فيا عباد الله: إن إدراك البشرية لبعض الحقائق اللازمة في حياتها كفيل بأن يوفر عليها أخطاء أليمة تردت فيها ومن ذلك أنها تصورت في المرأة شتى التصورات السخيفة ورأت فيها منبع الرجس والنجاسة وأصل الشر والبلاء مع أنها مخلوقة من النفس الأولى فطرة وطبعا، خلقها الله عز وجل لتكون لها زوجا وليبث منهما رجالا كثيرا ونساء فلا فارق في الأصل والفطرة إنما الفارق في الاستعداد والوظيفة يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء .(1/1)
ولقد تخبطت البشرية فجردت المرأة من كل خصائص الإنسانية وحقوقها فترة من الزمان تحت تأثير تصور سخيف لا أصل له وهو أن المرأة شيطان لابد منه ووسوسة جبلية وآفة مرغوب فيها وخطر على الأسرة والبيت ومحبوبة فتاكة ورزء مطلي مموه. وهذا قول لأحد رجال الدين في أوروبا في الماضي ولكنهم عندما أرادوا معالجة هذا الخطأ في النظرة إلى المرأة اشتطوا فوقعوا في انحراف آخر فأطلق العنان للمرأة أنها إنسان خلقت لإنسان ونفس خلقت لنفس وشطر مكملها شطر وأنهما ليسا فردين متماثلين، إنما هما زوجان متكاملان تقوم علاقتهما على المودة والرحمة ومن خلال هذا المفهوم تعمل المرأة كل ما يرضي زوجها وتساعده على الارتقاء في مدارج التقى وعلى التخلص من الشيطان ووساوسه، ومن خلال المودة والرحمة يكدح الرجل ويرضي زوجته ويحصنها من انفتاح قلب أو جارحة على خطيئة هكذا فهم المسلمون علاقة كل من الجنسين بالآخر. هذه أسماء بنت يزيد رضي الله عنهما أتت النبي وهو بين أصحابه فقالت يا رسول الله: إني وافدة النساء إليك، إن الله بعثك بالحق للرجال والنساء فآمنا بك واتبعناك، وإنا معشر النساء قواعد بيوتكم وحاملات أولادكم. وأنتم معشر الرجال فضلتم علينا بالجمع والجماعات وشهود الجنائز وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله تعالى، وإن الرجل إذا خرج حاجا أو مرابطا أو معتمرا حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا لكم أثوابكم، وربينا لكم أولادكم، أفلا نشارككم في هذا الخير والأجر يا رسول الله، فالتفت بوجهه الكريم إلى أصحابه ثم قال: هل سمعتم مقالة امرأة أحسن من هذه عن أمر دينها، فقالوا يا رسول الله: ما ظننا امرأة تهتدي إلى مثل هذا، فالتفت النبي إليها ثم قال: ((انصرفي أيتها المرأة، وأعلمي من خلفك من النساء أن طاعة الزوج اعترافا بحقه يعدل ذلك وقليل منكن من تفعله))، فانصرفت وهي تهلل حتى دخلت على نساء قومها وعرضت عليهن ما قاله رسول الله ففرحن وآمن جميعهن.(1/2)
إنه الاهتمام الذي يدفع للسؤال عما يرضي الله عز وجل واسمعوا من هذه السير العطرة: تزوج شريح القاضي الفقيه بزينب ابنة جرير من بني حنظلة فحدث الشعبي عن نفسه قائلاً: ((فلو رأيتني يا شعبي وقد أقبل نساؤهم يهدينها حتى أدخلت علي، فقلت: إن من السنة إذا دخلت المرأة على زوجها أن يقوم فيصلي ركعتين، فيسأل الله من خيرها، ويعوذ به من شرها قائلا: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه، فصليت وسلمت، فإذا هي من خلفي تصلي بصلاتي، فلما خلا البيت ودنوت منها، ومددت يدي إلى ناحيتها قالت: على رسلك يا أبا أمية، كما أنت، ثم قالت: الحمد لله أحمده وأستعينه وأصلي على محمد وآله، إني امرأة غريبة، لا علم لي بأخلاقك فبين لي ما تحب فآتيه، وما تكره فأبتعد عنه، وقالت: إنه كان لك في قومك منكح، وفي قومي مثل ذلك، ولكن إذا قضى الله أمرا كان وقد ملكت فاصنع ما أمرك الله به:إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولك.(1/3)
قال شريح فأحوجتني والله يا شعبي إلى الخطبة في ذلك الموضع فقلت: ((الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأصلي وأسلم على النبي وآله، وبعد فقد قلت كلاما إن تثبتي عليه يكن ذلك حظّك وإن تدعيه يكن حجة عليك أحب كذا وأكره كذا، ونحن سواء فلا تفرقي، وما رأيت من حسنة فانشريها أو سيئة فاستريها، قالت: وكيف محبتك لزيارة الأهل، قال شريح: ما أحب أن يملني أصهاري، قالت: فمن تحب من جيرانك أن يدخل بيتك آذن له ومن تكرهه أكرهه، قال شريح: بنو فلان قوم صالحون، وبنو فلان قوم سوء. قال شريح: فبت يا شعبي بأنعم ليلة، ومكثت معي حولا لا أري إلا ما أحب، فلما كان رأس الحول جئت من مجلس القضاء فإذا بعجوز تأمر وتنهي في البيت، قلت: من هذه، قالوا فلانة ختنك، فسُرّي عني ما كنت أجد، فلما جلست أقبلت على العجوز وقالت: السلام عليك يا أبا أمية، قلت: وعليك السلام من أنت، قالت: أنا فلانة ختنك، قلت قربك الله، قالت: كيف رأيت زوجتك، قلت: خير زوجة، فقالت: يا أبا أمية، إن المرأة لا تكون أسوأ حالا منها في حالتين: إذا ولدت غلاما أو حظيت عند زوجها، فإن رابك ريب فعليك بالسوط فوالله ما حاز الرجال في بيوتهم شرا من المرأة المدللة، قلت: أما والله لقد أدبت فأحسنت الأدب، وروضت فأحسنت الرياضة، قالت: تحب أن يزورك أختانك، قلت متى شاؤوا)).
