئ الذي يعيشونه، ويتطلعون من خلالها إلي مستقبل سعيد باسم يلحقهم بركب الحضارة، ويدفع عنهم وصمة التأخر والانحطاط.
يذكرنا هذا بما قلناه عن رفاعة رافع الطهطاوي(1/271)
ولقد رفضت دعاوي رفاعة الطهطاوي يومئذ لأنه فاجأ بها قوما غير مستعدين لتقبلها ولكنها هي بحذافيرها وأكثر منها ستصبح منذ اليوم مقبولة، لأن الصحابة علي الخط البطئ الأكيد المفعول قد مهدت لها الأذهان والقلوب، فإذا جاءت الآن وقد جاءت بالفعل وجدت الناس أكثر استعداد لتقبلها، بل وجدت بعضهم متلهفين إليها، يستبطئون قدومها ويستعجلون خطاها!
…ولقد يقول قائل: أولم تكن الأمور صائرة إلي هذا المصير بحكم جميع الظروف المحيطة بالمسلمين؟ فليس دور تلك الصحابة إذن إلا مواكبة ما كان حادثا بالفعل من " تطور " في أفكار الناس ومشاعرهم، مما كان لابد ان يحدث في جميع الأحوال؟
ونتوقف في الإجابة عند نقطتين
…أما أن الأمور كانت صائرة من تلقاء نفسها إلي هذا المصير، فأمر قد نرجحه بحكم الظروف التي كانت تحيط بالمسلمين يومئذ ولكنا لا نقطع به فالذي حدث في الجزيرة العربية من إنطلاق محمد بن عبد الوهاب بحركته القوية لتصحيح العقدية وإزالة منا شابها من الغبش، يدلنا علي أن الطريق الذي سارت فيه الأمور في مصر لم يكن حتميا، إنمان كان يمكن أن يحدث في مصر ما حدث في الجزيرة العربية من محاولة لتصحيح أحوال الأمة بإزالة " التخلف العقدي " الذي نشأت عنه كل ألوان التخلف الأخري من علميه ومادية وحضارية وعكسرية. إلخ ولكن الجو الذي أحدثته تلك الصحافة (مع وسائل الإعلام الأخري بلا شك) قد جعل قيام مثل هذه الحركة في مصر في ذلك الوقت احتمالا ضئيلا جدا، وجعل الاحتمال الأقوي هو السير في الطريق الذي سارت فيه بالفعل
…وأما النقطة الأخري فهي ان هذه الصحافة لم تكن مواكبة، ولكنها كانت رائدة! لم تكن تتحدث عن أشياء قائمة بالفعل في نفوس الناس، بل عن أشياء يراد أن تقوم في نفوسهم! والمثال الذي ضربناه بقضية البغاء واضح، فقد كانت هذه الصحافة تدأب علي إدخال الأفكار الغربية اللادينية إلي المجتمع الإسلامي ولو لم يكن متقبلا لها ـ أو مشغولا بها من قبل.(1/272)
…ولو فرضنا جدلا أن وضع الغالب والمغلوب هو الذي سيحسم القضية، سواء أقامت تلك الصحافة بدورها أم لم تقم (154) فمما لا شك فيه ان دور الصحافة كان هو الإسراع في تعبيد المغلوب للغالب الصليبي، ومدة في الغي، وإبعاد صحوته إلي ما ينبغي أن يكون عليه، ومنعه من الرجوع إلي الإسلام لو أراد أن يرجع إليه.
? ? ?
وتدريجا علي مهل شديد بدأت تلك الصحافة تهاجم الإسلام!
هل كان يتصور أن تهاجم الإسلام يومئذ باسمه الصريح؟
كلا! قالبقية الباقية من الدين في قلب هذه الأمة في ذلك الحين كانت تمنع حدوث ذلك، ولو حدث لثارت الجماهير علي هذه الصحف وهدمتها علي رءوس أصحابها.
إنما تهاجم التقاليد!
التقاليد البالية!
وإذا سألنا أنفسها ما تلك التقاليد البالية التي تهاجم؟ لو جدنا أن معظمها كان هو الإسلام!
حقيقة كان من بين تلك التقاليد التي تهاجم تقاليد جاهلية ارتدت إليها الأمة الإسلامية في فترة التخلف العقدي، كالتقاليد التي منعت تعليم المرأة، والتي قضت بإساءة معاملتها وتحقيرها ـ علي أساس أن مهمتها أن تحمل وتلد ولكن ليس لها كيان إنساني يوجب الاحترام، وهي ردة جاهلية في هذا المجال كانت الأمة قد هبطت إليها نتيجة البعد عن المنهج الرباني القويم ن الذي ساوي في الإنسانية بين كيان المرأة وكيان الرجل، وإن فرق بينهما في بعض التكاليف وبعض الحقوق وبعض الواجبات. حيث قال سبحانه: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [سورة آل 3/195]
وقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [سورة النحل 16/97]
وقال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [سورة النساء 4/19]
وقال (: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي" (155).(1/273)
لقد كانت تلك التقاليد غير الإسلامية هي المدخل الخبيث الذي دخلته الصحافة لمهاجمة " التقاليد البالية " بحجة أنها ليست من الإسلام، إنما هي من صنع المتزمتين من الرجال الذين أضفوا عليها قدسية الدين ليحموا من ورائها أنانيته وتزمتهم وقد كان هذا حقا يراد به باطل فلم يكن القصد من مهاجمتها هو ردها إلي أصلها الإسلامي الصحيح، إنما كان القصد هو النفاذ من هذا المدخل الخبيث لمهاجمة التقاليد الإسلامية الصحيحة الأصلية بحجة أنها كلها " تقاليد بالية " ليست من الإسلام
فاحتقار المرأة، وتعييرها بأنها تحمل وتلد وليست مساوية في الكيان الإنساني للرجل، وعدم تعليمها، وتركها في جهالة ومهانة.. كل هذا ليس من الإسلام.
ولكن منع الاختلاط بغير موجب، ومنع التبرج والفتنة، ومنع إقامة علاقة " حرة " بين الرجل والمرأة إلا العلاقات الشرعية التي أذن الله بها وحدها هذا كله من صميم الإسلام، قرره الله ورسوله، ولم يقرره المتزمتون من " رجال الدين " (156) ولا قرره الرجل وأضفي عليه قداسة الدين ليحمي أنانيته وتزمته.
ولكن الذين كانوا يهاجمون " التقاليد البالية " في الصحافة المصرية اللبنانية المسيحية لم يقفوا عند التقاليد غير الإسلامية ولم يسعوا إلي تصحيحها بردها إلي أصلها الإسلامي الصحيح، ذلك أن هدفهم لم يكن تصحيح عقيدة هذه الأمة وتصحيح مسلكها بإرجاعه إلي صورته الإسلامية إنما هدفهم الحقيقي هو محو الإسلام محوا وإزالته من الوجود.
وهذا هو مفرق الطريق
لقد كان من شأن الداعية المسلم أن يهاجم تلك التقاليد الجاهلية التي ارتدت إليها الأمة في فترة التخلف العقدي، ويندد بها، ويدعو إلي إبطالها وإزالتها، ولكن لحساب الإسلام، لحساب المنهج الرباني الصحيح.
وكان من شأن الداعية المسلم والمصلح المسلم في ذات الوقت أن يرسخ التقاليد الإسلامية الصحيحة فيدعو إلي المحافظة علي الحجاب الإسلامي، ومنع التبرج، ومنع الاختلاط ومنع التفسخ الخلقي.(1/274)
ولكن الذي صنعته تلك الصحافة وكتابها كان هو المهاجمة الشاملة لكل التقاليد، صحيحها وفاسدها، والتقاليد التي تمنع تعليم المرأة، والتقاليد التي تمنعها من " مشاركة الرجل في كل أمور المجتمع "
ولقد كانت " قضية المرأة " من أكبر الموضوعات التي خاضتها تلك الصحافة وكتابها، ومن أبعدها أثرا في تحويل المجتمع إلي الواجهة التي يريدها المخططون الصليبيون.
ومن كان في شك من التخطيط الصليبي وراء إثارة " قضية المرأة " فليقرأ قرارات المؤتمر التبشيري الذي عقد في لكنو سنة 1913، والذي كان كغيره من مؤتمرات المبشرين يخطط علانية لهدم الإسلام ومحاولة محوه من الوجود، حيث جاء في قرارات ذلك المؤتمر.
(سابعا: الارتقاء الاجتماعي والنفسي بين النساء المسلمات) (157)
وذلك عن طريق " تعليمها " وتحريرها "
فكما كانت تجربة اليهود الأولي في أوربا (158) كذلك كانت تجربة الصليبيين فيمصر (وغيرها من بلاد العالم) أنه مهما حاولوا إفساد المجتمع عن طريق إفساد الرجل وحده فإنه في النهاية لا يفسد أو لا يفسد بالدرجة التي يرغبونها، ولا بالسرعة التي يرغبونها ذلك أنه طالما كانت هناك أم متدينة ولو كانت جاهلة بالقراءة والكتابة والعلوم فإنها تبذر في أبنائها بذور العقيدة وهم بعد أطفال فمهما فسدوا في شبابهم فإنهم يعودون إلي ما لقنتهم إياه أمهم في طفولتهم فلا يحدث الفساد المطلوب، وأنه لابد من إفساد الأم لضمان إفساد المجتمع.. لابد من إفسادها وهي فتاة قبل أن تصبح أما ن حتي إذا أصبحت أما في يوم من الأيام لم تكن لديها العقدية التي بتذرها في قلوب أبنائها، ولا الأخلاق الدينية التي تطبع بها سلوكهم وهم في سن التكوين.
فكيف يفسدون الأم المسلمة والفتاة المسلمة؟
إذا كانت قابعة في بيتها فمن أين يصلون إليها؟ وإذا كانت جاهلة فمن أين يوصلون إليها الإفكار التي يلوثون بها عقلها ويفسدون بها عقيدتها وأخلاقها؟(1/275)
لابد إذن من (تحريرها)و(تعليمها) لكي يصل إليها كيد الشياطين
ولقد كان تعليمها واجبا إسلاميا، بل فريضة إسلامية نكلت عنها الأمة المسلمة ولكن أي نوع من التعليم؟
أما " تحريرها" علي الطريق التي تم بها ذلك التحرير.. بمعني إخراجها من دينها وأخلاقها وتقاليدها.. فقد كان هذا هو بيت القصيد.
? ? ?
" جـ" قضية تحرير المرأة
" بطل " هذه القصة هو قاسم أمين
شاب نشأ في أسرة تركية مصرية أي محافظة فيه ذكاء غير عادي حصل علي ليسانس الحقوق الفرنسية من القاهرة وهو في سن العشرين بينما كان هناك في عصره من يحصل علي الشهادة الابتدائية في سن الخامسة والعشرين
ومن هناك التقطة الذين يبحثون عن الكفاءات النادرة والعبقريات الفذة ليفسدوها، ويفسدوا الأمة من ورائها ألتقطوه وابتعثوه إلي فرنسا.. لأمر يراد.
أطلع قبل ذهابه إلي فرنسا علي رسالة لمستشرق يتهم الإسلام باحتقار المرأة وعدم الاعتراف بكيانها الإنساني وغلي الدم في عروقه، كما يصف في مذكراته وقرر أن يرد علي هذا المستشرق ويفند إفتراءاته علي الإسلام.
ولكن عاد بوجه غير الذي ذهب به
لقد أثرت رحلته إلي فرنسا في هذه السن الباكرة تأثيرا بالغا في كيانه كله، فعاد إلي مصر بفكر جديد وعقل جديد ووجه جديدة.
عاد يدعو إلي " تعليم المرأة وتحريرها " علي ذات المنهج الذي وضعه المبشرون وهم يخططون لهدم الإسلام
يقول في مذكراته إنه إلتقي هناك بفتاة فرنسية أصبحت" صديقة " حميمة لهو إنه نشأ بينه وبينها علاقة عاطفية عميقة، ولكنها " بريئة " وإنها كانت تصحبه إلي بيوت الأسر الفرنسية والنوادي والصالونات الفرنسية فتفتح في وجه البيوت والنوادي والصالونات ويكون فيها موضع الترحيب... (159)(1/276)
وسواء كان هو الذي " التقي بها " أم كانت موضوعية في طريقة عمدا ليلتقي بها، فقد لعبت هذه الفتاة بعقله كما لعبت بقلبه، وغيرت مجري حياته، وجعلته صالحا للعب الدور المطلوب، الذي قررت مؤتمرات التبشير أنه لابد منه لهدم الإسلام
ونحن نميل إلي تصديقه في قوله إن العلاقة بينه وبينها كانت " بريئة " لا بالمعني الإسلامي للبراءة بطبيعة الحال، ولكن بمعني عدم وصول هذه العلاقة إلي درجة الفاحشة فإنها علي هذه الصورة تكون أقدر علي تغيير أفكاره من العلاقة المبتذلة التي تؤدي إلي الفاحشة،لأن الفتاة ستكون حينئذ ساقطة حسة غير جديرة بالاحترام، وغير جديرة بأن تكون مصدر " إلهام "
وسواء كانت الفتاة قد " مثلت " الدور بإتقان، لتظل العلاقة بينه وبينها " روحية " و " فكرية " لتستطيع التأثير عليه، أم كانت تربيته المحافظة في الأسرة المنحدرة من أصل تركي هي التي وقفت بهذه العلاقة عند الحد الذي يصفها بالبراءة فالنتيجة النهائية كانت انقلابا كاملا في كل كيانه
ولنحاول أن نتصور كيف حدث التغيير ..
هذا شاب عبقري، نعم، ولكنه قادم من بلاد محتلة ن تحتلها إحدي الدول الأوروبية وهو قادم إلي أوروبا تلك التي يتحدث قومه عنها بانبهار الماخوذ، وتمثل في حسهم العملاق الضخم الذي يتضاءل الشرق أمامه وينزوي، فنستطيع عندئذ أن نتوقع أنه قادم إلي أوروبا وهو منخنس داخل نفسه، يحس بالضآلة والقزامة ن ويتوجس أن يزدري في بلاد العمالية لأنه قزم قادم من بلاد الأقزام، وأقصي ما يتمناه قلبه أن يجد الطمأنينة النفسية والعقلية في تلك البلاد الغربية التي لا يكاد يستوعبها الخيال
وبينما هو كذلك منكمش متوجس - إذا هذه الفتاة تبرز له في الطريق فتؤنس وحشته بادئ ذي بدء، فيزول عنه انكماشه وتوجسه، ويذهب عنه توتر اعصابه ويشعر بالطمأنينة في المهجر(1/277)
ثم إن هذه الفتاة تبادله عواطفه - كما قص في مذكراته - فيشعر فوق الطمأنينة بالساعدة والغبطة ويزداد استقرار نفسه فلا يعود يشعر بالغربة النفسية الداخلية، وإن بقيت الغربة بالنسبة للمجتمع الخارجية الذي لم يحتك به بعد
غير أن الفتاة تنتقل معه - فتنقله - خطوة أخري.. فهي تصحبه إلي الأسر الفرنسية فتفتح له تلك الأسر أبوابها وترحب به، وتصحبه إلي النوادي والصالونات فترحب به كذلك وهنا تزول الغربة نهائيا، سواء بالنسبة لمشاعره الخاصة أو بالنسبة للمجتمع الخارجي، وينطلق في المجتمع الجديد واثقا من خطواته
كيف تصير الأمور الآن في نفسه؟
كيف ينظر إلي العلاقة بينه وبين هذه الفتاة؟
وكيف ينظر إلي التقاليد التي تم عن طريقها كل ما تم في نفسه من تغيير
علاقة " بريئة " أي لم تصل إلي الفاحشة نمت من خلالها نفسه نموا هائلا، فخرجت من انكماشها وعزلتها، واكتسبت إيجابية وفاعلية، مع نمو في الثقافة وسعة في الأفق، ونشاط وحيوية
ما عيب هذه التقاليد إذن؟ وما المانع أن تكون تقاليدنا نحن علي هذا النحو " البرئ "
هناك بلا شك - مهما احسنا الظن مجموعة من المغالطات في هذا المنطق.
المغالطة الأولي:هي دعواه " ببراءة " هذه العلاقة علي اعتبار خلوها من الفاحشة المبينة فحتي لو صدقناه ونحن أميل إلي تصديقه كما قلنا فهي ليست " بريئة " في الميزان الإسلامي الي يقيس به المسلم أمور حياته كلها فهي تشتمل علي " خولة " محرمة في ذاتها سواء أدت إلي الفاحشة أم لم تؤد إليها وهي محرمة في دين الله لحكمة واضحة، لأنها تؤدي في النهاية إلي الفاحشة، إن لم يكن في أول مرة ولا حتي في أول جيل فإنه ما من مرة أباحت البشرية لنفسها هذه الخلوة إلا وصلت إلي الفاحشة في نهاية المطاف لم تشذ عن ذلك أمة في التاريخ(1/278)
والمغالطة الثانية: هي تجاهله ما هو واقع بالفعل في المجتمع الفرنسي من آثار مثل هذه العلاقة، وقد علم يقينا بلا شك أن ذلك المجتمع يعج بألوان من العلاقات الأخري " غير البريئة " ويسمح بها بلا رادع " فلم يكن ذلك سرا مخفيا عن أحد ممن يعيش في ذلك المجتمع، سواء من أهله أو من الوافدين عليه فحتي لو صدقناه في أن علاقته هو الخاصة لم تصل إلي ما يصل إليه مثلها في ذلك المجتمع لظروف خاصة مانعة في نفسه أو في نفسها فليس ذلك حجة لإباحة تلك العلاقات، أو الدعوة إلي مثلها نه وهو يري بنفسه نتائجها الواقعية حين يبيحها المجتمع
والمغالطة الثالثة: هي زعمه في كتابه الأول " تحريرا المرأة" أن هذا التحرير لن ينتج عنه إلا الخير ولن تنشأ عنه العلاقات الدنسة التي رآها بعينه في المجتمع الفرنسي إنما سينشأ عنه تقوية أواصر المجتمع وربطها برباط متين! (160).
وأيا كان الأمر فقد عاد قاسم أمين من فرنسا داعيا لتحرير المرأة داعيا إلي السفور ونزع الحجاب
نفس الدعوة التي دعا بها رفاعة الطهطاوي من قبل عند عودته من فرنسا مع فارق رئيسي.. لا في الدعوة ذاتها، ولكن في المدعوين فإن أكثر من نصف قرن من الغزو الفكري المستمر كانت قد فعلت فعلها في نفوس الناس، فلم تقابل دعوة قاسم أمين بالاستنكار البات الذي قوبلت به دعوة رفاعة الطهطاوي، ولم توءد في مهدها كما وئدت الدعوي الأخري من قبل
ومع ذلك فلم يكن الأمر سهلا فقد أثار كتاب "تحرير المرأة " معارضة عنيفة جعلت قاسم أمين ينزوي في بيته خوفا أو يأسا، ويعزم علي نفض يده من الموضوع كله.
ولكن سعد زغلول شجعه وقال له: أمض في طريقك وسوف أحميك!(1/279)
عندئذ قرر أن يعود، وأن يسفر عن وجهه تماما فلئن كان في الكتاب الأول قد تمحكم في الإسلام، وقال إنه يريد للمرأة المسلمة ما أعطاها الإسلام من حقوق وفي مقدمتها التعليم فقد أسقط الإسلام في كتابه الثاني " المرأة الجديدة " ولم يعد يذكره إنما صار يعلن إن المرأة المصرية ينبغي أن تصنع كما صنعت أختها الفرنسية، لكي تتقدم وتتحرر، ويتقدم المجتمع كله ويتحرر! وهكذا سقط الحاجز المميز للمرأة المسلمة، وصارت هي المشركة أختين بلا أفتراق!
بل وصل الأمر إلي الدعوة إلي السير في ذات الطريق الذي سارت فيه الغربية من قبل، ولو أدي ذلك إلي المرور في جميع الأدوار، التي قطعتها وتقطعها النساء الغربيات وقد كان من بين تلك الأدوار ما يعلمه قاسم أمين ولا شك من التبذل وانحلال الأخلاق!
قال:
(.. ولانري مانعا من السير في تلك الطريق التي سبقتنا إليها الأمم الغربية لأننا نشاهد أن الغربيين يظهر تقدمهم في المدنية يوما فيوما.
(وبالجملة فإننا لا نهاب أن نقول بوجوب منح نسائنا حقوقهم في حرية الفكر والعمل بعد تقوية عقولهن بالتربية ن حتي لو كان من المحقق أن يمررن في جميع الأدوار التي قطعتها وتقطعها النساء الغربيات) (161).
وكان آخر ماقاله في ليلة وفاته مخاطبا - بالفرنسية - مجموعة من الطلبة والطالبات الذين جاءوا من روما في زيارة لمصر:(1/280)
(أحيي هذه البعثة العلمية وأشكرها علي زيارة نادي المدارس العالية, أحي منها بصفة خاصة هاتة الفتيات اللواتي تجشمن مصاعب السفر متنقلات من الغرب إلي الشرق حبا في الاستزادة من العلوم والمعارف أحييهن وقلبي ملؤه السرور حيث أري نصيبهم من العناية بتربيتهن لا يقل عن نصيب رفقائهن، أحييهن ولي شوق عظيم أن أشاهد ذلك اليوم الذي أري فيه حظ فتياتنا المسلمات المصريات كحظ هاته الفتيات السائحات من التربية والتعليم. ذلك اليوم الذي نري فيه المسلمات جالسات جنبا إلي جنب مع الشبيبة المصرية في اجتماع أدبي كاجتماع اليوم، فيشاركننا في لذة الأدبيات والعلوم التي هن منها محرومات,فعسي أن تحقق الآمال حتي يرتقين فيرتقي بهن الشعب المصري) (162).
? ? ?
والآن وقد صار للمرأة " قضية " فلا بد للقضية من تحريك
وتبني القضية فريق من النسوة عليرأسهن هدي شعراوي، وفريق من الرجال " المدافعين " عن حقوق المرأة، وأصبح الحق الأول الذي تطالب به النسوة هو السفور.. وصارت القضية التي يدور حولها الجدل هي السفور والحجاب.
من أين جاءت القضية؟
حين قامت الحركة النسوية في أوربا كان للمرأة بالفعل قضية! قضية المساواة في الأجر مع الرجل الذي يعمل معها في نفس المصنع ونفس ساعات العمل، بينما تتقاضي هي نصف ما يتقاضاه الرجل من الأجرة (163).
وحين اتسعت القضية هناك وتعددت مجالاتها - تلقائيا أو بتخطيط الشياطين - فقد كان محورها الأول هو قضية المساواة مع الرجل في الأجر، وترجع إليه كلما طالبت أو طولب لها بحق جديد حتي أصبحت القضية هناك في النهاية هي قضية المساواة التامة مع الرجل في كل شئ ومن بين " كل شئ" " حق الفساد " الذي كان الرجل قد وصل أو وصل إليه فصار حق الفساد داخلا بدوره في قضية المرأة تحت عنوان " حق المرأة في اختيار شريك حياتها " في مبدأ الأمر، ثم تحت عنوان " حق المرأة في إبداء عواطفها " وأخيرا تحت عنوان " حق المرأة في أن تهب نفسها لمن تشاء!!(1/281)
أما في مصر أو في العالم الإسلامي - فلم تكن للمرأة قضية خاصة إنما كانت القضية الحقيقية هي إنحراف هذا المجتمع عن حقيقة الإسلام، مما سميناه " التخلف العقدي " وما نتج عن هذا التخلف العقدي من تخلف في جميع مجالات الحياة، وما تحقير المرأة وإهانتها وعدم إعطائها وضعها الإنساني الكريم إلا مجال من مجالات التي وقع فيها التخلف عن الصورة الحقيقة للإسلام، وعلاجها - كعلاج غيرها من الحالات جمعيا هو العودة إلي تلك الصورة الحقيقية، والتخلي عن ذلك التخلف المعيب؟.
تلك هي " القضية " وهي ليست " قضية المرأة " ولا " قضية الرجل " إنما قضية الأمة الإسلامية كلها، بجميع رجالها ونسائها وأطفالها وحكها وعلمائها وكل فرد فيها، وتخصصها بأنها " قضية المرأة " فضلا عن مجانبته للنظرة " العلمية " الفاحصة، فإنه لا يعالج القضية لأنه يأخذ عرضا من أعراض المرض فيجعله مرضا قائما بذاته، ويحاول علاجه فلا يقدر لهذا العلاج أن ينجح، لأنه يتعامي عن الأسباب الحقيقة من ناحية، ويفتقر إلي الشمول من ناحية أخري.
ولكن هل كان في ذهن أحد أن يبحث القضية بحثا جادا مخلصا فاحصا دقيقا ليتعرف علي الأسباب الحقيقة فيعالجها؟
أم هل كان أحد ممن تناول القضية في تمام وعليه ليناقشها علمية موضوعية مبصرة
أم هل كان أحد ممن تناول القضية سيد نفسه لينظر إليها بنظرته الخاصة ويري فيها ما يري بمناظرة الخاص؟! أم كانوا كلهم من العبيد سواء عبيد شهواتهم أو عبيد الغرب، الذين يساقون سوقا لتنفيذ مخططات أعدائهم وهم سادرون في الغفلة، غارقون في الضلال البعيد!
بل! لقد كانوا كلهم كذلك، رجالا ونساء دعاة واتباعا مخططين ومنفذين! وإذا كان لابد للقضية من موضوع فقد جعلت القضية فجأة وبلا مقدمات حقيقية قضية الحجاب والسفور!
لقد كانت القضية في أوربا " منطقية" في ظاهرها علي الأقل.. أو في بدايتها علي الأقل(1/282)
فحين تضطر المرأة إلي العميل لظروف ليس هنا مجال هنا مجال تفصيلها (164)- ثم تعطي نصف أجر الرجل الذي يقوم بنفس العمل، فطلب المساواة في الأجر قضية حقيقية من جهة، وجيهة كل الوجاهة من ناحية أخري
أما قضية الحجاب والسفور مكانها من المنطق، وما مكانها من الحق؟
لم يكن " الرجل " هو الذي فرض الحجاب علي المرأة، فترفع المرأة فترتفع المرأة قضيتها ضده لتتخلص من " الظلم " الذي أوقعه عليها، كما كان وضع القضية في أوروبا بين المرأة والرجل إنما فرض الحجاب علي المرأة هو ربها وخالقها (165), الذي لا تملك إن كانت مؤمنة إن تجادلة سبحانه فيما أمر به، أو يكون لها الخيرة في الأمر:
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36)} [سورة الأحزاب 33/36]
ثم إن الحجاب في ذاته لا يشكل قضية
فقد فرض الحجاب في عهد سول الله (، ونفذ في عهده، واستمر بعد ذلك ثلاثة عشر قرنا متوالية.. وما من مسلم يؤمن بالله ورسوله يقوم إن المرأة كانت في عهد رسول الله ( مظلومة (166). فإذا وقع عليها الظلم بعد ذلك، حين تخلف المسلمون عن عقيدتهم الصحيحة ومقتضياتها، فلم يكن الحجاب - بداهة - هو منبع الظلم ولا سببه ولا قرينه لأنه كان قائما في خير القرون علي الإطلاق، التي قام عنها رسول الله ( " خيركم قرني.... " (167) وكان قرين النظافة الخلقية والروحية، وقرين الرفعة الإنسانية التي لا مثيل لها في تاريخ البشرية كله...
ولكن المطلوب هو نزع الحجاب!
المطلوب هو السفور!
المطلوب هو التبرج!
المطلوب هو ان تخرج المرأة في النهاية عارية في الطريق!(1/283)
ذلك ما تطلبه مؤتمرات المبشرين، وما يطلبه الصليبيون الذين يخططون (168)، فلتكن القضية إذن هي قضية السفور والحجاب، وليوصف الحجاب بكل شر يمكن أن يرد علي الذهن، وليوصف السفور بكل خير يخطر علي البال
ولتبدأ القضية من هنا.. ولتنته حيث يريد الشياطين!
? ? ?
تلقفت " القضية " كما قلنا مجموعة من النسوة فطالبن بالسفور علي أنه " حق" للمرأة سلبها إياه المجتمع، أو سلبها إياه الرجل الأناني المتحجر المتزمت الرجعي المتعفن الأفكار!
وكانت " زعميه " " النهضة النسوية " هدي " هانم " شعراوي، التي اتخذت من بيتها " صالونا " تقابل فيه الرجال سافرة في غير وجود محرم (169).
كانت هدي شعراوي بنت محمد باشا سلطان أحد باشوات ذلك العصر، ومن هنا فهي " هانم " بالوراثة! سافرت إلي فرنسا لتتعلم وسافرت محجبة ولكنها حين عادة كانت سافرة وكان أبوها يستقبلها في ميناء الإسكندرية ومعه مجموعة من أصدقائه، فلما نزلت من الباخرة سافرة أحمر وجهه خجلا وغضبا،وأشاح بوجهه عنها وانصرف دون أن يحييها، ولكن ذلك لم يرد عها عن صنيعها، ولم يردها عن غيها الذي عادت به من فرنسا.
وتحلق حولها بعض النسوة، وبعض الرجال! الرجال الذين " يدافعون" عن قضية المرأة في الصحف والمجلات، بالنثر وبالشعر. لقاء جلسة " لطيفة " في صالون الهانم، أو ابتسامة خاصة تخص بها احدهم، أو مبلغ من المال تدسه في يد واحد من الصحفيين المرتزقة فيكتب مقالا في " رقة " الهانم "و " لطفها " وابتسامتها العذبة وحسن استقبالها لضيوفها - الرجال أو يكتب عن اجتماعاتها وتحركاتها أو يكتب عن " القضية "
وكانت قمة المسرحية هي مظاهرة النسوة في ميدان قصر النيل (ميدان الإسماعيلية) أمام ثكنات الجيش الإنجليزي سنة 1919(1/284)
فقد كانت الثورة المصرية قد قامت (170), وملأت المظاهرات شوارع القاهرة وغيرها من المدن تهتف ضد الإنجليز، وتطالب بالجلاء التام أو الموت الزؤام، ويطلق الإنجليز الرصاص من مدافعهم الرشاشة علي المتظاهرين فيسقط منهم كل يوم قتلي بلا حساب.
وفي وسط هذه المظاهرات الجادة (171) قامت مظاهرة النسوة وعلي رأسها صفية هانم زغلول زوجة سعد زغلول (172) وتجمع النسوة أمام ثكنات قصر النيل، وهتفن ضد الإحتلال ثم بتدبير سابق، ودون مقدمات ظاهرة، خلعن الحجاب، وألقين به في الأرض، وسكبن عليه البترول، وأشعلن فيه النار.. وتحررت المرأة!!! (173)
ويعجب الإنسان الآن للمسرحية وخلوها من المنطق
فما علاقة المظاهرة القائمة للاحتجاج علي وجود الاحتلال الانجليزي، والمطالبة بالجلاء عن مصر.. ما علاقة هذا بخلع الحجاب وإشعار النار فيه؟!
هل الإنجليز هم الذين فرضوا الحجاب علي المرأة المصرية المسلمة من باب العسف والظلم، فجاء النسوة يعلن احتجاجهن علي وجود الإنجليز في مصر، ويخلعن في الوقت ذاته ما فرضه عليهن الإنجليز من الحجاب؟
هل كان الإنجليز هم الذين ألبسوا المرأة الحجاب ما يزيد علي ثلاثة عشر قرنا كاملة قبل ذلك؟! أو كانوا هم الذين سلبوا المرأة " حق " السفور منذ ذلك الزمن السحيق، فجئن اليوم " يتحررن " من ظلمهم ويلقين الحجاب في وجههم تحديا ونكاية فيهم؟!
ما المنطق في المسرحية؟!
لا منطق في الحقيقة!
ولكن التجارب التالية علمتنا أن هذا المنطق الذي لا منطق فيه، هو الطريقة المثلي لمحاربة الإسلام
إن الذي يقوم بعمل من أعمال التخريب والتحطيم ضد الإسلام ينبغي أن يكون " بطلا" لتتداري في ظل " البطولة " أعمال التخريب والتحطيم!(1/285)
كما أتاتورك.. جمال عبد الناصر.. أحمد بن بيلا - وعشرات غيرهم من " الأبطال " الذين حاربوا الإسلام بوسيلة من الوسائل.. كلهم ينبغي أن يكونوا " أبطالا " وقت قيامهم بمحاربة الإسلام وإلا انكشفت اللعبة من ورائهم، وانكشفت عمالتهم لأعداء الإسلام من الصليبين واليهود
كما أتاتورك الذي أطاح بالخلافة، وأراد أن يقطع ما بين الأتراك وبين إسلامهم ن فمنع الأذان اللغة العربية، وكتب اللغة التركية بالحروف اللاتينية وأمر بخلغ الحجاب وذبح عددا من علماء المسلمين.. كان " بطلا " صنعت له البطولات المسرحية الزائفة لتخفي يده التي تقطر بدماء المسلمين، وتخفي جريمته الكبري في حرب الإسلام.
جمال عبد الناصر الذي ذبح قادة الدعوة الإسلامية في مصر، وأنشأ للتنكيل بهم في سجون مصر ألوانا من التعذيب الوحشي لا مثيل لها في تاريخ البشرية كله، إلإ في محاكم التفتيش التي أقامها الصليبيون في الأندلس للقضاء علي الإسلام، وألغي المحاكم الشرعية وهم بالغاء الأزهر، وأضاف جرعات جديدة " لتحرير المرأة " كان " بطلا " أضفيت عليه البطولات المصطنعة لاخفاء الجريمة الهائلة التي ارتكبها ضد الإسلام.
أحمد بن بيلا الذي جاء ليسرق الثورة الإسلامية، ويحولها إلي ثورة اشتراكية بعيدة عن الإسلام مناوئه له، والذي دعا المرأة الجزائرية إلي خلع الحجاب بحجة عجيبة حين قال: إن المرأة الجزائرية قد امتنعت عن خلع الحجاب في الماضي لأن فرنسا هي التي كانت تدعوها إلي ذلك! أما اليوم فإني أطالب المرأة الجزائرية بخلع الحجاب من أجل الجزائر! أحمد بيلا يوم أن دعا تلك الدعوة كان " بطلا " أضفيت عليه البطولة المصطنعة بخطفة من الطائرة وهو متوجه من فرنسا إلي الجزائر.. حتي إذا نضجت اللعبة.. لعبة " البطولة " أطلق سراحة ليقوم بعمله ضد الإسلام.(1/286)
وعلي هذا الضوء نفهم مظاهرة النسوة في ميدان الإسماعيلية بالقاهرة سنة 1919 لابد من بطولة تضفي علي كل عمل من أعمال التخريب ضد الإسلام، لتخفي ما وراءه من تدبير.
وأي بطولة للنسوة يومئذ أكبر من أن يقفن أمام قوي الاحتلال، يهتفن ضدها، ويفتحن صدورهن للرصاص؟
يقول حافظ إبراهيم في شأن هذه المظاهرة:
خرج الغواني يحتججن ورحت أرقب جمعنّهْ
فإذا بهن تخذن من سود الثياب شعارهنه
فطلعن مثل كواكب يسطعن في وسط الدجنه
وأخذن يجتزن الطريق ودار سعد قصدهنه
يمشين في كنف الوقار وقد أبن شعور هنه
وإذا بجيش مقبل والخيل مطلقة الأعنه
وإذا الجنود سيوفها قد صوبت لنحورهنه
وإذا المدافع والبنادق والصوارم والأسنه
والخيل والفرسان قد ضربت نطاقا حولهنه
والورد والريحان في ذاك النهار سلاحهنه
فتطاحن الجيشان ساعات تشيب لها الأجنه
فتضعضع النسوان والنسوان ليس لهن منه (174)
ثم انهزمن مشتتات الشمل نحو قصورهنه
…وتدريجيا في ظل البطولة المدوية.. سقط الحجاب!
وأصبح من المناظر المألوفة في العاصمة أولا، ثم في المدن الأخري بعد ذلك، أن تري الأمهات متحجبات، والبنات سافرات، وكانت الأداة العظمي في عملية التحويل هذه هي التعليم من جهة، والصحافة من جهة أخري.
فأما التعليم فقد أقتضي معركة طويلة حتي تقرر علي المستوي الابتدائي أولا ثم المستوي الثانوي ثم في المرحلة الجامعية
واستفاد اعداء الإسلام فائدة عظمي من الوضع الجاهلي الذي كان يسود المجتمع الإسلامي تجاه المرأة وتعليمها، فأثاروها قضية ن ودقوا دقا عنيفا علي الأوضاع الظالمة لينفذوا منها إلي ما يريدون
ولسنا الآن في مجال تحديد المسئوليات، إنما نحن نتابع خطي التاريخ
وإلا فقدكان المسلمون علي خطأ بين وظلم بين للمرأة حين منعوا تعليمها كما أمرهم رسول الله ( أن يعلموها، وحين أهانوها وحقروها في ذات الأمر الذي كرمها الله به ورفعها ن وهو الأمومة وتنشئة الأجيال.(1/287)
{وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)} [سورة لقمان 31/14]
" من أولي الناي بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال ثم من؟ قال: أمك. قال ثم من؟ قال: أمك. قال ثم من؟ قال: أبوك " (175).
ولكن الذين استغلوا هذا الوضع ليطلقوا دعوتهم لم يكن همهم الحقيقي رفع الظلم عن المرأة، إنما كان رائدهم الأول هو تحطيم الإسلام، وإخراج المرأة فتنة متبرجة في الطريق لإفساد المجتمع الإسلامي، ولم تكن الفوضي الخلقية التي عمت المجتمع فيما بعد مفاجئة لهم ن ولا شيئا مستنكرا من جانبهم يشعرهم بالندم علي ما قدمت أيديهم.. بل كانت شيئا محسوبا ومتوقعا ومرغوبا بالنسبة إليهم، وقد كانوا يرون تجربة الغرب ماثلة أمام أعينهم، ويعرفون ما يئول إليه الأمر في المجتمع المسلم حين يتجه ذات الوجهه، ويسر علي ذات الخطوات
ولا ينفي هذا بطبيعة الحال وجود مخدوعين مستغفلين يتلقفون الدعوة بإخلاص ولكنه إخلاص لا ينفي الغفلة! وهم بغفلتهم أدوات معينة للشياطين، يستغلون موقفهم لتقوية دعوتهم، لأن الناس تري إخلاصهم فتظن أنهم علي خير فيتبعونهم، فيتم ما أراد الشياطين!(1/288)
وقد كان هناك بديل ثالث للمصلح المخلص، الذي يريد الله ورسوله، ويريد تصحيح الأوضاع في المجتمع المنحرف، ورفع الظلم عن المظلومين، وهو الدعوة والجهاد لإعادة المجتمع الإسلامي إلي صورته الصحيحة التي ينبغي أن يكون عليها ولكن أحد من " المصحلين " القائمين يومئذ لم يدع إلي ذلك البديل الثالث وظل الخيار المعروض دائما هو إما الإبقاء علي الأوضاع السيئة المتخلفة الجامدة الظالمة وإما محو الإسلام ونبذة والإنسلاخ منه، والاتجاه إلي أوروبا من أجل التقدم والتحضر والرقي، بل إنه حين جاءت الدعوة إلي البديل الثالث في موعدها المقدور وعند الله، وجدت أبشع الاضطهاد والتنكيل من الحكام، ووجدت الاعراض العنيف والمعارضة من " المصلحين " مما يكشف عن الاتجاه الحقيقي لحركات " الإصلاح " التي أقيمت في المجتمع الإسلامي وأن هدفها لم يكن الإصلاح حقا بقدر ما كان هو تحطيم الإسلام أولا.. وليكن بعد ذلك ما يكون!
سقط الحجاب تدريجا عن طريق " بنات المدارس "!
أو لم تقرر المؤتمرات التبشيرية في مخططاتها ضد الإسلام ضرورة العمل علي تعليم المرأة المسلمة وتحريرها؟
وفي مبدأ الأمر لم يكن التبرج والتهتك هو طابع بنات المدارس،ـ بل لم يكن مقبولا أصلا في المدارس!
والحكمة في ذلك واضحة بطبيعة الحال! فلا المجتمع في ذلك الوقت كان يسمح ولا كشف الخطة كاملة منذ اللحظة الأولي كان يمكن من تنفيذها، بل كان قمينا بالقضاء عليها في مهدها!
ولو خرجت بنات المدارس عن تقاليد المجتمع المسلم دفعه واحدة ومن أول لحظة، هل كان يمكن أن يقبل أحد من أولياء الأمور أن يرسل بنته إلي المدرسة لتتعلم؟
كلا بالطبع! إنما لا بد من طمأنة أولياء الأمور تماما ن حتي يسمحوا بإرسال بناتهم إلي المدارس, ولتكن الخطة علي الأسلوب المتبع في عملية التحويل كلها " بطئ ولكنه أكيد المفعول "!" معنا لإثارة الشكوك "!
بالتدريج..(1/289)
الشعر في مبدأ الأمر مغطي بقبعة.. وتتدلي من الخلف ضفيرتان تربطهما شريطة من القماش.الضفيرتان مكشوفتان أما الرأس فتخفيه القبعة! والوجه سافر..نعم.. ولكن.. صغيرات يا أخي! لا بأس!
ولم يمر الأمر في الحقيقة بسهولة.. ولكنه مر في النهاية! كما مرت كل الخطوات التالية حتي كشف الصدر والظهر والساقين والذراعين والعري علي الشواطئ والتهتك في الطرقات
كيف مر؟!
إن لهذا الأمر دلالاته ولا شك.. نعم كانت هناك جهود شيطانية لإفساد المجتمع المصري بالذات، لتصدير الفساد منه إلي بقية المجتمع الإسلامي كما مر القول، وشاركت في هذه الجهود كل الوسائل الممكنة من صحافة وإذاعة وسينما ومسرح.. إلخ، وكان التركيز عنيفا والوسائل فعالة.. ولكن هل يكفي ذلك كله لتفسير ما حدث؟!
لبيان ذلك نقول: إن كل هذه الوسائل ما تزال مستخدمة حتي هذه اللحظة، وبعنف أشد مما كان قبل خمسين عاما ودون شك، وقد أحدثت هذه الوسائل في خلال ما يزيد علي نصف قرن تيارا هائلا نافرا من الاسلام منسلخا منه.. ومع ذلك توجد اليوم فتيات محجبات، جامعيات مثقفات، لا يتنازلن عن حجابهن ولو دخلن من أجله السجون والمعتقلات.
فما الفرق؟!
بعبارة أخري نسأ: هل كان الحجاب الذي سقط عقدية أم تقاليد؟!
والأخلاق التي سقطت.. هل كانت ذات رصيد إيماني حقيقي أم كانت تقاليد؟! والرجل الذي ثار يوم كشفت " بنات المدارس " عن وجوهن " هل ثار للعقيدة، أم ثار للتقاليد؟!
والرجل الذي ثار يوم نزلت المرأة إلي الشارع لتعمل.هل كانت ثورته نابعة من عقدية حقيقية، دينية أو غير دينية، أم كانت " عنجهية " الرجل هي المحرك، والمحافظة عليها هي الدافع إلي الثورة؟
حين يكون الحجاب عقدية فإنه لا يسقط، مهما سطل عليه من ادوات التحطيم، وحين تكون الأخلاق ذات رصيد إيماني حقيقي، فليس من السهل أن تسقط ولو سلطت عليها عوامل الإفساد - إلا بعد مقاومة شديدة وزمن مديد.(1/290)
أما التقاليد الخاوية من الروح.. وأما العنجهية الفارغة.. فهي عرضة للسقوط إذا أشتد عليها الضغط، وقد كان الضغط عنيفا بالفعل، بل كان شيطانيا بكل ما تحمله الكلمة من معان!
? ? ?
بدأت بنات المدارس يكشفن عن وجوههن ويسرن في الطريق علي النحو الذي وصفناه، ولكن في ملابس طويلة تغطي الذراعين جميعا وتصل إلي القدمين، وفي أدب ظاهر و " استقامة " كاملة.
وهل كن يملكن غير ذلك؟!
إن الفتاه التي يحدثها شيطانها أن تلتفت فقط يمنه أو يسرة تضيع! تسقط في نظر المجتمع، وتكون عبرة لمن يعتبر! فمن التي في مبدأ الأمر تلتفت يمنه أويسره؟!
إنما هو الأدب الكامل والانضباط الشديد!
وحين أفتتحت أول مدرسة ثانوية للبنات في القاهرة.. "مدرسة السنية " كانت ناظرتها انجليزية. وكانت " قمة " في المحافظة إلي حد التزمت! فهكذا ينبغي أن تكون الأمور في مبدأ الأمر! حتي يكتب لهذه الخطوة الثبات في الأرض والتمكين، ويمكن مدها فيما بعد إلي آفاق جديدة! أما لو كشف المستور من أول لحظة فلن تدخل فتاة واحدة المدرسة الثانوية، يبوء المخطط كله بالخسران!
كانت هيئة التدريس نسوية خالصة، في ماعدا مدرس اللغة العربية لتعذر وجود مدرسات للغة العربية يومئذ ولكنه كان يختار من الرجال المتقدمين في السن ن المتزوجين، المشهود لهم حقا بالصلاح والتقوي، فهو بالفعل أب يرعي بناته، ويشعرن نحوه بما تشعر به الفتاة نحو أبيها الوقور، فتقدم له الإحترام والتوقير.
وليس في المدرسة كلها رجل آخر إلا كاتب المدرسة، وهو منعزل عن المدرسة كلها في مكتب خاص لمقابلة أولياء الأمور، والقيام بالأمور الكتابية والحسابية للمدرسة، وحارس الباب، وهو كذلك رجل وقور متقدم في العمر تقول له البنات " يا عم!" إذا حدث علي الإطلاق أن وجهن له الكلام!(1/291)
وكانت الفتيات يحضرن إلي المدرسة في عربات مغطاه بالستائر، ويعدن إلي بيوتهن بنفس الوسيلة ن فأما إن كان أهل الفتاة لا يريدون أن يتحملوا نفقات العربة، فيأتي معها ولي أمرها يسلمها إلي المدرسة صباحا ويتسلمها في نهاية اليوم المدرسي، لكي لا يتركها تسير وحدها في الطريق.
أي شئ يريد الآباء أكثر من ذلك؟!
بل أن " حضرة الناظر " لهي أشد في تأديب البنات من أولياء أمورهن! إنجليزية يا أخري! الإنجليز حازمون في التربية! قل ما تشاء فيهم، ولكن في التربية!
وكانت المناهج في مدارس البنات رجالية في الحقيقة لأمر يراد فيما بعد.. ولكنها بعد مغطاه.. فالفتاة تدرس نفس المناهج المقررة في المدارس الثانوية للبنين، ولكنها تدرس إلي جانبها مواد " نسوية" كالتدبير المنزلي ورعاية النشء ... وذلك لإيهام بأن المقصود من التعليم في هذه المدارس هو إعداد الفتاة لحياة الأسرة التي تنتظرها. إذ كانت أشج نقط المعارضة في تعليم البنات بعد المرحلة الابتدائية أن الدراسة الثانوية ستعطل الفتاة عن الزواج وهي في سن الزواج وتبعدها عن جو البيت الذي خلفت له ن والذي ستقضي بقية حياتها فيه
فأما تعطيل الفتاه عن الزواج فقد واجهة أصحاب (القضية) بالمطالبة بإرجاء سن الزواج، وتحريم الزواج قبل سن السادسة عشرة (وصدر تشريع بذلك) ومحاولة تزيين هذا التأخير بمختلف الحجج ن حتي صار أمرا واقعا فيما بعد، لا عند السادسة عشرة، بل عند الثلاثين وما بعدها في بعض الأحيان!
وأما إبعاد البنت عن جو البيت فقد واجهة أصحاب القضية بتلك الدروس المتناثرة في التدبير المنزلي ورعاية النشء، وفي مقابلها تزاد سنوات الدراسة الثانوية للبنات ن فتصبح ست سنوات بدلا من خمس للبين.(1/292)
حتي إذا هدأت ثورة المعارضين، وصار التعليم الثانوي للبناء أمرا واقعا بعد المعارضة العنيدة التي كانت من قبل، اخذت هذه الدروس النسوية تتضاءل، حتي محيت في نهاية الأمر، وأصبح المنهج رجاليا خالصا في مدارس البنات، وألغيت السنة السادسة، وأصبحت الفتاة تتخرج بعد خمس سنوات علي ذات المناهج التي يتخرج عليها الفتي.. لتصبح للفتاه قضية جديدة.. قضية الدخول إلي الجامعة!
ولكن لا نسبق خطي التاريخ!
? ? ?
تعددت مدارس البنات الثانوية في القاهرة ثم في الإسكندرية ثم في غيرها من المدن.. وخفت قبضة الناظرة الانجليزية فلم يعد يهمها إلا " النظام " الصارم في داخل المدرسة أما " أخلاق " البنات فلم تعد تعيرها اهتماما كما كانت من قبل، وجاءت بعدها ناظرات مصريات، أقل انضباطا من ناحية النظام، وأقل اهتماما بقضايا الأخلاق.
وسارت الأمور فترة من الزمن سيرها الرتيب، وكثر الإقبال علي مدارس البنات حتي ضاقت بهن ن فقامت إلي جانبها مدارس أهلية تسير علي ذات المنهج م وتحقق ذات الأهداف وأطمأن الناس اليوم علي بناتهم فلم يعودوا يصحبونهن في الذهاب والإياب وأصبحت أفواج البنات تذهب في الطرقات وحدها وتجئ.
ولكن.. هل كان يمكن أن تستمر الأمور في داخل هذا النطاق المحدود؟!
يوجد دائما في كل مجتمع فتاة " جريئة " وفتي "جرئ"!(176) يخرجون علي تقاليد المجتمع ويتحللون منها.
وفي المجتمعات المتماسكة يكون نصيب هؤلاء هو الردع الفوري، الذي يمنع العدوي، ويقضي علي الجرثومة قبل أن يستفحل أمرها، أما في المجتمعات المفككة فلا يحدث الردع المطلوب، أو لا يحدث بالقوة الحاسمة التي تؤتي أثرها،فتظل الجرثومة باقية ن وتظل تنتشر حتي يحدث الوباء.
لذلك مدح الله خير أمة أخرجت للناس بقوله تعالي: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل 3/110](1/293)
ولعن شر أمة أخرجت للناس بقوله تعالي: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} [سورة المائدة 5/78-79]
وفي المجتمعات التي تتحول فيها القيم والأخلاق إلي " تقاليد " خاوية من الروح، يحدث الإنكار ويحدث الاحتجاج،ولكن لا يحدث الردع الحاسم الذي يقتل الجرثومة قبل أن تستفحل، فتبقي، ثم تنتشر في خطي بطيئة ولكنها أكيدة المفعول!
وهذا هو الذي حدث في المجتمع المصري أمام الغزو الفكري الصليبي في القرن الرابع عشر الهجري، وفي المجتمع الإسلامي كله. كانت هناك بقايا قيم وبقايا دين ن ولكنها كانت تقاليد خاوية من الروح ن فلم تستطيع ان تصمد طويلا أمام الغزو الكاسح ن الذي يزين الفساد للناس باسم الرقي والحضارة والتقدم "التحرر " من الرجعية والتحرر من الجمود
بدأت أول فتاة " جريئة " تلتفت برأسها حين يلقي إليها الفتي " الجرئ" بألفاظ الغزل المستور أو المكشوف.
وتسقط الفتاة الجريئة في نظر المجتمع من أجل هذه الالتفاته، وتعتبر فتاة فاسدة الأخلاق، ولكنها لا تردع! ولا يردع الفتي الجرئ الذي ألقي بألفاظ الغزل علي قارعة الطريق، فيتكرر النموذج من هنا ومن هناك.. وتتبلد أعصاب الناس علي المنظر المكرر,.وتصبح ظاهرة " معاكسة" " بناء المدارس " ظاهرة مألوفة في المجتمع المصري، لا يتحرك لها أحد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. ويفرح الشياطين!
ورويدا رويدا تتغير ملابس بنات المدارس!
تقصر "المريلة " قليلا.هل هناك مانع؟! الجورب يغطي ما كشتفه " المريلة" فماذا يحدث؟!
ويقصر الكم قليلا.. هل هناك مانع؟! سنتيمترات قليلة لا تقدم ولا تؤخر.. ماذا يحدث؟! هل تخرب الدنيا إذا قصرت الأكمام قليلا أو قصر " الذيل " لا تحبكوها أيها المتزمتون!(1/294)
وتتبلد الأعصاب علي المنظر المكرور، فتقصر الأكمام بضعة سنتيمترات اخري أو يقصر الذيل،أو يقصر الجورب.. وينكشف من المرأة ما أمر الله بستره بنفس المقدار!
أف لكم أيها المتزمتون! تفتئون تذكرون الأخلاق وتنادون بالويل والثبور! ماذا حدث للأخلاق حين تراجعت الملابس بضعة سنتيمترات؟ هل تقاس الأخلاق بالسنتيمتر أيها الجامدون؟ الأخلاق قيم (!!).. والقيم محلها القلب (!!) ما دامت الفتاة (مقتنعة) بالقيم في داخل نفسها فلن تفسد ولو سارت عارية في الطريق!
وحين تكثر الفتيات في الشوارع، حاسرات مقصرات، سواء من بنات المدارس الثانوية أو مدارس المعلمات، أو من خريجات المدارس الأخيرة اللوايت صرن معلمات وصارت لهن رواتب خاصة يستطعن الانفاق منها علي حوائجهن.. عند ذلك تبدأ (المودات) في الظهور.. وتصبح هناك صحافة نسوية تتخصص في عرض " المودات" أو ركن في المجالات والصحف العامة يسمي " ركن المرأة " يقدم النصائح ويقدم "المودات "
فأما النصائح فتبدأ في غاية " العفة " وفي غاية الاتزان!
كيف تحافظين علي محبة زوجك؟!
وهل يكره الإسلام أن تتحبب المرأة إلي زوجها وتتجمل له وتتزين؟!
نحن فقط نقدم النصيحة مصورة! لأننا في زمن الصحافة المصورة التي توضح كل شئ بالرسم
وحين تستقر هذه الخطوة نتقدم خطوة أخري الإمام! تمهيدا (لتحرير) المرأة من قيد آخر من قيود الدين والأخلاق والتقاليد!
لقد كان الزوج في المرحلة الأولي هو " المحلل " وانتهت مهمته، فلنكن الآن صرحاء!
كيف تجذبين انتباه الرجل؟!
نعم! وماذا فيها؟!
ألا تتزين إلا المرأة المتزوجة؟! وماذا تفعل الفتاة التي تبحث عن الزوج؟! ألا تتزين ليقع في شباكها " ابن الحلال "؟!
فإن لم يقع " ابن الحلال فمزيدا من التزين
هذا فستان يكشف " مفاتن الصدر " وهذا يكشف " مفاتن الظهر " وهذا يكشف " مفاتن الساقين "! (177)(1/295)
وتتطور " المودة " العالمية وتتطور، حتي تشكف مفاتن الجسم كله بجميع أجزائه،وتتبعها الصحافة المصرية شبرا بشبرا وذراعا بذراع. " حتي إن دخلوا حجر ضب دخلتموه "! (178)
? ? ?
وجاء دور الجامعة
كنتم أيها المتزمتون تعارضون في تعليم المرأة حتي في المرحلة الابتدائية! وكنتم تقولون إنها لا تصلح إلا للبيت، وليست لديها القدرة علي التعليم.. واليوم تتحداكم الفتاة المتعلمة! ها هي ذي قد تعلمت علي ذات المناهج التي يتعلم عليها الفتي (179)، ووصلت إلي المرحلة الثانوية وهي لم تلحق به فحسب، بل تفوقت عليه في كثير من الأحيان! (180)
والآن صار من حقها أن تدخل الجامعة، فلماذا أنتم قائلون أيها الرجعيون!
ودارت معركة طويلة بين المدافعين والمعارضين كتلك التي قامت في أوربا من قبل... (181)
وقال المدافعون إنه نفس الدور إن المرأة قضيتها واحدة في كل بلاد العالم وستسير في نفس الخطوات ونتيجتها في النهاية واحدة، هي النتيجة التي وصلت إليها أوروبا التي سبقت العالم كله بقرن من الزمن أو أكثر، وخاضت المرأة فيها ذات المعركة وخرجت منها منتصرة في النهاية.
وفي ظاهر الأمر كان الذي يقوله المدافعون أمرا واقعا في كثير من بلاد الأرض ولكنهم كانوا غافلين عن أمور
كانوا غافلين أولا عن أن القضية لم تأخذ شكلا واحد في كل الأرض بسبب طبيعتها الخاصة كما توهموا، ولكن لأن الأجهزة العالمية التي تدير القضية لحسابها الخاص قد جعلتها تأخذ هذه الصورة لأمر تريده (182).(1/296)
وكانوا غافلين ثانيا عن أن قضية المرأة المسلمة ليست هي قضية " أختها " الأوربية! " فأختها " الأوربية ولا أخوة في الحقيقة لأن المسلمة لا تؤاخي المشركة - قد صارت لها قضية لأنه ليس لمجتمعها منهج رباني يسير عليه، إنما يشرع فيه البشر لأنفسهم ـ فيظلمون أنفسهم ويظلمون غيرهم، وقد وقع الظلم هناك من تشريع - أو عرف - وضعه البشر، ثم اختاروا أو اختار لهم الشياطين في الحقيقة حلا ساروا فيه حتي أوصلهم في النيابة إلي الخبال، من تفكك الأسرة وتحلل المجتمع وشقاء الرجل والمرأة كيلهما، وتشرد الأطفال، وجنوح الأحداث، وانتشار الشذوذ والأمراض النفسية والعصبية والقلق والجنون والانتحار والخمر والمخدرات والجريمة.
أما المرأة المسلمة فقضيتها أن الظلم قد وقع عليها من مخالفة المنهج الرباني الذي التزم به مجتمعها عقيدة ولم يلتزم به عملا، وارتدا في هذه النقطة بالذات إلي أعراف الجاهلية الفاسدة
وقد يكون الظلم واحدا أو متشابها، ولكن العلاج يختلف لاختلاف الاسباب فعلاج القضية بالنسب للمرأة المسلمة هو الرجوع إلي المنهج الرباني الصحيح والالتزام به عقيدة وعملا، وليس علاجه هو اتباع الخطوات التي سارت فيها القضية في الغرب ن فخرجت من تخبط إلي تخبط وما تزال
وحقيقة أن المنهج الرباني هو العلاج لكل مشكلات البشرية ن ولو آمنت به أوروبا ونفذته لحلت كل مشكلاتها ولكن الذين ينفذونه بالفعل أو المفروض أن ينفذوه هم الذين ألتزموا به فعلا أي المسلمون فإذا حادوا عنه فإن مهمة " المصلحين " هي تذكيرهم به، ودعوتهم إلي العودة إليه ليطبقوه في عالم الواقع، فتنحل مشاكلهم وينصلح حالهم، أما إتباع أوروبا، وسير المرأة المسلمة في ذات الخطوات التي سارت فيها " اختها " الأوربية فلن يحل مشكلتها، كما لم يحل مشكلة " أختها " وسيصل بها وبمجتمعها وقد وصل بالفعل إلي ذات المصير البائس الذي وصل إليه مجتمع " اختها " من قبل.(1/297)
ولكن المدافعين يومئذ لم يكونوا يفقهون شيئا من ذلك كله.. وهم يومئذ أحد فريقين: فريق يعلم جيدا أن الطريق الذي تسير فيه " القضية " سيؤدي إلي انحلال أخلاق المجتمع وتفككه كما حدث في أوربا، وهو يريد ذلك ويسعي إليه جاهدا لأنه من {الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [سورة النور 24/19](183)
وفريق آخر مخدوع مستغفل لأنه مستعبد للغرب، لا يري إلا ما يراه الغرب، ويظن في غفلته وعبوديته - أن سيده دائما علي صواب!
وهذا وذاك معا مسخران لخدمة الصليبية في المجتمع الإسلامي (184) وخدمة اليهودية العالمية كذلك (185).
وقال هذا وذاك أن " قضية المرأة " تستلزم أن تدخل الفتاة الجامعة لتؤدي " رسالتها " علي الوجه الأكمل "
وقضية التعليم الجامعي أوغير الجامعي - ليست هي القضية بالنسبة للمرأة المسلمة فلن يمنعها الإسلام من طلب العلم، وهو الذي يدعوها إليه بل يفرضه عليها ولكن الإسلام يشترط وفي تعليمها وفي نشاطها كله شرطين أثنين: أن تحافظ علي دينها وأخلاقها وأن تحافظ علي وظيفتها الأولي التي خلفها الله من أجلها، وهي رعاية الأسرة وتنشئة الأجيال وفي حدود هذين الشرطين تتحرك حركتها كلها وهي حدود واسعة سل عنها الصحابيات الجليلات رضوان الله عليهن.
ولكن عباد الغرب وشاطينه لم يكونوا يريدون شيئا من ذلك بطبيعة الحال وهم يطالبون للفتاه المسلمة بالتعليم الجامعي وما تبع ذلك من " قضايا "!
فأما الشياطين فإنهم ما جاءوا يبتغون الإصلاح إنما جاءوا للتخريب بادئ ذي بدء
وأما العباد فليس لهم إلا طريق واحد لا يرون غيره، ولا يستطعيون رؤية غيره، لأنهم عبيد والعبد لا يري إلا ما يراه سيده له، بل يعتقد في دخيله نفسه أن مجرد اتجاه فكرة إلي شئ غير ما يراه السيد هو إثم غير مغفور!
? ? ?
دارت المعركة، وطالب المدافعون عن قضية المرأة أن يسمح لها بدخول الجامعة أسوة الرجل ومساواة له(1/298)
وقال المعارضون إن الفتاه لا تصلح للتعليم الجامعي أصلا لأنه لا يناسب طبيعتها، وسيؤثر علي أنوثتها، فضلا عن أنه سيشغلها عن الزواج ويعطلها عنه عدة سنوات، وسيصرفها عن الأسرة والبيت مهمتها الأصلية وفوق ذلك كله فهناك مشكلة الاختلاط الذي لابد أن يحدث في الجامعة وهو أمر يخالف الدين والأخلاق والتقاليد (186).
واستغرقت المعركة ردحا من الزمن غير قليل. وتقاذف الفريقان الأتهامات الحادة، وضاعت حقائق كثيرة في وسط المعركة كانت علي الأقل تستحق دراسة مستأنية ليتخذ فيها القرار علي بصيره
فأما المدافعون فالمسألة عندهم منتهية لا حاجة فيها إلي التوقف والدرس فهم مدفوعون دفعا بوعي منهم أو بغير وعي إلي تخريب المجتمع الإسلامي وتدميره، بل مدفوعون دفعا إلي استخدام " قضية المرأة " بالذات لإحداث هذا التدمير
أما المعارضون فمن أي منطلق ينطلقون؟
كان ظاهر الأمر انهم ينطلقون من منطلق إسلامي.. وقد كثر في كلامهم بالفعل ذكر الدين والاخلاق والتقاليد ولكن هل كانوا علي وعي حقيقي بالإسلام
لقد كان وعيهم به ضئيلا في الحقيقة وكان إخلاصهم للتقاليد أعمق في حسهم من الإخلاص للدين! أو قل: إن التقاليد التي كانوا يحرصون عليها ويدافعون عنها كانت مختلطة في حسهم بالدين، ومن ثم كان يختلط عليهم الإخلاص للتقاليد بالاخلاص للدين!
ولكنها لم تكن في الحقيقة تقاليد إسلامية ... إنما كانت تقاليد جاهلية ارتدت إليها الأمة المسلمة في فترة تخلفها العقدي، ثم اختلطت في حسها بالإسلام، وظن المدافعون عنها باخلاص أنهم يدافعون عن الدين
وكانت عنجهية الرجل ولا شك عنصرا من عناصر القضية
كان يجب أن يتميز وينفرد بأشياء، سواء كانت مما ميزه الله به حقيقة أو مما ميزته به الجاهلية، ويختلط الأمران معا في حسه فيعتقد أنهما كليهما من صميم الدين وأنه حين يدافع عن مركزه المتميز ويدفع المرأة عن اللحاق به، إنما يدافع عن الدين!(1/299)
ولم يفت المدافعين عن " قضية المرأة " أن يستغلوا نقطة الضعف هذه في موقف المعارضين، وأن يستغلوها إلي آخر المدي، فدعوا إلي إخراج الدين كله من القضية، والحديث عنها علي أنها قضية تقاليد وحين تكون علي هذه الصورة فهي إذن تقاليد عنيقة باليه وينبغي أن تحطم ويستبدل بها تقاليد جديدة.. عصرية تقدمية متطورة
وبطبيعة الحال لم يرض المتدينون والحريصون علي الأخلاق عن حصر القضية في محيطه التقاليد وإخراجها من دائرة الدين، كما كان أعداؤهم يدعونهم كلما احتدمت المعركة بقولهم: لا تزجوا بالدين في كل الأمور! فالدين لا علاقة له بهذه الأمور!!
ولكنهم في النهاية انهزمو وتراجعوا.. ثم صمتوا.. وتقرر الأمر الذي خطط له المخططون، فأصبح " امرا واقعا " رضي المتدينون أو كرهوا، وأعلنوا رأيهم أو صمتوا عنه
لماذا حدث ذلك؟!
لم يكن " التطور العالمي " كما توهم المتوهمون. ولم يكن ضغط الحضارة الغربية ولم يكن " الحق " الذي كان مغلوبا ثم انتصر كما أذاع المدافعون عن قضية المرأة,. لم تكن " طبيعة القضية " وكونها قضية عالمية لابد أن تأخذ مجراها في كل الأرض بل لم يكن الغزو الفكري في ذاته هو الذي جعل الأمور تأخذ هذه الصورة
إنما كان قبل كل شئ: الهزيمة الداخلية الناشئة من الخواء /، الناجم بدوره عن التخلف العقدي والانبهار بما عند الغرب، والظن بأنه لابد أن يكون صوابا ما دام آتيا من عند الأقوياء الغالبين!
نعم، إنها الهزيمة الروحية هي التي مكنت للغزو الفكري، وهي التي جعلت كل ما يخططه المخططون ينفذ كأنه أمر حتمي لا مرد له، ولاطاقة لأحد بالوقوف في طريقة! وما كان شئ من ذلك ليحدث لو أن المسلمين كانوا علي إسلام صحيح.
فالعقيدة الحية المتمكنة من القلوب لا تقهر، ولا يتخلى عنها أصحابها مهما وقع عليهم من الضغوط (187).
والاستعلاء بالإيمان يقي الناس من الذوبان في عدوهم، ولو انهزموا أمامه في المعركة الحربية(1/300)
والغني النفسي الذي يحدثه الإيمان الحق بالله، والغني الواقعي الذي يحدثه التطبيق الصحيح للمنهج الرباني، ويجعل المسلم -فردا وجماعة ومجتمعا ودولة في غني عن الافتراض في عالم القيم والمبادئ فضلا عن التسول! وإذا احتاج لشئ من أمور الدنيا يفتقده عنده فإنه يأخذ في استعلاء المؤمن، ويطوعه لمنهجه الرباني،ويصبح مالكا له لا مملوكا له
وما كان الغزو الفكري ليتسرب إلي نفوس المسلمين لو كانوا علي الإسلام صحيح ولا إلي عقولهم وأفكارهم ومشاعرهم، حتي يزيلهم عن قاعدته ويجرفهم في التيار غثاء كغثاء السيل، كما وصفهم رسول الله ( قبل أربعة عشر قرنا من الزمان
وما كان ضغط الحضارة الغربية ليجلي المسلمين عن مواقعهم، وهي حضارة زائفه ممسوخة في عالم القيم، برغم كل التقدم العلمي والمادي والتكنولوجي الذي تشتمل عيه وقد كان المسلمون قمينين أن يأخذوا كل التقدم العلمي والماديوالتكنولوجي الذي يحتاجون إليه كما أخذوا من الروم والفرس أول مرة دون أن يفقدوا إسلامهم أو يتخلوا عن ذاتيتهم، أو تختلط القيم والموازين في حسهم(1/301)
وما كان " التطور العالمي " ليغلب المسلمين علي أمرهم.. فهو ليس " حتمية " حقيقية كما خيل اليهود للبشرية ليدفعوها في المسار الذي جرفوها إليه إنما انجرفت أوروبا في تيار التطور اليهودي لخوائها من العقدية الصحيحة، ولأن عقيدتها الممسوخة لم تكن تصلح للحياة، ولا كانت تقدر علي الصمود أمام كيد اليهود (188)، ولكن المسلمين كانوا قمينين أن يصمدوا ولا ينهزموا أمام " التطور " المزعوم، الذي انتكس فيه " الإنسان " أكبر نكسبة وقع فيها في تاريخه كله، في مجال القيم والأخلاق والمبادئ بل في مجال " إنسانية الإنسان " ذاتها رغم البريق الخاطف، ورغم كثرة ما قيل في هذا العصر عن " إنسانية الإنسان" كان المسلمون قمينين أن يصمدوا ولا ينهزموا لأنهم يملكون العقيدة الصحيحة من جهة، ولأنهم هم المؤهلون أن يفقوا للكيد اليهودي من جهة أخري لأن الله وعدهم بالنجاة من ذلك الكيد إن استقاموا علي الشرط: {وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [سورة آل 3/120].
بل كان المسلمون قمينين أن يصححوا أفكار البشرية الزائغة إزاء لوثة الداروينية، ولوثة التطور،ولوثة المادية، ولوثه التفسير الجنسي للسلوك البشري، والتفسير الآلي للحياة، ولوثة " التحرر " من كل القيم ولوثة إخراج المرأة من بينتها ووظيفتها لتكدح وتشقي من أجل لقمة العيش نوتتبذل وتفسد، وتفسد المجتمع كله معها في نهاية الأمر
ولو كانوا علي إسلام صحيح!
ولكنهم لم يكونوا..فأصابهم ما أصابهم..وبدلا من أن يصححوا للبشرية منهج حياتها، ويهدوها إلي المنهج الحق، تخلوا هم عن منهجهم الرباني، وراحوا يلهثون لهثا وراء الجاهلية الأوروبية، يستأذنونها في مذلة أن تسمح لهم باللهث وراءها، ولا تحتقرهم ولا تستصغرهم إلي أن يتمكنوا من اللحاق بها في آخر الشوط!(1/302)
وذلك هو التفسير الحقيقي لما حدث في قضية المرأة، وكل القضايا الأخري التي ألمت بالمسلمين في أثناء نهضتهم " المعاصرة .
? ? ?
دخلت المرأة الجامعة لا " لتتعلم " فقط ولكن " لتتحرر "!
لتتحرر من الدين والأخلاق والتقاليد
فقد قيل لها كما قبل للمرأة الأوروبية من قبل إن التعليم والاختلاط والحرية و" التجربة " كلها " حقوق " للمرأة كان الدين والأخلاق والتقاليد تمنعها من مزاولتها و اليوم ينبغي أن تحطم الحواجزكلها لتحصل المرأة علي ما لها من حقوق.
وبطبيعة الحال لم تكن هناك طفرة.. إنما جاء كل شئ بالتدريج وما كان المخططون يتوقعون أن تحدث الطفرة وإن تلهفت قلوبهم لمشاهدتها - ولا كان ذلك ممكنا في عالم الواقع
لقد دخلت أربع فتيات كليه الآداب في" الجامعة المصرية " مقتحمات كل الحواجز القائمة يومئذ، والمجتمع كله، بين مؤيدا ومعارض يرقب التجربة الجديدة وما يمكن أن تسفر عنه
وكان هناك طبعا قدر من الأدب وقدر من الحياء وقدر من الاحتشام سواء من جانب الفتيات الأربع أو من جانب الطلاب في مدرجات الجامعة وافنيتها، والجو كله مملوء بالحذر والترقب.
ومع ذلك كله كتبت امينة السعيد في مذكراتها التي نشرتها لها " الهلال " وهي إحدي الفتيات الأربع اللواتي " اقتحمن " الحواجز، ليثبتن جدارة الفتاة المصرية بكذا وكذا مما أثبتن جدارتهم به كتبت تقول: إنه في الاختبار الشفوي في آخر العام كانت اللجنة في اختبار اللغة الإنجليزية مكونة من استاذ إنجليزي وأستاذ مصري، وإن الاستاذ الانجليزي ابتدارها في الاختبار بسؤالها عن رأيها في الحب!
تقول أنها من جانبها تلعثمت في بادئ الأمر وإن الاستاذ المصري غضب حتي أحمر وجهه من الغضب وغادر اللجنة فقال لها الأستاذ الانجليزي: لا عليك منه! استمري!
وتقول: إنها وجدت نفسها تنطلق في الحديث عن الحب بلا تلعثم ولا حياء! وهوالمطلوب
? ? ?(1/303)
لم تكن الجامعة المصرية كما كانت جامعة القاهرة تسمي في ذلك الحين قد انشئت لترعي القيم الإسلامية ولا لترعي تنشئة الشبان والفتيات تنشئة إسلامية
إنما كانت قد أنشئت لتكون منبرا " حرا" يهاجم منه الدين والأخلاق والتقاليد مهاجمة شفوية وعملية كلما أمكن مع الحذر من الخروج السافر دفعة واحدة، حتي ترسخ أقدام الجامعة وتصبح معلما ثابتا من معالم الحياة المصرية. فلا عليها بعد ذلك أن تفعل ما تشاء علانية بدون مواربه فلن يصيبها يومئذ ما يقتلع جذورها بعد أن تثبت وتستقر
كانت مدرسة المعلمين العليا الدنلوبية قد استنفدت اغراضها في تخريج المدرسين الذين سيوالون تعليم الأجيال فترة غير قصيرة من الزمن، يبثون فيهم ما بث فيهم من قبل من نفور من الدين وأهله، وانسلاخ من آدابه وقيمه، وعبوديته مقنعة أو سافره للغرب
واليوم يراد توسع الدائرة فالمدرسون مهمون نعم ومطالبون نعم، ولكن المدرس بطبيعة نشأته محدود الأفق، محصور في دائرته لا يغادرها، تتحول حياته بعد حين إلي رتابه ممله، فينغلق علي نفسه، ويفقد حيويته وخصوبة فكرة، إلا النادر القليل.
ونريد اليوم أن يكون لدينا " مفكرون ".. " احرار " ... لينشروا " حرية الفكر " علي مستوي المجتمع كله. رحاله ونسائه وكل من فيه
ومدرسة المعلمين العليا بكل ما قدمت من "خدمات " عاجزة بطبيعة تكوينها عن أداء هذه المهمة الخطيرة إنما الذي يقدر علي ذلك هو الجامعة
ومن هنا كانت الجامعة محددة الأهداف عند مخططيها من أول لحظة
ولقد فرح الناس بها فرحا شديدا عند مولدها، وأقبل الشباب عليها بلهفة وتشوق، لأنها في ظاهرها كانت خطوة تعليمية وثقافية ضخمة، سدت ثغرة كانت موجودة في الحياة المصرية، بعد تجميد الأزهر، وانصراف الناس عنه، والعزلة التي فرضها عليه دنلوب.. ثم لأمر آخر كان يخالج تلك النفوس ويزيد من فرحتها: لقد صرنا الآن مثل أوروبا صارت لدينا جامعة!(1/304)
ولم يكن كثيرون يتوقعون أن تصبح الجامعة منبرا لمهاجمة الإسلام، ولتخريج شباب يستخفون علانية بكل القيم الدينية ن ويستخفهم الغرور العلمي أو الجهلي! متكئين إلي أنه " خريجوا الجامعة " أي " الطراز " الحديث! فليس لأحد أن يتصدي لهم أو يناقشهم أو يخطئهم، وإلا فهو جاهل رجعي متخلف.. فهنا في الجامعة وهنا فقط يوجد العلم الحق ن والأفق الواسع، والفكر المتحرر، والنظرة التقدمية، والروح العلمية، وإرادة الحياة الحرة.. وفي كل مكان آخر أيا يكن ذلك المكان توجد الرجعية والجمود والتأخر والعفن المنتن الذي خلفته عصور الانحطاط، والجهل الفاضح الذي يعيش في الظلمات غير منفتح علي تيار الحياة الحي، ويكفي أهله سواء وجهلة وتخلفا أنهم لا يعرفون " لغة أجنبية " (189).
ولعل الناس فوجئوا في أول الأمر بالمستشرقين الذين يقدحون في الإسلام ت ويشوهون صورته، ويهاجمونه، أساتذة في كلية الآداب يدرسون أفكارهم للطلاب، تحت إشراف طه حسين " عميد الأدب العربي " ورئيس قسم اللغة العربية يومئذ ومن بينهم المسشرق اليهودي" مرجوليوث" الذي كان يقول إن محمدا ( مجهول النسب! فقد كانت العرب تطلق علي من لا تعرف نسبه اسم عبد الله، ومن ثم فمحمد بن عبد الله ( هو ابن رجل مجهول النسب! وهي فريه لم يقلها أحد غيره من المشتشرقين! (190).
ولعلهم فوجئوا بطه حسين الذي قال في كتاب الشعر الجاهلي للتوراه والإنجيل أن يحدثانا عن إبراهيم وإسماعيل وللقرآن أن يحدثنا عنهما كذلك، ولكن هذا وذاك لا يثبت لهما وجودا تاريخيا! (191) يصبح في مكان الصدارة في الجامعة الجديدة ن ثم يقول في فترة لاحقه، في كتابه " مستقبل الثقافة في مصر " إن مصر لم تكن قط جزءا من الشرق، وإنما كانت دائما جزءا من حوض البحر الأبيض المتوسط، وكل ما جاءها من الشر جاءها من الشرق!.(1/305)
ولعلهم فوجئوا بمن يقول إن قصص القرآن قصص "فني" يعني لا يتحدث عن حقائق تاريخية وأشخاص حقيقيين، إنما هي قصص فنية، مبتدعة من الخيال لأغراض فنيه! (192)
وفوجئوا وفوجئوا وفوجئوا وثارت ثائرة من ثار منهم ولكنها ثورة أضعف من أن تغير شيئا من الواقع ومضي الجديد يثبت أركانه، يمد له المخططون من وراء الستار، وتتبلد عليه مشاعر الناس. حتي جاء الوقت الذي أصبح " الناس " هم أنفسهم خريجي الجامعة، (أو الجامعات فيما بعد) فتجانست الأفكار والتصورات والدوافع وأنماط السلوك! ولم يعد شئ مما يجري في الجامعات يثير ما يمسي " الرأي العام "!
? ? ?
وإذا كانت كلية الآداب بالذات قد خصصت " لتفريخ" مثل هذه الأفكار والتصورات، وتخريج " مفكرين أحرار " يقومون " بواجبهم " في إزالة " العفن " و" النتن " من الأفكار والعقول، ليضعوا بدلا منها المفاهيم الغربية عن الدين والأخلاق والتقاليد، ولينشئوا مجتمعا جديدا علي هدي المخططين الذي يخططون من وراء الستار قد"تحرر " أبناؤها وبناته وصاروا " طلقاء " يفعلون بالدين ما يراد منهم. فإن كلية الحقوق قد أنشئت لتخريج أجيال تدعو إلي القانون الوضعي لأنه تخصصها الذي ربيت عليه، ولم تعلم غيره فمن الطبيعي أن تتعصب له، وتعادي كل شئ غيره وتبعد عن الأذهان نهائيا قضية تحكين شريعة الله، لأنها غير واردة في أذهانهم أصلا ومن هؤلاء يكون رجال السياسية ورجال الحكم، والأسماء البارزة اللامعة في المجال الإجتماعي(1/306)
أما الكليات العلمية فهي تخرج الفنيين من أطباء ومهندسين وزراعيين وغيرهم, ولكنها تخرجهم علي الطريقة الغربية البحتة، أي " علمانيين " (193) لا يطيقون الحديث في أمور الدين، فضلا عن ان يتدينوا هم أنفسهم لانهم طلاب " علم " والدين خرافة، ولأنهم " واقعيون" والدين أساطير، ولأنهم " عقول مفكرة " لا ينبغي لها أن تتدني إلي مستوي العوام الذي لم يطلعوا علي " الحقائق العلمية " وفضلا عن ذلك فإنهم " يتميزون " عن أمثالهم من " العلمانيين " في الغرب، بكونهم يحتقرون لغة بلادهم، لأنها لغة متخلفة لا تصلح للعلم، ويتحدثون من ثم بغلة السادة المتحضرين، ويرفضون أن ينظروا في أي كلام مكتوب بالعربية لأن العربية أصلا هي لغة الجمود والتخلف، ولو كان المكتوب بالعربية هو القرآن بل إن هذا الكتاب بالذات هو أشد ما ينفرون من قراءته أو النظر إليه!
وهكذا تتواكب الكليات وتتواكب التخصصات لتخرج في النهاية الجيل المطلوب لأعداء الإسلام! الجيل المتجه بكليته إلي الغرب، النافر من " الرجوع" للإسلام (194).
? ? ?
وكما كان من أهداف الجامعة تخريج الجيل الجديد من " الرجال المتحررين " الذين أداروا ظهورهم للإسلام وولوا وجهوهم شطر الغرب سواء من كلية الآداب أو الحقوق أو الكليات العلمية، فقد كان من أهدافها كذلك تخريج الجيل الجديد من " النساء المتحررات " اللواتي انسخلن من الدين والأخلاق والتقاليد فقد كانت " الفتاة الجامعية ".. " المثقفة ".. " المتحررة " ... عنوانا للتغير المطلوب، ودافعا في الوقت ذاته إلي مزيد من " التحرر " المطلوب!
ولكن هنا تأتي وسائل الإعلام الأخري لمتمد " قضية المرأة " باللهيب الدائم الذي لا يخبو أوراه، حتي يتم المطلوب كله، وفي أقصي صورة ممكنة(1/307)
فلئن كان " اللهيب " قد ابتدأ أو اشتعل في مسرحية المظاهرة النسائية التي أحرقت الحجاب في ميدان الإسماعيلية أمام ثكنات الجيش الإنجليزي فالصحافة المصرية اللبنانية المسيحية المارونية (195)- تواكب " القضية " وتدفعها دائما إلي الإمام
إن عدسه الصحافة تلاحق " الفتاة الجامعية " لترصد جميع تحركاتها وتختار بطبيعة الحال الوجوه الجميلة لتجعها "إعلانا " عن القصية وتتنوع التعليقات، ولكنها كلها تبارك تلك الخطوة الجبارة التي خطتها الفتاة المصرية، والتي حطمت فيها القيود والحواجز، وأخرجت المرأة المصرية من سجن " التقاليد " المظلم، ومن عقلية القرون الوسطي المظلمة(196).. لتري النور.. لتتحرر.. لتشارك في أمول المجتمع!
وفي ظل تلك التعليقات تسنح الفرصة وهي دائما سانحة لمهاجمة تلك " التقاليد " التي تجعل المرأة حبيسة البيت مستبعدة للرجل، ناقصة الآدمية، مهضومة الحقوق، لا عمل لها إلا الحمل والولادة والرضاعة و " خدمة " الرجل وتربية الأولاد!
ولابد من وقفه هنا لبيان حقيقة، سبقت الإشارة إليها، ولكنها تحتاج إلي مزيد من الإيضاح.
إن المرأة كانت مظلومة بالفعل وكانت تعامل معاملة سيئة بالفعل، وكانت تعير بأنها جاهلة، وبأن مهمتها هي أن تحمل وتلد ولا شأن لها بشئ أخر.. وكانت هذه نظرة " جاهلية " تسربت إلي المجتمع المسلم حين تخلف عقديا، وفسد كثير من مفاهيمه الإسلامية، والجاهليات تجنح غالبا إلي تحقير المرأة وإزدرائها، إلا أن تجنح كالجاهلية الإغريقية الرومانية ووريثتها الجاهلية المعاصرة إلي تدلي المرأة وإفسادها خلقا لتصبح مسرحا لشهوة الرجل(1/308)
وكان وضع المرأة في مصر وفي العالم الإسلامي كله في حاجة إلي تصحيح لرد الكرامة الإنسانية إليها، ووضعها في المكانة اللائقة بها بوصفها " إنسانه" كرمها الله حين قرر الكرامة لكل بني آدم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ..} [سورة الإسراء 17/70] وساواها في الإنسانية بالرجل حين قرر أنه {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [سورة آل 3/195] وقرر لها احتراما وتوقيرا خاصا في وضع الأمومة من أجل ما تتكبده في الحمل والرضاعة: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} [سورة الأحقاف 46/15] وجعل الجنة تحت أقدامها علي لسان رسوله (
وكان هذا الوضع المنحرف عن أوامر الإسلام وتوجيهاته هو هو الذي فتح الثغرة للغزو الفكري، وهو هو الذي استغله الشياطين لينفذوا منه إلي المجتمع الإسلامي في كل بلاد الإسلام وينفذوا مخططاتهم فيه.
ولو كان المجتمع الإسلامي يطبق الإسلام في صورته الصحيحة، فمن أين كان ينفذ الشياطين؟
كانت أوربا في جاهليتها ستصيح صيحتها و" تحرر" نساءها من الدين والأخلاق والتقاليد، وتخرج المرأة هناك سافرة متبرجة عارية، وتملأ الشوارع والمصانع والمكاتب والدواوين، ونغرق هي والرجل في علاقات دنسة، وتدنس الجسد والروح، وتتفكك الأسرة، ويتشرد الأطفال، وتنتشر الجريمة والخمر والمخدرات والقلق والأمراض العصبية والنفسية والانتحار والجنون، ويظل المجتمع الإسلامي في تماسكه ورفعته ونظافته وتطهره، ينظر رجاله ونساؤه إلي تلك الجاهلية نظرة استنكار ونفور واستعلاء.
وربما قال قائل: إن ما بدأ اليوم من عوار الجاهلية المعاصرة لم يكن واضحا للعيان يوم بدأت " الحركة النسائية " في العالم الإسلامي، ومن ثم كان العالم الإسلامي عرضه للافتتان " بقضية المرأة" في وجهها " الإصلاحي " قبل أن يظهر ما تحتويه في باطنها من الفساد
وهذا قول مردود
ففي وقت مبكر نسبيا عام 1929 م كتب " ول ديورانت" الكاتب الأمريكي، في كتابه " مباهج الفلسفة "هذه الكلمات:(1/309)
" فحياة المدينة تفضي إلي كل مثبط عن الزواج، في الوقت الذي تقدم فيه إلي الناس كل باعث علي الصلة الجنسية، وكل سبيل يسهل أداءها ولكن النمو الجنسي يتم مبكرا عما كان من قبل، كما يتأخر النمو الاقتصادي، ولا مفر من أن يأخذ الجسم في الثورة وأن تضعف القوة علي ضبط النفس عما كان في الزمن القديم وتصبح العفة التي كانت فضيلة موضعا للسخرية ويختفي الحياء الذي كان يضفي علي الجمال جمالا، ويفاخر الرجال بتعداد خطاياهم وتطالب النساء بحقها في مغامرات غير محدودة علي قدم المساواة مع الرجال ويصبح الأتصال قبل الزواج أمرا مألوفا وتختفي البغايا من الشوارع بمنافسة الهاويات لا برقابة البوليس
" وما يحدق من إباحة بعد الزواج فهو في الغالب ثمرة التعود قبله وقد نحاول فهم العلل الحيوية والاجتماعية في هذه الصناعة المزدهرة (197), وقد نتجاوز عنها باعتبار أنها أمر لامفر منه في عالم الإنسان ن وهذا هو الرأي الشائع لمعظم المفكرين في الوقت الحاضر غير أنه من المخجل أن نرضي في سرور عن صورة نصف مليون فتاة أمريكية يقدمن انفسهم ضحايا علي مذبح الإباحية ن وهي تعرض علينا في المسارح وكتب الأدب المكشوف تلك التي تحاول كسب المال باستثارة الرغبة الجنسية في الرجال والنساء المحرومين وهم في حمي الفوضي الصناعية من حمي الزواج ورعايته للصحة".
"حتي إذا سئمت فتاة المدينة الانتظار، اندفعت بما لم يسبق له مثيل في تيار المغامرات الواهية فهي واقعة تحت تأثير إغراء مخيف من الغزل والتسلية وهدايا من الجوارب وحفلات من الشمبانيا في نظير الاستمتاع بالمناهج الجنسية وقد ترجع حرية سلوكها في بعض الأحيان إلي إنعكاس حريتها الاقتصادية فلم تعد تعتمد علي الرجل في معاشها وقد لا يقبل الرجل علي الزواج من إمرأة برعت مثله في فنون الحب.(1/310)
فقدرتها علي كسب دخل حسن هوالذي يجعل الزوج المنتظر مترددا، إذا كيف يمكن أن يكفي اجره المتواضع للإنفاق عليهما معا في مستواهما الحاضر من المعيشة؟" (198).
".. ولندع غيرها من الذين يعرفون يخبرونا عن نتائج تجاربنا.. أكبر الظن أنها لن تكون شيئا نرغب فيه أو نريده.. فنحن غارقون في تيار من التغيير، سيحملنا بلا ريب إلي نهايات محتومة لا حيلة لنا في اختيارها. وأي شئ قد يحدث مع هذا الفيضان الجارف من العادات والتقاليد والنظم..." (199).
فإذا كان هذا قد كان واضحا عند رجل غير مسلم بل رجل ملحد ساخربكل القيم الدينية والأخلاقية مثل ول ديورانت قبل أكثر من نصف قرن من الزمان فقد كان الأخري أن يكون واضحا تمام عند المجتمع المسلم، الذي يهتدي ببصيرته الإيمانية المستمدة من إيمانه بكتاب الله وسنه رسوله ( والذي يري حتميته السنين الربانية في الحياة البشرية حين يقدم الناس لها الأسباب ويؤمن بالنتائج السيئة المترتبة علي فساد الأخلاق في حياة الأمم وحياة الأفراد
ولكن القضية أن المجتمع الاسلامي كان بعيدا عن حقيقة الإسلام
ومن هنا وجدت الثغرة التي ينفذ منها الشياطين
وحين نفذوا فإنهم لم يقولوا إن المجتمع قد بعد عن الإسلام الصحيح وينبغي أن يعود إليه فما لهذا جاءوا وما لهذا أطلقوا صيحاتهم! إنما هم كانوا يعملون بجهدهم كله ليخرجوا هذه الأمة من الإسلام وليرسموا لها الطريق الذي يبعدها نهائيا عنه، ويمنعها بكل سبيل من العودة إليه.
ولئن كانوا قد استخدموا الإسلام في مبادئ حركتهم كما استخدمه قاسم أمين وغيره ليتترسوا به من قذائف المعارضين الذين سيرمونهم ولا شك بالمروق من الدين،فإن هذه المرحلة سرعان ما استنفدت اغراضها ووقفوا موقفهم الحقيقي من الإسلام، وهو موقف النبذ والمعارضة والهجوم، علي مرحلتين متتابعتين بحكم الظروف الأولي هي مهاجمة التقاليد والأخري هي مهاجمة الدين باسمه الصريح(1/311)
في مرحلة الهجوم الأولي هاجموا التقاليد التي كانت ظالمة بالفعل من تأثير الردة الجاهلية التي كان المجتمع الإسلامي قد ارتد إليها نتيجة تخلفه العقدي، وعدم تطبيقه الإسلامي علي صورته الحقيقية ولكنهم حرصوا علي أن يدخلوا في دائرة الهجوم التقاليد الإسلامية الحقيقة التي قررها الله ورسوله، جنبا إلي جنب مع التقاليد الفاسدة، ويطلقوا عليها جميعا أنها تقاليد " باليه " ينبغي أن تحطم وأن تغير كما حرصوا علي ان سموها كلها بانها من تراث العصور الوسيط " المظلمة" التي ينبغي لها أن تمحي من الوجود في العصر الحديث عصر النور التحرر والإنطلاق!
وكان في هذا الهجوم علي هذا النحو خبث ماكر ولا شك فحقيقة إن كلا النوعين من التقاليد الصحيح والفاسد كان قائما في الحياة الإسلامية بعضه إلي جانب عض ولكن كان من السهل لو خلصت النيات فرز هذه من تلك، والإبقاء علي التقاليد الحقة والمستمدة بالفعل من كتاب الله وسنه رسوله (، ومحاربه التقاليد الفاسدة التي جاءت من الردة الجاهلية في شأن المرأة ن حتي لو اقضتي الأمر خوض معركة مع المتمسكين بها فإنما برز العلماء في حياة هذه الأمة بالمعارك الحادة التي خاضوها ضد انحرافات المجتمع ولو كان المجتمع كله غارقا فيها وتركوا بمصاتها الإصلاحية بمقدار ما بذلوا من جهد وبمقدار ماكان كان هذا الجهد مخلصا متجردا لله(1/312)
لكن الخبثاء استغلوا ما غشي الإسلام من غبش في نفوس معتنقية، فلم يعودوا يمزون بين الحق والباطل واستغلوا بصفة خاصة جهالة " المثقفين " فهاجموا الظلم البين الذي يأباه الله ورسوله وأدخلوا معه تقاليد الإسلام الحقيقة علي أنها من الظلم الذي ينغي إزالته وزعموا في بادئ الأمر انها ليست من الدين إنما هي من وضع رجال متزمتين اخترعوا من عند انفسهم وألصقوا لهذا النفور الثبات والرسوخ في قلوبهم صارحوهم في المرحلة الأخيرة أنها من الدين! وقالوا لهم جهرة إن الدين ذاته هو البلاء الذي ينبغي التخلص منه ونبذه وراء الظهور!
هاجموا ترك المرأة جاهلة بلا تعليم وكان هذا بالفعل من التقاليد الفاسدة التي انزلق إليها المجتمع الاسلامي بعيدا عن تعاليم الإسلام.
وهاجموا احتقارها وازدراءها وتعييرها بأنها تحمل وتلد ولا شأن لها بشئ آخر، وكان هذا بالفعل من التقاليد الفاسدة المضادة تماما لتعاليم الإسلام
وهاجموا تزويجها بغير إذانها وبغير رغبتها وكان هذا كذلك من التقاليد الفاسدة المخالفة للنصوص الصريحة من أحاديث الرسول (.
ولكنهم إلي جانب ذلك هاجموا حجابها، وهاجموا استقرارها في بيتها وعدم خروجها إلا للضرورة وصوروا ذلك بأنه سجن وضعها الرجل فيه أنانية منه وظلما بينما هي أوامر صريحة من الله سبحانه وتعالي لأمهات المؤمنين ولنساء المؤمنين معهن وطالبوا بخروجها إلي "المجتمع " سافرة |" متحررة " بغير قيد هو أمر نهي الله عنه نهيا صريحا في آيات مبينات:
{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [سورة الأحزاب 33/33]
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [سورة الأحزاب 33/59](1/313)
{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ (200) وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} [سورة النور 24/31]
ولكن المهاجمين في الجولة الأولي خلطوا الحابل بالنابل عن عمدا وجعلوا القضايا كلها تقاليد عتيقة باليه عفي عليها الزمن ولم يعد يستساغ وجودها في عصر الحرية والنور!
أما في الجولة الثانية (وسياتي الحديث عنها) فقد أصبح الدين ذاته هو الرجعية التي ينبغي أن ننبذها لنكون(تقدميين)!
? ? ?
قلنا إن الصحافة سواء اللبنانية المسيحية المارونية أو المصرية الصميمه التي يشرف عليها من يحملون أسماء إسلامية (201)- قد تابعت " قضية المرأة " باهتمام ملحوظ، وحرصت علي تغذية المعركة بالوقود الدائم الذى لا يفتر، كما حرصت علي متابعة الفتاه الجامعية وهي تشق طريقها " الصاعد " الذي تدوس فيه كل المقدسات لكي تصل إلي النور
وكان من بين ما حرصت عليه تلك الصحافة والمجلات الأسبوعية بصفة خاصة إبراز " الروح الجامعية"
و لا يتبادر إلي ذهن أحد أن المقصود بالروح الجامعية هو روح البحث العلمي والتعمق في أخذ الأمور وعدم التسرع في إصدار الأحكام حتي يثبت الباحث من أن لديه من الدلائل ما يسند الحكم الذي وصل إليه إلي أخر هذه المعاني التي تخطر علي البال حين تذكر " الجامعة " وتذكر الروح الجامعية والتي كان نصيب الجامعين منها في غالبية الأحيان ضئيلا للغاية!
إنما " الروح الجامعية " أعلم هداك الله هي ممارسة الاختلاط في الجامعة بين البنين والبنات ومقدار ما يقع في هذه الممارسة من تحرر وإنطلاق وانعتاق من سجن التقاليد البالية التي تفصل شقي المجتمع بعضهما عن بعض، وتضع بينهما الحواجز التي تعيق الأمة كلها عن التقدم والارتقاء..!!(1/314)
وحذار أيتها الفتاة أن تهزمي في المعركة! فغض البصر معناه عدم الثقة بالنفس، وهو من مخلفات القرون الوسطي المظلمة التي كانت تنظر إلي المرأة علي أنها دون الرجل.. فتغض بصرها (202) أما أنت يا حاملة الراية فارفعي رأسك عاليا، لتثبتي أنك مساوية للرحل في كل شئ وإنك ند له في كل شئ.
شيئان ينبغي أن " تحرر" منهما الفتاة الجامعية..غض البصر... والحياء!
? ? ?
وفتاة الجامعة ينبغي كذلك أن تكون رشيقة خفيفة الحركة!
فاليك الأزياء.. انتقي منها منها يناسبك وما يظهر رشاقتك وأظهري من "زينتك" بقدر طاقتك!
لا حرج عليك - ماذا تخشين؟!
تخشين الدين؟ والأخلاق؟ والقاليد؟
تعالي معا نحطم الدين والأخلاق والتقاليد، واليت تريد أن تكبلك في حركتك فلا تكوني رشيقة كما ينبغي لك!
فهكذا المرأة "المتحررة" من صفاتها أن تكون جذابة.. في مشيتها في حركتها -في حديثها!
ألا ترغبين أن " ينجذب " إليك فتي الأحلام.. شريك المستقبل؟!
إن لم ينجذب هذا، فلينجذب غيره. المهم أن يكون هناك دائما من يتطلب إليك - ويعجب بك.. ويرغب فيك!
وبدأت " الفتاة الجامعية " (203) تتخلع في مشيتها وتتكسر، وتتخلع في حديثها وتتكسر وأصبح هذا عنوان " المرأة الحديثة " أو "المرأة المتحررة " التي تملأ الشارع فيعج الشارع بالفتنة الهائجة التي لا تهدأ ولا تستقر.. وهو المطلوب!
? ? ?
أما البيت..فآخر ما تفكر فيه الفتاه الجامعية
لقد نعت لها بكل نعت مقززة منفرد حتي اصبح البقاء فيه هو المعرة التي لا تطيق فتاة جامعية ان تلصق بها
البيت هو السجن.. هو الضيق..هو الظلام - هو التأخر - هو الرجعية هو " عصر الحريم " هو التقاليد البالية هو القرون الوسطي المظلمة هو دكتاتورية الرجل هو شل المجتمع عن الحركة ودفعة إلي الوراء!
إنما تتعلم الفتاة الجامعية لتعمل لا لتبقي في البيت كما كانت تصنع جدتها الجاهلة المتأخرة الرجعية القابعة في سجن التقاليد المستعبدة للرجل(1/315)
وحين تعمل تنمي شخصيتها تصبح إنسانة ناضجة!
أما حين تبقي في البيت فلاي شئ تبقي؟! لتطبخ وتغسل.. يا للعار!! أو تحمل وتلد وترضع إن هذا الأمر حتي لو حدث لا ينغي أن يمنعها من العمل فالمرأة الحديثة قد تغلبت علي هذه المشكلة ونسقت بين حياتها الزوجية وبين العمل فلم يعد شئ يعوقها عن العمل بعد الزواج أم قبل الزواج فالعمل ولا شئ غير العمل!
ولسنا هنا نناقش هذه اللوثة ولا الآثار التي ترتبت علي ترجيل المرأة في أوربا وإفساد فطرتها وتنفيرها من أن تكون علي فطرتها الله عليها ودفعها دفعا إلي التنصل من كل ما يتعلق بأنوثتها من قيم وممارسات (وتركيز الأنوثة كلها في لحظة الجنس الدنسة المسعورة) ودفعها إلي التشبه بالرجل وتعليمها علي مناهج الرجل، وتوجيه مشاعرها إلي العمل لا إلي البيت ...
لا نناقش هنا هذه اللوثة ويكفينا أن نشير إلي أن المرأة الأوربية نفسها قد بدأت تتعب من لوثتها ونحن إلي العودة إلي بيتها وفطرتها وبدأت تدرك أن اللعبة كلها لم تكن لصالحها .. (204)
إنما نتتبع فقط في بلادنا خط إخراج الأمة الإسلامية وتركيز المخططين علي قضية المرأة لعلمهم أنها من أفعل الوسائل في الوصول إلي الهدف المطلوب.
? ? ?
لم تكن الصحافة وحدها هي التي تعمل.. وإن كانت من أهم الأدوات.
إنما القصة والمسرحية والسينما والإذاعة.. كلها أدوات.
فأما القصة والمسرحية فقد بدأتا - كما كان متوقعاً - بالترجمة، وانتهتا بالتأليف. وأما السينما فقد ظلت أجنبية فترة غير قصيرة من الوقت، حتى قام ناس فقالوا إن من العار علينا ألا تكون لنا سينما وأفلام (وطنية " أي تكملة باللغة العربية (نقصد العامية!) فقامت " الجهود " وتكافت حتي برزت تلك الأفلام إلي الوجود..
فأما الإذاعة فقد جاءت متأخرة نوعا ما.. ولكنها سرعان ما لحقت الركب، وشاركت في الموكب " الكبير "(1/316)
لقد تكاتفت الأدوات كلها للوصول في النهاية إلى هدف واحد. صرف هذه الأمة عن دينها وأخلاقها وتقاليدها. وإنشاء مجتمع "جديد" لا يحفل شيئاً بالقيم الدينية؛ لا يجعلها نصب عينيه، ولا يستمد منها منهج حياته، ولا يلجأ إليها في تكوين أفكاره ولا اهتماماته ولا عاداته ولا أنماط سلوكه. بل إن ذكرها - في أى وقت - فهو ذكر السخرية والاستهزاء والاستخفاف.
ولا نحتاج هنا أن نتحدث عن هذه الوسائل (خاصة بعد أن أضيف إليها التليفزيون والفيديو) وعن آثارها المدمرة في حياة الأمة، فهذا واقع مشهود، يشهده الناس كل يوم وكل لحظة، ويرون بأعينهم آثاره في أولادهم وبناتهم، ويرون بأعينهم كيف يعجزون عن صد آثاره المتلفة، ووقاية أولادهم وبناتهم من تلك الآثار.
إنما نذكر فقد "عينات" سريعة قد تعين في تصور التخطيط الذي يكمن وراء التنفيذ.
كتبت "روز اليوسف" في مذكراتها - وكانت تقوم بالتمثيل على المسرح قبل اشتغالها بالصحافة وإصدار مجلتها التي تحمل اسمها، كتبت تقول إنها طلبت إعانة لمسرحها من الحكومة، وكانت مصر إذ ذاك خاضعة للنفوذ البريطاني المباشر، فنصحها المندوب السامي البريطاني (وهو الحاكم الحقيقي في مصر في ذلك الحين) أن تذهب إلي الريف، وتعرض مسرحياتها هناك، فإن فعلت ذلك نالت الإعانة في الحال (205)!.
والهدف واضح.
فالريف المصري في ذلك الوقت "مسلم" في عمومه، محافظ على باقيا من الدين والأخلاق، ومحافظ بشدة على "التقاليد" المستمدة من الإسلام (بصرف النظر عما غشاها في ببعض الجوانب من انحرافات) ومن أشد ما يحافظ عليه الريف من التقاليد - وفي الصعيد خاصة - قضية الحجاب وقضية العفة وقضية العرض. وقضية صيانة المرأة بصفة عامة من التبذل والانحلال و"الانفلات".(1/317)
وبقاء الريف على هذه الصورة عقبة ولا شك أمام المخططين. فالريف هو معظم مصر. ولن يؤتى المخطط ثماره كاملة إن فسدت العاصمة وحدها، وبقى الريف سليماً حتى ولو في محيط التقاليد. فإن هذا يطيل الأمر على المخططين، ويستنفد من وقتهم وجهدهم شيئاً غير قليل (لم تكن الإذاعة قد أنشئت بعد، ولا التليفزيون بطبيعة الحال) فمن هنا يوجه المندوب السامي البريطاني "روز اليوسف" - وهو أعلم بحقيقتها، وحقيقة دورها - أن تذهب إلى الريف، لعل مسرحها ومسرحياتها أن تزحزحه قليلاً عن تقاليده الصامدة، فيأخذ في "الذوبان". فتنفرج الأمور (206).
نجيب الريحانى ممثل فكاهي موهوب، وصاحب "مدرسة" في التمثيلي كما يقول نقاد المسرح. ولكنه صليبي لا ينسى صليبيته، وإن غلفها "بالفن". بل هي عن طريق "الفن" تبلغ مداها الخبيث دون أن يحس الناس بالأمر، لأنهم مشدودون إلى البراعة الفنية المؤثرة، فيتلقون التأثير الخفي وهم في نشوة الإعجاب. فينساقون وراء التأثير.
له فيلم سينمائي (207) يسخر فيه من مدرس اللغة العربية ومن اللغة العربية سخرية ماكرة - مقصودة بلا شك - فيصور مدرس اللغة العربية بائساً مسكيناً تبعث كل مواقفه على السخرية به، ولا يثير الاحترام عند أحد، ويجعل فتاة مائعة تحاول أن تقرأ نصاً عربياً في درس المطالعة فتخطئ أخطاء مضحكة - يضحك لها الجمهور الغافل - ولكنها تقدم في سياق الأحداث بالصورة التي توحي للمشاهد أن البت معذورة. فاللغة هكذا. صعبة على الإفهام! لا يمكن للمتعلم أن يستوعبها مهما بذل المعلم من الجهد!(1/318)
جورجى زيدان هو أحد مؤسسي دار الهلال (والآخر هو أخوه إميل زيدان) وهما - كما أسلفنا - من اللبنانيين المسيحيين المارونيين الذي اتجهوا إلى تأسيس الصحافة في مصر. ولكن جورجى زيدان يزيد - على كونه صحفياً - أنه يكتب قصصاً وروايات "إسلامية!" تتناول أحداث التاريخ الإسلامي في ثوب فني. وقد تناول في رواياته عدة أحداث تاريخية، وله قدر من البراعة الفنية - بالنسبة لوقته على الأقل - تجعل القارئ يتابع رواياته في شغف وتأثر.
فكيف تناول أحداث التاريخ الإسلامي؟!
إنه ما من مرة ينسى فيصور المسلمين في موقف "إسلامي" يبعث عن الإعجاب بهم، أو تقديرهم واحترامهم، فضلاً عن أن يبعث في المسلم الاعتزاز بأمجاد الإسلام.
إنهم - أى المسلمون - إما غارقون في الطرب واللهو، والجري وراء شهواتهم، سواء شهوة الجنس أو شهوة الملك أو شهوة المال. وإما واقفون مواقف جادة تثير الإعجاب، لأن واحداً من "أهل الكتاب" - سواء كان يهودياً أو نصرانياً - هو الذي يشير عليهم ويخطط لهم، ويقف وراءهم يساندهم في التنفيذ! فإن لم يكن ذلك الواحد من أهل الكتاب حاضراً في الصورة، فالمسلمون في لهوهم وعبثهم، وخلافاتهم وشجاراتهم، مؤامراتهم الهابطة.. يسلمون أنفسهم إلى الضياع.. وهذا متى؟ في أشد الأوقات التي كان المسلمون فيها مكنين في الأرض، تدين لهم الدنيا بالطاعة والإذعان!! (208)(1/319)
تخصص مجموعة من القصصين والمسرحيين والسينمائيين في موضوع معين، يتكرر بصور مختلفة، خلاصته أن فتاة - جامعية في الغالب، ومتعلمة بصفة عامة - لها "صديق". يقع بينهما ما يقع - لعى درجات مختلفة من الوقوع! - ثم يتقدم للزواج منها فيرفضه أبواها - الريفيان في الغالب، والرجعيان التقليديان بصفة عامة - إما لأنهما يرتبان لها زواجاً معيناً بعقليتهما المختلفة، وإما لأنهما - حرصا منهما على "التقاليد" - يشعران بميل الفتاة له فيرفضانه من أجل هذا السبب بعينه. ثم تمضى القصة أو المسرحية أو الفيلم بإصرار الفتاة على موقفها، بصور مختلفة من الإصرار، أدناها رفض الخطيب الذي يقدمه لها والدها، وأشدها ترك البيت والهروب مع " الصديق " وينتهي الأمر في كل حالة بتنفيذ ما أصرت عليه الفتاة ورضي الوالدين، أو تسليمهما لأمر الفتاة التقدمية إذعانا للأمر الواقع، أو قاتناع الأم خاصة، ومحاولة اقناعها الأب بأنهما كانا مخطئين، وأن الفتاة علي حق! (209)
تخصص مجموعة من الكتاب في وقت من الأوقات (210) في القول بأن المجتمع لم يكن نظيفا من الجريمة الخلقية وقت أن كان محافظا علي التقاليد.. وأن الفاحشة كانت تقع تحت ستار الحجاب وذلك رد علي الذين كانوا يقولون إن السفور والاختلاط سيؤديان حتما إلي التحلل الخلقي.
وكون المجتمع - أى مجتمع مهما كان محافظاً - لا يخلو من وقوع جريمة فيه، فهذه حقيقة. يكفي شاهداً لها أن الفاحشة وقعت في مجتمع رسول الله (. ولكنه من التبجح الغليظ أن يقال إنه ما دامت الفاحشة تقع هنا وتقع هناك، فلا فائدة في الدين، ولا فائدة في الأخلاق، ولا فائدة في التقاليد، ولا قيمة لكل التوجيهات الخلقية! فهناك فارق ضخم بين مجتمع لا تقع فيه الجريمة إلا شذوذاً يستنكر، وتنال عقوبتها الرادعة حين تقع، ومجتمع يعج بالفاحشة حتى تصبح العفة فيه هي الشذوذ المستنكر!(1/320)
كتب إحسان عبد القدوس في أحد توجيهاته التي كان يبثها في مجلة "روز اليوسف" (211): إننى أطالب كل فتاه تأخذ صديقها في يدها، وتذهب إلي أبيها، وتقول له: هذا صديقي!
كتب أنيس منصور في إحدي مقالات في اخبار اليوم، أنه زار إحدي الجامعات الألمانية ورأي هناك الأولاد والبنات أزواجا أزواجا مستلقين علي الحشائش في فناء الجامعة قال: فقلت في نفسي: متي أري ذلك المنظر في جامعة أسيوط! لكى تراه عيون أهل الصعيد، وتتعود عليه!
هذا وغيره فضلاً عن آلاف بل ملايين الصور العارية.. والأغاني العارية.. والأفكار العارية.. والنكت العارية.. التي تملأ الصحف والمجلات والإذاعة والسينما والتليفزيون.. وآلاف بل ملايين الأجساد العارية في كل مكان: في الشوارع والمكاتب ووسائل المواصلات والشواطئ العارية في فصل الصيف.
وفضلاً عن التفاهة التي تشيعها السينما والإذاعة والتليفزيون في نفوس مشاهديها ومستمعيها.. التفاهة التي تجعل النفوس لا تتجه لشئ جاد.. فضلاً عن أن تتجه لله واليوم الآخر، أو للجهاد في سبل الله!
? ? ?
ولم تكن "قضية المرأة" وحدها، وما نتج عنها من الفساد الخلقي، هي التي استخدمت في ك ارتباط المجتمع بجذوره الإسلامية، فقد كان الجهد المبذول شاملاً لجميع الميادين بلا استثناء، وإن كانت "قضية المرأة" والفساد الخلقة الناشئ من "التحرر"، من أفعل الوسائل في فك ذلك الارتباط.
ولنُشر هنا إلى مجالين رئيسيين فعمل فيهما الغزو الفكري بنشاط وافر، هما مجال الفكر والآداب، ومجال السياسة.
? ? ?
"د" مجال الفكر والأدب
فأما في مجال الفكر والأدب فقد كان المطلوب بت الصلة بين "الأجيال الحديثة" وبين تراثها الفكري والأدبي المستمد من الإسلام.(1/321)
وقد حاول عبد العزيز فهمى (باشا) وآخرون أقل منه وزناً وأهمية أن يدعوا لكتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية كما فعل أتاتورك باللغة التركية، ولكن المحاولة وئدت في مهدها، ولم تقف قط على قدميها، وما كان لها أن تنجح في البلد الذي يحوى الأزهر، والذي ظل الأزهر قائماً فيه ألف عام يعلم اللغة العربية لكل شعوب الإسلام.
وحاول آخرون أن يدعوا لكتابة الأدب باللغة العامية، لعل هذه اللغة أن تنمو وتترعرع - حين تصير لغة الفكر والأدب - فتقتل اللغة العربية، كما قتلت الفرنسية والإيطالية وغيرهما اللغة اللاتينية التي تفرعت عنها في صورة لغات عامية في مبدأ الأمر، ثم تحولت إلى لغات "حية" وقتلت اللغة الأم!
ولكن هذه المحاولة كذلك باءت بالفشل - على الرغم ممن لا يزالون ينادون بها إلى هذه اللحظة - بسبب وجود القرآن. فكما أن الله قد حفظ كتابه المنزل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [سورة الحجر 15/9]، فكذلك كتب الله لهذه اللغة أن تبقى وتحفظ نتيجة حفظ الكتاب المنزل بها {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)} [سورة يوسف 12/2]
وقد كان هذا من أغيظ الأمور لدعاة التغريب.. وما يزال!
ولكنهم إذ فشلوا في القضاء الكامل على اللغة العربية - رغم محاولة تشويه صورتها في أذهان "الأجيال الحديثة"، بالحديث عن صعوبتها (212)، وجمودها، وعجزها عن الوفاء بما يراد منها الوفاء به في مجال الفكر والأدب والعلم والفن - فقد حاولوا - من طرق أخرى - قطع الصلة أو توهينها بين تلك "الأجيال الحديثة" وتراثها الإسلامي.
كانت إحدى الطرق هي بث فكرة "التطور".. سواء في مجالها "العلمي" الأصلي (213)، أو في المجالات الفكرية والاجتماعية والأخلاقية التي سرت إليها في أوروبا بفعل اليهودية العالمية (214).(1/322)
ومقتضى فكرة التطور أن كل حديث هو خير من كل قديم، لمجرد أن هذا حديث وذاك قديم، فقط، بصرف النظر عن أي أسباب أخرى! ولما كان الإسلام كله قديماً، قد مضى عليه - في ذلك الوقت - أكثر من ثلاثة عشر قرناً، فالتطور يقتضي نبذه والأخذ بما جد بعده.. والذي جد بعده هو الحضارة الأوروبية.. لذلك لزم الأخذ بتلك الحضارة ونبذ الإسلام (215).
وإذ كان هذا السبب وحده - في مبدأ الأمر على الأقل - لا يكفي، لأن "الرجعين" لا يؤمنون بالتطور كما يؤمن به التقدميون، فلابد من تقويته بأسباب "موضوعية" توهن تمسك المسلمين بالإسلام من جهة، وتصلح من جهة أخرى لتثبيت فكرة التطور، حتى تصبح - وحدها - قادرة فيما بعد لفك الارتباط بين المسلمين والإسلام!
فالإسلام كان صالحاً للبيئة البدوية التي نشأ فيه، ولكنه لا يصلح للبيئة المتحضرة الموجودة اليوم!
والإسلام يظلم المرأة، ويجعلها قعيدة البيت، مستعبدة للرجل، مهدرة الإنسانية مهضومة الحقوق!
والإسلام نظام ديمقراطي! ليس فيه تقرير لحقوق الإنسان!
والإسلام ليس له نظام حكم (216)! إنما هو مجموعة من التوجيهات الأخلاقية ليس غير!
الإسلام نظام رجعى لأنه يحرم الربا ن والربا هو العمود الذي يدور عليه الاقتصاد الصناعي المتطور، ولا يدور علي غيره
والإسلام ... والإسلام.. والإسلام.... (217)
? ? ?
وكان من بين الطرق المستخدمة كذلك تشويه التاريخ الإسلامي(1/323)
ففضلا عن إبراز التاريخ السياسي وحده، وإخفاء مقومات التاريخ الإسلامي الأخري، أو عبارة أخرى إبراز خط الانحراف وإخفاء الجوانب البيضاء من الصورة، مما يعطى إيحاء خبيثاً بأن الإسلام لم يعش إلا فترة قصيرة من الوقت، وأنه ليس فيه من المقومات ما يعطيه استمرارية الوجود، وليس فيه ما يستحق الحرص عليه، بل ينبغي نبذه والانسلاخ منه. فضلاً عن ذلك كله فقد عمد المستشرقون - الذي تولوا نشر الشبهات حول الإسلام بلغاتهم، وتولى تلاميذهم من بعدهم نشرها باللغة العربية، إما منسوبة إلى أصحابها في حالات قليلة، وإما منتحلة بأسماء أولئك التلاميذ في أغلب الأحيان - عمد أولئك المستشرقون - ومن بعدهم تلاميذهم - إلى النيل من شخصيات الإسلام العظمى، بدءاً برسول الله (، والصحابة الكرام رضوان الله عليهم. وأخيراً الدولة العثمانية والسلطان عبد الحميد!
لقد ركزوا - في التشويه - على فترتين اثنتين بصفة خاصة: فترة صدر الإسلام، وفترة الدولة العثمانية. لسببين مختلفين، وإن كانا يلتقيان في النهاية عند محاولة سلخ الأمة الإسلامية من الإسلام.
فأما فترة صدر الإسلام فلأنها موضع الفخر والاعتزاز الشديد لدي كل مسلم وما زالت بوضاءتها الفذة، ورفعتها الشاهقة، ومثاليتها العجيبة تشد المسلمين شدا في جميع أجيالهم، فلا يملكون أنفسهم من التأثر بها، ومن الرغبة العميقة في رؤيتها مرة أخرى ممثلة في واقع الأرض.
ويعلم أعداء الإسلام جيداً أن وجود تلك الفترة المثالية هو الذي حفظ للإسلام حيويته على مر القرون رغم كل ما أصابه من الكوارث من الداخل والخارج (218).
ففي كل جيل من أجيال المسلمين يوجد من تهفو نفسه إلى تلك الفترة الفذة، فيحاول أن يعيد تحقيقها في نفسه أو فيمن حوله، فيمتد خط الإسلام ولا ينقطع، وينبعث في كل مرة بعد الغفوة أو الخمود (219).(1/324)
وبكل الحنق والغيظ الذي يتملكهم من هذا الأمر، راحوا يحاولون تشويه تلك الفترة، لعلهم يقتلعون من نفوس المسلمين الاعتزاز بها، والتطلع إلهيا، فلا تعود موضع خطر دائم من انبعاث جديد!
وأقدس الشخصيات عند المسلمين شخصية رسول الله (، ويليها في التوقير والاحترام من صحابته الكرام أبو بكر وعمر رضى الله عنهما. ثم يأتي رتل ضخم من الشخصيات التاريخية تزدحم بهم فترة صدر الإسلام على نحو لم يتكرر في التاريخ.
فليكن هَمُّ أعداء الرسول إذن هو هذه الشخصيات بالذات.. لعلها إن شوهت صورتها تفقد إشعاعها الحي في نفوس المسلمين، فيذهب ذلك الخطر الذي يتهدد أعداء الإسلام من انبعاث الإسلام من جديد.
وتحت دعوى "البحث العلمي" و"المنهج العلمي"، راح المستشرقون يلوكون كلاماً تافهاً ضعيفاً يبدو فيه التمحل والكذب وسوء القصد والبعد الكامل عن المنهج العلمي وروح البحث العلمي (220).
ولكن تلاميذهم - الذين استعبدت أرواحهم للغرب وكل ما يجئ من الغرب - راحوا يتلقفون ما يقوله المستشرقون ثم يعيدون تقيؤه في صورة كتب ومحاضرات ورسائل "جامعية!" وبحوث ومقالات، ينسبون فيها الأقوال إلى أحابها - كما قلنا - في حالات قليلة، وينسبونها إلى أنفسهم أغلب الأحيان، فيقعون في جريمتين معا: جريمة الذوبان في فكر أعدائهم، وجريمة الكذب والادعاء، متنفجين في الحالتين بما يتشدقون به من كلام أعدائهم، مستعلين به على عباد الله!
ومن كثرة تكرار الأكاذيب - خاصة تحت ستار البحث العلمي - ينخدع ناس، ويتأثر ناس، ويصدق ناس. فينجرفون في التيار!
أما بالنسبة للدولة العثمانية وعبد الحميد خاصة فقد كان هناك لتشويهما هدف آخر.(1/325)
إن أوروبا الصليبية تكره الإسلام عامة، ولكنها تكره الدولة العثمانية بصفة خاصة، لأنها هي التي توغلت في أوروبا، وضمت منها مساحات شاسعة إلى الدولة الإسلامية، وأخذت من أهلها - كما قال ولفرد كانتول سميث - عشرات الملايين دخلوا في الإسلام. ثم إن أوروبا الصليبية - ومعها اليهودية العالمية - يكرهان عبد الحميد بالذات لأنه كان يقاوم ضغط أوروبا مجتمعة للقضاء على الدولة العثمانية، ولأنه رفض إعطاء وطن قومى لليهود في فلسطين (وهو مطلب صليبي يهودي كما سيأتي بيانه فيما بعد) رغم كل المحاولات وكل الإغراءات.
والدولة العثمانية هي آخر دولة خلافة حكمت العالم الإسلامي، وكان المسلمون في كل الأرض يدينون لها بالولاء، سواء كانوا واقعين تحت حكمها المباشر، أو كانوا "مستقلين" عنها، أو كانوا حتى في حوزة أعداء الإسلام.
وبعد مؤمرات طويلة - صليبية يهودية - امتدت قرنين من الزمان، استطاع الأعداء أن يقضوا على دولة الخلافة ويستريحوا منها، ويحكموا قبضتهم على المسلمين.
ولكن أعداء الإسلام - الذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم - لا يطمئنون أبداً إلى الإسلام. ويخشون دائماً أن ينبعث من جديد، ويخشون أن تعود له دولة في يوم من الأيام.
يقول "توماس بين" أحد المستشرقين الأمريكيين في مقدمة كتاب "السيف المقدس The Sacred Sword" - بعد أن يشرح لقرئاه نبذة عن تاريخ الإسلام وفتوحاته الواسعة: "وقد تغير الحال اليوم، واصبح المسلمون في قبضة أيدينا. ولكن ما حدث مرة يمكن أن يحدث مرة أخرى. وإن الشعلة التي أوقدها محمد ( في قلوب أتباعه، لهي شعلة غير قابلة لانطفاء!".
ويقول المؤرخ الإنجليزي توينبى في محاضرة له بعنوان "الإسلام والغرب": إن الإسلام يمكن أن يتولى زعامة الدولة البروليتارية (221) مرة أخرى إذا تهيأت الظروف!(1/326)
من أجل ذلك ينبغي تشويه صورة الدولة الإسلامية الأخيرة - أى الدولة العثمانية - وتصويرها في أبشع صورة، حتى لا يفكر أحد في إقامة دولة للإسلام مرة أخري بل حتي يحمدوا الله - أو يحمدوا الشيطان أن هذه الدولة قد ذهبت إلي الأبد ولن تعود!
ومن أجل ذلك ركز الاعداء علي أخطاء الدولة العثمانية وظلوا يكبرونها حتي تملأ فراغ الصفحة كله.
ولقد كان للدولة العثمانية أخطاء بلا شك وأخطاء جسيمة في بعض الأحيان (222) ولكن الصورة التي صورها الاعداء لم تكن هي الصورة الحقيقية التي وقعت بالفعل، إنما صورة مشوهة - عن عمد - تكبر فيها الأخطاء مئات المرات، وتمحى فيها كل الحسنات، حتى تبدو سواداً كلها، حالكة السواد!
وعبد الحميد بصفة خاصة.. الذي كانت جريمته الكبرى - في حس أعدائه - رفضه بإصرار إقامة وطن قومى لليهود في فلسطين. فهذا ينبغي أن تكون صورته أسود من السواد! ليكون عبرة لكل من يقف في وجه أطماع الصليبية العالمية واليهودية العالمية.
وكان أشد ما وضع لفتنة المسلمين، وسلخهم من الإسلام، تصوير وضعهم التاريخي في أواخر الدولة العثمانية بأنهم كانوا بين خيارين اثنين لا ثالث لهما: إما البقاء في ظل الدولة الإسلامية والحكم الإسلامي، ومعه التأخر والانحطاط والجمود في كل ميادين الحياة، ومعه الظلم والاستبداد والتسلط؛ وإنما إزالة الدولة الإسلامية والحكم الإسلامي، والانفتاح على التقدم والحضارة والرقي في كل ميادين الحياة، بعد التحرر من الظلم والتسلط والاستبداد! (223).
وحجب عن المسلمين في هذه الصورة البديل الثالث الممكن وهو قيام حركة إسلامية صحيحة، تصلح مفاسد الحكم العثماني ولكن تبقي علي الدولة الإسلامية والحكم الإسلامي سواء في تركيا أو في أي مكان من لعالم الإسلامي، وتصلح انحرافات المجتمع الإسلامي وترده إلى حقيقة الإسلام.(1/327)
فهذا البديل بالذات هو ما يكرهه أعداء الإسلام، واشد ما يتخوفون منه، فلا ينبغى أن يظهر في الصورة على الإطلاق، ويبقى الخيار بين البديلين السابقين، ذلك الخيار الذي يؤدى - في النهاية - إلى الانسلاخ من الإسلام!
? ? ?
كذلك استخدم طريق ثالث في مجال الفكر والأدب لصرف المسلمين عن الإسلام.
إن "الأدباء" و"المفكرين" الذين تعلموا اللغات الأجنبية قد وقعوا ولا شك على ثروة أدبية وفكرية في اللغات التي تعلموها، كانت جديدة بالنسبة إليهم، وكان فيها أشياء كثيرة تستحق الإطلاع عليها والاستفادة منها؛ وكانت بالنسبة للخواء الفكري الذي يعيشه المسلمون تبدو ثروة لا تقدر بثمن، وزادا دسماً يصلح لإقامة الحياة.
وحدث انبهار ضخم عند هؤلاء "الأدباء" و"المفكرين" بالفكر الأوروبي والثقافة الأوروبية.
ولسنا نقول إن الفكر الغربي والثقافة الغربية كانا شيئاً غثاً لا يستحق الإطلاع عليه. بل نقول - على العكس - إن فيهما أشياء كثيرة تستحق الإطلاع. ولكنا نشير إلى نقطتين هامتين في الموضوع.(1/328)
الأولى: أن قاعدة هذا الفكر منحرفة، لأن الظروف التي أحاطت بأوروبا ونفرتها من الدين، جعلت هذا النفور يتغلغل في الفكر الأوروبي كله، ويشمل جميع ميادينه، سواء كان أدباً صرفاً، أو دراسة "علمية" أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية..الخ. وأن الشرود عن الله، ومعاندة كل ما يأتي من عند الله، قد ترك بصماته على هذا الفكر، ومن ثم جنح عن الرؤية الصحيحة لحقائق الوجود الرئيسية، وأوجد صورة - أو صوراً - لهذا الوجود ليست هي صورته الحقيقية، ما دامت تصوره منقطعاً عن خالقه، قائماً بغير تدبير خالقه له، وعلى غير السنن التي رتبها خالقه له. وحين لا يرى الإنسان تلك الحقيقة العظمى تفوته الرؤية الصحيحة الشاملة للوجود كله، كما تفوته "قطاعات" كاملة من هذا الوجود، لا تدخل في "الرؤية" البشرية حين تنقطع عن الوحى الربانى. وينعكس هذا كله على الوجدان الإنساني، وغاية هذا الوجود، والمنهج الذي يتبع لتحقيق تلك الغاية بعد تحديدها. فيكون ذلك كله "هوى" لدلاً من أن يكون "حقائق"، ويكون تجارب عشوائية لا تستند إلى يقين.
{وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [سورة المؤمنون 23/71]
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [سورة ص 38/27](1/329)
والثانية: أن في هذا الفكر مزايا إيجابية لا شك فيها. منها اتخاذ "المنهج العلمي" في البحث، والصبر والجلد على البحث، وعبقرية التنظيم، واتخاذ التجربة أساساً للبحث، مما أدى - بالذات - إلى تقدم هائل في ميادين العلوم البحتة، وميدان التكنولوجيا الحديثة. ولكن الحقائق الجزئية - الكثيرة - التي اهتدى إليها هذا الفكر - في جميع الاتجاهات - لا تنفي انحراف القاعدة الأساسية التي تقوم عليها تلك الحقائق الجزئية، كما أن انحراف القاعدة يجعل الفائدة النهائية من هذه الحقائق الجزئية محدودة، بينما كانت تكون هي ذاتها أبلغ وأعمق وأجمل، لو كانت قائمة على قاعدتها الصحيحة، حيث تظهر الارتباطات الحقيقية الحية بين الجزئيات، حين ترى آثار الصنعة الربانية الشاملة الواحدة الموحدة في جنبات الكون كله.
ولكن الرؤية الكاشفة لهذا الكفر، التي تميز بين مزاياه وعيوبه، والتي تستفيد من جرئياته الصحيحة، وتدرك في ذاك الوقت انحراف قاعدته فلا تتأثر بها بل تنبذها وتنكرها.
هذه الرؤية لا تتوافر إلا لصاحب الرؤية الإسلامية الصحيحة، ذات القاعدة الشاملة السليمة المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله، والتي تمد صاحبها بالبصيرة التي يضع فيها ذلك الفكر موضع التمحيص والنقد، فيعلم ماذا يأخذ وماذا يدع.
وكان هذا كله غائباً بسبب الخواء الذي يعيشه المسلمون، الناشئ من التخلف العقدي، ومن جمود الفكر الإسلامي على ما كان عليه قبل قرون، وعدم مواكبته لما جد في حياة الناس من أمور، وتحول الإسلام كله في حس المسلمين إلى تقاليد خاوية من الروح، وساء في يمدان العمل أو في مجال التفكير.(1/330)
ولكن الانبهار الذي أصاب أولئك "الأدباء" و"المفكرين"، الناشئ من عدم اتصال روحهم بروح الإسلام، وعجزهم عن الغوص والتعمق في حقائق الإسلام ببصيرة المسلم الموصول القلب بالله، وبالكون الذي خلقه الله، وبحقائق الوجود وحقائق الحياة. ذلك الانبهار كان يمكن أن يظل "مسألة شخصية" عند هؤلاء الأدباء والمفكرين، يظلون يعانونها حتى يفتح الله عليهم بالرؤية الصحيحة، التي تتولد في القلب المتفتح حين يمارس الإسلام بكيانه كله، فيفتح الإسلام له كنوزه - على قدر موهبته - ويفتح بصيرته بقدر ما يصدق في عيادة الله.
ولكن الذي نشر ذلك الانبهار على نطاق الأمة كلها، كان هو تلك الأجهزة المتربصة لالتقاط أولئك الأدباء والمفكرين، وتكبيرهم، والدعاية لهم، ونشر أفكارهم على أوسع نطاق ممكن. وقامت الصحافة بالنصيب الأوفى في ذلك المجال. فوصلتهم، لا للمكانة التي كانوا يستحقونها بمواهبهم فحسب، بل زيادة عليها عدة أضعاف! وجعلت لهم دوياً يخترق الآذان ويستقر في الأذهان!(1/331)
وفي غياب الفكر الإسلامي الحقيقي، الحي المتجدد، المستمد من المنابع الصافية، الشامل لكل مجالات الحياة. أولئك الأدباء والمفكرون "العلمانيون" هم قادة الفكر، وعمداء الأدب، وأساتذة الجيل. فجروا الأمة كلها وراءهم إلى الفكر الغربي، على أنه "مهبط الوحي" وزاد الحياة! وذلك حين خرجت أجيال من المتعلمين تتلقف فكرهم وأدبهم في لهفة وشغف، وتتحلق حولهم، وتتعصب لهم، وتصوغ فكرها من فكرهم، واتجاهاتها من اتجاهاتهم.. وقد كانت اتجاهاتهم كلها بعيدة عن الاسلام، بل منسلخة تماما من الدين، إن لم تكن ساخرة مستخفة مستهزئة! متجهة إلي الغرب وأفكاره وأدبائه وفلاسفته، وأصبحت أسماء الأدباء والشعراء الأوربيين من أمثال شكسبير ووردزورث وبايرون وغيرهم (للمدرسة الإنجليزية) وأناتول فرانس وفيكتور هوجو وأندريه جيد وغيرهم (للمدرسة الفرنسية) (224) هي البديل من امرئ القيس وعلقمة والمتنبى والبحترى.. البديل الذي يعطى صاحبه علواً في الأرض، وانتفاشاً في القوم، لأنه "مثقف"، ولو كان كل علمه بأولئك الأدباء والشعراء - كما قلنا من قبل - هو مجرد ذكر أسمائهم! وأصبحت: قال فلان أو فلان من مفكري الغرب هي البديل عن "قال الله وقال الرسول". بل أصبحت "قال الله وقال الرسول" هي عنوان الرجعية والجمود والتأخر. من ناحيتين اثنتين على اٌل: من ناحية أنها مكتوبة باللغة العربية، ومن ناحية أنها "دين"!
? ? ?
"هـ" مجال السياسة
أما في عالم السياسة فلك يكن الأمر أقل سوءاً. بل ربما كان أشد خطورة. لقد حاول نابليون من قبل تنحية الشريعة الإسلامية، ووضع "قانون نابليون" بدلاً عنها. ولكن الأمة المسلمة في مصر أبت ذلك إباء، وثارت على الحملة الفرنسية الصليبية الكافرة، وطردتها آخر الأمر، بعد مقاومة عنيدة قامت بها الأمة الإسلامية المصرية، وبعد قيام "سليمان" المسلم الحلبى بقتل كليبر قائد الحملة بعد رحيل نابليون.(1/332)
ولكن الإنجليز حين جاءوا إلى مصر عام 1882م نحوا الشريعة الإسلامية، وحكموا بدلاً عنها قانون نابليون، دون ثورة من جانب الشعب.
ولقد يعجب الإنسان اليوم من تبدل الموقف تجاه الأمر الواحد ما بين عامي 1798 و1882م، ولكن عوامل عدة كانت تعمل في ساحة الأحداث وفي داخل النفوس.
لا شك أن ما يزيد على ثمانين سنة من الزحزحة المستمرة عن الإسلام كان لها اثر ملموس في عالم الواقع. فسياسة "التغريب" التي اتبعها محمد على، وورثها من بعده أبناؤه، وكان قوامها الأول سياسة الابتعاث التي اتبعها محمد على، ثم سياسة "الفرنجة" التدريجية التي اتبعها أبناؤه، وبخاصة الخديو إسماعيل، كان لها أثرها التدريجي في تقبل الأفكار الغربية وأنماط الحياة الغربية، وتضاؤل الاستنكار لها كلما تقدم الزمن.
ووجود المدارس التبشيرية التي نشطت في عهد أبناء محمد على، وكان يتعلم فيها مسلمون ومسلمات، يتزايد عددهم على الدوام، ويبرزون بالتدرج على ساحة المجتمع، وينشرون التفرنج سواء في أزياء الملبس أو أزياء الفكر أو أزياء السلوك. كان له كذلك أثره التدريجي في زحزحة المجتمع من نقطة ارتكازه الطبيعية - وهي الإسلام - بإيجاد نقطة ارتكاز أخرى إلى جانبهان تبدأ ضعيفة وتقوى بالتدريج (225).(1/333)
وربما كان العامل المباشر الذي حدد موقف الأمة الإسلامية في مصر من تنحية الشريعة الإسلامية، هو فشل الثورة التي قام بها عرابى في صد الإنجليز؛ ودخول الإنجليز منتصرين، واحتلالهم البلاد بعد القضاء على قوة الجيش المصري، ولكن هذه - وحدها - لم تكن لتؤدى إلى سكوت الأمة عن هذا الأمر الخطير، لولا العوامل التي أشرنا إليها آنفاً، ولولا الخواء الشامل الذي أصاب حياة الأمة من تخلفها العقدي. فقد حدثت هزيمة المجاهدين المسلمين في الهند أمام الغزو الإنجليزى، ولكن تنحية الشريعة الإسلامية هناك، وإحلال القانون الإنجليزي محلها، أثارت المجاهدين مرة أخرى - رغم هزيمتهم - فقاموا بثورات متعددة ما بين عام 1826 وعام 1857م كبدت الإنجليز خسائر كثيرة في الأرواح، ولم تسمح لهم بالاستقرار حتى قضوا عليها بوحشية بالغة.
ولا شك أن "المتدينين" نظروا إلى الأمر على أنه كفر صريح لا يمكن الرضا عنه. ولكنهم غلبوا على أمرهم فسكتوا صاغرين. ولكن الاحتلال الصليبي البريطاني لم يكن ليأمن، حتى لو سكت الناس صاغرين. فهم يعرفون هذا الدين كما يعرفون أبناءهم، وتجربتهم في الهند - على الأقل - تعلمهم أن المسلمين قد يعودون إلى الثورة والمقاومة ما لم يسحق فيهم "الإسلام".
لذلك كان الغزو الفكري الذي اتبعوه - على طريقتهم البطيئة الأكيدة المفعول - موجهاً إلى كل ركن من أركان الحياة الإسلامية، لزحزحة هذه الأمة زحزحة كاملة عن الإسلام (مع المحافظة على المظاهر الخاوية للإسلام منعاً من إثارة الشكوك كما قال كرومر في تقريره الذي سبقت الإشارة إليه) وكان من أهم المجالات التي عنى الاحتلال الصليبي بها مجال السياسة. أي مجال الحكم والتشريع.(1/334)
لقد ظلت هذه الأمة ثلاثة عشر قرناً قبل ذلك تحكم الشريعة الإسلامية، ولا تعرف لها بديلاً في حياتها، ولا تتصور - مجرد تصور - أن يكون لها في حياتها بديل. وترى - بحق - أن تحكيم الشريعة الإسلامية هو قرين إسلامها، ومقتضاه الواقعي في حياتها، إلى جانب صلاتها وعبادتها، وأن هاتين الصفتين هما اللتان تميزان المسلم من الكافر: تحيكم الشريعة وإقامة الصلاة، أما بقية الأمور فقد يجرى عليها شئ من التساهل (أو شئ من الإرجاء!) ولكنه لا يجرى على هذين الأمرين بالذات!
وكان هذا مما حفظ لهذه الأمة وجودها التاريخي، رغم كل ما وقعت فيه من أخطاء، ومن تقصير، ومن بدع، ومن انحرافات. وقد غلب الاحتلال الصليبي الأمة على نفسها، فنحى شريعتها، وألجمها بالحديد والنار والعسف والتسلط، ولكنه - كما قلنا - لا يأمن أن يحدث رد الفعل، وأن تحدث الثورة على هذا الأمر في يوم قريب أو بعيد. فلابد من العمل الحاد للحيلولة دون وقوع رد الفعل المرهوب.
وهنا تقدم عملاؤه لمعاونته في زحزحة الأمة عن عقيدتها في عالم السياسة، كما عاونه آخرون في مجال الفكر والأدب، ومجال المرأة، ومجال الأخلاق.. وكل مجال عمد فيه إلى محاربة الإسلام.
جاء أستاذ الجيل (!) لطفي السيد ليقول في "جريدته" (226) كلاماً ما أنزل الله به من سلطان!
جاء يقول للناس: إن الإنجليز هم أولياء أمورنا في الوقت الحاضر! ولا ينبغي أن نحاربهم ونقاومها! إنما واجبنا أن نتعلم منهم، ثم نتفاهم معهم بعد ذلك لتصفية ما بيننا وبينهم من خلافات!
أرايت كم جريمة يرتكبها ويدعو إلي ارتكابها (أستاذ الجيل)
الجريمة الأولى هي القول بأن الإنجليز هم أولياء أمورنا في الوقت الحاضر. والمسلمون لا يعرفون لهم في تاريخهم ولى أمر إلا منهم:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [سورة النساء 4/59](1/335)
وبصر فالنظر عما وقع من التحريف - فيما بعد - من تفسير "منكم" على المفهوم الوطني أو القومي الذي يأباه الإسلام، وصرفها عن معناها الإسلامي الحقيقي - أى المسلمين الذين يحكمون بشريعة الله، وهم وحدهم الذين أمر الله بطاعتهم، بل قيد طاعتهم بطاعتهم هم لله ورسوله، كما هو ظاهر في الآية من ذكر الأمر بالطاعة لله وللرسول وحدهما، وعطف طاعة أولى الأمر على طاعة الله والرسول دون ذكر الفعل الآمر بالطاعة. وكما هو ظاهر من التعقيب الأخير في الآية: فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر.." وكما هو واضح قول رسول الله (: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" (227).
بصرف النظر عن هذا كله، فتلك أول مرة في تاريخ الأمة الإسلامية، توجه الأمة فيها إلى قبول "أولياء أمر" لهم من غير المسلمين أصلاً.. من الصليبيين الكافرين!!
إنما استولى الصليبيون في الحروب الصليبية الأولى على بعض البلاد الإسلامية، وأقاموا فيها دويلات - في مصر والشام - استمر بعضها مائتي عام، ولكن لم ينظر المسلمون قط إليهم على أنهم "أولياء أمورهم"! إنما نظروا إليهم على أنهم كفار يغتصبون أرضاً إسلامية، ينبغي "جهادهم" لإجلائهم من ارض الإسلام.
ولكن "أستاذ الجيل" كان يدلى بدلوه في حرب الإسلام! فيزين للأمة أن تتخذ ولياً لها من الصليبيين!
أما جريمته الثانية فهي لطبه من الأمة ألا يقاموا عدوهم الصليبي الغاصب، إنما بدلاً من ذلك يتعلمون منه!
وأي شئ كان يريد من الأمة أن تتعلم منهم؟!(1/336)
لو أنه وجه الأمة أن تتعلم منهم أسباب القوة الحقيقية، من التقدم العلمي والتكنولوجي، والجلد على العمل والصب عليه، والتنظيم الدقيق لكل أمور الحياة، مع تحذيرها من الوقوع في الفساد العقدي المتمثل في نبذ الدين عن كل مجالات الحياة، والفساد الاجتماعي المتمثل في إخراج المرأة من بيتها ووظيفتها وفطرتها، وما يترتب عليه من فساد خلقي وفوضى وإباحية، والفساد الفكري الناشئ من تصور الكون بلا خالق، وتصور الإنسان على أنه حيوان، وتصور الحياة الدنيا على أنها هي المبدأ والنهاية بلا بعث ولا معاد، ولا حساب ولا جزاء.
لئن فعل ذلك لقلنا إنه "أستاذ" حقاً، يوجه "الجيل" إلى ما فيه خير وفلاحه بالنسبة للظروف المحيطة به.
ولكنه لم يقل شيئاً من ذلك، وما كان متصوراً منه أن يوقل. ولو قالها ما حصل قط على لقب أستاذ الجيل! إنما كان مع الرجعيين المتخلقين!
وأما الجريمة الثالثة فهي دعوته بعد ذلك كله إلى "التفاهم" مع العدو الصليبي الغاصب بعد مرحلة التعلم، لا إلى الجهاد لإجلاء الغاصبين بعد استمداد وسائل القوة عن طريق "التعلم" منهم!
وهي كلها "خدمات" لأصحاب الشأن، كان لها وزنها عند إطلاق اللقب عليه، واستمرارهم في إضفاء اللقب عليه إلى آخر لحظة من حياته.
ولكن الخدمة الكبرى التي قدمها، واستحق عليها التقدير بحق ممن يملكون التقدير يومئذ، لم تكن في مجرد "الكلام" على هذا النحو. فالكلام وحده - وإن استمر يكرر كما كان يكرره لطفي السيد - لا يؤتى ثمرته حتى يتبناه قوم فيعملوا به.
لذلك كانت الخدمة الحقيقية هي "تخريجه" لجيل من "الزعماء" في اتجاهات مختلفة، من بينهم محمد عبده، وقاسم أمين، وسعد زغلول! فهنا "الأستاذية" الحقة التي تستحق اللقب وتستحق التقدير!
ولكنا لا نستطيع إدراك هذا الأمر على حقيقته حتى نعرج على صالون "نازلى فاضل"، لندرك لمحة مما كان يجرى فيه.
? ? ?(1/337)
لقد ابتليت مصر في تاريخها الحديث بثلاثة "صالونات" كان لها تأثير ملحوظ في خط سير الأحداث: صالون مى زيادة (مارى زيادة) الأديبة الشاعرة اللبنانية المسيحية، وصالون هدى شعراوى، وصالون نازلى فاضل.
و"الصالون" مكان يستقبل فيه الناس من "عشاق" لون معين من ألوان الفن أو الفكر أو الثقافة.. الخ. فيقضون فيه وقتاً للتعارف والتدارس و"التذوق" والتأثر والتأثير. فيكون بمثابة منتدى لهم، ولكنه منتدى خاص، لا يفتح لعامة الناس، إلا من أذن له صاحب الصالون ورضى عنه. وله تقاليده الخاصة التي ينبغي أن تراعى. فهو أولاً وآخرا "بيت" مملوك لصاحبه، وصاحبه هو صاحب التصرف فيه.
ولكن الصالونات الثلاثة المشار إليها كانت تتميز بأن أصحابها نساء! ونساء يستقبلن الرجال بلا محارم! على غير مثال مسبوق في الحياة الإسلامية (228)، ويبقى الرجال ساعات متطاولة في "ضيافة" صاحبة الصالون، لا يهم أن يكون فرداً أو جماعة من الرجال في وقت واحد.
فأما مى الأديبة الشاعرة فقد فتنت أدباء مصر جميعاً في وقت من الأوقات، بظرفها - كما قالوا - ولطف حديثها، حسن استقبالها للرجال، وثقافتها، ولباقتها، و....(229)
وأما هدى شعراوى فقد استقطبت من استقطبت من الصحفيين والشعراء والكتاب المدافعين عن "قضية المرأة".
وأما نازلى فاضل فقد كان صالونها أخطر الثلاثة.
كانت نازلى فاضل أميرة "متحررة" من أميرات أسرة محمد على، تعلمت على الطريقة الغربية، وتخلقت بأخلاق الغرب، وجعلت من بيتها صالوناً على النحو الذي ذكرناه، تستقبل فيه الرجال وتتجاذب معهم أطراف الحديث.
ولكن أي رجال.. وأي أحاديث؟!
لقد كان أكبر زبائنها هو اللورد كرومر نفسه!
وناهيك بصالون يكون ضيف الشرف الدائم فيه هو المعتمد البريطاني.. الحاكم المطلق في البلاد!(1/338)
ثم كان من رواده الذين يكثرون التردد عليه: لطفي السيد، وسعد زغلول، وقاسم أمين، ومحمد عبده، ومصطفي فهمى والد صفية، التي سميت بعد زواجها من سعد زغلول: صفية زغلول! نسبة إلى زوجها، على طريقة الغرب في إلحاق الزوجة بلقب الزوج!
فأما محمد عبده فقد كتب في مذكراته التي نشرتها دار الهلال بعنوان "مذكرات محمد عبده": إنه تأثر تأثراً عميقاً بلطف السيدة.. وإن عمق تأثره بها قد غري نظرته إلى المرأة تغيراً كاملاً!
ومحمد عبده- كما هو مشهور - هو كاتب مقدمة كتاب قاسم أمين المسمى "تحرير المرأة"! وقد قيل في يوم من الأيام إنه كاتب الكتاب كله، أو الموحى بأفكاره لقاسم أمين. ولكن حسبنا منه كتابة المقدمة، لنتعرف على نوع "التأثر" الذي تأثره محمد عبده من لطف "نازلى هانم" صاحبة الصالون!
أما قاسم أمين فهي غنى عن الإشارة.
وأما سعد زغلول فله قصة لابد من ذكرها، لأنها تمثل تحولاً من أخطر التحولات في الحياة المصرية الحديثة (230).
كان سعد موهوباً موهبة "الزعامة" بالنسبة للأمة المصرية في ذلك الحين.. أعنى موهبة الخطابة!
فقد كانت الجماهير في ذلك الوقت تتحلق مبهورة الأنفاس حول "الخطيب"، كما تتحلق حول الساحر الذي يصنع الأعاجيب. وكان هذا أمراً منطقياً مع الأحوال يومئذ، لا بالنسبة لمصر وحدها، بل بالنسبة لأكثر البلاد العربية والإسلامية، إن لم نقل لكثير من بلاد العالم كذلك.
لقد كانت نسبة التعليم أقل مما هي اليوم بكثير في أكثر أصقاع الأرض. ومن ثم لم تكن الكلمة المكتوبة تحدث أثرها الذي تحدثه اليوم عند المتعلمين القارئين، الذين تعودوا أن يقرأوا، وأن يتأثروا بما قرأوا، على روية وتدبر بغير انفعال.
ولم تكن الإذاعة قد أنشئت بعد، حيث يمكن للناس أن يستمعوا وهم متفرقون في بيوتهم أو نواديهم.
ومن ثم كانت الوسيلة هي الخطابة.(1/339)
يقف الخطيب في مكان الاجتماع، فتتحلق حوله الجماهير.. وعلى قدر موهبته الخطابية يكون تأثيره في الجماهير، ويكون في الوقت ذاته ترشيحه "للزعامة"!
وبطبيعة الحال لا تكون القدرة الخطابية وحدها هي كل مقومات الزعامة، فلابد من صفات أخرى يتصف بها الزعيم، ولابد من "مواقف" يقفها ليبرز بين الجماهير وتلف حوله. ولكن الخطابة - يومئذ - كانت في مقدمة المؤهلات.
وقد كان سعد موهوباً في الخطابة بصورة غير عادية.
كان يشتغل في مبدأ أمره بالمحاماة، وكان إذا ترافع في قضية تغص قاعة المحكمة بالحاضرين، الذين جاءوا فقط ليسمعوا مرافعتهن أو بالأحرى جاءوا ليسمعوا وهو يترافع! بينما القضية ذاتها التي يترافع فيها لا تهمهم من قريب ولا من بعيد!
ومن هناك التقطه الصالون.
التقطه ليصوغه صياغة معينة، تؤدى دورها الخطير في مسار الأحداث.
هناك التقى بكرومر، ولطفي السيد، ومصطفي فهمى (والد صفية زغلول) وغيرهم ممن يعملون على "التقريب" بين المصريين والإنجليز، عن طريق "التغريب".
وبعد مرحلة معينة من "الصياغة" و"التشكيل" عين كرومر سعداً وزيراً للمعارف.(1/340)
ويقول كرومر عن هذا التعيين (في تقريره لسنة 1906، المقدم للبرلمان الإنجليزي في أبريل سنة 1907) (231) بعد كلام طويل عن "الوطنية المصرية" وصف في ختامه المدرسة الفكرية التي ينتمي إليها سعد زغلول، والتي سماها على سبيل الاختصار (مدرسة محمد عبده) بأن برنامجها بقوم على (التعاون مع الأوروبيين - لا معارضتهم - في إدخال المدنية الأوروبية إلى بلادهم) ونصح بأن يمنحوا كل تشجيع ممكن. يقول كرومر بعد ذلك: إن اختيار سعد زغلول لمنصب وزير المعارف ليس إلا تنفيذاً لسياسة ترمى إلى تأييد هذه المدرسة، ووضع مقاليد السلطة في يدها. ثم يقول عقب ذلك ما نصه: "وسوف نراقب ما تتمخض عنه هذه التجربة من آثار في عناية وانتباه. فإذا نجحت التجربة، وذلك ما آمله وأعتقده، فسوف نمنح قدراً أكبر من التشجيع للسير في الاتجاه نفسه إلى مدى أبعد. أما إذا فشلت التجربة فستكون النتيجة الحتمية لذلك هي الاعتماد في شئون الإصلاح على الأوروبيين - وعلى الإنجليز خاصة - إلى مدى أكبر مما جرى عليه العمل سابقاً. وأياً ما كانت الحال، فلن يكون هناك سبيل إلى التراجع. إن العمل يسير بجد ونشاط في إدخال المدنية الغربية إلى مصر. وهو يأخذ طريقه بتقدم ونجاح في كل إدارة من إدارات البلد، حسب خطة مرسومة وضعت خطوطها بعد دراسة للموقف، تقوم على التطور والتدرج، لا على الانقلاب العنيف والتغيير المفاجئ (232)" (233).
ويقول المدافعون عن سعد زغلول: إنه يكفيه فخراً و"وطنية" أنه جعل التعليم باللغة العربية بعد أن كان كله باللغة الإنجليزية،,أنه أصر على هذا المطلب حتى استجاب له الإنجليز.
ولسنا نقول إن سعداً كان صفرا.
ولسنا نقول إنه كان ألعوبة في يد الاستعمار، يؤمر فيطيع، كما كان "زيور باشا" مثلاً، أو غيره من الذين كانوا لا يعرفون إلا تنفيذ الأوامر الصادرة إليهم.(1/341)
إنما نقول إن هناك اطمئناناً مبدئياً لدى الاستعمار الصليبي أنه سيقوم بعملية التغريب، وعملية التقريب. وهو هدف رئيسي، يهون أمامه أن يستجيبوا له في تعريب التعليم، ما دام التعليم ذاته سيظل على ذات المنهج الذي وضعه دنلوب، وأشرف على تنفيذه بكل دقة، بينما "الرياسة" في الوزارة لسعد زغلول!
لقد كان المعروف لدى الناس عموماً أن دنلوب هو الوزير الحقيقي في الوزارة، وبصرف النظر عن فكرة الناس فهذه هي الوقائع: لقد صار التعليم باللغة العربية نعم - وذلك أمر فيه من الخير ما فيه - ولكن ماذا يعلم الطلاب؟ هل سعى سعد - وهو صاحب الثقافة الأزهرية العربية الدينية - إلى إزالة الإجحاف المتعمد الذي وضعه دنلوب على معلم اللغة العربية، والذي ينشأ عنه ما ينشأ في نفوس الطلاب من ازدراء اللغة العربية وكل ما هو مكتوب بها، بينما مدرس اللغة الإنجليزية - في التعليم المعرب - هو صاحب الثقافة الأزهرية العربية الدينية إلي إزالة الإحجاف المتعمد الذي وضعه دنلوب علي معلم اللغة العربية، والذي ينشأ عنه ما ينشأ في نفوس الطلاب من إزدراء اللغة العربية وكل ما هو مكتوب بها، بينما مدرس اللغة الانجلزية في التعليم المعرب هو صاحب الصدارة، وصاحب الكلمة المسموعة؟ هل سعي سعد إلي إحياء درس الدين من الموات الذي فرضه عليه المنهج الدنلوبي الخبيث، بإعطائه لأهرام المدرسين واعجزهم، ووضعه في نهاية اليوم المدرسي، وحذفه أخر العام من الجدول المختصر بوصفه مادة إضافية وحضره في استظهار مجموعة من الآيات - بلا شرح ولا تفهيم - ومجموعة من النصوص لا تستجيب لشئ في عالم التلاميذ؟ هل سعى سعد إلى تصحيح منهج تدريس التاريخ - سواء منه الإسلامي أو الأوروبي - الذي يخرج طلاباً لا يعتزون بتاريخهم، وتلوى أعناقهم ليا إلى أوروبا، فيشبون على الانسلاخ من الإسلام والذوبان في الغرب؟(1/342)
إن هذا هو المحك.. وهذا هو الميزان الذي يوزن به "وزير المعارف" في بلد مسلم، يفتات الاستعمار الصليبي على إسلامه، ويهدف - كما قال كرومر صراحة - إلى زحزحته زحزحة كاملة عن حقيقة دينه، مع رعاية المظاهر الخاوية للإسلام، منعاً من إثارة الشكوك.
هنا يصبح "وزير المعارف" بطلاً حقيقيا، يستحق الإشادة به، ويستحق أن يأخذ مكانه من التاريخ.
فهل سعى سعد إلى شئ من ذلك؟ بل هل فكر فيه مجرد تفكير؟
إن إصراره على تعريب التعليم عمل خير بلا شك، فقد أبقى الخيط موصولاً لا ينقطع، كما كاد ينقطع في الشمال الأفريقي (234) ولكن أفق سعد كان ينتهي عند هذه النقطة، لا يتجاوزها إلى النقطة الجوهرية، التي كان ينبغي أن يهتدي إليها بحكم إسلامه أولاً، وبحكم ثقافته الأزهرية العربية الدينية ثانياً. فأين ذهبت حساسيته "للإسلام" الذي يجليه دنلوب عمداً من مناهج التعليم، ويخرب قواعده في نفوس الدارسين؟
هنا ينبغى أن نرجع إلى لطفي السيد، وإلى "نازلى هانم" وإلى أثر "الصالون" بعامة في قلب الرجل الأزهري دارس الشريعة الإسلامية والدين الإسلامي!
فإن كرومر لم يضعه في وزارة المعار إلا بعد أن اطمأن إلى "تهذيبه" و"تشذيبه" في الصالون!
هذه واحدة.
ثم كان سعد هو "الوكيل المنتخب" لمجلس شورى القوانين. بحكم "شعبيته" الذائعة الصيت.
وينبغي أن نعرف أولاً ما هو مجلس شورى القوانين.
إنه في ظاهره "مجلس نيابي" لتعويد الشعب أن يحكم نفسه بنفسه! وما كان الإنجليز حريصين قط - في أي بلد احتلوه - على أن يردوا السلطة للشعب الذي اغتصبوا حريته,أخضعوه لهم بالحديد والنار!(1/343)
إنما الهدف الحقيقي من هذا المجلس هو إصدار "قوانين" تحكم البلاد بدلاً من الشريعة الإسلامية! وما كان الاستعمار الصليبي - في مصر خاصة - يرغب أن يستقل بسلطة إصدار القوانين المعارضة للشريعة الإسلامية، رغم ما له من سلطان، كما صنع في الهند مثلاً، لأن مصر بلد الأزهر، وبلد علماء الدين لعدة قرون. ومن الخير له - حسب أسلوبه الذي اتبعه في مصر، الأسلوب البطيء الأكيد المفعول - أن تكون هناك سلطة "شعبية" هي التي تعطى "الشريعة" لهذه القوانين، فيكون "الشعب" هو الذي يصدر القوانين المخالفة للشريعة، بمعرفته وبرغبته! وتكون سياسة الاستعمار هي التظاهر بالغضب والاستياء من أن الشعب يريد أن يفرض إرادته على المستعمرين! وفي وسط "اللعبة" تمر القوانين المطلوبة كأنها "كسب" للشعب جاء رغم إرادة الاستعمار!
وكان للمجلس ويكلان، أحدهما معين والآخر منتخب، وكان الوكيل المنتخب هو سعد زغلول. فقد كان له في ذلك الوقت من الشهرة الشعبية ما يجعله ينتخب بسهولة في ذلك المكان.
نعم، كان هو "الممثل الشعبي" الذي يعبر - بمنصبه هذا - عن كون الشعب ممثلاً في المجلس. ولكن أى شعب كان يمثله سعد، وهو يصوغ القوانين المعارضة للشريعة الإسلامية ويمنحها الشرعية؟ هل هو شعب مصر المسلم، الذي ينبغي - بمقتضى إسلامه - أن يحتكم إلى شريعة الله، ويرفض الاحتكام إلى كل شريعة غير شريعة الله؟
وبصرف النظر عن حال الشعب يومئذ - من إقبال على الإسلام أو إدبار، أو إهمال لهذه القضية بالكلية - فإن سعداً ليس فرداً عادياً من الشعب. بل هو قائد وزعيم. والقيادة معناها توجيه الأمة إلى ما ينبغي أن تتجه إليه، وإيقاظها له إن كانت غافلة عنه، وتجنيدها له بكل طاقتها حتى تصل إلى تحقيقه.(1/344)
وسعد - بثقافته - ليس بعيداً عن مجال الشريعة، بل هي مجال دراسته في الأزهر. فأين ذهبت حساسيته للإسلام، حتى صار موضع فخره أنه الوكيل المنتخب للمجلس الذي يصوغ القوانين الوضعية لتحكم الناس بدلاً من الشريعة الإسلامية؟ (235).
وهذه أخرى.
ولكن الثالثة هي الأخطر.
قامت الثورة المصرية عام 1919م عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى ببضع شهور.
وكانت هذه الثورة تعبيراً عن غضب الأمة المختزن منذ عهد الاحتلال.
وكان "الخزين" الذي تفجر يحوى أشياء كثيرة، تجمعت على مدى الزمن فأدت إلى الاشتعال.
كان فيها الغضب الطبيعي من العدو الغاصب الذي يحتل البلاد بعساكره، ويهين - بوجوده - كرامة البلاد.
وكان فيها الاستياء من فرض "الحماية العسكرية" - فضلاً عن الاستعمار - منذ قيام الحرب سنة 1914، وقد كانت فترة الحماية تتميز بالمزيد من الشراسة في معاملة الشعب المهدر الكرامة، فقد أنشئت المحاكم العسكرية، وكانت تحكم على الناس بالإعدام لأدنى شبهة، ولمجرد الإرهاب، كما حدث في "حادثة دنشواى" الشهيرة، حيث ذهب مجموعة من الجنود الإنجليز يصطادون الحمام في قرية "دنشواى" فأصيب أحدهم بضربة شمس فمات متأثراً بها، فحكمت المحكمة العسكرية الإنجليزية بإعدام مجموعة من الأهالي بتهمة أنهم هم الذين قتلوه! وكانت هذه الحادثة من الأشياء الشديدة الإثارة التي تجمعت - مع غيرها - لإحداث الثورة.
وكان فيها الاستياء من سلب الفلاحين دوابهم التي يعتمدون عليها في أرزاقهم، مع سلبهم أقواتهم الضرورية من الغلال، تحت ذريعة أن السلطة العسكرية في حاجة إليها لحماية البلاد! وقد كانت تذهب في حقيقتها لتموين "الجيش العربي!!" - الذي جندته إنجلترا لمحاربة دولة الخلافة بقيادة لورد أللنبى Lord Allenby، الذي قال وقت أن دخل القدس عام 1917: الآن انتهت الحرب الصليبية! والذي صرح قائلاً: لولا معاونة "الجيش العربي" ما استطعنا أن نتغلب على دولة الخلافة (236).(1/345)
وكان فيها استياء أهل القاهرة بالذات من أفاعيل جيش "الأنزاك" ANZAC (237) المكون من خليط من الأستراليين والنيوزيلنديين ومجندي جنوب أفريقيا وكندا، فقد عاثوا في القاهرة فساداً وارتكبوا الفواحش، وكان الواحد منهم إذا وجد مقاومة قتل الذين يقاومونه برصاص مسدسه. وكانت هذه بالذات من أشد ما أثار الثورة في نفس المصريين (238).
ولكن اشد العوامل التي حفزت المصريين للثورة - إلى جانب ذلك كله - كان عزل مصر رسمياً عن دولة الخلاقة منذ إعلان الحماية، وقطع صلتها بها نهائياً، وجعلها تابعة لبريطانيا.
وما كانت الصلة بدولة الخلافة ذات واقع عملي في مجال السياسة. فمنذ عزل الخديو توفيق، وإخضاع مصر للاحتلال البريطاني، لم تعد مصر - عملياً - تابعة لدولة الخلافة وغن كانت كذلك بالاسم. أما الصلة الروحية فقد بقيت في نفوس المصريين، وكانت هي الرباط "الإسلامي" الذي يربط المصريين المسلمين بدولة الإسلام.
وبصرف النظر عن كل السوء الذي كان واقعاً في الدولة العثمانية ذاتها، وصارفا لها عما ينبغي لها من الروح الإسلامية (239)، فقد كانت في قلوب المسلمين في كل الأرض "رمزاً" مرتبطاً في قلوبهم بالإسلام. وممثلاً له في عالم العيان.
فلما أعلنت إنجلترا الحماية العسكرية على مصر بعد قيام الحرب، فصلت مصر نهائياً عن الدولة العثمانية. فكان ذلك - كما قلنا - أمراً شديد الواقع على النفوس، وكان له في إحداث الثورة أثر بليغ.
باختصار.. كانت الصورة "إسلامية" في جوهرها. يقوم بها الشعب المسلم في مصر تجاه الغاصبين الكفار. وكانت تنطلق من الأزهر، مهد الإسلام، بالضبط كما انطلقت من قبل أيام نابليون.
ولكن تحولاً خطيراً طرأ على الثورة.. مكان عماده سعد زغلول!
ولنعد إلى "وثائق" الثورة نقرأ على ضوئها التاريخ!(1/346)
نشرن صحيفة الأهرام في عام 1969م بعض وثائق المتحف البريطاني الخاصة بثورة 1919، باعتبار أنه قد مضى عليها خمسون عاماً، على طريقة المتحف البريطاني في نشر وثائقه التاريخية بعد مرور خمسين عاماً من حدوثها (240).
وكان في هذه الوثائق أمور عجيبة تستحق الوقوف عندها لتدبر دلالتها.
كان سعد يسكن في شارع الفلكي بالقاهرة حيث يقوم الآن "بيت الأمة". وكان يسكن قبله بقليل في نفس الشارع (تجاه باب اللوق) محمد محمود (باشا) وهو أحد الشخصيات البارزة في ذلك الوقت، وإن لم تكن له شعبية مثل سعد زغلول، كان والده أحد "باشوات" مصر (محمود باشا سليمان) من إقطاعي الصعيد (بساحل سليم بأسيوط) واكن هو ممن تعلموا في إنجلترا في جامعة اكسفورد، يحمل عصا أرستقراطية على طريقة الأرستقراطيين يومئذ.
تقول إحدى الوثائق إن محمد محمود كان عائداً إلى بيته، وبينما هو واقف إلى جوار البيت مر سعد زغلول عائداً إلى بيته (في نفس الشارع كما ذكرنا) فسد محمد محمود الطريق أمامه بعصاه ليستوقفه، وقال ه: إن الشعب يغلى. ولابد أن نصنع شيئاً! فرد عليه سعد: وماذا نصنع والحماية معلنة على البلاد؟!
وإلى هنا نبرز نقطتين مهمتين: الأولى أن الشعب هو الذي كان يغلى من جانبه، لا بتحريض زعمائه! أي أن الثورة منبعثة انبعاثاً ذاتياً من الشعب (للأسباب التي أوردنا جانباً منها فيما سبق). والثانية أن سعد زغلول لم يكن - إلى تلك اللحظة - يفكر في إمكان عمل شئ ما، لأنه يرى من وجهة نظره أن الحماية معلنة على البلاد. ومعها الحكم العسكري الصارم. ومن ثم فلا يمكن عمل شئ!
تقول الوثيقة إن محمد محمود قال لسعد: ولكن الشعب في حالة فوران شديد، وإذا لم نفعل شيئاً فسيفوتنا القطار!!
وفي اليوم التالي شكل سعد "وفده" الثلاثي الشهير، المكون منه ومن عبد العزيز (باشا) فهمى ومن محمد (باشا) شعراوى، وذهبوا إلى دار المندوب السامي البريطاني لتقديم "مطالب الأمة".(1/347)
وهنا وقفة أخرى أمام الأحداث.
هل كان الذي حرك سعد زغلول هو كلمة محمد محمود الأخيرة: "إذا لم نفعل شيئاً فسيفوتنا القطار"؟!
هل هو الخوف على الزعامة والمكانة الشعبية؟ هل هو الخوف من أن يسبقه غيره إلى عمل شئ كمحمد محمود أو غيره؟
لا نخوض كثيراً في هذا الأمر.. ولنحسن الظن.. ولنقل إن كلام محمد محمود قد شجع سعداً على التحرك..فقرر العمل.
لكن الذي نقف عنده هو الوثيقة التي تتحدث عن لقاء "الوفد" للسير "ونجيت" Wingate المندوب السامي البريطاني في ذلك الحين.
تحدث سعد عن تذمر الأمة، وحالة الفوران التي تغلى في الصدور، وطالب برفع الحماية وتغير الأحوال.
تقول الوثيقة إن المندوب السامي استمع إلى الوفد - باستنكار طبعاً - ثم قال: كأنكم تريدون الاستقلال!! فقال سعد: نعم! نريد الاستقلال!
نقف هنا لنحاول إلقاء نظرة على فكر سعد زغلول في تلك اللحظة. إن "الاستقلال" لم يكن وارداً في ذهن سعد، ولا في كلامه مع المندوب السامي. إنما الذي كان وارداً هو رفع الحماية العسكرية، وتخفيف قبضة الاستعمار على البلاد. ولكن المندوب السامي - بقدر من الله - هو الذي نطق بكلمة "الاستقلال" ولعله كان يتصور أن "مندوبي الأمة" - التي يعلم المراقبون أنها في حالة فوران - لم يكون مطلبهم أقل من الاستقلال!
أيا كان الأمر، فقد التقطها سعد، وقال: نعم! نريد الاستقلال!
وقال ونجيت - كما هو متوقع - إن هذا مطلب ال يمكن أن يوافق عليه. وقال إنه سيرفع الأمر للحكومة البريطانية.
واندلعت الثورة على إثر رفض المندوب السامي "لمطالب الأمة".
وكانت ثورة عارمة.. اشترك فيها الشعب كله إلى أقاصي الصعيد.(1/348)
وكانت القاهرة - بطبيعة الحال - هي مركز الثورة. فكانت المظاهرات تخرج يوميا من الأزهر، بعد أن تستمع إلي الخطباء الذين يشعلون حماسة الجماهير ضد المستعمر الغاصب، فيتلقفها جنود الاحتلال بالمدافع الرشاشة، فيسقط كل يوم قتلي، فتزيد الثورة اشتعالا مع الدماء السائلة والرصاص المصوب إلي الصدور
ونفي سعد و " صحبه الكرام " بتعبير الصحافة المصرية الموالية للثورة، بحسبان أن نفي الزعماء سيقضى على الثورة ويمكن الإنجليز من السيطرة على الموقف.
ولكن الثورة ازدادت حدة - كما كان متوقعاً من ذلك الإجراء في تلك الظروف - فسحبت بريطانيا مندوبها السامي من مصر وعينته في وظيفة أخرى، على طريقة الإنجليز في معاقبة من يفشل في خطته من كبار موظفيها!! وجاءت باللورد أللنبى مندوباً سامياً في مصر على أمل أن يقضى على الثورة ويريح منها الحكومة البريطانية.
كان أللنبى هو القائد "المظفر" الذي تغلب على جيش دولة الخلافة. وهو رجل عسكري له هيبته "العساكر" فربما أدت هيبته بالمصريين إلى الخوف من العواقب، والكف عن المقاومة، وإنهاء الثورة.
تقول وثيقة أخرى أن أللنبى مكث شهراً كاملاً يدرس الأحوال في مصر قبل أن يقدم على قرار (والثورة ماضية في طريقها على ذات الصورة) ثم أرسل تقريراً مطولاً إلى حكومته (منشور بكامله في الوثيقة) أبرز ما فيه جملتان ذواتا دلالة عميقة وأهمية بالغة:
"إن الثورة تنبع من الأزهر، وهذا أمر له خطورته البالغة".. "أفرجوا عن سعد زغلول وأعيدوه إلى القاهرة!".
لقد أدرك الرجل الداهية - وما كان في حاجة أن يكون داهية لكي يدرك - أن الثورة تنبع من الأزهر - اى أنها ثورة دينية إسلامية - وأن هذا الأمر له خطورته البالغة!(1/349)
إن أعداء هذا الدين يعلمون جيداً أن أخطر شئ عليهم هو روح "الجهاد" في هذا الدين. إنهم أقوى عسكرياً بلا شك، ويملكون كل وسائل الإرهاب في أيديهم، وقد يستطيعون إخماد الثورة في النهاية، ولكن ذلك يكلفهم الكثير الكثير.. ثم هم غير مأمون العواقب في جميع الأحوال. فالجهاد الإسلامي روح لا تخمد. إن سكنت حيناً بالهزيمة العسكرية فإنها لا تموت، ويمكن أن تتجدد مرة أخرى في أي حين.
والحل المقترح: "أفرجوا عن سعد زغلول وأعيدوه إلى القاهرة!".
ونفترض أقصى ما يمكن من حسن الظن، فنقول إن لورد أللنبى رأى أن السبب الذي أدى إلى اتساع نطاق الثورة واشتداد المقاومة هو نفي سعد زغلول، وأن إرجاع سعد قمين بأن يهدئ الخواطر الثائرة وينهي الثورة.
ولكن سلوك سعد بعد عودته هو الذي يلجئنا إلى قراءة العبارة الواردة في آخر تقرير أللنبى على نحو آخر، يجعل لها ارتباطاً مباشراً بالعبارة الأولى الواردة في أول التقرير، والتي تشير إلى الطبيعة "الدينية" للثورة.
عاد سعد ليقول: الدين لله.. والوطن للجميع!
ومعنى العبارة واضح.
الدين لله أي بينكم وبين الله.. فلا تذكروه في هتافاتكم وفي حركتكم، واذكروا "الوطن" واجعلوه موضع التركيز!
بعبارة أخرى: تحويل الثورة من ثورة دينية إسلامية، إلى ثورة وطنية لا علاقة لها بالدين.(1/350)
ومن كان في شك من دلالة العبارة التي جعلها سعد سعاراً للثورة فلينظر في "الجميع" الذين يعينهم سعد، بعد قوله "الدين لله". إن الجميع المقصودين في العبارة هم الأقباط والمسلمون. وكان الأقباط قد اشتركوا في الثورة بعد قيامها لأن الظروف القائمة كلها يومئذ كانت تؤدى إلى اشتراكهم. فسد يريد أن يقول - بل قال بالفعل - لا ترفعوا الشعارات الإسلامية على الثورة - من أجل الأقباط المشتركين فيها - وارفعوا "الوطن" شعاراً للثورة، لأن هذا الشعار هو الذي يتسع "للجميع". أما الدين فهو لله، أي أمر خاص، بين الإنسان وبين الله، يسره الإنسان ولا يعلنه! (241).
كأن وجود الأقباط في مصر يمنع المسلمين أن يكونوا مسلمين! ويمنعهم من أن يعلنوا إسلامهم! ويمنعهم من أن يتحركوا بمقتضى إسلامهم! ويمنعهم - حين ينطلقون من منطلقات إسلامية -أن يقولوا إنهم ينطلقون من منطلقات إسلامية!!
من قال هذا؟ وكيف تقرر؟! وعلى أي أساس تقرر؟!
إن الأقباط يعيشون في مصر منذ أربعة عشر قرناً. منذ الفتح الإسلامي لمصر. يعيشون في سلام وأمن لا تتمتع به أية أقلية في أى مكان في الأرض إلا في ظل الإسلام. وقد كان الإسلام هو الذي أخرجهم من الذل الساحق الذي كانوا يعانونه في ظل الدولة الرومانية - المسيحية! - بسب اختلاف المذهب؛ والإسلام هو الذي رد إليهم كرامتهم الضائعة، حتى ذهب الرجل القبطي ألوف الأميال ليشكو إلى عمر ضربة عصا ظالمة وقعت على ابنه من ابن عمرو بن العاص، بينما كانوا يتلقون السياط أيام الرومان وهم صاغرون. وبشأنهم أبرز عمر هذا المبدأ الإسلامي العظيم: يا عمرو! متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً!(1/351)
وعاش الأقباط هذا الزمن المتطاول في أمن وسلام وحرية، لم تذقه قط أية أقلية إسلامية وقعت تحت حكم النصارى. وأقرب الأمثلة هو الحبشة، المرتبطة تاريخياً بالكنيسة القبطية المصرية، والتي يبلغ تعداد المسلمين فيها أكثر من 65% من سكانها، ومع ذلك فهم مسحوقون مستذلون، لا يعينون في وظائف الدولة، ولا يتولون منصباً واحداً من المناصب الكبيرة، ولا يعلمون دينهم في مدارس الدولة الرسمية، ولا يسمح لهم بفتح مدراس إسلامية تعلم أطفالهم مبادئ دينهم، وحين يفتحون "كتاتيب" لتحفيظ القرآن تظل الدولة تفرض عليها الضرائب حتى يضطر أصحابها إلى إغلاقها. وفي هيئة الأمم - على ملأ من العالم كله - قال هيلاسلاسى ملك الحبشة السابق: إنه في خلال أثنى عشر عاماً لم يكون في الحبشة إلا دين واحد!! أي أنه سيسحق المسلمين ويبيدهم، أو يطردهم من أرضهم. ولم يتحرك صوت واحد في العالم كله بالاستنكار!
أما في مصر فلم يحدث شئ من هذا كله، ولا يمكن أن حدث، طالما كان المسلمون مسلمين محافظين على إسلامهم.. لأن الإسلام هو الذي يأمرهم بالعدل، وهم يقومون به لله، لا لمصلحة أرضية هنا أو هناك؛ وكلما زاد تمسكهم بإسلامهم زاد حرصهم على إخفاق الحق وتطبيق العدل الرباني.
{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)} [سورة الشورى 42/15]
فكيف يكون وجود الأقباط - المكرمين المعززين في ظل الإسلام - مانعاً للمسلمين أن يكونوا مسلمين، وأن يعلنوا إسلامهم، وأن يتحركوا بمقتضى إسلامهم، وأن يعلنوا - حين ينطلقون من منطلقات إسلامية - أنهم ينطلقون من منطلقات إسلامية؟!(1/352)
وكيف جرى هذا التحول الكبير، في قلب الزعيم "المسلم" الكبير؟!
ولننظر الآن من الجانب الآخر.. جانب العدو الصليبي المستعمر.
إذا وقعت الواقعة، وحدثت الثورة - على كره من الاستعمار - فأيهما أهون عليه: حركة "الجهاد" الإسلامية، أم الحركة "الوطنية" التي تبعد الدين من مجالها، وتتحرك باسم "الوطن" فحسب؟!
الفارق- لا شك - كبير.. ويعرف الفارق جيداً أولئك الذين يعرفون هذا الدين كما يعرفون أبناءهم!
فحين تكون الحركة جهاداً إسلامياً فالقضية واضحة: مسلمون ثائرون، يجاهدون عدواً صليبياً يحتل بلادهم. فهل يتصور فيهم أن يلتقوا مع العدو الصليبي في منصف الطريق؟ هل يتصور فيهم أن "يتفاهموا
" مع عدوهم على شئ؟ هل يتصور فيهم أن يسكتوا على حركة التعذيب وحركة التقريب؟ هل يتصور فيهم أن يسكتوا على تنحية الشريعة الإسلامية عن الحكم، ويسكتوا على الغزو الفكري المتمثل في المنهج الذي وضعه دنلوب للتعليم والمنهج الذي تتبعه وسائل الإعلام بمعاونة المستعمر الصليبي؟!
أما حين تكون حركة وطنية فكل هذا جائز! بل لقد وقع بالفعل! ففي ظل الحركة الوطنية قام التغريب والتقريب، واتسع نطاق الغزو الفكري، واستمر المنهج الدنلوبى، واستمرت وسائل الإعلام تؤدى "مهمتها" في إبعاد المسلمين عن الإسلام!
فإذا وقعت الواقعة - على كره من الاستعمار - وثار المصريون.. فأيهما أهون على العدو الصليبي المستعمر: حركة الجهاد الإسلامية أم الحركة الوطنية؟!
هل كان عجباً إذن أن يشير أللنبى فى تقريره إلى أن الثورة تنبع من الأزهر، وأن هذا الأمر له خطورته البالغة، وأن يشير على حكومته بالإفراج عن سعد زغلول وإرجاعه إلى القاهرة؟!(1/353)
ونفترض جدلاً أن الرجل الداهية قد غفل عن هذه المعاني كلها - التي لم يغفل عنها قط صليبي مستعمر فى أرض الإسلام - وأن إشارته على حكومته بالإفراج عن سعد وإرجاعه إلى القاهرة كانت "بريئة" تماماً من أي معرفة سابقة بما حدث في قلب الزعيم "المسلم" الكبير في صالون نازلى فاضل، من تأثر بأفكار أستاذه "أستاذ الجيل"، وتأثر بصحبة اللورد كرومر، وتأثر "بتحرر" نازلى هانم، وغبر ذلك من المؤثرات. فإن الذي حدث بالفعل أن سعداً بعد عودته قبل وقف الثورة على أساس "التفاوض مع الإنجليز" وأنه قال بعد فل المفاوضات كلمتيه الشهيرتين: "خسرنا المعاهدة وكسبنا صداقة الإنجليز" و.. "الإنجليز خصوم شرفاء معقولون"!!! ورضيت بذلك الجماهير!!!
? ? ?
5- بروز الزعامات العلمانية
وخلو الساحة من القيادة الدينية
كان التحول هائلاً في الحقيقة.. ولكنه تم! وتم يى يسر عجيب لابد لنا من دراسة أسبابه.
كانت "اللعبة" التي لعبها الإنجليز في مصر - وكررها الفرنسيون بعد ذلك من "بن بيلا" في الجزائر - هي نفى "الزعيم" - بعد الاطمئنان إلى تحوله عن الروح الإسلامية والمنطلق الإسلامي - ثم إعادته بعد فترة من الوقت ليصبح "معبود الجماهير"! (242) وليحول الثورة من مسارها الإسلامي إلى مسار آخر، مهما يكن من أمره فهو أهون على أعداء الإسلام من "الجهاد" تحت راية الإسلام (243).
تحول سعد في حس الجماهير إلى أسطورة.
ولئن كانت براعته الخطابية من قبل قد جمعت حوله الجماهير إلى حد الهوس، فإن نفيه ثم إعادته قد ضاعفت هوس الجماهير إلى الحد الذي تعبر عنه صحافة ذلك الوقت بالعبادة!
أصبح ما يقوله سعد هو الحق مهما كان مخالفاً للحق! واصبح ما يفعله سعد هو الصواب، أو أصبح على الأقل مسكوتاً عنه ولو كان أبشع الأفاعيل!(1/354)
كان سعد يقامر - كما أقر في مذكراته - ويغرق في لعب القمار حتى يخسر أمواله، وأعداؤه السياسيون يكشفون للجماهير ذلك، فتبتلع الجماهير ذلك، وتزداد تعصباً لسعد كلما أوغل أعداؤه السياسيون في النيل منه! وكان يفطر فى رمضان، ويشرب الخمر - حتى في رمضان - ويذيع عنه أعداؤه ذلك، فيعتذر عنه المعتذرون بأنه ضعيف لا يقوى بدنه على الصيام - فهو من أهل الأعذار - وأن الطبيب قد نصحه بأخذ جرعات من الخمر بين الحين والحين لإصلاح معدته! (244) فتبتلع الجماهير إفطاره في رمضان وشربه الخمر، وتزداد تعصباً له!!
وكان يوظف أقاربه وأصهاره في الوظائف الكبيرة، ويعيب عليه أعداؤه هذه ا"المحسوبية" فيرد عليهم متحدياً: "سأجلعها زغلولية لحماً ودماً" فتصفق الجماهير إعجاباً بالزعيم الكبير!!
وفي النهاية لم تعد القضية عند الجماهير هي قضية "الوطن" - حتى بعد تحولها من قضية إسلامية إلى قضية وطنية - بل أصبحت القضية هي قضية سعد زغلول! فإذا كان هو راضياً فالجماهير راضية، بصرف النظر عن الأمر الذي هو راض عنه، وإذا كان غاضباً فالجماهير غاضبة، بصرف النظر عن الأمر الذي هو غاضب من أجله! يستوي فى ذلك الجهلاء والمثقفون، الأغنياء والفقراء، العمال والفلاحون، الطلاب والموظفون. إلا فريقاً ضئيلاً من الأمة خراجين على هذا "الإجماع" يوصفون بأنهم خونة مارقون. وما كانوا بالفعل أفضل من سعد وأتباعه، إنما كان الأمر حسداً في أنفسهم من مكانة سعد عند الجماهير!
كيف تم ذلك؟!
هل يكفى لتفسيره مقدرة سعد الخطابية الفذة، التي كانت تعتبر من النماذج التاريخية الفذة؟
هل تكفى "اللعبة" التي لعبها الإنجليز بنفى سعد، ثم إرجاعه بعد تضخيمه - بنفيه - في حس الجماهير؟
هل يكفى ما يحدث كثيراً في نفوس "الجماهير" - على مدار التاريخ - من نسيان الهدف الأصلي والتعلق "بالرمز"، حتى يصبح الرمز هو الهدف في النهاية؟(1/355)
إن هذا كله يمكن أن يكون تفسيراً جزئياً لما حدث، ولكنه لا يكفى - وحده - للتفسير.
لابد أن نضع فى حسابنا حقيقتين كبيرتين ابعد تأثيراً من العوامل السابقة كلها، على كل ما لهذه العوامل من التأثير.
الحقيقة الأولى: هي "الخواء" الذي أصاب الحياة الإسلامية كلها، برغم وجود "عواطف إسلامية" تنفعل بها القلوب.
لقد كان فى الثورة - قبل أن يحولها سعد إلى ثورة وطنية - عواطف إسلامية، تتجه إلى دولة الخلافة، و"تثور" حين يفصل ما بينها وبينها، و"تثور" ضد "الكفار" المغتصبين (فقد كانت هكذا أحاديث الناس عند بدء الثورة وخاصة في الريف) وتتجه إلى الأزهر ليقودها، لأنه هو الجدير - في حسها - أن يقود الثورة الإسلامية.
ولكن ....
كم كان وعي المسلمين " بالإسلام؟ " وكيف كانت حقيقته في إحساسهم؟ وبالذات ماذا كان في حسهم من قضية " الحكم بما أنزل الله "؟ هل كانوا علي وعي من أنها " مقتضي الإسلامي: ومحكة الحقيقي، أم أنها ط كمالات " يتمني الناس وقوعها ولكن عدم وجودها لا يؤثر في " إسلامهم "؟
هذه هي القضية الرئيسية في التحول الخطير، الذي حدث بهذا السير العجيب في حس " الجماهير "
ولو كان هناك وعي إسلامي حقيقي، لو كان هناك إدراك واع حاسم بأن الحكم بما أنزل الله هو المقتضي الطبيعي، والمقتضي الأول لشهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأن الناس لا يكونوا مسلمين إذا رضوا بحكم غير حكم الله.. لو كانوا كذلك ما سهل تحويلهم إلي القضايا " الوطنية " التي يوضع شعارا لها: الدين لله والوطن للجميع، ويمنع في نشاطها السياسي الخوضي في أمور الدين
أما الحقيقة الأخري: فهي خلو الساحة من القادة الطبيعين لهذه الأمة، وهم " علماء الدين "(1/356)
لقد كان علماء الدين دائما في تاريخ هذه الأمة هم قادتها وموجهيها وهم ملجؤها كذلك إذا حزبهم أمر وملاذها عند الفزع,.. تتجه إليهم لتتلقي علم الدين منهم وتتجه إليهم ليشيروا عليها في أمورها الهامة، وتتجه إليها إذا وقع عليهم ظلم من الحكام والولاة ليسعوا إلي رفع الظلم عنهم بتذكير أولئك الحكام والولاة بربهم،وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وكان العلماء يضطهدون من قبل ذوي السلطان أحيانا، ويلقون في السجون أحيانا، ويؤذون في أبدانهم وأموالهم وكراماتهم أحيانا ولكنهم يصمدون لهذا كله، تقديرا لمسئوليتهم أمام الله وهم الذين من الله عليهم بمعرفة دينه حين يسألهم ربهم يوم القيامة عن " الامانة " الكبري الملقاة علي عاتقهم عن مهمة هداية الناس إلي الحق حاكمهم ومحكومهم ومهمة النصيحة في الدين لأولي الأمر خاصة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للراعي والرعية سواء، وإمامهم يشجعهم علي احتمال البلاء في سبيل هذه الأمانة فيقول لهم: " سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلي إما جائر فأمره ونهاه فقتله " (245).
وكما كان العلماء هم قادة الأمة ومرشديها في أمورها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والروحية، كانوا كذلك دعاتها إلي الجهاد كلما حدث علي الأمة عدوان ـ يذكرونها بالله واليوم الآخر، وبالجنة التي تنتظر المجاهدين الصادقين، وكانوا يشاركون في الجهاد بأنفسهم أحيانا، بل يقودون الجيوش بأنفسهم في بعض الأحيان.
تلك كانت مهمة علماء الدين والدين حي في النفوس.. وفي التاريخ نماذج عديدة لعلماء أرضوا ربهم وأدوا أمانتهم وجاهدوا في الله حق جهاده، وصبروا علي ما أصابهم في سبيل الله فما ضعفوا وما استكانوا
فأين كان " العلماء " في تلك الفترة التي نحن بصددها من التاريخ؟
هل كانوا في مكان القيادة الذي عهدتهم الأمة فيه إلي عهد ليس ببعيد.. آخره موقفهم من حملة نابليون؟(1/357)
هل كانوا هم الذين يطالبون للامة بحقوقها السياسة وحقوقها الاجتماعية وحقوقها الاقتصادية
هل كانوا هم الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقومون إلي الإمام الجائر فيأمرونه وينهونه، قتلهم أم لم يقتلهم؟
أم كان كثيرا منهم قد استعبدوا أنفسهم للسلطان ومشوا فى ركابه يتملقونه ويباركون مظالمه فيمدونه فى الغى بينما البقية الصالحة منهم قد قبعت فى بيوتها أو انزوت فى الدرس والكتاب تحسب أن مهمتها قد انتهت إذا لقنت الناس " العلم "
وهو علم مطلوب فى ذاته ولكن كثيرا من فائدته ضائع لأنه يعيش بقضاياه فى الماضى ولا ينظر إلى الحاضر فضلا عن أن ينظر فى المستقبل
إن" العلم " الدينى الموجود فى تلك الكتب زاد ضرورى لكل متخصص فى علوم الشريعة (246) ولكن لا ليقف عنده بل ليجعله مرتكزا ينطلق منه إلى دراسة الحاضر دارسة إسلامية علمية أى النظر فى الحاضر : هل هو مستوف لشروط " الصحة الإسلامية منضبط بضوابط العقيدة والشريعة أم منحرف عنها أم ناقص فى بعض جوانبها ثم تقديم العلاج الإسلامى لجوانب النقص وجوانب الانحراف .
بعبارة أخرى كان واجب العلماء أن " يتحركوا " بهذا الدين و " بالعلم " الى يعلمونه من هذا الدين لصياغة المجتمع صياغة إسلامية صحيحة ووضع كل من الحاكم والمحكوم فى وضعه الصحيح برد الحاكم إلى الالتزام بشريعة الله فيزول من ثم ما هو واقع فى المجتمع من ظلم سياسى واجتماعى واقتصادى ورد المحكومين إلى الالتزام بأوامر الإسلام ونواهيه فيزول من ثم ما هو واقع فى المجتمع من فساد خلقى وروحى وسلوكى .. أو الجهاد فى سبيل هذا الأمر على الأقل فيتحقق من الإصلاح بقدر ما يخلص الناس نياتهم لله وبمقدار ما يبذلون من الجهد اللازم للإصلاح .(1/358)
ثم كان واجب العلماء أن " يجتهدوا " بما فقهوه من فقه هذا الدين ليضعوا الحلول الإسلامية المستمدة من مصادر التشريع الإسلامى للمشكلات التى جدت فى حياة الناس . فمهمة الفقه الدائمة هى مد ظل الشريعة بالاجتهاد حتى يغطى كل ما يحد فى حياة الناس وضبط ما يجد فى حياة الناس بضوابط الشريعة لكى لا تشرد بعيدا عن المنهج الربانى الذى أنزله الله ليحكم كل الحياة .
فهل كان العلماء على المستوى اللازم لهذه المعركة الضخمة فى ذلك الحين ؟
وما نريد أن نظلمهم فقد كان منهم ولا شك من صدع بكلمة الحق ومنهم من ألقى بالنصب تحت قدميه حين أحس أنه يستعبده لأولى السلطان أو يلجمه عن كلمة الحق ومنهم من فكر واجتهد .. ولكنهم قلة بين الكثرة الغالبة التى راحت تلهث وراء المتاع الأرضى أو تقبع داخل الدرس والكتاب على ما فيهما من جوانب القصور .
وحين كانوا كذلك كان قد برز فى الساحة زعماء علمانيون _ صاغهم الاستعمار والغزو الفكرى _ يطالبون بحقوق الجماهير . يطالبون أن تكون " الأمة مصدر السلطات " وأن يكون للحاكم حدود يلتزم بها ولا يتجاوزها وأن يكون هناك " دستور " يحدد اختصاص كل من السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية وبرلمان يجمع " ممثلى الأمة " ويكون له وحده حق إصدار القرار.
وينادون فى الوقت ذاته " بالإصلاح " فى كل المجالات : فى مجال التعليم . فى مجال الاقتصاد . فى مجال الخدمات الصحية فى مجال المرافق العامة .
وينادون بإزالة التخلف الذى وقعت فيه الأمة فى كل ميدان .. التخلف العلمى والحضارى والفكرى والمادى.
باختصار يقومون بمهمة " القيادة " التى تقاعس عنها علماء الدين بالإضافة إلى عنصر آخر يفتقده علماء الدين فى ذلك الوقت هو إطلاعهم على أحوال العالم الحاضرة وإلمامهم بثقافة العصر وتمرسهم ببعض الخبرات العملية على الأقل فى بعض المجالات .
حين كان الأمر على هذه الصورة فأين كان يتوقع أن تتجه الجماهير ؟(1/359)
صحيح أن الجماهير تبينت فيما بعج أن هذا كله كان أسطورة ضخمة !
تبينت أن " الديمقراطية " المزعومة إن كان لها ممارسات حقيقية فى بلادها الأصلية فهى عندنا مجرد تمثيلية مضحكة لا تجعل للأمة رقابة حقيقية على أصحاب السلطان ! وأن " ممثلى الأمة " لا يمثلونها فى شئ حقيقى وإنما يمثلون مصالحهم الشخصية ومصالحهم الشخصية يومئذ هى مصالحة الإقطاع الطاغى ومصالح الرأسمالية النامية الآخذة فى زحزحة الإقطاع العتيد وأخذ مكانه فى السلطان والطغيان سواء (247)! وأن الفساد الذى نجم من الحزبية التى فرقت الأس وأرثت العدوات والأحقاد والذى نجم من المحسوبية التى مارستها كل الأحزاب على السواء والذى نجم من فساد الذمم والضمائر حين فشت المحسوبية ولم يعد يقدر أحد بما يشتمل عليه من حق ولا بما يعمل من حق إنما بمقدار قربه من الحزب الحاكم ومقدار انتهازيته ووصوليته .. هذا الفساد أكبر وأخطر من كل " كسب " حصلت عليه الأمة إن كانت قد حصلت على أى كسب على الإطلاق !
وفضلا عن ذلك كله فقد نسيت الأحزاب _ التى نشأت أصلا من " الحركة الوطنية " قضيتها الوطنية ونسيت " الوطن " كله وكل دعاوى " الإصلاح " التى قامت من أجلها .. وانغمست فى " لعبة الحكم " تضع فيها همها كله وجهدها كله .. وتصبح فى النهاية - على اختلاف زعمائها وقادتها - العوبة فى يد الاستعمال ينفذ من خلالها ما يريد !
حقا ! لقد اكتشفت " الجماهير " ذلك كله فيما بعد .. أما فى مبدأ الأمر فقد كانت " اللعبة " تأخذ بالألباب يزيد من تزيينها فى أعين الجماهير غياب القيادة الطبيعية لهذه الأمة المتمثلة فى علماء الدين ..
ومن جانب آخر .. هل قام علماء الدين بتوعية أمتهم فى قضية الإسلام الرئيسية : قضية التوحيد ؟(1/360)
هل قالوا لهم : إن التوحيد الذى أمر الله به وأرسل به رسوله ( وأنزل به كتابه المعظم هو الاعتقاد اليقينى بوحدانية الله فى ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وتقديم الشعائر التعبدية له وحده بلا شريك وتحكيم شريعته وحدها وعدم الاحتكام إلى أى شريعة سواها .. وأن الإخلال بأى واحدة من هذه الثلاثة هو إخلالف بالتوحيد ومن ثم فهو شرك ينقض الإسلام ؟
وهل علموهم أن هذا الدين قول وعمل وأنه لم يتنزل ليكون مجرد وحدان فى القلب أو مجرد شعار تؤدى إنما هو إلى جانب الوجدان والشعائر عمل بمقتضى المنهج الربانى فى واقع الأرض وأول اللعمل تحكيم شريعة الله ؟
هل نبهوهم إلى الانحرافات العقدية التى هم واقعون فيها ودعوهم إلى نبذها ودخلوا فى " جهاد " من أجل تقويمها سواء كانت الانحرافات هى التبرك بالأضرحة والمشايخ والأولياء والتوجه إليهم لجلب النفع ودفع الضر أو كانت هى تحكيم غير شريعة الله أو انت هى الفكر الإرجائى الذى يخرج العمل من مقتضيات الإيمان ؟
هل قام محمد عبده مثلا وتلميذه الشيخ رشيد رضا ببيان التوحيد على هذه الصورة الربانية التى عرفها السلف الصالح من كتاب الله وسنة ر سوله ( وطبقوها فى واقع حياتهم ؟ أم أن الأمر كان على العكس من ذلك : تطويع الأمة " للواقع " المخالف للإسلام على أنه " ضرورة " لا بأس بالأخذ بها وتنويم " العزائم " التى يمكن أن تتجه إلى الجهاد الحقيقى لرد الواقع إلى الإسلام ؟!
محمد عبده يصدر الفتوى بإباحة ربا صندوق البريد ويصدر الفتاوى التى تعين مجلس الشورى القوانين على إصدار القوانين المخالفة للشريعة والشيخ رشيد رضا يدعو المسلمين لطاعة الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله .
قال الشيخ فى فتوى عجيبة تجمع بعض الحقائق الإسلامية الأصيلة الناصعة إلى جانب حشد من المغالطات :(1/361)
" وحكم الله العام المطلق الشامل لما ورد فيه النص ولغيره مما يعلم بالاجتهاد والاستدلال هو العدل . فحيثما وجد العدل فهناك حكم الله كما قال أحد الأعلام (248).
" ولكن متى وحد النص القطعى الثبوت والدلالة لا يجوز العدول عنه إلى غيره إلا إذا عارضه نص آخر اقتضى ترجيحه عليه كنص رفع الحرج فى باب الضرورات " .