قال شريح: فكانت تأتيني في رأس كل حول توصيني تلك الوصية، فمكثت معي عشرين سنة، لم أعتب عليها في شيء إلا مرة واحدة وكنت لها ظالما.(1/4)
ألا ما أسعد الزوج بالزوجة الصالحة التي نشئت تنشئة إيمانية عرفت حق زوجها وبيتها وأبنائها وإليكم مثلا آخر مما يملأ تاريخنا العظيم، كان عبد الله بن وداعة ممن يتلقون العلم عن الإمام سعيد بن المسيب، وحدث أن تأخر عن الدرس أياما فسأله الإمام عن سبب تخلفه، فقال: توفيت زوجتي فشغلت بأمرها، فلما انتهى الدرس وهمّ عبد الله بالانصراف، ناداه الإمام: هل تزوجت يا عبد الله بعد وفاة زوجتك، قال عبد الله: يرحمك الله ومن يزوجني ابنته وأنا لا أملك غير درهمين أو ثلاثة، فقال سعيد: أنا أزوجك ابنتي فانعقد لسان عبد الله، ذلك أن الوليد ابن عبد الملك بن مروان كان قد خطبها فأبى سعيد. ثم التفت الإمام إلى من كان قريبا وناداهم فحمد الله عز وجل وأثنى عليه وصلى على نبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه وعقد له على ابنته وجعل مهرها درهمين. يقول عبد الله: فقمت وأنا لا أدري ما أقول من الدهشة والفرح ثم قصدت بيتي وكنت يومئذ صائما فنسيت صومي وجعلت أقول: ويحك يا أبا وداعة ما الذي صنعت بنفسك، ممن تستدين، وممن تطلب المال، وظللت على حالي هذه حتى أذن للمغرب فأديت المكتوبة وجلست إلى فطوري وكان خبزا وزيتا، فما إن تناولت منه لقمة أو لقمتين حتى سمعت الباب يقرع، فقلت: من الطارق، فقال: سعيد، فوالله لقد مر بخاطري كل إنسان اسمه سعيد أعرفه إلا سعيد بن المسيب ذلك لأنه لم ير منذ أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد، ففتحت الباب فإذا بي أمام سعيد بن المسيب فظننت أنه بدا له في أمر زواجي من ابنته شيء، وقلت له: يا أبا محمد، هلا أرسلت إلي فآتيك، فقال: بل أنت أحق بأن آتي إليك وقال: إن ابنتي أصبحت زوجة لك وأنا أعلم أنه ليس معك أحد يؤنس وحشتك فكرهت أن تبيت وحدك، فقلت: ويحي جئتني بها فقال: نعم.(1/5)
ثم انصرف سعيد ودخل عبد الله على زوجته فإذا هي أجمل الناس وأحفظهم لكتاب الله، وأعلمهم بسنة رسول الله وبحقوق الزوجية، وما إن أسفر الصبح حتى نهض عبد الله يريد الخروج فقالت زوجته: إلى أين، قال: إلى مجلس أبيك أتعلم العلم، فقالت: اجلس أعلمك علم سعيد.
هذه سير سلفكم أيها الإخوة في الله فمنها اقتبسوا وعلى نهجهم سيروا لتبلغوا المرتقى الذي وصلوا إليه.
واعلموا رحمكم الله أن من واجبات الزوجة تربية أولادها والحدب عليهم، تلمح هذا من ربط القرآن الكريم المرأة بابنها ورعايته منذ يولد إذ يقول: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة معللا فضلهن على غيرهن بأنهن أحناهن على ولده، فالمرأة التي تترك أولادها للخدم أو للشارع إنما ترمي في الهاوية بمستقبلها وبمستقبل أبنائها.(1/6)
إن الطفل يتعلم من أمه لغة قومه وطريقة حديثها، ومن احترامها لزوجها يقتبس أولادها ذلك، إن الأم هي معهد التربية الذي يتربى فيه الطفل وإذا قيل: إن كل عظيم وراءه امرأة فتلك المرأة أكثر ما تكون هي الأم. ومن واجبات الزوجة القناعة والحرص على مال زوجها قال الإمام الغزالي: (وأهم حقوق الزوج على زوجه أمران: أحدهما الصيانة والستر، والآخر ترك المطالبة بما وراء الحاجة، والتعفف عن لبسه إذا كان حراما)، ومن واجبات الزوجة أن تتجمل لزوجها، وليس القصد من التجمل أن تضيع وقتها إلى المرآة معجبة بنفسها وإنما القصد حثها على النظافة والترتيب، ومن المؤسف أن تهمل بعض النساء زينتهن ما دمن في بيوتهن فإذا عزمت على الخروج تجملت وتزينت مما يترك آثارا سيئة في نفس زوجها. وجماع القول أن تكون المرأة كما أرادها الله عز وجل سكنا لزوجها تغسل كل متاعبه ومعاناته في عمله باستقبالها له وحسن أخلاقها وقيامها بحفظ أولاده وبيته وماله، ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ، فاتقوا الله يا عباد الله في بناتكم بإعدادهم الإعداد الصحيح الذي يجعل منهن زوجات صالحات وصلوا على من صلى الله عليه.(1/7)