" وقد كان مولوى نور الدين مفتى بنجاب من الهند سأل شيخنا الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى (249) عن أسئلة منها مسألة الحكم بالقوانين الإنكليزية فحولها إلى الأستاذ لأجيب عنها كما كان يفعل فى أمثالها أحيانا . وهذا نص جوابى عن مسألة الحكم بالقوانين الإنكليزية فى الهند ( وهو الفتوى الـ 77 من فتاوى المجلد السابع من المنار " :
" الحكم بالقوانين الإنكليزية فى الهند "
( س 77 ) ومنه : أيجوز للمسلم المستخدم عند الإنكليز الحكم بالقوانين الإنجليزية وفيها الحك بغير ما أنزل الله ؟
( ج ) : إن هذا السؤال يتضمن مسائل من أكبر مشكلات هذا العصر كحكم المؤلفين للقوانين وواضعيها لحكوماتهم وحكم الحاكمين بها والفرق بين دار الحرب ودار الإسلام فيها (250) وإننا نرى كثيرين من المسلمين المتدينين يعتقدون أن قضاة المحاكم الأهلية الذين يحكمون بالقانون كفار أخذا بظاهر قوله تعالي : {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} [سورة المائدة 5/44] . ويستلزم الحكم بتكفير القاضى الحاكم بالقانون تكفير الأمراء والسلاطين الواضعين للقوانين فإنهم وإن لم يكونوا ألفوها بمعارفهم فإنها وضعت بإذنهم وهم الذين يولون الحكام ليحكموا بها ويقول الحاكم من هؤلاء : أحكم باسم الأمير فلان لأننى نائب عنه بإذنه ويطلقون على الأمير لفظ ( الشارع ) .(1/362)
" أما ظاهر الآية فلم يقل به أحد من أئمة الفقه المشهورين بل لم يقل به أحد قط فإن ظاهرها يتناول من لم يحكم بما أنزل الله مطلقا سواء حكم بغير ما أنزل الله تعالى أم لا (251) . وهذا لا يكفره أحد من المسلمين حتى الخوارج الذين يكفرون الفساق بالمعاصرى ومنها الحكم بغير ما أنزل الله (252) . واختلف أهل السنة فى الآية فذهب بعضهم إلى أنها خاصة باليهود وهو ما رواه سعيد بن منصور وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : إنما أنزل الله ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون فى اليهود خاصة . وأخرج ابن جرير عن أبى صالح قال : الثلاث الآيات التى فى المائدة {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ}.. الخ : ليس فى أهل الإسلام منها شئ . هى فى الكفار . وذهب بعضهم إلى أن الآية الأولى والتى فيها الحكم بالكفر للمسلمين والثانية التى فيها الحكم بالظلم لليهود والثالثة التى فيها الحكم بالفسق للنصارى وهو ظاهر السياق . وذهب آخرون إلى العموم فيها كلها ويؤيده قوله حذيفة لمن قال إنها كلها فى بنى إسرائيل : نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل إن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة كلا والله لتسلكن سبيلهم قد الشرك . رواه عبد الرزاق وابن جرير والحاكم وصححه . وأول هذا الفريق الآية بتأولين :
" فذهب بعضهم إلى أن الكفر هنا ورد بمعناه اللغوى للتغليظ لا معناه الشرعى الذى هوى الخروج من الملة واستدلوا بما رواه ابن المنذر والحاكم وصححه البيهقى فى السنن عن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال فى الكفر الواقع فى إحدى الآيات الثلاث : إنه ليس بالكفر الذى تذهبون إليه . إنه ليس كفرا ينقل عن الملة . كفر دون كفر (253) .(1/363)
" وذهب بعضهم إلى أن الكفر مشروط بشرط معروف من القواعد العامة وهو أن من لم يحكم بما أنزل الله منكرا له أو راغبا عنه لاعتقاده بأنه ظلم مع علمه بأنه حكم الله أو نحو ذلك مما لا يجامع الإيمان والإذعان (254) . ولعمرى إن الشبهة فى الأمراء الواضعين للقوانين أشد والجواب عنهم أعسر وهذا التأويل فى حقهم لا يظهر (255) وإن العقل ليعسر عليه أن يتصور أن مؤمنا مذعنا لدين الله يعتقد أن كتابه يفرض عليه حكما ثم هو يغيره باختياره ويستبدل به حكما آخر بإرادته إعراضا عنه وتفضيلا لغيره عليه ويعتد مع ذلك بإيمانه وإسلامه (256) والظاهر أن الواجب على المسلمين فى مثل هذا الحال مع مثل هذا الحكم أن يلزموه بإبطال ما وضعه مخالفا لحكم الله ولا يكتفوا بعدم مساندته عليه ومشايعته فيه فإن لم يقدروا فالدار لا تعتبر دار إسلام فيما يظهر (257), وللأحكام فيها حكم آخر . وهنا يجئ سؤال السائل : وقبل الجواب عنه لا بد من ذكر مسألة يشتبه الصواب فيها على كثير من المسلمين وهى :
" إذا غلب العدو على بعض بلاد المسلمين وامتنعت عليهم الهجرة فهل الصواب أن يتركوا له جميع الأحكام ولا يتولوا له عملا أم لا ؟ يظن بعض الناس أن العمل للكافر لا يحل بحال . والظاهر لنا أن المسلم الذى يعتقد أنه لا ينبغى أن يحكم المسلم إلا المسلم وأن جميع الأحكام يجب أن تكون موافقة لشريعته وقائمة على أصولها العادلة ينبغى له أن يسعى فى كل مكان بإقامة ما يستطيع إقامته من هذه الأحكام وأن يحول دون تحكم غير المسلمين بقدر الإمكان وبهذا القصد يجوز له أو يجب عليه أن يقبل العمل فى دار الحرب إلا إذا علم أنه عمل يضر المسلمين ولا ينفعهم بل يكون نفعه محصورا فى غيرهم ومعينا للمتغلب على الإجهاز عليهم . وإذا تولى لهم العمل وكلف الحكم بقوانينهم فماذا يفعل وهو مأمور أن يحكم بما أنزل الله ؟(1/364)
" أقول إن الأحكام المنزلة من عند الله تعالى منها ما يتعلق بالدين نفسه كأحكام العبادات وما فى معناها كالنكاح والطلاق وهى لا تحل مخالفتها بحال ومنها ما يتعلق بأمر الدنيا كالعقوبات والحدود والمعاملات المدنية (258) والمنزل من الله تعالى فى هذه قليل وأكثرها موكول إلى الاجتهاد (259) . وأهم المنزل وأكده الحدود فى العقوبات وسائر العقوبات تعزيز مفوض إلى اجتهاد الحكام والربا فى الحدود المدنية وقد ورد فى السنة النهى عن إقامة الحدود فى أرض العدو وأجاز بعض الأئمة الربا فيها بل مذهب أبى حنيفة أن جميع العقود الفاسدة جائزة فى دار الحرب واستدل له بمناحبة ( مراهنة ) أبى بكر ( رضى الله عنه ) لأبى ابن خلف على أن الروم يغلبون الفرس فى بضع سنين وإجازة النبى ( ذلك وصرحوا بعدم إقامة الحدود فيها روى ذلك عن عمر وأبى الدرداء وحذيفة وغيرهم وبه قال أبو حنيفة . قال فى أعلام الموقعين " وقد نص أحمد وإسحق بن راهوية والأوزاعى وغيرهم من علماء الإسلام على أن الحدود لا تقام فى أرض العدو وذكرها أبو القاسم الخرقى فى مختصره فقال : لا يقام الحد على مسلم فى أرض العدو . وقد أتى بسر بن أرطاة برجل من الغزاة قد سرق مجنة فقال : لولا أن سمعت رسول الله ( يقول " لا تقطع الأيدى فى الغزو لقطعتك " رواه أبو داود وقال أبو محمد المقدسى : هو إجماع الصحابة . روى سعيد بن منصور فى سننه بإسناده عن الأحوص بن حكيم عن أبيه أن عمر كتب إلى الناس ألا يجلدوا أمير جيش ولا سرية ولا رجلا من المسلمين حدا وهو غاز حتى يقطع الدرب قافلا لئ تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار . وعن أبى الدرداء مثل ذلك " ثم ذكر ترك سعد إقامة حد السكر على أبى محجن فى وقعة القادسية وذكر أنه قد يحتج به من يقول لأحد على مسلم فى دار الحرب كما يقول أبو حنيفة ولكنه علله تعليلا آخر ليس هذا محل ذكره . وانظر تعليل عمر تجه يصح فى بلاد الحرب (260).(1/365)
" فعلم مما تقدم أن الأحكام القضائية التى أنزلها الله تعالى قليلة جدا (261) وقد علمت ما قيل فى إقامتها فى دار الحرب لا سيما عند الحنيفة . فإذا كانت الحدود لا تقام هناك (262) فقد عادت أحكام العقوبات كلها إلى التعزيز الذى يفوض إلى اجتهاد الحاكم (263). والأحكام المدنية أولى بذلك لأنها اجتهادية أيضا والنصوص القطعية عن الشارع قليلة حدا وإذا رجعت الأحكام هناك إلى الرأى والاجتهاد فى تحرى العدل (264) والمصلحة (265) وأجزنا للمسلم أن يكون حاكما عند الحربى فى بلاده لأجل مصلحة المسلمين (266). فالذى يظهر أنه لا بأس من الحكم بقانونه لأجل منفعة المسلمين ومصلحتهم (267). فإن كان ذلك القانون ضارا بالمسلمين ظالما لهم فليس له أن يحكم به ولا أن يتولى العمل لواضعه إعانه له (268).(1/366)
وجملة القول أن دار الحرب ليست محلا لإقامة أحكام الإسلام (269) ولذلك تجب الهجرة منها إلا لعذر أو مصلحة للمسلمين يؤمن معها من الفتنة فى الدين . وعلى من أقام أن يخدم المسلمين بقدر طاقته ويقوى أحكام الإسلام بقدر استطاعته (270) ولا وسيلة لتقوية نفوذ الإسلام وحفظ مصلحة المسلمين مثل تقلد أعمال الحكومة (271). ولا سيما إذا كانت الحكومة متساهلة قريبة من العدل بين جميع الأمم والملل كالحكومة الإنجليزية (272). والمعروف أن قوانين هذه الدولة أقرب إلى الشريعة الإسلامية من غيرها لأنها تفوض أكثر الأمور إلى اجتهاد القضاة فمن كان أهلا للقضاء فى الإسلام وتولى القضاء فى الهند بصحة قصد وحسن نية يتيسر له أن يخدم المسلمين خدمة جليلة . وظاهر أن ترك أمثالة من أهل العلم والغيرة للقضاء وغيره من أعمال الحكومة تأثما من العمل بقوانينها يضيع على المسلمين معظم مصالحهم فى دينهم ودنياهم . وما نكب المسلمون فى الهند ونحوها وتأخروا عن الوثنيين إلا بسبب الحرمان من أعمال الحكومة (273). ولنا العبرة فى ذلك بما يجرى عليه الأوربيون فى بلاد المسلمين إذا يتوسلون بكل وسيلة إلى تقلد الأحكام ومنى تقلدوها حافظوا على مصالح أبناء ملتهم وجنسهم حتى كان من أمرهم فى بعض البلاد أن صاروا أصحاب السيادة الحقيقية فيها وصار حكامها الأولون آلات فى أيديهم .(1/367)
" والظاهر مع هذا كله أن قبول المسلم للعمل فى الحكومة الإنكليزية فى الهند ( ومثلها ما هو فى معناها ) وحكمها بقانونها هو رخصة تدخل فى قاعدة ارتكاب أخف الضررين إن لم تكن عزيمة يقصد بها تأييد الإسلام وحفظ مصلحة المسلمين (274). ذلك أن تعد من باب الضرورة التى نفذ بها حكم الإمام الذى فقد أكثر شروط الإمامة والقاضى الذى فقد أهم شروط القضاء ونحو ذلك فجميع حكام المسلمين فى أرض الإسلام اليوم حكام ضرورة (275). وعلم ما تقدم أن من تقلد العمل الحربى لأجل أن يعيش براتبه فهو ليس من أهل هذه الرخصة فضلا عن أن يكون من أصحاب العزيمة . والله أعلم .
" ( تنبيه ) : دار الحرب بلاد غير المسلمين وإن لم يحاربوا (276) . . وكانت القاعدة أن كل من لم تعاهده على السلم يعد محاربا .
حين يكون " علماء الدين " على هذا النحو .. يطوعون الناس للأمر الواقع ويخذلونهم عن اللجهاد الواجب لتغيره ولا يتحركون من جانبهم لينافحو عن حقوق الناس كما بينها الله فى كتابه وفى سنة رسوله ( ولا يقفون للسلطان الجائر يأمرونه وينهونه ليأطروه على الحق أطرا ولو تعرض لهم بالأذى .. فضلا عن كونهم لا يعلمون أمتهم حقيقة التوحيد كما أنزلها الله الشاملة للعقيدة والشعيرة والشريعة ولا يقدمون الرؤية الإسلامية الصحيحة للواقع الذى يعيشه الناس ولا الرؤية الإسلامية الصحيحة للواقع الذى يعيشه الناس ولا الرؤية الإسلامية الصحيحة لطريق الخلاص من ذلك الواقع السيئ الذى يعيشه الناس .
وحين يكن الزعماء العلمانيون _ الذين أبرزهم الاستعمار بعد أن صنعهم على عينه ووضعهم فى مكان القيادة ليشدوا الأمة كلها بعيدا عن الإسلام _ هم _ كما بدوا فى عين الجماهير يومئذ - الذين ينادون " بحقوق الجماهير " ويقفون للسلطان الجائر ويدعون الأمة للخلاص من الواقع السيئ ويرشدونها إلى طريق الحرية والتقدم والحضارة .(1/368)
حين يكون الفريقان على هذا النحو فهل نعجب من التفاف الجماهير حول الزعماء العلمانيين وفتنتهم بهم إلى الحد الذى رأينا نموذجا منه سعد زغلول (277) ؟
وما نقول هذا لنبرر موقف الجماهير .. ولكن لنفسره فحسب .
أما التبرير فلا تبرير للخروج على أمر الله . والله سبحانه وتعالى يقول : {بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)} [سورة القيامة 75/14-15] وكل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله يقصد بها الإسلام (278) فهو مسئول أمام الله عن الحال التى وصل إليها المسلمون وعن السلوك المنحرف الذى وقع فيه المسلمون .
ولكن الناس ليسوا فى المسئولية سواء .. فالحكام أولا والعلماء بعدهم .. وفى النهاية يأتى دور " الجماهير ".
6 ـ استيراد النظم والمبادئ من أوربا
أيا كان الأمر .. وأيا كانت مسئوليات الناس .. فقد صاحب هذا الوضع ظاهرة خطيرة أو قل إن شئت ترتبت عليه نتيجة خطيرة _ أصبحت منذ ذلك الحين جزاء من واقع هذه الأمة هى استيراد النظم والمبادئ _ للمسلمين من عند اعداء الإسلام .
لقد كان الأمر سيئا وخطيرا من كل وجه .
فقد كانت هذه هى المرة الأولى فى حياة الأمة التى تستورد فيها " المبادئ " من خارج الإسلام وتستورد النظم _ السياسية والاقتصادية والاجتماعية - من خارج الإسلام .
لقد احتاجت الأمة من قبل إلى " تنظيمات " إدارية وأشكال من أشكال الحضارة المادية لم تكن فى رصيدها السابق من قبل وكانت محتاجة إليها لتقيم " الدولة " على مستوى الكفاءة اللازم لدولة متنامية القوة تتوسع رقعتها بسرعة خيالية ..
فأخذت تلك التنظيمات وتلك الأشكال من فارس وبيزنطة ولم تجد فى نفسها حرجا من ذلك ولكن تم الأمر على قاعدتين مهمتين .(1/369)
الأولى : أن الأمة لم تشعر بالصغار والانكسار وهى تأخذ ما هى محتاجة إليه من " حضارة " أعدائها بل كانت تحس بالاستعلاء الناشئ من الإيمان {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} [سورة آل 3/139] أى من كونهم مؤمنين وكون أعدائهم غير مؤمنين فالمؤمن هو الأعلى بسبب إيمانه أيا كانت حالة المادية أو العسكرية وغير المؤمن هو الأدنى بسبب كفره وإعراضه عن الهدى الربانى أيا كانت حالته المادية والعسكرية . فهم يشترون هذه " البضاعة " الحضارية ممن يملكها دون أى خضوع روحى له ودون أى إكبار له لأنه لا يستحق الإكبار وهو معرض عن دين الله .
والثانية : أن الأمة فى حركة الأخذ هذه لم تأخذ إلا ما كانت فى حاجة إليه فهى لم تأخذ كل ما كان عند أعدائها من التنظيمات والأشكال المادية من الحضارة إنما أخذت فقط ما شعرت أنها محتاجة إليه من هذه " البضاعة الحضارية " . وأهم من ذلك أنها حين أخذت تلك التنظيمات والأشكال المادية لم تأخذ معها قط المبادئ والنظم التى كانت لاصقة بها عند الذين أخذت عنهم . فقد كانت تلك المبادئ والنظم قائمة على عقائد وتصورات جاهلية لا تصلح للمسلمين ألبتة وليس المسلمون فى حاجة إليها لأن دينهم فيه الغناء عنها بل هم مأمورون أمرا لا يتخذوا شيئا منها وإلا فهى ردة جاهلية لا تستقيم مع الإسلام .
فأما " النظم " السياسية والاقتصادية والاجتماعية فهى متصلة بالتشريع والمسلمون منهيون نهيا جازما عن أخذ التشريع من عند غير الله:
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ (44)} [سورة المائدة 5/44]
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى 42/21](1/370)
{وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [سورة المائدة 5/49]
وأما المبادئ فهى إما موافقة لما جاء من عند الله فالمسلم يتلقاها من المصدر الربانى وحده لا من أى مصدر سواه وإما مخالفة لما جاء من عند الله فالأخذ بها إذن كفر وفسوق وعصيان .
وهكذا لا يأخذ من المسلم من " البضاعة الحضارية " إلا ما يكون محتاجا إليه من الأمور التنظيمية أو الأشكال المادية التى لا تعرض بذاتها منهجا للتصور ولا منهجا للسلوك يخالف عقيدة المسلم ومنهجه الربانى للحياة . أما النظم (279). السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية .. وأما القيم والمبادئ .. فهى " الدين" (280) الذى يتلقاه المسلمن من ربه ولا يتلقاه من مصدر سواه .
أما فى حركة الأخذ الثانية التى تمت فى ظل الخواء الروحى والتخلف العقدى من ناحية وفى ظل الغزو الفكرى من ناحية أخرى وقد تلازما فى الحقيقة لارتباط الأخير بالأول فقد انهارت الحواجز ولم يعد المسلمون " يفرقون بين ما ينبغى أخذه وما ينبغى تركه من " البضاعة الحضارية " الموجودة عند الغرب .
لقد كانوا متخلفين فى كل شئ نعم ولكن الغرب لم يكن ليستطيع إمدادهم بكل ما يحتاجون إليه ليقوموا من عثرتهم . بل كان كثير مما عند الغرب قمينا أن يزيد من عثرتهم كما حدث بالفعل لأنه يعثر الغرب ذاته وإن كان الغرب بسبب قوته المادية الفارهة لا يتأثر بعثراته الأن .(1/371)
لقد كان الغرب يملك تقدما علميا فائقا، وتقدما ماديا هائلا، وعبقرية تنظيمية مبدعة، وروحا من الجلد والصبر على العمل والانتاج، وروحا عملية فى مواجهة المشكلات، سواء من ناحية الدراسة أو من ناحية الدراسة أو من ناحية التنفيذ.. وكان كل هذا لازما لزوما شديدا للمسلمين، لتخلفهم الشديد فى تلك الميادين كلها، بعد أن كانوا أصحاب قدم ثابتة فيها كلها وقت أن كانوا على جادة الإسلام.
وكان الواجب على المسلمين أن يصرفوا جهدهم لتعلم هذه الأمور والتمكن منها، بوصفها حاجة ملحة لا فكاك منها.
وكان عند الغرب فى الوقت ذاته قدر هائل من الفساد الروحى والفكرى والخلقى، لا ينبغى لعاقل أن يأخذه، فضلا عن أن يأخذه مسلم أتم الله نعمته عليه ورضى له الإسلام دينا، وميزه بمنهج حياة مستقيم نظيف متطهر مترفع خال من الدنس وخال من الفساد.
وكان عند الغرب كذلك نظم اقتصادية وسياسية واجتماعية، يختلط فيها الصلاح والفساد، ولكنها بجملتها تشريع بغير ما أنزل الله، قائم على قاعدة غير إسلامية، هى تعبيد البشر بعضهم لبعض بالتشريع بدلا من تعبيدهم لربهم وخالقهم، ومن ثم فقاعدته جاهلية، وإن كان فى بعض جزئياته يلتقى التقاء عارضا ببعض ما جاء من عند الله، كمبدأ الشورى، وبعض الحقوق وبعض الضمانات.. الخ (281) وتلك الأمور المتصلة بالتشريع يأخذها المسلم كما قلنا من التشريع الربانى، ولا يأخذها عن مصدر سواه.
ومن هنا يتحدد الموقف الذى كان على المسلمين أن يقفوه تجاه ما يسمى فى مجموعه " بالحضارة الغربية ".. فكل ما يتصل بالتقدم العلمى، والتقدم المادى، والناحية التنظيمية، وروح الجلد والصبر على العمل، والروح العلمية فى الدراسة والتنفيذ، فليأخذوه وليصرفوا جهدهم فيه. وكل ما عدا ذلك فليتركوه وليحذروه.
أما الذى حدث بالفعل فقد كان غير ذلك.
فأما الأشياء النافعة فقد اتجهوا إليها، ولكن بجهد متقاعس متخاذل متعثر الخطوات.(1/372)
وأما الفساد فقد سارعوا إليه فاستوعبوه كله، وعبوا منه عبا كأنما هو " الزاد ".
وأما النظم فقد سعوا إلى استيرادها وتقليدها ضاربين صفحا تماما عما أنزل الله.
ولذلك كله تفسيره من حال المسلمين يومئذ، وإن كان الإثم لاحقا بهم فى كل حال.
? ? ?
لقد ظنوا فى غفلتهم أن " الحضارة الغربية " كتلة واحدة، وحسبة واحدة، إما أن توخذ كلها وإلا فلا فائدة من أخذ بعضها وترك بعضها الآخر.. كما أوهمهم بذلك دعاة الغزو الفكرى، وسواء من الصليبية واليهودية أو من عملائهما، وسوا من عملائهما العميل المستغفل المأجور (282)! ووجد هذا النداء أذنا صاغية لدى " المسلمين " المستضعفين.
فأما دعاة الغزو الفكرى من الصليبيين واليهود فمصلحتهم واضحة فى إيهام " المسلمين " بذلك الوهم، لأنه أفعل فى استبعادهم، وضمان خضوعهم التام لهم، وضمان إبعادهم بعدا كاملا عن الإسلام، الذى لا يمقتون شيئا مقتهم له، ولا يخافون شيئا خوفهم منه (283). فحين ينسلخ المسلمون انسلاخا كاملا من كل موقمات دينهم، فى عالم التصور وعالم السلوك، فى الأفكار والأخلاق والنظم والعادات، فلن يبقى لهم من شخصيتهم المتميزة شئ، ولن يبقى لهم من القدرة على المقاومة شئ، ويتم إخضاعهم بعامل " العبودية " وهو افعل بكثير وأدوم بكثير من عامل القهر العسكرى الذى يلجأ إليه الاستعمار فى مبدأ الأمر، ولكنه لا يأمن نتائجه دائما لأن مجرد وجوده يستفز المقهورين، ويدفعهم إلى المقاومة حينا بعد حين.. أما إذا استعبد المقهورون من الداخل، بتذويب مقومات شخصيتهم من ناحية، وإشعارهم الدائم أنهم " تبع " لقاهريهم فى كل شئ، فهنا يأمن الاستعمار الصليبى (اليهودى) أكثر، ويحلم ببقاء أطول، ولو خرج كلل عساكره من الأرض المحتلة (284).(1/373)
أما العملاء فمنهم من باع نفسه للشيطان لقاء الأجر الذى يحصل عليه، سواء كان الأجر سلطانا فى الأرض، أو شهرة وذيوع صيت، أو مالا حراما، أو شهوات دنسة فهو يقوم " بالمطلوب " منه، والمطلوب هو استعباد المسلمين لقاهريهم من الصليبيين واليهود، ومن أفعل الوسائل إيهامهم أن عليهم أن يأخذوا الحضارة الغربية بخيرها وشرها وحلوها ومرها كما قال طه حسين، ومنهم " النظيف " الذى لا يتناول أجرا على عمله، ولكنه مهزوم داخليا، فهو ينطلق من هذه الهزيمة، يحسب فى غفلة القهر الداخلى أنه بدعوته إلى تقليد الغرب يقدم للمسلمين طريق الخلاص مما هم فيه. وفى النهاية يستوى العملي المستغفل والعميل المأجور فى تمكين السادة " من استعباد العبيد.
وأما المستضعفون فقد وجدت منهم الدعوى أذنا صاغية من جهتين اثنتين: الأولى ميل المغلوب إلى تقليد الغالب، وهو أمر مشهور فى التاريخ، والثانية أن التقليد أسهل على المغلوب المستضعف، لأنه يوفر عليه عناء " الاختيار " ولأن الانتقاء والاختيار لا يقوم به فى الحقيقة " العبد " المستضعف، إنما يقوم به " السيد " صاحب الإرادة الحرة، والقدرة على التمييز قبل القدرة على الاختيار.
لقد كانت الكارية كامنة فى قلوب: المسلمين أنفسهم.. من التخلف العقدى والخواء الروحى.. فلم يتحقق فيهم ما أمرهم به الله:
{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} [سورة آل 3/139]
? ? ?(1/374)
لقد كانت دعمى " أخذ الحضارة الغربية بخيرها وشرها وحلوها ومرها " دعوى باطلة من أساسها فالتقدم العلمى لا علاقة له بداهة بالفساد الخلقى ولا يقول عاقل فى الأرض كلها إنه لابد للإنسان خلقيا لكى يتقدم علميا إنما كان منشأ هذا الانحراف الفكرى فى أوربا عوامل خاصة هناك، فقد وقفت الكنيسة هناك وقفة حمقاء ضد العلم، فلم يكن ثم مناص من تنحية قبضة الكنيسة عن الحياة كلها لكى يأخذ التقدم العلمى مجراه، وأخذ التقدم العلمى مجراه بالفعل حين رفع عن كاهل الناس سلطان الكنيسة، ودينها الجاهلى الزائف الذى كانت تستعبد به الناس، ولكن أوربا خسرت فى مقابل ذلك كيانها الإنسانى حين نبذت العقيدة فى الله، وخسرت أخلاقها حين قطعت صلتها بالدين، ونبتت فى رأسها الأفكار الحيوانية عن الإنسان وقيمه، وسلوكه، وأهدافه.. فأصابها من جراء ذلك شر عظيم، ورأى العقلاء منهم نذره منذ وقت مبكر، ورأى غيرهم آثاره حين وقعت بالفعل، وصاروا يبحثون لأنفسهم ولشعوبهم عن " طريق الخلاص ".
ووقع التمكين فى الآرض لأوربا وهى على هذه الحال من الانتكاس الإنسانى والخلقى، بمقتضى إحدى السنن الربانية التى يجريها الله فى عباده.
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [سورة الأنعام 6/44]
كما كان التمكين يجرى بحسب سنة أخرى فى ذات الوقت (ولا تعارض بين سنن الله، إنما تجرى مترابطة فى نظام محكم).
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)} [سورة هود 11/15-16](1/375)
وهكذا أصبحوا ممكنين فى الأرض رغم فسادهم، لا بسبب فسادهم وإنما تحقق التمكين لهم بالجهد الإيجابى الذى يبذلونه لتمكين أنفسهم، فيعطيهم الله ثمرته فى الأرض - إلى حين - حسب سنته، ثم يدمر عليهم - فى النهاية - حسب سنته كذلك لأنهم غير مستقيمين على طريقه.
تلك هى قصة أوربا..
أما التلازم بين التقدم العلمى والمادى، وبين الإنسلاخ من الدين والانسلاخ من الأخلاق، فأكذوبة ضخمة لم يكن لها وجود إلا فى نفوس العبيد، الذين استعبدهم الغزو الفكرى، وأنساهم ربهم، فأ،ساهم أنفسهم.
{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (19)} [سورة الحشر 59/19]
ومن هنا فإن تيار التغريب، الذى يدعو لإصلاح الحال على منهج الغرب، راح يحاول تقليد أوربا فى كل شئ، فانزلقت قدمه فى الفساد قبل أن يحاول تثبيتها بالتقدم العلمى والتقدم المادى ومن هنا سار التقدم العلمى والمادى بطيئا متعثر الخطوات، لا كما كان يرجوه المخلصون ولا كما كان يمكن أن يحدث لو أن الأمة تجمعت بعزمها كله لإحراز ذلك التقدم، دون الانغماس فى الفساد الخلقى الذى يصرف عن جديات الأمور، كما فعلت اليابان حين قررت أن تنهض، فأخذت علم الغرب كله - ثم تفوقت عليه فى بعض الأمور - دون أن تغير تقاليدها ولا عقائدها، وهى عقائد وثنية جاهلية (285)، وقد كان " المسلمون " أولى بذلك لولا التخلف العقدى والخواء الروحى الذى كانوا غارقين فيه.
وخلاصة الأمر أن التخلف العلمى والمادى ظل باقيا على نطاق واسع رغم كل " الجهود " التى بذلت. وإن الفساد الخلقى والتحلل الدينى اكتسح العالم الإسلامى بحيث أصبح هو السمة البارزة فيه. ثم أضيف إلى الأمرين معا استيراد النظم والمبادئ من أوربا، وصيرورة ذلك جزاء من حياة الأمة ومن واقعها، لا تتحرج منه ولا تتأثم، ولا ترى فيه أية مخالفة " للدين "، ولا خروج على الإسلام.(1/376)
وقد كان الوصول بالأمة إلى هذا الحال فى حاجة إلى زحزحة هائلة للأمة عن نقطة ارتكازها الطبيعية وهى الإسلام حتى تصبح نقطة الارتكاز هى أوربا والحضارة الأوربية، وليس الإسلام.
ولقد بدأت الزحزحة مبكرة كما قلنا من أيام رفاعة رافع الطهطاوى، أول " زعيم للإصلاح فى مصر "الحديثة ".
وتوالت الجهود.. جهود الشياطين.. على مدى ما يقرب من قرنين من الزمان، بلا هوادة، ولا توقف، ولا تراجع، بل بعنف متزايد على الدوام.
ولكن الجهود اتخذت صورتين مختلفتين، على فترتين متميزتين من الزمن، وإن كانت الفترة الثانية قد اتكأت كثيرا على الأولى، ولم تكن لتعمل عملها لو لم تكن الأولى قد مهدت لها فى واقع الحياة وواقع النفوس.
تمتد الأولى بصفة عامة إلى الحرب العالمية الثانية، حيث كانت السيطرة الصليبية (اليهودية) فى يد بريطانيا وفرنسا، وهما اللتان تقومان - أساسا - بمحاربة الإسلام، وزحزحة الأمة الإسلامية عنه. وتبدأ الفترة الثانية من بعيد الحرب العالمية الثانية، حيث انتقلت السيطرة الصليبية (اليهودية) إلى أمريكا، وتولت هى - أساسا - حرب الإسلام وإن كانت حرب الإسلام - دائما - جهدا مشتركا بين كل أعدائه، يقوم كل منهم بنصيبه فيه.
فى الفترة الأولى كانت اللعبة هى " الوطنية " من جهة، والديمقراطية " من جهة أخرى، والذى يقوم باللعبة هو الأحزاب السياسية التى صنعها الغرب لتخدم أهدافه بعملية " التغريب " وعملية " التقريب ".(1/377)
فى هذه الفترة لم يكن الإسلام يحارب حربا دموية عنيفة (إلا قرب نهايتها كما سنبين فى الفصل القادم) إنما كانت الحرب تتخذ صورة الزحزحة البطيئة (الأكيدة المفعول) عن طريق الغزو الفكرى، وعن طريق مناهج التعليم ووسائل الإعلام، وعن طرق إخراج المرأة إلى الشارع وإفساد أخلاقها وتحويلها إلى " فتة " لنفسها وللرجل، وعن طريق إيجاد مؤسسات سياسية لا تحكم بما أنزل الله، وإعطائها ثقل " الأمر الواقع، والزعم بأنها هى الصورة الوحيدة الممكنة.. إلخ.. الخ.. مما فصلناه فيما سلف من هذا الفصل.
ففى تلك الفترة عنى المخططون بعدم مهاجمة الدين هجوما صريحا مباشرا وإن هوجم تحت ستار محاربة " التقاليد " العتيقة البالية ولكن فى ذات الوقت يقلص الإسلام تقليصا تدريجيا متزايدا حتى يخرج تماما من الحياة الواقعية، ويصبح وجدانا فى داخل الضمير.
حين نحيت الشريعة الإسلامية عن الحكم، وهاجت الخواطر، وقال المسلمون، بحق إن هذا كفر، قيل للناس لا بأس عليكم من تنحية الشريعة الإسلامية (فهذا اجتهاد لجأ إليه الحاكم) (286) ولكنكم ما زلتم مسلمين، ما دمتم تصلون وتصومون، وتزكون وتحجون.
ثم سلط على الأمة من الوسائل الشيطانية - عن طريق قضية المرأة وما تبعها من الفساد الخلقى، وعن طريق السينما الخليعة والإذاعة الخليعة والشواطئ العارية والصحافة العارية، الخ - ما يصرف الناس تدريجيا عن الصلاة والصوم والزكاة والحج، ثم قيل للناس لا بأس عليكم وإن لم تصلوا وإن لم تصوموا. فأنتم مسلمون ما دمتم تقولون لا إله إلا الله.
ولكن يتم إيهام الناس أنهم مازلوا مسلمين، وهم لا يحكمون شريعة الله، وهم لا يؤدون الشعائر التعبدية.. كان لابد من جهة: فكرى " لتحول الإسلام عن حقيقته، وتحويله إلى المفهوم الكنسى الغربى، علاقة بين العبد والرب، لا صلة لها بواقع الحياة.(1/378)
واعتمد القائمون بالجهد - ولا شك - اعتمادا كبيرا على الفكر الإرجائى، الذى كان يقول إن الإيمان هو التصديق، أو هو التصديق والإقرار، وإن العمل ليس داخلا فى مسمى الإيمان، وإنه لا يضر مع الإيمان شئ.
ولكن لا يجوز لنا أن ننسى أن الفكر الإرجائى فى أحط دركاته قبل الغزو الصليبى والغزو الفكرى لم يكن قد وصل قط إلى تنحية شريعة الله ولا إسقاط الصلاة، لأن المسلمين على كل ضعفهم وكل تفلتهم لم يكونوا يرون لأنفسهم وجودا إسلاميا بغير تطبيق الشريعة الربانية وبغير أداء الصلاة.
ولكن المنزلق كان قائما على أى حال.. وكان " المسلمون " قمينين أن يهبطوا عليه إذا دفعهم إليه " دافع " وقد جاء الغزو الصليبى والغزو الفكرى فقاما بالدفعة المطلوبة فهوى المسلمون على المنزلق يصاحبهم الفكر الإرجائى على طول الطريق.
كانت البداية على يد " أستاذ الجيل " فقد ظل يكرر فى جريدته أن الدين شئ سام نبيل، ولكن محله القلب، ولا ينبغى خلطه بالسياسة، لأن السياسة دنسه، ولا يجوز تلويث الدين بدنس السياسة.
وجاء محمد عبده يقول: لعن الله ساس ويسوس وسياسة (287)...!!
ثم جاء سعد زغلول يقول: الدين لله، والوطن للجميع.
وظل الدين يزحزح ويقلص حتى انتهى تماما عند " المثقفين " إلى المفهوم الغربى الكنسى للدين. علاقة بين العبد والرب، محلها القلب، ولا صلة لها بواقع الحياة.. حتى أصبح يقال: ما للدين والسياسة؟ ما للدين والاقتصاد؟ وما للدين وقضايا المجتمع؟ وما للدين وملابس المرأة؟ ما للدين وعمل المرأة؟ ما للدين.. وأى شئ فى هذه الحياة؟.
ويستدل دائما بما حدث فى أوربا.
فحين كان " رجال الدين " هناك يتدخلون فى كل هذه الأمور كانت الحياة فاسدة، وكان الظلم والظلام يخيمان على أوربا، وذلك فى العصور الوسطى المظلمة فلما كف رجال الدين عن التدخل فى شئون الحياة الواقعية، اعتدل الحال، وتقدمت أوربا، وجاءت الثمار الجنية، ثمار الحضارة والتقدم والرقى.(1/379)
ولكى تتم المقارنة جعل فى الإسلام كذلك رجال دين ثم قيل للناس: القضية واحدة إما أن تكفو " رجال الدين " عن التدخل فى السياسة والاقتصاد والاجتماع وقضايا المرأة وغيرها من الشئون، وإما أن نظل فى جو العصور الوسطى المظلمة ولن نتقدم ونتحضر حتى تحصروا الدين فى مهمته السامية: تهذيب المشاعر وترقيق الوجدان، وتكفوا " رجال الدين " عن التدخل: فيما لا يعنيهم " من أمور الحياة.
وفى هذا الموقف من قبل " المثقفين " يتجمع السم كله الذى وضعه الاستعمار الصليبى لإبعاد المسلمين عن الإسلام.. منهج دنلوب فى تحقير اللغة العربية ومدرسها، ومدرس الدين، والأزهر كله، وإبعاده عن مركز الصدارة، ووضعه فى زوايا الإهمال، بحيث يصبح تدخله فى أى أمر من أمور المجتمع تدخلا " فيما لا يعنيه " ومنهج الصحافة فى جعل الدين أمرا موسميا، يلتفت إليه فى مناسبات معينة خلال العام، ويصرف النظر عنه بقية العام، فلا يستمع إليه إذا تكلم فى غير تلك المناسبات المحدودة، لأنه يتكلم فى غير موضوعه المخصص له والتغريب.. وشبهات المستشرقين.. والزعماء العلمانيون فى الأدب والفكر، والسياسة والاجتماع.. ولى الأعناق إلى أوربا واعتبار كل ما حدث فيها هو الأمر الصواب الذى ينبغى أن يحدث فى كل مكان.
? ? ?
ومهما يكن من أمر فقد ظلت الحرب الصليبية اليهودية ضد الإسلام تتخذ هذه الصورة من الزحزحة المستمرة البطيئة الأكيدة المفعول، حتى فوجئت بالصحوة الإسلامية على غير انتظار.
ولن نتحدث هنا عن الصحوة الإسلامية، فقد تركنا الحديث عنها إلى الفصل القادم.. ولكنا نقول هنا ونحن نتتبع الأحداث إنه عند نقطة معينة، سنتناولها بالحديث فى الفصل القادم، تفجر الصراع، وختمت بريطانيا وجودها بصراع دموى مع الحركة الإسلامية قتل فيه الإمام الشهيد حسن البنا بأيد " مسلمة. تعمل بأمر الاستعمار الصليبى اليهودى، وتنفذ له رغباته فى خنق الحركة الإسلامية قبل أن يشتد خطرها، ويتسع الخرق على الراقع.(1/380)
ثم جاءت أمريكا لتزيل " الاستعمار القديم " وتأخذ هى مكانة فى المنطقة الإسلامية، وتتسلم بدلا منه راية الحرب الصليبية اليهودية ضد الإسلام.
وتميز عهدها بتغييرات جذرية فى اللعبة السياسية.
فقد استخدمت لحرب الإسلام فى المنطقة العربية بالذات عنصرين جديدة تماما، لا عهد للمنطقة بهما: أولهما الانقلابات العسكرية، وثانيهما الاشتراكية.
? ? ?
الانقلابات العسكرية
واستخدام الاشتراكية لحرب الإسلام
لم تكن تجربة الانقلابات العسكرية فى حرب الإسلام جديدة تماما بالنسبة للاعبين الجدد فى المنطقة. فقد سبقتها التجربة التركية على يد أتاتورك، وكان المدبر الحقيقى لها هو اليهودية العالمية، لإزالة الدولة الإسلامية التى ترفض - بإصرار إعطاء اليهود وطنا قوميا فى فلسطين وسواء كان أتاتورك نفسه من يهود الدونما المتمسلمين، الذين كانوا العنصر الفعال فى إزالة الخلافة أو كان من غيرهم (فالمعروف حتى الآن فقط أنه مجهول الأب، وأن " أجمد رضا " الذى ينسب إليه هو زوج أمه وليس أباه) (288) سواء كان هذا أو ذاكفقد قام بالدور المطلوب تماما، فلم يكتف بإزالة دولة الخلافة - العقبة القائمة يومئذ فى وجه إقامة الدولة اليهودية فى فلسطين بل نكل بالمسلمين تنكيلا وحشيا فقتل منهم عشرات الألوف، من علماء الدين ومن المتمسكين بالدين عامة، وألغى الحروف العربةي وأمر بكتابة اللغة التركية بالحروف اللاتينية ليفصل الأجيال الحديثة عن تراثها الإسلامى فصلا كاملا، ومنع الأذان باللغة العربية، وألزم الناس بلبس القبعة لكى يصعب عليهم الصلاة، وأمر بإزالة الحجاب المرأة المسلمة، وألغى كل أثر للدين فى واقع الحياة، بدءا بالشريعة الإسلامية والمحاكم.. ومرورا بكل شئ يخطر على البال (1/381)
كانت تلك التجربة فى الحقيقة هى " الرصيد " الذى رجعت إليه الصليبية الصهيونية وهى تخطط لحرب الإسلام فى المنطقة، والذى أقامت على منواله " أتاتورك " آخر، هو جمال عبد الناصر، ليقوم بنفس الدور.. ولنفس الأهداف.. وإن اختلفت الوسائل بعض الشئ ما بين أتاتورك الأول، وأتوتورك الجديد.
تميز هذا العهد بالعنف الإجرامى فى محاولة القضاء على الحركة الإسلامية، والمذابح الوحشية، وفنون التعذيب البربرية التى تعرض لها المسلمون بالجملة، مما لا مثيل له فى التاريخ كله، إلا ما حدث من محاكم التفتيش فى الأندلس للقضاء النهائى على الإسلام هناك , وقد كان اختيار " العساكر " حكام فى المنطقة مقصودا لهذا الأمر بالذات، قبل أى شئ آخر، كما كان المقصود منه كذلك إخضاع شعوب المنطقة بالقوة الإرهابية لتقبل الصلح مع إسرائيل.
ولا نتعجل الحديث... (289)
إنما يهمنا هنا أن نشير بكلمة إلى استخدام " الاشتراكية " فى حرب الإسلام.
يظن كثيرون من " الطيبين " أن الاشتراكية التى استخدمت فى المنطقة كانت واردة من روسيا، ويستدلون على ذلك بلا شك بالتوغل الذى توغلته روسيا فى المنطقة فى وقت من الأوقات.
وقد كانت " اللعبة " متقنة فى الحقيقة لتؤدى إلى هذا الاعتقاد عند الناس. لأمر يراد.
هناك كتاب كان مقررا على طلبة البكالوريوس فى كلية التجارة بجامعة القاهرة فترة من الوقت، يحمل عنوان " مراحل التنمية الاقتصادية فى البلاد المتخلفة " من تأليف " والت روستو " وهو أحد أخوين يهوديين يعملان فى البيت الأبيض الأمريكى (290) يقول فيه ما خلاصته:(1/382)
إن المنطقة (يقصد ما يسمى بمنطقة الشرق الأوسط) (291) معرضة للشيوعية، بسبب فساد الحكم فيها، والفوارق الضخمة بين الطبقات، وانخفاض مستوى الدخل، ولابد لعلاج هذا الأمر من رفع مستوى المعيشة، وتقريب فوارق الطبقات، وإزالة الفساد الضارب أطنابه فى الحكم. ولا يمكن رفع الدخل القوى إلا عن طريق التصنيع الثقيل. ولكن التصنيع الثقيل فى البلاد المتخلفة لا يمكن أن يقوم به رأس المال الفردى. لأنه لا يحقق أرباحا سريعة، وقد يظل يحقق خسائر لمدة عشر سنوات أخو خمس عشرة سنة، مما لا يحتمله رأس المال الفردى. لذلك ينبغى أن تقوم به الدولة، وذلك بإنشاء قطاع عام يظل يتسع تدريجيا حتى يحتوى القطاع الخاص فى داخله. ولابد فى ذات الوقت من إنشاء زعامات محلية قوية تلتف حولها الجماهير لكى لا تتجه ببصرها إلى روسيا. وبعد أن يرتفع الدخل القومى، وتقرب فوارق الطبقات، يمكن الرجوع إلى نشاط رأس المال الفردى الحر مرة أخرى، بينما تكون شعوب المنطقة قد كرهت الشيوعية تحت وطأة التجربة الاشتراكية المخففة.
هل بقى شئ من الصورة يختلف عن الواقع الذى طبق بالفعل.
نعم هناك شئ واحد لم يكن فى بال " والت روستو " وهو يصدر الاشتراكية إلى شعوب المنطقة من داخل البيت الأبيض لأنه لم يكن يعيش فى المنطقة، وكان يتصور الأمور من وراء مكتبه لا من المشاهد " الميدانية ".
لقد جاء " التأميم " إلى مصر فى الوقت الذى كان " الموظف " يحسب نفسه قد أدى كل واجبه الذى يستحق راتبه عليه، إذا هو حضر فى الميعاد أو بعده بقليل، وانصرف فى الميعاد أو قبله بقليل، وشرب فنجان القهوة وقرأ جريد ة الصباح أما العمل فليس داخلا فى استحقاق الراتب (292)، إنما إذا كان ولابد يكون عليه أجر إضافى.(1/383)
وبينما الحال هكذا أممت المصانع الحيوية والمؤسسات، فتحول من فيها من العمال بين يوم وليلة إلى " موظفين " فى الدولة، على ذات النسق الذى كان قائما فى دواوين الحكومة من قبل فضلا عما يحدث فى الاشتراكية دائما من وجود طبقة من العاملين لا تعمل فى الحقيقة، إنما ينصرف همها إلى التقرب إلى " المباحث " و " المخابرات " بالتجسس على إخوانهم وكتابة " التقارير ".
وهكذا لم يرتفع الدخل القومى بالتجربة الاشتراكية، ولم يصلح الفساد، بل انهار الاقتصاد انهيارا حادا وصل أكثر من مرة إلى حافة الإفلاس وعولج فى كل مرة بالقروض التى تؤدى فى النهاية إلى مزيد من الانهيار.
المهم لدينا - فى سياقنا هذا - أن " التحول الاشتراكى العظيم " كان توجيها من البيت الأبيض، ولم يكن توجها حقيقيا إلى الاشتراكية، ولكن بقى إيضاح آخر لا تتم الصورة إلا به..
لم يكن الهدف الوحيد ولا الهدف الأول - للاشتراكية هو تكريه شعوب المنطقة فى الشيوعية على ضوء التجربة الاشتراكية المخففة!
لقد كان لها هدف أخطر من ذلك بكثير.. وهو حرب الإسلام!
إن الغرب لا يملك فى وقته الحاضر من وسائل حرب الإسلام إلا الفساد الخلقى.. (293) ولكن الاشتراكية تملك!
إنها توهم الناس بأنها " عقيدة ".. و " للعقيدة " دائما سحر فى نفوس الناس ولو كانت باطلة.. ففى النفس البرية كما فطرها الله ميل فطرى إلى " الاعتقاد " وفى حالة الفطرة السوية يتجه هذا الميل الفطرى إلى الإله الحق، فاطر السماوات والأرض وخالق الإنسان:
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [سورة الأعراف 7/172]
ولكن حين تفسد الفطرة يتجه " الاعتقاد " إلى غير الله، معه أو من دونه فيقع الناس فى الشرك:
" إنى خلقت عبادى حنفاء كلهم فاجتالتهم الشياطين " (294).(1/384)
والاشتراكية تقول للناس بلسان الحال أو بسان المقال: اتركوا عقيدتكم وخذوا هذه " العقيدة " فهى العقيدة الصحيحة.
والاشتراكية فوق لك تبدو للناس - وللشباب خاصة - ذات هدف جاد يستحق أن يعاش من أجله وأن يعمل من اجله، بينما تميع الغرب وتفكك وانحل، فلم يعد له هدف جاد يحيا من أجله غير الإنتاج المادى، وهو هدف لا يشبع النفوس ولو كانت منتكسة كنفوس الناس فى هذه الجاهلية (وهذا الذى يجعل الشيوعية تخايل الشباب فى غرب أوربا وفى أمريكا رغم الوضع الاقتصادى المعقول الذى يعيش فيه الفرد العادى هناك، والذى يخسره حين تحكم الاشتراكية!!)
ومن أجل ذلك تملك الاشتراكية فى مجال حرب الإسلام أكثر مما يمللك الغرب الفاسد المتميع المنحل! فضلا عن كون " الاشتراكيين " بحكم تكوينهم الفكرى المعادى للدين أعنف وأوقح فى مهاجمة الإسلام!
ومن أجل ذلك يوضعون فى منطقة النفوذ الأمريكى فى مجالات التوجيه الفكرى: فى الصحافة والإذاعة والسينما والتليفزيون والمسرح والكتاب، ليقوموا - من هذه المجالات كلها - بمحاربة الإسلام!
وهنا يبدو " إلإشكال " فى " اللعبة " يحتاج إلى إيضاح.
كيف يتصور أن أمريكا تستخدم عدوتها اللدود فى منطقة نفوذها بمحض رغبتها، بل بتوجيهها وأمرها لعملائها فى منطقة نفوذها؟
وكيف يتصور من جانب آخر أن تدخل روسيا فى اللعبة إذا كان القياد ليس لها، والمصلحة الأخيرة المتحققة ليست لها ولكن لغريمتها أمريكا؟!
أما أنه فى منطق العقل إشكال.. فنعم!
أما فى نمنطق السياسة فهوى يجرى ببساطة تامة، ويمثل معلما بارزا من معالم هذه الحقبة التاريخية التى تعيشها المنطقة الإسلامية، وتدور بها الدوامات السياسية العالمية، وهى غثاء كغثاء السيل، لا يملك نفسه عن الدوران، ولا يختار حتى المكان الذى يدور فيه!
أما من ناحية أمريكا فخذ هذه الواقعة:(1/385)
تركيا من مناطق النفوذ الأمريكية التى لا شك فيها. وفى وقت من الأوقات أحست أمريكا بوجود حركة إسلامية بدأت تظهر فى وسط الشباب، فقامت بانقلاب عسكرى لقمع الحركة الإسلامية، على عادتها فى تكليف الإنقلابات العسكرية بهذه المهمة فى المنطقة. ولكن الحرب القبرصية التى قامت سنة 1964 أشعلت الروح الإسلامية فى الجيش ذاته! وذلك حين أحاطت الدبابات اليونانية بالقرى الإسلامية وحاصرتها، ومنعت عنها الطعام والماء والدواء، فانتشرت الأوبئة فيها، فتحرك الجيش التركى بروح إسلامية لضد الهجمات الصليبية!
عندئذ أسقط فى يد أمريكا.. " فالعسكر " هم أداتها المفضلة لقمع الحركات الإسلامية. فإذا سرى الإسلام فى الجيش ذاته فما العمل؟ عندئذ أصدرت أمريكا أوامرها للحكومة التركية بإطلاق نشاط الحزب الشيوعى التركى بعد أن كان محظورا النشاط، لتستعين لصد الإسلام!! وتذكر الصحف الصادرة وقتئذ أن بعض الوزراء وافقوا على هذا الأمر ورفضه آخرون، فأمر المعارضون بتقديم استقالاتهم!
وأما من ناحية روسيا فخذ هذه الواقعة:
فى الحرب " الأيديولوجية " التى قامت بين الصين وروسيا فى الستينيات من هذا القرن الميلادى (295)، تبادلت الصين الاتهامات مع روسيا، وكان من أشد ما اتهمت الصين به روسيا أنها خانت المبادئ الليننينة الستالينية، وصارت تقدم مساعدات لحكومات تدور فى فلك أمريكا كحكومة مصر، وبعض الحكومات الأخرى فى المنطقة. وردت روسيا بأنها لا تجهل أن هذه الحكومات تدور فى فلك أمريكا، ولكنها ترى أن وجودها فى داخل تلك البلاد خير لها من أن تكون واقفة فى الخارج، تتفرج من بعيد!(1/386)
وهكذا تتم اللعبة.. أمريكا تستخدم نشاط الشيوعيين فى منطقة نفوذها لمحاربة الإسلام وتضع فى أيديهم وسائل الإعلام ليقوموا لها بتلك المهمة، بشرط ألا يخروجوا على حدود اللعبة، ولا يتسلموا " السلطة " فى المنطقة.. فإا اغتروا بأنفسهم، وظنوا أنهم قوة حقيقية، وأقامو انقلابا شيوعيا، تذبحهم أمريكا ذبحا كما صنعت فى أندونيسيا عام 1965 وفى السودان عام 1970 م. وهما المرتان اللتان تجاوز فيهما الشيوعيون حدود اللعبة المتفق عليها! أما فى غير ذلك فهم يعملون - بإذن أمريكا، بل بتوجيهها - لمحاربة الإسلام. وروسيا ترضى بدورها الثانوى فى اللعبة لأن هذه ليست منطقة نفوذها الأصلية، المتفق عليها فى توزيع مناطق النفوذ بينها وبين أمريكا (296) إنما هذا " النشاط إضافى " تقوم به روسيا لصالح المعسكرين معا، إذ الإسلام هو العدو المشترك لكلا المعسكرين، وأى جهد يقوم به أحد المعسكرين فى هذا السبيل يغطيه المعسكر الآخر ويباركه، كما قامت روسيا (بالاتفاق مع الهند) بتفتيت وحدة باكستان لحساب أمريكا (ولحسابها الخاص أيضا) وكما تقوم حاليا بمحاربة الإسلام فى أفغانستان بضراوة وحشية لحسابها (ولحساب أمريكا فى ذات الوقت) (297).
وليس يعنينا من أمر هذه اللعبة فى الحقيقة أن نتتبع لحساب من تتم.. فهى فى جميع الأحوال تتم لحساب أعداء الإسلام يتصارعون فيما بينهم صراعا شديدا على مصالح كل منهم الخاصة، ولكنهم بالنسبة للإسلام ينسون صراعاتهم، وينسون عداواتهم، ويقفون صفا واحدا لمحاربته ومحاولة القضاء عليه.
إنما الذى يعنينا فى تتبع وسائل الكيد الذى يكيد به الأعداء للإسلام، أنه فى " المرحلة الاشتراكية " كان الهجوم على الإسلام أشد، وأوقح، وأوسع دائرة مما كان فى المرحلة السابقة.(1/387)
أما من ناحية الشدة فقد صار الدين يهاجم جهرة بعد أن كان الهجوم فى المرحلة السابقة ملفوفا، يأخذ صورة مهاجمة " التقاليد " لا مهاجمة الدين فى ذاته. وصار الدين هو " الرجعية " التى ينبغى القضاء عليها، بعد أن كانت الرجعية فى المرحلة السابقة هى " أفكار " رجال الدين المتزمتين، التى ينسجونها من عند انفسهم ويلصقونها بالدين!
أما الوقاحة فربما يكفى فيها هذه النماذج الثلاثة:
كتب محمد حسنين هيكل - وهو أمريكى ولكن " الفترة الاشتراكية " جرأته على الهجوم على السافر على الإسلام - إن التقدم التكنولوجى قد أحال أكثر الكتب (المنزلة) قداسة إلى أوراق صفراء تحفظ فى المتحف!
وكتب أحد الشيوعيين (لم يذك اسمه) بمناسبة الخير المزعوم الذى كان سيفيض على البلاد من جراء السد العالى: إن هذه الصحراء قد بقيت فى يد " الله " " ملايين السنين فظلت كما هى صحراء جرداء. لما تسلمها " الإنسان " حولها إلى مروج خضراء!
ورسم صلاح جاهين (رسام " الكاريكاتير " المعروف) صورة هزلية فى جريدة الأهرام رسم فيها رجلا بدويا (يرمز إلي رسول الله () يركب حمارا فى وضع مقلوب (أى رأس الحمار فى اتجاه ووجه الرجل فى الاتجاه المضاد رمزا " للرجعية ") وفى أرضية الصورة ديك وتسع دجاجات، وعنوان الرسم: " محمد أفندى جوز التسعة) وهو هجوم سافر على شخص رسول الله ( وزوجاته التسع، لم يسبق له مثيل فى أية صحافة " إسلامية! " على الإطلاق، بل لعل الصحف الصليبية ذاتها لا تتوقح هذه الوقاحة.(1/388)
وأما اتساع الدائرة فمنشؤه أن الشيوعية - فى حربها الشديدة للدين - أطلقت مجموعة من الدعاوى العريضة، أدخلتها فى صل " النظرية " أو " الفلسفة " الشيوعية بخصوص الدين، لتسخفه وتسخر منه على جميع الأصعدة وفى جميع المجالات، لعلها تستطيع القضاء عليه بعد تشويه صورته وتنفير الناس منه، والشيوعيون " العرب! " يستخدمون ذات الدعاوى - حذو القذة بالقذة فى حربهم للإسلام، مستخدمين " المادية الديالكتية " و " المادية التاريخية " للتدليل - تدليلا علميا!!، على سخف الدين فى ذاته، وانتهاء دوره فى حياة البشرية، ورجعية معتنقية، وكون عجلة التطور " الحتمى " ستسحقهم سحقا وتطهر منهم الأرض!! (298)
ومن هنا أخذت مهاجمة الإسلام على يد الاشتراكيين بعدا فكريا وبعد اجتماعيا وبعدا سياسيا فى وقت واحد، منطلقا كله من محور واحد: محور " التطور " الذى أصبح الدين بمقتضاه رجعية: رجعية فكرية ورجعية اجتماعية ورجعية سياسية ينبغى سحقها والقضاء عليها.. هكذا.. لوجه الشيطان!!
ولم تعد القضية أن الإسلام يحوى " بعض " الأفكار أو " بعض " الأحكام " أو " بعض " المواقف التى لا يرضى عنها " التقدميون " كما كان الحال من قبل إنما صارت القضية هى " الدين " ذاته، وضرورة نيه من الوجود نفيا، ونسفه من القلوب نسفا، وإبادة معتنقيه كلما أمكن، و " تحرير " كل من أمكن تحريره ولك ما أمكن تحريره من الدين.
ومن هنا وقع " التحالف " بين الاشتراكيين وبين عبد الناصر، وأيدوه وعضدره وهو يذبح المسلمين ويحارب الإسلام لأنه وهو يقوم بهذه الأعمال لحساب أمريكا ـ يخدم مصلحتهم الخاصة في ذات الوقت كما تخالف معه " المثقفون " الذين يكرهون الإسلام،لأنهم رأوا في وجوده وتمكنه أمانا لهم من الحركة الإسلامية وقوتها!
وإذا كان عبد الناصر هو الدرس الثاني بعد أتاتورك، فقد كان الإخراج متقنا واللعبة أكثر سبكا(1/389)
ولابد لإتقان اللعبة من بطولات زائفه تضفي علي القاتل وهو يذبح فريسته، لكي تتواري الجريمة في ظل البطولات.
وكما كان لأتاتورك " بطولات فذة " (299) قام في ظلها بذبح الإسلام في عاصمة الخلاف، تمهيدا لتفتيت الدولة وتوزيع أسلابها بين الطامعين، وتمكين اليهود في النهاية من إقامة الوطن القومي في فلسطين بعد ان أبت عليهم دولة الخلافة ذلك وهي في نزعها الأخير كذلك كان لعبد الناصر " بطولاته الفذة " فهو " بطل باندونج " و" بطل القناة " و" قاهر بريطانيا وفرنسا " و" مؤسس السد العالي " و " بطل القومية العربية"..إخ..إلخ (300) وفي ظل هذه " البطولات" كلها يذبح المسلمين ويعمل عبد الناصر جاهدا لقتل الحركة الإسلامية لكي تأمن إسرائيل! (301)
ولسنا هنا نؤرخ لعبد الناصر.. ولسنا كذلك نؤرخ لهذه الحقبة الخطيرة من حياة الأمة الإسلامية إنما نحن فقط نتتبع الخطوات العريضة لمحاولات الأعداء للقضاء علي الأمة الإسلامية والقضاء علي الإسلام ونتتبع الوسائل التي استخدموها في هذه الحزب الضارية التي شنوها علي الإسلام.
ولكنا نلخص الموقف كله في نهاية هذا الفصل،ـ فنقول إن موقف الاعداء، سواء في الغزو العسكري، أو الغزو الفكري،أو فتنة المسلمين عن دينهم بكل الوسائل ليس أمرا مستغربا منهم،أيا كان القدر الذي يشتمل عليه من الخسة والمكر، والخديعة واللؤم والبربرية والوحشية.. فهم هم كما وصفهم الله في كتابه المنزل
{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [سورة البقرة 2/120]
{وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا} [سورة البقرة 2/217]
{لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ (10)} [سورة التوبة 9/10](1/390)
{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ} [سورة البقرة 2/109]
{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} [سورة المائدة 5/64]
أما المسلمون فهم يتحملون تبعه ما حل بهم من كيد أعدائهم، وما حل بهم من هوان وضعف ولا يستطيعون أن يحتجوا في الحياة الدنيا ولا بين يدي مولاهم في الآخرة بأن اعداءهم كادوا لهم وفعلوا بهم ما فعلوا، ولم يكن لهم محيص
إن هذا الكيد بكل ضراوته التي أشرنا إليها، وكل مكره وخبثه ودنسه، ليس ابن اليوم لا ابن الأمس القريب، إنما عمره أربعة قرنا ونيفا ... أي منذ نزل هذا الدين.. لا يكف إلا رثيما يشتعل من جديد!
ولكن الله تعالي شأنه قال لنا في كتابه المنزل بعد أن علمنا كل شئ عن موقف الأعداء وكيدهم، ومحاولتهم الدائمة لفتنة المسلمين عن دينهم، وزحزحتهم عنه - قال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [سورة آل 3/120]
ولم يكن الصبر المذكور فى الأية الكريمة - ولا كانت التقوى - تميمة يعقلها المسلمون على صدورهم فترد عنهم الكيد! ولم يكن الصبر والتقوى كذلك أمرا سلبيا فى داخل الصدور، يمارسه الناس بوجدانهم فيصد عنهم الكيد!
إنما الصبر والتقوى قوة إيجابية هائلة تصد الكيد بإيجابيتها وفاعليتها.. بقدر من الله.
ولقد فسد مفهوم الصبر والتقوى عند الأجيال من المسلمين كما فسد كل شئ فى حياتهم وتصوراتهم، فتحول إلى مفهوم سلبى لا يغير شيئا فى واقع الحياة!(1/391)
ولكن نفهم المعنى الحقيقى المقصود بالصبر والتقوى، ونفهم كيف يؤدى التمسك بهما إلى صد الكيد، فلنعرف أولا ماذا يريد الأعداء.. إنهم يريدون أن يردوا المسلمين عن دينهم أو يزحزحوهم عنه.. فالصبر المطلوب إذن هو الصبر على هذا الدين، وعلى كل تكاليفه ومقتضياته، والاستقامة على أمره، والإصرار عليه مهما فعل الأعداء.. والتقوى هى اتقاء سخط الله وغضبه.. ولا يكون هذا إلا بتنفيذ أوامره والانتهاء عن نواهيه.. وحين يقع الصبر والتقوى على هذه الصورة فما الذى يستطيعه الأعداء يومئذ، ومن أين ينفذون؟!
إنما نفذوا فى الحياة الإسلامية من تقصير المسلمين فى تنفيذ ما أمر الله به، سواء كان التقصير متمثلا فى التقاعس عن إعداد العدة التى أمرهم الله بإعدادها لإرهاب عدو الله وعدو المسلمين، أ التقاعس عن الإنفاق فى سبيل إعداد هذه القوة كما أمر الله.
{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60)} [سورة الأنفال 8/60]
أو كان التقصير متمثلا فى إرجاء العمل والاتكال على الإيمان المكنون فى داخل القلب.
أو كان فى ترك عمارة الأرض والمشى فى مناكبها وابتغاء فضل الله توهما أن هذا يقرب الإنسان من الله ويضمن له الآخرة.
أو كان فى ترك العدل الذى أمر الله به سواء فى سياسة الحكم أو سياسة المال أو ارتباطات الناس فى المجتمع أو روابط الأسرة بين الرجل والمرأة.
أو كان فى الفرقة التى نهى الله عنها وحذر منها.
أو كان فى اتخاذ بطانة من دون المسلمين لا يألونهم خبالا.(1/392)
أو كان فى غير ذلك مما وقع فيه المسلمون فى قرونهم الأخيرة من البدع والمعاصى والخرافات والجهالات فأصابتهم السنة التى لا تتبدل ولا تتخلف وأصابهم النذير الذى حذرهم منه رسول الله (: " يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: إنكم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل. ولينزعن الله المهابة من صدور أعدائكم وليقذفن فى قلوبكم الوهن. قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت " (302).
وقد تحقق النذير بقدر من عند الله ولكن فى الوقت ذاته بسبب من تهاون الأمة فى حمل أمانتها التى ناطها الله بها كما وقعت الهزيمة يوم أحد بقدر من عن الله ولكن بسبب - وفى الوقت ذاته - من المعصية التى وقعت من المسلمين:
{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ....} [سورة آل 3/165-166]
ولا خلاص لهم إلا أن يعودوا إلى الله فيعبدوا حق عبادته فيذهب الله عنهم آثار الكيد ويرد لهم التمكين الذى وعدهم به وحققه لهم حين استقاموا على طريقه ثم نزعه منهم حين أخلوا بالشرط:
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [سورة النور 24/55]
الصحوة الإسلامية
جاءت الصحوة الإسلامية فى موعدها المقدور عند الله.. وكانت مفاجأة ضخمة لكثير من الناس
ولكن هل كانت مفاجأة فى الحقيقة؟(1/393)
إن الذين فوجئوا بها من الداخل كانوا هم الذين نقلوا نقطة ارتكازهم نهائيا من الإسلام الى الحضارة الغربية وأداروا ظهرهم للإسلام على أنه قد ذهب إلى غير رجعة وأنهم هم - المثقفين " هم الطليعة للأجيال القادمة التى ستحرر نهائيا من كل عقابيل الماضى وتمضى على طريق التحرر إلى نهاية الشوط.
وأما الذين فوجئوا بها من الخارج فكانوا هم الذين بذلوا جهد الشياطين طوال ما يزيد على قرن من الزمان لإبعاد الأمة عن الإسلام بكل الوسائل ورأو بالفعل أجيالا تبتعد تدريجيا عن الإسلام وكل جيل يبتعد أكثر من سابقه عن نقطة ارتكازه الأصيلة فظنوا - بحساباتهم الأرضية - أن الأمة قد أزمعت أن تخرج نهائيا من الإسلام.. ولن تعود
ولكن هؤلاء وهؤلاء كانوا قد أغفلوا حقيقة ضخمة تندرج تحتها حقائق كثيرة لا تسير بحسب حساباتهم ولا تستطيع حساباتهم أن تصل إليها لأن الله قد جعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوا وجعل فى آذانهم وقرا.
أغفلوا بادئ ذى بدء أن الذى يدبر الأمر فى هذا الكون العريض كله ليس هم وليس غيرهم من البشر إنما هو الله!.
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21)} [سورة يوسف 12/21]
{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [سورة القصص 28/68]
{بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)} [سورة البقرة 2/117]
والله سجانه هو الذى قرر أن يبقى هذا الدين فى الأرض إلى قيام الساعة على الرغم من كيد الأعداء له:
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)} [سورة الصف 61/8-9](1/394)
وأغفلوا ثانيا أن الناس فى المنطقة الإسلامية قد صحبوا هذا الدين اثنى عشر قرنا كاملة قبل أن يجيئوا هم بسمومهم ليفتنوا الناس عن دينهم وامتزجت به مشاعرهم وأصبح هو حياتهم وفكرهم ومبدأهم ومعادهم ونبضهم الطبيعى الذى تنبض به قلوبهم فلا عجب أن يرجعوا إليه ولو غفلوا عنه فترة إنما العجب - كان - أن يشردوا عنه ويتجهوا إلى غيره والعجب الأكبر - كان - أن يثبتوا على هذا الشرود ولا يرجعوا إلى نبض قلوبهم الطبيعى.
وأغفلوا - فيما أغفلوا - أن هذا " دين الحق ".. لا تنطبق عليه كل تخرصاتهم عن الدين الذى انتهى إلى غير رجعة والذى كان يمثل مرحلة وسيطة بين السحر والعلم والذى أخلى مكانه بصفة نهائية للتقدم العلمى والحضارى والتكنولوجى.. الخ. فكل هذه التخرصات إن انطبقت على دين أوربا الجاهلى - الذى حرفت فيه الكنيسة ما حرفت وشوهت ما شوهت - فلا تنطبق على الدين الحق الذى حفظ الله أصوله فم يطرأ عليها تبديل ولا تحريف والذى يملك الناس فى كل لحظة أن يرجعوا إلى أصوله الصحيحة المحفوظة فيصححوا مسيرتهم إن أصابها انحراف فى أثناء الطريق.. دين الفطرة الذى أنزله الله ليلتقى تماما مع الفطرة السوية كما أنشأها الله لأنه مفصل على قدها بالضبط والذى يصحح انحرافات الفطرة كلما وقع فيها اختلال.(1/395)
وأنه إن كانت البشرية - فى خارج الإسلام - قد كفرت وألحدت وفسقت عن امر ربها لأى سبب من الأسباب - فلم يكن هذا أمرا " بشريا " طبيعيا يفترض أن يتجه البشر كلهم إليه ولا أن يثبتوا عليه إن اتجهوا إليه فترة من الوقت (303) ولم يكن من الحتم أن يصيب المسلمين بالذات - أصحاب الدين الحق - مهما انحرفوا عن حقيقة الدين فى وقت من الأوقات. فإنما حدث الإلحاد فى العالم الذى كانت الكنيسة تسيطر عليه لا من طبيعة الدين من حيث هو ولا من طبيعة ابشر من حيث هم ولا لأن الدين كان له دور تاريخى وانتهى ولكن لأن الكنيسة قدمت للناس بدلا من دين الله دينا آخر لا يصلح للحياة ولا يسمح لها بالحركة والتقدم والنمو ولا يسمح للحركة العلمية أن توحد فضلا عن أن ترسخ أقدامها وتتقدم بينما العلم ضرورة للكائن البشرى وحاجة مركوزة فى فطرته ليقوم بعمارة الأرض بوصفها جزءا من مهمة الخلافة التى من أجلها خلق الله الإنسان (304).
وأيا كان الأمر فقد جاءت الصحوة الإسلامية فى موعدها المقدور عند الله.. وإن فاجأت من فاجأت من الناس هنا ومن هناك (305).
? ? ?
كان الناس - قبل الصحوة الإسلامية - قد انقسموا - فى عمومهم - إلى فريقين متباعدين لا يكاد يربط بينهما رابط كأنهما أمتان منفصلتان وإن تشابهت بينهما الأسماء.
فريق " المتدينين " المحافظين على رأسه أصحاب الثقافة الإسلامية من خريجى الأزهر ويشمل كذلك كبار السن من سكان المدينة الذين حافظوا على تقاليدهم الإسلامية " فى وجه الطوفان وإن كانوا قد اعتزلوا المجتمع نجاة بأنفسهم من ذلك الطوفان كما يشمل أهل الريف الذى لم تكن قد غزته الموجة الكاسحة بعد فهو على حاله التى كان عليها منذ قرون شديد المحافظة على تقاليده - فى الصعيد خاصة - ولكن حظه من الوعى ضئيل فى كل اتجاه " والدين " عنده لا يعدو أن يكون مشايخ وأضرحة وكرامات وأولياس.. و " تقاليد ".(1/396)
وفريق اتجه إلى الحضارة الغربية على أنها طريق الخلاص من كل ما أصاب العالم الإسلامى من أمراض وعلى رأسها التخلف الحضارى الذى اعتبروه عقدة العقد وعلة العلل وهو الذى يحتاج إلى العلاج العاجل وعلاجه عندهم هو أخذ الحضارة الغربية بخيرها وشرها - إن كان فيها شرا لا محالة من ذلك كما قال طه حسين وإن كان هذا الفريق قد انقسم إلى قسمين تجاه " الدين " أحدهما يرى نبذة كليه كما نبذته أوربا لأنه هو سبب التخلف وسبب الأمراض كلها والأخر يرى أنه لا بأس من بقائه على أن " يلزم مكانه " لا يتجاوزه. ومكانه هو أن يكون علاقة خاصة بين العبد والرب محلها القلب ولا شأنه لها بواقع الحياة.. فليكن " الدين " اعتقادا فى الله واليوم الآخر وليكن شعائر تعبدية (306) ولكن لاينبغى له أن يزيد على ذلك وليس له أن يتدخل فى شئ من أمور الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ولا علاقة له عموما بالأمور " المتطورة " وفى مقدمتها قضية المرأة فهذه كلها تستمد من الحضارة الغربية وتستورد من هناك!.
القريق الأول: يحمل تراث ما يزيد عن ثلاثة عشر قرنا ويعتز به ويحافظ عليه ولكنه لا يدرك على وجه التحديد أى شئ من هذا التراث هو من حقيقة هذا الدين وأية قد وفد عليه من خارجه أو انحراف عن طريقه الصحيح. ثم هو يزداد اعتزازا بهذا التراث واحتضانا له وتمسكا به كلما أحس بتوغل التيار الغربى فى حياة الأمة. ويحس - بالفطرة - أن هذا التيار موجه ضد دينه وأخلاقه وتقاليده فيرفضه كله وينظر إليه نظرة الحذر والتوجس ويحاول قدر استطاعته ألا يمسه من دنسه شئ.
والفريق الآخر بقسميه النافر من الدين كلية أو الذى يرى حصره فى نطاقه الوجدانى والتعبدى وعزله عن بقية الحياة هو الفريق الذى تشرب السم الذى بثه الغزو الفكرى فى نفوس: المثقفين " كل بقدر ما عب من هذا السم وكل بقدر ما استراح للقدر الذى تشربه من السموم.(1/397)
وعملاء الغزو الفكر فى الداخل والمخططون له من الخارج يمدون لهذا الفريق فى الغى ليدفعوه دفعة جديدة بعيدا عن الإسلام ويستخدمون فى ذلك كل وسيلة ويتخذون من موقف الفريق الأول ذاته مادة للتنفير من الدين وتشويه صورته فى نفوس الناس.
هل تريدون الدين.؟ انظروا إلى هؤلاء المشايخ انظروا إلى تزمتهم وتعصبهم وضيق أفقهم وقلة وعيهم وقلة خبرتهم بما يجرى فى الدنيا من حولهن.. إنهم يعيشون بعقلية " القرون الوسطى " ويريدون أن يحكموا على الحاضر " المتطور " بعقليتهم المتأخرة تلك.. وأنى لعجلة التطور أن تتوقف من أجلهم؟ بل ستمضى فى طريقها وتسحقهم سحقا.
وقد كان فى موقف هذا الفريق ما يعيبه حقا - رغم طيبته وإخلاصه - وما يجعله مادة يستغلها شياطين الفريق الآخر لتنفير الناس من الدين.
فم يكن تحقير المرأة وإزدراء دورها فى الحياة ورفض تعليمها وتثقفيها مما أمر به الإسلام أو مما يرضى عنه الإسلام وهو الذى فرض العلم على كل مسلم ووجه الناس جميعا - رجالا ونساء - أن يتدبروا أمور الكون من حولهم وأن يكون لهم موقف واع مما يعرض لهم من أحداث.
ولم يكن رفض المعطيات الصالحة فى الحضارة الغربية كالعلم والتقدم المادى واستخدام الآلة لتحمل عن الإنسان عبء الجهد البدنى الشاق وتنظيم الحياة وترتيبها والدراسة العملية للمشاكل وللحلول.. لم يكن رفض ذلك كله متمشيا مع روح الإسلام الحقيقية ولا متمشيا مع نهج الأجيال الأولى أفضل أجيال الإسلام وأعلمها بحقيقة هذا الدين.(1/398)
ولم يكن الوقوف عند قضايا القرن الخامس الهجرى - على أحسن تقدير - كأن لم تمض قرون بعد ذلك ولا تغير فى حياة الناس شئ.. لم يكن ذلك تمشيا مع روح الإسلام الدافعة النامية على الدوام التى تستوعب ما يجد فى حياة الناس نتيجة زيادة معرفتهم بالكون المنادى وزيادة قدرة الإنسان على تسخير هذه المعرفة فى عمارة الأرض أمر لا يأباه الإسلام لأنه داخل فى المهمة التى خلق الله الإنسان من اجلها وهى تعمير الأرض بمقتضى المنهج الربانى. بل الإسلام يأمر به أمرا ويوجه إليه توجيها صريحا:
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)} [سورة الملك 67/15]
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [سورة الجاثية 45/13]
هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [سورة هود 11/61]
ولم يكن الإنزواء عن حركة العالم الموارة وحصر مناهج التفكير فى القوالب الموروثة من أجيال فضلا عن كون قضايا التفكير ذاتها هى الموروثة من تلك الأجيال.. لم يكن ذلك مما يأمر به الإسلام أو يرضى عنه.. صحيح أن فى حركة العالم الموارة كثيرا من السوء فى حكم الإسلام وهذا السوء يفد إلى العالم الإسلامى فى موجات متلاحقة كالطوفان.. ولكن الموقف الصحيح عندئذ هو بناء السفينة الصالحة وعبور الطوفان بها حتى تصل إلى بر الأمان وليس الإنزواء على الجبل الذى لا يعصم من الماء.
لقد كان الطوفان الذى تمور به الحياة فى الغرب وتفد موجاته المتلاحقة إلى العالم الإسلامى فى حاجة إلى رؤية إسلامية صحيحة عميقة تشخص الداء وتقدم الدواء وترشد التائهين وتدلهم على المسلك الصحيح.. أما الاعتصام بالماضى ونفض اليد من الحاضر.. فلم تكن له نتيجة عملية إلا الغرق فى الطوفان..(1/399)
ولا شك عندنا فى إخلاص هذا الفريق من المتدينين.. ولكن الإخلاص وحده لا يكفى بل لابد معه من البصيرة:
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ (108)} [سورة يوسف 12/108]
لقد كانوا يحملون التراث الإسلامى - بما يحتويه من انحرافات المسلمين خلال القرون ويعتزون به على أنه هو " الإسلام " وكانوا يدركون جيدا أن موجة التغريب الكاسحة تتجه إلى هذا التراث لتفتك به وتقضى عليه فيحتضونه أكثر ليحموه من الهجوم الموجه إليه ولكنهم كانوا - بحالتهم التى كانوا عليها - عاجزين عن تصحيح هذا التراث وتنقيته مما ألم به من أمراض وانحرافات.. ولم يكن هو - بحالته التى كان عليها - قادرا على الحياة (307).
لذلك لم يكن لهذا الفريق ذاته قدرة على الامتداد فيما يليه من أجيال.. إنما كان يتذاوب ويتضاءل على الدوام إما بالعزلة وإما بالموت.. ويخلى السبيل لموجة التغريب الكاسحة تتسع على الدوام
وكان المخططون فى سرور بالغ - ولا شك - بهذه الحال.
فحين يتذاوب هذا الفريق ويتضاءل تنداح الموجة بلا حواجز وتزول العقبات كلها من طريق التغريب. ولا تبقى إلا مشكلة المتدينين فى الريف - وفى الصعيد خاصة - وهذه المشكلة - على المدى - لها حلول
فحلها - كما طلب الكاتب اليهودى الأمريكى " مرو برجر " Morroe Berger فى كتابه " العالم العربى اليوم " The Arab world Today (308) أن تصب المدينة خلاصة حصيلتها " فى الريف لمطاردة بقايا الإسلام هناك سواء كانت خلاصة حصيلتها الحضارية هى السينما الداعرة أو الإذاعة الداعرة أو الصحافة الداعرة (وذلك قبل وصول البرامج التليفزيونية الداعرة) (309).(1/400)
على أن الريف - وإن كان مطلوبا إفساده فى النهاية لكى لا يرسل إلى المدينة أفرادا متدينين يحتاجون إلى جهد لإفسادهم ولكى لا يجد الإسلام له " مأوى " فى أى بقعة من الأرض (310) - فإنه لا يمثل خطرا عاجلا لأنه " متخلف " بطبعه ومن ثم فهو ليس مصدرا " للعدوى " أى أنه من المستحيل على أهل المدينة الذين " تحرروا " و " تحضروا " و " تطورا " أن يقلدوا أهل الريف فى شئ أصلا لا فى عقائدهم ولا فى أفكارهم ولا فى أنماط سلوكهم. ومن ثم فإن الدين - وإن كان المطلوب محوه من الريف على المدى الطويل - لا يمكن أن ينتقل من الريف إلى المدينة بصورة تؤثر فى سير الريف على المدى الطويل - لا يمكن أن ينتقل من الريف إلى المدينة بصورة تؤثر فى سير الأحداث فيها فتردها إلى التدين بعد أن انسلخت منه. أما الأفراد المتدينون الذين يأتون من الريف يجملون معهم جراثيم " التخلف " فسرعان ما يذوبون فى المدينة و " يتطهرون " من تخلفهم أو ينزوون فى ركن منها مع المستضعفين من المنزوين.(1/401)
وبهذا يكون " الدين: قد انحصر فى " المتخلفين " سواء كان أولئك المتخلفون هم " المشايخ " من أهل المدينة " ذوى العقول المتحجرة لمتعفنة الرجعية (311) أو هم أهل الريف السذج الجهلاء الذين لا يحب أحد لنفسه أن يكون منهم.. وكان هذا ولا شك نجاحا للمخططين والموجهين الذين كانوا قد بثوا من قبل فى أذهان " المثقفين " أن الدين تخلف أو أنه هو التخلف بعينه.. فإذا انحصر الدين بالفعل فى " المتخلفين " الذين يشهد الناس تخلفهم فهذا مصداق القول وأصبح سلخ " المثقفين " من دينهم أيسر - إن كان قد بقى لهم دين ويكفى أن يقال للمرء " المثقف " أتريد أن تكون كالمتخلفين من المشايخ أ من أهل الريف حتى ينسلخ من فوره لينفى عن نفسه تلك التهمة الكريهة البغيضة: تهمة التخلف (312)! وفى كل يوم تجد منسلخين جدد ا يبتلعهم تيار التغريب وتصبح الموجة المنسلخة هى الغلابة وهى التى تقرر صورة المجتمع وتقرر - فى حس أصحابها - مصيرة كذلك.
فرجال السياسة البارزون الذين يصولون ويجولون وتلتف حولهم الجماهير سواء أكانوا فى الحكم أم كانوا من المعارضين كلهم من العلمانيين الذين تنص لوائح أحزابهم نصا صريحا على عدم " الخوض " فى الأمور الدينية.
ورجال الفكر والأدب البارزون الذين تنشر لهم الصحف والمجلات آراءهم وكتاباتهم ومعاركهم الفكرية والأدبية وتتلقفها الجماهير هم كذلك من العلمانيين الذين أبعدوا الدين إبعادا من فكرهم وانتاجهم إلا أن يسخروا به بين الحين والحين بقد ما كانت تسنح الفرصة فى ذلك الحين.
ورجال الاقتصاد البارزون الذين يقتحمون الميدان الاقتصادى " الوطنى " وتشير الصحف إليهم وتتبع أخبارهم وتثير إعجاب الجماهير بهم هم من العلمانيين الذين أباحوا الربا وقرروه أصلا ثابتا من أصول " الاقتصاد الحديث " المتطور ومن أصول " القوة الاقتصادية " التى ينبغى أن نحصل عليها لنتحرر من قبضة الأعداء.(1/402)
ورجال الفن - ونساؤه - الذين يقومون بدور الترويح و " الترفيه " عن الجماهير كلهم - بطبيعة الحال - من الذين انحلت أخلاقهم من قبل فكان الانحلال ذاته هو المؤهل الذى يؤهلهم لدخول عالم الفن وهؤلاء قد جعلت منهم الصحافة " نجوما " و " أبطالا " يسعى الأولاد والبنات إلى تقليدهم والتشبه بهم ولا يكف المجتمع عن التطلع إليهم والإشادة بهم والتحدث عنهم والاهتمام بشأنهم.. بل أصبحوا هم الطبقة المرموقة التى تحظى بالاحترام وتحظى بالتقدير.
فأى شئ بقى فى حياة الناس لا تشكله أيدى المنسلخين من الدين الداعين إلى التغريب تحت عنوان من العناوين.
وفى هذا الجو والناس - بفريقيهم - على هذه الصورة.. قامت الصحوة الإسلامية - مفاجئة فى جميع الاتجاهات لما كانت عليه حياة الناس.. فكانت منعطفا حادا فى الطريق.
? ? ?
كانت المفاجأة الأولى أن الذين يحملون الدعوى إلى الإسلام فى هذه المرة هم " الأفندية " وليسوا " المشايخ ".
وكانت هذه كذلك هى الطامة الكبرى. فحينما نجح المخططون فى حصر " الدين " فى المشايخ وسلخ " الأفندية " منه كان ذلك فى حسهم نصرا مؤزرا لأنهم بذلك قد حصروه فى العنصر المتخلف المنقرض الذى ليس له امتداد.. أما اليوم فماذا يفعلون " بالأفندية " حين يحملون الدين.
لقد كان " الأفندية " هم حملة التغريب وهم فى الوقت ذاته الأداة التى يستخدمها المخططون لجر الأمة كلها إلى العبودية للغرب والانسلاخ من الإسلام باعبتارهم حملة الثقافة وحملة العلم وحملة الحضارة وحملة الرقى وحملة الوعى وعنوان التقدم.
وقد كان تغيير الزى فى ذاته مقصودا لأمر يراد..
فقد كان مع الزى " الوجهة "..
أى أن الذى يرتدى زى الغرب يتجه فى الوقت ذاته إلى المكان الذى استورد الزى منه فيستورد منه أفكاره وتقاليده وأنماط سلوكه ونظم حياته.. السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. وفى كل اتجاه.
وكان تقسيم الأمة إلى فريقين متميزين لا رابط بينهما مقصودا كذلك لأمر يراد..(1/403)
فالمشايخ يتجهون إلى الشرق.. إلى الإسلام.. ويضفى عليهم من صفات الجمود والرجعية والتخلف ما ينفر " الجيل " منهم ويبعدهم عن أن يكونوا قدوة لأى مقتد (313). و " الأفندية " يتجهون إلى الغرب. إلى أوربا.. وينسلخون من الإسلام ويضفى عليهم من صفات التقدم والرقى وسعة الأفق وعمق الإدراك ومسايرة ركب الحضارة ما يجعلهم القدوة لمن أراد الاقتداء (314)....
لذلك كان تغيير الزى يحمل معه بالفعل تغيير الاتجاه..
فاليوم تأتى المفاجأة من أن الذين غير لهم زيهم ليغيروا وجهتهم هم أنفسهم - بزيهم - الذين يعودون إلى الإسلام ويحملون الدعوة إليه.
? ? ?
وكانت المفاجأة الثانية أن دعاة الإسلام الجدد من " الأفندية " لا يقفون موقف " الجمود " من " الحضارة الغربية " فيرفضوها جملة ويأبوا أن يأخذوا أى شئ منها بل إنهم يعلنون إن فيها أشياء نافعة ينبغى أخذها والاستفادة منها كالتقدم العلمى والتقدم التكنولوجى والروح العملية وعبقرية التنظيم وفيها أشياء ضارة لا ينبغى للمسلم أن يقع فيها كالإلحاد والكفر والفكر المادى الذى ينكر وجود الخالق سبحانه أو ينكر تدبيره لكل شئون الكون والفساد الخلقى الذريع الذى يهبط بالإنسان إلى الدرك الحيوانى بل أسفل منه (315) وآلية الحياة التى تنفى المشاعر الوجدانية وتبعدها عن مجال " الحياة العملية " والفردية الأنانية التتى تقطع الروابط الأسرية والروابط الإنسانية.. وفيها إلى جانب هذه وتلك نظم سياسية واجتماعية واقتصادية يختلط فيها الخير والشر فأما الشر فينبغى نبذه لا محالة وأما الخير - أى ما كان موافقا للإسلام - فينبغى أخذه من مصدره الربانى المنزل من عند الله..
ولم تكن هذه المفاجأة أخف وقعا على المخططين من الأولى..
فكما كان زى المشايخ - الذى نفروا منه الجيل الجديد بكل وسائل التنفير - سلاحا فى أيديهم يستخدمونه لحرب الإسلام فسقط من أيديهم حين صار " الأفندية هم حملة الدعوة الجديدة إلى الإسلام.(1/404)
كذلك كان موقف الرفض البات الذى يقفه المشايخ من الحضارة الغربية سلاحا فى أيديهم يستخدمونه فى حرب الإسلام إذ يصفون تلك الحضارة بكل طيب من النعوت ويصورونها على أنهها هى العلاج لكل مرض ولكل مريض ثم يقولون إن المشايخ يرفضونها جملة وتفصيلا فيظل المشايخ فى موقف اللوم وتظل الحضارة الغربية فى المقام الذى يتطلع الناس إليه.. فجاءت الدعوى الجديدة على يد الأفندية لتسقط هذا السلاح أيضا من أيديهم لأن الدعوى الجديدة لا ترفض تلك الحضارة جملة بل تنادى بأخذ النافع منها ورفض الشر الذى يتفق كل عاقل على أنه شر.(1/405)
كما كان نقد الحضارة الغربية على هذا النحو من قبل الدعوى الجديدة موضع الحنق الشديد من المخططين وأتباعهم معا فى ذات الوقت. فقد كان أوحى إلى " المثقفين " كما أسلفنا فى الفصل السابق أن الحضارة الغربية كتلة واحدة وحزمة واحدة لا يمكن فكها ولا تجزئتها وكانت تلك دعوى باطلة بطبيعة الحال فقد تكررت عملية " الانتقاء " من الحضارات عدة مرات فى التاريخ. مرة على يد المسلمين الأوائل إذ انتقوا من الحضارة الجاهلية - الفارسية والبيزنطية - ما وجدوه صالحا لهم ونبذوا سائرها فلم يقربوه! ومرة على يد أوربا إذا أخذت من الحضارة الإسلامية المنهج التجريبى فى البحث العلمى كما أخذت التقدم العلمى فى الفيزياء والكيمياء والطب والفلك والرياضيات واستفادت من خبرتهم البحرية وخرائطهم ومعلوماتهم الجغرافية فى كشف ما كان الأوربيون يجهلونه من بلاد العالم بدءا بطريق رأس الرجاء الصالح ثم انتشار فى الأرض بعد ذلك وتأثرت بكثير من فنون العمارة والوسائل الحضارية التى كان المسلمون يملكونها فى الأندلس والشمال الأفريقى وبلاد المشرق الإسلامى.. ولكنها رفضت أن تأخذ الأساس الذى قامت عليه تلك الحضارة كلها وهو الإسلام. وتكررت عملية الانتقاء مرة ثالثة فى العصر الحديث على يد اليابان كما سبقت الإشارة من قبل.. وما تزال قابلة للتكرار ما شاء قدر الله لها أن تتكرر فى الحاضر والمستقبل.
نعم.. كانت الدعوى باطلة ولكنها كانت تبث عن قصد من المخططين لأمر يراد.. خشية أن يتجه المسلمون فى محاولتهم للنهوض إلى أخذ إيجابيات هذه الحضارة ونقط القوة فيها ولا يأخذوا الإلحاد والفساد الخلقى فتكون الطاقة التى يعانون الشئ الكثير منها على يد اليابان ولكنها على يد المسلمين أشد! (316) لذلك قال قائلهم: لابد لنا من أخذ الحضارة الغربية بخيرها وبشرها وحلوها ومرها لا محالة من ذلك!(1/406)
فاليوم تجئ الصحوة الإسلامية على يد " الأفندية " فتحدث موقفا شديد الإغاظة للمخططين وأتباعهم على السواء. فكما أن دعوتها لأخذ النافع من الحضارة الغربية يسقط عنها تهمة الرجعية والجمود الذى كانوا يسمون به المشايخ فتيلبس بهم فكذلك دعوتها " للانتقاء " من هذه الحضارة وعدم أخذ ما هى غارقة فيه من الفساد الخلقى والانتكاس النفسى والإنسانى يفسد هدفا هاما من أهداف حملة التغريب وهو نشر الفساد والإلحاد - تحت عنوانن الحضارة والرقى والتقدم - لإذابة ما بقىمن كيان هذه الأمة وتحويلها إلى " غثاء كغثاء اسيل " لا جذور له ولا انتماء فيتبدد فى التيار.
? ? ?
وكانت المفاجأة الثالثة أن الدعاة الجدد جاءوا يقولون للناس: إن ما أصاب المسلمين من التخلف والجمود والضعف والتأخر فى جميع الميادين لم يكن سببه الإسلام.. إنما سببه البعد عن الإسلام والانحراف عن صورته الصحيحة. وأن الصورة الحقيقية للإسلام ينبغى أن تؤخذ من مصادره الصافية الأولى: كتاب الله وسنة رسوله ( وحياة السلف الصالح الذين طبقوا هذا الإسلام أول مرة فى واقع الأرض فكانوا عجبا فى التاريخ وكانوا {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [سورة آل عمران 3/110].
لقد كان المخططون وأذنابهم قد بثوا فى روع " المثقفين " أن الإسلام هكذا.
جمود ورجعية وتخلف وعجز عن النهوض والتقدم بل مانع من النهوض والتقدم وأن ما حل بالمسلمين هو النتيجة الطبيعية لكونهم مسلمين! وأنه لا طريق لهم لعلاج ما هم فيه من التخلف والضعف والفقر والجهل والمرض إلا أن ينبذوا الدين كما فعلت أوربا من قبل فإنها لم تتقدم إلا حين حطمت " الأغلال " التى كانت تعوقها عن التقدم أغلال " الدين " وما حوله من أخلاقيات وتصورات وتقاليد..(1/407)
فاليوم يثير الدعاة الجدد قضايا مغايرة تماما.. يفرقون فيها بين الإسلام فى صورته الصحيحة وبين الواقع المنحرف الذى يعيشه المسلمون باسم الإسلام كما يفرقون بين الدين الذى انسلخت منه أوربا والدين الذى نزل من عند الله وتكفل الله بحفظ أصوله من التحريف فبقيت على صورتها المنزلة وأصبح الرجوع إليها ممكنا فى كل لحظة ويفرقون بين الحكومة الثيوقراطية التى قامت فى أوربا فى قرونها الوسطى المظلمة التى كان يحكم فيها " رجال الدين " بما شاءت لهم أهواؤهم من الجهالات والمفاسد والحكومة الإسلامية التى يحكم فيها من يختاره المسلمون لحكمهم ولكنه يتقيد فى حكمه بما أنزل الله وأنه ليس فى الإسلام " رجال دين " يحكمون أو يشرعون للناس بما يشاءون إنما فيه " علماء " و " فقهاء " لا يلبسون مسوحا خاصة ولا يشكلون طبقة وليس لهم سلطان ولا حصانة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية ويملك أى إنسان أوتى قدرا صالحا من العلم أن يناقشهم ويجادلهم ويخطئ اجتهادهم إن كان دليله أقوى من دليلهم! وإن الإسلام دين " مفتوح " أمام كل معتنقيه يملكون أن يتفقهوا فيه بقدر ما توصلهم مداركهم وليس حكرا على طبقة من الكهنوت تحتكر نصوصه وتحتكر تفسيره وتحتكر حق تبديله وتغييره حين تشاء!
وحقيقة إن الذى يقول " الأفندية " حملة الدعوى الجديدة لم يكن كله جديدا.. فقد كان المشايخ من قبل يقولون شبيها به من بعض نواحيه فحقائق الإسلام واحدة والحديث عنها لابد أن يتلاقى فى بعض جوانبه. ولكن أحدا لم يكن يأبه لما يقول المشايخ -- لا المخططون ولا أتباعهم لجملة أسباب:
فهو أولا كلام صادر عن المشايخ.. وهم فى ضياعهم الذى هم فيه! فيضيع معهم كلامهم مهما يكن فيه من الحق!(1/408)
وهو ثانيا كلام.. ليست وراءه حركة ومن ثم يموت حيث هو.. على ألسنة قائلية أو فى آذان سامعيه - إن سمعه أحدا! لأن أصحابه لا يتحركون به.. لا يحولونه إلى " دعوة " لا يجمعون أحدا حوله ليعتنقه ويؤمن به ويجعل تحقيقه غاية يعيش من أجلها ويتحمل ما يتحمل فى سبيلها.
ثم هو فضلا عن ذلك كلام مصبوب فى قوالب جافة هى القوالب التى كانت العقيدة قد صبت فيها منذ قرون طويلة ذهنية تجريدية لا تخاطب الوجدان ولا تحركه ولا تساير عقلية الذين يوجه إليهم الخطاب فى الوقت الحاضر ومن ثم فهى مرفوضة ابتداء من " المثقفين " خاصة لا تمثل بالنسبة إليهم زادا فكريا يعيشون عليه ولا زادا روحيا يبعث ما ضمر من أرواحهم فى موجة التغريب العاتية.
أما على يد الدعاة الجدد من الأفندية فقد أحس المخاطبون كأنما يتعرفون على الإسلام من جديد.. والإسلام هو الإسلام. حقائقه ثابتة لا تتغير. ولكن طريقة تناولن وطريقة تعريف الناس به تختلف من عصر إلى عصر حسب أحوال الناس فى كل عصر وثقافاتهم واهتماماتهم ومشكلاتهم وانحرافاتهم وأمراضهم كذلك. وقد كانت القوالب الذهنية التجريدية " حالة " ألمت بالناس فى عصر معين فاستساغوا يومئذ أن يقدم الإسلام إليهم فى هذه الصورة ولكنها لم تكن الصورة المثلى ولا الصورة الصالحة لكل زمان لأنها لا تسير على المنهج القرآنى الذى أنزله الله للناس كافة وللعصور كافة.. يغترفون منه فى كل جيل ما يناسب أحوالهم واهتماماتهم ومشكلاتهم.. فيلبى حاجاتهم فى كل مرة ويعطيهم بقدر ما تتفتح قلوبهم وعقولهم.. ولكنه لا يجف ولا يتقولب - كما حدث فى عصر معين إلا أن يصيب الناس ركود وجمود وكان " المشايخ " يحملونه معهم ويحسبون أنه هو الصورة المثلى للإسلام.(1/409)
أما الدعاة الجدد فقد عادوا به إلى المنهج القرآنى فأذابوا ما كان قد علق به فى ذلك العصر السحيق من جفاف وتقولب حملته الأجيال المتتابعة فى ركودها وجمودها ومن هنا أحس المخاطبون كأنما يتعرفون على الإسلام من جديد فأقبلوا عليه من شاء الله منهم - بقلوب متفتحة وعقول متفتحة متعطشة للمزيد.
وأهم من ذلك - وهو الخطر الأكبر فى نظر الأعداء أنه " حركة " فهو ليس " كلاما " فى القراطيس وإنما هو " إيمان " فى القلوب فتتحرك به حركة ملموسة فى عالم الواقع وتتخذ موقفا محددا من كل شئ حولها وتصوغ سلوكها العملى على مقتضاه.
? ? ?
وكانت المفاجأة الرابعة هى انتشار الدعوة انتشارا " ذريعا " فى صفوف المثقفين من الأطباء والمهندسين والمعلمين والمحامين وغيرهم من ذوى الثقافات الحديثة ومن طلاب الجامعة فى شتى التخصصات!
ولقد كان الظن أن هؤلاء لا يعودون أبدا ولا تستهويهم مثل هذه الدعوة أبدا!!
لقد ربوا على أن يصموا آذانهم ويغلقوا قلوبهم وأذهانهم عن أى شئ يذكر فيه " الدين ".. فضلا عن أن يكون الدين هو المنطلق الذى ينطلق منه والمرتكز الذى يرتكز عليه!
ربوا على أن الدين أمر من أمور الماضى وأنهم هم يستشرفون للمستقبل! وأن الدين " غيبيات " وهم يعيشون فى " الواقع "! وأن الدين ممزوج بالخرافة وهم يعيشون عصر العلم!
فما بالهم يعودون إلى كل ما نهوا عنه وكل ما بذل الجهد الجهيد لإبعادهم عنه! جهد استخدمتن فيه مئات الكتب وألوف المقالات وألوف الدروس العلمانية " وألوف الفتيات المتبرجات فى الطريق وألوف المراقص والحانات ودور اللهو ودور الفجور؟!
? ? ?
لقد كانت كلها مفاجآت حادة وغير منظورة.. وكانت دون شك مفاجأة غير سارة لكل أعداء الإسلام.
ولم يسكت الدعاة إلى التحرر و التحضر و " التقدم " بطبيعة الحال على هذه الدعوة وهاجموها بكل وسائل الهجوم وأول وسائل الهجوم هو دمغها " بالرجعية " وهى أشد وسائل التنفير عند " المثقفين "!(1/410)
ولقد كانوا يهاجمونها دفاعا عن أنفسهم فى الحقيقة!
{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [سورة النساء 4/89]
ولكنهم فى عبودية منتكسة - كانوا يهاجمونها كذلك دفاعا عن " السادة " الذين يشعرون بالتبعية لهم والانتماء إليهم! ودفاعا عن الفكر الذى استعبدوا له من الداخل خلال عملية التغريب.. فما عادوا يحسون لأنفسهم بوجود ذاتى وأصبح وجودهم مرتبطا بذلك الفكر الدخيل عليهم يحسبونه - فى غفلتهم - فكرهم الخاص لأنهم لا يدركون عملية المسخ التى أجريت لهم وهم غافلون فشوهت كيانهم من الداخل وشوهت نظرتهم إلى أنفسهم وكل ما يحيط بهم فصاروا ينظرون بعيون سادتهم! وصاروا - فى دخيلة أنفسهم يحتقرون أنفسهم بوصفهم " شرقيين "! ويحاولون بكل جهدهم أن ينسلخوا من تلك الصورة ويمحوا " عارها " عن أنفسهم لعل سادتهم يرضون عنهم فيرضوا هم عن أنفسهم!! (317)
لذلك لم يكن العبيد فى حاجة إلى إشارة من السادة ليهاجموا الدعوة الإسلامية فهم بطبيعة موقفهم الممسوخ كله يحسون بالعداء العميق لها والنفور الشديد منها. ولكن السادة مع ذلك لم يهملوا التوجيه:
لابد من جرعة زائدة من كل ما تقدم.. من الكتب والمقالات والدروس والأبحاث التى تهاجم الدين والأخلاق والتقاليد.. والصور العالية والأفلام العارية والقصص العارية والأفكار العارية.. والفتيات المتبرجات فى الطريق.. والمراقص والحانات ودور اللهو ودور الفجور! فإنه لا شئ يصد هذا الخطر الداهم مثل إفساد الأخلاق وصرف الشباب عن كل الاهتمامات الجادة وشغلهم بلذائذ الحس الدنسة وهموم الدنيا القريبة لكى لا يفرغوا إلى ربهم ولا يذكروا آخرتهم فتسند منافذ " الدين " فى قلوبهم ويصبحوا فى مناعة من تلك الدعوة الخطرة بل فى عداء مع تلك الدعوة التى تريد أن " تحرمهم " مما هم غارقون فيه ن الدنس والتفاهة والانحلال!
? ? ?
ولكن المفاجأة المذهلة كانت أعنف من كل ذلك!(1/411)
كانت دخول الفدائيين المسلمين ساحة الحرب فى فلسطين عام 1948!!
وهنا ينبغى ان نعود بذاكرتنا خمسين سنة إلى الوراء قبل ذلك التاريخ.. إلى مؤتمر " هرتزل " زعيم الصهيونية فى مدينة بال بسويسرا عام 1897 الذى تقرر فيه ضرورة إنشاء الدولة اليهودية خلال خمسين عاما فى فلسطين. ففى ذلك المؤتمر وضعت المخططات الكفيلة بإقامة الدولة خلال خمسين عاما وقامت الدولة بالفعل بعد خمسين عاما من ذلك المؤتمر.
فأى شئ فعل المخططون (318) لتنفيذ أهدافهم خلال الفترة التى قرروها لإنشاء دولتهم؟!
لقد بدأوا كما هو معلوم بمحاولة إغراء السلطان عبد الحميد بإعطاء اليهود قطعة أرض فى فلسطين ليقيموا عليها وطنا قوميا لهم وتكفلوا فى مقابل ذلك بما يغرى أى حاكم فى الأرض لا يريد إلا الحياة الدنيا ولا يريد إلا الملك والسلطان (كما صوروا السلطان عبد الحميد!)
كانت الدولة العثمانية فى ذلك القوت تعج بالمشاكل التى لا تتركها فى راحة..
فالحالة الاقتصادية متدهورة والقلاقل تتلاحق فى قلب الدولة وفى أطرافها يقوم بها حزب الاتحاد والترقى الذى يشكل أغلبية أعضائه يهود الدونما المتمسلمون (319). وتقوم بها الأقليات غير الإسلامية بتحريض من روسيا وبريطانيا: روسيا تحرض الأرمن الأرثوذوكس (320), وبريطانيا تحرض بقية الطوائف كما تقوم مع فرنسا بتشجيع حركات " القومية العربية " التى يحملها نصارى لبنان وسوريا يحرضون بها العرب على الثورة والتمرد على سلطان الخلافة بغية تفكيك الدولة الإسلامية والقضاء على " الرجل المريض " كما كانوا يسمون الدولة العثمانية ليرثوا تركته ويوزعوها أسلابا فيما بينهم..
وفى وسط هذه الحال المضطربة تقدم " هرتزل " بعرضه السخى المغرى إلى السلطان عبد الحميد.(1/412)
عرض عليه قروضا طويلة الأجل ومشروعات لانعاش الاقتصاد العثمانى المتأزم وعرض عليه التدخل لدى روسيا وبريطانيا لكف أيديهما عن إثارة الأقليات فى كل مكان.. وكانت هذه بالذات من أشد ما يستخدمه الأعداء لإجهاد الدولة وعدم إعطائها فرصة لالتقاط الأنفاس..
وكان رد عبد الحميد حاسما ناصعا عملاقا.. كما ينبغى للقائد المسلم أن يكون.
لو كان يريد السلطان والجبروت ومتاع الحياة الدنيا كما صوره أعداؤه ليشوهوا صورته انتقاما من موقفه العنيد الواعى من مخططات الصليبية الصهيونية لتدمير المسلمين والقضاء على الإسلام لقبل العرض اليهود الصليبى وانساق معه وأصبح ط بطلا تاريخيا " مثل الذين توزعوا أسلابه من بعده وحكموا بلاد العالم الإسلامى تحت السلطان الصليبى الصهيونى وصاروا " أبطالا تاريخيين ".. تتركز بطولتهم فى تذبيح المسلمين وتسخير أوطانهم لمصالح الصهيونية والصليبية!
ولكن الرجل المسلم قال قولته المشهورة: إن هذه ليست أرضى ولكنها أرض المسلمين وقد رووها بدمائهم وفى كل شبر منها شهيد.. ولا أملك أن أتنازل عن شبر واحد منها!
وكان ما ان مما يعرفه الجميع..
عزل عبد الحميد بعد أن لوثت سمعته بكل شناعة يمكن أن يوصف بها حاكم!
وأثيرت النعرة " الطورانية " على يد حزب الاتحاد والترقى وقامت الدعوة إلى تتريك الدولة لإثارة العرب حتى يرفعوا شعار " العروبة " ويثورا " الثورة العربية الكبرى " بقيادة لورنس - الذى سمى لورنس العرب "!! لتفتيت وحدة المسلمين وإثارة العداوة والبغضاء بينهم وتمهيدا وتسهيلا للأحداث التى ستجرى فيما بعد!
ثم قامت الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) أو أقيمت- (321) للقضاء النهائى على الدولة العثمانية وفصل العالم العربى عنها بما يه فلسطين الى يراد إقامة الدولة اليهودية فيها بعد أن عجز اليهود عن إقامة الدولة فيها وهى فى ظل الدولة العثمانية.(1/413)
ثم جئ بكمال أتاتورك ليجهز على الخلافة ويذبح المسلمين ويدير ظهر تركيا للإٍلام بعد أن كانت هى مركز الخلافة ومركز القوة السياسية والعسكرية للعالم الإسلامى (322) ويجعلها تابعا ذليلا لأوربا وتضفى عليه فى الوقت ذاته البطولات الزائفة ليكون نموذجا يحتذى من بعد فى بقية أرجاء العالم الإسلامى (323).
ووزعت أسلاب " الرجل المريض " بعد القضاء عليه بين بريطانيا وفرنسا صديقتى اليهود ووضعت فلسطين بالذات تحت الانتداب البريطانى وبريطانيا يومئذ هى زعيمة العالم الصليبى وصاحبة الإمبراطورية " التى لا تغيب عنها الشمس " والنصيرة الأولى للصيهونية ووزير خارجيتها " بلفور " صاحب وعد بلفور المشهور من أصل يهودى ومندوبها السامى الذى عينته فى فلسطين " صمويل هور " يهودى. وفى ظل الانتداب تم التحضير لإنشاء الدولة بتسليم الأراضى التى تملكها الدولة لليهود وما لزم من بقية الأرض يشترى بأُمان مغرية ثم يغرى الذين باعوا الأرض بإنفاق ما حصلوا عليه من ثمنها على الفتيات اليهوديات اللواتى يعملن فى " تل أبيب " لهذا الهدف!!
أما ما حول فلسطين فقد قسم إلى دويلات ضعيفة لا تملك أمر نفسها فهى تحت الحكم البريطانى أو الفرنسى لا تملك قوة سياسية وهى تحت الاحتلال الصليبى ولا قوة حربية بطبيعة الحال فجيوشها - التى تسمى جيوشا من باب المجاز فحسب هى جيوش للزينة والاستعراض فى الحفلات ولهدف آخر هو تكريه العرب فى الجنية وحمل السلاح لما يلقونه فى فترة التجنيد الإجبارى من مهانة وذل متعمدين لا تستوجبهما التربية العسكرية فى ذاتها ولا يعامل الإنجليز والفرنسيون جنودهم بهما فى بلادهم وذخيرة هذه " الجيوش: وسلاحها فى يد بريطانيا وفرنسا فغن كفت عن الإمداد بالسلاح أو حتى بالذخيرة عجزت تلك " الجيوش" عن إطلاق طلقة واحدة ولو فى الهواء! (324)(1/414)
وهذه الدويلات فوق ذلك.. أى فوق ضعفها السياسى والحربى والاقتصادى أيضاً (325) متعادية متخاصة لا يربط بينها رابط! لا الإسلام.. ولا حتى " العروبة ولا حسن الجوار.. بل انقلب هذا كله إلى عدوات وخصومات.
لقد كانت دعاوى " الوطنية " و القومية قد بذرت بذورها فى تلك الأرض من زمن سابق تمهيدا لذلك اليوم " الموعود " وكان لكل من الدعويين " زعماء " و " أبطال "! وقد سردنا فى الفصل السابق قصة سعد زغلول فى مصر وفى كل بلد كانت هناك " قصة " مشابهة أو مماثلة.. وكانت ذلك كما سردنا هناك أثرا من آثار " التخلف العقدى " الذى استغله الغزو الفكرى ونجح فى استغلاله فتوغلت سموم الكيد فى حياة الأمة بسبب بعدها عن حقيقة الإسلام وعن الصبر والتقوى اللذين أخبر الله عباده أنهماهما الوسيلة التى تقى الأمة من آثار السم:
{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [سورة آل 3/120]
لقد بذرت تلك الدعاوى فى الأرض الإسلامية لتفرق وحدة الأمة وتمزق رابطتها. فمن شان القومية والوطنية أن تبذر التحاسد والتباغض فى نفوس الناس تجاه الوطنيات الأخرى والقوميات الأخرى لأن كلا منهم يريد أن يستحوذ على الهدف وحده ويحرم منه الآخرين ولقد نجحت الوطنية القومية فى أوربا لأسباب محلية هناك (326) وظنت أوربا أنها لعبة ناجحة لأ ها تعاصرت فى تاريخها مع التقدم الصناعى ومع الرخاء الذى ساد أوربا نتيجة احتلالها بلاد العالم الإسلامى ونهب خيراته واستغلالها على أوسع نطاق.. وإن كانت أوربا قد شقيت وأشقت العالم كله معها بويلات الحروب المتتابعة التى نجمت عن تنافس الوطنيات والقوميات وتقاتلها على مناطق النفوذ..
أما المسلمون!(1/415)
لقد كانت دعاوى الوطنية والقومية فى الوطن الإسلامى فتنة لا تعود عليهم إلا بالوبال وحده فلم تكن لهم القوة التى يكسبون بها شيئا من ورائها.. وإ ما يجنون من تمزقهم أ يكونوا لقما سائغة فى فم العدو يزدردها فى سهولة بعد أن كان قد عجز من قبل عن التهام اللقمة الكبيرة المتجمعة على كل الضعف والوهن الذى كان قد أصاب " الرجل المريض " (327)!
وما زالت أذكر بالعجب والأسف اللذين أحسست بهما أول مرة وأنا صغير ما قاله الوزير العراقى المسئول فى أواخر الثلاثينيات حين صار للعراق أسطول جوى إذ قال: لقد أصبحت لدينا طائرات حربية تستطيع أن تضرب القاهرة بالقنابل وتعود دون توقف!
يا عجبا! ويا أسفا!
فإذا كانت الطائرات العراقية عاجزة فى ذلك الوقت عن ضرب الإنجليز فى قاعدتهم داخل العراق فى الموصل فلماذا تفكر فى ضرب القاهرة؟! وماذا صنعت لهم القاهرة حتى يفكروا فى ضربها؟!
ولكن هكذا يفعل السم المبثوث عن قصد فى الأرض الإسلامية الذى صنعت له الزعامات والبطولات ليفتن بها الناس فيزدادوا تمزقا كلما ازدادوا فتنة ويزدادوا ضعفا وهوانا على العدو.
وهل كان الوجود الصليبى فى المنطقة يأمن على نفسه وهل كان الوجود الصهيونى يأمن على نفسه ول كان المسلمون فى تلك البقعة م الأرض وفى غيرها أمة واحدة كما أمرهم ربهم:
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)} [سورة آل 3/103]
فإذا كانت هذه حال تلك الدويلات المحيطة بالجولة اليهودية المزمع إنشاؤها من الضعف السياسى والحربى والاقتصادى ومن الفرقة والخصومة حتى لا تجتمع لهم كلمة فماذا بقى مما يخشاه الأعداء!(1/416)
نعم! بقى شئ واحد.. هو الشباب!
فالشباب قوة خطرة إذا تجمع على هدف معين وأخذه مأخذ الجد..
ومن أجل ذلك كانت عناية الأعداء منذ وقت مبكر بتمييع هذا الشباب وإتلافه وإشاعة التفاهة والانحلال فى كيانه لكى لا يتجمع فى يوم من الأيام على هدف معين ويأخذه مأخذ الجد.. وكانت هذه هى حكمة الصحة العارية والأفلام العارية والشواطئ العارية. وحكمة إخراج المرأة من دينها وأخلاقها وتقاليدها لتخرج متبرحة فى الطريق وتكون فتنة لنفسها وللشباب من حولها وتتحقق أهداف المبشر النصرانى " زويمر " الذى أوصى أ تدفن جثته فى مقابر اليهود مما يدل على أصله الحقيقى وعلى أن الحقد اليهود ى والصليبى قد اجتمعا فى شخصه - حين قال مخاطبا المبشرين فى المؤتمر التبشيرى الذى عقد فى القدس سنة 1935:
" إنكم أعددتم نشئا (فى بلاد المسلمين) لا يعرف الصلة بالله ولا يريد أن يعرفها وأخرجتم المسلم من الإسلام ولم تدخلوه فى المسيحية وبالتالى جاء النشئ الإسلامى طبقا لما أراده الاستعمار المسيحى لا يهتم بالعظائم ويحب الراحة والكسل ولا يصرف همه فى جنياه إلا فى الشهوات.
" فإذا تعلم فللشهوات وإذا جمع المال فللشهوات وإ تبوأ أسمى المراكز ففى سبيل الشهوات يجود بكل شئ.
" إن مهمتكم تمت على أكمل الوجوه وانتهيتم إلى خير النتائج وباركتكم المسيحية ورضى عنكم الاستعمار فاسمروا فى أداء رسالتهم فقد أصبحتكم بفضل جهادكم المبارك موضع بركات الرب" (328).
بهذا التخطيط المحكم من جميع نواحيه قامت الدولة اليهودية عام 1948 بعد خمسين عاما من مؤتمر " هرتزل " عام 1897 واعترفت بها أمريكا فى منتصف الليل بتوقيتنا المحلى وبعد عشر دقائق أعلنت روسيا التى قامت على أساس لا دينى والتى ترفض من حيث المبدأ قيام أى دولة فى الأرض على أساس دينى أعلنت اعترافها بالدولة اليهودية.(1/417)
وكانت قد جرت قبل الإعلان الرسمى للدولة مسرحية الحرب بين الجيوش " العربية وبين العصابات اليهودية خلال عام 1948 لتستقر القوات كلها على خط التقسيم المعد من قبل والمتفق عليه من قبل! وكان أحد فصول المسرحية أن تمتنع بريطانيا عن تموين الجيش المصرى بالذخيرة فيتوقف الجيش عن القتال! ويتوقف بالمصادفة البحتة! عند خط التقسيم!
وفى أثناء ذلك وقعت المفاجأة المذهلة.. التى لم تكن لأحد على بال!
دخل الفدائيون من الإخوان المسلمين ساحة المعركة بعزيمة المسلم المجاهد فى سبيل الله وبنية الشهادة فى سبيل الله.
وأحس اليهود على الفور بالفرق الهائل الخطير بين القتال مع أولئك المجاهدين والقتال مع الجيوش المسرحية التى شاركت فى المسرحية المعد من قبل والمتفق عليها من قبل!
وكانت المفاجأة مذهلة لا لليهود وحدهم ولكن للعالم الصليبى كله!
فأما اليهود فكانوا بعد أن التقوا بالفدائيين فى بضع معارك كانوا إذا سمعوا صيحة " الله أكبر ولله الحمد " فروا من معسكراتهم تاركين أسلحتهم وذخيرتهم ومؤنهم لينجوا بجلودهم من هجمات الفدائيين الحريصيين على الموت حرص أعدائهم على الحياة.
وأما الصليبية فلم تكن مفاجأتها أخف وقعا وإن لم تكن مشاركة بجنودها المباشرين فى ساحة القتال!
لقد كانت الدعوة الإسلامية بقيادة الإمام الشهيد حسن البنا قد أزعجت الصليبية من أولى خطواتها عام 1928 وخاصة حين نشطت فى منطقة الإسماعيلية حيث كانت القاعدة البريطانية فى ذلك الحين. وكانت بريطانيا - زعيمة الصليبية وقتئذ تتابع حركات الجماعة التى أنشأ÷ا حسن البنا مراقبة دقيقة وتتحسس أخبارها وتحاول أن تنفذ إليها عن طريق جواسيسها.
وأذك عبارة ظهرت فى الطبعة الأولى لكتاب " الاتجاهات الحديثة فى الإسلام Modern Trends in Islam تأليف المستشرق الإنجليزى جب Gibb عام 1936 0 عدلت فى الطبعات التالية) تبين مدى قلق بريطانيا زعيمة الصليبية من هذه الجماعة.(1/418)
يتحدث جب فى هذا الكتاب عما سماه " الاتجاهات الحديثة فى الإسلام " ويقف بتلك الحداثة عند جمال الدين الأفغانى ومحمد عبده (329). ثم يكتب (فى الطبعة الأولى) هامشة تعليقية يقول فيها: " ظهرت بعد ذك أى بعد الفترة التى جعلها موضوع دراسته) جماعة تسمى جماعة الإخوان المسلمين يتزعمها رجل يسمى حسن البنا ومن السابق لأوانه الحكم على هذه الجماعة وإن كان يبدو أنها ذات خطورة خاصة "!
وواضح من العبارة أن بريطانيا تتخوف من هذه الجماعة وأ ها فى الوقت ذاته لم تستطع أ تسبر غورها تماما مع تخوفها منها..
وإذا كان هذا هو الحال عام 1936 عند ظهور الطبعة الأولى من ذلك الكتاب فقد ظل الحال على نحو قريب منه حتى عام 1948 حين دخلت القوات الفدائية فى فلسطين.. مع فارق واحد هو أن بريطانيا قد زادت تخوفا من الجماعة بدليل تدخلها المباشر لمنع الإمام الشهيد من تشريح نفسه للانتخابات فى دائرة الإسماعيلية عام 1942 (330) وضغطها على النحاس باشا رئيس الحكومة القائمة يومئذ ليمنع هذا الترشيح ولكنها من جانب آخر لم تكن حتى تلك اللحظة قد استطاعت أن تسبر غور هذه الجماعة مع تخوفها منها رغم كل محاولات الجاسوسية أن تنفذ خلالها.
لذلك كانت المفاجأة بالنسبة إليها مذهلة كما كانت بالنسبة لليهود!
وقد كانت المسألة مفاجأة لبريطانيا وللعالم الصليبى كله من ورائها من جهتين اثنتين على الأقل:
فأما الجهة الأولى فهى أن العالم الصليبى كان قد ساء ظنه بالإسلام كله أنه قد " شاخ " وانتهى ولم يعد قادرا - بعد الضعف المزرى الذى وصل إليه المسلمون خلال القرون الأخيرة - أن ينبعث من جديد فى صورة " جهاد " إسلامى!(1/419)
لقد كانت كل حركات الجهاد الإسلامى قد أخمدت وقضى عليها سواء فى الهند أو فى الشمال الأفريقى أو فى السودان أو فى غيره من بقاع العالم الإسلامى. ومكان الغزو الفكرى المسموم قد حول روح الجهاد إلى حركات " سياسية " أقصى ما تلجأ إليه هو إقامة " مظاهرات " فى الشوارع تقذف أبواب الحوانتي ومصابيح النور ورجال الشرطة بالأحجار ثم تعود إلى بيوتها فى نهاية المطاف! وتدخل فى " مفاوضات " خاسرة بين الحين والحين ويتظاهر العدو فيها بالتراجع عن موقفه المرة تلو المرة إزاء " المقاومة العنيدة التى لا تلين! " التى تبديها الحركات السياسية بينما العدو يريد أن يطمئن إلى الحكام الذين سيتسلمون البلاد بعد " الاستقلال " أ هم قد تخلوا تماما عن فكرة الحكم بما أنزل الله!! وعندئذ يسلمهم " أمانة " الحكم!!
لذلك لم يدر فى خلد الصليبية أن " الإسلام " يمكن أن ينبعث من جديد فى صورة جهاد إسلامى " ورغم تخوفها من جماعة الإخوان المسلمين فى مصر ومراقبتها الدائمة لها وتخوفها الدائم من مفاجأت الإسلام التى قال عنها جب فى كتاب وجهة العالم الإسلامى Whither Islam: عن أخطر ما فى هذا الدين أنه ينبعث فجأة دون أسباب ظاهرة ودون أن تستطيع أن تتنبأ بالمكان الذى يمكن أن ينبعث منه! رغم هذا كله فلم تكن الصليبية تتوقع أن يكون الانبعاث على هذه الصورة!(1/420)
وأما الجهة الثانية أن الصليبية قد عنيت بدك قواعد الإسلام فى مصر بالذات من وقت مبكر (331) منذ حملة نابليون الصليبية على مصر عام 1798 أى قبل تلك الأحداث بقرن ونصف قرن من الزمان ولم تكف أبداء خلال تلك الفترة الطويلة عن العمل بكل وسائل التى بيناها فى الفصل السابق لمحاولة القضاء على الإسلام وإخراج مصر نهائيا من الدائرة الإسلامية وخاصة خلال الفترة الاحتلال البريطانى الذى جثم على أرض مصر منذ عام 1882 (332) لذلك كانت المفاجأة للعالم الصليبى أن تكون مصر بالذات هى التى تنتج مثل هؤلاء الفدائيين وترسلهم فى تلك اللحظة الحرجة إلى القتال!
عندئذ التقت الصليبية والصهيونية فى هدف واحد مشترك كما التقت فى قرار واحد مشترك أنه لابد من إبادة هذه الجماعة ليستتب الأمر للدولة اليهودية وللصليبية فى ذات الوقت.
لقد كان إنشاء الدولة اليهودية فى وسط المحيط العربى الإسلامى هو ذاته هدفا صليبيا أشار إليه اللورد كامبل فى تقريره الشهير عام 1907 م تحسبا ليقظة العملاق كما عبر صاحب التقرير!
كانت الدولة الصليبية قد أقلقها بوادر اليقظة فى المنطقة قبل أن يستشعرها أصحابها أنفسهم! ذلك أن يعرفون هذا الدين كما يعرفون أبناءهم كما أخبر عنهم اللطيف الخبير:
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [سورة البقرة 2/146]
ولما كانت بريطانيا هى زعيمة العالم الصليبى يومئذ وصاحبة النفوذ الأوسع فى المنطقة فقد لجأت إليها الدولة الصليبية لتبحث لها الأمر الذى يشغلها جميعا وتتعاون عليه جميعا وإن أرادت كل لنفسها أن تفوز منه بأكبر نصيب!(1/421)
وانتدبت بريطانيا اللورد كامبل - أحد أعضاء مجلس اللوردات - ليبحث الأمر ويقدم تقريرا لأصحاب الشأن أجمعين فكتب تقريره الشهير الذى قال فيه: إن هناك شعبا واحد يقطن ما بين المحيط إلى الخليج (333). لغته واحدة ودينه واحد وقبلته واحدة وثقافته واحدة وآماله مشتركة وأرضه متصلة.. وهو اليوم فى قبضة أيدينا.. ولكنه بدأ يتململ.. فماذا يحدث لنا غدا إذا استيقظ العملاق؟
إن الذى يحدث غدا والذى تتوجس منه الصليبية واضح ولا شك.
فبصرف النظر عن الحقد الصليبيى الذى يكره الإسلام لأنه الإسلام ويكره المسلمين لأنهم المسلمون:
{إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} [سورة آل 3/120]
بصرف النظر عن الحقد فهناك إلى جانبه المصالح السياسية والاقتصادية التى تتأثر تأثرا بالغا إذا استيقظ العملاق. فإن أوربا لم تصبح هى أوربا التى نعرفها إلا بما سلبته من أراضى المسلمين وخيرات المسلمين.
فماذا كانت أوربا قبل التوسع الاستعمار فى العالم الإسلامى؟ وماذا كان يمكن أن تكون مهما بلغت قوتها إذا ظلت محصورة فى داخل نفسها تتصارع دولها يما بينها كما كانت تتصارع قبل أن تتجه بصراعاتها إلى الخارج؟
إنما أصبحت أوربا بهذه القوة وهذه الرفاهية وهذا التقدم بما تدفق عليها من ثروات نتيجة الاحتلال الصليبى للعالم الإسلامى فماذا يحدث غدا إذا استيقظ العملاق واسترد خيراته المنهوبة وكرامته المسلوبة؟
لن يكون خيرا لأوربا بطبيعة الحال.
وهنا يتقدم اللورد كامبل بالحل.
لابد أن نقطع اتصال هذا الشعب بإيجاد دولة دخيلة تكون صديقة لنا وعدوة لأهل المنطقة وتكون كالشوكة تخز العملاق كلما أراد النهوض.
وتلك هى الدولة اليهودية التى قامت عام 1948 م.. وذلك هو التخطيط الصليبى لإنشائها منذ عام 1907 على الأقل إن لم يكن قبل ذلك التاريخ.(1/422)
لذلك التقت الصليبية العالمية والصهيونية العالمية فى هدف واحد مشترك كما التقت فى قرار واحد مشترك: أنه لابد من إبادة هذه الجماعة المسلمة ليستتب الأمر للدولة اليهودية للصليبية فى ذات الوقت
لم يعد الأمر يحتمل الخط البطئ.. خط الإفساد الخلقى والغزو الفكرى.. ففى وسط هذا كله وبعد عمل دائب لمدة قرن ونصف قرن من الزمان قامت الصحوة الإسلامية على هذه الصورة الخطيرة التى كشفت عنها الحرب الفدائية فى فلسطين.. فماذا بقى؟
فلتستمر الأدوات كلها فى العمل لا تتوقف.. فلتستمر الكتب والمقالات والأبحاث والدراسات التى تهاجم الدين والأخلاق والتقاليد.. ولتستمر الصحف العارية والأفلام العارية والشواطئ العارية.. ولتستمر الفتيات المتبرجات فى الطريق.. ولتستمر المراقص والحانات ودور اللهو ودور الفجور.. ولتضاعف عملها.. ولكن لابد من عمل حاسم لوقف الخطر المرهوب..
وتوالت الأحداث.. من اعتقال وتعذيب وتشريد بعد أن اجتمع سفراء الدول الأجنبية مع قواد القوات البريطانية فى مدينة " فايد " بالإسماعيلية " وأرسلوا إنذارا إلى الحكومة المصرية بضرورة حل جماعة الإخوان المسلمين ووقف نشاطها.. وبلغت الأحداث قمتها بمقتل الإمام الشهيد عام 1949.
? ? ?
كان ظن الصليبية والصهيونية التى دبرت مقتل الإمام الشهيد بأيد إسلامية " أن قتله سيحل القضية كلها مرة واحة وإلى الأبد ويريح منها أعداء الإسلام فلا يعودون يشغلون بالهم وأعصابهم بتلك الأمور
وكانوا معذورين فى ذلك الظن وإن كانوا فى الوقت ذاته غافلين
كانوا معذورين فى ظنهم أن مقل حسن البنا سيقضى على الجماعة التى أنشأها فقد كان بالنسبة لتلك الجماعة كل شئ فى حقيقة الأمر.. كان هو منشئها ومتعهدها بالتوجيه والرعاية كان هو عقلها المفكر وقلبها النابض وروحها الدافعة. فظنوا ولهم العذر أنهم إن قضوا عليه فقد قضوا على المحرك الحقيقى فتموت الحركة من تلقاء ذاتها وتنتهى..(1/423)
ولكنه كانوا غافلين عن سنة ربانية هائلة: أن الدعوة التى يقدم لها الدم لا تموت
وكانوا غافلين عن أمر هائل: أنهم هم أنفسهم هم المسخرون بقدر من الله لإحياء هذه الدعوة بكثرة ما يسفكون فيها من الدماء
? ? ?
مر عامان من الكبت والإرهاب الذى تولته حكومة إبراهيم عبد الهادى حتى تغيرت الأحوال السياسية فى مصر عام 1950 حين أطلقت الحريات وسمح بإجراء انتخابات جديدة فى ظل ظروف عادية.
وهنا وقعت المفاجأة..
فقد حدث اندفاع هائل نحو الإسلام فى جميع المجالات
فى الجامعة كانت انتخابات اتحاد الطلاب تقع بكاملها فى يد الإخوان المسلمين فى بعض الكليات أو تقع غالبيتها فى أيديهم على الأقل. وتسرب " الإٍسلام " إلى نقابات الأطباء والمهندسين والمحامين والعمال. وأخطر من ذلك كله أنه تسرب إلى قوات الجيش والبوليس فوجد فى كل منهما ضباط برتب مختلفة ينتمون إلى " الحركة " الإسلامية ويعملون لنشر الدعوة فى مجالاتهم أو فى غيرها على السواء
عندئذ تبينت الصهيونية والصليبية أن الضربة الأولى لم تكن هى القاضية وأنه لابد من ضربة جديدة أعنف من الأولى وأشد وتكون هى القاضية فى تقدير الشيطان.
ولكن أحداثا عالمية كانت قد وقعت فى تلك الأثناء غيرت خريطة المنطقة كلها وإن لم تغير شيئا من الأهداف..(1/424)
كانت أمريكا قد برزت إلى الوجود بوصفها " زعيمة العالم الحر " بعد أن حطمت الحرب بريطانيا وفرسنا وحولتهما إلى دول من الدرجة الثانية.. وصاحب ذلك أو ترتب عليه أمران مهمان بالنسبة للمنطقة الإسلامية وسير الأحدث فيها. الأول هو انتقال زعامة الصليبية إلى أمريكا مع انتقال زعامة العالم الحر إليها فالعلم الحر المزعوم هو الصليبية فى حقيقة الأمر. وزعامة الصليبية تقع دائما فى يد الدولة الأقوى فى العالم الصليبى. فحين كانت هى بريطانيا كانت زعامة الصليبية فى يدها ولما صارت هى أمريكا انتقلت إليها الزعامة بحكم الأمر الواقع فإن العالم الصليبى كله يحارب الإسلام ولكنه يسلم قيادة الحرب بحكم الأمر الواقع ألى أقوى دولة فيه وهم يتنافسون فيما بينهم ويتصارعون فى الأمور كلها أما فى محاربة الإسلام فهم صف واحد متساند متعاون متكافل يشد بعضه بعضا
والأمر الثانى أن اليهودية العالمية نقلت نقطة ارتكازها من بريطانيا إلى أمريكا وليس معنى هذا أنها تركت اعمل فى بريطانيا أو التعاون معها. كلا فهى تعمل من جميع نقط وجودها.. من بريطانيا ومن فرنسا ومن ألمانيا ومن جنوب أفريقيا ومن روسيا ولكنها تجعل نقطة ارتكازها الرئيسية فى الدولة الأقوى ليكون ضمان " مصالحها" أو ضمان شرورها أكبر ومن هنا صار التعاون الأكبر للقضاء على الحركة الإسلامية قائما بين اليهودية العالمية وبين أمريكا بعد أن كان قائما من قبل بينها وبين بريطانيا.
ولسنا هنا نؤرخ للأحداث لا بالنسبة للصحوة الإسلامية ولا بالنسبة لمخططات الأعداء للقضاء عليها فإن هذا له مجال آخر وله كتاب متخصصون.
إنما نحن على مدار البحث كله نرسم خطوطا عريضا لظواهر تاريخية رئيسية..(1/425)
فكما أننا لم نؤرخ للجماعة الأولى ولكنا أبرزنا خطوطا عريضا تمثل أبرز سماتها ولم نؤرخ لخط الانحراف التاريخى وإنما أبرزنا أهم الخطوط الرئيسية فيه فكذلك نحن لا نؤرخ لأحداث الصحوة الإسلامية إنما نتناولها كظاهرة تاريخية فنشير بقدر ما تسمح طبيعة البحث إلى أهم الخطوط البارزة فى شأنها.
? ? ?
قررت الصليبية الصهيونية أنه لابد من توجيه ضربة ثانية حاسمة للحركة الإسلامية تقضى عليها القضاء الأخير.. ومن ثم تعاونت الصهيونية مع أمريكا حسب مقتضيات الوضع الجديد لتوجيه تلك الضربة وكانت الأداة التى اختيرت لذلك هى جمال عبد الناصر والانقلابات العسكرية.
إن المكان الذى تجتمع فيه الصليبية والصهيونية اجتماعا " طبيعيا " حسب منطق الأحداث المعاصرة هو الولايات المتحدة الأمريكية فهى صليبية بحكم الأمر الواقع وهى صهيونية بحكم خضوع الدولة الأمريكية والسياسية الأمريكية كلها للنفوذ اليهودى. ومن هنا ندرك الدور الرئيسى لأمريكا فى إدارة الأحداث فى المنطقة الإسلامية لحساب الصليبية والصهيونية معا فى آن واحد.
أما اختيار الانقلابات العسكرية أداة لحرب الإسلام فهى كما أسلفنا فى نهاية الفصل السابق مبنية على الخبرة السابقة للصليبية الصهيونية المتمثلة فى تجربة أتاتورك وهى تجربة تعتز بها الصليبية اعتزازا كبيرا وتعتبرها " كنزا ثمينا " فى حوزتها لمثل هذا الهدف العظيم.. هدف القضاء على الإسلام وتذبيح المسلمين. وإذ كانت هذه التجربة تعتبر فى حساباتهم ناجحة فى أداء مهمتها فقد قررت أمريكا دون تردد أن تستخدمها لذات الهدف الذى استخدمت فيه من قبل على يد أتاتورك.(1/426)
إن العسكريين بطبيعة تكوينهم النفسى محبون للسلطة وميالون إلى تركيزها فى أيديهم فإ ذا اختير للانقلاب العسكرى رجل يشتمل على خصلتين رئيسيتين: جنون العظمة وقسوة القلب إلى جانب بغض الإسلام فقد تم للعملية المطلوبة كل عناصر النجاح وسوف يقوم العسكرى المجنون بعملية الإبادة المطلوبة بكل العنف المطلوب وبأقس الوسائل التى تخطر أو لا تخطر على البال.
وقد نجحت التجربة الأولى على يد أتاتورك لاشتمالها على كل العناصر المطلوبة من حب السلطة وجنون العظمة وقسوة القلب وبغض الإسلام بعد أن أضيفت إليها " التزيينات " اللازمة من " البطولات " الزائفة حين انسحبت أمام " بطشه القاهر " قوات الحلفاء التى كانت تحتل الأناضول وهى التى خرجت منتصرة من الحرب العالمية من قبل فأصبح اسمه " الغازى أتاتورك " بدلا من أن يكون لقبه الحقيقى " أتاتورك السفاح "
واليوم يراد توجيه ضربة قاضية للحركة الإسلامية ى مصر مركز الثقل الثانى للعالم الإسلامى بعد أن ثبت أنه ما يزال يمثل مركز ثقل حقيقى بعد كل تدبير الصليبية الصهيونية فيه إذ تمتد الدعوة الإسلامية منه إلى البلاد العربية المحيطة.. فى سوريا والأردن والعراق والسودان.. ويمكن أن تمتد منه إلى أبعد من ذلك إذا ترك بغير تدمير..(334)
إذن فلتلجأ الصليبية الصهيونية إلى الانقلابات العسكرية بحسب رصيد تجربتها السابقة كما أشار " مروبرجر" فى كتاب " العام العربى اليوم (ص 248 من الأصل الإنجليزى الطبعة الثانية سنة 1964).(1/427)
أما اختيار عبد الناصر بالذات لهذه المهمة فليس فى أيدينا حتى الآن الوثائق التى تبين متى كان أول اتصال اليهود به والتعرف عليه واكتشاف وجود الخصال المطلوبة فيه: جنون العظمة وقسوة القلب وبغض الإسلام (335). إنما أول اتصال رسمى معلن بينه وبين اليهود هو الذى تم فى أثناء حصار الفالوجا بفلسطين عام 1949 م إذ تم اللقاء الأول بينه وبين " إيجال ألون " لمدة ساعة كاملة ثم تعددت الاجتماعات بعد ذلك. وقد اشتهر أمر هذه اللقاءات بحيث لم يعد فى حاجة إلى إثبات.. كما أن " كاتب الثورة " محمد حسنين هيكل أقر به إقرارا صريحا فى مقال له " بصراحة " منسوبا إلى جمال عبد الناصر نفسه.
واستغرق الأمر عامين كاملين فى التحضير والترتيب من عام 1950 إلى عام 1952 حين قامت " الحركة المباركة (336) " التى سميت " الثورة " فيما بعد وقام جمال عبد الناصر بالدور المطلوب على الوجه الأكمل فأقام للمسلمين مذبحتين من أبشع مذابح التاريخ الأولى عام 1954 - 1955 والثانية عام 1965 - 1966 م.
? ? ?
مرة أخرى.. لسنا نؤرخ لأحداث الصحوة الإسلامية ولا لمخططات الأعداء للقضاء عليها إنما نشير فقط إلى الخطوط العريضة التى تبرز أهم الاتجاهات..
فى 26 أكتوبر 1954 افتعلت مسرحية الإسكندرية وتم على أثرها اعتقال أكثر من عشرين ألفا من شباب الإخوان المسلمين وشيوخهم فى السجن الحربى وغيره من السجون ووقع عليهم من ألوان التعذيب الوحشى ما تعجز كل الكلمات عن وصفه مهما تكن دقة المتكلم فى الوصف وبراعته فى التعبير (337). وكانت أدوات التعذيب قد أقيمت فى السجن الحربى ابتداء من يونيو 1954 - أى قبل الحادث بخمسة أشهر وأخذ الزبانية يدربون على استخدامها بواسطة الخبراء من النازي الذين كان يستخدمهم هتلر لأعمال التعذيب فى معسكرات الاعتقال الألمانية استؤجروا خصيصا لهذا الأمر منذ ذلك التاريخ ! (338).(1/428)
كان ما حدث للإخوان المسلمين فى عام 1954 وثيق الصلة بأمر آخر غير مسرحية الإسكندرية.
كان وثيق الصلة بتقرير " جونستون " المندوب الخاص للرئيس أيزنهاور فى " الشرق الأوسط " المكلف ببحث القضية الفلسطينية وتقديم تقرير الرئيس أيزنهاور عن الحل الأمثل للقضية.
وقد قام " جونستون " بالمهمة التى كلف بها فجال خلال المنطقة وقابل العرب واليهود ثم قدم تقريرا مفصلا مبنيا على ثلاث نقاط رئيسية "
النقطة الأولى: هى تقسيم مياه نهر الأردن بين العرب واليهود بالنسبة التالية: 10% تقريبا لكل من سوريا ولبنان باعتبار أن منابع النهر تجرى فى كل من البلدين. و 40% تقريبا لكل من الأردن وإسرائيل فأما إسرائيل فتأخذ هذا القد لاستصلاح صحراء النقب لإيواء ثلاثة ملاين من المهاجرين اليهود الجدد وأما الأردن فتأخذ هذا القدر لاستصلاح ثلاثة ملايين دونم (فى الضفة الغربية) لتوطين اللاجئين العرب (339).
النقطة الثانية: هى أنه نظرا لعدم وجود حدود واضحة بين إسرائيل والبلاد العربية المحيطة بها (340). فإنه كثيرا ما يدخل العربى الأرض الإسرائيلية وهو يظن أنه مازال فى الأرض الأرض العربية أو يدخل الإسرائيلى الأرض العربية وهو يظن أنه مازال فى الأرض الإسرائيلية فتنشأ عن ذلك اشتباكات حربية تسيئ إلى أمن المنطقة فيحسن تحديد حدود ولو مؤقتة بين إسرائيل والبلاد العربية - تحدد نهائيا فيما بعد (341). على أن تترك شقة حرام عرضها مائتا متر بين البلاد العربية وإسرائيل.
النقطة الثالثة: هى أنه إذا بقيت أمور أخرى مختلف عليها بين العرب واليهود فيجلس العرب واليهود على مائدة مستديرة لحل هذه الخلافات (342).(1/429)
ولا يعنينا الآن هذا التقرير ولا ما فيه من إجحاف بالعرب وخدمة مغلفة أو غير مغلفة لليهود.. فقد أصبح هذه كله فى ذمة التاريخ وما كان فى حقيقته إلا خطوة مرحلية تتوسع إسرائيل بعدها ما شاءت. وقد تجاوزت إسرائيل اليوم كل ما جاء فى ذلك التقرير فاستولت على الضفة الغربية بأكملها وعلى ثمانين فى المئة من مياه النهر وذبحت من المسلمين من ذبحت وطردت من طردت وحولت من حولت إلى لاجئين..
إنما الذى يعنينا هو الجملة الختامية التى ختم بها " جونستون " تقريره الذى كان فى ذلك الوقت هو الطريقة التى تريد بها أمريكا تثبيت إسرائيل على وضعها الذى كانت عليها وإعطاءها الشرعية اللازمة لوجودها والتى كان اليهود يحتاجون إليها كخطوة مرحلية يثبون بعدها وثبات جديدة فى تحقيق ما هو مخطط من قبل وما هو متفق عليه بين أمريكا وإسرائيل.
كانت الجملة الختامية على هذا النحو:
" ولكن طالما أ جماعة الإخوان المسلمين وهى جماعة قوية مسلحة متعصبة يبلغ تعدادها حوالى المليون فى مصر والبلاد العربية الأخرى.. طالما أن هذه الجماعة باقية بقوتها فلن يمكن تنفيذ هذا الحل ولن تستقر الأمور فى الشرق الأوسط " !!
وكان المعنى واضحا بكل تأكيد.. معناه: اقضوا لنا على هذه الجماعة لكى " يمكن تنفيذ هذا الحل ولكى تستقر الأمور فى الشرق الأوسط " !!
ورفع التقرير فى يونيو 1954 إلى الرئيس أيزنهاور فواق عليه.. وأعطيت الإشارة لجمال عبد الناصر للتنفيذ.
وهذا هو الذى يفسر فزع الرجل الطيب الأستاذ حسن السيد الذى كان يعيش فى وسطهم ويعرف ما يسمع منهم - ماذا يراد بالإخوان المسلمين !!
? ? ?
تمت المذبحة البشعة على يد السفاح" البطل " !
وقتل من قتل على حبل المشنقة أو على يد الزبانية فى أثناء التعذيب..
وعاشت البلاد فى رعب قاتل سنوات متلاحقات..
وبدا للناس - ظاهرا - أن الحركة الإسلامية قد انتهت إلى غير رجعة..
واطمأن الأعداء إلى ما تم من التدبير..(1/430)
كتب مروبرجر فى عام 1962 فى كتابه "العالم العربى اليوم ":
" وكانت أشد صورة لتجدد هذا الصراع (بين الاتجاه الدينى والاتجاه العلمانى Secular هى التى حدثت فى مصر بعد عام 1954..ذلك أن الإخوان المسلمين المتطرفين لما رأوا أن الحركة العلمانية (اللادينية (343)) تزداد قوة انقلبوا على زملائهم السابقين فى السلاح الذين استولوا على السلطة عام 1952.ولقد قام النظام (الحاكم فى مصر) بقمع الإخوان المسلمين بلا رحمة وقمع دعوتهم إلى الوحدة الإسلامية التى يقفون بها ضد الدعوة القومية اللادينية" (344).
ثم قال فى الصفحة التالية (345).
"إن الصراع بين الاتجاه الدينى القومى اللادينى هو صراع حتمى ولكن يمكن تأجيله بعض الوقت ولكن الغلبةفى ذلك الصراع ستكون للاتجاه القومى اللادينى ".
ثم كتب (ص 385 - 387) كلاما طويلا عن التغير الاجتماعى فى روسيا وتركيا ومصر خلص منه فى النهاية بأن جمال عبد الناصر قد أحدث اتجاها إلى العلمانية (اللادينية) فى مصر عن طريق تغيير مناهج التعليم وتشجيع الصناعة وتعليم المرأة وتغيير علاقات الأسرة إلخ قد يكون بطيئا ولكن لا رجعة فيه !
? ? ?
ولكن قدرا هائلا كان ينتظر جمال عبد الناصر وينتظر الصليبية الصهيونية من ورائه..
ففى سنة 1963 بدأت مخابراته تقول له: إن هناك حركة ما فى صفوف الإخوان المسلمين لا يعرف مصدرها بالضبط ولا يعرف حجمها بالضبط ولكنها بدأت تنشط.
وكانت مفاجأة أعنف من كل ما سبق !
أبعد كل ما حدث ؟!
لقد كانت الصحوة الإسلامية منذ بدائها مفاجأة " لأصحاب الشأن "من الصليبين واليهود !
وكان اتساع مداها بعد مقتل قائد الحركة الأول مفاجأة أخرى لأصحاب الشأن !
وكانت عودة النشاط فى صفوف الحركة بعد كل الذى فعله عبد الناصر من التعذيب الوحشى الذى لا مثيل له فى التاريخ (346) مفاجأة أعنف وأشد !
لذلك كانت مذبحة 1965 - على يد السفاح "البطل "أعنف بكثير من مذبحته السابقة سنة 1954.
? ? ?(1/431)
ومرة ثالثة نقول إننا لا نؤرخ لأحداث الصحوة الإسلامية ولا نؤرخ لجمال عبد الناصر ولا للمخططات الصليبية الصهيونية للقضاء على الحركة الإسلامية..
إنما نحن فقط ندرس هذه الظاهرة.. ظاهرة الصحوة الإسلامية..
لقد بدأت فى قلب رجل واحد فتح الله عليه ووهب له من إشراقة الروح وصفاء الصلة بالله ما يستشعر به عظمة الإسلام وما يتحرك به لتحقيق هذه العظمة فى واقع الحياة.
بدأ حياته صوفيا فانتمى منذ صباه إلى جماعة صوفية عمقت إشراقه الروحى ووصلت قلبه بالله.
ولكنه أدرك - بما فتح الله عليه - أن الإسلام أعظم بكثير مما تتمثله الصوفية وتمارسه.. إنه نظام حياة كامل وليس صلة روحية بين العبد والرب فحسب.
ليس عبادة فردية يستغرق فيها العابد فى صلة محدودة "بالأخوان "فى الطريقة (347) بعيدا عن واقع الحياة.. إنما هو عبادة فردية وجماعية فى ذات الوقت تتمثل فى إقامة المجتمع المسلم الذى يتحاكم إلى شريعة الله والدولة المسلمة التى تحكم بشريعة الله.. وإذا كان هذا الحكم غير قائم فينبغى العمل على إقامته فى ترتيب متدرج متسلسل: بناء الفرد المسلم فالأسرة المسلمة فالمجتمع المسلم فالدولة المسلمة.
يقول الإمام الشهيد فى رسالته بعنوان " أيها الشاب ":
" إن منهاج الإخوان المسلمين محدد المراحل واضح الخطوات. فنحن نعلم تماما ماذا نريد ونعرف الوسيلة إلى تحقيق هذه الإرادة.
(1) نريد أولا الرجل المسلم فى تفكيره وعقيدته وفى خلقه وعاطفته وفى عمله وتصرفه فهذا هو تكويننا الفردى.
(2) ونريد بعد ذلك البيت المسلم فى تفكيره وعقيدته وفى خلقه وعاطفته وفى عمله وتصرفه ونحن لهذا نعنى المرأة عنايتنا بالرجل ونعنى بالطفولة عنايتنا بالشباب وهذا هو تكويننا الأسرى.(1/432)
(3) ونريد بعد ذلك الشعب المسلم فى ذلك كله أيضا ونحن لهذا نعمل على أن تصل دعوتنا إلى كل بيت وأن يسمع صوتنا فى كل مكان وأن تتيسر فكرتنا وتتغلغل فى القرى والنجوع والمدن والمراكز والحواضر والأمصار لا نألو فى ذلك جهدا ولا نترك وسيلة.
(4) ونريد بعد ذلك الحكومة المسلمة التى تقود هذا الشعب إلى المسجد وتحمل به الناس على هدى الإسلام من بعد كما حملتهم على ذلك بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبى بكر وعمر من قبل ونحن لهذا لا نعترف بأى نظام حكومى لا يرتكز على أساس الإسلام ولا يستمد منه ولا نعترف بهذه الأحزاب السياسية ولا بهذه الأشكال التقليدية التى أرغمنا أهل الكفر وأعداء الإسلام على الحكم بها والعمل عليها وسنعمل على إحياء نظام الحكم الإسلامى بكل مظاهره وتكوين الحكومة الإسلامية على أساس هذا النظام " (348).
لقد كانت هذه الإشراقة فى قلبه وروحه - التى فتحت عينه على هذه الحقيقة - فتحا ربانيا ولا شك وكانت فى الوقت ذاته هى الاستجابة الصحيحة للأحداث القائمة منذ اكثر من قرن من الزمان فى العالم الإسلامى بأسره وفى مصرف بصفة خاصة كانت هى الموقف الصحيح الذى كان ينبغى أن يقفه رفاعة الطهطاوى وجمال الدين الأفعانى ومحمد عبده وسعد زغلول وكل الذين انهزمت أرواحهم إزاء الغرب فانجرفوا بدرجات متفاوته فى تيار التغريب !
هل كان من المستحيل على هؤلاء أن يتجهوا الوجهة الصحيحة فى الزمن الذى عاشوا فيه ؟!
هل كانوا هم النتاج: المنطقى " الوحيد أو النتاج " الممكن " الوحيد بالنسبة لظروف عصرهم ؟!
كلا ! فقد كان نموذج محمد بن عبد الوهاب قائما فى الجزيرة العربية فى الوقت الذى عاشوا فيه وكان يمثل الاتجاه الصحيح والحركة المستقيمة.. ولكنهم لم يتجهوا إليه ولا إلى مثله إنما اتجهوا إلى الغرب لما كان فى نفوسهم من الهزيمة الداخلية إزاءه.(1/433)
والله هو الذى يقدر الأقدار وهو الذى يفتح على قلوب من يشاء من عباده ويطمس على قلوب من يشاء.. ولكن الله بين لنا كيف يجرى قدره فى الأرض من خلال أعمال الناس واتجاهاتهم.
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [سورة الروم 30/41]
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)} [سورة محمد 47/9]
{قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [سورة الرعد 13/27-28]
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [سورة العنكبوت 29/69]
فلا عذر لهؤلاء فيما انحرفوا فيه عن الطريق الصحيح وجروا أمتهم كلها وراءهم فى انحراف عن الطريق الصحيح.
وفى الوقت ذاته نسأل: هل كان يمكن للدعوى أن تنجح لو قامت فى ذلك الوقت بدلا من وقتها الذى قامت فيه ؟
ذلك غيب لا نملا الإجابة اليقينية عليه وإن كان نموذج محمد عبد الوهاب فى الجزيرة يوحى بأنه كان فى الإمكان ولكن هذا لا يسقط عن هؤلاء واجب الدعوى ! فإن الله من رحمته كلفنا أن ندعو ولم يكلفنا الوصول إلى نتائج معينة فى دعوتنا. ولا يحاسبنا سبحانه عن النتائج إن بذلنا جهدنا لأنه هو سبحانه الذى يرتب النتائج ويقدرها. إنما يحاسبنا على الجهد الذى ينبغى أن نبذله: هل بذلناه ؟ وعلى أى نحو بذلناه.
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (104)} [سورة آل 3/104]
" لأن يهدى الله بك رجلا واحدا خيرا لك من حمر النعم " (349).
" يأتى النبى يوم القيامة ومعه الرجل والرجلان وليس معه أحد " (350).(1/434)
إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها " (351).
فلو قام هؤلاء بواجب الدعوة إلى الله ثم لم يستجب لهم أحد لكانوا قد أدوا ما عليهم وأعذروا إلى الله.. ويقع الوزر على الذين لا يستجيبون.
? ? ?
كانت هذه الإشراقة فى قلب حسن البنا فتحا ربانيا - كما قلنا - وكانت فى الوقت ذاته هى الاستجابة الصحيحة للأحداث القائمة فى العالم الإسلامى - وفى مصر خاصة منذ - كما قلنا - أكثر من قرن من الزمان..
وكانت هى قدر الله الغالب الذى قدره سبحانه - فى غيبه - ردا على كيد الكائدين بإزالة الخلافة.
لقد كان الضياع الذى أحسه المسلمون بعد الإطاحة بالخلافة والحزن البالغ الذى أصاب العالم الإسلامى والأسى الذى استولى على القلوب هو ذاته الذى بعث حسن البنا إلى إنشاء دعوته فقد قال فى نفسه: إذا كانت دولة الإسلام قد ضاعت فلماذا لا نحاول استعادتها من جديد ؟!
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21)} [سورة يوسف 12/21]
? ? ?
وأخذت الدعوى مداها فى حياة الإمام الشهيد وانضم إليها مئات الألوف من الناس....(352)
كانوا نماذج شتى واتجاهات متعددة.
كان فيهم فريق من الصوفيين الذين ظنوا أن جماعة الإخوان المسلمين جماعة صوفية جديدة متنورة تسير على ذات القاعدة الصوفية التى يعرفونها ولكنها خالية من " البدع "التى يقع فيها "المحترفون " من الصوفية فرأوا أن اتباعها لا يخرج بهم عن طريقهم الذين ألفوه وفى الوقت ذاته لا يوقعهم فيما يعاب على الصوفية من انحرافات.
وكان فيهم كثير من الشباب النظيف المتطهر الذى لم تلوثه موجه الفساد الكاسحة التى تفسد المجتمع وتلوثه بالدنس والذى اتخذ موقفا محددا من الحضارة الغربية أن ينتفع بالنافع منها الذى لا يتعارض مع عقيدته وأخلاقه ولكنه يرفض مادية هذه الحضارة وتبذلها الأخلاقى وتحللها الجنسى واستحلالها لكل ما حرم الله.(1/435)
ولقد كان مثل هؤلاء الشباب موجودين فى المجتمع.. لم تكن قد أكلتهم الدوامة ِ ولا غلبتهم على نظافتهم وتطهرهم.. ولكنهم كانوا ضائعين.. كانوا أفراد متناثرين لا يربط بينهم رابط ولا تجمع بينهم وحدة.. وكانوا قمينين أن يعيشوا فى عزلتهم الضائعة تفنى فيها أعمارهم لا يلتفت إليه أحد إلا بالسخرية إن التفت فحسبها أن تقف فى موقعها الذى أزيحت إليه حتى تفنى وتضيع.. ومن ثم لم يكن لهم رغم وجودهم - وجود محسوس !
فالآن وجدوا أنفسهم !
لم يعودوا قطرات متناثرة مزاحة من الطريق.. إنما صاروا - فى حس أنفسهم على الأقل - وجودا محسوسا.. وجود مستقلا متميزا عن الدوامة الكاسحة مغايرا لها فى الاتجاه تضعفه الموجه الكاسحة نعم ولكنها لا تفقده وجوده ولا تفقده تميزه ولا تفقده ترابطه.. بل تزيده !
ثم إنه ينمو.. نمو سريعا (353).. فتحس الموجة الكاسحة ضغطه وإن كانت لا تقف له ولا تأبه له ولا تكف عن الجريان من أجله ولكنها تحس بالضيق من وجوده !
وكانت هناك "جماهير "جاءت لتشبع " وجدانها الدينى " وهى لا تعرف من الإسلام إلا ذلك الوجدان ! وكانت تجد فى خطب الإمام الشهيد ودروسه من فيض "الروحانية" وقد وهب الله له روحانية فياضة مشعة عميقة التأثير ما يشبع فى نفسها وجدانها الدينى فيشدها إلى "الجماعة " فتمارس بعض نشاطاتها ولكن مطلبها الأول هو إشباع ذلك الوجدان !
وكان فيهم كذلك مستنفعون ! من رجال الأحزاب السياسية القائمة يومئذ ظنوا أن هذا حزب سياسى جديد ينمو بسرعة متزايدة.. أو قطار جديد ينهب الأرض نهبا وتتزايد " جماهيره " فحدثتهم أنفسهم أن لعله يكون - بكثرة جماهيره وترابطهم أقرب من غيره فى الوصول للحكم.. فلا تفوتهم إذن الفرصة ولا يفوتهم القطار !
وحين جاءت الضربة عام 1948-1949 فرت كثير من تلك الجموع إلى غير رجعة(1/436)
فر المتصوفون.. فقد عرفوا يقينا أن هذه لم تكن جماعة صوفية جديدة متنورة إنما كانت حركة جهادية يتعرض أصحابها لما يتعرض له المجاهدون فى التاريخ كله من القتل والتعذيب والتشريد والمطاردة.. وما لهذا كانوا قد جاءوا ولا عندهم احتمال له ولا اصطبار عليه.. فالنجاة النجاة من مخاطر الطريق !
فر المستنفعون.. فقد عرفوا يقينا أن هذا القطار هو أبعد شئ عن الوصول إلى كراسى الحكم وهم لهذا جاءوا لا يعرفون غيره ولا يستهدفون سواه.. فالفرار الفرار قبل أن يدمغوا دمغة لا يستطيعون التخلص من عقابيلها فيما بعد !
وفرت الجماهير فما عاد هناك ما يشبع وجدانهم الدينى وهم لا يملكون غيره ولا يعرفون من الإسلام غيره إنما هناك سجن وتعذيب وتشريد وتقتيل.. وما لهذا كانوا قد جاءوا ولا عندهم احتمال له ولا اصطبار عليه.. فالهرب الهرب قبل أن تعثر عليهم السلطات وتتهمهم بأنهم كانوا هناك !
وبقى الشباب النظيف المتطهر.. ومع ذلك لم يبق كله.. فما كان كله يعرف من قبل عقابيل الطريق.. وما كان كله يقدر أن سيناله فى الطريق شئ من العذاب والتضحيات ! إنما كان يظن أنها سياحة طيبة فى الجو النقى بعيدا عن قذارات المجتمع الدنس الذى يعيش فيه فيما متاعبها الذاتية فحسب متاعب المحافظة على الدين فى وسط الفساد الكاسح تلك التى قال عنها رسول الله (: " يأتى زمان يكون القابض على دينه كالقابض على الجمر " أما التعرض للسجون والمعتقلات والتشريد والتعذيب فلم يكن فى حسبان كثير منهم على الرغم من أن الإمام الشهيد قال لهم ذلك فى وضوح لا لبس فيه حين قال لهم فى رسالة " بين الأمس واليوم "(1/437)
"أحب أن أصار حكم أن دعوتكم لازالت مجهولة عند كثير من الناس ويوم يعرفونها ويدركون مراميها وأهدافها ستلقى منهم خصومة شديدة وعداوة قاسية وستجدون أمامكم كثيرا من المشقات وسيعترضكم كثير من العقبات وفى هذا الوقت وحده تكونون قد بدأتم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات أما الآن فلا زلتم مجهولين ولا زلتم تمهدون لدعوة وتستعدون لما تتطلبه من كفاح وجهاد سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام عقبة فى طريقكم وستجدون من أهل التدين ومن العلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام وينكر عليكم جهادكم فى سبيله. وسيحقد عليكم الرؤساء والزعماء وذوا الجاه والسلطان وستقف فى وجوهكم كل الحكومات على السواء وستحاول كل حكومة أن تحد من نشاطكم وأن تضع العراقيل فى طريقكم.
" وسيتذرع الغاضبون بكل طريق لمناهضتكم وإطفاء نور دعوتكم وسيتستعينون بالحكومات الضعيفة والأخلاق الضعيفة والأيدى الممتدة إليهم بالسؤال وإليكم بالإساءة والعدوان. وسيشير الجمع حول دعوتكم غبار الشبهات وظلم الاتهامات وسيحاولون أن يلصقوا بها كل نقيصة وأن يظهروها للناس فى أبشع صورة معتمدين على قوتهم وسلطانهم معتدين بأموالهم ونفوذهم.
{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)} [سورة التوبة 9/32]. وستدخلون بذلك ولا شك فى دور التجربة والامتحان فتسجنون وتعتقلون وتنقلون وتشردون وتصادر مصالحكم وتعطل أعمالكم وتفتش بيوتكم ن وقد يطول بكم مدى هذا الامتحان:
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [سورة العنكبوت 29/2]. ولكن الله وعدكم بعد ذلك كله نصرة المجاهدين ومثوبة العاملين المحسنين:(1/438)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10)} [سورة الصف 61/10]...{فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)} [سورة الصف 61/14] فهل أنتم مصرون على أن تكونوا أنصار الله ؟ (354)
إنما الذين بقوا داخل الجماعة بعد الضربة القاصمة كانوا هم الذين تربوا بالفعل على يد الإمام الشهيد والذين كان فى تقسيمه يسميهم (الإخوان العاملين) وإن كان كثير من هؤلاء قد ظهرت عليهم فيما بعد أثار "التعجل" فى التكوين والحركة التى سنتكلم عنها فيما بعد
? ? ?
فرت كثير من الجموع التى كانت تتحلق حول الإمام الشهيد فى درسه الإسبوعى فتملأ المركز العام لجماعة الإخوان المسلمين وتملأ الشوارع المتفرعة حوله حين رأوا أن الأمر ليس عرضا قريبا ولا سفرا قاصدا إ ما هو جهاد وعذاب (355). كما فرت الجموع التى كانت تستقبل الإمام الشهيد كلما تنقل فى مدن القطر أو فى أريافه فى رحلاته الدائمة التى لم يكن يفتر عنها.
ولكن حدوث ذلك التجمع يحمل مع ذلك دلالته.. أو قل: يحمل دلالاته.
الدلالة الأولى: إن الإسلام لم يكن قد انتهى تماما من القلوب كما ظن الذين ظلوا يعملون - خلال قرن ونصف قرن من الزمان على محو الإسلام من مصر محوا وتحويلها إلى " قطعة من أوربا "(356) أو" قطعة من حوض البحر الأبيض المتوسط " (357) أو قطعة من أى شئ إلا الإسلام.
والدلالة الثانية إن الناس كانت تنتظر لدعوة المجتمع.
إن الجماهير لا تتجمع من تلقاء نفسها إلا فى الأمور التى تتعلق بالكيان المادى كما تتجمع المظاهرات التى تطالب بالخبرة أو غيره من الضرورات القاهرة أما التجمع من أجل " القيم " فإنه يحتاج دائما إلى القيادة. ولقد كان علماء الدين دائما هم القيادة التى تلجأ إليها الجماهير فى أزماتها أو التى تدعو الجماهير إلى التجمع فتتجمع حولها وتتحرك بإرشادها.(1/439)
ولما غاب العلماء عن الساحة وانزووا فى داخل دروسهم أو فى داخل أنفسهم غابت القيادة " الدينية " وبرزت أو أبرزت مكانها القيادة " اللادينية " وتبعتها الجماهير مفتونة بها على نحو م ذكرنا فى الفصل السابق.
فلما برزت القيادة الدينية مرة أخرى عادت الجماهير إلى التجمع حولها وإن يكن بنسبة أقل فى هذه المرة بسبب الغزو الفكرى والفتنة بالغرب ولكنه تجمع قابل للاتساع والنمو بقدر ما تفلح القيادة فى إزالة الغاشية التى غشيت الأمة وعرض الإسلام فى حقيقته الناصعة وتربية جيل جديد على حقائق الإسلام.
والدلالة الثالثة: إن الإسلام يحمل دائما جاذبيته إلى القلوب بكونه دين الفطرة فحيثما استقامت الفطرة اهتدت إلى الإسلام وسهل عليها اتباعه.. فإذا كان الواقع المنحرف الذى كان يعيشه المسلمون قد استغل من قبل الأعداء لتنفير الناس من الإسلام وإيهامهم أنه هو السبب فى جمودهم وتأخرهم وضعفهم وتخلفهم فإن العرض الصحيح لحقائق الإسلام قمين أن يرد القلوب الشاردة إليه والدعوى إلى التجمع تحت رايته قمينة أن ترد المسلمين إلى وضعهم الطبيعى بعد أن يتفرقوا فى شتى الضلالات:
{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [سورة الأنعام 6/153]
صحيح أن التمكين للإسلام مرة أخرى يحتاج إلى جهاد شاق..
وصحيح أن الحرب الضارية المثارة ضد الإسلام اليوم من الصليبية العالمية واليهودية العالمية وأذنابههما تجعل الجهاد المطلوب للتمكين للإسلام أشق من أى وقت مضى بحيث لا يطيقه إلا أول العزم من المسلمين ولهذا كان المستجيبون للدعوة قليلين فى مجموعهم وإن كثروا..
كل هذا صحيح.. ولكن تبقى الدلالة قائمة لا تتغير.. لأنها مرتبطة بالاتجاه ذاته: اتجاه العودة إلى الإسلام لا بالعدد الذى اتجه حتى الآن بالفعل.(1/440)
ومن أجل هذه الدلالة يجن جنون الأعداء كلما رأوا هذه الدعوة تمتد أو تتنفس بعد أن يكتموا أنفاسها ويظنوا أنهم قضوا عليها القضاء الأخير !
? ? ?
لقد كان العمل الذى قام به حسن البنا عملا ضخما يشبه أن يكون إعادة بناء أمة..
لقد كان الحال هذه الأمة كجدار يريد ينقض. فأقامه.
ولم يكن عمله هو مجرد اللبنات التى كانت ما تزال صالحة فى المجتمع..أو تجميع القطرات المتناثرة التى أزاحها السيل.. إنما كان عمله..إلى جانب التجميع هو إنشاء بناء متين من تلك اللبنات وإيجار تيار حى متدفق من هذه القطرات..
كان عمله هو إعادة الإسلام فى نفوس معتنقيه إلى " حركة " إلى منهج حياة وعمل.. إلى ممارسة واقعية بعد أن كان قد تحول على يد " المشايخ " إلى قوالب جافة تنقصها الحياة والحركة وعلى يد محمد عبده إلى منهج ثقافى عقلانى لا يتحرك لتغيير الواقع " ولا " يجاهد " من أجل التغيير وعلى يد الصوفية إلى أضرحة وأولياء ومزارات وعلى يد العامة إلى تواكل خامل وخرافات.
ولم يكن ذلك عملا سهلا على أى إنسان يتصدى لهذه المهمة فى تلك الفترة من الزمان وفى تلك البقعة من المكان حيث ركزت الصليبية والصهيونية جهودهما لاقتلاع الإسلام.
لم يكن سهلا ربط القلوب برباط الأخوة بعد أن فرقتها الفردية الأنانية الواردة مع تيار التغريب والناجمة من قبل من تخلى الأمة التدريجى عن ممارسة الإسلام فى عالم الواقع.
ولم يكن سهلا تربية النفوس على أ تنذر نفسها للدعوى وتتخلى عن كثير من متاع الأرض بعد أن كانت النفوس قد ألفت الإخلاد إلى الراحة ونذر الجهد للحياة الدنيا منقطعة عن الآخرة فإن ذكر أحدهم الآخرة فبالشعائر التعبدية على الأكثر إن لم يكن بالنوايا الطيبة فحسب !
ولم يكن سهلا تربية تلك النفوس التى أخلدت إلى الراحة لكى تنذر نفسها - صادقة للموت فى سبيل الله تعتبر الموت فى سبيل الله أغلى أمانيها.(1/441)
لم يكن شئ من ذلك سهلا على أى إنسان يتصدى لهذه المهمة.. ولكنه كان ينساب سهلا من بين يدى ذلك البناء العظيم الذى وهب الله له ما وهب من صفات الداعية البناء.. من إشراقة الروح وصفاء القلب والتجرد لله والحب الفياض والجلد على العمل والصبر على الكد والقدرة على التجميع والقدرة على القيادة والقدرة على التنظيم.
? ? ?
ولكن هذا البناء الضخم الذى أقامه كان يشتمل على ثغرات ظلت تعطى تأثيراتها بصور شتى فى خط السير..وأغلب الظن أن هذه الثغرات لم تكن بادية للبناء العظيم فى بداية السير إلا أنها بدت له واضحة فيما بعد قبيل مقتله كما سيجئ وإن كان لم يمهل لترسيخها فى قلوب أتباعه.
كان الثغرة الأولى هى الاستعجال فى التجميع الجماهيرى قبل موعده الذى ينبغى أن يجئ فيه.
إن الحرص على هداية الناس وعلى هداية أكبر عدد ممكن فى أقصر وقت هو رغبة بشرية ملحة فى نفوس الدعاة والمصلحين بل كانت كذلك فى نفوس الأنبياء أنفسهم. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحس بالرغبة العميقة فى أن يهتدى الناس كما يحس بالأسى العميق لعدم استجابة الناس لدعوة الحق حتى قال له ربه:
{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6)} [سورة الكهف 18/6]
{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)} [سورة القصص 28/56]
ولكن هناك سننا ربانية يجرى بمقتضاها أمر الدعوات وفيها الخير وإن شقت فى مبدأ الأمر على الدعاة والمصلحين.وليست الكثرة الجماهيرية فى مبدأ الدعوى من بين هذه السنن ولا هى مما يتحقق به الخير !
ولو كان الخير يتحقق من هذه الكثرة فى مبدأ الطريق ما حجبها الله عن نبييه ( ولا عن دينه الذى قدر سبحانه أن يمكن له فى الأرض فى حياة النبى المرسل به ويقيم له دولة ذات سلطان !(1/442)
وحين ننظر إلى الأمر من زاويته الأرضية منقطعة عن قدر الله فقد يخيل إلينا أن عناد العرب وولدهم (358) هو الذى جعل حفنة قليلة من الناس هى التى تتبع الرسول صلى الله عليه وسلم خلال ثلاثة عشر عاما كاملة من الدعوة ى مكة ولكن حين ننظر إلى الأمر من زاوية قدر الله فقد كان الله قادرا لو شاء سبحانه أن يجمع حوله رسوله ( ألوفا مؤلفة فى تلك السنوات المعدودة..
ولكن قدر الله جرى على هذا النحو الذى جرى به وهو سبحانه الذى يقول للشئ كن فيكون لخير هذه الدعوة ومصلحتها وكانت الدعوة على هذه الصورة هى الأكثر تمكنا فى الأرض وهى التى كتبت بقدر من الله تاريخا لم تكتبه غيرها من الدعوات.
كان الذين استجابوا لرسول الله ( فى مكة خلال ثلاثة عشر عاما قلة محدودة لا تبلغ المائتين من الناس ولكنهم كانوا هم نواة ذلك الجيل الفريد الذى تفرد فى التاريخ البشرى كله..
كانوا قلة نعم ولكنهم كانوا بلغة البناء هم الأعمدة الراسية التى يقوم عليه البناء كله فتحمله وتمكن له فى الأرض. وكما يعمد البناء حين يشرع فى إقامة بنائه إلى دك الأساس دكا متينا بادئ ذى بدء ثم إقامة الأعمدة التى تحمل البناء قبل أن يضع الطوب والأحجار فكذلك فعل قدر اله بهذه الدعوة على يدى رسول الله ( فقيض له تلك الفئة القليلة حوله صلى الله عليه وسلم تتلقى كل رعايته وكل توجيه وكل تربيته وتتلقى منه الشحنة كاملة فتكون كما شاء الله لها أن تكون عمدا راسية فى كل اتجاه ثم جاء قدر الله بالأنصار يتربون على يدى رسول الله ( مع المهاجرين وهم جميعا قلة محدودة فينالون من تربيته ورعايته وتوجيهه الحظ الأوفى ويظل للمهاجرين سبقهم فى ذلك كله وذلك قبل أن تجئ الأحجار التى تكمل البناء وتجعله صالحا لأداء مهمته أولئك الذين قال عنهم:
{وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2)} [سورة النصر 110/2]
ذلك هو الترتيب الربانى الذى به نجحت الدعوة وتمكنت فى الأرض..(1/443)
ونتخيل الأمر تم على غير هذه الصورة فدخل الناس فى دين أفواجا منذ أول لحظة أ, فى السنوات الأولى للدعوة.. هل كان يقوم البناء على ذات الصورة وهل كان يرسخ فى الأرض كما قدر الله له الرسوخ ؟!
إن الله يقول للشئ كن فيكون.. ولو شاء الله لفعل ولو قدر شيئا لكان..
ولكن الله جلت مشيئته قد جعل سننا فى الكون وسننا فى الأرض وسننا فى حياة الناس وجعل تلك السنن هى العاملة - بمشيئته سبحانه - فى الكون والأرض والناس. وجعل من سنته فى الدعوة أ يستجيب لها قوة محدودون ينالون من رعاية النبى المرسل النصيب الأوفى فيكونون كالأعمدة الراسية التى يقوم عليها البناء..
والتربية عملية شاقة بطيئة تحتاج إلى كثير من الجهد..
ورسول الله ( هو أعظم مرب فى التاريخ.. ,لكنه لو واجه الألوف من أول لحظة فما كان من المستطاع أن يعطيهم كل رعايته وكل توجيه وكل تربيته كما أعطاها لتلك الحفنة القليلة المحدودة العدد فتحقق فيها على أكمل صورة وبأكمل قدر قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [سورة آل 3/110] وكان إتمام الأمر على هذا النحو متمشيا مع السنن الجارية التى يجرى بها قدر الله فى حياة الناس. فلقد شاء الله - لحكمة يعلمها سبحانه - أن يجرى أمر هذا الدين كله على السنن الجارية لا السنن الخارقة حتى لا يأتى جيل من أجيال المسلمين يتقاعس ويقول: لقد نصر الأولون بالخوارق ولم تعد الخوارق تتنزل بعد ختم الرسالة وانقطاع النبوات !
إن الخارقة الكبرى فى هذا الدين هى كتاب الله المنزل وهى باقية ومحفوظة بقدر الله إلى قيام الساعة: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [سورة الحجر 15/9](1/444)
ولئن كان اشتراك الملائكة فى القتال مع المسلمين يوم بدر من الخوارق فقد كانت الخارقة هى رؤية المسلمين للملائكة وهم يقاتلون معهم. أما تنزل الملائكة على المؤمنين بالتثبيت والتأييد والسكينة فهو قدر جار يجريه الله حين يشاء على من يستحقه من عباده:
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [سورة فصلت 41/30-31]
إنما السنة الجارية - التى جرى بها الأمر مع رسول الله ( - أن تقف الجاهلية بالمرصاد لدعوى الحق تحاربها وتهددها وتتربص بها وتصد " الجماهير " عن الانضمام إليها بكل وسائل الصد وبكل وسائل التخويف والإيذاء فلا يقبل عليها فى مبدأ الأمر إلا أفذاذ من الناس قد رسخ الإيمان فى قلوبهم فاستعلوا على الجاهلية وصبروا على كيدها كله وصمدوا فى موقفهم لا يتزحزحون عنه لا يزيدهم الابتلاء إلا رسوخا فى الإيمان..فيتمحصون بذلك كله ويصطفيهم الله لحمل الأمانة وإقامة البناء..
والابتلاء سنة:
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)}[سورة العنكبوت 29/2-3]
والتمحيص قبل القضاء على الأعداء سنة:
{وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)} [سورة آل 3/141]
فحين يتم الابتلاء والتمحيص ويعلم الله من قلوبهم أنها تجردت له وأخلصت وأصبح الله ورسوله أحب إليهم من كل ما سواهما يجرى قدره سبحانه بالتمكين لهم فى الأرض وبدخول الناس أفواجا فى دعوة الحق..(1/445)
وفى فترة الابتلاء والتمحيص تتم جوانب كثيرة من التربية المطلوبة لحملة الأمانة الذين يواجهم الجاهلية فى أول جولة والذين تلزمهم صفات وأحوال غير التى تلزم للأفواج الداخلة فيما بعد ويحتاجون إلى عناية خاصة تختلف عن العناية المطلوبة للقادمين فيما بعد بمقدار ما تختلف إقامة الأعمدة الراسية فى الأرض التى تحمل البناء كله عن إقامة الأحجار فى أماكنها بين هذه الأعمدة.
إن هذه الأعمدة تحتاج إلى صناعة خاصة ومكونات خاصة ومقومات خاصة وزمن معين لاستكمال تلك المقومات. فإن لم تستوف كل مقومات صناعتها فإنها تعرض البناء كله فيما بعد للتشقق أو الانهيار.
حقيقة إن الأعمدة وحدها لا تشكل بناء ولا تحقق الهدف الذى من أجله أنشئ البناء.. فلابد من الأحجار الكثيرة التى تشكل الجدران وتعطى البناء شكله النهائى وتحقق الهدف الذى أقيم من أجله.. ولكنك لو بدأت برص الأحجار قبل دل الأساس وقبل إقامة الأعمدة الراسية أ, قبل إتمام ذلك كله على المستوى المطلوب فإ البناء كلما علا ينار.. وتكون الأحجار حملا ثقيلا أكثر مما هى عون وتأييد !
وحين يتم - فى فترة التربية إعداد الصفوة التى تواجه الجاهلية أول مرة ذلك الإعداد الخاص المطلوب لها فإن أمورا كثيرة تتم فى الحقيقة فى آن واحد.
إن هذه الصفوة - كما قلنا - هى التى تستطيع - بحكم متانة تأسيسها - أن تصمد لكيد الجاهلية التى تحاول بكل جهدها أ تقضى على الدعوة الجديدة قبل أن تمد لها جذورا فى التربة لأنها تعلم جيدا أنها إن لم تبذل كل طاقتها فى ذلك فسيفلت الأمر من يدها ولا تستطيع أن تسيطر عليه.. لذلك يكون البطش فى أقصى عنفوانه فى جولته الأولى ولا يصمد له إلا تلك الصفوة المختارة من المؤمنين الذين يتلقون الشحنة الكاملة من قائدهم الذى يتعهدهم بتربيته ورعايته.(1/446)
ثم إن نجاح هذه الصفوة فى الصمود للكيد هو الذى يشكل فى الحقيقة نقطة التحول فى خطر سير الدعوة لأنه يعطف القلوب نحو أولئك المؤمنين الذين يتلقون هذا القدر الهائل من البطش والتعذيب دون أن يتحولوا عن الحق الذى يؤمنون به فيكون صمودهم شهادة لهذا الحق تجتذب نفوسا جديدة تؤمن به وتجاهدفى سبيله فتتسع القاعدة وهى على ذات القدر من المتانة وقوة التأسيس.
ثم إن هذه الصفوة تشكل جنودا فائقين لقائد الدعوة ولكنهم فى الوقت ذاته يربون ليكونوا قادة وليكونوا خلفا للقائد من بعده.
انظر إلى صحابة رسول الله (.. لقد كانوا جنودا فائقين للدعوة ولقائدهم ( على الصورة التى يعرفها التاريخ.. ولكن رسول الله ( رباهم فى الوقت ذاته بحيث يكون كل واحد منهم ركنا فى الموقع الذى يكون فيه فقاموا بالمهام التى وكلها إليهم على المستوى الفائق الذى يعرفه التاريخ وكانوا هم القدوة للناس فى تربيتهم على هذا الدين كما كان رسول الله ( قدوتهم هم فى هذه التربية الفريدة.. ثم كانوا هم حملة الأمانة من بعده والقادة الذين قادوا الأمة من بعده فى الخلافة الراشدة التى يعرفها التاريخ..
تلك سنة جارية فى عملية " البناء ".... وهى ألزما ما تكون فى بناء الجماعة التى تتولى الدعوة لدين الله.
فإذا عدنا إلى البناء الضخم الذى أقامه الإمام الشهيد وكون به - بقدر الله - منعطفا تاريخيا فى حياة الأمة الإسلامية نجد أن " الأفواج " من الناس قد سمح لها بالتجمع فى وقت باكر لم يكن قد تهيأ فيه دك الأساس المتين بالقدر المطلوب ولا إقامة الأعمدة التى تحمل البناء على المواصفات المطلوبة للجيل الأول الذى يواجه الجاهلية أول مرة..
وهنا يتبادر سؤال..
هل كان من واجب الإمام الشهيد أن يصد الناس الذين التفوا حوله بعشرات الألوف حتى يتمكن من تربية العدد اللازم لهم من الدعاة والمربين فيتركهم فى ضياع وهو قادر على تجميعهم وإثارة وجدانهم الدينى على أقل تقدير ؟(1/447)
وحين توضع القضية على هذا النحو فالجواب لا شك بالنفى !
إنما نسأل: لو علم الناس حقيقة الدعوة وأبعادها وحقيقة الأوضاع المحيطة بها وحقيقة المعركة بين الدعوة وأعدائها وحقيقة مخططات الصليبية الصهيونية تجاه الإسلام وتجاه كل دعوة تحاول إعادة الناس إليه.. فهل كانوا يتجمعون بعشرات الألوف فى تلك السنوات القصار ؟!
ونعود إلى كلام الإمام الشهيد نفسه الذى أثبتناه قبل صفحات:
" أحب أن أصار حكم أن دعوتكم لازالت مجهولة عند كثير من الناس ويوم يعرفونها ويدركون مراميها وأهدافها ستلقى منهم خصومة شديدة وعداوة قاسية وستجدون أمامكم كثير من المشقات وسيعترضكم كثير من العقبات. وفى هذا الوقت وحده تكونون قد بدأتهم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات....)
وهذه القضية فى حقيقتها..
فلو عرف الناس أو عرفوا حقيقة الدعوة لجرت السنة الربانية مجراها فأقبل على الدعوة أفراد معدودون يتلقون شحنة التربية كاملة ويكونون هم الأعمدة الراسية التى تحمل البناء ويكونون هم المربين الذين يقومون بتربية الناس حين يدخلون فى الدعوة أفواجا ويكونون هم " الصف الثانى " فى الدعوة " الذى يخلف القائد على الطريق..
ولقد كان " الإخوان العاملون " جنودا فائقين نعم.. يتحركون بأمر قائدهم الحركة المضبوطة التى يكلفهم بها وعلى النحو الذى يوجههم إليه (359) ولكنهم لم يكونوا بعد قد تهيأوا ليكونوا قادة ومعلمين لتلك الأفواج كلها التى تجمعت قبل أوانها حول الدعوة لأنها كما قال الإمام الشهيد لم تكن تعرف حقيقة الدعوة.. كما أنهم وهذا أخطر لم يكونون قد تهيأوا بعد لتسلم القيادة من بعده والمضى بها فى الطريق الشاق الطويل.. فكان لهذا أثره فى خط السير فيما بعد كما شهدت الأحداث.
? ? ?
وكما حدث التعجل فى دعوة الجماهير للتجمع قبل أن يتم بناء الأعمدة الراسخة بالمواصفات المطلوبة حدث التعجل بالتحرك قبل الأوان المناسب سواء فى الساحة الداخلية أ, فى ساحة المعركة فى فلسطين.(1/448)
فأما فى الداخل فقد كان هناك تعجل فى إظهار قوة الجماعة سواء فى استعراضات الجولة أو فى المظاهرات والمسايرات أو فى الدخول فى القضايا السياسية المثارة فى ذلك الوقت كمحاربة الشيوعية أو تأييد قضية مصر فى مجلس الأمن أو غيرها من القضايا كأنما تريد الجماعة فى كل مرة أن تقول: نحن هنا ونحن نستطيع أن..
وبصرف النظر عن كون هذه القضايا المثارة يومئذ كانت مما يجوز للجماعة المسلمة أن تخوض فيه أم أن واجبها كان المناداة بتصحيح منهج الحياة الأساسى الذى تنجم تلك القضايا من فساده ومن عدم اتباع منهج الله بشأنه.
بصرف النظر عن هذا الأمر (360) فقد كان " استعراض العضلات " على هذه الصورة قبل استكمال العدة اللازمة من تمكين الأساس وإقامة الأعمدة الراسية واستكمال التربية المطلوبة تعجلا بالحركة قبل الأوان ترتب عليه ما ترتب من آثار فى خط السير..
أما فى فلسطين فلقد كان دخول الفدائيين من الأخوان المسلمين فى ساحة المعركة قدرا مقدورا دون شك.. ولكن هذا الحدث كان له أثر بالغ فى سير الأحداث كلها فيما بعد. وما قدره الله لابد أن يتم. ولكن كتاب الله علمنا أن قدر الله لا ينفى دور البشر ومسئولياتهم:
{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [سورة آل 3/165-166](1/449)
وليس لدى الآن ما يثبت أن الإمام الشهيد قد اتخذ قرار دخول الفدائيين فلسطين بمحض رغبته أم بضغط الشباب وإلحاحهم عليه.. وأحسب أن ما سبق من اشتراط الجماعة فى القضايا السياسية المثارة على الساحة هو الذى جعل دخول الإخوان المعركة فى فلسطين هو الأمر " الواجب " سواء كان قائد الجماعة مقتنعا بجدواه أم غير مقتنع. فما دامت الجماعة قد شاركت فى الأحداث من قبل وهى تنادى بالجهاد والفداء فإ قعودها عن دخول المعركة كان يعد بالنسبة إليها نكوصا عن المبادئ التى أعلنتها من قبل ودعت إليها الجماهير !
وأيا كان الأمر فقد وقع قدر الله.. واكتشفت الصليبية والصهيونية الخطورة البالغة لهذه الجماعة على كل مخططاتها وعلى وجود الدولة اليهودية بصفة خاصة فكان ما كان من المذابح المتوالية التى تعرضت لها الجماعة قبل أن يتم لها النضج وتكون على مستوى الأحداث.
? ? ?
وكما حدث التعجل فى دعوة الجماهير للتجمع وفى التحرك بهذه الجماهير قبل الأوان المناسب حدث كذلك فى عملية البناء ذاتها فلم تبدأ من نقطة البدء اللازمة بل تجاوزتها إلى ما يجئ بعدها فى الترتيب.
لقد اعتبرت قضية العقيدة قضية بديهية وقضية منتهية. ولك ما ينبغى علينا بشأنها هو إيقاظ الوجدان الدينى من غفوته وتحويله بالعمل إلى حركة واقعة فيستقيم الأمر وتتحقق الأهداف.
وكان هذا كما سيجئ بيانه مبالغة فى إحسان الظن أثبتت الأيام فيما بعد أنه فى حاجة إلى مراجعة شديدة وأن نقطة البدء كان ينبغى أن تكون هى تصحيح العقيدة ذاتها وجلاء مفهومها الحقيقى الذى غاب عن الجماهير بل غاب عن كثير من الدعاة أنفسهم فى غربة الإسلام الثانية التى أخبر عنها رسول الله ( حين قال:
" بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء " (361).
? ? ?
نستطيع أن نرد هذه العجلة بوجه الإجمال إلى نقطتين رئيسيتين:(1/450)
الأولى: هى افتراض أن " القاعدة الإسلامية " موجودة بالفعل وأن العمل المطلوب ليس هو " إنشاءها من جديد وإنما تجميعها وبث الحركة فيها وتنظيمها وقيادتها وتوجيهها إلى العمل المطلوب..
الثانية: هى عدم التقدير الكافى للقوة المطلوبة لمواجهة الصليبية العالمية والصهيونية العالمية من جهة والأحوال الداخلية من جهة أخرى.. سواء من حيث نوعية هذه القوة أو من حيث حجمها المناسب.
ونستطيع أن نتصور - بالنسبة للنقطة الأولى - أن الإمام الشهيد قد أحسن الظن بالموقف بناء على الاستجابة الواسعة التى تلقاها من الجماهير على الدعوة التى اتسمت بها السنوات العشرون التى عاشها منذ بدء الدعوة إلى يوم استشهاده حيث تضاعف حجم الجماعة عدة مرات فى خلال تلك السنوات.. كما كان من أسباب حسن الظن كذلك الاستجابة الواسعة التى تلقاها من " جنوده " الإخوان العاملين - الذين كانوا فى يده - أداة طيعة تستجيب لتعليماته وتتشكل - طائعة - فى القالب الذى يريد تشكيلها عليه.
ولكن التجربة العملية أثبتت أن هذه النظرة كان فيها من حسن الظن أكثر مما تقتضيه الأحوال !
إن " العواطف الدينية " شئ و " القاعدة الإسلامية " شئ آخر..
وحتى إن كانت هذه العواطف متجهة إلى الإسلام - دينها التقليدى الذى عاشت به أكثر من ثلاثة عشر قرنا من قبل - فإنها - وحدها - بغير فهم حقيقى لهذا الدين وبغير بصيرة واعية.. لا تكفى.
فالفهم الحقيقى الذى يصل إلى درجة العلم " مطلوب ":
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [سورة محمد 47/19]
والبصيرة مطلوبة:
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ (108)} [سورة يوسف 12/108](1/451)
ولقد كانت العقيدة ضمرت ضمورا شديدا فى نفوس المسلمين خلال القرون المتعاقبة كما أسلفنا القول بحيث لم تعد هذه " العواطف " الدينية ذات دلالة حقيقية تبنى عليها حركة واعية تواجه الجاهلية المعاصرة بكل إفكها وانحرافاتها وتواجه الحرب الضارية الماكرة التى يشنها - فى الداخل والخارج - أعداء الإسلام..
لم يكن أيقاظ " الوجدان الدينى " من غفوته وتحويله إلى حركة واقعة إلا تصحيحا لجانب واحد من جوانب الخلل التى أصابت العقيدة خلال القرون وخلال القرن الأخير بصفة خاصة.
لقد كان التواكل الذى أحدثته الصوفية وأحدثه الفكر الإرجائى هو الخلل الذى أصلحته حركة الإمام الشهيد بإيقاظ الوجدان الغافى وتحويله إلى حركة واقعة وكان هذا جهدا ضخما فى حقيقته إذا نظرنا إلى ما كان قد أصاب المسلمين فى هذا الجانب كما بينا من قبل.
ولكن الخلل الآخر - الذى طرأ على الأمة خلال القرن الأخير خاصة كان هو إفراغ " لا إله إلا الله " من حقيقتها فى قضية " الحاكمية " المتصلة بتحكيم شريعة الله وكان هذا الخلل شديد الخطورة فى حياة هذه الأمة وشديدة الخطورة فى حياة هذه الأمة وشديد الخطورة بالنسبة للصحوة الإسلامية ذاتها بحيث ينبغى أن يركز له من الجهد بقدر ما ركز فى علاج التواكل الذى أحدثته الصوفية والإرجاء..
لقد بقيت الأمة ثلاثة عشر قرنا على وجه التقريب تعيش فى ظل الشريعة الإسلامية وتراها بديهية من بديهيات إسلامها كأداء الصلاة سواء بسواء..
وقد سبق القول أن الأمة برغم انحرافاتها كلها ورغم كل ابدع والخرافات التى دخلت عليها ظلت تشعر فى أعماق كيانها أن تحكيم الشريعة الإسلامية وأداء الصلاة هما الركنان اللذان لا يمكن أن يزولا من حياة الأمة ولا أن ينحسر عنهما الواقع الذى يعيشه الناس.(1/452)
ولكن الصليبية التى أحكمت سيطرتها على العالم الإسلامى خلال القرن الأخير والصهيونية فى أطوائها قد ضغطت بكل ثقلها العسكرى والفكرى لتنحية الشريعة الإسلامية من الحكم وتنحية الصلاة من واقع الناس.
وظل الكيد الذى يتزايد بإلحاح لزحزحة الأمة عن إسلامها يوهم الناس فى كل خطوة أنهم مازلوا مسلمين..
نحيت الشريعة عن الحكم أولا وقيل للناس لا بأس عليكم ! ما دمتم تصلون وتصومون فأنتم مسلمون..
ثم نحيت الصلاة - والعبادات عامة - وقيل للناس: لا بأس عليكم ! ما دمتم تقولون لا إله إلا الله فأنتم مسلمون ! (362)
وفرغت لا إله إلا الله من محتواها كله تحت ضغط الأمر الواقع وبتأُثير الغزو الفكرى المسوم واصبحت مجرد كلمة تنطق باللسان ويحسب قائلها أنه قد حاز الإسلام كله بمجرد نطقها بلسانه وأنه قد قام " بالشهادة " المطلوبة منه وأن الجنة تنتظره فى نهاية المطاف مهما يكن قلبه غافلا عن حقيقتها ومهما يكن سلوكه متناقضا لمقتضاها.
وجاءت حركة الإمام الشهيد والأمة على هذا النحو.. إلا من رحم ربك ممن فتح الله عليه بمعرفة حقيقة الشهادة وحقيقة الدين..
وقام الإمام الشهيد - كما بينا - بتصحيح جانب من العطب الذى أصاب " لا إله إلا الله " فى قلوب المسلمين ذلك الجانب الذى كانت قد أفسدته الصوفية والفكر الإرجائى ثم دعا إلى تحكيم شريعة الله وإلى وجوب إقامة الدولة المسلمة التى تحكم بشريعة الله ووجد استجابه الجماهير من حوله فاطمأن إلى هذا " الظاهر "
تحكيم شريعة الله - وحدها دون سواها - والتحاكم إلى شريعة الله - وحدها دون سواها - هو أول مقتضيات لا إله إلا الله التى لا تكون بدونها قائمة ولو نطقها الإنسان بلسانه ألف مرة كل نهار !(1/453)
وبصرف النظر عن وضع الناس فى ميزان الله وكونهم - بهذه الجهالة - مسلمين أو غير مسلمين (363).. فلا شك أن هذه الجهالة قائمة بكل ثقلها فى حياة الناس وأفكارهم ومشاعرهم وأن " القاعدة الإسلامية " لا يمكن أن توجد وهذه الجهالة قائمة وأن أولى الخطوات لإقامة " القاعدة الإسلامية " هى إزالة هذه الجهالة من حياة الناس..
إن هذه الجهالة هى العقبة الكبرى فى سبيل إقامة الحكم الإسلامى ! وهى أخطر بكثير مما قد تبدو لأول وهلة..
إن الحكم الإسلامى لن يقوم بمجرد وجود " جماعة " مؤمنة مجاهدة تنادى بتحكيم شريعة الله..
فأيا كانت الوسيلة المتخيلة لوصول هذه الجماعة إلى الحكم (364) فإنه لابد لكل حكم من سند يسنده ويدافع عنه مما يتعرض له من كيد الأعداء..
وهناك حكومات كثيرة تقوم اليوم فى العالم الإسلامى لأن أمريكا تسندها أ, لأ روسيا تسندها أو لأنهما معا يسندانها لقاء ما تقوم به من تذبيح المسلمين وتقتيلهم والقضاء عليهم.. أما الحكم الإسلامى فمن يسنده فى كل الأرض ؟ لن تسنده أمريكا بطبيعة الحال ولن تسنده روسيا.. ولابد له من سند من أهله.. من المسلمين المؤمنين المجاهدين الذين يقاتلون فى سبيل الله ولا يخافون لومة لائم.
لابد من وجود " القاعدة الإسلامية "
وليس معنى هذا كما يتخيل بعض الناس أننا لابد أ ننتظر حتى تتحول الأمة كلها إلى مؤمنين مجاهدين لكى يقوم الحكم الإسلامى..
إنه لا يوجد مجتمع فى الأرض كلها يكون كله من أولى العزم وكله على مستوى القمة.. ولا مجتمع الرسول (. فقد كان فى مجتمع الرسول ( المنافقون وضعاف الإيمان والمبطئون والمثاقلون.. ولكن " القاعدة المسلمة " كانت فيه من القوة والرسوخ والتمكن بحيث حملت أولئك كلهم ومضت فى طريقها تحقق أهدافها كما قدر لها الله.(1/454)
والمطلوب اليوم لكى يقوم الحكم الإسلامى أن توجد " القاعدة المسلمة " بالحجم المعقول الذى يقود خطى الأمة كلها فى سبيل تحقيق ذلك الهدف الضخم.. والذى لا يعوقه وجود المنافقين وضعاف الإيمان والمبطئين والمتثاقلين !
والعقبة الأولى فى سبيل بناء هذه القاعدة بالحجم المطلوب هى تلك الجهالة المطبقة بحقيقة لا إله إلا الله "
ذلك أن المسلمين لا يتحركون فى فراغ.. إنما يتحركون فى وسط عداوات عالمية ومحلية قد تكون - فى حجمها أضخم عداوة فى التاريخ !
وأعداء الإسلام يستغلون هذه الجهالة على أوسع نطاق فى محاربة الحركات الإسلامية..
فهم يقيمون فى البلاد الإسلامية أنظمة للحكم لا تحكم بما أنزل الله بل تحارب الحكم بما أنزل الله والداعين إليه ثم يضفون - بوسائل الإعلام المختلفة - شرعية كاملة على هذه النظم فتتقبلها الجماهير تقبلا " طبيعيا " بسبب جهلها العميق بحقيقة لا إله إلا الله وارتباطها الوثيق بتحكيم شريعة الله !
ثم هم يقيمون حاجزا من النفور بين الناس وبين الحركات الإسلامية حين يقولون لهم: هل تظنون أن هؤلاء يعملون من أجل الإسلام ؟ ! إنهم يعملون من أجل الوصول إلى الحكم ولكنهم يتسترون وراء الدين ! والتستر وراء الدين بالذات صورة كريهة تنفر الناس وتبعدهم عن الطريق !
وقد درجت الجماهير على السلبية التامة فى قضايا السياسة وقضايا الحكم فلا يهمهم كثيرا من الذى يسعى إلى الحكم ومن الذى يصل إليه ! ولكنهم حينئذ كما يقول المتنبى:
الناس من يليق خيرا قائلون له * ما يشتهى.. ولأم المخطئ الهبل !
أى أنه إذا وصل المسلمون للحكم فستصفق لهم الجماهير ! أما إذا فشلوا فهم حينئذ يستحقون ما أصابهم ! فلماذا كانوا يتعرضون للسلطان ؟ ! هل كانوا يتصورون أن القائمين فى الحكم سيسلمون لهم بمجرد أن يطلبو منهم التخلى عن السلطة ؟ ! لابد أن يتمسك القائمون في الحكم بما في أيديهم من السلطة، ولابد أن يضربوا من يتعرض لسلطانهم!(1/455)
وهكذا تتميع القضية تماماً، ويتساوى في نظر هذه الجماهير كل الساعين إلى السلطة وكل الواصلين إليها، دون اعتبار "للحق" و"الباطل" كما حددهما دين الله، ودونما نظر إلى الشرعية في الإسلام: أهي للذي يحكم بما أنزل الله، أم للذي يحكم بغير ما أنزل الله، ويتأخر - بهذا التميع - تكون "القاعدة المسلمة" التي ترفض كل حكم غير حكم الله، لأنه حكم جاهلي لم يأذن به الله:
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [سورة المائدة 5/50]
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّه} [سورة الشورى 42/21]
ثم يترتب على هذه الجهالة أمر آخر، أشد خطورة على الحركة الإسلامية من هذا التميع الذي يؤجل النضج اللازم لنشأة "القاعدة المسلمة".
إنه يتيح للطاغية دائماً أن ينفرد بالجماعات الإسلامية فيضربها بوحشية بالغة. يضربها ضرب إبادة. وهو آمن من غضبة شعبية تكف يده عن التقتيل والتعذيب والتشريد، كما حدث عند مقتل الإمام الشهيد، وكما حدث عند المذابح الوحشية التي أقامها السفاح، وقتل فيها أئمة الجماعة وقادتها من أجل القضاء المبرم عليها. وكما يمكن أن يحدث مرات ومرات!
ولنتصور الأمر - كان - على غير هذه الصورة.
نتصور الجماهير فهمت المعنى الحقيقي للا إله إلا الله، وارتباطها الوثيق بتحكيم شريعة الله، كما بين الله في كتابه المنزل، وكما علم الرسول ( أصحابه، وكما وعت الجماهير المسلمة خلال ثلاثة عشر قرناً من الزمان.
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65)} [سورة النساء 4/65](1/456)
{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48)} [سورة النور 24/47-48]
{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (51)} [سورة النور 24/51]
نتصور أن الجماهير أدركت جيداً أن المسلم لا يكون مسلماً إلا إذا حكم بما أنزل الله، وتحاكم إلى شريعة الله، أو بعبارة الإمام الشهيد (365): "أقر بالشهادتين، وعمل بمقتضاهما (366)، وأدى الفرائض".
فكيف يكون الحال!
هل يمكن حينئذ للطاغية أن يقتل الدعاة ويعذبهم ويشردهم وهو آمن من غضبة الشعب المسلم عليه؟!
ولسنا نتوهم أن الفهم الحقيقي للا إله إلا الله سيقلب الشعب كله بين يوم وليلة إلى مجاهدين من أولى العزم، لا يبالون بالأخطار التي تتهددهم وهم قائمون ينافحون عن شريعة الله، ويذودون عنها كل معتد أثيم!
كلا! ما يتوهم ذلك أحد!
ولكنه - على أقل تقدير - سيجعل تكوين "القاعدة المسلمة" أيسر بكثير، وأقرب بكثير، من خطأ الحالي الذي تواجه فيه وحشية الطغاة بغير سند من الجماهير، بينما الطغاة - في إجرامهم الوحشي - يتدرعون بجهالة الجماهير!
من أجل ذلك كان التركيز على هذه القضية أمراً بالغ الأهمية بالنسبة للصحوة الإسلامية، وكانت هذه القضية هي نقطة البدء التي لابد من البدء بها لتكوين "القاعدة المسلمة". وكل بدء من غير هذه النقطة الرئيسية يعوق السير، ويطيل الطريق!(1/457)
ولئن كان هذا لم يكن واضحاً تماماً في مبدأ الطريق، أو كان خافياً وراء الحماسة العاطفية للجماهير، فقد اتضح في حس الإمام الشهيد في أيامه الأخيرة على ضوء الخبرة الواقعية، كما يبدو ذلك واضحاً متبلوراً في هذا المقال الذي ننقله بنصه كاملاً من جريدة "الإخوان المسلمون" اليومية (العدد 627 السنة الثالثة بتاريخ الأحد 7 رجب 1367، 16 مايو سنة 1948) بعنوان "معركة المصحف - أين حكم الله؟"، وتوقيع "حسن البنا":
{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً (105)} [سورة النساء 4/105]
{وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [سورة المائدة 5/49-51]
{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [سورة النور 24/51](1/458)
الإسلام دين ودولة ما في ذلك شك. ومعنى هذا التعبير بالقول الواضح أن الإسلام شريعة ربانية جاءت بتعاليم إنسانية وأحكام اجتماعية، وكلت حمايتها ونشرها والإشراف على تنفيذها بين المؤمنين بها، وتبليغها للذين لم يؤمنوا بها إلى الدولة، أي إلى الحاكم الذي يرأس جماعة المسلمين ويحكم أمتهم. وإذا قصر الحاكم في حماية هذه الأحكام لم يعد حاكماً إسلامياً. وإذا أهملت الدولة هذه المهمة لم تعد دولة إسلامية. وإذا رضيت الجماعة أو الأمة الإسلامية بهذا الإهمال ووافقت عليه لم تعد هي الأخرى إسلامية....، ومهما ادعت ذلك بلسانها. وإن من شرائط الحاكم المسلم أن يكون في نفسه متمسكاً بفرائض الإسلام بعيداً عن محارم الله غير مرتكب للكبائر. وهذا وحده لا يكفي في اعتباره حاكماً مسلماً حتى تكون شرائط دولته ملزمة إياه بحماية أحكام الإسلام بين المسلمين، وتحديد موقف الدولة منهم بناء على موقفهم هم من دعوة الإسلام.
هذا الكلام لا نقاش فيه ولا جدل، وهو ما تفرضه هذه الآيات المحكمة من كتاب الله. ولقد كانت آيات النور صريحة كل الصراحة، واضحة كل الوضوح في الرد على الذين يتهربون من الحكم بما أنزل الله، وإخراجهم من زمرة المؤمنين، فالله تبارك وتعالى يقول فيهم:(1/459)
{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (51)} [سورة النور 24/47-51]كما جاءت آيات المائدة تصف المهملين لأحكام الله بالكفر والظلم والفسق فتقول:
{لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ (44)} [سورة المائدة 5/44] {الظَّالِمُونَ (45)} [سورة المائدة 5/45] {الْفَاسِقُونَ (47)} [سورة المائدة 5/47] ثم تقول:
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [سورة المائدة 5/50](1/460)
ولا يكفي في تحقيق الحكم بما أنزل الله أن تعلن الدولة في دستورها أنها دولة مسلمة، وأن دينها الرسمي الإسلام، أو أن تحكم بأحكام الله في الأحوال الشخصية وتحكم بما يصطدم بأحكام الله في الدماء والأموال والأعراض، أو يقول رجال الحكم فيها إنهم مسلمون سواء أكانت أعمالهم الشخصية توافق هذا القول أم تخالفه. لا يكفي هذا بحال. ولكن المقصود بحكم الله في الدولة أن تكون دولة دعوة، وأن يستغرق هذا الشعور الحاكمين مهما علت درجاتهم والمحكومين مهما تنوعت أعمالهم. وأن يكون هذا المظهر صبغة ثابتة للدولة توصف بها بين الناس، وتعرف بها في المجامع الدولية، وتصدر عنها في كل التصرفات، وترتبط بها في القول والعمل.
في العالم دولة اسمها الاتحاد السوفيتي، لها مبدأ معروف ولون معروف ومذهب معروف، نحن لا نأخذ به ولا ندعو إليه، ولكنا نقول إن هذه الدولة عرفت بلونها هذا بين الناس وفي المجامع الدولية، وهي ترتبط بمقتضياته في كل تصرفاتها وأقوالها وأعمالها. وقد أرادت إنجلترا وأمريكا تقليدها فادعتا أنهما تصطبغان بالدعوة إلى شئ اسمه الديمقراطية، وإن اختلف مدلوله بمختلف المصالح والمطامع والظروف والحوادث.
فلماذا لا تكون مصر - وهي دولة مستقلة وذات سيادة - معروفة في المجامع الدولية بتمسكها بهذه الصبغة الإسلامية وحرصها عليها ودعوتها إليها وارتباطها بها في كل قول أو عمل؟ ذلك هو أساس الحكم بما أنزل الله. ومتى وجد هذا المعنى، وارتبطت الدولة بهذا الاعتبار، واصطبغت بهذه الصبغة، فستكون النتيجة ولا شك تمسك الحاكمين بفرائض الإسلام واتصافهم بآدابه وكمالاته، فيتحقق حكم الله فردياً واجتماعياً ودولياً وهو المطلوب.
أين نحن من هذا كله؟
الحق أننا لسنا منه في شئ. وكل حظنا منه نص المادة 149 من الدستور، ثم ما بقى في نفوس هذا الشعب من مشاعر وعواطف وتقدير وأعمال وعبادات. أما الحكومة والدولة ففي واد آخر.(1/461)
يا دولة رئيس الحكومة أنت المسئول بالأصالة. ويا معالي وزير العدل أنت المسئول بالاختصاص. ويا نواب الأمة وشيوخها أنتم المسئولون باسم أمانة العلم و التبليغ التي أخذ الله عليكم ميثاقها.
"ويا أيتها الأمة أنت المسئولة عن الرضا بهذا الخروج عن حكم الله، لأنك مصدر السلطات".
"فناضلي حكامك وألزميهم النزول على حكم الله، وخوضي معهم معركة المصحف، ولك النصر بإذن الله".
حسن البنا
? ? ?
نعم، لقد اتضح الأمر في حس الإمام الشهيد في أيامه الأخيرة، ولكنه لم يمهل حتى يرسخ هذا المعنى في قلوب أتباعه كما أشرنا من قبل، فظل هذا المعنى غير واضح في نفوسهم، ولا تبدو آثاره في تخطيهم وتحركهم وأفكارهم.
تلك هي النقطة الأولى التي تحدثنا عنها بالنسبة للبناء الذي أقامه الإمام الشهيد.
أما النقطة الثانية، وهي تقدير حقيقة المعركة التي لابد أن تخوضها الصحوة الإسلامية - رضيت أم أبت - مع أعداء الإسلام، وتقدير النوعية المطلوبة لها، والجهد اللازم لإعدادها، والزمن المقدر لتهيئتها. فلا نستطيع أن نعلم بالضبط ماذا كان يدور في ذهن الإمام الشهيد بشأنها، وقد عوجل - رضوان الله عليه - بالقتل وهو في شبابه لم يزل، وهو في أول الطريق؛ ولكنا نلحظ - كما قلنا - أنه قد حدث تعجل في الإعداد، وتعجل في الحركة، كانت له آثاره فيما بعد.
إن المعركة في حقيقتها ليست معركة محلية بين الجماعات الإسلامية وبين الطاغية الذي يقوم بتقتيلها وتعذيبها وتشريدها ومحاولة القضاء عليها. كما أنها ليت معركة سريعة تتم في جولة أو بضع جولات. إنها معركة تشارك فيها وتشرف عليها، وتوجهها الصليبية العالمية، والصهيونية العالمية، بالتحالف مع كل أعداء الإسلام!
قالت إحدى الصحف البريطانية أيام العدوان الثلاثي عام 1956م:(1/462)
"لقد أيدنا جمال عبد الناصر حين قام بحركته عام 1952، على أساس أنه أتاتورك جديد قوى جاء ليحارب الشيوعية برفع مستوى المعيشة، ويقر السلام في الشرق الأوسط بالصلح مع إسرائيل (367). ولكنه اختار الحرب على السلام (368). ونحن مستاءون منه من أجل ذلك. ولكن ينبغي ألا ننسى أنه هو الذي سحق الإخوان المسلمين المتعصبين".
"But we should not forget that it was he who crushed the fanatic Moslem Brotherhood".
وقالت أنديرا غاندى في حديث صحفي لها مع إحدى المجلات الأمريكية عام 1968:
"إننا نحب جمال عبد الناصر ونؤيده لأنه قضى على الإخوان المسلمين المتعصبين"!
وكان أصدقاؤه المقربون كلهم من أعداء الإسلام: الأب مكاريوس الذي كان يقوم بتذبيح المسلمين في قبرص بتأييد الأمم المتحدة، وتأييد جمال عبد الناصر! وتيتو اليهودي الذي قام بذبح ثلاثة أرباع مليون مسلم في يوغسلافيا. وأنديرا غاندى، التي كانت تشرف على تذبيح المسلمين في الهند وتحريقهم أحياء، ثم معاقبتهم "رسمياً" بعد ذلك بحجة أنهم هم الذين يثيرون الشغب في البلاد. وهيلاسلاسى الذي خطب في الأمم المتحدة عام 1961 خطبة قالب فيها: إنه بعد أثنى عشر عاماً لن يكون في الحبشة إلا دين واحد! أي أنه يعلن رسمياً عزمه على إبادة 65% من سكان الحبشة المسلمين، أو طردهم خارج البلاد!
وكانت الدعاية العالمية - الصليبية الصهيونية الشيوعية الرأسمالية.... إلخ (369) - التي أضفت عليه "البطولات" الخرافية، تقوم بتغطيته وهو يلغ في دماء المسلمين. وكلما أوغل في إراقة الدم وفي التعذيب الوحشي، زاد الدوي الإعلامي العالمى، ترحيباً بالصديق الحبيب، الذي يقضى لهم على الخطر المرهوب!(1/463)
وجاءت "لجنة حقوق الإنسان"! فزارت السجون الحربية عام 1955م في أوج المعمعة الدائرة لتعذيب المسلمين بالوسائل الوحشية، وحضرت مهزلة المحاكمات التي كان يشرف عليها أعوان السفاح، ثم قدمت تقريراً قالت فيه إن المحاكمات تجرى حسب الأصول القضائية الصحيحة، وفي جو من الحرية التامة!!!
وتلك مجرد نماذج عابرة من العداوات العالمية المرصودة ضد الإسلام!
والمعركة التي تخوضها الجماعة المسلمة - رضيت أم أبت - مع هذه العداوات كلها ليست معركة سهلة ولا قريبة، وتحتاج إلى نوعية خاصة وإعداد خاص، ولا ينظر فيه إلى "الزمن" الذي يمكن أن يستغرقه الإعداد.
بل إن هذه العداوات المحددة المركزة كلها - على ضراوتها وعنف خصومتها - ليست هي العداوات الوحيدة التي تواجهها الصحوة الإسلامية، فهي تواجه - مع هذا كله - عداوة "الجاهلية" في كل الأرض، بما فيها الأرض الإسلامية ذاتها، التي تسربت إليها الجاهلية ومسخت كيانها، منذ أتاح التخلف العقدي الذي وقع فيه المسلمون المجال لأعداء الله أن ينفذوا إلى العالم الإسلامي ويسيطروا عليه، فينحوا عنه شريعة الله، ويبثوا فيه أفكار الجاهلية المعادية للدين. وإن هذه الجاهلية لتتخذ نظماً للحكم، ومناهج للفكر، ومناهج للتعليم، ووسائل للإعلام، وأنماطاً للسلوك الواقعي. تقف كلها موقف العداء الشديد من "الدين" وموقف العداء الأشد من "الإسلام".(1/464)
والصحوة الإسلامية - رضيت أم أبت - تتعرض لعداوة هذه الجاهلية في كل خطوة من خطواتها، وكل تحرك من تحركاتها، إن بالتقتيل والتعذيب والتشريد، وإن بالتسخيف والترذيل، وإن بالصد والتنفير. وبكل وسيلة من وسائل الصد والتنفير! وهي تحتاج - في مقابل ذلك - إلى نوعية فريدة لتواجه ذلك العداء كله وتصبر عليه. نوعية ذات وعى سياسى فائق، ووعى فكرى متعمق، يحيط بما حول المسلمين من عداوات، وبطبيعة المعركة، ووسائل الحرب المتبعة فيها، والأدوات اللازمة لمواجهتها. وتدرك - فوق ذلك - أن المعركة ليست ذات صبغة محلية محدودة، وليست معركة جيل واحد، بل معركة أجيال متعاقبة، وساء بسبب العداوات المرصودة من الخارج، أو بسبب الجهل العميق بحقيقة الإسلام، الذي يعوق نشأة "القاعدة المسلمة". وأنها من أجل ذلك في حاجة إلى النفس الطويل الذي لا يتعب من طول الطريق.
ولقد كان الجيل الذي رباه الإمام الشهيد جيلاً فائقاً من ناحيتين اثنتين على الأقل: الروح الفدائية العالية، المستعدة للموت في سبيل الله، الناذرة نفسها نذراً كاملاً للدعوة ومطالبها؛ وروح الأخوة العميقة التي تربط بين الإخوة في الله.
وكان هذا جهداً ضخماً بذله الإمام الشهيد من وقته وجهده وروحه ودمه، لم يكن غيره قادراً عليه، ولا كان غيره يملك الموهبة اللازمة لأدائه.(1/465)
ولكن ذلك الجيل - برغم ذلك - كان مفتقراً إلى كثير من الوعي السياسي، الذي يدرك به أن الخوض في القضايا السياسية القائمة في وقته ليس هو مهمة الجماعة المسلمة الأصيلة، إنما مهمتها الأصيلة بيان المنهج الإسلامي الذي يصحح الأمور، ويبين أن الفساد ناجم من عدم إتباع المنهج الرباني في كل أمر من الأمور. ويدرك به أن تغيير حاكم في أي بقعة من بقاع العالم الإسلامي لم يغير شيئاً في الموقف، طالما لم توجد بعد "القاعدة الإسلامية" التي تقيم الحكم الإسلامي، ثم تحميه حين يقوم. لأن كل حاكم يتغير يأتي بعده حاكم جديد، يقوم بذات المهمة الموكولة إليه في حرب الإسلام والمسلمين، وإن تغيرت الأدوات وتغيرت الأساليب.
وكان مفتقراً إلى كثير من الوعي الفكري، الذي يدرك به الوسائل الخفية والظاهرة التي استخدمها الأعداء ويستخدمونها لصرف المسلمين عن الإسلام، في مناهج التعليم مرة، ووسائل الإعلام رمة، وقواعد التفكير مرة.. وأن من بين هذه الوسائل الخفية استدراج الصحوة الإسلامية إلى قضايا فرعية ومعارك فرعية يستنفدون فيها جهدهم، ويستهلكون فيها طاقتهم، وينصرفون بها عن مهمتهم الرئيسية في إنشاء "القاعدة المسلمة" بالمواصفات المطلوبة، على الزمن المديد، دون استعجال في الزمن ولا استعجال في البناء.(1/466)
وكان مفتقراً إلى النفس الطويل في المواجهة، الذي يصمد للضربة تلو الضربة دون أن يتعب من الصراع. وقد كان يبدو عجيباً لأول وهلة أن ينهار قوم في المعتقلات والسجون، وهم المؤمنون الصادقون، وهم الفدائيون المخلصون. لا لنقص في إيمانهم، ولا لنقص في فدائيتهم. ولكن لأن أعصابهم كانت "مضبوطة" على زمن محدد، يتخيلون فيه تحقق النصر، والتمكين للإسلام، والقضاء على الأعداء. فلما ضربوا بدل أن يضربوا، وتوالى عليهم الضرب بدلاً من التمكين، تعبت الأعصاب المشدودة، المضبوطة على الوقت القصير، وانصرف كثيرون عن الدعوة إلى غيرها من الأمور، أو دخلوا بالدعوة في منعطف مبتعد عن الطريق! (370)
? ? ?
والآن فلننظر إلى واقع الصحوة الإسلامية بعد ما يزيد قليلاً على نصف قرن منذ بدأها الإمام الشهيد.
هناك ظاهرتان على الساحة: إحداهما تدعو إلى التفاؤل، والأخرى تثير الأسى في نفوس الدعاة المخلصين.
الأولى: هي اتساع القاعدة، واتجاه مزيد من الشباب إلى الإسلام، بحيث يصح أن يقال إن الإقبال على الإسلام أصبح تياراً ذاتياً عند الشباب، لا يرتبط بالضرورة بنشاط جماعة معينة، أو بوجود جماعة معينة، إنما ينبعث تلقائياً في نفوس الشباب. والثانية هي تبعثر العمل الإسلامي وتفرقه، وكثرة الجماعات التي تعمل في الساحة، وتناقضها وتنابذها، وانتقاد كل واحدة منها لسائرها، وادعاؤها أنها وحدها على الحق، وبقية الجماعات على ضلال!
والظاهرتان قد وجدتا - بقدر من الله - معاً في وقت واحد مع اختلافهما في الاتجاه! ولكن هناك أسباباً متواكبة هي التي أدت إلى هذا الوضع.(1/467)
فاتساع القاعدة يرجع - من جانب - إلى جهود الدعاة العاملين في حقل الدعوة، ويرجع - من جانب آخر - إلى المذابح المتوالية الذي يقيمها أعداء الإسلام للمسلمين! وتلك سنة يغفل عنها دائماً أعداء الإسلام، مع تكررها دائماً مع الأيام: أن الدعوة التي يقدم لها الدم لا تموت! والأعداء - من حنقهم - لا يستطيعون أن يمنعوا أنفسهم من التقتيل والتعذيب والتشريد، ظناً منهم في كل مرة أن هذا هو الذي يقضى على الدعوة، فينقذ قدر الله من خلال أعمالهم، وتتسع القاعدة مع كل نقطة دم تراق، ومع كل سوط يلهب الظهور. واستشهاد رجل واحد موصول القلب بالله، يصنع الله به للدعوة مالا تصنعه ألوف الخطب، وألو الكتب، وألوف المحاضرات. وكلن الظالمين لا يعلمون.
أما تبعثر العمل الإسلامي له أسباب عدة:
السبب الأول - والأظهر-: هو غياب القيادة الكبيرة التي تطمئن لها النفوس، وتنقاد لها طائعة بدافع الحب والتقدير والثقة والاحترام، فيلتئم حولها الشمل، وتجتمع حولها القلوب.
ووجود القيادة الكبيرة لا يحل كل مشاكل التجمع. فهناك دائماً نفوس مريضة لا تنقاد إلا لشهوتها وأهوائها. وقيادة رسول الله ( وهو النبي المرسل، وهو أعظم شخصية في تاريخ البشرية كله قد أثارت حقد عبد اله بن أبى وجعلته ينشق عن الصف! وعلى المستوى البشرى تعتبر قيادة الإمام الشهيد من القيادات الكبرى في التاريخ، ولم يمنع وجودها من حدوث انشقاقات داخل الجماعة وتحزبات.
ولكن وجود القيادة الكبيرة يقلل كثيراً دون شك من مشاكل التجمع، لأنه يجمع النفوس المخلصة التي لا تعمل من أجل الظهور والمجد الشخصى، وتجمع الجنود. والجنود غالباً ما يكونون مخلصين متجردين من الأهواء.(1/468)
وفي غياب مثل هذه القيادة تتولد زعامات صغيرة شابة تنقصها الخبرة، وكثيراً ما يختلط في نفوسها الإخلاص للدعوة والإخلاص للذات، من مدخل من مداخل الشيطان هو اعتقاد كل واحد منهم أنه على حق، وأن اتباع الحق يستوجب اتباع من يمثله! أي اتباعه هو! ومن ثم تتناحر هذه الزعامات وتتناطح، ويقول كل منها: على فلان وجماعته- إذا أرادوا - أن يأتوا إلى، ويتبعوني! أما أنا فلا أذهب إليه، ولا أتبعه، لأنه ليس على الحق!
والسبب الثاني: أن معظم الشباب المقبل على الدعوة اليوم لم يترب في داخل جماعة واحدة ذات قيادة منظمة، لغياب القيادات العاملة داخل السجون والمعتقلات، إنما تربى على الكتب. وعلى القراءة. والقراءة وحدها لا تكفي!
إن العمل الإسلامي لابد له من قيادة: تقوده، وتعلمه، وتربيه.
ولو كان الله يعلم أن النفوس - التي خلقها بعلمه سبحانه - تكفيها الكتب، فقد كان الله قادراً على أن ينزل القرآن كله جملة في قرطاس، ويعلم الناس قراءته!
ولكن الله الذي خلق هذه النفوس - وهو العليم بها سبحانه - يعلم أن الحق لا يعمل عمله في النفوس إلا أن يتلقاه قلب من قلب، ومتعلم من معلم، ومتلق من موجه. لذلك أرسل الله رسوله ( ليكون هو المعلم والموجه، ويكون هو القلب العظيم الذي تتلقى منه سائر القلوب.
والشباب كان يملك الحماسة والرغبة، ولكنه في وقت من الأوقات لم يكن يملك إلا كتباً يقرؤها، فتفرقت به السبل!
إن من شأن العقول أن تختلف على دلالة النص الواحد، وإن كان قطعي الثبوت وقطعي الدلالة! فما البال إن كانت النصوص المتداولة غير قطعية الدلالة، وما البال إن كان بعضها غير قطعي الثبوت؟!
لقد نجم الخلاف طبيعياً - وغن كان غير مرغوب فيه - مع نشأة هذا الشباب على قراءة الكتب، بلا مرشد يرشد، ولا معلم يعلم، ولا قائد يقود!(1/469)
وهي ظاهرة سيئة بلا شك. فالمفروض أن يتجمع العمل الإسلامي ولا يتفرق، لأن الفرقة لا تخدم أحداً إلا الأعداء. ولكنها - كما أقول دائماً - مشكلة ليس لها حل سحري! وأقصد بالحل السحري الحل السهل السريع، الذي يتم دون معاناة! ومعظم مشكلات العمل الإسلامي هو من هذا النوع الذي ليست له حلول سحرية! إنما حله هو المعاناة، والصبر على المعاناة، وبذل الجهد الدائم بلا توقف، مع الإخلاص في القصد:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} [سورة آل 3/200]
ولكنى - مع ذلك - لا أنزعج كثيراً من هذه الظاهرة على ما فيها من سوء، لأنى أنظر إليها على أنها من حصيلة الماضي أكثر مما هي مؤشر للمستقبل.
من حصيلة الصحوة بعد الغفوة الطويلة.
فحين يهب الناس من الغفوة الطويلة، ويدركون ما أصابهم، ويحاولون الخلاص، وفي غيبة المرشد الذي تطمئن القلوب إليه تنقاد له، يمكن أن يحدث اختلاف وجهات النظر. فهذا يرى طريق الخلاص من هنا، وذاك يراه من هناك، وثالث يرى غير هذين.
ولكن من خلال التجربة. من خلال المعاناة. يتضح رويدا رويدا أي الطرق أصح، وأيها قمين بالوصول.
ولا ينبغي للحظة واحدة أن ننسى أنه ليس البشر هم الذين يدبرون! إنما هو الله سبحانه. وهذه دعوته. وهو المتكفل بها، وهي دائماً في رعايته. وهو سبحانه الذي تكفل بأن يميز صفها، وينقى خبثها.
{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [سورة آل 3/179]
فهو سبحانه لا يترك الصف مختلطاً فيه الطيب والخبيث. وهو لا يطلع الناس على غيبه فيقول لهم سلفاً: هذا طيب وهذا خبيث. ولكنه يدخل المؤمنين في اختبارات وابتلاءات يتميز بها الطيب من الخبيث، في الوقت الذي يتمحص فيه المؤمنون ويتجردون لله.(1/470)
فمن خلال التجربة. ومن خلال المعاناة. سيعرف الناس أي هذه الدعوات المتناحرة أكثر إدراكاً لحقيقة الإسلام الشاملة، وأيها أصح تحركاً بهذا الإدراك الشامل، وأيها أكثر تجرداً وإخلاصاً لله. وينقى الله الخبث وينفيه:
{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [سورة الرعد 13/17]
أما القيادة الكبيرة، المطلوبة-دائماً-للعمل الإسلامي، فهي هبة ربانية لا تصنع! فليس هناك مصنع نستطيع أن نوصيه بأن يصنع لنا القيادة المطلوبة خلال فترة معينة من الزمن! ولكن هناك الموهبة الربانية، وهناك المصنع الرباني وهو الاختبارات والابتلاءات التي تمحص المؤمنين، وتبرز- من بينهم - من هو أصلح للقيادة والتوجيه.. إنما علينا نحن واجب نتقدم به بين يدي الله، لنطمع أن يستجيب لنا حين ندعوه أن يبرز لنا القائد المطلوب، هو أن نخلص النية له سبحانه، ونخلص العمل، فيستجيب الله للدعاء:
{وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر 40/60]
وقال رسول الله ( للرجل الذي قال له: ادع لي يا رسول الله أن أكون رفيقك في الجنة، قال: أعنى بكثرة السجود! (371)
وإذا كان هناك اليوم شباب لا يثقون بقيادة من يرونه أمامهم من الشيوخ، وكانوا - بعد - لم يفرزوا قيادتهم الخاصة التي يرضون بقيادتها، وتطمئن قلوبهم إليها، فليس هذا وضعاً دائماً، مزعجاً كما يبدو في هذه اللحظة، إنما هو مرحلة عابرة، يغير الله بعدها الناس، حين يغيرون ما بأنفسهم، ويخلصون من حظ أنفسهم، ويتجردون لله.
ولنحاول في الصفحات التالية أن نستعرض أهم نقط الخلاف التي نجمت في الحركات المعاصرة، وإن كنت أحب - قبل ذلك - أن ننتبه إلى مسألة مهمة في هذا الشأن.
إن تصحيح المفاهيم وتصحيح المنهج أمر ضروري للحركة الإسلامية دون شك. وما تستطيع الحركة أن تثمر ثمرتها المرجوة إن لم تعرف الطريق الصحيح وتتوجه إليه.(1/471)
ولكن محاولة التصحيح بالتنابذ والفرقة، والتدافع بالمناكب، والجدل الدائم الذي يحاول فيه كل فريق تسفيه الآخرين وتجريحهم والنيل منهم. كل ذلك جهد ضائع بلا ثمرة، إلا الثمرة النكدة التي يتلقفها الشيطان!
إنما يكون التصحيح بالبيان الهادئ الهادف، وإبراز الدليل الشرعي الذي تبنى عليه الأحكام، مع التفقه في دين الله، قبل إصدار الحكم الذي يتشبث به صاحبه ويفاصل الناس عليه!
وحين لا نتعلق بذواتنا، وحين يكون الحق أعز علينا من أنفسنا، ويكون وصولنا إلى الحق عن تدبر ودراسة وبصيرة، ستنجاب الغاشية، وتتضح الرؤية، ويستبين الطريق. وهو ما نعتقد أن الأمور ستصير إليه في النهاية بعون الله وتوفيقه.
? ? ?
تشعب الخلاف كثيراً بين الجماعات القائمة بالعمل في حقل الدعوة. ولكن ربما كانت أكبر قضيتين ثار بشأنهما الخلاف والجدل، هما قضية الحكم على الناس، وقضية المنهج الواجب اتباعه في الفترة الراهنة. ثم تجئ بعد ذلك قضايا أقل شأناً، نتعرض لبعضها بعد الكلام عن هاتين القضيتين الرئيسيتين.
? ? ?
قضية الحكم على الناس
شغلت هذه القضية أكبر مساحة من الخلاف والجدل بين الفرق المختلفة. وذهب فيها ناس إلى حد التطرف من الجهتين. فقال بعضهم: من قال لا إله إلا الله فهو مؤمن ولو لم يعمل عملاً واحداً من أعمال الإسلام! وقال آخرون: إن الأصل في الناس اليوم هو الكفر، ما لم يثبت عكس ذلك. الأولون يحكمون على الناس بالنية وحدها دون العمل، والآخرون يحكمون بالعمل وحده بصرف النظر عن النية. ووقف آخرون في منازل مختلفة بين هذا الطرف وذاك.(1/472)
وقد كان لى موقف قديم في هذه القضية (372)، اقتنعت به بعد سنوات من التفكير الدائب فيها، وما زلت مقتنعاً به إلى هذه اللحظة. هو أن قضيتنا الأولى والكبرى ليست هي قضية الحكم على الناس، إنما هي قضية تعليمهم حقيقة الإسلام. فلا ينبغي أن تشغلنا تلك القضية أصلاً، ولا أن نجعلها محور ارتكازنا في الدعوة، ولا نقطة الشد التي نحاول أن نشد الناس إليها من هذا الطرف أو ذاك. إنما الأولى والأجدى والأكثر ثمرة أن ننصرف إلى تعليم الناس ما جهلوه من حقيقة الإسلام؛ وإن تعليمهم هذه الحقيقة، وتربيتهم على مقتضياتها، هو العمل الحقيقي المثمر، الذي يغير واقع الناس في النهاية، ويردهم إلى الجادة التي شردوا عنها خلال الأجيال، وكان شرودهم عنها في القرن الأخير خاصة هو الذي جر عليهم الوبال.
إن الجهالة التي تعيش فيها الأمة بالنسبة لحقيقة الإسلام هي - كما بينا من قبل - العدو الأول للحركة الإسلامية، والمعوق الأكبر للدعوة (373)، وهي التي يستخدمها الأعداء أداة من أكبر أدواتهم لحرب الدعوة وتعويقها.(1/473)
لقد كان إفراغ لا إله إلا الله من محتواها الحقيقي، وبالذات فصلها عن مقتضاها الأول، وهو الالتزام بما جاء من عند الله، وتحكيم شريعة الله. هو الذي أتاح للعدو الصليبي الصهيوني تنحية الشريعة عن الحكم، مع إيهام الناس أن إسلامهم لا يتأثر بذلك قيد شعرة. وأنهم حين يرضون بالقوانين الوضعية، ويتحاكمون إليها عن قبول ورضى، فما زالوا رغم ذلك مسلمين، ما داموا يقولون لا إله إلا الله! وهو الذي أتاح للعدو- بعد انسحاب عسكره من أراضى العالم الإسلامي - أن ينيب عنه في الحكم حكومات من أهل البلاد، تستمر في تنحية الشريعة عن الحكم، ومع ذلك تضفي عليها في حسن الناس الشرعية الكاملة، ويتقبلها الناس - بقوانينها الوضعية - دون أن يطالبوها بتحكيم شريعة الله. ثم هو الذي أتاح لعملاء العدو في العالم الإسلامي أن يبطشوا بالدعاة بطشاً، ويبيدوهم إبادة، وهم آمنون من غضب الناس عليهم، ما داموا ينطقون بأفواههم لا إله إلا الله!
وإزالة هذه الجهالة، وتعليم الناس حقيقة الإسلام، وحقيقة الارتباط الذي لا ينفصم بين لا إله إلا الله ومقتضاها الأول، وهو تحكيم شريعة الله، ثم تربية الناس على هذه الحقيقة، هو العمل المثمر المجدي، الذي يغير أحوال الناس في العالم الإسلامي، ويردهم إلى الحقيقة الضائعة. فيردهم من ثم إلى أنفسهم وإلى دينهم، فيمكن الله لهم حين يستوون على الشرط:
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [سورة النور 24/55]
ومن ثم ينبغي أن تنصرف جهود الدعاة إلى إزالة هذه الجهالة، ولا تتشتت ولا تتناثر في قضايا لا طائل وراءها كقضية الحكم على الناس!(1/474)
إن الحكم على الناس بالإسلام أو الكفر ليس هو الذي سيحل القضية، ولا هو الذي سيجعل الناس يغيرون موقفهم! فإنك إن قلت لهم - كما يقول الطرف الأول - من قال لا إله إلا الله فهو مؤمن ولو لم يعمل عملاً واحداً من أعمال الإسلام، فلن يخرجوا من الخدر الذي يعيشون فيه، والذي يخيل إليهم أنهم قد استوفوا متطلبات الإسلام والإيمان، وأن الجنة في جيوبهم ولو لم يعملوا! ولن يغيروا - من ثم - شيئاً من واقعهم البعيد عن حقيقة الإسلام! وإن قلت لهم - كما يقول الطرف الآخر - أنتم كفار بواقع عملكم، مهما تكن نواياكم في داخل نفوسكم، فسينشغلون بالدفاع عن أنفسهم، والبحث عن الأدلة الفقهية التي تجعلهم في عداد المسلمين. ولن يغيروا - من ثم - شيئاً من الواقع السيئ الذي يعيشون فيه!
أما تعليمهم - دون التعرض للحكم عليهم في الوقت الحاضر - فقد يكون هو الذي يصلح الأفكار والقلوب، ويدعو الناس إلى تغيير ما بأنفسهم فيغير الله ما بهم كما بين سبحانه:
{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [سورة الرعد 13/11]
وتدفعني إلى هذا الموقف - منذ وقفته - عدة اعتبارات، ما زال لها في نفسي ثقلها ووجاهتها.
الاعتبار الأول: أنني أشعر - بحق - بعد تدبر خط الانحراف الطويل كله، وآثار الانحراف، والغزو الفكري، وانزواء علماء الإسلام عن قيادة الأمة وتبصيرها بحقيقة دينها، بل مشاركة بعضهم في تضليل الأمة عن هذه الحقيقة وتعميتها عليها، بالفتاوى المضللة حيناً، وبإضفاء الشرعية على ما لا شرعية له عند الله حيناً آخر، وإيهام الناس أن هذا من الاجتهاد المأذون به في الإسلام.... (374)(1/475)
أقول: إنني أشعر بحق - بعد تدبر هذا كله - أننا اليوم في مقام التعليم، قبل التصدي لإصدار الأحكام على الناس. وأن هذا التعليم - لإزالة الغربة الثانية التي تحيط بالإسلام اليوم - يحتاج من الوقت والجهد شيئاً غير قليل، ولكنه في النهاية هو الذي سيحسم القضية حسماً كاملاً، فمن أبى وأصر - بعد البيان والتعليم - فهو الكافر بلا شبهة، ومن أجاب الدعوة فهو المسلم بلا شبهة:
{وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)} [سورة الأنعام 6/55]
{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [سورة الأنفال 8/42]
وقد يقول قائل - ممن يرون أن الأصل في الناس اليوم هو الكفر ما لم يتبين غير ذلك - إن استجابة من يستجيب بعد البيان والدعوة لا تنفي عنه كان مشركاً قبل أن يستجيب. فقد قام رسول الله ( بالبيان والتعليم، فابى من أبى وأجاب من أجاب، ولكن استجابة من استجاب منهم لا تنفي عنه أنه كان مشركاً قبل أن يستجيب. فمن حقنا إذن أن نحكم على واقع الناس اليوم بمثل ما حكم الله سبحانه على واقع الناس في الجاهلية قبل الدعوة، فنقرر أنهم مشركون ابتداء إلا من ظهر منه غير ذلك.
والتشبيه هنا مع الفارق.
فلم يكن في تلك الجاهلية من يجهل حقيقة ما هو عليه، وأنه يعبد مع الله آلهة أخرى، عالماً بها، متوجهاً إليها، معتقداً بألوهيتها مصراً على عبادتها. كما لم يكن أحد منهم يجهل حقيقة ما يدعى إليه، وهو نبذ هذه الآلهة كلها، سواء عبدت لذاتها أو عبدت زلفي إلى الله، والتوجه بالعبادة إلى الله الواحد الذي لا شريك له، والتلقي من عند الله وحده، ونبذ كل مصدر للتلقي أو لحكم سواه.(1/476)
وهذه الحالة من المعرفة ليست قائمة اليوم إلا عند قلة من الناس، منهم الكافرون بلا شبهة، لأنهم يرفضون وهم يعلمون ماذا يرضون، ومنهم المؤمنون بلا شبهة، لأنهم يقبلون وهم يعلمون ماذا يقبلون (375). وهناك كثير من الناس تحيط بهم شبهة الجهل بحقيقة ما هو مطلوب منهم على وجه اليقين. وفي هذه الشبهة يقول الإمام ابن تيمية:
"لا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر. فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر. فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل، وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرهم. بل كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله، كسواليف البادية، وكانوا هم الأمراء المطاعين، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة وهذا هو الكفر. فإن كثيراً من الناس أسلموا، ولكن لا يحكمون إلا بالعادات الجارية التي يأمر بها المطاعون. فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز لهم الحكم إلا بما أنزل الله، فلم يلتزموا بذلك، بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار" (376).
ومن هنا لزم التعليم لإزالة هذه الجهالة قبل التصدي لإصدار الأحكام على الناس.(1/477)
والاعتبار الثاني: أنه لا يمكن في الحقيقة إصدار حكم واحد يشمل المجتمع كله. فالناس في هذا المجتمع فئات كثيرة. منهم - كما قلنا - كافرون بلا شبهة، وهم الذين يرفضون هذا الدين، أو يرفضون التحاكم إلى شريعة الله رفضاً ريحاً بأي حجة من الحجج: أن الدين لا علاقة له بالسياسة والاقتصاد والاجتماع وواقع حياة الناس. أو أن الشريعة التي نزلت قبل أربعة عشر قرناً لا تصلح للحكم اليوم. أو أن التطور يقتضي نبذ ما كان في الماضي - ولو كان صالحاً في حينه - واتخاذ "أزياء" أحدث، في السياسة والاقتصاد والاجتماع وواقع حياة الناس. وهؤلاء هم الذين يعتنقون المذاهب "العلمانية" بديلاً من دين الله وشريعة الله.
ومنهم مسلمون بلا شبهة، وهم الذين يعلمون أن الإسلام يقتضي الحكم بشريعته والتحاكم إليها في واقع حياتهم بما يملكون أن يتحاموا إليها فيه، ويسعون إلى إقامة حكم الله بطريقة من طرق السعي.(1/478)
ومنهم كتلة كبيرة غير متميزة السمات، لا تتخذ موقفاً حاسماً إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء بحيث تعرف هويتهم، وهؤلاء هم الذين يختلف الرأي فيهم، وهم مع ذلك إذا دققت النظر فيهم لتتبين أحوالهم ليسوا فئة واحدة في مجموعهم! فمنهم ولا شك من لا يأبه لأمر الدين على الإطلاق، حكم أم لم يحكم، وجد أم لم يوجد. وهؤلاء كفار لأنهم بلا عقيدة. ومنهم من يعتقد بجهالة أن تجاوز الأحكام الربانية هو من الاجتهاد الجائز للأمة في حالة الضرورة القائمة اليوم كما ضللهم "علماؤهم"، فهؤلاء تشملهم شبهة الجهل التي تحدث عنها ابن تيمية وأشرنا إليها آنفاً، ومنهم من ينكر بقلبه وهو يجهل أن للإنكار بالقلب مقتضيات يجب أن تتوفر فيه، هي عدم المشاركة فيما يعتقد أنه باطل - إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان - ومنهم من يتمنى في دخلية نفسه أن يحكم الإسلام، ولكنه لا يتحرك حركة تعبر عما في نفسه، إلا أن يجد الفرصة الآمنة تماماً، التي لا تعرضه لأذى على الإطلاق. وفي "مسيرة" مأذون بها، أو "استفتاء" مأمون العاقبة!
هذا الخليط الذي لا يجمع بينه إلا خفاء هويته، وسوء مظهره، وبعده عن الصورة الصحيحة للإسلام، هو مع ذلك كله ليس ثابت الحجم ولا ثابت الصورة!
إنه واقع بين ضغطين شديدين يلجئانه إلجاء - وإن يكن في بطء شديد - إلى التحرك إما إلى معسكر الكفر الصريح وإما إلى معسكر الإيمان الصريح.
واقع بين ضغط اليهودية العالمية التي تهدف إلى نشر الإلحاد الصريح في كل الأرض، ولا تكتفي من الناس بما كانت به في القرنين الماضين، من الخروج عن حقيقة الدين وإن ظلوا متعلقين به بخيوط واهنة آيلة للانقطاع. إنما تريد محو الدين كله من الأرض حتى لا يبقى أحد من "الأميين" له دين، فتتحقق لليهود السيطرة الكاملة عليهم.(1/479)
وبين ضغط الحركة الإسلامية التي تلح على الناس بأن حقيقة التوحيد - التي هي الإسلام - لا تتحقق بمجرد النطق بالشهادتين باللسان، إنما بالنطق بالشهادتين والعمل بمقتضاهما وتأدية الفرائض كما أمر الله ورسوله، وكما عبر الإمام الشهبد في رسالة التعاليم.
وبين هذين الضغطين الملحين الدائمين، تتحرك هذه الكتلة الخفية السمات، حركة وئيدة ولكنها دائبة، كما يتحرك جبل الجليد في موسم الذوبان، فتنفصل عنه في مسيرته بعض أجزائه ذات اليمين وذات اليسار حتى يتذاوب كله. وفي واقعنا الذي نعيشه نرى حركة هذه الكتلة الوئيدة الدائبة، يقع منها من يقع في معسكر الكفر الصريح، ويتجه منها من يتجه إلى معسكر الإيمان الصريح، ويقل حجمها بالتدريج.
كنت أقول في نفسي عشرين سنة: لو أن تميز هذه الكتلة إلى عنصريها المتميزين، الكفر الصريح والإيمان الصريح (377) فقد استغرق خمسين سنة من تلك اللحظة، ما استوجب الأمر أن نجهد أنفسنا في استصدار الحكم عليها، فضلاً عن أن نختلف ونتخاصم في أمر ذلك الحكم، ونجعله نقطة الشد التي نشد إليها الناس، ونشد إليها العمل في حقل الدعوة!
والآن - بعد عشرين سنة (378)- أرى بوادر التميز في هذه الكتلة: فهناك شباب - من الجنسين - تميع وتفكك وانحل، واتجه إلى الكفر بغير رجعة، إلا أن يشاء الله، وشباب - من الجنسين - التزم الإسلام في وضوح متميز لإخفاء فيه.
وأرى ظاهرة لها دلالتها الضخمة. ظاهرة الفتيات المحجبات. يملأن الجامعات والمدارس، ويملأن من الجامعات كلياتها العملية بصفة خاصة، وهي التي أنشئت في الأصل لتكون معاقل للكفر والإلحاد والانسلاخ من الإسلام، ويتحدين بزيهن الجاهلية العالمية كلها، لا الجاهلية المحلية فحسب، رافعات الرأس، مستعليات بالإيمان، لا يصدهن عن الالتزام بالحجاب كل سخرية الجاهلية وحقدها، بل عدوانها عليهن بين الحين والحين، بالاعتقال والسجن، أو التعذيب والتنكيل.(1/480)
وهذه الظاهرة بالذات لها دلالتها. فقد كان التخطيط اليهودي "للأميين" في العالم كله هو إخراج المرأة من دينها وأخلاقها وتقاليدها بحيث لا ترجع إليها أبداً! ضماناً لإفساد المجتمع كله، حين لا تكون هناك "أم" تلقن أبناءها مبادئ الدين والأخلاق وهم بعد صغار...(379) ثم كان التخطيط الصليبي الصهيوني للمرأة المسلمة أن تسير في ذات الخط الذي دفعت إليه المرأة الأوربية من قبل، ضماناً لإفساد المجتمع الإسلامي كله، حين لا تكون هناك أم مسلمة، تلقن أبناءها مبادئ الدين والأخلاق وهم في مرحلة الطفولة (380)، وبذلت الصليبية الصهيونية كل ما في وسعها، واستخدمت كل وسائلها لجعل عودة المرأة المسلمة إلى الإسلام، وإلى الحجاب الإسلامي، مستحيلة بعد أن تعرت بجسدها كله أو معظمه، وبعد أن أصبح العرى أصلاً من أصول المجتمع "المتمدن!" وعلامة على الرقى والتحضر والتطور والانطلاق!
لذلك فإن اقتحام الفتاة المسلمة للحواجز التي وضعتها الصليبية الصهيونية أمامها، وعودتها للحجاب الإسلامي على هذا النحو - عقيدة لا تقليداً - أمر له دلالته الكبيرة على مدى التحول الذي صار في المجتمع، والتميز الذي بدأ يأخذ سبيله في داخل الكتلة المتميعة السمات.
فلو افترضنا أن الأمر يحتاج إلى عشرين سنة أخرى أو ثلاثين، لتتم عملية التميز في تلك الكتلة المتميعة، أو حتى لتأخذ مساراً واضحاً فيها، فالأمر في حسي لا يحتاج إلى هذا الجدل كله، أو هذا الخلاف كله، أو هذا الخصام كله، الذي جرى بين الجماعات العاملة في الحقل الإسلامي حول قضية الحكم على الناس، لأنه - في تصوري - كمحاولة التصويب على جسم متحرك، كلما أحكمنا التصويب إليه وجدناه قد تحرك من مكانه ولو بضع خطوات!(1/481)
وإن بطء الحركة في هذه الكتلة لهو حقيقة ملموسة، قد تثير الحنق عند بعض الدعاة، وقد تثير اليأس عند غيرهم، ولكنا لا نستطيع بحال أن نقول إن الصورة اليوم من جانبيها، الأبيض والأسود، هي كما كانت قبل خمسين سنة، أو كما كانت قبل عشرين سنة. إنها تتغير باستمرار. والعبرة بهذا التغيير، بصرف النظر عن سرعة التغيير.
والاعتبار الثالث: أن هذه الكتلة المتميعة من "الجماهير" لن تعارض الحكم الإسلامي حين يقوم، سواء بدافع السلبية المستولية عليها، أو بدافع "العواطف الدينية" التي تستولي عليها حين يذكر الإسلام.
صحيح أن الجهالة العميقة التي تعيش فيها هذه الجماهير - وبالأخص جماهير "المثقفين" - تجاه الإسلام، وجهلها بالارتباط الوثيق بين لا إله إلا الله وبين تحكيم شريعة الله، هي أداة تستخدم اليوم ضد الحركة الإسلامية كما بينا في الصفحات السابقة، وهي معوق من أكبر معوقات الحركة. ولكن الذي أؤكده هنا أن الحكم الإسلام حين يقوم - أي حين تتسع "القاعدة المسلمة" إلى الحد الذي يسمح بقيام الحكم الإسلامي - فإن الكتلة المتميعة - حتى إن بقيت على صورتها الحالية، وهو أمر غير ممكن - لن تعارض الحكم الإسلامي، ولن تقف عقبة في سبيله. إنما الى سيعارض الحكم الإسلامي هم "العقائديون". أي الشيوعيون والعلمانيون والملحدون وأضرابهم. وهؤلاء ليسوا من بين الكتلة المتميعة التي تختلف الجماعات في الحكم عليها، إنما هم من الذين اختاروا معسكر الكفر الصريح.(1/482)
فلو أن هذه الكتلة المتميعة كانت ستقف ضد الحكم الإسلامي حين يقوم، لكان الأمر حرياً أن يبذل فيه الجهد لتحرى الحكم الشرعي المضبوط بالنسبة لها، لتحديد موقفنا النهائي منها. أما الآن فموقفنا منها هو الدعوة. هو بيان حقيقة لا إله إلا الله، وحقيقة ر، ومحاولة تربية من يستجيب لهذه الدعوة على معاني الإسلام الحقيقية ومقتضياته الحقيقية (381). والدعوة - على هذا النحو - لا ترتبط بالحكم على هذه الكتلة. فسواء كانوا مسلمين - في ميزان الله - أو كافرين، فالدعوة التي توجه إليهم الآن واحدة. هي لكل الناس. حتى العاملين منهم بالفعل في الحقل الإسلامي، فإن كثيرتاً منهم يجهلون كل مقتضيات لا إله إلا الله، وإن كانوا يشتغلون بالدعوة إلى الإسلام! وإن منهم من يقول بتأثير الفكر الإرجائى الذي توغل في حياة الأمة منذ قرون: "من قال لا إل ه إلا الله فهو مؤمن ولو لم يعمل عملاً واحداً من أعمال الإسلام"!!
فلو كانت الدعوة - في مرحلتها الراهنة - تتغير - أو تتأثر - بتصنيف الناس إلى مسلمين وكافرين، لوجب أن نجتهد في هذا التصنيف، ونتحرى الدقة فيه، لأننا - عندئذ - سنقدم لونا خاصاً من الدعوة كل فريق. ولكن الواقع أننا الآن نقدم لونا واحداً من الدعوة لكل الناس، حتى للعاملين بالفعل في الحقل الإسلام، الذين لا شك عندنا في إسلامهم، وفي إخلاصهم لله ودعوته، حسب الظاهر من أحوالهم!
ويقول كثير من الناس، في معركة الجدل القائمة بين جميع الأطراف: إنه لابد من الحكم على الناس بالإسلام أو الكفر، لنحدد موقفنا منهم، ونحدد كيف نتعامل معهم، سواء في التعامل اليومي، أو التعامل الحركي في الدعوة.
فأما ضرورة الحكم على مجموع الناس لتحديد موقفنا منهم، وطريقة تعاملنا معهم، فهو كلام نظري أكثر مما هو عملي!(1/483)
فنحن في أكثر الأمور لا نتعامل - واقعياً - مع المجتمع بأسره، إنما مع أفراد معينين منه، سواء كان تعاملاً اجتماعياً في زواج ومصاهرة، أو تعاملاً مالياً في بيع وشراء وتجارة، أو حركة بهذا الدين في مجال الدعوة. وفي كل هذه المجالات نستطيع بسهولة أن "نتبين" من الذي نقيم علاقاتنا معه. أما "المجتمع" باسره، فمتى نتعامل معه على هذه الصورة وبهذه الصفة؟!
إننا نصف المجتمعات التي نعيش فيها اليوم بأنها "مجتمعات جاهلية" لأنها لا تَحْكُم ولا تُحكَم بشريعة الله، إنما تحكُم وتحكَم بشرائع جاهلية من صنع البشر. ولكن هذا الوصف لا يلحق الأفراد الذين يعيشون في تلك المجتمعات، بل كل فرد له حكمه الخاص، حسب موقفه من المظلة الجاهلية التي تظلله، فمن رضى بها فهو منها، ومن كرهها أو أنكرها فحكمه غير حكمها (382).
وفي تعاملنا الفردي - في جميع المجالات - لا نتعامل مع المجتمع ككل، إنما نتعامل مع أفراد في ذلك المجتمع، نستطيع - كما قلنا - أن نتبين أحوالهم، ونقيم علاقاتنا معهم على أساس معرفتنا بأحوالهم.
أما في مجال التعامل الحركي في الدعوة، فالواقع أن الحركة - الآن - لها اعتبارات خاصة غير اعتبارات الكفر والإسلام. فالحركة الآن تحتاج إلى بناء الأعمدة الراسخة قبل كل شئ (383)، وهذا الأمر لا يصلح له أي إنسان ولو كان من المسلمين الخلّص الذين لا شك عندنا في إسلامهم. فإن أبا ذر رضى الله عنه هو من أجلّه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، وقد آمن إيماناً راسخاً عميقاً بالإسلام وبالرسول (، ولكنه حين رغب في التحرك بالدعوة لم يأذن به الرسول (، بل نصحه أن يبقى في قومه حتى يظهر هذا الأمر، أي حتى يتم التمكين للإسلام.
فتخيرنا الناس للحركة - أو إقامة علاقات معهم على أساس الحركة - لا ينبني على تصنيفنا الناس إلى مسلمين وكافرين. بل يتجاوز ذلك إلى الاختيار من بين المسلمين الخلص من نعتقد أنه يصلح لمرحلة البناء.(1/484)
أما قضية "الولاء" والتناصر - على كل أهميتها في مجال العقيدة - فليس لها في أحوالنا الراهنة، في مجتمعاتنا المضطربة الحائرة المفككة، مدلول عملي واقعي حتى نشغل أنفسنا بتصنيف الناس من أجلها! فإلى أن يقوم مجتمع مترابط تحكمه شريعة الله، وتضبط كل تصرفاته ومنطلقاته، ستظل قضية الولاء في حقيقتها العملية الواقعية قضية فردية، أو قضية "تجمعات" قائمة داخل المجتمع الجاهلي الذي لا تربطه وحدة حقيقية.
ولسنا بعد دولة حتى يكون لتصنيفنا للناس أثر واقعي في حياتهم، إذ نقيم حد الردة على المرتدين منهم. إنما نحن دعوة. ودعوة لكل الناس. وبكلام واحد نقوله لكل الناس. ثم نتخير من المستحبين من نعتقد أنه يصلح لمرحلة البناء.
أمر واحد تثيره بعض الجماعات قد تكون له وجاهة في ميزان الله، هو اختيار الإمام الذي يُصَلَّى خلفه. وفي هذا الصدد نقول كلمة صريحة: إننا لا نستطيع أن نكره أحداً على الصلاة وراء إمام لا يرتاح إليه. أما الحكم المسبق على ذلك الإمام بالكفر، بغير البينة القاطعة التي لا تحتمل الشك، فأمر غير جائز في شرع الله! (384)
? ? ?
بهذه الاعتبارات كلها لا أرى أن قضية الحكم على الناس هي قضية الساعة التي نتخاصم عليها ونفترق عندها. وأرى كذلك أنها قضية ستحل نفسها بنفسها خلال فترة من الزمن تعتبر قصيرة في حياة الأمم وفي حياة الدعوة - وإن استبطأها بعض الدعاة - لأن الحركة الدائبة - المفروضة فرضاً على الكتلة المتميعة - ستحولها تدريجياً إلى فرقين متميزين لكل منهما سيماها المتميزة التي يعرفها بها الناس، ولا يقع فيها الاختلاف: كفر صريح أو إيمان صريح (385).
? ? ?
ولكنا حين نلقى جانباً قضية الحكم على الناس في الوقت الحاضر، ينبغي أن نوجه اهتمامنا كله إلى تعليم الناس ما جهلوه من حقيقة الإسلام، وحقيقة لا إله إلا الله.
إننا إن تركناهم على جهالتهم لا نكون قد أدينا الأمانة التي في أعناقنا لله. والله سبحانه وتعالى يقول لنبيه ( :(1/485)
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [سورة المائدة 5/67]
فإن لم نقم بتعليم الناس حقيقة لا إله إلا الله، وارتباطها الوثيق بتحكيم شريعة الله، فلن نكون قد أدينا الأمانة، ولن نكون قد قمنا بالدعوة كما أمرنا الله في قوله تعالى:
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (104)} [سورة آل 3/104]
كما أننا إن قلنا للناس: من قال لا إله إلا الله فهو مؤمن ولو لم يعمل عملاً واحداً من أعمال الإسلام - وهي قولة غلاة المرجئة - فقد خدعناهم عن حقيقة الإسلام، وزدناهم تميعاً إلى تميعهم، وأخرنا نضجهم وتميزهم، وأخرنا بالتالي قيام "القاعدة الإسلامية" التي لا يقوم بغيرها الحكم الإسلامي ولا يمكن له في الأرض، ونكون إلى جانب ذلك - بوعي أو بغير وعى - قد أعنا الطاغية على دعاة الإسلام: يقتلهم ويذبحهم وهو آمن من غضبة الجماهير، متلفع بالجهالة التي يسدر فيها الناس
كذلك إن قلنا لهم: من قال لا إله إلا الله فهو مسلم في الحياة الدنيا وحسابه على الله في الآخرة، فقد قدمنا لهم كلمة خادعة سنبين في السطور التالية ما فيها من زيف وخديعة. فضلاً عن كونها - حتى لو كانت صحيحة - ليست هي الكلمة المناسبة لأحوال الناس الراهنة، حيث هم بعيدون كل البعد عن حقيقة الإسلام، وغارقون في الذل والهوان والضياع من جراء بعدهم عن هذه الحقيقة، فهو ليسوا في حاجة لمن يمد لهم في الذل والهوان والضياع والغفلة، إنما هم في حاجة لمن يوقظهم من غفلتهم، ليغيروا ما بأنفسهم، فيغير الله حالهم.(1/486)
وليست مهمة الدعاة أن يعطوا الناس شهادات مزورة بالإسلام ولا مهمتهم أن يبينوا للناس كيف يكونون مسلمين في الحياة الدنيا ولو كانوا ممن لا يقيم لهم الله يوم القيامة وزناًإنما مهمتهم أن يبينوا للناس كيف يكونون مؤمنين حقيقة في ميزان الله، ومقبولين عنده يوم القيامة، أي أن مهمتهم أن يبينوا للناس حقيقة الإسلام - حقيقة التوحيد البريئة من الشرك - لا ما يحقق للناس مظهرية الإسلام في الحياة الدنيا
وحتى مظهرية الإسلام في الحياة الدنيا فهي لا تتحقق بمجرد نطق لا إله إلا الله كما تزعم القولة الزائفة التي أشرنا إليها في السطور السابقة.
إن قول لا إله إلا الله محمد رسول الله يدخل الناس في الإسلام، نعم، ويعطيهم صفة الإسلام في الحياة الدنيا. ولكن هذه الصفة لا تلصق بأصحابها من تلقاء ذاتها - سواء كانت مظهرية أو حقيقية - ولا تظل لاصقة بهم طيلة حياتهم مهما فعلواإنما هي تحتاج إلى تثبيت دائم في كل لحظة، بعمل دائم يقوم به الإنسان في كل لحظة، ولا يكف عن القيام به في أية لحظة، هو التحاكم إلى شريعة الله في كل أمر من الأمور، وعدم التحاكم إلى غيرها في أمر من الأمور.
إنما يختلف الإسلام المظهري عن الإسلام الحقيقي لا في وجوب التحاكم إلى شريعة الله - فهو لازم لكل منهما لكي تظل له صفة الإسلام في الحياة الدنيا - إنما يختلفان في أن صاحب الإسلام الظاهري يتحاكم إلى شريعة الله نفاقاً، وهو في الآخرة ى الدرك الأسفل من النار، والمسلم الحقيقي يتحاكم إلى شريعة الله تصديقاً وإيماناً وطاعة لله، فيدخله الله في جناته جزاء إيمانه وطاعته. وفي الحالين لابد من التحاكم إلى شريعة الله، لكي تظل للإنسان صفة الإسلام.(1/487)
إنما يعتبر من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله مسلماً في الحياة الدنيا - بصرف النظر عما في قلبه - في حالة قيام الدولة الإسلامية التي تحكم بشريعة الله، دون أن يطلب منه - مع نطق الشهادتين - أن يتعهد بالتحاكم إلى شريعة الله وعدم الإعراض عنها إلى غيرها، لأن ذلك بديهية من بديهيات لا إله إلا الله، يفترض في قائلها أنه مقر بها - حقيقة أو نفاقاًولأن سلطان لا إله إلا الله قائم في الأرض متمثل في تحيكم شريعة الله، ولا يفترض في ناطق الشهادتين - سواء كان مؤمناً أو منافقاً - أن يخرج على هذا السلطان ويتمرد عليه، لأنه حينئذ يعتبر مرتداً ويقام عليه الحد
أي أن الناطق بالشهادتين في ظل الحكم الإسلامي - سواء كان مؤمناً أو منافقاً - يقر بأمرين في آن واحد (سواء اعتقد حقيقتهما في قلبه أم لم يعتقدها (386)) أحدهما يقر به نطقاً بلسانه، والآخر يقر به بواقع حاله. فأما الذي يقر به نطقاً بلسانه فهو أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وأما الذي يقر به بواقع حاله (387) فهو أنه لا شريعة ينبغى أن تحكّم إلا شريعة الله، وأنه لا شرعية لحكم غير حكم الله.
فإن نكل عن إقراره بأن شريعة الله وحدها هي التي ينبغي أن تحكم - وهو الإقرار الذي لم ينطقه بلسانه، وكلنه متضمن فيما أقر به بلسانه - اعتبر مرتداً، وأقيم عليه حد الردة في ظل الحكم الإسلامي، ولو ظل يردد في اليوم مائة مرة أنه لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول اللهولو كان الذي أعطاه صفة الإسلام هو مجرد النطق بالشهادتين، دون وجود لازم لهما، ولا مقتضى متضمن في نطقهما، فكيف يقام عليه الحد وهو ما يزال يردد الشهادتين؟ !(1/488)
إن إقامة الحد على المرتد بسبب إعراضه على تحكيم شريعة الله، أو إنكاره شيئاً منها - بينما هو ما زال ينطق بالشهادتين - يؤكد قطعاً أنه لم يحصل على صفة الإسلام بمجرد النطق بالشهادتين، إنما بالنطق بالشهادتين من جهة، والإقرار المتضمن في نطقهما بالالتزام بشريعة الله من جهة أخرى. وأنه قد افترض فيه حين نطق بالشهادتين أنه ملتزم بمقتضاهما - وهو تحكيم شريعة الله - ولو لم يطلب منه أن يقر بلسانه بهذا الالتزام نصاً، لأنه من بديهيات لا إله إلا الله منذ كان في البشرية دين، ومنذ أرسل الله رسولاً يقول الناس: لا إله إلا الله، ويقول هم: اعبدوا الله مالكم من إله غيره!
وإلا فلو كان الأمر على غير ذلك. لو كان النطق بلا إله إلا الله محمد رسول الله لا يتضمن إقراراً بالتحاكم إلى شريعة الله وحدها دون سواها، وعدم الإعراض عنها إلى سواها. فكيف يتصور من عدل الله سبحانه أن يعاقب إنساناً بالقتل في الحياة الدنيا، والعذاب المقيم في الآخرة على شئ لم يطلب منه الإقرار به ولا الالتزام به؟! (388)
هذا هو الحال حين تكون شريعة الله قائمة في الأرض، وهذه هي الكيفية التي يأخذ بها الناس صفة الإسلام في الحياة الدنيا، ولو كانوا في دخيلة أنفسهم كافرين منافقين: نطق لا إله إلا الله، محمد رسول الله، والخضوع لشريعة الله، وعدم الإعراض عنها إلى غيرها من الشرائع والنظم والأحكام، ويظل الفارق بين المنافق والمؤمن أن المنافق يتحاكم إلى شريعة الله نفاقاً بغير إيمان، أما المؤمن فيتحاكم إليها عقيدة وطاعة وطمعاً في الجنة والرضوان.
أما حين تكون شريعة الله غير قائمة في الأرض، فقد بين الرسول ( كيف يثبت الإنسان صفة الإسلام لنفسه، ولا يجعلها تسقط عنه. قال عليه الصلاة والسلام:(1/489)
"ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون مالا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن. ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل (389).
وهكذا يتبين ارتباط لا إله إلا الله الوثيق بتحكيم شريعة الله، دائماً في جميع الأحوال، سواء كانت دولة الإسلام قائمة في الأرض، أم كان القائمون بالحكم لا يحكمون بما أنزل الله (390).
وهذا الارتباط الوثيق هو الذي يجهله الناس، وهو الذي ينبغي للدعاة أن يعلموهم إياه، أداءً للأمانة التي في أعناقهم لله، وفراراً من عذاب توعد به الله من يكتم حقائق هذا الدين.
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)} [سورة البقرة 2/174]
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ (159)} [سورة البقرة 2/159]
ولا نكون مؤدين للأمانة ولا قائمين بالدعوة إن لم نبين للناس هذه الحقيقة: أن الذي يعتبر مسلماً في الدنيا - ولا يجوز تكفيره ولو كان منافقاً في الحقيقة، وحسابه على الله في الآخرة - هو الذي ينطق بالشهادتين ويعمل بمقتضاهما - أي يتحاكم إلى شريعة الله - كما قال الإمام الشهيد في رسالة التعاليم، وكما ينبغي أن نبين لناس في مقام التعليم. أما المؤمن الحقيقي فهو الذي يصنع ذلك عن إيمان وتسليم ورضا وإخلاص.(1/490)
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65)} [سورة النساء 4/65]
? ? ?
منهج الحركة
تختف الجماعات العاملة اليوم في حقل الدعوة اختلافاً واسعاً حول منهج الحركة الواجب اتباعه في المرحلة الراهنة. وربما لم يكن هذا الخلاف قائماً قبل ربع قرن من الزمان. فقد كانت الحركة تسير على المنهج الذي رسمه الإمام الشهيد وأقام جماعته على أساسه، ولم تكن هناك في الساحة جماعات أخرى غير تلك الجماعة.
ولكن الموقف اليوم يختلف.
تعددت الجماعات، وتعددت وجهات النظر. وتعددت المواقف بتعدد وجهات النظر.
ولكن هناك أمراً مشتركاً يجمع بين معظم هذه الجماعات، وإن اختلفت مواقفها ومناهجها. هو التعجيل!
يقولون: مضى على الدعوة أكثر من نصف قرن. ولم تنجح بعد. أي لم تصل إلى الحكم لتحقيق ما تدعو إليه من تحكيم شريعة الله، وحل مشاكل المجتمع على أساس المنهج الرباني.
وفي ذات الوقت يقولون: إن الشيوعيين ينجحون، وغيرهم من الأقليات التي ليس لها سند شعبي ولا حجم يذكر تصل إلى الحكم، والمسلمون لا يصلون! فلابد أن هناك خطأ في منهج الحركة. ولابد من التغيير. وعند هذه النقطة يبدأ الخلاف!
ولابد لنا قبل أن نبحث المنهج الذي ينبغي اتباعه في المرحلة الراهنة، أن نصحح هذا التصور ذاته: هل يصح قياس الحركة الإسلامية على الحركات الشيوعية والعلمانية والأقليات التي تصل إلى الحكم وتقهر الشعوب؟!
إننا إن لم ندرك بادئ ذي بدء أن هذه الحركات لا تنجح بجهدها الذاتي، ولا بثقلها الذاتي، إنما تُنْجَحُ من الخارج، بتحريك أعداء الإسلام لها، وإعطائها السند اللازم لها، والقوة اللازمة لقهر شعوبها وإذلالها. لا نكون جديرين بالعمل في مجال الدعوة، لأن العمل يحتاج إلى البصيرة والوعي، ويغيرها لا يقوم عمل على الإطلاق، فضلاً عن العمل الإسلامي.(1/491)
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي} [سورة يوسف 12/108]
فإن أدركنا هذه البديهية، فينبغي أن ندرك بعدها - أو معها - حقيقة أخرى ما زالت تخفي على الكثيرين.
فإذا كان لابد لكل حكم من سند يسنده لكي يقوم أولاً، ولكي يستمر في الوجود بعد ذلك. فأين هو السند الذي يقيم الحكم الإسلامي في الوقت الحاضر، ثم يظل مسانداً له لكي يستمر في الوجود؟
وإذا كان الشيوعيون والعلمانيون والأقليات التي تصل إلى الحكم تقوم أساساً بتحريك أعداء الإسلام، وتستمر في الوجود بسندهم لها، فهل أعداء الإسلام - سواء روسيا أو أمريكا - سيسمحون بقيام حكم إسلامي فضلاً عن أن يسندوه إذا قام؟ أم أنهم يتربصون بالمسلمين ليمنعوهم من تحقيق وجودهم الإسلامي، كما تفعل أمريكا في كل البلاد الواقعة تحت نفوذها؟!
لابد إذن - بداهة - أن يقوم السند للحكم الإسلامي من داخل الأمة المسلمة ما دام لا يمكن أن يجئ من خارجها. فهل هذا السند موجود في الحقيقة؟!
إن الذين يقولون - بلا رؤية - نعم، يقعون في ذات الغلطة التي وقع فيها العمل الإسلامي أول مرة، وهي افتراض أن "القاعدة الإسلامية" قائمة بالفعل، وما علينا إلا أن نذكى الوجدان الدينى، وندفعه للعمل، فينتهي الإشكال!
ونكون بهذا قد أضعنا أكثر من نصف قرن من العمل في ميدان الدعوة، دون أن تأخذ العبرة، ودون أن نكتسب الخبرة اللازمة لتكوين "البصيرة" المطلوبة.
لقد أثبتت التجربة - سواء في مقتل الإمام الشهيد أو في مذابح السفاح - أن القاعدة التي توهمنا وجودها لم تكن موجودة بالفعل، وأنها في حاجة إلى الإنشاء من جديد. وإنما الموجود هو جماعة أو جماعات قائمة بالعمل الإسلامي، وليس بينها وبين "الجماهير" في الحقيقة "قضية مشتركة". وإن حدث التعاطف العارض بين الجماهير وبين هذه الجماعات حين تتعرض للقتل والتعذيب، أو حين تقع منها بطولات تهز مشاعر الجماهير.(1/492)
إن هذا التعاطف العارض - أياً كان حجمه - أمر يختلف عن وجود "القضية المشتركة" بين هذه الجماعات وبين الناس. والقضية المشتركة التي ينبغي أن تكون، هي وجوب التحاكم إلى شريعة الله، ونبذ غيرها من الشرائع كما أمر الله:
{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [سورة الأعراف 7/3]
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [سورة المائدة 5/50]
وهذه القضية ما تزال - كما أثبتت التجربة - غير واضحة المعالم عند الجماهير.
نعم إن القاعدة الواعية لهذه القضية، العاملة من أجلها، قد أخذت تتسع ولا شك. وذلك من المبشرات الموجودة في حقل الدعوة اليوم. ولكنها ما تزال أضأل بكثير منا لحجم اللازم لإقامة الحكم الإسلامي، ومساندته لكي يستمر في الوجود.
إن حجم الانحراف الذي وقعت فيه الأمة خلال القرون - وفي القرن الأخير خاصة - أضخم بكثير مما يتصوره الكثيرون. إنه - كما بينا جيداً من قبل - ليس فساداً في السلوك فحسب، ولكنه فساد في التصور وفساد في السلوك. فساد في تصور كل المفاهيم الرئيسية للإسلام، بدءاً بمفهوم لا إله إلا الله، الركن الأول والأعظم في هذا الدين.
وتغيير حال هذه الأمة، وإرجاعها إلى حقيقة الإسلام، أمر لا يتم بالسهولة التي يتصورها كثير من الناس، إنما يحتاج - بحسب السنة الجارية - إلى وقت أطول بكثير، وجهد أكبر بكثير، مما تم في هذه اللحظة في جميع الميادين!
يحتاج أولاً إلى تبيين الحقائق المجهولة من هذا الدين، بدءاً بحقيقة لا إله إلا الله (391)، ويحتاج ثانياً إلى تربية الناس على ما تقتضيه هذه الحقائق من سلوك واقعي في واقع الحياة. وهو جهد طويل طويل لا يمكن - بحسب السنة الجارية - أن يتم في سنوات قصار. والسنوات التي مرت في الدعوة. بالقياس إلى عمر الأمم - قصار، جد قصار!(1/493)
وهنا - وبصير نافد - يخرج المتعجلون - ومعظمهم من الشباب المتحمس - بسؤالين يصبان في النهاية في ملتقى واحد: وهل من المعقول أن ننتظر حتى تتربى الأمة كلها على الإسلام، وهو أمر لا يتحقق بالفعل؟ وكيف نربى والحكومات المعادية للإسلام تنقض علينا كل فترة من الزمن، كلما ربينا جيلاً من الشباب أخذوه، فعذبوه وقتلوه وقضوا عليه؟!
فأما بالنسبة للسؤال الأول، فلم يقل أحد قط إنه ينبغي الانتظار حتى تتربى الأمة كلها، فهذا أمر - بالفعل - لا يتحقق أبداً في واقع الأرض. ومجتمع الرسول ( لم يكن كله على القمة السابقة التي كان عليها أصحابه رضى اله عنهم، الذين رباهم على عينه، وتعهدهم برعايته. بل هؤلاء أنفسهم لم يكونوا على مستوى واحد من العظمة والارتفاع، وقرن الرسول ( هو خير القرون على الإطلاق. فما بالك بقرننا الحاضر!
إنما المقصود - كما أشرنا مراراً - أن تتربى القاعدة التي تحمل البناء، بالحجم المعقول، وبأقرب شئ إلى المواصفات المطلوبة لهذا العمل الخطير. خطير لا في حياة هذه الأمة فحسب، بل بالنسبة للبشرية كلها في زمننا هذا الذي نعيش فيه (392).
وأما بالنسبة للسؤال الثاني فليس صحيحاً ما يتصوره بعض الناس - في نظرتهم المتعجلة - من أن أعداءنا يقضون على جهدنا كله، وعملنا كله، وكلما ربينا جيلاً من البابا أخذوه.
إنهم بالفعل يعوقون الحركة على الانطلاق. أما القضاء على الحركة فهم أنفسهم لا يزعمون ذلك وإن تمنوه! إنما الذي يحدث دائماً - بقدر من الله، وحسب سنة من سنن الله - أنه بعد كل مذبحة بشعة يقومون بها يأتي مد جديد من الشباب، وتتسع القاعدة على الدوام - برغم كل التعذيب الوحشي، وكل التقتيل والتشريد، بقدر من الله، وحسب سنة من سنن الله:
{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23)} [سورة الفتح 48/23]
ويقول المتعجلون: لقد ربينا بما فيه الكفاية. وآن الأوان أن "نعمل".(1/494)
وهذه القولة - على قصرها - تشتمل على قضيتين خطيرتين من قضايا العمل الإسلامي، تحتاج كل منهما إلى بيان:
الأولى: هل ربينا حقاً بما فيه الكفاية؟ وما المعيار الذي نقيس به ما تم من التربية حتى اليوم، لنعرف إن كان كافياً أم إنه يحتاج إلى مزيد.
والثانية: ما نوع "العمل" المقصود، الذي يفكر فيه المتعجلون؟
وأبدأ بالقضية الثانية لأنها قد تكون أيسر بياناً من الأولى، لأنها محددة في أذهان أصحابها، أما الأولى فما تزال تحتاج إلى تحديد.
هناك نوعان رئيسيان من التفكير، ونوعان من العمل، يفكر فيهما المتعجلون بحسب كونهم من الشباب ومن الشيوخ، بالإضافة إلى لون ثالث سنتحدث عنه، وإن كان لا يمثل حتى الآن ظاهرة في ساحة العمل الإسلامي، ولكن أصحابه يحاولون أن يجعلوا منه تلك الظاهرة، ويحاولون أن يحولوا العمل الإسلامي كله إليه.
فأما الشباب - الذين تملؤهم الحماسة وتدفعهم إلى التعجل - فتفكيرهم هو وجوب الوصول إلى الحكم بالقوة، وتربية الأمة من موقع السلطة لا من موقع الدعوة، لأن التربية من موقع الدعوة أمر يطول به الزمن ويطول به الطريق، بسبب وقوف الأعداء بالمرصاد، وتعويقهم المستمر للحركة الإسلامية، وتشتيتها كلما أرادت أن تتجمع.
وأما الشيوخ - الذين أجهدهم المشوار الطويل، والضربات المتوالية على الطريق - فتفكيرهم هو الدعوة السلمية التي لا تصطدم مع السلطة أبداً، والتي تتخذ جناحاً من أجنحتها الدخول في البرلمانات والانتخابات، ومحاولة التأثير على مجرى السياسة من داخله، أو على الأقل إعلان صوت الإسلام من داخل الأجهزة السياسية التي تسيطر اليوم على حياة الناس، حتى يكون لهذا الصوت وقع في حس الناس.
ونحن نفترض - بادئ ذي بدء - الإخلاص الكامل في كل من الفريقين (والفريق الثالث كذلك الذي سنتكلم عنه فيما بعد) ولكن الإخلاص وحده لا يكفي! بل لابد معه من البصيرة، لأن عدم البصيرة حري أن يفسد ثمرة الإخلاص!(1/495)
ونعيد ما قلناه من قبل. إن الحكم الإسلامي لن يتلقى سنداً من أعداء الإسلام في الخارج - لا من روسيا ولا من أمريكا. لا من الصليبية ولا من الصهيونية، ولا من معسكر الشرك كله - فلابد أن يكون سنده من الداخل. فأين هي "القاعدة الإسلامية" التي تسند الحكم حين يقوم، وتسنده بعد ذلك لكي يستمر في الوجود؟
نفترض جدلاً أن مجموعة من الشباب المتحمس قد أحكمت التدبير، فقامت "بانقلاب" وأقامت حكومة إسلامية في أي بقعة من العالم الإسلام. فمن يسندها؟!
ولنأخذ مصر مثلاً. وقد تحدثنا عن "التجربة المصرية" من قبل. و"القاعدة الإسلامية" في مصر هي أوسع قاعدة حتى الآن في العامل الإسلامي كله، فهل تكفي هذه القاعدة لسند الحكم الإسلامي، وحمايته من العدوان الصليبي الصهيوني المتوقع في جميع الأحوال؟
ولنفترض أن أمريكا لم تتدخل بعدوان مباشر كما تحدثها نفسها الشريرة في بعض الأحيان، ولا حرضت إسرائيل على العدوان كما تفعل في كل الأحيان. وإنما فقط مُنع القمح عن الشعب المصري!
هل يصبر الشعب المصري - في حالته الراهنة - على الجوع من أجل إقامة الحكم الإسلامي؟ أم تسير المظاهرات - بقيادة الشيوعيين والعلمانيين والملحدين، ومن ورائها "الجماهير" الجائعة - تقول: نريد الخبز والحرية؟!
فلنكن واقعيين. ولنقل إن "القاعدة الإسلامية" لم تزل بعد اصغر من حجم العمل المطلوب!
وقبل أن تقوم القاعدة بالصورة الصحيحة، فكل محاولة للصدام مع السلطة للوصول إلى الحكم عبث غير مبنى على بصيرة ولا تدبر. وقمته هو ما حدث في مذبحة حماة. نموذجاً بارزاً ينبغي أن تتدبره الحركة الإسلامية جيداً لتعرف كل أبعاده، ولا تقع في مثله مرة أخرى مهما كانت الأسباب.(1/496)
فإن قال المتعجلون من الشباب: كيف نقعد "بلا عمل" حتى تتكون مثل تلك القاعدة؟ فنقول إن القاعدة تتكون، ببطء، نعم، ولكنها تتسع على الدوام، ولا تتوقف على النمو، وينضم لها على الدوام شباب جديد، يعلم سلفاً عقبات الطريق، وعذابات الطريق، فيوطن نفسه على ملاقاة الموت، واحتمال العذاب، ويطن نفسه كذلك على المشوار الطويل. وذات يوم - لا يعلمه إلا الله سبحانه - ستنضح القاعدة وتتسع، وتصبح بندقة صعبة الكسر. وعندئذ - بسنة من سنن الله الجارية - سيدخل الناس فيها أفواجاً، وسيجد العدو نفسه لا أمام جماعة منعزلة يحصدها حصداً وهو مطمئن، إنما أمام أمة قد اجتمعت على إرادة موحدة. فيجرى قدر الله بما تفرح به قلوب المؤمنين.
أما القول بأن الشباب سيقعد "بلا عمل" حتى تتكون تلك القاعدة، فهو صادر عن تصور معين للعمل، يملأ قلوب هؤلاء الشباب وأفكارهم، فلا يتصورون "العمل" إلا حمل السلاح وملاقاة الأعداءويتصورون أي شئ غير ذلك قعوداً بلا عمل!
فتقول لهم: من إذن الذي سيبنى القاعدة؟! إن لم يكن هؤلاء الشباب أنفسهم؟! وكيف يكونون بلا عمل إذا كانوا منهمكين في البناء؟!
إنما تصدر هذه القولة عن الشباب المتعجل نتيجة أمرين معاً: عدم إدراك الأبعاد الحقيقية المطلوبة لعملية التربية، والاعتقاد - من ثم - بأن التربية قد تمت، وأننا ينبغي إذن أن ننقل إلى الخطوة التالية، وهي حمل السلاح وملاقاة الأعداء.
ونريد أن نتكلم عن التربية، لنوضح أبعادها المطلوبة بالنسبة للجيل الذي يواجه الجاهلية أول مرة، وبالنسبة لمجموع الأمة كذلك - أو من يستجيب للتربية منها - ولكنا نريد قبل ذلك أن نتعرف على الفريقين الآخرين من المستعجلين، لأن حديث التربية لازم للجميع؛ للمتعجلين من الشباب والشيوخ، والفريق الثالث الذي سنتكلم عنه فيما بعد، وللعاملين في ميدان التربية على حد سواء.(1/497)
ولنتذكر بادئ ذي بدء أن شيوخ اليوم هم أنفسهم بقية شباب الجيل الأول المتعجل! الذي كان يعتقد أن "العمل" قد وجب - وأنها ضربة قوية أو مجموعة ضربات، فيخر الطغاة هداً، ويحكم الإسلام!
وقد تخلى من أولئك الشباب من قبل من تخلى. ولكن هؤلاء الشيوخ هم الذين بقوا ولم يتخلوا.
نعم، لم يتخلوا. ولكنهم يعتقدون أن الدعوة قد وصلت إلى طريق مسدود. وأنه يجب - من ثم - تغيير الطريق!
والسبب في هذه الرؤية من جانبهم واضح. فقد كانوا تربوا على أنهم هم الذين سيضربون الضربة الأولى، أو مجموعة الضربات، ثم تنجلي الضربة عن هزيمة العدو، وانتصار الإسلام. في سنوات معدودات.
وقد وجدوا أنهم هم الذين يضربون المرة بعد المرة على امتداد السنوات، وأن الأعداء هم الذين يكسبون الجولة، بينما لا يصنعون هم شيئاً إلا تلقى الضربات. ومن ثم فإن الطريق - كما تصوروه - يبدو مسدوداً بالفعل، ولا يؤذن بانفتاح قريب. فلابد - في حسهم - من البحث عن طريق غير مسدود.
والطريق الذي يظنونه موصلاً هو الذي أشرنا إليه من قبل: دخول البرلمانات والانتخابات، وإعلان صوت الإسلام من هناك، مادام لا يُسْمَح بإعلانه من غير هذا الطريق.
وكما ناقشنا الشباب المتعجل، الذي يدعو إلى حمل السلاح وملاقاة العدو، ورأينا - على ضوء الواقع، وعلى ضوء ما حدث في حماة - أن الصدام مع السلطة قبل تكوّن "القاعدة المسلمة" ذات الحجم المعقول، عبث لا يجنى منع العمل الإسلامي إلا ما جناه في حماة.
كذلك نناقش الشيوخ المتعجلين، الذين يظنون أنهم يحركون العمل الإسلامي بولوج هذا الطريق غير المسدود، ويصلون عن طريقه إلى تحقيق الأمل المنشود.(1/498)
نقول لهم نفس الشيء. إن استخدام هذا الطريق عبث لا يؤدى إلى نتيجة قبل تكوّن "القاعدة المسلمة" ذات الحجم المعقول! ولنفرض جدلاً أننا توصلنا إلى تشكيل برلمان مسلم مائة في المائة. كل أعضائه يطالبون بتحكيم شريعة الله! فماذا يستطيع هذا البرلمان أن يصنع بدون "القاعدة المسلمة" التي تسند قيام الحكم الإسلامي، ثم تسند استمراره في الوجود بعد قيامه؟!
انقلاب عسكري يحل البرلمان، ويقبض على أعضائه فيودعهم السجون والمعتقلات، وينتهي كل شئ في لحظات!!
إنه تفكير ساذج رغم كل ما يقدم له من المبررات. وفوق ذلك فهو يحتوى على مزالق خطيرة تصيب الدعوة في الصميم، وتعوقها كثيراً على الرغم مما يبدو - لأول وهلة - من أنها تمكن لها في التربة وتعجل لها الخطوات!
المزلق الأول هو المزلق العقدي.
فكيف يجوز للمسلم الذي يأمره دينه بالتحاكم إلى شريعة الله وحدها دون سواها، والذي يقول له دينه إن كل حكم غير حكم الله هو حكم جاهلي، لا يجوز قبوله، ولا الرضى عنه. ولا المشاركة فيه. كيف يجوز له أن يشارك في المجلس الذي يشرع بغير ما أنزل الله، ويعلن بسلوكه العملي - في كل مناسبة - أنه يرفض التحاكم إلى شريعة الله؟!
كيف يجوز له أن يشارك فيه، فضلاً عن أن يقسم يمين الولاء له، ويتعهد بالمحافظة عليه، وعلى الدستور الذي ينبثق عنه، واله يقول سبحانه:
{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [سورة النساء 4/140]
وهؤلاء حديثهم الدائم هو مخالفة شريعة الله، والإعراض عنها؛ ولا حديث لهم غيره ينتظره المنتظر حتى يخوضوا فيه! فكيف إذن يقعد معهم؟!(1/499)
كل ما يقال من مبررات: أننا نُسْمعهم صوت الإسلام. أننا نعلن رفضنا المستمر للتشريع بغير ما أنزل الله. أننا نتكلم من المنبر الرسمي فندعو إلى تحكيم شريعة الله.
كل ذلك لا يبرر تلك المخالفة العقدية الواضحة.
يقولون: ألم يكن النبي ( يذهب إلى قريش في ندوتها ليبلغها كلام الله؟!
بلى!كان يذهب إليهم في ندوتهم لينذرهم. ولكنه لم يكن يشاركهم في ندوتهم!
ولو أن مسلماً يدعو إلى تحكيم شريعة الله، استطاع أن يذهب إلى ندوة الجاهلية المعاصرة، ويُسْمح له بالكلام فيها كما كانت تَسْمح الجاهلية الأولى لرسول الله ( ، لكان واجباً عليه أن يذهب وأن يبلغ، لأنه في هذه الحالة لا يكون "عضواً" في الندوة، إنما هو داعية من خارجها، جاء يدعوها إلى اتباع ما أنزل الله، فلا الندوة تعتبره منها، ولا هو يعتبر نفسه منا لندوة. إنما هو مبلغ جاء يلقى كلمته ثم يمضى.
أما المشاركة في "عضوية" الندوة بحجة إتاحة الفرصة لتبليغها كلمة الحق، فأمر ليس له سند من دين الله!
والمزلق الثاني هو تمييع القضية بالنسبة "للجماهير".
إننا نقول للجماهير في كل مناسبة إن الحكم بغير ما أنزل الله باطل، وإنه لا شرعية إلا للحكم الذي يحكم بشريعة الله. ثم تنظر الجماهير فترانا قد شاركنا فيما ندعوها هي لعدم المشاركة فيه! فكيف تكون النتيجة؟!
وإذا كنا نحن نجد لأنفسنا المبررات للمشاركة في النظام الذي نعلن للناس أنه باطل، فكيف نتوقع من الجماهير أن تمتنع عن المشاركة، وكيف تنشأ "القاعدة الإسلامية" التي سيقوم عليها الحكم الإسلامي، القاعدة التي ترفض كل حكم غير حكم الله، وترفض المشاركة في كل حكم غير حكم الله!(1/500)
إننا نحسب أننا بدخولنا البرلمانات، نقوم "بعمل" ييسر قيام "القاعدة الإسلامية"، لأنه يدعو إليها من فوق المنبر الرسمي، الذي له عند الناس رنين مسموع. ولكنا في الحقيقة نعوق قيام هذه القاعدة بهذه التمييع الذي نصنعه في قضية الحكم بما أنزل الله. فلا يعود عند الجماهير تصور واضح للسلوك "الإسلامي" الواجب في هذه الشئون. ولن تتكون القاعدة بالحجم المطلوب لقيام الحكم الإسلامي حتى ينضج وعى الجماهير، وتعلم علم اليقين أن عليها - عقيدة - أن تسعى لإقامة الحكم الإسلامي وحده دون أي حكم سواه، وألا تقبل وجود حكم غير حكم الله.
والمزلق الثالث أن لعبة "الدبلوماسية" كما أثبتت تجارب القرون كلها، لعبة يأكل القوى فيها الضعيف، ولا يتاح لضعيف من خلالها أن "يغافل" القوى فينتزع من يده شيئاً من السلطان!
والقوة والضعف - في لعبة الدبلوماسية - لا علاقة لها بالحق والباطل! ولا علاقة لها بالكثرة والقلة!
فالأقلية المنبوذة من الشعب، المكروهة منه، التي تسندها في الداخل القوة العسكرية، وتسندها من الخارج إحدى القوى الشيطانية الموجودة اليوم في الأرض هي القوية، ولو لم يكن لها أنصار. والأكثرية المسحوقة المستضعفة هي الضعيفة، ولو كانت تمثل أكثرية السكان!(2/1)
ومن ثم فالجماعات الإسلامية - الداخلة في التنظيمات السياسية لأعداء الإسلام - هي الخاسرة في لعبة الدبلوماسية، والأعداء هم الكاسبون! سواء بتنظيف سمعتهم أمام الجماهير، بتعاون الجماعات الإسلامية معهم، أو تحالفها معهم، أو اشتراكها معهم في أي أمر من الأمور؛ أو بتمييع قضية الإسلاميين في نظر الجماهير، وزوال تفردهم وتميزهم الذي كان لهم يوم أن كانوا يقفون متميزين في الساحة، لا يشاركون في جاهلية الساسة من حولهم، ويعرف الناس عنهم أنهم أصحاب قضية أعلى وأشرف وأعظم من كل التشكيلات السياسية الأخرى، التي تريد الحياة الدنيا وحدها، وتتصارع وتتكالب على متاع الأرض. ولا تعرف في سياستها الأخلاق الإسلامية ولا المعاني الإسلامية. فضلاً عن مناداتها بالشعارات الجاهلية، وإعراضها عن تحكيم شريعة الله. ولم يحدث مرة واحدة في لعبة الدبلوماسية أن استطاع المستضعفون أن يديروا دفة الأمور من داخل التنظيمات السياسية التي يديرها أعداؤهم، لأن "الترس" الواحد لا يتحكم في دوران العجلة، ولكن العجلة الدائرة هي التي تتحكم في "التروس"! وما حدث من "إصلاحات" جزئة عارضة في بعض نواحي الحياة على يد "الإسلاميين" لا تطيقه الجاهلية ولا تصبر عليه، وسرعان ما تمحوه محواً وتبطل آثاره. وتظل الآثار السيئة التي ينشئها تمييع القضية باقية لا تزول، وشرها أكبر بكثير من النفع الجزئي الذي يتحقق بهذه المشاركة، حتى لكأنما ينطبق عليه قوله تعالى تعالى:
{فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [سورة البقرة 2/219]
أما توهم من يتصور أن الجاهلية تظل غافلة حتى يتسلل الإسلاميون إلى مراكز السلطة، ثم - على حين غفلة من أهلها - ينتزعون السلطة ويقيمون الحكم الإسلامي، فوصفه بالسذاجة قد لا يكفي لتصويره! وتجربة الجزائر تكفي - فيما اعتقد - لإبطال هذا الوهم - إن كان له وجود حقيقي في ذهن من الأذهان.(2/2)
أما الفريق الثالث من المتعجلين فهم أصحاب "التفكير العلمي" و"الدراسات العلمية"!
وقد نبت هذا الاتجاه أو تمركز عند الشباب العربي المسلم الذي يعيش في أمريكا، وإن كانت له جذور مشابهة أو مماثلة عند غيرهم ممن يعيش في أوربا أو في "العالم القديم"!
يقول أصحاب هذا الاتجاه إن "التجربة الشرقية" قد استنفدت أغراضها، ووصلت إلى طريق مسدود. وإنه أن الآوان أن تتسلم قيادة العمل الإسلامي عقول جديدة، تفكر بطريقة جديدة. تكفر تفكيراً علمياً، مبنياً على دراسات علمية، فتقدم للناس الحلول العملية لمشكلاتهم، مستمدة من الإسلام. وهذا هو الطريق!
ومن كل قلوبنا نتمنى للقيادة الجديدة التوفيق. ولكنا نتدارس معهم مدارسة "علمية" و"واقعية" في مزالق هذا الطريق.
إن تصور أن كل الذي ينقص الناس هو معرفة الحلول الإسلامية لمشكلاتهم، وأنهم إن عرفوا ووثقوا واطمأنوا أن الحلول الإسلامية أفضل من الحلول الرأسمالية والاشتراكية، ووثقوا بأنها حلول عملية لا نظرية، ولا دعائية، ولا خطابية، فسيقبلون لتوهم على الإسلام، ويقيمون لتوهم حكومة إسلامية.
إن هذا التصور قد نشأ - على الأرجح - من حياة أولئك الشباب في ظل الديمقراطية الغربية، حيث الحرية متاحة لكل الناس أن يفكروا، وأن يجربوا، وأن يدعوا، وحيث يوجد احتمال - ظاهري على الأقل - أنه حين يقتنع الناس بشيء فإنهم يسعون إلى تطبيقه في عالم الواقع، ويتمكنون - عن طريق الأجهزة الديمقراطية - من تنفيذه (393).
ونفترض جدلاً أن كل الذي ينقص الناس في "العالم القديم" هو معرفة الحلول الإسلامية العملية لمشكلاتهم، وأنهم إن اطمأنوا ووثقوا أن الإسلام يقدم لهم حلولاً عملية أفضل مما تقدم الرأسمالية والاشتراكية، فسيسعون بالفعل لإقامة الحكم الإسلامي.(2/3)
نفترض هذا. ونسقط كل الدلالة المرة التي تدل عليها مرور مقتل الإمام الشهيد ومرور مذابح السفاح هينة على قلوب الناس، لأن وعيهم بأن تحكيم شريعة الله جزء من عقيدة لا إله إلا الله محمد رسول الله، ما زال ناقصاً جداً، وما زال في حاجة إلى بيان طويل ودعوة وتربية، حتى تصحح العقيدة إلى صورتها الربانية الحقيقية التي جاء بها رسول الله ( من عند الله.
نفترض هذا. ونفترض أنه بمجرد أن تعرض عليهم الأبحاث العلمية المتضمنة للحلول الإسلامية العملية سيقتنعون بالإسلام، وبضرورة "الحل الإسلامي"، ويسعون إلى التطبيق، أو يطالبون بالتطبيق. فماذا تكون النتيجة؟
هل تقول روسيا وأمريكا إنه ما دام المسلمون قد اقتنعوا عن طريق الدراسة العملية والتفكير العلمي بضرورة إقامة حكومة إسلامية فدعوهم وشأنهم! وليقيموا حكمهم الإسلامي الذي ينشدون؟! أم إنهما ستكلفان عملاءهما - كما تفعلان الآن - بتذبيح المسلمين وتقتيلهم، وتشريدهم وتعذيبهم، لكي يتخلوا عما هم مقدمون عليه من إقامة حكومة إسلامية في الأرض؟!
وعندئذ. هل يكفي "الاقتناع" وحده، و"التفكير العلمي" وحده، لمواجهة التعذيب الوحشي الذي يصب على المسلمين المطالبين بتحكيم شريعة الله؟ أم يحتاج الأمر إلى "عقيدة"؟.. العقيدة التي تقول إنها قضية كفر وإيمان لا قضية الحل "الأفضل".. قضية جنة ونار، لا قضية مشكلات عملية في الحياة الدنيا تحتاج إلى حل! والتي يستيقن الناس بها أنهم لا يكونون مؤمنين، ولا يتقبلهم الله يوم القيامة إذا أرادوا التحاكم إلى غير شريعة الله، أو رضوا بحكم غير حكم الله.
ولا شك أن الإسلام هو دين الدنيا والآخرة. وأنه ليس عقيدة فحسب، إنما هو عقيدة ومنهج كامل للحياة، محسوب فيه كل احتياجات البشرية في الحياة الدنيا، بل محسوب فيه أن ترتفع الحياة البشرية عن مستوى الضرورة، وتصل إلى درجة "الجمال" ودرجة"الإحسان" في كل شئ:(2/4)
"إن الله كتب الإحسان على كل شئ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، و ليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته!" (394).
وأنه يقدم لتلبية هذه الاحتياجات وتنميتها وترقيتها أفضل منهج وأحنه:
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [سورة المائدة 5/50]
صحيح هذا كله. ولكن لأمر ما أمر الله رسوله ( أن يقيم الاعتقاد الصحيح أولاً، ويجلى للناس الألوهية، ويبين لهم أن الالتزام بما جاء من عند الله من أمر ونهي هو مقتضى هذه العقيدة الذي لا تصح بدونه، ثم - بعد ذلك - أنزل "الحلول العملية" لمشكلات البشرية، وجعل الالتزام بها قضية كفر وإيمان، وقضية جنة ونار:
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ....} [سورة النساء 4/65]
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ (44)} [سورة المائدة 5/44]
{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [سورة الأعراف 7/3]
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى 42/21]
فإن نحن قدمنا "الحلول العملية" للناس قبل أن يستقر في خلدهم - إلى درجة اليقين - أن التزامهم بشريعة الله أو عدم التزامهم بها هو قضية الإيمان والكفر.. قضية الجنة والنار.. فهل يتم الأمر على الصورة التي يتخيلها الباحثون؟!
وما القول في الذين يقولون لك - وهم كثير - بعد أن تقنعهم عن طريق البحث العلمي والدراسة العلمية أن الحل الإسلامي هو الأفضل، يقولون لك: اقتنعنا! وما كنا نتصور - والله - أن الإسلام بهذه العظمة وهذا الشمول وهذه القدرة على تقديم الحلول العملية لمشكلات الناس! هلموا! أقيموا الدولة الإسلامية، وحين تقيمونها ستجدوننا أول المستحبين!
هل تقوم الدولة الإسلامية على هذه الصورة؟!(2/5)
إن الاقتناع العقلي وحده لم يغير قط في عالم الواقع، حتى في أوقات السلامة وألمن، فضلاً عن حالات الاضطهاد الوحشي! وهذه هي "الفلسفة" منذ سقراط وأرسطو إلى وقتنا الحاضر. هل غيرت شيئاً في واقع الأرض؟ إلا أن تكون عقيدة أو مرتكزة على عقيدة، فعندئذ تكون العقيدة هي التي تغير واقع الناس.
والذي أثبتته التجربة في "العالم القديم" أن هذه العقيدة هي التي تحتاج قبل كل شئ إلى تصحيح. لأنها فرغت من محتواها خلال الأجيال، وفي القرن الأخير خاصة، فأصبحت في حاجة ملحة إلى بيان حقيقتها، ثم تربية الناس على مقتضى هذه الحقيقة حتى يصبح سلوكهم العملي في كل المجالات - ومن بينها مجال السياسة والحكم، والاجتماع والاقتصاد، واعلم والفكر - مطابقاً لمقتضيات لا إله إلا الله.
ونحن مع ذلك لا نقول للباحثين العلميين لا تبحثوا! بل نحن نفرح بكل بحث متعمق يظهر من حقائق الإسلام ما كان خافياً من قبل. ولكن فيم يكون البحث؟ وعلى أي نحو يكون؟
إن هناك في الحياة البشرية - وفي الإسلام كذلك - ثوابت ومتغيرات.
هناك أمور ثبتها الله سبحانه وتعالى وأمر بتثبيتها على صورتها في حياة الناس، كعقيدة لا إله إلا الله محمد رسول الله - بمعناها الشامل المتكامل الذي نزلت به من عند الله، والذي يشتمل فيما يشتمل على الالتزام بكل ما جاء من عند الله - والعبادات بجملتها وتفصيلاتها، والحدود، وغير ذلك مما فصله الفقهاء.
وهناك أمور متغيرة أذن الشارع بالاجتهاد فيها، ولكنه قيدها - في تغيرها الدائم - بمحاور ثابتة أو أصول ثابتة، لا يجوز أن تحيد عنها في أثناء تغيرها ونموها بما يلائم ما يجد من أمور في حياة الناس.
فحين نبحث اليوم بحثاً علمياً في الحلول الإسلامية الواقعية للمشاكل الحاضرة ففي أي شئ نبحث: في المحاور الثابتة أم في التفصيلات المتغيرة؟(2/6)
أما البحث في المحاور الثابتة فواجب، وهو جزء من الفقه اللازم لهذا الدين. وكلما اتسع علم الناس بحقائق دينهم كان ذلك أوفق لهم، وأحرى باستقامة طريقهم.
أما المتغيرات - وخاصة في المشاكل الاقتصادية التي هي عقدة العقد في حياة الناس اليوم - فحين نبحث فيها، فلمن نقدم البحث على وجه التحديد؟ وعلى "مقاس" من نقيم البحث؟ أو بعبارة أخرى: على أساس احتياجات أي قوم من الأقوام، وأي زمان من الأزمان؟!
نحن الآن في عام 1406 من الهجرة _1986 من الميلاد) (395) فحين نقوم ببحث اقتصادي نبرز فيه مقدرة الإسلام على حل المشاكل الاقتصادية بصورة عملية أفضل مما تقدمه الرأسمالية والاشتراكية. فلمن نقدمه؟ للمسلمين؟ أم لغير المسلمين من سكان أوروبا وأمريكا؟!
وقد يبدو السؤال لأول وهلة غير ذي موضوع! فنحن نقوم بأبحاثنا ونقدمها - بداهة - للمسلمين! ولكنا نقصد السؤال حقيقة لننبه القيادة الجديدة إلى أمر لسنا ندرى مدى تبينها له.
فأين هم المسلمون اليوم - على وجه الأرض كلها - الذين سيطبقون محتويات هذا البحث لينقذوا اقتصادهم من حمأة الجاهلية ويضعوه على قاعدة الإسلامية؟!
ولنذكر أن يحثنا ليس في النظرية، وإنما هو في التطبيقات. فإذا لم يكن هناك الآن من يطبق، فأي عبث نقوم به حين نصرف جهدنا ووقتنا وطاقتنا في استنباط حلول عملية غير قابلة للتطبيق في عالم الواقع، لا لأنها هي في ذاتها غير قابلة للتطبيق، ولكن لأن المطبقين لم يوجدوا بعد، أو لم توجد لديهم بعد القدرة على التطبيق؟!
ولقائل أن يقول ولا شك: نحتفظ به ليكون جاهزاً عند قيام الدولة الإسلامية، فتطبقه على الفور، مدروساً مفحوصاً موثقاً مفصلاً، بدلاً من أن تقع في الحيرة عند قيامها، ويبدو أمام العالم كله عجزها عن حل مشاكلها بمقتضى نظامها وعقيدتها.
وهذا القول الذي يبدو وجيها لأول وهلة، هو عار عن الوجاهة من الناحية العملية البحتة!(2/7)
فهل يعلم أحد على وجه اليقين - أو حتى على وجه التخمين - متى تقوم الدولة الإسلامية المنشودة؟!
وهل يستطيع أحد على وجه اليقين - أو حتى على وجه التخمين - أن يقول كيف تكون صورة المشكلات الاقتصادية يوم تقوم الدولة المنشودة؟!
فأي عبث في أن نبحث - الآن - تفصيلات الحلول العملية لمشكلات زمن لا نعرف على وجه التحديد متى يكون، ولا نعرف على وجه التحديد كيف سيكون حجمها وشكلها يوم نحاول أن نواجهها بالحل الإسلامي؟!
إن المشكلات الاقتصادية بالذات هي أشد المتغيرات تغيراً في عالمنا المعاصر. فلو قلنا إننا نتوقع قيام الدولة الإسلامية خلال عشر سنوات من اليوم - وهو قول لا يسنده أي دليل "علمي" - فهل نضمن - من الوجهة العملية - أن مشكلات اليوم - التي نقيم بحوثنا على أساسها - ستظل على صورتها عشر سنوات فقط، حتى نجهز لها الحلول العملية من الآن؟!
فإذا افتراضنا أن الدولة الإسلامية تستغرق في قيامها ربع قرن أو نصف قرن، وهو أيضاً رجم بالغيب لا يستند إلى أدلة "علمية" حقيقية، فهل تبقى المشاكل الاقتصادية مجمدة على صورتها التي نبحثها اليوم، حتى نهيئ لها الحلول الجاهزة التي تستخدمها الدولة فور قيامها؟!
بل هي نحن على يقين من أن مشكلات الدولة الإسلامية - حين تقوم في أي لحظة - ستكون هي بذاتها مشكلات العالم الرأسمالي الحاضرة، وهي نواة أبحاثنا كلها حتى الآن؟!
مازلت أذكر مؤتمراً اقتصادياً إسلامياً ضخماً عقد من أجل البحث في مشكلة التأمين من الوجهة الإسلامية، وهل هو حلال أم حرام، وما الصورة الإسلامية التي يمكن أن يكون عليها لو أردنا أن تكون حياتنا الاقتصادية إسلامية؟!(2/8)
وقلت يومها للمؤتمر (396) - وأنا لست من رجال الاقتصاد - إننى أخشى أن نكون قد وجهنا جهدنا إلى بحث مشكلات تفرضها علينا اليوم الجاهلية الرأسمالية التي تضغط على واقعنا الاقتصادي، ولكنها قد لا تكون موجودة على الإطلاق في الدولة الإسلامية حين تقوم. فمن أرادنا أن كل مشاكل التأمين الحالية قد نجمت من تعطيل وظيفة بيت المال، وأنه حين يقدر للدولة الإسلامية أن تقوم، وتعيد لبيت المال وظيفته، لا تكون هناك حاجة إلى التأمين كله بصورته الحالية، وحينئذ يكون بحثنا في كونه حلالاً أو حراماً في صورته الراهنة إضاعة للجهد بلا طائل!
ولكن المؤتمر الموقر لم يلتفت بطبيعة الحال إلى هذا التحذير، ومضى يبحث بهمة "علمية" فائقة في مشكلة التأمين! وانتهي إلى نتيجة لم يوافق عليها كل المؤتمرين، هي أن التأمين بصورته الحالية حرام، ولابد من البحث عن "صيغة" إسلامية تنفي ما يحوط الصورة الحالية من الربا أو شبهة الربا!
ولنفترض من الجانب الآخر أن الله سبحانه وتعالى لم يُجْر سنته الجارية في إقامة الدولة الإسلامية، بل أجرى بفضله ومنّه وكرمه سنته الخارقة، فقامت الدولة الإسلامية غداً، ونحن غافلون لم نحضر شيئاً لقيامها، ولا جهزنا الحلول العملية للمشاكل التي ستواجهها! فهل يبرر هذا الفرض أن نصرف طاقتنا اليوم في استنباط الحلول العملية لتلك المشاكل؟!
كلا بالطبع! فحين يجرى الله سنته الخارقة، فسيحفّها - سبحانه - بالخوارق التي تحل المشاكل في لحظات !
إنما نحن مأمورون أن نتعامل مع السنة الجارية، وإن كنا لا نكف عن التطلع إلى رحمة الله في كل لحظة.. تلك السنة التي يقول لنا عنها ربنا في كتابه العزيز:
({هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)} [سورة الأنفال 8/62]
{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ....} [سورة الأنفال 8/60](2/9)
ليلفتنا إلى أمرين مهمين: أنه لابد من وجود مؤمنين مجاهدين، يكونون ستاراً لقدر الله في الأرض. وأنه لابد لأولئك المؤمنين أن يعدوا كل ما في طاقتهم من قوة لنصرة الحق.. وعندئذ يأتى نصر اله. لا عجزاً من الله سبحانه أن ينصر دينه بغير أدوات بشرية على الإطلاق، وبغير جهد بشرى على الإطلاق - وهو الذي قول للشيء كن فيكون - ولكن لأنه هكذا جرت سنته سبحانه:
{وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [سورة محمد 47/4]
{إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)} [سورة محمد 47/7]
والسنة الجارية -التي نحن مأمورون أن نتعامل معها، وإن كنا لا نكف لحظة واحدة عن التطلع إلى رحمة الله - هذه السنة تقول إنه لابد أولاً من إقامة القاعدة المسلمة المؤمنة بالحجم المعقول، ثم نتوقع إقامة الدولة الإسلامية بعد ذلك، بعد جهاد - قد يطول - تقوم به تلك القاعدة مع الجاهلية المتربصة بها في كل مكان.
وحين يكون الأمر على هذه الصورة، فإن الانصراف عن إقامة القاعدة المسلمة المؤمنة المجاهدة الصابرة على الابتلاء، إلى البحث عن "الحلول العملية لمشكلاتنا المعاصرة". يكون عبثاً عير معقول!
إننا - أحياناً - نُسْتَدْرَج بسؤال يلقيه علينا بعض الناس، بعضهم بإخلاص كامل ونية حسنة، وبعضهم بخبث شديد وكيد مقصود، يسألوننا: كيف تواجهون المشاكل المعاصرة حين تقيمون نظامكم الإسلامي؟ كيف تصنعون مثلاً في المشاكل الاقتصادية؟ (397) هل عندكم حلول عملية؟!
ويستدرجنا السؤال - الملقى علينا بحسن نية أو بسوء نية، فننصرف - دون أن نحس- عن محاولة الإجابة عن السؤال الذي ينبغي أن يكون ملء تفكيرنا في اللحظة الحاضرة، وهو: كيف نقيم الدولة الإسلامية؟ إلى محاولة الإجابة عن سؤال آخر، يأتي ترتيبه فيما بعد، وهو: كيف تصنع الدولة الإسلامية - يحن تقوم - في مواجهة المشاكل المعاصرة!(2/10)
بل قد نُستدرج أكثر، فنظن - بغير وعى - أن إجابتنا عن السؤال الآخر هي في الوقت نفسه إجابة السؤال الأول! أي أننا حين نقدم الحلول العملية للمشاكل الحاضرة، نوجد بذلك القاعدة الإسلامية التي تقيم الدولة!
وهو وهم ناقشناه من قبل وبينّا زيفه. ففي الأحوال الراهنة، حيث تحيط عداوات العالم كله تتربص بالمسلمين لتمنعهم من مزاولة إسلامهم - بإقامة الحكومة التي تحكم بما أنزل الله - فلن يكون الاقتناع العقلي بقدرة الإسلام على تقديم الحلول العملية هو الأداة اللازمة لمواجهة تلك العداوات الضاربة، إنما ستكون الأداة هي العقيدة، التي تقول للناس إنها قضية إيمان وكفر.. قضية جنة ونار.
ومن لم يدخل من باب العقيدة.. من باب لا إله إلا الله (على حقيقتها الرانية). فسيظل "يتفرج" على الإسلام، وعلى الحلول الإسلامية، دون أن يدخل المعمعة. دون أن يخوض المعركة الضارية التي تقيمها الجاهلية المعاصرة ضد الإسلام، وتفرض على المسلمين أن يخوضوها، إن لم يكن اليوم فغداً (398).
وهذا المتفرج من بعيد - أيا تكن درجة اقتناعه، بل أيا تكن قدرته على تقديم "الحول العملية" - لن يكون هو الذي يقيم الحكم الإسلامي. إنما يقيمه - حين يأذن الله - أحاب العقيدة الصحيحة، التي يستيقن أصحابها أن إقامة الحكم الإسلامي هو المقتضى الطبيعي لقولهم لا إله إلا الله محمد رسول الله. وأن ما يصيبهم من تقتيل وتعذيب في سبيل إقامة حكم الله في الأرض، هو أخصر طريق وأضمن طريق إلى الجنة التي وعد المتقون:(2/11)
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)} [سورة التوبة 9/111]
والقيادة الجديدة، التي تسعى إلى قيادة العمل الإسلامي بتقديم الحلول العملية للمشكلات المعاصرة، ينبغي أن تكون أكثر بصراً بطبائع النفوس، وأكثر واقعية في مواجهة الأحداث، من أن يصرفها استدراج من كان
من الناس، عن محاولة الإجابة عن السؤال الأول إلى محاولة الإجابة عن السؤال الأخير!
? ? ?
إنه لابد من ارتياد الطريق الطويل.. المجهد الشاق.. البطيء الثمرة.. المستنفد للطاقة، طريق التربية، لإنشاء "القاعدة المسلمة" الواعية المجاهدة، التي تسند الحكم الإسلامي حين يقون، وتظل تسنده لكي يستمر في الوجود بعد أن يقوم. وقد رأينا في دراستنا التي ناقشنا فيها الوسائل الثلاثة التي يستخدمها المتعجلون - كل من زاويته - أنها كلها تؤدى إلى طريق مسدود، وإن بدا في ظاهر الأمر أنها هي "الحركة" التي تخرج "بالعمل" من حالة الجمود!
فالصدام مع السلطة قبل وجود القاعدة المسلمة الواعية المجاهدة عمليات انتحارية لا طائل وراءها، إلا إعطاء الطغاة حجة لتقتيل المسلمين وتذبيحهم، والناس غافلون عن حقيقة المعركة، وعن كون هؤلاء الطغاة إنما يعملون ما يعملون عداءً للإسلام ذاته - لا رداً على عمل بعينه - وولاءً للصليبية الصهيونية التي تحارب الإسلام في كل الأرض (399).(2/12)
والتسلل إلى داخل الأجهزة السياسية مع عدم وجود القاعدة المسلمة الواعية المجاهدة عملية عبثية لا طائل وراءها، إلا تمييع القضية في نظر الجماهير، وتأخير النضج اللازم لإقامة القاعدة التي لا يقوم بغيرها الحكم الإسلامي.
والبحث عن الحلول العملية للمشاكل المعاصرة قبل وجود القاعدة المشار إليها آنفاً صرف للجهد بلا طائل، وتحويل للطاقة العاملة في الساحة من ميدانها الأول الأصيل إلى ميدان جانبى، يستنفد الطاقة وهو لا يؤدى - الآن - إلى شئ، ويوهم صاحبه في الوقت ذاته أنه "يعمل" بل أنه يعمل العمل الواجب، فلا يحس بالتقصير الذي يمارسه في الميدان الأول الأصيل، إن لم ينظر إلى العاملين فيه على أنهم هم العابثون المضيعون!!
وحين نقول إنه لابد من التربية أولاً لإنشاء القاعدة المسلمة الواعية المجاهدة، يثور كثير من التساؤلات والتصورات:
ربينا بما فيه الكفاية!
إلى متى نظل نربى دون أن "نعمل"!
ما جدوى التربية وكلما ربينا جيلاً من الشباب قضى عليه الأعداء!
ما المقصود بالتربية؟!
ونريد الآن أن نلقى بعض الضوء على المقصود بالتربية. ولكن لابد من تصحيح بعض هذه التصورات أولاً تمهيداً لبيان الصورة الصحيحة المطلوبة، المثمرة بإذن الله.
إن الذين يقولون: ربينا بما فيه الكفاية، يغفلون عن حقائق كثيرة واقعة في الساحة.
ربما كان أفضل لون من التربية قام في الساحة حتى اليوم هو الذي قام به الإمام الشهيد بين "الإخوان العاملين" الذين رباهم على عينه. وأفضل جوانب هذه التربية هو الأخوة المتينة التي رباها في أتباعه، والروح الفدائية الصادقة التي طبعهم بها، والجندية الملتزمة التي زرعها في نفوسهم، ثم تحرير لا إله إلا الله في حسهم من تواكل الصوفية وتواكل الفكر الإرجائى، وتحويلها في سلوكهم إلى حركة واقعية وعمل.(2/13)
ولكنا رأينا كم من الجوانب كان ينقص هذه التربية ذات الطابع الأصيل العميق، وكم أثر هذا النقص في خطوات العمل الإسلامي بعد مقتل الإمام الشهيد بصفة خاصة.
ولا ندرى كم من هذه الجوانب كان الإمام الشهيد قمينا بإضافته أو تصحيحه لو امتد به العمر. ولكنا نجد على الساحة الواقعية أن الجنود قد ربوا ليكونوا جنوداً فحسب، لا ليكونوا قادة بعد ذهاب قائدهم، كما ربى رسول الله ( أصحابه ليكونوا جنوداً فائقين تحت قيادته ( ، وليكونوا في الوقت ذاته "صفاً ثانياً" بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، كما كان الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم في قيادة الأمة، وكما كان بقية الصحابة رضوان الله عليهم في كل ميدان انتدبوا إليه.
نجد غياب "الصف الثاني" على المستوى المطلوب للجماعة التي تتزعم العمل الإسلامي في ظروفه الراهنة واضحاً ملموساً كلما امتد الزمن بعد مقتل الإمام الشهيد، فندرك - على الصعيد الواقعي - أنه كان هناك نقص في التربية، في هذا الجانب، ينبغي أن يستدرك ونحن نُعدّ لمسيرة طويلة قد تستغرق بضعة أجيال من عمر الدعوة قبل أن يكتب لها التمكين في الأرض.
ومن قبل لاحظنا العجلة في الإعداد والعجلة في التحرك والعجلة في السماح للجماهير بالانتماء للحركة قبل تربية العدد المناسب من الدعاة، الذين هم جنود تحت قيادة القائد، وقادة في ذات الوقت ومربون. وكيف كان لهذا كله آثاره في خط السير. والمفروض - ونحن نعد للمسيرة الطويلة - أن نتلاقى كل هذه الجوانب من النقص التي اشتملت عليها الجولة الأولى، أي أن نغير أسلوب التربية بما يتناسب مع أهداف الحركة، وطول المسيرة، ومشقة الطرق، وكيد الأعداء.(2/14)
فإذا نظرنا إلى الساحة الآن فقد نجد نوعيات أفضل في بعض الجوانب. ولكنا نجد نقصاً كبيراً في التربية في جوانب أخرى. نجد شباباً أكثر وعياً بمفهوم لا إله إلا الله، وصلتها الوثيقة بتحكيم شريعة الله. أي أكثر إدراكاً لقضية "الحاكمية" التي كانت قد أجملت إجمالاً من قبل جعلها تخفي على كثير من الدعاة أنفسهم. ونجد شباباً أكثر إدراكاً لطبيعة المعركة وما يلقى فيها من الأسلحة الظاهرة والخفية، ودور الأجهزة المختلفة في محاربة الدعوة عن طريق مناهج التعليم ووسائل الإعلام، وإثارة قضايا سياسية واجتماعية وفكرية معينة، تتجه بالاس وجهة بعيدة عن الإسلام، وتبعدهم باستمرار عن التلقي من المصدر الرباني. ولكن هؤلاء الشباب - في كثير من الأحيان - ينقصهم التجمع الصحيح، فيتجمعون في جماعات صغيرة مبعثرة، يكيد بعضها لبعض، أو يتربص بعضها ببعض، أو يتجادل بعضها مع بعض بروح الخصام لا بروح المودة. ويمكن أن تنقسم الجماعة الصغيرة إلى جماعات أصغر عند أول اختلاف على تفسير نص من النصوص، أو تقويم قضية من القضايا. مما يقطع بأن التربية الجماعية عندهم ناقصة. وأن الروح الفردية فيهم أقوى. بينما التربية المطلوبة - لتنشئة المسلمين عموماً فضلاً عن الجيل الذي يقع عليه عبء المواجهة الأولى مع الجاهلية - ينبغي أن توازن بين الروح الفردية والروح الجماعية عند أفراد الجماعة، فلا تحيلهم أصفاراً عن طريق تنمية الروح الجماعية على سحاب الروح الفردية، ولا تنمى فيهم الفردية الجانحة فيعتز كل منهم بفكره وبذاته وبتقييمه الخاص للأمور، فلا تأتلف منهم جماعة، ولا يلتئم لهم تجمع له وزن (400).(2/15)
كما أن هذا الشباب - في معظم الأحيان - تنقصه الخبرة الحركية (وهي جزء من التربية المطلوبة)، مع أنه أكثر وعياً من الجيل السابق في كثير من القضايا ذات الطابع الفكري. ومن أجل هذا يتعجل في الصدام مع السلطة، وفي استعراض قوته في قضايا لا تقدم ولا تؤخرن أو في قضايا ذات وزن وذات خطر ولكن لا يستطيع المسلمون في حالتهم الراهنة أن يغيروا شيئاً من مجراها.
تجمع شباب الجماعات الدينية بجامعة الإسكندرية ذات مرة، للحيلولة بالقوة دون إقامة حفل كانت إدارة الجامعة قد رتبته لمكايدة الجماعات الدينية خاصة والروح الإسلامي عامة. وبالفعل نجح شباب الجماعات الدينية في منع إقامة الحفل رغم كل الترتيبات الرسمية التي رتبت له، فلم يحدث ما كان مرتباً من رقص وغناء وتمثيل مبتذل.
هذا نموذج لبعض "النشاط" الذي كانت تقوم به الجماعات الدينية في الجامعات. فما تقويمه الصحيح؟
إن استعراض القوة على هذا النحو كان بالفعل يرهب "المتحررين" و"المتحررات" من الطلبة والأساتذة على السواء. فلا تجرؤ "فتاة جامعية" على التبذل الرخيص الذي يقع من كثير من "الفتيات الجامعيات" حتى كأنهن راقصات في ملهي، أو عارضات أزياء في محل تجارى متبذل، لا طالبات علم يتحشمن على الأقل في وقت تلقى العلم، كما تتحشم الفتاة الأوروبية الملحدة الكافرة المنسلخة تماماً من كل دين أو أخلاق أو تقاليد، في أثناء الساعات التي تتلقى فيها العلم! ولا يجرؤ فتى شيوعي "متحرر" على مهاجمة الإسلام جهرة. ولا يجرؤ أستاذ على السخرية بالإسلام كما يفعل "المتحررون"، محتمين بالكرسي الذي يجلسون عليه، و"النظام العام" الذي يحميهم وهم يهاجمون الدين والأخلاق والتقاليد باسم "التحرر الفكري" أو "الروح الجامعية"!.
نعم! ولكن!(2/16)
قد يكون هذا سلوكاً مناسباً لو أن لتلك الجماعات الدينية وجوداً دائماً في الجامعات، بحيث يكون لهذا الوجود ضغط مستمر يقاوم ضغط الشيوعيين والملحدين و"المتحررين" لإفساد الأخلاق، وصرف الشباب والفتيات عن القيم الدينية، وإشاعة التحلل الخلقي بينهم.
أما إذا كان وجود تلك الجماعات عابراً - كما سنبين في السطور التالية - فهل هذه العملية المفردة ستغير شيئاً حقيقياً في حياة الفاسدين والفاسدات من الأساتذة أو الطلاب؟ أم الأجدى - وقد أتيحت الفرصة لتلك الجماعات أن توجد فترة محدودة من الزمن - أن ينصرف الجهد إلى التربية الحقيقية على مبادئ الإسلام، وكل شاب فرد، وكل فتاة، وكل مدرس أو أستاذ، تنقذهم هذه الجماعات من الوحل الذي يرتعون فيه إلى النظافة والطهر، هو كسب للدعوة، وعمل مثمر خير من الدنيا وما فيها كما قال رسول الله ( ؟
"لأن يهدى الله بك رجلاً خير لك من الدنيا وما فيها" أو قال: "خير لك من حمر النعم" (401).
لقد كانت "اللعبة" التي أبرزت تلك الجماعات الدينية إلى الوجود أن الحاكم يومئذ كان يواجه ضغطاً شديداً من التيار الشيوعي، والتيار الناصري المتحالف معه، فكان منطقياً بالنسبة إليه أن يستند - مؤقتاً - إلى التيار الإسلامي، فيفسخ له المجال للعمل والحركة، ليصد عنه هو شخصاً الضغوط التي يواجهها، لا لينظف الجامعة من الفساد والإلحاد والكفر والتحلل الخلقي، ولا لينشئ في البلد حركة إسلامية تطرها من تلك الأدران! وليتعرف في ذات الوقت - عن طريق أجهزته البوليسية - على القوى الكامنة في الشباب، ليضربها في الوقت المناسب - بعد أن تنتهي "اللعبة" - ضربة تشلها عن الحركة أو تقضى عليها!
فهل كان استعراض القوة في حادث الحفل الذي أشرنا إليه - أو أمثاله - هو السلوك الحركي المناسب إزاء هذه اللعبة؟! أم أنه كان قمينا بالتعجيل في إنهاء اللعبة وتوجيه الضربة؟(2/17)
وحقيقة إن الضربة كانت آتية لا ريب فيها كما أشار إلى ذلك مدير السجن الحربي (402). فبمجرد أن يحس "المسئولون" أن التيار الإسلامي قد أخذ يقوى، يتفجر الموقف بالضرورة للقضاء على الخطر المرهوب، والذي تخشاه الصليبية الصهيونية وكل من يعمل لحسابها في الأرض.
ولكن يختلف الأمر حين يكون كل "العمل" الذي تقوم به تلك الجماعات هو تربية شباب نظيف الأخلاق، متطهر من الدنس، يعرف ربه ولا يعرف رجس الشيطان. فإن الحاكم يتردد كثيراً في ضربها، ثم يتردد أكثر في استخدام الوسائل الوحشية لتعذيبها، لأنه يومئذ لا يستطيع أن يبرر عمله الوحشي أمام الجماهير.
وفي وسع أجهزة الأمن بلا شك أن تفتعل قضية، وأن تنشب إلى الناس جرائم لم يرتكبوها قط ولم يفكروا مجرد تفكير في ارتكابها، وأن تحملهم - بوسائل التعذيب البربرية - على "الاعتراف" بما لم يفكروا فيه أصلاً (403)... ولكن الجماهير لم تعد اليوم غافلة كما كانت قبل ثلاثين سنة أو عشرين! وصارت اليوم تقدم سوء الظن بأجهزة الأمن على إحسان الظن! ولم يعد يسهل على حاكم أن ينقض على جماعة كل عملها هو التربية الإسلامية، فيصب عليها وحشيته وهو آمن من الإنكار والسخط. وحقيقة إن أولئك الطغاة لا يهمهم كثيراً غضب الجماهير. ولكن الذين يشغلونهم لحسابهم لا يحبون أن يكون عميلهم مفضوح الأمر أمام الناس، لأن هذا يفسد اللعبة في النهاية ولا يحقق المطلوب! بل إنهم في بعض الأحيان يدفعونه دفعاً إلى ما يسخط الناس عليه، حين يكونون قد قرروا إنهاء دوره والإتيان بوجه جديد، كما فعلوا بالسادات من قبل، ومن بعده النميرى!
ضربنا نموذجاً من إنفاق الطاقة في قضايا لا تقدم ولا تؤخر، ولا تغير شيئاً في الحقيقة، إذ سرعان ما أزيلت الجماعات الدينية من الجماعات، رجع الفاسدون والفاسدات أشد فساداً من ذى قبل!(2/18)
ونضرب الآن نموذجاً من قضايا ذات خطر حقيقي، كقضية تحكيم الشريعة الإسلامية. وهي قضية رئيسية بالنسبة لكيان الأمة كلها؛ والسعي إلى تحكيم شريعة الله فرض على كل مسلم يقول لا إله إلا الله، محمد رسول الله، لأنه هو المقتضى المباشر لتلك الكلمة العظيمة التي يعلن بها شهادة الإسلام.
نعم! ولكن!
هل يمكن حقاً أن تقوم شريعة الله في الأرض قبل أن توجد القاعدة المؤمنة الواعية المجاهدة التي تواجه النتائج المترتبة على إعلان الحكم الإسلامي، وأولها تحرش الصليبية الصهيونية على نحو ما حدث في الجزائر وفي تركيا؟
وهل يكفي "الضغط الشعبي" لإقامة الحكم الإسلامي، إن لم يكن "الشعب" الذي يمارس الضغط مستعداً لجهاد، ومستعداً لخوض معركة طويلة الأمد، يصبر فيها على الخوف، والجوع، ونقص الأموال، والأنفس، والثمرات كما بين اله في كتابه المنزل:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ (155)} [سورة البقرة 2/153-155]
أليس الأجدى إذن إنفاق الطاقة في إقامة "القاعدة المسلمة" التي تحتمل هذه التبعات الجسام، بدلاً من إنفاقها - أو إنفاق قدر منها - في المطالبة الشفوية التي لا يترتب عليها شئ في الحقيقة، إنما تكون كالطلقة الطائشة، تنبه عدوك إلى مكانك دون أن تصيب شيئاً في الواقع؟!(2/19)
إن القضية ليست إلهاب حماسة الجماهير لتطبيق الشريعة الإسلامية، فهذا وحده لا يكفي، ولا يغير شيئاً من الواقع، طالما كانت هذه الجماهير لا تملك إلا تلك الحماسة العاطفية، التي يمكن أن تنطفئ بذات السرعة التي تلتهب بها. إنما يتغير الواقع حين "تجند" تلك الجماهير نفسها لقضية تحكيم الشريعة على أساس أن هذا التحكيم هو المقتضى المباشر لقول لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
والفارق الضخم - في مجال الحركة الواقعية - بين الحماسة العاطفية التي لا تنتهي إلى شئ واقعى، وبين تجنيد الناس أنفسهم لهذه القضية، ينشأ من فارق دقيق - وخطير في الوقت ذاته - في تفهم حقيقة القضية وإدراك أبعادها. فحين تكون القضية في حس الناس أن تحكيم الشريعة "كالات" يكتمل بها دينهم، ولكنهم قبل ذلك مسلمون ولو رضوا بشريعة غير شريعة الله، وتحاكموا إليها بغير حرج في ضمائرهم، سيكون أقصى ما يعطونه للقضية هو تلك الحماسة العاطفية التى لا تصمد للبطش الوحشي الذي يقابل به الطغاة الدعوة لتحكيم شريعة الله، وأن إيمانهم لا يكون ناقصاً إنما يكون غير قائم أصلاً إذا تحاكموا - راضين - إلى شرائع يضعها البشر من عند أنفسهم بغير إذن من الله. عندئذ سيجند الناس أنفسهم لتلك القضية، لأنها ستكون في حسهم قضية إيمان وكفر، لا مجرد "كمالات" يكملون بها إيماناً موجوداً بالفعل، مرضياً عند الله!
ولن تقوم شريعة الله في واقع الأرض حتى يجند الناس لها أنفسهم، ويحتملوا التضحيات في سبيل إقامتها، أما الحماسة العاطفية فمهما أعجب الدعاة مظهرها، فلست رصيداً حقيقياً في المعركة الهائلة التي يرصدها للإسلام أعداء الإسلام!
? ? ?(2/20)
تلك نماذج نضربها لصرف الطاقة في غير مجالها الحقيقي، أو للتقصير في صرفها في مجالها الذي يجب أن توجه إليه. ودلالتها أن هناك جوانب نقص في عملية التربية القائمة في ساحة العمل الإسلامي. ذلك أن معرفة العمل الصحيح والسعي إليه، ومعرفة العمل الخاطئ والانصراف عنه، هي جزء من "البصيرة" الأزمة لهذه الدعوة، وهي بدورها جزء من التربية الصحيحة اللازمة لإعداد الدعاة، وخاصة الذين يقع عليهم عبء المواجهة الأولى مع الجاهلية التي تكيد لهم، وتتربص بهم دائرة السوء.
فإذا أضيف إلى ذلك ما يشكو منه كثير من الشباب العاملين في الدعوة من أن بعض "المسئولين" عنهم ينقصهم التجرد الكافي للدعوة، الذي يجعل مصلحتها الحقيقة هي رائدهم، لا ذواتهم، ولا رغبتهم في الظهور والاستحواذ على أكبر عدد من الأنصار.
إذا وضعنا هذا كله في الميزان. فهل يحق لقائل أن يقول: ربينا بما فيه الكفاية؟!
? ? ?
أما الذين يسألون : إلى متى نظل نربى دون أن "نعمل". فلا نستطيع أن نعطيهم موعداً محدداً فنقول لهم: عشر سنوات من الآن، أو عشرين سنة من الآن! فهذا رجم بالغيب لا يعتمد على دليل واضح. إنما نستطيع أن نقول لهم: نظل نربى حتى تتكون القاعدة المطلوبة بالحجم المعقول.
وواضح أن هذه الإجابة غير محددة. فلا هي تحدد "الزمن" المطلوب، ولا هي تحدد "الحجم" المطلوب. ولكن الحقيقة أنه لا يوجد بشر في الأرض يستطيع أن يعطى هذا التحديد، لأن فيه عنصراً بل عناصر غيبية لا يمكن للبشر تحديدها.(2/21)
لقد كان الوحي هو الذي ينقل خطى الجماعة الأولى بقيادة الرسول (. فقد أمره الله بادئ ذي بدء بإنذار عشيرته الأقربين، فأخذ يدعو إلى الله سراً فترة من الوقت وهو يتحمل الأذى من عشيرته صابراً محتسباً حتى نزل الأمر الرباني بالجهر بالدعوة، فصدع رسول الله ( بالأمر. ونزل الأذى بالمؤمنين وتحركت مشاعر بعضهم للرد على الأذى، فنزل الوحي يقول لهم: "كفوا أيديكم" فكفوا، واحتملوا الأذى صابرين حتى أذن الله لهم بالقتال فقال سبحانه:
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)} [سورة الحج 22/39]
ثم جاء الأمر بقتال الذين يقاتلون المؤمنين من المشركين، دون سواهم:
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)} [سورة البقرة 2/190]
ثم جاء الأمر بقتال المشركين كافة:
{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً...} [سورة التوبة 9/36]
واليوم وقد انقطعت الرسالات وختمت النبوة فلن يتنزل وحي يقول للمسلمين: كفوا أيديكم إلى سنة كذا، وقاتلوا سنة كذا! إنما هو الاجتهاد والرأي بحسب الظروف القائمة في الأرض، وبحسب السنن الجارية التي يجرى الله بها قدره في حياة الناس.(2/22)
وهذه السنن تقول إن الانحراف الضخم الذي وقعت فيه الأمة حتى اصبح الإسلام فيها غريباً كما كان غريباً أول مرة، يحتاج إلى جهد ضخ وزمن غير قصير حتى تعود الأمة إلى الصراط السوي، أو حتى تعود منها فئة تحتمل الصراع والصدام مع القوى العالمية المعادية للإسلام، وتصمد لها حتى يمدها الله بالنصر، ويمكن لها في الأرض، ويكون هلا من رسوخ القدم في الإيمان، وصدق العزيمة، والشجاعة في الحق، والزهد في متاع الدنيا، والحرص على ما عند الله في الآخرة، وما يجعلها تحمل العبء صابرة محتسبة، ويجعلها تحمل أدران بقية الأمة من المنافقين وضعاف الإيمان والمتقاعسين عن الجهاد فلا يخذلونها، بل ترفعهم هي بالمثال الرفيع الذي تضربه للناس.
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [سورة الأنفال 8/2-4]
{مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)} [سورة الأحزاب 33/23]
{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [سورة المائدة 5/54]
{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)} [سورة آل 3/146](2/23)
{فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74)} [سورة النساء 4/74]
فالزمن المطلوب للتربية هو الزمن الذي يكفل ترسيخ هذه الصفات في نفوس الفئة المختارة التي يقع عليها عبء المواجهة مع الأعداء. وهو زمن لا يستطيع بشر أن يحدده على وجه الدقة لأنه غيب. ولأن فيه جملة متغيرات تتغير النتيجة في كل مرة بحسب نوعها ومقدارها.
فالمتغير الأول هو الجهد الذي ينبغي أن نبذله لبلوغ هذا الهدف الأساسي. فكلما بذلنا جهداً أكبر، كان لنا أن نطمع في تقريب الزمن، أما إذا تراخينا في بذل الجهد، أو لم نوجهه الوجهة الصحيحة فسيطول الزمن ولاشك.
والمتغير الثاني هو مدى استجابة الذين ندعوهم ونربيهم وهذا أمر ليس في يد البشر إطلاقاً:
{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)} [سورة القصص 28/56]
إنما كلفنا الله سبحانه وتعالى أن نبذل الجهد، وتكفل هو سبحانه بالنتائج، لأنها تتم بقدر منه، وبحسب مشيئته. وإن كنا نطمع دائماً في منّ الله وكرمه، أننا إذا صدقنا في بذل الجهد فإن الله يرتب النتائج في صالح الدعوة. وقد رأينا بأعيننا أن استشهاد رجل واحد صدق ما عاهد الله عليه، يصنع لهذه الدعوة من العجائب ما لا تصنعه ألف خطبة ولا ألف درس ولا ألف كتاب، وهذا عون الله الذي وعد به سبحانه حين يصدق عباده في التوجه إليه، والتوكل عليه، والإيمان به.(2/24)
والمتغير الثالث هو الظروف التي تحيط بالدعوة وتحيط بالأعداء، والتي تحدد بدورها الحجم المناسب للقاعدة المطلوبة. فحين يخلق الله ظروفاً مواتية فقد تستطيع قاعدة أصغر حجماً مما نتخيل الآن، أن تقيم حكم الله في الأرض، وتسانده بعد قيامه. وحين تجرى مشيئة الله بغير ذلك - لحكمة يريدها - فقد نحتاج إلى قاعدة أكبر حجماً مما نفترض في لحظة معينة. والحكم في هذا الأمر مسألة اجتهادية، سواء في تقدير الحجم اللازم للقاعدة، أو في تقدير الظروف القائمة من حولها.
ومن أجل هذه المتغيرات - وغيرها كثير - لا يستطيع بشر أن يحدد زمناً يقول فيه: نظل نربى إلى عام كذا، ثم نبدأ "العمل"!
على أن ينبغي أن نضع في حسابنا أن التربية لا يمكن أن تتوقف في أية لحظة فهي بذاتها هدف دائم بالنسبة للأمة حتى لو قام الحكم الإسلامي. فرسول الله ( لم يكفّ عن تربية أصحابه حين قامت الدولة، بل استمر إلى آخر لحظة يربيهم، وانظر مثلاً خطبته في حجة الوداع. كذلك سار من بعده من الخلفاء الراشدين على نهجه ( يربون الأمة وبالسلطان. إنما بدأ الانحراف في الأمة حين نقصت التربية عن القدر المطلوب، وحين تحولت عن النهج المطلوب.
إنما كانت إجابتنا موجهة للذين يعنون بسؤالهم: إلى متى نظل نخصص الوقت كله والجهد كله لعملية التربية المطلوبة.
? ? ?
وأما الذين يقولون: ما جدوى التربية، ونحن كلما ربينا جيلاً من الشباب قضى عليه الأعداء! فقد سبق أن أجبنا على تساؤلهم من الواقع المشهود. والواقع المشهود يقول: إنه بعد كل مذبحة يقوم بها الأعداء تأتى صفوف جديدة من الشباب، لا تملأ الفراغ الحادث فحسب، بل تزيد القاعدة توسعاً على الدوام!(2/25)
ونحن لا نعلم الغيب. ولا نعلم إن كان الشاب الذي نربيه اليوم سيموت غداً أم يموت بعد عمر مديد. ولا نعلم كذلك هل يثبت على الطريق أم يفتن في دينه. ولكن علينا دائماً أن نبذل جهدنا في تربيته على النهج الصحيح. فإن شاء الله أن يمتد به العمر فهو قوة للدعوة وامتداد لها. أما إن كان في قدر الله أن يفتن في دينه فمنذا الذي يستطيع أن يرد عنه قدر الله؟ ومنذا الذي يستطيع أن يعرف لفاً ما يكون من أمره في الغداة؟!
في جميع الأحوال إذن ينبغي أن تمضى في التربية، ونحن واثقون أنها الطريق الواصل في النهاية، حتى وإن كانت هي الطريق الشاق المجهد البطيء الطويل!
? ? ?
ولابد من كلمة تبين لنا على الأقل بعض أبعاد التربية المطلوبة. فما يمكننا في كتاب يتحدث عن "واقعنا المعاصر" أن نغفل الحديث عن أبعاد التربية إطلاقاً، وما يمكننا كذلك أن نتحدث عن كل أبعاد التربية أو عن المناهج التربوية، فتلك بحوث متخصصة ليس مجالها هذا الكتاب.
ونكتفي بثلاثة أبعاد، ننتقيها من بين أبعاد كثيرة ومجالات عديدة، لأنها ذات أهمية خاصة، وإن كانت كل أبعاد التربية مهمة في الحقيقة، وخاصة بالنسبة لبناء القاعدة المطلوبة.
يقول سبحانه وتعالى:
{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [سورة الذاريات 51/58]
ولو أنك سألت أي إنسان في الطريق: من الذي يرزقك؟ لقال لك على البديهة: الله!
ولكن انظر إلى هذا الإنسان إذا ضيق عليه في الرزق، يقول: فلان يريد أن يقطع رزقي! فما دلالة هذه الكلمة؟
دلالتها أن تلك البديهية التي نطق بها لم تكن "يقيناً" قلبياً، إنما كانت بديهية ذهنية فحسب. بديهية تستقر في وقت السلم والأمن، ولكنها تهتز إذا عرضت للشدة، لأنها ليست عميقة الجذور.
هل يصلح مثل هذا الإنسان لأعباء الدعوة ومشقاتها؟!(2/26)
هل يصلح لتلك الأعباء إلا شخص قد استقر في قلبه إلى درجة اليقين أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين. أن الله هو المحيى والمميت. أن الله هو الضار والنافع. أن الله هو المعطى والمانع. أن الله هو المدبر. أن الله هو الذي بيده كل شئ.
وإذا اهتز اليقين لحظة واحدة فماذا يحدث؟!
لقد كنا نرى في المعتقل بعض الذين يهتز في قلوبهم هذا اليقين لحظة، فتهتز خطواتهم على الطريق! يتسرب إلى روعهم أن هذا الشخص أو ذاك يمكن أن ينفع، أو يمكن أن يضر. فيتوجهون إليه يحسبون أنه يمكن أن يخرجهم مما هم فيه من الضيق. فينزلقون. وينتهي دورهم في الدعوة. إلا أن يتوب الله عليهم فيتوبوا.
ترى كم جلسة.. كم درساً.. كم موعظة.. كم توجيهاً.. يحتاج إليها الإنسان ليرسخ في قلبه إلى درجة اليقين أن الله هو الذي يدبر، وأن هذه المخلوقات البشرية التي يخالطها في حياته إن هي إلا أدوات لقدر الله، وأنها حين تضره فهي تضره بشيء قد قدره الله له، وحين تنفعه فإنما تنفعه بشيء قد كتبه الله له. فلا يتوجه إلا إلى الله، في سرائه وفي ضرائه سواء، ويعلم - يقيناً - أن الخلق كلهم لا يملكون له - ولا يملكون لأنفسهم - ضراً ولا نفعاً؟! فإذا دخل في الشدة - وطريق الدعوة مملوء بالأشواك والدماء والدموع - طلب التثبيت من الله، ونظر إلى كل ما يصيبه على أنه قدر مكتوب له. ثم نظر إلى هذا القدر المكتوب له على أنه كله خير، ما دام يسير على طريق الإيمان، لأن أمر المؤمن كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له. وليس ذلك إلا للمؤمن.
فإذا لم يصل إلى هذا اليقين القلبي، الذي يترتب عليه سلوك عملي. فهل يصلح لحمل أعباء الدعوة؟!
كم يحتاج الفرد الواحد حتى ترسخ هذه العقيدة في قلبه إلى درجة اليقين؟ وكم يحتاج الجمع من الناس؟ وكم يحتاج تكوين "قاعدة" صلبة من مثل هؤلاء، يقوم عليها بناء دعوة، ثم يقوم عليها - حين يأذن الله - بناء دولة؟!(2/27)
إنه لمثل هذا كان يعمل رسول الله ( ثلاثة عشر عاماً كاملة في مكة، وبعدها سنوات في المدينة. كان يعمل، ولم يكن يقول في نفسه وهو في مكة: إلى متى نظل نربى >ون أن "نعمل"؟ فقد كان يعلم يقيناً - بما علمه ربه - أن هذا هو "العمل" الأساسي الذي يسبق كل عمل. هذه هي "العقيدة". هذه هي "لا إله إلا الله" في حقيقتها الاعتقادية. ليست مجرد إقرار ذهني بأن الله تعالى واحد. فما أيسر أن يعتقد الذهن ذلك - وإن كان قد صعب على العرب في جاهليتهم - ولكن تبقى "شوائب" نفسية وشعورية كثيرة عالقة بهذا الاعتقاد الذهني، ولا تظهر إلا في السلوك العملي، في حالي الشدة والرخاء سواء، وإن كانت الشدة هي المجهر الأقوى الذي تبرز تحته كل شوائب الاعتقاد.
{وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ...} [سورة العنكبوت 29/10]
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [سورة العنكبوت 29/2-3]
لمثل هذا كان رسول الله ( يلقى أصحابه في دار الأرقم: يربيهم ويعلمهم. يعلمهم العقيدة الصحيحة، ويربيهم عليها. فليست العقيدة مفهوماً ذهنياً تستوعبه الأذهان ثم يستقر فيها هناك! إنها على هذا النحو لا تصنع شيئاً في عالم الواقع، ولا تغير شيئاً في عالم الواقع. كالفلسفة في الأبراج العاجية. لا تغير شيئاً في واقع الناس! إنما هي "عقيدة". ترسخ وترسخ وترسخ، حتى تصبح يقيناً قلبياً تنطلق على هداه مشاعر القلب، ويجرى بمقتضاه السلوك العملي للإنسان.
وبهذه الصورة تعمل "العقيدة" في عالم الواقع.. تغير.. تهدم وتبنى.. تهدم الباطل وتبنى مكانه الحق.(2/28)
وحين كان رسول الله ( يربى أصحابه على العقيدة الصحيحة، كان ينشئ - بقدر الله - ذلك اليقين القلبي الذي ينبثق منه السلوك العملي، وكان - بهذا - ينشئ - بقدر الله - تلك النفوس العجيبة التي صنعت ما شاء الله لها أن تصنع من عجائب التاريخ.
بالقرآن.. بتوجيهاته الدائمة ( .. بقيام الليل.. بالقدوة العملية في شخصه الكريم ( .. برعايته لهم في المحنة.. بالحب الفياض من قلبه العظيم لهم.
بكل تلك الوسائل مجتمعة، تأصلت "العقيدة" في قلوب ذلك الجيل المتفرد، فكانت تلك "الطاقة" الهائلة التي صنعت الأعاجيب.
وفي غربة الإسلام الثانية نحتاج إلى مثل ما احتاج إليه الأمر في الغربة الأولى، إن لم يكن على ذات المستوى السامق، فعلى أقرب مستوى إليه يطيقه البشر في جولتهم الثانية لإزالة غربة الإسلام.
كم من الزمن يستغرق هذا الأمر؟ لا أدرى! ولكنى أعلم يقيناً أنه مطلوب. وأن "القاعدة" المطلوبة لابد أن تقوم على مثل هذا "الاعتقاد" في لا إله إلا الله، الذي يملأ القلب باليقين، ويتمثل - من ثم - في سلوك عملي.
? ? ?
يقول سبحانه وتعالى:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [سورة الحجرات 49/10]
والأخوة من أجمل "المعاني" التي يمكن أن يتحدث عنها الإنسان! شفيفة لطيفة كالنور! ندية محببة إلى القلوب. ولكن ما "الأخوة" التي وردت الإشارة إليها في كتاب الله؟
يستطيع اثنان من البشر وهما يسيران في الطريق الواسع - في الأمن والسلامة - أن يتآخيا! أن يسيرا معاً وقد لف كل منهما ذراعه حول أخيه من الحب.
ولكن انظر إليهما وقد ضاق الطريق، فلا يتسع إلا لواحد منهما يسير وراء الآخر. فمن أقدّم؟ أقدم نفسي أم أقدم أخي وأتبعه؟
أم انظر إلى الطريق قد ضاق أكثر. فلم يعد يتسع إلا لواحد فقط دون الآخر!
إنها فرصة واحدة.. إما لى وإما لأخي.. فمن أقدّم؟ أقول: هذه فرصتي، وليبحث هو لنفسه عن فرصة؟ أم أقول لأخي: خذ هذه الفرصة أنت، وأنا أبحث لنفسي؟!
هذا هو "المحك".(2/29)
إن الأخوة في الأمن والسلامة لا تكلف شيئاً! ولا تتعارض مع رغائب النفس. بل هي ذاتها رغبة من تلك الرغائب يسعى الإنسان لتحقيقها مقابل الراحة النفسية التي يجدها في تحققها.
أما في الشدة - أو في الطمع - فهنا تختبر الأخوة الاختبار الحق، الذي يتميز فيه الإيثار والحب للآخرين، ومن الأثرة وحب الذات، التي قد تخفي على صاحبها نفسه في السلام والأمن، فيظن نفسه "أخاً" محققاً لكل مستلزمات الأخوة!
كم جلسة.. كم درساً.. كم موعظة.. كم توجيهاً.. يحتاج إليها الإنسان الفرد، وتحتاج إليها الجماعة، وتحتاج إليها "القاعدة" ليرسخ في حسهم جميعاً هذا "المعنى" فلا يعود حقيقة ذهنية يستوعبها الذهن ثم ينتهي بها المقام هناك. إنما تتحول إلى وجدان قلبى، يتعمق في القلب حتى يصدر عنه سلوك عملي كذلك الذي ورد ذكره في كتاب الله:
{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (9)} [سورة الحشر 59/9]
إنه لمثل هذا كان يعمل رسول الله ( وهو يربى أصحابه رضوان الله عليهم، ثلاثة عشر عاماً في مكة، وسنوات في المدينة بعد ذلك.(2/30)
لم يكن يقول في نفسه وهو في مكة: إلى متى نظل نربى تلك المشاعر دون أن "نعمل"! لأنه كان يعلم يقيناً - بما علمه ربه - أن هذا من العمل الأساسي المطلوب لإنشاء القاعدة المؤمنة التي وُجِّه ( لإنشائها. وأن هذه الأخوة - فوق أنها ضرورية لإقامة القاعدة المؤمنة التي هي نواة "الأمة المسلمة" - فهي جزء من "التحقيق السلوكي" للا إله إلا الله. فليست لا إله إلا الله وجداناً قلبياً عميقاً فحسب، بل هي التزام بما أنزل الله. ومن ثم فكل ما جاء من عند الله فالالتزام به هو من مقتضيات لا إله إلا الله. وقد أحب الله هذه الأخوة وامتدحها، وأوجبها على المؤمنين به، وأنزل فيها آيات كثيرة لعل من أبرزها:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)} [سورة الحجرات 49/11-12]
بالقرآن.. بالمصاحبة.. بالمعايشة.. بالتوجيه المستمر.. بالقدوة في شخصه الكريم ( .. بالحب الذي يفيض من قلبه الكبير إليهم.. بالاهتمام بكل فرد منهم كأنه هو الأثير عنده.. بالممارسة العملية للمشاعر الإيمانية داخل "الجماعة".
بهذه الوسائل مجتمعة ربى رسول الله ( هذه الجماعة المتآخية، التي صنعت بتآخيها الأعاجيب، وأقام ذلك البنيان المتين المترابط، الذي يشد بعضه بعضاً فيقويه.(2/31)
وفي غربة الإسلام الثانية، نحتاج إلى مثل ما احتاج إليه الأمر في الغربة الأولى. إن لم يكن على ذات المستوى السامق، فعلى أقرب المستويات إليه. ذلك أن الضغوط الجاهلية تفتت كل ترابط، ما لم يكن ثيق الرباط إلى الحد الذي يتحمل كل الضغوط، ويبقى وثيقاً رغم كل الضغوط.
كم يستغرق هذا الأمر؟ لا أدرى! ولكنى أعلم يقيناً أنه مطلوب. وأن "القاعدة" التي يقع عليها عبء مواجهة الجاهلية بكل كيدها، ينبغي أن تحقق في سلوكها العملي هذا الخلق من أخلاقيات لا إله إلا الله، لتصبح جديرة برعاية الله. ولكي تستطيع أن تمضى في الطريق متآخية متساندة مترابطة وهي تتعرض للأهوال.
? ? ?
"النظام" من ضرورات الحياة البشرية. وفي هذه الأيام خاصة يتردد القول بأنه من "التحديات الحضارية" التي تواجه هذه الأمة.
والبيئة التي انتشر فيها الإسلام - بقدر من الله - تقع كلها - ما عدا النادر منها - في المنطقة الحارة والمنطقة المعتدلة الحارة. وهذه البيئة فوضوية بطبيعتها!
إن الحياة - في معظمها -سهلة رخية. لا أحد يموت من الجوع إلا النادر. ولا أحد يموت من البرد إلا النادر. ,اقل قدر من الطعام يمكن أن يحفظ الأود لأنه لا يوجد البرد القارس الذي يستهلك الطاقة ويحتاج إلى "الوقود" الغذائي المتجدد. كذلك لا يحتاج الإنسان أن يختزن في أعصابه تدبيراً وترتيباً للمستقبل، لأن المستقبل في حسه مثل الحاضر، والحاضر تقضى أموره بصورة من الصور ليس فيها ترتيب مسبق ولا تدبير كثير. ومن ثم لا يحتاج الإنسان أن "يخطط" للمستقبل، ولا أن يمد بصره أو تفكيره إلى بعيد، فحين يأتي الغد بمشكلاته، نحلها بذات العفوية التي نحل بها مشاكلنا الحاضرة! ومن ثم تتسم طباع أهل المنطقة - المستمدة من تأثير البيئة - بالعفوية الشديدة و"قصر النفس"، لأن النفس الطويل لا يفترق في نتائجه العملية - في حسهم - عن النفس القصير الذي يواجه المشاكل - وقت حدوثها - وينتهي منها في لحظتها، وينصرف إلى غيرها!(2/32)
وخلاصة القول أن أهل هذه البيئة - حين يتركون لتأثير البيئة وحده - قوم يكرهون النظام، ويرونه عبئاً ثقيلاً على أعصابهم لا ينبغي أن يحملوه، ولا ضرورة - في حسهم - لحمله. وقوم عفويون يكرهون التخطيط والنظر إلى بعيد، ويرونه كذلك عبئاً ثقيلاً على أعصابهم لا موجب له. وهم أخيراً قوم قصار النفس يشتعلون حماسة لفترة موقوتة، ثم تخبو حماستهم كأن لم تشتعل قط، وتنصرف إلى موضوع جديد.
من هذه الطباع - المستمدة من تأثير البيئة - تسلمهم الإسلام فأنشأ منهم خلقاً آخر.
أنشأ منهم بادئ ذي بدء أمة شديدة التنظيم. لا تكره النظام ولا تتمرد عليهن بل تسارع إليه وتمتثل لمقتضياته. وليس بنا - هنا - أن نستطرد كثيراً إلى الوسائل التي غير بها الإسلام طباع هذه الأمة المستمدة من البيئة، والموروثة فيها قروناً إثر قرون. ولكنى كلما قرأت في كتب السيرة: "كان رسول الله ( يصفنا للصلاة كما يصفنا للقتال" تهتز نفسي تأثراً وعجباً لهذا المربى العظيم ( كيف كان يعد هذه الأمة لمهمتها. لتكون "خير أمة أخرجت للناس"وأعجب لهذا الدين كيف يصنع في النفوس، فيغير من الطباع ما يبدو لأول وهلة داءً مستعصياً على الحل!
كان عليه الصلاة والسلام لا يبدأ الصلاة حتى يرى الصف قد استقام. وكان يقوّم الصف بيديه الشريفتين، يلصق كتف هذا بذاك، وقدم هذا بذاك، حتى يقوّم صف الصلاة كصف القتال. كأنه بنيان مرصوص!
والإسلام كله نظام ودقة، مع سماحته التي تعطف على الضعف البشرى ولا تلعنه ما دام صاحبه لا يصر عليه، ومع نداوته التي تتعامل مع النفوس البشرية لا على أنها آلات وأدوات، ولكن على أنها مشاعر وعواطف، فيرفع عنها الحرج:(2/33)
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)} [سورة آل 3/135-136]
{هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [سورة الحج 22/78]
{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)} [سورة المائدة 5/6]
ويتبدى التنظيم واضحاً في العبادات خاصة. فالصلاة مواقيت. والصوم مواقيت، والحج مواقيت. والزكاة مواقيت. فضلاً عن التنظيم الدقيق في كل عبادة من هؤلاء، وخاصة في الصلاة والحج.
والقرآن يعلم المؤمنين النظام والدقة في الآداب التي نسميها اليوم "الآداب الاجتماعية":
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)} [سورة النور 24/27-29](2/34)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ...} [سورة الأحزاب 33/53]
والتربية الإسلامية التي رباها الرسول ( لأصحابه جعلت منهم أمة منظمة تنظيماً دقيقاً على أساس "إنساني" لا على أساس آلى. وتلك مزية الإسلام. فهو ينظم الحياة - في جميع جوانبها - مع المحافظة على "إنسانية الإنسان" ألا يتحول إلى آلة، فيفقد العمل دلالته النفسية التي يؤدى من أجلها، بل يظل الإنسان - مع محافظته على النظام - واعياً لأهداف وجوده، مريداً لتحقيقها في كل مرة، لا مدفوعاً دفعاً آلياً إليها.
ومع النظام لم تعد العفوية هي صورة العمل في الأمة الإسلامية، لأنه لكل عمل ضوابطه الشرعية، وللشريعة في كل عمل "مقاصد" ينبغي تحقيقها. ومن ثم يراجع الإنسان كل عمل يعمله ليرى هل هو في دائرة الحلال المباح أم خرج عنها، ويراجع النتائج التي يمكن أن تترتب على عمله، ليرى هل هي متمشية مع مقاصد الشريعة أم مخالفة لها.
ومع النظام والانضباط والنظر في النتائج رباهم الإسلام على النفس الطويل والرؤية البعيدة. فهناك هدف بعيد لكل فرد، وهناك أهداف ممتدة لمجموع الأمة.(2/35)
فأما الفرد فقد رباه الإسلام على أن يعمل لا ناظراً لدنياه وحدها، ولا لغده القريب وحده. بل وضع له هدفاً يتجاوز العالم المشهود كله، والحياة الدنيا كلها. ليصل به إلى عالم الغيب وإلى اليوم الآخر. فيعمل في دنياه الحاضرة وفي لحظته الحاضرة وهو ناظر إلى عالم بعيد بعيد يتجاوز كل مدى الحس، ولكنه حاضر في قلبه كأنه يراه أمامه، وكأنه متحقق في هذه اللحظة.و ويعمل وفي حسه ذلك الهدف البعيد الذي يسعى كل لحظة إلى تحقيقه، وهو الجنة ورضوان الله. هدف لا يمكن أن يوجد في حس البشرية كلها هدف أبعد منه. ومع ذلك فهو متعلق به دائماً، يشعر في كل لحظة أن كيانه كله مرتبط به، وأن كل خطوة يخطوها هي خطوة على الطريق إلى ذلك الهدف البعيد.
وأما الأمة فقد رباها الإسلام على أن مهمتها لا تنحصر في تحقيق كيانها الذاتي المحدود، ولا في أن تعيش لحظتها الراهنة، وإنما لها هدف ممتد في الحياة الدنيا، وممتد من الحياة الدنيا إلى الآخرة. ذلك هو دعوة البشرية كلها إلى النور الرباني، والجهاد لتكون كلمة الله هي العليا في كل الأرض، لتكون شاهدة على البشرة كلها في اليوم الآخر:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [سورة البقرة 2/143]
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال 8/39]
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (104)} [سورة آل 3/104]
ولقد ظلت الأمة تلاحق هذا الهدف ما يقرب من عشرة قرون متوالية، لا تفتر حماستها له، ولا تتقاعس عن الجهاد من أجله، جيلاً بعد جيل، وهذا "أطول نفس" عاشته أمة في التاريخ.(2/36)
ولكن خط الانحراف الطويل الذي مررنا بخطوطه العريضة من قبل (404)، وبينا آثاره في حياة الأمة (405)، ظل يحدث انحساراً مستمراً في حقائق الإسلام، وفي فاعليتها في نفوس الناس. فارتدت الأمة رويداً رويداً إلى تأثير البيئة. ذلك أنه في غيبة العقيدة الحية المتمكنة من النفوس تصبح البيئة هي صاحبة التأثير. ومن ثم رجعت الأمة إلى طبيعتها الفوضوية التي تكره الانضباط، العفوية التي تكره التخطيط، القصيرة انفس التي تكره الرؤية البعيدة ولا تطيق المتابعة للأمد الطويل.
وإذ كانت هذه هي حالة الأمة - كما هو واضح لكل من يدرس أحوالها - فمن يصلحها؟!
هل تصلحها الأحزاب السياسية الموالية للغرب، وهي لا تضع ذلك في برامجها، ولا تقدر عليه حتى إن قصدت إليه. وهذه هي تجربة قرن كامل من الزمان، كانت الأمة منجرفة فيه إلى تقليد الغرب والذوبان فيه، فما استطاعت الأحزاب الموالية للغرب، والداعية إلى التغريب، أن تصلح شيئاً في هذا المجال، وظلت الأمة - إن لم تكن قد زادت - في فوضويتها الكارهة للنظام، وعفويته الكارهة للانضباط، وقصر نفسها الذي يشتعل حماسة للحظات، ثم تنطفئ الحماسة وتخمد العزائم وتنصرف الجهود!
هل تصلحها الأحزاب الشيوعية، وهي لا تضع ذلك في برامجها،ولا تقدر عليه حتى إن قصدت إليه. وهذه هي تجربة ما يزيد على ربع قرن في البلدان التي ابتليت بها من العالم الإسلامي، لم تغير شيئاً من حال الناس، إن لم تكن قد زادتهم انحرافاً في كل جوانب الحياة!(2/37)
إنه لا يقدر على إصلاح آثار هذه البيئة إلا العقيدة. ولا يقدر على إصلاحها إلا أصحاب العقيدة الصحيحة، والواعون لحقيقتها، الذين تربوا تربية إسلامية صحيحة، كتلك التي رباها الرسول ( لأصحابه، فتستطيع هذه التربية - كما استطاعت أول مرة - أن تنشئ النفوس نشأة جديدة، منظمة منضبطة طويلة النفس، تزيل آثار الانحراف، وتعيد الأمة إلى ما كانت عليه وقت استقامتها على هذا الدين، ولا بهدف مواجهة "التحديات الحضارية" التي يذكرها بعض الناس وهم يتكلون عن "الإصلاح" المطلوب، بل يهدف إعادة الأمة إلى "خيريتها" التي أخرجها الله من أجلها:
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل 3/110]
وهو هدف يتجاوز كل "التحديات الحضارية" إلى ما هو أعلى وأنفس. خير الدنيا والآخرة على السواء.
ترى كم جلسة.. كم درساً.. كم موعظة.. كم توجيهاً.. يحتاج إليها الإنسان الفرد، وتحتاج إليها الجماعة، وتحتاج إليها "القاعدة" ليتمثل فيها أولاً هذا "المعنى" ثم لتكون قادرة على إعطاء المثل لغيرها، فتستطيع بالتالي تربية الأمة كلها - أو من يستجيب منها - على هذه الصفات وهذه الأخلاقيات الضرورية لها، لتتجاوز أزمتها الحاضرة وتأخذ في الصعود؟!
? ? ?
تلك ثلاثة أبعاد للتربية من بين أبعاد كثيرة في مجالات مختلفة، ليست مثلاً خيالية ، ولا هي "تحديات"! إنما هي شروط ضرورية لقيام القاعدة المطلوبة، التي تستطيع أن تتحمل العبء الملقى عليها في مواجهة الجاهلية المتربصة بالكيد.
وحين نتكلم عن التربية، وعن الطريق الطويل الذي لابد أن نسلكه، نقصد هذه الأبعاد الضرورية التي ذكرنا نماذج منها لمجرد التوضيح. ومن هذه النماذج - ومن غيرها الذي لم نذكره - يتضح جلياً أن أمامنا شوطاً طويلاً في مجال التربية لا غنى لنا عن المضي فيه، قبل أن يحق لنا أن نتساءل: وما ذا بعد؟!(2/38)
إن بعض مجالات التربية قد قطعنا فيه شوطاً ولم نصل. وإن بعضها الآخر لم نبدأ فيه بعد! وكل تعجل في ميدان التربية بالذات لا يأتي بخير. لأنه يكون بمثابة إقامة بنيان على غير أساس. أو على غير أساس مكين، فكلما ارتفع كان عرضة للانهيار.
والذين يستطيلون الطريق، ويحسبون أن هناك طرقاً أقصر وأخصر، ينبغي أن يأخذوا عبرة التجربة، سواء كانت التجربة هي مذبحة حماة، أم كانت هي التجربة "السياسية" في تركيا. فإذا كنا لا نعتبر بالأحداث، فذلك في ذاته دليل على نقس في تربيتنا يحتاج إلى علاج!
والآن، وقد بسطنا الحديث في القضيتين الرئيسيتين اللتين يدور حولهما الخلاف بين العاملين في الحقل الإسلامي، فقد آن لنا أن نعبر عبوراً سريعاً بعض القضايا الأخرى التي تدور في الساحة، قبل أن نختم حديثنا عن "الصحوة الإسلامية".
? ? ?
السمع والطاعة
نتكلم عن هذه القضية من حيث إنها أحدثت انشقاقات في الجماعات القائمة بالعمل في الساحة الإسلامية، لنشوب خلافات في وجهات النظر لم يتسع لها صدر تلك الجماعات، خيرت أعضاءها بين السمع والطاعة أو الانفصال عن الجماعة، أو هددتهم بالفصل إن هم لم يسمعوا ويطيعوا، فرضخ بعضهم للتهديد، وكتم ما في نفسه من اختلاف في وجهة النظر، وآثر بعضهم أن ينفصلوا، ليكونوا جماعات جديدة، أو ليتركوا العمل الإسلامي كله، وتأكلهم دوامة الضياع!
وقضية السمع والطاعة في الحقيقة من ألصق القضايا بالتربية، وكانت جديرة أن نتحدث عنها كبعد من أبعاد التربية المطلوبة للقاعدة الإسلامية. لولا أننا آثرنا أن نتحدث هناك عن بعض النماذج البارزة لكي لا يطول بنا الحديث.(2/39)
إن السؤال الذي ينبغي أن يُسأل في هذا المجال في الحقيقة هو: أي دولة التي نفكر في إنشائها - حين تتاح لها الظروف الموائمة - أهي دولة الشورى الإسلامية التي أقامها رسول الله ( والشيخان من بعده، أم هي دولة استبدادية عسكرية النزعة، تأمر وتتلقى من رعاياها الطاعة، ولا تتيح لهم أن يناقشوها فيما تفعل وفيما تقول؟!
معظم الجماعات يعتقد "المسئولون" فيها أنهم هم وحدهم الذين يحق لهم أن يتناقشوا فيما بينهم، فإذا وصلوا إلى قرار فهو ملزم لجميع الأعضاء في الجماعة، وأن الآخرين كلهم - أي غير أولئك "المسئولين" - واجبهم السمع والطاعة بغير اعتراض. وتلجأ تلك الجماعات كما قلنا إلى تهديد المخالفين بالفصل من الجماعة إن لم يسمعوا ويطيعوا.
ويجب أن نقرر حقيقة لا معدي عن تقريرها، هي أنه لا يمكن أن تقوم جماعة بالفعل إن لم يكن لقائدها حق السمع والطاعة على الأعضاء. ويجب أن نقرر حقيقة تاريخية: أن الذي هزم عليا كرم الله وجهه هو جيشه الذي لم يكن يتفق على رأي، ولا يرضخ لتعليمات قائده حتى يتناقش ويتباحث، وقد يصل إلى قرار ثم ينقضه بعد أن يكون القائد قد أخذ في رسم خطته على أساسه.
هذا الحق. ولكن الحق من جانب آخر أن استئثار بضعة أفراد في الجماعة بالسلطة بوصفهم "المسئولين" وإلزام الباقين بالسمع والطاعة بغير اعتراض، فضلاً عن المخالفة الشرعية التي يحملها - وسنبينها عاجلاً - فإنه هو الذي جعل معظم هذه الجماعات تربى "جنوداً" ولا تربى "قادة" فتعجز عن أيجاد "صف ثان" يحمل المسئولية بعد القائد الأول.(2/40)
إن المطلوب في التربية - كما أسلفنا - هو تربية جماعة تكون جنوداً ملتزمين للقائد، وتكون في الوقت نفسه "قيادات" تحمل المسئولية بعد ذهاب القائد، وكل قائد لابد أن يذهب في يوم من الأيام؛ وذلك هو المنهج النبوي، الذي أخرج أعظم جند عرفتهم البشرية، وأعظم قيادات عرفتها البشرية كذلك، وكان منهجه ( أن يربى في أتباعه كلا الجانبين اللذين تشتمل عليهما النفس البشرية: الجانب الفردي والجانب الاجتماعي على سواء. فأما الضغط على الجانب الفردي من أجل تنمية الجانب الاجتماعي فإنه ينشئ جنوداً طائعين، نعم، ينفذون أمر قائدهم في استسلام له، ولكنه لا يربى أفراداً صالحين لحمل المسئولية. والدعوة - قبل الدولة - ذات مسئوليات ضخمة تتبين عند كل منعطف في الطريق. فإذا كان الأفراد لا يحسنون إلا الطاعة والتنفيذ، فما أيسر أن تنحرف الجماعة كلها بانحراف "المسئول"!
أما المخالفة الشرعية التي أشرنا إليها فهي أن السمع والطاعة ينبغي أن تنضبط بضابطها الشرعي: "إنما الطاعة في المعروف" (406).
فهي ليست طاعة مطلقة "للمسئولين". وليست طاعة بغير نقاش وحوار ومشاورة.
ونضرب أمثلة من واقع العمل الإسلامي تبين خطورة الأمر، وتبين مدى النقص في التربية في هذا الجانب الخطير.
فحين تقول جماعة من الجماعات إن فكرها قائم على أنه "من قال لا إله إلا الله فهو مؤمن ولو لم يعمل عملاً واحداً من أعمال الإسلام" - وهو قول غلاة المرجئة، الذي يحمل مخالفة صريحة للكتاب والسنة - ثم تلزم أعضاءها بالسمع والطاعة لهذا القول، أو تهددهم بالفصل إن عارضوا.(2/41)
وحين تقول جماعة من الجماعات إن السنة ليست ملزمة، وإن لنا أن "نجتهد" في السنة، فنرى أن الحديث الذي حكم له الأقدمون بالصحة هو حديث ضعيف، وأن الحديث الذي حكم له الأقدمون بالضعف هو حديث صحيح، وأن نرفض من الأحاديث ما نراه غير ملائم لأحوالنا ولو كان المحدثون قالوا إنه صحيح وثابت. ثم تلزم أعضاءها بالسمع والطاعة لهذا القول، أو تهددهم بالفصل إن عارضوا.
وحين تقوم جماعة من الجماعات بالتحالف مع الشيطان، متمثلاً في أحزاب تنكر شريعة الله، وترفض اعتبارها ملزمة للناس في العصر الحاضر، ولا تعتبر الدين - أي الإسلام - مقوماً من مقومات فكرها، وتضع بدلاً منه الفكر القومي العربي الاشتراكي، ثم تلزم أعضاءها بالسمع والطاعة لهذا العمل، أو تهددهم بالفصل إن عارضوا.
حين يحدث ذلك - وأمثاله - فينبغي أن نراجع جيداً مبدأ السمع والطاعة من ناحيتيه الشرعية والتربوية، فمن الناحية الشرعية ينبغي أن تنضبط الطاعة بضابطها الشرعي: "إنما الطاعة في المعروف". وينبغي أن يكون في دستور هذه الجماعات - وفي نظام تربيتها كذلك - ما يوقف "المسئولين" عند حدهم حين يقعون في تلك المخالفات الشرعية. ومن الناحية التربوية - وهي لصيقة بالناحية الشرعية - ينبغي أن يُفقه الأعضاء في دين الله ليعلموا متى يطيعون ومتى يتوقفون عن الطاعة، ومتى يقفون الموقف الحازم من "المسئولين" ليردوهم إلى الحق. وينبغي كذلك أن يتربوا على تحمل المسئولية، بجانب الالتزام بالسمع والطاعة. فإنهم مسئولون أمام الله عن كل سمع وطاعة قاموا به مخالفاً للموقف الصحيح، وهم مسئولون أمام الله عن الدعوة التي يحملونها، ولا يعذرهم أمام الله أن يقولوا:
{إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ (67)} [سورة الأحزاب 33/67](2/42)
وإذا بقيت الجماعات يفعل مسئولوها ما يعن لهم - حتى مع افتراض الإخلاص الكامل فيهم - ثم يلزمون الأعضاء بالسمع والطاعة، أو يهددونهم بالفصل إن عارضوا، فستظل تحدث مخالفات جسيمة كالتي حدثت من قبل أكثر من مرة، ويظل العمل الإسلامي يتعثر ويتعثر، حتى ينضبط بالضوابط الشرعية الصحيحة. وتظل الجماعات القائمة بالعمل بعيدة عن تحقيق الروح الإسلامية الحقيقية التي ربى بها رسول الله ( أصحابه.
? ? ?
القيادة المطلوبة
ذكرنا فيما سبق أن من أسباب تمزق العمل الإسلامي وتفرقه عدم وجود قيادة كبيرة ترتاح النفوس إليها وتتبعها طائعة، بدافع الإعجاب والحب والتقدير والتوقير. وفي غاب القيادة الكبيرة تقوم قيادات صغيرة متنابذة، يعتز كل منها برأيه وموقفه، فلا يحدث الوفاق ولا يحدث اللقاء.
وقلنا إننا لا نملك وسيلة نبرز بها تلك القيادة الكبيرة المطلوبة، إنما نكل هذا الأمر إلى الله سبحانه وتعالى، على أن نلتزم نحن بالإخلاص والتجرد لله، فنستحق عند الله أن يهيئ لنا ما نصبو إليه. كما قلنا من جانب آخر إنه من خلال الاختيارات والابتلاءات تبرز القيادات وتتميز، تحقيقاً لقوله تعالى:
{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [سورة آل 3/179](2/43)
ولسنا هنا نضيف جديداً في هذا الشأن، إنما نقول فقط كلمة سريعة عن نوع القيادة المطلوبة للعمل الإسلامي في الوقت الحاضر. ذلك أن الظروف الراهنة في العمل دقيقة للغاية بسبب الملابسات الداخلية والخارجية معاً. ففي الداخل توجد حالة الجهالة التي وصفناها من قبل، والتي هي السبب الأول في غربة الإسلام الثانية التي أشار إليها رسول الله ( ، وفي الخارج توجد العداوات الصليبية والصهيونية المتربصة الكائدة، التي لا تترك فرصة لمناوأة العمل الإسلامي ومحاولة إجهاضه إلا انتهزتها إلى آخر المدى، والقوة في أيديها لتنفيذ ما ترتب من مخططات ضد الإسلام.
وفي هذه الأحوال الدقيقة توجد "معادلة صعبة" في مجال العمل الإسلامي.
فحين يأخذ الشباب شحنة الإسلام الحقيقة، أي حقائق الإسلام كما جاءت في كتاب الله وسنة رسوله (، وكما تحققت في التطبيق الصحيح لها في حياة السلف الصالح، وحين يرى الشباب مدى بعد الواقع الموجود اليوم عن هذه الحقائق. تملؤه الحماسة، ويدفعه إخلاصه للحق الذي عرفه إلى عدم الصبر على هذا الواقع، والرغبة في إزالته بالقوة. وهنا يقع المحظور الأول، وهو إتاحة الفرصة لأعداء الإسلام لتصفية الحركات الإسلامية بتهمة أنها إرهابية.
وحين يقال للشباب: كفوا أيديكم.. لا تعملوا على الصدام مع السلطة لأن ذلك عمل لا طائل وراءه.. انصرفوا للتربية.. تخمد حماستهم، وينصرف كثير منهم.. ويأوي إلى عزلة بئيسة.. ثم تأكله الدوامة ويضيع!
والقيادة المطلوبة للعمل الإسلامي في ظروفه الدقيقة الراهنة، هي القيادة التي تستطيع أن تعطى الشحنة التربوية كاملة، وفي الوقت ذاته تقول للناس: كفوا أيديكم، فيطيعون.. يطيعون دون أن تخبو حماستهم للعمل الإسلامي، ودون أن يتفلتوا، ودون أن يأكلهم اليأس أو يأكلهم الضياع!(2/44)
إنها مهمة صعبة، ومعادلة صعبة. ولكنها ذات الحال التي ألمت بالمسلمين في الغربة الأولى في مكة. وهم يتلقون الشحنة التربوية الكاملة من رسول الله (، ويتلقون معها الإيذاء البشع من قريش، ثم يقول لهم رسول الله ( - بأمر الوحي - كفوا أيديكم، فيكفون أيديهم طاعة واحتساباً، وتظل الشحنة حية في نفوسهم لا تخبو ولا تنطفئ، ولا ينصرفون عن قيادتهم، بل يزدادون تعلقا بها، ويتطلعون إلى رحمة الله.
ولن تكون هناك بطبيعة الحال قيادة على مستوى القيادة النبوية المتفردة في التاريخ البشرى كله، ولكن "المنهج النبوي" قد جعل للأسوة، وجُعل للتطبيق العملي على مستوى البشر، كما يفهم من قول تعالى:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21)} [سورة الأحزاب 33/21]
ولكن القائد - الذي يأخذ الأسوة من رسول الله (، ويطبق "المنهج النبوي" على صورته الصحيحة- لابد أن يكون إنساناً فائقاً، متصفاً بالصفات اللازمة للقيادة، مع تمكن خاص في الصفات اللازمة للظروف الراهنة الدقيقة، ليزيل الله على يديه الغربة الثانية للإسلام، كما أزال الغربة الأولى على يد رسول الله (. وتلك مهمة الغرباء على أي حال كما حددها رسول الله (.
"فطوبى للغرباء، يصلحون ما أفسد الناس من سنتي" (407).
وحين توجد هذه القيادة بالمواصفات المطلوبة، وعلى المستوى المكافئ لظروف الدقيقة الراهنة، سيلتئم كثير من الشتات المتناثر على الساحة، بعد أن يعرف المنهج الصحيح.
وحين لا تصبر الجاهلية على القائد فتقتله، كما قتلت أئمة الدعوة من قبل، فسيحدث من مقتله مولد جديد للدعوة، ولا تخبو الشعلة أبداً، ما دامت تعرف المنهج الصحيح.
? ? ?
هل نتعلم في المدارس الجاهلية؟
ظاهرة خطيرة تقع من بعض الشباب المخلص المتحمس الذي نذر نفسه للدعوة إلى الله.(2/45)
يكون قد وصل إلى السنة النهائية من دراسته الجامعية، وإذا به فجأة يترك الدراسة لأنها "جاهلية" وينصرف إلى عمل تافه يرتزق منه في حدود الكفاف، ويملأ نفسه الإحساس بأنه قد تغلب على نفسه ورغائبها، واستعلى على الحياة الدنيا وزينتها، و"تجرد" لله، وللدعوة، وحقق في نفسه المثال:
ولا شك عندنا في أن مناهج الدراسة في مدارسنا ومعاهدنا ذات صبغة جاهلية صارخة، وضعها لنا أعداؤنا ليفتنونا عن إسلامنا، كما بينا من قبل في الحديث عن الغزو الفكرى، واستخدام مناهج التعليم أداة من أكبر أدواته وأخطرها. ولو لم يكن من هذه المناهج غير بثها الدائم لدعاوى الوطنية والقومية، والعلمانية والاشتراكية...(408) وإشادتها الدائمة بالذين لا يحكمون بما أنزل الله. لكفي بذلك إثماً. ولكنها في الحقيقة لا تكتفي بذلك في أي مرحلة من مراحلها، إنما تنشئ ثقافة وعلماً مضاداً للدين، يهدف في النهاية إلى إخراج العباد من عباد الله (409).
ولا شك عندنا من جانب آخر في إخلاص الشباب الذي يقرر الانصراف عن هذه الثقافة الجاهلية والانقطاع - فجأة - عن التعليم. ولكنه رغم ذلك يخطئ بهذا التصرف خطأ بالغاً يدل على نقص في البصيرة. ولقد ذكرنا مراراً في هذا البحث أن الإخلاص وحده لا يكفي، ولابد معه من البصيرة كما وجه الله رسوله (:
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ (108)} [سورة يوسف 12/108]
والأمر الذي يغفله الذين ينصرفون على هذا النحو ينطوي على عدة جوانب:(2/46)
الجانب الأول: أننا إذا انصرفنا كلنا عن تعاطى العلم والثقافة بحجة أنه علم جاهلي وثقافة جاهلية، فسيكون هذا من أسلحة أعدائنا التي يستخدمونها ضدنا! فسيرتبط الجهل بالدعوة في حس الناس، وسيرتبط العلم بالإعراض عن الدين والانسلاخ منه، وتلك هي الحالة التي كان الأمر قد صار غليها قبل الصحوة الإسلامية، وكانت هي ذاتها مما استغله الأعداء لتنفير الناس من الدين! ولقد كانت مزية الصحوة الإسلامية - كما أسلفنا في مبدأ الحديث عنها - أن القائمين بالدعوة الجديدة هم من "الأفندية" الذين تلقوا الثقافة "الجديدة" "التقدمية"، ولكنهم مع ذلك عادوا إلى الدين، وقاموا بالدعوة إليه. وكانت تلك مفاجأة سيئة للأعداء، أثارت كثيراً من الاضطراب في مخططاتهم، وألجأتهم - من شدة حنقهم - إلى توجيه الضربات الوحشية للعمل الإسلامي، فكان من نتيجة هذه الضربات - بقدر من الله - اتساع القاعدة وإقبال المزيد من الشباب على الإسلام.
فلو أننا عدنا اليوم فانصرفنا عن الثقافة والعلم - بأي حجة من الحجج - فستفقد الحركة الإسلامية سبباً من أهم أسبابا قوتها في الصراع الوحشي الدائر ضد الإسلام، وسنعود إلى مثل الوضع الذي كان قبل الصحوة. وسنعين الأعداء - من حيث لا ندرى ولا نحتسب - على تنفير الناس من الدين!
والجانب الثاني: أن ما في المدارس والجامعات اليوم من العلم ليس كله خطأ، وليس كله ضاراً، وليس كله مما يمكن أن يستغنى عنه!(2/47)
صحيح أنه يقدم بروح جاهلية. فنحن نقول في كتبنا العلمية البحتة إن "الطبيعة" خلقت، والطبيعة اختصت الكائن الفلانى بكذا من الخواص بدلاً من أن نقول الحقيقة "العلمية" وهي أن الله هو الذي خلق، وأن الله هو {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)} [سورة طه 20/50]. ونحن نتحدث عن حتمية "القوانين الطبيعية" (410) بما يوحي للدارسين أن الله سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً لا يستطيع - إذا شاء - أن يقف هذه القوانين أو يغيرها أو يغير نتائجها! وهذه وتلك ننقلها نقلاً أعمى من كتب العلوم التي نترجمها من المراجع الأوروبية ونضع عليها أسماءنا! غير آبهين ولا ملتفتين إلى أن موقف الكنيسة في أوروبا هو الذي جعل العلم هناك يأخذ تلك الروح المعادية للدين، ولكن هذه الروح ليست علماً حقيقياً، إنما هي أهواء وشهوات مازجت ذلك العلم.
كل هذا صحيح. ولكنه لا يعنى أننا نستطيع أن نستغني عن الطب، أو الهندسة، او الرياضيات، أو غيرها من العلوم، ولا يعنى أننا نستطيع أن نطرحها من حياتنا ثم تكون حياتنا صحيحة سليمة! فمثل هذه العلوم ضرورة للأحياء، وإن لم نتعلمها - بأي حجة من الحجج - نكون ناقصين في وجودنا، ونكون في الوقت ذاته مقصرين في أداء ما خلقنا الله من أجله من الخلافة في الأرض، التي تعنى الهيمنة على الأرض، والإنشاء والتعمير فيها، والتي من أجلها علَّم الله آدم الأسماء كلها، وجعل لبنى آدم السمع والأبصار والأفئدة:
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [سورة النحل 16/78]
والجانب الثالث: أن مهمة هذه الأمة هي هداية البشرية إلى المنهج الحق:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [سورة البقرة 2/143](2/48)
والحركة الإسلامية القائمة في الأرض اليوم ذات رسالة للبشرية الضالة، تهديها فيها إلى المنهج الحق...(411) فهل تستطيع أن تهديها وهي جاهلة في جانب من الجوانب الهامة في الحياة عامة، وفي الحياة الحاضرة بصفة خاصة؟ أم إن المفروض أن تطلع على معارف الجاهلية المعاصرة ثم تهديها لتصحيح منهجها، ومن منطلق العلم لا من منطلق الجهل. فالجهل لا يهدى إلى شئ قط!
وأنا أتحدث عن خبرتي الشخصية:
لقد كانت دراستي لفرويد وأنا طالب بالمعهد العالي للمعلمين، هي المفتاح الذي وجهني إلى معرفة نقاط الخلل في الحياة الأوروبية المعاصرة، وانحرافات الفكر الغربي، وزادتني معرفة بالمنهج الإسلامي الصحيح في مجال التربية وعلم النفس وغيرهما من المجالات.
أقول، كما وجهنا الله أن نقول:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [سورة الأعراف 7/43]
وأقول من جانب آخر: لو أنني أغلقت قلبي وفكري عن الإطلاع على "علم" الغرب، فمن أين لى - كان - أن أعرف جوانب الخلل فيه، وأن أحاول البحث عن المنهج الصحيح في التفكير؟!
كلا! ما يستفيد من هذه النزعة إلا أعداء هذا الدين!
? ? ?
ماذا نتقلد من الوظائف في "المجتمع الجاهلي"
يجب بادئ ذي بدء أن نبين ما نقصده حين نقول "المجتمع الجاهلي" لأنه كلمة يسهل إساءة فهمها في الدوامة الفكرية التي تحيط بالناس في الغربة الثانية للإسلام.
إن هذه المجتمعات التي نعيش فيها اليوم مجتمعات جاهلية كما أسلفنا القول من قبل، لأنها لا تَحكم ولا تحكَم بشريعة الله، إنما تحكم وتحكم بمناهج جاهلية وشرائع جاهلية. وكل حكم غير حكم الله هو - كما بين الله في كتابه المنزل - حكم جاهلي:
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [سورة المائدة 5/50](2/49)
والآية واضحة الدلالة في أن الحكم - عند اله - نوعان اثنان لا ثالث لهما: إما حكم الله، وإما حكم الجاهلية.
ولكن وصفنا لهذه المجتمعات بأنها جاهلية لأنها تحكم بغير ما أنزل الله، لا علاقة له البتة بعقائد أهل هذه المجتمعات. فقد يكونون مسلمين، وقد يكونون كفاراً، وقد يكونون خليطاً من المسلمين والكفار، وتظل صفة المجتمع تابعة لنوع الحكم الذي يحكم به ذلك المجتمع بصرف النظر عن عقائد من فيه. وذلك كوصف "الدار" بأنها دار حرب أو دار إسلام بالنظر إلى غلبة الأحكام فيها بصرف النظر عن عقائد أهلها. فقد كانت "المدينة" دار إسلام حين هاجر إليها رسول الله ( وأقام فيها حكم الله، مع أن المسلمين كانوا في مبدأ الأمر قلة بالنسبة لمجموع أهل المدينة. وكانت مصر دار إسلام حين فتحها المسلمون وأقاموا فيها شريعة الله، مع أن غالبية أهلها لم يكونوا مسلمين، وظلوا غير مسلمين فترة طويلة من الوقت. وكانت الهند دار إسلام حين فتحها المسلمون وحكموا فيها شريعة الله، مع أن المسلمين ظلوا طيلة الحكم الإسلامي الذي امتد ثمانية قرون أقلية بالنسبة لمجموع سكان الهند - ما يزالون! - على العكس من ذلك حين أقام الليبيون دويلات نصرانية في العام الإسلامي استمر بعضها مائتي عام، كانت تلك الدويلات دار حرب مع غالبية سكانها مسلمون.
إذا عرفنا هذا، فلابد أن تطرق إلى القضية التي تثار دائماً حين نصف هذه المجتمعات بأنها جاهلية بسبب عدم قيام شريعة الله فيها، وهي: كيف نحكم على "الناس" في هذه المجتمعات.
وقد سبق لنا بيان الرأي في هذه القضية، وهو أننا الآن في مقام التعليم لا في مقام إصدار الأحكام على الناس. ولكننا - في مقام التعليم - لابد أن نبين للناس حكم الله في هذه القضية ليعرفوه، وليتخذوا مواقفهم بناءً على معرفة واضحة بحكم الله.(2/50)
فأما جاهلية المجتمع فمردها إلى أن هناك "مظلة جاهلية" تظلل المجتمع هي الحكم بغير ما أنزل الله. وهي مظلة تظل كل الناس الواقفين تحتها، بما في ذلك الدعاة إلى الله! أما الناس الواقفون تحت المظلة فالحكم عليهم - كما بين رسول الله ( - مستمد من موقفهم هم من المظلة! فمن رضى بها فهو منها، ومن أنكرها فله حكمه الخاص:
".. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن. ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن. ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" (412).
".. فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضى وتابع" (413).
فإذا كان هذا هو حكم المجتمع، وحكم اله في ذلك المجتمع، فما حكم تقلد الوظائف فيه؟
الأصل في "المسلمين" - أي الذين ينكرون الحكم بغير ما أنزل الله - أن يكونوا - بقدر الإمكان - في مواقع بعيدة عن ضغط الحكم الجاهلي عليهم. ولكن هذا لا يتوافر في جميع الأحوال، فكثير من الناس تضطرهم ظروف المعيشة أن يدخلوا تحت هذا الضغط من أجل إعالة أنفسهم وإعالة ذويهم. وهي - كما ترى - ضرورة بالنسبة لكثير من الناس. فأي الوظائف يصح لهم - تحت هذه الضرورة - أن يعملوا فيها؟
لا يوجد تحديد دقيق في الحقيقة. ولكنا نقول بصفة عامة إنه كلما قربت الوظيفة من "السلطان" فقد بَعُدَ موقع الملم منها بالضرورة!
فالطبيب المسلم يمكن أن يعمل في وظائف الطب. ويمكن أن يكون بنظافة سلوكه، ونظافة ضميره، ونظافة تعامله، نموذجاً يحبب الناس في الإسلام. ويكون في الوقت نفسه محصوراً في دائرة عمله الفني، بعيداً عن تدخل الجاهلية المباشر في عمله. والمهندس كذلك.(2/51)
أما المعلم فهو خاضع - لا محالة - لقدر من ضغط الجاهلية عليه، سواء في المناهج غير الإسلامية التي تدرسن أو فيما يفرض عليه فرضاً من الإشادة بالطغاة الذين لا يحكمون بما أنزل الله. ولكنه - مع ذلك - يملك، بسلوكه النظيف، وأخلاقه العالية، وترفعه عن الدنايا، وضربه المثل في اعتزازه بنفسه ودينه وخلقه أن يبين للتلاميذ والطلاب - في صورة عملية - كيف يتميز الإسلام عن الجاهلية.
وغير أولئك - من "الموظفين" - يبتعدون أو يقتربون من ضغوط الجاهلية بحسب نوع العمل الذي يقومون به.
ولكن في جميع الحالات لا ينبغي "للمسلم" - أي الذي ينكر حكم الجاهلية - أن يكون وزيراً. فإنه عندئذ يقع تحت الضغط المباشر للجاهلية، بحيث لا يستطيع الفكاك! وأبسط ذلك أن يقسم يمين الولاء للحكم الجاهلي الذي ينكره، أو لطغاة الذين يحكمون بغير ما أنزل الله! ولا أن يكون في موضع التعامل المباشر مع التشريع المخالف لما أنزل الله، فإنه لا يستطيع عندئذ أن ينجو من مخالفة أمر الله!
وكل ما يقال في تبرير ذلك لا يمكن أن يبرره في الحقيقة، كما أسلفنا القول من قبل.
ولكن بعض الناس يطيب له أن يستشهد بيوسف عليه السلام حين قال للملك الذي لا يحكم بما أنزل الله:
{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)} [سورة يوسف 12/55]
والقياس على حالة يوسف عليه السلام قياس باطل!
فإن يوسف عليه السلام لم يقل للملك {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} حتى كان الملك قد قال له:
{إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)} [سورة يوسف 12/54] أي أنه مكن له في الأرض، وفي الحكم، بحيث يأمر فيطاعن ولا يؤمر فيطيع!(2/52)
وحين تكون هناك حكومة جاهلية لا تحكم بما أنزل الله، تقول لرجل مسلم: تعالى فتول لنا وزارة من الوزارات، بحيث تكون أنت المخطط فيها والمنفذ، ولا نتدخل في عملك، بل ننفذ لك أوامرك. فعندئذ لا حرج على الرجل المسلم أن يقبل العرض، ويختار الوزارة التي يعلم من نفسه واستعداداته أنه كفء لها، ويكون في موقعه ركناً من أركان الدعوة، ومنفذاً لشريعة الله. فهل يحدث هذا في عالمنا؟!
وحين لا يحدث ذلك، فكل كسب وقتي تكسبه الدعوة - وهي تكسب مكاسب مؤقتة دون شك - لا يوازي الضرر الحادث من تمييع قضية الحكم بما أنزل الله في حس الجماهير، وبالتالي تأخير قيام "القاعدة المسلمة" التي لا يقوم بغيرها حكم إسلامي ولا يمكن له في الأرض!
? ? ?
هل نرغّب الناس في الإسلام
بذكر محاسن النظام الإسلامي؟
يقولون: من باب الترغيب.. من باب "تأليف القلوب". ينبغي أن نحدث الشباب خاصة عن محاسن النظام الإسلامي، لأن الشباب عرضة - بسبب الغزو الفكري - للفتنة بالمذاهب المعاصرة - بالديمقراطية والاشتراكية خاصة - فلابد أن نتبين له أن النظام الإسلامي أفضل من تلك النظم، لنواجه تلك الفتنة التي يحدثها الغزو الفكري في غيبة من المعرفة الصحيحة بالإسلام.
ولسنا نعترض على كاتب يكتب عن النظام الإسلامي. ولكن هناك عدة محاذير ينبغي أن نجعل بالنا إليها.
المحذور الأول: هو "الدفاع" عن الإسلام!
إن اعتبار الإسلام متهماً ينبغي أن تنبري أقلامنا للدفاع عنه هو منهج خاطئ يجب الابتعاد عنه. لأن النظام الرباني لا يحتاج إلى دفاع البشر عنه لتبرئته من "التهم"، ولا إلى إعلان براءته مما يتهمه به الناس! ويكون نقصاً في عقيدتنا إن ظننا لحظة واحدة أن دين الله "محتاج" إلى تبرئة ساحته بكلام يقوله البشر من عند أنفسهم!
إنما يحتاج الناس دائماً إلى طبيان" حقائق الإسلام لهم:(2/53)
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} [سورة النحل 16/44]
فالمنهج الصحيح إذن هو بيان حقائق الإسلام للناس، فهم في حاجة دائمة إلى هذا البيان في كل جيل من أجيالهم، وفي الأجيال المعاصرة خاصة، التي أصبح الإسلام غريباً بينها من شدة جهلها بحقائقه. ولا بأس - في أثناء بيان حقائق الإسلام - أن تقف عند شبهة ترد في أذهان الناس من عند أنفسهم بسب عدم المعرفة، أو يثيرها الأعداء ليفتنوا بها المسلمين عن دينهم، فنجلى هذه الشبهة ببيان الحقيقة فيها.
أما "الدفاع" عن الإسلام فقد كان بعض الكتاب الإسلاميين قد وقعوا فيه - وما أبرئ نفسي - في وقت كانت آثار الهزيمة الداخلية ما تزال عالقة بالنفوس إزاء الهجوم المستمر العنيف الذي يثيره المستشرقون، وأعداء الإسلام لفتنة الشباب "المثقف" عن دينه.
وقد كتبت في زمن مبكر كتاب "شبهات حول الإسلام" للرد على بعض تلك الشبهات التي يثيرها الأعداء. وعلى الرغم من أن الكتاب في الحقيقة لم يكن "دفاعاً" بالمعنى المعروف، إنما كان هجوماً شديداً على الجاهلية الأوروبية المعاصرة، مما أثار مستشرقاً معاصراً هو "ولرد كانتول سميث" فأشار إلى الكتاب عدة إشارات حانقة في كتابه "الإسلام في التاريخ الحديث".
على الرغم من ذلك فقد أعلنت في مقدمة الطبعة السابعة للكتاب عن عدم موافقتي على منهج الكتاب، وبينت رأيي في المنهج الصحيح الذي ينبغي أن يتبع، وهو بيان حقائق الإسلام للناس ابتداء، ولا وضع الشبهة والرد عليها، وقلت في تلك المقدمة إنني هممت أكثر من مرة أن ألغى هذا الكتاب من قائمة كتبي، لولا أنه يطبع ويترجم إلى لغات كثيرة دون إذني في كثير من الحالات ودون علمي، فآثرت أن أبقيه على ما هو عليه، مع التنبيه إلى خطأ المنهج ووجوب اتباع المنهج الصحيح بالنسبة لمثل هذه الشبهات.(2/54)
والمحذور الثاني: هو إدخال بعض المفاهيم غير الإسلامية في الإسلام رغبة من الكاتب في "الدفاع" عن الإسلام! وهو كذلك أثر من آثار الهزيمة النفسية إزاء هجوم الأعداء!
فحين نقول إن الإسلام يعطى المرأة جميع الحقوق التي أعطتها إياها "الحضارة الحديثة".
وحين نقول إن الغلام لا يقاتل إلا للدفاع إزاء هجوم يقع على المسلمين.
وحين نقول إن الإسلام يعطى الدولة حق مصادرة الأموال أو تأميمها - ولو كانت من مصدر حلال - إذا ترتب على وجود الملكية ضرر.
وحين نقول إن الإسلام لا يأبى "الانفتاح" على ثقافات البشرية ونظمها، والاستفادة منها. أو نقول إن الإسلام نظام ديمقراطي أو نظام اشتراكي.
حين نقول هذا وأمثاله مما يرد في كتابات بعض الكتاب بحسن نية، فإننا في الحقيقة لا نخدم الإسلام بمثل هذا "الدفاع" - فضلاً عن كون "الدفاع" نفسه ليس وارداً بالنسبة لدين الله - وإنما نحن نلقى الغبش على حقيقة الإسلام الناصعة، وندخل على الإسلام - بوعي أو بغير وعى - ما ليس فيه.
"فالحضارة" الجاهلية المعاصرة أعطت المرأة - كما أعطت الرجل - حق الفساد والتهتك والتبذل باسم "الحرية الشخصية" فهل يسمح الإسلام بذلك للمرأة أو الرجل سواء؟! وهذه الحضارة قد عملت على ترجيل المرأة وإفساد أنوثتها وهي تنفخ في كيانها باسم المساواة مع الرجل. فهل يرضى الإسلام عن ذلك؟ كما عملت تلك الحضارة على إحراج صدر المرأة من قوامة الرجل، وجعلتها تنظر إليها على أنها عدوان على كيانها وكرامتها. فهل يقبل الإسلام هذا المسخ الذي مسخته تلك الجاهلية لكيان المرأة، وخرجت بها عن الحكمة التي خلق الله بها الزوجين، وجعل العلاقة بينهما سكناً ومودة ورحمة، فانقلبت قلقاً وخصاماً وتمزقاً وفرقة.
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [سورة الروم 30/21](2/55)
إنما يعمد الخبثاء من المستشرقين إلى مهاجمة الإسلام في موضوع المرأة فيقولون ويلحون في القول: إن الإسلام يحتقر المرأة ولا يعطيها حقوقها الإنسانية، ليقوم ناس - يحسن نية - "فيدافعوا" عن الإسلام، فيقولوا: كلا! لقد أعطى الإسلام المرأة جميع الحقوق التي أعطتها إياها الحضارة الحديثة، فيكونون بذلك قد وقعوا في الفخ المنصوب لهم، وأدخلوا كل ما صارت إليه المرأة من فساد في الفطرة وفساد في الأخلاق تحت المظلة الإسلامية!.. فيقوم آخرون من عصابة المستشرقين - إمعاناً في الكيد - فيقولون: إن الإسلام لا يحارب المرأة ولا يحتقرها، بل هو نظام حضاري يسمح بالتطور ويسمح بالتقدم، وليس جامداً صلداً كما ادعى الذين لم يفهموه! فنسارع نحن إلى الاستشهاد بما يكتبون، ونقول: انظروا إلى "المنصفين" من المستشرقين! لقد اعترفوا بأن الإسلام نظام حضاري تقدمي!! (414)
وكذلك قضية القتال "الدفاعي".
يظل المستشرقون يهاجمون الإسلام ويقولون إن الإسلام قد انتشر بالسيف! ليقوم ناس - بحسن نية - فيقولوا: أبداً.. إن الإسلام لا يقاتل إلا دفاعاً. ويكونون بذلك قد وقعوا في الفخ المنصوب، وهو إبعاد "الجهاد" لنشر الدعوة عن حس المسلمين، وهو أخوف ما يخافه أعداء الإسلام من الإسلام!
إن الإسلام يستخدم السيف - بأمر من الله سبحانه وتعالى - ولكن لا ليفرض العقيدة على الناس، بل ليزيل الأنظمة الجاهلية التي تحجب - بوجودها - الحق عن الناس، فإذا أزيلت الأنظمة الجاهلية بقى الناس أحراراً لا تفرض عليهم العقيدة الإسلامية، كما بقى الأقباط في مصر، والنصارى في سوريا ولبنان، والمجوس في الهند، لم يكرههم أحد على اعتناق عقيدة الإسلام.(2/56)
وتظل الشيوعية تهاجم الإسلام من جهة إباحته للملكية الفردية - التي تشن الشيوعية عليها كل هجومها - ليقوم ناس - بحسن نية - فيقولوا - دفاعاً عن الإسلام - كلا! إن الإسلام يضع في يد الدولة حق المصادرة والتأميم لإقامة "العدل الاجتماعي"، فيقعوا في الفخ المنصوب! ويدخلوا "الاشتراكية" في الإسلام، وهو هدف رئيسي من أهداف الشيوعية في العالم الإسلامي. فالخطة القائمة الآن بتوجيه روسيا هي توجيه دعاة الشيوعية ممن يحملون أسماء إسلامية إلى "تبنى" الإسلام، مع زحزحته عن حقيقته وإلباسه ثوب الاشتراكية، تسهيلاً للغزو الشيوعي في بلاد المسمين!
إنما يستخدم الإسلام أدواته الخاصة لإقامة العدل الاجتماعي، ولموازنة المجتمع إذا اختل توازنه بسبب مخالفة مقاصد الشريعة، وليس من هذه الأدوات مصادرة ما اكتسب عن طريق حلال ولا تأميمه...(415) وليس هنا بطبيعة الحال مجال بسط هذه القضايا. إنما نحن نشير فقط إلى سلوك خاطئ يقع فيه من يقع بحسن نية وهو يحسب أنه "يدافع" عن الإسلام.
وكذلك قضية "انفتاح" الإسلام على الثقافات والنظم!
إنها دعوة لتمييع الإسلام وإزالة أصالته النابعة من كونه نظاماً ربانياً متفرداً لا يختلط بغيره من النظم ولا يمتزج بها:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [سورة البقرة 2/143]
{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)} [سورة البقرة 2/138]
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [سورة المائدة 5/50](2/57)
والذين يقعون في هذه الدعوة يصدرون - بوعى أو غير وعى - عن هزيمة داخلية أمام النظم الغربية، ورغبة في "تحسين" الإسلام في نفوس الناس، بالقول بأنه يمكن أن يقتبس من هذه النظم ما يراه صالحاً وغير متعارض مع أهدافه! كأنهم - في دخيلة أنفسهم - يشكون في صلاحية النظام الإسلامي بذاته. أو كأنهم يخشون - إن قالوا أن الإسلام لا يقتبس من غيره ولا يمتزج به - أن يمعن المتفلتون من الإسلام في ابتعادهم عنه، ولا يستمعوا لصوت الدعوة!
و"الترغيب" في الإسلام مطلوب. ولكن لا بتمييع حقيقته، ولا بإدخال ما ليس منه فيه! و"تأليف القلوب" لا يكون بالمداورة والمداهنة لهذه النظم الجاهلية البعيدة عن الهدى الرباني:
{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)} [سورة القلم 68/9]
إنما تكون بعرض الإسلام في نصاعته كما أنزله الله، نظاماً شاملاً متكاملاً في ذاته غير محتاج إلى الترقيع برقع من الأنظمة الجاهلية الشاردة عن منهج الله:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة 5/3]
إنما يستفيد المسلمون من ثمار الفكر البشرى فيما يصيب فيه هذا الفكر - بالموازين الربانية - دون أن يكون هناك اختلاط ولا امتزاج بين الإسلام وبين الأنظمة البشرية، لأن صنعة الله لا تختلط بصنعة البشر ولا تمتزج بها، وإن بدا - في ظاهر الأمر - أن هناك تقارباً أو اشتراكاً بين الإسلام وبين الأنظمة البشرية، كما يبدو ذلك فيما بين الإسلام والديمقراطية من جهة، والإسلام والاشتراكية من جهة أخرى!
هناك حقاً بعض المشابه بين هذه النظم وبين الإسلام. ولكن الأولى - حتى من الوجهة التاريخية البحتة - أن يقال إن بعض النظم البشرية تقترب من الإسلام أو تتشابه معه في بعض النقاط، لا أن يقال العكس! كأن هذه النظم هي الأصل، وهي السابقة، والإسلام محمول عليها أو آخذ منه!!(2/58)
ثم إنه من الواجب أن نقول: إن هذا التشابه الظاهرى بين هذه الأنظمة البشرية وبين الإسلام، لا يجوز أن ينسينا الفارق الهائل في القاعدة التي تقوم عليها هذه النظم والقاعدة التي يقوم عليها الإسلام. ففي القاعدة الإسلامية المعبود هو الله، والمشرع هو الله، وفي القاعدة الأخرى المعبود هو آلهة أخرى - مع الله أو من دونه - والمشرع هو البشر، بكل ما في البشر من خضوع للهوى والشهوات، وقصور عن العلم الشامل وعن الإحاطة. ومن ثم تتحقق إنسانية الإنسان كاملة حين يكون المعبود هو الإله الحقيقى، وينتقص من هذه الإنسانية حين يكون المعبود آلهة أخرى من دون الله اسمها الوطن أو القوم أو المذهب أو الزعيم أو .... الدولار! وحين يكون بعض الناس - بطريق التشريع - عبيداً لبعض! ويتحقق العدل الكامل حين يكون المشرع هو الله "العليم الخبير" ولا يتحقق إلا جزئياً حين يكون المشرع هو البشر، ويظل جانب من الظلم قائماً على الدوام، يحاول البشر تعدله فيعدلونه بظلم متجدد على الدوام! (416)
والمحذور الثالث - وقد أشرنا إليه من قبل - هو الدخول في تفصيلات "الحول العملية" للمشاكل القائمة اليوم من أجل إثبات أن النظام الإسلامي ليس قادراً فقط على حل المشاكل المعاصرة، بل إنه يقدم الحل الأفضل!(2/59)
والمحذور في هذا الشأن - كما بينا من قبل - أن هذه "الحلول العملية" ليست عملية في الحقيقة لأنها غير قابلة للتنفيذ! لا لأنها في ذاتها غير قابلة للتنفيذ، ولكن لأنه لا يوجد في الواقع من ينفذها، ولو كانت في حقيقتها أفضل من الموجود كله! فالغرب - الذي نفترض في دخيلة أنفسنا أننا نخاطبه بهذه الحلول العملية - لن يلتفت إلينا، ولن يستمع منا لأنه غير مسلم! والحاجز الصليبي الذي يفصله عن الإسلام أعلى بكثير وأكثف بكثير من أن يجعله يسمع هتافاً له بأننا نملك حلولاً عملية لمشاكله أفضل مما لديه من حلول! إنما يسلم من يسلم منهم لإحساسه بجوعة الروح، لا من أجل حلولنا العملية!
وأما الشباب المسلم - أو قل الذي يحمل أسماء إسلامية وهو نافر من الإسلام - فلن يرده للإسلام الاقتناع العقلي بأن الإسلام يملك حلولاً عملية للمشاكل المعاصرة، وحلولاً أفضل من الديمقراطية والشيوعية! وحتى إن اقتنع حقيقة فسيقول لك - كما أشرنا من قبل - هلموا حققوا حكومتهم الإسلامية ونظامكم الإسلامي، ويومئذ ستجدوننا مؤيدين لكم! ذلك لأنه يُدْعَ من جانب العقيدة - التي تحركه للتنفيذ - إنما دعي من جانب التفكير العقلي، الذي لا يتحرك من مكانه، وخاصة حين يكون معنى الحركة هو التعرض للتعذيب والتشريد والتذبيح والتقتيل!(2/60)
إن النظم الباطلة لها دول قائمة بالفعل، وهي ذات قوة وسطوة وسلطان. أما النظام الإسلامي - حتى إن اقتنع أولئك الشباب أنه الأفضل - فليست له الآن دولة ذات قوة وسطوة وسلطان. لذلك فإن الذي "يتفرج" على النظم، سيجد أمامه "بضاعة حاضرة" في "الدكان الديمقراطي" وبضاعة حاضرة في "الدكان الشيوعي" ولكنه بالنسبة للإسلام سيجد نداء على بضاعة لم توجد بعد، وإن قال له عارضها إنها أفضل من هذه البضاعة وتلك! فما لم يكن "مؤمناً" فسيقول لك ببساطة: حين تجئ بضاعتك فسوف أشترى منها! أما الآن فأشترى من البضاعة الحاضرة! لذلك نقول دائماً إن باب الدعوة هو باب العقيدة.. هو باب لا إله إلا الله محمد رسول الله. وإن من لا يدخل من باب العقيدة فسيظل "يتفرج" من بعيد!
أما الذي ينبغي أن نبينه للناس حقاً فهو القيم الثابتة في هذا الدين. سواء في العقيدة، أو في السياسة، أو في الاقتصاد، أو في التربية، أو في بناء المجتمع.
ففضلاً عن كونها من "البيان" الواجب تقديمه لكل جيل من أجيال المسلمين باللغة التي يفهمونها، ومن خلال التجارب أو المشاكل التي يخوضونها، فهي أوجب بالنسبة لهذا الجيل الذي يعيش في دوامة قد لا يكون لها مثيل في التاريخ. تشتت فكره وتحير وجدانه. والعلم بهذه الأمور يزيد المؤمن رسوخاً في الإيمان، كلما عرف حقيقة من حقائق دينه. وقد تلفت المتحيرين، الباحثين عن الحق بإخلاص، فترد بعضهم من التيه، وتهديهم إلى سواء السبيل!
ولقائل أن يقول: ما الفرق بين أن نحدث الناس عن "الأصول الثابتة" في السياسة والاقتصاد.. الخ، وبين أن نحدثهم عن التفاصيل، أليس الحديث عن التفاصيل أولى أن يرد الشاردين حين يقتنعون بجدوى "الحول العلمية الإسلامية"؟.
والأمر في حقيقته غير ذلك!(2/61)
فالباحث عن "الحلول العملية" هو في الغالب شخص "واقعي" بالمعنى السيئ للواقعية! فإن لم يجد "البضاعة الحاضرة" - أو الواقع المطبق بالفعل - فسينصرف إلى محل آخر. أما الباحث عن "الأصول" والباحث عن "القيم" فهو إنسان أصيل، يبحث عن "الحق"، وحين يجده فقد ينعطف إليه، ثم يؤمن به، ثم يجاهد لتحقيقه.
والمحذور الرابع أن يستدرجنا أعداؤنا لمتابعتهم فيما يثيرون من قضايا لا يقصدون بها في الحقيقة التعرف على "الحق"، وإنما يقصدون بها تيئيس المسلمين من هدفهم الذي يسعون إلى تحقيقه.
خذ مثلاً "النظرية السياسية".
يقولون لك: ليس للإسلام نظرية سياسية. أو يقولون: ليس عند المسلمين القائمين بالدعوة أي تصور واضح لنظرية سياسية، فكيف يقيمون دولة؟!
ويتبنى بعض المخلصين هذه القضية ليثبتوا أن للإسلام نظرية سياسية. ويجتهدون في بيانها من أصولها الثابتة في الكتاب والسنة وفي التطبيق الصحيح لها في عهد النبوة والخلافة الراشدة. ويكون في ذلك خير إن شاء الله. ولكن! هل يسكت الذين أثاروا القضية أول مرة إذا رأوا أن هذا "التحدي" قد أجيب عليه إجابة "علمية" "موضوعية" مؤصلة؟!
كلا! فما كان هدفهم منذ البدء الوصول إلى الحق!
سيقولون (وقد قالوا بالفعل): وماذا تفعلون بالأقليات غير المسلمة في بلادكم؟!(417) وماذا تفعلون بروسيا وأمريكا؟ وماذا تفعلون بالمجتمع الدولي النافر من فكرة الدولة القائمة على عقيدة دينية؟! وماذا.. وماذا.. وماذا.
فإذا سألتهم: ماذا إذن؟! فستجد في النهاية أنهم يريدون لك التبعية لهذه الدولة أو تلك - حسب "هويتهم" السياسية إن كانوا من عبيد روسيا أو عبيد أمريكا - وإلى هذا الهدف يدفعونك من وراء "النقاش العلمى" و"البحث الموضوعى"!(2/62)
فإذا نسينا خطنا الأصلي، وهو "البيان" لحقائق الإسلام، وتتبعنا القضايا التي يثيرونها باستمرار ولا يكفون عن إثارتها، فالمحذور هو أن يتشتت جهدنا بغير طائل، ونفقد الهدف الأصلي الذي من أجله بدأنا التفكير والبحث والكتابة إلى الناس. وهذا هو الذي يقصده أعداؤنا، ويصرون عليه، ويضحكون منا كلما استثارونا للعدو في متاهات الطريق!
إن وجود أقليات غير مسلمة، ووجود روسيا وأمريكا، ووجود المجتمع الدولي، ووجود غير تلك المشكلات. كل ذلك لا يمكن أن يلغى التكليف الرباني بإقامة حكم الله في الأرض، والذين يعتقدون أن هذا التكليف قدس قط عن "المسلمين" بسبب هذه المشكلات، هم قوم ينفون عن الله صفة العلم وصفة الحكمة. كما ينفون عنه صفة القدرة والقوة. كأنهم يفترضون أن اله - سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً - لم يكن عالماً بأن ظروفاً ستجد في الأرض تمنع إقامة الحكم الإسلامي! ويفترضون فيه سبحانه أنه يفرض على المسلمين فرضاً غير قابل للتحقيق مما يتنافي مع الحكمة! كما يفترضون فيه سبحانه أنه عاجزاً عن إعانة المؤمنين وتأييدهم بنصره لأن روسيا وأمريكا أكبر من قوته سبحانه!!
لقد كلفنا الله أن نؤمن به ونجاهد في سبيله. وتكفل سبحانه بما وراء ذلك. وحين يصدق المؤمنون في الجهاد يحدث ما يشبه المعجزات، كما حدث أخيراً في جهاد الشيشان ضد أكبر همجية وحشية في تاريخ الحروب!
والدخول في جدول مستمر مع المجادلين لن يقنعهم - فهم ما ابتغوا البحث عن الحق - ولن يطفئ أحقادهم، فهم أولاً وآخراً يكرهون الإسلام، وهم بعد ذلك قد استعبدوا لهذه الكتلة أو تلك.
{فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} [سورة الأنعام 6/112]
والمحذور الأخير أن تستدرجنا قضية "البحث العلمي" فتنسينا جهد التربية المطلوب لإقامة القاعدة الإسلامية - وقد أشرنا إلى هذا من قبل - ثم نظن، طالما نحن مشغولون بالتفكير، أننا نؤدي كل الواجب المطلوب منا.(2/63)
إنه لا بأس أن يتفرغ لذلك الأمر فريق من "الباحثين"، المهيئين بطبيعتهم للبحث العقلي أكثر مما هم مهيأون للحركة، أو الاتصال بالنسا، أو القيام بعملية التربية. أما أن تنصرف إلى ذلك جماعة بأكملها، وتظن أنها بذلك تؤدى العمل الواجب للإسلام الآن. فهذا هو المحذور. لأنه يقتل الحركة في النهاية، ويضيق القاعدة بمقدار ما يضيف من البحوث!
? ? ?
التطرف
بطبيعتي لا أحب التطرف! لا في أمر بعينه، ولكن في جميع الأمور!
ولكن هناك أكثر من كلمة ينبغي أن تقال في هذا الشأن!
الكلمة الأولى أنه قد يقع بالفعل تطرف من بعض الشباب، أو بعض الجماعات القائمة بالعمل في الساحة الإسلامية. ولكن حجمه أقل بكثير جداً مما هول المهولون الذين يرمون الساحة كلها بالتطرف لأمر يراد!
إن الذين يهولون في تصوير التطرف، للتنفير أو التحريض أو الإثارة، يصمون بالتطرف كل شاب أطلق لحيته، أو كل فتاة تحجبت، أو كل مطالب طالب بتحكيم شريعة الله.
وقد يكون من بين كل ألف شاب أطلق لحيته، أو بين كل ألف فتاة تحجبت، أو بين كل ألف مطالب بتحكيم شريعة الله واحد متطرف أو واحدة متطرفة. ولكن وصم الألف كلهم بالتطرف أمر مقصود لإيجاد حائل من النفور بين الحركات الإسلامية كلها وبين "الجماهير" ، لعل ذلك يوقف المد الإسلامي المتدفق، ويعوق الحركة الإسلامية عن المسير! وكذلك لضرب الحركات الإسلامية كلها بتهمة التطرف، إذا عجز الطغاة عن تدبير تهمة أخرى تبرر في نظر الناس ضرب المسلمين الداعين إلى تحكيم شريعة الله.
فلينظر كل كاتب إسلامي يكتب ضد التطرف إلى أين تنتهي كلماته، وكيف تستغل لمحاربة الحركة الإسلامية كلها، حتى أشد "المتساهلين" فيها!
يقول الله في كتابه الحكيم:
{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة الأنعام 6/108](2/64)
فنهي سبحانه عن سب الآلهة التي تعبد من دون الله، مع أنها كلها باطل لا ذرة فيها من الحق، إذا كان سبها يؤدى إلى استعداء أعداء الله على مقدسات الإسلام. فكيف نعين بأقلامنا أهل الباطل - لمجرد أننا نكره التطرف، أو لنننفي عن أنفسنا تهمة التطرف - فنعطيهم سلاحاً يستخدمونه ضدنا كلنا في النهاية، كما تقول الحكمة القديمة: أكلت يوم أكل الثور الأبيض!(418)
والكلمة الثانية أن الذين يحاربون ما يسمونه تطرفاً بحجة أنه تطرف! وأنه ينبغي الرجوع إلى القصد والاعتدال! لا يحاربونه في الحقيقة لهذا السبب! ولا يقصدون رده إلى الاعتدال الحقيقي بميزان الله الحق! إنما يحاربونه لأنه يشجع الشباب على الإصرار في مطالبة الحكام بتحكيم شريعة الله، وعدم قبول أي حل إلا تحكيم شريعة الله! وهذا هو الذي لا يريدونه ولا يقبلونه! فالمحارب في الحقيقة هو الإسلام ذاته وليس هو التطرف! والممنوع في الحقيقة هو المطالبة بتحويل الإسلام إلى واقع في حياة الناس، لأن المطلوب هو إبقاؤه هكذا! إسلاماً بلا إسلام!
ومهما تخفي الذين يحاربون الإسلام وراء ستار محاربة التطرف، فستظل الحقيقة واضحة من وراء كل ستار: أن الذي يحارب حقيقةً هو الإسلام، وأن الذين يراد إبادتهم أو نفيهم من الأرض هم المسلمون.
{وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)} [سورة الأعراف 7/82]
والكلمة الأخيرة أن الذي أوجد التطرف في الحقيقة، والذي ما زال يعذبه، هو الحكومات التي لا تحكم بما أنزل الله، ثم تقوم بتذبيح المسلمين وتقتيلهم حين يطالبون بتحكيم شريعة الله.
وإلا.. فلو أن هذه الحكومات حكمت بما أنزل الله كما أوجب الله عليها، فمن أين كان ينشأ التطرف؟(2/65)
ولو كانت هذه الحكومات - على أقل تقدير - وهي لا تحكم بما أنزل الله - تعامل المطالبين بتحكيم شريعة الله - وهو واجب على كل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله - كما تعامل "المجرمين" العاديين، فتتيح لهم فرصة الدفاع عن أنفسهم، ولا تستخدم الوسائل الإجرامية في إكراههم على "الاعتراف" بما فعلوا وما لم يفعلوا، وحكمت عليهم بمقتضى القوانين العادية رغم جورها وعدم شرعيتها. لو فعلت ذلك - على أقل تقدير - فمن أين كان ينشأ التطرف؟!
يجب أن يستقر في أذهاننا بوضوح أن المتسبب الأول، والمتسبب الأكبر في نشر التطرف وتغذيته هو الحكومات التي لا تحكم بما أنزل الله، وتقوم بتعذيب المطالبين بتحكيم شريعة الله تعذيباً وحشياً لا مثيل له في التاريخ. وأن هذه الحكومات ترتكب ثلاث جرائم في وقت واحد: الإعراض عن أمر الله القاضي بتحكيم شريعته دون سواها. والقيام بجرائم القتل والتعذيب الجماعي التي لا تقرها حتى شريعة الغاب. وتغذية روح التطرف بين الشباب كرد فعل للجريمتين الأوليين.
كما يجب أن يستقر في أذهاننا بوضوح كذلك أنه لا يمكن القضاء على التطرف إلا بإزالة أسبابه الحقيقية الدافعة إليه. أي استجابة الحكام لأمر الله لهم أن يحكموا بما أنزل الله، أو - في أقل القليل - الكف عن المعاملة الوحشية التي يعاملون بها الذين يطالبون بتحكيم شريعة الله. وأن كل مذبحة تقام للمسلمين في الأرض هي وقود جديد للتطرف، يمتد إلى ما شاء الله.
فلينظر الذين يشكون حقيقة من التطرف، ويرغبون حقيقة في علاجه، أي طريق يسلكون!
? ? ?
استعرضنا فيما مضى بعض القضايا التي تدور في ساحة العمل الإسلامي؛ ويجدر بنا في ختام هذا الفصل المتعلق بالصحوة الإسلامية أن نلخص المهمة الملقاة على عاتق الدعوة في هذه المرحلة من تاريخها.
إن الدعوة مكلفة بواجب تبليغي وواجب تربوى، مقتدية في ذلك بالمنهج النبوي في فترة الدعوة الأولى بمكة.(2/66)
فأما الواجب التبليغي - حين تسنح الفرص بلقاء الدعوة مع الجماهير - فهو تعليمهم ما جهلوه من حقيقة لا إله إلا الله، وارتباطها الوثيق بتحكيم شريعة الله. والتأكيد لهم بأن ما أصاب المسلمين في حضارتهم من الذل والهوان والضعف والتخلف وغلبة الأعداء عليهم إنما كان سببه تفريغ لا إله إلا الله من مضمونها الحقيقى، وجعلها كلمة تنطق باللسان فحسب. وأن هذا ليس هو الإسلام الذي أنزله الله. إنما الإسلام الذي يرضى اله عنه في الدنيا والآخرة هو نطق لا إله إلا الله محمد رسول الله، والعمل بمقتضاها، وتأدية الفرائض. وأن المسلمين لن يعودوا إلى التمكن في الأرض بأي مذهب من المذاهب ولا أي منهج من المناهج المستوردة من الشرق أو الغرب، إنما بالرجوع الحق إلى الحق، أي عبادته وحده بلا شريكن سواء فيما يختص بالعقيدة، أو ما يختص بالشعائر التعبدية، أو ما يختص بتحكيم شريعة الله في كل أمر من الأمور. وأن استيراد المذاهب من الغرب خلال قرن كامل من الزمان لم يزدهم إلا ضعفاً وهواناً وذلة وضياعاً، وبعداً عن التمكن والاستقرار.
وأما الواجب التربوى فهو أخطر ما تقوم به الدعوة في الحقيقة، لأنه هو طريق الخلاص. وهو عمل دائب مستمر لا يتوقف مهما كانت الأحوال. في الشدة وفي الرخاء سواء في السعة وفي الضيق سواء.
والتربية المطلوبة - لإقامة القاعدة الإسلامية - تهدف إلى إخراج نماذج فذة لا إلى مجرد إخراج مسلمين عادين. نماذج تكون كالأعمدة الرأسية في البناء، لتحمل ثقل البناء فيما بعد.
وهذا يحتاج أولاً إلى عقيدة صافية لا غبش فيها ولا بدع ولا انحرافات. عقيدة كعقيدة السلف الأول، خالية من كل ما علق بها خلال الأجيال من إضافات وانحرافات خرجت بها عن عقيدة التوحيد الخالصة الصافية وكادت تردها وثنية جاهلية.(2/67)
ويحتاج ثانياً إلى إدراك واع لمقتضيات هذه العقيدة. ومقتضياتها هي كل التكاليف وكل التوجيهات التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله. ومن عظمة هذه التكاليف والتوجيهات، ومن شمولها لكل جوانب النفس وكل جوانب الحياة كانت عظمة هذا الدين، وعظمة الأمة التي حملت هذا الدين وأنشأت به ذلك الواقع الضخم الذي شهده التاريخ.
ويحتاج ثالثاً - إلى تربية تحول هذه العقيدة إلى حقيقة سلوكية قائمة في عالم الواقع.
وهذه التربية تحتاج إلى ترسيخ معانى الألوهية وتعميقها حتى تصبح يقيناً قلبياً ينبنى عليه سلوك واقعى. يقيناً لا يزلزله الابتلاء والشدة، ولا يزلزله الرخاء والسعة.
وتحتاج إلى ترسيخ أخلاقيات لا إله إلا الله، حتى تصبح حقيقة سلوكية، تنبثق انبثاقاً ذاتياً من داخل النفس. وأخلاقيات لا إله إلا لله من السعة والشمول بحيث تشمل كل سلوك يقوم به الإنسان. فالأخوة من أخلاقيات لا إله إلا الله. والتكافل من أخلاقيات لا إله إلا الله. والجلد والصبر من أخلاقيات لا إله إلا الله. والشجاعة في الحق من أخلاقيات لا إله إلا الله. والنظام والانضباط من أخلاقيات لا إله إلا الله. ومعرفة الحق واتباعه من أخلاقيات لا إله إلا الله.
وتحتاج إلى الوعي السياسي بأحوال العالم المعاصرة. وأحوال المسلمين في ظروفهم الراهنة. ومكايد الأعداء ومؤامراتهم الدائمة ضد الإسلام. وتدسسهم إلى حياة المسلمين بالغزو الفكري وغيره من وسائل الحرب.
وتحتاج إلى الوعي الحركي الذي لا يتعجل الخطى قبل أوانها، وفي الوقت نفسه لا يدع الفرص تفلت منه دون أن يستفيد منها.
وتحتاج إلى موازنة في داخل الجماعة بين النزعة الفردية والنزعة الجماعية، بحيث لا يكون الفرد مستبداً ولا ناشزاً، ولا يكون في الوقت ذاته إمعة يساير المجموع إن أخطأ أو أصاب. ولا تكون الجماعة مستبدة طاغية تسحق شخصية الفرد، ولا مفككة لا رابط لها ولا اتحاد.(2/68)
وتحتاج إلى وعى فقهي يعرف به الفرد ماذا يأتى وماذا يدع، ومتى يسمع ويطيع، ومتى يفضى به السمع والطاعة إلى الهلاك.
? ? ?
ومن أجل متطلبات هذه التربية، وهي كثيرة وشاقة، وخاصة في أمة كادت تنسلخ من كل مقومات الإسلام، فلا ينبغي التعجل في خطواتها، ولا ينبغي التعجل في إدخال الجماهير في الدعوة على النطاق الواسع قبل أن يتيسر العدد الكافي من الدعاة والمربين، الذين تربوا هم أنفسهم على المنهج الصحيح، والذين يستطيعون بدورهم أن يربوا على المنهج الصحيح. فهذا التعجل لا يخدم الدعوة في شئ، وإنما يعوقها في الحقيقة عن المسير.
? ? ?
ويجب أن يكون واضحاً في أذهاننا أن "القاعدة الإسلامية" غير موجودة في الحقيقة، برغم مل عواطف الجماهير، وكل حماستهم التي يبدونها حين يذكر الإسلام. فهي حماسة عاطفية لا تقيم بناء حقيقياً ولا حركة حقيقية. إنما تحتاج القاعدة إلى الإنشاء من جديد. فرداً فرداً حتى يكتمل منها بناء متماسك كبناء الجماعة الأولى على يد الرسول (، إلا يكن في الدرجة فعلى نفس المنهج، الذي هو مجال الأسوة في رسول الله ( وفي الجماعة التي رباها ليقوم عليها البناء.
? ? ?
ويجب أن يكون واضحاً في أذهاننا كذلك أن المعركة بين الإسلام وأعدائه ليست معركة سريعة خاطفة، ولكنها معركة طويلة شاقة قد تستغرق عدة أجيال. فينبغي للقاعدة التي تنشأ للقيام بهذا العبء الضخم أن تربى لتكون طويلة النفس، شديدة الصبر، عميقة الإيمان بالله، عميقة التوكل عليه، مستعدة لما يتطلبه أمرها من المعاناة، قادرة على أن تبذل من نفسها: من جهدها ومالها وفكرها، ما يحتاج إليه إزالة الغربة التي ألمت بالإسلام اليوم، واستنقاذ "الغثاء" من دوامة السيل، واستنباته مرة أخرى رأسياً في الأرض عميق الجذور.(2/69)
وحين تقوم القاعدة بالمواصفات المطلوبة، بالحجم المناسب، سيغير الله للناس، لأنهم يكونون قد غيروا ما بأنفسهم، ويمكن لهم مرة أخرى في الأرض، لأنهم يكونون قد وفوا بالشرط:
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [سورة النور 24/55]
وفي الفصل القادم نحاول أن نلقى نظرة على المستقبل، تمد بصرنا وراء الحاضر الذي نعيشه الآن.
? ? ?
نظرة إلى المستقبل
يمر العالم الإسلامي بفترة سيئة في الوقت الحاضر، نتيجة كل الظروف التي شرحناها من قبل في أثناء الحديث عن آثار الانحراف. من الضعف والذل والهوان والضياع وغلبة الأعداء، مع كل ما يعانيه العالم الإسلامي من أزمات اقتصادية وأزمات سياسية وأزمات اجتماعية وأزمات فكرية وروحية.
والذي يراد بالعالم الإسلامي في المستقبل القريب أسوأ من ذلك كله. فإن الأعداء لم يكفهم كل ما أحدثوه من تخريب من قبل، بل يريدون تخريباً أكبر، وتمزيقاً أشد.
إنهم في الحقيقة سائرون في ذات الطريق الذي بدأوه منذ أربعة قرون أو أكثر. منذ طرد المسلمون من الأندلس، ثم بدأت الحروب الصليبية الجديدة لمطاردة المسلمين في بقية الأرض، وإخضاعهم لسيطرة الصليبية الحاقدة، وإذلالهم انتقاماً من الهزيمة الساحقة التي تلقاها الصليبيون في الحروب الصليبية الأولية، بعد كل ما بذلوا من الدماء والأموال، ولم يعودوا مدحورين فقط، بل قامت دولة إسلامية في أوروبا ذاتها، ظلت تزحف زحفاً مستمراً قرابة ثلاثة قرون، وتستولي على بلاد نصرانية تخضعها لسلطانها، بل يدخل من سكانها في العقيدة الإسلامية عشرات الملايين!(2/70)
ولكن العالم الإسلامي كان قد ظن في بداية القرن العشرين الميلادي، وفي أثنائه أنه قد تخلص من الاستعمار، واسترد كيانه، وحسن أوضاعه، وبدأ يخطو إلى الأمام، نحو القوة والحضارة والتقدم والرقى.
فهل كان الظن حقاً؟
لقد انتشر التعليم بعد أن كانت الجهالة هي السمة العامة لشعوب العالم الإسلامي. وتحسنت الأوضاع الصحية بعد أن كان امرض هو المسيطر. ووجدت مصانع صغيرة أو كبيرة تصنع بعض الخامات المحلية، وتنتج بعض ما يلزم الناس في حياتهم، بعد أن كان كل شئ يستورد من الخارج، ويعجز الناس عن صناعته مهما كانت تفاهته. وصارت هناك جيوش تستخدم أسلحة حديثة بعد أن كان سلاحها متخلفاً إلى أقصى حد. ودخلت الآلات الحديثة في الصناعة والزراعة والعمارة. وملأت السيارات شوارع المدن. وملأت أجهزة التليفزيون البيوت!
وإلى جانب ذلك انسحبت جيوش الاستعمار من معظم بلاد العالم الإسلامي، واكتفت دول الاستعمار بنفوذها السياسي والاقتصادي بعد أن كانت تحتل الأرض وترهب الناس بعساكرها. وسمحت للبلاد الإسلامية أن يكون لها تمثيل "دبلوماسي"، وأن تحتل مقاعد في هيئة الأمم وفي مجلس الأمن.
ولكن هذه الظواهر لم تكن كلها صادقة كما اكن يبدو لأول وهلة، فقد كان بعضها حقيقياً وبعضها خادعاً.ة ولكنها كانت في جملتها - على أي حال - خيراً مما آلت إليه الأحوال بعد الحرب العالمية الثانية، بحيث يعتبر الواقع المعاصر نكسة شاملة بعد التقدم الظاهري الذي كان في النصف الأول من القرن.
كيف حدث ذلك؟! لماذا انتكست الأحوال وصارت تزداد سوءاً يوماً بعد يوم؟ أ لعوامل داخلية بحتة؟ أم لعوامل خارجية بحتة؟ أم لمزيج من هذه وتلك؟!
فلننظر أولاً في حالة التحسن الظاهرى الذي كان في مبدأ الأمر.
لقد حدث ولا شك قدر من التقدم المادى برضا الاستعمار أو بغير رضاه.(2/71)
ونستطيع أن تصور أن روح الثورة على الاستعمار قد شحذت عزائم الناس، فأصروا على أن يتعلموا، وأصروا على أن ينتجوا، وأصروا على أن يصلحوا بعض ما رأوه فاسداً في حياتهم.
ولكن هناك أمراً خطيراً لم تلتفت إليه تلك الشعوب وهي "تزحف" نحو التقدم والتحضر والرقى.
لم تلتفت إلى المؤامرة الكبرى التي صاغتها دول الاستعمار جميعاً ضد كيانها الأصيل.. ضد الإسلام.. ولم تلتفت إلى عملية "التسميم" التي قامت بها دول الاستعمار في الأرض الإسلامية قبل أن تنسحب منها.
إنها لم تنسحب حتى كانت قد أبرزت "القيادات العلمانية" التي تقود مرافق الحياة كلها في العالم الإسلامي، وتقوم بتحضيره، نعم، ولكن على أسس غير إسلامية!
ولم تنسحب حتى كانت قد حررت المرأة المسلمة! حررتها من دينها وأخلاقها وتقاليدها، وأخرجتها إلى الشارع فتنة لنفسها وللرجل على السواء!
ولم تنسحب حتى كانت قد بذرت في الأرض الإسلامية كل البذور السامة الموجودة في المجتمع الغربي، ولكن بدون عوامل القوة الإيجابية التي تؤخر الدمار هناك (419). بذرت الفوضى الجنسية، والتحلل الخلقى، والتمزق الأسرى، والضياع الروحى، والتمزق النفسى، والقلق، والانتحار، والأمراض العصبية، والخمر، والجريمة والفردية الجانحة والاستهتار بالقيم، والبحث عن المتاع المادي، والاستغراق فيه.
هل كان يتوقع لتلك الشعوب وقد بذرت فيها كل تلك البذور السامة أن تتقدم حقيقة، وتنهض حقيقة، وتسير حقيقة على خط القوة والصعود؟
أم كان يتوقع لها الانتكاس الدائم والضعف المستمر، رغم كل مظاهر التقدم المادي التي تطفو على السطح؟!
لقد رأي العقلاء بوادر ذلك كله، وأنذروا شعوبهم، فلم تستفق هذه الشعوب لصوت النذير - إلا من رحم ربك - وظلت تلهث كالمجنون، تستزيد من بذور السم، وكلما أخذت جرعة تطلب المزيد!(2/72)
وما بنا من حاجة لإعادة ما قلناه من قبل عن الغزو الفكري وأدواته والقائمين به، ما بين عميل مستغفل وعميل مأجور، واثر ذلك كله في عملية التدمير الدائمة في كيان تلك الشعوب.
ومع ذلك كله. وعلى الرغم من فتور عزائم الثوار بعد أن خيل إليهم أنهم انتصروا على الاستعمار وطردوه، وأصبحوا أحراراً في بلادهم - وما كانوا أحراراً في الحقيقة وقد تشربت نفوسهم العبودية لغرب - وعلى الرغم من أثر ذلك الفتور في زيادة تأثير السموم التي خلفها الاستعمار قبل انسحابه.
على الرغم من هذا كله، فقد كانت خطوات الانحدار التي تسير بها شعوب المنطقة الإسلامية نحو الهاوية، أبطأ بكثير مما صارت إليه بعد التغيرات الحاسمة التي حدثت على الساحة العالمية، والتي أبرزت في الساحة قوى جديدة أشد ضراوة وأكثر شراً من تلك التي كانت قائمة من قبل!
? ? ?
أحدثت الحرب العالمية الثانية تغيرات جذرية في التركيبة السياسية القائمة في الأرض.
لقد كانت الدولتان العظميان أي اللتان لهما السيطرة الغاشمة في الأرض هما بريطانيا وفرنسا، ومن دونهما قوى ثانوية تستظل في الحقيقة بظلهما "الاستعمار" وإن حدثت منافسات جزئية بينها وبين الدولتين الكبيرتين في شتى المجالات. وكانت الدولتان ذاتهما تتنافسان فينا بينهما منافسة عنيفة حتى عقدت اتفاقية سايكس - بيكو، فهدأ بينهما الصراع حين اتفقتا على تقسيم مناطق النفوذ بينهما. ولكن كان هناك عنصر مشترك بين المتنافسين جميعاً، ينسون عنده صراعاتهم ومنافساتهم، ويقفون صفاً واحداً متسانداً متعاضداً - ذلك حين يواجهون الإسلام.(2/73)
ولقد يفيدنا أن نذكر - على سبيل المثال - أن بريطانيا احتلت مصر عام 1882م، وطردت النفوذ السياسي الفرنسي الذي كان قائماً في مصر من أيام محمد على إلى أيام الخديو إسماعيل، ولكنها لم تتعرض قط للمؤسسات التبشيرية الفرنسية، ولا للمؤسسات الثقافية، ولا لمعهد الآثار الفرعونية الذي تركه نابليون في مصر، لأنه هنا ينسى الإنجليز عداوتهم وخصومتهم لفرنسا، ويتذكرون أن كلا منهما يعمل للقضاء على العدو المشترك.. فيتساندان!
وربما كان أبلغ من ذلك في الدلالة أن الذي حمى الدكتور طه حسين، الفرنسي النزعة، الفرنسي الثقافة، حين غضب عليه الأزهر بسبب كتابه "في الشعر الجاهلي" الذي هاجم فيه القرآن والإسلام وجميع المقدسات، وطالب بسحب شهادة العالمية منه وتقديمه للمحاكمة. الذي حماه من هذا كله هو المندوب السامي البريطانى، الذي ذهب إلى رئيس الوزراء في مكتبه، وقال له: إلى متى يستمر هذا العبث؟! وفي الحال أقفل التحقيق الذي كان قد بدئ مع طه حسين، وأسكت الأزهر، وهدأت الزوبعة.. وبقى "الدكتور"!
هكذا كانت تسير الأمور في الأرض قبل الحرب العالمية الثانية.. قوتان رئيسيتان مسيطرتان، وقوى ثانوية تنافسهما، ولكن الجميع - بالنسبة للعالم الإسلامي - متعاونون على الهدف المشترك، وهو حرب الإسلام! ووسائلهم الكبرى هي الغزو الفكري، وتحرير المرأة، وإفساد المجتمع، وإبراز الزعامات العلمانية في جميع المجالات. في ظل السيطرة السياسية والاقتصادية التي يمارسها الاستعمار الصليبي.
ولكن الرحب قضت على الدولتين "العظميين" وأبرزت بدلاً منهما وحشين جديدين من نوع آخر.. هما روسيا وأمريكا.. وأهم من ذلك أنها أبرزت النفوذ اليهودي سافراً على السطح.(2/74)
لقد كان النفوذ اليهودي قائماً في العالم الغربي منذ الثورة الصناعية التي وقعت تلقائياً في أيدي المرابين اليهود كما بينا في غير هذا الكتاب (420). ولكنه لم يتغلغل قط، ولم يبرز قط، كما تغلغل بعد الحرب العالمية الثانية، وسيطر على كلا المعسكرين في الشرق والغرب، وصارت السياسة العالمية في يد اليهود، ينفذونها عن طريق الدولتين المتوحشتين الجديدتين، أصرح بكثير، وأوضح بكثير مما كانوا ينفذونها من قبل من خلال بريطانيا وفرنسا فيما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية.
لقد وصل اليهود إلى قلب المنطقة الإسلامية، ,أقاموا دولتهم في فلسطين، وسخروا لذلك كلا من الدولتين المتسلطتين، فكانت أمريكا أول دولة اعترفت بالدولة اليهودية، وبعدها بعشر دقائق اعترفت روسيا بالدولة القائمة صراحة على أساس دينى، بينما المذهب الشيوعي كله يرفض ذلك رفضاً باتاً ويندد به!
وحدث في أثناء قيام الدولة اليهودية ذلك الحدث التاريخى الذي وقع بقدر من الله وهو صدام الفدائيين المسلمين مع اليهود، وتبينت الصهيونية والصليبية كلتاهما، أن الدولة التي تآمرتا معاً لإيجادها في قلب العالم الإسلامي (421)، مهددة بالخطر إذا بقيت الحركة الإسلامية، فضلاً عن تعذر توسعها فيما بعد إذا بقيت تلك الحركة على ما هي عليه.
عندئذ تلاقت العدوات كلها - ولكن على درجة أعنف مما مضى في التاريخ كله - على ضرورة القضاء البات على الحركة الإسلامية، وعلى أن تتعاون القوى الثلاث: أمريكا وروسيا واليهودية العالمية على الفتك بالإسلام والمسلمين.
ومن هنا بدأت مرحلة جديدة من "التحطيم" أعنف مما سبق من قبل، متمثلة في خطين رئيسين: التذبيح الوحشي للمسلمين، والتفتيت المستمر للدول القائمة في العالم الإسلامي، والعالم العربي بصفة خاصة.(2/75)
حقيقة إن بدء التذبيح الوحشي قد قامت به بريطانيا لحساب اليهود عام 1948 - 1949، حين بدأ اعتقال الإخوان المسلمين وقُتل الإمام الشهيد، وإنه كان يمكن أن يتكرر على يد بريطانيا وفرنسا في أكثر من مكان في العالم الإسلامي. ولكن الجولة الجديدة استخدمت أداة أشد فتكاً، ,اقدر على ارتكاب جرائم القتل الجماعي، وهي الانقلابات العسكرية التي يختار لها "الصالحون" لمهمة، من مجنونى العظمة وقساة القلوب، الذين لا يتورعون عن شئ يطلب منهم مقابل التمتع "بالعظمة" والسلطان.
وهكذا توالت المذابح الوحشية، وتصعدت معها في الوقت ذاته عملية إفساد الأخلاق في جميع المجالات.
لقد كانت عملية إفساد المجتمع من طريق ما سمى "تحرير المرأة" قمينة أن تتسع من تلقاء ذاتها، وتعطى ثمارها الخبيثة على مدى الأيام، ولكنها - على يد العساكر - نشطت عن عمد، وأسرعت خطاها لأمر يراد!
خطب جمال عبد الناصر ذات مرة خطبة ملتهبة - بالعامية! (422)- وقال فيها عبارة عجب الناس منها ليلتئذ، ولكنهم تبينوا مغزاها واضحاً فيما بعد! قال - وكان متضايقاً من أحد مواقف إسرائيل المحرجة له (423) - :"هي إسرائيل عايزة مننا إيه.. إحنا حررنا المرأة"!(2/76)
كذلك كانت عملية تحطيم القيم في المجتمع قمينة أن تتسع من تلقاء نفسها على يد الاستعمار الأول، وفي فترة "الاستقلال"، نتيجة السموم الكثيرة التي بثت في المجتمع، ونتيجة تنحية الدين عن الحياة. ولكنها اتسعت اتساعاً بشعاً على يد العساكر، نتيجة الحرب الوحشية على الإسلام، وإبعاد كل نظيف ونزيه عن مقاليد الأمور، وتقريب المتملقين والإمعات الذين يدورون مع الفلك حيث دار. حتى أصبحت الرشوة أصلاً في المجتمع، وأصبح الغش أصلاً في التعامل، وأصبحت الانتهازية عملة متعارفاً عليها لا يستتر منها أهلها. أو باختصار: أصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً كما قال رسول الله (. وكان هذا كله جزءاً من "السياسة العامة" المطلوبة من قبل الأعداء. لتفتيت كيان "الشعوب" المحيطة بإسرائيل، فلا يبقى فيها شئ متماسك، يمكن أن يقوم بنوع من المقاومة لأطماع اليهود.
أما بالنسبة "للدول" فيكفي هذا المقال الذي نشر في صحيفة "كيفونيم" اليهودية بتاريخ 14 فبراير 1982، واقتبس فقرات منه "روجيه جارودى" في كتابه "ملف إسرائيل: دراسة للصهيونية العالمية" (424)، لبيان السياسة المطلوب اتباعها في المنطقة المحيطة بإسرائيل، والتي بدأ تنفيذها بالفعل في لبنان.. والبقية تأتى!
"استعادة سيناء بثرواتها هدف ذو أولوية. ولكن اتفاقات كامب دافيد تحول الآن بيننا وبين ذلك. لقد حرمنا من البترول وعائداته، واضطررنا للتضحية بأموال كثيرة في هذا المجال. ويتحتم علينا الآن استرجاع الوضع الذي كان سائداً في سيناء قبل زيارة السادات المشئومة، وقبل الاتفاقية التي وقعت معه في 1979.(2/77)
"والوضع الاقتصادي في مصر، وطبيعة النظام الموجود بها، وسياستها العربية، كل هذا سيؤدى إلى مجموعة ظروف تدفع بإسرائيل إلى التدخل. فمصرن بسبب نزاعاتها الداخلية لم تعد تشكل بالنسبة إلينا مشكلة استراتيجية. ومن السهل أن نجعلها تعود خلال 24 ساعة إلى الوضع الذي كانت عليه بعد حرب يونيو 1967. لقد ماتت أسطورة مصر "زعيمة العالم العربي" وفقدت مصر 50% من قدرتها. وكبناء موحد، أصبحت مصر جثة هامدة، وبخاصة إذا أخذنا في الاعتبار المجابهة المتزايدة والمتصاعدة بين المسلمين والمسيحيين بها. ويجب أن يكون هدفنا هو تقسيمها إلى أقاليم جغرافية متباينة في الثمانينيات.
"فإذا ما تمت تجزئة مصر، وإذا فقدت سلطتها المركزية، فلن تلبث بلدان مثل ليبيا والسودان، وبلدان أخرى أبعد من ذلك أن يصيبها التحلل. وتشكيل حكومة قبطية في مصر العليا، وإقامة كيانات صغيرة إقليمية، هو مفتاح تطور تاريخي، يؤخره حالياً اتفاق السلام، ولكنه تطور آت لا محالة على الأجل الطويل.
"ومشكلات الجبهة الشرقية أكثر وأشد تعقيداً من مشكلات الجبهة الغربية. وهذا على عكس ما يبدو في الظاهر. وتقسيم لبنان إلى خمسة أقاليم. يوضح ما يجب أن ينفذ في البلدان العربية. وتفتيت العراق وسوريا إلى مناطق تحدد على أساس عنصري أو دين،ن يجب أن يكون هدفاً ذا أولوية بالنسبة إلينا، على الأجل الطويل. وأول خطوة لتحقيق ذلك هو تدمير القوة العسكرية لتلك الدول.
"والتشكيل السكاني لسوريا يعرضها لتمزق قد يؤدى إلى إنشاء دولة شيعية على الساحل، ودولة سنية في منطقة حلب، وأخرى في دمشق، وإنشاء كيان درزى قد يرغب في أن يتحول إلى دولة على أرض الجولان التابعة لنا تضم حوران وشمال المملكة الأردنية. مثل هذه الدولة ستكون على المدى الطويل ضماناً لأمن وسلام المنطقة. وهذا هدف في متناولنا فعلاً تحقيقه.(2/78)
"وأما العراق فهي غنية بالبترول، وفريسة لصراعات داخلية، وسيكون تفككها أهم بالنسبة لنا من تحلل سوريا، لأن العراق يمثل على الأجل القصير أخطر تهديد لإسرائيل. وقيام حرب سورية عراقية سيساعد على تحطيم العراق داخلياً قبل أن يصبح قادراً على الانطلاق في نزاع كبير ضدنا. وكل نزاع داخلي عربي سيكون في صالحنا، وسيساعد على تفكك العرب. وربما ساعدت الحرب العراقية الإيرانية على ذلك الانحلال والضعف في صفوف العرب.
"والأردن هدف استراتيجي في التو واللحظة. ولن يشكل أي خطر لنا على الأمد الطويل بعد تفككه ونهاية حكم الملك حسين، وانتقال السلطة إلى أيدي الأغلبية الفلسطينية. وذلك أمر يجب أن يسترعى انتباه السياسة الإسرائيلية. فمعنى هذا التغير هو حل مشكلة الضفة الغربية ذات الكثافة السكانية العربية الكبيرة. فهجرة هؤلاء العرب شرقاً - إما بالسلم أو بالحرب - وتجميد نموهم الاقتصادي والسكاني هي الضمانات الأكيدة للتحولات المقبلة. وعلينا أن نبذل قصارى جهدنا للإسراع بتلك العملية.
"وينبغي رفض خطة الحكم الذاتي، وأية خطوة أخرى تتضمن حلاً وسطاً أو تعايشاً، وتصبح بالتالي عقبة في سبيل فصل الأمتن.
"ويجب أن يفهم العرب الإسرائيليون (أي الفلسطينيون) أنه لا يمكن أن يكون لهم وطن إلا في الأردن. ولن يعرفوا الأمن إلا بالاعتراف بالسيادة اليهودية على كل ما يقع بين البحر ونهر الأردن. ولم يعد ممكناً - ونحن على مشارف العهد النووي - أن نرضى بوجود ثلاثة أرباع السكان اليهود مركزين في ساحل مزدحم بالسكان ازدحاماً كبيراً، وتوزيع هؤلاء السكان هو أول واجباتنا في سياستنا الداخلية. فيهودا والسامرة والجليل هي الضمانات الوحيدة لبقائنا على قيد الحياة كأمة. وإذا لم تصبح لنا الأغلبية في المناطق الجبلية، فسيكون مصيرنا كمصير الصليبين الذي فقدوا هذه البلاد.(2/79)
"وينبغي أن نعمل على إعادة التوازن إلى المنطقة في المستويات السكانية والاستراتيجية والاقتصادية، وأن يكون ذلك على رأس ما نصبو إليه. ويتضمن هذا الأمر الإشراف على الموارد المائية بالمنطقة من بير سبع إلى الجليل الأعلى، وهي منطقة خالية من اليهود تماماً اليوم".
? ? ?
على هذا النحو من السوء تجرى الأمور في العالم الإسلامي، ويراد لها أن تسير من سيئ إلى أسوأ خلال السنوات القريبة القادمة،من أجل أن تعيش الدولة اليهودية وتتوسع، بالتأييد الظاهر المكشوف من جانب أمريكا، والتأييد الصامت المستتر من جانب روسيا، التي تكتفي بصيحات الإنكار على إسرائيل كلما وقع عدوان يهودي، وصيحات العطف على "العرب"ن دون أن تصنع شيئاً حقيقياً بوقف العدوان ويوقف التوسع العدواني منذ 1948م حتى هذه اللحظة! وأنت حين تقف إلى جوار رجل يمسك سكيناً ليذبح به رجلاً آخر، ثم تكتفي بأن تقول له: عيب يا رجل! حرام عليك! فإنك في الحقيقة تعينه على أن يتمم جريمته وهو آمن من كل تعويق.لأن الصياح يتبدد في الهواء بعد لحظات، بينما يظل المجرم ماضياً في جريمته!
وهكذا تقف الدولتان "العظميان!" موقفهما الحقيقي من الإسلام والمسلمين! وتستعين أمريكا - كما بينا من قبل - بعدوتها روسيا، وبالشيوعية، لمحاربة الإسلام في منطقة النفوذ الأمريكية، وتنسى الدولتان خصومتهما وعداوتهما، وتقفان صفاً واحداً متسانداً متعاضداً ضد الإسلام، كما كانت الدولتان "العظميان" السابقتان، بريطانيا وفرنسا، ولكن بضراوة أعنف، وشراسة أشد. ويصل الأمر في التساند والتعاضد أن تغطى روسيا العميل الأمريكي الذي يقوم بتذبيح المسلمين، كما تغطى أمريكا العميل الشيوعي القائم بنفس الأمر، وتعمل كلتاهما لحساب اليهودية العالمية، في ذات الوقت الذي تشفي كل منهما غليلها الشخصي من الإسلام!
? ? ?(2/80)
أما العمل على الساحة الإسلامية فقد تبين لنا من العرض السابق وجود مشكلات غير قليلة وغير هينة فيه، أبرزها تفرق الجماعات العاملة في الساحة وتمزقها، وقيام بعضها بحرب بعض، وغياب القيادة الكبيرة التي كان يمكن أن تجمع العمل الإسلامي وتوحد طريقه، ثم النقص الكبير في جوانب مهمة من جوانب التربية: العقدية والحركية والفكرية والسياسية.. الخ.
وعند هذه الصورة - بالإضافة إلى ما يراد بالمسلمين من سوء - يقف بعض الناس فيرون كأن الطريق مسدود، وكأن الصحوة كلها توشك أن تنهار، ويعود الظلام من جديد.
وهذا غير صحيح.
وأعداء الإسلام أنفسهم - الذين يقومون بهذا الكيد كله للقضاء على الصحوة الإسلامية - يعلمون أنه غير صحيح! وأنه على الرغم من كل الجهد الذي يقومون به فهم لم يقضوا عليها، بل هم يخشون امتدادها بعد كل ما فعلوه.
وإذا نحن قلنا إن الصحوة باقية بإذن الله، وممتدة ومتوسعة، وإن المستقبل بإذن الله للإسلام، فنحن لا نقول هذا رجماً بالغيب، إنما تتبعاً للواقع المشهود وللسنن الربانية التي يجريها الله في هذا الوجود.
ولنحاول أولاً أن نتتبع قدر الله بهذه الأمور في الفترة الأخيرة المشحونة بالأحداث.
لو كان في قدر الله أن تموت هذه الأمة وتنتهي، وتخرج من التاريخ، فربما كان أنسب حدث لهذا الأمر هو إزالة الخلافة على يد أتاتورك. فقد ساد الظلام واليأس ربوع العالم الإسلامي يومئذ، وأحس المسلمون أنهم كالأيتام الذين فقدوا راعيهم، وكانت الصدمة في حسهم ثقيلة تبعت على القنوط.
ولكن قدر الله اختار هذا الحدث ذاته ليكون بداية ليقظة جدية وبعث جديد.
ولو كان في قدر الله أن يتغلب الأعداء على هذه اليقظة فيقضوا عليها ويخمدوا أنفاسها، فربما كانت أعمال أتاتورك الثاني - جمال عبد الناصر - ووحشيته في محاربة الحركة الإسلامية، أنسب ظرف للقضاء عليها ومحوها من التاريخ.(2/81)
ولكن الذي نراه من قدر الله حتى هذه اللحظة أن كل مذبحة تقع، تأتى بمدد جديد من الشباب ينضم للحركة الإسلامية، بل نرى أن الاتجاه للإسلام، والرغبة في تحقيقه كاملاً شاملاً كما أنزله الله، قد اصبح تياراً ذاتياً عند الشباب، لا يتعلق بجماعة معينة، بل يمثل تطلعاً عاماً عند الشباب، سواء التحقوا بهذه الجماعة أو تلك. أو لم يلتحقوا بجماعة على الإطلاق (425).
ولقد قلنا في فصل "الصحوة الإسلامية" إن رجوع الأمة للإسلام لم يكن عجباً، "إنما العجب - كان - أن يشردوا عنه ويتجهوا إلى غيره! والعجب الأكبر - كان - أن يثبتوا على هذا الشرود، ولا يرجعوا إلى نبض قلوبهم الطبيعي!"
ولقد كان من أكبر أسباب هذا الشرود - كما بينا من قبل - الفتنة بالحضارة الغربية. حين قال "المثقفون" لأنفسهم: ها هي ذي أوربا كافرة جاحدة، ومع ذلك فهي قوية متحضرة ممكنة في الأرض، وهي رغم عدم تدينها ذات أخلاق! بينما نحن أصحاب دين، ولكننا ضعاف متخلفون، وفضلاً عن ذلك فنحن أمة بلا أخلاق! فلنترك هذا الدين إذن، ولنفعل كما فعلت أوربا حين انسلخت من دينها لتتقدم وتتحضر! ثم جر "المثقفون" بقية الأمة وراءهم، في الظروف التي أشرنا إليها من قبل في فصل "آثار الانحراف".
واليوم يبدو الخطأ في طرفي المعادلة واضحاً بما لم يكن واضحاً يوم بدأت الفتنة.(2/82)
فأوروبا جاحدة كافرةن نعم، وهي تجمع في أيديها كل أسباب القوة. ولكن كفرها وجحودها ليس عديم الأثر في حياتها كما توهم "المثقفون" أول مرة. إنما له تأثيران عميقان في كيانها كله، أحدهما قريب صاحب هذه "الحضارة" منذ مولدها، ويزداد معها على الدوام، والآخر ينتظرها في نهاية المطاف. فأما الأول فهو "القلق" النفسي والعصبي والفكري، لأن الله - الذي فتح عليهم أبواب كل شئ لما نسوا ما ذكروا به، إجراءً لسنة من سنته تعالى - قد أنذر البشرية من قديم، أنها إن عتت عن أمر ربها فقد يغرقها في المتاع الأرضي إلى حين - استدراجاً لها - ولكنه لا يمنحها البركة ولا طمأنينة القلب، فهما من حصيلة الإيمان، لا يمنحهما الله إلا للمتوجهين إليه، الذاكرين له، المقرين بألوهيته، القائمين بعبادته:
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [سورة الأعراف 7/96]
{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [سورة الرعد 13/28]
و"القلق" هو السمة الغالبة على هذه الحضارة منذ يومها الأول، ولكن حصيلته تزداد وضوحاً يوماً بعد يوم، وتقول إحصائياتهم - دائماً - أنه آخذ في الازدياد، سواء في صورة أمراض نفسية وعصبية، أو جنون وانتحار، أو إدمان على الخمر والمخدرات، أو جنوح إلى الجريمة، أو تمزق في علاقات الأسرة وعلاقات المجتمع.. أو..الخ.
وأما التأثير الآخر الذي ينتظر هذه الحضارة في نهاية المطاف فهو الانهيار، الذي تنبأ به كثير من "عقلاء" تلك الحضارة أنفسهم، وإن كانوا لم يملكوا لأنفسهم الفكاك، لأنهم ينذرون غيرهم بالخطر وهم أنفسهم في داخل الكيان المنهار!(2/83)
وحقيقة إن الحضارة الغربية المسيطرة اليوم على البشرية لن تنهار بالسرعة التي يتخيلها بعض الناس حين نتكلم عن الانهيار، لأنها تحمل من أسباب القوة والإيجابية ما يؤخر الانهيار المحتوم.
تحمل قوة العلم. وقوة الصبر والجلد على العمل. وعبقرية التنظيم. والروح العملية في دراسة المشاكل والبحث لها عن حلول. وتحمل تيسيرات نافعة في كثير من جوانب الحياة، تحاول أن ترفع "الجهد" عن كاهل الإنسان وتحمله للآلة. وكل هذه قوى تمسك بالكيان المتساقط، وتمنعه من السقوط السريع، رغم كل "الأوزار" التي تدفع به إلى الانهيار.
نعم.. ولكنها - كلها - لا تستطيع أن تحول دون النهاية المحتومة. لأنها من سنة الله.
أما قضية "الأخلاق" فقد تكشفت عن كونها أخلاقاً "نفعية" لا أخلاقاً حقيقية. جميلة المظهر، نعم، ولكنها عديمة الجذور، لأنها منبتة الصلة بالمعين الحقيقي للأخلاق - وهو الدين - ولذلك أخذت تذوى، وخرج بعد الحرب العالمية الثانية جيل ينسلخ تدريجياً من تلك الأخلاق، وينزلق إما إلى الجريمة، وإما إلى الفوضوية وانعدام المبالاة. والنسبة آخذة في الازدياد!
ومن الجهة الأخرى تبين أن الذي حل بالمسلمين لم يكن نتيجة أنهم مسلمون. إنما كان بسبب الخواء التدريجي الذي حل بكل مفاهيم الإسلام الرئيسية نتيجة خط الانحراف الطويل، الذي فرغ لا إله إلا الله من مدلولها الحقيقي، وحول الإسلام كله إلى تقاليد خاوية من الروح.(2/84)
ووضح هذه الحقيقة بالنسبة للحضارة الغربية من جهة، وبالنسبة لواقع المسلمين في القرون الأخيرة من جهة أخرى، له تأثيره ولا شك في الصحوة الإسلامية، فهو رافد يمدها على الدوام بمدد جديد من الأجيال الناشئة يتزايد باستمرار، كلما بدا عوار الجاهلية المعاصرة واضحاً للأعين، كلما أدرك الناس حقيقة الإسلام كما هي في كتاب الله وسنة رسوله (، وكما كانت مطبقة في حياة السلف الصالح رضوان اله عليهم، وأدركوا إلى جانب ذلك مدى بعد الأمة في وقتها الحاضر عن حقيقة الدين.
وهذا الوعي بهذه الحقيقة - من طرفيها - أمر لا يمكن وقفه!
فلا أوروبا تملك أن تتوقف عن الانهيار الذي هي صائرة إليه بحسب السنن الربانية، ما دامت مصرة على معاندة كل ما يأتي من عند الله. ولا المعرفة بحقيقة لا إله إلا الله، وحقيقة الدين المنزل من عند الله، يمكن وقفها اليوم، وقد صارت عند الشباب بديهيات ومسلمات!
? ? ?
رافد آخر من روافد الصحوة الإسلامية يتمثل في فشل النظم المستوردة في حل مشاكل الناس، وفشل الزعماء العلمانيين في تحقيق ما كانت الأمة تعلقه عليهم من الآمال.
فهذا هو الواقع المشهود بعد قرن كامل من استيراد النظم من غرب أوروبا أو شرقها على السواء.
ضعف متزايد من جانب "المسلمين"، وقوة متزايدة وعدوان مستمر من جانب الأعداء.
تمزقت الدولة الإسلامية الكبيرة، وتفتت العالم الإسلامي إلى أجزاء، ثم تفتت الأجزاء إلى أجزاء. واليوم يطحن الفتات مرة أخرى لمزيد من السحق، ومزيد من التفتيت.
زاد الفقر، وتراكمت الديون الربوية المتفاقمة، ومع بروز طبقة جديدة مستغلة - في ظل "الاشتراكية"! - تجمع في أيديها ثروات خيايلية، مقتطعة كلها ومسروقة من قوت تلك الشعوب.
انهارت الأخلاق وتدهورت القيم، وفقدت الشعوب ترابطها وتماسكها، وتمزقت إلى أفراد أنانيين، أو جماعات متناحرة، وفقدت البلاد طمأنينتها، وصارت في قلق دائم لا تعرف منه طريق الخلاص.(2/85)
اقتطعت من قلب العالم الإسلامي أرض من أقدس الأراضي لتنشأ فيها دولة لليهود، ويجرى التحضير لإقامة دول أخرى غير إسلامية في بلاد المسلمين.
ويجرى العدوان المستمر على المسلمين في كل الأرض: في الهند. في الحبشة. في أريتريا. في الصومال. في أوغندا. في الفلبين. فضلاً عن الحرب الضارية على المسلمين في العالم الشيوعي.
ماذا فعلت النظم المستوردة، وماذا فعل الزعماء العلمانيون، وقد جرت كل هذه المصائب من خلال وجودهم، ,أو جرت على أيديهم، وكانوا هم طرفاً من أطرافها، وسبباً من أسبابها..؟
وحين ييأس الناس من هذه النظم ومن هذه الزعامات.. فإلى أين يتجهون؟!
إنه رافد للصحوة الإسلامية لا يمكن وقفه!
فهذا لنظم المستوردة تصاحبها دائماً عبودية خفية أو ظاهرة لواحد من المعسكرين. والعبودية لا تحدث نهضة ولا تحل مشكلة. أو إن حلت بعض المشاكل فهي تحلها على حساب المصير النهائي للأمة، كالذي يخرج من حفرة ليقع في أكبر منها. حتى يقع في الحفرة التي ليس منها خلاص!
والزعماء المزيفون لا يملكون الخلاص الحقيقي لشعوبهم، لأن ذلك يضر بمصالح الذين يضعونهم في أماكنهم، ويملون عليهم سياستهم! وهم ما وضعوهم في موضعهم هذا إلا ليحققوا مصالح السادة لا مصالح العبيد! فلا السادة يسمحون بالنجاح الحقيقي لأولئك الزعماء لأن هذا ضد مصالحهم، ولا هم بأنفسهم قادرون على النجاح رغم أنف السادة، لأن السادة هم الذين يمنحونهم السلطان، ويوم يخرجون عن طوعهم فما أسهل أن يزالوا من الطريق!(2/86)
ولقد حاول السادة أن يحلوا تلك المعادلة الصعبة بإقامة "زعيم خالد" في كل بلد إسلامي، يحقق مصالح السادة تحت ستار من البطولات الزائفة التي تبهر أعين الشعوب، وتوهمها أنه يعمل لصالحها! ولكن اللعبة تنكشف في النهاية، ويتبين للناس أن زعيمهم الخالد قد أغرقهم في العار والذل، والفقر والفوضى، في أثناء انبهارهم بما يلعب على المسرح من البطولات! وأنهم قد تأخروا في كل سنة من حكمه بما يوازي عدة أضعاف من السنين.
وفي نهاية الشوط، حين تمل الشعوب من اللعبة واللاعبين، تتجه إلى الإسلام بأعداد متزايدة تطلب الخلاص!
? ? ?
والوجود اليهودي في الأرض الإسلامية رافد من روافد الصحوة الإسلامية!
لقد أنشئت الدولة اليهودية في مؤامرة صليبية صهيونية مشتركة كما تبين لنا من تقرير لورد كامبل، لتكون "بمثابة الشوكة تخز العملاق كلما أراد النهوض".
ولقد قامت بدورها بالفعل، وما تزال قائمة.
ولكن.. إلى أين يتجه الناس حين يتضجرون ذات يوم من الوجود اليهودي، وسيطرته السياسية والحربية والاقتصادية والفكرية والثقافية.. وكل مجال من المجالات الحيوية؟!
إن اليهود - برغم كل ذكائهم الشرير = يعملون ضد صالحهم، ولكنهم لا يملكون التوقف عن العمل ضد صالحهم، بسبب الحقد الأسود الذي يملأ قلوبهم ضد الإسلام والمسلمين!
{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [سورة المائدة 5/82]
إنهم يستذلون البلاد العربية ولا يقفون في إذلالها عند حد، لأنهم يريدون السيطرة ويريدون التوسع، فينشئون بذلك رد فعل دائم يتزايد باستمرار.
وقد مر بنا مخططهم الذي كانوا يريدون تنفيذه في الثمانينيات من هذا القرن العشرين. فهل يملكون أن يتوقفوا ويقولوا لأنفسهم: فلنكف عم ذلك، ونقف عند الحد "المعقول" لكي لا يحدث رد الفعل المحذور!
كلا! فإنهم - من حقدهم - لا يكفون. ويسول لهم الشيطان أن يمضوا في العدوان فلا يرجعون.(2/87)
وحين يحدث رد الفعل - كما لابد أن يحدث ذات يوم - فلمن يتجه الناس؟!
أتراهم يتجهون إلى الأحزاب الموالية للغرب، والغرب - على رأسه أمريكا - هو الذي يمد لإسرائيل في الغي، ويشجعها على العدوان؟
أم تراهم يتجهون إلى الأحزاب الشيوعية، التي تصيح في وجه القائل: عيب يا رجل! حرام عليك! ثم تتركه يجهز على فريسته وهو آمن من كل تعويق؟!
إنه لا متجه لهم إلا الإسلام!
واليهود يعرفون ذلك! ويصرحون به أحياناً، ويحذرون منه! ولكن الحقد الأسود في قلوبهم، والرغبة الجنونية في السيطرة والتوسع تمنعهم من التوقف، وتدفعهم إلى مزيد من الشر، ومزيد من الطغيان.
? ? ?
هنالك قدر علوى يدفع الأحداث.. ويدفعها في اتجاه معين.. في اتجاه الصحوة الإسلامية.
إن بواعث الصحوة كلها موجودة، سواء منها ما هو قائم في هذه اللحظة أو ما هو قادم في الطريق.
ولا يملك الأعداء - كما بينا - شيئاً من أمر هذه البواعث. لا يملكون وقف الحضارة الغربية عن الانهيار. ولا يملكون أن يجعلوا علماءهم في المنطقة ناجحين من وجهة نظر شعوبهم. ولا يملكون إلغاء الوجود اليهودي ولا منعه من العدوان المستمر، والطغيان المستمر.
إنهم يملكون - بقدر الله - أمراً واحداً، وهو التقتيل والتذبيح والتشريد التعذيب والاضطهاد. وهذا لا يقضى على الحركة الإسلامية! إنما يصقلها ويمحصها ويجعلها أقدر على المواجهة!
والله هو الذي يدبر الأمور.
وبقدر من الله تعمل الظروف العالمية كلها لتمكين الصحوة الإسلامية وتأصيلها، وجعلها هي الخط البارز في مستقبل البشرية.
وبقدر من الله يسخر أعداء الله كلهم للقيام بهذه المهمة، مهمة تمكين الصحوة الإسلامية وتأصيلها، من خلال أعمالهم "الطبيعية" التي يقومون بها، وبدافع من الحقد الأسود الذي يملأ صدورهم تجاه الإسلام.(2/88)
ولن يكون شئ من هذا نزهة جميلة يتنزه فيها المسلمون، أو طريقاً مفروشاً بالورود. إنما هو العرق والدموع، والدماء والعذاب، والجهد الناصب، والطريق الوعر المخفوف بالمخاوف، وبالوحوش الوالغة في الدماء. يسقط فيه شهيد تلو شهيد. بينما يسير الركب في الحر اللافح وفي الزمهرير. لا يتوقف عن المسير.
{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)} [سورة آل 3/139-142]
وفي النهاية ينصر الله جنوده ويمكن لهم في الأرض حسب وعده الدائم لهم:
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [سورة النور 24/55]
ولا نعلم بطبيعة الحال كيف يكون التمكين.. فلذلك غيب.. ولكنا نستشف من أحاديث الرسول ( بعض الملامح لهذا التمكين.
فاليهود اليوم هم المسيطرون في الأرض، وهم الذين يرسمون سياسة العالم، وهم الذين يخططون ضد الإسلام والمسلمين (426)، وبصفة خاصة في المنطقة المحيطة بإسرائيل.(2/89)
ويقول رسول الله (: طلا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر يا مسلم يا عبد الله، هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله" (427).
واليهود يعرفون هذا الحديث ويؤمنون به. فقد ورد في آخره "إلا الغرقد فهو من شجر اليهود" وهم يغرسون اليوم شجر الغرقد حول بيوتهم في فلسطين غماناً منهم بصحة الحديث.
فنستطيع أن نستشف من ذلك قيام معركة حاسمة بين المسلمين واليهود، يستظل المسلمون فيها براية لا إله إلا الله، لا بالعروبة ولا بالقومية، ولا بالتراب الوطني. وينتصر المسلمون فيها نصراً حاسماً بتقدير الله، ويكون هذا من أحداث التاريخ التي تغير التاريخ.
ويقول (، وهو يستعرض التاريخ المقبل للأمة الإسلامية من لدن نبوته ( كما علمه الوحي: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون. ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها. ثم تقوم خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً فتكون ما شاء الله أن تكون. ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها. ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة. ثم سكت" (428).
فنستشف من ذلك أن هناك فترة مقبلة في حياة المسلمين، يستظلون فيها بخلافة راشدة على منهاج النبوة، تزول فيها الغربة التي يعانيها الإسلام اليوم، وتعود فيها الأمة إلى التمكين.
ونعود إلى الصحوة الإسلامية القائمة اليوم في العالم الإسلامي كله. هل هي الطريق إلى ذلك التمكين الموعود؟!
ذلك غيب لا يستطيع بشر أن يتكهن بهز إنما نقول فقط إنها بشائر على الطريق. فإن علم الله في قلوب هذه الصحوة إخلاصها له وتجردها وصدق إيمانها وصلابة عودها، فيقوم لها طريقها ويعينها على أداء مهمتها. وإلا فسيبدلها:(2/90)
{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)} [سورة محمد 47/38]
وفي جميع الأحوال ينفذ الله قدره:
{إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3)} [سورة الطلاق 65/3]
? ? ?
وحين يمكن اله للأمة المسلمة في الأرض يحدث تغير جذري في حياة البشرية.
إن من تكريم الله لهذه الأمة التي جعلها أمة وسطاً لتكون شاهدة على الناس ويكون الرسول شهيداً عليها، أن جعل أحوال البشرية كلها مرتبطة بحال هذه الأمة. فإن رشدت ومكن لها في الأرض، يعمها الخير، ويمتد منها إلى ربوع الأرض، كما كانت أوروبا تستمد منها في بداية نهضتها بعد أن خرجت من قرونها الوسطى المظلمة نتيجة احتكاكها بالمسلمين في المشرق والمغرب. وإن شردت عن دينها ونسيت ربها شقيت وشقيت معها البشرية. فإن أوروبا الجاهلية التي تحكم البشرية اليوم ما انتفشت وصار لها هذا الوجود الطاغي في الأرض إلا نتيجة انحسار الأمة الإسلامية عن رسالتها، وكل انتفاش انتفشته أوروبا فقد كان على حساب الأمة الإسلامية في صورة استعمار وعدوان وطغيان.
ومن الثغرات التي وجدت في حياة أوروبا الجاهلية نفذ اليهود وسيطروا على البشرية كلها كما بينا في غير هذا المكان (429)، وازداد شقاء البشرية كلها بهذه السيطرة الحاقدة المجنونة التي تعتبر البشر كلهم حميراً خلقهم اله ليركبهم شهب الشيطان.
وحين تعود الأمة الإسلامية إلى إسلامها الحق، ويمكن لها الله في الأرض حسب صادق وعده، تتغير ملامح كثيرة في الأرض.
لقد جاء الإسلام أول مرة والبشرية على حافة الهاوية، كما عبر "ج. هـ دينيسون" في كتابه "العواطف كأساس للحضارة
"Emotions as the Basis of Civilization(2/91)
"ففي القرنين الخامس والسادس كان العالم المتمدين على شفا جرف هار من الفوضى.لأن العقائد التي كانت تعين على إقامة الحضارة كانت قد انهارت، ولم يك ثم ما يعتد به مما يقوم مقامها. وكان يبدو إذ ذاك أن المدنية الكبرى التي تكلف بناؤها جهود أربعة آلاف سنة مشرفة على التفكك والانحلال، وأن البشرية توشك أن ترجع ثانية إلى ما كانت عليه من الهمجية، إذ القبائل تتحارب وتتناحر، لا قانون ولا نظام. أما النظم التي خلقتها المسيحية فكانت تعمل على الفرقة والانهيار بدلاً من الاتحاد والنظام. وكانت المدنية كشجرة ضخمة متفرعة امتد ظلها إلى العالم كله، واقفة تترنح وقد تسرب إليها العطب حتى اللباب. وبين مظاهر هذا الفساد الشامل ولد الرجل الذي وحد العالم جميعه (430).
واليوم تشرف البشرية على التحلل والانهيار مرة أخرى بقيادة الجاهلية المعاصرة. كما يشهد "عقلاؤها" في صيحات متوالية يطلقونها بين الحين والحين، ولكنها تضيع في الدوامة المجنونة التي تلف البشرية.
ولن ينقذها من الدمار إلى الإسلام.
تماماً كما حدث أول مرة. مع فارق واحد: أن العداوة المرصودة في طريق الإسلام اليوم أشد مما كانت أول مرة.
ومع ذلك فإن الضياع التي تعيشه البشرية في أزمتها الحاضرة يدفع ألوفاً من البشر كل عام ممن يبحثون عن طريق الخلاص أن يدخلوا في الإسلام في أوروبا وأمريكا وأستراليا وآسيا (431) وأفريقيا.
ولو كان الإسلام حاضراً في هذه اللحظة، ممثلاً في مجتمع إسلامي حقيقي، لكانت هذه الألوف قد أصبحت ملايين! فالإسلام هو الحل الحقيقي لكل مشكلات البشرية.
إن المشكلة الأولى للبشرية اليوم - في ظل الحضارة الغربية - أنها تستكبر على الهدى الرباني، لأن "الدين" مثل لها على يد الكنيسة الأوروبية غولاً بشعاً يأكل أموال الناس وأرواحهم وعقولهم، ويمنعهم من ارتياد العلم، ويمنعهم من تعمير الأرض، ويصرف همهم إلى الآخرة بنبذ الحياة الدنيا (432).(2/92)
ومن هذه النقطة الرئيسية المبدئية جاء الشقاء كله، حين تحكمت "عقول" البشر، أو بالأحرى أهواؤهم وشهواتهم في رسم منهج الحياة، فوقع الذل والظلم سواء في الرأسمالية أو الشيوعية. سواء في الفردية أو الجماعية. سواء في الأخلاقية النفعية أو اللاأخلاقية. وتردت البشرية فيما تردت فيه من فوضى الجنس والتحلل الخلقي والسعر المادي والصراع الوحشي في غياب الشريعة الربانية والمنهج الرباني.
والذي يحل هذه المشكلة الرئيسية المبدئية هو الإسلام.
لأنه الدين الذي يعطى الألوهية قدرها الحق، ويكرم البشرية في ذات الوقت بتكريم الله:
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70)} [سورة الإسراء 17/70]
الدين الذي يربط الكائن البشرى باله بالحب العميق إلى جانب التوقير والخشية، ولا يجعل العبادة قهراً للعباد بل تكريماً لهم ورفعة ونوراً وشفافية.
الدين الذي يصفي النفس من كردها الحيوانى، وفي الوقت ذاته لا يكبت دوافع النفس التي خلقها الله لكي تعمل لا لكي تكبت. ولكن تعمل في أفقها العالي الجدير "بالإنسان".
الدين الذي لا يفصل بين النزعة الفطرية للعبادة، والنزعة الفطرية للعلم، ولا يقيم بينهما الخصومة والعداوة وهما توأمان أصيلان في بنية الفطرة، يعملان معاً، فيتوازن كيان الإنسان.
وهو الدين الذي يحوى المنهج الرباني لتوجيه الحياة البشرية في كل اتجاهاتها: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والروحية والخلقية والفنية. المنهج الذي أنزله اللطيف الخبير. العليم الحكيم. الذي خلق النفس البشرية وهو أعلم بما يصلحها وما يصلح لها. وأعلم بأدوائها وبطريقة شفائها.
والذي يصد البشرية عن هذا الدين عوامل كثيرة في آن واحد.
الروح الصليبية التي نشرتها الكنيسة الأوروبية تجاه الإسلام عامل من هذه العوامل.(2/93)
والعداوة اليهودية للإسلام عامل من هذه العوامل.
وإفساد مفهوم"الدين" على يد الكنيسة عامل من العوامل.
والهبوط الذي أحدثته الجاهلية المعاصرة في نفوس البشرية عامل من العوامل.
والجهل بحقيقة الإسلام عامل من ا لعوامل.
ولكن واقع المسلمين اليوم، وبعدهم الشديد عن حقيقة الإسلام سواء في التصور أو السلوك، لهو من أشد العوامل التي تصد الناس عن الإسلام.
وكما كان سلوك المسلمين الأوائل، الملتزمين بالإسلام، عاملاً من عوامل نشر الإسلام في ربوع فسيحة من الأرض، فكذلك نجد سلوك من ينتسبون إلى الإسلام اليوم من أكبر عوامل الصد عن الإسلام، بكل ما يحملون من التخلف في جميع الميادين، وسوء الأخلاق في جميع المعاملات.
وليس المطلوب من المسلمين أن يسبقوا أوروبا في المخترعات والعلوم لكي تقبل أوروبا على الإسلام! فليس الذي ينقص الغرب هو العلوم والمخترعات!
إنما الذي ينقصهم هو "المنهج" الصحيح للحياة. المنهج الذي يأخذ الإنسان كله - في شموله وتكامله - لا جانباً واحداً من جوانبه، ويطلق الطاقات البشرية تعمل، ولكن في توازن واتساق.
ينقصهم أن يزيحوا من حياتهم كل الآلهة المزعومة التي ألهوها في جاهليتهم المعاصرة: إله القومية والوطنية. إله العلم. إله العقل. إله الإنتاج المادي. إله الجنس. إله الهوى. إله الشهوات. ويعبدوا الله وحده بلا شريك، ومن ثم يطبقوا منهجه وحده بلا شريك. وعندئذ يصبح كل ما يملكون من الطاقات الإيجابية قوة بانية لأنها مهتدية بالهدى الرباني، ولا تكون فتنة مردية كما في اليوم، تبعدهم عن طريق الله كلما حققوا قدراً من التمكين في الأرض، فتزيدهم طغياناً، وتزيدهم - من ثم - قرباً من الدمار.
وهذا المنهج القائم على عبادة الله وحده، والمستمد من عبادة الله وحده. هو الذي يقدمه الإسلام. وهو الذي يملك المسلمون أن يهدوه للبشرية ويهدوها إليه. حين يستقيمون هم على الطريق.(2/94)
والمأمول في الصحوة الإسلامية أن تصل إلى تحقيق هذه الاستقامة التي تنير للبشرية الطريق.
ولن يكون هذا جهداً هيناً كما قلنا من قبل، بالنظر إلى العداوات الضخمة المرصودة للإسلام، والحرب الضارية المعلنة عليه، وجهل الأمة بحقيقة دينها، وبعدها عن حقيقته، سواء في التصور أو السلوك.
ولكن المبشرات كما قلنا أثقل بكثير من المعوقات.
إن المعوقات تمثل الحاضر القائم في هذه اللحظة، كما تمثل المستقبل القريب الذي يحاك للمسلمين على يد الصليبية الصهيونية الحاقدة.
ولكن المبشرات تمثل المستقبل الكبير الذي ينتظر الأمة الإسلامية وينتظر البشرية كذلك.
والمبشرات أثقل من المعوقات لأنها هي المتمشية مع الدلالة التاريخية. دلالة بروز الصحوة الإسلامية في الوقت الذي تؤذن فيه الحضارة الغربية بالانهيار.
والمعوقات قائمة اليوم، وفي المستقبل القريب، لأنه لا الحضارة الغربية قد انهارت انهيارها الكامل، ولا الصحوة الإسلامية قد استكملت كيانها الكامل، وحين يقع الصراع بين قوتين على هذه الصورة تكون الغلبة في الجولات الأولى للكيان الذي يملك أسباب القوة المادية وإن كان آيلاً للسقوط، لأن الكيان الذي يملك الحق يكون ما يزال بعد في مرحلة الاستضعاف والابتلاء.
ثم يجرى السنن الربانية مجراها، ويخرج المؤمنون من الاستضعاف إلى القوة ممثلة في قاعدة مؤمنة صلبة مجاهدة صابرة محتسبة، تلتقي مع الجاهلية وجهاً لوجه، فيؤيد الله بنصره الفئة المؤمنة المجاهدة، وينصرها على أضعافها من المشركين:
{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ (433) وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ (13)} [سورة آل 3/13](2/95)
وقد انتهي دور الرجل الأبيض كما قال برتراندرسل قبل سنوات. لا لأنه لم يعد يملك القوة العسكرية ولا القوة المادية ولا القوة العلمية. ولكن لأنه أصبح عاجزاً عن أن يصنع من ذلك كله "زاداً" صالحاً للحياة.
إنما الذي يملك الزاد هو الإسلام.
وحين تتجه البشرية إلى الإسلام، فعندئذ فقط يصبح التقدم العلمي والتكنولوجي دافعاً إلى الأمام، ومعيناً على الخلافة الراشدة، بدلاً من وضعه الحالي الذي يدفع البشرية إلى الانحلال النفسي والخلقى، كما يدفعها إلى الدمار.
والدلالة التاريخية التي أبرزت الصحوة الإسلامية إلى الوجود اليوم، في الوقت الذي تميل فيه الحضارة المادية الغربية إلى الهبوط، هي قدر الله الغالب، الذي يشير إلى المستقبل.
المستقبل للإسلام.
تلك دلالة التاريخ.
والتاريخ في حقيقته هو مجرى السنن الربانية في واقع الأرض.
وحين تقف الجاهلية كلها تحارب قدر الله، فمن يكون الغالب، ومن يكون المغلوب؟
{كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)} [سورة المجادلة 58/21]
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21)} [سورة يوسف 12/21]
? ? ?
(1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد.
(2) تحدثت عن هذه المفاهيم في كتاب مستقل بعنوان: $مفاهيم ينبغي ان تصحح#.
(3) أخرجه مسلم.
(4) أخرجه أحمد, وأبو داود بسند صحيح.
(5) أخرجه الشيخان.
(6) في كتاب $دراسات قرآنية#.
(7) انئر إن شئت كتاب $دراسات قرآنية# الفصول الأولي بعنوان $الإيمان بالله#, $الإيمان باليوم الآخر#, $الإيمان بالملائكة والكتاب والنبيين#, $قصص الأنبياء#, $آدم والشيطان#, $أخلاقيات لا إله إلا الله#, وكذلك فصل $كيف تربت الجماعة الأولي#, من كتاب $منهج التربية الإسلامية# الجزء الثاني.
(8) انظر إن شئت فصل: $خطوط متقابلة# في كتاب $منهج التربية الإسلامية# الجزء الأول.
(9) أخرجه مسلم.
(10) أخرجه مسلم.(2/96)
(11) أخرجه أحمد وأبو داود.
(12) جاء في حديث $هذا جبريل أتاكم يعلمكم امر دينكم#: $قال: وما الإحسان؟# قال: $أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك# رواه الشيخان.
(13) انظر فصل $مفهوم لا إله إلا الله# من كتاب $مفاهيم ينبغي أن تصحح#.
(14) انظر تفسير ابن جرير (1/80).
(15) أخرجه أحمر وأبو داود وابن ماجة والدارمي.
(16) رواه الحاكم في المستدرك (3/598).
(17) يقول تعالي في سورة الصف {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)} [سورة الصف 61/4].
(18) يقول (: "مثل المؤمنيني في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكي منه عضو تداعي له سائئر الجسد بالحمي والسهر" متفق عليه.
(19) سألت أسماء رضي الله عنها رسول الله ( هل تصل أمها المشركة فقال لها: "نعم صلي أمك". رواه الشيخان.
(20) رواه الشيخان.
(21) من خطبة رسول الله ( في حجة الوداع.
(22) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه بسند صحيح.
(23) بل إن الذين بقوا علي دينهم النصاري في مصر والشام وغيرها نسوا لغاتهم الأصلية تماماً, ولم يعد لهم لسان إلا العربية علي الرغم من أنهم لم يعتنقوا هذا الدين.
(24) راجع إن شئت فصل "الديمقراطية" في كتاب "مذاهب فكرية معاصرة".
(25) راجع وصف أحوالهم في كتب السيرة.
(26) قال تعالي: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [سورة الحديد 57/25].
(27) من حديث "هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم" رواه الشيخان.
(28) لم تتسلم النصرانية ولا اليهودية القيادة إلا حين تقاعست الأمة الإسلامية عن رسالتا كما سيجئ فيما يلي من فصول الكتاب.
(29) أخرجه البخاري.
(30) في كتاب "مذاهب فكرية معاصرة" تفصيل لهذه القضايا.
(31) أخرجه الشيخان.
(32) أخرجه مسلم.
(33) رواه البيهقي.(2/97)
(34) عن كتاب "تجديد التفكير الديني في الإسلام" لمحمد إقبال ترجمة الأستاذ عباس محمود ص: 150.
(35) انظر - إن شئت - فصل "مفهوم العبادة" في كتاب "مفاهيم ينبغي أن تصحح".
(36) رواه ابن ماجه عن أنس.
(37) انظر - إن شئت - فصل "الإلحاد" من كتاب "مفاهيم فكرية معاصرة".
(38) انظر كيف تأخذ الأسطورة جانبا من الحقيقة ثم تشوهها!.
(39) ثبت لدي العلماء الآن أن الكون حادث, وأنه وجد بعد عدم, فليس أزلياً, كما يقول العلماء إنه صائر إلي الزوال فليس أبدياً.
(40) وخاصة في صورة حبوب.
(41) راجع إن شئت فصل "دور اليود في إفساد أوربا" من كتاب "مذاهب فكرية معاصرة".
(42) سبقت الإشارة إليه.
(43) ظلت نظريات ابن الهيثم تدرس في أوربا حتي القرن التاسع عشر لبراعته العليمة وأصالة نظرياته.
(44) انخدع المسلمون في الفسلفة فظنوها نافعة لهم فنقلوها, وكان ذلك خطأ غير مقصود كما سيجئ.
(45) انظر في المقابل قول طه حسين في عصر الانبهار: من لم يقرأ الأساطير الإغريقية فلن يستطيع أن يكون أديباً.
(46) انظر في المقابل كيف تميع المسلمون وذابت شخصيتهم في حركة النقل الأخيرة فقدوا أصالتهم.
(47) في كل المساجد الكبري في العالم الإسلامي وجدت مدارس لنشر العلم, رصدت لها الأوقات للإنفاق علي المعلمين والمتعلمين, بحيث يتفرغ الجميع للعلم غير منشغلين بأمور المعاش.
(48) راحع تاريخ البيمارستانات التي كانت تقام لعلاج المرضي بالمجان.
(49) لا نجزم بأن هذه سنة... وإن كان هناك من الظواهر التاريخية ما يساعد علي هذا الافتراض. وفي هذه الحالة قد يكون الترف الذي يصيب الأمم القوية هو "الداء" الذي يؤدي إلي الفناء.(2/98)
(50) عند هذه النقطة يزيغ كثير من الزائغين فيقولون إنه ليس في الإسلام نظام للحكم! ويبررون بذلك تفلتهم من إقامة "الحكم الإسلامي" الذي أمر به الله, والذي يعرفون جيداً في دخلية أنفسهم أنه غير النظم المستوردة التي يسعون إلي تطبيقها! ثم يلتبس الأمر علي كثير من المخدوعين, بسبب الغزو الفكري من ناحية, والعبد الطويل عن النظام الذي تحكمه شريعة الإسلام من جهة أخري, فيصدقون هذه الفرية عن دين الله, ويتصورونه عقيدة وشعائر تعبدية فحسب, أو مجموعة مواعظ خلقية لتهذيب الضمير, لا علاقة لها بالهيمنة علي واقع الحياة السياسي والاقتصادي والاجتماعي... تماماً كما كان الدين الكنسي الأوروبي المحرف! والذي ينبغي أن نجعل بالنا إليه أن شكل الحكم في النظم البشرية له أهمية بالغة لآن "مصدر السلطة" يختلف في كل شكل منها عن الآخر, ويتلف بالتالي أسلوب التشريع ووجهنه. فتختلف الملكية المستبدة عن الملكية المقيدة, وتختلف الجمهورية عن الملكية, والدكتاتورية عن الديمقراطية... وهكذا. ام في الإسلام فمصدر السلطة واحد لا يتغير مهما تنوعت صورة الحكم؟ ذلك أن الحاكمية في الإسلام ليست للبشر, إنما هي لله. وحيث لا يوجد نص فالفقهاء يجتهدون, ولكن اجتهادهم مقيد في النهاية بمقاصد الشريعة, وبنصوصها العامة, ومن ثم فالتشريع محكوم في النهاية بكتاب الله وسنة رسوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [سورة النساء 4/59].(2/99)
وصحيح أن الأمة الإسلامية - في وضعها الصحيح - هي التي تختار ولي الأمر ببيعة حرة. ولكن هذا الاختيار الحر - وحده - لا يعطي الحاكم الشرعية. إنما الذي يعطيه الشرعية هو الحكم بما أنزل الله. فإن توفر له الاختيار الحر من جانب الأمة ولم يتحقق منه الحكم بما أنزل الله لم يكن حكمه حكماً إسلامياً. ومن ثم فإنه إذا ركز علم السياسة الغربي تركيزاً كبيراً علي شكل الحكم, للاختلاف البيّن الذي يترتب عليه في تحديد "مصدر السلطة" فإن علم السياسة الإسلامي يركز بشدة علي "الحكم بما أنزل الله" لأنه هو الذي يعطي الشرعية للسلطة. وكل حكومة تحكم بما أنزل الله فهي حكومة شرعيية بصرف النظر عن "الشكل" الذي تقوم عليه. وإن كانت التجربة التاريخية تقرر أن الخلافة الراشدة هي النظام الأمثل, لأنها هي الأكمل تطبيقاً لشرييعة الله.
(51) رواه أبو داود والنرمذي.
(52) قال ( : "الخلافة بعدي ثلاثون عاماً ثم يأتي الملك العضوض" أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (7/269) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
(53) أخرجه مسلم.
(54) انظر إن شئت فصل "العقلانية" من كتاب "مذاهب فكرية معاصرة".
(55) سبقت الإشارة إليه.
(56) انظر إن شئت فصل "مفهوم لا إله إلا الله" من كتاب "مفاهيم ينبغي أن تصحح".
(57) وشبيه به ما حدث في الأندلس كذلك.
(58) شخصية السندباد أسطورية وكذلك رحلاته, ولكنها ترمز إلي واقع كان قائماً بالفعل.
(59) عن كتاب "تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي" للدكتور حسن إبراهيم حسن. ج2 ص: 442-443, الطبعة السابعة 1964.
(60) المرجع السابق ج3 ص457-458.
(61) ليس معني هذا بطبيعة الحال أن كل مجالات الحضارة قد انحرفت أو أنها انحرفت دفعة واحدة, فقد بقي خير كثير - كما سيجئ - لأنه ظل محتفظاً بالقيم الإسلامية, ولكن - في النهاية - حين غلب الانحراف علي الأصل وقع الانهيار الحتمي حسب سنة الله.
(62) متفق عليه.
(63) متفق عليه.(2/100)
(64) ينبغي أن نذكر هنا أن كثيراً ممن ينتمون إلي الصوفية كانوا مجاهدين في سبيل الله, ونشروا الإسلام في بقاع من الأرض في أفريقيا وآسيا لم يصل إليها غيرهم, وهؤلاء زهاد في الحقيقة وإن انتموا إلي الصوفية من حيث الشكل, وهؤلاء لا ينطبق عليهم كل ما نقوله هنا عن الصوفية.
(65) انظر إن شئت فصل "مفهوم القضاء والقدر" من كتاب "مفاهيم ينبغي أن تصحح".
(66) رواه الترمذذي وابن ماجه.
(67) أخرجه مسلم.
(68) يتصايح الفارغون والفارغات بأن الحجاب ليس "إسلامياً" إنما هو تقليد عربي بدوي أبقاء المسلمون بعد إسلامهم محافظة علي التقاليد الموروثة ليس غير! ويتبجحون بإنكار وقائع التاريخ. تقول عائشة رضي الله عنها: رحم الله نساء الأنصار. لما نزلت آية الحجاب عمدت كل واحدة منهن إلي ثثوبها ففاعتجرت به (أي: لفته فوق رأسها ووجهها) فهو لم يكن تقليداً معمولاً به قبل الإسلام, إنما هو أمر به الله تعالي فنفه المسلمون.
(69) يعتقد كثيرون أن الدولة العثمانية هي التي أغلقت باب الاجتهاد, وهذا غير صحيح. فقد أقفل باب الاجتهاد منذ القرن الخامس الهجري, إنما المأخوذ علي الدولة العثمانية أنها لم توافق علي إعادة فتحه حين باققتضت الظروف ذلك.
(70) كان وجود اليهود والنصاري في بلاط الخلافة من المخالفات التيي وقعت فيها الدولة العباسية ثم العثمانية رغم التحذير الرباني بعدم اتخاذ بطانة من غير المسلمين.
(71) راجع إن شئت كتاب "مفاهيم ينبغي أن تصحح".
(72) من معلقة الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمي.
(73) تقابلها درجات مختلفة من الجنة.
(74) أخرجه ابن عساكر عن أنس رضي الله عنه.(2/101)
(75) كان الغزالي - في القرن الخامس - علي الرغم من اتجاهه الصوفي المعروفف يتحدث عن فروض العين وفروض الكفاية من العلوم والمعارف, ويضع الدنيوية في فروض الكفاية التي تأثم الأمة في مجموعها إن لم يقم بها القادرون من أبنائها... ولكن جاء عصر بعد ذلك سقطت فيه هذه العلوم نهائياً من حساب الأمة.
(76) بينا من قبل في الكلام عن "خط الانحراف" أن الدنيا تذم في القرآن وأحاديث الرسول ( حين تصد الإنسان عن الإيمان بالله أو عن الجهاد في سبيله. ولكن توجيهات الإسلام صريحة في وجوب المشي في مناكب الأرض وابتغء فضل الله, وعمارة الأرض بمقتضي منهج الله.
(77) سنتحدث عن الغزو الصليبي فيما بعد.
(78) نتحدث عن التخلف الحربي في الفقرة التالية.
(79) لا شئ يبرر الانحراف عن سبيل الله, والتقاعس عن الجهاد وإعداد العدة له!.
(80) راجع - إن شئت - فصل العقلانية من كتاب "مذاهب فكرية معاصرة".
(81) ولفرد كانتول سميث, الإسلام في التاريخ الحديث, الطبعة الرابعة سنة 1966, ص105-106.
(82) كتب ماجلان إلي البابا عدة مرات يطلب الإذن له بإعداد "رحلة" إلي الفلبين لإخضاع "الكفار" (أي المسلمين) لحكم الصليب, وأخيراً أذذن له البابا فقام برحلته "العلمية الاستكشافية"! ولما حاول رفع الصليب علي الأرض الإسلامية قتله المسلمون. ونحن ندرس لأبنائنا أن "المتبربرين" قتلوه, لأنهم لم يقدروا قيمة الرحلة الاستكشافية العظيمة!
(83) انظر من كتابات المسلمين - علي سبيل المثال - رحلة ابن بطوطة!
(84) كما حدث في مصر والشمال الأفريقي.
(85) كما حدثث في وسط أفريقيا وغربها.
(86) كما حدث في الهند وأندونسيا.
(87) الإسلما علي مفترق الطرق, ترجمة عمر فروخ مقتطفات ص 52-58.
(88) راجع شهادته في الصفحات السابقة.
(89) راجع تصريحات مجموعة منهم في كتاب "التبشير والاستعمار" لعمر فروخ وزميله.
(90) سنتكلم عن هذه الوسائل في الفقرة التالية بعنوان "الغزو الفكري".(2/102)
(91) يعمل المسملون الممارسون لدينهم من الذين يعيشون في أوروبا أو يزورونها مدي الحقد الصليبي الكامن في قلوب الأورروبيين تجاه الإسلام!ز
(92) مبشر بروتستانتي كان له نشاط تبشيري واسع في البلاد الإسلامية, وأوصي قبل لموته بأن يدفن في مقابر اليهود.
(93) راجع "الغارة علي العالم الإسلامي" ترجمة محب الدين الخطيب.
(94) لا عبرة بما يقوله زويمر من أن هدف الصليبيين لم يكن هو تنصير المسلمين, ولا عبرة بتعليله, السمج أن التنصير شرفف لا يستحقه المسلمون! فتلك محاولة منه لتغطية الفشل الذي لقييه المبشرون في عملية التنصير, كما قال الثثعلب حين عجز عن الصعود إلي كرمة العنب إنه عنب حصرم!.
(95) يعرف الذين يعيشون في أوربا من المسلمين كم يثيررهم منظر الفتاة المسلمة المتحجبة إلي حد للا يستطيعون إخفاءه!.
(96) الغارة علي العالم الإسلامي ص 57-58, الدار السعودية للنشر, جدة.
(97) ركز الصليبيون في م حاولتهم القضاء علي الإسلام علي نقطتين رئيسيتين: الآستانة والقاهرة. الآستانة بباعتبارها مركز القوة والسياسة والعسكرية للعالم الإسلامي, والقاهرة باعتبارها مركز الإشعاع الروحي والثقاقي. ولكن جهودهم في الآستانة كانت سياسية وعسكرية في المقام الأول, بينما كانت جهودهم في القاهرة فكرية وثقافية في المقام الأول. لذلك فإننا - في مجال الغزو الفكري - نركز علي التجربة المصرية, وسنتعرضض للتجربة التركية في أثناءء السرد التاريخي.
(98) يلاحظ رداءة أسلوب الترجمة ولكن هكذا كانت الأساليب في ذلك الوقت أقرب إلي العامية منها إلي العربية الفصحي. والإشارة واضحة إلي شعار الثورة الفرنسية: "الحرية الإخاء المساواة" ومعلوم جيداً أن هذا هو نفس شعار الماسونية!(2/103)
(99) هنا يذكر نابليون بصراحة أن أحد أهداف الحملة هو الانتقام من المماليك الذين يتعاملون مع الفرنسيين المقيمين في منطقة نفوذهم (مصر والشام) "بالذل والاحتقار", والذين يكتبون عن "مآثر" الحملة الفرنسية علي مصر يغفلون الكلام عن هذذه النقطة الصليبية المقنّعة!.
(100) يكاد المريب يقول خذوني!.
(101) لم أفهم ما دخل "الجريجية" (وهم اليونانيون المقيمون في مصر) في منشور موجه للمسلمين ليطمئنهم علي أن نابليون مسلم مثلهم!!.
(102) انظر نص المنشور بكامله في كتاب "عجائب الآثار في التراجم والآثار" لعبد الرحمن الجبرتي, ص 182-183 طبع دار الجيل ببيروت.
(103) هو الشيخ الشرقاوي, وكان نابليون شديد الحنق عليه!.
(104) انظر Near East; Culture and Society, Edited b T. Culer Young: .
(105) راجع الجزء الثاني ص 231, 244-251, 272 - 273, 302, 436-437.
(106) نادراً مايذكر هذا التصريح رغم خطورته راجع موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية ص 243, نشر مؤسسة الأهرام سنة 1979, مادة "الصهاينة المسيحيون".
(107) راجع إن شئئت فصل "دور اليهود في إفساد أورببا" من كتاب "مذاهب فكرية معاصرة".(2/104)
(108) قاتل المصريون الحملة الفرنسية ببسالة وشجاعة نادرة, ولكن لا بوصفهم "مصريين" إزاء "فرنسيين" كما تصور كتب التاريخ التي يتداولها الطلاب والدارسون, إنما بوصفهم "مسلمين" يقاتلون الكفار الذين يحتلون أرضهم. والدليل علي كونها حرباً جهادية إسلامية ضد "الصليبين" أن علماء الدين كانوا هم قادتها, وأن غضب نابليون قد انصب علي الأزهر بوصف عنصر المقاومة للغزو الصليبي... وتأتي قمة الدلالة في كون سليمان "الحلبي" الذي قتل كليبر لم يكن "مصرياً" إنما كان "مسلماً" دفعه إسلامه إلي قتل قائد الحملة الصليبية الموجهة إلي أرض إسلامية. ذلك أن دعاوي "الوطنية" لم تكن قد برزت بعد, ولم تكن هي الدافع الذي دفع المصريين إلي قتال الفرنسيين. ومن التزوير علي التاريخ أن نقدمه للدارسين علي النحو الذي نقدمه به اليوم... وهذا ذاته من تأثير الغزو الفكري الذي توغل في قلوب "المسلمين"!.
(109) ليس من باب المصادفة أن اليين اختيروا للأدوار الكبري في حرب الإسلام, كانوا متصصفين بجنون العظمة وقسوة القلب من أمثال محمد علي, وكمال أتاتورك, وجمال عبد الناصر... ذلك أنهما صفتان لازمتان لمثل هذا الدور "العظيم"!.
(110) حبذا لو قام أحد الباحثين بتحقيق هذه القضية لخدمة الحقائق التاريخية.
(111) كانت الدعايات حول محمد علي "الكبير" تقول عنه إنه كان رجلاً داهية!! فلم يكن الذي ينقصه إذن هو الوعي!.
(112) انظر كيف انقلبت المعايير في القضية ذاتها بعد الهزيمة الأخيرة فوجد في "المسلمين" من يقول (في مجلة روز اليوسف) إلي متي نظل رجعيين! يكون الواحد سائراً مع زوجته في الطريق فتلتقي بصديقلها, فيصر الزوج علي الوقوف ليستمع لما يدور بين الزوجة والصديق!.
(113) نزلت هذه الآية بعد هزيمة المسلمين في أحد.
(114) راجع - قبل صفحات - قول أحد المبشرين: هل الأزهر خطر علي كنيسة المسيح؟.(2/105)
(115) كان هذا هو اللقب الذي أطلق علي الحاكم البريطاني في مصر في مبدأ الأمر.
(116) لورد كرومر, مصر الحديثة Modern Egypt الجزء الأول, الصادر سنة 1905.
(117) قرأت هذا النص في الجزء الأول من كتاب "التبشير والإرساليات التبشييرية Mission & Missionaries وهو منن الكتب الممنوع إخراجها في مكتبة المتحف البريطاني, ولكن أحد الأصدقاء كان قد عثر عليه في بيت أحد الأقباط في أسيوط, فأطلعني عليه ثم استرده, ثم فقد منه في أثناء عملية اعتقاله بتهمة "الإسلام" في أحداث عام 1965! فيرجي ممن يستطيع الاطلاع علي الكتاب توثثيق النص مشكوراً.
(118) كنت "الفيلا" ذات الحديقة الواسعة في ضواحي القاهرة تئجر بمائة وخمسين قرشاً, وكانت أقة السكر (أي ما يوازي الكيلو وربع الكيلو) تباع بقرشين ونصف القرش, وكانت عشر بيضات كبار بقرش واحد... وقس علي ذلك بقية تكاليف الحياة!.
(119) البيت للمتنبي.
(120) يعلم دارسو اللغات الأجنبية "الحية" أن النحو والصرف في اللغة الفرنسية معقد أشد التعقيد, فتصرف الأفعال فيها يقع في ثلاث مجموعات علي ثلاث صور مختلفة, ثم في كل مجموعة شواذ بنتسبون إليها ولكن لا يصرفون مثلها! ولكل فعل - أيا تكن المجموعة التي ينتسب إليها - ستة تصريفات مختلفة تمثل صيغ الزمن المختلفة (لا ثلاثة فقط كما هو في اللغة العربية: الماضي والمضارع والأمر) كما أن الهجاء فيها معقد ومخالف للمنطوق, فضلاً عن التأنيث والتذكير علي غير منطقق واضح, أما اللغة الإنجليزيية فقد تكون أيسر من الفرنسية ظاهراً, ولكن التراكيب الاصطلاحية فيها (idioms) غير قياسية ولا بد من حفظ كل واحد منها علي حدة. وللأفعال فيها ست صيغ للزمن كما للفرنسية بدلاً من الثلاث الصيغ العربية. والهجاء غير قياسي, وبالذذات بالنسبة لمجموعة الحروف OUGH والتي ترد علي ستة أنحاء مختلفة في النق مثل: Enough Dough Thought Thorough Through.(2/106)
(121) كلمة "فقي" (وأصلها فقيه) تعني في المفهوم العامي المصري الرجل الذذي يقرأ القرآن علي المقابر لقاء دريهمات... وهو رجل "يستؤجر" لهذا الأمر, ولا احترام له عند الناس.
(122) تم صرف المسلمين في تركيا عن تراثهم الإسلامي ببتغيير الحروف العربية, وكتابة اللغة التركية بالأحرفف اللاتيينية علي يد أتاتورك, وتصفية اللغة التركية من معظم الكلمات العربية التي تتضمنها للتنشأ أجيال تعجز عجزاً كاملاً عن الاتصال بتراثثها الإسلامي, فتنقطع عنه وتنشأأ بلا دين. وقد قامت في مصر محاولات مشابهة علي يد عبد العزيز ففهمي وغيره, ولكنها ولدت ميتة ولم يقدر لها النجاح.
(123) اقرأ - إن شئت فصل "العلمانية" في كتاب "مذاهب فكرية معاصرة".
(124) في النية إصدار كتيب بعنوان "منهج لدرس الدين".
(125) نقول "شهيرة" لأنها انتقلت من مصر إلي معظم بلدان العالم العربي!.
(126) يخفي عن التلاميذ عمداً أحوال الوثنيين في أفريقيا وآسيا.
(127) أو ملحد ينكر وجود الله ألبتة.
(128) قدّر الله أن يكون البشر أحراراً في أفعالهم ومسئولين عنها, ومقتضي ذلك أن يختلفوا فيؤمن بعضهم ويكفر بعضهم الآخر, {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً}[سورة هود 11/118], أي بقهرهم علي الإيمان, ولكنه لم يشأ ذلك سبحانه.
(129) عرضت لهذه النقطة بشئ من التوسع في كتاب "المستشرقون والإسلام".
(130) عرضت لهذا النقطة أيضاً بشئ من التوسع في كتاب "كيف نكتب التاريخ الإسلامي".
(131) في مكان كلية تجارة القاهرة في الوقت الحاضر.
(132) في مكان فندق الهليتون بميدان "التحرير!" في الوقت الحاضر.
(133) راجع كلام كرومر قبل صفحات.
(134) العلمانية كما بينا في كتاب "مذاهب فكرية معاصرة" ترجمة مزيفة لكلمة Secularism التي تعني إقامة الحياة علي أسس غير دينية, والأولي -كما قلنا في ذلك الكتاب -أن تسمي "اللادينية".
(135) راجع "خط الانحراف".(2/107)
(136) تناولت هذه القضية في كيتاب "منهج الفن الإسلامي" ولا مجال هنا للتفصيل.
(137) لم نكن النهاية واضحة في القرن الماضي كما هي واضحة اليوم, ولكن ذوي الحس السليم كانوا يرونها ولا شك.
(138) كان بين المترجمين والناشرين نصاري لبنانيون. وصلتهم بمخطط الصليبية واضحة.
(139) سسنكلم فيما يلي عن عملية تحطيم التقاليد عن طريق "تحرير المرأة".
(140) راجع هذه المقدمة في كتاب "الغارة علي العالم الإسلامي" ترجمة محب الدين الخطيب.
(141) راجع البروتوكول رقم (2) من بروتوكولات حكماء صهيون.
(142) راجع إن شئت فصل"دور اليهود في إفساد أورربا" من كتاب "مذاهب فكرية معاصرة".
(143) قام بالترويج لهذه الأفكار في مصر اثنان من الصليبين" شبلي شميل وسلامة موسي, وواحد ممن يحملون أسماء المسلمين هو إسماعيل مظهر... إلي جانب الأسماء الأخري غير اللامعة.
(144) أو قل صليبياً يهودياً كما سيظهر فيما بعد.
(145) سيأتي الحديث عن صالون نازلي فاضل ودوره في "إغواء" محمد عبده وسعد زغلول وتأثيره في أفكار مصر السياسية والاجتماعية.
(146) كانت معظم هذه النشرات تصدرر من القاهرة وباريس, كما كان أعضاء الجمعيات السرية الداعية إلي القومية العربية من نصاري لبنان وسورية يعيشون حياتهم ما بين القاهرة وباريس, أي في حماية بريطانيا وفرنسا, اللتين تعملان جاهدتين لقتل "الرجل المريض" والاستيلاء علي تركته!.
(147) كان جمال الدين -كما سيأتي- يدعو إلي نزع الخلافة من الأتراك وأن يتولاها العرب, بينما كان يعلم بذكائه الفذ أن العرب أضعف من أن يتولوا شيئاً في ذلك الوقت! كما كان يدعو للماسنوية وتأخي الأديان!.
(148) يحتاج هذا الموضوع إلي تفصيل واف عن "الإعلام الإسلامي" لعل الله يوفق كاتباً متحصصاً ليكتب فيه من منطلق إسلامي واضح, ليبين للناس أن الإعلام الإسلامي ليس "وعظاً" وإنما تناول لجميع شئون الحياة من زاوية النظر الإسلامي ومن الموقف الإسلامي.(2/108)
(149) لم يكن ذلك ممكناً بطبيعة الحال وهذه الصحافة ذاتها جزء من الغزو والفكري.
(150) كانت تكتب عن الربا لتطلبب إباحته علي أنه ضرورة اقتصادية"!.
(151) انظر إن شئت "جاهلية القرن العشرين".
(152) تحدثت في كتاب "مذاهب فكرية معاصرة" عن الثورة الصناعية وما أدت إليه من فساد, وأن هذا لم يكن من طبيعة التقدم الصناعي في ذاته, ولم يكن ضربه لازب, إنما تم بتخطيط يهودي خبيث.
(153) أي بصرف النظر عن دور اليهود في هذا الشأن, وعن الآثار النفسية والاجتماعية التي ترتبت علي هذا الفساد الخلقي...
(154) بينا من قبل أن ما يشبه السنّة من ذوبان المغلوب في الغالب عن طريق التقليد لا ينطبق علي أمة العقيدة. فإذا قلنا إن العقيدة كانت قد ضعفت في قلوب هذه الأمة, ومن هنا كان الذوبان سيحدث بصورة حتمية, نقول إن الضعف غير الفناء, إنما الذي سعت إليه تلك الصحافة الصليبية وكادت تنجح فيه هو الإفناء... وهذا هو دورها الحقيقي!.
(155) أخرجه الترمذي وإسناده صحيح.
(156) ليس في الإسلام "رجال دين", كما قلنا في أكثر من موضع وفي أكثر من كتاب. ولكن هكذا يعبر أعداء الإسلام.
(157) الغارة علي العالم الإسلامي, ترجمة محب الدين الخطيب, ص 147. وهذا المؤتمر مجرد واحد من مئات المؤتمرات التي تعقد لهذا الشأن وتقرر مثل هذه القرارات.
(158) راجع إن شئت فصل "دور اليهود في إفساد أوربا" من كتاب "مذاهب فكرية معاصرة".
(159) راجع "مذكرات قاسم أمين".
(160) تنازل عن هذه المغالطة في كتابه الثاني "المرأة الجديدة" كما سيجئ.
(161) سنتحدث في فقرة تالية عن دور سعد زغللول في حياة مصر الحديثة.
(162) الهلال, أول يونيه 1928, ص 949.
(163) تحدثت عن هذه القضية وأطوارها المتتابعة في أوربا في فصل "دور اليهود في إفساد أوربا" في كتاب "مذاهب فكرية معاصرة".(2/109)
(164) فصلت أسبابها عند الحديث عن الثورة الصناعية وآثارها في الحياة الأوربية, في فصل "دور اليهود في إفساد أوربا" من كتاب "مذاهب فكرية معاصرة".
(165) أشرت في هامشة سابقة إلي هذه الحقيقة رداً علي الذين يجادلون في وقائع التاريخ, ويزعمون أن الحجاب كان تقليداً عربياً صحراوياً قائماً قبل الإسلام... وذكرت قول عائشة رضضي الله عنها في مدح نساء الأنصار "لما نزلت آية الحجاب قدمت كل واحدة منهن إلي ثوبها فاعتجرت به".
(166) يقول ذلك اليوم مرتدون متبجحون ممن يحملون أسماء إسلامية, فينسبون الظلم إلي الله ورسوله, وإلي الدين الذذي نزل من عند الله.
(167) سبق ذكره.
(168) واليهود يخططون معهم كما سيجئ.
(169) في أي قرن يا تري سلبها ذلك "الحق"؟!.
(170) سنتحدثث عن الثورة المصرية في فقرة تالية.
(171) كانت جادة وإن شابها الانحراف الذي سنتحدث عنه فيما بعد.
(172) اسمها الحقيقي صفية مصصطفي فهمي. ولكنها سميت صفية زغلول باسم زوجها سعد زغلول علي طريقةر الأوربيين في إلحاق الزوجات بأسماء أزواجهن, تأثراً بالغزو الفكري وعملية التغريب... ولكن "الجماهير" لم تفطن لذلك ولم تستنكره!.
(173) سمي مييدان الإسماعلية الذي تحللت فيه المرأة من حججابها الإسلامي ميدان "التحرير" "تخليداً" لهذه الذذكري العظيمة!.
(174) منّة أي قوة.
(175) متفق عليه.
(176) أقيمت في شواطئ الإسكندرية (ونشرتها الصحف!) مسابقة بعنوان "أبو عيون جريئة!" يكون الفائز فيها هو أوقح الشبان أو أقلهم حياء وأدباً!.
(177) هذذه العبالرات ورردت بنصها في مجلات "المودة" وفي "ركن المرأة" في المجلات التي تخصص ركناً للمرأة.
(178) قال رسول الله (: "لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع, حتي إن دخلوا جحر ضب دخلتموه" قالوا من يا رسول الله؟ قال" اليهود والنصاري" أخرجه الشيخان.(2/110)
(179) هذه هي "حكمة" تعليم الفتاة علي منهج الفتيان, ليصبح هناك وجه لقضية "المساواة" بين جنسين, التي تصل في النهاية إلي المساواة في "حق" الفساد! وهناك حكمة أخري لا تقل عنها حكمة هي إلغاء "قوامة" الرجل علي المرأة أو خلخلة أساسها علي الأقل بعد أن "يتساويا" في نوع التعليم!.
(180) كان هذا التفوق يحدث بالفعل لأن الأولاد ينشغلون بالشارع والنادي والمقهي ورفقة الأصحاب, بينما البنات في البيوت متفرغات لمراجعة الدروس, فضلاً عن روح التحدي التي تحفز المرأة لتحدي الرجل.
(181) تحدثت عن هذه المعركة في كتاب "مذاهب فكرية معاصرة".
(182) راجع -إن شئت- فصل "دور اليهود في إفساد أوربا" من كتاب "مذاهب فكرية معاصرة".
(183) قال تعالي: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [سورة النور 24/19].
(184) إلا أن يكون هو ذاته صليبياً كسلامة موسي فهو يشارك في تنفيذ المخطط الصليبي مدفوعاً ببصليبيته الذاتية.
(185) كان لليهود مشاركة ضخمة في تحطيم الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي, لأهداف عدة من بينها إنشاء الدولة اليهودية في الأرض الإسلامية.
(186) لم يفكر أحد في إقامة جامعة نسوة خاصة!.
(187) انظر ما وقع من الضغوط علي الجماعة المسلمة في مكة, وانظر ما يقع اليوم من المذابح البشعة لإخماد الصحوة الإسلامية وهي مع ذلك لا تخمد.
(188) راجع -إن شئت - فصل "دور اليهود في إفساد أوربا" من كتاب "مذاهب فكرية معاصرة".(2/111)
(189) ربما لا يعلم كثير من القراء أنني من خريجي تلك الجامعة, ومن دارسي اللغة الإنجليزية والأدب الإنجليزي فيها, فلست أصدر فيما أقرر هنا عن عصبية معهدية ضد الجامعة! إنما هي الحقيقة التي أحسبها -الآن- لم تعد خافية! ولا ينكر أحد أنه من الناحية "الثقافية" كانت الجامعة أوس ع أفقاً, وخريجوها أكثر احتكاكاً بالأفكار "العالمية" ولكنها لم تكن توجه طلابها لنقد الحضارة الغربية, واختيار الصالح من ثمارها للاستفادة به في "نهضة" حقيقة, مع طرح الفاسد من هذه الثامر, إنما كانت علي العكس من ذلك من أكبر أدوات "التغريب".
(190) انظر فصل "الديانة المحمدية Mohamedanism" تأليف مرجوليوث, في موسوعة تاريخ العالم: Universal Histiry of the World.
(191) الأفكار الرئيسية في هذا الكتاب -وهي القول بأن الشعر الجاهلي الحقيقي كان أبلغ من القرآن, ولذلك طمس عليه المسلمون, وانتحلوا شعراً أقل منه بلاغة ونسبوه إلي الشعراء الجاهلين, "ليزعموا" بعد ذلك أن القرآآن أبلغ من الشعر الجاهلي! هي أفكار مرجوليوث المشار إليه, انتحلها طه حسين! وقد صودر هذا الكتاب حين أثار ما أثار من ضجة, ولكن طه حسين سئل في حديث صحفي أجراه معه محمود عوض في مجلة صباح الخير قبل وفاة طه حسينن بعام واحد عن أفكاره في هذا الكتاب فقرر أنه ما زال مؤمناً بكل حرف فيهاً.
(192) الدكتور محمد أحمد خلف الله في كتاب "الفن القصصي في القرآن الكريم".
(193) لفظة "علمانية" هي ترجمة عربية مضللة للكلمة Secularism كما أشرنا من قبل, والأولي أن تسمي "اللا دينية" انظر -إن شئت- فصل "العلمانية" من كتاب "مذاهب فكرية معاصرة". ومما هو جدير بالذكرر أن هذذه الترجمة المضللة كانت من صنع اللبنانيين المسيحيين!.(2/112)
(194) لا ينفي ذلك ببطبيعة الحال أن يكون من بين ذلك الجيل, أو تلك الأجيال, من لم يخضع لعملية التغريب, وبقي محافظاً علي إسلامه, وذذاتيته, ولكنهم -قبل "الصحوة الإسلامية" التي سنتحدثث عنها في الفصل القادم- كانوا قلة لا يحسب لهم حساب.
(195) وكانت هناك كلك صحافة "مصرية" صميمة, ولكنها كانت -ببوعي أو بغير وعي- تتقتفي أثر الصحف اللبنانية المسيحية المارونية التي أرست "القواعد الصحفية" في مصر, بل قد تزيد عليها تبذلا لتكسب مزيداً من القراء من "الأجيال الصاعدة" من الأولاد والبنات!.
(196) تعبير "القرون الوسطي المظلمة" من تعبيرات الغزو الفكرير التي تجري - بطلاقة!س - علي ألسنة المستعبدين للغربب, ويقصد بها - في حسهم - الإسلام! وأوربا تصف - بحق - قرونها الوسطي بأنها مظلمة, لأنها كانت مظلمة حقاً. وتقول - بحق - أن "الدين" عندها كان سبب ذلك الظلام, وإن التحرير منه هو الذي أرجها من قرونها المظلمة, لأن ذلك الدين لم يكن ربانياً, إنما كان ديناً بشرياً - جاهلياً - من صنع الكنيسة, يحتوي من الخرافات والخزعبلات والافتراء علي الله ما لا تستسيغه فطرة سليمة ولا فكر "حر". أما المستعبدون للغزو الفكري فينسون أولاً أن هناك فارقاً رئيسياً بين الإسلام - الدين الرباني غير المحرف - وبين دين الكنيسة المحرف, ويينسون ثانياً أن القرون الوسطي المظلمة في أوربا كانت هي الفترة التاريخية المشرقة بنور الإسلام, سواء في المشرق أو المغرب والأندلس, حيث تعلمت أوربا لتخرج من الظلمات إلي النور!.
(197) يقصد صناعة البغاء.. ويلاحظ أنه يلتمس لها المبررات رغم الأسي الذي يحسه علي الفتاة الأمريكية!.
(198) يقصد أن الرجل قد يرفض الزواح من الفتاد الفاسدة الأخلاق, ولكن الضغط الاقتصادي يجعله يقبل في النهاية بعد تردد!.(2/113)
(199) مقتطفات سريعة من كتاب "مباهج الفلسفة" لول ديورانت, ترجمة عبد العزيز جاويد, وفي الأصل توسع في هذا الموضوع استتغرق مابين ص 126 وص 236 من الترجمة العربية.
(200) الخمار كما هو معلوم من اللغة هو غطاء الرأس, والجيب في اللغة هو فتحة الصدر. فالمسلمة بنص الآية تغطيي رأسها بالخمار, وتغطي صدرها كذلك, أمراً من عند الله, لا من عند الرجال المتزمت الذي يظلم المرأة بأناتيته.
(201) كان هناك "مسملون" لا يربطهم بالإسلام شئ, وكان هناك متمسلمون مثل "روز اليوسف" وهي يهودية أو مسيحية سمت نفسها "فاطمة اليوسف".
(202) غض البصر كما هو معلوم من أمر هذا الدين, هو أمر رباني للرجال والنساء معاً:
{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [سورة النور 24/30-31]. فلا دخل لها الأمر بالدوانية! إنما هو الاحتشام اللائق "بالإنسان" لكيلا يتحول إلي حيوان شهواني. وقد كان من أكثر من ألح علي الفتاة أن تخلع حياءها ولا تغض من بصصرها الكاتب الصليبي سلامة موسي, لغاية في نفسه مفهومة وواضحة, بيتما تروي كتب السيرة عن قمة البشرية محمد ( أنه كان أشد حياء من العذراء.(2/114)
(203) يقول الله سبحانه وتعالي مخاطباً "أمهات المؤمنين": {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [سورة الأحزاب 33/32] وهن زوجات الرسول (. وأمهات المؤؤمنين, وفي عصر الذروة الذي ارتفع فيه المجتمع الإسلامي إلي ققم لم تصل إليها البشرية في أي جيل من أجيالها السابقة أو اللاحقة, فييف بفتاة لا تعرف عن الإسلام إلا اسمه, ومجتمع شارد عن الإسلام؟ هل كان لهذه التوجيهات المسمومة إلا نتيجة واحدة: أن ينحل المجتمع, ويقضي علي ما بقي فيه من دين وأخلاق وتقاليد؟.
(204) ناقشت هذه القضايا في أكثر من كتاب, منها "الإنسان بيين المادية والإسلام" و "منهج التربية الإسلامية" الجزء الثاني, و"مذاهب فكرية معاصرة" ولا يتسع المجال هنا لإعادة المناقشة, فحسبنا هنا التقرير.
(205) وهذا يفسر لنا حرص الفرق التمثثيلية في ذلك الوقققت علي أن تجوب الريف, مع قلة من يفهمون "الفن" إذ ذاك!.
(206) لا نعجب إذا وجدنا الكاتب اليهودي الأمريكي "مرو برجر" في كتابه "العالم العربي اليوم" الذي صدر سنة 1962 ينص نصاً علي أن المدينة ينبغي أن تصب خلاصة "تجربتها الحضارية" في الريف والبادية, بعد أن يقرر - بوضوح - أن الإسلام قد ضعف تأثيره في المدينة ولكنه مازال باقياً علي قوته في الريف والبادية!! ولا نعجب كذلك من حرص جمال عبد الناصر علي توصيل الكهرباء إلي الريف المصري - وإلي الصعيد خاصة - عن طريق توليد الطاقة من السد العالي, ليشاهد الريفيون التليفزيون! وحرصه كذلك - من حربه مع اليمن - علي إدخال التليفزيون إلي اليمن!.
(207) اسمه "غزل البنات".
(208) مما يؤسف له أن الذين يتجهون إلي "مسرحة" أحداث التاريخ الإسلامي للإذاعة أو التليفزيون من "المؤؤلفين", يتجهون أول ما يتجهون إلي أعمال جورجي زيدان! فإن لم يجدوا فيها طلبتهم بحثوا عن مرجع آخر!.(2/115)
(209) لا يذكر ببطبيعة الحال موقف الإسلام في هذه القضية, لأنه ليس المققصود هو التصحيح باسم الإسلام, إنما باسم التقدم والتحرر والخروج علي الإسلام! فضلاً عن أن الأسلام لن يرضي عن العلاقة القائمة بين الولد والبنت قبل الزواج, وهذه العلاقة بالذات هي موضوع "الدعوة" في القصة والمسرحية والفيلم!.
(210) ربما لم تعد هذه الموضوعات تطرق في مصر اليوم فقد استنفدت أغراضها, ولكنها ما تزال تستخدم في بقاع أخري من العالم الإسلامي, حيث توجد بقية من التقاليد يراد القضاء عليها!.
(211) روز اليوسف هي أم إحسان عبد القدوس.
(212) راجع ما ذكرناه عن فيلم نجيب الريحاني, وما ذكرناه من قبل عن مخطط دنلوب ضد اللغة العربية.
(213) فقدت نظرية التطور الداروينية اليوم كثيراً من مقوماتها, وأنكرها كثير من العلماء المحدثين.
(214) انظر - إن شئت - فصل "دور اليهود في إفساد أوربا" من كتاب "مذاهب فكرية معاصرة".
(215) يقول طه حسين في كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" الذي سبقت الإشارة إليه: فعلينا إذن أن نأأخذ الحضارة الغربية بخيرها وشرها, إن كان فيها شر (!) لا محالة من ذلك!.
(216) انظر كتاب "الإسلام ونظام الحكم" لعلي عبد الرازق.
(217) ناقشت كثيراً من هذه الشبهات من قبل في كتاب "شبهات حول الإسلام".
(218) يقول سبحانه وتعالي عن أهل الكتاب: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)} [سورة البقرة 2/146] فهم يعلمون جيداً أنه الحق, كما يعلمون مكامن القوة فيه.
(219) راجع فصل "نظرة إلي الجيل الفريد" حيث بينا أن وجود تلك الفترة الفريدة في تاريخ الإسلام - حتي وإن لم تتكرر - يؤدي - بقدر الله - مهمة ضخمة في حياة الأمة الإسلامية.
(220) تحدثت عن هذذه القضايا بتفصيل أكثر في كتاب "المستشرقون والإسلام".(2/116)
(221) يقصد توينبي بالدول البرولييتارية الدول الواقعة تحت سيطرة الغرب, أو ما يسمي في مصطلح هذه الأيام بدول العالم الثالث.
(222) راجع فصل "خط الانحراف" عند الحديث عن الدولة العثمانية.
(223) حين أزيلت الدولة العثمانية وقع المسلمون في قبضة أعدائهم, يذبحونهم ويقتلونهم وينتهكون حرماتهم {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً} [سورة التوبة 9/10] كما قرر سبحانه وتعالي في محكم تنزيله, وكان هذا هو "التحرر" من التسلط والاستبداد الذي نالوه من أيدي أعدائهم الذين أغروهم بالانسلاخ من دولة الخلافة والانسلاخ من الإسلام, ثم جاء بعد ذلك عهد "الاستقلال" الذي حكم في العالم الإسلامي عملاء الصليبية والصهيونية فأوقعوا بالمسلمين أبشع أنواع الدكتاتورية في التاريخ, وأبشع مذابح التاريخ!! وما زال عبيد الغرب يتحدثون عن "الاستعمار التركي" ومفاسده, بينما كانت مفاسد الحكم التركي لا تقاس إلي جانب وحشية حاكمهم في عهود "الاستقلال".
(224) كان في مصر مدرستان ثقافيتان متميزتان: المدرسة الإنجليزية وعلي رأسها عبد الرحمن شكري وتلميذاه, المازاني والعقاد, والمدررسة الفرنسية وعلي رأسها طه حسين.
(225) راجع ما قلناه من قبل عن دور رفاعة الطهطاوي في الحياة المصرية.
(226) كان اسمها "الجريدة".
(227) رواه أحمد وأبو داود وسنده صحيح.
(228) يزعم بعضهم أن سكينة بنت الحسين رضي الله عنها - وهي أديبة وشاعرة كانت تستقبل الرجال في بيتها يتلقون الأدب والعلم علي يديها. وأيا تكن صحة ذلك فقد كانت سكينة محجببة, تخاطب الرجال من وراء حجاب, وترعي حرمات دينها وربها. أما هؤلاء فقد كن سافرات, لا يرعين في صالوناتهم شرعاً ولا حرمة.
(229) انظر دواوين العقاد الأربعة الأولي, و"أوراق الورد" و "رسائل الأحزان" للرافعي.(2/117)
(230) كل من الثلاثة: محمد عبده, وقاسم أمين, وسعد زغغلول يمثل في الحقيقة تحولا تخطيراً في حياة الأمة, ولكن ربما كان سعد أشدهم أثرروا وأكثرهم خطورة.
(231) ص 8 من النسخة الإنجليزية.
(232) أي علي الأسلوب الإنجليزي المعروف: "بطئ ولكنه أكيد المفعول"!.
(233) عن كتاب "حصوننا مهددة من داخلها" للدكتور محمد محمد حسين, طبع مطبعة الرسالة بيروت, الطبعة الثامنة سنة 1404 هـ 1983م ص: 103.
(234) عرب التعليم في الشمال الإفريقي بعد نضال كبير بعد خروج الفرنسيين. ولكن مازال الفكر الغربي الذي دسه الاستعمار الصليبي يحتاج إلي جهد "إسلامي" إزالة آثاره.
(235) مذكر بهذه المناسبة أن كرومر - في رثائه الشهير للشيخ محمد عبده - أبدي أسفه العمقيق علي فقد ذلك "الصديق", وأشاد بالذات بفتاواه التي كانت العون الأكبر لمجلس شوري القوانين.
(236) سنعرض للثورة العربية "الكبري!" وللجيش العربي الذي قاتل دولة الخلافة فيما بعد.
(237) ترمز هذه الحروف إلي الدول التي جاء منها أولئك الجنود, علي طريقة اللغات الأوربية في أخذ حروف من كل اسم (هو عادة الحرف الأول) وجمعها في شكل كلمة إذا أمكن, فهذه الدولة في لغتها الآصلية هي: Africa,New Zeland, Australia, Canada ومجموع الحروف الأولي يكون كلمة Anzac.
(238) من أجل ذلك حرص "الحلفاء" في الحرب العالمية الثانية علي استصحاب جيش من "البغايا" خاص بهم, وشددوا علي جنودهم ألا يتعرضوا للنساء المصريات خوفاً من تكرار رد الفعل الذي حدث بعد الحرب الأولي,ولكنهم في جميع الأحوال لا يستغنون عن الفاحشة, لأنهم جنود جاهلية همجية!.
(239) كان حزب الاتحاد والترقي يثير في تركيا النعرة الطورانية ويدعو إلي تتريك الدولة, مما نتناوله فيما بعد.
(240) اختصر المتحف البريطاني لمدة فيما بعد إلي ثلاثين سنة للوثائق العادية, وأبقاا خمسين للوثائق ذات الأهمية الخاصة, وبعضها لا ينشر أبداً محافظة علي الخطط السرية!.(2/118)
(241) يتضح هذا من لائحة "حزب الوفد" الذي أسسه سعد زغلول بزعامته, فقد نص في هذه اللائحة نصاً صريحاً علي تحريم الخوض في الأمور الدينية (أي عدم ذكر الدين إطلاقاً في داخل الحزب, وهو نفس الشعار الذي أطلقه سعد علي الثورة) كما أن حزب الوفد الجديد أعلن - بمناسبة النقاش الذي دار حول دخول الإخوان المسلمين الانتخابات باسم الحزب - أن الحزب كان "علمانياً" منذ نشأته!.
(242) هذا هو اللقب الذي أطلقته الصحف الوفدية علي سعد... ونستعيذذ بالله من الكفر.
(243) كانت الراية التي رفعها بن بيلا هي الاشتراكية, وسيأتي الحديث عن الاشتراكية فيما بعد.
(244) كان هذا دفاع العقاد عنه في كتابه "سعد زغلول"!.
(245) أخرجه الحاكم (3/195) وقال: صحيح الإسناد.
(246) فيما عدا ما اندس في "التراث" من أمور تخالف المنهج الإسلامي من جهة, ولا يترتب عليها مصلحة إسلامية من جهة أخري كالفسلفة المسماة إسلامية, وعتم الكلام بكل قضاياه الجدلية الذهنية التجريدية الفارغة, وأمثال ذلك من المباحث.
(247) الحقيقة أن الديمقراطية -حتي في بلادها الأصلية- تمثل مصالح الرأسمالية قبل كل شئ أخر, ولكن الجماهير لم تتبين ذلك إلا في موجة "الاشتراكية". انظر فصل "الديمقراطية" من كتاب "مذاهب فكرية معاصرة".
(248) هذه هي المغالطة الأولي. فالعدل كلمة لا ضابط لها إن لم تنضبط بكتاب الله وسنة رسوله (. وكما يقول الإمام ابن تيمية في الرسالة الثانية عشرة من مجموعة التوحيد: "فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلا من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر, فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل, وقد يكون العدل في دينها ما ررآه أكابرهم".(2/119)
(249) يقصد الشيخ محمد عبده, وقد توفي عام 1905م وهذا الكلام مكتوب في عدد 17 ديسمبر 1913مم من مجلة المنار, وفي هذا العدد أعاد الشيخ رشيد رضا نشر فتواه المنشورة في عدد سابق, مع تلك المقدمة التي نقلنا جزءا منها. وهي تستوعب من ص 262-ص265 من المنار جـ4م16.
(250) يقصد الفرق بين دار الحرب ودار الإسلام فيما يتعلق بتطبيق القوانين المخالفة للشريعة الإسلامية.
(251) وهذه هي المغالطة الثانية. فإن هذا الظاهر الذي افترضه الشيخ -وبني عليها ضرورة صرف الآية عن ظاهرها-لا يقول به أحد قط! لأنه من التجريدات الذهنية التي ليس لها واقع عملي. فإنه لا يوجد إنسان لا يحكم, إلا إذا كان مسلوب الإرادة تماماً, أو كان متوقفاً تماماً عن التصرف في أي أمر من أمور الحياة! ولكنه ما دام يتصرف, فهو يستند في داخل نفسه إلي حكم معين يقرر علي أساسه تصرفه. فإذا كان هذا الحكم قد راعي فيه ما أنزل الله فهو مسلم, وإن كان قد راعي فيه مخالفة ما أنزل الله فهو خارج عن الإسلام, وعلي سبيل المثال فإن مخالفة النص العام خضوعاً للضرورة -الذي ذكره الشيخ في المقدمة- لا يعتبر حكماً بغير ما أنزل الله, فإن حكم الضرورة -المخالف للنص العام- وراد فيما أنزل الله. ولكن القضية الضرورة بالضوابط الشرعية, حتي لا تكون مسرحاً للهوي البشري, فتصبح -من ثم- من مزالق الشيطان.(2/120)
(252) وهذه هي المغالطة الثالثة: فإن الحكم بغير ما أزنزل الله لا يقع -بإطلاقه- في باب "المعصية" كما يوهم كلام الشيخ هنا مما نفاه هو نفسه فيما بعد. فقد يكون جهلاً بأن الحكم في هذه الفرعية مخالف لما أنزل الله فلا إثم عليه (وإن وجب عليه الاجتهاد في معرفة الدليل) وقد يكون شهوة (كحكم القاضي المرتشي بما يخالف حكم الله وهو عالم بالمخالفة) فهذه معصية. وقد يكون تأولاًً (مع صدق النية) فهذا اجتهاد خاطئ له أخر. وقد يكون مضاهاة لشرع الله, أو تفصيلاً لشرع البشر علي شرع الله. وكلاهما شرك صريح يخرج من الملة.
(253) مظلوم ابن عباس! فقد قال ما قال وهو يسأل عن الأمويين: أنهم يحكمون بغير ما أنزل الله, فما القول فيهم. وما أحد علي الإطلاق قال عن الأمويين إنهم كفار! فقد يكون يحكمون الشريعة في عموم حياة الناس, ولكنهم يحيدون عنها في بعض الأمور المتعلقة بسلطانهم إما تأولاْ وإما شهوة -ولكنهم لا يجعلون مخالفتهم تشريعً مضاهياً لشرع الله-فقال فيهم ابن عباس إنه كفر دون كفر. فهل كان يمكن لابن عباس أن يقول هذا فيمن ينحي الشريعة الإسلامية أصلاً ويضع بدلاً منها قوانين وضعية؟.
(254) نشأ هذا الجدل كله -وينشأ دائماً- حول آيات سورة المائدة لأنها ذكرت المسلمين واليهود والنصاري كلاً علي حدة, فخيل لبعض الناس أن كلا منهم يختص بآية ويختص بحكم غير الآخر. وكان الأوفق النظر إلي صيغة العموم في الآيات: {ومن لم يحكم بما أنزل الله} فلا يكون هناك مجال للاختلاف. وعلي أي حال فليست هذه الآيات الوحيدة في القرآن في هذا الشأن. وهناك آيات صريحة لا تحتمل الخلاف في تأويلها كقوله تعالي: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} [سورة الشوري: 21] وهي صريحة في أن اتخاذ شريعة لم يأذن بها الله هي من اتخاذ الشركاء. أي من الشرك الأكبر المتنافي مع الإسلام, وقوله تعالي: {فلا وربك لا يؤمنون حتي يحكموك....} [سورة النساء : 65].(2/121)
(255) يريد أن يقول إن الشبهة غير واردة في حقهم, ومن ثم فإن شرط الكفر (وهو إنكار شرع الله أو الرغبة عنه أي رفضه والإعراض عنه) غير متحقق فيهم, ذلك لأنهم مسلمون. ولكن انظر كيف انتقل فجأة من القول بأن الحكم عليهم عسير "والجواب عنهم أعسر" إلي إطلاق الحكم بلا دليل!.
(256) هذه هي المغالطة الرابعة. فبدلاً من أن يدلل علي إيمانهم -أو يطالبهم بالتدليل علي إيمانهم -وظاهر أمرهم هو الكفر بسبب وضعهم قوانين تخالف ما أنزل الله -فإنه يصادر علي الدليل- كما يقول المناطقة-فيقرر أنهم مؤمنون مذعنون لدين الله, ثم يستند إلي هذا الحكم الذي لم يقدم أي دليل عليه, ليستبعد تصور أنهم يغيرون حكم الله باختيارهم, ويستبدلون به حكماً آخر بإرادتهم ثم إن هذه المغالطة ذاتها تحوي في طياتها المغالطة الخامسة -المفهومة ضمناً من كلامه- وهي الزعم بأن هؤلاء الأمراء مكرهون علي تبديل حكم الله -ما دام يستبعد أنهم يغيرون حكم الله باختيارهم- فأي إكراه يقع علي الحكام ليحكموا بغير ما أنزل الله؟! هذا الإكراه يصح في حالة واحدة: هي أن يؤتي بإنسان من بيته قسراً, ثم يهدد بالقتل إن هو لم يجلس علي دست الحكم ويحكم بغير ما أنزل الله! فعندئذ قد تكون معذوراً عند الله! وهو أمر لم يحدث مرة واحدة في التاريخ, ولا يمكن أن يحدث! إنما يختار الحكام الجلوس في مقاعد الحكم بمحض إرادتهم, ويملكون دائماً أن يرفضوا -إذا عرض الأمر عليهم -ولا تثريب عليهم! فكيف يقال إنهم مكرهون؟! إن مثل هؤلاء الحكام الذين يشير الشيخ رشيد رضا إليهم يرتكبون في الواقع جريمتين كبيرتين: الأولي في حق الله, إذ ينحون شريعته ويضعون بدلاً منها شريعة جاهلية من صنع البشر, والثانية في حق شعوبهم, إذ يحجبون عنهم عدوهم الحقيقي الذي يفرض عليهم الحكم بغير ما أنزل الله لييفتنهم عن دينهم, فيتترس بهم العدو ليمنع قتال الأمة له. ولو أن الحكام امتنعوا عن ستر العدو بأشخاصهم لكان العدو سيتحمل(2/122)
تكاليف المواجهة الدموية (كما حدث في أفغانستان) وتكون الغلبة في النهاية إن شاء الله للمسلمين حين يصرون علي جهاد عدوهم, ولو هزموا في المعركة مرة ومرة ومرة, لأن هذا وعد الله. أما حين يتترس العدو بهؤلاء الحكام يحجبونه بأشخاصهم فإن الأمة تغفل عنهم فتكف عن الجهاد, فيكون للعدو من التمكين ما أراد.. فكيف يستخف الشيخ رشيد رضا بهذا كله من جانبه هؤلاء الحكام, ولا يضعه حتي في دائرة المعصية, بل يجعله عزيمة تحقق المصلحة للمسلمين كما سيجئ؟!!.
(257) هنا يفتح الله علي الشيخ فيقرر حكم الإسلام واضحاً صريحاً في واجب الأمة في مثل هذه الحالة, وفي حكم الدار التي تحدث هذه الحالة فيها, ولكن يذهب بقيمة هذا التقرير شيئان: الأول: أنه لم يبين متي يكون الحاكم علي هذا الوصف؟ أي ما العلامة الظاهرة التي تعرف بها وضعه لتقوم بواجبها الإسلامي الذي حدده الشيخ في وضوح ونصاعة؟! والأمر الثاني: هو المغالطة التي سيأتي بيانها بعد, وهي اتخاذ وصف الدار بأنها ليست دار الإسلام في مثل هذه الحالة, ذريعة للقول بأن أحكام الشريعة غير واجبة التنفيذ فيها!!.
(258) هذه هي المغالطة السادسة. فمن قال إن الحدود تتعلق بأمر الدنيا وحدها وهي حق لله؟! وعلي أي أساس من دين الله يفرق الشيخ بين النكاح والطلاق وبين الحدود, فيجعل الأولي من أمور الدين التي لا يحل مخالفتها بحال, والأخري من أمر الدنيا (أي التي تحل مخالفتها في رأي الشيخ إذا استخدمنا "دليل المخالفة" قرينة لفهم ما يومئ إليه الشيخ هنا, ويقرره صريحاً فيما بعد!).
(259) هذه هي المغالطة السابعة. فإذا كان المنزل في القرآن لهذه الأحكام قليلاً, المكلمة والشارحة -تحوي الكثير, ولا يجوز لعالم فقيه كالشيخ رشيد رضا أن يذكر القرآن وحده في هذا المجال ويسقط السنة النبوية المطهرة, الحاوية لتفاصيل الأحكام, والمستقلة وحدها بالأحكام في بعض الأحيان.(2/123)
(260) هذه أعجب المغالطات علي الإطلاق! فما العلاقة بين عدم إقامة الحد علي المسلم المحارب في دار الحرب, حتي لا يستفزه الشيطان للحاق بالعدو (أي الارتداد عن الإسلام) وبين إسقاط أحكام الشريعة عن المسلمين في الهند, أو في أي بلد آخر غلب عليه الكفار فنحوا شريعة الله, ووضعوا بدلا منها قوانين جاهلية تحكم الناس؟! وكيف يستدل بعدم إقامة الحد علي المسلم في أثناء الغزو, علي عدم جواز إقامة الحدود في البلاد المشار إليها آنفاً, بحيث تصبح الشرعية في تلك البلاد للقوانين الوضعية لا للشريعة الإسلامية؟! ويصبح تطبيق الشريعة الإسلامية فيها خطأ ينهي عنه الدين؟! لو قلنا إن خضوع المسلمين في الهند -أو في غيرها- للقوانين الجاهلية ضرورة, ما داموا قد عجزوا عن المقاومة بعد قيامهم بالجهاد الواجب, لكان هذا أمراً منطقياً معقولاً, لأنه لا حيلة للناس غير ذلك (مع وجوب المجاهدة بالقلب, لقول رسول الله (: "فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن, ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن, ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن, وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" رواه مسلم. أما أن يقال أنه لا يجوز إقامة أحكام الشريعة في هذه الحالة -بأمر الدين- فقول ما أظن أن أحداً قاله في تاريخ الإسلام كله!.
(261) هذا عود إلي قضية قلة الأحكام المنزلة في القرآن, وقد علقنا عليها من قبل, ولكن المغالطة الجديدة هنا (وهي التاسعة) هي الإيحاء بأنها ما دامت قليلة فلا بأس بمخالفتها!! فلنفرض أن الله تعالي لم ينزل إلا حكماً واحداً في دينه كله, وترك الباقي للاجتهاد, فهل يجوز للمسلمين أن يقولوا: ما دامت الأحكام كلها متروكة للاجتهاد إلا واحداً, فهلم نترك الالتزام بهذا الحكم الواحد, ونجتهد فيه كبقية الأحكام؟!!.
(262) أي لا يجوز إقامتها!(2/124)
(263) هذه هي المغالطة العاشرة؟ فمن الذي يجوز له الحكم بالأحكام التعزيرية اجتهاداً؟ أهو الحاكم المسلم, أم إن كل حكم تعزيري في الدنيا يصبح شرعياً إذا طبق علي المسلمين ولو صدر من الإنجليز؟!
(264) سبق الكلام عن العدل وضرورة ضبطه بالكتاب والسنة ليصبح هو "العدل" الذي يرضي الله عنه.
(265) من الذي يحدد المصلحة؟ وما قلناه عن العدل ينطبق علي المصلحة, فهي -وإن كانت متروكة للاجتهاد- فضابطها هو القواعد الشرعية
(266) لم يستدل في هذه القضية الخطيرة بأي دليل شرعي! إنما أطلق حكم الجواز من عند نفسه بلا دليل.... إلا المصلحة... والمصلحة كما قلنا تحتاج هي ذاتها إلي الضوابط الشرعية, فلا تصلح -علي إطلاقها- أن تكون سند الحكم إلا إذا كانت منضبطة بالضوابط الشرعية
(267) مرة أخري يصدر حكما بغير دليل شرعي في قضية من أخطر القضايا وهي الحكم بغير ما أنزل الله, الذي يقول عنه سبحانه وتعالي إنه كفر, ويقول أشد المتساهلين -بغير دليل شرعي- إنه فسوق ومعصية, فيقول هو عنه إنه "لا بأس به"! مستنداً إلي حكم أصدره من عند نفسه -بلا دليل- بجواز أن يكون المسلم حاكماً عند الحربي في بلاده!! وهكذا تتوالي الأحكام في الفتوي مترتباً بعضها علي بعض, وهي كلها مفتقرة إلي الدليل الشرعي الذي يسندها!
(268) من الذي يحدد الظلم؟ إن الذي يحدد المصلحة هو الذي يحدد الظلم, وهو الله سبحانه وتعالي, العليم الخبير, صاحب الأمر, الذي له ما في السماوات والأرض, والذي يحكم لا معقب لحكمه وقد قرر العليم الخبير صاحب الأمر أن الحكم بغير ما أنزل الله هو الظلم: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} فمن ذا الذي يجرؤ أنن يقول إن الحكم بغير ما أنزل الله يمكن أن يكون ظالماً أحياناً وغير ظالماً أحياناً أخري؟!
(269) استند إلي مثل هذا المنطلق السيد أحمد خان فقال إن دار الحرب (وكان يقصد بلاد الهند بالذات) ليست محلاً للجهاد!(2/125)
(270) قرر فيما سبق أن دار الحرب ليست محلاً لإقامة أحكام الإسلام, ليبرر خضوع المسلمين للأمراء الذين لا يحكمون بما أنزل الله, وهنا -لما أراد أن يبرر قيام المسلمين بتقلييد الوظائف في الحكومة التي لا تحكم بما أنزل الله-- قال إن واجب المسلمين أن يقلدوا هذه الوظائف ليعلموا قدر الإمكان علي تقوية أحكام الإسلام! فماذا نسمي هذا التحايل؟!
(271) نرجئ التعليق علي هذه القضية إلي حين الحديث عن قضايا الحركة الإسلامية في الفصل القادم
(272) نمر بهذه دون تعليق, لأنها ليست في حاجة إلي تعليق!
(273) كانت الحكومة الإنجليزية في الهند تحرم المسلمين عمداً من تقلد وظائف الدولة وتسندها إلي الوثنيين. وهذه هي الحكومة التي قال عنا آنفاً "متساهلة قريبة من العدل بين جميع الأمم والملل"!
(274) أرأيت كيف يجعل من مخالفة صريح أمر الله سبحانه وتعالي "عزيمة"؟! لقد كان المسلمون من الضعف -ببعد الهزيمة العسكرية- بحيث لا يملكون إلا الخضوع لسلطان أعدائهم وهم بهذا في دائرة عفو الله: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً (99)} [سورة النساء 4/98-99] أما أن يصبح هذا الخضوع عزيمة يدعي المسلمون إليها فمن العجب العاجب في ذلك الزمان!!(2/126)
(275) سبقت الإشارة إلي أنه لا يوجد إكراه علي الحكام أن يجلسوا في مقاعد الحكم ويحكموا بغير ما أنزل الله. فالضرورة غير قائمة بالنسبة لهم. وإن لم يقدروا أن يكونوا في مكان المجاهدين لإعادة الشريعة إلي مكانها الذي نحاه عنها المستعمر الصليبي, فلا أقل من أن يتورعوا عن خدمة ذلك المستعمر بستره بأشخاصهم, والحيلولة بين المجاهدين وبينه, ليتحمل هو التكاليف الدموية لعدوانه علي المسلمين. بل هم -أكثر من ذلك- ينوبون عنه في تقتيل المجاهدين الذين يجاهدون لإعادة الشريعة إلي مكانها!
(276) عدل هنا -دون مناسبة ظاهرة - عن كلامه الأول الذي أشار فيه إلي أن الدار التي فيها أمير مسلم (أي يحمل اسما مسلماً!) يغير حكم الله بختياره, ويستبدل به حكماً آخر بإرادته لا تعتبر دار إسلام (يعني تعتبر دار حرب) وحصر دار الحرب بأنها بلاد غير المسلمين وإن لم يحاربوا. والذي عليه جمهور العلماء أن الدار تأخذ وصفها من غلبة الأحكام عليها (أي بصرف النظر عن عقائد أهلها) فالأرض التي تحكمها شريعة الله هي دار إسلام, ولو كان أغلب سكانها غير مسلمين, كما كانت الهند خلال ثمانية قرون من الحكم الإسلامي, وأغلب سكانها من المجوس عباد البقر. كذلك الأرض التي لا تحكمها شريعة الله فهي دار حرب, ولو كان أغلب سكانها مسلمين,أو دار ردة إذا كان أهلها مسلمين ثم ارتدوا عن الإسلام.
(277) لم يكن سعد زغلول حالة فريدة, ففي كل بلد كان هناك زعيم أو زعماء علي شاكلة سعد زغلول!
(278) إن قالها نفاقاً فهو في الدرك الأسفل من النار.(2/127)
(279) الفرق واضح بين "النظم" و "التنظيمات" فحين يكون في الدولة وزراء, وللوزراء وكلاء, ثم مديرو عموم, ثم موظفون مختلفو المناصب يختص كل منهم بعمل, فهذا تنظيم إداري يخدم أي نظام يستخدمه, ولا يفرض علي النظام تصوراً معيناً ولا فكرة معينة, ومن ثم يستخدمه الكل علي السواء, ويستخدمه المسلمون حين يرونه نافعاً لم ولا حرج عليهم في ذلك, أما النظم فأمرها مختلف لأنها تتصل بالتشريع.
(280) الدين بمعني الحياة, ويشمل العقيدة والشعيرة والشريعة.
(281) راجع إن شئت فصلي "الديمقراطية" والشيوعية" من كتاب "مذاهب فكرية معاصرة".
(282) العيل المستغفل هو الذي يحقق مصلحة العدو الصليبي أو اليهودي - غفلة منه - وهو يحسب أنه يحقق مصلحة للمسلمين!!.
(283) مر بنا كلام "ولفرد كانتول سميثث" الصريح في فرع أوربا من الإسلام أكثر من أي شئ آخر.
(284) من أجل ذلك كان كرومر يقول: "إن مهمة الرجل الأبيض الذي وضعته العناية الإلهية علي رأس هذه البلاد هي تثبيت دعائم الحضارة المسيحية إلي أقصي حد ممكن بحيث تصبح هي أساس العلاقات بين الناس"!.
(285) بدأت اليابان في الأخير تتحلل تدريجياً من عقائدها وتقاليدها علي يد الجيل "المثثقف" الذي تلقي تعليمه في الغرب, بعد أن صمدت طويلاً للغزو الفكري, ولا يستغرب هذا من الوثنيين حين تغزوهم "الثقافة", ولكنه لم يكن حتماً علي "المسلمين" لو كانوا علي إسلام صحيح.
(286) راجع فتوي الشيخ رشيد رضا التي أوردناها من قبل.
(287) كانت السياسة دنسة بالفعل لأنها لا تيسر علي المنهج الرباني. ولكن مهمة "عالم الدين" هي العمل علي درها إلي المنهج الرباني, أي العمل لرد الحكم للشريعة لا العمل علي إبعاد الدين عن السياسة بحجة أنها دنسة أو ملعونة!.
(288) اقرأ في هذا كتاب "الرجل الصنم" ترجمة عن التركية عبد الله عبد الرحمن, طبع مؤسسة الرسالة بيروت, واستمع إلي من بقي حيا من الأتراك الذين عاصروا تلك الأحداث.(2/128)
(289) سيأتي الحديث عن ذلك في فصل "الصحوة الإسلامية".
(290) الثاني يسمي "يوجين روستو".
(291) "الشرق الأوسط" تعبير ماكر من تعبيرات الغزو الفكري يراد به إيجاد مكان لإسرائيل في المنطقة لا يثير الاستنكار, فلو وصفت هذه المنطقة بأنها منطققة إسلامية فكيف توجد فيها إسرائيل؟ ولو وصفت حتي بأنها عربية فكيف توجد فيها إسرائيل؟ أما حين تصبح منطقة "جغرافية" لا صفة لها ولا انتماء, فإن وجود إسرائيل فيها يصبح أمراً لا يثير الاستنكار!.
(292) علي نفس الطريقة التي لا يدخل فيها "العمل" في مسمي "الإيمان"!!!.
(293) هذا بالطبع إلي جانب القمع الوحشي الذي يقوم به عن طريق الانقلابات العسكرية في المنطقة. ولكنا نقصد هنا المجالين الفكري والعقدي.
(294) رواه مسلم.
(295) لم تكن الحرب أيدلوجية في حقيقتها! ولكن الصين قد توصلت إلي صناعة القنبلة الذرية فلم يعد هناك مبرر في حسها للخضوع لروسيا بينما شعبها يبلغ أكثر من ثلاثة أضعاف الشعب الروسي. ولكن سترت تمردها بالخلاف الأيدلوجي!.
(296) اتفقت أمريكا وروسيا اتفاقاً غير مكتوب, ولكن له ثثقل الأمر الواقع علي أن تترك أمريكا الشرق الأقصي لروسيا, وتترك روسيا "الشرق الأوسط" لأمريكا بصفة عامة, وإن كانت تحدث بعض التدخلات من هنا ومن هناك ولكنها تدخلات هامشية وغير حاسمة!.
(297) كتب هذا الكلام كله في الوقت الذي كانت الأمور تسير فيه علي هذه الصورة بين أمريكا وروسيا, وبعد ذلك تغيرت الصورة حين انهارت الشيوعية وانفردت أمريكا - مؤقتاً - بالسيطرة العالمية. ولكن يظل من الضروري شرح الصورة التي كانت تسير عليها الأمور في تلك الحقبة من التاريخ, لأخذ العبرة منها للحاضر, فضلاً عن أن اللعبة قد تتغير من وقت إلي آخر, أما العداء للإسلام والحرب القائمة عليه فلا تتغير!.
(298) ناقشت هذه القضايا كلها مناقشة تفصيلية في فصل "الشيوعية" من كتاب "مذاهب فكرية" لمن أراد الرجوع إليه.(2/129)
(299)كان من بطولاته الفذة - المصطعنة - انسحاب ققوات الحلفاءء من الأنضول أمام هجماته!.
(300) نسوا أن يقولوا: و"بطل النكسة"!.
(301) نظر الفصل القادم.
(302) أخرجه أحمد وأبو داود.
(303) انظر -إن شئت - فصل "الإلحاد" في كتاب "مذاهب فكرية معاصرة".
(304) في فصل "الدين والكنيسة" من كتاب "مذاهب فكرية معاصرة". تفصيل لمافعلت الكنيسة الأوربية, مما أدي إلي نفور أوربا من الدين.
(305) نتكلم عن الصحوة الإسلامية في مصر, لأننا آثرنا - كما أشرنا في الفصل الماضي - أن نتتبع التجربة المصرية من بدء الانسلاخ عن الإسلام إلي بدء العودة إليه. لذلك لم نتكلم عن حركة محمد بن عبد الوهاب السابقة في الزمن عن الصحوة المصرية, والتي كان لها تأثيرها عيلها دون شك, كما لم نتحدث عن حركة الجماعة الإسلامية في شبه القارة الهندية علي يد المودودي وغيرها من الحركات المعاصرة, ولكن القارئ - من أي بلد إسلامي - سيجد فيما كتبنا مشابهه مما حدث في بلاده, سواء عن الغزو الفكري أو عن الصحوة الإسلامية.
(306) لم يكن كثير منهم يؤؤدي الشعائر التعبدية, إنما كانوا يعتبرون ذلك جائزاً لمن أراد!!.
(307) ليس المقصود هنا هو التراثث بمعناه العلمي الاصطلاحي, إنما هو الميراث التاريخي للمسلمين, وهذا كان في حاجة إلي تنقية جذذرية, لما دخله في خلال الأجيال الأخيرة خاصة من انحرافات (انظر فصل "خط الانحراف").
(308) سبقت الإشارة إليه. وهذذا الكتاب لم ينل في اعتقادي حظه من الدراسة الجادة, مع أنه يلقي كثيراً من الضوء لي مخططات الأعداء لمحاربة الإسلام.(2/130)
(309) عني جمال عبد الناصر عناية خاصة بإيصال "خلاصة الحصيلة الحضارية" إلي الريف. ومن بين هذذه العناية تررتييب رحلات للريفييين والريفيات إلي الشواطئ العارية بمبلغ رمزيي زهيد لا يتجاوز جنيها ونصف جنيه لفترد أسبوعين كاملين, تشمل نفقات السفر والإقامة.... حتي تري الريفيات مناظر العري الدنس, ويذهب ما في نفوسهن من الحياء الفطري, وتنتهي "المشكلة".
(310) لم يطلب "مرو برجر" بصب خلاصة الحصيلة الحضارية علي الريف فقط, ولكن علي البادية كذلك في البلاد التي فيها بادية, بعد أن قرر - بوضوح - أن الإسلام قد ضعف في "المدينة المصنعة الآهلة بالسكان" وما زال قوياً في الريف والبادية!.
(311)هكذا كان "المشايخ" دائماً يوصفون بعد أن فعل بهم مخطط "دنلوب" ما فعل... وبعد أن انزووا أما تيار التغريب الذي سميي "تيار الحضارة"... وكانوا بالفعل لا يمثلون تياراً حيا قادراً علي توجيه الحاضر فضلاً عن المستقبل.
(312) علي أحد الشواطئ أرادت فتاة أن يصورها المصورجالسة علي رمال الشاطئ بلباس البحر, وكانت - علي عريها - ما تزال تحمل شيئاً من بقايا الحياء الفطري, ولكن هذا الوضع "المحتشم!!" لم يعجب المصور فطلب منها أن تجلس في وضع أكثثر تبذلاً, فأبت.... فقال لها - ليستفزها - هل أنت فلاحة أم ماذا؟! وفي الحال كانت الفتاة علي الوضع المطلوب... لتنفي عن نفسها التهمة الكريهة البغيضة... تهمة التخلف!.
(313) وكان في موقفهم الذاتي - كما أسلفنا بيانه - ما يساع الأعداء علي إضفاء هذه الصقات عليهم, وما يصدّق هذه الصفات.
(314) وكان لهم من قشور الثقافة ومظاهر الحضارة المادية ما يساعد الأعداء علي إضفاء هذه الصفات عليهم بحيث تبدو كأنها حقيقة.
(315) يقول تعالي عن أمثالهم: { أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [سورة الأعراف 7/179].(2/131)
(316) كانت معاناتهم من اليابان أنها صارت تنافسهم في أسواقهم وتضايقهم فيها, أما مصيبتهم من المسلمين إذا استردوا كيانهم المفقود فهي ضياع مواردهم الخامة التي يشرقونها من المسلمين, وضياع سيطرتهم السياسية التي يمارسونها بسحق المسلمين وإخضاعهم لننفوذهم... فضلاً عن أمور أخري يعرفها الغرب جيداً ولا يدركها المسلمون أنفسهم في غفلتهم واستضعافهم..
(317) نذذكر في هذا المجال كتابات الدكتور حسين فوزيي في كتاب "سندباد عصري" وكتابات الدكتور زكي نجيب محمود في مهاجمة "الفكر الشرقي" و تمجيد "الفكر الغربي"... ثم نذكر قولد "توينبي" في محاضرته بعنوان "الإسلام والغرب" (تعريب الدكتور نبيل صبحي) التي يقول فيها إننا ظللنا نخرج المسلم التركي حتي يتخلي عن إسلامه ويقلدنا, فلما فعل ذلك احتقرناه... لأنه لم يعد عنده ما يعطيه!.
(318) ينبغي أن نتذذكر جيداً أن التخطيط - كما سسيدئ بيانه - كان صليبياً صهيونياً في ذات الوققت, ولم يكن صهيونياً فقط ولا صليبياً فقط.
(319)كان هؤلاء اليهود يعيشون في المغرب, التي نزحوا إليها مع المسلمين النازحين من الأندلس فراراً من فظائع محاكم التفتيش, ثم صدرت إليهم أوامر خفية بأن يتمسلموا وينزحوا إلي البلقان, وهناك قاموا بدورهم في القضاء علي الخلافة العثمانية.
(320) كان الروس يتبعون المذهب الأرثوذذوكسي, ومن هنا كانت صلتهم بالأرمن الذين هم علي مذهبهم, وتحريضهم إياهم ضد دولة الخلافة.
(321) يقول "وليم كار" في كتابه "أحجار علي رقعة الشطرنج" إن اليهود أقاموا الحرب العالمية الأولي للقضاء علي الدولة العثمانية تمهيداً لإنشاء الدولة اليهودية, والحرب العاليمة الثانية من أجل إنشاء الدولة بالفعل, وهو ققول يحمل كثيراً من الحق, بصرف النظر عن تهويلات وليم كار في شأن اليهود. ولا شك أنهم استغلوا المناسبتين استغلالاً كاملاً لتحقيق أهدافهم.(2/132)
(322) قلنا من قبل إن الأعداء ركزوا علي تركيا ومصر بالذات في مخططاتهم للقضاء علي الإسلام.
(323) قال جمال عبد الناصر في اكثر من مرة إن مثله الأعلي هو كمال أتاتورك.
(324) حدث بالفعل في الحرب المسرحية التي قامت علي أرض فلسطين عام 1948 أن امتنعت بريطانيا عن تقديم الذخيرة للجيوش العربية فتوقفت الحرب وتم التقسم!!.
(325) كانت كلها بلاداً فقيرة "متخلفة" رغم إمكانياتها الذاتية.
(326) انظر - إن شئت - فصل "القومية الوطنية" من كتاب "مذاهب فكرية معاصرة".
(327) جاء في كتاب "الغارة علي العالم الإسلامي" قول أحد المبشرين: إن أوربا كانت تفزع من "الرجل الأبيض" لأن وراءه ثلاثمائة مليون من البشر, مستعدون للجهاد بإشارة من أصبعه!.
(328) عن كتاب "المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام" لمحمد محمود الصواف, طبع دار الاعتصام بالقاهرة, الطبعة الثالثة, ص218.
(329) لا يتسع المقام هنا لمناقشة موضوع الكتاب, ولكني ناقشته في كتاب "المستشرققون والإسلام".
(330) لنا رأي في قضية الدخول في الإنتخابات نبينه في موضعه في هذا الفصل.
(331) قلنا من قبل إن الأعداء اتجهوا إلي تحطيم الإسلام في تركيا ومصر أكثر من أي مكان آخر في العالم الإسلامي, باعتبار تركيا مقر الخلافة ومركز القوة السياسية والعسكرية, ومصر مقر الأزهر ومركز الإشعاع العلمي والروجي للمسلمين.
(332) بقي الاحتلال إلي عام 11954 حيث غادرت آخر القوات البريطانية الأرض المصرية.
(333) يقصد الشعب العربي المسلم.(2/133)
(334) تيقظ الإنجليز إلي هذا الخطر قبل ذلك بسنوات, فغيروا سياستهم في مصر تغييراً جذرياً لعلهم يتفادون الخطر بالطرق السلمية, البطيئة الأكيدة المفعول, فقد كان تخطيطهم الأول هو عزل مصر تماماً عن العالمين العربي والإسلامي, وإثارة النعرة الوطنية المتلبسة بالنزعة الفرعونية كما سبق بيانه في الفصل الماضي, مع نشر التحلل والففساد الخلقي الذي يميت الوجدان الديني ويقتل الاهتمامات الجادة... ولكن بعد ظهور حركة الإخوان المسلمين, وامتدادها من مصر إلي البلاد العربية المجاورة, سعت بريطانيا إلي إنشاء "الجامعة العربية" وجعل مصر "أم العروبة" "وزعيمة العالم العربي"و "كبري الشقيقات" فيه! لعل راية العروية تخايل للناس فيجتمعوا تحتها بدلاً من الراية الإسلامية المرهوبة... ولكن الإنجليز لجثوا بعد ذلك إلي العنف - كما سبق بيانه - حين لم تفلح دعوي العروبة ولا غيرها من الوسائل في وقف المد الإسلامي!.
(335) قضي عبد الناصر طفولته في حارة اليهود بالقاهرة, إذ كان أبوه وكيل مكتب بريد حارة اليهود في ذلك الوقت. ونششرت مجلة "المجلة" - علي جملة حلقات - تلخيصاً لكتاب من تأليف الكاتب اليهودي "مورريس مزراحي" بعنوان "ملف اليهود في مصر" جاء في الحلقة السابعة منها (العدد 290 بتاريخ 28/8/1985) أن سيدة يهودية تدعي مدام يعقوب فرج شمويل توسطت لدي عبد الناصر لتخفيف الحكم الصادر علي اثنين من اليهود في مصر بالإعدام لاتهامهما في قضية جاسوسية, لأن عبد الناصر كان يدين للها بالفضل, لأنها هي التي رعته في طفولته بعد وفاة أمه, وكانت ت عامله كأحد أبنائها... ولكنا لا نعرف شيئاً عن اتصال اليهود به وتعرفهم علي خصاله قبل اللقاء الذي تم في الفالوجا بينه وبين إيجال آلون في أثناء حصار الفالوجا سنة 1949م.(2/134)
(336) هكذا كانت تسمي فيأيامها الأولي. وقد صرح محمد نجيب الرئيس الظاهري للحركة في مجلة المصور (في أول عدد صدر بعد الحركة) أن أول من علم بخير الحركة كان هو السفير الأمريكي في مصر, وكان ذلك قبل قيام الحركة بستة أشهر!! وهذا هو الققدر الذب كان مكشوفاً للرئيس المستعار... أما الحقيقة فيعلمها الرئيس الحقيقي جمال عبد الناصر!.
(337) أذكر للقارئ نموذجاً واحداً ربما يعينه - ولو من بعيد - علي تصور شئ مما كان يجري في السجن الحربي من ألوان التعذيب. كان اعتقلي في نوفمبر من عام 1954, بعد الحادث بما يقرب من شهر. وكان الشهيد يوسف طلعت قد اعتقلقبلي بثمان وأربعين ساعة, بعد أن ظلوا يبحثون عن أكثر من ثلاثة أسابيع حتي تمكنوا من معرفة كانه فاعتقلوه. وكان "العرف" قد جري في السجن الحربي علي أن يستقبل كل فوج من المعتقلين بما أطلقنا عليه من باب السخرية "حفل الاستقبال"! فكان يتناثر فريق من زبانية المعتقل علي الطريق من باب السجن إلي "المكاتب" حيث تسجل الأسماء في أوراق السجن, كلما مر بهم واحد من المعتقلين قام كل واحد من الزبانية بنصيبه في "استقباله" إما بضربة سوط, أو ضربة عصا, أو صفعة قوية علي وجهه, أو لكمة في صدرةه, أو ركلة بكعب الحذاء الحديدي في أي مكان من جسمه لا تحرز... وكان ذلك مقصوداً لببث الرعبب في قلب كل داخل من أول لحظة, كجزء من خطة الإرهاب العامة التي تمارسها الدولة مع المسلمين. وكان نصيبي من حفل الاستقبال كنصيب كل واحد من الفريق الذي دخل معي السجن في نفس اللحظة. ولكني ذهلت عن ذلك كله - حتي ذكرني الإخوة فيما بعد بما كان من أمر الزبانية معي - ذهلت عنه ذهولاً كاملاً حين رأيت الشهيد يوسف طلعت, مأخوذاً من باب السجن الداخلي إلي المكاتب للتحقيق!.(2/135)
كان يوسف قوي الجسم, شديد الأسر, متين البناء, وكان معروفاً بقوته الجسدية إلي جانب رسوخ عقيدته وجرأته في الحق, ولم يكن قد مضي عليه في أيديهم إلا ثمان وأربعون ساعة كما أسلفت... ولكن منظرره أذهلني! كانت الأربطة التي يرشح منا الدم و "المركروكروم" الأحمر تمتد من أعلي رجليه إلي أسفل قدميه, كما تغطي ذراعيه بطولهما. وكان معه اثنان من الزبانية! أحدهما يقوده من أمامه والآخر من خلفه, وفي كل خطوة كان يتلقي ضربتي سوط علي ساقيه الداميتين, إحداهما من أمام والأخري من الخلف, ومع ذلك لا تزييد خطوته في كل مرة عن خمسة سنتيمترات! ولو كان يملك أن يجعلها أوسع من ذلك بسنتيمتر واحد لوفر علي نفسه مئاتالسياد في هذا المشوار الكئيب من باب السجن إلي المكاتب, حيث يعاد تعذيبه من جديد! لذلك ذهلت عما أصابني شخصياً في "حفل الاستقبال"... وقد كنت - قبل دخولي - قد سمعت كثيراً عما يجري هنالك من ألوان التعذيب... ولكن كل ما كنت سمعته لم ينشئ عندي صورة حقيقية عن التعذيب, حتي رأيتها في ذلك المشهد الرهيب...(2/136)
(338) قال لي المحقق أثناء التحقيق الذي أجري معي في السجن الحربي في الاعتقال الثاني عام 1965 (وهو مثبت في ملف التحقيق): لقد قلت أمام مجموعة من الناس إن حادث الإسكندرية كان مسرحية! قلت: لم أقل ذلك! قال: فماذا قلت إذن؟! قلت: قلت لهم إنه سواء كان حادث الاسكندرية حقيقياً أم كان حادثاً مفتعلاً فقد كان مُعَدَّا للإخوان كل ما حدث لهم بالفعل! قال مستنكراً: وما دليلك علي ذلك؟! قلت: لقد كان لي صديق يدعي "حسن السيد" وهو عديل الضابط أحمد أنور مدير السجون الحربية, وكان موضع ثقة كبيرة من جمال عبد الناصر, وكانت قد قامت بيني وبينه صداقة وثيقة عام 1952, فزرته ذات مساء في أواخر يوليو 1954 في مكتبه (وكان يعمل محامياً) فوجت عنده زبونين أنهي أمرهما بسرعة وقال: تعال! إنما أريدك في أمر مهم.. وأغلق بابمكتبه بالمفتاح من الداخل مع أنه لا يمكن فتنحه من الخارج! وقال: أريدك في أمر علي غاية من الأهمية... نريد أن نوقف الصدام بين الإخوان والحكومة بأي شكل! قلت إن الصدام قد وققع بالفعل, فكيف يوقف؟ قال: فلييكفوا عن نقد المعاهدة (يقصد المعاهدة التي أجريت بين الحكومة وبين الانجليز في ذلك العام, وكان للإخوان عليها جملة اعتراضات) قلت: لقد أعلنوا رأيهم فيها بالفعل, فما العمل؟! قال: فلينسحبوا من السياسة ويعلنوا أنفسهم جماعة دينية! قلت: ألحماية أشخاصهم يفعلون ذلك, ويدمرون في الوقت ذاته الأساس الذي قاموا عليه؟ لقد قاموا علي أساس ممارسة الإسلام بمعناه الشامل, والسياسة جزء منه, فإذا انسحبوا اليوم من السياسة فماذا بقي لهم من مبادئهم يركتزون عليه؟ قال: مؤقتاً فقد حتي تمر الأزمة... فإنك لا تدري ماذا سيحدث لهم! قلت مستفسراً: ماذا سيحدث لهم؟ فتردد في الإجابة فكررت عليه السؤال: ما الذي سيحدث لهم؟ فقال: أن أعيش في وسطهم, وأعلم ماذا سيحدث. يعني... حين يأخذون المرشد والأشخاص البارزين في الجماعة فيعدمونهم. ويأخذون كذا ألف(2/137)
شاب فيعذبونهم علي طريقة إبراهيم عبد الهادي.. تكون الدعوة قد انتهت!! قلت: لا تنتهي الدعوة بهذا! قال محتداً: أظن ستقول لي إن الاضطهاد يذكي الدعوات! أن أحفظ هذا الكلام أكثر منك! ولكن أمامك مائة سنة أخري حتي تعود الدعوة من جديد! قلت: إن هذا عصر تتابع فيه الأحداثث بسرعة ولا مجال فيه لشئ يأخذذ مئات السنين! ومع ذلك فماذا في وسعي أنا أن أفعل؟! قال: تلقي بأخيك سيد وتطلب منه وقف الصدام مع الحكومة بأي شكل! قلت له: نعم! أفعل... ولم ألتق بأخي حتي كانت الاعتقالات.
قلت ذلك للمحقق فارتبك ارتباكاً شديداً لم يستطع إخفاءه! وظل ما يقرب من نصف دقيقة لا يجد ما يقول, ثم قال متلعثماً: في يوليو ألم يكن الحادث قد وقع؟! قلت: لا! لقد وقع في 26 أكتوبر! قال: نعم! لقد كان الإخوان يومئذ قد بدءوا يشاغبون! وبعد أسبوعين طلبني المحقق, وقال: لقد استدعينا حسن السيد وسألناه, فأقر بما ذكرته في التحقيق!.
(339) وبذلك تنتهي مشكلة "اللاجئين" التي كانت في ذلك الوققت تشغل "الرأي العام العالمي" حتي استطاع اليهود - بوسائلهم - أن يُنْسوا "الررأي العام العالمي" مشكلة اللاجئين, حين حولوا العرب جميعاً إلي لاجئين!!.
(340)كانت البلاد العربية في ذلك الوقت لا تعترف بإسرائيل, وتسميها "إسرائييل المزعومة" فلم تكن هناك حدود معترف بها!.
(341)لاحظ رغبة جونستون في عدم تحديد حدود نهائية في ذلك الحين لكي لا تتقيد بها إسرائيل!إنما ييريد فقط إعطاءها شرعية الوجود, ولا بأس عليها بعد ذلك ان تتخطي الحدود!.
(342) وذلك تمهيداً للصلح!!.(2/138)
(343) تترجم كلمة Secular عادة بالعلمانية, وهي ترجمة خاطئة, والصحيح ترجمتها باللادينية (راجع فصل "العلمانية" من كتاب "مذاهب فكرية معاصرة") فالناس في الإسلام إما أن يكونوا بكل واقعهم وكل مشاعرهم داخل الدين وإلا فهم خارجة. ولا توجد في الإسلام منظقة "علمانية" تكون فيها بعض الأعمال وبعض المشاعر خارج دائرة الدين, ويكون أصحابها مع ذلك مسلمين!! إنما كان ذلك في الدين الكنسي المحرف, الذي قال قساوسته أدّ ما لقيصر لقيصر وما لله لله! ولكن الله تعالي يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)} [سورة البقرة 2/208] أي ادخلوا بكافة أنفسكم في الإسلام.
(344) ص 319 من الطابعة الثانية Anchor Books edition نيورك سنة 1964.
(345) ص: 320.
(346) إلا ما صنعته محاكم التفتييش في الأندلس للقضاء علي الإسلام كما سبقت الإشارة.
(347) أي الزملاء في الطريقة الصوفية.
(348) راجع: مجموع رسائل الإمام الشهيد "حسن البنا" طبع المؤسسة الإسلامية للطباعة والصحافة والنشر, بيروت, الطبعة الثالثة 1403هـ 1983م ص177.
(349) أخرجه الشيخان.
(350) متفق عليه.
(351) أخرجه البخاري.
(352) اقدر بعض الجهات عدد الذين انضموا للدعوة قبل مقتل الإمام الشهيد بنصف مليون, وليس هناك إحصاء دقيق بطبيعة الحال.
(353) لنا رأي في هذا النمو السريع سنبينه فيما بعد, لكنا هنا نسجل واقع الحال.
(354) مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا, المؤسسة الإسلامية للطباعة والصحافة والنشر, بيروت-ط3-1403هـ1983م, ص108-109.
(355) قال تعالي: {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمْ الشُّقَّةُ} [سورة التوبة 9/42].
(356) هذه قولة الخديو إسماعيل.
(357) هذه قولة طه حسين.(2/139)
(358) قال تعالي: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً (97)} [سورة مريم 19/97].
(359) شكا الإمام الشهيد في نهاية حياته من بعض التصرفات غير المسئولة التي يقوم بها أفراد معينون من الجماعة, ولكن هذا لا يينفي الأصل, وهو طاعة الجنود لقائدهم, وسمعهم وطاعتهم له في المنشط والمكره.
(360) سنعود إلي هذا الأمر بالحديث فيما يلي من هذا الفصل.
(361) سبق ذكره.
(362) سبق أن أذكر ذلك من قبل في الفصل السابق, أثناء الحديث عن "آثار الانحراف".
(363) سنتكلم عن هذه القضية فيما بعد.
(364) سنتكلم بعد قليل عن الوسائل.
(365)جاء في رسالة التعاليم في البند العشرين: "لا نكفر مسلماً أقر بالشهادتين, وعمل بمقتضاهما, وأديي الفرائض برأي أو معصية... إلخ..." انظر: "مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا" المشار إليها آنفاً ص 359.
(366) العمل بمقتضاهما هو الحكم بما أنزل الله في كل أمور الحياة, وهو شرط الإيمان الذي لا يقوم الإيمان بغيره:(2/140)
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65)} [سورة النساء 4/65] وهنا تعرض مسألة يختلط أمرها في أذهان بعض الناس, وهي المعصية, فإجماع الأمة أن المعصية لا تخرج صاحبها من الإيمان بينما هي عمل مخالف لما أنزل الله, ولا تناقض في الحقيقة بين الأمرين. فمرتكب المعصية حين يقر بأنها معصية فهو يحكم عليها بما أنزل الله, ويزنها بميزان الله, وإن خالف أمر الله فيها شهوة أو هوي. ولذلك لا يخرج من دائرة الإيمان. أما حين يستحلها فهو يحكم في شأنها بغير ما أنزل الله, ويزنها بغير ميزان الله, ولذلك يكفر. بل هو يكفر بهذا الاستحلال ولولم يأت العمل المنهي عنه. ذلك أنه - وإن لم يرتكب بجوارحه لك العمل - فقد أتي بعمل من أعمال القلب يخرج صحابه من الإيمان, هو اتخاذ نفسه ندا لله سبحانه وتعالي, يحل ويحرم من عند نفسه بغير إذن من الله, والله وحده هو صاحب الأمر في التحليل والتحريم, والإباحة والمنع, بمقتضي كونه هو الخالق وحده سبحانه: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [سورة الأعراف 7/54]. وهذا هو الذي يفسر كون المعصية في حد ذاتها لا تخرج من الإيمان إلا أن يستحلها صاحبها, أي يعطيها حكماً مخالفاً لحكم الله. ومع ذلك فهناك إجماع من الأمة علي أن هناك أعمالاً بعينها لا يسأل صاحبها عما في قلبه, وهل هو مستحل لها أم غير مستحل, لأنها دالة بذاتها علي الكفر, كالسجود إلي الصنم, وإهانة كتاب الله, وسب الرسول صلي الله عليه وسلم, وموالاة أعداء الإسلام, والتحليل والتحريم من دون الله, أي التشريع بغير ما أنزل الله.(2/141)
(367) هذا هو البرنامج الثلاثي, او "ورقة العمل" التي جئ بجمال عبد الناصرليقوم بتنفيذها, وقد بذل كل جهده بالفعل للتنفييذها, فأتاتورك مهمته بالطبع معروفة وهي القضاء علي الإسلام. وإشارة الصحيفة ذات مغزي. فأتاتورك الأول كانت مهمته القضاء علي الإسلام في اسطنبول, مركز القوة السياسية والعسكرية للعالم الإسلامي, وأتاتورك الثاني -جمال عبد الناصر- مهمته القضاء علي الإسلام في القاهرة, مركز الإشعاع الروحي والثقافي للعالم الإسلامي, ومحاربة الشيوعية تقلبت بها الوسائل وانتهي بها الأمر إلي تطبيق الإشتراكية لتكريه الناس في الشيوعية كما جاء في كتاب "والت روستو" اليهودي الأمريكي": "مراحل التنمية الاقتصادية في البلاد المختلفة" والصلح مع إسرائيل مهد له جمال عبد الناصر بكل ما في وسعه, ولكنه هلك قبل أن يتم التنفيذ, فجاء خلفه "العظيم"ليتم مكارم الأخلاق!!.
(368) تشير الصحيفة بذلك إلي تأميم قناة السويس.
(369) اشتركت جميع أجهزة الإعلام العالمية التي يسيطر عليها اليهود في إضفاء صفات البطولة الخارقة علي السفاح إمعاناً في تغطية دوره الحقيقي.
(370) يأتي ذكر بعض المنعطفات عرضاً في أثناء الحديث.
(371) أخرجه مسلم.
(372) منذ سنة 1965.
(373) راجع قول الإمام الشهيد في رسالة "بين الأمس واليوم" : "سيقف جهل الشعب بالإسلام عقبة في طريقكم" وقد سبقت الإشارة إليه.
(374) مر بنا نموذج من ذلك في فتوي الشيخ رشيد رضا في الفصل السابق.
(375) حسب ظاهرهم, والقلوب أمرها إلي الله.
(376) ابن تيمية, الفتاوي, مجموعة التوحيد, الرسالة الثانية عشرة, ص278.
(377) في الحقيقة لا يوجد مجتمع في الأرض -ولا مجتمع الرسول صلي الله عليه وسلم - يتمييز كله تميزاً واضحاً, إنما تبقي فيه دائماً فئات خافية الحال, ولكنا نقصد الفئات الرئيسية في المجتمع, التي تعطيه سمته المميزة.
(378) كتب هذا في عام 1406 هـ (1986م).(2/142)
(379) انظر إن شئت فصل "دور اليهود في إفساد أوربا" من كتاب "مذاهب فكرية معاصرة".
(380) أشرنا إلي هذا في الفصل السابق "آثار الانحراف".
(381) سنكلم عن موضوع التربية في موضع آخر من هذا الفصل.
(382) انظر شرح هذه القضية في فقرة تالية في هذا الفصل بعنوان: "ماذا نتقلد من الوظائف في المجتمع الجاهلي".
(383) أشرنا إلي هذا الأمر من قبل, وسنعاود الحديث عنه حين نتكلم عن "منهج الحركة".
(384) جاء في المغني لابن قدامة (ج2ص200, طبعةرئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية): "إذا صلي خلف من شك في إسلامه أو كونه خنثي, فصلاته صحيحة ما لم يبين كفره, وكونه خنثي مشكلاً, لأن الظاهر من المصلين الإسلام, سيما إذا كان إماماً, والظاهر السلامة من كونه خنثي, سيما من يؤم الرجال. فإن تبين بعد الصلاة أنه كان كافراً أو خنثي مشكلا فعليه الإعادة...".
(385) قلنا آنفاً إنه لا يوجد مجتمع في الأرضض -ولا مجتمع الرسول صلي الله عليه وسلم - يتميز كله تميزاً كاملاً, فهناك دائماً "منافقون" في كل مجتمع. وحكم هؤلاء في المجتمع المسلم الذي يحكم بما أنزل الله أنهم مسلمون طالما كانوا يقولون لا إله إلا الله ويخضعون لشريعة الله ولا يخرجون عليها, فإن لم يخضعوا لشريعة الله اعتبروامرتدين وإن نطقوا بالشهادتين.
(386) يعتقدها المؤمن ولا يعتقدها الكافر المنافق.
(387) الإقرار هنا معناه الإلتزام.
(388) يقول تعالي في محكم التنزيل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)} [سورة التوبة 9/115]
.
(389) أخرجه مسلم.
(390) انظر إن شئت فصل "مفهوم لا إله إلا الله" من كتاب "مفاهيم ينبغي أن تصحح".
(391) انظر إن شئت كتاب "مفاهيم ينبغي أن تصحح".
(392) سنتعرض لهذه النقطة في الفصل القادم "نظرة إلي المستقبل".(2/143)
(393) من العجيب أن يمارس هؤلاء الشباب الحياة في أمريكا ثم يغفلون عن الحقيقة الكبري هناك, وهي أن اليهودية العالمية هي التي تحكم من خلال الديمقراطية.. وأن أي فكر مخالف لمصالحها لا يتاح له أن يتحول إلي واققع عملي!.
(394) رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه انظر فصل "وليرح ذبيحته" من كتاب "قبسات من الرسول".
(395) هذه هي السنة التي كتب فيها الكتاب, والآن بعد ما تزيد علي عشر سنوات لم يتغير الوضع!.
(396) في كلمة بعنوان "آمال ومحاذير".
(397) أو الساسية أو الاجتماعية... الخ.
(398) المعركة اليوم مفروضة علي الجماعات الإسلامية في كل مكان, وغداًَ يفرضونها علي الأمة الإسلامية بكاملها (انظر الفصل القادم "نظرة إلي المستقبل").
(399) دخل عيلنا ذات صباح في "السجن الحربي" مدير السجن وجلاده الأكبر حمزة البسيوني الذي نكّل الله به فيما بعد في حادث سيارة تناثرت فيها جثثته علي مساحة من الأرض, وكنا في "طابور" التعذيب الذي يبدأ يومياً في الساعة السادسة صباحاً وينتهي في الرابعة والنصف بعد الظهر, وبعد استعراض بالجري والمشس بالخطوة السريعة قام به أمامه الجلاد الأصغر ليظههر همته في تنفيذ الأوامر قال حمزة البسيوني, وكان يركب حصانه: "بعد الذي صنعناه كله فيكم يا أولاد الـ.. وما زلتم أحياء؟ ماذا نصنع فيكم أكثر من ذلك؟! كل الذي نستطيعه أن نأتي بكم كل بضع سنوات ونعطيكم "علقة" مثل هذه!" أي أن هذا مخطط سلفاً, سواء وجدت المبررات أم لم توجد!!.
(400) سنتكلم عن قضية "السمع والطاعة" فيما يلي من الحديث.
(401) سبقت الإشارة إليه.
(402) راجع الهامشة رقم (2) ص 452 السابقة.(2/144)
(403) من النكات التي أطلقت في عهد جمال عبد الناصر تفقد قلمه فلم يجده, فأبلغ وزير داخليته, وطلب من البحث عمن أخذه. فأسرع وزير الداخلية في القيام بالمهمة المطلوبة. وبعد ساعة اتصل عبد الناصر بوزير الداخلية وطلب منه الكف عن البحث لأنه وجد القلم الضائع. فأجب وزير الداخلية: لكن يا فندم نحن قبضنا علي خمسة أشخاص, وكلهم اعترفوا!!.
(404) انظر فصل "خط الانحراف".
(405) انظر فصل "خط الانحراف".
(406) أخرجه الشيخان.
(407)رواه الترمذى.
(408) انظر إن شئت كتاب "مذاهب فكرية معاصرة".
(409) راجع الكلام عن الغزو الفكري في الفصل السابق, وفصل "العلمانية" من كتاب "مذاهب فكرية معاصرة".
(410) صار "العلم" اليوم هو الذي يقول إن "قوانين الطبيعة" ليست "حتمية"! وإنما هي مجررد "احتمالات" بعضها أقوي من بعض!.
(411) سسنشير إلي هذا المعني في الفصل القادم "نظرة إلي المستقبل".
(412) أخرجه مسلم.
(413) أخرجه مسلم.
(414) انظر إن شئت كتاب "المستشرقون والإسلام".
(415) جاء في كتاب الخراج لأبي يوسف: إن لولي الأمر أن يوظف (أي يفرض) في أموال الأغنياء بمقدارا ما يحتاج بيت المال.
(416) راجع إن شئت فصل "الديمقراطية" في كتاب "مذاهب فكرية معاصرة".
(417) من أعجب القضايا التي تثار ضد الحكم الإسلامي في قضية الأقليات غير المسلمة!! إن هناك أقليات إسلامية كثيرة في الأرض لم تفكر - ولا يسمع لها - أن تمنع أكثر السكان من ممارسة دينهم! فكيف يكون من حق الأقليات غير المسلمة أن يمنعوا الأكييريية المسلمة من ممارسة دينها, والحكم بما أنزل الله هو جزء لا يتجزأ من هذا الدين؟! بأي عرف سياسي أو تاريخي أو منطقي يقال ذلك؟!.(2/145)
(418) تقول القصة إن جماعة من الثيران الحمر كان بينها ثور أبيض, وكانت تنفر منه ولا تحبه لأن لونه مغاير للونها. فجاء الأسد فطلب من جماعة الثيران أن تقدم له واحداً منها ليأكله, فقدموا له الثور الأبيض ليتخلصوا منه. ولكن الأسد عاد بعد فترة ييطلب ثثوراً جديداً ليأكله, وهجم علي أحد الثيران الحمر ليلتهمه, فقال الثور وهو بين فكي الأسد: أكلت يوم أكل الثور الأبيض!!.
(419) سنتكلم عن هذا الأمر فيما يلي من الفصل.
(420) انظر إن شئت فصل "دور اليهود في إفساد أوربا" من كتاب "مذاهب فكرية معاصرة".
(421) راجع تقررير للورد كامبل المشار إليه من قبل.
(422) كان إبراز مجموعة من "القادة العظام"!! لا يستطييعون الكلام بالفصحيي في المنطقة العربية أمراً علي هوي أعداء الإسلام, بقصد منهم أو بغير قصد.
(423) من المعلوم أن اليهود لا يحرصون علي عواطف خدامهم - مهما خدموهم - بقدر حرصهم علي مصلحتهم الخاصة, ويذكر القراء انهم أحرجوا رئيس الولايات المنحدة الأمريكية أكثر من مرة مع أنه يقدم لهم خدمات تفوق التصور!.
(424) ترجمة د. مصصطفي كامل فودة, إصدار دار الشروق بالقاهرة, مقتطفات من ص 161-164, الطبعة الثانية 1404 هـ
(425) لا يصلح العمل للإسلام دون جماعة متحابة متآلفة تعيش الإسلام واقعاً ثثم تدعو إليه. ولكنا نسجل واقعاً قائماً بالفعل.
(426) بالتعاون الوثيق مع الصليبية بطبيعة الحال.
(427) أخرجه مسلم.
(428) رواه الإمام أحمد عن حذيفة بن اليمان.
(429) في كتاب "مذاهب فكرية معاصرة".
(430) عن كتاب "الإسلام والنظام العالمي الجديد" تأليف مولاي محمد علي, وترجمة أحمد جودة السحار.
(431) في اليابان وكوريا اليوم جماعات كبيرة دخلت في الإسلام.
(432) راجع فصل "العلمانية" في كتاب "مذاهب فكرية معاصرة".
(433) كانوا ثلاثة أمثالهم في الحقيقة.
??
??
??
??(2/146)